كتاب : إعلام الناس بما وقع للبرامكة
المؤلف : الإتليدي

فقالت: تكون شيخاً وتكذب، أنت ما عبرت عليه ولقيت الطبيب، وهو يقول له: كيت وكيت، وجرى لك معه كذا وكذا، وهذا الكتاب في طي عمامتك وبالأمارة قال لك: إن ردت الجواب أعطيتك ألف دينار وإن لم ترد لي الجواب أعطيتك مائة دينار؟ فقلت: يا ستي من أعلمك بهذا؟ فقالت: أليس القائل يقول:
قلوب العاشقين لها عيون ... ترى ما لا يراه الناظرونا
وأنا يا شيخ أبا الحسن أعشق منه وأرى أكثر مما يراه.
فقلت: صدقت يا مولاتي، كان ذلك.
ثم ناولتها الكتاب ففضته وقرأته ثم إنها مزقته وبصقت عليه، وداسته ورمته في البركة. فلما رأيت ذلك قلت في نفسي: هذا بذاك وفرض الدين لا بد له من وفاء إلا أني حصل لي بعض غيظ على الألف دينار التي تفوتني، فنظرت غلي وعرفت مني ذلك فقالت: يا شيخ أبا الحسن مم غيظك؟ إن كان وعدك بألف دينار، فبت الليلة عندي وكل واشرب والتذ واطرب، وخذ لك غداً مني ألف دينار وامض في حفظ الله.
فقلت: يا سيدتي يكاد الأمير عمرو أن يموت.
فقالت: دعنا من هذا الكلام.
ثم إن المائدة حضرت فأكلنا بحسب الكفاية، فلما فرغنا قالت: يا شيخ أتعرف لعب الشطرنج.
قلت: ما ألعب إلا على الحكم والرضا.
فقالت: نعم. ثم دعت بالشطرنج فوضع بين أيدينا ولعبت معها الدست الأول، غلبتني فأمرت الجواري أن يرموني في البركة، فمسكوني ورموني في البركة، فضحكت علي ساعة. ثم أخرجوني وقد ابتلت جميع حوائجي. فلما رأتني على تلك الحالة أمرت ببذلة من القماش من أفخر الملبوس فلبست فقالت: أتلعب أيضاً على الحكم والرضا؟ قلت: نعم، فلعبنا فاحتلت عليها، وأتيت لها بحكاية لطيفة مضحكة وشغلتها وسرقت القطع إلى أن غلبتها وتحكمت فيها وقلت: أريد الألف دينار وجواب الكتاب فأعطتني الألف دينار، وطلبت دواة والقرطاس، ثم إنها أطرقت ساعة ورفعت رأسها وكتبت تقول:
ألا يا عمرو كم هذا العناء ... وكم هذا التجلد والجفاء
كتبت إلي تشكو ما تلاقي ... من الأسقام إذ نزل القضاء
فسقم لا يزال بطول دهر ... وداء ما له أبداً دواء
ولو ساعدتنا يا عمرو يوماً ... لساعدناك إذ نزل البلاء
فعش ضباً ومت كمداً حزيناً ... فواجدةٌ بواحدةٍ جزاء
فلا فرغت ناولتني الورقة فقرأتها فقلت: يا ستي، بالله عليك لا تفعلي وارحمي الأمير عمراً واكتبي له غير هذا.
فقالت: يا شيخ أبا الحس، أنت رسول أو فضولي؟ فقلت لها: رسول وفضولي وطفيلي، ويعظ القطط ويحلف أنه ما يبيت إلا في الوسط ويغني بليت بكم.
قال: فضحكت من كلامي، وقالت: حكمتك في نفسي.
فقلت: ست بدور أين تلك المحبة التي كنت تحبينها للأمير عمرو؟ فلو أبصرته ما عرفته من شدة ما يقاسي من الأسقام والآلام والأمراض.
فلما سمعت ذلك قالت: أخبرني عن أقوى شيء به من المرض؟ فقلت: يا سيدتي، ما أقدر أصف لك بعض ما فيه من ألم المرض. فترغرغت عيناها بالدموع ثم قالت: يعز علي ما وصفت لي عنه وروحي لروحه الفداء فالحمد لله الذي جعل اجتماعنا على يديك. ثم دعت بدرجٍ غير تلك الورقة وكتبت في أول الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم إنها ابتدأت تنشد وتقول:
وصل الكتاب فلا عدمت أناملاً ... عنيت به حتى تضوع طيبا
ففضضته وقرأته، فوجدته ... لخفي أوجاع القلوب طبيبا
فكأن موسى قد أعيد لأمة ... أو ثوب يوسف قد أتى يعقوبا
المملوكة تقبل الأرض وتنهي أن شوقها شديد، وغرامها ما عليه من مزيد، ومأمولها من الحميد المجيد أن يجمع شملها بك قبل أن تريد، وأقول:
أشتاقكم حتى إذا نهض الهوى ... لمقامكم قعدت بي الأيام
والله إني لو وصفت صبابتي ... فني المداد وقلت الأقلام
ثم إنها نثرت فتات المسك والطيب في رسالتها وطوتها وحققتها وناولتني إياها فأخذتها وقمت مسرعاً وأنا فرحان إلى أن أتيت دار الأمير عمرو ودخلت الدهليز فسمعته يقول:
ترى حرمت كتب المحبة بيننا! ... أسحر أم القرطاس أصبح غاليا
فاستأذنت عليه ودخلت فلما رآني قال لي: أقمح أم شعير؟ فقلت له: قمح مغر بل ليس فيله كدر. ثم ناولته الكتاب ففضه وقرأه فلما فهم معناه تهلل وجهه بالفرح فبكى وقال:

هجم السرور علي حتى إنه ... من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين! قد صار البكا لك عادةُ ... تبكين في فرح وفي أحزانِ
فلما فرغ من البكاء قال لي: يا شيخ ما أظن الحديد يلين ولا الصخر يذوبُ نعل أن تكون صنت هذا الكتاب من عندك؟ فقلت:يا مولاي والله ما صنعته ولا كتبته بل هو خطها بيدها.
فبينما هو يخاطبني، إذ هي عبرت علينا وهي تخطر لفي قوامها وهي تنشد وتقول:
نزوركم لا نجازيكم بجفوتكم ... إن الكريم إذا لم ستزر زارا
فلما رآها الأمير عمرو نهض قائماً على قدميه ورمى بروحه عليها واعتنقها واعتنقته ساعة زمانية، فقمت لأخلي لهما المكان، فقالت الست بدور: إلى أين تروح يا شيخ؟ قلت أخلي لكما المكان لأنكما ما اجتمعتما من مدة سنة كاملة.
فقالت: لا تفارقني من الساعة إلى الصباح.
فقام الأمير عمرو وأخذنا ومضى بنا إلى مجلس مليح وقدم لنا الطعام المفتخر وأمر بإزالة كل شيء كان عليه من آلة الحزن وجيء له بالماء فغسل يديه وغسلنا أيدينا، وانتقلنا إلى مجلس الشراب، وبتنا في لذة ورأيت الماوية تدب في وجه الأمير عمرو. فلما أَصبحت قالت: يا شيخ أبا الحسن، امض وائتنا بالقاضي والشهود.
فلم يكن بأسرع مما أ؛ضرتهم. فقالت الست بدور للقاضي: اكتب كتابي على الأمير عمرو، وقد وليت الشيخ أبا الحسن عقد النكاح.
فخطب القاضي خطبة النكاح وعقد العقد بينهما، فرسم الأمير عمرو للقاضي بألف دينار وللشهود بمائتي دينار، وعمل الوليمة وطبخ الطعام وعمل الحلاوات وجمع الناس ووضع بين أيديهم الموائد وأطعم الشارد والوارد، وزفت الست بدور تلك الليلة إلى الأمير عمرو، فلما وقفوا على المنصة قلت: ما تصلح إلا له ولا يصلح إلا لها، ولو رآها غيره لزلزلت الأرض زلزالها، ثم تقدمت إلى الأمير عمرو وقلت له: يا مولاي، المثل يقول: العصفور يتفلى والصياد يتقلى، وأنتم تقولون: وا طرباه وأنا أقول وا حزناه.
فقالت الست بدور: ما معنى كلامك هذا؟ قلت: يا سيدتي الأمير عمرو وعدني بوعد والوعد على الكرماء دين.
فقالت الست بدور: صدق الشيخ أعطه الذي وعدته به. فقال الأمير عمرو لبعض غلمانه: أعط الشيخ أبا الحسن ألفاً وخمسمائة دينار، يستحق أكثر من ذلك.
فمضى الغلام وعاد بسرعة ومعه كيس وناولني إياه وأعطتني الست بدور مثله. ثم إني ودعتهم وخرجت إلى أن أتيت إلى الأمير محمد بن سليمان الزينبي، وقعدت عنده على عادتي، وأخذت رسمي الذي عليه في كل سنة وعدت إلى بغداد فما رأيت سنة أبرك علي منها، حصل لي فيها أربعة آلاف دينار.
وهذا جملة الحديث فتعجب الخليفة وقال: ما قصرت يا شيخ أبا الحسن خذ من جعفر ألف دينار لأنك أنت الذي أزلت عني ما بقلبي.
فقال جعفر: ومن عند أمير المؤمنين ألف دينار لأنه هو الذي زال عنه ما كان يجده.
فقال أبو الحسن: صدق الوزير أبقاه الله تعالى، ثم إنه قبض الألفين ديناراً ومضى إلى منزله والله أعلم.

من هم البرامكة
قال أبو القاسم بعد الملك بن بدرون في شرحه لقصيدة عبد المجيد بن عبدون: جعفر البرمكي، هو جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك، والبرمك هو الذي يعمر بيت النور، وهو بيت النار، وكان برمك من مجوس بلخ وكان عظيم القدر فيهم، وولده خالد، فلما كبر صار وزيراً لأبي السفاح بعد أبي سلمة الحلال، وقتل هارون الرشيد جعفراً سنة سبع وثمانين ومائة، وكان قد بلغ من الرشيد ما لا يبلغه وزير من خليفة قبله، حتى كان يجلس معه في حلة واحدة قد اتخذ لها جيبان على ما ذكره بعض المخبرين حتى بلغ عنده أن يحكم عليه فيما شاء من أمر ماله وولده.
منزلة جعفر عند الرشيد
فمن ذلك ما حكاه ابن المهدي عم الرشيد، وهو إبراهيم المعروف بابن شكلة، وكانت شكلة أمة سوداء، وقد ذكر أن إبراهيم كان أسود شديد السواد، وكان من الطبقة العليا في صنعة العود قال: قال لي جعفر يوماً: يا إبراهيم: إذا كان غد فأبكر إلي.
فلمام كان الغد مشيت إليه بكرة، فجلسنا نتحدث. فلما ارتفع النهار أحضر حجاماً فحجمنا، ثم قدم لنا الطعام فطعمنا ثم خلع علينا ثياب المنادمة، وقال جعفر لخادمه: لا يدخل علينا أحد إلا عبد الملك القهرماني.

فنسي الحاجب ما قال فجاء عبد الملك بن صالح الهاشمي، وكان رجلاً من بني هاشم ذا ملاحة وعلم وحلم وجلالة قدر وفخامة ذكر وصيانة وديانة، فظن الحاجب أنه الذي أمره بإدخاله عليهما، فلما رآه جعفر تغير لونه ورآهم عبد الملك بن صالح على تلك الحالة، وظهر له أنهم احتشموه فأراد أن يرفع خجله وخجلهم بمشاركته لهم في فعلهم فقال: اصنعوا بنا ما صنعتم بأنفسكم.
فجاءه الخادم فطرح عليه ثياب المنادمة ثم جلس للشراب،فلما بلغ ثلاثاً قال للساقي: لتخفف عني فإني ما شربته قط.
فتهلل وجه جعفر فقال له: هل من حاجة تبلغها مقدرتي وتحيط بها نعمتي فأقضيها لك مكافأة لما صنعت.؟ قال: بلى، إن أمير المؤمنين علي غاضب، فسله الرضا عني.
قال: قد رضي عنك أمير المؤمنين.
قال: علي أربعة آلاف دينار.
قال: هي لك حاضرة من مال أمير المؤمنين.
قال: وابني إبراهيم أريد أن أشد ظهره بصهر من أمير المؤمنين.
قال: قد زوجه أمير المؤمنين بابنته عائشة.
قال: وأحب أن تخفق الألوية على رأسه.
قال: نعم، قد ولاه أمير المؤمنين مصر.
قال إبراهيم بن المهدي، فانصرف عبد الملك بن صالح وأنا أتعجب من إقدام جعفر على قضاء الحوائج من غير استئذان. فلما كان من الغد وقفنا على باب الرشيد ودخل جعفر فلم نلبث أن دعا بأبي يوسف القاضي ومحمد بن واسع وإبراهيم بن عبد الملك فعقد له النكاح وحملت البدر إلى منزل عبد الملك وكتب سجل إبراهيم على مصر وخرج جعفر فأشار إلي فلما سار إلى منزله ونزلت بنزوله التفت إلي وقال: لعل قلبك معلق بأمر عبد الملك بن صالح فأحببت معرفة خبره.
قلت: نعم.
قال لي: لما دخلت على أمير المؤمنين وتمثلت بين يديه وابتدأت القصة من أولها إلى آخرها، كما كانت، قال الرشيد: أحسن والله أحسن والله. ثم قال: ما صنعت؟ فأخبرته عما سأل وبما أجبته في ذلك فقال: أحسنت. وخرج إبراهيم والياً على مصر من يومه والله تعالى أعلم.

الفتى العاشق وجعفر
قال إبراهيم بن إسحاق: كنت منقطعاً إلى البرامكة، فبينما أنا ذات يوم بمنزلي وإذا ببابي يدق فخرج غلامي وعاد وقال لي: على الباب فتى جميل يستأذن، فأذنت له، فدخل شاب عليه أثر السقم، فقال: لي مدة أحاول لقاءك ولي إليك حاجة.
فقلت: وما هي؟ فأخرج ثلاثمائة دينار فوضعها بين يدي. وقال: أسألك أن تقبلها مني وتصنع لي لحناً في بيتين قلتهما.
فقلت: أنشدنيهما فقال:
بالله يا طرفي الجاني على كبدي ... لتطفئن بدمعي لوعة الحزن
لا لا أبوحن حتى تنزلي سكني ... فلا أراه ولو أدرجت في كفني
قال: فصنعت لهما لحناً يشبه النوح ثم غنيته فأغمي عليه حتى أني ظننت أنه مات ثم أفاق، وقال: أعده فناشدته الله وقلت: أخشى أن تموت فقال: ليت ذلك، وما زال يخضع ويتضرع حتى رحمته وأعدته فصعق صعقةً أشد من الأولى، فلم أشك في موته وما زلت أنضح عليه من ماء الورد حتى أفاق ثم جلس، فحمدت الله على السلامة ووضعت دنانيره بني يديه وقلت: خذ مالك وانصرف عني.
فقال: لا حاجة لي بها ولك مثلها إن أعدته.
فشرهت نفسي فقلت: أعيده ولكن بثلاث شروط، أولها تقيم عندي تأكل من طعامي حتى تتقوى نفسك؛ الثاني أن تشرب من الشراب ما يمسك قلبك؛ الثالث أن تحدثني بحديثك.
ففعل ذلك ثم قال: إني رجل من أهل المدينة خرجت متنزهاً، وقد سال المطر في العقيق، مع إخواني فرأيت فتاة مع فتيات كأنها غصن جلله الندى، تنظر بعيني ما ارتد طرفهما إلا بنفس ملاحظهما، فظللن حتى فرغ النهار، فانصرفن وقد رمت بقلبي جراحاً بطيئة الاندمال، فعدت أتنسم أخبارها فلم أجد أحداً يرشدني إليها فجعلت أتتبعها في الأسواق فلم أقع لها على خبر، ومرضت أسىً، وحكيت قصتي لذات قرابة لي فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع ما انقضت وستمطر السماء فتخرج حينئذ، وأنا أخرج معك فافعل مرادك.
قال: فاطمأنت نفسي بذلك إلى أن سال العقيق وخرج الناس ينظرون فخرجت مع إخوتي وقرابتي، فجلسنا في مجلسنا بعينه فما لبثنا إلا والنسوة كفرسي رهان فقلت لذات قرابتي: قولي لهذه الجارية يقول لك هذا الرجل: لقد أحسن من قال:
رمتني بسهم أقصد القلب وانثنت ... وقد عاودت جرحاً به وندوبا
قال: فمضت إليها وقالت لها ذلك، فقالت لها: قولي له، وقد حسن من أجابه:

بنا مثل ما تشكو فصبراً لعلنا ... نرى فرجاً يشفي القلوب قريبا
قال: فأمسكت عن الكلام خوف الفضيحة، وقمت منصرفاً، فقامت لقيامي فتبعتها قرابتي حتى عرفت منزلها، ورجعت فأخذتني، وسرنا إليها حتى اجتمعنا. واتصل ذلك حتى شاع وطهر وحجبها أبوها. فلم أزل مجتهداً في لقائها فلم أقدر، وشكوت ذلك إلى أبي فجمع أهلنا ومضى إلى أبيها راغباً في خطبتها فقال: لو بدا له ذلك قبل أن يفضحها لفعلت ولكنه شهرها، فما كنت لأحقق قول الناس. قال إبراهيم فأعدت عليه الصوت وعرفني منزله ثم انصرف. وكانت بيننا عشرة، ثم جلس جعفر بن يحيى وحضرت على عادتي فغنيته شعر الفتى، فطرب وشرب أقداحاً وقال: ويلك! لمن هذا الصوت؟ فحدثته حديث الفتى فأمرني بالركوب إليه وأن أجعله على ثقة من بلوغ أربه، فمضيت إليه وأحضرته فاستعاد الحديث فحدثه فقال: هي في ذمتي حتى أزوجك إياها فطابت نفسه، وأقام معنا، فلما أصبح ركب جعفر إلى الرشيد وحدثه بذلك فاستظرفه، وأمر أن يحضرا جميعاً واستعاد الصوت وشرب عليه، فأمر بكتب كتاب إلى عامل الحجاز بإحضار المرأة وأهلها ووالدها مبجلين إلى حضرته، والإنفاق عليهم نفقة واسعة، فلم يمض إلا يسير حتى حضروا، فأشار الرشيد بإيصال الرجل إليه، فحضر وأمر بتزويج ابنته من الفتى، وأعطاه ألف دينار، ونقلت إلى أهله، ولم يزل الشاب من ندماء جعفر حتى حدث ما حدث فاد الفتى بأهله إلى المدينة، فرحم الله تعالى أرواحهم أجمعين.

الوزير أبو عامر والملك الناصر والغلام
حكاية أجنبية
مما اتفق أن الوزير أبا عامر أحمد بن مروان كان قد أهدي له غلام من النصارى لا تقع العيون على أحسن منه. فلمحه الملك الناصر، فقال له: أنى لك هذا؟ قال: هو من عند الله.
فقال: تتحفونا بالنجوم، وتستأثرون بالأقمار.
فاعتذر إليه ثم احتفل في هدية بعثها إليه مع الغلام، وقال له: كن داخلاً في جملة الهدية ولولا الضرورة ما سمحت بك نفسي، وكتب معه هذه الأبيات:
أمولاي هذا البدر سار لأفقكم ... وللأفق أولى بالبدور من الأرض
أرضيكم بالنفس، وهي نفيسة ... ولم أر قبلي من بمهجته يرضي
قال: فحسن ذلك عند الناصر، وأتحفه بمال جزيل، وتمكن عنده، ثم بعد ذلك أهديت للوزير جارية من أجمل نساء الدنيا، فخاف أن ينهى ذلك إلى الناصر فيطلبها، فتكون كقصة الغلام، فاحتفل في هدية أعظم من الأولى وأرسلها مع الجارية، وكتب معها هذه الأبيات:
أمولاي هذي الشمس والبدر أولاً ... تقدم كيما يلتقي القمران
قران لعمري بالسعادة ناطق ... فدم معها في كوثر وجنان
فما لهما والله في الحسن ثالث ... وما لك في ملك البرية ثان
قال: فتضاعفت مكانته عنده، ثم وشى به بعض أعدائه عند الناصر أن عنده بقية من حب الغلام، وأنه لا يزال يلهج بذكره حين تحركه الشمول، فيقرع السن على تعذر الوصول إليه. فقال الناصر للواشي: لا تحرك به لسانك، وإلا طار رأسك، وكتب على لسان الغلام ورقة فيها: يا مولاي تعلم أنك كنت لي على الانفراد، ولم أزل معك في نعيم وأنا وإن كنت عند السلطان مشاركاً في منزله محاذراً ما يبدو من سطوة الملك، فتحيل في استدعائي منه.
ثم بعثها مع غلام صغير وأوصاه أن يقول هي من عند فلان، وإن الملك لم يكلمه قط، فلما وفق عليها أبو عامر واستخبر الخادم أحس بالمكيدة، فكتب على ظهر الورقة يقول:
أمن بعد أحكام التجارب ينبغي ... لدي سقوط العير في غابة الأسد
ولا أنا ممن يغلب الحب عقله ... ولا جاهل ما يدعيه أولو الحسد
فإن كنت روحي قد وهبتك طائعاً ... وكيف يرد الروح إن فارق الجسد
فلما وقف الناصر على الجواب تعجب من فطنته، ولم يعد إلى سماع واشٍ فيه بعد ذلك، ثم قال له: كيف خلصت من الشرك؟ قال: لأن عقلي بالهوى غير مشترك.
سبب قتل البرامكة وما وقع لهم مع الرشيد
والقصة في ذلك على ما رواه إبراهيم بن إسحاق عن أبي ثور زاهر بن صقلاب قال: بلغني أنه كان لهارون الرشيد مجلس بالليل مع جعفر البرمكي. فقال له يوماً: لا يطيب لي ذلك إلا بمحضر أختي ميمونة. ولكن لا يجوز إلا إن كتبت لك عليها لإباحة النظر من غير أن تقربها.

فاتفقا على ذلك وعقد له عليها ثم أحضرها فكانت تحضر لذلك المجلس إلا أنه زاد غرامها وعشقها فيه، وكان لجعفر البرمكي امرأة تزين له الجواري كل ليلة، فجاءت ميمونة إليها ورشتها بمال فزينتها له، وأدخلتها عليه، فظن أنها جارية فواقعها. فلما أصبحوا قالت له: أنا ميمونة، وقد كنت أسألك أن تساعدني على مودتك فتأبى. فلما أيست منك احتلت عليك بما رأيت في هذه الليلة، وإن لم تواظب لأكونن سبباً في سلب نعمتك، وهل أنت إلا زوجي؟ فقال لها جعفر: ويحك أهلكتني وأهلكت نفسك.
وكان كما قال، ولم يزرها حتى ظهر أمرها للرشيد، فهذا كان سبب قتل البرامكة وهذا ابتداء الحديث.
قال المبرد: قال أبو عبد الله المارستاني عن يحيى بن أكثم القاضي، قال: سألت إسماعيل بن يحيى الهاشمي عن سبب زوال نعمة البرامكة.
قال: نعم أعرف صحة الخبر وباطن القصة: كان سبب ذلك أني كنت مع الرشيد يوماً من الأيام راكباً إلى الصيد، فبينما نحن نسير إذ نظر إلى موكب بالعبد اعترضنا، فقال لي: يا إسماعيل لمن هذا؟ فقلت: هو لأخيك جعفر بن يحيى.
فالتفت يميناً وشمالاً إلى من معه في موكبه، فإذا هو شرذمة يسيرة، ثم نظر إلى الموكب الذي فيه جعفر فلم يره. فقال: يا إسماعيل ما فعل جعفر وموكبه؟ فقلت: يا سيدي قد مضى أخوك في طريق ولم يعلم بموضعك.
فقال: ما رآنا أهلاً أن يزيننا بمركبه ويجملنا بجيشه.
فقلت: العفو يا أمير المؤمنين، لو علم بمكانك ما تعداك وما سار إلا بين يديك، واعتذرت بما حضر لي من الكلام.
ثم سرنا حتى انتهينا إلى ضيعة عامرة ومواشٍ كثيرة وعمارة حسنة، وكان الطريق يدور عليها، فدرنا حتى وردنا باب القرية، فنظر الرشيد إلى البيدر وإلى كثرة الغلال فيه والمواشي ويسار أهلها، فالتفت إلي وقال: يا إسماعيل لمن هذه الضيعة؟ قلت: لأخيك جعفر بن يحيى.
فسكت ثم تنفس الصعداء ثم سرنا ولم يزل يمر بكل ضيعة أعمر من الأخرى، وكلما مر وسألني عن ضيعة قلت: لجعفر بن يحيى، حتى سرنا ووصلنا إلى المدينة، فلما أردت وداعه والانصراف إلى منزلي نظر إلي من كان حواليه نظرة، فعلموا ما أراد فتفرقوا وبقيت أنا وهو، فقال: يا إسماعيل.
قلت: لبيك يا أمير المؤمنين.
فقال: انظر إلى البرامكة أغنيناهم وأفقرنا أولادنا وأغفلنا أمرهم.
فقلت في نفسي: بلية والله، ثم قلت: لماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: نظرت لهؤلاء وغفلت عن هؤلاء لأني لا أعرف لأحد من أولادي ضيعة من ضياع البرامكة على طريق واحد، على قرب هذا المدينة، فكيف بما هو لهم غير ذلك على غير هذا الطريق في سائر البلدان.
فقلت: يا أمير المؤمنين إنما البرامكة عبيدك وخدمك، والضيعات وأموالهم وكل ما يملكون لك.
فنظر إلي نظرة جبار عنيد.
ثم قال: ما عد البرامكة بني هاشم إلا عبيدهم، وأنهم هم الدولة وأن لا نعمة لبني العباس إلا والبرامكة أنعموا عليهم بها.
فقلت: أمير المؤمنين أبصر من غيره بخدمه ومواليه.
فقال: والله يا إسماعيل! إنك لتعلم أني قلت هذا وكأني أراك أن تعلمهم بكلامي فتتخذ لك عندهم يداً، وإني آمرك أن تكتم هذا الأمر فإنه ما علم به أحد غيرك، ومتى بلغهم شيء مما جرى؟ علمت أنه ما أفشاه إلا أنت.
فقلت: يا أمير المؤمنين، أعوذ بالله أن يكون مثلي يفشي سرك.
قال: وكان هذا القول أول ما ظهر من أمر البرامكة، ثم ودعته وانصرفت متفكراً في إيقاع الحيلة عليهم. فلما كان من الغد بكرت إليه، وجلست بين يديه وكان في محل يشرف على الدجلة من شرقي مدينة باب السلام، وبإزائه منزل جعفر من الجانب الغربي، وكانت المواكب من جميع الأَصناف: من قائد وأمير وعامل يردون في كل يوم إلى قصر جعفر، فالتفت إلي وقال: يا إسماعيل، هذا ما كنا فيه بالأمس. انظر كم على باب جعفر من الجيوش والغلمان والمواكب، وأنا ما على باب داري أحد؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، ناشدتك الله أن لا تعلق نفسك بشيء من هذا. وإن جعفراً إنما هو عبدك وخادمك ووزيرك وصاحب جيوشك، إذا لم يكن الجيش على بابه فعلى باب من يكون؟ إنما بابه باب من أبوابك.
فقال: يا إسماعيل، أنظر إلى دوابهم ألست ترى أعجازهم إلى قصري وتروث بإزائنا، ونحن ننظر إليها، والله هذا هو الاستخفاف بعينه، والله لا أصبر على ذلك.

ثم غضب غضباً شديداً وامتلأ غيظاً، فأمسكت عن الكلام وقلت: والله هذا قضاء من الله سابق وحكم لا محالة واقع، ثم استأذنته في الانصراف ورجعت إلى منزلي، فلقيني جعفر في الطريق يريد الرشيد، فتواريت عنه حتى مضى، فدخل إليه وسلم عليه فأجلسه عن يمينه وأكرمه غاية الإكرام وبش في وجهه وحادثه ساعة ووهب له خادماً من خاصة خدمه وأنبلهم وأوضحهم وجهاً وأكملهم ظرفاً، كاتباً حاسباً لبيباً، فسر جعفر سروراً كاملاً، ووقع في قلبه أجل موقع، وكان دسيساً عليه وبلية لديه يرفع أخباره إلى الرشيد ويحصي عليه أنفاسه ساعة بساعة ووقتاً بوقت، فخلا به جعفر يومه ذلك وليلته واحتجب من أجله عن الناس، فلما كان بعد ثلاثة أيام سرت إلى جعفر فسلمت عليه، فلما خلا مجلسه ولم يبق عنده غيري وذلك الخادم واقفٌ، وعلمت أن الخادم يحصي علينا أخبارنا فقلت: أيها الوزير، نصيحة أفتأذن لي في الكلام؟ قال: تكلم.
وكان الرشيد ولاه كورة خراسان كلها وما يضاف إليها وينسب لها قبل هذا الكلام بأيام، وخلع عليه وعقد له لواء وعسكراً بالنهروان، وضرب الناس مضاربهم بها، وهم متأهبون للسفر، فقلت: يا سيدي! أنت عازم على الخروج إلى بلدة كثيرة الخير واسعة الأقطار عظيمة المملكة، فلو صيرت بعض ضياعك لولد أمير المؤمنين لكان أحظى لمنزلتك عنده؟ فلما قلت ذلك نظر إلي مغضباً وقال: والله يا إسماعيل، ما أكل الخبز ابن عمك أو قال صاحبك إلا بفضلي، ولا قامت هذا الدولة إلا بنا، أما كفى أني تركته لا يهتم بشيء من أمر نفسه وولده وحاشيته ورعيته، وقد ملأت بيوت أمواله أموالاً، ولا زلت للأمور الجليلة أدبرها حتى يمد عينيه إلى ما ادخرته واخترته لولدي وعقبي من بعدي، وداخله حسد بني هاشم وبغيهم ودب فيه الطمع والله لئن سألني شيئاً من ذلك ليكونن وبالاً عليه سريعاً.
فقلت: والله يا سيدي، ما كان مما ظننت شيء ولا تكلم أمير المؤمنين بحرف.
قال: فما هذا الفضول منك، فقعدت بعدها هنيهة ثم قمت إلى منزلي ولم أركب إليه ولا إلى الرشيد لأني صرت بينهما في حال تهمة، وقلت في نفسي: هذا الخليفة وهذا وزيره، وأي شيء لي بالدخول بينهما؟ ولا شك في زوال نعمة البرامكة، وأن أمورهم قد انثلمت.
قال: وحدثني خادم أم جعفر: أن الخادم الذي وهبه الرشيد لجعفر كتب إلى الرشيد بما كان بيني وبينه، وما تكلم به من الكلام الغليظ.
قال: فلما قرأ الكتاب وفهم الخبر احتجب ثلاثة أيام متفكراً في إيقاع الحيلة على البرامكة فدخل في اليوم الرابع على زبيدة فخلا بها وشكا لها ما في قلبه، وأطلعها على الكتاب الذي رفعه إليه الخادم، وكان بين جعفر وزبيدة شر وعداوة قديمة فلما تملكت الحجة عليه بالغت في المكر بهم واجتهدت في هلاكهم، وكان الرشيد يتبرك بمشورتها، فقال: أشيري علي برأيك الموافق الرشيد، إني خائف أن يخرج الأمر من يدي إن تمكنوا من خراسان وتغلبوا عليها؟ فقالت: يا أمير المؤمنين! مثلك مع البرامكة كمثل رجل سكران غريق في بحر عميق، فإن كنت قد أفقت من سكرتك وتخلصت من غرفتك أخبرتك بما هو أصعب عليك وأعظم من هذا بكثير؛ وإن كنت على الحالة الأولى تركتك.
فقال لها: قد كان ما كان، فقولي أسمع منك.
فقالت: إن هذا الأمر أخفاه عنك وزيرك وهو أصعب مما أنت فيه وأقبح وأشنع.
فقال لها: ويحك، وما هو؟ فقالت: أنا أجل من أن أخاطبك به ولكن تحضر أرجوان الخادم وتشدد عليه وتوهنه ضرباً فإنه يعرفك الخبر.
وكان الرشيد قد أحل جعفراً محلاً لم يحله أخوه ولا أبوه، وأمره أن يدخل على الحريم في السفر والحضر وأبرز إليه جواريه وأخواته وبناته لأنه كان بينهما رضاع سوى امرأته زبيدة، فإنه لم يكن رآها ولا دخل عليها ولا قضى لها حاجة، ولا هي أيضاً تستقضيه حاجة، فلما فسد قلب الرشيد وعزم على هلاك البرامكة وجدت سبيلاً على البرامكة فحطت على جعفر، وكان جعفر يدخل على الحريم في غياب الرشيد ويقضي حوائجهن لأنهن لا يستترن منه، وكان ذلك بأمر الرشيد، ولم يعلم الرشيد ما حدث من جعفر.
قال: فخرج الرشيد واستدعى أرجوان الخادم وأحضر السيف. والنطع، وقال: برئت من المنصور إن لم تصدقني في حديث جعفر لأقتلنك.
فقال: الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم لك الأمان.

فقال: اعلم أن جعفراً قد خانك في أختك ميمونة، وقد دخل بها منذ سبع سنين وولدت منه ثلاث بنين: أحدهم له ست سنين، والآخر له خمس سنين والثالث عاش سنتين ومات قريباً، والاثنان قد أنفذهما إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه، وهي حامل بالرابع، وأنت أذنت له بالدخول على أهل بيتك، وأمرتني أن لا أمنعه في أي وقت شاء ليلاً أو نهاراً.
قال: أمرتك أن لا تحجبه، فحين حدثت هذه الحادثة لم لا أخبرتني أول مرة؟ ثم أمر بضرب عنقه، وقام من وقته على الفور، ودخل على زبيدة، وقال لها: أرأيت ما عاملني به جعفر وما ارتكب من هتك ستري ونكس رأسي وفضحني بين العرب والعجم؟ فقالت: هذه شهوتك وإرادتك، عمدت إلى شاب جميل الوجه حسن الثياب طيب الرائحة جبار في نفسه، أدخلته على ابنة خليفة من خلفاء الله، وهي أحسن منه وجهاً، وأنظف منه ثوباً، وأطيب منه رائحة، لكنها لم تر رجلاً قط غيره، فهذا جزاء من جمع بين النار والحطب.
فخرج من عندها مكروباً فدعا بخادمه مسروراً، وكان قاسي القلب فظاً غليظاً قد نزع الله الرحمة من قلبه، فقال: يا مسرور، إذا كان الليلة بعد العتمة فأتني بعشرة من الفعلة أجلاداً ومعهم خادمان.
قال: نعم.
فلما كان بعد العتمة جاء مسرور ومعه الفعلة والخادمان، فقام الرشيد وهم بين يديه حتى أتى المقصورة التي فيها أخته فنظر إليها وهي حامل فلم يكلمها بشيء ولم يعاتبها على ما فعلت، وأمر الخادمين بإدخالها في صندوق كبير في مقصورتها بعد قتلها ووضعها بحليها وثيابها كما هي وأقفل عليها، وقد علمت أنها بعد قتل أرجوان لاحقة به، فلما علم أنه استوثق بها دعا بالفعلة ومعهم المعاول والزنابيل فحفروا وسط تلك المقصورة حتى بلغوا الماء وهو قاعد على كرسي، ثم قال: حسبكم! هاتوا الصندوق، فدلوه في تلك الحفرة، ثم قال: ردوا التراب عليه، ففعلوا وسووا الموضع كما كان، ثم أخرجهم وأقفل الباب وأخذ المفتاح معه وجلس في موضعه والفعلة والخادمان بين يديه، ثم قال: يا مسرور! خذ هؤلاء القوم وأعطهم أجرتهم، فأخذهم مسرور وجعلهم في جواليق وخيط عليهم بعد أن ثقلهم بالصخر والحصى ورماهم في وسط الدجلة ورجع من وقته فوقف بين يديه، فقال: يا مسرور! فعلت ما أمرتك به؟ قال: وفيت القوم أجورهم.
فدفع ليه مفتاح البيت، وقال: احفظه حتى أسألك عنه، وامض الآن فانصب في وسط المحل القبة التركية.
ففعل ذلك ووافاه قبل الصبح ولم يعلم أحد ما يريد. فلما جلس في مجلسه وكان يوم الخميس يوم موكب جعفر. قال: يا مسرور لا تتباعد عني.
ودخل الناس فسلموا عليه ووقفوا على مراتبهم ودخل جعفر بن يحيى البرمكي فسلم عليه فرد عليه السلام أحسن رد ورحب به وضحك في وجهه، فجلس في مرتبته، وكانت مرتبته أقرب المراتب إلى أمير المؤمنين، ثم حدثه ساعة وضاحكه، فأخرج جعفر الكتب الواردة عليه من النواحي؛ فقرأها عليه، وأمر، ونهى، ومنع، ونفذ الأمور، وقضى حوائج الناس، ثم استأذنه جعفر في الخروج إلى خراسان في يومه ذلك، فدعا الرشيد بالمنجم، وهو جالس بحضرته فقال الرشيد: كم مضى من النهار.
قال: ثلاث ساعات ونصف.
وأخذ له الارتفاع وحسب له الرشيد بنفسه ونظر في نجمه، فقال: يا أخي، هذا يوم نحوسك، وهذه ساعة نحس، ولا أرى إلا أنه يحدث فيها حدث، ولكن تصلي الجمعة وترحل في سعودك وتبيت في النهروان وتبكر يوم السبت وتستقبل الطريق بالنهار، فإنه أصلح من اليوم.
فما رضي جعفر بما قاله الرشيد حتى أخذ الاصطرلاب من يد المنجم وقام وأخذ الطالع وحسب الطالع لنفسه، وقال: والله صدقت يا أمير المؤمنين؛ إن هذه الساعة ساعة نحسن وما رأيت نجماً أشد احتراقاً ولا أضيق مجرى من البروج في مثل هذا اليوم.

ثم قام وانصرف إلى منزله، والناس والقواد والخاص والعام من كل جانب يعظمونه ويبجلونه إلى أن وصل إلى قصره في جيش عظيم، وأمر ونهى وانصرف الناس فلم يستقر به المجلس حتى بعث إليه الرشيد مسروراً، وقال له: امض إلى جعفر وأتني به الساعة، وقل له: وردت كتب من خراسان، فإذا دخل الباب الأول أوقف الجند، وإذا دخل الباب الثاني أوقف الغلمان، وإذا دخل الباب الثالث فلا تدع أحداً يدخل معه من غلمانه، بل يدخله وحده، فإذا دخل صحن الدار فمل به إلى القبة التركية التي أمرتك بنصبها فاضرب عنقه، وائتني برأسه، ولا توقف أحداً من خلق الله على ما أمرتك به، ولا تراجعني في أمره، وإن لم تفعل أمرت من يضرب عنقك ويأتيني برأسك ورأسه جملة، وفي هذا كفاية، وأنت أعلم، وتبادر قبل أن يبلغه الخبر من غيرك.
فمضى مسرور واستأذن على جعفر فدخل عليه، وقد نزع ثيابه وطرح نفسه ليستريح، فقال: سيدي! أجب أمير المؤمنين.
قال: فانزعج وارتاع منه، وقال: ويلك يا مسرور! أنا في هذه الساعة خرجت من عنده؛ فما الخبر؟ قال: وردت كتب من خراسان يحتاج أن تقرأها.
فطابت نفسه ودعا بثيابه فلبسها وتقلد سيفه وذهب معه، فلما دخل من الباب الأول أوقف الجند وفي الثاني أوقف الغلمان، فلما دخل من الباب الثالث التفت فلم ير أحداً من غلمانه ولا الخادم الفرد، فندم على ركوبه تلك الساعة ولم يمكنه الرجوع، فلما صار بإزاء تلك القبة المضروبة في صحن الدار مال به إليها وأنزله عن دابته وأدخله القبة فلم ير فيها أحداً.
وفي رواية: رأى فيها سيفاً ونطعاً فحس بالبلاء، وقال لمسرور: يا أخي ما الخبر؟ فقال له مسرور: أنا الساعة أخوك، وفي منزلك تقول لي: ويلك! أنت تدري ما القضية؟ وما كان الله ليهملك ولا ليغفلك، فقد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك وحمل رأسك إليه الساعة.
فبكى جعفر وجعل يقبل يدي مسرور ورجليه، ويقول: يا أخي! يا مسرور، قد علمت كرامتي لك دون جميع الغلمان والحاشية، وأن حوائجك عندي مقضية في سائر الأوقات، وأنت تعرف موضعي ومحلي من أمير المؤمنين، وما يوحيه إلي من الأسرار، ولعل أن يكونوا بلغوه عني باطلاً، وهذه مائة ألف دينار أحضرها لك الساعة قبل أن أقوم من موضعي هذا، وخلني أهيم على وجهي.
فقال لا سبيل إلى ذلك أبداً.
قال: فاحملني إليه وأوقفني بين يديه، فلعله إذا وقع نظره علي تدركه الرحمة فيصفح عني؟ قال: ما لي سبيل إلى ذلك أبداً، ولا يمكنني مراجعته، وقد علمت أنه لا سبيل إلى الحياة أبداً.
قال: فتوقف عني ساعة وارجع إليه، وقل له: قد فرغت مما أمرتني به، واسمع ما يقول، وعد فافعل ما تريد، فإن فعلت ذلك وحصلت لي السلامة، فإني أشهد الله وملائكته أني أشاطرك في نعمتي مما ملكته يدي وأجعلك أمير الجيش وأملكك أمر الدنيا.
ولم يزل به وهو يبكي حتى طمع في الحياة، فقال له مسرور: ربما يكون ذلك.
وحل سيفه ومنطقته وأخذهما ووكل به أربعين غلاماً من السودان يحفظونه ومضى مسرور ووقف بين يدي الرشيد وهو جالس يقطر غضباً، وفي يده قضيب ينكث به الأرض. فلما رآه قال له: ثكلتك أمك ما فعلت في أمر جعفر؟ فقال: يا أمير المؤمنين قد أنفذت أمرك فيه.
فقال: فأين رأسه؟ فقال: في القبة.
قال: فأتني برأسه الساعة.
فرجع مسرور وجعفر يصلي، وقد ركع ركعة فلم يمهله أن يصلي الثانية حتى سل سيفه الذي أخذه منه وضرب عنقه وأخذ رأسه بلحيته فطرحه بين يدي أمير المؤمنين، وهو يشخب دماً فتنفس الصعداء وبكى بكاء شديداً وجعل ينكت الأرض أثر كل كلمة ويقرع أسنانه بالقضيب، ويخاطبه، ويقول: يا جعفر ألم أحلك محل نفسي؟ يا جعفر! ما كافأتني ولا عرفت حقي ولا حفظت عهدي ولا ذكرت نعمتي ولا نظرت في عواقب الأمور، ولا تفكرت في صروف الدهر، ولا حسبت تقلب الأيام واختلاف أحوالها، يا جعفر خنتني في أهلي وفضحتني بين العرب والعجم، يا جعفر، أسأت إلي وإلى نفسك ولا تفكرت في عاقبة أمرك.

قال مسرور: وأنا واقف بين يديه، وهو ينكت الأرض في كل كلمة، وملم يزل كذلك إلى أن أذن لصلاة الظهر، فدعا بماء فتوضأ للصلاة وخرج للجامع فصلى بالناس جماعة، ثم التفت بوجهه لقصور جعفر ودوره وقبض على أبيه وأخيه وجميع أولاد البرامكة ومواليهم وغلمانهم واستباح ما فيها، ووجه مسروراً إلى العسكر فأخذوا جميع ما فيه من مضارب وخيام وسلاح وغير ذلك. فلما أصبح يوم السبت، فإذا هو قد قتل من البرامكة وحاشيتهم نحو ألف إنسان، وترك من بقي منهم لا يرجع إلى وطنه وشتت شملهم في البلاد، ولم يقدر أحد منهم على كسرة خبز، وحبس أباه يحيى وأخاه الفضل في مطمورة، وأمر بجثة جعفر فصلبت على الجسر ببغداد، ثم بعث إلى خراسان أن يوطن بلادها، وأمر الناس فردوا مضاربهم ودخل العسكر، ثم وجه إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بالصبيين ولدي جعفر من أخته ميمونة فأدخلا عليه في بيته، فلما رآهما أعجب بهما وكانا في نهاية من الحسن والجمال، فاستنطقهما فوجد لغتهما مدنية وفصاحتها هاشمية، وفي ألفاظهما عذوبة وبلاغة، فقال لكبيرهما: ما اسمك يا قرة عيني؟ قال: الحسن.
قال للصغير: ما اسمك يا حبيبي؟ قال: الحسين.
فنظر إليهما وبكى بكاء شديداً، ثم قال: يعز علي حسنكما وجمالكما لا رحم الله من ظلمكما ولم يدريا ما يراد بهما، ثم قال: ما فعلت بالمفتاح الذي دفعته لك وأمرتك بحفظه؟ قال: هو حاضر يا أمير المؤمنين.
قال: فائتني به.
ثم دعا بجماعة من الغلمان والخدم وأمرهم أن يحفروا في البيت حفرة عميقة ودعا مسروراً وأمره بقتلهما ودفنهما مع أمهما في تلك الحفرة، رحمهم الله تعالى جميعاً، وهو مع ذلك يبكي بكاء شديداً حتى ظننت أنه رحمهما، ثم مسح عينيه من الدموع وأمر أن لا تذكر البرامكة في مجلس، ولا يستعان بمن بقي منهم في المدينة أبداً، فخرجوا على وجوههم في البلاد شاردين متنكرين وقطع الله دابرهم.
قال: فلما كان بعد مدة من هلاك البرامكة وجد الرشيد رقعة تحت مصلاه فيها خطاب وأبيات من الشعر فبحث عنها، فقيل: إن صاحب السر عملها، فبعث إليه فسأله عنها، فقال: يا أمير المؤمنين وجدتها في صحن الدار، ولا أعلم من طرحها فأخذتها وطرحتها تحت مصلاك، فقيل: إن ذلك من زبيدة لتهلك من بقي من البرامكة فعملت الرقعة للرشيد وحركته وزادت في غيظه، فاستدعى في الوقت بالفضل بن يحيى وضربه سياطاً حتى كاد يهلكه وزاد في حديده وأغلاله، ثم استدعى يحيى وكان شيخاً كبيراً، وزاد في حديده وأغلاله أيضاً، وكان قد أنشأ في النعيم، فتذكر فقد جعفر وتشتت الأهل، فكتب كتاباً إلى الرشيد يستعطفه ويسأله أن يخفف عنه من القيد والغل، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى أمير المؤمنين ونسل المهديين وإمام المسلمين وخليفة رسول الله رب العالمين، من عبد أسلمته ذنوبه وأوثقته عيوبه وخذله شقيقه ورفضه صديقه وخانه الزمان وأناخ عليه الخذلان ونزل به الحدثان فصار إلى الضيق بعد السعة، وعالج الموت بعد الدعة، وشرب كأس الموت مترعة، وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل بالسهر بعد الكرى، فنهاره فكر ونومه سهر، وساعته شهر وليله دهر قد عاين الموت مراراً وشارف الهلاك جهاراً، يا أمير المؤمنين، قد أصابتني مصيبتان: الحال والمال، أما المال، فإن ذلك منك ولك، وكان في يدي عارية منك، ولا بأس برد العواري إلى أهلها، وما المصيبة بجفعر فبجرمه وجراءته وعاقبته بما استخف من أمرك وكان جزاؤه فوق ما استحق، وأما الفقير، فاذكر يا أمير المؤمنين خدمتي وارحم ضعفي ووهن قوتي وهب لي رضاك فمن مثلي الزلل ومن مثلك الإقالة، ولست أعتذر ولكن أقر وقد رجوت أن أفوز برضاك فتقبل عذري وصدق نيتي وظاهر طاعتي وتلويح حجتي ففي ذلك ما يكتفي به أمير المؤمنين ويرى الحقيقة فيه ويبلغ المراد منه، ثم أنشأ يقول:
قل للخيلفة ذي الصنا ... ئع والعطايا الفاشيه
وابن الخلائف من قري؟ ... شٍ والملوك العاليه
رأس الأمور وخير من ... ساس الأمور الماضيه
إن البرامكة الذي؟ ... ن رموا لديك بداهيه
عمتهمو لك سخطة ... لم تبق منهم باقية
؟فكأنهم مما بهم أعجاز نخل خاويه
صفر الوجوه عليهم ... خلع المذلة باديه

مستضعفون ومطردو ... ن بكل أرضٍ قاصيه
بعد الإمارة والوزا ... رة والأمور الساميه
ومنازل كانوا بها ... فوق المنازل عاليه
أضحوا، وجل منا همو ... منك الرضا والعافيه
يا من يريد لي الردى ... يكفيك ويحك ما بيه
يكفيك أني مستبا ... ح عترتي ونسائيه
يكفيك ما أبصرته ... ذلي وذل مكانيه
فلقد رأيت الموت من قبل الممات علانيه
وبكاء فاطمة الكبي؟ ... رة والدموع الجاريه
ومقالها بتفجع: ... يا سوأتي وشقائيه
من لي، وقد غلب الزما ... ن على جميع رجاليه
يا لهفَ نفسي، لهفاً ... ما للزمان وما ليه
أوما سمعت مقالتي ... يا ذا الفروع الزاكيه
يا عطفة الملك الرضا ... عودي علينا ثانيه
فلما وقف الرشيد على الرقعة، كتب على ظهرها هذه الأبيات:
يا آل برمك! إنكم ... كنتم ملوكاً عاتيه
فعصيتمو وطغيتمو ... وكفرتمو نعمائيه
هذي عقوبة من عصى ... من فوقه وعصانيه
أجري القضاء عليكمو ... ما خنتموه علانيه
من ترك نصح إمامكم ... عند الأمور الباديه
ثم أردفه بقوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم " وضرب الله مثلاً، قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " فلما قرأها يحيى، وهو بالسجن، أخذته الحمى لوقته وساعته، وكان ينام على التراب وأيس من الحياة، وعلم أنه ليس له مخلص مما هو فيه من السجن، انتهى.

أحسن ما رأى جعفر
وقيل ليحيى بن خالد برمك: أيها الوزير، أخبرنا بأحسن ما رأيت في أيام سعادتك؟ قال: ركبت يوماً في بعض الأيام في سفينة أريد التنزه، فلما خرجت برجلي لأصعد، فاتكأت على لوح من ألواحها وكان بأصبعي خاتم فطار فصه من يدي، وكان ياقوتاً أحمر قيمته ألف مثقال من الذهب، فتطيرت من ذلك. ثم عدت إلى منزلي، وإذا بالطباخ قد أتى بذلك الفص بعينه، وقال: أيها الوزير لقيت هذا الفص في بطن حوت، وذلك لأني اشتريت حيتاناً للمطبخ، فشققت بطنها فرأيت هذا الفص، فقلت: لا يصلح هذا إلا للوزير أعزه الله تعالى. فقلت الحمد لله هذا بلوغ الغاية.
أعظم ما مر به
وقيل له: أخبرنا ببعض ما لقيت من المحن؟ قال: اشتهيت لحماً في قدر طباخ، وأنا في السجن فغرمت ألف دينار في شهوتي حتى أتيت بقدر ولحم مقطع في قصبة فارسية، والخل وسائر حوائجها في قصبة أخرى وتركوا عندي ما أحتاج إليه، وأتيت بنار فأوقدت تحت القدر ونفخت، ولحيتي في الأَرض حتى كادت روحي تخرج. فلما أنضجت تركتها تفور وتغلي وفتت الخبز وعمدت لأنزلها فانفلتت وانكسرت القدر على الأرض، فبقيت ألتقط اللحم وأمسح منه التراب وآكله. وذهب المرق الذي كنت أشتهيه، وهذا عظم ما مر بي، انتهى.
؟
موت يحيى البرمكي
ثم إن الرشيد نذر الحج، فخرج وخرج معه العسكر وكان خروجه في رمضان، فكانت تضرب له السرادقات المكللة بالديباج مفروشة بالحرير، يخرج من سرادق إلى سرادق، والناس محدقون به، حتى وصل إلى الحرم وحج. فاتفق أن الوفاة دنت من يحيى، وهو في السجن، فكتب رقعة وأوصى ولده الفضل أن يوصلها إلى الرشيد وكتب فيها هذه الأبيات:
ستعلم في الحساب إذا التقينا ... غداً، يومَ القيامة، من الظلومُ
؟وينقطع التلذذ عن أناس ... من الدنيا، وتنقطع الهموم
تنام ولم تنم عنك المنايا ... تنبه للمنية يا نؤوم
تروم الخلد في دار المنايا ... وكم قد رام غيرك ما تروم
؟إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم قال: فلما قدم الرشيد أنفذها إليه الفضل. فلما قرأها علم بموته فقال: مات والله يحيى، ومات الجود والكرم والسخاء، والله لو كان حياً لفرجت عنه، ثم أمر بإطلاق الفضل ابنه واستوزره مكان أخيه جعفر، رحمة الله عليهم أجمعين.
؟مدح البرامكة قال بعضهم في البرامكة:

إن البرامكة الكرام تعلموا ... فعل الكرام فعلموه الناسا
كانوا إذا غرسوا سقوا، وإذا بنوا ... لم يهدموا مما بنوه أساسا
وإذا همو صنعوا الصنائع في الورى ... جعلوا لها طولَ البقاء لباسا
فعلام تقصيني وأنت سقيتني ... من مر هجرك، من جنابك كاسا
آنستني متفضلاً، أفلا ترى ... أن انقطاعك يُوحش الإيناسا
؟

رأي الموصلي بالبرامكة
وسئل إسحاق الموصلي أن سخاء أولاد يحيى بن خالد، فقال: أما الفضل ففعله يُرضيك، وما جعفر فقوله يرضيك، وأما محمد فيفعل ما يجد، وفي يحيى يقول القائل:
سألت الندى: هل أنت حر، فقال لا ... ولكنني عبد ليحيى بن خالد
فقلت: شراءً قال: لا بل وراثةً ... توارثني من والد بعد والد
وفي الفضل يقول القائل:
إذا نزل الفضل بن يحيى ببلدةٍ ... رأيت بها عشب السماحة ينبت
فليس بسعال إذا سيل حاجةً ... ولا بمكب في ثرى الأرض ينكت
وفي محمد يقول القائل:
سألت الندى والجود: مالي أراكما ... تبدلتما عزاً بذل مؤيد؟
وما بال ركن المجد أمسى مهدماً؟ ... فقالا: أَحبنا في ابن يحيى محمد
فقلت: فهلا متما بعد موته ... وقد كنتما عبديه في كل مشهد؟
فقالا أقمنا كي نعزي بفقده ... مسافة يوم ثم نتلوه في غد
منتهى الكرم للبرامكة
وذكر الحافظ السيوطي: نفعنا الله به في رسالته: مشتهر العقول في منتهى النقول، أن منتهى الكرم للوزراء البرامكة، كاد أن لا يوجد أحد من العلماء والحكماء والعظماء والندماء إلا وللبرامكة عليه كرم نما كماء السماء، وتكرم جعفر بخمسين ألف دينار من الذهب وتكرر منه كثيراً في ولايته كلها من غير من ولا أذى ولا لغرض ولا لمرض، حتى صار يضرب بهم المثل الأكبر بقولهم: تبرمك فلان.
ومن كرم جعفر أنه تكرم في ويوم على ألف شاعر، أعطى كل شاعر ألف درهم، والدرهم ثلاثة أًصناف فضة. ومن كرمه أنه تكرم على من هجاه بخمسة آلاف دينار وعفا عن تأديبه وتعذيبه.
فقر البرامكة وذلهم
ولما أوقع بهم من الأمر ما أوقع الرشيد، صار أمرهم إلى ما سيوصف من الفقر والذل والإهانة، فمن ذلك ما قاله محمد بن غسان صاحب ولاية الكوفة وقاضيها. قال: دخلت على أمي في يوم عيد أضحى فرأيت عندها عجوزاً في أطمار رثةٍ، وإذا لها بيانٌ ولسانٌ، فقلت لأمي: من هذه؟ قالت: هذه خالتك عتابة أم جعفر البرمكي بن يحيى.
فسلمت عليها، وقلت لها: أصار بك الدهر إلى ما أرى؟ قالت: نعم يا بني، إن الذي كنا فيه كان عارية ارتجعها الدهر منا.
قال: فقلت حدثيني ببعض شأنك؟ قالت: خذه جملة! لقد مضى علي عيد أضحى مثل هذا منذ ثلاث سنين، وعلى رأسي أربعمائة وصيفة، وأنا أزعم أن ابني عاق لي، وقد جئتكم اليوم أطلب جلدي شاة أجعل أحدهما شعاراً والآخر دثاراً.
قال: فغمني ذلك وأبكاني، فوهبت لها بعض دنانير كانت عندي والله أعلم.
من أقوال البرامكة
من قول يحيى بن خالد لابنه جعفر: يا بني، ما دام قلمك يرعف فامطره معروفاً.
ومن كلام جعفر: إذا أحببت إنساناً من غير سبب فارج خيره، وإذا أبغضت إنساناً من غير سبب فتوق شره.
الرشيد يبكي على البرامكة
قال يحيى بن سلام الأبرش، قال: حدثني أبي قال: خرج الرشيد للصيد يوماً بعدما أباد البرامكة فاجتاز بجدار خراب من جدران بني برمك فرأى لوحاً مكتوباً عليه هذه الأبيات:
يا منزلاً لعب الزمان بأهله ... فأبادهم بتفرق لا يجمع
إن الذين عهدتهم فيما مضى ... كان الزمان بهم يضر وينفع
أصبحت تفزع من رآك، وطالما ... كنا إليك من المخاوف نضرع
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقي الذين حياتهم لا تنفع
قال: فبكى الرشيد، وأقبل على الأصمعي وقال: أتعرف شيئاً من أخبار البرامكة تحدثني به؟ فقال الأصمعي: ولي الأمان.
قال: ولك الأمان.

فقال: أحدثك بشيء شاهدته بعيني من الفضل بن يحيى، وذلك أنه خرج يوماً للصيد والقنص، وهو في موكبه، إذ رأى أعرابياً على ناقة قد أقبل من صدر البرية يركض في سيره، قال: هذا يقصدني.
فقلت: ومن أعلمك؟ قال: لا يكلمه أحدٌ غيري.
فلما دنا الأعرابي ورأى المضارب تضرب والخيام تنصب والعسكر الكثير، والجم الغفير، وسمع الغوغاء والضجة، ظن أنه أمير المؤمنين، فنزل وعقل راحلته وتقدم وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
قال: الآن قاربت، اجلس.
فجلس الأعرابي فقال له الفضل: من أين أقبلت يا أخا العرب؟ قال: من قضاعة.
قال: من أدناها أم من أقصاها؟ قال: من أقصاها.
قال الأصمعي: فالتفت إلي الفضل وقال: كم من العراق إلى أرض قضاعة.؟ فقلت: ثمانمائة فرسخ.
فقال: يا أخا العرب، مثلك لم يقصد من ثمانمائة فرسخ إلى العراق إلا لشيء.
قال: قصدت هؤلاء الأماجد الأنجاد الذين قد اشتهر معروفهم في البلاد.
قال: من هم؟ قال: البرامكة.
قال الفضل: يا أخا العرب البرامكة خلق كثير، وفيهم جليل وخطير، ولكن منهم خاصة وعامة، فهلا أفردت لنفسك منهم من اخترت لنفسك وأتيته لحاجتك؟ قال: أجل! أطولهم باعاً وأسمحهم كفاً.
قال: من هو؟ قال: الفضل بن يحيى بن خالد.
فقال له الفضل: يا أخا العرب، إن الفضل جليل القدر عظيم الخطر، إذا جلس للناس مجلساً عاماً لم يحضر مجلسه إلا العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والكتاب والمناظرون للعم، أعالم أنت؟ قال: لا.
قال: أفأديب أنت؟ قال: لا.
قال: أفعارفٌ أنت بأيام العرب وأشعارها؟ قال: لا.
قال: هل وردت على الفضل بكتاب وسيلة؟ قال: لا.
فقال: يا أخا العرب غرتك نفسك، مثلك يقصد الفضل بن يحيى، وهو كما عرفتك عنه من الجلالة، بأي ذريعة أو وسيلة تقدم عليه؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما قصدته إلا لإحسانه المعروف وكرمه الموصوف وبيتين من الشعر قلتهما فيه.
فقال الفضل: يا أخا العرب أنشدني البيتين فإن كانا يصلحان أن تلقاه بهما أشرت عليك بلقائه، وإن كانا لا يصلحان أن تلقاه بهما بررتك بشيء من مالي ورجعت إلى باديتك وإن كنت لم تستحق بشعرك شيئاً. قال: أفتفعل أيها الأمير؟ قال: نعم.
قال: فإني أقول:
ألم تر أن الجود من عهد آدم ... تحدر حتى صار يملكه الفضل
ولو أن أماً قضها جوع طفلها ... ونادت على الفضل بن يحيى اغتذى الطفل
قال: أحسنت يا أخا العرب. فإن قال لك هذان البيتان قد مدحنا بهما شاعر، وأخذ الجائزة عليهما، فأنشدني غيرهما فما تقول؟ قال: أقول:
قد كان آدم حين حان وفاته ... أوصاك، وهو يجود بالحوباء
ببنيه أن ترعاهمو، فرعيتهم ... وكفيت آدم عيلة الأبناء
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل ممتحناً: هذان البيتان أخذتهما من أفواه الناس، فأنشدني غيرهما ما تقول، وقد رمقتك الأدباء بالأبصار، وامتدت الأعناق إليك، وتحتاج أن تناضل عن نفسك؟ قال: إذن أقول:
ملت جهابذ فضل وزن نائله ... ومل كاتبه إحصاء ما يهب
والله لولاك لم يمدح بمكرمة ... خلق، ولم يرتفع مجد ولا حسب
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك هذان البيتان أيضاً أخذتهما من أفواه الناس ما كنت قائلاً؟ قال: أقول:
وللفضل صولات على مال نفسه ... يرى المال منه بالمذلة والعنا
ولو أن رب المال أبصر ماله ... لصلى على مال الأمير وأذنا
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: هذان البيتان مسروقان، أنشدني غيرهما ما تقول؟ قال: إذن أقول:
ولو قيل للمعروف ناد أخا العلا ... لنادى بأعلي الصوت يا فضل يا فضل
ولو أنفقت جدواك من رمل عالج ... لأصبح من جدواك قد نفد الرمل
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: هذان البيتان مسروقان أيضاً أنشدني غيرهما ما تقول؟ قال: أقول:
وما الناس إلا اثنان: صب وباذلٌ ... وإني لذاك الصب والباذل الفضل
على أن لي مثلاً كما ذكر الورى ... وليس لفضلٍ في سماحته مثل

قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: أنشدني غيرهما ما تقول؟ قال: أقول أيها الأمير:
حكى الفضل عن يحيى سماحة خالد ... فقامت به التقوى وقام به العدل
وقام به المعروف شرقاً ومغرباً ... ولم يك للمعروف بعدٌ ولا قبل
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك: قد ضجرنا من الفاضل والمفضول أنشدني بيتين على الكنية لا على الاسم ما تقول؟ قال: إذن أقول:
ألا يا أبا العباس يا واحد الورى ... ويا ملكاً خد الملوك له نعل
إليك تسير الناس شرقاً ومغرباً ... فرادى وأزواجاً كأنهم نحل
قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: أنشدنا غير الاسم والكنية والقافية.
قال: والله لئن زادني الفضل وامتحنني بعد هذا لأقولن أربعة أبيات ما سبقني إليها عربي ولا أعجمي، ولئن زادني بعدها لأجمعن قوائم ناقتي هذه وأجعلها في حر أم الفضل وأرجعن إلى قضاعة خاسراً، ولا أبالي. فنكس الفضل رأسه، وقال للأعرابي: يا أخا العرب أسمعني الأبيات الأربعة: قال: أقولك
ولائمةٍ لامتك، يا فضل، في الندى ... فقلت لها: هل يقدح اللوم في البحر
أتنهين فضلاً عن عطاياه للغنى ... فمن ذا الذي ينهى السحاب عن القطر
كأن نوال الفضل في كل بلدةٍ ... تحدر هذا المزن في مهمة قفر
كأن وفود الناس في كل وجهة ... إلى الفضل لاقوا عنده ليلة القدر
قال: فأمسك الفضل عن فيه، وسقط على وجهه ضاحكاً، ثم رفع رأسه وقال: يا أخا العرب، أنا والله الفضل بن يحيى، سل ما شئت.
فقال: سألتك بالله أيها الأمير إنك لهو؟ قال: نعم.
قال له: فأقلني.
قال: أقالك الله، اذكر حاجتك.
قال: عشرة آلاف درهم.
قال الفضل: ازدريت بنا وبنفسك، يا أخا العرب، تعطى عشرة آلاف درهم في عشرة آلاف.
وأمر بدفع المال، فلما صار المال إليه حسده وزيره الفضل، وقال: يا مولاي هذا إسراف يأتيك جلف من أجلاف العرب بأبيات استرقها من أشعار العرب فتجزيه بهذا المال؟ فقال: استحقه بحضوره إلينا من أرض قضاعة.
قال الوزير: أقسمت عليك يا مولاي إلا أخذت سهماً من كنانتك وركبته في كبد قوسك وأومأت به إلى الأعرابي فإن رد عن نفسه ببيت من الشعر، وإلا استعدت مالك، ويكون له في بعضه كفاية.
فأخذ الفضل سهماً وركبه في كبد قوسه وأومأ به إلى الأعرابي وقال له: رد سهمي ببيت من الشعر؟ فأنشأ يقول:
لقوسك قوس الجود والوتر والندى ... وسهمك سهم العز فارم به فقري
قال: فضحك الفضل وأنشأ يقول:
إذا ملكت كفي منالاً ولم أنل ... فلا انبسطت كفي ولا نهضت رجلي
على الله إخلاف الذي قد بذلته ... فلا مسعدي بخلي ولا متلفي بذلي
أروني بخيلاً نال مجداً ببخله ... وهاتوا كريماً مات من كثرة البذل
ثم قال الفضل لوزيره: أعط الأعرابي مائة ألف درهم لقصده وشعره، ومائة ألف درهم ليكفينا شر قوائم ناقته.
فأخذ الأعرابي المال وانصرف، وهو يبكي فقال له الفضل: مم بكاؤك يا أعرابي استقلالاً بالمال الذي أعطيناك؟ قال: لا، ولكني أبكي على مثلك يأكله التراب وتواريه الأرض، وتذكرت قول الشاعر:
لعمرك ما الرزية فقد مال ... ولا فرس يموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حر ... يموت لموته خلقٌ كثير
وتوجه الأعرابي بالمال مسروراً رحمة الله عليهم أجمعين.

الرشيد وذقن أبي نواس
ويحكى أن الرشيد قال لأبي نواس: بعني ذقنك؟ قال: بكم؟ قال: بألف دينار.
قال: بعتك.
فقال الرشيد لخازن داره: ادفع له ألف دينار، فدفعها له فأخذها وربطها وقال: يا أمير المؤمنين خذ ما اشتريت.
قال: لا، ولكن جعلتها وديعة عندك.

قال: فمضى أبو نواس واشتغل بأمره ولهوه، وهو خائف على ذقنه من أمير المؤمنين. قال: فبينما هو متفكر في شيء يفعله إذ جاء قاصد أمير المؤمنين، فلم يقدر أن يتكلم دون أن قام معه ودخل إلى دار الخلافة، فوجده في جمع كثير من خواص المملكة وأعوان الدولة، وكان من شأنه أن يجلس بالقرب من أمير المؤمنين، فتحادثوا وتماجنوا فضرط أبو نواس ضرطة مزعجة أزعجت الحاضرين، فضحكوا جميعاً، وضحك أمير المؤمنين وقال له: في ذقنك يا معرص.
فقال له في الحال: الله أعلم هي ذقن من؟ فقال أمير المؤمنين: قد وهبتها لك يا معلون.
فأخذها وانصرف وكسب الألف دينار بهذه الحيلة والله أعلم، انتهى.

يضرب الشاة الحد
وكان نصر بن مقبل عاملاً على الرقة، فتي برجل من الظرفاء وجده ينكح شاة فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: أيها الأمير، إنها والله ملك يميني، وقد قال الله تعالى: " أو ما ملكت أيمانكم " .
فأطلقه وأمر بضرب الشاة الحد، فإن ماتت تصلب.
قالوا: أيها الأمير إنها بهيمة.
قال: وإن كانت بهيمة فإن الحدود لا تعطل وإن عطلتها فبئس الوالي أنا.
فانتهى إلى الرشيد خبرها ولم يكن رآه قبل فدعا به فلما حضر بين يديه، قال: من أنت؟ قال: مولى لكلب.
فضحك منه ثم قال: كيف بصرك بالحكم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، البهائم عندي والناس سواء، ولو وجب حد على بهيمة، وكانت أمي أو أختي لحديتها ولم تأخذني في الله لومة لائم. فأمر الرشيد أن لا يستعان به على عمل فلم يزل معطلاً إلى أن مات، والله أعلم.
؟
الرشيد يأمر بقتل أبي نواس
ويحكى أن هارون الرشيد أمر بقتل أبي نواس فقال: أتقتلني شهوةً لقتلي؟ فقال: لا، بل أنت مستحق للقتل.
قال: فيم استحقيت القتل؟ قال: بقولك:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
فقال: يا أمير المؤمنين، أفتعلم أنه سقاني وشربت؟ فقال له أمير المؤمنين: أظن ذلك.
فقال: يا أمير المؤمنين، أفتقتلني على الظن، وقد قال الله تعالى: " إن بعض الظن إثم " .
فقال له الرشيد: قد قلت ما تستحق به القتل.
فقال: ما هو؟ فقال له: قولك:
ما جاءنا أحدٌ يخبر أنه ... في جنةٍ من ماتَ أو في نار
فقال له: يا أمير المؤمنين! هل جاءنا أحدٌ؟ قال: لا.
قال: أتقتلني على الصدق؟ فقال له الرشيد: أولست القائل:
يا أحمدُ المرتجى في كل نائبة ... قم سيدي نعص جبار السموات
فقال له: يا أمير المؤمنين! أوصار القول فعلاً؟ قال: لا أعلم.
قال: أفتقتلني على ما لم تعلم.
فقال له أمير المؤمنين: دع هذا كله، فقد اعترفت في مواضع كثيرة من شعرك بالزنا.
قال أبو نواس: قد علم الله هذا قبل علم أمير المؤمنين بقوله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقلون ما لا يفعلون " .
فقال الرشيد: خلوا عنه.
ومن هذا أخذ الصفي الحلي فقال:
نحن الألى جاء الكتاب مخبراً ... بعفاف أنفسنا وفسق الألسن
تغفر ذنوبه بأبيات
ٍ
وعن محمد بن نافع، قال: رأيت أبا نواس في النوم بعد موته، فقلت: يا أبا نواس!.
فقال: لاحين كنيت.
فقلت: الحسن بن هانئ.
قال: نعم.
قلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بأبياتٍ قلتها عي علتي قبل موتي هي تحت الوسادة.
فسألت أهله فقلت: هل قال أخي شعراً؟ قالوا: لا نعلم! إلا أنه دعا بدواة وقرطاس وكتب شيئاً لا ندري ما هو.
فدخلت ورفعت وسادته وإذا أنا برقة مكتوب فيها:
يا رب! إن عظمت ذنوبي كثرةً ... فلقد علمت بان عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ ... فمن الذي يدعو ويرجو المجرم
مالي إليك وسيلةٌ إلا الرجا ... وجميل عفوك ثم إني مسلم
هذه حكاية العجمي والكردي
وما جرى بينهما على يد القاضي بسبب الجراب
قيل إن الخليفة هارون الرشيد قلق ليلة، فاستدعى بوزيره جعفر البرمكي، فلما حضر عنده قال له: يا جعفر، غني قلقت وضاق صدري وأريد منك شيئاً يشرح خاطري.
فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين، إن لي صديقاً اسمه علي العجمي، وعنده من جميع الحكايات والأخبار.
فقال: علي به.
فقال: سمعاً وطاعةً.

ثم إن جعفراً خرج من عند الخليفة في طلب علي العجمي، فأرسل خلفه فلما حضر قال: أجب أمير المؤمنين.
قال: سمعاً وطاعة.
فأتى الخليفة فسلم وترحم، فقال له: اجلس فجلس، فقال له الخليفة: اسمع يا علي، إنني الليلة ضيق الصدر، وسمعت عنك أن في ذهنك حكاياتٍ وأخباراً وأريد منك أن تسمعني ما يزل همي وفكري.
فقال: يا أمير المؤمنين، تريد أن أحكي لك شيئاً سمعته أو رأيته؟ فقال: إن كنت رأيت شيئاً فاحكه.
فقال: سمعاً وطاعةً؟! اعلم يا أمير المؤمنين أني سافرت في بعض السنين من بلدي إلى هذه المدينة، وهي بغداد، وصحبني غلام ظريف ومعه جراب نظيف، فأودعني إياه. فبينا أنا أبيع وأشتري، وإذا أنا برجل كردي ظالم معتد هجم علي وأخذ الجراب مني وقال: هذا الجراب جرابي، وكل ما فيه قماشي وثيابي.
فقلت: يا معشر الناس قد اعتراني الوسواس.
فقال الناس جميعاً: امضوا إلى القاضي، وكل بحكمه راضي.
فدخلنا عليه، وتمثلنا بين يديه، فقال القاضي: في أي شيء جئتما؟ فقال الكردي: نحن خصمان.
قال: أيكما المدعي؟ فتقدم الكردي، وقال: أيد الله مولانا القاضي! هذا الجراب جرابي، وكل ما فيه قماشي وثيابي، وقد ضاع ووجدته مع هذا الرجل.
فقال القاضي: ومتى ضاع منك؟ فقال الكردي: ضاع مني بالأمس.
فقال القاضي: إن كنت عرفته فصف لي ما فيه.
فقال الكردي: إن في جرابي هذا مرودين من لجين، وأكحالاً لعينين، ومنديلاً لليدين، ومشربتين مذهبتين، وشمعدانين ومكبتين وطبقين، وإبريقين، وصينية وطشتين، وقدر ودستين، ومغرفة وملعقتين، ومسلة ومقلمةٌ وملبتين، وقعباً وقصعتين، ومخدة ونطعين، وجبة وفروتين، وبقرة وعجلتين، وعنزاً وشاتين، ونعجة وخروفين، وقطين أبلقين، وجملاً وناقتين، وبقرة وثورين، ولبوة وسبعين، ودبة وثعلبين، ومرتبة وسريرين، وطبقة وقاعتين، ورواقاً ومقعدين، ومطبخاً ببابين، وجماعة أكرادٍ يشهدون أن الجراب جرابي.
فقال القاضي: فما تقول أنت يا علي؟ فتقدمت يا أمير المؤمنين، وقد بهتني كلامه فقلت: أعز الله مولانا القاضي، أنا ما في جرابي إلا دويرة حراب وأخرى بلا باب ومقصورة للكلاب وفيه للصبيان كتاب وشبان يلعبون بالكعاب، وفيه عساكر وأطناب ومدينة بصرى وبغداد، وقصر كنعان بن شداد، وكور وحداد، وشبكة وصياد وعصا وأوتاد، وبنات وأولاد وألف قواد يشهدون أن الجراب جرابي.
فلما سمع الكردي هذا الكلام بكى وانتحب وقال: يا سيدي القاضي، جرابي هذا معروف، وكل ما فيه موصوف، في جرابي هذا حصون وقلاع وقرى وضياع وطابق للصِراع ووحوش وضباع ورجال يلعبون الطابة والرقاع، وإن في جرابي هذا حجرة ومهرين وفحلاً وحصانين ورمحين طويلين وسبعاً وأرنبين، وسكيناً وخنجرين، وبحراً وخليجين، وكمراً وجوختين، وعشاري وموكبين، وصاري وقريتين، وكوراً ودكانين، ومنقلة ونردين، وعجوزاً وقحبتين، وقواداً وشاطرين ومخنثاً وعلقين وأعمى وبصيرين وأعرج وكسيحين وعياراً وأزعرين وجامعاً ومدرستين وديراً وكنيستين وقسيساً وشماسين وبطركاً وراهبين وقاضياً وشاهدين يشهدون أن الجراب جرابي.
فقال القاضي: ما تقول أنت يا علي.

فبادرت يا أمير المؤمنين، وقد امتلأت غيظاً وزدت في الحمق وقلت: أيد الله مولانا القاضي! إن في جرابي هذا زردخانات صِفاح، وخزائن سلاح، وألف كبش نطاح في عشرين مراح، وأربعين كلباً نباح، وبساتين وكروم عنب وتين وتفاح، وصوراً وأشباحاً وقناني وأقداحاً وعرائس ملاحاً ومغاني وأفراحاً وهرجاً وصياحاً وعبداً وفلاحاً وأخاه نجاحاً ورفيقه صباحاً، ومعهم سيوف ورماح، وقسي ونشاب وأصدقاء وأحباب وخلان وأصحاب ومجلس للعتاب وندمان للشراب، وطنبور مع رباب، ونايات وقنان مصفوفات، وصبيان ودايات، وأخوات معلمات، وبنات متجليات وجوار مغنيات وجوار حبشيات وثلاث هنديات وأربع بدويات وخمس روميات وست تركيات وسبع عجميات وثماني قفجيات وتسع كرجيات وعشر كلبات، والدجلة الفرات وشبكة وصياد وقداحة وزناد، وإرم ذات العماد، وألف جواد، وقصر شداد بن عاد، وخانات مع حمامات، وقدوم ونجار وخشبة مع مسمار وتاجر مع عطار، وبزار مع بيطار، وعبد أسود بمزمار ومقدم وركبدار ومدن وأمصار ومائة ألف دينار، وبواب وكشدار ورأس نوبة، وعلم دار، والكوفة مع الأنبار وعشرين صندوقاً ملأى قماشاً ودكان نحاس، وحاصل معاش، وبرجان للحمام وغزة وعسقلان، ومن دمياط إلى أسوان وإيوان كسرى وملك سليمان، ومن كوش نعمان إلى أرض خراسان وبلخ وأصبهان ومن الهند إلى بلاد السودان، وفيه أطال الله عمر مولانا القاضي، قماش وغلائل وعراض وموسى بحد ماض، يحلق ذقن مولانا القاضي، إن حكم أن الجراب ما هو جرابي.
فعند ذلك يا أمير المؤمنين حار القاضي مما سمع ثم قال: ما أراكما إلا شخصين نحسين تلعبان بالقضاة والحكام لأنه ما وصف الواصفون ولا سمع السامعون ما وصفتم في هذا الجراب، ما هذا إلا بحر ليس له قرار.
ثم أمر القاضي بفتح الجراب ففتحه الكردي، فإذا فيه خبز وليمون، وجبن وزيتون، ثم إني رميت الجراب قدام القاضي والكردي، ومضيت إلى حال سبيلي.
فلما سمع أمير المؤمنين ذلك ضحك حتى استلقى على قفاه وقد زال همه وغمه، وأحسن جائزة علي العجمي، وانصرف والله أعلم.

معن بن زائدة الشيباني
كان من الكرماء، يقال فيه: حدث عن البحر ولا حرج، وكان عاملاً بالبصرة، فحضر على بابه شاعر وأقام مدة يريد الدخول فلم يتهيأ له، فقال يوماً لبعض الخدام: إذا دخل الأمير البستان فعرفني، فلما دخل أعلمه بذلك، فكتب الشاعر بيتاً ونقشه على خشبة وألقاها في الماء الذي يدخل البستان، وكان معن جالساً على القناة، فلما رأى الخشبة أخذها وقرأها فإذا فيها هذا البيت:
أيا جود معن ناج معناً بحاجتي ... فليس إلى معن سواك رسول
فقال: من الرجل صاحب هذه؟ فأتي به إليه. فقال: كيف قلت؟ فأنشده البيت فأمر له بعشر بدر، فأخذها وانصرف، فوضع معن الخشبة تحت بساط. فلما كان في اليوم الثاني أخرجها من تحت بساط ينظر فيها، ودعا بالرجل فأمر له بمائة ألف درهم، فلما كان في اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فتفكر الرجل وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه فخرج من البلد بما كان معه. فلما كان في اليوم الرابع طلب الرجل فلم يوجد، فقال معن: والله هممت أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي درهم ولا دينار إلا أعطيته له، وفيه يقول القائل:
يقولون معن لا زكاة لماله ... وكيف يزكي المال من هو باذله
إذا حال جولٌ لم يكن في دياره ... من المال إلا ذكره وجمائله
تراه، إذا ما جئته، متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت آمله
هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والبر ساحله
تعود بسط الكف حتى لو نه ... أراد انقباضاً لم تطعه أنامله
فلو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله
ومن قول معن:
دعيني أنهب الأموال حتى ... أعف الأكرمين عن اللئام
ويروى أن معن بن زائدة خرج في جماعة يتصيدون، فاعترضهم قطيع ظباء، فتفرقوا في طلبه، وانفرد معن خلف ظبي، فلما ظفر به نزل فذبحه، فرأى شخصاً مقبلاً من البرية على حمار، فركب فرسه واستقبله، فسلم عليه وقال له: من أين أتيت؟

قال: أتيت من أرض قضاعة وإن لي بها أرضاً، لها عدة سنين، مجدبة، وقد أخصبت في هذه السنة فزرعتها قثاء فطرحت في غير وقتها، فجمعت منها ما استحسنته وقصدت الأمير معن بن زائدة لكرمه المشهور ومعروفه المأثور، وإحاسنه المذكور.
فقال له: كم أملت منه؟ قال: ألف دينار.
فقال: فإن قال لك: كثير.
قال: خمسمائة دينار.
قال: إن قال لك: كثير.
قال: ثلاثمائة دينار.
قال: إن قال لك: كثير.
قال: مائتي دينار.
قال: إن قال لك: كثير.
قال: مائة دينار.
قال: إن قال لك: كثير.
قال: خمسين ديناراً.
قال: إن قال لك: كثير.
قال: أفلا أقل من ثلاثين.
قال: إن قال لك: كثير.
قال: أدخل قوائم حماري في حر أمه، وأرجع إلى أهلي خائباً.
فضحك معن منه وساق جواده حتى لحق بعسكره ونزل منزله، وقال لحاجبه: إذا أتاك شيخ على حمار بقثاء فادخل به علي.
فأتى بعد ساعة فلما دخل على الأمير معن لم يعرفه لهيبته وجلالته، وكثرة خدمه وحشمه وهو متصدر في دست مملكته، والحفدة قيامٌ عن يمينه وشماله وبين يديه. فلما سلم عليه قال له الأمير معن: ما الذي أتى بك يا أخا العرب؟ قال: أملت الأمير وأتيته بقثاء في غير أوانها.
قال: فكم أملت فينا؟ قال: ألف دينار.
قال كثير.
قال: خمسمائة دينار.
قال: كثير.
قال: ثلاثمائة دينار.
قال: كثير.
قال: مائتي دينار.
قال: كثير.
قال: مائة دينار.
قال: كثير.
قال: والله لقد كان ذلك الرجل الذي قابلني علي مشؤوماً ثم قال: خمسين ديناراً.
قال: كثير.
قال: أفلا أقل من ثلاثين؟ قال: فضحك معن وسكت فعلم الأعرابي أنه صاحبه فقال: يا سيدي إن لم تعطني الثلاثين فالحمار مربوط بالباب، وها أنا مع معن جالس.
فضحك معن حتى استلقى على قفاه ثم استدعى بوكيله وقال: أعطه ألف دينار وخمسمائة دينار وثلاثمائة دينار ومائتي دينار ومائة دينار وخمسين ديناراً وثلاثين ديناراً ودع الحمار مربوطاً مكانه.
فبهت الأعرابي وتسلم ألفي دينار ومائةً وثمانين ديناراً، فرحمة الله عليهم أجمعين.
وقيل: كان معن بن زائدة في بعض صيوده فعطش فلم يجد مع غلمانه ماء، فبينما هو كذلك، وإذا بثلاث جوار قد أقبلن حاملات ثلاث قرب فسقينه، فطلب شيئاً من المال مع غلمانه، فلم يجده، فدفع لكل واحدةٍ منهن عشرة أسهم، من كنانته، نصولها من ذهب. فقالت إحداهن: ويلكن لم تكن هذه الشمائل إلا لمعن بن زائدة، فلتقل كل واحدة منكن شيئاً من الأبيات فقالت الأولى:
يركب في السهام نصول تبر ... ويرمي للعدا كرماً وجوداً
فللمرضى علاجٌ من جراحٍ ... وأكفانُ لمن سكن اللحودا
وقالت الثانية:
ومحارب من فرط جود بنانه ... عمت مكارمه الأقارب والعدا
صيغت نصول سهامه من عسجدٍ ... كي لا يقصر في العوارف والندى
وقالت الثالثة:
ومن جوده يرمي العداة بأسهمٍ ... من الذهب الإبريز صيغت نصولها
لينفقها المجروح عند انقطاعه ... ويشتري الأكفان منها قتيلها
وكان مع كرمه صاحب شهامة، فمن ذلك، أنه سعى رجل في إفساد دولة المهدي، وكان من الكوفة فعلم به المهدي فأهدر دمه، وجعل لمن دل عليه مائة ألف درهم، فأقام الرجل حيناً مختفياً ثم ظهر في بغداد فبينما هو في بعض الشوارع إذ رآه رجل من الكوفة فعرفه فاخذ بمجامع طوقه ونادى: هذا طلبة أمير المؤمنين فبينما الرجل على تلك الحالة وقد اجتمع حوله خلق كثير إذ سمع وقع حوافر الخيل من ورائه فالتفت فإذا هو بمعن بن زائدة، فقال: يا أبا الوليد؟ أجرني أجارك الله.
فوقف فقال للرجل الذي تعلق به: ما تريد منه؟ قال: هذا طلبة أمير المؤمنين أهدر دمه، وجعل لمن دل عليه مائة ألف درهم.
فقال له معن: دعه! ثم قال: يا غلام أردفه، فأردفه وكر راجعاً إلى داره، فصاح الرجل: معن حال بيني وبين من طلبه أمير المؤمنين ولم يزل صارخاً إلى أن أتى قصر المهدي، فأمر المهدي بإحضار معن، فأتته الرسلُ، فدعا معن أولاده ومماليكه وقال: لا تسلموا الرجل، وواحد منكم يعيش.
ثم سار إلى المهدي فدخل وسلم فلم يرد عليه، ثم قال: يا معن! أتجير علينا عدونا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال المهدي: ونعم أيضاً.

واشتد غضبه. فقال معن: يا أمير المؤمنين، بالأمس بعثتني إلى اليمن مقدم الجيش، فقتلت في طاعتك في يوم واحدٍ عشرة آلاف رجل، ولي مثل هذا أيام كثيرة فما رأيتموني أهلاً أن أجير رجلاً واحداً استجار بي، ودخل منزلي.
فسكن غضب المهدي، وقال: قد أجرنا من أجرت يا أبا الوليد.
قال معن: فإن رأى أمير المؤمنين أن يصله بصلةٍ يعلم منها موقع الرضا، فإن قلب الرجل قد انخلع من صدره خوفاً.
قال: قد أمرنا له بخمسين ألف درهم.
قال: يا أمير المؤمنين، إن صلات الخلفاء على قدر جنايات الرعية.
قال: قد أمرنا له بمائة ألف درهم.
قال: عجلها يا أمير المؤمنين، فإن خير البر عاجله.
فأحضر معن الرجل وقال له: خذ صلة أمير المؤمنين، وقبل يده، وإياك ومخالفة خلفاء الله في أرضه، " فما كل مرة تسلم الجرة " ، فأرسلها الناس مثلاً، وأخذ الرجل المال واستغفر الله، انتهى.
وكان معن لا يغيظ أحداً، ولا أحد يغيظه، فقال بعض الشعراء: أنا أغيظه لكم، ولو كان قلبه من حجر، فراهنوه على مائة بعير إن أغاظه أخذها، وإن لم يغظه دفع مثلها. فعمد الرجل إلى جمل فذبحه وسلخه ولبس الجلد مثل الثوب وجعل اللحم من خارجٍ والشعر من داخل، والذباب يقع عليه، ويقوم، ولبس برجليه نعلين من جلد الجمل، وجعل اللحم من خارج والشعر من ناحية رجليه، وجلس بين يدي معن على هذه الصورة المشروحة ومد رجليه في وجهه وقال:
أنا والله لا أبدي سلاماً ... على معن المسمى بالأمير
فقال له معن: السلام لله إن سلمت رددنا عليك، وإن لم تسلم ما عتبنا عليك.
فقال الشاعر:
ولا آتي بلاداً أنت فيها ... ولو حزت الشآم مع الثغور
فقال له: البلاد بلاد الله إن نزلت فمرحباً بك، وإن رحلت كان الله في عونك.
فقال الشاعر:
وأرحل من بلادك ألف شهر ... أجدُّ السير في أعلى القفورِ
فقال له: مصحوباً بالسلامة.
فقال الشاعر:
أتذكر إذ قميصك جلد شاةٍ ... وإذ نعلاك من جلد البعير
فقال له: أعرف ذلك ولا أنكره.
فقال الشاعر:
وتهوى كل مضطبةٍ وسوق ... بلا عبدٍ لديك ولا وزير
فقال له: ما نسيت ذلك يا أخا العرب.
فقال الشاعر:
ونومك في الشتاء بلا رداء ... وأكلك دائماً خبز الشعير
فقال: الحمد لله على كل حال.
فقال الشاعر:
وفي يمناك عكاز قويٌ ... تذود به الكلابَ عن الهريرِ
فقال له: ما خفي عليك خبرها اذهبي كعصا موسى.
فقال الشاعر:
فسبحان الذي أعطاك مُلكاً ... وعلمك القعود على السرير
فقال له: بفضل الله لا بفضلك.
فقال الشاعر:
فعجل يا بن ناقصة بمالٍ ... فإني قد عزمت على المسير
فأمر له بألف دينار.
فقال الشاعر:
قليلٌ ما أمرت به فإني ... لأطمع منك بالشيء الكثير
فأمر له بألف دينار أخرى.
فقال الشاعر:
فثلث، إذ ملكت الملك رزقاً ... بلا عقلٍ ولا جاهٍ خطير
فأمر له بثلاثمائة دينار.
فقال الشاعر:
ولا أدبٍ كسبت به المعالي ... ولا خلقٍ ولا رأي منير
فأمر له بأربعمائة دينار.
فقال الشاعر:
فمنك الجود والإفضالُ حقاً ... وفيضُ يديك كالبحر الغزير
فأمر له بخمسمائة دينار، وما زال يطلب منه الزيادة حتى استكمل ألف دينار، فأخذها وانصرف متعجباً من حلم معن وعدم انتقامه منه ثم قال في نفسه: مثل هذا لا ينبغي أن يهجى بل يمدح، واغتسل ولبس ثيابه ورجع إليه فسلم عليه ومدحه واعتذر له بأن الحامل له على هجوه المائة بعير التي صار الرهن عليها في نظير إغاظته له، فأمر له بمائة بعير يدفعها في نظير الرهن وبمائة بعير أخرى لنفسه، فأخذها وانصرف، والله أعلم.

خلافة المأمون بن هارون
الرشيد واسمه عبد الله

ومما وضع في بطون الدفاتر، واستحسنته عيون البصائر، ونقلته الأصاغر عن الأكابر، ما رواه خادم أمير المؤمنين المأمون قال: طلبني أمير المؤمنين المأمون ليلةً، وقد مضى من الليل ثلثه، فقال لي: خذ معك فلاناً وفلاناً، وسماهما لي: أحدهما، علي بن محمد، والآخر، دينار الخادم، واذهب مسرعاً لما أقول لك، فإنه بلغني أن شيخاً يحضر ليلاً إلى آثار دور البرامكة، وينشد شعراً ويذكرهم ذكراً كثيراً ويندبهم ويبكي عليهم، ثم ينصرف فامض أنت وعلي ودينار حتى تردوا تلك الخرائب فاستتروا خلف بعض الجدران، فإذا الشيخ قد جاء وبكى وندب وأنشد أبياتاً فآتوني به.
قال: فأخذتهما ومضينا حتى أتينا الخرائب، فإذا نحن بغلام قد أتى ومعه بساطٌ وكرسي حديد، وإذا شيخ قد جاء وله جمال وعليه مهابة ولطف، فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب ويقول هذه الأبيات:
ولما رأيت السيف جندل جعفراً ... ونادى منادٍ للخليفة: يا يحيى
بكيت على الدنيا وزاد تأسفي ... عليهم وقلت: الآن لا تنفع الدنيا
مع أبيات أطالها. فلما فرغ قبضنا عليه، وقلنا له: أجب أمير المؤمنين، ففزع فزعاً شديداً وقال: دعوني حتى أوصي بوصية فإني لا أوقن بعدها بحياة.
ثم تقدم إلى بعض الدكاكين واستفتح وأخذ ورقة وكتب فيها وصية وسلمها إلى غلامه ثم سرنا به، فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين قال: حين رآه: من أنت، وبم استوجبت منك البرامكة ما تفعله في خرائب دورهم؟ قال الخادم: ونحن نستمع.
فقال: يا أمير المؤمنين، إن للبرامكة أيادي خضرة عندي، أفتأذن لي أن أحدثك بحالي معهم؟ قال: قل.
فقال: يا أمير المؤمنين؟؟! أنا المنذر بن المغيرة، من أولاد الملوك، وقد زالت عني نعمتي، كما تزول عن الرجال، فلما ركبني الدين، واحتجت إلى بيع ما على رأسي ورؤوس أهلي وبيتي الذي ولدت فيه، أشاروا علي بالخروج إلى البرامكة، فخرجت من دمشق ومعي نيف وثلاثون امرأة وصبياً وصبية، وليس معنا ما يباع ولا ما يوهب، حتى دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد، فدعوت ببعض ثياب كنت أعددتها لأستتر بها، فلبستها وخرجت وتركتهم جياعاً لا شيء عندهم، ودخلت شوارع بغداد سائلاً عن البرامكة، فإذا أنا بمسجد مزخرف وفي جانبه شيخ بأحسن زي وزينة، وعلى الباب خادمان، وفي الجامع جماعة جلوس، فطمعت في القوم ودخلت المسجد وجلست بين أيديهم، وأنا أقدم رجلاً وأوخر أخرى، والعرق يسيل مني لأنها لم تكن صناعتي، وإذا الخادم قد أقبل ودعا القوم فقاموا وأنا معهم، فدخلوا دار يحيى بن خالد، فدخلت معهم، وإذا بيحيى جالس على دكة له وسط بستان، فسلمنا، وهو يعدنا مائة وواحداً، وبين يديه عشرة من ولده، وإذا بأمرد نبت العذار في خديه قد أقبل من بعض المقاصير، وبين يديه مائة خادم متمنطقون، في وسط كل خادم منطقة من ذهب يقرب وزنها من ألف مثقال، مع كل خادم مجمرة من ذهب، في كل مجمرة قطعة من عود كهيئة الفهر، وقد قرن به مثله من العنبر السلطاني فوضعوه بين يدي الغلام، وجلس إلى جنب يحيى، ثم قال للقاضي: تكلم وزوج ابنتي عائشة من ابن أخي هذا. فخطب القاضي خطبة النكاح وزوجه وشهد أولئك الجماعة وأقبلوا علينا بالنثار ببنادق المسك والعنبر، فالتقطت، والله يا أمير المؤمنين ملء كمي ونظرت، وإذا نحن في المكان ما بين يحيى والمشايخ وولده والغلام مائة واثنا عشر، وإذا بمائة واثني عشر خادماً قد أقبلوا ومع كل خادم صينية من فضة، على كل صينية ألف دينار، فوضعوا بين يدي كل رجل منا صينية، فرأيت القاضي والمشايخ يضعون الدنانير في أكمامهم ويجعلون الصواني تحت آباطهم، ويقوم الأول فالأول حتى بقيت وحدي لا أجسر على أخذ الصينية، فغمزني الخادم فجسرت وأخذتها وجعلت الذهب في كمي والصينية في يدي وقمت وجعلت أتلفت إلى ورائي مخافة أن أمنع من الذهاب، فبينما أنا كذلك إلى أن وصلت إلى صحن الدار، ويحيى يلاحظني، فقال للخادم: ائتني بهذا الرجل، فأتيته، فقال: ما لي أراك تلتفت يميناً وشمالاً؟ فقصصت عليه قصتي فقال للخادم: ائتني بولدي موسى، فأتاه به. فقال له: يا بني! هذا رجل غريب، فخذه إليك واحفظه بنفسك وبنعمتك.

فقبض موسى ولده على يدي وأدخلني إلى دار من دوره فأكرمني غاية الإكرام، وأقمت عنده يومي وليلتي في ألذ عيش وأتم سرور، فلما أصبح دعا بأخيه العباس، وقال له: الوزير أمرني بالعطف على هذا الفتى، وقد علمت اشتغالي في بيت أمير المؤمنين، فاقبضه إليك، وأكرمه.
ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام ثم لما كان من الغد تسلمني أخوه أحمد، ثم لم أزل في أيدي القوم يتداولوني مدة عشرة أيام لا أعرف خبر عيالي وصبياني أفي الأموات هم أم في الأحياء، فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم ومعه جماعة من الخدم فقالوا: قم فاخرج إلى عيالك بسلام.
فقلت: وا ويلاه، أسلب الدنانير والصينية، وأخرج على هذه الحالة؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.
فرفع الستر الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع، فلما رفع الخادم الستر الأخير قال لي: مهما كان لك من الحوائج فارفعها إلي فإني مأمور بقضاء جميع ما تأمرني به.
فلما رفع الستر الأخير رأيت حجرة كالشمس حسناً ونوراً واستقبلني منها رائحة الند والعود ونفحات المسك، وإذا بصبياني وعيالي يتقلبون في الحرير والديباج، وحمل إلي مائة ألف درهم، وعشرة آلاف دينار، ومنشور بضيعتين، وتلك الصينية التي كنت أخذتها بما فيها من الدنانير والبنادق، وأقمت يا أمير المؤمنين، مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنة لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم رجل غريب، فلما جاءتهم البلية ونزل بهم يا أمير المؤمنين، من الرشيد ما نزل أجحف بي عمرو بن مسعدة وألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج ما لا يفي دخلهما به، فلما تحامل علي الدهر كنت في آخر الليل أقصد خرائب دورهم، فأندبهم وأذكر حسن صنيعهم إلي وأبكي على إحسانهم.
فقال المأمون: علي بعمرو بن مسعدة.
فلما أتي به قال له: تعرف هذا الرجل؟ قال: يا أمير المؤمنين، هو بعض صنائع البرامكة.
قال: كم ألزمته في ضيعتيه؟ قال: كذا وكذا.
فقال له: رد إليه كل ما أخذته منه في مدته، وأفرغهما له ليكونا له ولعقبه من بعده.
قال: فعلا نحيب الرجل، فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال له: يا هذا! قد أحسنا إليك، فما يبكيك؟ قال: يا أمير المؤمنين، وهذا أيضاً من صنيع البرامكة، لو لم آت خرائبهم فأبكيهم وأندبهم حتى اتصل خبري إلى أمير المؤمنين، ففعل بي ما فعل من أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين؟ قال إبراهيم بن ميمون: فرأيت المأمون، وقد دمعت عيناه وظهر عليه حزنه وقال: لعمري هذا من صنائع البرامكة، فعليهم فابك، وإياهم فاشكر، ولهم فأوف ولإحسانهم فاذكر، انتهى.

المأمون والورد
وقال إسحاق: دخلت يوماً على المأمون في زمن الورد، فقال لي: يا إسحاق! هل قلت شيئاً في الورد؟ قلت: أقول بسعادة أمير المؤمنين.
وفكرت ساعة فلم تسمح قريحتي في ذلك الوقت بشيء، فخرجت من عنده وبقيت ليلتي ساهراً متفكراً، فلم يفتح علي بشيء، فلما أصبحت غدوت إلى دار الخلافة، وإذا غلام الفضل بن مروان على باب المأمون، ومعه سبع وردات على صينية فضة، ينتظر الإذن في الدخول بها عليه، فسألته المهلة بها قليلاً، فامتنع، سألته ثانياً، وقلت: أمهل قليلاً، ولك بكل وردة دينار.
فأجابني إلى ذلك فدفعت له سبعة دنانير، وأحببت أن لا يصل إليه الورد قبل وصول الشعر، وخرجت أقصد الأزقة لعلي أسمع شيئاً من أحد أو ينبعث خاطري ولو ببيت واحد، فبينما أنا كذلك وإذا أنا برجل يغربل التراب وهو ينشد ويقول:
اشرب على ورد الخدود فإنه ... أزهى وأبهى، فالصبوح يطيب
ما الورد أحسن من تورد وجنة ... جمراء جاد بها عليك حبيب
صبغ المدام بياضها فكأنه ... ذهبٌ بقالب فضة مضروب

فلما سمعته نزلت عن دابتي، ودخلت مسجداً بالقرب منه وطلبته، فلما أقبل سألته أن يمليها علي فاعتل، وقال: إن أردت فاعطني بكل بيت عشرة دنانير، فدفعتها له واستمليتها منه ثم عدت أنا وغلام الفضل بن مروان، وإذا بالمأمون يشرب من وراء الستارة، فلما جسيت العود قال لجواريه: اسكتن، فقد جاء إسحاق، فقدمت ذلك الورد بين يديه وأنشدت الأبيات فسمعت الشهيق والزفير من وراء الستارة ثم أخرج إلي بدرةٌ فيها عشرة آلاف درهم، فأعدت الأبيات، فأخرج إلي بدرة أخرى، فأعدت الثالثة فأخرج إلي بدرة ثالثة، فأخذت في غير الشعر، فخرج إلي خادم وقال: يقول لك أمير المؤمنين لو دمت على إنشادك لدمنا على البدرة ولو إلى الليل، انتهى من حلية الكميت.
؟

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
ويحكى عن العباس صاحب شرطة المأمون، قال: دخلت إلى مجلس أمير المؤمنين ببغداد يوماً، وبين يديه رجل مكبل بالحديد، فقال لي: يا عباس؟ قلت: لبيك يا أمير المؤمنين.
قال: خذ هذا إليك فاستوثق به واحتفظ عليه وبكر به إلي في غد واحترز عليه كل الاحتراز.
قال العباس: فدعوت جماعة حملوه ولم يقدر أن يتحرك فقلت في نفسي: مع هذه الوصية التي أوصاني بها أمير المؤمنين من الاحتفاظ به ما يجب إلا أن يكون معي في بيتي، فلما تركوه في داري أخذت أساله عن قضيته وحاله ومن هو؟ فقال: أنا من دمشق.
فقلت: جزى الله دمشق خيراً، فمن أنت من أهلها؟.
قال: وعمن تسأل؟ قلت: أوتعرف فلاناً؟ قال: ومن أين تعرف ذلك الرجل؟ فقلت: وقعت لي معه قضية.
فقال: ما كنت بالذي أعرفك خبره حتى تعرفني قضيتك معه؟ فقلت: ويحك! كنت مع بعض الولاة بدمشق فسمعت أهلها، وقد خرجوا علينا حتى أن الوالي خرج في زنبيل من قصر الحجاج، وهرب هو وأصحابه، وهربت في جملة القوم، فبينما أنا هارب في بعض الدور، وإذا بجماعة يعدون، فما زلت أعدو أمامهم حتى تجاوزتهم، ومررت بهذا الرجل الذي ذكرته لك، وهو جالس على باب داره، فقلت: يا هذا أغثني أغاثك الله؟ قال: لا بأس عليك ادخل الدار.
فدخلت، فقالت لي زوجته: ادخل تلك المقصورة.
فدخلتها ووقف الرجل على باب الدار، فما شعرت إلا وقد دخل، والرجال معه يقولون هو والله عندك.
فقال: دونكم الدار فتشوها.
ففتشوها حتى لم يبق سوى تلك المقصورة وامرأته فيها، فقالوا: ها هو هنا.
فصاحت بهم المرأة ونهرتهم، فانصرفوا، وخرج الرجل وجلس على باب داره ساعة، وأنا قائم أرجف ما تحملني رجلاي من شدة الخوف، فقالت المرأة: اجلس لا بأس عليك.
فجلست، فلم ألبث حتى دخل الرجل، فقال: لا تخف فقد صرف الله عنك شرهم وصرت إلى الأمن والدعة إن شاء الله.
فقلت: جزاك الله خيراً.
فما زال يعاشرني أحسن معاشرة وأجملها وأفرد لي مكاناً من داره ولم يحوجني إلى شيء ولم يفتر عن تفقد أحوالي، فأقمت عنده أربعة أشهر في أتم عيشٍ وأرغده إلى أن سكنت الفتنة وهدأت وزال أثرها، فقلت له: أتأذن لي في الخروج حتى أتفقد حال غلماني، فلعلي أقف منهم على خبر.
فأخذ علي المواثيق بالرجوع إليه، فخرجت وطلبت غلماني فلم أر لهم أثراً فرجعت إليه وأعلمته بالخبر، وهو مع هذا كله لا يعرفني بنفسه ولا يعرف من أنا، فقال لي: علام تعزم؟ فقلت: عزمت على التوجه إلى بغداد.
قال: إن القافلة بعد ثلاثة أيام تخرج.
فقلت له: إنك قد تفضلت علي هذه المدة، لك علي عهد الله إنني لا أنسى لك هذا الفضل ولأوفينك مهما استطعت.
قال: فدعا بغلام أسود وقال له: أنعل الفرس الفلاني، ثم جهز آلة السفر فقلت في نفسي: ما أشك أنه يريد أن يخرج إلى ضيعة له أو ناحية من النواحي. فأقاموا يومهم ذلك في كد وتعب، فلما كان يوم خروج القافلة جاء في السحر، فقال: يا فلان! قم، فإن القافلة تخرج الساعة، وأكره أن تنفرد عنها.

فقلت في نفسي: كيف اصنع وليس معي ما أتزود به ولا ما أكتري به مركباً، ثم قمت، فإذا هو وامرأته يحملان بقجة من أفخر اللباس وخفين جديدين وآلة السفر، ثم جاءني بسيف ومنطقة فشدهما في وسطي، ثم قدم لي غلاماً وعلى كتفه صرتان وفوقهما مرتبة السفر وسجادة من أفخر ما يكون، وأعلمني بما في الصرتين أنه خمسة آلاف درهم، وشد لي الفرس الذي أنعله بسرجه ولجامه، وقال لي: اركب، وهذا الغلام الأسود يخدمك ويسوس مركوبك، وأقبل هو وامرأته يعتذران إلي من التقصير في أمري وركب معي من يشيعني، وانصرفت إلى بغداد، وأنا أتوقع خبره لأفي بعهدي له في مجازاته ومكافاته، واشتغلت مع أمير المؤمنين فلم أقدر أن أتفرغ إلى أن أرسل إليه من يكشف خبره، فلهذا أسأل عنه.
فلما سمع الرجل الحديث قال: قد أمكنك الله من الوفاء له ومكافأته على فعله ومجازاته على صنعه بلا كلفة عليك ولا مؤنة تلزمك.
فقلت: وكيف ذلك؟ قال: أنا ذلك الرجل، وإنما الضر الذي أنا فيه قد غير عليك حالي وما كنت تعرفه مني، ثم لم يزل يذكر لي تفاصيل الأسباب حتى أثبت معرفته، فما تمالكت أن قمت وقبلت رأسه، ثم قلت له: فما الذي صيرك إلى ما أرى؟ قال: هاجت بدمشق فتنة مثل الفتنة التي كانت في أيامك فنسبت إلي، وبعث أمير المؤمنين بجيوش فضبطوا البلد فأخذت أنا وضربت إلى أن أشرفت على الموت، وقيدت وبعث بي إلى أمير المؤمنين وأمري عنده عظيم، وهو قاتلي لا محالة، وقد أخرجت من عند أهلي بلا وصية، وقد تبعني من ينصرف إليهم بخبري، وهو نازل عند فلان، فإن رأيت أن تجعل من مكافأتك لي أن ترسل من يحضره لي حتى أوصيه بما أريد، فإن أنت فعلت ذلك فقد جاوزت حد المكافأة وقمت بوفاء عهدك.
قال العباس: فقلت يصنع الله خيراً.
ثم أحضر حداداً في الليل وفك قيوده، وزال ما كان عليه من الإنكال، وأدخله حمام داره، وألبسه من الثياب ما احتاج إليه، ثم سير من أحضر إليه غلامه، فلما رآه جعل يبكي ويوصيه، فاستدعى العباس نائبه وقال: علي بفرسي الفلاني والبغل الفلاني والبغلة الفلانية حتى عد عشرة، ثم عشرة من الصناديق، ومن الكسوة كذا وكذا.
قال ذلك الرجل: وأحضر لي بدرة فيها عشرة آلاف درهم وكيساً فيه خمسة آلاف دينار، وقال لعامله في الشرطة: خذ هذا الرجل وشيعه إلى حد الأنبار.
فقال له: إن ذنبي عظيم عند أمير المؤمنين وخطبي جسيم، وإن أنت احتجيت بأني هربت بعث أمير المؤمنين في طلبي كل من على بابه فأرادوا قتلي.
فقال: انج بنفسك ودعني أدبر أمري.
فقال: والله لا أبرح من بغداد حتى أعلم ما يكون من خبرك، فإن احتجت إلى حضوري حضرت.
فقال لصاحب الشرطة: إن كان الأمر على ما يكون، فليكن في موضع كذا وكذا، فإن أنا سلمت في غداة غدٍ أعلمته، وإن أنا قتلت وقيته بنفسي كما وقاني بنفسه، وأنشدك الله أن لا يذهب من ماله درهم، وتجتهد في إخراجه من بغداد.
قال الرجل: فأخذني صاحب الشرطة وصيرني في مكان يثق به، وتفرغ العباس لنفسه وتحنط وجهز له كفناً.
قال العباس: فلم أفرغ من صلاة الصبح إلا وأرسل المأمون في طلبي يقولون: يقول لك أمير المؤمنين: هات الرجل معك وقم.
قال: فتوجهت إلى دار أمير المؤمنين وإذا هو جالس وعليه كآبة، فقال: أين الرجل؟ فسكت، فقال: ويحك أين الرجل؟ فسكت، فقال ويحك أين الرجل؟ فقلت: يا أمير المؤمنين اسمع مني ما أقول.
فقال: لله علي عهد، لئن ذكرت أنه هرب لأضربن عنقك.
فقلت لا والله، يا أمير المؤمنين إنه ما هرب، ولكن اسمع حديثي معه كيت وكيت، وقصصت عليه القصة جميعها وعرفته أني أريد أن أفي له وأكافئه على ما فعله معي، وقلت: أنا وسيدي ومولاي أمير المؤمنين بين أمرين: إما أن يصفح عني، وقد وفيت وكافأت، وإما أن يقتلني فأقيه بنفسي وقد تحنطت، وها كفني يا أمير المؤمنين.
فلما سمع المأمون الحديث قال: ويحك، لا جزاك الله خيراً عن نفسك، إنه فعل بك ما فعل من غير معرفة، وتكافئه بعد المعرفة والعهد بهذا لا غير؟ هلا عرفتني خبره، فكنت أكافئه عنك ولا أقصر بوفائي له؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إنه ههنا، وقد حلف أنه لا يبرح حتى يعرف سلامتي، فإن احتجت إلى حضوره حضر.
فقال المأمون: وهذه منة أعظم من الأولى، اذهب الآن فطيب نفسه وسكن روعه وائتني به حتى أتولى مكافأته عنك.

قال: فأتيت إليه وقلت: ليزل عنك حزنك، إن أمير المؤمنين قال كيت وكيت.
فقال: الحمد لله الذي لا يحمد على السراء والضراء أحد سواه. ثم قام فصلى ركعتين، ثم أتيت به إلى أمير المؤمنين، فلما مثل بين يديه أقبل عليه وأدنى مجلسه وحدثه حتى حضر الغداء وأكل معه وخلع عليه وعرض عليه أعمال دمشق فاستعفى عنها، فأمر له المأمون بعشرة أفراس بسروجها ولجمها، وعشرة بغال بآلاتها، وعشر بدر، وعشرة آلاف دينار، وعشرة مماليك بدوابهم، وكتب إلى عامله بدمشق بالوصية به، وأطلق خراجه، وأمر بمكاتبته بأحوال دمشق، فصارت كتبه تصل إلى المأمون وكلما وصلت خريطة البريد وفيها كتابه يقول لي: يا عباس هذا كتاب صديقك، والله أعلم.

المأمون وزنبيل بوران
ويحكى عن إسحاق الموصلي أنه قال: خرجت ليلة من عند المأمون متوجهاً إلى بيتي، فأحسست بالبول، فعمدت لزقاق، وقمت لأتمسح بالحيطان، وإذا بزنبيل كبير بأربعة آذان ملبس ديباجاً، فقلت: إن لهذا سبباً وبقيت متحيراً في أمره، فحملني السكر وقال لي: اجلس فيه، فجلست، فلما أحس بي الذين كانوا يرقبونه جذبوه إلى رأس الحائط، فإذا أنا بأربع جوار يقلن لي: انزل بالرحب والسعة ومشت بين يدي جارية بشمعة حتى نزلت إلى دار ومجالس مفروشة لم أر مثلها إلا في دار الخلافة فجلست، فما شعرت بعد ساعة إلا بستور قد رفعت في ناحية من الجدران، وإذا بوصائف يتمشين وفي أيديهن الشمع وبعض مجامر يحرق فيهن العود وبينهن جارية كأنها البدر الطالع، فنهضت وقالت: مرحباً بك من زائر وجلست، ثم سألتني عن خبري فقلت: انصرفت من عند بعض إخواني وغرني الوقت وحرقني البول، فعمدت إلى هذا الزقاق، فوجدت زنبيلاً معلقاً، فحملني السكر على أن جلست فيه، فإن كان خطأ فالنبيذ أكسبنيه.
قالت: لا ضير، وأرجو أن تحمد عاقبة أمرك، ثم قالت: فما صناعتك؟ قال: بزاراً ببغداد.
فقالت: هل رويت من الأشعار شيئاً؟ قلت: شيئاً ضعيفاً.
قالت: فذاكرنا شيئاً.
قلت: إن للداخل حشمةً، ولكن تبدئين أنت.
قالت: صدقت، فأنشدتني شعراً لجماعة من القدماء والمحدثين من أجود أقاويلهم، وأنا مستمع لا أدري مم أعجب من حسنها أم حسن روايتها؟ ثم قالت: أذهب ما كان فيك من الحصر؟ قلت: إي والله.
قالت: فإن رأيت أن تنشدنا.
فأنشدتها شيئاً لجماعة من القدماء ما فيه مقنع، فاستحسنت ذلك، ثم قالت: والله ما ظننت أنه يوجد في أبناء السوقة هذا، ثم أمرت بالطعام فأحضر، فجعلت تقطع وتضع قدامي، وفي المجلس من صنوف الرياحين وغريب الفواكه ما لا يكون إلا عند السلطان، ودعت بالشراب، فشربت قدحاً، ثم ناولتني قدحاً، ثم قالت هذا أوان المذاكرة والأخبار، فاندفعت أذاكرها وقلت: بلغني أن كذا وكذا، وكان رجل يقال له كذا، حتى أتيت على عدة أخبار حسان، فسرت بذلك وقالت: كثر تعجبي أن يكون أحد من التجار يحفظ مثل هذا، وإنما هذه أحاديث ملوك.
فقلت: كان لي جار يحادث الملوك وينادمهم، وإذا تعطل حضرت معه فربما حدثت بما سمعت.
فقالت: لعمري، لقد أحسنت الحفظ وما هذه إلا قريحة جيدة.
وأخذنا في المذاكرة، إذا سكت ابتدأت هي، وإذا سكتت ابتدأت أنا حتى قطعنا أكثر الليل وبخور العود يعبق، وأنا في حالة لو توهمها المأمون لطار شوقاً إليها، فقالت: إنك من أرف الرجال، وضيء الوجه بارعٌ في الأدب وما بقي إلا شيء واحد؟ قلت: وما هو؟ قالت: لو كنت تترنم ببعض الأشعار؟ قلت: والله لقديماً كنت ألفته ولم أرزقه وأعرضت عنه، وفي قلبي من حرارة، ولو كنت أحب في مثل هذا المجلس شيئاً منه لتكمل ليلتي.
قالت: كأنك عرضت.
فقلت: والله ما هو تعريض قد بدأت بالفضل، وأنت جديرة بذلك.
فأمرت بعود فحضر، وغنت بصوت ما سمعت بحسنه مع حسن أدبها وجودة الضرب بالكمال الراجح، ثم قالت: هل تعرف هذا الصوت ومن غنى به؟ قلت: لا.
قالت: الشعر لفلان والغناء لإسحاق.
قلت: وإسحاق هذا جعلت فداك بهذه الصفة؟ قالت: بخ بخ! إسحاق بارع في هذا الشأن.
فقلت: سبحان الله أعطي هذا الرجل ما لم يعطه أحد؟ قالت: فكيف لو سمعت هذا الصوت منه.
ثم لم تزل على ذلك حتى إذا كان الفجر أقبلت عجوزٌ كأنها داية لها، وقالت: إن الوقت قد حضر، فنهضت عند قولها، فقالت: لتستر ما كنا فيه فإن المجالس بالأمانات.
قلت: جعلت فداك لم أكن أحتاج إلى وصية في ذلك.

فودعتها، وجارية بني يدي إلى باب الدار ففتح لي فخرجت ورحت إلى داري، فصليت الصبح ونمت، فانتهى رسول المأمون غلي فسرت إليه وأقمت عنده نهاري، فلما كان العشاء تفكرت في ما كنت فهي البارحة، وهذا شيء لا يصبر عليه إلا جاهل، فخرجت وجئت إلى الزنبيل، فوجدته على عادته، فجلست فيه ورفعت إلى موضع البارحة، وإذا هي قد طلعت، فقالت: لقد عاودت.
فقل: ولا أظن إلا أنني قد ثقلت.
وأخذنا في المحادثة مثل تلك الليلة السالفة في المذاكرة والمناشدة وغريب الغناء منها إلى الفجر. فانصرفت إلى منزلي، فصليت الصبح، ونمت. فانتهى رسول أمير المؤمنين غلي فمضيت إليه وأقمت نهاري عنده، فلما كانت العشية توجه إلي مخاطباً، وقال: أقسمت عليك لتجلسن حتى أجيء وأحضر، فما كان حتى أن غاب وجالت وساوسي، فلما تذكرت ما كنت فيه هان علي ما يخصني من أمير المؤمنين، فوثبت مبادراً وخرجت جارياً حتى أتيت الزنبيل، فجلست فهي فرفعت إلى مجلسي، فقالت: صديقنا.
قلت: إي والله.
قالت: أجعلتها دار إقامة؟ قلت: جعلت فداك حق الضيافة ثلاثة أيام، فإن رجعت بعد ذلك، فأنتم في حل من دمي.
ثم جلسنا على ذلك الحال فلما قرب الوقت علمت بأن المأمون لا بد أن يسألني، فلا يقنع إلا بشرح القصة فقلت: أنا أراك ممن يعجب بالغناء ولي ابن عم أحسن مني وجهاً، وأظرف قداً وأكثر أدباً وأطيب أرجاً، وهو أعرف خلق الله بغناء إسحاق.
فقالت: طفيلي وتقترح.
قلت: لها: أنت المحكمة.
قم قالت: إن كان ابن عمك على ما تصف فما نكره معرفته.
ثم جاء الوقت فنهضت وقمت وذهبت، فلم أصل إلى داري إلا ورسل أمير المأمون قد هجموا علي وحملوني حملاً عنيفاً فوجدته قاعداً على كرسي وهو مغتاظ فقال: يا إسحاق، أخروجاً عن الطاعة؟ قلت: لا والله.
قال: فما قصتك أصدقني؟ قلت: نعم في خلوة.
فأومأ إلى من بين يديه فتنحوا، فحدثته الحديث وقلت له: وعدتها بك.
قال: أحسنت فأخذنا في لذتنا ذلك اليوم، والمأمون معلق القلب بها، فما صدقنا أن جاء الوقت وسرنا، وأنا أوصيه وأقول له: تجنب واحذر أن تناديني باسمي بحضرتها، وغن وأنا لك تبع وهو يقول: نعم، ثم سرنا إلى الزنبيل فوجدناهما اثنين، فقعدنا فيهما ورفعنا إلى الموضع المعهود، فحضرت وأقبلت وسلمت، فلما رآها المأمون بهت في حسنها وجمالها وأخذت تذاكره وتناشده الأشعار، ثم أحضرت النبيذ فشربنا، وهي مقبلة عليه مسرورة به، وهو أكثر، فأخذت العود وغنت صوتاً، ثم قالت: وابن عمك هذا من التجار، وأشارت إلي.
قلت: نعم.
قال: والله إنكما لقريبان.
فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال داخله الفرح والطرب، فصاح وقال: يا إسحاق! قلت: لبيك يا أمير المؤمنين.
قال: عن هذا الصوت؟ فلما علمت أنه الخليفة نهضت إلى مكان فدخلته، فلما فرغت من الصوت قال: انظر من رب هذه الدار؟ فبادرت العجوز وقالت: للحسن بن سهل.
فقال: علي به.
فغابت العجوز ساعة، وإذا الحسن قد حضر.
فقال له المأمون: ألك ابنة؟ قال: نعم.
قال: ما اسمها؟ قال: بوران.
قال: أمتزوجة؟ قال: لا والله.
قال: فإني أخطبها منك.
قال: هي جاريتك وأمرها إليك.
قال: قد تزوجتها على نقد ثلاثين ألفاً، تحمل إليك صبيحة يومنا هذا، فإذا قبضت المال فاحملها إلينا من ليلتنا.
قال: نعم. ثم خرجنا فقال: يا إسحاق لا توفق على هذا الحديث أحداً.
فسترته إلى أن مات المأمون فما اجتمع لأحد مثل ما اجتمع لي في تلك الأربعة أيام مجالسة المأمون بالنهار وبوران بالليل، ووالله ما رأيت أحداً من الرجال مثل المأمون ولا شاهدت امرأة تقارب بوران فهماً وعقلاً والله تعالى أعلم، انتهى من حلية الكميت.

المأمون وجارية أبيه
وقيل: كان المأمون يوماً يأكل مع أبيه الرشيد، فلما فرغا جعلت جارية تصب الماء على يد الرشيد، فنظر إليها المأمون، وأشار إليها كأنه يقبلها، فأنكرت ذلك منه بعينها، وأبطأت في الصب بقدر النظر إلى المأمون، فقال لها الرشيد: لأي شيء صغى الإبريق في يدك، فوالله لئن لم تصدقيني الحق لأضربن عنقك؟ فقالت: يا سيدي نظر إلي عبد الله المأمون، وأشار إلي كأنه يقبلني، فأنكرت ذلك بعيني.
فنظر الرشيد إلى المأمون فسقط مغشياً عليه كأنه ميت مما داخله من الخوف والفزع، فأخذه وضمه إلى صدره، وقال: يا عبد الله؛ أتحبها؟

قال: إي والله يا أمير المؤمنين.
فقال: هي لك، خذ بيدها وادخل بها في هذا القبة. ففعل، فلما خرج إلى الرشيد قال له: هل قلت في هذا شيئاً؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ثم أنشد يقول:
ظبي كنيت بطرفيعن الضمير إليهقبلته من بعيدٍ
فاعتل من شفتيهورد أخبث ردٍّبالكسر من حاجبيه
فما برحتمكاني حتىقدرت عليه

المأمون والفتاة العربية
عن أبي عبد الله النميري أنه قال: كنت يوماً مع المأمون، وكان بالكوفة، فركبت للصيد ومعه سرية من العسكر، فبينما هو سائر إذ لاحت له طريدة فأطلق عنان فرسه وكان على سابق من الخيل، فأشرف على نهر من ماء بحر الفرات، فإذا هو بجارية عربية خماسية القد، قائمة النهد، كأنها القمر ليلة تمامه، وبيدها قربة قد ملأتها من النهر، ورفعتها على كتفها، وصعدت من حافة النهر، فانحل وكاؤها، فصاحت برفيع صوتها: يا أبت! أدرك فاها، قد غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها.
قال: فعجب المأمون من فصاحتها ورمت القربة من يدها، فقال لها المأمون: يا جارية من أي العرب أنت؟ فقالت: أنا من بني كلاب.
قال: وما حملك أن تكوني من الكلاب؟ قالت: والله لست من الكلاب وإنما أنا من قوم كرام غير لئام، يقرون الضيف، ويضربون بالسيف، ثم قالت: يا فتى من أي الناس أنت؟ قال: أوعندك علم بالأنساب؟ قالت: نعم.
قال: أنا من مضر الحمراء.
قالت: من أي مضر؟ قال: من أكرمها نسباً وأعظمها حسباً وخيرها أماً وأباً، مما تهابه مضر وتخشاه.
قالت: أظنك من كنانة؟ قال: أنا من كنانة.
قالت: من أي كنانة؟ قال: من أكرمها مولداً وأشرفها محتداً وأطولها في المكرمات يداً، ممن تهابه كنانة وتخشاه.
قالت: والله أنت من بني هاشم؟ قال: أنا من بني هاشم.
قالت: من أي هاشم؟ قال: من أعلاها منزلةً وأشرفها قبيلةً ممن تهابه هاشم وتخشاه.
قال: فعند ذلك قبلت الأرض وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين.
قال: فتعجب المأمون منها وطرب طرباً شديداً، ثم قال: لأتزوجن بها لأنها من أكبر الغنائم، ووقف حتى التحق به العسكر، فنزل وأرسل خلف أبيها وخطبها منه، فزوجه بها، وهي والدة العباس، والله أعلم.
أخلاق المأمون
من محاسن الأخلاق، ما حكي عن القاضي يحيى بن أكثم قال: كنت نائماً ذات ليلة عند المأمون، فعطش، فامتنع أن يصيح لغلام يسقيه، وأنا نائم فينغص علي نومي، فرأيته وقد قام يتمشى على أطراف أَصابعه حتى أتى موضع الماء، وكان بينه وبين الماء نحو ثلاثمائة خطوة، ثم رجع يتمشى على أطراف أصابعه حتى وصل إلى الفراش الذي أنا عليه، وخطا خطوات لطيفة لئلا ينبهني حتى وصل إلى فراشه، ثم رأيته آخر الليل، وقد قام يبول، فقعد طويلاً يحاول أن أتحرك فيصيح للغلام، فلما تحركت وثب قائماً وصاح بالغلام وتأهب للصلاة ثم جاءني وقال: كيف أصبحت يا أبا محمد، وكيف مبيتك؟ قلت: بخير مبيت جعلني الله فداك.
قال: لقد استيقظت للصلاة، فكرهت أن أصيح للغلام فأزعجك.
فقلت: يا أمير المؤمنين، لقد خصك الله بأخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ووهب لك سيرتهم، فهناك الله بهذه النعمة، وأتمها عليك.
فأمر لي بألف دينار وانصرفت.
حلم المأمون
وحدث سليمان الوراق قال: ما رأيت أعظم حلماً من المأمون، دخلت عليه يوماً وفي يده فص مستطيل من ياقوت أحمر له شعاع قد أضاء له المجلس، وهو يقلبه بيده ويستحسنه، ثم دعا برجل صائغ وقال له: اصنع بهذا الفص كذا وكذا ونزل فيه كذا وكذا، وعرفه كيف يعمل به، فأخذه الصائغ وانصرف ثم عدت إلى المأمون بعد ثلاث فتذكره فاستدعى الصائغ، فأتي به، وهو يرعد وقد امتقع لونه. فقال المأمون: ما فعلت بالفص؟ فتلجلج الرجل ولم ينطق بكلام، ففهم المأمون بالفراسة أنه حصل فيه خلل، فولى وجهه عنه، حتى سكن جأشه، ثم التفت إليه وأعاد القول.
فقال: الأمان يا أمير المؤمنين.
قال: لك الأمان.
فأخرج الفص أربع قطع وقال: يا أمير المؤمنين، سقط من يدي على السندال فصار كما ترى.
فقال المأمون: لا بأس عليك، صنع به أربع خواتم، وألطف له في الكلام حتى ظننت أنه كان يشتهي الفص على أربع قطع. فلما خرج الرجل من عنده، قال: أتدرون كم قيمة هذا الفص؟ قلنا: لا، قل: اشتراه الرشيد بمائة ألف وعشرين ألفاً، انتهى.

ومن حلمه أيضاً. قال يحيى: كنت أنا والمأمون يوماً في بستان ندور فيه فمشينا في البستان من أوله إلى آخره، وكنت مما يلي الشمس والمأمون مما يلي الظل، فكان يجذبني أن أكون في الظل وهو في الشمس، فأمتنع من ذلك، فإذا رجعنا قال لي: والله يا يحيى لتكونن في مكاني ولأكونن في مكانك، حتى آخذ نصيبي من الشمس كما أخذت نصيبك منها.
فقلت: والله يا أمير المؤمنين لو قدرت أن أقيك من هول المطلع لفعلت.
ولم يزل بي حتى تحولت إلى الظل وتحول هو إلى الشمس، ووضع يده على عاتقي وقال: بحياتي عليك إلا ما وضعت يدك على عاتقي مثل ما فعلت، فإنه لا خير في صحبة من لا ينصف. ومن حلمه أيضاً، أنه كان له خادم يسرق طاساته التي يتوضأ فيها فقال له المأمون: إذا سرقت شيئاً فائتني بما تسرقه، فأشتريه منك.
فقال له الخادم: اشتر مني هذه، وأشار إلى التي بين يديه.
فقال: بكم.
قال: بدينارين.
قال: على شرط أنك لا تسرقها.
قال: نعم.
فأعطاه دينارين، فلم يعد الخادم يسرق بعدها شيئاً لما رأى من حلمه، والله أعلم.

الطفيلي الأديب والمأمون
وروى بعض أهل الأدب أن فتى من أهل الكوفة قد فاق أهل زمانه في الأدب والبيان والفصاحة باللسان ناقداً في صناعته، حافظاً للأقدار، راوياً للأشعار، خبيراً بسير الملوك في الأيام السالفة، بصيراً بالبحث عن أمورهم في الأيام الآنفة، حاذقاً في التصنيف، فائقاً في التأليف، صبيح الوجه، مقبول المشاهد، حلو الشمائل، وكان مع ذلك لا يتوجه له وجه من العمل إلا عارضه فيه عائق، وحال دونه حائل وقدر سابق، فبقي حيناً من الدهر، وقد برز في القدر والمال والجاه من كان عنده في الصناعة متأخراً، فضاق صدره وعيل صبره وضلت وّمقاليده، فخرج إلى بغداد واكترى في بعض خاناتها منزلاً وأجمع رأيه على أن يحمل نفسه على خطب هائل ليكون فيه هلكه أو ملكه، وتربص لذلك أن يرى وجهاً إلى أن عزم أمير المؤمنين أن يشرب يوماً هو وصنوه المعتصم، فأمر المأمون بالاستعداد ليوم سماه ليخلو فيه مع الجواري، منفردين عن سائر الندماء، فظهر خبرهما بذلك. وعرف الناس ذلك اليوم الذي عزم عليه، فعزم هذا الأديب المذكور على أن يتطفل في ذلك على المأمون وأخيه المعتصم، فمضى إلى إخوانه وأًصدقائه فاستعار من هذا قباء وجبة وردية، ومن آخر منطقة وخفاً وسيفاً، ومن آخر برذوناً، ومن آخر ما يحتاج إليه من الطيب واستعد لذلك اليوم، ودخل الحمام سحراً، وتطيب، ولبس وركب عند طلوع الشمس إلى دار المعتصم وقال للحاجب: عرف الأمير أني رسول أمير المؤمنين واستأذن لي عليه.
فسعى الحاجب عدواً حتى أخبر المعتصم، فأذن له. فلما دخل عليه، وتمثل بين يديه، قال له: سيدي إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك: أنسيت الوعد، ألم يقدم إليك بالركوب لنخلو ونستريح يومنا هذا؟ قال المعتصم: لا والله ما نسيت ذلك، ولكن تربصت ساعة. ونمت نوماً لأتقوى بذلك على انتصاب سائر النهار.
فقال الفتى: فعجل الآن أيها الأمير، فإنه أمرني أن لا أفارقك حتى آتيه بك.
فأمر المعتصم بإسراج مركوبه وأسرع في التأهب، ولبس ثيابه وتطيب وركب الفتى معه، والمعتصم لا ينكر شيئاً من كلام الفتى ويتأمل لطافته وهيئته، ولم يتوهم إلا نه من بعض خواص المأمون، وأخذ الفتى يحدث المعتصم وأقبل عليه بكليته، ولم يتمكن من سؤاله شهوة لاستماع حديثه، حتى بلغ باب الخليفة فألقى الفتى نفسه عن دابته، وأخذ يمشي بين يديه، والحجاب لا ينكرون منه شيئاً ويظنون نه من خدم المعتصم، حتى نزل المعتصم، وأخذ الفتى بركابه، ودخل المجلس، فلما استقر المعتصم في مجلسه جلس الفتى بين يديه، وهو منهمك في نوادره وأخباره والمعتصم مصغ إليه تعجباً مما يسمع من حسن كلامه، وأخبر المأمون أن المعتصم قد وصل ومعه رقيق لا يعرف من هو.

فقال المأمون: أخي قد عرف أن هذا المجلس اتفقنا عليه لا ينبغي أن يحضره أحد من الناس إلا من هو عديل النفس. وقد أحسن أخي إذ جعل لنا ثالثاً، فإن المجلس إذا لم يحضره أكثر من اثنين تعطل لقيام أحدهما إلى الصلاة وإلى ما لا بد منه، ثم خرج من ساعته فرحاً وليس له همة إلا تصفح وجه الغلام واستنطاقه واعتبار قده وعقله، فلما استقر على سرير ملكه والفتى عالم بما وقع في نفس المأمون نهض قائماً فقبل يد المأمون، وعاد إلى مجلسه وأخذ في نوادره وحديثه ومضحكاته وحسن أخباره وغرائب أشعاره كأنه يغرف من بحر، وهو مع ذلك يوهم المأمون أنه من خواص المعتصم. فساعة يكنيه وساعة يسميه حتى غلب على قلب المأمون، وأظهر الحسد لأخيه في صحبة مثل هذا الغلام وكلامه، وأمر المأمون بإحضار المائدة، فنصبت بأنواع الطعام، فأكلوا وغسلوا أيديهم، ولمجلس الشراب انتقلوا، وأمر المأمون بإحضار الجواري من غير ستارة، فحضرن وأخذن في الغناء، فما من صوت يمر إلا والفتى عارف به، وبالغناء، ومتى قيل وفيمن قيل، فعز في عين المأمون حتى ملأ عينه، وتزايد حسده لأخيه في صحبة مثله فمس الفتى بولٌ، ولم يجد للمدافعة سبيلاً، فقام وهو متيقن أنهما سيذكرانه، ويتواصفان أمره وحاله، إذا خلا المجلس، فما هو إلا أن غاب من بين أيديهما حتى قال المأمون لأخيه المعتصم يا أبا إسحاق من صاحبك هذا؟ فوالله ما رأيت رجلاً قط أكثر منه أدباً ولا أنظف هيئة ولا اشرف من شمائله.
فقال المعتصم: والله ما أعلم من هو، وإنما جاءني مبكراً برسالة أمير المؤمنين.
فقال المأمون: سألتك بالله يا أخي أهو كذلك؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو.
فقال المأمون: طفيلي، ورب الكعبة، وغضب وأمر الجواري بالنهوض، فنهض وأقبل الفتى راجعاً فلما نظر إلى خلو المجلس من الجواري وإلى تغير وجه المأمون، وقف على رأس المجلس وأقبل بوجهه على المعتصم وقال: يا أبا إسحاق! كأني بك قد أخذت في نوع الزور والبهتان، وهذا المجلس من المجالس التي لا تحمل المزاح، وما هكذا وعدتني. ثم قل: والله يا أمير المؤمنين، ما بليت من أحد من الناس مثل ما بليت من هذا لأنه دائماً أبداً يعرضني لمثل هذا وأشباهه، ويغري بي ويوقعني في كل ورطة.
ثم أقبل على المعتصم وقال: يا أبا إسحاق، سألتك بالله وبحق أمير المؤمنين إلا ما أعفيتني من ملاعبتك التي لا تحتمل وتؤدي إلى مؤاخذة أمير المؤمنين.
ولم يزل يأتي بهذا وأمثاله حتى شك المأمون في أمره والتفت إلى أخيه المعتصم وقال: سألتك بالله يا أخي، بحياتي عليك إلا ما علمتني بحقيقة أمره؟ فقال المعتصم: يا أمير المؤمنين برئت من ذمة الله ورسوله ومن حياتك وولايتك إن كنت عرفه أو رأيته قط إلا في يومي هذا.
فقال الفتى: كذب والله يا أمير المؤمنين لقد كنت معه دهري الطويل وفي موضع كذا وكذا، وإن هذا فعله معي أبداً.
فضحك المأمون تعجباً، وقال: ادخل فدخل، وأمره بالجلوس فجلس، ثم قال لك الأمان إن صدقتني.
فصدقه الحديث على وجهه فأعجب من حسن منطقه ولطف مدخله ودقيق تصرفه وأمر بإعادة الجواري إلى مجلسهن، فطربوا سائر يومهم. فقال له المأمون: أخبرني بأعجب ما لحقك في قدومك من الكوفة إلى بغداد واجعله نظماً ولا تكتم عني شيئاً.
فقال: نعم، ثم أنشأ يقول:
بينا أنا راقد في البيت مكتئب ... مفكر في حصول الكد والقوت
وليس في البيت لي شيء ألم به ... وبي من الجوع ما يدني إلى الموت
إذا بصوت بباب الدار أسمعه ... والأذن مصغية مني إلى الصوت
ناديت من ذا الذي أرجوه لي فرجاً؟ ... نادى: أنا فرجٌ زن لي كرا البيت
فضحك المأمون حتى استلقى على فراشه، ثم ضرب برجله الأرض من شدة إعجابه وقال: ثم ماذا؟ قال: يا أمير المؤمنين فخرجت فإذا هو صاحب الخان يطالبني بالكراء، فوعدته بأن يرجع إلي مرة أخرى، فمضى ومضيت على وجهي لا أعلم أين أتوجه، فسألت كل من لقيته من صديق لي كنت أستأنس به فخطر على بالي بيتان من الشعر في ذلك وهما.
غريب الدار ليس له صديقٌ ... جميع سؤاله: أين الطريق؟
تعلق بالسؤال لكل شخصٍ ... كما يتعلق الرجل الغريق
فأشرفت يا أمير المؤمنين علي جارية كأنها البدر ليلة كماله، وهي تقول:

ترفق يا غريب فكل حر ... يمر بحاله سعةٌ وضيق
وكل ملمةٍ إن أنت فيها ... صبرت لها أتيح لها طريق
ثم قالت: خذ هذه فادفع بها فاقتك، فوالله ما هي إلا مؤاساة من قوت، ورمت إلى صدري بقرطاس، وإذا فيه عشرة دراهم، فرجعت من فوري، فوجدت صاحب الكراء قائماً على الباب، فدفعت إليه خمسة دراهم، واستعنت بالباقي إلى أن وقعت هذه القصة، وهذا الأمر الذي كلفني وحملني على ما فعلت وأنشأ يقول:
لم آتِ فعلاً غير مستحسن ... جهلاً بفعل الأحسن الأملح
لكنني في حالة أوجبت ... ضرورة إتيان مستقبح
فأعجب المأمون أمره واستحسنه وأمر له بمائة ألف درهم يصلح بها شأنه وألحقه بمراتب الخاصة، ورفعت منزلته، وصار أقرب الناس إليه، وآخر خارج من عنده وأول داخل إليه، وسمي طفيلي المعتصم، وأنشد للمأمون يوماً يقول:
كانت لقلبي أهواء مفرقة ... فاستجمعت مذ رأتك العين أهوالي
تركت للناس دنياهم ودينهم ... شغلاً بذكرك عن ديني ودنيائي
وصار يحسدني من كنت أحسده ... وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي
فاستحسن المأمون الأبيات، وأمر بكتبها على الستارة، وصار الفتى إذا حضر يوم سرور المأمون لم يكن للمأمون هم إلا اقتراح هذه الأبيات إلى أن ينقضي المجلس، ثم إن الفتى بعد أن حسنت حالته، أرسل إلى الدار التي أشرفت عليه منها الجارية، فإذا هي لرجل من أهل بغداد من مباشريها، وقد مات ولم يخلف ولداً سوى تلك الجارية، وما مات حتى تضعضع حاله، فأعلم المأمون بذلك، فمر بخطبتها للفتى ودفع المهر من عنده وصار الفتى والجارية في نعمة عظيمة بقية عمرهما والله أعلم.

رقة قلب المأمون
وسرق شاب سرقة، فتي به إلى المأمون فأمر بقطع يده فتقدم لتقطع يديه فأنشد الشاب يقول:
يدي، يا أمير المؤمنين، أعيذها ... بعفوك أن تلقى نكالاً يشينها
فلا خير في الدنيا ولا راحةً بها ... إذا ما شمالٌ فارقتها يمينها
وكانت أم الشاب واقفةً على رأسه، فبكت وقالت: يا أمير المؤمنين إنه ولدي وواحدي، ناشدتك الله إلا رحمتني وهدأت لوعتي وجدت بالعفو عمن استحق العقوبة.
فقال المأمون: هذا حد من حدود الله تعالى.
فقالت: يا أمير المؤمنين! اجعل عفوك عن هذا الحد ذنباً من الذنوب التي تستغفر منها.
فرق لها المأمون وعفا عنه.
المأمون ونذير الشؤم
قال: رأيت في بعض المجاميع بخط بعض العلماء الأكابر أن المأمون أشرف يوماً من قصره فرأى رجلاً قائماً وبيده فحمة، وهو يكتب بها على حائط قصره، فقال المأمون لبعض خدمه: اذهب إلى ذلك الرجل، فانظر ما كتب وائتني به.
فبادر الخادم إلى الرجل مسرعاً وقبض عليه، وقال: ما كتبت؟ فإذا هو قد كتب هذين البيتين:
يا قصر جمع فيك الشوم واللوم ... متى يعشش في أركانك البوم
يوم يعشش فيك البوم من فرحي ... أكون أول من ينعاك مرغوم
ثم إن الخادم قال له: أجب أمير المؤمنين.
فقال الرجل: سألتك بالله لا تذهب بي إليه.
فقال الخادم: لا بد من ذلك.
ثم ذهب به فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين وأعلم بما كتب قال له المأمون: ويلك، ما حملك على هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إنه لا يخفى عليك ما حواه قصرك هذا من خزائن الأموال والحلي والحلل والطعام والشراب والفرش والأواني والأمتعة والجواري والخدم وغير ذلك مما يقصر عنه وصفي ويعجز عنه فهمي. وإني يا أمير المؤمنين قد مررت عليه الآن، وأنا في غاية من الجوع والفاقة، فوقفت مفكراً في أمري وقلت في نفسي: هذا القصر عامر عال، وأنا جائع ولا فائدة لنا فيه، فلو كان خراباً ومررت به لم أعدم رخامة أو خشبة أو مسماراً أبيعه وأتقوت بثمنه أوما علم أمير المؤمنين رعاه الله قول الشاعر:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرئٍ ... نصيب ولا حظ تمنى زوالها
وما ذاك من بغض له، غير أنه ... يزجي سواها، فهو يهوى انتقالها
فقال المأمون: يا غلام، أعطه ألف درهم، ثم قال: هي لك في كل سنة ما دام قصرنا عامراً بأهله مسروراً في دولته.
وأنشدوا في معنى ذلك:

إذا كنت في أمر، فكن فيه محسناً ... فعما قليل أنت ماض وتاركه
فكم دحت الأيام أرباب دولةٍ ... وقد ملكوا أَضعاف ما أنت مالكه

المأمون ومدعي النبوة
ويحكى أنه تنبأ رجل في أيام المأمون، فقل ليحيى بن أكثم القاضي: يا يحيى امض بنا مستترين حتى ننظر إلى هذا المتنبي وإلى دعواه.
فركبا في الليل مستترين ومعهما خادم حتى صارا إلى بابه وكان مستراً بثوبه، فاستأذنا عليه فخرج إليهما، فقال: من أنتما؟ فقالا: رجلان يريدان أن يسلما على يديك.
قال: ادخلا. فدخلا وجلس المأمون عن يمينه، يحيى عن يساره، فقال المأمون: إلى من بعثت؟ قال: إلى الناس كافة.
قال: أفيوحى إليك، أم ترى في المنام، أم ينفث في قلبك؟ قال: بل أناجي وأكلم قال: ومن يأتيك؟ قال: جبريل.
قال: فمتى كان عندك؟ قال: الساعة قبل أن تأتياني بساعة.
قال: فما أوحى إليك؟ قال: أوحى إلي أنه سيدخل عليك رجلان فيجلس أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك، والذي يجلس عن يسارك ألوط خلق الله تعالى.
فقال له المأمون: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وكان يحيى يعزى إلى ما قاله عنه المتنبي.
أبو نواس والغلام الجميل والقاضي
دخل أبو نواس على القاضي يحيى بن أكثم ودخل معه غلام جميل الوجه. فقال الغلام: هذا مر علي وقبلني كرهاً.
ففتن به القاضي، فأنشد يقول:
إذا كنت للتخميش والبوس كارهاً ... فلا تدخل الأسواق إلا منقبا
ولا تظهر الأصداغ منم تحت طرةٍ ... وتشهر منها فوق خديك عقربا
فلما سمع الغلام، أنشأ يقول:
لقد كنت أرجو أن أرى العدل بيننا ... فأعقبني بعد الرجاء قنوط
متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها ... إذا كان قاضي المسلمين يلوط
المأمون ويحيى بن أكثم
يحكى أنه كان عند المأمون يوماً، فقال له المأمون وهو يعرض له باللواط: يا يحيى! من ذا الذي يقول:
قاضي يرى الحد في الزناء ولا يرى ... على من يلوط من بأس
فقال له: الذي يقول:
ما أرى الجور ينقضي، وعلى الأم؟ ... ؟ةِ والٍ منكم بني العباس
سليب العقل لا الدين سكرة القاضي ابن أكثم
ويقال: إن المأمون شرب يوماً ومعه القاضي يحيى بن أكثم، فمال لساقي على القاضي حتى وقع سكران، فأمر المأمون أن يلقى عليه الورد والرياحين حتى يدفن فيها كأنه ميت، وصنع بيتين شعراً، وقال لمغنيته: خذي العود وغني على رأسه فغنت وقالت:
وناديته وهو حي لا حراك به ... مزمل في ثياب من رياحين
فقلت: قم! قال: رجلي لا تطاوعني ... فقلت: خذ! قال: كفي لا يوافيني
فاستيقظ يحيى لرنة العود والجارية تغني البيتين فقام، وقال:
يا سيدي وأمير الناس كلهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني
سقاني الراح لم يمزج سلافتها ... حتى بقيت سليب العقل لا الدين
إبراهيم بن المهدي والمأمون
قال الواقدي: كان إبراهيم بن المهدي ادعى لنفسه الخلافة بالري وأقام مالكها سنة وأحد عشر شهراً واثني عشر يوماً وله أخبار كثيرة.
فما حكاه قال: لما دخل المأمون الري في طلبي أثقل علي الطلب وجعل لمن دل علي وأتاه بي مائة ألف درهم، فخفت على نفسي، وتحيرت في أمري، فخرجت من داري وقت الظهر، وكان يوماً صائفاً، وما أدري أين أتوجه، فمررت بزقاق لا ينفذ، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون، وخفت إن رجعت على أثري يعلموا بين فرأيت في صدر الزقاق عبداً أسود قائماً على باب داره، فتقدمت إليه، وقلت له: عندك موضع أقيم فيه ساعة من النهار؟ قال: نعم، وفتح الباب، فدخلت إلى بيت نظيف فيه حصر نظيفة وبسط ومخدات جلد، ثم إنه أغلق الباب علي ومضى، فخفت أن يكون سمع الجعالة في حقي، وأنه عرفني ومضى ليدلهم علي، فبقيت مثل الحبة في المقلاة قلقاً ميتاً من الخوف، فبينما أنا كذلك، إذ أقبل ومعه حمال حامل كل ما أحتاج إليه من لحم وخبز وقدر جديدة وجرة وكيزان جدد، ثم التفت إلي وقال: جعلني لله فداك! أنا رجل حجام، وأنا أعرف أنك تنفر مني لما أتولاه من معيشتي، فشأنك بما لم تقع عليه يدي.

وكان لي حاجة إلى الطعام فقمت وطبخت قدراً ما ظننت أني أكلت مثلها قدراً، فلما قضيت أربي، قال لي: هل لك أن تشرب شيئاً فإنه يسلي الهم ويزيل الغم، ويمهد للنفس الفرح؟ قلت: ما أكره ذلك، رغبة في مؤنسته.
فأتى بقطرميز جديد وأحضر لي نقلاً وفاكهة في أوان جدد من فخار، ثم قل بعد ذلك: إن أذنت لي، جعلت فداك أن أقعد بناحية منك وآتي بشراب فأشرب مسروراً بك.
فقلت: افعل.
ففعل وشرب ثلاثاً، ثم خل إلى خزانة له: فأخرج عوداً مصلحاً، ثم قال: يا سيدي ليس من قدري أن أسألك أن تغني، ولكن قد وجب على مروءتك حرمتي، فإن رأيت أن تشرف عبدك بأن تغني لنفسك والعبد يسمع فافعل.
فقلت له: ومن أين لك أني أحسن الغناء؟ فقال متعجباً: سبحان الله! أنت أشهر من ذلك، أنت إبراهيم بن المهدي خليفتنا بالأمس الذي جعل المأمون لمن يدل عليك مائة ألف درهم.
فلما قال ذلك عظمت مروءته عندي، وعلمت أن نخوته أجل مما بذل، فتناولت العود فأصلحته، وقد مر بخاطري ذكر أهلي وولدي، فقلت:
وعسى الذي أهدى ليوسف أهله ... وأعزه في السجن وهو غريب
أن يستجيب لنا فيجمع شملنا ... فالله رب العالمين قريب
فقال: يا سيدي اجعل ما تغنيه مما أقتضيك به.
قلت: نعم. فقال: غن لي:
إن الذي عقد الذي انعقدت به ... عقد المكاره، فهو يملك حلها
فاصبر، فإن الله يعقب راحةً ... فلعلها أن تنجلي، فلعلها
فحسن عندي اقتراحه وشربت، ثم قال لي: غن لي:
وراء مضيق الخوف متسع الأمن ... وأول مفروح به آخر الحزن
فلا تيأسن فالله ملك يوسفاً ... خزائنه بعد الخلاص من السجن
ففرح وشرب وشربت، وقال: غن لي:
إذا الحادثات بلغن النهى ... وكادت لهن تذوب المهج
وحل البلاء وقل العزاء ... فعند التناهي يكون الفرج
وغنيته وحسن في نفسي اقتضاؤه، وأنست به، واستظرفته، ثم قال: إن رأيت يا سيدي أن تأذن لي أن أغني ما خطر ببالي، وإن كنت من غير أهل الصناعة؟ فقلت: يكون ذلك زيادةً في أدبك ومروءتك.
فأخذ العود، ثم قال: دستور، ثم ضرب عليه، وغنى يقول:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لنا: ما أقصر الليل عندنا
وذاك لأن النوم يغشى عيونهم ... سريعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا
إذا ما دنا الليل المضر بذي الهوى ... جزعنا، وهم يستبشرون إذا دنا
فلو أنهم كانوا يلاقون مثل ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
فقلت: والله ذهب عني كل ما كان عندي من الفزع وسألته أن يغني، فغنى يقول:
تعيرنا أنا قليلٌ عديدنا ... فقلت لها: إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز، وجار الأكثرين ذليل
وإنا لقوم لا نرى الموت سبةً ... إذا ما رأته عامرٌ وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
فوالله لقد أجاد وذهب عني كل ما كان من الفزع والجزع، واستأنست به وأخذني من الطرب ما لا مزيد عليه، وعالجني النوم قبل أوانه فنمت، ولم أستيقظ إلا بعد المغرب، وجال فكري في هذا الحجام وأدبه وظرفه، وكيف غناؤه وأدبه وإرادته أن يسليني عما أنا فيه إشارة إلى تخصيصه بالوفاء لضيفه ونصره لجاره، فقعدت وغسلت وجهي ويقظته، وأخذت خريطة كانت صحبتي فيها دناينر ومصاغ لها قيمة فدفعتها إليه، وقلت له: أنت في وداعة الله وحفظه فإني ماض عنك، وأسألك أن تصرف ما في هذه الخريطة في بعض مهماتك، ولك عندي، إذا أمنت، المزيد، فأعادها علي مبادراً وقال: يا سيدي! الصعلوك لا قيمة له عند أهل الرياسات، ويظنون فيه الظنون الرديئة، أفآخذ على ما وهبني الله من قربك وحلولك في منزلي ثمناً؟ لا والله، فألححت عليه، فأخذ موسى بيده وقال: والله إن راجعتني لأنحرن نفسي، فخشيت عليه وأخذت الخريطة وأثقلني حملها، فلما انتهيت إلى باب الدار، قال: يا سيدي إن هذا الموضع أخفى لك من غيره، وليس عندي في مؤنتك ثقلة، فأقم عندي إلى أن يفرج الله عنك. فرجعت وسألته أن يكون منفقاً من تلك الخريطة فلم يفعل، وكان كل يوم يفعل بي مثل ما فعل في اليوم الأول.

قال: فأقمت أياماً في أطيب عيش وأهناه، ثم سئمت من الإقامة عنده وخشيت الثقل عليه، فتركني ومضى يجدد لنا حالنا، فلبست ثيابي وتزينت بزي النساء بالخف والنقاب، وخرجت. فلما صرت في الطريق داخلني من الخوف والفزع أمر شديد ومشيت لأعبر الجسر، وإذا هو قد رش، ورجل قائم فأبصرني بعض من كان في خدمتي من الجند فتعلق بين وقال: طلبة أمير المؤمنين، فدفعته في صدره فوقع في الزلق وصار عبرة وتبادر الناس إليه فاجتهدت في المشي حتى قطعت الجسر، ودخلت زقاقاً فوجدت باباً وامرأة واقفة فيه، فقلت: يا سيدة النساء، احقني دمي فإني رجل خائف.
فقالت: ادخل، فدخلت فأطلعتني إلى غرفة وفرشت لي وقدمت لي طعاماً. وقالت: ليهدأ روعك فإنه لا يعلم بك مخلوق، ولو أقمت سنة ما عليك بأس، وإذا بالباب يدق، فخرجت وفتحت الباب، فإذا هو صاحبي الذي دفعته على الجسر، وهو مشدوخ الرأس ودمه يسيل على ثيابه، فقالت له ما دهاك؟ قال: إن حديثي عجيب وأمري غريب ظفرت بالفتى وانفلت من يدي.
قالت: وكيف؟ قال: إبراهيم بن المهدي لقيته فتعلقت به فدفعني فأصابني ما ترين من حالي ولو حملته إلى أمير المؤمنين لأخذت منه مائة ألف درهم.
قال: فأخرجت له حراقاً وذروراً، وفرشت له بعد كبس جرحه فنام قليلاً وطلعت وقالت لي: أظنك صاحب القصة؟ قلت: نعم.
فقالت لي: إني خائفة عليك، ثم جددت لي الكرامة وأقمت عندها ثلاثة أيام، ثم قالت لي: إني خائفة عليك من هذا الرجل لئلا يطلع على أمرك فينم عليك فانج بنفسك.
فسألتها إمهالي إلى الليل. فلما دخل لبست زي النساء وخرجت منم عندها وأتيت إلى بيت مولاة لنا، فلما رأتني بكت وتوجعت وحمدت الله تعالى على سلامتي وخرجت كأنه تريد كرامتي، فتوجهت للسوق مظهرة الاهتمام للضيافة فظننت خيراً، فلم أشعر إلا بإبراهيم الموصلي بخيله ورجاله، والمولاة معه حتى سلمتني إليه، فرأيت الموت عياناً، وحملت مثل ما أنا إلى أمير المؤمنين، فجلس مجلساً عاماً، وأمر بإدخالي عليه، فلما مثلت بين يديه سلمت عليه سلام الخلافة، فقال: لا سلمك الله، ولا حفظك ولا رعاك.
فقلت: يا أمير المؤمنين، إن ولي الثأر محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى، ومن تناولته يد الأقدار ربما مد له من أسباب الرجاء ما يأمن معه عادية الدهر، وقد جعلك الله فوق خلقه، وأصبح عفوك فوق كل ذي عفو، فإن تأخذ فبحقك، وإن تعف فبفضل، وأنشدت أقول:
ذنبي إليك عظيموأنت أعظم منهفخذ بحقك أولا
واصفح بحلمك عنهإن لم أكن في فعاليمن الكرام فكنه
قال: فرفع رأسه إلي، فقلت مبتدراً:
أتيت ذنباً عظيماً ... وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمن ... وإن جزيت فعدل
قال: فرق المأمون واسترجع فرأيت روائح الرحمة في شمائله، ثم أقبل على أخيه أبي إسحاق محمد المعتصم وابنه العباس وجميع من حضر من خصته، وقال: ما ترون في أمره؟ فأشار الكل بقتلي، إلا أنهم اختلفوا في القتل، فقال المأمون لأحمد بن أبي خالد: ما تقول يا أحمد؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إن قتلته فقد وجدنا مثلك قتل مثله، وإن عفوت لم نجد مثلك في العفو.
فنكس المأمون رأسه إلى الأرض وجعل يخط في الأرض بإصبعه، ثم رفع رأسه وقال:
قومي هموا قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
ثم قال المأمون: لا بأس عليك يا عم.
فقلت: ذنبي يا أمير المؤمنين أعظم من أن أفوه معه بعذر، وعفوك أعظم من أن أنطق معه بشكر، ولكن أقول:
إن الذي خلق المكارم حازها ... في صلب آدم للإمام السابع
ملئت قلوب الناس منك مهابةً ... وتظل تكلؤهم بقلبٍ خاشع
ما إن عصيتك والغواة تمدني ... أسبابها إلا بنية طائع
وعفوت عمن لم يكن عن مثله ... عفو، ولم يشفع إليك بشافع
ورحمت أشباحاً كأفراخ القطا ... وحنين والدةٍ بقلب جازع
فقال المأمون: لا تثريب اليوم عليك، قد عفوت عنك، ورددت عليك مالك وضياعك، فأنشدت أقول:
رددت مالي ولم تبخل علي به ... وقبل ردك مالي قد حقنت دمي
أمنت منك وقد خولتني نعماً ... نعم الحياتان من موت ومن عدم
فلو بذلت دمعي أبغي رضاك به ... والمال حتى أسل النعل من قدمي

وإن جحدتك ما وليت من نعم ... إني إلى اللؤم أول منك بالكرم
فقال المأمون: إن من الكلام كلاماً كالدر، وهذا منه، وأمر لي بمالي وخلع علي، وقال: يا عم إن أبا إسحاق والعباس أشار بقتلك.
فقلت: إنهما نصحاك يا أمير المؤمنين، ولكن فعلت ما أنت أهله، ودفعت ما خفت أنا بما رجوت.
فقال المأمون: لقد مات حقدي بحياة عذرك، وقد عفوت عنك.
ثم سجد المأمون طويلاً، ثم رفع رأسه، ثم قال: يا عم أتدري لم سجدت؟ قلت له: شكراً لله تعالى على ما أوقعك علي وملكك إياي في ديك تفعل بي ما تشاء.
فقال: أخطأت! ولكن أشكر الله تعالى على ما ألهمني من العفو عنك من قبل نفسي، ثم قال: وأعظم من عفوي عنك أنني لم أجرعك مرارة امتنان الشافعين، فحدثني بما كان من أمرك.
فشرحت له ما جرى لي مع الحجام والجندي وزوجته والمولاة التي أسلمتني، فأمر المأمون بإحضارها، وهي في دارها تنتظر الجائزة، فلما حضرت قال لها المأمون: ما حملك على ما فعلت تسليمك إبراهيم مع إنعامه عليك؟ قالت: رغبة في المال.
قال هل لك من ولد أو زوج؟ قالت: لا، فأمر بضربها مائة سوط وأمر بتخليدها في السجن، ثم أحضر الجندي وامرأته والحجام، فسأل الجندي عن السبب الذي حمله على ما فعل؟ قال: رغبة في المال.
فقال: إنك أولى في أن تكون حجاماً من أن تكون خداماً، ووكل من يلزمه الجلوس في مكان الحجام، ليتعلم الحجامة، وأحسن إلى امرأته وجعلها قهرمانة قصره وقال: هذه امرأة أديبة تصلح للمهمات، وسلم للحجام دار الجندي وما فيها، وخلع عليه وأثبته برزقه في الديوان، وزيادة ألف دينار في كل سنة، ولم يزل كذلك إلى أن مات، والله أعلم.

صيد الجواري
وعن محمد بن عبد الله التميمي، قال: حدثنا أحمد بن محمد الحريري قال: كان لحمنة بنت عبد الرحمن الهاشمي من الأموال ما لا يسعه الديوان، ولا تأكله النيران لكثرته، وكانت أدب نساء بني هاشم وأفصحهن لساناً وأقولهن شعراً، فدخلت على المأمون يوماً، وكانت تحبه غاية الحب سراً، وكن المأمون جالساً في إيوان قد ابتدعه لنفسه لم يبتدعه أحد من الخلفاء قبله، وكان قد تأنق في بنائه، وكان فيه من كل صورة في البر والبحر ممثلة من الذهب والفضة، وقد فرشه ببساط من الديباج الأصفر، وأسبل عليه ستوراً من الحرير الصيني، وقد أقام فيه أربعمائة وصيفة بقراطق الحرير، وقد لبسن الوشي بطرر وشعور وأصداغ، وهن بقد واحد، لا تزيد الواحدة منهن على الأخرى، أقام مائتين عن يمنيه ومائتين عن يساره، فقال: يا حمنة! هل كان لأبيك أو لبعلك أو لأحد من الخلفاء مثل هذا الإيوان مع فرشه، ومثل هؤلاء الجواري مع زينتهن؟ فقالت: يا أمير المؤمنين! متعك الله به وعمره بك، فلقد أوتيت ملكاً عظيماً تستأهله لترفهك وشرفك، فإن أحببت خادمتك حمنة أجلستك في مجلس لم تجلس في مثله قط وأصادتك صيداً لم تصد مثله قط، وأسقتك شراباً لم تشرب مثله قط.
وكان عنده يحيى بن أكثم، فقال لها: ياحمنة، قد أجبتك إلى ما سألتني، ولكن لا ينفعني ولا يهناك ذلك إلا بمشهد من يحيى بن أكثم، فإنه لا يطيب لي مجلس إلا به.
فقالت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم ضربت يدها في جيبها، فأخرجت منه مخزنة من ذهب أحمر محشوة مسكاً أذفر، فدفعتها إلى يحيى، وقالت: يا يحيى، إن الأجير لا يعمل حتى يستوفي أجرته، وهذه أجرتك مني فكن مستحثاً لي أمير المؤمنين غداً عند الزوال، في المسير إلى منزل خادمته؟ فقال: حباً وكرامةً.
ثم خرجت من عنده فهيأت ما تحتاج إليه للمأمون وغيره، فلما كان من الغد جلس المأمون في مجلس السلام، فلما زالت الشمس وصارت في كبد السماء قال يحيى: يا أمير المؤمنين الحاجة التي عرضت عليك بالأمس. ففطن المأمون لذلك، وقام من مجلسه ولبس ثياب التجار، ولبس يحيى مثل ذلك، ودعا بحمارين مصريين بغاشيتين، وركباهما حتى أتيا دار حمنة، فدقا الباب دقاً خفيفاً، فسمعته فأقبلت بنفسها، حتى فتحت الباب وأقبلا يمشيان جميعاً حتى انتهيا إلى بيت في بستان قد حمل على أربعة أعمدة من الرخام الأحمر المنقوش، وإذا في صدر البيت أربعة أسطر منقوشة بالدر وصنوف الجواهر وهي:
ما سرني أن فؤادي، ولا ... أن لساني بالمدام حلا
؟وأن لي ملك بني هاشمٍ يجبى إلى أولاً أولا

إن لم أشاهدك أيا مالكي ... تأتي إلى بيتي كذا مقبلا
يا سائلي روحي بلا علةٍ ... أنت المعافى، وأنا المبتلي
فقال المأمون: يا يحيى، ما ملك أحد من الخلفاء مثل هذا البيت.
وإذا فرشه أرمني محفور منقوش باللآلي وإذا فوق الأرمني مطارح من الديباج الأخضر حشوها حواصل الريش، وفي البيت المسك والعنبر والكافور والصندل والزعفران والند والعود مصفوف في أواني الذهب والفضة، وهي تفوح منه روائح لا يدرى ما هي من طيبها، ثم أخرجتهما إلى أربعة ميادين فيها أنواع الرياحين حول البيت، فقالا: إن هذا إلا سحر يؤثر.
ثم دعت لهما بمائدة من الجزع اليماني قوائمها من قطعة واحدة، فوضت وقدمت عليها الألوان الغريبة، فقال المأمون: ما طعمت مثل هذا الطعام قط.
ثم دعت بالطشت والإبريق فغسلا أيديهما، ثم أمرت بشراب فقدمت إليهما قناني الزجاج الشامية المرتفعة الصافية، والبلور، فيها شراب قد أتت عليه الأيام والأعوام، فهي تحكي الهواء لرقتها والياقوت لحمرتها والزنجبيل لحدتها، ووضعت بين أيديهما مع أقداح وأنطال تشاكل ذلك، فقال المأمون: والله! ما رأيت مثل هذا قط.
ثم أخرجت جاريتين عليهما جباب الوشي الكوفي المنسوج بالذهب، وعلى رأسيهما مقانع رشيدية وتيجان من الذهب مكللة بالجوهر، فجلستا وفي حجريهما العيدان المبسوطة الموزونة، فحركتا الأوتار وغنتا بصوت شجي مليح، من أنواع الأغاني وغرائب الأصوات، فقال المأمون: هذه الجنة مما نرى فيها من غرائب الطيب والجوهر.
فقال يحيى: وقد بقي لنا يا أمير المؤمنين، شرط آخر.
فقال: وما هو يا يحيى؟ قال: الصيد، يا أمير المؤمنين.
قال: صدقت يا يحيى، ثم قال: يا حمنة، ما فعل الصيد؟ فقالت: قوما إليه.
فقام المأمون ويحيى حتى دخلا بستاناً لم ير مثله، وقد كانت زينت البستان بأحسن ما تقدر عليه، واتخذت فيه ألوان الطيور من الفاخت والقمري والهزار والطواويس، فكانت الأطيار تغني من رؤوس الأشجار، وتغرد بالسر والإجهار، وقد كانت زينت مائة جارية نواهد أبكار بطرر وشعور وخدود ومباسم ساطعات الأنوار، ترى كل واحدة منهن أبهى من صاحبتها وأحسن، وعليهن من ألوان الثياب ما يعجز عنه الوصف، وفي وسطهن مناطق الذهب الأحمر، وتقدمت إليهن وقالت لهن: إذا رأيتن المأمون ويحيى، تعادين ما بين الأشجار. فلما دخل المأمون ويحيى لابستان، فعلن ما كانت أمرتهن، فتضاعف السرور على المأمون، وأعجب بذلك عجباً شديداً، ثم قال ليحيى: هذا الصيد.
فقال: يا أمير المؤمنين! رأيك؟ فقال المأمون: لو كان لنا كلب لا صطدنا هؤلاء.
فقال يحيى: أنا كلبك، يا أمير المؤمنين.
فعد المأمون ويحيى فاصطادا منهن صبية، فقالت حمنة: سألتك بحق أجدادك إلا ما خليت عن الجواري لا لبخل أبخل بهن عليك، وقد فهمت المعنى فيه.
وقد كانت حمنة تغار على المأمون فخلى عن الجواري، وقال ليحيى: دونك والصيد إذن أنت محل.
فقال يحيى: لو كان لي كلب لاصطدت من هؤلاء.
فقال المأمون: أنا كلبك.
فضحك يحيى وضرب بقلنسوته الأرض، وعد خلفهن، فأخذ منهن خمسة فقالت حمنة: يا يحيى لك الخمسة ولا غيرة لي عليك، وإنما أغار على المأمون لحاجتي إليه.
فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين، لقد رأيت الهوى الغالب في حماليق عينيها، ولا تتم لنا النعمة إلا بتزويجك إياها إن رأيت ذلك.
فقال المأمون: أنا بريء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنتف من جدي العباس إن ذهبت من البستان ولم أتزوجها، ثم قال: يا يحيى اخطب خطبة النكاح.
فخطب يحيى وأمهرها المأمون ألف ألف دينار، وأقطعها مائة من منتخبات الضياع، فحمدت حمنة الله سروراً بما ظفرت من تزويج المأمون إياها، وأمرت ليحيى بعشرة آلاف دينار، ورجع المأمون إلى منزله وزفت إليه في تلك الليلة، فواقعها فحملت بالعباس ابنه، انتهى.

حيل الجواري

حكي أن المأمون كان مشغوفاً بحب جارية يقال لها نسيم، وكانت ذات عقل وأدب وفضل وكمال، وكان لا يفارقها في الحضر ولا في السفر، ثم بعد ذلك مال إلى جارية أخرى أحسن منها، وأعرض عنها، فاغتمت ولم تجد حيلة في استعطافه، وكانت لها جارية رومية أحسن منها في العقل والأدب، وكتمت أمرها عن المأمون، فاتفق أن المأمون حصل له بعض ضعف، ففصد، فحصل له الشفاء، فجعل الناس يدخلون إليه بأصناف التحف والهدايا، فأهدت إليه نسيم الجارية المذكورة، ومعها جام بلور، وغطته بمنديل ديبقي مكتوب عليه بالذهب هذه الأبيات:
فصدت عرقاً تبتغي صحةً ... ألبسك الله به العافية
فاشرب بهذا الجام يا سيدي ... مستمتعاً بهذه الجارية
واجعل لمن أهداكها زورةً ... تحظى بها في الليلة الثانية
فأعجب المأمون ما رأى من الجام والجارية، ثم بعث لها يقول: نعم، وفي هذه الليلة، ثم رضي على نسيم وواصلها بعد ذلك.

المأمون وزبيدة أم الأمين
حكي أن المأمون مر يوماً على زبيدة أم الأمين، فرآها تحرك شفتيها بشيء لا يفهمه، فقال لها: يا أماه، أتدعين علي لكوني قتلت ابنك وسلبته ملكه؟ قالت: لا والله يا أمير المؤمنين.
قال: فما الذي قلته؟ قالت: يعفيني أمير المؤمنين.
فألح عليها وقال: لا بد أن تقوليه؟ قالت له: قلت، قبح الله اللجاجة.
قال: وكيف ذلك؟ قالت: لأني لعبت يوماً مع أمير المؤمنين الرشيد بالشطرنج على الحكم والرضا، فغلبني، فأمرني أن أتجرد من أثوابي وأطوف القصر عريانة، فاستعفيته، وبذلت له أموالاً لا تحصى، فلم يعف عني. فتجردت من أثوابي وطفت القصر عريانة، وأنا حاقدة عليه، ثم عاودنا اللعب فغلبته فأمرته أن يذهب إلى المطبخ، فيطأ أقبح جارية وأشوهها خلقة فاستعفاني عن ذلك فلم أعفه، فنزل لي عن خراج مصر والعراق، أبيت وقلت: والله لتطأنها، فألححت عليه وأخذت بيده وجئت به إلى المطبخ، فلم أر جارية أقبح ولا أقذر ولا أشوه خلقة من أمك مراجل، فأمرته أن يطأها فوطئها فعلقت منه بك، فكنت سبباً لقتل ولدي وسلبه ملكه.
فولى المأمون وهو يقول: قاتل الله اللجاجة، أي التي لج بها عليها حتى أخبرته بهذا الخبر، انتهى.
المأمون والشاعر
وأتى شاعر المأمون فقال: لقد قلت فيك شعراً، فقال: أنشدنيه. فقال:
حياك رب الناس حياكا ... إذ بجمال الوجه رقاكا
بغداد من نورك قد أشرقت ... وورق العود بجدواكا
قال: فأطرق المأمون ساعة، وقال: يا أعرابي، وأنا قد قلت فيك شعراً، وأنشد يقول:
حياك ربُّ الناس حياكا ... إن الذي أملت أخطاكا
أتيت شخصاً قد خلا كيسه ... ولو حوى شيئاً لأعطاكا
فقال: يا أمير المؤمنين، الشعر بالشعر حرام، فاجعل بينهما شيئاً يستطاب.
فضحك المأمون وأمر له بمال، انتهى.
إبراهيم بن المهدي وصاحبة المعصم
وروى ابن عامر الفهري عن أشياخه قال: أمر المأمون أن يحمل إليه من أهل البصرة عشرة رجال كانوا قد رموا عنده بالندقة،فحملوا إليه، فمر بهم طفيلي، فرآهم مجتمعين، فظن خيراً ومضى معهم إلى الساحل وقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لوليمة، فانسل ودخل الزورق وقال: لا شك إنها نزهة، فلم يكن إلا يسير، وقد قيد القوم، وقيد معهم. فعلم أنه وقع فيما لا طاقة له به، ورام الخلاص، فلم يقدر، وساروا إلى أن وصلوا بغداد وأدخلوا على المأمون، فاستدعى بهم بأسمائهم واحداً بعد واحد، وجعل يذكره بفعله وبقوله ويضرب عنقه، حتى لم يبق إلا الطفيلي، وفرغت العشرة فقال المأمون للموكل: من هذا؟ فقال: لا أعلم يا أمير المؤمنين، غير أننا رأيناه معهم، فجئنا به.
فقال: يا أمير المؤمنين. امرأته طالقة إن كان يعرف من أحوالهم شيئاً، ولا يعرف غير لا غله إلا الله ومحمد رسول الله، وإنما رأيتهم مجتمعين، فظننت أنها وليمة يدعون إليها، فلحقت بهم.
فضحك المأمون وقال: أوقد بلغ من شؤم التطفل أن يحل بصاحبه هذا المحل؟ لقد سلم هذا الجاهل من القتل، ولكن يؤدب، حتى لا يعود إلى مثلها.
وكان إبراهيم بن المهدي حاضراً، فقال: يا أمير المؤمنين، هبه لي، وأنا أحدثك عن نفسي، فيما وقع لي في التطفل من العجب.
فقال: وهبته لك، هات حديثك.

فقال: يا أمير المؤمنين خرجت متنكراً يوماً أنظر إلى سكك بغداد، فاستهوى بي الطرب والتفرج فانتهى بي المسير إلى موضع شممت فيه رائحة طعام وأبازير قد فاحت، وهفت نفسي إليها ووقفت، يا أمير المؤمنين، لا أقدر على المشي، فرفعت بصري، وإذا بشباك خلفه كف بمعصم ما رأيت أحسن منه، فبقيت حائراً، ونسيت رائحة الطعام، بذاك الكف، فأخذت في عمل الحيلة إلى الوصول إليها، فإذا بجانب المكان خياط، فسلمت عليه فرد علي السلام، فقلت: يا سيدي! لمن هذه الدار؟ فقال: لرجل من البزازين.
فقلت: ما اسمه؟ فقال: فلان.
قلت: هو ممن يشرب الخمر؟ قال: نعم، وأظن أن عنده اليوم أصحابه، تجار مثله.
فبينما نحن في الكلام إذ أقبل رجلان فقال لي: هذان ندماؤه.
فقلت له: ما اسمهما وما كنيتهما؟ فقال لي: فلان الفلاني وفلان الفلاني.
فحركت وراءهما رجلي، فلحقتهما فقلت: جعلت فداءكما، استبطأكما فلان أعزه الله، ولم أزل معهما، حتى أتيت البيت، فدخلت ودخلا، فلما رآني صاحب البيت بينهما لم يشك في أني معهما فرحب بي وأجلسني في أفضل الأماكن ثم جيء بالمائدة ونقلت إليها الألوان، فقلت في نفسي: هذه ألوان قد من الله علي ببلوغ الغرض منها، بقي الكف والمعصم، ثم جيء بالماء فغسلنا أيدينا ثم نقلنا إلى مجلس المنادمة، فإذا شكل مليح ما رأيت أحسن منه ولا أظرف، ورأيت صاحب المكان يتلطف بي ويقبل علي لظنه أني ضيف لأضيافه، وهم على الحالة هذه إلى أن شربنا فخرجت علينا جارية كأنها غصن بان في غاية الظرف وحسن الهيئة، فسلمت من غير خجل ولا احتشام، وجلست وأتي بعود فجسته أحسن جس، وإذا هي حاذقة في الصناعة وغنت تقول:
توهمها فكري، فأصبح خدها ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر
وصافحها كفي، فآلم كفها ... فمن ضم كفي في أناملها عقر
فهيجت يا أمير المؤمنين بلبالي، فطربت لحسن شعرها وحذقها ثم غنت تقول:
أشرت إليها: هل عرفت مودتي ... فردت بطرف العين أني على العهد
فجادت عن الإظهار عمداً بسرها ... وحادت عن الإظهار أيضاً على عمد
فحسدتها يا أمير المؤمنين على حذاقتها وإصابتها معني الشعر، فضحكت لما أصابني من الطرب الذي لم أملك نفسي معه ثم غنت تقول:
أليس عجيباً أن بيتاً يضمنا ... وإياك لا نلهو ولا نتكلم
سوى أعين تبدي سرائر أنفسٍ ... وتقطيع أنفاس على النار تضرم
إشارة أفواه وغمز حواجب ... وتكسير أجفان وكف تسلم
فزاد حسدي لها يا أمير المؤمنين على حذاقتها وإصابتها معنى الشعر لأنها لم تخرج عن المعنى وقلت: بقي عليك يا جارية شيءٌ، فرمت العود من يدها، وقالت: متى كنتم تحضرون الغناء مثل هذا؟ فندمت على ما كان مني ورأيت القوم كأنهم قد أنكروا علي، فقلت في نفسي: فاتني جميع ما أملت،، وأحببت أن أتلافى قضيتي فقلت: أثم عودٌ غير هذا؟ قالوا: نعم فأحضروا عوداً، فأصلحت ما أردت إصلاحه ثم قلت:
ما للمنازل لا تجيب حزيناً ... أصممن أم قد بالبلاء بلينا
فما أتممت شعري حتى وثبت الجارية إلي، وانكبت على يدي تقبلها وتقول: المعذرة إليك يا سيدي، والله ما علمت مكانك، ولا سمعت بهذه الصناعة من أحد، ثم زادوا إكرامي وطربوا غاية الطرب، فشربت عدة أقداح، ثم غنيتهم أبياتاً فرأيت من طربهم شيئاً عظيماً حتى قلت إن أرواحهم، فارقت أبدانهم فسكت عنهم ساعة، حتى تراجعوا إلى عقولهم فعنيتهم وقلت:
هذا محبك مطوياً على كمده ... وجداً، وأدمعه تجري على جسده
له يد تسأل الرحمن راحته ... مما به واليد الأخرى على كبده
يا من رأى كلفاً في حبه دنفاً ... كانت منيته في عينه ويده
قال: فجعلت الجارية تصيح وتقول: هذا والله الغناء والذي كنا فيه ليس بشيء، وشرب القوم فلما جاءهم البسط، وأخذ المجلس منتهاه أمر صاحب البيت عبدين له أن يحفظا النديمين إلى منزلهما، وخلوت معه. فقال: والله يا سيدي ذهب ما مضى من عمري باطلاً حيث لم أعرفك قبل يومي هذا فبالله يا مولاي من أنت.؟

فجعلت أرد عليه، وهو يقول ويقسم علي حتى أعلمته من أنا على الحقيقة، فلما سمع ذلك قام تعلى قدميه وقال: ما عجبت أن تكون هذه المكارم إلا لمثلك، وقد أصابني من الدهر نعم لا أقوم بشكرها، ثم قال: أترى هذا يقظة أم مناماً، أقسمت أني لا أزال هذه الليلة قائماً إلى أن تأذن لي، فإني أحقر من أن أجالس الملوك.
فأقسمت عليه بأن يجلس ثم أخذ في الكلام وجعل يعرض علي السبب الذي أوجب حضوري عنده بألطف تعريض فأخبرته بأمري على الحقيقة ولم أخف شيئاً، ثم قلت له: الطعام قد نلت منه بغيتي، وبقي الأمر الآخر، فوثب إلى باب القاعة، وقال: كل منكن تلبس أفخر ثيابها وتخرج علينا من المخدع، ثم استدعى بهن وجعل يقول: يا فلانة، وهن يخرجن واحدة بعد واحدة، وأنا لا أرى صاحبة الكف والمعصم إلى أن أتت أربعون امرأة.
فقال: والله ما بقي إلا أختي، وها أنا مخرجها إليك.
فقلت: افعل.
فقال: حباً وكرامة، ثم استدعاها فنزلت فرأيت يدها ومعصمها، فإذا هي التي رايتها، قلت: هذه الحاجة، فأمر غلمانه لوقته أن يأتوا بعشرة شهود، ثم قام وأخرج عشرين ألف درهم وألفاً أخرى، فلما حضروا قال لهم: هذا سيدي إبراهيم بن المهدي يخطب أختي فلانة، وأشهدكم أني قد زوجتها له وأمهرتها عنه عشرين ألف درهم.
فقلت: قبلت الزواج.
ثم دفع الألف التي كان خرجها لهم، فشكروا له ودعوا وانصرفوا. ثم قال: يا سيدي أمهد لك بعض البيوت، تنام مع أهلك.
فأعجبني ما كان من كرمه واستحييت أن أدخل بها في داره. فقلت له: بل اجعلها في عمارية واحملها إلى منزلي، فوحقك يا أمير المؤمنين لقد حمل معها من الفرش والأثاث ما ضاقت به بيوتنا، فأولدتها هذا الغلام القائم بين يديك، يا أمير المؤمنين.
فتعجب المأمون من كرم الرجل وقال: لله دره ما أكرمه، والله ما سمعت بمثله قط، ثم أطلق الطفيلي وأمر بإحضار الرجل واستنطقه، فأعجبه حسن منطقه وعقله وأدبه فصيره من جملة خواصه ومنادميه، والله أعلم.
؟ذكر خلافة إبراهيم المعتصم بن هارون الرشيد هو ثامن خلفاء بني العباس، وكان شديد القوة، ما كان في بني العباس مثله في القوة والشجاعة والإقدام. وقيل: إنه أصبح ذات يوم، وكان برده شديداً وثلجه عتيداً، فلم يقدر أحد على إخراج يده، ولا إمساك قوسه، فأوتر المعتصم في ذلك اليوم أربع آلاف قوس، وكان يدعى المثمن، وأنشد أبو تمام حبيب بن أوس الطائي يمتدح المعتصم بن هارون الرشيد يقول:
إن جس عوداً رأيت الخيل راقصة ... كأنها من سماعٍ هزها نغم
أو حركت يده اليمنى له وتراً ... على أعاديه غنى البوم والرخم
كان يقول بخلق القرآن. ضرب على ذلك أحمد بن حنبل على أن يقول ذلك فلم يقل رضي الله عنه، وله معه كلام طويل، فانظره في حياة الحيوان.
؟

المعتصم وتميم بن جميل
من لطائف الحكايات
ما روي عن أحمد بن أبي دؤاد القاضي إنه قال: جيء بتميم بن جميل إلى المعتصم أسيراً، وكان قد خرج عليه فما رأيت رجلاً عرض عليه الموت فلم يكترث به سواه، ثم دعا بالسيف والنطع، فلما مثل بين يديه نظر إليه، فأعجبه حسنه وقده ومشيه إلى الموت غير مكترث، فأطال الفكر فيه ثم كلمه لينظر أين عقله ولسانه من جماله، فقال: يا تميم! إن كان لك عذر فائت به.
فقال: أما إذ أذن أمير المؤمنين في الكلام فإني أقول: الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه. وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. يا أمير المؤمنين! جبر الله بك صدع الدين ولم بك شعث المسلمين، وأخمد بك نار الباطل وأنار بك سبل الحق، إن الذنوب تخرس الألسنة وتصدع القلوب، وآيم الله لقد عظمت الجريمة، وانقطعت الحجة وساء الظن إلا فيك، وهو أشبه بك وأليق ثم أنشد يقول:
أرى الموت بين السيف والنطع كامناً ... يلاحظني من حيث ما أتلفت
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي ... وأي امرئٍ مما قضى الله يفلت
ومن ذا الذي يدلي بعذر وحجة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت
يعز على الأوس بن تغلب موقف ... يسيل عليه السيف فيه ويسكت
وما جزعي من أن أموت وإنني ... لأعلم أن الموت شيء مؤقت

ولكن خلفي صبيةً قد تركتها ... وأكبادهم من حسرةٍ تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم ... وقد لطموا حمر الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا في سرور ونعمةٍ ... أذود الردى عنهم، وإن مت موتوا
قال: فبكى المعتصم ثم قال: إن من البيان لسحراً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا تميم، كاد والله أن يسبق السيف العذل. قد غفرت لك الهفوة ووهبتك للصبية.
ثم عقد له ولاية على عمله، وأعطاه خمسين ألف دينار، انتهى. من زهر الكمام في قصة يوسف عليه السلام.

مخارق المغني والجارية الحسناء
وذكر صاحب تاريخ بغداد عن مخارق المغني قال: تطفلت تطفيلة قامت على أمير المؤمنين المعتصم بتسعين ألف درهم.
قيل له: كيف ذلك؟ قال: شربت معه ليلة إلى الصبح، فلما أصبحنا قلت له: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن أخرج إلى الرصافة، فأتنسم إلى وقت انتباه أمير المؤمنين.
قال: نعم، فأمر البوابين أن يتركوني، فخرجت أتمشى في الرصافة، وإذا بجارية كأن الشمس تشرق من جبينها، فتبعتها ورأيت معها زنبيلاً فوقفت على فاكهاني، واشترت سفرجلة بدرهم، وانصرفت فتبعتها، فالتفتت فرأتني فقال: يا ابن الفاعلة إلى أين؟ قلت: خلفك يا سيدتي؟ فقالت: ارجع يا ابن الزانية لئلا يراك أحد فيقتلك؟ فتأخرت ومشيت وتمشت أمامي ثم التفتت فرأتني، فشتمتني شتماً قبيحاً ثم جاءت إلى دار كبيرة، فدخلت فيها، وجلست أنا عند الباب، وقد ذهب عقلي ونزلت علي الشمس، وكان يوماً حاراً، فلم ألبث أن جاء فتيان كأنهما بدران على حمارين، فلما وصلا إلى الباب أذن لهما، فدخلا ودخلت معهما، فظنا أن صاحب المنزل قد دعاني، وجيء بالطعام، فأكلنا وغسلنا أيدينا، فقال لنا صاحب المنزل: هل لكم في فلانة؟ فقالوا: إن تفضلت.
قال: فاستدعي بتلك الجارية، فخرجت فإذا هي صاحبتي ووراءها وصيفة تحمل عودها، فوضعته في حجرها فغنت وشربوا وطربوا، وهي تلحظني وتشك في، فقالوا: لمن هذا الصوت؟ فقالت: لسيدي مخارق.
فلم ألبث أن قلت: يا جارية شدي يدك، فشدت أوتارها وخرجت عن إيقاعها الذي تقول عليه. قال: فاستدعيت بمدورة وقضيب وغنيت الصوت الذي قالته الجارية، فقاموا إلي وقبلوا رأسي.
قال: وكان مخارق من أحسن الناس صوتاً وكان يوقع بالقضيب توقيعاً عجيباً.
قال: ثم غنيت الصوت الثاني والثالث، فكادت عقولهم تطير فقالوا: بالله من أنت يا سيدي؟ فقلت: مخارق.
فقالوا: وما سبب مجيئك؟ قلت: طفيلي أصلح الله شأنكم. وأخبرتهم بخبري.
فقال صاحب البيت لصديقيه: أما تعلمان ني أعطيت في هذه الجارية ثلاثين ألف درهم فامتنعت عن بيعها؟ قالا: نعم.
قال: هي له.
فقال صديقاه: علينا عشرون ألف درهم وعليك عشرة آلاف درهم.
قال مخارق: فملكوني الجارية، وجلست عندهم إلى العصر وانصرفت بها وكلما مررت بالمواضع التي شتمتني فيها أقول: يا مولاتي، أعيدي كلامك فتستحي مني، فأحلف عليها لتعيدنه، فتعيده حتى وصلت إلى أمير المؤمنين فقيل لي أنه انتبه فطلبك في منازل أبناء القواد فلم يجدك، وتغيظ غيظاً شديداً، فدخلت عليه ويدي في يدها، فلما رآني سبني وشتمني، فقلت: يا أمير المؤمنين لا تعجل! وحدثته الحديث فضحك، وقال: ها نحن نكافئهم عنك، فأحضرهم وأمر لكل واحد منهم بثلاثين ألف درهم، والله أعلم، انتهى.
حكاية غريبة
قال الأصمعي: دعاني بعض العرب الكرام إلى قرى الطعام، فخرجت معه إلى البرية، فأتوا بباطية بأذنين وعليها السمن غارق، فجلسنا للأكل، وإذا بأعرابي ينسف الأرض نسفاً حتى جلس من غير نداء، فجعل يأكل والسمن يسيل على كراعه فقلت: لأضحكن الحاضرين عليه فقلت:
كأنك أثلةٌ في أرض هش ... أتاه وابلٌ من بعد رش
فالتفت إلي بعين مبحلقة وقال لي: الكلم أنثى والجواب ذكر وأنت:
كأنك بعرة في إست كبشٍ ... مدلاةٌ، وذاك الكبش يمشي
فقلت له: هل تعرف شيئاً من الشعر أو ترويه؟ فقال: كيف لا أقول الشعر، وأنا أمه وأبوه؟ فقلت له: إن عندي قافية تحتاج إلى غطاء؟ فقال: هات من عندك.
فغطست في بحور الأشعار، فما وجدت قافية أصعب من الواو المجزومة فقلت:
قومٌ بنجدٍ قد عهدناهم ... سقاهم الله من النوّ
قلت: أتدري النو ماذا؟ فقال:

نو تلالا في دجى ليلةٍ ... حالكةٍ مظلمةٍ لو
فقلت له: لو ماذا؟ فقال:
لو سار فيها فارس لانثنى ... على بساط الأرض منطو
فقلت له: منطو ماذا؟ فقال:
منطوي الكشح هضيم الحشا ... كالباز ينقضُّ من الجو
فقلت له: الجوُّ ماذا؟ فقال:
فاعلوا لما قد عيل من صبره ... فصار نجوى القوم ينعوْ
فقلت: ينعو ماذا؟ فقال:
ينعو رجالاً للقنا شرعت ... كفيتُ ما لاقوا وما يلقُوا
قال: فعلمت أنه لا شيء بعد الفناء، ولكن أردت أن أثقل عليه فقلت له: ويلقوا ماذا؟ فقال:
إن كنت ما تفهم ما قلته ... فأنت عندي رجل بو
فقلت له: البو ماذا؟ فقال:
البوُّ سلخٌ قد حشي جلده ... يا ألف قرنانٍ، تقوم أو
فقلت له: أو ماذا؟ فقال:
أو أضرب الرأس بصوَّانةٍ ... تقول في ضربتها فوّ
فخفت أن أقول له: فو ماذا؟ فيضربني ويكمل البيت. فقلت له: أنت ضيفي الليلة.
فقال: لا يأبى الكرام إلا لئيم.
فقلت لزوجتي: اصنعي لنا دجاجة، ففعلت فأتيته بها وجئته أنا وزوجتي وابناي وابنتاي وقلت له: فرق يا بدوي.
فقال: الرأس للرأس، وأعطاني الرأس، وقال: الولدان جناحان، لهما الجناحان، والبنتان لهما الرجلان، والمرأة لها العجز، وأنا زائر لي الزور، وأكل الدجاجة ونحن ننظر إليه وبنا نتحدث.
فلما أصبحنا قلت لزوجتي: اصنع لنا خمس دجاجات ففعلت وأتيته بالدجاج وقلت له: أقسم يا بدوي.
فقال: تريد شفعاً أو وتراً.
فقلت: إن الله وترٌ يحب الوتر.
فقال: كأنك تريد بالفرد.
فقلت: نعم.
فقال: أنت وزوجتك ودجاجةٌ، وابناك ودجاجةٌ، وابنتاك ودجاجةٌ وأنا دجاجتان.
فقلت: لا أرضى بهذه القسمة.
فقال: كأنك تريد شفعاً.
فقلت: نعم.
فقال: أنت وولداك ودجاجة، وزوجتك وبنتاها ودجاجة، وأنا وثلاث دجاجات، والله لا أحول عن هذه القسمة.
قال الأصمعي: فغلبني مرتين مرة في الشعر ومرة في الدجاج ثم انصرف، انتهى.

خلافة أمير المؤمنين الواثق بالله تعالى
قال انه محمد الذي يقال له المهتدي بالله، كان أبي الواثق بالله إذا أراد أن يقتل رجلاً أحضرنا في ذلك المجلس، فبينما نحن عنده ذات يوم إذ أتي بشيخ مقيد فقال: ائذنوا لأبي عبد الله، يعني ابن أبي دؤاد وأصحابه، وأدخل الشيخ مقيداً فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين.
فقال: لا سلم الله عليك.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين بئسما أدبك المؤدب، قال الله تعالى: " وإذا حييتم بتحيةٍ فحيوا بأحسن منْها أو رُدُّها " . وأنت والله ما حييتني بها ولا بأحسن منها.
فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين. الرجل متكلم.
فقال الواثق: كلمه.
فقال للشيخ: ما تقول في القرآن؟ فقال الشيخ: لم تسألني ولي السؤال أسأله؟ فقال الأمير: سله.
فقال الشيخ لابن أبي دؤاد: ما تقول في القرآن؟ فقال ابن أبي دؤاد: مخلوق. فقال الشيخ: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين والخلفاء الراشدون أم شيء؟ لا يعلمونه؟ فقال: شيء لا يعلمونه.
فقال: سبحان الله! شيء لا يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الصحابة ولا الخلفاء الراشدون وعلمته أنت.
قال: فخجل، وقال: أقلني.
فقال: قد فعلت، والمسألة بحالها.
قال: نعم.
قال: ما تقول في القرآن؟ فقال: مخلوق.
قال: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم والخلفاء الراشدون أم لم يعلموه.
قال: علموه ولم يدعوا الناس إليه.
قال: أفلا وسعك ما وسعهم؟ قال: ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول: هذا شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون وعلمته أنت. سبحان الله، انتهى.

وذكر الحافظ أبو نعيم في حليته. قال الحافظ أبو بكر الآجري بلغني عن المهتدي رحمه الله، أنه قال: ما قطع أبي. يعني الواثق، إلا شيخ جيء به من المصيصة، فمكث في السجن مدة ثم إن أبي ذكره يوماً فقال: علي بالشيخ، فأتي به مقيداً، فلما وقف بين يديه سلم عليه، فلم يرد عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، ما سلكت بي أدب الله ولا أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: " وإذا حُييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برد السلام.
قال أبي، وعليك السلام، ثم قال لابن أبي دؤاد: سله؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أنا محبوس مقيد أصلي في الحبس بتيممٍ منعت الماء، فمر بقيودي تحل، ومر بماء أتوضأ وأصلي، ثم سلني.
فأمر به فحلت قيوده وأمر له بماء فتوضأ وصلى. ثم قال لابن بي دؤاد: سله.
فقال الشيخ: المسألة لي، فمره أن يجبني.
فقال: سل. فأقبل الشيخ على ابن أبي دؤاد فقال له: أ عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه أشيء دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. قال: أفشيء دعا إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعده؟ قال: لا. قال: أفشيء دعا إليه عمر بن الخطاب بعدهما؟ قال: لا. قال: أفشيء دعا إليه عثمان بن عفان بعدهم؟ قال: لا، قال: أفشيء دعا إليه علي بن أبي طالب بعدهم؟ قال: لا. قال الشيخ: أفشيء لم يدع إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي تدعو أنت الناس إليه ليس يخلو أن تقول علموه أو جهلوه، فإن قلت علموه وسكتوا عنه توسعاً، وسعنا وإياك من السكوت، ما وسع القوم، وإن قلت جهلوه وعلمته أنت، فيا لكع ابن لكع، شيء يجهله النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، وتعلمه أنت وأصحابك.
قال المهتدي: فرأيت أبي وثب قائماً ودخل الحجرة، فجعل ثوبه في فيه وجعل يضحك ثم جعل يقول: صدق الشيخ، إلى آخر ما تقدم، وقال المهتدي: ما زلت أقول القرآن مخلوقٌ صدراً من خلافة الواثق حتى أقدم علينا أحمد بن دؤاد شيخاً من أهل الشام، فأدخل الشيخ على الواثق مقيداً وهو جميل الوجه تام القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورق له فما زال يدنيه ويقربه حتى قرب منه، فسلم عليه الشيخ فأحسن السلام ودعا فأبلغ وأوجز فقال له الواثق: اجلس، ثم قال: يا شيخ ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ابن أبي دؤاد يقل ويصغر، ويضعف عن المناظرة.
فغضب الواثق وأعاد مكان الرقة له غضباً، وقال: أبو عبد الله بن أبي دؤاد يقل ويصغر ويضعف عن مناظرتك أنت.
قال الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين، ما بك، وائذن لي في مناظرته.
فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة.
فقال الشيخ: يا أحمد يا ابن أبي دؤاد إلام دعوت الناس ودعوتني إليه؟ فقال: أن تقول: القرآن مخلوقٌ لأن كل شيء دون الله مخلوق.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نقول.
فقال: أفعل. فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه أواجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملاً حتى يقال فيه ما قلت؟ قال: نعم. فقال الشيخ: أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله عز وجل إلى عباده، هل ستر شيئاً مما أمره الله به في دينه.؟ فقال:لا. قال الشيخ: أفدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد فقال الشيخ: تكلم فسكت، فالتفت الشيخ إلى الواثق فقال: يا أمير المؤمنين قل: واحدة.
فقال الواثق: واحدة.
فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن الله عز وجل حين أنزل آخر القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " . أكان الله صادقاً في إكماله أم أنت الصادق في نقصانه، فلا يكون كاملاً حتى يقال فيه بمقالتك هذه، فيكون كاملاً.
فسكت ابن أبي دؤاد فقال الشيخ: أجب يا احمد، فلم يجبه، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، قل: اثنتان.
فقال: اثنتان. فقال الشيخ: يا احمد أخبرني عن مقالتك هذه أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها.؟ فقال ابن أبي دؤاد: علمها. فقال: أفدعا الناس إليها؟ فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين قل: ثلاثة.

فقال الواثق: ثلاثة. فقال الشيخ: يا أحمد، أفاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما زعمت، ولم يطالب أمته بها؟ قال: نعم: فقال الشيخ: واتسع لأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم؟ فقال ابن أبي دؤاد: نعم. فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قدمت أن أحمد يقل ويصغر ويضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين ألم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فلا وسع الله على من لم يتسع له منا ما اتسع لهم من ذلك.
فقال الواثق: نعم إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر عثمان وعلي رضي الله عنهم، فلا وسع الله علينا، ثم قال: اقطعوا قيد الشيخ. فلما قطع ضرب الشيخ بيده فأخذ القيد فوضعه في كمه، فقال الواثق: لم فعلت هذا؟ فقال الشيخ: لأني نويت أن أقدم إلى من أوصي إليه إذا مت، أن يجعله بيني وبين كفني، حتى أخصم به هذا الظالم عند الله عز وجل يوم القيامة، وأقول: يا رب سل عبدك هذا لم قيدني وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك علي.
وبكى الشيخ وبكى الواثق وبكينا، ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله منه، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أنت رجل من أهله.
فقال الواثق: لي إليك حاجة.
فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت.
فقال الواثق: تقيم عندنا ينتفع بك فتياننا؟ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم أنفع لك من مقامي عندك، فقال: ولم ذلك؟ فقال: لأسير إلى أهلي وولدي فأكف دعاءهم عنك، فقد خلفتهم على ذلك.
فقال الواثق: أفتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك؟ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أنا غني وذو ثروة.
قال: أفتسألنا حاجةٌ.
قال: أو تقضيها؟ قال: نعم.
قال: تخلي سبيلي إلى السفر الساعة وتأذن لي.
قال: أذنت لك.
فسلم عليه الشيخ وخرج.
قال: صالح: فقال المهتدي بالله، فرجعت عن هذه المقالة من ذلك اليوم، والله أعلم.

الضب الناطق
فائدة
روى الدارقطني وشيخه والحاكم وابن عدي عن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في محفل من أصحابه، إذ جاء أعرابي من بني سليم قد اصطاد ضباً وجعله في كمه ليذهب به إلى رحله، فرأى جماعة محتفلين بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: على مَن مِن هؤلاء؟ قالوا: على هذا الذي يزعم أنه نبي.
فأتاه فقال: يا أحمد، ما اشتملت الناس على ذي لهجة أكذب منك، ولولا أن تسميني العرب عجولاً لقتلتك، فسررت لقتلك الناس أجمعين.
فقال عمر: يا رسول الله دعني أقتله؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبياً " .
ثم أقبل الأعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: واللاتِ والعزى لا آمنت بك حتى يؤمن بك هذا الضب؟ وأخرج الضب من كمه وطرحه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا ضب، فتكلم الضب بلسان فصيح عربي صريح يفهمه القوم جميعاً فقال: لبيك وسعديك يا رسول رب العالمين " .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تعبد؟ قال: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عذابه.
قال: فمن أنا يا ضب؟ قال: أنت رسول رب العالمين وخاتم النبيين، قد أفلح من صدقك وخاب من كذبك.
فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله حقاً، والله لقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد أبغض إلي منك، والله لأنت الساعة أحب إلي من نفسي ومن ولدي، فقد آمن بك شعري وبشري وداخلي وخارجي وسري وعلانيتي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله الذي هداك إلى هذا الدين الذي يعلو ولا يعلى عليه، ولا يقبله الله تعالى إلا بصلاة ولا يقبل الصلاة إلا بقراءة " .
قال: فعلمني. فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله، وقل هو الله أحد، فقال: يا رسول الله ما سمعت في البسيط ولا في الرجز أحسن من هذا.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا كلام رب العالمين، وليس بشعر. إذا قرأت قل: هو الله أحد ثلاثاً، أو قال: ثلاث مرات، فكأنما قرأت القرآن كله " .
فقال الأعرابي: إن إلهنا يقبل اليسير ويعطي الكثير، انتهى باختصار من حياة الحيوان الكبرى.

ابن آدم
ووقف رجل على الواثق فقال: يا أمير المؤمنين، صل رحمك وارحم أقاربك وارحم رجلاً من أهلك.
فقال الواثق: من أنت، فإني لا أعرفك قبل اليوم؟.
قال: ابن جدك آدم.
فقال: يا غلام، أعطه درهماً؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وما أصنع بالدرهم؟ قال: أرأيت لو قسمت المال بين إخوتك أولاد جدي أكان ينوبك منه حبة.
فقال: لله درك ما أذكى فهمك.
فأمر له بعطاء وانصرف مكرماً.
خلافة المتوكل على الله تعالى
حكى عنه أنه قال ذات يوم لأبي العيناء: ما أشد ما مر عليك في ذهاب عينيك؟ فقال: فقد رؤيتك يا أمير المؤمنين.
فاستحسن منه هذا الجواب وأمر له بجائزة نفيسة.
ومما حكاه أبو القاسم علي بن محمد الذهبي عن أبي عبد الله النحوي، قال: لما حج محمد بن عبد الله بن طاهر رأى في الطواف جارية في نهاية الحسن فسأل عنها، فقيل: إنها لرجل من الأدباء قد رواها الأشعار والأخبار والنحو والعروض، وقد أحسنت ضرب العود وطريق الغناء، فاشتراها بمائة ألف درهم، فلما قدم بها مدينة دار السلام شغف بها شغفاً شديداً وأخفى أمرها، وما يجده منها تخوفاً من أمير المؤمنين المتوكل. وكان من شدة وجده بها يحتبس عندها أياماً لا يظهر للناس، فيظنون أنه زمن وأمره معها مستور، ففطن به سويد بن أبي العالية صاحب البريد، وكان بينه وبين محمد منافرة، فلم يجد ما يكيده به إلا أن كتب إلى المتوكل وهو نازل على أربعة فراسخ من بغداد، كتاباً نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد يا أمير المؤمنين، فإن محمد بن عبد الله اشترى جارية بمائة ألف درهم، فهو يصطبح معها ويغتبق زمانه كله معها، وقد اشتغل بها عن النظر في أمور المسلمين وعن التوقيع في قصص المظلومين، ولا يأمن أمير المؤمنين أن تخرب عليه بغداد مع كثرة ما فيها من الغوغاء فيتعب أمير المؤمنين في إصلاحها، وقد أنهى ذلك المملوك إلى أمير المؤمنين، أيده الله، وهو أعلى رأياً والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
قال:فلما قرأ المتوكل الكتاب رفع رأسه إلى نرجس الخادم وقال له: امض الساعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر وادخل عليه داره بغتة من غير إذن وانظر إلى ما يصنع؟ ثم خذ منه جاريته فلانة وائت بها من غير تأخير.
فمضى نرجس من ساعته، وكان محمد قد اصطبح معها في ذلك اليوم، فدخل عليهما نرجس من غير استئذان، فلم يشعر محمد إلا وهو واقف عليه، فتغير وجهه وانتقع لونه، وفاضت عيناه وارتعدت فرائصه لعلمه أن نرجساً ما دخل عليه من غير إذن إلا وقد أضمر له السوء، فقال له: يا نرجس ما الذي أقدمك؟؟! قال: أمير المؤمنين أمرني أن آخذ جاريتك هذه.
قال: يا نرجس هذا يوم قد حضر شره وغاب خيره، وقد ترى ما نحن فيه، وأنا لا أخالف ما أمر به أمير المؤمنين.
ثم أمر للخادم بكرسي فجلس عليه بعد أن امتنع ساعة وقال: إن مثلي لا يجلس مع مثلك، ثم إن محمداً نظر إلى الجارية وبكى بكاء شديداً، وقال لها: غني لأتزود منك.
فأخذت العود وغنت بصوت حزين تقول:
لله من لمعذبين رماهما ... بشماتة العذال والحساد
أما الرحيل فحين جد تحملت ... مهج النفوس به من الأجساد
من لم يبت والبين يصدع شمله ... لم يدر كيف تفتت الأكباد
ثم إنهما أعلنا بالبكاء والنحيب والشهيق، فرحمهما الخادم ورق لهما حين عاين ما حل بهما. فقال: أيها الأمير، إن رأيت أن أمضي وأدعكما على ما أنتما عليه وأتعلل عنكما لأمير المؤمنين فعلت.
فقال: يا نرجس، من خلفه مثل أبي سويد كيف يمكنه التعلل، ولكن ارفق بنا.
فقالت الجارية: والله يا سيدي لا ملكني غيرك أبداً، ولئن دفعتني إليه لأقتلن نفسي.

فقال لها محمد: لو كان غير أمير المؤمنين لكان في ذلك أوسع حيلة، ولقد وددت أن يأخذ مني أمير المؤمنين جميع ما أملك ويعزلني عن عملي ويبقيك علي، ولكن هذا قضاء الله وقدره. ثم التفت إلى نرجس وقال: لقد شاهدت مني ومن هذه الجارية ما شهد قلبك علينا بالمحبة والمودة والألفة، وليس يخفى عن علمك أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء. ومثلك من يصنع المعروف مع مثلي فخذها وامض بها إلى أمير المؤمنين، وقل ما شئت مما يليق بمروءتك. ثم التفت إليها وقبلها وبكى وبكت وبكى نرجس. ثم أخذها وخرج وهي تبكي وتخمش خدها ووجهها. قالت: ثم حملني نرجس على بغلة أمير المؤمنين وسار حتى دخل على المتوكل. فلما رآه قال: ما وراءك يا نرجس.؟ قال: ورائي يا أمير المؤمنين كل بلية. ثم إنه جلس بين يديه وقص عليه حالهما ولم يخف شيئاً.
فقال المتوكل: وكل هذا الوجد يجده محمد من هذه الجارية؟ فقال: يا أمير المؤمنين والذي خفي أكثر مما ظهر وما أظنه يعيش بعدها. فرق عليه قلب المتوكل وقال: يا نرجس ارجع بها إليه الساعة من وقتك، هذا وأدركه قبل أن تزهق روحه، وقد أمرت له بمائة ألف درهم، ولها مع ذلك مثله، وجعلت أمر بي سويد إليه يصنع به ما يشاء.
ثم كتب له توقيعاً بذلك ودفعه إلى نرجس، فرجع الخادم بالجارية والتوقيع ولم يتمهل حتى دخل عليه فوجده عرياناً يتقلب على حصر سامان من شدة الكرب والوجد، وقد أحدقت به الجواري يروحنه بالمراوح. فقال: أبشر يا محمد، إن أمير المؤمنين قد رد جاريتك عليك من غير أن يوقع نظره عليها، وقد حكمك في أبي سويد.
ثم ناوله التوقيع بذلك ودخلت الجارية عليه، فوثب إليها وعانقها وقبلها ساعة. ثم خرج فجلس على باب داره وبعث إلى أبي سويد، فلما حضر دفع إليه التوقيع، فلما قرأه قال: أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك، وأن تهدم مني ركناً أنت شيدته، وأن تضيع صنيعة اصطنعتها إلى مثلي، فمثلي من هفا ومثلك من عفا.
ثم قام وقبل البساط فقال له محمد: لا أبدل نعمة الله كفراً ثم أمر به بخمسين ألف درهم فقالت الجارية: وأنا أيضاً أهب له خمسين ألف درهم مما وهبه لي أمير المؤمنين، شكراً لله تعالى على ذلك.
ثم أقره على ما كان عليه، وأمر أن يحمل المال بين يديه إلى منزله، ورجع محمد والجارية إلى ما كانا عليه في أطيب عيش وأحسن حال متظاهراً بذلك غير مستتر ولا خائف، انتهى.

يعفو عن الرأس والذنب
وأتي المتوكل بمحمد بن النصيب ووزيره ابن الديرواني وكان محمد هذا قد خرج على المتوكل واستوزر ابن الديرواني، فلما مثل بين يدي المتوكل قال له: ما حملك على ما فعلت يا محمد؟ قال: الشقوة وحسن الظن بعفوك يا أمير المؤمنين، وأنشد يقول:
أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي ... إمام الهدى، والعفو بالحر أجمل
تضاءل ذبي عند عفوك قلة ... فجد لي بعفو منك، فالعفو أفضل
فقال الملك: خلو سيبله، ثم قدم ابن الديرواني فقال: اضربوا عنقه، فقال: سبحان الله، يا أمير المؤمنين، تعفو عن الرأس وتقطع الذنب؟ فضحك المتوكل وعفا عنه، انتهى.
صرت من السجن
كتب محمد بن عبد الملك الزيات وهو في السجن، وقد اشتد به الحال، رقعة إلى المتوكل يستعطفه على نفسه من شدة ما قاسى من الأهوال والعذاب في السجن يقول فيها هذين البيتين:
هي السبيل، فمن يوم إلى يوم ... كفرحة النائم الفرحان بالنوم
لا تعجلن، رويداً، إنها دول ... دنيا تنقل من قوم إلى قوم
قال: فلما قرأها المتوكل، رق له وبكى وأمر بإطلاقه، فذهبوا إلى السجن فوجدوه ميتاً، رحمة الله عليه.
خلافة أمير المؤمنين المعتصم بالله أحمد
كان يسمى السفاح الثاني لأنه جدد ملك بني العباس بعد أن أخلقته الأتراك وأذلته، وفي ذلك يقول علي بن العباس الرومي:
كما بأبي العباس أنشيء ملككم ... كذا بأبي العباس أيضاً يجدد

ولقد اتفق في أيامه، على ما حكي، أمر فظيع كشفه الله له بهيبته في نفوس الناس، فإنه كان لا يتجرأ أحد منهم أن يكتم ما في نفسه مخافة صولته لأنه كان لشدة حذقه، يتخيل لهم أنه يعلم ما في نفس الإنسان من الضمير. فاتفق أن أحد وزرائه وأكبر قواده بني بناء عالياً مشرفاً على منازل جيرانه، فلم يعارضه أحد فيه من جيرانه لمكانته من سلطانه وعزه، وكان يجلس كثيراً في ذلك البناء، فرأى يوماً من الأيام في دار من دور جيرانه جارية بارعة الجمال، فولع بها، فسأل عنها، فأخبر أنها بنت أحد التجار، فأرسل إلى والدها خاطباً، فقال له أبوها، وكان من أهل اليسار: لست أزوجها إلا من تاجر مثلي، فإنه إن تزوجها من هو مثلي لم يظلمها، وإن ظلمها قدرت على النصفة منه، وأنت إن ظلمتها لم أقدر لها على النصفة منك، ولا على الحيلة لنصرتها.
فلم يزل يرومه في ذلك بكل أمر وتوسط إليه بالأكابر والأماثل من الناس، وهو مع ذلك يمتنع، فلما يئس منه أن يجيبه، شكا إلى أحد خواصه فقال له: ألف مثقال يقوم لك هذا.
فقال: كيف ذلك؟ والله لو علمت أني أنفق عليها مائتي ألف مثقال أو أكثر وتأتيني بها لفعلت.
قال له: عليك أن تحضر لي ألف دينار.
فأمر بإحضارها فمشى بها ذلك الرجل إلى عشرة رجال كانوا عدولاً عند القاضي في شهادتهم، وذكر لهم الأمر، وقال: هذا أمر ليس عليكم من الله فيه تبعة، فإنه يصدقها كذا وكذا ألفاً، وأغلى لهم المهر، وإنكم تحيون نفساً أشرفت على الهلاك، ويكون لكم عنده مع هذا من الجاه ما ترغبون، وأبوها إنما هو عاضل لها عن الزواج، وإلا فما يمنعه من ذلك، وقد خطبها مثل فلان في جلالة قدره ومكانة أمره، وقد أعطاه صداقاً لا يعطى إلا لبنت ملك ثم هو مع هذا يأبى ، هل هذا إلا عضل بين؟ ولكن لكم ألف مثقال لك واحد منكم مائة وتشهدون أنه قد زوجها به فإنه إذا علم أبوها بأنكم قد شهدتم عليه رجع إلى هذا إذ ليس فيه إلا الخير والخيرة.
فأخذ الشهود كل واحد منهم مائة وشهدوا أن أباها زوجها على صداق مبلغه كذا، ورفعوا في الصداق إلى غاية ما ترفع إليه صداقات الملوك، فلما علم أبوها بذلك زاد نفاراً وإباء، فمشى الوزير وذلك القائد إلى القاضي وقال: إني تزوجت فلانة بنت فلان على هذا الصداق، وهؤلاء شهدوا عليه، ثم قد ناكرني وأنكر الشهود، وقد أردت أن أدفع له حق ابنته وآخذها.
فأمر القاضي بإحضار الشهود فشهدوا عنده وأحضر مال النقد بين يدي القاضي، والرجل على إنكاره متماد، فأمر القاضي بإمضاء الحكم عليه، وأن تؤخذ ابنته منه أحب أو كره، وأمر بحمل المال إليه، فلما وصلت الجارية عند الوزير، لم يزل أبوها يروم الوصل إلى المعتصم. وكان المعتصم غليظ الحجاب لا يصل إليه أحد من غير الخاصة، فقيل للرجل أنه يحضر كل يوم ساعة من النهار على بنيانٍ له بقصره، فإن استطعت أن تكون مع جملة رجال الخدمة تصل إليه وتكلمه بما أردت.
ففعل الرجل ذلك وغير شكله، ودخل في جملة رجال الخدمة للبناء، فلما كان ذلك الوقت الذي كانت عادة أمير المؤمنين المعتصم يقف فيه على ذلك البناء خرج ذلك الرجل فترامى إلى الأرض وجعل يحثو التراب على رأسه ويستغيث، فسأله عن شأنه فقص عليه القصة، فأرسل المعتصم في ذلك المقام، خلف ذلك القائد وأغلظ عليه في القول، فحملته هيبته له، وقلة إقدامه على الكذب عليه، أن وصف له الصورة على ما كانت عليه، وهو يطمع أن يعذره في ذلك، إذ قد جعل لها من الصداق ما هو فوق قيمة قدرها، وأمر بإحضار الشهود فصنعوا مثل صنيع صاحبهم وذلك كله رهبة له وإجلالاً أن يخاطبوه بكذب مع تخيلهم أنه يصفح لهم عن هذه الزلة إذ قد أرادوا إحياء نفس ذلك الوزير، وأيضاً قد دفع له بين يدي القاضي نقداً لا يكون إلا في صدقات الملوك، وقد جعل لها من الصداق ما هو فوق قيمة قدرها، فكأنه قد أخذها بحقها أو بأكثر من حقها.
فلما تحققت عنده جلية الخبر أمر أن يصلب كل شاهد منهم على باب داره، وأن يوضع ذلك الوزير في جلد ثور طري السلخ، ويضرب بالمرازب حتى يختلط عظمه ولحمه ودمه، ثم أمر به، لما صنع به ذلك، أن يفرغ بين يدي نمور كانت عنده، فلما لعقت تلك النمور ذلك الدم أمر الرجل أبا البنت أن يأخذ ابنته ويأخذ كل ما ذكروا لها على ذلك الوزير في صداقها من عقار ودور ومال.

ثم مات المعتصم وولي ابنه المقتدر وكان صبياً صغير السن، فعادت الأتراك إلى ما كانت عليه من ذلك، والله تعالى أعلم.

صاحب المغرب وصاحب طليطلة
ويقرب من شهامة هذا الملك ما ذكره في حياة الحيوان في ترجمة يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، صاحب بلاد المغرب، من أنه وقع بينه وبين الأذفونش، نصراني طليطلة، مكاتبات قال: بعث الأذفونش إلى الأمير يعقوب يتوعده ويتهدده، ويطلب منه بعض حصون، وكتب له رسالة من إنشاء وزيره ابن النجار وهي: باسمك اللهم فاطر السموات والأرض، وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته الفصيح، أما بعد فإنه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب ولا ذي عقل لازب أنك أمير الملة الحنيفية، كما أني أمير الملة النصرانية، وقد علمت ما عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والنكول والتكاسل، وإهمالهم أمر الرعية وإخلادهم إلى الراحة والأمنية، وأنا أسوسهم بحكم القهر وإخلاء الديار وسبي الذراري،وأمثل بالرجل وأذيقهم عذاب الهوان، وشديد النكال، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم، إذا مكنتك القدرة وساعدك من عساكرك وجنودك كل ذي رأي وخبرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى قد فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم،وعلم أن فيكم ضعفاً، رحمة منه، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا لا تستطيعون دفاعاً، ولا تملكون امتناعاً، ولقد حكي عنك أنك أخذت في الاحتفال وأشرفت على ربوة القتال، وتماطل نفسك سنة بعد أخرى تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فلا ندري أكان لجبن إبطاؤك أم لتكذيب بما وعد ربك، ثم قيل لي أنك لا تجد إلى الجواز سبيلاً، ولعله لا يسوغ لك التقحم فيه ميلاً، وها أنا أقول لك ما فيه الراحة وأعتذر عنك، ولك علي أن تفي بالعهود والمواثيق والاستكثار من البرهان، وإلا جئت بحملتي إليك وأقاتلك في أعز الأماكن عليك، فإن كانت النصرة لك كانت غنيمة كبيرة جاءت إليك وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك، والله الموفق لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.
قال: فمزق يعقوب الكتاب، وكتب على قطعة منه: ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون. الجواب ما ترى لا ما تقرأ واستشهد ببيت المتنبي.
ولا كتب إلا المشرفية عنده ... ولا رسله إلا الخميس العرمرم
ثم أمر بكتائب الاستنفار واستدعاء الجيوش من الأمصار، وضرب السرادقات من يومه بظاهر البلد، وصار إلى البحر المعروف بزقاق سبتة، فعبر فيه إلى الأندلس، ودخل إلى بلاد الإفرنج، فكسرهم كسرة شنيعة، وعاد بغنائمهم والله أعلم.
الصعيدي والفرنجية
ومن غرائب المنقول وعجائبه عن الأمير بدر الدين أبي المحاسن، يوسف المهمندار، المعروف بمهمندار العرب أنه قال حكى لي الأمير محمد، شجاع الدين الشيرازي، متولي القاهرة في أيام الكامل سنة ثلاثين وستمائة، قال: بتنا عند رجل بالصعيد، فأكرمنا، وكان الرجل شديد السمرة، وهو شيخ كبير، فحضر له أولاد بيض الوجوه، حسان الأشكال، فقلنا له: هؤلاء أولادك؟ قال: نعم، ثم قال: كأنكم أنكرتم علي بياضهم وسوادي؟ قلنا: نعم. فقال: هؤلاء كانت أمهم إفرنجية أخذتها أيام الملك الناصر صلاح الدين، وأنا شاب.
فقلنا: وكيف أخذتها؟ قال: حديثي فيها عجيب وأمري غريب.
فقلنا: أتحفنا به.
فقال: زرعت كتاناً في هذه البلدة وقلعته ونفضته، فصرفت عليه خمسمائة دينار، ثم لم يبلغ الثمن أكثر من ذلك، فحملته للقاهرة فلم يصل أكثر من ذلك فأشير علي بحمله إلى الشام، فحملته فلم يزد على تلك القيمة شيئاً، فوصلت به إلى عكا فبعت بعضه لأجلٍ والبعض تركته، واكتريت حانوتاً لأبيع على مهل إلى أن تنقضي المدة. فبينما أنا أبيع إذ مرت بي امرأة فرنجية، ونساء الإفرنج يمشين في الأسواق بلا نقاب فأتت تشتري مني كتاناً، فرأيت من جمالها ما بهرني فبعتها وسامحتها ثم انصرفت وأتت إلي بعد أيام فبعتها وسامحتها أكثر من المرة الأولى، فتكررت لي وعلمت أني أحبها فقلت للعجوز التي كانت معها: إنني قد تلفت بحبها، وأريد منك الحيلة.
فقالت لها العجوز ذلك، فقالت: تروح أرواحنا الثلاثة أنا وأنت وهو، فأعادت علي الجواب فقلت لها: أما أنا فقد سمحت بروحي في حبها، واتفق الحال على أن أدفع لها خمسين ديناراً، فوزنتها وسلمتها للعجوز فقالت: نحن الليلة عندك.

قال: فمضيت وجهزت ما قدرت عليه من مأكول ومشروب وشمع وحلوى فجاءت الإفرنجية فأكلنا وشربنا وجن الليل ولم يبق غير النوم، فقلت في نفسي: أما تستحيي من الله وأنت غريب تعصي الله مع نصرانية، اللهم إني أشهدك أني قد عففت عنها في هذه الليلة حياء منك وخوفاً من عقابك.
ثم نمت إلى الصبح، فقامت من السحر وهي غضبانة، ومضت ومضيت إلى حانوتي، فجلست فيه، فإذا هي قد عبرت علي والعجوز وهي مغضبة، وكأنها القمر، فهلكت وقلت في نفسي: ومن هو أنت حتى تترك هذه البارعة في حسنها؟ ثم لحقت العجوز، وقلت لها: ارجعي؟ فقالت: وحق المسيح ما أرجع لك إلا بمائة دينار.
فقلت: نعم! بسم الله، فمضيت ووزنت مائة دينار، فلما حضرت الجارية عندي لحقتني الفكرة الأولى، وعففت عنها وتركتها حياء من الله تعالى، ثم مضت ومضيت إلى موضعي، ثم عبرت علي بعد ذلك وقالت: وحق المسيح ما عدت تفرح بي عندك إلا بخمسمائة دينار، أو تموت كمداً.
فارتعت لذلك وعزمت على أن أصرف ثمن الكتان جميعه، فبينما أنا كذلك والمنادي ينادي، معاشر المسلمين! إن الهدنة التي كانت بيننا وبنيكم قد انقضت، وقد أمهلنا من هنا من المسلمين إلى جمعه، فانقطعت عني، وأخذت في تحصيل ثمن الكتان الذي لين والمصالحة على ما بقي منه، وأخذت معي بضاعة حسنة، وخرجت من عكا وفي قلبي من الإفرنجية ما فيه، فوصلت إلى دمشق وبعت البضاعة بأوفى ثمن بسبب فراغ الهدنة، ومن الله علي بكسب وافر، وأخذت أتجر في الجواري لعل يذهب ما بقلبي من الإفرنجية، فمضت ثلاث سنين، وجرى للملك الناصر ما جرى من وقعة حطين، وأخذ جميع الملوك، وفتح بلاد الساحل، بإذن الله تعالى، فطلب مني جارية للملك الناصر، فأحضرت له جارية حسناء، فاشتراها بمائة دينار، فأوصلوا إلي تسعين ديناراً، وبقيت العشرة دنانير عنده، فلم يجدوها في خزانة الملك في ذلك اليوم، لأنه أنفق جميع الأموال، فلما حضرت الغنيمة جاءوا للملك فشاوروه على ذلك، فقال: امضوا به إلى الخيمة التي فيها السبي من نساء الإفرنج، فخيروه في واحدة منهن، يأخذها بالعشرة دنانير التي بقيت له.
فأتيت الخيمة فعرفت غريمتي، فقلت: أعطوني هذه الجارية، فأخذتها ومضيت إلى خيمتي، وخلوت بها، وقلت لها: أتعرفيني؟ قالت: لا. فقلت لها: أنا صاحبك التاجر الذي جرى لي معك ما جرى وأخذت مني الذهب، وقلت: ما عدت تراني عندك إلا بخمسمائة دينار وقد أخذتك ملكاً بعشرة دنانير.
فقالت: مد يدك أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فأسلمت وحسن إسلامها، فقلت: والله لا وصلت إليها إلا بأمر القاضي، فتوجهت إلى ابن شداد، وحكيت له ما جرى، فتعجب وعقد لي عليها، وباتت تلك الليلة عندي فحملت مني ثم رحل العسكر، وأتينا دمشق، فبعد مدة يسيرة أرسل الملك يطلب الأسارى والسبايا باتفاق وقع بين الملوك، فردوا من كان أسيراً من الرجال والنساء، ولم يبقى إلا التي عندي، فطلبت مني، فحضرت وقد تغير لوني فأحضرتها بين يدي الملك الناصر، والرسول فقلت: هذه أسلمت وصارت امرأتي.
فقال الملك الناصر بحضرة الرسول: أترجعين إلى بلادك أو إلى زوجك، فقد فككنا أسرك وأسر غيرك.
فقالت: يا مولانا السلطان! أنا قد أسلمت وحملت وها بطني كما ترونه، وليس لي رغبة في الرجوع إلى بلادي وما رغبتي إلا في الإسلام وزوجي.
فقال لها الرسول: أيما أحب إليك، هذا المسلم أو زوجك الإفرنجي؟ فأعادت عبارتها الأولى، فقال الرسول لمن معه من الإفرنج: اسمعوا كلامها. ثم قال الرسول: خذ زوجتك وتوجه. فوليت بها فطلبني ثانياً وقال: إن أمها أرسلت معي كسوة وقالت: إن ابنتي أسيرة وأشتهي أن توصل لها هذه الكسوة.
فتسلمت الكسوة ومضيت إلى الدار ففتحت القماش، فإذا هو قماشها بعينه قد صيرته لها أمها، ووجدت من داخلة الصرتين، الذهب الخمسين ديناراً والمائة ديناراً، كما هي بربطتي لم يتغيروا، وهؤلاء الأولاد منها، وهي التي صنعت لكم هذا الطعام والله أعلم.

إن من البيان لسحرا
ً

يحكى أن بعض الملوك أرسل رجلاً من بطانته إلى بعض الجهات ليعرف خبر عاملها، ويطالعه بأخبار الرعية، فلما وصل الرجل فطن له العامل، فأرسل إليه بمال وتحف ثم قال: عرفت ما جئت له، وأنا أرغب إليك في كتاب تكتبه إلى الملك تذكر فيه أني حسن السيرة، وسالك طريق العدل، فإن أنت فعلت ذلك فلك مني ما تشتهي رغبتك إليه من الخير والعطاء، وإن أبيت ذلك أمرت الشرطيين أن ينهوا إلي من أمرك في الملإ ما يوجب قتلك إما حداً وإما سياسة، فأقتلك بمحضر من قاضي البلد ووجوه الناس، فتذهب كأمس الماضي.
فلما لم يجد الرجل بداً من موافقته ولم يكن ليخون مرسله كتب بحضرته كتاباً إلى الملك.
أما بعد، أعز الله الملك وأكرمه، فإني قدمت إلى مدينة كذا وكذا فوجدت العامل فلاناً آخذاً بالحزم عاملاً بالعزم، قد ساوى بين رعيته، وعدل بينهم في أقضيته، وأرضى بعضهم بعضاً، وجعل طاعته عليهم فرضاً وأنزلهم منزلة الأولاد، وأذهب ما بينهم من الأحقاد، وأراحهم من السعي في الدنيا وفرغهم للعمل في الأخرى، أغنى القاصد وأرضى الوارد، فجميع أهل عمله داعون للملك يودون النظر إلى وجهه الكريم والسلام.
فلما وصل الكتاب منه إلى الملك فكر فيه وقال لوزيره: إن فلاناً لم يكن عندي بمتهم، فإن كتابه هذا يدل على ظلم العامل، فالتمس لي رجلاً يصلح لعمله، فإني قد عزلته.
فقال الوزير: أصلح الله الملك، وكيف ذلك؟ قال: لأن قوله آخذاً بالحزم عاملاً بالعزم أي أنه خائف مني لما اعتمده في الولاية، وأما قوله ساوى بين رعيته وعدل بينهم في أقضيته، فمعناه أنه لم يخص أحداً بظلمه بل الجميع سواء، وقوله: وأرضى بعضهم بعضاً: أي ذهبت أحقادهم لأن الشدائد تذهب الأحقاد، وقوله: أنزلهم منزلة الأولاد، معناه أخذ أموالهم ورأى أنها له أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم: " أنت ومالك لأبيك " . وقوله: وأراحهم من السعي في الدنيا، معناه أنه أخذ أموالهم ولم يترك لهم ما يسعون به ولا ما به يتجرون. وقوله: فرغهم للعمل في الأخرى، معناه أنهم لزموا المساجد والعبادة لفقرهم. وقوله: أغنى القاصد وأرضى الوارد فإنه يعني نفسه، أي أنه أعطاه مالاً ليكتب إلي بذلك. وأما قوله: فجميع أهل عمله داعون لنا، معناه أن يبصرنا الله بأمرهم، ونطلع على ما هم فيه. وقوله: يودون النظر لوجهنا أي يشكون إلينا ما لقوه منه ويستغيثون بنا.
ثم إن الملك طلب العامل وأحضره إلى بابه وأنصف الناس منه ورد عليهم ما كان العامل ظلمهم فيه واقتص منه فيما عليه فيه القصاص، وقابله على فعله والله أعلم.

هذه القصيدة الزينبية
صرمت حبالك بعد وصلك زينبُ ... والدهرُ فيه تصرمٌ وتقلب
نشرت ذوائبها التي تزهو بها ... سوداً ورأسُك كالثغامة أشيب
واستنفرت لما رأتك وطالما ... كانت تحن إلى لقاك وترغب
وكذاك وصلُ الغانيات، فإنه ... آلٌ ببلقعة وبرقٌ خلب
فدع الصبا، فلقد عداك زمانه ... وازهد فعمرك مر منه الأطيب
ذهب الشبابُ، فما له من عودةٍ ... وأتى المشيبُ، فأين منه المهرب
دع عنك ما قد كان في زمن الصبا ... واذكر ذنوبك، وابكها يا مذنب
واذكر مناقشة الحساب، فإنه ... لا بد يحصى ما جنيت ويكتب
لم ينسه الملكان حين نسيته ... بل أثبتاه، وأنت لاه تلعب
والروح فيك وديعة أودعتها ... ستردها بالرغم منك وتسلب
وغرور دنياك التي تسعى لها ... دارٌ حقيقتها متاع يذهب
والليل، فاعلم، والنهار كلاهما ... أنفاسنا فيها تعد وتحسب
وجميع ما خلفته وجمعته ... حقاً يقيناً بعد موتك ينهب
تباً لدار لا يدوم نعيمها ... ومشيدها عما قليل يخرب
فاسمع هديت نصيحة أولاكها ... برٌ نصوح للأنام مجرب
صحب الزمان وأهله مستبصراً ... ورأى الأمور بما تثوب وتعقب
لا تأمن الدهر الخئون، فإنه ... مازال قدماً للرجال يؤدب

وعواقب الأيام في لذاتها ... غصص يذلُّ لها الأعز الأنجب
فعليك تقوى الله، فالزمها تفز ... إن التقي هو البهي الأهيب
واعمل بطاعته تنل منه الرضا ... إن المطيع له لديه مقرب
واقنع، ففي بعض القناعة راحةٌ ... واليأس عما فات، فهو المطلب
فإذا طمعت كسيت لثوب مذلة ... فلقد كسيَ ثوب المذلة أشعب
وتوق من غدر النساء خيانةً ... فجميعهن مكايدٌ لك تنصب
لا تأمن الأنثى حياتك إنها ... كالأفعوان يراع منه الأنيب
لا تأمن الأنثى زمانك كله ... يوماً، ولو حلفت يميناً تكذب
تغرى بلين حديثها وكلامها ... وإذا سطت فهي الصقيل الأشطب
وابدأ عدوك بالتحية، ولتكن ... منه، زمانك، خائفاً تترقب
واحذره، إن لاقيته متبسماً ... فالليث يبدو نابه إذ يغضب
إن العدو وإن تقادم عهده ... فالحقد باق في الصدور مغيب
وإذا الصديق رأيته متملقاً ... فهو العدو، وحقه يتجنب
لا خير في ود امرئٍ متملق ... حلو اللسان، وقلبه يتلهب
يلقاك يحلف أنه بك واثقٌ ... وإذا توارى عنك فهو العقرب
يعطيك من طرف اللسان حلاوةً ... ويروغ منك كما يروغ الثعلب
وصل الكرام وإن جفوك بهفوةٍ ... فالصفح عنهم والتجاوز أصوب
واختر قرينك واصطفيه تفاخراً ... إن القرين إلى المُقارنِ ينسب
إن الغني من الرجال مكرمٌ ... وتراه يرجى ما لديه ويرهب
ويبشُّ بالترحيب عند قدومه ... ويقام عند سلامه ويقربُ
والفقر شين للرجال، فإنه ... حقاً يهون به الشريف الأنسب
واخفض جناحك للأقارب كلهم ... بتذلل، واسمح لهم إن أذنبوا
وذر الكذوب فلا يكن لك صاحباً ... إن الكذوب يشين حراً يصحب
وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن ... ثرثارة في كل نادٍ تخطب
واحفظ لسانك واحترز من لفظه ... فالمرء يسلم باللسان ويعطب
والسر فاكتمه ولا تنطق به ... إن الزجاجة كسرها لا يشعب
وكذاك سر المرء إن لم يطوه ... نشرته ألسنة تزيد وتكذب
لا تحرصن، فالحرص ليس بزائدٍ ... في الرزق بل يشقي الحريص ويتعب
ويظل ملهوفاً يروم تحيلاً ... والرزق ليس بحيلة يستجلب
كم عاجز في الناس يأتي رزقه ... رغداً ويحرم كيسٌ، ويخيب
وارع الأمانة، والخيانة، فاجتنب ... واعدل ولا تظلم يطب لك مكسب
وإذا أصابك نكبةٌ فاصبر لها ... من ذا رأيت مسلماً لا ينكب
وإذا رميت من الزمان بريبةٍ ... أو نالك الأمر الأشق الأصعب
فاضرع لربك، إنه أدنى لمن ... يدعوه من حبل الوريد وأقرب
كن ما استطعت عن الأنام بمعزلٍ ... إن الكثير من الورى لا يصحب
واحذر مصاحبة اللئيم، فإنه ... يعدي كما يعدي السليم الأجرب
واحذر من المظلوم سهماً صائباً ... واعلم بأن دعاءه لا يحجب
وإذا رأيت الرزق عز ببلدةٍ ... وخشيت فيها أن يضيق المذهب
فارحل فأرض الله واسعة الفضا ... طولاً وعرضاً، شرقها والمغرب
ولقد نصحتك إن قبلت نصيحتي ... فالنصح أغلى ما يباع ويوهب
وما أحسن قول صالح بن عبد القدوس:
المرء يجمع، والزمان يفرقُ ... ويظل يرقعُ والخطوب تمزق
ولأن يعادي عاقلاً خيرٌ له ... من أن يكون له صديقٌ أحمق
فاربأ بنفسك أن تصادق أحمقاً ... إن الصديق على الصديق مصدق

وزن الكلام، إذا نطقت، فإنما ... يبدي عقول ذوي العقول المنطق
ومن الرجال إذا استوت أحلامهم ... من يستشار، إذا استشير، فيطرق
حتى يحل بكل واد قلبه ... فيرى ويعرف ما يقول وينطق
لا ألفينك ثاوياً في غربةٍ ... إن الغريب بكل سهم يرشق
ما الناس إلا عاملان: فعاملٌ ... قد مات من عطش وأخر يغرق
والناس في طلب المعاش، وإنما ... بالجد يرزق منهم من يرزق
لو يرزقون الناس حسب عقولهم ... ألفيت أكثر من ترى يتصدق
لكنه فضل المليك عليهم ... هذا عليه موسعٌ ومضيق
وإذا الجنازة والعروسُ تلاقيا ... ورأيت دمع نوائحٍ يترقرق
سكت الذي تبع العروس مبهتاً ... ورأيت من تبع الجنازة ينطق
وإذا امرؤ لسعته أفعى مرةً ... تركته حين يجر حبلاً يفرق
بقي الذين، إذا يقولوا يكذبوا، ... ومضى الذين إذا يقولوا يصدقوا
؟

الخوارج كلاب النار
وذكر ابن الجوزي في الأذكياء وغيره: أن عمران بن حطان، كان أحد الخوارج، وهو القائل يمدح عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنهما الله تعالى، على قتل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجه:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه ... أو في البرية عند الله ميزانا
أكرم بقوم بطون الأرض أقبرهم ... لم يخلطوا دينهم بغياً وعدوانا
فبلغت القاضي أبا الطيب الطبري، رحمه الله تعالى، هذه الأبيات فقال مجيباً له:
إني لأبرأ مما أنت قائله ... عن ابن ملجم الملعون بهتانا
إني لأذكره يوماً فألعنه ... ديناً وألعن عمران بن حطان
عليك ثم عليه الدهر متصلاً ... لعائن الله إسراراً وإعلاناً
فأنتمو من كلاب النار جاء لنا ... نص الشريعة برهاناً وتبيانا
أشار أبو الطيب رحمه الله تعالى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: " الخوارج كلاب النار " ، انتهى من حياة الحيوان.
سارق الجمل
ومنه ما روي عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: جاءوا برجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدوا عليه أنه سرق جملاً لهم، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع، فولى الرجل، وهو يقول: اللهم صل على محمد حتى لا يبقى من صلاتك شيء، وبارك على محمد حتى لا يبقى من بركاتك شيء، وسلم على محمد حتى لا يبقى من سلامك شيء.
فتكلم الجمل وقال: يا محمد، إنه بريء من سرقتي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يأتيني بالرجل؟ فابتدره سبعون من أهل بدر، فجاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا هذا، ما قلت آنفاً؟ فأخبره بما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لذلك نظرت الملائكة يخترقون سكك المدينة، حتى كادوا يحولون بيني وبينك.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لتردن على الصراط ووجهك أضوأ من القمر ليلة البدر " .
هذه القصيدة يقال إنها لأمير المؤمنين الراضي بالله
زيادة المرء في دنياه نقصان ... وربحه غير محض الخير خسران
وكل وجدان حظ لا ثبات له ... فإن معناه في التحقيق فقدان
يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً ... بالله! هل لخراب الدهر عمران
ويا حريصاً على الأموال يجمعها ... نسيت أن سرور المال أحزان
دع الفؤاد من الدنيا وزخرفها ... فصفوها كدر والوصل هجران
وأوع سمعك أمثالاً أفصلها ... كما يفصل ياقوتٌ ومرجان
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان
وكن على الدهر معواناً لذي أملٍ ... يرجو نداك، فإن الحر معوان
من جاد بالمال مال الناس قاطبةً ... إليه، والمال للإنسان فتان

من كان للخير مناعاً فليس له ... عند الخليقة أخدانٌ وإخوان
لا تخدشن بمطل وجه عارفهٍ ... فالبر يخدشه مطل وليان
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته ... أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
من يتقي الله يحمد في عواقبه ... ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
حسب الفتى عقله خلاً يعاشره ... إذا تحاماه إخوانٌ وخلان
لا تستشر غير شخص حازمٍ فطن ... قد استوت منه أسرارٌ وإعلان
فللتدابير فرسانٌ. إذا ركضوا ... فيها أبروا كما للحرب فرسان
وللأمور مواقيتٌ مقدرةٌ ... وكل أمر له حد وميزان
من رافق الرفق في كل الحوادث لم ... يندم عليه ولم يذممه إنسان
ولا تكن عجلاً في الأمر تطلبه ... فليس يحمد قبل النضج بحران
وذو القناعة راضٍ في معيشته ... وصاحب الحرص إن أثرى فغضبان
كفى من العيش ما قد سد من رمقٍ ... ففيه للحر إن حققت غنيان
هما رضيعا لبانٍ حكمةً وثقى ... وساكنا وطن مال وطغيان
من مد طرفاً بفرط الجهل ونحو هوىً ... أغضى عن الحق يوماً وهو خزيان
من استشار صروف الدهر قام له ... على حقيقة طبع الدهر برهان
من عاشر الناس لاقى منهمو نصباً ... لأن طبعهمو بغيٌ وعدوانُ
ومن يفتش عن الإخوانِ مجتهداً ... فجل إخوان هذا الدهر خوان
من يزرع الشر يحصد في عواقبه ... ندامةً، ولحصد الزرع إبان
من استنام إلى الأشرار نام وفي ... قميصه منهمو صلٌّ وثعبان
من سالم الناس يسلم من غوائلهم ... وعاش وهو قرير العين جذلان
من كان للعقل سلطانٌ عليه غدا ... وما على نفسه للحرص سلطان
وإن أساء مسيءٌ فليكن لك في ... عروض زلته صفحٌ وغفران
إذا نبا بكريمٍ موطنٌ، فله ... وراءه في بسيط الأرض أوطان
لا تحسبن سروراً دائماً أبداً ... من سره زمنٌ ساءته أزمان
يا ظالماً فرحاً بالعز ساعده ... إن كنت في سنة فالدهر يقظان
يا أيها العالم المرضيُّ سيرته ... أبشر، فأنت بغير الماء ريان
ويا أخا الجهل لو أصبحت في لجج ... فأنت ما بينها لا شك ظمآن
دع التكاسل في الخيرات تطلبها ... فليس يسعد بالخيرات كسلان
صن حر وجهك لا تهتك غلالته ... فكل حر لحر الوجه صوانُ
لا تحسب الناس طبعاً واحداً فلهم ... غرائز لست تحصيها وألوان
ما كل ماء كصداء لوارده ... نعم ولا كل نبت فهو سعدان
من استعان بغير الله في طلبٍ ... فإن ناصره عجزٌ وخذلان
واشدد يديك بحبل الله معتصماً ... فإنه الركن إن خانتك أركان
لا ظل للمرء يغني عن تقىً ورضا ... وإن أظلته أوراق وأفنان
سحبان من غير مالٍ باقلٌ حصرٌ ... وباقلٌ في ثراء المال سحبان
والناس إخوان من والته دولته ... وهم عليه إذ عادته أعوان
يا رافلاً في الشباب الرحب منتشياً ... من كاسه هل أصاب الرشد نشوان
لا تغترر بشبابٍ ناعمٍ خضل ... فكم تقدم قبل الشيب شبان
ويا أخا الشيب لو ناصحت نفسك لم ... يكن لمثلك في الإسراف إمعان
هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها ... ما بال شيبك يستهويه شيطان

كل الذنوب فإن الله يغفرها ... إن شيع المرء إخلاصٌ وإيمان
وكل كسرٍ فإن الله يجبره ... وما لكسر قناة الدين جبران
أحسن إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ ... فلا يدوم على الإنسان إمكان
فالروض يزدان بالأنوار فاغمةً ... والحر بالعدل والإحسان يزدان
خذها سرائر أمثال مهذبةٍ ... فيها لمن يبتغي التبيان تبيان
ما ضر حسانها والطبع صائغها ... إن لم يصغها قريع الشعر حسان
وذيل عليها بعضهم فقال:
وكن لسنة خير الخلق متبعاً ... فإنها لنجاة العبد عنوان
فهو الذي شملت للخلق أنعمه ... وعمهم منه في الدارين إحسان
جبينه قمر قد زانه خفر ... وثغره درر غر ومرجان
والبدر يخجل من أنوار طلعته ... والشمس من حسنه الوضاح تزدان
ومذ أتى أبصرت عمي القلوب به ... سبل الهدى ووعت للحق آذان
به توسلنا في محو زلتنا ... لربنا، إنه ذو الجود منان
يا رب صل عليه ما همى مطرٌ ... فأينعت منه أوراقٌ وأغصان
وابعث إليه سلاماً زاكياً عطراً ... والآل والصحب لا تفنيه أزمان

جاريتان برواية شعر
وعن حماد الراوية قال: كنت محباً للوليد بن عبد الملك، فلما ولي أخوه يزيد الخلافة هربت إلى الكوفة، فبينما أنا في المسجد الأعظم، إذ أتاني رسول محمد بن يوسف الثقفي، وقال: أجب الأمير، فدخلت عليه، فقال: ورد كتاب أمير المؤمنين علي بحملك إليه، وبالباب نجيبان، فاركب أحدهما، ودفع إلي كيساً فيه ألف دينار، وقال: هذه نفقة لمنزلك، فدخلت دمشق في اليوم الثامن واستأذن لي الرسول فدخلت عليه، فإذا هو جالس في دار مبلطة بالرخام الأحمر، وفيها سرادق خز أحمر في وسط قبة حمراء من خز، وفرشها وكل ما فيها أحمر، وعلى رأسه جاريتان عليهما ثيابٌ حمر بيد واحدة منهما إبريقٌ، وفي إحدى يدي الأخرى نبيذ أحمر، وفي اليد الأخرى نبيذ أبيض، فلما واجهته سلمت عليه بالخلافة فرد علي السلام، وقال: ادن يا حماد: أتدري فيم بعثت إليك؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين.
قال: في بيت شعر ذهب عني أوله.
قلت: من أي عروض أو قافية؟ قال: لا أدري إلا أنه بيت فيه إبريق.
فقلت في نفسي: إن لم تغن الرواية يوماً، فالآن. ففكرت في نفسي ساعة، ثم قلت: نعم يا أمير المؤمنين، لعله قول التبع اليماني، أو عدي بن زيد العبادي:
بكر العاذلون في وضح الصب ... ح يقولون لي: أما تستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبد الله ... والقلب عندكم موثوق
لست أدري إذ العذل فيها ... أعدو يلومني أم صديق
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينةٌ في يمينها إبريق
فصاح يزيد وقال: هو والله الشعر بعينه وشرب وقال: يا جارية اسقه، فسقتني كأساً أذهبت ثلث عقلي، ثم استعاد الشعر وشرب وقال: اسقه، فسقتني، فقلت: يا أمير المؤمنين، ذهب ثلثا عقلي.
فقال: سل حاجتك قبل أن يذهب الثلث الآخر.
فقلت: إحدى هاتين الجاريتين.
فقال: هما لك بمالهما وما عليهما، ومائة ألف تحسن بها سيرك، ثم ناولتني الجارية كأساً فشربتها وانصرفت ونهضت، وقد ذهب عقلي، فعدل بي إلى دار الضيافة فانتبهت آخر الليل، وإذا بشمع يوقد والجاريتان يرصان الأمتعة، والبغال تحمل ما لهما من أثاث وغيره، وأصبحت قبضت المال وانصرفت، وأما أيسر أهل الكوفة، انتهى.
ولما وقف الشيخ تقي الدين بن حجة رحمه الله، على هذه الحكاية، قال: انظر أيها المتأدب نفاق سوق الأدب في ذلك الأرب، وبشهادة الله أن البيت الذي طلب حماد الراوية بسببه من العراق إلى دمشق، وأجيز عليه بالجاريتين والمائة ألف تأنف نفسي أني أنظمه في سلك قصيدة من قصائدي، وهو هذا البيت.
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينةٌ في يمينها إبريق
وكنت أريد أن أكون في ذلك العصر ويسمع يزيد بن عبد الملك من نظمي في هذا الباب قولي:
في ليلة رقم البدر المنير لها ... طاراً له بعصا الجوزاء نقرات

وبان لي من لماها حين تبسم لي ... فوق اللثا واللمى در وعقبات
والراح دبت على فهمي فصورها ... لكن لها ضاع في الكاسات نفحات
كانت علامات تحقيقي، فقال فمي: ... هي المنازل لي فيها علامات
مذ أنشأتنا سجعنا في محاسنها ... مغردين، وللإنشاء سجعات
هذا وأفواه كاساتي قد ابتسمت ... لما حبتها ثغور لؤلؤيات
ومن يقل حركات الزهر ما سكنت ... فللحباب على التسكين جزمات

جارية ثمن إعراب بيت
وألطف من ذلك ما حكاه محمد بن يزيد المبرد، قال: كان أبو عثمان المازني جاء إليه يهودي وسأله أن يقرئه كتاب سيبويه، وبذل له مائة دينار. فامتنع أبو عثمان من ذلك، فقلت له سبحان الله: ترد مائة دينار مع فاقتك وحاجتك إلى درهم واحد؟ فقال: نعم يا أبا العباس: اعلم أن كتاب سيبويه يشتمل على ثلاثمائة آية من كتاب الله، ولا أرى أن أمكن منها كافراً.
فسكت، ولم يتكلم. قال المبرد: فما مضت إلا أيام حتى جلس الواثق يوماً للشرب وحضر ندوماؤه فغنت جارية في المجلس هذا الشعر:
أظلومٌ إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحية ظلم
فنصبت رجلاً، فلحنها بعض الحاضرين من الندماء، وقال: الصواب الرفع لأنه خبر إن. فقالت الجارية: ما حفظته من معلمي إلا هكذا.
ثم وقع النزاع بين الجماعة، فمن قائل الصواب معه، ومن قائل الصواب معها، فقال الواثق: من بالعراق من أهل العربية ممن يرجع إليه؟ فقالوا: بالبصرة أبو عثمان المازني، وهو اليوم واحد عصره في هذا العلم.
فقال الواثق: اكتبوا إلى والينا بالبصرة يسيره إلينا معظماً مبجلاً فما كان إلا أيام حتى وصل الكتاب إلى البصرة، فمر الوالي أبا عثمان بالتوجه وسيره على بغال البريد، فلما وصل دخل على الواثق، فرفع مجلسه وزاد في إكرامه وعرض عليه البيت، فقال: الصواب مع الجارية، ولا يجوز في رجل غير النصب لأن مصاب مصدر بمعنى الإصابة ورجلاً منصوب به، والمعنى أن إصابتكم رجلاً أهدى السلام تحيةً ظلمٌ، فظلم خبر إن؛ وما يتم الكلام إلا به.
ففهم الواثق كلام أبي عثمان، وعلم أن الحق ما قالته وأعجب به، وانقطع الرجل الذي أنكر على الجارية، ثم أمر الواثق لأبي عثمان المازني بألف دينار، وأتحفه بتحف وهدايا كثيرة لأهله، ووهبت له الجارية جملة أخرى، ثم سيره إلى بلده مكرماً، فلما وصل جاء المبرد فقال له أبو عثمان: كيف رأيت يا أبا العباس، تركت لله مائة فعوضني ألفاً.
فقال المبرد: من ترك شيئاً لله عوضه خيراً منه، انتهى.
الاسم الأعظم
عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سألت الله الاسم الأعظم فجاءني جبريل به مختوماً، وهو اللهم إني أسألك بالاسم المخزون المكنون الطهر الطاهر المطهر المقدس المبارك الحي القيوم " .
قالت عائشة: بأبي وأمي علمنيه.
فقال: يا عائشة نهينا عن تعليمه النساء والصبيان والسفهاء، انتهى.
فائدة
كان أبو محمد عبد الله بن يحيى الضبعي من أصحاب الشافعي وكان إماماً صالحاً عالماً من أهل اليمن من أقران صاحب البيان من تصنيفه: احترازات المهذب والتعريف في الفقه. روى أن ناساً ضربوه بالسيف فلم تقطع سيوفهم فيه فسئل عن ذلك، فقال: كنت أقرأ: " ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم " ، فالله خير حافظاً، وهو أرحم الراحمين " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " ، " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ، " وحفظناها من كل شيطان رجيم " ، " وحفظاً من كل شيطان مارد " ، " وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم " ، " إن كل نفس لما عليها حافظ " ، " إن بطش ربك لشديد " ، إلى آخر السورة، وينبغي أن يزاد فيها " إن ربي على كل شيء حفيظ " . ثم قال: كنت خرجت يوماً مع جماعة فرأيت ذئباً يلاعب شاةً عجفاء، ولا يضرها بشيء، فلما دنونا منه نفر منها الذئب، فوجدنا في عنق الشاة كتاباً مربوطاً فيه هذه الآيات المتقدمة، انتهى.
فائدة

قال معاذ بن جبل: احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح، حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعاً فثوب بالصلاة فصلى وتجوز في صلاته، فلما سلم دعا بصوته، فقال لنا: على مصافكم كما أنتم، ثم انفتل إلينا، فقال: أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة؟؟! إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد، فقلت: لبيك يا رب. قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: ربي لا أدري. قال تعالى: " في الكفارات والدرجات " . وفي رواية: " قلت: في الكفارات والدرجات " . قال: فما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء على المكروهات. قال: ثم فيم؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام. قال: سل، قلت: " اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، أسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربني إلى حبك " .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها حق فادرسوها ثم تعلموها " .
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح انتهى من حياة الحيوان في حرف النون.
وقال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الشرك، فقال: هو أخفى فيكم من دبيب النمل، وسأدلك على شيء إذا فعلته، أذهب الله عنك صغار الشرك وكباره. تقول: " اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً، وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم إنك أنت علام الغيوب، تقولها ثلاث مرات " ، انتهى.
؟

فائدة
إذا علقت عين الهدهد على صاحب النسيان ذكر ما نسيه، ودمه إذا قطر في البياض العارض في العين أذهبه.
وروى أحمد والبزار، ورجال أحمد ثقات، من حديث أبي هريرة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يشرب قائماً، فقال له: أيسرك أن يشرب معك الهر؟ قال: لا. قال: فقد شرب معك الشيطان " .
وفي تاريخ ابن النجار في ترجمة محمد بن عمر الحنبلي عن أنس بن مالك قال: كنت جالساً عند عائشة رضي الله عنها، أبشرها بالبراءة، فقالت: والله لقد هجرني القريب والبعيد حتى هجرتني الهرة، وما عرض علي طعام ولا شراب، فكنت أرقد وأنا جائعة، فرأيت في منامي فتى، فقال: مالك حزينة؟ فقلت: مما ذكر الناس.
فقال: ادعي بهذه يفرج الله عنك.
فقلت: وما هي؟ قال: قولي دعاء الفرج: يا سابغ النعم، ويا دافع النقم، ويا فارج الغمم، ويا كاشف الظلم، ويا أعدل من حكم، ويا حسيب من ظلم، ويا ولي من ظلم، ويا أول بلا بداية، ويا آخر بلا نهاية، ويا من له اسم بلا كنية، اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً.
قالت: فانتبهت وأنا ريانة شبعانة، وقد أنزل الله براءتي وجاءني الفرج. انتهى من حياة الحيوان.
وهذا الدعاء روى الطبراني بإسناد صحيح قطعة منه عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأعرابي، وهو يدعو في صلاته يقول: يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، ولا تواري منه سماءٌ سماءً ولا أرضٌ أرضاً ولا بحرٌ إلا ويعلم ما في قعره ولا جبل إلا يعلم ما في وعره، اجعل اللهم خير عمري آخره، وخير عملي خواتيمه وخير أيامي يوم لقائك.
فوكل النبي صلى الله عليه وسلم بالأعرابي رجلاً فقال: إذا صلى فائتني به، فلما صلى أتاه به وقد كان أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم، ذهب من بعض المعادن، فلما أتى الأعرابي وهب له الذهب، وقال: ممن أنت أيها الأعرابي؟ قال: من بني عامر بن صعصعة.
فقال صلى الله عليه وسلم: هل تدري لم وهبت لك هذا الذهب؟ قال: للرحم التي بيننا وبينك يا رسول الله.
قال صلى الله عليه وسلم: إن للرحم حقاً، ولكن وهبت لك الذهب لحسن ثنائك على الله عز وجل. انتهى من حرف الطاء.
بهرام جور والرماية
وفي كتاب ثمار القلوب للثعالبي في الباب الثالث عشر منه، أن الملك بهرام جور لم يكن في العجم أرمى منه. ومن غريب ما اتفق له أنه خرج يوماً يتصيد على جمل، وقد أردف جارية يعشقها فعرضت له ظباء، فقال للجارية: في أي موضع تريدين أن أضع هذا السهم من هذه الظباء؟

قالت: أريد أن تشتبه ذكرانها بإناثها، وإناثها بذكرانها.
فرمى ظبياً ذكراً بنشابة ذات شعبتين فاقتلع قرينه، ورمى ظبية بنشابتين، أثبتهما في موضع القرنين.
ثم سألته أن يجمع ظلف الظبي وأذنه بنشابة واحدة.
فرمى أذن الظبي ببندقةٍ، فلما أهوى بيده إلى أذنه ليحك رماه بنشابة فوصل أذنه بظلفه، ثم أهوى إلى الجارية مع هواه بها فرمى بها إلى الأرض وأوطأها الجمل بسبب ما اشترطت عليه وقال: ما أردت إلا إظهار عجزي، فلم تلبث إلا يسيراً وماتت. انتهى.

حكاية في القطا
يقال نزل عمرو بن أمامة على قوم من مراد، فطرقوهم ليلاً فأثاروا القطا من أماكنها، فرأتها امرأة يقال لها حذام، فلما رأت القطا طار ليلاً نبهت زوجها مع رجالٍ من قومها فقالت لهم: ولو ترك القطا ليلاً لناما. فلم يلتفتوا إلى قولها وأخلدوا إلى مضاجعهم فقام رجل منهم وقال:
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام
فنفر القوم والتجئوا إلى واد قريب منهم، واعتصموا به حتى أصبحوا وامتنعوا من عدوهم، فضرب به المثل. انتهى بتقديم وتأخير.
يا جامع الناس
وعن أبي جعفر الخالدي قال: ودعت أبا الحسن الصغير المدني فقلت له: زودني شيئاً؟ فقال: إذا ضاع منك شيء وأردت أن يجمع الله بينك وبين ذلك الشيء أو ذلك الإنسان، فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد اجمع بيني وبين كذا وكذا، فإن الله يجمع بينك وبين ذلك الشيء أو ذلك الإنسان. انتهى من حرف الألف.
الملك والمرأة العفيفة
وهذه أبيات:
لصيد اللُّخم في البحروصيد الأسد في البروقضم الثلج في القر
ونقل الصخر في الحروإقدامٌ على موتٍوتحويلٌ إلى القبر
لأشهى من طلاب العر ... ف ممن عاش في الفقر
قوله: اللُّخم، بضم اللام وإسكان الخاء المعجمة، ضرب من السمك ضخم يقال له: الكوسج وهو القرش. انتهى من حياة الحيوان في حرم اللام.
الملك والمرأة العفيفة
وذكر بعض أهل التواريخ أن ملكاً من الملوك خرج يدور فلي ملكه، فوصل إلى قرية عظيمة، فدخلها منفرداً، فأخذه العطش، فوقف بباب دار من دور القرية وطلب ماء، فخرجت إليه امرأة جميلة بكوز ماء وناولته إياه، فلما نظر لها افتتن بها، فراودها عن نفسها، وكانت المرأة عارفة به، فعلمت أنها لا تقدر على الامتناع منه، فدخلت وأخرجت له كتابً، وقالت له: انظر في هذا الكتاب حتى أصلح من أمري ما تحب وأعود. فأخذ الملك الكتاب ونظر فيه، وإذا فيه الزجر عن الزنا وما أعد الله تعالى لفاعله من العذاب الأليم، فاقشعر جلده ونوى التوبة، وصاح بالمرأة، وأعطاها الكتاب ومر ذاهباً.
وكان زوج المرأة غائباً، فلما حضر أخبرته الخبر، فتحير في نفسه وخاف أن يكون قد وقع غرض الملك فيها، فلم يتجاسر على وطئها بعد ذلك، ومكث على ذلك مدة، فأعلمت المرأة أقاربها بحالها مع زوجها، فرفعوه إلى الملك، فلما مثل بين يدي الملك قال أقارب المرأة: أعز الله مولانا الملك، إن هذا الرجل قد استأجر منا أرضاً للزراعة، فزرعها مدة، ثم عطلها فلا هو يزرعها، ولا هو يتركها لنؤجرها لمن هو يزرعها، وقد حصل الضرر للأرض، ونخاف فسادها بسبب التعطيل لأن الأرض إذا لم تزرع فسدت.
فقال الملك لزوج المرأة: ما يمنعك من زرع أرضك؟ فقال: أعز الله مولانا الملك، إنه قد بلغني أن الأسد قد دخل أرضي، وقد رهبته ولم أقدر على الدنو منه لعلمي أنه لا طاقة لي بالأسد.
ففهم الملك القصة فقال: يا هذا إن أرضك طيبة صالحة للزراعة، فازرعها بارك الله لك فيها، فإن الأسد لن يعود إليها، ثم أمر له ولزوجته بصلة حسنة وصرفهما، انتهى من حرف الألف.
فائدة
الفرزدق اسمه همام بن غالب، والفرزدق لقب غلب عليه، والفرزدق قطع العجين الواحدة فرزدقة، ولقب به لغلظه وقصره، انتهى.
فائدة
عظيمة
قال الأطباء: إذا أردت أن تعرف أن المرأة عقيم أو لا، فمرها أن تتحمل بثومة في قطنة، وتمكث سبع ساعات، فإن فاح من فمها رائحة الثوم، فعالجها بالأدوية، فإنها تحمل بإذن الله تعالى وإلا فلا، وهي مجربة، والله أعلم.
فائدة

قال شيخ الإسلام محيي الدين النووي في أذكاره في باب أذكار المسافر عند إرادته الخروج من بيته: يستحب له عند إرادة الخروج أن يصلي ركعتين لحديث المطعم بن المقداد الصحابي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما خلف أحد عند أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد السفر " . رواه الطبراني وقال: في تتمة أخرى قال الشيخ قطب الدين القسطلاني: مما حفظت من والدتي أم محمد آمنة، وكنت وفاتها في صفر سنة ست وخمسين وستمائة: اللهم بتلألؤ نور بهاء حجب عرشك، من أعدائي احتجبت، وبسطوة الجبروت ممن يكيدني استترت وبطول حول حجب عرشك من عدائي احتميت، وبشديد قوتك من كل سلطان تحصنت وبديموم قيوم دوام أبديتك من كل شيطان استعذت وبمكنون السر في سرسرك من كل هم وغم تخلصت، يا حامل العرش عن حملة العرش، يا شديد البطش، يا حابس الطير والوحش احبس عني من ظلمني واغلب من غلبني. " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز " ، انتهى.

فائدة
إذا عسر على المرأة ولادتها فليكتب لها: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين. كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ. فهل يهلك إلا القوم الفاسقون.
فائدة
تكتب هؤلاء الكلمات وتجعل في أنبوبة وتدفن في الزرع والكرم فإنه لا يؤذيه الجراد بإذن الله تعالى وهي: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم اللهم أهلك صغارهم واقتل كبارهم وأفسد بيضهم وخذ بأفواههم عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء. إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه واستجب منا يا أرحم الراحمين.
دعاء
وقال الشيخ قطب الدين، ومما حفظته من دعاء والدي من الأدعية التي تنفع في الحجب عن الأعداء: اللهم بسر الذات وبذات السر وهو أنت أنت، هو لا إله إلا أنت، احتجبت بنور الله وبنور عرش الله وبكل اسم الله من عدوي وعدو الله بألف ألف لا حول ولا قوة إلا بالله، ختمت على نفسي وديني وأهلي ومالي وولدي وجميع ما أعطاني ربي بخاتم الله القدوس المنيع الذي ختم به أقطار السموات والأرض، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.
سك النقود في الإسلام
وقال الكسائي: دخلت على الوليد ذات يوم وهو في إيوانه وبين يديه مال كثير قد أمر بتفرقته على خدمه الخاصة وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمله وكان كثيراً ما يحدثني فقال: هل علمت أول من سن هذه الكتابة في الذهب والفضة؟ قلت: هو يا سيدي عبد الملك بن مروان.
قال: فما كان السبب في ذلك؟ قلت: لا أعلم غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة.

قال: سأخبرك، كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانياً على دين ملك الروم، وكانت تطرز بالرومية وكان طرازها أباً وابناً وزوجة وبنتاً، فلم يزل كذلك صدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى أن ملك عبد الملك، فتنبه وكان فطناً، فبينما هو ذات يوم جالس إذ مر به قرطاسٌ فنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم بالعربية ففعل ذلك فأنكره، وقال: ما أغلظ هذا في دين الإسلام أن يكون طراز القراطيس هكذا وهي تعمل في الأواني والثياب، وهما يعملان بمصر وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل هذا البلد. فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز بن مروان، وكان عامله بمصر، ببطال ذلك الطراز الذي يعمل على الثياب والقراطيس والستور وغير ذلك، وأن تعمل صناع القراطيس سورة التوحيد، وشهد أن لا إله إلا هو، وهذا طراز القراطيس خاصة إلى هذا الوقت، ولم ينقص ولم يزد ولم يتغير، وكتب إلى عمال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منه بالضرب الوجيع والحبس الطويل بعدما أثبت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد، وحمل إلى بلاد الروم منها وانتشر خبرها ووصل إلى ملكهم فترجم له ذلك الطراز، فأنكره وعظم عليه، واستشاط غيظاً فكتب إلى عبد الملك: إني أعمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم تزل تطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته، فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا، فاختر من هاتين الخلتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تليق بمحلك، وأحببت أن ترد طراز تلك القراطيس إلى ما كان عليه، وجميع ما كان يطرز أولاً لأشكرك عليه وتأمر بقبض الهدية. وكانت عظيمة القدر.
فلما قرأ عبد الملك كتابه، رد الرسول وأعلمه أنه لا جواب له ورد الهدية، فانصرف بها إلى صاحبه.
فلما وافاه أضعف الهدية، ورد الرسول إلى عبد الملك وقال: إني ظننت أنك استقللت الهدية، فلم تقبلها ولم تجبني إلى كتابي فأضعفت الهدية، وأنا أرغب إليك مثل ما رغبت فيه أولاً من رد الطراز إلى ما كان عليه.
فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية، فكتب إليه ملك الروم كتاباً يقتضي أجوبة كتبه ويقول: إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي فتوهمت أن استقللت الهدية فأضعفتها، فجريت على سبيلك الأول، وقد أضعفتها لك ثالثاً، وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدراهم والدنانير، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلا ما ينقش في بلادي، ولم أر الدراهم والدنانير نقشت في بلاد الإسلام فتنقش عليها شتم نبيك، فإذا قرأته ارفضَّ جبينك عرقاً، فأحب أن تقبل هديتي، وترد الطراز إلى ما كان عليه أول الأمر، وكانت هدية بررتني بها ويبقى الأمر بيني وبينك.
فلما قرأ عبد الملك الكتاب صعب عليه، وعظم، وضاقت به الأرض وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام لأني جنيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من شتم هذا الكافر ما يبقى إلى أبد الدهور. ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب، إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام واستشارهم، فلم يجد عندهم رأياً يعمل به، فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه.
فقال: ويحك بم؟ قال: عليك بالباقر من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: صدقت، ويمكنه يا روح الرأي فيه. قال: نعم.

فكتب إلى عامله بالمدينة أن أرسل محمد بن علي بن الحسين مكرماً ومتعه بمائة ألف درهم لجهازه وثلاثمائة درهم لنفقته، وأرح عليه في جهازه وجهاز من يخرج معه من أصحابه. وحبس الرسول قبله إلى موافاة محمد بن علي، فلما وافاه أخبره الخبر فقال له محمد رضي الله عنه: لا يعظم هذا عليك، فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما أن الله عز وجل لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثانية تدعو في هذا الوقت بصناع يضربون سككاً للدراهم والدنانير وتجعل النقش عليها سورة التوحيد، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما في وجه الدرهم والدينار والأخرى في الوجه الثاني وتجعل في مدار الدرهم أو الدينار، ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي تضرب فيها تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً من الثلاثة أصناف التي، العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل فتكون أوزانها جميعاً أحداً وعشرين مثقالاً فيجزئها من الثلاثين، فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل وتصب صنجاة من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة والدنانير على وزن سبعة مثاقيل.
وكانت الدراهم في ذلك الوقت إنما هي الكسروية التي يقال لها اليوم البغلية لأن راس البغل ضربها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بسكة كسروية في الإسلام، مكتوب عليها صورة الملك، وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية نوش خور، أي كل هنيئاً، وكان وزن الدرهم منها قبل الإسلام مثقالاً والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل والعشرة وزن خمسة مثاقيل هي السامرية الخفاف، والثقال ونقشها نقش فارس، ففعل ذلك عبد الملك وأمره محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه أن يكتب السكة في جميع بلدان الإسلام وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وغيرهما، وأن تبطل وتزد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكة الإسلامية.
ففعل عبد الملك ذلك ورد رسول ملك الروم إليه بذلك ويقول: إن الله عز وجل مانعك مما قد أردت أن تفعله، وقد تقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا وبإبطال السكك والطراز الرومية.
فقيل لملك الروم: افعل ما كنت تهددت به ملك العرب.؟ فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأنني كنت قادراً عليه بالمال وغيره برسوم الرسوم، فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام وامتنع من الذي قال وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم إلى اليوم.
ثم رمى يعني الوليد بالدرهم إلى بعض الخدم.

منام صادق
وقال نصر الله بن مجلي، وكان من الثقات وأهل السنة: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام، فقلت: يا أمير المؤمنين! تفتحون مكة، وتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يتم على ولدك الحسين ما تم.
فقال: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ قلت: لا.
قال: اسمعها منه. ثم انتبهت فبادرت إلى دار حيص بيص فذكرت له الرؤيا فشهق وبكى وحلف بالله أنها لم تخرج من فيه أو خطه لأحد وما نظمها إلا في ليلته، ثم أنشدني:
ملكنا فكان العفو منا سجيةً ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتمو قتل الأسارى وطالما ... غدونا عن الأسرى نفك ونصفح
واسم حيص بيص سعيد بن محمد أبو الفوارس التميمي الشاعر المعروف، ويعرف بابن الصيفي، ولقب بحيص بيص لأنه رأى الناس يوماً في حركة مزعجة وأمر شديد فقال: ما للناس في حيص بيص فبقي هذا اللقب عليه، ومن محاسن شعره:
يا طالب الرزق في الآفاق مجتهداً ... أقصر عناك، فإن الرزق مقسوم
الرزق يأتي إلى من ليس يطلبه ... وطالب الرزق يسعى وهو محروم
وله أيضاً:
يا طالب الطب من داءٍ أصيب به ... إن الطبيب الذي أبلاك بالداء
هو الطبيب الذي يرجى لعافيةٍ ... لا من يذيب لك الترياق في الماء
وله أيضاً:
إله عما استأثر الله به ... أيها القلب ودع عنك الحرق
فقضاء الله لا يدفعه ... حول محتال، إذا الأمر سبق
وله أيضاً:

أنفق ولا تخش إقلالاً، فقد قسمت ... على العباد من الرحمن أرزاق
لا ينفع البخل من دنيا مولية ... ولا يضر مع الإقبال إنفاق
؟

الذكاء والفهم
ومما جاء في الذكاء والفهم ما حكي عن المأمون أنه غضب على عبد الله بن طاهر، وشاور أصحابه في الإيقاع به، وكان قد حضر في ذلك المجلس صديق له فكتب إليه كتاباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، يا موسى. فلما فضه ووجد ذلك تعجب وجعل يطيل النظر إليه ولا يفهم معناه، وكانت له جارية واقفة على رأسه فقالت له: يا سيدي، إني أفهم معنى هذا. فقال: وما هو؟ قالت: إنه أراد قوله تعالى: " يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك " .
وكان قد عزم على الحضور إلى المأمون، فثنى العزم عن ذلك واعتذر للمأمون في عدم الحضور فكان سبب سلامته.
وأحسن من ذلك ما ذكره ابن خلكان قال: إن بعض الملوك غضب على بعض عماله فأمر وزيره أن يكتب له كتاباً يشخصه به، وكان للوزير بالعامل عناية، فكتب إليه كتاباً وكتب في آخره، إن شاء الله تعالى. وجعل في صدر النون شدة. فعجب العامل كيف وقعت هذه الحركة من الوزير إذ من عادة الكتاب أن لا يشكلوا كتبهم، ففكر في ذلك فظهر له أنه أراد: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك. فكشط الشدة وجعل مكانها ألفاً وختم الكتاب وأعاده. فلما وقف عليه الوزير سر بذلك وفهم أنه أراد: إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها.
؟
أبو حنيفة وجاره الإسكافي
وفي تاريخ بغداد ووفيات الأعيان: أن أبا حنيفة رضي الله عنه، كان له جار إسكافي يعمل نهاره، فإذا رجع إلى منزله ليلاً تعشى ثم شرب، فإذا دب الشراب فيه غنى وقال:
أضاعوني، وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
ولا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وأبو حنيفة يسمع صوته كل ليلة.
وكان أبو حنيفة يصلي الليل كله، ففقد أبو حنيفة صوته فسأله عنه فقيل: أخذه العسس منذ ليالٍ، فصلى أبو حنيفة الفجر من غده، ثم ركب بغلته وأتى إلى دار الأمير، فاستأذن عليه، فقال: ائذنوا له، وأقبلوا به راكباً ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط. ففعل به ذلك، فوسع له الأمير من مجلسه وقال له: ما حاجتك؟ قال: أشفع في جاري.
فقال الأمير: أطلقوه وكل من أخذ في تلك الليلة.
فخلوهم أيضاً وذهبوا وركب أبو حنيفة بغلته وخرج والإسكافي يمشي وراءه فقال له أبو حنيفة: يا فتى! هل أضعناك؟ فقال: بل حفظت ورعيت فجزاك الله خيراً عن حرمة الجوار. ثم تاب الرجل ولم يعد إلى ما كان يفعل.
وقال الشافعي: قلت لمالك، هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته.
دواء للصداع
قال الحافظ ابن عساكر، أيضاً: ويكتب للصداع.
بسم الله الرحمن الرحيم كهيعص ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداءً خفياً ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً كهيعص حمسق كم لله من نعمة على عبد شاكر وغير شاكر، وكم لله من نعمة في قلب خاشع وغير خاشع، وكم لله من نعمة في كل عرق ساكن وغير ساكن، اذهب أيها الصداع بعز عز الله بنور وجه الله، وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، فإنه نافع.
وعن أبي الدرداء قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بنا كلب فما بلغت رجله يده حتى مات، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من الداعي على هذا الكلب؟ فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله قال: فما قلت؟ قال: قلت: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام اكفنا هذا الكلب بما شئت.
فقال صلى الله عليه وسلم: لقد دعا الله بالاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
وفي هذا الحديث في السنن الأربعة ومسند أحمد وكتابي الحاكم وابن حبان.
قيل: وكانت صلاة العصر يوم الجمعة وأن الرجل الداعي سعد بن أبي وقاص، انتهى.
فائدة

قال القرافي: اتفق الناس على تكفير إبليس بقضيته مع آدم عليه الصلاة والسلام، وليس الكفر فيها لامتناعه من السجود، وإلا لكان كل من أمر بالسجود وامتنع منه كافراً، وليس كفره بكونه حسد آدم عليه الصلاة والسلام على منزلته من الله تعالى، وإلا لكان كل حاسدٍ كافراً، وليس كفره بعصيانه وفسوقه، وإلا لكان كل عاص وفاسق كافراً، وقد أشكل ذلك على جماعة من الفقهاء وينبغي أنه إنما كفر بنسبه الحق جل جلاله إلى الجور والتصرف الذي ليس بمرضي، ويظهر ذلك من فحوي قوله: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. ومراده أن الزام العظيم الجليل بالسجود للحقير من الجور والظلم، وهذا وجه كفره لعنه الله تعالى. وقد أجمع المسلمون على أن من نسب الله تعالى لذلك فهو كافر، انتهى.
ومنه أيضاً قول الشاعر:
خليلي إن قالت بثينة: ما له ... أتانا بلا وعد، فقولا لها: لها
أتى وهو مشغول بعظم الذي به ... ومن بات طول الليل يرعى السها سها
بثينة تزري بالغزالة في الضحى ... إذا برزت لم يبق يوماً بها بها
لها مقلة كحلا وخد موردٌ ... كأن أباها الظبي أو أمّها مَها
دهتني بود قاتل، وهو متلفي ... وكم قتلت بالمزج من ودِّها دُها
هي من مزج النَغَف بنون وغين معجمتين مفتوحتين ثم فاء، دود يكون في أنف الإبل والغنم الواحدة نغفة، انتهى عن الأصمعي.
وقال أبو عبيدة: هو الدود الأبيض يكون في النوى، وما سوى ذلك الدود ليس بنغف.
وروى مسلم عن النواس بن سمعان في حديثه الذي رواه في الدجال: " ويبعث الله يأجوج ومأجوج فيرسل عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة " . ومعنى قوله: فَرْسَى، قتلى وقيل للواحدة: فريس من فرس الذئب الشاة وافترسها.

حكاية الهامة
روى أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود قال: كنت عند كعب الأحبار، وهو عند عمر بن الخطاب، فقال كعب الأحبار: يا أمير المؤمنين ألا أخبرك بأغرب شيء رأيته في كتب الأنبياء؟ إن هامةً جاءت إلى سليمان بن داود عليهما السلام فقالت: السلام عليك يا نبي الله.
فقال: وعليك السلام يا هامة، أخبريني كيف لا تأكلين من الزرع؟ قالت: يا نبي الله، إن آدم أخرج من الجنة بسببه.
قال: فكيف لا تشربين الماء؟ قالت: لأنه غرق فيه قوم نوح، فمن أجل ذلك لا أشربه.
فقال لها: كيف تركت العمران وسكنت الخراب؟ قالت: لأن الخراب ميراث الله تعالى، فأنا أسكن ميراث الله تعالى.
قال الله تعالى: " وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين " . فالدنيا ميراث الله كلها.
قال سليمان: فما تقولين إذا جلست فوق خربة؟ قالت: أقول أين الذين كانوا يتنعمون فيها.
قال سليمان: فما صياحك في الدور إذا مررت عليها؟ قالت: أقول ويلٌ لبني آدم كيف ينامون وأمامهم الشدائد؟ قال سليمان عليه السلام: فما لك لا تخرجين بالنهار؟ قالت: من ظلم بني آدم لأنفسهم.
قال: فأخبريني ما تقولين في صياحك؟ قالت: أقول تزودوا يا غافلون وتهيئوا لسفركم، سبحان خالق النور.
فقال سليمان: ليس في الطيور طير أنصح لابن أدم ولا أشفق عليه من الهامة، وما في قلوب الجهال أبغض منها، والهامة بتخفيف الميم، على المشهور طير الماء، انتهى.
فائدة
اليحمور: حمار الوحِش، وفي كتاب العرائس لأبي الفرج الجوزي: أن بعض طلبة العلم خرج من بلاده فرافقه شخص في الطريق فلما كان قريباً من المدينة التي قصدها قال له ذلك الشخص: قد صار لي عليك حق وذمة، وأنا رجل من الجان ولي إليك حاجة.
قال: وما هي؟ قال: إذا أتيت مكان كذا وكذا فإنك تجد فيه دجاجات بينهن ديك أبيض فاسأل عن صاحبه واشتره منه، واذبحه، فهذه حاجتي إليك.
قال: فقلت له: يا أخي وأنا أيضاً أسألك حاجة؟ قال: وما هي؟ قلت: فإذا كان للإنسان مارد لا تعمل فيه العزائم وألح بالآدمي منا ما دواؤه.
قال: يؤخذ له وتر قدر شبر من جلد اليحمور ويشد به إبهام المصاب من يده شداً وثيقاً، ثم يؤخذ له من دهن السذاب البري ويقطر في أنفه الأيمن أربعاً وفي الأيسر ثلاثاً فإن الماسك به يموت ولا يعود إلى أحد بعده.

قال: فلما دخلت المدينة أتيت إلى ذلك المكان فوجدت الديك لعجوز، فسألتها بيعه، فأبت، فاشتريته منها بأضعاف ثمنه، فلما اشتريته وملكته تمثل لي من بعيد وقال بالإشارة: اذبحه، فذبحته فخرج علي عند ذلك رجالٌ ونساء، فجعلوا يضربونني ويقولون: يا ساحر. فقلت: لست بساحر. فقالوا: إنك منذ ذبحت الديك أصيبت شابة عندنا بجني. وإنه منذ مسكها لم يفارقها.
فطلبت منهم وتراً قدر شبر من جلد يحمور وشيئاً من دهن السذاب البري، فأتوا بهما فشددت إبهامي يدي الشابة شداً وثيقاً، فلما فعلت بها ذلك صاح قائلاً: وأنا علمتك على نفسي، ثم قطرت من الدهن في أنفها الأيمن أربعاً وفي الأيسر ثلاثاً فخر من قوته ميتاً، وشفى الله تلك الشابة ولم يعاودها بعدها شيطان.

الحاكم بأمر الله وصاحب البستان
وحكى القاضي شهاب الدين فضل الله في كتابه مسالك الأنصار في ممالك الأمصار، في ترجمة الحاكم بأمر الله أبي علي منصور، قال: بينما هو في موكبه قبلي بركة الحبش، إذ مر برجل على بستان له وحوله عبيده، فاستسقاه ماء فسقاه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، قد أطمعتني في السؤال، فإن رأى أمير المؤمنين أن يكرمني بنزوله لأحظى بتمام السعد؟ فأجابه لذلك ونزل بجيشه، فأخرج الرجل مائة بساط ومائة نطع ومائة وسادة ومائة طبق فاكهة ومائة جام حلوى ومائة زبدية سكرية، فبهت الحاكم وقال: أيها الرجل، خبرك عجيب، هل علمت بنا فأعددت هذا؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، وإنما أنا تاجر من رعيتك لي مائة محظية، فلما أكرمتني بالنزول عندي أخذت من كل واحدة شيئاً من فرشها وزائد أكلها وشربها، فإن لكل واحدة في كل يوم طبق طعام وطبق فاكهة وجام حلوى وزبدية شراب.
فسجد أمير المؤمنين شكراً لله تعالى وقال: الحمد لله الذي جعل في رعايانا من يسع حاله هذا، ثم أمر له بما، في بيت المال من الدراهم المضروبة في تلك السنة، فكانت ثلاثة آلاف ألف وسبعمائة ألف، ولم يركب حتى أحضرها وأعطاها للرجل وقال له: استعن بهذا على حالك ومروءتك، ثم ركب وانصرف.
سخاء البرامكة
حكى أبو إسحاق إبراهيم الموصلي قال: دعاني يحيى ابن خالد، فدخلت عليه، فوجدت الفضل وجعفراً ولديه جالسين بين يديه فقال لي: يا أبا إسحاق أصبحت اليوم مهموماً فأردت الصبوح لأتسلى فغن لي صوتاً لعلي أرتاح له فغنيته:
إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فما خلقت إلا لجود أكفهم ... وما خلقوا إلا لأعواد منبر
فسر وارتاح وأمر لي بمائة ألف، وأمر لي كل واحد من ولديه بمائة ألف فحمل المال جميعه بين يدي فأخذته وانصرفت.
وحكي عن مخارق قال: أصبحت السماء مغيمة وأصبح الرشيد مع حريمه وأمرنا بالإنصراف، وأذن لنا أن نقيم في منازلنا ثلاثة أيام، فمضى الجلساء أجمعون إلى منازلهم فقلت: والله لأذهبن إلى أستاذي إبراهيم الموصلي، فأعرف خبره، ثم أعود وأمرت من عندي أن يهيئوا لي مجلساً إلى وقت رجوعي، فجئت إلى دار إبراهيم، وقلت للبواب: أخبر أستاذك فأخبره، فقال: ادخل، فدخلت فإذا هو جالس في رواق وبين يديه قدر تغرغر وأباريق تزهر وستارة منصوبة والجواري خلفها، فقلت: ما بال الستارة لا أسمع من ورائها صوتاً؟ فقال: اقعد ويحك أصبحت على ما ترى، فأتاني خبر ضيعة بيعت بجواري، وقد كنت طلبتها زماناً، وتمنيتها فلم أملكها، وقد أعطي فيها الآن مائة ألف.
فقلت: وما يمنعك منها، وقد أعطاك الله أضعاف هذا المال؟ قال: صدقت، ولكن نفسي غير طيبة بإخراج هذا المال. وقال: خذ هذا القضيب، ونفر بقضيب في يده على المدورة وألقى علي:
نام الخليون من وهمٍ ومن سقمٍ ... وبت من كثرة الأحزان لم أنم
يا طالب الجود والمعروف مجتهداً ... أعمد ليحيى حليف الجود والكرم
قال: فأخذته وأحكمته ثم قال: امض الساعة إلى باب الوزير يحيى بن خالد، وادخل عليه وحدثه بما رأيت، واذكر الضيعة وعرفه أني صنعت له هذا الصوت، فأعجبني، ولم أجد من يستحقه إلا جاريته دنانير، وإنني ألقيته عليك لتلقيه عليها، وائتني بما يكون من الخبر.
قال: فجئت إلى الباب واستأذنت وأعلمته، فأمر بنصب الستارة، وألقيت الصوت على الجارية مراراً حتى أحكمته، فقال لي: تقيم عندنا أو تنصرف؟

قلت: أنصرف أطال الله بقاء مولانا الوزير.
فقال: يا غلام، احمل معه عشرة آلاف، واحمل إلى إبراهيم مائة ألف.
فحملت مالي وأتيت إلى منزلي فنثرت على من عندي من الجواري دراهم من تلك البدر، وأكلت وشربت بقية يومي، فلما أصبحت قلت: والله لأذهبن إلى أستاذي وأعرفن خبره، فأتيت ودخلت فوجدته على مثل ما كان عليه بالأمس. فقلت له: ما الخبر، ألم يأتك المال؟ قال: نعم، غير أنه لما دخل منزلي بخلت نفسي بإخراجه، وألقى عليه صوتاً آخر أتيت به الفضل بن يحيى وحدثته بما كان من أبيه بالأمس، فأمر أن يحمل معي عشرون ألفاً، ولإبراهيم مائتا ألف، وفعلت مثل ما فعلت بالأمس، وغدوت إليه لما أصبحت، فوجدته على مثل حاله بمثل عذره، وألقى علي صوتاً غيره، وأتيت به جعفر بن يحيى، وأخبرته بما كان من أبيه وأخيه، فأمر أن يحمل معي ثلاثون ألفاً وإلى إبراهيم ثلاثمائة ألف. فحملته معي إليه، فبكى إبراهيم وقال: وصلت إلي ستمائة ألف وأنا جالس في مجلسي لم أبرح منه، فعلى مثل هؤلاء يبكى، فرحم الله أرواحهم أجمعين.
؟

إسحاق الموصلي يتطفل
قال إسحاق: غدوت يوماً وأنا منحصر من ملازمة أمير المؤمنين، فعرضت نفسي على أن أطوف في الصحراء وأتفرج، وقلت لغلماني: إذا جاء رسول الخليفة أو غيره فلا تعرفوه مكاني، فطفت وعدت وقد حمى النهار، فوقفت في فضاء أستريح، فلم ألبث أن جاء خادم يقود حماراً فارهاً، وعليه جارية راكبة عليها فاخر الثياب، ورأيت لها قواماً حسناً وظرفاً فائقاً، فحدثت نفسي أنها مغنية، ثم أدخلت الدار التي أنا واقف عليها ثم لم ألبث أن جاء شابان جميلان واستأذنا فأذن لهما فدخلا، ودخلت معهما فظنا أن صاحب الدار دعاني، وظن صاحب البيت أنني معهما.
وجلسنا، فأتي بالطعام، فأكلنا وبالشراب فوضع، ودخلت الجارية في يدها عود فغنت وشربنا، فسألهما صاحب المنزل عني فأخبراه أنهما لا يعرفاني فقالوا: هذا طفيلي لكنه ظريف، فأجملوا عشرتي فشربنا ودار الكأس، فغنت الجارية تقول:
ذكرتك إذ مرت بنا أم شادن ... أمام المطايا تشرئب وتسنح
من المؤلفات الرمل أدماء حرةٌ ... شعاع الضحى من وجهها يتوضح
فأدته أداء حسناً. ثم غنت صوتاً من القديم والحديث تقول:
قل لمن صد عاتباً ... ونأى عني جانبا
قد بلغت الذي أرد ... ت، وإن كنت لاعبا
فاستعدته منها لأصححه عليها فأقبل علي أحد الرجلين يعنفني ويقول: ما رأينا طفيلياً أصفق وجهاً منك لم ترض بالتطفل حتى اقترحت، وهذا غاية المثل: طفيلي ويقترح.
فأطرقت وجعل صاحبه يكفه وهو لا يلتفت، ثم قاموا إلى الصلاة وتأخرت بعدهم قليلاً، وأخذت عود الجارية وشددت طبقته وأصلحته إصلاحاً محكماً، وعدت إلى موضعي وعادوا، وأخذ ذلك الرجل في عربدته علي وأنا صامت، وأخذت الجارية العود وجسته، فأنكرت حاله، وقالت: من جس عودي؟ قالوا: ما جسه أحد.
قالت: بلى والله لقد جسه حاذق متقدم وشد طبقته، وأصلحه إصلاح متمكن من الصناعة.
قلت لها: أنا.
فقالت: بالله خذ واضرب.
فأخذته وضربت ضرباً عجيباً فيه نقرات محركة، فما بقي منهم أحد إلا وثب وجلس بين يدي، وقال صاحب المجلس: أقسم بالله أن لك في هذه الصناعة أصواتاً غريبة، فبالله عليك إلا عرفت بنفسك؟ فقلت: أنا إسحاق الموصلي، ووالله إني لأتيه على الخليفة إذا طلبت وأنتم ترون صاحبكم هذا يسمعني ما أكرهه لكوني تأدبت معكم، ودخلت عندكم، والله لا نطقت بحرف، ولا جلست حتى تخرجوا هذا الممقوت.
فقال له صاحبه: من مثل هذا خفت عليك.
وأخذوا بيده وسحبوه وأخرجوه وعادوا فبادرت وغنيت الأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي، فقال لي الرجل: هل لك في خصلة؟ قلت: ما هي؟ قال: تقيم عندنا أسبوعاً والمكافأة الجارية والجهاز لك. قلت: نعم أفعل.
وأقمت عنده أسبوعاً لا يعرف أحد أين أنا، والمأمون يطلبني في كل حين وكل موضع، ولم يقع أحد على خبري، فلما انقضت الأيام تسلمت الجارية والجهاز والخادم، وجئت بذلك إلى منزلي، وركبت من وقتي إلى المأمون فلما رآني قال: يا أبا إسحاق ويحك، أين كنت؟

فأخبرته الخبر فقال: علي بالرجل الساعة. فدللتهم على موضعه، فأحضره وسأله المأمون فأخبره بالقصة، فقال: أنت ذو مروءة، وسبيلك أن تعان عليها وأمر له بمائة ألف، وقال له: لا تعاشر ذلك النذل المعربد.

يزيد والأحوص بن جعفر
ومن كلام الأحوص في حضرة يزيد، غنته جارية بين يديه:
إذا رمت عنها سلوة قال شافعٌ ... من الحب ميعاد السلو المقابر
ستبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود، يوم تبلى السرائر
فطرب يزيد وقال:لمن الشعر؟ قالت: لا أدري.
قال: ابعثوا إلى الزهري، وكان قد ذهب من الليل شطره فأتي به فلما صعد إليه قال: لا بأس عليك، لن ندعوك إلا لخير، فجلس وسأله عن قائل هذا الشعر؟ فقال الأحوص.
قال: ما فعل به؟ قال: قد طال حبسه، فأمر بتخلية سبيله، وأن يدفع له أربعمائة دينار، ثم قدم عليه بعد ذلك فأجازه وأحسن إليه إحساناً جزيلاً، وكانت المغنية جارية يزيد بن عبد الملك.
الرشيد في منزل إبراهيم الموصلي
وحكى مسرور الخادم أن الرشيد قصد الركوب في غير عادته، فقلت له: أين تريد يا أمير المؤمنين في هذا الوقت؟ قال: إلى منزل إبراهيم الموصلي.
قال: فمضى حتى انتهى إلى منزل إبراهيم الموصلي، فخرج وتلقاه وقبل حافر حماره، وقال: يا أمير المؤمنين في مثل هذه الساعة تظهر؟ قال: نعم، شوق طرق بي إليك. ثم نزل وجلس في طرف الإيوان وأجلس إبراهيم، فقال له إبراهيم: يا سيدي استنبطنا شيئاً نأكله قبل الشراب.
قال: نعم. فجاء بمطعوم كأنما كان معداً له، فأصاب منه يسيراً، ثم دعا بشراب حمل معه، فقال له الموصلي: يا سيدي أغنيك أم تغنيك إماؤك؟ قال: بل الجواري.
فخرجت جواري إبراهيم فأخذن صدر الإيوان وجانبيه، فقال إبراهيم: أيضربن كلهن أم واحدة واحدة؟ فقال: بل يضربن اثنتان اثنتان، وواحدة واحدة تغني.
قال: فضربن اثنتان وغنت واحدة منهن، فقالت:
إذا دعا باسمها داعٍ يحدثني ... كادت لها مهجتي من حرها تقع
لو أن لي صبرها أو عندها جزعي ... لكنت أعقل ما آتي وما أدع
لا أحمل اللوم فيها، والغرام بها ... ما كلف الله نفساً غير ما تسع
ثم غنت أخرى، فقالت:
طرقتك زائرةٌ فحي خيالها ... بيضاء تخلط بالجمال دلالها
هل يطمسون من السماء نجومها ... بأكفهم أو يطمسون هلالها
شهدت من الأنفال آخر آيةٍ ... فأردتموا بمحالكم إبطالها
ثم غنت أخرى، فقالت:
شطت سعاد وأضحى البين قد أبدا ... وأورثتك سقاماً يصدع الكبدا
فما احتيالك في جد الرحيل بهم ... وخلفوك غداة البين، منفردا
لا أستطيع لهم صبراًُ ولا جلداً ... ولا تزال أحاديثي بهم جددا
قال: فقام حتى وصل إلى صدر الإيوان، وأخذ بجانبيه والرشيد يسمع ولا ينصت لشيء من غنائهن، إلى أن غنته صبية من صدر الإيوان من حاشية الصفة هذين البيتين لأبي نواس:
يا موري الزند قد أعيت قوادحه ... أقبس بما شئت من قلبي بمقباس
ما أقبح الناس في عيني وأسمجهم ... إذا نظرت فلم أنظرك في الناس
فطرب الرشيد لغنائهما واستعاد الصوت مراراً وشرب أرطالاً، وسأل الجارية عن صانعه، فأمسكت فاستدناها، فتقاعست، فأمر بها، فأقبلت بين يديه، فأخبرته بشيء أسرته إليه، فدعا بحماره فركبه، ثم التفت إلى إبراهيم الموصلي، فقال له: ما ضرك أن تكون خليفة.
فكادت روحه تخرج حتى دعاه بعد ذلك وأدناه. قال: وكان الذي أخبرته به سراً أن الصنعة في الصوت لأخته علية بنت المهدي، وكانت الجارية لها، فوجهتها إلى إبراهيم الموصلي يطارحها، ومن قول أبي نواس:
دع عنك لومي فإن اللومَ إغراءُ ... وداوني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء
من كف ذات حر في زي ذي ذكر ... لها محبان لواطٌ وزناءُ
قامت بإبريقها، والليل معتكرٌ ... فلاح من وجهها في البيت لألاء
أرسلت من فم الإبريقِ صافيةً ... كأنما أخذُها بالعين إغفاءُ

رقت عن الماء حتى ما يلائمها ... لطافةً وجفا عن شكلها الماء
فلو مزجت بها نوراً لمازجها ... حتى تَولد أنوارٌ وأضواءُ
دارت على فتية دان الزمان لهم ... فما يُصيبهمو إلا بما شاؤوا
فقل لمن يدعي في العلم فلسفةً ... حفظت شيئاً وغاب عنك أشياء
وقال الشاعر:
كعصفورةٍ في كف طفلٍ يهينها ... تذوق مرار الموت، والطفل يلعب
فلا الطفل ذو عقل يرق لحالها ... ولا الطيرُ مطلوق الجناحين يهرب

الفخ والعصفور
وروى البيهقي في الشعب عن مالك بن دينار. قال: مثل قراء هذا الزمان مثل رجل نصب فخاً، فجاء عصفورٌ، فدنا إلى الفخ وقال: ما لك متغيباً في التراب؟ فقال: للتواضع، فقال: فمم انحنيت؟ قال: من طول العبادة.
قال: فما هذه الحبة التي في فيك؟ قال: أعددتها للصائمين.
فلما تناول الحبة أمسك الفخ عنقه، فقال العصفور: إن كان العباد يخنقون خنقك فلا خير في هذه العبادة اليوم، انتهى.
إحدى النصائح
قال الشافعي رضي الله عنه أربعة أشياء تزيد في الجماع: أكل العصافير، وأكل الإطريفل، وأكل الفستق، وأكل الجرجير، وأربعة أشياء تزيد في العقل: ترك الفضول من الكلام، والسواك، ومجالسة الصالحين، والعمل بالعلم. وأربعة تقوي البدن: أكل اللحم، وشم الطيب، وكثرة الغسل من غير جماع، ولبس الكتان. وأربعة توهن البدن: كثرة الجماع، وكثرة الهم، وكثرة شرب الماء على الريق، وكثرة أكل الحموضة، انتهى من حرف العين.
ابن الخياط والمهدي
ودخل ابن الخياط المكي على المهدي ومدحه فأمر له بخمسين ألف درهم، فسأله أن يأذن له في تقبيل يده، فأذن له فقبلها وخرج، فلما انتهى إلى الباب حتى فرقها جميعاً فعوتب في ذلك، فأنشد يقول:
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوي الغنى ... أفدتُ وأعداني فأتلفت ما عندي
فغني بهما المهدي، فأمر له بخمسين ألف دينار، انتهى.
ولبعضهم تغزلاً في مليح:
أقولُ لمقلتيه حين ناما ... وسحر النوم في الأجفانِ سار
تبارك من توفاكم بليلٍ ... ويعلم ما جرحتم بالنهار
الإمام أحمد بن حنبل ومناقبه
رضي الله تعالى عنه
مات سنة مائتين وإحدى وأربعين، وحرر من حضر في جنازته: فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألفاً، وأسلم يوم موته رضي الله عنه: عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس، انتهى.
وقال الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات: إن المتوكل أمر أن يقاس الموضع الذي وقف الناس فيه للصلاة على الإمام أحمد، فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة، وقد حزن عليه رضي الله تعالى عنه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس، وقال محمد بن خزيمة: لما بلغني موت الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، اغتممت غماً شديداً، فرأيته في المنام وهو يتبختر في مشيته، فقلت: يا أبا عبد الله ما هذه المشية؟ فقال: مشية الخدام في دار السلام.
فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب.
وقال: يا أحمد هذا بقولك: القرآن كلامي غير مخلوق. ثم قال الله تعالى: يا أحمد ادعني بتلك الدعوات التي بلغتك عن سفيان التي كانت تدعو بهن في دار الدنيا.
فقلت: ريا رب أسألك بقدرتك على كل شيء أن لا تسألني عن شيء واغفر لي كل شيء.
فقال جل وعلا: يا أحمد هذه الجنة، فادخل فيها. وأنشد بعضهم في تاريخ موت الأئمة الأربعة ومولدهم: الإمام أبي حنيفة والإمام مالك، والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين:
تاريخ نعمان يكن سيف سطا ... ومالك في قطع جوف ضبطا
والشافعيُّ صينَ ببرندِ ... وأحمد يسبق أمر جعد
فخذ على ترتيب نظم الشعر ... ميلادهم فموتهم فالعمر
وكذا في تاريخ الأئمة الخمسة المحدثين، الإمام الترمذي وأبو داود والإمام مسلم والنسائي والإمام البخاري، وقد جمع ذلك بعضهم في بيت واحد فقال:
إذا رمت الحديث فلذ بخمس ... تكن مثل المشافه في الحياة
تعطر درعه ما رص نسجٌ ... بنور للمحدث للوفاة

بيان ذلك، التاء إشارة للترمذي، والدال إشارة لأبي داود، والميم إشارة للإمام مسلم، والنون للنسائي، والباء للبخاري والله أعلم.

السكران والجلاد
ويحكى أنه أتي برجل مدني سكران إلى بعض الولاة فأمر بإقامة الحد عليه، وكان الرجل طويلاً والجلاد قصيراً، فلم يتمكن من ضربه. فقال الجلاد للمدني: تقاصر لينالك الضرب.
فقال: ويلك إلى أكل الفالوذج تدعوني، والله لوددت أن أكون أطول من عوج بن عنق، وأنت أقصر من يأجوج ومأجوج، فاستظرفه الأمير وخلى سبيله، انتهى من حلية الكميت.
ومن قول ابن المعتز:
وجاءني في قميص الليل مستتراً ... يستعجل الخطو من خوف ومن حذر
ولاح ضوء صباح كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدت من الظفر
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
ولبعضهم عفا الله عنه:
جرى دمعي من الحال الذي بي ... كجري الماء في أول أبيب
ومع هذا فلم قطع رجائي ... لأن الله ألطف من أبي بي
من كلام الشافعي رضي الله عنه
لم يدر طعم الفقر من هو في غنى ... ومصحح الأعضاء ليس كمبتلي
كم فاقةٍ مستورة بمروءةٍ ... وضرورةٍ قد غطيت بتجمل
وتبسمٍ من تحته قلبٌ شجٍ ... قد صادفته غمةٌ لا تنجلي
والناس جمعاً عند كل كفؤه ... والهم مفترق وما أحدٌ خلي
لو سود الهم الملابس لم تجد ... بيض الثياب على أمرئ في محفل
وإذا أراد المرء جلو همه ... عن نفسه من نفسه لا ينجلي
رياض نجد
من كلام العارف بالله تعالى الشيخ عبد الرحيم البرعي رحمه الله تعالى في أرض اليمن:
رياض نجد بكم جنانُ ... فضّية نورها حسان
وترب واديكمو بنجدٍ ... مسك، وحصباؤها جمان
والروض من شعبكم عبيرٌ ... والزهر وردٌ وزعفران
والجار في ربعكم عزيز ... والحر في أرضيكم يصان
فكم سفكتمُ دمي ودمعي ... أما على القاتل الضمان
ورمت أخفي الهوى ودمعي ... من شدة الوجد ترجمانُ
يا لائمون اقصروا ملامي ... رفقاً بمن قلبه ملان
لا تذكروا الظاعنين عندي ... فلي وللظاعنين شان
قالوا: هواهم عليك حتمٌ ... فقلت: عهدي الهوى يصان
قالوا: فكم تكتم التصابي ... قلت: المعنى بهم معان
قالوا: فقد فارقوك ربعاً ... قلت: هم الناس حيث كانوا
قالوا: فدعهم فقلت: كلا ... لعل دهراً قسا يلان
ليت الصبا الحاجري ينبي ... عن جيرة البان يوم بانوا
هل عهدهم عهدهم بنجدٍ ... باقٍ أم استؤمنوا فخانوا
يا محسناً بالزمان ظناً ... هل تدري ما يفعل الزمان
لا تتبع النفس في هواها ... إن اتباع الهوى هوان
وا خجلتي من عتاب ربي ... إن قيل أسرفت يا فلان
إلى متى أنت في الملاهي ... تصير مرخى لك العنان
لو خوفتك الجحيم بطشي ... وشوقت قلبك الجنان
عندي لك الصفح وهو بري ... وعندك السيف والسنان
ما تستحي كاتباً كريماً ... يحصى به الفعل واللسان
وتستحي شيبةً تراها ... في النار مسحوبةً تهان
أنت شجاع على المعاصي ... وأنت عن طاعتي جبان
لم ينهك الشيب عن حدودي ... ولا رسولي ولا القرآن
ترضى بأن تنقضي الليالي ... وما انقضى حربك العوان
أي أوان تتوب فيه ... هل بعد قطع الرجا أوان
آثرت غيري علي لكن ... كما يدين الفتى يدان
يا سيدي: هذه عيوبي ... وأنت في الخطب مستعان
يا من له في العصاة شان ... البر والعطف والحنان

يا من ملا بره النواحي ... لم يخل من بره مكان
عفواً فإني رهين ذنبٍ ... حاشاك أن يغلق الرهان
فاغفر لعبد الرحيم والطف ... بخائف ما له أمان
وسامح الكل من ذنوبٍ ... غدا بها يشهد البنان
وصل يا ذا العلا وسلم ... على من أخلاقه حسان

دار الحبيب
هذه قصيدة الإمام الولي العارف بالله تعالى أبي محمد بن أبي عمران اليشكري نفعنا الله به.
قال العلامة بدر الدين بن فرحون أحد أصحاب ناظمها أن بعض الصالحين رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، قال البدر: وأشك هل كان هو الشيخ أو غيره، وأنشد هذه القصيدة فلما بلغ آخرها قال النبي صلى الله عليه وسلم: رضيناها رضيناها وهي هذه:
دار الحبيب أحق أن تهواها ... وتحن من طرب إلى ذكراها
وعلى الجفون إذا هممت بزورةٍ ... يا ابن الكرام عليك أن تغشاها
فلأنت أنت إذا حللت بطيبةٍ ... وظللت ترتع في ظلال رباها
مغنى الجمالِ من الخواطر والتي ... سلبت قلوب العاشقين حلاها
لا تحسب المسك الذكي كتربها ... هيهات أين المسك من رياها
طابت فإن تبغي لطيبٍ يا فتى ... فأدم على الساعات لثم ثراها
وابشر ففي الخبر الصحيح تقرراً ... إن الإله بطيبةٍ سماها
واختصها بالطيبين لطيبها ... واختارها ودعا إلى سكناها
لا كالمدينة منزلٌ وكفى بها ... شرفاً حلول محمد بفناها
خصت بهجرة خير من وطئ الثرى ... وأجلهم قدراً وأعظم جاها
كل البلاد إذا ذكرن كأحرفٍ ... في اسم المدينة لا خلا معناها
حاشا مسمّى القدس فهي قريبةً ... منها ومكة إنها إياها
لا فرق إلا أن ثم لطيفةً ... مهما بدت يجلو الظلام سناها
جزم الجميع بأن خير الأرض ما ... قد حاز ذات المصطفى وحواها
ونعم لقد صدقوا بساكنها علت ... كالنفس حين زكت زكا مأواها
وبهذه ظهرت مزية طيبة ... فغدت وكل الفضل في معناها
حتى لقد خصت بهجرة حبه ... الله شرفها به وحباها
ما بين قبر للنبي ومنبر ... حيا الإله رسوله وسقاها
هذي محاسنها فهل من عاشق ... كلف شجيٍّ ناحل بنواها
إني لأرهب من توقع بينها ... فيظل قلبي موجعاً أواها
ولقلما أبصرت حال مودِّعٍ ... إلا رثت نفسي له وشجاها
فلكم أراكم قافلين جماعةً ... في إثر أخرى طالبين سواها
قسماً لقد أكسى فؤادي بينكم ... جزعاً وفجر مقلتي مياها
إن كان يزعجكم طلاب فضيلةٍ ... فالخير أجمعه لدى مثواها
أو خفتمو ضرابها فتأملوا ... بركاتٍ بقعتها فما أزكاها
أف لمن يبغي الكثير لشهوةٍ ... ورفاهة لم يدر ما عقباها
فالعيش ما يكفي وليس هو الذي ... يطغي النفوس إلى خسيس مناها
يا رب أسأل منك فضل قناعة ... بيسيرها وتحصناً بحماها
ورضاك عني دائماً ولزومها ... حتى توافي مهجتي أخراها
فأنا الذي أعطيت نفسي سؤلها ... فقبلت دعواها فيا بشراها
بجوار أو في العالمين بذمة ... وأعز من بالقرب منه يباهى
من جاء بالآيات والنور الذي ... داوى القلوبَ من العمى فشفاها
أولى الأنام بخطة الشرف التي ... تدعى الوسيلة خير من يعطاها
إنسان عين الكون شرف جوده ... يس وأكسير المحامد طاها
حسبي فلست أفي ببعض صفاته ... لو أن لي عدد الورى أفواها

كثرت محاسنه فأعجز حصرها ... فغدت وما تلفي لها أشباها
إني اهتديت من الكتاب بآيةٍ ... فعلمت أن علاه ليس يضاهى
ورأيت فضل العالمين محدداً ... وفضائل المختار لا تتناهى
كيف السبيل إلى تقضي مدح من ... قال الإله له وحسبك جاها
إن الذين يبايعونك إنما ... هم من يقال يبايعون الله
هذا الفخار فهل سمعت بمثله ... واها لنشأتها الكريمة واها
صلوا عليه وسلموا فبذلكم ... تهدى النفوس لرشدها وغناها
صلى عليه الله غير مقيدٍ ... وعليه من بركاته أنماها
وعلى الأكابر آله سرج الهدى ... أكرم بعثرته ومن والاها
وكذا السلام عليه ثم عليهم ... وعلى صحابته التي زكاها
أعني الكرام أولي النهى أصحابه ... فئة التقى ومن اهتدى بهداها
والحمد لله الكريم وهذه ... نجزت وظني أنه يرضاها
وهذا آخرها والحمد لله وحده.
ولبعضهم:
لله في ملكه خاتمٌ ... تجري المقادير على نقشه
لا تنبشن الشر تبلى به ... واحذر على نفسك من نبشه
مصارع الدهر لها سطوةٌ ... تنزل السلطان عن عرشه
إذا طغى الكبش بلحم الكلا ... أدرج رأس الكبش في كرشه
إذا بغى المرء على جنسه ... لا بد أن ينكب في فرشه

أنت ومالك لأبيك
قوله صلى الله عليه وسلم: أنت ومالك لأبيك " ذكر العلامة الشمس العلقمي في حاشيته على الجامع الصغير عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: اذهب فأتني بأبيك. فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل يقرئك السلام، ويقول لك: إذا جاء الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه. فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال ابنك يشكوك، أتريد أن تأخذ ماله؟ فقال: يا رسول الله هل أنفقه إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أيها الشيخ دعنا من هذا. أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك.
فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما يزال الله عز وجل يزيدنا بك يقيناً، لقد قلت في نفسي شيئاً ما سمعته أذناي فقال له: قل فأنا أسمع.
فقال:
غذيتك مولوداً وعلتك يافعاً ... تعل بما أسدي إليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت ... لسقمك إلا ساهراً أنململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني وعيناي تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها ... لتعلم أن الموت شيء مسجل
فلما بلغت السن والغاية التي ... لها مدةٌ قد كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظةً وفظاظةً ... كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل
قال: فحينئذ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بجلباب ابنه وقال له: " أنت ومالك لأبيك " . انتهى.
الأصمعي في بلدة خراب
حكى الأصمعي قال: خرجت في طلب الأعاجيب من الأحاديث، فلاحت لي بلدة بيضاء كأنها الغمامة، فدخلتها فإذا هي خراب وليس فيها ديار ولا أنيس، فبينما أنا أدور في نواحيها إذ سمعت كلاماً فطار قلبي، فأنصتًّ، فإذا به كلام موحشٌ، فسللت سيفي ودخلت ذلك المكان، فإذا أنا برجل جالس، وبين يديه صنم وفي يده قضيب، وهو يبكي وينكت به الأرض ويقول:
أما ومسيح الله لو كنت عاشقاً ... لمت كما ماتت، وقد ضمني لحدي
وكم أتسلى بالحديث وبالمنى ... وبالعبرات السائلات على خدي
وإني وإن لم يأتني الموت سرعةً ... لأمسي على جهد وأضحي على جهد
قال: فلما سمعت ذلك منه هجمت عليه، فلم يشعر بي إلا أن قلت له: السلام عليك، فرفع رأسه وقال: وعليك السلام، من أين أنت ومن جاء بك إلى هذا المكان؟

فقلت: الله جاء بي.
قال: صدقت وهو الذي أفردني في هذا المكان.
فقلت له: ما بالك تشير إلى هذا الصنم الذي بين يديك.
فقال لي: إن حديثي عجيب وأمري غريب.
فقلت له: حدثني به ولا تخف منه شيئاً.
فقال لي: اعلم أننا كنا قوماً من بني تميم وكنا على دين المسيح وكان دعاؤنا مستجاباً، وكانت هذه الصنمة ابنة عمي وكنت أنا وإياها. فلما كبرت حجبها عمي عني، فكنت أحبها سراً. فبينما أنا ذات ليلة وأنا عندها إذ سمعت عمي يدق الباب، فأدخلتني سرداباً وقامت هي ففتحت الباب ودخل عمي فقال لها: أين عبد المسيح؟ فقالت: إني لم أره.
فقال لها: إني سمعت كلامه عندك.
فقالت: لم تسمع شيئاً وإنما خيل لك.
فقال لها: والله إن لم تصدقيني، وإلا دعوت عليك إن كنت كاذبة فيمسخك الله حجراً.
فقالت له: إذا كنت كاذبةً.
فرفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم يا رب الأولين والآخرين إن كنت تعلم أن ابنتي هذه كاذبةٌ في قولها فامسخها حجراً، فمسخها الله حجراً، ولي أربعون سنة في هذا المكان، وأنا أتقوت من نبت الأرض وأشرب من هذه الأنهار وأتسلى بالنظر إلى هذه الصنمة إلى أن يحكم الله بالموت ثم بكى وأنشد يقول:
وحق الذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي خلق الخلقا
لئن قلت إن الحب قد يقتل الفتى ... وإن الفتى بعد التفرق لا يبقى
لقد قلت حقاً واسأل العبرة التي ... تسيل وسيل الدمع مني لا يرقا
قال الأصمعي: ثم قام ذلك الشاب وتوارى عني بجدار من تلك الجدر، ونزع المسوح التي كانت عليه ولم يبق عليه إلا ما يواري سوأته فتأملته، فإذا عيناه تدور في أم رأسه فقلت في نفسي: هذا أراد أن يطلعني على نحول جسده ثم أقبل علي، وهو عريان وقال لي: يا فتى إنني قائل ثلاث أبيات، وكان مني ما كان، فإذا أنا مت فكفني أنا وإياها في هذه الجبة وادفنا في هذا الجون وضمنا بالتراب واكتب على قبرنا هذه الأبيات:
من لم يكن يحسب أن الهوى ... يقتل، فلينظر إلى مضجعي
لم يبق لي حولٌ ولا قوةٌ ... إلا خيال الشمس في موضعي
أشكو إلى الرحمن جهد البلا ... إشارة بالطرف والإصبع
قال الأصمعي: هذا وأنا أنظر إليه وأسمع شعره وأتعجب منه ومن أمر الصنمة. وإذا به وقع على الأرض مستلقياً على قفاه وشهق شهقةً فارقت روحه جسده.
قال الأصمعي: فكفنتهما ودفنتهما في ذلك الجون، وكتبت على قبرهما تلك الأبيات وتركتهما وانصرفت وأنا متعجب غاية العجب، انتهى.

عدل ابن طولون
لما عزم أحمد بن طولون على بناء الجامع المعروف به في مصر القاهرة أنفق عليه مائة ألف دينار، ورتب فيه للعلماء والقراء وأرباب الشعائر والبيوت في كل شهر عشرة آلاف دينار، وللصدقة في كل يوم مائة دينار، وكان مشتملاً على خصال حميدة منها: أن فقيراً كان بجواره وله امرأة وبنت، وكان يغزلان الصوف لتجهيز البنت، وإن البنت لم تفارق البيت وما نظرت إلى السوق قط ولا خرجت، فسألت أمها وأباها أن تخرج معهما إلى السوق، فواعدها بذلك. فلما قصدا بيع الغزل خرجت معهما إلى السوق فمروا بباب الأمير المسمى بالفيل، وتمادى الأب والأم، وتركاها ولم يشعرا بوقوفها فبقيت البنت حائرةً لا تدري أين تذهب، وكانت ذات جمال عظيم، فخرج الأمير المسمى بالفيل، فلما رآها افتتن بها، فأمسكها ودخل بها ثم أمر الجواري أن يغسلنها، وينظفنها ويلبسنها أحسن الملبوس، ويطيبنها بأنواع الطيب، ويحلينها له، ففعل ذلك فدخل عليها وأزال بكارتها. هذا وأبواها قد حزنا عليها ولم يزالا يطوفان عليها جميع الأماكن، فلم يقعا لها على خبر، فلم يزالا يبكيان. فلما جن الليل، وإذا بشخص يطرق الباب، فخرج أبوها وفتح الباب فقال الرجل لأبيها أن الأمير المسمى بالفيل أخذ ابنتك وأزال بكارتها، فلما سمع ذلك كاد يجن.
وكان لأحمد بن طولون مؤذن وكان قد عاهده على أنه إذا حدثت فاحشة من الفواحش يؤذن في غير الوقت ليحضره ويستفهم منه الواقعة، وكان المؤذن بينه وبين أبي البنت صداقة. فجاء إليه وأخبره بخبره، فصعد وأذن فسمعه أحمد بن طولون، فأرسل خلفه، فأخبره بالقضية فاستدعى بأبوي البنت وخبأهما في خزانة وكان وقت مجيء الفيل للخدمة، فلما دخل على عادته، قال له: نهنيك بالعروس الجديدة.

فقال: ومن أين لي عروس جديدة؟ قال: أتنكر وهذا أبو الجارية وأمها؟ فلما رآهما نكس رأسه خجلاً من الأمراء الحاضرين، فقال له أحمد ابن طولون: ارفع رأسك ثم قال لأبيها: تزوج ابنتك مملوكي هذا على صداق قدره ألف دينار مقدمةٌ وخمسمائة دينار مؤجلة.
فقال: نعم. فأمر بإحضار الشهود وعقد العقد بينهما ووضعوا خطوطهم ثم بعد انصراف الشهود أمر السياف بضرب عنق الفيل، فرماه بين يديه، وقطع رأسه. وقال أحمد بن طولون لأبي الجارية: ابنتك ورثت زوجها وقد مكنتها مما بقي من تركته، فامضوا مع السلامة.
فانصرفوا شاكرين لإنعامه داعين له على أفعاله. فانظر إلى هذا العدل العظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.
ومما نقل عن بعضهم:
توق رعاك الله تسعاً من البشر ... فصحبتهم تفضي إلى البؤس والضرر
وهم أحولٌ مع أعرجٍ ثم أحدبٍ ... كذا كوسج يتلو نشاطاً مع الكدر
وإياك والأنف الطويل وأصفراً ... فإنهما بيت الخيانة والخطر
كذا غائر الصدغين خارج جبهة ... كذا أزرق العينين فالحذر الحذر
توقاهمو تحيا سليماً من الردى ... وباعدهمو، يا ذا الفراسة والنظر
تم الكتاب.

أقسام الكتاب
1 2