كتاب : بحر العلوم
المؤلف : أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)

{ قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وإخوانكم وأزواجكم وَعَشِيرَتُكُمْ } { يعني : قومكم . قرأ عاصم في رواية أبي بكر { ***وعَشِيرَاتُكُمْ } بالألف بلفظ الجماعة ، وقرأ الباقون بغير ألف . { وَعَشِيرَتُكُمْ وأموال اقترفتموها } ، يعني : اكتسبتموها بمكة ، { وتجارة تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } ؛ : تخشون أن تبقى عليكم فلا تنفق ، { ومساكن تَرْضَوْنَهَا } يعني : منازلكم التي بمكة تعجبكم الإقامة فيها ، { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } ؛ يعني : أن كانت هذه الأشياء أحب إليكم من أن تهاجروا إلى الله ورسوله بالمدينة ، { وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } ؛ يعني : في طاعة الله تعالى؛ { فَتَرَبَّصُواْ } ، يعني : فانتظروا ، { حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ } ، يعني : فتح مكة ، ويقال : الموت والقيامة . وقال الضحاك : حتى يأتي الله بأمره ، يعني : حتى يأمر الله بقتال آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وعشيرتكم ثُمَّ قال : { والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } . وهذا وعيد من الله تعالى للذين لم يهاجروا ، ويقال : من أول سورة براءة إلى قوله : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وءاتوا الزكواة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين وَنُفَصِّلُ الايات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ التوبة : 11 ] نزلت بعد فتح مكة . ثم من قوله : { وَإِن نكثوا أيمانهم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر إِنَّهُمْ لاَ أيمان لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } [ التوبة : 12 ] إلى هاهنا كان نزل قبل فتح مكة فوضع هاهنا .
ثم ما بعد هذا ، نزل بعد فتح مكة وهو قوله تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } ؛ وذلك أنه لما نزل قوله تعالى : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَءاتَوُاْ الزكواة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 5 ] ، فأمرهم الله تعالى بأن يقاتلوا ويتوكلوا على الله ، ويطلبوا النصرة منه ، ولا يعتمدوا على الكثرة والقلة ، لأن النصرة من الله تعالى؛ فذلك قوله تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } ، يعني : نصركم الله في مواطن كثيرة وهو يوم بدر ، ويوم بني قريظة ، ويوم خيبر ، ويوم فتح مكة ، وخاصة يَوْمَ حُنَيْنٍ . { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } ، يعني : جماعتكم ، { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } ؛ يعني : عن قضاء الله تعالى كثرتكم شيئاً .
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى حنين في اثني عشر ألفاً ، وعشرة آلاف التي خرجت معه من المدينة إلى فتح مكة ، وخرج معه ألفان من أهل مكة ، فقال رجل من المسلمين يقال له سلمة بن سلام : لن نغلب اليوم من قلة . وقد كان فتح مكة في شهر رمضان ، وبقيت عليه أيام من رمضان ، فمكث حتى دخل شوال . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني سليم عيناً له يقال له عبد الله بن أبي حدرد ، فأتى حنيناً وكان بينهم يسمع أخبارهم ، فسمع من مالك بن عوف أمير القوم يقول لأصحابه : أنتم اليوم أربعة آلاف رجل ، فإذا لقيتم العدو فاحملوا عليهم حملة رجل واحد ، واكسروا جفون سيوفكم فوالله لا تضربون بأربعة آلاف سيف شيئاً إلا أفرج لكم .

وكان مالك بن عوف على هوازن ، فأقبل ابن أبي حدرد حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بمقالتهم ، فقال رجل من المسلمين : فوالله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نغلب اليوم من كثرة . فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمته ، وابتلى الله المؤمنين بكلمته تلك .
قال الفقيه : حدثنا أبو جعفر قال : حدثنا الفقيه ، علي بن أحمد الفارسي قال : حدثنا نصير بن يحيى قال : حدثنا أبو سليمان قال : حدثنا الفقيه ، محمد بن الحسن ، عن مجمع بن يعقوب ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن أبي طلحة قال : سمعت أنس بن مالك يقول : لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي حنين ، وهو وادي من أودية تهامة له مضايق وشعاب ، فاستقبلنا من هوازن جيش لا والله ما رأيت مثله في ذلك الزمان قط من السواد والكثرة . وقد ساقوا أموالهم ونساءهم وأبناءهم وراءهم ، ثم صفوا فحملوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال ، ثم جاؤوا بالإبل والغنم وراء ذلك ، لكيلا يفروا بزعمهم . فلما رأينا ذلك السواد ، حسبناهم رجالاً كلهم . فلما انحدرنا والوادي ، وهو وادي حدور ، فبيَّنا نحن فيه إنَّ شعرنا ، أي ما شعرنا إلا بالكتائب قد خرجت علينا من مضايق الوادي وشعبه ، فحملوا علينا حملة رجل واحد .
وقد كانت قريش بمكة طلبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا معه إلى حنين ، فلم يقل لهم لا ولا نعم ، فخرجوا وكانوا هم أول من انهزم من الناس قال أنس : فولوا دبرهم وأتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شيء . فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يقول ، والتفت عن يمينه وعن يساره : «يَا أَنْصَارَ الله وَأَنْصَارَ رَسُولِهِ ، أَنَا عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ صَابِرٌ اليَوْمَ» ، ثم تقدم بحربته . أما الناس ، فوالذي بعثه بالحق ما ضربنا بسيف ولا طعنا برمح ، حتى هزم الله تعالى . ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعسكر ، وأمر بطلبهم وأن يقتل كل من قدر عليه منهم .
وجعلت هوازن تولي وثاب من انهزم من المسلمين . قال الراوي : فقالت أم سليم ، وكانت يومئذ تقاتل شادة على بطنها بثوب تقول : أرأيت يا رسول الله الذين أسلموا وفروا عنك وخذلوك ، لا تعف عنهم إن أمكنك الله تعالى منهم فاقتلهم ، كما تقتل هؤلاء المشركين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ، عَفْوُ الله أَوْسَعُ» .
وروي في خبر آخر أن دريد بن الصمة ، كان شيخاً كبيراً في عسكر مالك بن عوف ، وكان صاحب تدبير ، وكان لا يبصر شيئاً ما لم ترفع حاجباه .

فقال : ما لي أسمع رغاء الإبل وثغاء الغنم وصوت الصبيان ، فقالوا له : إن مالك بن عوف أمر بإخراج الأموال ، لكي يقاتل كل واحد منهم عن ماله . فقال لهم : هلا أخبرتموني بذلك قبل الخروج . فالرجل إذا جاءته الهزيمة متى يبالي بماله وولده؟ ولكن إذا فعلتم ذلك فاكسروا جفون سيوفكم ، واحملوا حملة رجل واحد . ففعلوا ذلك ، فانهزم المسلمون ، ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا العباس بن عبد المطلب ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وعدة من الأنصار .
فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته ، وأخذ السيف ومضى نحو العدو ، وجعل ينادي : «يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ ، يَا أَصْحَابَ سُورَةِ البَقَرَةِ إِليَّ إِليَّ» فأمدّه الله تعالى بخمسة آلاف من الملائكة ، ورجع إليه المسلمون ، وانهزم المشركون ، وأخذ المسلمون أموالهم . وهو الذي يسمى يوم أوطاس ، فنزلت هذه الآية { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } فأخبر الله تعالى أن الغلبة ليست بكثرتكم ، ولكن بنصرة الله تعالى ، وكان ذلك من آيات الله . ثم قال { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارض بِمَا رَحُبَتْ } ؛ يعني : برحبتها وسعتها من خوف العدو ، { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } ؛ يعني : منهزمين لا يلوون على أحد . قوله تعالى :

ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

{ ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ } ، يعني : رحمته { وَعَلَى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } ، يعني : خمسة آلاف من الملائكة وفي الآية دليل أن المؤمن لا يخرج من الإيمان وإن عمل الكبيرة ، لأنهم ارتكبوا الكبيرة ، حيث هربوا وكان عددهم أكثر من عدد المشركين ، فسماهم الله تعالى مؤمنين . { وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ } ، يعني : بالقتل والهزيمة . { وَذَلِكَ } يعني : ذلك العذاب { جَزَاء الكافرين } ، أي عقاب .
قوله تعالى : { ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَاء } من أصحاب مالك بن عوف من كان أَهْلاً للإسلام . وروي عن محمد بن كعب القرظي قال : لما انهزم مالك بن عوف ، سار مع ثلاثة آلاف ، فقال لأصحابه : هل لكم أن تصيبوا من محمد مالاً؟ قالوا : نعم . فأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم : إني أريد أن أسلم ، فما تعطيني؟ فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنِّي أُعْطِيكَ مِائةً مِنَ الإِبِلِ وَرُعَاتَهَا » . فجاء فأسلم ، فأقام يومين أو ثلاثة؛ فلما رأى المسلمين ورقتهم وزهدهم واجتهادهم ، رق لذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا ابْنَ عَوْفٍ أَلاَ نَفِي لَكَ بِمَا أَعْطَيْنَاكَ مِنَ الشَّرْطِ؟ » فقال : يا رسول الله ، أمثلي من يأخذ على الإسلام شيئاً؟ قال : فكان مالك بن عوف بعد ذلك ممن افتتح عامة الشام ثم قال الله عز وجل : { والله غَفُورٌ } لما كان من الشرك ، { رَّحِيمٌ } بهم في الإسلام .
قوله تعالى : { رَّحِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } ، يعني : قذر ورجس؛ ولم يقل أنجاس ، لأن النَّجَس مصدر والمصدر لا يثنَّى ولا يجمع ، { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } ؛ فهذه الآية من الآيات التي قرأها عليهم عليّ بن أبي طالب بمكة ، يعني : لا يدخلوا أرض مكة ، وقال مقاتل : يعني : الحرم كله ، وقال مالك بن أنس : لا يجوز للكفار أن يدخلوا المساجد ، لأن الله تعالى قال : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } كما أن الجنب لا يجوز له أن يدخل المسجد .
وقال الزهري : له أن يدخل جميع المساجد إلا المسجد الحرام؛ وهو قول الشافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة رضي الله عنه وأصحابه : يجوز للذمي أن يدخل جميع المساجد ، لأن الكفار كانوا يدخلون مسجد المدينة ، إذا قدموا وافدين من قومهم . وهذه الآية نزلت في شأن أهل الحرب ، إنهم لا يدخلون المسجد الحرام بغير أمان ، ولا يكون لهم ولاية البيت . وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال : لا يدخلون المسجد الحرام إلا برق أو عهد .
{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } ، يعني : حاجة وفقراً . وقال الزجاج العيلة الفقر ، كما قال الشاعر :

وَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتَى غِنَاه ... وَلاَ يَدْرِي الغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ
ثم قال : { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } ؛ وذلك أنه لما منع المشركون من مكة ، قال أناس من التجار لأهل مكة : من أين تأكلون إذا فعلتم هذا؟ فنزل { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } ، يعني : من رزقه؛ ففرحوا بذلك فأسلم أهل جدة وصنعاء من أهل اليمن ، فحملوا الطعام إلى مكة من البر والبحر وأغناهم الله تعالى بذلك ، يعني : أغناهم عن تجار الكفار بالمؤمنين . ثم قال : { إِن شَاء } ، يعني : يدوم لكم بمشيئة الله تعالى . { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بخلقه { حَكِيمٌ } في أمره . قوله تعالى :

قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)

{ قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } ، يعني : لا يصدقون بتوحيد الله ، { وَلاَ باليوم الاخر } بالبعث بعد الموت ، { وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ } ، في التوراة والإنجيل والقرآن ، { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق } ، يقول : لا يخضعون لدين الحق ، ولا يقرون بشهادة لا إله إلا الله . ومعناه لا يؤمنون بالله إيمان الموحدين ، لأن أهل الكتاب كانوا يقرون بالله ، ولكنهم قالوا : لله ولد؛ وأقروا بالبعث ، ولكنهم لا يقرون لأهل الجنة بالنعمة ، لأنهم لا يقرون بالأكل والشرب والجماع . فليس يدينون دين الحق ، يعني : دين الإسلام؛ ويقال : دين الله تعالى ، لأن الله تعالى هو الحق ، فأمر الله تعالى بقتلهم إلا أن يعطوا الجزية . وهو قوله تعالى : { حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صاغرون } ؛ قال بعضهم : عن قهر وذلّ ، كما يقال : اليد في هذا لفلان ، يعني : الأمر النافذ لفلان . ويقال : { عَن يَدٍ } ، يعني : عن إنعام عليهم بذلك ، لأن قبول الجزية وترك أنفسهم يد ونعمة عليهم . ويقال : عن اعتراف المسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم . ويقال : { عَن يَدٍ } يعني : عن قيام يمشون بها صاغرين تؤخذ من أيديهم . وقال الأخفش : يعني : كرهاً . { وَهُمْ صاغرون } ، يعني : ذليلين .
قال الفقيه : قتال الكفار على ثلاثة أنواع : في وجه ، يقاتلون حتى يسلموا ولا يقبل منهم إلا الإسلام ، وهم مشركو العرب والمرتدون من الأعراب أو من غيرهم؛ وفي وجه آخر ، يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية؛ وهم اليهود والنصارى والمجوس؛ فأما اليهود والنصارى بهذه الآية ، وأما المجوس بالخبر ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ » وفي الوجه الثالث ، واختلفوا فيه ، وهم المشركون من غير العرب وغير أهل الكتاب ، مثل الترك والهند ونحو ذلك ، في قول الشافعي : لا يجوز أخذ الجزية منهم ، وفي قول أبي حنيفة وأصحابه : يجوز أخذ الجزية منهم ، كما يجوز من المجوس ، لأنهم من غير العرب . قوله تعالى :

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)

{ وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله } . قرأ عاصم والكسائي { عُزَيْرٌ } بالتنوين ، وقرأ الباقون بغير تنوين فمن قرأ بالتنوين ، لأن الابن خبر وليس بنسبة ، ومن قرأ بغير التنوين فلالتقاء الساكنين؛ كما قرأ بعضهم { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] بغير تنوين . فلا اختلاف بين النحويين أن إثبات التنوين أجود من طريق أهل اللغة ، وإنما قالت اليهود ، لأنه لما خرب بُخْتُنَصَّر بيت المقدس وأحرق التوراة ، حزنوا على ذهاب التوراة ، فأملاها عليهم عزير صلوات الله عليه عن ظهر قلبه فتعلموها وفي أنفسهم منها شيء ، مخافة أن يكون قد زاد فيها أو نقص منها شيئاً؛ فبينما هم كذلك ، إذ وقعوا على جراب مدفونة في قرية فيها التوراة ، فعارضوا بها على ما كتبوا من عزير عليه السلام فلم يزد شيئاً ولم ينقص حرفاً ، فقالوا عند ذلك : ما علم عزير هذا ، إلا وهو ابن الله .
{ وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله } ؛ وإنما قالوا ذلك ، لأن المسيح كان يبرىء الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله تعالى؛ فقالوا : لم يكن يفعل هذا إلا وهو ابن الله . ويقال : إنّ الإفراط في كل شيء مذموم ، لأن النصارى أفرطوا في حب عيسى عليه السلام تغالوا ، وقالوا فيه ما قالوا حتى كفروا بسبب ذلك؛ واليهود أفرطوا بحب عزير ، وقالوا فيه ما قالوا حتى كفروا؛ كما أفرطت الروافض في حب عليّ حتى أبغضوا غيره وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما .
ثم قال تعالى : { ذلك قَوْلُهُم بأفواههم } ، يعني : ذلك كذبهم بألسنتهم ، ويقال : معناه يقولون بأفواههم قولاً بلا فائدة ، ولا برهان ، ولا معنى صحيح تحته . ثم قال : { يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ } ؛ يعني : يوافقون قول الذين كفروا { مِن قَبْلُ } ، حين قالوا : الملائكة بنات الله . وقال قتادة : يشبهون قول الذين كفروا ، يعني : إنّ قول اليهود يوافق قول النصارى ، وقول النصارى يوافق قول اليهود؛ ويقال : يتشابهون في قولهم هذا من تقدم من كفر منهم ، يعني : إنما قالوا اتباعاً لهم بدليل قوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم } . قرأ عاصم { يضاهئون } بكسر الهاء مع الهمزة ، وهي لغة لبعض العرب؛ وقرأ الباقون بالسكون بغير همزة وهي اللغة المعروفة؛ وقال القتبي : يضاهون يعني : يشبهون ، يعني : قول من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قول أوليهم الذين كانوا قبلهم .
ثم قال : { قاتلهم الله } ، يعني : لعنهم الله . { أنى يُؤْفَكُونَ } ، يعني : من أين يكذبون بتوحيد الله تعالى .

ثم قال عز وجل : { اتخذوا أحبارهم } ، يعني : علماءهم { ورهبانهم } ، يعني : أصحاب الصوامع والمتعبدين منهم . { أَرْبَابًا مّن دُونِ الله } ، يعني : اتخذوهم كالأرباب يطيعونهم في معاصي الله تعالى . قال الفقيه الزاهد : حدثنا الفقيه أبو جعفر قال : حدثنا إسحاق بن عبد الرحمن القاري قال : حدثنا محمد بن عيسى قال : حدثنا الحسن بن يزيد الكوفي ، عن عبد السلام بن حرب ، عن عطيف بن أعين ، عن مصعب بن سعيد ، عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ من سورة براءة { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله } ، قال « أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ ، ولكن كَانُوا إذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئاً اسْتَحَلُّوا ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئَاً حَرَّمُوا » . ثم قال : { والمسيح ابن مَرْيَمَ } ، يعني : اتخذوا المسيح ابن مريم رباً من دون الله تعالى . { وَمَا أُمِرُواْ } ، يقول وما أمرهم عيسى عليه السلام { إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } ، يعني : إلا قوله : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ } [ المائدة : 117 ] ويقال وما أُمروا في جميع الكتب إلا ليعبدوا إلها ، يعني : ليوحدوا الله تعالى إلها واحداً . ثم نزّه نفسه فقال تعالى : { لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ } ، يعني : عما يعبدون من دونه . ثم قال عز وجل :

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

{ يُرِيدُونَ } { يعني : اليهود والنصارى { أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم } ، يعني : يريدون أن يردوا القرآن تكذيباً بألسنتهم؛ ويقال : يريدون أن يغيروا دين الإسلام بألسنتهم ، ويقال : يريدون أن يبطلوا كلمة التوحيد بكلمة الشرك . { ويأبى الله } ، يعني : لا يرضى الله تعالى ولا يترك { إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } ، يعني : يظهر دين الإسلام . { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } فيظهره .
ثم قال تعالى : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى } ، يعني : بالقرآن والتوحيد ، { وَدِينِ الحق } ؛ يعني : دين الإسلام؛ ويقال : دين الله تعالى ، { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ } ؛ يعني : يظهره بالحجة على الدين كله؛ ويقال : بالقهر والغلبة والرعب في قلوب الكفار؛ وقال ابن عباس : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ } يعني : بعد نزول عيسى عليه السلام لا يبقى أحد إلا دخل في دين الإسلام ، { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } . قوله تعالى :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

{ المشركون ياأيها الذين ءامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مّنَ الاحبار والرهبان } ، قال السدي : الأحبار اليهود ، والرهبان النصارى؛ وقال ابن عباس : الأحبار العلماء ، والرهبان أصحاب الصوامع . { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل } ، يعني : بالظلم بغير الحق ، { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } ؛ يعني : يصرفون الناس عن دين الله .
ثم بيّن الله تعالى حالهم للمؤمنين ، لكي يحذروا منهم ولا يطيعوهم . قوله تعالى : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } ، أي يجمعونها ويمنعون زكاتها؛ قال بعضهم : هذا نعت للأحبار والرهبان ، وقال بعضهم : هذا ابتداء في كل من جمع المال ومنع منه حق الله تعالى ، وقال ابن عباس : الكنز الذي لا يؤدى عنه زكاته .
وروى نافع ، عن ابن عمر أنه قال : أي مال كان على وجه الأرض لا تؤدى زكاته ، فهو كنز يعذب صاحبه يوم القيامة؛ وما كان في بطن الأرض يؤدى زكاته ، فليس بكنز . وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما كان أكثر منها فهو كنز . ثم قال { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ، يعني : أهل هذه الصفة الذين يكنزون الذهب والفضة ، ولا ينفقونها في سبيل الله ، يعني : لا يؤدون حقها في طاعة الله تعالى؛ وقال : ولا ينفقونها ولم يقل : ينفقونها ، لأنه انصرف إلى المعنى ، يعني : لا ينفقون الكنوز؛ ويقال : لا ينفقون الأموال؛ ويقال : يعني الفضة .
وقال بعضهم : نزلت في شأن الكفار ، وقال بعضهم : كان هذا في أول الإسلام ووجب عليهم أن يؤدوا الفضل ، ثم نسخ بآية الزكاة؛ وقال بعضهم : كل مؤمن لا يؤدي الزكاة فهو من أهل هذه الآية؛ وهو قوله تعالى : { يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ } ، يعني : يوقد على الكنوز ، { فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } ، ويقال لهم : { هذا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } ، يعني : فذوقوا العذاب بما كنتم تكنزون .
قال الفقيه : حدثنا محمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا إبراهيم بن يوق قال : حدثنا أبو معاوية ، ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم أنه قال : والذي لا إله غيره ، لا يعذب رجل بكنز فيمس دينار ديناراً ، ولا درهم درهماً ، ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل درهم على حدة وكل دينار على حدة . وروى أبو أمامة الباهلي قال : مات رجل من أهل الصُّفة فوجد في مؤتزره دينار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كية » . ومات رجل آخر فوجد في مؤتزره ديناران فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « كيتان » والمعنى في ذلك أنه قد أصاب ذلك من الغلول ، ولو لم يكن أصابه من الغلول لكان لا يستحق العقوبة ، لأن الزكاة لا تجب في أقل من عشرين ديناراً . وقال بعضهم : كان هذا في الوقت الذي وجب عليه أن ينفق الفضل . قوله تعالى :

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)

{ إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله } ، فأعلم الله تعالى المسلمين أن عدة الشهور التي يعدون اثنا عشر شهراً على منازل العمر ، فجعل حجهم وأعيادهم وصيامهم على هذا العدد؛ فالحج والصوم يكون مرة في الشتاء ومرة في الصيف . وكانت أعياد أهل الكتاب في متعبداتهم في سنتهم على حساب دوران الشمس على كل سنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً ، فجعل شهور المسلمين بالأهلة؛ كما قال الله تعالى : { يَسْألُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ البقرة : 189 ] ويقال : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور } ، يعني : عدة الشهور التي وجبت عليكم الزكاة فيها اثنا عشر شهراً { فِى كتاب الله } ، يعني : في اللوح المحفوظ { يَوْمَ خَلَقَ * السموات والارض } ، كتبها عليكم . { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } ، يعني : رجب وذا القعدة وذا الحجة والمحرم .
{ ذلك الدين القيم } ، يعني : ذلك الحساب المستقيم ، لا يزاد ولا ينقص . وقال مقاتل بن حبان : { ذلك الدين القيم } يعني : ذلك القضاء البيِّن ، وهكذا قال الضحاك . ثم قال : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } ، قال بعضهم : في الأربعة أشهر ، وقال قتادة : الظلم في الشهر الحرام أعظم وزراً مما سوى ذلك ، وإنْ كان الظلم على كل حال غير جائز ، ولكن الله تعالى يعظم من أمره ما يشاء . ويقال : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } ، يعني : في هذه الاثني عشر شهراً ، ويقال : هو على وجه التقديم ، إنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ، فلا تظلموا فيهن أنفسكم ، منها أربعة حرم ، يعني : وخاصة في الأربعة أشهر .
ثم قال : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً } ، يعني : جميعاً في الشهر الحرام وغيره . وكان القتال في الشهر الحرام محرماً ، فنسخ بهذه الآية وصار مباحاً في جميع الشهور وقال بعضهم : هو غير مباح ، ومعنى هذه الآية وقاتلوا المشركين كافة ، إن قاتلوكم في الشهر الحرام ، وإن لم يقاتلوكم لا يجوز . والقول الأول أصح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصر الطائف في الشهر الحرام ، ثم افتتحها بعد ما مضى الشهر الحرام؛ فلو كان القتال حراماً ، لم يحاصرهم في الشهر الحرام . { كَمَا *** يقاتلوكم *** كَافَّةً } . ثم قال : { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } ، يعني : معينهم وناصرهم . قوله تعالى :

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)

{ إِنَّمَا النسىء زِيَادَةٌ فِى الكفر } ، يعني : تأخير المحرم إلى صفر زيادة الإثم في كفرهم . وروى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه قال : كانوا يحجون في ذي الحجة عامين ، ثم يحجون في المحرم عامين ، ثم يحجون في صفر عامين . وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين ، حتى وافقت حجة أبي بكر رضي الله عنه الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة وقال في خطبته : « أَلاَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السموات والأَرْضِ » . وروى أسباط ، عن السدي أنه قال : كان رجل من بني مالك بن كنانة ، يقال له جنادة بن عوف ، يكنى أبا أمامة ينسىء عدد الشهور . وقال في رواية الكلبي : كان اسمه نعيم بن ثعلبة ، من بني كنانة . وقال في رواية مقاتل : كان اسمه ثمامة الكناني ، وكانت العرب يشتد عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغير بعضهم على بعض ، فإذا أرادوا أن يغيروا ، قام الكناني يوم منى وخطب الناس وقال : إني قد أحللت لكم المحرم ، وحرمت لكم صفر مكانه ، فقاتل الناس في المحرم؛ فإذا كان صفر ، غمدوا السيوف ووضعوا الأسنة . ثم يقوم من قابل ويقول : إني قد أحللت صفر وحرمت المحرم .
فذلك قوله تعالى : { يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا } قرأ ورش ، عن نافع ، وقرأ ابن كثير : { إِنَّمَا النسىء } بتشديد الياء بغير همز ، وقرأ الباقون بالهمز؛ ومعناها واحد . وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { يُضِلُّ بِهِ } بضم الياء ونصب الضاد على معنى فعل ما لم يسم فاعله ، وقرأ الباقون { يُضِلُّ بِهِ } بكسر الضاد ، ويكون معناه أن أُخيرهم عمل يضل به الذين كفروا ، يحلونه عاماً ويقاتلون فيه ، ويحرمونه عاماً ولا يقاتلون فيه ، { لّيُوَاطِئُواْ } ؛ يعني : ليوافقوا { عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم } ، يعني : حسن لهم قبح أعمالهم . { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } ، يعني : لا يرشدهم إلى دينه مجازاة لكفرهم . قوله تعالى :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

{ الكافرين ياأيها الذين ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِى سَبِيلِ الله } ، يعني : في الجهاد { اثاقلتم إِلَى الارض } ، يعني : تثاقلتم ، فأدغم التاء في الثاء ، وأجلب الألف لتسكين ما بعد هذه ، يعني : قعدتم ولم تخرجوا؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالخروج إلى غزوة تبوك ، وكان في أيام الصيف ، حين اشتد الحر وطابت الثمار والظلال ، فكانوا يتثاقلون عن الخروج؛ فعاتبهم الله فقال : { ياأيها الذين ءامَنُواْ مَا لَكُمْ } ، يقول : آثرتم واخترتم عمل الدنيا على عمل الآخرة . { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا } ، يعني : منفعة الدنيا { فِى الاخرة إِلاَّ قَلِيلٌ } ، يعني : بجنب منفعة الآخرة إلا ساعة؛ ويقال : معناها ما يتمتع به في الدنيا قليل عندما يتمتع به أولياء الله تعالى في الجنة .
ثم خوفهم فقال : { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ } الله؛ وأصله إن لا تنفروا فأدغم النون في اللام ، ومعناه إن لم تنفروا ، يعني : إن لم تخرجوا إلى الغزو مع نبيكم صلى الله عليه وسلم ، يُعَذِّبكُمْ . { عَذَاباً أَلِيماً } ، يعني : يسلط عليكم عدوكم ويهلككم ، { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } خيراً منكم وأطوع لله تعالى . { وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا } ، يقول ولا تنقصوا عن ملكه شيئاً بجلوسكم عن الجهاد . { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } أن يستبدل بكم قوماً غيركم . قوله تعالى :

إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } ، يعني : إن لم تنصروه وتخرجوا معه إلى غزوة تبوك ، فالله ينصره كما نصره . { إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ } ، يعني : كفار مكة من مكة . { ثَانِيَ اثنين } ، يعني : كان واحداً من اثنين ، يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه ولم يكن معهما غيرهما ، فنصرهما الله تعالى . { إِذْ هُمَا فِى الغار } ؛ وذلك حين أراد أهل مكة قتله ، فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة؛ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر فلم يجده ، فجلس إلى أن جاء أبو بكر ، فقبَّل رأس النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما لك ، بأبي أنت وأمي . قال : « مَا أَرَى قُرَيْشاً إِلاَّ قَاتِلِيَّ » . فقال أبو بكر : دمي دون دمك ونفسي دون نفسك ، لا يصنع بك شيء ، حتى يبدأ بي . فقال : « اخْلُ بِي » . قال أبو بكر : ليس بك عين؛ إنَّما هما ابنتاي أسماء وعائشة . قال : « قَدْ أُذِنَ لِي بِالخُرُوجِ مِنْ مَكَّة » . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن عندي بعيرين حبستهما للخروج ، فخذ أحدهما واركبه . قال : « لاَ آخُذُهُ إِلاَّ بِالثَّمَنِ » فأخذه بالثمن . وهي ناقته القصوى . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب بأن يبيت مكانه ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر ، حتى أتيا جبل ثور ، جبل بأسفل مكة .
قال الفقيه : حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن سهل القاضي قال : حدثنا يحيى بن أبي طالب ، عن عبد الرحمن بن إبراهيم الرازي قال : حدثنا الفرات ، عن ميمون بن مهران ، عن عتبة بن محصن ، عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال : والله لليلة من أبي بكر خير من عمر وآل عمر . فقيل : وأي ليلة هي؟ قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هارباً من أهل مكة ليلاً ، فتبعه أبو بكر ، فجعل أبو بكر يمشي مرّة أمامه ومرة خلفه ومرةٌ عن يمينه ومرةٌ عن يساره ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا هذا يَا أَبَا بَكْرٍ؟ » قال : يا رسول الله ، أذكر الرصد فأكون أمامك ، وأذكر الطلب فأكون خلفك . ومرة عن يمينك وعن يسارك ، لا آمن عليك . قال : فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه ، حتى حفيت؛ فلما رآها أبو بكر أنها قد حفيت ، حمله على عاتقه وجعل يشتد به ، حتى أتى فم الغار فأنزله وقال : والذي بعثك بالحق ، لا تدخله حتى أدخله أنا ، فإن كان من شيء نزل بي قبلك .

فدخل فلم ير شيئاً فحمله وأدخله .
وقال في رواية محمد بن إسحاق : كان الغار معروفاً بالهوام فجعل أبو بكر يسد الجحور ، حتى بقي جحران فوضع عقبيه عليهما حتى أصبح . وقال في رواية عمر : وكان في الغار خرق فيه حيات ، فخشي أبو بكر أن يخرج منه شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألقمه قدمه فجعلن يضربنه ويلسعنه؛ وجعلت الدموع تنحدر على خده من شدة الألم ما يجده؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « يَا أَبَا بَكْرٍ لا تَحْزَنْ » فذلك قوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ } يعني : الطمأنينة لأبي بكر ، فهذه ليلته .
قال الفقيه : حدثنا أبو جعفر قال : حدثنا أبو بكر القاضي قال : حدثنا أحمد بن جرير قال : حدثنا عمرو بن عليّ قال : حدثنا عون بن عمرو القيس ، عن مصعب المكي قال أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك ، يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار ، أمر الله تعالى شجرة فخرجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، فسترت وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن الله تعالى بعث العنكبوت ، فنسجت ما بينهما فسترت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر الله حمامتين وحشيتين ، فأقبلتا تزقان ، حتى وقفتا بين العنكبوت وبين الشجرة ، فأقبلت فتيان قريش من كل بطن ، معهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم ، حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم على ق نظروا ، فإذا حمامتان وحشيتان بفم الغار ، فرجعوا وقالوا : رأينا حمامتين وحشيتين بفم الغار فعرفنا أنه ليس فيه أحد . فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم فعرف أن الله درأ بهما عنه؛ فشمت عليهما ، يعني : أنه بارك عليهما ، فأحرزهما الله تعالى في الحرم فأفرختا فيه كما هما إلى الآن .
وفي خبر آخر زيادة وقد كان أبو بكر أمر عامر بن فهيرة أن يرعى له غنمه بثور ، فكان يريح إليهما غنمه ، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بأخبار أهل مكة ، فكانا فيه ثلاث ليال ، وكانا يريحان الغنم ويجليان كل ليلة ما أرادا؛ فلما هدؤوا من الالتماس وجاءهم عبد الله بن أبي بكر ، فأخبرهم بذلك فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعامر بن فهيرة ، واستأجر رجلاً من بني الدئل يهديهم الطريق ، يقال له عبد الله بن أريقط ، أخذ بهم أسفل مكة حتى خرجوا قريباً من جدة . ثم عارضوا الطريق قريباً من عسفان ، ففطن سراقة بن مالك آثارهم فلبس لأمته ، وركب فرسه حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسخت قوائم فرسه فقال : يا محمد ادع الله أن يطلق فرسي؛ فإني أرى الحي قد التمسوني .

فإن أكن وراءك خير لك فأرد عنك من ورائي من الناس . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ صَادِقاً فَأَطْلِقْ فَرَسَهُ » فانطلق فرسه . فقال : يا محمد خذ سهماً من كنانتي ، فمر به على إبلي فإن أردت لبوناً فخذ ، وإن أردت حمولة فخذ .
فرجع سراقة فوجد الناس يلتمسون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لهم : ارجعوا فقد استبرأت لكم ما هاهنا ، وقد عرفتم من بصيرتي بالآثار . قال : فرجعوا عنه؛ فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر المدينة؛ فذلك قوله تعالى : { ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِى الغار } . قوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } ؛ وإنما كان يخاف أبو بكر على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى ذهاب التوحيد والإسلام ، لا على نفسه { إِنَّ الله مَعَنَا } في الدفع عنا . { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } ، يعني : طمأنينته عليه . وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يعني على أبي بكر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل السكينة معه؛ وقال حبيب بن أبي ثابت : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } ، يعني : على أبي بكر؛ وقال في رواية الكلبي : فأنزل الله سكينته على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى سكن واطمأن .
قال : حدثنا الفقيه أبو جعفر قال : حدثنا أحمد بن محمد الحاكم القاضي قال : حدثنا أحمد بن جرير قال : حدثنا الحسن بن عرفة قال : حدثنا أبو سوار ، عن أبي العطوف ، عن الزهري قال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : « هَلْ قُلْتَ فِي أَبِي بَكْرٍ شَيْئَاً؟ » قال : نعم . قال : « فَقُلْ حَتَّى أَسْمَعَ » فقال :
وَثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الْغَارِ المُنِيفِ وَقَد ... طَافَ الْعَدُوُّ بِهِ إذْ يَصْعَدُ الْجَبَلا
وَكَانَ حِبَّ رَسُول الله قَدْ عَلِمُوا ... مِنَ الْبَرِيَّةِ لَمْ يَعْدِلْ بِهِ رَجُلا
قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى بدت نواجذه وقال : « صَدَقْتَ يَا حَسَّانُ ، هُوَ كَمَا قُلْتَ » . ثم قال تعالى : { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } ، يعني : قوم بدر والأحزاب وحنين { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى } ، يعني : الشرك بالله تعالى . { وَكَلِمَةُ الله هِىَ العليا } ، يعني : شهادة أن لا إله إلا الله . قرأ الأعمش ويعقوب الخضرمي { وَكَلِمَةُ الله } بالنصب ، يعني : وجعل كلمة الله؛ وقراءة العامة { وَكَلِمَةُ الله } بالضم على معنى الاستئنافِ { والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ } حكم بإظهار التوحيد وإطفاء دعوة المشركين . قوله تعالى :

انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)

{ انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً } ؛ قال الكلبي : خفافاً يعني : أهل العسرة من المال ، وقلة العيال ، وثقالاً يعني : أهل المسيرة في المال والصبية العيال . وقال الكلبي : ويقال فيها وجه آخر { انفروا خِفَافًا } ، يقول : نشاطاً في الجهادِ { وَثِقَالاً } غير نشاط في الجهاد ، وكذا قال مقاتل؛ ويقال : { انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً } شباناً وشيوخاً . وروى حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس أن أبا طلحة الأنصاري قرأ هذه الآية { انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً } ، فقال : ما أرى الله تعالى إلا سينفرنا شباناً وشيوخاً ، قال : جهزوني فقلنا : قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وأنت اليوم شيخ كبير . قال : جهزوني . فجهزناه فركب البحر فمات في غزاته . وروى سفيان ، عن منصور ، عن الحكم قال : مشاغيل وغير مشاغيل . وروى مسروق ، عن أبي الضحى قال : أول ما نزلت من سورة براءة هذه الآية { انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً } ثم نزل أولها وآخرها . وروي عن ابن عباس أنه قال : نسختها هذه الآية : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ التوبة : 122 ] وقال بعضهم : ليست بمنسوخة ، ولكنها في الحالة التي وقع فيها النفير ، وجب على جميع الناس الخروج إلى الجهاد ، وإذا لم يكن النفير عاماً ، يكون فرضاً عاماً؛ فإذا خرج بعض الناس ، سقط عن الباقين وبه نأخذ .
ثم قال تعالى : { وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ الله ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } ، يعني : الجهاد خير لكم من الجلوس ، { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ؛ يعني : تصدقون بثواب الله . ويقال : معناه إن كنتم تعلمون أن الخروج إلى الجهاد خير لكم من القعود فَانْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً .
ثم نزل في شأن المنافقين الذين تخلفوا قوله تعالى : { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا } ، يعني : غنيمة قريبة ويقال : سهلاً قريباً . { وَسَفَرًا قَاصِدًا } ، يعني : هيناً يقيناً ، { لاَّتَّبَعُوكَ } ؛ يعني : لو علموا أنهم يصيبون مغنماً ، { لاَّتَّبَعُوكَ ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة } والشقة : السفر ، يعني : ثقل عليهم السفر . { وَسَيَحْلِفُونَ بالله } ، أي الذين تخلفوا . { لَوِ استطعنا } ، يعني : لو قدرنا ولو كانت لنا سعة في المال والزاد ، { لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } إلى الغزو . وقال الله تعالى : { يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ } ، يعني : بحلفهم كذباً . { والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون } بحلفهم ، وأن لهم سعة للخروج ، ولكنهم لم يريدوا الخروج .
قوله تعالى : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } ؛ وذلك أن بعض المنافقين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك ، ولم يكن لهم عذر ، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } وقال عون بن عبد الله : أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب .

ويقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل فعلين قبل أن يؤذن له ، فعاتبه الله على ذلك وعفا عنه ، أحدهما في فداء أسارى بدر ، والثاني في إذنه للمنافقين بالتخلف . فقال له : { عَفَا الله عَنكَ } وَلم يقل : يعافيك لم أذنت لهم في التخلف والقعود عن الجهاد .
قال الفقيه : سمعت من يذكر ، عن أبي سعيد الفاريابي أنه قال : معناه عافاك الله يا سليم القلب لم أذنت لهم ، فيقال : إن الله تعالى إذا قال لعبده : لم فعلت كذا وكذا؟ يكون ذلك أشد عليه من الموت كذا وكذا مرةً لهيبة قوله : لم فعلت كذا؟ ولو أنه بدأ للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله : لم أذنت ، لكان يخاف على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام . إلا أن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو ، حتى سكن قلبه ، ثم قال { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } بالقعود عن الجهاد . { حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ } ، يعني : معرفة الذين صدقوا بعذرهم وإيمانهم . { وَتَعْلَمَ الكاذبين } في عذرهم وإيمانهم ويقال : معناه حتى يتبين لك المؤمن المخلص من المنافق .
ثم بيّن له علامة المؤمنين وعلامة المنافقين ، فقال الله تعالى : { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ } ، يعني : بغير عذر { الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر } في السر والعلانية { أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ والله عَلِيمٌ بالمتقين } ، يعني : بالمؤمنين المخلصين . ثم ذكر علامة المنافقين فقال : { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ } ، يعني : في القعود عن الجهاد . { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر } ، يعني : لا يصدقون في السر ، { وارتابت قُلُوبُهُمْ } ؛ يعني : شكت قلوبهم ونافقت قلوبهم ، ولا يتوبون ولا يرجعون عن ذلك . { فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } ، يعني : في شكهم ونفاقهم يتحيرون .
قوله تعالى :

وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)

{ وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج } معك إلى الغزو ، { لاعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } ؛ يعني : اتخذوا لأنفسهم قوة من السلاح . معناه : إن تركهم العدة دليل على إرادتهم التخلف . ثم قال { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } ، يعني : لم يرد الله خروجهم معك لخبثهم وسوء نياتهم ، { فَثَبَّطَهُمْ } ؛ يعني : حبسهم وأقعدهم عن الخروج؛ ويقال : ثقلهم عن الخروج؛ ويقال : جعل حلاوة الجلوس في قلوبهم حتى أقعدهم عن الخروج . { وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين } ، يعني : ألهموا وخيّل إليهم القعود مع المتخلفين .
ثم أخبر الله تعالى أن لا منفعة للمسلمين في خروجهم معهم ، بل عليهم مضرة منهم ، فقال تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم } ؛ يعني : المنافقين لو خرجوا معكم { مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } ، يعني : فساداً ويقال : شراً وجبناً؛ { ولاَوْضَعُواْ خلالكم } ، يقول ساروا بينكم . والإيضاع في اللغة هو إسراع الإبل ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفات : « أيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالوَقَارِ ، فَإنَّ البِرَّ لَيْسَ فِي إيضَاعِ الإبِلِ وَلا فِي إيجَافِ الخَيْلِ » . يعني : إن المنافقين لو خرجوا معكم ، يسرعون الإبل فيما بينكم ويؤتونكم .
ثم قال { يَبْغُونَكُمُ الفتنة } ، يعني : يطلبون منكم الشرك ويطلبون هزيمتكم وعيوبكم ، ويفشون سركم . { وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ } ، يعني : وفي عسكركم عيون وجواسيس للمنافقين؛ ويقال : وفيكم من يسمع ما يقول المنافقون ويقبلون منه . { والله عَلِيمٌ بالظالمين } ، يعني : بالمنافقين . وهذا وعيد لهم ، يعني : عليم بعقوبتهم .
ثم قال عز وجل : { لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ } ، يعني : من قبل غزوة تبوك ، لأنهم قصدوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم قبل كثرة المؤمنين؛ ويقال : طلبوا إظهار الشرك قبل غزوة تبوك؛ { وَقَلَّبُواْ لَكَ الامور } ، يعني : احتالوا في هلاكك من كل وجه؛ ويقال : { وَقَلَّبُواْ لَكَ الامور } ظهراً لبطن ، فانظر كيف يصنعون . { حتى جَاء الحق } ، يعني : كثر المسلمون؛ ويقال : حتى جاء الحق يعني : الإسلام { وَظَهَرَ أَمْرُ الله } ؛ يعني : ظهر دين الله الإسلام . { وَهُمْ كارهون } ، يعني : كارهون الإسلام .
قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي } ، يعني : جد بن قيس كان من المنافقين حرّضه النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج إلى الغزو ، فقال : يا رسول الله ، إن قومي يعلمون حرصي على النساء ، فأخشى أني لو خرجت وقعت في الإثم ولا تفتني ببنات الأصفر . وكان الأصفر رجلاً من الحبش ملك ناحية من الروم ، فتزوج رومية فولدت له بنات اجتمع فيهن سواد الحبش وبياض الروم فكنَّ فتنة ، فقال جد بن قيس لا تفتني ببنات الأصفر ، فإني أخاف أن لا أصبر وأضع يدي على الحرام . فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالقعود ، فنزل { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي } ، يعني : من المنافقين من يقول : ائذن لي في التخلف { وَلاَ تَفْتِنّى } ، يعني : ولا توقعني في الفتنة . ثم قال الله تعالى : { أَلا فِى الفتنة سَقَطُواْ } ، يعني : في الكفر والنفاق وقعوا . { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } ، يعني : جعلت جهنم للكافرين ، وهو جد بن قيس ومن تابعه .
قوله تعالى :

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)

{ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } يعني : إن أصابك الغنيمة والنصر ساءهم ذلك . { وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } ، يعني : الشدة والنكبة الهزيمة . { يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ } ، يعني : حذرنا بالقعود والتخلف من قبل المصيبة . { وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ } بما أصابك وبتخلفهم .
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا } ، يعني : إلاَّ ما قضي لنا وقدر علينا من شدة أو رخاء ، ويقال : { إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا } ، يعني : في اللوح المحفوظ؛ ويقال : { إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا } في القرآن وهو قوله تعالى : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يقاتلون فِى سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التوراة والإنجيل والقرءان وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذى بَايَعْتُمْ بِهِ وذلك هُوَ الفوز العظيم } [ التوبة : 111 ] ثم قال : { هُوَ مولانا } ، أي ولينا وناصرنا وحافظنا . { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } ، يعني : وعلى المؤمنين واجب أن يتوكلوا على الله؛ ويقال : وعلى الله فليثق الواثقون .
ثم قال تعالى : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الحسنيين } إمّا الشهادة وإمّا الغنيمة . { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } ، يعني : ننتظر بكم { أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ } وهو الموت ، { أَوْ بِأَيْدِينَا } ، يعني : فيأمرنا أن نقتلكم؛ ويقال : معناه { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الحسنيين } ، يعني : إلا إحدى الخبرين . ونحن نتربص بكم إحدى الشرين فبين ما ننتظر وتنتظرونه فرق عظيم . { فَتَرَبَّصُواْ } ، يعني : انتظروا بنا الهلاك . { إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ } ، يعني : المنتظرين لإهلاككم .
ثم قال عز وجل : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } ، يعني : قل للمنافقين : أنفقوا طوعاً من قبل أنفسكم ، أو كرهاً مخافة القتل . { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } النفقة . { إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فاسقين } ، يعني : منافقين . فقوله : { أَنفَقُواْ } اللفظِ لفظ الأمر والمعنى معنى الخبر ، يعني : إن أنفقتم ، كما إنه يذكر لفظ الخبر والمراد به الأمر؛ كقولك : غفر الله لك ، وقولك : رحم الله فلاناً ، يعني : اللهم اغفر له . وهاهنا اللفظ لفظ الأمر ومعناه الخبر والشرط يعني : إن أنفقتم طوعاً أو كرهاً ، لن يتقبل منكم . قرأ حمزة والكسائي { كَرْهاً } بضم الكاف . وقرأ الباقون { كَرْهاً } بالنصب .
ثم بيّن المعنى الذي لم تقبل نفقاتهم من أجله ، فقال تبارك وتعالى : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ } ، يعني : في السر . قرأ حمزة والكسائي { لَنْ * يَقْبَلُ } بالياء على لفظ التذكير ، وقرأ الباقون بلفظ التأنيث ، لأن الفعل مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث . قوله : { وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى } ، يعني : متثاقلين ولا يرونها واجبة عليهم ، { وَلاَ يُنفِقُونَ } في الجهاد { إِلاَّ وَهُمْ كارهون } غير محتسبين .
ثم قال عز وجل : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم } ، يعني : كثرة أموالهم؛ { وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا } . في الآية تقديم وتأخير قال ابن عباس فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنَّما يريد الله ليعذبهم في الآخرة ثم قال : { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ } ، يعني : تذهب أنفسهم وتقبض أرواحهم . وأصله الذهاب ، كقوله تعالى { وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا } [ الإسراء : 81 ] { وَهُمْ كافرون } ، يعني : يقبض أرواحهم على الكفر .

وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)

قوله تعالى :
{ وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } ، يعني : إنهم مؤمنون على دينكم في السر وهم كاذبون في ذلك القول . { وَمَا هُم مّنكُمْ } ، يعني : ليسوا على دينكم في السر ، { ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } ؛ يعني : يخبثون فأظهروا الإيمان وأسرُّوا النفاق .
قوله تعالى : { لَوْ يَجِدُونَ * مَلْجَأَ } ، يعني : حرزاً يلجؤون إليه { أَوْ مغارات } ، يعني : الغيران في الجبل وقال القتبي : كل شيء غرت فيه فغبت فيه غار . { أَوْ مُدَّخَلاً } ، يعني : سرباً في الأرض ، { لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ } ؛ يعني : ذهبوا إليه وتركوك . { وَهُمْ يَجْمَحُونَ } ، أي يسرعون في المشي؛ ومنه قيل فرس جموح إذا ذهب في عدوه فلم يفته شيء؛ ويقال : الجمح مشي بين مشيتين؛ وهو من لغات اليمن .
قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } ؛ روي عن ابن كثير أنه قرأ { يَلْمِزُكَ } بضم الميم والباقون بالكسر؛ وهما لغتان ومعناهما واحد يقول : من المنافقين من يطعنك ويعيبك؛ ويقال : لمزته إذا عبته . وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً ، إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله . فقال : « وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أعْدِلْ » فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله ، أتأذن لي فأضرب عنقه؟ فقال : « دَعْهُ فَإنَّ لَهْ أصْحَاباً يَحْقِرُ أحَدْكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ يَمْرَقُونَ مِنَ الدِّينِ ، كَمَا يَمْرُقُ الْسَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ؛ آيَتُهُمْ رَجُلٌ أسْوَدٌ إحْدَى ثَدْيَيْهِ مِثْلُ ثَدْي المَرْأةِ البضعةِ ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فرقةٍ مِنَ النَّاسِ » ويروى : « عَلَى حِينِ الفِتَنِ مِنَ النَّاس » فنزلت فيهم { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } الآية .
قال أبو سعيد : أشهد أني سمعت هذا من رسول الله عليه السلام وأشهد أن علياً حين قتلهم وأنا معه ، أتى بالرجل بالنعت الذي نعته رسول الله عليه السلام وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من الصدقات ، فقال أبو الخواص والنبي عليه السلام يعطي وروى بعضهم أبو الجواظ : ألا ترون إلى صاحبكم يقسم صدقتكم في رعاة الغنم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا أبَا لَكَ ، أمَا كَانَ مُوسَى رَاعِياً؟ أمَا كَانَ داودُ رَاعِياً » أما كان داود راعياً؟ فذهب أبو الخواص ، فقال النبي عليه السلام : « احْذِرُوا هذا وَأَصْحَابَهُ » فنزل { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } . { فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا } ؛ يعني : الصدقات ، { رَضُواْ } بالقسمة . { وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } ، لا يرضون بالقسمة . قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتاهم الله وَرَسُولُهُ } ، يعني : إنهم لو رضوا بما رزقهم الله تعالى ، وبما يعطيهم رسول الله من العطية ، { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله } ؛ يعني : يقيننا بالله . { سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ } ، يعني : سيعطينا الله من رزقه { وَرَسُولُهُ } ، يعني : سيعطينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنيمة إذا كان عنده سعة وفضل . { إِنَّا إِلَى الله راغبون } ، يعني : طامعون وراجون . ولم يذكر جوابه ، لأن في الكلام دليلاً عليه ، ومعناه : ولو أنهم فعلوا ذلك ، لكان خيراً لهم . ثم بيَّن لهم موضع الصدقات ، فقال :

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

{ إِنَّمَا الصدقات } ، يعني : ليست الصدقات للذين يلمزونك في الصدّقات؛ وإنّما الصدقات { لِلْفُقَرَاء والمساكين } . قال بعضهم : الفقراء الضعفاء الأحوال الذين لهم بلغة من العيش بدليل قول الشاعر :
أَمَّا الفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُه ... وَفْقَ العِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَهَدُ
والمسكين الذي لا شيء له ، بدليل قول الله تعالى : { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد : 16 ] يعني : الذي لم يكن بينه وبين التراب شيء يقيه منه؛ وقال بعضهم : الفقير الذي لا شيء له ، والمسكين الذي له أدنى شيء . كما قال الله تعالى : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين يَعْمَلُونَ فِى البحر فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [ الكهف : 79 ] سماهم مساكين ، وإن لهم سفينة ، وقال بعضهم : الفقير الذي لا يسأل الناس إلحافاً ، كما قال الله تعالى : { لِلْفُقَرَاء الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } إلى قوله { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى } [ البقرة : 273 ] والمسكين الذي يسأل الناس . وقال بعضهم : الفقير الذي يسأل الناس والمسكين الذي لا يسأل الناس ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى أبْوَابِكُمْ فَتَرُدُّونَهُ بِاللُّقْمَةِ وَاللُّقْمَتَيْنِ؛ وإنَّمَا المِسْكِينُ المُتَعَفِّفُ الَّذِي لا يَسْألُ النَّاسَ وَلا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ » . وقال قتادة : الفقير الذي به زمانة ، والمسكين الصحيح المحتاج وقال بعضهم : الفقير الذي يكون عليه زي الفقر ولا تعرف حاجته ، والمسكين الذي يكون عليه زي الفقر وتكون حاجته ظاهرة .
ثم قال : { والعاملين عَلَيْهَا } ، وهم السعاة الذين يجبون الصدقات ، فيعطون على قدر حاجتهم ، { والمؤلفة قُلُوبُهُمْ } ؛ وهم قوم كان يعطيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتألفهم بالصدقات على الإسلام؛ وكانوا رؤساء في كل قبيلة ، منهم أبو سفيان بن حرب ، والأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن الفزاري ، وعباس بن مرداس السلمي ، وصفوان بن أمية وغيرهم؛ فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جاؤوا إلى أبي بكر وطلبوا منه ، فكتب لهم كتاباً فجاؤوا بالكتاب إلى عمر بن الخطاب ليشهدوه ، فقال : أي شيء هذا؟ فقالوا : سهمنا . فأخذ عمر الكتاب ومزقه وقال : إنما كان يعطيكم النبي عليه السلام يتألفكم على الإسلام؛ فأما اليوم فقد أعزّ الله الإسلام فإن ثبتم على الإسلام ، وإلا فبيننا وبينكم السيف ، فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا : أنت الخليفة أم هو؟ قال : هو إن شاء فبطل سهمهم .
ثم قال : { وَفِي الرقاب } ، أي وفي فك الرقاب ، وهم المكاتبون . ثم قال { والغارمين } ، يعني : أصحاب الديون الذين استدانوا في غير فساد ولا تبذير؛ وقال مجاهد : ثلاثة من الغارمين : رجل ذهب السيل بماله ، ورجل أصابه حريق فهلك ماله ، ورجل ليس له مال وله عيال فهو يستدين وينفق على عياله .
{ وَفِى سَبِيلِ الله } ، وهم الذين يخرجون إلى الجهاد ، { وابن } ، يعني : المسافر المنقطع من ماله .

قال بعضهم : وجب أن تقسم الصدقات على ثمانية أصناف ، وهو قول الشافعي؛ كما بيَّن في هذه الآية . وقال أصحابنا : إذا صرف الصدقات إلى صنف من هذه الأصناف جاز . وروي عن حذيفة بن اليمان أنه قال : إذا أعطى الرجل الصدقة صنفاً واحداً من الأصناف الثمانية جاز . وعن عبد الله بن عباس أنه قال : إذا وضعتها في صنف واحد فحسبك؛ إنّما قال : إنّما الصدقات للفقراء ، لأن لا تجعلها في غير هذه الأصناف . وعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه أتي بصدقة فبعث بها إلى أهل بيت واحد .
ثم قال تعالى : { نَفْعاً فَرِيضَةً مّنَ الله } يعني : وضع الصدقات في هذه المواضع فريضة من الله ، وهو مما أمر الله تعالى . { والله عَلِيمٌ } بأهلها ، { حَكِيمٌ } حكم قسمتها وبيّنها لأهلها .
قوله تعالى :

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)

{ وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى } قال ابن عباس : نزلت في جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد ومحشر بن خويلد وأبو ياسر بن قيس؛ وذلك أنهم كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل منهم : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه الخبر . فقال الجلاس : نقول ما نشاء ، فإنما { هُوَ أُذُنٌ } سامعة ثم نأتيه فيصدقنا ، والأذن الذي يقبل كل ما قيل له . قال تعالى { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } ، يعني : إن كان الأمر كما تذكرون فهو خير لكم ، ولكنه { يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } ، يعني : يصدق الله ويصدق المؤمنين لا أنتم؛ والباء واللام زائدتان ، يعني : ويصدق محمد المؤمنين فذلك قوله تعالى : { وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى } يعني : من المنافقين من يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ، { وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ } ؛ يعني : سامع لمن حدثه .
{ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } . قرأ العامة قل : { أَذِنَ } بغير تنوين { خَيْرٌ لَّكُمْ } بالكسر؛ وقرأ بعضهم : { قُلْ أُذُنُ } بالتنوين { خَيْرٌ } بالتنوين والضم . فمن قرأ أذُنٌ بالتنوين ، فمعناه إن كان محمد كما قلتم أذنٌ فهو خيرٌ لكم أي صلاح لكم ، ومن قرأ بالكسر أذُنُ خَيْرٍ فهو على معنى الإضافة ، أي أذن خير وأذن نعمة . وقرأ نافع : { قُلْ أُذُنُ } بجزم الذال والباقون بالضم وهما لغتان .
{ يُؤْمِنُ بالله } ، يعني : يصدق بالله تعالى في مقالته ، { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } ؛ يعني : يصدق قول المؤمنين ، { وَرَحْمَةً } ؛ يعني : هو نعمة { لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ } ، أي هو نعمة الذين آمنوا في السر والعلانية . قرأ حمزة { وَرَحْمَةً } على معنى الإضافة ، يعني : أذن رحمة ، وقرأ الباقون { وَرَحْمَةً } بالضم على معنى الاستئناف .
ثم قال : { والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، يعني وجيع؛ ثم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفوا ، فأخبر الله تعالى أنهم كاذبون في حلفهم ، فقال : { يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } بحلفهم الكاذب . { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } . قال الزجاج : لم يقل أحق أن يرضوهما ، لأن في الكلام دليلاً عليه ، لأن في رضى الله تعالى رضى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فحذف تخفيفاً . ومعناه والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه ، كما قال الشاعر :
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بَمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
أي نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راضٍ؛ ويقال : يكره أن يجمع بين ذكر الله تعالى وذكر الرسول في كتابة واحدة ، ويستحب أن يكون ذكر الله تعالى مقدماً وذكر النبي عليه السلام مؤخراً . وذكر في بعض الأخبار أن خطيباً قام عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته : من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى فقال النبي عليه السلام : « بِئْسَ الخَطِيبُ أَنْتَ » لأنه كان يجب أن يقول : ومن يعص الله ورسوله فقد غوى . ثم قال : { إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } ، يعني : مصدقين بقلوبهم في السر .
قوله تعالى :

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)

{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ } ، يعني : يخالف الله ورسوله؛ ويقال : يخالف أمر الله وأمر رسوله ، يعني : أمر الله تعالى في الفرائض ، وأمر رسوله في السنن وفيما بيَّن . وقال الأخفش : يحادد الله ، يعني : يعادي الله ورسوله ، { فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } . قرأ بعضهم { فَإِنَّ لَهُ } بالكسر على معنى الاستئناف ، وقرأ العامة بالنصب على معنى البناء . { خَالِداً فِيهَا ذلك الخزى العظيم } ، يعني : العذاب الشديد .
قوله تعالى : { يَحْذَرُ المنافقون } ؛ قال الزجاج قوله : { يَحْذَرُ } لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر ، أي ليحذر المنافقون؛ ويقال : هو على وجه الخبر يحذر يعني : يخشى المنافقون . وذلك أن بعضهم قال : لو أني جلدت مائة جلدة ، أحب إليّ من أن ينزل فينا شيء يفضحنا ، فنزل : { يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ } يعني سورة براءة تنبئهم { بِمَا فِي قُلُوبِهِم } من النفاق . وكانت سورة براءة تسمى الفاضحة .
{ قُلْ *** استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } ، يعني : مظهر ما تخافون من إظهار النفاق . ثم قال عز وجل : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } ؛ وذلك أن رسول الله عليه السلام حين رجع من تبوك ، وبين يديه هؤلاء الثلاثة يسيرون ويقولون : إن محمداً يقول إنّه نزل في إخواننا الذين تخلفوا بالمدينة كذا وكذا ، وهم يضحكون ويستهزئون ، فأتاه جبريل فأخبره بذلك ، فبعث إليهم النبي عليه السلام عمار بن ياسر وقال له : « اذْهَبْ إلَى أُوْلَئِكَ وَاسْأَلْهُمْ عَمَّاذَا يَتَحَدَّثُونَ وَيَضْحَكُونَ » وأخبره أنهم يستهزئون بالقرآن ، وأنه إذا أتاهم وسألهم يقولون : إنّما كنا نخوض ونلعب . فلما جاء إليهم عمار بن ياسر قال لهم : ما كنتم تقولون؟ قالوا : إنما كنا نخوض ونلعب فيما يخوض فيه الركب إذا ساروا ، ونضحك بيننا . فقال عمار : صدق الله ، وبلغ رسوله؛ هكذا أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكم تقولون ذلك . غضب الله عليكم هلكتم ، فعرفوا عند ذلك أنه نزل فيهم شيء فجاؤوا واعتذروا .
فنزل : { قُلْ } ، يعني : قل لهم يا محمد : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } القرآن ، { وَرَسُولِهِ كُنتُمْ } . وقال قتادة : إذا رأيا العبد ، يقول الله انظروا إلى عبدي يستهزىء { قُلْ أبالله وءاياته وَرَسُولِهِ كُنتُمْ } فجاؤوا إلى النبي واعتذروا ، فنزل قوله تعالى : { تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم } ، يعني : كفرتم في السر بعد إيمانكم في العلانية؛ ويقال : قد أقمتم على كفركم الأول في السر بعد إيمانكم ، مع إقراركم في العلانية بالإيمان . { إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ } ، وكان فيهم مخلص واحد ، ولم يقل معهم شيئاً ولكن ضحك معهم فقال : { إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ } وهو المؤمن المخلص ، { نُعَذّبْ طَائِفَةً } ؛ يعني المنافقين ، وقال القتبي : قد يذكر الجماعة ويراد به الواحد كقوله { إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ } وهم المخلصون { نُعَذّبْ طَائِفَةً } وهم الطَيِّبَاتِ ، وأراد به النبي عليه السلام ويقال : إن { نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ } وهم المخلصون { نُعَذّبْ طَائِفَةً } وهم المنافقون { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } يعني : مذنبين كافرين في السر . قرأ عاصم { إِن نَّعْفُ } بالنون { نُعَذّبْ } بالنون وكسر الذال { طَائِفَةٌ } بالنصب ، وقرأ الباقون { أَن يَعْفُوَ } بالياء والضم { تُعَذّبَ } التاء ونصب الذال { طَائِفَةٌ } بالضم على معنى فعل ما لم يسم فاعله .
قوله تعالى :

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)

{ المنافقون والمنافقات } يعني : من الرجال والنساء . { بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ } ، يعني : بعضهم على دين بعض في السر . { يَأْمُرُونَ بالمنكر } ، يعني : بالتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالشرك ، وبما لا يرضي الله تعالى؛ ويقال : المنكر ما يخالف الكتاب والسنة . { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف } ، يعني : عن التوحيد واتباع محمد صلى الله عليه وسلم . { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } ، يعني : يمسكون أيديهم عن النفقة في سبيل الله ويقال : كفوا عن الحق . { نَسُواْ الله } ، يقول : تركوا طاعة الله . { فَنَسِيَهُمْ } ، يعني : تركهم في النار ، ويقال : تركهم في الحرمان والخذلان ، كقوله تعالى : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِى طغيانهم يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] .
{ إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون } ، يعني : الخارجين عن طاعة الله تعالى ، وكل منافق فاسق . وقد يكون فاسقاً ولا يكون منافقاً ، ولا يكون منافقاً إلا وهو فاسق . ثم قال عز وجل : { وَعَدَ الله المنافقين } ، الوعد يكون بالخير ، ويكون بالشر إذا قيد به ، والوعيد لا يكون إلاّ بالشر؛ فقال : { وَعَدَ الله المنافقين والمنافقات } ، يعني : المنافقين الذين كانوا بالمدينة ومن كان على مذهبهم ويكون إلى يوم القيامة؛ { والكفار } ؛ وهم أهل مكة ومن كان بمثل حالهم . { نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ } ، يعني : تكفيهم النار جزاءً لكفرهم ، { وَلَعَنَهُمُ الله } ؛ يعني : طردهم الله من رحمته . { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } ، يعني : دائم .
قوله : { كالذين مِن قَبْلِكُمْ } ، يعني : صنيعكم مع نبيكم ، كما صنع الأمم الخالية مع أنبيائهم عليهم السلام وقال الضحاك : يعني : لعن المنافقين ، كما لعن الذين من قبلكم من الأمم الخالية؛ ويقال : ولهم عذاب دائم { كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا } ، يعني : لم ينفعهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئاً ولا ينفعكم أموالكم ولا أولادكم أيضاً { فاستمتعوا بخلاقهم } ، يعني : فانتفعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا . { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بخلاقكم } ، كما يقول انتفعتم أنتم بنصيبكم من الآخرة في الدنيا ، { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } من الأمم الخالية ، { بخلاقهم } ؛ أي بنصيبهم { وَخُضْتُمْ } في الباطل ، { كالذي خَاضُواْ } ؛ ويقال : كذبتم الرسول كما كذبوا رسلهم . { أولئك } ، يعني : أهل هذه الصفة حبطت أعمالهم ، { حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والاخرة } يعني : بطل ثواب أعمالهم فلا ثواب لهم لأنها كانت في غير إيمان . { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } ، يعني : في الآخرة .
قوله تعالى :

أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)

{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني : ألم يأتهم خبر الذين من قبلهم في القرآن عند التكذيب كيف فعلنا بهم؟ { قَوْمُ نُوحٍ } كيف أغرقناهم ، { ***وَ } قوم { وإلى عَادٍ } كيف أهلكناهم بالريح المقيم؟ { ***وَ } قوم { بَعِدَتْ ثَمُودُ } ، وهم قوم صالح كيف أهلكناهم بالصيحة؟ { وَقَوْمِ إبراهيم } ، وهو النمرود بن كنعان كيف أهلكناه بأضعف الخلق وهو البعوض؟ { وأصحاب مَدْيَنَ } ، وهم قوم شعيب كيف أهلكناهم بعذاب يوم الظلة؟ { والمؤتفكات } ، يعني : مدائن قوم لوط . والمؤتفكات جمع المؤتفكة ، لأنها ائتفكت بهم ، يعني : انقلبت ، كقوله تعالى : { والمؤتفكة أهوى * فغشاها مَا غشى } [ النجم : 53 ، 54 ] يعني : أمطرت عليهم الحجارة؛ وقال مقاتل : المؤتفكات يعني : المكذبات { أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات } ، يعني : بالأمر والنهي فتركوا طاعتي فأهلكتهم . { فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } ، يعني : لم يهلكهم بغير ذنب . { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بتركهم طاعتي وتكذيبهم الرسل .
قوله تعالى :

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

{ والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } يعني : بعضهم على دين بعض ، وبعضهم معين لبعض في الطاعة . { يَأْمُرُونَ بالمعروف } ، يعني : بالإيمان واتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } ؛ يعني : عن الشرك ، { وَيُقِيمُونَ الصلاة } ؛ يعني : يقرون بها ويقيمونها ، { وَيُؤْتُونَ الزكواة } ؛ أي ويقرون بها ويؤدونها . قوله : { وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ } ، يعني : يطيعون الله في فرائضه ، ويطيعون الرسول في السنن وفيما بَيَّنَ . { أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله } ، يعني : ينجيهم الله من العذاب الأليم . { أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } في أمره حكم للمؤمنين بالجنة وللكافرين بالنار . قال الفقيه : ذكر عن أبي سعيد الفاريابي أنه قال : سيرحمهم الله في خمسة مواضع : عند الموت وسكراته ، وفي القبر وظلماته ، وعند الكتاب وحسراته ، وعند الميزان ونداماته ، وعند الوقوف بين يدي الله تعالى وسؤالاته .
قوله تعالى : { وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات } ، أي المصدقين من الرجال والمصدقات من النساء . { جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا ومساكن طَيّبَةً } ، يعني : منازل طاهرة تطيب فيها النفس . { فِى جنات عَدْنٍ } في قصور من الدُّر والياقوت؛ وقال الفقيه : حدثنا محمد بن الفضل ، وعبد الله بن محمد قالا : حدثنا فارس بن مردويه قال : حدثنا محمد بن الفضيل العابد قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : حدثنا سفيان بن حصين ، عن يعلى بن مسلم ، عن مجاهد قال : قرأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر { جنات عَدْنٍ } ، فقال هل تدرون ما جنات عدن؟ قال : قصر في الجنة من ذهب ، له خمسمائة ألف باب ، وعلى كل باب خمسة وعشرون ألفاً من الحور العين؛ لا يدخلها إلا نبي وهنيئاً لصاحب القبر ، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أو صديقٍ وهنيئاً لأبي بكر؛ أو شهيد وأنَّى لعمر بالشهادة . ثم قال : { ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ } ، يقول رضاء الرب عنهم أعظم مما هم فيه من الثواب والنعيم في الجنة . { ذلك هُوَ الفوز العظيم } ، يعني : النجاة الوافرة .
قوله تعالى :

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)

{ العظيم ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين } ، يعني : جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالقول الشديد . قال ابن مسعود في قوله : { جاهد الكفار والمنافقين } قال : جاهد بيدك ، فإن لم تستطع فبلسانك ، فإن لم تستطع فبقلبك والقه بوجه مكفهر ، وعن الحسن قال : جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحدود ، يعني : أقم عليهم حدود الله . { واغلظ عَلَيْهِمْ } ، يعني : أشدد عليهم ، يعني : على الفريقين جميعاً في المنطق .
ثم بيَّن مرجعهم جميعاً في الآخرة وقال : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } ، يعني : مصيرهم ومآلهم إلى جهنم ، { وَبِئْسَ المصير } الذي صاروا إليه . ثم بيّن خبثهم وسوء معاملتهم وفعالهم ، فقال الله تعالى : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك ، فذكر المنافقين وسماهم رجساً ، فقال الجلاس بن سويد لئن كان محمد صادقاً فيما يقول ، لنحن شر من الحمير فسمع عامر بن قيس ذلك ، فقال : والله إن محمداً لصادق ، ولأنتم شر من الحمير . فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتاه عامر بن قيس فأخبره . فقال الجلاس : بل كذب عليّ ، وأمرهما أن يحلفا عند المنبر ، فقام الجلاس وحلف ، ثم قام عامر بن قيس وحلف أنه قد قاله ، وما كذبت عليه ، ثم رفع يديه فقال : اللهم انزل على نبيك صلى الله عليه وسلم وبيِّن الصادق منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون «آمِين» فنزل جبريل قبل أن يتفرقوا بهذه الآية { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم } ، يقول كفروا في السر بعد أن أقروا في العلانية { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } ، يعني : أرادوا قتل عامر بن قيس؛ ويقال : قتل النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنهم اجتمعوا ذات ليلة في مضيق جبل ، ليقتلوه إذا مرّ بهم ، فدفعهم الله عنه؛ ويقال : { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } وهو قول عبد الله بن أُبي ابن سلول لأصحابه : { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الاعز مِنْهَا الاذل وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ } [ المنافقون : 8 ] . وقال : سَمِّن كلبك يأكلك ، يعني : سلطناهم على أنفسنا فنزل : { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } وقال مقاتل : كان المنافقون أصحاب العقبة هموا ليلاً بقتل النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة في غزوة تبوك ، فنزل : { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } وهكذا قال الضحاك .
ثم قال تعالى : { وَمَا نَقَمُواْ } ، يعني : وما عابوا وما طعنوا على محمد صلى الله عليه وسلم . { إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وكان أهل المدينة في شدة من عيشهم ، لا يركبون الخيل ، ولا يحوزون الغنيمة؛ فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة استغنوا؛ فذلك قوله : { إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } . ثم قال الله تعالى : { فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ } ، يعني : إن تابوا من الشرك والنفاق يكون خيراً لهم من الإقامة عليه . { وَإِن يَتَوَلَّوْا } أبوا عن التوبة ، { يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا والاخرة } ؛ يعني : في الدنيا بإظهار حالهم ، وفي الآخرة في نار جهنم . { وَمَا لَهُمْ فِى الارض مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } ، يعني : مانع يمنعهم من العذاب . وذكر أنه لما نزلت هذه الآية ، تاب الجلاس بن سويد وحسنت توبته .
قوله تعالى :

وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)

{ وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله } ، قال في رواية الكلبي : نزلت الآية في شأن حاطب بن أبي بلتعة ، كان له مال بالشام فجهد بذلك جهداً شديداً فحلف بالله { لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ } ، يعني : المال الذي بالشام ، { لَنَصَّدَّقَنَّ } منه ولأؤدين حق الله تعالى منه ، فلم يفعل لمَّا أعطاه الله المال . قال مقاتل : نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري كان محتاجاً ، فقال : { لَئِنْ ءاتانا *** الله مِن فَضْلِهِ **لَنَصَّدَّقَنَّ } فابتلاه الله فرزقه ذلك ، وذلك أن مولى لعمر بن الخطاب قتل رجلاً من المنافقين خطأ ، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم ديته إلى عصبته وهو ثعلبة ، فبخل ومنع حق الله تعالى .
قال الفقيه : حدثنا أبو الفضل بن أبي حفص قال : حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال : حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا معاذ بن رفاعة ، عن عليّ بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ادع الله لي أن يرزقني مالاً . فقال : « وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ ، قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لا تُطِيقُهُ » . قال : ثم رجع إليه فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً ، فقال : « وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ ، أمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِثْلِي؟ وَالله لَوْ سَأَلْتُ الله تَعَالَى أنْ يُسِيلَ عَلَيَّ الْجِبَالَ ذَهَباً وَفِضَّةً . لَسَالَتْ » . ثم رجع إليه فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً ، فوالله لئن آتاني الله مالاً لأؤدين لكل ذي حق حقه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللَّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالاً » . فاتَّخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود ، حتى ضاقت بها أزقة المدينة فتنحى بها وكان يشهد الصلوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إليها ثم نمت حتى تعذرت عليها مراعي المدينة فتنحى بها ، وكان يشهد الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يخرج إليها ثم نمت ، فترك الجمعة والجماعات وجعل يتلقى الركبان ويقول : ماذا عندكم من الخير؟ وما كان من أمر الناس؟ فأنزل الله تعالى على رسوله : { خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ التوبة : 103 ] فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقات : رجلاً من الأنصار ، ورجلاً من بني سليم ، وكتب لهما كتاب الصدقة ، وأمرهما أن يصدقا الناس ، وأن يمرا بثعلبة فيأخذا منه صدقة ماله .
فأتيا ثعلبة وطلبا منه ، فقال : صدِّقا الناس ، فإذا فرغتما فمرا بي .

ففعلا ، فلما رجعا إليه وطلبا منه فأبى وقال : ما هذه إلا أخية الجزية . فانطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبراه فأنزل الله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين * فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } .
فركب رجل من الأنصار هو ابن عم لثعلبة راحلته حتى أتى ثعلبة فقال : ويحك يا ثعلبة هلكت قد أنزل الله فيك من القرآن كذا وكذا : فأقبل ثعلبة بن حاطب وجعل على رأسه التراب وهو يبكي ويقول : يا رسول الله اقبض مني صدقة مالي . فلم يقبض منه صدقة حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أتى إلى أبي بكر فلم يقبل منه صدقته؛ ثم أتى إلى عمر فلم يقبل صدقته؛ ثم أتى إلى عثمان فلم يقبل صدقته ومات في خلافة عثمان ، فذلك قوله : { فَلَمَّا ءاتَاهُمْ } يعني : لما أعطاهم { مِن فَضْلِهِ } يعني : من المال { بَخِلُواْ بِهِ } بمنع حق الله تعالى { وَتَوَلَّواْ } عن الصدقة { وَهُم مُّعْرِضُونَ } فلم يفوا بما قالوا { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ } يقول جعل عاقبتهم على النفاق { إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } وهو يوم القيامة ، { بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } بقوله : { لَئِنْ ءاتانا *** الله مِن فَضْلِهِ **لَنَصَّدَّقَنَّ } وقال عبد الله بن مسعود : اعتبروا المنافق بثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر . ثم قرأ { وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله } إلى قوله { وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } فقد ذكر الثلاثة في هذه الآية .
قوله تعالى :

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)

{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } ، وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في أصحاب العقبة حين هموا بما لم ينالوا وهذا عطف على قوله : { لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } . { وَأَنَّ الله علام الغيوب } ، أي علم غيب كل شيء مما هموا به .
قوله تعالى : { الذين يَلْمِزُونَ المطوعين } ، يعني : يطعنون ويعيبون { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصدقات } ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يخرج إلى غزوة تبوك ، حثَّ الناس على الصدقة ، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم ، وزن كل درهم مثقالاً ، فقال النبي : صلى الله عليه وسلم : « أَكْثَرْتَ هَلْ تَرَكْتَ لأهْلِكَ شَيْئاً » فقال : يا رسول الله ، كان مالي ثمانية آلاف درهم فأما أربعة آلاف درهم فأقرضتها ربي عز وجل ، وأما أربعة آلاف فأمسكتها لنفسي . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بَارَكَ الله لك فِيمَا أَعْطَيْتَ ، وَفِيمَا أمْسَكْتَ » . فبارك الله فيه ، حتى إنّه بلغ ماله حين مات أنه طلق إحدى نسائه الثلاث في مرضه ، فصالحوها عن ثلث الثمن لها بثمانين ألف درهم ونيف .
وفي رواية أُخرى ثمانين ألف دينار ونيف . وجاء عاصم بن عدي بسبعين وسقاً من تمر ، وكل واحد منهم جاء بمقدار طاقته ، حتى جاء أبو عقيل بن قيس بصاع من تمر وقال : آجرت نفسي الليلة بصاعين ، فصاع أقرضته لربي ، وصاع تركته لأهلي فأمره بأن ينثره في الصدقة . وروي أن امرأة ، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمرةٍ واحدة ، فلم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إليها فنزل : { الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } إلى آخره . وكان نفر من المنافقين جلوساً يستهزئون فقالوا : لقد تصدق عبد الرحمن وعاصم بن عدي على الرَّب ، فلقد كان الله غنياً عن صاع أبي عقيل ، فنزل : { الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } يعني : يطعنون المتصدقين الذين يتصدقون بأموالهم وهم عبد الرحمن وعاصم وغيرهما .
{ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } ، قال أهل اللغة : الجُهْدُ بالضم الطاقة ، والجَهْدُ بالفتح المشقة . وقال الشعبي : الجُهْدُ هو العسرة يعني : القلة ، والجَهْد بالنصب هو الجَهْدُ في العمل . { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } ، يقول يستهزئون بهم . { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } ، يعني : يجازيهم جزاء سخريتهم . وهذا كقوله : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ } [ البقرة : 15 ] ثم قال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، يعني : وجيع دائم ، فلما نزلت هذه الآية ، جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله استغفر لنا فنزل : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } : اللفظ لفظ الأمر ومعناه معنى الخبر ، أي إن شئت استغفر لهم ، وإن شئت فلا تستغفر لهم ، يعني : للمنافقين .

{ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } ، ثم بَيَّنَ المعنى الذي لم يغفر لهم بسببه ، فقال تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ } ، يعني : في السر . وقال قتادة ومجاهد : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لأزِيدَنَّ عَلَى سَبْعِينَ » فاستغفر لهم ، أكثر من سبعين مرة لعل الله يغفر لهم فأنزل الله تعالى : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } [ المنافقون : 6 ] ثم قال تعالى : { والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } ، يعني : المنافقين الذين كفروا بالله ورسوله في السر ، والله تعالى لا يهديهم ما داموا ثابتين على النفاق .
قوله تعالى :

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)

{ فَرِحَ المخلفون } يقول عجب ورضي المتخلفون عن الغزو وهم المنافقون . { بِمَقْعَدِهِمْ خلاف رَسُولِ الله } ، يعني : بتخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الحر } ، يعني : قال بعضهم لبعض : لا تخرجوا إلى الغزو ، فإن الحر شديد . قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } لهم يا محمد : { نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } يعني : لو كانوا يفهمون ويعقلون . وفي قراءة ابن مسعود { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
ثم قال عز وجل : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً } اللفظ لفظ الأمر والمراد به التوبيخ . قال الحسن : يعني : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً } في الدنيا ، { وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا } في الآخرة في النار . { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ، يعني : عقوبة لهم بما كانوا يكفرون . وعن أبي رزين أنه قال في قوله تعالى : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا } قال : يقول الله تعالى : الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا : فإذا صاروا إلى النار بكوا بكاءً لا ينقطع فذلك الكثير .
وروى الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن أبي عامر ، عن عمرو بن شرحبيل قال : مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على ملأ من قريش ، وفيهم أبو جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة فقال أبو جهل : هذا نبيكم يا بني عبد مناف . فقال عتبة : وما تنكر أن يكون منا نبي أو ملك؟ فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ، فأقبل عليهم وقال : « أمَّا أنْتَ يا عُتْبَةُ ، فَلَمْ تَغْضَبْ لله وَلا لِرَسُولِهِ ، وَإنَّمَا غَضِبْتَ لِلأصْلِ . وَأمَّا أنْتَ يَا أبَا جَهْلٍ ، فَوَالله لا يَأْتِي عَلَيْكَ إلاَّ غَيْرُ كَثِيرٍ مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى تَبْكِيَ كَثِيراً وَتَضْحَكَ قَلِيلاً . وَأمَّا أنْتُمْ يَا مَلأَ قُرَيْشٍ ، فَوَالله لا يَأْتِي عَلَيْكُمْ إلاَّ غَيْرُ كَثِيرٍ مِنَ الدَّهْرِ ، حَتَّى تَدْخُلُوا فِي هذا الأمْرِ الَّذِي تُنْكِرُونَ طَائِعِينَ أوْ كَارِهِينَ » . قال : فسكتوا كأنما ذرّ على رؤوسهم التراب ، فلم يردوا عليه شيئاً .
وروى أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يُرْسِلُ الله تَعَالَى البُكَاءَ عَلَى أهْلِ النَّارِ ، فَيَبْكُونَ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ ، ثُمَّ يَبْكُونَ الدَّمَ حَتَّى يُرَى فِي وُجُوهِهِمْ كَهَيْئَةِ الأخْدُودِ » . قوله تعالى :

فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)

{ فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ } ، يعني : إن رجعك الله من تبوك إلى طائفة من المنافقين الذين تخلفوا { فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ } معك إلى غزوة أُخرى . { فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا } إلى الغزو ، { وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا } . ويقال : معناه لن تخرجوا إلاّ مطوعين من غير أن تكون لكم شركة في الغنيمة . { إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ } ، بالتخلف عن غزوة تبوك ، { فاقعدوا مَعَ الخالفين } ، يعني : مع المتخلفين الذين تخلفوا بغير عذر؛ ويقال : الخالف الذي يخلف الرجل في أهله وماله؛ ويقال : الخالف الذي خالف قومه؛ ويقال : الخالف الفاسد؛ ويقال : الخالف المرأة . والخوالف النساء .
قوله تعالى : { وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } ، يعني : لا تصل أبداً على من مات من المنافقين . { وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ } ، يعني : لا تدفنه . { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ } في السر ، { وَمَاتُواْ وَهُمْ فاسقون } ؛ يعني : ماتوا على الكفر . قال مقاتل : ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول ، وهو رأس المنافقين حين مات أبوه ، فقال : أنشدك الله أن لا تشمت بي الأعداء . فطلب منه أن يصلي على أبيه ، فأراد النبي أن يفعل ، فنزلت هذه الآية ، فانصرف النبي عليه السلام ولم يصل عليه . وقال في رواية الكلبي : لما اشتكى عبد الله بن أُبي ابن سلول ، عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلب منه عبد الله أن يصلي عليه إذا مات ، وأن يقوم على قبره ، وأن يكفنه في القميص الذي يلي جلده فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال عمر : فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يصلي عليه فقلت : يا رسول الله ، أتصلي عليه وهو صاحب كذا وكذا؟ فقال : « دَعْنِي يا عُمَر » ثم عدت ثانياً ، ثم عدت ثالثاً ، فنزلت هذه الآية .
وروى عكرمة ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى عليه ، وقام على قبره ، وكفنه في قميصه ، فنزل { وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } الآية فنهي أن يصلي على أحد من المنافقين بعده . قال ابن عباس : والله لا أعلم أي صلاة كانت؟ وما خادع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنساناً قط . وفي خبر آخر أنّ عمر قال يا رسول الله أتصلي عليه ، وتعطيه قميصك وهو كافر منافق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « وَمَا عَلِمْتَ يا عُمَرُ ، عَسَى أنْ يُسْلِمَ بِسَبَبِ هذا القَمِيصِ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، وَلا يُغْنِيهِ قَمِيصٌ مِنْ عَذابِ الله شَيْئاً » . فأسلم من أهاليه ومن بني الخزرج خلق كثير . وقالوا : لولا أن عبد الله عرفه حقاً ، ما تبرك بقميصه ، وما طلب منه أن يصلي عليه ثمَّ قال تعالى : { وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى الدنيا } ، يعني : بالأموال في الآخرة على وجه التقديم ، { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون } .
قوله تعالى :

وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)

{ وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } ، يعني : سورة براءة . { وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } ، صدقوا بقلوبكم كما أقررتم بلسانكم ، { وجاهدوا مَعَ رَسُولِهِ استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ } ، يعني : استأذنك في القعود أهل السعة والغنى من المنافقين . { وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين } ، يعني : دعنا وائذن لنا نتخلف ونقعد مع القاعدين الذين تخلفوا في المدينة عن الجهاد .
{ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف } ، يعني : بأن يجالسوا النساء بالمدينة . يقال : الخوالف هم خساس الناس ودناتهم ، يقال : خالف أهله ، إذا كان دونهم . { وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } التوحيد ، ويقال : لا يعلمون ثواب الخروج إلى الجهاد .
ثم قال عز وجل : { لكن الرسول } ، يعني : إن لم يجاهد المنافقون فالله تعالى غني عنهم ويجاهد الرسول . { والذين ءامَنُواْ مَعَهُ جاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ } ، يعني : إن لم تخرجوا أنتم . { وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الخيرات } ، يعني : الحسنات ، ويقال : زوجات حسان في الجنة . والخيرة : الزوجة ، والخيرة : الثواب . وقال القتبي والأخفش : الخيرات واحدها خيرة : وهن الفواصل .
وروى مسروق ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : في قوله : { وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الخيرات } قال : لكل مسلم خيرةٌ ولكل خيرةٌ خيمة ، ولكل خيمة أربعة أبواب ، يدخل عليها في كل يوم من الله تعالى تحفة وكرامة وهدية ، لم يكن قبل ذلك لا طمحات ولا مرحات ولا بخرات ولا دفرات { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] الآية . قال أهل اللغة : طمحات يعني : ناكسات رؤوسهن ، مرحات خفيفات الروح ، بخرات منتن ريح الفم ، ودفرات منتن ريح الإبط . ثم قال تعالى : { وأولئك هُمُ المفلحون } ، يعني : الناجون في الآخرة .
قوله تعالى :

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)

{ أَعَدَّ الله لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا ذلك الفوز العظيم } ، يعني : النجاة الوافرة والثواب الجزيل . قوله تعالى : { وَجَاء المعذرون مِنَ الاعراب } ، قرأ ابن عباس { المعذرون } بالتخفيف وهكذا قرأ الحضرمي ، وقراءة العامة { المعذرون } بالتشديد فمن قرأ بالتخفيف يعني : الذين أعذروا وجاؤوا بالعذر ، ومن قرأ بالتشديد يعني : المعتذرين إلا أن التاء أدغمت في الذال لقرب المخرجين : يعني الذين يعتذرون كان لهم عذر أو لم يكن لهم . وهذا قول الزجاج .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : وجاء { المعذرون } بالتخفيف وهم المخلصون أصحاب العذر وقال : لعن الله المُعْذِّرِين بالتشديد لأن المعذَّرين هم الذين يعتلُّون بلا علة ويعتذرون بلا عذر . { لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } في التخلف ، { وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ } . فمن قرأ بالتشديد يكون هذا نعتاً لهم ، ومن قرأ بالتخفيف يكون صنفين ويكون معناه : وجاء الذين لهم العذر ، وسألوا العذر ، وقعد الذين لا عذر لهم وهم الذين كفروا بالله ورسوله في السر . ثم بيّن أمر الفريقين فقال : { سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، وهم الذين تخلفوا بغير عذر .
ثم بيّن حال الذين تخلفوا بعذر . فقال تعالى : { لَّيْسَ عَلَى الضعفاء } ، يعني : على الزمنى والشيخ الكبير ، { وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } في الجهاد { حَرَجٌ } ، أي لا إثم عليهم . { إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } ، يعني : إذا كانوا مخلصين مسلمين في السر والعلانية . { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } ، يعني : ليس على الموحدين المطيعين من حرج ، إذا تخلفوا بالعذر . { والله غَفُورٌ } لهم بتخلفهم ، { رَّحِيمٌ } بهم .
قوله تعالى : { وَلاَ عَلَى الذين } ، يعني : ولا حرج على الذين . { إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } على الجهاد . روى أسباط ، عن السدي أنه قال : أقبل رجلان من الأنصار أحدهما عبد الله بن الأزرق ، والآخر أبو ليلى ، فسألاه أن يحملهما ، { قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } . وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : أتاه سبعة نفر من أصحابه ، سالم بن عمير ، وحزم بن عمرو ، وعبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى ، وسليمان بن صخر ، وعتبة بن زيد ، وعمرو بن عتبة ، وعبد الله بن عمرو المزني يستحملونه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « { لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } » . { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } ، يعني : تسيل { مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } في الخروج إلى الجهاد .
قوله تعالى :

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)

{ إِنَّمَا السبيل } الحرج { عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ } في التخلف ، { وَهُمْ أَغْنِيَاء } يعني : لهم سعة للخروج . { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ } ، يعني : ختم ، { فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } التوحيد .
قوله تعالى : { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } من الغزو . { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } ، يعني : لا نصدقكم أن لكم عذراً . { قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ } ، يعني : أخبرنا الله تعالى بأنه ليس لكم عذر ، ويقال : أخبرنا الله عن نفاقكم ، ويقال : أخبرنا الله عن أعمالكم وسرائركم . { وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } ، فيما تستأنفون وسيرى المؤمنون . { ثُمَّ تُرَدُّونَ } ، يعني : ترجعون بعد الموت { إلى عالم الغيب والشهادة } الذي يعلم ما غاب عن العباد وما شاهدوا { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا .
قوله : { سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ } ، يعني : إذا رجعتم إليهم من الغزو ، { لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ } ؛ يعني : لتتجاوزوا وتصفحوا عنهم { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } ؛ يعني : اصفحوا وتجاوزوا عنهم في الدنيا { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } ، يعني : قذر ونجس ، { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } ؛ يعني : مصيرهم في الآخرة إلى جهنم . { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من النفاق .
قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } ، يعني : إن أنت رضيت عنهم يا محمد والمؤمنون . { فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين } ، يعني : المنافقين .
قوله تعالى : { الاعراب أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } ، يعني : أسد وغطفان وأعراب حاضري المدينة هم أشد في كفرهم ونفاقهم من غيرهم . { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ } ، يعني : أحرى وأولى وأحق أَلاَّ يَعْلَمُوا ، { حُدُودَ مَا أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ } ، لأنهم كانوا أجهل وأقل علماً من غيرهم . وقال الكلبي : يعني : لا يعلمون الفرائض التي أنزل الله على رسوله . وقال مقاتل : هم أقلّ علماً بالسنن من غيرهم .
وروى الأعمش ، عن إبراهيم قال : كان زيد بن صوحان جالساً يحدث وقد أصيبت يده يوم نهاوند ، فجاء أعرابي وقال : والله إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك لتريبني . فقال له زيد : أو ليس الشمال؟ قال الأعرابي : والله لا أدري الشمال يقطعون أو اليمين؟ فقال زيد : صدق الله { الاعراب أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَن لا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ } ، ويقال : أن لا يعلموا أحكام الله في كتابه . { والله عَلِيمٌ } بهم ، { حَكِيمٌ } في أمرهم .
ونزل فيهم : { وَمِنَ الاعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا } ، يعني : ما ينفق في الجهاد يحسبه غُرْماً ، { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر } ، يعني : ينتظر بكم الموت ، يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم خاصة . وقال القتبي : الدوائر ، دوائر الزمان ، وهي صروفه التي تأتيه مرة بالخير ومرة بالشر . يقول الله تعالى : { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء } ، يعني : عاقبة السوء والهلاك . قرأ ابن كثير وأبو عمرو { دَائِرَةُ السوء } بضم السين ، يعني : عاقبة المضرة والشر ، وقرأ الباقون بالنصب . يقال : رجل سوء ، إذا كان خبيثاً . وعن الفراء أنه قال : الفتح مصدر والضم اسم . { والله سَمِيعٌ } لمقالتهم ، { عَلِيمٌ } بهلاكهم . ثم ذكر من أسلم من الأعراب جهينة وغفار وأسلم .
فقال تعالى :

وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)

{ وَمِنَ الاعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } في الجهاد { قربات عِندَ الله } ، يعني : قربة إلى الله تعالى ، { وصلوات الرسول } ، يعني : طلب دعاء الرسول عليه السلام واستغفاره . يقول الله تعالى : { أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } ، أي نفقاتهم قربة لهم إلى الله تعالى وفضيلة ونجاة لهم . { سَيُدْخِلُهُمُ الله فِى رَحْمَتِهِ } ، يعني : في جنته { أَنَّ الله غَفُورٌ } لذنوبهم ، { رَّحِيمٌ } بهم قرأ نافع في رواية ورش { قُرْبَةٌ } بضم الراء ، وقرأ الباقون بجزم الراء ، ومعناهما واحد .
قوله تعالى :

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)

{ والسابقون الاولون } وهم الذين صلوا إلى القبيلتين ، { مِنَ المهاجرين والانصار } ، وشهدوا بدراً . عن قتادة قال : قلت لسعيد بن المسيب من المهاجرون الأولون؟ قال : من صلَّى إلى القبلتين مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو من المهاجرين الأولين وقال السدي : كانت الهجرة قبل أن تفتح مكة ، فلما فتحت مكة كان من أسلم بعده ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو تابع .
وروي عن مجاشع بن مسعود النهدي أنه جاء بابن أخيه ليبايعه على الهجرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا بَلْ بَايِعْ عَلَىَ الإِسْلامِ ، فَإِنَّهُ لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفْتَحِ وَيَكُونُ مِنَ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ » . قرأ العامة { والانصار } بالكسر ، وقرأ الحضرمي { والانصار } بالضم . فمن قرأ بالضم فهو عطف على السابقين التابعين ومعناه والسابقون والأنصار ، ومن قرأ بالكسر فهو عطف على المهاجرين ومعناه ومن المهاجرين ومن الأنصار .
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقرأ : { الذين * اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } بغير واو ، وقراءة العامة بالواو ، فمن قرأ بغير واو يكون نعتاً للأنصار ، ومن قرأ بالواو يكون نعتاً لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة .
وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يقرأ هذه الآية { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } فقال له عمر : من أقرأك هذه الآية؟ فقال : أقرأنيها أُبيّ بن كعب . فقال لا تفارقني حتى أذهب بك إليه . فلما جاءه قال : يا أُبَيّ ، أنت أقرأته هذه الآية هكذا؟ قال : نعم . قال : أنت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : كنت أظن أنا قد ارتفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا . قال أُبيّ : تصديق هذه الآية أول سورة الجمعة ، وأوسط سورة الحشر وآخر سورة الأنفال . أما أول سورة الجمعة { وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ العزيز الحكيم } [ الجمعة : 3 ] وأوسط سورة الحشر { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] وآخر سورة الأنفال { والذين ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [ الأنفال : 75 ] .
وقال الشعبي : السابقون الأولون من أدرك بيعة الرضوان وبايع تحت الشجرة . { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } ، يعني : على دينهم بإحسانهم ، { رَّضِىَ الله عَنْهُمْ } بأعمالهم ، { وَرَضُواْ عَنْهُ } ، يعني : عن الله تعالى بثوابه لهم في الجنة . { وَأَعَدَّ لَهُمْ جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الانهار } . قرأ ابن كثير { مِن تَحْتِهَا الانهار } بزيادة من ، وقرأ الباقون { جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الانهار } بغير من صار { تَحْتِهَا } نصباً لنزع الخافض . { خالدين فِيهَا أَبَداً ذلك الفوز العظيم } ، يعني : الثواب الوافر .

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)

{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاعراب منافقون } يعني : الأعراب الذين حوالي المدينة . { وَمِنْ أَهْلِ المدينة } ، وهو عبد الله بن أُبي وأصحابه { مَرَدُواْ عَلَى النفاق } ، يعني : مرنوا وثبتوا على النفاق ، فلا يرجعون عنه ولا يتوبون . { لاَ تَعْلَمُهُمْ } ، يقول لا تعرفهم أنت لسبب إيمانهم بالعلانية . { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } ، لأني عالم السر والعلانية ونعلم نفاقهم ونعرفك حالهم .
{ سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } قال مقاتل : أحد العذابين عند الموت ضرب الملائكة الوجوه والأدبار ، والعذاب الثاني عذاب القبر ، وهو ضرب منكر ونكير . وقال الكلبي : أوَل العذابين أنه أخرجهم من المسجد ، والعذاب الثاني عذاب القبر .
وروى أسباط بن النضر الهمداني ، عن إسماعيل بن عبد الملك السدي قال : عن أبي مالك ، عن ابن عباس أنه قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة ، فقال : « يَا فُلانُ اخْرُجْ فَإنَّكَ مُنَافِقٌ » . ثم قال : « يَا فُلانُ اخْرُجْ إنَّكَ مُنَافِقٌ » . ثم قال : « يَا فُلانُ اخْرُجْ فَإنَّكَ مُنَافِقٌ » . فأخرجهم بأسمائهم ، وكان عمر لم يشهد الجمعة لحاجة كانت له ، فلقيهم وهم يخرجون من المسجد ، فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة ، وظن أن الناس قد انصرفوا واختبؤوا من عمر ، وظنوا أنه قد علم بأمرهم ، فدخل عمر المسجد فإذا الناس لم يصلوا ، فقال له رجل من المسلمين : أبشر يا عمر ، قد فضح الله المنافقين ، وهذا هو العذاب الأول ، والعذاب الثاني عذاب القبر . وروى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } ، قال : الجوع والقتل ، ويقال القتل والسبي ، وقال الحسن : عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . { ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ } ، يعني : عذاب جهنم أعظم مما كان في الدنيا .
قوله تعالى : { وَءاخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ } ، يعني : بتخلفهم عن الغزو وهم : أبو لبابة بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن خزام . { خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا } ، وهو التوبة ، { وَءاخَرُونَ اعترفوا } بتخلفهم عن غزوة تبوك . وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال : تخلف أبو لبابة عن غزوة تبوك ، فربط نفسه بسارية المسجد ، ثم قال : والله لا أحلّ نفسي منها ، ولا أذوق طعاماً ، ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ . فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً ، حتى كاد يخر مغشياً عليه ، حتى تاب الله عليه فقيل له : قد تيب عليك . فقال : والله لا أحل نفسي ، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني . فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحلّه بيده . ثم قال أبو لبابة : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن انخلع من مالي كله وأجعله صدقة لله تعالى ولرسوله .

فقال : « يُجْزِيكَ الثُّلُثُ يا أبا لُبَاَبَة » . وروي عن الزهري ، عن كعب بن مالك قال : أول أمر عتب على أبي لبابة أنه كان بينه وبين يتيم عذق ، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقضى به لأبي لبابة فبكى اليتيم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « دَعْهُ » فأبى . قال : « فَأَعْطِهِ إيّاهُ وَلَكَ مِثْلُهُ فِي الْجَنَّةِ » . قال : لا . فانطلق أبو الدحداحة ، فقال لأبي لبابة : بعني هذا العذق بحديقتي؟ قال : نعم . ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن أعطيت هذا اليتيم هذا العذق ألي مثله في الجنة؟ قال : « نَعَمْ » . فأعطاه إيّاه قال وأشار أبو لبابة إلى بني قريظة حين نزلوا على حكم سعد بن معاذ . وأشار إلى حلقه يعني : الذبح ، والثالث أنه تخلف عن غزوة تبوك ثم تيب عليه ، فذلك قوله : { عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } ، وعسى من الله واجب أن يتجاوز عنهم . { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قوله تعالى :

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)

{ خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً } يعني : من الذين قبلت توبتهم ، جاؤوا بأموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : هذه أموالنا فخذها ، وتصدق بها عنا فكره أن يأخذها فنزل { خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ } بها من ذنوبهم ، ويقال : هذا ابتداء ، يعني : خذ من أموال المسلمين صدقة ، يعني : الصدقة المفروضة . { تُطَهّرُهُمْ } ، يعني : تطهر أموالهم ، { وَتُزَكّيهِمْ بِهَا } ، يعني : تصلح بها أعمالهم . { وَصَلّ عَلَيْهِمْ } ، يعني : استغفر لهم وداعُ لهم { ءانٍ * صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ } يعني دعاءك واستغفارك سكن لهم يعني : طمأنينة لهم إن الله تعالى قد قبل منهم الصدقة ، ويقال : إن الله قبل منهم التوبة . { والله سَمِيعٌ } لقولهم ، { عَلِيمٌ } بثوابهم . قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو وابن عامر ، وعاصم في رواية أبي بكر { إِنَّ صلواتك } بلفظ الجماعة ، وقرأ الباقون { ***صَلاتَكَ } وقال أبو عبيدة : وهذا أحبَ إليّ ، لأن الصلاة أكثر من الصلوات . ألا ترى إلى قول الله تعالى : { وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه وَهُوَ الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُون } [ الأنعام : 72 ] وإنّما هي صلاة الأبد .
قوله تعالى : { عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات } ، يعني : ويقبل الصدقات . ومعناه : وما منعهم عن التوبة والصدقة ، فكيف لم يتوبوا ولم يتصدقوا؟ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده والصدقة؟ وروى أبو هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ الله يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ طَيِّبٍ ، فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَصِيلَهُ أوْ مُهْرَهُ ، حَتَّى تَكُونَ اللُّقْمَةُ مِثْلَ أحُدٍ » { وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم } يعني : المتجاوز لمن تاب الرحيم بالمؤمنين . قوله تعالى :

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)

{ وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون } ، يعني : ويراه رسوله ويراه المؤمنون . وقال ابن مسعود رضي الله عنه إن الناس قد أحسنوا القول كلهم؛ فمن وافق قوله فعله فذلك الذي أصاب حظه ، ومن خالف قوله فعله فإنما يذبح نفسه . { وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة } ، يعني : يوم القيامة ، { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا .
قوله : { وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ الله } ، يعني : موقوفون لأمر الله؛ وقال القتبي : مؤخرون على أمر الله ، ويقال : متروكون لأمر الله ماذا يأمر الله تعالى لهم؛ ويقال مؤخر أمرهم؛ ولم يتبيَّن شيء . فنزلت هذه الآية في الثلاثة الذين تخلفوا ، وهم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع . ثم بيَّن توبتهم في الآية التي بعدها { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ } . قرأ حمزة والكسائي ونافع { مُرْجَوْنَ } بغير همز وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالهمز ، واختلف عن عاصم وابن عامر وأصله من التأخير { إِمَّا يُعَذّبُهُمْ } بتخلفهم ، { وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } ، يعني : يتجاوز عنهم . { والله عَلِيمٌ } بهم ، { حَكِيمٌ } يحكم في أمرهم ما يشاء .

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)

لى :
{ والذين اتخذوا مَسْجِدًا ضِرَارًا } ، يعني : بنوا مسجداً مضرة للمسلمين . وقال القتبي : يعني مضارة ، ليضاروا به مخالفيهم ، ليدخلوا عليهم المضرة ، { وَكُفْراً } ؛ يعني : وإظهاراً للكفر ، { وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين } . قرأ نافع وابن عامر { الذين } بغير واو ، وقرأ الباقون بالواو؛ ومعناهما واحد ، إلا أن الواو للعطف . نزلت الآية في سبعة عشر من المنافقين من بني غنم بن عوف ، قالوا : تعالوا نبني مسجداً ، يكون فيه متحدثنا ومجمع رأينا . فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوه أن يأذن لهم في بناء المسجد ، وقالوا : قد بعُد علينا المسير إلى الصلاة معك ، فتفوتنا الصلاة ، فاذن لنا أن نبني مسجداً لذوي العلّة والليلة المطيرة . فأذن لهم ، وكانوا ينظرون رجوع أبي عامر الراهب من الشام ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم سماه فاسقاً ، وقال : « لا تَقُولُوا رَاهِبٌ ولكن قُولُوا فَاسِقٌ » وقد كان آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم مرتين ثم رجع عن الإسلام ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات كافراً .
فلما ظهر أمرهم ونفاقهم ، جاؤوا يحلفون { إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى } أي أردنا ببناء المسجد فنزل { والذين اتخذوا مَسْجِدًا ضِرَارًا } يعني : بنوا المسجد للضرار والكفر وللتفريق بين المؤمنين لكي يصلي بعضهم في مسجد قباء وبعضهم في مسجدهم ، وليجتمع الناس إلى مسجدهم ويتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . { وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } ، يعني : انتظاراً لمن هو كافر بالله ورسوله من قبل بناء المسجد ، أن يقدم عليهم من قبل الشام ، وهو أبو عامر الراهب . { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى } ، أي ما أردنا ببناء المسجد إلاَّ صواباً ، لكيلا تفوتنا الصلاة بالجماعة ، ولكي يرجع أبو عامر فيسلم . { والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون } فيما حلفوا ، وإنَّما اجتمعوا فيه لإظهار النفاق والكفر .
ثم قال : { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } ، يعني : لا تصلِّ فيه أبداً ، لأنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي ويصلي فيه ، لكي يتبرك بصلاته فيه ، فنهاه الله عن ذلك ونزل { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } ثم قال : { لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } ، يعني : المسجد الذي بني على التوحيد من أول يوم . قال الأخفش : بني لوجه الله تعالى منذ أول يوم ، ويقال : بني للذكر والتكبير والتهليل وإظهار الإسلام وقهر الشرك من أول يوم بني . ثم قال : { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } ، يعني : أولى وأجدر أن تصلي فيه .
ثم قال : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } ، يعني : الاستنجاء بالماء ، ويقال : يحبون أن يتطهروا يعني : يطهروا أنفسهم من الذنوب . وذلك أن ناساً من أهل قباء كانوا إذا أتوا الخلاء ، استنجوا بالماء وهم أول من فعل ذلك واقتدى بهم من بعدهم وروي في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بباب المسجد بعد نزول الآية وقال لمن فيه :

« إنّ الله قَدْ أحْسَنَ عَلَيْكُمْ الثَّنَاءَ فِي طَهُورِكُمْ فَبِمَ تَطَهَّرُونَ » قالوا : نستنجي بالماء ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية ، وذلك قوله : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين } .
وقال سعيد بن المسيب : المسجد الذي أسس على التقوى ، مسجد المدينة الأعظم . وعن سهل بن سعد الساعدي قال : اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد رسول الله ، وقال الآخر : هو مسجد قباء . فذكر ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « هُوَ مَسْجِدِي هذا » . وروي ، عن ابن عباس أنه قال : « هُوَ مَسْجِدُ قباء » . ثم قال :

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)

ْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } يعني : أصَّل بنيانه { على تقوى مِنَ اللَّهِ } ، يعني : على توحيد الله تعالى ، { وَرِضْوَانٍ } من الله عز وجل . قرأ نافع وابن عامر { أَفَمَنْ أَسَّسَ } بضم الألف وكسر السين { بُنْيَانَهُ } بضم الألف والنون على معنى فعل ما لم يسم فاعله ، وقرأ الباقون { أَسَّسَ } بنصب الألف وَ { بُنْيَانَهُ } بنصب النون ومعنى الآية : إن البناء الذي يراد به الخير ورضاء الرب تبارك وتعالى { خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } ، يعني : مسجد الضرار أصِّل بنائه { على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ } ، يعني : على طرف هار ليس له أصل . قرأ حمزة وابن عامر وأبي بكر ، عن عاصم { جُرُفٍ } بجزم الراء ، والباقون بالضم ومعناهما واحد . وقال القتبي : يعني : على شفا جرف هائر . والجرف : ما ينجرف بالسيول من الأودية . والهائر : الساقط . يقال : تهور البناء وانهار وهار ، إذا سقط . وهذا على سبيل المثل ، يعني : إن الذي بنى المسجد ، إنّما بنى على جرف جهنم ، فانهار بأهله في نار جهنم . وقال الكلبي : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين بعد رجوعه من غزوة تبوك ، فأحرقاه وهدماه .
ثم قال : { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } ، يعني : لا يرشدهم إلى دينه ، يعني : الذين كفروا في السر . قوله تعالى : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً } ، يعني : مسجد الضرار ريبةً { فِى قُلُوبِهِمْ } ، يعني : حسرة وندامة بما أنفقوا فيه ، وبما ظهر من أمرهم ونفاقهم . { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } ، يعني : لا يزال حسرة في قلوبهم إلى أن يموتوا ، لأنهم إذا ماتوا انقطعت قلوبهم . ويقال : { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي في القبر . قرأ حمزة وابن عامر وعاصم في رواية حفص { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ } بالنصب فيكون الفعل للقلوب ، يعني : إلاَّ أنْ تَتَقَطعَ قلوبهم وتتفرق ، والباقون بالرفع على فعل ما لم يسم فاعله { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } بهدم مسجدهم .
قوله تعالى :

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)

هَ اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } ، معناه إنه طلب من المؤمنين أن يعدوا أنفسهم وأموالهم ، ويخرجوا إلى الجهاد والقتال في سبيل الله ، ليثيبهم الجنة . وذكر الشراء على وجه المثل ، لأن الأموال والأنفس كلها لله تعالى ، وهي عند أهلها عارية ، ولكنه أراد به التحريض والترغيب في الجهاد . وهذا كقوله : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 245 ] ثم قال : { يقاتلون فِى سَبِيلِ الله } ، يعني : في طاعة الله تعالى مع العدو . { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } ، يعني : العدو ويقتلهم العدو . قرأ حمزة والكسائي { فَيَقْتُلُونَ } بالرفع { وَيَقْتُلُونَ } بالنصب على معنى التقديم والتأخير ، وقرأ الباقون { يَقْتُلُونَ } بالنصب { وَيَقْتُلُونَ } بالرفع . { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا } ، يعني : واجباً لهم ذلك ، بأن يفي لهم ما وعد ، وبين ذلك { فِي التوراة والإنجيل والقرءان وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } ، يعني : ليس أحد أوفى من الله تعالى في عهده وشرطه ، لأنه عهد أن مَنْ قتل في سبيل الله ، فله الجنة فيفي عهده وينجز وعده .
ثم قال : { فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذى بَايَعْتُمْ بِهِ } وهذا إعلان لهم أنهم يربحون في مبايعتهم . { ذلك هُوَ الفوز العظيم } ، يعني : الثواب الوافر والنجاة والوافرة .
قوله تعالى : { التائبون العابدون } إلى آخره لهم الجنة أيضاً ، ويقال : هم التائبون ، ويقال : صار رفعاً بالابتداء وجوابه مضمر ، قرأ عاصم { أَوَّلُ العابدين } يعني : اشترى من المؤمنين التائبين العابدين إلى آخره ، ويقال : اشترى من عشرة نفر أولهم الغزاة ، ومن التائبين الذين يتوبون عن الذنوب ، والذين هم الْعَابِدُونَ ، يعني : الموحدون ، ويقال : المطيعون لله تعالى . { الحامدون } ، الذين يحمدون الله تعالى على كل حال ، { السائحون } ، قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والحسن : يعني الصائمين . وأصله السائح في الأرض ، لأن السائح في الأرض ممنوعاً عن الشهوات ، فشبّه الصائم به . وذكر عن بعضهم أنه قال : هم الذين يصومون شهر الصبر وهو شهر رمضان وأيام البيض { الركعون } ، يعني : الذين يحافظون على الصلوات { الساجدون } ، الذين يسجدون لله تعالى في الصلوات . { الامرون بالمعروف } ، يعني : يأمرون الناس بالتوحيد وأعمال الخير . { والناهون عَنِ المنكر } ، الذين ينهون الناس عن الشرك والأعمال الخبيثة { والحافظون لِحُدُودِ الله } ، يعني : العاملين بفرائض الله عليهم . وذكر عن خلف بن أيوب أنه أمر امرأته في بعض الليل أن تمسك الرضاع عن الولد ، فقالت : لم؟ فقال : لأنه قد تمت سنتان . فقيل له : لو تركتها حتى ترضع تلك الليلة ، أيش يكون؟ فقال : أين قول الله تعالى { والحافظون لِحُدُودِ الله } ، ثم قال : { وَبَشّرِ المؤمنين } ، يعني : المصدقين بهذا الشرط والعاملين به .

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

قوله تعالى { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ } ، يعني : ما ينبغي وما جاز للنبي والذين آمنوا { أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } . وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقلت له : أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال : ألم يستغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } . { وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى } ، يعني : ذا قرابة في الرحم . { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم } ، يعني : أهل النار وماتوا على الكفر وهم في النار .
ويقال أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأبويه وهما مشركان ، واستأذن منه المسلمون أن يستغفروا لآبائهم ، فنهاهم الله عن ذلك ، وقال : { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } . وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه ، حتى انتهينا إلى قبر فجلس إليه فناجاه طويلاً ، ثم رفع رأسه باكياً ، فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إلينا ، فتلقاه عمر رضي الله عنه وقال : ما الذي أبكاك يا رسول الله؟ فأخذ بيد عمر وأقبل إلينا ، فأتيناه فقال : « أفْزَعَكُمْ بُكَائِي » فقلنا : نعم يا رسول الله . فقال : « إنَّ الْقَبْرَ الَّذِي رَأَيْتُمُونِي أُنَاجِيهِ قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتُ وَهْبٍ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَإنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي بِالاسْتِغْفَارِ لَهَا ، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي ، فأنزِل الله { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ } فَأَخَذَنِي مَا يَأْخُذُ الْوَلَدَ لِلْوَالِدَيْنِ مِنَ الرِّقَّةِ ، فذلك الَّذِي أبْكَانِي » . وروى أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِوَالِدَيَّ ، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاْستَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهُمَا ، فَأَذِنَ لِي » فنزلت هذه الآية . ثم قال عز وجل : { وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } ؛ وذلك أن أباه وعده أن يسلم ، وكان يستغفر له رجاء أن يسلم . وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، { فَلَمَّا } مات ، { تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } ؛ يعني : ترك الدعاء له ولم يستغفر له بعد ما مات على الكفر وللآية هذه وجه آخر روي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حرب قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة ، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب :

« يَا عَمِّ ، قُلْ لا إله إلاَّ الله كَلِمة النَّجَاةِ ، أشْهَدْ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله تَعَالَى » . فقال أبو جهل : أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعانده أبو جهل بتلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم؛ على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أمَا وَالله لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عنه » فأنزل الله تعالى { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } [ القصص : 56 ] ونزل { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ } الآية .
وفي قوله تعالى : { إِنَّ إبراهيم لاوَّاهٌ حَلِيمٌ } . وروى سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : كل القرآن أعلمه إلا أربعة : غسلين ، وحناناً ، والأواه ، والرقيم . وروي عن عبد الله بن عباس ، في رواية أُخرى أنه قال : الأواه الذي يذكر الله في الأرض الوحشية . وروي عن ابن مسعود أنه قال : الأواه الرحيم . وقال مجاهد : الموقن . وقال الضحاك : الداعي الذي يلح إلى الله تعالى ، المقبل إليه بطاعته . ويقال : المؤمن بلغة الحبش . ويقال : الأواه معلم الخير . وقال كعب : الأواه الذي إذا ذكر الله ، قال : أواه من النار . وقال القتبي : المتأوه حزناً وخوفاً { حَلِيمٌ } يعني : عن الجهل .

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)

قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ } ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى عليه الفرائض ، ففعل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون . ثم إن الله تعالى أنزل ما ينسخ الأمر الأول ، وقد غاب الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبلغهم ذلك ، فعملوا بالمنسوخ ، وكانوا يصلون إلى القبلة الأولى ولا يعلمون ، ويشربون الخمر ولا يعلمون تحريمها ، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ } وإن عملوا بالمنسوخ ، { حتى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } ، يعني : ما نسخ من القرآن ، يعني : إنه قبل منهم ما عملوا بعد النسخ ولا يؤاخذهم بذلك . ويقال : وما كان الله ليهلك قوماً ، حتى يقيم عليهم الحجة ويقال : ليُعَذِّبَهُمْ في الآخرة ، يعني : يبين لهم ما يتقون . ويقال : لا يتركهم بلا بيان بعد أن أكرمهم بالإيمان ، حتى يبيِّن لهم ما يحتاجون ويقال لا ينزع الإيمان عنهم بعد أن هداهم إلى الإيمان حتى يبين لهم الحدود والفرائض ، فإذا تركوا ذلك ولم يروه حقاً ، عذبهم الله تعالى ونزع عنهم المعرفة . ويقال : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً } على الابتداء { حتى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } فيصيروا فيه ضلالاً . وهذا طريق المعتزلة والطريق الأول أصح وبه نأخذ .
ثم قال : { أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } ، يعني : عليم بكل ما يصلح للخلق . ثم قال : { أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ *** السموات والارض } ، يعني : يحكم فيهما بما يشاء من الأمر بعد الأمر ، يأمر بأمر ثم بغيره ما يشاء . { لاَ إله } ، يعني : يحيي الموتى ويميت الأحياء . { وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله } ، يعني : من عذاب الله تعالى { مِن وَلِىّ } ، يعني : من قريب ينفعكم { وَلاَ نَصِيرٍ } ، يعني : مانعاً يمنعكم . وقال الكلبي : { لاَ إله } يعني : في السفر ويميت في الحضر ، يعني : إن هذا ترغيب في الجهاد لكي لا يمتنعوا مخافة القتل .
قوله تعالى : { لَقَدْ تَابَ الله على النبى } ، أي تجاوز عن النبي صلى الله عليه وسلم إذنه للمنافقين بالتخلف ، كقوله : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين } [ التوبة : 43 ] ويقال : { لَقَدْ تَابَ الله على النبى } يعني : غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، كما ذكر في أول سورة الفتح . ثم قال : { والمهاجرين والانصار } ، يعني : تجاوز عنهم ذنوبهم ، لما أصابهم من الشدة في ذلك الطريق .
ثم نعتهم فقال : { الذين اتبعوه فِى سَاعَةِ العسرة } ، يعني : وقت الشدة في غزوة تبوك كانت لهم العسرة في أربعة أشياء عسرة النفقة والركوب والحر والخوف { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ } ، يعني : تميل قلوب طائفة منهم عن الخروج إلى الغزو ، ويقال : من بعد ما كادوا أن يرجعوا من غزوتهم من الشدة . ويقال : هم قوم تخلفوا عنه ، ثم خرجوا فأدركوه في الطريق . { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } ، يعني : تجاوز عنهم . { إِنَّهُ بِهِمْ * رَءوفٌ ***** رَّحِيمٌ } ، حين تاب عليهم . قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص { يَزِيغُ قُلُوبُ } بالياء بلفظ المذكر ، والباقون بالتاء بلفظ التأنيث . والتأنيث إذا لم يكن خفيفاً ، جاز التذكير والتأنيث ، لأن الفعل مقدم فيجوز التذكير والتأنيث .

وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)

قوله : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ } ، يعني : وتاب على الثلاثة ، وهم كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية . قال الفقيه : سمعت أبي رحمه الله يذكر بإسناده ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه قال : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها ، حتى كانت غزوة تبوك إلا بدراً ، فلم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحداً تخلف عن بدر ، إنَّما خرج يريد العير فخرجت قريش معينين لعيرهم ، فالتقوا على غير موعد . ثم لم أتخلف عن غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها ، فأذن للناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوتهم ، وذلك حين طابت الظلال وطابت الثمار ، وكان كل ما أراد غزوة إلا ورّى بغيرها ، وكان يقول : «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» ، فأراد في غزوة تبوك أن يتأهب الناس أهبتهم ، وأنا أيسر ما كنت قد جمعت راحلتين ، وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد وخفة الحال ، وأنا في ذلك أصبو إلى الظلال وطيب الثمار .
فلم أزل كذلك ، حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم غازياً بالغداة ، وذلك يوم الخميس . وكان يحب أن يخرج الناس يوم الخميس ، فأصبح غادياً ، فقلت : انطلق غادياً إلى السوق غداً فأشتري ثم ألحق بهم ، فانطلقت إلى السوق من الغد فعسر عليّ بعض شأني ، فرجعت فقلت : أرجع غداً إن شاء الله . فألحق بهم ، فعسر عليّ بعض شأني فلم أزل كذلك ، حتى التبس بي الريب وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف في المدينة ، فيحزنني أن لا أرى أحداً تخلف إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق . وكان الجميع من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وثمانين رجلاً ، ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فلما بلغ تبوك قال : " فَمَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ " فقال رجل من قومي : خلفه يا رسول الله حسن برديه والنظر إلى عطفيه . فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت يا هذا ، والله يا نبي الله ما نعلم منه إلاَّ خيراً .
فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك ، وقفل ودنا من المدينة ، جعلت أتذكر بماذا أخرج من سخطة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ذي رأي من أهلي ، حتى إذا أقبل النبي صلى الله عليه وسلم راح عني الباطل وعرفت ألا أنجو إلاَّ بالصدق . ودخل النبي صلى الله عليه وسلم ضحى ، فصلى في المسجد ركعتين . وكان إذا جاء من السفر فعل ذلك ، فدخل المسجد وصلى ركعتين ، ثم جلس فجعل يأتيه من تخلف فيحلفون له ويعتذرون إليه ، ويستغفر لهم ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى .

فدخلت المسجد ، فإذا هو جالس فلما رآني تبسَّم تبسُّم المُغضب ، فجئت فجلست بين يديه . فقال : « أَلَمْ تَكُنِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ » فقلت بلى يا نبي الله . فقال : « ما خَلَّفَكَ » فقلت : والله لو أني بين أحد من الناس غيرك جلست ، فخرجت من سخطه عليّ بعذر ، ولقد أوتيت جَدَلاً ، ولكني قد علمت يا رسول الله أني لو أخبرتك اليوم بما تجد عليّ فيه وهو حق ، فإني أرجو فيه عفو الله ، وإن حدثتك حديثاً ترضى علي فيه وهو كذب ، أوشك الله أن يطلعك عليّ . والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخف حالاً حين تخلفت عنك . قال : « أمَّا هذا فَقَدْ صَدَقَكُمْ الحَدِيثَ قُمْ حَتَّى يَقْضِيَ الله فِيكَ » . فقمت فسار على أثري ناس من قومي يؤنبونني وقالوا : والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قط قبل هذا ، فهلا اعتذرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما يرضى عنك ، فكان استغفاره سيأتي من وراء ذلك ولم تقف نفسك موقفاً لا تدري ما يقضى لك فيه .
فلم يزالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي ، فقلت : هل قال هذا القول أحد غيري؟ قالوا : نعم فقلت : من هو؟ فقالوا : هلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدراً ، لي فيهما أسوة ، فقلت : والله لا أرجع إليه في هذا أبداً ، ولا أكذب نفسي . قال : فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا الثلاثة . قال : فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد ، وتنكر لنا الناس حتى ما هم بالذين نعرفهم ، وتنكرت لنا الأرض ، حتى ما هي بالتي نعرف .
وكنت أقوى أصحابي ، فكنت أخرج وأطوف بالأسواق وآتي المسجد وآتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وأقول : هل حرك شفتيه بالسلام . فإذا قمت أصلي إلى سارية ، فأقبلت على صلاتي ، نظر إلي بمؤخر عينيه ، فإذا نظرت إليه ، أعرض عني . واستكان صاحباي فجعلا يبكيان الليل والنهار ، ولا يطلعان رؤوسهما فبينما أنا أطوف بالسوق ، إذا برجل نصراني جاء بطعام له يبيعه يقول : من يدلني على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون إليّ ، فأتاني وأتاني بصحيفة من ملك غسان وإذا فيها : أما بعد ، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك ، ولست بدار مضيقة ولا هوان ، فالحق بنا نواسيك . فقلت : هذا أيضاً من البلاء ، يعني : الدعوة إلى الكفرَ فسجَّرْت لها التنور فأحرقتها فيه .
فلما مضت أربعون ليلة ، إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتاني فقال : « اعْتَزِل امْرَأَتَكَ » . فقلت : أطلقها؟ فقال : « لا ، ولكن لا تَقْرَبْهَا » . فجاءت امرأة هلال بن أمية ، فقالت : يا نبي الله إن هلالاً شيخ ضعيف ، فهل تأذن لي أن أخدمه؟ قال :

« نَعَمْ ، ولكن لا يَقْرَبَنَّكِ » . فقالت : يا نبي الله ، والله ما به حركة من شيءٍ ، ما زال مكباً يبكي الليل والنهار منذ كان من أمره ما كان . قال كعب : فلما طال علي البلاء ، اقتحمت على أبي قتادة حائطه ، وهو ابن عمي ، فسلمت عليه فلم يرد عليّ جواباً ، فقلت : أنشدك الله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسولهُ؟ فسكت ثم قلت أنشدك بالله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسوله؟ حتى عاودته ثلاث مرات قال : الله ورسوله أعلم فلم أملك نفسي أن بكيت ، ثم اقتحمت الحائط خارجاً .
حتى إذا مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا ، صليت على ظهر بيت لنا صلاة الفجر ، ثم جلست وأنا في المنزلة التي قال الله تعالى : { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } إذ سمعت نداء من ذروة سلع اسم جبل أن أبشر يا كعب بن مالك ، فخررت ساجداً ، وعرفت أن الله تعالى قد جاء بالفرج . ثم جاء رجل يركب على فرس ، يركض يبشرني ، فكان الصوت أسرع من فرسه ، فأعطيته ثوبي بشارة ولبست ثوبين آخرين ، وانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وجعل الأنصار يستقبلونني فوجاً فوجاً ويهنئونني ويبشرونني . ولم يقم أحد من المهاجرين غير طلحة بن عبيد الله ، قام وتلقاني بالتهنئة ، فما نسيت ذلك منه .
وانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر وكان إذا سُرَّ بالأمر ، استنار وجهه كالقمر ، فجئت فجلست بين يديه فقال : « أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بِخَيْرِ يَوْمٍ أَتَى عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أمُّكَ » . فقلت : يا نبي الله أمن عندك أم من عند الله؟ قال : « بل من عند الله » قوله تعالى : { لَقَدْ تَابَ الله على النبى والمهاجرين والانصار } إلى قوله : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ } الآية . فقلت : يا نبي الله ، إن من توبتي ألا أحدث إلاَّ صدقاً ، وأن أنخلع من مالي كله صدقة لله ورسوله . قال : « أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك » . قال : فما أنعم الله عليّ نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدقته أنا وصاحباي ، ألا نكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا . وإني لأرجو ألا يكون الله أبلى أحداً في الصدق كما أبلاني ما تعمدت لكذبة قط وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي .
وروى الزهري عن كعب بن مالك قال : كانت توبتنا نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ثلثا الليل ، فقالت أم سلمة : يا نبي الله ألا نبشر كعباً بن مالك؟ قال :

« إذاً يَحْطِمَنَّكُمْ النَّاسُ وَيَمْنَعُونَكُمْ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ » . وكانت أم سلمة محسنة في شأني ، تحزن بأمري وذلك قوله تعالى : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ } يعني : وتاب الله على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك . ويقال { وَعَلَى الثلاثة الذين } عن التوبة ، يعني : أبا لبابة { خُلّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارض بِمَا رَحُبَتْ } ، يعني : بسعتها ، { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } ، يعني : ضاقت قلوبهم ، { وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله } ، يعني : علموا وأيقنوا أن لا مفر من عذاب الله { إِلاَّ إِلَيْهِ } ، يعني : إلا بالتوبة إليه { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ } ، يعني : يتجاوز عنهم حتى تابوا ويقال : أكرمهم فوفقهم للتوبة كي يتوبوا . ويقال : تاب عليهم ليتوب من بعدهم ويقتدي بهم . { إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم } ، يعني : المتجاوز لمن تاب ، الرحيم بهم بعد التوبة .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)

قوله تعالى : { مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله } ، يعني : اخشوا الله ولا تعصوه ، يعني : من أسلم من أهل الكتاب . { وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } ؛ قال الضحاك : يعني : مع الذين صدقت نياتهم ، واستقامت قلوبهم وأعمالهم ، وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو بإخلاص ونية ، ويقال : هذا الخطاب للمنافقين الذين كانوا يعتذرون بالكذب ، ومعناه : يا أيها الذين آمنوا في العلانية اتقوا الله ، وكونوا مع الثلاثة الذين صدقوا .
وروي عن كعب بن مالك أنه قال : فينا نزلت : { وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } وقال الكلبي : يعني : الأنصار والمهاجرين الذين صلوا القبلتين ، وقال مقاتل : الذين وصفهم الله تعالى في آية أخرى : { إِنَّمَا المؤمنون الذين ءَامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حتى يَسْتَأذِنُوهُ إِنَّ الذين يَسْتَأذِنُونَكَ أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ واستغفر لَهُمُ الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور : 62 ] الآية ويقال : { مَعَ الصادقين } في إيمانهم ، يعني : أبا بكر وعمر وعثمان وعليّاً رضوان الله عليهم حدثنا الفقيه أبو جعفر قال : حدثنا أبو بكر القاضي قال : حدثنا أحمد بن جرير قال : حدثنا قتيبة قال : حدثنا عبد الرحمن البخاري ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } قال : أمروا أن يكونوا مع أبي بكر وعمر وأصحابهما رضي الله عنهم .
قوله تعالى : { مَا كَانَ لاهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الاعراب } ، يعني : المنافقين الذين بالمدينة وحوالي المدينة . { أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله } في الغزو { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } ، يعني : لا ينبغي أن يكونوا بأنفسهم أبرّ وأشفق من نفس محمد صلى الله عليه وسلم . وأن يتركوا محبته ، ويقال : { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ } ، يعني : بإبقاء أنفسهم على نفسه ، يعني : ينبغي لهم أن يتبعوه حينما يريد . { ذلك } ، يعني : النهي عن التخلف ، ويقال : ذلك التحضيض الذي حضّهم عليه . { بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ } في غزوهم { ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ } ، يعني : ولا تعب ولا مشقة في أجسادهم . ثم قال : { وَلاَ مَخْمَصَةٌ } ، يعني : مجاعة . { فِى سَبِيلِ الله وَلاَ *** يَطَأُونَ مَوْطِئًا } ، يعني : أرضاً وموضعاً من سهل أو جبل . { يَغِيظُ الكفار } ، يعني : يحزن الكفار ، { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً } ، يعني : لا يصيبون من عدو قتلاً أو غارة أو هزيمة ، { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } ، يعني : ثواب عمل صالح ، يعني : يضاعف حسناتهم على حسنات القاعدين { إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } ، يقول : لا يبطل ثواب المجاهدين . وفي هذه الآية دليل أن ما أصاب الإنسان من الشدة يكتب له بذلك ثواب قال بعضهم : لا يكتب له بالشدة ثواب ، ولكن يحط عنه الخطيئة ، وقال بعضهم : لا يكون بالمشقة أجر ، ولكن بالصبر على ذلك .
ثم قال عز وجل : { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً } في الجهاد { صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } ، يعني : قليلاً ولا كثيراً . { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا } من الأودية مقبلين إلى العدو أو مدبرين { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } يعني كتب لهم ثواب { لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يقول : ليجزيهم بأعمالهم؛ ويقال يجزيهم أحسن من أعمالهم ، لأنه يعطي بحسنة واحدة عشرة ، إلى سبعمائة ، إلى ما لا يدرك حسابه ، ويقال : ليجزيهم بأحسن أعمالهم ويصبر سائر أعمالهم فضلاً .

وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

قوله : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } ، روي عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } ، يعني : ما كان للمؤمنين لينفروا جميعاً ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده بالمدينة . { فَلَوْلاَ نَفَرَ } ، يقول : فهلا خرج { مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ } ، يعني : عصبة من جماعة ، ويقم طائفة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، { لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدين } ، يعني : ليتعلموا العلم وشرائع الدين . فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن وتعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم ، فيعلمونهم ويقولون : إن الله تعالى قد أنزل على نبيكم بعدكم كذا وكذا؛ وهذا قوله : { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ، يعني : يتعظون بما أمروا ونهوا عنه .
ولها وجه آخر ، وهو ما روي أيضاً ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن طلحة ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما دعا على مضر بالسنين ، أجدبت بلادهم . وكانت القبيلة تقبل بأسرهم ، حتى يلحقوا بالمدينة ويعلنوا بالإسلام وهم كاذبون ، فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم ، فأنزل الله تعالى يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا بمؤمنين ، فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عشائرهم وحذَّر قومهم أن يفعلوا فعلهم بعد ذلك ، وهو قوله : { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } .
وروى أسباط بن السدي قال : أقبلت أعراب هذيل وأصابتهم مجاعة ، واستعانوا بتمر المدينة وأظهروا الإسلام ، وكانوا يفخرون على المؤمنين ، فيقولوا : نحن أسلمنا طائعين بغير قتال وأنتم قوتلتم ، فنحن خير منكم ، فآذوا المؤمنين ، فأنزل الله تعالى فيهم يخبرهم بأمرهم قال : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } أي جميعاً { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ } يعني : من كل بطن طائفة . فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعوا كلامه ، ثم رجعوا إلى قومهم فأخبروهم { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } يعني : يتعظون فيعملون به ولا يعملون بخلافه . وفي هذه الآية دليل أن أخبار الآحاد مقبولة ويجب العمل بها لأن الله تعالى أخبر أن الطائفة من الفرقة ، إذا تفقهت في الدين وأنذرت قومهم ، صحّ ذلك . ولفظ الطائفة يتناول الواحد والأكثر لأن أقل الفرقة اثنان ، والطائفة من الاثنين واحد .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)

قوله : { يَحْذَرُونَ ياأيها الذين ءامَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار } ، يعني : ما حولكم وبقربكم ، وهم بنو قريظة والنضير وفدك وخيبر ، فأمر الله تعالى كل قوم بأن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار . قال أبو جعفر الطحاوي : منع الله تعالى نبيه عن قتال الكفار بقوله : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } ثم أباح قتال من يليه بقوله : { قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار } ، ثم أباح قتال جميعهم بقوله : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَءاتَوُاْ الزكواة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 5 ] { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } ، يعني : معين لهم ينصرهم على عدوهم .
قوله تعالى : { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { فَمِنْهُمْ } ؛ أي من المنافقين { مَن يِقُولُ } بعضهم لبعض : { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه } السورة { إيمانا } ، يعني : تصديقاً بهذه السورة مع تصديقكم استهزاء بها . قال الله تعالى : { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ } يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، { فَزَادَتْهُمْ إيمانا } : يعني : تصديقاً بهذه السورة مع تصديقهم بالله تعالى وثباتاً على الإيمان . { وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } ، يفرحون بما أنزل من القرآن .
قال الفقيه : حدثنا محمد بن الفضل ، وأبو القاسم الشنابازي قالا : حدثنا فارس بن مردويه قال : حدثنا محمد بن الفضل العابد قال : حدثنا يحيى بن عيسى قال : حدثنا أبو مطيع ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي المهزم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان يزيد وينقص؟ قال : « لا ، الإيمانُ مُكَمَّلٌ فِي القَلْبِ . زِيَادَتُهُ وَنُقْصَانُهُ كُفْرٌ » . قال الفقيه : حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي قال : حدثنا أبو عمران المؤدب الدستجردي قال : حدثنا صخر بن نوح قال : حدثنا مسلم بن سالم ، عن ابن الحويرث ، عن عون بن عبد الله قال : سمعت عمر بن عبد العزيز يقول في خطبته : لو كان الأمر على ما يقول الشكاك الضلال؛ إن الذنوب تنقص الإيمان ، لأمسى أحدنا حين ينقلب إلى أهله وهو لا يدري ما ذهب من إيمانه أكثر أو أبقى .
{ وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } ، يعني : شك ونفاق ، { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } ، قال الكلبي : شكاً إلى شكهم ، وقال مقاتل : إثماً على إثمهم ، وقال القتبي : أصل الرجس النتن ، ثم قد سمي الكفر والنفاق رجساً لأنهما نتن . { وَمَاتُواْ وَهُمْ كافرون } ، يعني : ماتوا على الكفر ، لأنهم كانوا كفاراً في السر ، ولم يكونوا مؤمنين في الحقيقة .

أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)

{ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ } ؛ قرأ حمزة : { أَوْ لاَ تَرَوْنَ } بالتاء؛ ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقرأ الباقون بالياء ، يعني : المنافقون ولا يعتبرون . { أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ } ، يقول يبتلون بإظهار ما في صدورهم من النفاق في كل عام . { مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ } من نفاقهم وكفرهم في السر ، { وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } ، يعني : لا يتعظون ولا يتفكرون . قال الكلبي : كانوا ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين ، فيعاقبون ثم يتوبون عن نقض العهد ، وقال مقاتل : وذلك أنهم إذا خلوا ، تكلموا بما لا يحل لهم . فإذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، أخبرهم بما تكلموا به ، فيعرفون أنه نبي . ثم يأتيهم الشيطان فيحدثهم أنه يخبرهم بما بلغه عنهم ، فيشكون فيه ، فذلك قوله : { يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } ، يعني : يعرفون مرة أنه نبي وينكرون مرة أُخرى { ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ } عن ذلك { وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } فيما أخبرهم ، ويقال : { يُفْتَنُونَ } يعني : يبتلون بالأمراض والأسقام ، ويعاهدون الله : لو زال عنا لفعلنا كذا وكذا ، ثم لا يفون به ولا يتوبون من النفاق { وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي لا يتعظون بما أنزل عليهم .
قوله : { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل سورة براءة ، فيها عيب المنافقين ، { نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } ؛ ويتغامزون ويقولون فيما بينهم : { هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ } من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا رآهم أحد قاموا وصلوا ، وإن لم يرهم أحد لم يصلوا . قال تعالى : { ثُمَّ انصرفوا } ، يعني : خرجوا من المسجد ، ويقال : انصرفوا من الإيمان . { صَرَفَ الله قُلُوبَهُم } عن الإيمان ، وعزل قلوبهم عن الفهم بخروجهم من المسجد وانصرافهم عن الإيمان ، ويقال : هذا على وجه الدعاء واللعن ، كقوله : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بأفواههم يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قاتلهم الله أنى يُؤْفَكُونَ } [ التوبة : 30 ] ؛ ويقال : هذا على معنى التقديم ، ومعناه صرف الله قلوبهم ، لأنهم انصرفوا عن الإيمان . ويقال : هذا على معنى التقديم ، ومعناه صرف الله قلوبهم ، لأنهم انصرفوا عن الإيمان . { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } أمر الله تعالى .

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

قوله : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } ، قال مقاتل : يعني : أهل مكة قد جاءكم رسول من أنفسكم تعرفونه ولا تنكرونه؛ ويقال : هذا الخطاب لجميع العرب { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم { مّنْ أَنفُسِكُمْ } يعني : من جميع العرب ، لأنه لم يكن في العرب قبيلة إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيها قرابة . وهذا من المجاز والاستعارة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم ولم يجىء من موضع آخر ، معناه ظهر فيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ويقال : هذا الخطاب لجميع الناس { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } يعني : آدمياً مثلكم قرأ بعضهم { مّنْ أَنفُسِكُمْ } بنصب الفاء يعني : من أشرفكم وأعزكم ، وهي قراءة شاذة .
ثم قال تعالى : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } ، يعني : شديد عليه ما أثمتم وعصيتم { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } ، قال الكلبي : يعني : على إيمانكم؛ وقال مقاتل : حريص عليكم بالرشد والهدى؛ وقال قتادة : حريص على من لم يسلم أن يسلم . ثم قال : { بالمؤمنين * رَءوفٌ ***** رَّحِيمٌ } ، أي رفيق بجميع المؤمنين ، رحيم بهم .
ثم قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } ، يعني : إن أعرضوا عنك ولم يؤمنوا بك ، { فَقُلْ حَسْبِىَ الله } يعني قل : كفاني الله وفوضت أمري إلى الله ووثقت به . { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } ، يعني : لا ناصر ولا رازق ولا معين إلاّ هو . { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } ، يعني : به أثق { وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم } ، يعني : خالق السرير العظيم أعظم من السموات والأرض . وقرأ بعضهم { العظيم } بالرفع فجعل العظيم من نعت الله تعالى ، وقراءة العامة { العظيم } بالخفض ويكون العظيم نعتاً للعرش .
وذكر عن عثمان بن عفان أنه لما جمع القرآن في المصحف ، كان لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد بها رجلان ، فجاء خزيمة بن ثابت بهاتين الآيتين { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ } إلى آخر السورة ، فلم يطلب منه البينة وأثبته في المصحف . وروي عن حذيفة أنه قال : يسمون سورة براءة سورة التوبة وهي سورة العذاب . عن ابن عباس أنه قال : كنا نسميها الفاضحة ، فما زالت تنزل في المنافقين ومنهم ، حتى أشفق كل واحد على نفسه؛ والله أعلم بالصواب .

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)

قوله تعالى : { الر } ؛ قال ابن عباس : يعني : أنا الله أرى من العرش إلى الثرى ، فهل يرى أحد مثل ما أرى ، وهكذا عن الضحاك . وقد ذكرنا تفسير الحروف في أول سورة البقرة . قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم في رواية أبي بكر { الر } بإمالة الراء وقرأ ابن كثير ، وحفص بنصب الراء ، وقرأ نافع بين ذلك .
{ تِلْكَ ءايات الكتاب } : يعني : هذه آيات الكتاب الذي أنزل عليك يا محمد ، تلك الآيات التي وعدتك يوم الميثاق أو أوحينا إليك الكتاب . { الحكيم } ؛ قال مقاتل : يعني : المحكم من الباطل ، لا كذب فيها ولا اختلاف . وقال الكلبي : يعني : بما حكم ، أحكم بحلاله وحرمته ويقال : { الحكيم } يعني : الحاكم على الكتب كلها؛ ويقال : { تِلْكَ ءايات } يعني : حجج وبراهين وهي التي احتج بها النبي صلى الله عليه وسلم على دعواه .
ثم قال : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا } ، لأن أهل مكة كانوا يتعجبون ويقولون { أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً } فنزل : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ } ؛ يقول : أعجب أهل مكة أن أختار عبداً من عبيّدي وأرسله إلى عبادي من جنسهم وحسبهم ، حتى يقدروا أن ينظروا إليه يعرفونه ولا ينكرونه؟ ثم بيَّن ما أوحى الله تعالى إليه فقال : { أَنْ أَنذِرِ الناس } ، يعني : خوف أهل مكة بما في القرآن من الوعيد؛ ويقال : في الآية تقديم ، ومعناه تلك آيات الكتاب الحكيم للناس ، أكان عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس؟ وقال غلبة المفسرين على ظاهر التنزيل . ثم قال : { وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ } ، أي بما في القرآن من الثواب في الجنة . { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ } ، قال مقاتل : يعني : بأن أعمالهم التي قدموها بين أيديهم سلف خير عند ربهم وهي الجنة ، وقال ابن عباس : يعني : الصحابة عند ربهم وهي الجنة . وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : يعني : شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، لهم شفيع صدق عند ربهم؛ وقال الحسن : هي رضوان الله في الجنة؛ وقال القتبي : يعني : عَمَلاً صالحاً قدموه .
{ قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لساحر مُّبِينٌ } ؛ قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر { لساحر } بغير ألف ، يعني : إن هذا القرآن لسحر مبين ، كذب ظاهر ، قرأ الباقون : { لساحر مُّبِينٌ } . فإن قيل : إنما قال الكفار هذا القول ، فما الحكمة في حكاية كلامهم في القرآن؟ قيل : الحكمة فيه من وجوه أحدها أنهم كانوا يقولون قولاً فيما بينهم ، فيظهر قولهم عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان في ذلك علامة لنبوته لمن أيقن به؛ والثاني : أن في ذلك تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على ذلك ، كما قال : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ } ، والثالث : أن في ذلك تنبيهاً لمن بعده أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ولا يمتنع بما يسمع من المكروه .

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)

قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والارض **فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } ؛ وقد ذكرناه ثم قال : { يُدَبّرُ الامر } ، يعني : يقضي القضاء وينظر في تدبير الخلق . وروى الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن ابن سابق قال : يدبر أمر الدنيا أربعة : جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل . أما جبريل ، فعلى الرياح والوحي والجنود ، وأما ميكائيل ، فعلى النبات والمطر ، وأما ملك الموت ، فعلى الأنفس؛ وأما إسرافيل ، فينزل إليهم بما يؤمرون . { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } ، لأن الكفار كانوا يعبدون الأصنام ويقولون : هم شفعاؤنا عند الله ، وبعضهم كانوا يعبدون الملائكة فأخبر الله تعالى أنه لا شفاعة لأحد إلاَّ بإذن الله تعالى؛ ويقال : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } يعني : لا يشفع أحد لأحد يوم القيامة من الملائكة ولا من المرسلين ، إلا من بعد إذنه في الشفاعة لهم .
{ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ } ، يعني : الذي يفعل هذا من خلق السموات والأرض وتدبير الخلق هو ربكم وخالقكم ، { فاعبدوه } ؛ فدل أولاً على وحدانيته وتدبيره ، ثم أمرهم بالتوحيد والطاعة فقال : { فاعبدوه } ، يعني : وحدوه وأطيعوه . { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ، يعني : أفلا تتعظون بالقرآن؟ ويقال : أفلا تتعظون بأن لا تعبدوا من لا يملك شيئاً ، وتعبدون من يملك الدنيا وما فيها؟ قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص { تَذَكَّرُونَ } بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد ، لأن أصله تتذكرون فأدغم إحدى التاءين في الذال وأقيم التشديد مقامه .
ثم خوفهم فقال : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } ، يعني : مرجع الخلائق كلهم يوم القيامة . { وَعْدَ الله حَقّا } ، يعني : البعث كائناً وصدقاً . وقال الزجاج : { وَعَدَ الله } صار نصباً على معنى وعدكم الله وعداً ، لأن قوله { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } معناه الوعد بالرجوع . { أَنَّهُ * الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } ؛ قال أهل اللغة : الياء صلة ومعناه إنه بدأ الخلق ثم يعيده ، يعني : خلق الخلق في الدنيا ثم يحييهم بعد الموت يوم القيامة ، { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } ؛ يعني : لكي يثبت الذين آمنوا بالبعث بعد الموت ، { وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط } ؛ يعني : عملوا الطاعات بالعدل وقال الضحاك : يعني : الذين قاموا بالعدل وأقاموا على توحيده ، يعطيهم من رياض الجنة حتى يرضوا .
{ والذين كَفَرُواْ } ، يعني : ويجزي الذين كفروا . ثم بينّ جزاءهم ، فقال : { لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ } ، يعني : ماءً حاراً قد انتهى حره ، { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } ؛ يعني : يجحدون الرسالة والكتاب .
ثم ذكَّرهم النعم ، لكي يستحيوا منه ولا يعبدوا غيره ، فقال تعالى : { هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء } بالنهار { والقمر نُوراً } بالليل ، ويقال : جعل الشمس ضياء مع الحر والقمر نوراً بلا حر ، { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } ؛ يعني : جعل الليل والنهار منازل يزيد أحدهما وينقص الآخر ، ولا يجاوزان المقدار الذي قدره؛ ويقال { قَدْرِهِ } يعني : القمر منازل كل ليلة بمنزلة من النجوم ، وهي ثمانية وعشرون منزلاً في كل شهر .

وهذا كقوله { والقمر قدرناه مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم } [ يس : 39 ] { لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } ؛ يعني : لتعلموا بالقمر حساب السنين والشهور ، كقوله تعالى { يَسْألُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ البقرة : 189 ] .
ثم قال : { مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق } ، يعني : لتعلموا عدد السنين والحساب ، وتعتبروا وتعلموا أن له خالقاً ومدبراً وهو قادر على أن يحيي الموتى . ثم قال : { يُفَصّلُ الآيات } ، يعني : يبيِّن العلامات ، يعني : علامة وحدانيته { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ، يعني : لمن كان له عقل وذهن وتمييز . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية حفص { يُفَصّلُ الآيات } بالياء ، وقرأ الباقون بالنون؛ ومعناهما قريب .

إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)

قوله تعالى : { إِنَّ فِى اختلاف اليل والنهار } ؛ وذلك أن أهل مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ائتنا بعلامة كما أتت بها الأنبياء قومهم ، فنزل : { إِنَّ فِى اختلاف اليل والنهار } يعني : في مجيء الليل وذهاب النهار ، ومجيء النهار وذهاب الليل ، ما يأخذ النهار من الليل وما يأخذ الليل من النهار ، { وَمَا خَلَقَ الله فِى * السموات والارض } ، من العجائب ، يعني : فيما خلق الله { ءايات } ، يعني : لعلامات { لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } الله تعالى ويخشون عقوبته؛ ويقال : لقوم يتقون الشرك .
ثم قال تعالى : { إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } ، يعني : لا يخافون البعث بعد الموت؛ ويقال : لا يرجون ثوابنا بعد الموت . { وَرَضُواْ بالحياة الدنيا } ، يعني : اختاروا ما في الحياة الدنيا ، يعني : على ثواب الآخرة { واطمأنوا بِهَا } ، يقول : ورضوا بها وسكنوا إليها وآثروها وفرحوا بها . { والذين هُمْ عَنْ ءاياتنا غافلون } ، يعني : عن محمد والقرآن معرضون فلا يؤمنون؛ ويقال : تاركين لها ومكذبين بها ، ويقال : لم يتفكروا فيها . قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النار } ، يعني : أهل هذه الصفة مصيرهم إلى النار { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ، يعني : جزاء لكفرهم وتكذيبهم .
ثم أنزل فيما أعدّ للمؤمنين ، فقال : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } ؛ وقال مقاتل : يهديهم على الصراط إلى الجنة بالنور بإيمانهم ، يعني : بتوحيدهم الله تعالى في الدنيا؛ وقال الضحاك : يدعوهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة؛ وقال الكلبي نحو هذا . ويقال هذا على معنى التقديم ، ومعناه إن الذين يهديهم ربهم بإيمانهم حتى آمنوا وعملوا الصالحات ، ويقال : يهديهم ربهم في الدنيا ، يعني : يثبتهم على الإيمان ويدخلهم في الآخرة الجنة بإيمانهم؛ ويقال : ينجيهم ربهم بإيمانهم؛ وقال الحسن : يرحمهم ربهم بإيمانهم .
ثم قال : { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانهار فِي جنات النعيم } يتنعمون فيها . ثم قال : { دعواهم فِيهَا } ، يعني : قولهم في الجنة : { سبحانك اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } ، يعني : فهذه علامة بينهم وبين خدمهم في الجنة ، فإذا قالوا هذه المقالة جاءهم الخدام بالموائد بين أيديهم وأوتوا بما يشتهون ، فإذا فرغوا من الطعام قالوا الحمد لله رب العالمين ، فذلك قوله تعالى : { دعواهم فِيهَا سبحانك اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } ؛ يعني : وآخر قولهم بعد ما فرغوا من الطعام أن يقولوا الحمد لله رب العالمين { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } على معنى التقديم ، وقال الضحاك : في قوله عز وجل : { دعواهم فِيهَا } وذلك أن أهل الجنة إذا دخلوا القيامة وصاروا إلى الجنة يكون فاتحة كلامهم سبحانك اللهم على ما مننت به علينا ، وتحيتهم فيها سلام؛ يقول : يسلم عليهم الملائكة من الله تعالى؛ ويقال : يسلم بعضهم على بعض؛ ويقال : يسلمون على الله تعالى ، ويقال : تحيتهم لله تعالى بالسلام ، كقوله { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } [ الأحزاب : 44 ] { دعواهم فِيهَا } ، يعني : بعدما رأوا من الكرامات وبعد ما أكلوا من الطعام ، حمدوا الله تعالى على ما أعطاهم من الخير .

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)

قوله تعالى : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير } ، قال مقاتل : وذلك حين تمنى النضر بن الحارث العذاب ، فنزل قوله : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر } يقول : لو استجيب لهم في الشر استعجالهم بالخير ، كما يحبون أن يستجاب لهم في الخير . { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } في الدنيا بالهلاك؛ وقال مجاهد والضحاك والكلبي : ولو يعجل الله للناس الشر ، يعني : العقوبة ، إذا دعا على نفسه وولده وعلى صاحبته ، مثل : أخزاك الله ، ولعنك الله؛ كما يعجل لهم الخير إذا دعوه بالرحمة والرزق والعافية؛ لماتوا وهلكوا . وقال القتبي : هذا من الإضمار ومعناه { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر } ، يعني : إجابتهم بالشر { استعجالهم بالخير } ، يعني : كإجابتهم بالخير . وإنَّما صار { استعجالهم } نصباً على معنى مثل استعجالهم . قرأ ابن عامر { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } بالنصب ، يعني : لقضى الله أجلهم ، لأنه اتصل بقوله : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله } ، وقرأ الباقون { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } بالضم على معنى فعل ما لم يسم فاعله .
ثم قال : { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } ، يعني : نترك الذين لا يخافون البعث بعد الموت . { فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ } ، يعني : في ضلالهم يعمهون ، يعني : يتحيرون ويترددون قوله : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر } يقول إذا مس الكافر ما يكره من المرض والفقر والبلاء ، { دَعَانَا } ؛ يقول أخلص في الدعاء إلينا { لِجَنبِهِ } ، يعني : وهو مطروح على جنبه إذا اشتد به المرض ، { أَوْ قَاعِدًا } إذا كانت العلة أهون ، { أَوْ قَائِمًا } إذا بقي فيه أثر العلة؛ ويقال دعانا في الأحوال كلها مضطجعاً كان أَوْ قَائِماً أَوْ قَاعِداً . { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ } ، رفعنا عنه بلاءه ، { مَرَّ } ؛ يقول : استمر على ترك الدعاء ونسي الدعاء؛ ويقال : مرّ في العافية على ما كان عليه قبل أن يبتلى ولم يتعظ بما ناله . { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلى ضُرّ مَّسَّهُ } ، يعني : إلى بلاء أصابه قبل ذلك فلم يشكره؛ ويقال : معناه أَمِنَ من أن يصيبه مثل الضر الذي دعا فيه حين مسّه { كذلك زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، يعني : المشركين { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، يعني : بالدعاء عند الشدة وترك الدعاء عند الرخاء .
قوله : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ } ، يعني : أهلكناهم بالعذاب لما كذبوا الرسل وأقاموا على كفرهم ، خوَّف أهل مكة بمثل عذاب الأمم الخالية لكيلا يكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم . { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } ، يعني : بالآيات بالأمر والنهي . { وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } ، لم يصدقوا الرسل ولم يرغبوا في الإيمان؛ ويقال : وما كانوا ليصدقوا بنزول العذاب بما كذبوا من قبل يوم الميثاق . { كذلك نَجْزِى } ، يعني : نعاقب { القوم المجرمين } ، أي الكافرين .

ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)

قوله تعالى : { ثُمَّ جعلناكم خلائف } ، يعني : جعلناكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم { خلائف فِى الارض مِن بَعْدِهِم } ، يعني : من بعد هلاكهم ، { لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } . وهذا على معنى التهديد ، يعني : إنْ كانت معاملتكم مثل معاملتهم في تكذيب الرسل ، أهلكتكم كما أهلكت تلك القرون .
قوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ } ، يعني : القرآن ، { قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } ؛ يعني : كفار قريش لما سمعوا القرآن قالوا : { ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ } ، يعني : امحه وانسخه ، فإنا نجد فيه تحريم عبادة الأوثان وما نحن عليه . وهذا قول الضحاك؛ وقال الكلبي : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ } يعني : المستهزئين ، وكانوا خمسة رهط { قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } يعني : لا يخافون البعث بعد الموت { ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ } ائت يا محمد أو اجعل مكان آية الرحمة آية العذاب ومكان آية العذاب آية الرحمة؛ وقال الزجاج : معناه بقرآن ليس فيه ذكر البعث والنشور وليس فيه عيب آلهتنا ، أو بدل منه ذكر البعث والنشور .
{ قُلْ مَا يَكُونُ لِى } ، يعني : قل : ما يجوز لي { أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى } ؛ يقول من قبل نفسي . { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ } ، يعني : لا أعمل إلا ما أومر به وأنزل عليّ من القرآن . { إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } ، يعني : أعلم أني لو فعلت ما لم أؤمر به أصابني { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ، يعني : يوم القيامة . قال مقاتل والكلبي : نسختها { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً } [ الفتح : 2 ] يعني : ما قرأته ولا عرضته عليكم .
{ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ } ، أي ولا أعلمكم به ، ومعناه أن الله تعالى لو لم يجعلني رسولاً إليكم ما تلوته عليكم كما لم أتل عليكم قبل الوحي؛ ويقال : معناه لو رضي الله لكم ما أنتم عليه من الكفر والجهل ، ما بعثني إليكم رسولاً . قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، ونافع في رواية ورش والكسائي : { وَلاَ } بكسر الراء ، وقرأ الباقون بالنصب؛ وهما لغتان ومعناهما واحد . وعن الحسن أنه قرأ : { وَلاَ } بالتاء . قال أبو عبيدة : ما أرى ذلك إلا غلطاً منه في الرواية ، لأنه لا مخرج لها في العربية .
ثم قال : { بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ } ، يعني : إلى أربعين سنة من قبل هذا القرن ، فهل سمعتموني أقرأ شيئاً من هذا عليكم؟ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أَنِّي لم أتقوله من تلقاء نفسي ، ولكنه وحي الله من عنده ، لأنه لو كان من تلقاء نفسي لسمعتم مني قبل هذا شيئاً منه .

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)

قوله تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } ، يعني : من أشد في كفره ممن اختلق على الله كذباً أنّ معه شريكاً ، { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ } بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون } ، يعني : المشركون ، وقال الضحاك : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } يعني : مسيلمة الكذاب { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون } يعني : أتباعه وأشياعُه ونظراؤه .
قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } ، يعني : الأصنام ، { مَا لاَ يَضُرُّهُمْ } إن لم يعبدوها { وَلاَ يَنفَعُهُمْ } إن عبدوها { وَيَقُولُونَ هَؤُلاء } يعني : الأصنام { شفعاؤنا عِندَ الله } يشفعون لنا في الآخرة . { قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله } ، أتخبرون الله { بِمَا لاَ يَعْلَمُ } من الآلهة . { فِي السموات *** وَلاَ فِى الارض } ، يعني : الأصنام بأنها تشفع لأحد يوم القيامة ، ويقال : معناه أتخبرون الله بشفاعة آلهتكم أما علموا أنها لا تكون أبداً؟ ويقال : معناه أتشركون مع الله بجاهل لا يعلم ما في السموات ولا ما في الأرض .
ثم نزّه نفسه عن الولد والشريك ، فقال تعالى : { سبحانه } ، يعني : تنزيهاً له ، { وتعالى } ، يعني : ارتفع { عَمَّا يُشْرِكُونَ } من الآلهة؛ ويقال : معناه هو أعلى وأجل من أن يوصف له شريك قرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر { يُشْرِكُونَ } بالياء على معنى المغايبة ، وقرأ الباقون بالتاء على وجه المخاطبة .
ثم قال : { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } ؛ قال مقاتل : وما كان الناس إلاّ على ملة واحدة ، يعني : على عهد آدم وعلى عهد نوح من بعد الغرق كانوا كلهم مسلمين . { فاختلفوا } في الدين بعد ذلك . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال : { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } على عهداً آدم فاختلفوا حين قتل أحد بني آدم أخاه فتفرقوا مؤمناً وكافراً . وقال الكلبي : { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } كافرة على عهد إبراهيم فتقرقوا مؤمناً وكافراً . وقال الزجاج { وَمَا كَانَ الناس } يعني العرب . كانوا على الشرك قبل مجيء النَّبي صلى الله عليه وسلم ، فاختلفوا بعده ، فآمن بعضهم وكفر بعضهم . وقال الزجاج : وقيل أيضاً : { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } يعني : ولدوا على الفطرة واختلفوا بعد الفطرة .
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } ، لولا أنَّ الله جعل لهم أجلاً للقضاء بينهم { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } في وقت اختلافهم ، ويقال : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } في اللوح المحفوظ بأن لا يعجل بعقوبة العاصين ويتركهم لكي يتوبوا ، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } . وقال مقاتل : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } في الدنيا . وقال الكلبي : لولا أن الله تعالى أخبر هذه الأمة أن لا يهلكهم كما أهلك الذين من قبلهم لقضى بينهم في الدنيا { فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من الدين .

وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)

قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } ، وذلك حين قال عبد الله بن أمية : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارض يَنْبُوعًا } [ الإسراء : 90 ] وسألته قريش أن يأتيهم بآية ، فقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ } ، نزول الآية من عند الله تعالى : { فانتظروا } نزولها . { إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين } لنزولها ، ويقال : فانتظروا بي الموت إني معكم من المنتظرين لهلاككم .
قوله تعالى : { وَإِذَا أَذَقْنَا الناس } ، يعني : أصبنا الناس { رَحْمَةً } ، يعني : المطر ، ويقال : العافية ، { مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ } ، من بعد القحط ومن بعد الشدة والبلاء .
{ وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مّن } ، يعني : تكذيباً بالقرآن ، ويقال : تكذيباً بنعمة الله تعالى ، ويقولون : سقينا بنوء كذا ولا يقولون : هذا من رزق الله تعالى ، وقال القتبي : { وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مّن } يعني : قولهم بالطعن والحيلة ليجعلوا لتلك الرحمة سبباً آخر { قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا } ، يعني : أشد عذاباً وأشد أخذاً . { إِنَّ رُسُلَنَا } الحفظة { يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } ، يعني : الحفظة يكتبون ما تقولون من التكذيب .
قوله تعالى : { هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ فِى البر والبحر } ، يعني : يحملكم في البر على الدواب وفي البحر في السفن ، ويقال : هو الذي يحفظكم إذا سافرتم في بر أو بحر . قرأ ابن عامر { ***يَنْشُرُكُمْ } بالنون والشين من النشر ، يعني : يبثكم ، والقراءة المعروفة { الذى يُسَيّرُكُمْ } من التسيير يعني : يسهل لكم السير ، { حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك } ، يعني : في السفن ، { وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ } ؛ يقال للسفينة الواحدة جَرَتْ وللجماعة جَرَيْنَ . واسم الفلك يقع على الواحد وعلى الجماعة ، ويكون مذكراً إذا أريد به الواحد ومؤنثاً إذا أريد به الجماعة ، كقوله : { وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الفلك المشحون } [ يس : 41 ] وقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تَجْرِى فِى البحر بِمَا يَنفَعُ الناس وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرياح والسحاب المسخر بَيْنَ السمآء والأرض لآيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ] ذكرا بلفظ التأنيث مرة وبلفظ التذكير مرة . وفيه الدليل أن الكلام يكون بعضه على وجه المخاطبة وبعضه على وجه المغايبة ، كما قال هاهنا { حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك } بلفظ المخاطبة ثم قال : { وَجَرَيْنَ بِهِم } بلفظ المغايبة بِرِيحٍ { طَيّبَةً } ، يعني : لينة ساكنة ، { وَفَرِحُواْ بِهَا وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا } يعني : السفينة ، { رِيحٌ عَاصِفٌ } ؛ يعني : شديدة ، { وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ } ؛ يعني : من كل النواحي { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } ، يعني : علموا وأيقنوا أنه قد دنا هلاكهم . وقال القتبي : وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بالقرية ، يقال : دنا القوم من الهلكة ، قال الله تعالى : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ }

{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا } [ الكهف : 42 ] فصار ذلك كناية عن الهلاك؛ { دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } ، يعني : أخلصوا لله تعالى ، يعني : الدعاء وقالوا : { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه } ، يعني : من هذه الريح العاصف ، ويقال : من هذه الأهوال ، { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } ؛ يعني : الموحدين المطيعين . { فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ } ، يعني : يعصون { فِى الارض بِغَيْرِ الحق } ، يعني : الدعاء إلى غير عبادة الله تعالى والعمل بالمعاصي والفساد .
قوله تعالى : { الحق ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } ، يعني : إثم معصيتكم عليكم . وهذا كقوله : { مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بظلام لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] ويقال : مظالمكم فيما بينكم ، يعني : على أنفسكم أي جنايتكم عليكم ، وهذا كما يقال في المثل : المحسن سيجزى بإحسانه والمسيء يكفيه مساويه . يعني : وباله يرجع إليه . ثم قال : { مَّتَاعَ الحياة الدنيا } ، يعني : تمتعون فيها أيام حياتكم . { ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ } . ويقال : عبثكم في الدنيا قليل ، ويقال : عمر الدنيا في حياة الآخرة قليل { ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ } أي بعد الموت في الآخرة ، { فَنُنَبّئُكُمْ } ؛ يعني : نخبركم { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . قرأ عاصم في رواية حفص { متاع } بالنصب ويكون نصباً على المصدر ، ومعناه تمتعون متاع الحياة الدنيا ، وقرأ الباقون { متاع } بالضم ومعناه هو متاع الحياة .
ثم ضرب للحياة الدنيا مثلاً فقال : { إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا } ، يعني : في فنائها وبقائها ، { كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء } ، يعني : المطر ، { فاختلط بِهِ نَبَاتُ الارض } ، يعني : يدخل الماء في الأرض فينبت به النبات ، فاتصل كل واحد بالآخر فاختلط . { مِمَّا يَأْكُلُ الناس والانعام } ، يعني : مما يأكل الناس من الحبوب والثمار ، ومما تأكل الأنعام والدواب من العشب والكلأ .
{ حتى إِذَا أَخَذَتِ الارض زُخْرُفَهَا } ، يعني : زينتها ، { وازينت } ، يعني : حسنت بألوان النبات؛ وأصله تزينت فحذفت التاء وأقيم التشديد مقامها . وهذا كقوله { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقة } [ الحاقة : 3 ] وأصله تدارك . { وَظَنَّ أَهْلُهَا } ، يعني : وحسب أهل الزرع { أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا } ، يعني : على غلاتها وأنها ستتم لهم الآن . { أَتَاهَا أَمْرُنَا } ، يعني : عذابنا { لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا } ؛ قال أبو عبيدة : الحصيد المستأصل ، ويقال : الحصيد كحصيد السيف . { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالامس } ، يعني : صار كأن لم يكن بالأمس ، فكذلك الدنيا والإنسان يجمع المال ويشتري الضياع ويبني البنيان ، فيظن أنه قد نال مقصده ، فيأتيه الموت فيصير كأنه لم يكن أو رجل ولد له مولود . فإذا بلغ فظن أنه قد نال مقصوده ، فيموت ويصير كأنه لم يكن . { كذلك نُفَصّلُ الآيات } ، يعني : نبين علامات غرور الدنيا وزوالها ، لكيلا يغتروا ونبيِّن بقاء الآخرة ليطلبوها { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } بأمثال القرآن ويعتبرون بها .

وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)

قوله تعالى : { والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام } ، يعني : يدعو إلى عمل الجنة ، { وَيَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، وهو الدين القيم ، ويقال : إن عطاءه على قسمين خاص وعام ، فأما العطاء الخاص فالتوفيق والعصمة واليقين ، وأما العطاء العام فالصحة والنعمة والأمن . والدعوة هنا عامة والهداية خاصة ، فقد دعا جميع الناس بقوله : { والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام } ثم قال : { وَيَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فجعل الهداية خاصة لأنها فضله وفضل الله يؤتيه من يشاء . وقال قتادة : { والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام } والله هو السلام وداره الجنة . ويقال : السلام هو السلامة . وإنما سميت الجنة دار السلام ، لأنها سالمة من الآفات والأمراض وغير ذلك .
روى أبو أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « نَاَمَتْ عَيْنِي وَعَقَلَ قَلْبِي وَسَمِعَتْ أُذُنِي ، ثُمَّ قِيلَ لِي : إِنَّ سَيِّداً بَنَى دَاراً وَصَنَعَ مَائِدَةً وَأَرْسَلَ دَاعِياً ، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ المَائِدَةِ وَرَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ » فالله تعالى هو السيد ، والدار الإسلام ، والمائدة الجنة ، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } يكرم من يشاء بالمعرفة من كان أهلاً لذلك { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } إلى دين الإسلام .

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)

قوله تعالى : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى } . للذين وحدوا الله وأطاعوه في الدنيا لهم الجنة في الآخرة { وَزِيَادَةٌ } ، أي فضلاً . قال عامة المفسرين : الزيادة هي النظر إلى وجه الله تعالى ، وهكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن أبي بكر الصديق ، وحذيفة بن اليمان ، وأبي موسى الأشعري وغيرهم قال الفقيه : حدثنا الخليل بن أحمد قال : حدثنا أبو العباس السراج قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال : حدثنا عفان بن مسلم ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } ثم قال : « إذا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وَدَخَلَ أهْلُ النَّارِ النَّارَ ، نَادَى مُنَادٍ : يا أَهْلَ الجَنَّةِ ، إنَّ لَكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ مَوْعِداً يُحِبُّ أنْ يُنْجِزَكُمُوهُ فَيَقُولُونَ وَمَا هُوَ؟ ألَمْ يُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا ، وَأَدْخَلَنَا الجَنَّة ، وَنَجَّانا مِنَ النَّار؟ قالَ : ثُمَّ يُكْشَفُ الحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إلى الله تَعَالَى ، فَوَالله مَا أعْطَاهُمْ شَيْئاً أحَبَّ إلَيْهمُ مِنَ النَّظَر إلى وَجْه الله تعالى » . قال الفقيه رضي الله عنه : وأخبرنا الثقة بإسناده ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وحذيفة قالا : الزيادة ، النظر إلى وجه الله تعالى . وعن أبي موسى الأشعري قال : الحسنى ، هي الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى . وعن عامر بن سعد ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعكرمة مثله .
قال الفقيه : سمعت محمد بن الفضيل العابد قال : سمعت علي بن عاصم قال أجمع أهل السنة والجماعة أن الله تعالى لم يره أحد من خلقه في الدنيا . وأن أهل الجنة يرونه يوم القيامة؛ وقال الزجاج : القول في النظر إلى وجه الله تعالى كثير في القرآن ، والتفسير مروي بالأسانيد الصحاح أنه لا شك في ذلك .
وقال مجاهد : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } قال : الحسنى مثلها ، والزيادة المغفرة والرضوان . وروي عن علقمة قال : الحسنى مثلها ، وزيادة عشر أمثالها . ويقال : الحسنى الجنة وما فيها من الكرامة ، والزيادة ما يأتيهم كل يوم من التحف والكرامات من الله تعالى ، فيأتيهم رسول رب العالمين فيقول لهم : أنا رضيت عنكم ، فهل رضيتم عني؟ .
ثم قال تعالى : { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } ، يعني : لا يعلو ولا يغشى وجوههم سواد وهو كسوف الوجوه عند معاينة النار ، ويقال : حزن ولا ذلة يعني : ولا مذلة . { أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون } ، يعني : دائمين .
ثم بيّن حال أهل النار فقال : { والذين كَسَبُواْ السيئات } ، يعني : أشركوا بالله وعبدوا الأصنام والشمس والقمر والملائكة والمسيح ، فهذه كلها من السيئات .

{ جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } بلا زيادة ، يعني : لا يزاد على ذلك وهذا موصول بما قبله فكأنه قال : { وَلِلَّذِينَ * أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } { والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } بلا زيادة وهذا كقوله تعالى : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ الأنعام : 160 ] ، ويقال : { جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } ، يعني : جزاء الشرك النار ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أشد من النار . فيكون العذاب موافقاً لسيئاتهم ، كقوله تعالى : { جَزَآءً وفاقا } [ النبأ : 26 ] ، أي موافقاً لشركهم .
ثم قال : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } ، يعني : يغشى وجوههم الذلة وهي سواد الوجوه من العذاب . { مَّا لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } ، يعني : مانع يمنع من عذاب الله تعالى ، ثم وصف سواد وجوههم فقال : { والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ } ، يعني : سواد الليل مظلماً ويقال : { قِطَعًا مِّنَ اليل } يعني : بعضاً من الليل وساعة منه . قال الفقيه : حدثنا الفقيه أبو جعفر قال : حدثنا محمد بن عقيل الكندي قال : حدثنا العباس الدوري قال : حدثنا يحيى بن أبي بكر ، عن شريك ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة . رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أوقِدَ عَلَى النَّارِ ألَفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ ، ثُمَّ أوقِد عَليَهَا ألفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ ، ثم أوقِدَ عَلَيْهَا ألفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ؛ فَهِي سَوْدَاءُ كَاللَّيْلِ المُظْلِمِ » قرأ ابن كثير والكسائي { قِطَعًا } بجزم الطاء وهو اسم ما قطع منه ، يعني : طائفة من الليل ، قرأ الباقون { قِطَعًا } بنصب الطاء يعني : جمع قطعة . وإنما أراد به سواد الليل { مُظْلِماً } وصار نصباً للحال أي في حالة الظلام . { أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } ، أي مقيمون .

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } ، وهذا كله في يوم نجمعهم جميعاً ، يعني : الكفار وآلهتهم . { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ } ، يعني : قفوا أنتم وآلهتكم ويقال : الرؤساء والأتباع { فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } ، يعني : ميزنا وفرقنا بين المشركين وبين آلهتهم ، وأصله في اللغة من زال يزول ، وأزلته وزيلته بمعنى واحد ، ويقال : فرقنا بينهم من التواصل والألفة ، يعني : بين الرؤساء والأتباع ، ويقال : يأمر الله تعالى أن تلحق كل أمة بما كانوا يعبدون من دون الله فيتفرق أهل الملل ، وذلك قوله { فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } يعني : بين أهل الشرك وأهل الإسلام .
ثم قال للمشركين : ماذا كنتم تعبدون؟ فينكرون ويحلفون ، ثم يقرون بعدما يختم على أفواههم وتشد أعضاؤهم أنهم كانوا يعبدون الأصنام . { وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ } ، يعني : آلهتهم لمن عبدها : { مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } في الدنيا بأمرنا ولا نعلم بعبادتكم إيانا ، ولم تكن فينا روح فنعقل عبادتكم إيانا ، فيقول من عبدها قد عبدناكم وأمرتمونا فأطعناكم ، فقالت الآلهة : { فكفى بالله شَهِيدًا } يعني : عالماً { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين } ، يعني : ولم نعلم أنكم تعبدوننا ، والفائدة في إحضار الأصنام أن يظهر عند المشركين ضعف معبودهم فيزيدهم حسرة على ذاك .
ثم قال تعالى : { هُنَالِكَ تَبْلُواْ * كُلُّ نَفْسٍ } ، قرأ حمزة والكسائي { تَتْلُواْ } بالتاءين ، يعني : عند ذلك تقرأ كل نفس برة أو فاجرة { مَّا أَسْلَفَتْ } ، يعني : ما عملت من خير أو شر . وهذا قوله : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم فَمَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فأولئك يَقْرَءُونَ كتابهم وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ لإسراء : 71 ] ويقال : تتلو يعني : تتبع ، كقوله : { والقمر إِذَا تلاها } [ الشمس : 2 ] يعني : تبعها ، والباقون { تَبْلُواْ } بالتاء والباء ، يعني : عند ذلك تجد . ويقال : تظهر ، كقوله { يَوْمَ تبلى السرآئر } [ الطارق : 9 ] وقال القتبي : أي يختبر . ثم قال : { وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق } ، يعني : رجعوا في الآخرة إلى الله مولاهم الحق . { وَضَلَّ عَنْهُم } ، يعني : اشتغل عنهم آلهتهم بأنفسها { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } يعني : يختلقون من الأوثان فلا يكون لهم شفاعة ويقال بطل افتراؤهم واضمحل .

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)

قوله تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء } ، يعني : قل يا محمد للمشركين : من يرزقكم من السماء بالمطر . { والارض } ومن الأرض بالنبات . { أَمَّن يَمْلِكُ السمع والابصار } ، أي من يخلق لكم السمع والأبصار ، { وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت } ؛ ومن يقدر أن يخرج الحي من الميت ، يعني : الفرخ من البيضة . { وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى } ، يعني : البيضة من الطير ، والنطفة من الإنسان ، والمؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن . { وَمَن يُدَبّرُ الامر } ، يعني : من يقدر أن يدبر الأمر بين الخلق ، وينظر في تدبير الخلائق ، ويقال : من يرسل الملائكة بالأمر . { فَسَيَقُولُونَ الله } يفعل ذلك كله لا الأصنام ، لأن الأصنام لم يكن لهم قدرة على هذه الأشياء . { فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } الشرك فتوحدونه ، إذ تعلمون أن لا يقدر أحد أن يفعل هذه الأشياء إلا الله تبارك وتعالى ، ويقال : أفلا تتقون أي تطيعون الله الذي يملك ذلك؟ .
ثم قال تعالى : { فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق } ، وغيره من الآلهة باطل ليس بشيء . { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } ، يعني : فما عبادتكم بعد ترك عبادة الله تعالى إلا عبادة الشيطان؟ ويقال : فماذا بعد التوحيد إلا الشرك؟ { فأنى تُصْرَفُونَ } ، يعني : فمن أين تمتنعون عن الإيمان بالله؟ ويقال : فأنى تصرفون عن هذا الأمر بعد المعرفة؟ وقال مقاتل : فمن أين تعدلون به غيره؟ ويقال : كيف ترجعون عن هذا الإقرار؟ .
ثم قال : { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ } ، يعني : هكذا وجبت كلمة العذاب من ربك ، كقوله : { وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أبوابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايات رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } [ الزمر : 71 ] ويقال : وجبت كلمة ربك ، وهو قوله : { قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأعراف : 18 ] قوله : { عَلَى الذين فَسَقُواْ } ، يعني : كفروا بربهم . { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ، يعني : لا يصدقون بعلم الله تعالى السابق فيهم ، ويقال : إنَّهم لا يؤمنون يعني : لأنهم لا يؤمنون فوجب عليهم العذاب بترك إيمانهم . قرأ نافع وابن عامر { كلمات * رَبَّكَ } بلفظ الجماعة ، وقرأ الباقون : { وَأَوْرَثْنَا القوم } وكذلك الاختلاف في قوله : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 96 ] .
قوله تعالى : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } ، يعني : أصنامكم التي تعبدونها ، هل يقدرون أن يخلقوا خلقاً من غير شيء ثم يبعثونهم في الآخرة كما يفعل الله تعالى؟ فإن أجابوك وإلا ف { قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } ، يعني : إن معبودكم لا يستطيع ذلك . { فأنى تُؤْفَكُونَ } ، يعني : من أين تكذبون؟ { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الحق } ، يقول هل يقدر أحد من آلهتكم أن يهدي إلى الحق أي يدعو الخلق إلى الإسلام؟ فقالوا : لا .

{ قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ } ، يعني : يدعو الخلق إلى الإسلام ويوفق من كان أهلاً لذلك { أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ } ، أي من يدعو إلى الحق أحق أن يعمل بأمره ويعبد؟ { أَمَّن لاَّ يَهِدِّى } طريقاً ولا يهتدي { إِلاَّ أَن يهدى } ، يعني : لا يمشي بنفسه إلا أن يحمل من مكان إلى مكان . قرأ نافع وأبو عمر { أَمَّن لاَّ يَهِدِّى } بجزم الهاء وتشديد الدال لأن أصله في اللغة يهتدي فادغم التاء في الدال وأقيم التشديد مقامه؛ وقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع في رواية ورش { يَهْدِى } بنصب الياء والهاء وتشديد الدال ، لأن حركة التاء وقعت على الهاء وقرأ عاصم في رواية حفص { يَهْدِى } بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال لأنه لما اجتمع الساكنان حرك أحدهما بالكسر ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { يَهْدِى } بكسر الياء والهاء وتشديد الدال فأتبع الكسرة الكسرة؛ وقرأ حمزة والكسائي { يَهْدِى } بجزم الهاء وتخفيف الدال ويكون معناه لا يهتدي . قال الكسائي : قوم من العرب يقول : هديت الطريق بمعنى اهتديت ، فهذه خمس من القراءات في هذه الآية .
ثم قال : { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } ؟ كيف تقضون لأنفسكم؟ يعني : تقولون قولاً ثم ترجعون . ويقال : { مَا لَكُمْ } كلام تام ، فكأنه قيل لهم : أي شيء لكم في عبادة الأوثان . ثم قيل لهم { كَيْفَ تَحْكُمُونَ } أي على أي حال تحكمون؟ ويقال : معناه كيف تعبدون آلهتكم بلا حجة ولا تعبدون الله بعد هذا البيان لكم؟ .

وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)

ثم قال : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا } ، يعني : لا يستيقنون أن اللات والعزى آلهة بالظن ، ومعناه أنهم يتركون عبادة الله تعالى وهو الحق ، لأنهم يقرون بأن الله خالقهم فيتركون الحق ويتبعون الظن . { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا } ، يعني : علمهم لا يغني من عذاب الله شيئاً؛ ويقال : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ } يعني : ما قذف الشيطان في أوهامهم { إَنَّ الظن } يعني : ما قذف الشيطان في أوهامهم لا يستطيعون أن يدفعوا الحق بالباطل . ويقال : وما يتبع يعني : وما يعمل أكثرهم { إِلاَّ ظَنّا } يظنون في غير يقين وهم الرؤساء ، وأما السفلة فيطيعون رؤساءهم { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا } . { إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } من عبادتهم الأصنام وما يقولون من القول المختلق والكذب .
{ وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يفترى } ، يعني : لهذا القرآن مختلف { مِن دُونِ الله } تعالى . وقال القتبي : ما كان هذا القرآن أن يضاف إلى غير الله تعالى أو يختلق ، { ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } ؛ ولكن نزل بتصديق الذي بين يديه من التوراة والإنجيل؛ ويقال : معناه ولكن بتصديق النبي الذي أنزل القرآن بين يديه يعني : الذي هو قبل سماعكم ، لأن القرآن تصديق لما جاء من أنباء الأمم السابقة وأقاصيص أنبيائهم ، يعني : بيان كل شيء؛ ويقال : بيان الحلال والحرام . { وَتَفْصِيلَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ } ، يعني : لا شك فيه عند المؤمنين إنه نزل { مِن رَّبّ العالمين } .
قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ } يعني : أيقولون؟ وهم كفار مكة . { افتراه } تقوَّله من ذات نفسه . { قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } ، يعني : مثل القرآن؛ { وادعوا } ، استعينوا على ذلك { مَنِ استطعتم } ممن تعبدون . { مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صادقين } بأنه تقوَّله من تلقاء نفسه فلما قال لهم ذلك ، سكتوا ولم يجيبوا ، فنزل قوله : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } ، يعني : القرآن لم يعلموا ما فيه؛ ويقال : لم يعلموا ما عليهم بتكذيبهم . { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ، يعني : ولما يأتهم عاقبة ما وعدوا في هذا القرآن ، يعني : سيأتيهم ما وعد لهم ، وهو كائن في الدنيا بالعذاب ، وفي الآخرة بالنار .
ثم قال : { كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } ، هكذا كذب الأمم الخالية رسلهم . { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين } ، يعني : كيف صار جزاء المكذبين لرسلهم . فيه تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحثّ له على الصبر ، وتخويف لهم بالعقوبة . قوله تعالى : { وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ } ، يعني : بالقرآن . { وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين } ، يعني : بعقوبة من لم يؤمن به . قال مقاتل : { وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ } من أهل الكتاب { وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ } من أهل مكة؛ وقال الكلبي : { وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ } من اليهود ، يعني : يؤمن به من قبل موته { وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ } يعني : بعلم الله تعالى السابق فيه؛ وقال الزجاج : معناه ومنهم من يعلم أنه حق ، فيصدق بقلبه ويعاند ويظهر الكفر ، ومنهم من لا يؤمن به أي يشك ولا يصدق .

قوله تعالى : { وَإِن كَذَّبُوكَ } ، يعني : المشركين بما أتيتهم به . { فَقُل لّى عَمَلِى } يعني : ديني . { وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } ، يعني : دينكم . { أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ } وأدين؛ { وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ } وتدينون به غير الله تعالى وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ، ولما نزلت آية القتال نسخت هذه الآية .
ثم قال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } ، قال الكلبي : نزلت في شأن اليهود ، قدموا مكة وكانوا يسمعون قراءة القرآن فيعجبون به ويشتهونه ، وتغلب عليهم الشقاوة فلا يسلمون قال الله تعالى : { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم } ، يعني : تفقه الكافر الذي لا يعقل الموعظة؛ وقال الضحاك : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } وذلك أن كفار قريش دخلوا المسجد الحرام والنبي صلى الله عليه وسلم قائم عند المقام يصلي ، وهو يقرأ سورة طه قال الوليد بن المغيرة : يا معشر قريش ، إنما يتلو محمد ليأخذ بقلوبكم . فقال أبو جهل اللعين وأصحابه : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ، فنزل { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم } وذلك أنهم صموا عن الحق ، ويقال : { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم } أي من يتصامم ولا يستمع إليك . { وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ } ، يقول أي وإن كانوا مع ذلك لا يرغبون في الحق .
{ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ } ، يعني : بغير رغبة . { أَفَأَنْتَ تَهْدِى العمى } ، يعني : ترشد من يتعامى . { وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } الحق ولا يرغبون فيه . قال مقاتل والقتبي : هذا من جوامع الكلم ، حيث بَينَّ فضل السمع على البصر ، حيث جعل مع الصم فقدان العقل ، ولم يجعل مع العمى إلا فقدان البصر .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)

ثم قال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا } ، يقول : لا ينقص من أجور الناس شيئاً ولا يحمل عليهم من أوزار غيرهم ، { ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ، يعني : يضرون أنفسهم بتركهم الحق . قرأ حمزة والكسائي { ولكن الناس } بكسر النون مع التخفيف وضمّ السين ، وقرأ الباقون { ولكن الناس } بالنصب والتشديد ونصب السين .
قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } ، يقول : يجمعهم في الآخرة . { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار } ؛ قال الكلبي : كأن لم يلبثوا في قبورهم إلاّ ساعة من النهار؛ وقال الضحاك : كَأَنَّ لَمْ يَلْبَثُوا فِي الْقُبُورِ إلا ما بين العصر إلى غروب الشمس ، أو ما بين صلاة الغداة إلى طلوع الشمس؛ ويقال : يعني : بين النفختين لأنه يرفع عنهم العذاب فيما بين ذلك؛ وقال مقاتل : كأن لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من النهار . { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } قال الكلبي : يعني : يتعارفون بينهم حين خرجوا من قبورهم ، ثم تنقطع عنهم المعرفة فلا يعرف أحد أحداً ، وقال الضحاك : يتعارفون بينهم حين خرجوا ، وذلك أن أهل الإيمان يبعثون يوم القيامة على ما كانوا عليه في دار الدنيا من التواصل والتراحم ، يعرف بعضهم بعضاً محسنهم لمسيئهم ، وأما أهل الشرك فلا أنساب بينهم يومئذ ، ولا يتساءلون . قال الله تعالى : { قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله } ، يعني : بالبعث بعد الموت { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } ، يقول لم يكونوا مؤمنين في الدنيا .
قال تعالى : { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ } من العذاب ، { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } قبل أن نرينك { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } مصيرهم في الآخرة . وروي عن عبد الله بن عباس ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنهما قالا : أخبر الله تعالى نبيه أن يستخلف أمته من بعده { ثُمَّ الله شَهِيدٌ } في الآخرة { على مَا يَفْعَلُونَ } في الدنيا من الكفر والتكذيب .
قوله تعالى : { وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ } ، يعني : لأهل كل دين رسول أتاهم ، { فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ } ، يعني : فأبلغهم فكذبوه { قُضِىَ بَيْنَهُمْ } وبين رسولهم { بالقسط } يعني : بالعدل { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } يعني : لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً . وقال مجاهد : { فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ } يعني : يوم القيامة ، قضي بينهم بالعدل وهم لا يظلمون .
قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } ، وهو قوله تعالى : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ } { إِن كُنتُمْ صادقين } أن العذاب ينزل بنا { قُلْ } يا محمد : { لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا } ، يعني : ليس في يدي دفع مضرة ولا جرّ منفعة ، { إِلاَّ مَا شَاء الله } . أن يقويني عليه . قال مقاتل : معناه قل : لا أملك لنفسي أن أدفع عنها سوءاً حين ينزل ، ولا أن أسوق إليها خيراً إلا ما شاء الله فيصيبني ، فكيف أملك نزول العذاب بكم .

وقال القتبي : الضُّر بضم الضاد الشدة والبلاء ، كقوله : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كاشف لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كُلِّ شَىْءٍ قَدُيرٌ } [ الأنعام : 17 ] وكقوله : { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } [ النحل : 54 ] والضُّر بفتح الضاد ضد النفع ، ومنه قوله تعالى : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَآءَ الله لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ يونس : 49 ] يعني : قل : لا أملك جر نفع ولا دفع ضَرَ .
ثم قال : { لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } وقته في العذاب ، ويقال لكل أمة أجل يعني : مهلة ، ويقال : أجل الموت . { إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } وقتهم بالعذاب ، { فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } ؛ يعني : لا يتأخرون عنه ساعة ، ولا يتقدمون عنه ساعة فكذلك هذه الأمة إذا نزل بهم العذاب لا يتأخر عنهم ساعة .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)

قوله تعالى : { قُلْ أَرَءيْتُمْ } . يا أهل مكة { إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ } ، يعني : عذاب الله تعالى . { بَيَاتًا } ليلاً كما جاء إلى قوم لوط ، { أَوْ نَهَارًا } ؛ يعني : مجاهرة كما جاء إلى قوم شعيب . { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون } ، يقول : بأي شيء يستعجل منه المجرمون يعني : المشركين ، ويقال ماذا ينفعهم استعجالهم منه أي من عذاب الله تعالى؟ .
قوله : { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ } ، يعني : إذا وقع العذاب صدقتم به ، يعني : بالعذاب؛ ويقال : بالله . { الئان } ، يعني : يقال لهم آمنتم بالعذاب حين لا ينفعكم ، { وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } ؛ وهذا اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التهديد .
قوله تعالى : { ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } ، يعني : قالت لهم خزنة جهنم : { ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد } ، الذي لا ينقطع . { هَلْ تُجْزَوْنَ } ، يقول : هل تثابون ، { إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } من الكفر والتكذيب .

وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)

قوله تعالى : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ } قال قتادة ومقاتل : وذلك أنَّ حييَّ بْنَ أخْطَبَ حين قدم مكة قال للنبي صلى الله عليه وسلم أحق هذا العذاب؟ قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إِى وَرَبّى } ، يعني : إي والله إنَّه لكائن . ويقال : معناه ويسألونك عن البعث أحق هو؟ ويسألونك عن دينك أحق هو؟ { قُلْ إِى وَرَبّى } ، يعني قل : يا محمَّد نعم { إِنَّهُ لَحَقٌّ } يعني : العذاب نازل بكم إن لم تؤمنوا { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } بفائتين من العذاب حتَّى يخزيكم به ، ثم أخبر عن حالهم حين نزل بهم العذاب . فقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ } يعني : كفرت ، وأشركت بالله تعالى ، لو كان لها { مَا فِى الارض لاَفْتَدَتْ بِهِ } يعني : النَّفس لافتدت من سوء العذاب ، ولا يُقبَل منها . { وَأَسَرُّواْ الندامة } يعني : أخفوا النَّدامة يعني : القادةُ من السَّفلة ، { لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } حين نزل بهم العذاب .
{ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالقسط } بين القادة والسفلة بالعدل ، ويقال : قضي بينهم ، يعني : بين الخلق بالعدل ، فيعطي ثوابهم على قدر أعمالهم . ويقال : يقضي بين الكفَّار بالعدل ، وبين المؤمنين بالفضل . ثم قال : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } يعني : لا يُنْقَصُونَ من ثواب أعمالهم شيئاً ، ثمَّ بيَّن استغناءه عن عبادة الخلق وقدرته عليهم ، فقال : { أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى *** السموات والارض } يعني : كلُّهم عبيده وإماؤه ، وهو قادر عليهم . ويقال : كلُّ شيء يدلُّ على توحيده ، وأنَّ له صانعاً .
{ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يعني : البعث بعد الموت هو كائن . { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } يعني : لا يُصدِّقون به . ثم قال تعالى : { هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } في الآخرة ، فيجازيكم بأعمالكم .
قوله تعالى : { يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس } يعني : يا أهل مكَّة ، ويقال : جميع النَّاس ، { قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ } يعني : نهياً من ربِّكم عن الشِّرك على لسان نبيِّكم ، { وَشِفَاء لِمَا فِى الصدور } يعني : القرآن شفاء للقلوب من الشِّرك . ويقال : شفاء من العمى؛ لأن فيه بيان الحلال والحرام { وهدى } من الضّلالة ، ويقال : صواباً ، وبياناً { وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ } يعني : القرآن نعمة الله على المؤمنين ، نعمة من العذاب لِمَنْ آمن ، وعمل بما فيه .
قوله تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ الله } ، يعني : قل يا مُحمَّد للمؤمنين بفضل الله ، والإسلام { وَبِرَحْمَتِهِ } القرآن . وروي عن ابن عبَّاس أنه قال : بفضل الله ، يعني : القرآن ، وبرحمته الإسلام ، يعني : بنعمته عليكم إذ أكرمكم بالإسلام ، والقرآن . وهكذا قال أبو سعيد الخِدْرِيّ . وقال الضَّحَّاك ، ومجاهد : بفضل الله : القرآن؛ وبرحمته : الإسلام . وقال مقاتل : بفضل الله : الإسلام ، وبرحمته : القرآن . وعن الحسن مثله . وقال القُتَبِيّ مثله .
قوله : { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } يعني : بالقرآن والإيمان { هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } من الأموال . قرأ ابن عامر : { فَبِذَلِكَ } بالتاء كلاهما على معنى المخاطبة وقرأ الباقون : { مّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } بالياء ، على معنى المغايبة .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)

قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ } في الكتاب ، ويقال : من السَّماء ، ويقال : ما أعطاكم الله من الرِّزق ، والحرث ، والأنعام ، والبحيرة ، والسَّائبة . وبَيَّنَ في كتابه تحليلها . { فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً } حراماً على النساء ، وحلالاً على الرجال { قُلِ الله * أَذِنَ لَكُمْ } يعني : الله عزّ وجل أمركم بتحريمه وتحليله؟ { أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } يعني : بل على الله تفترون ، يعني : تختلقون على الله كذباً ما لم يقله ، ولم يأمر به . فقال : { قُلِ الله * أَذِنَ لَكُمْ } ؟ فقالوا : بلى ، أمرنا بها ، قال الله تعالى : { أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } ، بل على الله تختلقون . ثم قال تعالى : { وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } يعني : وما ظنُّهم حين ينزل بهم العذاب { يَوْمُ القيامة } ؟ وكيف ينجون منه؟ { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } لذو مَنَ على النَّاس ، بتأخير العذاب عنهم ، { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } نعمة الله تعالى عليهم ، بتأخير العذاب عنهم .
قوله تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ } ، أي : وما تكون يا مُحَمَّدُ في أمر من الأمور ، { وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا } وما تقرأ من الله من قرآن ، ممَّا أوحي إليك . فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ، وخاطب أمته أيضاً ، فقال : { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا } يعني : عالماً بكم ، وبأعمالكم ، فلا تنسوه . ويقال : إلاّ جعل عليكم شاهداً من الملائكة ، وهم الحفظة { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } يعني : حين تأخذون في قراءة القرآن . ويقال : حين تخوضون فيه .
{ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ } قرأ الكِسَائِيُّ : { وَمَا يَعْزُبُ } بكسر الزَّاي . وقرأ الباقون : بالضَّم ، وهما لغتان جيدتان . وهكذا ذُكِرَ عن الفَرَّاءِ . يعني : وما يغيب { عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ } قال الكَلْبِيّ : وهي النَّملة الحُمَيْرَاءُ . وقال مقاتل : أصغر نملة في الأرض . ويقال : الذَّر ما يُرَى من شعاع الشَّمس ، والمثقال عبارة عن الوزن . يعني : لا يغيب عنه وزن الذَّرَّة { فِي الارض وَلاَ فِى السماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك } يعني : ولا أخف من وزن الذَّرَّة { وَلا أَكْبَرَ } ، يعني : ولا أثقل من وزن الذَّرَّة . ويقال : لا أقلَّ منه ، ولا أعظم ، { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } . يعني : مكتوباً في اللَّوح المحفوظ . قرأ حمزة : { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ } بضمِّ الرَّاءين . ومعناه : ولا يغيب عنه أصغر من ذلك ، ولا أكبر منه ، فيصير رفعاً لأنه فاعل . وقرأ الباقون بالنَّصب ، لأن معناه : ولا يغيب عنه بمثقال ذرة في الأرض ولا في السَّماء ، ولا بمثقال ذرَّة أصغر من ذلك . فموضعه خَفْضٌ ، إلاّ أنّه لا ينصرف فصار نصباً .

أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)

قوله تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله } ، يعني : المؤمنين . ويقال : أحباء الله ، وهم حملة القرآن والعلم . ويقال : الَّذين يجتنبون الذُّنوب في الخلوات ، ويعلمون أنّ الله تعالى مُطَلِّعٌ عليهم . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه سُئِل عن أولياء الله تعالى ، فقال : « هُمُ الَّذِينَ إذا رُءُوا ذُكِرَ الله تَعَالَى » . وقال وهبُ بنُ مُنَبِّه : قال الحواريُّون لعيسى ابنِ مريمَ : يا روحَ الله ، مَنْ أولياء الله؟ قال : الَّذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر النَّاس إلى ظاهرها ، ونظروا إلى أجل الدُّنيا حين نظر النَّاس إلى عاجلها ، فأحبُّوا ذِكْرَ الموت ، وأماتوا ذِكْرَ الحياة ، ويحبُّون الله تعالى ، ويحبُّون ذكره . وقال الضَّحَّاك : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله } يعني : المخلصين لله ، { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } يعني : لا يخافون من أهوال يوم القيامة { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } حين زفرت جهنَّم .
ثمَّ نعتهم فقال تعالى : { الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } يعني : أقرُّوا وصدَّقوا بوحدانية الله تعالى ، ويتَّقون الشِّرك والفواحش ، { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا } يعني : البشارة ، وهي الرُّؤيا الصَّالحة يراها العبد المسلم لنفسه ، أو يرى له غيره . وروي عن عبد الله بن عُمَر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الرُّؤيا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ من سَبْعِينَ جُزْءاً مِنَ النّبوَّةِ » . وفي خبر آخر : « مِنْ أرْبَعِينَ جُزْءا » وفي خبر آخر : « مِنْ سِتَّةٍ وَأرْبَعِينَ جُزْءاً » . وروى عَطَاء بن يَسَارٍ ، عن رجل كان يفتي بالبصرة ، قال : سألت أبا الدَّرداء عن هذه الآية : { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا } ، قال أبو الدَّرداء : ما سألني عنها أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أحَدٌ قَبْلَكَ ، هِيَ الرُّؤيا الصَّالِحَة يَرَاهَا المُسْلِمُ ، أَوْ تُرَى لَهُ » { وَفِي الاخرة } : الجنَّةُ . وعن عبادة بن الصامت ، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأجابه بمثل ذلك . ويقال : { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا } يعني : عند الموتَ يُبَشِّره الملائكة ، كما قال في آية أُخرى : { تُنَزَّلَ *** عَلَيْكُمْ *** الملئكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } . وفي الآخرة يُبَشِّرُهُ الملائكة حين يخرج من القبر .
{ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله } : لا تغيير ، ولا تحويل لقول الله تعالى ، لأنَّ قوله حقٌّ بأنّ لهم البشرى في الحياة الدنيا . ويقال : لا تبديل لكلمات الله ، يعني : لا خلف لمواعيده التي وعد في القرآن . { ذلك هُوَ الفوز العظيم } يعني : الثَّواب الوافر . ويقال : النجاة الوافرة .
قوله تعالى : { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } يقول : يا مُحَمَّدُ لا يحزنك تكذيبهم : { إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } ، بأنّ النِّعمة والقدرة لله تعالى ، وجميع مَنْ يتعزَّزُ إنَّما هو بإذن الله تعالى .

{ هُوَ السميع العليم } : السَّميع لمقالتهم ، العليم بهم ، وبعقوبتهم على ترك توحيدهم .
ثم قال : { أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى *** السموات *** وَمَن فِى الارض } يعني : من الخلق ، كلهم عبيده وإماؤه . { وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَاء } يعني : وما يعبد الذين يعبدون من دون الله الأوثان والأصنام . ولم يأت بجوابه ، وجوابه مضمر ، ومعناه : ما هي لي شركاء ، ولا نفع لهم في عبادتها ، { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } يعني : ما يعبدون الأصنام إلاّ بالظن ، { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } يقول : وما هم إلاّ يكذبون . يقول : ما أمرهم الله تعالى بعبادتها ، ولا تكون لهم شفاعة .
ثمّ دلَّ بصنعه على توحيده ، فقال عز وجل : { هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } يعني : خلق لكم اللَّيل ، لَتَقَرُّوا فيه من النَّصَبِ والتَّعَبِ ، { والنهار مُبْصِراً } يعني : خلق النَّهار مطلباً للمعيشة . { إِنَّ فِى ذَلِكَ } يعني : في تقليب اللَّيل والنَّهار { لاَيَاتٍ } يعني : لَعِبْرَاتٍ وَعَلاَمَاتٍ لوحدانيَّةِ الله ، { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } يعني : المواعظ .
ثمّ رجع إلى ذِكْرِ كُفَّار مَكَّةَ فقال تعالى : { قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا } ، حين قالوا : الملائكة بنات الله تعالى ، { سبحانه } نَزَّهَ نفسه عن الولد ، { هُوَ الغنى } عن الولد ، { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض } مِنَ الخلق ، سمّاهم عبيده وإماءه { إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا } يعني : ما عندكم من حُجَّة بهذا القول ، { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } بغير حجةٍ .

قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)

قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } بأنَّ له ولداً { لاَ يُفْلِحُونَ } . يعني : لا يأمنون من عذابه ، ولا ينجون منه . { متاع } يعني : منفعتهم { فِى الدنيا } قليل { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } ، يعني : مصيرهم في الآخرة { ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } . بكفرهم . قوله تعالى : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ } فإن لم تعتبروا بذلك ، فاتْلُ عليهم ، يعني : اقرأ عليهم خبر نوح في القرآن ، { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقوم *** قَوْمٍ أَن **كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ } يعني : عظم ، وثَقُلَ { مَّقَامِى } طول مقامي فيكم { وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ الله } يعني : وعظي لكم بالله تعالى . وعظته بالله تعالى ما ذُكِرَ في سورة نوح ، وهو قوله : { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] إلى قوله : { الذى خَلَقَ سَبْعَ سماوات طِبَاقًا مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } [ لملك : 3 ] الآية . فلمَّا وعظهم بذلك أرادوا قتله ، حين قالوا : { لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين } أي من المقتولين بالحجارة . فقال لهم نوح : { إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى } فيكم وعظتي لكم { فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ } أي وثقت ، وفوَّضت أمري إلى الله تعالى ، { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ } يعني : كيدكم . ويقال : قولكم ، وعملكم؛ { وَشُرَكَاءكُمْ } يعني : وادعوا شركاءكم { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ } أي : امضوا إليَّ { وَلاَ تُنظِرُونَ } أي : ولا تمهلون .
ويقال : اقضوا ما أنتم قاضون ، واستعينوا بآلهتكم . ويقال : اعملوا بما في أنفسكم من الشَّرِّ . وروي عن نافع أنه قرأ : { فَأَجْمِعُواْ } بالوصل والجزم ، مِنْ جمعت . وقرأ الباقون : { فَأَجْمِعُواْ } بالقطع من الإجماع . وقرأ الحسن البصريُّ ، ويعقوب الحَضْرَمِيُّ : { شُرَكَاءكُمُ } أي : أين شركاؤكم ليجمعوا أمرهم معكم ، ويعينوكم؟ { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } يقول : أظهروا أمركم فلا تكتموه . يعني : القتل . وقال القتبِيُّ : الغُمَّةُ والغَمُّ واحد ، كما يقال : كُرْبَةٌ وكَرْبٌ . أي : لا يكن أمركم غمّاً عليكم { ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ } أي : اعملوا بما تريدون ، كقوله : { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات والذى فَطَرَنَا فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هذه الحياة الدنيآ } [ طه : 72 ] .
{ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } يعني : أعرضتم وأبيتم عن الإيمان ، وأبيتم أن تقبلوا ما أتيتكم به ، وأمرتكم به ، ونهيتكم عنه ، { فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ } يعني : ما سألتكم بذلك أجراً في الدُّنيا ومعناه : إن أعرضتم عن الإيمان لا يضرُّني لأنِّي لا أطلب منكم بذلك أجراً في الدِّين ، { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله } ما ثوابي إلاّ على الله ، { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } يعني : وأُمرتُ أن أستقيم على التَّوحيد مع المسلمين .
قوله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ } بالعذاب ، بأنَّه غير نازلٍ بهم { فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الفلك } من الغرق ، { وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ } يعني : خلفاء من بعد هلاكِ كُفَّارهم ، { فَكَذَّبُوهُ فأنجيناه والذين مَعَهُ } يعني : كذَّبوا نوحاً بما أتاهم به ، { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين } كيف كان آخرُ أمرِ مَنْ أنذرهم الرُّسلُ فلم يؤمنوا .

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)

قوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ } أي من بعد هلاك قوم نوح { رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ } ، مثل : هود ، وصالح ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، عليهم السلام { موسى بالبينات } يعني : بالأمر والنهي . ويقال : بالآيات والعلامات ، { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } قال مقاتل : يعني : ما كان كُفَّار مكة ليصدِّقوا بالعذاب أنه نازل بهم ، كما لم يصدق به أوائلهم من قبل كفار مكة . وقال الكَلْبِي : فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به عند الميثاق ، حين أخرجهم من صلب آدم . وقال : وما كانوا ليؤمنوا ، يعني : أُولئك القوم بعد ما كان دعاهم الرُّسل بما كذبوا به من قبل أن يأتيهم الرُّسل { كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين } يعني : نختم على قلوب المعتدين من الحلال والحرام . ويقال صار تكذيبهم طبعاً على قلوبهم ، فمنعهم عن الإيمان .
قوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم } من بعد الرُّسل { موسى وهارون إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بآياتنا } التّسع { فاستكبروا } يعني : تكبَّروا عن الإيمان { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } يعني : مشركين .
قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق } يعني : ظهر لهم الحقُّ { مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } يعني : الَّذي أتيتنا به كذب بَيِّنٌ ، ف { قَالَ موسى أَتقُولُونَ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هذا } وفي الآية مضمر ، ومعناه : أتقولون للحقِّ لما جاءكم إنَّه سحر؟ ثمَّ قال : أسِحْرٌ هذا؟ يعني : أيكون مثل هذا سحراً؟ فليس ذلك بسحر ، ولكنَّ ذلك علامة للنُّبوَّة ، { وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } في الدُّنيا والآخرة . ويقال : لا ظفر لهم .
قوله تعالى : { قَالُواْ أَجِئْتَنَا } يعني : قال فرعون وقومه لموسى عليه السلام { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } ؟ يعني : لتصرفنا ، وتصدنا { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } يقول : عما كان يعبد آباؤنا { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء } يعني : السُّلطان والشَّرف والمُلْكُ { فِى الارض } ، يعني : في أرض مصر { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } يعني : بمصدِّقين بأنّكما رسولا ربِّ العالمين .

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } يعني : حاذق بالسِّحر . قرأ حمزة والكساني : يعني : حاذق بالسِّحر . قرأ حمزة والكساني : { سَحَّارٍ } ، على معنى المبالغة ، وقرأ الباقون : { ساحر } { فَلَمَّا جَاء السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ } يعني : اطرحوا ما في أيديكم من العِصِيِّ والحبال { فَلَمَّا أَلْقُوْاْ } ما معهم من الحبال والعِصِيِّ إلى الأرض { قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر } يعني : العمل الذي عملتم به هو السِّحر { إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } يعني : سيهلكه { إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين } يعني : لا يرضى عمل المفسدين . قرأ أبو عمرو : السِّحر ، بالمدِّ على وجه الاستفهام ، ويكون معناه : { قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ } يَعني ما الَّذي جئتم به؟ وتمَّ الكلام . ثم قال : { السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين } يعني : عمل السحرة .
قوله تعالى : { وَيُحِقُّ الله الحق بكلماته } يعني : يظهر دينه الإسلام بتحقيقه ، ونصرته { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } يعني : فرعون وقومه .
قال الله تعالى : { فَمَا ءامَنَ لموسى } يعني : ما صدَّق بموسى { إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ } يعني : قبيلته من قومه الذين كانت أمَّهاتهم من بني إسرائيل ، وآباؤهم من القبط . وروى مقاتل ، عن ابن عباس أنه قال : { إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ } ، يعني : من قوم موسى عليه السلام وهم بنو إسرائيل ، وهم ستمائة ألف . قال : وكان يعقوب حين ركب إلى مصر من كنعان في اثنين وسبعين إنساناً ، فتوالدوا بمصر حتّى بلغوا ستمائة ألف . ويقال : { إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ } ، يعني : خربيل وهو الذي قال في آية أُخرى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانه أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّىَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } [ غافر : 28 ] .
ثم قال : { على خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ } يعني : فما آمن لموسى عليه السلام خوفاً من فرعون { وَمَلَئِهِمْ } إشارة إلى فرعون بلفظ الجماعة ، كقوله : { فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ الله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } [ هود : 14 ] يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم خاصة { أَن يَفْتِنَهُمْ } يعني : يقتلهم { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الارض } يعني : لَعات . ويقال : الغالب ، ويقال : المخالف ، والمتكبر في أرض مصر { وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } يعني : لمن المشركين . روى موسى بن عبيدة ، عن محمد بن المنكدر ، قال : عاش فرعون ثلاثمائة سنة ، منها مائتين وعشرين سنة لم ير مكروهاً ، ودعاه موسى عليه السلام ثمانين سنة .
{ وَقَالَ موسى يافرعون *** قَوْمٍ أَن *** كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ } يعني : ثقوا بالله تعالى ، وذلك حين قالوا له :

{ قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الارض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ] فلما قال لهم هذا موسى عليه السلام { قَالُواْ * عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } يعني : فوَّضنا أمرنا إليه ، { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً } بَلِيَّةً وَعِبْرَةً { لّلْقَوْمِ الظالمين } . يعني : لا تنصرهم علينا . قال مجاهد : يعني : لا تعذِّبنا بأيدي فرعون ، ولا بعذاب من عندك ، فيقولوا : لو كانوا على الحقّ ، ما عُذِّبوا وما سُلِّطْنَا عليهم ، فَيُفْتَنُوا بنا ، { وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ } يعني : بنعمتك { مِنَ القوم الكافرين } يعني : فرعون وقومه .

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)

قال الله تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ } هارون ، وذلك لما منعهم فرعون ، وقومه الصَّلاة علانية ، وخرّبوا مساجدهم { أَن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا *** بُيُوتًا } يعني : اتّخذوا لقومكما بمصر مساجد في جوف البيوت { واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } يعني : مساجد فتصلون فيها . ويقال : حَوِّلُوا بيوتكم نحو القبلة . وقال مجاهد : كانوا يصلون في البِيَعِ ، فأمرهم أن يصلوا في البيوت . وقال إبراهيم النخْعِيُّ : كانوا خائفين ، فأمرهم بالصَّلاة في بيوتهم . وكان إبراهيم النخعِيِّ خائفاً من الحجَّاج ، وكان يصلي في بيته .
ثم قال { وَإِذْ أَخَذْنَا } يعني : أَتِّمُّوها بركوعها ، وسجودها ولم يأمرهم بالزكاة ، لأن فرعون عليه اللَّعنة قد استعبدهم ، وأخذ أموالهم ، فلم يكن لهم مال يجب عليهم الزّكاة فيه . ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم { وَبَشّرِ المؤمنين } يعني : المصدِّقين بتوحيد الله تعالى بالجنة . قرأ عاصم في رواية حفص : { ءانٍ } بالياء بلا همز ، لأنه كره الهمزة بين حرفين فجعلها ياء . وقرأ الباقون بغير ياء بالهمزة ، إلا أنه روي عن حمزة أنه كان لا يهمز . قوله تعالى { المؤمنين وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ } ، وذلك أن أهل مصر لما عُذِّبُوا بالطُّوفان والجراد والسنين ، قالوا : { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز قَالُواْ ياموسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بنى إسراءيل } [ الأعراف : 134 ] ، ثمّ نكثوا العهد ولم يؤمنوا ، فغضب موسى عليهم ، ودعا الله تعالى عليهم ، وقال : { رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ } يعني : الأشراف من قومه { زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ } يعني : أعطيتهم ليضلوا { عَن سَبِيلِكَ } عن دينك الإسلام . قرأ أهل الكوفة ، وعاصم ، وحمزة الكسائي : { لِيُضِلُّواْ } بضم الياء . يعني : ليُضلُّوا النّاس ويصرفونهم عن دينهم . وقرأ الباقون : { لِيُضِلُّواْ } بنصب الياء . يعني : يرجعون عن دينك ويمتنعون جملة واحدة عنه .
{ رَبَّنَا اطمس على أموالهم } يعني : غيِّر دراهمهم ودنانيرهم ، وذلك حين وعد فرعون بأن يؤمن ، ويرسل معه بني إسرائيل ، ثم نقض العهد ، فدعا عليهم موسى عليه السلام وروى معمر عن قتادة في قوله : { رَبَّنَا اطمس على أموالهم } قال : بلغنا أنَّ حروثاً لهم صارت حجارة . وعن السّدي أنه قال : صارت دراهمهم ودنانيرهم حجارة . وعن أبي العالية الرِّياحيّ أنه قال : صارت أموالهم حجارة وقال مجاهد ، في قوله تعالى : { رَبَّنَا اطمس على أموالهم } يعني : أهلكها . وقال القتبي في قوله : { رَبَّنَا اطمس على أموالهم } أي اقسمها . ويقال : اطبع قلوبهم وأمتهم على الكفر ، فلا توفقهم للإيمان لكي لا يؤمنوا { فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم } وهو الغرق . ودعا موسى عليه السلام وَأَمَّن هارون عليه السلام { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } قال محمد بن كعب القرظي : دعا موسى ، وأمَّن هارون .

وعن أبي العالية ، وعكرمة وأبي صالح مثله . وعن أبي هريرة مثله . وعن أنس بن مالك أنه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إِنَّ الله تَعَالَى أَعْطَانِي خِصَالاً ثَلاثاً : أَعْطَانِي صَلاةً بِالصُّفُوفِ ، وَأعْطَانِي تَحِيَّةً هِيَ تِحَّيةُ أهْلِ الجَنَّةِ ، وَأَعْطَانِي التَّأْمِينَ ، وَلَمْ يُعْطِ أَحَداً مِنَ النَّبِيِّينَ قَبْلِي ، إلاَّ أَنْ يَكُونَ الله تَعَالَى أعطاهُ لِهَارُونَ ، يَدْعُو مُوسَى ، وَيُؤَمِّنُ هَارُونُ » . قال مقاتل : فمكث موسى بعد هذه الدعوة أربعين سنة ، وهكذا روى الضَّحَّاك أن الإجابة ظهرت بعد أربعين سنة . وقال بعضهم : بعد أربعين يوماً . وقال بعضهم : هذا الدعاء حين خرج موسى ببني إسرائيل ، وأيس من إيمانهم .
ثم قال تعالى : { فاستقيما } أي : على الرِّسالة والدَّعوة { وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } يعني : طريق فرعون ، وآله من أهل مصر . وروى ابن ذكوان ، عن ابن عامر ، أنه قرأ : { تَتَّبِعَانّ } بجزم التاء ونصب الباء . وقرأ الباقون : { تَتَّبِعَانّ } بنصب التاء ، والتشديد ، وكسر الباء . ومعناهما واحد وهذه النون أُدْخِلَتْ مؤكدة .

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)

ثمّ قال تعالى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر } ، يعني : بحر قلزم . ويقال : هو نهر مصر ، وهو النيل . { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ } يعني : لحقهم . وقال القتبي : أتبعت القوم : أي لحقتهم ، وتبعتهم : كنت في أثرهم . ثمَّ قال : { بَغْيًا وَعَدْوًا } يعني : تكبُّراً وَعَدواً ، يعني : ظلماً . ويقال : بغياً في المقالة حيث قال : { ءانٍ * لِهَؤُلاء ***** لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } وَعدواً : يعني : اعتدوا عليهم وأرادوا قتلهم { حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق } يعني : كربة الموت . ويقال : ألجمه الماء . ويقال : بلغه الموت والأجل ، وذلك أن بني إسرائيل لما رأوا فرعون ومن معه ، قالوا : هذا فرعون ، وقد كنا نلقى منه ما نلقى ، فكيف بنا وأين المخرج في البحر؟ فأوحى الله إلى موسى { فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } [ الشعراء : 63 ] فضرب ، فصار اثني عشر طريقاً يابساً . فلمّا انتهى فرعون إلى البحر ، فرآه قد يبس فقال لقومه : إن البحر قد يبس خوفاً مني فصدّقوه ، وهو قوله : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى } [ طه : 79 ] ولما جاوز قوم موسى ، ودخل قوم فرعون ، فلما هَمَّ أولهم أن يخرج من البحر ، ودخل آخرهم ، طم عليهم البحر فغرَّقهم و { قَالَ } فرعون عند ذلك : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا * إسراءيل } قرأ حمزة ، والكسائي : { أَنَّهُ } بالكسر على معنى الابتداء الباقون بالنصب ، على معنى البناء . يعني : صدّقت بأنه لا إله إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ { وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } على دينهم . ويقال : أنا من المخلصين على التوحيد .
قال الله تعالى : { ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } يعني : أتُؤمن في هذا الوقت حين عاينت العذاب ، وقد عصيت قبل نزول العذاب؟ وهذا موافق لقوله تعالى : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّى تُبْتُ الان وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء : 18 ] الآية . ويقال : إن جبريل هو الذي قال له : { ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } ، { وَكُنتَ مِنَ المفسدين } يعني : من الكافرين . قال الفقيه أبو الليث ، حدثنا الفقيه أبو جعفر ، قال : حدثنا علي بن أحمد ، قال : حدثنا نصر بن يحيى ، قال : حدثنا أبو مطيع ، عن الحسن بن دينار ، عن حميد بن هلال ، قال : كان جبريل عليه السلام يناجي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له ذات يوم : يا محمد ما غاظني عبد من عباد الله تعالى مثلما غاظني فرعون . لمّا أدركه الغرق ، قَالَ : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا * إسراءيل } فخشيت أن تدركه الرحمة ، فضربت بيدي إلى البحر ، فأخذت كفاً من حمئه ، وربما قال : من طينه ، فكبسته في فيه ، فما نبس بكلمة .

قوله تعالى : { فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ } أي نخرجك من البحر بجسدك . وقال أبو عبيدة : نلقيك على نجوة من الأرض ، والنجوة من الأرض : ما ارتفع منها { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً } يعني : عبرة لمن بعدك من الكفَّار ، لكيلا يدَّعوا الربوبية . وقال قتادة : لمّا أغرق الله فرعون ، لم تصدق طائفة من الناس بذلك ، فأخرجه الله تعالى ليكون لهم عظة وآية . { فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ } يعني : عن هلاك فرعون { لغافلون } فلا يخافون ، ولا يعتبرون .
ثمّ قال تعالى : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إسراءيل } يعني : أنزلنا بني إسرائيل { مُبَوَّأَ صِدْقٍ } يعني : منزل صدق ، وهو أرض مصر ، وذلك أن الله تعالى قد وعد لهم بأن يورِّثهم أرض مصر ، فلما غرق فرعون ، رجع موسى عليه السلام ببني إسرائيل ، إلى أرض مصر ، فنزلوا بها وسكنوا الدِّيار . ويقال : مبوأ صدق يعني : أرضاً كريمة ، يعني : أرض أردن وفلسطين . ويقال : منزل حسن . وقال قتادة : أرض الشام . ويقال : الأرض المقدسة .
{ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات } يعني : من ميراث أهل مصر ، وأهل الشام . { فَمَا اختلفوا حتى جَاءهُمُ العلم } فما اختلفوا في الدين حتى جاءهم البيان ، يعني : جاءهم موسى عليه السلام بعلم التوراة ، فاختلفوا من بعد يوشع بن نون . ويقال فما اختلفوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم حتى جاءهم العلم ، يعني : خرج النبي صلى الله عليه وسلم وجاءهم بالقرآن ، لأنهم لم يزالوا مؤمنين به ، وذلك أنهم يجدونه مكتوباً عندهم ، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم جحدوا به بعد العلم . { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من الذين آمن بعضهم ، وكفر بعضهم .

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)

قوله تعالى : { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } من القرآن ، { فَاسْأَلِ الذين *** يَقْرَءونَ **الكتاب مِن قَبْلِكَ } يعني : مؤمني أهل التوراة . وذلك أن كُفّار قريش ، قالوا : إنّ هذا الوحي يلقيه إليه الشيطان ، فأنزل الله تعالى : { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } فسيخبرونك أنه مكتوب عندهم في التوراة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا أسْأَلُ أحَداً ، وَلا أشُكُّ فِيهِ ، بَلْ أشُهَدُ أنَهُ الحَقُّ » . وقال القتبي : فيه تأويلان ، أحدهما : أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد فيه غيره من الشُّكّاك ، لأن القرآن نزل عليه بمذاهب العرب وهم يخاطبون الرجل بشيء ، ويريدون به غيره ، كما قالوا : إيَّاك أعني واسمعي يا جارية . وكقوله : { يأَيُّهَا النبى اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [ الأحزاب : 1 ] أراد به الأمة ، يدل عليه قوله تعالى في آخره : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كذلك كُنتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ النساء : 94 ] . وكقوله : { وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] . ووجه آخر : أن النّاس كانوا على ثلاث مراتب ، منهم من كان مؤمناً ، ومنهم من كان كافراً ، ومنهم من كان شاكاً ، وإنَّما خاطب بهذا الشَّاكَّ .
ثم قال : { لَقَدْ جَاءكَ الحق مِن رَّبّكَ } يعني : القرآن { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } يعني : من الشاكين ، { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله } يعني : بالكتاب ، وبالرسالات { فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين } ، يعني : من المغبونين .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ } ، يعني : وجبت عليهم كلمة ربك بالسخط ، وقدّر عليهم الكفر ، { لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني : لا يُصَدِّقونَ بالقرآن أنه من الله تعالى ، { وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ } يعني : علامة { حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم } يعني : الهلاك في الدُّنيا ، والعذاب في الآخرة . قرأ نافع ، وابن عامر : { كلمات * رَبَّكَ } وقرأ الباقون : { وَأَوْرَثْنَا القوم } .
قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ } يقول : لم يكن أهل قرية كافرة آمنت عند نزول العذاب { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } وقبل منها الإيمان ، ودفع عنهم العذاب { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } . قال مقاتل : فلولا ، على ثلاثة أوجه : الأول يعني : فلم ، مثل قوله : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ } { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون } . الثاني : فلولا يعني : فهلاّ كقوله : { فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 43 ] { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } [ الواقعة : 86 ] والثالث : فلولا يعني : فلوما ، كقوله :

{ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الامن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الامر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 83 ] { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } [ الصافات : 143 ] .
ويقال : فلولا هاهنا ، بمعنى فهلا كانت قرية آمنت ، فنفعها إيمانها . ومعناه فهلاّ آمنت في وقت ينفعها إيمانها . فأعلم الله تعالى ، أن الإيمان لا ينفع عند نزول العذاب ، ثمّ قال : { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } معناه : لكن قوم يونس { لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ } يعني : آمنوا قبل المعاينة ، فكشفنا عنهم . وروى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } كما نفع قوم يونس . وعن قتادة : إنَّ قوم يونس عليه السلام خرجوا ونزلوا على تل ، فدعوا الله تعالى أربعين ليلة ، حتى تاب الله عليهم . وروي عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنَّ يونس بعثه الله تعالى إلى قومه ، فدعاهم إلى عبادة الله تعالى ، وترك ما هم فيه من الكفر ، فأبوا ، فدعا ربه فقال : يا رب قد دعوتهم ، فأبوا . فأوحى الله تعالى إليه أن ادعهم ، فإن أجابوك وإلا فأعلمهم أن العذاب يأتيهم إلى ثلاثة أيام . فدعاهم فلم يجيبوه ، فأخبرهم بالعذاب ، فقالوا : ما جربنا عليه كذباً مذ كان معنا ، فإن لم يلبث معكم ، وخرج من عندكم ، فاحتالوا لأنفسكم . فلمّا كان بعض الليل خرج يونس من بينهم ، فلما كان اليوم الثالث رأوا حمرة وسواداً في السماء ، كهيئة النار والدخان ، فظنُّوا أن العذاب نازل بهم ، فجعلوا يطلبون يونس عليه السلام فلم يجدوه ، فلما كان آخر النهار أيسوا من يونس . وجعل يهبط السواد والحمرة ، فقال قائل منهم : إن لم تجدوا يونس عليه السلام فإنكم تجدون رب يونس ، فادعوه ، وتضرعوا إليه .
فخرجوا من القرية إلى الصحراء ، وأخرجوا النساء والصبيان والبهائم ، وفرقوا بين كل إنسان وولده ، وبين كل بهيمة وولدها ، ثمّ عجوا إلى الله تعالى مؤمنين ، مصدقين . وارتفعت أصوات الرجال والنساء والصبيان ، وخوار البهائم وأولادها ، واختلطت الأصوات ، وقربت منهم الحمرة والدخان ، حتى غشي السواد سطوحهم ، وبلغهم حرُّ النار . فلما عرف الله تعالى منهم صدق التوبة ، رفع عنهم العذاب بعدما كان غشيهم ، فذلك قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ } يعني : لم يكن أهل قرية آمَنَتْ { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } عند نزول العذاب { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا } يعني : صدّقوا بالألسن والقلوب ، عرف الله تعالى منهم الصدق ، { كَشَفْنَا عَنْهُمُ } يعني : رفعنا وصرفنا .
{ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا } يعني : عذاب الهون ، { وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } يعني : إلى منتهى آجالهم . وفي هذه الآية تخويف وتهديد لكفار مكة ، ولجميع الكفار إلى يوم القيامة ، أنهم إن لم يؤمنوا ينزل بهم العذاب ، فلا ينفعهم إيمانهم عند نزول العذاب .

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)

قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الارض كُلُّهُمْ جَمِيعًا } يعني : وفَّقهم لذلك وهداهم . ويقال : في الآية مضمر . ومعناه : ولو شاء ربك أن يؤمنوا ، لآمنوا كلهم جميعاً . { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس } يعني : الكفار { حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } ويقال : هو عمه أبو طالب . ولها وجه آخر : ولو شاء ربك ، لأراهم علامة لأضطروا إلى الإيمان ، كما فعل بقوم يونس ، ولكن لم يفعل ذلك لأن الدنيا دار ابتلاء ومحنة .
ثم قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } يعني : بإرادة الله تعالى ، وتوفيقه { وَيَجْعَلُ الرجس } يعني : الكفر { عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ } يعني : يترك حلاوة الكفر في قلوب الذين لا يرغبون في الإيمان . ويقال : ويجعل الرجس ، يعني : الإثم . ويقال : الرجس يعني : العذاب . قرأ عاصم ، في رواية أبي بكر : { وَنَجْعَلُ *** الرجس } بالنون ، وقرأ الباقون : { وَيَجْعَلَ } بالياء . ثمّ أخبر أنه لا عذر لمن تخلّف عن الإيمان؛ لأنه قد بيّن العلامات ، وهو قوله : { قُلِ انظروا مَاذَا فِى *** السموات } من الدلائل ، من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، { ***وَ } ما في { وَفِى الارض } ، من الجبال ، والبحار ، والأشجار ، والثمار ، فاعتبروا به .
ثم قال حين لم يعتبروا به : { وَمَا تُغْنِى الآيات } ما تنفع العلامات ، التي في السموات والأرض { والنذر } يعني : الرسل { عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } يعني : لا يرغبون في الإيمان ، ولا يطلبون الحق . وقال أبو العالية : لا تنفع الآيات والرسل عن قوم قد قُدِّر عليهم أنهم لا يؤمنون . ويقال : عَنْ هاهنا صلة ، ومعناه : وما تغني الآيات والنذر قوماً لا يؤمنون ، يعني : علم الله في الأزل أنهم لا يؤمنون .
ثم خَوَّفَهُمْ فقال تعالى : { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } يعني : أن يصيبهم العذاب ، مثل ما أصاب الأمم الخالية . { قُلْ فانتظروا } يعني : انتظروا العذاب { إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين } . ويقال انتظروا لهلاكي ، فإني معكم من المنتظرين بهلاككم .
قوله تعالى : { ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا } يعني : أنجيناهم من العذاب والهلاك ، { والذين ءامَنُواْ } معهم . انصرف هذا إلى قوله : { مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ * ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا } يعني : أنجيناهم من العذاب ، والذين آمنوا . يعني : أنجيناهم معهم . ومعناه : إذا جاءهم العذاب ينجي الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم ، ومن آمن معه ، كما أنجى سائر الرسل ، والذين آمنوا معهم . { كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا } يعني : هكذا واجب علينا { نُنجِ المؤمنين } من العذاب . قرأ الكسائي ، وعاصم في رواية حفص : { ثُمَّ نُنَجّى } . بجزم النون وتخفيف الجيم ، وقرأ الباقون : { نُنَجّى } بالنصب والتشديد . وكذلك في قوله { نُنجِ } الْمُؤْمِنينَ ومعناها واحد : نجيته ، وأنجيته .

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)

ثم قال عز وجل : { قُلْ ياأهل * أَيُّهَا الناس } يعني : يا أهل مكة ، وذلك حين دعوه إلى دين آبائهم ، فقال : { إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى } الإسلام ، وترجون أن أرجع إلى دينكم ، وأترك هذا الدين فلا أفعل ذلك . وهو قوله : { فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } من الآلهة ، ويقال ، معناه : إن كنتم في شك من ديني ، فأنا مستيقن في دينكم ومعبودكم أنهما باطلان ، { فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } . { ولكن أَعْبُدُ الله } يعني : أوحده وأطيعه { الذى يتوفاكم } يعني : يميتكم عند انقضاء آجالكم { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين } يعني : من الموقنين على دينهم ، ولا أرجع عن ذلك .
قوله تعالى : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ } يعني : إنَّ الله تعالى ، قال لي في القرآن : أن أخلص عملك ودينك { لِلدّينِ حَنِيفاً } يعني : استقم على التوحيد مخلصاً { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } أو يقال : وأمرت أن أكون من المسلمين .
إلى هاهنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك للكفار ، وقد تمّ الكلام إلى هذا الموضع . ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا أمرتك { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا } يعني : وأمرتك أن تخلص عملك دينك للدين حنيفاً ، يعني : استقم على ذلك . والحنف في اللغة ، هو الميل والإقبال إلى شيء ، لا يرجع عنه أبداً ، لهذا سُمِّيَ الرجل أحنف ، إذا كان أصابع رجليه مائلاً بعضها إلى بعض .
ثمّ قال تعالى : { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله } يعني : لا تعبد غير الله { مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ } يعني : ما لا ينفعك إن عبدته ، ولا يضرك إن عصيته ، وتركتَ عبادته ، { فَإِن فَعَلْتَ } ذلك ، يعني : فإن عبدت غير الله { فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين } يعني : من الضَّارِّين بنفسك .
قوله تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ } يعني : إن يُصِبْكَ الله بشدة أو بلاء { فَلاَ كاشف لَهُ إِلاَّ هُوَ } ، يعني : لا دافع لذلك الضر إلا هو . يعني : لا تقدر الأصنام على دفع الضر عنك { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } يعني : إن يُصِبْكَ بسعة في الرزق وصحة في الجسم ، { فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ } يعني : لا مانع لعطائه . { يُصَيبُ بِهِ } يعني : بالفضل { مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } مَنْ كان أهلاً لذلك . { وَهُوَ الغفور } لذنوب المؤمنين ، { الرحيم } بهم .
فأعلم الله تعالى أنه كاشف الضر ، ومعطي الفضل في الدنيا ، وهو الغفور للمؤمنين ، الرحيم بقبول حسناتهم . قال الفقيه أبو الليث ، حدثنا محمد بن الفضل ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا إبراهيم بن يوسف ، قال : حدثنا شيخ بصري عن الحسن ، أنه قال : قال عامر بن عبد قيس : ما أبالي ما أصابني من الدنيا وما فاتني منها ، بعد ثلاث آيات ذكرهن الله تعالى في كتابه قوله : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ } { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العزيز الحكيم } [ فاطر : 2 ] وقوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ هود : 6 ] .

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)

قوله تعالى : { قُلْ ياأهل * أَيُّهَا الناس } يعني : يا أهل مكة { قَدْ جَاءكُمُ الحق مِن رَّبّكُمْ } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن ، { فَمَنُ اهتدى } يعني : من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، { فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ } يعني : ثوابه لنفسه ، { وَمَن ضَلَّ } يعني : ومن كفر ولم يؤمن ، { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } يعني : جنايته على نفسه ، وإثم الضلالة على نفسه ، { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } يعني : لست عليكم بمسلط ، وهذا قبل الأمر بالقتال .
ثم قال تعالى : { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ } يعني : إن لم يصدقوك ، فاعمل بما أنزل إليك من القرآن ، { واصبر } على تكذيبهم ، { حتى يَحْكُمَ الله } يعني : يقضي الله تعالى بعذابهم ، في الدنيا وفي الآخرة ، { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } يعني : أعدل العادلين . ويقال : واصبر حتى يحكم الله ، يعني : حتى يأمر الله المؤمنين بقتالهم . ويقال : { فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ } يعني : من اجتهد حتى اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، { وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } يعني : ومن تغافل عن الحق حتى ضل فعقوبته عليها والله أعلم .

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)

{ الر } قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني : أنا الله أرى ، ويقال : الألف آلاؤه ، واللام لطفه ، والراء ربوبيته . { كِتَابٌ } يعني : هذا الكتاب ، وهو القرآن { الر كِتَابٌ } من الباطل ، فلم يوجد فيه عوج ولا تناقض . { ثُمَّ فُصّلَتْ } يعني : بيَّن أمره ونهيه . وقال الحسن : أحكمت آياته بالأمر والنهي ، وفصلت بالوعد والوعيد ، والثواب والعقاب . وقال مجاهد : فصلت أي فُسِّرت . وقال القتبي : أحكمت ، فلم تنسخ ، ثم فُصّلت بالحلال والحرام . ويقال : فصلت ، أي : أنزلت شيئاً بعد شيء ، فلم تنزل جملة واحدة .
{ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } يعني : أنزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى حكيم في أمره ، خبير بالعباد وبأعمالهم ، { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } يعني : نزل جبريل بالقرآن ، وقد بيَّنَ فيه ، ألا توحدوا ولا تطيعوا غير الله ، { إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ } يعن ي : قل لهم يا محمد إنني لكم من الله تعالى { نَّذِيرٍ } يعني : مخوف من عذابه للكافرين ، { وَبَشِيرٌ } بالجنة للمؤمنين . { وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ } يعني : وآمركم أن تستغفروا ربكم من الذنوب { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } يعني : وتوبوا إليه من الشرك والذنوب { يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا } يعني : يُعَيِّشْكُمْ في الدنيا عيشاً حسناً في خير وعافية ، { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى منتهى آجالكم . وقال القتبي : أصل الإمتاع الإطالة ، يقال : حبل ماتع وقد متع النهار إذا طال . يمتعكم ، يعني : يُعَمِّركم ، ويقال : يمتعكم متاعاً حسناً يعني : يجعلكم راضين بما يعطيكم . ويقال ويجعل حياتكم في الطاعة .
ثم قال : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } يعني : يعطي في الآخرة كل ذي فضل في العمل في الدنيا فضله ، في الآخرة في الدرجات . وروى جويبر ، عن الضحاك ، قال : يؤت كل ذي عمل ثواب عمله . وقال سعيد بن جبير ، في قوله : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } قال : من عمل حسنة كتبت عشر حسنات ، ومن عمل سيئة كتبت عليه سيئة واحدة ، فإن لم يعاقب بها في الدنيا ، أُخذ من العشرة واحدة ، وبقيت له تسع حسنات . ثم قال ابن مسعود رضي الله عنه هلك من غلب آحاده أعشاره .
{ وَإِن تَوَلَّوْاْ } يعني : أعرضوا عن الإيمان { فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ } يعني : قل لهم يا محمد : إني أخاف عليكم { عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } يعني : القحط . قال مقاتل : فحبس الله تعالى عنهم المطر سبع سنين حتى أكلوا الموتى . ويقال : { عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } ، يعني : عذاب النار يوم القيامة . ويقال : إنّي أخاف ، يعني : أعلم ، فيوضع الخوف موضع العلم لأن فيه طرفاً من العلم .

إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

ثم قال : { إلى الله مَرْجِعُكُمْ } يعني : مصيركم في الآخرة { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } يعني : هو قادر على بعثكم بعد الموت .
قوله تعالى : { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } قال الكلبي : يقول : يكتمون ما في صدورهم من العداوة { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } يعني : ليستروا ذلك منه { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } يعني : يلبسون ثيابهم ، يعني : حين يُغشي الرجل نفسه بثيابه ، يعني : { يَعْلَمْ } ما تحت ثيابه ، ويعلم { مَا يُسِرُّونَ } من العداوات ، { وَمَا يُعْلِنُونَ } بألسنتهم . قال الكلبي : نزلت في شأن أخنس بن شريق . وقال مقاتل : { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } يعني : يلوون . وذلك أن كفار مكة كانوا إذا سمعوا القرآن ، نكسوا رؤوسهم على صدورهم ، كراهية استماع القرآن ، { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } يعني : من النبي صلى الله عليه وسلم .
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : أخفى ما يكون الإنسان إذا أسر في نفسه شيئاً ، وتغطى بثوبه ، فبذلك أخفى ما يكون والله تعالى يطلع على ما في نفوسهم { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعني : ما في قلوب العباد من الخير والشر .
قوله تعالى : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } يعني : إلا الله القائم على رزقها . ويقال : الله ضامن لرزقها . ويقال : يرزقها الله حيث ما تَوَجَّهَتْ . { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } يعني : يعلم مستقرها حيث تأوي بالليل ، ومستودعها حيث تموت ، وتدفن . وروي عن عبد الله بن مسعود ، قال : مستقرها الأرحام ، ومستودعها الأرض التي تموت فيها . وقال عبد الله : إذا كان موت الرجل بأرض أتيت له حاجة ، حتى إذا كان عند انقضاء أمده قبض ، فتقول الأرض يوم القيامة : هذا ما استودعتني . وقال سعيد بن جبير ، ومجاهد : المستقر الرحم ، والمستودع الصلب . { كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } يعني : المستقر ، والمستودع . وبيان كل شيء ، ورزق كل دابة ، مكتوب في اللوح المحفوظ خلق من درة بيضاء .
قوله تعالى : { وَهُوَ الذى خَلَقَ *** السموات والارض *** فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } قال ابن عباس يعني : من أيام الآخرة . وقال الحسن : من أيام الدنيا { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء } قبل خلق السموات والأرض ، لأنه لم يكن تحته شيء ، سوى الماء . قال : حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد ، قال : حدثنا فارس بن مردويه ، قال : حدثنا محمد بن الفضل ، قال : حدثنا أبو مطيع ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام ، وبين السماء السابعة وبين الكرسي مسيرة خمسمائة عام ، وبين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام ، والعرش فوق الماء ، والله فوق العرش ، بِعُلِوِّهِ وقدرته يعلم ما أنتم فيه .
وروى أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أنس ، قال : كان عرشه على الماء ، فلمَّا خلق الله تعالى السموات والأرض ، قسم ذلك الماء قسمين .

فجعل نصفه تحت العرش وهو البحر المسجور ، وجعل النصف الآخر تحت الأرض السفلى ، وهو مكتوب في الكتاب الأول ، ويسمى اليم .
وعن سعيد بن جبير ، قال : سئل ابن عباس عن قول الله تعالى : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء } على أي شيء كان الماء؟ قال : على متن الريح . ويقال كان عرشه على الماء ، يعني : فوق الماء كقولك السماء فوق الأرض ، لا أنه ملتزق بالماء .
{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } يعني : ليختبركم أيكم أحسن أي أخلص عملاً ، وأزهد في الدنيا . والاختبار من الله تعالى ، هو إظهار ما يعلم من خلقه . ثم قال : { وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت } يعني : يوم القيامة { لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ } يعني : أهل مكة { إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ما هذا إلا كذب بين حيث يخبرنا أنه يكون البعث . قرأ حمزة ، والكسائي : { ساحر * مُّبِينٌ } بالألف ، وقرأ الباقون { سِحْرٌ مُّبِينٌ } بغير ألف .

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)

قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } يعني : سنيناً معلومة ، يعني : إلى الوقت الذي جعل أجلهم . وقال القتبي : يعني : إلى حين بغير توقيت ، وقوله : { وَقَالَ الذى نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } [ يوسف : 45 ] إنما هو سبع سنين { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } يعني : العذاب ، على وجه الاستهزاء ، { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ } يعني : العذاب { لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } يعني : ليس أحد يصرف العذاب عنهم ، إذا نزل بهم في الدنيا وفي الآخرة . { وَحَاقَ بِهِم } يعني : نزل بهم { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } .
قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً } يعني : أصبنا الإنسان منا رحمة ، يعني : نعمة وخيراً وعافية { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } يعني : آيس من رحمة الله ، كفور بنعم الله تعالى ، ثم قال : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء } يعني : أعطيناه خيراً ، وعافية ، وسعة في الرزق { بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ } يعني : أصابته { لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عَنّي } يعني : لا يشكر الله تعالى .
ذكر في الابتداء { لَّيَقُولَنَّ } بنصب اللام بلفظ الواحد ، لتقديم الفعل على الاسم ، وفي الثاني بضم اللام لأنه فعل الجماعة ، ولم يذكر الاسم ، وفي الثالث بنصب اللام لأنه فعل الواحد . ويقول : ذهب السيئات عني { إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } يعني : بطراً فرحاً بما أعطاه الله تعالى ، وهو الطغيان في النعمة ، فخور في نعم الله تعالى ، ومتكبر على الناس .
ثم استثنى ، فقال تعالى : { إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } ، وهم المؤمنون الذين صبروا على الطاعات ، والشدائد ليسوا كذلك ، وليسوا من أهل هذه الصفة ، إذا ابتلوا صبروا وإذا أعطوا شكروا { وَعَمِلُواْ الصالحات } بينهم وبين ربهم { أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم في الدنيا { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } يعني : ثواباً عظيماً في الجنة .
قوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ } يعني : لا تترك { بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } وذلك أن كفار مكة . قالوا : كيف لا ينزل إليه ملك ، أو يكون له كنز وطلبوا منه بأن لا يعيب آلهتهم ، فهمَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأن يترك عيبها ، رجاء أن يتبعوه ، فنزل : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } من أمر الآلهة { وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } في البلاغ ، { أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ } يعني : المال ، { أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ } يُعِينُهُ ويُصَدِّقُهُ فأمر بأن لا يترك تبليغ الرسالة ، فقال : يا محمد ، { إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ } يعني : إنما عليك تبليغ الرسالة ، والتخويف . { والله على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ } يعني : شهيد بأنك رسول الله تعالى ، قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } يعني : أيقولون والميم صلة افتراه ، يعني : اختلقه من تلقاء نفسه .
{ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } يعني : مختلقات .

قال الكلبي : يعني : بعشر سور مثل سورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والتوبة ، ويونس . وهود لأن العاشرة هي سورة هود . وقال بعضهم : هذا التفسير لا يصح ، لأن سورة هود مكية ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة مدنيات ، أُنْزِلَتْ بعد سورة هود بمدة طويلة . ولكن معناه فأتوا بعشر سور مثل سور القرآن ، أي سورة كانت ، مفتريات ، يعني : مختلقات إن كنتم تزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم يختلقه من ذات نفسه ، { وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله } يعني : استعينوا بآلهتكم { إِن كُنتُمْ صادقين } في مقالتكم .
فسكتوا ، فلم يجيبوا ، فنزل قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ * لَكُمْ } فإن لم يجيبوك ، خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الجماعة ، كما قال : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] ويقال : أراد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، { فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله } يقال : فاعلموا يا أهل مكة ، إنما أُنزل بعلم الله ، يعني : أنزل جبريل هذا القرآن بإذن الله تعالى وبأمره . وقال القتبي : بعلم الله ، يعني : من علم الله والباء مكان من .
ثمّ قال تعالى : { وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } يعني : فاعلموا أن لا إله إلا هو ، يعني : إن الله تعالى هو منزل الوحي ، وليس أحد ينزل الوحي غيره { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } يعني : مقرّين بأن الله أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ويقال : مخلصون بالتوحيد ويقال : { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } هذا على وجه الأمر ، يعني : أسلموا .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)

قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا } يعني : من كان يريد بعمله الدنيا ، ولا يريد به وجه الله . { نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } يعني : ثواب أعمالهم في الدنيا { وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } يعني : لا ينقص من ثواب أعمالهم شيء في الدنيا ، { أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ فِى الاخرة إِلاَّ النار } . قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أهل القبلة . وقال الحسن : نزلت في المنافقين والكافرين .
{ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } يعني : ثواب أعمالهم في الدنيا ، لأنه لم يكن لوجه الله تعالى . { وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وروى أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ ، صَارَتْ أُمَّتِي ثَلاثَ فِرَقٍ : فِرْقَةً يَعْبُدُونَ الله تَعَالَى خَالِصاً ، وَفِرْقَةً يَعْبُدُونَ الله تَعَالَى رِيَاءً ، وَفِرْقَةً يَعْبُدُونَ الله تَعَالى لِيُصِيبُوا بِهَا الدُّنْيَا . فَيَقُولُ الله تَعَالَى لِلّذِي كَانَ يَعْبُدُ الله لِلدُّنْيَا : وَمَاذَا أَرَدْتَ بِعِبَادَتِكَ؟ فَيَقُولَ : الدُّنْيَا . فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ : لاَ جَرَمَ ، وَلاَ يَنْفَعُكَ مَا جَمَعْتَ ، وَلاَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ . وَيَقُولَ : انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى النَّارِ ، وَيَقُولُ لِلَّذِي كَانِ يَعْبُدُ الله رِياءً ، مَاذَا أَرَدْتَ بِعَبَادِتكَ؟ فَيِقُولَ : الرِّيَاءَ ، فَيَقُولُ الله تَعَالَى : انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى النَّارِ ، وَيَقُولُ للَّذِي كَانَ يَعْبُدُ الله تَعَالىَ خَالِصاً : مِاذَا أَرَدْتَ بِعِبَادَتِكَ؟ فِيَقُولُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ، كُنْتُ أَعْبُدُكَ لِوَجْهِكَ وَذَاتِكَ . قَالَ : صَدَقَ عَبْدِي ، انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى الجَنَّةِ » .

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)

قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } يعني : على بيان من ربه ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ } يقول : يقرأ جبريل هذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وهو شاهد منه ، يعني : من الله تعالى . وهذا قول ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وقتادة ، وإبراهيم النخعي . ويقال : أفمن كان على بينة من ربه ، يعني : أن الله بيّن أمره ونبوته بدلائل أعطاها محمداً صلى الله عليه وسلم ، { وَيَتْلُوهُ } أي : يقرأ القرآنَ جبريلُ على محمد صلى الله عليه وسلم { شَاهِدٌ مّنْهُ } ، أي : ملك أمين من الله تعالى ، وهو جبريل . وقال شهر بن حوشب القرآن : شاهد من الله تعالى ، ومعناه : يتلو القرآن ، وهو شاهد من الله تعالى . وقال الحسن : ويتلوه شاهد منه ، يعني : لسان محمد صلى الله عليه وسلم . وقال قتادة : لسانه شاهد منه . وكذلك قال عكرمة . قال : حدثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدثنا السراج ، قال : حدثنا أبو إسماعيل ، قال : حدثنا صفوان بن صالح ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الخليل ، عن قتادة ، عن عروة ، عن محمد بن علي ، قال : قلت لعليّ : إنَّ الناس يزعمون في قوله تعالى : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ } أنك أنت التالي ، قال : وددت أني أنا هو ، ولكنه لسان محمد صلى الله عليه وسلم . ويقال : الشَّاهد القرآن ، ويتلوه يعني : بعده . ويقال : يتلوه ، يعني : يتبعه ، كقوله : { والقمر إِذَا تلاها } [ الشمس : 2 ] . قال القتبي : هذا كلام على الاختصار ومعناه : أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، كالذي يريد الحياة الدنيا وزينتها؟ فاكتفى من الجواب بما تقدم ، كقوله : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ اليل ساجدا وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الالباب } [ الزمر : 9 ] يعني : كمن هو بخلاف ذلك .
ثم قال : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى } يعني : جبريل قرأ التوراة على موسى عليه السلام من قبل أن يتلو القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم . وهذا قول الكلبي ، ومقاتل . وقال عبد الله بن سلام : يتلو القرآن ، وكان من قبله يتلو التوراة . والتأويل الأول أصح ، لأن هذه السورة مكية ، وعبد الله بن سلام أسلم في المدينة . ويقال : هم الذين آمنوا بمكة من أهل الكتاب ، حين قدموا من الحبشة .
ثم قال : { إَمَامًا وَرَحْمَةً } يعني : إماماً يُهتدى به ويعمل به ، ورحمةً ، يعني : ونعمة من العذاب لمن آمن به ، يعني : كتاب موسى عليه السلام { أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعني : بالقرآن وهذا كقوله : { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب فالذين ءاتيناهم الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ باياتنآ إِلاَّ الكافرون }

[ العنكبوت : 47 ] يعني : بالقرآن .
ثم قال : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاحزاب } يعني : من يجحد بالقرآن { فالنار مَوْعِدُهُ } يعني : مصيره . قال سعيد بن جبير : ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وجدت مصداقه في كتاب الله تعالى ، حتى بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذه الأمَّةِ ، لاَ يَهُودِيٌّ ، وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ، ثُمَّ لاَ يُؤمِنُ بِي إِلاَّ دَخَلَ النَّارَ » . فجعلت أقول وأتفكر : أين هذا في كتاب الله؟ حتى أتيت على هذه الآية ، { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاحزاب فالنار مَوْعِدُهُ } قال : هي في أهل الملل كلها .
ثم قال : { فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ } يعني : فلا تك في شك أن موعده النار . { أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ } وهذا قول الكلبي . وقال مقاتل : فلا تك في شك أن القرآن من الله تعالى ، وأنه الحق من ربك ، أي : الصدق من ربك ، رداً لقولهم : إنه يقول ذلك من شيطان يلقيه إليه ، يقال له : الري .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَا مِنْ أَحَدٍ إلا وَمَعَهُ شَيْطَانٌ فَاغِرٌ بَيْنَ يَدَيهٍ ، إلا أَنَّ الله تَعَالَى أَعَانَنِي عَلَيْه وَأَسْلَم » . ثم قال : { ولكن أَكْثَرَ الناس } أهل مكة { لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني : لا يصدقون بالقرآن بأنه من عند الله تعالى .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)

ثم قال عز وجل : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } يعني : ومن أشد في كفره ممن افترى ، يقول : ممن اختلق على الله كذباً ، بأن معه شريكاً { أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ على رَبّهِمْ } يعني : يساقون إلى ربهم يوم القيامة ، { وَيَقُولُ الاشهاد } يعني الرسل : قد بلغناهم الرسالة . وقال الضحاك : ويقول الأشهاد ، يعني : الأنبياء . وقال قتادة ، ومجاهد ، ويقول الأشهاد ، يعني : الملائكة . وقال الأخفش : الأشهاد ، واحدها شاهد ، مثل أصحاب وصاحب ، ويقال : شهيد وأشهاد ، مثل : شريف وأشراف .
قال الله تعالى : { هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ } يعني : افتروا على الله عز وجل بأن معه شريكاً ، وقال الله : { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } ، يعني : عذابه وغضبه على المشركين . ثم وصفهم فقال تعالى : { الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } يعني : يصرفون الناس عن دين الإسلام { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } يطلبون بملة الإسلام زيفاً وغِيراً ، { وَهُمْ بالاخرة هُمْ * كاذبون } ينكرون البعث .
قوله تعالى : { أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الارض } يعني : لم يفوتوا ، ولم يهربوا من عذاب الله تعالى ، حتى يجزيهم بأعمالهم الخبيثة ، { وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء } يعني : ما كان لهم من عذاب الله تعالى مانع يمنعهم من العذاب ، { يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } يعني : الرؤساء يكون لهم العذاب بكفرهم ، وبما أضلوا غيرهم ، { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع } في العذاب ، لا يقدرون أن يسمعوا { وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } في النار شيئاً .
ويقال : ذلك التضعيف لهم ، لأنهم كانوا لا يستطيعون الاستماع إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، في الدنيا من بغضه ، { وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } ، أي : عمياً لا ينظرون إليه من بغضه . وقال الكلبي : يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون سماع الهدى ، وبما كانوا لا يبصرون الهدى . ويقال : كانوا لا يستطيعون أن يسمعوا ، فلم يسمعوا وكانوا يستطيعون أن يبصروا ، فلم يبصروا . ويقال : يعني : لم يكن لهم سمع القلب ، وما كانوا يبصرون ، أي لم يكن لهم بصر القلب . قرأ ابن كثير ، وابن عامر { يضاعف لَهُمْ } بتشديد العين بغير ألف ، وقرأ الباقون : { يضاعف } بالألف ، ومعناهما واحد .
ثمّ بيَّنَ أنّ ضرر ذلك يرجع إلى أنفسهم ، فقال تعالى : { أُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } يعني : غبنوا حظَّ أنفسهم { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } يعني : ويبطل عنهم ما كانوا يعبدون من دون الله تعالى ، فات عنهم ولا ينفعهم شيئاً .
ثم قال تعالى : { لاَ جَرَمَ } قال القتبي : يعني حقاً . ويقال : يعني نعم . ويقال : لا جرم ، يعني : لا شك . ويقال : لا كذب . ويقال : لا جرم ، أي : لا بلى . وذكر عن الفراء أنه قال : لا جرم ، كلمة كانت في الأصل ، بمنزلة لا بد ، ولا محالة ، فكثر استعمالهم إياها حتى صارت بمنزلة حقاً ، { أَنَّهُمْ فِى الاخرة هُمُ الاخسرون } يعني : الخاسرين .

ويقال : الأخسر إذا قلت بالألف واللام ، يكون بمعنى الخاسر ، وإذا قلت : أخسر بغير اللام ، يكون أخسر من غيره .
ثم أخبر عن المؤمنين ، وما أعدّ لهم في الآخرة ، فقال : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } يعني : صدقوا بوحدانية الله تعالى ، { وَعَمِلُواْ الصالحات } ، يعني : الطاعات فيما بينهم وبين ربهم ، { وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ } ، قال القتبي : يعني : تواضعوا ، والإخبات : التواضع . وقال مقاتل : أخلصوا ، ويقال : يخشعوا فرقاً من عذاب ربهم ، { أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة } يعني : أهل الجنة { هُمْ فِيهَا خالدون } يعني : دائمون ، لا يموتون ولا يخرجون منها ، ثم ضرب مثل المؤمنين والكافرين :

مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)

فقال تعالى : { مَثَلُ الفريقين } يعني : مثل المؤمن والكافر ، ومثل الذي يبصر الحق ، ومثل الذي لا يبصر الحق : { كالاعمى } يعني : عن الإيمان ، ولا يبصره ، { والاصم } عن الإيمان ، ولا يسمعه ، وهو الكافر ، { والبصير والسميع } وهو المؤمن . { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } في الشبه . ويقال معناه : مثل الفريقين ، يعني : الذي لا يسمع ، ولا يبصر ، هل يستوي بالذي يسمع ويبصر؟ ويقال معناه : كالأعمى والبصير ، والأصم والسميع . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار مكة : « هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ والأصَمُّ وَالسَّمِيعُ؟ » قالوا لا . قال : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أنهما لا يستويان . قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } بالتخفيف ، وقرأ الباقون : { تَذَكَّرُونَ } بالتشديد .
ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } قرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، وابن عامر ، إنِّي بكسر الألف ، ومعناه : قال لهم : إنِّي لكم نذير . وقرأ الباقون : أنِّي لكم بالنصب ، ومعناه : ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه بالإنذار . وفي الآية تهديد لأهل مكة ، معناه : واتل عليهم نبأ نوح ، يعني : إن لم يتّعظوا بما ذكرت ، فاتل عليهم خبر نوح . وروى أبو صالح ، عن ابن عباس : أن نوحاً أُوحي إليه ، وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة ، فدعا قومه مائة وعشرين سنة ، وركب السفينة وهو ابن ستمائة سنة ، ومكث بعد هلاك قومه ثلاثمائة وخمسين سنة . فذلك ألف سنة إلا خمسين عاماً ، وذكر عن وهب بن منبه ، قال : أوحى الله تعالى إلى نوح وهو ابن تسعمائة ، ودعا قومه خمسين سنة . فلما هلك قومه عاش بعدهم خمسين سنة ، فتمام عمره ألف وخمسون .
وقال عكرمة : إنما سُمِّي نوحاً لأنه كان ينوح على نفسه . ويقال : كان اسمه شاكر ، فمن كثرة نوحه على نفسه ، سُمِّيَ نوحاً ، فدعا قومه إلى الله وقال لهم : إنِّي لكم نذير مبين من العذاب . ويقال : مبين ، يعني : مبين بلغة تعرفونها { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } يعني : ألا تطيعوا ، ولا توحِّدوا إلا الله ، { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } يعني : الغرق .
قال الله تعالى : { فَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } يعني : الأشراف من قومه { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } يعني : آدمياً مثلنا ، { وَمَا نَرَاكَ اتبعك } يعني : آمن بك { إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } يعني : سفلتنا وضعفاؤنا { بَادِىَ الرأى } . قال الكلبي : ظاهر الرأي ، يعني : إنهم يعرفون الظاهر ، فلا تمييز لهم . وقال مقاتل : يعني : بدا لنا أنهم سفلتنا وضعفاؤنا بادي الرأي . وقال القتبي : أراذلنا يعني : شرارنا ، وهو جمع أرذل . وقوله : بادي الرأي ، بغير همز ، أي ظاهر الرأي ، من بدا يبدو . وأما بادىء بالهمزة ، يعني : أول الرأي من قولك : بدأ يبدأ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18