كتاب : إعجاز القرآن
المؤلف : أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم

بعض ذلك - ما يخلف الإبداع في أفراد الكلمات وإن كانت الجملة والمعظم على ما سبق الوصف فيه
وإذا عرف ما يجري إليه الكلام وينهي إليه الخطاب ويقف بعد عليه الأسلوب ويختص به القبيل - بان عند أهل الصنعة تميز بابه وانفراد سبيله ولم يشك البليغ في انتمائه إلى الجهة التي بنتمي إليها ولم يرتب الأديب البارع في انتسابه إلى ما عرف من نهجه
وهذا كما يعرف طريقه مترسل في رسالته فهو لا يخفى عليه بناء قاعدته وأساسه فكأنه يرى انه عليه مجاري حركاته وأنفاسه
وكذلك في الشعر واختلاف ضروبه يعرف المتحقق به طبع كل أحد وسبيل كل شاعر
وفي نظم القرآن أبواب كثيره لم نستوفها وتقصيها يطول وعجائبها لا تنقضي فمنها الكلام المغلق والإشارات
وإذا بلغ الكلام من هذا القبيل مبلغا ربما زاد الإفهام به على الإيضاح أو ساوى مواقع التفسير والشرح مع استيفائه وشروطه - كان النهاية في معناه
وذلك كقوله سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير فصول هذه الآية وكلماتها على ما شرحنا من قبل البلاغة واللطف في التقدم وفي تضمن هذا الأمر العظيم والمقام الكريم
ويتلو هذه قوله وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل هذا خروج لو كان في غير هذا الكلام لتصور في صورة المنقطع وقد تمثل في هذا النظم لبراعته وعجيب أمره وموقع ما لا ينفك منه القول

وقد يتبرأ الكلام المتصل بعضه من بعض ويظهر عليه التشبيع والتباين للخلل الواقع في النظم
وقد تصور هذا الفصل للطفه وصلا ولم يبن عليه تميز الخروج
ثم أنظر كيف أجري هذا الخطاب إلى ذكر نوح وكيف أثنى عليه
وكيف تليق صفته بالفاصلة ويتم النظم بها مع خروجها مخرج البروز من الكلام الأول إلى ذكره وإجرائه إلى مدحه بشكره وكونهم من ذريته يوجب عليهم أن يسيروا بسيرته وأن يستنوا بسنته في أن يشكروا كشكره ولا يتخذوا من دون الله وكيلا وأن يعتقدوا تعظيم تخليصه إياهم من الطوفان لما حملهم عليه ونجاهم فيه حين أهلك من عداهم به وقد عرفهم أنه إنما يؤاخذهم بذنوبهم وفسادهم فيما سلط عليهم من قبلهم وعاقبهم ثم عاد عليهم بالإفضال والإحسان حتى يتذكروا ويعرفوا قدر نعمة الله عليهم وعلى نوح الذي ولدهم وهم من ذريته فلما عادوا إلى جهالتهم وتمردوا في طغيانهم عاد عليهم بالتعذيب
ثك ذكر الله عز و جل في ثلاث آيات بعد ذلك معنى هذه القصة التي كانت لهم بكلمات قليلة في العدد كثيرة الفوائد لا يمكن شرحها إلا بالتفصيل الكثير والكلام الطويل
ثم لم يخل تضاعيف الكلام مما ترى من الموعظة على أعجب تدريج وأبدع تأريخ بقوله إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها
ولم ينقطع بذلك نظام الكلام وأنت ترى الكلام يتبدد مع اتصاله وينتشر مع انتظامه فكيف بإلقاء ما ليس منه في أثنائه وطرح ما يعدوه في أدراجه
إلى أن خرج إلى قوله عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا يعني إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى العفو

ثم خرج خروجا آخر إلى ذكر القرآن
وعلى هذا فقس بحثك عن شرف الكلام وما له من علو الشان لا يطلب مطلبا إلا انفتح ولا يسلك قلبا إلا انشرح ولا يذهب مذهبا إلا استنار وأضاء ولا يضرب مضربا إلا بلغ فيه السماء لا تقع منه على فائدة فقدرت أنها أقصى فوائدها إلا قصرت ولا تظفر بحكمة فظننت أنها زبدة حكمها ولا وقد أخللت
إن الذي عارض القرآن بشعر امرئ القيس لأضل من حمار باهلة وأحمق من هبنقة
لو كان شعره كله كالأبيات المختارة التي قد مناها لأوجب البراءة منه قوله
وسن كسنيق سناء وسنما ... ذعرت بمدلاج الهجيز نهوض
قال الأصمعي لا أدري ما السن ولا السنيق ولا السنم وقال بعضهم السنيق أكمة

وقال فيها
له قصريا غير وساقا نعامة ... كفحل الهجان القيسري العضوض
وقوله
عصافير وذبان ودود ... وأجرأ من مجلحة الذئاب وزاد في تقبيح ذلك وقوعه في أبيات فيها
فقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وكل مكارم الأخلاق صارت ... إليه همتى وبها اكتسابي
وكقوله في قصيدة قالها في نهاية السقوط
أزمان فوها كلما نبهتها ... كالمسك فاح وظل في الفدام
أفلا ترى أظعانهن بواكرا ... كالنخل من شو كان حين صرام
وكأن شاربها أصاب لسانه ... موم يخالط جسمه بسقام
وكقوله
لم يفعلوا فعل آل حنظلة ... إنهم جير بئسما ائتمروا

لا حميري وفي ولا عدس ... ولا است عير يحكها الثفر
إن بني عوف ابتنوا حسبا ... ضيعه الدخللون إذ غدروا
وكقوله
أبلغ شهابا بل وأبلغ عاصما ... ومالكا هل أتاك الخبر مال
أنا تركنا منكم قتلى بخوعي
وسبيا كالسعالي
يمشين بين رحالنا معترفات ... بجوع وهزال
ولم يقع مثل ذلك له وحده فقد قال الأعشى
فأدخلك الله برد الجنان ... جذلان في مدخل طيب
وقال أيضا
فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حية قلبها وطحالها
وقال في فرسه
ويأمر لليحموم كل عشية ... بقت وتعليق فقد كاد يسنق

وقال
شاو مشل شلول شلشل شول ...
وهذه الألفاظ في معنى واحد
وقد وقع لزهير نحوه كقوله
فأقسمت جهدا بالمنازل من مني ... وما سحفت فيه المقاديم والقمل
كيف يقول هذا في قصيدة يقول فيها
وهل ينبت الخطى إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل
وكقول الطرماح
سوف تدنيك من لميس سبنتاة ... أمارت بالبول ماء الكراض
السبنتاة الناقة الصلبة والكراض ماء الفحل أسالت ماء الفحل مع البول فلم تعقد عليه ولم تحمل فتضعف والمائر السائل

فإن قال قائل أجدك تحاملت على امرئ القيس ورأيت أن شعره يتفاوت بين اللين والشراسة وبين اللطف والشكاسة وبين التوحش والاستئناس والتفاوت والتباعد ورأيت الكلام الأعدل أفضل والنظام المستوثق أكمل وأنت تجد البحتري يسبق في هذا الميدان ويفوت الغاية في هذا الشان وأنت ترى الكتاب يفضلون كلامه على كل كلام ويقدمون رأيه في البلاغة على كل رأي وكذلك تجد لأبي نواس من بهجة اللفظ ودقيق المعنى ما يتحير فيه أهل الفضل ويقدمه الشطار والظراف على كل شاعر ويرون لنظمه روعة لا يرون لنظم غيره وزبرجا لا يتفق لسواه فكيف يعرف فضل ما سواه عليه
فالجواب أن الكلام في أن الشعر لا يجوز أن يوازن به القرآن قد تقدم
وإذا كنا قد بينا أن شعر امرئ القيس وهو كبيرهم الذي يقرون بتقدمه وشيخهم الذي يعترفون بفضله وقائدهم الذي يأتمون به وإمامهم الذي يرجعون إليه كيف سبيله وكيف طريق سقوط منزلة عن منزلته نظم القرآن وأنه لا يلحظ بشعره غبار ذلك وهو إذا لحظ ذلك كان كما قال
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعجاز نجم مغرب
وكما قال أيضا
راحت مشرقة ورحت مغربا ... فمتى التقاء مشرق ومغرب

وإذا كنا قد أبنا في القاعدة ما علمت وفصلنا لك في شعره ما عرفت لم نحتج إلى أن نتكلم على شعر كل شاعر وكلام بليغ والقليل يدل على الكثير
وقد بينا في الجملة مباينة أسلوب نظم القرآن جميع الأساليب ومزيته عليها في النظم والترتيب وتقدمه عليها في كل حكمة وبراعة ثم تكلمنا على التفصيل على ما شاهدت فلا يبقى علينا بعد ذلك سؤال
ثم نقول أنت تعلم أن من يقول بتقدم البحتري في الصنعة به من الشغل في تفضيله على ابن الرومي أو تسوية ما بينهما ما لا يطمع معه في تقديمه على امرئ القيس ومن في طبقته
كذلك أبو نواس إنما يعدل شعره بشعر أشكاله ويقابل كلامه بكلام أضرابه من أهل عصره وإنما يقع بينهم التباين اليسير والتفاوت القليل
فأما أن يظن ظان أو يتوهم أن متوهم أن جنس الشعر معارض لنظم القرآن فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق
وإنما هي خواطر يغير بعضها على بعض ويقتدي فيها بعض ببعض والغرض الذي يرمي إليه ويصح التوافي عليه في الجملة فهو قبيل متداول وجنس متنازع وشريعة مورودة وطريقة مسلوكة
ألا ترى إلى ما روي عن الحسين بن الضحاك قال أنشدت أبا نواس قصيدتي التي فيها
وشاطري اللسان مختلق التكريه ... شاب المجون بالنسك

كأنه نصب كأسه قمر ... يكرع في بعض أنجم الفلك
قال فأنشدني أبو نواس بعد أيام قصيدته التي يقول فيها
أعاذل أعتبت الإمام وأعتبا ... وأعربت عما في الضمير وأعربا
وقلت لساقيها أجزها فلم أكن ... ليأبى أمير المؤمنين وأشربا
فجوزها عنى عقارا ترى لها ... إلى الشرف الأعلى شعاعا مطنبا
إذا عب فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكب
قال فقلت له يا أبا على هذه مصالتة فقال أتظن أنه يروي لك معنى وأنا حي
فتأمل هذا الأخذ وهذا الوضع وهذا الاتباع
أما الخليع فقد رأى الإبداع في المعنى فأما العبارات فإنها ليست على ما ظنه لأن قوله يكرع ليس بصحيح وفيه ثقل بين وتفاوت وفيه إحالة لأن القمر لا يصح تصورا أن يكرع في نجم

وأما قول أبي نواس إذا عب فيها فكلمة قد قصد فيها المتانة وكأن سبيله أن يختار سواها من ألفاظ الشرب ولو فعل ذلك كان أملح
وقوله شارب القوم فيه ضرب من التكلف الذي لا بد له منه أو من مثله لإقامة الوزن
ثم وقوله
خلته يقبل في داج من الليل كوكبا ... تشبيه بحالة واحدة من أحواله وهي أن يشرب حيث لا ضوء هناك وإنما يتناوله ليلا فليس بتشبيه مستوفي على ما فيه من الوقوع والملاحة والصنعة
وقد قال ابن الرومي ما هو أوقع منه وأملح وأبدع
ومهفهف تمت محاسنه ... حتى تجاوز منية النفس
تصبو الكئوس إلى مراشفه ... وتحن في يده إلى الحبس
أبصرته والكأس بين فم ... منه وبين أنامل خمس
وكأنها وكان شاربها ... قمر يقبل عارض الشمس
ولا شك في أن تشبيه ابن الرومي أحسن وأعجب إلا أنه لم يتمكن من إيراده إلا في بيتين وهما مع سبقهما إلى المعنى أتيا به في بيت واحد
وإنما أردت بهذا أن أعرفك أن هذه أمور متقاربة يقع فيها التنافس والتعارض والأطماع تتعلق بها والهمم تسمو إليها وهي إلف طباعنا وطوع مداركنا ومجانس لكلامنا
وإعجاب قوم بنحو هذا وما يجري مجراه وإيثار أقوام لشعر البحتري

على أبي تمام وعبد الصمد وابن الرومي وتقديم قوم كل هؤلاء أو بعضهم عليه وذهاب قوم عن المعرفة ليس بأمر يضر بنا ولا سبب يعترض على أفهامنا
ونحن نعمد إلى بعض قصائد البحتري فنتكلم عليها كما تكلمنا على قصيدة امرئ القيس ليزداد الناظر في كتابنا بصيرة ويستخلص من سر المعرفة سريرة ويعلم كيف تكون الموازنة وكيف تقع المشابهة والمقاربة
ونجعل تلك القصيدة التي نذكرها أجود شعره
سمعت الصاحب إسماعيل بن عباد يقول سمعت أبا الفضل بن العميد يقول سمعت أبا مسلم الرستمي يقول سمعت البحتري يذكر أن أجود شعر قاله
أهلا بذلكم الخيال المقبل ... قال وسمعت أبا الفضل بن العميد يقول أجود شعره هو قوله
في الشيب زجر له لو كان ينزجر ...
قال وسئلت عن ذلك فقلت البحتري أعرف بشعر نفسه من غيره
فنحن الآن نقول في هذه القصيدة ما يصلح في مثل هذا
قوله
أهلا بذلكم الخيال المقبل ... فعل الذي نهواه أو لم يفعل

برق سري في بطن وجرة فاهتدت ... بسناه أعناق الركاب الضلل
البيت الأول في قوله ذلكم الخيال ثقل روح وتطويل وحشو وغيره أصلح له وأخف منه قول الصنوبري
أهلا بذاك الزور من زور ... شمس بدت في فلك الدور
وعذوبة الشعر تذهب بزيادة حرف أو نقصان حرف فيصير إلى الكزازة وتعود ملاحته بذلك ملوحة وفصاحته عيا وبراعته تكلفا وسلاسته تعسفا وملاسته تلويا وتعقدا فهذا فصل
وفيه شيء آخر وهو أن هذا الخطاب إنما يستقيم مهما خوطب به الخيال حال إقباله فأما أن يحكي الحال التي كانت وسلفت على هذه العيادة ففيه عهدة وفي تركيب الكلام عن هذا المعنى عقدة وهو - لبراعته وحذقه في هذه الصنعة - يعلق نحو هذا الكلام ولا ينظر في عواقبه لان ملاحة قوله تغطي على عيون الناظرين فيه نحو هذه الأمور
ثم قوله
فعل الذي نهواه أو لم يفعل ... ليست بكلمة رشيقة ولا لفظة ظريفة وإن كانت كسائر الكلام
فأما بيته الثاني فهو عظيم الموقع في البهجة وبديع المأخذ حسن الرواء أنيق المنظر والمسمع يملأ القلب والفهم ويفرح الخاطر وتسري بشاشته في العروق
وكان البحتري يسمي نحو هذه الأبيات عروق الذهب وفي نحوه ما يدل على براعته في الصناعة وحذقه في البلاغة
ومع هذا كله فيه ما نشرحه من الخلل مع الديباجة الحسنة والرونق المليح

وذلك انه جعل الخيال كالبرق لإشراقه في مسراه كما يقال انه يسري كنسيم الصبا فيطيب ما مر به كذلك يضيء ما مر حوله وينور ما مر به وهذا غلو في الصنعة إلا أن ذكره بطن وجره حشو وفي ذكره خلل لان النور القليل يؤثر في بطون الأرض وما اطمأن منها بخلاف ما يؤثر في غيرها فلم يكن من سبيله أن يربط ذلك ببطن وجره
وتحديده المكان - على الحشو - أحمد من تحديد امرئ القيس من ذكر
سقط اللوى بين الدخول فحومل ... فتوضح فالمقراة لم يقنع بذكر حد حتى حده بأربعة حدود كأنه يريد بيع المنزل فيخشى - إن أخل بحد - أن يكون بيعه فاسدا أو شرطه باطلا فهذا باب
ثم إنما يذكر الخيال بخفاء الأثر ودقة الطلب ولطف المسلك وهذا الذي ذكر يضاد هذا الوجه ويخالف ما وضع عليه أصل الباب
ولا يجوز أن يقدر مقدر أن البحتري قطع الكلام الأول وابتدأ بذكر برق لمع من ناحية حبيبه من جهة بطن وجرة لان هذا القطع إن كان كافيا فعله كان خارجا به عن النظم المحمود ولم يكن مبدعا ثم كان لا تكون فيه الفائدة لان كل برق شعل وتكرر وقع الاهتداء به في الظلام وكان لا يكون بما نظمه مفيدا ولا متقدما وهو على ما كان من مقصده فهو ذو لفظ محمود ومعنى مستجلنب غير مقصود ويعلم بمثله انه طلب العبارات وتعليق القول بالإشارات
وهذا من الشعر الحسن الذي يحلو لفظه وتقل فوائده كقول القائل
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح

وشدت على حدب المهاري رحالنا ... ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
هذه ألفاظ بديعة المطالع والمقاطع حلوة المجاني والمواقع قليلة المعاني والفوائد
فأما قول البحتري بعد ذلك
من غادة منعت وتمنع نيلها ... فلو أنها بذلت لنا لم تبذل
كالبدر غير مخيل والغصن غير ... مميل والدعص غير مهيل
فالبيت الأول - على ما تكلف فيه من المطابقة وتجشم الصنعة - ألفاظه أوفر من معانيه وكلماته أكثر من فوائده وتعلم أن القصد وضع العبارات

في مثله ولو قال هى ممنوعة مانعة كان ينوب عن تطويله وتكثيره الكلام وتهويله ثم هو معنى متداول مكرر على كل لسان
وأما البيت الثاني فأنت تعلم أن التشبيه بالبدر والغصن والدعص أمر منقول متداول ولا فضيلة في التشبيه بنحو ذلك
وإنما يبقى تشبيهه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء في البيت وهذا أيضا قريب لان المعنى مكرر
ويبقى له بعد ذلك شيء آخر وهو تعمله للترصيع في البيت كله إلا أن هذه الاستثناءات فيها ضرب من التكلف لان التشبيه بالغصن كاف فإذا زاد فقال كالغصن غير معوج كان ذلك من باب التكلف خللا وكان ذلك زيادة يستغنى عنها
وكذلك قوله كالدعص غير مهيل لأنه إذا انهال خرج عن أن يكون مطلق التشبيه مصروفا إليه فلا يكون لتقييده معنى
وأما قوله
ما الحسن عندك يا سعاد بمحسن ... فيما أتاه ولا الجمال بمجمل
عذل المشوق وإن من سيما الهوى ... في حيث يجهله لجاج العذل
قوله في البيت الأول عندك حشو وليس بواقع ولا بديع وفيه كلفة
والمعنى الذي قصده أنت تعلم أنه متكرر على لسان الشعراء
وفيه شيء أخر لأنه يذكر أن حسنها لم يحسن في تهييج وجده وتهييم قلبه وضد هذا المعنى هو الذي يميل إليه أهل الهوى والحب

وبيت كشاجم أسلم من هذا وأبعد من الخلل وهو بقوله
بحياة حسنك أحسني وبحق من ... جعل الجمال عليك وقفا أجملي
وأما البيت الثاني فإن قوله في حيث حشا قوله في كلامه ووقع ذلك مستنكرا وحشيا نافرا عن طبعه جافيا في وضعه فهو كرقعة من جلد في ديباج حسن فهو يمحو حسنه ويأتي على جماله
ثم في المعنى شيء لأن لجاج العذل لا يدل على هوى مجهول ولو كان مجهولا لم يهتدوا للعذل عليه فعلم أن المقصد استجلاب العبارات دون المعاني
ثم لو سلم من هذا الخلل لم يكن في البيت معنى بديع ولا شيء يفوت قول الشعراء في العذل فان ذلك جملهم الذلول وقولهم المكرر المقول
وأما قوله
ماذا عليك من انتظار متيم ... بل ما يضرك وقفة في منزل
إن سيل عي عن الجواب فلم يطق ... رجعا فكيف يكون إن لم يسأل
لست أنكر حسن البيتين وظرفهما ورشاقتهما ولطفهما وماءهما وبهجتهما إلا أن البيت الأول منقطع عن الكلام المتقدم ضربا من الانقطاع لأنه لم يجر لمشافهة العاذل ذكر وإنما جرى ذكر العذال على وجه لا يتصل هذا البيت به ولا يلائمه
ثم الذي ذكره من الانتظار - وإن كان مليحا في اللفظ - فهو في

المعنى متكلف لان الواقف في الدار لا ينظر أمرا وإنما يقف تحسرا وتلددا وتحيرا
والشطر الأخير من البيت واقع والأول مستجلب وفيه تعليق على أمر لم يجر له ذكر لان وضع البيت يقتضي تقدم عذل على الوقوف ولم يحصل ذلك مذكورا في شعره من قبل
وأما البيت الثاني فإنه معلق بالأول لا يستقل إلا به وهم يعيبون وقوف البيت على غيره ويرون أن البيت التام هو المحمود والمصراع التام بنفسه - بحيث لا يقف على المصراع الآخر - أفضل وأتم وأحسن
وقوله فكيف يكون إن لم يسأل مليح جدا ولا تستمر ملاحة ما قبله عليه ولا يطرد فيه الماء اطراده فيه
وفيه شيء آخر لأنه لا يصح أن يكون السؤال سببا لان يعيا عن الجواب وظاهر القول يقتضيه
فأما قوله
لا تكلفن لي الدموع فإن لي ... دمعا ينم عليه إن لم يفضل
ولقد سكنت إلى الصدود من النوى ... والشرى أرى عند أكل الحنظل
وكذاك طرفة حين أوجس ضربة ... في الرأس هان عليه فصد الأكحل

فالبيت الأول مخالف لما عليه مذهبهم في طلب الإسعاد بالدموع والإسعاف بالبكاء ومخالف لأول كلامه لأنه يفيد مخاطبة العذل وهذا يفيد مخاطبة الرفيق
وقد بينت لك أن القوم يسلكون حفظ الألفاظ وتصنيعها دون ضبط المعاني وترتيبها ولذلك قال الله عز و جل والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون فأخبر سبحانه انهم يتبعون القول حيث توجه بهم واللفظ كيف أطاعهم والمعاني كيف تتبع ألفاظهم وذلك خلاف ما وضع عليه الإبانة عن المقاصد بالخطاب ولذلك كان طلب الفصاحة فيه أسهل وأمكن فصار بهذا أبلغ خطابهم
ثم لو أن هذا البيت وما يتلوه من البيتين سلم من نحو هذا لم يكن في ذلك شيء يفوت شعر شاعر أو كلام متكلم
وأما قوله والشرى أرى فانه وإن كان قد تصنع له من جهة الطباق ومن جهة التجنيس المقارب فهي كلمة ثقيلة على اللسان وهم يذمون نحو هذا كما عابوا على أبي تمام قوله
كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي ومتى ما لمته لمته وحدي
ذكر لي الصاحب إسماعيل بن عباد انه جارى أبا الفضل بن العميد في محاسن هذه القصيدة حتى انتهى إلى هذا البيت فذكر له في أن قوله أمدحه أمدحه معيب لثقله من جهة تدارك حروف الحلق

ثم رأيت بعد ذلك المتقدمين قد تكلموا في هذه النكتة فعلمت أن ذلك شيء عند أهل الصنعة معروف
ثم إن قوله عند أكل الحنظل ليس بحسن ولا واقع
وأما البيت الثالث فهو أجنبي من كلامه غريب في طباعه نافر من جملة شعره وفيه كزازة وفجاجة وإن كان المعنى صالحا
فأما قوله
وأغر في الزمن البهيم محجل ... قد رحت منه على أغر محجل
كالهيكل المبني إلا انه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل
فالبيت الأول لم يتفق له فيه خروج حسن بل هو مقطوع عما سلف من الكلام
وعامة خروجه نحو هذا وهو غير بارع في هذا الباب وهذا مذموم معيب منه لان من كان صناعته الشعر وهو يأكل به وتغافل عما يدفع إليه في كل قصيدة واستهان بإحكامه وتجويده مع تتبعه لان يكون عامة ما به يصدر أشعاره من النسيب عشرة أبيات وتتبعه للصنعة الكثيرة وتركيب العبارات وتنقيح الألفاظ وتزويرها - كان ذلك أدخل في عيبه وأدل على تقصيره أو قصوره وإنما يقع له الخروج الحسن في مواضع يسيره وأبو تمام أشد تتبعا لتحسين الخروج منه
وأما قوله وأغر في الزمن البهيم محجل ... فإن ذكر التحجيل في الممدوح قريب وليس بالجيد وقد يمكن أن يقال انه إذا قرن بالأغر حسن وجرى مجراه وانخرط في سلكه وأهوى إلى مضماره ولم ينكر لمكانه من جواره فهذا عذر والعدول عنه أحسن

وإنما أراد أن يرد العجز على الصدر ويأتي بوجه في التجنيس
وفيه شيء لان ظاهر كلامه يوهم انه قد صار ممتطيا الأغر الأول ورائحا عليه
ولو سلم من ذلك لم يكن فيه ما يفوت حدود الشعراء وأقاويل الناس
فأما ذكر الهيكل في البيت الثاني ورده عجز البيت عليه وظنه انه قد ظفر بهذه اللفظة وعمل شيئا حتى كررها فهي كلمة فيها ثقل ونحن نجدهم إذا أرادوا أن يصفوا بنحو هذا قالوا ما هو إلا صورة وما هو إلا تمثال وما هو إلا دمية وما هو إلا ظبية ونحو ذلك من الكلمات الخفيفة على القلب واللسان
وقد استدرك هو أيضا على نفسه فذكر انه كصوره في هيكل ولو اقتصر على ذكر الصورة وحذف الهيكل كان أولى وأجمل
ولو أن هذه الكلمة كررها أصحاب العزائم على الشياطين لراعوهم بها وأفزعوهم بذكرها وذلك من كلامهم وشبيه بصناعتهم
وأما قوله
وافي الضلوع يشد عقد حزامه ... يوم اللقاء على معم مخول
أخواله للرسمتين بفارس ... وجدوده للتبعين بموكل
نبل المحزم مما يمدح به الخيل فهو لم يأت فيه ببديع
وقوله يشد عقد حزامه داخل في التكلف والتعسف لا يقبل من مثله وإن قبلناه من غيره لأنه يتتبع الألفاظ وينقدها نقدا شديدا فهلا قال يشد حزامه أو يأتي بحشو آخر سوى العقد فقد عقد هذا البيت بذكر العقد
ثم قوله يوم اللقاء حشو آخر لا يحتاج إليه

وأما البيت الثاني فمعناه أصلح من ألفاظه لأنها غير مجانسة لطباعه وفيها غلظ ونفار
وأما قوله
يهوي كما تهوي العقاب وقد رأت ... صيدا وينتصب انتصاب الأجدل
متوجس برفيقتين كأنما ... تريان من ورق عليه موصل
ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يوما خلائق حمدوية الأحول
البيت الأول صالح وقد قاله الناس ولم يسبق إليه ولم يقل ما لم يقولوه قالوه بل هو منقول وفي سرعة عدو الفرس تشبيهات ليس هذا بأبدعها وقد يقولون يفوت الطرف و يسبق الريح ويجاري الوهم و يكد النظر ولولا أن الإتيان على محاسن ما قالوه في ذلك يخرج الكلام عن غرض الكتاب لنقلت لك جملة مما ذهبوا إليه في هذا المعنى فتتبع تعلم انه لم يأت فيها بما يجل عن الوصف أو يفوت منتهى الحد
على أن الهوى يذكر عند الانقضاض خاصة وليس للفرس هذه الصفة في الحقيقة إلا أن يشبه حده في العدو بحالة انقضاض البازي والعقاب وليست تلك الحالة بأسرع أحوال طيرانها
وأما البيت الثاني فقوله إن الأذنين كأنهما من ورق موصل وإنما أراد

بذلك حدتهما وسرعة حركتهما وإحساسهما بالصوت كما يحس الورق بحفيف الريح وظاهر التشبيه غير واقع وإذا ضمن ما ذكرنا من المعنى كان المعنى حسنا ولكن لا يدل عليه اللفظ وإنما يجري مجرى المضمن
وليس هذا البيت برائق اللفظ ولا مشاكل فيه لطبعه غير قوله متوجس برفيقتين فان هذا القدر هو حسن
وأما البيت الثالث فقد ذكرنا فيما مضى من الكتاب انه من باب الاستطراد ونقلنا نظائر ذلك من قول أبي تمام وغيره وقطعه أبي تمام في نهاية الحسن في هذا المعنى
والذي وقع للبحتري في هذا البيت عندي ليس بجيد في لفظ ولا معنى وهو بيت وحش جدا قد صار قذى في عين هذه القصيدة بل وخزا فيها ووبالا عليها وقد كدر صفاءها وأذهب بهاءها وماءها وطمس بظلمته سناءها
وما وجه مدح الفرس بأنه لا يعاف قذى من المياه إذا وردها كأنه أراد أن يسلك مسلك بشار في قوله
ولا يشرب الماء إلا بدم ...
وإذا كان لهذا الباب مجانبا وعن هذا السمت بعيدا فهلا وصفها بعزة الشرب كما وصفها المتنبي في قوله
وصول إلى المستصعبات بخيله ... فلو كان قرن الشمس ماء لأوردا
وهلا سلك فيه مسلك القائل
وإني للماء الذي شابه القذى ... إذا كثرت وراده لعيوف

ثم قوله ولو أوردته يوما حشو بارد
ثم قوله حمدوية الأحول وحش جدا فما أمقت هذا البيت وأبغضه وما وأثقله وأسخفه وإنما غطى على عينه عيبه وزين له إيراده طمعه في الاستطراد وهلا طمع فيه على وجه لا يغض من بهجة كلامه ولا معنى ألفاظه فقد كان يمكن ذلك ولا يتعذر
فأما قوله
ذنب كما سحب الرداء يذب عن ... عرف وعرف كالقناع المسبل
تتوهم الجوزاء في أرساغه ... والبدر فوق جبينه المتهلل
فالبيت الأول وحش الابتداء منقطع عما سبق من الكلام قد ذكرنا انه لا يهتدي لوصل الكلام ونظام بعضه إلى بعضه وإنما يتصنع لغير هذا الوجه
وكان يحتاج أن يقول ذنب كالرداء فقد حذف والوصل غير متسق ولا مليح وكان من سبيله أن لا يخفى عليه ولا يذهب عن مثله
ثم قوله كما سحب الرداء قبيح في تحقيق التشبيه وليس بواقع ولا مستقيم في العبارة إلا على إضمار انه ذنب يسحبه كما يسحب الرداء
وقوله يذب عن عرف ليس بحسن ولا صادق والمحمود ما ذكره امرؤ القيس وهو قوله
فويق الأرض ليس بأعزل ...
وأما قوله تتوهم الجوزاء في أرساغه ... فهو تشبيه مليح ولكنه لم يسبق إليه ولا انفرد به

ولو نسخت لك ما قاله الشعراء في تشبيه الغرة بالهلال والبدر والنجم وغير ذلك من الأمور وتشبيه الحجول - لتعجبت من بدائع قد وقعوا عليها وأمور مليحة قد ذهبوا إليها وليس ذلك موضع كلامنا فتتبع ذلك في أشعارهم تعلم ما وصفت لك
واعلم أنا تركنا بقية كلامه في وصف الفرس لأنه ذكر عشرين بيتا في ذلك
والذي ذكرناه في هذا المعنى يدل على ما بعده ولا يعدو ما تركناه أن يكون حسنا مقولا وبديعا منقولا أو يكون متوسطا إلى حد لا يفوت طريقة الشعراء
ولو تتبعت أقاويل الشعراء في وصف الخيل علمت أنه وإن جمع فأوعى وحشر فنادى ففيهم من سبقه في ميدانه ومنهم من ساواه في شأوه منهم من داناه فالقبيل واحد والنسيج متشاكل ولولا كراهة التطويل لنقلت جملة من أشعارهم في ذلك لتقف على ما قلت
فتجاوزنا إلى الكلام على ما قاله في المدح في هذه القصيدة
قال
لمحمد بن علي الشرف الذي ... لا يلحظ الجوزاء إلا من عل
وسحابة لولا تتابع مزنها ... فينا لراح المزن غير مبخل
والجود يعذله عليه حاتم ... سرفا ولا جود لمن لم يعذل
البيت الأول منقطع عما قبله على ما وصفنا به شعره من قطعه

المعاني وفصله بينها وقلة تأتيه لتجويد الخروج والوصل وذلك نقصان في الصناعة وتخلف في البراعة وهذا إذا وقع في مواضع قليلة عذر فيها وأما إذا كان بناء الغالب من كلامه على هذا فلا عذر له
وأما المعنى الذي ذكره فليس بشيء مما سبق إليه وهو شئ مشترك فيه وقد قالوا في نحوه إن مجده سماء السماء وقالوا في نحوه الكثير الذي يصعب نقل جميعه وكما قال المتنبي
وعزمه بعثتها همة زحل ... من تحتها بمكان الترب من زحل
وحدثني إسماعيل بن عباد أنه رأى أبا الفضل بن العميد قام لرجل ثم قال لمن حضره أتدري من هذا هذا الذي قال في أبيه البحتري
لمحمد بن علي الشرف الذي ...
فذلك يدل على استعظامه للميت بما مدح به من البيت
والبيت الثاني في تشبيه جوده بالسحاب قريب وهو حديث مكرر ليس ينفك مديح شاعر منه وكان من سبيله أن يبدع فيه زيادة إبداع كما قد يقع لهم لهم في نحو هذا ولكنه لم يتصنع له وأرسله إرسالا
وقد وقع في المصراع الثاني ضرب من الخلل وذلك أن المزن إنما يبخل إذا منع نيله وذلك موجود في كل نيل ممنوح وكلاهما محمود مع الإسعاف فإن أسعف أحدهما ومنع الآخر لم يمكن التشبيه وإن كان إنما شبه غالب حال أحدهما بالآخر وذكر قصور أحدهما عن صاحبه حتى إنه قد يبخل في وقت

والآخر لا يبخل بحال - فهذا جيد وليس في حمل الألفاظ على الإشارة إلى هذا شئ
والبيت الثالث وإن كان معناه مكررا فلفظه مضطرب بالتأخير والتقديم يشبه ألفاظ المبتدئين
وأما قوله
فضل وإفضال وما أخذ المدى ... بعد المدى كالفاضل المتفضل
سار إذا ادلج العفاة إلى الندى ... لا يصنع المعروف غير معجل
فالبيت الأول منقطع عما قبله وليس فيه شئ غير التجنيس الذي ليس ببديع لتكرره على كل لسان
وقوله ما أخذ المدى بعد المدى فإنه لفظ مليح وهو كقول القائل
قد أركب الآلة بعد الآله ...
وروي الحالة بعد الحالة وكقول امرئ القيس
سمو حباب الماء حالا على حال ...
ولكنها طريقة مذللة فهو فيها تابع
وأما البيت الثاني فقريب في اللفظ والمعنى
وقوله لا يصنع المعروف ليس بلفظ محمود
وأما قوله
عال على نظر الحسود كأنما ... جذبته أفراد النجوم بأحبل
أو ما رأيت المجد ألقى رحله ... في آل طلحة ثم لم يتحول

فالبيت الأول منكر جدا في جر النجوم بالأرسان من موضعه إلى العلو والتكلف فيه واقع
والبيت الثاني أجنبي عنه بعيد منه وافتتاحه رديء وما وجه الاستفهام والتقرير والاستبانة والتوقيف
والبيتان أجنبيان من كلامه غريبان في قصيدته
ولم يقع له في المدح في هذه القصيدة شئ جيد
ألا ترى أنه قال بعد ذلك
نفسي فداؤك يا محمد من فتى ... يوفي على ظلم الخطوب فتنجلي
إني أريد أبا سعيد والعدى ... بيني وبين سحابة المتهلل
كأن هذا ليس من طبعه ولا من سبكه
وقوله
مضر الجزيرة كلها وربيعة الخابور ... توعدني وأزد الموصل
قد جدت بالطرف الجواد فثنه ... لأخيك من أدد أبيك بمنصل
البيت الأول حسن المعنى وإن كانت ألفاظه بذكر الأماكن لا يتأتى فيه التحسين
وهذا المعنى قد يمكن إيراده بأحسن من هذا اللفظ وأبدع منه وأرق منه كقوله
إذا غضبت عليك بنو تميم ... رأيت الناس كلهم غضابا
والبيت الثاني قد تعذر عليه وصله بما سبق من الكلام على وجه يلطف وهو قبيح اللفظ حيث يقول فيه فثنه لأخيك من أدد أبيك ومن أخذه بهذا التعرض لهذا السجع وذكر هذا النسب حتى افسد به شعره

وأما قوله بعد ذلك في وصف السيف يقول
يتناول الروح البعيد منالها ... عفوا ويفتح في القضاء المقفل
بإبانة في كل حتف مظلم ... وهداية في كل نفس مجهل
ماض وإن لم تمضه يد فارس ... بطل ومصقول وإن لم يصقل
ليس لفظ البيت الأول بمضاه لديباجة شعره ولا له بهجة نظمه لظهور أثر التكلف عليه وتبين ثقل فيه
وأما القضاء المقفل وفتحه فكلام غير محمود ولا مرضي واستعارة لو لم يستعرها كان أولى به وهلا عيب عليه كما عيب على أبي تمام قوله
فضربت الشتاء في أخدعيه ... ضربة غادرته عودا ركوبا
وقالوا يستحق بهذه الاستعارة أن يصفع في أخدعيه وقد اتبعه البحتري في استعارة الأخدع ولوعا باتباعه فقال في الفتح بن خاقان
وإني وإن أبلغتني شرف العلا ... وأعتقت من ذل المطامع أخدعي
إن شيطانه حيث زين له هذه الكلمة وتابعه حين حسن عنده هذه اللفظة لخبيث مارد ورديء معاند أراد أن يطلق أعنة الذم فيه ويسرح جيوش العتب إليه ولم يقنع بقفل القضاء حتى جعل للحتف ظلمة تجلى بالسيف وجعل السيف هاديا في النفس المجهل الذي لا يهتدي إليه وليس في هذا مع تحسين اللفظ وتنميقه شئ لأن

السلاح وإن كان معيبا فإنه يعتدى إلى النفس
وكان يجب أن يبدع في هذا إبداع المتنبي في قوله
كأن الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغت الأسنة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤاد
فالاهتداء على هذا الوجه في التشبيه بديع حسن
وفي البيت الأول شئ آخر وذلك أن قوله ويفتح في القضاء في هذا الموضع حشو رديء يلحق بصاحبه اللكنة ويلزمه الهجنة
وأما البيت الثالث فإنه أصلح هذه الأبيات وإن كان ذكر الفارس حشوا وتكلفا ولغوا لأن هذا ر يتغير بالفارس والراجل على أنه ليس فيه بديع
وأما قوله
يغشى الوغى والترس ليس بجنة ... من حده والدرع ليس بمعقل
مضغ إلى حكم الردى فإذا مضى ... لم يلتفت وإذا قضى لم يعدل
متوقد يبرى بأول ضربة ... ما أدركت ولو أنها في يذبل
البيتان الأولان من الجنس الذي يكثر كلامه عليه وهي طريقته التي يجتبيها وذلك من السبك الكتابي والكلام المعتدل إلا أنه لم يبدع فيهما بشيء وقد زيد عليه فيهما

ومن قصد إلى أن يكمل عشرة أبيات في وصف السيف فليس من حكمه أن يأتي بأشياء منقولة وأمور مذكورة وسبيله أن يغرب ويبدع كما أبدع المتنبي في قوله
سله الركض بعد وهن بنجد ... فتصدى للغيث أهل الحجاز
هذا في باب صقاله وأضوائه وكثرة مائه وكقوله
ريان لو قذف الذي أسقيته ... لجرى من المهجات بحر مزبد
وقوله مصغ إلى حكم الردي - إن تأملته - مقلوب كان ينبغي أن يقول يصغي الردى إلى حكمه كما قال الآخر
فالسيف يأمر والأقدار تنتظر ...
وقوله وإذا قضي لم يعدل متكرر على ألسنتهم في الشعر خاصة في نفس هذا المعنى
والبيت الثالث سليم وهو كالأولين في خلوه عن البديع
فأما قوله
فإذا أصاب فكل شيء مقتل ... وإذا أصيب فما له من مقتل
وكأنما سود النمال وحمرها ... دبت بأيد في قراه وأرجل
البيت الأول يقصد بمثله صنعه اللفظ وهو في المعنى متفاوت لأن

المضرب قد لا يكون مقتلا وقد يطلق الشعراء ذلك ويرون أن هذا أبدع من قول المتنبي وأنه بضده
القاتل السيف في جسم القتيل به ... وللسيوف كما للناس آجال وهذه طريقة لهم يتمدحون بها في قصف الرمح طعنا وتقطيع السيف ضربا
وفي قوله
وإذا أصيب فما له من مقتل ... تعسف لأنه يريد بذلك انه لا ينكسر فالتعبير بما عبر به عن المعنى الذي ذكرناه يتضمن التكلف وضربا من المحال وليس بالنادر والذي عليه الجملة ما حكيناه عن غيره
ونحوه قال بعض أهل الزمان
يقصف في الفارس السمهري ... وصدر الحسام فريقا فريقا
والبيت الثاني أيضا هو معنى مكرر على ألسنة الشعراء
وأما تصنيعه بسود النمال وحمرها فليس بشيء ولعله أراد بالحمر الذر والتفصيل بارد والإعراب به منكر وهو - كما حكي عن بعضهم أنه قال - كان كذا حين كانت الثريا بحذاء رأسي على سواء أو منحرفا قدر شبر أو نصف شبر أو إصبعا أو ما يقارب ذلك فقيل له هذا من الورع الذي يبغضه الله ويمقته الناس
ورب زيادة كانت نقصانا
وصفة النمل بالسواد والحمرة في هذا من ذلك الجنس وعليه خرج بقية البيت في قوله
دبت بأيد في قراه وأرجل ...
وكان يكفي ذكر الأرجل عن ذكر الأيدي

ووصف الفرند بمدب النمل شيء لا يشذ عن أحد منهم
وأما قوله
وكأن شاهره إذا استضوى به الزحفان ... يعصي بالسماك الأعزل
حملت حمائله القديمة بقلة ... من عهد عاد غضة لم تذبل
البيت الأول منهما فيه ضرب من التكلف وهو منقول من أشعارهم وألفاظهم وإنما يقول
وتراه في ظلم الوغى فتخاله ... قمرا يشد على الرجال بكوكب
فجعل ذلك الكوكب السماك واحتاج إلى أن يجعله أعزل للقافية ولو لم يحتج إلى ذلك كان خيرا له لان هذه الصفة في هذا الموضع تغض من الموصوف وموضع التكلف الذي ادعيناه الحشو الذي ذكره من قوله إذا استضوى به الزحفان وكان يكفي أن يقول كأن صاحبه يعصي بالسماك وهذا وإن كان قد تعمل فيه للفظ فهو لغو على ما بينا
وأما البيت الثاني ففيه لغو من جهة قوله حمائله القديمة ولا يوصف السيف بان حمائله قديمة ولا فضيلة له في ذلك

ثم تشبيه السيف بالبقلة من تشبيهات العامة و الكلام الرذل النذل لان العامة قد يتفق منها تشبيه واقع حسن
ثم انظر إلى هذا المقطع الذي هو بالعي أشبه منه بالفصاحة والى اللكنة أقرب منه إلى البراعة
وقد بينا أن مراعاة الفواتح والخواتم والمطلع والمقاطع والفصل والوصل بعد صحة الكلام ووجود الفصاحة فيه - مما لا بد منه وأن الإخلال بذلك يخل بالنظم ويذهب رونقه ويحيل بهجته ويأخذ ماءه وبهاءه
وقد أطلت عليك فيما نقلت وتكلفت ما سطرت لان هذا القبيل قبيل موضوع متعمل مصنوع
واصل الباب في الشعر على أن ينظر إلى جملة القصة ثم يتعمل الألفاظ ولا ينظر بعد ذلك إلى مواقعها ولا يتأمل مطارحها وقد يقصد تارة إلى تحقيق الأغراض وتصوير المعاني التي في النفوس ولكنه يلحق بأصل بابه ويميل بك إلى موضوعه وبحسب الاهتمام بالصنعة يقع فيها التفاضل
وإن أردت أن تعرف وصاف الفرس فقد ذكرت لك أن الشعراء قد تصرفوا في ذلك بما يقع إليك - إن كنت من أهل الصنعة - مما يطول علي نقله وكذلك في السيف وذكر لي بعض أهل الأدب أن أحسن قطعة في السيف قول أبي الهول الحميري

حاز صمصامة الزبيدي من بين ... جميع الأنام موسى الأمين
سيف عمرو وكان - فيما سمعنا - ... خير ما أطبقت عليه الجفون
أخضر اللون بين برديه حد ... من ذعاف تميس فيه المنون
أوقدت فوقه الصواعق نارا ... ثم شابت له الذعاف القيون
فإذا ما شهرته بهر الشمس ... ضياء فلم تكد تستبين
يستطير الأبصار كالقبس المشعل ... لا تستقيم فيه العيون
وكأن الفرند والرونق الجاري ... في صفحتيه ماء معين
نعم مخراق ذي الحفيظة في الهيجاء ... يعصي به ونعم القرين

ما يبالي إذا انتحاه بضرب ... أشمال سطت به أم يمين
وإنما يوازن شعر البحتري بشعر شاعر من طبقته ومن أهل عصره ومن هو في مضماره أو في منزلته
ومعرفة أجناس الكلام والوقوف على أسراره والوقوع على مقداره شيء - وإن كان عزيزا وأمر - وان كان بعيدا - فهو سهل على أهله مستجيب لأصحابه مطيع لأربابه ينقدون الحروف ويعرفون الصروف
وإنما تبقي الشبهة في ترتيب الحال بين البحتري وأبي تمام وابن الرومي وغيره
ونحن وإن كنا نفضل البحتري بديباجة شعره على ابن الرومي وغيره من أهل زمانه - نقدمه بحسن عبارته وسلاسة كلامه وعذوبة ألفاظه وقلة تعقد قوله
والشعر قبيل ملتمس مستدرك وأمر ممكن مطيع
ونظم القرآن عال عن أن يعلق به الوهم أو يسمو إليه الفكر أو يطمع فيه طامع أو يطلبه طالب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
وكنت قد ذكرت لك قبل هذا أنك إن كنت بصنعة علم اللسان متدربا وفيه متوجها متقدما أمكنك الوقوف على ما ذكرنا والنفوذ فيما وصفنا وإلا فاجلس في مجلس المقلدين وارض بمواقف المتحيرين
ونصحت لك حيث قلت انظر هل تعرف عروق الذهب ومحاسن الجوهر وبدائع الياقوت ودقائق السحر من غير معرفة بأسباب هذه الأمور ومقدماتها وهل يقطع سمت البلاد من غير اهتداء فيها

ولكل شيء طريق يتوصل إليه به وباب يؤخذ نحوه فيه ووجه يؤتى منه
ومعرفة الكلام أشد من المعرفة بجميع ما وصفت لك وأغمض وأدق وألطف
وتصوير ما في النفس وتشكيل ما في القلب حتى تعلمه وكأنك مشاهده وإن كان قد يقع بالإشارة ويحصل بالدلالة والأمارة كما يحصل بالنطق الصريح والقول الفصيح - فللإشارات أيضا مراتب وللسان منازل ورب وصف يصور لك الموصوف كما هو على جهته لا خلف فيه ورب وصف ببر عليه ويتعداه ورب وصف يقصر عنه
ثم إذا صدق الوصف انقسم إلى صحة وإتقان وحسن وإحسان والى إجمال وشرح والى استيفاء وتقريب والى غير ذلك من الوجوه
ولكل مذهب وطريق وله باب وسبيل
فوصف الجملة الواقعة كقوله تعالى لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا
والتفسير كقوله ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا إلى آخر الآيات في هذا المعنى
وكنحو قوله يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد
وهذا مما يصور الشيء على جهته ويمثل أهوال ذلك اليوم
ومما يصور لك الكلام الواقع في الصفة كقوله حكاية عن السحرة لما توعدهم فرعون بما توعدهم به حين آمنوا قالوا لا ضير إنا إلى ربنا

منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين
وقال في موضع آخر إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين
وهذا ينبئ عن كلام الحزين لما ناله والجازع لما مسه
ومن باب التسخير والتكوين قوله تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
وقوله فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين
وكقوله فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم
وتقصي أقسام ذلك مما يطول ولم أقصد استيفاء ذلك وإنما ضربت لك المثل بما ذكرت لتستدل وأشرت إليك بما أشرت لتتأمل
وإنما اقتصرنا على ذكر قصيدة البحتري لان الكتاب يفضلونه على أهل دهره ويقدمونه على من في عصره ومنهم من يدعي له الإعجاز غلوا ويزعم انه يناغي النجم في قوله علوا والملحدة تستظهر بشعره وتتكثر بقوله وترى كلامه من شبهاتهم وعباراته مضافة إلى ما عندهم من ترهاتهم فبينا قدر درجته وموضع رتبته وحد كلامه
وهيهات أن يكون المطموع فيه كالمأيوس منه وان يكون الليل كالنهار والباطل كالحق وكلام رب العالمين ككلام البشر
فان قال قائل فقد قدح الملحد في نظم القرآن وادعى عليه الخلل في

البيان وأضاف إليه الخطأ في المعنى واللفظ وزعم ما زعم وقال ما قال فهل من فصل
قيل الكلام على مطاعن الملحدة في القرآن مما قد سبقنا إليه وصنف أهل الأدب في بعضه فكفوا وأتى المتكلمون على ما وقع إليهم فشفوا ولولا ذلك لاستقصينا القول فيه في كتابنا
وأما الغرض الذي صنفنا فيه في التفصيل والكشف عن إعجاز القران فلم نجده على التقريب الذي قصدنا وقد رجونا أن يكون ذلك مغنيا ووافيا
وإن سهل الله لنا ما نويناه من إملاء معاني القرآن ذكرنا في ذلك ما يشتبه من الجنس الذي ذكروه لان أكثر ما يقع من الطعن عليه فإنما يقع على جهل القوم بالمعاني أو بطريقة كلام العرب
وليس ذلك من مقصود كتابنا هذا وقد قال النبي فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه
وقد قصدنا فيما أمليناه الاختصار ومهدنا الطريق فمن كمل طبعه للوقوع على فضل أجناس الكلام استدرك ما بينا ومن تعذر عليه الحكم بين شعر جرير والفرزدق والأخطل والحكم بين فضل زهير والنابغة أو الفضل بين البحتري وأصحابه ولم يعرف سخف مسيلمة في نظمه ولم يعلم انه من الباب الذي يهزأ به ويسخر منه كشعر أبي العنبس في جملة

الشعر وشعر علي بن صلاءة - فكيف يمكنه النظر فيما وصفنا والحكم على ما بينا
فان قال قائل فاذكر لنا من هؤلاء الشعراء الذين سميتهم الأشعر والأبلغ
قيل له هذا أيضا خارج عن غرض هذا الكتاب وقد تكلم فيه الأدباء ويحتاج أن يجرد لنحو هذا كتاب ويفرد له باب وليس من قبيل ما نحن فيه بسبيل
وليس لقائل أن يقول قد يسلم بعض الكلام من العوارض والعيوب ويبلغ أمده في الفصاحة والنظم العجيب ولا يبلغ عندكم حد المعجز فلم قضيتم بما قضيتم به في القرآن دون غيره من الكلام
وإنما لم يصح هذا السؤال وما تذكر فيه من أشعار في نهاية الحسن وخطب ورسائل في غاية الفضل - لأنا قد بينا أن هذه الأجناس قد وقع التنازع فيها والمساماة عليها والتنافس في طرقها والتنافر في بابها وكان البون بين البعض والبعض في الطبقة الواحدة قريبا والتفاوت خفيفا وذلك القدر من السبق إن ذهب عنه الواحد لم ييأس منه الباقون ولم ينقطع الطمع في مثله
وليس كذلك سمت القرآن لأنه قد عرف أن الوهم ينقطع دون مجاراته والطمع يرتفع عن مباراته ومساماته وأن الكل في العجز عنه على حد واحد
وكذلك قد يزعم زاعمون أن كلام الجاحظ من السمت الذي لا يؤخذ فيه والباب الذي لا يذهب عنه وأنت تجد قوما يرون كلامه قريبا

ومنهاجه معيبا ونطاق قوله ضيقا حتى يستعين بكلام غيره ويفزع إلى ما يوشح به كلامه من بيت سائر ومثل نادر وحكمة ممهدة منقولة وقصة عجيبة مأثورة وأما كلامه في أثناء ذلك فسطور قليلة وألفاظ يسيرة فإذا أحوج إلى تطويل الكلام خاليا عن شيء يستعين به - فيخلط بقوله من قول غيره - كان كلاما ككلام غيره
فان أردت أن تحقق هذا فانظر في كتبه في نظم القرآن وفي الرد على النصارى وفي خبر الواحد وغير ذلك مما يجري هذا المجرى هل تجد في ذلك كله ورقة واحدة تشتمل على نظم بديع أو كلام مليح
على أن متأخري الكتاب قد نازعوه في طريقته وجاذبوه على منهجه فمنهم من ساواه حين ساماه ومنهم من أبر عليه إذ باراه
هذا أبو الفضل بن العميد قد سلك مسلكه وأخذ طريقه فلم يقصر عنه ولعله قد بان تقدمه عليه لأنه يأخذ في الرسالة الطويلة فيستوفيها على حدود مذهبه ويكملها على شروط صنعته ولا يقتصر على أن يأتي بالأسطر من نحو كلامه كما ترى الجاحظ يفعله في كتبه متى ذكر من كلامه سطرا أتبعه من كلام الناس أوراقا وإذا ذكر منه صفحة بنى عليه من قول غيره كتابا
وهذا يدلك على أن الشيء إذا استحسن اتبع وإذا استملح قصد له وتعمد وهذا الشيء يرجع إلى الأخذ بالفضل والتنافس في التقدم
فلو كان في مقدور البشر معارضة القرآن لهذا الغرض وحده - لكثرت المعارضات ودامت المنافسات
فكيف وهناك دواع لا انتهاء لها وجوالب لا حد لكثرتها لأنهم لو كانوا عارضوه لتوصلوا إلى تكذيبه ثم إلى قطع المحامين دونه عنه أو تنفيرهم عليه وإدخال الشبهات على قلوبهم وكان القوم يكتفون بذلك عن بذل

النفوس ونصب الأرواح والإخطار بالأموال والذراري في وجه عداوته ويستغنون بكلام - هو طبعهم وعادتهم وصناعتهم - عن محاربته وطول مناقشته ومجاذبته
وهذا الذي عرضناه على عقلك وجلوناه على قلبك يكفي إن هديت لرشدك ويشفي إن دللت على قصدك
ونسأل الله حسن التوفيق والعصمة والتسديد إنه لا معرفة إلا بهدايته ولا عصمة إلا بكفايته وهو على ما يشاء قدير وحسبنا الله ونعم الوكيل

فصل
فإن قال قائل قد يجوز أن يكون أهل عصر النبي قد عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن وإن كان من بعدهم من أهل الأعصار لم يعجزوا
قيل هذا سؤال معروف وقد أجيب عنه بوجوه منها ما هو صواب ومنها ما فيه خلل
لان من كان يجيب عنه بأنهم لا يقدرون على معارضته في الإخبار عن الغيوب إن قدروا على مثل نظمه - فقد سلم المسألة لأنا ذكرنا أن نظمه معجز لا يقدر عليه فإذا أجاب بما قدمناه فقد وافق السائل على مراده
والوجه أن يقال فيه طرق
منها أنا إذا علمنا أن أهل ذلك العصر كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله فمن بعدهم أعجز لان فصاحة أولئك في وجوه ما كانوا يتفننون فيه من القول مما لا يزيد عليه فصاحة من بعدهم واحسن أحوالهم أن يقاربوهم أو يساووهم فأما أن يتقدموهم أو يسبقوهم فلا
ومنها قد أنا علمنا عجز سائر أهل الأعصار كعلمنا بعجز أهل العصر الأول والطريق في العلم بكل واحد من الأمرين طريق واحد لان التحدي في الكل على جهة واحدة والتنافس في الطباع على حد واحد والتكليف على منهاج لا يختلف ولذلك قال الله تبارك وتعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا
فصل في التحدي
يجب أن تعلم أن من حكم المعجزات إذا ظهرت على الأنبياء أن يدعوا فيها أنها من دلالتهم وآياتهم لأنه لا يصح بعثة النبي من غير أن يؤتى دلالة ويؤيد بآية لان النبي لا يتميز من الكاذب بصورته ولا يقول نفسه ولا بشيء آخر سوى البرهان الذي يظهر عليه فيستدل به على صدقه
فإذا ذكر لهم أن هذه آيتي وكانوا عاجزين عنها - صح له ما ادعاه
ولو كانوا غير عاجزين عنها - لم يصح أن يكون برهانا له
وليس يكون معجزا إلا بان يتحداهم إلى أن يأتوا بمثله فإذا تحداهم وبان عجزهم - صار ذلك معجزا
وإنما احتيج في باب القرآن إلى التحدي لان من الناس من لا يعرف كونه معجزا فإنما يعرف أولا إعجازه بطريق لان الكلام المعجز لا يتميز من غيره بحروفه وصورته وإنما يحتاج إلى علم وطريق يتوصل به إلى معرفة كونه معجزا
فان كان لا يعرف بعضهم إعجازه فيجب أن يعرف هذا حتى يمكنه أن يستدل به
ومتى رأى أهل ذلك اللسان قد عجزوا عنه بأجمعهم مع التحدي إليه والتقريع به والتمكين منه - صار حينئذ بمنزلة من رأى اليد البيضاء وانقلاب العصى ثعبانا تتلقف ما يأفكون
وأما من كان من أهل صنعة العربية والتقدم في البلاغة ومعرفة فنون القول ووجوه المنطق - فانه يعرف - حين يسمعه - عجزه عن الإتيان بمثله

ويعرف أيضا أهل عصره ممن هو في طبقته أو يدانيه في صناعته عجزهم عنه فلا يحتاج إلى التحدي حتى يعلم به كونه معجزا
ولو كان أهل الصنعة الذين صفتهم ما بينا لا يعرفون كونه معجزا حتى يعرفوا عجز غيرهم عنه - لم يجز أن يعرف النبي أن القرآن معجز حتى يرى عجز قريش عنه بعد التحدي إليه وإذا عرف عجز قريش لم يعرف عجز سائر العرب عنه حتى ينتهي إلى التحدي إلى أقصاهم وحتى يعرف عجز مسيلمة الكذاب عنه ثم يعرف حينئذ كونه معجزا
وهذا القول - إن قيل - أفحش ما يكون من الخطأ
فيجب أن تكون منزلة أهل الصنعة في معرفة إعجاز القران بأنفسهم منزلة من رأى اليد البيضاء وفلق البحر بان ذلك معجز
وأما من لم يكن من أهل الصنعة فلا بد له من مرتبة قبل هذه المرتبة يعرف بها كونه معجزا فيساوي حينئذ أهل الصنعة فيكون استدلالها في تلك الحالة به على صدق من ظهر ذلك عليه على سواء إذا ادعاه - دلالة على نبوته وبرهانا على صدقه
فأما من قدر أن القرآن لا يصير معجزا إلا بالتحدي إليه فهو كتقدير من ظن أن جميع آيات موسى وعيسى عليهما السلام ليست بآيات حتى التحدي إليها والحض عليها ثم يقع العجز عنها فيعلم حينئذ أنها معجزات
وقد سلف من كلامنا في هذا المعنى ما يغني عن الإعادة
ويبين ما ذكرناه في غير البليغ أن الأعجمي الآن لا يعرف إعجاز القران إلا بأمور زائدة على الأعجمي الذي كان في ذلك الزمان مشاهدا له لان من هو من أهل العصر يحتاج أن يعرف أولا أن العرب عجزوا عنه وإنما يعلم عجزهم عنه بنقل الناقلة إليه أن النبي قد تحدى العرب إليه فعجزوا عنه ويحتاج في النقل إلى شروط وليس يصير القرآن بهذا النقل

معجزا كذلك لا يصير معجزا بان يعلم العربي الذي ليس ببليغ انهم قد عجزوا عنه بأجمعهم بل هو معجز في نفسه وإنما طريق معرفة هذا وقوفهم على العلم بعجزهم عنه

فصل في قدر المعجز من القرآن
الذي ذهب إليه عامة أصحابنا - وهو قول الشيخ أبي الحسن الأشعري في كتبه - أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة قصيرة كانت أو طويلة أو ما كان بقدرها
قال فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة وإن كانت سورة الكوثر فذلك معجز
قال ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر
وذهبت المعتزلة إلى أن كل سورة برأسها فهي معجزة
وقد حكي عنهم نحو قولنا إلا أن منهم من لم يشترط كون الآية بقدر السورة بل شرط الآيات الكثيرة
وقد علمنا انه تحداهم تحديا إلى السور كلها ولم يخص ولم يأتوا لشيء منها بمثل فعلم أن جميع ذلك معجز
وأما قوله عز و جل فليأتوا بحديث مثله فليس بمخالف لهذا لان الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة
وهذا يؤكد ما ذهب إليه أصحابنا ويؤيده وإن كان قد يتأول قوله فليأتوا بحديث مثله على أن يكون راجعا إلى القبيل دون التفصيل
وكذلك يحمل قوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله على القبيل لأنه لم يجعل الحجة عليهم عجزهم عن الإتيان بجميعه من أوله إلى أخره
فان قيل هل تعرفون إعجاز السور القصار بما تعرفون إعجاز السور الطوال

وهل تعرفون إعجاز كل قدر من القرآن بلغ الحد الذي قدرتموه بمثل ما تعرفون به إعجاز سورة البقرة ونحوها
فالجواب أن شيخنا أبا الحسن الأشعري رحمه الله أجاب عن ذلك بان كل سورة قد علم كونها معجزة بعجز العرب عنها
وسمعت بعض الكبراء من أهل هذا الشأن يقول إن ذلك يصح أن يكون علم ذلك توقيفا
والطريقة الأولى أسد وليس هذا الذي ذكرناه أخيرا بمناف له لأنه لا يمتنع أن يعلم إعجازه بطرق مختلفة تتوافى عليه وتجتمع فيه
واعلم أن تحت اختلاف هذه الأجوبة ضربا من الفائدة
لان الطريقة الأولى تبين أن ما علم به كون جميع القرآن معجزا - موجود في كل سورة وإن صغرت أو كبرت فيجب أن يكون الحكم في الكل واحدا
والطريقة الأخيرة تتضمن تعذر معرفة إعجاز القران بالطريقة التي سلكناها في كتابنا من التفصيل الذي بينا فيما تعرف به في الكلام الفصاحة وتتبين به البلاغة حتى يعلم ذلك بوجه آخر فيستوي في هذا القدر البليغ وغيره في أن لا يعلمه معجزا حتى يستدل به من وجه آخر سوى ما يعلمه البلغاء من التقدم في الصنعة وهذا غير ممتنع
ألا ترى أن الإعجاز في بعض السور والآيات أظهر وفي بعضها أغمض وأدق فلا يفتقر البليغ في النظر في حال بعضها إلى تأمل كثير ولا بحث شديد حتى يتبين له الإعجاز
ويفتقر في بعضها إلى نظر دقيق وبحث لطيف حتى يقع على الجلية ويصل إلى المطلب
ولا يمتنع أن يذهب عليه الوجه في بعض السور فيحتاج أن يفزع فيه إلى إجماع أو توقيف أو ما علمه من عجز العرب قاطبة عنه

فان ادعى ملحد أو زعم زنديق انه لا يقع العجز عن الإتيان بمثل السور القصار أو الآيات بهذا المقدار
قلنا له إن الإعجاز قد حصل بما بيناه وعرف بما وقفنا عليه من عجز العرب عنه
ثم فيه شيء آخر وهو أن هذا سؤال لا يستقيم للملحد لأنه يزعم لنه ليس في القرآن كله إعجاز فكيف يجوز أن نناظره على تفصيله
وإذا ثبت لنا معه إعجازه في السور الطوال قامت الحجة عليه وثبتت المعجزة ولا معنى لطلبه لكثرة الأدلة والمعجزات ونحن نعلم أن إعجاز البعض بما بيناه والبعض الآخر بأنه إذا ثبت الأصل لم يبق بعد ذلك إلا قولنا لأنا عرفنا في البعض الإعجاز بما بينا ثم عرفنا في الباقي بالتوقيف ونحو ذلك
وليس بممتنع اختلاف حال الكلام حتى يكون الإعجاز على بعضه أظهر وفي بعضه أغمض ومن آمن ببعض دون بعض كان مذموما على ما قال الله تعالى أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض وقال وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين فظاهره عند بعض أهل التأويل كالدليل على أن الشفاء ببعضه أوقع وإن كنا نقول انه يدل على أن الشفاء في جميعه
واعلم أن الكلام يقع فيه الأبلغ والبليغ ولذلك كانوا يسمون الكلمة يتيمة ويسمون البيت الواحد يتيما
سمعت إسماعيل بن عباد يقول سمعت أبا بكر بن مقسم يقول

سمعت ثعلبا يقول سمعت سلمة يقول سمعت الفراء يقول العرب تسمي البيت الواحد يتيما وكذلك يقال الدرة اليتيمة لانفرادها فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي نتفة والى العشرة تسمى قطعة وإذا بلغ العشرين استحق أن يسمى قصيدا وذلك مأخوذ من المخ القصيد وهو المتراكم بعضه على بعض وهو ضد الرار ومثله الرثيد
انتهت الحكاية ثم استشهد بقول لبيد
فتذكر ثقلا رثيدا بعدما ... ألقت ذكاء يمينها في كافر
يريد بيض النعام لأنه ينضد بعضه على بعض
وكذلك يقع في الكلام البيت الوحشي والنادر والمثل السائر والمعنى الغريب والشيء الذي لو اجتهد له لم يقع عليه فيتفق له ويصادفه
قال لي بعض علماء هذه الصنعة - وجاريته في ذلك - إن هذا مما

لا سبب له يخصه وإنما سببه الغزارة في أصل الصنعة والتقدم في عيون المعرفة فإذا وجد ذلك وقع له من الباب ما يطرد عن حساب وما يشذ عن تفصيل الحساب
فأما ما قلنا من أن ما بلغ قدر السورة معجز فإن ذلك صحيح

فصل في أنه هل يعلم إعجاز القران ضرورة
ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري إلى أن ظهور ذلك عن النبي يعلم ضرورة وكونه معجزا يعلم باستدلال
وهذا المذهب يحكي عن مخالفين
والذي نقوله في هذا إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالا وكذلك من لم يكن بليغا
فأما البليغ الذي قد أحاط بمذاهب العربية وغرائب الصنعة - فانه يعلم من نفسه ضرورة عجزه عن الإتيان بمثله ويعلم عجز غيره بمثل ما يعرف عجز نفسه كما انه إذا علم الواحد منا انه لا يقدر على ذلك فهو يعلم عجز غيره استدلالا
فصل فيما يتعلق به الإعجاز
إن قال قائل بينوا لنا ما الذي وقع التحدي إليه أهو الحروف المنظومة أو الكلام القائم بالذات أو غير ذلك
قيل الذي تحداهم به أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن منظومة كنظمها متتابعة كتتابعها مطردة كاطرادها ولم يتحدهم إلى أن يأتوا بمثل الكلام القديم الذي لا مثل له
وإن كان كذلك فالتحدي واقع إلى أن يأتوا بمثل الحروف المنظومة التي هي عبارة عن كلام الله تعالى في نظمها وتأليفها وهي حكاية لكلامه ودلالات عليه وأمارات له على أن يكونوا مستأنفين لذلك لا حاكين بما أتى به النبي
ولا يجب أن يقدر مقدر أو يظن ظان أنا حين قلنا أن القرآن معجز وإنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله - أردنا غير ما فسرناه من العبارات عن الكلام القديم القائم بالذات
وقد بينا قبل هذا انه لم يكن ذلك معجزا لكونه عبارة عن الكلام القديم لان التوراة والإنجيل عبارة عن الكلام القديم وليس ذلك بمعجز في النظم والتأليف وكذلك ما دون الآية - كاللفظة - عبارة عن كلامه وليست بمنفردها بمعجزة
وقد جوز بعض أصحابنا أن يتحداهم إلى مثل كلامه القديم القائم بنفسه
والذي عول عليه مشايخنا ما قدمنا ذكره وعلى ذلك أكثر مذاهب الناس

ولم نحب أن نفسر ونذكر موجب هذا المذهب الذي حكيناه وما يتصل به لأنه خارج عن غرض كتابنا لأن الإعجاز واقع في نظم الحروف التي هي دلالات وعبارات عن كلامه والى مثل هذا النظم وقع التحدي فبينا وجه ذلك وكيفية ما نتصور القول فيه وأزلنا توهم من يتوهم أن القديم حروف منظومة أو حروف غير منظومة أو شيء مؤلف أو غير ذلك مما يصح أن يتوهم على ما سبق من إطلاق القول فيما مضى

فصل في وصف وجوه من البلاغة
ذكر بعض أهل الأدب والكلام أن البلاغة على عشرة أقسام
الإيجاز والتشبيه والاستعارة والتلاؤم والفواصل والتجانس والتصريف والتضمين والمبالغة وحسن البيان
فأما الإيجاز فإنما يحسن مع ترك الإخلال باللفظ والمعنى فيأتي باللفظ القليل الشامل لأمور كثيرة
وذلك ينقسم إلى حذف وقصر
فالحذف الإسقاط للتخفيف كقوله واسأل القرية وقوله طاعة وقول معروف
وحذف الجواب كقوله ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى كأنه قيل لكان هذا القرآن
والحذف ابلغ من الذكر لان النفس تذهب كل مذهب في القصد من الجواب

والإيجاز بالقصر كقوله ولكم في القصاص حياة
وقوله يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو
وقوله إنما بغيكم على أنفسكم
وقوله ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله
والإطناب فيه بلاغة فأما التطويل ففيه عن
وأما التشبيه فهو العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في

حس أو عقل كقوله والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا
وقوله مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف
وقوله وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة
وقوله إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس
وقوله إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر

وقوله فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان
وقوله أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما
وقوله وجنة عرضها كعرض السماء والأرض
وقوله مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا
وقوله تعالى فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث
وقوله كأنهم أعجاز نخل خاوية
وقوله مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت

بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت
وقوله وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام
وقوله خلق الإنسان من صلصال كالفخار ونحو ذلك
ومن ذلك

باب الاستعارة
وذلك يباين التشبيه
كقوله تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا
وكقوله فاصدح بما تؤمر وأعرض عن المشركين
وكقوله إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية
وقوله ولما سكت عن موسى الغضب

وكقوله فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة
وقوله بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق فالدمغ والقذف مستعار
وقوله وآية لهم الليل نسلخ منه النهار
وقوله وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم
وقوله فذو دعاء عريض
وقوله حتى تضع الحرب أوزارها
وقوله والصبح إذا تنفس
وقوله مستهم البأساء والضراء وزلزلوا

وقوله فنبذوه وراء ظهورهم
وقوله أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا
وقوله حصيدا خامدين
وقوله ألم تر أنهم في كل واد يهيمون
وقوله وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
وقوله ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك
وقوله ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر
وقوله فضربنا على آذانهم يريد أن لا إحساس بآذانهم من غير صمم

وقوله ولما سقط في أيديهم
وهذا أوقع من اللفظ الظاهر وأبلغ من الكلام الموضوع له
وأما التلاؤم فهو تعديل الحروف في التأليف وهو نقيض التنافر الذي هو كقول الشاعر
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر
قالوا هو من شعر الجن وحروفه متنافرة لا يمكن إنشاده إلا بتتعتع فيه والتلاؤم على ضربين
أحدهما في الطبقة الوسطى كقوله
رمتني وستر الله بيني وبينها ... عشية آرام الكناس رميم
رميم التي قالت لجارات بيتها ... ضمنت لكم أن لا يزال يهيم
ألا رب يوم لو رمتني رميتها ... ولكن عهدي بالنضال قديم

قالوا والمتلائم في الطبقة العليا القرآن كله وإن كان بعض الناس أحسن إحساسا له من بعض كما أن بعضهم يفطن للموزون بخلاف بعض
والتلاؤم حسن الكلام في السمع وسهولته في اللفظ ووقع المعنى في القلب وذلك كالخط الحسن والبيان الشافي والمتنافر كالخط القبيح فإذا انضاف إلى التلاؤم حسن البيان وصحة البرهان في أعلى الطبقات - ظهر الإعجاز لمن كان جيد الطبع وبصيرا بجواهر الكلام كما يظهر له أعلى طبقة الشعر
والمتنافر ذهب الخليل إلى انه من بعد شديد أو قرب شديد فإذا بعد فهو كالطفر وإذا قرب جدا كان بمنزلة مشي المقيد ويبين بقرب فخارج الحروف وتباعدها
وأما الفواصل فهي حروف متشاكلة في المقاطع يقع بها إفهام المعاني وفيها بلاغة والأسجاع عيب لان السجع يتبعه المعنى والفواصل تابعة

للمعاني والسجع كقول مسيلمة
ثم الفواصل قد تقع على حروف متجانسة كما قد تقع على حروف متقاربة ولا تحتمل القوافي ما تحتمل الفواصل لأنها ليست في الطبقة العليا في البلاغة لان الكلام يحسن فيها بمجانسة القوافي وإقامة الوزن
وأما التجانس فهو بيان بأنواع الكلام الذي يجمعه أصل واحد
وهو على وجهين مزاوجة ومناسبة
المزاوجة كقوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم
وقوله ومكروا ومكر الله
وكقول عمرو بن كلثوم
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وأما المناسبة فهي كقوله تعالى ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم
وقوله يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار
وأما التصريف فهو تصريف الكلام في المعاني كتصريفه في الدلالات المختلفة كتصريف الملك في معاني الصفات فصرف في معنى مالك وملك وذي الملكوت و المليك وفي معنى التمليك والتملك والإملاك وتصريف المعنى في الدلالات المختلفة كما كرر من قصة موسى في مواضع
وأما التضمين فهو حصول معنى فيه من غير ذكره له باسم أو صفة هي عبارة عنه

وذلك على وجهين
تضمين توجبه البنية كقولنا معلوم يوجب انه لا بد من عالم
وتضمين يوجبه معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به كالصفة بضارب على مضروب
والتضمين كله إيجاز وذكر أن التضمين الذي تدل عليه دلالات القياس أيضا إيجاز
وذكر أن بسم الله الرحمن الرحيم من باب التضمين لأنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله تبارك وتعالى أو التبرك باسمه
وأما المبالغة فهي الدلالة على كثرة المعنى وذلك على وجوه
منها مبالغة في الصفة المبينة لذلك كقولك رحمان عدل عن راحم

للمبالغة وكقوله غفار وكذلك فعال وفعول كقوله شكور وغفور وفعيل كقوله رحيم وقدير
ومن ذلك أن يبالغ باللفظة التي هي صفة عامة كقوله خالق كل شيء وكقوله فأتى الله بنيانهم من القواعد
وكقوله ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط
وكقوله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين
وقد يدخل فيه الحذف الذي تقدم ذكره للمبالغة
وأما حسن البيان فالبيان على أربعة أقسام كلام وحال وإشارة وعلامة
ويقع التفاضل في البيان ولذلك قال عز و جل من قائل الرحمن علم

القرآن خلق الإنسان علمه البيان
ونقيضه العي ومنه قيل أعيا من باقل سئل عن ظبية في يده بكم اشتراها فأراد أن يقول بأحد عشر فأشار بيديه مادا أصابعه العشر ثم أدلع لسانه فأفلتت الظبية من يده
ثم البيان على مراتب
قلنا قد كنا حكينا أن من الناس من يريد أن يأخذ إعجاز القرآن من وجوه البلاغة التي ذكرنا أنها تسمى البديع في أول الكتاب مما مضت أمثلته في الشعر
ومن الناس من زعم انه يأخذ ذلك من هذه الوجوه التي عددناها في هذا الفصل
واعلم أن الذي بيناه قبل هذا وذهبنا إليه هو سديد وهو أن هذه الأمور تنقسم
فمنها ما يمكن الوقوع عليه والتعمل له ويدرك بالتعلم فما كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة إعجاز القران به
وأما ما لا سبيل إليه بالتعلم والتعمل من البلاغات فذلك هو الذي يدل على إعجازه ونحن نضرب لذلك أمثلة لتقف على ما ذهبنا إليه
وذكرنا في هذا الفصل عن هذا القائل أن التشبيه تعرف به البلاغة وذلك مسلم ولكن إن قلنا ما وقع من التشبيه في القرآن معجز - عرض علينا

من التشبيهات الجارية في الأشعار ما لا يخفى عليك وأنت تجد في شعر ابن المعتز من التشبيه البديع الذي يشبه السحر وقد تتبع في هذا ما لم يتتبع غيره واتفق له ما لم يتفق لغيره من الشعراء
وكذلك كثير من وجوه البلاغة قد بينا أن تعلمها يمكن وليس تقع البلاغة بوجه واحد منها دون غيره
فإن كان إنما يعني هذا القائل انه إذا أتى في كل معنى يتفق في كلامه بالطبقة العالية ثم كان ما يصل به كلامه بعضه ببعض وينتهي منه إلى متصرفاته - على أتم البلاغة وأبدع البراعة - فهذا مما لا نأباه بل نقول به
وإنما ننكر أن يقول قائل إن بعض هذه الوجوه بانفرادها قد حصل فيه الإعجاز من غبر أن يقارنه ما يصل به من الكلام ويفضي إليه مثل ما يقول إن ما أقسم به وحده بنفسه معجز وإن التشبيه معجز وإن التجنيس معجز والمطابقة بنفسها معجزة
فأما الآية التي فيها ذكر التشبيه فان ادعى إعجازها لألفاظها ونظمها وتأليفها - فإني لا أدفع ذلك وأصححه ولكن لا ادعي إعجازها لموضع التشبيه
وصاحب المقالة التي حكيناها أضاف ذلك إلى موضع التشبيه وما قرن به من الوجوه ومن تلك الوجوه ما قد بينا أن الإعجاز يتعلق به كالبيان وذلك لا يختص بجنس من المبين دون جنس ولذلك قال هذا بيان للناس وقال تبيانا لكل شيء وقال بلسان عربي مبين فكرر في مواضع جل ذكره انه مبين
فالقرآن أعلى منازل البيان وأعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن وأسبابه وطرقه وأبوبه من تعديل النظم وسلامته وحسنه وبهجته وحسن موقعه في السمع وسهولته على اللسان ووقوعه في النفس موقع القبول وتصوره تصور المشاهد

وتشكله على جهته حتى يحل محل البرهان ودلالة التأليف مما لا ينحصر حسنا وبهجة وسناء ورفعة
وإذا علا الكلام في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس ما يذهل ويبهج ويقلق ويؤنس ويطمع ويؤيس ويضحك ويبكي ويحزن ويفرح ويسكن ويزعج ويشجي ويطرب ويهز الأعطاف ويستميل نحوه الأسماع ويورث الأريحية والعزة وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجودا ويرمي السامع من وراء رأيه مرمى بعيدا
وله مسالك في النفوس لطيفة ومداخل إلى القلوب دقيقة
وبحسب ما يترتب في نظمه ويتنزل في موقعه ويجري على سمت مطلعه ومقطعه - يكون عجيب تأثيراته وبديع مقتضياته
وكذلك على حسب مصادره يتصور وجوه موارده
وقد ينبئ الكلام عن محل صاحبه ويدل على مكان متكلمه وينبه على عظيم شأن أهله وعلى علو محله
ألا ترى أن الشعر في الغزل إذا صدر عن محب كان أرق وأحسن وإذا صدر عن متعمل وحصل من متصنع - نادى على نفسه بالمداجاة وأخبر عن خبيئه في المراءاة
وكذلك قد يصدر الشعر في وصف الحرب عن الشجاع فيعلم وجه صدوره ويدل على كنهه وحقيقته
وقد يصدر عن المتشبه ويخرج عن المتصنع فيعرف من حاله ما ظن انه يخفيه ويظهر من أمره خلاف ما يبديه
وأنت تعرف لقول المتنبي
فالخيل والليل والبيداء تعرفني ... والحرب والضرب والقرطاس والقلم

من الوقع في القلب - لما تعلم انه من أهل الشجاعة - ما لا تجده للبحتري في قوله
وأنا الشجاع وقد بدا لك موقفي ... بعقرقس والمشرفية شهدي
وتجد لابن المعتز في موقع شعره من القلب في الفخر وغيره ما لا تجده لغيره لأنه إذا قال
إذا شئت أوقرت البلاد حوافرا ... وسارت ورائي هاشم ونزار
وعم السماء النقع حتى كأنه ... دخان وأطراف الرماح شرار
وقال
قد ترديت بالمكارم دهرا ... وكفتني نفسي من الافتخار
أنا جيش إذا غزوت وحيدا ... ووحيد في الجحفل الجرار
وقال
أيها السائلي عن الحسب الأطيب ... ما فوقه لخلق مزيد
نحن آل الرسول والعترة الحقق ... وأهل القربى فماذا تريد
ولنا ما أضاء صبح عليه ... وأتته رايات ليل سود
وكما أنشدنا الحسن بن عبد الله قال أنشدنا محمد بن يحيى لابن المعتز قصيدته التي يقول فيها
أنا ابن الذي سادهم في الحياة ... وسادهم بي تحت الثرى
ومالي في أحد مرغب ... بلى في يرغب كل الورى
وأسهر للمجد والمكرمات ... إذا اكتحلت أعين بالكرى

فانظر في القصيدة كلها ثم في جميع شعره تعلم انه ملك الشعر وانه يليق به من الفخر خاصة ثم مما يتبعه مما يتعاطاه - ما لا يليق بغيره بل ينفر عن سواه
ولم أحب أن أكثر عليك فأطول الكتاب بما يخرج عن غرضه
وكما ترى من قول أبي فراس الحمداني في نفسك إذا قال
ولا أصبح الحي الخلوف بغارة ... ولا الجيش ما لم تأته قبلي النذر
ويا رب دار لم تخفني منيعة ... طلعت عليها بالردى أنا والفجر
وساحبة الأذيال نحوي لقيتها ... فلم يلقها جافي اللقاء ولا وعر
وهبت لها ما حازه الجيش كله ... وأبت ولم يكشف لأبياتها ستر
وما راح يطغيني بأثوابه الغنى ... ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر
وما حاجتي في المال أبغي وفوره ... إذا لم أفر وفري فلا وفر الوفر
والشيء إذا صدر من أهله وبدا من أصله وانتسب إلى ذويه سلم في نفسه وبانت فخامته وشوهد أثر الاستحقاق فيه
وإذا صدر من متكلف وبدا من متصنع بان أثر الغربة عليه

وظهرت مخايل الاستيحاش فيه وعرف شمائل التحير منه
إنا نعرف في شعر أبي نواس أثر الشطارة وتمكن البطالة وموقع كلامه في وصف ما هو بسبيله من أمر العيارة ووصف الخمر والخماركما نعرف موقع كلام ذي الرمة في وصف المهامة والبوادي والجمال والأنساع والأزمة
وعيب أبي نواس التصرف في وصف الطلول والرباع والوحش ففكر في قوله
دع الأطلال تسفيها الجنوب ... وتبلي عهد جدتها الخطوب
وخل لراكب الوجناء أرضا ... تخب به النجيبة والنجيب
بلاد نبتها عشر وطلح ... وأكثر صيدها ضبع وذيب
ولا تأخذ عن الأعراب لهوا ... ولا عيشا فعيشهم جديب
دع الألبان يشربها رجال ... رقيق العيش عندهم غريب
إذا راب الحليب فبل عليه ... ولا تحرج فما في ذاك حوب
فأطيب منه صافية شمول ... يطوف بكأسها ساق أديب
كأن هديرها في الدن يحكي ... قراة القس قابلة الصليب
أعاذل أقصري عن طول لومي ... فراجي توبتي عندي يخيب
تعيبين الذنوب وأي حر ... من الفتيان ليس له ذنوب
وقوله
صفة الطلول بلاغة الفدم ... فاجعل صفاتك لابنة الكرم

وسمعت الصاحب إسماعيل بن عباد يقول سمعت براكوية الزنجاني يقول
أنشد بعض الشعراء هلال بن يزيد قصيدة على وزن قصيدة الأعشى
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل
وكان وصف فيها الطلل قال براكوية كلامه فقال لي هلال فقلت بديها
إذا سمعت فتى يبكي على طلل ... من أهل زنجان فاعلم أنه طلل
وإنما ذكرت لك هذه الأمور لتعلم أن الشيء في معدنه أعز وإلى مظانه أحن وإلى أصله أنزع وبأسبابه أليق وهو يدل على ما صدر منه وينبه ما أنتج عنه ويكون قراره على موجب صورته وأنواره على حسب محله ولكل شيء حد ومذهب ولكل كلام سبيل ومنهج
وقد ذكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه في كلام مسيلمة ما أخبرتك به فقال / إن هذا كلام لم يخرج من إل فدل على أن الكلام الصادر عن عزة الربوبية ورفعة الإلهية يتميز عما لم يكن كذلك
ثم رجع الكلام بنا إلى ما ابتدأنا به من عظيم شأن البيان ولو لم يكن فيه إلا ما من به الله على خلقه بقوله خلق الإنسان علمه البيان

فأما بيان القرآن فهو أشرف بيان وأهداه وأكمله وأعلاه وأبلغه وأسناه
تأمل قوله تعالى أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين في شدة التنبيه على تركهم الحق والإعراض عنه وموضع امتنانه بالذكر والتحذير وقوله ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون
وهذا بليغ في التحسير
وقوله ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وهذا يدل على كونهم مجبولين على الشر معودين لمخالفة النهي والأمر
وقوله الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين هو في نهاية المنع من الخلة إلا على التقوى
وقوله أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وهذا نهاية في التحذير من التفريط وقوله أفمن يلقي في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير هو النهاية في الوعيد والتهديد
وقوله وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من

سبيل وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي نهاية في الوعيد
وقوله وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدين نهاية في الترغيب
وقوله ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض وكذلك قوله لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا نهاية في الحجاج
وقوله وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير نهاية في الدلالة على علمه بالخفيات
ولا وجه للتطويل فإن بيان الجميع في الرفعة وكبر المنزلة على سواء
وقد ذكرنا من قبل أن البيان يصح أن يتعلق به الإعجاز وهو معجز من القرآن
وما حكينا عن صاحب الكلام من المبالغة في اللفظ فليس ذلك بطريق الإعجاز لأن الوجوه التي ذكرها قد تتفق في كلام غيره وليس ذلك بمعجز بل قد يصح أن يقع في المبالغة في المعنى والصفة وجوه من اللفظ تثمر الإعجاز
وتضمين المعاني أيضا قد يتعلق به الإعجاز إذا حصلت للعبارة طريق البلاغة في أعلى درجاتها

وأما الفواصل فقد بينا أنه يصح أن يتعلق بها الإعجاز وكذلك قد بينا في المقاطع والمطالع نحو هذا وبينا في تلاؤم الكلام ما سبق من صحة تعلق الإعجاز به
والتصرف في الاستعارة البديعة يصح أن يتعلق به الإعجاز كما يصح مثل ذلك في حقائق الكلام لأن البلاغة في كل واحد من البابين تجري مجرى واحدا وتأخذ مأخذا مفردا
وأما الإيجاز والبسط فيصح أن يتعلق بهما الإعجاز كما يتعلق بالحقائق
والاستعارة والبيان في كل واحد منهما مالا يضبط حدة ولا يقدر قدرة ولا يمكن التوصل إلى ساحل بحره بالتعلم ولا يتطرق إلى غوره بالتسبب وكل ما يمكن تعلمه ويتهيأ تلقنه ويمكن تحصيله ويستدرك أخذه فلا يجب أن يطلب وقوع الإعجاز به ولذلك قلنا إن السجع ما ليس يلتمس فيه الإعجاز لأن ذلك أمر محدود وسبيل مورود ومتى تدرب الإنسان به واعتاده لم يستصعب عليه أن يجعل جميع كلامه منه
وكذلك التجنيس والتطبيق متى أخذ أخذهما وطلب وجههما استوفى ما شاء ولم يتعذر عليه أن يملأ خطابه منه كما أولع بذلك أبو تمام والبحتري وإن كان البحتري أشغف بالمطابق وأقل طلبا للمجانس
فإن قال قائل هلا قلت إن هذين البابين يقع فيهما مرتبة عالية لا يوصل إليها بالتعلم ولا تملك بالتعمل كما ذكرتم في البيان وغير ذلك
قلنا لو عمد إلى كتاب الأجناس ونظر في كتاب العين لم يتعذر عليه التجنيس الكثير
فأما الإطباق فهو أقرب منه وليس كذلك البيان والوجوه التي رأينا الإعجاز فيها لأنها لا تستوفي بالتعلم

فإن قيل فالبيان قد يتعلم
قيل إن الذي يمكن أن يتوصل إليه بالتعلم يتقارب فيه الناس وتتناهى فيه العادات وهو كما يعلم من مقادير القوى في حمل الثقيل وأن الناس يتقاربون في ذلك فيرمون فيه إلى حد فإذا تجاوزوه وقفوا بعده ولم يمكنهم التخطي ولم يقدروا على التعدي إلا أن يحصل ما يخرق العادة وينقض العرف ولن يكون ذلك إلا للدلالة على النبوات على شروط في ذلك
والقدر الذي يفوت الحد في البيان ويتجاوز الوهم ويشذ عن الصنعة ويقذفه الطبع في النادر القليل كالبيت البديع والقطعة الشريفة التي تتفق في ديوان شاعر والفقرة تتفق في رسالة كاتب حتى يكون الشاعر ابن بيت أو بيتين أو قطعة أو قطعتين والأديب شهير كلمة أو كلمتين ذلك أمر قليل
ولو كان كلامه كله يطرد على ذلك المسلك ويستمر على ذلك المنهج أمكن أن يدعي فيه الإعجاز
ولكنك إن كنت من أهل الصنعة تعلم قلة الأبيات الشوارد والكلمات الفرائد وأمهات القلائد
فإن أردت أن تجد قصيدة كلها وحشية وأردت أن تراها مثل بيت من أبياتها مرضية لم تجد ذلك في الدواوين ولم تظفر بذلك إلى يوم الدين
ونحن لم ننكر أن يستدرك البشر كلمة شريفة ولفظة بديعة وإنما أنكرنا أن يقدروا على مثل نظم سورة أو نحوها وأحلنا أن يتمكنوا من حد في البلاغة ومقدار في الخطابة
وهذا كما قلناه من أن صورة الشعر قد تتفق في القرآن وإن لم يكن له حكم الشعر

فأما قدر المعجز فقد بينا أنها السورة طالت أو قصرت وبعد ذلك خلاف
من الناس من قال مقدار كل سورة أو أطول آية فهو معجز
وعندنا كل واحد من الأمرين معجز والدلالة عليه ما تقدم والبلاغة لا تتبين بأقل من ذلك فلذلك لم نحكم بإعجازه وما صح أن تتبين فيه البلاغة ومحصولها الإبانة في الإبلاغ عن ذات النفس على أحسن معنى وأجزل لفظ وبلوغ الغاية في المقصود بالكلام
فإذا بلغ الكلام غايته في هذا المعنى كان بالغا وبليغا فإذا تجاوز حد البلاغة إلى حيث لا يقدر عليه أهل الصناعة وانتهى إلى أمد يعجز عنه الكامل في البراعة صح أن يكون له حكم المعجزات وجاز أن يقع موقع الدلالات
وقد ذكرنا أنه بجنسه وأسلوبه مباين لسائر كلامهم ثم بما يتضمن من تجاوزه في البلاغة الحد الذي يقدر عليه البشر
فإن قيل فإذا كان يجوز عندكم أن يتفق في شعر الشاعر قطعة عجيبة شاردة تباين جميع ديوانه في البلاغة ويقع في ديوانه بيت واحد يخالف مألوف طبعه ولا يعرف سبب ذلك البيت ولا تلك القطعة في التفصيل ولو أراد أن يأتي بمثل ذلك أو يجعل جميع كلامه من ذلك النمط لم يجد إلى ذلك سبيلا وله سبب في الجملة وهو التقدم في الصنعة لأنه يتفق من المتأخر فيها فهلا قلتم إنه إذا بلغ في العلم بالصناعة مبالغة القصوى

كان جميع كلامه من نمط ذلك البيت وسمت تلك القطعة وهلا قلتم إن القرآن من هذا الباب
فالجواب أنا لم نجد أحدا بلغ الحد الذي وصفتم في العادة وهذا الناس وأهل البلاغة أشعارهم عندنا محفوظة وخطبهم منقولة ورسائلهم مأثورة وبلاغاتهم مروية وحكمهم مشهورة وكذلك أهل الكهانة والبلاغة مثل قس بن ساعدة وسحبان وائل ومثل شق وسطيح وغيرهم كلامهم معروف عندنا وموضوع بين أيدينا لا يخفي علينا في الجملة بلاغة بليغ ولا خطابة خطيب ولا براعة شاعر مفلق ولا كتابة كاتب مدقق
فلما لم نجد في شيء من ذلك ما يداني القرآن في البلاغة أو يشاكله في الإعجاز مع ما وقع من التحدي إليه الأمدة الطويلة وتقدم من التقريع في المجازاة الأمد المديد وثبت له وحده خاصة قصب السبق والاستيلاء على المد وعجز الكل عنه ووقفوا دونه حيارى يعرفون عجزهم وإن جهل قوم سببه ويعلمون نقصهم وإن أغفل قوم وجهه رأينا أنه ناقض للعادة ورأينا أنه خارق للمعروف في الجبلة وخرق العادة إنما يقع بالمعجزات على وجه إقامة البرهان على النبوات وعلى أن من ظهرت عليه ووقعت موقع الهداية إليه صادق فيما يدعيه من نبوته ومحق في قوله ومصيب في هدية قد شهدت له الحجة البالغة والكلمة التامة والبرهان النير والدليل البين

فصل في حقيقة المعجز
معنى قولنا إن القرآن معجز على أصولنا انه لا يقدر العباد عليه وقد ثبت أن المعجز الدال على صدق النبي لا يصح دخوله تحت قدرة العباد وإنما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه ولا يجوز أن يعجز العباد عما تستحيل قدرتهم عليه كما يستحيل عجزهم عن فعل الأجسام فنحن لا نقدر على ذلك وإن لم يصح وصفنا بأنا عاجزون عن ذلك حقيقة وكذلك معجزات سائر الأنبياء على هذا
فلما لم يقدر عليه أحد شبه بما يعجز عنه العاجز وإنما لا يقدر العباد على الإتيان بمثله لأنه لو صح أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز وقد أجري الله العادة بأن يتعذر فعل ذلك منهم وأن لا يقدروا عليه
ولو كان غير خارج عن العادة لأتوا بمثله أو عرضوا عليه من كلام فصحائهم وبلغائهم ما يعارضه
فلما لم يشتغلوا بذلك علم أنهم فطنوا لخروج ذلك عن أوزان كلامهم وأساليب نظامهم وزالت أطماعهم عنه
وقد كنا بينا أن التواضع ليس يجب أن يقع على قول الشعر ووجوه النظم المستحسنة في الأوزان المطربة للسمع لا يحتاج في مثله إلى توقيف وأنه يتبين أن مثل ذلك يجري في الخطاب فلما جرى فيه فطنوا له واختاروه وطلبوه وطلبوا أنواع الأوزان والقوافي ثم وقفوا على حسن ذلك وقدروا عليه بتوفيق الله عز و جل وهو الذي جمع خواطرهم عليه وهداهم له

وهيأ دواعيهم إليه ولكنه أقدرهم على حد محدود وغاية في العرف مضروبة لعلمه بأنه سيجعل القرآن معجزا ودل على عظم شأنه بأنهم قدروا على ما بينا من التأليف وعلى ما وصفنا من النظم من غير توقيف ولا اقتفاء أثر ولا تحد إليه ولا تقريع
فلو كان هذا من ذلك القبيل أو من الجنس الذي عرفوه وألفوه لم تزل أطماعهم عنه ولم يدهشوا عند وروده عليهم فكيف وقد أمهلهم وفسح لهم في الوقت وكان يدعو إليه سنين كثيرة وقال عز و جل من قائل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير
وبظهور العجز عنه بعد طول التقريع والتحدي بأن أنه خارج عن عاداتهم وأنهم لا يقدرون عليه
وقد ذكرنا أن العرب كانت تعرف ما يباين عادتها من الكلام البليغ لأن ذلك طبعهم ولغتهم فلم يحتاجوا إلى تجربة عند سماع القرآن وهذا في البلغاء منهم دون المتأخرين في الصنعة
والذي ذكرناه يدلك على أنه لا كلام أزيد في قدر البلاغة من القرآن
وكل من جوز أن يكون للبشر قدرة على أن يأتوا بمثله في البلاغة لم يمكنه أن يعرف أن القرآن معجز بحال
ولو لم يكن جرى في المعلوم أنه سيجعل القرآن معجزا لكان يجوز أن تجري عادات البشر بقدر زائد على ما ألفوه من البلاغة وأمر يفوق ما عرفوه من الفصاحة

وأما نظم القرآن فقد قال أصحابنا فيه إن الله تعالى يقدر على نظم هيئة أخرى تزيد في الفصاحة عليه كما يقدر مثله
وأما بلوغ بعض نظم القرآن الرتبة التي لا مزيد عليها فقد قال مخالفونا / إن هذا غير ممتنع لأن فيه من الكلمات الشريفة الجامعة للمعاني البديعة وأنضاف إلى ذلك حسن الموقع فيجب أن يكون قد بلغ النهاية لأنه عندهم وإن زاد على ما في العادة فإن الزائد عليها وإن تفاوت فلا بد من أن ينتهي إلى حد لا مزيد عليه
والذي نقوله إنه لا يمتنع أن يقال إنه يقدر الله تعالى على أن يأتي بنظم أبلغ وأبدع من القرآن كله
وأما قدر العباد فهي متناهية في كل ما يقدرون عليه مما تصح قدرتهم عليه

فصل في كلام النبي وأمور تتصل بالإعجاز
إن قال قائل إذا كان النبي أفصح العرب وقد قال هذا في حديث مشهور وهو صادق في قوله فهلا قلتم إن القرآن من نظمه لقدرته في الفصاحة على مقدار لا يبلغه غيره
قيل قد علمنا أنه لم يتحدهم إلى مثل قوله وفصاحته والقدر الذي بينه وبين كلام غيره من الفصحاء كقدر ما بين شعر الشاعرين وكلام الخطيبين في الفصاحة وذلك مما لا يقع به الإعجاز
وقد بينا قبل هذا أنا إذا وازنا بين خطبه ورسائله وكلامه المنثور وبين نظم القرآن تبين من البون بينهما مثل ما بين كلام الله عز و جل وبين كلام الناس فلا معنى لقول من ادعى أن كلام النبي معجز وإن كان دون القرآن في الإعجاز
فإن قيل لولا أن كلام معجز لم يشتبه على ابن مسعود الفصل بين المعوذتين وبين غيرهما من القرآن

وكذلك لم يشتبه دعاء القنوت في أنه هل هو من القرآن أم لا
قيل هذا من تخليط الملحدين لأن عندنا أن الصحابة لم يخف عليهم ما هو من القرآن
ولا يجوز أن يخفى عليهم القرآن من غيره وعدد السور عندهم محفوظ مضبوط
وقد يجوز أن يكون شذ عن مصحفه لا لأنه نفاه من القرآن بل عول على حفظ الكل إياه
على أن الذي يرونه خبر واحد لا يسكن إليه في مثل هذا ولا يعمل عليه
ويجوز أن يكتب على ظهر مصحفه دعاء القنوت لئلا ينساه كما يكتب الواحد منا بعض الأدعية على ظهر مصحفه
وهذا نحو ما يذكره الجهال من اختلاف كثير بين مصحف ابن مسعود وبين مصحف عثمان رحمه الله عليهما
ونحن لا ننكر أن يغلط في حروف معدودة كما يغلط الحافظ في حروف وينسى وما لا نجيزه على الحفاظ مما لم نجزه عليه
ولو كان قد أنكر السورتين على ما ادعوا لكانت الصحابة تناظره على ذلك وكان يظهر وينتشر فقد تناظروا في أقل من هذا وهذا أمر يوجب التكفير والتضليل فكيف يجوز أن يقع التخفيف فيه وقد علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف فكيف يقدح بمثل هذه الحكايات الشاذة المولدة في الإجماع المقرر والاتفاق المعروف
ويجوز أن يكون الناقل اشتبه عليه لأنه خالف في النظم والترتيب

فلم يثبتهما في آخر القرآن والاختلاف بينهم في موضع الإثبات غير الكلام في الأصل ألا ترى أنهم قد اختلفوا في أول ما نزل من القرآن
فمنهم من قال قوله اقرأ باسم ربك
ومنهم من قال يا أيها المدثر
ومنهم من قال فاتحة الكتاب
واختلفوا أيضا في آخر ما أنزل
فقال ابن عباس إذا جاء نصر الله
وقالت عائشة سورة المائدة
وقال البراء بن عازب آخر ما أنزل سورة براءة
وقال سعيد بن جبير آخر ما أنزل قوله تعالى واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله
وقال السدى آخر ما أنزل فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت

ويجوز أن يكون في مثل هذا خلاف وأن يكون كل واحد ذكر آخر ما سمع
ولو كان القرآن من كلامه لكان البون بين كلامه وبينه مثل ما بين خطبة وخطبة ينشئهما رجل واحد وكانوا يعارضونه لأنا قد علمنا أن القدر الذي بين كلامهم وبين كلام النبي لا يخرج إلى حد الإعجاز ولا يتفاوت التفاوت الكثير ولا يخفى كلامه من جنس أوزان كلامهم وليس كذلك نظم القرآن لأنه خارج من جميع ذلك
فإن قيل لو كان على ما ادعيتم لعرفنا بالضرورة أنه معجز دون غيره
قيل معرفة الفصل بين وزن الشعر أو غيره من أوزان الكلام لا يقع ضرورة ويحتاج في معرفة ذوق الشعر ووزنه والفرق بينه وبين غيره من الأوزان يحتاج إلى نظر وتأمل وفكر وروية واكتساب وإن كان النظم المختلف الشديد التباين إذا وجد أدرك اختلافه بالحاسة إلا أن كل وزن وقبيل إذا أردنا تمييزه من غيره احتجنا فيه إلى الفكرة والتأمل
فإن قيل لو كان معجزا لم يختلف أهل الملة في وجه إعجازه
قيل قد يثبت الشيء دليلا وإن اختلفوا في وجه دلالة البرهان كما قد يختلفون في الاستدلال على حدوث العالم من الحركة والسكون والاجتماع والافتراق
فأما المخالفون فإنه يتعذر عليهم أن يعرفوا أن القرآن كلام الله لأن مذهبهم أنه لا فرق بين أن يكون القرآن من قبل الرسول أو من قبل الله عز و جل في كونه معجزا لأنه إن خصه بقدر من العلم لم تجر العادة بمثله

أمكنه أن يأتي بما له هذه الرتبة وكان معتذرا على غيره لفقد علمه بكيفية النظم
وليس القوم بعاجزين عن الكلام ولا عن النظم والتأليف والمعنى المؤثر عندهم في تعذر مثل نظم القرآن علينا فقد العلم بكيفية النظم وقد بينا قبل هذا أن المانع هو أنهم لا يقدرون عليه
والمفحم قد يعلم كيفية الأوزان واختلافها وكيفية التركيب وهو لا يقدر على نظم الشعر
وقد يعلم الشاعران وجوه الفصاحة وإذا قالا الشعر جاء شعر أحدهما في الطبقة العالية وشعر الآخر في الطبقة الوضيعة
وقد يطرد في شعر المبتدى والمتأخر في الحذق القطعة الشريفة والبيت النادر مما لا يتفق للشاعر المتقدم
والعلم بهذا الشأن في التفصيل لا يعني ويحتاج معه إلى مادة من الطبع وتوفيق من الأصل
وقد يتساوى العالمان بكيفية الصناعة والنساجة ثم يتفق لأحدهما من اللطف في الصنعة ما لا يتفق للآخر
وكذلك أهل نظم الكلام يتفاضلون مع العلم بكيفية النظم وكذلك أهل الرمي يتفاضلون في الإصابة مع العلم بكيفية الإصابة
وإذا وجدت للشاعر بيتا أو قطعة أحسن من شعر امرئ القيس لم يدل ذلك على أنه أعلم بالنظم منه لأنه لو كان كذلك كان يجب أن يكون جميع شعره على ذلك الحد وبحسب ذلك البيت في الشرف والحسن والبراعة ولا يجوز أن يعلم نظم قطعة ويجهل نظم مثلها وإن كان كذلك علم أن هذا لا يرجع إلى قدرة من العلم ولسنا نقول إنه يستغني عن العلم في النظم بل يكفي علم به في الجملة ثم يقف الأمر على القدرة

وهذا يبين لك بأنه قد يعلم الخط فيكتب سطرا فلو أراد أن يأتي بمثله بحيث لا يغادر منه شيئا لتعذر والعلم حاصل
وكذلك قد يحسن كيفية الخط ويميز الجيد منه من الرديء ولا يمكنه أن يأتي بأرفع درجات الجيد
وقد يعلم قوم كيفية إدارة الأقلام وكيفية تصوير الخط ثم يتفاوتون في التفصيل ويختلفون في التصوير
وألزمهم أصحابنا أن يقولوا بقدرتنا على إحداث الأجسام وإنما يتعذر وقوع ذلك منا بأنا لا نعلم الأسباب التي إذا عرفنا إيقاعها على وجوه اتفق لنا فعل الأجسام ,
وقد ذهب بعض المخالفين إلى أن العادة انتقضت بأن أنزله جبريل فصار القرآن معجزا لنزوله على هذا الوجه ومن قبله لم يكن معجزا
هذا قول أبي هاشم وهو ظاهر الخطأ لأنه يوجب أن يكونوا قادرين على مثل القرآن وأنه لم يكن يتعذر عليهم فعل مثله وإنما تعذر بإنزاله ولو كانوا قادرين على مثل ذلك كان قد اتفق من بعضهم مثله
وإن كانوا في الحقيقة غير قادرين قبل نزوله ولا بعده على مثله فهو قولنا
وأما قول كثير من المخالفين فهو على ما بينا لأن معنى المعجز عندهم عندهم تعذر فعل مثله وكان ذلك متعذرا قبل نزوله وبعده
فأما الكلام في أن التأليف هل له نهاية
فقد اختلف المخالفون من المتكلمين فيه
فمنهم من قال / ليس لذلك نهاية كالعدد فلا يمكن أن يقال إنه

لا يتأتى قول قصيدة إلا وقد قيلت من قبل
ومنهم من قال / إن ما جرت به العادة فله نهاية وما لم تجر به العادة فلا يمكن أن تعلم نهاية الرتبة فيه
وقد بينا أن على أصولنا قد تقرر لكلامنا ونظمنا حد في العادة ولا سبيل إلى تجاوزه ولا يقدر عليه فإن القرآن خرق العادة فزاد عليها

فصل
إن قيل هل من شرط المعجز أن يعلم أنه أتى به من ظهر عليه
قيل لا بد من ذلك لأنا إن لم نعلم أن النبي الذي أتى بالقرآن وظهر ذلك من جهته - لم يمكن أن نستدل به على نبوته
وعلى هذا لو تلقى رجل منه سورة فأتى بها بلدا وادعى ظهورها عليه وأنها معجزة له - لم تقم الحجة عليهم حتى يبحثوا ويتبينوا أنها ظهرت عليه
وقد تحققنا أن القرآن أتى به النبي وظهر من جهته وجعله علما على نبوته وعلمنا ذلك ضرورة فصار حجة علينا

فصل
قد ذكرنا في الإبانة عن معجز القرآن وجيزا من القول رجونا أن يكفي وأملنا أن يقنع والكلام في أوصافه - إن استقصى - بعيد الأطراف واسع الأكناف لعلو شأنه وشريف مكانه
والذي سطرناه في الكتاب وإن كان موجزا وما أملينا فيه وإن كان خفيفا - فإنه ينبه على الطريقة ويدل على الوجه ويهدي إلى الحجة
ومتى عظم محل الشيء فقد يكون الإسهاب فيه عيا والإكثار في وصفه تقصيرا
وقد قال الحكيم وقد سئل عن البليغ متى يكون عييا فقال متى وصف هوى أو حبيبا
وضل أعرابي في سفر له ليلا وطلع القمر فاهتدى به فقال ما أقول لك أقول رفعك الله وقد يرفعك أم أقول نورك الله وقد نورك أم أقول جملك الله وقد جملك
ولولا أن العقول تختلف والأفهام تتباين والمعارف تتفاضل - لم نحتج إلى ما تكلفنا ولكن الناس يتفاوتون في المعرفة ولو اتفقوا فيها لم يجز أن يتفقوا في معرفة هذا الفن أو يجتمعوا في الهداية إلى هذا العلم لاتصاله بأسباب خفية وتعلقه بعلوم غامضة الغور عميقة القعر كثيرة المذاهب قليلة الطلاب ضعيفة الأصحاب وبحسب تأتي مواقعه تقع الأفهام دونه وعلى قدر لطف مسالكه يكون القصور عنه
أنشدني أبو القاسم الزعفراني قال أنشدني المتنبي لنفسه القطعة التي يقول فيها

وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدر القرائح والعلوم
وأنشدنا الحسن بن عبد الله قال أنشدني بعض مشايخنا للبحتري
أهز بالشعر أقواما ذوي سنة ... لو أنهم ضربوا بالسيف ما شعروا
علي نحت القوافي من مقاطعها ... وما علي لهم أن تفهم البقر
فإذا كان نقد الكلام كله صعبا وتمييزه شديدا والوقوع على اختلاف فنونه متعذرا وهذا في كلام الآدميين - فما ظنك بكلام رب العالمين
وقد أبنا لك أن من قدر أن البلاغة في عشرة أوجه من الكلام لا يعرف من البلاغة إلا القليل ولا يفطن منها إلا لليسير
ومن زعم أن البديع يقتصر على ما ذكرناه من قبل عنهم في الشعر فهو متطرف
بلى إن كانوا يقولون إن هذه من وجوه البلاغة وغرر البديع وأصول اللطيف وإن ما يجري مجرى ذلك ويشاكله ملحق بالأصل ومردود على القاعدة - فهذا قريب
وقد بينا في نظم القرآن أن الجملة تشتمل على بلاغة منفردة والأسلوب يختص بمعنى آخر من الشرف
ثم الفواتح والخواتم والمبادئ والمثاني والطوالع والمقاطع والوسائط والفواصل

ثم الكلام في نظم السور والآيات ثم في تفاصيل التفاصيل ثم في الكثير والقليل
ثم الكلام الموشح والمرصع والمفصل والمصرع والمجنس والموشع والمحلى والمكلل والمطوق والمتوج والموزون والخارج عن الوزن والمعتدل في النظم والمتشابه فيه
ثم الخروج من فصل إلى فصل ووصل إلى وصل ومعنى إلى معنى ومعنى في معنى والجمع بين المؤتلف والمختلف والمتفق والمتسق
وكثرة التصرف وسلامة القول في ذلك كله من التعسف وخروجه عن التعمق والتشدق وبعده من التعمل والتكلف و الألفاظ المفردة والإبداع في الحروف والأدوات كالإبداع في المعاني والكلمات والبسط والقبض والبناء والنقض والاختصار والشرح والتشبيه والوصف
وتمييز الابتداع من الاتباع كتميز المطبوع عن المصنوع والقول الواقع عن غير تكلف ولا تعمل
وأنت تتبين في كل ما تصرف فيه من الأنواع أنه على سمت شريف ومرقب منيف يبهر إذا أخذ في النوع الربي والأمر الشرعي والكلام الإلهي الدال على انه يصدر عن عزة الملكوت وشرف الجبروت وما لا يبلغ الوهم مواقعه من حكمة وأحكام واحتجاج وتقرير واستشهاد وتقريع وإعذار وإنذار وتبشير وتحذير وتنبيه وتلويح وإشباع وتصريح وإشارة ودلالة وتعليم أخلاق زكيه وأسباب رضية وسياسات

جامعة ومواعظ نافعة وأومر صادعة وقصص مفيدة وثناء على الله عز و جل بما هو أهله وأوصاف كما يستحقه وتحميد كما يستوجبه وأخبار عن كائنات في التأتي صدقت وأحاديث عن المؤتنف تحققت ونواة زاجرة عن القبائح والفواحش وإباحة الطيبات وتحريم المضار والخبائث وحث على الجميل والإحسان
تجد فيه الحكمة وفصل الخطاب مجلوة عليك في منظر بهيج ونظم أنيق ومعرض رشيق غير معتاص على الأسماع ولا متلو على الأفهام ولا مستكره في اللفظ ولا مستوحش في المنظر غريب في الجنس غير غريب في القبيل ممتلئ ماء ونضارة ولطفا وغضارة يسري في القلب كما يسري السرور ويمر إلى مواقعه كما يمر السهم ويضيء كما يضيء الفجر ويزخر كما يزخر البحر طموح العباب جموح على المتناول المنتاب كالروح في البدن والنور المستطير في الأفق والغيث الشامل والضياء الباهر لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
من توهم أن الشعر يلحظ شأوه بان ضلاله ووضح جهله إذ الشعر سمت قد تناولته الألسن وتداولته القلوب وانثالت عليه الهواجس وضرب الشيطان فيه بسهمه وأخذ منه بحظه وما دونه من كلامهم فهو أدنى محلا وأقرب مأخذا وأسهل مطلبا ولذلك قالوا فلان مفحم فأخرجوه مخرج العيب كما قالوا فلان عيي فأوردوه مورد النقص
والقرآن كتاب دل على صدق متحمله ورسالة دلت على صحة قول المرسل بها وبرهان شهد له برهان الأنبياء المتقدمين وبينة على طريقة من

سلف من الأولين حيرهم فيه إذ كان من جنس القول الذي زعموا أنهم أدركوا فيه النهاية وبلغوا فيه الغاية فعرفوا عجزهم كما عرف قوم عيسى نقصانهم فيما قدروا من بلوغ أقصى الممكن في العلاج والوصول إلى أعلى مراتب الطب فجاءهم بما بهرهم من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وكما أتى موسى بالعصا التي تلقفت ما دققوا فيه من سحرهم وأتت على ما أجمعوا عليه من أمرهم وكما سخر لسليمان الريح والطير والجن حين كانوا يولعون به من فائق الصنعة وبدائع اللطف ثم كانت هذه المعجزة / مما يقف عليها الأول والأخر وقوفا واحداويبقى حكمها إلى يوم القيامة
انظر وفقك الله لما هديناك إليه وفكر في الذي دللناك عليه فالحق منهج واضح والدين ميزان راجح والجهل لا يزيد إلا عمى ولا يورث إلا ندما
قال الله عز و جل قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب
وقال وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا
وقال يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا
وعلى حسب ما آتى من الفضل وأعطى من الكمال والعقل - تقع الهداية والتبيين فإن الأمور تتم بأسبابها وتحصل بآلتها ومن سلبه

/ التوفيق وحرمه الإرشاد والتسديد - فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا
فاحمد الله على ما رزقك من الفهم إن فهمت وقل رب زدني علما إن أنت علمت وقلرب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون
وان ارتبت فيما بيناه فازدد في تعلم الصنعة وتقدم في المعرفة فسيقع بك على الطريق الأرشد وسيقف بك على الوجه الأحمد فإنك إذا فعلت ذلك أحطت علما وتيقنت فهما
ولا يوسوس إليك الشيطان بأنه قد كان ممن هو أعلم منك بالعربية وأدرب منك في الفصاحة أقوام وأي أقوام ورجال وأي رجال فكذبوا وارتابوا لأن القوم لم يذهبوا عن الإعجاز ولكن اختلفت أحوالهم فكانوا بين جاهل وجاحد وبين كافر نعمة وحاسد وبين ذاهب عن طريق الاستدلال بالمعجزات وحائد عن النظر في الدلالات وناقص في باب البحث ومختل الآلة في وجه الفحص ومستهين بأمر الأديان وغاو تحت حبالة الشيطان ومقذوف بخذلان الرحمن وأسباب الخذلان والجهالة كثيرة ودرجات الحرمان مختلفة
وهلا جعلت بإزاء الكفرة مثل لبيد بن ربيعة العامري في حسن

إسلامه وكعب بن زهير في صدق إيمانه وحسان بن ثابت وغيرهم من الشعراء والخطباء الذين أسلموا
على أن الصدر الأول ما فيهم إلا نجم زاهر أو بحر زاخر
وقد بينا أن لا اعتصام إلا بهداية الله ولا توفيق إلا بنعمة الله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
فتأمل ما عرفناك في كتابنا وفرغ له قلبك واجمع عليه لبك
ثم اعتصم بالله يهدك وتوكل عليه يعنك ويجرك واسترشده يرشدك وهو حسبي وحسبك ونعم الوكيل

أقسام الكتاب
1 2