كتاب : الإيضاح في علوم البلاغة
المؤلف : جلال الدين أبو عبدالله محمد بن سعدالدين بن عمر القزويني

بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العلامة خطيب الخطباء مفتي المسلمين جلال الدين أبو عبد الله محمد ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي محمد عبد الرحمن ابن إمام الدين أبي حفص عمر القزويني الشافعي متع الله المسلمين بمحياه وأحسن عقباه
الحمد لله رب العالمين وصلاته على محمد وعلى آل محمد أجمعين
أما بعد فهذا كتاب في علم البلاغة وتوابعها ترجمته بالإيضاح وجعلته على ترتيب مختصري الذي سميته تلخيص المفتاح وبسطت فيه القول ليكون كالشرح له فأوضحت مواضعه المشكلة وفصلت معانيه المجملة وعمدت إلى ما خلا عنه المختصر مما تضمنه مفتاح العلوم وإلى ما خلا عنه المفتاح من كلام الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني رحمه الله في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة وإلى ما تيسر النظر فيه من كلام غيرهما فاستخرجت زبدة ذلك كله وهذبتها ورتبتها حتى استقر كل شيء منها

في محله وأضفت إلى ذلك ما أدى إليه فكري ولم أجده لغيري فجاء بحمد الله جامعا لأشتات هذا العلم وإليه أرغب أن يجعله نافعا لمن نظر فيه من أولي الفهم وهو حسبي ونعم الوكيل

مقدمة في الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة وانحصار علم البلاغة في المعاني
والبيان
للناس في تفسير الفصاحة والبلاغة أقوال مختلفة لم أجد فيما بلغني منها ما يصلح لتعريفهما به ولا ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكلام وكون الموصوف بهما المتكلم فالأولى أن نقتصر على تلخيص القول فيهما بالاعتبارين فنقول كل واحدة منهما تقع صفة لمعنيين أحدهما الكلام كما في قولك قصيدة فصيحة أو بليغة ورسالة فصيحة أو بليغة والثاني المتكلم كما في قولك شاعر فصيح أو بليغ وكاتب فصيح أو بليغ
والفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد فيقال كلمة فصيحة ولا يقال كلمة بليغة
فصاحة المفرد
أما فصاحة المفرد فهي خلوصه من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس اللغوي فالتنافر منه ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسر النطق بها كما روي أن أعرابيا سئل عن ناقته فقال تركتها ترعى الهعخع ومنه ما هو دون ذلك كلفظ مستشزر في

قول امرؤ القيس
( غدائره مستشزرات إلى العلا ... )
والغرابة أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها فيحتاج في معرفتها إلى من ينقر عنها في كتب اللغة المبسوطة كما روى عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمار فاجتمع عليه الناس فقال ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة افرنقعوا عني
أي اجتمعتم تنحوا ويخرج لها وجه بعيد كما في قول العجاج
( وفاحما ومرسنا مسرجا ... )
فإنه لم يعرف ما أراد بقوله مسرجا حتى اختلف في تخريجه فقيل هو من قولهم للسيوف سريجية منسوبة إلى قين يقال له سريج يريد أنه في الاستواء والدقة كالسيف السريجي وقيل من السراج يريد أنه في البريق كالسراج وهذا يقرب من قولهم سرج وجهه بكسر الراء أي حسن وسرج الله وجهه أي بهجه وحسنه ومخالفة القياس كما في قول الشاعر
( الحمد لله العلي الأجلل ... )
فإن القياس الأجل بالإدغام وقيل هي خلوصه مما ذكر ومن الكراهة في السمع بأن تمج الكلمة ويتبرأ من سماعها كما يتبرأ من سماع الأصوات المنكرة فإن اللفظ من قبيل الأصوات والأصوات منها ما تستلذ النفس سماعها ومنها ما تكره سماعه كلفظ الجرشي في

قول أبي الطيب
( كريم الجرشي شريف النسب ... )
أي كريم النفس وفيه نظر
ثم علامة كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرا أو أكثر من استعمالهم ما بمعناها

فصاحة الكلام
وأما فصاحة الكلام فهي خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد مع فصاحتها فالضعف كما في قولنا ضرب غلامه زيدا فإن رجوع الضمير إلى المفعول المتأخر لفظا ممتنع عند الجمهور لئلا يلزم رجوعه إلى ما هو متأخر لفظا ورتبة
وقيل يجوز لقول الشاعر
( جزى ربه عني عدي بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل )
وأجيب عنه بأن الضمير لمصدر جزى أي رب الجزاء كما في قوله تعالى ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) أي العدل
والتنافر منه ما تكون الكلمات بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسر النطق بها متتابعة كما في البيت الذي أنشده الجاحظ
( وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر )
ومنه ما دون ذلك كما في قول أبي تمام
( كريم متى أمدحه والورى ... معي وإذا ما لمته لمته وحدي ) فإن في قوله أمدحه ثقلا ما لما بين الحاء والهاء من تنافر
والتعقد أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد به وله

سببان أحدهما ما يرجع إلى اللفظ وهو يختل نظم الكلام ولا يدري السامع كيف يتوصل منه إلى معناه كقول الفرزدق
( وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه )
كان حقه أن يقول وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه فإنه يمدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان فقال وما مثله يعني إبراهيم الممدوح في الناس حي يقاربه أي أحد يشبهه في الفضائل إلا مملكا يعني هشاما أبو أمه أي أبو أم هشام أبوه أي أبو الممدوح فالضمير في أمه للملك وفي أبوه للممدوح ففصل بين أبو أمه وهو مبتدأ وأبوه وهو خبره بحي وهو أجنبي وكذا فصل بين حي ويقاربه وهو نعت حي بأبوه وهو أجنبي وقدم المستثنى على المستثنى منه فهو كما تراه في غاية التعقيد فالكلام الخالي من التعقيد اللفظي ما سلم نظمه من الخلل فلم يكن فيه ما يخالف الأصل من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك إلا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة لفظية أو معنوية كما سيأتي تفصيل ذلك كله وأمثلته اللائقة به
والثاني ما يرجع إلى المعنى وهو أن لا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به ظاهرا كقول العباس بن الأحنف
( سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا )
كنى بسكب الدموع عما يوجبه الفراق من الحزن وأصاب لأن من شأن البكاء أن يكون كناية عنه كقولهم أبكاني وأضحكني أي

أساءني وسرني
وكما قال الحماسي
( أبكاني الدهر ويا ربما ... أضحكني الدهر بما يرضي )
ثم طرد ذلك في نقيضه فأراد أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود لظنه أن الجمود خلو العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شيء آخر وأخطأ لأن الجمود خلو العين من البكاء في حال إرادة البكاء منها فلا يكون كناية عن المسرة وإنما يكون كناية عن البخل كما قال الشاعر
( ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود )
ولو كان الجمود يصلح أن يراد به عدم البكاء في حال المسرة لجاز أن يدعي به للرجل فيقال لا زالت عينك جامدة كما يقال لا أبكى الله عينك وذلك مما لا يشك في بطلانه
وعلى ذلك قول أهل اللغة سنة جماد لا مطر فيها وناقة جماد لا لبن لها فكما لا تجعل السنة والناقة جمادا إلا على معنى أن السنة بخيلة بالقطر والناقة لا تسخو بالدر لا تجعل العين جمودا إلا وهناك ما يقتضي إرادة البكاء منها وما يجعلها إذا بكت محسنة موصوفة بأنها قد جادت وإذا لم تبك مسيئة موصوفة بأنها قد ضنت فالكلام الخالي عن التعقيد المعنوي ما كان الانتقال من معناه الأول إلى معناه الثاني الذي هو المراد به ظاهرا حتى يخيل إلى السامع أنه فهمه من سياق اللفظ كما سيأتي من الأمثلة المختارة للاستعارة والكناية وقيل فصاحة الكلام وهي خلوصه مما ذكر ومن كثرة التكرار وتتابع الإضافات كما في قول أبي الطيب
( سبوح لها منها عليها شواهد ... )

وفي قول ابن بابك
( حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي ... )
وفيه نظر لأن ذلك إن أفضى باللفظ إلى الثقل على اللسان فقد حصل الاحتراز عنه بما تقدم وإلا فلا يخل بالفصاحة وقد قال النبي ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم
قال الشيخ عبد القاهر قال الصاحب إياك والإضافات المتداخلة فإنها لا تحسن وذكر أنها تستعمل في الهجاء كقول القائل
( يا علي بن حمزة بن عمارة ... أنت والله ثلجة في خيارة )
ثم قال الشيخ ولا شك في ثقل ذلك في الأكثر لكنه إذا سلم من الاستكراه ملح ولطف
ومما حسن فيه قول ابن المعتز أيضا
( وظلت تدير الراح أيدي جآذر ... عتاق دنانير الوجود ملاح ) ومما جاء فيه حسنا جميلا قول الخالدي يصف غلاما له
( ويعرف الشعر مثل معرفتي ... وهو على أن يزيد مجتهد )
( وصير في القريض وزان ... دينار المعاني الدقاق منتقد )
وأما فصاحة المتكلم فهي ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح فالملكة قسم من مقولة الكيف التي هي هيئة قارة لا تقتضي قسمة ولا نسبة وهو مختص بذوات الأنفس راسخ في موضوعه

وقيل ملكة ولم يقل صفة ليشعر بأن الفصاحة من الهيئات الراسخة حتى لا يكون المعبر عن مقصوده بلفظ فصيح إلا إذا كانت الصفة التي اقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح راسخة فيه وقيل يقتدر بها ولم يقل يعبر بها ليشمل حالتي النطق وعدمه وقيل بفظ فصيح ليعم المفرد والمركب

بلاغة الكلام
وأما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته ومقتضى الحال مختلف فإن مقامات الكلام متفاوتة فمقام التنكير يباين مقام التعريف ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد ومقام التقديم يباين مقام التأخير ومقام الذكر يباين مقام الحذف ومقام القصر يباين مقام خلافه ومقام الفصل يباين مقام الوصل ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام إلى غير ذلك كما سيأتي تفصيل الجميع وارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب وانحطاطه بعدم مطابقته له فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب وهذا أعني تطبيق الكلام على مقتضى الحال هو الذي يسميه الشيخ عبد القاهر بالنظم حيث يقول النظم تآخي معاني النحو فيما بين الكلام على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام
فالبلاغة صفة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى عند التركيب وكثيرا ما يسمى ذلك فصاحة أيضا وهو مراد الشيخ عبد القاهر بما يكرره في دلائل الإعجاز من أن الفصاحة صفة راجعة إلى المعنى دون اللفظ كقوله في أثناء فصل منه علمت أن الفصاحة

والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني وإلى ما يدل عليه بالألفاظ دون الألفاظ نفسها وإنما قلنا مراد ذلك لأنه صريح في مواضع من دلائل الإعجاز بأن فضيلة الكلام للفظ لا لمعناه منها أنه حكى قول من ذهب إلى عكس ذلك فقال فأنت تراه لا يقدم شعرا حتى يكون قد أودع حكمة أو أدبا أو اشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر ثم قال والأمر بالضد إذا جئنا إلى الحقائق وما عليه المحصلون لأنا لا نرى متقدما في علم البلاغة مبرزا في شأوها إلا وهو ينكر هذا الرأي ثم نقل عن الجاحظ في ذلك كلام منه قوله والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك ثم قال ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصيانة وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير فيه كالفضة والذهب يصاغ منها خاتم أو سوار فكما أنه محال إذا أردت النظر في صوغ الخاتم وجوده العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه وكما لو فضلنا خاتما على خاتم بأن تكون فضة هذا أجود أو فضة ذاك أنفس لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتا على بيت من أجل معناه أن لا يكون ذلك تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام هذا لفظه وهو صريح في أن الكلام من حيث هو كلام لا يوصف بالفضيلة باعتبار شرف معناه ولا شك أن الفصاحة من صفاته الفاضلة فلا تكون راجعة

إلى المعنى وقد صرح فيما سبق بأنها راجعة إلى المعنى دون اللفظ فالجمع بينهما بما قدمناه يحمل كلامه حيث نفى أنها من صفات اللفظ على نفي أنها من صفات المفردات من غير اعتبار للتركيب وحيث أثبت أنها من صفاته على أنها من صفاته باعتبار إفادته المعنى عند التركيب
وللبلاغة طرفان أعلى إليه تنتهي وهو حد الإعجاز وما يقرب منه وأسفل منه تبتدىء وهو ما إذا غير الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات وإن كان صحيح الإعراب وبين الطرفين مراتب كثيرة متفاوتة
وإذ قد عرفت معنى البلاغة في الكلام وأقسامها ومراتبها فاعلم أنه يتبعها وجوه كثيرة غير راجعة إلى مطابقة مقتضى الحال ولا إلى الفصاحة تورث الكلام حسنا وقبولا

بلاغة المتكلم
وأما بلاغة المتكلم فهي ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ
وقد علم بما ذكرنا أمران أحدهما أن كل بليغ كلاما كان أو متكلما فصيح وليس كل فصيح بليغا الثاني أن البلاغة في الكلام مرجعها إلى الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره
والثاني أعني التمييز منه ما يتبين في علم متن اللغة أو التصريف أو النحو أو يدرك بالحس وهو ما عدا التعقيد المعنوي
وما يحترز به عن الأول أعني الخطأ هو علم المعاني

وما يحترز به عن الثاني أعني التعقيد المعنوي هو علم البيان
وما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته هو علم البديع وكثير من الناس يسمي الجميع علم البيان وبعضهم سمى الأول علم المعاني والثاني والثالث علم البيان والثلاثة علم البديع وهو علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال
قيل يعرف دون يعلم رعاية لما اعتبره بعض الفضلاء من تخصيص العلم بالكليات المعروفة بالجزئيات كما قال صاحب القانون في تعريف الطب الطب علم يعرف به أحوال بدن الإنسان
وكما قال الشيخ أبو عمر رحمه الله التصريف علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلم
وقال السكاكي علم المعاني هو تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما تقتضي الحال ذكره وفيه نظر إذ التتبع ليس بعلم ولا صادق عليه فلا يصح تعريف شيء من العلوم به ثم قال وأعني بالتراكيب تراكيب البلغاء
ولا شك أن معرفة البليغ من حيث هو بليغ متوقفة على معرفة البلاغة وقد عرفها في كتابه بقوله البلاغة هي بلوغ المتكلم في تأدية المعنى حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها فإن أراد التراكيب في حد البلاغة تراكيب البلغاء وهو الظاهر فقد جاء الدور وإن أراد غيرها فلم يبينه على أن قوله وغيره مبهم لم يبين مراده به ثم المقصود من علم المعاني منحصر في ثمانية أبواب

أولها أحوال الإسناد الخبري
وثانيها أحوال المسند إليه
وثالثها أحوال المسند
ورابعها أحوال متعلقات الفعل
وخامسها القصر
وسادسها الإنشاء
وسابعها الفصل والوصل
وثامنها الإيجاز والإطناب والمساواة
ووجه الحصر أن الكلام إما خبر أو إنشاء لأنه إما أن يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه أو لا يكون لها خارج الأول الخبر والثاني الإنشاء ثم الخبر لا بد له من إسناد ومسند إليه ومسند وأحوال هذه الثلاثة هي الأبواب الثلاثة الأولى
ثم المسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا أو متصلا به أو في معناه كاسم الفاعل ونحوه وهذا هو الباب الرابع ثم الإسناد والتعلق كل واحد منهما يكون إما بقصر أو بغير قصر وهذا هو الباب الخامس
والإنشاء هو الباب السادس
ثم الجملة إذا قرنت بأخرى فتكون الثانية إما معطوفة على الأولى أو غير معطوفة وهذا هو الباب السابع
ولفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة أو غير زائد عليه وهذا هو الباب الثامن

تنبيه
اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق والكاذب فذهب الجمهور إلى أنه منحصر فيهما ثم اختلفوا فقال الأكثر منهم صدقه

مطابقة حكمه للواقع وكذبه عدم مطابقة حكمه له هذا هو المشهور وعليه التعويل وقال بعض الناس صدقه مطابقة حكمه الاعتقاد المخبر صوابا كان أو خطأ وكذبه عدم مطابقة حكمه له واحتج بوجهين أحدهما أن من اعتقد أمرا فأخبره به ثم ظهر خبره بخلاف الواقع يقال ما كذب ولكنه أخطأ كما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت فيمن شأنه كذلك ما كذب ولكنه وهم
ورد بأن المنفي تعمد الكذب لا الكذب بدليل تكذيب الكافر كاليهودي إذا قال الإسلام باطل وتصديقه إذا قال الإسلام حق فقولها ما كذب متأول بما كذب عمدا
الثاني قوله تعالى ( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) كذبهم في قولهم إنك لرسول الله وإن كان مطابقا للواقع لأنهم لم يعتقدوه وأجيب عنه بوجوه
أحدها أن المعنى نشهد شهادة واطأت فيها قلوبنا ألسنتنا كما يترجم عنه أن واللام وكون الجملة اسمية في قولهم إنك لرسول الله فالتكذيب في قولهم نشهد وادعائهم فيه المواطأة لا في قولهم إنك لرسول الله
وثانيها أن التكذيب في تسميتهم إخبارهم شهادة لأن الإخبار إذ خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة
وثالثها أن المعنى لكاذبون في قولهم إنك لرسول الله عند أنفسهم لاعتقادهم أنه خبر على خلاف ما عليه المخبر عنه

وأنكر الجاحظ انحصار الخبر في القسمين وزعم أنه ثلاثة أقسام صادق وكاذب وغير صادق ولا كاذب لأن الحكم إما مطابق للواقع مع اعتقاد المخبر له أو عدمه وإما غير مطابق مع الاعتقاد أو عدمه فالأول أي المطابق مع الاعتقاد هو الصادق والثالث أي غير المطابق مع عدم الاعتقاد هو الكاذب والثاني والرابع أي المطابق مع عدم الاعتقاد وغير المطابق مع عدم الاعتقاد كل منهما ليس بصادق ولا كاذب فالصدق عنده مطابقة الحكم للواقع مع اعتقاده والكذب عدم مطابقته مع اعتقاده وغيرهما ضربان مطابقته مع عدم اعتقاده وعدم مطابقته مع عدم اعتقاده واحتج بقوله تعالى ( افترى على الله كذبا أم به جنة ) فإنهم حصروا دعوى النبي الرسالة في الافتراء والإخبار حال الجنون بمعنى امتناع الخلو وليس إخباره حال الجنون كذبا لجعلهم الافتراء في مقابلته ولا صدقا لأنهم لم يعتقدوا صدقه فثبت أن من ا لخبر ما ليس بصادق ولا كاذب
وأجيب عنه بأن الافتراء هو الكذب عن عمد فهو نوع من الكذب فلا يمتنع أن يكون الإخبار حال الجنون كذبا أيضا لجواز أن يكون نوعا آخر من الكذب وهو الكذب لا عن عمد فيكون التقسيم للخبر الكاذب لا للخبر مطلقا والمعنى افترى أم لم يفتر وعبر عن الثاني بقوله أم به جنة لأن المجنون لا افتراء له

تنبيه آخر
وهو مما يجب أن يكون على ذكر الطالب لهذا العلم قال

السكاكي ليس من الواجب في صناعة وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل أن يكون الدخيل فيها كالناشىء عليها في استفادة الذوق منها فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى تحكمات وضعية واعتبارات إلفية فلا على الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلد صاحبه في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق
وكثيرا ما يشير الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز إلى هذا كما ذكر في موضع ما تلخيصه هذا اعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعا من السامع ولا يجد لديه قبولا حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة ومن تحدثه نفسه بأن لما تومىء إليه من الحسن أصلا فيختلف الحال عليه عند تأمل الكلام فيجد الأريحية تارة ويعرى منها أخرى وإذا عجبته تعجب وإذا نبهته لموضع المزية انتبه فأما من كانت الحالات عنده على سواء وكان لا يتفقد من أمر النظم إلا الصحة المطلقة وإلا إعرابا ظاهرا فليكن عندك بمنزلة من عدم الطبع الذي يدرك به وزن الشعر ويميز به مزاحفه من سالمه في أنك لا تتصدى لتعريفه لعلمك أنه قد عدم الأداة التي بها يعرف
واعلم أن هؤلاء وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب فإن من الآفة أيضا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة في شيء مما تعرف المزية فيه ولا يعلم إلا أن له موقعا من النفس وحظا من القبول فهذا بتوانيه في حكم القائل الأول
واعلم أنه ليس إذا لم يكن معرفة الكل وجب ترك النظر في

الكل ولأن تعرف العلة في بعض الصور فتجعله شاهدا في غيره أحرى من أن تسد باب المعرفة على نفسك وتعودها الكسل والهوينا
قال الجاحظ وكلام كثير جرى على ألسنة الناس وله مضرة شديدة وثمرة مرة فمن أضر ذلك قولهم لم يدع الأول للآخر شيئا فلو أن علماء كل عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم تركوا الاستنباط لما ينته إليهم عمن قبلهم لرأيت العلم مختلا

القول في أحوال الإسناد الخبري
من المعلوم لكل عاقل أن قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب إما نفس الحكم كقولك زيد قائم لمن لا يعلم أنه قائم ويسمى هذا فائدة الخبر وإما كون المخبر عالما بالحكم كقولك لمن زيد عنده ولا يعلم أنك تعلم ذلك زيد عندك ويسمى هذا لازم فائدة الخبر
قال السكاكي والأول بدون هذه تمتنع وهذه بدون الأولى لا تمتنع كما هو حكم اللازم المجهول المساواة أي يمتنع أن لا يحصل العلم الثاني من الخبر نفسه عند حصول الأول منه لامتناع حصول الثاني قبل حصول الأول مع أن سماع الخبر من المخبر كاف في حصول الثاني منه ولا يمتنع أن لا يحصل الأول من الخبر نفسه عند سماع الثاني منه لجواز حصول الأول قبل الثاني وامتناع حصول الحاصل وقد ينزل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم فيلقى إليه الخبر كما يلقى على الجاهل بأحدهما
قال السكاكي وإن شئت فعليك بكلام رب العزة ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به

أنفسهم لو كانوا يعلمون ) كيف تجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد القسمي وآخره ينفيه عنهم حيث لم يعلموا بعلمهم ونظيره في النفي والإثبات ( وما رميت إذ رميت ) وقوله تعالى ( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون )
هذا لفظه وفيه إيهام أن الآية الأولى من أمثلة تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما وليست منها بل هي من أمثلة تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به لعدم جريه على موجب العلم والفرق بينهما ظاهر وإذا كان غرض المخبر بخبره إفادة المخاطب أحد الأمرين فينبغي أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر والتردد فيه استغنى عن مؤكدات الحكم كقولك جاء زيد وعمرو ذاهب فيتمكن في ذهنه لمصادفته إياه خاليا وإن كان متصور الطرفية مترددا في إسناد أحدهما إلى الآخر طالبا له حسن تقويته بمؤكد كقولك لزيد عارف أو إن زيدا عارف وإن كان حاكما بخلافه وجب توكيده بحسب الإنكار فتقول إني صادق لمن ينكر صدقك ولا يبالغ في إنكاره وإني لصادق لمن يبالغ في إنكاره وعليه قوله تعالى ( واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون

قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ) حيث قال في المرة الأولى إنا إليكم مرسلون وفي الثانية إنا إليكم لمرسلون
ويؤيد ما ذكرناه جواب أبي العباس الكندي عن قوله إني أجد في كلام العرب حشوا يقولون عبد الله قائم وإن عبد الله القائم والمعنى واحد بأن قال بل المعاني مختلفة فعبد الله قائم إخبار عن قيامه وأن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل وإن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيا والثاني طلبيا والثالث إنكاريا وإخراج الكلام على هذه الوجوه إخراجا على مقتضى الظاهر وكثيرا ما يخرج على خلافه فينزل غير السائل منزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح له بحكم الخبر فيستشرف له استشراف المتردد الطالب كقوله تعالى ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) وقوله ( وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) وقول بعض العرب
( فغنها وهي لك الفداء ... إن غناء الإبل الحداء )
وسلوك هذه الطريقة شعبة من البلاغة فيها دقة وغموض روى الأصمعي أنه قال كان أبو عمرو بن العلاء وخلف الأحمر يأتيان بشارا فيسلمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان يا أبا معاذ ما أحدثت فيخبرهم وينشدهما ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان فأتياه يوما فقالا ما هذه القصيدة التي أحدثتها في ابن

قتيبة قال هي التي بلغتكما قالا بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب قال نعم إن ابن قتيبة يتباشر بالغريب فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف قالا فأنشدناها يا أبا معاذ فأنشدهما
( بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التكبير )
حتى فرغ منها فقال له خلف لو قلت يا أبا معاذ مكان إن ذاك النجاح بكرا فالنجاح كان أحسن فقال بشار إنما بنيتها أعرابية وحشة فقلت إن ذاك النجاح كما يقول الأعراب البدويون ولو قلت بكرا فالنجاح كان هذا من كلام المولدين ولا يشبه ذلك الكلام ولا يدخل في معنى القصيدة قال فقام خلف فقبل بين عينيه فهل كان ما جرى بين خلف وبشار بمحضر من أبي عمرو بن العلاء وهم من فحولة هذا الفن إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه
وكذلك ينزل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار كقوله
( جاء شقيق عارضا رمحه ... إن بني عمك فهيم رماح )
فإن مجيئه هكذا مدلا بشجاعته قد وضع رمحه عارضا دليل على إعجاب شديد منه واعتقاد أنه لا يقوم إليه من بني عمه أحد كأنهم كلهم عزل ليس مع أحد منهم رمح
وكذلك ينزل المنكر منزلة غير المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع عن الإنكار كما يقال لمنكر الإسلام الإسلام حق وعليه قوله تعالى في حق القرآن
( لا ريب فيه ) ومما يتفرع على هذين

الاعتبارين قوله تعالى ( ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ) أكد إثبات الموت تأكيدين وإن كان مما لا ينكر لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت لتماديهم في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده ولهذا قيل ميتون دون تموتون كما سيأتي الفرق بينهما
وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا وإن كان مما ينكر لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بأن لا ينكر بل إما أن يعترف به أو يتردد فيه فنزل المخاطبون منزلة المترددين تنبيها لهم على ظهور أدلته وحثا على النظر فيها ولهذا جاء تبعثون على الأصل هذا كله اعتبارات الإثبات وقس عليه اعتبارات النفي كقولك ليس زيد أو ما زيد منطلقا أو بمنطلق ووالله ليس زيد أو ما زيد منطلقا أو بمنطلق وما ينطلق أو ما ينطلق زيد وما كان زيد ينطلق وما كان زيد لينطلق ولا ينطلق زيد ولن ينطلق زيد ووالله ما ينطلق أو ما أن ينطلق زيد

فصل الإسناد منه حقيقة عقلية ومنه مجاز عقلي
أما الحقيقة فهي إسناد الفعل أو معناه إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر والمراد بمعنى الفحل نحو المصدر واسم الفاعل وقولنا في الظاهر ليشمل ما لا يطابق اعتقاده مما يطابق الواقع وما لا يطابقه فهي أربعة أضرب
أحدهما ما يطابق الواقع واعتقاده كقول المؤمن أنبت الله البقل وشفى الله المريض
والثاني ما يطابق الواقع دون اعتقاده كقول المعتزلي لمن لا يعرف حاله وهو يخفيها منه
خالق الأفعال كلها هو الله تعالى
والثالث ما يطابق اعتقاده دون الواقع كقول الجاهل شفى الطبيب المريض معتقدا شفاء المريض من الطبيب
ومنه قوله تعالى حكاية عن بعض الكفار ( وما يهلكنا إلا الدهر ) ولا يجوز أن يكون مجازا والإنكار عليهم من جهة ظاهر اللفظ لما فيه من إيهام الخطأ بدليل قوله تعالى عقيبه ( وما لهم بذلك من علم إن هم إلا

يظنون ) والمتجوز المخطىء في العبارة لا يوصف بالظن وإنما الظان من يعتقد أن الأمر على ما قاله
والرابع ما لا يطابق شيئا منها كالأقوال الكاذبة التي يكون القائل عالما بحالها دون المخاطب
وأما المجاز فهو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأويل
وللفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والسبب فإسناده إلى الفاعل إذا كان مبنيا له حقيقة كما مر وكذا إلى المفعول إذا كان مبنيا له
وقولنا ما هو له يشملها وإسنادها إلى غيرهما لمضاهاته لما هو له في ملابسة الفعل مجاز كقولهم في المفعول به ( عيشة راضية ) و ( ماء دافق ) وفي عكسه سيل مفعم وفي المصدر شعر شاعر وفي الزمان نهاره صائم وليله قائم وفي المكان طريق سائر ونهر جار وفي السبب بنى الأمير المدينة وقال
( إذا رد عافي القدر من يستعيرها ... )
وقولنا بتأويل يخرج نحو قول الجاهل شفى الطبيب المريض فإن إسناده الشفاء إلى الطبيب ليس بتأويل ولهذا لم يحمل نحو قوله الشاعر الحماسي

( أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي )
على المجاز ما لم يعلم أو يظن أن قائله لم يرد ظاهره كما استدل على أن إسناد ميز إلى كذب الليالي في قول أبي النجم
( قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع )
( من أن رأت رأسي كرأس الأصلع ... ميز عنه قنزعا عن قنزع )
( جذب الليالي أبطئي أو أسرعي ... )
مجاز بقوله عقيبة
( أفناه قيل الله للشمس اطلعي ... حتى إذا واراك أفق فارجعي )
وسمى الإسناد في هذين القسمين من الكلام عقليا لاستناده إلى العقل دون الوضع لأن إسناد الكلمة شيء يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة فلا يصير ضرب خبرا عن زيد بواضع اللغة بل بمن قصد إثبات الضرب فعلا له وإنما الذي يعود إلى واضع اللغة أن ضرب الإثبات الضرب لا لإثبات الخروج وأنه لإثباته في زمان ماض وليس لإثباته في زمان مستقبل فأما تعيين من ثبت له فإنما يتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين ولو كان لغويا لكان حكمنا بأنه مجاز في مثل قولنا خط أو أحسن مما وشى الربيع من جهة أن الفعل لا يصح إلا من الحي القادر حكما بأن اللغة أوجبت أن يختص الفعل بالحي القادر دون الجماد وذلك مما لا يشك في بطلانه
وقال السكاكي الحقيقة العقلية هي الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه قال وإنما قلت ما عند المتكلم دون أن أقول

ما عند العقل ليتناول كلام الجاهل إذا قال شفى الطبيب المريض رائيا شفاء المريض من الطبيب حيث عد منه حقيقة مع أنه غير مفيد لما في العقل من الحكم فيه وفيه نظر لأنه غير مطرد لصدقه على ما لم يكن المسند فيه فعلا ولا متصلا به كقولنا الإنسان حيوان
مع أنه لا يسمى حقيقة ولا مجازا ولا منعكسا لخروج ما يطابق الواقع دون اعتقاد المتكلم ومالا يطابق شيئا منهما منه مع كونهما حقيقتين عقليتين كما سبق وقال المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأول إفادة للخلاف لا بوساطة وضع كقولك أنبت الربيع البقل وشفى الطبيب المريض وكسا الخليفة الكعبة
قال وإنما قلت خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه دون أن أقول خلاف ما عند العقل لئلا يمتنع طرده بما إذا قال الدهري عن اعتقاد أجهل وجاهل غيره أنبت الربيع البقل رائيا إنباته من الربيع فإنه لا يسمى كلامه ذلك مجازا وإن كان بخلاف العقل في نفس الأمر واحتج ببيت الحماسة وقول أبي النجم على ما تقدم ثم قال ولئلا يمتنع عكسه بمثل كسا الخليفة الكعبة وهزم الأمير الجند فليس في العقل امتناع أن يكسو الخليفة نفسه الكعبة ولا أن يهزم الأمير وحده الجند ولا يقدح ذلك في كونهما من المجاز العقلي وإنما قلت لضرب من التأويل ليحترز به عن الكذب فإنه لا يسمى مجازا مع كونه كلاما مفيدا خلاف ما عند المتكلم وإنما قلت إفادة للخوف لا بوساطة وضع ليحترز به عن المجاز اللغوي في صورة وهي إذا ادعى أن أنبت موضع لاستعماله في القادر المجاز أو وضع لذلك وفيه نظر لأنا لا نسلم بطلان طرده بما ذكر لخروجه بقوله لضرب من

التأويل ولا بطلان عكسه بما ذكر إذ المراد بخلاف ما عند العقل خلاف ما في نفس الأمر وفي كلام الشيخ عبد القاهر إشارة إلى ذلك حيث عرف الحقيقة العقلية بقوله كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل واقع موقعه فإن قوله واقع موقعه معناه في نفس الأمر وهو بيان لما قبله وكذا في كلام الزمخشري حيث عرف المجاز العقلي بقوله إن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له فإن قوله في الحقيقة معناه في نفس الأمر ونحو كسا الخليفة الكعبة إذا كان الإسناد فيه مجازا كذلك ثم القول بأن الفعل موضع لاستعماله في القادر ضعيف وهو معترف بضعفه وقد رده في كتابه بوجوه منها أن موضع الفعل لاستعماله في القادر قيد لم ينقل عن واحد من رواة اللغة وترك القيد دليل في العرف على الإطلاق فقوله إفادة الخلاف لا بوساطة وضع لا حاجة إليه وإن ذكر فينبغي أن لا يذكر إلا بعد ذكر الحد على المذهب المختار على أن تمثيله بقول الجاهل أنبت الربيع البقل ينافي هذا الاحتراز

تنبيه
قد تبين بما ذكرنا أن المسمى بالحقيقة العقلية والمجاز العقلي على ما ذكره السكاكي هو الكلام لا الإسناد وهذا يوافق ظاهر كلام الشيخ عبد القاهر في مواضيع من دلائل الإعجاز وعلى ما ذكرناه هو الإسناد لا الكلام وهذا ظاهر ما نقله الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله عن الشيخ عبد القاهر وهو قول الزمخشري في الكشاف وقول غيره وإنما اخترناه لأن نسبة المسمى حقيقة أو مجازا إلى العقل

على هذا لنفسه بلا وساطة شيء وعلى الأول لاشتماله على ما ينتسب إلى العقل أعني الإسناد
ثم المجاز العقلي باعتبار طرفيه أعني المسند والمسند إليه أربعة أقسام لا غير لأنهما حقيقتان كقولنا أنبت الربيع البقل وعليه قوله
( فنام ليلي ... وتجلى همي )
وقوله
( وشيب أيام الفراق مفارقي ... ) وقوله
( ونمت وما ليلي المطي بنائم ... ) وإما مجازا كقولنا أحيا الأرض شباب الزمان
وإما مختلفان كقولنا أنبت البقل شباب الزمان وكقولنا أحيا الأرض الربيع وعليه قول الرجل لصاحبه أحيتني رؤيتك أي آنستني وسرتني
فقد جعل الحاصل بالرؤية من الأنس والمسرة حياة ثم جعل الرؤية فاعلة له ومثله قول أبي الطيب
( وتحيا له المال الصوارم والقنا ... ويقتل ما تحيي التبسم والجدا )
جعل الزيادة والوفور حياة لو للعمال وتفريقه في العطاء قتلا له ثم أثبت الإحياء فعلا للصوارم والقتل فعلا للتبسم مع أن الفعل لا يصح منهما ونحوه قولهم أهلك الناس الدينار والدرهم جعلت الفتنة إهلاكا ثم أثبت الإهلاك فعلا للدنيا والدراهم وهو في القرآن كثير

كقوله تعالى ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) نسبت الزيادة التي هي فعل الله إلى الآيات لكونها سببا فيها وكذا قوله تعالى ( وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم ) ومن هذا الضرب قوله ( يذبح أبناءهم ) الفاعل غيره ونسب الفعل إليه لكونه الآمر به وكقوله ( ينزع عنهما لباسهما ) نسب النزع الذي هو فعل الله تعالى إلى إبليس لأن سببه أكل الشجرة وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما إنه لهما لمن الناصحين وكذا قوله ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ) نسب الإحلال الذي هو فعل الله إلى أكابرهم لأن سببه كفرهم وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر وكقوله تعالى ( يوما يجعل الولدان شيبا ) نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه كقولهم نهاره صائم وكقوله تعالى ( وأخرجت الأرض أثقالها ) وهو غير مختص بالخبر بل يجري في الإنشاء كقوله تعالى ( وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا ) وقوله ( فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا ) وقوله ( فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى )

ولا بد له من قرينة إما لفظية كما سبق في قول أبي النجم أو غير لفظية كاستحالة صدور المسند من المسند إليه المذكور أو قيامه به عقلا كقولك محبتك جاءت بي إليك أو عادة كقولك هزم الأمير الجند وكسا الخليفة الكعبة وبنى الوزير القصر وكصدور الكلام من الموحد في مثل قوله أشاب الصغير البيت
واعلم أنه ليس كل شيء يصلح لأن تتعاطى فيه المجاز العقلي بسهولة بل تجدك في كثير من الأمر تحتاج إلى أن تهيء الشيء وتصلحه له بشيء نتوخاه في النظم كقول من يصف جملا
( تجوب له الظلماء عين كأنها ... زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر )
يريد أن يهتدي بنور عينه في ا لظلماء ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها ولولاها لكانت الظلماء كالسد الذي لا يجد السائر شيئا يفرجه به ويجعل لنفسه فيه سبيلا فلولا أنه قال تجوب له فعلق له بتجوب لما تبين جهة التجوز في جعل الجوب فعلا للعين كما ينبغي لأنه لم يكن حينئذ في الكلام دليل على أن اهتداء صاحبها في الظلمة ومضيه فيها بنورها وكذلك لو قال تجوب له الظلماء عينه لم يكن له هذا الموقع ولا تقطع السلك من حيث كان يعيبه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به واعلم أن الفعل المبني للفاعل في المجاز العقلي واجب أن يكون له فاعل في التقدير إذا أسند إليه صار الإسناد حقيقة لما يشعر بذلك تعريفه كما سبق وذلك قد يكون ظاهرا كما في قوله تعالى ( فما ربحت تجارتهم ) أي فما ربحوا

في تجارتهم وقد يكون خفيا لا يظهر إلا بعد نظر وتأمل كما في قولك سرتني رؤيتك أي سرني الله وقت رؤيتك كما تقول أصل الحكم في أنبت الربيع البقل أنبت الله البقل وقت الربيع وفي شفى الطبيب المريض شفى الله المريض عند علاج الطبيب وكما في قولك أقدمني بلدك حق لي على فلان أقدمتني نفسي بلدك لأجل حق لي على فلان أي قدمت لذلك ونظيره محبتك جاءت بي إليك أي جاءت بي نفيس إليك لمحبتك أي جئتك لمحبتك وإنما قلنا أن الحكم فيهما مجاز لأن الفعلين فيهما مسندان إلى الداعي والداعي لا يكون فاعلا
وكما في قول الشاعر
( وصيرني هواك وبي ... لحيني يضرب المثل )
أي وصيرني الله لهواك وحالي هذه أي أهلكني الله ابتلاء بسبب هواك
وكما في قول الآخر وهو أبو نواس
( يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا )
أي يزيدك الله حسنا في وجهه لما أودعه من دقائق الجمال متى تأملت
وأنكر السكاكي وجود المجاز العقلي في الكلام وقال الذي عندي نظمه في سلك الاستعارة بالكناية بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي بواسطة المبالغة في التشبيه على ما عليه مبني الاستعارة كما سيأتي وجعل نسبة الإنبات إليه قرينة للاستعارة

ويجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارة بالكناية عن الجند الهازم وجعل نسبة الهازم قرينة للاستعارة وفيما ذهب إليه نظر لأنه يستلزم أن يكون المراد بعيشه في قوله تعالى ( فهو في عيشة راضية ) صاحب العيشة لا العيشة وبما في قوله ( خلق من ماء دافق ) فاعل الدفق لا المني لما سيأتي من تفسيره للاستعارة بالكناية وأن لا تصح الإضافة في نحو قولهم فلان نهاره صائم وليله قائم لأن المراد بالنهار على هذا فلان لا نفسه وإضافة الشيء إلى نفسه لا تصح وأن لا يكون الأمر بالإيقاد على الطين في إحدى الآيتين وبالبناء فيهما لهامان مع أن النداء له وأن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم أنبت الربيع البقل وسرتني رؤيتك على الإذن الشرعي لأن أسماء الله تعالى توقيفية وكل ذلك منتف ظاهر الانتفاء ثم ما ذكره متقوض بنحو قولهم فلان نهاره صائم فإن الإسناد فيه مجاز ولا يجوز أن يكون النهار استعارة بالكناية عن فلان لأن ذكر طرفي التشبيه يمنع من حمل الكلام على الاستعارة ويوجب حمله على التشبيه ولهذا عد نحو قولهم رأيت بفلان أسدا ولقيني منه أسد تشبيها لا استعارة كما صرح السكاكي أيضا بذلك في كتابه
تنبيه
إنما لم نورد الكلام في الحقيقة والمجاز العقليين في علم البيان كما فعل السكاكي ومن تبعه لدخوله في تعريف علم المعاني دون تعريف علم البيان

القول في أحوال المسند إليه
أما حذفه فإما لمجرد الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر وإما لذلك مع ضيق المقام وإما التخييل أن في تركه تعويلا على شهادة العقل وأن في ذكره تعويلا على شهادة اللفظ من حيث الظاهر وكم بين الشهادتين وإما لاختبار تنبه السامع له عند القرينة أو مقدار تنبهه وإما الإيهام أن في تركه تطهيرا له عن لسانك أو تطهيرا للسانك عنه وإما ليكون لك سبيل إلى الإنكار إن مست إليه حاجة وإما لأن الخبر لا يصلح إلا له حقيقة أو ادعاء وإما لاعتبار آخر مناسب لا يهدي إلى مثله إلا العقل السليم والطبع المستقيم
كقول الشاعر
( قال لي كيف أنت قلت عليل ... سهر دائم وحزن طويل )
وقوله
( سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت )
( فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت )

وقوله
( أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه )
( نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه ) وقول بعض العرب في ابن عم له موسر سأله فمنعه وقال كم أعطيك مالي وأنت تنفقه فيما لا يعنيك والله لا أعطيتك فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم وهو فيهم فشكاه إلى القوم وذمه فوثب إليه ابن عمه فلطمه فأنشأ يقول
( سريع إلى ابن العم يلطم وجهه ... وليس إلى داعي الندا بسريع )
( حريص على الدنيا مضيع لدينه ... وليس لما في بيته بمضيع )
وعليه قوله تعالى ( صم بكم عمي ) وقوله تعالى ( وما أدراك ماهية نار حامية ) وقيام القرينة شرط في الجميع
وأما ذكره فإما لأنه الأصل ولا مقتضى للحذف وإما للاحتياط لضعف التعويل على القرينة وإما للتنبيه على غباوة السامع وإما لزيادة الإيضاح والتقرير وإما لإظهار تعظيمه أو إهانته كما في بعض الأسامي المحمودة أو المذمومة وإما للتبرك بذكره وإما لاستلذاذه وإما لبسط الكلام حيث الإصغاء مطلوب كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام ( هي عصاي ) ولهذا زاد على الجواب وإما لنحو ذلك

قال السكاكي وإما لكون الخبر عام النسبة إلى كل مسند إليه والمراد تخصيصه بمعين كقولك زيد جاء وعمرو ذهب وخالد في الدار وقوله
( الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرجل ) وقوله
( والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع )
وفيه نظر لأنه إن قامت قرينة تدل عليه إن حذف فعموم الخبر وإرادة تخصيصه بمعين وحدهما لا يقتضيان ذكره وإلا فيكون ذكره واجبا
وأما تعريفه فلتكون الفائدة أتم لأن احتمال تحقق الحكم متى كان أبعد كانت الفائدة في الإعلام به أقوى ومتى كان أقرب كان أضعف وبعده بحسب تخصيص المسند إليه
والمسند كلما ازداد تخصيصا ازداد الحكم بعدا وكلما ازداد عموما ازداد الحكم قربا وإن شئت فاعتبر حال الحكم في قولنا شيء ما موجود وفي قولنا فلان ابن فلان يحفظ الكتاب والتخصيص كما له بالتعريف
ثم التعريف مختلف فإن كان بالإضمار فإما لأن المقام مقام التكلم كقول بشار
( أنا المرعث لا أخفي على أحد ... ذرت بي الشمس للقاصي وللداني )
وإما لأن المقام مقام الخطاب كقول الحماسية

( وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي من كان فيك يلوم )
وإما لأن المقام مقام الغيبة لكون المسند إليه مذكورا أو في حكم المذكور لقرينة كقوله
( من البيض الوجوه بني سنان ... لو أنك تستضيء بهم أضاءوا )
( هم حلوا من الشرف المعلى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا )
وقوله تعالى ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) أي العدل وقوله تعالى ( ولأبويه لكل واحد منهما السدس ) أي ولأبوي الميت وأصل الخطاب أن يكون لمعين وقد يترك إلى غير معين كما تقول فلان لئيم إن أكرمته أهانك وإن أحسنت إليه أساء إليك فلا تريد مخاطبا بعينه بل تريد إن أكرم أو أحسن فتخرجه في صورة الخطاب ليفيد العموم أي سوء معاملته غير مختص بواحد دون واحد وهو في القرآن كثير كقوله تعالى ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ) أخرج في صورة الخطاب لما أريد العموم للقصد إلى تفظيع حالهم وأنها تناهت في الظهور حتى امتنع خفاؤها فلا تختص بها رؤية راء بل كل من يتأتى منه رؤية داخل في هذا الخطاب
وإن كان بالعملية فإما لإحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداء باسم مختص به كقوله تعالى ( قل هو الله أحد ) وقول الشاعر

( أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه ) وقوله
( الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد )
وإما لتعظيمه أو لإهانته كما في الكنى والألقاب المحمودة والمذمومة وإما للكناية حيث الاسم صالح لها
ومما ورد صالحا للكناية من غير باب المسند إليه قوله تعالى ( تبت يدا أبي لهب ) أي جهنمي وإما لإيهام استلذاذه أو التبرك به وإما لاعتبار آخر مناسب
وإن كان بالموصولية فإما لعدم علم المخاطب بالأحوال المختصة به سوى الصلة كقولك الذي كان معنا أمس رجل عالم وإما لاستهجان التصريح بالاسم وإما لزيادة التقرير نحو قوله تعالى ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ) فإنه مسوق لتنزيه يوسف عليه السلام عن الفحشاء والمذكور أدل عليه من امرأة العزيز وغيره
وإما للتفخيم كقوله تعالى ( فغشيهم من اليم ما غشيهم ) وقول الشاعر
( مضى بها ما مضى من عقل شاربها ... وفي الزجاجة باق يطلب الباقي )
ومنه في غير هذا الباب قوله تعالى ( فغشاها ما غشى ) وبيت الحماسة

( صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل أبعد )
وقول أبي نواس
( ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم ... وأسمت سرح اللحظ حيث أساموا )
( وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه ... فإذا عصارة كل ذاك أثام )
وإما لتنبيه المخاطب على خطأ كقول الآخر
( إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا ) وإما للإيماء إلى وجه بناء الخبر نحو ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) ثم إنه ربما جعل ذريعة إلى التعويض بالتعظيم لشأن الخبر كقوله
( إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول )
أو لشأن غيره نحو ( الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ) قال السكاكي وربما جعل ذريعة إلى تحقيق الخبر كقوله
( إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول )
وربما جعل ذريعة إلى التنبيه للمخاطب على خطأ كقوله ( إن الذين ترونهم . . . ) البيت وفيه نظر إذ لا يظهر بين الإيماء إلى وجه بناء الخبر وتحقيق الخبر فرق فكيف يجعل الأول ذريعة إلى الثاني

والمسند إليه في البيت الثاني ليس فيه إيماء إلى وجه بناء الخبر عليه بل لا يبعد أن يكون فيه إيماء إلى بناء نقيضه عليه وإن كان بالإشارة فإما لتمييزه أكمل تمييز لصحة إحضاره في ذهن السامع بوساطة الإشارة حسا كقوله
( هذا أبو الصقر فردا في محاسنه ... ) وقوله
( أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شهدوا )
وقوله
( وإذا تأمل شخص ضيف مقبل ... متسربل سربال ليل أغبر )
( أوما إلى الكرماء هذا طارق ... نحرتني الأعداء إن لم تنحري ) وقوله
( ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد )
( هذا على الخف مربوط برمسته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد )
وإما للقصد إلى أن السامع غبي لا يتميز الشيء عنده إلا بالحسن كقول الفرزدق
( أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع )
وإما لبيان حاله في القرب أو البعد أو التوسط كقولك هذا زيد وذاك عمرو وذاك بشر وربما جعل القرب ذريعة إلى التحقير كقوله تعالى ( وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر

آلهتكم ) وقوله تعالى ( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ) وقوله تعالى ( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب ) وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى ( ماذا أراد الله بهذا مثلا ) وقول عائشة رضي الله عنها لعبد الله بن عمرو بن العاص يا عجبا لابن عمرو هذا وقول الشاعر
( تقول ودقت نحرها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحا المتقاعس )
وربما جعل البعد ذريعة إلى التعظيم كقوله تعالى ( آلم ذلك الكتاب ) ذهابا إلى بعد درجته ونحوه ( وتلك الجنة التي أورثتموها ) ولذا قالت ( فذلكن الذي لمتنني فيه ) لم تقل فهذا وهو حاضر رفعا لمنزلته في الحسن وتمهيدا للعذر في الافتتان به
وقد يجعل ذريعة إلى التحقير كما يقال ذلك اللعين فعل كذا وإما للتنبيه إذا ذكر قبل المسند إليه مذكور وعقب بأوصاف على أن ما يرد بعد اسم الإشارة فالمذكور جدير باكتسابه من أجل تلك الأوصاف كقول حاتم الطائي

( ولله صعلوك يساور همه ويمضي ... على الأحداث والدهر مقدما )
( فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة ... ولا شعبة إن نالها عد مغنما )
( إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت ... تيمم كبراهن ثمت صمما )
( ترى رمحه ونبله ومجنه ... وذا شطب عضب الضريبة مخذما )
( وأحناء سرج قاتر ولجامه ... عتاد أخي هيجا وطرفا مسوما )
( فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضيفا مذمما )
فعدد له كما ترى خصالا فاضلة من المضار على الأحداث مقدما والصبر على ألم الجوع والأنفة من أن يعد الشبعة مغنما وتيمم كبرى المكرمات والتأهب للحرب بأدواتها ثم عقب بذلك بقوله فذلك فأفاد أنه جدير باتصافه بما ذكر بعده وكذا قوله تعالى ( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) أفاد اسم الإشارة زيادة الدلالة على المقصود من اختصاص المذكورين قبله باستحقاق الهدى من ربهم والفلاح وإما لاعتبار آخر مناسب
وإن كان باللام فإما لإشارة إلى معهود بينك وبين مخاطبك كما إذا قال لك قائل جاءني رجل من قبيلة كذا فتقول ما فعل الرجل وعليه قوله تعالى ( وليس الذكر كالأنثى ) أي وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها وإما لإرادة نفس الحقيقة كقولك الرجل خير من المرأة والدينار خير من الدرهم ومنه قول أبي العلاء المعري

( والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفا ويخفيها مع الكدر )
وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) أي جعلنا مبدأ كل شيء حي هذا الجنس الذي هو الماء روي أنه تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء والجن من نار خلقها منه وآدم من تراب خلقه منه ونحوه ( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ) والمعرف باللام قد يأتي لواحد باعتبار عهديته في الذهن لمطابقته الحقيقة كقولك أدخل السوق وليس بينك وبين مخاطبك سوق معهود في الخارج وعليه قول الشاعر
( ولقد أمر على اللئيم يسبني ... )
وهذا يقرب في المعنى من النكرة ولذلك يقدر يسبني وصفا للئيم لا حالا وقد يفيد الاستغراق وذلك إذا امتنع حمله على غير الإفراد وعلى بعضها دون بعض كقوله تعالى ( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا )
والاستغراق ضربان حقيقي كقوله تعالى ( عالم الغيب والشهادة ) أي كل غيب وشهادة وعرفي كقولنا جمع الأمير الصاغة إذا جمع صاغة بلده أو أطراف مملكته فحسب لا صاغة الدنيا

واستغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع بدليل أنه لا يصدق لا رجل في الدار في نفي الجنس إذا كان فيها رجل أو رجلان ويصدق لا رجال في الدار ولا تنافي بين الاستغراق وإفراد اسم الجنس لأن الحرف إنما يدخل عليه مجردا على الدلالة على الوحدة والتعدد ولأنه بمعنى كل الإفرادي لا كل المجموعي أي معنى قولنا الرجل كل فرد من أفراد الرجال لا مجموع الرجال ولهذا امتنع وصفه بنعت الجمع وللمحافظة على التشاكل بين الصفة والموصوف أيضا فالحاصل أن المراد باسم الجنس المعرف باللام إما نفس الحقيقة لأن ما يصدق عليه من الأفراد وهو تعريف الجنس والحقيقة ونحوه علم الجنس كأسامة وإما فرد معين وهو العهد الخارجي ونحوه العلم الخاص كزيد وإما فرد غير معين وهو العهد الذهني ونحوه النكرة كرجل وإما كل الأفراد وهو الاستغراق ونحوه لفظ كل مضافا إلى النكرة كقولنا كل رجل
وقد شكك السكاكي على تعريف الحقيقة والاستغراق بما خرج الجواب عنه مما ذكرنا ثم اختار بناء على ما حكاه عن بعض أئمة أصول الفقه من كون اللام موضوعة لتعريف العهد لا غير أن المراد بتعريف الحقيقة تنزيلها منزلة المعهود بوجه من الوجوه الخطابية إما لكون الشيء حاضرا في الذهن لكونه محتاجا إليه على طريق التحقيق أو التهكم أو لأنه عظيم الخطر معقود به الهمم على أحد الطريقين وإما لأنه لا يغيب عن الحسن على أحد الطريقين لو كان معهودا وقال الحقيقة من حيث هي هي لا واحدة ولا متعددة لتحققها مع الوحدة تارة ومع التعدد أخرى وإن كانت لا تنفك في الوجود عن أحدهما فهي

صالحة للتوحيد والتكثير فكون الحكم استغراقا أو غير استغراق إلى مقتضى المقام فإذا كان خطابيا مثل المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم حمل المعرف باللام مفردا كان أو جمعا على الاستغراق بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون آخر مع تحقق الحقيقة فيهما ترجيح لأحد المتساوين وإذا كان استدلاليا حمل على أقل ما يحتمل وهو الواحد في المفرد والثلاثة في الجمع
وإن كان بالإضافة فإما لأنه ليس للمتكلم إلى إحضاره في ذهن السامع طريق أخصر منها كقوله
( هواي مع الركب اليمانين مصعد ... جنيب وجثماني بمكة موثق )
وإما لإغنائها عن تفصيل معتذر أو مرجوح لجهة كقوله
( بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفان أشبل ) وقوله
( قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي )
وإما لتضمنها تعظيما لشأن المضاف إليه كقولك عبدي حضر فتعظم شأنك أو لشأن المضاف كقولك عبد الخليفة ركب فتعظم شأن العبد أو لشأن غيرهما كقولك عبد السلطان عند فلان فتعظم شأن فلان أو تحقيرا نحو ولد الحجام حضر وإما لاعتبار آخر مناسب
وأما تنكيره فللأفراد كقوله تعالى ( وجاء من أقصى المدينة

رجل يسعى ) أي فرد من أشخاص الرجال أو للنوعية كقوله تعالى ( وعلى أبصارهم غشاوة ) أي نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس وهو غطاء التعامي عن آيات الله ومن تنكير غير المسند إليه للإفراد قوله تعالى ( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل ) وللنوعية قوله تعالى ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) أي نوع من الحياة مخصوص وهو الحياة الزائدة كأنه قيل ولتجدنهم أحرص الناس وإن عاشوا ما عاشوا على أن يزدادوا إلى حياتهم في الماضي والحاضر حياة في المستقبل فإن الإنسان لا يوصف بالحرص على شيء إلا إذا لم يكن ذلك الشيء موجودا له حال وصفه بالحرص عليه وقوله تعالى ( والله خلق كل دابة من ماء ) يحتمل الإفراد والنوعية أي خلق كل فرد من أفراد الدواب من نطفة معينة أو كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع المياة أو للتعظيم والتهويل أو للتحقير أي ارتفاع شأنه أو انحطاطه إلى حد لا يمكن معه أن يعرف كقول ابن أبي السمط
( له حاجب في كل أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب )
أي له حاجب أي حاجب وليس له حاجب ما أو للتكثير كقولهم إن له لإبلا وإن له لغنما يريدون الكثرة وحمل

الزمخشري التنكير في قوله تعالى ( قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا ) عليه أو للتقليل كقوله تعالى ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ) أي وشيء ما من رضوانه أكبر من ذلك كله لأن رضاه سبب كل سعادة وفلاح ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم وإنما تهنأ له برضاه كما إذا علم بسخطه تنغصت عليه ولم يجد لها لذة وإن عظمت وقد جاء التعظيم والتكثير جميعا كقوله تعالى ( وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ) أي رسل عددهم كثير وآيات عظام وأعمار طويلة ونحو ذلك والسكاكي لم يفرق بين التعظيم والتكثير ولا بين التحقير والتقليل ثم جعل التنكير في قولهم شر أهر ذا ناب للتعظيم وفي قوله تعالى ( ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ) لخلافه وفي كليها نظر أما الأول فلما سيأتي وأما الثاني فلأن خلاف التعظيم مستفاد من البناء للمرة ومن نفس الكلمة لأنها إما من قولهم نفحت الريح إذا هبت أي هبة أو من قولهم نفح الطيب إذا فاح أي فوحة كما يقال شمة واستعماله بهذا المعنى في الشر استعارة إذ أصله أن يستعمل في الخير يقال له نفحة طيبة أي هبة من الخير وذهب أيضا إلى أن قوله تعالى ( يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ) بالتنكير دون عذاب الرحمن

بالإضافة إما للتهويل أو لخلافه والظاهر أنه لخلافه وإليه ميل الزمخشري فإنه ذكر أن إبراهيم يخل هذا الكلام من حسن الأدب مع أبيه حيث لم يصرح فيه أن العذاب لاحق له لاصق به ولكنه قال ( إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ) فذكر الخوف والمس ونكر العذاب وأما التنكير في قوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة ) فيتحمل النوعية والتعظيم أي لكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة لمنعه عما كانوا عليه من قتل جماعة بواحد متى اقتدروا أو نوع من الحياة وهو الحاصل للمقتول والقاتل بالارتداع عن القتل للعلم بالاقتصاص فإن الإنسان إذا هم بالقتل تذكر الاقتصاص فارتدع فسلم صاحبه من القتل وهو من القود فتسبب لحياة نفسين ومن تنكير غير المسند إليه للنوعية
وأمطرنا عليهم مطرا أي وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا يعني الحجارة ألا ترى إلى قوله تعالى ( فساء مطر المنذرين ) وللتحقير ( إن نظن إلا ظنا ) وأما وصفه فلكون الوصف تفسيرا له كاشفا عن معناه كقولك الجسم الطويل العريض العميق محتاج إلى فراغ يشغله ونحوه في الكشف قول أوس
( الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا )
حكي أن الأصمعي سئل عن الألمعي فأنشد ولم يزد وكذا قوله

تعالى ( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا ) قال الزمخشري الهلع سرعة الجزع عند مس المكروه وسرعة المنع عند مس الخير من قولهم ناقة هلوع سريعة السير وعن أحمد بن يحيى قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر ما الهلع قلت قد فسره الله تعالى . . . انتهى كلام الزمخشري أو لكونه مخصصا له نحو زيد التاجر عندنا أو لكونه مدحا له كقولنا جاء زيد العالم حيث يتعين فيه زيد قبل ذكر العالم ونحوه من غيره قوله تعالى ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وقوله تعالى ( هو الله الخالق البارىء المصور ) أو لكونه ذما له كقولنا ذهب زيد الفاسق حيث يتعين فيه زيد قبل ذكر الفاسق ونحوه من غيره قوله تعالى ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) أو لكونه تأكيدا له كقولك أمس الدابر كان يوما عظيما أو لكونه بيانا له كقوله تعالى ( لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد ) قال الزمخشري الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص فإذا أريدت الدلالة على أن المعنى به منهما والذي يساق له الحديث هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به ألا ترى أنك لو قلت إنما هو إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية وأما قوله تعالى ( وما

من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ) فقال السكاكي شفع دابة في الأرض وطائر يطير بجناحيه لبيان أن القصد بهما إلى الجنسين
وقال الزمخشري معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة كأنه قيل وما من دابة قط في جميع الأرضين السبع وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه
واعلم أن الحملة قد تقع صفة للنكرة وشرطها أن تكون خبرية لأنها في المعنى حكم على صاحبها كالخبر فلم يستقم أن تكون إنشائية مثله
وقال السكاكي لأنه يجب أن يكون المتكلم يعلم تحقيق الوصف للموصوف لأن الوصف إنما يؤتى ليميز به الموصوف مما عداه وتمييز المتكلم شيئا من شيء بما لا يعرفه له محال فما لا يكون عنده محققا للموصوف يمتنع أن يجعله وصفا له بحكم عكس النقيض ومضمون الجمل الطلبية كذلك لأن الطلب يقتضي مطلوبا غير متحقق لامتناع طلب الحاصل فلا يقع شيء منها صفة لشيء والتعليل الأول أعم لأن الجملة الإنشائية قد لا تكون طلبية كقولنا نعم الرجل زيد وبئس الصاحب عمرو وربما يقوم بكر وكم غلام ملكت وعسى أن يجيء بشر وما أحسن خالدا وصيغ العقود نحو بعت واشتريت فإن هذه كلها إنشائية وليس شيء منها بطلبي ولامتناع وقوع الإنشائية صفة أو خبرا قيل في قوله
( جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط ... )
تقديره جاءوا بمذق مقول عنده هذا القول أي بمذق يحمل رائية

أن يقول لمن يريد وصفه له هل رأيت الذئب قط فهو مثله في اللون لإيراده في خيال الرائي لون الذئب لزرقته وفي مثل قولنا زيد اضربه أو لا تضربه تقديره في حقه اضربه أو لا تضربه
وأما توكيده فللتقرير كما سيأتي في باب تقديم الفعل وتأخيره أو لدفع توهم التجوز أو السهو كقولك عرفت أنا وعرفت أنت وعرف زيد أو عدم الشمول كقوله عرفني الرجلان كلاهما أو الرجال كلهم
قال السكاكي ومنه كل رجل عارف وكل إنسان حيوان وفيه نظر لأن كلمة كل تارة تقع تأسيسا وذلك إذا أفادت الشمول من أصله حتى لولا مكانها لما عقل وتارة تقع تأكيدا وذلك إذا لم تفده من أصله بل تمنع أن يكون اللفظ المقتضى له مستعملا في غيره أما الأول فهو أن تكون مضافة إلى نكرة كقوله تعالى ( كل حزب بما لديهم فرحون ) وقوله ( وكل شيء فصلناه تفصيلا ) وقوله ( وهم من كل حدب ينسلون ) وأما الثاني فما عدا ذلك كقوله تعالى ( فسجد الملائكة كلهم ) وهي في قوله كل رجل عارف وكل إنسان حيوان من الأول لا الثاني لأنها لو حذفت منهما لم يفهم المشمول أصلا وأما بيانه وتفسيره فلإيضاحه باسم مختص به كقولك قدم صديقك خالد وأما الإبدال منه فلزيادة التقرير والإيضاح نحو جاءني زيد أخوك وجاء القوم أكثرهم وسلب عمرو

ثوبه ومنه في غيره قوله تعالى ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم )
وأما العطف فلتفصيل المسند إليه مع اختصار نحو جاء زيد وعمرو وخالد أو لتفصيل المسند إليه مع اختصار نحو جاء زيد فعمرو أو ثم عمرو أو جاء القوم حتى خالد ولا بد في حتى من التدريج كما ينبىء عنه قوله
( وكنت فتى من جند إبليس فارتمى ... بي الحال حتى صار إبليس من جندي )
أو لرد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب كقوله جاءني زيد لا عمرو لمن اعتقد أن عمرا جاءك دون زيد أو أنهما جاءاك جميعا وقولك ما جاءني زيد لكن عمرو لمن اعتقد أن زيدا جاءك دون عمرو أو لصرف الحكم عن محكوم له إلى آخر نحو جاءني زيد بل عمرو وما جاءني زيد بل عمرو أو للشك فيه أو التشكيك نحو جاءني زيد أو عمرو أو إما زيد وإما عمرو أو إما زيد أو عمرو أو للإيهام كقوله تعالى ( وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) أو للإباحة أو التخيير وهو أن يفيد ثبوت الحكم لأحد الشيئين أو الأشياء فحسب مثالهما قولك ليدخل الدار زيد أو عمرو
والفرق بينهما واضح فإن الإباحة لا تمنع من الإتيان بهما أو بها جميعا
وأما توسط الفصل بينه وبين المسند فلتخصصه به كقولك زيد

هو المنطلق أو هو أفضل من عمرو أو خير منه أو هو يذهب
وأما تقديمه فلكون ذكره أهم إما لأنه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه وإما ليتمكن الخبر في ذهن السامع لأن في المبتدأ تشويقا إليه كقوله
( والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد )
وهذا أولى من جعله شاهدا لكون المسند إليه موصولا كما فعل السكاكي وإما لتعجيل المسرة أو المساءة لكونه صالحا للتفاؤل أو التطير نحو سعد في دارك والسفاح في دار صديقك وإما لإيهام أنه لا يزول عن الخاطر أو أنه يستلذ فهو إلى الذكر أقرب وإما لنحو ذلك قال السكاكي وإما لأن كونه متصفا بالخبر يكون هو المطلوب لا نفس الخبر كما إذا قيل له كيف الزاهد فيقول الزاهد يشرب ويطرب وإما لأنه يفيد زيادة تخصيص كقوله
( متى تهزز بني قطن تجدهم ... سيوفا في عواتقهم سيوف )
( جلوس في مجالسهم رزان ... وإن ضيف ألم فهم خفوف )
والمراد هم خفوف وفيه نظر لأن قوله لا نفس الخبر يشعر بتجويز أن يكون المطلوب بالجملة الخبرية نفس الخبر وهو باطل لأن نفس الخبر تصور لا تصديق والمطلوب بها إنما يكون تصديقا وإن أراد بذلك وقوع الخبر مطلقا فغير صحيح أيضا لما سيأتي أن العبارة عن مثله لا يتعرض فيها إلى ما هو مسند إليه كقولك وقع القيام ثم في مطابقة الشاهد ا لذي أنشده للتخصيص نظرا لما سيأتي أن ذلك مشروط بكون الخبر فعليا وقوله والمراد هم خفوف تفسير للشيء

بإعادة لفظه قال عبد القاهر وقد يقدم المسند إليه ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلي إن ولى حرف النفي كقولك ما أنا قلت هذا أي لم أقله مع أنه مقول فأفاد نفي الفعل عنك وثبوته لغيرك فلا تقول ذلك إلا في شيء ثبت أنه مقول وأنت تريد نفي كونك قائلا له ومنه قول الشاعر
( وما أنا أسقمت جسمي به ... ولا أنا أضرمت في القلب نارا )
إذ المعنى أن هذا السقم الموجود والضرم الثابت ما أنا جالبا لهما فالقصد إلى نفي كونه فاعلا لهما لا إلى نفيهما ولهذا لا يقال ما أنا قلت ولا أحد غيري لمناقضة منطوق الثاني مفهوم الأول بل يقال ما قلت أنا ولا أحد غيري ولا يقال ما أنا رأيت أحدا من الناس ولا ما أنا ضربت إلا زيدا بل يقال ما رأيت أو ما رأيت أنا أحدا من الناس وما ضربت أو ما ضربت أنا إلا زيدا لأن المنفي في الأول الرؤية الواقعة على كل واحد من الناس وفي الثاني الضرب الواقع على كل واحد منهم سوى زيد وقد سبق أن ما يفيد التقديم ثبوته لغير المذكور هو ما نفي عن المذكور فيكون الأول مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم قد رأى كل الناس والثاني مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم قد ضرب من عدا زيدا منهم وكلاهما محال
وعلل الشيخ عبد القاهر والسكاكي امتناع الثاني بأن نقض النفي بألا يقتضي أن يكون القائل له قد ضرب زيدا وإيلاء الضمير حرف النفي يقتضي أن لا يكون ضربه وذلك تناقض وفيه نظر لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف النفي يقتضي ذلك فإن قيل الاستثناء الذي فيه

مفرغ وذلك يقتضي أن لا يكون ضرب أحدا من الناس وذلك يستلزم أن لا يكون ضرب زيدا قلنا إن لزم ذلك فليس للتقديم لجريانه في غير صورة التقديم أيضا كقولنا ما ضربت إلا زيدا هذا إذا ولى المسند إليه حرف النفي وإلا فإن كان معرفة كقولك أنا فعلت كان القصد إلى الفاعل وينقسم قسمين أحدهما ما يفيد تخصيصه بالمسند للرد على من زعم انفراد غيره به أو مشاركته فيه كقولك أنا كتبت في معنى فلان وأنا سعيت في حاجته ولذلك إذا أردت التأكيد قلت للزاعم في الوجه الأول أنا كتبت في معنى فلان لا غيري ونحو ذلك وفي الوجه الثاني أنا كتبت في معنى فلان وحدي ونحو ذلك فإن قلت أنا فعلت كذا وحدي في قوة أنا فعلته لا غيري فلم اختص كل منهما بوجه من التأكيد دون وجه قلت لأن جدوى التأكيد لما كانت إماطة شبهة خالجت قلب السامع وكانت في الأول أن الفعل صدر من غيرك وفي الثاني أنه صدر منك بشركة الغير أكدت وأمطت الشبهة في الأول بقولك لا غيري وفي الثاني بقولك وحدي لأنه محزه ولو عكست أحلت ومن البين في ذلك المثل أتعلمني بضب أنا حرشته وعليه قوله تعالى ( ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ) أي لا يعلمهم إلا نحن ولا يطلع على أسرارهم غيرنا لإبطانهم الكفر في سويدات قلوبهم الثاني ما لا يفيد إلا تقوى الحكم وتقرره في ذهن السامع وتمكنه كقولك هو يعطي الجزيل لا تريد أن غيره لا يعطي الجزيل ولا أن تعرض بإنسان ولكن تريد أن تقرر في ذهن السامع وتحقق أنه يفعل إعطاء الجزيل وسبب تقويه هو

أن المبتدأ يستدعي أن يستند إليه شيء فإذا جاء بعده ما يصلح أن يستند إليه صرفه إلى نفسه فينعقد بينهما حكم سواء كان خاليا عن ضميره نحو زيد غلامك أو متضمنا له نحو أنا عرفت وأنت عرفت وهو عرف أو زيد عرف ثم إذا كان متضمنا لضميره صرفه ذلك الضمير إليه ثانيا فيكتسي الحكم قوة ومما يدل على أن التقديم يفيد التأكيد أن هذا الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار من منكر نحو أن يقول الرجل ليس لي علم بالذي تقول فتقول أنت تعلم أن الأمر على ما أقول وعليه قوله تعالى ( ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) لأن الكاذب لا سيما في الدين لا يعترف بأنه كاذب فيمتنع أن يعترف بالعلم بأنه كاذب وفيما اعترض فيه شك نحو أن تقول للرجل كأنك لا تعلم ما صنع فلان فيقول أنا أعلم وفي تكذيب مدع كقوله تعالى ( وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ) فإن قولهم آمنا دعوى أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به وفيما يقتضي الدليل أن لا يكون كقوله تعالى ( والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ) فإن مقتضى الدليل أن لا يكون ما يتخذ إلها مخلوقا وفيما يستغرب كقولك أن لا تعجب من فلان يدعي العظيم وهو يعيا باليسير وفي الوعد والضمان كقولك للرجل أنا أكفيك أنا أقوم بهذا الأمر لأن من شأن من تعده وتضمن له أن يعترضه الشك في إنجاز الموعد والوفاء بالضمان فهو

من أحوج شيء إلى التأكيد وفي المدح والافتخار لأن من شأن المادح أن يمنع السامعين من الشك فيما يمدح به ويبعدهم عن الشبهة وكذلك المفتخر أما المدح فكقول الحماسي
( هم يفرشون اللبد كل طمرة ... ) وقول الحماسية
( هما يلبسان المجد أحسن لبسة ... ) وقول الحماسي
( فهم يضربون الكبش يبرق بيضه ... )
وأما الافتخار فكقول طرفة
( نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... )
ومما لا يستقيم المعنى فيه إلا على ما جاء عليه من بناء الفعل على الاسم قوله تعالى ( إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ) وقوله تعالى ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) وقوله تعالى ( وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ) فإنه لا يخفى على من له ذوق أنه لو جيء في ذلك بالفعل غير مبني على الاسم لوجد اللفظ قد

نبا عن المعنى والمعنى قد زال عن الحال التي ينبغي أن يكون عليها وكذا إذا كان الفعل منفيا كقولك أنت لا تكذب فإنه أشد لنفي الكذب عنه من قولك لا تكذب وكذا من قولك لا تكذب أنت لأنه لتأكيد المحكوم عليه لا الحكم وعليه قوله تعالى ( والذين هم بربهم لا يشركون ) فإنه يفيد من التأكيد في نفي ا لإشراك عنهم ما لا يفيد قولنا والذين لا يشركون بربهم ولا قولنا والذين بربهم لا يشركون وكذا قوله تعالى ( لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ) وقوله تعالى ( فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون ) وقوله تعالى ( إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ) هذا كله إذا بني الفعل على معرف فإن بني على منكر أفاد ذلك تخصيص الجنس أو الواحد بالفعل كقولك رجل جاءني أي لا امرأة أو لا رجلان وذلك لأن أصل النكرة أن تكون للواحد من الجنس فيقع القصد بها تارة إلى الجنس فقط كما إذا كان المخاطب بهذا الكلام قد عرف أن قد أتاك آت ولم يدر جنسه أرجل هو أو امرأة أو اعتقد أنه امرأة وتارة إلى الوحدة فقط كما إذا عرف أن قد أتاك من هو من جنس الرجال ولم يدر أرجل هو أم رجلان أو اعتقد أنه رجلان واشترط السكاكي في إفادة تقديم الاختصاص أمرين
أحدهما أن يجوز تقدير كونه في الأصل مؤخرا بأن يكون فاعلا

في المعنى فقط كقولك أنا قمت فإنه يجوز أن تقدر أصله قمت أنا على أن أنا تأكيد للفاعل الذي هو التاء في قمت فقدم أنا وجعل مبتدأ
وثانيهما أن يقدر كونه كذلك فإن انتفى الثاني دون الأول كالمثال المذكور إذا أجري على الظاهر وهو أن يقدر الكلام من الأصل مبنيا على المبتدأ والخبر ولم يقدر تقديم وتأخير أو انتفى الأول بأن يكون المبتدأ اسما ظاهرا فإنه لا يفيد إلا تقوي الحكم واستثنى المنكر كما في نحو رجل جاءني بأن قدر أصله جاءني رجل لا على أن رجل فاعل جاءني بل على أنه بدل من الفاعل الذي هو الضمير المستتر في جاءني كما قال تعالى ( وأسروا النجوى الذين ظلموا ) إن الذين ظلموا بدل من الواو في أسروا وفرق بينه وبين المعرف بأنه لو لم يقدر ذلك فيه انتفى تخصيصه إذ لا سبب لتخصيصه سواه ولو انتفى تخصيصه لم يقع مبتدأ بخلاف المعرف لوجود شرط الابتداء فيه وهو التعريف ثم قال وشرطه أن لا يمنع من التخصيص مانع كقولنا رجل جاءني أي لا امرأة أو لا رجلان دون قولهم شر أهر ذا ناب
أما على التقدير الأول فلامتناع أن يراد المهر شر الأخير وأما على الثاني فلكونه نابيا عن مكان استعماله وإذ قد صرح الأئمة بتخصيصه حيث تأولوه بما أهر ذا ناب إلا شر فالوجه تفظيع شأن الشر بتنكيره كما سبق هذا كلامه وهو مخالف لما ذكره الشيخ عبد القاهر

لأن الظاهر كلام الشيخ فيما يليه حرف النفي القطع بأنه يفيد التخصيص مضمرا كان أو مظهرا معرفا أو منكرا من غير شرط لكنه لم يمثل إلا بالمضمر وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيده إلا إذا كان مضمرا أو منكرا بشرط تقدير التأخير في الأصل فنحو ما زيد قام يفيد التخصيص على إطلاق قول الشيخ ولا يفيده على قول السكاكي ونحو ما أنا قمت يفيده على قول ا لشيخ مطلقا وعلى قول السكاكي بشرط
وظاهر كلام الشيخ أن المعرف إذا لم يقع بعد النفي وخبره مثبت أو منفي قد يفيد الاختصاص مضمرا كان أو مظهرا ولكنه لم يمثل إلا المضمر وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيده إلا المضمر فنحو زيد قام قد يفيد الاختصاص على إطلاق قول الشيخ ولا يفيده عند السكاكي ثم فيما احتج به لما ذهب إليه نظر إذ الفاعل وتأكيده سواء في امتناع التقديم ما دام الفاعل فاعلا والتأكيد تأكيدا فتجويز تقديم التأكيد دون الفاعل تحكم ظاهر ثم لا نسلم انتفاء التخصيص في صورة المنكر لولا تقدير أنه كان في الأصل مؤخرا فقدم لجواز حصول التخصيص فيها بالتهويل كما ذكر وغير التهويل ثم لا نسلم امتناع أن يراد المهر شر لا خير قال الشيخ عبد القاهر إنما قدم شر لأن المراد أن يعلم أن الذي أهر ذا ناب هو من جنس الشر لا من جنس الخير فجرى مجرى أن تقول رجل جاءني تريد أنه رجل لا امرأة وقول العلماء أنه إنما صلح لأنه بمعنى ما أهر ذا ناب إلا شر بيان لذلك وهذا صريح في خلاف ما ذكره ثم قال السكاكي ويقرب من قبيل هو عرف في اعتبار تقوي الحكم زيد عارف وإنما قلت

يقرب دون أن أقول نظيره لأنه لما لم يتفاوت في التكلم والخطاب والغيبة في أنا عارف وأنت عارف وهو عارف أشبه الخالي عن الضمير ولذلك لم يحكم على عارف بأنه جملة ولا عومل معاملتها في البناء حيث أعرب في نحو رجل عارف رجلا عارفا ورجل عارف وأتبعه في حكم الإفراد نحو زيد عارف أبوه يعني أتبع عارف عرف في الإفراد إذا أسند إلى الظاهر مفردا كان أو مثنى أو مجموعا ثم قال ومما يفيد التخصيص ما يحكيه علت كلمته عن قوم شعيب عليه السلام ( وما أنت علينا بعزيز ) أي العزيز علينا يا شعيب رهطك لا أنت لكونهم من أهل ديننا ولذلك قال عليه السلام في جوابهم ( أرهطي أعز عليكم من الله ) أي من نبي الله ولو كان معناه معنى ما عززت علينا لم يكن مطابقا وفيه نظر لأن قوله ( وما أنت علينا بعزيز ) من باب أنا عارف لا من باب أنا عرفت والتمسك بالجواب ليس بشيء لجواز أن يكون عليه السلام فهم كون رهطه أعز عليهم من قولهم ( ولولا رهطك لرجمناك ) وقال الزمخشري دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام في الفاعل لا في الفعل كأنه قيل ( وما أنت علينا بعزيز ) بل رهطك هم الأعزة علينا وفيه نظر لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف النفي إذا لم يكن الخبر فعليا يفيد الحصر فإن قيل الكلام واقع فيه وأنهم الأعزة عليهم دونه فكيف صح

قوله ( أرهطي أعز عليكم من الله ) قلنا قال السكاكي معناه من نبي الله فهو على حذف المضاف وأجود منه ما قال الزمخشري وهو أن تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله ألا ترى إلى قوله تعالى ( ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ) ويجوز أن يقال لا شك أن همزة الاستفهام هنا ليست على بابها بل هي للإنكار للتوبيخ فيكون معنى قوله ( أرهطي أعز عليكم من الله ) إنكار أن يكون مانعهم من رجمه رهطه لانتسابه إليهم دون الله تعالى مع انتسابه إليه أيضا أي أرهطي أعز عليكم من الله حتى كان امتناعكم من رجمي بسبب انتسابي إليهم بأنهم رهطي ولم يكن بسبب انتسابي إلى الله تعالى بأني رسوله والله أعلم
ومما يرى تقديمه كاللازم لفظ مثل إذا استعمل كناية من غير تعريض كما في قولنا مثلك لا يبخل ونحوه مما لا يراد بلفظ مثل غير ما أضيف إليه ولكن أريد أن من كان على الصفة التي هو عليها كان من مقتضى القياس وموجب العرف أن يفعل ما ذكر أو أن لا يفعل ولكون المعنى هذا قال الشاعر
( ولم أقل مثلك أعني به ... سواك يا فردا بلا مشبه )
وعليه قوله
( مثلك يثني المزن عن صوبه ... ويسترد الدمع عن غربه )

وكذا قول القبعثري للحجاج لما توعده بقوله لأحملنك على الأدهم مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب أي من كان على هذه الصفة من السلطان وبسطة اليد ولم يقصد أن يجعل أحدا مثله وكذلك حكم غيره إذا سلك به هذا المسلك فقيل غيري يفعل ذاك على معنى أني لا أفعله فقط من غير إرادة التعريض بإنسان وعليه قوله
( غيري بأكثر هذا الناس ينخدع ... )
فإنه معلوم أنه لم يرد أن يعرض بواحد هناك فيصفه بأنه ينخدع بل أراد أنه ليس ممن ينخدع وكذا قول أبي تمام
( وغيري يأكل المعروف سحتا ... ويشحب عنده بيض الأيادي )
فإنه لم يرد أن يعرض بشاعر سواه فيزعم أن الذي قرف به عند الممدوح من أنه هجاء كان من ذلك الشاعر لا منه بل أراد أن ينفي عن نفسه أن يكون ممن يكفر النعمة ويلؤم لا غير واستعمال مثل وغير هكذا مركوز في الطباع وإذا تصفحت الكلام وجدتهما يقدمان أبدا على الفعل إذا نحي بهما نحو ما ذكرناه ولا يستقيم المعنى فيهما إذا لم يقدما والسر في ذلك أو تقديمهما يفيد تقوي الحكم كما سبق تقريره وسيأتي أن المطلوب بالكناية في مثل قولنا مثلك لا يبخل وغيرك لا يجود هو الحكم وأن الكناية أبلغ من التصريح فيما قصد بها فكان تقديمهما أعون للمعنى الذي جلبا لأجله قيل وقد يقدم لأنه دال على العموم كما تقول كل إنسان لم يقم فيقدم ليفيد نفي القيام عن كل واحد من الناس لأن الموجبة المعدولة المهملة في قوة السالبة

الجزئية المستلزمة نفي الحكم عن جملة الأفراد دون كل واحد منهما فإذا سورت بكل وجب أن تكون لإفادة العموم لا لتأكيد نفي الحكم عن جملة الأفراد لأن التأسيس خير من التأكيد ولو لم تقدم فقلت لم يقم كل إنسان كان نفيا للقيام عن جملة الأفراد دون كل واحد لأن السالبة المهملة في قوة السالبة الكلية المقتضية سلب الحكم عن كل فرد لورود موضوعها في سياق النفي فإذا سورت بكل وجب أن تكون لإفادة نفي الحكم عن جملة الأفراد لئلا يلزم ترجيح التأكيد على التأسيس وفيه نظر لأن النفي عن جملة الأفراد في الصورة الأولى اعني الموجبة المعدولة المهملة كقولنا إنسان لم يقم وعن كل فرد في الصورة الثانية أعني السالبة المهملة كقولنا لم يقم إنسان إنما أفاد الإسناد إلى إنسان فإذا أضيف كل إلى إنسان وحول الإسناد إليه فأفاد في الصورة الأولى نفي الحكم عن جملة الأفراد وفي الثانية نفيه عن كل فرد منهما كان كل تأسيسا لا تأكيدا لأن التأكيد لفظ يفيد تقوية ما يفيده لفظ آخر وما نحن فيه ليس كذلك ولئن سلمنا أنه يسمى تأكيدا فقولنا لم يقم إنسان إذا كان مفيدا للنفي عن كل فرد كان مفيدا للنفي عن جملة الأفراد لا محالة فيكون كل في لم يقم كل إنسان إذا جعل مفيدا للنفي عن جملة الأفراد تأكيدا لا تأسيسا كما قال في كل إنسان لم يقم فلا يلزم من جعله للنفي عن كل فرد ترجيح التأكيد على التأسيس ثم جعله قولنا لم يقم إنسان سالبة مهملة في قوة سالبة كلية مع القول بعموم موضوعها لوروده نكرة في سياق النفي خطأ لأن النكرة في سياق النفي إذا كانت للعموم كانت القضية التي جعلت هي موضوعا لها سالبة كلية فكيف تكون سالبة مهملة ولو قال لو لم يكن

الكلام المشتمل على كلمة كل مفيدا لخلاف ما يفيده الخالي عنها لم يكن في الإتيان بها فائدة لثبت مطلوبة في الصورة الثانية دون الأولى لجواز أن يقال إن فائدته فيها الدلالة على نفي الحكم عن جملة الأفراد بالمطابقة
واعلم أن ما ذكره هذا القائل من كون كل في النفي مفيدة للعموم تارة وغير مفيدة أخرى مشهور وقد تعرض له الشيخ عبد القاهر وغيره قال الشيخ كلمة كل في النفي إن أدخلت في حيزه بأن قدم عليها لفظا كقول أبي الطيب
( ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... )
وقول الأخر
( ما كل رأي الفتى يدعو إلى الرشد ... )
وقولنا ما جاء القوم كلهم وما جاء كل القوم ولم آخذ الدراهم كلها ولم آخذ كل الدراهم أو تقديرا بأن قدمت على الفعل المنفي وأعمل فيها لأن العامل رتبته التقدم على المعمول كقولك كل الدراهم لم آخذ توجه النفي إلى الشمول خاصة دون أصل الفعل وأفاد الكلام ثبوته لبعض أو تعلقه ببعض وإن أخرجت من حيزه بأن قدمت عليه لفظا ولم تكن معمولة للفعل المنفي توجه النفي إلى أصل الفعل وعم ما أضيف إليه كل كقول النبي قال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله كل ذلك لم يكن أي لم يكن واحدا منهما لا القصر ولا النسيان وقول أبي النجم
( قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع )

ثم قال وعلة ذلك أنك إذا بدأت بكل كنت قد بنيت النفي عليه وسلطت الكلية على النفي وأعملتها فيه وإعمال معنى الكلية في النفي يقتضي أن لا يشذ شيء عن النفي فاعرفه هذا لفظه وفيه نظر
وقيل إنما كان التقديم مفيدا للعموم دون التأخير لأن صورة التقديم تفهم سلب لحوق المحمول للموضوع وصورة التأخير تفهم سلب الحكم من غير تعرض للمحمول بسلب أو إثبات وفيه نظر أيضا لاقتضائه أن لا تكون ليس في نحو قولنا ليس كل إنسان كاتبا مفيدة لنفي كاتب هذا إن حمل كلامه على ظاهره وإن تؤول بأن مراده أن التقديم يفيد سلب لحوق المحمول عن كل فرد والتأخير يفيد سلب لحوقه لكل فرد اندفع هذا الاعتراض لكن كان مصادرة على المطلوب
واعلم أن المعتمد في المطلوب الحديث وشعر أبي النجم وما نقلناه عن الشيخ عبد القاهر وغيره لبيان السبب وثبوت المطلوب لا يتوقف عليه والاحتجاج بالخبر من وجهين أحدهما أن السؤال بأم عن أحد الأمرين لطلب التعيين بعد ثبوت أحدهما عند المتكلم على الإبهام فجوابه إما بالتعيين أو بنفي كل واحد منهما وثانيهما ما روي أنه لما قال رسول الله ذلك لم يكن قال له ذو اليدين بعض ذلك قد كان والإيجاب الجزئي نقيضه السلب الكلي وبقول أبي النجم ما أشار إليه الشيخ عبد القادر وهو أن الشاعر فصيح والفصيح الشائع في مثل قوله نصب كل وليس فيه ما يكسر له وزنا
وسياق كلامه أنه لم يأت بشيء مما ادعت عليه هذه المرأة فلو

كان النصب مفيدا لذلك والرفع غير مفيد لم يعدل عن النصب إلى الرفع من غير ضرورة
ومما يجب التنبيه له في فصل التقديم أصل وهو أن تقديم الشيء على الشيء ضربان تقديم على نية التأخير وذلك في شيء أقر مع التقديم على حكمه الذي كان عليه كتقديم الخبر على المبتدأ والمفعول على الفاعل كقولك قائم زيد وضرب عمرا زيد فإن قائم وعمرا لم يخرجا بالتقديم عما كانا عليه من كون هذا مسندا ومرفوعا بذلك وكون هذا مفعولا ومنصوبا من أجله وتقديم لا على نية التأخير ولكن أن ينقل الشيء عن حكم إلى حكم ويجعل له إعراب غير إعرابه كما في اسمين يحتمل كل منهما أن يجعل مبتدأ والآخر خبرا له فيقدم تارة هذا على هذا وأخرى ذاك على هذا كقولنا زيد المنطلق والمنطلق زيد فإن المنطلق لم يقدم على أن يكون متروكا على حكمه الذي كان عليه مع التأخير فيكون خبر مبتدأ كما كان بل على أن ينقل عن كونه خبرا إلى كونه مبتدأ وكذا القول في تأخير زيد
وأما تأخيره فلاقتضاء المقام تقديم المسند هذا كله مقتضى الظاهر وقد يخرج المسند إليه على خلافه فيوضع المضمر موضع المظهر كقولهم ابتداء من غير جري ذكر لفظا أو قرينة حال نعم رجلا زيد وبئس رجلا عمرو مكان نعم الرجل وبئس الرجل على قول من لا يرى الأصل زيد نعم رجلا وعمرو بئس رجلا وقولهم هو زيد عالم وهي عمرو شجاع مكان الشأن زيد العالم والقصة عمرو وشجاع ليتمكن في ذهن السامع ما يعقبه فإن السامع متى لم يفهم من الضمير معنى بقي منتظرا لعقبى الكلام كيف تكون فيتمكن المسموع

بعده في ذهنه فضل تمكن وهو السر في التزام تقديم ضمير الشأن أو القصة قال الله تعالى ( قل هو الله أحد ) وقال ( إنه لا يفلح الكافرون ) وقال ( فإنها لا تعمى الأبصار ) وقد يعكس فيوضع المظهر موضع المضمر فإن كان المظهر اسم إشارة فذلك إما لكمال العناية بتمييزه لاختصاصه بحكم بديع كقوله
( كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا )
( هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا )
وإما للتهكم بالسامع كما إذا كان فاقد البصر أو لم يكن ثم مشار إليه أصلا وإما للنداء على كمال بلادته بأنه لا يدرك غير المحسوس بالبصر أو على كمال فطانته بأن غير المحسوس بالبصر عنده كالمحسوس عند غيره وإما لادعاء أنه كمل ظهوره حتى كأنه محسوس بالبصر ومنه في غير باب المسند إلى قوله
( تعاللت كي أشجي وما بك علة ... تريدين قتلي قد ظفرت بذلك ) وإما
وإما لنحو ذلك وإن كان المظهر غير اسم إشارة فالعدول إليه عن المضمر إما لزيادة التمكين كقوله تعالى ( قل هو الله أحد الله الصمد ) ونظيره من غيره قوله ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل )

وقوله ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا ) وقول الشاعر
( إن تسألوا الحق نعط الحق سائله ... )
بدل نعطكم إياه وإما لإدخال الروع في ضمير السامع وتربية المهابة وإما لتقوية داعي المأمور مثالهما قول الخلفاء أمير المؤمنين يأمرك بكذا وعليه من غيره فإذا عزمت فتوكل على الله وإما للاستعطاف كقوله
( إلهي عبدك العاصي أتاكا ... )
وإما لنحو ذلك قال السكاكي هذا غير مختص بالمسند إليه ولا بهذا القدر بل التكلم والخطاب والغيبة مطلقا ينقل كل واحد منها إلى الآخر ويسمى هذا النقل التفاتا عند علماء المعاني كقول ربيعة بن مقروم
( بانت سعاد فأمسى القلب معمودا ... وأخلفتك ابنة الحر المواعيدا )
فالتفت كما ترى حيث لم يقل وأخلفتني وقوله
( تذكرت والذكرى تهيجك زينبا ... وأصبح باقي وصلها قد تقضبا )
( وحل بفلج فالأباتر أهلنا ... وشطت فحلت غمرة فمثقبا )
فالتفت في البيتين والمشهور عند الجمهور أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريق آخر منها وهذا أخص من تفسير السكاكي لأنه أراد بالنقل أن يعبر بطريق من هذه الطرق عما عبر عنه بغيره أو كان مقتضى الظاهر أن يعبر عنه بغيره

منها فكل التفات عندهم التفات عنده من غير عكس مثال الالتفات من التكلم إلى ا لخطاب قوله تعالى ( وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ) ومن التكلم إلى الغيبة قوله تعالى ( إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر ) ومن الخطاب إلى التكلم قول علقمة بن عبدة
( طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب )
( يكلفني ليلى وقد شط وليها ... وعادت عواد بيننا وخطوب )
ومن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) ومن الغيبة إلى التكلم قوله تعالى ( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه ) ومن الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى ( مالك يوم الدين إياك نعبد ) وقول عبد الله بن عنمة
( ما إن ترى السيد زيدا في نفوسهم ... كما يراه بنو كوز ومرهوب )
( إن تسألوا الحق نعط الحق سائله ... والدرع محقبة والسيف مقروب )
بنو وأما قول امرىء القيس
( تطاول ليلك بالإثمد ... ونام الخلي ولم ترقد )
( وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العاثر الأرمد )
( وذلك من نبأ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود )

فقال الزمخشري فيه ثلاث التفاتات وهذا ظاهر على تفسير السكاكي لأن على تفسيره في كل بيت التفاتة لا يقال الالتفات عنده من خلاف مقتضى الظاهر فلا يكون في البيت الثالث التفات لوروده على مقتضى الظاهر لأن تمنع انحصار الالتفات عنده في خلاف المقتضى لما تقدم وأما على المشهور فلا التفات في البيت الأول وفي الثاني التفاته واحدة فيتعين أن يكون في الثالث التفاتتان فقيل هما في قول جاءني إحداهما باعتبار الانتقال من الخطاب في البيت الأول والأخرى باعتبار الانتقال من الغيبة في الثاني وفيه نظر لأن الانتقال إنما يكون من شيء حاصل ملتبس به وإذ قد حصل الانتقال من الخطاب في البيت الأول إلى الغيبة في الثاني لم يبق الخطاب حاصلا ملتبسا به فيكون الانتقال إلى التكلم في الثالث من الغيبة وحدها لا منها ومن الخطاب جميعا فلم يكن في البيت الثالث إلا التفاتة واحدة وقيل إحداهما في قوله وذلك لأنه التفات من الغيبة إلى الخطاب والثانية في قوله جاءني لأنه التفات من الخطاب إلى التكلم وهذا أقرب
واعلم أن الالتفات من محاسن الكلام ووجه حسنه على ما ذكر الزمخشري هو أن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن نظرية لنشاط السامع وأكثر إيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد وقد تختص مواقعه بلطائف كما في سورة الفاتحة فإن العبد إذا افتتح حمد مولاه الحقيق بالحمد عن قلب حاضر ونفس ذاكرة لما هو فيه بقوله الحمد لله الدال على اختصاصه بالحمد وأنه حقيق به وجد من نفسه لا محالة محركا للإقبال عليه فإذا انتقل على

نحو الافتتاح إلى قوله رب العالمين الدال على أنه مالك للعالمين لا يخرج منهم شيء عن ملكوته وربوبيته قوي ذلك المحرم ثم إذا انتقل إلى قوله الرحمن الرحيم الدال على أنه منعم بأنواع النعم جلائلها ودقائقها تضاعفت قوة ذلك المحرك ثم إذا انتقل إلى خاتمه هذه الصفات العظام وهي قوله مالك يوم الدين الدال على أنه مالك للأمر كله يوم الجزاء تناهت قوته وأوجب الإقبال عليه وخطابه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات
وكما في قوله تعالى ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول ) لم يقل واستغفرت لهم وعدل عنه إلى طريق الالتفات تفخيما لشأن رسول الله لاستغفاره وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان
وذكر السكاكي لالتفات امرىء القيس في الأبيات الثلاثة على تفسيره وجوها أحدهما أن يكون قصد تهويل الخطب واستفظاعه فنبه في التفاته الأول على أن نفسه وقت ورود ذلك النبأ عليها ولهت وله الثكلى فأقامها مقام المصاب الذي لا يتسلى بعض التسلي إلا بتفجع الملوك له وتحزنهم عليه وخاطبها بتطاول ليلك تسلية أو على أنها لفظاعة شأن النبأ أبدت قلقا شديدا ولم تتصبر فعل الملوك فشك في أنها نفسه فأقامها مقام مكروب وخاطبها بذلك تسلية وفي الثاني على أنه صادق في التحزن خاطب أولا وفي الثالث على أنه يريد نفسه أو نبه في الأول على أن النبأ لشدته تركه حائرا فما فطن معه لمقتضى الحال

فجرى على لسانه ما كان ألفه من الخطاب الدائر في مجاري أمور الكبار أمرا ونهيا وفي الثاني على أنه بعد الصدمة الأولى أفاق شيئا فلم يجد النفس معه فبنى الكلام على الغيبة وفي الثالث على ما سبق أو نبه في الأول على أنها حين لم تثبت ولم تتبصر غاظه ذلك فأقامها مقام المستحق للعتاب فخاطبها على سبيل التوبيخ والتعبير بذلك وفي الثاني على أن الحامل على الخطاب والعتاب لما كان هو الغيظ والغضب وسكت عنه الغضب بالعتاب الأول ولى عنها الوجه وهو يدمدم قائلا وبات وباتت له وفي الثالث على ما سبق
هذا كلامه ولا يخفى على المصنف ما فيه من التعسف ومن خلاف المقتضى ما سماه السكاكي الأسلوب الحكيم وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنه الأولى بالقصد أو السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله أو المهم له أما الأول فكقول القبعثري للحجاج لما قاله له متوعدا بالقيد لأحملنك على الأدهم مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب فإنه أبرز وعيده في معرض الوعد وأراه بألطف وجه أن من كان على صفته في السلطان وبسطة اليد فجدير بأن يصفد لا أن يصفد وكذا قوله له لما قال له في الثانية إنه حديد لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا وعن سلوك هذه الطريقة في جواب المخاطب عبر من قال مفتخرا
( أتت تشتكي عندي مزاولة القرى ... وقد رأت الضيفان ينحون منزلي )
( فقلت كأني ما سمعت كلامها ... هم الضيف جدي في قراهم وعجلي )

وسماه الشيخ عبد القاهر مغالطة وأما الثاني فكقوله تعالى ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) قالوا ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلىء ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ وكقوله تعالى ( يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ) سألوا عن بيان ما ينفقون فأجيبوا ببيان المصرف ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ المضي تنبيها على تحقق وقوعه وأن ما هو للوقوع كالواقع كقوله تعالى ( ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) وقوله ( ويوم تسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ) وقوله تعالى ( ونادى أصحاب النار ) وقوله تعالى ( ونادى أصحاب الأعراف ) جعل المتوقع الذي لا بد من وقوعه بمنزلة الواقع
وعن حسان أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور وهو طفل فجاء إليه يبكي فقال له يا بني مالك قال لسعني طوير كأنه ملتف في بردي حبرة فضمه إلى صدره وقال له يا بني قد قلت الشعر
ومثله التعبير

عنه باسم الفاعل كقوله تعالى ( وإن الدين لواقع ) وكذا اسم المفعول كقوله تعالى ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ) ومنه القلب كقول العرب عرضت الناقة على الحوض ورده مطلقا قوم وقبله مطلقا قوم منهم السكاكي
والحق أنه إن تضمن اعتبارا لطيفا قبل وإلا رد أما الأول فكقول رؤبة
( ومهمه مغبرة أرجاؤه ... كأن لون أرضه سماؤه )
أي كأن لون سمائه لغبرتها لون أرضه فعكس التشبيه للمبالغة ونحوه قول أبي تمام يصف قلم الممدوح
( لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل )
وأما الثاني فكقول القطامي
( كما طينت بالفدن السياعا ... ) وقول حسان
( يكون مزاجها عسل وماء ... )
وقول عروة بن الورد
( فديت بنفسه نفسي ومالي ... ) وقول الآخر
( ولا يك موقف منك الوداعا ... )

وقد ظهر من هذا أن قوله تعالى ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا ) ليس واردا على القلب إذ ليس في تقدير القلب فيه اعتبار لطيف
وكذا قوله تعالى ( ثم دنا فتدلى ) وكذا قوله تعالى ( اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون ) فأصل الأول أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا أي إهلاكنا وأصل الثاني ثم أراد الدنو من محمد فتدلى فتعلق عليه في الهواء
ومعنى الثالث تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك فانظر ماذا يرجعون فيقال إنه دخل عليها من كوة فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوة وأما قول خداش
( وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر ... )
فقد ذكر له سوى القلب وجهان أحدهما أن يجعل شقاء الرماح بهم استعارة عن كسرها بطعنهم بها والثاني أن يجعل نفس طعنهم شقاء لها تحقيرا لشأنهم وأنهم ليسوا أهلا لأن يطعنوا بها كما يقال شقي الخز بجسم فلان إذا لم يكن أهلا للبسه وقيل في قول قطري بن الفجاءة
( ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام ) إنه من باب القلب على أن لم أصب بمعنى لم أجرح أي قارح البصيرة جذع الإقدام كما يقال إقدام غر أي مجرب
وأجيب عنه بأن لم

أصب بمعنى لم ألف أي ألف بهذه الصفة بل وجدت بخلافها جذع الإقدام قارح البصيرة على أن قوله جذع البصيرة قارح الإقدام حال من الضمير المستتر في لم أصب فيكون متعلقا بأقرب مذكور ويؤيد هذا الوجه قوله قبله
( لا يركنن أحد إلى الإحجام ... يوم الوغى متخوفا لحمام )
( فلقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني مرة وأمامي )
( حتى خضبت بما تحدر من دمي ... أكناف سرجي أو عنان لجامي )
فإن الخضاب بما تحدر من دمه دليل على أنه جرح وأيضا فحوى كلامه أن مراده أن يدل على جرح ولم يمت إعلاما أن الإقدام غير علة للحمام وحثا على الشجاعة وبغض الفرار

القول في أحوال المسند
أما تركه فلنحو ما سبق في باب المسند إليه من تخييل العدول إلى أقوى الدليلين ومن اختبار تنبه السامع عند قيام القرينة أو مقدار تنبهه ومن الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر إما مع ضيق المقام كقوله
( فإني وقيار بها لغريب ... ) أي وقيار كذلك وقوله
( نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف )
أي ونحن بما عندنا راضون وكقول أبي الطيب
( قالت وقد رأت اصفراري من به ... وتنهدت فأجبتها المتنهد ) أي المتنهد هو المطالب به دون المطالب به هو المتنهد إن فسر بمن المطالب به لأن مطلوب السائلة على هذا الحكم على شخص معين بأنه المطالب به ليتعين عندها لا الحكم على المطالب به بالتعيين وقيل معناه من فعل به فيكون التقدير فعل به المتنهد وأما بدون الضيق

كقوله تعالى ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) على وجه أي والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك ويجوز أن يكون جملة واحدة وتوحيد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله فكانا في حكم مرضي واحد كقولنا إحسان زيد وإجماله نعشني وجبر مني وكقولك زيد منطلق وعمرو أي عمرو وكذلك وعليه قوله تعالى ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) أي واللائي لم يحضن مثلهن وقولك خرجت فإذا زيد وقولك لمن قال هل لك أحد إن الناس ألب عليك أن زيدا وأن عمرا أي أن لي زيدا وأن لي عمرا وعليه قوله إن محلا وإن مرتحلا أي إن لنا محلا في الدنيا وأن لنا مرتحلا عنها إلى الآخرة وقوله تعالى ( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي ) تقديره لو تملكون تملكون مكرر لفائدة التأكيد فأضمر تملك الأول إضمارا على شريطة التفسير وأبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل وهو أنتم لسقوط ما يتصل به من اللفظ فأنتم فاعل الفعل المضمر ويملكون تفسيره
قال الزمخشري هذا ما يقتضيه علم الإعراب فأما ما يقتضيه علم البيان فهو إن كنتم تملكون فيه دلائل على الاختصاص وإن الناس هم المختصون بالشح المتبالغ ونحوه قول حاتم لو ذات سوار لطمتني وقول المتلمس
( ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي ... )

وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر وكقوله تعالى ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ) أي كمن لم يزين له سوء عمله والمعنى أفمن زين له سوء عمله من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما الذين كفروا والذين آمنوا كمن زين له سوء عمله ثم كان رسول الله قيل له ذلك قال لا فقيل ( فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) وقيل المعنى أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرات فحذف الجواب لدلالة فلا تذهب نفسك عليهم حسرات أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله فحذف لدلالة فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأما قوله تعالى ( بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل ) وقوله تعالى ( سورة أنزلناها ) وقوله ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة ) فكل منها يحتمل الأمرين حذف المسند إليه وحذف المسند أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أجمل وهذه سورة أنزلناها أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها وأمركم أو الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب كطاعة الخلص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها أو طاعتكم

طاعة معروفة أي بأنها بالقول دون الفعل أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة
ومما يحتمل الوجهين قوله سبحانه وتعالى ( ولا تقولوا ثلاثة ) قيل التقدير ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ورد بأنه تقرير لثبوت آلهة لأن النفي إنما يكون للمعنى المستفاد من الخبر دون معنى المبتدأ كما تقول ليس أمراؤنا ثلاثة فإنك تنفي به أن تكون عدة الأمراء ثلاثة دون أن تكون لكم أمراء وذلك إشراك مع أن قوله تعالى بعده ( إنما الله إله واحد ) يناقضه والوجه أن ثلاثة صفة مبتدأ محذوف أي يكون مبتدأ محذوفا مميزة لا خبر مبتدأ والتقدير ولا تقولوا لنا أو في الوجود آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة ثم حذف الخبر كما حذف من لا إله إلا الله وما من إله إلا الله ثم حذف الموصوف أو المميز كما يحذفان في غير هذا الموضع فيكون النهي عن إثبات الوجود لآلهة وهذا ليس فيه تقرير لثبوت إلهين مع أن ما بعده أعني قوله ( إنما الله إله واحد ) ينفي ذلك فيحصل النهي عن الإشراك والتوحيد من غير تناقض ولهذا يصح أن يتبع نفي الاثنين فيقال ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان لأنه كقولنا ليس لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان وهذا صحيح ولا يصلح أن يقال على التقدير الأول ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ولا اثنان لأنه كقولنا ليست آلهتنا ثلاثة ولا اثنتين وهذا فاسد ويجوز أن يقدر ولا تقولوا الله والمسيح وأمه ثلاثة أي لا تعبدوهما كما تعبدونه

لقوله تعالى ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) فيكون المعنى ثلاثة مستوون في الصفة والرتبة فإنه قد استقر في العرف أنه إذا أريد إلحاق اثنين بواحد في وصف وأنهما شبيهان له أن يقال هم ثلاثة كما يقال إذا أريد إلحاق واحد بآخر وجعله في معناه هما اثنان
واعلم أن الحذف لا بد له من قرينة كوقوع الكلام جوابا عن سؤال إما محقق كقوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ) وقوله ( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ) وإما مقدر نحو
( لبيك يزيد ضارع لخصومة ... )
وقراءة من قرأ ( يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال ) وقوله ( كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ) ببناء الفعل للمفعول وفضل هذا التركيب على خلافه أعني نحو لبيك يزيد ضارع ببناء الفعل للفاعل ونصب يزيد من وجوه أحدها أن هذا التركيب يفيد إسناد الفعل إلى الفاعل مرتين إجمالا ثم تفصيلا الثاني أن نحو يزيد فيه ركن الجملة لا فضلة الثالث أن أوله غير مطمع للسامع في ذكر الفاعل فيكون عند ورود ذكره كمن

تيسرت له غنيمة من حيث لا يحتسب وخلافه بخلاف ذلك
ومن هذا الباب أعني الحذف الذي قرينته وقوع الكلام جوابا عن سؤال مقدر قوله تعالى ( وجعلوا لله شركاء الجن ) على وجه فإن لله شركاء أن جعلا مفعولين لجعلوا فالجن يحتمل وجهين أحدهما ما ذكره الشيخ عبد القاهر من أن يكون منصوبا بمحذوف دل عليه سؤال مقدر كأنه قيل من جعلوا لله شركاء فقيل الجن فيفيد الكلام إنكار الشرك مطلقا فيدخل اتخاذ الشريك من غير الجن في الإنكار دخول اتخاذه من الجن والثاني ما ذكره الزمخشري وهو أن ينتصب الجن بدلا من شركاء فيفيد إنكار الشريك مطلقا أيضا كما مر وإن جعل لله لغوا كان شركاء الجن مفعولين قدم ثانيهما على الأول
وفائدة التقديم استعظام أن يتخذ الله شريكا ملكا كان أو جنيا أو غيرهما ولذلك قدم اسم الله على الشركاء ولو لم يبن الكلام على التقديم وقيل وجعلوا الجن شركاء لله لم يفد إلا إنكار جعل الجن شركاء والله أعلم ومنه ارتفاع المخصوص في باب نعم وبئس على أحد القولين
وأما ذكره فإما لنحو ما مر في باب المسند إليه من زيادة التقرير والتعريض بغباوة السامع والاستلذاذ والتعظيم والإهانة وبسط الكلام وإما ليتعين كونه اسما فيستفاد منه الثبوت أو كونه فعلا فيستفاد منه التجدد أو كونه ظرفا فيورث احتمال الثبوت والتجدد وإما لنحو ذلك
قال السكاكي وإما للتعجب من المسند إليه بذكره كما إذا قلت زيد

يقاوم الأسد مع دلالة قرائن الأحوال وفيه نظر لحصول التعجب بدون الذكر إذا قامت القرينة
وأما إفراده فلكونه غير سببي مع عدم إفادة تقوي الحكم كقولك زيد منطلق وقام عمرو
والمراد بالسببي نحو زيد أبوه منطلق قال السكاكي وأما الحالة المقتضية لإفراده فهي إذا كان فعليا ولم يكن المقصود من نفس التركيب تقوي الحكم وأعني بالمسند الفعلي ما لم يكن مفهومه محكوما به بالثبوت للمسند إليه أو بالانتفاء عنه كقولك أبو زيد منطلق والكر من البر بستين وضرب أخو عمرو ويشكرك بكر أن تعطه وفي الدار خالد إذ تقديره استقر أو حصل في الدار على أقوى الاحتمالين لتمام الصلة بالظرف كقولك الذي في الدار أخوك وفيه نظر من وجهين أحدهما أن ما ذكره في تفسير المسند الفعلي يجب أن يكون تفسيرا للمسند مطلقا والظاهر أنه إنما قصد به الاحتراز عن المسند السببي إذ فسر المسند السببي بعد هذا بما يقابل تفسير المسند الفعلي ومثله بقولنا زيد أبوه منطلق أو انطلق والبر الكر منه بستين فجعل كما ترى أمثلة السببي مقابلة لأمثلة الفعلي مع الاشتراك في أصل المعنى والثاني أن الظرف الواقع خبرا إذا كان مقدرا بجملة كما اختاره كان قولنا الكر من البر بستين تقديره الكر من البر استقر بستين فيكون المسند جملة ويحصل تقوي الحكم كما مر
وكذا إذا كان في الدار خالد تقريره استقر في الدار خالد كان المسند جملة أيضا لكون استقر مسندا إلى ضمير خالد لا إلى خالد على الأصح لعدم اعتماد الظرف على شيء
وأما كونه فعلا فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة على أخصر ما يمكن مع إفادة التجدد وأما كونه اسما فلإفادة عدم التقييد والتجدد

ومن البين فيهما قول الشاعر
( لا يألف الدرهم المضروب صرتنا ... لكن يمر عليها وهو منطلق ) وقوله
( أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إلى عريفهم يتوسم )
إذ معنى الأول على انطلاق ثابت للدرهم مطلقا من غير اعتبار تجدده وحدوثه ومعنى الثاني على توسم وتأمل ونظر يتجدد من العريف هناك وأما تقييد الفعل بمفعول ونحوه فلتربية الفائدة كقولك ضربت ضربا شديدا وضربت زيدا وضربت يوم الجمعة وضربت أمامك وضربت تأديبا وضربت بالسوط وجلست والسارية وجاء زيد راكبا وطاب زيد نفسا وما ضرب إلا زيدا وما ضربت إلا زيدا والمقيد في نحو كان زيد قائما هو قائما لا كان
وأما ترك تقييده فلمانع من تربية الفائدة وأما تقييده بالشرط فلاعتبارات لا تعرف إلا بمعرفة ما بين أدواته من التفصيل وقد بين ذلك في علم النحو ولكن لا بد من النظر ههنا في أن وإذا ولو أما إن وإذا فهما للشرط في الاستقبال لكنهما يفترقان في شيء وهو أن الأصل في أن لا يكون الشرط فيهما مقطوعا بوقوعه كما تقول لصاحبك أن تكرمني أكرمك وأنت لا تقطع بأنه يكرمك والأصل في إذا أن يكون الشرط فيها مقطوعا بوقوعه كما تقول إذا زالت الشمس آتيك ولذلك كان الحكم النادر موقعا لأن النادر غير مقطوع به في غالب الأمر وغلب لفظ الماضي مع إذا لكونه أقرب إلى القطع بالوقوع نظرا إلى اللفظ قال الله تعالى ( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن

تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ) أني في جانب الحسنة بلفظ إذا لأن المراد بالحسنة الحسنة المطلقة التي حصولها مقطوع به ولذلك عرفت تعريف الجنس
وجوز السكاكي أن يكون تعريفها للعهد وقال وهذا أقضى لحق البلاغة وفيه نظر
وأتى في جانب السيئة بلفظ إن لأن السيئة نادرة بالنسبة إلى الحسنة المطلقة ولذلك نكرت ومنه قوله تعالى ( وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ) أتى بإذا في جانب الرحمة وأما تنكيرها فجعله السكاكي للتوعية نظرا إلى لفظ الإذاقة وجعله للتقليل نظرا إلى لفظ الإذاقة كما قال أقرب وأما قوله تعالى ( وإذا مس الناس ضر ) بلفظ إذا مع الضر فللنظر إلى لفظ المس وإلى تنكير الضر المفيد في المقام التوبيخي القصد إلى اليسير من الضر وإلى الناس المستحقين أن يلحقهم كل ضرر وللتنبيه على أن مساس قدر يسير من الضر لأمثال هؤلاء حقه أن يكون في حكم المقطوع به وأما قوله تعالى ( وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ) بعد قوله عز و جل ( وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه ) أي أعرض عن شكر الله وذهب بنفسه وتكبر وتعظم فالذي تقتضيه البلاغة أن يكون الضمير في مسه للمعرض المتكبر ويكون لفظ إذا للتنبيه على أن مثله يحق أن يكون ابتلاؤه بالشر

مقطوعا به قال الزمخشري وللجهل بموقع إن وإذا يزيغ كثير من الخاصة عن الصواب فيغلطون ألا ترى إلى عبد الرحمن بن حسان كيف أخطأ بهما الموقع في قوله يخاطب بعض الولاة وقد سأله حاجة فلم يقضها ثم شفع له فيها فقضاها
( ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي ... تولى سواكم أجرها واصطناعها )
( أبي لك كسب الحمد رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها )
( إذا هي حثته على الخير مرة ... عصاها وأن همت بشر أطاعها )
فلو عكس لأصاب وقد تستعمل أن في مقام القطع بوقوع الشرط لنكتة كالتجاهل لاستدعاء المقام إياه وكعدم جزم المخاطب كقولك لمن يكذبك فيما تخبر إن صدقت فقل ماذا تفعل وكتنزيله منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم كما تقول لمن يؤذي أباه إن كان أباك فلا تؤذه وكالتوبيخ على الشرط وتصوير أن المقام لاشتماله على ما يقلعه عن أصله لا يصح إلا لفرضه كما يفرض المحال لفرض قوله تعالى ( أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين ) فيمن قرأ إن بالكسر لقصد التوبيخ والتجهيل في ارتكاب الإسراف وتصوير أن الإسراف من العاقل في هذا المقام واجب الانتفاء حقيقي أن لا يكون ثبوته له إلا على مجرد الفرض وكتغليب غير المتصف بالشرط على المتصف به ومجيء قوله تعالى ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) بأن يحتمل أن يكون للتوبيخ على الريبة لاشتمال المقام على ما يقلعها عن

أصلها ويحتمل أن يكون لتغليب غير المرتابين منهم فإنه كان فيهم من يعرف الحق وإنما ينكر عنادا وكذلك قوله تعالى ( إن كنتم في ريب من البعث ) والتغليب باب واسع يجري في فنون كثيرة كقوله تعالى ( لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ) أدخل شعيب عليه السلام في لتعودن في ملتنا بحكم التغليب إذ لم يكن شعيب في ملتهم أصلا ومثله قوله تعالى ( إن عدنا في ملتكم ) وكقوله تعالى ( وكانت من القانتين ) عدت الأنثى من الذكور بحكم التغليب وكقوله تعالى ( فسجدوا إلا إبليس ) عد إبليس من الملائكة بحكم التغليب وكقوله تعالى ( بل أنتم قوم تجهلون ) بتاء الخطاب غلب جانب أنتم على جانب قوم ومثله ( وما ربك بغافل عما تعملون ) فيمن قرأ بالتاء وكذا قوله تعالى ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) غلب المخاطبون في قوله لعلكم تتقون على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهما جميعا لأن لعل متعلقة بخلقكم لا باعبدوا وهذا من

غوامض التغليب وكقوله تعالى ( جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ) فإن الخطاب فيه شامل للعقلاء والأنعام فغلب فيه المخاطبون على الغيب والعقلاء على الأنعام وقوله تعالى ( يذرؤكم فيه ) أي يبثكم ويكثركم في هذا التدبير وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل فجعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير ولذلك قيل ( يذرؤكم فيه ) ولم يقل به كما في قوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة )
واعلم أنه لما كانت هاتان الكلمتان لتعليق أمر بغيره أعني الجزاء بالشرط في الاستقبال امتنع في كل واحدة من جملتيهما الثبوت وفي أفعالهما المضي أعني أن تكون كلتا الجملتين أو إحداهما اسمية أو كلا الفعلين أو أحدهما ماضيا ولا يخالف ذلك لفظا نحو إن أكرمتني أكرمتك وإن أكرمتني أكرمك وإن تكرمني أكرمتك وإن تكرمني فأنت مكرم وإن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس إلا لنكتة ما مثل إبراز غير الحاصل في صورة الحاصل إما لقوة الأسباب المتآخذة في وقوعه كقولك إن اشترينا كذا حال انعقاد الأسباب في ذلك وإما لأن ما هو الموقوع كالواقع كقولك إن مت كان كذا وكذا كما سبق وإما للتفاؤل وإما لإظهار الرغبة في وقوعه نحو إن ظفرت بحسن العاقبة فهو المرام فإن الطالب إذا تبالغت رغبته في حصول أمر يكثر تصوره إياه فربما يخيل إليه حاصلا وعليه قوله تعالى ( ولا تكرهوا فتياتكم

على البغاء إن أردن تحصنا ) وقد يقوى هذا التخيل عند الطالب حتى إذا وجد حكم الحس بخلاف حكمه غلطه تارة واستخرج له محملا أخرى وعليه قول أبي العلاء المعري
( ما سرت إلا وطيف منك يصحبني ... سرى أمامي وتأويبا على أثري )
يقول لكثرة ما ناجيت نفسي بك انتقشت في خيالي فأعدك بين يدي مغلطا للبصر بعلة الظلام إذا لم يدركك ليلا أمامي وأعدك خلفي إذا لم يتيسر لي تغليطه حين لا يدركك بين يدي نهارا وإما لنحو ذلك
قال السكاكي أو للتعريض كما في قوله تعالى ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) وقوله تعالى ( ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ) وقوله تعالى ( فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات ) ونظيره في التعريض قوله ( ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ) المراد وما لكم لا تعبدون الذي فطركم المنبه عليه ترجعون وقوله تعالى ( ءأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين ) إذ المراد أتتخذون من دونه آلهة إن يردكم الرحمن بضر لا تغن عنكم شفاعتهم شيئا ولا ينقذونكم

إنكم إذا لفي ضلال مبين ولذلك قيل آمنت بربكم دون بربي وأتبعه فاسمعوني ووجه حسنة تطلب إسماع المخاطبين الذين هم أعداء المسمع والحق على وجه لا يورثهم مزيد غضب وهو ترك التصريح بنسبتهم إلى الباطل ومواجهتهم بذلك ويعين على قبوله لكونه أدخل في امحاض النصح لهم حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه ومن هذا القبيل قوله تعالى ( قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ) فإن حق النسق من حيث الظاهر قل لا تسألون عما عملنا ولا نسأل عما تجرمون وكذا ما قبله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين
قال السكاكي رحمه الله وهذا النوع من الكلام يسمى المنصف ومما يتصل بما ذكرناه أن الزمخشري قدر قوله تعالى ( ودوا لو تكفرون ) عطفا على جواب الشرط في قوله تعالى ( إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديكم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ) وقال الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب فإن فيه نكتة كأنه قيل وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعا من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض وردكم كفارا أسبق المضار عندهم وأولها لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم لأنكم بذالونه لها دون والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه
هذا كلامه وهو حسن دقيق لكن في جعل وودوا لو تكفرون عطفا على جواب الشرط نظر لأن ودادتهم أن يرتدوا

كفارا حاصلة وإن لم يظفروا بهم فلا يكون في تقييدها بالشرط فائدة فالأولى أن يجعل قوله وودوا لو تكفرون عطفا على الجملة الشرطية كقوله تعالى ( وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون )
وأما لو فهي للشرط في الماضي مع القطع بانتفاء الشرط فيلزم انتفاء الجزاء كانتفاء الإكرام في قولك لو جئتني لأكرمتك ولذلك قيل هي لامتناع الشيء لامتناع غيره ويلزم كون جملتيها فعليتين وكون الفعل ماضيا فدخولها على المضارع في نحو قوله تعالى ( لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ) لقصد استمرار الفعل فيما مضى وقتا فوقتا كما في قوله تعالى ( الله يستهزىء بهم ) بعد قوله ( إنما نحن مستهزءون ) وفي قوله تعالى ( فويل لهم مما كسبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ) ودخولها عليه في نحو قوله تعالى ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ) وقوله تعالى ( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم ) لتنزيله منزلة الماضي لصدوره عمن لا خلاف في أخباره كما نزل يود منزلة ود في قوله تعالى ( ربما يود الذين كفروا ) ويجوز أن يرد الغرض من لفظ ترى

ويود إلى استحضار صورة رؤية المجرمين ناكسي الرؤوس قائلين لما يقولون وصورة رؤية الظالمين موقوفين عند ربهم متقاولين بتلك المقالات وصورة ودادة الكافرين لو أسلموا كما في قوله تعالى ( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها ) إذ قال فتثير سحابا استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة من إثارة السحاب مسخرا بين السماء والأرض تبدو في الأول كأنها قطع قطن منتوف ثم تنضام متقلبة بين أطوار حتى يعدن ركاما وكقول تأبط شرا
( ألا من مبلغ فتيان فهم ... بما لاقيت عند رحا بطان )
( بأني قد لقيت الغول تهوي ... بسبب كالصحيفة صحصحان )
( فقلت لها كلانا نضو أرض ... أخو سفر فخلي لي مكاني )
( فشده شدة نحوي فأهوت ... لها كفي بمصقول يماني )
( فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران )
إذا قال فأضربها ليصور لقومه الحالة التي تشجع فيها على ضرب الغول كأنه يبصرهم إياها ويتطلب منهم مشاهدتها تعجيبا من جراءته على كل هول وثباته عند كل شدة ومنه قوله تعالى ( إن مثل عيس عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) إذ قال كن فيكون دون فكان وكذا قوله تعالى ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان

سحيق ) وأما تنكيره فإما لإرادة عدم الحصر والعهد كقولك زيد كاتب وعمرو شاعر وإما للتنبيه على ارتفاع شأنه أو انحطاطه على ما مر في المسند إليه كقوله تعالى ( هدى للمتقين ) أي هدى لا يكتنه كنهه وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف فلتكون الفائدة أتم كما مر وأما ترك تخصيصه بهما فظاهر مما سبق وأما تعريفه فلإفادة السامع إما حكما على أمر معلوم له بطريق من طرق التعريف بأمر آخر معلوم له كذلك وإما لازم حكم بين أمرين
كذلك تفسير هذا أنه قد يكون للشيء صفتان من صفات التعريف ويكون السامع عالما باتصافه بإحداهما دون الأخرى فإذا أردت أن تخبره بأنه متصف بالأخرى تعمد إلى اللفظ الدال على الأولى وتجعله مبتدأ وتعمد إلى اللفظ الدال على الثانية وتجعله خبرا فتفيد السامع ما كان يجهله من اتصافه بالثانية كما إذا كان للسامع أخ يسمى زيدا وهو يعرفه بعينه واسمه ولكن لا يعرف أنه أخوه وأردت أن تعرفه أنه أخوه فتقول له زيد أخوك سواء عرف أن له أخا ولم يعرف أن زيدا أخوه أو لم يعرف أن له أخا أصلا وإن عرف أن له أخا في الجملة وأردت أن تعينه عنه قلت أخوك زيد أما إذا لم يعرف أن له أخا أصلا فلا يقال ذلك لامتناع الحكم بالتعيين على من لا يعرفه المخاطب أصلا فظهر الفرق بين قولنا زيد أخوك وقولنا أخوك زيد
وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمى زيدا بعينه واسمه وعرف أنه

كان من إنسان انطلاق ولم يعرف أنه كان من زيد أو غيره فأردت أن تعرفه أن زيدا هو ذلك المنطلق فتقول زيد المنطلق وإن أردت أن تعرفه أن ذلك المنطلق هو زيد قلت المنطلق زيد
وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمى زيدا بعينه واسمه وهو يعرف معنى جنس المنطلق وأردت أن تعرفه أن زيدا متصف به فتقول زيد المنطلق وإن أردت أن تعين عنده جنس المنطلق قلت المنطلق زيد لا يقال زيد دال على الذات فهو متعين للابتداء تقدم أو تأخر والمنطلق دال على أمر نسبي فهو متعين للخبرية تقدم أو تأخر لأنا نقول المنطلق لا يجعل مبتدأ إلا بمعنى الشخص الذي له الانطلاق وأنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون خبرا وزيد لا يجعل خبرا إلا بمعنى صاحب اسم زيد وأنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون مبتدأ
ثم التعريف بلام الجنس قد لا يفيد قصر المعروف على ما حكم عليه به كقول الخنساء
( إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا )
وقد يفيد قصره إما تحقيقا كقولك زيد الأمير إذا لم يكن أمير سواه وإما مبالغة لكمال معناه في المحكوم عليه كقولك عمرو الشجاع أي الكامل في الشجاعة فتخرج الكلام في صورة توهم أن الشجاعة لم توجد إلا فيه لعدم الاعتداد بشجاعة غيره لقصورها عن رتبة الكمال
ثم المقصود قد يكون نفس الجنس مطلقا أي من غير اعتبار تقييده بشيء كما مر وقد يكون الجنس باعتبار تقييده بظرف أو غيره

كقولك هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيرا فإن المقصور هو الوفاء في هذا الوقت لا الوفاء مطلقا وكقول الأعشى
( هو الواهب المائة المصطفاة ... إما مخاضا وإما عشارا )
فإنه قصر هبة المائة من الإبل في إحدى الحالتين لا هبتها مطلقا ولا الهبة مطلقا وهذه الوجوه الثلاثة أعني العهد والجنس للقصر تحقيقا والجنس للقصر مبالغة تمنع جواز العطف بالفاء ونحوها ما حكم عليه بالمعرف بخلاف المنكر فلا يقال زيد المنطلق وعمرو ولا زيد الأمير وعمرو ولا زيد الشجاع وعمرو
وأما كونه جملة فإما لإرادة تقوي الحكم بنفس التركيب كما سبق وإما لكونه سببا وقد تقدم بيان ذلك وفعليتها لإفادة التجدد واسميتها لإفادة الثبوت فإن من شأن الفعلية أن تدل على التجدد ومن شأن الاسمية أن تدل على الثبوت وعليهما قول رب العزة ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ) وقوله تعالى ( قالوا سلاما قال سلام ) إذ أصل الأول نسلم عليك سلاما وتقدير الثاني سلام عليكم كأن إبراهيم عليه السلام قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به أخذا بأدب الله تعالى في قوله تعالى ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها ) وقد ذكر له وجه آخر فيه دقة غير أنه بأصول الفلاسفة أشبه وهو أن التسليم دعاء للمسلم عليه بالسلامة من كل نقص وهذا أطلق وكمال الملائكة لا

يتصور فيه التجدد لأن حصوله بالفعل مقارن لوجودهم فناسب أن يحيوا بما يدل على الثبوت دون التجدد وكمال الإنسان متجدد لأنه بالقوة وخروجه إلى الفعل بالتدريج فناسب أن يحيا بما يدل على التجدد دون الثبوت وفيه نظر وقوله تعالى ( سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ) أي أحدثتم دعاءهم أم استمر صمتكم عنه فإنه كانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعائهم فقيل لم يفترق الحال بين إحداثكم دعائهم وما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم وقوله تعالى ( قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ) أي أحدثت عندنا تعاطي الحق فيما نسمعه منك أم اللعب أي أحوال الصبا بعد مستمرة عليك وأما قوله تعالى ( وما هم بمؤمنين ) في جواب آمنا بالله وباليوم الاخر فلإخراج ذواتهم من جنس المؤمنين مبالغة في تكذيبهم ولهذا أطلق قوله مؤمنين وأكد نفيه بالباء ونحو ( يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها )
وشرطيتها لما مر وظرفيتها لاختصار الفعلية إذ هي مقدرة بالفعل على الأصح وأما تأخيره فلأن ذكر المسند أهم كما سبق
وأما تقديمه فإما لتخصيصه بالمسند إليه كقوله تعالى ( لكم

دينكم ولي دين ) وقولك قائم هو لمن يقول زيد إما قائم أو قاعد فيردده بين القيام والقعود من غير أن يخصصه بأحدهما
ومنه قولهم تميمي أنا وعليه قوله تعالى ( لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ) أي بخلاف خمور الدنيا فإنها تغتال العقول ولهذا لم يقدم الظرف في قوله تعالى ( لا ريب فيه ) لئلا يفيد ثبوت الريب في سائر كتب الله تعالى وإما للتنبيه من أول الأمر على أنه خبر لا نعت كقوله
( له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر )
وقوله تعالى ( ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) وإما للتفاؤل وإما للتشويق إلى ذكر المسند إليه كقوله
( ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر )
وقوله
( وكالنار الحياة فمن رماد ... أواخرها وأولها دخان ) قال السكاكي رحمه الله وحق هذا الاعتبار تطويل الكلام في المسند وإلا لم يحسن ذلك الحسن

تنبيه
كثير مما في هذا الباب والذي قبله غير مختص بالمسند إليه والمسند كالذكر والحذف وغيرهما مما تقدمت أمثلته والفطن إذا أتقن اعتبار ذلك فيهما لا يخفى عليه اعتباره في غيرهما
القول في أحوال متعلقات الفعل
حال الفعل مع المفعول كحاله مع الفاعل فكما أنك إذا أسندت الفعل إلى الفاعل كان غرضك أن تفيد وقوعه منه لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط كذلك إذا عديته إلى المفعول كان غرضك أن تفيد وقوعه عليه لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما إنما كان ليعلم التباسه بهما فعمل الرفع في الفاعل ليعلم التباسه به من جهة وقوعه منه والنصب في المفعول ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه
أما إذا أريد الإخبار بوقوعه في نفسه من غير إرادة أن يعلم ممن وقع في نفسه أو على من وقع فالعبارة عنه أن يقال كان ضرب أو وقع ضرب أو جد أو نحو ذلك من ألفاظ تفيد الوجود المجرد
وإذا تقرر هذا فنقول الفعل المتعدي إذا أسند إلى فاعله ولم يذكر له مفعول فهو على ضربين الأول أن يكون الغرض إثبات المعنى في نفسه للفاعل على الإطلاق أو نفيه عنه
كذلك وقولنا على الإطلاق أي من غير اعتبار عمومه وخصوصه ولا اعتبار تعلقه بمن وقع عليه فيكون المتعدي حينئذ بمنزلة اللازم فلا يذكر له مفعول لئلا يتوهم السامع أن الغرض الإخبار به باعتبار تعلقه بالمفعول ولا يقدر أيضا لأن المقدر في حكم المذكور

وهذا الضرب قسمان لأنه إما أن يجعل الفعل مطلقا كناية عن الفعل متعلقا بمفعول مخصوص دلت عليه قرينة أو لا الثاني كقوله تعالى ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) أي من يحدث له معنى العلم ومن لا يحدث
قال السكاكي ثم إذا كان المقام خطابيا لا استدلاليا أفاد العموم في أفراد الفعل بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون فرد آخر مع تحقيق الحقيقة فيهما تحكم ثم جعل قولهم في المبالغة فلأن يعطي ويمنع ويصل ويقطع محتملا لذلك ولتعميم المفعول كما سيأتي وعده الشيخ عبد القاهر مما يفيد أصل المعنى على الإطلاق من غير إشعار بشيء من ذلك والأول كقول البحتري بمدح المعتز بالله ويعرض بالمستعين بالله
( شجو حساده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واعي )
أي أن يكون ذا رؤية وذا سمع
يقول محاسن الممدوح وآثاره لم تخف على من له بصر لكثرتها واشتهارها ويكفي في معرفة أنها سبب لاستحقاقه الإمامة دون غيره أن يقع عليها بصر ويعيها سمع لظهور دلالتها على ذلك لكل أحد فحساده وأعداؤه يتمنون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها وأذن يسمع بها كي يخفي استحقاقه للإمامة فيجدوا بذلك سبيلا إلى منازعته إياها فجعل كما ترى مطلق الرؤية كناية عن رؤية محاسنه وآثاره ومطلق السماع كناية عن سماع أخباره وكقول عمرو بن معديكرب

( فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت )
لأن غرضه أن يثبت أنه كان من الرماح أجرار وحبس للألسن عن النطق بمدحهم والافتخار بهم حتى يلزم منه بطريق الكناية مطلوبة وهو أنها أجرته
وكقول طفيل الغنوي لبني جعفر بن كلاب
( جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت )
( أبوا أن يملونا ولو أن أمنا ... تلاقي الذي لقوه منا لملت )
( هم خلطونا بالنفوس وألجأوا ... إلى حجرات أدفأت وأظلت )
فإن الأصل لملتنا وأدفأتنا وأظلتنا إلا أنه حذف المفعول من هذه المواضع ليدل على مطلوبه بطريق الكناية فإن قلت لا شك أن قوله ألجأوا أصله ألجأونا فلأي معنى حذف المفعول منه قلت الظاهر أن حذفه لمجرد الاختصار لأن حكمه حكم ما عطف عليه وهو قوله خلطونا
الضرب الثاني أن يكون الغرض إفادة تعلقه بمفعول فيجب تقديره بحسب القرائن ثم حذفه من اللفظ إما للبيان بعد الإبهام كما في فعل المشيئة إذا لم يكن في تعلقه بمفعوله غرابة كقولك لو شئت جئت أو لم أجىء أي لو شئت المجيء أو عدم المجيء فإنك متى قلت لو شئت علم السامع أنك علقت المشيئة بشيء فيقع في نفسه أن هنا شيئا تعلقت به مشيئتك بأن يكون أو لا يكون فإذا قلت جئت أو لم أجىء عرف ذلك الشيء ومنه قوله تعالى ( فلو شاء لهداكم أجمعين )

وقوله تعالى ( فإن يشأ الله يختم على قلبك ) وقوله تعالى ( من يشأ الله يضلله )
وقول طرفة
( فإن شئت لم تر قل وإن شئت أرقلت ... مخافة ملوى من القد محصد )
وقول البحتري
( لو شئت بلاد نجد عودة ... فحللت بين عقيقه وزروده )
وقوله
( لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ... كرما ولم تهدم مآثر خالد ) فإن كان في تعليق الفعل به غرابة ذكرت المفعول لتقرره في نفس السامع وتؤنسه به يقول الرجل يخبره عن عزه لو شئت أن أرد على الأمير رددت وإن شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيته وعليه قول الشاعر
( ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع )
فأما قول أبي الحسين علي بن أحمد الجوهري أحد شعراء الصاحب بن عباد
( فلم يبق مني الشوق غير تفكري ... فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرا )
فليس منه لأنه لم يرد أن يقول فلو شئت أن أبكي تفكرا بكيت

تفكرا ولكنه أراد أن يقول أفناني النحول فلم يبق مني غير خواطر تجول حتى لو شئت البكاء فمريت جفوني وعصرت عيني ليسيل منها دمع لم أجده ولخرج منها بدل الدمع التفكر
فالمراد بالبكاء في الأول الحقيقي وفي الثاني غير الحقيقي فالثاني لا يصح لأن يكون تفسيرا للأول وإما لدفع أن يتوهم السامع في أول الأمر إرادة شيء غير المراد كقول البحتري
( وكم ذدت عني من تحامل حادث ... وسورة أيام حززن إلى العظم )
إذ لو قال حززن اللحم لجاز أن يتوهم السامع قبل ذكر ما بعده أن الحز كان في بعض اللحم ولم ينته إلى العظم فترك ذكر اللحم ليبرىء السامع من هذا الوهم ويصور في نفسه من أول الأمر أن الحز مضى في اللحم حتى لم يرده إلا العظم وإما لأنه أريد ذكره ثانيا على وجه يتضمن إيقاع الفعل على صريح لفظه إظهارا لكمال العناية بوقوعه عليه كقول البحتري أيضا
( قد طلبنا فلم نجد لك في السؤدد ... والمجد والمكارم مثلا )
أي قد طلبنا لك مثلا في السؤدد والمجد والمكارم فحذف المثل إذا كان غرضه أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل ولأجل هذا المعنى بعينه عكس ذو الرمة في قوله
( ولم أمدح لأرضيه بشعري ... لئيما أن يكون أصاب مالا )
فإنه أعمل الفعل الأول الذي هو أمدح في صريح لفظ اللئيم والثاني الذي هو أرضى في ضميره إذ كان غرضه إيقاع نفي المدح

على اللئيم صريحا دون الإرضاء ويجوز أن يكون سبب الحذف في بيت البحتري قصد المبالغة في التأديب مع الممدوح بترك مواجهته بالتصريح بما يدل على تجويز أن يكون له مثل فإن العاقل لا يطلب إلا ما يجوز وجوده وإما للقصد إلى التعميم في المفعول والامتناع عن أن يقصره السامع على ما يذكر معه دون غيره مع الاختصار كما تقول قد كان منك ما يؤلم أي ما الشرط في مثله أن يؤلم كل أحد وكل إنسان
وعليه قوله تعالى ( والله يدعو إلى دار السلام ) أي يدعو كل أحد
وإما للرعاية على الفاصلة كقوله سبحانه وتعالى ( والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ) أي وما قلاك
وإما لاستهجان ذكره كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما رأيت منه ولا رأى مني تعني العورة
وإما لمجرد الاختصار كقولك أصغيت إليه أي أذني وأغضيت عليه أي بصري
ومنه قوله تعالى ( أرني أنظر إليك ) أي ذاتك وقوله تعالى ( أهذا الذي بعث الله رسولا ) أي بعثه الله وقوله تعالى ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) أي أنه لا يماثل أو ما بينه وبينها من التفاوت أو أنها لا تفعل كفعله كقوله تعالى ( قل هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ) ويحتمل أن يكون

المقصود نفس الفعل من غير تعميم أي وأنتم من أهل العلم والمعرفة ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أندادا غاية الجهل ومما عد السكاكي الحذف فيه لمجرد الاختصار قوله تعالى ( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ) والأولى أن يجعل لإثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق كما مر وهو ظاهر قول الزمخشري فإنه قال ترك المفعول لأن الغرض هو الفعل لا المفعول ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلا وكذلك قولهما لا نسقي حتى يصدر الرعاء المقصود منه السقي لا المسقى
واعلم أنه قد يشتبه الحال في أمر الحذف وعدمه لعدم تحصيل معنى الفعل كما في قوله تعالى ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ) فإنه يظن أن الدعاء فيه بمعنى النداء فلا يقدر في الكلام محذوف وليس بمعناه لأنه لو كان بمعناه لزم إما الإشراك أو عطف الشيء على نفسه لأنه إن كان مسمى أحدهما غير مسمى الآخر لزم الأول وإن كانا مسماهما واحدا لزم الثاني وكلاهما باطل تعالى كلام الله عز و جل عن ذلك فالدعاء في الآية بمعنى التسمية التي تتعدى إلى مفعولين أي سموه الله أو الرحمن أيا ما تسموه فله الأسماء الحسنى
كما يقال فلان يدعى الأمير أي

يسمى الأمير كما في قراءة من قرأ ( وقالت اليهود عزير ابن الله ) بغير تنوين على القول بأن سقوط التنوين لكون الابن صفة واقعة بين علمين كما في قولنا زيد بن عمرو قائم فإنه قد يظن أن فعل القول فيه لحكاية الجملة كما هو أصله فقيل تقدير الكلام عزير ابن الله معبودنا وهذا باطل لأن التصديق والتكذيب إنما ينصرفان إلى الإسناد لا إلى وصف ما يقع في الكلام موصوفا بصفة كما إذا حكيت عن إنسان أنه قال زيد بن عمرو سيد ثم كذبته فيه لم يكن تكذيبك أن يكون زيد بن عمرو ولكن أن يكون زيد سيدا فلو كان التقدير ما ذكر لكان الإنكار راجعا إلى أنه معبودهم وفيه تقدير أن عزيزا ابن الله تعالى الله عن ذلك فالقول في الآية بمعنى الذكر لأن الغرض الدلالة على أن اليهود قد بلغوا في الرسوخ في الجهل والشرك إلى أنهم كانوا يذكرون عزيزا هذا الذكر كما تقول في قوم تريد أن تصفهم بالغلو في أمر صاحبهم وتعظيمه إني أراهم قد اعتقدوا أمرا عظيما فهم يقولون أبدا زيد الأمير تريد أنه كذلك يكون ذكرهم له إذا ذكروه
واعلم أن لحذف التنوين من عزير في الآية وجهين أحدهما أن يكون لمنعه من الصرف لعجمته وتعريفه كعاذر والثاني أن يكون لالتقاء الساكنين كقراءة من قرأ ( قل هو الله أحد الله الصمد ) بحذف التنوين من أحد
وكما حكي عن عمارة بن عقيل أنه قرأ ( ولا الليل سابق النهار ) بحذف التنوين من سابق ونصب

النهار فقيل له وما تريد فقال سابق النهار فالمعنى على هذين الوجهين كالمعنى على إثبات التنوين فعزير مبتدأ وابن الله خبره وقال على أصله والله أعلم
وأما تقديم مفعوله ونحوه عليه فلرد الخطأ في التعيين كقولك زيدا عرفت لمن اعتقد أنك عرفت إنسانا وأنه غير زيد وأصاب في الأول دون الثاني وتقول لتأكيده وتقريره زيدا عرفت لا غيره ولذلك لا يصح أن يقال ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس لتناقض دلالتي الأول والثاني ولا أن تعقب الفعل المنفي بإثبات ضده كقولك ما زيدا ضربت ولكن أكرمته لأن مبني الكلام ليس على أن الخطأ في الضرب فترده إلى الصواب في الإكرام وإنما هو على الخطأ في المضروب حين اعتقد أنه زيد فرده إلى الصواب أن تقول ولكن عمرا
وأما نحو قولك زيدا عرفته فإن قدر المفسر المحذوف قبل المنصوب أي عرفت زيدا عرفته فهو من باب التوكيد أعني تكرير اللفظ وإن قدر بعده أي زيدا عرفت عرفته أفاد التخصيص
وأما نحو قوله تعالى ( وأما ثمود فهديناهم ) فيمن قرأ بالنصب فلا يفيد إلا التخصيص لامتناع تقدير أما فهدينا ثمود وكذلك إذا قلت بزيد مررت أفاد أن سامعك كان يعتقد مرورك بغير زيد فأزلت عنه الخطأ مخصصا مرورك بزيد دون غيره والتخصيص في غالب الأمر لازم للتقديم ولذلك يقال في قوله تعالى ( إياك

نعبد وإياك نستعين ) معناه نخصك بالعبادة لا نعبد غيرك ونخصك بالاستعانة لا نستعين غيرك وفي قوله تعالى ( إن كنتم إياه تعبدون ) معناه إن كنتم تخصونه بالعبادة
وفي قوله تعالى ( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) أخرت صلة الشهادة في الأول وقدمت في الثاني لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفي الثاني اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم
وفي قوله تعالى ( لإلى الله تحشرون ) معناه إليه لا إلى غيره
وفي قوله تعالى ( وأرسلناك للناس رسولا ) معناه لجميع الناس من العرب والعجم على أن التعريف للاستغراق لا لبعضهم المعين على أنه للعهد أي للعرب ولا لمسمى الناس على أنه للجنس لئلا يلزم من الأول اختصاصه بالعرب دون العجم لانحصار الناس في الصنفين ومن الثاني اختصاصه بالإنس دون الجن لانحصار من يتصور الإرسال إليهم من أهل الأرض فيهما وعلى تقدير الاستغراق لا يلزم شيء من ذلك لأن التقديم لما كان مفيدا لثبوت الحكم للمقدم ونفيه عما يقابله كان تقديم للناس على رسولا مفيدا لنفي كونه رسولا لبعضهم خاصة لأنه هو المقابل لجميع الناس لا لبعضهم مطلقا ولا غير جنس الناس
وكذلك يذهب في معنى قوله تعالى ( وبالآخرة هم

يوقنون ) إلى أنه تعريض بأن الآخرة التي عليها أهل الكتاب فيما يقولون إنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وأنه لا تمسهم النار فيها إلا أياما معدودات وأن أهل الجنة فيها لا يتلذذون في الجنة إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيد ليست بالآخرة وإيقانهم بمثلها ليس من الإيقان بالتي هي الآخرة عند الله في شيء أي بالآخرة يوقنون لا بغيرها كأهل الكتاب ويفيد التقديم في جميع ذلك وراء التخصيص اهتماما بشأن المقدم ولهذا قدر المحذوف في قوله بسم الله مؤخرا وأورد قوله تعالى ( إقرأ باسم ربك ) فإن الفعل فيه مقدم وأجيب بأن تقديم الفعل هناك أهم لأنها أول سورة نزلت
وأجاب السكاكي بأن باسم ربك متعلق باقرأ الثاني ومعنى الأول افعل القراءة وأوجدها على نحو ما تقدم في قولهم فلان يعطي ويمنع يعني إذا لم يحمل على العموم وهو بعيد
وأما تقديم بعض معمولاته على بعض فهو إما لأن أصله التقديم ولا مقتضى للعدول عنه كتقديم الفاعل على المفعول نحو ضرب زيد عمرا وتقديم المفعول الأول على الثاني نحو أعطيت زيدا درهما وإما لأن ذكره أهم والعناية به أتم فيقدم المفعول على الفاعل إذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل على من وقع عليه لا وقوعه ممن وقع منه كما إذا خرج رجل على السلطان وعاث في البلاد وكثر منه الأذى فقتل وأردت أن تخبر بقتله فتقول قتل الخارجي فلان بتقديم الخارجي إذ ليس للناس فائدة أن يعرفوا قاتله وإنما الذي يريدون علمه هو وقوع

القتل به ليخلصوا من شره ويقدم الفاعل على المفعول إذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل ممن وقع منه لا وقوعه على من وقع عليه كما إذا كان رجل ليس له بأس ولا يقدر فيه أن يقتل فقتل رجلا وأردت أن تخبر بذلك فتقول قتل فلان رجلا بتقديم القاتل لأن الذي يعني الناس من شأن هذا القتل ندوره وبعده من الظن ومعلوم أنه لم يكن نادرا ولا بعيدا من حيث كان واقعا على من وقع عليه بل من حيث كان واقعا ممن وقع منه وعليه قوله تعالى ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) وقوله تعالى ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ) قدم المخاطبين في الأولى دون الثانية لأن الخطاب في الأولى للفقراء بدليل قوله تعالى ( من إملاق ) فكان رزقهم أهم عندهم من رزق أولادهم فقدم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم
والخطاب في الثانية للأغنياء بدليل قوله ( خشية إملاق ) فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع فكان رزق أولادهم هو المطلوب دون رزقهم لأنه حاصل فكان أهم فقدم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم
وإما لأن في التأخير إخلالا ببيان المعنى كقوله تعالى ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ) فإنه لو أخر من آل فرعون عن يكتم إيمانه لتوهم أن من متعلقة بيكتم فلم يفهم أن الرجل من آل فرعون أو بالتناسب كرعاية الفاصلة نحو ( فأوجس في نفسه خيفة موسى ) وإما لاعتبار آخر مناسب

وقسم السكاكي التقديم للعناية مطلقا قسمين أحدهما أن يكون أصل ما قدم في الكلام هو التقديم ولا مقتضى للعدول عنه كالمبتدأ المعرف فإن أصله التقديم على الخبر نحو زيد عارف وكذا الحال المعرف فإن أصله التقديم على الحال نحو جاء زيد راكبا وكالعامل فإن أصله التقديم على معموله نحو عرف زيد عمرا وكان زيد عارفا وإن زيدا عارف وكالفاعل فإن أصله التقديم على المفعولات وما يشبهها من الحال والتمييز نحو ضرب زيد الجاني بالسوط يوم الجمعة أمام بكر ضربا شديدا تأديبا له ممتلئا من الغضب وامتلأ الإناء ماء وكالذي يكون في حكم المبتدأ من مفعولي باب علمت نحو علمت زيدا منطلقا أو في حكم الفاعل من مفعولي باب أعطيت وكسوت نحو أعطيت زيدا درهما وكسوت عمرا جبة وكالمفعول المتعدى إليه بغير واسطة فإن أصله التقديم على المتعدي إليه بواسطة نحو ضربت الجاني بالسوط وكالتوابع فإن أصلها أن تذكر بعد المتبوعات
وثانيهما أن تكون العناية بتقديمه والاعتناء بشأنه لكونه في نفسه نصب عينك والتفات خاطرك إليه في التزايد كما تجدك قد منيت بهجر حبيبك وقيل لك ما تتمنى تقول وجه الحبيب أتمنى وعليه قوله تعالى ( وجعلوا لله شركاء ) أي على القول بأن لله شركاء مفعولا جعلوا أو لعارض يورثه ذلك
كما إذا توهمت أن مخاطبك ملتفت الخاطر إليه ينتظر أن تذكره فيبرز في معرض أمر يتجدد في شأنه التقاضي ساعة فساعة فمتى تجد له مجالا للذكر صالحا أوردته نحو قوله تعالى

( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ) قدم فيه المجرور لاشتماله ما قبله على سوء معاملة أهل القرية الرسل من إصرارهم على تكذيبهم فكان مظنة أن يلعن السامع على مجرى العادة تلك القرية ويبقى مجيلا في فكره أكانت كلها كذلك أم كان فيها قطر دان أم قاص منبت خير منتظرا لإلمام الحديث به بخلاف ما في سورة القصص أو كما إذا وعدت ما تبعد وقوعه من جهتين إحداهما أدخل في تبعيده من الأخرى فإنك حال التفات خاطرك إلى وقوعه باعتبارهما تجد تفاوتا في إنكارك إياه قوة وضعفا بالنسبة ولامتناع إنكاره بدون القصد إليه يستتبع تفاوته ذلك تفاوتا في القصد إليه والاعتناء بذكره فالبلاغة توجب أنك إذا أنكرت تقول في الأول شيء حاله في البعد عن الوقوع هذه أنى يكون لقد وعدت هذا أنا وأبي وجدي فتقدم المنكر على المرفوع وفي الثاني لقد وعدت أنا وأبي وجدي هذا فتؤخر وعليه قوله تعالى في سورة النمل ( لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا ) وقوله تعالى في سورة المؤمنين ( لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا ) فإن ما قبل الأولى ( ءإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون ) وما قبل الثانية ( ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ) فالجهة المنظور فيها هناك كونهم أنفسهم وآباؤهم ترابا والجهة المنظور فيها هنا كونهم ترابا وعظاما ولا شبهة أن الأولى أدخل عندهم في تبعيد البعث أو كما إذا عرفت في التأخير مانعا كما في قوله تعالى في سورة المؤمنون ( وقال الملأ من قومه

الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم ) بتقديم المجرور على الوصف لأنه لو أخر عنه وأنت تعلم أن تمام الوصف بتمام ما يدخل في صلة الموصول وتمامه وأترفناهم في الحياة الدنيا لاحتمل أن يكون من صلة الدنيا
واشتبه الأمر في القائلين أنهم من قومه أم لا بخلاف قوله تعالى في موضع آخر منها ( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ) فإنه جاء على الأصل لعدم المانع وكما في قوله تعالى في سورة طه ( آمنا برب هارون وموسى ) للمحافظة على الفاصلة بخلاف قوله تعالى في سورة الشعراء ( رب موسى وهارون ) وفيما ذكره نظر من وجوه أحدهما أنه جعل تقديم لله على شركاء للعناية والاهتمام وليس كذلك فإن الآية مسوقة للإنكار التوبيخي فيمتنع أن يكون تعلق جعلوا بالله منكرا من غير اعتبار تعلقه بشركاء إذ لا ينكر أن يكون جعل ما متعلقا به فيتعين أن يكون إنكار تعلقه به باعتبار تعلقه بشركاء وتعلقه بشركاء كذلك منكر باعتبار تعلقه بالله فلم يبق فرق بين التلاوة وعكسها وقد علم بهذا أن كل فعل متعد إلى مفعولين لم يكن الاعتناء بذكر أحدهما إلا باعتبار تعلقه بالآخر إذا قدم أحدهما على الآخر لم يصح تعليل تقديمه بالعناية وثانيها أنه جعل التقديم للاحتراز عن الإخلال ببيان المعنى والتقديم للرعاية على الفاصلة من القسم الثاني وليسا منه وثالثها أن تعلق قومه بالدنيا على تقدير تأخره غير معقول المعنى إلا على وجه بعيد

القول في القصر
القصر حقيقي وغير حقيقي وكل واحد منهما ضربان قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف والمراد الصفة المعنوية لا النعت والأول من الحقيقي كقولك ما زيد إلا كاتب إذا أردت أنه لا يتصف بصفة غير الكتابة وهذا لا يكاد يوجد في الكلام لأنه ما من متصور إلا وتكون له صفات تتعذر الإحاطة بها أو تتعسر والثاني منه كثير كقولنا ما في الدار إلا زيد والفرق بينهما ظاهر فإن الموصوف في الأول لا يمتنع أن يشاركه غيره في الصفة المذكورة وفي الثاني يمتنع وقد يقصد به المبالغة لعدم الاعتداد بغير المذكور فينزل منزلة المعدوم والأول من غير الحقيقي تخصيص أمر بصفة دون أخرى أو مكان أخرى والثاني منه تخصيص صفة بأمر دون آخر أو مكان آخر فكل واحد منهما ضربان والمخاطب بالأول من ضربي كل أعني تخصيص أمر بصفة دون أخرى وتخصيص صفة بأمر دون آخر من يعتقد الشركة أي اتصاف ذلك الأمر بتلك الصفة وغيرها جميعا في الأول واتصاف ذلك الأمر وغيره جميعا بتلك الصفة في الثاني فالمخاطب بقولنا ما زيد إلا كاتب من يعتقد أن زيدا كاتب وشاعر وبقولنا ما شاعر إلا زيد من يعتقد أن زيدا شاعر لكن يدعي

أن عمرا أيضا شاعرا وهذا يسمى قصر إفراد لقطعه الشركة بين الصفتين في الثبوت للموصوف أو بين الموصوف وغيره في الاتصاف بالصفة والمخاطب بالثاني من ضربي كل أعني تخصيص أمر بصفة مكان أخرى وتخصيص صفة بأمر مكان آخر
أما من يعتقد العكس أي اتصاف ذلك الأمر بغير تلك الصفة عوضا عنها في الأول واتصاف غير ذلك الأمر بتلك الصفة عوضا عنه في الثاني وهذا يسمى قصر القلب لقلبه حكم السامع وأما من تساوى الأمران عنده أي اتصاف ذلك الأمر بتلك الصفة واتصافه بغيرها في الأول واتصافه بها واتصاف غيره بها في الثاني وهذا يسمى قصر تعيين فالمخاطب بقولنا ما زيد إلا قائم من يعتقد أن زيدا قاعد لا قائم أو يعلم أنه إما قاعد أو قائم ولا يعلم أنه بماذا يتصف منهما بعينه وبقولنا ما قائم إلا زيد من يعتقد أن عمرا قائم لا زيدا أو يعلم أن القائم أحدهما دون كل واحد منهما لكن لا يعلم من هو منهما بعينه وشرط قصر الموصوف على الصفة افرادا عدم تنافي الصفتين حتى تكون المنفية في قولنا ما زيد إلا شاعر كونه كاتبا أو منجما أو نحو ذلك لا كونه مفحما لا يقول الشعر ليتصور اعتقاد المخاطب اجتماعهما وشرط قصره قلبا تحقق تنافيهما حتى تكون المنفية في قولنا ما زيد إلا قائم كونه قاعدا أو جالسا أو نحو ذلك لا كونه أسود أو أبيض أو نحو ذلك ليكون إثباتها مشعرا بانتفاء غيرها وقصر التعيين أعم لأن اعتقاد كون الشيء موصوفا بأحد أمرين معينين على الإطلاق لا يقتضي جواز اتصافه بهما معا ولا امتناعه
وبهذا علم أن كل ما يصلح أن يكون مثالا لقصر الأفراد أو قصر القلب يصلح أن يكون مثالا لقصر التعيين من غير عكس وقد أهمل

السكاكي القصر الحقيقي وأدخل قصر التعيين في قصر الافراد فلم يشترط في قصر الموصوف إفرادا عدم تنافي الصفتين ولا في قصره قلبا تحقق تنافيهما وللقصر طرق منها العطف كقولك في قصر الموصوف على الصفة افرادا زيد شاعر لا كاتب أو ما زيد كاتبا بل شاعر وقلبا زيد قائم لا قاعد أو ما زيد قاعدا بل قائم وفي قصر الصفة على الموصوف إفرادا أو قلبا بحسب المقام زيد قائم لا عمرو أو ما عمرو قائما بل زيد ومنها النفي والاستثناء كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا ما زيد إلا شاعرا وقلبا ما زيد إلا قائم وتعيينا كقوله تعالى ( وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون ) أي لستم في دعواكم للرسالة عندنا بين الصدق والكذب كما يكون ظاهر حال المدعي إذا ادعى بل أنتم عندنا كاذبون فيها وفي قصر الصفة على الموصوف بالاعتبارين ما قائم أو ما من قائم أو لا قائم إلا زيد وتحقيق وجه القصر في الأول أنه متى قيل ما زيد توجه النفي إلى صفته لا ذاته لأن أنفس الذوات يمتنع نفيها وإنما تنفي صفاتها كما بين ذلك في غير هذا العلم وحيث لا نزاع في طوله وقصره وما شاكل ذلك وإنما النزاع في كونه شاعرا أو كاتبا تناولهما النفي فإذا قيل إلا شاعر جاء القصر وفي الثاني انه متى قيل ما شاعر فأدخل النفي على الوصف المسلم ثبوته أعني الشعر لغير من الكلام فيهما كزيد وعمرو مثلا توجه النفي إليهما فإذا قيل إلا زيد جاء القصر ومنها إنما كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا إنما زي كاتب وقلبا إنما زيد قائم وفي قصر الصفة على الموصوف بالاعتبارين إنما قائم زيد

والدليل على أنها تفيد القصر كونها متضمنة معنى ما وإلا لقول المفسرين في قوله تعالى ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ) بالنصب معناه ما حرم عليكم إلا الميتة وهو المطابق لقراءة الرفع لما مر في باب المنطلق زيد ولقول النحاة إنما لإثبات ما يذكر بعدها ونفي ما سواه ولصحة انفصال الضمير معها كقولك إنما يضرب أنا كما تقول ما يضرب إلا أنا
قال الفرزدق
( أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي )
وقال عمرو بن معديكرب
( قد علمت سلمى وجاراتها ... ما قطر الفارس إلا أنا ) وقال
وقال السكاكي ويذكر لذلك وجه لطيف يسند إلى علي بن عيسى الربعي وهو أنه لما كانت كلمة إن لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه ثم اتصلت بها ما المؤكدة لا النافية كما يظنه من لا وقوف له على علم النحو ناسب أن يضمن معنى القصر لأن القصر ليس إلا تأكيدا على تأكيد فإن قولك زيد جاء لا عمرو لمن يردد المجيء الواقع بينهما يفيد إثباته لزيد في الابتداء صريحا وفي الآخر ضمنا ومنها التقديم كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا شاعر هو لمن يعتقده شاعرا وكاتبا وقلبا قائم هو لمن يعتقده قاعدا وفي قصر الصفة على الموصوف إفرادا أنا كفيت مهمك بمعنى

وحدي لمن يعتقد أنك وغيرك كفيتما مهمه وقلبا أنا كفيت مهمك بمعنى لا غيري لمن يعتقد أن غيرك كفى مهمه دونك كما تقدم وهذه الطرق تختلف من وجوه
الأول أن دلالة الثلاثة الأولى بالوضع دون الرابع
الثاني أن الأصل في الأول أن يدل على المثبت والمنفي جميعا بالنص فلا يترك ذلك إلا كراهة الإطناب في مقام الاختصار كما إذا قيل زيد يعلم النحو والتصريف والعروض والقوافي أو زيد يعلم النحو وعمرو وبكر وخالد فتقول فيهما زيد يعلم النحو لا غير وفي معناه ليس إلا أي لا غير النحو ولا غير زيد وأما الثلاثة الباقية فتدل بالنص على المثبت دون المنفي
الثالث أن النفي لا يجامع الثاني لأن شرط المنفي بلا أن لا يكون منفيا قبلها بغيرها ويجامع الآخرين فيقال إنما زيد كاتب لا شاعر وهو يأتيني لا عمرو ولأن النفي فيهما غير مصرح به كما يقال امتنع زيد عن المجيء لا عمرو قال السكاكي شرط مجامعته للثالث أن لا يكون الوصف مختصا بالموصوف كقوله تعالى ( إنما يستجيب الذين يسمعون ) فإن كل عاقل يعلم أن الاستجابة لا تكون إلا ممن يسمع وكذا قولهم إنما يعجل من يخشى الفوت وقال الشيخ عبد القاهر لا تحسن مجامعته له في المختص كما تحسن في غير المختص وهذا أقرب
قيل ومجامعته له إما مع التقديم كقوله

تعالى ( إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر ) وإما مع التأخير كقولك ما جاءني زيد وإنما جاءني عمرو وفي كون نحو هذين مما نحن فيه نظر
الرابع أن أصل الثاني أن يكون ما استعمل له مما يجهله المخاطب وينكره كقولك لصاحب وقد رأيت شبحا من بعيد ما هو إلا زيد إذا وجدته يعتقد غير زيد ويصر على الإنكار وعليه قوله تعالى ( وما من إله إلا الله ) وقد ينزل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب فيستعمل له الثاني إفرادا نحو ( وما محمد إلا رسول قد خلت منه قبله الرسل ) أي أنه على الرسالة لا يتعداها إلى التبري من الهلاك نزل استعظامهم هلاكه منزلة إنكارهم إياه ونحوه ( وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير ) فإنه لشدة حرصه على هداية الناس يكرر دعوة الممتنعين على الإيمان ولا يرجع عنها فكان في معرض من ظن أنه يملك مع صفة الإنذار إيجاد الشيء فيما يمتنع قبوله إياه أو قلبا كقوله تعالى حكاية عن بعض الكفار ( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) أي أنتم بشر لا رسل نزلوا المخاطبين منزلة من ينكر أنه بشر لاعتقاد القائلين أن الرسول لا يكون بشرا مع إصرار المخاطبين على دعوى الرسالة
وأما قوله تعالى

حكاية عن الرسل ( إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) فمن مجاراة الخصم للتبكيت والإلزام والإفحام فإن من عادة من ادعى عليه خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه أن يعيد كلامه على وجهه كما إذا قال لك من يناظرك أنت من شأنك كيت وكيت فتقول نعم أنا من شأني كيت وكيت ولكن لا يلزمني من أجل ذلك ما ظننت أنه يلزم فالرسل عليهم السلام كأنهم قالوا إن ما قلتم من أنا بشر مثلكم هو كما قلتم لا ننكره ولكن ذلك لا يمنع أن يكون الله تعالى قد من علينا بالرسالة وأصل الثالث أن يكون ما استعمل له مما يعلمه المخاطب ولا ينكره على عكس الثاني كقولك إنما هو أخوك وإنما هو صاحبك القديم لمن يعلم ذلك ويقربه وتريد أن ترققه عليه وتنبهه لما يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب
وعليه قول أبي الطيب
( إنما أنت والد والأب القاطع ... أحنى من واصل الأولاد )
لم يرد أن يعلم كافورا أنه بمنزلة الوالد ولا ذاك مما يحتاج كافور فيه إلى الإعلام ولكنه أراد أن يذكره منه بالأمر المعلوم ليبني عليه استدعاء ما يوجبه وقد ينزل المجهول منزلة المعلوم لادعاء المتكلم ظهوره فيستعمل له الثالث نحو ( إنما نحن مصلحون ) ادعوا أن كونهم مصلحين ظاهر جلي ولذلك جاء ( ألا إنهم هم المفسدون ) للرد عليهم مؤكدا بما ترى من جعل الجملة اسمية

وتعريف الخبر باللام وتوسيط الفصل والتصدير بحرف التنبيه ثم بإن ومثله قول الشاعر إنما مصعب شهاب من الله تجلت عن وجهه الظلماء ادعى أن كون مصعب كما ذكر جلي معلوم لكل أحد على عادة الشعراء إذا مدحوا أن يدعوا في كل ما يصفون به ممدوحيهم الجلاء وأنهم قد شهروا به حتى أنه لا يدفعه أحد كما قال الآخر
( وتعذلني أفناء سعد عليهم ... وما قلت إلا بالتي علمت سعد )
وكما قال البحتري
( لا أدعي لأبي العلاء فضيلة ... حتى يسلمها إليه عداه )
واعلم أن لطريق إنما مزية على طريق العطف وهي أنه يعقل منها إثبات الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة بخلاف العطف وإذا استقريت وجدتها أحسن ما يكون موقعا إذا كان الغرض بها التعريض بأمر هو مقتضى معنى الكلام بعدها كما في قوله تعالى ( إنما يتذكر أولو الألباب ) فإنه تعريض بذم الكفار وأنهم من فرط العناد وغلبة الهوى عليهم في حكم من ليس بذي عقل فأنتم في طمعكم منهم أن ينظروا ويتذكروا كمن طمع في ذلك من غير أولي الألباب وكذا قوله تعالى ( إنما أنت منذر من يخشاها ) وقوله تعالى ( إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ) المعنى على

أن من لم تكن له هذه الخشية فكأنه ليس له إذن تسمع وقلب يعقل فالإنذار معه كلا إنذار
قال الشيخ عبد القاهر ومثال ذلك من الشعر قوله
( أنا لم أرزق محبتها ... إنما للعبد ما رزقا )
فإنه تعريض بأنه قد علم أنه لا مطمع له في وصلها فيئس من أن يكون منها إسعاف به وقوله
( وإنما يعذر العشاق من عشقا ... )
يقول ينبغي للعاشق أن لا ينكر لوم من يلومه فإنه لا يعلم كنه بلوى العاشق ولو كان قد ابتلى بالعشق مثله لعرف ما هو فيه فعذره وقوله
( ما أنت بالسبب الضعيف وإنما ... نجح الأمور بقوة الأسباب )
( فاليوم حاجتنا إليك وإنما ... يدعى الطبيب لساعة الأوصاب )
يقول في البيت الأول إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السبب إليه وفي الثاني أنا قد طلبنا من جهته حين استعنا بك فيما عرض لنا من الحاجة وعولنا على فضلك كما أن من عول على الطبيب فيما يعرض له من السقم كان قد أصاب في فعله ثم القصر كما يقع بين المبتدأ والخبر كما ذكرناه يقع بين الفعل والفاعل وغيرهما ففي طريق النفي والاستثناء يؤخر المقصور عليه مع حرف الاستثناء كقولك في قصر الفاعل على المفعول إفرادا أو قلبا بحسب المقام ما ضرب زيد إلا عمرا وعلى الثاني لا الأول قوله تعالى ( ما قلت لهم إلا

ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ) لأنه ليس المعنى إني لم أزد على ما أمرتني به شيئا إذ ليس الكلام في أنه زاد شيئا على ذلك أو نقص منه ولكن المعنى أني لم أترك ما أمرتني به أن أقول لهم إلى خلافه لأنه قاله في مقام اشتمل على معنى إنك يا عيسى تركت ما أمرتك أن تقوله إلى ما لم آمرك أن تقوله فإني أمرتك أن تدعو الناس إلى أن يعبدوني ثم إنك دعوتهم إلى أن يعبدوا غيري بدليل قوله تعالى ( ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) وفي قصر المفعول على الفاعل ما ضرب عمرا إلا زيد وفي قصر المفعول الأول على الثاني في نحو كسوت وظننت ما كسوت زيدا إلا جبة وما ظننت زيدا إلا منطلقا وفي قصر الثاني على الأول ما كسوت جبة إلا زيدا وما ظننت منطلقا إلا زيدا وفي قصر ذي الحال على الحال ما جاء زيد إلا راكبا
وفي قصر الحال على ذي الحال ما جاء راكبا إلا زيد والوجه في جميع ذلك أن النفي في الكلام الناقص أعني الاستثناء المفرغ يتوجه إلى مقدر هو مستثنى منه عام مناسب للمستثنى في جنسه وصفته
أما توجهه إلى مقدر هو مستثنى منه فلكون إلا للإخراج واستدعاء الإخراج مخرجا منه وأما عمومه فليتحقق الإخراج منه ولذلك قيل تأنيث المضمر في كانت على قراءة أبي جعفر المدني إن كانت إلا صيحة بالرفع وفي ترى مبنيا للمفعول في قراءة الحسن فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم برفع مساكنهم وفي بقيت في بيت ذي الرمة

(

فما
بقيت إلا الضلوع الجراشع ... )
للنظر إلى ظاهر اللفظ والأصل التذكير لاقتضاء المقام معنى شيء من الأشياء وأما مناسبته في جنسه وصفته فظاهرة لأن المراد بجنسه أن يكون في نحو ما ضرب زيد إلا عمرا أحدا وفي نحو قولنا ما كسوت زيدا إلا جبة لباسا وفي نحو ما جاء زيد إلا راكبا كائنا على حال من الأحوال وفي نحو ما اخترت رفيقا إلا منكم من جماعة من الجماعات ومنه قول السيد الحميري
( لو خير المنبر فرسانه ... ما اختار إلا منكم فارسا )
لما سيأتي إن شاء الله تعالى أن أصله ما اختار فارسا إلا منكم والمراد بصفته كونه فاعلا أو مفعولا أو ذا حال أو حالا وعلى هذا القياس وإذا كان النفي متوجها إلى ما وصفناه فإذا أوجب منه شيء جاء القصر ويجوز تقديم المقصور عليه مع حرف الاستثناء بحالهما على المقصور كقولك ما ضرب إلا عمرا زيد وما ضرب إلا زيد عمرا وما كسوت إلا جبة زيدا وما ظننت إلا زيدا منطلقا وما جاء إلا راكبا زيد وما جاء إلا زيد راكبا وقولنا بحالهما احتراز من إزالة حرف الاستثناء عن مكانه بتأخيره عن المقصور عليه كقولك في الأول ما ضرب عمرا إلا زيد فإنه يختل المعنى بالضابط أن الاختصاص إنما يقع في الذي يلي إلا ولكن استعمال هذا النوع أعني تقديمها قليل لاستلزامه قصر الصفة قبل تمامها كالضرب الصادر من زيد في ما ضرب زيد إلا عمرا والضرب الواقع على عمرو في ما ضرب عمرا إلا زيدا وقيل إذا أخر المقصور عليه والمقصور عن إلا وقدم

المرفوع كقولنا ما ضرب إلا عمرو زيدا فهو على كلامين وزيدا منصوب بفعل مضمر فكأنه قيل ما ضرب إلا عمرو أي ما وقع ضرب إلا منه ثم قيل من ضرب فقيل زيدا أي ضرب زيدا وفيه نظر لاقتضائه الحصر في الفاعل والمفعول جميعا وأما في إنما فيؤخر المقصور عليه تقول إنما زيد ثم وإنما ضرب زيد وإنما ضرب زيد عمرا وإنما ضرب زيد عمرا يوم الجمعة وإنما ضرب زيد عمرا يوم الجمعة في السوق أي ما زيد إلا قائم وما ضرب إلا زيد وما ضرب زيد إلا عمرا وما ضرب زيد عمرا إلا يوم الجمعة وما ضرب زيد عمرا يوم الجمعة إلا في السوق فالواقع أخيرا هو المقصور عليه أبدا ولذلك تقول إنما هذا لك وإنما لك هذا أي ما هذا إلا لك وما لك إلا هذا حتى إذا أردت الجمع بين إنما والعطف فقل إنما هذا لك لا لغيرك وإنما لك هذا لا ذاك وإنما أخذ زيد لا عمرو وإنما زيد يأخذ لا يعطي ومن هذا تعثر على الفرق بين قوله تعالى ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) وقولنا إنما يخشى العلماء من عباد الله فإن الأول يقتضي قصر خشية الله على العلماء والثاني يقتضي قصر خشية العلماء على الله واعلم أن حكم غير حكم إلا في إفادة القصرين أي قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف وفي امتناع مجامعة لا العاطفة تقول في قصر الموصوف إفرادا ما زيد غير شاعر وقلبا ما زيد غير قائم وفي قصر الصفة بالاعتبارين بحسب المقام لا شاعر غير زيد ولا تقول ما زيد غير شاعر لا كاتب ولا لا شاعر غير زيد لا عمرو

القول في الإنشاء
الإنشاء ضربان طلب وغير طلب والطلب يستدعي مطلوبا غير حاصل وقت الطلب لامتناع تحصيل الحاصل وهو المقصود بالنظر ههنا وأنواعه كثيرة منها التمني واللفظ الموضوع له ليت ولا يشترط في التمني الإمكان تقول ليت زيدا يجيء وليت الشباب يعود قال الشاعر
( يا ليت أيام الصبا رواجعا ... )
وقد يتمنى بها كقول القائل هل لي من شفيع في مكان يعلم أنه لا شفيع له فيه لإبراز المتمني لكمال العناية به في صورة الممكن وعليه قوله تعالى حكاية عن الكفار ( فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ) وقد يتمنى بلو كقولك لو تأتيني فتحدثني بالنصب
قال السكاكي وكأن حروف التنديم والتخصيص وهي هلا وألا بقلب الهاء همزة ولولا ولوما مأخوذة منهما مركبتين مع لا وما المزيدتين لتضمينهما معنى التمني ليتولد منه في الماضي التنديم نحو

هلا أكرمت زيدا وفي المضارع التخصيص نحو هلا تقوم
وقد يتمنى بلعل فتعطي حكم ليت نحو لعلي أحج فأزورك بالنصب لبعد المرجو عن الحصول وعليه قراءة عاصم في رواية حفص ( لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى ) بالنصب
ومنها الاستفهام والألفاظ الموضوعة له الهمزة وهل وما ومن وأي وكم وكيف وأين وأنى ومتى وأيان فالهمزة لطلب التصديق كقولك أقام زيد أزيد قائم أو التصور كقولك أدبس في الإناء أم عسل وأفي الخابية دبسك أم في الزق ولهذا لم يقبح أزيد قائم وأعمرا عرفت والمسؤول عنه بها هو ما يليها فتقول أضربت زيدا إذا كان الشك في الفعل نفسه وأردت بالاستفهام أن تعلم وجوده وتقول أأنت ضربت زيدا إذا كان الشك في الفاعل من هو وتقول أزيدا ضربت إذا كان الشك في المفعول من هو وهل لطلب التصديق فحسب كقولك هل قام زيد وهل عمرو قاعد ولهذا امتنع هل زيد قام أم عمرو وقبح هل زيدا ضربت لما سبق أن التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل والشك فيما قدم عليه ولم يقبح هل زيدا ضربته لجواز تقدير المحذوف المفسر مقدما كما مر وجعل السكاكي قبح نحو هل رجل عرف لذلك أي لما قبح له هل زيدا ضربت ويلزمه أن لا يقبح نحو هل زيد عرف لامتناع تقدير التقديم والتأخير فيه عنده على ما سبق وعلل غيره القبح فيهما بأن أصل هل أن تكون بمعنى قد إلا أنهم تركوا الهمزة قبلها لكثرة وقوعها في الاستفهام وهل تخصص المضارع

بالاستقبال فلا يصح أن يقال هل تضرب زيدا وهو أخوك كما تقول أتضرب زيدا وهو أخوك ولهذين أعني اختصاصهما بالتصديق وتخصيصها المضارع بالاستقبال كان لها مزيد اختصاص بما كونه زمانيا أظهر كالفعل
أما الثاني فظاهر وأما الأول فلأن الفعل لا يكون إلا صفة التصديق وحكم بالثبوت أو الانتفاء والنفي والإثبات إنما يتوجهان إلى الصفات لا الذوات ولهذا كان قوله تعالى ( فهل أنتم شاكرون ) أدل على طلب الشكر من قولنا فهل تشكرون وقولنا فهل أنتم تشكرون
لأن إبراز ما سيتجدد في معرض الثابت أدل على كمال العناية بحصوله من إبقائه على أصله وكذا من قولنا فأنتم شاكرون وإن كانت صيغته للثبوت لأن هل أدعى للفعل من الهمزة فتركه معه أدل على كمال العناية بحصوله ولهذا لا يحسن هل زيد منطلق إلا من البليغ وهي قسمان بسيطة وهي التي يطلب بها وجود الشيء كقولنا هل الحركة موجودة ومركبة وهي التي يطلب بها وجود شيء لشيء كقولنا هل الحركة دائمة والألفاظ الباقية لطلب التصور فقط أما ما فقيل يطلب به إما شرح الاسم كقولنا ما العنقاء وإما ماهية المسمى كقولنا ما الحركة والقسم الأول يتقدم على قسمي هل جميعا والثاني يتقدم على هل المركبة دون البسيطة فالبسيطة في الترتيب واقعة بين قسمي ما
وقال السكاكي يسأل بما عن الجنس تقول ما عندك أي أي أجناس الأشياء عندك وجوابه إنسان أو فرس أو كتاب أو نحو ذلك وكذلك تقول ما الكلمة وما الكلام وفي التنزيل ( فما

خطبكم ) أي أي أجناس الخطوب خطبكم وفيه ما تعبدون من بعدي أي أي من في الوجود تؤثرونه للعبادة أو عن الوصف تقول ما زيد وما عمرو وجوابه الكريم أو الفاضل ونحوهما وسؤال فرعون وما رب العالمين إما عن الجنس لاعتقاده لجهله بالله تعالى أن لا موجود مستقلا بنفسه سوى الأجسام كأنه قال أي أجناس الأجسام وهو وعلى هذا جواب موسى عليه السلام بالوصف للتنبيه على النظر المؤدي إلى معرفته لكن لما لم يطابق السؤال عند فرعون عجب الجهلة الذين حوله من قول موسى بقوله لهم ( ألا تستمعون ) ثم لما وجده مصرا على الجواب بالوصف إذ قال في المرة الثانية ( ربكم ورب آبائكم الأولين ) استهزأ به وجننه بقوله ( إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ) وحين رآهم موسى عليه السلام لم يفطنوا لذلك في المرتين غلظ عليهم في الثالثة بقوله ( إن كنتم تعقلون ) وإما عن الوصف طمعا في أن يسلك موسى عليه السلام في الجواب معه مسلك الحاضرين لو كانوا هم المسؤولين مكانه لشهرته بينهم برب العالمين إلى درجة دعت السحرة إذ عرفوا الحق أن أعقبوا قولهم ( آمنا برب العالمين ) بقولهم ( رب موسى وهارون ) نفيا لاتهامهم أن عتوه وجهله بحال موسى إذا لم يكن

جميعهما قبل ذلك مجلس بدليل أنه قال ( أو لو جئتك بشيء مبين قال فائت به إن كنت من الصادقين ) فحين سمع الجواب تعداه عجب واستهزأ وجنن وتفيهق بما تفيهق من قوله ( لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين )
وأما من فقال السكاكي هو للسؤال عن الجنس من ذوي العلم تقول من جبريل بمعنى أبشر هو أم مالك أم جني وكذا من إبليس ومن فلان ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون ( فمن ربكما يا موسى ) أي أملك هو أم بشر أم جني منكرا لأن يكون لهما رب سواه لادعائه الربوبية لنفسه ذاهبا في سؤاله هذا إلى معنى ألكما رب سواي فأجاب موسى عليه السلام بقوله ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) كأنه قال نعم لنا رب سواك هو الصانع الذي إذا سلكت الطريق الذي بين بإيجاده لما أوجد وتقديره إياه على ما قدر واتبعت فيه الخريت الماهر وهو العقل الهادي عن الضلال لزمك الاعتراف بكونه ربا وأن لا رب سواه وأن العبادة له مني ومنك ومن الخلق أجمع حق لا مدفع له وقيل هو للسؤال عن العارض المشخص لذي العلم وهذا أظهر لأنه إذا قيل من فلان يجاب بزيد ونحوه مما يفيد التشخيص ولا نسلم صحة الجواب بنحو بشر أو جني كما زعم السكاكي

وأما أي فللسؤال عما يميز أحد المتشاركين في أمر يعمهما يقول القائل عندي ثياب فتقول أي الثياب هي فتطلب منه وصفا يميزها عندك عما يشاركها في الثوبية وفي التنزيل ( أي الفريقين خير مقاما ) أي نحن أم أصحاب محمد عليه السلام وفيه ( أيكم يأتيني بعرشها ) أي الإنسي أم الجني
وأما كم فللسؤال عن العدد إذا قلت كم درهما لك وكم رجلا رأيت فكأنك قلت أعشرون أم ثلاثون أم كذا أم كذا وتقول كم درهمك وكم مالك أي كم دانقا أو كم دينارا وكم ثوبك أي كم شبرا أو كم ذراعا وكم زيد ماكث أي كم يوما أو كم شهرا وكم رأيتك أي كم مرة وكم سرت أي كم فرسخا أو كم يوما قال الله تعالى ( قال قائل منهم كم لبثتم ) أي كم يوما أو كم ساعة وقال ( كم لبثتم في الأرض عدد سنين ) وقال ( سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ) ومنه قول الفرزدق
( كم عمة لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد حلبت على عشارى )
فيمن روي بالنصب وعلى رواية الرفع تحتمل الاستفهامية والخبرية
وأما كيف فللسؤال عن الحال إذا قيل كيف زيد فجوابه صحيح أو سقيم أو مشغول أو فارغ ونحو ذلك
وأما أين فللسؤال عن المكان إذا قيل أين زيد فجوابه في الدار أو في المسجد أو في

السوق ونحو ذلك
وأما أنى فتستعمل تارة بمعنى كيف قال الله تعالى ( فأتوا حرثكم أنى شئتم ) أي كيف شئتم وأخرى بمعنى من أين قال الله تعالى ( أنى لك هذا ) أي من أين أين لك
وأما متى وأيان فللسؤال عن الزمان إذا قيل متى جئت أو أيان جئت قيل يوم الجمعة أو يوم الخميس أو شهر كذا أو سنة كذا وعن علي بن عيسى الربعي أن أيان تستعمل في مواضع التفخيم كقوله تعالى ( يسأل أيان يوم القيامة ) ( يسألون أيان يوم الدين ) ثم هذه الألفاظ كثيرا ما تستعمل في معان غير الاستفهام بحسب ما يناسب المقام منها الاستبطاء نحو كم دعوتك وعليه قوله تعالى ( حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ) ومنها التعجب نحو قوله ( ما لي لا أرى الهدهد ) ومنها التنبيه على الضلال نحو فأين تذهبون
ومنها الوعيد كقولك لمن يسيء الأدب ألم أؤدب فلانا إذا كان عالما بذلك وعليه قوله تعالى ( ألم نهلك الأولين ) ومنها الأمر نحو قوله تعالى ( فهل أنتم مسلمون ) ونحو ( فهل من مدكر ) ومنها التقرير ويشترط في الهمزة أن يليها

المقرر به كقولك أفعلت إذا أردت أن تقرره بأن الفعل كان منه وكقولك أأنت فعلت إذا أردت تقرره بأنه الفاعل وذهب الشيخ عبد القاهر والسكاكي وغيرهما إلى أن قوله ( ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ) من هذا الضرب قال الشيخ لم يقولوا ذلك له عليه السلام وهم يريدون أن يقر لهم بأن كسر الأصنام قد كان ولكن أن يقر بأنه منه كان وكيف وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم ( ءأنت فعلت هذا ) وقال عليه السلام ( بل فعله كبيرهم هذا ) ولو كان التقرير بالفعل في قولهم أأنت فعلت لكان الجواب فعلت أو لم أفعل وفيه نظر لجواز أن تكون الهمزة فيه على أصلها إذ ليس في السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام وكقولك أزيدا ضربت إذا أردت أن تقرره بأن مضروبه زيد ومنها الإنكار إما للتوبيخ بمعنى ما كان ينبغي أن يكون نحو أعصيت ربك أو بمعنى لا ينبغي أن يكون كقولك للرجل يضيع الحق أتنسى قديم إحسان فلان وكقولك للرجل يركب الخطر أتخرج في هذا الوقت أتذهب في غير الطريق والغرض بذلك تنبيه السامع حتى يرجع إلى نفسه فيخجل أو يرتدع عن فعل ما هم به وإما للتكذيب بمعنى لم يكن كقوله تعالى ( أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا ) وقوله ( اصطفى البنات على البنين ) أو بمعنى لا

يكون نحو ( أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) وعليه قول امرىء القيس
( أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال )
فيمن روى أيقتلني بالاستفهام
وقول الآخر
( أأترك إن قلت دراهم خالد ... زيارته إني إذا للئيم )
والإنكار كالتقرير يشترط أن يلي المنكر الهمزة كقوله تعالى ( أغير الله تدعون ) ( أغير الله أتخذ وليا ) ( أبشرا منا واحدا نتبعه ) وكقوله تعالى ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك ) أي ليسوا هم المتخيرين للنبوة من يصلح لها المتولين لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته
وعد الزمخشري قوله ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) وقوله ( أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ) من هذا الضرب على أن الضرب المعني أفأنت تقدر على إكراههم على الإيمان أو أفأنت تقدر على هدايتهم على سبيل القسر والإلجاء أي إنما يقدر على ذلك الله لا أنت
وحمل السكاكي تقديم الاسم في هذه الآيات الثلاث على البناء على الابتداء دون تقدير التقديم والتأخير كما مر في نحو أنا ضربت فلا يفيد

إلا تقوي الإنكار ومن مجيء الهمزة للإنكار نحو قوله تعالى ( أليس الله بكاف عبده ) وقول جرير
( ألست خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح )
أي الله كاف عبده وأنتم خير من ركب المطايا لأن نفي النفي إثبات وهذا مراد من قال إن الهمزة فيه للتقرير أي للتقرير بما دخله النفي لا للتقرير وإنكار الفعل مختص بصورة أخرى وهي نحو قولك أزيدا ضربت أم عمرا لمن يدعي أنه ضرب إما زيدا وإما عمرا دون غيرهما لأنه إذا لم يتعلق الفعل بأحدهما والتقدير أنه لم يتعلق بغيرهما فقد انتفى من أصله لا محالة وعليه قوله تعالى ( قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) أخرج اللفظ مخرجه إذ كان قد ثبت تحريم في أحد الأشياء ثم أريد معرفة عين المحرم مع أن المراد إنكار التحريم من أصله وكذا قوله ( آلله أذن لكم ) إذ معلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن فيما قالوه من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله فأضافوه إلى الله إلا أن اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر كذلك ليكون أشد لنفي ذلك وإبطاله فإنه إذا نفي الفعل عما جعل فاعلا له في الكلام ولا فاعل له غيره لزم نفيه من أصله
قال السكاكي رحمه الله وإياك أن يزول عن خاطرك التفصيل الذي سبق في نحو أنا ضربت وأنت ضربت وهو ضرب من احتمال الابتداء واحتمال

التقديم وتفاوت المعنى في الوجهين فلا تحمل نحو قوله تعالى ( آلله أذن لكم ) على التقديم فليس المراد أن الإذن ينكر من الله دون غيره ولكن احمله على الابتداء مرادا منه تقوية حكم الإنكار وفيه نظر لأنه إن أراد أن نحو هذا التركيب أعني ما يكون الاسم الذي يلي الهمزة فيه مظهرا لا يفيد توجه الإنكار إلى كونه فاعلا الفعل الذي بعده فهو ممنوع وإن أراد أنه يفيد ذلك إن قدر تقديم وتأخير وإلا فلا على ما ذهب إليه فيما سبق فهذه الصورة مما منع هو ذلك فيه على ما تقدم لا يقال قد يلي الهمزة غير المنكر في غير ما ذكرتم كما في قوله
( أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... )
فإن معناه أنه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي بدليل قوله
( يغط غطيط البكر شد خناقه ... ليقتلني والمرء ليس بقتال )
لأنا نقول ليس ذلك معناه لأنه قال والمشرفي مضاجعي فذكر ما يكون منعا من الفعل والمنع إنما يحتاج إليه مع من يتصور صدور الفعل منه دون من يكون في نفسه عاجزا عنه ومنها التهكم نحو ( أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) ومنها التحقير كقولك من هذا وما هذا ومنها التهويل كقراءة ابن عباس رضي الله عنهما ( ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون ) بلفظ الاستفهام لما وصف الله تعالى

العذاب بأنه مهين لشدته وفظاعة شأنه أراد أن يصور كنهه فقال من فرعون أي أتعرفون من هو في فرط عتوه وتجبره ما ظنكم بعذاب يكون هو المعذب به ثم عرف حاله بقوله ( إنه كان عاليا من المسرفين ) ومنها الاستبعاد نحو ( أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون ) ومنها التوبيخ والتعجب جميعا كقوله تعالى ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ) أي كيف تكفرون والحال أنكم عالمون بهذه القصة أما التوبيخ فلأن الكفر مع هذه الحال ينبىء عن الانهماك في الغفلة أو الجهل وأما التعجيب فلأن هذه الحال تأبى أن لا يكون للعاقل علم بالصانع وعلمه به يأبى أن يكفر وصدور الفعل مع الصارف القوي مظنة تعجب ونظيره ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب )
ومن أنواع الإنشاء الأمر والأظهر أن صيغته من المقترنة باللام نحو ليحضر زيد وغيرها نحو أكرم عمرا ورويد بكرا موضوعه لطلب الفعل استعلاء لتبادر الذهن عند سماعها إلى ذلك وتوقف ما سواه على القرينة
قال السكاكي ولإطباق أئمة اللغة على إضافتها إلى الأمر بقولهم صيغة الأمر ومثال الأمر ولام الأمر وفيه نظر لا يخفى على المتأمل ثم إنها أعني صيغة الأمر قد تستعمل في غير طلب الفعل

بحسب مناسبة المقام كالإباحة كقولك في مقام الإذن جالس الحسن أو ابن سيرين ومن أحسن ما جاء فيه قول كثير
( أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت )
أي لا أنت ملومة ولا مقلية ووجه حسنة إظهار الرضا بوقوع الداخل تحت لفظ الأمر حتى كأنه مطلوب أي مهما اخترت في حقي من الإساءة والإحسان فأنا راض به غاية الرضا فعامليني بهما وانظري هل تتفاوت حالي معك في الحالين والتهديد كقولك لعبد شتم مولاه وقد أدبه اشتم مولاك وعليه ( اعملوا ما شئتم ) والتعجيز كقولك لمن يدعي أمرا تعتقد أنه ليس في وسعه افعله وعليه ( فأتوا بسورة من مثله ) والتسخير نحو ( كونوا قردة خاسئين ) والإهانة نحو ( كونوا حجارة أو حديدا ) وقوله تعالى ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) والتسوية كقوله ( أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم ) وقوله ( اصبروا أو لا تصبروا ) والتمني كقول امرىء القيس
( ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... )

والدعاء إذا استعملت في طلب الفعل على سبيل التضرع نحو ( رب اغفر لي ولوالدي ) والالتماس إذا استعملت فيه على سبيل التلطف كقولك لمن يساويك في الرتبة أفعل بدون الاستعلاء والاحتقار نحو ( ألقوا ما أنتم ملقون ) ثم الأمر قال السكاكي حقه الفور لأنه الظاهر من الطلب ولتبادر الفهم عند الأمر بشيء بعد الأمر بخلافه إلى تغيير الأمر الأول دون الجمع وإرادة التراخي والحق خلافه لما تبين في أصول الفقه ومنها النهي وله حرف واحد وهو لا الجازمة في قولك لا تفعل وهو كالأمر في الاستعلاء وقد يستعمل في غير طلب الكف أو الترك كالتهديد كقولك لعبد لا يمتثل أمرك لا تمتثل أمري واعلم أن هذه الأربعة أعني التمني والاستفهام والأمر والنهي تشترك في كونها قرينة دالة على تقدير الشرط بعدها كقولك ليت لي مالا أنفقه أي إن أرزقه وقولك أين بيتك أزرك أي إن تعرفنيه وقولك أكرمني أكرمك أي إن تكرمني قال الله تعالى ( فهب لي من لدنك وليا يرثني ) بالجزم فأما قراءة الرفع فقد حملها الزمخشري على الوصف وقال السكاكي الأولى حملها على الاستئناف دون الوصف لهلاك يحيى قبل زكريا عليهما السلام وأراد بالاستئناف أن يكون جواب سؤال مقدر تضمنه ما قبله فكأنه لما قال فهب لي وليا قيل ما تصنع به فقال يرثني فلم يكن داخلا في المطلوب بالدعاء وقولك لا تشتم يكن خيرا لك

أي إن لا تشتم وأما العرض كقولك لمن تراه لا ينزل ألا تنزل تصب خيرا أي إن تنزل فمولد من الاستفهام وليس به لأن التقدير أنه لا ينزل فالاستفهام عن عدم النزول طلب للحاصل وهو محال وتقدير الشرط في غير هذه المواضع لقرينة جائز أيضا كقوله تعالى ( فالله هو الولي ) أي إن أرادوا وليا بالحق فالله هو الولي بالحق لا ولي سواه وقوله ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب ) أي لو كان معه إله إذن لذهب ومنها النداء وقد تستعمل صيغته في غير معناه كالإغراء في قولك لمن أقبل يتظلم يا مظلوم والاختصاص في قولهم أنا أفعل كذا أيها الرجل ونحن نفعل كذا أيها القوم واغفر اللهم لنا أيتها العصابة أي متخصصا من بين الرجال ومتخصصين من بين الأقوام والعصائب ثم الخبر قد يقع موقع الإنشاء إما للتفاؤل أو لإظهار الحرص في وقوعه كما مر والدعاء بصيغة الماضي من البليغ يحتمل الوجهين ألا للاحتراز عن صورة الأمر كقول العبد للمولى إذا حول عنه وجهه ينظر المولى إلى ساعة أو لحمل المخاطب على المطلوب بأن يكون المخاطب ممن لا يحب أن يكذب الطالب أو لنحو ذلك

تنبيه
ما ذكرناه في الأبواب الخمسة السابقة ليس كله مختص بالخبر بل كثير منه حكم الإنشاء فيه حكم الخبر يظهر ذلك بأدنى تأمل فليعتبره الناظر
القول في الوصل والفصل
الوصل عطف بعض الجمل على بعض والفصل تركه وتمييز موضع أحدهما من موضع الآخر على ما تقتضيه البلاغة فن منها عظيم الخطر صعب المسلك دقيق المأخذ لا يعرفه على وجهه ولا يحيط علما بكنهه إلا من أوتي في فهم كلام العرب طبعا سليما ورزق في إدراك أسراره ذوقا صحيحا ولهذا قصر بعض علماء البلاغة على معرفة الفصل من الوصل وما قصرها عليه لأن الأمر كذلك إنما حاول بذلك التنبيه على مزيد غموضه وأن أحدا لا يكمل فيه إلا كمل في سائر فنونها فوجب الاعتناء بتحقيقه على أبلغ وجه في البيان فنقول والله المستعان إذا أتت جملة بعد جملة فالأولى منها إما أن يكون لها محل من الإعراب أو لا وعلى الأول إن قصد التشريك بينها وبين الثانية في حكم الإعراب عطفت عليها وهذا كعطف المفرد على المفرد لأن الجملة لا يكون لها محل من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد فكما يشترط في كون العطف بالواو ونحوه مقبولا في المفرد أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جهة جامعة كما في قوله تعالى ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من

السماء وما يعرج فيها ) يشترط في كون العطف بالواو ونحوه مقبولا في الجملة ذلك كقولك زيد يكتب ويشعر أو يعطي ويمنع وعليه قوله تعالى ( والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ) ولهذا عيب على أبي تمام قوله
( لا والذي هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم )
إذ لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى ولا تعلق لأحدهما بالآخر وإن لم يقصد ذلك ترك عطفها عليها كقوله تعالى ( وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزىء بهم ) لم يعطف الله يستهزىء بهم على إنا معكم لأنه لو عطف عليه لكان من مقول المنافقين وليس منه وكذا قوله تعالى ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ) وكذا قوله ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ) وعلى الثاني إن قصد بيان ارتباط الثانية بالأولى على معنى بعض حروف العطف سوى الواو عطفت عليها بذلك الحرف فتقول دخل زيد فخرج عمرو إذا أردت أن تخبر أن خروج عمرو كان بعد دخول زيد من غير مهلة وتقول خرجت ثم خرج زيد إذا أردت

أن تخبر أن خروج زيد كان بعد خروجك بمهلة وتقول يعطيك زيد دينارا أو يكسوك جبة إذا أردت أن تخبر أنه يفعل واحد منهما لا بعينه وعليه قوله تعالى ( سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) وإن لم يقصد ذلك فإن كان للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية تعين الفصل كقوله تعالى ( وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزىء بهم ) لم يعطف الله يستهزىء بهم على قالوا لئلا يشاركه في الاختصاص بالظرف المقدم وهو قوله ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) فإن استهزاء الله تعالى بهم وهو إن خذلهم فخلاهم وما سولت لهم أنفسهم مستدرجا إياهم من حيث لا يشعرون متصل لا ينقطع بكل حال خلوا إلى شياطينهم أم لم يخلوا إليهم وكذلك في الآيتين الأخيرتين فإنهم مفسدون في جميع الأحيان قيل لهم لا تفسدوا أولا وسفهاء في جميع الأوقات قيل لهم آمنوا أولا وإن لم يكن للأولى حكم كما سبق فإن كان بين الجملتين كمال الانقطاع وليس في الفصل إيهام خلاف المقصود كما سيأتي أو كمال الاتصال أو كانت الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى أو بمنزلة المتصلة بها فكذلك يتعين الفصل أما في الصورة الأولى فلأن الواو للجمع والجمع بين الشيئين يقتضي مناسبة بينهما كما مر أما في الثانية فلأن العطف فيها بمنزلة عطف الشيء على نفسه مع أن العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف

عليه وأما في الثالثة والرابعة فظاهر مما مر وأما كمال الانقطاع فيكون لأمر يرجع إلى الإسناد أو إلى طرفيه الأول أن تختلف الجملتان خبرا وإنشاء لفظا ومعنى كقولهم لا تدن من الأسد يأكلك وهل تصلح لي كذا أدفع إليك الأجرة بالرفع فيهما
وقول الشاعر
( وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... فكل حتف امرىء يجري بمقدار )
أو معنى لا لفظا كقولك مات فلان رحمه الله وأما قول اليزيدي
( ملكته حبلي ولكنه ... ألقاه من زهد على غاربي )
( وقال إني في الهوى كاذب ... انتقم الله من الكاذب )
فعده السكاكي رحمه الله من هذا الضرب وحمله الشيخ عبد القاهر رحمه الله على الاستئناف بتقدير قلت الثاني أن لا يكون بين الجملتين جامع كما سيأتي
وأما كمال الاتصال فيكون لأمور ثلاثة
الأول أن تكون الثانية مؤكدة للأولى والمقتضى للتأكيد دفع توهم التجوز والغلط وهو قسمان أحدهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد المعنوي من متبوعه في إفادة التقرير مع الاختلاف في المعنى كقوله تعالى ( آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه ) فإن وزان لا ريب فيه في الآونة وزان نفسه في قولك جاءني الخليفة

نفسه فإنه لما بولغ في وصف الكتاب ببلوغه الدرجة القصوى من الكمال بجعل المبتدإ ذلك وتعريف الخبر باللام كان عند السامع قبل أن يتأمله مظنة أنه مما يرمي به جزافا من غير تحقق فأتبع لا ريب فيه نفيا لذلك إتباع الخليفة نفسه إزالة لما عسى أن يتوهم السامع أنك في قولك جاءني الخليفة متجوز أو ساه وكذا قوله ( كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا ) الثاني مقرر لما أفاده الأول وكذا قوله ( إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) لأن قوله إنا معكم معناه الثبات على اليهودية وقوله إنما نحن مستهزئون رد للإسلام ودفع له منهم لأن المستهزىء بالشيء المستخف به منكر له ودافع له لكونه غير معتد به ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته ويحتمل الاستئناف أي فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أصحاب محمد
وثانيهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد اللفظي من متبوعه في اتحاد المعنى كقوله تعالى ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) فإن هدى للمتقين معناه أنه في الهداية بالغ درجة لا يدرك كنهها حتى كأنه هداية محضة وهذا معنى قوله ذلك الكتاب لأن معناه كما مر الكتاب الكامل والمراد بكماله كماله في الهداية لأن الكتب السماوية بحسبها تتفاوت في درجات الكمال وكذا قوله تعالى ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) فإن معنى قوله لا يؤمنون معنى ما قبله وكذا ما بعده تأكيد ثان لأن عدم التفاوت بين الإنذار

وعدمه لا يصح إلا في حق من ليس له قلب يخلص إليه حق وسمع تدرك به حجة وبصر تثبت به عبرة ويجوز أن يكون لا يؤمنون خبرا لإن فالجملة قبلها اعتراض
الثاني أن تكون الثانية بدلا من الأولى والمقتضى للإبدال كون الأولى غير وافية بتمام المراد بخلاف الثانية والمقام يقتضي اعتناء بشأنه لنكتة ككونه مطلوبا في نفسه أو فظيعا أو عجيبا أو لطيفا وهو ضربان أحدهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة بدل البعض من متبوعه كقوله تعالى ( أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون ) فإنه مسوق للتنبيه على نعم الله تعالى عند المخاطبين وقوله أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون أوفى بتأديته مما قبله لدلالته عليها بالتفصيل من غير إحالة على علمهم مع كونهم معاندين والإمداد بما ذكر من الأنعام وغيرها بعض الإمداد بما يعلمون ويحتمل الاستئناف وثانيهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة بدل الاشتمال من متبوعه كقوله تعالى ( اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ) فإن المراد به حمل المخاطبين على اتباع الرسل وقوله تعالى ( اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ) أوفى بتأدية ذلك لأن معناه لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة وقول الشاعر

( أقول له ارحل لا تقيمن عندنا ... وإلا فكن في السر والجهر مسلما )
فإن المراد به كمال إظهار الكراهة لإقامته بسبب خلاف سره العلن وقوله لا تقيمن عندنا أوفى بتأديته لدلالته عليه بالمطابقة مع التأكيد بخلاف ارحل ووزان الثانية من كل واحد من الآية والبيت وزان حسنها في قولك أعجبتني الدار حسنها لأن معناها مغاير لمعنى ما قبلها وغير داخل فيه مع ما بينهما من الملابسة
الثالث أن تكون الثانية بيانا للأولى وذلك بأن تنزل منها منزلة عطف البيان من متبوعه في إفادة الإيضاح والمقتضى للتبيين أن يكون في الأولى نوع خفاء مع اقتضاء المقام إزالته كقوله تعالى ( فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ) فصل جملة قال عما قبلها لكونها تفسيرا له وتبيينا ووزانه وزان عمر في قوله
( أقسم بالله أبو حفص عمر ... )
وأما قوله تعالى ( ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ) فيحتمل التبيين والتأكيد أما التبيين فلأنه يمتنع أن يخرج من جنس البشر ولا يدخل في جنس آخر فإثبات الملكية له تبيين لذلك الجنس وتعيين وأما التأكيد فلأنه إذا كان ملكا لم يكن بشرا ولأنه إذا قيل في العرف لإنسان ما هذا بشرا حال تعظيم له وتعجب مما يشاهد منه من حسن خلق أو خلق كان الغرض أنه ملك بطريق الكناية فإن قيل هلا نزلتم الثانية منزلة بدل الكل من متبوعه في بعض الصور

ومنزلة النعت من متبوعه في بعض قلنا لأن بدل الكل لا ينفصل عن التأكيد إلا بأن لفظه غير لفظ متبوعه وأنه مقصود بالنسبة دون متبوعه بخلاف التأكيد والنعت لا ينفصل عن عطف البيان إلا بأنه يدل على بعض أحوال متبوعة لا عليه وعطف البيان بالعكس وهذه كلها اعتبارات لا يتحقق شيء منها فيما نحن بصدده وأما كون الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى فلكون عطفها عليها موهما لعطفها على غيرها ويسمى الفصل لذلك قطعا مثال قول الشاعر
( وتظن سلمى أنني أبغي بها ... بدلا أراها في الضلال تهيم )
لم يعطف أراها على تظن لئلا يتوهم السامع أنه معطوف على أبغي لقربه منه مع أنه ليس بمراد ويحتمل الاستئناف وقسم السكاكي القطع إلى قسمين أحدهما القطع للاحتياط وهو ما لم يكن لمانع من العطف كما في هذا البيت والثاني القطع للوجوب وهو ما كان لمانع ومثله بقوله تعالى ( الله يستهزىء بهم ) قال لأنه لو عطف لعطف إما على جملة قالوا وإما على جملة إنا معكم وكلاهما لا يصح لما مر وكذا قوله ( ألا إنهم هم المفسدون ) وقوله ( ألا إنهم هم السفهاء ) وفيه نظر لجواز أن يكون المقطوع في المواضع الثلاثة معطوفا على الجملة المصدرة بالظرف وهذا القسم لم يبين امتناعه وأما كونها بمنزلة المتصلة بها فلكونها جوابا عن سؤال اقتضته الأولى فتنزل منزلته

فتفصل الثانية عنها كما يفصل الجواب عن السؤال
وقال السكاكي فينزل ذلك منزلة الواقع ثم قال وتنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار إليه إلا لجهات لطيفة إما لتنبيه السامع على موقعه أو لإغنائه أن يسأل أو لئلا يسمع منه شيء أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ وهو تقدير السؤال وترك العاطف أو لغير ذلك مما ينخرط في هذا السلك ويسمى الفصل لذلك استئنافا وكذا الجملة الثانية أيضا تسمى استئنافا والاستئناف ثلاثة أضرب لأن السؤال الذي تضمنته الجملة الأولى إما عن سبب الحكم فيها مطلقا كقوله
( قال لي كيف أنت قلت عليل ... سهر دائم وحزن طويل )
أي ما بالك عليلا أو ما سبب علتك وكقوله
( وقد غرضت من الدنيا فهل زمني ... معط حياتي لعز بعدما غرضا )
( جربت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجارب في ود امرىء غرضا )
أي لم تقول هذا ويحك وما الذي اقتضاك أن تطوي عن الحياة إلى هذا الحد كشحك وإما عن سبب خاص له كقوله تعالى ( وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) كأنه قيل هل النفس أمارة بالسوء فقيل إن النفس لأمارة بالسوء وهذا الضرب يقتضي تأكيد الحكم كما مر في باب أحوال الإسناد وإما عن غيرهما كقوله تعالى ( قالوا سلاما قال سلام ) كأنه قيل فماذا قال

إبراهيم عليه السلام فقيل قال سلام
ومنه قول الشاعر
( زعم العواذل أنني في غمرة ... صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي )
فإنه لما أبدى الشكاية من جماعات العذال كان ذلك مما يحرك السامع ليسأل أصدقوا في ذلك أم كذبوا فأخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له ففصل
ومثله قول جندب بن عمار
( زعم العواذل أن ناقة جندب ... بجنوب خبت عريت وأجمت )
( كذب العواذل لو رأين مناخنا ... بالقادسية قلن لج وذلت )
وقد زاد هنا أمر الاستئناف تأكيدا بأن وضع الظاهر موضع المضمر من حيث وضعه وضعا لا يحتاج فيه إلى ما قبله وأتى به مأتى ما ليس قبله كلام
ومن الأمثلة قول الوليد
( عرفت المنزل الخالي ... عفا من بعد أحوال )
( عفاه كل حنان ... عسوف الوبل هطال )
فإنه لما قال عفا وكان العفاء مما لا يحصل للمنزل بنفسه كان مظنة أن يسأل عن الفاعل ومثله قول أبي الطيب
( وما عفت الرياح له محلا ... عفاه من حدا بهم وساقا )
فإنه لما نفى الفعل الموجود عن الرياح كان مظنة أن يسأل عن الفاعل وأيضا من الاستئناف ما يأتي بإعادة اسم ما استؤنف عنه كقولك أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان ومنه ما يبني على صفته كقولك أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك وهذا أبلغ

لانطوائه على بيان السبب وقد يحذف صدر الاستئناف لقيام قرينة كقوله تعالى ( يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال ) فيمن قرأ يسبح مبنيا للمفعول وعليه نحو قولهم نعلم الرجل أو رجلا زيدا وبئس الرجل أو رجلا عمرو على القول بأن المخصوص خبر مبتدأ محذوف أي هو زيد كأنه لما قيل ذلك فأبهم الفاعل بجعله معهودا ذهنيا مظهرا أو مضمرا سئل عن تفسيره فقيل هو زيد ثم حذف المبتدأ وقد يحذف الاستئناف كله ويقام ما يدل عليه مقامه كقول الحماسي
( زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف )
حذف الجواب الذي هو كذبتم في زعمكم وأقام وقوله لهم إلف وليس الكم إلاف مقامه لدلالته عليه ويجوز أن يقدر قوله لهم إلف وليس لكم إلاف جوابا لسؤال اقتضاه الجواب المحذوف كأنه لما قال المتكلم كذبتم قالوا لم كذبنا فقال لهم إلف وليس لكم إلاف فيكون في البيت استئنافان
وقد يحذف ولا يقام شيء مقامه كقوله تعالى ( نعم العبد ) أي أيوب أو هو لدلالة ما قبل الآية وما بعدها عليه ونحوه قوله ( فنعم الماهدون ) أي نحن وإن لم يكن بين الجملتين شيء من الأحوال الأربع تعين الوصل إما لدفع إبهام خلاف المقصود كقول البلغاء لا وأيدك الله وهذا عكس الفصل للقطع وإما للتوسط بين حالتي كمال الانقطاع وكمال

الاتصال وهو ضربان أحدهما أن يتفقا خبرا أو إنشاء لفظا ومعنى كقوله تعالى ( إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ) وقوله ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ) وقوله ( يخادعون الله وهو خادعهم ) وقوله تعالى ( كلوا واشربوا ولا تسرفوا ) والثاني أن يتفقا كذلك معنى لا لفظا كقوله تعالى ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذوي القربى واليتامى والمساكين وقولوا ) عطف قوله وقولوا على قوله لا تعبدون لأنه بمعنى لا تعبدوا وأما قوله وبالوالدين إحسانا فتقديره إما وتحسنون بمعنى وأحسنوا وإما وأحسنوا وهذا أبلغ من صريح الأمر والنهي لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه وأما قوله في سورة البقرة ( وبشر الذين آمنوا ) فقال الزمخشري فيه فإن قلت علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه قلت ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما تقول زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمرا بالعفو والإطلاق ولك أن تقول هو معطوف على

فاتقوا كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم هذا كلامه وفيه نظر لا يخفى على المتأمل
وقال أيضا في قوله تعالى في سورة الصف ( وبشر المؤمنين ) أنه معطوف على تؤمنون لأنه بمعنى آمنوا وفيه أيضا نظر لأن المخاطبين في تؤمنون هم المؤمنين وفي بشر هو النبي عليه السلام ثم قوله تؤمنون بيان لما قبله على سبيل الاستئناف فكيف يصح عطف بشر المؤمنين عليه
وذهب السكاكي إلى أنهما معطوفان على قل مرادا قبل يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا لأن إرادة القول بواسطة انصباب الكلام إلى معناه غير عزيزة في القرآن وذكر صورا كثيرة منها قوله تعالى ( وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا ) وقوله ( وإذا أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ) وقوله ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا ) أي وقلنا أو قائلين والأقرب أن يكون الأمر في الآيتين معطوفا على مقدر يدل عليه ما قبله وهو في الآية الأولى فأنذر أو نحوه أي فأنذرهم وبشر الذين آمنوا وفي الآية الثانية فأبشر أو نحوه أي فابشر يا محمد وبشر المؤمنين وهذا كما قدر الزمخشري قوله تعالى ( واهجرني مليا ) معطوفا على محذوف يدل عليه قوله لأرجمنك أي فاحذرني واهجرني لأن لأرجمنك تهديد وتقريع والجامع بين الجملتين يجب أن يكون

باعتبار المسند إليه في هذه والمسند إليه في هذه وباعتبار المسند في هذه والمسند في هذه جميعا كقولك يشعر زيد ويكتب ويعطي ويمنع وقولك زيد شاعر وعمرو كاتب وزيد طويل وعمرو قصير إذا كان بينهما مناسبة كأن يكونا أخوين أو نظيرين بخلاف قولنا زيد شاعر وعمرو كاتب إذا لم يكن بينهما مناسبة وقولنا زيد شاعر وعمرو طويل كان بينهما مناسبة أولا وعليه قوله تعالى ( إن الذين كفروا سواء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) قطع عما قبله لأنه كلام في شأن الذين كفروا وما قبله كلام في شأن القرآن وأما ما يشعر به ظاهر كلام السكاكي في موضع من كتابه أنه يكفي أن يكون الجامع باعتبار المخبر عنه أو الخبر أو قيد من قيودهما فإنه منقوض بما مر وبنحو قولك هزم الأمير الجند يوم الجمعة وخاط زيد ثوبي فيه ولعله سهو فإنه صرح في موضع آخر منه بامتناع عطف قول القائل خفي ضيق على قوله خاتمي ضيق مع اتحادهما في الخبر ثم قال الجامع بين الشيئين عقلي ووهمي وخيالي أما العقلي فهو أن يكون بينهما اتحاد في التصور أو تماثل فإن العقل بتجريده المثلين عن التشخص في الخارج يرفع التعدد أو تضايف كما بين العلة والمعلول والسبب والمسبب والسفل والعلو والأقل والأكثر فإن العقل يأبى أن لا يجتمعا في الذهن وأما الوهمي فهو أن يكون بين تصوريهما شبه تماثل كلون بياض ولون صفرة فإن الوهم يبرزهما في معرض المثلين ولذلك حسن الجمع بين الثلاثة التي في قوله

( ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر )
أو تضاد كالسواد والبياض والهمس والجهارة والطيب والنتن والحلاوة والحموضة والملاسة والخشونة وكالتحرك والسكون والقيام والقعود والذهاب والمجيء والإقرار والإنكار والإيمان والكفر وكالمتصفات بذلك كالأسود والأبيض والمؤمن والكافر أو شبه تضاد كالسماء والأرض والسهل والجبل والأول والثاني فإن الوهم ينزل المتضادين والشبيهين بهما منزلة المتضايفين فيجمع بينهما في الذهن ولذلك تجد الضد أقرب خطورا بالبال مع الضد والخيالي أن يكون بين تصوريهما تقارن في الخيال سابق وأسبابه مختلفة ولذلك اختلفت الصور الثابتة في الخيالات ترتبا ووضوحا فكم صور تتعانق في خيال وهي في آخر لا تتراءى وكم صورة لا تكاد تلوح في خيال وهي في غيره نار على علم
كما يحكى أن صاحب سلاح ملك وصائغا وصاحب بقر ومعلم صبية سافروا ذات يوم ووصلوا سير النهار بسير الليل فبينما هم في وحشة الظلام ومقاساة خوف التخبط والضلال طلع عليهم البدر بنوره فأفاض كل منهم في الثناء عليه وشبهه بأفضل ما في خزانة صوره فشبهه السلاحي بالترس المذهب يرفع عند الملك والصائغ بالسبيكة من الإبريز تفتر عن وجهها البوتقة والبقار بالجبن الأبيض يخرج من قالبه طريا والمعلم برغيف أحمر يصل إليه من بيت ذوي مروءة وكما يحكى عن وراق يصف حاله عيشي أضيق من محبرة وجسمي أدق من مسطرة وجاهي أرق من الزجاج وحظي أخفى من

شق القلم وبدني أضعف من قصبة وطعامي أمر من العفص وشرابي أشد سوادا من الحبر وسوء الحال لي ألزم من الصمغ ولصاحب علم المعاني فضل احتياج إلى التنبه لأنواع الجامع لا سيما الخيالي فإن جمعه على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في ذلك كالجمع بين الإبل والسماء والجبال والأرض في قوله تعالى ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت ) بالنسبة إلى أهل الوبر فإن جل انتفاعهم في معاشهم من الإبل فتكون عنايتهم مصروفة إليها وانتفاعهم منها لا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب وذلك بنزول المطر فيكثر تقلب وجوههم في السماء ثم لا بد لهم من مأوى يؤويهم وحصن يتحصنون به ولا شيء لهم في ذلك كالجبال ثم لا غنى لهم لتعذر طول مكثهم في منزل عن التنقل من أرض إلى سواها فإذا فتش البدوي في خياله وجد صور هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور بخلاف الحضري فإذا تلا قبل الوقوف ما ذكرنا ظن النسق لجهله معيبا ومن محسنات الوصل تتناسب الجملتين في الاسمية والفعلية وفي المضي والمضارعة إلا لمانع كما إذا أريد بإحداهما التجدد وبالأخرى الثبوت كما إذا كان زيد وعمرو قاعدين ثم قام زيد دون عمرو وقلت قام زيد وعمرو قاعد كما سبق
ومما يتصل بهذا الباب القول في الجملة إذا وقعت حالا منتقلة

فإنها تجيء تارة بالواو وتارة بغير الواو فنقول أصل الحال المنتقلة أن تكون بغير واو لوجوه الأول أن إعرابها ليس بتبع وما ليس إعرابه بتبع لا يدخله الواو وهذه الواو وإن كانت تسمى واو الحال فإن أصلها العطف
الثاني أن الحال في المعنى حكم على ذي الحال كالخبر بالنسبة إلى المبتدأ إلا أن الفرق بينه وبينها أن الحكم به يحصل بالأصالة لا في ضمن شيء آخر والحكم بها إنما يحصل في ضمن غيرها فإن الركوب مثلا في قولنا جاء زيد راكبا محكوم به على زيد لكن لا بالأصالة بل بالتبعية بأن وصل بالمجيء وجعل قيدا له بخلافه في قولنا زيد راكب
الثالث أنها في الحقيقة وصف لذي الحال فلا يدخلها الواو كالنعت فثبت أن أصلها أن تكون بغير واو لكن خولف الأصل فيها إذا كانت جملة لأنها بالنظر إليها من حيث هي جملة مستقلة بالإفادة فتحتاج إلى ما يربطها بما جعلت حالا عنه وكل واحد من الضمير والواو صالح للربط والأصل الضمير بدليل الاقتصار عليه في الحال المفردة والخبر والنعت
وإذا تمهد هذا فنقول الجملة التي تقع حالا ضربان خالية عن ضمير ما تقع حالا عنه وغير خالية
أما الأولى فيجب أن تكون بالواو لئلا تصير منقطعة عنه غير مرتبطة به وكل جملة خالية عن ضمير ما يجوز أن ينتصب عنه حال يصح أن تقع حالا عنه إذا كانت مع الواو إلا المصدرة بالمضارع المثبت كقولك جاء زيد ويتكلم عمرو على أن يكون ويتكلم عمرو حالا عن زيد لما سيأتي أن ارتباط مثلها يجب أن يكون بالضمير وحده
وأما الثانية فتارة يجب أن تكون بالواو وتارة يمتنع ذلك وتارة يترجح أحدهما وتارة يستوي الأمران والواو

غير مناف للضمير في إفادة الربط فتعين التنبيه على أسباب الاختلاف فنقول الجملة إن كانت فعلية والفعل مضارع مثبت امتنع الواو كقوله تعالى ( ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) وقوله ( ولا تمنن تستكثر ) وقوله ( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ) لأن أصل الحال المفردة أن تدل على حصول صفة غير ثابتة مقارن لما جعلت قيدا له والمضارع المثبت كذلك أما دلالته على حصول صفة غير ثابته فلأنه فعل مثبت والفعل المثبت يدل على التجدد وعدم الثبوت كما مر
وأما دلالته على المقارنة فلكونه مضارعا فوجب أن يكون بالضمير وحده كالحال المفردة ولهذا امتنع نحو جاء زيد ويتكلم عمرو كما مر وأما ما جاء من نحو قول بعض العرب قمت وأصك عينه أو وجهه وقول عبد الله بن همام السلولي
( فلما خشيت أظافيرهم ... نجوت وأرهنهم مالكا )
فقيل على حذف المبتدأ أي وأنا أصك عينيه وأنا أرهنهم وقيل الأول شاذ والثاني ضرورة
وقال الشيخ عبد القاهر ليست الواو فيهما للحال بل هي للعطف وأصك وأرهن بمعنى سككت ورهنت ولكن الغرض من إخراجهما على لفظ الحال أن يحكيا الحال في أحد الخبرين ويدعا الآخر على أصله كما في قوله

( ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني )
ويبين ذلك أن الفاء قد تجيء مكان الواو في مثله كما في خبر عبد الله بن عتيق فإنه ذكر دخوله على أبي رافع اليهودي حصنه ثم قال فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم لا أدري أين هو من البيت قلت أبا رافع قال من هذا فأهويت نحو الصوت فأضربه بالسيف وأنا دهش فإن قوله فأضربه مضاره عطفه بالفاء على ماض لأنه في المعنى ماض وإن كان الفعل مضارعا منفيا فيجوز فيه الأمران من غير ترجيح لدلالته على المقارنة لكونه مضارعا وعدم دلالته على الحصول لكونه منفيا إما مجيئه بالواو فكقراءة ابن ذكوان فاستقيما ولا تتبعان بتخفيف النون وقول بعض العرب كنت ولا أخشى بالذيب وقول مسكين الدارمي
( أكسبته الورق البيض أبا ... ولقد كان ولا يدعي لأب )
وقول مالك بن رفيع وكان قد جنى جناية فطلبه مصعب بن الزبير
( بغاني مصعب وبنو أبيه ... فأين أحيد عنهم لا أحيد )
( أقادوا من دمي وتوعدوني ... وكنت وما ينهنهني الوعيد )
وأما مجيئه بغير واو فكقوله تعالى ( وما لنا لا نؤمن بالله ) وقول عكرمة العبسي
( مضوا لا يريدون الرواح وغالهم ... من الدهر أسباب جرين على قدر )

وقول خالد بن يزيد بن معاوية
( لو أن قوما لارتفاع قبيلة ... دخلوا السماء دخلتها لا أحجب ) وقول الأعشى
( أتينا أصبهان فهزلتنا ... وكنا قبل ذلك في نعيم )
( وكان سفاهة مني وجهلا ... مسيري لا أسير إلى حميم )
كأنه قال وكان سفاهة مني وجهلا أن سرت غير سائر إلى حميم وإن كان ماضيا لفظا أو معنى فكذلك يجوز الأمران من غير ترجيح أما مجيئه بالواو فكقوله تعالى ( أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر ) وقوله تعالى ( أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا ) وقول امرىء القيس
( أيقتلني وقد شعفت فؤادها ... كما شعف المهنوءة الرجل الطالي ) وقوله
( فجئت وقد نضت لنوم ثيابها ... لدى الستر إلا لبسة المتفضل )
وقوله تعالى ( أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ) وقوله ( أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ) وقول كعب
( لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب وإن كثرت في الأقاويل )

وقوله تعالى ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم )
وقول الشاعر
( بانت قطام ولما يحظ ذو مقة ... منها بوصل ولا إنجاز ميعاد ) وأما مجيئه بلا واو فكقوله تعالى ( أو جاءوكم حصرت صدورهم )
وقول الشاعر
( وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر ) وقوله
( أتيناكم قد عمكم حذر العدا ... فنلتم بنا أمنا ولم تعدموا نصرا )
وقوله
( متى أرى الصبح قد لاحت مخايله ... والليل قد مزقت عنه السرابيل )
وكقوله تعالى ( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ) وقوله ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا )

وقول امرىء القيس
( فأدرك لم يجهد ولم يثن شأوه ... )
وقول زهير
( كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم )
والسبب في أن جاز الأمران فيه إذا كان مثبتا دلالته على حصول صفة غير ثابتة لكونه فعلا وعدم دلالته على المقارنة لكونه ماضيا ولهذا اشترط أن يكون مع قد ظاهرة أو مقدرة حتى تقربه إلى الحال فيصبح وقوعه حالا وظاهر هذا يقتضي وجوب الواو في المنفي لانتفاء المعنيين لكنه لم يجب فيه بل كان مثله
أما المنفي بلما فلأنها للاستغراق وأما المنفي بغيرها فلأنه لما دل على انتفاء متقدم وكان الأصل استمرار ذلك حصلت الدلالة على المقارنة عند إطلاقه بخلاف المثبت فإن وضع الفعل على إفادة التجدد وتحقيق هذا أن استمرار العدم لا يفتقر إلى سبب بخلاف استمرار الوجود كما بين في غير هذا العلم وإن كانت الجملة اسمية فالمشهور أنه يجوز فيها الأمران ومجيء الواو أولى أما الأول فالعكس ما ذكرناه في المصدرة بالماضي المثبت فمجيء الواو كقوله تعالى ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) وقوله ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) وقول امرىء القيس
( أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال )

وقوله
( ليالي يدعوني الهوى وأجيبه ... وأعين من أهوى إلى رواني )
والخلو منها كما رواه سيبويه كلمته فوه إلي في ورجع عوده على بدئه بالرفع وما أنشده أبو علي في الإغفال
( ولولا جنان الليل ما آب عامر ... إلى جعفر سرباله لم يمزق ) وقول الآخر
( ما بال عينك دمعها لا يرقأ ... )
وقول الآخر
( ثم راحوا عبق المسك بهم ... ) وأما الثاني فلعدم دلالة الاسمية على عدم الثبوت مع ظهور الاستئناف فيها لاستقلالها بالفائدة فتحسن زيادة رابط ليتأكد الربط
وقال الشيخ عبد القاهر إن كان المبتدأ ضمير ذي الحال وجب الواو كقولك جاء زيد وهو يسرع أو وهو مسرع ولعل السبب فيه أن أصل الفائدة كان يحصل بدون هذا الضمير بأن يقال جاءني زيد يسرع أو مسرعا فالإتيان به يشعر بقصد الاستئناف المنافي للاتصال فلا يصلح لأن يستقل بإفادة الربط فتجب الواو
وقال أيضا إن جعل نحو على كتفه سيف بتقديم الظرف حالا عن شيء كما في قولنا جاء زيد على كتفه بسيف كثر فيها أن تجيء بغير واو كقول بشار
( إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها ... خرجت مع البازي علي سواد )

يعني على بقية من الليل
وقول أبي الصلت عبد الله الثقفي يمدح ابن ذي يزن
( فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... وفي رأس غمدان دارا منك محلالا ) وقول الآخر
( لقد صبرت للذل أعواد منبر ... تقوم عليها في يديك قضيب ) ثم قال والوجه أن يقدر الاسم في الأمثلة مرتفعا بالظرف فإنه جائز باتفاق من صاحب الكتاب وأبي الحسن لاعتماده على ما قبله ثم اختار أن يكون الظرف ههنا خاصة في تقدير اسم فاعل وجوز أيضا أن يكون في تقدير فعل ماض مع قد ومنع أن يكون في تقدير فعل مضارع ولعله إنما اختار تقديره باسم فاعل لرجوع الحال حينئذ إلى أصلها في الإفراد ولهذا كثر مجيئها بلا واو وإنما جوز التقدير بفعل ماض أيضا لمجيئها بالواو قليلا وإنما منع التقدير بفعل مضارع لأنه لو جاز التقدير به لامتنع مجيئها بالواو ثم قال وربما يحسن مجيء الاسمية بلا واو لدخولها حرف على المبتدأ كما في قوله
( فقلت عسى أن تبصريني كأنما ... بنى حوالي الأسود الحوارد )
فإنه لولا دخول كأن عليه لم يحسن الكلام إلا بالواو كقولك عسى أن تبصريني وبنى حوالي الأسود ثم قال وشبيه بهذا أن تقع حالا بعقب مفرد فيلطف مكانها بخلاف ما لو أفردت كقول ابن الرومي
( والله يبقيك لنا سالما ... برداك تبجيل وتعظيم )
فإنه لو قال والله يبقيك بنا برداك تبجيل لم يحسن هذا كله إذا لم

يكن صاحبها نكرة مقدمة عليها فإن كان كذلك نحو جاءني رجل وعلى كتفه سيف وجب الواو لئلا تشتبه بالنعت
وأما نحو قوله تعالى ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ) فقال السكاكي الوجه فيه عندي هو أن ولها كتاب معلوم حال للقرية لكونها في حكم الموصوفة نازلة منزلة وما أهلكنا قرية من القرى لا وصف وحمله على الوصف سهو لا خطأ ولا عيب في السهو للإنسان ولا ذام والسهو ما يتنبه له صاحبه بأوفى تنبيه والخطأ ما لا يتنبه له صاحبه أو يتنبه ولكن بعد إتعاب وكأنه عرض بالزمخشري حيث قال في تفسيره لها كتاب جملة واقعة صفة لقرية والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى ( وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ) وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال جاءني زيد عليه ثوب وجاءني زيد وعليه ثوب ثم قال السكاكي من عرف السبب في تقديم الحال إذا أريد إيقاعها عن النكرة تنبه لجواز إيقاعها عن النكرة مع الواو في مثل جاءني رجل وعلى كتفه سيف ولمزيد جوازه في قوله عز اسمه ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ) على ما قدمت واعلم أن السكاكي بنى كلامه في الجملة الواقعة حالا على أصول مضطربة لا يخفى حالها على الفطن لا سيما إذا أحاط علما بما ذكرناه وأتقنه فآثرنا الإعراض عن نقل كلامه والتعرض لما فيه من الخلل لئلا يطول الكتاب من غير طائل

القول في الإيجاز والإطناب والمساواة
قال السكاكي أما الإيجاز والإطناب فلكونهما نسبيين لا يتيسر الكلام فيهما إلا بترك التحقيق والبناء على شيء عرفي مثل جعل كلام الأوساط على مجرى متعارفهم في التأدية للمعاني فيما بينهم ولا بد من الاعتراف بذلك مقيسا عليه ولنسمه متعارف الأوساط وأنه في باب البلاغة لا يحمد منهم ولا يذم فالإيجاز هو أداء المقصود من الكلام بأقل من عبارات متعارف الأوساط والإطناب هو أداؤه بأكثر من عباراته سواء كانت القلة أو الكثرة راجعة إلى الجمل أو إلى غير الجمل
ثم قال الاختصار لكونه من الأمور النسبية يرجع في بيان دعواه إلى ما سبق تارة وإلى كون المقام خليقا بأبسط مما ذكر أخرى وفيه نظر لأن كون الشيء نسبيا لا يقتضي أن لا يتيسر الكلام فيه إلا بترك التحقيق والبناء على شيء عرفي ثم البناء على متعارف الأوساط والبسط الذي يكون المقصود جديرا به رد إلى جهالة فكيف يصلح للتعريف والأقرب أن يقال المقبول من طرق التعبير عن المعنى هو تأدية أصل المراد بلفظ مساو له أو ناقص عنه واف أو زائد عليه لفائدة والمراد بالمساواة أن يكون اللفظ بمقدار أصل المراد لا ناقصا

عنه بحذف أو غيره كما سيأتي ولا زائدا عليه بنحو تكرير أو تتميم أو اعتراض كما سيأتي وقولنا واف احتراز عن الإخلال وهو أن يكون اللفظ قاصرا عن أداء المعنى كقول عروة بن الورد
( عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم ... ومقتلهم عند الوغى كان أعذرا )
فإنه أراد إذ يقتلون نفوسهم في السلم
وقول الحارث بن حلزة
( والعيش خير في ظلال ... النوك ممن عاش كدا )
فإنه أراد العيش الناعم في ظلال النوك خير من العيش الشاق في ظلال العقل فأخل كما ترى وقولنا لفائدة احتراز من شيئين أحدهما التطويل وهو أن لا يتعين الزائد في الكلام كقوله
( وألفى قولها كذبا ومينا ... )
فإن الكذب والمين واحد وثانيهما ما يشتمل على الحشو والحشو ما يتعين أنه الزائد وهو ضربان أحدهما ما يفسد المعنى كقول أبي الطيب
( ولا فضل فيها للشجاعة والندى ... وصبر الفتى لولا لقاء شعوب )
فإن لفظ الندى فيه حشو يفسد المعنى لأن المعنى أنه لا فضل في الدنيا للشجاعة والصبر والندى لولا الموت وهذا الحكم صحيح في الشجاعة دون الندى لأن الشجاع لو علم أنه يخلد في الدنيا لم يخش الهلاك في الإقدام فلم يكن لشجاعته فضل بخلاف الباذل

ماله فإنه إذا علم أنه يموت هان عليه بذله ولهذا يقول إذا عوتب فيه كيف لا أبذل مالا أبقى له إني أثق بالتمتع بهذا المال
وعليه قوله طرفة
( فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فذرني أبادرها بما ملكت يدي )
وقول مهيار ( فكل إن أكلت وأطعم أخاك ... فلا الزاد يبقى ولا الآكل )
فلو علم أنه يخلد ثم جاد بماله كان جوده أفضل فالشجاعة لولا الموت لم تحمد والندى بالضد وأجيب عنه بأن المراد في البيت بذل النفس لا بذل المال كما قال مسلم بن الوليد
( يجود بالنفس إن ضن الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود ) ورد بأن لفظ الندى لا يكاد يستعمل في بذل النفس وإن استعمل فعلى وجه الإضافة فأما مطلقا فلا يفيد إلا بذل المال
والثاني ما لا يفسد المعنى كقوله
( ذكرت أخي فعاودني ... صداع الرأس والوصب )
فإن لفظ الرأس فيه حشو لا فائدة فيه لأن الصداع لا يستعمل إلا في الرأس وليس بمفسد للمعنى
وقول زهير
( واعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم )
فإن قوله قبله مستغني عنه غير مفسد

وقول أبي عدي
( نحن الرؤوس وما الرؤوس إذا سمت ... في المجد للأقوام كالأذناب )
فإن قوله للأقوام حشو لا فائدة فيه مع أنه غير مفسد واعلم أنه قد تشتبه الحال على الناظر لعدم تحصيل معنى الكلام وحقيقته فيعد من الزائد على أصل المراد ما ليس منه كما مثله بعض الناس بقول القائل
( ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح )
( وشدت على دهم المهارى رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح )
( أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح )
يبين أنه ليس منه ما ذكره الشيخ عبد القاهر في شرحه قال أول ما يتلقاك من محاسن هذا الشعر أنه قال ولما قضينا من منى كل حاجة فعبر عن قضاء جميع المناسك فرائضها وسننها بطريق العموم الذي هو أحد طرق الاختصار ثم نبه بقوله ومسح بالأركان من هو ماسح على طواف الوداع الذي هو آخر الأمر ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر ثم قال وشدت البيت فوصل بذكر مسح الأركان ما وليه من زم الركاب وركوب الركبان ثم دل بلفظ الأطراف على الصفة تختص بها الرفاق في السفر من التصرف في فنون القول وشجون الحديث أو ما هو عادة المتطرفين من الإشارة والتلويح والرمز والإيماء وأنبأ بذلك عن طيب النفوس وقوة النشاط وفصل الاغتباط كما توجبه ألفة الأصحاب وأنسة الأحباب ويليق بحال من وفق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حسن الإياب وتنسم روائح الأحبة والأوطان

واستماع التهاني والتحايا من الخلان والإخوان ثم زان ذلك كله باستعارة لطيفة حيث قال وسالت بأعناق المطي الأباطح فنبه بذلك على سرعة السير ووطاءة الظهر وفي ذلك ما يؤكد ما قبله لأن الظهور إذا كانت وطيئة وكان سيرها سهلا سريعا زاد ذلك في نشاط الركبان فيزداد الحديث طيبا ثم قال بأعناق المطي ولم يقل بالمطي لأن السرعة والبطء في سير الإبل يظهران غالبا في أعناقها ويتبين أمرها من هواديها وصدورها وسائر أجزائها تستند إليها في الحركة وتتبعها في الثقل والخفة

القسم الأول المساواة
كقوله تعالى ( ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ) وقوله ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) وقول النابغة الذبياني
( فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت المنتأى عنك واسع )
القسم الثاني الإيجاز
وهو ضربان أحدهما
إيجاز القصر
وهو ما ليس بحذف كقوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة ) فإنه لا حذف فيه مع أن معناه كثير يزيد على لفظه لأن

المراد به أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل قتل كان ذلك داعيا له قويا إلى أن لا يقدم على القتل فارتفع بالقتل الذي هو قصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض فكان في ارتفاع القتل حياة لهم وفضله على ما كان عندهم أوجز كلام في هذا المعنى وهو قولهم القتل أنفى للقتل من وجوه أحدها أن عدة حروف ما يناظره منه وهو في القصاص حياة عشرة في التلفظ وعدة حروفه أربعة عشر وثانيها ما فيه من التصريح بالمطلوب الذي هو الحياة بالنص عليها فيكون أزجر عن القتل بغير حق لكونه أدعى إلى الاقتصاص وثالثها ما يفيد تنكير حياة من التعظيم أو النوعية كما سبق ورابعها اطراده بخلاف قولهم فإن القتل الذي ينفي القتل هو ما كان على وجه القصاص لا غيره وخامسها سلامته من التكرار الذي هو من عيوب الكلام بخلاف قولهم وسادسها استغناؤه عن تقدير محذوف بخلاف قولهم فإن تقديره القتل أنفى للقتل من تركه وسابعها أن القصاص ضد الحياة فالجمع بينهما طباق كما سيأتي وثامنها جعل القصاص كالمنبع والمعدن للحياة بإدخال في عليه على ما تقدم ومنه قوله تعالى ( هدى للمتقين ) أي هدى للضالين الصائرين إلى الهدى بعد الضلال وحسنه التوصل إلى تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه وإلى تصدير السورة بذكر أولياء الله تعالى وقوله ( أتنبئون الله بما لا يعلم ) أي بما لا ثبوت له ولا علم الله متعلق بثبوته نفيا للملزوم بنفي اللازم وكذا قوله تعالى ( ما للظالمين من حميم ولا شفيع

يطاع ) أي لا شفاعة ولا طاعة على أسلوب قوله
( على لاحب لا يهتدي بمساره ... )
أي لا منار ولا اهتداء وقوله
( ولا ترى الضب بها ينجحر ... )
أي لا ضب ولا انجحار ومن أمثلة الإيجاز أيضا قوله تعالى فيما يخاطب به النبي ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) فإنه جمع فيه مكارم الأخلاق لأن قوله خذ العفو أمر بإصلاح قوة الشهوة فإن العفو ضد الجهل قال الشاعر
( خذي العفو مني تستديمي مودتي ... )
أي خذ ما تيسر أخذه وتسهل وقوله وأعرض عن الجاهلين أمر بإصلاح قوة الغضب أي أعرض عن السفهاء واحلم عنهم ولا تكافئهم على أفعالهم هذا ما يرجع إليه منها وأما ما يرجع إلى أمته فدل عليه بقوله وأمر بالعرف أي بالمعروف والجميل من الأفعال ولهذا قال جعفر الصادق رضي الله عنه فيما روي عنه أمر الله نبيه ( بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لها من هذه الآية ومنها قول الشريف الرضي
( مالوا إلى شعب الرحال وأسندوا ... أيدي الطعان إلى القلوب تخفق )
فإنه لما أراد أن يصف هؤلاء القوم بالشجاعة في أثناء وصفهم

بالغرام عبر عن ذلك بقوله أيدي الطعان ومنه ما كتب عمرو بن مسعدة عن المأمون لرجل يعنى به إلى بعض العمال حيث أمره أن يختصر كتابه ما أمكن كتابي إليك كتاب واثق ممن كتب إليه معنى بمن كتب له ولن يضيع بين الفئة والعناية حامله

الضرب الثاني إيجاز الحذف
وهو ما يكون بحذف والمحذوف إما جزء جملة أو جملة أو أكثر من جملة والأول إما مضاف كقوله تعالى ( واسأل القرية ) أي أهلها وكقوله تعالى ( حرمت عليكم الميتة ) أي تناولها لأن الحكم الشرعي إنما يتعلق بالإفعال دون الإجرام وقوله ( حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) أي تناول طيبات أحل لهم تناولها وتقدير التناول أولى من تقدير الأكل ليدخل فيه شرب ألبان الإبل فإنها من جملة ما حرمت عليهم وقوله ( وأنعام حرمت ظهورها ) أي منافع ظهورها وتقدير المنافع أولى من تقدير الركوب لأنهم حرموا ركوبها وتحميلها وكقوله تعالى ( لمن كان يرجو الله ) أي رحمة الله وقوله ( يخافون ربهم ) أي عذاب ربهم وقد ظهر

هذا المضافان في قوله ( يرجون رحمته ويخافون عذابه ) وإما موصوف كقوله
( أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... )
أي أنا ابن رجل جلا وإما صفة نحو ( وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) أي كل سفينة صحيحة أو صالحة أو نحو ذلك بدليل ما قبله وقد جاء ذلك مذكورا في بعض القراءات قال سعيد بن جبير كان ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وإما شرط كما سبق وإما جواب شرط وهو ضربان
أحدهما أن يحذف لمجرد الاختصار كقوله تعالى ( وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون ) أي أعرضوا بدليل قوله بعده ( إلا كانوا عنها معرضين ) وكقوله تعالى ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ) أي لكان هذا القرآن وكقوله تعالى ( قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم ) أي ألستم ظالمين بدليل قوله بعده ( إن الله

لا يهدي القوم الظالمين )
والثاني أن يحذف للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف أو لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن فلا يتصور مطلوبا أو مكروها إلا يجوز أن يكون الأمر أعظم منه ولو عين شيء اقتصر عليه وربما خف أمره عنده كقوله ( وسيق الذي اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) وكقوله ( ولو ترى إذ وقفوا على النار ) ( ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ) ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم )
وقال السكاكي رحمه الله ولهذا المعنى حذفت الصلة من قولهم جاء بعد اللتيا والتي أي المشار إليه بهما وهي المحنة والشدائد قد بلغت شدتها وفظاعة شأنها مبلغا يبهت الواصف معه حتى لا يحير ببنت شفة وإما غير ذلك كقوله تعالى ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ) أي ومن أنفق من بعده وقاتل بدليل ما بعده ومن هذا الضرب قوله ( رب إني وهن العظم مني واشتغل الرأس

شيبا ) لأن أصله يا رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا
وعده السكاكي من القسم الثاني من الإيجاز على ما فسره ذاهبا إلى أنه وإن اشتمل على بسط فإن انقراض الشباب وإلمام المشيب جديران بأبسط منه ثم ذكر أن فيه لطائف يتوقف بيانها على النظر في أصل المعنى ومرتبته الأولى ثم أفاد أن مرتبته الأولى يا ربي قد شخت فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن وشيب الرأس ثم تركت هذه المرتبة لتوخي مزيد التقرير إلى تفصيلها في ضعف بدني وشاب رأسي ثم ترك التصريح بضعف بدني إلى الكناية بوهنت عظام بدني لما سيأتي أن الكناية أبلغ من التصريح ثم لقصد مرتبة رابعة أبلغ من التقرير بنيت الكناية على المبدأ فحصل أنا وهنت عظام بدني ثم لقصد مرتبة خامسة أبلغ أدخلت إن على المبتدأ فحصل إني وهنت عظام بدني ثم لطلب تقرير أن الواهن عظام بدنه قصد مرتبة سادسة وهي سلوك طريقي الإجمال والتفصيل فحصل إني وهنت العظام من بدني ثم لطلب مزيد اختصاص العظام به قصد مرتبة سابعة وهي ترك توسيط البدن فحصل إني وهنت العظام مني ثم لطلب شمول الوهن العظام فردا فردا قصدت مرتبة ثامنة وهي ترك الجمع إلى الإفراد لصحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل فرد فرد فحصل ما ترى
وهكذا تركت الحقيقة في شاب رأسي إلى الاستعارة في اشتعل شيب رأسي لما سيأتي أن الاستعارة أبلغ من الحقيقة ثم تركت هذه

المرتبة إلى تحويل الإسناد إلى الرأس وتفسيره بشيبا لأنها أبلغ من جهات
إحداها إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الشيب الرأس إذ وزان اشتعل شيب رأسي واشتعل رأسي شيبا وزان اشتعل النار في بيتي واشتعل بيتي نارا والفرق بين وثانيتها الإجمال والتفصيل في طريق التمييز وثالثها تنكير شيبا لإفادة المبالغة ثم ترك اشتعل رأسي شيبا لتوخي مزيد التقرير إلى اشتعل الرأس مني شيبا على نحو وهن العظم مني ثم ترك لفظ مني لقرينة عطف اشتعل الرأس على وهن العظم مني لمزيد التقرير وهو إيهام حوالة تأدية مفهومه على العقل دون اللفظ ثم قال عقيب هذا الكلام واعلم أن الذي فتق أكمام هذه الجهات عن أزاهير القبول في القلوب هو أن مقدمة هاتين الجملتين وهي رب اختصرت ذلك الاختصار بأن حذفت كلمة النداء وهي يا وحذفت كلمة المضاف إليه وهي ياء المتكلم واقتصر من مجموع الكلمات على كلمة واحدة فحسب وهي المنادى والمقدمة للكلام كما لا يخفى على من له قدم صدق في نهج البلاغة نازلة منزلة الأساس للبناء فكما أن البناء الحاذق لا يرى الأساس إلا بقدر ما يقدر من البناء عليه كذا البليغ يصنع بمبدأ كلامه فمتى رأيته قد اختصر المبدأ فقد آذنك باختصار ما يورد انتهى كلامه
وعليك أن تتنبه لشيء وهو أن ما جعله سببا للعدول عن لفظ العظام إلى لفظ العظم فيه نظر لأنا لا نسلم صحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل فرد فللوجه في ذكر العظم دون سائر ما تركب منه البدن وتوحيده ما ذكره الزمخشري قال إنما ذكر العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه وإذا وهن تداعى وتساقطت

قوته ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ولو جمع لكان قصد إلى معنى آخر وهو أنه لم يهن بعض عظامه ولكن كلها
واعلم أن المراد بشمول الشيب الرأس أن يعم جملته حتى لا يبقى من السواد شيء أو لا يبقى منه إلا ما لا يعتد به والثاني أعني ما يكون جملة إما مسبب ذكر سببه كقوله تعالى ( ليحق الحق ويبطل الباطل ) أي فعل ما فعل وقوله ( وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك ) أي اخترناك وقوله ( ليدخل الله في رحمته من يشاء ) أي كان الكف ومنع التعذيب ومنه قول أبي الطيب
( أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم )
أي فساءنا أو بالعكس كقوله تعالى ( فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم ) أي فامتثلتم فتاب عليكم وقوله ( فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت ) أي فضربه بها فانفجرت ويجوز أن يقدر فإن ضربت بها فقد انفجرت

أو غير ذلك كقوله تعالى ( فنعم الماهدون ) على ما مر
والثالث كقوله تعالى ( فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ) أي فضربوه ببعضها فحيي فقلنا كذلك يحيى الله الموتى وقوله ( أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف ) أي فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا فأرسلوه إليه فأتاه وقال له يا يوسف وقوله ( فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا ) أي فأتياهم فأبلغاهم الرسالة فكذبوهما فدمرناهم وقوله ( فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل قال ألم نربك ) أي فأتياه فأبلغاه ذلك فلما سمعه قال ألم نربك ويجوز أن يكون التقدير فأتياه فأبلغاه ذلك ثم يقدر فماذا قال فيقع قوله ( قال ألم نربك ) استئنافا ونحوه قوله ( اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يا أيها الملأ ) أي ففعل ذلك فأخذت الكتاب فقرأته ثم كأن سائلا سأل قال فماذا قالت فقيل قالت يا أيها الملأ وأما قوله تعالى ( ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله ) فقال الزمخشري في تفسيره هذا موضع

الفاء كما يقال أعطيته فشكر ومنعته فصبر وعطفه بالواو إشعارا بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما العلم كأنه قال فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة وقالا الحمد لله
وقال السكاكي يحتمل عندي أنه تعالى أخبر عما صنع بهما وعما قالا كأنه قال نحن فعلنا إيتاء العلم وهما فعلا الحمد من غير بيان ترتبه عليه اعتمادا على فهم السامع كقولك قم يدعوك بدل قم فإنه يدعوك
واعلم أن الحذف على وجهين أحدهما أن لا يقام شيء مقام المحذوف كما سبق والثاني أن يقام مقامه ما يدل عليه كقوله تعالى ( فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ) ليس الإبلاغ هو الجواب لتقدمه على توليهم والتقدير فإن تولوا فلا لوم علي لأني قد أبلغتكم أو فلا عذر لكم عند ربكم لأني قد أبلغتكم وقوله ( وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ) أي فلا تحزن واصبر فإنه قد كذبت رسل من قبلك وقوله ( وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين ) أي فيصيبهم مثل ما أصاب الأولين
وأدلة الحذف كثيرة منها أن يدل العقل على الحذف والمقصود الأظهر على تعيين المحذوف كقوله تعالى ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) الآية وقوله ( حرمت عليكم أمهاتكم ) الآية فإن

العقل يدل على الحذف لما مر والمقصود الأظهر يرشد إلى أن التقدير حرم عليكم تناول الميتة وحرم عليكم نكاح أمهاتكم لأن الغرض الأظهر من هذه الأشياء تناولها ومن النساء نكاحهن ومنها أن يدل العقل على الحذف والتعيين كقوله ( وجاء ربك ) أي أمر ربك أو عذابه أو بأسه وقوله ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ) أي عذاب الله أو أمره ومنها أن يدل العقل على الحذف والعادة على التعيين كقوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز ( فذلكن الذي لمتنني فيه ) دل العقل على الحذف فيه لأن الإنسان إنما يلام على كسبه فيحتمل أن يكون التقدير في حبه لقوله ( قد شغفها حبا ) وأن يكون في مراودته لقوله ( تراود فتاها عن نفسه ) وأن يكون في شأنه وأمره فيشملهما والعادة دلت على تعيين المراودة لأن الحب المفرط لا يلام الإنسان عليه في العادة لقهره صاحبه وغلبته إياه وإنما يلام على المراودة الداخلة تحت كسبه التي يقدر أن يدفعها عن نفسه ومنها أن تدل العادة على الحذف والتعيين كقوله تعالى ( لو نعلم قتالا لاتبعناكم ) مع أنهم كانوا أخبر الناس بالحرب فكيف يقولون بأنهم لا يعرفونها فلا بد من حذف قدره مجاهد رحمه الله مكان قتال أي أنكم تقاتلون في موضع لا يصلح للقتال ويخشى عليكم منه ويدل عليه أنهم أشاروا

على رسول الله لا يخرج من المدينة وأن الحزم البقاء فيها ومنها الشروع في الفعل كقول المؤمن ( بسم الله الرحمن الرحيم ) كما إذا قلت عند الشروع في القراءة بسم الله فإنه يفيد أن المراد بسم الله أقرأ وكذا عند الشروع في القيام والقعود أو أي فعل كان فإن المحذوف يقدر ما جعلت التسمية مبدأ له ومنها اقتران الكلام بالفعل فإنه يفيد تقديره كقولك لمن أعرس بالرفاء والبنين فإنه يفيد بالرفاء والبنين أعرست

القسم الثالث الإطناب
وهو إما بالإيضاح بعد الإيهام ليرى المعنى في صورتين مختلفتين أو ليتمكن في النفس فضل تمكن فإن المعنى إذا ألقي على سبيل الإجمال والإبهام تشوقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفصيل والإيضاح فتتوجه إلى ما يرد بعد ذلك فإذا ألقى كذلك تمكن فيها فضل تمكن وكان شعورها به أتم أو لتكمل اللذة بالعلم به فإن الشيء إذا حصل كمال العلم به دفعة لم يتقدم حصول اللذة به ألم وإذا حصل الشعور به من وجه دون وجه تشوقت النفس إلى العلم بالمجهول فيحصل لها بسبب المعلوم لذة وبسبب حرمانها عن الباقي ألم ثم إذا حصل لها العلم به حصلت لها لذة أخرى واللذة عقيب الألم أقوى من اللذة التي لم يتقدمها ألم أو لتفخيم الأمر وتعظيمه كقوله تعالى ( قال رب اشرح لي صدري ويسر لي

أمري ) فإن قوله اشرح لي يفيد طلب شرح لشيء ما له وقوله صدري يفيد تفسيره وبيانه وكذلك قوله ويسر لي أمري والمقام مقتض للتأكيد للإرسال المؤذن بتلقي المكاره والشدائد وكقوله تعالى ( وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ) ففي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر وتعظيم له ومن الإيضاح بعد الإبهام باب نعم وبئس على أحد القولين إذ لو لم يقصد الإطناب لقيل نعم زيد وبئس عمرو ووجه حسنه سوى الإيضاح بعد الإبهام أمران آخران أحدهما إبراز الكلام في مرض الاعتدال نظرا إلى إطنابه من وجه وإلى اختصاره من آخر وهو حذف المبتدأ في الجواب والثاني إيهام الجمع بين المتنافيين ومنه التوسيع وهو أن يؤتى في عجز الكلام بمعنى مفسر بأسمين أحدهما معطوف على الآخر كما جاء في الخبر يشيب ابن آدم ويشيب فيه خصلتان الحرص وطول الأمل وقول الشاعر
( سقتني في ليل شبيه بشعرها ... شبيهة خديها بغير رقيب )
( فما زلت في ليلين شعر وظلمة ... وشمسين من خمر ووجه حبيب )
وقول البحتري
( لما مشين بذي الأراك تشابهت ... أعطاف قضبان به وقدود )
( في حلتي حبر وروض فالتقى ... وشيان وشي ربي ووشي برود )
( وسفرن فامتلأت عيون راقها ... وردان ورد جنى وورد خدود )

وإما بذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضله حتى كأنه ليس من جنسه تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات كقوله تعالى ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) وقوله تعالى ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) وقوله ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) وإما بالتكرير لنكتة كتأكيد الإنذار في قوله تعالى ( كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ) وفي ثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ وأشد وكزيادة التنبيه على ما ينفي التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول في قوله تعالى ( وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع ) وقد يكرر اللفظ لطول في الكلام كما في قوله تعالى ( ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) وفي قوله تعالى ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) وقد يكرر لتعدد المتعلق كما كرره الله تعالى من قوله ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) لأنه تعالى ذكر نعمة بعد نعمة وعقب كل نعمة

بهذا القول ومعلوم أن الغرض من ذكره عقيب نعمة غير الغرض من ذكره عقيب نعمة أخرى فإن قيل قد عقب بهذا القول ما ليس بنعمة كما في قوله ( يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ) وقوله ( هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن ) قلنا العذاب وجهنم وإن لم يكونا من آلاء الله تعالى فإن ذكرهما ووصفهما على طريق الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات من آلائه تعالى ونحوه قوله ( ويل يومئذ للمكذبين ) لأنه تعالى ذكر قصصا مختلفة وأتبع كل قصة بهذا القول فصار كأنه قال عقب كل قصة ويل يومئذ للمكذبين بهذه القصة وإما بالإيغال واختلف في معناه فقيل هو ختم البيت بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها كزيادة المبالغة في قول الخنساء
( وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار )
لم ترض أن تشبهه بالعلم الذي هو الجبل المرتفع المعروف بالهداية حتى جعلت في رأسه نارا وقول ذي الرمة
( قف العيس في أطلال مية واسأل ... رسوما كأخلاق الرداء المسلسل )
( أظن الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعا كتبذير الجمان المفصل )
وكتحقيق التشبيه في قول امرىء القيس
( كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب )

فإنه لما أتى على التشبيه قبل ذكر القافية واحتاج إليها جاء بزيادة حسنة في قوله لم يثقب لأن الجزع إذا كان غير مثقوب كأن أشبه بالعيون
ومثله قول زهير
( كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم )
فإن حب الفنا أحمر الظاهر أبيض الباطن فهو لا يشبه الصوف الأحمر إلا ما لم يحطم وكذا قول امرىء القيس
( حملت ردينيا كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان ) كما سيأتي وقيل لا يختص بالنظم مثل قوله تعالى ( اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون )
وأما بالتذليل وهو تعقيب الجملة بحملة تشتمل على معناها للتوكيد وهو ضربان ضرب لا يخرج مخرج المثل لعدم استقلاله بإفادة المراد وتوقفه على ما قبله كقوله تعالى ( ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ) إن قلنا إن المعنى وهل يجازى ذلك الجزاء
وقال الزمخشري وفيه وجه آخر وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة يستعمل تارة في معنى المعاقبة وأخرى في معنى الإثابة فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله جزيناهم بما كفروا بمعنى عاقبناهم بكفرهم قيل وهل يجازى إلا الكفور بمعنى وهل يعاقب فعلى هذا يكون من الضرب الثاني وقول الحماسي
( فدعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل )

وقول أبي الطيب
( وما حاجة الأظعان حولك في الدجى ... إلى قمر ما واجد لك عادمه ) وقوله أيضا
( تمسي الأماني صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيء ليت ذلك لي )
وقول ابن نباتة السعدي
( لم يبق جودك لي شيئا أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل ) قيل نظر فيه إلى قول أبي الطيب وقد أربى عليه في المدح والأدب مع الممدوح حيث لم يجعله في حيز من تمنى شيئا وضرب يخرج مخرج المثل كقوله تعالى ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) وقول الذبياني
( ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب )
وقول الحطيئة
( تزور فتى يعطي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المكارم يحمد ) وقد اجتمع الضربان في قوله تعالى ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت ) فإن قوله أفئن مت فهم الخالدون من الأول وما بعده من الثاني وكل منهما تذييل على ما قبله وهو أيضا إما لتأكيد منطوق كلام كقوله تعالى

( وقل جاء الحق ) الآية وإما لتأكيد مفهومه كبيت النابغة فإن صدره دل بمفهومه على نفي الكامل من الرجال فحقق ذلك وقرره بعجزه وإما بالتكميل ويسمى الاحتراس أيضا وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه وهو ضربان ضرب يتوسط الكلام كقول طرفة
( فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمى )
وقول الآخر
( لو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها )
إذ التقرير عند حاكم موفق فقوله موفق تكميل وقول ابن المعتز
( صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل )
وضرب يقع في آخر الكلام كقوله تعالى ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين لتوهم أن ذلتهم لضعفهم فلما قيل أعزة على الكافرين علم أنها منهم تواضع لهم ولذا عدى الذل بعلى لتضمينه معنى العطف كأنه قيل عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع ويجوز أن تكون التعدية بعلى لأن المعنى أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم
ومنه قول ابن الرومي فيما كتب به إلى صديق له إني

وليك الذي لا يزال تنقاد إليك مودته عن غير طمع ولا جزع وإن كنت لذي الرغبة مطلبا ولذي الرهبة مهربا
وكذا قوله الحماسي
( رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ... وما فوق شكري للشكور مزيد )
وكذا قول كعب بن سعد الغنوي
( حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب )
فإنه لو اقتصر على وصفه بالحلم لأوهم أن حلمه عن عجز فلم يكن صفة مدح فقال إذا ما الحلم زيه أهله فأزال هذا الوهم وأما بقية البيت فتأكيد للازم ما يفهم من قوله إذا ما الحلم زين أهله من كونه غير حليم حين لا يكون الحلم زينا لأهله فإن من يكون حليما حين لا يحسن الحلم لأهله يكون مهيبا في عين العدو لا محالة فعلم أن بقية البيت ليست تكميلا كما زعم بعض الناس
ومنه قول الحماسي
( وما مات منا سيد في فراشه ... ولا طل منا حيث كان قتيل )
فإنه لو اقتصر على وصف قومه بشمول القتل إياهم لأوهم أن ذلك لضعفهم وقلتهم فأزال هذا الوهم بوصفهم بالانتصار من قاتلهم
وكذا قول أبي الطيب
( أشد من الرياح الهوج بطشا ... وأسرع في الندى منها هبوبا )
فإنه لو اقتصر على وصفه بشدة البطش لأوهم ذلك أنه عنف كله ولا لطف عنده فأزال هذا الوهم بوصفه بالسماحة ولم يتجاوز في ذلك كله صفة الريح التي شبهه بها وقوله إنه أسرع في الندى منها هبوبا كأنه من قول ابن عباس رضي الله عنهما ( كان رسول الله

الناس وكان أجود ما يكون في رمضان كان كالريح المرسلة
وإما بالتتميم وهو أن يؤتى في كلام لا وهم خلاف المقصود بفضلة تفيد نكتة كالمبالغة في قوله تعالى ( ويطعمون الطعام على حبه ) أي مع حبه والضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه ونحوه ( وآتى المال على حبه ) وكذا ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) وعن فضيل بن عياض على حب الله فلا يكون مما نحن فيه وفي قول الشاعر
( إني على ما ترين من كبري ... أعرف من أين تؤكل الكتف )
وفي قول زهير
( من يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا )
وإما بالاعتراض وهو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لنكتة سوى ما ذكر في تعريف التكميل كالتنزيه والتعظيم في قوله تعالى ( ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ) والدعاء في قول أبي الطيب
( وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا )
فإن قوله وحاشاك دعاء حسن في موضعه ونحوه قول عوف بن محلم الشيباني

( إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان ) والتنبيه في قول الشاعر
( واعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا )
وتخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد في أمر علق بهما كقوله تعالى ( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك ) والمطابقة مع الاستعطاف في قول أبي الطيب
( وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لرأيت فيه جهنما )
والتنبيه على سبب أمر فيه غرابة كما في قول الآخر
( فلا هجره يبدو وفي اليأس راحة ... ولا وصله يبدو لنا فنكارمه )
فإن قوله فلا هجره يبدو يشعر بأن هجر الحبيب أحد مطلوبيه وغريب أن يكون هجر الحبيب مطلوبا للمحب فقال وفي اليأس راحة لينبه على سببه وقوله تعالى ( لو تعلمون ) في قوله ( فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم ) اعتراض في اعتراض لأنه اعترض به بين الموصوف والصفة واعترض بقوله وإنه لقسم لو تعلمون عظيم بين القسم والمقسم عليه ومما جاء بين كلامين متصلين معنى قوله ( فأتوهن

من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم ) فإن قوله نساؤكم حرث لكم بيان لقوله فأتوهن من حيث أمركم الله يعني أن المأتى الذي أمركم به هو مكان الحرث دلالة على أن الغرض الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة فلا تأتوهن إلا من حيث يتأتى فيه هذا الغرض وهو مما جاء في أكثر من جملة أيضا
ونحوه في كونه أكثر من جملة قوله تعالى ( قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم ) فإن قوله ( والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ) ليس من قول أم مريم وكذا قوله ( ألم ترك إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ) إن جعل من الذين بيانا للذين ( أوتوا نصيبا من الكتاب ) لأنهم يهود ونصارى أو لأعدائكم فإنه على الأول يكون قوله والله أعلم ( بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ) اعتراضا وعلى الثاني يكون كفى بالله وكفى بالله اعتراضا ويجوز أن يكون من الذين صلة لنصيرا أي ينصركم من الذين هادوا كقوله ( ونصرناه من القوم الذين كذبوا ) وأن يكون كلاما مبتدأ على أن يحرفون صفة مبتدأ محذوف تقديره من الذين هادوا قوم يحرفون كقوله

( وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح )
وقد علم مما ذكرنا أن الاعتراض كما يأتي بغير واو ولا فاء قد يأتي بأحدهما ووجه حسن الاعتراض على الإطلاق حسن الإفادة مع أن مجيئه مجيء ما لا معول عليه في الإفادة فيكون مثله مثل الحسنة تأتيك من حيث لا ترتقبها ومن الناس من لا يقيد فائدة الاعتراض بما ذكرناه بل يجوز أن تكون دفع توهم ما يخالف المقصود وهؤلاء فرقتان فرقة لا تشترط فيه أن يكون واقعا في أثناء كلام أو بين كلامين متصلين معنى بل يجوز أن يقع في آخر كلام لا يليه كلام أو يليه كلام غير متصل به معنى وبهذا يشعر كلام الزمخشري في مواضع من الكشاف فالاعتراض عند هؤلاء يشمل التذييل ومن التكميل ما لا محل له من الإعراب جملة كان أو أكثر من جملة وفرقة تشترط فيه ذلك لكن لا تشترط أن يكون جملة أو أكثر من جملة فالاعتراض عند هؤلاء يشمل من التتميم ما كان واقعا في أحد الموقعين ومن التكميل ما كان واقعا في أحدهما ولا محل له من الإعراب جملة كان أو أقل من جملة أو أكثر وإما بغير ذلك كقولهم رأيته بعيني ومنه قوله تعالى ( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ) أي هذا الإفك ليس إلا قولا يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم في القلب كما هو شأن المعلوم إذ ترجم عن اللسان وكذا قوله ( تلك عشرة كاملة )

لإزالة توهم الإباحة كما في نحو قولنا جالس الحسن وابن سيرين وليعلم العدد جملة كما علم تفصيلا ليحاط به من جهتين فيتأكد العلم وفي أمثال العرب علمان خير من علم وكذا قوله كاملة تأكيد آخر وقيل أي كاملة في وقوعها بدلا من الهدى وقيل أريد به تأكيد الكيفية لا الكمية حتى لو وقع صوم العشرة على غير الوجه المذكور لم تكن كاملة وكذا قوله ( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ) فإنه لو لم يقصد الإطناب لم يذكر ويؤمنون به لأن إيمانهم ليس مما ينكره أحد من مثبتيهم وحسن ذكره إظهار شرف الإيمان ترغيبا فيه وكذا قوله ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) فإنه لو اختصر لترك قوله والله يعلم أنك لرسوله لأن مساق الآية لتكذيبهم في دعوى الإخلاص في الشهادة كما مر وحسنه دفع توهم أن التكذيب للمشهود به في نفس الأمر ونحوه قول البلغاء لا وأصلحك الله
وكذا قوله تعالى ( هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ) وحسنه أنه أن السؤال يعقبه أمر عظيم يحدثه الله تعالى في العصا فينبغي أن يتنبه لصفاتها حتى يظهر له التفاوت بين الحالين
وكذا قوله ( نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ) وحسنه

إظهار الابتهاج بعبادتها والافتخار بمواظبتها ليزداد غيظ السائل واعلم أنه قد يوصف الكلام بالإيجاز والإطناب باعتبار كثرة حروفه وقلتها بالنسبة إلى كلام آخر مساو له في أصل المعنى كالشطر الأول من قول أبي تمام
( يصد عن الدنيا إذا عن سودد ... ولو برزت في زي عذراء ناهد )
وقول الأخر
( ولست بنظار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر ) ومنه قول الشماخ
( إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابه باليمين )
وقول بشر حازم
( إذا ما المكرمات رفعن يوما ... وقصر مبتغوها عن مداها )
( وضاقت أذرع المثرين عنها ... سما أوس إليها فاحتواها )
ويقرب من هذا الباب قوله تعالى ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) وقول الحماسي
( وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول )
وكذا ما ورد في الحديث الحزم سوء الظن وقول العرب الثقة بكل أحد عجز

الفن الثاني في علم البيان
وهو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه ودلالة اللفظ إما على ما وضع له أو على غيره والثاني إما داخل في الأول دخول السقف في مفهوم البيت أو الحيوان في مفهوم الإنسان أو خارج عنه خروج الحائط عن مفهوم السقف أو الضاحك عن مفهوم الإنسان وتسمى الأولى دلالة وضعية وكل واحدة من الأخيرتين دلالة عقلية وتختص الأولى بدلالة المطابقة والثانية بالتضمن والثالثة بدلالة الالتزام وشرط الثالثة اللزوم الذهني أعني أن يكون حصول ما وضع اللفظ له في الذهن ملزوما لحصول الخارج فيه لئلا يلزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر لكون نسبة الخارج إليه حينئذ كنسبة سائر المعاني الخارجة ولا يشترط في هذا اللزوم أن يكون مما يثبته العقل بل يكفي أن يكون مما يثبته اعتقاد المخاطب إما لعرف أو لغيره لإمكان الانتقال حينئذ من المفهوم الأصلي الخارجي وقد وقع في كلام بعض العلماء ما يشعر بالخلاف في اشتراط اللزوم الذهني في دلالة الالتزام وهو بعيد جدا وإن صح فلعل السبب فيه توهم أن المراد

باللزوم الذهني اللزوم العقلي لإمكان الفهم بدون اللزوم الذهني بهذا المعنى حينئذ كما سبق ثم إيراد المعنى الواحد على الوجه المذكور لا يتأتى بالدلالة الوضعية لأن السامع إن كان عالما بوضع الألفاظ لم يكن بعضها أوضح دلالة من بعض وإلا لم يكن كل واحد منها دالا وإنما يتأتى بالدلالات العقلية لجواز أن يكون للشيء لوازم بعضها أوضح لزوما من بعض ثم اللفظ المراد به لازم ما وضع له إن قامت قرينة على عدم إرادة ما وضع له فهو مجاز وإلا فهو كناية ثم المجاز منه الاستعارة وهي ما تبتنى على التشبيه فيتعين التعرض له فانحصر المقصود في التشبيه والمجاز والكناية وقدم التشبيه على المجاز لما ذكرنا من ابتناء الاستعارة التي هي مجاز على التشبيه وقدم المجاز على الكناية لنزول معناه من معناها منزلة الجزء من الكل

القول في التشبيه
التشبيه الدلالة على مشاركة أمر لآخر في معنى والمراد بالتشبيه ههنا ما لم يكن على وجه الاستعارة التحقيقية ولا الاستعارة بالكناية ولا التجريد فدخل فيه ما يسمى تشبيها بلا خلاف وهو ما ذكرت فيه أداة التشبيه كقولنا زيد كالأسد أو كالأسد بحذف زيد لقيام قرينة وما يسمى تشبيها على المختار كما سيأتي وهو ما حذفت فيه أداة التشبيه وكان اسم المشبه به خبرا للمشبه أو في حكم الخبر كقولنا زيد أسد وكقوله تعالى ( صم بكم عمي ) أي هم ونحوه قول من يخاطب الحجاج
( أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتحاء تنفر من صفير الصافر )
وكقولنا رأيت زيدا بحرا
وإذا قد عرفت معنى التشبيه في الاصطلاح فاعلم أنه مما اتفق العقلاء على شرف قدره وفخامة أمره في فن البلاغة وأن تعقيب المعاني به لا سيما قسم التمثيل منه يضاعف قواها في تحريك النفوس إلى المقصود بها مدحا كانت أو ذما أو افتخارا أو غير ذلك وإن أردت تحقيق هذا فانظر إلى قول البحتري

( دان على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل ند في الندى وضريب )
( كالبدر أفرط في العلو وضوؤه ... للعصبة السارين جد قريب )
أو قول ابن لنكك
( إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا ... رأيت صورته من أقبح الصور )
( وهبه كالشمس في حسن ألم ترنا ... نفر منها إذا مالت إلى الضرر )
أو قول ابن الرومي
( بذل الوعد للإخلال سمحا ... وأبى بعد ذاك بذل العطاء )
( فغدا كالخلاف يورق للعين ... ويأبى الإثمار كل الإباء ) أو قول أبي تمام
( وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود )
( لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود ) أو قوله أيضا
( وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد )
( فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد )
وقس حالك وأنت في البيت الأول ولم تنته إلى الثاني على حالك وأنت قد انتهيت إليه ووقفت عليه تعلم بعد ما بين حالتيك في تمكن المعنى لديك وكذا تعهد الفرق بين أن تقول الدنيا لا تدوم وتسكت وأن تذكر عقيبه ما روي عن النبي قال من في الدنيا ضيف وما في يده عارية والضيف مرتحل والعارية مؤداة أو تنشد قول لبيد

أقسام الكتاب
1 2