كتاب : المختصر في أخبار البشر
المؤلف : أبو الفداء

وفي أيامه، في سنة ثمان وستين وستمائة، وصل الفرنسيس إلى إفريقية بجموع الفرنج، وأشرفت إفريقية على الذهاب، فقصمه الله، ومات الفرنسيس، وتفرقت تلك الجموع. وفي أيامه خافه أخوه أبو إسحاق إبراهيم بن أبي زكريا، فهرب ثم أقام بتلمسان، وبقي المستنصر المذكور كذلك حتى توفي ليلة حادي عشر ذي الحجة سنة خمس وسبعين وستمائة.
فملك ابنه يحيى بن محمد بن أبي زكريا، وتلقب بالواثق بالله أمير المؤمنين، وكان ضعيف الرأي، فتحرك عليه عمه أبو إسحاق إبراهيم الذي هرب وأقام بتلمسان، وغلب على الواثق، فخلع نفسه، واستقر أبو إسحاق إبراهيم في المملكة في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وستمائة، وخطب لنفسه بالأمير المجاهد، وترك زي الحفصيين وأقام على زي زناتة، وعكف على الشرب، وفرق المملكة على أولاده، فوثبت أولاده على الواثق المخلوع وذبحوه، وذبحوا معه ولديه الفضل والطيب، ابن يحيى الواثق المذكور، وسلم للواثق ابن صغير تلقب أبا عصيدة، لأنهم يصنعون للنفساء عصيدة، فيها أدوية، ويهدى، منها للجيران، وعلمت أم الصبي ذلك، فلقب ولدها بأبي عصيدة، ثم ظهر إنسان ادعى أنه الفضل بن الواثق الذي ذبح مع ابنه، واجتمعت عليه الناس، وقصد أبا إسحاق إبراهيم وقهره، فهرب أبو إسحاق إلى بجاية، وبها ابنه أبو فارس عبد العزيز بن إبراهيم، فترك أبو فارس أباه ببجاية وسار بأخويه وجمعه إلى الداعي بتونس، والتقى الجمعان، فانهزم عسكر بجاية، وقتل أبو فارس وثلاثة من إخوته وأنجاله، أخ اسمه يحيى بن إبراهيم، وعمه أبو حفص عمر بن أبي زكريا.
ولما هزم الداعي عسكر بجاية وقتل المذكورين، أرسل إلى بجاية من قتل أبا إسحاق إبراهيم، وجاء برأسه، ثم تحدث الناس بدعوة الداعي، واجتمعت العرب على عمر بن أبي زكريا بعد هروبه من المعركة، وقوي أمره، وقصد الداعي ثانياً بتونس وقهره، واستتر الداعي في دور بعض التجار بتونس، ثم أحضر واعترف بنسبه، وضربت عنقه. فكان الداعي المذكور من أهل بجاية، واسمه أحمد بن مرزوق بن أبي عمار، وكان أبوه يتجر إلى بلاد السودان، وكان الداعي المذكور محارفاً قصيفاً، وسار إلى ديار مصر ونزل بدار الحديث الكاملية، ثم عاد إلى المغرب، فلما مر على طرابلس كان هناك شخص أسود يسمى نصيراً، كان خصيصاً بالواثق المخلوع، قد هرب لما جرى للواثق ما جرى، وكان في أحمد الداعي بعض الشبه من الفضل بن الواثق، فدبر مع نصير المذكور الأمر، فشهد له أنه الفضل بن الواثق، فاجتمعت عليه العرب، وكان منه ما ذكرناه حتى قتل، وكان الداعي يخطب له بالخليفة الإمام المنصور بالله، القائم بحق الله، أمير المؤمنين، ابن أمير المؤمنين أبي العباس الفضل.
ولما استقر أبو حفص عمر في المملكة وقتل الداعي، تلقب بالمستنصر بالله أمير المؤمنين، وهو المستنصر الثاني، ولما استقر في المملكة سار ابن أخيه يحيى ابن إبراهيم بن أبي زكريا الذي سلم من المعركة إلى بجاية، وملكها وتلقب بالمنتخب لإحياء دين الله، أمير المؤمنين، واستمر المستنصر الثاني أبو حفص عمر ابن أبي زكريا في مملكته حتى توفي، وفي أوائل المحرم سنة خمس وتسعين وستمائة، ولما اشتد مرضه بايع لابن له صغير، فاجتمعت الفقهاء وقالوا له: أنت صائر إلى الله، وتولية مثل هذا لا يحل فأبطل بيعته، وأخرج ولد الواثق المخلوع، الذي كان صغيراً وسلم من الذبح، الملقب بأبي عصيدة، وبويع صبيحة موت أبي حفص عمر الملقب بالمستنصر. وكان اسم أبي عصيدة المذكور، أبا عبد الله محمد، وتلقب أبو عصيدة بالمستنصر، أيضاً، وهو المستنصر الثالث، وتوفي في أيامه صاحب بجاية المنتخب، يحيى بن إبراهيم بن أبي زكريا، وملك بعده بجاية ابنه خالد بن يحيى، وبقي أبو عصيدة لذلك حتى توفي سنة تسع وسبعمائة.
فملك بعده شخص من الحفصيين يقال له أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر

ابن أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص، صاحب ابن تومرت، وأقام في الملك ثمانية عشر يوماً، ثم وصل خالد بن المنتخب صاحب بجاية، ودخل تونس، وقتل أبا بكر المذكور في سنة تسع وسبعمائة. ولما جرى ذلك، كان زكريا اللحياني بمصر، فسار مع عسكر السلطان الملك الناصر، خلد الله ملكه، إلى طرابلس الغرب، وبايعه العرب، وسار إلى تونس فخلع خالد بن المنتخب وحبس، ثم قتل قصاصاً بأبي بكر ابن عبد الرحمن المقدم الذكر، واستقر اللحياني في ملك إفريقية، وهو ابن يحيى زكريا بن أحمد بن محمد الزاهد اللحياني بن عبد الواحد بن أبي حفص، صاحب ابن تومرت.
ثم تحرك على اللحياني أخو خالد، وهو أبو بكر بن يحيى المنتخب، فهرب اللحياني إلى ديار مصر وأقام بالإسكندرية، وملك أبو بكر المذكور تونس وما معها، خلا طرابلس والمهدية، فإنه بعد هروب اللحياني، بايع ابنه محمد بن اللحياني لنفسه، واقتتل مع أبي بكر، فهزمه أبو بكر، واستقر محمد بن اللحياني بالمهدية، وله معها طرابلس، وكان استيلاء أبي بكر وهروب اللحياني إلى ديار مصر، في سنة تسع وعشرة وسبعمائة. وأقام اللحياني في الإسكندرية، ثم وردت عليه مكاتبات من تونس في ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وسبعمائة إلى الإسكندرية، يذكرون فيها أن أبا بكر متملك تونس المذكور، قد هرب وترك البلاد، وأن الناس قد اجتمعوا على طاعة اللحياني وبايعوا نائبه، وهو محمد بن أبي بكر، من الحفصيين، وهو صهر زكريا اللحياني المذكور، وهم في انتظار وصول اللحياني إلى مملكته، أقول وقد بقيت مملكة إفريقية، فهرب منها لضعفها بسبب استيلاء العرب عليها.
ذكر مقتل أقطاي في هذه السنة اغتال الملك المعز أيبك التركماني المستولى على مصر، خوشداشه أقطاي الجمدار، وأوقف له في بعض دهاليز الدور التي بقلعة الجبل ثلاثة مماليك، وهم قطز، وبهادر، وسنجر الغتمي، فلما مر بهم فارس الدين أقطاي ضربوه بسيوفهم فقتلوه، ولما علمت البحرية بذلك هربوا من ديار مصر إلى الشام، وكان الفارس أقطاي يمنع أيبك من الاستقلال بالسلطنة، وكان الاسم للملك الأشرف موسى بن يوسف بن يوسف ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
فلما قتل أقطاي استقل المعز التركماني بالسلطنة، وأبطل الأشرف موسى المذكور منها بالكلية، وبعث به إلى عماته القطبيات، وموسى المذكور آخر من خطب له من بيت أيوب بالسلطنة في مصر، وكان انقضاء دولتهم من الديار المصرية في هذه السنة على ما شرحناه، ووصلت البحرية إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام، وأطمعوه في ملك مصر، فرحل من دمشق بعسكر ونزل عمقاً من الغور، وأرسل إلى غزة عسكراً فنزلوا بها، وبرز المعز أيبك صاحب مصر إلى العباسة، وخرجت السنة وهم على ذلك.
وفيها قدمت ملكة خاتون بنت كيقباذ ملك بلاد الروم إلى زوجها الملك الناصر يوسف صاحب الشام.
وفيها ولي الملك المنصور صاحب حماة، قضاء حماة للقاضي شمس الدين إبراهيم بن هبة الله بن البارزي، بعد عزل القاضي المحيي حمزة بن محمد.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وستمائة فيها عزمت العزيزية المقيمون مع المعز أيبك على القبض عليه، وعلم بذلك، واستعد لهم، فهربوا من مخيمهم على العباسة على حمية، واحتيط على وطاقاتهم جميعها.
وفي هذه السنة مشى نجم الدين الباذراي في الصلح بين المصريين والشاميين، واتفق الحال أن يكون للملك الناصر الشام جميعه إلى العريش، ويكون الحد بين القاضي، وهو بين الورادة والعريش، وبيد المعز أيبك الديار المصرية، وانفصل الحال على ذلك ورجع كل إلى بلده.
وفي هذه السنة أو التي قبلها تزوج المعز أيبك شجرة الدر أم خليل، التي خطب لها بالسلطنة في ديار مصر.

وفيها طلب الملك الناصر داود من الملك الناصر يوسف دستوراً إلى العراق، بسبب طلب وديعته من الخليفة، وهي الجوهر الذي تقدم ذكره، وأن يمضي إلى الحج، فأذن له الناصر يوسف في ذلك، فسار الناصر داود إلى كربلاء، ثم مضى منها إلى الحج، ولما رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، تعلق في أستار الحجرة الشريفة بحضور الناس وقال: اشهدوا أن هذا مقامي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، داخلاً عليه، مستشفعاً به إلى ابن عمه المستعصم، في أن يرد علي وديعتي، فأعظم الناس ذلك، وجرت عبراتهم، وارتفع بكاؤهم، وكتب بصورة ما جرى مشروح، ورفع إلى أمير الحاج كيخسرو، وذلك يوم السبت الثامن والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وتوجه الناصر داود مع الحاج العراقي وأقام ببغداد.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستمائة فيها مات كيخسرو ملك بلاد الروم، وأقيم في السلطنة ولداه الصغيران عز الدين كيكاؤوس وركن الدين قليج أرسلان.
وفيها توجه كمال الدين المعروف بابن العديم، رسولاً من الملك الناصر يوسف صاحب الشام، إلى الخليفة المستعصم، وصحبته تقدمة جليلة، وطلب خلعة من الخليفة لمخدومه، ووصل من جهة المعز أيبك صاحب مصر، شمس الدين سنقر الأقرع، وهو من مماليك المظفر غازي صاحب ميافارقين، إلى بغداد، بتقدمة جليلة، وسعى في تعطيل خلعة الناصر يوسف صاحب دمشق، فبقي الخليفة متحيراً، ثم إنه أحضر سكيناً من اليسم كبيرة، وقال الخليفة لوزيره: أعط هذه السكين رسول صاحب الشام، علامة مني في أن له خلعة عندي في وقت آخر، وأما في هذا الوقت فلا يمكني، فأخذ كمال الدين ابن العديم السكين، وعاد إلى الناصر يوسف بغير خلعة.
ذكر غير ذلكفيها جرى للناصر داود مع الخليفة ما صورته، أنه لما أقام ببغداد بعد وصوله مع الحجاج، واستشفاعه بالنبي صلى الله عليه وسلم في رده وديعته، أرسل الخليفة المستعصم من حاسب الناصر داود المذكور، على ما وصله في ترداده إلى بغداد من المضيف، مثل اللحم والخبز والحطب والعليف والتبن وغير ذلك، وثمن عليه ذلك بأغلى الأثمان، وأرسل إليه شيئاً نزراً، وألزمه أن يكتب خطه بقبض وديعته، وأنه ما بقي يستحق عند الخليفة شيئاً، فكتب خطه بذلك كرهاً، وسار عن بغداد وأقام مع العرب. ثم أرسل إليه الناصر يوسف بن العزيز بن غازي بن يوسف صاحب الشام، فطيب قلبه وحلف له، فقدم الناصر داود إلى دمشق ونزل بالصالحية.
وفي هذه السنة يوم الأحد ثالث شوال، توفي سيف الدين طغريل مملوك الملك المظفر محمود، صاحب حماة، وكان قد زوجه المظفر المذكور بأخته، وقام بتدبير مملكة حماة بعد وفاة الملك المظفر، حتى توفي في التاريخ المذكور.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة.
ذكر قتل المعز أيبك التركماني وفي هذه السنة في يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول، قتل الملك المعز أيبك التركماني الجاشنكير الصالحي، قتلته امرأته شجرة الدر، التي كانت امرأة أستاذه الملك الصالح أيوب، وهي التي خطب لها بالسلطنة في ديار مصر، وكان سبب ذلك: أنه بلغها أن المعز أيبك المذكور، قد خطب بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، ويريد أن يتزوجها، فقتلته في الحمام بعد عوده من لعب الكرة في النهار المذكور، وكان الذي قتله، سنجر الجوجري، مملوك الطواشي محسن، والخدام، حسبما اتفقت معهم عليه شجر الدر، وأرسلت في تلك الليلة إصبع المعز أيبك وخاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبي الكبير، وطلبت منه أن يقوم بالأمر، فلم يجسر على ذلك، ولما، ظهر الخبر، أراد مماليك المعز أيبك قتل شجرة الدر، فحماها المماليك الصالحية، فاتفقت الكلمة على إقامة نور الدين علي ابن الملك المعز أيبك، ولقبوه الملك المنصور، وعمره يومئذ خمس عشرة سنة.
ونقلت شجرة الدر من دار السلطنة إلى البرج الأحمر، وصلبوا الخدام الذين اتفقوا معها على قتل المعز أيبك، وهرب سنجر الجوجري، ثم ظفروا به وصلبوه، واحتيط على الصاحب بهاء الدين علي بن جنا، لكونه وزير شجرة الدر، وأخذ خطة بستين ألف دينار، وفي يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر من هذه السنة، اتفقت مماليك المعز أيبك مثل سيف الدين قطز، وسنجر الغتمي،.وبهادر، وقبضوا على علم الدين سنجر الحلبي، وكان قد صار أتابكاً للملك المنصور نور الدين ابن الملك علي المعز أيبك ورتبوا في أتابكية المذكور أقطاي المستعرب الصالحي.

وفي سادس عشر ربيع الآخر من السنة المذكورة، قتلت شجرة الدر، وألقيت خارج البرج، فحملت إلى تربة قد عملتها، فدفنت فيها، وكانت تركية الجنس، وقيل كانت أرمنية، وكانت مع الملك الصالح في الاعتقال بالكرك، وولدت منه ولداً اسمه خليل، مات صغيراً، وبعد أيام من ذلك خنق شرف الدين الفائزي.
ذكر مفارقة البحرية الملك الناصر يوسف
صاحب الشام ابن الملك العزيز:في هذه السنة، نقل إلى الناصر يوسف، أن البحرية يريدون أن يفتكوا به، فاستوحش خاطره منهم، وتقدم إليهم بالانتزاح عن دمشق، فساروا إلى غزة، وانضموا إلى الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل، وانزعج أهل مصر لقدوم البحرية إلى غزة، وبرزوا إلى العباسة، ووصل من البحرية جماعة مقفزين إلى القاهرة، منهم عز الدين الأثرم، فأكرموهم وأفرجوا عن أملاك الأثرم. ولما فارق البحرية الناصر صاحب الشام، أرسل عسكراً في إثرهم، فكبس البحرية ذلك العسكر ونالوا منه، ثم إن عسكر الناصر بعد الكبسة، كسروا البحرية، فانهزموا إلى البلقاء وإلى زعز، ملتجين إلى الملك المغيث صاحب الكرك، فأنفق فيهم المغيث أموالاً جليلة، وأطمعوه في ملك مصر، فجهزهم بما احتاجوه، وسارت البحرية إلى جهة مصر، وخرجت عساكر مصر لقتالهم، والتقى المصريون مع البحرية وعسكر المغيث بكرة السبت، منتصف ذي القعدة من هذه السنة، فانهزم عسكر المغيث والبحرية، وفيهم بيبرس البند قداري، المسمى بعد ذلك بالملك الظاهر، إلى جهة الكرك.
ذكر غير ذلك من الحوادثفي هذه السنة وصل من الخليفة المستعصم، الخلعة والطوق والتقليد، إلى الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز. وفيها استجار الناصر داود بنجم الدين الباذراي، في أن يتوجه صحبته إلى بغداد، فأخذه صحبته، وتوصل الناصر يوسف صاحب دمشق إلى منعه عن ذلك، فلم يتهيأ له، وسار الناصر داود مع الباذراي إلى قرقيسيا، فأخره الباذراي ليشاور عليه، فأقام الناصر داود في قرقيسيا ينتظر الإذن بالقدوم إلى بغداد فلم يؤذن له، وطال مقامه، فسافر إلى البرية وقصد تيه بني إسرائيل، وأقام مع عرب تلك البلاد.
وفي هذه السنة أو التي قبلها، ظهرت نار بالحرة، عند مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لها بالليل ضوء عظيم، يظهر من مسافة بعيدة جداً، ولعلها النار التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة، فقال " نار تظهر بالحجاز تضيء منها أعناق الإبل ببصرى " ثم اتفق أن الخدام بحرم النبي صلى الله عليه وسلم، وقع منهم في بعض الليالي تفريط، فاشتعلت النار في المسجد الشريف، واحترقت سقوفه، ومنبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتألم الناس لذلك.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة.
ذكر استيلاء التتر على بغداد
وانقراض الدولة العباسية:

في أول هذه السنة قصد هولاكو ملك التتر بغداد وملكها، في العشرين من المحرم، وقتل الخليفة المستعصم بالله، وسبب ذلك أن وزير الخليفة مؤيد الدين ابن العلقمي، كان رافضياً، وكان أهل الكرخ أيضاً روافض، فجرت فتنة بين السنية والشيعة ببغداد، على جاري عادتهم، فأمر أبو بكر ابن الخليفة، وركن الدين الدوادار، العسكر، فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء، وركبوا منهن الفواحش، فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي، وكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغداد، وكان عسكر بغداد يبلغ مائة ألف فارس، فقطعهم المستعصم ليحمل إلى التتر متحصل إقطاعاتهم، وصار عسكر بغداد دون عشرين ألف فارس، وأرسل ابن العلقمي إلى التتر أخاه، يستدعيهم، فساروا قاصدين بغداد في جحفل عظيم، وخرج عسكر الخليفة لقتالهم، ومقدمه ركن الدين الدوادار، والتقوا على مرحلتين من بغداد، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عسكر الخليفة، ودخل بعضهم بغداد، وسار بعضهم إلى جهة الشام، ونزل هولاكو على بغداد من الجانب الشرقي ونزل باجو، وهو مقدم كبير، في الجانب الغربي، على قرية، قبالة دار الخلافة، وخرج مؤيد الدين الوزير ابن العلقمي إلى هولاكو فتوثق منه لنفسه، وعاد إلى الخليفة المستعصم وقال إن هولاكو يبقيك في الخلافة كما فعل بسلطان الروم، ويريد أن يزوج ابنته من ابنك أبي بكر، وحسن له الخروج إلى هولاكو، فخرج إليه المستعصم في جمع من أكابر أصحابه، فأنزل في خيمة، ثم استدعى الوزير الفقهاء والأماثل فاجتمع هناك جميع سادات بغداد والمدرسون، وكان منهم محي الدين ابن الجوزي وأولاده، وكذلك بقي يخرج إلى التتر طائفة بعد طائفة، فلما تكاملوا، قتلهم التتر عن آخرهم، ثم مدوا الجسر، وعدى باجو ومن معه، وبذلوا السيف في بغداد، وهجموا دار الخلافة، وقتلوا كل من كان فيها من الأشراف، ولم يسلم إلا من كان صغيراً، فأخذ أسيراً، ودام القتل والنهب في بغداد نحو أربعين يوماً، ثم نودي بالأمان. وأما الخليفة فإنهم قتلوه، ولم يقع الاطلاع على كيفية قتله، فقيل خنق، وقيل وضع في عدل ورفسوه حتى مات، وقيل غرق في دجلة، والله أعلم بحقيقة ذلك. وكان هذا المستعصم، وهو عبد الله أبو أحمد بن المستنصر أبي جعفر، منصور بن محمد الطاهر ابن الإمام الناصر أحمد. وقد تقدم ذكر باقي نسبه عند ذكر وفاة الإمام الناصر. كان ضعيف الرأي، قد غلب عليه أمراء دولته لسوء تدبيره، تولى الخلافة بعد موت أبيه المستنصر، في سنة أربعين وستمائة، وكانت مدة خلافته نحو ست عشرة سنة تقريباً، وهو آخر الخلفاء العباسيين، وكان ابتداء دولتهم في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وهي السنة التي بويع فيها السفاح بالخلافة، وقتل فيها مروان الحمّار، آخر خلفاء بني أمية، وكانت مدة ملكهم خمس مائة سنة، وأربعاً وعشرين سنة تقريباً، وعدة خلفائهم، سبعة وثلاثون خليفة، حكى القاضي جمال الدين ابن واصل قال: لقد أخبرني من أثق به، أنه وقف على كتاب عتيق، فيه ما صورته أن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، بلغ بعض خلفاء بني أمية عنه، أنه يقول: إن الخلافة تصير إلى ولده، فأمر الأموي بعلي بن عبد الله، فحمل على جمل وطيف به وضرب، وكان يقال عند ضربه: هذا جزاء من يفتري ويقول: إن الخلافة تكون في ولده. فكان علي بن عبد الله المذكور رحمه الله، يقول: أي والله لتكونن الخلافة في ولدي، لا تزال فيهم حتى يأتيهم العلج من خراسان فينتزعها منهم، فوقع مصداق ذلك، وهو ورود هولاكو وإزالته ملك بني العباس.
الدولة الإسلامية بعد بني العباس

ذكر الوقعة بين المغيث صاحب الكرك وعسكر مصر
كان قد انضمت البحرية إلى المغيث ابن العادل ابن الكامل، ونزل من الكرك وخيم بغزة، وجمع الجموع، وسار إلى مصر في دست السلطنة، وخرجت عساكر مصر مع مماليك الملك المعز أيبك، وأكبرهم سيف الدين قطز، الذي صار صاحب مصر، والغتمي وبهادر، والتقى الفريقان، فكانت الكسرة على المغيث ومن معه، فولى منهزماً إلى الكرك في أسوأ حال، ونهبت أثقاله ودهليزه.
ذكر وفاة الناصر داود

وفي هذه السنة، أعني سنة ست وخمسين وستمائة، في ليلة السبت السادس والعشرين من جمادى الأولى، توفي الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، بظاهر دمشق، في قرية يقال لها البويضا، ومولده سنة ثلاث وستمائة، فكان عمره نحو ثلاث وخمسين سنة، وكنا قد ذكرنا أخباره في سنة خمس وخمسين، وأنه توجه إلى تيه بني إسرائيل، وصار مع عرب تلك البلاد وبلغ المغيث صاحب الكرك وصوله إلى تلك الجهة، فخشي منه، وأرسل إليه فقبض عليه، وحمله إلى بلد الشوبك، وأمر بحفر مطمورة ليحبسه فيها، وبقي الملك الناصر المذكور ممسوكاً، والمطمورة تحفر قدامه ليحبس فيها، فبينما هو على تلك الحال، إذ ورد رسول الخليفة المستعصم يطلبه من بغداد، لما قصده التتر، ليقدمه على بعض العساكر لملتقى التتر، فلما ورد رسول الخليفة إلى دمشق، جهزوه إلى المغيث صاحب الكرك، ووصل الرسول إلى موضع الملك الناصر قبل أن يتم المطمورة، فأخذه وسار به إلى جهة دمشق، فبلغ الرسول استيلاء التتر على بغداد، وقتل الخليفة، فتركه الرسول ومضى لشأنه، فسار الناصر داود إلى البويضا، وهي قرية شرقي دمشق، وأقام بها، ولحق الناس في الشام في تلك المدة طاعون، مات منه الناصر داود المذكور في التاريخ المذكور، وخرج الملك الناصر يوسف صاحب دمشق إلى البويضا، وأظهر عليه الحزن، والتأسف، ونقله ودفنه بالصالحية في تربة والده المعظم، وكان الناصر داود فاضلاً ناظماً ناثراً، وقرأ العلوم العقلية على الشيخ شمس الدين عبد الحميد الخسروشاهي، تلميذ الإمام فخر الدين الرازي، وللناصر داود المذكور أشعار جيدة، قد تقدم ذكر بعضها، ومن شعره أيضاً:
عيون عن السحر المبين تبين ... لها عند تحريك القلوب سكون
تصول ببيض وهي سود فرندها ... ذبول فتور والمجفون جفون
إذا ما رأت قلباً خلياً من الهوى ... تقول له كن مغرماً فيكون
وله أيضاً:
طوفي وقلبي قاتل وشهيد ... ودمي على خديك منه شهود
أما وحبك لست أضمر سلوة ... عن صبوتي ودع الفؤاد يبيد
مني بطيفك بعد ما منع الكرى ... عن ناظري البعد والتسهيد
ومن العجائب أن قلبك لم يلن ... لي والحديد ألانه داود
ومما كتب به في أثناء مكاتبته إلى الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، وكان قد أغارت الفرنج على نابلس في أيام الملك الصالح أيوب صاحب مصر:
أيا ليت أمي أيم طول عمرها ... فلم يقضها ربي لمولى ولا بعل
ويا ليتها لما قضاها لسيد ... لبيب أريب طيب الفرع والأصل
قضاها من اللاتي خلقن عواقراً ... فما بشرت يوماً بأنثى ولا فحل
ويا ليتها لما غدت بي حاملاً ... أصيبت بما احتفت عليه من الحمل
ويا ليتني لما ولدت وأصبحت تشد إلي الشدقيات بالرحل
لحقت بأسلافي فكنت ضجيعهم ... ولم أر في الإسلام ما فيه من خل
ذكر وفاة الصاحبة غازية خاتون

والدة الملك المنصور صاحب حماة:
وفي هذه السنة في ذي القعدة، توفيت الصاحبة غازية خاتون، بنت السلطان الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، بقلعة حماة، رحمها الله تعالى. وكان قدومها إلى حماة في سنة تسع وعشرين وستمائة، وولد لها من الملك المظفر محمود صاحب حماة، ثلاث بنين، مات أحدهم صغيراً، وكان اسمه عمر، وبقي الملك المنصور محمد صاحب حماة، وأخوه والد الملك الأفضل علي، وولد لها منه ثلاث بنات أيضاً، فتوفيت الكبرى منهن، وكان اسمها ملكة خاتون، قبل وفاة والدتها بقليل، وتوفيت الصغرى، وهي دنيا خاتون، بعد وفاة أخيها الملك المنصور، وسنذكر وفاة الباقين في مواضعها إن شاء الله تعالى. وكانت الصاحبة غازية خاتون المذكورة، من أحسن النساء سيرة، وزهداً، وعبادة وحفظت الملك لولدها الملك المنصور حتى كبر، وسلمته إليه قبل وفاتها، رحمها الله تعالى.
ذكر غير ذلك من الحوادث

في هذه السنة، قصدت التتر ميافارقين بعد استيلائهم على بغداد، وكان صاحب ميافارقين حينئذ، الملك الكامل محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان قد ملكها بعد وفاة أبيه في سنة اثنتين وأربعين وستمائة، فحاصره التتر وضايقوا ميافارقين مضايقة شديدة، وصبر أهل ميافارقين مع الكامل محمد المذكور على الجوع الشديد، ودام ذلك حتى كان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها اشتد الوباء بالشام، خصوصاً بدمشق، حتى لم يوجد مغسل للموتى.
وفيها أرسل الملك الناصر يوسف صاحب دمشق، ولده الملك العزيز محمد، وصحبته زين الدين محمد، المعروف بالحافظي، وهو من أهل قرية عقربا من بلد دمشق، بتحف وتقادم إلى هولاكو ملك التتر، وصانعه لعلمه بعجزه عن ملتقى التتر.
وفيها توفي الصاحب بهاء الدين زهير بن محمد بن علي بن يحيى المهلبي، كاتب إنشاء الملك الصالح أيوب، ومولد البهاء زهير بوادي نخلة من مكة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وفي آخر عمره انكشف حاله وباع موجوده، وكتبه، وأقام في ببيته في القاهرة حتى أدركته وفاته، بسبب الوباء العام، في يوم الأحد رابع ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة ست وخمسين وستمائة، ودفن بالقرافة الصغرى، وكان كريم الطباع غزير المروءة فاضلاً، حسن النظم، وشعره مشهور كثير، فمن شعره وهو وزن مخترع لبس بخرجة العروض، أبيات ومنها:
يا من لعبت به شمول ... ما ألطف هذه الشمائل
مولاي يحق لي بأني ... عن حبك في الهوى أقاتل
ها عبدك واقفاً ذليلاً ... بالباب يمد كف سائل
من وصلك بالقليل يرضى ... والطل من الحبيب وابل
وفي هذه السنة توفي بمصر الشيخ ركن الدين عبد العظيم شيخ دار الحديث، وكان من أئمة الحديث المشهورين.
وفيها توفي الشيخ شمس الدين يوسف، سبط جمال الدين ابن الجوزي، كان من الوعاظ الفضلاء، ألف تاريخاً جامعاً سماه مرآة الزمان، وفيها توفي سيف الدين علي بن سابق الدين قزل، المعروف بابن المشد وكان أميراً مقدماً في دولة الملك الناصر يوسف صاحب الشام، وله شعر حسن، منه:
باكر كؤوس المدام واشرب ... واستجل وجه الحبيب واطرب
ولا تخف للهموم داء ... فهي دواء له مجرب
من يد ساق له رضاب ... كشهد لكن جناه أعذب
وفيها كان بين البحرية بعد هزيمتهم من المصريين، وبين عسكر الملك الناصر يوسف صاحب دمشق، ومقدمهم الأمير مجير الدين بن أبي زكري، مصاف بظاهر غزة، انهزم فيه عسكر الناصر يوسف وأسر مجير الدين المذكور، وقوي أمر حرية بعد هذه الكسرة، وأكثروا العبث والفساد.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وستمائة فيها سار عز الدين كيكاؤوس، وركن الدين قليج أرسلان، ابنا كيخسرو بن كيقباذ، إلى خدمة هولاكو، وأقاما معه مدة ثم عادا إلى بلادهما.
ذكر وفاة بدر الدين صاحب الموصلفي هذه السنة توفي بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكان لقب الملك الرحيم، وكان عمره قد جاوز ثمانين سنة، ولما مات ملك بعده الموصل ولده الملك الصالح بن لؤلؤ، وملك سنجار ولده الآخر علاء الدين بن لؤلؤ، وكان بدر الدين قد صانع هولاكو ودخل في طاعته، وحمل إليه الأموال، ووصل إلى خدمة هولاكو بعد أخذ بغداد ببلاد أذربيجان، وكان صحبة لؤلؤ، الشريف العلوي بن صلايا، فقيل إن لؤلؤ سعى به إلى هولاكو، فقتل الشريف المذكور، ولما عاد لؤلؤ إلى الموصل لم يطل مقامه بها، حتى مات، وطالت أيام بدر الدين لؤلؤ في ملك الموصل، فإنه كان القائم بأمور أستاذه أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، وقام بتدبير ولده الملك القاهر بن أرسلان شاه، ولما توفي الملك القاهر بن أرسلان شاه، في سنة خمس عشرة وستمائة، انفرد لؤلؤ بتدبير المملكة، وأقام ولدي القاهر الصغيرين، واحد بعد واحد، واستبد بملك الموصل وبلادها ثلاثاً وأربعين سنة تقريباً، ولم يزل في ملكه سعيداً، لم تطرقه آفة ولم يختل لملكه نظام.
منازلة الملك الناصر يوسف صاحب الشام والكرك

وفي هذه السنة لما جرى من البحرية ما ذكرناه، من كسر عسكر الناصر يوسف، سار الناصر المذكور من دمشق بنفسه وعساكره، وسار في صحبته الملك المنصور صاحب حماة، بعسكره، إلى جهة الكرك، وأقام على بركة زيزا، محاصراً للملك المغيث صاحب الكرك، بسبب حمايته للبحرية، ووصل إلى الملك الناصر رسل الملك المغيث صاحب الكرك، والقطبية بنت الملك المفضل قطب الدين ابن الملك العادل، يتضرعون إلى الملك الناصر ويطلبون رضاه عن الملك المغيث، فلم يجب إلى ذلك إلا بشرط أن يقبض المغيث على من عنده من البحرية، فأجاب المغيث إلى ذلك وعلم بالحال ركن الدين بيبرس البندقداري، فهرب في جماعة من البحرية ووصل بهم إلى الملك الناصر يوسف، فأحسن إليهم، وقبض المغيث على من بقي عنده من البحرية، ومن جملتهم سنقر الأشقر، وسكر، وبرامق، وأرسلهم على الجمال إلى الملك الناصر، فبعث بهم إلى حلب، فاعتقلوا بها، واستقر الصلح بين الملك الناصر وبين الملك المغيث صاحب الكرك، وكان مدة مقام الملك الناصر بالعساكر على بركة زيزا، ما يزيد على شهرين بقليل، ثم عاد إلى دمشق وأعطى للملك المنصور صاحب حماة دستوراً، فعاد إلى بلده.
ذكر سلطنة قطزوفي أواخر هذه السنة، أعني سنة سبع وخمسين وستمائة، في أوائل ذي الحجة، قبض سيف الدين قطز على ولد أستاذه الملك المنصور، نور الدين علي بن المعز أيبك، وخلعه من السلطنة، وكان علم الدين الغتمي، وسيف الدين بهادر، وهما من كبار المعزية، غائبين في رمي البندق، فانتهز قطز الفرصة في غيبتهما وفعل ذلك، ولما قدم الغتمي وبهادر المذكور، أن قبض عليهما قطز أيضاً، واستقر قطز في ملك الديار: المصرية، وتلقب بالملك المظفر، وكان رسول الملك الناصر يوسف صاحب الشام، وهو كمال الدين، المعروف بابن العديم، قد قدم إلى مصر في أيام الملك المنصور علي بن أيبك، مستنجداً على التتر، واتفق خلع علي المذكور وولاية قطز بحضرة كمال الدين ابن العديم، ولما استقر قطز في السلطنة، أعاد جواب الملك الناصر يوسف، أنه ينجده، ولا يقعد عن نصرته، وعاد ابن العديم بذلك.
ذكر مولد الملك المظفر محمود

بن الملك المنصور صاحب حماة:
وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وخمسين وستمائة، في الساعة العاشرة من ليلة الأحد خامس عشر المحرم، وثاني عشر كانون الثاني، ولد محمود ابن الملك منصور محمد ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ولقبوه الملك المظفر، بلقب جده، وأم الملك المظفر محمود المذكور، عائشة خاتون بنت الملك العزيز محمد، صاحب حلب، ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح المدين يوسف بن أيوب، وهنأ الشيخ شرف الدين عبد العزيز، المعروف بشيخ الشيوخ، الملك المنصور صاحب حماة بقصيدة طويلة منها:
أبشر على رغم العدى والحسد ... بأجل مولود وأكرم مولد
بالنعمة الغراء بل بالدولة ... الزهراء بل بالمفخر المتجدد
وافاك بدراً كاملاً في ليلة ... طلعت عليك نجومها بالأسعد
ما بين محمود المظفر أسفرت ... عنه وما بين العزيز محمد
ذكر قصد هولاكو الشاموفي هذه السنة قدم هولاكو إلى البلاد التي شرقي الفرات، ونازل حران وملكها، واستولى على البلاد الجزرية، وأرسل ولده سموط بن هولاكو إلى الشام، فوصل إلى ظاهر حلب في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة سبع وخمسين وستمائة، وكان الحاكم في حلب، الملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين، نائباً عن ابن أخيه الملك الناصر يوسف، فخرج عسكر حلب لقتالهم، وخرج الملك المعظم، ولم يكن من رأيه الخروج إليهم، وأكمن لهم التتر في الباب المعروف بباب الله، وتقاتلوا عند بانقوسا، فاندفع التتر قدامهم حتى خرجوا عن البلد، ثم عادوا عليهم، وهرب المسلمون طالبين المدينة، والتتر يقتلون فيهم حتى دخلوا البلد، واختنق في أبواب البلد جماعة من المنهزمين، ثم رحل التتر إلى إعزاز فتسلموها بالأمان.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسينوستمائة.
ذكر ما كان من الملك الناصر عند قصد التتر حلب

ولما بلغ الملك الناصر يوسف صاحب الشام قصد التتر حلب، برز من دمشق إلى برزة في أواخر السنة الماضية، وجفل الناس من بين يدي التتر، وسار من حماة إلى دمشق الملك المنصور صاحب حماة، ونزل معه ببرزة، وكان هناك مع الناصر يوسف بيبرس البندقداري، من حين هرب من الكرك والتجأ إلى الناصر، فاجتمع عند الملك الناصر عند برزة أمم عظيمة من العساكر، والجفال، ولما دخلت هذه السنة، والملك الناصر ببرزة، بلغه أن جماعة من مماليكه قد عزموا على اغتياله، والفتك به، فهرب الملك الناصر من الدهليز إلى قلعة دمشق، وبلغ مماليكه الذين قصدوا ذلك علمه بهم، فهربوا على حمية، إلى جهة غزة، وكذلك سار بيبرس البندقداري إلى جهة عزة، وأشاع المماليك الناصرية أنهم لم يقصدوا قتل الملك الناصر، وإنما كان قصدهم أن يقبضوا عليه، ويسلطنوا أخاه الملك الظاهر غازي ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين، لشهامته، ولما جرى ذلك، هرب الملك الظاهر المذكور خوفاً من أخيه الملك الناصر، وكان الظاهر المذكور شقيق الناصر، أمهما أم ولد تركية، ووصل الملك الظاهر غازي إلى غزة، واجتمع عليه من بها من العسكر، وأقاموه سلطاناً، ولما جرى ذلك، كاتب بيبرس البندقداري الملك المظفر قظز، صاحب مصر، فبذل له الأمان، ووعده الوعود الجميلة، ففارق بيبرس البندقداري الشاميين وسار إلى مصر، في جماعة من أصحابه، فأقبل عليه الملك المظفر قطز وأنزله في دار الوزارة، وأقطعه قليوب وأعمالها.
ذكر استيلاء التتر على حلب وعلى الشام جميعه

ومسير الملك الناصر عن دمشق، ووصول عساكره إلى مصر، وانفراد الملك الناصر
عنهم: في هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، في يوم الأحد تاسع صفر، كان استيلاء التتر على حلب، وسببه أن هولاكو عبر الفرات بجموعه، ونازل حلب، وأرسل هولاكو إلى الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين نائب السلطنة بحلب، يقول له: إنكم تضعفون عن لقاء المغل، ونحن قصدنا الملك الناصر والعساكر، فاجعلوا لنا عندكم بحلب شحنة، وبالقلعة شحنة، ونتوجه نحن إلى العسكر، فإن كانت الكسرة على عسكر الإسلام، كانت البلاد لنا وتكونون قد حقنتم دماء المسلمين، وإن كانت الكسرة علينا، كنتم مخيرين في الشحنتين، إن شئتم طردتموهما، وإن شئتم قتلتموهما، فلم يجب الملك المعظم إلى ذلك وقال: ليس لكم عندنا إلا السيف، وكان رسول هولاكو إليهم في ذلك صاحب أرزن الروم، نتعجب من هذا الجواب، وتألم لما علم من هلاك أهل حلب بسبب ذلك، وأحاط التتر بحلب ثاني صفر، وهجموا النواثر في غد ذلك اليوم، وقتل من المسلمين جماعة كثيرة، وممن قتل أسد الدين ابن الملك الزاهر بن صلاح الدين، واشتدت مضايقة التتر للبلد، وهجموه من عند حمام حمدان في ذيل قلعة الشريف، في يوم الأحد تاسع صفر، وبذلوا السيف في المسلمين، وصعد إلى القلعة خلق عظيم، ودام القتل والنهب من نهار الأحد المذكور إلى الجمعة رابع عشر صفر المذكور، فأمر هولاكو برفع السيف، ونؤدي بالأمان، ولم يسلم من أهل حلب إلا من التجأ إلى دار شهاب الدين بن عمرون، ودار نجم الدين أخي مردكين، وداد البازياد، ودار علم الدين قيصر الموصلي، والخانكاه التي فيها زين الدين الصوفي، وكنيسة اليهود، وذلك لفرمانات كانت بأيديهم، وقيل أنه سلم بهذه الأماكن ما يزيد على خمسين ألف نفس، ونازل التتر القلعة وحاصروها وبها الملك المعظم، ومن التجأ إليها من العسكر، واستمر الحصار عليها، وكان من ذلك ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غير ذلك من أحوال حماة
وأحوال الملك الناصر بعد أخذ حلب:

كان قد تأخر بحماة الطواشي مرشد، لما سار صاحب حماة إلى دمشق، فلما بلغ أهل حماة فتح حلب، توجه الطواشي مرشد من حماة إلى عند الملك المنصور صاحب حماة بدمشق، ووصل كبراء حماة إلى حلب، ومعهم مفاتيح حماة، وحملوها إلى هولاكو، وطلبوا منه الأمان لأهل حماة، وشحنه يكون عندهم، فأمنهم هولاكو وأرسل إلى حماة شحنة، رجلاً أعجمياً كان يدعي أنه من ذرية خالد بن الوليد، يقال له خسروشاه، فقدم خسروشاه، إلى حماة وتولاها، وأمن الرعية، وكان بقلعة حماة مجاهد الدين قيماز أمير جندار، فسلم القلعة إليه، ودخل في طاعة التتر ولما بلغ الملك الناصر بدمشق، أخذ حلب رحل من دمشق، بمن بقي معه من العسكر إلى جهة الديار المصرية، وفي صحبته الملك المنصور صاحب حماة، وأقام بنابلس أياماً، ورحل عنها وترك فيها الأمير مجير الدين بن أبي زكري، والأمير علي بن شجاع، ومعهما جماعة من العسكر، ثم سار الملك الناصر إلى غزة فانضم إليه مماليكه الذين كانوا أرادوا قتله، وكذلك اصطلح معه أخوه الملك الظاهر غازي، وانضم إليه.
وبعد مسير الملك الناصر عن نابلس، وصل التتر إليها وكبسوا العسكر الذين بها، وقتلوا مجير الدين، والأمير علي بن شجاع، وكانا أميرين جليلين فاضلين، وكان البحرية قد قبضوا عليهما واعتقلوهما بالكرك، وأفرج عنهما المغيث. لما وقع الصلح بينه وبين الناصر، ولما بلغ الملك الناصر وهو بغزة ما جرى من كبسة التتر لنابلس، رحل من غزة إلى العريش، وسير القاضي برهان الدين أبن الخضر رسولاً إلى الملك المظفر قطز صاحب مصر، يطلب منه المعاضدة، ثم سار الملك الناصر والملك المنصور صاحب حماة، والعسكر، ووصلوا إلى قطية، فجرى بها فتنة بين التركماني والأكراد الشهرزورية، ووقع نهب في الجفال، وخاف الملك الناصر أن يدخل مصر، فيقبض عليه، فتأخر في قطية، ورحلت العساكر والملك المنصور صاحب حماة إلى مصر، وتأخر مع الملك الناصر جماعة يسيرة، منهم أخوه الملك الظاهر غازي، والملك الصالح بن شيركوه صاحب حمص، وشهاب الدين القيمري، ثم سار الملك الناصر بمن تأخر معه من قطية إلى جهة تيه بني إسرائيل، ولما وصلت العساكر إلى مصر، التقاهم الملك المظفر قطز بالصالحية، وطيب قلوبهم، وأرسل إلى الملك المنصور صاحب حماة سنجقاً، والتقاه ملتقاً حسناً وطيب قلبه، ودخل القاهرة، وأما التتر فإنهم استولوا على دمشق، وعلى سائر الشام إلى غزة، واستقرت شحائنهم بهذه البلاد.
ذكر استيلاء التتر على قلعة حلب

والمتجددات بالشام:

أما قلعة حلب، فوثب جماعة من أهلها في مدة الحصار على صفي الدين بن طرزة، رئيس حلب، وعلى نجم الدين أحمد بن عبد العزيز بن أحمد ابن القاضي نجم الدين بن أبي عصرون، فقتلوهما، لأنهم اتهموهما بمواطأة التتر، واستمر الحصار على القلعة، واشتدت مضايقة التتر لها نحو شهر، ثم سلمت بالأمان في يوم الاثنين، الحادي عشر من ربيع الأول، من هذه السنة، ولما نزل أهلها بالأمان، وكان فيها جماعة من البحرية الذين حبسهم الملك الناصر، فمنهم سكز، وبرامق، وسنقر الأشقر فسلمهم هولاكوهم وباقي الترك إلى رجل من التتر يقال له سلطان حق، وهو رجل من أكابر القبجاق، هرب من التتر لما غلبت على القبجاق، وقدم إلى حلب، فأحسن إليه الملك الناصر، فلم تطب له تلك البلاد، فعاد إلى التتر، وأما العوام والغرباء فنزلوا إلى أماكن الحمى التي قدمنا ذكرها، وأمر هولاكو أن يمضي كل من سلم إلى داره، وملكه، وأن لا يعارض، وجعل النائب بحلب عماد الدين القزويني، ووصل إلى هولاكو على حلب الملك الأشرف صاحب حمص، موسى بن إبراهيم بن شيركوه، وكان قد انفرد الأشرف المذكور عن المسلمين، لما توجه الملك الناصر إلى جهة مصر، ووصل إلى هولاكو بحلب، فأكرمه هولاكو وأعاد عليه حمص، وكان قد أخذها منه الملك الناصر صاحب حلب في سنة ست وأربعين وستمائة، وعوضه عنها تل باشر على ما تقدم ذكره، فعادت إليه في هذه السنة، واستقر ملكه بها، وقدم أيضاً إلى هولاكو، وهو نازل إلى حلب، محي الدين ابن الزكي من دمشق، فأقبل عليه هولاكو خلع عليه وولاه قضاء الشام، ولما عاد ابن الزكي المذكور إلى دمشق، لبس خلعة هولاكو، وكانت مذهبة، وجمع الفقهاء وغيرهم من أكابر دمشق، وقرأ عليهم تقليد هولاكو، واستقر في القضاء، ثم رحل هولاكو إلى حارم، وطلب تسليمها، فامتنعوا أن يسلموها لغير فخر الدين، والي قلعة حلب، فأحضره هولاكو وسلموها إليه، فغضب هولاكو من ذلك وأمر بهم، فقتل أهل حارم عن آخرهم، وسبي النساء، ثم حل هولاكو بعد ذلك وعاد إلى الشرق، وأمر عماد الدين القزويني بالرحيل إلى بغداد، فسار إليها وجعل مكانه بحلب رجلاً أعجمياً، وأمر هولاكو بخراب أسورار قلعة حلب، وأسوار المدينة، فخربت عن آخرها، وأعطى هولاكو الأشرف موسى صاحب حمص الدستور، ففارقه ووصل إلى حماة، ونزل في الدار المبارز، وأخذ في خراب سور قلعة حماة بتقدم هولاكو إليه بذلك، فخربت أسوارها وأحرقت زردخانتها، وبيعت الكتب التي كانت بدار السلطنة بقلعة حماة بأبخس الأثمان، وأما أسوار مدينة حماة فلم تخرب، لأنه كان بحماة رجل يقال له إبراهيم بن الإفرنجية، ضامن الجهة المفردة، بذل لخسروشاه جملة كثيرة من المال، وقال. الفرنج قريب منا بحصن الأكراد، ومتى خربت أسوار المدينة لا يقدر أهلها على المقام فيها، فأخذ منه المال ولم يتعرض الخراب أسوار المدينة، وكان قد أمر هولاكو والأشرف موسى صاحب حمص بخراب قلعة حمص أيضاً، فلم يخرب منها إلا شيئاً قليلاً، لأنها مدينته، وأما دمشق فإنهم لما ملكوا المدينة بالأمان، لم يتعرضوا إلى قتل ولا نهب، وعصت قلعة دمشق عليهم، فحاصرها التتر، وجرى على أهل دمشق بسبب عصيان القلعة شدة عظيمة، وضايقوا القلعة وأقاموا عليها المجانيق، ثم تسلموها بالأمان في منتصف جمادى الأولى من هذه السنة، ونهبوا جميع ما فيها وجدوا في خراب أسوار القلعة، وإعدام ما بها من الزردخانات والآلات، ثم توجهوا إلى بعلبك ونازلوا قلعتها.
ذكر استيلاء التتر على ميافارقين

وقتل الملك الكامل صاحبها:

وفي هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، استولى التتر على ميافارقين، وقد تقدم ذكر نزولهم عليها ومحاصرتها، في سنة ست وخمسين، واستمر الحصار عليهم مدة سنتين، حتى فنيت أزوادهم، وفني أهلها بالوباء، وبالقتل، وصاحبها الملك الكامل محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، مصابراً ثابتاً، وضعف من عنده عن القتال، فاستولى التتر عليهما، وقتلوا صاحبها الملك الكامل المذكور، وحملوا رأسه على رمح، وطيف به في البلاد، ومروا به على حلب وحماة، ووصلوا به إلى دمشق في سابع عشرين جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، وطافوا به في دمشق بالمغاني والطبول، وعلق رأس المذكور في شبكة بسور باب الفراديس إلى أن عادت دمشق إلى المسلمين، فدفن بمشهد الحسين داخل باب الفردايس، وفيه يقول الشيخ شهاب الدين ابن أبي شامة أبياتاً منها:
ابن غازي غزى وجاهد قوماً ... أثخنوا في العراق والمشرفين
طاهراً عالياً ومات شهيداً ... بعد صبر عليهم عامين
لم يشنه إذا طيف بالرأس منه ... وله أسوة برأس الحسين
ثم واروا في مشهد الرأس ذاك الرأس واستعجبوا من الحالين.
ذكر اتصال الملك الناصر بالتتر

واستيلائهم على عجلون وغيرها من قلاع الشام:
أما الملك الناصر يوسف فإنه لما انفرد عن العسكر من قطية، وسار إلى تيه بني إسرائيل، بقي متحيراً إلى أين يتوجه، وعزم على التوجه إلى الحجاز، وكان له طبر دار كردي اسمه حسين، فحسن له المضي إلى التتر وقصد هولاكو، فاغتر بقوله ونزل ببركة زيرا وسار حسين الكردي إلى كتبغا نائب هولاكو، وعرفه بموضع الملك الناصر، فأرسل كتبغا إليه وقبض عليه، وأحضره إلى عجلون، وكانت بعد عاصية، فأمره الملك الناصر بتسليمها، فسلمت إليهم فهدموها. وكنا قد ذكرنا حصار التتر لبعلبك، فتسلموها قبيل تسليم عجلون، وخربوا قلعتها أيضاً، وكان بالصبية صاحبها الملك السعيد ابن الملك العزيز ابن الملك العادل فسلم الصبية إليهم، وصار الملك السعيد المذكور معهم، وأعلن بالفسق والفجور وسفك دماء المسلمين، وأما الملك الناصر يوسف، فإن كتبغا بعث به إلى هولاكو، فوصل إلى دمشق، ثم إلى حماة، وبها الأشرف صاحب حمص، فخرج إلى لقائه هو وخسروشاه النائب بحماة، ثم سار إلى حلب، فلما عاينها الملك الناصر وما قد حل بها وبأهلها تضاعف تألمه وأنشد:
يعز علينا أن نرى ربعكم يبلى ... وكانت به آيات حسنكم تتلى
ثم سار إلى الأردن، فأقبل عليه هولاكو ووعده برده إلى مملكته، وكان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غير ذلكوفي خامس عشر شعبان من هذه السنة، أخرج التتر من الاعتقال نقيب قلعة دمشق، وواليها، وضربوا أعناقهما بداريا، واشتهر عند أهل دمشق خروج العساكر من مصر لقتال التتر، فأوقعوا بالنصارى، وكانوا قد استطالوا على المسلمين بدق النواقيس، وإدخال الخمر إلى الجامع، فنهبهم المسلمون في سابع عشرين رمضان من هذه السنة، وأخربوا كنيسة مريم، وكانت كنيسة عظيمة، وكانت كنيسة مريم في جانب دمشق الذي فتحه خالد بن الوليد بالسيف، فبقيت بيد المسلمين، وكان ملاصق الجامع كنيسة، وهي من الجانب الذي فتحه أبو عبيدة بالأمان، فبقيت بأيدي النصارى، فلما ولي الوليد بن عبد الملك الخلافة خرب الكنيسة الملاصقة للجامع، وأضافها إليه، ولم يعوض النصارى عنها، فلما ولي عمر بن عبد العزيز عوضهم بكنيسة مريم عن تلك الكنيسة، فعمروها عمارة عظيمة، وبقيت كذلك حتى خربها المسلمون في التاريخ المذكور.
ذكر هزيمة التتر وقتل كتبغا

وفي هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، كانت هزيمة التتر في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، على عين جالوت، وكان من حديثها، أنه لما اجتمعت العساكر الإسلامية بمصر، عزم الملك المظفر قطز، مملوك المعز أيبك، على الخروج إلى الشام لقتال التتر، وسار من مصر بالعساكر الإسلامية، وصحبته الملك المنصور محمد صاحب حماة، وأخوه الملك الأفضل علي، وكان مسيره من الديار المصرية في أوائل رمضان من هذه السنة، ولما بلغ كتبغا وهو نائب هولاكو على الشام، ومقدم التتر، مسير العساكر الإسلامية إليه، صحبة الملك المظفر قطز، جمع من في الشام من التتر وسار إلى لقاء المسلمين، وكان الملك السعيد صاحب الصبيبة ابن الملك العزيز ابن الملك العادل بن أيوب صحبة كتبغا، وتقارب الجمعان في الغرر، والتقوا يوم الجمعة المذكور، فانهزمت التتر هزيمة قبيحة وأخذتهم سيوف المسلمين، وقتل مقدمهم كتبغا،، واستؤسر ابنه، وتعلق من سلم من التتر برؤوس الجبال، وتبعتهم المسلمون فأفنوهم، وهرب من سلم منهم إلى الشرق، وجرد قطز ركن الدين بيبرس البندقداري في إثرهم، فتبعتهم المسلمون إلى أطراف البلاد الشرقية، وكان أيضاً في صحبة التتر الملك الأشرف موسى صاحب حمص، فنازلهم وطلب الأمان من المظفر قطز، فأمنه ووصل إليه فأكرمه وأقره على ما بيده وهو حمص، ومضافاتها، وأما الملك السعيد صاحب الصبيبة، فإنه أمسك أسيراً وأحضر بين يدي الملك المظفر قطز، فأمر به، فضربت عنقه بسبب ما كان المذكور قد اعتمده من السفك والفسق.
ولما انقضى أمر المصاف، أحسن المظفر قطز إلى الملك المنصور صاحب حماة، وأقره على حماة وبارين، وأعاد إليه المعرة، وكانت في أيدي الحلبيين من حين استولوا عليها في سنة خمس وثلاثين وستمائة، وأخذ سلمية معه وأعطاها أمير العرب، وأتم الملك المظفر السير بالعساكر وصحبته الملك المنصور صاحب حماة، حتى دخل دمشق، وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر، لاستيلائهم على معظم بلاد الإسلام، ولأنهم ما قصدوا إقليماً إلا فتحوه، ولا عسكراً إلا هزمره، فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم وبقدوم الملك المظفر قطز إلى الشام، وفي يوم دخوله دمشق، أمر بشنق جماعة من المنتسبين إلى التتر، فشنقوا وكان من جملتهم حسين الكردي، طيردار الملك الناصر يوسف، وهو الذكي أوقع الملك الناصر في أيدي التتر، وفي هذه النصرة وقدوم قطز إلى الشام، يقول بعض الشعراء:
هلك الكفر في الشآم جميعاً ... واستجد الإسلام بعدد حوضه
بالمليك المظفر الملك الأر ... وع سيف الإسلام عند نهوضه
ملك جاءنا بعزم وحزم ... فاعتززنا بسمره وببيضه
أوجب الله شكر ذاك علينا ... دائما مثل واجبات فروضه
ثم أعطى الملك المظفر قطز، صاحب حماة الملك المنصور، الدستور، فقدم الملك المنصور قدامه مملوكه ونائبه مبارز الدين أقوش المنصور إلى حماة، ثم سار الملك المنصور وأخوه الملك الأفضل ووصلا إلى حماة، ولما استقر الملك المنصور بحماة، قبض على جماعة كانوا مع التتر واعتقلهم، وهنأ الشيخ شرف الدين شيخ الشيوخ المنصور بهذا النصر العظيم، وبعود المعرة بقصيدة منها:
رعت العدى فضمنت ثل عروشها ... ولقيتها فأخذت تل جيوشها
نازلت أملاك التتار فأنزلت ... عن فحلها قسراً وعن أكديشها
فغدا لسيفك في رقاب كماتها ... حصد المناجل في يبيس حشيشها
فقت الملوك ببذل ما تحويه إذ ... ختمت خزائنها على منقوشها
ومنها:
وطويت عن مصر فسيح مراحل ... ما بين بركتها وبين عريشها
حتى حفظت على العباد بلادها ... من رومها الأقصى إلى إحبوشها
فرشت حماة لوطيء نعلك خدها ... فوطئت عين الشمس من مفروشها
وضربت سكتها التي أخلصتها ... عما يشوب النقد من مغشوشها
وكذا المعرة إذا ملكت قيادها ... دهشت سروراً سار في مدهوشها
طربت برجعتها إليك كأنما ... سكرت بخمرة حاسها أو حيشها
لا زلت تنعش بالنوال فقيرها ... وتنال أقصى الأجر من منعوشها

وكان خسروشاه قد سافر من حماة إلى جهة الشرق لما بلغه كسرة التتر، ثم جهز الملك المظفر قطز عسكراً إلى حلب لحفظها، ورتب أيضاً شمس الدين أقوش البرلي العزيزي أميراً بالسواحل وغزة، ورتب معه جماعة من العزيزية، وكان البرلي المذكور من مماليك الملك العزيز محمد صاحب حلب، وسار في جملة العزيزية مع ولده الملك الناصر يوسف إلى قتال المصريين، وخامر البرلي وجماعة من العزيزية على ابن أستاذهم الملك الناصر، وصاروا مع أيبك التركماني صاحب مصر، ثم إنهم قصدوا اغتيال المعز أيبك التركماني المذكور، وعلم بهم فقبض على بعضهم، وهرب بعضهم، وكان البرلي المذكور من جملة من سلم وهرب إلى الشام، فلما وصل إلى الملك الناصر اعتقله بقلعة عجلون، فلما توجه الملك الناصر بالعسكر إلى الغور مندفعاً من بين يدي التتر، أخرج البرلي من حبس عجلون وطيب خاطره، فلما هرب الملك الناصر من قطية، دخل شمس الدين أقوش البرلي المذكور مع العساكر إلى مصر، فأحسن إليه الملك المظفر قطز، وولاه الآن السواحل وغزة، فلما استقر بدمشق على ما ذكرناه، وكان مقر البرلي لما تولى هذه الأعمال بنابلس تارة، وبيت جبرين أخرى، ثم إن الملك المظفر قطز، فرض نيابة السلطنة بدمشق إلى الأمير علم الدين سنجر الحلبي، وهو الذي كان أتابكاً لعلي بن المعز أيبك، وفوض نيابة السلطنة بحلب إلى الملك السعيد بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكان المذكور قد وصل إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام، ودخل مع العساكر إلى مصر، وصار مع المظفر قطز، ففوض إليه نيابة السلطنة بحلب، وكان سببه أن أخاه الملك الصالح بن لؤلؤ قد صار صاحب الموصل بعد أبيه، فولاه حلب ليكاتبه أخوه بأخبار التتر، ولما استقر السعيد المذكور في نيابة حلب، سار سيرة رديئة، وكان دأبه التحيل على أخذ مال الرعية.
ذكر عود الملك المظفر قطز إلى جهة الديار المصرية

مقتله:
ولما قرر الملك المظفر قطز المعزي المذكور أمر الشام، على ما شرحناه، سار من دمشق إلى جهة البلاد المصرية، وكان قد اتفق بيبرس البندقداري الصالحي مع أنص مملوك نجم الدين الرومي الصالحي، والهاروني، وعلم الدين صغن أغلي، على قتل المظفر قطز، وساروا معه يتوقعون الفرصة، فلما وصل قطز إلى القصير بطرف الرمل، وبينه وبين الصالحية مرحلة، وقد سبق الدهليز والعسكر إلى الصالحية، فبينما قطز يسير إذ قامت أرنب بين يديه فساق عليها، وساق هؤلاء المذكورون معه، فلما بعدوا، تقدم إليه أنص وشفع عند الملك المظفر قطز في إنسان، فأجابه إلى ذلك، فأهوى لتقبيل يده وقبض عليها، فحمل عليه بيبرس البندقداري الصالحي حينئذ وضربه بالسيف، واجتمعوا عليه ورموه عن فرسه ثم قتلوه بالنشاب، وذلك في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة، فكانت مدة ملكه أحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً، وساق بيبرس وأولئك المذكورون بعد مقتله حتى وصلوا إلى الدهليز بالصالحية.
ذكر سلطنة بيبرس البندقداري المذكورولما وصل ركن الدين بيبرس المذكور هو والجماعة الذين قتلوا الملك المظفر قطز إلي الدهليز كما ذكرناه، وكان عند الدهليز نائب السلطنة فارس الدين أقطاي المستعرب، وهو الذي صارا أتابكاً لعلي بن المعز أيبك بعد الحلبي، فلما تسلطن قطز أقره على نيابة السلطنة، فلما وصل بيبرس البندقداري مع الجماعة الذين قتلوا قطز إلى الدهليز، سألهم أقطاي المستعرب المذكور وقال: من قتله منكم؟ فقال له بيبرس أنا. قال له أقطاي: يا خوند اجلس في مرتبة السلطنة. فجلس، واستدعيت العساكر للتحليف، فحلفوا له في اليوم الذي قتل فيه قطز، وهو سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة.

واستقر بيبرس في السلطنة، وتلقب بالملك القاهر ركن الدين بيبرس الصالحي، ثم بعد ذلك غير لقبه عن الملك القاهر، وتلقب بالملك الظاهر لأنه بلغه أن القاهر لقب غير مبارك، ما تلقب به أحد فطالت مدته، وكان الملك الظاهر المذكور، قد سأل من قطز النيابة بحلب، فلم يجبه إليها، ليكون ما قدره الله تعالى، ولما حلف الناس للملك الظاهر المذكور بالصالحية، ساق في جماعة من أصحابه وسبق العسكر إلى قلعة الجبل، ففتحت له ودخلها، واستقرت قدمه في المملكة، وكان قد زينت مصر والقاهرة لمقدم قطز، فاستمرت الزينة لسلطنة بيبرس المذكور، وكان مقتل قطز وسلطنة بيبرس في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة.
ذكر إعادة عمارة قلعة دمشقوفي هذه السنة في العشر الأخير من ذي القعدة، شرع الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائب السلطنة بدمشق، في عمارة قلعة دمشق، وجمع لها الصناع وكبراء الدولة والناس، وعملوا فيها، حتى النساء أيضاً، وكان عند الناس بذلك سرور عظيم.
ذكر سلطنة الحلبي بدمشقكان علم الدين سنجر الحلبي، وقد استنابه الملك المظفر قطز بدمشق على ما تقدم ذكره. فلما جرى ما ذكرناه من قتل قطز، وسلطنة الملك الظاهر، جمع الحلبي الناس وحلفهم لنفسه بالسلطنة، وذلك في العشر الأول من ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، فأجابه الناس إلى ذلك وحلفوا له، ولم يتأخر عنه أحد، ولقب نفسه الملك المجاهد، وخطب له بالسلطنة، وضربت السكة باسمه، وكاتب الملك المنصور صاحب حماة في ذلك، فلم يجبه، وقال صاحب حماة: أنا مع من يملك الديار المصرية كائناً من كان.
ذكر قبض عسكر حلب على الملك السعيد

ابن صاحب الموصل وعود التتر إلى الشام:
وكان الملك السعيد قد قرره قطز بحلب، وجرد معه جماعة من العزيزية والناصرية، وكان رديء السيرة، وقد أبغضه العسكر، وبلغ الملك السعيد المذكور مسير التتر إلى البيرة، فجرد إلى جهتهم جماعة قليلة من العسكر، وقدم عليهم سابق الدين أمير مجلس الناصري، فأشار عليه كبراء العزيزية والناصرية، بأن هذا ما هو مصلحه، وأن هؤلاء قليلون، فيحصل الطمع بسببهم في البلاد، فلم يلتفت إلى ذلك، وأصر على مسيرهم، فسار سابق الدين أمير المجلس بمن معه حتى قاربوا البيرة، فوقع عليهم التتر، فهرب منهم ودخل البيرة، بعد أن قتل غالب من كان معه، فازداد غيظ الأمراء على الملك السعيد بسبب ذلك، فاجتمعوا وقبضوا عليه ونهبوا وطاقه، وكان قد برز إلى الباب المعروف بباب الله، ولما استولوا على خزانته لم يجدوا فيها مالاً طائلاً، فهددوه، بالعذاب إن لم يقر لهم بماله، فنبش من تحت أشجار حائط دار ببابلي، جملة من المال، قيل كانت خمسين ألف دينار مصرية، ففرقت في الأمراء، وحمل الملك السعيد المذكور إلى الشغر وبكاس معتقلاً، ثم لما اندفع العسكر من بين يدي التتر على ما سنذكره، أفرجوا عنه، ولما جرى ذلك اتفقت العزيزية والناصرية وقدموا عليهم الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي، ثم سارت التتر إلى حلب، فاندفع حسام الدين الجوكندار والعسكر الذين معه بين أيديهم إلى جهة حماة، ووصل التتر إلى حلب في أواخر هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، وملكوها وأخرجوا أهلها إلى قرنبيا، واسمها مقر الأنبياء فسماه العامة قرنبيا، ولما اجتمع المسلمون بقرنبيا بذل التتر فيهم السيف، فأفنوا غالبهم، وسلم القليل منهم، ووصل حسام الدين الجوكندار ومن معه إلى حماة، فضيفهم الملك المنصور محمد صاحب حماة، وهو مستشعر خائف من غدرهم، ثم رحلوا من حماة إلى حمص، فلما قارب التتر حماة، خرج منها الملك المنصور صاحبها وصحبته أخوه الملك الأفضل علي، والأمير مبارز الدين، باقي العسكر، واجتمعوا بحمص مع باقي العساكر إلى أن خرجت هذه السنة.
ثم دخلت سنة تسع وخمسينوستمائة.
ذكر كسرة التتر على حمص

وفي يوم الجمعة خامس المحرم عن هذه السنة، كانت كسرة التتر على حمص، وكان من حديثها أن التتر لما قدموا في آخر السنة الماضية إلى الشام، اندفعت العزيزية والناصرية من بين أيديهم، وكذلك الملك المنصور صاحب حماة، ووصلوا إلى حمص، واجتمع بهم الملك الأشرف صاحب حمص، ووقع اتفاقهم على ملثقى التتر، وسارت التتر إليهم والتقوا بظاهر حمص في نهار الجمعة المذكور، وكان التتر أكثر من المسلمين بكثير، ففتح الله تعالى على المسلمين بالنصر، وولى التتر منهزمين، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون منهم كيف شاؤوا، ووصل الملك المنصور إلى حماة بعد هذه الوقعة، وانضم من سلم من التتر إلى باقي جماعتهم، وكانوا نازلين قرب سلمية، واجتمعوا ونزلوا على حماة وبها صاحبها الملك المنصور، وأخوه الملك الأفضل والعسكر، وأقام التتر على حماة يوماً واحداً، ثم رحلوا عن حماة، وأراد الملك المنصور بعد رحيل التتر المسير إلى دمشق، فمنعه العامة من ذلك حتى استوثقوا منه أنه يعود إليهم عن قريب، فسافر هو وأخوه الملك الأفضل في جماعة قليلة، وبقي الطواشي مرشد في باقي العسكر بحماة، ووصل المنصور بمن معه إلى دمشق، وكذلك توجه الملك الأشرف صاحب حمص إلى دمشق، وأما حسام الدين الجوكندار العزيزي، فتوجه أيضاً بمن في صحبته، ولم يدخل دمشق، ونزل بالمرج، ثم سار إلى مصر، وأقام صاحب حماة وصاحب حمص بدمشق في دورهما، والحاكم بها يومئذ سنجر الحلبي الملقب بالسلطان الملك المجاهد، وقد اضطرب أمره. ولذلك أقام صاحب حماة وصاحب حمص بدمشق، ولم يدخلا في طاعته لضعفه، وتلاشي أمره، وأما التتر فساروا عن حماة إلى فامية، وكان قد وصل إلى فامية سيف الدين الدنبلي الأشرفي، ومعه جماعة، فأقام بقلعة فامية، وبقي يغير على التتر، فرحلوا عن فامية وتوجهوا إلى الشرق.
ذكر القبض على سنجر الحلبي

الملقب بالملك المجاهد
وفي هذه السنة، جهز الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر عسكراً، مع علاء الدين البندقدار، وهو أستاذ الملك الظاهر، لقتال علم الدين سنجر الحلبي المستولي على دمشق، فوصلوا إلى دمشق في ثالث عشر صفر من هذه السنة، ولما وصل عسكر مصر إلى دمشق، خرج إليهم الحلبي لقتالهم، وكان صاحب حماة وصاحب حمص قيمين بدمشق، لم يخرجا مع الحلبي لقتالهم، ولا أطاعاه لاضطراب أمر الحلبي، واقتتل معهم بظاهر دمشق في ثالث عشر صفر من هذه السنة، أعني سنة تسع خمسين وستمائة، فولى الحلبي وأصحابه منهزمين، ودخل إلى قلعة دمشق، إلى أن جنه الليل فهرب من قلعة دمشق إلى جهة بعلبك، فتبعه العسكر وقبضوا عليه، وحمل إلى الديار المصرية، فاعتقل ثم أطلق، واستقرت دمشق في ملك الملك الظاهر بيبرس، وأقيمت له الخطبة بها بغيرها من الشام، مثل حماة وحلب وحمص وغيرها، واستقر أيدكين البندقدار الصالحي في دمشق لتدبير أمورها، ولما استقر الحال على ذلك، رحل الملك المنصور صاحب حماة والأشرف صاحب حمص، وعادا إلى بلادهما واستقر بها.
ذكر خروج البرلي
عن طاعة الملك الظاهر بيبرس واستيلائه على حلب:

وفي هذه السنة بعد استقرار علاء الدين أيدكين البندقدار في دمشق، ورد عليه مرسوم الملك الظاهر بيبرس بالقبض على بهاء الدين بغدي الأشرفي وعلى شمس الدين أقوش البرلي، وغيرهما من العزيزية والناصرية، وبقي علاء الدين أيدكين متوقعاً ذلك، فتوجه بغدي إلى علاء الدين أيدكين، فحال دخوله عليه قبض على بغدي المذكور، فاجتمعت العزيزية والناصرية إلى أقوش البرلي، وخرجوا من دمشق ليلاً على حمية، ونزلوا بالمرج، وكان أقوش البرلي قد ولاّه المظفر قطز غزة والسواحل على ما قدمنا ذكره، فلما جهز الملك الظاهر أستاذه البندقدار إلى قتال الحلبي، أرسل إلى البرلي وأمره أن ينضم إليه، فسار البرلي مع البندقدار وأقام بدمشق، فلما قبض على بغدي، خرج البرلي إلى المرج وأرسل علاء الدين أيدكين البندقدار إلى البرلي يطيب قلبه، ويحلف له، فلم يلتفت إلى ذلك، وسار البرلي إلى حمص وطلب من صاحبها الأشرف موسى أن يوافقه على العصيان، فلم يجبه إلى ذلك، ثم توجه إلى حماة وأرسل يقول للملك المنصور صاحب حماة، أنه لم يبق من البيت الأيوبي غيرك، وقم لنصير معك ونملكك البلاد، فلم يلتفت الملك المنصور إلى ذلك، ورده رداً قبيحاً، فاغتاظ البرلي ونزل على حماة وأحرق زرع بيدر العشر، وسار إلى شيزر ثم إلى جهة حلب، وكان علاء الدين أيدكين البندقدار لما استقر بدمشق، قد جهز عسكراً صحبة فخر الدين الحمصي، للكشف عن البيرة، فإن التتر كانوا قد نازلوها، فلما قدم البرلي إلى حلب، كان بها فخر الدين الحمصي المذكور، فقال له البرلي نحن في طاعة الملك الظاهر، فتمضي إلى السلطان وتسأله أن يتركني ومن في صحبتي مقيمين بهذا الطرف، ونكون تحت طاعته من غير أن يكلفني وطء بساطه، فسار الحمصي إلى جهة مصر ليؤدي هذه الرسالة، فلما سار عن حلب، تمكن البرلي واحتاط على ما في حلب من الحواصل، واستبد بالأمر، وجمع العرب والتركمان، واستعد لقتال عسكر مصر، ولما توجه فخر الدين الحمصي لذلك، التقى في الرمل جمال الدين المحمدي الصالحي متوجهاً بمن معه من عسكر مصر لقتال البرلي وإمساكه، فأرسل الحمصي عرف الملك الظاهر بما طلبه البرلي، فأرسل الملك الظاهر ينكر على فخر الدين الحمصي المذكور ويأمره بالإنضمام إلى المحمدي، والمسير إلى قتال البرلي، فعاد من وقته، ثم رضي الملك الظاهر عن علم الدين سنجر الحلبي، وجهزه وراء المحمدي في جمع من العسكر، ثم أردفه بعز الدين الدمياطي في جمع آخر، وسار الجميع إلى جهة البرلي وساروا إلى حلب، وطردوه عنها، وانقضت السنة والأمر على ذلك.
ذكر مقتل الملك الناصر يوسف

وفي هذه السنة، ورد الخبر بمقتل الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وعقد عزاه بجامع دمشق، في سابع جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة تسع وخمسين وستمائة، وصورة الحال في قتله، أنه لما وصل إلى هولاكو على ما قدمنا ذكره، وعده برده إلى ملكه، وأقام عند هولاكو مدة، فلما بلغ هولاكو كسرة عسكره بعين جالوت، وقتل كتبغا، ثم كسرة عسكره على حمص ثانياً، غضب من ذلك وأحضر الملك الناصر المذكور، وأخاه الملك الظاهر غازي وقال له: أنت قلت أن عسكر الشام في طاعتك، فغدرت بي وقتلت المغل. فقال الملك الناصر: لو كنت بالشام ما ضرب أحد في وجه عسكرك بالسيف، ومن يكون ببلاد توريز كيف يحكم على بلاد الشام، فاستوفي هولاكو لعنه الله ناصجاً وضربه به. فقال الملك الناصر: يا خوند الصنيعة، فنهاه أخوه الظاهر وقال: قد حضرت، ثم رماه بفرده ثانية فقتله، ثم أمر بضرب رقاب الباقين، فقتلوا الظاهر أخا الملك الناصر، والملك الصالح ابن صاحب حمص، والجماعة الذين كانوا معهم، واستبقوا الملك العزيز ابن الملك الناصر، لأنه كان صغيراً، فبقي عندهم مدة طويلة، وأحسنوا إليه، ثم مات وكان قد تولى الملك الناصر المذكور مملكة حلب بعد موت أبيه العزيز، وعمره سبع سنين، وأقامت جدته ضيفة خاتون بنت الملك العادل بتدبير مملكته، واستقل بالملك بعد وفاتها في سنة أربعين وستمائة، وعمره ثلاث عشرة سنة، وزاد ملكه على ملك أبيه وجده، فإنه ملك مثل حران والرها والرقة ورأس عين، وما مع ذلك من البلاد، وملك حمص، ثم ملك دمشق وبعلبك والأغوار والسواحل إلى غزة، وعظم شأنه، وكسر عساكر مصر، وخطب له بمصر وبقلعة الجبل، على الوجه الذي تقدم ذكره، وكان قد غلب على الديار المصرية لو لا هزيمته، وقتل مدبر دولته شمس الدين لؤلؤ الأرمني، ومخامرة مماليك أبيه العزيزية، وكان يذبح في مطبخه كل يوم أربعمائة رأس غنم، وكانت سماطاته وتجمله في الغاية القصوى، وكان حليماً وتجاوز به الحلم إلى حد أضر بالمملكة، فإنه لما أمنت قطاع الطريق في أيام مملكته من القتل والقطع، تجاوزوا الحد في الفساد بالمملكة، وانقطعت الطرق في أيامه، وبقي لا يقدر المسافر على السفر من دمشق إلى حماة وغيرها، الا برفقة من العسكر وكثر طمع العرب والتركمان في أيامه، وكثرت الحرامية، وكانوا يكبسون الدور، ومع ذلك إذا أحضر القاتل إلى بين يدي الملك الناصر المذكور يقول: الحي خير من الميت، ويطلقه، فأدى ذلك إلى انقطاع الطرقات وانتشار الحرامية والمفسدين، وكان على ذهن الناصر المذكور شيء كثير من الأدب والشعر، ويروى له أشعار كثيرة منها:
فوالله لو قطعت قلبي تأسفاً ... وجرعتني كاسات دمعي دماً صرفا
لما زادني إلا هوى ومحبة ... ولا اتخذت روحي سواك لها إلفا
وبنى بدمشق مدرسة قريب الجامع تعرف بالناصرية، ووقف عليها وقفاً جليلاً وبني بالصالحية تربة غرم عليها جملاً مستكثرة، فدفن فيها كرمون، وهو بعض أمراء التتر، وكانت منية الملك الناصر ببلاد العجم، وكان مولد الناصر المذكور في سنة سبع وعشرين وستمائة، فيكون عمره اثنتين وثلاثين سنة تقريباً.
ذكر مبايعة شخص بالخلافة وإثبات نسبه

وفي هذه السنة في رجب، قدم إلى مصر جماعة من العرب، ومعهم شخص أسود اللون، اسمه أحمد، زعموا أنه ابن الإمام الظاهر بالله، محمد ابن الإمام الناصر، وأنه خرج من دار الخلافة ببغداد لما ملكها التتر، فعقد الملك الظاهر بيبرس مجلساً حضر فيه جماعة من الأكابر، منهم الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، والقاضي تاج الدين عبد الوهاب بن خلف، المعروف بابن بنت الأعز، فشهد أولئك العرب أن هذا الشخص المذكور هو ابن الظاهر محمد ابن الإمام الناصر، فيكون عم المستعصم، وأقام القاضي جماعة من الشهود، اجتمعوا بأولئك العرب، وسمعوا شهاداتهم، ثم شهدوا بالنسب بحكم الاستفاضة، فأثبت القاضي تاج الدين نسب أحمد المذكور، ولقب المستنصر بالله، أبا القاسم أحمد ابن الظاهر بالله محمد، وبايعه الملك الظاهر والناس بالخلافة، واهتم الملك الظاهر بأمره وعمل له الدهاليز والجمدارية وآلات الخلافة، واستخدم له عسكراً، وغرم على تجهيزه جملاً طائلة. قيل إن قدر ما غرمه عليه ألف ألف دينار، وكانت العامة تلقب الخليفة المذكور بالزرابيني، وبرز الملك الظاهر والخليفة الأسود المذكور في رمضان من هذه السنة، وتوجها إلى دمشق، وكان في كل منزلة يمضي الملك الظاهر الى دهليزه الخاص به، ولما وصلا إلى دمشق، نزل الملك الظاهر بالقلعة، ونزل الخليفة في جبل الصالحية، ونزل حول الخليفة أمراؤه وأجناده.
ثم جهز الخليفة عسكره إلى جهة بغداد، طمعاً في أنه يستولي على بغداد، ويجتمع عليه الناس، فسار الخليفة الأسود بعسكره من دمشق، وركب الملك الظاهر وودعه ووصاه بالتأني في الأمور، ثم عاد الملك الظاهر إلى دمشق من توديع الخليفة، ثم سار إلى الديار المصرية ودخلها في سابع عشر ذي الحجة من هذه السنة، ووصلت إليه كتب الخليفة بالديار المصرية، أنه قد استولى على عانة والحديثة، وولى عليهما، وأن كتب أهل العراق وصلت إليه يستحثونه على الوصول إليهم، ثم قبل، أن يصل إلى بغداد، وصلت إليه التتر وقتلوا الخليفة المذكور، وقتلوا غالب أصحابه، ونهبوا ما كان معه وجاءت الأخبار بذلك.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، لما سار الملك الظاهر إلى الشام، أمر القاضي شمس الدين ابن خلكان فسافر في صحبته من مصر إلى الشام، فعزل عن قضاء دمشق نجم الدين ابن صدر الدين بن سنا الدولة، وكان قطز قد عزل المحي ابن الزكي الذي ولاه هولاكو القضاء، وولى ابن سنا الدولة، فعزله الملك الظاهر في هذه السنة وولى القضاء شمس الدين بن خلكان.
وفيها قدم أولاد صاحب الموصل، وهم الملك الصالح إسماعيل، ثم أخوه الملك المجاهد إسحاق صاحب جزيرة ابن عمر، ثم أخوهما الملك المظفر علي صاحب سنجار، أولاد لؤلؤ، فأحسن الملك الظاهر إليهم، وأعطاهم الإقطاعات الجليلة بالديار المصرية، واستمروا في أرغد عيش في طول مدة الملك الظاهر.
وفيها في ربيع الآخر وردت الأخبار من ناحية عكا، أن سبع جزائر في البحر خسف بها وبأهلها، وبقي أهل عكا لابسين السواد وهم يبكون ويستغفرون من الذنوب بزعمهم.
وفيها جهز الملك الظاهر بيبرس بدر الدين الأيدمري، فتسلم الشوبك في سلخ ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة تسع وخمسين وستمائة، وأخذها من الملك المغيث صاحب الكرك.
ثم دخلت سنة ستين وستمائة في هذه السنة في نصف رجب، وردت جماعة من مماليك الخليفة المستعصم البغاددة، وكانوا قد تأخروا في العراق بعد استيلاء التتر على بغداد، وقتل الخليفة، وكان مقدمهم يقال له شمس الدين سلار، فأحسن الملك الظاهر بيبرس ملتقاهم، وعين لهم الإقطاعات بالديار المصرية.
وفيها في رجب أيضاً، وصل إلى خدمة الملك الظاهر بيبرس بالديار المصرية، عماد الدين بن مظفر الدين، صاحب صهيون، رسولاً من أخيه سيف الدين صاحب صهيون، وصحبته هدية جليلة، فقبلها الملك الظاهر وأحسن إليه.

وفيها جهز الملك الظاهر عسكراً إلى حلب، وكان مقدمهم شمس الدين سنقر الرومي، فأمنت بلاد حلب وعادت إلى الصلاح، ثم تقدم الملك الظاهر بيبرس إلى سنقر الرومي إلى صاحب حماة الملك المنصور، وإلى صاحب حمص الملك الأشرف موسى أن يسيروا إلى أنطاكية وبلادها، للإغارة عليها، فساروا إليها ونهبوا بلادها وضايقوها، ثم عادوا، فتوجهت العساكر المصرية صحبة سنقر الرومي إلى مصر، ووصلوا إليها في تاسع عشرين رمضان من هذه السنة، ومعهم ما ينوف عن ثلاثمائة أسير، فقابلهم الملك الظاهر بالأحسان والإنعام.
وفيها لما ضاقت على أقوش البرلي البلاد، وأخذت منه حلب، ولم يبق بيده غير البيرة، دخل في طاعه الملك الظاهر وسار إليه، فكتب الملك الظاهر إلى النواب بالإحسان إليه وترتيب الإقامات له في الطرقات، حتى وصل إلى الديار المصرية، في ثاني ذي الحجة من هذه السنة، أعنب سنة ستين، فتلقاه الملك الظاهر وبالغ في الإحسان إليه، وأكثر له العطاء، فسأله أقوش البرلي من الملك الظاهر أن يقبل منه البيرة، فلم يفعل، وما زال يعاوده حتى قبلها، وبقي أقوش البرلي العزيز المذكور مع الملك المظاهر إلى أن تغير عليه، وقبضه في رجب سنة إحدى وستين وستمائة، فكان آخر العهد به.
وفيها في ذي القعدة، قبض الملك الظاهر على نائبه بدمشق، وهو علاء الدين طيبرس الوزيري، وكان قد تولى دمشق، بعد مسير علاء الدين أيدكين البندقدار عنها، وسبب القبض عليه، أنه بلغ الملك الظاهر عنه أمور كرهها، فأرسل إليه عسكراً مع عز الدين الدمياطي وغيره من الأمراء، لما وصلوا إلى دمشق، خرج طيبرس لتلقيهم، فقبضوا عليه وقيدوه وأرسلوه إلى مصر، فحبسه الملك الظاهر،واستمر الحاج طيبرس في الحبس سنة وشهراً، وكانت مدة ولايته بدمشق سنة وشهراً أيضاً، وكان طيبرس المذكور رديء السيرة في أهل دمشق، حتى نزح عنها جماعة كثيرة من ظلمه، وحكم في دمشق بعد قبض طيبرس المذكور، علاء الدين أيدغدي الحاج الركني، ثم استناب الملك الظاهر على دمشق الأمير جمال الدين أقوش النجيبي الصالحي.
وفيها في يوم الخميس في أواخر ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة ستين وستمائة، جلس الملك الظاهر مجلساً عاماً، وأحضر شخصاً كان مد قدم إلى الديار المصرية في سنة تسع وخمسين وستمائة، من نسل بني العباس، يسمى أحمد، بعد أن أثبت نسبه، وبايعه بالخلافة، ولقب أحمد المذكور الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، وقد اختلف في نسبه، فالذي هو مشهور بمصر عند نسابة مصر، أنه أحمد بن حسن بن أبي بكر ابن الأمير أبي علي القبى ابن الأمير حسن ابن الراشد ابن المسترشد ابن المستظهر، وقد مر نسب المستظهر مع جملة خلفاء بني العباس، وأما عند الشرفاء العباسيين السلمانيين في درج نسبهم الثابت فقالوا: هو أحمد بن أبي بكر علي بن أبي بكر أحمد ابن الإمام المسترشد الفضل ابن المستظهر. ولما أثبت الملك الظاهر نسب المذكور، نزله في برج محترزاً عليه، وأشرك له الدعاء في الخطبة لا غير ذلك.
وفيها جهز الملك المنصور صاحب حماة، شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري رسولاً إلى الملك الظاهر، ووصل شيخ الشيوخ المذكور، فوجد الملك الظاهر عاتباً على صاحب حماة، لاشتغاله عن مصالح المسلمين باللهو، وأنكر الملك الظاهر على الشيخ شرف الدين ذلك، ثم انصلح خاطره، وحمله ما طيب به قلب صاحبه الملك المنصور، ثم عاد إلى حماة.
وفيها توفي الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي الإمام في مذهب الشافعي، وله مصنفات جليلة في المذهب، وكانت وفاته بمصر رحمه الله تعالى.
وفيها في ذي الحجة، توفي الصاحب كمال الدين عمر بن عبد العزيز المعروف بابن العديم، انتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة، وكان فاضلاً كبير القدر، ألف تاريخ حلب، وغيره من المصنفات، وكان قد قدم إلى مصر لما جفل الناس من التتر، ثم عاد بعد خراب حلب إليها، فلما نظر ما فعله التتر من خراب حلب، وقتل أهلها بعد تلك العمارة، قال في ذلك قصيدة طويلة منها:
هو الدهر ما تبنيه كفاك يهدم ... وإن رمت إنصافاً لديه فتظلم
أباد ملوك الفرس جمعاً وقيصراً ... وأصمت لدى فرسانها منه أسهم
وأفنى بني أيوب مع كثر جمعهم ... وما منهم إلا مليك معظم

وملك بني العباس زال ولم يدع ... لهم أثراً من بعدهم وهم هم
وأعتابهم أضحت تداس وعهدها ... تباس بأفواه الملوك وتلثم
وعن حلب ما شئت قل من عجائب ... أحل بها يا صاح إن كنت تعلم
ومنها:
فيا لك من يوم شديد لغامه ... قد أصبحت فيه المساجد تهدم
وقد درست تلك المدارس وارتمت ... مصاحفها فوق الثرى وهي ضخم
وهي طويلة وآخرها:
ولكنما لله في ذا مشيئة ... فيفعل فينا ما يشاء ويحكم
ثم دخلت سنة إحدى وستين وستمائة.
ذكر مسير الملك الظاهر إلى الشامفي هذه السنة، في حادي عشر ربيع الآخر، سار الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية إلى الشام، فلاقته والدة الملك المغيث عمر صاحب الكرك بغزة، وتوثقت لابنها الملك المغيث من الملك الظاهر بالأمان، وأحسن إليها، ثم توجهت إلى الكرك، وتوجه صحبتها شرف الدين الجاكي المهمندار، يرسم حمل الإقامات إلى الطرقات، برسم الملك المغيث، ثم سار الملك الظاهر من غزة ووصل إلى الطور، في ثاني عشر جمادى الأولى من هذه السنة، ووصل إليه على الطور الأشرف موسى صاحب حمص، في نصف الشهر المذكور، فأحسن إليه الملك الظاهر وأكرمه.
ذكر حضور الملك المغيث صاحب الكرك

وقتله واستيلاء الملك الظاهر بيبرس على الكرك:
وفي هذه السنة كان مقتل الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب الكرك، وسببه أنه كان في قلب الملك الظاهر بيبرس منه غيظ عظيم، لأمور كانت بينهما، قيل إن المغيث المذكور أكره امرأة الملك الظاهر بيبرس، لما قبض المغيث على البحرية. وأرسلهم إلى الناصر يوسف صاحب دمشق، وهرب الملك الظاهر بيبرس المذكور، وبقيت امرأته في الكرك، والله أعلم بحقيقة ذلك، وكان من حديث مقتله، أن الملك الظاهر بيبرس مازال يجتهد على حضور المغيث المذكور، وحلف لوالدته على غزة كما تقدم ذكره، وكان عند المغيث شخص يسمى الأمجد، وكان يبعثه في الرسالة إلى الملك الظاهر، فكان الظاهر يبالغ في إكرامه وتقريبه، فاغتر الأمجد بذلك، وما زال على مخدومه الملك المغيث، حتى أحضره إلى الملك الظاهر.
حكى لي شرف الدين بن مزهر، وكان ابن مزهر المذكور، ناظر خزانة المغيث.
قال: لما عزم المغيث على التوجه إلى خدمة الملك الظاهر، لم يكن قد بقي بخزانته شيء من المال، ولا القماش، وكان لوالدته حواصل بالبلاد، فبعناها بأربعة وعشرين ألف درهم، واشترينا باثني عشر ألف درهم خلعاً من دمشق، وجعلنا في صناديق الخزانة، الاثني عشر الألف الأخرى، ونزل المغيث من الكرك وأنا والأمجد وجماعة من أصحابه معه، في خدمته.
قال: وشرعت البريدية تصل إلى الملك المغيث في كل يوم بمكاتبات الملك الظاهر، ويرسل صحبتهم مثل غزلان ونحوها، والمغيث يخلع عليهم، حتى نفد ما كان بالخزنة من الخلع، ومن جملة ما كتب إليه في بعض المكاتبات، المملوك ينشد في قدوم مولانا:
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى تمشى إلى عبد
قال: وكان الخوف في قلب المغيث شديداً من الملك الظاهر.
قال ابن مزهر المذكور: ففاتحني في شيء من ذلك بالليل.
فقلت له: احلف إلي أنك لا تقول للأمجد ما أقوله لك حتى أنصحك، فحلف لي.
فقلت له: اخرج الساعة من تحت الخام، واركب حجرتك النجيلة، ولا يصبح لك الصباح إلا وأنت قد وصلت إلى الكرك، فتعصى فيه، ولا تفكر بأحد.
وقال ابن مزهر: فغافلني وتحدث مع الأمجد في شيء من ذلك.
فقال له الأمجد: هذا رأى ابن مزهر إياك من ذلك.
وسار المغيث حتى وصل إلى بيسان، فركب الملك الظاهر بعساكره والتقاه في يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة، فلما شاهد المغيث الملك الظاهر، ترجل، فمنعه الملك الظاهر وأركبه وساق إلى جانبه، وقد تغير وجه الملك الظاهر، فلما قارب الدهليز، أفرد الملك المغيث عنه وأنزله في خيمة وقبض عليه، وأرسله معتقلاً إلى مصر، فكان آخر العهد به.

قيل أنه حمل إلى امرأة الملك الظاهر بيبرس بقلعة الجبل، فأمرت جواريها فقتلته بالقباقيب، ثم قبض الملك الظاهر على جميع أصحاب المغيث، ومن جملتهم ابن مزهر المذكور، ثم بعد ذلك أفرج عنهم، انتهى كلام ابن مزهر.
ولما التقى الملك الظاهر ببيرس الملك المغيث المذكور وقبض عليه، أحضر الفقهاء والقضاة وأوقفهم على مكاتبات من التتر إلى الملك المغيث، أجوبة عن ما كتب إليهم به في أطماعهم في ملك مصر والشام، وكتب بذلك مشروح، وأثبت على الحكام، وكان للملك المغيث المذكور ولداً يقال له الملك العزيز، أعطاه الملك الظاهر إقطاعاً بديار مصر، وأحسن إليه، ثم جهز الملك الظاهر بدر الدين البيسري الشمسي، وعز الدين أستاذ الدار إلى الكرك، فتسلماها في يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، أعني سنة إحدى وستين وستمائة، ثم سار الملك الظاهر ووصل إلى الكرك، ورتب أمورها، ثم عاد إلى الديار المصرية، فوصل إليها في سابع عشر رجب من هذه السنة.
ذكر الإغارة على عكا وغيرهاوفي هذه السنة لما كان الملك الظاهر نازلاً على الطور، أرسل عسكراً هدموا كنيسة الناصرة، وهي من أكبر مواطن عبادات النصارى، لأن منها خرج دين النصرانية، وأغاروا على عكا وبلادها، فغنموا وعادوا، ثم ركب الملك الظاهر بنفسه وجماعة اختارهم، وأغار ثانياً على عكا وبلادها وهدم برجاً كان خارج البلد، وذلك عقيب إغارة عسكره وهدم الكنيسة الناصرة.
ذكر القبض على من يذكروفيها بعد وصول الملك الظاهر بيبرس إلى مصر واستقراره في ملكه، في رجب، قبض على الرشيدي، ثم قبض في ثاني يوم على الدمياطي والبرلي، وقد تقدمت أخبار البرلي المذكور.
ذكر وفاة الأشرف صاحب حمصوفي هذه السنة بعد عود الملك الأشرف صاحب حمص موسى ابن الملك المنصور إبراهيم ابن الملك المجاهد شيركوه بن ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شاذي، من خدمة الملك الظاهر بيبرس إلى حمص، مرض واشتد به المرض، وتوفي إلى رحمة الله تعالى، وأرسل الملك الظاهر وتسلم حمص في ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة إحدى وستين وستمائة، وهذا الملك الأشرف موسى هو آخر من ملك حمص من بيت شيركوه، وقد تقدمت أخبار الأشرف موسى المذكور، وأخذ الملك الناصر يوسف صاحب حلب منه حمص، بسبب تسليمه شميميس للملك الصالح أيوب، صاحب مصر وأنه يعوض عن حمص تل باشر، ثم أعاد هولاكو عليه حمص، فبقيت في يده حتى توفي في أواخر هذه السنة، وانتقلت حمص إلى مملكة الملك الظاهر بيبرس في ذي القعدة حسبما ذكره، وكان جملة من ملك حمص منهم خمسة ملوك، أولهم شيركوه بن شاذي، ملكه إياها نور الدين الشهيد، ثم ملكها من بعده ابنه ناصر الدين محمد بن شيركوه، ثم ملكها بعده ابنه شيركوه بن محمد، وتلقب بالملك المجاهد، ثم ملكها بعده ابنه إبراهيم بن شيركوه، وتلقب بالملك المنصور، ثم ملكها بعده ابنه موسى بن إبراهيم، وتلقب بالملك الأشرف حتى توفي هذه السنة، وانقرض بموته ملك المذكورين.
ثم دخلت سنة اثنتين وستمائة في هذه السنة قبض الأشكري صاحب قسطنطينية على عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو بن كيقباذ صاحب بلد الروم، وسببه أن عز الدين كيكاؤوس المذكور، كان قد وقع بينه وبين أخيه، فاستظهر أخوه علية، فهرب كيكاؤوس وبقي أخوه ركن الدين قليج أرسلان في سلطنة بلاد الروم، ثم سار كيكاؤوس المذكور إلى قسطنطينية، فأحسن إليه الأشكري صاحب قسطنطينية. وإلى من معه من الأمراء، واستمروا كذلك مدة، فعزمت الأمراء والجماعة الذين كانوا مع عز الدين المذكور على اغتيال الأشكري وقتله، والتغلب على قسطنطينية، وبلغ ذلك الأشكري، فقبض عليهم، واعتقل عز الدين كيكاؤوس ابن كيخسرو في بعض القلاع، وكحل الأمراء والجماعة الذين كانوا عزموا على ذلك، فأعمى عيونهم، وقد تقدم ذكر كيكاؤوس المذكور وأخيه قليج أرسلان في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.

وفيها في ثامن رمضان توفي الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري، المعروف بشيخ الشيوخ بحماة، وكان مولده في جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وكان ديناً فاضلاً متقدماً عند الملوك، وله النثر البديع والنظم الفائق، وكان غزير العقل، عارفاً بتدبير المملكة، فمن حسن تدبيره. أن الملك الأفضل علي ابن الملك المظفر محمود، لما ماتت والدته غازية خاتون بنت الملك الكامل رحمهما الله تعالى، حصل عند الملك الأفضل المذكور استشعار من أخيه الملك المنصور محمد صاحب حماة، فعزم على أن ينتزح من حماة ويفارق أخاه الملك المنصور، وأذن له أخوه الملك المنصور في ذلك، فاجتمع الشيخ شرف الدين المذكور بالملك الأفضل، وعرفه ما تعمده من السلوك مع أخيه الملك المنصور، ثم اجتمع بالملك المنصور وقبح عنده مفارقة أخيه، وما برح بينهما حتى أزال ما كان في خواطرهما، وصار للملك الأفضل في خاطر أخيه الملك المنصور من المحبة والمكانة ما يفوق الوصف، وكان ذلك من بركة شرف الدين المذكور، وللشيخ شرف الدين المذكور أشعار فائقة، قد تقدم ذكر بعضها، وكان مرة مع الملك الناصر يوسف صاحب الشام بعمان، فعمل الشيخ شرف الدين.
أفدي حبيباً منذ واجهته ... عن وجه بدر التم أغناني
في وجهه خالان لولاهما ... ما بت مفتوناً بعمان
وأنشدهما للملك الناصر، فأعجبته إلى الغاية، وجعل يردد إنشادهما، وقال لكاتبه كمال الدين بن العجمي، هكذا تكون الفضيلة، فقال ابن العجمي أن التورية لا تخدم هنا، لأن عمان مجرورة في النظم، فلا تخدمه في التورية، فقال الملك الناصر للشيخ شرف الدين ما قاله، فقال شرف الدين إن هذا جائز وهو أن يكون المثنى في حالة الجر على صورة الرفع، واستشهد شرف الدين بقول الشاعر:
فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى ... مساغاً لناباه الشجاع لصمما
واستشهد بغير ذلك فتحقق الملك الناصر فضيلته.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وستمائة.
ذكر فتوح قيساريةفي هذه السنة، سار الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية بعساكره المتوافرة، إلى جهاد الفرنج بالساحل، ونازل قيسارية الشام، في تاسع جمادى الأولى، وضايقها وفتحها بعد ستة أيام من نزوله، وذلك في منتصف الشهر المذكور، وأمر بها فهدمت، ثم سار إلى أرسوف ونازلها وفتحها في جمادى الآخرة في هذه السنة.
ذكر موت هولاكوفي هذه السنة، في تاسع عشر ربيع الآخر، مات هولاكو ملك التتر، لعنه الله تعالى. وهو هولاكو بن طلو بن جنكزخان، وكانت وفاته بالقرب من كورة مراغة، وكانت مدة ملكه البلاد التي سنصفها، نحو عشر سنين، وخلف خمسة عشر ولداً ذكراً، ولما مات، جلس في الملك بعده ولده أبغا بن هولاكو، واستقرت له البلاد التي كانت بيد والده حال وفاته، وهي: إقليم خراسان، وكرسيه نيسابور، وإقليم عراق العجم، وهو الذي يعرف ببلاد الجبل، وكرسيه أصفهان، وإقليم عراق العرب، وكرسيه بغداد، وإقليم أذربيجان وكرسيه تبريز، وإقليم خورستان وكرسيه تستر، التي تسميها العامة تشتر، وإقليم فارس وكرسيه شيراز، وإقليم ديار بكر وكرسيه الموصل، وإقليم الروم وكرسيه قونية، وغير ذلك من البلاد التي ليست في الشهرة. مثل هذه الأقاليم العظيمة.
ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة أو التي بعدها، أمسك الملك الظاهر بيبرس، زامل بن علي، أمير العرب، بمكاتبة عيسى بن مهنا في حقه. وفيها في رمضان، استولى النائب بالرحبة على قرقيسيا، وهي حصن الزباء التي تقدم خبرها مع جذيمة الأبرش في أوائل الكتاب، وفيه خلاف. وفيها قبض الملك الظاهر بيبرس على سنقر الرومي. وفيها توفي قاضي القضاة بمصر، بدر الدين يوسف بن حسن علي السنجاري.
ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة.
ذكر فتوح صفد وغيرهافي هذه السنة خرج الملك الظاهر بعساكره المتوافرة من الديار المصرية، وسار، الشام، وجهز عسكراً إلى ساحل طرابلس، ففتحوا القليعات وحلباً وعرقاً، ونزل الملك الظاهر على صفد، ثامن شعبان، وضايقها بالزحف وآلات الحصار، وقدم إليه وهو على صفد، الملك المنصور صاحب حماة، ولاصق الجند القلعة، وكثر القتل والجراح في المسلمين، وفتحها في تاسع عشر شعبان المذكور بالأمان، ثم قتل أهلها عن آخرهم.

ذكر دخول العساكر إلى بلاد الأرمن
وفي هذه السنة بعد فراغ الملك الظاهر من فتوح صفد، سار إلى دمشق، فلما دخلها واستقر فيها، جرد عسكراً ضخماً، وقدم عليهم الملك المنصور صاحب حماة، وأمرهم بالمسير إلى بلاد الأرمن، فسارت العساكر صحبة الملك المنصور المذكور، ووصلوا إلى بلاد سيس في ذي القعدة من هذه السنة، وكان صاحب سيس إذ ذاك، هيثوم بن قسطنطين بن باسيل، قد حصن الدربندات بالرجالة والمناجنيق، وجعل عسكره مع ولديه على الدربندات، لقتال العسكر الإسلامي ومنعه، فداستهم العساكر الإسلامية، وأفنوهم قتلاً وأسراً، وقتل ابن صاحب سيس الواحد، وأسر ابنه الآخر، وهو ليفون بن هيثوم المذكور، وانتشرت العساكر الإسلامية في بلاد سيس، وفتحوا قلعة العامودين. وقتلوا أهلها، ثم عادت العساكر وقد امتلأت أيديهم من الغنائم، ولما وصل خبر هذا الفتح العظيم إلى الملك الظاهر بيبرس، رحل من دمشق ووصل إلى حماة، ثم إلى فامية، فالتقى عساكره وقد عادت منصورة وأمر بتسليم الأسرى، وفيهم ليفون بن صاحب سيس، وكان المذكور لما أسر، سلمه الملك المنصور إلى أخيه الملك الأفضل، فاحترز عليه وحفظه حتى: حضره بين يدي السلطان، ثم عاد إلى الديار المصرية على طريق الكرك، فتقنطر بالملك الظاهر المذكور فرسه، عند بركة زيزا، وانكسرت فخذه، وحمل في محفة إلى قلعة الجبل.
ذكر قتل أهل قارا ونهبهموفي هذه السنة، عند توجه الملك الظاهر من دمشق، لملتقى عساكره العائدة من غزوة بلاد سيس، لما نزل على قارا بين دمشق وحمص، أمر بنهب أهلها وقتل كبارهم، فنهبوا وقتل منهم جماعة لأنهم كانوا نصارى، وكانوا يسرقون المسلمين ويبيعونهم بالخفية إلى الفرنج، وأخذت صبيانهم مماليك، فتربوا بين الترك في الديار المصرية، فصار منهم أجناد وأمراء.
ثم دخلت سنة خمس وستين وستمائة فيها وصل الملك المنصور محمد صاحب حماة إلى خدمة الملك الظاهر بيبرس بالديار المصرية، ثم طلب المنصور من الملك الظاهر مرسوماً بالتوجه إلى الإسكندرية، ليراها ويتفرج فيها، فرسم له بذلك وأمر أهل إسكندرية بإكرامه واحترامه، وفرش الشقق بين يدي فرسه. فتوجه الملك المنصور إلى الإسكندرية، وعاد للديار المصرية مكرماً محترماً، ثم خلع عليه الملك الظاهر، وأحسن إليه على جاري عادته، ورسم له بالدستور فعاد إلى بلده.
وفيها توجه الملك الظاهر بيبرس إلى الشام، فنظر في مصالح صفد، ووصل إلى دمشق، وأقام بها خمسة أيام، وقوي الأرجاف بوصول التتر إلى الشام، ثم وردت الأخبار بعودهم على عقبهم، فعاد الملك الظاهر إلى ديار مصر.
ذكر موت ملك التتر بالبلاد الشماليةوفي هذه السنة، مات بركه بن باطوخان بن دوشي خان بن جنكزخان، أعظم ملوك التتر، وكرسي مملكته مدينة صراي، وكان قد مال إلى دين الإسلام، ولما مات، جلس في الملك بعده ابن عمه منكوتمر بن طغان بن باطر بن دوشي خان بن جنكزخان.
ثم دخلت سنة ست وستينوستمائة.
ذكر مسير الملك الظاهر إلى الشام
وفتح أنطاكية وغيرها:
في هذه السنة، في مستهل جمادى الآخرة، توجه الملك الظاهر بيبرس بعساكره المتوافرة إلى الشام، وفتح يافا في العشر الأوسط من الشهر المذكور، وأخذها من الفرنج، ثم سار إلى أنطاكية ونازلها مستهل رمضان، وزحفت العساكر الإسلامية على أنطاكية، فملكوها بالسيف، في يوم السبت رابع شهر رمضان من هذه السنة، وقتلوا أهلها وسبوا ذراريهم، وغنموا منهم أموالاً جليلة، وكانت أنطاكية للبرنس بيمند بن بيمند، وله معها طرابلس، وكان مقيماً بطرابلس، لما فتحت أنطاكية وفيها في ثالث عشر رمضان، استولى الملك الظاهر على بغراس، وسبب ذلك أنه لما فتح أنطاكية، هرب أهل بغراس منها وتركوا الحصن خالياً، فأرسل من استولى عليها في التاريخ المذكور، وشحنه بالرجال والعدد، وصار من الحصون الإسلامية، وقد تقدم ذكر فتح صلاح الدين للحصن المذكور وتخريبه، ثم عمارة الفرنج له بعد صلاح الدين، ثم حصار عسكر حلب له ورحيلهم عنه بعد أن أشرفوا على أخذه.

وفيها في شوال، وقع الصلح بين الملك الظاهر وبين هيثوم صاحب سيس، على أنه إذا أحضر صاحب سيس، سنقر الأشقر من التتر، وكانوا قد أخذوه من قلعة حلب لما ملكها هولاكو، كما تقدم ذكره. وسلم مع ذلك، بهسنا ودربساك ومرزبان ورعبان، وشيح الحديد، يطلق له ابنه ليفون، فدخل صاحب سيس على أبغا ملك التتر، وطلب منه سنقر الأشقر، فأعطاه إياه، ووصل سنقر الأشقر إلى خدمة الملك الظاهر، وكذلك سلم دربساك وغيرها من المواضع المذكورة، خلا بهسنا، وأطلق الملك الظاهر ابن صاحب سيس، ليفون بن هيثوم، وتوجه إلى والده، ثم عاد الملك الظاهر إلى الديار المصرية، ووصل إليها في ذي الحجة من هذه السنة.
وفيها اتفق معين الدين سليمان البرواناه، مع التتر المقيمين معه ببلاد الروم، على قتل ركن الدين قليج أرسلان بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان يبغو بن سلجوق، سلطان الروم، فخنق التتر ركن الدين المذكور، بوتر، وأقام البرواناه مقامه ولده غياث الدين بن ركن الدين قليج أرسلان المذكور، وله من العمر ربع سنين.
ثم دخلت سنة سبع وستينوستمائة. وفي هذه السنة، خرج الملك الظاهر إلى الشام وخيم في خربة اللصوص، وتوجه إلى مصر بالخفية، ووصل إليها بغتة، وأهل مصر والنائب بها لا يعلمون بذلك إلا بعد أن صار بينهم، ثم عاد إلى الشام.
وفيها تسلم الملك الظاهر بلاطنس من عز الدين عثمان صاحب صهيون.
وفيها توجه الملك الظاهر بيبرس إلى الحجاز الشريف، وكان رحيله من الفوار في الخامس والعشرين من شوال، ووصل إلى الكرك وأقام به أياماً، وتوجه من الكرك في سادس ذي العقدة إلى الشوبك، ورحل من الشوبك في الحادي عشر من الشهر المذكور، ووصل إلى المدينة النبوية في خامس وعشرينه ووصل إلى مكة في خامس ذي الحجة، ووصل إلى الكرك في سلخ ذي الحجة.
ثم دخلت سنة ثمان وستينوستمائة. فيها توجه الملك الظاهر بيبرس من الكرك، مستهل المحرم، عند عوده من الحج، فوصل إلى دمشق بغتة، وتوجه في يومه. ووصل إلى حماة في خامس المحرم، وتوجه من ساعته إلى حلب، ولم يعلم به العسكر إلا وهو في الموكب معهم، وعاد إلى دمشق في ثالث عشر المحرم المذكور، ثم توجه إلى القدس، ثم إلى القاهرة، فوصل إليها في ثالث صفر من هذه السنة.
وفيها عاد الملك الظاهر إلى الشام وأغار على عكا، وتوجه إلى دمشق، ثم إلى حماة.
وفيها جهز الملك الظاهر عسكراً إلى بلاد الإسماعيلية، فتسلموا مصياف في العشر الأوسط من رجب من هذه السنة، وعاد الملك الظاهر من حماة إلى جهة دمشق، فدخلها في الثامن والعشرين من رجب، ثم عاد إلى مقر ملكه بمصر.
وفيها حصل بين منكوتمر بن طغان ملك التتر بالبلاد الشمالية، وبين الأشكري صاحب قسطنطينية وحشة، فجهز منكوتمر إلى قسطنطينية جيشاً من التتر، فوصلوا إليها وعاثوا في بلادها، ومرواً بالقلعة التي فيها عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو ملك بلاد الروم محبوساً، كما قدمنا ذكره في سنة اثنتين وستين وستمائة، فحمله التتر بأهله إلى منكوتمر، فأحسن منكوتمر إلى عز الدين المذكور، وزوجه، وأقام معه إلى أن توفي عز الدين المذكور في منة سبع وسبعين وستمائة، فسار ابنه مسعود بن عز الدين المذكور إلى بلاد الروم، وسار سلطان الروم على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها أعني سنة ثمان وستين وستمائة، قتل أبو دبوس، آخر الملوك من بني عبد المؤمن، وانقرضت بموته دولتهم، وقد تقدم ذكر ذلك في سنة أربع وعشرين وستمائة، وملكت بلادهم بعدهم بنو مرين، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى في سنة اثنتين وسبعين وستمائة.
ثم دخلت سنة تسع وستين وستمائة.
ذكر فتح حصن الأكراد وحصن عكار والقرينفي هذه السنة توجه الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية إلى الشام، ونازل حصن الأكراد في تاسع شعبان هذه السنة، وجد في حصاره، واشتد القتال عليه، وملكه بالأمان في الرابع والعشرين من شعبان المذكور، ثم رحل إلى حصن عكار ونازله في سابع عشر رمضان من هذه السنة، وجد في قتاله، وملكه بالأمان سلخ رمضان المذكور، وعيد الملك الظاهر عليه عيد الفطر، فقال محي الدين بن عبد الظاهر مهنئاً له بفتوح عكار:
يا مليك الأرض بشرا ... ك فقد نلت الاراده

إن عكار يقيناً ... هو عكار زياده
وفيها في شوال، تسلم الملك الظاهر قلعة العليقة وبلادها من الإسماعيلية. وفيها توجه الملك الظاهر إلى دمشق، وسار منها في العشر الأخير من شوال إلى حصن القرين، ونازله في ثاني ذي القعدة، وزحف عليه وتسلمه بالأمان، وأمر به فهدم، ثم عاد إلى مصر.
وفيها جهز الملك الظاهر ما يزيد على عشرة شواني لغزو قبرس، فتكسرت في مرسى اليميسوس، وأسر الفرنج من كان بتلك الشواني من المسلمين، فاهتم السلطان بعمارة شوان آخر، فعمل في المدة اليسيرة ضعف ما عدم.
وفيها توفي هيثوم بن قسطنطين صاحب سيس، وملك بعده ابنه ليفون، الذي أسره المسلمون حسبما تقدم ذكره. وفيها قبض الملك الظاهر على عز الدين بغان المعروف باسم الموت، وعلي المحمدي وغيرهما.
وفيها توفي القاضي شمس الدين بن البارزي، قاضي القضاة بحماة.
وفيها توفي الطواشي، شجاع الدين مرشد، الخادم المنصوري، رحمه الله تعالى، وكان كثيرالمعروف، وتولى تدبير مملكة حماة مدة، وكان يعتمد عليه الملك الظاهر ويستشيره.
ثم دخلت سنة سبعينوستمائة. فيها توجه الملك الظاهر إلى الشام، وعزل جمال الدين أقوش النجمي عن نيابة السلطنة بدمشق وولى فيها علاء الدين أيدكين الفخري الأسندار، في مستهل ربيع الأول، ثم توجه الملك الظاهر إلى حمص، ثم إلى حصن الأكراد، ثم عاد إلى دمشق.
وفيها والملك الظاهر بدمشق، أغارت التتر على عينتاب، وعلى الروج وقميطون إلى قرب فامية، ثم عادوا واستدعى الملك الظاهر عسكراً من مصر، فوصلوا إليه صحبة بدر الدين البيسري، فتوجه الملك الظاهر بهم إلى حلب، ثم عاد إلى الديار المصرية، فوصل إليها في الثالث والعشرين من جمادى الأولى.
وفيها في شوال عاد الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية إلى الشام، فوصل إلى دمشق في ثالث صفر.
وفيها توفي سيف الدين أحمد بن مظفر الدين عثمان بن منكبرس، صاحب صهيون، فسلم ولداه سابق الدين، وفخر الدين، صهيون، إلى الملك الظاهر، وقدما إلى خدمته، وأحسن إليهما، وأعطى سابق الدين أمرة طملخاناة، وفيها نازل التتر البيرة، ونصبوا عليها المناجنيق وضايقوها، وسار إليهم الملك الظاهر وأراد عبور سفرات إلى بر البيرة، فقاتله التتر على المخاضة، فاقتحم الفرات وهزم التتر، فرحلوا عن البيرة وتركوا آلات الحصار بحالها، فصارت للمسلمين.
ثم عاد الملك الظاهر فوصل إلى الديار المصرية في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وفيها أفرج عن الدمياطي من الاعتقال.
وفيها تسلمت نواب الملك الظاهر ما تأخر من حصون الإسماعيلية، وهي الكهف والمينقة وقدموس، وفيها اعتقل الملك الظاهر، الشيخ خضر، وكان قد بلغ المذكور عند الملك الظاهر أرفع منزلة، وانبسطت يده، وأنفذ أمره في الشام مصر، فاعتقله في قاعة بقلعة الجبل، مكرماً حتى مات.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وستمائة.
ذكر ملك يعقوب المريني مدينة سبتة

وابتداء ملكهم:
وفي هذه السنة ملك يعقوب بن عبد الحق بن محبو بن حمامة المريني مدينة سبتة، وبنو مرين ملوك بلاد المغرب، بعد بني عبد المؤمن، وكان آخر من ملك من بني عبد المؤمن، أبو دبوس، وقد ذكرنا ما وقع لنا من أخبار أبي دبوس المذكور، مع ما فيه من الاختلاف، في سنة أربع وعشرين وستمائة، وأن المذكور قتل في سنة ثمان وستين وستمائة، وانقرضت حينئذ دولة بني عبد المؤمن.
وملك بعدهم بنو مرين، وهذه القبيلة، أعني بني مرين، يقال لهم حمامة، من بين قبائل العرب بالمغرب، وكان مقامهم بالريف القبلي من إقليم تازة، وأول أمرهم أنهم خرجوا عن طاعة بني عبد المؤمن المعروفين بالموحدين، لما اختل أمرهم، وتابعوا الغارات عليهم حتى ملكوا مدينة فاس، واقتلعوها من الموحدين، في سنة سبع وثلاثين وستمائة، واستمرت فاس وغيرها في أيديهم في أيام الموحدين. وأول من اشتهر من بني مرين، أبو بكر بن عبد الحق بن محبو بن حمامة المريني، وبعد ملكه فاس، سار إلى جهة مراكش، وضايق بني عبد المؤمن، وبقي كذلك حتى توفي أبو بكر المذكور في سنة ثلاث وخمسين وستمائة.

وملك بعده أخوه يعقوب بن عبد الحق بن محبو، وقوى أمره، وحاصر أبا دبوس في مراكش، وملكها يعقوب المريني المذكور، وأزال ملك بني عبد المؤمن من حينئذ، واستقرت قدم يعقوب المريني المذكور في الملك، وبقي يعقوب مستمراً في الملك حتى ملك سبتة في هذه السنة، ثم توفي ولم يقع لي تاريخ وفاته.
وملك بعده ولده يوسف ابن يعقوب بن عبد الحق بن محبو، وكنية يوسف المذكور أبو يعقوب، واستمر يوسف المذكور في الملك حتى قتل سنة ست وسبعمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها وصل الملك الظاهر بعساكره إلى دمشق، وفيها عاد عمر بن مخلول أحد أمراء العربان إلى الحبس بعجلون، وكان من حديثه، أن الملك الظاهر حبسه بعجلون مقيداً، فهرب من الحبس المذكور إلى بلاد التتر، ثم أرسل يطلب الأمان، فقال الملك الظاهر ما أؤمنه إلا أن يعود إلى عجلون، وبضع القيد في رجله كما كان، فعاد عمر إلى عجلون وجعل القيد في رجله، فعفى عنه الملك الظاهر عند ذلك.
وفيها قويت أخبار التتر لقصد الشام، فجفل الناس، وفيها في جمادى الأولى، كانت ولادة العبد الفقير مؤلف هذا المختصر، إسماعيل بن علي بن محمود ابن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، بدار ابن الرنجيلي بدمشق المحروسة، فان أهلنا كانوا قد جفلوا من حماة إلى دمشق، بسبب أخبار التتر.
وفيها توفي الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني النحوي، وله في النحو واللغة مصنفات كثيرة مشهورة، وفيها في ذي القعدة، توفي الأمير مبارز الدين أقوش المنصوري، مملوك الملك المنصور صاحب حماة، ونائب سلطنته، وكان أميراً جليلاً عاقلاً شجاعاً، وهو قبجاقي الجنس.
وفيها في يوم الاثنين ثامن عشر ذي الحجة، توفي الشيخ العلامة نصير الدين الطوسي، واسمه محمد بن محمد بن الحسين، الإمام المشهور، وكان يخدم صاحب الألموت، ثم خدم هولاكو، وحظي عنده، وعمل لهولاكو رصداً بمراغة وزيجا، وله مصنفات عديدة كلها نفيسة، منها إقليدس، تضمن اختلاط الأوضاع، وكذلك المجسطي، وتذكرة في الهيئة، لم يصنف في فنها مثلها، وشرح الإشارات، وأجاب عن غالب إيرادات فخر الدين الرازي عليها، وكانت ولادته في حادي عشر جمادى لأولى، سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وكانت وفاته ببغداد، ودفن في مشهد موسى الجواد.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وستمائة فيها توجه الملك الظاهر بيبرس إلى بلاد سيس، فدخلها بعساكره المتوافرة، وغنموا ثم عادوا إلى دمشق حتى خرجت هذه السنة.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وستمائة فيها نازلت التتر البيرة، وكان اسم مقدمهم أقطاي، وكان الملك الظاهر بدمشق، فتوجه إلى جهة البيرة، فرحل التتر عنها، ولاقى الملك الظاهر الخبر برحيلهم وهو بالقطيفة فأتم السير إلى حلب، ثم عاد إلى مصر.
وفيها بعد وصول الملك الظاهر إلى مصر، جهز جيشاً مع أقسنقر الفارقاني، ومعه عز الدين أيبك الأفرم، إلى النوبة، فساروا إليها ونهبوا وقتلوا وعادوا بالغنائم.
وفيها كان زواج الملك السعيد بركة ابن الظاهر بيبرس، بابنة الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي، غازية خاتون. وفيها في أواخر السنة المذكورة، عاد الملك الظاهر إلى الشام.
ثم دخلت سنة خمس وسبعينوستمائة. فيها في المحرم، وصل الملك الظاهر بيبرس إلى دمشق، وكان فد خرج من مصر في أواخر سنة أربع وسبعين، وبلغه وصول الأمراء الروميين الوافدين، وهم بيجار الرومي،وبهادر ولده، وأحمد بن بهادر، وغيرهم، فسار الملك الظاهر إلى جهة حلب والتقاهم وأكرمهم ثم عاد إلى الديار المصرية.
ذكر دخول الملك الظاهر إلى بلاد الروموفي هذه السنة عاد الملك الظاهر بيبرس بعساكره المتوافرة إلى الشام، وكان خروجه من مصر في يوم الخميس، لعشرين من رمضان هذه السنة، ووصل إلى حلب، ثم إلى النهر الأزرق، ثم سار إلى أبلستين، فوصل إليها في ذي القعدة، والتقى بها جمعا من التتر مقدمهم تناون، وكانوا نقاوة المغل، فالتقى الفريقان في أرض أبلستين يوم الجمعة عاشر ذي القعدة من هذه السنة، فانهزم التتر وأخذتهم سيوف المسلمين، وقتل مقدمهم تناون، وغالب كبرائهم، وأسر منهم جماعة كثيرة، صاروا أمراء، وكان من جملة المأسورين في هذه الموقعة، سيف الدين قبجق، وسيف الدين أرسلان، وسنذكر أخبارهما إن شاء الله تعالى.

ثم سار الملك الظاهر بعد فراغه من هذه الوقعة إلى قيسارية، واستولى عليها، وكان الحاكم بالروم يومئذ، معين الدين سليمان البرواناه، وكان يكاتب الملك الظاهر في الباطن، وكان يظن الملك الظاهر أنه إذا وصل إلى قيسارية، يصل إليه البرواناه، على ما كان قد اتفق معه في الباطن، فلم يحضر البرواناه لما أراده الله من هلاكه، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وأقام الملك الظاهر على قيسارية سبعة أيام في انتظار البرواناه، وخطب له على منابرها، ثم رحل عن قيسارية في الثاني والعشرين من ذي القعدة، وحصل للعسكر شدة عظيمة، من نفاذ القوت والعلف، وعدمت غالب خيولهم ووصلوا إلى عمق حارم، وأقاموا به شهراً، ولما بلغ أبغا بن هولاكو، ساق في جموع المغل حتى وصل إلى الأبلستين، وشاهد عسكره صرعى، ولم يشاهد أحداً من عسكر الروم مقتولاً، فاستشاط غضباً وأمر بنهب الروم، وقتل من مر به من المسلمين، كنهب وقتل منهم جماعة، ثم سار أبغا إلى الأردو، وصحبته معين الدين البرواناه، فلما استقر بالأردو، أمر بقتل البرواناه، فقتل، وقتلوا معه نيفاً وثلاثين نفساً من مماليكه وخواصه، واسم البرواناه المذكور، سليمان، والبرواناه لقب، وهو.الحاجب بالعجمي، وكان مقتله بالأطاغ، وكان البرواناه حازماً بتدبير المملكة، ذا مكر ودهاء.
وفي هذه السنة توفي الشهاب محمد بن يوسف بن زائدة التلعفري الشاعر. وفيها مات الشيخ خضر في حبس الملك الظاهر. وفيها عاد الملك الظاهر من عمق حارم وتوجه إلى دمشق.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وستمائة فيها في خامس المحرم، وصل الملك الظاهر بيبرس إلى دمشق، ونزل بالقصر الأبلق، و كان قد رحل من عمق حارم في أواخر سنة خمس وسبعين.
ذكر وفاة الملك الظاهر بيبرس

فيها، في يوم الخميس، السابع والعشرين من المحرم، توفي السلطان الملك الظاهر أبو الفتح بيبرس، الصالحي النجمي بدمشق، وقت الزوال، رحمه الله تعالى، عقب وصوله من بلاد الروم إلى دمشق، على ما تقدم ذكره، وقد اختلف في سبب موته، فقيل إنه انكسف القمر كسوفاً كلياً، وشاع بين الناس أن ذلك سبب موت رجل جليل القدر، فأراد الملك الظاهر أن يصرف التأويل إلى غيره، فاستدعى بشخص من أولاد الملوك الأيوبية يقال له الملك القاهر، من ولد الملك الناصر داود بن المعظم عيسى، وأحضر قمزاً مسموماً، وأمر الساقي فسقى الملك القاهر المذكور، فشرب الملك الظاهر ناسياً بذلك النهاء على أثر شرب الملك القاهر، فمات الملك القاهر عقيب ذلك، وأما الملك الظاهر فحصلت له حمى محرقة، وتوفي في التاريخ المذكور، وكتم نائبه ومملوكه بدر الدين تتليك، المعروف بالخزندار، موته، وصبره وتركه في قلعة دمشق إلى أن استوت تربته بدمشق، قرب الجامع، فدفن فيها، وهي مشهورة معروفة، وارتحل بدر الدين تتليك بالعساكر ومعهم المحفة، مظهراً أن الملك الظاهر فيها، وأنه مريض، وسار إلى ديار مصر، وكان الملك الظاهر قد حلف العسكر لولده بركة بن بيبرس، ولقبه الملك السعيد، وجعله لي عهده، فوصل تتليك الخزندار بالخزائن والعسكر إلى الملك السعيد بقلعة جبل، وعند ذلك أظهر موت الملك الظاهر، وجلس ابنه الملك السعيد للعزاء، استقر في السلطنة، وكانت مدة مملكة الملك الظاهر نحو سبع عشرة سنة وشهرين عشرة أيام، لأنه ملك في سابع عشر ذي القعدة، سنة ثمان وخمسين وستمائة، توفي في السابع والعشرين من محرم، من سنة ست وسبعين وستمائة، وكان ملكاً جليلاً شجاعاً عاقلاً مهيباً، ملك الديار المصرية والشام، وأرسل جيشاً فاستولوا على النوبة، وفتح الفتوحات الجليلة، مثل صفد، وحصن الأكراد، وأنطاكية، وغيرها على، ما تقدم ذكره. وأصله مملوك قبجاقي الجنس، وسمعت أنه برجعلي، وكان أسمر أزرق العينين، جهوري الصوت، حضر هو ومملوك آخر مع تاجر إلى حماة، فاستحضرهما الملك المنصور محمد ليشتريهما، فلم يعجبه واحد منهما، وكان دكين البندقدار الصالحي، مملوك الملك الصالح أيوب صاحب مصر، قد غضب عليه الملك الصالح المذكور، وكان قد توجه أيدكين إلى جهة حماة، فأرسل الملك الصالح وقبض على أيدكين المذكور، واعتقله بقلعة حماة، فتركه الملك المنصور صاحب حماة في جامع قلعة حماة، واتفق ذلك عند حضور الملك الظاهر مع التاجر، فلما قلبه الملك المنصور ولم يشتره، أرسل أيدكين البندقدار وهو معتقل، فاشتراه، وبقي عنده، ثم أفرج الملك الصالح عن البندقدار، فسار من حماة وصحبته الملك الظاهر، وبقي مع أستاذه البندقدار المذكور مدة، ثم أخذه الملك الصالح من البندقدار، فانتسب إلى الملك الصالح دون أستاذه، وكان يخطب له، وينقش على الدراهم والدنانير بيبرس الصالحي.
وكان استقرار الملك السعيد بركة ابن الملك الظاهر في مملكة مصر والشام في أوائل ربيع الأول من هذه السنة، أعني سنة ست وسبعين وستمائة، واستقر بدر الدين تتليك الخزندار في نيابة السلطنة، على ما كان عليه مع والده، واستمرت الأمور على أحسن نظام، فلم تطل أيام تتليك الخزندار، ومات بعد ذلك في مدة يسيرة، قيل حتف أنفه، وقيل بل سم، والله أعلم، وتولى نيابة السلطنة بعده شمس الدين الفارقاني، ثم إن الملك السعيد خبط وأراد تقديم الأصاغر، وأبعد الأمراء الأكابر، وقبض على سنقر الأشقر، والبيسري، ثم أفرج عنهما بعد أيام يسيرة، ففسدت نيات الأمراء الكبار عليه، وبقي الأمر كذلك حتى خرجت هذه السنة.
ثم دخلت سنة سبع وسبعينوستمائة.
ذكر مسير الملك السعيد بركة إلى الشام

والإغارة على سيس وخلاف عسكره عليه:

في أثناء هذه السنة، سار الملك السعيد بركة إلى الشام وصحبته العساكر، ووصل إلى دمشق، وجرد منها العسكر صحبة الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي، وجرد أيضاً صاحب حماة، فساروا ودخلوا إلى بلاد سيسى، وشنوا الإغارة عليها، وغنموا، ثم عادوا إلى جهة دمشق، واتفقوا على الخلاف على الملك السعيد المذكور، وخلعه من السلطنة، لسوء تدبيره، وعبروا على دمشق ولم يدخلوها، فأرسل إليهم الملك السعيد واستعطفهم ودخل عليهم بوالدته، فلم يلتفتوا إلى ذلك، وأتموا السير، فركب الملك السعيد وساق وسبقهم إلى مصر، وطلع إلى قلعة الجبل، وسارت العساكر في إثره، وخرجت هذه السنة والأمر كذلك.
وفيها توفي عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق، عند منكوتمر ملك التتر، بمدينة صراي، وكيكاؤوس المذكور، هو الذي كان محبوساً بقسطنطينية حسبما تقدم ذكر القبض عليه، في سنة اثنين وستين، وذكر خلاصه واتصاله بملك التتر في سنة ثمان وستين، وخلف عز الدين المذكور ولداً اسمه مسعود، وقصد منكوتمر أن يزوجه بزوجة ابنه عز الدين كيكاؤوس، فهرب مسعود واتصل ببلاد الروم، فحمل إلى أبغا، فأحسن إليه أبغا وأعطاه سيواس وأرزن الروم، وأرزنكان، واستقرت هذه البلاد لمسعود المذكور، ثم بعد ذلك جعلت سلطنة الروم باسم مسعود المذكور، وافتقر جداً، وانكشف حاله، وهو آخر من سمي سلطاناً من السلجوقية بالروم.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وستمائة.
ذكر خلع الملك السعيد بركة ابن الملك الظاهرفي هذه السنة وصلت العساكر الخارجون عن طاعة بركة المذكور إلى الديار المصرية، في ربيع الأول، وحصروا الملك السعيد بركة بقلعة الجبل، فخامر على السعيد بركة، غالب من كان معه من الأمراء، مثل لاجين الزيني وغيره، وبقي يهرب واحد بعد واحد من القلعة، وينضم إلى العسكر المحاصر للقلعة، فلما رأى الملك السعيد بركة ذلك، أجابهم إلى الانخلاع من السلطنة، وأن يعطى الكرك، فأجابوه إلى ذلك، وأنزلوه من القلعة، وخلعوه في ربيع الأول من هذه السنة. أعني سنة ثمان وسبعين وستمائة، وسفروه من وقته إلى الكرك، صحبة بيد عان الركني، وجماعة معه، فوصل إليها وتسلمها بما فيها من الأموال وكان شيئاً كثيراً.
إقامة سلامش ابن الملك الظاهر بيبرس في المملكةوفي هذه السنة، لما جرى ما ذكرناه من خلع الملك السعيد بركة، وإعطائه الكرك، اتفق أكابر الأمراء الذين فعلوا ذلك، مثل بدر الدين البيسري الشمسي، وأيتمش السعدي، وبكتاش الفخري، أمير سلاح، وغيرهم، على إقامة بدر الدين سلامش ابن الملك الظاهر بيبرس في المملكة، ولقبوه الملك العادل، وعمره إذ ذاك سبع سنين وشهور، وخطب له، وضربت السكة باسمه، وذلك في شهر ربيع الأول من هذه السنة، وصار الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي، أتابك العسكر، ولما استقر ذلك، جهز أتابك العسكر المذكور، الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى دمشق، جعله نائب السلطنة بالشام، وكان العسكر لما خافوا السعيد بركة، قد قبضوا على عز الدين أيدمر نائب السلطنة بدمشق، وتولى تدبير دمشق بعد أيدمر، أقوش الشمسي نائب السلطنة بحلب، فسار وتولاها، واستمر الحال على ذلك مدة يسيرة.
ذكر سلطنة الملك المنصور قلاوون الصالحيوفي هذه السنة أعني سنة ثمان وسبعين وستمائة، في يوم الأحد، الثاني والعشرين من رجب، كان جلوس السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي في السلطنة، بعد خلع الصبي سلامش، وعزله، ولما تولى السلطان الملك المنصور، أقام منار العدل، وأحسن سياسة الملك، وقام بتدبير المملكة أحسن قيام.
ذكر خروج سنفر الأشقر عن الطاعة

وسلطنته بالشام:
وفي هذه السنة، في الرابع والعشرين من ذي القعدة، جلس سنقر الأشقر بدمشق في السلطنة، وحلف له الأمراء والعسكر الذين عنده بدمشق، وتلقب بالملك الكامل شمس الدين سنقر.

وفي هذه السنة توفي الملك السعيد بركة، ابن الملك الظاهر بيبرس في الكرك، بعد وصوله إليها في مدة يسيرة، وكان سبب موته، أنه لعب بالكرة في ميدان الكرك، فتقنطر به فرسه، فحصل له بسبب ذلك حمى شديدة، وبقي كذلك أياماً يسيرة وتوفي، وحمل إلى دمشق ودفن بتربة أبيه، ولما توفي الملك السعيد، اتفق من بالكرك وأقاموا موضعه أخاه نجم الدين خضر، واستقر في الكرك، ولقبوه الملك المسعود.
ثم دخلت سنة تسع وسبعينوستمائة.
ذكر كسرة سنقر الأشقر في هذه السنة، في التاسع عشر من صفر، كانت كسرة سنقر الأشقر المتولي على الشام، الملقب بالملك الكامل، وكان من حديث هذه الكسرة، أن السلطان الملك المنصور قلاوون، جهز عساكر ديار مصر، مع علم الدين سنجر الحلبي، الذي تقدم ذكر سلطنته بدمشق، عقيب قتل قطز، وكان أيضاً من مقدمي العسكر المصري المذكور، بدر الدين بكتاش، وبدر الدين الأيدرمري وعز الدين الأفرم، فسارت العساكر المذكورة إلى الشام، وبرز سنقر الأشقر بعساكر الشام إلى ظاهر دمشق، والتقى الفريقان في تاسع عشر صفر المذكور، فولى الشاميون وسنقر الأشقر منهزمين، ونهبت العساكر المصرية أثقالهم.
وكان السلطان الملك المنصور قلاوون، قد جعل مملوكه حسام الدين لاجين السلحدار نائباً بقلعة دمشق، فلما هرب سنقر الأشقر، أفرج عن حسام الدين لاجين المذكور، وكذلك كان سنقر الأشقر قد اعتقل بيبرس، المعروف بالجالق، لأنه لم بحلف له، فأفرج عنه أيضاً، وكتب الحلبي إلى السلطان الملك المنصور بالنصر، استقر الأمير لاجين المنصوري المذكور نائب السلطنة بالشام، وأما سنقر الأشقر، فإنه هرب إلى الرحبة، وكاتب أبغا بن هولاكو ملك التتر وأطمعه في البلاد، وكان عيسى بن مهنا، ملك العرب، مع سنقر الأشقر، وقاتل معه، وكتب بذلك إلى أبغا أيضاً، موافقة له، ثم سار سنقر الأشقر من الرحبة إلى صهيون في جمادى الأولى من هذه السنة، واستولى عليها، وعلى برزنة، وبلاطنس، والشغر، وبكاس، وعكار، شيزر، وفامية، وصارت هذه الأماكن لسنقر الأشقر.
وفيها توفي أقوش الشمسي نائب السلطنة بحلب، وولى السلطان الملك المنصور قلاوون على حلب، علم الدين سنجر الباشغردي.
وفيها قويت أخبار التتر، وأنهم واصلون إلى البلاد الإسلامية بجموعهم. وفيها جعل السلطان الملك المنصور قلاوون ولده الملك الصالح علاء الدين علي، ولي عهده وسلطنته، وركب بشعار السلطنة.
وفيها سار السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي من الديار المصرية، ووصل إلى غزة، وكان التتر قد وصلوا إلى حلب، فعاثوا، ثم عادوا فعاد السلطان إلى مصر في جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفيها استأذن سيف الدين بلبان الطباخي، أحد مماليك الملك المنصور، وكان نائب السلطنة بحصن الأكراد، في الإغارة على بلد المرقب، لما اعتمده أهله من الفساد عند وصول التتر إلى حلب، فأذن له السلطان في ذلك، فجمع بلبان الطباخي المذكور عساكر الحصون، وسار إلى المرقب، فاتفق هروب المسلمين ونزل الفرنج من المرقب، وقتلوا وأسروا من المسلمين جماعة.
وفيها في مستهل ذي الحجة، حرج السلطان الملك المنصور قلاوون من مصر، وسار عائداً إلى الشام، وخرجت هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثمانين وستمائة والسلطان الملك المنصور بالروحاء وأقام هناك مدة، ثم سار إلى بيسان، وقبض على جماعة من الظاهرية، ودخل دمشق وأعدم منهم جماعة، مثل كوندك، وأيدغمش الحلبي، وبيبرس الرشيدي، وأرسل عسكراً إلى شيزر، وهي لسنقر الأشقر، وجرى بينهم مناوشة، ثم إنه ترددت الرسل بين السلطان وبين سنقر الأشقر، واحتاج السلطان إلى مصالحته لقوة أخبار التتر، ووقع بينهم الصلح، على أن يسلم شيزر إلى السلطان، ويتسلم سنقر الأشقر الشغر وبكاس، وكانتا قد ارتجعتا سه، فتسلم نواب السلطان شيزر، وتسلم الشغر وبكاس سنقر الأشقر، وحلفا على ذلك، واستقر الصلح بينهما.
وفيها أيضاً استقر الصلح بين السلطان الملك المنصور قلاوون، وبين الملك خضر ابن الملك الظاهر بيبرس، صاحب الكرك.
ذكر الوقعة العظيمة مع التتر على حمص

في هذه السنة، أعني سنة ثمانين وستمائة، في شهر رجب، كان المصاف العظيم بين المسلمين وبين التتر بظاهر حمص، فنصر الله تعالى فيه المسلمين، بعد ما كانوا قد أيقنوا بالبوار، وكان من حديث هذا المصاف العظيم، أن أبغا بن هولاكو، حشد وجمع وسار بهذه الحشود طالباً الشام، ثم انفرد أبغا المذكور عنهم، وغنم وسار إلى الرحبة، وسير جيوشه وجموعه إلى الشام، وقدم عليهم أخاه منكوتمر ابن هولاكو، وسار إلى جهة حمص، وسار السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي بالجيوش الإسلامية من دمشق إلى جهة حمص أيضاً، وأرسل إلى سنقر يستدعيه بمن عنده من الأمراء والعسكر، بحكم ما استقر بينهما من الصلح واليمين، فسار سنقر الأشقر من صهيون، فلما نزل السلطان بظاهر حمص، وصل إليه الملك المنصور صاحب حماة بعسكره، ثم وصل سنقر الأشقر وصحبته أيتمش السعدي، والحاج أزدمر، وعلم الدين الدويداري، وجماعة من الظاهرية.
ورتب السلطان عسكره ميمنة وميسرة، وكان رأس الميمنة الملك المنصور محمد صاحب حماة بعسكره، ثم بدر الدين البيسري دونه، ثم علاء الدين طيبرس الوزيري، ثم أيبك الأفرم، ثم جماعة من العسكر المصري، ثم عسكر الشام، ومقدمهم حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام.
وكان رأس الميسرة سنقر الأشقر ومن معه، ثم بدر الدين تنليك الأيدمري، ثم بدر الدين بكتاش أمير سلاح. وكان بر الميمنة العرب، وبر الميسرة التركمان. وكان ساليش القلب، حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة، ومن أضيف إليه من الأمراء والعساكر، والتقى الفريقان بظاهر حمص في الساعة الرابعة من يوم الخميس، رابع عشر رجب الفرد، من هذه السنة، أعني سنة ثمانين وستمائة، وأنزل الله نصرته إلى القلب والميمنة، فهزموا من كان قبالتهم من التتر، وركبوا قفاهم يقتلونهم، وكان منكوتمر قبالة القلب، فانهزم أيضاً، وأما ميسرة المسلمين فإنها انكشفت عن مواقفها، وتم ببعضهم الهزيمة إلى دمشق، وساق التتر في إثر المنهزمين حتى وصلوا إلى تحت حمص، ووقعوا في السوقية، وغلمان العسكر والعوام، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ثم علموا بنصرة المسلمين وهزيمة جيشهم، فولى المذكورون أيضاً منهزمين على أعقابهم، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون.
وكانت عدة التتر ثمانين ألف فارس، منهم خمسون ألفا من المغل، والباقي حشود وجموع من أجناس مختلفة، مثل الكرج والأرمن والعجم وغيرهم، ولما وصل خبر هذه الكسرة إلى أبغا وهو على الرحبة يحاصرها، رحل عنها على عقبه منهزماً، وكتب بهذا الفتح العظيم إلى سائر البلاد الاسلامية، فزينت لذلك، ثم إن السلطان الملك المنصور قلاوون، أعطى الدستور للعساكر الشامية، فرجع الملك المنصور محمد صاحب حماة إلى بلده، ورجع سنقر الأشقر وجماعته إلى صهيون، وسار عسكر حلب إليها، وعاد السلطان إلى دمشق، والأسرى والروس بين يديه.
وفيها عاد السلطان الملك المنصور قلاوون إلى الديار المصرية مؤيداً منصوراً.
وفيها عند وصوله إلى مستقر ملكه، قدمت إليه هدية من صاحب اليمن المظفر شمس الدين يوسف بن عمر بن علي بن رسول، وطلب أماناً من السلطان، فقبل السلطان هديته، وكانت من طرائف اليمن، مثل العود والعنبر والصيني ورماح القنا، وغير ذلك، وكتب له السلطان أماناً صدرة " هذا أمان الله تعالى، وأمان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأماننا، لأخينا السلطان الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر صاحب اليمن، إننا راعون له ولأولاده، مسالمون من سالمهم، معادون من عاداهم " ونحو ذلك. وكان ذلك في العشر الأول من رمضان هذه السنة، وأرسل السلطان إليه هدية من أسلاب التتر وخيولهم، وعادت رسله بذلك مكرمين.
وفيها مات منكوتمر بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان بجزيرة ابن عمر، مكموداً، عقيب كسرته على حمص، وكان موته من جملة هذا الفتح العظيم.
وفيها توفي علاء الدين عطاء ملك بن محمد الجويني، وكان صاحب الديوان ببغداد، فنقب عليه أبغا نسبه إلى مواطاة المسلمين، وقبض عليه، وأخذ أمواله، وكان صدراً كبيراً فاضلاً، له شعر حسن، فمنه في تركية:
أبادية الأعراب عني فإنني ... بحاضرة الأتراك نيطت علائقي
وأهلك يا نجل العيون فإنني ... جننت بهذا الناظر المتضايق
وكانت وفاته بعراق العجم، وولي بغداد بعده ابن أخيه هارون بن محمد الجويني.

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وستمائة فيها ولي السلطان مملوكه شمس الدين قرا سنقر نيابة السلطنة بحلب، فسار إليها واستقر.
ذكر موت أبغاوفيها في المحرم، مات أبغا بن هولاكو بن جنكزخان، ملك التتر، قيل إنه مات مسموماً. وكان موته ببلاد همذان، وكانت مدة ملكه نحو سبعة عشر سنة وكسوراً، وخلف من الولد، أرغون، وكيختو ابناً أبغا، ولما مات أبغا، ملك بعده أخوه أحمد بن هولاكو، واسم أحمد المذكور، بيكدار، فلما جلس في الملك، أظهر دين الإسلام، وتسمى بأحمد سلطان.
وفيها وصلت رسل أحمد بن هولاكو ملك التتر المذكور، إلى السلطان الملك المنصور قلاوون، وكان كبير الرسل المذكورين، الشيخ المتقن قطب الدين محمود الشيرازي، وكان إذ ذاك قاضي سيواس، فاحترز عليهم السلطان، ولم يمكن أحداً من الاجتماع بهم، وكان مضمون رسالتهم إعلام السلطان بإسلام أحمد المذكور، وطلب الصلح بين المسلمين والتتر، فلم ينتظم ذلك. ثم عادت رسله إليه بالجواب.
وفيها توفي منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان، ملك التتر، بالبلاد الشمالية، وملك بعده أخو متدان منكو بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان، وجلس على كرسي التتر بصراي، وقيل إن ذلك كان في سنة ثمانين.
وفيها عقد الملك الصالح علاء الدين علي ابن السلطان الملك المنصور قلاوون، على بنت سيف الدين بكيه، ثم تزوج أخوه الملك الأشرف بأختها الأخرى، وكان بكيه معتقلاً بالإسكندرية، فلما عزم السلطان على ذلك،أخرجه من الحبس، وأحسن إليه، وزوج ابنيه واحداً بعد الآخر ببنتي بكيه المذكور.
وفيها توفي القاضي الفاضل المحقق، شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان البرمكي، وكان فاضلاً عالماً، تولى القضاء بمصر والشام، وله مصنفات جليلة، مثل: وفيات الأعيان في التاريخ وغيره. وكان مولده يوم الخميس بعد صلاة العصر، حادي عشر ربيع الآخر، سنة ثمان وستمائة، بمدينة إربل، بمدرسة سلطانها مظفر الدين صاحب إربل. نقلت ذلك من تاريخه في ترجمة زينب، في آخر حرف الزاء.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وستمائة في أوائل هذه السنة، قدم الملك المنصور محمد صاحب حماة، وصحبته الملك الأفضل علي، إلى خدمة السلطان الملك المنصور قلاوون بالديار المصرية، فبالغ السلطان في إكرام صاحب حماة، والإحسان إليه، وأنزله بالكبش، وأركبه بالسناجق السلطانية، والجفتا والغاشية، وسأله عن حوائجه، فقال الملك المنصور حاجتي أن أعفى من هذا اللقب فإنه ما بقي يصلح لي أن ألقب بالملك المنصور؛ وقد صار هذا لقب مولانا السلطان الأعظم، فأجابه السلطان بأبي ما تلقيت بهذا الاسم، إلا لمحبتي فيك، ولو كان لقبك غير ذلك كنت تلقبت به، فشيء فعلته محبة لاسمك، كيف أمكن من تغييره، وطلع السلطان بالعسكر المصري لحفر الخليج الذي بجهة البحيرة، وسار صاحب حماة في خدمته إلى الحفير، ثم أعطى بعد ذلك الدستور لصاحب حماة، فعاد مكرماً مغموراً بالصدقات السلطانية.
وفيها رمى السلطان الملك الصالح علاء الدين علي ابن السلطان، بجعاً بجهة العباسة بالبندق، وأرسله للملك المنصور محمد صاحب حماة، فقبله وبالغ في إظهار السرور والفرح بذلك، وأرسل إليه تقدمة جليلة.
وفيها خرج أرغون بن أبغا بخراسان على عمه بيكدار، المسمى بأحمد سلطان، وسار إليه واقتتلا، فانهزم أرغون، وأخذه أحمد أسيراً، وسأل الخواتين في إطلاق أرغون وإقراره على خراسان، فلم يجب إلى ذلك، وكانت خواطر المغل قد تغيرت على أحمد، بسبب إسلامه وإلزامه لهم بالإسلام، فاتفقوا على قتله، وقصدوا أرغون بالموضع الذي هو معتقل فيه، وأطلقوه وكبسوا الناق نائب أحمد فقتلوه، ثم قصدوا الأردو، فأحس بهم السلطان أحمد، فركب وهرب، فتبعوه وقتلوه، وملكوا أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان، وذلك في جمادى الأولى من هذه السنة.

وفيها قتل أرغون الصبي، سلطان الروم، الذي أقامه البرواناه بعد قتله أباه، حسبما تقدم ذكره في سنة ست وستين وستمائة، وكان اسم الصبي المذكور، غياث الدين كيخسرو بن ركن الدين قليج أرسلان بن كيخسرو بن قليج أرسلان، وفوض اسم سلطنة الروم إلى مسعود بن عز الدين كيكاؤوس، وهذا مسعود هو الذي هرب من منكوتمر ملك التتر بصراي، وأبوه عز الدين كيكاؤوس، هو الذي جرى له مع الأشكري صاحب قسطنطينية على ما قدمنا ذكره في سنة اثنتين وستين وستمائة، واستمرت سلطنة الروم باسم مسعود المذكور إلى سنة ثمان وسبعمائة، وهو مسعود ابن كيكاؤوس بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن قطلومش، من السلجوقية ببلاد الروم. وافتقر مسعود المذكور، وانكشف حاله جداً، حتى قيل إنه تناول سماً فمات، من كثرة المطالبة من أرباب الدين والتتر.
وفيها ولى أرغون، سعد الدولة اليهودي، وعظمه ومكنه، وكان سعد الدولة المذكور، في مبدأ أمره، دلالاً بسوق الصناعة بالموصل، فحكم في سائر البلاد التي بأيدي التتر.
وفيها قرر أرغون ولديه قازان وخربنده بخراسان، وجعل أتابكهما أميراً كبيراً من أصحابه، اسمه نورود.
وفيها مات الأشكري صاحب قسطنطينية، واسمه ميخائل، وملك بعده ابنه ماندس، وتلقب بالدوقس.
وفيها كاتب الحكام بقلعة الكحنا قراسنقر، نائب السلطنة بحلب، وسلموا الكحنا إلى السلطان، فجهز قراسنقر عسكراً فتسلموها، وقرر السلطان فيها نوابه، وحصنها، وصارت من أعظم الثغور الإسلامية نفعاً.
وفيها في رجب، قدم السلطان إلى دمشق، وكان قد سار من مصر، في جمادى الآخرة. وفيها كان السيل العظيم بدمشق في العشر الأول من شعبان، والسلطان الملك المنصور قلاوون بدمشق، وأخذ ما مر به من العمارات وغيرها، واقتلع الأشجار، وأهلك خلقاً كثيراً، وذهب للعسكر النازلين على جوانب بردى من الخيل والجمال والخيم ما لا يحصى، وتوجه السلطان عقيبه إلى الديار المصرية، ووصل إلى قلعة الجبل في ثامن عشر رمضان من هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانينوستمائة. فيها سار السلطان الملك المنصور قلاوون إلى دمشق، وحضر الملك المنصور صاحب حماة إلى خدمته إلى دمشق، ثم عاد كل منهما إلى مقر ملكه.
ذكر وفاه الملك المنصور صاحب حماةفي هذه السنة في شوال، توفي السلطان الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالي أحمد ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر عمر بن شاهنشاه بن أيوب، صاحب حماة، رحمه الله تعالى. ابتدأ فيه المرض في أوائل شعبان، بعد عوده من خدمة السلطان من دمشق، وكان مرضه حمى صفراوية داخل العروق، ثم صلح مزاجه بعض الصلاح، فأشار الأطباء بدخوله الحمام، فدخلها، فعاوده المرض، وأحضر له الأطباء من دمشق، مع من كان في خدمته منهم، واشتد به ذات الجنب، وعالجوه بما يصلح لذلك، فلم يفد شيئاً.
وفي مدة مرضه عتق مماليكه، وتاب توبة نصوحاً، وكتب إلى السلطان الملك المنصور قلاوون يسأله في إقرار ابنه الملك المظفر محمود في مملكته، على قاعدته، واشتد به مرضه حتى توفي بكرة حادي عشر شوال من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وثمانين وستمائة.

وكانت ولادته في الساعة الخامسة من يوم الخميس، لليلتين بقيتا من ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. فيكون عمره إحدى وخمسين سنة وستة أشهر وأربعة عشر يوماً، وملك حماة يوم السبت ثامن جمادى الأولى، سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وهو اليوم الذي توفي فيه والده الملك المظفر محمود، فيكون مدة ملكه إحدى وأربعين سنة وخمسة أشهر وأربعة أيام، وكان أكبر أمانيه، أن يعيش إلى أن يسمع جوابه من السلطان، فيما سأله من إقرار حماة على ولده الملك المظفر محمود، فاتفق وفاته قبل وصول الجواب، وكان قد أرسل في ذلك على البريد مملوكه سنقر، أمير أخور، فوصل بالجواب بعد موت الملك المنصور بستة أيام، ونسخة الجواب من السلطان بعد البسملة: " المملوك قلاوون، أعز الله أنصار المقام العالي المولوي السلطاني الملكي المنصوري الناصري، ولا عدمه الإسلام ولا فقدته السيوف والأقلام، وحماه، من أذى داء، وعود عواد، وإلمام آلام المملوك يجدد الخدمة التي كان يود تجديدها، شفاهاً ويصف ما عنده من الألم لما ألم بمزاجه الكريم، حتى أنه لم يكد يفتح بالحديث فاهاً. ولما وقفنا على الكتاب المولوي المتضمن بمرض الجد المحروس، وما انتهى إليه الحال، كادت القلوب تنشق، والنفوس تذوب حزناً، والرجاء من الله أن يتداركه بلطفه، وأن يمن بعافيته التي رفع في مسألتها يديه، وبسط كفيه، وهو يرجو من كرم الله، معاجلة الشفاء، ومداركة العافية، الموردة بعد الكدر، مورد الصفاء، وإن الله يفسح في أجل المولى ويهبه العمر الطويل، وأما الإشارة الكريمة إلى ما ذكره من حقوق يوجبها الإقرار، وعهود أنت بدورها من السرار، ونحن بحمد الله، فعندنا تلك العهود ملحوظة، وتلك المودات محفوظة، فالمولى يعيش قرير العين، فما تم إلا ما يسره من إقامة ولده مقامه، لا يحول ولا يزول، ولا يرى على ذلك ذلة ولا ذهول، ويكون المولى طيب النفس، مستديم الأنس، بصدق العهد القديم، وبكل ما يؤثر من خير مقيم " .
ولما وصل الكتاب، اجتمع لقراءته الملك الأفضل والملك المظفر وعلم الدين سنجر، المعروف بأبي خرص، وقرئ عليهم، وتضاعف سرورهم بذلك، وكان الملك المنصور محمد صاحب حماة المذكور، ملكاً ذكياً فطناً، محبوب الصورة، وكان له قبول عظيم عند ملوك الترك، وكان حليماً إلى الغاية، يتجاوز عما يكره ويكتمه، ولا يفضح قائله، من ذلك أن الملك الظاهر بيبرس قدم إلى حماة، ونزل بالدار المعروفة الآن بدار المبارز، فرفع إليه أهل حماة عدة قصص يشكون فيها من الملك المنصور، فأمر الملك الظاهر دواداره سيف الدين بلبان، أن يجمع القصص ولا يقرأها، ويضعها في منديل، ويحملها إلى الملك المنصور صاحب حماة، فحملها الدوادار المذكور، وأحضرها إلى الملك المنصور وقال: إنه والله دعاء الملك المنصور لصداقة الملك الظاهر، وخلع على الدوادار، وأخذ القصص، وقال بعض الجماعة: سوف نرى من تكلم بشيء لا ينبغي، وتكلموا بمثل ذلك، فأمر الملك المنصور بإحضار نار، وحرق تلك القصص، ولم يقف على شيء منها لئلا يتغير خاطره على رافعها، وله مثل ذلك كثير، رحمه الله تعالى.
ذكر ملك الملك المظفر حماةولما بلغ السلطان الأعظم الملك المنصور، وفاة الملك المنصور صاحب حماة، قر ابنه الملك المظفر محموداً ابن الملك المنصور محمد في ملك حماة، على قاعدة والده، وأوصل إليه إلى عمه الملك الأفضل، إلى أولاده، التشاريف، ومكاتبة إلى الملك المظفر بذلك، ووصلت التشاريف ولبسناها في العشر الأخير من شوال من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
ونسخة الكتاب الواصل من السلطان بعد البسملة: " المملوك قلاوون، أعر الله نصرة المقام العالي المولوي السلطاني الملكي المظفري التقوي، ونزع عنه لباس البأس، وألبسه حلل السعد المجلوة على أعين الناس، وهو يخدم خدمة بولاء، قد تبجست عيونه، وتأسست مبانيه، وتبابست ظنونه، وحلت رهونه، وحلت ديونه، وأثمرت غصونه، وزهت أفنانه وفنونه، ومنها: وقد سيرنا المجلس السامي جمال الدين أقوش الموصلي الحاجب، وأصحبناه من الملبوس الشريف، ما يغير به لباس الحزن، وينجلي في مطلعه ضياء وجه الحسن، وينجلي بذلك غيوم تلك الغموم، وأرسلنا: أيضاً صحبته ما يلبسه هو وذووه، كما يبدو البدر بين النجوم " . وآخر الكتاب، وكتب في عشرين شوال سنه ثلاث وثمانين وستمائة.

وكان قد وقع الاتفاق عند موت الملك المنصور، على إرسال علم الدين سنجر أبي خرص الحموي، لأجل هذا المهم، فلاقى سنجر المذكور، جمال الدين الموصلي بالخلع في أثناء الطريق، فأتم سنجر أبو خرص السير، ووصل إلى الأبواب الشريفة السلطانية، فتلقاه السلطان بالقبول، وأعاده بكل ما يحب ويختار، وقال: نحن واصلون إلى الشام، ونفعل مع الملك المظفر فوق ما في نفسه، فعاد علم الدين سنجر أبو خرص إلى حماة، ومعه الجواب بنحو ذلك.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وستمائة - ذكر ركوب الملك المظفر صاحب حماة بشعار السلطنة - في هذه السنة في صفر، كان ركوب السلطان الملك المظفر محمود صاحب حماة، بشعار السلطنة بدمشق المحروسة، وصورة ما جرى في ذلك،من السلطان الملك المنصور قلاوون، وصل في هذه السنة في أواخر المحرم، بعساكره المتوافرة، إلى دمشق المحروسة، وسار الملك المظفر صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل، ووصلا إليه إلى دمشق، فأكرمهما السلطان إكراماً كثيراً، وأرسل إلى الملك المظفر في اليوم الثالث من وصوله، التقليد بسلطنة حماة، والمعرة، وبارين، والتشريف، وهو أطلس أحمر فوقاني، بطراز زركش وسنجاب، ودائرة قندس، وقباً أطلس أصفر تحتاني، وشاش تساعي، وكلوته زركش، وخياصة ذهب، وسيف محلى بالذهب، وتلكش، وعنبر بناً، وثوب بطرز مذهبة، ولباس. وأرسل شعار السلطنة، وهو سنجق بعصائب سلطانية، وفرس بسرج ذهب، ورقبة وكبوش، وأرسل الغاشية السلطانية.
فلبس الملك المظفر ذلك، وركب بشعار السلطنة، وحضرت أمراء السلطان، ومقدموا العسكر، وساروا معه من الموضع الذي كان فيه، وهو داره المعروفة بالحافظية، داخل باب الفراديس بدمشق المحروسة، إلى أن وصل الى قلعة دمشق، ومشت الأمراء في خدمته، ودخل الملك المظفر إلى عند السلطان، فأكرمه وأجلسه إلى جانبه على الطراحة، وطيب خاطره وقال له: " أنت ولدي، وأعر من الملك الصالح عندي، فتوجه إلى بلادك وتأهب لهذه الغراة المباركة، فأنتم من بيت مبارك، ما حضرتم في مكان إلا وكان النصر معكم " فعاد الملك المظفر وعمه الملك الأفضل إلى حماة، وعملا أشغالهما، وكذلك باقي العسكر الحموي، وتأهبوا للمسير إلى خدمة السلطان ثانيا.
ذكر فتوح المرقبوفي هذه السنة، سار السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون، بعد وصوله إلى دمشق، بالعساكر المصرية والشامية، ونازل حصن المرقب، في أوائل ربيع الأول من هذه السنة، وهو حصن للاستبار، في غاية العلو والحصانة، لم يطمع أحد من الملوك الماضين في فتحه. فلما زحف العسكر عليه، أخذ الحجارون فيه النقوب، ونصبت عليه عدة مجانيق، كباراً وصغاراً.
يقول العبد الفقير مؤلف هذا المختصر: إنني حضرت حصار الحصن المذكور، وعمري إذ ذاك نحو اثنتي عشرة سنة، وهو أول قتال رأيته، وكنت مع والدي. ولما تمكنت النقوب من أسوار القلعة، طلب أهله الأمان، فأجابهم السلطان، رغبة في إبقاء عمارته، فإنه لو أخذه بالسيف وهدمه، كان حصل التعب في إعادة عمارته. فأعطى أهله الأمان، على أن يتوجهوا بما يقدرون على حمله، غير السلاح، وصعدت السناجق السلطانية على حصن المرقب المذكور، وتسلمه في الساعة الثامنة من نهار الجمعة، تاسع عشر ربيع الأول عن هذه السنة، أعني سنة أربع وثمانين وستمائة.
وكان يوماً مشهوداً، أخذ فيه الثأر من بيت الاستبار، ومحيت آية الليل بآية النهار، فأمر السلطان فحمل أهل المرقب إلى مأمنهم، ولما ملكه، قرر أمره، ورحل عنه إلى الوطاة بالساحل، وأقام بمروج بالقرب من موضع يقال له برج القرفيص، ثم سار السلطان ونزل تحت حصن الأكراد، ثم سار ونزل على بحيرة حمص، وفي بحيرة قدس.
ذكر مولد مولانا السلطان الأعظم

مولد الملك الناصر
ناصر الدنيا والدين محمد، ابن السلطان الملك المنصور، سيف الدنيا والدين، قلاوون الصالحي:

وفي هذه السنة، ولد مولانا السلطان الأعظم المذكور، من زوجة السلطان، وهي بنت سكتاي بن قراجين بن جنعان. وسكتاي المذكور، ورد إلى الديار المصرية هو وأخوه قرمشي، سنة خمس وسبعين وستمائة، صحبة بيجار الرومي في الدولة الظاهرية، فتزوج السلطان الملك المنصور قلاوون، ابنة سكتاي المذكور، في سنة ثمانين وستمائة، بعد موت أبيها المذكور، بولاية عمها قرمشي، ووردت البشائر بمولده إلى السلطان وهو نازل على بحيرة حمص، عند عوده من فتح المرقب، فتضاعف سروره، وضربت البشائر فرحاً بمولده السعيد.
وفيها عاد السلطان إلى الديار المصرية، وأعطى الملك المظفر عند رحيله عن حمص الدستور، فعاد إلى حماة.
ثم دخلت سنة خمس وثمانينوستمائة. فيها أرسل السلطان عسكراً كثيفاً مع نائب سلطنته حسام الدين طرنطلي المنصوري، وأمره بمنازلة الكرك، فسار إليها وحاصرها وتسلمها بالأمان، وأقام بها نواب السلطان، وعاد وصحبته أصحاب الكرك، جمال الدين خضر، وبدر الدين سلامش، ولدا الملك الظاهر بيبرس، فأحسن السلطان إليهما، ووفى لهما بأمانه، وبقيا على ذلك مدة طويلة، ثم بلغه عنهما ما كرهه، فاعتقلهما، فبقيا في الحبس حتى توفي، فنقل خضر وسلامش ولدا الملك الظاهر بيبرس إلى القسطنطينية.
وفيها خرج السلطان من الديار المصرية إلى غزة ثم سار إلى الكرك، فوصل إليها في شعبان، وقرر أمورها ثم عاد إلى جهة غابة أرسوف، وأقام مدة، ثم عاد إلى الديار المصرية.
وفيها توفي ركن الدين أباجي الحاجب.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وستمائة.
ذكر فتوح صهيونكان السلطان قد جهز عسكراً كثيفاً مح نائب سلطنته حسام الدين، طرنطاي، بمن معه من العساكر المصرية والشامية، في هذه السنة، إلى قلعة صهيون ونصب عليها المجانيق، وضايقها بالحصار، فأجابه صاحبها الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى تسليمها بالأمان، وحلف له حسام الدين طرنطاي، وأكرم سنقر الأشقر المذكور غاية الإكرام.
ثم سار حسام الدين طرنطاي إلى اللاذقية، وكان بها برج للفرنج يحيط به البحر من جميع جهاته، فركب طريقاً إليه في البحر بالحجارة، وحاصر البرج المذكور وتسلمه بالأمان وهدمه، ثم بعد ذلك توجه إلى الديار المصرية، وصحبته سنقر الأشقر، فلما وصلا إلى قرب قلعة الجبل، ركب السلطان الملك المنصور قلاوون، والتقى مملوكه حسام الدين طرنطاي، وسنقر الأشقر، وأكرمه، ووفى له بالأمان، وبقي سنقر مكرماً محترماً مع السلطان إلى أن توفي السلطان، وملك بعده ولده الملك الأشرف، فكان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها نزل تدان منكو بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان عن مملكة التتر بالبلاد الشمالية، وأظهر التزهد، والانقطاع إلى الصلحاء، وأشار إلى أن يملكوا ابن أخيه تلابغا بن منكوتمر بن طغان المذكور، فملك بعده تلابغا ابن المذكور.
وفيها أرسل السلطان الملك المنصور عسكراً مع علم الدين سنجر المسروري، المعروف بالخياط، متولي القاهرة، إلى النوبة، فساروا إليها وغزوا وغنموا وعادوا.
وفيها توفي بدر الدين تتليك الأيدمري.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وستمائة فيها توفي الملك الصالح علاء الدين علي ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون، وهو الذي جعله ولي عهده وسلطنه في حياته، فوجد عليه السلطان والده وجداً عظيماً، وكان مرضه بالدوسنطريا، وخلف الملك الصالح المذكور، ولداً اسمه موسى بن علي.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانينوستمائة.
ذكر فتوح طرابلسفي هذه السنة، في أول ربيع الآخر، فتحت طرابلس الشام. وصورة ما جرى: أن السلطان الملك المنصور، خرج بالعساكر المصرية في المحرم من هذه السنة، وصار إلى الشام، ثم سار بالعساكر المصرية والشامية، ونازل مدينة طرابلس الشام، يوم الجمعة مستهل ربيع الأول من هذه السنة، ويحيط البحر بغالب هذه المدينة، وليس عليها قتال في البر إلا من جهة الشرق، وهو مقدار قليل.

ولما نازلها السلطان، نصب عليها عدة كثيرة من المجانيق الكبار والصغار، ولازمها بالحصار، واشتد عليها القتال حتى فتحها، يوم الثلاثاء رابع ربيع الآخر من هذه السنة بالسيف، ودخلها العسكر عنوة، فهرب أهلها إلى الميناء، فنجى أقلهم في المراكب، وقتل غالب رجالها، وسبيت ذراريهم، وغنم منهم المسلمون غنيمة عظيمة. وحصار طرابلس هو أيضاً مما شاهدته، وكنت حاضراً فيه، مع والدي الملك الأفضل، وابن عمي الملك المظفر صاحب حماة، ولما فرغ المسلمون من قتل أهل طرابلس ونهبهم، أمر السلطان فهدمت، ودكت إلى الأرض، وكان في البحر قريباً من طرابلس جزيرة، وفيها كنيسة تسمى كنيسة سنطماس، وبينها وبين طرابلس الميناء، فلما أخذت طرابلس، هرب إلى الجزيرة المذكورة وإلى الكنيسة التي فيها عالم عظيم من الفرنج والنساء، فاقتحم العسكر الإسلامي البحر، وعبروا بخيولهم ساحة إلى الجزيرة المذكورة، فقتلوا جميع من فيها من الرجال، وغنموا ما بها من النساء والصغار، وهذه الجزيرة بعد فراغ الناس من النهب، عبرت إليها في مركب، فوجدتها ملأى من القتلى، بحيث لا يستطيع الإنسان الوقوف فيها من نتن القتلى.
ولما فرغ السلطان من فتح طرابلس وهدمها، عاد إلى الديار المصرية، وأعطى صاحب حماة الدستور، فعاد إلى بلده، وكان الفرنج قد استولوا على طرابلس في سنة ثلاث وخمسمائة، في حادي عشر ذي الحجة، فبقيت بأيديهم إلى أوائل هذه السنة، أعني سنة ثمان وثمانين وستمائة، فيكون مدة لبعثها مع الفرنج، نحو مائة سنة وخمس وثمانين سنة وشهور.
وفيها: مات قتلاي خان بن طلو بن جنكز خان ملك التتر بالصين، وهو أعظم الخانات، والحاكم على كرسي مملكة جنكزخان، وكان قد طالت مدته، ولما مات قتلاي خان، جلس بعده ولده شهون.
ثم دخلت سنة تسع وثمانينوستمائة.
ذكر وفاة السلطان الملك المنصور قلاوونسيف الدنيا والدين قلاوون الصالحي في هذه السنة، في سادس ذي القعدة، توفي الملك المنصور المذكور، وصورة وفاته، أنه خرج من الديار المصرية بالعساكر المتوافرة، على عزم غزو عكا وفتحها، وبرز إلى مسجد التيرز، فابتدأ مرضه في العشر الأخير من شوال، بعد نزوله بالدهليز، في المكان المذكور، وأخذ مرضه يتزايد حتى توفي يوم السبت، سادس ذي القعدة، بالدهليز، وكان جلوسه في الملك يوم الأحد الثاني والعشرين من رجب، سنة ثمان وسبعين وستمائة، فيكون مدة ملكه نحو إحدى عشر سنة وثلاثة أشهر وأياماً، وخلف ولدين، هما الملك الأشرف صلاح الدين خليل، والسلطان الأعظم الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد، وكان السلطان الملك المنصور المشار إليه، ملكاً مهيباً حليماً، قليل سفك الدماء، كثير العفو، شجاعاً. فتح الفتوحات الجليلة، مثل: المرقب، وطرابلس التي لم يجسر أحد من الملوك مثل صلاح الدين وغيره على التعرض إليهما، لحصانتهما، وكسر جيش التتر على حمص، وكانوا في جمع عظيم، لم يطرق الشام قبله مثله، ولا يحتمل هذا المختصر ذكر فضائله رحمه الله تعالى ورضي عنه.
ذكر سلطنة والده الملك الأشرفولما توفي السلطان، وجلس في الملك بعده، ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور قلاوون المذكور، وكان جلوسه في سابع ذي القعدة من هذه السنة، صبيحة اليوم الذي توفي فيه والده، ولما استقر السلطان الملك الأشرف في المملكة، قبض على حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة، في يوم الجمعة ثاني عشر ذي القعدة، فكان آخر العهد به، وفوض نيابة السلطنة إلى بدر الدين بيدرا، والوزارة إلى شمس الدين محمد بن السلعوس.
ثم دخلت سنة تسعين وستمائة.
ذكر فتوح عكا

في هذه السنة، في جمادى الآخرة، فتحت عكا، وسبب ذلك، أن السلطان الملك الأشرف، سار بالعساكر المصرية إلى عكا، وأرسل إلى العساكر الشامية، وأمرهم بالحضور، وأن يحضروا صحبتهم المجانيق، فتوجه الملك المظفر صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل، وسائر عسكر حماة صحبته، إلى حصن الأكراد، وتسلمنا منه منجنيقاً عظيماً يسمى المنصوري، حمل مائة عجلة، ففرقت في العسكر الحموي، وكان المسلم إلي منه عجلة واحدة، لأني كنت إذ ذاك أمير عشرة، وكان مسيرنا بالعجل، في أواخر فصل الشتاء، فاتفق وقوع الأمطار والثلوج علينا بين حصن الأكراد ودمشق، فقاسينا من ذلك بسبب جر العجل، وضعف البقر وموتها بسبب البرد، شدة عظيمة، وسرنا بسبب العجل من حصن الأكراد إلى عكا شهراً. وذلك مسير نحو ثمانية أيام للخيل على العادة، وكذلك أمر السلطان الملك الأشرف بجر المجانيق الكبار والصغار، ما لم يجتمع على غيرها، وكان نزول العساكر الإسلامية عليها في أوائل جمادى الأولى من هذه السنة، واشتد عليها القتال، ولم يغلق الفرنج غالب أبوابها، بل كانت مفتحة، وهم يقاتلون فيها، وكانت منزلة الحمويين برأس الميمنة، على عادتهم، فكنا على جانب البحر، والبحر عن يميننا إذا واجهنا عكا، وكان يحضر إلينا مراكب مقبية بالخشب الملبس جلود الجواميس، وكانوا يرموننا بالنشاب والجروخ، وكان القتال من قدامنا من جهة المدينة، ومن جهة يميننا من البحر، وأحضروا بطسة فيها منجنيق يرمي علينا، وعلى خيمنا من جهة البحر، فكنا منه في شدة، حتى اتفق في بعض الليالي هبوب رياح قوية، فارتفع المركب وانحط بسبب الموج، وانكسر المنجنيق الذي فيه، بحيث أنه انحطم، ولم ينصب بعد ذلك.
وخرج الفرنج في أثناء مدة الحصار بالليل، وكبسوا العسكر، وهزموا اليزكية، واتصلوا إلى الخيام، وتعلقوا بالأطناب، ووقع منهم فارس في جورة مستراح بعض الأمراء فقتل هناك، وتكاثرت عليهم العساكر فولى الفرنج منهزمين إلى البلد، وقتل عسكر حماة عدة منهم، فلما أصبح الصباح، علق الملك المظفر صاحب حماة، عدة من رؤوس الفرنج في رقاب خيلهم التي كسبها العسكر منهم، وأحضر ذلك إلى السلطان الملك الأشرف، واشتدت مضايقة العسكر لعكا حتى فتحها الله تعالى لهم، في يوم المجمعة السابع عشر من جمادى الآخرة بالسيف، ولما هجمها المسلمون، هرب جماعة من أهلها في المراكب، وكان في داخل البلد عدة أبرجة عاصية، بمنزلة قلاع، دخلها عالم عظيم من الفرنج وتحصنوا بها، وقتل المسلمون وغنموا من عكا شيئاً يفوت الحصر من كثرته، ثم استنزل السلطان جميع من عصى بالأبرجة، ولم يتأخر منهم أحد، فأمر بهم فضربت أعناقهم عن آخرهم حول عكا، ثم أمر بمدينة عكا فهدمت إلى الأرض، ودكت دكاً، ومن عجائب الاتفاق. أن الفرنج استولوا على عكا وأخذوها من صلاح الدين، ظهر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة، سنة سبع وثمانين وخمسمائة، واستولوا على من بها من المسلمين، ثم قتلوهم، فقدر الله عز وجل في سابق علمه، أنها تفتح في هذه السنة في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة على يد السلطان الملك الأشرف صلاح الدين، فكان فتوحها مثل اليوم الذي ملكها الفرنج فيه، وكذلك لقب السلطانين.
ذكر فتوح عدة حصون ومدنلما فتحت عكا، ألقى الله تعالى الرعب في قلوب الفرنج الذين بساحل الشام، فأخلوا صيدا وبيروت، وتسلمها الشجاعي في أواخر رجب، وكذلك هرب أهل مدينة صور، فأرسل السلطان وتسلمها، ثم تسلم عثليث في مستهل شعبان، ثم تسلم أنطرطرس في خامس شعبان. جميع ذلك في هذه السنة، أعني سنة تسعين وستمائة. واتفق لهذا السلطان من السعادة، ما لم يتفق لغيره، من فتح هذه البلاد العظيمة، الحصينة، بغير قتال ولا تعب، وأمر بها فخربت عن آخرها، وتكاملت بهذه الفتوحات، جميع البلاد الساحلية الإسلامية، وكان أمراً لا يطمع فيه ولا يرام، وتطهر الشام والسواحل من الفرنج، بعد أن كانوا قد أشرفوا على أخذ الديار المصرية، وعلى ملك دمشق، وغيرها من الشام، فلله الحمد والمنة على ذلك، ولما تكاملت هذه الفتوحات العظيمة، رحل السلطان الملك الأشرف، ودخل دمشق وأقام مدة، ثم عاد إلى الديار المصرية ودخلها في هذه السنة.

وفيها لما كان السلطان محاصر لعكا، سعى علم الدين سنجر الحموي المعروف بأبي خرص، بين السلطان وبين حسام الدين نائب السطنة بدمشق، فخاف حسام الدين لاجين، وقصد أن يهرب، وعلم به السلطان فقبض عليه، وعلى أبي خرص، وقيدهما وأرسلهما فحبسا.
وفيها ولى السلطان، علم الدين، سنجر الشجاعي نيابة السلطنة بالشام موضع حسام الدين لاجين.
وفيها في ربيع الأول، مات أرغون ملك التتر بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان، وكانت مدة مملكته نحو سبع سنين، ولما مات، ملك بعده أخوه كيختو بن أبغا، وخلف أرغون ولدين هما فازان، وخربندا، وكانا بخراسان، ولما تولى كيختو أفحش في الفسق واللواط بأبناء المغل، فأبغضوه على ذلك وفسدت نياتهم فيه.
وفيها قتل تلابغا بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان، وقد تقدم ذكر ملكه في سنة ست وثمانين وستمائة، قتله نغية، وجلس بعده في الملك طقطغا بن منكوتمر بن طغان أخو تلابغا المذكور، ورتب نغية إخوة طقطغا معه، وهم برلك، وصراي بغا، وتدان، وفي أوائل هذه السنة، أعني سنة تسعين وستمائة، تكملت عمارة قلعة حلب، وكان قد شرع قراسنقر في عمارتها في أيام السلطان الملك المنصور، فتمت في أيام الملك الأشرف، فكتب عليها اسمه، وكان قد خربها هولاكو لما استولى على حلب في سنة ثمان وخمسين، وستمائة، فكان لبثها على التخريب نحو ثلاث وثلاثين سنة بالتقريب.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعينوستمائة.
ذكر فتوح قلعة الرومفي هذه السنة سار السلطان الملك الأشرف من مصر إلى الشام، وجمع عساكره المصرية والشامية، وسار الملك المظفر محمود، وعمه الملك الأفضل، إلى خدمته، والتقياه بدمشق، وسارا في خدمته وسبقاه إلى حماة، فاهتم الملك المظفر صاحب حماة في أمر الضيافة والإقامة والتقدمة، ووصل السلطان إلى حماة وضرب دهليزه في شماليها، عند ساقية سلمية، ومد له الملك المظفر سماطاً عظيماً بالميدان، ونصب خيماً تليق بنزول السلطان، فنزل السلطان الملك الأشرف بالميدان،وبسط بين يدي فرسه عدة كثيرة من الشقق الفاخرة، ثم دخل السلطان إلى دار الملك المظفر بحماة، فبسط الملك المظفر بين يدي فرسه بسطاً ثانياً، وقعد السلطان بالدار، ثم دخل الحمام، وخرج وجلس على جانب العاصي، ثم راح إلى الطيارة التي على سور باب النقفي، المعروفة بالطيارة الحمراء، فقعد فيها، ثم توجه من حماة، وصاحب حماة وعمه في خدمته إلى المشهد، ثم إلى الحمام والزرقا، بالبرية، فصاد شيئاً كثيراً من الغزلان وحمير الوحش، وأما العساكر فسارت على السكة إلى حلب، ثم وصل السلطان إلى حلب وتوجه منها إلى قلعة الروم، ونازلها في العشر الأول من جمادى الآخرة من هذه السنة، وهي حصن على جانب الفرات في غاية الحصانة، ونصب عليه المجانيق، وهذا الحصار أيضاً من جملة الحصارات التي شاهدتها، وكانت منزلة الحمويين، على رأس الجبل المطل على القلعة من شرقها، كنا نشاهد أحوال أهلها في مشيهم وسعيهم في القتال وغير ذلك، واشتدت مضايقتها، ودام حصارها، وفتحت بالسيف في يوم السبت حادي عشر رجب، من هذه السنة، وقتل أهلها ونهب ذراريهم، واعتصم كينا غيلو خليفة الأرمن المقيم بها في القلة، وكذلك اجتمع بها من هرب من القلعة، وكان منجنيق الحمويين على رأس جبل المطل على القلة، فتقدم مرسوم السلطان إلى صاحب حماة، أن يرمي عليهم بالمنجنيق، فلما وترناه لنرمي عليهم، طلبوا الأمان من السلطان، فلم يؤمنهم إلا على أرواحهم خاصة، وأن يكونوا أسرى، فأجابوا إلى ذلك، وأخذ كينا غيلوس، وجميع من كان بقلة القلعة، أسرى عن آخرهم، ورتب السلطان علم الدين سنجر الشجاعي لتحصين القلعة، وإصلاح ما خرب منها، وجرد معه لذلك جماعة من العسكر، وأقام الشجاعي وعمرها وحضنها إلى الغاية القصوى، ورجع السلطان إلى حلب، ثم إلى حماة، وقام الملك المظفر بوظائف خدمته، ثم توجه السلطان إلى دمشق، وأعطى الملك المظفر الدستور، فأقام ببلده، وسار السلطان إلى دمشق، وصام بها رمضان وعيد بها، ثم سار إلى الديار المصرية.
ذكر غير ذلك من الحوادث

فيها هرب حسام الدين لاجين، الذي كان نائباً بالشام، من دمشق، لما وصل السلطان إلى دمشق عائداً من قلعة الروم، وكان حسام الدين المذكور، قد اعتقله السلطان وهو نازل على حصار عكا، ثم أفرج عنه في أوائل هذه السنة، أعني سنة إحدى وتسعين، وسار مع السلطان إلى قلعة الروم، وعاد معه إلى دمشق، فلما وصل إليها، استوحش من السلطان وهرب منه إلى جهة الغرب، فقبضوه وأحضروه إلى السلطان، فبعث به إلى قلعة الجبل بديار مصر، فحبس بها.
وفيها استناب السلطان بدمشق، عز الدين أيبك الحموي، وعزل علم الدين سنجر الشجاعي.
وفيها عند عود السلطان إلى حلب من قلعة الروم، عزل قراسنقر المنصوري عن نيابة السلطنة بحلب، واستصحبه معه، وولى موضعه على حلب، سيف الدين بلبان، المعروف بالطباخي، وكان المذكور نائباً بالفتوحات، وكان مقامه بحصن الأكراد، فعزله وولاه موضع قراسنقر في نيابة السلطنة بحلب، وولى الفتوحات والحصون طغريل الإيغاني، موضع الطباخي، ثم عزله بعد مدة وولى موضعه عز الدين أيبك الخزندار المنصوري.
وفيها بعد وصول السلطان إلى مصر، قبض على شمس الدين سنقر الأشقر، وجرمك، وكان قد قبض على طقصو، بدمشق، وكان آخر العهد بهم.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وستمائة.
ذكر إحضار صاحب حماة البريد إلى مصر

وعمه علي، البريد إلى مصر ثم مسيرهما من مصر مع السلطان الملك الأشرف إلى
الشام، والقبض على أولاد عيسى:
وفي هذه السنة في جمادى الأولى، أرسل السلطان الملك الأشرف، وأحضر الملك المظفر محمود صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل علي، على البريد إلى الديار المصرية، فتوجها من حماة وعندهما الخوف، بسبب طلبهما على البريد، ووصلا إلى قلعة الجبل في اليوم الثامن من خروجهما من حماة، فحال وصولهما، شملتهما صدقات السلطان، وأمر بهما فأدخلا الحمام بقلعة الجبل،، وأنعم عليهما بملبوس يليق بهما، وأقاما في الخدمة أياماً.
ثم خرج السلطان على الهجن إلى جهة الكرك، وسارت العساكر على الطريق إلى دمشق، وأركب صاحب حماة وعمه الهجن صحجته، لأنهما حضرا إلى مصر على البريد، ولم يكن معهما خيل ولا غلمان، فرسم السلطان لهما ما يليق بهما من الهجن والغلمان، ورتب لهما المأكول والمشروب وما يحتاجان إليه، وسارا في خدمته إلى الكرك، ولاقتهما تقادمهما إلى بركة زيزا، فقدماها، وقبلها السلطان، وأنعم عليهما، وسار السلطان ودخل دمشق.
ثم سار السلطان من دمشق على البرية متصيداً، ووصل إلى الفرقلس، وهو جفار في طرف بلد حمص من الشرق، ونزل عليه وحضر إلى الخدمة هناك مهنا بن عيسى أمير العرب، وأخواه محمد، وفضل، وولده موسى بن مهنا، فقبض السلطان على الجميع وأرسلهم إلى مصر، فحبسوا في قلعة الجبل، ووصل السلطان إلى القصب، وأعطى صاحب حماة الدستور، فحضر إلى بلده، وأما عمه الملك الأفضل، فإنه كان قد حصل له تشويش، لما كان السلطان بحنيجل وما حواليها، فأعطاه السلطان الدستور، وأرسل والدي الملك الأفضل المذكور تقدمة ثانية معي إلى السلطان، ولم يقدر والدي على الحضور بسبب مرضه، فأحضرت التقدمة إلى السلطان الملك الأشرف، وهو نازل على القصب، فقبلها وارتحل وعاد إلى مصر، فوصل إليها في رجب من هذه السنة.
ذكر مسير العساكر إلى حلبوفى هذه السنة بعد وصول السلطان إلى مصر، كان قد أخر بعض العسكر المصري على حمص، فتقدم إليهم وإلى صاحب حماة وعمه الملك الأفضل بالمسير إلى حلب، والمقام بها، لما في ذلك من إرهاب العدو، فسارت العساكر إليها، وخرج الملك المظفر محمود صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل، معهم، من حماة، يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان هذه السنة، ودخلوا حلب يوم الثلاثاء التاسع من سلخ شعبان إلى أوائل ذي القعدة، دخل تشرين، وآن وقت الصيد، وصل مرسوم.
ذكر مسير الملك الأفضل إلى دمشق ووفاته بهاوفي هذه السنة في ذي القعدة، سار والدي الملك الأفضل، نور الدين علي ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر ابن شاهنشاه بن أيوب، من حلب إلى دمشق، وتوفي بها في أوائل ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة اثنتين وتسعين وستمائة، وكان مولده في أواخر سنة خمس وثلاثين وستمائة.

وكان سبب مسير الملك الأفضل إلى دمشق، أنه لما كان هو والملك المظفر في صحبة السلطان، لما سار من مصر إلى الكرك في أوائل هذه السنة، حسبما ذكرناه، صار السلطان ينفرد للصيد بفهوده، ولا يستصحب معه إلا بعض من يختاره من الخاصكية، ووالدي الملك الأفضل المذكور خاصة، دون ابن أخيه صاحب حماة، وأعجب السلطان حديث الملك الأفضل المذكور، وخبرته بأمر الفهود والصيد، فقال السلطان في تلك الأيام للملك الأفضل المذكور: يا علاء الدين، ما تحضر إلى ديار مصر في أيام الصيد، لتكون معي في صيودي، فقد حصل الأنس بك، فقبل الملك الأفضل الأرض، ودعى للسلطان على تأهيله لذلك، فلما سار الملك المظفر محمود صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل إلى حلب، وأقاما بها، من سلخ شعبان إلى أوائل ذي القعدة، ودخل تشرين، وآن وقت الصيد، وصل مرسوم السلطان إلى والدي الملك الأفضل يطلبه إلى الأبواب الشريفة بالديار المصرية، فسار الملك الأفضل من حلب في ذي القعدة، ولم يستصحب أحداً من أولاده معه، وكنا ثلاثة مجردين مع ابن عمنا الملك المظفر صاحب حماة، وتوجه والدنا بمفرده، فمرض في أثناء الطريق، ووصل إلى دمشق وقد اشتد به المرض، وفصد، فضعفت قوته، واشتد المرض به حتى توفي، ونقل إلى حماة ودفن بها، ووصلنا الخبر ونحن بحلب، فعملنا عزاه، واشتمل الملك المظفر علينا، وأحسن إلينا.
ذكر غير ذلك من الحوادثفي هذه السنة أفرج السلطان الملك الأشرف، عن بدر الدين البيسري، وكان له في الاعتقال نحو ثلاث عشرة سنة. وفيها أفرج عن حسام الدين لاجين المنصوري، الذي كان نائباً بالشام. وفيها أعطيت العساكر الدستور، فعدنا إلى حماة، وأعطاني الملك المظفر ابن عمي إمرة طبلخاناه، وأربعين فارساً.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وستمائة.
ذكر مقتل السلطان الملك الأشرفوفي هذه السنة، في أوائل المحرم، قتل السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، وسبب ذلك: أنه سار من قلعة الجبل إلى الصيد، ووصل إلى تروجة ونصب الدهليز عليها، وركب في نفر يسير من خواصه للصيد، فقصده مماليك والده، وهم: بيدرا نائب السلطنة، ولاجين الذي كان عزله السلطان عن نيابة السلطنة بدمشق، واعتقله مرة بعد أخرى، وقراسنقر الذي عزله عن نيابة السلطنة بحلب، وانضم إليهم بهادر، رأس النوبة، وجماعة من الأمراء، ولما قاربوا السلطان، أرسل إليهم أميراً يقال له كرت، أمير أخور، ليكشف خبرهم، فحال وصوله إليهم أمسكوه ولم يمكنوه من العود إلى السلطان، وقاربوا السلطان، وكان بينهم مخاضة، فخاضوها ووصلوا إليه، فأول من ضربه بالسيف بيدرا، ثم لاجين، حتى فارق، وتركوه مرمياً على الأرض، فحمله أيدمر الفخري والي تروجة إلى القاص، فدفن في تربته، رحمه الله تعالى، ولا جرم، إن الله تعالى انتقم من قاتليه المذكورين معجلاً ومؤجلاً، على ما سنذكره.
ذكر مقتل بيدراولما قتل السلطان على ما ذكرناه، اتفق الجماعة الذين قتلوه على سلطنة بيدرا، وتلقب بالملك القاهر، وسار نحو قلعة الجبل ليملكها، واجتمعت مماليك السلطان الملك الأشرف وانضموا إلى زين الدين كتبغا المنصوري، وساروا في إثر بيدرا ومن معه، فلحقوهم على الطرانة في خامس عشر المحرم من هذه السنة، واقتتلوا، وانهزم بيدرا وأصحابه وتفرقوا في الأقطار، وتبعوا بيدرا وقتلوه، ورفعوا رأسه على رمح، واستتر لاجين، وقرا سنقر، ولم يطلع لهما على خبر.
ذكر سلطنة مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر

ولما جرى ما جرى من قتل السلطان الملك الأشرف، ثم قتل بيدرا، ووصول زين الدين كتبغا والمماليك والسلطانية إلى قلعة الجبل، وبها علم الدين سنجر الشجاعي نائباً، اتفقوا على سلطنة مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر ولد مولانا السلطان الملك المنصور، فأجلسوه على سرير السلطنة في باقي العشر الأوسط من المحرم من هذه السنة، وتقرر أن يكون الأمير زين الدين كتبغا المنصوري نائب السلطنة، وعلم الدين سنجر الشجاعي وزيراً، وركن الدين بيبرس البرجي الجاشنكير أستاذ الدار، وتتبعوا الأمراء الذين اتفقوا مع بيدرا على ذلك، فظفروا أولاً ببهادر رأس النوبة، وأقوش الموصلي الحاجب، فضربت رقابهما، وأحرقت جثثهما، ثم ظفروا بطرنطاي الساقي، والناق ونغية، وأروس السلحدارية، ومحمد خواجا، والطنبغا الجمدار، وأقسنقر الحسامي، فاعتقلوا بخزانة البنود أياماً، ثم قطعت أيديهم وأرجلهم، وصلبوا على الجمال، وطيف بهم، وأيديهم معلقة في أعناقهم جزاء بما كسبوا، ثم وقع قجقار الساقي فشنق.
ذكر القبض على الوزير ابن السلعوس وقتلهوفي هذه السنة اتفق زين الدين كتبغا والشجاعي، على القبض على شمس الدين محمد بن السلعوس وزير السلطان الملك الأشرف، فقبضا عليه، وتولاه الشجاعي فعاقبه واستصفى ماله وقتله، وكان ابن السلعوس المذكور، قد بلغ عند السلطان منزلة عظيمة، وتمكن في الدولة، وصارت الأمور كلها معذوقة به، وكان لابن السلعوس المذكور أقارب وأهل بدمشق، فلما صار في هذه المنزلة، أرسل وأحضر أقاربه من دمشق إلى عنده بالديار المصرية، فحضروا إلا شخصاً منهم، فإنه استمر مقيماً بدمشق، وكتب إلى ابن السلعوس:
تنبه يا وزير الأرض واعلم ... بأنك قد وطئت على الأفاعي
وكن بالله معتصماً فإني ... أخاف عليك من نهش الشجاعي
ذكر قتل الشجاعيوفي صفر من هذه السنة، حصلت الوحشة بين الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة، وبين علم الدين سنجر الشجاعي الوزير، وصار مع كل منهما جماعة من الأمراء، ولما جرى ذلك، نزل كتبغا ومن معه من القلعة، واستمر الشجاعي وأصحابه بها، وحصره كتبغا، وغلب عليه، وقتل الشجاعي المذكور وقطع رأسه، وطيف به في البلد.
وفيها ظهر حسام الدين لاجين، وشمس الدين قراسنقر من الاستتار، وأخذ لهما خوشداشهما، الأمير زين الدين كتبغا، الأمان من السلطان، وقرر لهما الإقطاعات الجليلة، وأعز جانبهما.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وستمائة.
ذكر استيلاء زين الدين كتبغا على المملكةفي هذه السنة في يوم الأربعاء تاسع المحرم، جلس الأمير زين الدين كتبغا المنصوري على سرير المملكة، ولقب نفسه الملك العادل زين الدين كتبغا، واستحلف الناس على ذلك، وخطب له بمصر والشام، ونقشت السكة باسمه، وجعل مولانا السلطان الملك الناصر في قاعة بقلعة الجبل، وحجب عنه الناس، ولما تملك زين الدين كتبغا المذكور، جعل نائبه في السلطنة، حسام الدين لاجين، الذي كان مستتراً بسبب قتل السلطان الملك الأشرف، على ما تقدم ذكره، واستقر الحال على ذلك.
ذكر قتل كيختو ملك التتر وملك بيدوفي هذه السنة، في ربيع الآخر، قتل كيختو بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان. وسبب ذلك: أنه لما أفحش كيختو المذكور بالفسق في أبناء المغل، وشكوا ذلك إلى ابن عمه بيدو بن طرغية بن هولاكو، فاتفق معهم على قتل كيختو المذكور، وقصدوا كبسه وقتله، فعلم كيختو وهرب، فتبعوه ولحقوه بسلاسلار، من أعمال موغان، وقتلوه بها، في الشهر المذكور، ولما قتل كيختو، ملك بعده ابن عمه بيدو بن طرغية بن هولاكو المذكور، وجلس على سرير الملك في جمادى الأولى من هذه السنة. وكان قازان بخراسان، فلما بلغه ملك بيدو، جمع من أطاعه من المغل وأهل تلك البلاد، وسار إلى قتال بيدو، ولما بلغ بيدو مسير قازان إليه، جمع وسار إلى جهة قازان، وكان مع قازان أتابكه نيروز، وهو الذي جمع الناس على طاعة قازان، فلما تقارب الجمعان، علم قازان أنه لا طاقة له ببيدو، فراسله واصطلحا، وعاد قازان إلى خراسان، وأمر بيدو أن يقيم نيروز عنده، خوفاً من أن يجمع العسكر على قازان مره ثانية، فرجع قازان إلى خراسان، وأقام نيروز عند بيدو، وأخذ نيروز في استمالة المغل إلى قازان، وإفسادهم على بيدو في الباطن.

ذكر مقتل بيدو وتملك قازان
ولما استوثق نيروز من المغل في الباطن، كتب إلى قازان بخراسان وأمره بالحركة، فتحرك قازان، وبلغ بيدو ذلك، فتحدث مع نيروز في ذلك فقال نيروز لبيدو: أرسلني إلى قازان لأفرق جمعه، وأرسله إليك مربوطاً، فاستحلف بيدو نيروز على ذلك وأرسله، فسار نيروز إلى قازان وأعلمه بمن معه من المغل، وعمد نيروز إلى قدر، فوضعها في جولق وربطه، وأرسل بذلك إلى بيدو وقال: وفيت بيميني، حيث ربطت قازان وبعثته إليك، وقازان اسم القدر بالتتري، فلما بلغ بيدو دلك، جمع عساكره وسار إلى جهة قازان، والتقى الجمعان بنواحي همذان، فخامر أصحاب بيدو عليه وصاروا مع قازان، فولى بيدو هارباً، وتبعه عسكر قازان فأدركوه عن قريب بنواحي همذان، وقتلوه في ذي الحجة من هذه السنة، فكانت مدة مملكة بيدو نحو ثمانية أشهر، ولما قتل استقر قازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان في المملكة، في ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة أربع وتسعين وستمائة، بعد مقتل بيدو، ولما استقر قازان في المملكة، جعل نيروز نائب مملكته، ورتب أخاه خربندا بن أرغون بخراسان.
ذكر أخبار ملوك اليمن ووفاة صاحبهاوفي هذه السنة، توفي صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف ابن الملك المنصور عمر بن علي بن رسول، بقلعة تعز، وقد تقدم ذكر ملكه اليمن بعد قتل أبيه في سنة ثمان وأربعين وستمائة، فكانت مدة ملكه نحو سبع وأربعين سنة، وخلف عدة من الأولاد الذكور، فملك بعده ولده الأكبر، الملك الأشرف عمر بن يرسف، وكان أخو عمر المذكور، الملك المؤيد داود، بالشحر، عند موت والده، لأن أباه كان قد أعطى داود المذكور الشحر، وأبعده إليها، فلما مات والده وملك آخره الملك الأشرف، تحرك الملك المؤيد داود المذكور وسار إلى عدن واستولى عليها، فأرسل أخوه الملك الأشرف عسكراً واقتتلوا مع الملك المؤيد داود المذكور، فانتصروا عليه وأخذوه أسيراً وأحضروه إلى الملك الأشرف، فقيده واعتقله، وكان عمر الملك الأشرف لما تملك نحو سبعين سنة، وأقام في الملك عشرين شهراً، وتوفي والملك المؤيد داود في الاعتقال مقيداً، فاتفق كبراء الدولة في ذلك الوقت، وأخرجوه من الحبس، وملكوا الملك المؤيد داود بن يوسف المذكور، واستمر مالكاً لليمن إلى يومنا هذا، وهو سنة ثمان عشرة وسبعمائة.
ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة أرسل الملك العادل زين الدين كتبغا، وقبض على خشداشه عز الدين أيبك الخزندار، وعزله عن الحصون والسواحل بالشام، ثم أفرج عنه واستناب موضعه عز الدين أيبك الموصلي.
وفيها قصر النيل تقصيراً عظيماً، وتبعه غلاء، وأعقبه وباء وفناء عظيم.
وفيها في أوائل هذه السنة، لما جلس في السلطنة زين الدين كتبغا، أفرج عن مهنا بن عيسى وإخوته، وأعادهم إلى منزلتهم.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وستمائة. في هذه السنة قدم من التتر نحو عشرة آلاف إنسان وافد ين إلى الإسلام، خوفاً من قازان، وكان مقدمهم يقال له طرغيه، من أكبر أمراء المغل، كان مزوجاً ببنت منكوتمر بن هولاكو، الذي انكسر جيشه على حمص، ويقال لهذه الطائفة الوافدين العويراتية، وكان سبب قدومهم أن مقدمهم طرغية، هو الذي اتفق مع بيدو على قتل كيختو بن أبغا، فلما ملك قازان، قصد الإمساك على طرغيه وقتله، أخذا بثأر عمه كيختو، فهرب طرغيه وجماعته المذكورون بسبب ذلك، ولما قدموا إلى الإسلام، أرسل الملك العادل كتبغا أميراً لمقالهم، وأكرمهم وأنزلهم بالساحل قريب قاقون، وأدر عليهم الأرزاق، وأحضر كبراءهم عنده إلى الديار المصرية، وأعطاهم الإقطاعات الجليلة، وواصلهم بالخلع، وقدمهم على غيرهم.
وفيها في شوال، خرج الملك العادل كتبغا من الديار المصرية وسار إلى الشام، ووصل إلى دمشق، وحضر إليه بدمشق الملك المظفر محمود صاحب حماة، حماة ثم سار الملك العادل من دمشق إلى جهة حمص، وسار على البرية متصيداً، ووصل إلى حمص، وقدم إلى جوسية، وهي قرية على درب بعلبك من حمص، وكانت خراباً ، فاشتراها وعمرها، فوصل إليها ورآها، ثم عاد إلى، دمشق وأعطى صاحب حماة الدستور، فعاد إلى بلده، ولما استقر العادل بدمشق، عزل عز الدين أيبك الحموي عن نيابة السلطنة بالشام، وولى موضعه، سيف الدين غرلو مملوك الملك العادل كتبغا المذكور، وخرجت هذه السنة والملك العادل بدمشق.

ثم دخلت سنة ست وتسعين وستمائة.
ذكر مسير العادل كتبغا من دمشق

وخلعه واستيلاء لاجين على السلطنة:
لما دخلت هذه السنة، سار العادل كتبغا المنصور في أوائل المحرم من دمشق بالعساكر متوجهاً إلى مصر، فلما وصل إلى نهر العوجا واستقر بدهليزه، وتفرقت مماليكه وغيرهم إلى خيامهم، ركب حسام الدين لاجين المنصوري، نائب الملك العادل كتبغا المذكور، بسنجق ونقاره، وانضم إلى لاجين المذكور، بدر الدين البيسري، وقراسنقر المنصوري، وسيف الدين قبجاق المنصوري والحاج بهادر الظاهري، وغيرهم من الأمراء المتفقين مع حسام الدين لاجين، وقصدوا الملك العادل وبغتوه عند الظهر في دهليزه بالمنزلة المذكورة، فلم يلحق أن يجمع أصحابه، ركب في نفر قليل، فحمل عليه نائبه لاجين المذكور، وقتل بكتوت الأزرق، وبتخاص، وكانا أكبر مماليك العادل، فولى العادل كتبغا المذكور هارباً راجعاً إلى دمشق، لأنه فيها مملوكه غرلو، ووصل إلى دمشق، فركب مملوكه غرلو والتقاه، دخل إلى قلعة دمشق، واهتم في جمع العسكر والتأهب لقتال لاجين، فلم يوافقه عسكر دمشق، وأرسل إلى حسام الدين لاجين يطلب منه الأمان وموضعاً يأوي إليه، فأعطاه صرخد، فسار العادل كتبغا المذكور إليها واستقر فيها إلى أن كان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وأما حسام الدين لاجين، فإنه لما هزم العادل كتبغا على ما ذكرناه، نزل بدهليزه على نهر العوجا، واجتمع معه الأمراء الذين وافقوه على ذلك، وشرطوا عليه شروطاً فالتزمها، منها: أن لا ينفرد عنهم برأي، ولا يسلط مماليكه عليهم كما فعل بهم كتبغا، فأجابهم لاجين إلى ذلك وحلف لهم عليه، فعند ذلك حلفوا له وبايعوه بالسلطنة، ولقب بالملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري، وذلك في شهر المحرم من هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين وستمائة، ثم رحل بالعساكر إلى الديار المصرية، ووصل إليها واستقر بقلعة الجبل. ولما استقر بمصر، أعطى للعادل كتبغا صرخد، وأرسل إلى دمشق سيف الدين قبجق المنصوري، وجعله نائب السلطنة بالشام.
ذكر غير ذلك من الحوادثوفي هذه السنة أرسل حسام الدين لاجين، الملقب بالملك المنصور، مولانا السلطان الملك الناصر، من القاعة التي كان فيها بقلعة الجبل، إلى الكرك، وسار معه سلار، فأوصله إليها، ثم عاد سلار إلى حسام الدين لاجين.
وفيها أفرج الملك المنصور لاجين عن بيبرس الجاشنكير، وعن عدة أمراء كان العادل كتبغا قد قبض عليهم وسجنهم في أيام سلطنته. وفيها أعطى المنصور لاجين المذكور جماعة من مماليكه إمرة طبلخاناه، مثل منكوتمر، وأيد غدي شقير، وبهادر المعزي وغيرهم.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وستمائة.
ذكر تجريد العساكر إلى حلبودخولهم إلى بلاد سيس وعودهم إلى حلب، ثم دخلولهم ثانياً، وما فتحوه:
في هذه السنة جرد حسام الدين لاجين، الملقب بالملك المنصور، جيشاً كثيفاً من الديار المصرية مع بدر الدين بكناش الفخري، المعروف بأمير سلاح، ومع علم الدين سنجر الدواداري، ومع شمس الدين كريته، ومع حسام الدين لاجين الرومي، المعروف بالحسام، أستاذ دار. فساروا إلى الشام، ورسم لاجين المذكور بمسير عساكر الشام، فسار البكي الظاهري نائب السلطنة بصفد، ثم بعد مدة سار سيف الدين قبجق نائب للسلطنة بالشام، وأقام قبجق ببعض العسكر بحمص، وسارت العساكر إلى حلب، وسار الملك المظفر محمود صاحب حماة بعسكره، ووصل المذكورون إلى حلب يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، وسابع نيسان، ثم ساروا إلى بلاد سيس، فعبر صاحب حماة، والدواداري، ومن معهما من العساكر، من دربندمري، وعبر باقي العساكر من جهة بغراس، من باب إسكندرونة، واجتمعوا على نهر جيحان، وشنوا الغارات على بلاد سيس في العشر الأوسط من رجب، وكسبوا وغنموا، وعادوا فخرجوا من دربند بغراس إلى مرج أنطاكية، في الحادي والعشرين من رجب من هذه السنة، الموافق لرابع أيار. وسار صاحب حماة الملك المظفر إلى جهة حماة حتى وصل إلى قصطون، فورد مرسوم لاجين بعود العساكر، واجتماعهم بحلب، ودخلوهم إلى بلاد سيس ثانياً.

وهذه الغزوة من الغزوات التي حضرتها وشاهدتها من أولها إلى آخرها، فعدنا إلى حلب ووصلنا إليها في يوم الأحد الثامن والعشرين من رجب، وأقمنا، ثم رحلنا من حلب ثالث رمضان إلى بلاد سيس، ودخلنا من باب إسكندرونة، نزلنا على حموص يوم الجمعة تاسع رمضان من هذه السنة، الموافق للعشرين من حزيران، وأقام حموص، بدر الدين بكناش أمير سلاح، والملك المظفر صاحب حماة، ومن انضم إليهما من عسكر دمشق، مثل ركن الدين بيبرس العجمي، المعروف بالجالق، ومضافيه من عسكر دمشق، وحاصرنا حموص وضايقناها، وأما باقي العسكر فإنهم نزلوا أسفل من حموص، في الوطاة، واستمر الحال على ذلك، وقل الماء في حموص واشتد بهم العطش، وكان قد اجتمع فيها من الأرمن عالم عظيم ليعتصموا بها، وكذلك اجتمع فيها من الدواب شيء كثير، فهلك غالبهم بالعطش، ولما اشتد بهم الحال وهلكت النساء والأطفال، أخرج أهل حموص في الخامس والعشرين من رمضان، وهو سابع عشر يوماً من نزولنا عليها، من نسائهم نحو ألف ومائتين من النساء والصبيان، فتقاسمهم العسكر وغنموهم، فكان قسمي جاريتين ومملوكاً، وأصابنا ونحن نازلون على حموص في العشر الأوسط من شهر تموز، ضباب قوي، ومطر، وحصل للملك المظفر وهو نازل على حموص قليل مرض، ولم يكن صحبته طبيبه، فاقتصر على ما كنت أصفه له وأعالجه به، فشفاه الله تعالى وعاد إلى العافية، وأنعم علي وأحسن إلي على جاري عادته، وكانت خيمته المنصوبة على حموص، خيمة ظاهرها أحمر، قد عملها من أكسية مغربية، وداخلهما منقوش بالخام الرفيع المصبغ، وكانت الأمراء الذين لم ينازلوا حموص، وهم مقيمون في الوطاة، إذا عرض لهم ما يقتضى المشاورة، يطلعون إلى الجبل ويجتمعون في خيمة الملك المظفر، وبين يديه يتشاورون على ما فيه المصلحة، واستمر الحال على ذلك إلى أن فتح حموص وغيرها على ما سنذكره.
ذكر فتح حموص وغيرها من قلاع بلاد الأرمنولما كان فتوح ذلك متوقفاً على ملك دندين بن ليفون، احتجنا نذكر كيفية ملكه بلاد الأرمن، وتسليمه البلاد إلى المسلمين، فنقول: إنه تقدم في سنة أربع وستين وستمائة أسر ليفون بن هيتوم، لما دخلت العسكر صحبة الملك المنصور صاحب حماة، في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداري الصالحي، وتقدم كيفية خلاص ليفون، وما افتداه أبوه هيتوم به حتى عاد إلى أبيه صاحب سيس، ثم إن ليفون المذكور ملك بعد موت أبيه هيتوم، وبقي في الملك مدة، ثم مات ليفون المذكور، وخلف عدة من الأولاد الذكور، أكبرهم هيتوم، ثم تروس، ثم سنباط، ثم دندين، ثم أوشين.
فلما مات ليفون، ملك بعده ابنه الأكبر هيتوم بن ليفون بن هيتوم، وبقي في الملك مدة، فجمع أخوه سنباط جماعة ووثب على أخيه هيتوم المذكور، وقبض عليه وسمله، فعميت عين هيتوم الواحدة وسلمت له الأخرى، واستمر في الحبس. وكذلك قبض سنباط المذكور على أخيه تروس ثم قتله، وخلف تروس المذكور ولداً صغيراً، واستقر سنباط المذكور في الملك، واتفق دخول العساكر إلى بلاد سيس ومنازلة حموص في أيام مملكة سنباط، فضاقت على الأرمن البلاد بما رحبت، وهلكوا من كثرة ما قتل وغنم منهم المسلمون، فنسبوا ذلك إلى سوء تدبير سنباط وعدم مصانعته للمسلمين، فكرهوه واتفقوا على إقامة أخيه دندين بن ليفون في المملكة، والقبض على سنباط، واجتمع الأرمن على دندين، فأحس سنباط بذلك فهرب إلى جهة قسطنطينية، وتملك دندين، ويقال له كسيندين أيضاً.
فلما تملك دندين المذكور، أرسل إلى العساكر المقيمة في بلاد سيس على حموص وعلى غيرها، وبذل لهم الطاعة والإجابة إلى ما يرسم به سلطان الإسلام، وأنه نائب السلطان بهذه البلاد، فطلب منه العسكر أن يكون نهر جيحان حداً بين المسلمين والأرمن، وأن تسلم كل ما هو جنوبي نهر جيحان من الحصون والبلاد، فأجاب دندين المذكور، إلى ذلك، وسلم جميع البلاد التي جنوبي نهر جيحان المذكور إلى المسلمين، فمنها: حموص، وتل حمدون، وكويرا، والنفير، وحجر شغلان، وسرفندكار، ومرعش، وهذه جميعها حصون منيعة ما ترام، وكذلك سلم غيرها من البلاد، وكان تسليم حموص يوم الجمعة تاسع عشر شوال من هذه السنة، أعني سنة سبع وتسعين وستمائة، ووافق ذلك ثامن شهر آب، وسلمت تل حمدون بعدها، ثم سلمت باقي الحصون والبلاد المذكورة.

وأمر حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور باستمرار عمارة هذه البلاد، وكان ذاك رأياً فاسداً، على ما سيظهر من عود هذه البلاد إلى الأرمن، عند دخول قازان البلاد، ولما استقرت هذه البلاد للمسلمين، جعل فيها حسام الدين لاجين بعض الأمراء نائباً، ثم عزله وولى عليها سيف الدين أسندمر نائباً، وجرد معه عسكراً، وكان مقام أسندمر المذكور بتل حمدون، وبعد تسليم تل حمدون رحل الملك المظفر محمود صاحب حماة عنها، مستهل ذي القعدة من هذه السنة، وسارت العساكر وخرجت من الدربند، وسرنا جميعاً ودخلنا حلب يوم الإثنين تاسع ذي القعدة، الموافق لعاشر آب عن هذه السنة، أعني سنة سبع وتسعين وستمائة.
فلما أقمنا بحلب، ورد مرسوم حسام الدين لاجين، الملقب بالملك المنصور، إلى سيف الدين بلبان الطباخي، بالقبض على جماعة من الأمراء المجردين مع العسكر، فعلموا بذلك، وكان قبجق مقيماً بحمص، مستشعراً خائفاً من لاجين المذكور، فهرب من حلب فارس الدين البكي نائب السلطنة بصفد، وكان من جملة العسكر المجردين على حلب. وكذلك هرب بكتمر السلحدار، وبورلار، وعزاز، ووصلوا إلى حمص، واتفقوا مع سيف الدين قبجق على العصيان.
ذكر غير ذلك من الحوادث في أوائل هذه السنة، قبل تجريد العساكر إلى سيس، قبض حسام الدين لاجين على نائبه في السلطنة شمس الدين قراسنقر واعتقله، وولى نيابة السلطنة مملوكه منكوتمر الحسامي، فأظهر منكوتمر المذكور من الحماقة والكبرياء ما غير به خواطر العسكر عليه، وعلى أستاذه، وكذلك قبض لاجين المذكور على بدر الدين البيسري، وعلى عز الدين أيبك الحموي، وعلى الحاج بهادر أمير حاجب، وغيرهم من الأمراء.
وفيها أوقع قازان ملك التتر بأتابكه نيروز وقتله، لأنه نسبه إلى مكاتبة المسلمين، ورتب موضع نيروز قطلوشاه.
وفيها وفد سلامش، وهو مقدم ثمان من المغل، وكان ببلاد الروم، وبلغه أن قازان يريد قتله، فهرب وقدم على الملك المنصور حسام الدين لاجين، فأكرمه، فطلب سلامش نجدة من الملك المنصور لاجين ليعود إلى الروم، طمعاً في اجتماع أهل الروم عليه، فجرد معه من حلب عسكراً مقدمهم سيف الدين بكتمر الجلمي، وساروا مع سلامش حتى تجاوزوا بلد سيس، فخرجت عليهم التتر واقتتلوا معهم، فقتل الجلمي وجماعة من العسكر الإسلامي، وهرب الباقون، وأما سلامش فهرب إلى قلعة من بلاد الروم واعتصم بها، ثم أرسل إليه قازان واستنزله وحصر سلامش، وقتله شر قتله.
وفيها اجتمع رأي حسام الدين لاجين، ونائبه منكوتمر، على روك الإقطاعات بالديار المصرية، فريكت جميع البلاد المصرية، وكتب بما استقر عليه الحال مثالات، وفرقت على أربابها فقبلوها طوعاً أو كرهاً.
وفيها توفي عز الدين أيبك الموصلي نائب الفتوحات وغيرها، وولى موضعه سيف الدين كرد أمير أخور.
وفيها في أواخر ذي القعدة من هذه السنة، هرب قبجق، والبكي، وبكتمر السلحدار، ومن انضم إليهم من حمص، وساق خلفهم أيدغدي شقير مملوك حسام الدين لاجين من حلب، مع جماعة من العسكر المجردين، ليقطعوا عليهم الطريق. ففاتهم قبجق ومن معه وعبروا الفرات، واتصلوا بقازان ملك التتر، فأحسن إليهم وأقاموا عنده حتى كان منهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها في أواخر ذي القعدة، وصل من حسام الدين لاجين دستوراً للملك المظفر صاحب حماة بالحضور من حلب إلى حماة، فسار الملك المظفر ووصل إلى حماة، واستمرت العساكر مقيمين بحلب إلى أن خرجت هذه السنة.
وفي الثامن والعشرين من شوال هذه السنة، أعني سنة سبع وتسعين وستمائة، توفي الشيخ العلامة جمال الدين محمد بن سالم بن واصل، قاضي القضاة الشافعي بحماة المحروسة، وكان مولده في سنة أربع وستمائة. وكان فاضلاً إماماً مبرزاً في علوم كثيرة، مثل المنطق والهندسة وأصول الدين والفقه والهيئة والتاريخ، وله مصنفات حسنة منها: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، ومنها الأنبروزية في المنطق، صنفها للأنبروز ملك الفرنج صاحب صقلية، لما توجه القاضي جمال الدين المذكور رسولاً إليه في أيام الملك الظاهر بيبرس الصالحي، واختصر الأغاني اختصاراً حسناً، وله غير ذلك من المصنفات.
ولقد ترددت إليه بحماة مراراً كثيرة، وكنت أعرض عليه ما أحله من أشكال

كتاب إقليدس، وأستفيد منه، وكذلك قرأت عليه شرحه لمنظومة ابن الحاجب في العروض، فإن جمال الدين صنف لهذه المنظومة شرحاً حسناً مطولاً، فقرأته عليه، وصحت أسماء من له ترجمة في كتاب الأغاني، فرحمه الله ورضي الله عنه.
وكان توجه إلى الإمبراطور رسولاً من جهة الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر والشام، في سنة تسع وخمسين وستمائة، ومعنى الإمبراطور بالإفرنجية، ملك الأمراء، ومملكته جزيرة صقلية، ومن البر الطويل بلاد أنبولية والأنبردية، قال جمال الدين: ووالد الإمبراطور الذي رأيته، كان يسمى فردريك، وكان مصافياً للسلطان الملك الكامل، ثم مات فردريك المذكور في سنة ثمان وأربعين وستمائة. وملك صقلية وغيرها من البر الطويل بعده، ولده كرا بن فردريك، ثبم مات كرا، وملك بعده أخوه منفريد بن فردريك، وكل من ملك منهم يسمى إمبراطور، وكان الإمبراطور من بين ملوك الفرنج مصافياً للمسلمين، ويحب العلوم.
قال: فلما وصلت إلى الإمبراطور منفريد المذكور أكرمني، وأقمت عنده في مدينة من مدائن البر الطويل المتصل بالأندلس، من مدائن أنبولية، واجتمعت به مراراً، ووجدته متميزاً ومحباً للعلوم العقلية، يحفظ عشر مقالات من كتاب إقليدس.
قال: وبالقرب من البلد الذي كنت فيه، مدينة تسمى لوجاره، أهلها كلهم مسلمون من أهل جزيرة صقلية، يقام فيها الجمعة، ويعلن بشعار الإسلام.
قال: ووجدت أكبر أصحاب الإمبراطور منفريد المذكور مسلمين، ويعلن في معسكره بالأذان والصلاة، وبين البلد الذي كنت فيه وبين رومية مسيرة خمسة أيام.
قال: وبعد توجهي من عند الإمبراطور اتفق البابا خليفة الفرنج، وريدافرنس، على قصد الإمبراطور وقتاله، وكان البابا قد حرمه كل ذلك، بسبب ميل الإمبراطور المذكور إلى المسلمين، وكذلك كان أخوه كرا، ووالده فردريك محرمين من جهة البابا برومية، لميلهم إلى الإسلام.
قال: ولقد حكى لي لما كنت عنده، أن مرتبة الإمبراطور كانت قبل فردريك لوالده، ولما مات والد فردريك المذكور، كان فردريك شاباً، أول ما ترعرع، وأنه طمع في الإمبراطورية جماعة من ملوك الفرنج، وكل منهم رجا أن يفوضها البابا إليه، وكان فردريك شاباً ماكراً، وجنسه من الألمانية، فاجتمع بكل واحد من الملوك الذين قد طمعوا في أخذ الإمبراطورية بانفراده.
وقال له: إني لا أصلح لهذه المرتبة، وليس لي فيها غرض، فإذا اجتمعنا عند البابا، فقل ينبغي أن يتقلد الحديث في هذا الأمر ابن الإمبراطور المتوفي، ومن رضي بتقليده الإمبراطورية، فأنا راض به، فإن البابا إذا د الاختيار إلي في ذلك، اخترتك، ولا أختار غيرك، وقصدي الانتماء إليك.
ولما قال هذه المقالة، لكل واحد من الملوك المذكورين بانفراد، وصدقه في ذلك، ووثق به واعتقد صدقه، فلما اجتمعوا عند البابا بمدينة رومية، ومعهم فردريك المذكور، قال البابا للملوك المذكورين: ما ترون في أمر هذه المرتبة، ومن هو الأحق بها؟ ووضع تاج الملك بين أيديهم، فكل واحد منهم قال: قد حكمت فردريك في ذلك، فإنه ولد الإمبراطور وأحق الجماعة بأن يسمع قوله في ذلك، فقام فردريك وقال: أنا ابن الإمبراطور، وأنا أحق بتاجه ومرتبته، والجماعة كلهم قد رضوا بي، ووضع التاج على رأسه، فأبلسوا كلهم، وخرج مسرعاً والتاج على رأسه، وكان قد حصل جماعة من أصحابه الألمانية الشجعان راكبين مستعدين، وركب واجتمعت عليه أصحابه الألمانية، وسار بهم على حمية إلى بلاده.
قال القاضي جمال الدين: واستمر الإمبراطور منفريد بن فردريك المذكور في مملكته، وقصده البابا، وريدافرنس بجموعهما، واقتتلوا معه وهزموه وقبضوا عليه، وتقدم البابا يذبحه، فذبح منفريد المذكور، وملك بلاده بعده أخو ريدافرنس، وذلك في سنة ثلاث وستين وستمائة في غالب ظني.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وستمائة.
ذكر قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين

صاحب مصر والشام:

في هذه السنة، وثب على لاجين المذكور جماعة من المماليك الصبيان، الذين
اصطفاهم لنفسه، ليلة الجمعة حادي عشر ربيع الآخر، في أوائل الليل، فقتلوه وهو يلعب بالشطرنج، وأول من ضربه شخص منهم يقال له سيف الدين كرجي، بالسيف، وضربه الباقون بعده، حتى قتلوا لاجين المذكور، وطلعوا ليقتلوا مملوكه ونائبه منكوتمر، فاستجار بسيف الدين طغجي الأشرفي، وكان طغجي مقدم هؤلاء المماليك الذين قتلوا لاجين، فأجاره طغجي وبعث بمنكوتمر المذكور إلى الجب، فحبسه فيه، ثم بعد استقراره في الجب توجه كرجي ومعه جماعة فأخرجوا منكوتمر وذبحوه على رأس الجب، ولما أصبح الصباح عن ذلك، جلس طغجي في موضع النيابة وأمر ونهى، وهنالك جماعه من الأمراء أكبر منه، مثل الحسام أستاذ الدار، وسلار وبيبرس الجاشنكير، وغيرهم، فاتفقت آراؤهم على الوقيعة بطغجي، وإعادة الملك إلى مولانا السلطان الملك الناصر المقيم بالكرك، واتفق بعد ذلك وصول بعض العسكر المجردين على حلب، فوصل أمير سلاح، وغيره، وأشار الأمراء المذكورون على طغجي بالركوب، وتلقى أمير سلاح، فامتنع، وعاودوه فأجاب، وركب طغجي من قلعة الجبل، وجعل نائبه بها كرجي الذي قتل لاجين، فعندما اجتمعت الأمراء بالأمير سلاح، تحدثوا فيما فعله الصبيان من قتل السلطان، وأنكرت الأمراء وقوع مثل ذلك، وقالوا إن طغجي هو الذي فعل ذلك، فحطوا عليه بالسيوف، وهرب منهم، فأدركوه وقتلوه، وقصدوا كرجي بقلعة الجبل فهرب، واتبعوه فقتلوه أيضاً. وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة، وكانت مدة مملكة حسام الدين لاجين، الملقب بالملك المنصور المذكور، سنتين وثلاثة أشهر. عودة مولانا السلطان الملك الناصر إلى سلطنته
وفي هذه السنة عاد مولانا السلطان الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد ابن مولانا السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون إلى مملكته. فانه لما جرى ما ذكرناه من قتل لاجين، ثم قتل طغجي، اتفقت الأمراء على إعادة مولانا السلطان الملك الناصر إلى مملكته، فتوجه سيف الدين ابن الملك وعلم الدين الجاولي إلى الكرك، وأحضراه إلى الديار المصرية، فصعد إلى قلعة الجبل، واستقر على سرير ملكه في يوم السبت، رابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة ثمان وتسعين وستمائة، وهي سلطنته الثانية.
فلما استقر السلطان الملك الناصر بالقلعة، اتفق معه الأمراء على أن يكون سيف الدين سلار، نائب السلطنة، ويكون بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار، وأن يكون بكتمر الجوكندار أمير جاندار. فلما استقر ذلك، فوض نيابة السلطنة بالشام إلى جمال الدين أقوش الأفرم، وأفرجوا عن شمس الدين قراسنقر من الاعتقال، وكان له فيه نحو سنة وشهرين، ثم بعثوا به إلى الصبيبة وكتب تقليد الملك المظفر محمود صاحب حماة ببلاده على عادته، وبعث به إليه في جمادى الأولى من هذه السنة.
ذكر تجريد العسكر الحموي إلى حلبوفي هذه السنة في رمضان، الموافق لحزيران من شهور الروم، جرد الملك المظفر عسكر حماة إلى حلب، بسبب حركة التتر إلى جهة الشام، فسرنا من حماة إلى المعرة، وورد كتاب سيف الدين بلبان الطباخي بتراخي الأخبار، فعدنا من المعرة إلى حماة، فورد كتابه بطلبنا، فأعادنا الملك المظفر من حماة في يوم وصولنا إليها، وهو يوم الأربعاء سابع عشر رمضان، وحزيران، فسرنا ودخلنا حلب في الثاني والعشرين من رمضان من هذه السنة، ثم أرسل الملك المظفر وطلبني من نائب السلطنة بمفردي، فأعطاني سيف الدين بلبان الطباخي دستوراً، فسرت إلى حماة إلى خدمة ابن عمي الملك المظفر، واستمر أخواي وغيرهما من الأمراء والعسكر مقيمين بحلب، وأقمت أنا عند الملك المظفر بحماة.
ذكر وفاة الملك المظفر صاحب حماة
وخروج حماة حينئذ عن البيت التقوي الأيوبي:

وفي هذه السنة، أعني سنة ثمان وتسعين وستمائة، يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي القعدة، توفي صاحب حماة، السلطان الملك المظفر، تقي الدين محمود ابن السلطان الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك تقي الدين عمر ابن شاهنشاه بن أيوب، رحمه الله تعالى، ومولده في ليلة الأحد خامس عشر المحرم سنة سبع وخمسين وستمائة، فيكون عمره إحدى وأربعين سنة وعشرة أشهر وسبعة أيام، وملك حماة من حين توفي والده في حادي عشر شوال سنة ثلاث وثمانين وستمائة، فيكون مدة ملكه خمس عشرة سنة وشهراً ويوماً واحداً، وكان مرضه حمى محرقة، وكان سبب ذلك مع فراغ العمر، أنه كان غاوياً برمي البندق، واتفق له فيه صروعات حسنة، فأراد أن يرمي النسر من طيور الواجب، فقصد جبل علاروز، وهو جبل مطل على قسطون، وكان ذلك في شدة الحر، وقتل حماراً وتركه على موضع بذلك الجبل، وعمل من أغصان الشجر كوخاً وكان يجلس في الكوخ وأنا معه، ومملوك له، ومن يشاهده في رمي البندق وكان يدخل إلى الكوخ في السحر ويظل فيه إلى الظهر، ولا يتكلم انتظاراً لنزول النسر على جيفة الحمار، وكنا نشم نتن تلك الجيفة، واتفق نزول النسر في تلك الحالة، ولم يقدر له رمية، ثم عدنا إلى حماة، فابتدأ بنا المرض، وبلغت الموت، وفي مدة مرضي، مرض الملك المظفر، وعادني وهو قد ابتدأ به المرض، ثم بعد بضع عشر يوماً توفي في التاريخ المذكور، وأنا منقطع عنه بسبب مرضي، وكذلك مرض المملوك الذي كان معنا بذلك المكان، وكان عسكر حماة بحلب على ما قد ذكرنا، وكان قد اتفق حضور الأمير صارم الدين أزبك المنصوري إلى حماة، بسبب تشويش زوجته، فلحق الملك المظفر قبل وفاته، كان حاضراً وفاته، وأما أخواي أسد الدين عمر، وبدر الدين حسن، ابنا الملك الأفضل، فإنهما حضرا إلى حماة من حلب بعد وفاة الملك المظفر، ولما اجتمع مذكورون، اختلفوا فيمن يكون صاحب حماة، ولم ينتظم في ذلك حال.
ذكر وصول قراسنقر إلى حماةالجوكندار إلى حماة نائباً بها:
ولما توفي الملك المظفر، كان قراسنقر قد أخرج من السجن، وأرسل إلى الصبيبة، وهي مكان وخم، فأرسل قراسنقر إلى الحكام بمصر يتضور من المقام بالصبيبة، فاتفق عند ذلك وصول الخبر إلى مصر بموت صاحب حماة، فأعطى قراسنقر نيابة السلطنة بحماة، وسار من الصبيبة ووصل إلى حماة، واستقر في النيابة ، بها في أوائل ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة ثمان وتسعين وستمائة، ونزل بدار ملك المظفر صاحب حماة، وقمنا بوظائف خدمته وأخذ من تركة صاحب حماة ومنا أشياء كثيرة، حتى أجحف بنا، ووصلت المناشير من مصر إلى أمراء حماة وجندها باستقرارهم على ما بأيديهم من الإقطاعات، فاستمرينا على ما بأيدينا.
ذكر غير ذلك من الحوادثفي هذه السنة، أرسل سيف الدين بلبان الطباخي عسكراً إلى ماردين، فنهبوا ربض ماردين، حتى نهبوا الجامع، وعملوا الأفعال الشنيعة، وذلك كان حجة لقازان في قصد البلاد على ما سنذكره.
وفيها توفي بدر الدين بيسري في محبسه من حين حبسه لاجين.
وفيها سار مولانا السلطان الملك الناصر من الديار المصرية بعساكر مصر إلى بلاد غزة، وأقام بها حتى خرجت هذه السنة، واتفق قراسنقر وأخواي، وأرسلوا معي قماشاً وخيلاً، من خيل الملك المظفر صاحب حماة. وقماشه، فسرت أنا وصارم الدين أزبك المنصوري الحموي، وقدمت ذلك لمولانا السلطان وهو نازل بالساحل، قرب عسقلان، فقبله وتصدق علي بخلعة وحياصة ذهب، ورسم بزيادة إقطاعي وإقطاع أخي بدر الدين حسن، فزادونا نقداً من ديوان حماة.
وفي هذه السنة توفي شمس الدين كربته، أحد المقدمين الذين دخلوا إلى بلاد سيس، وفتحوا ما تقدم ذكره.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وستمائة.
ذكر المصاف العظيم

الذي كان بين المصلين والتتر وهزيمة المسلمين واستيلاء التتر على الشام:

في هذه السنة سار قازان بن أرغون بجموع عظيمة من المغل والكرج والمزندة وغيرهم، وعبر الفرات ووصل بجموعه إلى حلب، ثم إلى حماة ثم سار ونزل على وادي مجمع المروج، وسارت العساكر الإسلامية صحبة مولانا السلطان الملك الناصر حتى وصلوا بظاهر حمص، ثم ساروا إلى جهة المجمع، وكان سلار والجاشنكير هما المتغلبان على المملكة، فداخل الأمراء الطمع، ولم يكملوا عدة جندهم، فنقص العسكر كثيراً مع سوء التدبير، ونحو ذلك من الأمور الفاسدة التي أوجبت هزيمة العسكر، ثم ساروا والتقوا عند العصر من نهار الأربعاء، السابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، الموافق للثالث والعشرين من كانون الأول من شهور الروم، بالقرب من مجمع المروج في شرقي حمص، على نحو نصف مرحلة من حمص، فولت ميمنة المسلمين، ثم الميسرة، وثبت القلب، واحتاطت به التتر وجرى بينهم قتال عظيم، وتأخر السلطان إلى جهة حمص حتى أدركه الليل، فولت العساكر الإسلامية تبتدر الطريق، وتمت بهم الهزيمة إلى ديار مصر المحروسة، وتبعهم التتر واستولوا على دمشق، وساقوا في إثر الجفال إلى غزة والقدس وبلاد الكرك، وكسبوا وغنموا من المسلمين الجفال شيئاً عظيمة.
ذكر المتجددات بعد الكسرةوكان قبجق وبكتمر السلحدار والبكي مع قازان، من حين هربوا من حمص على ما قدمنا ذكره في سنة سبع وتسعين وستمائة، فلما استولى قازان على دمشق، أخذ سيف الدين قبجق الأمان لأهل دمشق ولغيرهم، من قازان ملك التتر، واستولى قازان على مدينة دمشق، وعصت عليه القلعة، وأمر بحصارها، فحوصرت، وكان النائب بها الأمير سيف الدين أرحواش المنصوري، فقام في حفظها أتم قيام، وصبر على الحصار ولم يسلمها، وأحرق الدور التي حوالي القلعة والمدارس، فاحترقت دار السعادة التي كانت مقر نواب السلطنة، وكذلك احترق غيرها من الأماكن الجليلة، وأما عسكر مصر فإنهم لما وصلوا إلى مصر، رسم لهم بالنفقة، فأنفق فيهم أموال جليلة، وأصلحوا أحوالهم، وجددوا عدتهم وخيولهم، وأقام قازان بمرج دمشق المعروف بمرج الزنبقة، ثم عاد إلى بلاده الشرقية، وقرر في دمشق قبجق، وجرد صحبته عدة من المغل.
فلما بلغ العساكر المصرية مسير قازان عن الشام، خرجوا من مصر في العشر الأول من شهر رجب من هذه السنة، وخرج السلطان إلى الصالحية، ثم اتفق الحال على مقام السلطان بالديار المصرية، ومسير سلار، وبيبرس الجاشنكير بالعساكر إلى الشام، فسار المذكوران بالعساكر، وكان قبجق وبكتمر السلحدار، والألبكي، قد كاتبوا المسلمين في الباطن وصاروا معهم، فلما خرجت العساكر من مصر، هرب قبجق ومن معه من دمشق وفارقوا التتر، وساروا إلى جهة ديار مصر، وبلغ ذلك التتر المجردين بدمشق، فخافوا وساروا من وقتهم إلى البلاد الشرقية، وخلا الشام منهم، ووصل قبجق والألبكي وبكتمر السلحدار إلى الأبواب السلطانية، فأحسن إليهم سلطان، ووصل سلار وبيبرس الجاشنكير إلى دمشق، وقررا أمور الشام، ورتبا في نيابة السلطنة بدمشق الأمير جمال الدين أقوش الأفرم، على عادته، ورتبا قراسنقر في نيابة السلطنة بحلب بعد عزل سيف الدين بلبان الطباخي عنها، وإعطائه إقطاعاً بديار صر، ورتبا قطلوبك في نيابة السلطنة بالساحل والحصون، عوض سيف الدين كرد، إنه استشهد في الوقعة، ورتبا في نيابة السلطنة بحماة، الأمير زين الدين كتبغا المنصوري الذي كان سلطاناً، ثم خلع وأعطي صرخد، واستمر بصرخد حتى استولى قازان على الشام، ثم سار إلى مصر والتتر بالشام، ثم سار مع سلار والجاشنكير إلى الشام، فرتباه في نيابة السلطنة بحماة بعد قراسنقر، فسار كتبغا المذكور ووصل إلى حماة في الرابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، أعني سنة تسع وتسعين وستمائة، واستقر بحماة وأقام بدار صاحب حماة الملك المظفر، وسار قراسنقر إلى حلب، ثم عاد سلار والجاشنكير بالعساكر إلى الديار المصرية.
ذكر غير ذلك من الحوادثفي هذه السنة كان بين طقطغا بن منكوتمر، وبين نغيه، حروب كثيرة، قتل فيها نغيه، وقام مقامه ابنه جكا.

وفيها في مدة استيلاء التتر على الشام، استولى على حماة شخص من الرجالة الذين كانوا فيها لحفظ القلعة، يسمى عثمان السبيتاري، وحكم في البلد والقلعة، واستباح الحريم وأموال أهل حماة، وسفك دم جماعة منهم الفارس أرلندمشد حماة، وبعض أهل الباب الغربي، وكان يشارك عثمان المذكور في الحكم رفيقه إسماعيل، فغدر عثمان برفيقه إسماعيل وقتله، وانفرد عثمان بالحكم في حماة، وقيل إنه تلقب بالملك الرحيم، وبقي على تلك الحال إلى أن طلعت العساكر الإسلامية من مصر، واستولوا على الشام، وأرسلوا صارم الدين أزبك الحموي إلى حماة، ليكون فيها إلى أن يحضر إليها زين الدين كتبغا المنصوري النائب، فعصي عثمان المذكور بالقلعة المذكورة، ثم فارقه أصحابه وتخلوا عنه، وأمسك عثمان المذكور واعتقل، وكان المذكور من جندارية قراسنقر، فلما وصل قراسنقر إلى حماة متوجها إلى حلب، نزل على تل صفرون، وتسلم عثمان المذكور وأطلقه، فحضر أهل حماة وشكوا ما فعله فيهم عثمان المذكور، من نهب أموالهم، وهتك الحريم، وسفك الدماء، فتبرطل قراسنقر من عثمان المذكور ما أخذه من أموال أهل حماة، واستصحب عثمان معه وأحسن إليه، ومنع الناس حقهم، ولم يمكن أحداً منه بعد أن حكم القاضي بسفك دم عثمان المذكور، وبقي عثمان عند قراسنقر مكرماً إلى أن هرب قراسنقر إلى التتر، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
فاختفى عثمان المذكور ولم يظهر، وكان أصله من بلاد الشوبك، فلما تصدق علي السلطان بحماة، تتبعت عثمان المذكور وطلبته من نائب السلطنة بالشام، وهو المقر السيفي تنكيز، فأمسك عثمان المذكور من بلاد عجلون، وأرسله إلي معتقلاً إلى حماة، فضربت عنقه في سوق الخيل بحضرة العسكر، في يوم الاثنين رابع عشر شعبان سنة ست عشرة وسبعمائة.
وفيها لما وصل قازان بجموع المغل إلى الشام، طمع الأرمن في البلاد التي افتتحها المسلمون منهم، وعجز المسلمون عن حفظها، فتركها الذين بها من العسكر والرجالة وأخلوها، فاستولى الأرمن عليها، وارتجعوا حموص، وتل حمدون، وكوير، وسرفند كار، والنقير، وغيرها، ولم يبق مع المسلمين من جميع تلك القلاع غير قلعة حجر شغلان، واستولى الأرمن على غيرها من الحصون والبلاد التي كانت جنوبي نهر جيحان.
وفيها أو في السنة التي قبلها، لما ملك دندين بلاد الأرمن، أفرج عن أخيه هيتوم بن ليفون، وجعله الملك، وصار دندين بين يديه، وكان هيتوم قد بقي أعور من حين سمله أخوه سنباط، على ما قدمنا ذكره، واستمر هيتوم ودندين على ذلك مدة يسيرة، ثم غدر هيتوم بدندين وجازاه أقبح جزاء، وأراد القبض عليه، فهرب دندين إلى جهة قسطنطينية، واستقر هيتوم في مملكة سيس، ولما استقر هيتوم في مالك سير، كان لأخيه تروس الذي قتله أخوه سنباط على ما ذكرناه، ولد صغير، فأقام هيتوم المذكور، الصغير ذلك ابن تروس في الملك، وجعل هيتوم نفسه أتابكاً لذلك الصغير، وبقي كذلك حتى قتلهما برلغي مقدم المغل الذين ببلاد الروم، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة سبعمائة.
ذكر مسير التتر إلى الشام

ومسير السلطان والعساكر الإسلامية إلى العوجا، ورجوعهم:
في هذه السنة عادت التتر قصد الشام، وعبروا الفرات في ربيع الآخر، وجفلت المسلمون منهم وخلت بلاد حلب، وسار قراسنقر بعسكر حلب إلى حماة، وبرز زين الدين كتبغا عساكر حماة إلى ظاهر حماة، في الثاني والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة، وسادس كانون الأول، وكذلك وصلت العساكر من دمشق واجتمعوا حماة، وأقامت التتر ببلاد سرمين، والمعرة، وتيزين، والعمق، وغيرها، ينهبون يقتلون، وسار السلطان بالعساكر الإسلامية ووصل إلى العوجا، واتفق في تلك المدة تدارك الأمطار إلى الغاية، واشتدت الوحول حتى انقطعت الطرقات، وتعذرت الأقوات، وعجزت العساكر عن المقام عن تلك الحال، فرحل السلطان والعساكر وعادوا إلى الديار المصرية. فوصل إليها في عاشر جمادى الأولى من هذه السنة، وأما التتر فانهم أقاموا يتنقلون في بلاد حلب نحو ثلاثة أشهر، ثم إن الله تعالى تدارك المسلمين بلطفه، ورد التتر على أعقابهم بقدرته، فعادوا إلى بلادهم وعبروا الفرات ، أواخر جمادى الآخرة من هذه السنة، الموافق لأوائل آذار من شهور الروم، ورجع عسكر حلب مع قراسنقر إلى حلب، وتراجعت الجفال إلى أماكنهم.

ذكر غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة لما وردت الأخبار بعود التتر إلى الشام، استخرج عن غالب الأغنياء بمصر والشام ثلث أموالهم، لاستخدام المقاتلة.
وفيها لما خرجت العساكر من مصر، توفي سيف الدين بلبان الطباخي الذي كان نائباً بحلب، ودفن بأرض الرملة، وورثه السلطان بالولاء.
وفيها عزل كراي المنصوري الذي كان نائباً بصفد، وولى موضعه بتخاص.
وفيها عزل قطلوبك عن نيابة السلطنة بالحصون والسواحل، ونقل إلى دمشق، فصار من أكبر الأمراء بها، وولى موضعه على الحصون والسواحل سيف الدين أسندمر الكرجي.
وفيها التزمت الذمة بلبس الغيار، فلبس اليهود عمائم صفراء، والنصارى عمائم زرقاء، والسمرة عمائم حمراء.
وفيها وصلت رسل قازان ملك التتر، وكان مضمون رسالتهم التهديد والوعيد، فأعيد جوابه على مقتضى ذلك.
وفيها ولى البكئي الظاهري الذي قفز إلى التتر، وعاد على ما ذكرناه نيابة السلطنة بحمص، وكذلك أعطي قبجق الشوبك إقطاعاً، وأرسل إليها فأقام بها.
وفيها قتل جكا بن نغيه أخاه تكا.
وفيها جرى بين جكا ونائبه طنغوز قتال، فانتصر فيه طنغوز على جكا، ثم انتصر جكا، ثم استنجد طنغوز بطقطغا، فلم يكن لجكا به قبل فهرب إلى الأولاق، وأمسك جكا واعتقله بقلعة طرفو، ثم قتله وبعث برأسه إلى القرم، وصارت مملكة نغيه لطقطغا.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعمائة.
ذكر وفاة الخليفةوفي هذه السنة توفي أبو العباس أحمد، الملقب بالحاكم بأمر الله، المنصوب في الخلافة، وقد تقدم ذكر ولايته ونسبه في سنة ستين وستمائة، والخلاف في ذلك، ولما توفي الحاكم المذكور، قرر في الخلافة بعده ولده سليمان بن أحمد، وكنيته أبو الربيع، ولقب بالمستكفي بالله.
ذكر الإغارة على بلاد سيسوفي هذه السنة جرد من مصر بدر الدين بكتاش أمير سلاح، وأيبك الخزندار معهما العساكر، فساروا إلى حماة، وورد الأمر إلى زين الدين كتبغا نائب السلطنة بحماة، أن يسير بالعساكر إلى بلاد سيس، فخرج كتبغا المذكور من حماة، وخرجنا صحبته في يوم السبت الخامس والعشرين من شوال في هذه السنة، الموافق للثالث والعشرين من حزيران من شهور الروم، وسار العسكر صحبة زين الدين المذكور، ودخلنا حلب يوم الخميس مستهل ذي العقدة، ورحلنا من حلب ثالث ذي القعدة، ودخلنا دربند بغراس سابع القعدة من الشهر المذكور، وانتشرت العساكر في بلاد سيس، فحرقت الزروع ونهبت ما وجدت، ونزلنا على سيس وزحفنا عليها وأخذنا من سفح قلعتها شيئاً كثيراً من جفال الأرمن، وعدنا فخرجنا من الدربند إلى مرج أنطاكية، ووصلنا إلى حلب يوم الاثنين تاسع عشر ذي القعدة من هذه السنة، وسرنا إلى حماة ودخلناها يوم الثلاثاء السابع والعشرين من الشهر المذكور، الموافق للرابع والعشرين من تموز من شهور الروم، ودخل زين الدين كتبغا المذكور حماة وقد ابتدأ به المرض.
ذكر غير ذلك من الحوادثفي هذه السنة مات قبجي بن ردنو بن دوشي خان بن جنكزخان، صاحب غزنة وباميان وغيرهما من تلك النواحي، وخلف من الأولاد بيان، وكبلك، وطقطمر، وبغاتمر، ومنغطاي، وصاصي. فاختلفوا بعده واقتتلوا، ثم انتصر فيما بعد بيان بن قنجي واستقر ملك غزنة على ما سنذكره.
وفيها توفي صاحب مكة الشريف أبو نمي محمد بن أبي سعد بن علي بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي ابن الحسين بن علي رضي الله عنهم، واختلفت أولاده وهم: رميثة، وحميضة، وأبو الغيث، وعطيفة. وتغلب رميثة وحميضة على مكة، شرفها الله تعالى، ثم قبض بيبرس الجاشنكير على رميثة وحميضة في هذه السنة، وكان قد حج وتولى أبو الغيث على مكة، ثم بعد سنين أطلق حميضة ورميثة فغلبا على مكة، وهرب عنها أبو الغيث، ثم اقتتل حميضة ورميثة، فانتصر حميضة واستقر في مكة حرسها الله تعالى، ثم كان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعمائة.
ذكر فتح جزيرة أرواد

وفي محرم من هذه السنة، فتحت جزيرة أرواد، وهي جزيرة في بحر الروم قبالة أنطرطوس، قريباً من الساحل، اجتمع فيها جمع كثير من الفرنج، وبنوا فيها سوراً وتحصنوا في هذه الجزيرة، وكانوا يطلعون منها ويقطعون الطريق على المسلمين، المترددين في ذلك الساحل، وكان النائب على الساحل إذ ذاك سيف الدين أسندمر الكرجي، فسأل إرسال أسطول إليها، فعمرت الشواني وسارت إليها من الديار المصرية في بحر الروم، ووصلت إليها في المحرم من هذه السنة، وجرى بينهم قتال شديد، ونصر الله المسلمين وملكوا الجزيرة المذكورة، وقتلوا وأسروا جميع أهلها، وخربوا أسوارها، وعادوا إلى الديار المصرية بالأسرى والغنائم.
ذكر دخول التتر إلى الشام

وكسرتهم مرة بعد أخرى:
وفي هذه السنة عاودت التتر قصد الشام، وساروا إلى الفرات، وأقاموا عليها مدة في أزوارها، وصارت منهم طائفة، تقدر عشرة آلاف فارس، وأغاروا على القريتين وتلك النواحي، وكانت العساكر قد اجتمعت بحماة عند زين الدين كتبغا النائب بحماة، الملقب بالملك العادل، وكان مريضاً من حين عاد من بلاد سيس، كما تقدم ذكره، واسترخت أعضاؤه، فلما اجتمعت العساكر عنده، وقع الاتفاق على إرسال جماعة من العسكر، إلى التتر الذين أغاروا على القريتين، فجردوا أسندمر الكرجي نائب السلطنة بالساحل، وجردوا صحبته جماعة من عسكر حلب، وجماعة من عسكر حماة، وجردوني أيضاً من جملتهم، فسرنا من حماه سابع شعبان من هذه السنة، واتقعنا مع التتر على موضع يقال له الكرم، قريباً من عرض، واقتتلنا معهم يوم السبت عاشر شعبان من هذه السنة، الموافق لسلخ آذار، وصبر الفريقان، ثم نصر الله المسلمين وولى التتر منهزمين، وترحل منهم جماعة كثيرة عن خيلهم، وأحاط المسلمون بهم بعد فراغهم من الوقعة، وبذلوا لهم الأمان فلم يقبلوا، وقاتلوا بالنشاب، وعملوا سروج الخيل ستائر لهم، وناوشهم العسكر القتال، من الضحى إلى انفراك الظهر، ثم حملوا عليهم فقتلوهم عن آخرهم، وكان هذا النصر عنوان النصر الثاني على ما نذكره، ثم عدنا مؤيدين منصورين، ووصلنا إلى حماة يوم الثلاثاء ثالث عشر شعبان المذكور، الموافق لثاني نيسان.
ذكر المصاف الثاني والنصرة العظيمةوفي هذه السنة، سار التتر بجموعهم العظيمة، صحبة قطلوشاه نائب قزان، بعد كسرتهم على الكوم، ووصلوا إلى حماة، فاندفعت العساكر الذين كانوا بها بين أيديهم، وسار زين الدين كتبغا في محفة، وأخرني بحماة لكشف التتر، فوصل التتر إلى حماة في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان من هذه السنة، فلما شاهدت جموعهم ونزولهم بظاهر حماة، وكنت واقفاً على العليليات، سرت من وقتي ولحقت زين الدين كتبغا بالقطيفة، وأعلمته بالحال، وسارت العساكر الإسلامية إلى دمشق، ووصلت أوائل العساكر الإسلامية من ديار مصر صحبة بيبرس الجاشنكير، واجتمعوا بمرج الزنبقية بظاهر دمشق، ثم ساروا إلى مرج الصفر لما قاربهم التتر، وبقي العسكر منتظرين وصول السلطان الأعظم الملك الناصر، وسارت التتر وعبروا على دمشق طالبين العسكر، ووصلوا إليهم عند شقحب بطرف مرج الصفر، واتفق أن ساعة وصول التتر إلى الجيش، وصل مولانا السلطان بباقي العساكر الإسلامية، والتقى فريقان بعد العصر من نهار السبت، ثاني رمضان من هذه السنة، أعني سنة اثنتين سبعمائة، وكان ذلك في العشرين من نيسان، واشتد القتال بينهم، وتكردست التتر على الميمنة، فاستشهد من المسلمين خلق كثير، منهم الحسام أستاذ الدار، وكان رأس الميمنة، وكان برأس الميمنة أيضاً سيف الدين قبجق، فاندفع هو وباقي الميمنة بين أيدي التتر، وأنزل الله نصره على القلب والميسرة، فهزمت التتر وأكثر القتل فيهم، فولى بعض التتر مع توليه منهزمين لا يلوون، وتأخر بعضهم مع جوبان، وحال الليل بين الفريقين، فنزل التتر على جبل هناك بطرف مرج الصفر، وأشعلوا النيران

وأحاطت المسلمون بهم، وأصبح الصباح وشاهد التتر كثرة المسلمين، فانحدروا من الجبل يبتدرون الهرب، وتبعهم المسلمون فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وكان في طريقهم أرض متوحلة، فتوحل فيها عالم كثير عن التتر، فأخذ بعضهم أسرى، وقتل بعضهم، وجرد من العسكر الإسلامي جمعاً كثيراً مع سلار، وساقوا في إثر التتر المنهزمين إلى القريتين، ووصل التتر إلى الفرات، وهي في قوة زيادتها، فلم يقدروا على العبور، والذي عبر فيها وهلك، فساروا على جانبها إلى جهة بغداد، فانقطع أثرهم على شاطئ الفرات وهلك من الجوع،، وأخذ منهم العرب جماعة كثيرة، وأخلف الله تعالى بهذه الوقعة ما جرى على المسلمين في المصاف، الذي كان ببلد حمص، قرب مجمع المروج في سنة تسع وتسعين وستمائة، ولما حصل هذا النصر العظيم، واجتمعت العساكر بدمشق، أعطاهم السلطان الدستور، فسارت العساكر الحلبية والحموية والساحلية إلى بلادهم، فدخلنا حماة مؤيدين منصورين، في يوم السبت سادس عشر رمضان من هذه السنة، الموافق لرابع أيار من شهور الروم.
ذكر وفاة زين الدين كتبغا

وولاية قبجق حماة
وفي هذه السنة، أعني سنة اثنين وسبعمائة في ليلة الجمعة، عاشر ذي الحجة، توفي زين الدين كتبغا المنصوري، ونائب السلطنة بحماة، والمذكور كان من مماليك السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، فترقى حتى تسلطن، وتلقب بالملك العادل، وملك ديار مصر والشام في سنة أربع وتسعين وستمائة، ثم خلعه نائبه لاجين، وأعطاه صرخد، على ما تقدم ذكره في سنة ست وتسعين وستمائة، واستمر مقيماً بصرخد من السنة المذكورة إلى أن اندفعت المسلمون من التتر على حمص، في سنة تسع وتسعين وستمائة، فوصل كتبغا المذكور من صرخد إلى مصر، وخرج مع سلار والجاشنكير إلى الشام، فقرره نائبا بحماة على ما تقدم ذكره، في سنة تسع وتسعين وستمائة، ثم أغار على بلادسيس، فلما عاد إلى حماة مرض، قبل دخوله إلى حماة؛ وطال مرضه، ثم حصل له استرخاء، وبقي لا يستطيع أن يحرك يديه ولا رجليه، وبقي كذلك مدة، وسار من حماة إلى قريب مصر جافلاً بين يدي التتر، لما كان المصاف على مرج الصفر، ثم عاد إلى حماة وأقام بها مدة يسيرة، وتوفي في التاريخ المذكور من هذه السنة.
ولما توفي أرسلت أعرض على الآراء الشريفة السلطانية إقامتي في حماة، على قاعدة أصحابها من أهلي، فوجد قاصدي الأمر قد فات، وقررت حماة لسيف الدين قبجق المقيم بالشوبك، وكتب تقليده بها في هذه السنة، وحصل إلي من الصدقات السلطانية الوعود الجميلة الصادقة بحماة، وتطييب الخاطر، والاعتذار بأن كتابي وصل بعد خروج حماة لقجبق، ووصل قجبق إلى حماة في السنة المقابلة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توفي فارس الدين البلي الظاهري، نائب السلطنة بحمص. وفيها توفي القاضي تقي الدين محمد بن دقيق العيد، قاضي القضاة الشافعية بالديار المصرية، وكان إماماً فاضلاً، وولي موضعه القاضي بدر الدين محمد الحموي، المعروف بابن جماعة.
وفيها كانت زلزلة عظيمة هدمت بعض أسوار قلعة حماة، وغيرها من الأماكن بالبلاد، وهدمت بالديار المصرية أماكن كثيرة، وهلك خلق كثير تحت الهدم، وخربت من أسوار إسكندرية ستاً وأربعين بدنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعمائة.
ذكر وفاة قازان ملك التترفي هذه السنة توفي قازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان، بنواحي الري، في أواخر هذه السنة، وكان قد ملك في أواخر سنة أربع وتسعين وسبعمائة، فيكون مدة مملكته ثمان سنين وعشرة أشهر، وكان قد اشتد همه بسبب هزيمة عسكره وكسرتهم على مرج الصفر، فلحقه حمى حادة ومات مكموداً، ولما مات قازان، ملك أخوه خربند بن أرغون، وكان جلوسه في الملك في الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وتلقب الجنبو سلطان.
ذكر قدوم قبجق إلى حماة

قد تقدم في سنة اثنتبن وسبعمائة، ذكر وفاة زين الدين كتبغا نائب السلطنة بحماة، وأنه رتب موضعه سيف الدين قبجق، وكانت الشوبك إقطاع قبجق، وكان مقيماً بها، فلما أعطي نيابة السلطنة بحماة وارتجعت منه الشوبك، أقام بها حتى جهز أشغاله، وسار من الشوبك في ثالث صفر من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وسبعمائة، ولما قارب حماة خرجنا لملتقاه إلى العنثر، وعملنا له الضيافات، وقدمنا له التقادم، وسرنا معه ودخلنا حماة في صبيحة يوم السبت، وهو الثالث والعشرين من صفر من هذه السنة، والموافق السادس تشرين الأول من شهور الروم، ونزل بدار الملك المظفر صاحب حماة، واستقر قدمه بحماة.
ذكر غير ذلك من الحوادثفي هذه السنة، بعد العصر من نهار الأحد، خامس جمادى الأولى، وخامس عشر كانون الأول، توفيت عمتي مؤنسة خاتون، بنت الملك المظفر محمود ابن ملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وأمها غازية خاتون، بنت السلطان الملك الكامل، وكان مولد مؤنسة خاتون المذكورة في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكانت كثيرة الصدقات والمعروف، عملت مدرسة بمدينة حماة تعرف بالخاتونية، ووقفت عليها وقفاً جليلاً، رحمها الله تعالى، ورضي عنها، وهي آخر من كان قد بقي من أولاد الملك المظفر صاحب حماة.
وفيها كثر الموت في الخيل، فهلك منها ما لا يحصى، حتى خلت غالب اسطبلات الأمراء والجند.
وفيها توفي عزالدين أيبك الحموى نائب حمص.
وفيها توفي إلى الحجاز الشريف لقضاء حجة الفرض، ووجدت سلار قد حج من جهة مصر، وصحبته عدة كثيرة من الأمراء، ووقفنا الإثنين والثلاثاء للشك في أول الشهر وعدنا إلى البلاد، وخرجت هذه السنة ونحن قد برزنا من مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم.
وفي أواخر هذه السنة، جردت العساكر من مصر، وسيف الدين قبجق بعسكر حماة، وقراستفر بعسكر حلب، ودخلوا إلى بلاد سيس، وحاصروا تل حمدون، وفتحوها بالأمان، وارتجعوها من الأرمن، وهدموها إلى الأرض، ولم أحضر هذه الغزاة لأني كنت بالحجاز الشريف حسبما ذكر.
ثم دخلت سنة أربع وسبعمائة وفي هذه السنة وصل من المغرب ركب كبير، وصحبتهم رسول من أبي يعقوب يوسف بن يعقوب المريني ملك المغرب، ووصل صحبته إلى ديار مصر هدية عظيمة من الخيول والبغال، ما يقارب خمسمائة رأس من الخيل العربية، بالسروج واللجم والركب المكفنة بالذهب المصري.
وفيها وصل إلى مصر صاحب دنقلة، وهو عبد أسود اسمه أياي، ووصل صحبته هدية كثيرة في الرقيق والهجن والأبقار والنمور والشب والسنباذج، وطلب نجدة من السلطان، فجرد معه جماعة من العسكر، وقدم عليهم طقصبا نائب السلطنة بقوص.
وفيها أعيد رميثة وحميضة، ابنا أبي نمي لما ملك مكة حرسها الله تعالى.
وفيها توفي جماز بن شيحة صاحب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وملك بعده ابنه منصور بن جماز.
وفيها وصلت إلى حماة في يوم السبت عاشر صفر، عائداً من الحجاز الشريف، بعد زيارة القدس الشريف والخليل صلوات الله عليه وسلامه.
ثم دخلت سنة خمس وسبعمائة.
ذكر إغارة عسكر حلب على بلاد سيسفي أوائل المحرم من هذه السنة، الموافق للعشر الأخير من تموز، أرسل قراسنقر نائب السلطنة بحلب، مع قشتمر مملوكه، عسكر حلب للإغارة على بلاد سيس، فدخلوها في أول الشهر المذكور، وكان قشتمر المذكور ضعيف العقل، قليل التدبير، مشتغلاً بالخمر، ففرط في حفظ العسكر، ولم يكشف أخبار العدو، واستهان بهم، فجمع صاحب سيس جموعاً كثيرة من التتر، وانضمت إليهم الأرمن والفرنج، ووصلوا على غرة إلى قشتمر المذكور، ومن معه من الأمراء وعسكر حلب، والتقوا بالقرب من إياس، فلم يكن للحلبيين قدرة بمن جاءهم، فتولوا يبتدرون الطريق، وتمكنت التتر والأرمن منهم، فقتلوا وأسموا غالبهم، واختفى من سلم في تلك الجبال، ولم يصل إلى حلب منهم إلا القليل، عرايا بغير خيل، وكان صاحب سيس في هذه السنة، هيتوم بن ليفون بن هيتوم، وهو الذي أمسكه أخوه سنباط وسمله، فذهبت عينه الواحدة وبقي أعور حسبما تقدم ذكره في سنة تسع وتسعين وستمائة.
ذكر غير ذلكفي هذه السنة قطع خبر بدر الدين بكتاش، أمير سلاح، لكبره وعجزه عن الحركة.
وفيها أفرج عن الحاج بهادر الظاهري، وكان قد اعتقله حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور.

وفيها هلك قطلوشاه نائب خربندا، قتله أهل كيلان، لأنهم عصوا، وسار قطلوشاه لقتلهم، فكبسوه وقتلوه، وقتل معه جماعة من المغل. وفيها سار جمال الدين أقوش الأفرم بعسكر دمشق وغيره من عساكر الشام، إلى جبال الظنينين، وكانوا عصاة مارقين من الدين، فأحاطت العساكر الإسلامية بتلك الجبال المنيعة، وترجلوا عن خيولهم، وصعدوا في تلك الجبال من كل الجهات، وقتلوا وأسروا جميع من بها من النصيرية والظنينين وغيرهم من المارقين، وطفرت تلك الجبال منهم، وهي جبال شاهقة بين دمشق وطرابلس، وأمنت الطرق بعد ذلك، فإنهم كانوا يقطعون الطريق ويتخطفون المسلمين، ويبيعونهم للكفار. وفيها استدعي تقي الدين أحمد بن تيمية من دمشق إلى مصر، وعقد له مجلس، وأمسك وأودع الاعتقال، بسبب عقيدته، فإنه كان يقول بالتجسيم على ما هو منسوب إلى ابن حنبل.
ثم دخلت سنة ست وسبعمائة.
ذكر من ملك في هذه السنة بلاد المغرب من بني مرينقد تقدم ذكر بني مرين في سنة اثنتين وسبعين وستمائة، وأنه استقر في الملك منهم يعقوب، ثم ابنه يوسف، ولما كان في هذه السنة قتل أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو ابن حمامة المريني، ملك المغرب، وهو محاصر تلمسان، وكان قد أقام على حصارها سنين كثيرة، ونفدت أقوات أهل تلمسان، ولم يبق عندهم ما يكفيهم شهراً، و أيقنوا بالعطب، ففرج الله عنهم بقتل المريني المذكور، وسبب قتله أنه اتهم وزيره بتعرضه إلى حرمه، واتهم زمام داره، وكان اسمه عنبر، بمواطاة الوزير على ذلك، وأمر بحبس الوزير، وأمر بقتل زمام داره عنبر، ولما أخرج عنبر ليقتل مر بالخدام فقالوا: ما الخبر؟ فقال: أمر بقتلي، وسيقتلكم كلكم بعدي، فهجم بعض الخدام بسكين على أبي يعقوب المذكور، وقد خضب أبو يعقوب لحيته بحناء وهو نائم على قفاه، فضربه الخادم بالسكين في جوفه، وهرب عنه، وأغلق الباب عليه، وكان هناك امرأة لخدمة أبي يعقوب، فصاحت، فدخل أصحابه عليه وبه بعض الرمق، فأوصى إلى ابنه أبي سالم بن أبي يعقوب، ومات، ولما مات أبو يعقوب المذكور جلس في الملك بعده ولده أبو سالم بن يوسف المذكور. ولما ملك أبو سالم، قصده ابن عمه أبو ثابت، عامر بن عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق، وقيل إن أبا ثابت، هو عامر بن عبد الله بن يوسف ابن أبي يعقوب، فيكون ابن أخي أبي سالم، لا ابن عمه، وانضم مع أبي ثابت يحيى بن يعقوب، عم أبي سالم، فلما قارباه، هرب أبو سالم بن يوسف منهما، فأرسلا في إثره من تبعه وقتله، وحمل رأس أبي سالم المذكور إلى أبي ثابت، عامر المذكور. ولما قتل أبو سالم، استقر أبو ثابت عامر في المملكة، وكان جلوسه في الملك في منتصف هذه السنة، أعني سنة ست وسبعمائة. ولما استقر، أمر بقتل الخادم الذي قتل عمه يوسف، فقتل، ثم أمر بقتل الخدام عن آخرهم، فقتلوا وأضرمت لهم النيران وألقوا فيها، ولم يترك أبو ثابت بمملكته خادماً خصياً حتى أباده، ثم إن أبا ثابت المذكور، وثب على عمه يحيى فقتله في ثاني يوم استقراره في الملك، ثم سار أبو ثابت إلى فاس، وأرسل مستحفظاً من بني عمه اسمه يوسف بن أبي عباد إلى مراكش ثم إن يوسف المذكور بعد استمراره في مراكش، خلع طاعة أبي ثابت عامر المذكور، وكان منه ما سنذكره.
ذكر غير ذلك من الحوادث وفي، هذه السنة، توفي الأمير بدر الدين بكتاش الفخري، المعروف بأمير سلاح، وكان بين قطع خبره ووفاته دون أربعة أشهر.
ثم دخلت سنة سبع وسبعمائة:
ذكر وفاة عامر ملك المغرب

وذكر من تملك بعده:
في أواخر هذه السنة، توفي أبو ثابت عامر بن عبد الله بن يوسف، أبي يعقوب بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن حمامة، ملك المغرب، وكانت مدة ملكه سنة وثلاثة أشهر وأياماً، وقيل سنة ونصفاً، وتوفي بطنجة فإنه لما عصى عليه ابن عمه يوسف بن أبي عباد بمراكش، سار إليه أبو ثابت المذكور، فاقتتل معه يوسف، فانتصر أبو ثابت، وولى يوسف مهزماً، فأخذ أسيراً، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، واستقامت مراكش لأبي ثابت، ثم عاد أبو ثابت المذكور إلى طنجة لقتال قوم بها من الأعراب، فأدركته منيته بها.

ولما مات أبو ثابت، جلس في الملك بعده ابن عمه على بن يوسف، ثم خلعه الوزير وجماعة من العسكر بعد يومين من جلوسه، وأقاموا في الملك سليمان بن عبد الله بن يوسف بن يعقوب ابن عبد الحق بن محيو، وبايعوه، فاستمال الناس وأنفق فيهم الأموال، وزاد في عطيات بني مرين، وأطلق المكوس، وأحسن إلى الرعية، وقبض على علي بن يوسف المخلوع واعتقله بطنجة، واستقرت قدم سليمان في الملك واستقامت له الأمور.
ذكر قتل صاحب سيس

وقتل ابن أخيه
وفي هذه السنة قتل برلغي، وهو مقدم المغل المقيمين ببلاد الروم، صاحب سيس، هيتوم بن ليفون بن هيتوم المقدم ذكره، بعد أن ذبح ابن أخيه تروس الصغير على صدره، واستقر في ملك سيس وبلاد أوشين بن ليفون، أخو هيتوم المذكور، ولما قتله برلغي، مضى أخو هيتوم المذكور، الناق بن ليفون صحبة برلغي، وشكا إلى خربندا، فأمر خربندا ببرلغي فقتل بالسيف.
وفيها عزم سلام على المسير إلى اليمن والاستيلاء عليه، وعينت العساكر للمسير صحبته، وجهزت الآلات في المراكب من عيذاب، ثم أنهى عزمه عن ذلك.
وفيها نزل سيف الدين كراي المنصوري عن إقطاعه بديار مصر، واستقال من الإمرة فأقيل، وبقي بطالاً حتى اتهم عليه مولانا السلطان فيما بعد بإقطاع، وأعطاه نيابة السلطنة بدمشق على ما سنذكره.
وفيها توفي ركن الدين بيبرس العجمي الصالحي، المعروف بالجالق، أحد البحرية، وكان آخر البحرية، وكان قد أسن.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعمائة:
ذكر مسير السلطان إلى الكرك
واستيلاء بيبرس الجاشنكير على المملكة
وفي هذه السنة، في يوم السبت، الخامس والعشرين من شهر رمضان، خرج مولانا السلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين ، محمد بن قلاوون الصالحي، من الديار المصرية متوجهاً إلى الحجاز الشريف، وسار في خدمته جماعة من الأمراء، منهم الأمير عز الدين أيدمر الخطيري، والأمير حسام الدين قرالاجين،والأمير سيف الدين آل ملك، وغيرهم، ووصل إلى الصالحية وعيد بها عيد الفطر ثم سار إلى الكرك، فوصل إليها في عاشر شوال، وكان النائب بها جمال الدين أبقوش الأشرفي، فعمل سماطاً واحتفل به، وعبر السلطان إلى المدينة، ثم إلى القلعة، ولما عبر السلطان على الجسر إلى القلعة والأمراء ماشون بين يديه، والمماليك حول فرسه، وخلفه، سقط بهم جسر قلعة الكرك، وقد حصرت يد فرس مولانا السلطان وهو راكبه، داخل عتبة الباب، فلما أحس الفرس بسقوط الجسر، أسرع حتى كاد أن يدوس الأمراء الماشين بين يديه، وسقط من مماليك مولانا السلطان خمس وثلاثون إلى الخندق، وسقط غيرهم من أهل الكرك، ولم يهلك من المماليك غير شخص واحد، لم يكن من الخواص، ونزل في الوقت مولانا السلطان، خلد الله تعالى ملكه، عند الباب، وأحضر الجنوبات والجبال، ورفع الذين وقعوا عن آخرهم، وأمر بمداواتهم، فصلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه في مدة يسيرة، وكان ذلك من عنوان سعادة مولانا، جعلها الله تعالى خارقة للعوائد. فإن ارتفاع الجسر الذي سقطوا منه إلى الخندق، يقارب خمسين ذراعاً.

ولما استقر مولانا السلطان بقلعة الكرك، أمر جمال الدين أقوش، نائب السلطنة بها، والأمراء الذين حضروا في خدمته، بالمسير إلى الديار المصرية، وأعلمهم أنه جعل السفر إلى الحجاز وسيلة إلى المقام بالكرك، وكان سبب ذلك استيلاء سلار وبيرس الجاشنكير على المملكة، واستبدادهما بالأمور، وتجاوز الحد في الانفراد بالأموال، والأمر والنهي، ولم يتركا لمولانا السلطان غير الاسم، مع ما كان منهما من محاصرة مولانا السلطان في القلعة، وغير ذلك مما لا تنكمش النفس منه، فأنف مولانا السلطان خلد الله ملكه من ذلك، وترك الديار المصرية وأقام بالكرك، ولما وصلت الأمراء إلى الديار المصرية، وأعلموا من بها بإقامة السلطان بالكرك، وفراقه الديار المصرية، اشتوروا فيما بينهم، واتفقوا على أن تكون السلطنة لبيبرس الجاشنكير، وأن يكون سلار مستمراً على نيابة السلطنة كما كان عليه، وحلفوا على ذلك، وركب بيبرس الجاشنكير من داره بشعار السلطنة إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل، وجلس على سرير الملك في يوم السبت الثالث والعشرين من شوال هذه السنة، أعني سنة ثمان وسبعمائة، وتلقب بالملك المظفر ركن الدين بيبرس المنصوري، وأرسل إلى نواب السلطنة بالشام فحلفوا له عن آخرهم، وكتب تقليداً لمولانا السلطان بالكرك، ومنشوراً بما عينه له من الإقطاع بزعمه، وأرسلهما إليه، واستقر الحال على ذلك حتى خرجت هذه السنة.
وفيها ملك الفرنج الاستبتار جزيرة رودس، وأخذتها من الأشكري صاحب قسطنطينية، وصعب بسبب ذلك على التجار الوصول في البحر إلى هذه الديار، لمنع الاستبتار من يصل إلى بلاد الإسلام.
وفيها أرسل صاحب تونس أبو حفص عمر، أسطولاً وعسكر إلى جزيرة جربة، وهي جزيرة في البحر الرومي، ومسيرتها من قابس يوم واحد، ولهذه الجزيرة مخاضة إلى البر، ودور هذه الجزيرة ستة وسبعون يوماً، وكانت بأيدي المسلمين، فتغلب عليها الفرنج وملكوها في سنة ثمانين وستمائة، فلما كانت هذه السنة، أرسل إليهم صاحب تونس عسكراً وقاتلهم، فاستنجد أهل هذه الجزيرة بفرنج صقلية، فلما وصل أسطول صقلية إليهم، عاد أسطول صاحب تونس إليه، ولم يتمكنوا من فتحها.
وفيها مات الأمير خضر ابن الملك الظاهر بيبرس، بباب القنطرة، وكان المذكور قد جهزه السلطان الملك الأشرف خليل ابن السلطان الملك المنصور قلاوون، إلى القسطنطينية، فبقي فيها. هو وأخوه وأهله مدة، وتوفي سلامش أخوه هناك، ثم عاد خضر المذكور إلى القاهرة وأقام عند باب القنطرة، وتوفي في هذه السنة.
ثم دخلت سنة تسع وسبعمائة.
ذكر تجريد العساكر إلى حلب وما ترتب

على ذلك
وفي هذه السنة وصل من مصر الأمير جمال الدين أقوش الموصل، المعروف بقتال السبع، وأصله من مماليك بدر الدين لؤلؤ، صاحب الموصل، وكذلك وصل لاجين الجاشنكير، المعروف بالزرتاج وصحبتهما تقدير ألفي فارس من عسكر مصر، وجردني الأمير سيف الدين قبجق نائب السلطنة بحماة، وجرد معي جماعة من عسكر حماة، فسرنا ودخلنا حلب يوم الخميس تاسع عشر ربيع الآخر من هذه السنة، الموافق للخامس والعشرين من أيلول، وكان نائب السلطنة بحلب قراسنقر المنصوري، ووصل أيضاً جماعة من عسكر دمشق، مع الحاج بهادور الظاهري، فأخذ قراسنقر في الباطن يستميل الناس إلى طاعة مولانا السلطان، ويقبح عندهم طاعة بيبرس الجاشنكير، الملقب بالملك المظفر.
ذكر مسير مولانا السلطان من الكرك
وعوده إليها

وفي هذه السنة سار جماعة من المماليك، على حمية من الديار المصرية، مفارقين طاعة بيبرس الجاشنكير، الملقب بالملك المظفر، ووصلوا إلى السلطان بالكرك، وأعلموه بما الناس عليه من طاعته ومحبته، فأعاد السلطان خطبته بالكرك، ووصلت إليه مكاتبات عسكر دمشق يستدعونه، وأنهم باقون في طاعته، وكذلك وصلت إليه من حلب المكاتبات، فسار السلطان بمن معه من الكرك في جمادى الآخرة من هذه السنة، ووصل إلى حمان، وهي قرية قريب من رأس الماء، فعمل جمال الدين أقوش عليه الحيلة، وأرسل إليه قرابغا مملوك قراسنقر برسالة، كذبها على قراسنقر، وكان قرابغا سار إلى الأفرم بمكاتبة تتعلق به بمفرده، فأرسله الأفرم إلى السلطان، فسار من دمشق ولاقى السلطان بحمان، فأنهى قرابغا المذكور ما حمله الأفرم من الكذب، مما يقتضي رجوع مولانا السلطان، فلما سمع مولانا السلطان قرابغا ظنه حقاً، ورجع إلى الكرك، واستمرت العساكر على طاعة مولانا السلطان واستدعائه ثانياً، وانحلت دولة بيبرس الجاشنكير، وجاهره الناس بالخلاف، ولما جرى ذلك، وبلغ العساكر المقيمين بحلب، ساروا من حلب من غير دستور، وسرت أنا بمن معي من عسكر حماة، ودخلت حماة يوم الثلاثاء التاسع عشر من رجب، والثالث والعشرين من كانون الأول.
ذكر مسير مولانا السلطان إلى دمشق

واستقرار ملكه بها
ولما تحقق مولانا السلطان الملك الناصر صدق طاعة العساكر الشامية، وبقائهم على طاعته ومحبته، عاود المسير إلى دمشق، وخرج من الكرك وخرجت عساكر دمشق إلى طاعته، وتلقوه، وأما أقوش الأفرم نائب السلطنة بدمشق، فإنه هرب، ووصل السلطان إلى دمشق في يوم الثلاثاء عاشر شعبان من هذه السنة، الموافق لعشرين من كانون الثاني، وهيئت له قلعة دمشق، فلم ينزل بها، ونزل بالقصر الأبلق، وأرسل الأفرم وطلب الأمان من السلطان، فأمنه، فقدم إلى طاعته إلى دمشق، وسار قبجق من حماة، وسار العسكر الحموي صحبته، وكذلك سار أسندمر بعسكر الساحل، ووصل قبجق وأسندمر ومن معهما من العساكر إلى خدمة السلطان بدمشق، في يوم الاثنين الرابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، وقدمت تقدمتي، ومن جملتها مملوكي طقزتمر، في يوم الأربعاء السادس والعشرين من شعبان المذكور، فحصل من مولانا السلطان القبول والصدقة، والمواعيد الصادقة، بالتصدق علي بحماة، على عادة أهلي وأقاربي، ثم وصل قراسنقر إلى دمشق بعسكر حلب يوم الجمعة الثامن والعشرين من شعبان، وكان وصل قبل ذلك سيف الدين بكتمر، المعروف بأمير جاندار، من صفد، ولما تكاملت للسلطان عساكر الشام، أمرهم بالتجهيز للمسير إلى ديار مصر.
ذكر مسير مولانا السلطان إلى ديار مصر
واستقراره في سلطنته
وفي هذه السنة، لما تكاملت العساكر الشامية عند السلطان بدمشق، أرسل إلى الكرك وأحضر ما كان بها من الحواصل، وأنفق في العسكر، وسار بهم من دمشق في يوم الثلاثاء تاسع رمضان من هذه السنة، الموافق لعاشر شباط، ولما بلغ بيبرس الجاشنكير ونائبه ذلك، جرداً عسكراً ضخماً مع برلغي وغيره من المقدمين، فساروا إلى الصالحية، وأقاموا بها، وكان برلغي من أكبر أصحاب الجاشنكير، وكأن الشاعر أراده بقوله:
فكان الذي استنصحت أول خائن ... وكان الذي استصفيت من أعظم العدى
وسارت العساكر في خدمة السلطان، وكان الفصل شتاءً والخوف شديداً من الأمطار وتوحل الأرض، وقدر الله تعالى لنا بالصحو والدفء، وعدم الأمطار، واستمر ذلك حتى وصلنا في خدمته إلى غزة، في يوم الجمعة تاسع عشر رمضان من هذه السنة، ولما وصل السلطان إلى غرة، قدم إلى طاعته عسكر مصر أولاً فأولاً، وكان ممن قدم أيضاً برلغي وغيره من المقدمين، ومعهم عدة كثيرة من العسكر، ثم تتابعت الأطلاب، وكان يلتقي مولانا السلطان في كل يوم وهو سائر طلب بعد طلب من الأمراء والمماليك والأجناد، ويقبلون الأرض ويسيرون صحبة الركاب الشريف

ولما تحقق بيبرس الجاشنكير ذلك، خلع نفسه من السلطنة، وأرسل مع ركن الدين بيبرس الدواداري، ومع بهادراص يطلب الأمان من مولانا السلطان، وأن يتصدق عليه ويعطيه إما الكرك أو حماة، أو صهيون، وأن يكون معه ثلاثمائة مملوك من مماليكه، فوقعت إجابة السلطان إلى مائة مملوك، وأن يعطيه صهيون، وأتم مولانا السير، وهرب الجاشنكير من قلعة الجبل إلى جهة الصعيد وخرج سلار إلى طاعة مولانا السلطان، والتقاه يوم الاثنين الثامن والعشرين من رمضان، قاطع بركة الحجاج، وقتل الأرض وضرب لمولانا السلطان الدهليز بالبركة في النهار المذكور، وأقام بها يوم الثلاثاء سلخ رمضان، وعيد يوم الأربعاء بالبركة، ورحل السلطان في نهاره والعساكر الشامية والمصرية سائرون في خدمته وعلى رأسه الجتر ووصل إلى قلعة الجبل وسار إليها واستقر على سرير ملكه بعد العصر من نهار الأربعاء، مستهل شوال من هذه السنة، أعني سنة تسع وسبعمائة، الموافق لرابع آذار من شهور الروم، وهي سلطنته الثالثة، وفي يوم الجمعة ثالث شوال، وهو اليوم الثالث من وصول مولانا السلطان، سار سلار من قلعة الجبل إلى الشوبك بحكم أن السلطان أنعم بها عليه، وقطع خبزه من الديار المصرية، وأعطى السلطان نيابة السلطنة بحلب سيف الدين قبجق، وارتجع منه حماة، وسار قبجق من مصر يوم الخميس تاسع شوال، ورسم لعسكر حماة بالمسير معه، وتصدق علي وطيب خاطري بأنه لا بد من إنجاز ما وعدني به من ملك حماة، وإنما أخر ذلك لما بين يديه من المهمات والأشغال المعوقة من ذلك، فسرنا مع قبجق من مصر متوجهين إلى الشام، في التاريخ المذكور ووصلنا إلى حماة يوم الخميس خامس عشر ذي القعدة من هذه السنة، ثم رسم السلطان للأمير جمال الدين أقوش الأفرم بصرخد، فسار إليها، وقرر نيابة السلطنة بالشام لشمس الدين قراسنقر، وقرر حماة للحاج بهادر الظاهري، ثم ارتجعها منه وقرره في نيابة السلطنة بالحصون والفتوحات، بعد عزل أسندمر عنها، وكان قد حصلت بيني وبين أسندمر عداوة مستحكمة، بسبب ميله إلى أخيه، فقصد أن يعدل بحماة عني إليه، فلم يوافقه السلطان إلى ذلك، فلما رأى أن السلطان يتصدق بحماة علي، طلبها أسندمر لنفسه، فما أمكن السلطان منعه منها، فرسم السلطان بحماة لأسندمر، وتأخر حضوره لأمور اقتضت ذلك، وقرر السلطان الأمير سيف الدين بكتمر الجوكاندار في نيابة السلطنة بديار مصر.
ذكر القبض على بيبرس الجاشنكير

الملقب بالملك المظفر
كان المذكور قد هرب من قلعة الجبل، عند وصول مولانا السلطان إلى الصالحية، وأخذ منها جملاً كثيرة من الأموال والخيول، وتوجه إلى جهة الصعيد، فلما استقر مولانا السلطان بقلعة الجبل، أرسل إليه وارتجع منه ما أخذه من الخزائن بغير حق، ثم إن بيبرس المذكور قصد المسير إلى صهيون، حسبما كان قد سأله، فبرز من أطفيح إلى السويس، وسار إلى الصالحية، ثم سار منها حتى وصل إلى موضع بأطراف بلاد غزة يسمى العنصر، قريب الداروم، وكان قراسنقر متوجهاً إلى دمشق نائباً بها، على ما استقر عليه الحال، فوصل إليه المرسوم بالقبض على بيبرس الجاشنكير، فركب قراسنقر وكبسه بالمكان المذكور، وقبض عليه به وسار به إلى جهة مصر، حتى وصل إلى الخطارة، فوصل من الأبواب الشريفة السلطانية أسندمر الكرجي، وتسلم بيبرس الجاشنكير من قراسنمر، وأمر قراسنقر بالعود، فعاد إلى الشام، فوصل أسندمر بيبرس الجاشنكير، فحال وصوله إلى قلعة الجبل، اعتقل، يوم الخميس رابع عشر ذي القعدة من هذه السنة، فكان آخر العهد به، وكانت مدة سلطنة بيبرس المذكور الملقب بالملك المظفر أحد عشر شهراً:
تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل
وفيها غلب ببان بن قبجي على مملكة أخيه، فاستنجد وطرده عنها، واتفق موت كبلك عقيب ذلك، وخلف ولداً اسمه قشتمر بن كبلك، فاستنجد قشتمر وطرد عمه ببان، واستقر في ملك أبيه كبلك، وقيل إن الذي طرده ببان هو أخو منغطاي بن قبجي.
وفيها وردت الأخبار بأن الفرنج قصدت ملك غرناطة بالأندلس، وهو نصر ابن محمد بن الأحمر، فاستنجد بسليمان المريني صاحب مراكش، واتقع ابن الأحمر مع الفرنج.
وفيها تزوج خربندا ملك التتر ببنت صاحب ماردين، الملك المنصور غازي ابن قرا أرسلان، وحملت إليه إلى الأردو.

وفيها في يوم الأربعاء خامس ذي الحجة، حضر مهنا بن عيسى إلى حماة، وطلب توفيق الحال بيني وبين أخي، بسبب حماة، فلم يتفق حال.
وفيها في ثامن عشر ذي الحجة، حضر بدر الدين تتليك السديدي إلى حماة، وحكم فيها نيابة عن أسندمر، وحضر صحبته من السلطان أسندمر، وبقي الانتظار حاصلاً لقدوم أسندمر إلى حماة.
وفيها في يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي الحجة خرجت من حماة مظهراً أني متوجه إلى دمشق، لملتقى أسندمر، فأرسلت في الباطن أسأل من صدقات مولانا السلطان، أن يمكني من المقام بدمشق، ومفارقة حماة، فإنه قد كان استحكم في خاطر أسندمر من عداوتي، فخشيت من المقام بحماة تحت حكم المذكور، فتركتها وسرت إلى دمشق، ودخلتها في يوم الجمعة الثامن والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، ووصل أسنبغا مملوكي من الأبواب الشريفة يوم الأربعاء رابع المحرم، من سنه عشر وسبعمائة، بمقامي بدمشق، وتصدق علي السلطان بخلعة كرودوحش، وكلوته رزنش، ورسم لي بغلة من حواصل دمشق، وأن أقيم بدمشق، ويكون خبزي بحماة مستقراً علي، وكذلك أجنادي، وأمرني فاستقريت بدمشق ونزحت عن حماة.
ثم دخلت سنة عشر وسبعمائة.
ذكر وصول أسندمر إلى دمشقمتوجهاً إلى حماة
في هذه السنة في يوم الثلاثاء العاشر من المحرم، وصل أسندمر من الأبواب الشريفة متوجهاً إلى حماة، نائباً بها، وكنت حينئذ مقيماً بدمشق، كما ذكرنا، فخرجت إلى الكسوة والتقيته، ووجدت عنده لمقامي بدمشق وخروجي عن حكمه أمراً عظيماً، وأخذ يخدعني ويستميلني، ويطيب خاطري ويسألني المسير معه إلى حماة، فلم أجبه إلى ذلك، فدخل إلى قراسنقر وسأله في إرسالي صحبته طوعاً أو كرهاً، فأجابه أن السلطان رسم بمقامه بدمشق، فلا يمكن خلاف ذلك، فأقام أسندمر بدمشق أياماً قلائل، وتوجه إلى حماة ودخلها في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من المحرم من هذه السنة.
ذكر القبض على سلاركان سلار بالشوبك، وقد عزم على الهروب منها، فأرسل السلطان إليه واستدعاه بعد أن عرض عليه المسير إلى حماة، ويكون نائباً بها، ورسم لأسندمر فسار من حماة إلى دمشق، وأخلى حماة لأجل سلار، وترددت المراسلات إليه، فحضر سلار إلى الأبواب الشريفة بديار مصر، في سلخ ربيع الآخر من هذه السنة، وقبض على سلار المذكور، فكان آخر العهد به، واحتيط على غالب موجوده لبيت المال، وكان شيئاً كثيراً.
ذكر استقراري بحماة وعودها إلى البيت التقوي

وما يتعلق بذلك:

وفي هذه السنة، توفي الحاج بهادر النائب بالسواحل الشامية، في يوم الثلاثاء لعشرين من ربيع الآخر، ووصل مهنا بن عيسى إلى دمشق، وتوجه منها إلى مصر في يوم السبت، ومستهل جمادى الأولى، وكان السلطان حريصاً إلى إنجاز ما وعده بأن يقيمني بحماة، وتأخر ذلك بسبب مداراته لأسندمر وغيره، فلما اتفق موت الحاج بهادر، ووصول مهنا بن عيسى إلى الأبواب الشريفة، أعطى مولانا السلطان نيابة السلطنة بالسواحل والفتوحات لأسندمر، وتصدق علي بحماة والمعرة وبارين، وأرسل تقليد أسندمر بالسواحل مع منكوتمر الطباخي، فوصل إلى دمشق في يوم الأحد الثالث والعشرين من جمادى الأولى، وسار إلى حماة، فلم يجب أسندمر إلى المسير إلى الساحل، وامتنع من قبول التقليد والخلعة، ورد التقليد صحبة منكوتمر المذكور، فعاد به إلى دمشق، واتفق عند ذلك موت سيف الدين قبجق نائب السلطنة بحلب، في يوم السبت سلخ جمادى الأولى، فلما وصل خبر موته إلى الأبواب الشريفة، أنعم السلطان بنيابة السلطنة بحلب على أسندمر موضع سيف الدين قبجق، وأنعم على جمال الدين أقوش الأفرم بنيابة السلطنة بالفتوحات، ونقله من صرخد إليها، واستقرت حماة للعبد الفقير إلى الله تعالى إسماعيل بن علي، مؤلف هذا الكتاب، ووصل إلي بدمشق التقليد الشريف بحماة، صحبة الأمير سيف الدين، جلس الناصري السلمدار، وأعطيت حماة في هذه المرة على قاعدة النواب، وكان تاريخ التقليد في ثامن عشر جمادى الأولى سنة عشر وسبعمائة، حسب المرسوم الشريف، وخرجت من دمشق متوجهاً إلى حماة، وصحبتي الأمير سيف الدين قجلس، المذكور، في يوم الأربعاء الثامن عشر من جمادى الآخرة، وأسندمر مقيم بحماة، وهو في أشد ما يكون من الغضب، بسبب فراق حماة، وكوني قد شملتني الصدقات الشريفة السلطانية، حتى أنه عزم أن يقاتلني ويدفعني عنها، وكان قد طلع جميع العسكر الحموي إلى لقائي، والتقوني قاطع حمص، ووصل إلى أسندمر مملوكه سنقر من الأبواب الشريفة، وخوفه من عاقبة فعله، فتوجه أسندمر من حماة ضحى يوم الاثنين المذكور، ودخلت إلى حماة عقيب خروجه منها في النهار المذكور، وكان استقراري في دار ابن عمي الملك المظفر بحماة، بعد الظهر من نهار الاثنين، الثالث والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، أعني سنة عشر وسبعمائة، الموافق السادس عشر كانون الثاني، وكان خروج حماة عن البيت التقوي الأيوبي عند موت السلطان الملك المظفر صاحب حماة، في يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي القعدة، من سنة ثمان وتسعين وستمائة، وعودها في تاريخ التقليد، وهو ثامن عشر جمادى الأولى، سنة عشر وسبعمائة، فيكون مدة خروجها من البيت التقوى إلى أن عادت إليه، إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوماً.

ولنذكر جملة من أخبار حماة، وقد ذكرت في أخبار داود وسليمان، في الكتب الأربعة والعشرين التي مع اليهود، ثم صارت بلدة صغيرة حتى صارت من الأعمال، ثم إن اسطيتينوس ملك الروم بنى أسوار حماة، في أول سنة من ملكه، وفرغ منها في سنتين، وبقيت مع الروم حتى فتحها أبو عبيدة بن الجراح بالأمان، بعد فتوح حمص، وبقيت مضافة إلى حمص، وتواردت عمال الخلفاء الراشدين على حمص، حتى ملكت بنو أمية، وأقاموا بدمشق، فتواردت عمالهم عليها ثم لما صارت الدولة لبني العباس، تواردت عمالهم على حمص أيضاً، وعلى حماة وغيرها، ثم استولت القرامطة على حماة، وقتلوا فيها مقتلة كبيرة من أهلها، ثم صارت لصالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب، ثم صارت للأمير سهم الدولة خليفة بن جيهان الكردي، ثم صارت لشجاع الدولة جعفر بن كلند والي حمص، وفي سنة سبع وسبعين وأربعمائة، تقدم خلف بن ملاعب صاحب حمص قلعة حماة، ثم أقطع السلطان ملكشاه حماة لأقسنقر، مضافة إلى حلب، وبقيت له إلى أن قتله تنش، ثم صارت حماة لمحمود بن علي بن قراجا، وكان ظالماً، ثم صارت حماة لطغتكين صاحب دمشق، ثم صارت للبرسقي، ثم لولده عز الدين مسعود بن أقسنقرالبرسقي، ثم صارت لبهاء الدين سونج بن بوري بن طغتكين، ثم صارت لعماد الدين زنكي بن أقسنقر، ثم ارتجعها منه شمس الملوك إسماعيل بن بوري بن طغتكين، ثم استولى عليها عماد الدين زنكي، ثم صارت حماة لنور الدين محمود بن زنكي، ثم صارت لولده الملك الصالح إسماعيل بن محمود، ثم صارت لصلاح الدين يوسف بن أيوب، ثم أعطاها لخاله شهاب الدين محمود الحارمي بن تكش، ثم صارت للملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ثم صارت لولده الملك المنصور محمد بن عمر، ثم صارت لولده الملك الناصر قليج أرسلان بن محمد، ثم صارت لأخيه الملك المظفر محمود بن محمد، ثم صارت لولده الملك المنصور محمد بن محمود، ثم صارت لولده الملك المظفر محمود، ثم خرجت عنهم فتولى فيها قراسنقر زين الدين كتبغا، ثم سيف الدين قبجق، ثم سيف الدين أسندمر، ثم صارت لمؤلف هذا الكتاب، إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب.
ولنرجع إلى بقية حوادث هذه السنة، أعني سنة عشر وسبعمائة. ولما قاربت حماة ونزلت الرستن، ألبسني الأمير سيف الدين قجليس التشريف السلطاني، وهو أطلس أحمر بطراز زركش فوقاني، وتحته أطلس أصفر، وكلوته زركش وشاش رقم، ومنطقة ذهب مصري، وسيف محلى بذهب مصري، وأركبني حصاناً برقياً بسرجه ولجامه، ودخلت حماة بذلك، وقرئ التقليد الشريف بحضور الناس، وأعطيت الأمير سيف الدين المذكور أربعين ألف درهم، وأوصلته بالخلع والخيول، وتوجه من حماة في يوم الأحد التاسع والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، واتفق لي شيء عجيب، وهو أن مولدي بدمشق في جمادى، ووصلني تقليد حماة بدمشق في جمادى، وأقمت بحماة، وحصلت التقدمة على جاري عادة أهلي، وأرسلت سألت من صدقات السلطان دستوراً بالتوجه إلى الأبواب الشريفة، فرسم لي بذلك، فخرجت من حماة في مستهل شوال من شهور هذه السنة، ودخلت مصر وحضرت بين يدي المواقف الشريفة يوم الثلاثاء مستهل ذي القعدة من هذه السنة، وقدمت التقدمة في غد ذلك اليوم، فشملتني الصدقات بقول ذلك، ثم أفاض علي وعلى جميع من كان في صحبتي الخلع، وتصدق علي بالمركوب والنفقة، وأعادني إلى بلدي بحبور الحبور، فوصلت إلى حماة في يوم الثلاثاء السابع ذي الحجة من هذه السنة، الموافق للسابع والعشرين من نيسان.
ذكر ملوك الغربتوفي أبو الربيع سليمان بن عبد الله بن أبي يعقوب يوسف، في منتصف هذه السنة، وجلس في الملك بعده عم أبيه، أبو سعيد عثمان بن أبي يوسف، يعقوب ابن عبد الحق، في شهر رجب من هذه السنة، واستقرت قدمه في الملك.
ذكر القبض على أسندمر نائب السلطنة بحلب

كان السلطان قد جرد عسكراً مع كراي المنصوري، وشمس الدين سنقر الكمالي، فساروا وأقاموا بحمص، ولما وصلت إلى حماة عائداً من الأبواب الشريفة ركبوا من حمص وساقوا ليكبسوا أسندمر بحلب، ويبغتوه بها، فإنه كان مستشعراً لما كان قد فعله من الجرائم، وأرسل كراي المذكور إلي يعلمني بمسيرهم، وأن أسير بالعسكر الحموي واجتمع بهم، لهذا المهم، فخرجت من حماة يوم الخميس، تاسع ذي الحجة من هذه السنة، وهو ثالث يوم من وصولي من الأبواب الشريفة، ونزلت بالعبادي، وسقنا نهار الجمعة وبعض الليل، ووصلنا إلى حلب بعد مضي ثلثي الليلة المسفرة عن نهار السبت، حادي عشر ذي الحجة، واحتطنا بدار النيابة التي فيها أسندمر، تحت قلعة حلب، وأمسكناه بكرة السبت، واعتقل بقلعة حلب، وجهز إلى مصر مقيداً في يوم الأحد ثاني عشر ذي الحجة من هذه السنة، ووصل إلى مصر فاعتقل بها، ثم نقل إلى الكرك، وكان آخر العهد به، واحتيط على موجوده من الخيل والقماش والسلاح، وكان شيئاً كثيراً، وحمل جميع ذلك إلى بيت المال، واستمر كراي والكمالي ومن معهما من العساكر، والعبد الفقير إسماعيل بن علي، مقيمين بحلب حتى خرجت هذه السنة.
وفيها توفي نجم الدين أحمد بن رفعة بديار مصر، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية، وشرح التنبيه في نحو عشرين مجلد، ونقل عليه شرح الوجيز الذي للرافعي.
وفيها في يوم الأحد سابع عشر رمضان، توفي بتبريز القاضي قطب الدين محمود بن مسعود، وكان مولده بمدينة شيزر، في صفر سنة، أربع وثلاثين وستمائة، فيكون مدة عمره ستاً وسبعين سنة وسبعة أشهر، وكان إماماً مبرزاً في عدة علوم مثل العلم الرياضي والمنطق، وفنون الحكمة، والطب، والأصوليين. وله عدة مصنفات منها: نهاية الإدراك في الهيئة، وتحفة السامي في الهيئة أيضاً، وشرح مختصر ابن الحاجب في الفقه، ومصنفاته وفضائله مشهورة.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وسبعمائة.
ذكر وفاة طقطغا وملك أزبكفي هذه السنة ظناً، أعني سنة عشر، أو سنة إحدى عشرة وسبعمائة، توفي طقطغا بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان، ملك التتر بالبلاد الشمالية، التي كرسي ملكها صراي، وقد تقدم ذكر ملكه في سنة تسعين وستمائة، ولما مات طقطغا المذكور ملك بعده أزبك بن طغريشاه بن منكوتمر بن طغان بن ياطوخان بن دوشي خان بن جنكزخان، واستقر أزبك المذكور ملكاً بتلك الجهات.
ذكر نفل قراسنقر من نيابة السلطنة بدمشق إلى حلب

وولاية كريه المنصوري دمشق وإعطاء العساكر الذين بحلب الدستور:
في هذه السنة، لما قبض على أسندمر، سأل قراسنقر نائب السلطنة بدمشق، من مولانا السلطان أن ينقله إلى نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية، لأنه كان قد طال مقامه بها، وألف سكنى حلب، فرسم له بذلك، وحضر تقليده بولاية حلب مع الأمير سيف الدين أرغون الدوادار الناصري، وسار في صحبته من دمشق متوجهاً إلى حلب، وحصل عند قراسنقر استشعار من العسكر المقيمين بحلب، لئلا يقبضوا عليه، وبقي المقر السيفي أرغون الدوادار الناصري المذكور، يطيب خاطر قراسنقر ويحلف له على عدم توهمه، ويسكنه ويثبت جأشه، حتى وصل إلى حلب، وركبت العساكر المقيمون بحلب لملتقاه، فالتقيناه، ودخل حلب في يوم الاثنين ثامن عشر المحرم من هذه السنة، واستقر في نيابة السلطنة بحلب، وأعطي المقر السيفي أرغون الناصري عطاء جزيلاً، وسفّره، وسار المقر السيفي أرغون المذكور من حلب، يوم الأربعاء، لعشرين من المحرم، وتوجه إلى الديار المصرية.
فأقمنا بعد ذلك مدة، ثم ورد الدستور إلى العساكر المقيمة بحلب، فسرنا منها في يوم الجمعة الحادي والعشرين من صفر، عائدين إلى أوطاننا، ودخلت حماة في يوم الاثنين الرابع والعشرين من صفر، من هذه السنة، الموافق الثاني عشر تموز، وأتمت العساكر المصرية والدمشقية المسير إلى بلادهم، ولما انتقل قراسنقر من دمشق إلى حلب، أنعم السلطان بنيابة السلطنة بالشام، على سيف الدين كريه المنصوري، ووصل إليه التقليد بذلك، فاستقر فيها. ثم بعد مدة قبض على كريه المنصوري، ورتب في نيابة السلطنة بالشام، أقرش الذي كان نائباً بالكرك.
ذكر مسير قراسنقر إلى الحجاز
وعوده من أثناء الطريق وهربه

وفيها سأل قراسنقر دستوراً إلى الحجاز الشريف، لقضاء حجة الفرض، فرسم له السلطان بذلك، فعمل شغله وسار من حلب في أوائل شوال، من هذه السنة، ولم يسر على الطريق، وسار على طرف البلاد من شرقيها، حتى وصل إلى بركة زيزا، فحصل عنده النخيل والخوف من الركب المصري، لئلا يقبضوا عليه في الحجاز، فعاد من بركة زيزا على البرية، وسار على البر إلى أركة والسخنة ثم إلى بر حلب واجتمع مع مهنا بن عيسى أمير العرب، واتفقا على المشاققة والعصيان، وقصد قراسنقر حلب ليستولي عليها، فاجتمع العسكر والأمراء الذين بها ومنعوه من الدخول إليها، ووصل من صدقات السلطان إلى قراسنقر، ومهنا ما يطيب خاطرهما، فلم يرجعا عن ضلالهما، وأصرا على ذلك، فجرد السلطان عسكراً مع المقر السيفي أرغون الدوادار الكردي، ومع الأمير حسام الدين قرالاجين، بسبب قراسنقر المذكور، بحيث إن رجع عن الشقاق والنفاق يقرر أمره في مكان يختاره، وإن لم يرجع عن ذلك يقصده العسكر حيث كان، ووصل العسكر المذكور إلى حماة في يوم السبت، سادس ذي الحجة من هذه السنة، الموافق لنصف نيسان.
وسرت بصحبتهم في عسكر حماة، وتوجهنا إلى البرية ونزلنا بالحمام، بالقرب من الزرقاء في يوم الخميس الحادي عشر من ذي الحجة من هذه السنة، فاندفع قراسنقر إلى الفرات وأقام هناك، وافترقت مماليكه، فبعضهم سار إلى التتر، وبعضهم قدم إلى الطاعة، ثم توجه قراسنقر إلى جهة مهنا، فعادت العساكر من الخام إلى حلب، وكان دخولنا إلى حلب في يوم الأحد رابع عشر ذي الحجة من هذه السنة. ثم كان ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وفي جمادى الاولى من هذه السنة، قبض على سيف الدين بكتو الجوكندار، نائب السلطنة، وأقام مولانا السلطان مقامه في نيابة السلطنة، الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري.

وفيها حضرت رسل سيس بالأرزاق المقدرة عليهم في كل سنة، وأحضروا لنواب الشام التقادم على جاري العادة، وأحضروا لي بغلاً وقماشاً، وخرجت هذه السنة والحكام فيها على ما أصفه مولانا السلطان الأعظم، الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي، سلطان الإسلام بمصر والشام، وما هو مضاف إليهما، والحجاز، ونائب السلطنة ركن الدين بيبرس الدوادار، صاحب التاريخ المسمى بزبدة الفكرة في تاريخ الهجرة، والنائب بالشام جمال الدين أقوش، الذي كان نائباً بالكرك، وقراسنقر قد أظهر الشقاق وانضم إلى مهنا بن عيسى أمير العرب، وهو متردد في البراري على شاطئ الفرات، والحكم بحلب إلى المشدين والنظار، وليس بها نائب، وقطلوبك بصفد. فإن النائب بصفد كان بكتمر الجوكندار، انتقل إلى مصر على ما تقدم ذكره، فولى السلطان صفد سيف الدين قطلوبك، وإسماعيل مؤلف هذا الكتاب بحماة، وما هو مضاف إليها، وهو المعرة، وبارين، وباقي الأطراف، مثل: البيرة، والرحبة، وغزة، وحمص، وقلعة الروم، وغيرها من مواطن النيابة، جميعها فيها مماليك السلطان، أو مماليك والده، أو مماليك مماليك والده، وجميعهم مرتبون من الأبواب الشريفة، على ما تقتضيه آراؤه العالية، وأما الأطراف البعيدة، فصاحب ماردين الملك المنصور نجم الدين غازي ابن الملك المظفر قرا أرسلان ابن الملك السعيد نجم الدين غازي ابن الملك المنصور ناصر الدين أرتق بن قطب الدين أيلغازي بن إلبي بن حسام الدين تمر تاش بن نجم الدين أيلغازي بن أرتق. وقد تقدم أخبار ملوك ماردين مساقة إلى سنة ثمانين وخمسمائة، ثم ذكرنا أخبارهم في سنة سبع وثلاثين وستمائة، وصاحب اليمن الملك المؤيد شرف الدين داود بن يوسف بن عمر بن علي بن رسول، وملك التتر بالعراقين وكرمان وخراسان وديار بكر والروم وأذربيجان وغيرها، خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ابن طلو بن جنكزخان، وسار قبجي ملك تركستان بما وراء النهر، وصاحب التخت بالصين، القائم مقام جنكزخان سرقين بن منغلاي بن قبلاي بن طلو بن جنكزخان، وملك التتر ببلاد الشمال، التي كرسي ملكها صراي، أزبك بن طغريشاه بن منكوتمر ابن طغان، وملك التتر بغزنة، وباميان، منطغاي بن قبجي بن أردنو بن دوشي خان بن جنكزخان، وملك المغرب أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المربني، وملك غرناطة بالأندلس، أبو الجيوش نصر بن محمد بن الأحمر، وصاحب تونس، أبو البقاء خالد بن زكريا بن يحيى بن أبي حفص. والأشكري ملك قسطنطينية، أندر ونيقوس، وملك سيس، أوشين بن ليفون بن هيتوم.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وسبعمائة:
ذكر هروب الأفرم

واجتماعه بقراسنقر، ثم مسيرهما إلى خربندا:

وفي هذه السنة، قصد أقوش الأفرم، نائب السلطنة بالفتوحات، أن يحدث خلافاً، وأن يجمع الناس عليه، فهرب إليه حموه أيدمر الزردكاش من دمشق، وانضم إليه من لايق به، وسار من دمشق واجتمع بالأفرم بالساحل، وقصدوا من عسكر الساحل ومن غيرهم الموافقة لهم على ضلالهم، فلم يوافقهم أحد، فلما رأى الأفرم ذلك، هرب من الساحل، وخرج على حمية، وعبر على الغولة، بين دمشق وحمص. وسار في البرية واجتمع بقراسنقر في شهر المحرم من هذه السنة، وكان بعض العساكر مع الأمير سيف الدين أركتمر على حمص، فساق خلف الأفرم فلم يلحقه، وكان على حلب العسكر المقدم ذكره في السنة الماضية، صحبة الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، فلما بلغنا هروب الأفرم واجتماعه بقراسنقر، وهم قريب سلمية، وقع آراء الأمراء على الرحيل من حلب والمسير إلى جهة حمص وسلمية، فرحل الأمير سيف الدين أرغون الكردي، والأمير حسام الدين قرا لاجين، ومؤلف هذا المختصر بعسكر حماة من حلب، وسرنا ووصلنا إلى حماة في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، ووصلت باقي العساكر، وسرنا من حماة في يوم الثلاثاء خامس عشر المحرم الموافق للثامن والعشرين من أيار، ونزلنا بظاهر سلمية، وقصد قرابشقر والأفرم كبس العسكر بالليل لظنهما أن فيهم مخامرين، وأنهم يوافقونهم على ذلك، فلم يوافقهم أحد على ذلك، فرجعوا عن ذلك، وسار قراسنقر والأفرم ومن معهما إلى جهة الرحبة فاتفق آراء الأمراء على تجريد عسكر في إثرهم، فجردوا العبد الفقير إسماعيل بن علم بعسكر حماة، وكذلك جردوا من المصريين الأمير سيف الدين قلي، بمقدمته وغيره من المقدمين المصريين، والمقدمين الدماشقة، فسرنا من سلمية في يوم الخميس سابع عشر المحرم من هذه السنة، إلى القسطل، ثم إلى قديم، ثم إلى عرض، ثم إلى قباقب، ثم إلى الرحبة، ووصلنا إليها في يوم الأحد الثامن والعشرين من المحرم، فلما وصلنا إلى الرحبة، اندفع قراسنقر ومن معه إلى جهة رومان، قريب عانة، والحديثة، فما أمكنا المضي خلفه إلى تلك البلاد بغير مرسوم، فأقمنا بالرحبة، ثم رحلنا منها عائدين في مستهل صفر الموافق لثامن حزيران من هذه السنة، وسرنا إلى المقر السيفي أرغون الدوادار، وكان قد سار من سلمية إلى حمص، فوصلنا إلى حمص في يوم الخميس ثامن صفر من هذه السنة، ثم إن المقر السيفي رأى أن حماة قريبة، وليس بمقامي بعسكر حماة على حمص فائدة، فاقتضى رأيه سيري إلى حماة، فسرت إلى حماة ودخلتها يوم الاثنين، ثاني عشر صفر واستمر العسكر مقيمين بحمص، ثم إن قراسنقر والأفرم طال عليهما الحال، وكثر ترداد الرسل إليهما في إطابة خواطرهما، وهما لا يزدادان إلا عتواً ونفوراً، حتى سارا إلى التتر واتصلا بخربندا في ربيع الأول من هذه السنة، وكذلك أيدمر الزردكاش، ومن انضم إليهم.
ذكر وصول الدستور إلى العسكرولما اتصل بالعلوم الشريفة السلطانية ما اتفق من الأمر، تقدم مرسومه إلى العساكر بالمسير إلى أماكنهم، فسار من حمص في يوم الاثنين السادس والعشرين من صفر من هذه السنة، الموافق لثالث تموز، وعادوا إلى أوطانهم.
ذكر وفاة صاحب ماردينفي هذه السنة يوم الأحد، ثامن ربيع الآخر، توفي صاحب ماردين، ومن عقيب مسيرة قراسنقر من عنده إلى الأردو، وهو الملك المنصور نجم الدين غازي ابن الملك المظفر قرا أرسلان ابن السعيد نجم الدين غازي بن المنصور بن أرتق أرسلان بن قطب الدين أيلغازي بن إلبي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق، صاحب ماردين، وملك ماردين بعده ابنه الألبي، الملك العادل عماد الدين علي بن غازي، نحو ثلاثة عشر يوماً، ثم ملك أخوه شمس الدين صالح، وتلقب بالملك الصالح ابن غازي المذكور.
ذكر وصول النائب إلى حلبوفيها قرر السلطان، سيف الدين سودي الجمدار الأشرفي، ثم الكردي، في نيابة السلطنة بحلب المحروسة، موضع قراسنقر، فوصل سودي المذكور إلى حلب في ثامن أو تاسع ربيع الأول من هذه السنة، واستقر في نيابة السلطنة بحلب.
ذكر مسيري إلى مصر

وفي هذه السنة توجهت إلى الأبواب الشريفة، وخرجت من حماة يوم الاثنين، ثامن عشر ربيع الأول من هذه السنة، الموافق للرابع والعشرين من تموز، وسقت من أثناء الطريق على البريد، ووصلت إلى قلعة الجبل، وحضرت بين يدي المواقف الشريفة السلطانية، في يوم الاثنين العاشر من ربيع الآخر، الموافق للرابع عشر من آب، ثم وصلت صبياني، وقدمت التقدمة في يوم الجمعة خامس عشر ربيع الآخر، وكان قبل وصولي، قد قبض على بيبرس الدوادار نائب السلطنة، وعلى جماعة من الأمراء، مثل الكمالي، فحال حضوري بين يديه، أفاض علي التشريف السلطاني الأطلس المزركش، على عوائد صدقاته، وأمر بنزولي في الكبش، فأقمت به، فاتفق بعد أيام يسيرة، أن النيل وفي ونشر الخلع، في يوم الأحد، الثالث والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة، الموافق للسابع والعشرين من آب، من شهور الروم، ورابع أيام النسيء بعد مسيري من شهور القبط، واتفق في أيام حضوري بين أيدي المواقف الشريفة، إقامة المقر السيفي أرغون الدوادار في نيابة السلطنة، وقلده وأعطاه السيف، وألبسه الخلعة، ولما لم يبق لي شغل، تصدق السلطان وأفاض علي وعلى أصحابي الخلع، وشرفني بمركوب بسرجه ولجامه، ثم تصدق علي بثلاثين ألف درهم، وخمسين قطعة من القماش، ورسم أن يكتب لي التقليد بمملكة حماة، والمعرة، وبارين، تمليكاً ولولا خوف التطويل، لأوردنا التقليد عن آخره. لكنا نذكر منه فصولاً يحصل بها الغرض، طلباً للاختصار.
فمنه: بعد البسملة، الحمد لله الذي عضد الملك الشريف بعماده، وأورث الجد السعيد سعادة أجداده، وبلغ ولينا من تباهى ببابه، ملوك بني الأيام غاية مراده، ومنه: فأصبح جامع شملها، ورافع لواء فضلها، وناشر جناح عدلها.
ومنه: يحمد على أنه صان بنا الملك وحماه، وكف بكف بأسنا المتطاول على استباحة حماه.
ومنه: ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. أما بعد: فإن أولى من عقد له لواء الولاء، وتشرفت باسمه أسرة الملوك وذوي المنابر، وتصرفت أحكامه في ما يشاء من نواه وأوامر، وتجلى في سماء السلطنة شمسه، فقام في دستها مقام من سلف، وأخلف في أيامنا الزاهرة درج من أسلافه، إذ هو ببقائنا إن شاء الله خير خلف، من ورث السلطنة لا عن كلالة، واستحقهما بالأصالة والإثالة والجلالة، وأشرقت الأيام بغرة وجهه المنير، وتشرفت به صدور المحافل، وتشوق إليه بطن السرير، ومن أصبح لسماء المملكة الحموية، وهو زين أملاكها، ومطلع أفلاكها، وهو المقام العالي العمادي ابن الملك الأفضل، نور الدين علي، ابن السلطان الملك المظفر، تقي الدين ولد السلطان الملك المنصور، ولد السلطان الملك المظفر تقي الدين أعطاها شاهنشاه بن أيوب وهو الذي ما برحت عيوق مملكته إليه متشوفة، ولسان الحال يتلو ضمن الغيب، قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، إلى أن أظهر الله ما في غيبه المكنون، وأنجز له في أيامنا الوعود، وصدق الظنون، وشيد الله منه الملك بأرفع عماد، ووصل ملكه بملك أسلافه، وسيبقى في عقبه إن شاء الله إلى يوم التناد، فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري الباهري، لا زالت المماليك مغمورة من عطائه، والملوك تسري من ظل كنفه، تحت مسبول غطائه، أن يستقر في يد المقام العالي العمادي المشار إليه، جميع المملكة الحموية، وبلادها، وأعمالها، وما هو منسوب إليها، ومباشرها التي يعرضها قلمه وقسمه، ومنابرها التي يذكر فيها اسم الله تعالى واسمه، وكثيرها وقليلها، وحقيرها وجليلها، على عادة الشهيد الملك المظفر تقي الدين محمود، إلى حين وفاته.
ومنه: وقلدناه ذلك تقليداً، يضمن للنعمة تخليداً، وللسعادة تجديداً.
ومنه: في آخره والله تعالى يؤهل بالنصر مغناه، ويجمل ببقائه صورة دهر هو معناه، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه. وكتب في الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، حسب المرسوم الشريف، والحمد لله وحده، وصلواته على محمد وآله وصحبه وسلم.

ثم رسم لي بالعود إلى بلدي، فخرجت من القاهرة يوم الثلاثاء الثاني من جمادى الأولى من هذه السنة، وسرت إلى دمشق، وكان قد وصل إليها الأمير سيف الدين تنكز الناصري نائباً، واستقر في نيابة السلطنة بها، بعد جمال الدين أقوش الذي كان نائباً بالكرك، وأحسن الأمير المذكور إلي وتلقاني بالإكرام، ووصلت إلى حماة، واجتمع الناس، وقرئ التقليد الشريف عليهم، في يوم الاثنين، الثاني والعشرين من جمادى الأولى، الموافق للخامس والعشرين من أيلول.
ولما وصلت إلى حماة، كان قد سافر الأمراء الغرباء إلى حلب، فإني لما كنت بالأبواب الشريفة، استخبرني مولانا السلطان عن أحوالي وما أشكو منه فلم أفصح له بشيء، فاطلع بعلمه الشريف، وحدة ذهنه، وقوة فراسته، على تقلقي من الأمراء المماليك السلطانية المقيمين بحماة، فإنهم استجدوا بحماة لما خرجت من البيت التقوي الأيوبي، فاطلع السلطان على تعبي معهم وأنهم ربما لا يكونون وفق غرضي، فاقتضى مرسومه الشريف نقلهم إلى حلب، واستمرار إقطاعاتهم التي كانت لهم بحماة عليهم، إلى أن يتجلى ما يعوضهم به، فتقدم مرسومه إليهم بذلك، ووصل إليهم المرسوم على البريد بتوجههم إلى حلب، قبل وصولي إلى حماة بأيام يسيرة، فحال وصول المرسوم خرجوا من حماة عن آخرهم، ولم يبيتوا بها، وانتقلوا بأهلهم وجندهم، وكانوا نحو أربعة عشر أميراً، بعضهم بطبلخاناه، وبعضم أمراء عشرات، ووصلت إلى حماة ولم يبق غير من اخترت مقامه عندي، وكان هذا من أعظم النفقة والصدقة.
ذكر تجريد العسكر إلى حلب

ووصول العدو ومنازلة الرحبة
وفي هذه السنة، في يوم السبت سابع عشر رجب، خرجت من حماة بعساكر حماة، ودخلت حلب في يوم السبت الآخر، الرابع والعشرين من رجب المذكور، وأقمت بها، وكان النائب بها الأمير سيف الدين سودي، ثم وصل بعض عسكر دمشق مع سيف الدين بهادراص، وقويت أخبار التتر، وجفل أهل حلب وبلادها، ثم وصلت التتر إلى بلاد سيس، وكذلك وصلوا إلى الفرات، فعندها رحل الأمير سيف الدين سودي وجميع العساكر المجردة من حلب، في يوم الخميس ثامن رمضان، في هذه السنة، ووصلنا إلى حماة في يوم السبت سابع عشر رمضان المذكور، وكان خربندا نازل الرحبة بجموع المغل، في آخر شعبان من هذه السنة، الموافق لأواخر كانون الأول، وأقام سيف الدين سودي بعسكر حلب وغيره من العساكر المجردة بظاهر حلب، ونزل بعضهم في الخانات، وكان البرد شديداً والجفال قد ملأه المدينة، واستمرينا مقيمين بحماة، وكشافتنا تصل إلى عرض والسخنة، وتعود إلينا بأخبار المخذول، واستمر خربندا محاصراً للرحبة، وأقام عليها المجانيق، وأخذ فيها النقوب، ومعه قراسنقر والأفرم، ومن معهما، وكانا قد أطمعا خربندا أنه ربما يسلم إليه النائب بالرحبة قلعة الرحبة، وهو بدر الدين بن أركشي الكردي، لأن الأفرم هو الذي كان قد سعى للمذكور في نيابة السلطنة بالرحبة، وأخذ له إمرة الطبلخاناه، فطمع الأفرم بسبب تقدم إحسانه إلى المذكور أن يسلم إليه الرحبة، وحفظ المذكور دينه، وما في عنقه من الإيمان للسلطان، وقام بحفظ القلعة أحسن قيام، وصبر على الحصار، وقاتل أشد قتال، ولما طال مقام خربندا على الرحبة بجموعه، وقع في عسكره الغلاء والفناء، وتعذرت عليه الأقوات، وكثرت منه المقفزون إلى الطاعة الشريفة، وضجروا من الحصار، ولم ينالوا شيئاً، ولا وجد خربندا لما أطمعه به قراسنقر والأفرم صحة، فرحل خربندا عن الرحبة راجعاً على عقبه، في السادس والعشرين من رمضان من هذه السنة، بعد حصار نحو شهر، وتركوا المجانيق وآلات الحصار على حالها، فنزلت أهل الرحبة واستولوا عليها ونقلوها إلى الرحبة، ولما جرى ذلك، رحل سودي وعسكر حلب من حماة وعادوا إلى حلب، واستمر بهادراص ومن معه من عسكر دمشق مقيماً بحماة مدة، ثم ورد لهم الدستور، فساروا إلى دمشق.
ذكر مسير السلطان بالعساكر الإسلامية إلى الشام
ثم توجهه إلى الحجاز:

في هذه السنة سار مولانا السلطان بالعساكر الإسلامية من ديار مصر، وكان مسيره بسبب نزول التتر على الرحبة حسبما ذكرنا، ووصل إلى دمشق يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شوال من هذه السنة، أعني سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، بعد رحيل العدو عن الرحبة وعودهم على أعقابهم، فلما لم يبق في البلاد عدو، عزم على الحجاز الشريف لأداء حجة الفرض، فرتب العساكر بالشام، وأمر بعضهم بالمقام باللجون وسواحل عكا وقاقون، وجرد بعضهم على حمى حمص، وترك نائب السلطنة المقر السيفي أرغون، ونائب السلطنة بالشام الأمير سيف الدين تنكز، مقيمين بدمشق، وعندهما باقي العساكر، واستجار السلطان بالله تعالى وخرج من دمشق متوجهاً إلى الحجاز الشريف، في يوم الخميس الثاني من ذي القعدة الموافق لأول آذار، وأتم المسير ووصل إلى عرفات، وأكمل مناسك الحج، وعاد مسرعاً فوصل إلى الكرك سلخ هذه السنة، ثم كان ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها ولد ولدى محمد بن إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر ابن شاهنشا بن أيوب، وكانت ولادته في إقامة الساعة الثانية من نهار الخميس، مستهل رجب، الفرد من هذه السنة، أعني سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، الموافق الثاني يوم من تشرين الثاني من شهور الروم.
وفيها انخسف القمر مرتين، مرة في صفر، ومرة في شعبان.
وفيها كانت الأمطار قليلة حتى خرج فصل الشتاء، ثم تدارك الأمطار في فصل الربيع، إلى أن زادت الأنهر زيادة عظيمة في آخر نيسان على خلاف ما عهد.
وفيها قوي استيحاش الأمير مهنا بن عيسى أمير العرب لما اعتمد من مساعدة قراسنقر، ولغير ذلك من الأمور، وكاتب خربندا، ثم أخذ منه إقطاعاً بالعراق، وهو مدينة الحلة، وغيرها، واستمر إقطاعه من السلطان بالشام وهو مدينة سرمين، وغيرها على حاله، وعامله السلطان بالتجاوز ولم يؤاخذه بما بدى منه، وحلف على ذلك مراراً فلم يرجع عما هو عليه، وجعل مهنا ولده سليمان بن مهنا منقطعاً إلى خدمة خربندا، ومتردداً إليه واستمر ابنه موسى بن مهنا في صدقة السلطان ومتردداً إلى الخدمة، واستمر مهنا على ذلك أخذ الإقطاعين بالشام والعراق، ويصل إليه الرسل من الفريقين وخلعهما وإنعامهما، وهو مقيم بالبرية ينتقل إلى شط الفرات من منازله، لا يروح إلى أحد الفئتين، وهذا أمر لم يعهد مثله، ولا جرى نظيره، فإن كلاً من الطائفتين لو اطلعوا على أجد منهم أنه يكتب إلى الطائفة الأخرى سطراً قتلوه لساعته، ولا يمهلونه ساعة، ووافق مهنا في ذلك سعادة خارقة.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وسبعمائة.
ذكر وصول السلطان من الحجاز الشريفوفي هذه السنة وصل مولانا السلطان إلى دمشق في يوم الثلاثاء حادي عشر المحرم، عائداً من الحجاز الشريف، بعد أن أقام بالكرك أياماً وجمع الله له بذلك سعادة الدنيا والآخرة، وتوجهت إلى خدمته من حماة، وحضرت بين يديه بدمشق المحروسة في يوم الخميس، الثالث عشر من المحرم، من هذه السنة الموافق لعاشر أيار، وهنيته بقدومه إلى مملكته وعبيده وقدمت ما أحضرته من الخيول والقماش والمصاغ فقابله بالقبول، وشملني إحسانه بالخلع والإكرام على جاري عوائد صدقاته، وأرسل إلي هدية الحجاز حجراً أشقر وطاقات طائفي مع الأمير طاشمر الخاصكي.
ذكر خروج المعرة عن حماة

وفي هذه السنة في المحرم خرجت المعرة عن حماة، وأضيفت إلى حلب، واستقر بيدي حماة وبارين، وسبب ذلك أن الأمراء الذين كانوا بحماة، ثم انتقلوا إلى حلب حسبما ذكرنا في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، واستقرت إقطاعاتهم بحماة، لعدم إقطاعات محلولة تفي بجملة ما لهم، فصعب عليهم نقلتهم إلى حلب جداً، فأخذوا في التعنت والشكوى علي بسبب إقطاعاتهم ونقودهم المرتبة بحماة، وانضم إلى ذلك أنه صار يتغير بعض إقطاعاتهم، ويدخل فيها شيء من بلاد حلب بحكم تنقل أو زيادة، ترد المناشير الشريفة بذلك، وتخلط بلاد المملكة الحموية ببلاد المملكة الحلبية وغيرها من الممالك السلطانية وصارت أطماعهم معلقة بالعودة إلى حماة، وهم مجتهدون على ذلك تارة بالتثقيل على السلطان بالشفائع، وتارة بالسعي في ذهاب حماة مني، فلم أجد لذلك ما يحسمه إلا بتعيين المعرة وبلادها للأمراء المذكورين، وإضافتها إلى حلب، وانفرادي بحماة وبارين منفصلة عن الممالك الشريفة السلطانية، وسألت صدقات السلطان في ذلك، وقال لي أيا عماد الدين، ما أرضى لك بدون ما كان في يد عمك وابن عمك وجدك، وكيف أنقصك عنهم المعرة، فعاودت السؤال وأبديت التضرر الزائد، فأجابني على كره لذلك، صدقة علي وإجابة إلى سؤالي، وكتب بصورة ما استقر عليه الحال مرسوماً شريفاً، ذكرنا بعضه طلباً للاختصار. فمنه أفلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري، أن يستقر بيده حماة وبارين بجميع حدودها، وما هو منسوب إليها من بلاد وضياع وقرايا، وجهات وأموال ومعاملات، وغير ذلك، من كل ما ينسب إلى هذين الإقليمين ويدخل في حكمهما، يتصرف في الجميع كيف شاء من تولية، وإقطاع إقطاعات الأمراء والجند وغيرهم من المستخدمين من أرباب الوظائف، وترتيب القضاة والخطباء وغيرهما، ويكتب بذلك مناشير وتواقيع من جهته، ويجري ذلك على عادة الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة، ويقيم على هاتين الجهتين خمسمائة فارس بالعدة الكاملة من غير نقص، ويبطل حكم ما عليهما من المناشير والتواقيع الشريفة والمسامحات والمحسوب، وكل ما هو مرتب عليهما للأمراء والجند والعرب والتركمان وغيرهم، بحكم الإنعام بهما على المشار إليه، على قاعدة الملك المظفر صاحب حماة، وتعويض الجميع عن ذلك بالمعرة، وإفرادها عن حماة وبارين، فليستقر جميع ما ذكر بيده العالية، استقرار الدرر في أملاكها، والدراري في أفلاكها، ينصرف في أحوالها بين العالمين بنهيه وأمره، ويجري أموالها بين المستوجبين بإنعامه وبرة، ولا يمضي فيها أمر بغير منشوره الكريم، ولا يجري معلوم ولا رسم إلا بمرسومه الجاري على سنن سلفه القديم، وليفعل في ذلك بجميع ما أراد كيف أراد، ويتصرف على ما يختار فيما تحت حكمه الكريم، وبحكمة من مصالح العباد والبلاد، والله تعالى يعلي بمفاخر عماده، ويجعل التأييد والنصر قرين إصداره وإيراده، والخط الشريف حجة بمضمونه إن شاء الله تعالى، كتب في تاسع عشر المحرم سنة ثلاث عشرة وسبعمائة. ثم تصدق بخلعه ثانية، وأنعم علي بسنجق بعصائب سلطانية، يحمل على رأسي في المواكب وغيرها، وهذا مما يختص به السلطان، ولا يسوغ لأحد غيره حمله، ثم رسم بالدستور، فسرت من دمشق في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من المحرم، وكذلك توجه السلطان عائداً إلى الديار المصرية، فوصل إليها واستقر في مقر ملكه، ودخلت، أنا حماة في يوم الإثنين مستهل صفر من هذه السنة، الموافق للثامن والعشرين من أيار من شهور الروم.
ذكر مسيري إلى الحجاز الشريف

وفي هذه السنة أرسلت طلبت دستوراً من مولانا السلطان بالتوجه إلى الحجاز الشريف، فرسم لي بالدستور، وجهزت شغلي وقدمت الهجن إلى الكرك، وجهزت ولدي والثقل مع الركب الشامي، ووصلني من صدقات السلطان ألف دينار عيناً برسم النفقة، ووصلني منه مراسم شريفة بإخراج السوقية من سائر البلاد إلى الركب الحموي، وأن تسير جمالي حيث شئت قدام المحمل السلطاني أو بعده، على ما أراه، فقابلت هذه الصدقات بمزيد الدعاء، وخرجت من حماة في يوم الجمعة رابع عشر شوال من هذه السنة الموافق لأول شباط، وسرت بالخيل إلى الكرك، وركبت الهجن من هناك، ورجعت الخيل والبغال إلى حماة، واستصحبت معي ستة أرؤس من الخيل نجائب، وسار في صحبتي عدة مماليك بالقسي والنشاب، وسبقت الركب إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ووصلت إليها في يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة، وتمكنت من الزيارة خلوة، وأقمت حتى لحقني الركب، ثم سبقتهم ووصلت إلى مكة في يوم السبت، خامس ذي الحجة، وأقمت بها، ثم خرجنا إلى عرفات ووقفنا يوم الأربعاء، ثم عدنا إلى منى وقضينا مناسك الحج، ثم اعتمرت لأني حججت هذه الحجة مفرداً على ما هو المختار عند الشافعي وكنت في الحجة الأولى قارناً، ثم عدنا إلى البلاد، وسبقت الحجاج من بطن مر، وسرت منه يوم الثلاثاء خامس عشر ذي الحجة، الموافق لثامن نيسان، وسرت حتى خرجت هذه السنة، واستهل المحرم سنة أربع عشرة وسبعمائة، وأني قد عديت تبوك ووصلت إلى حماة، حادي عشر المحرم سنة أربع عشرة، وكان مسيري من مكة إلى حماة نحو خمسة وعشرين يوماً، أقمت من ذلك في المدينة، وفي العلا، وفي بركة زيزا ودمشق، ما يزيد على ثلاثة أيام، وكان خالص مسيري من مكة إلى حماة، دون اثنين وعشرين يوماً، وكان مسيري على الهجن، وكان صحبتي فرس وبغل، ولم يقف عني شيء منها، وهذه هي حجتي الثانية، وحججت الحجة الأولى في سنة ثلاث وسبعمائة.
وفيها جرد السلطان من مصر إلى مكة عسكراً وأمراء من عسكر دمشق، وأرسل معهم أبا الغيث بن أبي نمي ليقروه في مكة، ويقبضوا أو يطردوا أخاه حميضة ابن أيي نمي، لأنه كان قد ملك مكة وأساء السيرة فيها، وكان مقدم العسكر المجرد على ذلك، سيف الدين طقصبا الحسامي، فلما اجتمعت به في مكة، أوصلني مثالاً من مولانا السلطان، يتضمن أني أساعدهم على إمساك حميضة بالرجال، والرأي فلما قربنا من مكة حرسها الله تعالى، تركها حميضة وهرب إلى البرية، فقررنا أبا الغيث بمكة، واستغلها وأخذ ما يصل مع الركبان من اليمن وغيره إلى صاحبها، وكذلك استهدى الضرائب من التجار، واستقرت قدمه فيها، ثم كان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وأقام العسكر المجرد عند أبي الغيث بمكة خوفاً من معاودة حميضة، ثم إن أبا الغيث أعطى العسكر دستوراً بعد إقامتهم بنحو شهرين، فعادوا إلى الديار المصرية.
وفيها اجتمع جماعة من بني لام، من عربان الحجاز، وقصدوا قطع الطريق على سوقة الركب، الذين يلاقونهم من البلاد إلى تبوك عند عود الحاج، وساروا إلى ذات حج واتقعوا مع السرقة، فقتل من السوقية تقدير عشرين نفساً، وأكثر. ثم انتصروا على بني لام وهزموهم، وأخذوا منهم تقدير ثمانين هجيناً، وعادت بنولام بخفي حنين.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وسبعمائة فيها وصلت إلى حماة، عائداً من الحجاز الشريف، في حادي عشر المحرم.
وفيها في أواخر جمادى الآخرة، حصل لي مرض حاد، أيقنت منه بالموت، ووصيت وتأهبت لذلك، ثم إن الله تعالى تصدق علي بالعافية.
وفيها جردت العساكر إلى حلب، فجردت جميع عسكر حماة، أقمت بسبب التشويش. وفيها في رجب، توفي الأمير سيف الدين سودي نائب السلطنة بحلب، فولى السلطان نيابة السلطنة بحلب، الأمير علاء الدين الطنبغا الحاجب، ووصل إلى حلب واستقر بها نائباً بموضع سودي، في أوائل شعبان من هذه السنة.
وفيها في ذي الحجة، جمع حميضة بن أبي نمي وقصد أخاه أبا الغيث بن أبي نمي صاحب مكة، وكان أبو الغيث منتظراً وصول الحجاج ليعتضد بهم، فابتدره حميضة قبل وصول الحجاج، واقتتل معه، فانتصر حميضة وأمسك أخاه أبا الغيث وذبحه، ثم هرب حميضة لقرب الحجاج منه، فلما قضى الحجاج مناسكهم وعادوا إلى البلاد، عاد حميضة إلى مكة، واستولى عليها.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وسبعمائة.
ذكر فتوح ملطية

في هذه السنة في يوم الأحد، الثاني والعشرين من المحرم، فتحت ملطية وسبب ذلك أن المسلمين الذين كانوا بها، اختلطوا بالنصارى، حتى أنهم زوجوا الرجل النصراني بالمسلمة، وكانوا يعدون الإقامة بالتتر ويعرفونهم بأخبار المسلمين، وكانت الأجناد والرجالة الذين بالحصون مثل قلعة الروم وبهنسا وكختا وكركر وغيرها، لا ينقطعون عن الإغارة على بلاد العدو، مثل بلاد الروم وغيرها، وكانت طريقهم في غالب الأوقات تكون قريب ملطية، فاتفق أن أهل ملطية ظفروا ببعض الغياره المذكورين، فأسروهم وقتلوا جماعة من المسلمين، فلما جرى ذلك، أرسل السلطان عسكراً ضخماً من الديار المصرية مع الأمير سيف الدين بكتمر الأبوبكري، ومع سيف الدين قلي، وسيف الدين أوول تمر، فساروا إلى دمشق، ورسم السلطان لجميع عساكر الشام المسير معهم، وجعل مقدماً على الكل الأمير سيف الدين تنكز الناصري نائب السلطنة بدمشق، وتقدمت مراسم السلطان إلي أولاً، بأن أجهز عسكر حماة صحبتهم وأن أقيم أنا بمفردي بحماة، ثم رأى المصلحة بتوجهي بعسكر حماة، فتوجهت أنا والعساكر المذكورة، ودخلنا إلى حلب في يوم الخميس والجمعة، ثالث عشر المحرم، لكثرة العساكر، فأبحرت في يومين، ثم سرنا من حلب إلى عين تاب، ثم إلى نهر مرزبان، ثم إلى رعبان، ثم إلى النهر الأزرق، وعبرنا على قنطرة عليه رومية، معمولة بالحجر النحيت لم أشاهد مثلها في سعتها، وسرنا وجعلنا حصن منصور يميننا، وصار منا في جهة الشمال، ووصلنا إلى ذيل الجبل ونزلنا عند خان هناك يقال له خان قمر الدين، وعبرنا الدربند، ويسمى ذلك الدربند بلغة أهل تلك البلاد بند طجق درا بضم الطاء المهملة والجيم وسكون القاف وفتح الدال والراء المهملتين ثم ألف، وبقي العسكر ينجر في الدربند يومين وليلتين لضيقه وحرجه، ثم سرنا إلى زبطرة، وهي مدينة صغيرة خراب، ثم نزلنا على ملطية بكرة الأحد المذكور، أعني الثاني والعشرين من المحرم، الموافق للسابع والعشرين من نيسان وطلبت العساكر ميمنة وميسرة، وأحدقنا بها، وفي حال الوقت خرج منها الحاكم فيها، ويسمى جمال الدين الخضر، وهو من بيت بعض أمراء الروم، وكان والده وجده حاكماً في ملطية أيضاً، ويعرف خضر المذكور بمزامير، ومعناه الأمير الكبير بلغة نصارى تلك البلاد، وفتح باب ملطية القبلي وخرج معه قاضيها وغيرهما من أكابرها، وطلبوا منا الأمان، فأمنهم الأمير سيف الدين تنكز مقدم العسكر، واتفق أن الباب القبلي الذي فتح، كان قبالة موقفي بعسكر حماة، فأرسلت الأمير صارم الدين أزبك الحموي وجماعة معه، وأمرته بحفظ الباب، فإني خفت من طمع العسكر، لثلا ينهبوا ملطية، وليس معنا أمر بذلك، وحفظ الباب حتى حضر الأمير سيف الدين تنكز، وكان موقفه في الجانب الآخر، فلما حضر، وأقام جماعة من الأمراء بحفظ باب المدينة، ثم إن العسكر والطماعة هجموا مدينة ملطية من الباب المذكور، وكذلك هجمها جماعة من العسكر من الجانب الآخر، وأراد سيف الدين تنكز منعهم عن ذلك، فخرج الأمر عن الضبط لكثرة العساكر الطماعة، فنهبوا جميع مفيها من أموال المسلمين والنصارى، حتى لم يدعوفيها إلا ما كان مطموراً، ولم يعلموا به، وكذلك استرقوا جميع أهلها من المسلمين والنصارى، ثم بعد ذلك حصل الإنكار التام على من يسترق مسلماً أو مسلمة، وعرضوا الجميع، فأطلق جميع المسلمين من الرجال والنساء، وأما أموالهم فإنها ذهبت، واستمر النصارى في الرق عن آخرهم، وأسر منها ابن كربغا شحنة التتر بتلك البلاد، وكذلك أسر منها الشيخ مندو، وهو صاحب حصن أركني، وكان مندو المذكور قعيداً لقصاد التتر، وكان يتبع قصاد المسلمين ويمسكهم، وكان من أضر الناس على المسلمين، ولما أمسك، سلم إلى الأمير سيف الدين قلى، وسلمه المذكور إلى بعض مماليكه التتر، فهرب مندو المذكور، وهرب معه المملوك الذي كان مرسماً عليه، ثم لما كان من نهب ملطية ما ذكرناه، ألقى العسكر فيها النار، فاحترق غالبها، وكذلك خربنا ما مكننا من أسوارها أن نخربه، وأقمنا عليها نهاراً واحداً وليلة.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8