كتاب : منهاج السنة النبوية
المؤلف : شيخ الإسلام بن تيمية

الطرق فهذه الطرق وغيرها مما يبين به حدوث كل ما سوى الله تعالى سواء قيل بأن كل حادث مسبوق بحادث أو لم يقل وأيضا فما يقوله قدماء الشيعة والكرامية ونحوهم لهؤلاء أن يقولوا نحن علمنا أن العالم مخلوق بما فيه من آثار الحاجة كما قد تبين قبل هذا أن كل جزء من العالم محتاج فلا يكون واجبا بنفسه فيكون مفتقرا إلى الصانع فثبت الصانع بهذا الطريق ثم يقولوا ويمتنع وجود حوادث لا أول لها فثبت حدوثه بهذا الطريق ولهذا كان محمد بن الهيصم ومن وافقه كالقاضي أبي خازم بنالقاضي أبي يعلى في كتابه المسمى بالتلخيص لا يسلكون في إثبات الصانع الطريق التي يسلكها أولئك المعتزلة ومن وافقهم حيث يثبتون أولا حدوث العالم بحدوث الأجسام ويجعلون ذلك هو الطريق إلى إثبات الصانع بل يبتدئون بإثبات الصانع ثم يثبتون حدوث العالم بتناهي الحوادث ولا يحتاجون أن يقولوا كل جسم محدث وبالجملة فالتقديرات أربعة فإن الحوادث إما أن يجوز دوامها وإما أن يمتنع دوامها ويجب أن يكون لها ابتداء وعلى التقديرين

فإما أن يكون كل جسم محدثا وإما أن لا يكون وقد قال بكل قول طائفة من أهل القبلة وغيرهم وكل هؤلاء يقولون بحدوث الأفلاك وأن الله أحدثها بعد عدمها ليس فيهم من يقول بقدمها فإن ذلك قول الدهرية سواء قالوا مع ذلك بإثبات عالم معقول كالعلة الأولى كما يقوله الإلهيون منهم أو لم يقولوا بذلك كما يقوله الطبيعيون منهم وسواء قالوا إن تلك العلة الأولى هي علة غائية بمعنى أن الفلك يتحرك للتشبه بها كما هو قول أرسطو وأتباعه أو قالوا إنها علة مبدعة للعالم كما يقوله ابن سينا وأمثاله أو قيل بالقدماء الخمسة كما يقوله الحرنانيون ونحوهم أو قيل بعدم صانع لها سواء قيل بوجوب ثبوت وجودها أو حدوثها لا بنفسها أو وجوب وجود المادة وحدوث الصورة بلا محدث كما يذكر عن الدهرية المحضة منهم مع أن كثيرا من الناس يقولون إن هذه الأقوال من جنس أقوال السوفسطائية التي لا تعرف عن قوم معينين وإنما هي شيء يخطر لبعض الناس في بعض الأحوال وإذا كان كذلك فقد تبين أنه ليس لهذا الإمامي وأمثاله من متأخري الإمامية والمعتزلة وموافقيهم حجة عقلية على بطلان قول إخوانهم من متقدمي الإمامية وموافقيهم الذين نازعوهم في مسائل الصفات والقرآن وما يتبع ذلك فكيف يكون حالهم مع أهل السنة الذين هم أصح عقلا ونقلا.
*

فصل
وأما قوله عن الإمامية (إنهم يقولون إنه قادر على جميع المقدورات).فهذا ملبس لا فائدة فيه فإن قول القائل إنه قادر على جميع المقدورات يراد به شيئان أحدهما أنه قادر على كل ممكن فإن كل ممكن هو مقدور بمعنى أنه يقدر القادر على فعله

والثاني أن يراد به أنه قادر على كل ما هو مقدور له لا يقدر على ما ليس بمقدور له والمعنى الأول هو مراد أهل السنة المثبتين للقدر إذا قالوا هو قادر على كل مقدور فإنهم يقولون إن الله قادر على كل ما يمكن أن يكون مقدورا لأي قادر كان فما من أمر ممكن في نفسه إلا والله قادر عليه لا يتصور عندهم أن يقدر العباد على ما لم يقدر الله عليه وهذا معنى قوله تعالى إنه على كل شيء قدير (سورة فصلت). فأما الممتنع لنفسه فإنه ليس بشيء عند عامة العقلاء وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن هل هو شيء أم لا فأما الممتنع فلم يقل أحد إنه شيء ثابت في الخارج فإن الممتنع هو ما لا يمكن وجوده في الخارج مثل كون الشيء موجودا معدوما فإن هذا ممتنع لذاته لا يعقل ثبوته في الخارج وكذلك كون الشيء أسود كله أبيض كله وكون الجسم الواحد بعينه في الوقت الواحد في مكانين والممتنع يقال على الممتنع لنفسه مثل هذه الأمور وعلى الممتنع لغيره مثل ما علم الله تعالى أنه لا يكون وأخبر أنه لا يكون وكتب أنه لا يكون فهذا لا يكون وقد يقال إنه يمتنع أن يكون لأنه لو كان للزم أن يكون علم الله بخلاف معلومه وخبره بخلاف مخبره لكن هذا هو ممكن في نفسه والله قادر عليه كما قال بلى قادرين على أن نسوي بنانه (سورة القيامة). وقال تعالى وإنا على ذهاب به لقادرون سورة

المؤمنون وقال تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو بلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض (سورة الأنعام). وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزل قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هاتان أهون ومن ذلك قوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها (سورة السجدة). ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة سورة هو ولو شاء الله ما اقتتلوا (سورة البقرة). إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء ((سورة سبأ).). وأمثال ذلك مما أخبر الله تعالى أنه لو شاء لفعله فإه هذه الأمور التي أخبر الله أنه لو شاء لفعلها تستلزم أنها ممكنة مقدورة له وقد تنازع الناس في خلاف المعلوم هل هو ممكن مقدور كإيمان

الكافر الذي علم الله أنه لا يؤمن والذين زعموا أن الله يكلف العبد ما هو ممتنع احتجوا بتكليفه وزعموا أن إيمانه ممتنع لاستلزامه انقلاب علم الله جهلا وجوابهم أن لفظ الممتنع مجمل يراد به الممتنع لنفسه ويراد به ما يمتنع لوجود غيره فهذا الثاني يوصف بأنه ممكن مقدور بخلاف الأول وإيمان من علم الله أنه لا يؤمن مقدور له لكنه لا يقع وقد علم الله أنه لا يؤمن مع كونه مستطيع الإيمان كمن علم أنه لا يحج مع استطاعته الحج ومن الناس من يدعى أن الممتنع لذاته مقدور ومنهم من يدعى إمكان أمور يعلم بالعقل امتناعها وغالب هؤلاء لا يتصور ما يقوله حق التصور أو لا يفهم ما يريده الناس بتلك العبارة فيقع الإشتراك والإشتباه في اللفظ أو في المعنى وحقيقة الأمر ما أخبر الله به في غير موضع من كتابه أنه على كل شيء قدير كما تقدم بيانه وهذا مذهب أهل السنة المثبتين للقدر وأما القدرية من الإمامية والمعتزلة وغيرهم فإذا قالوا إنه قادر على كل المقدورات لم يريدوا بذلك ما يريده أهل الإثبات وإنما يريدون بذلك أنه قادر على كل ما هو مقدور له وأما نفس أفعال العباد من الملائكة والجن والإنس فإن الله لا يقدر عليها عند القدرية وإنما تنازعوا هل يقدر على مثلها وإذا كان كذلك كان قولهم إنه قادر على كل مقدور إنما يتضمن

أنه قادر على كل ما هو مقدور له وغيره أيضا هو قادر على كل مقدور له لكن غاية ما يقولون إنه قادر على مثل مقدور العباد والعبد لا يقدر على مثل مقدور قادر آخر وبكل حال فإذا كان المراد أنه قادر على ما هو مقدور له كان هذا بمنزلة أن يقال هو عالم بكل ما يعلمه وخالق لكل ما يخلقه ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها مثل أن يقول القائل إنه فاعل لجميع المفعولات ومثل أن يقال زيد عالم بكل ما يعلمه وقادر على كل ما يقدر عليه وفاعل لكل ما يفعله فإن الشأن في بيان المقدورات هل هو على كل شيء قدير فمذهب هؤلاء الإمامية وشيوخهم القدرية أنه ليس على كل شيء قديرا وأن العباد يقدرون على ما لا يقدر عليه ولا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا ولا يقيم قاعدا باختياره ولا يقعد قائما باختياره ولا يجعل أحدا مسلما مصليا ولا صائما ولا حاجا ولا معتمرا ولايجعل الإنسان لا مؤمنا ولا كافرا ولا برا ولا فاجرا ولا يخلقه هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا فهذه الأمور كلها ممكنة ليس فيها ما هو ممتنع لذاته وعندهم أن الله لا يقدر على شيء منها فظهر تمويههم بقولهم إن الله قادر على جميع المقدورات وأما أهل السنة فعندهم أن الله تعالى على كل شيء قدير وكل ممكن فهو مندرج في هذا وأما المحال لذاته مثل كون الشيء الواحد موجودا معدوما فهذا لا حقيقة له ولا يتصور وجوده ولا يسمى شيئا باتفاق العقلاء ومن هذا الباب خلق مثل نفسه وأمثال ذلك

وأما قوله إنه عدل حكيم لا يظلم أحدا ولا يفعل القبيح وإلا لزم الجهل أو الحاجة تعالى الله عنهما فيقال له هذا متفق عليه بين المسلمين من حيث الجملة أن الله لا يفعل قبيحا ولا يظلم أحدا ولكن النزاع في تفسير ذلك فهو إذا كان خالقا لأفعال العباد هل يقال إنه فعل ما هو قبيح منه وظلم أم لا فأهل السنة المثبتون للقدر يقولون ليس هو بذلك ظالما ولا فاعلا قبيحا والقدرية يقولون لو كان خالقا لأفعال العباد كان ظالما فاعلا لما هو قبيح منه وأما كون الفعل قبيحا من فاعله فلا يقتضى أن يكون قبيحا من خالقه كما أن كونه أكلا وشربا لفاعله لا يقتضى أن يكون كذلك لخالقه لأن الخالق خلقه في غيره لم يقم بذاته فالمتصف به من قام به الفعل لا من خلقه في غيره كما أنه إذا خلق لغيره لونا وريحا وحركة وقدرة وعلماكان ذلك الغير هو المتصف بذلك اللون والريح والحركة والقدرة والعلم فهو المتحرك بتلك الحركة والمتلون بذلك اللون والعالم بذلك العلم والقادر بتلك القدرة فكذلك إذا خلق في غيره كلاما أو صلاة أو صياما أو طوافا كان ذلك الغير هو المتكلم بذلك الكلام وهو المصلي وهو الصائم وهو الطائف وكذلك إذا خلق في غيره رائحة خبيثة منتنة كان هو الخبيث المنتن ولم يكن الرب تعالى موصوفا بما خلقه في غيره وإذا خلق الإنسان هلوعا جزوعا كما أخبر تعالى بقوله إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا (سورة المعارج). لم يكن هو سبحانه لا هلوعا ولا جزوعا ولا منوعا كما تزعم القدرية أنه إذا جعل الإنسان ظالما كاذبا كان هو ظالما كاذبا تعالى عن ذلك وهذا يدل على قول جماهير المثبتين للقدر القائلين بأنه خالق أفعال العباد فإنهم يقولون إن الله تعالى خالق العبد وجميع ما يقوم به من إرادته وقدرته وحركاته وغير ذلك وذهبت طائفة منهم من الكرامية وغيرهم كالقاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى إلى أن معنى كونه خالقا لأفعال العباد أنه خالق


للأسباب التي عندها يكون العبد فاعلا ويمتنع ألا يكون فاعلا فما علم الله أن العبد يفعله خلق الأسباب التي يصير بها فاعلا ويقولون إن أفعال العباد وجدت من جهته لا من جهة الله ويقولون إن الله تعالى موجدها كما قالوا إن الله خالقها ويقولون إنه لم يكونها ولم يجعلها ويقولون إن العبد تحدث له إرادة مكتسبة لكن قد يقولون إنها بإرادة ضرورية يخلقها الله كما ذكر ذلك القاضي أبو خازم وغيره وقد يقولون بل العبد يحدث إرادته مطلقا كما قالته القدرية لكن هؤلاء يقولون إن الرب يسر خلق الأسباب التي تبعث داعية على إيقاع ما يعلم أنه يوقعه ولكن على قول الجمهور من قال إن الفعل هو المفعول كما يقوله الجهم بن صفوان ومن وافقه كالأشعري وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يقول إن أفعال العباد هي فعل الله فإن قال أيضا وهي فعل لهم لزمه أن يكون الفعل الواحد لفاعلين كما يحكى عن أبي إسحاق الإسفراييني وإن لم يقل هي فعل لهملزمه أن تكون أفعال العباد فعلا لله لا لعباده كما يقوله جهم بن صفوان والأشعري ومن وافقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم الذين يقولون إن الخلق هو المخلوق وإن أفعال العباد خلق لله عز وجل فتكون هي فعل الله وهي مفعول الله كما أنها خلقه وهي مخلوقة وهؤلاء لا يقولون إن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة ولكن هم مكتسبون لها وإذا طولبوا بالفرق بين الفعل والكسب لم يذكروا فرقا معقولا ولهذا كان يقال عجائب الكلام ثلاثة أحوال أبي هاشم وطفرة النظام وكسب الأشعري

وهذا الذي ينكره الأئمة وجمهور العقلاء ويقولون إنه مكابرة للحس ومخالفة للشرع والعقل وأما جمهور أهل السنة المتبعون للسلف والأئمة فيقولون إن فعل العبد فعل له حقيقة ولكنه مخلوق لله ومفعول لله لا يقولون هو نفس فعل الله ويفرقون بين الخلق والمخلوق والفعل والمفعول وهذا الفرق الذي حكاه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد عن العلماء قاطبة وهو الذي ذكره غير واحد من السلف والأئمة وهو قول الحنفية وجمهور المالكية والشافعية والحنبلية وحكاه البغوي عن أهل السنة قاطبة وحكاه الكلاباذي صاحب التعرف لمذهب التصوف عن جميع الصوفية وهو قول أكثر طوائف أهل الكلام من الهشاميةوكثير من المعتزلة والكرامية وهو قول الكلابية أيضا أئمة الأشعرية فيما ذكره أبو علي الثقفي وغيره على قول الكرامية وأثبتوا لله فعلا قائما بذاته غير المفعول كما أثبتوا له إرادة قديمة قائمة بذاته وذكر سائر الإعتقاد الذي صنفوه لما جرى بينهم وبين ابن خزيمة نزاع في مسألة القرآن لكن ما أدري هل ذلك قول ابن كلاب نفسه أو قالوه هم بناء على هذا الأصل المستقر عندهم ثم القدر فيه نزاع بين الإمامية كما بينهم النزاع في الصفات قال أبو الحسن الأشعري في المقالات واختلفت الرافضة في أعمال العباد هل هي مخلوقة وهي ثلاث فرق فالفرقة الأولى منهم وهم هشام بن الحكميزعمون أن أعمال العباد مخلوقة لله قال وحكى جعفر بن حرب عن هشام بن الحكم أنه كان يقول إن أفعال الإنسان اختيار له من وجه اضطرار له من وجه اختيار له من وجه أنه أرادها واكتسبها واضطرار من جهة أنها لا تكون منه إلا عند حدوث السبب المهيج عليه قال والفرقة الثانية منهم يزعمون أن لا جبر كما قال الجهمي ولا تفويض كما قالت المعتزلة لأن الرواية عن الأئمة زعموا جاءت بذلك ولم يتكلفوا أن يقولوا في أفعال العباد هل هي مخلوقة أم لا شيئا والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن أعمال العباد غير

مخلوقة لله وهذا قول قوم يقولون بالإعتزال والإمامة فإذن كانت الإمامية على ثلاثة أقوال منهم من يوافق المثبتة ومنهم من يوافق المعتزلة ومنهم من يقف والواقفة معنى قولهم هو معنى قول أهل السنة ولكن توقفوا في إطلاق اللفظ فإن أهل السنة لا يقولون بالتفويض كما تقول القدرية ولا بالجبر كما تقول الجهمية بل أئمة السنة كالأوزاعي والثوري وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم متفقون على إنكار قول الجبرية المأثور عن جهم بن صفوان وأتباعه وإن كان الأشعري يقول بأكثره وينفى الأسباب والحكم فالسلف مثبتون للأسباب والحكمة والمقصود أن الإمامية إذا كان لهم قولان كانوا متنازعين في ذلك كتنازع سائر الناس لكنهم فرع على غيرهم في هذا وغيره فإن مثبتيهم تبع للمثبتة ونفاتهم تبع للنفاة إلا ما اختصوا به من افتراء الرافضة فإن الكذب والجهل والتكذيب بالحق الذي اختصوا به لم يشركهم فيه أحد من طوائف الأمة وأما ما يتكلمون به في سائر مسائلالعلم أصوله وفروعه فهم فيه تبع لغيرهم من الطوائف يستعيرون كلام الناس فيتكلمون به وما فيه من حق فهو من أهل السنة لا ينفردون عنهم بمسألة واحدة صحيحة لا في الأصول ولا في الفروع إذ كان مبدأ بدعة القوم من قوم منافقين لا مؤمنين وحينئذ فهذا النافي يناظر أصحابه في ذلك وهو لم يذكر حجة وقد تقدم تفصيل مذاهب أهل السنة في ذلك وقد ذكر أصحابه عن الأئمة ما يخالف قوله في ذلك وأما قوله إن الله يثيب المطيع ويعفو عن العاصي أو يعذبه فهذا مذهب أهل السنة الخاصة وسائر من انتسب إلى السنة والجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية وسائر فرق الأمة من المرجئة وغيرهم والخلاف في ذلك مع الخوارج والمعتزلة فإنهم يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار وأما الشيعة فالزيدية منهم أو أكثر الزيدية تقول بقول المعتزلة في ذلك والإمامية على قولين

قال الأشعري وأجمعت الزيدية أن أصحاب الكبائر كلهم معذبون في النار خالدون فيها مخلدون أبدا لا يخرجون منها ولا يغيبون عنها قال واختلفت الروافض في الوعيد وهم فرقتان فالفرقة الأولى منهم يثبتون الوعيد على مخالفيهم ويقولون إنهم يعذبون ولا يقولون بإثبات الوعيد فيمن قال بقولهم ويزعمون أن الله يدخلهم الجنة وإن أدخلهم النار أخرجهم منها ورووا في ذلك عن أئمتهم أن ما كان بين الله وبين الشيعة من المعاصي سألوا الله فيهم فصفح عنهم وما كان بين الشيعة وبين الأئمة تجاوزوا عنه وما كان بين الشيعة وبين الناس من المظالم شفعوا لهم أئمتهم حتى يصفحوا عنهمقال والفرقة الثانية منهم يذهبون إلى إثبات الوعيد وأن الله عز وجل يعذب كل مرتكب للكبائر من أهل مقالتهم كان أو من غير أهل مقالتهم ويخلدهم في النار وهذا قول أئمة هذا الإمامي من المعتزلة ونحوهم وأما قوله ويثيب المطيع لئلا يكون ظالما فقد قدمنا أن للمثبتين للقدر في تفسير الظلم الذي يجب تنزيه الله عنه قولين أحدهما أن الظلم هو الممتنع لذاته وهو المحال لذاته وإن كان ما يمكن أن يكون فالرب قادر عليه وكل ما كان قادرا عليه لا يكون ظالما وهذا قول الجهم والأشعري وموافقيهما وقول كثير من السلف والخلف أهل السنة والحديث ويروى عن إياس بن معاوية قال ما ناظرت بعقلي كله إلا القدريةقلت لهم أخبروني عن الظلم ماهو قالوا التصرف في ملك غيره قلت فلله كل شيء وهذا قول كثير من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم

فعلى هذا القول لا يقال يثيب الطائع لئلا يكون ظلما فإن الممتنع لذاته الذي لا يكون مقدورا لا يتصور وقوعه فأي شيء كان مقدورا وفعل لم يكن ظلما عند هؤلاء وهؤلاء يجوزون أن يعذب الله العبد في الدنيا والآخرة بلا ذنب كما يجوزون تعذيب أطفال الكفار ومجانينهم بلا ذنب ثم من هؤلاء من يقطع بدخول أطفال الكفار النار ومنهم من يجوزه ويتوقف فيه وطائفة من أصحاب أحمد يقطعون بذلك وينقلونه عن أحمد وهو خطاء على أحمد بل نصوص أحمد المتواترة عنه وعن غيره من الأئمة مطابقة للأحاديث الصحيحة في ذلك وهؤلاء إنما اشتبه عليهم الأمر لأن أحمد سئل عنهم في بعض أجوبته فأجاب بالحديث الصحيح الله أعلم بما كانوا عاملين فظن هؤلاء أن أحمد أجاب بحديث روى عن خديجة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين فقال إنهم في النار فقالت بلا عمل فقال الله أعلم بما كانوا عاملين وهذا الحديث كذب موضوع عند أهل الحديث ومن هو دون أحمد من أئمة الحديث يعرف هذا فضلا عن مثل أحمدوأحمد لم يجب بهذا وإنما أجاب بالحديث الذي في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبي هريرة اقرؤا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها (سورة الروم). قالوا يا رسول الله أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير فقالالله أعلم بما كانوا عاملين وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أطفال المشركين فقال

الله أعلم بما كانوا عاملين وقد بسط الكلام على هذا الأحاديث وأقوال الناس في هذه المسألة ونحوها في غير هذا الموضع مثل كتاب رد تعارض العقل والنقل وغير ذلك والقول الثاني أن الظلم ممكن مقدور وأنه منزه عنه لا يفعله لعلمه وعدله فهو لا يحمل على أحد ذنب غيره قال تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى (سورة الإسراء). ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (سورة طـــه). وعلى هذا فعقوبة الإنسان بذنب غيره ظلم ينزه الله عنه وأماإثابة المطيع ففضل منه وإحسان وإن كان حقا واجبا بحكم وعده باتفاق المسلمين وبما كتبه على نفسه من الحرمة وبموجب أسمائه وصفاته فليس هو من جنس ظلم الأجير الذي استؤجر ولم يوف أجره فإن هذا معاوضة والمستأجر استوفى منفعته فإن لم يوفه أجره ظلمه والله تعالى هو المحسن إلى العباد بأمره ونهيه وبإقداره لهم على الطاعة وبإعانتهم على طاعته وهم كما قال تعالى في الحديث الصحيح الإلهي يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ياعبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم مانقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص مما عندي إلا

كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرى فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه فبين أن الخير الموجود من الثواب مما يحمد الله عليه لأنه المحسن به وبأسبابه وأما العقوبة فإنه عادل فيها فلا يلومن العبد إلا نفسه كما قيل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل وأصحاب هذا القول يقولون الكتاب والسنة إنما تدل على هذا القول والله قد نزه نفسه في غير موضع عن الظلم الممكن المقدور مثل نقص الإنسان من حسناته وحمل سيئات غيره عليه وأما خلق أفعال العباد واختصاصه أهل الإيمان بإعانتهم على الطاعة فليس هذا من الظلم في شيء باتفاق أهل السنة والجماعة وسائر المثبتين للقدر من جميع الطوائف ولكن القدرية تزعم أن ذلك ظلم وتتكلم في التعديل والتجوير بكلام متناقض فاسد كما قد بين في موضعه

وأما قوله أو يعذبه بجرمه من غير ظلم له فهذا متفق عليه بين المسلمين أن الله تعالى ليس ظالما بتعذيب العصاة وهم على ما تقدم من التنازع في مسمى الظلم هذا يقول لأن الظلم منه ممتنع وهذا يقول إنه وضع العقوبة موضعنا والظلم وضع الشيء في غير موضعه كما تقول العرب من أشبه أباه فما ظلم ومعلوم أن الواحد من العباد إذا عذب الظالم على ظلمه بالعدل لم يكن ظالما له وإن اعتقد أن الله خلق فعله وأنه تحت القضاء والقدر فإذا لم يكن المخلوق ظالما للمخلوق إذا عاقبه بظلمه وإن كان يعلم أن ذلك مقدر عليه فالخالق أولى أن لا يكون ظالما له وإن كان ما فعله مقدرا هذا مع ما أنه يحسن منه سبحانه بحكمته ما لا يحسن من الناس فإن الواحد من الناس لو رأى مماليكه يزنى بعضهم ببعض ويظلم بعضهم بعضا وهو قادر على منعهم ولم يمنعهم لكان مذموما بذلك مستحقا للوم والعقاب والبارئ تعالى يرى ما يفعله بعض مماليكه من ظلم وفاحشة وهو قادر على منعهم فلا يمنعهم وهو سبحانه حميد مجيد منزه عن استحقاق الذم فضلا عن عقاب إما لما له في ذلك منالحكمة على قول الأكثرين وإما لمحض المشيئة والإرادة على قول نفاة التعليل والإرادة من المثبتين للقدر فإذا كان يحسن منه من الأفعال ما لا يحسن من البشر بطل قياسه على خلقه وكان ما يحسن منا من عقوبة الظالم لا يقبح منه بطريق الأولى والأحرى فإن ما ينزه عنه من النقائص فهو أولى بتنزيهه وله من الحمد ما لا يستحقه غيره وأما قوله وأن أفعاله محكمة واقعة لغرض ومصلحة وإلا لكان عابثا فقد تقدم أن لأهل السنة الذين ليسوا بإمامية قولين في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه وأن الأكثرين على التعليل والحكمة هل هي منفصلة عن الرب لا تقوم به أو قائمة به مع ثبوت الحكم المنفصلة أيضا فيه قولان لهم وهل تتسلسل الحكم أو لا تتسلسل أو تتسلسل في المستقبل دون الماضي هذا فيه أقوال لهم

وأما لفظ الغرض فتطلقه طائفة من أهل الكلام كالقدرية وطائفة من المثبتين للقدر أيضا يقولون إنه يفعل لغرض كما ذكر ذلك من يذكره من مثبتة القدر أهل التفسير والفقه وغيرهم ولكن الغالب على الفقهاء وغيرهم من المثبتين للقدر أنهم لا يطلقون لفظ الغرض وإن أطلقوا لفظ الحكمة لما فيه من إيهام الظلم والحاجة فإن الناس إذا قالوا فلان فعل هذا لغرض وفلان له غرض مع فلان كثيرا ما يعنون بذلك المراد المذموم من ظلم وفاحشة أو غيرهما والله تعالى منزه عن أن يريد ما يكون مذموما بإرادته وأما قوله إنه أرسل الرسل لإرشاد العالم فهكذا يقول جماهير أهل السنة أن الله تعالى أرسل محمدا صلىالله عليه وسلم رحمة للعالمين والذين يمتنعون من التعليل يقولون أرسله وجعل إرساله رحمة في حق من آمن به أو في حقه وحق غيره ويقولون هذه الرحمة جعلت عند ذلك كما يقولون في سائر الأمورالتي حصل عندها آثار فإن الجمهور المثبتين للحكمة يقولون فعل كذا لأجل ذلك وفعل كذا بكذا وأولئك يقولون فعل عنده لا به ولا له وأما قوله وأنه تعالى غير مرئي ولا مدرك بشيء من الحواس لقوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار (سورة الأنعام). ولأنه ليس في جهة فيقال له أولا النزاع في هذه المسألة بين طوائف الإمامية كما النزاع فيها بين غيرهم فالجهمية والمعتزلة والخوارج وطائفة من غير الإمامية تنكرها والإمامية لهم فيها قولان فجمهور قدمائهم يثبت الرؤية وجمهور متأخيريهم ينفونها وقد تقدم أن أكثر قدمائهم يقولون بالتجسيم

قال الأشعري وكل المجسمة إلا نفرا قليلا يقول بإثبات الرؤية وقد يثبت الرؤية من لا يقول بالتجسيم قلت وأما الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة وأبي يوسف وأمثال هؤلاء وسائر أهل السنة والحديث والطوائف المنتسبين إلى السنة والجماعة كالكلابية والأشعرية والسالمية وغيرهم فهؤلاء كلهم متفقون على إثبات الرؤية لله تعالى والأحاديث بها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بحديثه وكذلك الآثار بها متواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وقد ذكر الإمام أحمد وغيره من الأئمة العالمين بأقوال السلف أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان متفقون على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار ومتفقون على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة منهم من نفى رؤيته بالعين في الدنيا ومنهم من أثبتها وقد بسطت هذه الأقوال والأدلة من الجانبين في غير هذا الموضع والمقصود هنا نقل إجماع السلف على أثبات الرؤية

بالعين في الآخرة ونفيها في الدنيا إلا الخلاف في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وأما احتجاجه واحتجاج النفاة أيضا بقوله تعالى لا تدركه الأبصار (سورة الأنعام). فالآية حجة عليهم لا لهم لأن الإدراك إما أن يراد به مطلق الرؤية أو الرؤية أو الرؤية المقيدة بالإحاطة والأول باطل لأنه ليس كل من رأى شيئا يقال إنه أدركه كما لا يقال أحاط به كما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال ألست ترى السماء قال بلى قال أكلها ترى قال لا ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل أو البستان أو المدينة لا يقال إنه أدركها وإنما يقال أدركها إذا أحاط بها رؤية ونحن في هذا المقام ليس علينا بيان ذلك وإنما ذكرنا هذا بيانا لسند المنع بل المستدل بالآية عليه أن يبين أن الإدراك في لغة العرب مرادف للرؤية وأن كل من رأى شيئا يقال في لغتهم إنه أدركه وهذا لا سبيل إليه كيف وبين لفظالرؤية ولفظ الإدراك عموم وخصوص أو اشتراك لفظي فقد تقع رؤية بلا إدراك وقد يقع إدراك بلا رؤية فإن الإدراك يستعمل في إدراك العلم وإدراك القدرة فقد يدرك الشيء بالقدرة وإن لم يشاهد كالأعمى الذي طلب رجلا هاربا منه فأدركه ولم يره وقد قال تعالى فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين (سورة الشعراء). فنفى موسى الإدراك مع إثبات الترائي فعلم أنه قد يكون رؤية بلا أدراك والإدراك هنا هو إدراك القدرة أي ملحوقون محاط بنا وإذا انتفى هذا الإدراك فقد تنتفى إحاطة البصر أيضا ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكره هذه الآية يمدح بها نفسه

سبحانه وتعالى ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح لأن النفى المحض لا يكون مدحا إن لم يتضمن أمرا ثبوتيا ولأن المعدوم أيضا لا يرى والمعدوم لا يمدح فعلم أن مجرد نفى الرؤية لا مدح فيه وهذا أصل مستمر وهو أن العدم المحض الذي لا يتضمن ثبوتا لا مدح فيه ولا كمال فلا يمدح الرب نفسه به بل ولا يصف نفسه به وإنما يصفها بالنفي المتضمن معنى ثبوت كقوله لا تأخذه سنة ولا نوم وقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقوله ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وقوله ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم (سورة البقرة). وقوله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ((سورة سبأ).). وقوله وما مسنا من لغوب (سورة ق). ونحو ذلك من القضايا السلبية التي يصف الرب تعالى بها نفسه وأنها تتضمن اتصافه بصفات الكمال الثبوتية مثل كمال حياته وقيوميته وملكه وقدرته وعلمه وهدايته وانفراده بالربوبية والإلهية ونحو ذلك وكل ما يوصف به العدم المحض فلا يكون إلا عدما محضا ومعلوم أن العدم المحض يقال فيه إنه لايرى فعلم أن نفى الرؤية عدم محض ولا يقال في العدم المحض لا يدرك وإنما يقال هذا فيما لا يدرك لعظمته لا لعدمه وإذا كان المنفى هو الإدراك فهو سبحانه وتعالى لا يحاط بهرؤية كما لا يحاط به علما ولا يلزم من نفى إحاطة العلم والرؤية نفى العلم والرؤية بل يكون ذلك دليلا على أنه يرى و يحاط به كما يعلم ولا يحاط به فإن تخصيص الإحاطة بالنفي يقتضي أن مطلق الرؤية ليس بمنفى وهذا الجواب قول أكثر العلماء من السلف وغيرهم وقد روى معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره وقد روى في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحتاج

الآية إلى تخصيص ولا خروج عن ظاهر الآية فلا نحتاج أن نقول لا نراه في الدنيا أو نقول لا تدركه الأبصار بل المبصرون أو لا تدركه كلها بل بعضها ونحو ذلك من الأقوال التي فيها تكلف ثم نحن في هذا المقام يكفينا أن نقول الآية تحتمل ذلك فلا يكون فيها دلالة على نفي الرؤية فبطل استدلال من استدل بها على الرؤية وإذا أردنا أن نثبت دلالة الآية على الرؤية مع نفيها للإدراك الذي هو الإحاطة أقمنا الدلالة على أن الإدراك في اللغة ليس هو مرادفا للرؤية بل هو أخص منها وأثبتنا ذلك باللغة وأقوال المفسرين من السلف وبأدلة أخرى سمعية وعقلية وأما قوله ولأنه ليس في جهة فيقال للناس في إطلاق لفظ الجهة ثلاثة أقوال فطائفة تنفيها وطائفة تثبتها وطائفة تفصل وهذا النزاع موجود في المثبتة للصفات من أصحاب الأئمة الأربعة وأمثالهم ونزاع أهل الحديث والسنة الخاصة في نفى ذلك وإثباتهنزاع لفظي ليس هو نزاعا معنويا ولهذا كان طائفة من أصحاب الإمام أحمد كالتميميين والقاضي أبي يعلى في أول قولية تنفيها وطائفة أخرى أكثر منهم تثبتها وهو آخر قولى القاضي والمتبعون للسلف لا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا تبين أن ما أثبت بها فهو ثابت وما نفى بها فهو منفى لأن المتأخرين قد صار لفظ الجهة في اصطلاحهم فيه إجمال وإبهام كغيرها من ألفاظهم الإصطلاحية فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي ولهذا كان النفاة ينفون بها حقا وباطلا ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به وبعض المثبتين لها يدخل فيها معنى باطلا مخالفا لقول السلف ولما دل عليه الكتاب والميزان

وذلك أن لفظ الجهة قد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله كان مخلوقا والله تعالى لا يحصره ولا يحيط به شيء من المخلوقات فإنه بائن من المخلوقات وإن أريد بالجهة أمر عدمى وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده فإذا قيل إنه في جهة إن كان معنى الكلام أنه هناك فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع عال عليه ونفاة لفظ الجهة يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة وأنه كان قبل الجهة وأنه من قال إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم أو أنه كان مستغنيا عن الجهة ثم صار فيها وهذه الأقوال ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات سواء سمى جهة أو لم يسم وهذا حق فإنه سبحانه منزه عن أن تحيط به المخلوقات أو أن يكون مفتقرا إلى شيء منها العرش أو غيره ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إلى سماء الدنيا كما جاء الحديث يكون العرش فوقه ويكون محصورا بين طبقتين منالعالم فقوله مخالف لإجماع السلف مخالف للكتاب والسنة كما قد بسط في موضعه وكذلك توقف من توقف في نفى ذلك من أهل الحديث فإنما ذلك لضعف علمه بمعانى الكتاب والسنة وأقوال السلف ومن نفى الجهة وأراد بالنفي كون المخلوقات محيطة به أو كونه مفتقرا إليها فهذا حق لكن عامتهم لا يقتصرون على هذا بل ينفون أن يكون فوق العرش رب العالمين أو أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم عرج به إلى الله أو أن يصعد إليه شيء وينزل منه شيء أو أن يكون مباينا للعالم بل تارة يجعلونه لا مباينا ولا محايثا فيصفونه بصفة المعدوم والممتنع وتارة يجعلونه حالا في كل موجود أو يجعلونه وجود كل موجود ونحو ذلك مما يقوله أهل التعطيل وأهل الحلول

وإذا كان كذلك فهو قد استدل على عدم الرؤية بكونه ليس في جهة وهذا الموضع مما تنازع فيه مثبتو الرؤية فقال الجمهور بما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته وهذا الحديث متفق عليه من طرق كثيرة وهو مستفيض بل متواتر عند أهل العلم بالحديث اتفقوا على صحته مع أنه جاء من وجوه كثيرة قدجمع طرقها أكثر أهل العلم بالحديث كأبي الحسن الدارقطنى وأبي نعيم الأصبهاني وأبي بكر الآجري وغيرهم وقد أخرج أصحاب الصحيح ذلك من وجوه متعددة توجب لمن كان عارفا بها العلم القطعي بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك وقالت طائفة إنه يرى لا في جهة لا أما الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته وهذا هو المشهور عند متأخري الأشعرية فإن هذا مبنى على اختلافهم في كون البارئ تعالى فوق العرش فالأشعري وقدماء أصحابه كانوا يقولون إنه بذاته فوق العرش وهو مع ذلك ليس بجسموعبدالله بن سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي كانوا يقولون بذلك بل كانوا أكمل إثباتا من الأشعري فالعلو عندهم من الصفات العقلية وهو عند الأشعري من الصفات السمعية ونقل ذلك الأشعري عن أهل السنة والحديث كما فهمه عنهم وكان أبو محمد بن كلاب هو الأستاذ الذي اقتدى به الأشعري في طريقه هو وأئمة أصحابه كالحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وأبي سليمان الدمشقي وأبي حاتم البستى وخلق كثير يقولون إن اتصافه بأنه مباين للعالم عال عليه هو من الصفات المعلومة بالعقل كالعلم والقدرة وأما الإستواء على العرش فهو من الصفات الخبرية وهذا قول كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وأكثر أهل

الحديث وهو آخر قولى القاضي أبي يعلى وقول أبي الحسن بن الزاغوني وهو قول كثير من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم وأما الأشعري فالمشهور عنه أن كليهما صفة خبرية وهو قول كثير من أتباع الأئمة الأربعة وهو أول قولى القاضي أبي يعلى وقول التميميين وغيرهم من أصحابه وكثير من متأخري أصحاب الأشعري أنكروا أن يكون الله فوق العرش أو في السماء وهؤلاء الذين ينفون الصفات الخبرية كأبي المعالي وأتباعه فإن الأشعري وأئمة أصحابه يثبتون الصفات الخبريةوهؤلاء ينفونها فنفوا هذه الصفة لأنها على قول الأشعري من الصفات الخبرية ولما لم تكن هذه الصفة عند هؤلاء عقلية قالوا إنه يرى لا في جهة وجمهور الناس من مثبتة الرؤية ونفاتها يقولون إن قول هؤلاء معلوم الفساد بضرورة العقل كقولهم في الكلام ولهذا يذكر أبو عبدالله الرازي أنه لا يقول بقولهم في مسألة الكلام والرؤية أحد من طوائف المسلمين ونحن نسلك طريقين من البيان أحدهما نبين فيه أن هؤلاء الذين رد عليهم من مثبتى الرؤية كالأشعري وغيره أقرب إلى الصواب من قول النفاة الثاني نبين في الحق بيانا مطلقا لا نذب فيه عن أحد الطريق الأول أن نبين أن هذه الطائفة وغيرها من الطوائف المثبتة للرؤية أقل خطأ وأكثر صوابا من نفاة الرؤية ونقول لهؤلاء النفاة للرؤية أنتم أكثرتم التشنيع على الأشعرية ومن وافقهم من أتباع الأئمة في مسألة الرؤية ونحن نبين أنهم أقرب إلى الحق منكم نقلا

وعقلا وأن قولهم إذا كان فيه خطأ فالخطأ الذي في قولكم أعظم وأفحش عقلا ونقلا فإذا قلتم هؤلاء إذا أثبتوا مرئيا لا في جهة كان هذا مكابرة للعقل قيل لكم لا يخلو إما أن تحكموا في هذا الباب العقل وإما أن لا تحكموه فإن لم تحكموه بطل قولكم وإن حكمتموه فقول من أثبت موجودا قائما بنفسه يرى أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجودا قائما بنفسه لا يرى ولا يمكن أن يرى وذلك لأن الرؤية لا يجوز أن يشترط في ثبوتها أمور عدمية بل لا يشترط في ثبوتها إلا أمور وجودية ونحن لا ندعى هنا أن كل موجود يرى كما ادعى ذلك من ادعاه فقامت عليه الشناعات فإن ابن كلاب ومن اتبعه من أتباع الأئمةالأربعة وغيرهم قالوا كل قائم بنفسه يرى وهكذا قالت الكرامية وغيرهم فيما أظن وهذه الطريقة التي سلكها ابن الزاغوني من أصحاب أحمد وأما الأشعري فادعى أن كل موجود يجوز أن يرى ووافقه على ذلك طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى وغيره ثم طرد قياسه فقال كل موجود يجوز أن تتعلق به الإدراكات الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس ووافقه على ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي والرازي وكذلك القاضي أبو يعلى وغيرهم وخالفهم غيرهم فقالوا لا نثبت في ذلك الشم والذوق واللمس ونفوا جواز تعلق هذه بالبارئ والأولون جوزوا تعلق الخمس بالبارئ وآخرون من أهل الحديث وغيرهم أثبتوا ما جاء به السمع من اللمس دون الشم والذوق وكذلك المعتزلة منهم من أثبت جنس الإدراك كالبصريين ومنهم من نفاه كالبغداديين والمقصود هنا بأن المثبتة ولو أخطأوا في بعض كلامهم فهم أقرب إلى الحق نقلا وعقلا من نفاة الرؤية فنقول من الأشياء ما يرى ومنها ما لا يرى والفارق بينهما لا يجوز أن يكون أمورا عدمية لأن الرؤية أمر وجودي والمرئى لا يكون إلا موجودا فليست عدمية لا تتعلق بالمعدوم ولا يكون الشرط فيه

إلا أمرا وجوديا لا يكون عدميا وكل ما لا يشترط فيه إلا الوجود دون العدم كان بالوجود الأكمل أولى منه بالأنقص فكل ما كان وجوده أكمل كان أحق بأن يرى وكل ما لم يمكن أن يرى فهو أضعف وجودا مما يمكن أن يرى فالأجسام الغليظة أحق بالرؤية من الهواء والضياء أحق بالرؤية من الظلام لأن النور أولى بالوجود والظلمة أولى بالعدم والموجود الواجب الوجود أكمل الموجودات وجودا وأبعد الأشياء عن العدم فهو أحق بأن يرى وإنما لم نره لعجز أبصارنا عن رؤيته لا لأجل امتناع رؤيته كما أن شعاع الشمس أحق بأن يرى من جميع الأشياء ولهذا مثل النبي صلى الله عليه وسلم رؤية الله به فقال ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر شبه الرؤية بالرؤية وإن لم يكن المرئى مثل المرئى ومع هذا فإذا حدق البصر في الشعاع ضعف عن رؤيته لا لامتناع في ذات المرئى بل لعجز الرائى فإذا كان في

الدار الآخرة أكمل الله تعالى الآدميين وقواهم حتى أطاقوا رؤيته ولهذا لما تجلى الله عز وجل للجبل خر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين (سورة الأعراف). قيل أول المؤمنين بأنه لا يراك حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده فهذا للعجز الموجود في المخلوق لا لامتناع في ذات المرئى بل كان المانع من ذاته لم يكن إلا لنقص وجوده حتى ينتهى الأمر إلى المعدوم الذي لا يتصور أن يرى خارج الرائي ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته إلا من أيده الله كما أيد نبينا صلى الله عليه وسلم قال تعالى وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (سورة الأنعام). قال غير واحد من السلف هم لا يطيقون أن يروا الملك في صورته فلو أنزلنا إليهم ملكا لجعلناه في صورة بشر وحينئذ كان يشتبه عليهم هل هو ملك أو بشر فما كانوا ينتفعون بإرسال الملك إليهم فأرسلنا إليهم بشرا من جنسهم يمكنهم رؤيته والتلقي عنه وكان هذا من تمام الإحسان إلى الخلق والرحمة ولهذا قال تعالى وما صاحبكم بمجنون سورة التكوير

ولا مماسة ولا يتميز منه جانب عن جانب كان هذا مكابرة فيقال لكم أنتم يانفاة الرؤية تقولون ومن وافقكم من المثبتين للرؤية إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا محايث له فإذا قيل لكم هذا خلاف المعلوم بضرورة العقل فإن العقل لا يثبت شيئين موجودين إلا أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو داخلا فيه كما يثبت الأعيان المتباينة والأعراض القائمة بها وأما إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه فهذا مما يعلم العقل استحالته وبطلانه بالضرورة قلتم هذا النفى حكم الوهم لا حكم العقل وجعلتم في الفطرة حاكمين أحدهما الوهم والآخر العقل مع أن المعنى الذي سميتموه حاكمين أحدهما الوهم والآخر العقل مع أن المعنى الذي سميتموه الوهم قلتم هو القوة التي تدرك معاني جزئية غير محسوسة في الأعيان المحسوسة كالعداوة والصداقة كما تدرك الشاة معنى في الذئب ومعنى في الكبش فتميل إلى هذا وتنفر عن هذا وإذا كان الوهم إنماوقال ما ضل صاحبكم وما غوى (سورة النجم). وقال لقد جاءكم رسول من أنفسكم (سورة التوبة). وقال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم (سورة إبراهيم). ونحو ذلك من الآيات فإن قلتم هؤلاء يقولون إنه يرى لا في جهة وهذه مكابرة فيقال هذا قالوه بناء على الأصل الذي اتفقتم أنتم وهم عليه وهو أنه ليس في جهة ثم إذا كان الكلام مع الأشعري وأئمة أصحابه ومن وافقهم من أصحاب الحديث أصحاب أحمد وغيره كالتميميين وابن عقيل وغيرهم فيقال هؤلاء يقولون إنه فوق العالم بذاته وإنه ليس بجسم ولا متحيز فإن قلتم هذا القول مكابرة للعقل لأنه إذا كان فوق العالم فلا بد أن يتم منه جانب عن جانب وإذا تميز منه جانب عن جانب كان جسما فإذا أثبتوا موجودا قائما بنفسه فوق العرش لا يوصف بمحاذاة

يدرك أمورا معينة فهذه القضايا التي نتكلم فيها قضايا كلية عامة والقضايا الكلية العامة هي للعقل لا للحس ولا للوهم الذي يتبع الحس فإن الحس لا يدرك إلا أمورا معينة وكذلك الوهم عندكم وقد بسط الرد على هؤلاء في غير هذا الموضع لكن المقصود هنا بيان أن قول أولئك أقرب من قولهم فيقال إذا عرضنا على العقل وجود موجودا لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا محايث له ووجود موجود مباين للعالم فوقه وهو ليس بجسم كان تصديق العقل بالثاني أقوى من تصديقه بالأول وهذا موجود في فطرة كل أحد فقبول الثاني أقرب إلى الفطرة ونفورها عن الأول أعظم فإن وجب تصديقكم في ذلك القول الذي هو عن الفطرة أبعد كان تصديق هؤلاء في قولهم أولى وحينئذ فليس لكم أن تحتجوا على بطلان قولهم بحجة إلا وهي على بطلان قولكم أدل فإذا قلتم وجود موجود فوق العالم ليس بجسم لا يعقل قيل لكم كما أن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه لا يعقلفإذا قلتم نفى هذا من حكم الوهم قيل لكم إن كان هذا النفى من حكم الوهم وهو غير مقبول فذلك النفى من حكم الوهم وهو غير مقبول بطريق الأولى فإذا قلتم حكم الوهم الباطل أن يحكم في أمور غير محسوسة حكمه في أمور محسوسه قيل لكم أجوبة أحدها أن هذا يبطل حجتكم على بطلان قول هؤلاء لأن قولكم إنه يمتنع وجود موجود فوق العالم ليس بجسم ليس أقوى من قول القائل يمتنع وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ويمتنع وجود موجودين لا متباينين ولا متحايثين ويمتنع وجود موجود ليس داخل العالم ولا خارجا عنه فإن كنتم لا تقبلون هذا الأقوى لزعمكم أنه من حكم الوهم الباطل لزمكم أن لا تقبلوا ذلك الذي هو أضعف منه بطريق الأولى فإن كليهما على قولكم من حكم الوهم الباطل وفساد قولكم أبين في الفطرة من فساد قول منازعيكم فإن كان قولهم مردودا

فقولكم أولى بالرد وإن كان قولكم مقبولا فقولهم أولى بالقبول الجواب الثاني أن يقال أنتم لم تثبتوا وجود أمور لا يمكن الإحساس بها ابتداء حتى يصح هذا الكلام بل إنما أثبتم ما ادعيتم أنه لا يمكن الإحساس به ابتداء بإبطال هذا الحكم الفطري الذي يحيل وجود ما لا يمكن الإحساس به بحال فإن كان هذا الحكم لا يبطل حتى يثبت الأمور التي ليست بمحسوسة لزم الدور فلا يبطل هذا الحكم حتى يثبت ما لا يمكن الإحساس به ولا يثبت ذلك حتى يبطل هذا الحكم فلا يثبت ذلك و يقال لكم إن جاز وجود أمور لا يمكن الإحساس بها فوجود ما يمكن الإحساس به أولى وإن لم يمكن بطل قولكم فمن أثبت موجودا فوق العالم ليس بجسم يمكن الإحساس به كان قولهأقرب إلى العقل ممن أثبت موجودا لا يمكن الإحساس به وليس بداخل العالم ولا خارجه ففي الجملة أنه ما من حجة يحتجون بها على بطلان قول منازعيهم إلا ودلالتها على بطلان قولهم أشد ولكنهم يتناقضون والذين وافقوهم على بعض غلطهم صاروا يسلمون لهم تلك المقدمة الباطلة النافية وهو إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون مباينا لغيره ولا محايثا له ولا داخل العالم ولا خارجه ويطلبون طردها وطردها يستلزم الباطل المحض فوجه المناظرة أن تلك المقدمة لا تسلم لكن يقال إن كانت باطلة بطل أصل قول النفاة وإن كانت صحيحة فهي أدل على إمكان قول أهل الإثبات فإن كان إثبات موجود ليس بجسم ولا هو داخل العالم ولا خارجه ممكنا فإثبات موجود فوق العالم وليس بجسم أولى بالإمكان وإن لم يكن ذلك ممكنا بطل أصل قول النفاة وثبت أن الله تعالى إما داخل العالم وإما خارجه فيكون قولهم بإثبات موجود

ليس بداخل العالم ولا خارجه أبعد عن الحق على التقديرين وهو المطلوب ثم يقال رؤية ما ليس بجسم ولا في جهة إما أن يجوزه العقل وإما أن يمنعه فإن جوزه فلا كلام وإن منعه كان منع العقل لإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه بل هو حي بلا حياة عليم بلا علم قدير بلا قدرة أشد وأشد فإن قلتم هذا المنع من حكم الوهم قيل لكم والمنع من رؤية مرئى ليس في جهة من حكم الوهم وهذا هو الجواب الثالث وبيان ذلك أن يقال حكم الوهم الباطل عندكم أن يحكم في أمور غير محسوسة بما يحكم به في الأمور المحسوسة فيقال الباري تعالى إما أن تكون رؤيته ممكنة وأما أن لا تكون فإن كانت ممكنة بطل قولكم بإثبات موجود غير محسوس ولم يبق هنا وهم باطل يحكم في غير المحسوس بحكم باطل فإنكم لرؤية الباري أشد منعا من رؤية الملائكة والجن وغير ذلك فإذاجوزتم رؤيته فرؤية الملائكة والجن أولى وإن قلتم بل رؤيته غير ممكنة قيل فهو حينئذ غير محسوس فلا يقبل فيه حكم الوهم والحكم بأن كل مرئى لا بد أن يكون في جهة من حكم الوهم وأما إذا قدرنا موجودا غير محسوس يرى لا في جهة رؤية غير الرؤية المتعلقة بذوات الجهة كان إبطال هذا مثل إبطال موجود لا داخل العالم ولا خارجه وإلا فإذا ثبت وجود هذا الموجود كانت الرؤية المتعلقة به مناسبة له ولم تكن كالرؤية المعهودة لللأجسام فهذه الطريق ونحوها من المناظرة العقلية إذا سلك يتبين به أن كل من كان إلى السنة أقرب كان قوله إلى العقل أقرب وهو يوجب نصر الأقربين إلى السنة بالعقل لكن لما كان بعض الأقربين إلى السنة سلموا للأبعدين عنها مقدمات بينهم وهي في نفس الأمر باطلة مخالفة للشرع والعقل لم يمكن أن يكون قولهم مطابقا للأمر في نفسه ولا يمكن نصره لا بشرع صحيح ولا بعقل صريح لمن غرضه معرفة الحق في نفسه لا بيان رجحان بعض الأقوال على بعض

وأما إذا كان المقصود بيان رجحان بعض الأقوال فهذا ممكن في نفسه وهذا هو الذي نسلكه في كثير مما عاب به الرافضة كثير من الطوائف المنتسبين إلى السنة في إثبات خلافة الخلفاء الثلاثة فإنهم عابوا كثيرا منهم بأقوال هي معيبة مذمومة والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق وألا نقول عليه إلا بعلم وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلا عن الرافضي قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق ولهذا جعل هذا الكتاب منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيع والقدرية فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة ردوا ما تقوله المعتزلة والرافضة وغيرهم من أهل البدع بكلام فيه أيضا بدعة وباطل وهذه طريقة يستجيزها كثير من أهل الكلام ويرون أنه يجوز مقابلة الفاسد بالفاسد لكن أئمة السنة والسلف على خلاف هذا وهم يذمون أهل الكلام المبتدع الذين يردون باطلا بباطل وبدعة ببدعة ويأمرون ألا يقول الإنسان إلا الحق لا يخرج عن السنة في حال من الأحوال وهذا هو الصواب الذي أمر الله تعالى به ورسوله ولهذا لم نرد ما تقوله المعتزلة والرافضة من حق بل قبلناه لكن بينا أن ما عابوا به مخالفيهم من الأقوال ففي أقوالهم من العيب ما هو أشد من ذلك

فالمنتسبون إلى إثبات خلافة الأربعة وتفضيل الشيخين وإن كان بعضهم يقول أقوالا فاسدة فأقوال الرافضة أفسد منها وكذلك المناظر للفلاسفة والمعتزلة من المنتسبين إلى السنة كالأشعري وأمثاله وإن كانوا قد يقولون أقوالا باطلة ففي أقوال المعتزلة والفلاسفة من الباطل ما هو أعظم منها فالواجب إذا اكان الكلام بين طائفتين من هذه الطوائف أن يبين رجحان قول الفريق الذي هو أقرب إلى السنة بالعقل والنقل ولا ننصر القول الباطل المخالف للشرع والعقل أبدا فإن هذا محرم ومذموم يذم به صاحبه ويتولد عنه من الشر ما لا يوصف كما تولد من الأقوال المبتدعة مثل ذلك ولبسط هذه الأمور مكان آخر والله أعلم والمقصود هنا التنبيه على وجه المناظرة العادلة التي يتكلم فيها الإنسان بعلم وعدل لا بجهل وظلم وأما مناظرات الطوائف التي كل منها يخالف السنة ولو بقليل فأعظم ما يستفاد منها بيان إبطال بعضهم لمقالة بعض وأبو حامد الغزالي وغيره يعتقدون أن هذه الفائدة هي المقصودة بالكلام دون غيرها لكن يعتقد مع ذلك أن ما ذكره هو العقيدة التي تعبد الشارع الناس باعتقادها وأن لها باطنا يخالف ظاهرها في بعض الأمور وما ذكره من الإعتقاد يوافق الشرع من وجه دون وجه وما ثبت عن صاحب الشرع فلا يناقض باطنه ظاهره والمقصود هنا أن يكون المقصود بالمناظرة بيان رجحان بعض الأقوال على بعض

ولهذا كان كثير من مناظرة أهل الكلام إنما هي في بيان فساد مذهب المخالفين وبيان تناقضهم لأنه يكون كل من القولين باطلا فما يمكن أحدهم نصر قوله مطلقا فيبين فساد قول خصمه وهذا يحتاج إليه إذا كان صاحب المذهب حسن الظن بمذهبه قد بناه على مقدمات يعتقدها صحيحة فإذا أخذ الإنسان معه في تقرير نقيض تلك المقدمات لم يقبل ولا يبين الحق ويطول الخصام كما طال بين أهل الكلام فالوجه في ذلك أن يبين لذلك رجحان مذهب غيره عليه أو فساد مذهبه بتلك المقدمات وغيرها فإذا رأى تناقض قوله أو رجحان قول غيره على قوله اشتاق حينئذ إلى معرفة الصواب وبيان جهة الخطأ فيبين له فساد تلك المقدمات التي بنى عليها وصحة نقيضها ومن أي وجه وقع الغلط وهكذا في مناظرة الدهرى واليهودي والنصراني والرافضيوغيرهم إذا سلك معهم هذا الطريق نفع في موارد النزاع فتبين لهم وما من طائفة إلا ومعها حق وباطل فإذا خوطبت بين لها أن الحق الذي ندعوكم إليه هو أولى بالقبول من الذي وافقناكم عليه ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالقبول من نبوة موسى وعيسى عليهما السلام وخلافة أبي بكر وعمر أولى بالصحة من خلافة علي فما ذكر من طريق صحيح يثبت بها نبوة هذا وهذا إلا وهي تثبت بها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى وما من طريق صحيح يثبت بها خلافة علي إلا وهي تثبت خلافة هذين بطريق الأولى ويبين لهم أن ما يدفعون به هذا الحق يمكن أن يدفع به الحق الذي معهم فما يقدح شيء في موارد النزاع إلا كان قدحا في موارد الإجماع وما من شيء يثبت به موارد الإجماع إلا وهو يثبت به موارد النزاع وما من سؤال يرد على نبوة محمد صلى

الله عليه وسلم وخلافة الشيخين إلا ويرد على نبوة غيره وخلافة غيرهما ما هو مثله أو أعظم منه وما من دليل يدل على نبوة غير محمد صلى الله عليه وسلم وخلافة غيرهما إلا والدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وخلافتهما أقوى منه وأما الباطل الذي بأيدي المنازعين فتبين أنه يمكن معارضته بباطل مثله وأن الطريق الذي يبطل به ذلك الباطل يبطل به باطلهم فمن ادعى الإلهية في المسيح أو علي أو غيرهما عورض بدعوى الإلهية في موسى وآدم وعمر بن الخطاب فلا يذكر شبهة يظن بها الإلهية إلا ويذكر في الآخر نظيرها وأعظم منها فإذا تبين له فساد أحد المثلين تبين له فساد الآخر فالحق يظهر صحته بالمثل المضروب له والباطل يظهر فساده بالمثل المضروب له لأن الإنسان قد لا يعلم ما في نفس محبوبه أو مكروهه من حمد وذم إلا بمثل يضرب له فإن حبك الشيء يعمى ويصم والله سبحانه ضرب الأمثال للناس في كتابه لما في ذلك من البيان والإنسان لا يرى نفسه وأعماله إلا إذا مثلت له نفسه بأن يراها في مرآة

وتمثل له أعماله بأعمال غيره ولهذا ضرب الملكان المثل لداود عليه السلام بقول أحدهما إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه (سورة ص). الآية وضرب الأمثال مما يظهر به الحال وهو القياس العقلي الذي يهدي به الله من يشاء من عباده قال تعالى ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون (سورة الروم). وقال تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ((سورة العنكبوت).). وهذا من الميزان الذي أنزله الله كما قال تعالى الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان (سورة الشورى). وقال لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط (سورة الحديد). وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن كل قياس عقلي شمولي سواء كان على طريقة المنطق اليوناني أو غير طريقه فإنه من جنس القياس التمثيلي وأن مقصود القياسين واحد وكلاهما داخل في معنى الميزان الذي أنزله الله تعالى وأن ما يختص به أهل المنطق اليوناني بعضه باطل وبعضه تطويل لا يحتاج إليه بل ضررة في الغالب أكثر من نفعه كما قد بسط الكلام على المنطق اليوناني

وما يختص به أهل الفلسفة من الأقوال الباطلة في مجلد كبير وأما الطريق الثاني فيقال لهذا المنكر للرؤية المستدل على نفيها بانتفاء لازمها وهو الجهة قولك ليس في جهة وكل ما ليس في جهة لا يرى فهو لا يرى وهكذا جميع نفاة الحق ينفونه لانتفاء لازمه في ظنهم فيقولون لو رئى للزم كذا واللازم منتف فينتفى الملزوم والجواب العام لمثل هذه الحجج الفاسدة بمنع إحدى المقدمتين إما معينة وإما غير معينة فإنه لا بد أن تكون إحداهما باطلة أو كلتاهما باطلة وكثيرا ما يكون اللفظ فيهما مجملا يصح باعتبار ويفسد باعتبار وقد جعلوا الدليل هو ذلك اللفظ المجمل ويسميه المنطقيون الحد الأوسط فيصح في مقدمة بمعنى ويصح في الأخرى بمعنى آخر ولكن اللفظ مجمل فيظن الظان لما في اللفظ من الإجمال وفي المعنى من الاشتباه أن المعنى المذكور في هذه المقدمة هو المعنى المذكور في المقدمة الأخرى ولا يكون الأمر كذلك مثال ذلك في مسألة الرؤية أن يقال له أتريد بالجهة أمرا وجوديا أو أمرا عدميافإذا أردت به أمرا وجوديا كان التقدير كل ما ليس في شيء موجود لا يرى وهذه المقدمة ممنوعة ولا دليل على أثباتها بل هي باطلة فإن سطح العالم يمكن أن يرى وليس العالم في عالم آخر وإن أردت الجهة أمرا عدميا كانت المقدمة الثانية ممنوعة فلا نسلم أنه ليس بجهة بهذا التفسير وهذا مما خاطبت به غير واحد من الشيعة والمعتزلة فنفعه الله به وانكشف بسبب هذا التفصيل ما وقع في هذا المقام من الإشتباه والتعطيل وكانوا يعتقدون أن ما معهم من العقليات النافية للرؤية قطعية لا يقبل في نقيضها نص الرسل فلما تبين لهم أنها شبهات مبنية على ألفاظ مجملة ومعان مشتبهة تبين أن الذي ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق المقبول ولكن ليس هذا المكان موضع بسط هذا فإن هذا النافي إنما أشار إلى قولهم إشارة

وكذلك لفظ الحيز قد يراد به معنى موجود ومعنى معدوم فإذا قالوا كل جسم في حيز فقد يكون المراد بالحيز أمرا عدميا وقد يراد به أمر وجودي والحيز في اللغة هو أمر وجودي ينحاز إليه الشيء كما قال تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة (سورة الأنفال). وعلى الأول فإنه يراد بالمتحيز ما يشار إليه ولهذا كان المتكلمون يقولون نحن نعلم بالإضطرار أن المخلوق إما متحيز وإما قائم بالمتحيز فكثير منهم يقول بل نعلم أن كل موجود إما متحيز وإما قائم بالمتحيز ويثبتون ما يذكره بعض الفلاسفة من إثبات المجردات المفارقات التي لا يشار إليها بل هي معقولات مجردة إنما تثبت في الأذهان لا في الأعيان وما يذكره الشهرستاني والرازي ونحوهما من أن متكلمي الإسلام لم يقيموا دليلا على نفي هذه المجردات ليس كما زعموا بل كتبهم مشحونة بما يبين انتفاءها كما ذكر في غير هذا الموضع والرازي أورد في محصله سؤالا على الحيز فقال أما الأكوان

فقد اتفقوا على أن حصول الجوهر في حصول الحيز أمر ثبوتي فقيل هذا الحيز إن كان معدوما فكيف يعقل حصول الجوهر في المعدوم وإن كان موجودا فلا شك أنه أمر يشار إليه فهو إما جوهر وإما عرض فإن كان جوهرا كان الجوهر حاصلا في الجوهر وهو قول بالتداخل وهو محال اللهم إلا أن يفسر ذلك بالمماسة ولا نزاع فهيا وإن كان عرضا فهو حاصل في الجوهر فكيف يعقل حصول الجوهر فيه وقد رد الطوسى هذا فقال هذا غلط من جهة اشتراك اللفظ فإن لفظة في يدل في قولنا الجسم في الجسم بمعنى التداخل والجسم في المكان والعرض في الجسم على معان مختلفة فإن الأول يدل على كون الجسم مع جسم آخر في مكان واحد والثاني يدل على كون الجسم في المكان والثالث يدل على كون العرض حالا في الجسم والمكان هو القابل للأبعاد القائم بذاته الذي لا يمانع الأجسام عند قوم وعرض هو سطح الجسم الحاوي المحيط بالجسم ذي المكان عند قوم وهو بديهي الأينية خفي الحقيقة

والمكان إن كان عدميا لم يكن حصول الجوهر في الأمر العدمي حصوله في المعدوم بمعنى أنه في العدم وإن كان جوهرا فالجوهر عند القوم الأول ينقسم إلى مقاوم للداخل عليه ممانع إياه وهو الذي لا يجوز عليه التداخل وإلى غير مقاوم يمتنع عليه الإنتقال وهو المكان والجوهر الممانع يمكن أن يداخل غير الممانع وذلك هو كون الجوهر في المكان وأما عند القوم الثاني فحصول الجوهر في المكان الذي هو عرض بمعنى غير المعنى الذي يراد به في قولهم حصول العرض في الجوهر بمعنى الحلول فيه قلت قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن ما ذكره الرازي من قوله قد اتفقوا على أن حصول الجوهر في الحيز أمر ثبوتي ليس كما قاله بل يقال إن أراد بقوله إن حصول الجوهر في الحيز أمر ثبوتي أنه صفة ثبوتية تقوم بالمحيز فلم يتفقوا على هذا بل ولا هذا قول محققيهم بل التحيز عندهم لا يزيد على ذات المتحيز قال القاضي أبو بكر بن الباقلاني المتحيز هو الجرم أو الذي له حظ من المساحة والذي لا يوجد بحيث وجوده جوهروقال أبو إسحاق الإسفراييني ما هو في تقدير مكان ما وما يشغل الحيز ومعنى شغل الحيز أنه إذا وجد في فراغ أخرجه عن أن يكون فراغا وقال بعضهم الحيز تقدير مكان الجوهر وقال أبو المعالي الجويني الملقب بإمام الحرمين الحيز هو المتحيز نفسه ثم إضافة الحيز إلى الجوهر كإضافة الوجود إليه قال فإن قيل فهلا قلتم إن المتحيز متحيز بمعنى كما أن الكائن كائن بمعنى قلنا تحيزه نفسه أو صفة نفسه عند من يقول بالأحوال وكونه متحيزا راجع إلى نفسه وكذلك كونه جرما وذلك لا يختلف وإن اختلفت أكوانه بأعراضه ولو كان تحيزه حكما معللا لوجب أن يثبت له حكم الإختلاف عند اختلاف الأكوان فلما لم يختلف كونه جرما دل على أنه ليس من موجبات الأكوان والإختصاص بالجهات فما كان بمقتضى الأكوان كان في حكم الإختلاف

قال فإن قيل الجوهر لا يخلو عن الأكوان كما لا يخلو عن وصف التحيز قلنا قد أوضحنا أن تحيزه صفة نفسه فنقول صفة النفس تلازم للنفس ولا تعقل النفس دونها وكون الجوهر متحيزا بمثابة كونه ذاتا أو شيئا والتحيز قضية واحدة يجب لزومها ما بقيت النفس والكون اسم يقع على أجناس مختلفة يم بسط الكلام في ذلك وهذا يبين أن التحيز عندهم ليس قدرا زائدا على المتحيز فضلا عن كونه وصفا ثبوتيا وإن أراد بكونه ثبوتيا أنه أمر إضافي إلى الحيز فالأمور الإضافية عند أكثرهم عدمية إذا كانت بين موجودين فكيف إذا كانت بين موجود ومعدوم وقوله إن الحيز إذا كان معدوما فكيف يعقل حصول الجوهر في المعدوم فيقال له إنهم لم يريدوا بكونه في المعدوم إلا وجوده وحده من غير وجود آخر يحيط به لم يريدوا أنه يكون معدوما مع كونه موجودا وأيضا فمن لم يعرف مرادهم هل الحيز عندهم وجود أو عدم كيف يحكى عنهم أنهم اتفقوا على أن كل ما سوى الله متحيز أو قائم بالمتحيز مع علمه وحكايته عنهم أنهم اتفقوا على أن كل ما سوى الله محدث فيمتنع مع هذا أن يكون ما سواه إما متحيزا أو حالا في المتحيز مع أن المتحيز هذا في حيز وجودي سوى الله وهو محدث فإن هذا تناقض ظاهر لأنه يستلزم أن يكون هنا ثلاثة موجودة محدثة

متحيز وحيز وقائم بالمتحيز فتكون الموجودات سوى الله ثلاثة وهي محدثة عندهم وهذا يناقض قولهم إن ما سوى الله إما متحيز وإما قائم بمتحيز وأما اعتراض الطوسى عليه فإنه مبنى على أن التحيز هو المكان وليس هذا هو المشهور عند المتكلمين بل المشهور عندهم الفرق بينهما وما ذكره من القولين في المكان هو نزاع بين المتفلسفة أصحاب أفلاطن وأصحاب أرسطو فأولئك يقولون هو جوهر قائم بنفسه تحل به الأجسام وليس هذا قول كثير من المتكلمين بل كل ما قام بنفسه فهو عندهم جسم إذ الجوهر الذي له هو جسم ليس عندهم جوهر قائم بنفسه غير هذين ومن أثبت منهم جوهرا غير جسم فإنه محدث عندهم لأن كل ما سوى الله فإنه محدث مسبوق بالعدم باتفاق أهل الملل سواء قالوا بدوام الفاعلية وأنه لا يزال يحدث شيئا بعد شيء أو لم يقولوا بدوام الفاعلية والمتكلمون الذين يقولون كل ما سوى الله فهو جسم أو قائم بجسم قد يتناقضون حيث يثبت أكثرهم الخلاء أمرا موجودا ويقولون إنه لا يتقدر بل يفرض فيه التقدير فرضا وهذا الخلاء هو الجوهر الذي يثبته أفلاطن ولكن يمتنع عند أهل الملل أن يكون موجود قديم مع الله فإن الله خالق كل شيء وكل مخلوق مسبوق بعدم نفسه وإن قيل مع ذلك بدوام كونه خالقا فخلقه شيئا بعد شيء دائما لا ينافى أن يكون كل ما

سواه مخلوقا محدثا كائنا بعد أن لم يكن ليس من الممكنات قديم بقدم الله تعالى مساويا له بل هذا ممتنع بصرائح العقول مخالف لما أخبرت به الرسل عن الله كما قد بسط في موضعه وأرسطو وأصحابه يقولون إن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقى للسطح الظاهر من الجسم المحوى وهو عرض عند هؤلاء وقوله إنه بديهي الأينية خفى الحقيقة أي عند هؤلاء وأما علماء المسلمين فليس عندهم ولله الحمد من ذلك ما هو خفي بل لفظ المكان قد يراد به ما يكون الشيء فوقه محتاجا إليه كما يكون الإنسان فوق السطح ويراد به ما يكون الشيء فوقه من غير احتياج إليه مثل كون السماء فوق الجو وكون الملائكة فوق الأرض والهواء وكون الطير فوق الأرض ومن هذا قول حسان بن ثابت رضي الله عنه تعالى علوا فوق عرش إلهنا وكان مكان الله أعلى وأعظما مع علم حسان وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله غنى عن كل ما سواه وما سواه من عرش وغيره محتاج إليه وهو لا يحتاج إلى شيء وقد أثبت له مكانا والسلف والصحابة بل النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع مثل

هذا ويقر عليه كما أنشده عبدالله بن رواحة رضي الله عنه شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا في قصته المشهورة التي ذكرها غير واحد من العلماء لما وطئ سريته ورأته امرأته فقامت إليه لتؤذيه فلم يقر بما فعل فقالت ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقرأ الجنب القرآن فأنشد هذه الأبيات فظنت أنه قرآن فسكتت وأخبر صلى الله عليه وسلم فاستحسنه وقد يراد بالمكان ما يكون محيطا بالشيء من جميع جوانبه فأما أن يراد بالمكان مجرد السطح الباطن أو يراد به جوهر لا يحس بحال فهذا قول هؤلاء المتفلسفة ولا أعلم أحدا من الصحابة والتابعين وغيرهم من ائمة المسلمين يريد ذلك بلفظ المكان وذلك المعنى الذي أراده أرسطو بلفظ المكان عرض ثابت لكن ليس هذا هو المراد بلفظ المكان في كلام علماء المسلمين وعامتهم ولا في كلام جماهير الأمم علمائهم وعامتهم وأما ما أراده أفلاطن فجمهور العقلاء ينكرون وجوده في الخارج وبسط هذه الأمور له موضع آخر وكذلك القول في تداخل الأجسام فيه نزاع معروف بين النظار وقول الرازي في التداخل ذلك محال هو موضع منع مشهور ولكن لم يقل أحد من النظار إن الجوهر في الحيز بمعنى التداخل سواء فسر الحيز

بالأمر العدمي كما هو المعروف عند أئمة الكلام أو فسر بالمكان الوجودي الذي هو سطح الحاوي أو جوهر عقلي كما يقوله من يقوله من المتفلسفة أو فسر الحيز بالمعنى اللغوي المعقول في مثل قوله أو متحيزا إلى فئة (سورة الأنفال). وهذا الحيز هو جسم يحوز المتحيز ليس هو عدميا ولا عرضا ولا يجوز الجوهر العقلي المتنازع في وجوده والمقصود أنه أي معنى أريد بلفظ الحيز فقول النظار إن الجوهر في الحيز ليس بمعنى التداخل المتنازع فيه وفي وجوده فلهذا لم يحتج إلى ذكر الكلام في مسألة التداخل في هذا المقام.
*

فصل
وأما قوله وأن أمره ونهيه وإخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره.
*فيقال هذه مسألة كلام الله تعالى والناس فيها مضطربون وقد بلغوا فيها إلى تسعة أقوال وعامة الكتب المصنفة في الكلام وأصول الدين لم يذكر أصحابها إلا بعض هذه الأقوال إذ لم يعرفوا غير ما ذكروه فمنهم من يذكر قولين ومنهم من يذكر ثلاثة ومنهم من يذكر أربعة ومنهم من يذكر خمسة وأكثرهم لا يعرفون قول السلف أحدها قول من يقول إن كلام الله ما يفيض على النفوس من المعاني التي تفيض إما من العقل الفعال عند بعضهم وإما من غيره وهذا قول الصابئة والمتفلسفة الموافقين لهم كابن سينا وأمثاله ومن دخل مع هؤلاء من متصوفة الفلاسفة ومتكلميهم كأصحاب وحدة الوجود وفي كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها بل المضنون الكبير والمضنون الصغير ورسالة مشكاة الأنوار وأمثاله ما قد يشار به إلى هذا وهو في غير ذلك من كتبه يقول ضد هذا لكن كلامه يوافق هؤلاء تارة وتارة يخالفه وآخر أمره استقر على مخالفتهم ومطالعة الأحاديث النبوية وثانيها قول من يقول إنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه وهذا

قول هذا الإمامي وأمثاله من الرافضة المتأخرين والزيدية والمعتزلة والجهمية وثالثها قول من يقول إنه معنى واحد قديم قائم بذات الله هو الأمر والنهى والخبر والإستخبار إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري وغيره ورابعها قول من يقول إنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل وهذا قول طائفة من أهل الكلام وأهل الحديث ذكره الأشعري في المقالات عن طائفة وهو الذي يذكر عن السالمية ونحوهم وهؤلاء قال طائفة منهم إن تلك الأصوات القديمة هي الصوتالمسموع من القارئ أو هي بعض الصوت المسموع من القارئ وأما جمهورهم مع جمهور العقلاء فأنكروا ذلك قالوا هذا مخالف لضرورة العقل وخامسها قول من يقول إنه حروف وأصوات لكن تكلم به بعد أن لم يكن متكلما وكلامه حادث في ذاته كما أن فعله حادث في ذاته بعد أن لم يكن متكلما ولا فاعلا وهذا قول الكرامية وغيرهم وهو قول هشام بن الحكم وأمثاله من الشيعة وهؤلاء منهم من يقول هو حادث وليس بمحدث ومنهم من يقول بل هو محدث أيضا وقد ذكر القولين الأشعري عنهم في المقالات وذكر الخلاف بين أبي معاذ التومني وبين زهير الأثرى والكرامية يقولون حادث لا محدث

وسادسها قول من يقول إنه لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء بكلام يقوم به وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن نوع الكلام أزلي قديم وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديما وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة وسابعها قول من يقول كلامه يرجع إلى ما يحدث من علمه وإرادته القائم بذاته ثم من هؤلاء من يقول لم يزل ذاك حادثا في ذاته كما يقوله أبو البركات صاحب المعتبر وغيره ومنهم من لا يقول بذلك وأبو عبدالله الرازي يقول بهذا القول في مثل المطالب العالية وثامنها قول من يقول كلامه يتضمن معنى قائما بذاته وهو ماخلقه في غيره ثم من هؤلاء من يقول في ذلك المعنى بقول ابن كلاب وهذا قول أبي منصور الماتريدي ومنهم من يقول بقول المتفلسفة وهذا قول طائفة من الملاحدة الباطنية مت شيعهم ومتصوفهموتاسعها قول من يقول كلام الله مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه من متأخري الأشعرية وبالجملة أهل السنة والجماعة أهل الحديث ومن انتسب إلى السنة والجماعة من أهل التفسير والحديث والفقه والتصوف كالأئمة الأربعة وأئمة أتباعهم والطوائف المنتسبين إلى الجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية يقولون إن كلام الله غير مخلوق والقرآن كلام الله غير مخلوق وهذا هو المتواتر المستفيض عن السلف والأئمة من أهل البيت وغيرهم والنقول بذلك متواترة مستفيضة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وتابعي تابعيهم وفي ذلك مصنفات متعددة لأهل الحديث والسنة يذكرون فيها مقالات السلف بالأسانيد الثابتة عنهم وهي معروفة عند أهلها وذلك مثل كتاب الرد على الجهمية لمحمد بن عبداللهالجعفى ولعثمان بن سعيد الدارمي وكذلك نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسى والرد على الجهمية لعبد الرحمن بن أبي حاتم وكتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد رضي الله عنه ولأبي بكر الأثرم وللخلال وكتاب خلق

أفعال العباد للبخاري وكتاب التوحيد لأبي بكر بن خزيمة وكتاب السنة لأبي القاسم الطبراني ولأبي الشيخ الأصبهاني ولأبي عبدالله بن منده والأسماء والصفات لأبي بكر البيهقيوالسنة لأبي ذر الهروى والإبانة لابن بطة وقبله الشريعة لأبي بكر الآجري وشرح أصول السنة لأبي القاسم اللالكائي والسنة لأبي حفص بن شاهين وأصول السنة لأبي عمرالطلمنكي وأمثال هذا الكتب ومصنفوها من مذاهب متبوعة مالكي وشافعي وحنبلي ومحدث مطلق لا ينتسب إلى مذهب أحد ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون على الأقوال السبعة المتأخرة وأما القولان الأولان فالأول قول الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم والصابئة المتفلسفة ونحوهم والثاني قول الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم من النجارية والضرارية وأما الشيعة فمتنازعون في هذه المسألة وقد حكينا النزاع عنهم فيما تقدم وقدماؤهم كانوا يقولون القرآن غير مخلوق كما يقوله أهل السنة والحديث وهذا القول هو المعروف عن أهل البيت كعلي

بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره مثل أبي جعفر الباقر وجعفر ابن محمد الصادق وغيرهم ولهذا كانت الإمامية لا تقول إنه مخلوق لما بلغهم نفى ذلك عن أئمة أهل البيت وقالوا إنه محدث مجعول ومرادهم بذلك أنه مخلوق وظنوا أن أهل البيت نفوا أنه غير مخلوق أي مكذوب مفترى ولا ريب أن هذا المعنى منتف باتفاق المسلمين من قال إنه مخلوق ومن قال إنه غير مخلوق والنزاع بين أهل القبلة إنما كان في كونه مخلوقا خلقه الله أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته وأهل البيت إنما سئلوا عن هذا وإلا فكونه مكذوبا مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم فليس في أئمة أهل البيت مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق من كان ينكر الرؤية أو يقول بخلق القرآن أو ينكر القدر أو يقول بالنص على علي أو بعصمة الأئمة الاثنى عشر أو يسب أبا بكر وعمر

والمنقولات الثابتة المتواترة عن هؤلاء معروفة موجودة وكانت مما يعتمد عليه أهل السنة وشيوخ الرافضة معترفون بأن هذا الإعتقاد في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ولا عن أئمة أهل البيت وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه كما يقول ذلك المعتزلة وهم في الحقيقة إنما تلقوه عن المعتزلة وهم شيوخهم في التوحيد والعدل وإنما يزعمون أنهم تلقوا عن الأئمة الشرائع وقولهم في الشرائع غالبه موافق لمذهب أهل السنة أو بعض أهل السنة ولهم مفردات شنيعة لم يوافقهم عليها أحد ولهم مفردات عن المذاهب الأربعة قد قال بها غير الأربعة من السلف وأهل الظاهر وفقهاء المعتزلة وغير هؤلاء فهذه ونحوها من مسائل الإجتهاد التي يهون الأمر فيها بخلاف الشاذ الذي يعرف أنه لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا سبقهم إليه أحد ولم يقل أحد من علماء المسلمين إن الحق منحصر في أربعة من علماء المسلمين كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد كما يشنع

بذلك الشيعة على أهل السنة فيقولون إنهم يدعون أن الحق منحصر فيهم بل أهل السنة متفقون على أن ما تنازع فيه المسلمون وجب رده إلى الله والرسول وأنه قد يكون قول ما يخالف قول الأربعة ما أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان وقول هؤلاء الأربعة مثل الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه وغيرهم أصح من قولهم فالشيعة إذا وافقت بعض هذه الأقوال الراجحة كان قولها في تلك المسألة راجحا ليست لهم مسألة واحدة فارقوا بها جميع أهل السنة المثبتين لخلافة الثلاثة إلا وقولهم فيها فاسد وهكذا المعتزلة وسائر الطوائف كالأشعرية والكرامية والسالمية ليس لهم قول انفردوا به عن جميع طوائف الأمة إلا وهو قول فاسد والقول الحق يكون مأثورا عن السلف وقد سبق هؤلاء الطوائف إليه وإذا عرفت المذاهب فيقال لهذا قولك إن أمره ونهيه وإخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره أتريد به أنه حادث في ذاته أم حادث منفصل عنهوالأول قول أئمة الشيعة المتقدمين والجهمية والمرجئة والكرامية مع كثير من أهل الحديث وغيرهم ثم إذا قيل حادث أهو حادث النوع فيكون الرب قد صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما أم حادث الأفراد وأنه لم يزل متكلما إذا شاء والكلام الذي كلم به موسى مثلا هو حادث وإن كان نوع كلامه قديما لم يزل فهذه ثلاثة أنواع تحت قولك وقد علم أنك إنما أردت النوع الأول وهو قول متأخري الشيعة الذين جمعوا بين التشيع والإعتزال فقالوا إنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه والإمامية وإن قالوا هو محدث وامتنعوا أن يقولوا هو مخلوق فمرادهم بالمحدث هو مراد هؤلاء بالمخلوق وإنما النزاع بينهم لفظي فيقال لك إذا كان الله قد خلقه وأحدثه منفصلا عنه لم يكن كلامه فإن الكلام والقدرة والعلم وسائر الصفات إنما يتصف بها من

قامت به لا من خلقها في غيره وأحدثها ولهذا إذا خلق الله حركة وعلما وقدرة في محل كان ذلك المحل هو المتحرك العالم القادر بتلك الصفات ولم تكن تلك صفات لله بل مخلوقات له ولو كان متصفا بمخلوقاته المنفصلة عنه لكان إذا انطلق الجامدات كما قال يا جبال أوبى معه والطير (سورة سبأ). وكما قال يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (سورة النور). وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء (سورة فصلت). وكما قال اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (سورة يس). ومثل تسليم الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم وتسبيح الحصى بيده وتسبيح الطعام وهم يأكلونه فإذا كان كلام الله لا يكون إلا ما خلقه في غيره وجب أن يكون هذا كله كلام الله فإنه خلقه في غيره وإذا تكلمت الأيدى فينبغي أن يكون ذاك كلام الله كما يقولون إنه خلق كلاما في الشجرة كلم به موسى بن بن عمران وأيضا فإذا كان الدليل قد قام على أن الله تعالى خالق أفعال العباد وأقوالهم وهو المنطق لكل ناطق وجب أن يكون كل كلام في الوجود كلامه وهذا قالته الحلولية من الجهمية كصاحب الفصوص ابن عربي قال

وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وحينئذ فيكون قول فرعون أنا ربكم الأعلى سورة النازعات كلام الله كما أن الكلام المخلوق في الشجرة إنني أنا الله لا إله إلا أنا (سورة طـــه). يقولون إنه مخلوق في الشجرة أو غيرها وهو كلام الله وأيضا فالرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه بل الذي أفهموهم إياه أن الله نفسه هو الذي تكلم والكلام قائم به لا بغيره ولهذا عاب الله من يعبد إلها لا يتكلم فقال أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا (سورة طـــه). وقال ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا (سورة الأعراف). ولا يحمد شيء بأنه يتكلم ويذم بأنه لا يتكلم إلا إذا كان الكلام قائما به وبالجملة لا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم إلا من يقوم به القول والكلام لا يعقل في لغة أحد لا لغة الرسل ولا غيرهم ولا في عقل أحد أن المتكلم يكون متكلما بكلام لم يقم به قط بل هو بائن عنه أحدثه في غيره كما لا يعقل أنه متحرك بحركة خلقها في غيره ولا يعقل أنه

متلون بلون خلقه في غيره ولا متروح برائحة خلقها في غيره وطرد ذلك أنه لايعقل أنه مريد بإرادة أحدثها في غيره ولا محب وراض وغضبان وساخط برضى ومحبة وغضب وسخط خلقه في غيره وهؤلاء النفاة يصفونه بما لا يقوم به تارة بما يخلقه في غيره كالكلام والإرادة وتارة بما لا يقوم به ولا بغيره كالعلم والقدرة وهذا أيضا غير معقول فلا يعقل حي إلا من تقوم به الحياة ولا عالم إلا من يقوم به العلم كما لا يعقل باتفاق العقلاء متحرك إلا من تقوم به الحركة وطرد هذا أنه لا يعقل فاعل إلا من يقوم به الفعل وقد سلم الأشعرية ومن وافقهم كابن عقيل وغيره فاعلا لا يقوم به الفعل كعادل لا يقوم به العدل وخالق ورازق لا يقوم به الخلق والرزق وهذا مما احتجت به عليهم المعتزلة فقالوا كما جاز أن يكون عادلا خالقا رازقا بعدل وخلق ورزق لا يقوم به فكذلك عالم وقادر ومتكلم والسلف رضي الله عنهم وجمهور أهل السنة يطردون أصلهم ولهذا احتج الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بقول النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بكلمات الله تعالى التامات التيلا يجاوزهن بر ولا فاجر قالوا لا يستعاذ بمخلوق وكذلك ثبت عنه أنه قال اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك وقالوا لا يستعاذ بمخلوق وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بالرضا والمعافاة فكان ذلك عند أئمة السنة مما يقوم بالرب تعالى كما تقوم به كلماته ليس من المخلوقات التي لا تكون إلا بائنة عنه

فمن قال إن المتكلم هو الذي يكون كلامه منفضلا عنه والمريد والمحب والمبغض والراضي والساخط ما تكون إرادته ومحبته وبغضه ورضاه وسخطه بائنا عنه لا يقوم به بحال من الأحوال قال ما لا يعقل ولم يفهم الرسل للناس هذا بل كل من سمع ما بلغته الرسل عن الله يعلم بالضرورة أن الرسل لم ترد بكلام الله ما هو منفضل عن الله وكذلك لم ترد بإرادته ومحبته ورضاه ونحو ذلك ما هو منفضل عنه بل ما هو متصف به قالت الجهمية والمعتزلة المتكلم من فعل الكلام والله تعالى لما أحدث الكلام في غيره صار متكلما فيقال لهم للمتأخرين المختلفين هنا ثلاثة أقوال قيل المتكلم من فعل الكلام ولو كان منفصلا وهذا إنما قاله هؤلاء وقيل المتكلم من قام به الكلام ولو لم يكن بفعله ولا هو بمشيئته ولا قدرته وهذا قول الكلابية والسالمية ومن وافقهموقيل المتكلم من تكلم بفعله ومشيئته وقدرته وقام به الكلام وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من الشيعة والمرجئة والكرامية وغيرهم فأولئك يقولون هو صفة فعل منفصل عن الموصوف لا صفة ذات والصنف الثاني يقولون صفة ذات لازمة للموصوف لا تتعلق بمشيئته ولا قدرته والآخرون يقولون هو صفة ذات وصفة فعل وهو قائم به متعلق بمشيئته وقدرته وإذا كان كذلك فقولهم إنه صفة فعل ينازعهم فيه طائفة وإذا لم ينازعوا في هذا فيقال هب أنه صفة فعل منفصلة عن القائل الفاعل أو قائمة به أما الأول فهو قولكم الفاسد وكيف تكون الصفة غيره قائمة بالموصوف أو القول غير قائم بالقائل وقول القائل الصفات تنقسم إلى صفة ذات وصفة فعل ويفسر صفة الفعل بما هو بائن عن الرب كلام متناقض كيف يكون صفة للرب وهو لا يقوم به بحال بل هو مخلوق بائن عنه وهذا وإن كانت الأشعرية قالته تبعا للمعتزلة فهو خطاء في نفسه فإن إثبات صفات الرب وهي مع ذلك مباينة له جمع لين المتناقضين

المتضادين بل حقيقة قول هؤلاء إن الفعل لا يوصف به الرب فإن الفعل هو المخلوق والمخلوق لا يوصف به الخالق ولو كان الفعل الذي هو المفعول صفة له لكانت جميع المخلوقات صفات للرب وهذا لا يقوله عاقل فضلا عن مسلم فإن قلتم هذا بناء على أن فعل الله لا يقوم به لأنه لو قام به لقامت به الحوادث قيل والجمهور ينازعونكم في هذا الأصل ويقولون كيف يعقل فعل لا يقوم بفاعل ونحن نعقل الفرق بين نفس الخلق والتكوين وبين المخلوق المكون وهذا قول جمهور الناس كأصحاب أبي حنيفة وهو الذي حكاه البغوي وغيره من أصحاب الشافعي عن أهل السنة وهو قول أئمة أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبدالله بن حامد والقاضي أبي يعلى في آخر قوليه وهو قول أئمة الصوفية وأئمة أصحاب الحديث وحكاهالبخاري في كتاب خلق أفعال العباد عن العلماء مطلقا وهو قول طوائف من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم ثم القائلون بقيام فعله به منهم من يقول فعله قديم والمفعول متأخر كما أن إرادته قديمة والمراد متأخر كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم وهو الذي ذكره الثقفي وغيره من الكلابية لما وقعت المنازعة بينهم وبين ابن خزيمة ومنهم من يقول بل هو حادث النوع كما يقول ذلك من يقوله من الشيعة والمرجئة والكرامية ومنهم من يقول هو يقع بمشيئته وقدرته شيئا فشيئا لكنه لم يزل متصفا به فهو حادث الآحاد قديم النوع كما يقول ذلك من يقوله من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف منهم من يقول بل الخلق حادث قائم بالمخلوق كما يقوله هشام بن الحكم وغيره ومنهم من يقول بل هو قائم بنفسه لا في محل كما يقوله أبو الهذيل العلاف وغيره ومنهم من يقول بمعان قائمة بنفسها لا تتناهى كما يقوله معمر بن عباد وغيره

وإذا كان الجمهور ينازعونكم فتقدر المنازعة بينكم وبين أئمتكم من الشيعة ومن وافقهم فإن هؤلاء يوافقونكم على أنه حادث لكن يقولون هو قائم بذات الله فيقولون قد جمعنا بين حجتنا وحجتكم فقلنا العدم لا يؤمر ولا ينهى وقلنا الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم فإن قلتم لنا قد قلتم بقيام الحوادث بالرب قالوا لكم نعم وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ومن لم يقل إن البارئ يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجئ فقد ناقض كتاب الله تعالى ومن قال إنه لم يزل ينادى موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل لأن الله يقول فلما جاءها نودى (سورة النمل).وقال إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (سورة يس). فأتى بالحروف الدالة على الإستقبال قالوا وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته وأنه يتكلم إذا شاء وانه يتكلم شيئا بعد شيء فنحن نقول به وما يقول به من يقول إن كلام الله قائم بذاته وإنه صفة له والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فنحن نقول به وقد أخذنا

بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما فإذا قالوا لنا فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به قلنا ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل وهو قول لازم لجميع الطوائف ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأمراض والنقائص والله تعالى منزه عن ذلك كما نزه نفسه عن السنة والنوم واللغوب وعن أن يؤوده حفظ السماوات والأرض وغير ذلك مما هو منزه عنه بالنص والإجماع ثم إن كثيرا من نفاة الصفات المعتزلة وغيرهم يجعلون مثل هذا حجة في نفي قيام الصفات أو قيام الحوادث به مطلقا وهو غلط منهم فإن نفى الخاص لا يستلزم نفى العام ولا يجب إذا نفيت عنه النقائص والعيوب أن ينتفي عنه ما هو من صفات الكمال ونعوت الجلال ولكن يقوم به ما يشاؤه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنةونحن نقول لمن أنكر قيام ذلك به أتنكره لإنكارك قيام الصفة به كإنكار المعتزلة أم تنكره لأن من قامت به الحوادث لم يخل منها ونحو ذلك مما يقوله الكلابية فإن قال بالأول كان الكلام في أصل الصفات وفي كون الكلام قائما بالمتكلم لا منفصلا عنه كافيا في هذا الباب وإن كان الثاني قلنا لهؤلاء أتجوزون حدوث الحوادث بلا سبب حادث أم لا فإن جوزتم ذلك وهو قولكم لزم أن يفعل الحوادث من لم يكن فاعلا لها ولا لضدها فإذا جاز هذا فلم لا يجوز أن تقوم الحوادث بمن لم تكن قائمة به هي ولا ضدها ومعلوم أن الفعل أعظم من القبول فإذا جاز فعلها بلا سبب حادث فكذلك قيامها بالمحل فإن قلتم القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده قلنا هذا ممنوع ولا دليل لكم عليه ثم إذا سلم ذلك فهو كقول

القائل القدر على الشيء لا يخلو عن فعله وفعل ضده وأنتم تقولون إنه لم يزل قادرا ولم يكن فاعلا ولا تاركا لأن الترك عندكم أمر وجودي مقدور وأنتم تقولون لم يكن فاعلا لشيء من مقدوراته في الأزل مع كونه قادرا بل تقولون إنه يمتنع وجود مقدوره في الأزل مع كونه قادرا عليه وإذا كان هذا قولكم فلأن لا يجب وجود المقبول في الأزل بطريق الأولى والأحرى فإن هذا المقبول مقدور لا يوجد إلا بقدرته وأنتم تجوزون وجود قادر مع امتناع مقدوره في حال كونه قادرا ثم نقول إن كان القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده لزم تسلسل الحوادث وتسلسل الحوادث إن كان ممكنا كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون لم يزل متكلما إذا شاء كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة وإن لم يكن جائزا أمكن أن يقوم به الحادث بعد أن لم يكن قائما به كما يفعل الحوادث بعد أن لم يكن فاعلا لها وكان قولنا هو الصحيح فقولكم أنتم باطل على كلا التقديرين فإن قلتم لنا أنتم توافقونا على امتناع تسلسل الحوادث وهو حجتنا وحجتكم على نفى قدم العالمقلنا لكم موافقتنا لكم حجة جدلية وإذا كنا قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم وقلنا بأن القابل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده مخالفة لكم وأنتم تقولون إن قبل الحوادث لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك قلنا إن صحت هاتان المقدمتان ونحن لا نقول بموجبهما لزم خطؤنا إما في هذه وإما في هذه وليس خطؤنا فيما سلمناه لكم بأولى من خطئنا فيما خالفناكم فيه فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث لا في قولنا إن القابل للشيء يخلو عنه وعن ضده فلا يكون خطؤنا في إحدى المسألتين دليلا على صوابكم في الأخرى التي خالفناكم فيها أكثر ما في هذا الباب أنا نكون متناقضين والتناقض شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلم في هذه المسألة ونظائرها وإذا كنا متناقضين فرجوعنا إلى قول نوافق فيه العقل والنقل أولى من رجوعنا إلى قول


نخالف فيه العقل والنقل فالقول بأن المتكلم يتكلم بكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته أو منفصل عنه لا يقوم به مخالف للعقل والنقل بخلاف تكلمه بكلام يتعلق بمشيئته وقدرته قائم به فإن هذا لا يخالف لا عقلا ولا نقلا لكن قد نكون نحن لم نقله بلوازمه فنكون متناقضين وإذا كنا متناقضين كا الواجب أن نرجع عن القول الذي أخطأنا فيه لنوافق ما أصبنا فيه لا نرجع عن الصواب لنطرد الخطأ فنحن نرجع عن تلك المناقضات ونقول بقول أهل الحديث فإن قلتم إثبات حادث بعد حادث لا إلى أول قول الفلاسفة الدهرية قلنا بل قولكم إن الرب تعالى لم يزل معطلا لا يمكنه أن يتكلم بشيء ولا أن يفعل شيئا ثم صار يمكنه أن يتكلم وأن يفعل بلا حدوث سبب يقتضى ذلك قول مخالف لصريح العقل ولما عليه المسلمون فإن المسلمين يعلمون أن الله لم يزل قادرا وإثبات القدرة مع كون المقدور ممتنعا غير ممكن جمع بين النقيضين فكان فيما عليهالمسلمون من أنه لم يزل قادرا ما يبين أنه لم يزل قادرا على الفعل والكلام بقدرته ومشيئته والقول بدوام كونه متكلما ودوام كونه فاعلا بمشيئته منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم وهو منقول عن جعفر ابن محمد الصادق في الأفعال المتعدية فضلا عن اللازمة وهو دوام إحسانه وذلك قوله وقول المسلمين ياقديم الإحسان إن عنى بالقديم قائم به والفلاسفة الدهرية قالوا بقدم الأفلاك وغيرها من العالم وأن الحوادث فيه لا إلى أول وأن البارئ موجب بذاته للعالم ليس فاعلا بمشيئته وقدرته ولا يتصرف بنفسه ومعلوم بالإضطرار من دين الرسل أن الله تعالى خالق كل شيء ولا يكون المخلوق إلا محدثا فمن جعل مع الله شيئا قديما بقدمه فقد علم مخالفته لما أخبرت به الرسل مع مخالفته لصريح العقل وأنتم وافقتموهم على طائفة من باطلهم حيث قلتم إنه لا يتصرف

بنفسه ولا يقوم به أمر يختاره ويقدر عليه بل جعلتموه كالجماد الذي لا تصرف له ولا فعل وهم جعلوه كالجماد الذي لزمه وعلق به ما لا يمكنه دفعه عنه ولا قدرة له على التصرف فيه فوافقتموهم على بعض باطلهم ونحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته وأنه قادر على الفعل بنفسه وعلى التكلم بنفسه كيف شاء وقلنا إنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال متكلما إذا شاء فلا نقول إن كلامه مخلوق منفصل عنه فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم ولا نقول إن كلامه شيء واحد أمرى ونهى وخبر وأن معنى التوراة والإنجيل واحد وأن الأمر والنهى صفة لشي واحد فإن هذا مكابرة للعقل ولا نقول إنه أصوات مقطعة متضادة أزلية فإن الأصوات لا تبقى زمانين وأيضا فلو قلنا بهذا القول والذي قبله لزم أن يكون تكليم اللهللملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة ليس إلا مجرد خلق إدراك لهم لما كان أزليا لم يزل ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك ولا نقول إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فإن هذا وصف له بالكمال بعد النقص وأنه صار محلا للحوادث التي كمل بها بعد نقصه ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب والقول في الثاني كالقول في الأول ففيه تجدد كمال بلا سبب ووصف له بالنقص الدائم من الأزل إلى أن تجدد له ما لا سبب لتجدده وفي ذلك تعطيل له عن صفات الكمال وأما دوام الحوادث فمعناه هنا دوام كونه متكلما إذا شاء وهذا دوام كماله ونعوت جلاله ودوام أفعاله وبهذا يمكن أن يكون العالم وكل ما فيه مخلوق له حادث بعد أن لم يكن لأنه يكون سبب الحدوث هو ما قام بذاته من كلماته وأفعاله وغير ذلك فيعقل

سبب حدوث الحوادث ويمتنع مع هذا أن يقال بقدم شيء من العالم لأنه لو كان قديما لكان مبدعه موجبا بذاته ليلزمه موجبه ومقتضاه وإذا كان الخالق فاعلا بفعل يقول بنفسه بمشيئته واختياره امتنع أن يكون موجبا بذاته لشي من الأشياء فامتنع قدم شيء من العالم وإذا امتنع من الفاعل المختار أن يفعل شيئا منفصلا عنه مقارنا له مع أنه لا يقوم به فعل اختياري فلأن يمتنع ذلك إذا قام به فعل اختياري بطريق الأولى والأحرى لأنه على هذا التقدير لا يوجد المفعول حتى يوجد الفعل الإختياري الذي حصل بقدرته ومشيئته وعلى التقدير الأول يكفى فيه نفس المشيئة والقدرة والفعل الإختياري ومعلوم أن ما توقف على المشيئة والقدرة والفعل الإختياري القائم به يكون أولى بالحدوث والتأخر مما لم يتوقف إلا على بعض ذلك والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع وأكثر الناس

لا يعلمون كثيرا من هذه الأقوال ولذلك كثر بينهم القيل والقال وما ذكرناه إشارة إلى مجامع المذاهب والأصل الذي باين به أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم وسائر أئمة المسلمين للجهمية والمعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات أن الرب تعالى إنما يوصف بما يقوم به لا يوصف بمخلوقاته وهو أصل مطرد عند السلف والجمهور ولكن المعتزلة استضعفت الأشعرية ومن وافقهم بتناقضهم في هذا الأصل حيث وصفوه بالصفات الفعلية مع أن الفعل لا يقوم به عندهم والأشعري تبع في ذلك للجهمية والمعتزلة الذين نفوا قيام الفعل به لكن أولئك ينفون الصفات أيضا بخلاف الأشعرية والمعتزلة لهم نزاع في الخلق هل هو المخلوق أو غير المخلوق وإذا قالوا هو غير المخلوق فقد يقولون معنى قائم لا في محل كما تقوله البصريون في الإرادة وقد يقولون معاني لا نهاية لها في آن واحد كما يقوله معمر منهم وأصحابه ويسمون أصحاب المعاني وقد يقولون إنه قائم بالمخلوق وحجة الأشعري ومن وافقه على أن الخلق هو المخلوق أنهم قالوا لو كان غيره لكان إما قديما وإما محدثا فإن كان قديما لزم قدم المخلوق وهو محال بالإضطرار فيما علم حدوثه بالإضطرار والدليل فيما علم حدوثه بالدليل وإن كان محدثا كان مخلوقا فافتقر الخلق إلى

خلق ثان ولزم التسلسل وأيضا فيلزم قيام الحوادث به وهذا عمدتهم في نفس الأمر والرازي لم يكن له خبرة بأقوال طوائف المسلمين إلا بقول المعتزلة والأشعرية وبعض أقوال الكرامية والشيعة فلهذا لما ذكر هذه المسألة ذكر خلاف فيها مع فقهاء ما وراء النهر وقول هؤلاء هو قول جماهير طوائف المسلمين والجمهور لهم في الجواب عن عمدة هؤلاء طرق كل قوم بحسبهم فطائفة قالت بل الخلق الذي هو التكوين والفعل قديم والمكون المفعول محدث لأن الخلق عندهم لا تقوم به الحوادث وهذا قول كثير من هؤلاء من الحنفية والحنبلية والكلابية والصوفية وغيرهم فإذا قالوا لهؤلاء فيلزم قدم المكون قالوا نقول في ذلك مثل ما قلتم في الإرادة الأزلية قلتم هي قديمة فإن كان المراد محدثا كذلك التكوين قديم وإن كان المكون محدثا وطائفة قالت بل الخلق والتكوين حادث إذا أراد الله خلق شيء وتكوينه وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام والفقه والتصوف قالوا لأن الله ذكر وجود أفعاله شيئا بعد شيء كقوله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش (سورة الأعراف). وقوله ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (سورة فصلت). وقوله

ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم (سورة الأعراف). وقوله ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ((سورة المؤمنون).). وأمثال ذلك وهولاء يلتزمون أنه تقوم به الأمور الإختيارية كخلقه ورضاه وغضبه وكلامه وغير ذلك مما دلت عليه النصوص وفي القرآن أكثر من ثلاثمائة موضع توافق قولهم وأما الأحاديث فكثيرة جدا والآثار عن السلف بذلك متواترة وهو قول أكثر الأساطين من الفلاسفة ثم هؤلاء في التسلسل على قولين وهم يقولون المخلوق يحصل بالخلق والخلق يحصل بقدرته ومشيئته لا يحتاج إلى خلق آخر ويقولون لمنازعيهم إذا جاز عندكم وجود المخلوقات المنفصلة بمجرد القدرة والمشيئة من غير فعل قائم به فلأن يجوز الفعل بمجرد القدرة الإرادة أولى وأحرى ومن لم يقل بالتسلسل منهم يقول نفس القدرة القديمة والإرادة القديمة أوجبت ما حدث من الفعل والإرادة وبذلك يحصل المخلوق فيما لا يزال ومن قال بالتسلسل منهم قال التسلسل الممتنع إنما هو التسلسل في المؤثرات وهو أن يكون للفاعل فاعل وهلم جرا إلى غير نهاية سواء عبر عن ذلك بأن للعلة علة وللمؤثر مؤثرا أو عبر عنه بأن للفاعل فاعلا

فهذا هو التسلسل الممتنع في صريح العقل ولهذا كان هذا ممتنعا باتفاق العقلاء كما أن الدور الممتنع هو الدور القبلي فأما التسلسل في الآثار وهو أن لا يكون الشيء حتى يكون قبله غيره أو لا يكون إلا ويكون بعد غيره فهذا للناس فيه ثلاثة أقوال قيل هو ممتنع في الماضي والمستقبل وقيل بل هو جائز في الماضي والمستقبل وقيل ممتنع في الماضي جائز في المستقبل والقول بجوازه مطلقا هو معنى قول السلف وأئمة الحديث وقول جماهير الفلاسفة القائلين بحدوث هذا العالم والقائلين بقدمه وقد بسط الكلام على أدلة الطائفتين في موضع آخر فإنا قد بسطنا الكلام فيما ذكره من أصول الدين أضعاف ما تكلم به هو ونبهنا على مجامع الأقوال.
*

فصل
وأما قوله وأن الأنبياء معصومون من الخطأ والسهو والمعصية صغيرها وكبيرها من أول العمر إلى آخره وإلا لم يبق وثوق بما يبلغونه فانتفت فائدة البعثة ولزم التنفير عنهم.

*فيقال أولا إن الإمامية متنازعون في عصمة الأنبياء .
قال الأشعري في المقالات واختلفت الروافض في الرسول هل يجوز عليه أن يعصى أم وهم فرقتان.
فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الرسول جائز عليه أن يعصى الله وأن النبي قد عصى في أخذ الفداء يوم بدر فأما الأئمة فلا يجوز ذلك عليهم فإن الرسول إذا عصى فإن الوحي يأتيه من قبل الله والأئمة لا يوحى إليهم ولا تهبط الملائكة عليهم وهم معصومون فلا يجوز عليهم أن يسهوا ولا يغلطوا وإن جاز على الرسول العصيان قال والقائل بهذا القول هشام بن الحكم.
والفرقة الثانية منهم يزعمون أنه لا يجوز على الرسول أن يعصى الله عز وجل ولا يجوز ذلك على الأئمة لأنهم جميعا حجج الله وهم معصومون من الزلل ولو جاز عليهم السهو واعتماد المعاصي وركوبها لكانوا قد ساووا المأمومين في جواز ذلك عليهم كما جاز على المأمومين ولم يكن المأمومون أحوج إلى الأئمة من الأئمة لو كان ذلك جائزا عليهم جميعا وأيضا فكثير من شيوخ الرافضة من يصنف الله تعالى بالنقائص

كما تقدم حكاية بعض ذلك فزرارة بن أعين وأمثاله يقولون يجوز البداء عليه وأنه يحكم بالشيء ثم يتبين له مالم يكن علمه فينتقض حكمه لما ظهره له من خطئه فإذا قال مثل هؤلاء بأن الأنبياء والأئمة لا يجوز أن يخفى عليهم عاقبة فعلهم فقد نزهوا البشر عن الخطأ مع تجويزهم الخطأ على الله وكذلك هشام بن الحكم وزارة بن أعين وأمثالهما ممن يقول إنه يعلم ما لم يكن عالما به ومعلوم أن هذا من أعظم النقائص في حق الرب فإذا قالوا مع ذلك إن الأنبياء والأئمة لا يبدو لهم خلاف ما رأوا فقد جعلوهم لا يعلمون ما لم يكونوا يعلمونه في مثل هذا وقالوا بجواز ذلك في غيره وأما ما تقوله غلاتهم من إلا هية على أو نبوته وغلط جبريل بالرسالة فهو أعظم من أن يذكر هنا ولا ريب أن الشرك والغلو يخرج أصحابه إلى أن يجعلوا البشر مثل الإله بل أفضل من الإله في بعض الأمور كما ذكر الله عن المشركين حيث قال وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون (سورة الأنعام). وقال تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم (سورة الأنعام). فهؤلاء لما سبت آلهتهم سبوا الله مقابلة فجعلوهم مماثلين لله وأعظم في قلوبهم كما تجد كثيرا من المشركين يحب ما اتخذه من دون الله أندادا أكثر مما يحب الله تعالى وتجد أحدهم يحلف بالله ويكذب

ويحلف بما اتخذه ندا من إمامه أو شيخه أو غير ذلك ولا يستجيز أن يكذب وتسأله بالله والله فلا يعطى وتسأله بما يعظمه من إمامه أو شيخه أو غير ذلك فيعطى ويصلى لله في بيته ويدعوه فلا يكون عنده كبير خشوع فإذا أتى إلى قبر من يعظمه ورجا أن يدعوه أو يدعو به أو يدعو عنده فيحصل له من الخشوع والدموع ما لا يحصل في عبادة الله ودعائه في بيت الله أو في بيت الداعي العابد وتجد أحدهم يغضب إذا ذكر ما اتخذه ندا بعيب أو نقص ويذكر الله بالعيوب والنقوص فلا يغضب له ومثل هذا كثير في المشركين شركا محضا وفي من فيه شعبة من الشرك في هذه الأمة والنصارى ينزهون البشر عن كثير مما يصفون به الرب فيقولون لله ولد وينزهون كثيرا من عظمائهم أن يكون له ولد ويقول كثير منهم إن الله ينام والباب عندهم لا ينام ومثل هذا كثير ثم يقال ثانيا قد اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله فلا يجوز أن يقرهم على الخطأ في شيء مما يبلغونه عنه وبهذا يحصل المقصود من البعثة وأما وجوب كونه قبل أن يبعث نبيا لا يخطئ أو لا يذنب فليس في

النبوة يستلزم هذا وقول القائل لو لم يكن كذلك لم تحصل ثقة فيما يبلغونه عن الله كذب صريح فإن من آمن وتاب حتى ظهر فضله وصلاحه ونبأه الله بعد ذلك كما نبأ إخوة يوسف ونبأ لوطا وشعيبا وغيرهما وأيده الله تعالى بما يدل على نبوته فإنه يوثق فيما يبلغه كما يوثق بمن لم يفعل ذلك وقد تكون الثقة به أعظم إذا كان بعد الإيمان والتوبة قد صار أفضل من غيره والله تعالى قد أخبر أنه يبدل السيئات بالحسنات للتائب كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل أن يصدر منهم ما يدعونه من الأحداث كانوا من خيار الخلق وكانوا أفضل من أولادهم الذين ولدوا بعد الإسلام ثم يقال وأيضا فجمهور المسلمين على أن النبي لا بد أن يكون من أهل البر والتقوى متصفا بصفات الكمال ووجوب بعض الذنوب أحيانا مع التوبة الماحية الرافعة لدرجته إلى أفضل مما كان عليه لا ينافي ذلك وأيضا فوجوب كون النبي لا يتوب إلى الله فينال محبة الله وفرحه بتوبته وترتفع درجته بذلك ويكون بعد التوبة التي يحبه الله منه خيرا مما كان قبلها فهذا مع ما فيه من التكذيب للكتاب والسنة غض من مناصب الأنبياء وسلبهم هذه الدرجة ومنع إحسان الله إليهم وتفضله عليهم بالرحمة والمغفرة

ومن اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره وتاب بعد ذنبه فهو مخالف ما علم بالإضطرار من دين الإسلام فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد كفرهم وهداهم الله به بعد ضلالهم وتابوا إلى الله بعد ذنوبهم أفضل من أولادهم الذين ولدوا على الإسلام وهل يشبه بني الأنصار بالأنصار أو بنى المهاجرين بالمهاجرين إلا من لا علم له وأين المنتقل بنفسه من السيئات إلى الحسنات بنظره واستدلاله وصبره واجتهاده ومفارقته عاداته ومعاداته لأوليائه وموالاته لأعدائه إلى آخر لم يحصل له مثل هذه الحال وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية وقد قال تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعلم عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما (سورة الفرقان). وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يارب قد عملت أشياء لا أراها ههنا فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه

فأين من يبدل الله سيئاته حسنات إلى من لم تحصل له تلك الحسنات ولا ريب أن السيئات لا يؤمر بها وليس للعبد أن يفعلها ليقصد بذلك التوبة منها فإن هذا مثل من يريد أن يحرك العدو عليه ليغلبهم بالجهاد أو يثير الأسد عليه ليقتله ولعل العدو يغلبه والأسد يفترسه بل مثل من يريد أن يأكل السم ثم يشرب الترياق وهذا جهل بل إذا قدر من ابتلى بالعدو فغلبه كان أفضل ممن لم يكن كذلك وكذلك من صادفه الأسد وكذلك من اتفق أن شرب السم فسقى ترياقا فاروقا يمنع نفوذ سائر السموم فيه كان بدنه أصح من بدن من لم يشرب ذلك الترياق والذنوب إنما تضر أصحابها إذا لم يتوبوا منها والجمهور الذين يقولون بجواز الصغائر عليهم يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها وحينئذ فما وصفوهم إلا بما فيه كمالهم فإن الأعمال بالخواتيم مع أن القرآن والحديث وإجماع السلف معهم في تقرير هذا الأصل فالمنكرون لذلك يقولون في تحريف القرآن ما هو من جنس قول أهل البهتان ويحرفون الكلم عن مواضعه كقولهم في قوله تعالى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر (سورة الفتح). أي ذنب آدم وما تأخر من ذنب أمته فإن هذا ونحوه من تحريف الكلم عن مواضعه أما أولا فلأن آدم تاب وغفر له ذنبه قبل أن يولد نوح وإبراهيم فكيف يقول له إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ذنب آدم وأما ثانيا فلأن الله يقول ولا تز وازرة وزر أخرى (سورة الإسراء). فكيف يضاف ذنب أحد إلى غيره وأما ثالثا فلأن في حديث الشفاعة الذي في الصحاح أنهم يأتون

آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته اشفع لنا إلى ربك فيذكر خطيئته ويأتون نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى فيقول لهم اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكان سبب قبول شفاعته كما عبودتيه وكمال مغفرة الله له فلو كانت هذه لآدم لكان يشفع لأهل الموقف وأما رابعا فلأن هذه الآية لما نزلت قال أصحابه رضي الله عنهم يا رسول الله هذا لك فما لنا فأنزل الله تعالى هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم (سورة الفتح). فلو كان ما تأخر ذنوبهم لقال هذه الآية لكم وأما خامسا فكيف يقول عاقل إن الله غفر ذنوب أمته كلها وقد علم أن منهم من يدخل النار وإن خرج منها بالشفاعة فهذا وأمثاله من خيار تأويلات المانعين لما دل عليه القرآن من توبة الأنبياء من ذنوبهم واستغفارهم وزعمهم أنه لم يكن هناك ما يوجب توبة ولا استغفار ولا تفضل الله عليه بمحبته وفرحه بتوبتهم ومغفرته ورحمته لهم فكيف بسائر تأويلاتهم التي فيها من تحريف القرآن وقول الباطل على الله ما ليس هذا موضع بسطه وأما قوله إن هذا ينفى الوثوق ويوجب التنفير فليس هذا بصحيح فيما قبل النبوة ولا فيما يقع خطأ ولكن غايته أن يقال هذا موجود فيما تعمد من الذنب فيقال بل إذا اعترف الرجل الجليل القدر بما هو عليه من الحاجة إلى توبته واسغفاره ومغفرة الله له ورحمته دل ذلك على صدقه وتواضعه وعبوديته لله وبعده عن الكبر والكذب بخلاف من يقول ما بي حاجة إلى شيء من هذا ولا يصدر منى ما يحوجني إلى مغفرة الله لي وتوبته على ويصر على كل ما يقوله ويفعله بناء على

أنه لا يصدر منه ما يرجع عنه فإن مثل هذا إذا عرف من رجل نسبه الناس إلى الكذب والكفر والجهل وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لن يدخل أحد منكن الجنة بعمله قالوا ولا أنت يارسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فكان هذا من أعظم ممادحه وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لا تطروني ما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله وكل من سمع هذا عظمه بمثل هذا الكلام. وفي الصحيحين عنه أنه كان يقول اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به منى أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير وهذا كما أنه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا على حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني رواه أبو داود وغيره وقال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد رواه مالك وغيره كان هذا التواضع مما زاده الله به رفعة وكذلك لما سجد له بعض أصحابه فنهاه عن ذلك وقال إنه لا يصلح السجود إلا لله وكذلك لما كان بعض الناس يقول ما شاء الله وشاء محمد قال أجعلتني ندا لله قل ما شاء الله ثم شاء محمد وقوله في دعائه أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المعترف المقر بذنبه أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف من خضعت له رقبته وذل جسده ورغم أنفه لك ونحو

هذه الأحوال التي رفع الله بها درجاته بما اعترف به من فقر العبودية وكمال الربوبية والغنى عن الحاجة من خصائص الربوبية فأما العبد فكماله في حاجته إلى ربه وعبوديته وفقره وفاقته فكلما كانت عبوديته أكمل كان أفضل وصدور ما يحوجه إلى التوبة والإستغفار مما يزيده عبودية وفقرا وتواضعا ومن المعلوم أن ذنوبهم ليست كذنوب غيرهم بل كما يقال حسنات الأبرار سيئات المقربين لكن كل يخاطب على قدر مرتبته وقد قال صلى الله عليه وسلم كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون وما ذكره من عدم الوثوق والتنفير قد يحصل مع الإصرار والإكثار ونحو ذلك وأما اللمم الذي يقترن به التوبة والإستغفار أو ما يقع بنوع من التأويل وما كان قبل النبوة فإنه مما يعظم به الإنسان عند أولى الأبصار وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد علم تعظيم رعيته له وطاعتهم مع كونه دائما كان يعترف بما يرجع عنه من خطأ وكان إذا اعترف بذلك وعاد إلى الصواب زاد في أعينهم وازدادوا له محبة وتعظيما ومن أعظم ما نقمه الخوارج على علي أنه لم يتب من تحكيم الحكمين وهم وإن كانوا جهالا في ذلك فهو يدل على أن التوبة لم تكن تنفرهم وإنما نفرهم الأصرار على ما ظنوه هم ذنبا والخوارج من أشد الناس تعظيما للذنوب ونفورا عن أهلها حتى أنهم يكفرون بالذنب ولا يحتملون لمقدمهم ذنبا ومع هذا فكل مقدم لهم تاب عظموه وأطاعوه ومن لم يتب عادوه فيما يظنونه ذنبا وإن لم يكن ذنبا

فعلم أن التوبة والإستغفار لا توجب تنفيرا ولا تزيل وثوقا بخلاف دعوى البراءة مما يتاب منه ويستغفر ودعوى السلامة مما يحوج الرجوع إلى الله واللجأ إليه فإنه هو الذي ينفر القلوب ويزيل الثفة فإن هذا لم يعلم أنه صدر إلا عن كذاب أو جاهل وأما الأول فإنه يصدر عن الصادقين العالمين ومما يبين ذلك أنه لم يعلم أحد طعن في نبوة أحد من الأنبياء ولا قدح في الثقة به بما دلت عليه النصوص التي تيب منها ولا احتاج المسلمون إلى تأويل النصوص بما هو من جنس التحريف لها كما يفعله من يفعل ذلك والتوراة فيها قطعة من هذا وما أعلم أن بني إسرائيل قدحوا في نبي من الأنبياء بتوبته في أمر من الأمور وإنما كانوا يقدحون فيهم بالإفتراء عليهم كما كانوا يؤذن موسى عليه السلام وإلا فموسى قد قتل القبطي قبل النبوة وتاب من سؤال الرؤية وغير ذلك بعد النبوة وما أعلم أحدا من بنى إسرائيل قدح فيه بمثل هذا وما جرى في (سورة النجم). من قوله تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى على المشهور عند السلف والخلف من أن ذلك جرى على لسانه ثم نسخه الله وأبطله هو من أعظم المفتريات على قول

هؤلاء ولهذا كان كثير من الناس يكذب هذا وإن كان مجوزا عليهم غيره إما قبل وإما بعدها لظنه أن في ذلك خطأ في التبليغ وهو معصوم في التبليغ بالإتفاق والعصمة المتفق عليها أنه لا يقر على خطأ في التبليغ بالإجماع ومن هذا فلم يعلم أحد من المشركين نفر برجوعه عن هذا وقوله إن هذا مما ألقاه الشيطان ولكن روى أنهم نفروا لما رجع إلى ذم آلهتهم بعد ظنهم أنه مدحها فكان رجوعهم لدوامه على ذمها لا لأنه قال شيئا ثم قال إن الشيطان ألقاه وإذا كان هذا لم ينفر فغيره أولى أن لا ينفر وأيضا فقد ثبت أن النسخ نفر طائفة كما قال سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها (سورة البقرة). وقوله وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا (سورة النحل). فالتبديل الذي صرحوا بأنه منفر ونفروا به عنه لم يكن مما يجب نفيه عنه فكيف بالرجوع إلى الحق الذي لم يعلم أنهم نفروا منه وهو أقل تنفيرا لأن النسخ فيه رجوع عن الحق إلى حق وهذا رجوع إلى حق من غير حق ومعلوم أن الإنسان يحمد على ترك الباطل إلى الحق ما لا يحمد على

ترك ما لم يزل يقول إنه حق وإذا كان جائزا فهذا أولى وإذا كان في ذلك مصلحة ففي هذا أيضا مصالح عظيمة ولولا أن فيها وفي العلم بها مصالح لعباده لم يقصها في غير موضع من كتابه وهو سبحانه وله الحمد لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنبا إلا ذكر معه توبته لينزهه عن النقص والعيب ويبين أنه ارتفعت منزلته وعظمت درجته وعظمت حسناته وقربه إليه بما أنعم الله عليه من التوبة والإستغفار والأعمال الصالحة التي فعلها بعد ذلك وليكون ذلك أسوة لمن يتبع الأنبياء ويقتدي بهم إلى يوم القيامة ولهذا لما لم يذكر عن يوسف توبة في قصة امرأة العزيز دل على أن يوسف لم يذنب أصلا في تلك القصة كما يذكر من يذكر أشياء نزهه الله منها بقول تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (سورة يوسف). وقد قال تعالى ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه (سورة يوسف). والهم كما قال الإمام أحمد رضي الله عنه همان هم خطرات وهم إصرار وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تعالى يقول إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة كاملة فإن عملها فاكتبوها عشرا إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن تركها فاكتبوها له حسنة فإنما تركها من جراي

فيوسف عليه الصلاة والسلام لما هم ترك همه لله فكتب الله به حسنة كاملة ولم يكتب عليه سيئة قط بخلاف امرأة العزيز فإنها همت وقالت وفعلت فراودته بفعلها وكذبت عليه عند سيدها واستعانت بالنسوة وحبسته لما اعتصم وامتنع عن الموافقة على الذنب ولهذا قالت وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم (سورة يوسف). وهذا من قولها كما دل عليه القرآن ليس من كلام يوسف عليه السلام بل لما قالت هذا كان يوسف غائبا في السجن لم يحضر عند الملك بل لما برأته هي والنسوة استدعاه الملك بعد هذا وقال ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين (سورة يوسف). وأما من ذكر الله تعالى وتبارك عنه ذنبا كآدم عليه السلام فإنه لما قال وعصى آدم ربه فغوى ثم أجتباه ربه فتاب عليه وهدى (سورة طـــه). وقال فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (سورة البقرة).

وقال تعالى عن داود عليه السلام وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (سورة ص). وقال لموسى عليه السلام والصلاة إنى لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنى غفور رحيم (سورة النمل).ومن احتج على امتناع ذلك بأن الإقتداء بهم مشروع والإقتداء بالذنب لا يجوز قيل له إنما يقتدى بهم فيما أقروا عليه لا فيما نهوا عنه كما أنه إنما يقتدى بهم فيما أقروا عليه ولم ينسخ ولم ينسه فيما نسخ وحينئذ فيكون التأسى بهم مشروعا مأمورا به لا يمنع وقوع ما ينهون عنه ولا يقرون عليه لا من هذا ولا من هذا وإن كان اتباعهم في المنسوخ لا يجوز بالإتفاق ومما يبين أن النسخ أشد تنفيرا أن الإنسان إذا رجع عن شيء إلى آخر وقال الأول الذي كنت عليه حق أمرني الله به ورجوعي عنه حق أمرني الله به كان هذا أقرب إلى النفور عنه من أن يقول رجعت عما لم يأمرني الله به فإن الناس كلهم يحمدون من قال هذا وأما من قال أمري بهذا حق ونهيي عنه حق فهذا مما نفر عنه كثير من السفهاء وأنكره من أنكره من اليهود وغيرهم ومما يبين الكلام في مسألة العصمة أن تعرف النبوة ولوازمها وشروطها فإن الناس تكلموا في ذلك بحسب أصولهم في أفعال الله

تعالى إذا كان جعل الشخص نبيا رسولا من أفعال الله تعالى فمن نفى الحكم والأسباب في أفعاله وجعلها معلقة بمحض المشيئة وجوز عليه فعل كل ممكن ولم ينزهه عن فعل من الأفعال كما هو قول الجهم بن صفوان وكثير من الناس كالشعري ومن وافقه من أهل الكلام من أتباع مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من مثبتة القدر فهؤلاء يجوزون بعثة كل مكلف والنبوة عندهم مجرد إعلامه بما أوحاه إليه والرسالة مجرد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه النبوة عندهم صفة ثبوتية ولا مستلزمة لصفة يختص بها بل هي من الصفات الإضافية كما يقولون مثل ذلك في الأحكام الشرعية وهذا قول طوائف من أهل الكلام كالجهم بن صفوان والأشعري وأتباعهما ولهذا من يقول بها كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما يقول إن العقل لا يوجب عصمة النبي إلا في التبليغ خاصة فإن هذا هو مدلول المعجزة وما سوى ذلك إن دل السمع عليه وإلا لم تجب عصمته منه وقال محققوا هؤلاء كأبي المعالى وغيره إنه ليس في السمع قاطع يوجب العصمة والظواهر تدل على وقوع الذنوب منهم وكذلك كالقاضي أبي بكر إنما يثبت ما يثبته من العصمة في غير التبليغ إذا كان من موارد الإجماع لأن الإجماع حجة وما سوى ذلك فيقول لم يدل عليه عقل ولا سمع وإذا احتج المعتزلة وموافقوهم من الشيعة عليهم بأن هذا يوجب

التنفير ونحن ذلك فيجب من حكمة الله منعهم منه قالوا هذا مبنى على مسألة التحسين والتقبيح العقليين قالوا ونحن نقول لا يجب على الله شيء ويحسن منه كل شيء وإنما ننفى ما ننفيه بالخبر السمعي ونوجب وقوع ما يقع بالخبر السمعي أيضا كما أوجبنا ثواب المطيعين وعقوبة الكافرين لإخباره أنه يفعل ذلك ونفينا أن يغفر لمشرك لإخباره أنه لا يفعل ذلك ونحو ذلك وكثير من القدرية المعتزلة والشيعة وغيرهم ممن يقول بأصله في التعديل والتجوير وأن الله لا يفضل شخصا على شخص إلا بعمله يقول إن النبوة أو الرسالة جزاء على عمل متقدم فالنبي فعل من الأعمال الصالحة ما استحق به أن يجزيه الله بالنبوة وهؤلاء القدرية في شق وأؤلئك الجهمية الجبرية في شق وأما المتفلسفة القائلون بقدم العالم وصدوره عن علة موجبة مع إنكارهم أن الله تعالى يفعل بقدرته ومشيئته وأنه يعلم الجزئيات فالنبوة عندهم فيض يفيض على الإنسان بحسب استعداده وهي مكتسبة عندهم ومن كان متميزا في قوته العلمية بحيث يستغنى عن التعليم وشكل في نفسه خطاب يسمعه كما يسمع النائم وشخص

يخاطبه كما يخاطب النائم وفي العملية بحيث يؤثر في العنصريات تأثيرا غريبا كان نبيا عندهم وهم لا يثبتون ملكا مفضلا يأتي بالوحي من الله تعالى ولا ملائكة بل ولا جنا يخرق الله بهم العادات للأنبياء إلا قوى النفس وقول هؤلاء وإن كان شرا من أقوال كفار اليهود والنصارى وهو أبعد الأقوال عما جاءت به الرسل فقد وقع فيه كثير من المتأخرين الذين لم يشرق عليهم نور النبوة من المدعين للنظر العقلي والكشف الخيالي الصوفي وإن كان غاية هؤلاء الأقيسة الفاسدة والشك وغاية هؤلاء الخيالات الفاسدة والشطح والقول الرابع وهو الذي عليه جمهور سلف الأمة وأئمتها وكثير من النظار أن الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس والله أعلم حيث يجعل رسالاته فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره وفي عقله ودينه واستعد بها لأن يخصه الله بفضله ورحمته كما قال تعالى وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا

بعضهم فوق بعض درجات (سورة الزخرف). وقال تعالى ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (سورة البقرة). وقال تعالى لما ذكر الأنبياء بقوله ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (سورة الأنعام). فأخبر أنه اجتباهم وهداهم والأنبياء أفضل الخلق باتفاق المسلمين وبعدهم الصديقون والشهداء والصالحون فلولا وجوب كونهم من المقربين الذين هم فوق أصحاب اليمين لكان الصديقون أفضل منهم أو من بعضهم والله تعالى قد جعل خلقه ثلاثة أصناف فقال تعالى في تقسيمهم في الآخرة وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم (سورة الواقعة). وقال في تقسيمهم عند الموت فإما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمينفسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصليه جحيم (سورة الواقعة). وكذلك ذكر في سورة الإنسان والمطففين هذه الأصناف الثلاثة

والأنبياء أفضل الخلق وهم أصحاب الدرجات العلى في الآخرة فيمتنع أن يكون النبي من الفجار بل ولا يكون من عموم أصحاب اليمين بل من أفضل السابقين المقربين فإنهم أفضل من عموم الصديقين والشهداء والصالحين وإن كان النبي أيضا يوصف بأنه صديق وصالح وقد يكون شهيدا لكن ذاك أمر يختص بهم لا يشركهم فيه من ليس بنبى كما قال عن الخليل وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (سورة العنكبوت). وقال يوسف توفني مسلما وألحقني بالصالحين (سورة يوسف). فهذا مما يوجب تنزيه الأنبياء أن يكونوا من الفجار والفساق وعلى هذا إجماع سلف الأمة وجماهيرها وأما من جوز أن يكون غير النبي أفضل منه فهو من أقوال بعض ملاحدة المتأخرين من غلاه الشيعة والصوفية والمتفلسفة ونحوهم وما يحكى عن الفضلية من الخوارج أنهم جوزوا الكفر على النبي فهذا بطريق اللازم لهم لأن كل معصية عندهم كفر وقد جوزوا المعاصى على النبي وهذا يقتضى فساد قولهم بأن كل معصية كفر

وقولهم بجواز المعاصي عليهم وإلا فلم يلتزموا أن يكون النبي كافرا ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبا وطوائف أهل الكلام الذين يجوزون بعثة كل مكلف من الجهمية والأشعرية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم متفقون أيضا على أن الأنبياء أفضل الخلق وأن النبي لا يكون فاجرا لكن يقولون هذا لم يعلم بالعقل بل علم بالسمع بناء على ما تقدم من أصلهم من أن الله يجوز أن يفعل كل ممكن وأما الجمهور الذين يثبتون الحكمة والأسباب فيقولون نحن نعلم بما علمناه من حكمة الله أنه لا يبعث نبيا فاجرا وأن ما ينزل على البر الصادق لا يكون إلا ملائكة لا تكون شياطين كما قال تعالى وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين إلى قوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون (سورة الشعراء). فهذا مما بين الله به الفرق بين الكاهن والنبي وبين الشاعر والنبي لما زعم المفترون أن محمدا صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه الوحي في أول الأمر وخاف على نفسه قبل أن يستيقن أنه ملك قال لخديجة لقد خشيت على نفسي قالت كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل

الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فاستدلت رضي الله عنها بحسن عقلها على أن من يكون الله قد خلقه بهذه الأخلاق الكريمة التي هي من أعظم صفات الأبرار الممدوحين أنه لا يجزيه فيفسد الشيطان عقله ودينه ولم يكن معها قبل ذلك وحي تعلم به انتفاء ذلك بل علمته بمجرد عقلها الراجح وكذلك لما ادعى النبوة من ادعاها من الكذابين مثل مسيلمة الكذاب والعنسى وغيرهما مع ما كان يشتبه من أمرهم لما كان ينزل عليهم من الشياطين ويوحون إليهم حتى يظن الجاهل أن هذا من جنس ما ينزل على الأنبياء ويوحى إليهم فكان ما يبلغ العقلاء وما يرونه من سيرتهم والكذب الفاحش والظلم ونحو ذلك يبين لهم أنه ليس بنبي إذ قد علموا أن النبي لا يكون كاذبا ولا فاجرا وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له ذو الخويصرة اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء والرواية الصحيحة بالفتح أي أنت خاسر خائب إن لم

أعدل إن ظننت أني ظالم مع اعتقادك أني نبي فإنك تجوز أن يكون الرسول الذي آمنت به ظالما وهذا خيبة وخسران فإن ذلك ينافى النبوة ويقدح فيها وقد قال تعالى وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة (سورة آل عمران). وفيه قراءتان يغل ويغل أي ينسب إلى الغلول بين سبحانه أنه ما لأحد أن ينسبه إلى الغلول كما أنه ليس له أن يغل فدل على أن النبي لا يكون غالا ودلائل هذا الأصل عظيمة لكن مع وقوع الذنب الذي هو بالنسبة إليه ذنب وقد لا يكون ذنبا من غيره مع تعقبه بالتوبة والإستغفار لا يقدح في كون الرجل من المقربين السابقين ولا الأبرار ولا يلحقه بذلك وعيد في الآخرة فضلا عن أن يجعله من الفجار وقد قال تعالى في عموم وصف المؤمنين ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة (سورة النجم). وقال وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا

وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العالمين (سورة آل عمران). وقال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون (سورة الزمر). وقال حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (سورة الأحقاف). وقد قال في قصة إبراهيم عليه السلام فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم (سورة العنكبوت). وقال في قصة شعيب عليه السلام قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين (سورة الأعراف). وقال في (سورة إبراهيم). وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين (سورة إبراهيم). وقد ذم الله تعالى وتبارك فرعون بكونه رفع نبوة موسى بما تقدم من قتله

نفسا بغير حق فقال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين (سورة الشعراء). وكان موسى صلى الله عليه وسلم قد تاب من ذلك كما أخبر الله تعالى عنه وغفر له بقوله فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم (سورة القصص). فإن قيل فإذا كان قد غفر له فلماذا يمتنعون من الشفاعة يوم القيامة لأجل ما بدا منهم فيقول آدم إذا طلبت منه الشفاعة إني نهيت عن أكل الشجرة وأكلت منها نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها والخليل يذكر تعريضاته الثلاث التي سماها كذبا وكانت تعريضا وموسى يذكر قتل النفسقيل هذا من كمال فضلهم وخوفهم وعبوديتهم وتواضعهم فإن من فوائد ما يتاب منه أنه يكمل عبودية العبد ويزيده خوفا وخضوعا فيرفع الله بذلك درجته وهذا الإمتناع مما يرفع الله به درجاتهم وحكمة الله تعالى في ذلك أن تصير الشفاعة لمن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر

ولهذا كان ممن امتنع ولم يذكر ذنبا المسيح وإبراهيم أفضل منه وقد ذكر ذنبا ولكن قال المسيح لست هناكم اذهبوا إلى عبد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وتأخر المسيح عن المقام المحمود الذي خص به محمد صلى الله عليه وسلم هو من فضائل المسيح ومما يقربه إلى الله صلوات الله عليهم أجمعين فعلم أن تأخرهم عن الشفاعة لم يكن لنقص درجاتهم عما كانوا عليه بل لما علموه من عظمة المقام المحمود الذي يستدعى من كمال مغفرة الله للعبد وكمال عبودية العبد لله ما اختص به من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولهذا قال المسيح اذهبوا إلى محمد عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإنه إذا غفر له ما تأخر لم يخف أن يلام إذا ذهب إلى ربه ليشفع وإن كان لم يشفع إلا بعد الإذن بل إذا سجد وحمد ربه بمحامد يفتحها عليه لم يكن يحسنها قبل ذلك فيقال له أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع وهذا كله في الصحيحين وغيرهما وأما من قيل له تقدم ولم يعرف أنه غفر له ما تأخر فيخاف أن يكون ذهابه إلى الشفاعة قبل أن يؤذن له في الشفاعة ذنبا فتأخر لكمال خوفه من الله تعالى ويقول أنا قد أذنبت وما غفر لي فأخاف أن أذنب ذنبا آخر فإن النبي صلى الله

عليه وسلم قال المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ومن معاني ذلك أنه لا يؤتى من وجه واحد مرتين فإذا ذاق الذائق ما في الذنب من الألم وزال عنه خاف أن يذنب ذنبا آخر فيحصل له مثل ذلك الألم وهذا كمن مرض من أكلة ثم عوفى فإذا دعى إلى أكل شيء خاف أن يكون مثل ذلك الأول لم يأكله يقول قد أصابني بتلك الأكلة ما أصابني فأخاف أن تكون هذه مثل تلك ولبسط هذه الأمور موضع آخر والمقصود هنا أن الذين ادعوا العصمة مما يتاب منه عمدتهم أنه لو صدر منهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة لأن درجتهم أعلى فالذنب منهم أقبح وأنه يجب أن يكون فاسقا فلا تقبل شهادته وأنه حينئذ يستحق العقوبة فلا يكون إيذاؤه محرما وأذى الرسول محرم بالنص وأنه يجب الإقتداء بهم ولا يجوز الإقتداء بأحد في ذنب ومعلوم أن العقوبة ونقص الدرجة إنما يكون مع عدم التوبة وهم معصومون من الإصرار بلا ريب وأيضا فهذا إنما يتأتى في بعض الكبائر دون الصغيرة وجمهور

المسلمين على تنزيههم من الكبائر لا سيما الفواحش وما ذكر الله تعالى عن نبي كبيرة فضلا عن الفاحشة بل ذكر في قصة يوسف ما يبين أنه يصرف السوء والفحشاء عن عباده المخلصين وإنما يقتدي بهم فيما أقروا عليه ولم ينهوا عنه وأيضا فالذنوب أجناس ومعلوم أنه لا يجوز منهم كل جنس بل الكذب لا يجوز منهم بحال أصلا فإن ذلك ينافي مطلق الصدق ولهذا ترد شهادة الشاهد للكذبة الواحدة وإن لم تكن كبيرة في أحد قولى العلماء وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ولو تاب شاهد الزور من الكذب هل تقبل شهادته فيه قولان للعلماء والمشهور عن مالك أنها لا تقبل وكذلك من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث واحد ثم تاب منه لم تقبل روايته في أحد قوليهم وهو مذهب مالك وأحمد حسما للمادة لأنه لا يؤمن أن يكون أظهر التوبة ليقبل حديثه فلا يجوز أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم تعمد الكذب ألبتة سواء كان صغيرة أو كبيرة بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم ماينبغي انبي أن تكون له خائنة الأعين وأما قوله صلى الله عليهوسلم لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله فتلك كانت معاريض فكان مأمورا بها وكانت منه طاعة لله والمعاريض قد تسمى كذبا لكونه أفهم خلاف ما في نفسه وفي الصحيحين عن أم كلثوم قالت لم أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يرخص فيما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث حديث الرجل لامرأته وإصلاحه بين الناس وفي الحرب

قالت فيما يقول الناس إنه كذب وهو المعاريض وأما ما تقوله الرافضة من أن النبي قبل النبوة وبعدها لا يقع منه خطأ ولا ذنب صغير وكذلك الأئمة فهذا مما انفردوا به عن فرق الأمة كلها وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف ومن مقصودهم بذلك القدح في إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لكونهما أسلما بعد الكفر ويدعون أن عليا رضي الله عنه لم يزل مؤمنا وأنه لم يخط قط ولم يذنب قط وكذلك تمام الإثنى عشر وهذا مما يظهر كذبهم وضلالهم فيه لكل ذي عقل يعرف أحوالهم ولهذا كانوا هم أغلى الطوائف في ذلك وأبعدهم عن العقل والسمع ونكتة أمرهم أنهم ظنوا وقوع ذلك من الأنبياء والأئمة نقصا وأن ذلك يجب تنزيههم وعنه وهم مخطئون إما في هذه المقدمة وإما في هذه المقدمة أما المقدمة الأولى فليس من تاب إلى الله تعالى وأناب إليه بحيث صار بعد التوبة أعلى درجة مما كان قبلها منقوصا ولا مغضوضا منه بل هذا مفضل عظيم مكرم وبهذا ينحل جميع ما يوردونه من الشبه وإذا عرف أن أولياء الله يكون الرجل منهم قد أسلم بعد كفره وآمن بعد نفاقه وأطاع بعد معصيته كما كان أفضل أولياء الله من هذه الأمة وهم السابقون الأولون يبين صحة هذا الأصل

والإنسان ينتقل من نقص إلى كمال فلا ينظر إلى نقص البداية ولكن ينظر إلى كمال النهاية فلا يعاب الإنسان بكونه كان نطفة ثم صار علقة ثم صار مضغة إذا كان الله بعد ذلك خلقه في أحسن تقويم ومن نظر إلى ما كان فهو من جنس إبليس الذي قال أنا خير منه خلقني من نار وخلقته من طين (سورة ص). وقد قال تعالى إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (سورة ص). فأمرهم بالسجود له إكراما لما شرفه الله بنفخ الروح فيه وإن كان مخلوقا من طين والملائكة مخلوقون من نور وإبليس مخلوق من نار كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق الله الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم وكذلك التوبة بعد السيئات قال تعالى إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (سورة البقرة). وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فقال تحت شجرة ينتظر الموت فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه فكيف تجدون فرحه بها قالوا عظيما يا رسول الله قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته

ولهذا قال بعض السلف إن العبد ليفعل الذنب فيدخل به الجنة وإذا ابتلى العبد بالذنب وقد علم أنه سيتوب منه ويتجنبه ففي ذلك من حكمة الله ورحمته بعبده أن ذلك يزيده عبودية وتواضعا وخشوعا وذلا ورغبة في كثرة الأعمال الصالحة ونفرة قوية عن السيئات فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين وذلك أيضا يدفع عنه العجب والخيلاء ونحو ذلك مما يعرض للإنسان وهو أيضا يوجب الرحمة لخلق الله ورجاء التوبة والرحمة لهم إذا أذنبوا وترغيبهم في التوبة وهو أيضا يبين من فضل الله وإحسانه وكرمه ما لا يحصل بدون ذلك كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم

وهو أيضا يبين قوة حاجة العبد إلى الإستعانة بالله والتوكل عليه واللجأ إليه في أن يستعمله في طاعته ويجنبه معصيته وأنه لا يملك ذلك إلا بفضل الله عليه وإعانته له فإن من ذاق مرارة الإبتلاء وعجزه عن دفعه إلا بفضل الله ورحمته كان شهود قلبه وفقره إلى ربه واحتياجه إليه في أن يعينه على طاعته ويجنبه معصيته أعظم ممن لم يكن كذلك ولهذا قال بعضهم كان داود صلى الله عليه وسلم بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة وقال بعضهم لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه ولهذا تجد التائب الصادق أثبت على الطاعة وأرغب فيها وأشد حذرا من الذنب من كثير من الذين لم يبتلوا بذنب كما في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد فإنه لما قتل رجلا بعد أن قال لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله أثر هذا فيه حتى كان يمتنع أن يقتل أحدا يقول لا إله إلا الله وكان هذا مما أوجب امتناعه من القتال في الفتنة وقد تكون التوبة موجبة له من الحسنات ما لا يحصل لمن يكن مثله تائبا من الذنب كما في الصحيحين من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وهو أحد الثلاثة الذين أنزل الله فيهم لقد تاب الله

على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاذ يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم ليتوبوا إنه بهم رءوف رحيم (سورة التوبة). ثم قال وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا صاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم (سورة التوبة). وإذا ذكر حديث كعب في قضية تبين أن الله رفع درجته بالتوبة ولهذا قال فوالله ما أعلم أحدا ابتلاه الله بصدق الحديث أعظم مما ابتلاني وكذلك قال بعض من كان من أشد الناس عدواة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان من أشد الكفار هجاء وإيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم فلما تاب وأسلم كان من أحسن الناس إسلاما وأشدهم حياء وتعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الحارث بن هشام قال الحارث ما نطقت بخطيئة منذ أسلمت ومثل هذا كثير في أخبار التوابين

فمن يجعل التائب الذي اجتباها الله وهداه منقوصا بما كان من الذنب الذي تاب منه وقد صار بعد التوبة خيرا مما كان قبل التوبة فهو جاهل بدين الله تعالى وما بعث الله به رسوله وإذا لم يكن في ذلك نفص مع وجود ما ذكر فجميع ما يذكرونه هو مبنى على أن ذلك نقص وهو نقص إذا لم يتب منه أو هو نقص عمن ساواه إذا لم يصر بعد التوبة مثله فأما إذا تاب توبة محت أثره بالكلية وبدلت سيئاته حسنات فلا نقص فيه بالنسبة إلى حاله وإذا صار بعد التوبة أفضل ممن يساويه أو مثله لم يكن ناقصا عنه ولسنا نقول إن كل من أذنب وتاب فهو أفضل ممن لم يذنب ذلك الذنب بل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس فمن الناس من يكون بعد التوبة أفضل ومنهم من يعود إلى ما كان ومنهم من لا يعود إلى مثل حاله والأصناف الثلاثة فيهم من هو أفضل ممن لم يذنب ويتب وفيهم من هو مثله وفيهم من هو دونه وهذا الباب فيه مسائل كثيرة ليس هذا موضع تفصيلها ولبسطها موضع آخر والمقصود التنبيه ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المسلمين متفقين على ما دل عليه الكتاب والسنة من أحوال الأنبياء لا يعرف عن أحد منهم القول بما أحدثته المعتزلة والرافضة ومن

تبعهم في هذا الباب بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونة عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن وليس فيهم من حرف الآيات كتحريف هؤلاء ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء ولا من قال هذا يمنع الوثوق أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤلاء بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام وهم قصدوا تعظيم الأنبياء بجهل كما قصدت النصارى تعظيم المسيح وأحبارهم ورهبانهم بجهل فأشركوا بهم واتخذوهم أربابا من دون الله وأعرضوا عن اتباعهم فيما أمروهم به ونهوهم عنه وكذلك الغلاة في العصمة يعرضون عما أمروا به من طاعة أمرهم والإقتداء بأفعالهم إلى ما نهوا عنه من الغلو والإشراك بهم فيتخذونهم أربابا من دون الله يستغيثون بهم في مغيبهم وبعد مماتهم وعند قبورهم ويدخلون فيما حرمه الله تعالى ورسوله من العبادات الشركية التي ضاهوا بها النصارى وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند موته لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوه قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وفي الصحيحين أيضا أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة وذكر

حسنها وتصاوير فيها فقال إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة وفي صحيح مسلم عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك وإني أبرأ إلى كل خليل من خليله ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله يعنى نفسه وفي السنن عنه أنه قال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني وفي الموطأ وغيره أنه قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وفي المسند وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجدوفي صحيح مسلم عن أبي هياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأرسل علي في خلافته من يفعل مثل ما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسوى القبور المشرفة ويطمس التماثيل فإن هذه وهذه من أسباب الشرك وعبادة الأوثان قال الله تعالى لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا (سورة نوح). قال غير واحد من السلف كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا وعكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم من دون الله فالمشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين من العامة ومن أهل البيت كلها من البدع المحدثة المحرمة في دين الإسلام وإنما أمر الله أن يقصد لعبادته وحده لا شريك له المساجد لا المشاهد قال الله تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل

مسجد وادعوه مخلصين له الدين (سورة الأعراف). وقال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم فيها خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين (سورة التوبة). وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (سورة الجن). ومثل هذا في القرآن كثير وزيارة القبور على وجهين زيارة أهل التوحيد المتبعين للرسل وزيارة أهل البدع والشرك فالأولى مقصودها أن يسلم على الميت ويدعى له وزيارة قبره بمنزلة الصلاة عليه إذا مات يقصد بها الدعاء له والله سبحانه يثيب هذا الداعي له عند قبره كما يثيب الداعي إذا صلى عليه وهو على سريره والثانية مقصودها أن يطلب منه الحوائج أو يقسم على الله أو يظن أن دعاء الله عند قبره أقرب إلى الإجابة فهذا كله من البدع المنكرة باتفاق أئمة المسلمين ولم يكن شيء من هذا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان بل كان المسلمون لما فتحوا أرض الشام والعراق وغيرهما إذا وجدوا قبرا يقصد الدعاء عنده غيبوه كما وجدوا بتستر قبر دانيال فحفروا له بالنهار ثلاثة عشر قبرا ودفنوه بالليل في واحد منها وكان مكشوفا وكان الكفار يستسقون به فغيبه المسلمون لأن هذا من الشرك

وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها فنهى عن الصلاة إليها لما فيه من مشابهة المشركين الذين يسجدون لها وفي السنن والمسند قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام والسبب الذي من أجله نهى عن الصلاة في المقبرة في أصح قولي العلماء هو سد ذريعة الشرك كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وقت غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان والمشركون يسجدون لها حينئذ فنهى عن قصد الصلاة في هذا الوقت لما في ذلك من المشابهة لهم في الصورة وإن اختلف القصد كذلك نهى عن الصلاة في المقبرة لله لما فيه من مشابهة من يتخذ القبور مساجد وأن المصلى الله لا يقصد ذلك سدا للذريعة فأما إذا قصد ليصلي هناك ليدعوا عند القبور ظنا أن هذا الدعاء هناك أجوب فهذا ضلال بإجماع المسلمين وهو مما حرمه الله ورسوله وأبلغ من ذلك أن يدعى ويقسم على الله بالميت وأبلغ من ذلك أنيسأل الله به ونحو ذلك وأبلغ من ذلك أن يسافر إليه من مكان بعيد لهذا القصد أو ينذر له أو لمن عنده دهن أو شمع أو ذهب أو فضة أو قناديل أو ستور فهذا كله من نذور أهل الشرك ولا يجوز مثل هذا النذر باتفاق المسلمين ولا الوفاء به كما ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه ولا يجوز أن ينذر أحد إلا طاعة ولا يجوز أن ينذرها إلا لله فمن نذر لغير الله فهو مشرك كمن صام لغير الله وسجد لغير الله ومن حج إلى قبر من القبور فهو مشرك بل لو سافر إلى مسجد لله غير المساجد الثلاثة ليعبد الله فيها كان عاصيا لله ورسوله فكيف إذا سافر إلى غير الثلاثة ليشرك بالله وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا

ولهذا قال غير واحد من العلماء إن السفر لزيارة المشاهد سفر معصية ومن لم يجوز القصر في سفر المعصية منهم من لم يجوزه لا سيما إذا سمى ذلك حجا وصنفت فيه مصنفات وسميت مناسك حج المشاهد ومن هؤلاء من يفضل قصد المشاهد وحجها والسفر إليها على حج بيت الله الحرام الذي فرض الله حجه على الناس وهذا أمر قد وقع فيه الغلاة في المشايخ والأئمة المنتسبين إلى السنة وإلى الشيعة حتى أن الواحد من هؤلاء في بيته يصلى لله الصلاة المفروضة بقلب غافل لاه ويقرأ القرآن بلا تدبر ولا خشوع وإذا زار قبر من يغلو فيه بكى وخشع واستكان وتضرع وانتحب ودمع كما يقع إذا سمع المكاء والتصدية الذي كان للمشركين عند البيت وكثير من هؤلاء لا يحج لأجل ما أمر الله به ورسوله من حج البيت العتيق بل لقصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم كما يزور شيوخه وائمته ونحو ذلك والأحاديث المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة قبره كلها ضعيفة بل موضوعة فلم يخرج أهل الصحيحين والسنن المشهورة شيئا منها ولا استدل بشيء منها أحد من أئمة المسلمين وإنما اعتمدوا على ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من رجليسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام وقد ذكر ابن عبدالبر هذا عاما مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبينه فقال ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام وفي النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله وكل بقبري ملائكة تبلغني عن أمتي السلام وفي السنن سنن أبي داود وغيره عن أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة

علي قالوا كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي قد صرت رميما فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء فهذا المعروف عنه في السنن هو الصلاة والسلام عليه كما أمر الله تعالى بذلك في كتابه بقوله يا أيها الذين آمنوا صلو عليه وسلموا تسليما (سورة الأحزاب). وقد ثبت في الصحيح أنه قال من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا لكن إذا صلى وسلم عليه من بعيد بلغ ذلك وإذا سلم عليه من قريب سمع هو سلام المسلم عليه ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم إذا أتى أحدهم قبره سلم عليه وعلى صاحبيه كما كان ابن عمر يقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك با أبا بكر السلام عليك يا أبه ولم يكن أحد منهم يقف يدعو لنفسه مستقبل القبر

ولهذا اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على أنه إذا سلم عليه وأراد أن يدعو استقبل القبلة ودعا ولا يدعو مستقبل القبر ثم قالت طائفة كأبي حنيفة إذا سلم عليه يستقبل القبلة أيضا ويستدير القبر ويجعله عن يساره وقال الأكثرون مالك والشافعي وأحمد وغيرهم بل عند السلام يستقبل القبر ويستدير الكعبة وأما عند الدعاء فإنما يدعو الله وحده كما يصلي لله وحده فيستقبل القبلة كما يستقبل القبلة إذا دعا بعرفة والصفا والمروة وعند الجمرات وكره مالك بن أنس وغيره أن يقول القائل زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن هذا اللفظ قد يراد به ما هو منهى عنه من الزيارة البدعية كالزيارة لطلب الحوائج منه فكرهوا أن يتكلم بلفظ يتضمن شركا أحدثه الناس في هذا اللفظ من المعاني الفاسدة وإن كان لفظ الزيارة إذا عنى به الزيارة الشرعية لا بأس به وذكر مالك أنه لم ير أحدا من السلف يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه وغير هذا من البدع وقال إنما يصلح آخر هذه الأمة ما أصلح أولها ومالك قد أدرك التابعين بالمدينة وغيرها وهم كانوا أعلم خلق الله إذ ذاك بما يجب من حق الله وحق رسوله فإذا كان هذا في حق خير خلق الله وأكرمهم على الله وسيد ولد آدم وصاحب لواء الحمد الذي آدم ومن دونه تحت لوائه يوم القيامة وهو خطيب الأنبياء إذا وفدوا على ربهم وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا وهو صاحب المقام المحمود يوم القيامة الذي يغبطه به الأولون والآخرون

وهو خاتم النبيين وأفضل المرسلين أرسله الله بأفضل شريعة إلى خير أمة أخرجت للناس وأنزل عليه أفضل كتبه وجعله مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه الذي هدى الله به الخلق وأخرجهم به من الظلمات إلى النور وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال والغي والرشاد وطريق الجنة وطريق النار وهو الذي قسم الله به عباده إلى شقي وسعيد فالسعيد من آمن به وأطاعه والشقي من كذبه وعصاه وعلق به النجاة والسعادة فلا سبب ينجو به العبد من عذاب الله وينال السعادة في الدنيا والآخرة ممن بلغته دعوته وقامت عليه الحجة برسالته إلا من آمن به واتبع النور الذي أنزل معه قال تعالى ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (سورة الأعراف). وقد بين الله على لسانه ما يستحقه الله من الحقوق التي لا تصلح إلا لله وما يستحقه الرسول من الحقوق فقال تعالى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (سورة الفتح). فالإيمان بالله والرسول والتعزير والتوقير

للرسول والتسبيح بكرة وأصيلا لله وحده قال تعالى ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون (سورة النور). فجعل الطاعة لله والرسول والخشية والتقوى لله وحده وقال تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (سورة التوبة). فجعل الإيتاء لله والرسول لأن المراد به الإيتاء الشرعي وهو ما أباحه الله على لسان رسوله بخلاف من آتاه الملك خلقا وقدرا ولم يطع الله ورسوله فيه فإن ذلك مذموم مستحق للعقاب وإن كان قد آتاه الله ذلك خلقا وقدرا وأما من رضي بما آتاه الله ورسوله فهو ممن رضي بما أحله الله ورسوله ولم يطلب ما حرم عليه كالذين قال الله فيهم ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ثم قال ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله (سورة التوبة). ولم يقل ورسوله لأن الله وحده كاف عبده كما قال الله تعالى أليس الله بكاف عبده (سورة الزمر). وقال الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (سورة آل عمران). ثم دعاهم إلى أن يقولوا سيؤتينا الله من فضله ورسوله (سورة التوبة). فذكر أن الرسول يؤتيهم وأن ذلك من فضل الله وحده لم يقل من فضله وفضل رسوله ثم ذكر قولهم إنا إلى الله راغبون (سورة التوبة). ولم

يقل ورسوله كما قال في الآية الأخرى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب سورة الشرح وأما ما في القرآن من ذكر عبادته وحده ودعائه وحده والإستعانة به وحده والخوف منه وحده فكثير كقوله ولا يخشون أحدا إلا الله (سورة الأحزاب). وقوله فإياي فارهبون (سورة النحل). و وإياي فاتقون (سورة البقرة). وقوله فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (سورة آل عمران). وكذلك قوله فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين (سورة الشعراء). واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا (سورة النساء). وأما المحبة فهي لله ورسوله والإرضاء لله والرسول كقوله تعالى أحب إليكم من الله ورسوله (سورة التوبة). وقوله والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين (سورة التوبة). فالرسول علينا أن نحبه وعلينا أن نرضيه بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وكذلك الطاعة لله والرسول قال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله (سورة النساء). والعبادات بأسرها الصلاة والسجود والطواف والدعاء والصدقة

والنسك والذي لا يصلح إلا لله ولم يخص الله بقعة تفعل الصلاة فيها إلا المساجد لا مقبرة ولا مشهدا ولا مغارة ولا مقام نبى ولا غير ذلك ولا خص بقعة غير المساجد بالذكر والدعاء إلا مشاعر الحج لا قبر نبي ولا صالح ولا مغارة ولا غير ذلك ولا يقبل على وجه الأرض شيء عبادة لله إلا الحجر الأسود ولا يتمسح إلا به وبالركن اليماني ولا يستلم الركنان الشاميان وهما من البيت فكيف غيرهما وقد طاف ابن عباس ومعاوية فجعل معاوية يستلم الأركان الأربعة فقال ابن عباس رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الركنين اليمانيين فقال معاوية ليس من البيت شيء مهجورا فقال ابن عباس رضي الله عنه لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فقال معاوية صدقت ورجع إلى قوله فالعبادات مبناها على أصلين أحدهما أن لا يعبد إلا الله وحده لا نعبد من دونه شيئا لا ملكا ولا نبيا ولا صالحا ولا شيئا من المخلوقات والثاني أن نعبده بما أمرنا به على لسان رسوله لا نعبده ببدع لم يشرعها الله ورسوله والعبادات تتضمن كمال الحب وكمال الخضوع فمن أحب شيئا من المخلوقات كما يحب الخالق فهو مشرك قال الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا

لله (سورة البقرة). وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال ثم أن تزانى بحليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون سورةالفرقان والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالعبادة في المساجد وذكر فضل الصلاة في الجماعة ورغب في ذلك ولم يأمر قط بقصد مكان لأجل نبي ولا صالح بل نهى عن اتخاذها مساجد فلا يجوز أن تقصد للصلاة فيها والدعاء وهذا كله لتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله فقد قال بعض الناس يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أو بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (سورة البقرة).وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يستغفرني فأغفر له من يسألني فأعطيه حتى يطلع الفجر فالرسل صلوات الله عليهم وسلامه أمروا الناس بعبادة الله وحده لا شريك له وسؤاله ودعائه ونهوا أن يدعى أحد من دون الله تعالى وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أحب البقاع إلى الله تعالى المساجد وأبغضها إلى الله تعالى الأسواق يعنى البقاع التي كانت تكون في مدينته ونحوها ولم يكن بالمدينة لا حانة ولا كنيسة ولا موضع شرك وهذه المواضع شر من الأسواق وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم شرار الناس الذين تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد هذا إذا بنى المسجد

المسمى مشهدا على قبر صحيح فكيف وكثير من هذه المشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين من الصحابة والقرابة وغيرهم كذب وكثير منها مختلف فيه لا يتوثق فيه بنقل ينقل في ذلك مما يوجد بالشام والعراق وخراسان وغير ذلك والسبب في خفائها وكثرة الخلاف فيها أن الله حفظ الدين الذي بعث به رسوله بقوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (سورة الحجرات).. واتخاذ هذه معابد ليس من الدين فلهذا لم يحفظ هذه المقامات والمشاهد بل مبنى أمرهم على الجهل والضلال وإنما يستند أهلها إلى منامات تكون من الشياطين أو إلى أخبار إما مكذوبة وإما منقولة عمن ليس قوله حجة والشياطين تضل أهلها كما تضل عباد الأصنام فتارة تكلمهم وتارة تتراءى لهم وتارة تقضى بعض حوائجهم وتارة تصيح وتحرك السلاسل التي فيها القناديل وتطفئ القناديل وتارة تفعل أمورا أخر كما تفعل عبادة الأوثان التي كانت للعرب وهي اليوم تفعل مثل ذلك في أوثان الترك والصين والسودان وغيرهم فيظنون أن ذلك هو الميت أو ملك صور على صورته وإنما هو شيطان أضلهم بالشرك كما يجرى ذلك لعباد الأصنام المصورة على صورة الآدميين وهذا باب واسع ليس هذا موضع استقصائه.
*

فصل
وأما قوله وأن الأئمة معصومون كالأنبياء في ذلك.
*فهذه خاصة الرافضة الإمامية التي لم يشركهم فيها أحد لا الزيدية الشيعة ولا سائر طوائف المسلمين إلا من هو شر منهم كالإسماعيلية الذين يقولون بعصمة بني عبيد المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر القائلين بأن الإمامة بعد جعفر في محمد بن إسماعيل دون موسى بن جعفر وأولئك ملاحدة منافقون والإمامية الاثنا عشرية خير منهم بكثير فإن الإمامية مع فرط جهلهم وضلالهم فيهم خلق مسلمون باطنا وظاهرا ليسوا زنادقة منافقين لكنهم جهلوا وضلوا واتبعوا أهواءهم وأما أولئك فأئمتهم الكبار العارفون بحقيقة دعوتهم الباطنية زنادقة منافقون وأما

عوامهم الذين لم يعرفوا باطن أمرهم فقد يكونون مسلمين وأما المسائل المتقدمة فقد شرك غير الإمامية فيها بعض الطوائف إلا غلوهم في عصمة الأنبياء فلم يوافقهم عليه أحد أيضا حيث ادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسهو فإن هذا لا يوافقهم عليه أحد فيما علمت اللهم إلا أن يكون من غلاة جهال النساك فإن بينهم وبين الرافضة قدرا مشتركا في الغلو وفي الجهل والإنقياد لما لا يعلم صحته والطائفتان تشبهان النصارى في ذلك وقد يقرب إليهم بعض المصنفين في الفقه من الغلاة في مسألة العصمة والكلام في أن هؤلاء أئمة فرض الله الإيمان بهم وتلقى الدين منهم دون غيرهم ثم في عصمتهم عن الخطأ فإن كلا من هذين القولين مما لا يقوله إلا مفرط في الجهل أو مفرط في أتباع الهوى أو في كليهما فمن عرف دين الإسلام وعرف حال هؤلاء كان عالما بالإضطرار من دين محمد صلى الله عليه وسلم بطلان هذا القول لكن الجهل لا حد له وهو هنا لم يذكر حجة غير حكاية المذهب فأخرنا الرد إلى موضعه وأما قوله وأخذوا أحكامهم الفروعية عن الأئمة المعصومين الناقلين عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره فيقال أولا القوم المذكورون إنما كانوا يتعلمون حديث جدهم من العلماء به كما يتعلم سائر المسلمين وهذا متواتر عنهم فعلى بن الحسين يروى تارة عن أبان بن عثمان بن عفان عن أسامة بن زيد قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم رواه البخاري ومسلم في الصحيحين وسمع من أبي هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من النار حتى فرجه بفرجه أخرجاه في الصحيحين ويروى عن ابن عباس رضي الله عنه عن رجال من الأنصار رمى بنجم فاستنار رواه مسلم

وأبو جعفر محمد بن علي يروى عن جابر بن عبدالله حديث مناسك الحج الطويل وهو أحسن ما روى في هذا الباب ومن هذه الطريق رواه مسلم في صحيحه من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وأما ثانيا فليس في هؤلاء من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو مميز إلا علي رضي الله عنه وهو الثقة الصدوق فيما يخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم كما أن أمثاله من الصحابة ثقات صادقون فيما يخبرون به أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولله الحمد من أصدق الناس حديثا عنه لا يعرف فيهم من تعمد عليه كذبا مع أنه كان يقع من أحدهم من الهنات ما يقع ولهم ذنوب وليسوا معصومين ومع هذا فقد جرب أصحاب النقد والإمتحان أحاديثهم واعتبروها بما تعتبر به الأحاديث فلم يوجد عن أحد منهم تعمد كذبة بخلاف القرن الثاني فإنه كان في أهل الكوفة جماعة يتعمدون الكذب ولهذا كان الصحابة كلهم ثقات باتفاق أهل العلم بالحديث والفقه حتى الذين كانوا ينفرون عن معاوية رضي الله عنه إذا حدثهم على منبر المدينة يقولون وكان لا يتهم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى بسر بن أبي أرطاة مع ما عرف منه روى حديثين رواهما أبو داود وغيره لأنهم معروفون بالصدق عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا حفظا من الله لهذا الدين ولم يتعمد أحد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم إلا هتك الله ستره وكشف أمره ولهذا كان يقال لو هم رجل بالسحر أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصبح والناس يقولون فلان كذاب وقد كان التابعون بالمدينة ومكة والشام والبصرة لا يكاد يعرف فيهم

كذاب لكن الغلط لم يسلم منه بشر ولهذا يقال فيمن يضعف منهم ومن أمثالهم تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه أي من جهة سوء حفظه فيغلط فينسى لا من جهة تعمده للكذب وأما الحسن والحسين فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهما صغيران في سن التمييز فروايتهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قليلة وأما سائر الإثنى عشر فلم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم فقول القائل إنهم نقلوا عن جدهم إن أراد بذلك أنه أوحى إليهم ما قاله جدهم فهذه نبوة كما كان يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله غيره من الأنبياء وإن أراد أنهم سمعوا ذلك من غيرهم فيمكن أن يسمع من ذلك الغير الذي سمعوه منهم سواء كان ذلك من بني هاشم أو غيرهم فأي مزية لهم في النقل عن جدهم إلا بكمال العناية والإهتمام فإنه كل من كان أعظم اهتماما وعناية بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتلقيها من مظانها كان أعلم بها وليس هذا من خصائص هؤلاء بل في غيرهم من هو أعلم بالسنة من أكثرهم كما يوجد في كل عصر كثير من غير بني هاشم أعلم بالسنة من أكثر بني هاشم فالزهري أعلم بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله وأقواله وأفعاله باتفاق أهل العلم من أبي جعفر محمد بن علي وكان معاصرا له وأما موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي فلا يستريب من له من العلم نصيب أن مالك بن أنس وحماد بن زيد حماد بن سلمة والليث بن سعد والأوزاعي ويحيى بن سعيد ووكيع بن الجراح وعبدالله ابن

المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأمثالهم أعلم بأحاديث النبي صلىالله عليه وسلم من هؤلاء وهذا أمر تشهد به الآثار التي تعاين وتسمع كما تشهد الآثار بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أعظم فتوحا وجهادا بالمؤمنين وأقدر على قمع الكفار والمنافقين من غيره مثل عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين ومما يبين ذلك أن القدر الذي نقل عن هؤلاء من الأحكام المسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينقل عن أولئك ما هو أضعافه وأما دعوى المدعي أن كل ما أفتى به الواحد من هؤلاء فهو منقول عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا كذب على القوم رضي الله عنهم أجمعين فإنهم كانوا يميزون بين ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما يقولونه من غير ذلك وكان علي رضي الله عنه يقول إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلى من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة ولهذا كان يقول القول ويرجع عنه ولهذا كانوا يتنازعون في المسائل كما يتنازع غيرهم وينقل عنهم الأقوال المختلفة كما ينقل عن غيرهم وكتب السنة و والشيعة مملوءة بالروايات المختلفة عنهم وأما قوله إن الإمامية يتناقلون ذلك عن الثقات خلفا عن سلف إلى أن تتصل الرواية بأحد المعصومين فيقال أولا إن كان هذا صحيحا فالنقل عن المعصوم الواحد يغنى عن غيره فلا حاجة في كل زمان إلى معصوم وأيضا فإذا كان النقل موجودا فأي فائدة في هذا المنتظر الذي لا ينقل عنه شيء إن كان النقل عن أولئك كافيا فلا حاجة إليه وإن لم يكن كافيا لم يكن ما نقل عنهم كافيا للمتقدى بهم ويقال ثانيا متى ثبت النقل عن أحد هؤلاء كان غايته أن يكون كما لو سمع منه وحينئذ فله حكم أمثاله

ويقال ثالثا الكذب على هؤلاء في الرافضة أعظم الأمور لا سيما على جعفر بن محمد الصادق فإنه ما كذب على أحد ما كذب عليه حتى نسبوا إليه كتاب الجفر والبطاقة والهفت واختلاج الأعضاء وجدول الهلال وأحكام الرعود والبروق ومنافع سور القرآن وقراءة القرآن في المنام وما يذكر عنه من حقائق التفسير التي ذكر كثيرا منها أبو عبدالرحمن السلمي وصارت هذه مكاسب للطرقية وأمثالهم حتى زعم بعضهم أن كتاب رسائل إخوان الصفا من كلامه مع علم كل عاقل يفهمها ويعرف الإسلام أنها تناقض دين الإسلام وأيضا فهي إنما صنفت بعد موت جعفر بن محمد بنحو مائتي سنة فإن جعفر بن محمد توفى سنة ثمان وأربعين ومائة وهذه وضعت في أثناء المائة الرابعة لما ظهرت الدولة العبيدية بمصر وبنوا القاهرة فصنفت على مذهب أولئك الإسماعيلية كما يدل على ذلك ما فيها وقد ذكروا فيها ما جرى على المسلمين من استيلاء النصارى على سواحل الشام وهذا إنما كان بعد المائة الثالثة وقد عرف الذين صنفوها مثل زيد بن رفاعة وأبي سليمان بن معشر البستي المعروف بالمقدسي وأبي الحسن علي بن هارون الزنجاني وأبي أحمد النهرجوري والعوفي ولأبي الفتوح المعافى بن زكرياء الجريري صاحب كتاب الجليس والأنيس مناظرة معهم وقد ذكر ذلك أبو حيان التوحيدي في كتاب الإمتاع والمؤانسة وفي الجملة فمن جرب الرافضة في كتابهم وخطابهم علم أنهم من أكذب خلق الله فكيف يثق القلب بنقل من كثر منهم الكذب قبل أن يعرف صدق الناقل وقد تعدى شرهم إلى غيرهم من أهل الكوفة وأهل العراق حتى كان أهل المدينة يتوقون أحاديثهم وكان مالك يقول نزلوا أحاديث أهل العراق منزلة أحاديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقال له عبدالرحمن مهدى يا أبا عبدالله سمعنا في بلدكم

أربعمائة حديث في أربعين يوما ونحن في يوم واحد نسمع هذا كله فقال له يا عبدالرحمن ومن أين لنا دار الضرب أنتم عندكم دار الضرب تضربون بالليل وتنفقون بالنهار وهذا مع أنه كان في الكوفة وغيرها من الثقات الأكابر كثير لكن لكثرة الكذب الذي كان أكثره في الشيعة صار الأمر يشتبه على من لا يميز بين هذا وهذا بمنزلة الرجل الغريب إذا دخل بلدا نصف أهله كذابون خوانون فإنه يحترس منهم حتى يعرف الصدوق الثقة وبمنزلة الدراهم التي كثر فيها الغش فإنه يحترس عن المعاملة بها من لا يكون نقادا ولهذا كره لمن لا يكون له نقد وتمييز النظر في الكتب التي يكثر فيها الكذب في الرواية والضلال في الآراء ككتب أهل البدع وكره تلقى العلم من القصاص وأمثالهم الذين يكثر الكذب في كلامهم وإن كانوا يقولون صدقا كثيرا فالرافضة أكذب من كل طائفة باتفاق أهل المعرفة بأحوال الرجال.
*

فصل
وأما قوله ولم يلتفوا إلى القول بالرأي والإجتهاد وحرموا الأخذ بالقياس والإستحسان.
*فالكلام على هذا من وجوه...
أحدهما: أن الشيعة في هذا مثل غيرهم ففي أهل السنة في الرأي والإجتهاد والقياس والإستحسان كما في الشيعة النزاع في ذلك فالزيدية تقول بذلك وتروى فيه الروايات عن الأئمة.
الثاني: أن كثيرا من أهل السنة العامة والخاصة لا تقول بالقياس فليس كل من قال بإمامة الخلفاء الثلاثة قال بالقياس بل المعتزلة البغداديون لا يقولون بالقياس

والفقهاء أهل الظاهر كداود بن علي وأتباعه وطائفة من أهل البيت والصوفية لا يقولون بالقياس وحينئذ فإن كان القياس باطلا أمكن الدخول في السنة وترك القياس وإن كان حقا أمكن الدخول في أهل السنة والأخذ بالقياس.
الثالث: أن يقال القول بالرأي والإجتهاد والقياس والإستحسان خير من الأخذ بما ينقله من يعرف بكثرة الكذب عمن يصيب ويخطئ نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم ولا يشك عاقل أن رجوع مثل مالك وابن أبي ذئب وابن الماجشون والليث بن سعد والأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وشريك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر والحسن بن زياد اللؤلؤي والشافعي والبويطي والمزني وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي داود السجستاني والأثرم وإبراهيم الحربي والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وأبي بكر بن خزيمة ومحمد بن جرير الطبري ومحمد بن نصر المروزي وغير هؤلاء إلى إجتهادهم واعتبارهم مثل أن يعلموا سنة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه ويجتهدوا في تحقيق مناط الأحكام وتنقيحها وتخريجها خير لهم من أن يتمسكوا بنقل الروافض عن العسكريين وأمثالهما فإن الواحد من هؤلاء لأعلم بدين الله ورسوله من العسكريين أنفسهما فلو أفتاه أحدهما بفتيا كان رجوعه إلى اجتهاده أولى من رجوعه إلى فتيا أحدهما بل ذلك هو الواجب عليه فكيف إذا كان ذلك نقلا عنهما من مثل الرافضة والواجب على مثل العسكريين وأمثالهما أن يتعلموا من الواحد من هؤلاء ومن المعلوم أن علي بن الحسين وأبا جعفر محمد بن علي وابنه جعفر بن محمد كانوا هم العلماء الفضلاء وأن من بعدهم من الإثنى عشر لم يعرف عنه من العلم ما عرف من هؤلاء ومع هذا فكانوا يتعلمون من علماء زمانهم ويرجعون إليهم حتى قال أبو عمران بن الأسيب القاضي البغدادي أخبرنا أصحابنا أنه ذكر ربيعة بن أبي عبدالرحمن جعفر بن محمد وأنه تعلم العلوم فقال ربيعة إنه

اشترى حائطا من حيطان المدينة فبعث إلي حتى أكتب له شرطا في ابتياعه نقله عنه محمد بن حاتم بن ريحويه البخاري في كتاب إثبات إمامة الصديق فأما تحقيق المناط فهو متفق عليه بين المسلمين وهو أن ينص الله على تعليق الحكم بمعنى عام كلي فينظر في ثبوته في آحاد الصور أو أنواع ذلك العام كما نص على اعتبار العدالة وعلى استقبال الكعبة وعلى تحريم الخمر والميسر وعلى حكم اليمين وعلى تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير ونحو ذلك فينظر في الشراب المتنازع فيه هل هو من الخمر أم لا كالنبيذ المسكر وفي اللعب المتنازع فيه كالنرد والشطرنج هل هو من الميسر أم لا وفي اليمين المتنازع فيها كالحلف بالحج وصدقة المال والعتق والطلاق والحرام والظهار هل هي داخلة في الأيمان فتكفر أم في العقود المحلوف بها فيلزم ما حلف

به أم لا يدخل لا في هذا ولا في هذا فلا يلزمه شيء بحال كما ينظر فيما وقعت فيه دم أو ميتة أو لحم خنزير من الماء والمائعات ولم يتغير لونه ولا طعمه بل استهلت النجاسات فيه واستحالت أو رفعت منه واستحال فيه ما خالطه من أجزائها فينظر في ذلك هل يدخل في مسمى الماء المذكور في القرآن والسنة أو في مسمى الميتة والدم ولحم الخنزير وأما تنقيح المناط وتخريجه ففيهما نزاع وهذا الإمامي لم يذكر أصلا حجة على بطلان الإجتهاد والرأي والقياس ليرد ذلك بل ذكر أن طائفته لا تقول بذلك وهذ يدل على جهلهم بالإستنباط والإستخراج وعدم معرفتهم بما في الشريعة من الحكم والمعاني وعدم معرفتهم بالجمع بي المتماثلين والفرق بين المختلفين وهم بمعاني القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم جهال أيضا فهم جهال بأصول الشرع الكتاب والسنة والإجماع بمنصوص ذلك ومستنبطه وإنما عمدتهم على نقل عمن يقلدونه وهذا حال الجهال المقلدين لآحاد العلماء المستدلين ثم من سواهم ممن يقلد العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم له معرفة بأقوال هؤلاء وبطرق يميزون بها بين صحيح أقوالهم وضعيفها ومعرفة بأدلتهم ومآخذهم وأما الرافضة فلا يميزون بين ما يصح نقله عن أئمتهم وما لا يصح

ولا يعرفون أدلتهم ومآخذهم بل هم من أهل التقليد بما يقلدون فيه وهم يعيبون هؤلاء الجمهور بالإختلاف وفيما ينقلونه عمن يقلدونه من الإختلاف وفيما لا ينقلونه عمن يقلدونه من الإختلاف ما لا يكاد يحصى.
الرابع: أن يقال لا ريب أن ما ينقله الفقهاء عن مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم هو أصح مما ينقله الروافض عن مثل العسكريين ومحمد بن علي الجواد وأمثالهم ولا ريب أن هؤلاء أعلم بدين النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك فمن عدل عن نقل الأصدق عن الأعلم إلى نقل الأكذب عن المرجوح كان مصابا في دينه أو عقله أو كليهما فقد تبين أن ما حكاه عن الإمامية مفضلا لهم به ليس فيه شيء من خصائصهم إلا القول بعصمة الأئمة وإنما شاركهم فيه من هو شر منهم وما سواه حقا كان أو باطلا فغيرهم من أهل السنة القائلين بخلافة الثلاثة يقول به وما اختصت به الإمامية من عصمة الأئمة فهو في غاية الفساد والبعد عن العقل والدين وهو أفسد من اعتقاد كثير من النساك في شيوخهم أنهم محفوظون وأضعف من اعتقاد كثير من قدماء الشاميين أتباع بني أمية أن الإمام تجب طاعته في كل شيء وأن الله إذا استخلف إماما تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات لأن الغلاة في الشيوخ وإن غلوا في شيخ فلا يقصرون الهدى عليه ولا يمنعون اتباع غيره ولا يكفرون من لم يقل بمشيخته ولا يقولون فيه من العصمة ما يقوله هؤلاء اللهم إلا من خرج عن الدين بالكلية فذاك في الغلاة في الشيوخ كالنصيرية والإسماعيلية والرافضة فبكل حال الشر فيهم أكثر من غيرهم والغلو فيهم أعظم وشر غيرهم جزء من شرهم وأما غالية الشاميين أتباع بني أمية فكانوا يقولون إن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات وربما قالوا إنه لا يحاسبه

ولهذا سأل الوليد بن عبدالملك عن ذلك بعض العلماء فقالوا له يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أم داود وقد قال له يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (سورة ص). وكذلك سؤال سليمان بن عبدالملك عن ذلك لأبي حازم المدني في موعظته المشهورة له فذكر له هذه الآية ومع خطأ هؤلاء وضلالهم فكانوا يقولون ذلك في طاعة إمام منصوب قد أوجب الله طاعته في موارد الإجتهاد كما يجب طاعة والي الحرب وقاضي الحكم لا يجعلون أقواله شرعا عاما يجب على كل أحد ولا يجعلونه معصوما من الخطأ ولا يقولون إنه يعرف جميع الدين لكن غلط من غلط منهم من جهتين من جهة أنهم كانوا يطيعون الولاة طاعة مطلقة ويقولون إن الله أمرنا بطاعتهم الثانية قول من قال منهم إن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات وأين خطأ هؤلاء من ضلال الرافضة القائلين بعصمة الأئمة ثم قد تبين مع ذلك أن ما نفردوا به عن جمهور أهل السنة كله خطأ وما كان معهم من صواب فهو قول جمهور أهل السنة أو بعضهم ونحن لسنا نقول إن جميع طوائف أهل السنة مصيبون بل فيهم المصيب والمخطئ لكن صواب كل طائفة منهم أكثر من صواب الشيعة وخطأ الشيعة أكثر وأما ما انفردت به الشيعة عن جميع طوائف السنة فكله خطأ وليس معهم صواب إلا وقد قاله بعض أهل السنة فهذا القدر في هذا المقام يبطل به ما ادعاه من رجحان قول الإمامية فإنه بهذا القدر يتبين أن مذهب أهل السنة أرجح ولكل مقام مقال

وقد يقال إن الإيمان أرجح من الكفر إذا احتيج إلى المفاضلة عند من يظن أن ذلك أرجح وكذلك يقال في الخير والشر قال تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (سورة النساء). وقال تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (سورة الجمعة). وقال تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم (سورة النور). وقال لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلك خير لكم (سورة النور). بل قد يفضل الله سبحانه نفسه على ما عبد من دونه كقوله ءآلله خير أما يشركون (سورة النمل).وقول المؤمنين للسحرة والله خير وأبقى (سورة طـــه). وكذلك قد تبين أن الكفار أكثر جرما إذا وقعت المفاضلة قال تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير (سورة البقرة). ثم قال وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل (سورة البقرة). وهذه الآية نزلت لما عير المشركون سريه المسلمين بأنهم

قتلوا رجلا في الشهر الحرام وهو ابن الحضرمي فقال الله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ثم بين أن ذنوب المشركين أعظم عند الله وأما في جانب التفضيل فقال تعالى ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (سورة النساء). وقال تعالى قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل (سورة المائدة)..
*

فصل
ثم قال هذا الإمامي أما باقي المسلمين فقد ذهبوا كل مذهب فقال بعضهم وهم جماعة الأشاعرة إن القدماء كثيرون مع الله تعالى هي المعاني يثبتونها موجودة في الخارج كالقدرة والعلم وغير ذلك فجعلوه تعالى مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم وفي كونه قادرا إلى ثبوت معنى هو القدرة وغير ذلك ولم يجعلوه قادرا لذاته ولا عالما لذاته ولا حيا لذاته بل لمعان قديمة يفتقر في هذه الصفات إليها فجعلوه محتاجا ناقصا في ذاته كاملا بغيره تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولا يقولون هذه الصفات ذاتية واعترض شيخهم فخر الدين الرازي عليهم بأن قال إن النصارى كفروا بأن قالوا القدماء ثلاثة والأشاعرة أثبتوا قدماء تسعة.
*فيقال الكلام على هذا من وجوه...
أحدها: أن هذا كذب على الأشعرية ليس فيهم من يقول إن الله ناقص بذاته كامل بغيره ولا قال الرازي ما ذكرته من الإعتراض عليهم بل هذا الإعتراض ذكره الرازي عمن اعترض به واستهجن الرازي ذكره

وهو اعتراض قديم من اعتراضات نفاة الصفات حتى ذكره الإمام أحمد في الرد على الجهمية فقال قالت الجهمية لما وصفنا الله بهذه الصفات إن زعمتم أن الله لم يزل ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته قلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن نقول لم يزل الله بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا كان الله ولا شيء فقلنا نحن نقول قد كان ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم في ذلك مثلا فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمارا واسمها اسم واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لانقول إنه كان في وقت من الأوقات ولا يقدر حتى خلق قدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق لنفسه علما والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول لم يزل الله عالما قادرا مالكا لا متى ولا كيف وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال ذرني ومن خلقت وحيدا (سورة المدثر). وقد كان هذا الذي سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة فقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد وهذا الذي ذكره الإمام أحمد يتضمن أسرار هذه المسائل وبيان

الفرق بين ما جاءت به الرسل من الإثبات الموافق لصريح العقل وبين ما تقوله الجهمية وبين أن صفاته داخلة في مسمى أسمائه.
الثاني: أن يقال هذا القول المذكور ليس هو قول الأشعري ولا جمهور موافقيه إنما هو قول مثبتى الحال منهم الذين يقولون إن العالمية حال معللة بالعلم فيجعلون العلم يوجبه حال آخر ليس هو العلم بل هو كونه عالما وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وأول قول أبي المعالي وأما جمهور مثبتة الصفات فيقولون إن العلم هو كونه عالما ويقولون لا يكون عالما إلا بعلم ولا قادرا إلا بقدرة أي يمتنع أن يكون عالما من لا علم له وأن يكون قادرا من لا قدرة له وأن يكون حيا من لا حياة له وعندهم علمه هو كونه عالما وقدرته هو كونه قادرا وحياته هو كونه حيا وهذا في الحقيقة قول أبي الحسين البصري وغيره من حذاق المعتزلة ولا ريب أن هذا معلوم ضرورة فإن وجود اسم الفاعل بدون مسمى

المصدر ممتنع وهذا كما لو قيل مصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وناطق بلا نطق فإذا قيل لا يكون ناطق إلا بنطق ولا مصل إلا بصلاة لم يكن المراد أن هنا شيئين أحدهما الصلاة والثاني حال معلل بالصلاة بل المصلى لا بد أن يكون له صلاة وهم أنكروا قول نفاة الصفات الذين يقولون هو حي لا حياة له وعالم لا علم له وقادر لا قدرة له فمن قال هو حي عليم قدير بذاته وأراد بذلك أن ذاته مستلزمة لحياته وعلمه وقدرته لا يحتاج في ذلك إلى غيره فهذا قول مثبتة الصفات وإن أراد بذلك أن ذاته مجردة ليس لها حياة ولا علم ولا قدرة فهذا هو القول المنكر من أقوال نفاة الصفات وهذا الكلام الذي قاله هذا قد سبقه إله المعتزلة وهذا اللفظ وجدته في كلام أبي الحسين البصري ومع هذا من تدبر كلام أبي الحسين وأمثاله وجده مضطرا إلى إثبات الصفات وأنه لا يمكنه أن يفرق بين قوله وبين قول المثبتين بفرق محقق فإنه يثبت كونه حيا وكونه عالما وكونه قادرا ولا يجعل هذا هو هذا ولا هذا هو هذا ولا هذه الأمور هي الذات فقد أثبت هذه المعاني الزائدة على الذات المجردة وقد بسطنا هذا في غيره هذا الموضع.
الوجه الثالث: أن يقال أصل هذا القول هو قول مثبتة الصفات وهذا لا تختص به الأشعرية بل هو قول جميع طوائف المسلمين إلا الجهمية كالمعتزلة ومن وافقهم من الشيعة وقد قدمنا أن هذا القول هو قول قدماء الإمامية فإن كان خطأ فأئمة الإمامية أخطأوا وإن كان صوابا فمتأخروهم أخطأوا.
الوجه الرابع: أن يقال قول القائل إنهم أثبتوا قدماء كثيرين لفظ مجمل موهم القول أنهم أثبتوا آلهة غير الله في القدم أو أثبتوا موجودات منفصلة قديمة مع الله أم أثبتوا لله صفات الكمال القائمة به كالحياة والعلم والقدرة فإن قلت أثبتوا آلهة غير الله أو موجودات قديمة منفصلة عن الله

كان هذا بهتانا عليهم والمشنع وإن لم يقصد هذا لكن لفظه فيه إبهام وإيهام وإن قلت أثبتوا له صفات قائمة به قديمة بقدمه وهي صفات الكمال كالحياة والعلم والقدرة فهذا هو الحق وهل ينكر هذا إلا مخذول مسفسفط فمن أنكر هذه الصفات وقال هو حي بلا حياة وعالم بلا علم وقادر بلا قدرة كان قوله ظاهر البطلان وكذلك إن قال علمه هو قدرته وقدرته علمه وإن قال مع ذلك إنه هو العلم والقدرة فجعل الموصوف هو الصفة وهذه الصفة هي الأخرى كما يوجد مثل ذلك في أقوال نفاة الصفات من الفلاسفة والمعتزلة فنفس تصور قولهم على الحقيقة يبين فساده والكلام عليهم وعلى شبههم مبسوط في غير هذا الموضع.
الوجه الخامس: قولك جعلوا قدماء مع الله عز وجل ليس بصواب فإن هذه المعاني ليست خارجة عن مسمى اسم الله عند مثبتة الصفات بل قد يقولون هي زائدة على الذات أي على الذات المجردة عن الصفات التي يثبتها النفاة لا على الذات المتصفة بالصفات واسم الله سبحانه يتناول الذات المتصفة بالصفات ليس هو اسما للذات المجردة حتى يقولوا نحن نثبت قدماء مع الله تعالى وكيف وهم لا يجوزون أن يقال إن الصفة غير الموصوف فكيف يقولون هي مع الله بل طائفة من المثبتة كابن كلاب لا تقول عن الصفات وحدها إنها قديمة حتى لاتقول بتعدد القدماء لما منعت النفاة هذا الإطلاق بل تقول الله بصفاته قديم.
الوجه السادس: قولك فجعلوه مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم فيقال أولا هذا إنما يقال على قول مثبتة الحال وأما قول الجمهور فعندهم كونه عالما هو العلم وبتقدير أن يقال كونه عالما مفتقرا إلى العلم الذي هو لازم لذاته ليس في هذا إثبات فقر له إلى غير

ذاته فإن ذاته مستلزمة للعلم والعلم مستلزم لكونه عالما فذاته هي الموجبة لهذا ولهذا فإذا قدر أنها أوجبت الإثنين كان أعظم من أن توجب أحدهما إذا لم يكن أحدهما نقصا ومعلوم أن العلم كمال وكونه عالما كمال فإذا أوجبت ذاته هذا وهذا كان كما لو أوجبت الحياة والقدرة.
السابع: قوله جعلوه مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم عبارة ملبسة فإن لفظ الإفتقار يشعر بأنه محتاج إلى من يجعله عالما يفيده العلم وهذا باطل وإنما ثبوت هذا بطريق اللزوم لذاته فذاته موجبة لعلمه ولكونه عالما ومعنى كونها موجبة لذلك أي مستلزمة له بمعنى أنه لا تكون ذاته إلا عالمة لا بمعنى أنها أبدعت العلم أو فعلته ومن أثبت المعنيين قال لا يكون عالما حتى يكون له علم وهو عالم قطعا فله علم فهو يجعل ذلك من باب الإستدلال ويستدل بكونه عالما على العلم ويقول إن ذاته أوجبت ذلك لا أنه هنا شيء غير ذاته جعلته عالما أو جعلت له علما ولو قدر أنها أوجبته بواسطة فموجب الموجب موجب كما أنها أوجبت كونه حيا وكونه عالما والعلم مشروط بالحياة فلا يقال إنه يفتقر في كونه عالما إلى غيره

فإن هذه الأمور المشروط بعضها ببعض كلها من لوازم ذاته لا يفتقر ثبوتها إلى غيره.
الوجه الثامن: قوله ولم يجعلوه قادرا لذاته ولا عالما لذاته بل لمعان قديمة إن أراد بذلك أنهم لا يجعلون ذاته علما وقدرة أو لا يجعلونها عالمة قادرة وليس لها علم ولا قدرة فهذا صحيح وهو عين الحق وإن أراد أنهم لا يجعلون ذاته مستلزمة لكونه عالما قادرا ولا هي الموجبة لكونه عالما قادرا فهذا كذب عليهم بل ذاته هي الموجبة لذلك كما أنها هي الموجبة لكونه عالما مع كونها موجبة لكونه حيا ولا يكون عالما حتى يكون حيا وكذلك يقول هؤلاء لا يكون عالما حتى يكون له علم.
التاسع: قوله لم يجعلوه عالما لذاته ولا قادرا لذاته إن أراد أنهم لم يجعلوه عالما قادرا لذات مجردة عن العلم والقدرة كما يقول نفاة الصفات إنه ذات مجردة عن الصفات فهذا صحيح وهو عين الحق لأن الذات المجردة عن العلم والقدرة لا حقيقة لها في الخارج ولا هي الله ولا تستحق العبادة وإن أراد أنهم لم يجعلوه عالما قادرا لذاته المستلزمة للعلم والقدرة فهذا غلط عليهم بل نفس ذاته الموجبة لعلمه وقدرته هي التي أوجبت كونه عالما قادرا وأوجبت علمه وقدرته وجعلت العلم والقدرة توجب كونه عالما قادرا فإن كل هذه الأمور متلازمة وذاته المتصفة بهذه الصفات هي الموجبة لهذا كله لا تفتقر في ذلك إلى شيء مباين لها.
العاشر: قوله لمعان لقديمة يفتقر في هذه الصفات إليها ليس هو قولهم فإن المعاني القديمة هي الصفات عندهم وأما الخبر عن ذلك فيقولون هو الوصف ولا ريب أنه لا يمكن وصف الموصوف بأنه عالم إلا أن يكون له علم ولكن هو سبحانه الموجب لتلك المعاني القديمة القائمة به فإذا كان لا يوصف بالعلم والقدرة والحياة إلا بها وهو الموجب لها لم يكن مفتقرا إلى غيره كما أنه إذا لم يوصف بالعلم إلا إذا كان موصوفا بالحياة وهو الموجب للحياة لم يكن مفتقرا إلى غيره ولو قال لمعان قديمة تستلزم هذه الصفات ثبوتها وذاته

مستلزمة لهذه وهذه وتلك المعاني مستلزمة لثبوت هذه الصفات كان كلاما صحيحا فالتلازم حاصل من الجهات الثلاث.
الحادي عشر: قوله فجعلوه محتاجا ناقصا في ذاته كاملا بغيره كلام باطل فإنه هو الذات الموصوفة بهذه الصفات فليس هنا شيء يمكن تقدير حاجته إلى هذه الصفات إلا الذات المجردة وتلك لا وجود لها في الخارج فليس في الخارج ذات مجردة عن هذه الصفات حتى توصف بحاجة أو غنى وذات الله مستلزمة لهذه الصفات والصفات الملزومة لذات الموصوف التي لا يكون إلا بها ليس له تحقق دونها حتى يقال إنه محتاج ناقص بل حقيقة الأمر أن الذات المجردة عن صفات الكمال ناقصة بدونها محتاجة إلى صفات الكمال فهذا حق لكن تلك الذات المجردة ليست هي الله بل لا حقيقة لها في الخارج وأيضا فهم لا يطلقون على الصفات لفظ الغير.
الثاني عشر: إن قول القائل إن النصارى كفرو بأن قالوا القدماء ثلاثة والأشاعرة أثبتوا قدماء تسعة كلام باطل فإن الله لم يكفر النصارى بقولهم القدماء ثلاثة بل قال تعالى لقد كفر الذين قالوا

إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام (سورة المائدة). فقد بين سبحانه أنهم كفروا بقولهم إن الله ثالث ثلاثة لقوله بعد ذلك ومامن إله إلا إله واحد ولم يقال ما من قديم إلا قديم واحد ثم أتبع ذلك بذكر حال المسيح وأمه لأنهما هما الآخران اللذان اتخذوهما إلهين كما بين ذلك في الآية الأخرى بقوله وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله (سورة المائدة). فهذه الآية موافقة لسياق تلك الآية وفي ذلك بيان أن الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة قالوا إنه ثالث ثلاثة آلهة هو والمسيح وأم المسيح وليس في القرآن ذكر قدماء ثلاثة ولا صفات ثلاثة بل ليس في الكتاب ولا في السنة ذكر القديم في أسماء الله تعالى وإن كان المعنى صحيحا لكن المقصود هنا بيان أن ما ذكروه لم يكفر الله تعالى النصارى به.
الثالث عشر: أنه هب أن النصارى كفروا بقولهم إنه ثالث ثلاثة قدماء فالصفاتية لا تقول إن الله تاسع تسعة قدماء بل اسم الله تعالى عندهم يتضمن صفاته فليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه بل إذا قال القائل آمنت بالله أو دعوت الله كانت صفاته داخلة في مسمى اسمه وهم لا يطلقون عليها أنها غير الله فكيف يقولون إن الله تاسع تسعة أو ثالث ثلاثة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من خلف بغير الله فقد أشرك وثبت في الصحيح الحلف بعزة الله ولعمر الله فعلم أن الحلف بذلك ليس حلفا بما يقال إنه غير الله

الرابع عشر: إن حصر الصفات في ثمانية وإن كان يقوله بعض المثبتين من الأشعرية ونحوهم فالصواب عند جماهير المثبتة وأئمة الأشعرية أن الصفات لا تنحصر في ثمانية بل ولا يحصرها العباد في عدد وحينئذ فنقل الناقل عنهم أنه تاسع تسعة باطل لو كان هذا مما يقال.
الخامس عشر: أن النصارى أثبتوا أقانيم وقالوا إنها ثلاثة جواهر يجمعها جوهر واحد وإن كل واحد إله يخلق ويرزق والمتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة والعلم وهو الإبن وهذا القول متناقض في نفسه فإن المتحد إن كان صفة فالصفة لا تخلق ولا ترزق وهي أيضا لا تفارق الموصوف وإن كان هو الموصوف فهو الجوهر الواحد وهو الأب فيكون المسيح هو الأب وليس هذا قولهم فإين هذا ممن يقول الإله واحد وله الأسماء الحسنى الدالة على صفاته العلى ولا يخلق غيره ولا يعبد سواه فبين المذهبين من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق ومما افترته الجهمية على المثبتة أن ابن كلاب لما كان من المثبتين للصفات وصنف الكتب في الرد على النفاة وضعوا على أخته حكاية أنها كانت نصرانية وأنه لما أسلم هجرته فقال لها يا أختي إني أريد أن أفسد دين المسلمين فرضيت عنه لذلك ومقصود المفترى بهذه الحكاية أن يجعل قوله بإثبات الصفات هو قول النصارى وأخذ هذه الحكاية بعض السالمية و بعض أهل الحديث والسنة يذم بها ابن كلاب لما أحدثه من القول في مسألة القرآن ولم يعلم أن الذين عابوه بها هم أبعد عن الحق في مسألة القرآن وغيرها منه وأنهم عابوه بما تمدح أنت قائله وعيب ابن

كلاب عندك كونه لم يكمل القول به بل بقيت عليه بقية من كلامهم وهذا نظير ما عمله ابن عقيل في مسألة القرآن فإنه أخذ كلام المعتزلة الذي طعنوا به على الأشعرية في كونهم يقولون هذا القرآن ليس كلام الله بل عبارة عنه فطعن به هو على الأشعرية ومقصود المعتزلة بذلك إثبات أن القرآن مخلوق والأشعرية خير منهم في نفى الخلق عن القرآن ولكن عيبهم في تقصيرهم في إكمال السنة وكذلك بعض أهل الحديث السالمية المصنفين في مثالب ابن كلاب والأشعري وابن كرام ذكروا حكايات بعضها كذب قطعا وهي مما وضعته المعتزلة أعداء هؤلاء عليهم لكونهم يثبتون الصفات والقدر فجاء هؤلاء فذكروا تلك الحكايات ومقصودهم التنفير عما اعتقدوا في أقوالهم من الخطاء وتلك الحكايات وضعها من هو أبعد عن السنة منهم وكذلك السالمية أتباع الشيخ أبي الحسن بن سالم هم في غالب أصولهم على قول أهل السنة والجماعة لكن لما وقع في بعض أقوالهم من الخطاء زاد في الرد عليهم من صنف في الرد عليهم حتى رد عليهم قطعة مما قالوه من الحق.
*

فصل
قال الرافضي المصنف وقالت جماعة الحشوية والمشبهة إن الله تعالى جسم له طول وعرض وعمق وأنه يجوز عليه المصافحة وأن الصالحين من المسلمين يعانقونه في الدنيا وحكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوز رؤيته في الدنيا وأنه يزورهم ويزورونه وحكى عن داود الطائي أنه قال أعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك وقال إن معبودي جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء كيد ورجل ولسان وعينين وأذنين وحكي عنه أنه قال هو أجوف من أعلاه إلى صدره مصمت ما سوى ذلك وله شعر قطط حتى قالوا اشتكت عيناه فعادته الملائكة وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه وأنه يفضل من العرش من كل جانب أربع أصابع.

*فيقال الكلام على هذا من وجوه...
أحدها: أن يقال هذا اللفظ بعينه أن الله جسم له طول وعرض وعمق أول من عرف أنه قاله في الإسلام شيوخ الإمامية كهشام بن الحكم وهشام بن سالم كما تقدم ذكره وهذا مما اتفق عليه نقل الناقلين للمقالات في الملل والنحل من جميع الطوائف مثل أبي عيسى الوراق وزرقان وابن النوبختى وأبي الحسن الأشعري وابن حزم والشهرستاني وغير هؤلاء ونقل ذلك عنهم موجود في كتب المعتزلة والشيعة والكرامية والأشعرية وأهل الحديث وسائر الطوائف وقالوا أول من قال إن الله جسم هشام بن الحكم ونقل الناس عن الرافضة هذه المقالات وما هو أقبح منها فنقلوا ما ذكره الأشعري وغيره في كتب المقالات عن بيان بن سمعان التميمي الذي تنتسب إليه البيانية من غالية الشيعة أنه كان يقول إن الله على صورة الإنسان وإنه يهلك كله إلا وجهه وادعى بيان أنه يدعو الزهرة فتجيبه وأنه يفعل ذلك بالإسم الأعظم فقتله خالد بن عبدالله القسري وحكى عنهم أن كثيرا منهم يثبت نبوة بيان بن سمعان ثم يزعم كثير منهم أن أبا هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية نص على نبوة بيان بن سمعان وجعله إماما ونقلوا عن المغيرية أصحاب المغيرة بن سعيد أنهم يزعموه أنه كان يقول إنه نبي وأنه يعلم اسم الله الأكبر وأن معبودهم رجل من نور على رأسه تاج وله من الأعضاء والخلق مثل ما للرجل وله جوف وقلب تنبع منه الحكمة وأن حروف أبي جاد على عدد أعضائه قالوا والألف موضع قدمه لا عوجاجها وذكر الهاء فقال لو رأيتم موضعها منه لرأيتم أمرا عظيما يعرض لهم

بالعورة وبأنه قد رآه لعنه اله وأخزاه وزعم أنه يحيى الموتى باسم الله الأعظم وأراهم أشياء من النيرنجيات والمخاريق وذكر لهم كيف ابتدأ الله الخلق فزعم أن الله كان وحده ولا شيء معه فلما أراد أن يخلق الأشياء تكلم باسمه الأعظم فطار فوقع فوق رأسه على التاج قال وذلك قوله سبح اسم ربك الأعلى سورة الأعلى وذكروا عنه من هذا الجنس أشياء يطول وصفها وقتله خالد بن عبد الله القسري وذكروا عن المنصورية أصحاب أبي منصور أنهم كانوا يقولون عنه أنه قال إن آل محمد هم السماء والشيعة هم الأرض وأنه هو الكسف الساقط في بنى هاشم وأنه عرج به إلى السماء فمسح معبوده رأسه بيده ثم قال له أي بني اذهب فبلغ عنى ثم نزل به إلى الأرض ويمين أصحابه إذا حلفوا لا والكلمة وزعم أن عيسى بن مريم أول من خلق الله من خلقه ثم علي وأن رسل الله لا تنقطع أبدا وكفر بالجنة والنار وزعم أن الجنة رجل وأن النار رجل واستحل النساء والمحارم وأحل ذلك لأصحابه وزعم أن الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر والميسر حلال قال لم يحرم الله ذلك علينا ولا حرم شيئا تقوى به أنفسنا وإنما هذه الأسماء أسماء رجال حرم الله ولا يتهم وتأول في ذلك قول الله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا (سورة المائدة). وأسقط الفرائض وقال هي أسماء رجال أوجب الله ولا يتهم فأخذه يوسف بن عمر والي العراق في أيام بني أمية

فقتله والنصيرية الموجودون في هذه الأزمنة يشبهون هؤلاء في كثير من الوجوه وذكروا عن الخطابية أصحاب أبي الخطاب بن أبي زينب أنهم يزعمون أن الأئمة أنبياء محدثون ورسل الله وحججه على خلقه لا يزال منهم رسولان واحد ناطق والآخر صامت فالناطق محمد والصامت علي فهم في الأرض اليوم طاعتهم مفترضة على جميع الخلق يعلمون ما كان وما هو كائن وزعموا أن أبا الخطاب نبي وأن أولئك الرسل فرضوا طاعة أبي الخطاب وقالوا الأئمة آلهة وقالوا في أنفسهم مثل ذلك وقالوا ولد الحسين أبناء الله وأحباؤه ثم قالوا ذلك في أنفسهم وتأولوا قول الله فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (سورة الحجرات).. قالوا فهو آدم ونحن ولده وعبدوا أبا الخطاب وزعموا أنه إله وخرج أبو الخطاب على أبي جعفر المنصور فقتله عيسى بن موسى في سبخة الكوفة وهم يتدينون بشهادة الزور لموافقيهم وذكروا عن البزيغية أنهم يقولون إن جعفر بن محمد هو الله وأنه ليس بالذي يرى وأنه يشبه للناس في هذه الصورة وزعموا أن كل محدث في قلوبهم وحى وأن كل مؤمن يوحى إليه وقال الأشعري وقد قال قائلون بإلهية سلمان الفارسي قال وفي النساك من الصوفية من يقول بالحلول وأن البارئ يحل في الأشخاص وأنه جائز أن يحل في إنسان وسبع وغير ذلك من الأشخاص وأصحاب هذه المقالة إذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا لا

ندري لعل الله حال فيه ومالوا إلى اطراح الشرائع وزعموا أن الإنسان ليس عليه فرض ولا يلزمه عبادة إذا وصل إلى معبوده قال ومن الغالية من يزعم أن روح القدس هو الله كانت في النبي صلى الله عليه وسلم ثم في علي ثم في الحسن ثم في الحسين ثم في علي بن الحسين ثم في محمد بن علي ثم في جعفر ابن محمد ثم في موسى بن جعفر ثم في علي بن موسى بن جعفر ثم في محمد بن علي بن موسى ثم في علي بن محمد بن علي بن موسى ثم في الحسن بن علي بن محمد بن علي ثم في محمد بن الحسن بن علي بن محمد قال وهؤلاء آلهة عندهم كل واحد منهم إله على التناسخ والإله عندهم يدخل في الهياكل وهؤلاء هم من الإمامية الإثنى عشرية قال ومن الغالية صنف يزعمون أن عليا هو الله ويكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ويشتمونه ويقولون إن عليا وجه به ليبين أمره فادعى الأمر لنفسه قال ومنهم صنف يزعمون أن الله تعالى في خمسة أشخاص في النبي وعلي والحسن والحسين وفاطمة فهؤلاء آلهة عندهم ولهم خمسة أضداد أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص ثم منهم من قال إن هذه الأضداد محمودة لأنه لا يعرف فضل الأشخاص الخمسة إلا بأضدادها فهي محمودة من هذا الوجه ومنهم من قال بل هي مذمومة لا تحمد بحال من الأحوال قال ومنهم صنف يقال لهم السبئية أصحاب عبدالله بن سبأ يزعمون أن عليا لم يمت وأنه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وذكروا عنه أنه قال لعلي أنت أنت والسبئية يقولون بالرجعة وأن الأموات يرجعون إلى الدنيا وكان السيد

الحميري يقول برجعة الأموات وفي ذلك يقول إلى يوم يؤوب الناس فيه إلى دنياهم قبل الحساب قال ومنهم صنف يزعمون أن الله وكل الأمور وفوضها إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أقدره على خلق الدنيا فخلقها ودبرها وأن الله لم يخلق من ذلك شيئا ويقول ذلك كثير منهم في على ويزعمون أن الأئمة ينسخون الشرائع وتهبط عليهم الملائكة وتظهر عليهم أعلام المعجزات ويوحى إليهم ومنهم من يسلم على السحاب ويقول إذا مرت سحابة إن عليا فيها وفيهم يقول بعض الشعراء برئت من الخوارج لست منهم من الغزال منهم وابن باب ومن قوم إذا ذكروا عليا يردون السلام على السحاب فهذا بعض ما نقله الأشعري وغيره عنهم وهو بعض ما فيهم من هذا الباب فإن الإسماعيلية والنصيرية لم يكونوا حدثوا إذ ذاك والنصيرية من نوع الغلاة والإسماعيلية ملاحدة أكفر من النصيرية ومن شيعة النصيرية من يقول أشهد ألا إله إلا حيدرة الأنزع البطين ولا حجاب عليه إلا محمد الصادق الأمين ولا طريق إليه إلا سلمان ذو القوة المتين ويقولون إن شهر رمضان أسماء ثلاثين رجلا والثلاثون أسماء ثلاثين امرأة وأن الصلوات الخمس عبارة عن خمسة أسماء وهي علي وحسن وحسين ومحسن وفاطمة إلى أنواع من الكفر الشنيع الذي يطول وصفه وهذا أمر معلوم فإن أهل العلم متفقون على أن هذه المقالات الغالية في وصف الرب بالعيوب والنقائص المتضمنة تشبيه الخالق بالمخلوق في صفات النقص وتشبيه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية هي أكثر ما يكون في الشيعة باتفاق الناس فلا يوجد في طوائف الأمة أشنع في الحلول والتمثيل والتعطيل مما يوجد فيهم ولهذا صارت الملاحدة والغالية علمين على بعض من ينتسب إليهم فالملاحدة علم على الإسماعيلية والغالية علم على القائلين بالإلهية في البشر كالنصيرية والمشهور بالغلو وادعاء الإلهية في البشر

هم النصارى والغالية من الشيعة وقد يوجد بعض الإلحاد والغلو في غيرهم من النساك وغيرهم لكن الذي فيهم أكثر وأقبح وإذا كان الأمر كذلك كان الذي يطعن على أهل السنة والجماعة بأن فيهم تجسيما وحلولا ويثنى على طائفة الإمامية إما من أجهل الناس بمقالات شيعته وإما من أعظم الناس ظلما وعدوانا وعدولا عن العدل والإنصاف في المقابلة والموازنة ثم أهل السنة يطلبون من الإمامية المتأخرين أن يقطعوا سلفهم بالحجج العقلية أو الشرعية وهم عاجزون عن ذلك كما تقدم التنبيه عليه وهؤلاء المجسمون من الشيعة منهم من أكابر أهل الكلام المتكلمين في جميع أنواعه في الجليل والدقيق ولهم كتب مصنفة قال الأشعري ورجال الرافضة ومؤلفوا كتبهم هشام بن الحكم وهو قطعى وعلي بن منصور ويونس بن عبدالرحمن القمى والسكاك وأبو الأخوص داود بن أسد البصري قال وقد انتحلهم أبو عيسى الوراق وابن الراوندي وألف لهم كتبا في الإمامة.
الوجه الثاني: أن يقال هذه المقالات التي نقلها لا تعرف عن أحد من المعروفين بمذهب أهل السنة والجماعة لا من أئمة أصحاب أبي حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد بن حنبل لا من أهل الحديث ولا من أهل الرأي فلا يعرف في هؤلاء من قال إن الله جسم طويل عريض عميق وأنه يجوز عليه المصافحة وأن الصالحين من المسلمين يعاينونه في الدنيا فإن كان مقصوده بجماعة الحشوية والمشبهة بعض هؤلاء فهو كذب ظاهر عليهم وهذه كتب هذه الطوائف ورجالهم الأحياء والأموات لا يعرف عن أحد منهم شيء من ذلك بل أئمة هؤلاء الطوائف المعروفون بالعلم فيهم متفقون على أن الله لا يرى في الدنيا بالعيون وإنما يرى في الآخرة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت والمذهب الشائع الظاهر فيهم مذهب أهل السنة والجماعة أن الله

تعالى يرى في الآخرة بالأبصار ومن أنكر ذلك كان مبتدعا عندهم وإن كان في المنتسبين إليهم من يقول ذلك فليس هو قول أئمتهم ولا الذين يفتى بقولهم ومن أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليسم القائل والناقل وإلا فكل أحد يقدر على الكذب فقد تبين كذبه فيما نقله عن أهل السنة كما تبين أن تلك الأقوال وما هو أشنع منها من أقوال سلف الإمامية.
الوجه الثالث: أن يقال إن الطائفة إنما تتميز باسم رجالها أو بنعت أحوالها فالأول كما يقال النجدات والأزارقة والجهمية والنجارية والضرارية ونحو ذلك والثاني كما يقال الرافضة والشيعة والقدرية والمرجئة والخوارج ونحو ذلك فأما لفظ الحشوية فليس فيه ما يدل على شخص معين ولا مقالة معينة فلا يدري من هم هؤلاء وقد قيل إن أول من تكلم بهذا اللفظ عمرو بن عبيد فقال كان عبدالله بن عمر حشويا وكان هذا اللفظ في اصطلاح من قاله يريد به العامة الذين هم حشو كما تقول الرافضة عن مذهب أهل السنة مذهب الجمهور فإن كان مراده بالحشوية طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة دون غيرهم كأصحاب أحمد أو الشافعي أو مالك فمن المعلوم أن هذه المقالات لا توجد فيهم أصلا بل هم يكفرون من يقولها ولو قدر أن بعضها وجد في بعضهم فليس ذلك من خصائصهم بل كما يوجد مثل ذلك في سائر الطوائف وإن كان مراده بالحشوية أهل الحديث على الإطلاق سواء كانوا من أصحاب هذا أو هذا فاعتقاد أهل الحديث هو السنة المحضة لأنه هو الإعتقاد الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس في اعتقاد أحد من أهل الحديث شيء من هذا والكتب شاهدة بذلك وإن كان مراده بالحشوية عموم أهل السنة والجماعة مطلقا فهذه الأقوال لا تعرف في عموم المسلمين وأهل السنة وجمهور المسلمين لا يظنون أن أحدا قال هذا وإذا كان في بعض جهال العامة من يقول هذا أو أكثر من هذا لم يجز أن يجعل هذا اعتقادا لأهل السنة

والجماعة يعابون به وإنما العيب فيما قالته رجال الطائفة وعلماؤها كما ذكرناه عن أئمة الشيعة فإن أئمة الشيعة هم القائلون للمقالات الشنيعة كما قد علم وأما لفظ المشبهة فلا ريب أن أهل السنة والجماعة والحديث من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم متفقون على تنزيه الله تعالى عن مماثلة الخلق وعلى ذم المشبهة الذين يشبهون صفاته بصفات خلقه ومتفقون على أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل إثبات الصفات ونفى مماثلة المخلوقات قال تعالى ليس كمثله شيء فهذا رد على الممثلة وهو السميع البصير (سورة الشورى). رد على المعطلة فقولهم في الصفات مبنى على أصلين أحدهما أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقا كالسنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك والثاني أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الإختصاص بما له من الصفات فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات ولكن نفاة الصفات يسمون كل من أثبت شيئا من الصفات مشبها بل المعطلة المحضة الباطنية نفاة الأسماء يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبها فيقولون إذا قلنا حي عليم فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالمين وكذلك إذا قلنا هو سميع بصير فقد شبهناه بالإنسان السميع البصير وإذا قلنا هو رءوف رحيم فقد شبهناه بالنبي الرءوف

الرحيم بل قالوا إذا قلنا إنه موجود فقد شبهناه بسائر الموجودات لاشتراكهما في مسمى الوجود فقيل لهؤلاء فقولوا ليس بموجود ولا حي فقالوا أو من قال منهم إذا قلنا ذلك فقد شبهناه بالمعدوم وبعضهم قال ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت فقيل لهم فقد شبهتموه بالممتنع بل جعلتموه نفسه ممتنعا فإنه كما يمتنع اجتماع النقيضين يمتنع ارتفاع النقيضين فمن قال إنه موجود معدوم فقد جمع بين النقيضين ومن قال ليس بموجود ولا معدوم فقد رفع النقيضين وكلاهما ممتنع فكيف يكون الواجب الوجود ممتنع الوجود والذين قالوا لا نقول هذا ولا هذا قيل لهم عدم علمكم وقولكم لا يبطل الحقائق في أنفسها بل هذا نوع من السفسطة فإن السفسطة ثلاثة أنواع نوع هو جحد الحقائق والعلم بها وأعظم من هذا قول من يقول عن الموجود الواجب القديم الخالق إنه لا موجود ولا معدوم وهؤلاء متناقضون فإنهم جزموا بعدم الجزم ونوع هو قول المتجاهلة اللاأدرية الواقفة الذين يقولون لا ندري هل ثم حقيقة وعلم أم لا وأعظم من هذا قول من يقول لا أعلم ولا أقول هو موجود أو معدوم أو حي أو ميت ونوع ثالث قول من يجعل الحقائق تتبع العقائد فالأول ناف لها والثاني واقف فيها والثالث يجعلها تابعة لظنون الناس وقد ذكر صنف رابع وهو الذي يقول إن العالم في سيلان فلا يثبت له حقيقة وهؤلاء من الأول لكن هذا يوجبه قولهم والمقصود هنا أن إمساك الإنسان عن النقيضين لا يقتضى رفعهما

وحاصل هذا القول منع القلوب والألسنة والجوارح عن معرفة الله وذكره وعبادته فهو تعطيل وكفر بطريق الوقف والإمساك لا بطريق النفى والإنكار وأصل ضلال هؤلاء أن لفظ التشبيه لفظ فيه إجمال فما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يتفق فيه الشيئان ولكن ذلك المشترك المتفق عليه لا يكون في الخارج بل في الذهن ولا يجب تماثلهما فيه بل الغالب تفاضل الأشياء في ذلك القدر المشترك فأنت إذا قلت عن المخلوقين حي وحي وعليم وعليم وقدير وقدير لم يلزم تماثل الشيئين في الحياة والعلم والقدرة ولا يلزم أن تكون حياة أحدهما وعلمه وقدرته نفس حياة الآخر وعلمه وقدرته ولا أن يكونا مشتركين في موجود في الخارج عن الذهن ومن هنا ضل هؤلاء الجهال بمسمى التشبيه الذي يجب نفيه عن الله وجعلوا ذلك ذريعة إلى التعطيل المحض والتعطيل شر من التجسيم والمشبه يعبد صنما والمعطل يعبد عدما والممثل أعشى والمعطل أعمى ولهذا كان جهم إمام هؤلاء وأمثاله يقولون إن الله ليس بشيء وروى عنه أنه قال لا يسمى باسم يسمى به الخالق فلم يسمعه إلا بالخالق القادر لأنه كان جبريا يرى أن العبد لا قدرة له وربما قالوا ليس بشيء كالأشياء ولا ريب أن الله تعالى ليس كمثله شيء ولكن ليس مقصودهم إلا أن حقيقة التشبيه منتفية عنه حتى لا يثبتون أمرا متفقا عليه وتحقيق هذا الموضع بالكلام في معنى التشبيه والتمثيل أما التمثيل فقد نطق الكتاب بنفيه عن الله في غير موضع كقوله تعالى ليس كمثله شيء (سورة الشورى). وقوله هل تعلم له سميا (سورة مريم). وقوله ولم يكن له كفوا أحد وقوله فلا تجعلوا لله أندادا (سورة البقرة). وقوله فلا تضريوا لله الأمثال (سورة النحل). ولكن وقع في لفظ التشبيه إجمال كما سنبينه إن شاء الله تعالى وأما لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والجهة ونحو ذلك

فلم ينطق كتاب ولا سنة بذلك في حق الله لا نفيا ولا إثباتا وكذلك لم ينطق بذلك أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين من أهل البيت وغير أهل البيت فلم ينطق أحد منهم بذلك في حق الله لا نفيا ولا إثباتا وأول من عرف عنه التكلم بذلك نفيا وإثباتا أهل الكلام المحدث من النفاة كالجهمية والمعتزلة ومن المثبتة كالمجسمة من الرافضة وغير الرافضة فالنفاة نفوا هذه الأسماء وأدخلوا في النفى ما أثبته الله ورسوله من صفات كعلمه وقدرته ومشيئته ومحبته ورضاه وغضبه وعلوه وقالوا إنه لا يرى ولا يتكلم بالقرآن ولا غيره ولكن معنى كونه متكلما أنه خلق كلاما في جسم من الأجسام غيره ونحو ذلك والمثبتة أدخلوا في ذلك من الأمور ما نفاه الله ورسوله. حتى قالوا إنه يرى في الدنيا بالأبصار ويصافح ويعانق وينزل إلى الأرض وينزل عشية عرفة راكبا على جمل أورق يعانق المشاة ويصافح الركبان وقال بعضهم إنه يندم ويبكي ويحزن وعن بعضهم أنه لحم ودم ونحو ذلك من المقالات التي تتضمن وصف الخالق جل جلاله بخصائص المخلوقين والله سبحانه منزه عن أن يوصف بشيء من الصفات المختصة بالمخلوقين وكل ما اختص بالمخلوق فهو صفة نقص والله تعالى منزه عن كل نقص ومستحق لغاية الكمال وليس له مثل في شيء من صفات الكمال فهو منزه عن النقص مطلقا ومنزه في الكمال أن يكون له مثل كما قال تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص فبين أنه أحد صمد واسمه الأحد يتضمن نفى المثل واسمه الصمد يتضمن جميع صفات

الكمال كما قد بينا ذلك في الكتاب المصنف في تفسير قل هو الله أحد وأما لفظ الجسم فإن الجسم عند أهل اللغة كما ذكره الأصمعي وأبو زيد وغيرهما هو الجسد والبدن وقال تعالى وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم (سورة المنافقون). وقال تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم (سورة البقرة). فهو يدل في اللغة على معنى الكثافة والغلظ كلفظ الجسد ثم قد يراد به نفس الغليظ وقد يراد به غلظه فيقال لهذا الثوب جسم أي غلظ وكثافة ويقال هذا أجسم من هذا أي أغلظ وأكثف ثم صار لفظ الجسم في اصطلاح أهل الكلام أعم من ذلك فيسمون الهواء وغيره من الأمور اللطيفة جسما وإن كانت العرب لا تسمى هذا جسما وبينهم نزاع فيما يسمى جسما هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا يتميز منها شيء عن شيء إما جواهر متناهية كما يقوله أكثر القائلين بالجوهر الفرد وإما غير متناهية كما يقولهالنظام والتزم الطفرة المعروفة بطفرة النظام أو هو مركب من المادة والصورة كما يقوله من يقوله من المتفلسفة أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا كما يقوله أكثر الناس وهو قول الهشامية والكلابية والنجارية والضرارية وكثير من الكرامية على ثلاثة أقوال وكثير من الكتب ليس فيها إلا القولان الأولان والصواب أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا كما قد بسط في موضعه وينبني على هذا أن ما يحدثه الله من الحيوان والنبات والمعادن فإنها أعيان يخلقها الله تعالى على قول نفاة الجوهر الفرد وعلى قول

مثبتية إنما يحدث أعراضا وصفات وإلا فالجواهر باقية ولكن اختلف تركيبها وينبنى على ذلك الإستحالة فمثبتة الجوهر الفرد يقولون لا تستحيل حقيقة إلى حقيقة أخرى ولا تنقلب الأجناس بل الجواهر يغير الله عز وجل تركيبها وهي باقية والأكثرون يقولون باستحالة بعض الأجسام إلى بعض وانقلاب جنس إلى جنس وحقيقة إلى حقيقة كما تنقلب النطفة إلى علقة والعلقة إلى مضغة والمضغة عظاما وكما ينقلب الطين الذي خلق الله منه آدم لحما ودما وعظاما وكما تنقلب المادة التي تخلق منها الفاكهة ثمرا ونحو ذلك وهذا قول الفقهاء والأطباء وأكثر العقلاء وكذلك ينبنى على هذا تماثل الأجسام فأولئك يقولون الأجسام مركبة من الجواهر وهي متماثلة فالأجسام متماثلة والأكثرون يقولون بل الأجسام مختلفة الحقائق وليست حقيقة التراب حقيقة النار ولا حقيقة النار حقيقة الهواء وهذه المسائل مسائل عقلية لبسطها موضع آخر والمقصود هنا بيان منشأ النزاع في مسمى الجسم والنظار كلهم متفقون فيما أعلم على أن الجسم يشار إليه وإن اختلفوا في كونه مركبا من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة أو لا من هذا ولا من هذا

وقد تنازع العقلاء أيضا هل يمكن وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يمكن أن يرى على ثلاثة أقوال فقيل لا يمكن ذلك بل هو ممتنع وقيل بل هو ممتنع في المحدثات الممكنة التي تقبل الوجود والعدم دون الواجب وقيل بل ذلك ممكن في الممكن والواجب وهذا قول بعض الفلاسفة ومن وافقهم من أهل الملل ما علمت به قائلا من أهل الملل إلا من أخذه عن هؤلاء الفلاسفة ومثبتو ذلك يسمونها المجردات والمفارقات وأكثر العقلاء يقولون إنما وجود هذه في الأذهان لا في الأعيان وإنما يثبت من ذلك وجود نفس الإنسان التي تفارق بدنه وتتجرد عنه وأما الملائكة التي أخبرت بها الرسل فالمتفلسفة المنتسبون إلى المسلمين يقولون هي العقول والنفوس المجردات وهي الجواهر العقلية وأما أهل الملل ومن علم ما أخبر الله به صفات الملائكة فيعلمون قطعا أن الملائكة ليست هذه المجردات التي يثبتها هؤلاء من وجوه كثيرة قد بسطت في غير هذا الموضع فإن الملائكة مخلوقون من نور كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيحوهم كما قال الله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين (سورة الأنبياء). وقد أخبر الله عن الملائكة أنهم أتوا إبراهيم ولوطا في صورة البشر حتى قدم لهم إبراهيم العجل وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وأتاه مرة في صورة أعرابي حتى رآه الصحابة وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم فيصورته التي خلق عليها مرتين مرة بين السماء والأرض ومرة في السماء عند سدرة المنتهى

والملائكة تنزل إلى الأرض ثم تصعد إلى السماء كما تواترت بذلك النصوص وقد أنزلها الله يوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق لنصر رسوله والمؤمنين كما قال تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين (سورة الأنفال). وقال ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها (سورة التوبة). وقال فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها (سورة الأحزاب). وقال أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون (سورة الزخرف). وقال حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون (سورة الأنعام). وقال الله تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم (سورة الأنفال). ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم (سورة الأنعام). ومثل هذا في القرآن كثير يعلم ببعضه أن ماوصف الله به الملائكةيوجب العلم الضروري أنها ليست ما يقوله هؤلاء في العقول والنفوس سواء قالوا إن العقول عشرة والنفوس تسعة كما هو المشهور عندهم أو قالوا غير ذلك وليست الملائكة أيضا القوى العالمة التي في النفوس كما قد يقولونه بل جبريل عليه السلام ملك منفصل عن الرسول يسمع كلام الله من الله وينزل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دل على ذلك النصوص والإجماع من المسلمين وهؤلاء يقولون إن جبريل هو العقل الفعال أو هو ما يتخيل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من الصور الخيالية وكلام الله ما يوجد في نفسه كما يوجد في نفس النائم

وهذا مما يعلم كل من له علم بما جاء به الرسول أنه من أعظم الأمور تكذيبا للرسول ويعلم أن هؤلاء أبعد عن متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار اليهود والنصارى وهذا مبسوط في مواضع والمقصود هنا الكلام على مجامع ما يعرف به ما أشار إليه هذا من عقائد المسلمين واختلافهم فإذا عرف تنازع النظار في حقيقة الجسم فلا ريب أن الله سبحانه ليس مركبا من الأجزاء المنفردة ولا من المادة والصورة ولا يقبل سبحانه التفريق والإنفصال ولا كان متفرقا فاجتمع بل هو سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فهذه المعاني المعقولة من التركيب كلها منتفية عن الله تعالى لكن المتفلسفة ومن وافقهم تزيد على ذلك وتقول إذا كان موصوفا بالصفات كان مركبا وإذا كانت له حقيقة ليست هي مجرد الوجود كان مركبا فيقول لهم المسلمون المثبتون للصفات النزاع ليس في لفظ المركب فإن هذا اللفظ إنما يدل على مركب ركبه غيره ومعلوم أن عاقلا لا يقول إن الله تعالى مركب بهذا الإعتبار وقد يقال لفظ المركب على ما كانت أجزاؤه متفرقة فجمع إما جمع

امتزاج وإما غير امتزاج كتركيب الأطعمة والأشربة والأدوية والأبنية واللباس من أجزائها ومعلوم نفى هذا التركيب عن الله ولا نعلم عاقلا يقول إن الله تعالى مركب بهذا الإعتبار وكذلك التركيب بمعنى أنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وهو التركيب الجسمي عند من يقول به وهذا أيضا منتف عن الله تعالى والذين قالوا إن الله جسم قد يقول بعضهم إنه مركب هذا التركيب وإن كان كثير منهم بل أكثرهم ينفون ذلك ويقولون إنما نعنى بكونه جسما أنه موجود أو أنه قائم بنفسه أو أنه يشار إليه أو نحو ذلك لكن بالجملة هذا التركيب وهذا التجسيم يجب تنزيه الله تعالى عنه وأما كونه سبحانه ذاتا مستلزمة لصفات الكمال له علم وقدرة وحياة فهذا لا يسمى مركبا فيما يعرف من اللغات وإذا سمى مسم هذا مركبا لم يكن النزاع معه في اللفظ بل في المعنى العقلي ومعلوم أنه لا دليل على نفى هذا كما قد بسط في موضعه بل الأدلة العقلية توجب إثباتهولهذا كان جميع العقلاء مضطرين إلى إثبات معان متعددة لله تعالى فالمعتزلي يسلم أنه حي عالم قادر ومعلوم أن كونه جسما ليس هو معنى كونه عالما ومعنى كونه عالما ليس معنى كونه قادرا والمتفلسف يقول إنه عاقل ومعقول وعقل ولذيذ ومتلذذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق ومعلوم بصريح العقل أن كونه يحب ليس هو كونه يعلم وكونه محبوبا معلوما ليس هو معنى كونه محبا عالما والمتفلسف يقول معنى كونه عالما هو معنى كونه قادرا مؤثرا فاعلا وذلك هو نفس ذاته فيجعل العلم هو القدرة وهو الفعل ويجعل القدرة هي القادر والعلم هو العالم والفعل هو الفاعل وبعض متأخريهم وهو الطوسى ذكر في شرح كتاب الإشارات أن العلم هو المعلوم ومعلوم

فساد هذه الأقوال بصريح العقل ومجرد تصورها التام يكفى في العلم بفسادها وهؤلاء فروا من معنى التركيب وليس لهم قط حجة على نفى مسمى التركيب بجميع هذه المعاني بل عمدتهم أن المركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه وربما قالوا الصفة مفتقرة إلى محل والمفتقر إلى محل لا يكون واجبا بنفسه بل يكون معلولا وهذا الحجة ألفاظها كلها مجملة فلفظ الواجب بنفسه يراد بهالذي لا فاعل له فليس له علة فاعلة ويراد به الذي لا يحتاج إلى شيء مباين له ويراد به القائم بنفسه الذي لا يحتاج إلى مباين له وعلى الأول والثاني فالصفات واجبة الوجود وعلى الثالث فالذات الموصوفة بالصفات هي الواجبة والصفة وحدها لا يقال إنها واجبة الوجود ويراد به مالا تعلق له بغيره وهذا لا وجود له في الخارج والبرهان إنما قام على أن الممكنات لها فاعل واجب الوجود قائم بنفسه أي عني عما سواه والصفة ليست هي الفاعل وقوله إذا كانت له ذات وصفات كان مركبا والمركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره فلفظ الغير مجمل يراد بالغير المباين فالغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود وهذا اصطلاح الأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة ويراد بالغيرين ما ليس أحدهما الآخر أو ما جاز العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر وهذا اصطلاح طوائف من المعتزلة والكرامية وغيرهم وأما السلف كالإمام أحمد وغيره فلفظ الغير عندهم يراد به هذا ويراد به هذا ولهذا لم يطلقوا القول بأنه علم الله غيره ولا أطلقوا القول بأنه

ليس غيره ولا يقولون لا هو هو ولا هو غيره بل يمتنعون عن إطلاق اللفظ المجمل نفيا وإثباتا لما فيه من التلبيس فإن الجهمية يقولون ما سوى الله مخلوق وكلامه غيره فيكون مخلوقا فقال أئمة السنة إذا أريد بالغير والسوى ما هو مباين له فلا يدخل علمه وكلامه في لفظ الغير والسوى كما لم يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم من حلف بغير الله فقد أشرك وقد ثبت في السنة جواز الحلف بصفاته كعزته وعظمته فعلم أنها لا تدخل في مسمى الغير عند الإطلاق وإذا أريد بالغير أنه ليس هو إياه فلا ريب أن العلم ليس هو العالم والكلام ليس هو المتكلم وكذلك لفظ الإفتقار يراد به افتقار المفعول إلى فاعله ونحو ذلك ويراد به التلازم بمعنى أنه لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر وإن لم يكن أحدهما مؤثرا في الآخر كالأمور المتضايفة مثل الأبوة والبنوة والمركب قد عرف ما فيه من الإشتراك فإذا قال القائل لو كان عالما لكان مركبا من ذات وعلم فليس المراد به أن هذين كانا مفترقين فاجتمعا ولا أنه يجوز مفارقة أحدهما الآخر بل المراد أنه إذا كان عالما فهناك ذات وعلم قائم بها وقوله والمركب مفتقر إلى أجزائه فمعلوم أن افتقار المجموع إلى

أبعاضه ليس بمعنى أن أبعاضه فعلته أو وجدت دونه وأثرت فيه بل بمعنى أنه لا يوجد إلا بوجود المجموع ومعلوم أن الشيء لا يوجد إلا بوجود نفسه وإذا قيل هو مفتقر إلى نفسه بهذا المعنى لم يكن هذا ممتنعا بل هذا هو الحق فإن نفس الواجب لا يستغنى عن نفسه وإذا قيل هو واجب بنفسه فليس المراد أن نفسه أبدعت وجوبه بل المراد أن نفسه موجودة بنفسها لم تفتقر إلى غيره في ذلك ووجوده واجب لا يقبل العدم بحال فإذا قيل مثلا العشرة مفتقرة إلى العشرة لم يكن في هذا إفتقار لها إلى غيرها وإذا قيل هي مفتقرة إلى الواحد الذي هو جزؤها لم يكن افتقارها إلى بعضها بأعظم من افتقارها إلى المجموع التي هي هو وإذا لم يكن ذلك ممتنعا بل هو الحق فإنه لا يوجد المجموع إلا بالمجموع فكيف يمتنع أن يقال لا يوجد المجموع إلا بوجود جزئه

والدليل إنما دل على أن الممكنات لها مبدع واجب بنفسه خارج عنها أما كون ذلك المبدع مستلزما لصفاته أو لا يوجد إلا متصفا بصفات الكمال فهذا لم تنفه حجة أصلا ولا هذا التلازم سواء سمى فقرا أو لم يسم مما ينفى كون المجموع واجبا قديما أزليا لا يقبل العدم بحال وأيضا فتسمية الصفات القائمة بالموصوف جزءا له ليس هو من اللغة المعروفة وإنما هو اصطلاح لهم كما سموا الموصوف مركبا بخلاف تسمية الجزء صفة فإن هذا موجود في كلام كثير من الأئمة والنظار كالإمام أحمد وابن كلاب وغيرهما وإلا فحقيقة الأمر أن الذات المستلزمة للصفة لا توجد إلا وهي متصفة بالصفة وهذا حق وإذا تنزل إلى اصطلاحهم المحدث وسمى هذا جزءا فالمجموع لا يوجد إلا بوجود جزئه الذي هو بعضه وإذ قيل هو مفتقر إلى بعضه لم يكن هذا إلا دون قول القائل هو مفتقر إلى نفسه الذي هو المجموع وإذا كان لا محذور فيه فهذا أولى وإذا قيل جزؤه غيره والواجب لا يفتقر إلى غيره قيل إن أردت أن جزأه مباين له وأنه يجوز مفارقة أحدهما الآخر بوجه من الوجوه فهذا باطل فليس جزؤه غيره بهذا التفسير وإن أردت

أنه يمكن العلم بأحدهما دون العلم بالآخر كما نعلم أنه قادر قبل العلم بأنه عالم ونعلم الذات قبل العلم بصفاتها فهو غيره بهذا التفسير وقد علم بصريح العقل أنه لا بد من إثبات معان هي أغيار بهذا التفسير وإلا فكونه قائما بنفسه ليس هو كونه عالما وكونه عالما ليس هو كونه حيا وكونه حيا ليس هو كونه قادرا ومن جعل هذه الصفة هي الأخرى وجعل الصفات كلها هي الموصوف فقد انتهى في السفسطة إلى الغاية وليس هذا إلا كمن قال السواد هو البياض والسواد والبياض هو الأسود والأبيض ثم هؤلاء الذين نفوا المعاني التي يتصف بها كلهم متناقضون يجمعون في قولهم بين النفي والإثبات وقد جعلوا هذا أساس التعطيل والتكذيب بما علم بصريح المعقول وصحيح المنقول فالذين ينفون علمه بالأشياء يقولون لئلا يلزم التكثر والذين ينفون علمه بالجزيئات يقولون لئلا يلزم التغير فيذكرون لفظ التكثر والتغير وهما لفظان مجملان يتوهم السامع أنه تتكثر الآلهة أو أن الرب يتغير ويستحيل من حال إلى حال كما يتغير الإنسان إما بمرض وإما بغيره وكما تتغير الشمس إذا اصفر لونها ولا يدري أنه عندهم

إذا أحدث مالم يكن محدثا سموه تغيرا وإذا سمع دعاء عباده سموه تغيرا وإذا رأى ما خلقه سموه تغيرا وإذا كلم موسى بن عمران سموه تغيرا وإذا رضي عمن أطاعه وسخط على من عصاه سموه تغيرا إلى أمثال هذه الأمور ثم إنهم ينفون ذلك من غير دليل أصلا فإن الفلاسفة يجوزون أن يكون القديم محلا للحوادث لكن من نفى منهم ما نفاه فإنما هو لنفيه الصفات مطلقا وكذلك المعتزلة ولهذا كان الحاذق من هؤلاء وهؤلاء كأبي الحسين البصري وأبي البركات صاحب المعتبر وغيرهما قد خالفوهم في ذلك وبينوا أنه ليس لهم دليل عقلي ينفى ذلك وأن الأدلة العقلية والشرعية توجب ثبوت ذلك وهذا كله قد بسط في موضع آخر والمقصود هنا أن من نفى الجسم وأراد به نفى التركيب من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة فقد أصاب في المعنى ولكن منازعوه يقولون هذا الذي قلته ليس هو مسمى الجسم في اللغة ولا هو أيضا حقيقة الجسم الإصطلاحي فإن الجسم ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا وهو يقول هذا حقيقة الجسم الإصطلاحيوإذا كان منازعوه من لا ينفى التركيب من هذا وهذا فالفريقان متفقان على تنزيه الرب عن ذلك لكن أحدهما يقول نفى لفظ الجسم لا يفيد هذا التنزيه وإنما يفيده لفظ التركيب ونحوه والآخر يقول بل نفى لفظ الجسم يفيد هذا التنزيه ومن قال هو جسم فالمشهور عن نظار الكرامية وغيرهم ممن يقول هو جسم أنه يفسر ذلك بأنه الموجود أو القائم بنفسه لا بمعنى المركب وقد اتفق الناس على أن من قال إنه جسم وأراد هذا المعنى فقد أصاب في المعنى لكن إنما يخطئه من يخطئه في اللفظ أما من يقول الجسم هو المركب فيقول أخطأت حيث استعملت لفظ الجسم في القائم بنفسه أو الموجود وأما من لا يقول بأن كل جسم مركب فيقول تسميتك لكل موجود أو قائم بنفسه جسما ليس هو موافقا للغة العرب المعروفة ولا تكلم بهذا اللفظ أحد من السلف والأئمة ولا قالوا إن الله جسم

فأنت مخطئ في اللغة والشرع وإن كان المعنى الذي أردته صحيحا فيقول أنا تكلمت بالإصطلاح الكلامي فإن الجسم عند النظار من المتكلمين والفلاسفة هو ما يشار إليه ثم ادعى طائفة منهم أن كل ما كان كذلك فهو مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة ونازعهم طائفة أخرى في هذا المعنى وقالوا ليس كل ما يشار إليه هو مركب لا من هذا ولا من هذا فإذا أقام صاحب هذا القول دليلا عقليا على نفى تركيب المشار إليه خصم منازعيه إلا من يقول إن أسماء الله تعالى توقيفية فيقول له ليس لك أن تسميه بذلك وأما أهل السنة المتبعون للسلف فيقولون كلكم مبتدعون في اللغة والشرع حيث سميتم كل ما يشار إليه جسما فهذا اصطلاح لا يوافق اللغة ولم يتكلم به أحد من سلف الأمة قال المدعون أن الجسم هو المركب بل قولنا موافق للغة والجسم في اللغة هو المؤلف المركب والدليل على ذلك أن العرب تقول هذا أجسم من هذا عند زيادة الأجزاء والتفضيل إنما يقع بعد الإشتراك في الأصل فعلم أن لفظ الجسم عندهم هو المركب وكلما زاد التركيب قالوا أجسم فيقال لهم أما كون العرب تقول لما كان أغلظ من غيره أجسم فهذا

صحيح مع أن بعض أهل اللغة أنكروا هذا وأما دعواكم أنهم يقولون هذا لأن الجسم مركب من الأجزاء المفردة وكل ما يشار إليه فهو مركب فيسمونه جسما فهذه دعوى باطلة عليهم من وجوه أحدها أنه قد علم بنقل الثقات عنهم والإستعمال الموجود في كلامهم أنهم لا يسمون كل ما يشار إليه جسما ولا يقولون للهواء اللطيف جسما وإنما يستعملون لفظ الجسم كما يستعملون لفظ الجسد وهكذا نقل عنهم أهل العلم بلسانهم كالأصمعي وأبي زيد الأنصاري وغيرهما كما نقله الجوهري في صحاحه وغير الجوهري فلفظ الجسم عندهم يتضمن معنى الغلظ والكثافة لا معنى كونه يشار إليه الوجه الثاني أنهم لم يقصدوا بذلك كونه مركبا من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة بل لم يخطر هذا بقلوبهم بل إنما قصدوا معنى الكثافة والغلظ وأما كون الكثافة والغلظ تكون بسبب كثرة الجواهر المفردة أو بسبب كون الشيء في نفسه غليظا كثيفا كما يكون حارا وباردا وإن لم تكن حرارته وبرودته بسبب كونه مركبا من

الجواهر الفردة فالجسم له قدر وصفات وليست صفاته لأجل الجواهر فكذلك قدره فهذا ونحوه من البحوث العقلية الدقيقة لم تخطر ببال عامة من تكلم بلفظ الجسم من العرب وغيرهم الوجه الثالث أنه من المعلوم أن اللفظ المشهور في اللغة الذي يتكلم به الخاص والعام ويقصدون معناه لا يجوز أن يكون معناه مما يخفى تصوره على أكثر الناس ويقف العلم بصحة ذلك المعنى على أدلة دقيقة عقلية ويتنازع فيها العقلاء فإن الناطقين به جميعهم متفقون على إرادة المعنى الذي يدل اللفظ عليه في اللغة وما كان دقيقا لا يفهمه أكثر الناس لا يكون مراد الناطقين به وكذلك ما كان متنازعا فيه ولهذا قال من قال من الأصوليين اللفظ المشهور لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى خفي لا يعلمه إلا خواص الناس كلفظ الحركة ونحوه ومعلوم أن لفظ الجسم مشهور في لغة العرب مع عدم تصور أكثرهم للتركيب وعدم علمهم بدليل التركيب وإنكار كثير منهم للتركيب من الجواهر الفردة والمادة والصورة وهذا مما يعلم به قطعا أنه ليس موضوعه في اللغة ما تنازع فيه النظار ومعرفته تتوقف على النظر والأدلة الخفية

الوجه الرابع أنهم لو قصدوا التركيب فإنما قصدوه فما كان غليظا كثيفا فدعوى المدعى عليهم أنهم يسمون كل ما يشار إليه جسما ويقولون مع ذلك إنه مركب دعوتان باطلتان وجمهور المسلمين الذين يقولون ليس بجسم يقولون من قال إنه جسم وأراد بذلك أنه موجود أو قائم بنفسه أو نحو ذلك أو قال إنه جوهر وأراد بذلك أنه قائم بنفسه فهو مصيب في المعنى لكن أخطأ في اللفظ وأما إذا أثبت أنه مركب من الجواهر الفرده ونحو ذلك فهو مخطئ في المعنى وفي تكفيره نزاع بينهم ثم القائلون بأن الجسم مركب من الجواهر الفردة قد تنازعوا في مسماه فقيل الجوهر الواحد بشرط انضمام غيره إليه يكون جسما وهو قول القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما وقيل بل الجوهران فصاعدا وقيل بل أربعة فصاعدا وقيل بل ستة فصاعدا وقيل بل ثمانية فصاعدا وقيل بل ستة عشر وقيل بل اثنان وثلاثون وقد ذكر عامة هذه الأقوال الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين

فقد تبين أن في هذا اللفظ من المنازعات اللفظية اللغوية والإصطلاحية والعقلية والشرعية ما يبين أن الواجب على المسلمين الإعتصام بالكتاب والسنة كما أمرهم الله تعالى بذلك في قوله واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (سورة آل عمران). وقوله تعالى ألمص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون (سورة الأعراف). وقوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله (سورة الأنعام). وقوله كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (سورة البقرة). وقوله يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا سورة

النساء وقوله فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (سورة طـــه). قال ابن عباس رضي الله عنهما تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية ومثل هذا كثير من الكتاب والسنة وهذا مما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها فالواجب أن ينظر في هذا الباب فما أثبته الله ورسوله أثبتناه وما نفاه الله ورسوله نفيناه والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفى فنثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني وننفى ما نفته النصوص من الألفاظ والمعاني وأما الألفاظ التي تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين مثل لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والجهة ونحو ذلك فلا تطلق نفيا ولا إثباتا حتى ينظر في مقصود قائلها فإن كان قد أراد بالنفى والإثبات معنى صحيحا موافقا لما أخبر به الرسول صوب المعنى الذي قصده بلفظه ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص لا يعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد بها والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها وأما إن أريد بها معنى باطل نفى ذلك المعنى

وإن جمع بين حق وباطل أثبت الحق وأبطل الباطل وإذا اتفق شخصان على معنى وتنازعا هل يدل ذلك اللفظ عليه أم لا عبر عنه بعبارة يتفقان على المراد بها وكان أقربهما إلى الصواب من وافق اللغة المعروفة كتنازعهم في لفظ المركب هل يدخل فيه الموصوف بصفات تقوم به وفي لفظ الجسم هل مدلوله في اللغة المركب أو الجسد أو نحو ذلك وأما لفظ المتحيز فهو في اللغة اسم لما يتحيز إلى غيره كما قال تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة (سورة الأنفال). وهذا لابد أن يحيط به حيز وجودي ولا بد أن ينتقل من حيز إلى حيز ومعلوم أن الخالق جل جلاله لا يحيط به شيء من مخلوقاته فلا يكون متحيزا بهذا المعنى اللغوي وأما أهل الكلام فاصطلاحهم في المتحيز أعم من هذا فيجعلون كل جسم متحيزا والجسم عندهم ما يشار إليه فتكون السماوات والأرض وما بينهما متحيزا على اصطلاحهم وإن لم يسم ذلك متحيزا في اللغة والحيز تارة يريدون به معنى موجودا وتارة يريدون به معنى معدوما ويفرقون بين مسمى الحيز ومسمى المكان فيقولون المكان أمر وجودي والحيز تقدير مكان عندهم فمجموع الأجسام ليست في شيء موجود فلا تكون في مكان وهي عندهم متحيزة ومنهم من

يتناقض فيجعل الحيز تارة موجودا وتارة معدوما كالرازي وغيره كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع فمن تكلم باصطلاحهم وقال إن الله متحيز بمعنى أنه أحاط به شيء من الموجودات فهذا مخطئ فهو سبحانه بائن من خلقه وما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق وإذا كان الخالق بائنا عن المخلوق امتنع أن يكون الخالق في المخلوق وامتنع أن يكون متحيزا بهذا الإعتبار وإن أراد بالحيز أمرا عدميا فالأمر العدمي لا شيء وهو سبحانه بائن عن خلقه فإذا سمى العدم الذي فوق العالم حيزا وقال يمتنع أن يكون فوق العالم لئلا يكون متحيزا فهذا معنى باطل لأنه ليس هناك موجود غيره حتى يكون فيه وقد علم بالعقل والشرع أنه بائن عن خلقه كما قد بسط في غير هذا الموضوع وهما مما احتج به سلف الأمة وأئمتها على الجهمية كما احتج به الإمام أحمد في رده على الجهمية وعبد العزيز الكناني وعبدالله بنسعيد بن كلاب والحارث المحاسبي وغيرهم وبينوا أنه سبحانه كان موجودا قبل أن يخلق السماوات والأرض فلما خلقهما فإما أن يكون قد دخل فيهما أو دخلت فيه وكلاهما ممتنع فتعين أنه بائن عنهما وقرروا ذلك بأنه يجب أن يكون مباينا لخلقه أو مداخلا له والنفاة يدعون وجود موجود لا يكون مباينا لغيره ولا مداخلا له وهذا ممتنع في بداية العقول لكن يدعون أن القول بامتناع ذلك هو من حكم الوهم لا من حكم العقل ثم إنهم تناقضوا فقالوا لو كان فوق العرش لكان جسما لأنه لا بد أن يتميز ما يلي هذا الجانب عما يلي هذا الجانب فقال لهم أهل الإثبات معلوم بضرورة العقل أن إثبات موجود فوق العالم ليس بجسم أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه ليس بمباين للعالم ولا بمداخل له فإن جاز إثبات الثاني فإثبات الأول أولى وإذا قلتم نفى هذا الثاني من حكم الوهم الباطل قيل لكم فنفى الأول أولى أن يكون من حكم الوهم الباطل

وإن قلتم إن نفى الأول من حكم العقل المقبول فنفى الثاني أولى أن يكون من حكم العقل المقبول وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه وكذلك الكلام في لفظ الجهة فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي كالفلك الأعلى ويراد به أمر عدمى كما وراء العالم فإذا أريد الثاني أمكن أن يقال كل جسم في جهة وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم آخر فمن قال الباري في جهة وأراد بالجهة أمرا موجودا فكل ما سواه مخلوق له ومن قال إنه في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ وإن أراد بالجهة أمرا عدميا وهو ما فوق العالم وقال إن الله فوق العالم فقد أصاب وليس فوق العالم موجود غيره فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات وأما إذا فسرت الجهة بالأمر العدمي فالعدم لا شيء وهذا ونحوه من الإستفسار وبيان ما يراد باللفظ من معنى صحيح وباطل يزيل عامة الشبه فإذا قال نافي الرؤية لو رؤى لكان في جهة وهذا ممتنع فالرؤية ممتنعة

قيل له إن أردت بالجهة أمرا وجوديا فالمقدمة الأولى ممنوعة وإن أردت بها أمرا عدميا فالثانية ممنوعة فيلزم بطلان إحدى المقدمتين على كل تقدير فتكون الحجة باطلة وذلك أنه إن أراد بالجهة أمرا وجوديا لم يلزم أن يكون كل مرئى في جهة وجودية فإن سطح العالم الذي هو أعلاه ليس في جهة وجودية ومع هذا تجوز رؤيته فإنه جسم من الأجسام فبطل قولهم كل مرئى لا بد أن يكون في جهة وجودية إن أراد بالجهة أمرا وجوديا وإن أراد بالجهة أمرا عدميا منع المقدمة الثانية فإنه إذا قال الباري ليس في جهة عدمية وقد علم ان العدم ليس بشيء كان حقيقة قوله إن الباري لا يكون موجودا قائما بنفسه حيث لا موجودا إلا هو وهذا باطل وإن قال هذا يستلزم أن يكون جسما أو متحيزا عاد الكلام معه في مسمى الجسم والمتحيز فإن قال هذا يستلزم أن يكون مركبا من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وغيره ذلك من المعاني الممتنعة على الرب لم يسلم له هذا التلازم وإن قال يستلزم أن يكون الرب مشارا إليه ترفع الأيدي إليه في الدعاء وتعرج الملائكة والروح إليه وعرج بمحمد صلى الله عليه

وسلم إليه وتنزل الملائكة من عنده وينزل منه القرآن ونحو ذلك من اللوازم التي نطق بها الكتاب والسنة وما كان في معناها قيل له لا نسلم انتفاء هذه اللوازم فإن قال ما استلزم هذه اللوازم فهو جسم قيل إن أردت أنه يسمى جسما في اللغة أو في الشرع فهذا باطل وإن أردت أنه يكون جسما مركبا من المادة والصورة أو من الجواهر المفردة فهذا أيضا ممنوع في العقل فإن ما هو جسم باتفاق العقلاء كالأحجار لا نسلم أنه مركب بهذا الإعتبار كما قد بسط في موضعه فما الظن بغير ذلك وتمام ذلك بمعرفة البحث العقلي في تركيب الجسم الإصطلاحي من هذا وهذا وقد بسط في غير هذا الموضع وبين فيه أن قول هؤلاء وهؤلاء باطل مخالف للأدلة العقلية القطعية ولكن هذا الإمامي لم يذكر هنا من الأدلة ما يصل به إلى آخر البحث وقد ذكر في كلامه ما يناسبهذا الموضع ومن شرع في تقرير ما ذكره بالمقدمات الممنوعة شرع معه في نقضها وإبطالها بمثل ذلك ولكل مقام مقال وقد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع وبين أن ما تنفيه نفاة الصفات التي نطق بها الكتاب والسنة في علو الله سبحانه وتعالى على خلقه وغير ذلك كما أنه لم ينطق بما ذكروه كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قال بقولهم أحد من المرسلين ولا الصحابة والتابعين ولم يدل عليه أيضا دليل عقلي بل الأدلة العقلية الصريحة موافقة للأدلة السمعية الصحيحة ولكن هؤلاء ضلوا بألفاظ متشابهة ابتدعوها ومعان عقلية لم يميزوا بين حقها وباطلها وجميع البدع كبدع الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية لها شبه في نصوص الأنبياء بخلاف بدع الجهمية النفاة فإنه ليس معهم فيها دليل سمعي أصلا ولهذا كانت آخر البدع حدوثا في الإسلام ولما حدثت أطلق السلف والأئمة القول بتكفير أهلها لعلمهم بأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق ولهذا يصير محققوهم إالى مثل قول فرعون مقدم المعطلة بل وينتصرون له ويعظمونه

وهؤلاء المعطلة ينفون نفيا مفصلا ويثبتون شيئا مجملا يجمعون في بين النقيضين وأما الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فيثبتون إثباتا مفصلا وينفون نفيا مجملا يثبتون لله الصفات على وجه التفصيل وينفون عنه التمثيل وقد علم أن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي تسميها النفاة تجسيما ومع هذا فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على اليهود شيئا من ذلك ولا قالوا أنتم مجسمون بل كان أحبار اليهود إذا ذكروا عند النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من الصفات أقرهم الرسول على ذلك وذكر ما يصدقه كما في حديث الحبر الذي ذكر له إمساك الرب سبحانه وتعالى للسماوات والأرض المذكور في تفسير قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره الآية (سورة الزمر). وقد ثبت ما يوافق حديث الحبر في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه من حديث ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما ولو قدر بأن النفى حق فالرسل لم تخبر به ولم توجب على الناس اعتقاده فمن اعتقده وأوجبه فقد علم بالإضطرار من دين الإسلام أن دينه مخالف لدين النبي صلى الله عليه وسلم.
*

فصل
ومما يبين الأمر في ذلك أن المسلمين متفقون على تنزيه الله تعالى عن العيوب والنقائص وأنه متصف بصفات الكمال لكن قد ينازعون في بعض الأمور هل النقص إثباتها أو نفيها وفي طريق العلم بذلك فهذا المصنف الإمامي اعتمد على طريق المعتزلة ومن تابعهم من أن الإعتماد في تنزيه الرب عن النقائص على نفى كونه جسما ومعلوم أن

هذه الطريقة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا هي مأثورة عن أحد من السلف فقد علم أنه لا أصل لها في الشرع وجمهور أصحابها يسلمون ذلك لكن يدعون أنها معلومة من جهة العقل فقال لهم القادحون في طريقهم هذا أيضا باطل فإنه لا يمكن تنزيه الله تعالى عن شيء من النقائص والعيوب لاستلزام ذلك كونه جسما فإنه ما من صفة يقول القائل إنها تستلزم التجسيم إلا والقول فيما أثبته كالقول فيما نفاه وهو لا بد أن يثبت شيئا وإلا لزم أن ينفى الموجود القديم الواجب بنفسه وحينئذ فأي صفة قال فيها إنها لا تكون إلا لجسم أمكن أن يقال له مثل ذلك فيما أثبته وإن كانت تلك صفة نقص فلو أراد أن ينزه الله تعالى عن الجهل والعجز والنوم وغير ذلك فإن هذه الصفات لا تكون إلا للأجسام قيل هل له وما تثبته أنت من الأسماء أو الأحكام أو الصفات لا تكون إلا للأجسام ولهذا كان من رد بهذه الطريق على الواصفين لله بالعيوب والنقائص كلامهم متناقض ولهذا لم يعتمد الله ولا رسوله ولا أحد من سلف الأمة فيما ينكرونه على اليهود وغيرهم ممن وصف الله تعالى بشيء من النقائص كالبخل والفقر واللغوب والصاحبة والولد والشريك على هذه الطريق ثم إن كثيرا ممن يسلك هذه الطريق حتى من الصفاتية يقولون

إن كون الرب منزها عن النقص متصفا بالكمال مما لا نعرفه بالعقل بل بالسمع وهو الإجماع الذي استند إليه وهؤلاء لا يبقى عندهم طريق عقلي ينزهون الله تعالى به عن شيء من النقائص والإجماع الذي اعتمدوا عليه إنما ينفع في الجمل دون التفاصيل التي هي محل نزاع بين المسلمين فإنه يمتنع أن يحتج بالإجماع في موارد النزاع ثم الإجماع يستندون فيه إلى بعض النصوص ودلالة النصوص على صفات الكمال أظهر وأكثر وأقطع من دلالة النصوص على كون الإجماع حجة وإذا عرف ضعف أصول النفاة للصفات فيما ينزهون عنه الرب فهؤلاء الرافضة طافوا على أبواب المذاهب وفازوا بأخس المطالب فعمدتهم في العقليات على عقليات باطلة وفي السمعيات على سمعيات باطلة ولهذا كانوا من أضعف الناس حجة وأضيقهم محجة وكان الأكابر من أئمتهم متهمين بالزندقة والإنحلال كما يتهم غير واحد من أكابرهم والمقصود هنا أن هذا الباب تكلم الناس فيه بألفاظ مجملة مثل التركيب والإنقسام والتجزئة والتبعيض ونحو ذلك والقائل إذا قال إن الرب تعالى ليس بمنقسم ولا متجزئ ولا متبعض ولا مركب ونحو ذلك فهذا إذا أريد به ما هو المعروف من معنى ذلك في اللغة فلا نزاع بين المسلمين أن الله منزه عن ذلك فلا يجوز أن يقال إنه مركب من أجزاء متفرقة سواء قيل إنه مركب بنفسه أو ركبه غيره ولا أنه مركب يقبل

التفريق والتجزئة والتبعيض وإن لم يكن كان متفرقا فاجتمع كما يقال ذلك في الأجسام فإنه سبحانه وإن كان خلق الحيوان والنبات فأنشأه شيئا بعد شيء لم تكن يد الإنسان ورجله ورأسه متفرقة فجمع بينها بل خلق هذه الأعضاء جملة لكن يمكن تفريق بعضها عن بعض فيمتنع أن يقال إن الله سبحانه وتعالى يقبل التفريق والتجزئة والتبعيض بهذا الإعتبار فهذان معنيان متفق عليهما لا أعلم مسلما له قول في الإسلام قال بخلاف ذلك وإن قال إن المراد بالتركيب أنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وبالإنقسام والتجزئة أنه مشتمل على هذه الأجزاء فجمهور العقلاء يقولون إن هذه المخلوقات المشار إليها كالشمس والقمر والأفلاك والهواء والنار والتراب ليست مركبة لا هذا التركيب ولا هذا التركيب وكيف برب العالمين فإنه من المعلوم بصريح العقل أن المخلوق المشار إليه الذي هو عال على غيره كعلو السماء على الأرض إذا كان جمهور العقلاء يقولون إنه ليس مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ وهي الجواهر المنفردة عند القائلين بها ولا من المادة والصورة كان منعهم أن يكون رب العالمين مركبا من هذا وهذا أولى وأما من قال إن هذه الأعيان المشار إليها مركبة من هذا وهذا فكثير منهم كالمعتزلة والأشعرية ينفون عن الرب تعالى هذا التركيب ولكن

كثير من شيوخ الكلام يقولون إن الله تعالى جسم فإذا كان من هؤلاء من يقول إن الجسم مركب من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة فقد يقول إنه مركب بهذا الإعتبار وبهذا وهذا القول باطل عند جماهير المسلمين لكن جمهور العقلاء ينكرون هذاالتركيب في المخلوقات فهم في الخالق أشد إنكارا ومن قال إن المشار إليه المخلوق مركب هذا التركيب فهؤلاء يحتاجون في نفى ذلك عن الرب إلى برهان عقلي يبين امتناع مثل ذلك فإن منازعيهم الذين يقولون بثبوت مثل هذا المعنى الذي جعلوه تركيبا يقولون إنه لا برهان لهم على نفيه بل المقدمات التي وافقونا عليها من إثبات مثل هذا التركيب في الشاهد يدل على ثبوته في الغائب كما في نظائر ذلك مما يستدل به على الغائب بالشاهد وبين الطائفتين في هذا منازعات عقلية ولفظية ولغوية قد بسطت في غير هذا الموضع وأما جمهور العقلاء مع السلف والأئمة فعندهم أن الطائفتين مخطئتان وتنزيه الرب عن ذلك تبين بالعقل مع الشرع كما بين من غير سلوك الشبهات الفاسدة وأما إذا قيل المراد بالإنقسام أو التركيب أن يتميز منه شيء عن شيء مثل تميز علمه عن قدرته أو تميز ذاته عن صفاته أو تميز ما يرى منه عما لا يرى كما قاله السلف في قوله تعالى لا تدركه الأبصار (سورة الأنعام). قالوا لا تحيط به وقيل لابن عباس رضي الله عنه أليس الله تعالى يقول لا تدركه الأبصار قال ألست ترى

السماء قال بلى قال أفكلها ترى قال لا فذكر أن الله يرى ولا يدرك أي لا يحاط به ونحو ذلك فهذا الإمتياز على قسمين أحدهما امتياز في علم العالم منا بأن نعلم شيئا ولا نعلم الآخر فهذا أيضا لا يمكن العاقل أن ينازع فيه بعد فهمه وإن قدر أن فيه نزاعا فإن الإنسان قد يعلم أنه موجود قبل أن يعلم أنه عالم ويعلم أنه قادر قبل أن يعلم أنه مريد ونحو ذلك فما من أحد من الناس إلا وهو يعلم شيئا ولا يعلم الآخر فالإمتياز في علم الناس بين ما يعلم وما لا يعلم مما لا يمكن عاقلا المنازعة فيه إلا أن يكون النزاع لفظيا أو يتكلم الإنسان بما لا يتصور حقيقة قوله فهذا الوجه من الإمتياز متفق على إثباته كما أن الأول متفق على نفيه وأما الإمتياز في نفس الأمر من غير قبول تفرق وانفصال كتميز العلم عن القدرة وتميز الذات عن الصفة وتميز السمع عن البصر وتميز ما يرى منه عما لا يرى ونحو ذلك وثبوت صفات له وتنوعها فهذا مما تنفيه الجهمية نفاة الصفات وهو مما أنكر السلف والأئمة نفيهم له كما ذكر ذلك أئمة المسلمين المصنفين في الرد على الجهمية كالإمام أحمد رضي الله عنه في رده على الجهمية وغيره من أئمة المسلمين ولكن ليس في أئمة المسلمين من قال إن

الرب مركب من الجواهر المنفردة ولا من المادة والصورة وقد تنازع النظار في الأجسام المشهودة هل هي مركبة من جواهر أو من أجزاء أو لا من هذا ولا من هذا على ثلاثة أقوال فمن قال إن المخلوق ليس مركبا لا من هذا ولا هذا فالخالق أولى أن لا يكون مركبا ومن قال إن المخلوق مركب فهو بين أمرين إما أن ينفى التركيب عن الرب سبحانه ويحتاج إلى دليل وأدلتهم على ذلك ضعيفة وإما أن يثبت تركيبه من هذا وهذا وهو قول سخيف فكلا القولين النفى والإثبات ضعيف لضعف الأصل الذي اشتركوا فيه وهذا الموضع من محارات كثير من العقلاء في صفات المخلوق والخالق مثال ذلك الثمرة كالتفاحة والأترجة لها لون وطعم وريح وهذه صفات قائمة بها ولها أيضا حركة فمن النظار من قال صفاتها ليست أمورا زائدة على ذاتها ويجعل لفظ التفاحة يتناول هذا كله ومنهم من يقول بل صفاتها زائدة على ذاتها وهذا في التحقيق نزاع لفظي فإن عنى بذاتها ما يتصوره الذهن من الذات المجردة فلا ريب أن صفاتها زائدة على هذه الذات وإن عنى بذاتها الذات الموجودة في الخارج فتلك متصفة بالصفات لا تكون داتا موجودة في الخارج إلا إذا كانت متصفة بصفاتها اللازمة لهافتقديرها في الخارج منفكة عن الصفات حتى يقال هل الصفات زائدة عليها أو ليست زائدة تقدير ممتنع والتقدير الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع وقد حكى عن طائفة من النظار كعبدالرحمن بن كيسان الأصم وغيره أنهم أنكروا وجود الأعراض في الخارج حتى أنكروا وجود الحركة والأشبه والله أعلم أنه لم ينقل قولهم على وجهه فإن هؤلاء أعقل من أن يقولوا ذلك وعبدالرحمن الأصم وإن كان معتزليا فإنه من فضلاء الناس وعلمائهم وله تفسير ومن تلاميذه إبراهيم بن

إسماعيل بن علية ولإبراهيم مناظرات في الفقه وأصوله مع الشافعي وغيره وفي الجملة فهؤلاء من أذكياء الناس وأحدهم أذهانا وإذا ضلوا في مسألة لم يلزم أن يضلوا في الأمورالظاهرة التي لا تخفى على الصبيان وهذا كما أن الأطباء وأهل الهندسة من أذكياء الناس ولهم علوم صحيحة طبية وحسابية وإن كان ضل منهم طوائف في الأمور الإلهية فذلك لا يستلزم أن يضلوا في الأمور الواضحة في الطب والحسابفمن حكى عن مثل أرسطو أو جالينوس أو غيرهما قولا في الطبيعيات ظاهر البطلان علم أنه غلط في النقل عليه وإن لم يكن تعمد الكذب عليه بل محمد بن زكريا الرازي مع إلحاده في الإلهيات والنبوات ونصرته لقول ديمقراطيس والحرنانيين القائلين بالقدماء الخمسة مع أنه من أضعف أقوال العالم وفيه من التناقض والفساد ما هو مذكور في موضع آخر كشرح الأصبهانية والكلام على معجزات الأنبياء والرد على من قال إنها قوى نفسانية المسماة بالصفدية وغير ذلك فالرجل من أعلم الناس بالطب حتى قيل له جالينوس الإسلام فمن ذكر عنه في الطب قولا يظهر فساده لمبتدئ الأطباء كان غالطا عليهوكذلك عبدالرحمن بن كيسان وأمثاله لا ينكر أن يكون للثمرة طعما ولونا وريحا وهذا من المراد بالأعراض في اصطلاح النظار فكيف يقال إنهم أنكروا الأعراض بل إذا قالوا إن الأعراض ليست صفات زائدة على الجسم بمعنى أن الجسم اسم للذات التي قامت بها الأعراض فالعرض داخل في مسمى الجسم وهذا مما يمكن أن يقوله هؤلاء وأمثالهم ثم رأيت أبا الحسين البصري وهو أحذق متأخري المعتزلة قد ذكر في تصفيح الأدلة والأجوبة هذا المعنى وذكر أن مرادهم هو

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17