كتاب : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

وقسم الوجود إلى واجب وممكن وجعل الأفلاك ممكنة واجبة به وفي ذلك من الفساد والاضطراب ما قد بسط في غير هذا الموضع وبنى ابن سينا الكلام في نفي صفاته على كونه واجب الوجود
وأما الفارابي في كتاب آراء المدينة الفاضلة وغير ذلك فاعتمد على كونه أول وكذا أرسطو في كتاب أثولوجيا اعتمد على كونه هو الأول وشبهه بالأول في العدد وعلى ذلك بنوا نفي

الصفات وإنما لو أثبتناها لخرج عن كونه أول مع أنهم لم يقيموا حجة على كونه أول بهذا المعنى الذي زعموه كما لم يقيموا حجة على كونه واجب الوجود بالمعنى الذي ادعوه بل تكلموا بألفاظ مجملة متشابهة تحتمل حقا وباطلا فإنه معلوم أن الله واجب الوجود بذاته موجود بنفسه وأنه الأول الذي ليس قبله شيء وهو القديم الأزلي الذي لم يزل ولا يزال وهؤلاء جعلوا وجوب الوجود بمعنى أنه لا يتعلق بغيره فلا يكون له صفة وكونه أول بمعنى أول الأعداد الذي لا تعدد فيه فمعلوم أن الواحد والأول المجرد عن كل شيء إنما يقدر في الأذهان لا في الأعيان
فالذهن يقدر واحدا واثنين وثلاثة وأربعة إلى سائر الأعداد المجردة والعدد المجرد عن المعدود إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان فأما الموجود في الخارج فإنما هي أعيان قائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها والأول منها هو ذات متصفة بصفاتها لا توجد في الأعيان ليس بذات قائمة بنفسها ولا صفة قائمة بغيرها بل

لا توجد ذات مجردة عن صفاتها وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن نبهنا هنا عليها لأن هؤلاء القوم قالوا إنا نعجب من هؤلاء القوم أنهم ذو فضل وأدب ومعرفة ومن هذا صورته وقد قرأ شيئا من كتب الفلاسفة والمنطق فما حقهم ينكرون علينا هذا
فكل كلام هؤلاء النصارى يتضمن تعظيم الفلاسفة وأهل المنطق وأن من قرأ كتبهم عرف بها من الحق في الإلهيات ما لا يعرفه سائر أهل الملل وهذا يدل على جهل هؤلاء النصارى بما جاءت به الرسل وبما يعرف بالعقل المحض
أما الأول فلأن المسيح وأتباعه كالحواريين ومن اتبعهم ليس

فيهم من عظم هؤلاء الفلاسفة ولا استعان بهم ولا التفت إليهم بل وهم عندهم من أئمة الكفر ورؤوس الضلال وكذلك موسى وأتباعه وكذلك محمد وأتباعه فليس في رسل الله وأنبيائه ولا في أتباعهم من يعظمهم ولا يستعين بكلامهم بل الرسل وأتباعهم متفقون على تضليلهم وتجهيلهم
وأما العقليات فإنما يعظم كلام هؤلاء الفلاسفة في العلوم الكلية والإلهية من هو من أجهل الناس بالمعارف الإلهية والعلوم الكلية إذ كان كلامهم في ذلك فيه من الجهل والضلال ما لا يحيط به إلا ذو الجلال وإنما كان القوم يعرفون ما يعرفونه من الطبيعيات والرياضيات كالهندسة وبعض الهيئة وشيئا من علوم الأخلاق والسياسات المدنية والمنزلية التي هي جزء مما جاءت به الرسل واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم من هؤلاء بالعلوم الإلهية والأخلاق والسياسات فضلا عما وراء ذلك
فإعضاد هؤلاء النصارى هؤلاء المتفلسفة يدل على عظيم جهلهم بالشرعيات والعقليات وهذا قد بسط الكلام عليه في مواضع متعددة إذ كان الرد على الفلاسفة لا يختص به النصارى بل الكلام في ذلك معهم ومع من يعظمهم من أهل الملل عموما

ومعلوم أن المنتسبين إلى الإسلام من أتباع الفلاسفة كالفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول وابن رشد الحفيد إمامهم أحذق بهم وأعلم من النصارى
وكتب الفلاسفة التي صارت إلى الإسلام من الطب والحساب والمنطق وغير ذلك هذبها المنتسبون إلى الإسلام فجاء كلامهم فيها خيرا من كلام أولئك اليونان
والنصارى واليهود إنما يعتمدون في هذه العلوم على ما وصفه هؤلاء المنتسبون إلى الإسلام مع أن هؤلاء عند علماء المسلمين جهال

ضلال في الإلهيات والكليات فكيف يكون سلفهم ومن يعظمهم من اليهود والنصارى
ولما صار أولئك اليونان عارفين بالله موحدين له عابدين له مؤمنين بملائكته وكتبه ورسله لما دخل إليهم أتباع المسيح يدعونهم إلى دين الله الذي بعث به المسيح وكل من كان من أتباع المسيح غير مبدل لشيء من دينه قبل النسخ فإنه من المؤمنين المهتدين وهم من أولياء الله وهم من أهل الجنة
ومن ظن أن كلام الرسل يوافق هؤلاء اليونان فإن ذلك يدل على جهله بما جاءت به الرسل وبما يقول هؤلاء وإنما يوجد مثل هذا في كلام الملاحدة من أهل الملل ملاحدة اليهود والنصارى وغيرهم كأصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم من الملاحدة المنتسبين إلى

تشيع أو إلى تصوف كابن عربي

وابن سبعين وأمثالهما وفي الكتب المضنون بها على غير أهلها ونحو ذلك من الكلام المنسوب إلى أبي حامد قطعة من ذلك
وهؤلاء يحتجون بالحديث المأثور أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب

وهذا الحديث كذب موضوع على النبي كما ذكر ذلك أهل العلم بالحديث كأبي جعفر العقيلي

وأبي حاتم بن حبان البستي وأبي الحسن الدارقطني وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم
ثم لفظه لو كان صحيحا حجة على نقيض مطلوبهم فإنه قال أول ما خلق الله العقل بنصب أول وفي لفظ لما خلق الله العقل قال له
فلفظه يقتضي أنه خاطبه في أول ما خلقه فحرفوا لفظه وقالوا أول ما خلق الله العقل بالضم وليس هذا لفظه ولكن لفظه يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه ولهذا قال ما خلقت خلقا أكرم علي منك وهذا يقتضي أنه خلق قبله غيره
وعندهم هو أول المبدعات يمتنع أن يتقدمه شيء مع أنه وسائر العقول والأفلاك عندهم قديمة أزلية لم تزل ولا تزال

ثم قال فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب فجعل به هذه الأنواع الأربعة
وعندهم أن العقل صدر عنه جميع العالم العلوي والسفلي وذلك أن لفظ العقل في الحديث سواء كان صحيحا أو ضعيفا هو العقل في لغة الأنبياء والمرسلين هو عقل الإنسان وهو عرض قائم به وهذه صفة قائمة بالإنسان ليس هو جوهرا قائما بنفسه
والعقل في لغة هؤلاء الفلاسفة هو جوهر قائم بنفسه وأما النفس الفلكية فلهم فيها قولان قيل إنها عرض قائم بالفلك وهو قول أكثرهم وقيل بل جوهر قائم بنفسه ولهذا يميل ابن سيناء وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر
والمقصود هنا ذكر هؤلاء النصارى أن ثم جوهرا لطيفا غير الجوهر الكثيف ومثلوا ذلك بالنفس والعقل والضوء ثم لم يقيموا على ثبوت شيء من ذلك دليلا ولا دليل مما دلت عليه الكتب الإلهية فإن النفس الفلكية والعقول العشرة لم ينطق بها كتاب

ولا رسول بل ولا دل عليها دليل عقلي وأدلة المتفلسفة عليها ضعيفة وإنما دل العقل على ما أخبرت به الرسل من الملائكة
ولكن هؤلاء الذين حملوا كلام الرسل على ما يوافق قول المتفلسفة يجعلون اللوح المحفوظ هو النفس الفلكية كما يجعلون العقل والقلم هو العقل الأول والعرش هو الفلك التاسع وغير ذلك مما قد بسط الكلام عليه في موضع آخر
وإذا لم يقيموا حجة شرعية ولا عقلية ما مثلوا به من الجواهر اللطيفة لم يكن لهم حجة على من قال إن الجوهر ما يشغل حيزا ويقبل عرضا ولما قرنوا النفس بالعقل كان ذلك ظاهرا في أنهم أرادوا النفس الفلكية
فاما إن أرادوا النفس الإنسانية فهذه ثابتة أخبرت بها الرسل وأتباعهم كما قد بسط في موضعه لكن هذه لا تقرن بالعقل الذي هو جوهر والعقل صفة هذه وهو مصدر عقل يعقل عقلا وقد يراد بالعقل غريزة قائمة بها ويراد بالعقل العمل بالعلم كما قد بسط في موضع آخر
الوجه الرابع قولم وجوهر الضوء فيقال لهم إن أردتم بالضوء نفس الشمس والنار فهذا جسم متحيز يشغل حيزا ويقبل عرضا ليس هو من الجواهر اللطيفة الذي مثلتم بها وإن أردتم

بالضوء الشعاع القائم بالهواء والجدران ونحو ذلك فليس هذا بجوهر لا لطيف ولا كثيف بل هو عرض قائم بغيره
الوجه الخامس قولكم إن الجوهر اللطيف لا يقبل عرضا كلام ممنوع وهو باطل أيضا فإن نفس الإنسان تقبل الأعراض القائمة بها وكذلك النفس الفلكية عند من أثبتها تقوم بها إرادات وتصورات متجددة ولفظ العرض في اصطلاح النظار يراد به ما قام بغيره سواء كان صفة لازمة أو عارضة وهذا موجب تقسيم النصارى كما هو قول الفلاسفة
فإنهم قالوا ليس في الوجود شيء إلا وهو إما جوهر وإما عرض لأنه أي أمر نظرناه وجدناه إما قائما بنفسه غير مفتقر في وجوده إلى غيره وهو الجوهر وإما مفتقر في وجوده إلى غيره لا قوام له بنفسه وهو العرض قالوا ولا يمكن أن يكون لهذين قسم ثالث
وهذا الذي قالوه هو تقسيم أرسطو وأتباعه وهو يسمي المبدأ الأول جوهرا وهذا تقسيم سائر النظار لكن أكثرهم لا يدخلون رب العالمين في مسمى الجوهر ومنهم من يدخله فيه وبعض النزاع في ذلك لفظي
وإذا كان الأمر على ما قالوه فالضوء القائم بالأرض والهواء عرض ليس جوهرا قائما بنفسه وهم قد جعلوه جوهرا وهذا تناقض بين وأيضا فالجواهر اللطيفة تقوم بها الأعراض كالحياة والعلم بل والرب على قولهم تقوم به الحياة والعلم

فإذا سموه جوهرا لزمهم أن يسموا صفاته أعراضا إذا قالوا لا موجود إلا جوهر أو عرض
فهذا يناقض قولهم الموجود إما جوهر وإما عرض فليس في الموجودات إلا هذا أو هذا بل موجب كلامهم أنها قائمة بذات الله فكيف بذات غيره
وإذا قالوا ويعنى بالأعراض الصفات العارضة أو القائمة بالأجسام كان هذا مناقضا لقولهم الموجود إما جوهر وإما عرض مع قولهم إن الرب جوهر ثلاثة أقانيم والأقنوم ذات وصفة ومع قولهم إن الرب جوهر فقولهم يقتضي أن الرب جوهر تقوم به الأعراض فكيف غيره
ثم يقال إذا قدر أنهم يدعون ثبوت جوهر لا يقوم به الأعراض فهذا اصطلاح لهم وافقوا فيه نفاة الصفات من الفلاسفة كأرسطو وذويه فإنهم يقولون إن الرب جوهر لا يتصف بشيء من

الصفات الثبوتية لكن ليس هذا قول النصارى فتبين أنهم في قولهم إن الرب جوهر وفي قولهم إن من الجواهر ما لا يقوم به الصفات موافقون للمشركين الفلاسفة أرسطو وأتباعه لا موافقين للمسيح والحواريين وأنهم أثبتوا الصفات لله موافقة للمسيح والحواريين ثم جعلوه جوهرا ثم قالوا إن الجوهر اللطيف لا تقوم به الصفات وهذا قول الفلاسفة المشركين المعطلين وهذا تحقيق ما ذكرناه عنهم من أنهم ركبوا دينا من دين المسيح والحواريين ومن دين الكفار المشركين
فهؤلاء إن عنوا بالعرض هذا فكل جوهر يقبل الصفات وإن أرادوا بالعرض ما تعنيه المتفلسفة بالصفات العرضية التي يفرقون بينها وبين الذاتية مع أن هذا ليس مقتضى كلامهم فقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن تقسيم هؤلاء الصفات اللازمة للموصوف إلى ذاتية وعرضية تقسيم باطل وتقدير أن يكون حقا فالنفس أيضا تقبل الصفات العرضية بل وكذلك كل جوهر سواء كان لطيفا أو كثيفا فقولكم إن الجوهر اللطيف لا يقبل عرضا مثل جوهر النفس وجوهر العقل وجوهر الضوء وما يجري هذا المجرى من الجواهر اللطيفة كلام باطل على كل تقدير

وإن عنوا بلفظ العرض شيئا آخر لم ينفعهم ذلك فإن المتكلمين الذين قالوا الجوهر هو ما يشغل حيزا ويقبل عرضا إنما أرادوا بالعرض ما يقوم بغيره من المعاني سواء كان لازما له أو عارضا له ومعلوم أن كل جوهر فإنه يقوم به المعاني والخالق تعالى عندهم يقوم به الحياء والعلم فإذا كان الخالق تعالى يقوم به المعاني وهم يسمونه جوهرا فكيف لا تقوم المعاني بغيره
وهؤلاء يثبتون جوهرا لطيفا لا تقوم به الأعراض مع قولهم إنه تقوم به المعاني وهذا اصطلاح لهم لا يوافقهم عليه أحد ثم يتناقضون فيقولون الموجود إما جوهر وإما عارض وهذا تناقض
ونظار المسلمين لهم في تسمية صفات الله القائمة به أعراضا نزاع بعضهم يسميها أعراضا وبعضهم ينكر هذه التسمية مع اتفاق هاتين الطائفتين على قيام الصفات به وجمهور نظار المسلمين

لا يسمونه جوهرا وبعضهم يسميه جوهرا وأما من أنكر قيام الصفات به فذاك لا يسمي الله جوهرا ولا جسما
وهؤلاء النصارى متناقضون تناقضا بينا ولهذا كان لهم طريقة لا يوافقهم عليها أحد من طوائف العقلاء ذلك يظهر بالوجه السادس وهو أن الناس لهم في إثبات الصفات القائمة بذات الله تعالى قولان فسلف المسلمين وأئمتهم وجمهور الخلق من أهل الملل وغير أهل الملل يثبتون قيام الصفات بالله تبارك وتعالى وهل تسمى أعراضا على قولين
والقول الثاني قول من ينفي الصفات مثل الملاحدة الجهمية ونحوهم من مبتدعة المسلمين ومن وافقهم من الفلاسفة وبعض اليهود والنصارى فهؤلاء لا تقوم به المعاني والصفات عندهم فلا يقولون تقوم به الأعراض ثم من هؤلاء من يسميه جوهرا كأرسطو وأتباعه ومنهم من لا يسميه جوهرا كمتأخري الفلاسفة ابن سينا

وأمثاله مع جمهور نظار المسلمين وغيرهم سواء سموه جوهرا أو لم يسموه
وأما الجمهور القائلون بقيام المعاني به فبعضهم يسميها أعراضا وإن لم يسمه جوهرا وقد سماه بعضهم جوهرا وبعضهم ينفي أن يكون أعراضا وبعضهم يسكت عن النفي والإثبات فلا يسميها أعراضا ولا ينفي تسميتها بذلك أو يستفصل القائل عن كونها أعراضا
وأما هؤلاء النصارى فقالوا جوهر ثلاثة أقانيم ووصفوه بالصفات الثبوتية وهي الحياة والنطق وقالوا الموجود إما جوهر وإما عرض فلزمهم أن تكون صفات الله أعراضا عندهم ثم قالوا الجوهر اللطيف لا يقوم به الأعراض ونزهوا الرب أن تقوم به الأعراض مع قولهم إنه جوهر تناقضوا تناقضا بينا حيث جمعوا بين كلام الرسل وأتباعهم وبين كلام المشركين

المعطلين الفلاسفة فيما تلقوه عن المسيح فهو حق وما ابتدعوه من قول من خالف الرسل فهو باطل فجمعوا في قولهم بين الحق والباطل وسلكوا مسلكا لا يعرف عن غيرهم وإيضاح هذا أن يقال في
الوجه السابع أن هذا الذي ذكروه تناقض بين فإنهم قالوا الموجود إما جوهر وإما عرض القائم بذاته هو الجوهر والقائم بغيره هو العرض
ثم قالوا إنه موجود حي ناطق له حياة ونطق فيقال لهم حياته ونطقه إما جوهر وإما عرض وليس جوهرا لأن الجوهر ما قام بنفسه والحياة والنطق لا يقومان بأنفسهما بل بغيرهما فهما من الأعراض فتعين أنه عندهم جوهر يقوم به الأعراض مع قولهم إنه جوهر لا يقبل عرضا

فإن قيل أرادوا بقولهم لا يقبل عرضا ما كان حادثا قيل فهذا ينقض تقسيمهم الموجود إلى جوهر وعرض فإن المعنى القديم الذي يقوم به ليس جوهرا وليس حادثا فإن كان عرضا فقد قام به العرض وقبله وإن لم يكن عرضا بطل التقسيم
يبين هذا أنه يقال أنتم قلتم إنه شيء حي ناطق وقلتم هو ثلاثة أقانيم وقلتم المتحد بالمسيح أقنوم الكلمة وقلتم في الأمانة نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور إله حق من إله حق من جوهر أبيه مولود غير مخلوق مساو للأب في الجوهر
ثم قلتم إن الرب جوهر وقلتم إن الذي يشغل حيزا

أو يقبل عرضا هو الجوهر الكثيف فأما الجوهر اللطيف فلا يقبل عرضا ولا يشغل حيزا مثل جوهر النفس وجوهر العقل وما يجري هذا المجرى من الجواهر اللطيفة فإذا كانت الجواهر اللطيفة المخلوقة لا تقبل عرضا ولا تشغل حيزا فيكون خالق الجواهر اللطائف والكثائف ومركب اللطائف بالكثائف يقبل عرضا ويشغل حيزا كلا فصرحتم بأنه جوهر لا يقبل عرضا وقلتم ليس في الموجود شيء إلا وهو إما جوهر وإما عرض فإن كان قائما بنفسه غير محتاج في وجوده إلى غيره فهو الجوهر وإن كان مفتقرا في وجوده إلى غيره لا قوام له بنفسه فهو العرض
فيقال لكم الابن القديم الأزلي المولود من جوهر أبيه الذي هو مولود غير مخلوق الذي تجسد ونزل جوهر قائم بنفسه أم هو عرض قائم بغيره والموجود عندكم إما جوهر وإما عرض
فإن قلتم هو جوهر فقد صرحتم بإثبات جوهرين الأب جوهر والابن جوهر ويكون حينئذ أقنوم الحياة جوهرا ثالثا فهذا تصريح بإثبات ثلاثة جواهر قائمة بنفسها وحينئذ فيبطل قولهم إنه إله واحد وإنه أحدي الذات ثلاثي الصفات وإنه واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنوم إذ كنتم قد صرحتم على هذا التقدير بإثبات ثلاثة جواهر

وإن قلتم بل الابن القديم الأزلي الذي هو الكلمة التي هي العلم والحكمة عرض قائم بجوهر الأب ليس هو جوهرا ثانيا فقد صرحتم بأن الرب جوهر تقوم به الأعراض وقد أنكرتم هذا في كلامكم وقلتم هو جوهر لا تقوم به الأعراض وقلم إن من المخلوقات جواهر لا تقوم بها الأعراض فالخالق أولى وهذا تناقض بين لا حيلة فيه لمن تدبر كلامهم أوله وآخره
فإن كلامهم هذا يوجب أنه جوهر واحد لا يقوم به شيء من الأعراض
وهم يقولون جوهر واحد ثلاثة أقانيم وسواء سموها صفات أو خواص أو أعراضا أو قالوا الأقنوم هو الذات والصفة فيقال لهم الرب مع الأقانيم ثلاثة جواهر أو جوهر واحد له ثلاثة صفات أو جوهر لا صفة له فإن قالوا ثلاثة جواهر أثبتوا ثلاثة وبطل قولهم إن الرب جوهر واحد وإله واحد وصرحوا بإثبات ثلاثة آلهة
وإن قالوا بل جوهر واحد له ثلاث صفات فقد صرحوا أن هذا الجوهر تقوم به الصفات وإذا قامت به الصفات وقد سموه جوهرا وقالوا كل موجود إما جوهر وإما عرض لزمهم قطعا أن تكون صفاته

أعراضا فبطل قولهم إنه جوهر لا يقوم به الأعراض وإن قالوا جوهر واحد لا تقوم به الصفات بطل قولهم له حياة ونطق وإذا نفوا الصفات أبطلوا التثليث والاتحاد وبطلت الأمانة مع مخالفتهم لكتب الأنبياء فإنها مصرحة بإثبات الصفات ومع مخالفتهم لصريح العقل
والمقصود أنهم يتناقضون تناقضا بينا لأنهم أثبتوا جوهرا لا تقوم به الأعراض مع قولهم الموجود إما جوهر وإما عرض ومع قولهم إنه جوهر ثلاثة أقانيم فإذا لم تقم به الأعراض لم يكن له صفات فإن الصفة قائمة بغيرها ليست جوهرا بل هي إذا كان الموجود إما جوهر وإما عرض من قسم الأعراض لا من قسم الجواهر فكان هذا الكلام نافيا لقيام الصفات به مطلقا
ثم قالوا بالأقانيم التي توجب إما إثبات صفات وإما إثبات جواهر ثلاثة قائمة بنفسها مع أنها إذا قامت بنفسها لزم اتصافها بالصفات ولا ريب أن القوم يجمعون في قولهم بين النقيضين بين إثبات الصفات ونفيها وبين إثبات ثلاثة جواهر ثلاثة آلهة وبين قولهم الإله الواحد
وسبب ذلك أنهم ركبوا لهم اعتقادا بعضه من نصوص الأنبياء المحكمة كقولهم إله واحد وبعضه من متشابه كلامهم كلفظ

الابن وروح القدس وبعضهم من كلام الفلاسفة المشركين المعطلين كقولهم جوهر لا تقوم به الصفات
ومما يوضح ذلك أنك تجد عامة علماء النصارى فضلا عن عامتهم لا يعرفون ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره مع اتفاقهم على أن المسيح لم ينسخها كلها ولم يقرها كلها بل أخبرهم أنه إنما جاء ليتمها لا ليبطلها وقد أحل بعض ما حرم فيها كالعمل في السبت
ومعلوم أن المقصود بالرسل تصديقهم فيما أخبروا وطاعتهم فيما أمروا فإذا كان عامة النصارى لا يميزون ما أمرهم به مما لم يأمرهم به ولا ما نهاهم عنه مما لم ينههم عنه مع اعترافهم بأنه أقر كثيرا من شريعة التوراة بل أكثرها وأحل بعضها فنسخه ورفعه وهم لا يعرفون هذا من هذا لم يكونوا عارفين بما جاء به المسيح ولا يعرفون ما أمرهم الله على لسان موسى وسائر الأنبياء فإنهم لا يجوز لهم العمل بكل ما في التوراة بل قد نسخ المسيح بعض ذلك باتفاقهم واتفاق المسلمين على ذلك
ولا يجوز لهم تعطيل جميع شريعة التوراة بل يجب عليهم العمل بما لم ينسخه المسيح وعامتهم لا يعرفون ما نسخه مما

لم ينسخه فلا يمكنهم العمل بالتوراة والانتفاع بها في الشرع حتى يعرفوا المنسوخ منها من غير المنسوخ
وعامتهم لا يعرفون ذلك فلم يكونوا حينئذ على شريعة منزلة من الله لا من جهة المسيح ولا من جهة موسى فلم يعلموها بل كان ذلك مجهولا عند عامتهم وجمهورهم أو جميعهم فكانوا محتاجين إلى أن يعرفوا ما شرعه الله مما لم يشرعه فأرسل الله محمدا بشرع أمر فيه بمحاسن ما في الكتابين وعوض عما نسخه بما هو خير منه

فصل
ثم قالوا إنا نعجب من هؤلاء القوم الذين مع أدبهم وما يأخذون به أنفسهم من الفضل كيف لم يعلموا أن الشرائع شريعتان شريعة عدل وشريعة فضل لأنه لما كان الباري عدلا وجوادا وجب أن يظهر عدله على خلقه فأرسل موسى إلى بني إسرائيل فوضع شريعة العدل وأمرهم بفعلها إلى أن استقرت في نفوسهم ولما كان الكمال الذي هو الفضل لا يمكن أن يضعه إلا أكمل الكمال وجب أن يكون هو تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه الذي يضعه لأنه ليس شيء أكمل منه ولأنه جواد وجب أن يجود بأجل الموجودات وليس في الموجودات أكمل من كلمته لذلك وجب أن يجود بكلمته فلهذا وجب أن يجود بكلمته فلهذا وجب أن يتحد بذات محسوسة يظهر منها قدرته وجوده ولما لم يكن في المخلوقات أجل من الإنسان اتحد بالطبيعة البشرية من السيدة الطاهرة من مريم البتول المصطفاة على نساء العالمين وبعد هذا الكمال ما تبقى شيء يوضع لأن

جميع ما يتقدمه وما يأتي مقتضيه وما يأتي بعد الكمال غير محتاج إليه لأن ليس شيء يأتي بعد الكمال فيكون فاضلا بل دون أو أخذ منه فهو فاضل لا يحتاج إليه وفي هذا القول نفع والسلام على من اتبع الهدى وهذا مما عرفته من أن القوم الذين رأيتهم وخاطبتهم في محمد عليه السلام وما يحتجون به عن أنفسهم فإن يكن ما ذكروه صحيحا فلله الحمد وإن كان خلاف ذلك فمولانا يكتب ذلك فقد جعلوني سفيرا والحمد لله رب العالمين
والجواب على هذا من وجوه
أحدها أن يقال بل الشرائع ثلاثة شريعة عدل فقط وشريعة فضل فقط وشريعة تجمع العدل والفضل فتوجب العدل وتندب إلى الفضل وهذه أكمل الشرائع الثلاث وهي شريعة القرآن الذي

جمع فيه بين العدل والفضل مع أنا لا ننكر أن يكون موسى عليه السلام أوجب العدل وندب إلى الفضل وكذلك المسيح أيضا أوجب العدل وندب إلى الفضل
وأما من يقول إن المسيح أوجب الفضل وحرم على كل مظلوم أن يقتص من ظالمه أو أن موسى لم يندب إلى الإحسان فهذا فيه غضاضة بشريعة المرسلين لكن قد يقال إن ذكر العدل في التوراة أكثر وذكر الفضل في الإنجيل أكثر والقرآن جمع بينهما على غاية الكمال
والقرآن بين أن السعداء أهل الجنة وهم أولياء الله نوعان أبرار مقتصدون ومقربون سابقون فالدرجة الأولى تحصل بالعدل وهي أداء الواجبات وترك المحرمات والثانية لا تحصل إلا بالفضل وهو أداء الواجبات والمستحبات وترك المحرمات والمكروهات
فالشريعة الكاملة تجمع العدل والفضل كقوله تعالى
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة
فهذا عدل واجب من خرج عنه استحق العقوبة في الدنيا والآخرة
ثم قال
وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون

فهذا فضل مستحب مندوب إليه من فعله أثابه الله ورفع درجته ومن تركه لم يعاقبه
وقال تعالى
ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله
فهذا عدل
ثم قال تعالى إلا أن يصدقوا
فهذا فضل
وقال تعالى
والجروح قصاص
فهذا عدل
ثم قال
فمن تصدق به فهو كفارة له
فهذا فضل
وقال تعالى
وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم

فهذا عدل
ثم قال
إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى
فهذا فضل
وقال تعالى
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به
فهذا عدل
ثم قال
ولئن صبرتم لهو خير للصابرين
فهذا فضل
وقال تعالى
وجزاء سيئة سيئة مثلها
فهذا عدل
ثم قال
فمن عفا وأصلح فأجره على الله
فهذا فضل

وهو سبحانه دائما يحرم الظلم ويوجب العدل ويندب إلى الفضل كما في آخر سورة البقرة لما ذكر حكم الأموال والناس فيها إما محسن وإما عادل وإما ظالم فالمحسن المتصدق والعادل المعاوض كالبايع والظالم كالمرابي
فبدأ بالإحسان والصدقة فذكر ذلك ورغب فيه فقال
سورة البقرة الآيات 261 263
ثم ذكر تحريم الربا فقال
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
ثم لما أحل البيع ذكر المداينات وحكم البيع الحال والمؤجل وحفظ ذلك بالكتاب والشهود أو الرهن وختم السورة بأصول

الإيمان من الإيمان بالكتب والرسل وهو سبحانه بعد أن افتتحها بذكر أصناف الناس وهم ثلاثة إما مؤمن وإما كافر وإما منافق فذكر نعت المؤمنين ثم ذكر نعت الكافرين ثم ذكر نعت المنافقين ثم مهد أصول الإيمان فأمر بعبادة الله تعالى وذكر آياته وآلائه ثم قرر نبوة رسله ثم ذكر اليوم الآخر والوعد والوعيد ثم ذكر بدء العالم وخلق السماوات والأرض ثم خلق آدم وإسجاد الملائكة له وخروجه من الجنة وهبوطه إلى الأرض
ثم بعد أن عم بالدعوة جميع الخلق خص أهل الكتاب فخاطبهم خاطب اليهود أولا بني إسرائيل ثم النصارى ثم خاطب المؤمنين فقرر لهم قواعد دينه فذكر أصل ملة إبراهيم وبناءه للبيت ودعاءه لأهل مكة ووكد الأمر بملة إبراهيم ثم ذكر ما يتعلق بالبيت من اتخاذه قبلة ومن تعظيم شعائر الله التي عنده كالصفا والمروة ثم ذكر التوحيد والحلال والحرام والمطاعم للناس عموما ثم للذين آمنوا خصوصا
ثم ذكر ما يتعلق بالقتل من القصاص وبالموت من الوصية ثم

ذكر شرائع الدين فذكر صيام شهر رمضان وما يكون فيه من الاعتكاف ثم ذكر ما يتصل بشهر الصيام وهو أشهر الحج فذكر الحج وذكر حكم القتال عموما وخصوصا في البلد الحرام ولما ذكر الصلاة والصيام والحج والجهاد والصدقة ذكر بعد ذلك الحلال والحرام في الفروج فذكر أحكام وطء النساء والحيض والإيلاء منهن والطلاق لهن واختلاعهن وذكر حكم الأولاد وإرضاعهم واعتداد النساء وخطبتهن في العدة وطلاقهن قبل الدخول وبعده ثم ذكر الصلوات والمحافظة عليهن ثم قرر المعاد وما يدل عليه من إحياء الموتى في الدنيا مرة بعد مرة
فتضمنت هذه السورة الواحدة جميع ما يحتاج الناس إليه في الدين وأصوله وفروعه وافتتحها بالإيمان بالكتب والرسل ووسطها بالإيمان بالكتب والرسل وختمها بالإيمان بالكتب والرسل فإن الإيمان بالكتب والرسل هو عمود الإيمان وقاعدته وجماعه
وأمر فيها الخلق عموما وخصوصا وذكر فيها الإيمان بالخالق وآيات ربوبيته والإيمان بالمعاد والدار الآخرة والأعمال الصالحة التي أمر بها وأن من كان من أتباع الرسل من المؤمنين واليهود والنصارى

والصابئين قائما بهذه الأصول وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فهو السعيد في الآخرة الذي له أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
بخلاف من بدل منهم الكتاب أو كذب بكتاب فإن هؤلاء من الكفار فمن كان متبعا لشرع التوراة قبل مبعث المسيح غير مبدل له فهو من السعداء وكذلك من كان متبعا لشرع الإنجيل قبل مبعث محمد غير مبدل له فهو من السعداء ومن بدل شرع التوراة أو كذب بالمسيح فهو كافر كاليهود بعد مبعث المسيح عليه السلام وكذلك من بدل شرع الإنجيل أو كذب محمدا فهو كافر كالنصارى بعد مبعث محمد
فقدماء اليهود والنصارى الذين اتبعوا الدين قبل النسخ والتبديل سعدوا وأما اليهود والنصارى الذين تمسكوا بشرع مبدل منسوخ وتركوا اتباع الكتب والرسول الذي أرسل إليهم وإلى غيرهم وعدلوا عن الشرع المنزل المحكم فهم كفار

ورد دعاوى اليهود والنصارى الكاذبة مثل قول هؤلاء
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا
وقول هؤلاء لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى فقال
بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وبين من كفر اليهود والنصارى مما عرف بهم حالهم
لكن أكثر ما ذكر في هذه السورة اليهود كما أن أكثر ما ذكر في سورة آل عمران النصارى فإن هذه نزلت أول مقدمه المدينة وكان اليهود جيرانه وآل عمران تأخر نزولها إلى آخر الأمر لما قدم عليه نصارى نجران وفيها فرض الحج لما طهر الله مكة من المشركين فكان أكثر دعائه في أول الأمر للمشركين لأنهم جيرانه

بمكة ثم لليهود لأنهم جيرانه بالمدينة ثم للنصارى لأنهم كانوا أبعد عنه من ناحية الشام واليمن والمجوس أيضا لأنهم كانوا أبعد عنه بأرض العراق وخراسان
وهذا هو الترتيب المناسب يدعو الأقرب إليه فالأقرب ثم يرسل رسله إلى الأبعد وهو كان أولا مشغولا بجهاد المشركين واليهود فلما صالح المشركين صلح

الحديبية وحارب يهود خيبر عقيب ذلك ففتحها الله عليه وقسمها بين الذين بايعوه تحت الشجرة الذين شهدوا صلح الحديبية تفرغ لمن بعد عنه فأرسل رسله إلى جميع من حواليه من الأمم
أرسل إلى ملوك النصارى بمصر والشام والحبشة فإنه كان

قد مات ملك الحبشة النجاشي الذي أسلم وأخبر الناس بموته يوم مات وخرج بأصحابه إلى ظاهر المدينة فصلى عليه بهم صلاة الجنازة كما كان يصلي على سائر موتى المسلمين وتولى بعد النجاشي آخر فأرسل إليه كما ذكره مسلم في صحيحه وأرسل إلى ملوك اليمن من المشركين واليهود والى ملوك العرب وكان في العرب خلق كثير يهود وخلق كثير نصارى وخلق كثير مجوس فدعا جميع الخلق من اليهود والنصارى والمجوس والمشركين عربهم وعجمهم

الوجه الثاني أن يقال لهم الناس لهم في أمر الله ونهيه قولان مشهوران
أحدهما أنه يرجع إلى محض المشيئة لايعتبر فيه أن يكون المأمور به مصلحة للخلق وإن اتفق أن يكون مصلحة وإن كان الواقع كونه مصلحة وهذا قول من يقول لا يفعل ولا يحكم بسبب ولا لحكمة ولا لغرض
والقول الثاني وهو قول جمهور الناس إن الله إنما أرسل الرسل ليأمروا بما يصلحهم وينفعهم إذا فعلوه كما قال تعالى
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
وقال تعالى
فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى
فإن قيل بالأول لم يسأل عن حكمة إرسال الرسل وإن قيل بالثاني ففي إرسال محمد من الحكم

والمصالح أعظم مما كان في إرسال موسى والمسيح والذي حصل به من صلاح العباد في المعاش والمعاد أضعاف ما حصل بإرسال موسى والمسيح من جهة الأمر والخلق فإن في شريعته من الهدى ودين الحق أكمل مما في الشريعتين المتقدمتين وتيسير الله من اتباع الخلق له واهتدائهم به ما لم يتيسر مثله لمن قبله فحصل فضيلة شريعته من جهة فضلها في نفسها ومن جهة كثرة من قبلها وكمال قبولهم لها بخلاف شريعة من قبله فإن موسى بعث إلى بني إسرائيل وكان فيهم من الرد والعناد في حياة موسى وبعد موته ما هو معروف وقد ذكر النصارى في كتابهم هذا من ذلك ما تقدم
ولم تكن شريعة التوراة في الكمال مثل شريعة القرآن فإن القرآن

فيه ذكر المعاد وإقامة الحجج عليه وتفصيله ووصف الجنة والنار ما لم يذكر مثله في التوراة وفيه من ذكر قصة هود وصالح وشعيب وغيرهم من الأنبياء ما لم يذكر في التوراة وفيه من ذكر أسماء الله الحسنى وصفاته ووصف ملائكته وأصنافهم وخلق الإنس والجن ما لم يفصل مثله في التوراة وفيه من تقرير التوحيد بأنواع الأدلة مالم يذكر مثله في التوراة وفيه من ذكر أديان أهل الأرض ما لم يذكره مثله في التوراة وفيه من مناظرة المخالفين وإقامة البراهين على أصول الدين ما لم يذكر مثله في التوراة مع أنه لم ينزل كتاب من السماء أهدى من القرآن والتوراة وفي شريعة القرآن تحليل الطيبات وتحريم الخبائث وشريعة التوراة فيها تحريم كثير من الطيبات عليهم حرمت عليهم عقوبة لهم وفي شريعة القرآن من قبول الدية في الدماء ما لم يشرع في التوراة وفيها من وضع الآصار والأغلال التي في التوراة ما يظهر به أن نعمة الله على أهل القرآن أكمل
وأما الإنجيل فليس فيه شريعة مستقلة ولا فيه الكلام على التوحيد وخلق العالم وقصص الأنبياء وأممهم بل أحالهم على التوراة في أكثر الأمر ولكن أحل المسيح بعض ما حرم عليهم وأمرهم

بالإحسان والعفو عن الظالم واحتمال الأذى والزهد في الدنيا وضرب الأمثال لذلك
فعامة ما امتاز به الإنجيل عن التوراة بمكارم الأخلاق المستحسنة والزهد المستحب وتحليل بعض المحرمات وهذا كله في القرآن وهو في القرآن أكمل فليس في التوراة والإنجيل والنبوات ما هو من العلوم النافعة والأعمال الصالحة إلا وهو في القرآن أو ما هو أفضل منه وفي القرآن من العلوم النافعة والأعمال الصالحة من الهدى ودين الحق ما ليس في الكتابين لكن النصارى لم يتبعوا لا التوراة ولا الإنجيل بل أحدثوا شريعة لم يبعث بها نبي من الأنبياء كما وضعوا لقسطنطين الأمانة ووضعوا له أربعين كتابا فيها القوانين فيها بعض ما جاءت به الأنبياء وفيها شيء كثير مخالف لشرع الأنبياء وصاروا إلى كثير من دين المشركين الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى وكذبوا رسله فصار في دينهم من الشرك وتغيير دين الرسل ما غيروا به شريعة الإنجيل ولهذا التبست عند عامتهم شريعة الإنجيل بغيرها فلا يعرفون ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره ولا ما شرعه مما أحدث بعده
فالمسيح لم يأمرهم بتصوير الصور وتعظيمها ولا دعاء من صورت تلك التماثيل على صورته ولا أمر بهذا أحد من الأنبياء

لا يوجد قط عن نبي أنه أمر بدعاء الملائكة والاستشفاع بهم ولا بدعاء الموتى من الأنبياء والصالحين والاستشفاع بهم فضلا عن دعاء تماثيلهم والاستشفاع بها فإن هذا من أصول الشرك الذي نبهت عليه الرسل وهذا كان أصل الشرك في بني آدم من عهد نوح عليه السلام
قال الله تعالى عن قوم نوح
لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعقوب ونسرا وقد أضلوا كثيرا
قال كثير من العلماء منهم ابن عباس وغيره وهؤلاء كانوا قوما

صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم وقد ذكر ذلك المسيح وعلماء النصارى
والمسيح عليه السلام لم يأمرهم بعبادته ولا قال إنه الله ولا بما ابتدعوه من التثليث والاتحاد والمسيح لم يأمرهم باستحلال كل ما حرمه الله في التوراة من الخبائث كالخنزير وغيره فاستحلوا الخبائث المحرمة وغيروا شريعة التوراة والإنجيل والمسيح لم يأمرهم بأن يصلوا إلى المشرق ولم يأمرهم أن يعظموا الصليب ولم

يأمرهم بترك الختان ولا بالرهبانية ولا بسائر ما ابتدعوه بعده
ولهذا لما ظهر فساد دين النصارى صار بعض الناس كأبي عبد الله الرازي يقول لم يظهر الانتفاع بدين المسيح إلافي طائفة قليلة كانوا قبل محمد فإن الدين الذي كان عليه جمهور النصارى ليس هو دين المسيح
وتبين هذا
بالوجه الثالث وهو أن يقال هب إن شريعة الكتاب كانت كافية فإنما ذاك إذا كانت محفوظة معمولا بها ولم يكن الأمر كذلك بل كانت قد درس كثير من معالمها
وقد اختلف أهل الكتاب في المسيح وغيره اختلافا عظيما كما قال تعالى

ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون
وقد قال تعالى كان الناس أمة واحدة
أي فاختلفوا
فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه
والوقت الذي بعث الله فيه محمدا لم يكن قد بقي أحد مظهرا لما بعث الله به الرسل قبله
فبعثه على حين فترة من الرسل وطموس من السبل أحوج ما كان الناس إلى رسول كما في صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال قال رسول الله إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب

وكان الناس حين مبعث محمد إما أميين لا كتاب لهم يشركون بالرحمن ويعبدون الأوثان وإما أهل كتاب قد بدلوا معانيه وأحكامه وحرفوا حلاله وحرامه ولبسوا حقه بباطله كما هو الموجود فلو أراد الرجل أن يميز له أهل لا كتاب ما جاءت به الأنبياء مما هم عليه مما أحدثوه بعدهم لم يعرف جمهورهم ذلك بل قد صار الجميع عندهم دينا واحدا
فبعث الله تبارك وتعالى محمدا بالكتاب الذي أنزله عليه مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا فميز به الحق من الباطل والهدى من الضلال والغي من الرشاد قال تعالى
سورة المائدة الآيات 15 19

إلى قوله
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير
الوجه الرابع إن شريعة التوراة تغلب عليها الشدة وشريعة الإنجيل يغلب عليها اللين وشريعة القرآن معتدلة جامعة بين هذا وهذا كما قال تعالى وكذلك جعلناكم امة وسطا
وقال في وصف أمته
محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم
وقال أيضا
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين

فوصفهم بالرحمة للمؤمنين والذلة لهم والشدة على الكفار والعزة عليهم
وكذلك كان صفة محمد نبيهم أكمل النبيين وأفضل الرسل بحيث قال أنا محمد وأنا أحمد وأنا نبي الرحمة وأنا نبي الملحمة وأنا نبي التوبة وأنا الضحوك القتال

فوصف نفسه بأنه نبي الرحمة والتوبة وأنه نبي الملحمة وأنه الضحوك القتال وهذا أكمل ممن نعت بالشدة والبأس غالبا أو باللين غالبا وقد قيل بسبب ذلك أن بني إسرائيل كانت نفوسهم قد ذلت لقهر فرعون لهم واستعباد فرعون لهم فشرعت لهم الشدة لتقوى أنفهسم ويزول عنهم ذلك الذل
ولهذا لما أمروا بالجهاد نكلوا عنه وقال لهم موسى
سورة المائدة الآيات 21 24

وأما أصحاب محمد فقال له قائلهم يوم بدر والله لا نقول لك كما قال قوم موسى
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون
لكن نقاتل أمامك ووراءك وعن يمينك وعن يسارك والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك

وكان الكلام قريبا من بدر والبحر من جهة الغرب وبرك الغماد مكان من يماني مكة بينه وبين مكة عدة ليال والكفار كانوا إذ ذاك بمكة وأصحابه من نايحة المدينة شامي مكة فمكة جنوبهم والبحر غربهم تقول لو طلبت أن ندخل بلد العدو ونذهب إلى تلك الناحية لفعلناه قالوا فلما نصر الله بني إسرائيل وأظهرهم ظهرت فيهم الأحداث بعد ذلك وتجبروا وقست قلوبهم وصاروا شبها بآل فرعون فبعث الله المسيح عليه السلام باللين والصفح والعفو عن المسيء واحتمال أذاه ليلين أخلاقهم ويزيل ما كانوا فيه من الجبرية والقسوة
فأفرط هؤلاء في اللين حتى تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وتركوا الحكم بين الناس بالعدل وإقامة الحدود وترهب عبادهم منفردين مع أن في ملوك النصارى من الجبرية والقسوة والحكم بغير ما أنزل الله وسفك الدماء بغير حق مما يأمرهم به علماؤهم وعبادهم ومما لم يأمروهم به ما شاركوا فيه اليهود
فبعث الله محمدا بالشريعة الكاملة العادلة وجعل أمته عدلا خيارا لا ينحرفون إلى هذا الطرف ولا إلى هذا الطرف بل يشتدون على أعداء الله ويلينون لأولياء الله ويستعملون العفو والصفح فيما كان لنفوسهم ويستعملون الانتصار والعقوبة فيما كان حقا لله

وهذا كان خلق نبيهم كما في الصحيحين عن عائشة قالت ما ضرب رسول الله بيده خادما ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله
وفي الصحيح عن أنس أنه قال خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي أف قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته وكان بعض أهله

إذا عتبوني على شيء يقول دعوه فلو قدر شيء لكان هذا مع قوله في الحديث الصحيح لما سرقت امرأة كانت من أشرف قريش من بني مخزوم فأمر بقطع يدها فقالوا من يكلم فيها رسول الله فقالوا من يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد فكلموه فكلمه فيها فقال يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة

بنت محمد سرقت لقطعت يدها
ففي شريعته من اللين والعفو والصفح ومكارم الأخلاق أعظم مما في الإنجيل وفيها من الشدة والجهاد وإقامة الحدود على الكفار والمنافقين أعظم مما في التوراة وهذا هو غاية الكمال ولهذا قال بعضهم بعث موسى بالجلال وبعث عيسى بالجمال وبعث محمد بالكمال
الوجه الخامس إن نعم الله على عباده تتضمن نفعهم والإحسان إليهم وذلك نوعان
أحدهما أن يدفع بذلك مضرتهم ويزيل حاجتهم وفاقتهم مثل رزقهم الذي لولا هو لماتوا جوعا ونصرهم الذي لولا هو لأهلكهم عدوهم ومثل هداهم الذي لولا هو لضلوا ضلالا يضرهم في آخرتهم وهذا النوع من النعمة لا بد لهم منه وإن فقدوه حصل لهم ضرر إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما ولهذا كان في سورة النحل وهي

سورة النعم في أولها أصول النعم وفي أثنائها كمال النعم
والنوع الثاني النعم التي تحصل بها من كمال النعم وعلو الدرجة ما لا يحصل بدونها كما أنهم في الآخرة نوعان أبرار أصحاب يمين ومقربون سابقون ومن خرج عن هذين كان من أصحاب الجحيم
وإذا كانت النعمة نوعين فالخلق كانوا محتاجين إلى إرسال محمد من هذين الوجهين وحصل بإرساله هذان النوعان من النعمة فإن الناس بدونه كانوا جهالا ضالين أميين وأهل الكتاب منهم
ولم يكن قد بقي من أهل الكتاب أتباع المسيح من هو قائم بالدين الذي يوجب السعادة عند الله في الآخرة بل كانوا قد بدلوا وغيروا وأيضا فلو قدر أنهم لم يبدلوا شيئا ففي إرساله من كمال النعم وتواصلها وعلو الدرجات في السعادة ما لم يكن حاصلا بالكتاب الأول فكان إرساله أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض من نوعي النعيم

ومن استقرأ أحوال العالم تبين له أن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إنعامه بإرساله وإن الذين ردوا رسالته هم من قال الله فيهم
ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار
ولهذا وصف بالشكر من قبل هذه النعمة فقال تعالى
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم الشاكرين
وقال تعالى
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين
الوجه السادس أن يقال قولهم إنا نعجب من هؤلاء القوم إلى آخر الفصل قول جاهل ظالم يستحق أن يقال له بل

العجب من هذا العجب هو الواجب بل هو الذي لا ينقضي منه العجب وإن كل عاقل ليعجب من عرف دين محمد وقصده الحق ثم اتبع غيره ويعلم أنه لا يفعل ذلك إلا مفرط في الجهل والضلال أو مفرط في الظلم واتباع الهوى
وذلك أن أهل الأرض نوعان أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى وغير أهل الكتاب كالمشركين من العرب والهند والترك وغيرهم كالمجوس من الفرس وغيرهم كالصابئة من المتفلسفة وغيرهم
وأهل الكتاب يسلمون لنا أن من سوى أهل الكتاب انتفع بنبوة محمد منفعة ظاهرة وأنه دعا جميع طوائف

المشركين والمجوس والصابئين إلى خير مما كانوا عليه بل كانوا أحوج الناس إلى رسالته وأما أهل الكتاب فاليهود مسلمون لنا حاجة النصارى إليه وأنه دعاهم إلى خير مما كانوا عليه والنصارى تسلم لنا حاجة اليهود إليه وأنه دعاهم إلى خير مما كانوا عليه
فما من طائفة من طوائف أهل الأرض إلا وهم مقرون بأن محمدا دعا سائر الطوائف غيرهم إلى خير مما كانوا عليه هذه شهادة من جميع أهل الأرض بأنه دعا أهل الأرض إلى خير مما كانوا عليه فإن شهادة جميع الطوائف مقبولة على غيرهم إذ كانوا غير متهمين عليهم فإنهم معادون لمحمد وأمته معادون لسائر الطوائف وأما شهادتهم لأنفسهم فغير مقبولة فإنهم خصومه وشهادة الخصم على خصمه غير مقبولة
وقد اعترف الفلاسفة بأنه لم يقرع العالم ناموس بأفضل من ناموسه واعترفوا بأنه أفضل من ناموس موسى والمسيح عليهما الصلاة والسلام بل كان لهم من الطعن في نواميس غيره ما ليس

هذا موضع ذكره بخلاف ناموس محمد فإنه لم يطعن فيه أحد منهم إلا من كان خارجا عن قانون الفلسفة التي توجب عندهم العدل والكلام بعلم وأما من التزم منهم الكلام بعلم وعدل فهم متفقون على أن ناموس محمد أفضل ناموس طرق العالم فكيف يعجب من مثل هذا الناموس
الوجه السابع أن يقال لأهل الكتاب خصوصا فيقال لليهود أنتم أذل الأمم فلو قدر أن ما أنتم عليه دين الله الذي لم يبدل فهو مغلوب مقهور في جميع الأرض فهل تعجبون من أن يبعث الله رسولا يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم فيبعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله حتى يصير دين الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه منصورا ظاهرا بالحجة والبيان والسيف والسنان
ويقال للنصارى أنتم لم تخلصوا دين الله الذي بعث به رسله من دين المشركين والمعطلين بل أخذتم من أصول المشركين والمعطلين من الفلاسفة وغيرهم ما أدخلتموه في دينكم وليس لكم على أكثر الكفار حجة علمية ولا يد قهرية بل للكفار في

قلوبكم من الرعب والخوف والتعظيم ما أنتم به من أضعف الأمم حجة وأضيقها محجة وأبعدها عن العلم والبيان وأعجزها عن إقامة الحجة والبرهان تارة تخافون من الكفار والفلاسفة وغيرهم من المشركين والمعطلين فإما أن توافقوهم على أقوالهم وإما أن تخضعوا لهم متواضعين وتارة تخافون من سيوف المشركين فإما أن تتركوا بعض دينكم لأجلهم وإما أن تذلوا لهم خاضعين
ففيكم من ضعف سلطان الحجة وضعف سلطان النصرة ما يظهر به حاجتكم إلى قيام الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه فالعجب منكم كيف تعدلون عما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة إلى ما فيه شقاؤكم في الدنيا والآخرة هذا هو العجب ليس العجب ممن آمن بما فيه سعادة الدنيا والآخرة وفي خلافه شقاوة الدنيا والآخرة
ومثل هذا لا يرد على المسلمين فإنه لم يزل ولا يزال فيه طائفة قائمة بالهدي ودين الحق ظاهرة بالحجة والبيان واليد والسنان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين كما ثبت في الصحاح عن النبي أنه قال لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة وفي لفظ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة حتي يأتي الله بأمره

الوجه الثامن أن يقال لأهل الكتاب لليهود أنتم لما كنتم متبعين لموسى عليه السلام كنتم على الهدى ودين الحق وكنتم منصورين ثم كثرت فيكم الأحداث التي تعرفونها كما قال تعالى
قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل
وقوله تعالى وعبد الطاغوت معطوف على لعنه الله أي من لعنه الله وغضب عليهم وعبد هو الطاغوت ليس هو داخلا في خبر جعل حتى يلزم إشكال كما ظنه بعض الناس
وأهل الكتاب معترفون بأن اليهود عبدوا الأصنام مرات وقتلوا الأنبياء

وقال تعالى
سورة الإسراء الآيات 4 8
وهم معترفون بأن بيت المقدس خرب مرتين

فالخراب الأول لما جاء بخت نصر وسباهم إلى بابل وبقي خرابا سبعين سنة والخراب الثاني بعد المسيح بنحو سبعين سنة وقد قيل هذا تأويل قوله
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم
فبعد الخراب الثاني تفرقوا في الأرض ولم يبق لهم ملك وبين الخرابين كانوا تحت قهر الملوك الكفار وبعث المسيح عليه الصلاة و السلام وهم كذلك
ويقال للنصارى أنتم ما زلتم مقهورين مغلوبين مبددين في الأرض حتى ظهر قسطنطين وأقام دين النصرانية بالسيف وقتل من خالفه من المشركين واليهود لكن أظهر دينا مبدلا مغيرا ليس هو دين المسيح عليه السلام ومع هذا فكانت أرض العراق وفارس كفارا المجوس وغيرهم مجوسا ومشركين وكانوا في بعض الأزمنة يقهرون النصارى على بلادهم وأما أرض المشرق والمغرب ففيهما من أنواع المشركين أمم وكان الشرك والكفر ظاهرا في أرض اليمن والحجاز والشام والعراق فلما بعث الله محمدا

أظهر به توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ظهورا لم يعرف في أمة من الأمم ولم يحصل مثله لنبي من الأنبياء وأظهر به من تصديق الكتب والرسل والتوراة والإنجيل والزبور وموسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم من الرسل ما لم يكن ظاهرا لا عند أهل الكتاب ولا غيرهم فأهل الكتاب وإن كانوا خيرا من غيرهم فلم يكونوا قائمين بما يجب من الإيمان بالله ورسله ولا باليوم الآخر ولا شرائع دينه ولا كانوا قاهرين لأكثر الكفار ولا كانوا منصورين عليهم ولهذا قال تعالى
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب
أما اليهود ففيهم من التنقص من الأنبياء في سبهم وذكر عيوب نزههم الله عنها ما هو معروف حتى إن منهم من يقول أن سليمان كان ساحرا وداود كان منجما لم يكن نبيا إلى أمثال ذلك

مما يطول وصفه ففيهم من الكفر بالأنبياء من جنس ما كان في سلفهم الخبيث
وأما النصارى فمع غلوهم في المسيح وأتباعه يستخفون بغيره فتارة يجعلون الحواريين مثل إبراهيم وموسى أو أفضل منهم وتارة يقولون كما قال اليهود إن سليمان لم يكن نبيا بل سقط من النبوة وتارة يجعلون ما خاطب الله به داود وغيره من الأنبياء إنما أريد به المسيح مع أن اللفظ لا يدل على ذلك بل يتأولون كتب الله بمجرد هوى أنفسهم وتارة يقولون إن الواحد منهم إذا أطاع الله بما يزعمون أنه طاعة صار مثل واحد من الأنبياء ويسوغون لمثل هؤلاء أن يغيروا شرائع الأنبياء ويضعوا دينا ابتدعوه ومحمد وأمته أقاموا توحيد الله الذي كان عليه إبراهيم وموسى وسائر الرسل وآمنوا بكل كتاب أنزله الله وكل رسول بعثه الله وأقاموا دين الرحمن إقامة لم يقمها أحد من الأمم فعامة أهل الأرض مع محمد إما مؤمن به باطنا وظاهرا وهم أولياء الله المتقون وحزبه المفلحون وجنده الغالبون وإما مسلمون له في الظاهر تقية وخوفا من أمته وهم المنافقون

وإما مسالمون له بالعهد والذمة والهدنة وهم أهل الذمة والهدنة في جميع الأرض وإما خائفون من أمته
وحيث كان الواحد والطائفة من أمته متمسكا بدينه كان نوره ظاهرا وبرهانه باهرا معظما منصورا يعرف فضله على كل من سواه
وهذا أمر يعرفه الناس في أرض الكفار من المشركين وأهل الكتاب لما خص الله به محمدا وأمته من الهدى ودين الحق وقد أظهروا دين الرب في مشارق الأرض ومغاربها بالقول والعمل فهل يقول من عنده علم وعدل إنه لا فائدة في إرسال محمد وأنه يستغنى بما عند أهل الكتاب عن رسالته
الوجه التاسع أن يقال هم معترفون بانتفاع المشركين به غاية الانتفاع فإنه أقام توحيد الله ودينه فيهم وأنه عظم المسيح ورد على اليهود قولهم فيه وأهانهم وحينئذ فهذا من أعظم الفوائد وأجل المقاصد وأعظم نعم الله على عباده ثم هو مع ذلك قال إن الله أرسله وأمره بذلك

فإن كان كاذبا فالكذاب المفتري على الله من شر الكفار ومن يكون كذلك لا يحصل منه هذا الخير العظيم الذي ما حصل مثله من أحد من الأنبياء فإنه أزال دين المشركين ودين المجوس وقمع اليهود وكل واحدة من هذه الثلاث لم يقدر عليه أحد قبله من الأنبياء والمرسلين
وإن كان صادقا فهو قد أخبر أنه رسول الله إلى النصارى وغيرهم من الأمم وأخبر عن الله بكفر كل من لم يؤمن به وهذا الوجه ممن يخاطب به كل صنف فيقال لكل صنف من الأمم أنتم معترفون بأن من سواكم إذا اتبعوا دين محمد كان خيرا لهم مما هم عليه فاليهود معترفة بأن النصارى إذا اتبعوه كان خيرا لهم من دين النصارى والنصارى معترفون بأن اليهود إذا اتبعوه كان خيرا لهم من دين اليهود وأهل الكتاب اليهود والنصارى معترفون بأن من سواهم إذا اتبعوا محمدا كان خيرا لهم مما هم عليه
فالمجوس والمشركون من العرب والسودان والترك وأصناف

الخزر والصقالبة إذا اتبعوه كان خيرا لهم مما هم عليه وسائر أصناف الكفار معترفون بأن أتباعه خير من غيرهم ومن ليس من أهل الكتاب عامتهم معترفون بأن دين المسلمين خير من دين اليهود والنصارى وحينئذ فيقال من جاء بهذا الدين الذي يفضله جميع أهل الأرض على غيره يمتنع أن يكون من أكفر الناس وأحقهم بغضب الله وعقابه وكل من قال إنه رسول الله فإن كان صادقا كان من خير أهل الأرض وأحقهم برضوان الله وثوابه وإن كان كاذبا كان من شر أهل الأرض وأحقهم بغضب الله وعقابه ومن حصل منه هذا الخير والعلم والهدى وما فيه صلاح الدنيا والآخرة أعظم مما حصل من جميع الخلق يمتنع أن يكون من أكفر الناس المستحقين لغضب الله وعقابه فوجب أن يكون من خير أهل الأرض بل هو خير أهل الأرض وأحقهم برضوان الله وثوابه
الوجه العاشر إن الله سبحانه وتعالى كانت سنته قبل إنزال

التوراة إذا كذب نبي من الأنبياء ينتقم الله من أعدائه بعذاب من عنده كما أهلك قوم نوح بالغرق وقوم هود بالريح الصرصر وقوم صالح بالصيحة وقوم شعيب بالظلة وقوم لوط بالحاصب وقوم فرعون بالغرق قال تعالى
ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون
فلما أنزل التوراة أمر أهل الكتاب بالجهاد فمنهم من نكل ومنهم من أطاع
وصار المقصود بالرسالة لا يحصل إلا بالعلم والقدرة كما قال تعالى

هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا
فقول هؤلاء إن التوراة جاءت بالعدل وإلإنجيل بالفضل فلا حاجة إلى غيرهما لو قدر أنه حق إنما يستقيم إذا كان الكتابان لم يبدلا بل كانا متبعين علما وعملا وكان أهلهما مع ذلك منصورين مؤيدين على من خالفهم فكيف وكل منهما قد بدل كثير مما فيه وأهلهما غير منصورين على سائر الكفار بل الكفار ظاهرون عليهم في أكثر الأرض كأرض اليمن والحجاز وسائر جزيرة العرب وأرض العراق وخراسان والمغرب وأرض الهند والسند والترك وكان بأيدي أهل الكتاب الشام ومصر وغير ذلك ومع هذا فكانت الفرس قد غلبتهم على ذلك ثم إن الله أظهر النصارى عليهم فكان ظهورهم توطئة وتمهيدا لإظهار دين الإسلام
فإن الفرس المجوس لما غلبوا الروم ساء ذلك النبي

والمؤمنين به وفرح بذلك مشركوا العرب وكانوا أكثر من المؤمنين لأن أهل الكتاب أقرب إلى المؤمنين من المجوس والمجوس أقرب إلى المشركين منهم إلى أهل الكتاب ووعد الله المؤمنين أن تغلب الروم بعد ذلك وأنه يومئذ
يفرح المؤمنون بنصر الله
فأضاف النصرة إلى اسم الله ولم يقل بنصر الله إياهم وذلك أنه حين ظهرت الروم على فارس كان النبي وأصحابه قد ظهروا على المشركين واليهود
وأرسل النبي إذ ذاك يدعو ملوك النصارى بالشام ومصر إلى الإيمان به فعرفوه وعرفوا أنه النبي المبشر به وكان ذلك أول ظهور دينه ثم أرسل طائفة من أصحابه إلى غيرهم ثم خرج بالمسلمين بنفسه معهم عام تبوك إلى الشام ثم فتح هذه البلاد أصحابه فكان تأييد دين الله وظهوره وإذلال المشركين

والمجوس وغيرهم من الكفار على يديه ويدي أمته لا على يد اليهود والنصارى
فلو قدر أن شرع أولئك كامل لا تبديل فيه لكان مغلوبا مقهورا وكان الله قد أرسل من يؤيد دينه ويظهره فكيف وهو مبدل ولو لم يبدل فدين أحمد أكمل وأفضل منه فذاك مفضول مبدل وهذا فاضل لم يبدل وذلك مغلوب مقهور هذا مؤيد منصور وببعض هذا تحصل الفائدة في إرساله
فكان من أجل الفوائد إرسال محمد فكيف يقال إنه لا فائدة في إرساله
الوجه الحادي عشر قولهم لما كان الباري عدلا جوادا أوجب أن يظهر عدله وجوده فيقال لهم جود الجواد غير إلزام الناس بترك حقوقهم فإن الجواد هو الذي يحسن إلى الناس ليس هو الذي يلزم الناس بترك حقوقهم وهؤلاء يزعمون أن شريعة الإنجيل ألزمت الناس بترك حقوقهم وأنه لا ينصف مظلوم من ظالمه ولهذا ليس عندهم حكم عدل يحكمون به بين الناس بل الحكم عندهم حكمان حكم الكنسية وليس فيه إنصاف المظلوم من الظالم والثاني حكم الملوك وليس هو شرعا منزلا بل هو بحسب آراء الملوك
ولهذا تجدهم يردون الناس إلى حكم شرع الإسلام في الدماء

والأموال ونحو ذلك حتى في بعض بلادهم يكون الملك والعسكر كلهم نصارى وفيهم طائفة قليلة مسلمون لهم حاكم فيردون الناس في الدماء والأموال إلى حكم شرع المسلمين وذلك أن الدماء والأموال وإن كان يستحب للمظلوم أن يعفو فيها عن ظالمه فالحاكم الذي يحكم بين الناس متى حكم على المظلوم بترك حقه كان حاكما بالظلم لا بالعدل
ولو أمرنا كل ولي مقتول أن لا يقتص من القاتل وكل صاحب دين أن لا يطالب غريمه بل يدعه على اختياره وكل مشتوم ومضروب أن لا ينتصف من ظالمه لم يكن للظالمين زاجر يزجرهم وظلم الأقوياء الضعفاء وفسدت الأرض قال تعالى
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض
فلا بد من شرع يتضمن الحكم بالعدل ولا بد مع ذلك من ندب الناس إلى العفو والأخذ بالفضل
وهذه شريعة الإسلام كما تقدم ما ذكرنا من الآيات مثل قوله
والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له

وقوله
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم
وقوله
وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله
وقوله
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين
وقوله
الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين
وقوله
ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا

وقوله
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور
وقال أنس ما رفع للنبي أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو فكان يأمر بالعفو ولا يلزم الناس به ولهذا لما عتقت بريرة وكان لها أن تفسخ النكاح وطلب زوجها أن لا تفارقه شفع إليها أن لا تفارقه فقالت أتأمرني قال لا إنما أنا شافع فلم يوجب عليها قبول شفاعته
الوجه الثاني عشر قولهم ولما كان الكمال الذي هو الفضل

لا يمكن أن يضعه إلا أكمل الكمال فيقال لهم العدل والفضل لا يشرعه إلا الله فشريعة التوراة لم يشرعها إلا الله وشريعة الإنجيل لم يشرعها إلا الله عز و جل
يبين ذلك أن الله كلم موسى من الشجرة تكليما وهم غاية ما قرروا به إلهية المسيح أن زعموا أن الله كلم الناس من ناسوت المسيح كما كلم موسى من الشجرة ومعلوم عند كل عاقل لو كان هذا حقا أن تكليمه لموسى من الشجرة أعظم تكليم كلمه الله لعباده فكيف يقال إن شريعة العدل لم يشرعها الله عز و جل
ثم يقال لهم بل شريعة العدل أحق بأن تضاف إلى الله من شريعة الفضل فإن الأمر بالإحسان والعفو يحسنه كل أحد وأما معرفة العدل والحكم بين الناس به فلا يقدر عليه إلا آحاد الناس ولهذا يوجد الذي يصلح بين الناس بالإحسان خلق كثير وأما الذي يحسن أن يفصل بينهم بالعدل فناس قليل فكيف يقال إن الذي يأمر بشرع الفضل هو الله دون الذي يأمر بشرع العدل
والله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط كما قال تعالى
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان

ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز
وأمر المسيح عليه السلام للمظلوم بالعفو عن الظالم ليس فيه ما يدل على أنه من الواجب الذي من تركه استحق الذم والعقاب بل هو من المرغب فيه الذي من فعله استحق المدح والثواب وموسى عليه السلام أوجب العدل الذي من تركه استحق الذم والعقاب وحينئذ فلا منافاة بين إيجاب العدل وبين استحباب الفضل
لكن إيجاب العدل يقترن به الترهيب والتخويف في تركه واستحباب الفضل يقترن به الترغيب والتشويق إلى فعله فذاك فيه رهبة مع ما فيه من الرغبة وهذا فيه رغبة بلا رهبة ولهذا قال المسيح عليه السلام
وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم
ولهذا قيل إن المسيح عليه السلام بعث لتكميل التوراة فإن النوافل تكون بعد الفرائض كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل

حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه
وإلا فلو قيل إن المسيح عليه السلام أوجب على المظلوم العفو عن الظالم بمعنى أنه يستحق الوعيد والذم والعقاب إن

لم يعف عنه لزم من هذا أن يكون كل من انتصف من الظالم ظالما مستحقا للذم والعقاب وهذا ظلم ثان للمظلوم الذي انتصف فإن الظالم ظلمه أولا فلما انتصف منه ظلم ظلما ثانيا فهو ظلم العادل انتصف من ظالمه
وما أحسن كلام الله حيث يقول
سورة الشورة الآيات 36 43
وقال
ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور
فهذا من أحسن الكلام وأعدله وأفضله حيث شرع العدل فقال

وجزاء سيئة سيئة مثلها
ثم ندب إلى الفضل فقال
فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين
ولما ندب إلى العفو ذكر أنه لا لوم على المنتصف لئلا يظن أن العفو فرض فقال
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل
ثم يبين أن السبيل إنما يكون على الظالمين فقال
إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم
ثم لما رفع عنهم السبيل ندبهم مع ذلك إلى الصبر والعفو فقال
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور
فهذا أحسن شرع وأحكمه يرغب في الصبر والغفر والعفو والإصلاح بغاية الترغيب ويذكر ما فيه من الفضائل والمحاسن وحميد

العاقبة ويرفع عن المنتصف ممن ظلمه الملام والعذل ويبين أنه لا حرج عليه ولا سبيل إذا انتصر بعد ما ظلم
فهل يمكن أن تأتي شريعة بأن تجعل على المنتصف سبيلا مع عدله وهي لا تجعل على الظالم سبيلا مع ظلمه
فعلم أن ما أمر به المسيح من العفو لم يكن لأن تاركه مستحق للذم والعقاب بل لأنه محروم مما يحصل للعافي المحسن من الأجر والثواب وهذا حق لا يناقض شرع التوراة فعلم أن شرع الإنجيل لم يناقض شرع التوراة إذ كان فرعا عليها ومكملا لها وحينئذ فزعمهم أن شرع الإنجيل شرعه الله دون شرع التوراة كلام من هو من أجهل الناس وأضلهم ولهذا كان فرعا على قولهم بالاتحاد وأن المسيح هو الله
فذاك الضلال مما أوجب هذا القول المحال

فصل
وجميع ما احتجوا به من التوراة والإنجيل وغيرهما من كلام الأنبياء عليهم السلام إنما يكون الحجة فيه علمية برهانية إذا أقاموا الدليل على نبوة من احتجوا بكلامه بأن بينوا إمكان النبوة ثم بينوا وقوعها في الشخص المعين بالطرق التي يستدل بها على نبوة النبي
وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك بل احتجوا بذلك بناء على أنها مقدمة مسلمة يسلمها المسلمون لهم وهذا لا ينفعهم لوجوه
أحدها أن فيمن ذكروه من لم يثبت عند المسلمين أنه نبي كميخا وعاموص

الثاني أن من ثبت عند المسلمين نبوته كموسى وعيسى وداود وسليمان لم يثبت عندهم أنهم قالوا جميع ما ذكروه من الكلام وأن ترجمته بالعربية هو ما ذكروه وأن مرادهم به ما فسروه
الثالث أن جمهور المسلمين لا يعلمون نبوة أحد من الأنبياء قبل محمد إلا بإخبار محمد بنبوتهم فلا يمكنهم التصديق بنبوة أحد من هؤلاء إلا بعد التصديق بنبوة محمد
فإذا طلب هؤلاء من المسلمين أن يسلموا نبوة هؤلاء دون نبوة محمد لم يمكن المسلمون أن يسلموا ذلك لهم ولا يشرع ذلك للمسلمين لا عقلا ولا نقلا وحينئذ إذا لم يقيموا الأدلة على نبوة أولئك لم يكونوا قد ذكروا لا حجة برهانية ولا حجة جدلية
الرابع أن المسلمين لم يصدقوا بنبوة موسى وعيسى إلا مع إخبارهما بنبوة محمد فإن سلموا أنهما أخبرا بنبوة محمد ثبتت نبوته ونبوتهما وإن جحدوا ذلك جحد المسلمون نبوة من يدعون أنه موسى

وعيسى الذين لم يخبرا بمحمد
الخامس أن المسلمين وكل عاقل يمنع بعد النظر التام أن يقر بنبوة موسى وعيسى دون محمد إذ كانت نبوته أكمل وطرق معرفتها أتم وأكثر وما من دليل يستدل به على نبوة غيره إلا وهو على نبوته أدل فإن جحد نبوته يستلزم جحد نبوة غيره بطريق الأولى ولكن من قال ذلك هو متناقض كما يتناقض سائر أهل الباطل ولهذا قال تعالى في الكفار
إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك

فصل
قد ذكرنا في جواب أول كتابهم بيان امتناع احتجاجهم بشيء من كلام محمد أو غيره من الأنبياء عليهم السلام على ما يخالف دين المسلمين من دينهم ونحن نبسط هذا هنا فنقول لا ريب أن الباطل لا يقوم عليه دليل صحيح لا عقلي ولا شرعي سواء كان من الخبريات أو الطلبيات فإن الدليل الصحيح يستلزم صحة المدلول عليه فلو قام على الباطل دليل صحيح لزم أن يكون حقا مع كونه باطلا وذلك جمع بين النقيضين مثل كون الشيء موجودا معدوما
وأهل الكتاب معهم حق في الخبريات والطلبيات ومعهم باطل وهو ما بدلوه في الخبريات سواء كان المبدل هو اللفظ أو معناه وما ابتدعوه أو ما نسخ من العمليات والمنسوخ الذي تنوعت فيه الشرائع قليل بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والرسل فإن الذي اتفقت عليه هو الذي لا بد للخلق منه في كل زمان ومكان وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح كما قال تعالى
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

وعامة السوره المكية كالأنعام والأعراف وآل حم وآل طس وآل آلر هي من الأصول الكلية التي اتفقت عليها شرائع المرسلين كالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والصدق والعدل والإخلاص وتحريم الظلم والفواحش والشرك والقول على الله بلا علم وعامة ما عندهم من النقول الصحيحة عن الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور ونبوات الأنبياء توافق المنقول عن محمد شهد هذا لهذا وهذا لهذا وذلك من دلائل نبوة أولئك الأنبياء ومن دلائل نبوة محمد
ولهذا يذكر الله ذلك بيانا لإنعامه بمحمد ودلالة لنبوته كقوله تعالى
سورة آل عمران الآية 42 44
وقال تعالى لما قص قصة نوح
تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل

هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين
فذكر الإلاه نعمته وآيته بكونه لم يكن يعلمها هو ولا قومه أيضا كانوا يعلمونها لئلا يظن أنه تعلم ذلك من قومه فإن قومه لم يكونوا يعلمون ذلك
وقد علم بالنقل المتواتر أن محمدا ولد بمكة وبها نشأ بعد أن كان مسترضعا في بادية سعد بن بكر قريبا من الطائف شرقي مكة وهو صغير ثم حملته مرضعته حليمة السعدية

إلى أمه بمكة لا يعلم شيئا من ذلك ولا هناك من يتعلم منه شيء من ذلك وأهل مكة يعلمون حاله وأنه لم يتعلم ذلك من أحد ثم أخبرهم بالغيب الذي لا يعلمه أحد إلا بتعليم الله له
فكان هذا من أعلام رسالته ودلائل نبوته عليهم أولا وعلى غيرهم آخرا فإنهم كانوا مشاهدين له يعلمون أنه لم يتعلم ذلك من أحد وغيرهم يعلم ذلك بالأخبار المتواترة ويعلم أن قومه المكذبين له مع حرصهم على الطعن فيه ومع علمهم بحاله لو كان قد تعلم من أهل الكتاب لقالوا هذا قد تعلمه منهم قال تعالى
قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون
والمقصود أنه نفى علم قومه بما أخبره فيه بيانا لآلاء الله التي

هي آياته ونعمه فإن ذلك يدل على أنه لم يتعلم ذلك من قومه وفيه إنعام الله على الخلق بذلك
وقال تعالى لما ذكر قصة يوسف
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون
وقال تعالى
سورة القصص الآية 43 46
فنفى سبحانه شهادته لهذه الأمور الغائبة وحضوره لها تنبيها للناس على أنه أخبر بالغيب الذي لم يشهده ولم يعرفه من جهة أخبار الناس فإن قومه لم يكونوا يعلمون ذلك ولا عاشر غير قومه وكل من عرف حاله يعلم أنه لم يتعلم شيئا من ذلك لا من أهل الكتاب ولا ممن نقل عن أهل الكتاب
فإذا كان محمد أخبر بمثل ما أخبرت

به الأنبياء قبله في باب أسماء الله وصفاته وتوحيده وملائكته وأوليائه وأعدائه مع العلم بأن في هذه الأمور من التفاصيل الكثيرة ما يمتنع اتفاق اثنين عليه إلا عن مواطأة بينهما ومحمد وموسى صلوات الله عليهما وسلامه لم يتواطآ بل لم يواطىء محمد أحدا من الرسل قبله ولا واطؤه
والخبر الكذب إما أن يتعمد صاحبه الكذب وإما أن يغلط فالكاذبان المتعمدان للكذب لا يتفقان في القصص الطويلة والتفاصيل العظيمة
وكذلك الغالطان لا يتفق غلطهما في مثل ذلك بل الاثنان من آحاد الناس إذا أخبر كل منهما عن حال بلدة وأخبر الآخر بمثل خبره من غير مواطأة عرف صدقهما فكيف بالأمور الغائبة التي لا يمكن العلم بها إلا من جهة الله تعالى فهذا من دلائل نبوة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
وأما القدر الذي يخالف ما جاء به محمد مما ينقلونه عن الأنبياء فهو نوعان
أحدهما ما وقع فيه النسخ من الشرائع وهذا لا يمنعه لكن

المنسوخ مثل هذا بالنسبة إلى ما لم ينسخ من الكتاب نظير المنسوخ من القرآن والأحاديث النبوية فإنه قليل جدا بالنسبة إلى ما لم ينسخ وكذلك عامة ما أمر به موسى وداود والمسيح وغيرهم من الأنبياء إذا اعتبر بما أمر به محمد وجد عامة ذلك متفقا لم ينسخ منه إلا القليل
والثاني الخبريات وهذه قد ادعى بعض أهل الكتاب أن محمدا خالف بعض ما أخبرت به الأنبياء قبله وهذا باطل فإن أخبار الأنبياء لا يجوز أن تتناقض إذ هم كلهم صادقون مصدقون ومن علم أن محمدا رسول الله وأن موسى رسول الله وأن المسيح رسول الله علم أن أخبارهم لا تتناقض لكن قد يخبر هذا بما لم يخبر به هذا فيكون في أخبار أحدهم زيادات على أخبار غيره لا ما يناقض خبر غيره
وما يذكره أهل الكتاب مما يناقض خبر محمد فهو عامته مما حرفوا معناه وتأويله وقليل منه حرف لفظه وأهل الكتاب اليهود والنصارى مع المسلمين متفقون على أن الكتب المتقدمة وقع التحريف بها إما عمدا وإما خطأ في ترجمتها وفي تفسيرها وشرحها وتأويلها وإنما تنازع الناس هل وقع التحريف في بعض ألفاظها وكل ما يدعي فيه مدع أن محمدا

ناقضه فلا بد له من أن يثبت مقدمتين
إحداهما ثبوت ذلك اللفظ عن ذلك النبي
والثاني ثبوت معناه
وكل من احتج بنقل عن نبي فلا بد له من هاتين المقدمتين الإسناد والمتن فلا بد له من ثبوت اللفظ ولا بد له من ثبوت معنى اللفظ وإذا كان النقل ليس بلغة النبي بل بلغة أخرى فلا بد من الترجمة الصحيحة وعامة النصارى ليس عندهم كتب الأنبياء بلغة الأنبياء
فإن موسى والمسيح ومن بينهما من أنبياء بني إسرائيل إنما كانوا يتكلمون باللغة العبرانية
والمسيح كان عبرانيا لم يتكلم بغير العبرانية وإنما تكلم بغيرها كالسريانية واليونانية والرومية بعض من اتبعه وجمهور

النصارى لا يعرفون بالعبرانية فلا يحسنون أن يقرؤوا بالعبرانية لا توراة ولا إنجيلا ولا غير ذلك وإنما يتكلمون بذلك الرومية أو السريانية أو غيرهما وإن كان فيهم قليل ممن يتكلم بالعبرانية بخلاف اليهود فإن العبرانية فاشية فيهم وحينئذ فمن احتج من أهل الكتاب بشيء من كلام الأنبياء المنقول بالرومية والسريانية أو بالعربية فإنه يحتاج مع إثبات النقل إلى إثبات الترجمة وصحتها فإنهم كثيرا ما يضطربون في الترجمة وصحتها ويختلفون في معناها
فهذه مقدمات ثلاث لابد لهم منها في كل ما يحتجون من كلام الأنبياء ولو لم يدعو أنه معارض لما أخبر به محمد فكيف إذا ادعوا به تناقضه لما جاء به محمد فإن قدر أنه ثبت أن نبيا أخبر بشيء امتنع قطعا أن يخبر محمد بنقيضه فإن فيما نقل عن محمد

أيضا ما ليس بثابت لفظه مثل بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة وفيما ثبت لفظه ما ليس معناه صريحا في المناقضة بل لا يدل على ذلك
فكم ممن يفسر القرآن بما لا يدل عليه لفظ القرآن بل ولا قاله أحد من الصحابة بل ولا التابعين
كمن يقول إن شعيبا النبي هو كان حمو موسى وليس في القرآن والسنة وكلام الصحابة إلا ما يدل على نقيض ذلك وكمن يقول إن الرسل الذين أرسلوا إلى القرية كانوا من أتباع المسيح وليس في القرآن والمنقول عن الصحابة إلا ما يدل على نقيض ذلك
وأما ما علم أن محمدا أخبر به فقد قامت الأدلة القاطعة اليقينية على صدقه وصدق ما أخبر به أعظم مما قامت على صدق غيره وصدق ما جاء به فمهما عارض ذلك علم أنه كذب على الأنبياء ولا يمكن أحدا من الخلق أن يذكر دليلا قطعيا على

صحة ذلك النقل بل غايتهم أن يذكروا طريقا ظنيا لا يفيدهم إلا الظن والظن لا يعارض اليقين
فما جاء به محمد يمكن صاحب النظر والاستدلال أن يعلمه علما يقينا لا يرتاب فيه
وما يناقضه لا سبيل لأحد إلى العلم به ولا يتصور أن يقوم بقلبه منه إلا الظن والتقليد وكلاهما لا يناقض العلم فهذا أصل جامع ثم العارف يعبر عنه مع كل إنسان بحسب ما يوصل معناه إلى ذلك المخاطب والمقصود هنا أن يقال كل ما يحتجون به على مخالفة ما ثبت عن محمد لا يمكن أن يقوم لهم عليه دليل لا شرعي ولا عقلي وهذا نعلمه مجملا
ونحن نبين ذلك مفصلا فنقول ما يحتجون به إما أن يكون حجة عقلية وإما أن يكون سمعية أما العقليات فمعلوم أن الحجج العقلية الدالة على فساد ما يقوله النصارى أظهر مما يحتجون به على صحة دينهم ومن احتج منهم أو من اليهود بحجة عقلية على مخالفة شيء من دينه فلها أجوبة
أحدها أن يبين أن ذلك يلزم غيره من الأنبياء فإنهم جاءوا بذلك أو بأعظم منه

فلا يقدح أحد بحجة عقلية في محمد إلا كان ذلك قد جاء بطريق الأولى في غيره من الأنبياء كما بينا في الرد على الرافضة أنه لا يقدح أحد في الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان إلا أمكن أن يقدح بمثل ذلك وبأعظم منه في علي فيمتنع أن يكون علي سليما من القوادح في إمامته إلا والثلاثة أسلم منه مما يقدح في إمامتهم
ويمتنع أن يكون موسى وعيسى وداود برآء مما يقدح في نبوتهم إلا ومحمد أبرأ مما يقدح في نبوته وهذا كما لو احتج محتج بما في القرآن من إثبات الصفات فيقال له في التوراة وغيرها من كتب الأنبياء مثل ذلك وأعظم وإذا احتج بإنزال المتشابهات فيقال له في الكتب المتقدمة من التشابه أعظم مما في القرآن وهل ضلت

النصارى إلا باتباع المتشابه من كلام الأنبياء وترك المحكم
والثاني أن يبين أن تلك الحجة لا تصلح أن يعارض بها ما جاءت به الأنبياء كما إذا أخذ بعض الناس يطعن في شيء من الشرائع بالرأي بين له أن ما ثبت عن الأنبياء لا يعارض برأي ولا قياس
الثالث أن يبين فساد تلك الحجة العقلية إن كانت من باب الخبريات بين فسادها كما قد بسطنا القول في ذلك في كتاب درء تعارض العقل والشرع وذكرنا أن جميع ما يحتج به على خلاف نصوص الأنبياء من العقليات فإنه باطل وذكرنا ما يعتمد عليه النفاة من هذا الباب
وإن كانت من باب الطلبيات فهي من باب الأمر والنهي فمن

كان في مذهبه أنه لا يعلل أحكام الله ولا يقول إن حسن الأفعال وقبحها يعلم بالعقل ولا ينزه الله عن فعل ولا عن حكم بل يجوز عليه كل شيء وإنما ينفي ذلك بالخبر السمعي أو العادة فهذا يجيب بهذا الجواب لكن عامة القلوب والعقول لا تقبل هذا
وأما على قول الجمهور فنبين ما في مأموراته من الحكم والمصالح وما في منهياته من المفاسد والضرر ونبين رجحان ما جاء به على ما يعارض به بل ونبين رجحان شرائع الأنبياء على سياسات سائر الأمم بل ونبين رجحان شريعة محمد على سائر الشرائع وهذا مبسوط في مواضع
وأما إذا احتج أهل الكتاب على مناقضة محمد بحجة سمعية سواء كانت من كلامه أو كلام غيره من الأنبياء عليهم السلام كان الجواب من وجوه
أحدها أن يقال لهم لا يمكنكم أن تصدقوا بنبوة نبي من الأنبياء مع التكذيب بمحمد والطريق

الذي بها تثبت نبوة محمد بمثلها وبأعظم منها بل نحن نبين أن التصديق بنبوته أولى من التصديق بنبوة غيره وأن كل ما يستدل به على نبوة نبي فمحمد أحق بجنس ذلك الدليل من غيره وما يعارض به نبوة نبي فالجواب عن محمد أولى من الجواب عن غيره
فهو مقدم فيما يدل على النبوة وفيما يجاب به عن المعارضة وهذه أكمل في ذلك فيمتنع مع العلم أو العدل أن يصدق بنبوة غيره مع التكذيب بنبوته كما يمتنع مع العلم والعدل في كل اثنين أحدهما أكمل من الآخر في فن أن يقر بمعرفة ذلك الفن للمفضول دون الفاضل وقولنا مع العلم والعدل لأن الظالم يفضل المفضول مع علمه بأنه مفضول والجاهل قد يعرف المفضول ولا يعرف الفاضل
فإن كثيرا من الناس يعلمون فضيلة متبوعهم إما في العلم أو العبادة ولا يعرفون أخبار غيره حتى يوجد أقوام يعظمون بعض

الأتباع دون متبوعه الذي هو أفضل منه عند التابع وغيره لا يعرفونه فهؤلاء ليس عندهم علم ولهذا تجد كثيرا من هؤلاء يرجح المفضول لعدم علمه بأخبار الفاضل وهذا موجود في جميع الأصناف حتى في المدائن يفضل الإنسان مدينة يعرفها على مدينة هي أكمل منها لكونه لا يعرفها
والحكم بين الشيئين بالتماثل أو التفاضل يستدعي معرفة كل منهما ومعرفة ما اتصف به من الصفات التي يقع بها التماثل والتفاضل كمن يريد أن يعرف أن البخاري أعلم من مسلم وكتابه أصح أو أن سيبويه أعلم من الأخفش ونحو ذلك
وقد فضل الله بعض النبيين على بعض كما قال تعالى
ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض

وقال تعالى
وتلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض
والكلام في شيئين
أحدهما في كون المفضول يستحق تلك المنزلة دون الفاضل وهذا غاية الجهل والظلم كقول الرافضة الذين يقولون إن عليا كان إماما عالما عادلا والثلاثة لم يكونوا كذلك
وكذلك اليهود والنصارى الذين يقولون إن موسى كان رسولا ومحمد لم يكن كذلك فإن هذا في غاية الجهل والظلم بخلاف من اعترف باستحقاق الاثنين للمنزلة ولكن فضل المفضول فهذا أقل جهلا وظلما
ومعلوم أن المرسلين يتفاضلون تارة في الكتب المنزلة عليهم وتارة في الآيات والمعجزات الدالة على صدقهم وتارة في الشرائع وما جاءوا به من العلم والعمل وتارة في أممهم
فمن عنده علم وعدل فينظر في القرآن وفي غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل أو في معجزات محمد ومعجزات غيره أو في شريعته وشريعة غيره أو في أمته وأمة غيره وجد له من التفضيل على غيره ما لا يخفى إلا على مفرط في الجهل أو الظلم
فكيف يمكن مع هذا أن يقال هو كاذب مفتر وغيره هو النبي الصادق

نعم كثير من أهل الكتاب لم يعرفوا من أخباره ما يبين لهم ذلك كما أن كثيرا من الرافضة لم يعرفوا من أخبار الثلاثة ما يبين لهم فضيلتهم عن علي رضي الله عنه فهؤلاء في الجهل وطلب العلم عليهم فرض خصوصا أمر النبوة فإن النظر في أمر من قال
إني رسول الله إليكم
مقدم على كل شيء إذ كان التصديق بهذا مستلزما لغاية السعادة والتكذيب به مقتضيا لغاية الشقاوة فبالرسول يحصل الفرق بين السعداء والأشقياء وبين الحق والباطل والهدى والضلال والفرق بين أولياء الله وأعدائه
وكما يسلك هذه الطريق العقلية في القياس والاعتبار بأن يعتبر حال محمد وكتابه وشرعه وأمته بحال غيره وكتابه وشرعه وينظر هل هما متماثلان أو متفاضلان وأيهما أفضل وإذا تبين أن حاله أفضل كان تصديقه أولى وامتنع أن يكون غيره صادقا وهو كاذب
بل لو كانا متماثلين وجب كونه صادقا بل وكذلك لو كانا متقاربين وغيره أفضل فإن المتنبي الكذاب لا يقارب الصادق بل بينهما من التباين ما لا يخفى إلا على أعمى الناس
وكذلك نسلك هذه الطريق في جنس الأنبياء عليهم

السلام مطلقا وأممهم بأن تعرف أخبار من مضى من الأنبياء وأممهم وترى آثار هؤلاء وهؤلاء كما قال تعالى
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
وقال تعالى
سورة يوسف الآيات 109 111
وقال تعالى لما ذكر آل فرعون
وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين
وكذلك قال تعالى عن عاد

وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود
وقال تعالى عن قوم شعيب
ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود
وإذا ذكر الأنبياء عليهم السلام قال تعالى
وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين
سلام على إبراهيم
سلام على موسى وهارون

سلام على آل ياسين
وقال تعالى
وجعلنا لهم لسان صدق عليا
ومثل هذا في القرآن كثير فيذكر من حال الأنبياء وأتباعهم وما حصل لهم من الكرامة وما حصل للكفار بهم من الخزي والعذاب ما بين حسن حال هؤلاء وقبح حال هؤلاء
ومما يوضح ذلك من أن من اعتبر حال أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وحال غيرهم في العلوم النافعة والأعمال الصالحة تبين له أن حال أهل الملل أكمل بما لا يحصى وإذا نظر ما عند غير أهل الملل من الحكمة العلمية والعملية كحكمة الهند واليونان والعرب من الجاهلية والفرس

وغيرهم وجد ما عندهم بعض ما عند أهل الملل من الحكمة العلمية والعملية فيمتنع أن يكون علماء اليونان والهند ونحوهم على حق وهدى وعلماء المسلمين واليهود والنصارى على باطل وضلال وكذلك يمتنع أن تكون الأمة لها علم نافع وعمل صالح وأهل الملل ليسوا كذلك
ففي الجملة لا يوجد في غير أهل الملل من علم نافع وعمل صالح من حكمة علمية وعملية إلا وذلك في أهل الملل اكمل ولا يوجد في أهل الملل شر إلا وهو في غيرهم أكثر
وهؤلاء فلاسفة اليونان الذين قد شهروا عند كثير من الناس باسم الحكمة وحكمتهم كحكمة سائر الأمم نوعان فطرية وعملية والعملية في الأخلاق وسياسة المنزل وسياسة المدائن وكل من تأمل ما عند اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل من سياسة الأخلاق والمنزل والمدائن وجده خيرا مما عند أولئك بأضعاف مضاعفة
فإن أولئك عمدة أمرهم الكلام على قوى النفس الشهوية

والغضبية وقوة العلم والعدل كأمور من جنس آداب العقلاء ليس عندهم من معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله ومن عبادته وحده لا شريك له شيء له قدر والذي عندهم من العلوم الطبيعية والحسابية ليس مما ينفع بعد الموت إلا أن يستعان به على ما ينفع بعد الموت والذي عندهم من العلم الإلهي قليل جدا مع ما فيه من الخطأ الكثير
وكل ما عندهم من علم نافع وعمل صالح فهو جزء مما جاءت به الأنبياء عليهم السلام فيمتنع أن يكون هؤلاء المسمون بالحكماء وأتباعهم على حق في الاعتقاد وصدق في الأقوال وخير في الأعمال كما هو غاية مطلوبهم والأنبياء وأتباعهم ليسوا كذلك
واعتبر ذلك بمن يعرف من خاصة هؤلاء وعامتهم وخاصة هؤلاء وعامتهم وإن كان بينهما من التفاوت ما بين أهل الجنة وأهل النار فالاعتبار في مثل ذلك مما جاء به التنزيل
قال تعالى
الله خير أما يشركون
والمقصود أنه بالاعتبار والقياس العقلي والموازنة يوزن الشيء

بما يناظره ويعتبر به قياس الطرد وقياس العكس
فيظهر لكل من تدبر ذلك أن أهل الملل أولى بالحق والصدق والخير من غيرهم وإن كان لأولئك من الحكمة ما يناسب أحوالهم وحكماؤهم أفضل من عوامهم وهم خير من الكفار بالرسل الذين ليس فيهم خير أصلا وهذا مما استفادوه أتباع الأنبياء منهم فيكون هذا من دلائل نبوتهم وأعلام رسالتهم استدلالا بالأثر على المؤثر وبالمعلول على علته
وكذلك من تدبر حال المسلمين وحال اليهود والنصارى تبين له رجحان حال المسلمين فيكون هذا من دلائل نبوة محمد وأعلام رسالته
وقد ذكرنا في غير هذا الوضع أن النبوة تعلم بطرق كثيرة وذكرنا طرقا متعددة في معرفة النبي الصادق والمتنبي الكذاب غير طريق

المعجزات فإن الناس كما قويت حاجتهم إلى معرفة الشيء يسر الله أسبابه كما يتيسر ما كانت حاجتهم إليه في أبدانهم أشد فلما كانت حاجتهم إلى النفس والهواء أعظم منها إلى الماء كان مبذولا لكل أحد في كل وقت ولما كانت حاجتهم إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى القوت كان وجود الماء أكثر
وكذلك لما كانت حاجتهم إلى معرفة الخالق أعظم كانت آياته ودلائل ربوبيته وقدرته وعلمه ومشيئته وحكمته أعظم من غيرها ولما كانت حاجتهم إلى معرفة صدق الرسل بعد ذلك أعظم من حاجتهم إلى غير ذلك أقام الله سبحانه من دلائل صدقهم وشواهد نبوتهم وحسن حال من اتبعهم وسعادته ونجاته وبيان ما يحصل له من العلم النافع والعمل الصالح وقبح حال من خالفهم وشقاوته وجهله وظلمه ما يظهر لمن تدبر ذلك
ومن لم يجعل الله نورا فما له من نور
وهذا الذي ذكرناه من اعتبار الشيء بنظرائه وموافقيه وأشباهه واعتباره بأضداده ومخالفيه حتى يعرف في المتشابهين أيهم أكمل

وأفضل وفي المختلفين أيهم أولى بالحق والهدى والعدل موجود في سائر الأمور علمها وعملها كعلم الطب والحساب والفقه وغير ذلك فيمتنع مع العلم والعدل أن يقال جالينوس كان طبيبا وأبقراط لم يكن طبيبا أو أن يقال تاميطميوس كان فيلسوفا وأرسطو لم يكن فيلسوفا أو أن يقال الأخفش كان نحويا وسيبويه لم يكن نحويا أو أن يقال زفر والحسن بن زياد ومحمد بن الحسن كانوا فقهاء وأبو حنيفة لم يكن فقيها أو أن أشهب

وابن القاسم وابن وهب كانوا فقهاء ومالك لم يكن فقيها أو أن المزني والبويطي وحرملة كانوا فقهاء والشافعي لم يكن فقيها وأن أبا داود وإبراهيم الحربي

وأبا بكر الأثرم كانوا فقهاء وأحمد بن حنبل لم يكن فقيها أو أن عليا كان إمام عدل وأبا بكر وعمر لم يكونوا إمامي عدل أو أن نور الدين الشهيد كان عادلا وعمر بن عبد العزيز لم يكن عادلا أو أن كوشيار كان يعلم الهيئة وبطليموس لم يكن يعرف

الهيئة أو أن النابغة الجعدي كان شاعرا والنابغة الذبياني لم يكن شاعرا أو أن يقال إن القمر مستنير والشمس ليست مستنيرة أو أن عطارد نجم ثاقب وزحل ليس بنجم ثاقب أو أن مسلما كان عالما بالحديث والبخاري لم يكن كذلك أو أن كتابه أصح من كتاب البخاري ونحو ذلك مما يطول تعداده

فصل
والنصارى لهم سؤال مشهور بينهم وهو أن فيهم من يقول محمد لم تبشر به النبوات بخلاف المسيح فإنه بشرت به النبوات وزعموا أن من لم تبشر به فليس بنبي وهذا السؤال يورد على وجهين
أحدهما أنه لا يكون نبيا حتى تبشر به
والثاني أن من بشرت به أفضل أو أكمل ممن لم تبشر به أو أن هذا طريق يعرف به نبوة المسيح اختص به
وأنتم قد قلتم ما من طريق تثبت به نبوة نبي إلا ومحمد تثبت نبوته بمثل تلك الطريق وأفضل فأما هذا الثاني فيستحق الجواب وأما الأول نجيبهم عنه أيضا لكن هل تجب الإجابة عنه فيه قولان بناء على أصل وهو أنه هل من شرط النسخ الإشعار بالمنسوخ ولنظار المسلمين فيه قولان

أحدهما أنه لا بد إذا شرع حكما يريد أن ينسخه فلا بد أن يشعر المخاطبين بأنه سينسخه لئلا يظنوا دوامه فيكون ذلك تجهيلا لهم
والثاني لا يشترط ذلك
وأيضا فمن بعث بعد موسى هل يجب أن يكون مبشرا به فيه قولان
وبكل حال فلا ريب عند علماء المسلمين أن المسيح عليه السلام بشر بمحمد كما قال تعالى
وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد
وقد قال تعالى
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي

كانت عليهم
وقال تعالى
سورة الفتح الآية 29
وقال تعالى
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
في موضعين من القرآن أحدهما في التوحيد والقرآن والآخر في القبلة والقرآن ومحمد
فقال في الأول
سورة الأنعام الآيتان 19 و 20

وهذا في سورة الأنعام وهي مكية
وقال في سورة البقرة وهي مدنية
سورة البقرة الآيات 144 147

وقال تعالى
وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
وقال تعالى
أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك الحق فلا تكونن من الممترين
وقال تعالى
أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل
وقال تعالى
قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب
وقال تعالى
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما

عرفوا من الحق
وقال تعالى
إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا
وقال تعالى
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون حدهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون
وقال تعالى
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك

وإذا كان كذلك فيقال معلوم باتفاق أهل الملل أنه ليس من شرط نبوة كل نبي أن يبشر به من قبله إذ النبوة ثابتة بدون ذلك لا سيما ونوح وإبراهيم وغيرهما لم يعلم أنه بشر بهما من قبلهما وكذا عامة الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل لم تتقدم بهم بشارات إذ كانوا لم يبعثوا بشريعة ناسخة كداود وأشعيا وغيرهما
وإنما قد يدعى هذا فيمن جاء بنسخ شرع من قبله كما جاء المسيح بنسخ بعض أحكام التوراة وكذلك محمد ففي مثل هذا يتنازع المتنازعون من علماء المسلمين وغيرهم هل يشترط أن يكون قد أخبر بذلك قبل النسخ على قولين
وحينئذ فالمسلمون يقولون شريعة التوراة والإنجيل لم تشرع شرعا مطلقا بل مقيدا إلى أن يأتي محمد وهذا مثل الحكم المؤقت بغاية لا يعلم متى يكون كقوله تعالى
فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره
وقوله تعالى
فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا

ومثل هذا جائز باتفاق أهل الملل
وهل يسمى هذا نسخا فيه قولان قيل لا يسمى نسخا كالغاية المعلومة كقوله تعالى
وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل
فإن ارتفاع وجوب الصيام بمجيء الليل لا يسمى نسخا باتفاق الناس
فقيل إن الغاية المجهولة كالمعلومة وقيل بل هذا يسمى نسخا ولكن هذا النسخ جائز باتفاق أهل الملل اليهود وغيرهم وعلى هذا فثبوت نبوة المسيح ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما لا تتوقف على جواز النسخ المتنازع فيه فإن ذلك إنما يكون في الحكم المطلق والشرائع المتقدمة لم تشرع مطلقا
وسواء قيل إن الإشعار بالناسخ واجب أو قيل إنه غير واجب فعلى القولين قد أشعر أهل الشرع الأول بأنه سينسخ فإن موسى بشر بالمسيح وكذلك غيره من الأنبياء وموسى والمسيح وغيرهما من الأنبياء بشروا بمحمد وإذا كان هذا هو الواقع فنبوة المسيح محمد صلى الله عليهما وسلم لا تتوقف على ثبوت النسخ المتنازع فيه
وحينئذ فنقول العلم بنبوة محمد ونبوة المسيح لا تتوقف على

العلم بأن من قبلهما بشر بهما بل طرق العلم بالنبوة متعددة فإذا عرفت نبوته بطريق من الطرق ثبتت نبوته عند من علم ذلك وإن لم يعلم أن من قبله بشر به لكن يقال إذا كان الواجب أو الواقع أنه لا بد من إخبار من قبله بمجيئه وأن الإشعار بنسخ شريعة من قبله واجب أو واقع صار ذلك شرطا في النبوة ومن علم نبوته علم أن هذا قد وقع وإن لم ينقل إليه
فإذا قال المعارض عدم إخبار من قبله به يقدح في نبوته وأنه إذا قدر أنه لم يخبر به من قبله والإخبار شرط في النبوة كان ذلك قدحا قيل الجواب هنا من طريقين
أحدهما أن يقال إذا علمت نبوته بما قام عليها من أعلام النبوة فإما أن يكون تبشير من قبله لازما لنبوته واجبا أو واقعا وإما أن لا يكون لازما
فإن لم يكن لازما لم يجب وقوعه وإن كان لازما علم أنه قد وقع وإن كان ذلك لم ينقل إلينا إذ ليس كل ما قالته الأنبياء المتقدمون علمناه ووصل إلينا وليس كل ما أخبر به المسيح ومن قبله من الأنبياء وصل إلينا وهذا مما يعلم بالاضطرار
ولو قدر أن هذا ليس في الكتب الموجودة لم يلزم أن المسيح ومن قبله لم يذكروه بل يمكن أنهم ذكروه وما نقل ويمكن أنه كان في كتب غير هذه ويمكن أنه كان في نسخ غير هذه النسخ فأزيل من

بعضها ونسخت هذه مما أزيل منه وتكون تلك النسخ التي هو موجود فيها غير هذه فكل هذا ممكن في العادة لا يمكن الجزم بنفيه
فلو قدر أنه ليس في هذه الكتب الموجودة اليوم بأيدي أهل الكتاب لم يقطع بأن الأنبياء لم يبشروا به فإذا لم يمكن لليهود أن يقطعوا بأن المسيح لم يبشر به الأنبياء ولا يمكن أهل الكتاب أن يقطعوا بأن محمدا لم يبشر به الأنبياء لم يكن معهم علم بعدم ذلك بل غاية ما يكون عند أحدهم ظن لكونه طلب ذلك فلم يجده
ودلائل نبوة المسيح ومحمد قطعية يقينية لا يمكن القدح فيها بظن فإن الظن لا يدفع اليقين لا سيما مع الآثار الكثيرة المخبرة بأن محمدا كان مكتوبا باسمه الصريح فيما هو منقول عن الأنبياء كما في صحيح البخاري أنه قيل لعبد الله بن عمرو أخبرنا ببعض صفة رسول الله في التوراة فقال إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا تجزي بالسيئة السيئة ولكن تجزي بالسيئة الحسنة وتعفو وتغفر ولن أقبضه حتى أقيم به الملة

الموجاء فأفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا بأن يقولوا لا إله إلا الله
ولفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور قد يراد به الكتب المعينة ويراد به الجنس فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور وغيره كما في الحديث الصحيح عن النبي خفف على داود القرآن فكان ما بين أن تسرج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن والمراد به قرآنه وهو الزبور ليس المراد به القرآن الذي لم ينزل إلا على محمد
وكذلك ما جاء في صفة أمة محمد أناجيلهم في صدورهم فسمى الكتب التي يقرؤونها وهي القرآن أناجيل

وكذلك في التوراة إني سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم أنزل عليه توراة مثل توراة موسى فسمى الكتاب الثاني توراة
فقوله أخبرني بصفة رسول الله في التوراة قد يراد بها نفس الكتب المتقدمة كلها وكلها تسمى توراة ويكون هذا في بعضها
وقد يراد به التوراة المعينة وعلى هذا فيكون هذا في نسخة لم ينسخ منها هذه النسخ فإن النسخ الموجودة بالتوراة التي وقفنا عليها ليس فيها هذا
لكن هذا عندهم في نبوة أشعيا قال فيها عبدي الذي سرت به نفسي أنزل عليه وحيي فيظهر في الأمم عدلي ويوصيهم بالوصايا لا يضحك ولا يسمع صوته في الأسواق يفتح العيون العور والآذان الصم ويحيي القلوب الغلف وما أعطيه لا أعطي أحدا يحمد الله حمدا جديدا يأتي من أقصى الأرض وتفرح البرية وسكانها يهللون الله على كل شرف ويكبرونه على كل رابية لا يضعف ولا يغلب ولا يميل إلى الهوى مشقح ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة

الضعيفة بل يقوى الصديقين وهو ركن المتواضعين وهو نور الله الذي لا يطفى أثر سلطانه على كتفيه
وهذه صفات منطبقة على محمد وأمته وهي من أجل بشارات الأنبياء المتقدمين به
ولفظ التوراة قد عرف أنه يراد به جنس الكتب التي يقر بها أهل الكتاب فيدخل في ذلك الزبور ونبوة أشعيا وسائر النبوات غير الإنجيل
فإن كان المراد بلفظ التوراة والإنجيل في القرآن هذا المعنى فلا ريب أن ذكر النبي في التوراة كثير متعدد
الطريق الثاني من الجواب أن نبين أن الأنبياء قبله بشروا به وهذا هو دليل مستقل على نبوته وعلم عظيم من أعلام رسالته وهذا أيضا يدل على نبوة ذلك النبي إذ أخبر بأنباء من الغيب مع دعوى

النبوة ويدل على نبوة محمد لإخبار من تثبت نبوته بنبوته هذا إذا وجد الخبر ممن لا نعلم نحن نبوته ولم يذكر في كتابنا
وأما من ثبتت نبوته بطرق أخرى كموسى والمسيح فهذا مما تظاهر فيه الأدلة على المدلول الواحد وهو أيضا يتضمن أن كل ما ثبتت به نبوة غيره فإنه تثبت به نبوته وهو جواب ثان لمن يجعل ذلك شرطا لازما لنبوته

فصل
ثم العلم بأن الأنبياء قبله بشروا به يعلم من وجوه
أحدها ما في الكتب الموجودة اليوم بأيدي أهل الكتاب من ذكره
الثاني إخبار من وقف على تلك الكتب وغيرها من كتب أهل الكتاب ممن أسلم ومن لم يسلم بما وجدوه من ذكره فيها
وهذا مثل ما تواتر عن الأنصار أن جيرانهم من أهل الكتاب كانوا يخبرون بمبعثه وأنه رسول الله وأنه موجود عندهم وكان هذا من أعظم ما دعا الأنصار إلى الإيمان به لما دعاهم إلى الإسلام حتى آمن الأنصار به وبايعوه من غير رهبة ولا رغبة
ولهذا قيل إن المدينة فتحت بالقرآن لم تفتح بالسيف كما فتح غيرها

ومثل ما تواتر عن أخبار النصارى بوجوده في كتبهم مثل أخبار هرقل ملك الروم والمقوقس ملك مصر صاحب الاسكندرية والنجاشي ملك الحبشة والذين جاؤوه بمكة وقد ذكر الله ذلك في القرآن في قوله عن اليهود
وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به
وقال عن النصارى

وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين
وقوله
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا
وقال ابن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا

ما كانوا يقولون فيه فقال معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير ما جاءنا شيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم

فأنزل الله تعالى فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
وقال أبو العالية وغيره كانوا يعني اليهود إذا استنصروا بمحمد على مشركي العرب يقولون اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم فلما بعث الله محمدا ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا

للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله فأنزل الله هذه الآيات
فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به
وروى ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري عن رجال من قومه قالوا ومما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه أنا كنا نسمع من رجال يهود كنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل الكتاب عندهم علم ليس عندنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم فلما بعث الله رسوله رسولا من عند الله أجبنا حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به ففينا وفيهم نزلت هؤلاء الآيات

التي في البقرة
ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
قال ابن إسحاق وحدثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثنا يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة الأنصاري قال حدثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت الأنصاري قال والله أني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان سنين أعقل كل ما سمعت إذ سمعت يهوديا يقول على أطم

يثرب يصرخ يا معشر اليهود فلما اجتمعوا عليه قالوا ما لك ويلك قال طلع نجم أحمد الذي يبعث الليلة
وروى أبو زرعة بإسناد صحيح عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد بن حارثة قال خرج رسول الله وهو مردفي ثم أقبل رسول الله في يوم حار من أيام مكة حتى إذا كنا بأعلى الوادي لقيه زيد بن عمرو بن نفيل فقال له رسول الله يا ابن عمرو ما لي أرى قومك قد شنفوك

قال أما والله إن ذلك لغير ثائرة كانت مني فيهم لكن أراهم على ضلال
فخرجت أبتغي هذا الدين فأتيت إلى أحبار يثرب فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فقلت ما هذا بالدين الذي أبتغي فخرجت حتى آتي أحبار خيبر فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فقلت ما هذا بالدين الذي أبتغي فقال لي حبر من أحبار الشام إنك لتسأل عن دين ما نعلم أحدا يعبد الله به إلا شيخ بالجزيرة فخرجت فقدمت عليه فأخبرته بالذي خرجت له فقال إن كل من رأيت في ضلالة فمن أنت قلت أنا من أهل بيت الله ومن أهل الشوك والقرظ
فقال إنه قد خرج في بلدك نبي أو خارج قد خرج نجمه فارجع فصدقه واتبعه وآمن به فرجعت فلم أحس شيئا بعد قال

فأناخ رسول الله بعيره فقدمنا إليه السفرة قال زيد ما آكل شيئا ذبح لغير الله فتفرقا فجاء رسول الله فطاف بالبيت قال زيد وأنا معه وكان صنمان من نحاس يقال لهما إساف ونائلة مستقبل الكعبة يتمسح بهما الناس إذا طافوا فقال رسول الله لا تمسهما ولا تمسح بهما
قال زيد فقلت في نفسي وقد طفنا لأمسنهما حتى أنظر ما يقول فمسستهما فقال رسول الله ألم تنهه فلا والذي أكرمه ما مسستهما حتى أنزل الله عليه الكتاب
ومات زيد بن عمرو بن نفيل قبل الإسلام فقال رسول الله إنه يبعث أمة وحده
وروى البخاري حديث خروج زيد بن عمرو قريبا من هذا

اللفظ
وقال ابن إسحاق حدثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد عن سلمة بن سلامة بن وقش قال

كان بين أبياتنا يهودي فخرج على نادي قومه بني عبد الأشهل ذات غداة فذكر البعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان فقال ذلك لأصحاب وثن لا يرون أن بعثا كائن بعد موت وذلك قبل مبعث رسول الله فقالوا ويحك يا فلان أو ويلك وهذا كائن أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون من أعمالهم قال نعم والذي يحلف به لوددت أن حظي من تلك النار أن توقدوا أعظم تنور في داركم فتحمونه ثم تقذفوني فيه ثم تطينون علي وإني أنجو من تلك النار غدا فقيل يا فلان فما علامة ذلك قال نبي يبعث من ناحية هذه البلاد وأشار إلى مكة واليمن بيده قالوا فمتى تراه فرمى بطرفه فرآني وأنا

مضطجع بفناء باب أهلي وأنا أحدث القوم فقال إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله وإنه لحي بين أظهرهم فآمنا به وصدقناه وكفر به بغيا وحسدا فقلنا له يا فلان ألست الذي قلت ما قلت وأخبرتنا قال ليس به
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي فمرض فأتاه رسول الله يعوده فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة فقال له رسول الله يا يهودي أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة صفتي ومخرجي قال لا قال الفتى بلى والله يا رسول الله إنا نجد في التوراة نعتك ومخرجك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال النبي أقيموا هذا من عند

رأسه ولوا أخاكم رواه البيهقي بإسناد صحيح وقال ابن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال هل تدري عما كان إسلام أسيد وثعلبة ابني

سعية وأسد بن عبيد نفر من هدل لم يكونوا من بني قريظة وبني النضير كانوا فوق ذلك فقلت لا قال فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له ابن الهيبان فأقام عندنا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس خيرا منه فقدم علينا قبل مبعث النبي بسنين وكنا إذا أقحطنا وقل علينا المطر نقول يا ابن الهيبان أخرج فاستسق لنا فيقول لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة فنقول كم فيقول صاعا من تمر أو مدين من شعير فنخرجه ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه

فنستقي فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمر الشعاب قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة فحضرته الوفاة واجتمعوا إليه فقال يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع قالوا أنت أعلم قال فإنه إنما أخرجني أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه هذه البلاد مهاجره فاتبعوه ولا تستبقن إليه إذا خرج يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وبسبي الذراري والنساء ممن يخالفه ولا يمنعنكم ذلك منه ثم مات فلما كان الليلة التي فتحت فيها قريظة قال أولئك الثلاثة الفتية وكانوا شبانا أحداثا يا معشر يهود والله إنه الذي ذكر لكم ابن الهيبان فقالوا ما هو به قال بلى والله إنه لصفته ثم نزلوا فأسلموا وخلوا أموالهم وأولادهم

وأهاليهم قال ابن إسحاق فلما فتح الحصن رد ذلك عليهم
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما حدثه عن هرقل وقد تقدم حديثه في أول الكتاب وذكر فيه أن هرقل لما سأله عن صفات رسول الله قال إن يكن ما تقول حقا أنه نبي قد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه
وزاد البخاري في حديثه وقال ابن الناطور وكان هرقل

حزاء ينظر في النجوم فنظر فقال إن ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة قال تختتن اليهود فلا يهمنك شأنهم وابعث إلى من في مملكتك من اليهود فيقتلوهم ثم وجد إنسانا من العرب فقال انظروا أمختتن هو فنظروا فإذا هو مختتن وسأله عن العرب فقال يختتنون وقال فيه وكان برومية صاحب له كان هرقل نظيره في العلم فأرسل إليه وصار إلى حمص فلم يرم من حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأيه على خروج النبي وأنه نبي
وكذلك النجاشي ملك الحبشة لما هاجر الصحابة إليه لما آذاهم المشركون وخافوا أن يفتنوهم عن دينهم وقرؤوا عليه القرآن قال فأخذا عودا بين أصبعيه فقال ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود فتناخرت بطارقته فقال وإن نخرتم اذهبوا

فأنتم سيوم بأرضي يعني أنتم آمنون وقال هذا لأن قريشا أرسلوا هدايا إليه وطلبوا منه أن يرد هؤلاء المسلمين وقالوا هؤلاء فارقوا ديننا وخالفوا دينك
وفي الصحيح حديث ورقة بن نوفل الذي ترويه عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي قالت أول ما بدىء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة من النوم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد إلى أن قالت فأتت به خديجة ورقة بن نوفل وكان قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب فقال اسمع من ابن أخيك فأخبره رسول الله خبر ما رأى فقال ورقة هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ليتني

كنت جذعا أنصرك إذ يخرجك قومك قال أو مخرجي هم قال لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي

وقال ابن إسحاق وقدم على رسول الله عشرون رجلا أو قريب من ذلك وهو بمكة من النصارى حين ظهر خبره بالحبشة فوجدوه في المجلس فكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله عما أرادوا دعاهم رسول الله إلى الله عز و جل وتلا عليهم القرآن فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم لترتادوا لهم فتأتونهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم ما نعلم ركبا أحمق منكم أو كما قالوا لهم فقالوا سلام عليكم لا نجاهلكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ويقال فيهم نزل قوله تعالى
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا

آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين
وعن محمد بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن جبير حدثتني جدتي أم عثمان بنت سعيد بن محمد بن جبير عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال سمعت أبي جبيرا يقول لما بعث الله نبيه وظهر أمره بمكة خرجت إلى الشام فلما

كنت ببصرى أتتني جماعة من النصارى فقالوا لي أمن الحرم أنت قلت نعم قالوا فتعرف هذا الذي تنبأ فيكم قلت نعم قال فأخذوا بيدي فأدخلوني ديرا لهم فيه تماثيل وصور فقالوا لي انظر هل ترى صورة هذا النبي الذي بعث فيكم فنظرت فلم أر صورته قلت لا أرى صورته
فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك الدير فيه صور أكثر مما في ذلك الدير فقالوا لي انظر هل ترى صورته فنظرت فإذا أنا بصفة رسول الله وصورته وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته وهو آخذ بعقب رسول الله فقالوا لي انظر هل ترى صفته قلت نعم قالوا هو هذا وأشاروا إلى

صفة رسول الله قلت اللهم نعم أشهد أنه هو
قالوا أتعرف هذا الذي أخذ بعقبه قلت نعم
قالوا نشهد أن هذا صاحبكم وأن هذا الخليفة من بعده رواه البخاري في تاريخه وقال فيه قال الذي أراه الصور لم يكن نبي إلا كان بعده نبي إلا هذا النبي ورواه أبو نعيم في دلائل النبوة
وروى موسى بن عقبة أن هشام بن العاص ونعيم بن

عبد الله ورجلا آخر قد سماه بعثوا إلى ملك الروم زمن أبي بكر قال فدخلنا على جبلة بن الأيهم وهو بالغوطة فذكر الحديث

وأنه انطلق بهم إلى الملك وأنهم وجدوا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة وإذا فيها أبواب صغار ففتح فيها بابا فاستخرج منه خرقة حرير سوداء فيها صورة بيضاء وذكر صفة آدم ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة وفيها صورة نوح ثم إبراهيم ثم أراهم حريرة فيها صورة محمد وقال هذا آخر الأبواب لكني عجلته لأنظر ما عندكم ثم فتح أبوابا أخر وأراهم صورة بقية الأنبياء موسى وهارون وداود وسليمان وعيسى بن مريم عليهم السلام وصفة لوط وصفة إسحاق وذكر أن هذا عندهم قديما من عهد آدم وأن دانيال صورها بأعيانها
وروى مثل هذا عن المغيرة بن شعبة أنه لما دخل على المقوقس ملك مصر والاسكندرية ملك النصارى أخرج له صور الأنبياء وأخرج له صورة نبينا فعرفها
والوجه الثالث نفس إخباره بذلك في القرآن مرة بعد مرة واستشهاده بأهل الكتاب وإخباره بأنه مذكور في كتبهم مما يدل العاقل

على أنه كان موجودا في كتبهم فإنه لا ريب عند كل من عرف حال محمد من مؤمن وكافر أنه كان من أعقل أهل الأرض فإن المكذبين له لا يشكون في أنه كان عنده من الخبرة والمعرفة والحذق ما أوجب أن يقيم مثل هذا الأمر العظيم الذي لم يحصل لأحد مثله لا قبله ولا بعده فعلم ضرورة أنه لا يفعله ولا يخبر به وهو من أحرص الناس على تصديقه وأخبرهم بالطرق التي يصدق بها وأبعدهم عن أن يفعل ما يعلم أنه يكذب به
فلو لم يعلم أنه مكتوب عندهم بل علم انتفاء ذلك لامتنع أن يخبر بذلك مرة بعد مرة ويستشهد به ويظهر ذلك لموافقيه ومخالفيه وأوليائه وأعدائه فإن هذا لايفعله إلا من هو أقل الناس عقلا لأن فيه إظهار كذبه عند من آمن به منهم عند من يخبرونه وهو ضد مقصوده وهو بمنزلة من يريد إقامة شهود على حقه فيأتي إلى من يعلم أنه لا يكذب ويعلم أنه ليس بشاهد ولا حضر قضيته ويقول هذا يشهد لي وهذا يشهد لي
فإنهم كانوا حاضرين هذه القضية فيقول أولئك لسنا نشهد له ولا حضرنا هذه القضية فهذا لا يفعله عاقل يعلم أنهم لم يكونوا حاضرين وأنهم يكذبونه ولا يشهدون له
الرابع أن يقال لما قامت الأعلام على صدقه فقد أخبر أنه مكتوب في الكتب المتقدمة وأن الأنبياء بشروا به علم أن الأمر كذلك لكن هذا لا يذكر إلا بعد أن يقام دليل منفصل على نبوته

والطريق الأول هو من أظهر الحجج على أهل الكتاب وأظهر الأعلام على نبوته
وقد استخرج غير واحد من العلماء من الكتب الموجودة الآن في أيدي أهل الكتاب من البشارات بنبوته مواضع متعددة وصنفوا في ذلك مصنفات وهذه البشارات في هذه الكتب من جنس البشارات بالمسيح
واليهود يقرون باللفظ لكن يدعون أن المبشر به ليس هو المسيح عيسى ابن مريم وإنما هو آخر ينتظر وهم في الحقيقة لا ينتظرون إلا المسيح الدجال وينتظرون أيضا مجيء المسيح عيسى بن مريم إذا نزل من السماء كما بسط في موضع آخر ويحرفون دلالة اللفظ ويقولون إنها لا تدل على نبي منتظر كما

قالوا في قوله سأقيم لبني إسرائيل من إخوتهم مثلك يا موسى أنزل عليه مثل توراة موسى أجعل كلامي على فيه
قال بعضهم ليس هذا إخبارا بل هذا استفهام إنكار وقدروا ألف استفهام وليس في النص شيء من ذلك
فاليهود يحرفون الدلالات المبشرة بالمسيح وذلك عند المسلمين والنصارى لا يقدح في البشارة بالمسيح بل تبين دلالة النصوص عليه وبطلان تحريف اليهود
وكذلك البشارات بمحمد في الكتب المتقدمة لا يقدح فيها تحريف أهل الكتاب اليهود والنصارى بل تبين دلالة تلك النصوص على نبوة محمد وبطلان تحريف أهل الكتاب
الوجه الخامس أن يقال معلوم أن ظهور دين محمد

في مشارق الأرض ومغاربها أعظم حادث حدث في الأرض فلم يعرف قط دين انتشر ودام كانتشاره ودوامه فإن شرع موسى وإن دام فلم ينتشر انتشاره ودوامه بل كان غاية ظهوره ببعض الشام وأما شرع المسيح فقبل قسطنطين لم يكن له ملك بل كانوا يكونون ببعض بلاد الروم وغيرها وكانوا مستضعفين تقتل أعيانهم أو عامتهم في كثير من الأوقات ولما انتشر تفرق أهله فرقا متباينة يكفر فيها بعضهم بعضا
ثم إن شرع محمد ظهر في مشارق الأرض ومغاربها وفي وسط الأرض المعمورة الإقليم الثالث والرابع والخامس وظهرت أمته على النصارى في أفضل الأرض وأجلها عندهم كأرض الشام ومصر والجزيرة وغيرها ودام شرعه فله اليوم أكثر من سبعمائة سنة
ومعلوم أن هذا المدعى للنبوة سواء كان صادقا أو كاذبا لا بد

أن يخبر به الأنبياء فإنهم أخبروا بظهور الدجال الكذاب تحذيرا للناس مع أن الدجال مدته قليلة فلو كان ما يقوله المكذب لمحمد حقا وأنه كاذب ليس برسول لكانت فتنته أعظم من فتنة الدجال من وجوه كثيرة لأن الذين اتبعوه أضعاف أضعاف من يتبع الدجال فلو كان كاذبا لكان الذين افتتنوا به أضعاف أضعاف من يفتتن بالدجال فكان التحذير منه أولى من التحذير من الدجال إذ ليس في العالم من زمان آدم إلى اليوم كذاب ظهر ودام هذا الظهور والدوام فكيف تغفل الأنبياء التحذير عن مثل هذا لو كان كاذبا
وإذا كان صادقا فالبشارة للإيمان به أولى ما يبشر به الأنبياء من المستقبلات ويخبر به فعلم أنه لا بد أن يكون في الكتب ذكره ثم قد وجد مواضع كثيرة في الكتب تزيد على مائة موضع استدلوا بها على أنه مذكور وتواتر عن خلق كثير من أهل الكتاب أنه موجود في كتبهم وتواتر عن كثير ممن أسلم أنه كان سبب إسلامهم أو من أعظم سبب إسلامهم علمهم بذكره في الكتب المتقدمة إما بأنه وجد ذكره في الكتب كحال كثير ممن أسلم قديما وحديثا وإما بما ثبت عندهم من اخبار أهل الكتاب كالأنصار فإنه كان من أعظم أسباب

إسلامهم ما كانوا يسمعونه من جيرانهم أهل الكتاب من ذكره ونعته وانتظارهم إياه وأن من خيارهم من لم يوجب له أن يسكن أرض يثرب مع شدتها ويدع أرض الشام مع رخائها إلا لانتظاره لهذا النبي العربي الذي يبعث من ولد إسماعيل
ولم يمكن أحد قط أن ينقل عن شيء من الكتب أنه وجد فيها ذكره بالذم والتكذيب والتحذير كما يوجد ذكر الدجال وعند أهل الكتاب من ذكر أصحابه كعمر بن الخطاب وغيره وعدلهم وسيرتهم عن المسيح وغيره ما هو معروف عندهم فإذا كان الذين استخرجوا ذكره من كتب أهل الكتاب والذين سمعوا خبره من علماء أهل الكتاب إنما يذكرون نعته فيها بالمدح والثناء علم بذلك أن الأنبياء المتقدمين ذكروه بالمدح والثناء ولم يذكروه بذم ولا عيب
وكل من ادعى النبوة ومدحه الأنبياء وأثنوا عليه لم يكن إلا صادقا في دعوى النبوة إذ يمتنع أن الأنبياء يثنون على من يكذب في دعوى النبوة
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء
وهذا مما يبين أنه لا بد أن يكون الأنبياء ذكروه وأخبروا به وأنهم لم يذكروه إلا بالثناء والمدح لا بالذم والعيب وذلك مع دعوى

النبوة لا يكون إلا إذا كان صادقا في دعوى النبوة فتبين أنهم بشروا بنبوته وهو المطلوب
يبين ذلك أن الأنبياء أخبروا أهل الكتاب بما سيكون منهم من الأحداث وما يسلط عليهم من الملوك الذين يقتلونهم ويخربون بلادهم ويسبونهم ك بخت نصر وسنجاريب ولكن هؤلاء الملوك لم يدعوا أنهم أنبياء ولم يدعوا إلى دين فلم تحتج الأنبياء إلى التحذير من اتباعهم وقد حذروا من اتباع من يدعي النبوة وهو كاذب
ومحمد قد قهر أهل الكتاب وقتل من قتل وسبى من سبى وأخرجهم من ديارهم فلا بد أن يذكروه ويذكروا الأحداث التي تجري عليهم في أيامه وإذا كان كاذبا مدعيا للنبوة فلا بد أن يحذرهم من اتباعه ومعلوم أن عامة أهل الكتاب

ومن نقل عنهم إما أن يقول ليس موجودا في كتبنا أو يقول إنه موجود بالمدح والثناء لا يمكن أحد أن ينقل عن الكتب المتقدمة أنه موجود فيها بالذم والتحذير ولو كان مذكورا عندهم بالذم والتحذير لكان من أعظم ما يحتجون به عليه في حياته وعلى أمته بعد مماته ويحتج به من لم يسلم منهم على من أسلم
فإنه معلوم أن كثيرا من أهل الكتاب كان عندهم من البغض له والعداوة وتكذيبه والحرص على إبطال أمره ما أوجب أن يفتروا أشياء لم توجد وينسبوا إليه أشياء يعرف كذبها كل من عرف أمره حتى آل الأمر ببعضهم إلى أن فسروا قول المسلمين الله أكبر بأن أكبر صنم وأن النبي أمرهم بتعظيم هذا الصنم وقال بعضهم فيه إنه أوجب الزنا على المرأة المطلقة ثلاثا عقوبة لزوجها بأنه لا ينكحها حتى يزني بها غيره وقال بعضهم إنه تعلم من بحيرى الراهب مع علم كل من عرف سيرته أنه لم يجتمع ببحيرى وحده ولم يره إلا بعض نهار مع أصحابه لما مروا به لما قدموا الشام في تجارة وأن بحيرى سألهم عنه ولم يكلمه إلا كلمات يستخبره فيها عن حاله

لم يخبره بشيء
ومع طعن بعض أهل الكتاب فيه بأنه بعث بالسيف حتى قد يقولوا إنما قام دينه بالسيف وحتى يوهموا الناس أن الذين اتبعوه إنما اتبعوه خوفا من السيف وحتى يقولوا إن الخطيب إنما يتوكأ على سيف يوم الجمعة إشارة إلى أنه إنما يقوم الدين بالسيف إلى أمثال هذه الأمور التي هي من أظهر الأمور كذبا عليه يعرف أدنى الناس معرفة بحاله أنها كذب وهم مع هذا يتشبثون بها
فلو كان عندهم أخبار عن الأنبياء توجب ذمه والتحذير من متابعته لكان إظهارهم لذلك واحتجاجهم به أقوى وأبلغ وكان ذلك مما يجب في العادة اشتهاره بين خاصتهم وعامتهم قديما وحديثا وكان ظهور ذلك فيهم أولى من ظهور خبر الدجال فيهم وفي المسلمين فإن هذا الأمر من اعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله واشتهاره
فإذا لم يكن كذلك علم أنه ليس في كتب الأنبياء ما يوجب تكذيبه وقد قام الدليل على أنه لا بد من أن تذكره الأنبياء وتخبر بحاله فإذا لم يخبروا أنه كاذب علم أنهم أخبروا أنه نبي صادق كما

شاع ذلك وظهر واستفاض من وجوه كثيرة
فالكتاب الذي بعث به مملوء بشهادة الكتب له والكتب الموجودة فيها مواضع كثيرة شاهدة له من وجوه متعددة والأخبار متواترة عمن أسلم لأجل ذلك وهذا مما يوجب القطع بأنه مذكور فيها بما يدل على صدقه في دعوى النبوة وليس فيها ما يخبر بكذبه والتحذير منه وهذا هو المطلوب
وفي الجملة أمره أظهر وأشهر وأعجب وأبهر وأخرق للعادة من كل أمر ظهر في العالم من البشر ومثل هذا إذا كان كاذبا فلكذبه لوازم كثيرة جدا تفوق الحصر متقدمة ومقارنة ومتأخرة فإن من هو أدنى دعوة منه إذا كان كاذبا لزم كذبه من اللوازم ما يبين كذبه فكيف مثل هذا فإذا انتفت لوازم المكذوب انتفى الملزوم
وصدقه لازم لأمور كثيرة كلها تدل على صدقه وثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم ماضيه ومقارنه ومتأخره ومدعي النبوة لا يخلو من الصدق أو الكذب وكل من الصدق والكذب له لوازم وملزومات فأدلة الصدق مستلزمة له وأدلة الكذب مستلزمة له والصدق له لوازم والكذب له لوازم فصدقه يعرف بنوعين بثبوت دلائل الصدق المستلزمة لصدقه وبانتقاء لوازم الكذب الموجب انتفاؤها انتفاء كذبه كما أن كذب الكذاب يعرف بأدلة كذبه

المستلزمة لكذبه وبانتفاء لوازم الصدق المستلزم انتفاؤها لانتفاء صدق والله أعلم
والشيء يعرف تارة بما يدل على ثبوته وتارة بما يدل على انتفاء نقيضه وهو الذي يسمى قياس الخلف فإن الشيء إذا انحصر في شيئين لزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر ومن انتفاء أحدهما ثبوت الآخر ومدعي النبوة إما صادق وإما كاذب وكل منهما له لوازم يدل انتفاؤها على انتفائه وله ملزومات يدل ثبوتها على ثبوته
فدليل الشيء مستلزم له كأعلام النبوة ودلائلها وآيات الربوبية وأدلة الأحكام وغير ذلك وانتفاء الشيء يعلم بما يستلزم نفيه كانتفاء لوازمه مثل صدق الكاذب يقال لو كان صادقا لكان متصفا بما يتصف به الصادقون
وكذلك كذب الصادق يقال لو كان كذابا لكان متصفا بما يتصف به الكذاب فإنه قد عرف حال الأنبياء الصادقين والمتنبئين الكذابين فانتفاء لوازم الكذب دليل صدقه كما أن ثبوت ما يستلزم الصدق دليل صدقه وكذلك الكذاب يستدل على كذبه بما يستلزم كذبه وبانتفاء لوازم صدقه وهكذا سائر الأمور

فصل
ومما ينبغي أن يعرف ما قد نبهنا عليه غير مرة أن شهادة الكتب المتقدمة لمحمد إما شهادتها بنبوته وإما شهادتها بمثل ما أخبر به هو من الآيات البينات على نبوته ونبوة من قبله وهو حجة على أهل الكتاب وعلى غير أهل الكتاب من أصناف المشركين الملحدين كما قد ذكر الله هذا النوع من الآيات في غير موضع من كتابه
كما في قوله تعالى
أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل

وقوله
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك
وقوله قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب
وقوله
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
وقوله
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين
وقوله
إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا

وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية جاء الله من طور سينا وبعضهم يقول تجلى الله من طور سينا وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران
قال كثير من العلماء واللفظ لأبي محمد بن قتيبة ليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض لأن مجيء الله من طور سينا إنزاله التوراة على موسى من طور سينا كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على

المسيح وكان المسيح من ساعير أرض الخليل بقرية تدعى ناصرة وباسمها يسمى من اتبعه نصارى
وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد وجبال فاران هي جبال مكة قال وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة فإن ادعوا أنها غير مكة فليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم
قلنا أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران
وقلنا دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران والنبي الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح أو ليس استعلن وعلن

وهما بمعنى واحد وهو ما ظهر وانكشف
فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه
وقال ابن ظفر ساعير جبل بالشام منه ظهرت نبوة المسيح قلت وبجانب بيت لحم القرية التي ولد فيها المسيح قرية تسمى إلى اليوم ساعير ولها جبل تسمى ساعير
وفي التوراة أن نسل العيص كانوا سكانا بساعير وأمر الله

موسى أن لا يؤذيهم
وعلى هذا فيكون ذكر الجبال الثلاثة حقا جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه ومنه كان نزول أول الوحي على النبي وحوله من الجبال جبال كثيرة حتى قد قيل إن بمكى اثني عشر ألف جبل وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم وفيه كان ابتداء نزول القرآن
والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران ولا يمكن أحدا أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي فعلم أنه ليس بالمراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن وهذه الكتب نور الله وهداه
وقال في الأول جاء أو ظهر وفي الثاني أشرق وفي الثالث استعلن وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى

وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء ولهذا قال واستعلن من جبال فاران فإن النبي ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين كما يظهر نور الشمس إذا استعلت في مشارق الأرض ومغاربها ولهذا سماه الله سراجا منيرا وسمى الشمس سراجا وهاجا
والخلق يحتاجون إلى السراج المنير أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت وكما قيل قد ينضرون به بعض الأوقات وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت وفي كل مكان ليلا ونهارا سرا وعلانية
وقد قال النبي زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها

وهذه الأماكن الثلاث أقسم الله بها في القرآن في قوله تعالى
والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين
فأقسم بالتين والزيتون وهو الأرض المقدسة الذي ينبت فيها ذلك ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل وأقسم بطور سينين وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى وناداه من واديه الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة وأقسم بالبلد الأمين وهي مكة وهو البلد الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه وهو الذي جعله الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم خلقا وأمرا قدرا وشرعا فإن إبراهيم حرمه ودعا لأهله فقال
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا

ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون
وقال تعالى
سورة البقرة الآيتان 125 و 126
فأخبر الله تعالى أن إبراهيم دعا الله بأن يجعل مكة بلدا آمنا واستجاب الله دعاء إبراهيم وذكر ذلك في غير موضع وبها بنى إبراهيم البيت كما قال تعالى
سورة البقرة الآيات 127 129

وقال تعالى
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
وقال تعالى
لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف
وقال تعالى
وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون
وقال تعالى
أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون

فقوله تعالى
والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين
إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة التي ظهر فيها نوره وهداه وأنزل فيها الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله جاء الله من طور سينا وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران
ولما كان ما في التوراة خبرا عنها أخبر بها على ترتيبها الزماني فقدم الأسبق فالأسبق وأما القرآن فإنه أقسم بها تعظيما لشأنها وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وآياته وكتبه ورسله فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة فختمها بأعلى الدرجات فأقسم أولا بالتين والزيتنون ثم بطور سينا ثم بمكة أن أشرف الكتب

الثلاثة القرآن ثم التوراة ثم الإنجيل وكذلك الأنبياء فأقسم بها على وجه التدريج كما في قوله
والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا
فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة فأقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحاب الحاملات للمطر فإنها فوق الرياح ثم بالجاريات يسرا وقد قيل إنها السفن ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله
فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس فسماها جوري كما سمى الفلك جواري في قوله
ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام
والكواكب فوق السحاب

ثم قال
فالمقسمات أمرا
وهي الملائكة التي هي أعلا درجة من هذا كله
وما ذكر ابن قتيبة وغيره من علماء المسلمين من تربية إسماعيل في برية فاران فهكذا هو في التوراة قال فيها وغدا إبراهيم فأخذ الغلام وأخذ خبزا وسقاء من ماء ودفعه إلى هاجر وحمله عليها وقال لها اذهبي فانطلقت هاجر فضلت في برية سبع ونفد الماء الذي كان معها فطرحت الغلام تحت شجرة وجلست في مقابلته على مقدار رمية بسهم لئلا تبصر الغلام حين يموت ورفعت صوتها بالبكاء وسمع الله صوت الغلام فدعا ملك الله هاجر وقال لها ما لك يا هاجر لا تخشي فإن الله قد سمع صوت الغلام حيث هو فقومي فاحملي الغلام وشدي يدك به فإني جاعله لأمة عظيمة وفتح الله عينيها فبصرت بئر ماء فسقت الغلام وملأت سقاءها وكان الله مع الغلام فربى وسكن في برية فاران

فهذا خبر الله في التوراة أن إسماعيل ربى وسكن في برية فاران بعد أن كاد يموت من العطش وأن الله سقاه من بئر ماء وقد علم بالتواتر واتفاق الأمم أن إسماعيل إنما ربي بمكة وهو وأبوه إبراهيم بنيا البيت فعلم أن أرض مكة فاران

وهذه البشارة في التوراة لهاجر بإسماعيل وقول الله إني جاعله لأمة عظيمة ومعظمة جدا جدا وإن هاجر فتحت عينيها فرأت بئر ماء فدنت منها إلى آخر الكلام
وفي موضع آخر قال عن إسماعيل إنه يجعل يده فوق يدي الجميع
ومعلوم باتفاق الأمم والنقل أن إسماعيل تربى بأرض مكة

فعلم أنها فاران وأنه هو وإبراهيم بنيا البيت الذي ما زال محجوجا من عهد إبراهيم تحجه العرب وغير العرب من الأنبياء وغيرهم كما حج إليه موسى بن عمران ويونس بن متى كما في الصحيح من رواية ابن عباس أن رسول الله مر بوادي الأزرق فقال أي واد هذا فقالوا هذا وادي الأزرق فقال كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية واضعا إصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله عز و جل بالتلبية مارا بهذا الوادي قال ثم سرنا حتى أتينا على ثنية فقال أي ثنية هذه قالوا هرشى فقال كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف خطام ناقته ليف خلبة مارا بهذا الوادي ملبيا

وفي رواية أما موسى فرجل آدم جعد على جمل أحمر مخطوم بخلبة
ولما بعث الله محمدا أوجب حجه على كل أحد فحجت إليه الأمم من مشارق الأرض ومغاربها والبئر

الذي شرب منها إسماعيل وأمه هي بئر زمزم وحديثها مذكور في صحيح البخاري عن ابن عباس قال أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا ليعفي أثرها على سارة
ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة

يومئذ أحد وليس بها ماء ووضع عندها جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفا إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ليس فيه أنس ولا شيء فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له آلله أمرك بهذا قال نعم قالت إذا لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لايرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات فقال
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم حتى بلغ يشكرون
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء وعطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى انطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها

ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى من أحد فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات
قال ابن عباس قال النبي فلذلك سعى الناس بينهما فلما أشرفت المروة سمعت صوتا فقالت صه تريد نفسها فسمعت أيضا فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوطه وتقول بيدها هكذا تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس قال النبي يرحم الله أم

إسماعيل لو تركت زمزم لم تغرف من الماء لكان عينا معينا
قال فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك لا تخافوا الضيعة فإن ها هنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذه عن يمينه وشماله وذكر تمام الحديث

وكانت بئر زمزم قد عميت ثم أحياها عبد المطلب جد النبي وصارت السقاية في ولده في

العباس وأولاده يسقون منها ويسقون أيضا الشراب الحلو والشرب من ذلك سنة
والله تعالى قال في إسماعيل إني جاعله لأمة عظيمة ومعظمة جدا جدا وهذا التعظيم المؤكد ب جدا جدا يقتضي أن يكون تعظيما مبالغا فيه فلو قدر أن البيت الذي بناه لا يحج إليه أحد وأن ذريته ليس منهم نبي كما يقوله كثير من أهل الكتاب لم يكن هناك تعظيم مبالغا فيه جدا جدا إذ أكثر ما في ذلك أن يكون له ذرية ومجرد كون الرجل له نسل وعقب لا يعظم به إلا إذا كان في الذرية مؤمنون مطيعون لله
وكذلك قوله أجعله لأمة عظيمة إن كانت تلك الأمة كافرة لم تكن عظيمة بل كان يكون أبا لأمة كافرة فعلم أن هذه الأمة

العظيمة كانوا مؤمنين وهؤلاء يحجون البيت فعلم أن حج البيت مما يحبه الله ويأمر به وليس في أهل الكتاب إلا المسلمون فعلم أنهم الذين فعلوا ما يحبه الله ويرضاه وأنهم وسلفهم الذين كانوا يحجون البيت أمة أثنى الله عليها وشرفها وأن إسماعيل عظمه الله جدا جدا بما جعل في ذريته من الإيمان والنبوة وهذا هو كما امتن الله على نوح وإبراهيم بقوله
ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب
وقال في الخليل
وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب
فعلم بذلك أن في إسماعيل وذريته معظمون عند الله ممدوحون وأن إسماعيل معظم جدا جدا كما عظم الله نوحا وإبراهيم وإن كان إبراهيم أفضل من إسماعيل لكن المقصود أن هذا التعظيم له ولذريته إنما يكون إذا كانت ذريته معظمة على دين حق وهؤلاء يحجون إلى هذا البيت ولا يحج إليه بعد مجيء محمد غيرهم

ولهذا لما قال الله تعالى
ولله على الناس حج البيت
فقالوا لا نحج فقال
ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
وأيضا فهذا التعظيم المبالغ فيه الذي صار به ولد إسماعيل فوق الناس لم يظهر إلا بنبوة محمد فدل ذلك على أنها حق ومبشر به
فهذا نعت محمد لا نعت المسيح فهو الذي بعث بشريعة قوية ودق ملوك الأرض وأممها حتى امتلأت الأرض منه ومن أمته من مشارق الأرض ومغاربها وسلطانه دائم لم يقدر أحد أن يزيله كما زال ملك اليهود وزال ملك النصارى عن خيار الأرض وأوسطها
ومثل هذا بشارة أخرى بمحمد من كلام شمعون بما رضوه من ترجمتهم وهو جاء الله بالبينات من جبال فاران وامتلأت السماء والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته

فهذا تصريح بنبوة محمد الذي جاء بالنبوة من جبال فاران وامتلأت السماوات والأرض من تسبيحه وتسبيح امته
ولم يخرج أحد قط وامتلأت السماوات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته مما يسمى فاران سوى محمد والمسيح لم يكن في أرض فاران ألبتة وموسى إنما كلم من الطور والطور ليس من أرض فاران وإن كانت البرية التي بين الطور وأرض الحجاز من فاران فلم ينزل الله فيها التوراة وبشارات التوراة قد تقدمت بجبل الطور وبشارة الإنجيل بجبل ساعير
ومثل هذا كما نقل في نبوة حبقوق أنه قال جاء الله من التيمن وظهر القدس على جبال فاران وامتلأت الأرض من

تحميد أحمد وملك بيمينه رقاب الأمم وأنارت الأرض لنوره وحملت خيله في البحر
ومن ذلك ما في التوراة التي بأيديهم في السفر الأول منها وهي خمسة أسفار في الفصل التاسع في قصة هاجر لما فارقت سارة وخاطبها الملك فقال يا هاجر من أين أقبلت وإلى أين تريدين فلما شرحت له الحال قال ارجعي فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون وها أنت تحبلين وتلدين ابنا نسميه إسماعيل لأن الله قد سمع تذللك وخضوعك وولدك يكون وحشي الناس ويكون يده فوق الجميع ويد الكل به ويكون على تخوم جميع إخوته

قال المستخرجون لهذه البشارة معلوم أن يد بني إسماعيل قبل مبعث محمد لم تكن فوق أيدي بني إسحاق بل كان في بني إسحاق النبوة والكتاب وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد ثم خرجوا منها لما بعث موسى وكانوا مع موسى أعز أهل الأرض لم يكن لأحد عليهم يد ثم مع يوشع بعده إلى زمن داود وملك سليمان الذي لم يؤت أحد مثله وسلط عليهم بعد ذلك بخت نصر فلم يكن لبني إسماعيل عليهم يد ثم بعث المسيح وخرب بيت المقدس الخراب الثاني حيث أفسدوا في الأرض مرتين ومن حينئذ زال ملكهم وقطعهم الله في الأرض أمما وكانوا تحت حكم الروم والفرس لم يكن للعرب عليهم حكم أكثر من غيرهم فلم يكن لولد إسماعيل سلطان على أحد من الأمم لا أهل الكتاب ولا الأميين فلم يكن يد ولد إسماعيل فوق الجميع حتى بعث الله محمدا الذي دعا به إبراهيم وإسماعيل حيث قالا
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم

فلما بعث صار يد ولد إسماعيل فوق الجميع فلم يكن في الأرض سلطان أعز من سلطانهم وقهروا فارس والروم وغيرهم من الأمم وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والمشركين والصابئين فظهر بذلك تحقيق قوله في التوراة وتكون يده فوق الجميع ويد الكل به وهذا أمر مستمر إلى آخر الدهر
فإن قيل هذه بشارة بملكه وظهوره قيل الملك ملكان ملك ليس فيه دعوى نبوة وهذا لم يكن لبني إسماعيل على الجميع وملك صدر عن دعوى نبوة فإن كان مدعي النبوة كاذبا
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلي ولم يوح إله شيء
وهذا من شر الناس وأكذبهم وأظلمهم وأفجرهم وملكه شر من ملك الظالم الذي لم يدع نبوة ك بختنصر وسنجاريب
ومعلوم أن الإخبار بهذه لا يكون بشارة ولا تفرح سارة وإبراهيم بهذا كما لو قيل يكون جبارا طاغيا يقهر الناس على طاعته ويقتلهم ويسبي حريمهم ويأخذ أموالهم بالباطل فإن الإخبار بهذا لا يكون بشارة ولا يسر المخبر بذلك وإنما يكون بشارة تسره إذا كان ذلك يعدل وكان علوه محمودا لا إثم فيه وذلك في مدعي النبوة لا يكون إلا وهو صادق لا كاذب

فصل
وقال داود في الزبور في قوله سبحوا الله تسبيحا جديدا وليفرح بالخالق من اصطفى الله له أمته وأعطاه النصر وسدد الصالحين منهم بالكرامة يسبحونه على مضاجعهم ويكبرون الله بأصوات مرتفعة بأيديهم سيوف ذات شفرتين لينتقم بهم من الأمم الذين لا يعبدونه
وهذه الصفات إنما تنطبق على صفات محمد وأمته فهم الذين يكبرون الله بأصوات مرتفعة في أذانهم

للصلوات الخمس وعلى الأماكن العالية كما قال جابر بن عبد الله كنا مع رسول الله إذا علونا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك رواه أبو داود وغيره وفي الصحيحين عن ابن عمر قال كان رسول الله إذا قفل من الجيوش أو السرايا أو الحج أو العمرة إذا أوفى على ثنية أو فدفد كبر ثلاثا ثم قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده

وفي صحيح البخاري عن أنس قال صلى رسول الله ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بعمرة وحج وذكر الحديث
وعن أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول الله إني أريد أن أسافر فأوصني قال عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف فلما أن ولى الرجل قال اللهم اطو له البعد وهون عليه السفر رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي

وروى ابن ماجه منه أوصيك بتقوى الله والتكبير على كل شرف وروى أبو داود وغيره بإسناد صحيح عن ابن عمر عن النبي قال كان النبي وجيوشه إذا علوا شرفا كبروا وإذا هبطوا سبحوا
وهم يكبرون الله بأصوات عالية مرتفعة في أعيادهم عيد الفطر وعيد النحر في الصلاة والخطبة وفي ذهابهم إلى الصلاة وفي

أيام منى الحجاج وسائر أهل الأمصار يكبرون عقيب الصلوات فإمام الصلاة يسن له الجهر بالتكبير
وذكر البخاري عن عمر بن الخطاب أنه كان يكبر بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون بتكبيره فيسمعهم أهل الأسواق فيكبرون حتى ترتج منى تكبيرا
وكان ابن عمر وابن عباس يخرجان إلى السوق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما ويكبرون على قرابينهم وهديهم وضحاياهم كما كان نبيهم يقول عند الذبح بسم الله والله

أكبر ويكبرون إذا رموا الجمار ويكبرون على الصفا والمروة ويكبرون في الطواف عند محاذاة الركن وكل هذا يجهرون فيه بالتكبير غير ما يسرونه
قال تعالى لما ذكر صوم رمضان الذي يقيمون له عيد الفطر قال تعالى
ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون
ولما ذكر الهدي الذي يقرب في عيد النحر وهو يوم الحج الأكبر قال

سورة الحج الآيتان 36 و 37
والنصارى يسمون عيد المسلمين عيد الله أكبر لظهور التكبير فيه وليس هذا لأحد من الأمم أهل الكتاب ولا غيرهم غير المسلمين وإنما كان موسى يجمع بني إسرائيل بالبوق والنصارى لهم الناقوس

وأما تكبير الله بأصوات مرتفعة فإنما هو شعائر المسلمين فإن الأذان شعار المسلمين وبهذا يظهر تقصير من فسر ذلك بتلبية الحجاج
وفي الصحيحين عن أنس عن النبي أنه كان إذا أراد الإغارة إن سمع أذانا أو رأى مسجدا وإلا أغار
وفي لفظ مسلم كان يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار
فسمع رجلا يقول الله أكبر الله أكبر فقال رسول الله على الفطرة ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله فقال خرجت من النار
وكذلك قوله بأيديهم سيوف ذات شفرتين وهي السيوف العربية التي بها فتح الصحابة وأتباعهم البلاد وقوله يسبحونه على مضاجعهم بيان لنعت المؤمنين الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى

جنوبهم ويصلي أحدهم قائما فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى جنب فلا يتركون ذكر الله في حال بل يذكرونه حتى في هذه الحال ويصلون في البيوت على المضاجع بخلاف أهل الكتاب
والصلاة أعظم التسبيح كما في قوله تعالى
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون
وقوله
وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها
وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال كنا جلوسا عند رسول الله إذ نظر القمر ليلة البدر فقال إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن

استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا ثم قرأ قوله تعالى
وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى
وهذا معنى قول داود سبحوا الله تسبيحا جديدا والتسابيح التي شرعها الله جديدا كالصلوات الخمس التي شرعها للمسلمين جديدا ولما أقامها جبريل للنبي قال هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك
فكان الأنبياء يسبحون في هذه الأوقات كما يدل التسبيح المقدم والتسبيح الجديد كما يدل عليه سائر الكلام ولا يمكن أن يكون ذلك للنصارى لأنهم لا يكبرون الله بأصوات مرتفعة ولا بأيديهم سيوف ذات شفرتين لينتقم الله بهم من الأمم بل أخبارهم تدل على أنهم كانوا مغلوبين مع الأمم لم يكونوا يجاهدونهم بالسيف بل

النصارى قد تعيب من يقاتل الكفار بالسيف
ومنهم من يجعل هذا من معايب محمد وأمته ويغفلون ما عندهم من أن الله أمر موسى بقتال الكفار فقاتلهم بنو إسرائيل بأمره وقاتلهم يوشع وداود وغيرهما من الأنبياء وإبراهيم الخليل قاتل لدفع الظلم عن أصحابه

فصل
وقال داود في مزاميره وهي الزبور من أجل هذا بارك الله عليه إلى الأبد فتقلد أيها الجبار بالسيف لأن البهاء لوجهك والحمد الغالب عليك اركب كلمة الحق وسيمه التأله فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك وسهامك مسنونة والأمم يخرون تحتك
قالوا فليس متقلد السيف من الأنبياء بعد داود سوى محمد وهو الذي خرت الأمم تحته وقرنت شرائعه بالهيبة كما قال نصرت بالرعب مسيرة

شهر وقد أخبر داود أنه له ناموسا وشرائع وخاطبه بلفظ الجبار إشارة إلى قوته وقهره لأعداء الله بخلاف المستضعف المقهور
وهو نبي الرحمة ونبي الملحمة وأمته أشداء على الكفار رحماء بينهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين بخلاف من كان ذليلا للطائفتين من النصارى المقهورين مع الكفار أو كان عزيزا على المؤمنين من اليهود بل كان مستكبرا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وقتلوا فريقا

فصل
قالوا وقال داود في مزمور له إن ربنا عظيم محمود جدا وفي ترجمته إلهنا قدوس ومحمد قد عم الأرض كلها فرحا قالوا فقد نص داود على اسم محمد وبلده وسماها قرية الله وأخبر أن كلمته تعم الأرض كلها
قلت قد تقدم الحديث الصحيح لما قيل لعبد الله بن عمرو وروي أنه عبد الله بن سلام أخبرنا ببعض صفة رسول الله

في التوراة فقال إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن وذكر صفته موجودة في نبوة أشعياء وليست موجودة في نفس كتاب موسى
وتقدم أن لفظ التوراة يقصدون به جنس الكتب التي عند أهل الكتاب لا يخصون بذلك كتاب موسى
وإذا كان هذا معروفا عندهم في التوراة والإنجيل يراد بالتوراة جنس الكتب التي عند أهل الكتاب يتناول ذلك كتاب موسى وزبور داود وصحف سائر الأنبياء سوى الإنجيل فإنه ليس عند أهل الكتاب وإنما هو عند النصارى خاصة
واما سائر كتب الأنبياء فالأمتان تقر بها ويؤيد ذلك أن الله

كثيرا ما يقرن في القرآن بين التوراة والإنجيل وبين القرآن وإنما يذكر الزبور مفردا كقوله تعالى
آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان
وقوله
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن
وقوله تعالى
الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
وأهل الكتاب يجدونه مكتوبا في الكتب التي بأيديهم وهو في كثير منها أصرح مما هو في كتاب موسى خاصة
فإذا أريد بالتوراة جنس الكتب فلا يستريب عاقل في كثرة ذكره ونعته ونعت أمته في تلك الكتب ومعلوم أن الله أراد بذلك الاستشهاد

بوجوده في تلك الكتب وإقامة الحجة بذكره فيها فإذا كان ذكره في غير كتاب موسى أكبر وأظهر عندهم كان الاستدلال بذلك أولى من تخصيص الاستدلال بكتاب موسى فإذا حمل لفظ التوراة في هذا على جنس الكتب كما هو موجود في لغة من تكلم بذلك من الصحابة والتابعين كان هذا في غاية البيان والمدح للقرآن والكتب المتقدمة وتصديق بعضها بعضا
وقد أمرنا أن نؤمن بما أوتي النبيون مطلقا كما قال تعالى
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
وقال ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين
والزبور ذكره مفردا في موضعين من القرآن في قوله
سورة النساء الآية 163

وقال تعالى
ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا
فذكره مفردا
وذكر كتاب موسى بهذه الإضافة لا بلفظ التوراة في غير موضع فقال
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده
وقال
قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين
إلى قوله

ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين
وقوله تعالى
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس
وقال تعالى
ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن
وإذا كان لفظ التوراة يتناول الكتب الذي عند أهل الكتابين جميعا والزبور وغيره داخل في هذا الاسم وكان ظهور اسمه ونعته في التوراة ووجودهم ذلك فيما عندهم وتكرره في غاية القوة وكان معرفتهم لذلك كما يعرفون أبناءهم واضحا بينا إن قدر هذه الكتب التي يعترف بها عامتهم لم يكتم منها شيء بل هي باقية كما كانت

فصل
وقالوا قال داود في مزموره لترتاح البوادي وقراها ولتصر أرض قيذار مروجا وليسبح سكان الكهوف ويهتفوا من قلل الجبال بحمد الرب ويذيعوا تسابيحه في الجزائر
فلمن البوادي من الأمم سوى أمة محمد ومن قيذار سوى ابن إسماعيل جد رسول الله ومن سكان الكهوف وتلك الجبال سوى العرب

فصل
قال داود في مزمور له ويحوز من البحر إلى البحر ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض ويخر أهل الجزائر بين يديه ويلحس أعداؤه التراب ويسجد له ملوك الفرس وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد ويخلص البائس المضطهد ممن هو أقوى منه وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له ويرأف بالمساكين والضعفاء ويصلى عليه ويبارك في كل حين
وهذه الصفات منطبقة على محمد وأمته لا على المسيح فإنه

حاز من البحر الرومي إلى البحر الفارسي ومن لدن الأنهار بجيحون وسيحون إلى منقطع الأرض بالمغرب كما قال زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها
وهو يصلى عليه ويبارك في كل حين في كل صلاة في الصلوات الخمس وغيرها يقول كل من أمته اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد فيصلي عليه ويبارك

ومنه خرت أهل الجزائر بين يديه أهل جزيرة العرب وأهل الجزيرة التي بين الفرات ودجلة وأهل جزيرة قبرص وأهل جزيرة الأندلس
وخضعت له ملوك الفرس فلم يبق منهم إلا من أسلم أو أدى الجزية عن يد وهم صاغرون بخلاف ملوك الروم فإن فيهم من لم يسلم ويؤدي الجزية فلهذا خص ملوك فارس ودانت له الأمم التي تعرفه وتعرف أمته كانت إما مؤمنة به أو مسلمة له منافقة أو مهادنة مصالحة أو خائفة منهم وأنقذ الضعفاء من الجبارين
وهذا بخلاف المسيح فإنه لم يتمكن هذا التمكن في حياته ولا من اتبعه بعد موته تمكنوا هذا التمكن ولا حازوا ما ذكر ولا صلي عليه وبورك عليه في اليوم والليلة فإن القوم يدعون إلآهيته

فصل
وقالوا في نبوة أشعياء قال أشعياء قيل لي قم نظارا فانظر ماذا ترى فقلت أرى راكبين مقبلين أحدهما على حمار والآخر على جمل يقول أحدهما لصاحبه سقطت بابل وأصحابها للمنحر
قالوا فراكب الحمار هو المسيح وراكب الجمل هو محمد وهو أشهر بركوب الجمل من المسيح بركوب الحمار
وبمحمد سقطت أصنام بابل

فصل
ومما ينبغي أن يعرف أن الكتب المتقدمة بشرت بالمسيح كما بشرت بمحمد وكذلك أنذرت بالمسيح الدجال
والأمم الثلاثة المسلمون واليهود والنصارى متفقون على أن الأنبياء أنذرت بالمسيح الدجال وحذرت منه كما قال النبي في الحديث الصحيح ما من نبي إلا وقد أنذر أمته المسيح الدجال حتى نوح أنذره أمته وسأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لأمته إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه ك ف ر يقرأه كل مؤمن قارىء وغير قارىء
والأمم الثلاثة متفقون على أن الأنبياء بشروا بمسيح من ولد داود فالأمم الثلاثة متفقون علىالإخبار بمسيح هدى من نسل داود

ومسيح ضلالة وهم متفقون على أن مسيح الضلالة لم يأت بعد ومتفقون على أن مسيح الهدى سيأتي أيضا
ثم المسلمون والنصارى متفقون على أن مسيح الهدى هو عيسى بن مريم واليهود ينكون أن يكون هو عيسى بن مريم مع إقرارهم بأنه من ولد داود
قالوا لأن المسيح المبشر به تؤمن به الأمم كلها وزعموا أن المسيح بن مريم إنما بعث بدين النصارى وهو دين ظاهر البطلان
والنصارى تقر بأن المسيح مسيح الهدى بعث ومقرون بأنه سيأتي مرة ثانية لكن يزعمون أن هذا الإتيان الثاني هو يوم القيامة ليجزي الناس بأعمالهم وهو في زعمهم هو الله والله الذي هو اللاهوت يأتي في ناسوته كما زعموا أنه جاء قبل ذلك
وأما المسلمون فآمنوا بما أخبرت به الأنبياء على وجهه وهو

موافق لما أخبر به خاتم الرسل حيث قال في الحديث الصحيح يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية
وأخبر في الحديث الصحيح أنه إذا خرج مسيح الضلالة الأعور الكذاب نزل عيسى بن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا يديه على منكبي ملكين فإذا رآه الدجال انماع كما ينماع الملح في الماء فيدركه فيقتله بالحربة عند باب لد الشرقي على بضع عشرة خطوات منه وهذا تفسير قوله

تعالى
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته
أي يؤمن بالمسيح قبل أن يموت حين نزوله إلى الأرض وحينئذ لا يبقى يهودي ولا نصراني ولايبقى إلا دين الإسلام وهذا موجود في نعته عند أهل الكتاب
ولكن النصارى ظنوا مجيئه بعد قيام القيامة وأنه هو الله فغلطوا في ذلك كما غلطوا في مجيئه الأول حيث ظنوا أنه هو الله واليهود أنكروا مجيئه الأول وظنوا أن الذي بشر به ليس إياه وليس هو الذي يأتي آخرا وصاروا ينتظرون غيره وإنما هو بعث إليهم أولا فكذبوه وسيأتيهم ثانيا فيؤمن به كل من على وجه الأرض من يهودي ونصراني إلا من قتل أو مات ويظهر كذبا هؤلاء الذين كذبوه ورموا أمه بالفرية وقالوا إنه ولد زنا وهؤلاء الذين غلوا فيه وقالوا إنه الله
ولما كان المسيح عليه السلام نازلا في أمة محمد صار بينه وبين محمد من الاتصال ما ليس بينه وبين غير محمد ولهذا قال النبي في الحديث الصحيح إن أولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه

نبي وروي كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها وهذا مما يظهر به مناسبة اقترانهما فيما رواه أشعيا حيث قال راكب الحمار وراكب الجمل

فصل
قالوا وقال أشعياء النبي عليه السلام متنبيا على مكة شرفها الله ارفعي إلى ما حولك بصرك فستبتهجين وتفرحين من أجل أن يصير إليك ذخائر البحر وتحج إليك عساكر الأمم حتى يعم بك قطر الإبل الموبلة وتضيق أرضك عن القطرات التي تجتمع إليك وتساق إليك كباش مدين ويأتيك أهل سبأ ويسير إليك أغنام فاران ويخدمك رجال مأرب يريد سدنة الكعبة وهم أولاد مأرب بن إسماعيل

قالوا فهذه الصفات كلها حصلت بمكة فحملت إليها ذخائر البحرين وحج إليها عساكر الأمم وسيقت إليها أغنام فاران الهدايا والأضاحي وفاران هي البرية الواسعة التي فيها مكة وضاقت الأرض عن قطرات الإبل الموبلة الحاملة للناس وأزوادهم إليها وأتاها أهل سبأ وهم أهل اليمن

فصل
قالوا وقال أشعياء النبي معلنا باسم رسول الله إني جعلت أمرك يا محمد يا قدوس الرب اسمك موجود من الأبد قالوا فهل بقي بعد ذلك لزائغ فقال أو لطاعن مجال وقول أشعياء إن اسم محمد موجود من الأبد موافق لقول داود الذي حكيناه أن اسمه موجود قبل الشمس
وقوله يا قدوس الرب يعني يا من طهره الرب وخلصه من بشريته واصطفاه لنفسه

فصل
قالوا وقال أشعياء وشهد لهذه الأمة بالصلاح والديانة سأرفع علما لأهل الأرض بعيدا فيصفر لهم من أقاصي الأرض فيأتون سراعا
والنداء هو ما جاء به النبي من التلبية في الحج وهم الذين جعلوا لله الكرامة فوحدوه وعبدوه وأفردوه بالربوبية وكسروا الأصنام وعطلوا الأوثان والعلم المرفوع هو النبوة وصفيره دعاؤهم إلى بيته ومشاعره فيأتونه سامعين مطيعين

فصل
قالوا وقال أشعياء النبي والمراد مكة شرفها الله تعالى سيري واهتزي أيتها العاقر التي لم تلد وانطقي بالتسبيح وافرح إذ لم تحبلي فإن أهلك يكونون أكثر من أهلي يعني بأهله بيت المقدس ويعني بالعاقر مكة شرفها الله لأنها لم تلد قبل نبينا عليه الصلاة و السلام ولا يجوز أن يريد بالعاقر بيت المقدس لأنه بيت للأنبياء ومعدن الوحي فلم تزل تلك البقعة ولادة

فصل
قالوا وقال أشعياء النبي ونص على خاتم النبوة ولد لنا غلام يكون عجبا وبشرا والشامة على كتفيه أركون السلام إله جبار وسلطانه سلطان السلام وهو ابن عالمه يجلس على كرسي داود
قالوا الأركون هو العظيم بلغة الإنجيل والأراكنة المعظمون ولما أبرأ المسيح مجنونا من جنونه قال اليهود إن هذا لا يخرج الشياطين من الآدميين إلا بأركون الشياطين يعنون عظيمهم وقال المسيح في الإنجيل إن أركون العالم يدان يريد إما إبليس

أو الشرير العظيم الشر من الآدميين وسماه إلآها على نحو قول التوراة إن الله جعل موسى إلآها لفرعون أي حاكما عليه ومتصرفا فيه وعلى نحو قول داود للعظماء من قومه إنكم آلهة
فقد شهد أشعياء بصحة نبوة محمد ووصفه بأخص علاماته وأوضحها وهي شامته فلعمري لم تكن الشامة لسليمان ولا للمسيح وقد وصفه بالجلوس على كرسي داود يعني أنه سيرث بني إسرائيل نبوتهم وملكهم ويبتزهم رياستهم

فصل
قالوا وقال أشعياء في وصف أمة محمد ستمتلىء البادية والمدن من أولاد قيدار يسبحون ومن رؤوس الجبال ينادون هم الذين يجعلون لله الكرامة ويسبحونه في البر والبحر وقيدار هو ابن إسماعيل باتفاق الناس وربيعة ومضر من ولده ومحمد من مضر
وهذا الامتلاء والتسبيح لم يحصل لهم إلا بمبعث محمد

فصل
قالوا وقال أشعياء والمراد مكة أنا رسمتك على كفي وسيأتيك أولادك سراعا ويخرج عنك من أراد أن يخيفك ويخونك فارفعي بصرك إلى ما حولك فإنهم سيأتونك ويجتمعون إليك فتسمي باسمي إني أنا الحي لتلبسي الحلل وتزيني بالإكليل مثل العروس ولتضيقن خراباتك من كثرة سكانك والداعين فيك وليهابن كل من يناوؤك وليكثرن أولادك حتى تقولي من رزقني هؤلاء كلهم وأنا وحيدة فريدة يرون رقوب فمن ربى لي هؤلاء ومن تكفل لي بهم
قالوا وذلك إيضاح من أشعياء بشأن الكعبة فهي التي ألبسها الله

الحلل الديباج الفاخرة ووكل بخدمتها الخلفاء والملوك ومكة هي التي ربا الله لها الأولاد من حجاجها والقاطنين بها وذلك أن مكة هي التي أخرج عنها كل من أن أراد أن يخيفها ويخربها فلم تزل عزيزة مكرمة محرمة لم يهنها أحد من البشر قط بل أصحاب الفيل لما قصدوها عذبهم الله العذاب المشهور ولم تزل عامرة محجوجة من لدن إبراهيم الخليل
بخلاف بيت المقدس فإنه قد أخرب مرة بعد مرة وخلا من السكان واستولى العدو عليه وعلى أهله وكذلك إخباره بإهانة كل من يناويها هو للكعبة دون بيت المقدس قال تعالى
ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم
والحجاج بن يوسف كان معظما للكعبة

لم يرمها بمنجنيق وإنما قصد ابن الزبير خاصة وأما كثرة أولادها وهم الذين يحجون إليها ويستقبلونها في صلاتهم فهم أضعاف أضعاف أولاد بيت المقدس

فصل
قالوا وقال أشعياء حاكيا عن الله تعالى أشكر حبي وابني أحمد فسماه الله حبيبا وسماه ابنا وداود ابنا غير أن الله خصه عليهم بمزية فقال حبي ابني أشكره فتعبد أشعياء بشكر محمد ووظف عليه وعلى قومه شكره وإجلاله ليتبين قدره ومنزلته عنده وتلك منقبة لم يؤتها غيره من الرسل
وقال أشعياء إنما سمعنا من أطراف الأرض صوت محمد وهذا إفصاح من أشعياء باسم رسول الله فليرنا أهل الكتاب نبيا نصت الأنبياء على اسمه صريحا سوى رسول الله

فصل
قالوا وقال حبقوق وسمي محمد رسول الله صريحا مرتين في نبوته إن الله جاء من التيمن والقدوس من جبل فاران لقد أضاءت السماء من بهاء محمد وامتلأت الأرض من حمده شعاع منظره مثل النور يحوط بلاده بعزه تسير المنايا أمامه وتصحب سباع الطير أجناده قام فمسح الأرض فتضعضعت له الجبال القديمة وانخفضت الروابي وتزعزعت ستور أهل مدين

ثم قال زجرك في الأنهار وإقدام صوامك في البحار ركبت الخيول وعلوت مراكب الإيفاد وستنزع في قسيك أعراقا ونزعا وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء ولقد رأتك الجبال فارتاعت وانحرف عنك شؤبوب السيل وتغيرت المهاوي تغيرا ورعبا رفعت أيديها وجلا وخوفا وسارت العساكر في بريق سهامك ولمعان نيازكك وتدوخ الأرض غضبا وتدوس الأمم زجرا لأنك ظهرت بخلاص أمتك

وإنقاذ تراث آبائك
قالوا وهذا تصريح بمحمد ومن رام صرف نبوة حبقوق هذه عن محمد فقد رام ستر النهار وحبس الأنهار وأنى يقدر على ذلك وقد سماه باسمه مرتين وأخبر بقوة أمته وسير المنايا أمامهم واتباع جوارح الطير آثارهم وهذه النبوة لا تليق إلا بمحمد ولا تصلح إلا له ولا تدل إلا عليه فمن حاول صرفها عنه فقد حاول ممتنعا وقد ذكر فيها مجيء نور الله من التيمن وهي ناحية مكة والحجاز فإن أنبياء بني إسرائيل كانوا يكونون من ناحية الشام ومحمد جاء من ناحية

اليمن وجبال فاران هي جبال مكة كما قد تقدم بيان ذلك وهذا مما لا يمكن النزاع فيه
وأما امتلاء السماء من بهاء أحمد بأنوار الإيمان والقرآن التي ظهرت منه ومن أمته وامتلاء الأرض من حمده وحمد أمته في صلواتهم فأمر ظاهر فإن أمته هم الحمادون لا بد لهم من حمد الله في كل صلاة وخطبة ولا بد لكل مصل في كل ركعة من أن يقول الحمد لله رب العالمين مالك يوم الدين
فإذا قال
الحمد لله رب العالمين
قال الله حمدني عبدي
فإذا قال
الرحمن الرحيم

قال أثنى علي عبدي
فإذا قال
مالك يوم الدين
قال مجدني عبدي
فهم يفتحون القيام في الصلاة بالتحميد ويختمونها بالتحميد وإذا رفعوا رؤوسهم من الركوع يقول إمامهم سمع الله لمن حمده ويقولون جميعا ربنا ولك الحمد ويختمون صلاتهم بتحميد يجعل التحيات له والصلوات والطيبات وأنواع تحميدهم لله مما يطول وصفه

فصل
قالوا وقال حزقيال وهو يهدد اليهود ويصف لهم أمة محمد وإن الله مظهرهم عليكم وباعث فيكم نبيا ومنزل عليهم كتابا ومملكهم رباقكم فيقهرونكم ويذلونكم بالحق ويخرج رجال بني قيدار في جماعات الشعوب معهم ملائكة على خيل بيض متسلحين محيطون بكم وتكون عاقبتكم إلى النار نعوذ بالله من النار
وذلك أن رجال بني قيدار هم ربيعة ومضر أبناء عدنان وهما جميعا من ولد قيدار بن إسماعيل والعرب كلهم من

بني عدنان وبني قحطان فعدنان أبو ربيعة ومضر وأنمار من ولد إسماعيل باتفاق الناس وأما قحطان فقيل هم من ولد إسماعيل وقيل هم من ولد هود ومضر ولد إلياس بن مضر وقريش هم من ولد إلياس بن مضر وهوازن مثل عقيل وكلاب وسعد بن بكر وبنو نمير وثقيف وغيرهم هم من ولد إلياس بن مضر
وهؤلاء انتشروا في الأرض فاستولوا على أرض الشام والجزيرة ومصر والعراق وغيرها حتى إنهم لما سكنوا الجزيرة بين الفرات

ودجلة سكنت مضر في حران وما قرب منها فسميت ديار مضر وسكنت ربيعة في الموصل وما قرب منها فسميت ديار ربيعة

فصل
وقال دانيال عليه السلام وذكر محمد رسول الله باسمه فقال ستنزع في قسيك إغراقا وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء
فهذا تصريح بغير تعريض

وتصحيح ليس فيه تمريض
فإن نازع في ذلك منازع فليوجدنا آخر اسمه محمد له سهام تنزع وأمر مطاع لا يدفع
وقال دانيال النبي أيضا حين سأله بخت نصر عن تأويل رؤيا رآها ثم نسيها رأيت أيها الملك صنما عظيما قائما بين يديك رأسه من ذهب وساعداه من الفضة وبطنه وفخذاه من النحاس وساقاه من الحديد ورجلاه من الخزف ورأيت حجرا لم تقطعه يد إنسان قد جاء وصك ذلك الصنم فتفتت وتلاشى وعاد رفاتا ثم نسفته الرياح فذهب وتحول ذلك الحجر فصار جبلا عظيما حتى ملأ الأرض كلها فهذا ما رأيت أيها الملك
فقال بخت نصر صدق فما تأويلها
قال دنيال أنت الرأس الذي رأيته من الذهب ويقوم بعدك ولداك اللذان رأيت من الفضة وهما دونك ويقوم بعدهما مملكة أخرى هي دونهما

وهي شبه النحاس والمملكة الرابعة تكون قوية مثل الحديد الذي يدق كل شيء فأما الرجلان التي رأيت من خزف فمملكة ضعيفة وكلمتها مشتتة وأما الحجر الذي رأيت قد صك ذلك الصنم العظيم ففتته فهو نبي يقيمه الله إله السماء والأرض من قبيلة بشريعة قوية فيدق جميع ملوك الأرض وأممها حتى تمتلىء منه الأرض ومن أمته ويدوم سلطان ذلك النبي إلى انقضاء الدنيا فهذا تعبير عن رؤياك أيها الملك
فهذا نعت محمد لا نعت المسيح فهو الذي بعث بشريعة قوية ودق جميع ملوك الأرض وأممها حتى امتلأت الأرض منه ومن أمته في مشارق الأرض ومغاربها وسلطانه دائم لم يقدر أحد أن يزيله كما زال ملك اليهود وزال ملك النصارى عن خيار الأرض وأوسطها

فصل
وقال دانيال النبي أيضا سألت الله وتضرعت إليه أن يبين لي ما يكون من بني إسرائيل وهل يتوب عليهم ويرد إليهم ملكهم ويبعث فيهم الأنبياء أو يجعل ذلك في غيرهم قال دانيال فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه فقال السلام عليك يا دانيال إن الله تعالى يقول إن بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا علي وعبدوا من دوني آلهة أخرى وصاروا من بعد العلم إلى الجهل ومن بعد الصدق إلى الكذب فسلطت عليهم بخت نصر فقتل رجالهم وسبى ذراريهم وهدم بيت مقدسهم وحرق كتبهم وكذلك فعل من بعده بهم وأنا غير راض عنهم ولا مقيلهم عثراتهم فلا يزالون من سخطي حتى أبعث مسيحي ابن العذراء البتول فأختم

عليهم عند ذلك باللعن والسخط فلا يزالون ملعونين عليهم الذلة والمسكنة حتى أبعث نبي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر وأرسلت إليها ملاكي فبشرها فأوحي إلى ذلك النبي واعلمه الأسماء وأزينه بالتقوى وأجعل البر شعاره والتقوى ضميره والصدق قوله والوفاء طبيعته والقصد سيرته والرشد سنته أخصه بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب وناسخ لبعض ما فيها أسري به إلي وأرقيه من سماء إلى سماء حتى يعلو فأدنيه وأسلم عليه وأوحي إليه ثم أرده إلى عبادي بالسرور والغبطة حافظا لما استودع صادعا بما أمر يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق رؤوف بمن والاه رحيم بمن آمن به خشن على من عاداه فيدعو قومه إلى

توحيدي وعبادتي ويخبرهم بما رأى من آياتي فيكذبونه ويؤذونه
قال الناقل لهذه البشارة قالوا ثم سرد دانيال قصة رسول الله حرفا حرفا مما أملاه عليه الملك حتى وصل آخر أيام أمته بالنفخة وانقضاء الدنيا ونبوته كثيرة وهي الآن في أيدي النصارى واليهود يقرأونها
ومهما وصفنا مما ذكره الله من وصف هذه الأمة ونبيها واتصال مملكتهم بالقيامة قلت فهذه نبوة دانيال فيها البشارة بالمسيح والبشارة بمحمد وفيها من وصف محمد

وأمته بالتفصيل ما يطول وصفه وقد قرأها المسلمون لما فتحوا العراق كما ذكر ذلك العلماء منهم أبو العالية ذكر أنهم لما فتحوا تستر وجدوا دانيال ميتا ووجدوا عنده مصحفا
قال أبو العالية أنا قرأت ذلك المصحف وفيه صفتكم ولحون كلامكم وكان أهل الناحية إذا أجدبوا كشفوا عن قبره فيسقون فكتب أبو موسى في ذلك إلى عمر بن الخطاب

فكتب إليه عمر أن احفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا وادفنه بالليل في واحد منها لئلا يفتتن الناس به

فصل
قالوا وقال يوحنا الإنجيلي قال يسوع المسيح في الفصل الخامس عشر من إنجيله أن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء

وقال يوحنا التلميذ أيضا عن المسيح أنه قال لتلاميذه إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا لآخر يثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لمم يطق العالم أن يقتلوه لأنهم لم يعرفوه ولست أدعكم أيتاما لأني سآتيكم عن قريب
وقال يوحنا قال المسيح من يحبني يحفظ كلمتي وأبي يحبه وإليه يأتي وعنده يتخذ المنزل كلمتكم بهذا لأني عندكم مقيم والفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلت لكم أستودعتكم سلامي لا تقلق قلوبكم ولا تجزع فإني منطلق وعائد إليكم لو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمضيي إلى الأب فإن أنتم ثبتم في كلامي وثبت كلامي فيكم كان لكم كل ما تريدون وبهذا يمجد أبي
وقال أيضا إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله روح الحق الذي من أبي هو يشهد لي قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به ولا تشكوا فيه
وقال أيضا إن خيرا لكم أن أنطلق لأني إن لم أذهب

لم يأتكم الفارقليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم فهو يوبخ العالم على الخطيئة وإن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب
وقال يوحنا الحواري قال المسيح إن أركون العالم سيأتي وليس لي شيء
وقال متى التلميذ قال المسيح ألم يقرأوا أن الحجر الذي أرذله البناءون صار رأسا للزاوية من عند الله كان هذا وهو عجيب في أعيننا ومن أجل ذلك أقول لكم إن ملكوت الله سيؤخذ منكم ويدفع إلى أمة أخرى تأكل ثمرها ومن سقط على هذا الحجر

ينشرح وكل من سقط هو عليه يمحقه
وقال يوحنا التلميذ في كتاب رسائل التلاميذ المسمى بفراكسيس يا أحبابي إياكم أن تؤمنوا بكل روح لكن ميزوا الأرواح التي من عند الله من غيرها واعلموا أن كل روح يؤمن بأن يسوع المسيح قد جاء فكان جسدانيا فهي من عند الله وكل روح لا تؤمن بأن يسوع المسيح جاء وكان جسدانيا فليست من عند الله بل من المسيح الكذاب الذي سمعتم به وهو الآن في العالم
وقال شمعون الصفا رئيس الحواريين في كتاب فركسيس أنه قد حان أن يبتدىء الحكم من بيت الله ابتداء
قلت وهذا اللفظ لفظ الفارقليط في لغتهم ذكروا فيه أقوالا قيل إنه الحماد وقيل إنه الحامد وقيل إنه المعز وقيل إنه الحمد ورجح هذا طائفة وقالوا الذي يقوم عليه البرهان في لغتهم إنه الحمد والدليل عليه قول يوشع من عمل حسنة تكون له فارقليط

جيد أي حمد جيد وقولهم المشهور في تخاطبهم فارقليط وفارقليطان وما زاد على الجميع أي حمد ومنه كما نقول نحن يد ومنة ومن قال معناه المخلص فيحتجون بأنها كلمة سريانية ومعناها المخلص وقالوا هو مشتق من قولنا راوف ويقال بالسريانية فاروق فجعل فارق قالوا ومعنى ليط كلمة تزاد والتقدير كما يقال في العربية رجل هو وحجر هو وبدر هو وذكر هو قالوا وكذلك يزاد في السريانية ليط والذين قالوا هو المعز قالوا هو في لسان اليونان المعز
ويعترض على هذين القولين بأن المسيح لم تكن لغته سريانية ولا يونانية بل عبرانية ويجاب عنه بأنه تكلم بالعبرانية وترجم عنه بلغة أخرى كما أملوا أحد الأناجيل باليونانية والآخر بالرومية

وواحدا بقي عبرانيا وأكثر النصارى على أنه المخلص والمسيح نفسه يسمونه المخلص وفي الإنجيل الذي بأيديهم أنه قال إني لم آتي لأزين العالم بل لأخلص العالم والنصارى يقولون في صلاتهم لقد ولدت لنا مخلصا
وقد اختلف فيه فمن النصارى من قال هو روح نزلت على الحواريين وقد يقولون إنه ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ففعلت الآيات والعجائب ولهذا يقول من خبر أحوال النصارى إنه لم يرو أحدا منهم يحسن تحقيق مجيء هذا الفارقليط الموعود به
منهم من يزعم أنه المسيح نفسه لكونه جاء بعد الصلب بأربعين يوما وكونه قام من قبره وتفسيره بالروح باطل وأبطل منه

تفسيره بالمسيح لوجوه
منها أن روح القدس ما زالت تنزل على الأنبياء والصالحين قبل المسيح وبعده وهذا مما اتفق عليه أهل الكتاب أن روح القدس نزلت على الأنبياء والصالحين قبل المسيح وبعده وليست موصوفة بهذه الصفات وقد قال تعالى
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
وقال النبي لحسان بن ثابت لما كان يهجو المشركين قال اللهم أيده بروح القدس وقال إن روح القدس معك ما زلت تنافح عن نبيه
وإذا كان كذلك ولم يسم أحد هذه الروح فارقليطا دل على أن الفارقليط أمر غير هذا وأيضا فمثل هذه ما زالت يؤيد بها الأنبياء

والصالحون وما بشر به المسيح أمر عظيم يأتي بعده أعظم من هذا وأيضا فإنه وصف الفارقليط بصفات لا تناسب هذا وإنما تناسب رجلا يأتي بعده نظيرا له فإنه قال إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد فقوله فارقليطا آخر دل على أنه ثان لأول كان قبله ولم يكن معهم في حياة المسيح إلا هو لم تنزل عليهم روح فعلم أن الذي يأتي بعده نظيرا له ليس أمرا معتادا يأتي للناس
وأيضا فإنه قال يثبت معكم إلى الأبد وهذا إنما يكون لما يدوم ويبقى معهم إلى آخر الدهر ومعلوم أنه لم يرد بقاء ذاته فعلم أنه بقاء شرعه وأمره فعلم أن الفارقليط الأول لم يثبت معهم شرعه ودينه إلى الأبد وهذا يبين أن الثاني صاحب شرع لا ينسخ بخلاف الأول وهذا إنما ينطبق على محمد
وأيضا فإنه أخبر أن هذا الفارقليط الذي أخبر به يشهد له ويعلمهم كل شيء وأنه يذكركم كل ما قال المسيح وأنه يوبخ العالم على خطيئته فقال والفارقليط الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل

شيء وهو يذكركم كل ما قلت لكم
وقال إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله هو يشهد لي قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به ولا تشكوا فيه
وقال إن خيرا لكم أن أنطلق لأني إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم فهو يوبخ العالم على الخطيئة وإن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عند نفسه بل يتكلم بما يسمع ويخبر بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب
فهذه الصفات والنعوت التي تلقوها عن المسيح لا تنطبق على شيء في قلب بعض الناس لا يراه أحد ولا يسمع كلامه وإنما تنطبق على من يراه الناس ويسمعون كلامه فيشهد للمسيح ويعلمهم كل شيء ويذكرهم كل ما قال لهم المسيح ويوبخ العالم على الخطيئة ويرشد الناس إلى جميع الحق وهو لا ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبرهم بكل ما يأتي ويعرفهم جميع ما لرب العالمين
وهذا لا يكون ملكا لا يراه أحد ولا يكون هدى ولا علما في قلب بعض الناس بل لا يكون إلا إنسانا عظيم القدر يخاطب الناس

بما أخبر به المسيح وهذا لا يكون إلا بشرا رسولا بل يكون أعظم من المسيح بين أنه يقدر على ما لا يقدر عليه المسيح ويعلم ما لا يعلمه المسيح ويخبر بكل ما يأتي وبما يستحقه الرب حيث قال إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ولكنكم لا تستطيعون حمله ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب
وهذه الصفات لا تنطبق إلا على محمد وذلك أن الإخبار عن الله بما هو متصف به من الصفات وعن ملائكته وعن ملكوته وعن ما أعده الله في الجنة لأوليائه وفي النار لأعدائه أمر لا يحتمل عقول كثير من الناس معرفته على التفصيل ولهذا قال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يكذب الله ورسوله
وقال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما بحديث لا يبلغه

عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وسأل رجل ابن عباس عن قوله تعالى
خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن
قال ما يؤمنك أن لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت وكفرك بها تكذيبك بها فقال لهم المسيح عليه السلام إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ولكنكم لا تستطيعون حمله وهو الصادق المصدوق في هذا لهذا ليس في الإنجيل من صفات الله وصفات ملكوته ومن صفات اليوم الآخر إلا أمور مجملة وكذلك التوراة ليس فيها من ذكر اليوم الآخر إلا أمور مجملة مع أن موسى كان قد مهد الأمر للمسيح ومع هذا فقد قال لهم المسيح إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ولكنكم لا تستطيعون حمله ثم قال ولكن إذا جاء روح الحق ذلك الذي يرشدكم إلى جميع الحق وقال إنه يخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم بجميع ما للرب
فدل هذا على أن هذا الفارقليط هو الذي يفعل هذا دون المسيح وكذلك كان محمد أرشد الناس إلى جميع الحق حتى أكمل الله له الدين وأتم به النعمة ولهذا كان خاتم الأنبياء فإنه لم يبق شيء يأتي به غيره وأخبر محمد

بكل ما يأتي من أشراط الساعة والقيامة والحساب والصراط ووزن الأعمال والجنة وأنواع نعيمها والنار وأنواع عذابها ولهذا كان في القرآن من تفصيل أمر الآخرة وذكر الجنة والنار وما يأتي من ذلك أمور كثيرة توجد لا في التوراة ولا في الإنجيل وذلك تصديق قول المسيح إنه يخبر بكل ما يأتي
ومحمد بعثه الله بين يدي الساعة كما قال بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصابعه السبابة والوسطى وكان إذا ذكر الساعة علا صوته واحمر وجهه واشتد غضبه كأنه منذر جيش وقال

إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد
وقال أنا النذير العريان
فأخبر من الأمور التي تأتي في المستقبل بما لم يأت به نبي من الأنبياء كما نعته به المسيح حيث قال إنه يخبركم بكل ما يأتي ولا يوجد مثل هذا قط عن أحد من الأنبياء قبل محمد

فضلا عن أن يوجد شيء نزل على قلب بعض الحواريين
وأيضا فقال ويعرفكم جميع ما للرب فبين أنه يعرف الناس جميع ما لله وذلك يتناول ما لله من الأسماء والصفات وما له من الحقوق وما يجب من الإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله بحيث يكون ما يأتي به جامعا لكل ما يستحقه الرب
وهذا لم يأت به أحد غير محمد حيث يتضمن ما جاء به من الكتاب والحكمة هذا كله ومعلوم أن ما نزل على الحواريين لم يكن فيه هذا كله ولا نصفه ولا ثلثه بل ما جاء به المسيح أعظم مما جاء به الحواريون وهذا الفارقليط الثاني جاء بأعظم مما جاء به المسيح
وأيضا فالمسيح قال إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أبي هو يشهد لي قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به ولا تشكوا

فيه فبين أنه أخبرهم به ليؤمنوا به إذا جاء ولا يشكوا فيه وأنه يشهد له وهذه صفة من بشر به المسيح ويشهد للمسيح كما قال تعالى
وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد
وأخبر أنه يوبخ العالم على الخطيئة ولم يوجد أحد وبخ جميع العالم على الخطيئة إلا محمد فإنه أنذر جميع العالم من أصناف الناس ووبخهم على الخطيئة من الكفر والفسوق والعصيان وبخ جميع المشركين من العرب والهند والترك وغيرهم ووبخ المجوس وكانت مملكتهم أعظم الممالك ووبخ أهل الكتابين اليهود والنصارى وقال في الحديث الصحيح عنه إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل

الكتاب لم يقتصر على مجرد الأمر والنهي بل وبخهم وقرعهم وتهددهم
وأيضا فإنه أخبر أنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع وهذا إخبار بأن كل ما يتكلم به فهو وحي يسمعه ليس هو شيئا تعلمه من الناس أو عرفه باستنباطه وهذه خاصة محمد فإن المسيح ومن قبله من الأنبياء كانوا يتعلمون من غيرهم مع ما كان يوحى إليهم فعندهم علم غير ما يسمعونه من الوحي
ومحمد لم ينطق إلا بما يسمعه من الوحي فهو مبلغ لما أرسل به وقد قيل له
بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس
فضمن الله له العصمة إذا بلغ رسالاته فلهذا أرشد الناس إلى جميع الحق وألقى إلى الناس ما لم يمكن غيره من الأنبياء إلقاءه خوفا أن يقتلوه كما يذكرون عن المسيح وغيره
وقد أخبر المسيح بأنه لم يذكر لهم جميع ما عنده وأنهم لا يطيقون حمله وهم معترفون بأنه كان يخاف منهم إذا أخبرهم

بحقائق الأمور ومحمد أيده الله تأييدا لم يؤيده لغيره فعصمه من الناس حتى لم يخف من شيء يقوله وأعطاه من البيان والعلم ما لم يؤته غيره فالكتاب الذي بعث به فيه من بيان حقائق الغيب ما ليس في كتاب غيره
وأيد أمته تأييدا أطاقت به حمل ما ألقاه إليهم فلم يكونوا كأهل التوراة الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ولا كأهل الإنجيل الذين قال لهم المسيح إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكن لا تستطيعون حمله ولا ريب أن أمة محمد أكمل عقولا وأعظم إيمانا وأتم تصديقا وجهادا ولهذا كانت علومهم وأعمالهم القلبية وإيمانهم أعظم
وكانت العبادات البدنية لغيرهم أعظم قال تعالى
سورة البقرة الآيتان 285 286
وقد ثبت في الصحيح عن النبي أن الله

قال قد فعلت
وأيضا فإنه أخبر عن الفارقليط أنه يشهد له وأنه يعلمهم كل شيء وأنه يذكرهم كل ما قاله المسيح ومعلوم أن هذا لا يكون إلا إذا شهد له شهادة يسمعها الناس لا يكون هذا شيئا في قلب طائفة قليلة ولم يشهد أحد للمسيح شهادة سمعها عامة الناس إلا محمد فإنه أظهر أمر المسيح وشهد له بالحق حتى سمع شهادته له عامة أهل الأرض وعلموا أنه صدق المسيح ونزهه عما افترته عليه اليهود وعما غلت فيه النصارى فهو الذي شهد له بالحق ولهذا لما سمع النجاشي من الصحابة ما شهد به محمد للمسيح قال لهم ما زاد عيسى على ما قلتم هذا العود
وجعل الله أمة محمد شهداء على الناس يشهدون عليهم بما علموه من الحق إذ كانوا وسطا

عدلا لا يشهدون بباطل فإن الشاهد لا يكون إلا عدلا بخلاف من جار في شهادته فزاد على الحق أو نقص منه كشهادة اليهود والنصارى في المسيح
وأيضا فإن معنى الفارقليط إن كان هو الحامد أو الحماد أو الحمد أو المعز فهذا الوصف ظاهر في محمد فإنه وأمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل حال وهو صاحب لواء الحمد والحمد مفتاح خطبته ومفتاح صلاته ولما كان حمادا جوزي بوصفه فإن الجزاء من جنس العمل فكان اسمه محمد وأحمد وأما محمد فهو على وزن مكرم ومعظم ومقدس وهو الذي يحمد حمدا كثيرا مبالغا فيه ويستحق ذلك فلما كان حمادا لله كان محمدا وفي شعر حسان بن ثابت
... وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد ...
وأما أحمد فهو أفعل التفضيل أي أحق بأن يكون محمودا أكثر من غيره يقال هذا أحمد من هذا أي هذا أحق بأن يحمد من هذا فيكون فيه تفضيل له على غيره في كونه محمودا فلفظ محمد يقتضي فضله في الكمية ولفظ أحمد يقتضي فضله في الكيفية ومن الناس من يقول أحمد أي أكثر حمدا من غيره فعلى هذا يكون بمعنى الحامد والحماد
وقال من رجح أن معنى الفارقليط في لغتهم هو الحمد كما تقدم فإذا كان كذلك فهو ما جاء في القرآن
ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد

قالوا ولا شك عندهم أنه اسم مشتق من الحمد مثل ما نقول في لغتنا ضارب ومضروب وأما من فسره بالمعز فلم يعرف قط نبي أعز أهل التوحيد لله والإيمان كما أعزهم محمد فهو أحق باسم المعز من كل إنسان
وأما معنى المخلص فهو أيضا ظاهر فيه فإن المسيح هو المخلص الأول كما ذكر في الإنجيل وهو معروف عند النصارى أن المسيح صلوات الله عليه سمي مخلصا فيكون المسيح هو الفارقليط الأول وقد بشر بفارقليط آخر فإنه قال وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد فهذه بشارة بمخلص ثان يثبت معهم إلى الأبد والمسيح هو المخلص الأول وأما ما ينزل في القلوب فلم يسمه أحد مخلصا ولا فارقليطا فلا يجوز أن يفسر كلام المسيح إلا بلغته ومعانيه المعروفة التي خاطب بها وكذلك سائر الأنبياء بل وسائر الناطقين
وقد وصف هذا المخلص الثاني بأنه يثبت معهم إلى الأبد ومحمد هو المخلص الذي جاء بشرع باق إلى الأبد لا ينسخ
وأيضا فإن في الإنجيل إنجيل يوحنا أن المسيح قال أركون العالم سيأتي

وليس لي شيء
وقد ذكروا أن الأركون بلغتهم العظيم القدر والأراكنة العظماء وقد كانوا يقولون عن المسيح إن أركون الشياطين يعينه أي عظيم الشياطين وهو من افتراء اليهود على المسيح فقول المسيح عليه السلام أركون العالم إنما ينطبق على عظيم العالم وسيد العالم وكبير العالم وقد أخبر أنه سيأتي فامتنع أن يكون هذا الأركون المسيح أو أحدا مثله ولم يأت بعد المسيح من ساد العالم وأطاعه العالم غير محمد وهذا من بشارة المسيح به
وقد سئل ما كان أول أمرك قال دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي رأت حين ولدتني أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام
وبالجملة فمعلوم باتفاق أهل الأرض أنه لم يأت بعد المسيح من ساد العالم باطنا وظاهرا وانقادت له القلوب والأجساد وأطيع في

السر والعلانية في محياه وبعد مماته في جميع الأعصار وأفضل الأقاليم شرقا وغربا غير محمد فإن الملوك يطاعون ظاهرا لا باطنا ولا يطاعون بعد موتهم ولا يطيعهم أهل الدين طاعة يرجون بها ثواب الله في الدار الآخرة ويخافون عقاب الله في الدار الآخرة بخلاف الأنبياء
ومحمد أظهر دين الرسل قبله وصدقهم ونوه بذكرهم وتعظيمهم فبه آمن بالأنبياء والرسل قبل موسى والمسيح وغيرهما أمم عظيمة لولا محمد لم يؤمنوا بهم ومن كان يعرف هؤلاء من أهل الكتاب كانوا مختلفين فيهم كاختلاف أهل الكتاب في المسيح وكانوا يقدحون في داود وسليمان وغيرهما بما هو معروف عندهم
وأيضا فإنه ذكر لهم من الرسل ما لم يكونوا يعرفونه مثل هود وصالح وشعيب وغيرهم
ومحمد صدق المسيح في أخباره بأنه أركون العالم فقال أنا سيد ولد آدم ولا فخر آدم فمن دونه تحت لوائي أنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا
وهو صاحب لواء الحمد وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون يوم القيامة فهو سيد العالمين حقا وهذا

مطابق لقول المسيح إنه أركون العالم فهو أركون الآخرين في الدنيا والآخرة وهو أركون الأولين والآخرين في الآخرة
وقول المسيح إن أركون العالم سيأتي وليس لي شيء تضمن الأصلين إثبات الرسول وإثبات التوحيد وأن الأمر كله لله وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقول المسيح ليس لي شيء تنزيه له مما نسب إليه من الربوبية وهذا النفي يشترك فيه جميع الخلق قال الله تعالى لمحمد
ليس لك من الأمر شيء
وقال تعالى
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي
وقال
قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا أي ملجأ وملاذا إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا

وقال تعالى
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله
وأيضا ففي نبوة أشعياء أنه وصف محمدا بأنه أركون السلم والسلم والسلام الإسلام فهو يبين أنه سيد دين الإسلام ولا ريب أن الأنبياء كلهم بعثوا بدين الإسلام لكن لم يظهر هذا الدين واسمه وانتشر ذكر دين الإسلام في الأرض كما ظهر لمحمد فمحمد أركون الإسلام الذي يجمع كل خير وبر كما أن إبليس أركون الشر قال تعالى عن نوح
سورة يونس الآيتان 71 و 72

فهذا نوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض يذكر أنه أمر أن يكون من المسلمين
وقالت السحرة لما أسلموا وأراد فرعون قتلهم
ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين
وقال
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا
وقال
وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون

فإن قيل فقد سمى المسيح الفارقليط روح الحق وسماه روح القدس وقال تعالى عن إبراهيم
سورة البقرة الآيات 130 132
وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين
وقالت بلقيس
رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين
قيل قد قال يوحنا في كتاب أخبار الحواريين المسمى افراكسيس يا أحبابي إياكم أن تؤمنوا بكل روح لكن ميزوا الأرواح التي من عند الله من غيرها واعلموا أن كل روح تؤمن بأن

يسوع المسيح قد جاء فكان جسدانيا فهي من عند الله وكل روح لا تؤمن بأن المسيح جاء وكان جسدانيا فليست من عند الله بل من المسيح الكذاب الذي هو الآن في العالم
وإذا كان كذلك علم أن الروح عندهم يتناول النبي المرسل من البشر وجبريل الذي نزل بالوحي على محمد هو روح القدس وهو روح الحق كما قال تعالى
قل نزله روح القدس من ربك بالحق
وقال
نزل به الروح الأمين على قلبك
وقال
من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله
وهذا الروح إنما جعله بمجيء محمد والكلام الذي نزل به هو

الذي بلغه محمد ولهذا قال الله تعالى
الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس
فاصطفى الله جبريل من الملائكة واصطفى محمدا من البشر ولهذا يضاف القول الذي هو القرآن إلى قول هذا تارة وإلى قول هذا تارة كما قال تعالى
إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين
فهذا الرسول هنا جبريل وقال تعالى في الآية الأخرى
إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين
فهذا الرسول هنا محمد وأضافه إلى كل منهما بلفظ الرسول لتضمنه أنه بلغه عن مرسله لم يقل إنه لقول ملك ولا نبي بل كفر من قال إنه قول البشر كما ذكر

ذلك عن التوحيد وقد قال تعالى في القرآن
قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور
ومعلوم أن الرسول نفسه لم ينزل بل أبدل الرسول من الذكر لأن الرسول جاء بالذكر
ولما كان الرسول الملكي والرسول البشري والذكر المنزل أمورا متلازمة يلزم من ثبوت واحد ثبوت الآخرين ومن الإيمان بواحد الإيمان بالآخرين فيلزم من كون القرآن حقا كون جبريل ومحمد حقا وكذلك يلزم من كون محمد حقا كون جبريل والقرآن حقا ويلزم من كون جبريل حقا كون القرآن ومحمد حقا
ولهذا جمع الله بين الإيمان بالملائكة والكتب والرسل في مثل قوله
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله

فتعليم محمد وتذكيره وشهادته هو تعليم روح القدس وروحه والأخبار بأن الملك ينطق على لسان البشر أو الجني ينطق على لسان البشر كثير كما في حديث ابن عمر كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر ويقال ما ألقى هذا على لسانك إلا الشيطان ويكون مع هذا البشر ينطق بقدرته واختياره ليس هو كالمصروع الذي يتكلم الجني على لسانه وهو لايدري ما يقول فلهذا يقال هذا قول الرسول البشري وهو قول الرسول الملكي
ويقال الفارقليط روح الحق وروح القدس يشهد لي وهو

يعلمكم وهو يذكركم ونحو ذلك فإن الفارقليط يتضمن ذكر جبريل ومحمد جميعا وقول أحدهما هو قول الآخر ومعروف في اللغة بدل الاشتمال كقوله
يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه
والشهر ليس هو نفس القتال لكن لما اشتمل على القتال أبدل أحدهما من الآخر وقوله
قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا
ومن هذا النمط أبدل الرسول من الذكر لاشتماله عليه وهذا الثاني اشتمل على الأول والرسول البشري كان الرسول الملكي يتصل به في الباطن فيثقل عليه الوحي حين ينزله
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام قال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي قال أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول قالت عائشة

ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا
والفصم الفك والفصل من الأمور اللينة كما قال فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم
وبالقاف هو الكسر الذي يكون في الأمور الصلبة
فبين أن الملك حين ينزل الوحي عليه يتصل به ويلتبس به ثم بعد ذلك ينفصل عنه وينفك عنه وهذا الاشتمال والانفصال أبلغ من غيره فيحسن معه أن يكون إبدال أحدهما من الآخر أحسن من غيره فيقال هذا القرآن بلغه الرسول النبي وبلغه جبريل عن الله ونظائر هذا متعددة في جميع بشارات المسيح يذكر أن الأب وهو في لغتهم الله الذي يرسل الفارقليط وفي بعضها قال أنا أطلب من الأب

يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد وفي بعضها والفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء فقد بين أن الله يرسله وأنه يطلب من الله أن يرسله
وأما قوله في بعض الألفاظ فإذا انطلقت أرسلته إليكم فيكون معناه إني أرسله بدعاء أبي وطلبي منه أن يرسله كما يطلب الطالب من ولي الأمر أن يرسل رسولا أو يولي نائبا أو يعطي أحدا ويقول أنا أرسلت هذا ووليت هذا وأعطيت هذا أي كنت سببا في ذلك ومما ينبغي أن يعلم أن الله إذا قضى ما يكون الشيء فإنه يقدر له أسبابا يكون بها ومن تلك الأسباب دعاء طائفة من عباده به فيكون في ذلك من النعمة في إجابته دعاء هذا وهذا وهذا
ومحمد دعا به الخليل عليه السلام فقال
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم
مع أن الله قضى بإرساله وأعلن باسمه قبل ذلك كما قيل له يا رسول الله متى كنت نبيا قال وآدم بين الروح والجسد وقال إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته

وهذا كما أن الله قضى بنصره يوم بدر ومن أسباب ذلك استغاثته بالله وكذلك بما يقضيه من إنزال الغيث يكون من أسبابه دعاء عباده له ونظائره كثيرة فلا يمتنع أن يكون المسيح سأل ربه بعد صعوده أن يرسل محمدا ويكون هذا من أسباب إرساله لكن إبراهيم سأل في الدنيا فذكر الله ذالك بخلاف سؤال المسيح فإنه كان بعد صعوده إلى السماء

فصل
والقرآن نفسه قد بين من آيات نبوته وبراهين رسالته أنواعا متعددة مع اشتمال كل نوع على عدد من الآيات والبراهين مثال ذلك إخباره لقومه بالغيب الماضي الذي لا يمكن بشرا أن يعلمه إلا أن يكون نبيا أو يكون ممن تلقاه عن نبي وقومه يعلمون أنه لم يتعلم ذلك من بشر ولا من أهل الكتاب ولا غيرهم وهذا نوعان
منه ما كان يسأله عنه المشركون وأهل الكتاب لينظر هل هو نبي أم لا
وكان قومه يرسلون إلى أهل الكتاب البعيدين عنهم مثل من كان بالمدينة وغيرها من أهل الكتاب يطلبون منهم ما يسألونه عنه فيرسلون إليهم ليسألوه عن ذلك ويمتحنون بذلك هل هو نبي أم لا
ومنه ما كان الله يخبره به ابتداء ويجعله علما وآية لنبوته وبرهانا لرسالته مع ما في ذكر هذه القصص من الاعتبار لأمور أخرى فكان كل من هذين النوعين دليلا وعبرة على نبوته من طريقين فكان دليلا وعبرة على نبوته من جهة إخبار بالغيب الذي لا يعلمه إلا نبي وكانت عبرة بما فيها من أحوال المؤمنين والكافرين التي توجب اتباع سبيل المؤمنين الذين اتبعوا مثله وتجنب سبيل الكافرين الذين خالفوا مثله وحكم الشيء حكم

نظيره فإذا كان من كان مثله ومثل من اتبعه سعيدا وحال من خالف مثله ومثل من اتبعه شقيا كان في هذا دلالة وعبرة توجب اتباعه وتنهى عن مخالفته وهذا أيضا دليلا على نبوة من قبله من الأنبياء من وجهين من جهة أنه أخبر بمثل ما أخبروا به من غير مواطأة بينهم وبينه ولا تشاعر لم يأخذوا عنه ولم يأخذ عنهم
وكل منهما أخبر عن الله بأخبار مفصلة يمتنع الاتفاق عليها عادة إلا بتواطىء فإذا لم يكن تواطؤ وتشاعر وامتنع اتفاق ذلك من غير مواطأة علم أن كلا من المخبرين صادق قال تعالى
لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين
وقص قصته في السورة إلى أن قال

سورة يوسف الآيات 102 106
إلى قوله
سورة يوسف الآيات 107 111
وقال تعالى
ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا

وقال
ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
وقال
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا
وقال تعالى لما قص قصة نوح من سورة هود وهي أطول

ما قصه في قصة نوح
تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين
فذكر سبحانه أن هذا الذي أوحاه إليه من أنباء الغيب ما كان يعلمه هو ولا قومه من قبل هذا فإذا لم يكن قومه يعلمون ذلك لا من أهل الكتاب ولا من غيرهم وهو لم يعاشر إلا قومه وقومه يعلمون ذلك منه ويعلمون أنهم لم يكونوا يعلمون ذلك ويعلمون أيضا أنه هو لم يكن تعلم ذلك وأنه لم يكن يعاشر غيرهم وهم لا يعلمون ذلك صار هذا حجة على قومه وعلى من بلغه خبر قومه ومثل ما أخبرهم عن قصة آدم وسجود الملائكة له وتزيين إبليس له حتى أكل من الشجرة وهبط هو وزوجه
وأخبرهم عن قصة نوح ومكثه فيهم ألف سنة إلا خمسين

عاما وهذا في التوراة الموجودة بأيدي أهل الكتاب مقدار لبثه في قومه قبل الغرق وبعده
وأخبرهم عن قصة الخليل وما جرى له مع قومه وإلقائه في النار وذبح ولده ومجيء الملائكة إليه في صورة ضيفان وتبشيره بإسحاق ويعقوب وذهاب الملائكة إلى لوط وما جرى للوط مع قومه وإهلاك الله مدائن قوم لوط وقصة إسرائيل مع بنيه كقصة يوسف وما جرى له بمصر وقصة موسى مع فرعون وتكليم الله إياه مرة بعد مرة وآياته كالعصا واليد البيضاء والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وتظليل الغمام على بني إسرائيل وإطعامهم المن والسلوى وانفجار الماء من الحجر اثني عشر عينا لسقيهم وعبادتهم العجل وقتل بعضهم بعضا لما تاب الله عليهم وقصة البقرة ونتق الجبل فوقهم وقصة داود وقتله لجالوت وقصة الذين خرجوا

من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم وقصة الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه وغير ذلك من أحوال بني إسرائيل
إلى أن ذكر قصة زكريا وابنه يحيى وعيسى بن مريم وأحوال المسيح وآياته ودعائه لقومه والآيات التي بعث بها وتفاصيل ذلك وذكر قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وغير ذلك من قصص الأنبياء والصالحين والكفار مفصلة مبينة بأحسن بيان وأتم معرفة مع علم قومه الذين يعرفون أحواله من صغره إلى أن ادعى النبوة أنه لم يتعلم هذا من بشر بل لم يجتمع هو بأحد من البشر يعرف ذلك ولا كان عندهم بمكة من يعرف ذلك لا يهودي ولا نصراني ولا غيرهم
فكان هذا من أعظم الآيات والبراهين لقومه بأن هذا إنما أعلمه به وأنبأه به الله ومثل هذا الغيب لا يعلمه إلا نبي أو من أخذ عن نبي فإذا لم يكن هو أخذه عن نبي تعين أن يكون نبيا
ثم سائر أهل الأرض يعلمون أنه لم يتعلم ذلك من بشر من طرق
أحدها أن قومه المعادين له الذين هم من أحرص الناس على

القدح في نبوته مع كمال علمهم لو علموا أنه تعلم ذلك من بشر لطعنوا عليه بذلك وأظهروه فإنهم مع علمهم بحاله يمتنع أن لا يعلموا ذلك لو كان ومع حرصهم على القدح فيه يمتنع أن لا يقدحوا فيه ويمتنع أن لا يظهر ذلك
الثاني أنه قد تواتر عن قومه أنهم كانوا يقولون أنه لم يكن يجتمع به من يعلمه ذلك
الثالث أنه لو كانت هذه القصص المتنوعة قد تعلمها من أهل الكتاب مع عداوته لهم لكانوا يخبرون بذلك ويظهرونه ولو أظهروا ذلك لنقل ذلك وعرف فإن هذا من الحوادث التي تتوفر الهمم والدواعي على نقله
الرابع أنه حيث بعث كان الناس إما مشركا وإما كتابيا فلم يكن هناك أحد على الدين الذي دعا إليه وقد علم الناس بالتواتر أن المشركين من قريش وغيرهم لم يكونوا يعرفون هذه القصص ولو قدر أنهم كانوا يعرفونها فهم أول من دعاهم إلى دينه فعادوه وكذبوه فلو كان فيهم من علمه أو يعلم أنه تعلم من غيره لأظهر ذلك
الخامس أن مثل هذا لو كان فلا بد أن يعرفه ولو خواص الناس وكان في أصحابه الذين آمنوا به من يعرف ذلك وكان ذلك

يشيع ولو تواصوا بكتمانه كما شاع ما كتم من أمر الدول الباطنية ولكان خواصه في الباطن يعلمون كذبه وكان علمهم بذلك يناقض تصديقه في الباطن كما عرف في مثل ذلك
فكيف وكان أخص أصحابه وأعلمهم بحاله أعظمهم محبة وموالاة بخلاف حال من يبطن خلاف ما يظهر فإن خواص أصحابه لا يعظمونه في الباطن
فإنه علم الناس أن قومه الذين كانوا معادين له غاية العداوة وكانوا يطلبون القدح في نبوته بكل طريق يعلمون أنه لم يكن عندهم بشر يعلمه مثل هذا وأنه لم يكن في قومه ولا بلده من يعرف هذا
علم الناس ما علمه قومه أن هذا أنبأه به الله وكان هذا من أعلامه وآياته وبراهينه وهذا مما يبين الله في القرآن أنه من آياته وأنه حين أخبر قومه بهذا مع تكذيبهم وفرط عداوتهم له لم يمكن أحدا منهم أن يقول له بل فينا من كان يعلم ذلك وأنت كنت تعلم ذلك وقد تعلمته منا أو من غيرنا فكان إقرارهم بعدم علمه وعلمهم

ومع فرط عداوتهم له آية بينة لجميع الأمم أنه لم يكن هو ولا هم يعلمون ذلك
ولهذا لما كان بعضهم يفتري عليه فرية ظاهرة كانوا كلهم يعلمون كذبه وإذا اجتمعوا وتشاوروا في أمره يعرفون أن هذا كذب ظاهر عليه كما كان بعضهم يقول إنه مجنون وبعضهم يقول إنه كاهن وبعضهم يقول إنه ساحر وبعضهم يقول إنه تعلمه من بشر وبعضهم يقول أضغاث أحلام
فحكى الله أقوالهم مبينا لظهور كذب من قال ذلك وأنه قول ضال حائر قد بهره حال الرسول فحار فلم يدر ما يقول كما قال تعالى
سورة الفرقان الآيات 1 6

فأخبر عمن قال ذلك وهم يعلمون أن هذا من أظهر الكذب فإن هذه القصص المذكورة في القرآن لم يكن بمكة من يعرفها فضلا عن أن يمليها كما قال
وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك
وقال
ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا
ولهذا قال
أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض
فأخبر أن هذا من علم من يعلم السر إذ كان البشر لا يعلمون ذلك إلا من جهة اخبار الأنبياء وليس بمكة من يعلم ما أخبرت به الأنبياء
ثم ذكر ما اقترحوه فقال

سورة الفرقان الآيتان 6 و 7
أمر بالنظر في كيفية ما ضربوه من الأمثال حيث شبهوه بمن يظهر الفرق بينه وبينه ظهورا لا يخفى على الناظر ولهذا قال
فضلوا فلا يستطيعون سبيلا
إذا كان ظاهرا أن هذا ضلال عن طريق الحق فلا يستطيع الضال عن طريق الحق إليه سبيلا
وقال تعالى
سورة النحل الآيات 98 103

فأخبر عما افتراه بعضهم من قوله إنما يعلمه هذا القرآن بشر
وكان بمكة مولى أعجمي لبعض قريش قيل إنه مولى لبني الحضرمي والنبي لا يحسن أن يتكلم بلسان العجمي وذاك لا يحسن أن يتكلم بهذا الكلام العربي فلما قالوا إنه افترى

هذا القرآن وأنه علمه إياه بشر قال تعالى
لسان الذي يلحدون
أي يضيفون إليه هذا التعليم وينسبونه إليه وعبر عنه بلفظ الإلحاد لما فيه من الميل فقال لسان هذا الشخص الذي قالوا إنه يعلمه القرآن لسان أعجمي وهم لم يمكنهم أن يضيفوا هذا التعليم إلى رجل عربي بل إلى هذا الأعجمي لكونه كان يجلس أحيانا إلى النبي وذلك الأعجمي لا يمكنه التكلم بهذا الكلام العربي بل هو أعجمي ومحمد لا يعرف بالعجمية لكن غاية ذلك الأعجمي كعبد بني الحضرمي أن يعرف قليلا من كلام العرب الذي يحتاج إليه في العادة مثل الألفاظ التي يحتاج إليها في غالب الأوقات كلفظ الخبز والماء والسماء والأرض ولا يعرف أن يقرأ سورة واحدة من القرآن
فبين سبحانه ظهور كذبهم فيما افتروه ولم يقل أحد منهم ما يمكن أن يكون شبهة من تعلمه أنباء الغيب من علماء أهل الكتاب ونحو ذلك وإنما قالوا ما ظهر بطلانه لكل أحد ولم ينقل عن

أحد منهم أنه قال قولا يخفى بطلانه بل ما يظهر كذبه لكل أحد
فتبين أنه لم يمكنهم أن يقولوا إنه تعلم أخبار الغيوب من أحد وهذه القصة قصة نوح لا سيما قصته في سورة هود كما تقدم لا يعلمها إلا نبي أو من تلقاها عن نبي فإذا عرف أنه لم يتلقاها عن أحد علم أنه نبي ولهذا قال تعالى في آخرها
تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين
والقول في سائر القصص كالقول فيها
وكما قال في سورة يوسف
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون
وقال في سورة آل عمران لما ذكر قصة زكريا ومريم
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون
وقال في قصة موسى

سورة القصص الآيات 44 46
والإنسان إنما يعلم مثل هذا بمشاهدة أو خبر فنبه بقوله وما كنت لديهم على أنه إنما علمت ذلك بإخبارنا وإيحائنا إليك وإعلامنا لك بذلك إذ كان معلوما عند كل من عرفه أنه لم يسمع ذلك من بشر وأنه لم يكن هو ولا قومه يعلمون ذلك
وقد قال تعالى
قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون
بين بذلك أن تلاوته عليهم هذا الكتاب وإدراءهم أي إعلامهم به هو بمشيئة الله وقدرته لا من تلقاء نفسه كما قال تعالى

سورة يونس الآيتان 15 16
فبين أنه لبث فيهم عمرا من قبله وهو لا يتلو شيئا من ذلك ولا يعلمه ولا يعلمهم به فليس الأمر من جهته ولكن من جهة الله الذي لو شاء ما تلاه عليهم ولا أدراهم به وتلاوته عليهم وإدراؤهم به هو من الإعلام بالغيوب الذي لا يعلمها إلا نبي وبين أن ذلك من الإرسال الذي يحبه الله ويرضاه لا من الكوني الذي قدره وهو لا يحبه ولا يرضاه كإرسال الشياطين ولهذا كان يعرضون عليه أن يصير ملكا عليهم وأن يعطوه حتى يكون من أغناهم وأن يزوجوه ما شاء من نسائهم فيقول لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر لم أستطع أن أدعه وهذه الثلاث هي

مطلوبا النفوس من الدنيا السلطان والمال والنساء فيعرض عن قبول الدنيا التي هي غاية أماني طالبها ويبين أنه لا يقدر على أن يدع ما أمر به من تبليغ الرسالة
وقال تعالى
سورة الآسراء الآيات 73 77

بين سبحانه إنهم كادوا أن يمنعوه بكل طريق فإن الإنسان إنما يتم عمله بإرادته وقدرته فمع الإدارة الجازمة والقدرة التامة يجب وجود المقدور وإذا تعذر أحدهما امتنع فطلبوا تغيير إرادته ليركن إليهم فيغير ما أوحي إليه فعصمه الله وثبته
ثم طلبوا تعجيزه بأن يستفزوه ويخرجوه حتى يعجز عن تبليغ رسالة ربه ولو كان ذلك لعاجلهم الله بالعقوبة أسوة من تقدمه من الرسل فإن الله كان إذا أراد إهلاك أمة أخرج نبيها منها ثم أهلكها لا يهلكها وهو بين أظهرها كما قال تعالى
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون
وهذا بعد قوله
وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم
قال تعالى
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون

فلما خرج من بينهم بالهجرة أتاهم الله بعذاب أليم يوم بدر وغيره فقوله
وإن كادوا ليفتنونك
إشارة إلى سعيهم في إفساد إرادته
وقوله
وإن كادوا ليستفزونك من الأرض
إشارة إلى سعيهم في تعجيزه
وقال تعالى
وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون
بين سبحانه من حاله ما يعلمه العامة والخاصة وهو معلوم لجميع قومه الذين شاهدوه متواتر عند من غاب عنه وبلغته أخباره من جميع الناس أنه كان أميا لا يقرأ كتابا ولا يحفظ كتابا من الكتب لا المنزلة ولا غيرها ولا يقرأ شيئا مكتوبا لا كتابا منزلا ولا غيره ولا يكتب بيمينه كتابا ولا ينسخ شيئا من كتب الناس المنزلة ولا غيرها
ومعلوم أن من يعلم من غيره إما أن يأخذ تلقينا وحفظا وإما أن

يأخذ من كتابه وهو لم يكن يقرأ شيئا من الكتب من حفظه ولا يقرأ مكتوبا والذي يأخذ من كتاب غيره إما أن يقرأه وإما أن ينسخه وهو لم يكن يقرأ ولا ينسخ
وقال تعالى
وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل
إلى قوله
سورة الشعراء الآيات 210 227

فقال تعالى
وإنه لفي زبر الأولين
وقال
أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل
وعلماء بني إسرائيل يعلمون ذكر إرسال محمد ونزول الوحي عليه كما قال تعالى
الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
وقال
والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين
وقال

الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون
وقال
وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين
ويعلمون المعاني التي فيه أنها موافقة لأقوال الرسل قبله في الخبر والأمر
فإنه أخبر عن توحيد الله وصفاته وعرشه وملائكته وخلقه السماوات والأرض وغير ذلك بمثل ما أخبرت به الرسل قبله وأمر بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وبالعدل والصدق والصلاة والزكاة ونهى عن الشرك عن الشرك والظلم والفواحش كما أمرت ونهت الرسل قبله
والسور المكية نزلت بالأصول الكلية المشتركة التي اتفقت عليها الرسل التي لا بد منها وهي الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحد من الأولين والآخرين دينا غيره
وأما السور لمدنية ففيها هذا وفيها ما يختص به محمد من الشرعة والمنهاج فإن دين الأنبياء واحد كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال إنا

معشر الأنبياء ديننا واحد قال الله تعالى
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه
وقال تعالى
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون
وقال تعالى
سورة الروم الآيات 30 32
وأما الشرعة والمنهاج فقد قال عن أهل التوراة والإنجيل والقرآن

لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا
وقال
ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم
إلى قوله
لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه
وأما القبلة فلم يجعل ما ابتدعه أهل الكتاب من القبلة فلذلك قال
ولكل وجهة هو موليها
لم يقل إنا جعلنا لكل وجهة كما قال في المنسك والشرعة والمنهاج وقال تعالى

وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى
فإنه إذا أتاهم ببيان ما في الصحف الأولى مع علمهم بأنه لم يعاشر أحدا من أهل الصحف الأولى ولا استفاد منهم علما كان هذا من أعظم الآيات من الله
وكما أن إخباره عن أمور الغيب يدل على نبوته فإنه يدل على أن النبوة إنباء من الله ليس ذلك كما يقوله بعض المتفلسفة كابن سينا وأمثاله إنه فيض فاض عليه من النفس الفلكية أو العقل الفعال ويقولون إن النفس أو العقل هو اللوح المحفوظ وأن من اتصلت نفسه به علم ما علمته الأنبياء ويقولون النبوة مكتسبة لأن هذه صفتها ويقولون إن سبب علمه بالغيب هو اتصال نفسه بالنفس الفلكية وزعموا أنها اللوح المحفوظ وأن تحريكها للفلك هو سبب حدوث الحوادث في الأرض فتكون عالمة بما يحدث في الأرض لأن العلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب فإن هذا مبني على مقدمات باطلة قد بسط الكلام على بطلانها في موضع آخر

منها إثبات العقل الفعال
ومنها دعواهم أنه لا سبب للحوادث إلا حركة الفلك
ومنها أن المحرك له هو النفس
ومنها اتصال نفوسنا بتلك النفس
والمقصود هنا أن هذا لو كان حقا فإنما يفيد علما بالمستقبل الذي تكون الحركة الحاضرة سببا له أما ما قد مضى بمئين أو ألوف من السنين فليس شيء من حركات الفلك حين مبعث الرسول كان سببا له وإنما تكون الحركة الموجودة في زمانه سببا للمستقبل لا للماضي وحينئذ فلا يكون تحريك النفس للفلك سببا للعلم بهذه الأمور ولا يكون ذلك هو اللوح المحفوظ بل القرآن المجيد في لوح محفوظ وهو في أم الكتاب وهو
في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون
وأخبر سبحانه أنه
نزل به الروح الأمين

وقال في آية أخرى
قل نزله روح القدس من ربك بالحق
وقال في موضع آخر
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله
وقال
سورة التكوير الآيات 19 28

وقال تعالى
الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس
فذكر أنه قول رسول اصطفاه من الملائكة نزله به على رسول اصطفاه من البشر فقال
سورة الحاقة الآيات 40 52
فنزه كلا من الرسولين عما قد يشتبه به
نزه الملك أن يكون شيطانا ونزه البشر أن يكون شاعرا أو كاهنا وبين برهان ذلك وآيته فقال

وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون
فبين أنه ما يصلح لهم النزول به بل هم منهيون عن ذلك وهم ممتنعون عن ذلك لا يريدونه لمنافاه لمقصودهم وأنهم لو أرادوا لعجزوا عن ذلك فلم يستطيعوه إذ كانوا معزولين عن أن يسمعوه من الملأ الأعلى وهم إنما يقدرون على أن ينزلوا بما سمعوه لا بما لم يسمعوه وذلك أن الفاعل للفعل إنما يفعله إذا كان مريدا له قادرا عليه
فبين قوله
وما ينبغي لهم
أنهم لا يريدون تنزيله
وبقوله
وما يستطيعون
أنهم عاجزون عن تنزيله

أما كونهم لايريدون فلأنه لا ينبغي لهم وينبغي مضارع بغى يبغي أي طلب وأراد فالذي لا ينبغي للفاعل هو الذي لا يطلبه ولا يريده إما لكونه ممتنعا من ذلك أو لكونه ممنوعا منه والشيطان إنما يريد الكذب والفجور لا يريد الصدق والصلاح
وما جاء به الرسول مناقض لمراد الشياطين غاية المناقضة فلم يحدث في الأرض أمر أعظم مناقضة لمراد الشياطين من إرسال محمد فنزول القرآن عليه فيمتنع أن تفعل الشياطين ما لا يريدون إلا نقيضه وهم أيضا ممنوعون من ذلك بحيث لا يصلح لهم ذلك ولا يتأتى منهم كما أن الساحر لا ينبغي له أن يكون نبيا والمعروف بالكذب والفجور لا ينبغي له مع ذلك أن يكون نبيا ولا أن يكون حاكما ولا شاهدا ولا مفتيا إذ الكذب والفجور يناقض مقصود الحكم والشهادة والفتيا فكذلك ما في طبع الشيطان من إرادة الكذب والفجور يناقض أن تتنزل بهذا الكلام الذي هو في غاية الصدق والعدل لم يشتمل على كذبة واحدة ولا ظلم لأحد
ثم قال
وما يستطيعون

فإنهم عن سمع هذا الكلام لمعزولون بما حرست به السماء من الشهب كما قال عن الجن
وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا
وقد ذكرنا تواتر هذا الخبر وأن السماء حرست حرسا لم يعهده الناس قبل قبل ذلك ورأى الناس ذلك بأبصارهم فكانوا قد عاينوا ما أخبرهم به من الرمي بالشهب التي يرمى بها لطرد الشياطين فعزلوا بذلك عن سمع الملأ الأعلى وكان ما عاينه الكفار من الرمي الشديد العام الذي انتقضت به العادة المعروفة من رمي الشهب دليلا على سبب خارق للعادة ولم يحدث إذ ذاك في الأرض أمر لم تجر به العادة إلا ادعاءه للرسالة فلم يعرف قبله من نزل عليه الكلام كنزوله عليه إذ كان موسى عليه السلام إنما أنزلت عليه التوراة مكتوبة لم تنزل عليه منجمة مفرقة ملقاة إليه

حفظا حتى تحتاج السماء إلى حراستها عن استراق سمعها والزبور تابع لشرع التوراة وكذلك الإنجيل فرع على التوراة لم ينزل كتاب مستقل إلا التوراة والقرآن كما قال تعالى
قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين
ولهذا يقرن سبحانه بين التوراة والقرآن كثيرا كما في قوله
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس
إلى قوله
وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه
وقال
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار

موعده
قال سعيد بن جبير وغيره والأحزاب هي الملل كلها قال وهذا تصديق قول النبي والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار وقرأ هذه الآية
ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده
وقالت الجن
إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى
وقال النجاشي لما سمع القرآن إن هذا والذي جاء به

موسى ليخرج من مشكاة واحدة
وأيضا فكان معروفا عندهم إخبار الكهان عن الشياطين التي تسترق السمع فلما رأوا أن السماء قد حرست حرسا شديدا خلاف العادة علموا أن الشياطين منعوا استراق السمع وعلمت الجن ذلك كما تقدم وقد قالت الجن
وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا
وقد تواترت الأخبار بأنه حين المبعث كثر الرمي بالشهب وهذا أمر خارق للعادة حتى خاف بعض الناس أن يكون ذلك لخراب العالم حتى نظروا هل الرمي بالكواكب التي في الفلك أم الرمي بالشهب فلما رأوا أنه بالشهب علموا أنه لأمر حدث وأرسلت

الجن تطلب سبب ذلك حتى سمعت القرآن فعلموا أنه كان لأجل ذلك

وهذا من أعلام النبوة ودلائلها
وقبل زمان البعث وبعده كان الرمي خفيفا لم تمتلىء به السماء كما ملئت حين نزول القرآن وقال تعالى
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون
والأفاك الكذاب والأثيم الفاجر كما قال
لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة

قال في الحديث المتفق على صحته عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يدعو إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا
فالشياطين تنزل على من يحصل مقصودها بنزولها عله وهو المناسب لها في الكذب والفجور فأما الصادق البار فلا يحصل به مقصود الشياطين فإن الشيطان لا يطلب الصدق والبر وإنما يطلب الكذب والفجور
ومحمد ما زال قومه يعرفونه بينهم بالصادق الأمين لم تجرب عليه كذبة واحدة ولما جاءه الروح بالوحي لم يخبر بخبر واحد كذب لا عمدا ولا خطأ
ومن تنزلت عليه الشياطين لا بد أن يخبر بالكذب فإن الشياطين يلقون إليهم السمع ولا يلقون إليهم ما سمعوه على وجهه بل يكذبون فيه كثيرا إذ كان أكثر الشياطين الذين ينزلون عليهم كاذبين فيما ينزلون به عليهم والشياطين وإن كان كلهم كاذبا فليس كل من ألقى

السمع يكذب فيما يلقيه بل قد يصدق أحدهم فيما يلقيه من السمع ويسترقه ولكن أكثرهم يكذبون والذي يصدق منهم مرة يكذب مرات والذي ينزل عليه الشياطين أفاك أثيم
فالفرق بين الصادق البار الذي يأتيه الملك والكاذب الأثيم الذي يأتيه الشيطان الرجيم فرق بين يعرف بأدنى معرفة بحال الاثنين ولما كان الكاهن الذي يأتيه شيطان قد يخبر ببعض الأمور الغائبة بين سبحانه أن هذا يكون وإن صدق في بعض الأخبار كاذبا فاجرا والذي يأتيه بالكذب فلا يشتبه بمن لا يكذب ولا يفجر وهذا مما يبين أن النبي لا يكون إلا بارا معصوما أن يصر على ذنب

فصل
وقد ذكرنا أن قومه المعادين له غاية العداوة ما زالوا معترفين بصدقه وأنهم لم يجربوا عليه كذبا بل ومعترفين بأن ما يقوله ليس بشعر ولا كهانة وأنه ليس بساحر وكانوا في أول أمره يرسلون إلى البلاد التي فيها علماء أهل الكتاب يسألونهم عنه لأن مكة لم يكن بها ذلك
ففي الصحيحين عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب حدثه قال انطلقت إلى الشام في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله قال فبينما أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله إلى هرقل قال وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقال هرقل هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قالوا نعم قال فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فقال أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قال أبو سفيان فقلت أنا فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي فدعا بترجمانه فقال قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه

قال فقال وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر علي كذب لكذبت عليه ثم قال لترجمانه سله كيف حسبه فيكم قال قلت هو فينا ذو حسب قال فهل كان في آبائه من ملك قلت لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قلت لا وذكر باقي الحديث
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود حديث سعد بن معاذ لما قال لأميه إنهم قاتلوك يعني النبي وأصحابه وفزع منه لذلك وقال لامرأته ذلك فقالت والله ما يكذب محمد وقال هو في رواية أخرى والله ما يكذب محمد وعزم أن لا يخرج خوفا من هذا وقال والله لا أخرج من مكة وأراد التخلف عن بدر حتى قال له أبو جهل إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد هذا الوادي تخلفوا معك فقال أما إذا غلبتني فلأشترين أجود بعير بمكة وذكرته امرأته بقول سعد فقال ما أريد أن

أكون معهم إلا قريبا
وكذلك ما ذكره أهل المغازي وغيرهم أن أبي بن خلف لما

بلغه أن النبي قال أنا أقتله ثم طعنه رسول الله فخدشه وجعل أصحابه يجزعونه ويقولون إنما هو خدش وليس بشيء فقال والله لو كان بمضر لقتلهم أليس قال لأقتلنك وعن مجاهد قال مولاي السائب بن أبي السائب كنت فيمن بنى البيت وأن قريشا اختلفوا في الحجر حين أرادوا أن يضعوه حتى كادوا يقع بينهم قتال بالسيوف فقال اجعلوا بينكم أول رجل يدخل من الباب فدخل رسول الله وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين

فقالوا يا محمد قد رضينا بك
وعن عقيل بن أبي طالب قال جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا له إن ابن أخيك يأتينا في كعبتنا ونادينا ويسمعنا

ما يؤذينا فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل قال فقال لي يا عقيل التمس ابن عمك قال فأخرجته من كبس من أكباس شعب أبي طالب فأقبل يمشي حتى انتهى إلى أبي طالب فقال له يا ابن أخي والله ما علمت إن كنت لي مطيعا وقد جاءني قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وناديهم فتسمعهم ما يؤذيهم فإن رأيت أن تكف عنهم قال فحلق ببصره إلى السماء فقال والله ما أنا بأقدر على أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من النار فقال أبو طالب إنه والله ما كذب قط فارجعوا راشدين رواه البخاري في تاريخه وأبو زرعة في الدلائل ورواه ابن إسحاق قريبا من هذا اللفظ وقال فأخرجته من حفش وهو بيت صغير وقال فيه فظن رسول الله أن قد بدا لعمه وأنه خاذله ومسلمه وضعف عن القيام معه فقال يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه
وفي الصحيحين عن عبد الله بن الصامت قال قال أبو ذر

خرجنا من قومنا غفار وكانوا يحلون الشهر الحرام فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا فنزلنا على خال لنا فأكرمنا وأحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس فجاء خالنا فثنا علينا الذي قيل له فقلت له أما ما مضى من معروفك فقد كدرته ولا جماع لك فيما بعد فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها وتغطى خالنا بثوبه يبكي وانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة
فنافر أنيس رجلا عن صرمتنا وعن مثلها فأتينا الكاهن فخير

أنيسا فأتى بصرمتنا ومثلها معها قال وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله بثلاث سنين قلت لمن قال لله قلت فأين توجه قال أتوجه حيث يوجهني ربي أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس فقال أنيس إن لي حاجة بمكة فاكفني فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي ثم جاء فقلت ما صنعت قال لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله قلت فما يقول الناس قال يقولون شاعر كاهن ساحر وكان أنيس أحد الشعراء قال أنيس لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعراء فما يلتئم على لسان أحد يقرى بعدي أنه شعر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون قال قلت فاكفني حتى أذهب فأنظر قال فأتيت مكة فضعفت رجلا منهم فقلت أين هذا الذي

تدعونه الصابىء فأشار إلي فقال الصابىء فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي وذكر الحديث وصفة إسلامه رضي الله عنه بلفظ مسلم
وفي حديث البخاري عن ابن عباس أن أبا ذر أرسل أخاه وقال اعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء فاسمع من قوله ثم ائتني فانطلق الآخر حتى قدم مكة وسمع من قوله ثم رجع إلى أبي ذر فقال رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر
فقال ما شفيتني فيما أردت فتزود وحمل شنه له فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد وذكر تمام الحديث
وعن جابر بن عبد الله قال الملأ وأبو جهل لبد غلبنا أمر

محمد فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فأتاه فكلمه وأتانا ببيان من أمره
قال عتبة بن ربيعة والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما فما يخفى علي إن كان كذلك فأتاه فلما خرج إليه قال أنت يا محمد خير أم هاشم وأنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله فيما تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا لك الرياسة فكنت رأسنا ما بقيت وإن كان بك الباه زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعد ورسول الله ساكت لا يتكلم فلما

فرغ قرأ رسول الله
بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون
إلى قوله
فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود
فأمسك عتبة على فيه وناشد بالرحم أن يكف ورجع إلى أهله فلم يخرج إلى قريش فاحتبس عنهم عتبة فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فأتاه أبو جهل فقال يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد فغضب وأقسم أن لا يكلم محمد أبدا وقال لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر
حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربية لقوم يعلمون

إلى قوله
أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود
فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب رواه أبو بكر أحمد بن مردويه في كتاب التفسير عن محمد بن فضيل عن الأجلح عن الذيال بن حرملة عنه

ورواه يحيى ابن معين عن محمد بن فضيل ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده ورواه عبد بن حميد عن شيخ أبي يعلى ابن أبي شيبة
وفي بعض الطرق إن كنت تزعم أن هؤلاء خيرا منك فقد عبدوا الآلهة وإن كنت تزعم أنك خيرا منهم فتكلم حتى نسمع ورواه ابن إسحاق قال حدثني يزيد بن زياد مولى لبني هاشم عن

محمد بن كعب قال حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا حليما وذكر الحديث إلى أن قال لما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصيبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به فقالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم ثم ذكر شعر أبي طالب يمدح عتبة فيما قال

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال قدم ضماد مكة وهو رجل من أزد شنوءة وكان يرقي من هذه الريح فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمدا مجنون فقال لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي قال فلقيت محمدا فقلت إني أرقي من هذه الريح وإن الله يشفي على يدي من شاء فهلم فقال محمد إن الحمد لله نحمد ونستعينه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له أشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أما بعد قال فقال أعد علي كلماتك هؤلاء فأعادهن عليه رسول الله ثلاث مرات فقال والله لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت بمثل كلماتك هؤلاء ولقد بلغن ناعوس البحر

قال فقال هات يدك أبايعك على الإسلام قال فبايعه رسول الله فقال وعلى قومك فقال وعلى قومي الحديث
وعن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي فقرأ عليه من القرآن
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون
قال أعد فأعاد النبي فقال والله إن له الحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله

لمغدق وما يقول هذا البشر
وفي لفظ أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا قال ولم قال ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعوض مما قبله قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر لها وأنك كاره له قال وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولابقصيده مني والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم

ما تحته قال لا ترضى عنك قومك حتى تقول فيه قال فدعني حتى أفكر فيه فلما فكر قال هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت
ذرني ومن خلقت وحيدا
رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة عنه
وفي رواية أخرى أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد بعضكم قول بعض فقالوا

فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقوم به فقال بل أنتم فقولوا وأنا أسمع فقالوا نقول كاهن فقال ما هو بكاهن لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكهان فقالوا نقول مجنون فقال ما هو بمجنون لقد رأينا المجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا فنقول شاعر فقال ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريظه ومقبوضه ومبسوطه فما هو

بالشعر قالوا فنقول ساحر قال فما هو بساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده فقالوا ما نقول يا أبا عبد شمس قال والله إن لقوله حلاوة وإن أصله لغدق وإن فرعه لجنى فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل وإن أقرب القول أن تقولوا ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه وبين المرء وبين أخيه وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا له أمره فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة وذلك من قوله
ذرني ومن خلقت وحيدا
إلى قوله
سأصليه سقر
وأنزل في النفر الذين كانوا معه
الذين جعلوا القرآن عضين
أي أصنافا

وروى ابن إسحاق عن شيخ من أهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس قال قام النضر بن الحارث فقال يا معشر قريش والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر لا والله ما هو بسحر قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم وقلتم كاهن لا والله ما هو بكاهن قد رأينا الكهنة وسمعنا سجعهم وقلتم شاعر لا والله ما هو بشاعر لقد روينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه وقريظه وقلتم مجنون ولا والله ما هو بمجنون لقد رأينا المجنون فما هو بخنقه ولا تخليطه يا معشر قريش انظروا في

شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش وممن يؤذي رسول الله وينصب له العداوة
قال وحدثني الزهري قال حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس ابن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله وهو يصلي بالليل في بيته وأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ثم انصرفوا فلما كانت الليلة

الثالثة فعلو كذلك ثم جمتعهم الطريق فتعاهدوا أو لا يعودوا فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم أتى أبا سفيان في بيته فقال أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها فقال الأخنس وأنا والذي حلفت به ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد فقال ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنوا عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا ثم إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به ولا نصدقه أبدا
وكذلك وري عن المغيرة بن شعبة أن أبا جهل قال له مثل ذلك وقال إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن بني قصي قالوا فينا الندوة

فقلنا نعم فينا الحجابة فقلنا نعم فينا السقاية فقلنا نعم وذكر نحوه
وقد كانوا يرسلون إلى أهل الكتاب ليسألوهم عن أمره صلى الله عليه و سلم
قال محمد بن إسحاق حدثني شيخ من أهل مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالوا لهم اسألوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا قال فقالت لهم أحبار يهود سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب وسلوه عن رجلا طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وسلوه عن الروح ما هو فإن أخبركم بذلك فإنه نبي فاتبعوه وإن هو لم يخبركم فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما مكة على قريش فقالا يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها فجاؤوا رسول الله فقالوا يا محمد خبرنا فسألوه عما أمروهم به فقال لهم رسول الله أخبركم وجاءه جبريل من الله بسورة الكهف فيها خبر ما سألوه عنه من أمر الفتية الرجل الطواف وقول الله
ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا

قال ابن إسحاق بلغني أن رسول الله افتتح السورة فقال
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب
يعني محمدا أنك رسولي في تحقيق ما سألوه عنه من نبوته
ولم يجعل له عوجا قيما
أي أنزله قيما أي معتدلا لا اختلاف فيه وذكر تفسير السورة إلى قوله
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا
أي وما قدروا من قدري وفيما صنعت من أمر الخلائق وما وضعت على العباد من حجتي ما هو أعظم من ذلك
قال مجاهد ليس بأعجب من آياتنا من هو أعجب من ذلك

وفي تفسير العوفي عن ابن عباس الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف
قلت والأمر على ما ذكره السلف فإن قصة أصحاب الكهف هي من آيات الله فإن مكثهم نياما لايموتون ثلاثمائة سنة آية دالة قدرة الله ومشيئته وأنه يخلق ما يشاء ليس كما يقوله أهل الإلحاد وهي آية على معاد الأبدان كما قال تعالى
وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها
وكان الناس قد تنازعوا في زمانهم هل تعاد الأرواح دون الأبدان
وإخبار النبي بقصتهم من غير أن يعلمه بشر آية على نبوته فكانت قصتهم آية على أصول الإيمان الثلاثة الإيمان بالله واليوم الآخر والإيمان برسوله ومع هذا فليسوا من آيات الله بعجب بل من آيات الله ما هو أعجب من ذلك

وقد ذكر الله تعالى سؤالهم عن الآيات التي كانوا يسألونه عنها ليعلموا هل هو نبي صادق أم كاذب فقال تعالى
ويسألونك عن ذي القرنين
وقال
لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين
إلى قوله
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون
إلى قوله
وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
إلى قوله

سورة الكهف الآيات 109 111
وقال تعالى لما ذكر قصة أهل الكهف التي سألوه عنها
يسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا
أي يسألونك عن ذاك ويسألونك عن هذا
والقرآن مملوء من إخباره عن الغيب الماضي الذي لا يعلمه أحد من البشر إلا من جهة الأنبياء الذين أخبرهم الله بذلك ليس هو الشيء الذي تزعمه ملاحدة المتفلسفة فإن هذه الأمور الغيبية المعينة المفصلة لا يؤخذ خبرها قط إلا عن نبي كموسى ومحمد وليس أحد ممن يدعي المكاشفات لا من أولياء الله ولا من غير أولياء الله يخبر بشيء من ذلك ولهذا كان هذا من أعلام الأنبياء وخصائصهم التي لا يشركهم فيها غيرهم
وأهل الملل متفقون على ما دل عليه العقل الصريح من أن هذا

لا يعلم إلا بخبر نبي فإذا كان محمد قد أخبر من ذلك بما أخبر به موسى وغيره من الأنبياء وأخبر بما يعلمونه مما لا يعلمه أحد إلا بالتعلم منهم وقد عرف أن محمدا لم يتعلم هذا من بشر كان هذا آية وبرهانا قاطعا على نبوته ثم العلم بأن محمدا لم يتعلم هذا من بشر يحصل في حياته أما قومه المباشرون له الخبيرون بحاله فكانوا يعلمون أنه لم يتعلم هذا من بشر فقامت عليهم الحجة بذلك وأما من لم يعرف حاله إلا بالسماع فيعلم ذلك بطرق
منها تواتر أخباره وكيف كان من حين ولد إلى أن مات كما هي مستفيضة مشهورة متواترة يعلمها من كان له خبرة بذلك أعظم مما يعلم به حال موسى وعيسى فإن محمدا ظهر امره وانتشرت أخباره وتواترت أحواله أعظم من جميع بني آدم فما بقي ما دون هذا من أحواله يخفى على الناس فكيف مثل هذا
ومنها أنه أخبر في القرآن بما لا يوجد عند أهل الكتاب مثل

قصة هود وصالح وشعيب وبعض التفاصيل في قصة إبراهيم وموسى وعيسى مثل تكليم المسيح في المهد ومثل نزول المائدة فإن هذا لا يعرفه أهل الكتاب ومثل إيمان امرأة فرعون وغير ذلك فيمتنع أن يقال إن هذا تعلمه من أهل الكتاب وقومه لم يكونوا يعلمون ذلك بل قد أراهم وغيرهم آثار المنذرين الذين عاقبهم الله لما كذبوا الرسل كقوم عاد وثمود وغيرهم
فيستدل الناس بالآثار الموجودة على صدق الرسل وعقوبة الله لمن يكذبهم ويستدل قومه وغيرهم على صدقه فيما أخبر به من هذه الأمور التي لم يتعلمها من أهل الكتاب بتصديق أهل الكتاب له فيما وافقهم فيه مع علمهم أنه لم يتعلم ذلك منهم ويكون هذا مما يدل على أنه لم يتعلم من أهل الكتاب شيئا كما قد يظنه بعضهم وذلك من الوجهين كما تقدم
ومنها أن أكثر قومه كانوا من أعظم الناس عداوة له وحرصا على تكذيبه والطعن فيه وبحثا عما به يقدحون فيه فلو كان قد تعلم هذه الأخبار من بشر لكانوا يعلمون ذلك ويقدحون به فيه ويظهرونه ولكان هذا مما يظهر أعظم مما ظهر غيره فلما لم يقع ذلك دل على أنهم لم يكونوا يعلمون ذلك ولم يتمكنوا من القدح به فيه مع

علمهم بحاله ورغبتهم في القدح به ومع كمال الداعي والقدرة يجب وجود المقدور فلما كان داعيهم تاما ولم يقدحوا علم أن ذلك لعجزهم وعجزهم عن القدح مع علمهم بحاله دليل على أنهم علموا أنه لم يتعلمه من بشر
ومنها أن يقال مثل هذا لو وقع لكان من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بل كان المتبعون له المؤمنون به إذا اطلعوا على ذلك فلا بد أن يشيعوه ويعلنوه فكيف المخالفون له المكذبون له فإن القوم المتفرقين الذين لم يتواطأوا كما لا يجتمعون على تعمد الكذب فلا يجتمعون على كتمان مثل ذلك بل يجتهد الملوك والرؤساء في إخفاء ما يبطنونه من أمر ملكهم الذي بنوه عليه ويحلفون أولياءهم على كتمان ذلك ويبذلون لهم الرغبة والرهبة في ذلك ثم يظهر ذلك كما فعل القرامطة الباطنية من أهل

البحرين بني عبيد الله بن ميمون القداح وكما عرف الناس أن النصيرية لهم خطاب يسرونه إلى أوليائهم وإن لم يعلم أكثر الناس ما ذلك الخطاب الذي يسرونه
لا سيما والذين آمنوا بحمده واتبعوه أولا من المهاجرين كانوا مؤمنين به باطنا وظاهرا هجروا لأجله الأوطان والأهل والمال وصبروا على أنواع المكاره والأذى طائفة كبيرة ذهبت إلى الحبشة

مهاجرة بدينها لما عذبها المخالفون له حتى يرجعوا عن دينه وطائفة كانوا بمكة يعذبون هذا يقتل وهذا يخرج به إلى بطحاء مكة في الحر وتوضع الصخرة على بطنه حتى يكفر وهذا يمنع رزقه ويترك جائعا عريانا
ثم إنهم هجروا أحب البلاد إليهم وأفضلها عندهم مكة أم القرى إلى مدينة كانوا فيها محتاجين إلى أهلها وتركوا أموالهم بمكة قال تعالى
للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون
وقال تعالى
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله

وقال تعالى
فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب
قوله
يخرجون الرسول وإياكم
وجميع المهاجرين والأنصار آمنوا به طوعا واختيارا قبل أن يؤمر أحد بقتال
فإنه مكث بمكة بضع عشرة سنة لا يقاتل أحدا ولم يؤمر بقتال بل كان لا يكره أحد على الدين كما قال تعالى
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي
وكانوا خلقا كثيرا ومعلوم أن الخلق الكثير الذين اتبعوا شخصا قد جاء بدين لا يوافقه عليه أحد وطلب منهم أن يؤمنوا به ويتبعوه ويفارقوا دين آبائهم ويصبروا على عداوة الناس وأذاهم ويهجروا لأجله ما ترغب النفوس فيه من الأهل والمال والوطن وهو مع

ذلك لم يعط أحدا منهم مالا ولا كان له مال يعطيهم إياه ولا ولي أحد ولاية ولم يكن عنده ولاية يوليهم إياها ولا أكره أحدا ولا بقرصة في جلده فضلا عن سوط أو عصا أو سيف وهو مع ذلك يقول عما يخبرهم به من الغيب الله أخبرني به لم يخبرني بذلك بشر
فلو كانوا مع ذلك يعلمون أن تعلمه من بشر لكان هذا مما يقوله بعضهم لبعض ويمتنع في جبلة بني آدم وفطرهم أن يعلموا أنه كاذب وأنه قد تعلم هذا من بشر وليس فيهم من يخبر بذلك مع أنهم كانوا كثيرين لا يمكن تواطؤهم على الكذب والكتمان بل ولا داعي لهم يدعوهم إلى ذلك ويمتنع أن لا يعلموا ذلك وهم بطانته المطلعون على أحواله وهم يسمعون كلام أعدائه المطلعين على حاله
والقرآن كان ينزل شيئا فشيئا لم ينزل جملة بل كانوا يسألونه عن الشيء بعد الشيء من الغيب بين الذين آمنوا به وباطنوه واطلعوا على أسراره وهو لا يعلم شيئا من ذلك ثم يخبرهم به وهم مطلعون على أمره خبرا بعد خبر وسؤالا بعد سؤال وهذا كان

بمكة وليس بها أحد من علماء أهل الكتاب لا اليهود ولا النصارى ثم هاجر إلى المدينة وبها خلق كثير من اليهود قينقاع والنضير وقريظة ولعلهم كانوا بقدر نصف أهلها أو أقل أو أكثر وهم أيضا يسألونه عن الغيوب التي لا يعلمها إلا نبي فيخبرهم بها ويتلو عليهم ما سأله عنه المشركون من الغيب وما أخبرهم به ويتلو عليهم هذا الغيب الذي أوحاه الله إليه ويبين أن الله أعلمه ذلك لم يعلمه إياه بشر فآمن به طائفة من أهل الكتاب وكفرت به طائفة أخرى والطائفتان ليس فيهم من يقول إن هذا تعلمه منا أو من إخواننا أو نظرائنا ولا إنك قرأته في كتبنا مع أنه لو كان قد تعلم ذلك منهم لكان شيوخه منهم وشيوخهم إذا علموا أنه كاذب تعلمه منهم يمتنع أن يصدقوه باطنا وظاهرا بل تصديقهم الكتاب الأول وعلمهم بكذب من ادعى نزول كتاب ثان وقد تعلم منهم يدعوهم إلى أن يبينوا أمره ويظهروا كذبه ويقولوا للناس تعلم منا نحن أخبرناه بذلك لا سيما مع ما فعله باليهود من القتل والحصار والجلاء والسبي وغير ذلك
وهذا لو وقع لكان من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ينقله الموافق والمخالف فلما لم يقل ذلك أحد ولم ينقله أحد مع ما أظهره من الأخبار المتواترة التي علمها الخاص والعام

بأن هذا مما أنبأني الله لم يخبرني به بشر كان هذا دليلا قاطعا بينا في أن هذه الأخبار الغيبية التي لا يعلمها إلا نبي أعلمه الله بها أو من تعلمها من نبي هي مما أنبأه الله به ولم يعلمه ذلك بشر وهذا من الغيب الذي قال الله فيه في السورة التي فيها استماع الجن للقرآن وإنذار قومهم به حيث قال
قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا
إلى قوله
سورة الجن الآيات 1 3 ومن 19 28

فقوله تعالى
فلا يظهر على غيبه
يبين أنه غيب يضاف إليه يختص به لا يعلمه أحد إلا من جهته بخلاف ما يغيب عن بعض الناس ويعلمه بعضهم فإن هذا قد يتعلمه بعضهم من بعض
فمما سأله عنه أهل الكتاب في المدينة مسائل وهي غير المسائل التي كان يسأل عنها وهو بمكة كما كان مشركوا قريش يرسلون إلى اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد فيرسل اليهود بمسائل يمتحنون بها نبوته وذلك مثل ما في صحيح البخاري عن أنس قال جاء عبد الله بن سلام إلى رسول الله مقدمه

المدينة فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة والولد ينزع إلى أمه تارة وإلى أبيه قال أخبرني جبريل آنفا قال عبد الله ذاك عدو اليهود من الملائكة أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود فقال لهم النبي أي رجل عبد الله فيكم قالوا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وعالمنا وابن عالمنا قال أرأيتم إن أسلم عبد الله قالوا أعاذه الله من ذلك فخرج إليهم عبد الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد

أن محمدا رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا وتنقصوه قال فهذا ما كنت أخاف وأحذر
وروى مسلم في صحيحه عن ثوبان قال كنت قائما عند رسول الله فجاء حبر من أحبار اليهود وقال السلام عليك يا محد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال لم تدفعني قال قلت ألا تقول يا رسول الله قال إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله إن اسمي الذي سماني به أهلي محمد فقال اليهودي جئت أسألك فقال رسول الله ينفعك شيء إن حدثتك قال أسمع بأذني فنكت بعود معه فقال له سل فقال اليهودي أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فقال رسول الله في الظلمة دون الجسر قال فمن أول الناس إجازة قال فقراء المهاجرين فقال اليهودي فما تحفتهم حين يدخلون قال زيادة كبد نون قال وما غذاؤهم

على إثره قال ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها قال فما شرابهم عليه قال من عين فيها تسمى سلسبيلا قال صدقت قال وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان قال ينفعك إذا حدثتك قال أسمع بأذني قال جئت أسألك عن الولد قال ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله فقال اليهودي صدقت وإنك لنبي ثم انصرف فقال النبي إنه سألني هذا الذي سألني عنه وما أعلم شيئا منه حتى أتاني به الله تعالى
وروى أبو داود الطيالسي حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن

شهر بن حوشب عن ابن عباس قال حضرت عصابة من اليهود يوما إلى النبي فقالوا يا رسول الله حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمها إلا نبي فقال سلوني عم شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه صدقا لتتابعوني على الإسلام قالوا لك ذلك قل فسلوني عم شئتم قالوا أخبرنا عن أربع خلال أخبرنا عن الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه حتى يكون ذكرا وكيف يكون الأنثى حتى يكون أنثى وأخبرنا كيف هذا النبي في النوم ومن وليك من الملائكة قال فعليكم عهد الله وميثاقه لئن أنا حدثتكم لتتابعوني فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق قال أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا طال سقمه فيه فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه وكان أحب الشراب إليه ألبان الإبل وأحب الطعام إليه لحوم الإبل قالوا اللهم نعم فقال رسول الله اللهم اشهد عليهم قال فأنشدكم

بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض وأن ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان الولد والشبه له بإذن الله قالوا اللهم نعم فقال اللهم اشهد قال أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو وأنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه ولا ينام قلبه قالوا اللهم نعم قال اللهم اشهد قالوا أنت الآن حدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك قال وليي جبريل عليه السلام ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه قالوا فعندها نفارقك لو كان غيره لاتبعناك وصدقناك قال فما يمنعكم أن تصدقوا قالوا إنه عدونا من الملائكة فأنزل الله عز و جل
من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا
إلى قوله
فإن الله عدو للكافرين

ففي هذه الأحاديث أن علماء اليهود كعبد الله بن سلام وغيره كانوا يسألونه عن مسائل يقولون فيها لا يعلمها إلا نبي أي ومن تعلمها من الأنبياء فإن السائلين كانوا يعلمونها كما جاء أيضا لا يعلمها إلا نبي أو رجل أو رجلان فكانوا يمتحنونه بهذه المسائل ليتبين هل يعلمها وإذا كان يعلم ما لا يعلمه إلا نبي كان نبيا ومعلوم أن مقصودهم بذلك إنما يتم إذا علموا أنه لم يعلم هذه المسائل من أهل الكتاب ومن تعلم منهم وإلا فمعلوم أن هذه المسائل كان تعلمها بعض الناس لكن تعلمها هؤلاء من الأنبياء
وهذا يبين أن هؤلاء السائلين له من أهل الكتاب كانوا يعلمون أن أحدا من البشر لم يعلمه ما عند أهل الكتاب من العلم إذ لو جوزوا ذلك عليه لم يحصل مقصودهم من امتحانه هل هو نبي أم لا فإنهم إذا جوزوا أن يكون تعلم ما لا يعلمه إلا نبي من أهل الكتاب كان من جنسهم فلم يكن في علمه بها وإجابتهم عنها دليلا على نبوته
فلا بد أن يكون هؤلاء السائلون يقطعون بأنه لم يتعلم من أهل

الكتاب وهذا كان بالمدينة بعد أن أقام بمكة بضعة عشرة سنة وانتشر أمره وكذبه قومه وحرصوا على إبطال دعوته بكل طريق يقدرون عليه فلو كان بمكة أو بالمدينة أحد من أهل الكتاب يتعلم منه أو لقي أحدا من أهل الكتاب في طريق فتعلم منه لكان ذلك يقدح في مقصود هؤلاء السائلين
فتبين أنه كان معلوما عند أهل الكتاب أنه لم يتعلم شيئا من الغيب من بشر لا سيما ولو كان قد تعلمه من أهل الكتاب وقد كذبهم وحاربهم لأظهروا ذلك ولشاع في أهل الكتاب فكان إذا أجابهم قالوا هذا تعلمته من فلان وفلان منا أو هذا علمكه بعض أهل ديننا وهذا كما كانوا يرسلون إلى قومه من قريش ليسألوه عن مسائل ويقولون إن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فهو متقول ويقولون سلوه عن مسائل لا يعلمها إلا نبي
فهذا من أهل المدينة ومن قريش قومه يبين أن قومه المشركين وأهل الكتاب كانوا متفقين على أنه لم يتعلم شيئا من ذلك البشر إذ لو جوزوا ذلك لم يحصل مقصودهم بذلك ولم يجز أن يقولوا لا يعلمها إلا نبي فإنهم كانوا جميعا يعلمون أن من أهل الكتاب من يعلم هذه المسائل وبذلك يعرف هل يجيب فيها بما قالته الأنبياء أو بخلاف ذلك ويعلمون أن من كان تعلمها من أهل الكتاب ومن تعلم منهم لا يدل جوابه عنها على نبوته كما لو أجاب عن تلك

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9