كتاب : الكامل في اللغة والأدب
المؤلف : محمد بن يزيد المبرد

رب ابن عم لسيلمى مشمعل ... أروع في السفر وفي الحي غزل
طباخ ساعات الكرى زاد الكسل
وقوله:
ولست وإن كانت إلي حبيبةٍ ... بباكٍ على الدنيا........
إنما هو تفديم وتأخير، أراد: ولست بباكٍ على الدنيا وإن كانت إلي حبيبة. ولولا هذا التقدير لم يجز أن يضمر قبل الذكر، ومثله:
إن تلق يوماً على علاته هرماً ... تلق السماحة منه والندى خلقا
وكذلك قول حسان بن ثابت:
قد ثكلت أمه من كنت واحدة ... أو كان منتسباً في برثن الأسد
ويقول: من كنت واحده قد ثكلت أمه، وكذلك:
شر يوميها وأخزاه لها ... ركبت هندٌ بحدجٍ جملا
يقول: ركبت هند بحدج جملا في شر يوميها.
وقال رجل من مزينة:
خليلي بالبوباة عوجا فلا أرى ... بها منزلاً إلا جديب المقيد
نذق برد نجدٍ بعد ما لعبت بنا ... تهامة في حمامها المتوقد
قوله: "بالبوباة"، فهي المتسع من الأرض، وبعضهم يقول: هي الموماة بعينها، قلبت الميم باء لأنهما من ااشفة، ومثل ذلك كثير، يقولون: ما اسمك وبا اسمك? ويقولون: ضربة لازم ولازب، ويقولون: هذا ظأمي وظأبي، يعنون السلف، قال أبو الحسن: الجيد سلف، وما قال ليس بممتنع، ويقولون: زكبة سوءٍ وزكمة سوءٍ،أي ولد سوء ويقولون: عجم الذنب وعجب الذنب، ويقولون: رجل أخرم وأخرب، وهذا كثير. وقال عمر بن أبي ربيعة:

عوجا نحيي الطلل المحولا ... والربع من أسماء والمنزلا
بجانب البوباة لم نعده ... تقادم العهد بأن يؤهلا
وقوله: "إلا جديب المقيد"، يقال: بلد جدبٌ وجديبٌ، وخصب وخصيب، والأصل في النعت خصيبٌ ومخصبٌ، وجديبٌ ومجدب، والخصب والجدب إنما هما ما حل فيه، وقيل: خصيبٌ وأنت تريد مخصب، وجديبٌ وأنت تريد مجدبٌ، كقولك: عذاب أليم وأنت تريده مؤلم، قال ذو الرمة:
ونرفع من صدور شمردلاتٍ ... يصك وجوهها وهج أليم
ويقال: رجل سميع، أي مسمعٌ، قال عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
وأما قوله: "المقيد" فهو موضع التقييد: وكل مصدر زيدت الميم في أوله إذا جاوزت الفعل من ذوات الثلاثة فهو على وزن المفعول، وكذلك إذا أردت اسم الزمان واسم المكان، تقول: أدخلت زيداً مدخلاً كريماً. وسرحته مسرحاً حسناً، واستخرجت الشيء مستخرجاً، قال جرير:
ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عياً بهن ولا اجتلابا
أي تسريحي، وقال عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً} 1 ويقال: قمت مقاماً، واقمت مقاماً وقال عز وجل: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} 2 أي موضع، وقال الشاعر3:
وما هي إلا في إزارة وعلقةٍ ... مغار ابن همام على حي خثعما
يريد زمن إغارة ابن همام.
ـــــــ
1 سورة المؤمنون 29.
2 سورة الفرقان 66.
3 في زيادات ر قبل هذا البيت:
تطول القصار والطوال يطلنها ... فمن يرها لا ينسها ماتكلما
وفيها نسبة البيتين إلى حميد ين ثور، وقد حقق العلامة المرصفى نسبتهما إلى الطماح بن عامر "وانظر رغبة الآمل".

وأما قوله: "نذق برد نجدٍ" ، فذاك لأن نجداً مرتفعة وتهامة غورٌ منخفض، فنجدٌ باردة.
ويروى عن الأصمعي أنه قال: هجم علي شهر رمضان وأنا بمكة، فخرجت إلى الطائف لأصوم بها هرباً من حر مكة فلقيني أعرابي فقلت له: أين تريد? فقال: أريد هذا البلد المبارك لأصوم هذا الشهر المبارك فيه. فقلت له: أما تخاف الحر? فقال من الحر أفر.
وهذا الكلام نظير كلام الربيع بن خثيم، فإن رجلاً قال له - وقد صلى ليلةً حتى اصبح - أتعبت نفسك، فقال: راحتها أطلب: إن أفره العبيد أكيسهم.
ونظير هذا الكلام قول روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب - ونظر إليه رجل واقفاً بباب المنصور في الشمس - فقال: قد طال وقوفك في الشمس! فقال روحٌ: ليطول وقوفي في الظل.
ومثله من الشعر قوله: قال أبو الحسن: هو عروة بن الورد:
تقول سليمى لو أقمت بأرضنا ... ولم تدر أني للمقام أطوف
لعل الذي خوفتنا من ورائنا ... سيدركه من بعدنا المتخلف
ويروى: "لسرنا".
وقال آخر:
سأطلب بعد الدار منكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
وهذا معنى كثير حسن جميل.
وقال حبيب بن أوس الطائي:
أآلفة النجب كم افتراقٍ ... أجد فكان داعية اجتماع
وليست فرحة الأوبات إلا ... لموقوفٍ على ترح الوداع
وقال رجل - واعتل في غربةٍ فتذكر أهله:
لو أن سلمى أبصرت تخددي ... ودقةً في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عودي ... عضت من الوجد بأطراف اليد

قوله: "أبصرت تخددي"، يريد ما حدث في جسمه من النحول، وأصل الخد ما شققته في الأرض، قال الشماخ:
فقلت لهم خدوا له برماحكم ... بطامسة الأعلام خفاقة الآل
ويقال للشيخ: قد تخدد، يراد قد تشنج جلده، وقال الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} 1 ، وقيل في التفسير: هؤلاء قوم خدوا أخاديد في الأرض، وأشعلوا فيها نيراناً فحرقوا بها المؤمنين.
وقوله:
عضت من الوجد بأطراف اليد
فإن الحزين، والمغيظ، والنادم والمتأسف يعض أطراف أصابعه جزعاً، قال الله عز وجل: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} 2.
وفي مثل ما ذكرنا من تخدد لحم الشيخ، يقول القائل3:
يا من لشيخ قد تخدد لحمه ... أفنى ثلاث عمائم ألوانا4
سوداء حالكةً وسحق مفوفٍ ... وأجد لوناً بعد ذاك هجانا
صحب الزمان على اختلاف فنونه ... فأراه منه كراهةً وهوانا
قصر الليالي خطوة فتدانى ... وحنون قائم صلبه فتحانى
والموت يأتي بعد ذلك كله ... وكأنما يعنى بذاك سوانا
قوله:
أفنى ثلاث عمائم ألوانا
ـــــــ
1 سورة البروج 4.
2 سورة آل عمران 119.
3 قوله في زيادات ر:
ذهب الشباب فلا شباب جمانا ... وكأن ماقد كان لم يك كانا
وطويت كفى ياجمان على العصا ... وكفى جمان بطيها حدثانا
4 زيادات ر: "الوانا: صفة لثلاث على المعنى، كأن قال: مختلفات".

يعني أن شعره كان أسود، ثم حدث فيه شيب مع السواد، فذلك قوله: مفوف، والتفويف: التنقيش، وإنما أخذ من الفوف، وهي النكتة البيضاء التي تحدث في أظفار الأحداث، وسميت بذلك لشبهها بشجرة يقال لها الفوفة وجمعها فوفٌ، والسحق: الخلق، يقال: عنده سحق ثوبٍ، وجرد ثوبٍ، وسمل ثوبٍ.
وقوله: أجد أي أستجد لوناً، والهجان الأبيض، وهي العمامة الثالثة يعني حيث شمله الشيب.

باب

من أمثال العرب
قال أبو العباس: من أمثال العرب: لم يذهب من مالك ما وعظك. يقول: إذا ذهب من مالك شيء، فحذرك أن يحل بك مثله، فتأديبه إياك عوضٌ من ذهابه.
ومن أمثالهم: رب عجلةٍ تهب ريثا. وتأويله أن الرجل يعمل العمل فلا يحكمه للاستعجال به، فيحتاج إلى أن يعود فينقضه ثم يستأنف، والريث الإبطاء، وراث عليه أمره إذا تأخر.
ومن أمثال العرب: عش ولا تغتر. وأصل ذلك أن يمر صاحب الإبل بالأرض المكلئة فيقول: أدع أن أعشي إبلي منها حتى أرد على أخرى، ولا يدري ما الذي يرد عليه.
وقريب منه قولهم: "أن ترد الماء بماء أكيس". وتأويله أن يمر الرجل بالماء فلا يحمل منه أتكالاً على ماءٍ آخر يصير إليه، فيقال له: أن تحمل معك ماء أحزم لك، فإن أصبت ماء آخر لم يضرك فإن لم تحمل فخفقت من الماء عطيت.
ومن أمثالهم: "قد أحزم لو أعزم" ، يقول: أعرف وجه الحزم فإن عزمت فأمضيت الرأي فأنا حازمٌ، وإن تركت الصواب وأنا أراه وضيعت العزم لم ينفعني حزمي، ومثله قول النابغة الجعدي:
أبى لي البلاء وإني امرؤٌ ... إذا ما تبينت لم أرتب
وقال أعرابي يمدح سوار بن عبد الله:
وأوقف عند الأمر ما لم يضح له ... وأمضى إذا ما شك من كلام ماضيا
فالذي يحمد إمضاء ما تبين رشده، فأما الإقدام على الغرر وركوب الأمر على الخطر فليس بمحمود عندي ذوي الألباب، وقد يتحسن بمثله الفتاك، كما قال1:
عليكم بداري فاهدموها فإنها ... تراث كريم لا يخاف العواقبا
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو سعد بن ناشب المازنى، عن الرياشى وغيره".

إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... وأعرض عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
فهذا شأن الفتاك، وقال الآخر:
غلام إذا ما هم بالفتك لم يبل1 ... ألامت قليلاً أم كثيراً عواذله
وقال آخر:
وما العجز إلا أن تشاور عاجزاً ... وما الحزم إلا أن تهم فتفعلا
فأما قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من أكثر الفكرة في العواقب لم يشجع، فتأويله أنه من فكر في ظفر قرنه به، وعلوه عليه لم يقدم، وإنما كان الحزم عند علي رضي الله عنه أن يحظر أمر الدين ثم لا يفكر في الموت. وقد قيل له: أتقتل أهل الشام بالغداة، وتظهر بالعشي في إزار ورداءٍ? فقال: أبالموت أخوف? والله ما أبالي أسقطت على الموت، أم سقط الموت علي.
وقال للحسن ابنه: لا تبدأ بدعاءٍ إلى مبارزةٍ، فإن دعيت إليها فأجب، فإن طالبها باغٍ، والباغي مصروع.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلتف في كسائه، وينام ناحية المسجد، فلما ورد المرزبان2 عليه جعلوا يسألون عنه. فيقال: مر ههنا آنفاً، فيصغر في القلب المرزبان إذ رآه كبعض السوق، حتى انتهى إليه، وهو نائم في ناحية المسجد، فقال المرزبان: هذا والله الملك الهنيء. يقول: لا يحتاج إلى أحراس ولا عددٍ، فلما جلس عمر امتلأ قلب العلج منه هيبة لما رأى عنده من الجد والاجتهاد، وألبس من هيبة التقوى.
ـــــــ
1 أصله "يبالي"، حذفت الياء للجازم.
2 زيادات ر: "كذا وقعت الرواية "المرزبان". والصواب الهرمزان، وكان صاحب تستر".

للكلبي وقد سأله خالد القسري عن السؤدد
وقال الكلبي: قال لي خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرزٍ القسري: ما تعدون السؤدد? فقلت: أما في الجاهلية فالرياسة، وأما في الإسلام فالولاية،

وخيرٌ من ذا وذاك التقوى، فقال لي: صدقت كان أبي يقول: لم يدرك الأول الشرف إلا بالفعل، ولا يدركه الآخر إلا بما أدرك به الأول، قال: فقلت: صدق أبوك، ساد الأحنف بحلمه، وساد مالك بن مسمع بمحبة العشيرة له،وساد قتيبة بدهائه، وساد المهلب بجميع هذه الخلال، فقال لي: صدقت، كان أبي يقول: خير الناس للناس خيرهم لنفسه، وذلك أنه إذا كان كذلك اتقى على نفسه من السرق لئلا يقطع، ومن القتل لئلا يقاد، ومن الزنى لئلا يحد، فسلم الناس منه باتقائه على نفسه.

نبذ من أقوال الحكماء
قال أبو العباس: وكان عبد الله بن يزيد أبو خالد من عقلاء الرجال، قال له عبد الملك يوماً: ما مالك? فقال: شيئان لا عيلة علي معهما، الرضا من الله، والغنى عن الناس. فلما نهض من بين يديه قيل له: هلا خبرته بمقدار مالك? فقال: لم يعد أن يكون قليلاً فيحرقني، أو كثيراً فيحسدني وقال رسول الله صلى الله عليه سلم: "من سره أن يكون أعز الناس فليتق الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله".
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "من سره الغنى بلا مال، والعز بلا سلطان، والكثرة بلا عشيرة، فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته، فإنه واجد ذلك كله".
وخطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم فحمد الله بما هو أهله ثم أقبل على الناس، فقال: "أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، فإن العبد بين مخافتين: أجلٌ قد مضى لا يدري ما الله فاعل فيه، وأجلٌ باق لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة إلى الممات، فو الذي نفس محمد بيده، ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار".

وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمرني ربي بتسع، الإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأن أعفو عمن ظلمني، وأصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأن يكون نطقي ذكراً، وصمتي فكراً، ونظري عبرة".
حدثت أنه التقى حكيمان، فقال أحدهما للآخر: إني لأحبك في الله،فقال له الآخر: لو علمت مني ماأعلمه من نفسي لأبغضتني في الله . فقال له صاحبه: لو علمت من ما تعلمه من نفسك لكان لي فيما أعلمه من نفسي شغل. وكان مالك بن دينار يقول: جاهدوا أهوءاكم كما تجاهدون أعداءكم .وكان يقول: ما أشد فطام الكبير.
وقيل لعمر بن عبد العزيز: أي الجهاد أفضل فقال: جهادك هواك.
وكان الحسن يقول: حادثوا هذه القلوب، فإنها سريعة الدثور . واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة، وإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية.
قوله: "حادثوا" مثل، ومعناه: اجلوا واشحذوا، تقول العرب: حادث فلان سيفه إذا جلاه وشحذه، وقال زيد الخيل:
وقد علمت سلامة أن سيفي ... كريه كلما دعيت نزال
أحادثه بصقل كل يوم ... وأعجمه بهامات الرجال
قوله: "أعجمه بهامات الرجال": أي أعضه، يقال عجمه إذا عضه والدثور الدروس يقال: دثر الربع إذا مح1 ومعناه: تعهدوها بالفكر والذكر. وقوله: "فإنها طلعة"، يقول: كثيرة التشوف والتنزي إلى ما ليس لها . وأنشد الأصمعي:
زلا تمليت2 من مال ولا عمر ... إلا بما سر3 نفس الحاسد الطلعه
ـــــــ
1 محت الدار: عفت ودرست، وفي س: "امحى".
2 كذت في الأصل، بكسر التاء. وفي ر: بفتح التاء، وفي الزيادات: "الرواية الصحيحة بكسر التاء لاغير؛ لأنه يخاطب امرأة تقدم ذكرها في الشعر يدهو عليها".
3 ر، س: "ساء".

قال: ويقال للجارية إذا كانت تبرز وجهها لتري حسنها ثم تخفيه لتوهم الحياء: خبأة طلعة.
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: أيها الناس إنما خلقتم للأبد: ولكنكم تنقلون من دار إلى دار. ويروي عن المسيح صلوات الله عليه وسلامه أنه كان يقول: إن احتجتم إلى الناس فكلوا قصداً وامشوا جانباً.
ولما احتضر قيس بن عاصم قال لبنيه: يا بني، احفظوا عني ثلاثاً، فلا أحد أنصح لكم مني: إذا أنا مت فسودوا كباركم، ولا تسودوا صغاركم، فيحقر الناس كباركم، وتهنوا عليهم. وعليكم بحفظ المال فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم والمسألة فإنها أخر1 كسب الرجل.
ـــــــ
1 ر: "أخر" بفتح الهمزة وكسر الخاء. وفي الزيادات: بقصر الهمزة لا غير، ومن رواه بالمد فقد أخطأ، ومعنى أخر أدنى.

باب
لرجل من الأعراب يرثي رجلاً منهم
قال أبو العباس: أنشدت لرجل من الأعراب يرثي رجلاً منهم:
فلو كان شيخاً قد لبسنا شبابه ... ولكنه لم يعد أن طر شاربه1
وقاك الردى من ود أن ابن عمه ... يرى مقتراً أو أنه ذل جانبه
ـــــــ
1طر شاربه: طلع ونبت.

لحسان يوصي امرأته
وقال آخر لامرأته1:
فاما هلكت فلا تنكحي ... ظلوم العشيرة حسادها
يرى مجده ثلب أعراضها ... لديه، ويبغض من سادها
ـــــــ
1 زيادات ر: "حسان بن ثابت"، والبيتان في ديوانه 139.

لصخر بن حبناء يعاتب أخاه
وقال آخر: قال أبو الحسن: هو ليزيد بن حبناء أو لصخر بن حبناء، يقول لأخيه:
لحى الله أكبانا زناداً وشرنا ... وأيسرنا عن عرض والده ذبا
رأيته لما نلت مالاً ومسنا ... زمان ترى في حد أنيابه شغبا
جعلت لنا ذنباً لتمنع نائلاً ... فأمسك، ولا تجعل غناك لنا ذنباً
قوله: "أكبانا زناداً"، الزناد التي تقدح بها النار، ويقال: أورى القادح إذا خرجت له النار، وأكبى إذا أخفق منها: هذا أصله يضرب للرجل الذي ينبعث الخير عن1 يديه، ويضرب الإكباء للذي يمتنع الخير على يديه، قال الأعشى:
وزندك خير زناد الملو ... ك صادف منهن مرخ عفارا
ولو بت تقدح في ظلمةٍ ... صفاة بنبع لأوريت نارا2
ـــــــ
1 ر، س: "على يدية".
2 الصفاة: الصخرة الملساء. والنبع: لا نار له، يريد أنه موفق في كل أمر.

والمرخ والعفار: شجر تسرع فيه النار، ومن أمثالهم: " في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار " : واستمجد: استكثر، يقال : أمجدته سبا وأمجدته ذما، إذا أكثرت من ذلك، ومن أمثالهم : " أرخ يديك واسترخ، إن الزناد من مرخ " .
ويقال : رجل ذو شغب إذا كان يشغب على خصمه، ضربه مثلاً للزمان الذي يهر على أربابه، أي يمسهم بالفقر والجدب .

لعبد الله بن معاوية يعاتب صديقه
وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففاً ... فكشفه التمحيص حتى بدا ليا
أأنت أخي ما لم تكن حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخا ليا
فلا زاد ما بيني وبينك بعدما ... بلوتك في الحاجات إلا تماديا
فلست براء عيب ذي الود كله ... ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا
فعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
كلانا غني عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا
قوله: "كان شيئاً ملففاً" يقول: كان أمراً مغطى. والتمحيص: الاختبار، يقال أدخلت الذهب في النار فمحصته أي خرج عنه ما لم يكن منه، وخلص الذهب، قال الله عز وجل: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} 1 ويقال: محص فلان من ذنوبه.
وقوله:
"أأنت أخي ما لم تكن لي حاجة"
تقرير وليس باستفهام، ولكن معناه: أني قد بلوتك تظهر الإخاء فإذا بدت الحاجة لم أر من إخائك شيئاً وقال الله عز وجل: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2 إنما هو توبيخ وليس باستفهام. وهو رجل وعز العالم بأن عيسى لم يقله. وقد ذكرنا التقرير الواقع، بلفظ الاستفهام في موضعه من الكتاب "المقتضب "مستقصى، ونذكر منه جملة في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ـــــــ
1 سورة آل عمران 141.
2 سورة المائدة 116.

لعلي بن أبي طالب في الشجاع
وقال علي بن أبي طالب رحمه الله: ثلاثة لايعرفون إلا في ثلاث،لا يعرف الشجاع إلا في الحرب، ولا الحليم إلا عند الغضب، ولا الصديق إلا عند الحاجة .

لعبد الله بن معاوية يمدح
وقال عبد الله بن معاوية1 أيضاٌ:
أنى يكون أخاٌ أو ذا محافظة ... من كنت في غيبه مستشعراٌ وجلا
إذا تغيب لم تبرح تظن به ... سوءاٌ وتسأل عما قال أو فعلا
ـــــــ
1 زيادات ر: "ذكر دعبل في أخبار الشعراء أن هذا الشعر لعبد الله بن الزبير الأسدى".

لعبد الله بن الزبير الأسدي يمدح عمرو بن عثمان بن عفان
وقال آخر1:
سأشكر عمراٌ ما تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت
ـــــــ
1 نسب هذه الأبيات أبو الفرج الأصفهانى إلى عبد الله بن الزبير الأسدى يقولها في عمرو بن عثمان بن عفان حينما أتاه فرأى تحت ثيابه ثوبا رثا، فدعا وكيله، قال: اقترض لنا مالا، فقال: هيهات مايعطينا التجار شيئا، قال: فأربحهم ماشاءوا فاقترض له أولا ثمانية آلاف درهم وثانيا عشرة آلاف، ووجه بها إليه مع تخت ثيابه، فقال فيه الأبيات. "الأغانى 23:13".

ما تمثل به علي بن أبي طالب من الشعر حينما رأى طلحة في القتلى
وتمثل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في طلحة بن عبيد الله رحمه الله:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر1
فتى لا يعد المال ربا ولاترى ... به جفوة إن نال مالاً ولا كبر
فتى كان يعطي السيف في الروع حقه ... إذا ثوب الداعي، وتشفى به الجزر
وهون وجدي أنني سوف أغتدي ... على إثره يوماً وإن نفس العمر
قال أبو الحسن: بعضهم يقول هو للأبيرد الرياحي، وبعد البيت الثالث:
فلا يبعدنك الله، إما تركتنا ... حميداً وأودى بعدك المجد والفخر
ـــــــ
1 من أبيات لسلمة بن يزيد الجعفى، أحد الصحابة، يقولها في رثاء أخية قيس بن زيد؛ وقبله:
ألم تعلمى أن لست ماعشت لاقيا ... أخى إذ أتى من دون أوصاله القبر
وهون وجدى أننى سوف أغتدى ... على إثراه يوما وإن نفس الأمر
"وانظر الإصابة 120:3".

كلمة علي بن أبي طالب في طلحة حينما رآه مقتولا
ً
قال أبو العباس: وحدثني التوزي قال: حدثني محمد بن عباد بن حبيب بن المهلب -أحسبه عن ابيه- قال: لما انقضى يوم الجمل خرج علي بن أبي طالب رحه الله ذلك اليوم ومعه قنبرٌ بيده1 مشعلة من النار يتصفح القتلى حتى وقف على رجل - قال التوزي فقلت: أهو طلحة2? قال نعم - فلما وقف عليه قال: أعزز علي أبا محمد أن اراك معفراً تحت نجوم السماء وفي بطون الأودية! شفيت نفسي وقتلت معشري إلى الله أشكو عجري وبجري!
قوله معفراً أي ملصق الوجه بالتراب، ويقال للتراب: العفر والعفر يقال: ما مشى على عفر التراب مثل فلان.
وقوله: "إلى الله أشكو عجري وبجري"، يقول: ما أسر من أمري. قال الأصمعي: هو3 قول سائرٌ. في أمثال العرب: "لقي فلانٌ فلاناً فأبثه عجره وبجره".
ـــــــ
1 ر: "وفى يده".
2 أبو محمد كنية طلحة بن عبيد الله التميمي، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى رمى يوم الجمل بسهم في ركبته، فمازال الدم يسيح حتى مات وذلك في جمادى الأولى سنة 36، "الإصابة 290:3".
3 ر، س: "وهو".

مما قيل في الشباب والهرم
وقال النمر بن تولب1:
تدارك ما قبل الشباب وبعده ... حوادث أيام تمر وأغفل
يسر الفتى طول السلامة والبقا ... فكيف يرى طول السلامة يفعل
يرد الفتى اعتدال وصحةٍ ... بنوء إذا رام القيام ويحمل
قصر "البقاء" ضرورة، وللشاعر إذا اضطر أن يقصر المدود، وليس له أن يمد المقصور، وذلك أن الممدود قبل آخره ألف زائدة، فإذا احتاج حذفها لأنها ألف زائدة، فإذا حذفها رد الشيء إلى أصله، ولو مد المقصور لكان زائداً في الشيء ما ليس منه، قال الشاعر وهو يزيد بن عمرو بن الصعق:
فرغتم لتمرين السياط وأنتم ... يشن عليكم بالفنا كل مربع2
فقصر" الفناء" وهو ممدود. وقال الطرماح:
وأخرج أمه لسواس سلمى ... لمعفور الضرا ضرم الجنين
قوله: "وأخرج"، يعني رماداً، والأخرج الذي في لونه سواد وبياض، يقال: نعامة خرجاء.
وقوله: "لسواس سلمى"، فإن أجأ وسلمى جبلاً طيئ، وسواس سلمى: الموضع الذي بحضرة سلمى، يقال: هذا من سواس فلان ومن توس فلان: أي من طبعه. وأمه: يعني الشجرة التي هي أصله.
وقوله" لمعفور الضرا": فالضراء: ما واراك من شجرة خاصةً، والخمر ما واراك من شيء. والمعفور: يعني ما سقط من النار من الزند.
ـــــــ
1 زيادات ر: "كل نمر في العرب كالنمر بن قاسط وغيره مكسور النون مجزوم الميم إلا النمر بن تولب. عن ابن دريد، قال أبو حاتم: يقال: النمر، بفتح النون وتسكين الميم، ولايقال: النمر، بفتح النون وكسر الميم".
2 قال المرصفى: "يهجونى بنى أسد، وتمرين السياط: دلكها وتليينها بالدهان، يرميهم بأنهم أذلاء لا يصقلون السيوف ولا يشحذون الأسنة ولا يبرون النبال. وكل مربع: يريد في كل موضع أقمتم فيه زمن الربيع".

وقوله: "ضرم الجنين" يقول مشتعلٌ، والجنين: ما لم يظهر بعد، يقال للقبر جنن، والجنين: الذي في بطن أمه، والمجن: الترس لأنه يستر، والمجنون: المغطى العقل، وسمي الجن جناً لاختفائهم، وتسمى الدروع الجنن لأنها تستر من كان فيها. وقصر "الضراء" وهو ممدود، ومثل هذا كثير في الشعر جداً.
وقوله: "ينوء إذا رام القيام"، يقول: ينهض في تثاقلٍ، قال الله عز وجل: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} 1 والمعنى أن العصبة تنوء بالمفاتح، ولشرح هذا موضع آخر.
وقال آخر2:
أنوء ثلاثاً بعدهن قيامي
ويروى عن رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كفى بالسلامة داءً". وقال حميد بن ثور الهلالي:
أرى بصري قد رابني بعد صحةٍ ... وحسبك داءً أن تصح وتسلما
ولا يلبث العصران يومٌ وليلةٌ ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
وقال أبو حية النميري:
ألا حي من أجل الحبيب المغانيا ... لبسن البلى مما لبسن اللياليا
إذا ما تقاضى المرء يومٌ وليلةٌ ... تقاضاه شيءٌ لا يمل التقاضيا
وقال بعض شعراء الجاهلية3:
كانت قناتي لا تلين لغامر ... فألانها الإصباح والإمساء
ودعوت ربي في السلامة جاهداً ... ليصحني، فإذا السلامة داء
ـــــــ
1 سورة القصص 76.
2 زيادات ر: "العمر بن قميئة". وقبله:
على الراحتين مرة وعلى العصا
3 البيتان في زهر الآداب 223، ونسبهما إلى عمرو بن قميئة، وهما في العقد الفريد 58:3، وعيون الأخبار 322:2 من غير عزو. ونسبهما المرصفى إلى عبد الرحمن بن سويد المرى.

وقال عنترة بن شداد:
فما أوهى مراس الحرب ركني ... ولكن ما تقادم من زماني
ومن أمثال العرب إذا طال عمر الرجل أن يقولوا: "لقد أكل الدهر عليه وشرب"، إنما يريدون أنه أكل هو وشرب دهراً طويلاً، قال الجعدي:
أكل الدهر عليهم وشرب1
والعرب تقول: نهارك صائم، وليلك قائم، أي أنت قائم في هذا وصائم في ذاك،كما قال الله عز وجل: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} 2 والمعنى والله أعلم، بل مكركم في الليل والنهار، وقال جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت، وما ليل المطي بنائم
ـــــــ
1 صدره كما في زيادات ر:
كم رأينا من أناس هلكوا
2 سورة سبأ 33.

للفرزدق يرثي ابني مسمع
وقال الفرزدق:
تبكي على المنتوف بكر بن وائلٍ ... وتنهى عن ابني مسمع من بكاهما!1
غلامان شبا في الحروب وأدركا ... كرام المساعي قبل وصل لحاهما
وابنا مسمع كان قتلهما معاوية بن يزيد بن الملهب مع عدي بن أرطاة2 لما أتاه خبر قتل أبيه، وكان ابنا مسمع ممن خالف على يزيد بن الملهب. والمنتوف كان
ـــــــ
1 تبكى: تحمل الناس على البكاء.
2 عدى بن أرطأة الفزارى، والى البصرة ليزيد بن عبد الملك، وكان يزيد امره أن يتحرز من يزيد بن المهلب ويحبس أهله. وبلغ ابن المهلب ذلك، فلحق بالبصرة، وتغلب عليها، ودعا إلى نفسه، ويلغ يزيد بن عبد الملك، وقد اخرج أهله من السجن، وأسر اثنين وثلاثين رجلا، منهم عدى بن أرطاة وابنه محمد وابنا مسمع وربيع بن زياد الأزدى، ومال بهم إلى واسط، فوجه إليه يزيد أخاه مسلمة بجيش كثيف، فخرج له ابن المهلب، واستخلف ابنه معاوية على الخزائن والأسرى، فلما قتل أبيه ضرب أعناق الأسرى جميعا غير ربيع بن زياد، وكان ذلك سنة 132، "وانظر رغبة الآمل".

مولى لبني قيس بن ثعلبة بن عكابة. وابنا مسمع من بني قيس بن ثعلبة، وكان المنتوف كالخليفة ليزيد بن الملهب، وفي ذلك يقول جرير:
والأزد قد جعلوا المنتوف قائدهم ... فقتلتهم جنود الله وانتتفوا
وتمام شعر الفرزدق:
ولو قتلا من جذم بكر بن وائل ... لكان على الناعي شديداً بكاهما1
ولو كان حياً مالكٌ وابن مالكٍ ... إذا أوقدا نارين يعلو سناهما2
السنا: ضوء النار، وهو مقصور، قال الله عز وجل: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 3 والسناء من الشرف، ممدود، قال حسان بن ثابت:
وإنك خير عثمان بن عمرٍو ... وأسناها إذا ذكر السناء
والبكاء يمد ويقصر، فمن مد فإنما جعله كسائر الأصوات، ولايكون المصدر في معنى الصوت مضموم الأول إلا ممدوداً، لأنه يكون على "فعالٍ" وقلما يكون المصدر على "فعلٍ"، وقد جاء في حروف: نحو: الهدى والسرى وما أشبهه، وهو يسير، فأما الممدود فنحو: العواء، والدعاء. والرغاء، والثغاء، فكذلك البكاء، ونظيره من الصحيح الصراخ والنباح، ومن قصر فإنما جعل البكاء كالحزن، وقد قال حسان، فقصر ومد:
بكت عيني وحق لها بكاها ... وما يغنى البكاء ولا العويل!
ـــــــ
1 الجذم: الأصل، قال المرصفى: "هذه رواية منكرة؛ لأنها تنفى نسبهما عن بكر بن وائل، ورواية ديوانه:
ولو أصبحا من غير بكر بن وائل ... لكان على الجانى ثقيل دماهما
2 مالك أبو مسمع وابن مالك هو مسمع بن مالك بن مسمع بن شيبان بن شهاب البكرى.
3 سورة النور 43.

لجرير يرثي ابنه سوادة
وقال جرير:
قالوا نصيبك من أجرٍ فقلت لهم ... كيف العزاء وقد فارقت أشبالي1
ـــــــ
1 زيادات ر: "نصيبك" بالنصب لا غير؛ لأنه مفعول بإضمار فعل تقديره احفظ نصيبك، أو احرز نصيبك".

هذا سوادة يجلو مقلتي لحمٍ ... بازٍ يصرصر فوق المرقب العالي
فارقته حين غض الدهر من بصري ... وحين صرت كعظم الرمة البالي
قوله: "يجلو مقلتي لحم" ، شبه مقلتيه بمقلتي البازي، ويقال: "طائر لحم" من هذا. وقوله: "يصرصر" يعني يصوت، يقال: صرصر البازي والصقر، وما كان من سباع الطير، ويقال: صرصر العصفور: وأحسبه مستعاراً. لأن الأصل فيه أن يستعمل في الجوارح من الطير، قال جرير:
بازٍ يصرصر بالسهبى قطاً جونا 1
وقال آخر:
كما صرصر العصفور في الرطب الثعد2
وأنشدني عمارة: "باز يصعصع" وهو أصح قال أبو الحسن: "يصعصع" وهو الصواب، ولكن هكذا وقع في كتابه. ويصرصر لايتعدى.
قال أبو العباس: وقوله: "كعظم الرمة "فهي البالية الذاهبة، والرميم: مشتق من الرمة، وإنما هو فعيلٌ وفعلةٌ، وليس بجمع له واحد.
ومما كفرت به الفقهاء الحجاج بن يوسف قوله: والناس يطوفون بقبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنبره وإن شئت قلت: "يطيفون" ، قال أبو زيد: تقول العرب: طفت وأطفت به، ودرت وأدرت به، ويقال: حدق وأحدق: قال الأخطل:
المنعمون بنو حربٍ وقد حدقت ... بي المنية واستبطأت أنصاري
إنما يطوفون بأعوادٍ ورمةٍ.
ومن أمثال العرب: "لولا أن تضيع الفتيان الذمة، لخبرتها بما تجد الإبل في الرمة" .، يقول: لولا أن تدع الأحداث التمسك بالوفاء، والرعاية للحرمة لأعلمتها أن الإبل تتناول العظم البالي، وهو أقل الأشياء فتجد له لذة.
ـــــــ
1 يصف الإبل وهي تسير في الفلوات والسهبى: موضع في بنى تميم. وقبله:
كأن حاديها لما أضر بها
2 الثعد: وواحدته ثعدة، وهو ما لان من البسر وأرطب.

ومثل بيت جرير الأخير قول أبي الشغب يرثي ابنه شغباً:
قد كان شغبٌ لو ان الله عمره ... عزاً تزداد به في عزها مضر
ليت الجبال تداعت قبل مصرعه ... دكاً فلم يبق من أحجارها حجر
فارقت شغباً وقد قوست من كبرٍ ... بئس الحليفان: طول الحزن والكبر
قوله: "قوست "يقول: انحنيت كالقوس، قال امرؤ القيس:
أراهن لايحببن من قل ماله ... ولا من رأيت الشيب فيه، وقوسا

لسليمان بن قتة يرثي الحسين بن علي
وقال سليمان بن قتة يرثي الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام:
مررت على أبيات آل محمدٍ ... فلم أرها كعهدها يوم حلت
فلا يبعد الله الديار وأهلها ... وإن أصبحت من أهلها قد تخلت
وكانوا رجاءً ثم صاروا رزيةً ... فقد عظمت تلك الرزايا وجلت1
وإن قتيل الطف من آل هاشمٍ ... أذل رقاب المسلمين فذلت2
وعند غني قطرةٌ من دمائنا ... سنجزيهم يوماً بها حيث حلت3
إذا افتقرت قيس جبرنا فقيرها ... وتقتلنا قيسٌ إذا النعل زلت
وسليمان بن قتة4 رجل من بني تميم بن مرة بن كعب بن لؤي، وكان منقطعاً إلى بني هاشمٍ
ـــــــ
1 جاء هذا البيت في ر، س بعد البيت الذي يليه.
2 الطف: موضع قريب من الكوفة، قتل فيه الحسين عليه السلام.
3 غنى: قبيله في قيس.
4 هو سليمان بن قتة المحاربى التابعي، وقتة أمه.

للفرزدق يرثي ابنيه
وقال الفرزدق يرثي ابنيه:
بفي الشامتين الترب أن كان مسني ... رزية شبلي مخدرٍ في الضراغم1
وما أحدٌ كان المنايا وراءه ... ولو عاش أياماً طوالا بسالم
أرى كل حي ما تزال طليعةً ... عليه المنايا من ثنايا المخارم
ـــــــ
1 المخدر في الأصل: الأسد الذي يلزم خدره، وهوهنا كناية عن نفسه.

يذكرني ابني السماكان موهناً ... إذا ارتفعا فوق النجوم العواتم
وقد رزىء الأقوام قبلي بنيهم ... وإخوانهم، فاقني حياء الكرائم
ومات أبي والمنذران كلاهما ... وعمرو بن كلثوم شهاب الأراقم
وقد كان مات الأقرعان وحاجب ... وعمرو أبو عمرو، وقيس بن عاصم
وقد مات بسطام بن قيس بن خالدٍ ... ومات أبو غسان شيخ اللهازم
وقد مات خيراهم فلم يهلكاهم ... عشية بانا رهط كعب وحاتم
فما ابناك إلا من بني الناس فاصبري ... فلن يرجع الموتى حنين المآتم
قال:وأنشدني التوزي عن أبي زيد: " خنين المآتم " بالخاء معجمة قوله: " ما تزال طليعة " يريد طالعةً، والثنايا جمع ثنيةٍ، وهي الطريق في الجبل، من ذلك:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
والمخارم: جمع مخرمٍ، وهو منقطع أنف الجبل. وقوله: " فوق النجوم العواتم " ، يعني المتأخرة، يقال: فلان يأتينا ولا يعتم: أي لايتأخر، وعتمة اسم للوقت، فلذلك سميت الصلاة بذلك الوقت، وكل صلاة مضافة إلى وقتها، تقول: صلاة الغداة، وصلاة الظهر، وصلاة العصر.وما قولك: الصلاة الأولى، فالأولى نعت لها إذا كانت أول ما صلي، وقيل أول ما أظهر.
وقوله: " فاقني حياء الكرائم " يقول: فالزمي، وأصل القنية المال اللازم، يقال: اقتنى فلان مالاً إذا اتخذ أصل مالٍ، وقيل في قول الله عز وجل: " وأنه هو أغنى وأقنى " ، النجم: 48 . أي جعل لهم أصل مال، وأنشد أبو عبيدة:
لو كان للدهر عز يطمئن به ... لكن للدهر صخر مال قنيان
والكرائم: جمع كريمة، والاسم من " فعيلة " والنعت يجمعان على " فعائل " ، فالاسم نحو: صحيفة وصحائف، وسفينة وسفائن، والنعت نحو: عقيلة وعقائل، وكريمة وكرائم.
وقوله: " ومات أبي " يريد التأسي بالأشراف. وأبوه غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع، وكان أبوه شريفاً، وأجداده إلى حيث إنتهوا، ولكل واحد منهم قصة يطول الكتاب بذكرها. والمنذران: المنذر بن المنذر بن ماء السماء اللخمي، يريد الابن والأب، وعمرو بن كلثوم التغلبي، قاتل عمرو بن هند، وكان أحد أشراف العرب وفتاكهم وشعرائهم. والأراقم: قبيلة من بني تغلب ابنة وائل، من بني جشم بن بكر. وزعم أهل العلم أنهم إنما سموا الأراقم لأن عيونهم شبهت بعيون الحيات، والأراقم: واحدها أرقم، فكانوا معروفين بهذا. قال الفرزدق يرد على جرير في هجائه له وللأخطل:
إن الأراقم لن ينال قديمها ... كلب عوى متهتم الأسنان
وجعله شهاباً لهم لنوره وبهائه وضيائه، تقول العرب: إنما فلان نجم أهله وكذلك قالت الخنساء:
كأنه علم في رأسه نار
والأقرعان: الأقرع بن حابس، وابنه الأقرع من بني مجاشع بن دارم، وكان الأقرع في صدر الإسلام سيد خندف، وكان محله فيها محل عيينة بن حصن في قيس. وحاجب بن زرارة بن عدس سيد بني تميم في الجاهلية غير مدافع. وعمرو أبو عمرو بن عدس، وكان شريفاً، وكان ابنه عمرو شريفاً، قتل يوم جبلة، قتلته بنو عامر بن صعصعة، وقتلوا لقيط بن زرارة وكان الذي ولي قتله عمارة الوهاب العبسي، وينسب إلى بني عامر، لأن بني عبس كانوا فيهم مع قيس بن زهير، وعمارة هذا كان يقال له: " دالق " ، وقتله شرحاف الضبي، ولذلك يقول الفرزدق:
وهن بشرحاف تداركن دالقاً ... عمارة عبس بعدما جنح العصر
وزعم أبو عبيدة أن فاطمة بنت الخرشب الأنمارية أريت في منامها قائلاً يقول: أعشرة هدرة أحب إليك أم ثلاثة كعشرة هدرة بالدال غير معجمة، قال أبو الحسن: هم السقاط من الناس فلم تقل شيئاً، فعادلها في الليلة الثانية فلم تقل شيئاً، ثم قصت ذلك على زوجها فقال: إن عاد لك الثالثة فقولي: ثلاثة كعشرة وزوجها زياد بن عبد الله بن ناشب العبسي، فلما عاد لها قالت: ثلاثة كعشرة، فولدتهم كلهم غاية، ولدت ربيع الحفاظ، وعمارة الوهاب، وأنس الفوارس، وهي إحدى المنجبات من العرب.
وأسرو حاجباً . فذلك حيث يقول جرير يعير الفرزدق ويعلمه فخر قيس عليه:
تحضض يا ابن القين قيساً ليجعلوا ... لقومك يوماً مثل يوم الأراقم

كأنك لم تشهد لقيطاً وحاجباً ... وعمرو بن عمرو إذ دعوا: يال دارم
ولم تشهد الجونين والشعب ذا الصفا ... وشدات قيس يوم دير الجماجم
الجونان: معاوية وحسان ابنا الجون الكنديان، أسرا في ذلك اليوم، فقتل حسان، وفودي معاوية بسبب يطول ذكره. والشعب: شعب جبلة.
وقوله:
وشدات قيس يوم دير الجماجم
هذا في الإسلام، يعني وقعة الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي بدير الجماجم.
وقوله:
وقد مات بسطام بن قيس بن خالد
يعني الشيباني، وهو فارس بكر بن وائل وابن سيدها، وقتل بالحسن وهو جبل قتله عاصم بن خليفة الضبي، وكان عاصم بن خليفة أسلم في أيام عثمان رحمه الله، فكان يقف ببابه فيستأذن عليه، فيقول عاصم بن خليفة الضبي: قاتل بسطام بن قيس بالباب قال أبو الحسن: الوجه عندي في " بسطام " ألا ينصرف لأنه أعجمي وكان سبب قتله إياه أن بسطاماً أغار على بني ضبة، وكان معه حاز يحزو له قال أبو الحسن: " حاز " بالزاي أي زاجر فقال له بسطام: إني سمعت قائلاً يقول:
الدلو تأتي الغرب المزله
فقال الحازي: فهلا قلت:
ثم تعود بادناً مبتله
قال: ما قلت فاكتسح إبلهم، فتنادوا واتبعوه، ونظرت أم عاصم إليه، وهو يقع حديدة له أي يحدها، والميقعة: المطرقة فقالت له: ما تصنع بهذه وكان عاصم مضعوفاً فقال لها: أقتل بها بسطام بن قيس، فنهرته، وقالت: است أمك أضيق من ذلك فنظر إلى فرس لعمه موثقةٍ إلى شجرة فاعروراها أي ركبها عرياً ثم أقبل بها كالريح، فنظر بسطام إلى الخيل قد لحقته، فجعل يطعن الإبل في أعجازها، فصاحت به بنو ضبة: يا بسطام، ما هذا السفه دعها، إما لنا وإما لك، وانحط عليه عاصم، فطعنه فرمى به على الألاءة وهي شجرة ليست بعظيمة، وكان بسطام نصرانياً، وكان مقتله بعد مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأراد أخوه الرجوع إلى القوم، فصاح به بسطام : أنا حنيف إن رجعت، ففي ذلك يقول ابن غنمة الضبي وكان في بني شيبان:
فخر على الألاءه لم يوسد ... كأن جبينه سيف صقيل
ولما قتل بسطام لم يبق في بكر بن وائل بيت إلا هجم أي هدم.
وقوله:
ومات أبو غسان شيخ اللهازم
يعني مالك بن مسمع بن شيبان بن شهاب، أحد بني قيس بن ثعلبة، وإليه تنسب المسامعة. وكان سيد بكر بن وائل في الإسلام، وهو الذي قال لعبيد الله بن زياد بن ظبيان، أحد بني تيم اللآت بن ثعلبة وكان حين حدث أمر مسعود بن عمرو المعني من الأزد فلم يعلمه به، فقال له عبيد الله وهو أحد فتاك العرب، وهو قابل مصعب بن الزبير: أيكون مثل هذا الحدث ولا تعلمني به لهممت أن أضرم دارك عليك ناراً فقال له مالك: اسكت أبا مطر، فوالله إن في كنانتي سهم أنا أوثق به مني بك، فقال له عبيد الله: أو أنا في كنانتك فوالله لو قمت فيها لطلتها، ولو قعدت فيها لخرقتها، فقال له مالك وأعجبه ما سمع منه: أكثر الله في العشيرة مثلك قال: لقد سألت ربك شططاً وفي مالك بن مسمع يقال:
إذا ما خشينا من أمير ظلامة ... دعونا أبا غسان يوماً فعسكراً
قوله: " وقد مات خيراهم " ، تثنية كقولك: مات أحمراهم، ولم يخرج مخرج النعت، ألا ترى أنك تقول: هذا أحمر القوم إذا أردت: هذا الأحمر الذي للقوم، فإذا أردت الذي يفضلهم في باب الحمرة قلت: هذا أشدهم حمرة، ولم تقل: هذا أحمرهم، وكذلك خيراهم، وإنما أردت هذا خيرهم ثم ثنيت، أي هذا الخير الذي هو فيهم.
وقوله: " عشية بانا " ، مردود على قوله: " خيراهم " .
وقوله: " رهط كعب وحاتم " ، إنما خفضت " رهطاً " لأنه بدل من " هم " التي أضفت إليها " الخيرين " والتقدير: وقد مات خيراً رهط كعب وحاتم، فلم يهلكاهم عشية بانا.

فأما كعب، فهو كعب بن مامة الإيادي، وكان وكان أحد أجواد العرب الذي آثر على نفسه،وكان مسافراً ورفيقه رجل من النمر بن قاسط فقل عليهما الماء فتصافناه والتصافن: أن يطرح في الإناء حجرٌ ثم يصب فيه من الماء ما يغمره لئلا يتغابنوا: وكذلك كل شيء وقف على كيله أو وزنه، والأصل ما ذكرنا فجعل النمري يشرب نصيبه، فإذا أخذ كعب نصيبه قال: اسق أخاك النمري، فيؤثره حتى جهد كعبٌ، ورفعت له أعلام الماء، فقيل له: رد كعب ولا ورود به، فمات عطشاً، ففي ذلك يقول أبو دؤاد الإيادي:
أوفى على الماء كعبٌ ثم قيل له ... رد كعب إنك ورادٌ فما وردا
فضرب به المثل، فقال جرير في كلمته التي مدح فيها عمر بن عبد العزيز:
يعود الفضل منك على قريشٍ ... وتفرج عنهم الكرب الشدادا
وقد أمنت وحشهم برفقٍ ... ويعيي الناس وحشك أن تصادا
وتبني المجد يا عمر ابن ليلى ... وتكفي الممحل السنة الجمادا
وتدعوا الله مجتهداً ليرضى ... وتذكر في رعيتك المعادا
وما كعب ابن مامة وابن سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا
تعود صالح الأخلاق إني ... رأيت المرء يلزم ما استعادا
هذا كعب ابن مامة الذي ذكرناه.
وأما ابن سعدى، فهو أوس بن حارثة بن لأم الطائي، وكان سيداً مقدماً، فوفد هو وحاتم بن عبد الله الطائي على عمرو ابن هند، وأبوه المنذر بن المنذر بن ماء السماء، فدعا أوساً فقال له: أأنت أفضل أم حاتم؟ فقال أبيت اللعن لو ملكني حاتم وولدي ولحمتي لوهبنا في غداةٍ واحدةٍ. ثم دعا حاتماً فقال له: أنت أفضل أم أوسٌ؟ فقال أبيت اللعن إنما ذكرت بأوسٍ، ولأحد ولده أفضل مني.
وكان النعمان بن المنذر دعا بحلة وعنده وفود العرب من كل حي فقال: احضروا في غد، فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم، فحضر القوم جميعاً إلا أوساً، فقيل له: لم تتخلف فقال إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء ألا أكون حاضراً، وإن كنت أنا المراد فسأطلب ويعرف مكاني.فلما جلس النعمان لم ير أوساً، فقال اذهبوا إلى أوس فقولوا له: احضر آمناً مما خفت، فحضر فألبس الحلة، فحسده قوم من أهله، فقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلاثمائة ناقة، فقال الحطيئة: كيف أهجو رجلاً في بيتي أثاثاً ولا مالاً إلا من عنده ثم قال:
كيف الهجاء وما تنفك صالحةٌ ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
فقال لهم بشر بن أبي خازم، أحد بني أسد بن خزيمة : أنا أهجو لكم، فأخذ الإبل وفعل، فأغار أوس على الإبل فاكتسحتها، فجعل لا يستجير حياً إلا قال: قد أجرتك إلا من أوس. وكان في هجائه إياه قد ذكر أمه، فأتى به، فدخل أوس على أمه فقال: قد أتينا ببشرٍ الهاجي لك ولي، فما ترين فيه؟ فقالت له: أو تطيعني فيه؟ قال نعم، قالت: أرى أن ترد عليه ماله، وتعفو عنه وتحبوه، وافعل مثل ذلك، فإنه لا يغسل هجاءه إلا مدحه.
فخرج إليه فقال: إن أمي سعدى التي كنت تهجوها قد أمرت فيك بكذا وكذا فقال: لا جرم والله لا مدحت أحداً حتى أموت غيرك. ففيه يقول:
إلى أوس بن حارثة بن لأمٍ ... ليقضي حاجتي فيمن قضاها
وما وطئ الثرى مثل ابن سعدى ... ولا لبس النعال ولا احتذاها
وأما حاتمٌ الذي ذكره الفرزدق، فهو حاتم بن عبد الله الطائي، جواد العرب، وقد كان الفرزدق صافن رجلاً من بني العنبر بن عمرو بن تميم إدواة في وقتٍ، فرامه العنبري وسلمه أن يؤثره وكان الفرزدق جوادا فلم تطب نفسه عن نفسه، فقال الفرزدق:
فلما تصافنا الإداوة أجهشت ... إلي غضون العنبري الجراضم
فجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليشرب ماء القوم بين الصرائم
على ساعةٍ لو أن في القوم حاتماً ... على جوده ضنت به نفس حاتم
أما قوله: " أجهشت " فهو التسرع، وما تراه في فحواه من مقاربة الشيء، يقال: أجهش بالبكاء. والغضون: التكسر قي الجلد، والجراضم: الأحمر الممتلئ.
وقوله:
ليشرب ماء القوم بين الصرائم
فهي جمع صريمةٍ، وهي الرملة التي تنقطع من معظم الرمل، وقوله: " صريمة " يريد مصرومة، والصرم: القطع، وأتشد الأصمعي:
فبات يقول أصبح ليل حتى ... تجلى على صريمته الظلام

يعني ثوراً، وصريمته: رملته التي هو فيها. وقال المفسرون في قول الله عز وجل: " فأصبحت كالصريم " القلم 20 قولين، قال قوم: كالليل المظلم، وقال قوم: كالنهار المضيء، أي بيضاء لا شيء فيها، فهو من الأضداد. ويقال: لك سواد الأرض وبياضها، أي عامرها وغامرها، فهذا ما يحتج به لأصحاب القول الأخير، ويحتج لأصحاب القول الأول في السواد بقول الله تبارك وتعالى : " فجعله غثاءً أحوى " الأعلى 5، وإنما سمي السواد سواداً لعمارته، وكل خضرةٍ عند العرب سواد، ويروى:
على ساعةٍ لوأن في القوم حاتماً ... على جوده ما جاد بالماء حاتم
جعل " حاتما " تبيناً للهاء في جوده، وهو الذي يسميه البصريون البدل، أراد: على جود حاتمٍ

باب

نبذ من أقوال الحكماء
قال أبو العباس: كان يقال: إذا رغبت في المكارم فاجتنب المحارم.
وكان يقال: أنعم الناس عيشاً من عاش غيره في عيشه.
وقيل في المثل السائر: من كان في وطن فليوطن غيره وطنه، ليرتع في وطن غيره في غربته.
قال: وأنتبه معاوية من رقدةٍ له، فأنبه عمرو بن العاص، فقال له عمرو: ما بقي من لذتك1? قال: عينٌ خرارة في أرض خوارة2، وعينٌ ساهرة لعينٌ نائمة، فما بقي من لذتك يا أبا عبد الله? قال: أن أبيت معرساً بعقيلة من عقائل العرب. ثم نبها وردان3، فقال له معاوية: ما بقي من لذتك? فقال: الإفضال على الإخوان، فقال له معاوية: اسكت، أنا4 أحق بها منك، قال5: قد أمكنك فافعل.
ويروى أن عمراً لما سئل قال: أن أستتم بناء مدينتي بمصر، وأن وردان لما سئل قال: أن ألقى كريماً قادراً في عقب إحسانٍ كان مني إليه، وأن معاوية سئل عن الباقي من لذته فقال: محادثة الرجال.
ويروى عن عبد الملك أنه قال: وقد سئل عن الباقي من لذته فقال: محادثة الإخوان في الليالي القمر6 على الكثبان العفر7.
وقال سليمان بن عبد الملك: قد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وركبنا الفاره8، وأمتطينا العذراء، فلم يبق من لذتي إلا صديق أطرح بيني وبينه مؤونة التحفظ.
ـــــــ
1 كذا في الأصل، س. وفي ر: "مابقى من لذتك يا أمير المؤمنين".
2 عين خرارة: جارية. خوارة: سهلة لينة.
3 وردان: مولى عمرو بن العاص.
4 ر: "فأنا".
5 ر: "فقال له".
6 قمر: جمع قمراء، وهي الليلة التي يغمرها ضوء القمر.
7 العفر: جمع أعفر، وهو اللون الأحمر.
8 الفاره: النشيط من الدواب.

وقال رجل لرجل من قريش: إني والله ما أمل الحديث، قال: أيمل العتيق1.
وقال المهلب بن أبي صفرة: العيش كله في الجليس الممتع.
وقال معاوية: الدنيا بحذافيرها الخفض والدعة .
وقال يزيد بن المهلب: ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا كله، قيل له: ولم أيها الأمير? قال: أكره عادة العجز.
ويروى عن بعض الصالحين أنه قال: لو أنزل الله كتاباً أنه معذب رجلاً واحداً لخفت أن أكونه، أو أنه راحمٌ رجلاً واحداً لرجوت أن أكونه، أو أنه معذبي2 لا محالة ما ازددت إلا اجتهاداً لئلا أرجع على نفسي بلائمة .
ـــــــ
1 ر، س:"إنما يمل العتيق"، والعتيق:القديم.
2 ر:"ولو علمت أنه معذبى".

أدب عمر بن عبد العزيز
ويروى أن عمر بن عبد العزيز كان يدخل إليه سالم مولى بني مخزوم وقالوا: بل زياد وكان عمر أراد شراءه وعتقه، فأعتقه مواليه، وكان عمر يسميه: أخي في الله، فكان إذا دخل وعمر في صدر مجلسه تنحى عن الصدر، فيقال له في ذلك فيقول: إذا دخل عليك من لا ترى لك عليه فضلاً فلا تأخذ عليه شرف المجلس.
وهم السراج ليلة بأن يخمد، فوثب إليه رجاء بن حيوة ليصلحه، فأقسم عليه عمر فجلس، ثم قام عمر فأصلحه. فقال له رجاء: أتقوم يا أمير المؤمنين قال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا ترفعوني فوق قدري فتقول في ما قالت النصارى في المسيح، فإن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني رسولاً".
ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في مرضته التي مات فيها، فقال: ألا توصي يا أمير المؤمنين? قال: فيم أوصي? فوالله إن لي من مال، فقال: هذه مائة ألف فمر فيها بما أحببت، فقال: أو تقبل? قال: نعم،قال. ترد على من أخذت منه ظلماً. فبكى مسلمة ثم قال: يرحمك الله لقد ألنت منا قلوباً قاسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكراً .

بر علي بن الحسين بأمه
وقيل لعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمهم الله: إنك من أبر الناس بأمك ولسنا نراك تأكل مع أمك في صحفةٍ، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه فأكون قد عققتها.

لعمر بن ذر في ابنه
وقيل لعمر بن ذر حيث نظر إلى تعزيه عن إبنه كيف كان بره بك? فقال: ما مشيت بنهارٍ قط إلا مشى خلفي، ولا بليلٍ إلا مشى أمامي، ولا رقي سطحاً وأنا تحته.

لأبي المخش في ولده
وقال أبو المخش: كانت لي إبنة تجلس معي على المائدة، فتبرز كفاً كأنها طلعة1، في ذراعٍ كأنها جمارة2، فلا تقع عينها على أكلة نفيسة إلا خصتني بها، فزوجتها، وصار يجلس معي على المائدة ابنٌ لي فيبرز كفاً كأنها كرنافة، في ذراعٍ كأنها كربة، فوالله إن تسبق عيني إلى لقمة طيبة إلاسبقت يده إليها.
وقال الأصمعي: قيل لأبي المخش: أما كان لك ابنٌ? فقال: المخش، وما كان المخش? كان والله أشدق خرطمانياً إذا تكلم سال لعابه، كأنما ينظر من قلتين3، وكأن ترقوته بوان أو خالفة، وكأن مشاش منكبيه كركرة جمل، فقأ الله عيني هاتين إن كنت رأيت بهما أحسن منه قبله ولا بعده.
قوله: "بوان أو خالفة" فهما عمودان من عمد البيت، البوان في مقدمه والخالفة في مؤخره. والكرنافة: طرف الكربة العريض الذي يتصل بالنخلة كأنه كتف.
ـــــــ
1 الطلعة: واحدة الطلع، وهو نور النخلة.
2 الجمارة: شحمة النخلة.
3 مثنى قلت، وهو نقرة مستديرة في أرض صلبة.

حدثني بهذا الحديث العباس بن الفرج الرياشي عن الأصمعي، وحدثني عمن حدثه قال: مر بنا أعرابي ينشد إبناً له، فقلنا: صفه، فقال: دنينير، قلنا لم نره، فلم نلبث أن جاء بجعل على عنقه، فقلنا: لو سألت عن هذا لأرشدناك، ما زال منذ اليوم بين أيدينا.
وأنشد منشد، وأنشدني الرياشي أحد البيتين:
نعم ضجيع الفتى إذا برد الليل ... صحيراً وقرقف الصرد
زينها الله في الفؤاد كما ... زين في عين والدٍ ولد
ـــــــ
1 الزغب: مايبدو من ريش الفرخ.
2 الترجيل: التسريح. واللمة: شعر الرأس الذي يلم بالممنكب.

لأم ثواب الهزانية تصف عقوق ابنها
وقالت أم ثواب الهزانية، من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، تعني ابنها:
ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه ... أم الطعام ترى في ريشه زغبا1
حتى إذا آض كالفحال شذبه ... أباره ونفى عن متنه الكربا
أنشا يخرق أثوابي ويضربني ... أبعد ستين عندي يبتغي الأدبا
إني لأبصر في ترجيل لمته ... وخط لحيته في وجهه عجبا2
قالت له عرسه يوماً لتسمعني: ... رفقاً فإن لنا في أمنا أربا
ولو رأتني في نارٍ مسعرة ... من الجحيم لزادت فوقها حطبا
قوله: "أباره" ، فهو الذي يصلحه، يقال: أبرت النخل وأبرته خفيفة، إذا لقحته.

خبر مالك بن العجلان مع أبي جبيلة
ويرى أن مالك بن العجلان أو غيره من الأنصار كان يتحف أبا جبيلة الملك حيث نزل بهم بتمرٍ من نخلةٍ لهم شريفةٍ، فغاب يوماً، فقال أبو جبيلة: إن

مالكاً كان يقوت علينا جنى هذه النخلة فجدوها، فجاء مالك وقد جدت فقال: من سعى على عذق الملك فجده، فأعلموه أن الملك أمر بذلك، فجاء حتى وقف عليه فقال:
جددت جنى نخلتي ظالماً ... وكان الثمار لمن قد أبر
فلما دخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة أطرفوه بهذا الحديث، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الثمر لمن أبر، إلا أن يشترطه المشتري " .
والفحال فحال النخل: ولا يقال لشيء من الفحول فحال غيره. وأنشدني المازني:
يطفن بفحالٍ كأن ضبابه ... بطون الموالي يوم عيدٍ تغدت
وضبابه: طلعه. وآض: عاد ورجع.
وقولها: " شذبه " تقول: قطع عنه الكرب والعثاكيل وكل مشذب مقطوع ويقال للرجل الطويل النحيف: مشذب يشبه بالجذع المحذوف عنه الكرب وأصل التشذيب القطع وقال الفرزدق:
عضت سيوف تميمٍ حين أغضبها ... رأس ابن عجلى فأضحى رأسه شذباً
أراد: عضت سيوف تميم رأس ابن عجلى حين أغضبها.
وابن عجلى : عبد الله بن خازم السلمي وأمه عجلى وكانت سوداء وهو أحد غرباء العرب في الإسلام.

للمهلب وقد سئل من أشجع الناس?
وسئل المهلب من أشجع الناس فقال: عباد بن حصين، وعمر بن عبيد الله بن معمر، والمغيرة بن المهلب فقيل. فأين ابن الزبير وابن خازم وعمير بن الحباب فقال: إنما سئلت عن الإنس ولم أسأل عن الجن!.

باب

من كلام عائشة
روى شعبة عن واقد بن محمد، عن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد قال: قالت عائشة رضي الله عنها: من أرضى الله بإسخاط الناس كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن أرضى الناس بإسخاط الله وكله الله إلى الناس ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته.

بين الحسن بن زيد والي المدينة وابن هرمة
ويروى أن الحسن بن زيد1 لما ولي المدينة قال لابن هرمة2: إني لست كمن باع لك دينه رجاء مدحك أو خوف ذمك قد أفادني الله بولادة نبيه الممادح، وجنبني المقابح وإن من حقه علي ألا أغضي على تقصير في حقه وأنا أقسم بالله، لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدين: حدا للخمر، وحدا للسكر وأزيدن، لموضع حرمتك بي. فليكن تركها لله تعن عليه ولا تدعها للناس فتوكل إليهم. فنهض ابن هرمة وهو يقول:
نهاني ابن الرسول عن المدام ... وأدبني بآداب الكرام
وقال لي اصطبر عنها ودعها ... لخوف الله لا خوف الأنام
وكيف تصبري عنها وحبي ... لها حب تمكن من عظامي
أرى طيب الحلال علي خبثاً ... وطيب النفس في خبث الحرام
ـــــــ
1 هو الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن ابي طالب، ولى المدينة لأبى جعفر المنصور سنة 150.
2 هو إبراهيم بن هرمة من متقدمى الشعراء ممن أدرك الدولتين: الهاشمية والأموية "وانظر ترجمته ومراجعها في الشعر والشعراء 729-731"

من كلام مطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشي
وقال الحسن لمطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشي: يا مطرف، عظ أصحابك فقال مطرف: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل.
فقال الحسن: يرحمك الله وأينا يفعل ما يقول لود الشيطان أنه ظفر بهذه منكم فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه عن منكر.

وقال مطرف بن عبد الله لابنه: يا عبد الله، العلم أفضل من العمل، والحسنة بين السيئتين وشر السير الحقحقة.
قوله: " الحسنة بين السيئتين " .، يقول: الحق بين فعل المقصر والغالي. ومن كلامهم: خير الأمور أوسطها.
قوله: " وشر السير الحقحقة " وهو أن يستفرغ المسافر جهد ظهره فيقطعه، فيهلك ظهره، ولا يبلغ حاجته. يقال: حقحق السير إذا فعل ذلك . وقال الراجز:
وأنبت فعل السائر المحقحق
وحدثت أن الحسن نفى سابق الحاج وقد أسرع، فجعل يومىء إليه بإصبعه فعل الغازلة وهو يقول: " خرقاء وجدت صوفاً " .
وهذا مثل من أمثال العرب يضربونه للرجل الأحمق الذي يجد مالاً كثيراً فيعيث فيه وشبيه بهذا المثل قوله: " عبد وخلى في يديه " .
ويروى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهراً أبقى " .
قوله: " متين " ، المتين الشديد، قال الله عز وجل: " وأنلى لهم إن كيدى متين " الأعراف: 183.
وقوله: " فأوغل فيه برفق " ، يقول: ادخل فيه، هذا أصل الوغول، ويقال مشتقاً من هذا الرجل الذي يأتي شراب القوم من غير أن يدعى إليه: واغل، ومعناه أنه وغل في القوم وليس منهم، قال امرؤ القيس:
حلت لي الخمر وكنت امرأ ... عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أسقى غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل
والمنبت: مثل المحقحق، واشتقاقه من الانقطاع، يقال: انبت فلان من فلان أي انقطع منه، وبت الله ما بينهم، أي قطع، قال محمد بن نمير:
تواعد للبين الخليط لينبتوا ... وقالوا لراعي الذود: موعدك السبت
وفي النفس حاجات إليهم كثيرة ... وموعدها في السبت لو قد دنا الوقت
ويروى:
ألا قرب الحي الجمال لينبتوا
وحدثت أن ابن السماك كان يقول: إذا فعلت الحسنة فافرح بها واستقللها فإنك إذا استقللتها زدت عليها، وإذا فرحت بها عدت إليها.
ويروى عن أويسٍ القرني أنه قال: إن حقوق الله لم تترك عند مسلم درهماًٍ.

باب

يزيد بن هبيرة ينصح المنصور
ودخل يزيد بن عمر بن هبيرة على أمير المؤمنين المنصور فقال: يا أمير المؤمنين، توسع توسعاً قرشياً، ولا تضق ضيقاً حجازياً.
ويروى أنه دخل عليه يوماً فقال له المنصور: حدثنا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن سلطانكم حديث، وإمارتكم جديدة، فأذيقوا الناس حلاوة عدلها، وجنبوهم مرارة جورها. فوالله ياأمير المؤمنين لقد محضت لك النصيحة.
ثم نهض معه سبعمائة من قيس، فأتأره المنصور بصره، ثم قال: لا يعز ملك يكون فيه مثل هذا.
قوله: "محضت لك النصيحة" يقول: أخلصت لك، وأصل هذا من اللبن، والمحض منه: الخالص الذي لا يشوبه شيء، وأنشد الأصمعي:
امتحضا وسقياني ضيحا ... وقد كفيت صاحبي الميحا1
ـــــــ
1 رواية اللسان عن شمر: "محضر" "إني كفيت" وفي زيادات ر: "الميح: طلب الشىء هاهنا وهاهنا".

ويقال: حسب محض.
وقوله: "أتاره بصره" يقول: أتبعه بصره، وحدد إليه النظر، وأنشد الأصمعي:
مازلت أرمقهم والآل يرفعهم ... حتى اسمدر بطرف العين إتآري1
ـــــــ
1 زيادات ر: "وهو للكميت بن زيد". والبيت في اللسان "تأر" غير منسوب. واسمدر: لم يكد يبصر.

لأسماء بن خارجة في كرم الخلق
ويروى عن أسماء بن خارجة أنه قال: لا أشاتم رجلاً، ولا أرد سائلاً، فإنما هو كريم أسد خلته، أو لئيم أشتري عرضي منه.

للأحنف بن قيس
ويروى عن الأحنف بن قيس أنه قال: وما شاتمت رجلاً، ولا زحمت ركبتاي ركبتيه، وإذا لم أصل مجتدي حتى ينتح جبينه عرقاً كما ينتح الحميت، فو الله ما وصلته.
قوله: "مجتدي" يريد الذي يأتيه يطلب فضله، يقال: اجتده يجتديه، واعتفاه يعتفيه، واعتراه يعتريه، واعتره يعتره، وعراه يعروه: إذا قصده يتعرض لنائله. وأصل ذلك مأخوذ من الجدا مقصور، وهو المطر العام النافع، يقال: أصابتنا مطرة كانت جداً على الأرض، فهذا الاسم، فإذا أردت المصدر، قلت: فلان كثير الجداء، ممدودة، كما تقول: كثير الغناء عنك، ممدودة، هذا المصدر، فإذا أردت الاسم الذي هو خلاف الفقر قلت: الغنى بكسر أوله وقصرت. قال خفاف بن ندبة يمدح أبا بكر الصديق رضي الله عنه:
ليس لشيء غير تقوى جداء ... وكل شيء عمره للفناء
إن أبا بكر هو الغيث إذ ... لم تشمل الأرض سحاب بماء
تالله لا يدرك أيامه ... ذو طرةٍ حاف ولا ذو حذاء
من يسع كي يدرك أيامه ... يجتهد الشد بأرضٍ فضاء

وهذا من طريف الشعر لأنه ممدود فهو بالمد الذي فيه من عروض السريع الأولى، وبيته في العروض:
أزمان سلمى لا يرى مثلها الرا ... ؤون في شام ولا في عراق
ثم نرجع إلى تأويل قول الأحنف.
قوله: " حتى ينتح جبينه عرقاً، فهو مثل الرشح.
وحدثني أبو عثمان المازني في إسناد له ذكره قال: قال رؤبة بن العجاج: خرجت مع أبي نريد سليمان بن عبد الملك، فلما صرنا في الطريق أهدي لنا جنب من لحم عليه كرافىء الشحم، وخريطة من كمأة، ووطب من لبن، فطبخنا هذا بهذا، فما زالت ذفرياي تنتحان منه إلى أن رجعت.
وقوله : " الحميت " ، فالحميت والزق، اسمان له، وإذا زفت أو كان مربوباً الوطب، وإذا لم يكن مربوباً ولا مزفتاً فهو سقاء ونحي، والوطب يكون للبن والسمن، والسقاء يكون للبن والماء. قالت هند بنت عتبة لأبي سفيان بن حرب لما رجع مسلماً من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة في ليلة الفتح، فصاح: يامعشر قريش، ألا إني قد أسلمت فأسلموا، فإن محمداً قد أتاكم بما لا قبل لكم به فأخذت هند برأسه، وقالت : بئس طليعة القوم أنت والله ما خدشت خدشاً، يا أهل مكة، عليكم الحميت الدسم فاقتلوه.
وأما قول رؤبة: " كرافىء الشحم " ، يريد طبقات الشحم. وأصل ذلك في السحاب إذا ركب بعضه بعضاً، يقال له: كرفئ، والجميع كرافىء .
قال أبو الحسن الأخفش: واحد الكرافىء كرفئة، وهاء التأنيث إذا جمعت جمع التكسير حذفت لأنها زائدة بمنزلة اسم ضم إلى اسم وأحسب أن أبا العباس لم يسمع الواحد من هذا فقاسه، والعرب تجترىء على حذف هاء التأنيث إذا احتاجت إلى ذلك، وليس هذا موضع حاجة إذا كانت قد استعملت الواحدة بالهاء، ونظير هذا قولهم: ما في السماء كرفئة، وما في السماء قذعملة وقذعميلة، وما في السماء طحربة وطحربة، وما في السماء قر طعبة، وما في السماء كنهورة، وهي القطعة من السحاب العظيمة كالجبل وما أشبه.

باب

لحسان بن ثابت يهجو مسافع بن عياض التيمي
قال أبو العباس: قال حسان بن ثابت يهجو مسافع1 بن عياض التيمي، من تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، رهط أبي بكر الصديق رحمه الله:
لو كنت من هاشم أو من بني أسدٍ ... أو عبد شمس أو اصحاب اللوا الصيد
أو من بني نوفل أو رهط مطلبٍ ... لله درك لم تهمم بتهديدي
أو في الذؤابة من قوم ذوي حسبٍ ... لم تصبح اليوم نكساً ثاني الجيد
أومن بني زهرة الأخيار قد علموا ... أومن بني جمح البيض المناجيد
أو في السرارة من تيم رضيت بهم ... أو من بني خلف الخضر الجلاعيد
يا آل تيم ألاينهى سفيهكم ... قبل القذاف بقول كالجلاميد
لولا الرسول فإني لست عاصية ... حتى يغيبني في الرمس ملحودي
وصاحب الغار إني سوف أحفظك ... وطلحة بن عبد الله ذو الجود
لقد رميت بها شنعاء فاضحة ... يظل منها صحيح القوم كالمودي
قوله: "لو كنت من هاشم" يريد هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، والنضر أبو قريش، ومن كان من بني كنانة لم يلده النضر فليس بقرشي. وبنو أسد بن عبد العزى بن قصي. وعبد شمس هو عبد شمس2، بن عبد مناف بن قصي. وأصحاب اللواء بنو عبد الدار بن قصي. واللواء ممدود إذا أردت به لواء الأمير، ولكنه احتاج إليه فقصره، وقد بينا جواز ذلك، فأما اللوى من الرمل فمقصور، قال امرؤ القيس:
بسقط اللوى بين الدخول وحومل
كذا يرويه الأصمعي، وهذه أصح الروايات3.
ـــــــ
1 ذكره ابن حجر في الإصابة "86:6"، وقال: "لا أعرف له صحبة ولا أعرف له رواية".
2 مابين العلامتين ساقط من ر.
3 أي رواية "وحوامل" بالواو. ورواية المفضل: "فحومل".

وقوله: "أو من بني نوفل" فهو نوفل بن عبد مناف بن قصي. والمطلب الذي ذكره هو ابن عبد مناف بن قصي.
وقوله: "لم تصبح اليوم نكساً"، فالنكس الدنيء المقصر. ويقول بعضهم: إن أصل ذلك في السهام، وذلك أن السهم إذا ارتدع1 أو نالته أفة نكس في الكنانة ليعرف من غيره قال الحطيئة:
قد ناضلوك فأبدوا من كنانتهم
مجداً تليداً ونبلا غير أنكاس
قوله: "مجداً تليداً"، قالوا: نواصي الفرسان"2 الذين كان يمن عليهم.
وقوله: "ثاني الجيد" قد مر تفسيره في قول الله عز وجل: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3 وقوله: "أو من بني زهرة"، فهو زهرة بن كلاب بن مرة. ويروى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "خلقت من خير حيين: من هاشم وزهرة" وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي.
وقوله: "الناجيد" مفاعيل، من النجدة، والواحدة منجاد، وإنما يقال ذلك في تكثير الفعل، كما تقول: رجل مطعان بالرمح، ومطعام للطعام.
وقوله:
أو في السرارة من تيم رضيت بهم
يقول: في الصميم منهم والموضع المرضي، وأصل ذلك في التربة، تقول العرب: إذا غرست فاغرس في سرارة الوادي، ويقال: فلان في سر قومه، والسرة مثل ذلك، قال القرشي:
هلا سألت عن الذين تبطحوا ... كرم البطاح وخير سرة واد4
ـــــــ
1 السهم المرتدع: هو ما أصاب الهدف وانكسر عوده.
2 نواصي الفرسان: يريد شعور النواصى، وقد كانت العرب إذا أسروا أسير خيروه بين جزء الناصية والأسر، فإن اختار الجز جزوها، وخلوا سبيله.
3 سورة الحج 9.
4 تبطحو: سكنو بطاح مكة.

وعن الذين أبو فلم يستكرهوا ... أن ينزلوا الولجات من أجياد1
يخبرك أهل العلم أن بيوتنا ... منها بخير مضارب الأوتاد
وقوله: "أو من بني خلف الخضر"، فإنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين.
وليس بالوجه، وإنما يحذف من الحرف لالتقاء الساكنين حروف المد واللين، وهي الألف، والياء المكسور ما قبلها، والواو المضموم ما قبلها، نحو قولك: هذا قفا الرجل، وقاضي الرجل، ويغزو القوم، فلأما التنوين فجاز فيه هذا. لأنه نون في اللفظ، والنون تدغم في الياء والواو، وتزاد كما تزاد حروف المد واللين، ويبدل بعضها من بعض، فتقول: رأيت زيداٌ فتبدل الألف من التنوين، وتقول في النسب إلى صنعاء وبهراء2 صنعاني وبهراني، فتبدل النون من ألف التأنيت، وهذه جملة وتفسيرها كثير، فلذلك حذف، ومثل هذا من الشعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
وقال آخر3:
حميد الذي أمجٌ داره ... أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع4
وقرأ بعض القراء: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} وسمعت عمارة بن عقيل يقرأ: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 5 ، فقلت: ما تريد ? فقال: "سابقٌ النهار" . وقوله: "أواصحاب اللوا"، فإنما6 خفف الهمزة،
ـــــــ
1 والوجات: جمع ولجة، وهي الكهف، وأجياد: موضع بمكة مما يلي الصفا.
2 صنعاء: عاصمة اليمن، وبهراء: قبيلة بها.
3 نسبه الشريف المرتضى "269:2" إلى ابن الزبعري: ورواينه:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه
وبعده:
وهو الذي سن الرحيل لقومه ... رحل الشتاء ورحلة الأصياف
4 هوحميد الأمجى، منسوب إلى أمج: بلد من أعراض المدينة، من أبيات ذكرها ياقوت في معجم البلدان "أمج"، وهي:
شربت المدام فلم أقلع ... وعوتبت فيها فلم أسمع
حميد الذي أمج دراه ... اخو الخمر ذو الشيبة الأصلع
علاه المشيب على حبها ... وكان كريما فلم ينزع
5 سورة يس 40.
6 كلمة: "فإنما" ساقطة من ر.

وتخفف إذا كان قبلها ساكنٌ، فتطرح حركتها على الساكن وتحذف، كقولك: من أبوك? وقوله عز وجل: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1.
وخلف الذي ذكره من بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي.
وقوله: "الخضر الجلاعيد" يقال: فيه قولان: أحدهما أنه يريد سواد جلودهم2، كما قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهبٍ:
وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب
فهذا هو القول الأول. وقال آخرون: شبههم في جودهم بالبحور. وقوله: "الجلاعيد"، يريد الشداد الصلاب، واحدهم جلعدٌ، وزاد الياء للحاجة، وهذا جمعٌ يجيء كثيراً، وذلك أنه موضع تلزمه الكسرة، فتشبع فتصير ياءً، يقال في خاتم: خواتيم، وفي دانقٍ دوانيق، وفي طابق طوابيق قال الفرزدق في مثل هذا الجمع:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرةٍ ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف3
وقوله: "قبل القذاف" يريد المقاذفة، وهذه تكون من اثنين فما فوقهما، نحو المقاتلة والمشاتمة، فباب "فاعلت" إنما هو للاثنين فصاعداً، نحو قاتلت وضاربت، وقد تكون الألف زائدة في فاعلت فتبنى للواحد، كما زيدت الهمزة أولاٌ في "أفعلت "فتكون للواحد، نحو عاقبت اللص، وعافاه الله، وطارقت نعلي.
وقوله: "وصاحب الغار"، يعني أبا بكر رحمه الله، لمصاحبته النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار، وهذا مشهور لايحتاج إلى تفسيره .
وطلحة بن عبيد الله نسبه إلى الجود لأنه كان من أجود قريش. وحدثني التوزي قال: كان يقال لطلحة بن عبيد الله: طلحة الطلحات، وطلحة الخير، وطلحة الجود. وذكر التوزي عن الأصمعي أنه باع ضيعةٌ له بخمسة عشر ألف
ـــــــ
1 سورة النمل 25.
2 قال المرصفى: "وذلك أن العرب تسمى الأسود أخضر، والأخضر أسود، لما أن الخضرة إذا اشتدت تقارب السواد، والمراد من سود الجلمود لون السمرة لا السواد الحالك".
3 تنقاد الصياريف، أي تمييز الصياريف للدراهيم، لتخرج الزائف منها.

درهم، فقسمها في الأطباق1. وفي بعض الحديث أنه منعه أن يخرج إلى المسجد أن له بين ثوبين2.
وحدثني العتبي في إسناد ذكره قال: دعا طلحة بن عبيد الله أبا بكر وعمر وعثمان رحمة الله عليهم، فأبطأ عنه الغلام بشيء أراده، فقال طلحة: يا غلام، فقال الغلام: لبيك فقال طلحة: لا لبيك فقال أبو بكر: ما يسرني أني قلتها وأن لي الدنيا وما فيها. وقال عمر: ما يسرني أني قلتها ولي نصف الدنيا. قال عثمان: ما يسرني أني قلتها وأن لي حمر النعم قال: وصمت عليها أبو محمد، فلما خرجوا من عنده باع ضيعةً بخمسة عش ألف درهم، فتصدق بثمنها.
وقوله:
يظل منها صحيح القوم كالمودي
فالمودي في هذا الموضع الهالك، وللمودي موضع آخر يكون فيه القوي الجاد، حدثني بذلك التوزي في كتاب الأضداد، وأنشدني3:
مودون السبيل السابلا4
ـــــــ
1 الأطباق: جمع طبق: وهو الجماعة من الناس.
2 التلفيق: ضم أحد الثوبين إلى الاخر، قال المرصفى: "وكأنه كره الحضور بهما إلى المسجد خةف الشهرة".
3 البيت لرؤبة، وروايته في ديوانه 122:
مودين يحمون السبيل السابلا
وبعده:
تعدو العرضنى خيلهم عراجلا
4 زيادات ر: "المؤدى" بالهمز: التام الأداة والسلاح، وبغير الهمزة: الهالك.

لرجل من العرب يرثي
وقال رجل من العرب:
خليلي عوجا بارك الله فيكما ... على قبر أهبان سقته الرواعد
فذاك الفتى كل الفتى كان بينه ... وبين المزجى نفنف متباعد
إذا نازع القوم الأحاديث لم يكن ... عيياٌ ولا عبئاٌ على من يقاعد

قوله: "على قبر أهبان" فهذا اسم علم كزيد وعمرو، واشتقاقه من وهب يهب، وهمز الواو لانضمامها، كقوله عز وجل: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} 1 فهو" فعلت"، من الوقت . وقد مضى همز الواو إذا انضمت. وهو لاينصرف في المعرفة وينصرف في النكرة، وكل شيء ينصرف فصرفه في الشعر جائز، لأن أصله كان الصرف، فلما احتيج إليه رد إلى أصله، فهذا قول البصريين. وزعم قوم أن كل شيء لاينصرف فصرفه في الشعر جائز، إلا" أفعل" الذي معه" منك"، نحو: أفضل منك، وأكرم منك . وزعم الخليل وعليه أصحابه أن هذا إذا كانت معه" منك" بمنزلة" أحمر" لأنه إنما كمل أن يكون نعتاٌ" منك"، وأحمر لا يحتاج إليها، مع" منك" بمنزلة" أحمر" وحده، قال: والدليل على أن" منك" ليست بمانعته من الصرف أنه زال عن بناء" أفعل" انصرف، نحو قولك: مررت بخير منك، وشر منك، فلو كانت" منك" هي المانعة لمنعت هنا،فهذا قول بين جداٌ .
وقوله: " المزجى"، فهو الضعيف: يقال: زجى فلان حاجتي: أي خف عليه تعجيلها، والمزجاة من البضائع: اليسيرة الخفيفة المحمل. والنفنف وجمعها النفانف: كل ما كان بين شيئين عالٍ ومنخفض، قال ذو الرمة: "في نفنف يتطوح. "2
وقوله: "ولا عبئاٌ على من يقاعد"، فالعبء: الثقل، يقال حمل عبئاٌ ثقيلاٌ، ووكده بقوله:" ثقيلاٌ"، ولو لم يقله لم يحتج إليه.
ـــــــ
1 سورة المرسلات 11.
2 البيت بتمامة:
ترى قرطها في واضح الليت مشرفا ... على هالك في نفنف يتطوح
وانظر ديوانه 82.

لرجل يذكر ابنه
وقال آخر يذكر ابنه:
ألايا سمية شبي الوقودا ... لعل الليالي تؤدي يزيدا

فنفسي فداؤك من غائب ... إذا ما المسارح كانت جليدا
كفاني الذي كنت أسعى له ... فصار أباٌ لي وصرت الوليدا
قوله: " شبي"، يقال: شببت النار والحرب إذا أوقدتهما، يقال: شب يشب شباٌ، قال الأعشى:
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
وقوله:
ذا ما المسارح كانت جليدا
فالمسارح الطرق التي يسرحون فيها، واحدها مسرح، والجليد يقع من السماء، وهو ندى فيه جمود، فتبيض له الأرض، وهو دون الثلج، يقال له: الجليد، والضريب، والسقيط، والصقيع.
وقالو في قوله:
رجلا عقاب يوم دجن تضرب
أي يصيبها الضريب .
وقوله: " وصرت1 الوليد"،الوليد2: الصغير، وجمعه ولدان، وهو في القرآن3.
ونظير وليد وولدان ظليم وظلمان، وقضيب وقضبان، وباب" فعال فعلان"، نحو عقبان وذبان وغربان . وقولهم: "أمر لاينادى وليده"، يقال فيه قولان يتقاربان4، فأحدهما أنه لا يدعى له الصغار، والوجه الآخر لأصحاب المعاني، يقولون: ليس فيه وليد فيدعى، ونظير ذلك قول النابغة الجعدي:
سبقت صياح فراريجها ... وضرب5 نواقيس لم تضرب
ـــــــ
1 ر، س: "وكنت".
2 س: "فالوليد".
3 زيادات ر: "قوله عزوجل: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} "الواقعة 17".
4 ر: "متقاربان".
5 ر: "وصوت".

أي ليست ثم، ولكن هذا من أوقاتها .وقالت أخت طرفة بن العبد:
عددنا له ستاٌ وعشرين حجة ... فلما توفاها استوى سيداٌ ضخما
فجعنا به لما رجونا إيابه ... على خير حال لا وليداٌ ولا قمحا
الوليد: ما ذكرنا، والقحم: الرجل المتناهي سناٌ ويقال ذلك في البعير قحم وقحر ومقلحم، ويقال للبعير خاصةٌ: قحارية، في وزن1 قراسية، وأنشد الأصمعي:
رأين قحماٌ شاب واقلحما ... طال عليه الدهر فاسلهما
المسلهم: الضامر.
ـــــــ
1 ر: "بوزن".

لرجل آخر يرثي ابنه
وقال آخر لابنه يرثيه:
ومن عجب أن بت مستشعر الثرى ... وبت بما زودتني متمتعا
ولو أنني أنصفتك الود لم أبت ... خلافك حتى ننطوي في الثرى معا
إبراهيم بن عبد الله يرثي أخاه
وقال إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن يرثي أخاه محمداٌ:
أبا المنازل يا عبر الفوارس من ... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا
الله يعلم أني لو خشيتهم ... أو آنس القلب من خوف لهم فزعا
لم يقتلوك ولم أسلم أخي لهم ... حتى نعيش جميعاٌ أو نموت معا
قوله: "يا عبر الفوارس، يصفه بالقوة منهم وعليهم، كما يقال: ناقة عبر الهواجر وعبر السرى"1.
وقوله:
أوآنس القلب من خوف لهم فزعا
ـــــــ
1 عبر الفوارس، من قولهم: ناقة عبر أسفار: إذا كانت قوية.

يقول: أحس، وأصل الإيناس في العين، يقال آنست شخصاٌ، أي أبصرته من بعد وفي كتاب الله عز وجل: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} 1 .
ـــــــ
1 سورة القصص 39.

لمتمم بن نويرة يرثي أخاه
وقال متمم بن نويرة1:
وقالوا: أتبكي كل قبر رأيته ... لميتٍ ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت لهم: إن الأسى يبعث البكا2 ... ذروني فهذا كله قبر مالك3
الأسى: الحزن وقد مر تفسيره.
ـــــــ
1 زيادات ر: "يرثى أخاه"، وفي س قبل هذا البيت:
ومستضحك إذ لم يصب كمصيبتى ... وليس أخو الشجو الحزين بضاحك
2 ر: "الأسى".
3 في س بعد هذا البيت:
ألم تره فينا يقسم ماله ... ويأوى إليه مرملات الضرائك

لعلي بن عبد الله بن العباس يفخر
قال علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رحمة الله ورضوانه عليه:
أبي العباس قرم بني قصي ... وأخوالي الملوك بنو وليعه
هم منعوا دماري يوم جاءت ... كتائب مسرف وبنو اللكيعة
أراد بي التي لا عز فيها ... فحالت دونه أيدٍ منيعه
قوله: "بنو وليعة"، فهم أخواله من كندة، وأمه زرعة بن مشرحٍ الكندية ثم إحدى بني وليعةٍ.
وقوله: "كتائب مسرفٍ" يعني مسلم بن عقبة المري صاحب الحرة، وأهل الحجاز يسمونه مسرفاً وكان أراد أهل المدينة جميعاً على أن يبايعوا يزيد بن معاوية على أن كل واحدٍ منهم عبد قن له إلا علي بن الحسين، فقال حصين بن نمير السكوني من كندة: "ولا يبايع ابن أختنا علي بن عبد الله إلا على ما يبايع عليه علي بن الحسين، على أنه ابن عم أمير المؤمنين، وإلا فالحرب بيننا، فأعفي علي بن عبد الله، وقبل منه ما أراد، فقال هذا الشعر لذلك.

وقوله: " بنو اللكيعة " ، فهي اللئيمة، ويقال في النداء للئيم: يا لكع، وللأنثى: يا لكاع، لأنه موضع معرفة، كما يقال: يا فسق ويا خبث، فإن لم ترد أن تعدله عن جهته قلت للرجل: يا ألكع، وللأنثى يا لكعاء، وهذا موضع لا تقع فيه النكرة، وقد جاء في الحديث والأصل ما ذكرت لك: " لا تقوم الساعة حتى يلي أمر الناس لكع ابن لكع " ، فهذا كناية عن اللئيم ابن اللئيم، وهذا بمنزلة عمر ينصرف في النكرة، ولا ينصرف في المعرفة. ولكاع يبنى على الكسر، وسنشرح باب " فعال " للمؤنث على وجوهه الأربعة عند أول ما يجري من ذكره إن شاء الله. وقد اضطر الحطيئة فذكر " لكاع " في غير النداء، فقال يهجو امراته:
أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى بيتٍ قعيدته لكاع
قعيدة البيت: ربة البيت، وإنما قيل قعيدة لقعودها وملازمتها، ويقال للفرس قعدة من هذا، وهو الذي يرتبطه صاحبه فلا يفارقه، قال الجعفي :
لكن قعيدة بيتنا مجفوةٌ ... بادٍ جناجن صدرها، ولها غنى
الجناجن : ما يظهر عن الهزال من أطراف الصدر، واحداها جنجنٌ.

لهشام أخي ذي الرمة
وقال هشام أخو ذي الرمة:
تعزيت عن أوفى بغيلان بعده ... عزاءً وجفن العين بالماء مترع
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع
غيلان: هو ذو الرمة، وكان هشام من عقلاء الرجال. حدثني العباس بن الفرج في إسناده له1 يعزوه إلى رجل أراد سفراً، فقال: قال لي هشام بن عقبة.
إن لكل رفقةٍ كلباً يشركهم في فضله الزاد، ويهر دونهم، فإن قدرت ألا تكون كلب الرفقة فافعل، وإياك وتأخير الصلاة عن وقتها، فإنك مصليها لا محالة، فصلها وهي تقبل منك.
ـــــــ
1 ر، س: "في إسناد ذكره".

لحسان بن ثابت الأنصاري في لهوه
وقال حسان بن ثابت الأنصاري:
تقول شعثاء1 لو صحوت عن الـ ... ـكأس لأصبحت مثري العدد
أهوى حديث الندمان في قلق الصـ ... ـبح وصوت المسامر الغرد
لا أخدش الخدش بالجليس ولا ... يخشى نديمي إذا انتشيت يدي
يأبى لي السيف واللسان وقو ... م لم يضاموا كلبدة الأسد
لبيدة الأسد: ما يتطارق من شعره بين كتفيه، ويقال: أسدٌ ذو لبدةٍ وذو لبيدٍ.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هي امرأته، وهو اسمها".

لجرير في مرضه حين عادته قيس
وحدثني عمارة قال: مرض جريرٌ مرضةً شديدةً، فعادته قيس، فقال:
نفسي الفداء لقوم زينوا حسبي ... وإن مرضت فهم أهلي وعوداي
لو خفت ليثاً أبا شبلين ذا لبدٍ ... ما أسلموني لليث الغابة العادي
إن تجر طيرٌ بأمرٍ فيه عافيةٌ ... أو بالرحيل فقد أحسنتم زادي

لعبد الرحمن بن ثابت يهاجي عبد الرحمن بن الحكم
وقال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرامٍ، وهو يهاجي عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس:
فأما قولك: الخلفاء منا ... فهم منعوا وريدك من وداجي
ولو لا هم لكنت كحوت بحر ... هوى في مظلم الغمرات داج
وكنت أذل من وتد بقاع ... بشجج راسه بالفهر واجي1
فكتب معاوية إلى مروان أن يؤدنهما وكانا تقاذفا، فضرب عبد الرحمن بن حسان ثمانين، وضرب أخاه عشرين، فقيل لعبد الرحمن بن حسان: قد أمكنك في مروان ما تريد، فأشد بذكره، وارفعه إلى معاوية، فقال: إذاً والله
ـــــــ
1 الفهر: الحجر الذي يملأ الكف.

لا أفعل، وقد حدني كما تحد الرحل الأحرار، وجعل أخاه كنصف عبد. فأوجعه بهذا القول.
ويروى أن عبد الرحمن بن حسان لسعه زنبور فجاء أباه يبكي، فقال له: ما لك فقال: لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة. قال: قلت والله الشعر : ويروى أن معلمه عاقب صبياناً على ذنب وأراده بالعقوبة، فقال :
الله يعلم أني كنت منتبذاً ... في دار حسان أصطاد اليعاسيبا
وأعرق قوم كانوا في الشعر آل حسان فإنهم كانوا يعتدون ستة في نسق كلهم شاعر، وهم سعيد بن عبد الحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، وبعد هؤلاء في الوقت آل أبي حفصة، فإنهم أهل بيت كلهم شاعر، يتوارثونه كابراً عن كابر .
ويروى أن ابنة لابن الرقاع وقف بباب أبيها قوم يسألون عنه، فقالت: ما تريدون فقالوا: جئنا لنهاجيه فقالت وهي صبية.
تجمعتم من كل أوب ووجهة ... على واحد لا زلتم قرن واحد
فهذه بلغت بطبعها على صغرها مبلغ الأعشى في قلب هذا المعنى، حيث يقول لهوذة بن علي
يرى جمع ما دون الثلاثين قصرة ... ويعدو على حمع الثلاثين واحدا

باب

نبذ من كلام الحكماء
قال أبو العباس: قال عمر بن الخطاب رحمه الله1: علموا أولادكم العوم والرماية، ومروهم فليثبوا على الخلل وثباً، ورووهم ما يجمل من الشعر. وفي حديث آخر: وخير الخلق للمرأة المغزل.
ويروى عن الشعبي أنه قال: قال عبد الله بن العباس: قال لي أبي: يا بني، إني أرى أمير المؤمنين قد اختصك دون من ترى من المهاجرين والأنصار، فاحفظ عني ثلاثاً: لا يجربن عليك كذباً، ولا تغتب عنده مسلماً، ولا تفشين له سراً، قال: فقلت له: يا أبه، كل واحدةٍ منها خير من ألف، فقال كل واحدة منها خير من عشرة آلاف.
وحدثني العباس بن الفرج في إسناد ذكره قال: نظرإلى عمرو بن العاص على بغلةٍ قد شمط2 وجهها هرماً، فقيل له: أتركب هذه وأنت على أكرم ناخرةٍ بمصر فقال: لا ملل عندي لدابتي ما حملت رجلي، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري، إن الملل من كواذب الأخلاق.
قوله: "على أكرم ناخرة" يريد الخيل، يقال للواحد ناخر، وقيل: ناخرة يراد جماعة، كما تقول: رجل بغال وحمار، والجماعة البغالة والحمارة، وكذلك تقول: أتتني عصبة نبيلة، وقبيلة شريفة، والواحد نبيل وشريف.
ـــــــ
1 ر، س: "رضي الله عنه".
2 شمط وجهها: ابيض.

مشاورة معاوية عمرو بن العاص
في أمر عبد الله بن هاشم بن عتبة
وشاور معاوية عمراً في أمر عبد الله بن هاشم بن عتبة بن مالك بن أبي وقاص وكان هاشم بن عتبة أحد فرسان1 علي رحمه الله فإتي بابنه معاوية، فشاور عمراً فيه، فقال، أرى أن تقتله، فقال له معاوية: إني لم أر في العفو إلا خيراً، فمضى عمرو مغضباً، وكتب إليه:
ـــــــ
1 زيادات ر: "وهو المرقال".

أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
أليس أبوه يا معاوية الذي ... أعان علياً1 يوم حز الغلاصم2
فقتلنا حتى جرى من دمائنا ... بصفين أمثال البحور الخضارم
وهذا ابنه، والمرء يشبه عيصه3 ... ويوشك أن تلفى4 به جد نادم
فبعث معاوية بأبياته إلى عبد الله بن هاشم، فكتب إليه عبد الله بن هاشم:
معاوية إن المرء عمراً أبت له ... ضغينه خب غشها غير نائم
يرى لك قتلي يا ابن هند وإنما ... يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم
على أنهم لا يقتلون أسيرهم ... إذا كان منه بيعة للمسالم
فإن تعف عني تعف عن ذي قرابةٍ ... وإن تر قتلي تستحل محارمي
فصفح عنه.
ـــــــ
1 كذا في الأصل، س. وفي ر: "علينا".
2 الغلاصم: الحلاقيم.
3 العيص: الأصل.
4 ر: "تلقى" بالقاف.

من كلام عمرو بن العاص لعائشة
وقال عمرو لعائشة رحمة الله عليهما1: لوددت أنك كنت قتلت يوم الجمل فقالت: ولم لا أبا لك فقال: كنت تموتين بأجلك، وتدخلين الجنة، ونجعلك أكبر التشنيع على علي.
ـــــــ
1 ر: "رحمها الله".

ما قاله عمرو بن العاص حين احتضر
وحدثني العباس بن الفرج الرياشي في إسنادٍ ذكره، آخره "ابن عباس" قال: دخلت على عمرو بن العاص وقد احتضر، فدخل عليه عبد الله بن عمرو فقال له: يا عبد الله، خذ ذلك الصندوق، فقال: لا حاجة لي فيه1، قال إنه مملوء مالاً، قال: لا حاجة لي به، فقال عمرو: ليته مملوء بعراً قال: فقلت:
ـــــــ
1 س: "به".

: يا أبا عبد الله، إنك كنت تقول: أشتهي أن أرى عاقلاً يموت حتى أسأله كيف يجد فكيف تجدك قال: أجد السماء كأنها مطبقة على الأرض وأنا بينهما، وأراني كأنما أتنفس من خرت إبرةٍ، ثم قال: اللهم خذ مني حتى ترضى. ثم رفع يديه فقالت: اللهم أمرت فعصينا، ونهيت فركبنا فلا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، ولكن لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم فاظ.
وقد روينا هذا الخبر من غير ناحية الرياشي بأتم من هذا، ولكن اقتصرنا على هذا لثقة إسناده.
قوله: " من خرت إبرة " ، يعني من ثقب إبرةٍ، يقال للدليل: خريت. وزعم الأصمعي أنه أريد به أنه يهتدي لمثل خرت الإبرة.
وقوله: " فاظ " أي مات، يقال : فاظ، وفاد، وفطس، وفاز، وفوز، كل ذلك في معنى الموت، ولا يقال : بالضاد إلا للإناء، قال رؤية:
لا يدفنون منهم من فاظا
وقال ابن جريج: " أما رأيت الميت حين فوظه " .
ومن قال ذلك للنفس قال: فاضت نفسه، يشببها بالأناء.
وحدثني أبو عثمان المازني أحسبه عن أبي زيد قال: كل العرب يقولون: فاضت نفسه إلا بني ضبة فإنهم يقولون: فاظت نفسه، وإنما الكلام الصحيح فاظ بالظاء إذا مات.
وفي الحديث أن امرأة سلام بن أبي الحقيق قالت: فاظ، وإله يهود.

نبذ من أقوال الحكماء
وحدثني مسعود بن بشر قال: قال زياد: الإمرة تذهب الحفيظة، وقد كانت من قوم إلي هنات جعلتها تحت قدمي، ودبر أذني، فلو بلغني أن أحدكم قد أخذه

السل من بغضي ما هتكت له ستراً ولا كشفت له قناعاً حتى يبدي لي عن صفحته، فإذا فعل لم أناظره.
وسمع زياد رجلاً يسب الزمان فقال: لو كان يدري ما الزمان لضربت عنقه، إن الزمان هو السلطان.
وفي عهد أزدشير: وقد1 قال الأولون منا: عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الزمان.
وقال المهلب بن أبي صفرة لبنيه: إذا وليتم فلينوا للمحسن، واشتدوا على المريب، فإن الناس للسلطان أهيب منهم للقرآن.
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
قوله: "يزع" أي يكف، يقال: وزع يزع إذا كف، وكان أصله "يزع" مثل يعد فذهبت الواو لوقوعها بين ياء وكره واتبعت حروف المضارع الياء لئلا يختلف الباب، وهي الهمزة، والنون، والتاء، والياء نحو أعد ونعد، وتعد، ويعد، ولكن انفتحت في "يزع" من أجل العين لأن حروف الحلق إذا كن في موضع عين الفعل أو لامه فتحن في الفعل الذي ماضيه "فعل"، وإن وقعت الواو مما هي فيه فاء في "يفعل" المفتوحة العين في الأصل صح الفعل، نحو: وحل يوحل، ووجل يوجل، ويجوز في هذه المفتوحة ياحل وياجل وييحل وييجل، وكل هذا كراهية للواو بعد الياء، تقول: وزعته: كففته، وأوزعته: حملته على ركوب الشيء وهيأته له، وهو من الله عز وجل توفيق، ويقال: أوزعك الله شكره، أي وفقك له.
وقال الحسن مرة: ما حاجة هؤلاء السلاطين إلى الشرط فلما ولي القضاء كثر عليه الناس، فقال: لا بد للسلاطين2 من وزعة.
ـــــــ
1 س: "قد" بحذف الواو.
2 ر، س: "للناس".

خطبة الحجاج في أهل العراق
وخطب الحجاج بن يوسف ذات يوم، يوم جمعة، فلما توسط كلامه سمع تكبيراً عالياً من ناحية السوق، فقطع خطبة التي كان فيها، ثم قال: يا أهل العراق، ويا أهل الشقاق، ويا أهل النفاق، وسيئي الأخلاق، يا بني اللكيعة، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، إني لأسمع تكبيراً ما يراد الله به، إنما يراد به الشيطان، وإن مثلي ومثلكم قول ابن براقة الهمداني:
وكنت إذا قوم رموني رميتهم ... فهل أتا في ذا يال همدان ظالم
متى تجمع القلب الذكي وصارماً ... وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم
[ثم نزل فصلى بهم]1.
قوله: "يا أهل الشقاق"، فالمشقة المعاداة، وأصله أن يركب ما يشق عليه، ويركب منه مثل ذلك. والنفاق أن يسر خلاف ما يبدي، هذا أصله، وإنما أخذ من النافقاء، وهو أحد أبواب: جحر اليربوع، وذلك أنه أخفاها فإنما يظهر من غيره، ولجحره أربعة أبواب: النافقاء والراهطاء والداماء والسابياء، وكلها ممدودة، ويقال للسابياء: القاصعاء، وإنما قيل له السابياء لأنه لا ينفذه فيبقي بينه وبين إنفاذه هنة من الأرض رقيقة، وأخذ من سابياء الولد، وهي الجلدة الرقيقة التي يخرج فيها الولد من بطن أمه. قال الأخطل يضرب ذلك مثلاً ليربوع بن حنظلة لأنه سمي باليربوع:
تسد القاصعاء عليك حتى ... تنفق أو تموت بها هزالاً2
والعرب تزعم أنه ليس من ضب إلا وفي جحره عقرب، فهو لا يأكل ولد العقرب، وهي لا تضربهفهي مسألمة له، وهو مسالم لها، وأنشد3:
ـــــــ
1 تكملة من ر.
2 تنفق: تخرج من نافقائه.
3 زيادات ر: "كلها بالمد، ويقال بالقصر، ويقال أيضا فيها على وزن فعله[بضم الفاء وفتح العين] نفقة ورهطة ودممة وقصعة.
وحكي ابن القوطية في المقصور والممدود له الرهطاء كالراهطاء، والنفقاء كالنافقاء، والقصعاء كالقصعاء.
وحكى أيضا زيادة فقال: العاتقاء، جحر الأرنب واليربوع، والغابياء أيضا جحرة اليربوع. وأما قول أبى العباس في السابياء، فهو مما قد ورد عليه فيه، وقد تبعة ابن ولاد، وكلاهما غير مصيب، وإنما السابياء وعاء فيه ماء صاف يخرج مع الولد وهو الفقْ، وليس يخرج الولد فيه وقال الكميت:
وفقا فيها الغيث من سابيائه ... دواح وافقن النجوم البواجسا
فشبه ماء الغيث بماء السابياء وإنما الجلدة التي يكون فيها الولد الغرس، وقد تبع ابن القوطية أبا العباس في السابياء في أنه من أسماء جحر اليربوع، وذلك غلط.

وأخدع من ضب إذا خاف حارشاً1 ... أعد له عند الذنابة عقربا
وقوله: "بنو اللكيعة" يريد اللئيمة، وقد مر تفسير هذا في موضعه، قال ابن قيس الرقيات يذكر قتل بن الزبير2:
إن الرزية يوم مسـ ... ـكين والمصيبة والفجيعة
بأبن الحواري الذي ... لم يعده أهل الوقيعه3
غدرت به مضر العرا ... ق، وأمكنت منه ربيعه
فأصبحت وترك يا ربيـ ... ـع وكنت سامعة مطيعة
يا لهف لو كانت له ... بالطف يوم الطف شيعه
أولم يخونوا عهده ... أهل العراق بنو اللكيعه
لو جدتموه حين يغـ ... ـضب لا يعرج بالمضيعه4
وقوله: "عبيد العصا "يريد أنهم لا ينقادون إلا بالإذلال5، كما قال ابن مفرغ الحميري:
العبد يقرع بالعصا ... والحر تكيفه الملامه
وقال جرير يهجو التيم:
ألا إنما تيم لعمرو ومالك ... عبيد العصا لم يرج عتقاً قطينها
ـــــــ
1 الحارش: صائد الضباب.
2 قتل مصعب بن الزبير سنة 72، قتله عبد الملك بن مروان بموضع يقال له مسكن على نهر جيل.
والأبيات في معجم البلدان. (54:8).
3 الحوارى في الأصل: الناصر، ويريد به الزبير بن العوام.
4 روايته في معم البلدان:
لوجدتموه حين يعـ ... ـدو لايعرس بالصنيعة
5 ر: "يريد أنهم لا ينقادون إل بالإذلال".

من كلام بن الأشعث حين ظهور الحجاج عليه
وخطب الناس عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بالمربد عند ظهور أمر الحجاج عليه فقال: أيها الناس، إنه لم يبق من عدوكم إلا كما يبقى من ذنب الوزغة تضرب به يميناً وشمالاً فلا تلبث أن تموت. فسمعه رجل من بني قشير بن كعب بن عامر بن صعصعة فقال: قبح الله هذا: يأمر أصحابه بقلة الاحتراس من عدوهم ويعدهم الغرور.

كلام عرار بن شأس لعبد الملك حينما حمل إليه رأس ابن الأشعث
وروت الرواة أن الحجاج لما أخذ رأس ابن الأشعث وجه به إلى عبد الملك بن مروان مع عرار بن عمرو بن شأس الأسدي وكان أسود دميماً فلما ورد به عليه جعل عبد الملك لا يسأل عن شيئ من أمر الوقعة1 إلا أنبأه به عرار، في أصح لفظ، وأشبع قول، وأجزاء اختصار، فشفاه من الخبر، وملأ أذنه صواباً وعبد الملك لا يعرفه، وقد اقتحمته عينه حيث رآه فقال متمثلاً:
أرادت عراراً بالهوان ومن يرد ... لعمري عراراً بالهوان فقد ظلم2
وإن عراراً إن يكن غير واضح ... فإني أحب الجون ذا المنكب العمم
فقال له عرار: أتعرفني با أمير المؤمنين قال: لا، قال: فأنا والله عرار فزاده في سروره، وأضعف له الجائزة.
ـــــــ
1 ر: "الوقيعة".
2 البيتان لعمرو بن شأس، وانظر ديوان الحماسة لأبى تمام-بشرح التبريزى 272:1.

كتاب صاحب اليمن إلى عبد الملك في وقت محاربته ابن الأشعث
وكتب صاحب اليمن إلى عبد الملك وقت محاربته ابن الأشعث: إني قد وجهت إلى أمير المؤمنين بجارية اشتريها بمال عظيم لم ير مثلها قط، فلما دخل بها عليه رأى وجهاً جميلاً وخلقاً نبيلاً فألقى إليها قضيباً كان في يده فنكست لتأخذه فرأى منها جسماً بهره، فلما هم بها أعلمه الآذن أن رسول الحجاج بالباب، فأذن له، ونحى الجارية، فأعطاه كتاباً من عبد الرحمن، فيه سطور أربعة:
سائل مجاور جرم: هل جنيت لها ... حرباً تزيل بين الجيرة الخلط1
ـــــــ
1 نسب أبو الفرج هذه الأبيات إلى وعلة الجرمى، وانظر الأغانى 140:19.

وهل سموت بجرار له لجب ... جم الصواهل بين الجم والفرط
وهل تركت نساء الحي ضاحيه ... في ساحة الدار يستوقدن بالغبط
وتحتها :
قتل الملوك وسار تحت لائه ... شجر العرى وعراعر الأقوام
قال: فكتب إليه عبد الملك كتاباً، وجعل في طيه جواباً لابن الأشعث:
ما بال من أسعى لأجبر عظمه ... حفاظاً وينوي من سفاهته كسري
أظن خطوب الدهر بيني وبينهم ... ستحملهم مني على مركب وعر
وإني إياهم كمن نبه القطا ... ولو لم باتت الطير لا تسري
أناة وحملماً وانتظر بهم غداً ... فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر
وينشد: " بالفاني " . ثم بات يقلب كف الجارية ويقول: ما أفدت فائدة أحب إلي منك، فتقول: فما بالك ياأمير المؤمنين وما يمنعك قال: يمنعني ما قال الأخطل لأني إن خرجت منه كنت ألأم العرب:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأظهار
فما إليك سبيل أو يحكم الله بيني وبين عدو الرحمن، ابن الأشعث، فلم يقربها حتى قتل عبد الرحمن .
قوله: " فرأى منها جسماً بهره " ، يقال: بهر الليل إذا سد الأفق بظلمته، وبهر القمر إذا ملأ الأرض ببهائه، ومن ثم قيل: القمر الباهر، أنشدني المازني لرجل من بني الحارث بن كعب:
والقمر الباهر السماء لقد ... زرنا هلالاً بجحفل لجب
تسمع زجر الكماة بينهم: ... قدم، وأخر، وأرحبي، وهبي
من كل هداءةٍ كعالية الر ... مح أمونٍ وشيظم سلب
وقال طفيل الغنوي يصف كيف تزجر الخيل، فجمعه في بيت واحد:
وقيل اقدمي واقدم وأخ وأخري ... وها، وهلاً واضرح وقادعها هبي قال أبو الحسن: وأج.
ومن زجر الخيل أيضاً: " هقب وهقط " ، وأنشدني المازني:
لما سمعت زجرهم هقط ... علمت أن فارساً منحط
وقوله: " بين الجم والفرط " هما موضعان بأعيانهما.
وقوله: " في ساحة الدار يستوقدن بالغبط " يقال فيه قولان متقاربان: أحدهما أنهن قد يئسن من الرحيل فجعلن مراكبهن حطباً، هذا قول الأصمعي. وقال غيره: بل قد منعهن الخوف من الاحتطاب، والغبيط من مراكب النساء: وكذلك الحدج قال امرؤ القيس :
تقول وقد مال الغبيط بنا معاً: ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فأعلمك أن الغبيط لها، والمحامل إنما أول من اتخذها الحجاج، ففي ذلك يقول الراجز:
أول عبدٍ عمل المحاملا ... أخزاه ربي عاجلاً وآجلاً
وقوله: " شجر العرا " فالعرا : نبت إن ضم العين، والعراء ممدوداً وجه الأرض، قال الله عز وجل: " لنبذ بالعراء وهو مذوم " القلم : 49 . وقال الهذلي :
رفعت رجلاً لا أخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي

وهذا التفسير والإنشاد عن أبي عبيدة.
وقوله: " دون النساء ولو باتت بأطهار " معناه أنه يجتنبها، في طهرها، وهو الوقت الذي يستقيم له غشيانها فيه، وأهل الحجاز يرون " الأقراء " الطهر، وأهل العراق يرونه الحيض، وأهل المدينة يجعلون عدد النساء الأطهار، ويحتجون بقول الأعشى:
وفي كل أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مؤرثه مالاً، وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وقوله: " ولو باتت بأطهار " ، ف " لو " أصلها في الكلام أن تدل على وقوع الشيء لوقوع غيره، تقول: لو جئتني لأعطيك، ولو كان زيد هناك لضربته، ثم يتسع فتصير في معنى " إن " الواقعة للجزاء تقول: أنت لا تكرمني ولو أكرمتك، تريد " وإن " قال الله عز وجل: " وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " يوسف: 107، فأما قوله عز وجل: " فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به " آل عمران: 91 فإن تأويله عند أهل اللغة : لا يقبل أن يتبرأ به وهو مقيم على الكفر، ولا يقبل إن افتدى به، ف " لو " في معنى " إن " وإنما منع " لو " أن تكون من حروف المجازاة فتجزم كما تجزم " إن " أن حروف المجازاة إنما تقع لما لم يقع، ويصير الماضي معها في معنى المستقبل تقول: إن جئتني أعطيتك، وإن قعدت عني زرتك، فهذا لم يقع.،وإن كان لفظ الماضي لما أحدثته فيه " إن " وكذلك متى أتيتني أتيتك.،و " لو " تقع في معنى الماضي، تقول: لو جئتني أمس لصادفتني، ولو ركبت إلي أمس لألفيتني، فلذلك خرجت من حروف الجزاء،فإذا أدخلت معها " لا " صار معناها أن الفعل يمتنع لوجود غيره، فهذا خلاف ذلك المعنى، ولا تقع إلا على الأسماء، ويقع الخبر محذوفاً لأنه لا يقع فيها الأسم إلا وخبره مدلول عليه، فاستغني عن ذكره، لذلك تقول: لولا عبد الله لضربتك، والمعنى في هذا المكان: من قرابتك، أوصداقتك، أو نحو ذلك، فهذا معناها في هذا الوضع، ولها موضع آخر تكون فيه على غير هذا المعنى، وهي " لولا " التي تقع في معنى " هلا " للتحضيض، ومن ذلك قوله: " لولا إذا سمعتوه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً " ،النور 12 أي هلا، وقال الله عز وجل: " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم " .المائدة 63 فهذه لا يليها إلا الفعل.، لأنها للأمر والتحضيض، مظهراً أو مضمراً.،كما قال:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطري لولا الكمي المقنعا
أي هلا تعدون الكمي المقنعا، " ولولا " الأولى لا يليها إلا الاسم على ما ذكرت لك.،ولا بد في جوابها من اللام أو معنى اللام.، تقول: لولا زيدٌ فعلت، والمعنى لفعلت، وزعم سيبويه أن " زيداً " من حديث " لولا " واللام والفعل حديثٌ معلقٌ بحديث " لولا " ، وتأويله أنه للشرط الذي وجب من أجلها وامتنع لحال الاسم بعدها، و" لو " لا يليها إلا الفعل مضمراً أو مظهراً.، لأنها تشارك حروف الجزاء في ابتداء الفعل وجوابه، تقول: لو جئتني لأعطيتك.، فهذا ظهور الفعل، وإضماره، قوله عز وجل: " قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربي " .الإسراء100 والمعنى والله أعلم: لو تملكون أنتم.، فهذا الذي رفع " أنتم " ولما أضمر ظهر بعده ما يفسره، ومثل ذلك: " لو ذات سوارٍ لطمتني " أراد لو لطمتني ذات سوارٍ، ومثله:
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسماً
وكذلك قول جرير:
لو غيركم علق الزبير بحبله ... أدى الجوار إلى بني العوام
فنصب بفعل مضمر يفسره ما بعده، لأنها للفعل، وهو في التمثيل: لو علق الزبير غيركم، وكذلك كل شيء للفعل نحو: الاستفهام، والأمر، والنهي، وحروف الفعل نحو: " إذ وسوف " وهذا مشروح في الكتاب " المقتضب " على حقيقة الشرح. وأما قوله: " وعراعر الأقوام " فمعناها رؤوس الأقوام.، الواحد عرعرة، وعرعرة كل شيءٍ أعلاه، من ذلك كتاب يزيد بن المهلب إلى الحجاج بن يوسف: " وإن العدو نزلوا بعرعرة الجبل، ونزلنا بالحضيض " ، فقال الحجاج: ليس هذا من كلام يزيد، فمن هناك؟ قيل: يحيى بن يعمر، فكتب إلى يزيد أن يشخصه إليه.

الحجاج ويحيى بن يعمر
وزعم التوزي قال: قال الحجاج ليحيى بن يعمر: أتسمعني ألحن? قال: الأمير أفصح من ذلك! قال: فأعاد عليه القول وأقسم. فقال نعم، تجعل "أن" مكان "إن" ، فقال له: ارحل عني ولا تجاورني.
قال أبو العباس: هذا على أن يزيد لم تؤخذ عليه زلةٌ في لفظ إلا واحدةٌ، فإنه قال على المنبر - وذكر عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب - فقال: "هذه الضبعة العرجاء" ، فاعتدت عليه لحناً، لأن الأنثى إنما يقال لها الضبع، ويقال للذكر الضبعان، فإذا جمع قيل ضبعان،وونما جمع على التأنيث دون التذكير، والباب على خلاف ذلك، لأن التأنيث لا زيادة فيه، وفي التذكير زيادة الألف والنون، فثني على الأصل، وأصل التأنيث أن يكون زائداً على بناء التذكير، أنه منه يخرج، مثل قائم وقائمة وكريم وكريمة، فمن حيث قلت للأنثى والذكر في التثنية كريمان على حذف الزيادة قلت: ضبعان، وتقول: له ابنان إذا

أردت: له ابن وابنة، ولا تقول: في الدار رجلان إذا أردت رجلاً وامرأة، إلا على قول من قال للأنثى رجلةٌ.، فقد جاء ذلك، قال الشاعر:
كل جارٍ ظل مغتبطاً ... غير جيراني بني جبله
خرقوا جيب فتاتهم ... لم يبالو حرمة الرجله
ولا يقال للناقة والجمل جملان، ولا الثوران للثور والبقرة1، لاختلاف الاسمين، إنما يكون ذلك فيما ذكرنا إلا في قول من قال للأنثى: ثورةٌ، قال الشاعر2:
جزى الله الأعورين ملامةً3 ... وعبدة4 ثفر الثورة المتضاجم 5
قال أبو الحسن: المتضاجم: المتسع.6
ـــــــ
1 ر: "ولا يقال للبقرة والثور ثوران".
2 هو الأخطل، والبيت في ديوانه 277.
3 الديوان: "مذمة".
4 في الديوان "وفردة".
5 ثفر الثورة: فرجها.
6 من ر.

باب

للراعي في النسيب
قال أبو العباس: قال الراعي:
ومرسلٍ ورسولٍ غير متهمٍ ... وحاجةٍ غير مزجاةٍ من الحاج
طاوعته بعد ما طال النجي بنا ... وظن أني عليه غير منعاج
ما زال يفتح أبواباً ويغلقها ... دوني، وأفتح باباً بعد إرتاج
حتى أضاء سراجٌ دونه بقرٌ ... حمر الأنامل عينٌ طرفها ساج
يا نعمها ليلةً حتى تخونها ... داعٍ دعا في فروع الصبح شحاج!
لما دعا الدعوة الأولى فأسمعني ... أخذت بردي واستمررت أدراجي
قوله:
وحاجة غير مزجاة من الحاج
المزجاة: اليسيرة الخفيفة المحمل، قال الله عز وجل: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} 1، والحاج: جمع حاجةٍ، وتقديره فعلةٌ وفعل، كما تقول: هامةٌ وهام، وساعة وساع، قال القطامي:
وكنا كالحريق أصاب غاباً ... فيخبو ساعةً ويشب ساعا
فإذا أراد أدنى العدد قلت: ساعات، فأما قولهم: في جمع حاجةٍ حوائج فليس من كلام العرب على كثرته على ألسنة المولدين، ولا قياس له، ويقال: في قلبي منك حوجاء، أي حاجة، ولو جمع، على هذا لكان الجمع حواجٍ يا فتى، وأصله حواجي يا فتى، ولكن مثل هذا يخفف، كما تقول في صحراء: صحار يا فتى، وأصله صحاري.
وقوله:
طاوعته بعدما طال النجي بنا
ـــــــ
1 سورة يوسف 88.

يريد المناجاة، فأخرجه على لفظ: "فعيل"، ونظيره من المصادر الصهيل، والنهيق، الشحيج، ويقال: شب الفرس شبيباً، ولذلك كان "النجي" يقع على الواحد والجماعة نعتاً، كما تقول: امرأة عدلٌ ورجل عدلٌ وقوم عدلٌ: لأنه مصدر قال الله عز وجل: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} 1، أي مناجياً، وقال للجماعة: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً} 2 أي متناجين.
وقوله: "منعاج": أي منعطف، يقال3: عجت عليه أي عرجت عليه، وعجت إليه أعيج، أي عولت عليه.
وقوله: "بعد إرتاج" أي بعد إغلاق، يقال: أرتجت الباب إرتاجاً، أي أغلقته إغلاقاً، ويقال: لغلق الباب الرتاج، ويقال للرجل إذا امتنع عليه الكلام أرتج عليه.
وقوله:
حتى أضاء سراج دونه بقرٌ
يعني نساء، والعرب تكني عن المرأة بالبقرة والنعجة، قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} 4 وقال الأعشى:
فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها
وقوله: "عينٌ"، إنما هو جمع عيناء، وهي الواسعة العين، وتقديره: "فعل"، ولكن كسرت العين لتصح الياء، ونحو ذلك بيضاء وبيض، وتقديره حمراء وحمر، ولو كان من ذوات الواو لكان مضموماً على أصل الباب، لأنه لا إخلال فيه، تقول: سوداء وسود، وعور. وقوله: "طرفها ساج" ولم يقل: "أطرافها" لأن تقديرها تقدير المصدر، من طرفت طرفاً، قال الله عز وجل: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} 5
ـــــــ
1 سورة مريم 52.
2 سورة يوسف 80.
3 ر: "تقول".
4 سورة ص 23.
5 سورة البقرة 7.

لأن السمع في الأصل مصدر. قال جرير:
إن العيون التي في طرفها مرضٌ ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وقوله: "ساج "أي ساكن، قال الله عز وجل: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} 1 وقال جرير:
ولقد رمينك يوم رحن بأعينٍ ... يقتلن من خلل الستور سواج
وقال الراجز:
يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرقٌ مثل ملاء النساج
وقوله: "حتى تخونها": يريد تنقصها، يقال: تخونني السفر، أي تنقصني، والداعي: المؤذن.
وقوله: "شحاج"، إنما هو استعارة في شدة الصوت، وأصله للبغل، والعرب تستعير من بعضٍ لبعض، قال العجاج ينعت حماراً:
كأن في فيه إذا ما شحجا ... عوداً دوين اللهوات مولجا
وقال جرير:
إن الغراب بما كرهت لمولعٌ ... بنوى الأحبة دائم التشحاج
وقوله: "واتمررت أدراجي" أي فرجعت من حيث جئت، تقول العرب: رجع فلان أدراجه، ورجع في حافرته، ورجع عوده على بدئه، وإن شئت رفعت فقلت: رجع عوده على بدئه، أما الرفع فعلى قولك: رجع وعوده على بدئه، أي وهذه الحاله، والنصب على وجهين: أحدهما أن يكون مفعولاً كقولك: رد عوده على بدئه، والوجه الآخر أن يكون حالاً في قول سيبويه، لأن معناه رجع ناقضاً مجيئه، ووضع هذا في موضعه، كما تقول: كلمته فاه إلي في، أي مشافهةً، وبايعته يداً بيدٍ، أي نقداً، ويجوز أن تقول: فوه إلى في: أي وهذه حاله، ومن نصب فمعناه في هذه الحال.
ـــــــ
1 سورة الضحى 2،1.

قال أبو العباس: فأما "بايعته يداً بيدٍ "فلا يكون فيه إلا النصب، لأنك لست تريد بايعته ويدٌ بيدٍ كما كنت تريد في الأول، وإنما تريد النقد، ولا تبالي: أقريباً كان أم بعيداً.

لأعرابي يشكو حبيبته
ؤقال أعرابي:
شكوت فقالت كل هذا تبرما ... بحبي! أراح الله قلبك من حبي
فلما كتمت الحب قال: لشدما ... صبرت، وما هذا بفعل شجي القلب
وأدنو فتقصيني فأبعد طالباً ... رضاها، فتعتد التباعد من ذنبي
فشكواي تؤذيها وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي، وتنفر من قربي
فيا قوم من حيلة تعرفونها؟ ... أشيروا بها واستوجبوا الشكر من ربي
قوله: "كل هذا تبرماً"، مردود على كلامه، كأنها تقول له: أشكوتني كل هذا تبرما ولو رفع رافع" كلا" لكان جيداً، يكون "كل هذا "ابتداء1 وتبرم خبره.
وشجي مخفف، من شددها فقد أخطأ، والمثل: "ويل للشجي من الخلي"، الياء في الشجي مخففة، وفي "الخلي" مثقلة، وقياسه أنك إذا قلت: فعل يفعل فعلاً، فالاسم منه على فعل، فرق يفرق فرقاً فهو فرق، وحذر يحذر حذراً فهو حذرٌ، وبطر يبطر بطراً فهو بطرٌ فعلى هذا شجي يشجى شجى فهو شجٍ يا فتى، كما تقول: هوي يهوى فهو هوٍ يا فتى.
وقوله:
فيا قوم هل من حيلة تعرفونها
موضع "تعرفونها" خفضٌ، لأنه نعت للحيلة وليس بجواب، ولو كان ههنا شرط يوجب جواباً لا نجزم، تقول: ائتني بدابة أركبها، أي بدابةٍ مركوبة، فإذا
ـــــــ
1 ر، س: "مبتدأ".

أردت معنى: فإنك إن أتيتني بدابة ركبتها قلت: "أركبها"، لأنه جواب الأمر، كما أن الأول جواب الاستفهام، وفي القرآن: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 1، أي مطهرة لهم، وكذلك: {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً} 2 أي كائنة لنا عيداً، وفي الجواب: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} 3، أي إن تركوا خاضوا ولعبوا، وأما قوله عز وجل: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} 4 فإنما هو فذرهم في هذه الحال لأنهم كانوا يلعبون، وكذلك: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} 5، إنما هو [لا تمنن6] مستنكثراً فمعنى هذا: هل معروفة عندكم?
ـــــــ
1 سورة التوبة 103.
2 سورة المائدة 114.
3 سورة الزخرف 83.
4 سورة الأنعام 91.
5 سورة المدثر 6.
6 من ر، س.

لأعرابي في الملح
وقال أعرابي أنشدنيه أبو العالية:
ألاتسأل ذا العلم ماالذي ... يحل من التقبيل في رمضان؟
فقال لي المكي: أما لزوجةٍ ... فسبع، وأما خلةٍ فثماني
قوله: "خلةٍ" يريد ذات خلة، ويكون سماها المصدر، كما قالت الخنساء:
فإنما هي إقبال وإدبار1
يجوز أن تكون نعتتها بالصدر لكثرته منها، ويجوز أن تكون أرادت ذات إقبال وإدبار، فحذفت المضاف وأقامت المضاف إليه مقامه، كما قال عز وجل: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} 2 فجائز أن يكون المعنى بر من آمن بالله، وجائز أن يكون ذا البر من آمن بالله، والمعنى يؤول إلى شيء واحد.
ـــــــ
1 صدره
ترتع مارتعت حتى إذا اد كرت
2 سورة البقرة 177.

وفي هذا الشعر عيب، وهو الذي يسميه النحويون العطف على عاملين، وذلك أنه عطف "خلةٌ" على اللام الخافضة لزوجة، وعطف "ثمانيا" على "سبع"، ويلزم من قال هذا أن يقول: مر عبد الله بزيد وعمرو وخالد، ففيه هذا القبح، وقد قرأ بعض القراء وليس بجائز عندنا: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ آَيَاتٍ} 1 فجعل "آيات" في موضع نصب وخفضها لتاء الجميع فحملها على "إن" وعطفها بالواو، وعطف "اختلافا" على "في" ولا أرى ذا في القرآن جائزاٌ لإنه ليس بموضع ضرورة، وأنشد سيبويه لعدي بن زيد العبادي2:
أكل امرىء تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا
فعطف على "امرئ" وعلى المنصوب الأول .
"قال أبو الحسن: وفيه عيب آخر أن "أما" ليست من العطف في شيء، وقد أجرى"خلة" بعدها مجراها بعد حروف العطف حملاً على المعنى، فكأنه قال: لزوجةٍ كذا ولخلة كذا.
"وقوله: "أما لزوجة" فهذه مفتوحة، وهي التي تحتاج إلى خبر، ومعناها: إذا قلت: أما زيدٌ فمنطلقٌ مهما يكن من شيء فزيدٌ منطلقٌ. وكذلك: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} 3 إنما هي: مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم، وتكسر إذا كانت في معنى "أو" ويلزمها التكرير، تقول: ضربت إما زيداً وإما عمراً، فمعناه ضربت زيداً أو عمراً، وكذلك: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 4، وكذلك: {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} 5، و{إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} 6، وإنما كررتها لأنك إذا
ـــــــ
1 سورة الجاثية 5.
2 زيادات ر: "الصحيح أنه لأبى داؤد الإيادى".
3 سورة الضحى 9.
4 سورة الدهر 3.
5 سورة مريم 75.
6 سورة الكهف 86.

قلت: ضربت زيداً أو عمراً، أو قلت: اضرب زيداً أو عمراً فقد ابتدأت بذكر الأول، وليس عند السامع أنك تريد غير الأول، ثم جئت بالشك، أو التخيير، وإذا قلت: ضربت إما زيداً وإما عمراً، فقد وضعت كلامك بالابتداء على التخيير أو على الشك، وإذا قلت: ضربت إما زيداً وإما عمراً، فالأولى وقعت لبنية الكلام عليها، والثانية للعطف، لأنك تعدل بين الثاني والأول، فإنما تكسر في هذا الموضع.
وزعم سيبويه أنها إن ضمت إليها "ما" فإن اضطر شاعر فحذف "ما" جاز له ذلك لأنه الأصل، وأنشد في مصداق ذلك1:
لقد كذبتك نفسك فاكذبنها ... فإن جزعاً وإن إجمال صبر
ويجوز في غير هذا الموضع أن تقع "إما" مكسورة، ولكن "ما" لاتكون لازمة، ولكن تكون زائدة في "إن" التي هي للجزاء. كما تزداد في سائرالكلام نحو: أين تكن أكن، وأينما تكن أكن، وكذلك متى تأتني آتك، ومتى ما تأتني آتك،فتقول: إن تأتني آتك، وإما تأتني آتك، تدغم النون في الميم لاجتماعهما في الغنة، وسنذكر الإدغام في موضع نفرده به إن شاء الله، كما قال امرؤالقيس2:
فإما تريني لاأغمض ساعةٌ ... من الليل إلا أن أكب فأنعسا
فيارب رب مكروب كررت وراءه ... وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا
وفي القرآن: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} 3 وقال: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} 4 فأنت في زيادة "ما" بالخيار في جميع حروف الجزاء، إلا في حرفين، فإن "ما" لابد منها لعلة نذكرها إذا أفردنا باباٌ للجزاء إن شاء الله، والحرفان: حيثما تكن أكن،كما قال الشاعر:
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو دريد بن الصمة الجشمى".
2 كذا في ر، وفي س: "كما قال الشاعر".
3 سورة مريم 26.
4 سورة الإسراء 28.

حيثما تستقم يقدرلك الله ... نجاحاٌ في غابر الأزمان
والحرف الثاني" إذاما" كما قال العباس بن نرداس:
إذ ما أتيت على الرسول فقل له ... حقاٌ عليك إذا اطمأن المجلس
لايكون الجزاء في" حيث" و"إذ" إلا بما.
قال أبو العباس: وأنشدني أبو العالية:
سل المفتي المكي هل في تزاور ... ونظرة مشتاق الفؤاد جناح
فقال: معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراح
وأنشد لبعض المحدثين:
تلاصقنا وليس بنا فسوق ... ولم يرد الحرام بنا اللصوق
ولكن التباعد طال حتى ... توقد في الضلوع بنا حريق
فلما أن أتيح لنا التلاقي ... تعانقنا كما اعتنق الصديق
وهل حرجاٌ تراه أو حراماٌ ... مشوق ضمه كلف مشوق1
وأنشدني غيره:
وماهجرتك النفس يامي أنها ... قلتك ولا أن قل منك نصيبها
ولكنهم يا أملح الناس أولعوا ... بقول إذا ما جئت: هذا حبيبها
أنها في موضع نصب، وكان التقدير "لأنها"، فلما حذفت اللام وصلا الفعل، فعمل، تقول: جئتك أنك تحب الخير، فمعناه لأنك، وكذلك أتيتك أن تأمر لي بشيء، أي لأن وتقديره في النصب أن: "أن" الخفيفة والفعل مصدر: نحو:
ـــــــ
1 الأبيات الواقعة بين العلامتين لم ترد في نسخة الأصل ووردت في س بين علامتى الزيادة.

أريد أن تقوم يا فتى، أى قيامك و"أن" الثقيلة واسمها وخبرها مصدر، تقول بلغني أنك منطلق، أي انطلاقك، فإذا قلت: جئتك أنك تريد الخير، فمعناها إرادتك الخير: أي مجيئي لأنك تريد الخير إرادة يافتى، كما قال الشاعر1:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
قوله:
وأغفرعوراء الكريم ادخاره
أي أدخره ادخاراٌ، وأضافه إليه، كما ثقول: ادخاراٌ له، وكذلك قوله:" تكرماٌ" إنما أراد للتكرم فأخرجه مخرج أتكرم تكرماٌ .
قال أبو العباس: وأنشدني أبو العالية2:
مازلت أبغي الحي أتبع ظلهم ... حتى دفعت إلى ربيبة هودج
قالت: وعيش أبي وأكبر إخوتي ... لأنبهن الحي إن لم تخرج
فخرجت خفية قولها، فتبسمت ... فعلمت أن يمينها لم تخرج
فلثمت فاها آخذاٌ بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وزاد فيها الجاحظ عمرو بن بحر:
وتناولت رأسي لتعرف مسه ... بمخضب الأطراف غير مشنج3
تقول العرب: هودج، وبنو سعد زيد مناة ومن وليهم يقولون فودج. وقوله:
فعلمت أن يمينها لم تحرج
يقول: لم تضق عليها، يقال: حرج يحرج إذا دخل في مضيق والحرجة: الشجر الملتف المتضايق ما بينه، قال الله عز وجل: {فَلا يَكُنْ فِي
ـــــــ
1 زيادات ر: هو حاتم الطائى، والبيت في ديوانه.
2 زيادات ر: "قيل إن الشعر لعروة بن أذنية" وفي حواشى الأصل إنه لجميل بن عبد الله بن معمر.
3 من التشنج وهو التقبض.

صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} 1 وقال تعالى: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} 2 وقرىء "حرجاٌ"، فمن قال: "حرجاٌ "أراد التوكيد للضيق، كأنه قال: ضيق شديد الضيق. ومن قال: "حرجاٌ" جعله مصدراٌ، مثل قولك: ضيق ضيقاٌ. وقوله: "ببرد ماء الحشرج" فهو الماء الجاري على الحجارة.
ـــــــ
1 سورة الأعراف 2.
2 سورة الأتعام 125.

لقيس بن معاذ في النسيب
وقال قيس بن معاذٍ أحد بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وهو المجنون وحدثني عبد الصمد بن المعذل قال: سمعت الأصمعي يثبته ويقول: لم يكن مجنوناٌ، إنما كانت به لوثة كلوثة أبي حية3:
ولم أر ليلى بعد موقف ساعةٍ ... ببطن منى ترمي جمار المحصب
ويبدي الحصا منها إذا قذفت به ... من البرد أطراف البنان المخضب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
ألا إنما غادرت يا أم مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب
هذا البيت من أعجب ما قيل في النحافة.
ومما يستطرف في هذا الباب قول عمر بن أبي ربيعة:
رأت رجلاٌ أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر
أخا سفر جواب أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعثٌ أغبر
قليلاٌ على ظهر المطية ظله ... سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
ومن هذا الباب قول القائل4:
فأصبحت في أقصى البيوت يعدنني ... بقية ما أبقين نصلاٌ يمانيا
ـــــــ
1 سورة الأعراف 2.
2 سورة الأتعام 125.
3 زيادات س، ر بعد هذه الكلمة: "النميري، وهو من أشعر الناس، ومن شعره".
4 زيادات ر: "هو قيس بن معاذ مجنون بنى عامر الذي تقدم ذكره لابن الأبرش".

بقية بدل من الياء في يعدنني بدل الاشتمال
تجمعن من شتى، ثلاثٌ وأربعٌ ... وواحدةٌ حتى كملن ثمانيا1
يعدن مريضاٌ هن هيجن ما به ... ألا إنما بعض العوائد دائيا
وفي هذا الباب أشياء كثيرة تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى، ومن الإفراط فيه قوله:
فلو أن ما أبقيت مني معلقٌ ... بعود ثمام ما تأود عودها
الثمام: نبت ضعيف، واحدته ثمامة، وهذا متجاوز كقول القائل:
ويمنعها من أن تطير زمامها
وأحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبه، وأحسن منه ما أصاب به الحقيقة، ونبه فيه بفطنته على ما يخفى عن غيره، وساقه برصفٍ قوي واختصار قريب.
وقال قيس بن معاذ:
وأخرج من بين الجلوس لعلني ... أحدث عنك النفس في السر خاليا
وإني لأستغشي وما بي نعسة ... لعل خيالاٌ منك يلقى خياليا
وفي هذا الشعر:
أشوقاٌ ولما تمض لي غير ليلةٍ ... رويد الهوى حتى تغب لياليا
هذا من أحسن الكلام واوضحه معنى.
ويستحسن لذي الرمة قوله في مثل هذا المعنى:
أحب المكان القفر من أجل أنني ... به أتغنى باسمها غير معجم
ـــــــ
1 مابين العلامتين لم ترد في الأصل، وهى في س وزيادات ر.

لبعض القرشيين
وأنشد1 ابن عائشة لبعض القرشيين2:
وقفوا ثلاث منى بمنزل غبطةٍ ... وهم على غرض هنالك ما هم
متجاورين بغير دار إقامةٍ ... لو قد أجد تفرقٌ لم يندموا3
ولهن بالبيت العتيق لبانةٌ ... والركن يعرفهن لو يتكلم
لو كان حياٌ قبلهن ظعائناٌ ... حيا الحطيم وجوههن وزمزم
وكأنهن وقد صدرن لواغباٌ ... بيض بأفنية المقام مركم
اللاغب المعيي، قال الله عز وجل: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 4 والمركم: الذي بعضه على بعض، والمرأة تشبه ببيضة النعامة كما تشبه بالدرة، قال الله عز وجل: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} 5 والمكنون: المصون، والمكن: المستور، يقال: أكننت السر، قال الله عز وجل: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} 6 وقال أبو دهبل، وأكثر الناس يرويه لعبد الرحمن بن حسان7:
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغو ... اص ميزت من جوهر مكنون
وقال ابن الرقيات:
واضحٌ لونها كبيضة أدحي ... لها في النساء خلقٌ عميم
العميم: التام، والأدحي: موضع بيض النعامة خاصة، وشعر عبد الرحمن هذا شعر مأثور مشهور عنه.
ـــــــ
1 ر: "وأنشدنى".
2 حاشية الأصل: الشعر لابن أذنية، وانظر الأغانى 110:21.
3 زيادات ر: "يعنى طواف الوداع، وقوله: "ثلاث منى" أراد أيام النفر، وأخرجه على الليالى، وقوله: "لم يندموا" لأنهم يرجعون إلى أوطانهم".
4 سورة ق 38.
5 سورة الصافات 49.
6 سورة البقرة 235.
7 زيادات ر: "ابن ثابت الأنصارى".

لعبد الرحمن بن الأشعث في بنت معاوية
وروى بعض الرواة أن أبا دهبل الجمحي كان تقياٌ وكان جميلاٌ، فقفل من الغزو ذات مرة، فمر بدمشق، فدعته امرأةٌ إلى أن يقرأ لها كتاباٌ، وقالت: إن صاحبته في هذا القصر، وهي تحب أن تسمع ما فيه، فلما دخلت به برزت له امرأةٌ جميلة، وقالت له: إنما احتلت لك بالكتاب حتى أدخلتك. فقال لها: أما الحرام فلا سبيل إليه، فقالت: فلست تراد حراماٌ، فتزوجته، وأقام عندها دهراٌ حتى نعي بالمدينة، ففي ذلك يقول وقد استأذنها ليلم بأهله ثم يعود، فجاء وقد اقتسم ميراثه، فلما هم بالعود إليها نعيت له، فهذا ما روي من هذا الوجه والذي كأنه إجماع أنه لعبد الرحمن بن حسان، وهو في بيت معاوية1:
صاح حيا الإله أهلاٌ وداراٌ ... عند أصل القناة من جيرون
هن يساري إذا دخلت من البا ... ب وإن كنت خارجاٌ فيميني
فبتلك ارتهنت بالشأم حتى ... ظن أهلي مرجمات الظنون
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوا ... ص ميزت من جوهر مكنون
إذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناءٍ من المكارم دون
ثم خاصرتها إلى القبة الخضر ... راء تمشي في مرمرٍ مسنون
تجعل المسك واليلنجوج والنـ ... ـد صلاءً لها على الكانون
قبةٌ من مراجلٍ ضربتها ... عند برد الشتاء في قيطون
المسنون: المصبوب على استواء. والمراجل: ثياب من ثياب اليمن، قال العجاج:
بشيةٍ كشية الممرجل
والقيطون: البيت في جوف بيت.
وقال آخر:
وأبصرت سعدى بين ثوبي مراجلٍ ... وأثواب عصبٍ من مهلهلة اليمن
ـــــــ
1 زيادات ر: "ابن أبى سفيان".

ويروى أن يزيد بن معاوية قال لمعاوية: أما سمعت قول عبد الرحمن بن حسان في ابنتك? قال: وما الذي قال? قال: قال:
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوا ... ص ميزت من جوهر مكنون
قال معاوية: صدق، فقال يزيد: وقال:
وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناءٍ من المكارم دون
قال: "1صدق، فقال1" إنه قال:
ثم حاصرتها إلى القبة الخضر ... راء تمشي في مرمر مسنون
قال معاوية: كذب.
ـــــــ
1 ر، س: "قال معاوية. صدق فقال يزيد".

باب

عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب عند رسول الله
قال أبو العباس: حدثني مسعود بن بشر، قال: حدثني محمد بن حربٍ، قال: أتى عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكساه حلةً وأقعده إلى جانبه، ثم قال: "إنه ابن أمي، وكان أبوه يرحمني" 1 .
ـــــــ
1 زيادات ر: الزبير أخو عبد الله بن عبد المطلب شقيقه.

لرجل من بني ضبة يخاطب بني تميم
قال: وأنشدني مسعود قال: أنشدني طاهر بن علي بن سليمان قال: أنشدني منصور بن المهدي لرجل من بني ضبة بن أد، يقوله لبني تميم بن مُر بن أُدّ:
أبني تميم إنني أنا عمكم ... لا تحرمن نصيحة الأعمام
إني أرى سبب الفناء وإنما ... سبب الفناء قطيعة الأرحام
فتداركوا بأبي وأمي أنتم ... أحسابكم1 برواجح الأحلام
ـــــــ
1 ر، س: "أرحامكم" وفي زيادات ر: "كذا أنشد: أرحامكم، ويروى: أحسابكم".

خطبة عبد الله بن الزبير
حين ورد عليه خبر قتل أخيه مصعب
ويروى أنه أتى عبد الله بن الزبير[خبر]1 قتل مصعب بن الزبير خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنه أتانا خبر قتل المصعب فسررنا به، واكتأبنا [له]1، فأما السرور فلما قدر له من الشهادة. وحيز له من الثواب، وأما الكآبة فلوعةٌ يجدها الحميم عند فراق حميمه، وإنا لله ما نموت حبجاً كميتة آل أبي العاص، إنما نموت قتلاً بالرماح، وقعصاً تحت ظلال السيوف، فإن يهلك المصعب فإن في آل الزبير منه خلفاً.
قوله: "حبجاً" ، يقال: حبج بطنه، إذا انفتخ، وكذلك حبط بطنه. المقعص: المقتول. واللوعة: الحرقة، يقال: لاع يلاع لوعة يا فتى فهو لائع، ويقال: لاع يافتى، على القلب، وأنشد أبوزيد:
ولا فرحٍ بخيرٍ إن أتاه ... ولا جزعٍ من الحدثان لاع
ـــــــ
1 زيادة من ر.

من كلام زياد
قال: وحدثني مسعود في إسنادٍ ذكره قال: قال زياد لحاجبه: يا عجلان، إني وليتك هذا الباب، وعزلتك عن أربعة. عزلتك عن هذا المنادي إذا دعا للصلاة فلا سبيل لك عليه، وعن طارق الليل فشرٌ ما جاء به، ولو جاء بخير ما كنت من حاجته، وعن رسول صاحب الثغر فإن إبطاء ساعةٍ يفسد تدبير سنة، وعن هذا الطباخ إذا فرغ من طعامه.
قال: وحدثني مسعود قال: قال زياد: يعجبني من الرجل إذا سيم خطة الضيم أن يقول: "لا" بملء فيه، وإذا أتى نادي قومٍ علم أين ينبغي لمثله أن يجلس فجلس، وإذا ركب دابة حملها ما تحب ولم يبعثها إلى ما تكره.

بلاغة جعفر بن يحيى
وكتب إلى جعفر بن يحيى: إن صاحب الطريق قد اشتط فيما يطلب من الأموال، فوقع جعفر: هذا رجل منقطع عن السلطان، وبين ذؤبان العرب بحيث العدد والعدة، والقلوب القاسية، والأنوف الحمية، فليمدد من المال بما يستصلح به من معه ليدفع به عدوه، فإن نفقات الحروب يستظهر لها. ولا يستظهر عليها.
ورفع قوم إليه1 شكية عاملهم. فوقع في قصتهم2: يا هذا، قد كثر شاكوك، [وقل حامدوك]3 ، فإما عدلت، وإما اعتزلت.
وزعم الجاحظ قال: قال ثمامة4 بن أشرس النميري: ما رأيت رجلاً أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون.
وقال مويس بن عمران: ما رأيت رجلاً أبلغ من يحيى بن خالد، وأيوب بن جعفر.
وقال جعفر بن يحيى لكتابه: إن قدرتم أن تكون كتبكم كلها توقيعاتٍ فافعلوا.
ـــــــ
1 ر، س: "وأكثر الناس شكية عامل".
2 كلمة "قصتهم" لم ترد في س.
3 تكملة من ر.
4 س: "ثمامة الأشرس".

نبذ من الأقوال الحكيمة
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو تكاشفتم ما تدافنتم".
يقول: لو علم بعضكم سريرة بعض لاستثقل تشييعه ودفنه.
وقال عليه السلام: "اجتنبوا القعود على الطرقات، إلاأن تضمنوا أربعاٌ: رد السلام وغض الأبصار، وإرشاد الضال وعون الضعيف".
وقالت هند بنت عتنة: إنما النساء أغلال، فليختر الرجل غلاٌ ليده.
وذكرت هند بنت المهلب بن أبي صفرة النساء فقالت: ما زين بشيء كأدب بارع، تحته لب ظاهر.
وقالت هند بنت المهلب بن أبي صفرة[أيضا]1: إذا رأيتم النعم مستدرة فبادروا بالشكر قبل حلول الزوال.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "افصلوا بين حديثكم بالاستغفار".
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: قيدوا النعم بالشكر، وقيدوا العلم بالكتاب .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه2: العجب لمن يهلك والنجاة معه، فقيل: كيف يا أمير المؤمنين? قال: الاستغفار.
وقال الخليل بن أحمد: يعني الخليل: كن على مدارسة ما في قلبك أحرص منك على حفظ ما في كتبك .
وقال ابن أحمد يعني الخليل: اجعل ما في كتبك رأس مال، وما في صدرك للنفقة.
وقيل لنصر بن سيار: إن فلاناٌ لا يكتب، فقال: تلك الزمانة الخفية.
وقال نصر بن سيار لولا أن عمر بن هبيرة كان بدوياٌ ما ضبط عمال العراق وهو لا يكتب .
ـــــــ
1 تكملة من ر.
2 ر: "رضوان الله عليه".

وفادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رأى فداءه من أسرى بدرٍ، فمن لم يكن له فداءٌ أمره أن يعلم عشرة من المسلمين الكتابة، ففشت الكتابة بالمدينة.
ومن أمثال العرب: خير العلم ما حوضر به، يعني1: ما حفظ وكان2 للمذاكرة.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاتزال أمتي صالحاٌ أمرها ما لم تر الفيء مغنماً، والصدقة مغرماً".
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: "يأتي على الناس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل3، ولا يظرف فيه إلا الفاجر، ولا يضعف فيه إلا المنصف، يتخذون الفيء مغنماً، والصدقة مغرماً، وصلة الرحم مناً، والعبادة استطالةً على الناس، فعند ذلك يكون سلطان النساء، ومشاورة الإماء، وإمارة الصبيان" .
ـــــــ
1 ر: "يمنى".
2 ر: "مكان".
3 زياداتر: "الماحل: الواشي، يقال: محل فلان بفلان إذا وشى به ومكر".

نبذ من أخبار الحجاج
ويروى عن محمد بن المنتشر بن الأجدع الهمداني، قال: دفع إلي الحجاج أزاد مرد بن الهربذ، وأمرني أن أستخرج منه وأغلظ عليه، فلما انطلقت به قال لي: يا محمد، إن لك شرفاً وديناً، وإني لاأعطي على القسر شيئاً، فاستأدني1 وارفق بي، قال: ففعلت، فأدى إلي في أسبوع خمسمائة ألف، قال: فبلغ ذلك الحجاج فأغضبه، وانتزعه من يدي، ودفعه إلى رجل كان يتولى له العذاب، فدق يديه ورجليه، ولم يعطهم شيئاً.
قال محمد بن المنتشر: فإني لأمر يوماً في السوق إذا صائحٌ بي: يا محمد، فالتفت فإذا به معرضاً على حمارٍ، مدقوق اليدين والرجلين، فخفت الحجاج إن أتيته، وتذممت منه، فملت إليه، فقال لي: إنك وليت مني ماولي هؤلاء فأحسنت، وإنهم صنعوا بي ما ترى ولم أعطهم شيئاً، وههنا خمسمائة ألف عند فلان، فخذها فهي لك، قال: فقلت: ما كنت لآخذ منك على معروفي أجراً، ولا لأرزأك على هذه الحال شيئاً، قال: فأما إذا أبيت فاسمع أحدثك: حدثني بعض
ـــــــ
1 استأذنى: أى طلب منى الأداء.

أهل دينك عن نبيك "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" كثيراً، قال: إذا رضي الله عن قوم أمطرهم المطر في وقته، وجعل المال في سمحائهم، واستعمل عليهم خيارهم، وإذا سخط عليهم استعمل عليهم شرارهم، وجعل المال عند بخلائهم، وأمطرهم المطر في غير حينه. قال: فانصرفت فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسول الحجاج، فأمرني بالمسير إليه، فالفيته جالساً على فرشه والسيف منتضىً في يده، فقال لي: ادن، فدنوت شيئاً، ثم قال: ادن، فدنوت شيئاً، ثم صاح الثالثة: ادن لا أبا لك! فقلت: ما بي إلى الدنو من حاجة، وفي يد الأمير ما أرى. فأضحك الله سنه، وأغمد سيفه عني، فقال لي: اجلس، ما كان من حديث الخبيث? فقلت له: أيها الأمير، والله ما غششتك منذ استنصحتني، ولا كذ بتك منذ استخبرتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني. ثم حدثته الحديث، فلما صرت إلى ذكر الرجل الذي المال عنده أعرض عني بوجهه، وأومأ إلي بيده، وقال: لا تسمه، ثم قال: إن للخبيث نفساً، وقد سمع الأحاديث.
ويقال: كان الحجاج إذا استغرب1 ضحكاً2 والى بين الإستغفار، وكان إذا صعد المنبر تلفع بمطرفه3 ثم تكلم رويداً فلا يكاد يسمع، ثم يتزيد في الكلام، حتى يخرج يده من مطرفه ويزجر الزجرة فيفزع بها أقصى من في المسجد وكان يطعم في كل يوم ألف مائدة، على كل مائدة ثريدٌ وجنبٌ من شواءٍ وسمكة طريةٌ، ويطاف به في محفةٍ على تلك الموائد ليتفقد أمور الناس، وعلى كل مائدة عشرة، ثم يقول: يا أهل الشأم، اكسروا الخبز لئلا يعاد عليكم. وكان له ساقيان، أحدهما يسقي الماء والعسل، والآخر يسقي اللبن. ويروى أ ن ليلى الأخيلية قدمت عليه فأنشدته:
إذا ورد الحجاج أرضاً مريضةً ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العقام الذي بها ... غلامٌ إذا هز القناة ثناها4
ـــــــ
1 استغرب ضحكا: بالغ في الضحك.
2 ومن هنا وقع خرم في نسخة الأصل، والنص، الذي أثبتناه هو نص "ر" إلى آخر الخرم.
3 المطرف: رداء من خز.
4 زيادات ر: "العقام، بالفتح والضم، والضم أفصح". وفي س: العضال.

فقال لها: لا تقولي: غلام، قولي: همامٌ، ثم قال لها: أي نسائي أحب إليك أن أنزلك عندها الليلة? قالت: ومن نساؤك أيها الأمير? قال أم الجلاس بنت سعيد بن العاصي الأموية، وهند بنت أسماء بن خارجة الفزارية، وهند بنت الملهب بن أبي صفرة العتكية، فقالت: القيسية أحب إلي. فلما كان الغد دخلت عليه فقال: يا غلام أعطها خمسمائة، فقالت: أيها الأمير، اجعلها أدماً فقال قائل: إنما لك بشاء، قالت: الأمير أكرم من ذلك، فجعلها إبلاً إناثاً استحياء، وإنما كان أمر لها بشاءٍ أولاً. والأدم1: البيض من الإبل وهي أكرمها.
ويروى عن بعض الفقهاء2 قال: دعاني الحجاج فسألني عن الفريضة المخمسة وهي أمٌ وجدٌ وأخت، فقال لي: ما قال فيها الصديق رحمه الله? قلت، أعطى الأم الثلث والجد ما بقي لأنه كان يراه أباً، قال: فما قال فيها أمير المؤمنين? يعني عثمان رحمه الله قلت: جعل المال بينهم أثلاثاً،قال: فما قال فيها ابن مسعود? قال: قلت: أعطى الأخت النصف، والأم ثلث ما بقي والجد الثلثين?لأنه كان لا يفضل أما على جد. قال: فما قال فيهازيد بن ثابت?قال: قلت أعطى الأم الثلث، وجعل ما بقي بين الأخت والجد.، للذكر مثل حظ الأنثيين، لأنه كان يجعل الجد كأحد الإخوة إلى الثلاثة، قال: فزم بأنفه ثم قال: فما قال فيها أبو ترابٍ? قال: قلت أعطى الأم الثلث والأخت النصف والجد السدس، قال: فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال: فإنه المرء يرغب عن قوله3.
وجلس4 الحجاج يأكل ومعه جماعة على المائدة منهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة، وحجار بن أبجر بن بجير العجلي، فأقبل في وسطٍ من الطعام على محمد بن عمير بن عطاردٍ فقال: يا محمد، أيدعوك قتيبة بن مسلم إلى نصرتي يوم رستقباذ5 فتقول: هذا أمر لاناقة لي فيه ولا جمل لا جعل الله لك فيه ناقة ولا جملاٌ ياحرسي، خذ بيده وجرد سيفك
ـــــــ
1 س: "الأدم" بدون الواو.
2 زيادات ر: "هو الشعبى".
3 قال المرصفى: "إنما حمله على ذلك بغضه لأمير المؤمنين على كرم الله وجهه".
4 س: "وجعل".
5 ارستقباذ: موضع بفارس.

فاضرب عنقه، فنظر إلي حجاربن أبجر وهو يبتسم، فدخلته العصبية، وكان مكان حجارٍ من ربيعة كمكان محمد بن عمير من مضر، وأتى الخباز بفرنيةٍ1 فقال: اجعلها مما يلي محمداً فإن اللبن يعجبه، يا حرسي، شم سيفك وانصرف.
وكان محمدٌ شريفاً، وله يقول الشاعر:
علم القبائل من معد وغيرها ... إن الجواد محمدٌ بن عطارد
وذكرت بنو دارم يوماً بحضرة عبد الملك، فقالوا: قوم لهم الحظ، فقال عبد الملك: أتقولون ذلك وقد مضى منهم لقيط بن زرارة ولا عقب له، ومضى القعقاع بن معبد بن زرارة ولا عقب له، ومضى محمد بن عمير بن عطارد ولا عقب له، والله لاتنسى العرب هؤلاء الثلاثة أبداً.
قوله: "شم سيفك"، يقول: اغمده، ويقال: شمت السيف: إذا سللته، وهو من الأضداد، ويقال: شمت البرق إذا نظرت من أي ناحية يأتي.
قال الأعشى:
فقلت للشرب في درنى2 وقد ثملوا: ... شيموا، وكيف يشيم الشارب الشارب الثمل!
وقال الفرزدق:
بأيدي رجالٍ لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلت
وهذا البيت طريف عند أصحاب المعاني، وتأويل لم يشيموا: لم يغمدوا ولم تكثر القتلى، أي لم يغمدوا سيوفهم إلا وقد كثرت القتلى [بها]3حين سلت.
ـــــــ
1 الفرنية: الخبزة المستديرة، منسوبة إلى الفرن.
2 درنى: بلد باليمامة.
3 تكملة من س.

علي بن جبلة والحسن بن سهل
وحدثني الحسن بن رجاء قال: قدم علينا علي بن جبلة إلى عسكر الحسن بن سهل والمأمون هناك بانياً على خديجة بنت الحسن بن سهل المعروفة ببوران،

فقال الحسن: ونحن إذا ذاك نجري1 على نيف وسبعين ألف ملاحٍ، وكان الحسن بن سهل يسهر مع المأمون، يتصبح فيجلس الحسن للناس إلى وقت انتباهه، فلما ورد علي قلت: قد ترى شغل الأمير، قال: إذن لا أضيع معك. قلت: أجل. فدخلت على الحسن بن سهل في وقت ظهوره فأعلمته مكانه، فقال: ألاترى ما نحن فيه? قلت: لست بمشغول عن الأمر له، فقال: يعطى عشرة آلاف درهمٍ إلى أن نتفرغ له، فأعلمت ذلك علي بن جبلة، فقال في كلمة له:
أعطيتني يا ولي الحق مبتدئاً ... عطيةً كافأت مدحي ولم ترني
ما شمت برقك حتى نلت ريقه ... كأنما كنت بالجدوى تبادرني
ـــــــ
1 نجرى: نعطى.

باب

للمفضل بن الملهب بن أبي صفرة في الشجاعة والنجدة
قال أبو العباس: قال المفضل بن المهلب بن أبي صفرة1:
هل الجود إلا أن تجود بأنفسٍ ... على كل ماضي الشفرتين قضيب
وما خير عيشٍ بعد قتل محمدٍ ... ويعد يزيد والحرون حبيب
ومن هو أطراف القنا خشية الردى ... فليس لمجدٍ صالح بكسوب
وما هي إلا رقدة تورث العلا ... لرهطك ما حنت روائم نيب
وقوله:
ومن هر أطراف القنا خشية الردى
يقول: من كره، قال عنترة بن شداد:
خلفت لهم والخيل تردى بنا معاً ... نفارقهم حتى يهروا العواليا
عوالي زرقاً من رماح ردينةٍ ... هرير الكلاب يتقين الأفاعيا
والردى: الهلاك، وأكثر ما يستعمل في الموت. يقال: ردي يردى ردًى، قال الله عز وجل: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} 2، وهو "تفعل" من الردى في أحد التفسيرين، وقيل: إذا تردى في النار، أي إذا سقط فيها.
وقوله: " الحرون" فإن حبيب بن المهلب كان ربما انهزم عنه أصحابه فلا يريم مكانه، فكان يلقب الحرون3 .
وقوله:
وما هي إلا رقدة تورث العلا
فهذا مأخوذ من قول أخيه يزيد بن المهلب، وذلك أنه قال في يوم العقر وهو اليوم الذي قتل فيه: قاتل الله ابن الأشعث ما كان عليه لو غمض عينيه ساعة للموت، ولم يكن قتل نفسه وذلك أن ابن الأشعث قام في الليل وهو في
ـــــــ
1 زيادات ر: "يصف الشجاعة والنجدة".
2 سورة الليل 11.
3 س: "بالحرون".

سطح، للبول، فزعموا أنه ردى نفسه، وغير أهل هذا القول يقولون: بل سقط منه بسنة النوم .
وقوله: "تورث العلا لرهطك" فالمعنى تورث العلا رهطك، وهذه اللام تزاد في المفعول على معنى زيادتها في الإضافة، تقول: هذا ضاربٌ زيداً، وهذا ضاربٌ لزيدٍ، لأنها لا تغير معنى الإضافة إذا قلت: هذا ضارب زيدٍ وضارب له.
وفي القرآن: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} 1. وكذلك {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ}2 ويقول النحويون في قوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} 3 إنما هو "ردفكم".
والنيب: جمع ناب، وهي المسنة من الإبل، وتقديرها "فعل" ساكنة، وأبدلت من الضمة كسرة لتصح الياء، كما قلت في أبيض: بيضٌ، وإنما هو مثل أحمر وحمرٍ، وكذلك أشيب وشيبٌ، فتقدير ناب ونيب إذا جاء على"فعل" و"فعل" تقدير أسد وأسدٍ، ووثنٍ ووثن، وناب تقديرها "فعلٌ" وإنما انقلبت الباء ألفاً فسكنت، وإنما تنقلب إذا كانت في موضع حركة. والروائم قد مضى تفسيرها .
ـــــــ
1 سورة الزمر 12.
2 سورة يوسف 43.
3 سورة النحل 73.

شيخ من الأعراب وامرأته
وأنشدني الزيادي قال: أنشدني أبو زيد، نظر شيخٌ من الأعراب إلى امرأته تتصنع وهي عجوز فقال:
عجوز ترجي أن تكون فتيةٌ ... وقد لحب الجنبان واحدودب الضهر
تدس إلى العطار سلعة بيتها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
قال أبو الحسن: وزادني غير أبي العباس في شعر هذا الأعرابي:

وماغرني إلا خضابٌ بكفها ... وكحل بعينيها وأثوابها الصفر
وجاؤوا بها قبل المحاق بليلةٍ ... فكان محاقاً كله ذلك الشهر
قال: فقالت له امرأته1:
ألم تر أن الناب تحلب علبةٌ ... ويترك ثلب، لا ضرابٌ ولا ظهر!
قال: ثم استغاثت بالنساء. وطلب الرجال فإذا هم خلوفٌ2، فاجتمع النساء عليه فضربنه.
قوله: "قد لحب الجنبان"،يقول: قل لحمهما، يقال: بعير ملحوبٌ وقد لحب مثل عرق.
وقوله:
تدس إلى العطار سلعة بيتها
يريد السويق والدقيق وما أشبه ذلك، وكل عرضٍ فالعرب تقول له: سلعة، أنشدني عمارة بن عقيل شعراٌ يمدح به خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني ويذم تميم ابن خزيمة بن حازم النهشلي:
أأترك إن قلت دراهم خالدٍ ... زيارته? إني إذاٌ للئيم
وقد يسلع المرء3 اللئيم اصطناعه ... ويعتل نقد المرء وهو كريم
فتى واسطٌ في ابني نزارٍ، مجببٌ ... إلى ابني نزارٍ، في الخطوب عميم4
فليت ببرديه لنا كان خالدٌ ... وكان لبكرٍ في الثراء تميم
فيصبح فينا سابقٌ متمهلٌ ... أغر، وفي بكرٍ أغم بهيم
قوله:
وقد يسلع المرء اللئيم اصطناعه
أي يكثر سلعته لاصطناعه.
ـــــــ
1 س: "فقالت المرأة".
2 خلوف: غائبون.
3 زيادات ر: "من رفع "المرء" فصب اصطناعه" وأما على تفسير أبى العباس فبنصب "اصطناعه" لاغير".
4 فتى واسط في قومه:شريف فيهم.

وقوله: "أغم بهيم"، فالغم كثرة شعر الوجه والقفا، قال هذبة بن خشرمٍ العذري: فلا
تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا
والعرب تكره الغمم. والبهيم: الذي لا يخلط لونه غيره من أي لون كان .
وقولها:
ألم تر أن الناب تحلب علبة
تقول فيها منفعة على حال، والعلبة: إناء لهم من جلود يحلبون فيه، من ذلك قوله:
لم تتلفع بفضل مئزرها ... دعدٌ، ولم تغد بالعلب
ومن أمثال العرب: "قد تحلب الضجور العلبة"، يضربون ذلك للرجل البخيل الذي لا يزال ينال منه الشيء القليل، والضجور: الناقة السيئة الخلق، إنما تحلب حين تطلع عليها الشمس فتطيب نفسها، والثلب: الذي قد انتهى في السن من الإبل.

من أقوالهم في الفقر والغنى
وقال آخر:
لم أر مثل الفقر أوضع للفتى ... ولم أرى مثل المال أرفع للرذل
ولم أر عزاً لامرئ كعشيرةٍ ... ولم أر ذلاً مثل نأي عن الأصل
ولم أر من عدم أضر على امرئٍ ... إذا عاش بين الناس من عدم العقل
وقال آخر:
لعمري، لقوم المرء خير بقيةٍ ... عليه، وإن عالوا به كل مركب
من الجانب الأقصى وإن كان ذا غنى ... جزيل ولم يخبرك مثل مجرب
وإن خبرتك النفس أنك قادرٌ ... على ما حوت أيدي الرجال فكذب
إذا كنت في قومٍ عداً لست منهم ... فكل ما علفت من خبيثٍ وطيب

العدا: الغرباء في هذا الموضع، ويقال للأعداء عداً، والعداة الأعداء لا غير.
وقال أعرابي من باهلو:
سأعمل نص العيس حتى يكفني ... غنى المال يوماً أو غنى الحدثان
فللموت خيرٌ من حياة يرى لها ... على المرء ذي العلياء مس هوان
متى يتكلم يلغ حكم مقاله ... وإن لم يقل قالوا عديم بيان
كأن الغنى في أهله بورك الغنى ... بغير لسانٍ ناطقٌ بلسان

من أخبار حارثة بن بدر الغداني
ونظير هذا الشعر ما حدثنا به في أمر حارثة بن بدرٍ الغداني، فإنا حدثنا عن حارثة بن بدر، وكان رجل بني تميم في وقته. وكان قد غلب على زيادٍ، وكان الشراب قد غلب عليه، فقيل لزيادٍ: إن هذا قد غلب عليك وهو مستهترٌ1 بالشراب، فقال زياد: كيف لي بأطراح رجلٍ هو يسايرني منذ دخلت العراق، لم يصكك ركابي ركباه، ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عني فلويت عنقي إليه، ولا أخذ علي الشمس في شتاءٍ قط، ولا الروح في صيف قط، ولا سألته عن علم إلا ظننت أنه لم يحسن غيره. فلما مات زيادٌ جفاه عبيد الله، فقال له حارثة: أيها الأمير، ما هذا الجفاء مع معرفتك بالحال عند أبي المغيرة2 فقال له عبيد الله: إن أبا المغيرة كان قد برع بروعاً لا يلحقه معه عيب، وأنا حدثٌ، وإنما أنسب إلى من يغلب علي، وأنت رجل تديم الشراب، فمتى قربتك فظهرت رائحة الشراب منك لم آمن أن يظن بي، فدع النبيذ وكن أول داخل علي وآخر خارج عني، فقال له حارثة: أنا لا أدعه لمن يملك ضري ونفعي، أفأدعه للحال عندك قال: فاختر من عملي ما شئت، قال: توليني رامهرمز3، فإنها أرض عذاةٌ4، وسرق5 فإن بها شراباً وصف لي. فولاه إياهما، فلما خرج شيعه الناس، فقال أنس بن أبي أنيس:
ـــــــ
1 مستهتر بالشراب. مولع به.
2 كنيةزياد.
3 رامهرمز: مدينة في بلاد الفرس.
4 أرض غذاة: طيبة.
5 سرق: إحدى كور الأهواز.

أحار بن بدرٍ قد وليت إمارةً ... فكن جرذاً فيها تخون وتسرق
ولا تحقرن يا حار شيئاً وجدته ... فحظك من ملك العراقين سرق
وباه تميماً بالغنى إن للغنى ... لساناً به المرء الهيوبة ينطق1
فإن جميع الناس، إما مكذبٌ ... يقمل بما يهوى وإما مصدق
يقولون أقوالاً ولا يعلمونها ... ولو قيل: هاتوا حققوا لم يحققوا
ورثى حارثة بن بدرٍ زياداً وكان زياد مات بالكوفة، ودفن بالثوية فقال:
صلى الله على قبر وطهره ... عند الثوية يسفي فوقه المور
زفت إليه قريشٌ نعش سيدها ... فثم كل التقى والبر مقبور
أبا المغيرة والدنيا مفجعةٌ ... وإن من غرت الدنيا لمغرور
وقد كان عندك بالمعروف معرفةٌ ... وكان عندك للنكراء تنكير
وكنت تغشي وتعطي المال من سعةٍ ... إن كان بيتك أضحى وهو مهجور
الناس بعدك قد خفت حلومهم ... كأنما نفخت فيها الأعاصير
ونطير هذا قول مهلهل يرثي أخاه كليباً، وكان كليبٌ إذا جلس لم يرفع بحضرته صوت، ولم يستب بفنائه اثنان:
ذهب الخيار من المعاشر كلهم ... واستب بعدك يا كليب المجلس
وتقاولوا في أمر كل عظيمة ... لو كنت حاضر أمرهم لم ينسبوا
قول حارثة: "الثوية"، فهي بناحية الكوفة، ومن قال الثوية: فهو تصغير الثوية، وكل ياء أخرى فوقعت معتلةً طرفاً في التصغير فوليتها ياء التصغير فهي محذوفة، وذلك قولك في عطاءٍ: عطي، وكان الأصل عطييٌ، كما تقول في سحاب: سحيب، ولكنها تحذف لاعتلالها، واجتماعياءين معها، وتقول في تصغير أحوى: أحي، في قول من قال في أسود: أسيد، وهو الوجه الجيد، لأن الياء الساكنة إذا كانت بعدها واو متحركة قلبتها ياء، كقولك: أيام، والأصل "أيوام"، وكذلك سيد، والأصل سيودٌ، ومن قال في تصغير أسود: أسيودٌ فهو جائز، وليس كالأول قال في تصغير أحوى أحيو يا فتى، فتثبت الياء، لأنه ليس فيها ما يمنعها نم اجتماع الياءات، ومن قال أسود، فإنما أظهر الواو، لأنها كانت
ـــــــ
1الهيوبة: الجبان.

في التكبير متحركة، ولا تقول في عجوز إلا عجيزةٌ لأنها ساكنة، وإنما يجوز هذا على بعدٍ إذا كانت الواو في موضع العين من الفعل، أو ملحقة بالعين، نحو واو جدول، وإنما استجازوا إظهارها في التصغير للتشبيه بالجمع،لأن ما جاوز الثلاثة فتصغيرهعلى مثال جمعه، ألا تراهم يقولون في الجمع: أساود وجداول. فهذا على التشبيه بهذا. فإن كانت الواو في موضع اللام كانت منقلبة على كل حال، تقول في غزوة: غزيةٌ، وفي عروة: عريةٌ، فهذا شرح صالح في الموضوع، وهو مستقصى في الكتاب المقتضب.
وقوله: "يسفي فوقه المور"، فمعناه أن الريح تسفيه، وجعل الفعل للمور وهو التراب، وتقول: سقاك الله الغيث، ثم يجوز أن تجعل الفعل للغيث، فتقول: سقاك الغيث يا فتى، وقال علقمة بن عبدة:
سقاك يمانٍ ذو حبي وعارضٌ ... تروح به جنح العشي جنوب
وقوله:
زفت إليه قريش نعش سيدها
يقال: زففت السرير، وزففت العروس. وحدثني أبو عثمان المازني قال: حدثني الزيادي قال: سمعت قوماً من العرب يقولون: أزففت العروس، وهي لغةٌ.
وقوله: "نعش سيدها" يريد موضعه من النسب، لأنه نسبه إلى أبي سفيان. وكان رئيس قريش من قبل مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وله يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل الصيد في بطن الفرا". وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفرش فراشاً في بيته في وقت خلافته فلا يجلس عليه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب، ويقول: هذا عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا شيخ قريش. وكان حرب بن أمية رئيس قريش يوم الفجار، فكان آل حرب إذا ركبوا في قومهم من بني أمية قدموا في المواكب، وأخليت لهم صدور المجالس، إلا رهط عثمان رضي الله عنه، فإن التقديم لهم في الإسلام بعثمان. وكان أبو سفيان صاحب العير يوم بدرٍ، وصاحب الجيش يوم

أحد وفي يوم الخندق، وإليه كانت تنظر قريش في يوم فتح مكة، وجعل له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه من دخل في داره فهو آمن قي حديث مشهور.
وقوله:
كأنما نفخت فيها الأعاصير
هذا مثل، وإنما يراد خفة الحلوم. والإعصار فيما ذكر أبو عبيدة: ريح تهب بشدة فيما بين السماء والأرض. ومن أمثال العرب: "إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً"، يضرب للرجل يكون جلداً فيصادف من هو أجلد منه، قال لله عز وجل: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} 1.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل الصيد في بطن الفرا" يعني الحمار الوحشي، وذلك أن أجل شيئ يصيده الصائد الحمار الوحشي، فإذا ظفر به، فكأنه قد ظفر بجملة الصيد، والعرب تختلف فيه، فبعضهم يهمزه فيقول: هذا فرأ، كما ترى، وهو الأكثر، وبعضهم لا يهمزه، ومن أمثالهم "أنكحنا الفرا، فسنرى" أي زوجنا من لا خير فيه فسنعلم كيف العاقبة، وجمعه في القولين جميعاً "فراءٌ" كما ترى، ونظيره: جملٌ وجمالٌ، وجبلٌ وجبالٌ قال الشاعر2:
بضرب كآذان الفراء فضوله ... وطعنٍ كإيزاع المخاض تبورها
الإيزاع: دفع الناقة ببولها، يقال: أوزعت به إيزاعاً، وأزغلت به إزغالً، وذلك حين تلقح، فعند ذلك يقال لها: خلفةٌ، وللجميع المخاض، وقد مر هذا. والبور: أن تعرض على الفحل ليعلم أهي حامل أم حائل ?
ـــــــ
1 سورة البقرة 266.
2 هو مالك بن زغبه الباهلى.

لضابئ البرمجي وهو في السجن
وقال ضابئ بن الحارث البرمجي1:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقياراً بها لغريب
وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحاً ولا عن ريثهن يخيب
ورب أمور لا تضيرك ضيرةً ... وللقلب من مخاشتهن وجييب
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
ـــــــ
1 زيادات ر: "من السجن".

وقوله:
فإني وقياراً بها لغريب
أراد: فإني لغريب بها وقياراٌ، ولو رفع لكان جيداٌ، تقول: إن زيداٌ منطلقٌ وعمراٌ وعمرو، فمن قال: "عمراٌ" فإنما رده على زيد، ومن قال: "عمرو" فله وجهان من الإعراب: أحدهما جيد، والآخر جائز، فأما الجيد فأن تحمل عمراٌ على الموضع، لأنك إذا قلت: إن زيداٌ منطلق فمعناه زيد منطلق فرددته على الموضع، ومثل هذا لست بقائم ولا قاعداً، والباء زائدةٌ، لأن المعنى لست قائماٌ ولا قاعداٌ، ويقرأ على وجهين: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 1 {وَرَسُولُهُ} والوجه الآخر لأن يكون معطوفاٌ على المضمر في الخبر، فإن قلت إن زيداٌ منطلق هو وعمرو حسن العطف لأن المضمر المرفوع إنما يحسن العطف عليه إذا أكدته، كما قال الله تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} 2 و{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} 3 إنما قبح العطف عليه بغير تأكيد لأنه لا يخلو من أن يكون مستكنا في الفعل بغير علامة، أو في الاسم الذي يجري مجرى الفعل، نحو إن زيداً ذهب وإن زيداٌ ذاهب فلا علامة له، أو تكون له علامة يتغير لها الفعل عما كان نحو ضربت، سكنت الباء التي هي لام الفعل من أجل الضمير لأن الفعل والفاعل لاينفك أحدهما عن صاحبه فهما كالشيء الواحد، ولكن المنصوب يجوز العطف عليه، ويحسن بلا تأكيد، لأنه لا يغير الفعل إذ كان الفعل قد يقع ولا مفعول فيه، نحو ضربتك وزيداً، فأما قول الله عز وجل: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} 4 فإنما يحسن بغير توكيد لأن" لا" صارت عوضاً، والشاعرإذا احتاج أجراه بلا توكيد لا حتمال الشعر ما لا يحسن في الكلام. وقال عمر بن أبي ربيعة:
قلت إذا أقبلت وزهرٌ تهادى ... كنعاج الملا تعفسن رملا
وقال جرير:
ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه ... ما لم يكن وأبٌ له لينالا
فهذا كثير. فأما النعت إذا قلت إن زيداً يقوم العاقل فأنت مخير إن شئت
ـــــــ
1 سورة التوبة 3.
2 سورة المائدة 24.
3 سورة البقرة 35.
4 سورة الأنعام 148.

قلت العاقل فجعلته نعتاً لزيد، أو نصبته على المدح وهو بإظمار أعني، وإن شئت رفعت على أن تبدله من المضمر في الفعل، وإن شئت كان على قطع وابتدءٍ، كأنك قلت إن زيداً قام، فقيل من هو فقلت: العاقل، كما قال الله عز وجل: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} 1 ، أي هو النار والآية تقرأ على وجهين على ما فسرنا: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} 2 وعلام "الغيوب".
وقوله:
وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحاً ............................
يقول: إذا لم تعجل له طير سانحةٌ فليس ذلك بمبعدٍ خيراً عنه، ولا إذا أبطأت خاب، فعاجلها لا يأتيه بخير، وآجلها لا يدفعه عنه، إنما له ما قدر له، والعرب تزجر على السانح وتتبرك به، وتكره البارح وتتشاءم به، والسانح: ما أراك مياسره فأمكن الصائد، والبارح: ما أراك ميامنه فلم يمكن الصائد، إلا أن ينحرف له، وقد قال الشاعر:
لا يعلم المرء ليلاً ما يصبحه ... إلا كواذب مما يخبر الفال
والفال والزجر والكهان كلهم ... مضللون، ودون الغيب أقفال
وقوله:
ورب أمورٍ لا تضيرك ضيرةً ... وللقلب من مخشلتهم وجيب3
فإن العرب تقول: ضارة يضيرة ضيرةً، ولا ضرر عليه، وضره يضره، ولا ضرر عليه [ولا ضر عليه]4، ويقال أصابه ضر بمعنى، والضر مصدر، والضر اسم، وقد يكون الضر من المرض، والضر عاماً، وهذا معنى حسن، وقد قال أحد المحدثين، وهو إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية:
وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ... وينجو بإذن الله من حيث بحذر
ـــــــ
1 سورة الحج 72.
2 سورة سبأ 48.
3 المخشاة: الخشية: والوجيب: خفقاق القلب واضطرابه.
4 الزيادة من س.

وقال الله عز وجل: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} 1.
وقال رجل لمعاوية: والله لقد بايعتك وأنا كاره، فقال معاوية: قد جعل الله في الكره خيراً كثيراً .
وقوله:
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
نظيره قول كثير:
أقول لها يا عز كل مصيبةٍ ... إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت
وكان عبد الملك بن مروان يقول: لو كان قال هذا البيت في صفة الحرب لكان أشعر الناس .
وحكي عن بعض الصالحين أن ابناً له مات فلم ير به جزعٌ، فقيل له في ذلك، فقال: هذا أمر كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره.
ـــــــ
1 سورة النساء 19.

باب

جرير بن عبد الله البجلي عند معاوية
قال أبو العباس: وجه علي بن أبي طالب رضي الله عنه جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية رحمه الله يأخذه بالبيعة له، فقال له: إن حولي من ترى من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المهاجرين والأنصار، ولكني اخترتك لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيك: "خير ذي يمن"، إيت معاوية فخذه بالبيعة، فقال جرير: والله ياأمير المؤمنين ما أدخرك من نصرتي شيئاً، وما أطمع لك في معاوية، فقال علي رضي الله عنه: إنما قصدي حجة أقيمها عليه، فلما إتاه جرير دافعه معاوية، فقال له جريرٌ: إن المنافق لا يصلي حتى لا يجد من الصلاة بداً، ولا أحسبك تبايع حتى لا تجد من البيعة بداً فقال له معاوية: إنها ليست بخدعة الصبي عن اللبن إنه أمر له ما بعده، فأبلعني ريقي. فناظر عمراً، فطالت المناظرة بينهما، وألح عليه جرير، فقال له معاوية: ألقاك بالفصل في أول مجلس إن شاء الله تعالى.
ثم كتب لعمرو بمصر طعمة، وكتب عليه: "ولا ينقض شرطٌ طاعة"، فقال عمرو: يا غلام اكتب، ولا تنقض طاعة شرطاً، فلما اجتمع له أمره رفع عقيرته1 ينشد ليسمع جريراً:
تطاول ليلي واعترتني وساوسي ... لآتٍ أتى بالترهات البسابس2
أتاني جريرٌ والحوادث جمةٌ ... بتلك التي فيها اجتداع المعاطس
أكايده والسيف بيني وبينه ... ولست لأثوب الدني بلابس
إن الشأم أعطت طاعةً بمنية ... تواصفها أشياخها في المجالس
فإن يفعلو أصدم علياً بجبهةٍ3 ... تفت عليه كل رطبٍ ويابس
وإني لأرجو خير ما نال نائلٌ ... وما أنا من ملك العراق بيائس
ـــــــ
1 العقيرة: الصوت.
2 البسابس في الأصل: القفر الواسع، يري الأباطيل.
3 زيادات ر: "الجبهة: جماعة الخيل".

كتاب معاوية إلى علي
وكتب إلى علي رضي الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب: أما بعد: فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين، وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل، وقوي بك الضعيف. وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كان شورى بين المسلمين. ولعمري ما حجتك علي كحجتك على طلحة والزبير، لأنهما بايعاك ولم أبايعك. وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة لأن أهل البصرة، أطاعوك ولم يعطك أهل الشام، وأما شرفك في الإسلام، وقرابتك من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وموضعك من قريش فلست أدفعه. ثم كتب في كتاب إليه في آخر الكتاب بشعر كعب بن جعيل، وهو:
أرى الشأم تكره ملك العراق ... وأهل العراق لهم كارهيناً
وكلا لصاحبه مبغضاً ... يرى كل ما كان من ذاك دينا
إذا ما رمونا رميناهم ... ودناهم مثل ما يقرضونا
فقالوا: علي إمامٌ لنا ... فقلنا: رضينا ابن هند رضينا
وقالوا: نرى أن تدينوا له ... فقلنا: ألا لا نرى أن ندينا
ومن دون ذلك خرط القتاد ... وضربٌ وطعنٌ يقر العيونا
وأحسن الروايتين: "يفض الشؤونا". وفي آخر هذا الشعر ذم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أمسكنا عن ذكره.
قوله: "ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين" فهو من الإغراء وهو التحضيض عليه، يقال أغريته به، وآسدته الكلب على الصيد أوسه إيساداً، ومن قال: أشليت الكلب في معنى أغريت فقد أخطأ، إنما أشليته دعوته إلي وآسدته أغريته.
وقول ابن جعيل:
وأهل العراق لهم كارهينا
محمول على "أرى" ومن قال:
وأهل العراق لهم كارهونا

فالرفع من وجهين: أحدهما قطعٌ وابتداءٌ، ثم عطف جملة على جملة بالواو، ولم يحمله على أرى، ولكن كقولك كان زيدٌ منطلقاً، وعمرو منطلقٌ الساعة، خبرت بخبر بعد خبر، والوجه الآخر أن تكون الواو وما بعدها حالاً، فيكون معناها "إذ"، كما تقول رأيت زيداً قائماً وعمرو منطلق، تريد إذ: عمٌرو منطلق. وهذه الآية تحمل على هذا المعنى، وهو قول الله عز وجل: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} 1، والمعنى والله أعلم: إذ طائفةٌ في هذه الحال وكذلك قراءة من قرأ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} 2 ، أي والبحر هذه حاله، وإن قرأ {وَالْبَحْرُ} فعلى"أن"0
وقوله:
ودناهم مثل ما يقرضونا
يقول جزيناهم. وقال المفسرون في قوله عز وجل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 3. قالوا: يوم الجزاء والحساب، ومن أمثال العرب: "كما تدين تدان"، وأنشد أبو عبيدة4:
واعلم وأيقن أن ملكك زائلٌ ... واعلم بأن كما تدين تدان
وللدين مواضع منها كا ذكرنا، ومنها الطاعة ودين الإسلام من ذلك يقال: فلان في دين فلانٍ، أي لم يكونوا في دين ملك، وقال زهيرٌ:
لئن حللت بجو في بني أسدٍ ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك
فهذا يريد: في طاعة عمرو بن هند، والدين: العادة، يقال: ما زال هذا ديني ودأبي وعادتي وديدني وإجرياي، قال المثقب العبدي:
ـــــــ
1 سورة آل عمران 154.
2 سورة لقمان 27.
3 سورة الفاتحة 4.
4 زيادات: "الشعر ليزيد بن الصعق الكلابى وله خبر". وقد أورد هذا الخبر المرصفى في رغبة الأمل:215،214:3.

تقول إذا درأت لها وضيني ... أهذا دينه أبداً وديني
أكل الدهر حل وارتحالٌ ... أما تبقي علي وما تقيني
وقال المكيت بن زيدٍ:
على ذاك إجرياي وهي ضريبتي ... وإن أجلبوا طراً علي وأحلبوا1
وقوله:
فقلنا: رضينا ابن هند رضينا
يعني معاوية بن أبي سفيان، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
وقوله: "أن تدينوا له" ، أي أن تطيعوه وتدخلوا في دينه: أي في طاعته:
وقوله:
ومن دون ذلك خرط القتاد
فهذا مثل من أمثال العرب، القتاد: شجيرة شاكة غليظة أصول الشوك، فلذلك يضرب خرطه مثلاً في الأمر الشديد، لأنه غاية الجهد. ومن قال: "يفض الشؤونا"، فيفض يفرق، تقول: فضضت عليه المال. والشؤون، وأحدها شأن، وهي مواصل قبائل الرأس، وذلك أن للرأس أربع قبائل، أي قطع مشعوبٌ بعضها إلى بعض، فموضع شعبها يقال له: الشؤون، واحدها شأنٌ، وزعم الأصمعي قال: يقال إن مجاري الدموع منها، فلذلك يقال استهلت شؤونه، وأنشد قول أوس من حجرٍ:
لا تحزنيني بالفراق فإنني ... لا تستهل من الفراق شؤوني
ومن قال "يقر العيونا"، ففيه قولان: أحدهما للأصمعي، وكان يقول: لا يجوز غيره، يقال: قرت عينه وأقرها الله، وقال: إنما هو بردت من القر، وهو خلاف قولهم: سخنت عينه وأسخنها الله، وغيره يقول: قرت هدأت، وأقرها الله أهدأها الله، وهذا قول حسن جميل، والأول أغرب وأطرف.
ـــــــ
1 اجرياى: عادتى. وأجلبوا: صاحوا. وأحلبوا: تألبوا.

جواب علي بن أبي طالب لمعاوية
فكتب إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه جواب هذه الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، من علي بن أبي طالب إلى معاوية بن صخر، أما بعد: فإنه أتاني منك كتاب امرىء ليس له بصرٌ يهديه، ولا قائدٌ يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده فاتبعه، زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان. ولعمري ما كنت إلا رجلاً من المهاجرين أوردت كما أوردوا، وأصدرت كما أصدروا، وما كان الله ليجمعهم على ضلال، ولا ليضربهم بالعمى.
وبعد، فما أنت وعثمان إنما أنت رجل من بني أمية، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه، فإن زعمت أنك أقوى على ذلك، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكم القوم إلي. وأما تمييزك بينك وبين طلحة والزبير وأهل الشام وأهل البصرة، فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا سواءٌ، لأنها بيعةٌ شاملة، لا يستثنى فيها الخيار، ولا يستأنف فيها النظر. وأما شرفي في الإسلام، وقرابتي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وموضعي من قريش، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته".
ثم عاد النجاشي أحد بني الحارث بن كعب فقال له: إن ابن جعيلٍ شاعر أهل الشام، وأنت شاعر أهل العراق، فأجب الرجل، فقال: ياأمير المؤمنين، أسمعني قوله، قال: إذاً أسمعك شعر شاعرٍ، فقال النجاشي يجيبه:
دعاً يا معاوي مالن يكونا ... فقد حقق الله ما تحذرون
أتاكم عليٌ بأهل العراق ... وأهل الحجاز فما تصنعونا
وبعد هذا ما نمسك عنه.
قوله: "ليسي له بصر يهديه" ،فمعناه يقوده، والهادي: هو الذي يتقدم فيدل، والحادي: الذي يتأخر فيسوق، والعنق يسمى الهادي لتقدمه، قال الأعشى:
إذا كان هادي الفتى في البلا ... د صدر القناة أطاع الأميرا
يصف أنه قد عمي فإنما تهديه عصاً، ألا تراه يقول:
وهاب العثار إذا ما مشى ... وخال السهولة وعثاً وعورا

وقال القطامي:
إني وإن كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلا ضربة الهادي
وقال أيضاً:
قربن يقصون من بزل مخيسة ... ومن عرابٍ بعيداتٍ من الحادي
وقوله: "ولا قائد يرشده" قد أبان به الأول.
وقوله: "دعاه الهوى" فالهوى من" هويت" مقصور، وتقديره "فعل"، فانقلبت الياء ألفاً، فلذلك كان مقصوراً، وإنما كان كذلك لأنك تقول: هوي يهوى، كما تقول: فرق يفرق وهو هو، كما تقول: هو فرق، كما ترى، وكان المصدر على"فعل"، بمنزلة الفرق والحذر والبطر. لأن الوزن واحد في الفعل واسم الفاعل، فأما الهواء، من الجو فمدود، يدلك على ذلك جمعة إذا قلت: أهويةٌ، لأن أفعله إنما تكون جمع فعالٍ وفعالٍ وفعولٍ وفعيل، كما تقول قذالٌ وأقذلةٌ وحمار وأحمرةٌ، فهواءٌ كذلك، والمقصور جمعه أهواء فاعلم، لأنه على فعل، وجمع فعل أفعالٌ كما تقول: جمل وأجمال وقتب وأقتاب، قال الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} 1. وقوله هذا هواء يا فتى في صفة الرجل إنما هو ذمٌ، يقول: لا قلب له، قال الله عز وجل: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ} 2 أي خالية، وقال زهير:
كأن الرحل منها فوق صعلٍ ... من الظلمان جؤجؤه هواء
وهذا من هواء الجو، قال الهذلي3:
هواءٌ مثل بعلك مستميتٌ ... على ما في وعائك كالخيال
وكل واو مكسورة وقعت أولاً فهمزها جائز ينشد: "على ما في إعائك"، ويقال: وسادةٌ وإسادةٌ وشاحٌ وإشاحٌ.
وأما قوله: "فما أنت وعثمان" فالرفع فيه الوجه لأنه عطف اسماً ظاهراً على اسم مضمر منفصل وأجراه مجراه، وليس ههنا فعل، فيحمل على المفعول، فكأنه قال: فما أنت وما عثمان، هذا تقديره في العربية، ومعناه لست منه في شيء، قد
ـــــــ
1 سورة محمد 14.
2 سورة إبراهيم 43.
3 هو حبيب الأعلم، وانظر ديوان الهذليين 83:2.

ذكر سيبويه رحمه الله النصب وجوزه جوازاً حسناً وجعله مفعولاً معه، وأضمر كان من أجل الاستفهام، فتقديره عنده: ما كنت وفلاناً. وهذا الشعر كما أصف لك ينشد:
وأنت امرؤ من أهل نجدٍ وأهلنا ... تهامٍ وما النجدي والمتغور
وكذلك قوله1:
تكلفني سويق الكرم جرمٌ ... وما جرمُ وما ذاك السويق
فإن كان الأول مضمراً متصلاً كان النصب، لئلا يحمل ظاهر على مضمر، تقول: ما لك وزيداً وذلك أنه أضمر الفعل، فكأنه قال في التقدير: وملابستك زيداً، وفي النحو تقديره: مع زيد. وإنما صلح الإضمار لأن المعنى عليه إذا قلت: ما لك وزيداً فإنما تنهاه عن ملابسته، إذا لم يجز" وزيدٍ" وأضمرت لأن حروف الاستفهام للأفعال، فلو كان الفعل ظاهراً لكان على غير إضمار، نحو قولك: ما زلت وعبد الله حتى فعل، لأنه ليس يريد: ما زلت ومازال عبد الله، ولكنه أراد: وما زلت بعبد الله. فكان المفعول مخفوضاً بالياء، فلما زال ما خفضه وصل الفعل إليه فنصبه، كما قال تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} 2، فالواو في معنى مع، وليست بخافضة، فكان ما بعدها على الموضع، فعلى هذا ينشد هذا الشعر3:
فما لك والتلدد حول نجدٍ ... وقد غصت تهامة بالرجال4
ولو قلت: ما شأنك وزيداً لا ختير النصب، لأن زيداً لا يلتبس بالشأن، لأن المعوطف على الشيء أبداً في مثل حاله، ولو قلت: ما شانك وشأن زيد لرفعت، لأن الشأن يعطف على الشأن، وهذه الآية تفسر على وجهين من الإعراب: أحدهما هذا، وهو الأجود فبها وهو قوله عز وجل: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} 5. فالمعنى والله أعلم: مع شركائكم، لأنك تقول: جمعت
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو الأعجم".
2 سورة الأعراف 155.
3 زيادات ر: "هو مسكين الدارمى".
4 التلدد: التلفت يمينا وشمالا.
5 سورة يونس: 17.

قومي، وأجمعت أمري، ويجوز أن يكون لما أدخل الشركاء مع الأمر حمله على مثل مثل لفظه. لأن المعنى يرجع إلى شيء واحد، فيكون كقوله1:
ياليت زوجك قد غدا ... مقتلداً سيفاً ورمحا
وقال آخر:
شراب ألبانٍ وتمرٍ أقط
وهذا بين.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو عبد الله بن الزبعرى".

خالد بن يزيد بن معاوية عند عبد الملك بن مروان
ويروى أن عبد الله بن يزيد بن معاوية أتى أخاه خالداً، فقال: يا أخي، لقد هممت اليوم أن أفتك بالوليد بن عبد الملك فقال له خالد: بئس والله ما هممت به في ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين فقال: إن خيلي مرت به فعبث بها وأصغرني، فقال له خالد: أنا أكفيك، فدخل خالد على عبد الملك والوليد عنده، فقال: يا أمير المؤمنين، الوليد ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين، فقال: إن خيلي مرت به فعبث بها وأصغرني، فقال له خالد: أنا أكفيك، فدخل خالد على عبد الملك والوليد عنده، فقال يا أمير المؤمنين، الوليد ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين، مرت به خيل ابن عمه عبد الله بن يزيد فعبث بها، وأصغره، وعبد الملك مطرق، فرفع رأسه، فقال: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 1 ، فقال خالد: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} 2، فقال عبد الملك: أفي عبد الله تكلمني والله لقد دخل علي فما أقام لسانه لحناً فقال له خالد: أفعلى الوليد تعول فقال عبد الملك: إن كان الوليد يلحن فإن أخاه سليمان، فقال له خالد: وإن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالد، فقال له الوليد: اسكت يا خالد، فوالله ما تعد في العير ولا في النفير، فقال خالد: اسمع يا أمير المؤمنين، ثم أقبل عليه وقال: ويحك فمن العير والنفيرغيري? جدي أبو سفيان صاحب العير، وجدي عتبة بن ربيعة صاحب النفير، ولكن لو قلت: غنيمات، وحبيلات، والطائف ورحم الله عثمان لقلنا: صدقت!
ـــــــ
1 سورة النمل: 34.
2 سورة الإسراء 16.

أما قوله: "في العير" فهي عير قريش التي أقبل بها أبو سفيان من الشأم فنهد إليها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وندب إليها المسلمين، وقال: "لعل الله ينفلكموها"، فكانت وقعة بدر، وساحل أبو سفيان بالعير، فكانت الغنيمة ببدر، كما قال الله عز وجل: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} 1 . أي غير الحرب، فلما ظفر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأهل بدر، قال المسلمون: انهد بنا2 يا رسول الله إلى العير، فقال العباس رحمه الله: إنما وعدكم الله إحدى الطائفتين.
وأما النفير فمن نفر من قريش ليدفع عن العير، فجاؤوا فكانت وقعة بدر، وكان شيخ القوم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وهو جد خالد من قبل جدته هند، أم معاوية بنت عتبة، ومن أمثال العرب:
لست في العير يوم يحدون ... بالعير ولا في النفير يوم النفير
ثم اتسع هذا المثل حتى صار يقال لمن لا يصلح لخير ولا لشر ولا يحفل به: لا في العير، ولا في النفير.
وقوله: "غنيمات، وحبيلات" يعني أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أطرد الحكم بن أبي العاصي بن أمية. وهو جد عبد الملك بن مروان لجأ إلى الطائف، فكان يرعى غنيمات، ويأوي إلى حبيلة وهي الكرمة.
وقوله: "رحم الله عثمان" : أي لرده إياه.
وقولنا" أطرده": أي جعله طريداً، وطرده: نحاه، كما تقول حمدته: أي شكرته، وأحمدته: أي صادفته محموداً. وكان عثمان رحمه الله استأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رده متى أفضى الأمر إليه، روى ذلك الفقهاء.
ـــــــ
1 سورة الأنفال: 7.
2 نهد ونهض كلاهما بمعنى واحد.

باب

لرجل من بني أسد يمدح يحيى بن حيان
قال أبو العباس: قال رجل من بني أسدٍ بن خزيمة يمدح يحيى بن حيان أخا النخع بن عمرو بن علة بن جلد مذحج، وهو مالك:
ألا جعل الله اليمانين كلهم ... فدى لفتى يحيى بن حيان
ولولا عريق في من عصبيةٍ ... لقلت وألفا من معد بن عدنان
ولكن نفسي لم تطب بعشيرتي ... وطابت له نفسي بأبناء قحطان
وهذا من التعصب المفرط.
وحدثني شيخ من الأزد ثقة عن رجل منهم أنه كان يطوف بالبيت، وهو يدعو لأبيه، فقيل له: ألاتدعو لأمك فقال: إنها تميمية.
وسمع رجل يطوف بالبيت، وهو يدعو لأمه ولا يذكر أباه، فعوتب، فقال: هذه ضعيفة، وأبي رجل يحتال لنفسه.
وحدثني المازني عمن حدثه قال: رأيت رجلاً يطوف بالبيت، وأمه على عنقه، وهو يقول:
أحمل أمي وهي الحماله ... ترضعني الدرة والعلاله
لا يجازى والد فعاله
قوله: "الدرة" فهو اسم ما يدر من ثدييها، ابتداء كان ذلك أو غير ذلك والعلالة لا تكون إلا بعد، يقال: عله يعله ويعله علاً، والاسم العلالة، وكل شيء كان على "فعلت" من المدغم. فمضارعه إذا كان متعدياً إلى مفعول يكون على يفعل، نحو رده يرده، وشجه يشجه، وفر يفره، فإذا قلت: فر يفر، فإنما ذلك لأنه غير متعد إلى مفعول، ولكن تقول: فررت الدابة أفره. وجاء "فعل يفعل" من المتعدي في ثلاثة أحرف يقال: عله يعله ويعله، وهره يهره ويهره: إذا كرهه،ويقال: أحبه يحبه، وجاء حبه يحبه، ولا يكون فيه "يفعل" قال الشاعر:
لعمرك إنني وطلاب مصر ... لكالمزداد مما حب بعدا

وقال آخر:
وأقسم لولا تمره ما حببته ... وكان عياض منه أدنى ومشرق
وقرأ أبو رجاء العطاردي: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 1، ففعل في هذا شيئين أحدهما أنه جاء به من "حببت" والآخر أنه أدغم في موضع الجزم وهو مذهب تميم وقيس وأسد وجماعة من العرب يقولون: رد يا فتى، يدغمون، ويحركون الدال الثانية لالتقاء الساكنين فيتبعون الضمة الضمة. ومنهم من يفتح لالتقاء الساكنين فيقول: رد يا فتى، لأن الفتح أخف الحركات، ومنهم من يقول رد يافتى فيكسر: لأن حق التقاء الساكنين الكسر، فإذا كان الفعل مكسوراً ففيه وجهان: تقول: فر يا فتى للإتباع وللأصل في ألتقاء الساكنين، وتفتح. لأن الفتح أخف الحركات، وإذا كان مفتوحاً فالفتح للإتباع، ولأنه أخف الحركات، والكسر على أصل التقاء الساكنين، نحو. عض، يا فتى، وعض يا فتى، فإذا لقيته ألف ولام فالأجود الكسر، من أجل ما بعده، وهي لام المعرفة، نحو:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
ومنهم من يجري مجرى الأول، فتقع لام المعرفة بعد انقضاء الحركة في الأول فيقول2:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
ومن كان من شأنه أن يتبع أو يكسر فعلى ذلك، ومما جاء في القرآن على لغة من يكسر قوله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 3.
وأما أهل الحجاز فيجرونه على القياس الأصلي، فيقول: اردد واغضض، ويقولون: افرر من زيد واعضض. لما سكن الثاني ظهر التضعيف لأنه لا يلتقي ساكنان، وكل ذلك من قولهم وقول التميميين قياس مطرد بين، وقد شرحناه في الكتاب المقتضب على حقيقة الشرح.
ـــــــ
1 سورة آل عمران 31.
2 زيادات ر: "هو جرير".
3 سورة الحشر 5.

لرجل في الصبر
وقال آخر:
إذا ضيقت أمراً ضاق جداً ... وإن هونت ما قد عز هانا
فلا تهلك لشيء فات يأساً ... فكم أمر تصعب ثم لانا
سأصبر عن رفيقي إن جفاني ... على كل الأذى إلا الهوانا
فإن المرء يجزع في خلاءٍ ... وإن حضر الجماعة أن يهانا

لعبيد بن أيوب العنبري
وقال آخر أحسبه من لصوص بني سعد.
قال أبو الحسن: هو عبيد بن أيوب العنبري، وأنشد هذا الشعر ثعلب:
فإني وتركي الإنس من بعد حبهم ... وصبري عمن كنت ما إن أزايله
لكالصقر جلى بعد ما صاد قنية ... قديراً ومشوياً عبيطاً خرادله
أهابوا به فازداد بعداً وصده ... عن القرب منهم ضوء برقٍ ووابله
ألم ترني صاحبت صفراء نبعة ... لها ربذي لم تفلل معابله
وطال احتضاني السيف حتى كأنما ... يلاط بكشحي جفنه وحمائله
أخو فلواتٍ صاحب الجن وانتحى ... عن الإنس حتى قد تقضت وساءله
له نسب الإنسي يعرف نجره ... وللجن منه شكله وشمائله
وقوله:
وصبري عمن كنت ما إن أزايله
إن: زائدة، وهي تزاد مغيرة للإعراب، وتزاد توكيداً، وهذا موضع ذلك، فالموضع الذي تغير فيه الإعراب هو وقوعها بعد"ما" الحجازية، تقول: ما زيدٌ أخاك، وما هذا بشراً، فإذا أدخلت إن هذه بطل النصب بدخولها، فقلت: ما إن زيد منطلق، قال الشاعر1:
وما إن طبنا جبنٌ ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو فروة بن مسبك".

فزعم سيبويه أنها منعت "ما" العمل كما منعت "ما" إن الثقيلة أن تنصب تقول: إن زيداً منطلق، فإذا أدخلت"ما" صارت من حروف الابتداء، ووقع بعدها المبتدأ وخبره والأفعال، نحو: إنما زيد أخوك، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1 ولولا "ما" لم يقع الفعل بعد"إن" لأن"إن" بمنزلة الفعل، ولا يلي فعل فعلاً لأنه لا يعمل فيه، فأما كان يقوم زيدٌ، "كاد يزيع قلوب فريق منهم" ففي كان وكاد فاعلان مكنيان.
و"ما" تزاد على ضربين، فأحدهما أن يكون دخولها في الكلام كإلغائها، نحو {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} 2 أي فبرحمة، وكذلك: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} 3 وكذلك {مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} 4 وتدخل لتغيير اللفظ، فتوجب في الشيء ما لولا هي لم يقع، نحو ربما ينطلق زيد، و{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} 5، ولولا" ما" لم تقع رب على الأفعال، لأنها من عوامل الأسماء، وكذلك جئت بعد ما قام زيد، كما قال المرار6:
أعلقة أم الوليد بعد ما ... أفنان رأسك كالثغام المخلس 7
فلولا" ما" لم يقع بعدها إلا اسم واحد، وكان مخفوضاً بإضافة" بعد" إليه، تقول: جئتك بعد زيد.
وقوله: "كالصقر جلى"، تأويل التجلي أن يكون يحس شيئاً فيتشوف إليه، فهذا معنى" جلى"، قال العجاج:
تجلى البازي إذا البازي كسر
أي نظر، ويقال: تجلى فلانٌ فلانه تجلياً، وأجتلاها اجتلاءً، أي نظر إليها وتأملها، والأصل واحد .
وقوله: " قديراً: ، هو ما يطبخ في القدر، يقال: قدير ومقدور، كقولك: قتيل ومقتولٌ .
ـــــــ
1 سورة فاطر 28.
2 سورة آل عمران 159.
3 سورة نوح 25.
4 سورة البقرة 26.
5 سورة الحجر 2.
6 زيادات ر: "هو المراد الفقعسى".
7 العلاقة: الحب. والوليد: تصغير الوليد، والأفتان في الصل: الغصون، وأراد بها هاهنا خصل الشعر.

وقوله:" عبيطاً خرادله"، فالعبيط الطري، يقال: لحم عبيط إذا كان طرياً، وكذلك دم عبيطٌ، ويقال اعتبط فلان بكرته إذا نحرها شابةً من غير علةٍ وكذلك اعتبط فلان إذا مات شاباً، قال أمية1:
من لم يمت عبطة يمت هرماً ... للموت كأس فالمرء ذائقها
وحدثني الزيادي إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن ابي بكر بن عبد الرحمن ابن زياد.
قال تحدث رجل من الأعراب، قال: نزلت برجل من طيئ، فنحر لي ناقة فأكلت منها، فلما كان الغد نحر أخرى، فقلت: إن عندك من اللحم ما يغني ويكفي، فقال: إني والله لا أطعم ضيفي إلا لحماً عبيطاً، قال: وفعل ذلك في اليوم الثالث وفي كل ذلك آكل شيئاً، ويأكل الطائي أكل جماعةٍ ثم نؤتى باللبن فأشرب شيئاً، ويشرب عامة الوطب2، فلما كان في اليوم الثالث ارتقبت غفلته فاضطجع، فلما امتلأ نوماً استقت قطيعاً من إبله فأقبلته الفج3، فانتبه واختصر علي الطريق حتى وقف لي في مضيق منه، فألقم وتره فوق4 سهمه، ثم نادى بي: لتطب نفسك عنها قلت أرني آية، فقال. انظر إلى ذلك الضب، فإني واضع سهمي في مغرز ذنبه، فرماه فأندر ذنبه5، فقلت زدني، فقال: انظر إلى أعلى فقاره، فرماه فأثبت سهمه في الموضع، ثم قال لي: الثالثة والله في كبدك فقلت: شأنك بإبلك فقال: كلا حتى تسوقها إلى حيث كانت. قال: فلما انتهيت بها قال: فكرت فيك فلم أجد لي عندك ترة تطالبني بها، وما أحسب الذي حملك على أخذ إبلي إلا الحاجة. قال: قلت هو والله ذاك. قال: فاعمد إلى عشرين من خيارها فخذها، فقلت: إذاٌ والله لاأفعل حتى تسمع مدحك: والله ما رأيت رجلاٌ أكرم ضيافةٌ، ولا أهدى لسبيلٍ، ولا أرمى كفاٌ، ولا أوسع صدراٌ، ولا أرغب6 جوفاٌ، ولا أكرم عفواٌ منك قال: فاستحيا فصرف وجهه عني، ثم قال: انصرف بالقطيع مباركاٌ لك فيه.
وقوله: "خرادله" يعني قطعه، يقال: ضرباٌ خردله، وتأويله قطعه، كما قال:
ـــــــ
1 زيادات ر: "ابن أبى الصلت، والصحيح أنه لرجل من الخوارج، عن الأصمعى".
2 الوطب: سقاء اللبن.
3 الفج: الطريق الواضح.
4 الفوق: مشق رأس السهم حيث يقع الوتر.
5 أندرذنبه: قطعها.
6 من الرغب، وهو سعة البطن وكثرة الأكل.

والضرب يمضي بيننا خرادلا
وقوله: "أهابوا به"، يقول: دعوه، يقال: أية به، وأهاب به: أي ناداه، قال القرشي:
أهاب بأحزان الفؤاد مهيب ... وماتت نفوس للهوى وقلوب
وقوله: "ضوء برق ووابله"، أراد صده عنهم ضوء برقٍ ووابله، فأضاف الوابل من المطر إلى البرق. وإنما الإضافة إلى الشيء على جهة التضمين، ولا يضاف الشيء إلى الشيء إلا وهو غيره أو بعضه، فالذي هو غيره: غلام زيدٍ ودار عمرو، والذي هو بعضه: ثوب خز، وخاتم حديد، وإنما أضاف الوابل إلى البرق، وليس هو له، كما قلت: دار زيد، على جهة المجاورة، وأنهما راجعان إلى السحابة، وقد يضاف ما كان كذا على السعة، كما قال الشاعر:
حتى أنخت قلوصي في دياركم ... بخير من يحتذي نعلاً وحافيها
فأضاف الحافي إلى النعل، والتقدير: حافٍ منها.
ألم ترني صاحبت صفراء نبعة
فالنبع خير الشجر للقسي، ويقال: إن النبع والشوحط والشريان شجرة واحدة، ولكنها تختلف أسماؤها وتكرم وتحسن بمنابتها، فما كان في قلة الجبل منها فهو النبع، وما كان في سفحه فهو الشوحط، وما كان في الحضيض فهو الشريان.
وقوله: "لها ربذي"، يريد وتراً شديد الحركة عند دفع السهم، يقال رجل ربذ اليد إذا كان يكثر التحريك ليديه والعبث بهما، ويوصف به الفرس لكثرة حركة قوائمه، وكان الأصل ربذاً لأنه" ربذ"، ولكن ما كان من "فعل" فنسب إليه فتح موضع العين منه استثقالاً لاجتماع ياءي النسب وكسرة اللام، لأن ياءي النسب تكسران ما تليانه، فلم يدعوا مع ذلك العين مكسورة، تقول في النسب إلى النمر بن قاسط: نمري، وإلى الحطبات: حبطي، وإلى شقرة وهو الحارث ابن تميم بن مر: شقري، وفي النسب إلى عم عموي يا فتى.

وقوله: "لم تفلل معابله"، يريد لم ينكسر حدها، من الفلول.
ويروى أن عروة بن الزبير سأل عبد الملك أن يرد عليه سيف أخيه عبد الله بن الزبير فأخرجه إليه في سيوف منتضاةٍ، فأخذه عروة من بينها، فقال له عبد الملك: بم عرفته فقال: بما قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
والمعبلة: واحد المعابل، وهي سهم خفيف، قال عنترة:
وآخر منهم أجررت رمحي ... وفي البجلي معبلة وقيع1
بإسكان الجيم لاغير .
[قال أبو الحسن: بجيلة: قبيلة من بني الهجيم، من اليمن].
ـــــــ
1 الوقيع، من وقع المدية ونحوها يقعها وقعا: أحدها. والبجلى: منسوب إلى بجلة، لقب مالك بن ثعلبة.

باب

لبعض الشعراء يحرض على خالد بن يزيد
قال أبوالعباس: تزوج خالد بن يزيد بن معاوية نساء هن شرف من هن منه، منهن أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وآمنة بنت سعيد بن العاصي بن أمية، ورملة بنت الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، ففي ذلك يقول بعض الشعراء يحرض عليه عبد الملك:
عليك أمير المؤمنين بخالدٍ ... ففي خالدٍ عما تحب صدود
إذا ما نظرنا في مناكح خالدٍ ... عرفنا الذي ينوي وأين يريد؟
فطلق آمنة بنت سعيد، فتزوجها الوليد بن عبد الملك، ففي ذلك يقول خالد:
فتاة أبوها ذو العصابة، وابنه ... وعثمان، ما أكفاؤها بكثير
فإن تفتلتها والخلافة، تنقلب ... بأكرم علقي منبر وسرير
قوله: " أبوها ذو العصابة"يعني سعيد بن العاصي بن أمية، وذلك أن قومه يذكرون أنه كان إذا اعتم لم يعتم قرشي إعظاماٌ له، وينشدون:
أبو أحيحة من يعتم عمته ... يضرب وإن كان ذا مالٍ وذا عدد
ويزعم الزبيريون أن هذا البيت باطل موضوع.
وقوله: " فإن تفتلتها" : يقول: تأخذها فجاءةٌ، ومن ذلك قول الشاعر:
من يأمن الأيام بعد ... صبيرة القرشي ماتا1
سبقت منيته المشيب ... وكان ميتته افتلاتا
وفي الحديث أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أمي افتلتت، أي ماتت فجاءة.
ـــــــ
1 زيادات ر: "صبيرة، بالصاد مهملة في الرواية المشهورة، وبالضاد معجمة، رواية عاصم، على الشرط وكسر النون لالتقاء الساكنين" رواية ابن سراج برفع "يأمن"، على الاستفهام".

لخالد بن يزيد في رملة بنت الزبير
ويروى أن آمنه لبثت عند الوليد، فلما هلك عبد الملك سعى بها ساع إلى الوليد. قال أبو العباس: وبلغني أنها سعت بها إحدى ضراتها إلى الوليد بأنها لم تبك على عبد الملك كما بكى نظائرها فقال لها الوليد في ذلك، فقالت: صدق القائل، أكنت قائلة ماذا أقول ياليته كان بقي حتى يقتل أخاً لي آخر كعمرو بن سعيد! وفي رملة بنت الزبير يقول خالد:
تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالاً يجول ولا قلبا1
فلا تكثروا فيها الملام فإنني ... تخيرتها منهم زبيرية قلبا2
أحب بني العوام طراً لحبها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
وزيد فيها:
فإن تسلمي أسلم وإن تتنصري ... يعلق رجال بين أعينهم صلبا
فيروى أن عبد الملك ذكر له هذا البيت، فقال له: يا خالد، أتروي هذا البيت فقال: يا أمير المؤمنين، على قائلة لعنة الله!
ـــــــ
1 القلب هنا: السوار.
2 امرأة قلب، بفتح القاف: خالصة النسب.

زواج الحجاج بن يوسف بابنة عبد الله بن جعفر ثم طلاقه لها
وذكر العتبي أن الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي لما أكره عبد الله بن جعفر على أن زوجه ابنته استأجله في نقلها سنة، ففكر عبد الله بن جعفر في الانفكاك منه، فألقي في روعه خالد بن يزيد، فكتب إليه يعلمه ذلك، وكان الحجاج تزوجها بإذن عبد الملك، فورد على خالد كتابه ليلاً، فاستأذن من ساعته على عبد الملك، فقيل له: أفي هذا الوقت فقال: إنه أمر لا يؤخر، فأعلم عبد الملك بذلك. فأذن له، فلما دخل عليه، قال له عبد الملك: فيم السرى يا أبا هاشم قال: أمر جليل لم آمن أن أؤخر، فتحدث علي حادثة فلا أكون قضيت حق بيعتك، قال: وما? قال: أتعلم أنه ما كان بين حيين من العداوة

والبغضاء ما كان آل الزبير وآل أبي سفيان? قال لا. قال: فإن تزويجي إلى آل الزبير حلل ما كان لهم في قلبي، فما أهل بيت أحب إلي منهم، قال: فإن ذلك ليكون، قال: فكيف أذنت للحجاج أن يتزوج في بني هاشم، وأنت تعلم ما يقولون ويقال فيهم، والحجاج من سلطانك بحيث علمت قال: فجزاه خيراٌ، وكتب إلى الحجاج بعزمةٍ أن يطلقها فطلقها، فغدا الناس عليه يعزونه عنها، فكان فين أتاه عمرو بن عتبة بن أبي سفيان، فأوقع الحجاج بخالد، فقال: كان الأمر لآبائه فعجز عنه حتى انتزع منه. فقال له عمرو بن عتبة: لاتقل ذا أيها الأمير، فإن لخالد قديماٌ سبق إليه، وحديثاٌ لم يغلب عليه، ولو طلب الأمر لطلبه بحد وجد، ولكنه علم علماٌ، فسلم العلم إلى أهله، فقال الحجاج: يا آل أبي سفيان، أنتم تحبون أن تحلموا ولا يكون الحلم إلا عن غضب، فنحن نغضبكم في العاجل ابتغاء مرضاتكم في الآجل، ثم قال الحجاج: والله لأتزوجن من هو أمس به رحماٌ، ثم لا يمكنه فيه شيء، فتزوج أم الجلاس بنت عبد الله بن خالد بن أسيد.
أما قوله: "ألقي في روعه" ، فإن العرب تقول ألقي في روعي، وفي قلبي وفي جخيفي وفي تاموري كذا كذا، ومعناه كله واحد، إلا أن لهذه الأشياء. مواضع مختصة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وصلم: "إن روح القدس نفث في روعي"، فالروع والجخيف غير مختلفين، والعرب تقول: أذهب الله قلبه، ولا قلب له. ولا تقول: لاروع له، فكأن الروع هو متصل بالقلب، وعنه يكون الفهم خاصة، ويقال: رأيت قلب الطائر. ولا يقال: رأيت روع الطائر، والتامور عند العرب: بقية النفس عند الموت، وبعضهم يفصح عنه فيجعله دم القلب خاصة الذي يبقى للا نسان ما بقي، يقال: ضعه في تامورك وفي قلبك وفي روعك وفي جخيفك. والذماء، ممدود: مثل التامور سواء تقول العرب: ليس في الحيوان أطول ذماء من الضب، وذلك أنه يذبح ثم يطرح في النار بعد أن ظن أنه قد برد فربما سعى من النار.

نبذ من أقوال الحكماء
وقال رجل لإبراهيم بن أدهم: عظني، فقال: اتخذ الله صاحباً وذر الناس جانباً.

قال سعيد بن المسيب: كنت بين القبر والمنبر مفكراً، فسمعت قائلاً ولم أره: اللهم إني أسألك عملاً باراً. ورزقاً داراً. وعيشاً قاراً.1
قال سعيد: فلزمتهن فلم أر إلا خيراً .
وقال الأصمعي: كان من دعاء أبي المجيب: اللهم اجعل خير عملي ما قارب أجلي .
قال: وكان يقول في دعائه: اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا فنعجز، ولا إلى الناس فنضيع.
ـــــــ
1 قارا: مستقرا.

أعرابي في حلقة يونس
قال: وحدثني أبو عثمان المازني قال: حدثني أبو زيد قال: وقف علينا أعرابي في حلقة يونس النحوي فقال: الحمد لله كما هو أهله، وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه، خرجنا من المدينة، مدينة رسول الله صلى الله عليه سلم، ثلاثين رجلاً ممن أخرجته الحاجة، وحمل على المكروه، لا يمرضون مريضهم، ولا يدفنون ميتهم، ولا ينتقلون من منزلٍ إلى منزل وإن كرهوه. والله يا قوم لقد جعت حتى أكلت النوى المحرق، ولقد مشيت حتى انتعلت، وحتى خرج من قدمي بخص ولحم كثير. أفلا رجل يرحم ابن سبيل، وفل طريق، ونضو سفر فإنه لا قليل من الأجر، ولا غنى عن ثواب الله عز وجل، ولا عمل بعد الموت، وهو الذي يقول جل ثناؤه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} 2 ملي وفي ماجد واجد جوادٌ، لا يستقرض من عوزٍ، ولكنه يبلو الأخيار. قال: فبلغني أنه لم يبرح حتى أخذ ستين ديناراً .
قوله: "بخص"، يريد اللحم الذي يركب القدم، هذا قول الأصمعي، وقال غيره: هو لحم يخلطه بياض من فساد يحل فيه، ويقال: بخصت عينه، بالصاد، ولا يجوز إلا ذلك، ويقال. بخسته حقه، بالسين: إذا ظلمته ونقصته، كما قال الله عز وجل: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} 3، وفي المثل: "تحسبها حمقاء وهي باخسٌ" ويدل على أنه اللحم الذي قد خالطه الفساد قول الراجز:
ـــــــ
1 قارا: مستقرا.
2 سورة البقرة 345.
3 سورة الأعراف 85.

[قال أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش: الراجز هو أبو شراعة]
يا قدمي لا أرى لي مخلصاً ... مما أراه أو تعودا بخصا1
وقوله "فل" فالفل في أكثر كلامهم: المنهزم الذاهب .
وفي خبر كعب بن معدان الأشعري2"إنا آثرنا الحد على الفل". يعني مجاهدتهم عبد ربه الصغير، لأنه كان مقبلاً على حربهم وتركهم قطرياً لأنه كان منهزماً.
ـــــــ
1 قال المرصفى: "يريد ذواتى بخس".
2 زيادات ر: "الأشقرى، بالقاف لاغير". وخبر كعب هو حديثه مع الحجاج بن يوسف، وكان قد وجهه المهلب بن أبى صفوة الأزدى يبشره بمناهدته الخوارج وفراغه لهم.
وانظر رغبة الأمل 28:5".

خبر الحجاج بن علاط السلمي مع قريش
وفي حديث الحجاج بن علاط السلمي. وكان قد أسلم ولم تعلم قريش بإسلامه، فاستأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم خيبر في أن يصيرإلى مكة فيأخذ ما كان له من مال، وكانت له هناك أموال متفرقة، وهو غريب بينهم إنما هو أحد بني سليم بن منصور، ثم أحد بني بهزٍ فأذن له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، إني أحتاج أن أقول، قال: "فقل".
قال أبو العباس: وهذا كلام حسن ومعنى حسن، يقول: أقول على جهةالاحتيال غير الحق، فأذن له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه من باب الحيلة، وليس هو من باب الفساد، وأكثر ما يقال في هذا المعنى تقول، كما قال المولى عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} 2 فصار إلى مكة فقالت قريش: هذا لعمر الله عنده الخبر. قال: فقولوا: بلغنا أن القاطع4 قد يخرج إلى أهل خيبر، فقال الحجاج: نعم، فقتلوا أصحابه قتلاً لم يسمع بمثله، وأخذوه أسيراً، وقالوا: نرى أن نكارم به قريشاً، فندفعه إليهم، فلا تنال لنا هذه اليد في رقابهم. وإنما بادرت لجمع مالي لعلي أصيب به من فل محمدٍ وأصحابه قبل أن تسبقني إليه
ـــــــ
1 سورة الطور 44.
2 يصفون محمدا بقطع الأرحام، وحاشاه.

التجار ويتصل بهم الحديث. قال: فاجتهدوا في أن جمعوا إلي مالي أسرع جمعٍ، وسروا أكثر سروراً، وقالوا بلا رغم1، وأتاني العباس وهو كالمرأة الواله2 فقال: ويحك يا حجاج ما تقول قال: فقلت: أكاتمٌ أنت علي خبري? فقال: إي والله قال: فقلت: فالبث علي شيئاً حتى يخف موضعي. قال فسرت إليه، فقلت. الخبر والله على خلاف ما قلت لهم، خلفت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد فتح خيبر، وخلفته والله معرساً بابنة ملكهم، وما جئتك إلا مسلماً، فاطو الخبر ثلاثاً حتى أعجز القوم، ثم أشعه، فإنه والله الحق، فقال: العباس: ويحك، أحق ما تقول? قلت إي والله قال: فلما كان بعد ثلاثة تخلق العباس، وأخذ عصاه وخرج يطوف بالبيت قال: فقالت: قريش: يا أبا الفضل، هذا والله التجلد لحر المصيبة فقال: كلا، ومن حلفتم به لقد فتحها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعرس بابنة ملكهم فقالوا: من اتاك بهذا الحديث? فقال: الذي أتاكم بخلافه، ولقد جاءنا مسلماً، ثم أتت الأخبار من النواحي بذلك، فقالوا: أفلتنا الخبيث، أولى له3.
وأصل الفل مأخوذ من فللت الحديدة4 إذا كسرت حدها. والنضو: البالي المجهود، ويقال ناقة نضوٌ: إذا جهدها السير، وجمعه أنضاءٌ، وفلان نضوً من المرض .
وقوله: "لا يستقرض من عوزٍ"، فالعوز: تعذر المطلوب، يقال: أعوز فلان فهو معوز إذا لم يجد، والمعاوز في غير هذا الموضع: الثياب التي تبتذل ليصان بها غيرها. وقوله: "ولكن ليبلوا الأخيار"، يقال: الله يبلوهم ويبتليهم ويختبرهم في معنى، وتأويله: يمتحنهم، وهو العالم عز وجل بما يكون كعلمه بما كان، قال ال جلله ثناؤه {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 5 قال: وحدثني أبو عثمان المازني قال: رأيت أبا فرعون العدوي، ومعه
ـــــــ
1 الرغم هنا: الكره.
2 الواله: الحزينة.
3 أولى له: كلمة تهديد وتوعد، غلبت في الدعاء بالعسر.
4 الحديدة: وصف للسكين يقال سكين حديدة، وحادة.
5 سورة هود 7.

ابنتاه، وهو في سكة العطارين بالبصرة يقول:
بنيتي صابرا أباكما ... إنكما بعين من يراكما
الله ربي سيدي مولاكما ... ولو يشاء عنهم أغناكما
وكان أبو فرعون، وهو من بني عدي بن الرباب بن عبد مناة بن أد، وقال اليزيدي: هو مولاهم وكان فصيحاً، وقدم قوم من الأعراب البصرة من أهله، فقيل له: تعرض لمعروفهم، فقال:
ولست بسائل الأعراب شيئاً ... حمدت الله إذ لم يأكلوني

حديث رجل من الصيارفة افتقر
وروى الأسدي أنه افتقر أنه رجل من الصيارفة بإلحاح الناس في أخذ أموالهم التي كانت لهم لديه، وتعذر أمواله التي كانت له عند الناس، فسأل جماعة من الجيران أن يصيروا معه إلى رجل1 من قريش كان موسراٌ من أولاد أجوادهم ليسد من خلته، فصاروا إليه، فجلسوا في الصحن، فخرج إليهم يخطر بقضيب في يده، حتى ثنى وسادةٌ فجلس عليها، فذكروا حاجتهم وخلة صاحبهم، مع قديم نعمته وقريب جواره، فخطر بالقضيب. ثم قال متمثلاٌ2:
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة تقوى أو صديق توامقه3
بخلت وبعض البخل حزم وقوة ... فلم يفتلذك المال إلاحقائقه
ثم أقبل على القوم، فقال: إنا والله ما نجمد عن الحق، ولا نتدفق في الباطل، وإن لنا لحقوقاٌ تشغل فضول، وما كل من أفلس من الصيارفة احتلنا لجبره، قوموا رحمكم الله قال: فابتدر القوم الأبواب.
قوله: "فلم يفتلذك المال"، يقول: لم يقتطع منك، يقال فلذ له من العطاء: أي قطع له، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدرٍ حين قال الغلامان: في القوم عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام بن هشام، وأمية بن خلف وفلان وفلان، فقال رسول الله صلى عليه وسلم: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها".
وقال أبو قحافة أعشى باهلة يعني المنتشر بن وهب الباهلي:
تكفيه فلذة كبدٍ إن ألم بها ... من الشواء ويكفي شربة الغمر
ـــــــ
1 هو ابن عمران الطلحى.
2 زيادات ر: "الشعر لنصيب؛ وقيل لكثير، والأول أثبت".
3 توامقه: توده.

رجل من أزد شنوءة بين يدي عتبة بن أبي سفيان
قال عبد الملك بن عمير، استعمل عتبة بن أبي سفيان رجلاٌ من آله على الطائف، فظلم من أزد شنوءة، فأتى الأزدي عتبة، فمثل بين يديه، فقال:
أمرت من كان مظلوماٌ ليأتيكم ... فقد أتاكم غريب الدار مظلوم
ثم ذكر ظلامته، فقال له عتبة: إني أراك أعرابياً جافياً، والله ما أحسبك تدري كم تصلي في كل يوم وليلة فقال: أرأيت إن أنبأتك ذلك، أتجعل لي عليك مسألة? قال نعم، فقال الأعرابي:
إن الصلاة أربع وأربع ... ثم ثلاث بعدهن أربع
ثم صلاة الفجر لا تضيع
فقال: فاسأل: فقال: كم فقار ظهرك فقال: لا أدري، فقال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك قال: ردوا عليه غنيمته.
قوله: "فقار"، إنما هو جمع فقارة، ويقال فقرة، فمن قال في الواحدة فقرة قال في الجميع: فقر، كسرة وكسر، ومن قال للواحدة: فقارة، قال للجميع: فقارٌ، كقولك دجاجة ودجاج، وحمامة وحمامٌ.

أعرابي عند معاوية
وشهد أعرابي عند معاوية بشيء كرهه، فقال له معاوية: كذبت فقال الأعرابي: الكاذب والله متزمل في ثيابك. فقال معاوية وتبسم: هذا جزاء من عجل.

حديث السواقط
قال أبو العباس: قرأت على عبد الله بن محمد المعروف بالتوزي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي، قال: كانت السواقط ترد اليمامة في الأشهر الحرم لطلب التمر، فإن وافقت ذلك، وإلا أقامت بالبلد إلى أوانه، ثم تخرج منه فيشهر حرام، فكان الرجل منهم إذا قدم يأتي رجلً من بني حنيفة، وهم أهل اليمامة، أعني بني حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط ابن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربعة بن نزار فيكتب له على سهم أو غيره: "فلان جار فلان" والسواقط: من ورد اليمامة من غير أهلها، وقد كان النعمان بن المنذر أراد أن يجليهم منها، فأجارهم مرارة بن سلمي الحنفي.
ثم أحد بني ثعلبة بن الدول بن حنيفة، فسوغه الملك ذلك، فقال أوس بن حجرٍ يحض النعمان عليه:
زعم ابن سلمي مرارة أنه ... مولى السواقط دون آل المنذر
منع اليمامة حزنها وسهولها ... من كل ذي تاجٍ كريم المفخر
وذكر أبو عبيدة أن رجلاً من السواقط من بني أبي بكر بن كلاب قدم اليمامة، ومعه أخ له، فكتب له عمير بن سلمى أنه له جار وكان أخو هذا الكلابي جميلاً فقال له قرين، أخو عمير: لا تردن أبياتنا بأخيك هذا، فرآه بعد بين أبياتهم، فقتله.
قال أبو عبيدة: وأما المولى1 فذكر أن قريناً أخا عميرٍ كان يتحدث إلى امرأة أخي الكلابي، فعثر عليه زوجها فخافه قرين عليها فقله، وكان عمير غائباً، فأتى الكلابي قبر سلمي أبي عمير وقرين فاستجار به وقال:
[قال أبو الحسن الأخفش، قال أبو العباس: قرينٌ، ووجدته بخط دماذ، صاحب أبي عبيدة قرين].
وإذا استجرت من اليمامة فاستجر ... زيد بن يربوع وآل مجمع
وأتيت سلمياً فعذت بقبره ... وأخو الزمانة عائدٌ بالأمنع2
أقرين إنك لو رأيت فوارسي ... بعمامتين3 إلى جوانب ضلفع4
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغل الإصبع
فلجأ قرينٌ إلى قتادة بن مسلمة بن عبيد بن يربوع بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة، فحمل قتادة إلى الكلابي دياتٍ مضاعفةً، وفعلت وجوه بني حنيفة مثل
ـــــــ
1 السواقط هنا: اللثام.
2 هو الذي أجاره عمير.
3 عماية: جبل بنجد، وإنما ثناه بما حوله.
4 الزمانة: العاهة، يريد بها هنا الضعف. والأمنع: الذي به قوة تمنع من يريده بسوء.

ذلك فأبى الكلابي أن يقبل، فلما قدم عمير قالت له أمه وهي أم قرين: لا تقتل أخاك، وسق إلى الكلابي جميع ماله، فأبى الكلابي أن يقبل، وقد لجأ قرينٌ إلى خاله السمين بن عبد الله فلم يمنع عميراً منه، فأخذه عميرٌ فمضى به حتى قطع الوادي فربطه إلى نخلة، وقال للكلابي: أما إذ أبيت إلا قتله فأمهل حتى أقطع الوادي، وارتحل عن جواري فلا خير لك فيه، فقتله الكلابي، ففي ذلك يقول عمير:
قتلنا أخانا للوفاء بجارنا ... وكان أبونا قد تجير مقابره
وقالت أم عمير:
تعد معاذراً لا عذر فيها ... ومن يقتل أخاه فقد ألاما
وقوله: "ولم تكن للغدر خائنةً"، ولم يقل خائناً. فإنما وضع هذا في موضع المصدر والتقدير: ولم تكن ذا خيانة .
وقوله"للغدر": أي من أجل الغدر، وقال المفسرون والنحويون في قول الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} 1 أي لشديدٌ: من أجل حب الخير، والخير ههنا: المال، من قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} 2.
وقوله" لشديدٌ": أي لبخيل، والتقدير والله أعلم: إنه لبخيل من أجل حبه للمال، تقول العرب: فلان شديد ومتشدد أي بخيل، قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد3
وقلما يجيء المصدر على فاعل، فمما جاء على وزن "فاعل": قولهم عوفي عافيةً، وفلج فالجاً، وقم قائماً: أي قم قياماً، وكما قال:
ـــــــ
1 سورة العاديات 8.
2 سورة البقرة 18.
3 يعتام: يختار،وعقيلة المال: أكرمه: والفاحش: السيء الخلق.

ولا خارجاً من في زور كلام
أي ولايخرج خروجاً، وقد مضى تفسير هذا .
والمغل الذي عنده غلول، وهو ما يختان ويحتجن، ويستعمل مستعاراً في غير المال، يقال: غل يغل كقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1.
ويقال: أغل فهو مغل إذا صودف يغل، أو نسب إليه، ومن قرأ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} 2. فتأويله أن يأخذ ويستأثر، ومن قرأ: {يَغُلَّ} فتأويله على ضربين يكون أن يقال ذلك فيه، ويكون وهو الذي يختار أن يخون، فإن قال قائل كيف يكون التقدير، وقد قال: ما كان لنبي أن يغل فيغل لغيره، وأنت لا تقول ما كان لزيد أن يقوم عمرو? فالجواب أنه في التقدير على معنى: ما ينبغي لنبي أن يخون، كما قال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} 3. ولو قلت: ما كان لزيد أن يقوم عمرو إليه لكان جيداً، على تقديرك: ما كان زيدٌ ليقوم عمرو إليه، كما قلنا في الآية .
والإصبع، أفصح ما يقال وقد يقال: أصبع وإصبع وأصبع موضعها ههنا موضع اليد. يقال: لفلان عليك يدٌ، ولفلان عليك إصبعٌ، وكل جيدٌ، وإنما يعني ههنا النعمة.
وأما قوله:
قتلنا أخانا للوفاء بجارنا
فيكون على ضربين: أحدهما أن يكون فخم نفسه وعظمها، فذكرها باللفظ الذي يذكر الجميع به، والعرب تفعل هذا ويعد كبراً، ولا ينبغي على حكم الإسلام أن يكو هذا مستعملاً إلا عن الله عز وجل، لأنه ذو الكبرياء، كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 4 و{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} 5، وكل صفات الله أعلى الصفات وأجلها، فما استعمل في المخلوقين على تلك الألفاظ
ـــــــ
1 سورة آل عمران 161.
2 قال المرصفى: يريد أنه مأخوذ من غل الثلائ المبنى للمفعول، وتأويلة: أن يؤخذ.
3 سورة آ ل عمران 145.
4 سورة القدر 1.
5 سورة النساء 163.

وإن خالفت في الحكم فحسن جميل، كقولك: في فلان عالم، وفلان قادرٌ، وفلان رحيم، وفلان ودودٌ، إلا ما وصفنا قبل من ذكر التكبر، فإنك إذا قلت: فلان جبار أو متكبر كان عليه عيباً ونقصاً، وذلك لمخالفة هاتين الصفتين الحق. وبعدهما من الصواب، لأنهما للمبدئ المعيد الخالق البارئ، ولا يليق ذلك بمن تكسره الجوعة، وتطغيه الشبعة، وتنقصه اللحظة، وهو في كل أموره مدبرٌ. وأما القول الآخر في البيت وهو" قتلنا أخانا" فمعناه أنه له ولمن شايعه من عشيرته .
وأما قولها:
ومن يقتل أخاه فقد ألاما
تقول: أتى ما يلازم عليه، يقال: ألام الرجل إذا تعرض لأن يلام.

باب

مما أنشد أبو محلم السعدي
قال أبو العباس: انشدني السعدي أبو محلمٍ:
إنا سألنا قومنا فخيارهم ... من كان أفضلهم أبوه الأول
أعطى الذي أعطى أبوه قبله ... وتبخلت أبناء من يتبخل
وأنشدني أيضاً:
لطلحة بن حبيب حين تسأله ... أندى وأكرم من فند بن هطال
وبيت طلحة في عز ومكرمةٍ ... وبيت فندٍ إلى ربقٍ وأحمال1
ألا فتى من بني ذبيان يحملني2 ... وليس يحملني إلا ابن حمال
فقلت طلحة أولى من عمدت له ... وجئت أمشي إليه مشي مختال
مستيقناً أن حبلي سوف يعلقه ... في رأس ذيالةٍ أو رأس ذيال
قوله:" إلى ربق وأحمال"، إنما أراد جمع حملٍ على القياس، كما تقول في جميع باب فعل: جملٌ وأجمالٌ، وصنمٌ وأصنامٌ .
وقوله:
ألا فتى من بني ذبيان يحملني
يعني ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر، وأنشد بعضهم:
وليس حاملني إلا ابن حمال
وهذا لايجوز في الكلام، لأنه إذا نون الاسم لم يتصل به المضمر، لأن المضمر لا يقوم بنفسه، فإنما يقع معاقباً للتنوين، تقول: هذا ضارب زيداً غداً، وهذا ضاربك غداً، ولا يقع التنوين ههنا، لأنه لو وقع لا نفصل المضمر، وعلى هذا قول الله تعالى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} 3. وقد روى سيبويه يتين محمولين
ـــــــ
1 ربق: جبل فيه عدة عرا تشد به إليهم، وأحمال: جمع حمل بالفتح، وهو الخروف وفيه أيضا أجمال جمع جمل.
2 يحملنى. من حمله إذا أعطاه ما يحمله من الدواب.
3 سورة العنكبوت 33.

على الضرورة، وكلاهما مصنوع، وليس أحد من النحويين المفتشين يجيز مثل هذا في الضرورة، لما ذكرت من انفصال الكناية، والبيتان اللذان رواهما سيبويه:
هم القائلون الخير والأمرونه ... إذا مال خشوا يوماً من الأمر معظما
وأنشد:
ولم يرتفق والناس محتضرونه ... جميعاً وأيدي المعتفين رواهقه1
وإنما جاز أن تبين الحركة إذا وقفت في نون الاثنين والجميع لأنه لا يلتبس بالمضمر، تقول: هما رجلانه، وهم ضاربوه، إذا وقفت، لأنه لا يلتبس بالمضمر إذ كان لا يقع هذا الموقع، ولا يجوز، تقول ضربته، وأنت تريد ضربت، والهاء لبيان الحركة، لأن المفعول يقع في هذا الموضع، فيكون لبساً، فأما قولهم: ارمه واغزه فتلحق الهاء لبيان الحركة، فإنما جاز ذلك لما حذفت من أصل الفعل، ولا يكون في غير المحذوف .
وقوله: "في رأس ذيالة"، يعني فرساً أنثى أو حصاناً، والذيال: الطويل الذنب، وإنما يحمد منه طول شعر الذنب، وقصر العسيب2، واما الطويل العسيب فمذموم، ويقال ذلك للثور ايضاً أعني ذيالاً، قال امرؤ القيس:
فجال الصوار واتقين بفرهب ... طويل القرا والروق أخنس ذيال3
ويقال أيضاً للرجل: ذيالٌ إذا كان يجر ذيله اختيالاً، ويقال له: فضفاضٌ في ذلك المعنى.
ـــــــ
1 يرنفق: يتكىء على يده. المعتفون طلاب المعروف. ورواهقه: دانية منه.
2 العسيب: مستدق عظم الذنب.
3 الصوار: القطيع من بقر الوحش، والقرهب: الثور المسن الضخم. والقرا: الظهر. والروق: القرن.

من كلام عمر بن عبد العزيز لمؤدبه
ويروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لمؤدبه: كيف كانت طاعتي إياك وأنت تؤدبني? فقال أحسن طاعةٍ. قال: فأطعني الآن كما أطيعك إذ ذاك خذ من شاربك حتى تبدو شفتاك، ومن ثوبك حت تبدو عقباك .
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فضل الازار في النار" .

لرجل يخاطب آخر اسمه دد
وقال آخر1:
ما لدد ما لددٍ ما له ... يبكي وقد أنعمت ما باله
ما لي أراه مطرقاً سامياً ... ذا سنةٍ يوعد أخواله
وذاك منه خلق عادةٌ ... أن يفعل الأمر الذي قاله
إن ابن بيضاء وترك الندى ... كالعبد إذ قيد أجماله
آليت لا أدفن قتلاكم ... فدخنوا المرء وسرباله
والدرع لا أبغي بها نثرةً ... كل امرئٍ مستودعٌ ماله
والرمح لا أملأ كفي به ... واللبد لا أتبع تزوال
قوله: "ما لدد"، يعني رجلاٌ، ودد في الأصل . هو اللهو، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لست من وددٍ ولاددٌ مني"، وقد يكون في غير هذا الموضع مأخوذاٌ من العادة، وهذه اللام الخافضة تكون مكسورة مع الظهر ومفتوحة مع المضمر، والفتح أصلها، ولكن كسرت مع الظاهر خوف اللبس بلام الخبر، تقول إن هذا لزيد، فيعلم أنه شيء في ملك زيد: فإن قلت: إن هذا لزيدٌ في الوقف، علم قبل الإدراج إنه زيد، ولو فتحت المكسورة لم يعلم الملك من المعنى الآخر في الوقف، وأما المضمر فبين فيه، لأن علامة المخفوض غير علامة المرفوع، تقول: إن هذا لك، وإن هذا أنت.
وقوله:
......... وقد أنعمت ما باله
فـ"ما" زائدة، والبال ههنا: الحال، وللبال موضع آخر، وحقيقته الفكر، تقول: ما خطر هذا على بالي.
وقوله:" مطرقاً سامياً" فالسامي الرافع رأسه، يقال سما يسمو إذا ارتفع، والمطرق: الساكت المفكر المنكس رأسه، فإنما أراد سامياً بنفسه.
وقوله: "ذا سنةٍ "يقول: كأنه لطول إطراقه في نعسةٍ. وقوله:
ـــــــ
1 نسبه المرصفى إلى سلمة بن ذهل التيمى.

كالعبد إذ قيد أجماله
يريد أنه غير مكترث لاكتساب المجد والفضل، وذلك أن العبد الراعي إذا قيد أجماله لف رأسه ونام حجرةٌ، وهذا شبيه بقوله:
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وقوله:
فدخنوا المرء وسرباله
يروي أنه طعن فارساً فأحدث، فقال: نظفوه فإني لا أدفن القتيل منكم إلا طاهراً، وقوله:
والدرع لا أبغي بها نثرة
فالنثرة: الدرع السابغة، يقول: درعي هذه تكفيني، وقوله:
كل امرىءٍ مستودعٌ ماله
أي مسترهن بأجله، وهو كقول الأعشى:
كنت المقدم غير لابس جنةٍ ... بالسيف تضرب معلماً أبطالها
وعلمت أن النفس تلقى حتفها ... ما كان خالقها الفضيل قضى لها
وقوله:
الرمح لا أملأ كفي به
يتأول على وجهين: أحدهما أن الرمح لا يملأ كفي وحده، أنا أقاتل بالسيف وبالرمح وبالقوس وغير ذلك. والقول الآخر أني لا أملأ كفي به إنما أختلس به كما قال الشاعر:
ومدجج سبقت يداي له ... تحت الغبار بطعنه خلس
وقوله:
واللبد لا أتبع تزواله
يقول: إن انحل الحزام فمال اللبد لم أمل معه، أي أنا فارس ثبتٌ.

للفرزدق وقد نزل به ذئب فأضافه
وقال الفرزدق، ونزل به ذئبٌ فأضافه:
وأطلس عسالٍ وما كان صاحباً ... رفعت لناري موهناً فأتاني
فلما دنا قلت أدن دونك إنني ... وإياك في زادي لمشتركان
فبت أقد الزاد بيني وبينه ... على ضوء نارٍ مرة ودخان
وقلت له لمت تكشر ضاحكاً ... وقائم سيفي من يدي بمكان
تعش فإن عاهدتني لاتخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وأنت امرؤٌ يا ذئب والغدر كنتما ... أخيين كانا أرضعا بلبان
ولو غيرنا نبهت تلتمس القرى ... رماك بسهمٍ أو شباة سنان
قوله:" وأطلس عسال"، فالأطلس الأغبر. وحدثني مسعود بن بشرٍ قال: أنشدني طاهر بن علي الهاشمي قال: سمعت عبد الله بن طاهر بن الحسين ينشد في صفة الذئب:
بهم بني محاربٍ مزداره1 ... أطلس يخفى شخصه غباره
في شدقه شفرته وناره
قوله: " يخفي شخصه غباره"، يقول: هو في لون الغبار، فليس يتبين فيه. وقوله:" عسال"، فإنما نسبه إلى مشيته، يقال: مر الذئب يعسل، وهو مشيٌ خفيف كالهرولة، قال الشاعر2 يصف رمحاً:
لدنٌ بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
وقال لبيدٌ:
عسلان الذئب أمسى قارباً ... برد الليل عليه فنسل
قال أبو عبيدة: نسل في معنى عسل، وقال الله عز وجل: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} 3. وخفض بهذه الواو لأنها في معنى "رُبَّ"، وإنما
ـــــــ
1 البهم: واحدتها بهمة، وهي الصغيرة من أولاد الغنم.
2 هو ساعدة بن جؤية الهذلى، وانظر ديوان الهذليين ج1 ص190.
3 سورة الأنبياء 96.

جاز أن يخفض بها لوقوعها في معنى"رب" لأنها حرف خفض، وهي أعني الواو تكون بدلاً من الباء في القسم لأن مخرجها في مخرج الباء من الشفة، فإذا قلت: والله لأفعلن، فمعناه: أقسم بالله لأفعلن، فإن حذفتها قلت: الله لأفعلن، لأن الفعل يقع على الاسم فينصبه، والمعنى معنى"الباء" كما قال عز وجل: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} 1. وصل الفعل فعمل، والمعنى معنى"من" لأنها للتبعيض، فقد صارت"الواو" تعمل بلفظها عمل "الباء"، وتكون في معناها، وتعمل عمل "رب" لاجتماعها في المعنى للاشتراك في المخرج.
وقوله: "رفعت لناري"، من القلوب، إنما أراد رفعت له ناري والكلام إذا لم يدخله لبسٌ جاز القلب للاختصلر، قال الله عز وجل: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} 2. والعصبة تنوء بالمفاتيح، أي تستقل بها في ثقلٍ، ومن كلام العرب: إن فلانة لتنوء بها عجيزاتها، والمعنى لتنوء بعجيزاتها، وأنشد أبو عبيدة للأخطل:
أما كليب بن يربوع فليس لها ... عند التفاخر إيرادٌ ولا صدر
مخلفون ويقضي الناس أمرهم ... وهم بغيبٍ وفي عمياء ما شعروا
مثل القنافذ هداجون قد بلغت ... نجران أو بلغت سوءاتهم هجر
فجعل الفعل للبلدتين على السعة.
ويروى أن يونس بن حبيبٍ قال لأبي الحسن الكسائي: كيف تنشد بيت الفرزدق? فأنشده:
غداة أحلت لابن أصرم طعنةٌ ... حصين عبيطات السدائف والخمر3
فقال الكسائي لما قال:
"غداة أحلت لابن أصرم طعنة ... حصين عبيطات السدائف .."
تم الكلام. فحمل الخمر على المعنى، أراد: وحلت له الخمر، فقال له
ـــــــ
1 سورة الأعراف 155.
2 سورة القصص 76.
3 هو حصين بن أصرم، من بنى ضبة، وكان نذر ألا يأكل لحما ولا يشرب خمرا حتى يقتل ابن الجون الكندى. والسدائف: جمع سديف وهو السنام، والعبيطات: الطرية.

يونس: ما أحسن ما قلت ولكن الفرزدق أنشدنيه على القلب، فنصب الطعنة ورفع العبيطات والخمر على ما وصفناه من القلب. والذي ذهب إليه الكسائي أحسن في محض العربية، وإن كان إنشاد الفرزدق جيداً.
وقوله: "لما دنا قلت ادن دونك" أمر بعد أمرٍ، وحسن ذلك لأن قوله: "أدن" للتقريب، وفي قوله: "دونك"،أمره بالأكل، كما قال جرير لعياش بن الزبرقان:
أعياش قد ذاق القيون مواسمي1 ... وأوقدت ناري فادن دونك فاصطل
وقوله:
على ضوء نارٍ مرة ودخان
يكون على وجهين: أحدهما على ضوء نار، وعلى دخانٍ أي على هاتين الحالتين ارتفعت النار أو خبت. وجائز أن يعطف الدخان على النار، وإن لم يكن للدخان ضياءٌ، ولكن للاشتراك كما قال الشاعر:
ياليت زوجك قد غدا ... متقلداً سيفاً ورمحا
لأن معناها الحمل، وكما قال:
شراب ألبانٍ وتمرٍ وأقط
فأدخل التمر في المشروب لاشتراك المأكول والمشروب في الحلوق وهذه الآية تحمل على هذا: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} 2.
والشواظ: اللهب لا دخان له والنحاس: الدخان، وهو معطوف على النار، وهي مخفوضة بالشواظ لما ذكرت لك، قال النابغة الجعدي:
تضيء كمثل سراج الذبا ... ل لم يجعل الله فيه نحاسا
وقوله:
نكن مثل من يا د ئب يصطحبان3
ـــــــ
1 زيادات ر: "جمع ميسم، وهو حديدة يصنع بها البيطار".
2 سورة الرحمن 35.
3 زيادات ر: "من يجوز أن تكون نكرة موصوفة تقديرة مثل اثنين يصطحبان، وأن تكون بمعنى الذى، ويصطحبان: صلته".

فـ"من" تقع للواحد والاثنين والجميع والمؤنث على لفظ واحد، فإن شئت حملت خبرها على لفظها فقلت: من في الدار يحبك، عنيت جميعاً أو اثنين أو واحداً أو مؤنثاً، وإن شئت حملته على المعنى فقلت: يحبانك،وتحبك إذا عنيت امرأة ويحبونك إذا عنيت جميعاً كل ذلك جائز جيد، وقال الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ} 1. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} 2. وقال فحمل على المعنى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} 3 . وقرأ أبو عمرو: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً} 4 فحمل الأول على اللفظ والثاني على المعنى. وفي القرآن: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ}.
فهذا كله على اللفظ، ثم قال: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على المعنى.
وقوله: "أو شباة سنان" فالشبا والشباة واحد وهو الحد.
ـــــــ
1 سورة يونس 40.
2 سورة التوبة 49.
3 سورة يونس 42.
4 سورة الأحزاب 31.

في وصف الجود والحث على المبادرة به
ومما يستحسن في وصف الجود والحث على المبادرة به، وتعريف حد العاقبة فيه، قول النمر بن تولب العكلي، أحد بني عكل بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس1 بن مضر:
أعاذل إن يصبح صداي بقفرةٍ ... بعيداً نآني صاحبي وقريبي
تري أن ما أبقيت لم أك ربه ... وأن الذي أنفقت كان نصيبي
وذي إبل يسعى ويحسبها له ... أخي نصب في رعيها ودؤوب
غدت وغدا رب سواه يقودها ... وبدل أحجاراً وجال قليب
ـــــــ
1 زيادات ر: "قال ابن السراج: من رواه إلياس فقد أخطأ، إنما هو ابن بوصل اليأس بوصل الألف وكسر السين، والألف واللام للتعريف، والاسم "يأس" مشق من يئست.

قوله: "إن يصبح صداي بقفزة" فالصدى: على ستة أوجه: أحدها ما ذكرنا وهو ما يبقى من الميت في قبره، والصدى: الذكر من البوم، قال ابن مفرغ1:
وشريت برداً ليتني ... من بعد بردٍ كنت هامة2
هتافة تدعو صدى ... بين المشقر واليمامة
ويقال: فلان هامة اليوم أوغدٍ، أي يموت في يومه أو في غده. ويقال ذلك للشيح إذا أسن، والمريض إذا طالت علته، والمحتقر3 لمدة الآجال. وفي الحد يث أن حسلاً4 أباحذيفة بن حسل بن اليمان قال لشيخ آخر تخلف معه في غزوةأحدٍ: انهض بنا ننصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنما نحن هامة اليوم أو غدٍ وكانا قد أسنا. والصدى: حشوة الرأس. يقال لذلك: الهامة والصدى وتأويل ذلك عند العرب في الجاهلية أن الرجل كان عندهم إذا قتل فلم يدرك به الثأر أنه يخرج من رأسه طائر كالبومة وهي الهامة والذكر: الصدى فيصيح على قبره. اسقوني اسقوني فإن قتل قاتله كف ذلك الطائر. قال ذو الإصبع5 العدواني أحد بني عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر:
ياعمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
والصدى: ما يرجع عليك من الصوت إذا كنت بمتسع من الأرض، أو بقرب جبل، كما قال:
إني على كل إيساري ومعسرتي ... أدعو حنيفاً كما تدعى ابنة الجبل
يعني الصدى، وتأويله أنه يجيبني في سرعة إجابة الصدى. وقال آخر:
كأني إذ دعوت بني سليم ... دعوت بدعوتي لهم الجبالا
ـــــــ
1 زيادات ر: "اسمه ربيعة، وسمى مفرغا لأنه شرب سقاءين ففرغهما".
2 شريت هنا: بعت.
3 زيادات ر: رواية عاصم بن أيوب رحمه الله برفع "المحتقر" يرفعه بالابتداء ويضمر الخبر، فيكون التقدير: والمحتقر لمدة الآجال، يقال ذلك له، ورواية ابن سراج بالخفض على العطف".
4 زيادات ر: "حسل أبو حذيفة، هو حسل بن جابر، وهو اليمان، والشيخ الذي تخلف معه ثابت بن وقش الأنصاري".
5 زيادات ر: "هو حرثان من محرث، سمى بذى الإصبع؛ لأنه كان له إصبع زائدة، وقيل: لأن حية عضته في إصبعه".

والصدأ، مهموز: صدأ الحديد وما أشبه، قال النابغة الذبياني:
سهكين من صدإ الحديد كأنهم ... تحت السنور جنة البقار1
وقال الأعشى:
فأما إذا ركبوا فالوجو ... ه في الروع من صدإ البيض حم2
والصدى: مصدر الصدي، وهو العطشان، يقال: صدي يصدى صدى وهو صدٍ، قال طرفة:
ستعلم إن متنا صدى أينا الصدي3
وقال القطامي:
فهن ينبذن من قولٍ يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
تأويل قوله: "نآني" يكون على ضربين، يكون أبعدني، وأحسن [من]4 ذلك أن يقول: "أنآني". وقد رويت هذه اللغة الأخرى، وليست بالحسنة، وإنما جاءت في حروف: يقال غاض الماء وغضته، ونزحت البئر ونزحته، وهبط الشيء وهبطنه، وبنو تميم يقولون: أهبطته، وأحرف سوى هذه يسيرة. والوجه في "فعل أفعلته"، نحو دخل وأدخلته، مات وأماته الله، فهذا الباب المطرد.ويكون "نآني" في موضع" نأى عني"، كما قال عز وجل: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 5 أي كالوا لهم أو وزنوا لهم.
وقوله: "ودؤوب"، يقول: وإلحاح عليه، تقول: دأبت على الشيء، قال الشاعر6:
دأبت إلى أن ينبت الظل بعدما ... تقاصر حتى كاد في الآل يمصح
وقوله عز وجل: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} 7 يقول: كعادتهم وسنتهم، ومثله الدين والديدن، وقد مر هذا.
ـــــــ
1 سهكين، من السهك، وهو ريح صدإ الحديد. والسنور هنا: الدروع، وجنة البقار: موضع رمل عالج.
2 حم: جمع أحم، وهو الأسود من كل شيء.
3 زيادات ر: "ويروى: "صدى أينا" بخفض "أينا" على الإضافة: فصدى على هذه الرواية يرتفع بالابتداء، والصدى: الخبر".
4 تكمله من س.
5 سورة المطففين 3.
6 زيادات ر: "هو الراعى".
7 سورة آل عمران 11.

وقوله:
وبدل أحجاراٌ وجالٌ قليب
فالجال الناحية، يقال لكل ناحية من البئر والقبر وما أشبه ذلك: جال وجول، وقال مهلهل:
كأن رماحهم أشطان بئر ... بعيد بين جاليها جرور1
ويقال: رجل ليس له جول، أي ليس له عقل، وهذا الشعر نظير قول حاتم الطائي:
أماوي إن يصبح صداي بقفرةٍ ... من الأرض، لا ماء لدي ولا خمر
ترى أن ما أبقيت لم أك ربه ... وأن يدي مما بخلت به صفر
ـــــــ
1 الأشطان: جمع شطن، وهو الحبل الشديد الفتل. وجرور: نعت للبئر: وهي التي يدق عمقها حتى يجر دلوها على شفيرها.

للحارث بن حلزة اليشكري في الجود
وقال الحارث بن حلزة اليشكري في هذا المعنى:
قلت لعمرو حين أرسلته ... وقد خبا من دوننا عالج
لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
واصبب لأضيافك ألبانها ... فإن شر اللبن الوالج
قوله:
لاتكسع الشول بأغبارها
فإن العرب كانت تنضح على ضروعها الماء البارد ليكون أسمن لأولادها التي في بطونها. والغبر: بقية اللبن في الضرع، فيقول: لاتبق ذلك اللبن لسمن الأولاد، فإنك لاتدري من ينتجها، فلعلك تموت، فتكون للوارث أو يغار عليها.
وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "يقول ابن آدم مالي مالي، وما من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت".

ويرى عن بعضهم أنه قال: إني أحب البقاء، وكالبقاء عندي حسن الثناء. وأنشد أبو عثمان عمرو بن الجاحظ:
فإذا بلغتم أرضكم فتحدثوا ... ومن الحديث متالف وخلود
وأنشد:
فأثنوا علينا لاأبا لأبيكم ... بأفعالنا، إن الثناء هو الخلد
وقال معاوية لابن الأشعث بن قيس: ما كان قيس بن معد يكرب أعطى الأعشى? فقال: أعطاه مالاٌ، وظهراٌ، ورقيقاً، وأشياء أنسيتها، فقال معاوية: لكن ما أعطاكم الأعشى لا ينسى.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنة هرم بن سنان المري: ما وهب أبوك لزهير? فقالت: أعطاه مالاٌ وأثاثاٌ أفناه الدهر. فقال عمر: لكن ما أعطاكموه لا يفنيه الدهر.
وقال المفسرون في قول الله عز وجل عن ابراهيم صلوات الله عليه: { َاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} 1 أي ثناء حسناٌ، وفي قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 2 أي يقال له هذا في الآخرين. والعرب تحذف هذا الفعل من "قال" ويقول "استغناءٌ عنه، قال الله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 3، أي فيقال لهم. ومثله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4 أي يقولون، وكذلك: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ} 5
ـــــــ
1 سورة الشعراء 84.
2 سورة الصافات 108،109.
3 سورة آل عمران 106.
4 سورة الزمر 3.
5 سورة الرعد 23، 24.
زيادات ر بعد ذلك مايأتي: "حدثنا يموت بن المزرع البصرى قال: حدثنا رفيع بن سلمة المنبز بدماذ قال: حدثنا أبو عيادة قال: قال الحجاج يوما لعمائر العرب وهم في مجلسه: ما أحسب هذا المزونى بناصحنا في حربنا-يعني المهلب- والرأى مشترك، فقالوا: الرأى للأمير-أصلحه الله- أن يكتب إلى ابن الفجاءة: بإطعامه بعض الأرضين، فإذا هو نخع بطاعته وأظهر الدعوة له سهلت الحيلة فيه، فقال: وفقكم الله، وكتب إلى ابن الفجاءة، وأنفذه على يد الغضبان بن القبعثرى الشيباني. نسخة الكتاب:
"بسم الله الرحمن الرحيم: من الحجاج بن يوسف إلى قطرى بن الفجاءة، سلام عليك، الموحد الله، والمصلى عليه محمد عليه السلام. أما بعد، فإنك كنت أعرابيا يدويا تستطعم الكسرة، وتحف إلى التمرة، ثم خرجت تحاول ماليس لك بحق، وأعرضت عن كتاب الله، ومرقت من سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فارجع عما ......=

.................................................................................
ـــــــ
=أنت عليه بما زين لك، وادعونى فقد آن لك".
فلما أوصل الغضبان الكتاب إلى قطرى قال: ياغلام، ازبر هذه الصحيفة، فتلا عليه مافبها فتنهد قطرى الصعداء, فقال: ياغضبان ألفيتنى محزونا، وانشأ يقول:
فيا كبدا من غير جوع ولا ظمأ ... وياكبدا من وجد أم حكيم
فلو شهدتنى يوم دولاب أبصرت ... طعان فتى في الحرب غير لئيم
غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم
وكان بعبد القيس أول حدها ... وآب عميد الأزد غير ذميم
-يعنى المهلب، وأم حكيم هذه: امرأة من الخوارج قتلت بين يديه، ثم قال: ياغلام، اكتب، "بسم الله الرحمن الرحيم" من قطرى بن الفجاءة إلى الحجاج بن يوسف. سلام على من اتبع الهدى. ذكرت في كتابك أنى كنت يدويا أستطعم الكسرة، وأبدر إلى النمرة، وبالله لقد قلت زورا، بل الله بصرنى من دينه ما أعماك عنه؛ إذ أنت سايح في الضلالة غرق في غمرات الكفر، ذكرت أن الضرورة طالت بى فهلا برزلى من حزبك من نال الشيع، واتكأ فاتدع! أما والله لئن أبرز الله صفحتك، وأظهر لى صلعتك، لتنكرن شيعك، ولتعلمن أن مقارعة الأبطال، ليس كتسطير الأمثال".

باب

من خطبة لعلي بن أبي طالب
قال أبو العباس: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خطبة له: أيها الناس، اتقوا الله الذي إن قلتم سمع، وإن أضمرتم علم. وبادروا الموت الذي إن هربتم منه أدرككم، وإن أقمتم أخذكم .

خطبة الحجاج حين قدم أميراٌ على العراق
قال: وحدثني التوزي في إسناد ذكره آخره عبد الملك بن عمير الليثي، قال: بينما نحن في المسجد الجامع بالكوفة، وأهل الكوفة يومئذ ذوو حالٍ حسنةٍ، يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه، إذ أتى آتٍ فقال: هذا الحجاج قدم أميراٌ على العراق. فإذا به قد دخل المسجد معتماٌ بعمامة غطى بها أكثر وجهه، متقلداٌ سيفاً، متنكباٌ قوساٌ، يؤم المنبر، فقام الناس نحوه، حتى صعد المنبر، فمكث ساعة لا يتكلم، فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق حتى قال عمير بن ضابيء البرجمي: ألاأحصبه لكم? فقالوا: أمهل حتى ننظر، فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه ونهض وقال1:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال: يا أهل الكوفة، إني لأرى رؤوساٌ قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، ثم قال2:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس برلعي إبلٍ ولا غنم ... ولا بجزارٍ على ظهر وضم
ثم قال:
قد لفها الليل بعصلبي ... أروع خراج من الدوي
مهاجر ليس بأعرابي
وقال:
قد شمرت عن ساقها فشدوا ... وجدت الحرب بكم فجدوا
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو لسحيم بن وثيل الرياشى".
2 زيادات ر: "الشعر لرويشد بن وميض العنبرى".

والقوس فيها وترٌ عرد ... مثل ذراع البكر أو أشد
لابد مما ليس منه بد
إني والله يا أهل العراق، ما يقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز التين. ولقد فرزت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وإن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه نثر كنانته بين يديه، فعجم عيدانها، فوجدني أمرها عوداً. وأصلبها مكسراً، فرماكم بي.
لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مراقدالضلال. والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. والخوف بما كانوا يصنعون. وإنى والله ما أقول إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة. وإني أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين. فقرأ:
"بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين سلامٌ عليكم" فلم يقل أحد منهم شيئاً، فقال الحجاج: اكفف يا غلام، ثم أقبل على الناس، فقال: أسلم عليكم أمير المؤمنين، فلم تردوا عليه شيئاً هذا أدب ابن نهية أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمن. اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين، فلما بلغ إلى قوله: "سلامٌ عليكم"لم يبق في المسجد أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام1.
ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأخذون حتى أتاه شيخ يرعش كبراً، فقال: أيها الأمير، إني من الضعف على ما ترى، ولي ابنٌ هو أقوى على الأسفار مني فتقلبه بدلاً مني. فقال الحجاج: نفعل أيها الشيخ، فلما ولى قال له قائل2: أتدري من هذا أيها الأمير? قال: لا قال: هذا عمير بن ضابئ البرمجي الذي يقول أبوه:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
ـــــــ
1 زيادات ر: "زعم أبو العباس أن ابن نهية رجل كان على الشرطة بالبصرة قبل الحجاج".
2 قال المرصفى: "هو عنبسة بن سعيد بن العاصى الأموى".

ودخل الشيخ على عثمان مقتولاٌ فوطىء بطنه، فكسر ضلعين من أضلاعه، فقال ردوه ! فلما رد قال الحجاج: أيها الشيخ، هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان بدلاٌ يوم الدار! إن في قتلك أيها الشيخ لصلاحاٌ للمسلمين: يا حرسي، اضربن عنقه. فجعل الرجل يضيق عليه أمره فيرتحل، ويأمر وليه أن يلحقه بزاده، ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي1:
تجهز فإما أن تزور ابن ضابىءٍ ... عميراٌ وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسفٍ نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا2
فأضحى ولو كانت خراسان دونه3 ... رآها مكان السوق أو هي أقربا
قوله: "أنا ابن جلا"، إنما يريد المنكشف الأمر، ولم يصرف "جلا" لأنه أرادالفعل فحكى، والفعل إذا كان فاعله مضمراٌ أو مظهراٌ لم يكن إلاحكاية، كقولك: تأبط شرأ، وكماقال الشاعر:
كذبتم وبيت الله لاتأخذونها ... بني شاب قرناها تصر وتحلب
وتقول: قرأت: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} 4 لأنك حكيت، وكذلك الابتداء، تقول: قرأت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وقال الشاعر:
والله ما زيد بنام صاحبه5
وقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
لسحيم بن الرياحي، وإنما قاله الحجاج متمثلاً.
وقوله: "وطلاع الثنايا" الثنايا: جمع ثنيةو الثنية: الطريق في الجبل.
ـــــــ
1 زيادات ر: الأسدى أسد خزيمة، وليس من أسد قريش.
2 حوليا: يريد مهرا أتى عليه حول. من الثلج أشبها: يريد أن لونه أشدشبهة من الثلج.
3 زيادات ر: "دونه عائدة على المهلب. وأقرب: ظرف، وقيل مفعول ثان".
4 سورة القمر 1.
5 بقيته كما في زيادات ر
ولا مخالط الليان جانبه

والطريق في الرمل يقال له: الخل، وإنما أراد به أنه جلد يطلع الثنايا في ارتفاعها وصعوبتها، كما قال دريد بن الصمة يعني أخاه عبد الله:
كميش الإزار خارجٌ نصف ساقه ... بعيد من السوءات طلاع أنجد
والنجد: ما ارتفع من الأرض، وقد مضى تفسير هذا.
وقوله: "إني لأرى رؤوساٌ قد أينعت"، يريد أدركت، يقال: أينعت الثمرة إيناعاٌ وينعت ينعاٌ، ويقرأ: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} 1 و{ َيَنْعِهِ} كلاهما جائز.
قال أبو عبيدة: هذا الشعر يختلف فيه، فبعضهم ينسبه إلى الأحوص وبعضهم ينسبه إلى يزيد بن معاوية. [قال أبو الحسن: الصحيح أنه ليزيد يصف جارية] وهو:
ولها بالماطرين2 إذا ... أكل النمل الذي جمعا
خرفة حتى إذا ربعت ... سكنت من جلقٍ بيعا3
في قباب حول دسكرةٍ ... حولها الزيتون قد ينعا
قال أبو الحسن: أول هذه الأبيات:
طال هذا الهم فاكتنعا ... وأمر النوم فامتنعا
وبعد هذا ما أنشد أبو العباس، ويروى" بالماطرون".
قال أبو العباس: وقوله:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم
يعني فرساٌ أو ناقة، والشعر للحطم القيسي .
وقوله:
قد لفها الليل بسواق حطم
ـــــــ
1 سورة الأنعام 99.
2 الماطرون: موضع قرب دمشق. ورواه أبو العباس معربا، ورواية ياقوت "دولها بالماطر".
3 الخرفة: مايجتبنى من الفاكهة. وربعات: دخلت في الربيع، وجلق: من قرى دمشق.

فهو الذي لا يبقي من السير شيئاٌ، ويقال: رجل حطمٌ للذي يأتي على الزاد لشدة أكله، ويقال للنار التي لا تبقي: حطمةٌ. وقوله: "على ظهر وضم"، فالوضم: كل ما قطع عليه اللحم. قال الشاعر1:
وفتيان صدقٍ حسان الوجو ... ه لا يجدون لشيء ألم
من آل المغيرة لا يشهدو ... ن عند المجازر لحم الوضم
وقوله:
قد لفها الليل بعضلبي
أي شديد. وأروع. أي ذكي.
وقوله: "خراج من الدوي"، يقول: خراجٍ من كل غماء شديدة2:
ويقال للصحراء دوية، وهي التي لا تكاد تنقضي، وهي منسوبة إلى الدو، والدو: صحراء ملساء لاعلم بها ولا أمارة، قال الحطيئة3:
وأنى اهتدت والدو بيني وبينها ... وما خلت ساري الليل بالدو يهتدي
والداوية: المتسعة التي تسمع لها دوياٌ بالليل، وإنما ذلك الدوي من أخفاف الإبل تنفسح أصواتها فيها. وتقول جهلة الأعراب: إن ذلك عزيف الجن وقوله:
والقوس فيها وترعرد
فهو الشديد ويقال عرند في هذا المعنى.
وقوله:" إني والله ما يقعقع لي بالشنان"، واحدها شن، وهو الجلد اليابس، فإذا قعقع به نفرت الإبل منه، فضرب ذلك مثلاٌ لنفسه، وقال النابغة الذبياني:
كأنك من جمال بني أقيش4 ... يقعقع بين رجليه بشن
وقوله: "ولقد فررت عن ذكاء" ، يعني تمام السن. والذكاء على ضربين:
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو عمر بن أبى ربيعة".
2 زيادات ر: "غما، مقصور، رواية عاصم".
3 زيادات ر: "يصف خيالها وأنت على معنى المرأة".
4 زيادات ر: "أفيش: من عكل".

أحدهما تمام السن، والآخر الحدة حدة القلب، فمما جاء في تمام السن قول قيس بن زهير: "جري المذكيات غلاب"1. وقال زهير:
يفضله إذا اجتهدا عليه ... تمام السن منه والذكاء
وقوله: "فعجم عيدانها"، يقول: مضغها لينظر أيها أصلب، يقال: عجمت العود، إذا مضغته، وكذلك في كل شيء، قال النابغة:
فظل يعجم أعلى الروق منقبضاٌ ... في حالك اللون صدق غير ذي أود
والمصدر العجم، يقال عجمته عجماٌ: ويقال لنوى كل شيء: عجمٌ مفتوح، ومن أسكن فقد أخطاٌ، كما قال الأعشى:
وجذعانها كلقيط العجم2
وقوله: "طالما ما أوضعتم في الفتنة"، الإيضاع: ضرب من السير. وقوله:
فأضحى ولو كانت خراسان دونه
يعني دون السفر رآها مكان السوق للخوف والطاعة.
ـــــــ
1 زيادات ر: "ويروى: غلاء".
2 شدره كما في زيادات ر:
غزتك بالخيل أرض العدو

خبر ضابىء البرجمي مع عثمان
وكان من قصة عمير بن ضابىء أن أباه ضابىء بن الحارث البرجمي وجب عليه حبسٌ عند عثمان رحمه الله وأدب وذلك أنه كان استعار من قوم كلباٌ فأعاروه إياه ثم طلبوه منه وكان فحاشاٌ فرمى أمهم به، فقال في بعض كلامه:
وأمكم لا تتركوها وكلبكم ... فإن عقوق الوالدات كبير
فاضطغن على عثمان ما فعل به فلما دعي به ليؤدب شد سكيناً في ساقه ليقتل بها عثمان، فعثر عليه، فأحسن أدبه، ففي ذلك يقول:

وقائلةٍ إن مات في السجن ضابىء ... لنعم الفتى نخلو به ونواصله
وقائلة لايبعدن ذلك الفتى ... ولا تبعدن أخلاقه وشمائله
وقائلة لايبعد الله ضابئاً ... إذالكبش لم يوجد له من ينازله
وقائلةٍ لا يبعد الله ضابئاٌ ... إذ الخصم لم يوجد له من يقاوله
فلا تتبعيني إن هلكت ملامةً ... فليس بعارٍ قتل من لاأ قاتله
هممت ولم أفعل، وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
وما الفتك ما آمرت فيه ولا الذي ... تخبر من لاقيت أنك فاعله

حديث أبي شجرة السلمي مع عمر بن الخطاب
قال أبو العباس: وشبيه بقوله ما حدثنا به عن أبي شجرة السلمي وكان من فتاك العرب1 فأتى عمر بن الخطاب رحمه الله يستحمله2، فقال له عمر: ومن أنت? فقال: أنا أبو شجرة السلمي،فقال له عمر: أي عدي نفسه، ألست القاتل حيث ارتددت:
ورويت رمحي من كتيبة خالدٍ ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا3
وعارضتها شهباء تخطر بالقنا ... ترى البيض في حافاتها والسنورا4
ثم انحنى عليه عمر بالدرة، فسعى إلى ناقته فحل عقالها وأقبلها حرة بني سليم بأحث السير هرباٌ من الدرة، وهو يقول:
قد ضن عنها أبو حفص بنائله ... وكل مختبط يوماٌ له ورق
مازال يضربني حتى خذ يت له ... وحال من دون بعض الرغبة الشفق5
ـــــــ
1 زيادات ر: "أبو شجرة هو عمرو بن عبد العزى، وأمه الخنساء. وقال الطبرى: اسمه سليم بن عبد العزي".
2 يستحمله: يسأله أن يحمله على ركوبه.
3 زيادات وبروى: "أن أعمرا، بكسر الميم، ومعناه أن أفعل ذلك بكتيبة عمر".
4 شهباء: من الشهبة: وهو بياض في خلاله سواد. وتخطر، من الخطران؛ وهو الاهتزاز.
5 الشفق: من الإشفاق، وهو الخوف.

ثم التفت إليها وهي حانية ... مثل الرتاج إذا ما لزه الغلق1
أقبلتها الخل من شوران مجتهداٌ ... إني لأزري عليها وهي تنطلق2
ويروى أنه كان يرمي المسلمين يوم الردة فلا يغني شيئاٌ، فجعل يقول:
ها إن رميي عنهم لمعبول ... فلا صريح اليوم إلا المصقول
وقوله:
وكل مختبط يوماٌ له ورق
أصل هذا في الشجرة أن يختبطها الراعي.، وهو أن يضربها حتى يسقط ورقها، فضرب ذلك مثلاً لمن يطلب فضله، وقال زهير:
وليس مانع قربى وذي نسبٍ ... يوماً ولا معدم من خابط ورقا3
وقوله: "حتى خذيت له". يقول: خضعت له، وأكثر ما تستعمل العامة هذه اللفظة بالزيادة، تقول: استحذيت له. وزعم الأصمعي أنه شك فيها، وأنه أحب أن يستثبت، أهي مهموزة أم غير مهموزة? قال: فقلت لأعرابي: أتقول: استحذيت4 أم استحذأت? قال: لاأقولهما، قلت: ولم فقال: لأن العرب لاتستخذي. وهذا غير مهموز5. واشتقاقه من قولهم: أذن خذواء وينمة خذواء، أي مسترخية.
قال أبو الحسن: الينمة: نبت مسترخٍ على وجه الأرض تأكله الإبل فتكثر عنه ألبانها.
ـــــــ
1 حانية: لاوية عتفها. والغلق اسم لما يغلق به، والرتاج: الباب الكبير. واللزة الشد والإلصاق.
2 الخل: الطريق النافذ بين الرمال. وشوران: جبل مرتفع قرب المدينة.
3 زيادات ر:"قوله: ولا بعدم بالخفض؛ عطفه على توهم الباء في مانع ومثله ماأنشده:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها
على توهم الباء في "مصلحين"و "من" في "خابط" زائدة.
4 استخذى: خضع.
5 هنا آخر الخرم الموجود في نسخة الأصل.

قال الأصمعي: وقلت لأعرابي: أتهمز الفارة ! قال: تهمزها الهرة.
وقوله: "إني لأزري عليها"، يقول: أستحثها، يقال: زرى عليه: أي عاب عليه، وأزرى به أي قصر به، فيقول: إنها لمجتهدة، وإني لأزري عليها، أي أعيب عليها لطلبي النجاء والسرعة، وقال الأخطل:
فظل يفديها وظلت كأنها ... عقاب دعاها جنح ليلٍ إلى وكر
وقوله: "ها إن رميي عنهم لمعبول" ، يقول: مخبول مردود. والصريح: المحض الخالص، يقال ذلك للبن إذا لم يشبه ماء، ويقال عربي صريح ومولى صريح، أي خالص.

خطبة لعمر بن الخطاب حين سمع أن قوماٌ يفضلونه على أبي بكر
قال: وحدثني محمد بن إبراهيم الهاشمي في إسناد ذكره قال: بلغ عمر بن الخطاب رحمه الله أن قوماٌ يفضلونه على أبي بكر الصديق رحمه الله، فوثب مغضباٌ حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنىعليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال:
أيها الناس، إني سأخبركم عني وعن أبي بكر، إنه لما توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اردتدت العرب، ومنعت شاتها وبعيرها، فأجمع رأينا كلنا أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قلنا له: يا خليفة رسول الله، إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة يمده الله بهم، وقد انقطع ذلك اليوم، فالزم بيتك ومسجدك، فإنه لاطاقة لك بقتال العرب. فقال أبو بكر الصديق: أو كلكم رأيه على هذا ? فقلنا: نعم فقال: والله لأن أخر من السماء فتخطفني الطير أحب إلي من أن يكون هذا رأيي ثم صعد المنبر، فحمد الله وكبره وصلى على نبيه صلى عليه وسلم، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمداٌ فإن محمداٌ قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت. أيها الناس، أإن كثر أعداؤكم، وقل عددكم، ركب الشيطان منكم هذا المركب? والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون. قوله الحق، ووعده الصدق، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ، و{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. والله أيها الناس، لو أفردت من جميعكم لجاهدتهم في حق جهاده حتى أبلي بنفسي

عذراً أو أقتل قتيلاً، والله أيها الناس لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه، واستعنت عليهم الله وهو خير معينٍ.
ثم نزل فجاهد في الله حق جهاده حتى أذعنت العرب بالحق .
قوله: "كم من فئة" فهي الجماعة، وهي مهموزة، وتخفيف الهمز في هذا الموضع أن تقلب الهمزة ياءً، وإن كانت قبلها ضمة وهي مفتوحة قلبتها واواً نحو جؤنٍ1 تقول جونٌ.
وقوله: "لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه" على خلاف ما تتأوله العامة ولقول العامة وجهٌ قد يجوز، فأما الصحيح فإن المصدق2 إذا أخذ من الصدقة ما فيها ولم يأخذ ثمنها قيل: أخذ عقالاً، وإذا أخذ الثمن قيل: أخذ نقداً، قال الشاعر:
أتانا أبو الخطاب يضرب طبله3 ... فرد ولم يأخذ عقالاً ولا نقدا
والذي تقوله العامة تأويله: لو منعوني ما يساوي عقالاً، فضلاً عن غيره وهذا وجه، والأول هو الصحيح، لأنه ليس عليهم عقال يعقل به البعير فيطلبه فيمنعه، ولكن مجازه في قول العامة ما ذكرنا.
ومن كلام العرب: أتانا بجفنةٍ يقعد عليها ثلاثةٌ، أي لو قعد عليها ثلاثة لصلح.
ـــــــ
1 زيادات ر: "الجؤنة: الحقة يجعل فيها الحلى".
2 المصدق: جابى الزكاة.
3 زيادات ر: "كانت الأمراء إذا خرجت لأخذ الصدقة تضرب الطبول".

من أبيات للحطيئة حين ارتد بعض العرب
وكان ارتداد من ارتد من العرب أن قالوا: نقيم الصلاة ولا نؤتي الزكاة، فمن ذلك قول الحطيئة:
ألا كل أرماح قصارٍ أذلةٍ ... فداء لأرماحٍ نصبن على الغمر1
فباست بني عبس وأستاه طيئٍ ... وباست بني دودان حاشا بني نصر
أبوا غير ضربٍ يجثم الهام وقعه ... وطعن كأفواه المزفتة الحمر2
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا ... فيا لهفتا، ما بال دين أبي بكر!
ـــــــ
1 الغمر هنا: اسم ماء.
2 زيادات ر: "لمزفتة: المطلبية بالزفت، وهو القطران".

أيورثها بكراً إذا مات بعده ... فتلك وبيت الله قاصمة الظهر!
فقوموا ولا تعطوا اللئام مقادةً ... وقوموا ولو كان القيام على الجمر
فدى لبني نصرٍ طريفي وتالدي ... عشية ذادوا بالرماح أبا بكر1
قوله: "يجثم الهام وقعه"، إنما هو مثلٌ، يقال: جثم الطائر، كما يقال: برك الجمل، وربض البعير.
وكان قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقرٍ عاملاً على صدقات بني سعدٍ، فقسم ما كان في يده من أموال الصدقات على بني منقرٍ، وقال:
فمن مبلغ عني قريشاً رسالةً ... إذا ما أتتها محكمات الودائع
حبوت بما صدقت في العام منقراً ... وأيأست منها كل أطلس طامع
قوله: "فأجمع رأينا كلنا أصحاب محمد"، فإنما خفض"كلا" على أنه توكيد لأسمائهم المضمرة، والظاهرة لا تكون بدلاً من المضمر الذي يعني به المتكلم نفسه، أو يعني به المخاطب.
لايجوز أن تقول مررت بي زيدٍ، لأن هذه الياء لا يشركه فيها شريك فتحتاج إلى التبيين، وكذلك لا يجوز: ضربتك زيداً، لأن المخاطب منفرد بهذه الكاف، فأما الهاء نحو مررت به عبد الله، فيجوز لأنا نحتاج إلى أن يعرفنا مبيناً: من صاحب الهاء? لأنها ليست للذي يخاطبه فلا ينكر نفسه، وإنما يحدث به عن غائب فيحتاج إلى البيان.
وقوله: "أصحاب محمد" اختصاص: وينتصب بفعل مضمر، وهو "أعني" ليبين من هؤلاء الجماعة، كما ينشد:
نحن بني ضبة أصحاب الجمل
أراد: نحن أصحاب الجمل، ثم عين من هم، لأن هذا قد كان يقع على من دون بني ضبة معه، وعلى من فوقها إلى مضر ونزار ومعد ومن بعدهم، وكذلك: نحن العرب أقرى الناس لضيف، ونحن الصعاليك لا طاقة لنا على المروءة.
ـــــــ
1 زيادات ر: "قوله: "ذادوا بالرماح أبا بكر" كذب، إنما خرجوا على الإبل فقعقعوا لها بالشنان فتفرت وفرت".

ويختار من الشعر1:
إنا بني منقر ذوو حسبٍ ... فينا سراة بني سعد وناديها
وقليل هذا يدل على جميع هذا الباب، فافهم.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو لعمرو بن الأهتم".

المجلد الثاني
باب في المختار من أشعار المولدين
لعبد الصمد بن المعذل
...
قال أبو العباس: هذه أشعار اخترناها من أشعار المولدين حكيمة مستحسنة. يحتاج إليها للتمثل،لأنها أشكل بالدهر،ويستعار من ألفاظها في المخاطبات والكتب.
لعبد الصمد بن المعذل
قال ابن المعذل1:
تكلفني إذلال نفسي لعزها ... وهان عليها أن أهان لتكرما
تقول سل المعروف يحيى بن أكثم ... فقلت سليه رب يحيى بن أكثما2
ـــــــ
1 ر: "عبد الصمد بن المعذل".
2 زيادات ر: "بالثاء مثلثة لا غير، وكذلك أكثم بن صيفى، ويقال إن يحيى بن أكثم من ولد أكثم بن صيفى".

لبشار بن برد
وقال بشار بن برد يذكر عبيد الله بن قزعة، وهو أبو المغيرة أخو الملوي المتكلم، قال: وقال المازني لم أر اعلم من الملوي بالكلام، وكان من أصحاب إبراهيم النظام:
خليلي من كعب أعينا أخاكما ... على دهره إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
كأن عبيد الله لم يلق ماجداً ... ولم يدر أن المكرمات تكون
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا ... وفي كل معروف عليك يمين
إذا جثته في حاجة سد بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين
نظير قوله:
وفي كل معروف عليك يمين
قول جرير:
ولاخير في مال عليه آلية ... ولا في يمين عقدت بالمآثم1
ـــــــ
1 ر: "عقدت". وديوانه 553: "ولا في يمين غير ذات مخارم".

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7