كتاب : الكامل في اللغة والأدب
المؤلف : محمد بن يزيد المبرد

يقول: هي مدلة بجمالها، فلا تختمر فتستر شيئاً عن الناظر، لأنها تبتهج بكل ما في وجهها ورأسها.
وقد كشف هذا المعنى عمر بن أبي ربيعة المخزومي حيث يقول:
فلما تواقفنا وسلمت أقبلت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما عرفنني ... وقلن امرؤ باغ أكل فأوضعا
وقربن أسباب الهوى لمقتل ... يقيس ذراعاً كلما قسن إصبعا
فقلت لمطريهن ويحك إنما ... ضررت فهل تستطيع نفعاً فتنفعا1
قوله:
كأن بذفراها مناديل قارفت ... أكف رجال يعصرون الصنوبرا2
يقول: لسواد الذفرى، وهذا من كرمها، قال أوس بن حجر:
كأن كحيلاً معقداً أو عنية ... على رجع ذفراها من الليت واكف3
وهذا معنى يسأل عنه، لأن الليتين صفحتا العنق. والذفرى في أعلى القفا، فيكف يكف على الذفرى من الليت! والمعنى إنما هو كأن كحيلاً معقداً أو عنية واكف على رجع ذفراها.
وقوله: من الليت كقولك: كموضع دجلة من بغداد، إنما هو للحد بينهما، لا أنه وكف من شيء على شيء: وأما قوله:
كأن ابن آوى موثق تحت غرضها ... إذا هو لم يكلم بنابيه ظفرا 4
يقول: ليست تستقر، فكأن ابن آوى يكلمها بنابيه أو يخلبها بظفره، فهي لا تستقر. وقال أوس بن حجر:
ـــــــ
1 ما بين العلامتين من زيادات ر.
2 الذفري: من نصف المقذ إلى أصول الأذنين. وقارفت: قاريت. وبعصرون الصنوبر: يستخرجون ما فيه. "من شرح الديوان".
3 زيادات ر "الكحيل: القطران. والعنية: ضرب منه".
4 موثق: مكتوف. ويكلم: يجرح. وظفر ,أصابها بأظافيره.

كأن هراً جنيباً تحت غرضتها ... والتف ديك برجليها وخنزير1
والغرض والغرضة واحد، وهو حزام الرحل.
وقال آخر:
كأن ذراعيها ذراعا بذية ... مفجعة لاقت خلائل عن عفر2
سمعن لها واستفرغت في حديثها ... فلا شيء يفري باليدين كما تفري
قال أبو العباس: أنشدنيهما عبد الصمد بن المعذل، وأنشدنيه سعيد بن سلم3. ولو قيل إن هذا من أبلغ ما قيل في هذا الوصف ما كان ذلك بعيداً، وصفها بأنها بذية، وقد فجعت بما أسمعت ونيل منها؛ ولقيت خلائلها بعد زمان وتلك الشكوى كامنة فيها، وأصغين لها فتسمعن4.
والفري: الشق، يقال: فرى أوداجه، أي قطع، وفريت الأديم. وإذا قلت: أفريت، فمعناه أصلحت. وقول الحجاج: إني والله ما أهم إلا مضيت ولا أخلق إلا فريت. يقول: إذا قدرت قطعت. يقال: فريت القربة والمزادة، فهما مفريتان، قال ذو الرمة5:
كأنه من كلى مفرية سرب
وقال امرؤ القيس:
كأن الحصى من خلفها وأمامها ... إذا نجلته رجلها حذف أعسرا6
ـــــــ
1 ديك: "ديك بحقوبها".
2 الخلائل: جمع خليلة, وهن اللائي أصفين الود.
3 ما بين العلامتين من زيادات ر.
4 ر: "إليها يتسمعن".
5 ديوانه, وصدره:
ما بال عينك منها الماء ينسكب
والكلى: جمع كلية, وهي رقعة تكون في أصل عروة المزادة.
6 ديوانه 64, قال في شرحه: "يقول إذا سارت فرقت الحصى إلي كل جهة لشدة سيرها, وشبه فعلها ذلك برمي الأعسر, وهوالذي يرمي برجله اليسرى. وخصه لأن رميه لا يذهب مستمكا. وكذلك الحصى إذا رمت الناقة به. ومعنى "نجلته" فرقته به. والخذف: بالحصى ونحوها, فإن كان بالعصا وشبهها فهو الحذف. بالحاء غير معجمة.

كأن صليل المرو حين تشذه ... صليل زيوف ينتقدن بعبقرا1
قوله: حذف أعسرا يريد أنه يذهب على غير قصد. وقوله: صليل زيوف يقال: إن الزائف2 شديد الصوت صافيه.
وقال آخر:
كأن يديها يدا ماتح3 ... أتى يوم ورد لغب زرودا
يخاف العقاب وفي نفسه ... إذا هو أنهل ألا يعودا
يقول: هذا الساقي يخاف العقاب إن قصر، ولا عودة له إليه ثانية، فهو يستقي4 سقية في مرة واحدة.
وقد أكثروا في هذا، فمن الإفراط في السرعة قول ذي الرمة:
كأنه كوكب في إثر عفرية ... مسوم في سواد الليل منقضب
يقال: عفرية وعفرية في معنى واحد، والتاء في عفريت زائدة، وهو ملحق بقنديل، يقال: فلان [عفرية زبنية. والزبنية: المنكر، وجمعه زبانية، وأصله من الحركة، يقال: زبنه، إذا دفعه، ويقال]5: عفرية نفرية، على التوكيد، [وعفريت نفريت، ويقال: عفارية، ولم يتبع بنفارية]6.
ومن الإفراط قول الحطيئة:
ـــــــ
1 قال في شرح الديوان, "شبه صوت الحجارة إذا رميت بها ووقوع بعضها على بعض بصوت الدراهم الزيوف, إذا انتقدها الصيرف وقلبها. والزيوف: الرديئة. واحدها زائف وزيف. وإنما خصها لأن صوتها أشد من صوت غيرها لكثرة نحاسها. والصليل: الصوت. والمرو: الحجارة. ومعنى "تشده" تفرقه. وعبقر: موضع باليمين. وكانت دراهمه زيوفا".
2 ر:"الزيف".
3 الماتح: المستقى بالدلو من أعلى البئر. وزرود: اسم رمال بطريق الحاج من الكوفة.
4 ر: "فهي تستقي".
5 مابين العلامتين من زيادات نسخة ر.
6 مابين العلامتين من زيادات ر.

وإن نظرت يوماً بمؤخر عينها ... إلى علم بالغور قالت له ابعد
ومن الإفراط قوله:
بأرض ترى فرخ الحبارى كأنه ... بها راكب موف على ظهر قردد1
ومن ذلك قوله:
وكادت على الأطواء أطواء ضارج ... تساقطني والرحل من صوت هدهد
وقال آخر:
مروح برجليها إذا هي هجرت ... ويمنعها من أن تطير زمامها
وقال الشماخ:
مروح تغتلي في البيد حرف ... تكاد تطير من رأي القطيع
وكذلك الأعرابي الذي يقول:
لو ترسل الريح لجئنا قبلها
وقد مضى خبره.
وأملح ما قيل في هذا المعنى وأجوده قول امرئ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
فجعله للوحش كالقيد.
وحدثت أن رجلاً نظر إلى ظبية ترود، فقال له أعرابي: أتحب أن تكون لك? قال: نعم، قال: فأعطني أربع دراهم حتى أردها إليك، ففعل، فخرج يمحص2 في إثرها، فجدت وجد، حتى أخذ بقرنيها، فجاء بها، وهو يقول:
وهي على البعد تلوي خدها ... تريغ شدي وأريغ شدها
كيف ترى عدو غلام ردها
ـــــــ
1 القردد: ما غلظ من الأرض.
2 يقال: محص الظى في عدوه يمحص محصا: أسرع وعدا عدوا شديدا, وفي ر: "يفحص".

قال أبو العباس: ومن حلو التشبيه وقريبه، وصريح الكلام وبلغيه1 قول ذي الرمة:
ورمل كأوراك العذارى قطعته ... وقد جللته المظلمات الحنادس2
الحندس: اشتداد الظلمة، وهو توكيد لها، يقال: ليل حندس، وليل أليل، كما يقال: ليل3 مظلم.
وقال الشماخ في صفة الفرس:
مفج الحوامي عن نسور كأنها ... نوى القسب ترت عن جريم ملجلج
قوله: مفج الحوامي يريد مفرق الحوامي، فالحوامي: نواحي الحافر. والنسور، واحدها نسر، وهي نكتة في داخل الحافر، ويحمد الفرس إذا صلب ذلك منه، ولذلك شبه بنوى القسب4، وترت: سقطت. والجريم: المصروم، والملجلج: الذي قد لجلج مضغاً في الفم، ثم قذف لصلابته.
وقوله: مفج ليس يريد الذي هو شديد التفرقة، ولكن الانفصال عن النسر، فإنه إن اتسع واستوى أسفله فذلك الرحح5، وهو مذموم في الخيل، وكذلك إن ضاق وصغر قيل له: مضطر، وكان عيباً قبيحاً. قال حميد الأرقط:
لا رحح فيها ولا اضطرار ... ولم يقلب أرضها البيطار6
[ولا لحبليه بها حبار]
الحبار: الأثر]7. ويروى: ولم يقلم8، وتأويل ذلك: أن حوافرها
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 يقول: هذا الرمل حقف كأوراك العذارى. جللته: لبسته. الخنادس. الليالي المظلمة. والخندس: الظلام."من شرح الديوان".
3 ر: "وليل أليل مظلم". س: "وليل أليل. وهويم. كما يقال: ليل مظلم". وما أثبته عن الأصل.
4 القسب: التمر اليابس يتفتت في الفم. ونواه أصلب النوى.
5 الرحح: انبساط الحافر في رقة.
6 ر: "ولم يقلم".
7 ما بين العلامتين من زيادات ر.
8 ر: "ولم يقلب".

لا تتشعث فيقلمها البيطار، لأنها إذا كانت كذلك ذهب منها شيء بعد شيء فمحقها. وقال علقمة بن عبدة:
لا في شظاها ولا أرساغها عنت ... ولا السنابك أفناهن تقليم1
وإنما يحمد الحافر المقعب، وهو الذي هيئته كهيئة القعب، وإن كان كذلك قيل: حافر وأب2. قال ابن الخرع3:
لها حافر مثل قعب الوليد ... يتخذ الفأر فيه مغارا
يريد: لو دخل الفأر فيه لصلح، كقول القائل: فأتى بحفنة يقعد عليها عشرة، أي لو عقد عليها عشرة لصلح. وقال الراجز:
وأب حمت نسوره الأوقارا
[يقال: حافر موقور، وهو أن يصيبه داء يشبه الرهصة]4 وفي كل حافر حاميتان. وهما حرفاه من5 عن يمين وشمال، ومقدمه السنبك، ومؤخره الدابرة.
مثل قوله: عن جريم ملج قول علقمة بن عبدة:
سلاءة كعصا النهدي غل بها ... ذو فيئة من نوى قران معجوم6
شبهها بالشوكة من شوك النخل؛ لأن الفرس الأنثى يخمد منها أن يدق صدرها وينخرط على امتلاء إلى مؤخرها، والحمام يحمد منهن أن يعرض الصدر ثم ينخرط إلى ذنبه ضموراً، فيقال في صفته: كأنه جلم.
وقوله: كعصا النهدي، يريد في الصلابة، كما قال:
وكل كميت كالهراوة صلدم
وقوله: ذو فيئة من نوى قران يقول: ذو رجعة، يقول: مضغته الإبل فلم
ـــــــ
1 رواية المفضليات 4.3: "ولا أرساغها عتب", والعتب: العيب. والشظى: عظم لاصق بالركبة. والسنابك: مقاديم الحوافر, يقول: هي وافيه السنبك لم تاكلة الأرض.
2 حافر وأب: صلب قوي.
3 هو عوف بن عطية بن الخرع. من بني تيم من عبد مناة.
4 ما بين العلامتين تكملة من س وزيادات ر.
5 ساقطة من ر.
6 السلاءة: شوكة النخل.

تكسره ثم بعرته صحاحاً. ومعجوم: ممضوغ، يقال: عجمته أعجمه عجماً1 إذا مضغته، فالعجم، ويقال للنوى من كل شيء: العجم، متحرك الجيم2، قال الأعشى:
وجذعانها كلقيط العجم
وقال النابغة:
فظل يعجم أعلى الروق منقبضاً ... في حالك اللون صدق، غير ذي أود
ومثل البيت الأول قول عقبة بن سبق العنزي:
له بين حواشيه ... نسور كنوى القسب
فهذا تشبيه مقارب جداً.
ومن التشبيه الحسن قول الشاعر3:
كأن المتن والشرخين منه ... خلاف النصل سيط به مشيج
يريد سهماً رمي به فأنفذ الرمية وقد اتصل به دمها، والمتن: متن السهم، وشرخ كل شيء: حده، فأراد شرخي الفوق، وهما حرفاه. والمشيج: اختلاط الدم بالنطفة، وهذا أصله، قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت ... على مشج سلالته مهين
وقال الله جل وعز: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} 4. وفي الحديث: "اقتلوا مسان المشركين واستبقوا شرخهم" 5، أي الشباب، لأن الشرخ الحد، قال حسان بن ثابت:
ـــــــ
1 ساقطة من ر. وهي في الأصل. س.
2 ر: "العين" وهما بمعنى.
3 في زيادات ر: "هو الشماخ". والبيت ليس في ديوانه, وهو معمر بن الداخل الهذلى, ديوان الهذليين 104.3, وروايته :
كأن الريش والفوقين منه ... خلاف النصل سيط به مشيح
وهو أيضا بهذه الرواية في 195.12 من غير نسبة.
4 سورة الإنسان.
5 أورده ابن الأثير في النهاية 210:2وقال في شرحه: "أراد بالشيوخ الرجال, المسان هو هل الجلد والقوة على القتال. ولم يرد الهرمي. والشرخ: الصغار الذين لم يدركو".

إن شرخ الشباب والشعر الأس ... ود ما لم يعاص كان جنونا
قال أبو العباس: وأنشدنا عمرو بن مرزوق. قال أنشدنا شعبة. قال: أنشدنا سماك بن حرب في هذا الحديث:
إن شرخ الشباب تألفه البيض ... وشيب القذال شيء زهيد
فأما قول الشنفرى:
كأن لها في الأرض نسياً تقصه ... على أمها وإن تحدثك تبلت
فإنما أراد شدة استحيائها، يقول: لا ترفع رأسها، كأنها تطلب شيئاً في الأرض.
والنسي على ضربين: أحدهما ما تقادم عهده حتى ينسى، والآخر ما أضله أهله فيطلب ويطمع فيه. وتقصه: تتبعه، قال الله جل وعز: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} 1 أي اتبعي أثره، والأم: القصد.
وقوله: وإن تحدثك تبلت، تقطع الحديث لاستحيائها.
وأنشد بشار بن برد الأعمى قول كثير:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكف تلين2
قال: فقال: الله أبو صخر! جعلها عصا، ثم يعتذر لها! والله لو جعلها عصا من مخ3 أو زبد لكان قد نجنها بالعصا، ألا قال كما قلت:
وبيضاء المحاجر من معد ... كأن حديثها قطع الجنان
إذا قامت لسبحتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران4
والخيزرانة: كل غصن لين يتثنى، ويقال للمردي: خيزرانة؛ إذا كان تثنى إذا اعتمد عليه، قال النابغة:
ـــــــ
1 سورة القصص 11.
2 قبله.
قد جعل الأعداء ينتقصوننا ... وتطمع فينا ألسن وعيون
3 ر: "من مخ".
4 السبحة: صلاة النافلة.

يظل من خوفه الملاح معتصماً1 ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد2
الأين: الإعياء، والنجد: العرق3.
وقد عاب بعض الناس قول كثير:
فما روضة بالحزن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها4
بمنخرق من بطن واد كأنما ... تلاقت به عطارة تجارها
بأطيب من أردان عزة موهناً ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها
وحكى الزبيريون أن امرأة مدينية عرضت لكثير فقالت: أأنت القائل هذين البيتين? قال: نعم، قالت: فض الله فاك! أرأيت لو أن زنجية بخرت أردانها بمندل رطب أما كانت تطيب! ألا قلت كما قال سيدك5 امرؤ القيس:
ألم تر أني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب6
قوله: جثجاثها وعرارها الجثجاث: ريحانة طيبة الريح برية؛ من أحرار البقل؛ قال جرير يهجو خالد عينين العبدي:
كم عمة لك يا خليد وخالة ... خضر نواجذها من الكراث
نبتت بمنبته فطاب لريحها ... ونأت عن القيصوم والجثجاث
وإنما هجاه بالكراث، لأن عبد القيس يسكنون البحرين، والكراث من أطعمتهم، والعامة يسمونه الركل والركال، قال أحد العبديين:
ألا حبذا الأحسا وططيب ترابها ... وركالها غاد علينا ورائح7
ـــــــ
1 ر: "معتمدا", وما أثبته رواية الأصل والديوان.
2 الملاح: صاحب السفينة. والخيزرانة: السكان, وهو ذنب السفينة.
3 النجد: العرق والكرب.
4 الحزن: موضع لبنى يربوع. فيه رياض كثيرة.
5 ساقطة من ر.
6 قبله:
خليلي مرا بي على أم جندب ... لنقضي لبانات الفؤاد المعذب
وانظر تفصيل الخبر في الأغاني 57:14 طبعة الساسي. والموشح للمرزابي 151-153.
7 الإحساء: مدينة بالبحرين.

وقول كثير: وعرارها فالعرار البهار البري، وهو حسن الصفرة طيب الريح، قال الأعشى:
بيضاء ضحوتها وصفـ ... ـراء العشية كالعراره1
وقوله: موهناً يريد بعد هديء من الليل2، يقال: أتانا بعد هديء من الليل، وبعد وهن من الليل3، أي بعد دخولنا في الليل، وأنشد أبو زيد:
هبت تلومك بعد وهن في الندى ... بسل عليك ملامتي وعتابي
والمندل: العود. يقال له: المندل والمندلي. قال الشاعر4:
أمن زينب ذي النار ... قبيل الصبح ما تخبو
إذا ما خمدت يلقى ... عليها المندل الرطب
قال أبو العباس: ذي معناه ذه يقال: ذا عبد الله، وذي أمة الله، وذة أمة الله، وته أمة الله، وتا أمة الله؛ فإذا قلت: هذا عبد الله: فالإسم ذا وها للتنبيه. وعلى هذا القول5: هذي أمة الله [وهذه أمة الله]6. وإن شئت أسكنت في الوصل فقلت: هذه أمة الله. وإذا قلت: هذهي أمة الله. فالياء زائدة. لأن هذه الهاء لما كانت في لفظ المضمر شبهوها به في زيادة الياء. نحو: مررت بهي يا فتى! ولا7 يجوز أن تضم الهاء في هذه على قول من قال: مررت بهو، لأن هاء الإضمار أصلها الضم. تقول: رأيتهو يا فتى، ورأيتهم يا فتى! وهذه الهاء ليست من هذه، إنما هي مشبهة وتقول: هاته هند، وهاتي هند، وهاتا هند، على زيادة ها للتنبيه. قال جرير:
ـــــــ
1 العرار: شجر له نور أصفر قدر شبر, وقبله:
ياجارتي ما كنت جاره ... بانت لتحزننا عفاره
ترضيك من دل ومن ... حسن مخالطه غراره
وانظر ديوانه 111.
2 من الليل. ساقط من ر.
3 "من الليل". ساقط من ر.
4 ينسب البيتان لعمر بن ابي ربيعة. وهما في ملحق: ديوانه 478.
5 ر: "تقول"
6 تكملة من نسخة الاصل.
7 ر: "لا يجوز" بدون الواو.

هذي التي جدعت تيماً معاطسها ... ثم اقعدي بعدها يا تيم أو قومي1
وقال عمران بن حطان:
وليس لعيشنا هذا مهاه ... وليست دارنا هاتا بدار
قال أبو العباس: النحويون يثبتون الهاء في الوصل فيقولون: مهاه. وتقديره: فعال. ومعناه اللمع والصفاء2. يقال: وجه له مهاه يا فتى! والأصمعي يقول: مهاة. تقديرها حصاة. يجعل الهاء زائدة. وتقديرها في قوله3 فعلة والمهاة: البلورة. والمهاة: البقرة والوحشية، وجمعها المها.4.
فإذا صغرت: ذه قلت: تيا، كأنك صغرت تا. ولا تصغر ذه على لفظها، لأنك إذا صغرت ذا قلت: ذيا. فلو صغرت ذي فقلت: ذيا، لالتبس المؤنث بالمذكر، فصغروا ما يخالف فيه المؤنث المذكر.
وهذه، المبهمة يخالف تصغيرها تصغير سائر الأسماء. وسنذكر ذلك فيباب نفرده له إن شاء الله.
عاد القول إلى التشبيه.
أنشدتني5 أم الهيثم في صفة جمل:
كأن صوت نابه بنابه ... صرير خطاف على كلابه
أرادت الصريف، وهو أن يحك أحد نابيه بالآخر.
ـــــــ
1 يهجو التيم. وقبله:
ما بين تيم وإسماعيل من نسب ... إلا القرابة بين الزنج والروم
إن ابن تيم لمنسوب لوالده ... داني القرابة من حام ويحموم
وانظر ديوانه 489-450.
2 ر: "والبهاء".
3 "في قوله" ساقط من ر.
4 زيادات ر :"حكى يعقوب بن السكيت: "مهاة". من أسماء الشمس. وأنشد:
ثم تجلى الظلام رب رحيم ... بمهاة ضياؤها منشور
5 ر: "وأنشدتني".

وقوله: صرير خطاف على كلابه فالخطاف ما تدور عليه البكرة. والكلاب ما وليه.
وقد قال النابغة:
مقذوفة بدخيس النخض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد
القعو: ما تدور عليه البكرة إذا كان من خشب، فإن كان من حديد فهو خطاف. وإن دارت على حبل فذلك الحبل يسمى الدرك.
وقوله: مقذوفة يقول: مرمية باللحم. والدخيس: الذي قد ركب بعضه بعضاً. والنخض: اللحم. وبازلها: نابها. ومعنى بزل، وفطر، واحد: وهو أ، ينشق الناب. قال ذو الرمة:
كأن على أنيابها كل سدفة ... صياح البوازي من صريف اللوائك1
يقول: مما تلوكه. ويقال في الغضب: تركت فلاناً يصرف نابه عليك ويحرق ويحرق. ورأيته يعض عليك الأرم، قال زهير في مدح حصن بن حذيفة2:
أبي الضيم والنعمان يحرق نابه ... عليه فأفضى والسيوف معاقله3
وقال آخر:
نبئت أحماء سليمى أنما ... ظلوا غضاباً يعلوكون الأرما
وقال بعض النحويين: يعني الشفاة. وقال بعضهم: يعني الأصابع.
فأما قولهم: عض على ناجذه وهو آخر الأسنان، فيكون على وجهين: أحدهما أنه قد احتنك وبلغ، والآخر: أن يكون للإطراق والتشدد.
ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول: إذا لقيتم القوم فاجمعوا القلوب وعضوا على النواجذ، فإن ذلك ينبي4 السيوف عن الهام.
ـــــــ
1 السدفة: بقية من سواد الليل, فشبه أنيابه بأصوات البزاة, يقول: لاك يلوك, إذا مضغ "من شرح ديوانه".
2 زيادات ر :"ابن بدر الفزاري".
3 أفضى: سار إلى الفضاء. وقبله:
من مثل حصن في الحروب ومثله ... لإنكار ضيم أو لأمر بحاوله
4 ر: "يثني".

ثم نعود إلى التشبيه.
قال الراجز1:
كأنها حين بناها الباس2 ... جنية في رأسها أمراس
بها سكون وبها شماس3 ... يخرج منها الحجر الكباس
يمر لا يحبسه حباس ... لا نافذ الطعن ولا تراس
يصف المنجنيق. والأمراس: الحبال، والواحد مرس4. والكباس: الضخم. يقال: هامة كبساء يا فتى؛ ورأس أكبس. والحباس: الذي من شأنه أن يحبس. يقال: رجل ضارب للذي يضرب، كثيراً كان منه ذلك أو قليلاً، فإذا قلت: ضراب وقتال، فإنما يكثر الفعل، ولا يكون للقليل.
قال الراجز:
أخضر من معدن ذي قساس ... كأنه في الحيد ذي الأضراس
يرمى به في البلد الدهاس
يصف معولاً. وذو قساس: معدن للحديد الجيد، وهو يقرب من بلاد بني أسد. والحيد: ما أشرف من الجبل أو غير ذلك، يقال للطنف حيد، وهو الذي يسميه أهل الحضر الإفريز؛ يقال طنف حائطك، ويقال للناتئ في وسط الكتف: حيد وعير، وكذا الناتئ في القدم. وقوله: ذي الأضراس يريد الموضع الضرس الخشن ذا الحجارة. فيقول: هذا المعوللحدته يقع في الخشونة فيهدمها كما يهدم الدهاس. والدهاس: ما لآن من الرمل. قال دريد بن الصمة في يوم حنين: أين مجتلد القوم? فقالوا: بأوطاس5. فقال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس6، ولا لين دهس!
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو أبو النجم".
2 ر: "تناهي".
3 الشماس والشموس. شرود الدابة نفارها.
4 ر: "مرسية".
5 أوطاس: موضع في ديار هوازن.
6 الحزن: ما غلظ من الارض. والضرس: الشديد خشونة.

وقال العجاج يصف حماراً:
كأن في فيه إذا ما شحجا ... عوداً دوين اللهوات مولجا1
هذا يصف العير2 الوحشي الذي قد أسن3 تراه لا يشتد نهيقه، وكأنه يعالجه علاجاً. قال الشماخ:
إذا رجع التعشير شجاً كأنه ... بناجذه من خلف قارحه شجي4
فأما قول عنترة:
بركت على ماء الرداع كأنما ... بركت على قصب أجش مهضم
فإنما يصف الناقة ويذكر حنينها. يقال إنه يخرج منها كأشجى صوت، فإنما شبهه بالزمير، وأراد القصب الذي يزمر به. قال الأصمعي: هو الذي يقال له بالفارسية ناي. قال الراعي يصف الحادي:
زجل الحداء كأن في حيزومه ... قصباً ومقنعة الحنين عجولا
المقنع: الرافع رأسه، في هذا الموضع، ويقال في غيره: الذي يحط رأسه استخذاء وندماً؛ قال الله جل وعز: {مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} 5. ومن قال هو الرافع رأسه: فتأويله عندنا أن يتطاول فينظر ثم يطأطئ رأسه، فهو بعد يرجع إلى الإغضاء والإنكسار.
والبعير يحن كأشد الحنين إلى ألافه إذا أخذ من القطيع. قال: وأكثر ما يحن عند العطش. قال الشاعر6:
وتفرقوا بعد الجميع لنية ... لا بد أن يتفرق الجيران
لا تصبر الإبل الجلاد تفرقت ... بعد الجميع ويصبر الإنسان
ـــــــ
1 الشحيج: صوت البغل والحمار إذا أسن.
2 ر: "هذا يوصف به العير". وما أثبته عن الأصل. س.
3 ر: "إذا أسن".
4 التعشير: نهيق الحمار.
5 سورة إبراهيم 43.
6 هو مالك بن الصمصامة الجعدي.

وقال آخر:
وهل ريبة في أن تحن نجيبة ... إلى إلفها أو أن يحن نجيب!
وإذا رجعت الحنين كان ذلك أحسن صوت يهتاج له المفارقون، كما يهتاجون لنوح الحمام، ولالتياح البروق.
وقال عوف1 بن محلم، وسمع نوح حمامة:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح2
أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زماناً والفؤاد صحيح
ولوعا فشطت غربة دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد قريح!
وكل مطوقة عند لعرب حمامة، كالدبسي والقمري والورشان، وما أشبه ذلك؛ قال حميد بن ثور:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حر ترحة وترنما3
إذا شئت غنتني بأجزاع بيشة ... أو النخل من تثليث أو بيلملما
مطوقة خطباء تسجع كلما4 ... دنا الصيف وانجال الربيع فأنجما
محلاة طوق لم يكن من تميمة ... ولا ضرب صواغ بكفيه درهما
تغنت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة في شجوها متلوما
إذا حركته الريح أو مال ميلة ... تغنت عليه مائلاً ومقوما
عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحاً ولم تفغر بمنطقها فما!
ـــــــ
1 قال المرصفي: الشعر لأبي كبير الهذلي. لا لعوف, وإنما ذكر لعبد الله بن طاهر العندليب. فالتفت إلي ابن محلم وقال: هل سمعت بأشجى من هذا؟ فقال: لا والله أبا كبير حيث يقول. وذكر الأبيات.
2 ر: "ميال". وما أثبته عن الأصل. س.
3 من قصيدة طويلة في ديوانه 1-3مطلعها:
سل الربع أني يممت أم سالم ... وهل عادة للربع أن يتكلما.
4 الديوان "تصدح".

فلما أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيا شاقه صوت أعجما
وقال ابن الرقاع وذكر حمامة:
[قال أبو الحسن الأخفش: الصحيح أنه لنصيب]:
ومما شجاني أنني كنت نائماً ... أعلل من برد الكرى بالتنسم
إلى أن بكت ورقاء في غصن أيكة ... تردد مبكاها بحسن الترنم1
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بليلى2 شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم
أما قول حميد دعت ساق حر فإنما حكى صوتها، ويقال للواحد ذكراً كان أو أنثى: حمامة، والجمع الحمام، والحمامات، فإذا كان ذكراً قلت هذا حمامة، وإذا كانت أنثى قلت هذه حمامة. وكذلك هذا بطة وهذه بطة. ويقال بقرة للذكر والأنثى، ودجاجة لهما، فإذا قلت: ثور، أو ديك بينت الذكر، واستغنيت عن تقديم التذكير.
ويقال للحمامة: تغنت وناحت، وذاك أنه صوت حسن غير مفهوم، فيشبه مرة بهذا ومرة بهذا، قال قيس بن معاذ:
ولو لم يشقني الظاعنون لشاقني ... حمائم ورق في الديار وقوع
تجاوبن فاستبكين من كان ذا هوى ... نوائح ما تجري لهن دموع
وقوله: وانجال الربيع يقال؛ انجال عنا، أي أقلع، ومثل ذلك أنجم عنا. وإن قلت: أثجم فمعناه لزم ووقع، فهو خلاف أنجم. وإن قلت: انجاب فمعناه انشق. يقال: المجوب للحديدة التي يثقب بها المسيب. ويقال: جبت البلاد أي دخلتها وطوقتها. وفي القرآن: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} 3 أي شقوه.
وقوله: لم يكن من تميمة التميمة المعاذة وقد مضى هذا.
ـــــــ
1 ما بين العلامتين من زيادات ر.
2 ر: "سعدي" وما أثبته عن الأصل.
3 سورة الفجر 9.

وقوله: وما تفغر بمنطقها فما. يقول: لم تفتح. يقال: فغرفاه. إذا فتحه1.
وقوله:
ولا عربياً شاقه صوت أعجما
يقول: لم أفهم ما قالت، ولكني استحسنت صوتها واستحزنته، فحننت له.
ويروى أن بعض الصالحين كان يسمع الفارسية تنوح ولا يدري ما تقول. فيبكيه ذلك ويرققه. ويذكر به غي ما قصدت له.
قال أبو العباس: وحدثت أن بعض المحدثين2 سمع غناء بخراسان بالفارسية فلم يدر ما هو. غير أنه شوقه لشجاه وحسنه. فقال في ذلك:
حمدتك ليلة شرفت وطابت ... أقام سهادها ومضى كراها
سمعت بها غناء كان أولى ... بأن يقتاد نفسي من غناها
الغناء، الأول: المدود من الصوت. والذي ذكره بعد في القافية: من المال مقصور:
ومسمعه يحار السمع فيها ... ولا تصممه لا يصمم صداها3
مرت أوتارها فشفت وشاقت ... فلو يسطيع حاسدها فداها
ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت كبدي فلم أجهل شجاها
فكنت كأنني أعمى معنى ... بحب الغانيات وما يراها
[وقال عبد بني الحسحاس:
وراهن ربي مثل ما قد ورينني ... وأحمى على أكبادهن المكاويا]4
ـــــــ
1 زيادات ر: "حكى ثعلب: "فغر فاه" و"فغر نفسه". وكذلك شجى فاه. وشجى نفسه".
2 هو أبو تمام.
3 قال المرصفي: يدعو لها بطول العمر. والعرب تقول: أصم الله صداه. تريد أهلكه. وإذا مات قالت: صم صداه. والصدى: ما تسمعه عقيب صياحك راجع إليك من جبل أو مكان مرتفع.
4 ما بين العلامتين من زيادات ر.

قال أبو العباس: والشيء يذكر بالشيء وإن كان دونه فنجري لاحتواء الباب والمعنى عليهما.
وفي شعر حميد هذا ما هو أحكم مما ذكرنا وأوعظ، وأحرى أن يمثل به الأشراف، وتسود به الصحف، وهو قوله:
أرى بصري قد رابني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصح وتسلما
ولا يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
ويروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كفى بالسلامة داء".
ثم نرجع إلى التشبيه.
قال أبو العباس: والعرب تشبه على أربعة أضرب: فتشبيه مفرط، وتشبيه مصيب، وتشبيه مقارب، وتشبيه بعيد يحتاج إلى التفسير ولا يقوم بنفسه: وهو أخشن الكلام.
فمن التشبيه المفرط المتجاوز، قولهم للسخي: هو كالبحر. وللشجاع: هو كالأسد. وللشريف: سما حتى بلغ النجم. ثم زادوا فوق ذلك. من ذاك قول بعضهم وهو بكر بن النطاح، يقوله لأبي دلف القاسم بن عيسى:
له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر
له راحة لو أن معشار جودها ... على البر صار البر أندى من البحر
ولو أن خلق الله في مسك فارس1 ... وبارزه كان الخلي من العمر
وقد قيل: إن امرأة عمران بن حطان قالت له: أما زعمت أنك لم تكذب في شعر قط! قال: أو فعلت? قالت: أنت القائل:
فهناك مجزأة بن ثور ... كان أشجع من أسامة
أفيكون رجل أشجع من الأسد! قال: فقال: أنا رأيت مجزأة بن ثور فتح مدينة، والأسد لا يفتح مدينة.
ـــــــ
1 المسك: الجلد.

ومن عجيب التشبيه في إفراط، غير أنه خرج من كلام جيد وعني به رجل جليل، فخرج من باب الاحتمال إلى باب الاستحسان، ثم جعل لجودة ألفاظه وحسن رصفه، واستواء نظمه، في غاية ما يستحسن قول النابغة يعني حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو الفزاري:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ... وكيف بحصن والجبال جنوح1
ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل ... نجوم السماء والأديم صحيح
فعما قليل ثم جاء نعيه ... فظل ندي الحي وهو ينوح
ومن تشبيههم المتجاوز الجيد النظم ما قد2 ذكرناه، وهو قول أبي الطمحان القيني:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه3
ويروى عن الأصمعي أنه رأى رجلاً يختال في أزير4 في يوم قر في مشيته. فقال له: ممن أنت يا مقرور? فقال: أنا ابن الوحيد، أمشي الخيزلى5، ويدفئني حسبي.
وقيل لآخر في هذه الحال: أما يوجعك البرد? فقال: بلى والله، ولكن أذكر حسبي فأدفأ.
وأصوب منهما قول العريان الذي سئل في يوم قر عما يجد، فقال: ما علي منه كبير مؤونة6. فقيل: وكيف ذلك7 ? فقال: دام بي العري، فاعتاد بدني ما تعتاده وجوهكم!
ـــــــ
1 جنوح: مصدر جنح إليه, إذا مال وسكن.
2 ساقطة س ر.
3 الجزع: ضرب من الخرر, وقيل: هو الخرز اليملني, الذي فيه بياض وسواد, تشبهبه الأعين.
4 الأزير: تصغير إزار, قال المرصفي: يريد أنه يختال في إزار قصير.
5 الخيزلي: مشيه فيها تبختر وتثاقل وتراجع وتفكك.
6 ر: "وقيل".
7 ساقطة من ر.

ومن التشبيه القاصد1 الصحيح، قول النابغة:
وعيد أبي قابوس في غير كنهه ... أتاني ودوني راكس فالضواجع2
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع3
يسهد من نوم العشاء سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع
تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طوراً وطوراً تراجع4
فهذه صفة الخائف المهموم. ومثل ذلك قول الآخر5:
تبيت الهموم الطارقات يعدنني ... كما تعتري الأوصاب رأس المطلق
والمطلق هو الذي ذكره النابغة في قوله:
تطلقه طوراً وطوراص تراجع
وذاك أن المنهوش إذا ألح الوجع به تارة، وأمسك عنه تارة، فقد قارب أن يوأس من برئه.
وإنما ذكر خوفه من النعمان وما يعتريه من لوعة، في إثر لوعة، والفترة بينهما، والخائف لا ينام إلا غراراً، فلذلك شبهه بالملدوغ المسهد.
وقوله:
لحلي النساء في يديه قعاقع
لأنهم كانوا يعلقون حلي النساء على الملدوغ. يزعمون أن ذلك من أسباب البرء، لأنه يسمع تقعقعها النوم فلا ينام، فيدب السم فيه. ويسهد لذلك.
وقال الآخر:
ـــــــ
1 القاصد: المستقيم الواضح القريب.
2 راكس والضواجع: موضعان في بلاد غطفان.
3 من المساورة, وهي المواثبة. والضئيلة: الحية الدقيقة. والرقش: جمع رقشاء, وهي الحية التي فيها نقط سود وبيض.
4 تناذرها الراقون, أي أنذر بعضهم بعضا ألا يتعرض لها.
5 هو شأس بن نهار العبدي.

كأن فجاج الأرض وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
يؤتى إليه أن كل ثنية ... تيممها ترمي إليه بقاتل1
يقال لكل مستطيل كفة. يقال كفة الثوب لحاشيته، وكفة الحابل، إذا كانت مستطيلة. ويقال لكل شيء مستدير كفة، ويقال: ضعه في كفة الميزان، فهذه جملة هذا وكفة الحابل، يعني صاحب الحبالة التي ينصبها للصيد.
وأما التشبيه البعيد الذي لا يقوم بنفسه، فكقوله:
بل لو رأتني أخت جيراننا ... إذ أنا في الدار كأني حمار
فإما أراد الصحة، فهذا بعيد، لأن السامع إنما يستدل عليه بغيره. وقال الله جل وعز وهذا البين الواضح: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} 2 والسفر الكتاب، وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ} 3 في أنهم قد تعاموا عنها. وأضربوا عن حدودها وأمرها ونهيها، حتى صاروا كالحمار الذي يحمل الكتب ولا يعلم ما فيها.
وهجا مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة قوماً من رواة الشعر بأنهم لا يعلمون ما هو، على كثرة استكثارهم روايته، فقال:
زوامل للأشعار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح ما في الغرائر
والتشبيه كما ذكرنا من أكثر كلام الناس. وقد وقع على ألسن الناس من التشبية المستحسن عندهم, وعن أصل أخذوه أن يشبهوا4 عين المرأه في الكحل بعين الظبية5 أو البقرة الوحشية، والأنف بحد السيف، والفم بالخاتم، والشعر بالعناقيد، والعنق بإبريق فضة، والساق بالجمار6. فهذا كلام جار على الألسن.
ـــــــ
1 يؤتى إليه. أي يجئ إليه في وهمه.
2 سورة الجمعة 5.
3 الزوامل: جمع زاملة. وهي البعير بحمل المتاع والطعام. والغرائر: جمع الغرارة, وهي الأوعية, التي تسمى الجوالق.
4 ر: "أن شبهوا. وما أثبته عن الأصل. س."
5 ر: "الظبى".
6 الجمارة: شحمة بيضاء في رأس النخلة وفي س "الجمار".

وقد قال سراقة بن مالك بن جعشم: فرأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وساقاه ناديتان في غرزه كأنهما جمارتان، فأرده فوقعت في مقنب1 من خيل الأنصار، فقرعوني بالرماح، وقالوا: أين تريد?
وقال كعب بن مالك الأنصاري: وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سر تبلج وجهه فصار كأنه البدر.
وعين الإنسان مشبهة بعين الظبي والبقرة في كلامهم المنثور، وشعرهم المنظوم، من جاري ما تكلمت به العرب، وكثر في أشعارها، قال الشاعر2:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولكن عظم الساق منك رقيق3
وقال ذو الرمة:
أرى فيك من خرقاء يا ظبية اللوى ... مشابه جنبت اعتلاق الحبائل
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولونك إلا أنها غير عاطل4
وقال آخر5:
فلم ترعيني مثل سرب رأيته ... خرجن علينا من زقاق ابن واقف
طلعن بأعناق الظباء أعين ال ... جآذر وامتدت بهن الروادف6
ويقال للخطيب: كأن لسانه مبرد. فهذا الجاري في الكلام، كما يقال للطويل: كأنه رمح. ويقال للمهتز للكرم: كأنه غصن تحت بارح.
ومن عجيب7 التشبيه قول القائل:
لعينك يوم البين أسرع واكفاً ... من الفنن الممطور وهو مروح8
وذاك أن الغصن يقع المطر في ورقه فيصير منها في مثل المداهن، فإذا هبت به الريح لم تلبثه أن تقطره.
ـــــــ
1 المقنب: جماعة الخيل والفرسان.
2 هو مجنون بني عامر. وقبله:
وياشبه ليلى لو تلبثت ساعة ... لعل فؤادي من جواه يفيق
3 ر: "دقيق". وما أثبته عن الأصل. س.
4 ما بين العلامتين من زيادات ر.
5 ر: "الآخر". ونسبه المرصفي إلى هدبة بن خشرم العذرى.
6 في البيت إقواء.
7 ر: "من مليح".
8 نسبه القالي في أماليه "70:1" إلى أبي حية النميري. ورواه: "لعيناك". والفنن: الغصن. وجمعه أفنان.

طرائف من تشبيهات المحدثين
ثم نذكر بعد هذا طرائف من تشبيه المحدثين وملاحاتهم، فقد شرطناه في أول الباب، إن شاء الله.
قال أبو العباس: ومن أكثرهم تشبيهاً، لاتساعه في القول، وكثرة ثقبه1، واتساع مذهبه2 الحسن بن هانئ، قال في مديحه الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك:
وكنا إذا ما الحائن الجد غره ... سنا برق غاو أو ضجيج رعاد
تردى له الفضل بن يحيى بن خالد ... بماضي الظبا أزهاه طول نجاد
أما خميس أرجوان كأنه ... قميص محوك من قناً وجياد
فما هو إلا الدهر يأتي بصرفه ... على كل من يشقى به ويعادي
قوله: الحائن الجد يقال: حان الرجل، إذا دنا موته، ويقال: رجل حائن، والمصدر الحين. والجد: الحظ، والجد والجدة، مفتوحان، فإذا أردت المصدر من جددت في الأمر، قلت: أجد جداً مكسور الجيم، ويقال: جددت النخل أجده جداً وجداداً3 إذا صرمته. ويقال: جذذته جذاً. وتركت الشيء جذاذاً، إذا قطعته قعاً. ويروى هذا البيت لجرير على وجهين:
آل المهلب جذ الله دابرهم ... أضحوا رماداً فلا أصل ولا طرف
ويروى جد، وقرأ بعض القراء: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 4 فأما قوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} 5 فلم يقرأ بغيره. ويقال: كم جذاذ نخلك. أي كم تصرم منها. ويروى من قول الله جل وعز: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} 6 عن أنس بن
ـــــــ
1 كذا في س والأصل, وفي ر: "تفننه".
2 ر: "مذاهبه".
3 تكملة من س.
4 سورة هود 108.
5 سورة الأنبياء.
6 سورة الجن 3.

مالك: "غنى ربنا". وقرأ سعيد بن جبير: "جدا ربنا". ولو قرأ قارئ "جدا ربنا" على معنا: جد ربنا لم يقرأ به لتغير الخط، وكذا قراءة سعيد مخالفة الخط1.
وهذا الشعر ينشد بالكسر:
أجدك لم تغتمض ليلة ... فترقدها مع رقادها
ومثله2:
أجدك لم تسمع وصاة محمد ... رسول الإله حين أوصى وأشهدا
لأن معناه أجداً منك، على التوقيف، وتقديره في النصب: أتجد جداً، ويقال: امرأة جداء، إذا كانت لا ثدي لها، فكأنه قطع منها، لأن أصل الجد القطع، ويقال: بلدة جداء، إذا لم تكن بها مياه. قال الشاعر:
وجداء ما يرجى بها ذو هوادة ... لعرف ولا يخشى السماة ربيبها3
القرابة والهوادة في المعنى واحدة. قال أبو الحسن: السماة هم الصادة نصف النهار، وروي عن بعض أصحابنا، عن المازني قال: إنما سمي سامياً بالمسماة، وهو خف يلبسه لئلا يسمع الوحض وطأه، وهو عندي من سما للصيد.
ينشد هذا البيت:
أبى حبي سليمى أن يبيدا ... وأصبح حبلها خلقاً جديد
يقول: أصبح خلقاً مقطوعاً، لأن جديداً في معنى مجدود أي مقطوع، كما تقول: قتيل ومقتول وجريح ومجروح.
ـــــــ
1 ما بين العلامتين زيادات من ر.
2 زيادات ر: "قول الأعشى". والبيت في ديوانه 103. وروايته: "نبي الغله".
3 البين في الكتاب 1: 294: 1442. ونسبه إلى العنبري, وروايته.
وجداء يرجى بها ذو قراية ... لعطف وما يخشى السماة ربيبها
إلى العنبري.

ويقال في غير هذا المعنى: رجل مجدود، إذا كان ذا خطر وحظ1، وفي الدعاء "ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، أي من كان له حظ في دنياه لم يدفع ذلك عنه ما يريد الله به. ولو قال قائل: ولا ينفع ذا الجد منك الجد - يريد الاجتهاد - لكان وجهاً.
وقوله: سنا برق غاو والسنا: من الضياء مقصور. قال الله جل وعز: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 2. والسناء: من المجد ممدود. وقال الشاعر:
وهم قوم كرام الحي طراً ... لهم خول إذا ذكر السناء
وضربه الحسن3 ههنا مثلاً وجمع الرعد فقال: رعاد، كقولك: كلب وكلاب، وكعب وكعاب.
وقوله: بماضي الظبي. ظبة كل شيء حده، يقال: وخزه بظبة السيف، يراد بذلك حد طرفه.
وقوله: أزهاه طول نجاد، النجاد: حمائل السيف، وأزهاه: رفعه وأعلاه، والرجل يمدح بالطول، فلذلك يذكر طول حماله. قال مروان بن أبي حفصة يمدح المهدي:
قصرت حمائله عليه فقلصت ... ولقد تأنق قينها فأطالها
وقال الحسن بن هانئ يمدح محمداً الأمين:
سبط البنان إذا احتبى بنجاده ... غمر الجماجم والسماط قيام4
وقال جرير للفرزدق:
تعالوا ففاتونا ففي الحكم مقنع ... إلى الغر من أهل البطاح الأكارم
فإني لأرضى عبد شمس وما قضت ... وأرضى الطوال البيض من آل هاشم
ـــــــ
1 ر: "أي حظ".
2 سورة النور 43.
3 يريد الحسن بن هانئ.
4 غمر الجماجم. أي فرع القوم وعلاهم بطول قامته.

وقال الآخر:
لما التقى الصفان واختلف القنا ... نهالا وأسباب المنايا نهالها
تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أشداء الرجال طوالها
وقوله: أمام خميس، الخميس ههنا: الجيش، وكذلك قال ربيئة أهل خيبر، لما أطل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم: محمد الخميس، أي والجيش. وقال الشاعر، وهو طرفة:
وأي خميس لا أفأنا تهابه ... وأسيافنا يقطرن من كبشه دما
أفأنا: رددنا. يقال: أفاءه يفيء إذا رد. والأرجوان: الأحمر1. قال الشاعر:
عشية غادرت خيلي حميداً ... كأن عليه حلة أرجوان
والجياد: الخيل. وفي القرآن: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} 2.
ومن تشبيهه3 الجيد في هذا الشعر الذي ذكرنا قوله:
ترى الناس أفواجاً إلى باب داره ... كأنهما رجلا دبى وجراد4
فيوم لإلحاق الفقير بذي الغنى ... ويوم رقاب بوكرت لحصاد
ومن التشبيه الجيد قوله5:
فكأني بما أزين منها ... قعدي يزين التحكيما
وكان سبب هذا الشعر أن الخليفة تشدد عليه من شرب الخمر، وحبسه من أجل ذلك حبساً طويلاً، فقال:
ـــــــ
1 الأرجوان: صبغ أحمر شديد الحمرة.
2 سورة ص 21.
3 أي الحسن بن هانئ.
4 الدبا: مقصور قبل أن يطير.
5 زيادات ر:"أي الحسن بن هانئ".

أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شميما
نالني بالملام فيها إمام ... لا أرى لي خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما
كبر حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني بما أزين منها ... قعدي يزين التحكيما1
لم يطق حمله السلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق ألا يقيما
فهذا المعنى لم يسبقه إليه أحد.
قال: وحدثت أن العماني2 الراجز أنشد الرشيد في صفة فرس:
كأن أذنيه إذا تشوفا ... قادمة أو قلماً محرفا3
فعلم القوم كلهم أنه قد لحن، ولم يهتد منهم أحد لإصلاح البيت إلا الرشيد. فإنه قال له: قل: تخال أذنيه إذا تشوفا. والراجز وإن كان لحن فقد أحسن التشبيه.
ويروي أن جريراً دخل إلى الوليد، وابن الرقاع4 العاملي عنده ينشده القصيدة التي يقول فيها:
غلب المساميح الوليد سماحة ... وكفى قريش المعضلات وسادها
قال جرير: فحسدته على أبيات منها، حتى أنشد في صفة الظبية:
تزجي أغن كأن إبرة روقه
قال: فقلت في نفسي: وقع والله، ما يقدر أن يقول أو يشبه به، قال: فقال:
ـــــــ
1 القعدي: من يرى رأي القعد, وهم الخوارج الذين يرون القعود والتحكيم ولا يخرجون إلى القتال.
2 العماني: هو محمد بن ذؤيب بن محجن البصري.
3 قادمة: واحدة القوائم, وهن أربع ريشات في مقدم الجناح. واللواتي بعدهن المناكب إلى أسفل الجناح.
4 هو الوليد بن عبد الملك, وابن الرقاع هو عدي.

قلما أصاب من الدواة مدادها
قال: فما قدرت حسداً له أن أقيم حتى انصرفت.
ومن التشبيه1 الحسن الذي نستطرفه قوله:
تعاطيكها كف كأن بنانها ... إذا اعترضتها العين صف مداري
ومن التشبيه المليح قوله:
وكأن سلمى إذ تودعنا2 ... وقد اشرأب الدمع أن يكفا3
رشأ تواصين القيان به ... حتى عقدن بأذنه شنفا4
وفي هذا الشعر من التشبيه5 الجيد قوله:
خير فؤادك أو ستخبره ... قسماً لينتهين أو حلفا
الحب ظهر أنت راكبه ... فإذا صرفت عنانه انصرفا
ومن التشبيه الجيد قوله6:
إليك رمت بالقوم خوص كأنما ... جماجمها فوق الحجاج قبور
ـــــــ
1 ر: "تشبيهه".
2 ر: "كأن سعدي" وما أثبته عن الأصل, س.
3 زيادات ر: "يقال: اشرأب لأن يكلمني" إذا تهيأ لكلالمك. واشرأب الدمع, إذا تهيأ للوكف".
4 الرشأ: الظبي إذا قوى وأشتد, وتواصين, أوصى بعضهم بعضا.
5 ساقط من ر.
6 من كلمة يمدح بها الخصيب, أمير مصر, وقيله:
ومازلت توليه النصيحة يافعا ... إلى أن بدا في العارضين قتير
إذا غاله أمر فإما كفيته ... وإما عليه بالكفاة تشير

وله أيضاً:
سأرحل من قود المهارى شملة ... مسخرة ما تستحث بحادي1
مع الريح ما راحت فإن هي أعصفت ... نهور برأس كالعلاة وهادي2
العلاة: السندان، قال جرير:
أيفخر بالمحمم قين ليلى ... وبالكير المرقع والعلاة
وقال الحسن بن هانئ في صفة السفينة:
بنيت على قدر ولاءم بينها ... طبقان من قير ومن ألواح
فكأنها والماء ينطح صدرها ... والخيزرانة في يد الملاح
جون من العقبان يبتدر الدجى ... يهوي بصوت واصطفاق جناح
وقال في شعر آخر، يصف الخمر، ويذكر صفاءها ورقتها، وضياءها وإشراقها:
إذا عب فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا3
فأما قوله:
بنينا على كسرى سماء مدامة ... جوانبها محفوفة بنجوم
فلو رد في كسرى بن ساسان روحه ... إذاً لاصطفاني دون كل نديم
ـــــــ
1 قود المهاري. القود: جمع قوداء, وهي الطويلة الظهر والعتق, والمهري: المنسوبة إلي مهرة بن حيدان. أي حي من العرب.
2 النهوز, مبالغة من النهز, وهو الدفع.
3 قبله.
وقلت لساقيها أجزها فلم يكن ... ليأبى أمير المؤمنين وأشربا
فجوزها عني سلافا ترى لها ... إلي الافق الاعلى شعاعا مطنبا

فإنما كانت صورة كسرى في الإناء. وقوله:
جوانبها محفوفة بنجوم
فإنما يريد ما تطوق به من الزبد.
وقد قال في أخرى.
[أول الشعر من غير الأم1:
ودار ندامى خلفوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضعاث ريحان جني ويابس
حبست بها صحبي فألفت شملهم ... وإني على أمثال تلك لحابس]2
أقمنا بها يوماً ويوماً وليلة ... ويوماً له يوم الترحل خامس
تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها3 كسرى وفي جنباتها ... مهاً تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما ذرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
العسجدية: منسوبة إلى العسجد، وهو الذهب.
وقال المثقب العبدي:
قالت ألا تشتري ذاكم ... إلا بما شئنا ولم يوجد
إلا ببدري ذهب خالص ... كل صباح آخر المسند
من مال من يجني ويجني له ... سبعون قنطاراً من العسجد
وقوله: تدريها أي تختلها. يقال: دريت الصيد. إذا ختلته. قال الأخطل:
ـــــــ
1 الأم هنا أصل الكتاب.
2 ما بين العلامتين من زيادات ر.
3 قراراتها: منصوب على الظرفية.

وإن كنت قد أقصدتني إذ رميتني ... بسهمك والرامي يصيد وما يدري
وقال الحسن بن هانئ:
ما حطك الواشون من رتبة ... عندي ولا ضرك مغتاب1
كأنما أثنوا ولم يعلموا2 ... عليك عندي بالذي عابوا
وهذا المعنى عندي مأخوذ من قول النعمان بن المنذر لحجل بن نضلة، وقد ذكر معاوية بن شكل، فقال: أبيت اللعن! إنه لقعو الأليتين، مقبل النعلين، فجج الفخذين، مشاء بأقراء، تباع إماء، قتال ظبآء. فقال النعمان: أردت أن تذيمه فمدهته.
قوله: مقبل النعلين، يقول: لنعله قبال. ينسبهإلى الترفه. وتباع إماء، وقتال ظباء، من ذلك.
والقعو: ما تدور فيه البكرة إذا كان من خشب.
وقوله: تذيمه معناه تذمه. يقال: ذمه يذمه ذماً وذامه يذيمه ذيماً، وذأمه يذأمه ذأما. والمعنى واحد، قال الله تبارك وتعالى: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً} 3.وقال الحارث بن خالد المخزومي لعبد الملك:
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها
وقوله: فمدهته يريد مدحته. فأبدل من الحاء هاء، لقرب المخرج، وبنو سعد بنزياد مناة بن تميم كذلك تقول: ولخم ومن قاربها.
قال رؤبة:
لله در الغانيات المدَّه4 ... سبحن واسترجعن من تألهي5
يريد المدح، وفي هذه الأرجوزة:
ـــــــ
1 ر: "ما اغتابوا". وهذه رواية الاصل.
2 ر: "كأنهم".
3 سورة الأعراف 18.
4 المده: اللاتي يمتدحن بالجمال.
5 استرجعن: قلن: "إنا لله وإنا إليه راجعون".

براق أصلاد الجبين الأجله1
يريد الأجلح، والعرب تقول: جلح الرجل جلحاً، وجله يجله جلهاً، وجلي يجلي جلى، والمعنى واحد، قال العجاج:
مع الجلا ولائح القتير
ومثل بيت الحسن وكلام النعمان قول عمرو بن معد يكرب:
كأن محرشاً في بيت سعدي ... يعل بعيبها عندي شفيع2
وفي قصيدة الحسن هذه:
إن جئت لم تأت وإن لم أجئ ... جئت، فهذا منك لي داب!
كأنما أنت وإن كنت لا ... تكذب في الميعاد كذاب
وهذا كلام طريف.
ومن حسن تشبيه المحدثين قول بشار بن برد العقيلي3:
وكأن تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا4
وتخال ما جمعت عليه ... بنانها ذهباً وعطرا
وهذا التشبيه الجامع.
ونظيره في جمع شيئين لمعنيين ما ذكرت لك من قول مسلم بن الوليد:
كأن فيسرجه بدراً وضرغاما
ومن حسن التشبيه من قول المحدثين قول عباس بن الأحنف:
ـــــــ
1 أي لا شعر فوق جبينه. تشبيها بالحجر الصلد.
2 يعل, من العل, وهو السقية الثانية.
3 ساقطة من ر.
4 قبلها:
حوراء إن نظرت إليك ... سقتك بالعينين خمرا
وكان رجع حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا

أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق1
فهذا حسن في هذا جداً.
ومن حسن ما قالوا في التشبيه قول إسماعيل بن القاسم، أبي العتاهية للرشيد:
أمين الله أمنك خير أمن ... عليك من التقى فيه لباس
تساس من السماء بكل فضل ... وأنت به تسوس كما تساس
كأن الخلق ركب فيه روح ... له جسد وأنت عليه راس
وقد أخذ هذا المعنى علي بن جبلة، فقال في مدحه حميد بن عبد الحميد، وزاد في الشرح والترتيب، فقال:
يرتق ما يفتق أعداؤه ... وليس يأسو فتقة آسي2
فالناس حسم وإمام الهدى ... رأس وأنت العين في الراس
والعرب تختصر في التشبيه، وربما أومأت به إيماء، قال أحد الرجاز:
بتنا بحسان ومعاه تئط3 ... ما زلت أسعى بينهم وألتبط4
حتى إذا كاد الظلام يختلط5 ... جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط!
يقول في لون الذئب، واللبن إذا جهد6 وخلط بالماء ضرب إلى الغبرة، وأنشد الأصمعي:
وتشربه محضاً وتسقي عيالها ... سجاجاً كأقراب الثعالب أورقا
ـــــــ
1 الذبالة: الفتيلة.
2 الرتق: ضد الفتق, وهو لأم الفتق وإصلاحة.
3 تثط: من الأطيط, وهو صوت الامعاء من الجوع.
4 الالتباط: العدو والوثوب.
5 ر: "كان الظلام". وما أثبته من الأصل. س.
6 جهد اللبن: "أخرج زبده كله".

السجاج: الرقيق الممذوق. والقربان: الجنبان، والواحد قرب، والجميع أقراب1، من ذلك قول عمر بن الخطاب رحمه الله لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد شاور في رجل جنى جناية، وجاء قومه يشفعون له، فشفع له قوم آخرون، فقال له عمر: يا رسول الله، أرى أن توجع قربيه، فقال القوم: يا رسول الله، إنك لن تشتد على أمتك بقول عمر: فنزل إليه جبرائيل عليه السلام فقال له ثلاثاً: يا محمد، القول قول عمر، شد الإسلام بعمر. فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضرب الرجل.
والأورق: لون بين الخضرة والسواد، يقال: جمل أورق بين الورقة، وهو الأم ألوان الإبل عند العرب وأطيبها لحماً.
ومن مليح التشبيه للمحدثين2 قول عبد الصمد بن المعدل في صفة العقرب:
تبرز كالقرنين حين تطلعه ... تزحله مراً ومراً ترجعه3
في مثل صدر السبت خلق تفظعه ... أعصل خطار تلوح شعه4
أسود كالسبجة فيه مبضعه ... لا تصنع الرقشاء ما لا يصنعه5
وفي هذه الأرجوزة أيضاً:
بات بها حين حبيش يتبعه ... وبات جذلان وثيراً مضعه6
ذا سنة آمن ما يروعه ... حتى دنت منه لحتف تزمعه
فاظت تجم سمها وتجمعه ... يا بؤس للمودعه ما يودعه7
فشرعت أم الحمام إصبعه ... أنحت عليه كالشهاب تلذعه8
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ساقطة من ر.
3 تزحله: تنحيه.
4 السبت: الجلد المدبوغ. وخلق. مخلوق. يريد ذنبها. تفظعه: تراه فضيعا. أعصل. من العصل, وهو الالتواء في الشئ. وخطار: كثير الحركة يمينا وشمالا. "من رغبة الآمل".
5 السبجة: بردة من صوف فيها سواد وبياض, والرقشاء: الحية فيها نقط سود وبيض.
6 حبيش هنا: اسم اللديغ, والحين: الهلاك., ووثيرا, من الوثارة. وهي لين الفراش.
7 فاظت: أخرجت سمها.
8 شرعة: دنت.

عطك سربال حرير تخلعه ... فكل خل ظاهر تفجعه1
يزداد من بغت الحمام جزعه ... واليأس من تيسيره توقعه
وكذلك قال يزيد بن ضبة أو يزيد بن الصمة2.
قال أبو الحسن: شك العباس في أنه لأحدهما، أعني هذا البيت:
وكنهم بانوا ولم أدر بغتة ... وأفظع شيء حين يفجؤك البغت3
ومن أحسن التشبيه ومليحه قول رجل يهجو رجلاً برثاثة الحال:
يأتيك في جبة محرقة ... أطول أعمار مثلها يوم
وطيلسان كالآل يلبسه ... على قميص كأنه غيم
والتشبيه كثير، وهو باب كأنه لا آخر له، وإنما ذكرنا منه شيئاً لئلا يخلو هذا الكتاب من شيء من المعاني.
ونختم ما ذكرنا من أشعار المحدثين ببيتين أو ثلاثة من الشعر الجيد، ثم نأخذ في غير هذا الباب إن شاء الله. قال طفيل:
تقريبه المرطى والجون معتدل ... كأنه سبد بالماء مغسول
السبد: طائر بعينه. وقد قالوا: الخصفة التي توضع عند البئر، وهو بالطائر أشبه، وإنما أراد العرق في هذا الوقت. وخير الخيل ما لم يسرع عرقه ولم يبطئ، فإذا جاء ف وقته شمله.
قال الراجز:
كأنه والطرف منه سامي ... مشتمل جاء من الحمام
وقال الأعشى:
ـــــــ
1 العط: شق الثوب وغيره من غير أن يبين.
2 تكملة من س, وفي ر: "أو للعرجم", ولعله: "أو للعرجى".
3 حاشية الاصل: "في غيرها الموضع إنه لمحمد بن عبد الله بن نمير الثقفي".

يعادي النحوص ومسحلها ... وعفوهما قبل أن يستجم
النحوص، جماعها نحص، وهي التي لم تحمل في عامها. والمسحل: العير. والعفو: الولد وجمعه عفاء، فاعلم؛ وهو أسعى له إذا لم يكن لعامه. ويستحم: يعرق. وفي حديث أم زرع: مضجعه كمسل الشطبة1 وتكفيه ذراع التجفرة2، ومعناه أنه خميص البطن، وهذا تمدح به العرب وتستحسنه، فأما قول متمم بن نويرة:
فتى غير مبطان العشيات أروعا3
فإما أراد أنه لا يستعجل بالعشاء لانتظاره الضيف؛ كما قال:
وضيف إذا أرغى طروقاً بعيره ... وعان نآه الغل حتى تكنعا4
وقالوا في قول الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس
قالوا: أرادت بطلوع الشمس وقت الغارة، وبغروب الشمس وقت الأضياف.
وقال رجل لبعض أهله5: والله ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيداً، ولا بأرسح6 فتكون فارساً: وقال رجل من بني أسد لرجل من قيس: والله ما فتقت فتق السادة، ولا مطلت مطل الفرسان.
ـــــــ
1 الشطبة: السعفة التي تشطب من الجريد.
2 التجفرة: ما بلغ أربعة أشهر من ولد الشاة.
3 المبطان: العظيم البطن من كثرة الأكل. وصدره:
لقد كفن المنهال تحت ردائه
4 قال الأصمعي: إذا ضل الرجل أرغى بعيره. أي حمله على الرغاء لتجيبه الغبل برغائها, أو تنبح لرغائه الكلاب فيقصد الحي". والعاني: الاسير, والطروق. الإتيان ليلا. وتكنع الأسير: تقبض واجتمع.
5 ر: "لابن له".
6 الأرسخ: قليل لحم الفخذين والأليتين.

فهذه كلها نعوت قد عرفت لقوم حتى كأنها سمات لهم، وكانوا يقولون: ينبغي أن يكون الفارس1 مهفهف الخصرين2، متوقد العينين، حمش الذراعين3. وأنشد الأصمعي:
كأنما ساعداه ساعد ذيب
قالوا: ومن نعت السيد أن يكون لحيماً، ضخم الهامة، جهير الصوت، إذا خطا أبعد، وإذا تؤمل ملأ العين؛ لأن حقه أن يكون في صدر مجلس، أو ذروة منبر، أو منفرداً في موكب.
وكانوا يقولون في نعت السيد: يملأ العين جمالاً، والسمع مقالاً.
وقال أبو علي دعبل بن علي في رجل نسبه إلى السؤدد، يقوله لمعاذ بن جبل بن سعيد الحميري، وهو من ولد حميد بن عبد الرحمن الفقيه:
فإذا جالسته صدرته ... وتنحيت له في الحاشيه4
وإذا سايرته قدمته ... وتأخرت مع المستأنيه5
وإذا ياسرته صادفته ... سلس الخلق سليم الناحيه6
وإذا عاسرته صادفته ... شرس الرأي أبياً داهيه7
فاحمد الله على صحبته ... وأسأل الرحمن منه العافيه
وهذا المعنى قد أجمله جرير في قوله:
بشر أبو مروان إن عاسرته ... عير وعند يساره ميسور8
ـــــــ
1 ر: "ينبغي للفارس ان يكون".
2 مهفهف الخصرين: ضامرهما.
3 حمش الذراعين. دقيقهما.
4 حاشية كل شئ طرفه وجانبه.
5 المستأنية: المتمهلة البطيئة.
6 ياسرته: لاينته وساهلته.
7 شرس الرأي: سيئ الخلق.
8 هو بشر بن مروان, أخو عبد الملك بن مروان.

باب تجتمع فيه طرائف من حسن الكلام، وجيد الشعر، وسائر الأمثال، ومأثور الأخبار، إن شاء الله.
الحجاج بن يوسف والوليد بن عبد الملك
...
كان الحجاج بن يوسف يستثقل زياد بن عمرو العتكي، فلما أثنت الوفود عل الحجاج عند الوليد بن عبد الملك، والحجاج حاضر، قال زياد بن عمرو: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج سيفك الذي لا ينبو، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم؛ فلم يكن أحد بعد أخف على قلب الحجاج منه.

لابن قيس الرقيات في معاتبة المهلب
ولزياد يقول ابن قيس الرقيات في معاتبته المهلب بن أبي صفرة:
أبلغا جاري المهلب عني ... كل جار مفارق لا محاله
إن جاراتك اللواتي بتكريت ... لتنبيذ رجلهن مقاله1
لو تعلقن من زياد بن عمرو ... بحبال لما ذممن حباله
غلبت أمه أباه عليه ... فهو كالكابلي أشبه خاله2
ولقد غالني يزيد وكانت ... في يزيد خيانة ومغاله3
عتكي كأنه ضوء بدر ... يحمد الناس قوله وفعاله
ـــــــ
1 تكريت: بلد بين بغداد والموصل.
2 قال المرصفي: "يريد أن شهوة أمه سبقت شهوة أبيه فسرت أعراقها فيه" فلم يشبه أباه في صلابة عوده ونجابته. والكابلي: منسوب إلي كابل, وهو ثغور طخارستان, نسبة إلي العجم".
3 المغالة: الخيانة.

نبذ من أقوال الحكماء
وقال أسماء بن خارجة الفزاري: لا أشاتم رجلاً، ولا أرد سائلاً، إنما هو كريم أسد خلته، وأو لئيم اشتري عرضي منه.
وقال سهل بن هارون: يجب على كل ذي مقالة أن يبدأ بحمد الله وقبل استفتاحها، كما بدئ بالنعمة قبل استحقاقها.
وكان يقول عند التعزية: التهنئة بآجل الثواب أولى من التعزية على عاجل المصيبة.
وأراد رجل الحج، فأتى شعبة بن الحجاج يودعه، فقال له شعبة: أما إنك إن لم تر الحلم ذلاً، والسفه أنفاً! سلم لك حجك.
وقال أويس القرني: إن حقوق الله لم تترك عند مسلم درهماً.

لدعبل يذم رجلا
ً
وقال دعبل بن علي الخزاعي يذم رجلاً:
رأيت أبا عمران يبذل عرضه ... وخبز أبي عمران في أحرز الحرز
يحن إلى جاراته بعد شبعه ... وجاراته غرثى تحن إلى الخبز

لبعض آل المهلب
وقال آخر1 :
قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار
لا يقبس الجار منهم فضل نارهم2 ... ولا تكف يد عن حرمة الجار3
ـــــــ
1 نسبه أبو تمام في الحماسه 90:4 إلي بعض آل الهلب. وقال التبريزي في شرحه: "هو عبد الله بن عبد الرحمن, ولقبه ابو الأنوار".
2 القبس: الشعلة من النار, والقابس: طالب النار.
3 زيادات ر: أظن تمامه:
حتى إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
قامت بأحمرها تبدي مشافره ... كانه رئة في كف جزار
والبيت الاول للأخطل, وروايته في ديوانه "قوم إذا استنبح...."

لرجل من طيئ وكان قتل رجلاً من بني أسد
وقال رجل من طيئ، وكان رجل منهم، يقال له زيد، من ولد عروة بن زيد الخيل، قتل رجلاً من بني أسد يقال له زيد، ثم أقيد به بعد:
علا زيدنا يوم الحمى رأس زيدكم ... بأبيض مصقول الغرار يمان
فإن تقتلوا زيداً بزيد فإنما ... أقادكم السلطان بعد زمان
[قال أبو الحسن، وأنشدنا غيره:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض من ماء الحديد يمان]

لشمعل التغلبي حين ضربه عبد الملك بن مروان
قال: كلم شمعل التغلبي عبد الملك كلاماً لم يرضه، فرماه عبد الملك بالجرز1 فخدش وهشم، فقال شمعل:
أمن جذبه بالرجل مني تباشرت ... عداتي، فلا عيب علي ولا سخر
فإن أمير المؤمنين وسيفه ... لكالدهر، لا عار بما فعل الدهر!
وقال الحجاج بن يوسف: البخل على الطعام أقبح من البرص على الجسد.
وقال زياد: كفى بالبخيل عاراً أن اسمه لم يقع في حمد قط، وكفى بالجواد مجداً أن اسمه لم يقع في ذم قط.
وقال آخر:
ألا ترين وقد قطعتني عذلا ... ماذا من الفضل بين البخل والجود!
لا يعدم السائلون الخير أفعله ... إما نوالا وإما حسن مردود
إلا يكن ورق يوماً أراج به ... للخابطين فإني لين العود
قوله: إلا يكن ورق يريد المال، وضربه مثلاً. ويقال: أتى فلان فلاناً يختبط ما عنده. والاختباط: ضرب الشجر ليسقط الورق، فجعل الخابط الطالب، والورق المال، كما قال زهير:
وليس مانع ذي قربى ولا رحم ... يوماً ولا معدماً من خابط ورقا
ـــــــ
1 الجرز: عمود من حديد.

بخل الحطيئة
ويروى أن ضيفاً نزل بالحطيئة، وهو يرعى غنماً له، وفي يده عصاً، فقال
الضيف: يا راعي الغنم [ما عندك?]1، فأومأ إليه الحطيئة بعصاه، وقال: عجراء من سلم2، فقال الرجل: إني ضيف، فقال الحطيئة: للضيفان أعددتها!.
ـــــــ
1 تكملة من س.
2 العجراء: التي فيها عقد. والسلم: شجر من العضاه.

متفرقات من شعر دعبل
وقال دعبل:
وابن عمران يبتغي عربياً ... ليس يرضى البنات للأكفاء
إن بدت حاجة له ذكر الضيـ ... ـف وينساه عند وقت الغداء
وقال أيضاً:
أضياف سالم في خفض وفي دعة ... وفي شراب ولحم غير ممنوع
وضيف عمرو وعمرو يسهران معاً ... عمرو لبطنته والضيف للجوع
وقال أيضاً:
ما يرحل الضيف عني بعد تكرمة ... إلا برفد وتشييع ومعذرة
وقال أيضاً:
لم يطيقوا أن يسمعوا وسمعنا ... وصبرنا على رحى الأسنان
صوت مضغ الضيوف أحسن عندي ... من غناء القيان بالعيدان
وقال القرشي من بني أمية:
إذا ما وترنا لم ننم عن تراتنا ... ولم نك أوغالاً نقيم البواكيا3
ولكننا نمضي الجياد شوازباً ... فنرمي بها نحو التارت المراميا4
ـــــــ
3 وترنا: قتل منا قتيل, والترات: جمع ترة. وهي النسل, والأوغال: جمع وغل, وهو النذل الضعيف من الرجال.
4 الشوازب من الخيل: الضوامر.

لجرير يفتخر ويهجو الأخطل وقومه
وقال جرير:
إن الذي حرم الخلافة تغلباً ... جعل النبوة والخلافة فينا1
مضر أبي وأبو الملوك وهل لكم ... يا خزر تغلب من أب كأبينا!
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلي قطينا2
إن الفرزدق إذ تحنف كارهاً ... أضحى لتغلب والصليب خدينا3
ولقد جزعت إلى النصارى بعدما ... لقي الصليب من العذاب مهينا
هل تشهدون من المشاعر مشعراً ... أو تسمعون من الأذان أذينا4!
قال أبو العباس: حدثني عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، قال: لما بلغ الوليد قوله:
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلي قطينا
قال الوليد: أما والله لو قال: "لو شاء ساقكم"، لفعلت ذاك به، ولكنه قال: "لو شئت" فجعلني شرطياً له.
ويروى أن بلالاً5 قعد يوماً ينظر بين الخصوم، ورجل منهم ناحياً يتمثل قول الأخطل على غير معرفة6:
وابن المراغة حابس أعياره ... مرمى القصية ما يذقن بلالاً7
ـــــــ
1 الخرز: ضيقو الجفون, يصفهم بأنهم ينظرون بمؤخر عيونهم حقدا وغيظا وعداوة.
2 القطين: الخدم والمماليك.
3 تحنف: تنسك وتأله.
4 الأذين: المؤذن.
5 هو بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري القاضي.
6 في هجاء جرير.
7 المراغة في الأصل: الموضع تتمرغ فيه الدواب, وتقال أيضا للأتيان التي لا تمتنع من الفحول. والأعيار: جمع عير, وهو الحمار والقصية: الموضع المتنحى البعيد. والبلال: ما بل الحلق من ماء غيره.

فسمعه بلال، فلما تقدم مع خصمه قال له بلال: أعد علي1 إنشادك، فغمزه بعض الجلساء، فقال الرجل: إني والله ما أدري من قاله، ولا فيمن قيل? فقال بلال: أجل، هو أسير من ذاك، هلما فاحتجا.
وقال جرير:
مررت على الديار فما رأينا ... كدار بين تلعة والنظيم
عرفت المنتأى وعرفت منها ... مطايا القدر كالحدأ الجثوم2
وقال آخر:
لقد تبلت فؤادك إذ تولت ... ولم تخش العقوبة في التولي3
عرفت الدار يوم وقفت فيها ... بريح المسك تنفح في المحل
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 جثوم: جمع جاثمة, من جثم الطائر إذا لصق بالأرض فلم يبرح.
3 تبلت فؤادك: أسقمته وأدنفته.

باب من أخبار الخوارج
في بيعتهم لعبد الله بن وهب الراسبي
قال أبو العباس: ذكر أهل العلم من الصفرية أن الخوارج1 لما عزموا على البيعة لعبد الله بن وهب الراسبي من الأزد، تكره ذلك، فأبوا من سواه، ولم يريدوا غيره. فلما رأى ذلك منهم قال: يا قوم، استبيتوا الرأي، أي دعوه يغب2.
وكان يقول: نعوذ بالله من الرأي الدبري.
قوله: استبينوا الرأي يقول: دعوا رأيكم تأتي عليه ليلة ثم تعقبوه، يقال: بيت فلان كذا كذا، إذا فعله ليلاً، وفي القرآن: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} 3، أي أداروا ذلك بينهم ليلاً، وأنشد أبو عبيدة:
أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر
لأنكح أيمهم منذراً ... وهل ينكح العبد حر لحر!
والرأي الدبري: الذي يعرض4 بعد وقوع الشيء، كما قال جرير5:
ولا يعرفون الشر حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الأمر إلا تدبرا
وكان عبد الله بن وهب ذا رأي وفهم، ولسان وشجاعة، وإنما لجأوا إليه وخلعوا معدان الإيادي، لقول معدان:
ـــــــ
1 من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا. سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين, أم كان بعدهم علي التابعين بإحسان, والأئمة في كل زمان. والصفرية: طائفة من الخوارج, تابعوا زياد بن الأصفر, ويقال لهم: الزيادية أيضا. الملل والنحل للشهرستاني 123:1
2 يغب: أي يبيت.
3 سورة النساء 108.
ر: "ليلا بينهم".
4 ر: "من بعد".
5 في هجاء الفرزدق وقومه من بني مجاشع.

سلام على من بايع الله شارياً1 ... وليس على الحزب المقيم سلام
فبرئت منه الصفرية، وقالوا: خالفت، لأنك برئت من القعد2. والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب، ومن ذي المعصية الظاهرة.
ـــــــ
1 شاريا, أي بائعا نفسه في طاعة الله.
2 القعد: طائفة من الخوارج يرون التحكيم حقا, غير أنهم قعدوا عن الخروج على الناس.

شأنهم مع واصل بن عطاء
وحدثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة أقبل في رفقة، فأحسوا الخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعوني وإياهم - وكانوا قد أشرفوا على العطب - فقالوا: شأنك. فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك? قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله، ويفهموا1 حدوده. فقالوا: قد أجرناكم، قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي، قالوا: فامضوا مصاحبين، فإنكم إخواننا! قال: ليس ذلك لكم، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} 2، فأبلغونا مأمننا. فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قالوا: ذاك لكم، فساروا بجمعهم3 حتى بلغوهم المأمن.
ـــــــ
1 ر: "ويعرفا".
2 سورة التوبة 6.
3 ر: "بأجمعهم".

مناظرة عبد الله بن عباس لهم
وذكر أهل العلم من غير وجه أن علياً رضي الله تعالى عنه لما وجه إليهم عبد الله بن عباس رحمة الله عليه، ليناظرهم، قال لهم: ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين? قالوا: قد كان للمؤمنين أميراً، فلما حكم في دين الله خرج من الإيمان، فليتب بعد إقراره بالكفر نعد له. فقال ابن عباس: ما ينبغي1 لمؤمن لم يشب إيمانه أن يقر على نفسه بالكفر! قالوا: إنه قد حكم، قال: إن الله عز وجل قد أمرنا بالتحكيم في قتل صيد، فقال عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، فكيف في إمامه قد أشكلت على المسلمين! فقالوا: إنه قد حكم عليه فلم يرض، فقال: إن الحكومة كالإمامة، ومتى فسق الإمام وجبت معصيته، وكذلك الحكمان
ـــــــ
1 ر: "لا ينبغي".
2 سورة المائدة 95.

لما خالفا نبذت أقاويلهما فقال بعضهم لبعض: لا تجعلوا احتجاج قريش حجة عليكم، فإن هذا من القوم الذين قال الله عز وجل فيهم: " بل هم قوم خصمون " " الزخرف: 58 " ، وقال عز وجل: " وتنذر به قوماً لدا " " مريم: 97 " .

الفتوى فيمن أصاب صيداً وهو محرم
والشيء يذكر بالشيء. وجاء في الحديث أن رجلاً أعرابياً1 أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني أصبت ظبياً وأنا محرم، فالتفت عمر إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال: قل، فقال عبد الرحمن: يهدي شاة، فقال عمر: أهد شاة. فقال الأعرابي: والله ما درى أمير المؤمنين ما فيها حتى استفتى غيره! فخفقه عمر رضوان الله عليه بالدرة، وقال: أتقتل في الحرم وتغمص الفتيا! إن الله عز وجل قال: {حْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، فأنا عمر بن الخطاب، وهذا عبد الرحمن بن عوف.
وفي هذا الحديث ضروب من الفقه؛ منها ما ذكروا أن عبد الرحمن بن عوف قال أولاً، ليكون قول الإمام حكماً قاطعاً ومنها أنه رأى أن الشاة مثل الظبية، كما قال الله عز وجل: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. وأنه لم يسأله: أخطأ قتلته3 أم عمداً? وجعل الأمرين واحداً. ومنها أنه لم يسأله: أقتلت صيداً قبله وأنت محرم? لأن قوماً يقولون: إذا أصاب ثانية لم يحكم عليه، ولكنا نقول له4: اذهب فاتق الله، لقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} 5.
ـــــــ
1 نقل المرصفي عن ابن الأثير أنه قبيصة بن هانئ أحد التابعين.
2 سورة المائدة 95.
3 ر: "قتله". وما أثبته عن الأصل.
4 كلمة "له" ساقطة من ر.
5 سورة المائدة 95.

قول قطري بن الفجاءة لأبي خالد القناني ورد أبي خالد عليه
من طريف أخبار الخوارج قول قطري بن الفجاءة المازني لأبي خالد القناني وكان من قعد الخوارج:

أبا خالد إنفر فلست بخالد ... وما جعل الرحمن عذراً لقاعد
أتزعم أن الخارجي على الهدى ... وأنت مقيم بين لص وجاحد!
فكتب إليه أبو خالد:
لقد زاد الحياة إلي حباً ... بناتي، إنهن من الضعاف
أحاذر أن يرين الفقر بعدي ... وأن يشربن رنقاً بعد صاف
وأن يعرين إن كسي الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف
ولو لا ذاك قد سومت مهري ... وفي الرحمن للضعفاء كاف
أبانا من لنا إن غبت عنا ... وصار الحي بعدك في اختلاف !

من أخبار عمران بن حطان وأشعاره
هذا خلاف ما قال عمران بن حطان، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهب بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وكان1 رأس القعد من الصفرية وخطيبهم وشاعرهم، قال: لما قتل أبو بلال، وهو مرداس بن أدية وهي جدته، وأبوه حدير، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، قال عمران بن حطان:
لقد زاد الحياة إلى بغضاً ... وحباً للخروج أبو بلال
أحاذر أن أموت على فراشي ... وأرجو الموت تحت ذرا العوالي
ولو أني علمت بأن حتفي ... كحتف أبي بلال لم أبالي
فمن يك همه الدنيا فإني ... لها والله رب البيت قال
وفيه يقول:
يا عين بكي لمرداس ومصرعه ... يا رب مرداس اجعلني كمرداس
ـــــــ
1 ر: "وقد كان".

تركتني هائماً أبكي لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس
أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ... ما الناس بعد يا مرداس بالناس
إما شربت بكأس دار أولها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس
فكل من لم يذقها شارب عجلاً ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس
وكان من حديث عمران بن حطان فيما حدثني العباس بن الفرج الرياشي عن محمد بن سلام أنه لما أطرده الحجاج كان ينتقل في القبائل، فكان إذا نزل في حي انتسب نسباً يقرب منه، ففي ذلك يقول:
نزلنا في نبي سعد بن زيد ... وفي عك وعامر عوبثان1
وفي لخم وفي أدد بن عمرو ... وفي بكر وحي بني العدان
ثم خرج حتى نزل عند روح بن زنباع الجذامي، وكان روح يقرع الأضياف، وكان مسامراً لعبد الملك بن مروان أثيراً عنده2، فانتمى له من الأزد.
وفي غير هذا الحديث أن عبد الملك ذكر روحاً فقال: من أعطي مثل ما أعطي أبو زرعة! أعطي فقه أهل الحجاز، ودهاء أهل العراق، وطاعة أهل الشام.
رجع الحديث: وكان روح بن زنباع لا يسمع شعراً نادراً ولا حديثاً غريباً عند عبد الملك فيسأل عنه عمران بن حطان إلا عرفه وزاد فيه، فذكر ذلك لعبد الملك، فقال: إن لي جاراً من الأزد ما أسمع من أمير المؤمنين خبراً ولا شعراً إلا عرفه وزاد فيه، فقال: خبرني ببعض أخباره، فخبره وأنشده، فقال: إن اللغة عدنانية، وأني لأحسبه عمران بن حطان؛ حتى تذاكروا ليلة قول عمران بن حطان يمدح ابن ملجم لعنه الله:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حيناً فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا3
فلم يدر عبد الملك لمن هو، فرجع روح إلى عمران بن حطان، فسأله عنه.
ـــــــ
1 في الأصل: "عوثبان", وما أثبته عن ر. وهو يوافق ما في القاموس.
2 أثيرا: مكرما.
3 زيادات ر: "قلبه الفقيه الطبري" فقال:
ياضربة من شقى ما أراد بها ... إلا ليهدم من ذي العرش بنيانا
إني لأذكره يوما فألعنه ... إيها والعن عمران بن حطانا
قال محمد بن أحمد الطبيب يرد على عمران بن حطان:
ياضربة من غدور صار ضاربها ... أشقى البرية عند الله إنسانا
إذا تفكرت فيه ظلت ألعنه ... وألعن الكلب عمران بن حطانا

فقال عمران: هذا يقوله عمران بن حطان، يمدح به عبد الرحمن بن ملجم، قاتل علي بن أبي طالب، فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال له عبد الملك: ضيفك عمران بن حطان، إذهب فجئني به، فرجع إليه، فقال: إن أمير المؤمنين قد أحب أن يراك، قال عمران: قد أردت أن أسألك ذلك فاستحييت منك، فامض فإني بالأثر، فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال له1 عبد الملك: أما إنك سترجع فلا تجده! فرجع وقد ارتحل عمران، وخلف رقعة فيها:
يا روح كم من أخي مثوى نزلت به ... قد ظن ظنك نم لخم وغسان
حتى إذا جفته فارقت منزله ... من بعد ما قيل عمران بن حطان
قد كنت جارك حولاً ما تروعني ... فيه روائع من إنس ومن جان
حتى أردت بي العظمى فأدركني ... ما أدرك الناس من خوف ابن مروان
فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له ... في النائبات خطوباً ذات ألوان
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني
وكنت مستغفراً يوماً لطاغية ... كنت المقدم في سري وإعلاني
لكن أبت لي آيات مطهرة ... عند الولاية في طه وعمران
ثم ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث الكلابي، أحد بي عمرو بن كلاب. فانتسب له أوزاعياً وكان عمران يطيل الصلاة، وكان غلمان من بني عامر يضحكون منه، فأتاه رجل يوماً ممن رآه عند روح بن زنباع فسلم عليه، فدعاه زفر فقال: من هذا? فقال: رجل من الأزد، رأيته ضيفاً لروح بن زنباع، فقال له زفر: يا هذا، أأزدياً2 مرة وأوزاعياً مرة! إن كنت خائفاً أمناك3، وإن كنت فقيراً جبرناك. فلما أمسى هرب وخلف في منزله رقعة فيها:
ـــــــ
1 كلمة "له" ساقطة من ر.
2 ر: "أزديا؟"
3 ر: "آمناك".

إن التي أصبحت يعيا بها زفر ... أعيت عياء على روح بن زنباع
قال أبو العباس: أنشدن1 الرياشي:
أعيا عياها على روح بن زنباع
وأنكره كما أنكرناه، لأنه قصر الممدود، وذل كفي الشعر جائز، ولا يجوز مد المقصور:
ما زال يسألني حولاً لأخبره ... والناس من بين مخدوع وخداع
حتى إذا انقعطت عني وسائله ... كف السؤال ولم يولع بإهلاعي
فاكفف كما كف عني إنني رجل ... إما صميم وإما فقعة القاع
واكفف لسانك عن لومي ومسألتي ... ماذا تريد إلى شيخ لأوزاع!
أما الصلاة فإني لست تاركها2 ... كل امرئ للذي يعني به ساع
أكرم بروح بن زنباع وأسرته ... قوم دعا أوليهم للعلا داع
جاوزتهم سنة فيما أسر به ... عرضي صحيح ونومي غير تهجاع
فاعمل فإنك منعي بواحدة ... حسب اللبيب بهذا الشيب من ناع
ثم ارتحل حتى أتى عمان، فوجدهم يعظمون أمر أبي بلال ويظهرونه، فأظهر أمره فيهم، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى عامل3 عمان، فارتحل عمران هارباً، حتى أتى قوماً من الأزد، فلم يزل فيهم حتى مات، وفي نزوله بهم يقول:
نزلنا بحمد الله في خير منزل ... نسر بما فيه من الإنس والخفر
نزلنا بقوم يجمع لله شملهم ... وليس لهم عود سوى المجد يعتصر
من الأزد إن الأزد أكرم أسرة4 ... يمانية قربوا إذا نسب البشر
فأصبحت فيهم آمناً لا كمعشر ... أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر
أم الحي قحطان? فتلكم سفاهة ... كما قال روح لي وصاحبه زفر5
وما منهما إلا يسر بنسبة ... تقربني منه وإن كان ذا نفر
فنحن بنو الإسلام والله واحد ... وأولى عباد الله بالله من شكر
ـــــــ
1 ر: "أنشدنيه".
2 ر: "غير تاركها".
3 ر: "أهل".
4 ر: "معشر".
5 ر: "لي روح".

قوله:
يا روح كم من أخي مثوى نزلت به
قد مر تفسيره. يقال: هذا أبو مثواي، وللأنثى: هذه أم مثواي، ومنزل الإضافة1، وما أشبهها المثوى، وكذلك قال المفسرون في قول الله عز وجل: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}2، أي إضافته. ويقال من هذا: ثوى يثوي ثوياً كقولك: مضى يمضي مضياً، ويقال: ثواء، ومضاء، كما قال الشماخ:
طال الثواء على رسم بيمؤود ... أودى وكل جديد مرة مودي
وقوله:
فيه روائع من إنس ومن جان
الواحدة رائعة، يقال: راعني يروعني روعاً، أي أفزعني، قال الله تعالى ذكره: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} 3. ويكون الرائع الجميل، يقال: جمال رائع، يكون ذلك في الرجل والفرس وغيرهما، وأحسب الأصل فيهما واحداً؛ أنه يفرط حتى يروع، كما قال الله جل ثناؤه: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 4، للإفراط في ضيائه. والرائع؛ مهموز، وكذلك كل فعل من الثلاثة مما عينه واو أو ياء، إذا كانت معتلة ساكنة، تقول: قال يقول: وباع يبيع، وخاف يخاف، وهاب يهاب، يعتل اسم الفاعل فيهمز موضع العين، نحو قائل، وبائع، وخائف، وصائب، فإن صحت العين في الفعل، صحت في اسم الفاعل، نحو: عور الرجل فهو عاور، وصيد فهو صائد، والصيد: داء يأخذ في الرأس والعينين والشؤون. وإنما صحت في عور وحول وصيد لأنه منقول من أحوال وأعور. وقد أحكمنا تفسير هذا الكتاب المقتضب.
وقوله:
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني
ـــــــ
1 ر: "الضيافة".
2 سورة يوسف 21.
3 سورة هود 74.
4 سورة النور 43.

يريد أن يوماً يمان، ولولا أن الشعر لا يصلح بالنصب لكان النصب جائزاً، على معنى أتنقل يوماً كذا ويوماً كذا، والرفع حسن جميل. وهذا الشعر ينشد نصباً:
أفي السلم أعياراً جفاء وغلظة ... وفي الحرب أمصال النساء العوارك1!
العوارك، هن الحوائض، وكذلك قوله:
أفي الولائم أولاداً لواحدة ... وفي المحافل أولاداً لعلات!
قال: العلات، سميت لأن الواحدة تعل بعد صاحبتها، وهو من العلل، وهو الشرب الثاني، أي يختلفون ويتحولون في هذه الحالات. ومن كلام العرب: أتميمياً مرة وقيسياً أخرى! وكذلك إن لم تستفهم وأخبرت قلت: تميمياً مرة علم الله وقيسياً أخرى، أي تنتقل، ومن ثم قال له زفر بن الحارث: أزدياً مرة وأوزاعياً أخرى? والرفع على أنت جيد بالغ.
وقوله:
لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية
يكون على وجهين: لنفس طاغية، والآخر للمذكر، وزاد الهاء للتوكيد للمبالغة، كما يقال: رجل راوية وعلامة ونسابة، وكلاهما وجه. ويقال: جاءت طاغية الروم، تريد الجماعة الطاغية، كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تقتلك الفئة الباغية".
وقوله: عند الولاية إذا فتحت فهو مصدر الولي وفي القرآن المجيد: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} 2. والولاية مكسورة، نحو السياسة والرياضة والإيالة، وهي الولاية، وأصله من الإصلاح، يقال :آله يؤوله أولاً، إذا أصلحه. قال عمر بن الخطاب: قد ألنا وإيل علينا؛ تأويل ذلك: قد ولينا وولي علينا. وهذه كلمة جامعة، يقول: قد ولينا فعلمنا ما يصلح الوالي، وولي علينا فعلمنا ما يصلح الرعية.
ـــــــ
1 الأعيار: جمع عير, وهو الحمار. والبيت من شواهد الكتاب 1-172
2 سورة الأنفال 72.

وقوله:
حتى إذا ما انقضت مني وسائله
وهي الذريعة والسبب، يقال: قد توسلت إلى فلان، قال رؤبة بن العجاج:
والناس إن فصلتهم فصائلا ... كل إلينا يبتغي الوسائلا
وقوله: ولم يولع بإهلاعي، أي بإفزاعي وترويعي، والهلع من الجبن عند ملاقاة الأقران، يقال: نعوذ باله من الهلع، ويقال: رجل هلوع، إذا كان لا يصبر على خير ولا شر، حتى يفعل في كل واحد منهما غير الحق، قال الله عز وجل1: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً,إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً, وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} 2. وقل الشاعر:
ولي قلب سقيم ليس يصحو ... ونفس ما تفيق من الهلاع
وقوله:
إما صميم وإما فقعة القاع
الصميم: الخالص من كل شيء، يقال: فلان من صميم قومه، أين من خالصهم. وقال جرير لهشام بن عبد الملك:
وتنزل من أمية حيث تلقى ... شؤون الرأس مجتمع الصميم
وقوله: إما فقعة القاع يقال لمن لا أصل له، هو فقعة بقاع، وذلك لأن الفقعة لا عروق لها ولا أغصان، والفقعة الكمأة البيضاء، ويقال: حمام فقيع لبياضه، ومن ذا قول الشاعر:
قوم إذا نسبوا يكون أبوهم ... عند المناسب فقعة في قرقر3
وقال بعض القرشيين:
إذا ما كنت متخذاً خليلاً ... فلا تجعل خليلك من تميم
بلوت صميمهم والعبد منهم ... فما أدنى العبيد من الصميم!
ـــــــ
1 ر: "وهو أصدق القائلين".
2 سورة المعارج 19-21.
3 القرقر: الأرض المطمئنة اللينة.

وقوله:
نسر بما فيه من الإنس والخفر
فأصل الخفر شدة الحياء، يقال: امرأة خفرة، إذا كانت مستترة لاستحيائها، قال ابن نمير الثقفي:
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات
وقوله:
من الأزد إن الأزد أكرم أسرة
يقول: عصابة وقبيلة، ويقال للرجل: من أي أسرة أنت? وأصل هذا من الاجتماع، يقال للقتب: مأسور، وقد مضى تفسيره.
وينشد:
يمانية قربوا إذا نسب البشر
يريد قربوا وهذا جائز في كل شيء مضموم أو مكسور إذا لم يكن من حركات الإعراب، تقول في الأسماء في فخذ، وفي عضد، عضد، وتقول في الأفعال: كرم عبد الله، أي كرم، وقد علم الله، أي علم الله، قال الأخطل1:
فإن أهجه يضجر كما ضجر بازل ... من الإبل دبرت صفحتاه وكاهله2
وقال آخر:
عجبت لمولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان
ولا يجوز في ضرب ولا في حمل أن يسكن، لخفة الفتحة.
وقوله:
أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر
يقول: أمن ربيعة أم من مضر? ويجوز في الشعر حذف ألف الاستفهام، لأن أم التي جاءت بعدها تدل عليها، قال ابن أبي ربيعة:
ـــــــ
1 يهجو كعب بن جعيل.
2 البازل من الإبل: ما دخل في التاسعة. ودبرت. من الدبر, وهو الجرح في ظهر الدابة. والصفحتان: الجانبان.

لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... بسبع رمين الجمر أم بثمان
يريد: أبسبع? وقال التميمي:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر!
الرواية على وجهين: أحدهما: أمن ربيعة أم مضر، أم الحي قحطان? يريد أ ذا أم ذا? والأملح1 في الرواية: من ربيعة أو مضر، أم الحي قحطان، لأن ربيعة أخو مضر، فأراد من أحد هذين أم الحي قحطان? لأنه إذا قال: أزيد عندك أم عمرو? فالجواب: نعم أو لا، لأن المعنى أحد هذين2 عندك، ومعنى الأول: أيهما عندك?.
ويروى - وحدثنيه المازني - أن صفية بنت عبد المطلب أتاها رجل، فقال لها: أين الزبير? قالت: وما تريد إليه? قال: أريد أن أباطشه! فقالت: ها هو ذاك، فصار إلى الزبير فباطشه. فغلبه الزبير، فمر بها مفلولاً3 فقالت صفية:
كيف رأيت زبرا
...
أأقطاً أو تمرا
أم قرشياً صقرا
لم تشكك بين الأقط والتمر، فتقول: أيهاما هو? ولكنها أرادت، أرأيته طعاماً أم قرشياً صقراً? أي أحد هذين رأيته أم صقراً? ولو قالت: أأقطاً أم تمراً? لكان4 محالاً على هذا الوجه.
وقوله:
وما منهما إلا يسر بنسبة
معناه وما منها واحد، فحذف لعلم المخاطب، قال الله جل اسمه: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} 5. أي وإن أحد ومعنى إن معنى ما، قال الشاعر6:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
يريج فمنهما تارة.
ـــــــ
1 ر: "والأصلح".
2 ر: "لأن أحد هذين عندك".
3 مفلولا: مهزوما.
4 ر: "كان".
5 سورة النساء 159.
6 هو تميم بن أبي بن مقبل.

وقوله:
فنحن بنو الإسلام والله واحد ... وأولى عباد الله بالله من شكر
يقول: انقطعت الولاية إلا ولاية الإسلام، لأن ولاية الإسلام قد قاربت بين الغرباء. وقال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1. وقال عز وجل فباعد به بين القرابة: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} 2. وقال نهار بن توسعة اليشكري:
دعي القوم ينصر مدعيه ... ليلحقه بذي الحسب الصميم
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
ـــــــ
1 سورة الحجرات 15.
2 سورة هود 46.

أول من حكم من الخوارج
ويقال فيما يروى من الأخبار إن أول من حكم عروة بن أدية - وأدية جدة له في الجاهلية1 - وهو عروة بن حدير، أحد بني ربيعة بن حنظلة. وقال قوم: بل أول من حكم رجل يقال له سعيد من بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. ولم يخلفوا في إجماعهم على عبد الله بن وهب الراسبي، وأنه امتنع عليهم، وأومأ إلى غيره، فلم يقتنعوا إلا به، فكان إمام القوم، وكان يوصف بالرأي.
ـــــــ
1 ر: "جدة له جاهلية".

أول سيف سل من سيوفهم
فأما أول سيف سل من سيوف الخوارج فسيف عروة بن أدية. وذلك أنه أقبل على الأشعث فقال: ما هذه الدنية1 يا أشعث! وما هذا التحكيم? أشرط أوثق من شرط الله عز وجل! ثم شهر عليه السيف، والأشعث مول، فضرب به عجز البغلة، فشبت البغلة فنفرت اليمانية - وكان جل أصحاب علي صلوات الله عليه - فلما رأى ذلك الأحنف قصد هو وجارية بن قدامة ومسعود بن فدكي بن أعبد، وشبث بن ربعي الرياحي إلى الأشعث. فسألوه الصفح، ففعل.

ـــــــ
1 ر: "الدنيئة".

وكان عروة بن أدية نجا من حرب النهروان، فلم يزل باقياً مدة من خلافة معاوية، ثم أتي به زياد ومعه مولى له، فسأله عن أبي بكر وعمر، فقال خيراً، ثم سأله فقال: ما تقول في أمير المؤمنين عثمان بن عفان وأبي تراب علي بن أبي طالب؟ فتولى عثمان ست سنين من خلافته، ثم شهد عليه بالكفر! وفعل في أمر علي مثل ذلك إلى أن حكم، ثم شهد عليه بالكفر! ثم سأله عن معاوية، فسبه سباً قبيحاً! ثم سأله عن نفسه؟ فقال: أولك لزنية وآخرك لدعوة، وأنت بعد عاص لربك! ثم أمر به فضربت عنقه، ثم دعا مولاه فقال: صف لي أموره؟ فقال: أأطنب أم أختصر؟ فقال: بل اختصر. فقال: ما أتيته بطعام بنهار قط، ولا فرشت له فراشاً بليل قط.

مناظرة علي بن أبي طالب لهم
وكان سبب تسميتهم الحرورية أن علياً رضوان الله عليه، لما ناظرهم بعد مناظرة ابن عباس رحمه الله إياهم، كان فيما1 قال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم: إن هذه مكيدة ووهن، وأنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لم يأتوني، ثم سألوني التحكيم، أفعلمتم أنه كان منكم أحد أكره لذلك مني? قالوا: الله نعم قال: فهل علمتم أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه، فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله عز وجل، فمتى2 خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء، وانتم3 تعلمون أن حكم الله لا يعدوني? قالوا: اللهم نعم - وفيهم من ذلك الوقت ابن الكواء، وهذا من قبل أن يذبحوا عبد الله بن حباب? فإما ذبحوه بكسكر في الفرقة الثالثة - فقالوا: حكمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا قد كفرنا، ونحن تائبون! فاقرر بمثل ما أقررنا وتب ننهض معك إلى الشأم، فقال: أما تعلمون أن الله جل ثناؤه قد أمر بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأته4، فقال تبارك وتعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} 5. وفي صيد أصيب في الحرم، كأرنب تساوي ربع درهم6، فقال عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 7? فقالوا: إن عمراً لما أبى عليك
ـــــــ
1 ر: "فكان مما".
2 ر: "فإن".
3 ر: طأو أنتم".
4 ر: "وامرأة".
5 سورة النساء 35.
6 ر: "يساوي ربع دينار".
7 سورة المائدة 95.

أن تقول في كتابك: "هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين" محوت اسمك من الخلافة، وكتبت علي بن أبي طالب. فقال لهم رضي الله عنه: لي برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة، حيث أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب: "هذا كتاب كتبه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو" فقال: لو أقررت1 بأنك رسول الله ما خالفتك2، ولكني أقدمك لفضلك، ثم قال: اكتب: "محمد بن عبد الله"، فقال لي: "يا علي امح رسول الله"، فقلت: يا رسول الله، لا تسخو نفسي بمحو اسمك من النبوة، فقال عليه السلام: "فقفني 3 عليه" فمحاه بيده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: "اكتب محمد بن عبد الله"، ثم تبسم إلي فقال: "يا علي، أما إنك ستسام مثلها فتعطي". فرجع معه منهم ألفان من حروراء4، وقد كانوا تجمعوا بها، فقال لهم علي صلوات الله عليه: ما نسميكم? ثم قال: أنتم الحرورية، لاجتماعكم بحروراء.
والنسب إلى مثل حروراء حروراوي، فاعلم، وكذلك كل ما كان في آخره ألف التأنيث الممدودة لكنه نسب إلى البلد بحذف الزوائد، فقيل :الحروري.
ـــــــ
1 ر: "أقررنا".
2 ر: "ما خلفناك".
3 ر: "قفني".
4 حروراء: قرية من الكوفه.

للصلتان العبدي
وقال الصلتان العبدي في كلمة له:
أرى أمة شهرت سيفها ... وقد زيد في سوطها الأصبحي
بنجدية وحرورية ... وأزرق يدعو إلى أزرقي
فملتنا أننا المسلمون ... على دين صديقنا والنبي
وفي هذا الشعر مما يستحسن قوله:
أشاب الصغير وأفنى الكبير ... مر الغداة وكر العشي1
أذا ليلة عرمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي
ـــــــ
1 ر: مرور الليالي وكر العشى

قوله:
وقد زيد في سوطها الأصبحي
فإنه تسمى هذه السياط التي يعاقب بها السلطان الأصبحية، وتنسب إلى ذي أصبح الحميري، وكان ملكاً من ملوك حمير، وهو أول من اتخذها، وهو جد مالك بن أنس الفقيه رضي الله عنه.
والنجدية تنسب إلى نجدة بن عويمر، وهو عامر الحنفي، وكان رأساً ذا مقالة مفردة1 من مقالات الخوارج، وقد بقي من أهلها قوم كثير. وكان نجدة يصلي بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعه في كل جمعة، وعبد الله يطلب الخلافة، فيمسكان عن القتال من أجل الحرم.
ـــــــ
1 ر: "منفردة".

للراعي في عبد الملك بن مروان
قال الراعي يخاطب عبد الملك:
إني حلفت على يمين برة ... لا أكذب اليوم الخليفة قيلا
ما إن أتيت أبا خبيب وافداً ... يوماً أريد ببيعتي تبديلا
ولا أتيت نجيدة بن عويمر ... أبغي الهدى فيزيدني تضليلا
من نعمة الرحمن لا من حيلتي ... إني أعد له علي فضولا
وفي هذه القصيدة:
أخذوا العريف فقطعوا حيزومه ... بالأصبحية قائماً مغلولا1
قوله:
وأزرق يدعو إلى أزرقي
يريد من كان من أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي، وكان نافع شجاعاً مقدماً في فقه الخوارج، وله ولعبد الله بن عباس مسائل كثيرة، وسنذكر جملة منها في هذا الكتاب، إن شاء الله.
ـــــــ
1 العريف: القيم بأمور القبيلة.

وقوله:
على دين صديقنا والنبي
فالعرب تفعل هذا، وهو في الواو جائز، أن تبدأ بالشيء والمقدم غيره1، قال الله عز اسمه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 2، وقال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} 3، وقال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} 4. وقال حسان بن ثابت:
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير
يعني بني هاشم
ومن كلام العرب: ربيعة ومضر وقيس وخندف وسليم وعامر، وأصحاب نافع بن الأزرق هم ذوو الحد والجد5. وهم الذي أحاطوا بالبصرة حتى ترحل أكثر أهلها منها، وكان الباقون على الرحلة6، فقلد المهلب حربهم، فهزمهم إلى الفرات، ثم هزمهم إلى الأهواز، ثم أخرجهم عنها إلى فارس، ثم أخرجهم إلى كرمان، وفي ذلك يقول شاعر منهم في هذه الحرب التي صاحبها الزنج7 بالبصرة، يرثي البلد، ويذكر المنقبة التي كانت لهم:
[قال الأخفش: أنشدنيه يزيد المهلبي لنفسه:]
سقى الله مصراً خف أهلوه من مصر ... وماذا الذي يبقى على عقب الدهر8!
ولو كنت فيه إذ أبيح حريمه ... لمت كريماً أو صدرت على عذر
أبيح فلم أملك له غير عبرة ... تهيب بها أن حاردت لوعة الصدر9
ـــــــ
1 ر: "وغيرة المقدم".
2 سورة التغابن 2
3 سورة الرحمن33.
4 سورة آل عمران 43.
5 الحد, بفتح الحاء: البأس والنفاذ في النجدة, والجد بالكسر: الجتهاد والسرعة في الأمر, قاله المرصفي.
6 ر: "الترحل".
7 صاحب الزنج: رجل ظهر أيام المهتدى بالله, وزعم أنه من ولد على بن الحسين بن على بن أبي طالب, ودعا الناس إلى طاعتة, واستمال عددا كبيرا من الزنوج, يستعين بهم على العبث والفساد, سنة 27
8 عقب الدهر: نوبه وأرزاؤه
9 العبرة: الدمعة.

ونحن رددنا أهلها إذ ترحلوا ... وقد نظمت خيل الأزرق بالجسر
ومن يخش أطراف المنايا فإننا ... لسنا لهن السابغات من الصبر
فإن كريه الموت عذب مذاقه ... إذا ما مزجناه بطيب من الذكر
وما رزق الإنسان مثل منية ... أراحت من الدنيا ولم تخز في القبر
وفي هذا الشعر:
ليشكو بنو العباس نعمى تجددت ... فقد وعد الله المزيد على الشكر
لقد جنبتكم أسرة حسدتكم ... فسلت على الإسلام سيفاً من الكفر
وقد نغصتهم جولة بعد جولة ... يبيتون فيها المسلمين على ذعر
وقال عبد الله بن قيس الرقيات:
ألا طرقت من أهل بثنة طارقه1 ... على أنها معشوقة الدل عاشقه
تبيت وأرض السوس بيني وبينها ... وسولاف رستاق حمته الأزارقه2
إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة ... حرورية أضحت من الدين مارقه
ـــــــ
1 ر: "بيبة".
2 سولاف: قرية من أرض خوزستان. والرستاق اسم للسواد والقرى.

من أخبارهم يوم النهروان
وكان مقدار من أصاب علي صلوات الله عليه منهم بالنهروان ألفين وثماني مائة، في أصح الأقاويل، وكان عددهم ستة آلاف، وكان منهم بالكوفة زهاء ألفين ممن يسر أمره ولم يشهد الحرب، فخرج منهم رجل بعد أن قال علي رضوان الله عليه: ارجعوا وادفعوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتلة وشرك في دمه! ثم حمل منهم رجل على صف علي، وقد قال علي: لا تبدأوهم بقتال، فقتل من أصحاب علي ثلاثة وهو يقول:
أقتلهم ولا أرى عليا ... ولو بدا أوجره الخطيا
فخرج إليه علي صلوات الله عليه فقتله، فلما خالطه السيف، قال: حبذا الروحة إلى الجنة! فقال عبد الله بن وهب: ما أدري أإلى الجنة أم إلى النار! فقال

رجل من سعد: إما حضرت اغتراراً بهذا، وأراه قد شك! فانخزل بجماعة من أصحابه، ومال ألف إلى ناحية أبي أيوب الأنصاري، وكان رحمه الله على ميمنة علي، وجعل الناس يتسللون، وقد قال علي وقيل له: إنهم يريدون الجسر. فقال: لن يبلغوا النطفة، وجعل الناس يقولون له في ذلك، حتى كادوا يشكون، ثم قالوا: قد رجعوا يا أمير المؤمنين، فقال: والله ما كذبت ولا كذبت، ثم خرج إليهم في أصحابه، وقد قال لهم: إنه والله ما يقتل منكم عشرة ولا يفلت منكم عشرة، فقتل من أصحابه تسعة، وأفلت منهم ثمانية.
وقال أبو العباس: وقيل أول من حكم ولفظ بالحكومة ولم يشد بها رجل من بني سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر، ثم1 من بني صريم، يقال له الحجاج بن عبد الله، ويعرف بالبرك، وهو الذي ضرب معاوية على أليته، فإنه لما سمع بذكر الحكمين قال: أيحكم في دين الله! فسمعه سامع فقال: طعن والله فأنفذ.
وأول من حكم بين الصفين رجل من بني يشكر بن بكر بن وائل، فإنه كان في أصحاب علي، فحمل على رجل منهم فقتله غيلة، ثم مرق بين الصفين فحكم، وحمل على أصحاب معاوية، فكثروه، فرجع إلى ناحية عل صلوات الله عليه، فحمل على رجل منهم، فخرج إليه رجل من همدان فقتله، فقال شاعر همدان:
ما كان أغنى اليشكري عن التي ... تصلى بها جمراً من النار حاميا
غداة ينادي والرماح تنوشه ... خلعت علياً بادياً ومعاويا2
وجاء في الحديث، أن علياً رضي الله عنه تلي بحضرته: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً, الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 3، فقال علي: أهل حروراء منهم.
وروي عن علي صلوات الله عليه أنه خرج في غداة يوقظ الناس للصلاة في المسجد، فمر بجماعة تتحدث، فسل وسلموا عليه، فقال وقبض على لحيته: ظننت أن فيكم أشقاها، الذي يخضب هذه من هذه. وأومأ بيده إلى هامته ولحيته.
ـــــــ
1 كلمة"ثم" ساقطة من ر.
2 تنوخم: تناله.
3 سورة الكهف 104,103.

من شعر علي بن أبي طالب
ومن شعر علي بن أبي طالب رحمه الله الذي لا اختلاف فيه أنه قاله، وأنه كان يردده، أنهم لما ساموه أن يقر بالكفر ويتوب حتى يسيروا معه إلى الشام، فقال: أبعد صحبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرفقة في الدين أرجع كافراً!:
يا شاهد الله علي فاشهد ... أني على دين النبي أحمد
من شك في الله فإني مهتدي
ويروى:
أني توليت ولي أحمد

في تقسيم غنائم خيبر
ويروى أن رجلاً أسود شديد بياض الثياب، وقف على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقسم غنائم خيبر - ولم تكن إلا لمن شهد الحديبية - فأقبل ذلك الأسود على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ماعدلت منذ اليوم! فغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى رئي الغضب في وجهه. فقال عمر بن الخطاب: ألا أقتله يا رسول الله? فقال رسول الله: "إنه سيكون لهذا ولأصحابه نبأ".
وفي حديث آخر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: "ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل?" ثم قال لأبي بكر: "اقتله" فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله، رأيته راكعاً، ثم قال لعمر: "اقتله", فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله رأيته ساجداً، ثم قال لعلي: "اقتله", فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله لم أره، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو قتل هذا ما اختلف اثنان في دين الله".
قال أبو العباس: وحدثني إبراهيم بن محمد التميمي قاضي البصرة في إسناد ذكره، أن علياً رضي الله عنه وجه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذهبة من اليمن، فقسمها أرباعاً فأعطى ربعاً للأقرع بن حابس المجاشعي، وربعاً لزيد الخيل الطائي، وربعاً لعيينة بن حصن الفزاري، وربعاً لعلقمة بن علاقة الكلابي. فقام إليه رجل

مضطرب الخق غائر العينين، ناتئ الجبهة، فقال: رأيت قسمة ما أريد بها وجه الله!، فغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تورد خداه، ثم قل: "أيأمنني الله عز وجل على أهل الأرض ولا تأمنوني? " ! فقام إليه عمر فقال: ألا أقتله يا رسول الله? فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنه سيكون من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، تنظر في النصل 1 فلا ترى شيئاً، وتنظر في الرصاف 2 فلا ترى شيئاً، وتتمارى في الفوق" 3.
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من ضئضئ هذا" أي من جنس هذا. يقال: فلان من ضئضئ صدق، في محتد صدق4، وفي مركب صدق. وقال جرير للحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، وهو ابن عم الحجاج، وكان عامله على البصرة:
أقبلن من ثهلان أو وادي حيم ... على قلاص مثل خيطان السلم5
إذا قطعن علماً بدا علم ... حتى أنخناها إلى باب الحكم
خليفة الحجاج غير المتهم ... في ضئضئ المجد وبحبوح الكرم
ويقال: مرق السهم من الرمية، إذا نفذ منها، وأكثر ما يكون ذلك ألا يعلق به من دمها شيء، وأقطع ما يكون السيف إذا سبق الدم. قال امرؤ القيس بن عابس الكندي:
وقد أختلس الضربـ ... ـة لا يدمى لها نصلي
فأما ما وضعه الأصمعي في كتاب الاختيار. فعلى غلط وضع.
ـــــــ
1 النصل: حديدة السهم والسيف.
2 الرصاف: عصب يشد على سنخ النصل.
3 الفوق: مشق رأس السهم.
4 ر: "ومن مجتد".
5 الخيطان: جمع خوط, وهي الأغصان.

من أخبار واصل بن عطاء
وذكر الأصمعي أن الشعر لإسحاق بن سويد الفقيه، وهو لأعرابي لا يعرف المقالات التي يميل إليها أهل الأهواء، أنشد الأصمعي:

برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزال منهم وابن باب
ومن قوم إذا ذكروا عليا ... يردون السلام على السحاب
ولكني أحب بكل قلبي ... وأعلم أن ذاك من الصواب
رسول الله والصديق حباً ... به أرجو غداً حسن الثواب
فإن قوله: من الغزال منهم يعني واصل بن عطاء، وكان يكنى أبا حذيفة، وكان معتزلياً، ولم يكن غزالاً، ولكنه كان يلقب بذلك، لأنه كان يلزم الغزالين، ليعرف المتعففات من النساء، فيجعل صدقته لهن، وكان طويل العنق. ويروى عم عمرو بن عبيد، أنه نظر إليه من قبل أن يكلمه، فقال: لا يفلح هذا ما دامت عليه هذه العنق!.
وقال بشار بن برد يهجو واصل بن عطاء:
ماذا منيت بغزال له عنق ... كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا1
عنق الزرافة ما بالي وبالكم ... تكفرون رجالاً أكفروا رجلا!
ويروى: لا بل2، كأنه لا يشك فيه، أن بشاراً كان يتعصب للنار على الأرض ويصوب رأي إبليس - لعنه الله - في امتناعه من السجود لآدم عليه السلام، ويروى له:
الأرض مظلمة والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار
فهذا ما يرويه المتكلمون.
وقتله المهدي على الإلحاد، وقد روى قوم أن كتبه فتشت فلم يصب فيها شيء مما كان يرمى به وأصيب له كتاب فيه: إني أردت هجاء آل سليمان بن علي،
ـــــــ
1 النقنق: الظليم. والدو:الفلاة الواسعة. ومثل: أي أيام.
2 قال الملرصفي: هذه عبارة سخيفة, يريد أن السبب في هجائه ليس ما ذكره بشار من نسبه الكفر إلى أصحابه, إذ نسبوه إلي واصل, وإنما السبب ما بلغه من إنكار واصل قوله يفضل النار وبصوب رأي إبليس. وكلمة" كأنه لا شك فيه" معترضة.

فذكرت قرابتهم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمسكت عنهم1. [إلا أني قلت:
دينار آل سليمان ودرهمهم ... كبابليين حفاً بالعفاريت
لا يرجيان ولا يرجى نوالهما ... كما سمعت بهاروت وماروت]2
وحدثني المازني قال: قال رجل لبشار: أتأكل اللحم وهو مباين لديانتك? - يذهب به3 إلى أنه ثنوي - قال: فقال بشار: ليسوا يدرون أن هذا4 اللحم يدفع عني شر هذه الظلمة.
وكان واصل بن عطاء أحد الأعاجيب، وذلك أنه كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، فكان يخلص كلامه من الراء، ولا يفطن بذلك5 لاقتداره وسهولة ألفاظه ففي ذلك يقول شاعر من المعتزلة، يمدحه بإطالته الخطب واجتنابه الراء، على كثرة ترددها في الكلام، حتى كأنها ليست فيه:
عليم بإبدال الحروف وقامع ... لكل خطيب يغلب الحق باطله
وقال آخر:
ويجعل البر قمحاً في تصرفه ... وخالف الراء حتى احتال للشعر
ولم يطق مطراً والقول يعجله ... فعاذ بالغيث إشفاقاً من المطر
ومما حكي6 عنه قوله وذكر بشاراً: أما لهذا الأعمى المكتني بأبي معاذ من يقتله! أما والله لو لا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثم لا يكون إلا سدوسياً أو عقيلياً.
فقال: هذا الأعمى ولم يقل بشاراً، ولا ابن برد، ولا الضرير. وقال: من أخلاق الغالية ولم يقل المغيرية ولا المنصورية. وقال: لبعثت إليه، ولم
ـــــــ
1 د: "منهم".
2 ما بين العلامتين من زيادات ر.
3 كلمة "به" ساقطة من ر.
4 كلمة "هذا" ساقطة من ر.
5 ر: "بذاك".
6 ر: "يحكى".

يقل: لأرسلت إليه، وقال: على مضجعه، ولم يقل: على فراشه، ولا مرقده، وقال: يبعج، ولم يقل: يبقر، وذكر بني عقيل، لأن بشاراً كان يتوالى إليهم، وذكر بني سدوس، لأنه كان نازلاً فيهم.
واجتناب الحروف شديد.
وقال: لما سقطت ثنايا عبد الملك بن مروان في الطست1 قال: والله لو لا الخطبة والنساء ما حفلت بها.
قال: وخطب الجمحي، وكان منزوع إحدى الثنيتين، وكان يصفر إذا تكلم، وأجاد2 الخطبة، وكانت لنكاح، فرد عليه زيد بن علي بن الحسين كلاماً جيداً، إلا أنه فضله بتمكين3 الحروف وحسن مخارج الكلام.
فقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر يذكر ذلك:
صحت مخارجها وتم حروفها ... فله بذاك مزية ولا تنكر
المزية: الفضيلة.
وأما قوله: ابن باب فهو4 عمرو بن عبيد بن باب، وهو5 مولى بني العدوية، من بني مالك بن حنظلة، فهذان معتزليان وليسا من الخوارج، ولكن قصد إسحاق بن سويد إلى أهل البدع والأهواء، ألا تراه ذكر الرافضة معهما.
فقال:
ومن قوم إذا ذكروا علياً ... أشاروا بالسلام على السحاب
ويروى:
يردون السلام على السحاب
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ر: "فأجاد".
3 ر: "يتمكن".
4 ر: "فإنه".
5 ر: "وكان".

مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه
ثم نرجع إلى ذكر الخوارج.قال أبو العباس: فلما قتل علي بن أبي طالب أهل النهروان، وكان بالكوفة زهاء ألفين من الخوارج؛ ممن لم يخرج مع عبد الله بن وهب، وقوم ممن استأمن إلى أبي أيوب الأنصاري، فتجمعوا وأمروا عليهم رجلاً من طيئ، فوجه إليهم علي رجلاً، وهم بالنخيلة، فدعاهم ورفق بهم، فأبوا، فعاودهم فأبوا، فقتلوا جميعاً، فخرجت طائفة منهم نحو مكة، ووجه1 معاوية من يقيم للناس حجهم، فناوشه هؤلاء الخوارج، فبلغ ذلك معاوية ووجه معاوية بسر بن أرطأة، أحد بن عامر بن لؤي، فتوافقوا وتراضوا بعد الحرب بأن يصلي بالناس رجل من بني شيبة، لئلا يفوت الناس الحج، فلما انقضى نظرت الخوارج في أمرها، فقالوا: إن علياً ومعاوية قد أفسدا أمر هذه الأمة، فلو قتلناهما لعاد الأمر إلى حقه! وقال رجل من أشجع: والله ما عمرو دونهما، وإنه لأصل هذا الفساد، فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا أقتل علياً، فقالوا: وكيف لك به? قال: أغتاله. فقال الحجاج بن عبد الله الصريمي - وهو البرك: وأنا أقتل معاوية، وقال زاذويه مولى بني العنبر بن عمرو بن تميم: وأنا أقتل عمراً. فأجمع رأيهم على أن يكون قتلهم في ليلة واحدة، فجعلوا تلك الليلة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، فخرج كل واحد منهم إلى ناحية، فأتى ابن ملجم الكوفة، فأخفى فسه وتزوج امرأة يقال لها قطام بنت علقمة من تيم الرباب، وكانت ترى رأي الخوارج - والأحاديث تختلف وإنما يؤثر صحيحها - ويروى في بعض الحديث2 أنها قالت: لا أقتنع منك إلا بصداق أسميه لك، وهو ثلاثة آلاف درهم، وعبد وأمة، وأن تقتل علياً. فقال لها: لك ما سألت، وكيف3 لي به? قالت تروم ذلك غيلة، فإن سلمت أرحت الناس من شر، وأقمت مع أهلك، وإن أصبت خرجت4 إلى الجنة ونعيم لا يزول، فأنعم لها5، وفي ذلك يقول6:
ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وضرب علي بالحسام المصمم7
ـــــــ
1 ر: "فوجه".
2 ر: "الأحاديث".
3 ر: "فكيف".
4 ر: "سرت".
5 أي قال لها نعم.
6 قال المرصفي: بل قائله ابن أبي مياس المرادي.
7 قبله:
ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام من فصيح وأعجم

فلا مهر أغلى من علي وإن غلا ... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
وقد ذكروا أن القاصد إلى معاوية يزيد بن ملجم، والقاصد إلى عمرو آخر من بني ملجم، وأن أباهم نهاهم. فلما عصوه قال: استعدوا للموت، وأن أمهم حضتهم على ذلك. والخبر الصحيح ما ذكرت لك أول مرة.
فأقام ابن ملجم، فيقال: إن امرأته قطام لامته، وقالت: ألا تمضي لما قصدت له1! لشد ما أحببت أهلك! قال: إني قد وعدت صاحبي وقتاً بعينه وكان هنالك رجل من أشجع. يقال له شبيب، فواطأه بعد الرحمن.
ويروى أن الأشعث نظر إلى عبد الرحمن متقلداً سيفاً في بني كندة، فقال: يا عبد الرحمن، أرني سيفك. فأراه إياه2، فرأى سيفاً جديداً، فقال: ما تقلدك هذا3 السيف وليس بأوان حرب! فقال: إني أردت أن أنحر به جزور القرية! فركب الأشعث بغلته، وأتى علياً صلوات الله عليه فخبره. وقال له: قد عرفت بسالة ابن ملجم وفتكه، فقال علي: ما قتلني بعد.
ويروى أن علياً رضوان الله عليه كان يخطب مرة ويذكر أصحابه، وابن ملجم تلقاء المنبر، فسمع وهو يقول: والله لأريحنهم منك! فلما انصرف علي صلوات الله إلى بيته أتي به ملبباً، فأشرف عليهم، فقال: ما تريدون? فخبروه بما سمعوا، فقال: ما قتلني بعد؛ فخلوا عنه.
ويروى أن علياً كان يتمثل إذا رآه ببيت عمرو بن معدي كرب في قيس بن مكشوح المرادي والمكشوح هبيرة، وإنما سمي بذلك لأنه ضرب على كشحه:
أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
ـــــــ
1 كلمة "له" ساقطة من ر.
2 كلمة "إياه" ساقطة من ر.
3 كلمة "هذا" ساقطة من ر.

فينتفي من ذلك، حتى أكثر عليه، فقال له المرادي: إن قضي شيء كان. فقيل لعلي: كأنك قد عرفت وعرفت ما يريد بك، أفلا تقتله? فقال: كيف أقتل قاتلي.
فلما كان ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، خرج ابن ملجم وشبيب الأشجعي، فاعتورا الباب الذي يدخل منه علي رضي الله عنه، وكان علي يخرج1 مغلساً، ويوقظ الناس للصلاة، فخرج كما كان يفعل، فضربه شبيبل فأخطأه، وأصاب سيفه الباب، وضربه ابن ملجم على صلعته، فقال علي: فزت ورب الكعبة! شأنكم بالرجل. فيروى عن بعض من كان في المسجد2 من الأنصار قال: سمعت كلمة علي، ورأيت بريق السيف. فأما ابن ملجم فحمل على الناس بسيفه فأفرجوا له،وتلقاه المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بقطيفة، فرمى بها عليه، واحتمله فضرب به الأرض، وكان المغيرة أيداً، فقعد على صدره. وأما شبيب فانتزع السيف منه رجل من حضرموت، وصرعه وقعد على صدره. وكثر الناس، فجعلوا يصيحون: عليكم صاحب السيف، فخاف الحضرمي أن يكبوا عليه ولا يسمعوا عذره فرمى بالسيف، وانسل شبيب بين الناس فدخل بابن ملجم3 على علي رضوان الله عليه، فأومر فيه، فاختلف الناس في جوابه. فقال علي: إن أعش فالأمر لي4، وإن5 أصب فالأمر لكم، فإن آثرتم أن تقتصوا فضربة بضربة، وأن تعفوا أقرب للتقوى. وقالوا قوم: بل قال: وإن أصب فاقتلوه في مقتله فأقام علي يومين، فسمع ابن ملجم الرنة من الدار، فقال له من حضره: أي عدو الله! إنه لا بأس على أمير المؤمنين، فقال: أعلى من تبكي أم كلثوم6 ? أعلي? أما والله لقد اشتريت سيفي بألف درهم، وما زلت أعرضه، فما يعيبه أحد إلا أصلحت ذلك العيب، ولقد سقيته7 السم حتى لفظه، ولقد ضربته ضربة لو قسمت على من بالمشرق لأتت عليهم.
ومات علي صلوات الله ورضوانه عليه ورحمته في آخر اليوم الثالث. فدعا عبد الرحمن بالحسن8 رضي الله عنه. فقال: إن لك عندي سراً. فقال الحسن
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ر: "بالمسجد".
3 ساقط من ر.
4 ر: "إي".
5 "وإن أصبت فاضربوه ضربة في مقتله".
6 هي أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب, زوج عمر بن الخطاب.
7 ر: "أسقيته".
8 ر: "فدعا به الحسن".

رضوان الله عليه: أتدرون ما يريد? يريد أن يقرب من وجهي فيعض أذني فيقطعها، فقال: أما والله لو أمكنني منها لاقتلعتها من أصلها! فقال الحسن: كلا والله. لأضربنك ضربة تؤديك إلى النار، فقال: لو علمت أن هذا في يدك1 ما اتخذت إلهاً غيرك، فقال عبد الله بن جعفر: يا أبا محمد، ادفعه إلي أشف نفسي إنك يا ابن أخي لتكحل عمك بملمولين2 مضاضين3، وقال قوم: بل قطع يديه ورجليه، وقال قوم: بل قطع رجليه، وهو في ذلك يذكر الله عز وجل. ثم عمد إلى لسانه فشق ذلك عليه، فقيل له: لم تجزع من قطع يديك ورجليك ونراك قد جزعت من قطع لسانك! فقال: نعم، أحببت أن لا يزال فمي يذكر الله رطباً، ثم قتله.
ويروى أن علياً رضي الله عنه أتي بابن ملجم وقيل له: إنا قد سمعنا من هذا كلاماً ولا4 نأمن قتله لك? ثم قال علي رضوان الله عليه:
اشدد حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيكا5
ولا تجزع من الموت ... إذا حل بواديكا
والشعر إنما يصح بأن تحذف اشدد فتقول:
حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيكا
ولكن الفصحاء من العرب يزيدون ما عليه المعنى، ولا يعتدون به في الوزن، ويحذفون من الوزن، علماً بأن المخاطب يعلم ما يريدونه. فهو إذا قال: حيازيمك للموت، فقد أضمر أشدد فأظهره، ولم يعتد.
قال: وحدثني أبو عثمان المازني قال: فصحاء العرب ينشدون كثيراً:
ـــــــ
1 ر: "في يديك".
2 الملمول: الحبل يكتحل به.
3 أي جارين.
4 ر: "فلا".
5 الحيزوم: ما اشتمل عليه الصدر, يقال للرجل: اشدد حيازيمك, أي وطن نفسك على الأمر.

لسعد بن الضباب إذا غدا ... أحب إلينا منك فا فرس حمر1
وإنما الشعر:
لعمري لسعد بن الضباب إذا غدا
وأما الحجاج بن عبد الله الصريمي - وهو البرك - فإنه ضرب معاوية مصلياً، فأصاب مأكمته2، وكان معاوية عظيم الأوراك, فقطع منه عرقا يقال له3 عرق النكاح, فلم يولد لمعاوية بعد ذلك ولد. فلما أخذ قال: الأمان والبشارة، قتل علي في هذه الصبيحة، فاستؤني به حتى جاء الخبر، فقطع معاوية يده ورجله، فأقام بالبصرة، ثم بلغ4 زياداً أنه قد ولد له، فقال: أيولد له وأمير المؤمنين لا يولد له! فقتله. هذا أحد الخبرين.
ويروى أن معاوية قطع يديه ورجليه، وأمر باتخاذ المقصورة، فقيل لابن عباس بعد ذلك: ما تأويل المقصورة? فقال: يخافون أن يبهظهم5 الناس.
وأما زاذويه، فإنه أرصد لعمرو، واشتكى عمرو بطنه، فلم يخرج للصلاة. فخرج6 خارجة7، وهو رجل من بني سهم بن عمرو بن هصيص، رهط عمرو بن العاص، فضربه زاذويه فقتله، فلما دخل به على عمرو فرآههم يخاطبونه بالإمرة قال: أو ما قتلت عمراً! قيل: لا، قتلت خارجة، فقال: أردت عمراً وأراد الله خارجة8.
ـــــــ
1 لامرئ القيس بن حجر. ديوانه 139.
2 المأكمة: واحدة المأكمتين, وهما اللحمتان اللتان على رءوس الوركين.
3 كلمة "له" ساقطة من ر.
4 ر:"فبلغ".
5 يبهظهم: يغلبهم.
6 ر: "دخرج".
7 هو خارجة بن حذافة, له صحبة.
8 ر: "والله أراد".

لأبي زبيد الطائي يرثي علي بن أبي طالب
وقال أبو زبيد الطائي يرثي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:
إن الكرام على ما كان من خلق ... رهط امرئ خاره للدين مختار
طب بصير بأضغان الرجال ولم ... يعدل بخبر رسول الله أخبار

وقطرة قطرت إذ حان موعدها ... وكل شي له وقت ومقدار
حتى تنصلها في مسجد طهر ... على إمام هدى إن معشر جاروا
حمت ليدخل جنات أبو حسن ... وأوجبت بعده للقاتل النار
قوله خاره يعني1: اختاره، وهو فعله واختاره افتعله كما تقول: قدر عليه، واقتدر عليه.
وقوله: بصير بأضغان الرجال، فهي أسرارها ومخبآتها. قال الله تعالى: {فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} 2. والخبر: العالم.
ويروى أن علياً رضوان الله عليه مر بيهودي يسأل مسلماً عن شيء من أمر الدين، فقال له علي: اسألني ودع الرجل، فقال له: يا أمير المؤمنين، أنت خبر، أي عالم، قال علي عليه السلام: أن تسأل عالماً أجدى عليك3.
وقوله: حتى تنصلها، يريد استخرجها.
وقوله: حمت، معناه قدرت.
ـــــــ
1 ر: "إنما هو".
2 سورة محمد 73.
3 ر: "أجى لك".

للكميت في رثائه أيضا
قال الكميت:
والوصي الذي أمال التجوبي ... به عرش أمة لانهدام
قتلوا يوم ذاك إذ قتلوه ... حكماً لا كغابر الحكام
الإمام الزكي والفارس المعلم ... تحت العجاج غير الكهام
راعياً كان مسجحاً ففقدنا ... ه وفقد المسيم هلك السوام1
وله: الوصي فهذا شيء كانوا يقولنه ويكثرون فيه. قال ابن قيس الرقيات:
نحن منا النبي أحمد الصديـ ... ـق منا التقي والحكماء
ـــــــ
1 مسجحا: سهلا.

وعلي وجعفر ذو الجناحين ... هناك الوصي والشهداء
وقال كثير لما حبس عبد الله بن الزبير محمد بن الحنفية في خمسة عشرة رجلاً من أله في سجن عارم:
تخبر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المحبوس في سجن عارم
وصي النبي المصطفى وابن عمه ... وفكاك أعناق وقاضي مغارم
أراد ابن وصي النبي. والعرب تقيم المضاف إليه في هذا الباب مقام المضاف، كما قال الآخر:
صبحن من كاظمة الخص الخرب ... يحملن عباس بن عبد المطلب
يريد ابن عباس رضي الله عنه.
وقال الفرزدق لسليمان بن عبد الملك:
ورثتم ثياب المجد فهي لبوسكم ... عن ابني مناف: عبد شمس وهاشم
يريد ابني عبد مناف.

لأبي الأسود الدؤلي في آل البيت
وقال أبو الأسود:
أحب محمداً حباً شديداً ... وعباساً وحمزة والوصيا
أحبهم لحب الله حتى ... أجيء إذا بعثت على هويا
هوى أعطيته منذ استدارت ... رحى الإسلام لم يعدل سويا1
يقول الأرذلون بنو قشير: ... طوال الدهر ما تنسى عليا!
بنو عم النبي وأقربوه ... أحب الناس كلهم إليا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ... وليس بمخطئ إن كان غيا2
ـــــــ
1 زيادات: "السوي والسواء: الذي قد سوى الله خلقه, لا زمانة به ولاداء, وفي القرآن: "بشر سويا" وتقول: ساويت ذاك بهذا الأمر, أي جعلته مثلا له.
2 زيادات ر: "ويروى: وليست".

وكان بنو قشير عثمانية، وكان أبو الأسود نازلاً فيهم، فكانوا يرمونه بالليل، فإذا أصبح شكا ذلك، فشكاهم مرة، فقالوا له1: ما نحن نرميك ولكن الله يرميك! فقال: كذبتم والله، لو كان الله يرميني لما أخطأني.
قال: وكان نقش خاتمه:
يا غالبي حسبك من غالب ... إرحم علي بن أبي طالب
وقوله: غير الكهام فالكهام: الكليل من الرجال والسيوف، يقال: سيف كهام. وقوله:
راعياً كان مسجداً فقدناه ... وفقد المسيم هلك السوام
فالمسيم الذي يسيم إبله أو غنمه ترعى، وكذلك كل شيء من الماشية، فجعل الراعي للناس كصاحب الماشي الذي يسيمها ويسوسها ويصلحها، ومتى لم يرجع أمر الناس إلى واحد فلا نظام لهم، ولا اجتماع لأمورهم.
قال ابن قيس الرقيات:
أيها المشتهي فناء قريش ... بيد الله عمرها والفناء
إن تودع من البلاد قريش ... لا يكن بعدهم لحي بقاء
لو تقفى ويترك الناس كانوا ... غنم الذئب غاب عنها الرعاء
وقال الحميري يعني علياً رضوان الله عليه:
كان المسيم ولم يكن إلا لمن ... لزم الطريقة واستقام مسيما
ولما سمع علي صلوات الله عليه نداءهم لا حكم إلا لله قال: كلمة عادلة يراد بها جور. إنما يقولون: لا إمارة، ولا بد من إمارة برة أو فاجرة.
ورووا أن علياً عليه السلام لما أوصى إلى الحسن في وقف أمواله وأن يجعل فيها ثلاثة من مواليه وقف فيها عين أبي نيزر2 والبغيبغة فهذا3 غلط، لأن وقفه هذين4 الموضعين لسنتين من خلافته.
ـــــــ
1 كلمة "له" ساقطة من ر.
2 كذا ضبط في الأصل. بفتح النون, وفي حاشية عن الصحاح: "نبرز" بكسر النون.
3 ر: "وهذا".
4 ر: "لهذين".

وقف عين أبي نيزر
حدثنا أبو ملحم محمد بن هشام في إسناد ذكره أخوه أبو نيزر، وكان أبو نيزر من أبناء بعض ملوك الأعاجم، قال: وصح عندي بعد أنه من ولد النجاشي - 1يعني أبا نيزر - فرغب في الإسلام صغيراً، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم. وكان معه في بيوته، فلما توفي رسول الله صار مع فاطمة وولدها عليهم السلام. قال أبو نيزر: جاءني علي بن أبي طالب وأنا أقوم بالضيعتين: عين أبي نيزر والبغيبغة2، فقال لي: هل عندك طعام? فقلت: طعام لا أرضاه لأمير المؤمنين، قرع من قرع الضيعة صنعته بإهالة سنخة3، فقال: علي به، فقام إلى الربيع وهو جدول فغسل يده، ثم أصاب من ذلك شيئاً، ثم رجع إلى الربيع، فغسل يديه بالرمل حتى أنقاهما، ثم ضم يديه، كل واحدة منهما إلى أختها، وشرب بهما حساً4 من ماء الربيع، ثم قال: يا أبا نيزر، إن الأكف أنظف الآنية. ثم مسح ندى ذلك الماء على بطنه، وقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله. ثم أخذ المعول5 وانحدر في العين، فجعل يضرب، وأبطأ عليه المساء. فخرج وقد تفضج جبينه عرقا6ً. فانتكف العرق عن جبينه. ثم أخذ المعول وعاد إلى العين، فأقبل يضرب فيها، وجعل يهمهم7 فانثالث8 كأنها عنق جزور، فخرج مسرعاً، فقال: أشهد الله أنها صدقة، علي بدواة وصحيفة، قال: فعجلت بهما إليه، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين، تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة، على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ليقي الله بها وجهه حر النار يوم القيامة، لا تباعا ولا توهبا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين، إلا أن يحتاج إليهما الحسن أو الحسين فهما طلق9 لهما، وليس لأحد غيرهما.
قال محمد بن هشام: فركب الحسين رضي الله عنه دين، فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار، فأبى أن يبيع، وقال: إنما تصدق بها أبي ليقي الله بها وجهه حر النار، ولست بائعها بشيء.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 البغيبغة: عين لآل رسول الله صلى الله علية وسلم غزيرة الماء كثيرة النخل.
3 الإهالة: ما أذيب من الشحم والسنخة: المتغيرة الريح.
4 حسا: جمع حسوة, وهي الشربة ملء الفم.
5 المعول: الفأس العظيمة ينقر بها في الصخور.
6 تفضج جبينة عرقا: سال.
7 بهمهم, من الهمهمة, وهي ترديد الصوت في الصدر.
8 يقال انثال الرمل انثيالا, إذا تبع بعضة بعضا, وهو هنا علي الإستعارة.
9 طلق: أي حلال.

كتاب معاوية إلى مروان بن الحكم
وتحدث الزبيريون أن معاوية كتب إلى مروان بن الحكم، وهو والي المدينة، أما بعد، فإن أمير المؤمنين أحب أن يرد الألفة، ويسل السخيمة، ويصل الرحم، فإذا ورد عليك1 كتابي هذا2 فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته أم كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين، وارغب له في الصداق.
فوجه مروان إلى عبد الله بن جعفر، فقرأ عليه كتاب معاوية3 وأعلمه بما في رد الألفة من صلاح ذات البين، اجتماع الدعوة. فال عبد الله: إن خالها الحسين بينبع، وليس ممن يفتات عليه بأمر، فأنظرني إلى أن يقدم، وكانت أمها زينب بنت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. فلما قدم الحسين ذكر ذلك له عبد الله بن جعفر. فقام من عنده فدخل إلى الجارية، فقال: يا بنية، إن ابن عمك القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب أحق بك، ولعلك ترغبين في كثرة الصداق وقد نحلتك البغيبغات، فلما حضر القوم للإملاك4 تكلم مروان بن الحكم، فذكر معاوية وما قصده من صلة الرحمن وجمع الكلمة، فتكلم الحسين فزوجها من القاسم بن محمد. فقال له مروان: أغدراً يا حسين? فقال: أنت بدأت، خطب أبو محمد الحسن بن علي عليه السلام عائشة بنت عثمان بن عفان، واجتمعنا لذلك، فتكلمت أنت فزوجتها من عبد الله بن الزبير. فقال مروان: ما كان ذلك. فالتفت الحسين إلى محمد بن حاطب فقال: أنشدك الله، أكان ذاك? قال: اللهم نعم. فلم تزل هذه الضيعة في أيدي5 بني عبد الله بن جعفر، من ناحية أم كلثوم، يتوارثونها، حتى ملكها أمير المؤمنين المأمون. فذكر ذلك له، فقال: كلا، هذا وقف علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فانتزعها من أيديهم، وعوضهم عنها، وردها إلى ما كانت عليه.
ـــــــ
1 ر: "وصل إليك".
2 كلمة "هذا" ساقطة من ر.
3 في لاأصل: "أمير المؤمنين", وما أثبته عن ر.
4 الإملاك: عقد النكاح.
5 ر: "يدي".

حديث علي مع الخوارج في أول خروجهم عليه
قال أبو العباس: رجع الحديث إلى ذكر الخوارج أمر علي بن أبي طالب رحمه الله.
قال: ويروى1 أن علياً في أول خروج القوم عليه دعا صعصعة بن صوحان العبدي، وقد كان وجهه إليهم، وزياد بن النضر الحارثي مع عبد الله بن العباس، فقال لصعصعة: بأي القوم رأيتهم أشد إطاقة? فقال: بزيد بن قيس الأرحبي، فركب علي إليهم إلى حروراء. فجعل يتخللهم، حتى صار إلى مضرب يزيد بن قيس، فصلى فيه ركعتين، ثم خرج فاتكأ على قوسه وأقبل على الناس، ثم قال: هذا مقام من فلج2 فيه فلج يوم القيامة. أنشدكم الله، أعلمتم أحداً منكم كان أكره للحكومة مني! قالوا: اللهم لا. قال: أفعلمتم أنكم أكرهتموني، حتى قبلتها? قالوا: اللهم نعم. قال: فعلام خالفتموني ونابذتموني? قالوا: إنا أتينا ذنباً عظيماً، فتبنا إلى الله، فتب إلى الله منه واستغفره نعد لك. فقال علي: إني أستغفر من كل ذنب. فرجعوا معه، وهم ستة آلاف. فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن علياً رجع عن التحكيم ورآه ضلالاً، وقالوا: إنما ينتظر أمير المؤمنين أن يسمن الكراع3، ويجبى المال، فينهض إلى الشام. فأتى الأشعث بن قيس علياً عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد تحدثوا أنك رأيت الحكومة ضلالاً والإقامة عليها كفراً، فخطب علي الناس فقال: من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب ومن رآها ضلالاً فهو أضل. فخرجت الخوارج من المسجد، فحكمت. فقيل لعلي: إنهم خارجون عليك، فقال لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيفعلون. فوجه إليهم عبد الله بن العباس، فلما صار إليهم رحبوا به وأكرموه. فرأى منهم جباهاً قرحة4 لطول السجود، وأيدياً كثفنات5 الإبل، وعليهم6 قمص مرحضة7، وهم مشمرون، فقالوا: ما جاء بك يا أبا العباس? فقال: جئتكم من
ـــــــ
1 ر: "يروى".
2 فلج: انتصر.
3 الكراع: اسم جماعة الخيل.
4 قرحة: بها قروح.
5 ثفنات الإبل: ما يصيب الارض منها إذا بركت.
6 ر: "وعليهم".
7 قمص مرحضة مغسولة, من أرحض الثوب, غسله.

عند صهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن عمه، وأعلمنا برب وسنة نبيه، ومن عند المهاجرين والأنصار. قالوا: إنا أتينا عظيماً حين حكمنا الرجال في دين الله، فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدونا رجعنا. فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلا ما صدقتم أنفسكم! أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته? فقالوا: اللهم نعم، فقال: فأنشدكم الله فهل1 علمتم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية? قالوا: نعم، ولكن علياً محا نفسه من إمارة المسلمين، قال ابن عباس: ليس ذلك بمزيلها عنه. وقد محا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسمه من النبوة، وقد أخذ علي على الحكمين ألا يجورا، وإن يجورا فعلي أولى من معاوية وغيره. قالوا: إن معاوية يدعي مثل دعوى علي، قال فأيهما رأيتموه أولى فولهوه، قالوا: صدقت، قال ابن عباس. ومتى2 جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول لقولهما. قال: فاتبعه منهم ألفان وبقي أربعة آلاف، فصلى بهم صلواتهم ابن الكواء، وقال: متى كانت حرب فرئيسكم شبث بن ربعي الرياحي، فلم يزالوا على ذلك يومين، حتى أجمعوا على البيعة لعبد الله بن هب الراسبي، قال: ومضى القوم إلى النهروان3، وكانوا أرادوا المضي إلى المدائن.
ـــــــ
1 ر: "هل".
2 ر: "متى".
3 زيادات ر: "قال الأخفش: كذا كان يقول المبرد: "النهروان. بكسر النون والراء, وإنما هو النهروان" بالفتح, وأنشد للطرماح: "قل في شط نهروان" بفتح النون.

خبرهم من عبد الله بن خباب وقتلهم له
قال أبو العباس: فمن طريف أخبارهم أنهم أصابوا مسلماً ونصرانياً، فقتلوا المسلم وأوصلوا بالنصراني، فقالوا: احفظوا ذمة نبيكم1.
ولقيهم عبد الله بن خباب وفي عنقه مصحف، ومعه امرأته وهي حامل، فقالوا له2: إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا أن نقتلك. فقال3: ما أحيا القرآن فأحيوه وما أماته فأميتوه. فوثب رجل منهم على رطبة فوضعها في فيه، فصاحوا به فلفظها تورعاً، وعرض لرجل منهم خنزير فضربه الرجل فقتله،
ـــــــ
1 س: "احفظو ذمة نبيكم".
2 كلمة "له" سلقطة من ر, وهي في الأصل, س.
3 ر,س :"قال".

فقالوا: هذا فساد في الأرض، فقال عبد الله بن خباب: ما علي منكم بأس، إني لمسلم، قالوا له: حدثنا عن أبيك? قال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل".
قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر? فأثنى خيراً، فقالوا: ما1 تقول في علي أمير المؤمنين قبل التحكيم، وفي عثمان ست سنين? فأثنى خيراً، قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم? قال: أقول إن علياً أعلم بالله منكم2، وأشد توقياً على دينه، وأبعد3 بصيرة، قالوا: إنك لست تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال عل أسمائها.
ثم قربوه إلى شاطئ النهر فذبحوه، فامذقر دمه، أي جرى مستطيلاً على دقة.
وساموا رجلاً نصرانياً بنخلة له، فقال: هي لكم، فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بثمن. قال: ما أعجب هذا? أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون منا جنى نخلة?.
ـــــــ
1 ر: "فما تقول".
2 ر: "أعلم بكتاب الله".
3 ر:"وأنفذ".

غيلان بن خرشة ونيله منهم
ومن طريف أخبارهم أن غيلان بن خرشة الضبي سمر ليلة عند زياد ومعه جماعة، فذكر أمر الخوارج، فأنحى عليهم غيلان، ثم انصرف بعد ليل إلى منزله فلقيه أبو بلال مرداس بن أدية. فقال له: يا غيلان، قد بلغني ما كان منك الليلة عند هذا الفاسق، من ذكر هؤلاء القوم الذين شروا أنفسهم وابتاعوا آخرتهم بدنياهم! ما يؤمنك أن يلقاك رجل منهم، أحرص والله على الموت منك على الحياة، فينفذ حضنيك1 برمحه? فقال غيلان: لن يبلغك أني ذكرتهم بعد الليلة.
ـــــــ
1 الحضنان: ناحيتا الإنسان. والجمع أحضان.

مرداس بن أدية وزياد
ومرداس تنتحله جماعة من أهل الأهواء، لقشفه وبصيرته، وصحة عبادته، وظهور ديانته وبيانه، تنتحله المعتزلة، وتزعم أنه خرج منكراً لجور السلطان، داعياً

إلى الحق، وتحتج له بقوله لزياد حيث قال على المنبر: والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء، والحاضر منكم بالغائب، والصحيح بالسقيم، والمطيع بالعاص ، فقام إليه مرداس فقال: قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان، وما هكذا ذكر الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام، إذ يقول: " وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى " " النجم: 37 - 41 " وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي، ثم خرج في عقب هذا اليوم.
والشيع تنتحله، وتزعم أنه كتب إلى الحسين بن علي صلوات الله عليه: إني لست أرى رأي الخوارج، وما أنا إلا على دين أبيك.

آراء الفقهاء في مذهب الخوارج
وهذا رأي قد استهوى جماعة من الأشراف. يروى أن المنذر بن الجارود كان يرى رأي الخوارج. وكان يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج بن يوسف يراه. وكان صالح بن عبد الرحمن صاحب ديوان العراق يراه. وكان عدة من الفقهاء ينسبون إليه ولعل هذا يكون باطلاً1، منهم عكرمة مولى ابن عباس. وكان يقال لك في مالك بن أنس.
ويروي الزبيريون: أن مالك بن أنس المديني2 كان يذكر ثمان وعلياً وطلحة والزبير، فيقول: والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر3.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 حاشية س: "قد يتوهم من هذا الكلام من لا معرفة له بالأخبار والتواريخ أن المذكور هنا مالك بن أنس الفقيه المدني المشهور صاحب المذهب. وليس الأمر كذلك. وهذا تقصير أو قصور من أبي العباس, حيث أبهم في موضع البيان, لأن مالكا المذكور هنا هو مالك بن أنس بن مالك بن مسمع البكري. ثم البصري. أحد رؤساء أهل البصرة. وأعظم فقهائها في زمانه. لشرف بيته وتقدمة في معرفة كل فن, وشهرة وزهده وكثرة تهجده, لكنه كان متهما برأي الخوارج. ولم يوقف لأمره على حقيقته, الله أعلم أي ذلك كان. وأما الإمام مالك بن أنس المدني الأصبحي الحميري فهو الذهب الأبريز صفاء. والكبريت الأحمر عزة".
3 الثريد الأعفر: الأبيض. ليس بالشديد البياض. يريد الثريد الممتلئ بالإدام, قاله المرصفي.

فأما أبو سعيد الحسن البصري فإنه كان ينكر الحكومة، ولا يرى رأيهم وكان إذا جلس فتمكن في مجلسه ذكر عثمان فترحم عليه ثلاثاً، ولعن قتلته ثلاثاً، ويقول: لو لم نلعنهم للعنا، ثم يذكر علياً فيقول: لم يزل أمير المؤمنين علي رحمه الله يتعرفه1 النصر، ويساعده الظفر، حتى حكم، فلم تحكم والحق معك! ألا تمضي قدماً، لا أبالك، وأنت على الحق!
قال أبو العباس: وهذه كلمة فيها جفاء، والعرب تستعملها عند الحث على أخذ الحق والإغراء، وربما استعملتها الجفاة من الأعراب عند المسألة والطلب، فيقول القائل للأمير والخليفة: انظر في أمر رعيتك لا أبالك! وسمع سليمان بن عبد الملك رجلاً من الأعراب في سنة جدبة2 يقول:
رب العباد مالنا ومالكا ... قد كنت تسقينا فما بدا لكا
أنزل علينا الغيث لا أبالكا
فأخرجه سليمان أحسن مخرج، فقال: أشهد أنه لا أبا له ولا ولد ولا صاحبة [وأشهد أن الخلق جميعاً عباده]3.
وقال رجل من بني عامر بن صعصعة أبعد من هذه الكلمة لبعض قومه:
أبني عقيل لا أبا لأبيكم ... أيي وأي بني كلام أكرم
وقال رجل من طيء، أنشده أبو زيد الأنصاري:
يا قرط قرط حيي لا أبالكم ... يا قرط إني عليكم خائف حذر
أأن روى مرقس واصطاف أعنزه ... من التلاع التي قد جادها المطر
قلتم له اهج تميماً لا أبالكم ... في كف عبدكم عن ذاكم قصر
فإن بيت تميم ذو سمعت به ... فيه تنمت وأرست عزها مضر
ـــــــ
1 س: "يتعرفه".
2 ر: "جديبة".
3 تكملة من ر.

قوله: "يا قرط قرط حيي" نصبهما معاً أكثر على ألسنة العرب، وتأويلهما: أنهم أرادوا "يا قرط حيي" فأقحموا" قرطاً" توكيداً، وكذلك لجرير1:
يا تيم تيم عدي لا أبالكم ... لا يلقينكم في سوءة عمر
ومثله لعمر بن لجا2:
يا زيد زيد اليعملات الذبل ... تطاول الليل عليك فانزل3
فإن لم ترد التوكيد والتكرير لم يجز إلا رفع الأول: "يا زيد زيد اليعملات" و"يا تيم تيم عدي"، كما تقول: "يا زيد أخا عمرو" على النعت. ومثل الأول في التوكيد "يا بؤس للحرب" فأقحم اللام توكيداً، لأنها توجب الإضافة. وعلى هذا جاء "لا أبالك" و"لا أبا لزيد" ولولا الإضافة لم تثبت الألف في الأب؛ لأنك تقول؛ رأيت أباك، فإذا أفردت: هذا أب صالح، وإنما كانت "لا أباك" كما قال الشاعر:
أبالموت الذي لا بد أني ... ملاقي لا أباك تخوفيني
وقال آخر:
وقد مات شماخ ومات مزرد ... وأي كريم لا أباك يخلد!
وقوله: "أأن روى مرقس" "مرقس" رجل. وروى: استقى لأهله، يقال: فلان راوية أهله، إذا كان يستقي لأهله، والتي على البعير والحمار مزادة4 فإذا كبرت وعظمت وكانت من ثلاثة آدمة5 فهي المثلثة. وأصغر منها السطيحة6، وأصغرهن الطبع7:
ـــــــ
1 قال المرصفي: "يهجو عمر بن لجأ التيمي", وقبله كما في الديوان 285:
أتبتغي التيم عذرا بعد ما غدروا ... لايقبل الله من تيم إذا اعتذروا
لا تمنعون لكم عرسا وما لكم ... إلا بغيركم ورد ولا صدر
2 قال المرصفي: هذا غلط, وصوابه: لعبد الله بن رواحة الخزرجي يقوله لزيد بن أرقم.
3 اليعملات: جمع يعملة وهي الناقة السريعة. والذبل: الضوامر.
4 المزاده هي التي تكون من جلدبن يزاد بينهما نصف جلد.
5 آدمه :جمع أديم, وهو الجلد.
6 السطيحة: التي تكون من جلدين, يقابل أحدهما بالأخر.
7 الطبع, قال المرصفي: لم أر أحدا من أهل اللغة ذكره إلا في الأسقية, وإنما هو لملْ السقا.

وقوله: "واصطاف أعنزه"، يريد "افتعلت"، من الصيف، أي أصابت البقل فيه.
والتلعة: ما ارتفع من الأرض في مستقر المسيل إذا تجافى السيل عن متنه، وجمعه بلاع.
وقوله: "ذو سمعت به" يريد الذي، وكذلك تفعل طيئ، تجعل ذو في معنى "الذي"، قال زيد الخيل لبني فزارة، وذكر عامر بن الطفيل فقال:
إني أرى في عامر ذو ترون
وقال عارق الطائي:
فإن لم يغير بعض ما قد فعلتم ... لأنتجين للعظم ذو أنا عارقه1
يريد الذي.
ومن ظرفاء المحدثين اليمانية من يعمل هذا اعتماداً لإيثار لغة قومه.
قال الحسن بن هانئ الحكمي:
حب المدامة ذو سمعت به ... لم يبق في لغيرها فضلا
وقال حبيب بن أوس الطائي:
أنا ذو عرفت فإن عرتك جهالة ... فأنا المقيم قيامة العذال
وقال الحسن بن وهب الحارثي:
عللاني بذكرها عللاني ... واسقياني أو لا فمن تسقيان
أنا ذو لم يزل يهون على الند ... مان إن عز جانب الندمان
ويكون العزيز في ساعة الروع ... بصدق الطعان يوم الطعان
ـــــــ
1 لأنتجين: لأقصدن. وعارقه, من عرق العظم يعرقه, بالضم عرقا, أخذ اللحم عنه بأسنانه نهشا, وبهذا البيت سهي عارقا.

ثم نرجع إلى ذكر الخوارج1 :
قال أبو العباس: وكان في جملة الخوارج لدد واحتجاج، على كثرة خطبائهم وشعرائهم، ونفاذ بصيرتهم، وتوطين أنفسهم على الموت، فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى فيه إلى قاتله وهو يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} 2.
ويروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لما وصفهم قال: "سيماهم التحليق 3 يقرأون القرآن لا تجاوز تراقيهم، علامتهم رجل مخدج اليد" 4.
وفي حديث عبد الله بن عمرو: "رجل يقال له عمرو ذو الخويصرة"، أو "الخنيصرة".
وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه نظر إلى رجل ساجد، إلى أن صلى النبي عليه السلام، فقال: "ألا رجل يقتله "? فحسر أبو بكر عن ذراعه وانتضى السيف وصمد نحوه، ثم رجع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أأقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله? فقال النبي عليه السلام: "ألا رجل يفعل "? ففعل عمر مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قصد له علي بن أبي طالب عليه السلام فلم يره، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو قتل لكان أول فتنة وآخرها".
ـــــــ
1 ر: "عاد الحديث إلى ذكر الخوارج".
2 سورة طه 84.
3 سيماهم التحليق, أي علامتهم حلق الرءوس.
4 مخدج اليد: ناقصها.

حديث المخدج
ويروى عن أبي مريم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ذكر المخدج عند النبي عليه السلام، فقال أبو مريم: والله إن كان معنا لفي المسجد وكان فقيراً، وكان يحضر طعام علي إذا وضعه للمسلمين، ولقد كسوته ترساً لي، فلما خرج القوم إلى حروراء قلت: والله لأنظرن إلى عسكرهم، فجعلت أتخللهم حتى

صرت إلى ابن الكواء وشبث بن ربعي، ورسل علي تناشدهم، حتى وثب رجل من الخوارج على رسول لعلي، فضرب دابته بالسيف، فحمل الرجل سرجه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم انصرف القوم إلى الكوفة، فجعلت أنظر إلى كثرتهم كأنما ينصرفون من عيد، فرأيت المخدج، كان مني قريباً، فقلت: أكنت مع القوم? فقال: أخذت سلاحي أريدهم، فإذا بجماعة من الصبيان قد عرضوا لي فأخذوا سلاحي، وجعلوا يتلاعبون بي فلما كان يوم النهر قال علي: اطلبوا المخدج. فطلبوه فلم يجدوه، حتى ساء ذلك علياً، وحتى قال رجل: لا والله يا أمير المؤمنين، ما هو فيهم، فقال علي: والله ما كذبت ولا كذبت، فجاء رجل فقال: قد أصبناه يا أمير المؤمنين، فخر علي ساجداً، وكان إذا أتاه ما يسر به من الفتوح سجد وقال: لو أعلم شيئاً أفضل منه لفعلته، ثم قال: سيماه أن يده كالثدي، عليها شعرات كشارب السنور، ايتوني بيده المخدجة، فأتوه بها، فنصبها.

من أخبار نافع بن الأزرق
ويروى عن أبي الجلد أنه نظر إلى نافع بن الأزرق الحنفي وإلى نظره وتوغله وتعمقه، فقال: إني لأجد لجهنم سبعة أبواب، وإن أشدها حراً للخوارج، فاحذر أن تكون منهم.
قال: وكان نافع بن الأزرق ينتجع عبد الله بن العباس فيسأله، فله عنه مسائل من القرآن وغيره، قد رجع إليه في تفسيرها، فقبله وانتحله، ثم غلبت عليه الشقوة، ونحن ذاكرون منها صدراً إن شاء الله.
حدث أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي النسابة، عن أسامة بن زيد، عن عكرمة، قال: رأيت عبد الله بن العباس وعنده نافع بن الأزرق وهو يسأله، ويطلب منه الإحتجاج باللغة، فسأله عن قول الله جل ثناؤه: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} 1، فقال ابن عباس: وما جمع، فقال: أتعرف ذلك العرب? فقال ابن عباس: أما سمعت قول الراجز:
ـــــــ
1 سورة الإنشقاق 17.

إن لنا قلائصاً حقائقا ... مستوسقات لو يجدن سائقا
هذا قول ابن عباس: وهو الحق الذي لا يقدح فيه قادح، ويعرض القول فيحتاج المبتدئ إلى أن يزداد في التفسير.
قوله: "حقائقا" إنما بنى الحقة من الإبل - وهي التي قد استحقت أن يحمل عليها - على "فعلية" مثل "حقيقة" ولذلك جمعها على "حقائق" ويقال: "استوسق" القوم، إذا اجتمعوا.
وروى أبو عبيدة في هذا الإسناد - وروى ذلك غيره، وسمعناه من غير وجه - أنه سأله عن قوله عز وجل: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} 1 فقال ابن عباس: هو الجدول، فسأله عن الشواهد، فأنشده:
سلماً ترى الدالج منها أزورا ... إذا يعج في السري هرهرا
السلم: الدلو الذي له عروة واحدة، وهو دلو السقائين، وهو الذي ذكره طرفة فقال:
لها مرفقان أفتلان كأنما ... أمرا بسلمى دالج متشدد2
والدالج: الذي يمشي بالدلو بين البئر والحوض، وأصحاب الحديث ينشدون: "تر الدالي منه أزورا" وهذا خطأ لا وجه له.
وروى أبو عبيدة وغيره: أن نافعاً سأل ابن عباس عن قوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} 3: ما الزنيم? قال: هو الدعي الملزق، أما سمعت قول حسان بن ثابت:
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
ويزعم أهل اللغة أن اشتقاق ذلك من الزنمة التي بحلق الشاة، كما يقولون لمن دخل في قوم ليس منهم: زعنفة4، وللجمع زعانف، والزعنفة: الجناح من أجنحة السمك.
ـــــــ
1 سورة مريم 24.
2 أفتلان, من القتل, وهو اندماج مرفق الناقة.
3 سورة القلم 3.
4 زيادات ر:" الأم :زعنفة بالكسر".

قال أبو الحسن الأخفش: كذا قال زعنفة، والناس كلهم يقولون: زعنفة بكسر الزاي، وهو الوجه.
ويروى عن غير أبي عبيدة أنه سأله عن قوله جل اسمه: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} 1، قال: الشدة بالشدة، فسأله عن الشاهد فأنشده:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرتعن ساقها الحرب شمرا
قال أبو العباس: وقرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير قصيدة جرير التي يهجو فيها آل المهلب بن أبي صفرة، ويمدح هلال بن أحوز المازني، ويذكر الوقعة التي كانت لهم عليهم بالسند في سلطان يزيد فن عبد الملك، بسبب خروج يزيد بن المهلب عليه:
أقول لها من ليلة ليس طولها ... كطول الليالي ليت صبحك نورا
أخاف على نفس ابن أحوز2 إنه ... جلا حمماً فوق الوجوه فأسفرا
جعلت لقبر للخيار ومالك ... وقبر عدي في المقابر أقبرا3
وأطفأت نيران المزون وأهلها ... وقد حاولوها فتنة أن تسعرا4
فلم تبق منهم راية يعرفونها ... ولم تبق من آل المهلب عسكرا
ألا رب سامي الطرف من آل مازن ... إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا
فهذا نظير ذلك. والمزون: عمان. قال الكميت:
ـــــــ
1 سورة القيامة 29.
2 زيادات ر :"قال الشيخ أبو يعقوب: الذي رويت في شعر جرير:
حذرارا على نفس ابن أحوز إنه ... جلا كل وجه من معد فأسفرا
3 زيادات ر عن الشيخ أبي يعقوب: "وقوله: "عدى" يعني عدي بن أرطاة الفزاري. قتله معاوية بن يزيد بن مهلب بواسطة. وكان عامل عمر بن عبد العزيز رحمه الله". وفيها الخيار أيضا "ويروى: للخيار بواسط.الخيار: موضع بعمان فيه قبر الخيار بن سبرة المحاشعي. وواسط بها قبر عدي بن أرطاة الفزاري".
4 زيادات ر: "المزون عمان بالفارسية".

فأما الأزد أزد أبي سعيد ... فأكره أن أسميها المزونا
وقال آخر يعني الحرب:
فإن شمرت لك عن ساقها ... فويهاً حذيف ولا تسأم1
ويروى عن أبي عبيدة من غير وجه أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال: أرأيت نبي الله سليما صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع ا خوله الله وأعطاه، كيف عني بالهدهد على قلته وضؤولته? فقال له ابن عباس: إنه احتاج إلى الماء، والهدهد قناء2، والأرض له كالزجاجة، يرى باطنها من ظاهرها، فسأل عنه لذلك، قال ابن الأزرق: قف يا وقاف، كيف يبصر ما تحت الأرض، والفخ يغطى له بمقدار إصبع من تراب فلا يبصره حتى يقع فيه! فقال ابن عباس: ويحك يا ابن الأزرق! أما علمت أنه إذا جاء القدر عشي البصر.
ومما سأله عنه: {آلم, ذَلِكَ الْكِتَابُ} 3، فقال ابن عباس: تأويله: هذا القرآن.
هكذا جاء، ولا أحفظ عليه شاهداً عن ابن عباس، وأنا أحسبه أنه لم يقبله إلا بشاهد، وتقديره عند النحويين: إذا قال: "ذلك الكتاب" أنهم قد كانوا وعدوا كتاباً؛ هكذا التفسير، كما قال جل ثناؤه: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} 4؛ ويعني بذلك اليهود، وقال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} 5، فمعناه: هذا الكتاب الذي كنتم تتوقعونه. وبيت خفاف بن ندبة على ذلك يصح معناه. وكان من خبره أنه غزا مع معاوية بن عمرو-أخي الخنساء- مرة وفزارة، فعمد ابنا حرملة: دريد وهاشم المريان عمد معاوية، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه
ـــــــ
1 زيادات ر: "تقول: "ويها لزيد" إذا زجرته عن الشئ فأغريته به. وواها له, إذا تعجبت منه. وحذيف. يريد "حذيفة" فرخم".
2 قناء: عالم بمواضع الماء من الأرض, مأخوذ من القناة. وهي كطيمة تحفر تحت الارض. قاله المرصفي.
3 سورة البقرة 1.
4 سورة البقرة 89.
5 سورة البقرة 146.

معاوية، فطعنه، وحمل الآخر على معاوية فطعنه متمكناً، وكان صميم الخيل1، فلما تنادوا معاوية: قال خفاف بن ندبة - وهي أمه، وكانت حبشية، وأبوه عمير، وهو أحد2 بني سليم بن منصور -: قتلني الله إن رمت3 حتى أثأر به، فحمل على مالك بن حمار - وه سيد بن شمخ بن فزارة - فطعنه فقتله، فقال خفاف بن ندبة:
وإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمداً على عيني تيممت هالكا
وقفت له علوى وقد خام صحبتي ... لأبني مجداً أو لأثأر هالكا4
أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافاً إنني أنا ذلكا
يريد: أنا ذلك الذي سمعت به. هذا تأويل هذا.
وقوله: "يأطر متنه" أي يثني. يقال: أطرت القوس آطرها أطراً، وهي مأطورة. وعلوى: فرسه.
ومما سأله عنه قوله عز وجل: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} 5"، فقال ابن عباس: غير مقطوع، فقال: هل تعرف ذلك العرب? فقال: قد عرفه أخو بني يشكر حيث يقول:
وترى خلفهن من سرعة الرجـ ... ـع منيناً كأنه إهباء6
قال أبو العباس: منين، يعني الغبار، وذلك أنها تقطعه قطعاً وراءها.
والمنين: الضعيف المؤذن بانقطاع، أنشدني التوزي عن أبي زيد:
يا ريها إن سلمت يميني ... وسلم الساقي الذي يليني
ولم تخني عقد المنين
ـــــــ
1 صميم الخيل: قال المرصفي: "يريد بالخيل الفرسان, وصميمها: عميدها الذي تعتمد عليه, من الصميم, وهو العظم الذي به قوام العضو".
2 لفظ "هو" ساقط من ر.
3 رمت: برحت.
4 خام: جبن وضعف.
5 سورة فصلت 8.
6 يصف خيلا. والرجع: رد الدابة يديها في السير. وأهباء: جمع هبوة, يريد كأنه أهباء الزوبعة ترتفع في الجو قاله المرصفي.

يريد الحبل الضعيف، فهذا هو المعروف. ويقال: منين وممنون، كقتيل ومقتول، وجريح ومجروح. وذكر التوزي في كتاب الأضداد أن المنين يكون القوي، فجعله1 "فعيلا" من "المنة"، والمعروف هو الأول.
وقال غير ابن عباس: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} لا يمن عليهم فيكدر عندهم.
ويروى من غير وجه أن ابن الأزرق أتى ابن عباس يوماً2 فجعل يسأله3 حتى أمله، فجعل ابن عباس يظهر الضجر، وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة على ابن عباس، وهو يومئذ غلام، فسلم وجلس، فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شيئاً من شعرك? فأنشده:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجر!
بحاجة نفس لم تقل في جوابها ... فتبلغ عذراً والمقالة تعذر
تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع ... ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر
ولا قرب نعم إن دنت لك نافع ... ولا نأيها يسلي ولا أنت تصبر
وأخرى أتت من دون نعم ومثلها ... ونهى ذا النهى لو يرعوي أو يفكر
إذا زرت نعماً لم يزل ذ قرابة ... لها كلما لاقيته يتنمر
عزيز عليه أن أمر ببابها ... مسر لي الشحناء والبغض مظهر
ألكني إليها بالسلام فإنه ... يشهر إلمامي بها وينكر
بآية ما قالت غداة لقيتها ... بمدفع أكنان أهذا المشهر!
قفي فانظري يا أسم هل تعرفينه ... أهذا المغيري الذي كان يذكر!
فقالت: نعم، لا شك غير لونه ... سرى الليل يحيي نصه والتهجر4
لئن كان إياه لقد حل بعدنا ... عن العهد، والإنسان قد يتغير
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر
ـــــــ
1 ر: "يجعله".
2 ساقطة من ر.
3 ر: "يسائله".
4 النص: ضرب من السير, والتهجر: السير في الهجارة.

حتى أتمها، وهي ثمانون بيتاً، فقال له ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس! أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض، ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه! فقال: تالله ما سمعت سفهاً، فال ابن الأزرق: أما أنشدك:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيخزى وأما بالعشي فيخسر
فقال: ما هكذا قال، إنما قال "فيضحى وأما بالعشي فيخصر" قال: أو تحفظ الذي قال? قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها، قال: فارددها، فأنشده إياها كلها1.
وروى الزبيريون أن نافعاً قال له: ما رأيت أروى منك قط. فقال له ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر، ولا أعلم من علي.
وقوله: فيضحى يقول: يظهر للشمس، ويخصر، يقول: في البردن2، فإذا ذكر العشي فقد دل على عقيب العشي، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} 3، والضح: الشمس، وليس من: "ضحيت"، يقال: "جاء فلان بالضح والريح" يراد به الكثرة، قال علقمة:
أغر أبرزه للضح راقبه ... مقلد قضب الريحان مفغوم
له فغمة، أي رائحة طيبة، يعني إبريقاً فيه شراب؛ وفي الحديث: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما توجه إلى تبوك جاء أبو خيثمة، وكانت له امرأتان، وقد أعدت كل واحدة منهما من طيب ثمر بستانه، ومهدت له في ظل، فقال: أظل ممدود، وثمرة طيبة، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله في الضح والريح! ما هذا بخير! فركب ناقته ومضى في أثره، وقد قيل لرسول الله في نفر تخلفوا، أبو خيثمة أحدهم، فجعل لا يذكر له أحد منهم إلا قال: "دعوه فإن يرد الله به خيراً يلحقه بكم"، فقيل ذات يوم: يا رسول الله، ترى رجلاً يرفعه الآل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كن أبا خيثمة"، فكانه.
وإذا انبسطت الشمس فهو الضحى مقصور، فإذا امتد النهار وبينهما مقدار ساعة أو نحو ذلك فذلك الضحاء، ممدود مفتوح الأول.
ـــــــ
1 ساقط من ر.
2 البردان: الغداة والعشي.
3 سورة طه 119.

الحجاج وامرأة من الخوارج
وذكرت الرواة أن الحجاج أتي بامرأة من الخوارج، وبحضرته يزيد بن أبي مسلم مولاه، وكان يستسر برأي الخوارج، فكلم الحجاج المرأة فأعرضت عنه، فقال لها يزيد بن أبي مسلم: الأمير، ويلك، يكلمك! فقالت: بل الويل والله لك يا فاسق الردي.
والردي عند الخوارج: هو الذي يعلم الحق من قولهم ويكتمه.

عبد الملك بن مروان ورجل من الخوارج
وذكروا أن عبد الملك بن مروان أتي برجل منهم فبحثه فرأى منه ما شاء فهماً ثم بحثه، فرأى ما شاء إبراً ودهياً1، فرغب فيه، فاستدعاه2 إلى الرجوع عن مذهبه، فرآه مستبصراً محققاً، فزاده في الإستدعاء فقال له: لتغنك الأولى عن الثانية، وقد قلت فسمعت، فاسمع أقل، قال له: قل. فجعل يبسط له من قول الخوارج ويزين له مذهبهم بلسان طلق وألفاظ بينة ومعان قريبة، فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته: لقد كان يوقع في خاطري أن الجنة خلقت لهم، وأنا3 أولى بالجهاد منهم. ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة وقرر في قلبي من الحق. فقلت له: لله الآخرة والدنيا، وقد سلطنا4 الله في الدنيا، ومكن لنا فيها، وأراك لست تجيب بالقبول5، والله لأقتلنك إن لم تطع.
فأنا في ذلك إذ دخل علي بابني مروان.
قال أبو العباس: كان مروان أخا يزيد لأمه، أمهما عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وكان أبياً عزيز النفس، فدخل به في هذا الوقت على عبد الملك باكياً لضرب المؤدب إياه، فشق ذلك على عبد الملك، فأقبل الخارجي، فقال له: دعه يبكي6 ؛ فإنه أرحب لشدقه، وأصح لدماغه، وأذهب لصوته، وأحرى ألا تأبى
ـــــــ
1 الأرب: البصر بالأمور, والدهى, مصدر دهى, كرضي, إذ كان صاحبه عاقلا مجربا.
2 كذا في الأصل, س, وفي ر: "واستدعاء".
3 ر: "وأبى".
4 ر: "سلطني".
5 ر: "بالقول".
6 ر: "يبك" وكلاهما جائز.

عليه عينه إذا حضرته طاعة الله1، فاستدعى عبرتها. فأعجب ذلك من قوله عبد الملك، فقال معجباً: أما يشغلك ما أنت فيه وبعرضه عن هذا! فقال ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن قول الحق شيء، فأمر عبد الملك بحبسه، وصفح عن قتله، وقال بعد يعتذر إليه: لولا أن تفسد بألفاظك أكثر رعيتي ما حبستك.
ثم قال عبد الملك: من شككني ووهمني حتى مالت بي عصمة الله فغير بعيد أن يستهوي من بعدي. وكان عبد الملك من الرأي والعلم بموضع.
ـــــــ
1 ر: "طاعة ربه".

وفود رجل من أهل الكتاب على معاوية
وتزعم الرواة أن رجلاً من أهل الكتاب وفد على معاوية، وكان موصوفاً بقراءة الكتب، فقال له معاوية: أتجد نعتي في شيء من كتب الله? قال: إي والله، لو كنت في أمة لوضعت يدي عليك من بينهم. قال: فكيف تجدني? قال: أجدك أول من يحول الخلافة ملكاً، والخشنة ليناً، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم، قال معاوية: فسري عني، ثم قال: لا تقبل هذا مني، ولكن من نفسك، فاجتب1 هذا الخبر. قال: ثم يكون ماذا? قال: ثم يكون منك رجل شراب للخمر، سفاك للدماء، يحتجن الأموال2، ويصطنع الرجال، ويجنب3 الخيول، ويبيح حرمة الرسول4، قال: ثم ماذا? قال: ثم تكون فتنة5 تتشعب بأقوام حتى يفضى الأمر بها إلى رجل أعرف نعته6، يبيع الآخرة الدائمة بحظ من الدنيا مخسوس، فيجتمع عليه من آلك وليس منك، لا يزال لعدوه قاهراً، وعلى من ناوأه7 ظاهراً، ويكون له قرين8 مبير9 لعين قال: أفتعرفه إن رأيته? قال:
ـــــــ
1 ر: فاختبر, ويقال: اجتبيت الخراج اجتباء, أي جمعته.
2 احتجن الشئ أخذه وحبسه.
3 يجنب الخيل: يقودها إلى ما يركب منها اختيالا وعجبا بها.
4 قال المرصفي: ذلك ما كان من قتل الحسين ومن معه من فتيان بني هاشم وإهانة آل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا".
5 هي الفتنة التي وقعت بعد موت معاوية بن يزيدةبن معاوية, وافتراق الناس فرقتين, فريق يدعو إلى ابن الزبير. وفريق يدعو إلى بني أمية.
6 قال المرصفي: "يريد به عبد الملك بن مروان: ولم يذكر معاوية بن يزيد ولا مروان لقصر مدتهما".
7 ناوأه: عاداه.
8 يريد به الحجاج بن يوسف, وقاله المرصفي.
9 مبير: مهلك, وفي س :"مبين".

شد ما. فأراه من بالشام من بني أمية، فقال: ما أراه ههنا، فوجه به إلى المدينة مع ثقات من رسله، فإذا عبد الملك بن مروان يسعى مؤتزراً في يده طائر، فقال للرسل: ها هو ذا! ثم صاح به: إلي أبو من? قال: أبو الوليد، قال: يا أبا الوليد، إن بشرتك ببشارة تسرك ما تجعل لي? قال: وما مقدارها من السرور حتى نعلم مقدارها من الجعل? قال: أن تملك الأرض،قال: ما لي من مال، ولكن أرأيت1 إن تكلفت لك جعلاً، أأنال ذلك قبل وقته? قال: لا، قال: فإن حرمتك، أتؤخره عن وقته? قال: لا، قال فحسبك ما سمعت.
فذكروا أن معاوية كان يكرم عبد الملك ليجعلها يداً عنده يجازيه بها في مخلفته في وقته.
وكان عبد الملك من أكثر الناس علماً، وأبرعهم أدباً، وأحسنهم في شبيبته والمصحف في حجره، فأطبقه وقال: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}.
ـــــــ
1 ر: "رأيت".

صديق عبد الملك بن مروان
قال أبو العباس: وحدثني ابن عائشة عن حماد بن سلمة في إسناد ذكره: أن عبد الملك كان له صديق، وكان من أهل الكتاب، يقال له يوسف، فأسلم، فقال له عبد الملك يوماً، وهو في عنفوان نسكه، وقد مضت جيوش يزيد بن معاوية مع مسلم بن عقبة المري، من مرة غطفان، تريد المدينة ألا ترى خيل عدو الله قاصدة لحرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? فقال له يوسف: جيشك والله إلى حرم رسول الله أعظم من جيشه، فنفض عبد الملك ثوبه ثم قال: معاذ الله! قال له يوسف: ما قلت شاكاً ولا مرتاباً، وإني لأجدك بجميع أوصافك. قال له عبد الملك: ثم ماذا? قال: ثم يتداولها رهطك. قال: إلى متى? قال: إلى أن تخرج الرايات السود من خراسان.

حديث ابن جعدبة للمنصور
قال: وحدثت عن ابن جعدبة، قال: كنت عند أمير المؤمنين المنصور، في اليوم الذي أتاه فيه خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن، قال: فغمه

ذلك، حتى امتنع من الغداء في وقته، وطال عليه فكره، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحدثك حديثاً: كنت مع مروان بن محمد، وقد قصده عبد الله بن علي، قال : فإنا لكذلك إذ نظر إلى الأعلام السود من بعد، فقال: ما هذه البخت المجللة ؟ قلت: هذه أعلام القوم، قال: فمن تحتها؟ قلت: عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، قال: وأيهم عبد الله؟ قلت : التفتى المعروق الطويل، الخفيف العارضين، الذي رأيته في وليمة كذا يأكل فيجيد، فسألتني عنه فنسبته لك، فقلت: إن هذا الفتى لتلقامة ، قال: قد عرفته؛ والله لوددت أ، علي بن أبي طالب مكانه. قال: فقال لي المنصور: الله لسمعت هذا من مروان بن محمد؟ قلت: والله لقد سمعته منه، قال: يا غلام، هات الغداء.

قتال أهل النخيلة
قال أبو العباس: وكان أهل النخيلة جماعة بعد أهل النهروان، ممن فارق عبد الله بن وهب، وممن لجأ إلى راية أبي أيوب، وممن كان أقام بالكوفة، فقال: لا أقاتل علياً، ولا أقاتل معه، فتواصوا فيما بينهم وتعاضدوا، وتأسفوا على خذلانهم أصحابهم، فقام منهم قائم يقال له المستورد، من بني سعد بن زيد مناة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد، ثم قال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتانا بالعدل تخفق راياته، مقلباً مقالته، مبلغاً عن ربه، ناصحاً لأمته، حتى قبضه الله وذكر أن الله عز جل قرن الصلاة بالزكاة، "فرأى تعطيل إحداهما طعناً"1 على الأخرى، لا بل على جميع منازل الدين ثم قبضه الله إليه موفوراً، ثم قام بعده2 الفاروق، ففرق بين الحق والباطل، مسوياً بين الناس في إعطائه، لا مؤثراً لأقاربه،
ـــــــ
1 ر: "فرأى أن تعطيل إحداهما طعن على الأخرى". وما أثبته عن الأصل. س.
2 ساقطة من ر.

ولا محكماً في دين ربه، وها أنتم تعلمون ما حدث، والله يقول: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} 1، فكل أجاب وبايع.
فوجه إليهم علي بن أبي طالب عبد الله بن العباس داعياً، فأبوا، فسار إليهم، فقال له عفيف بن قيس: يا أمير المؤمنين، لا تخرج في هذه الساعة؛ فإنها ساعة نحس لعدوك عليك؛ فقال له علي: توكلت على الله وحده، وعصيت رأي كل متكهن. أنت تزعم أنك تعرف وقت الظفر من وقت الخذلان، {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2، ثم سار إليهم فطحنهم جميعاً، لم يفلت منهم إلا خمسة، منهم المستورد، وابن جوين الطائي، وفروة بن شريك الأشجعي، وهم الذين ذكرهم الحسن البصري، فقال: دعاهم إلى دين الله فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً، فسار إليهم أبو حسن فطحنهم طحناً.
وفيهم يقول عمران بن حطان:
إني أدين بما دان الشراة به ... يوم النخيلة عند الجوسق الخرب3
وقال الحميري يعارض هذا المذهب:
إني أدين بما دان الوصي به ... يوم النخيلة من قتل المحلينا
وبالذي دان يوم النهر دنت به ... وشاركت كفه كفي بصفينا
تلك الدماء معاً يا رب في عنقي ... ومثلها فاسقني آمين آمينا
ـــــــ
1 سورة النساء 95.
2 سورة هود 56.
3 الجوسق الخرب: بظاهر الكوفة عند النخيلة, والبيت في معجم البلدان "17:3" من أبيات نسبها إلى قيس بن الأصم الضبي.

مناظرة أهل النخيلة لابن عباس
وكان أصحاب النخيلة قالوا لابن عباس: إن كان1 علي على حق لم يشكك فيه، وحكم مضطراً؛ فما باله حيث ظفر لم يسب! فقال لهم ابن عباس: قد سمعتم الجواب في التحكيم، فأما قولكم في السباء، أفكنتم سابين أمكم عائشة! فوضعوا أصابعهم في آذانهم، وقالوا: أمسك عنا غرب لسانك يا ابن عباس! فإنه طلق ذلق، غواص على موضع الحجة. ثم خرج المستورد بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة، وهو والي الكوفة، فوجه إليه معقل بن قيس الرياحي، فدعاه المستورد إلى المبارزة، وقال له: علام يقتل الناس بيني وبينك? فقال له معقل: النصف سألت، فأقسم عليه أصحابه، فقال: ما كنت لآبى عليه، فخرج إليه فاختلفا ضربتين، فخر كل واحد منهما ميتاً.
ـــــــ
1 ر: "إذ كان".

المستورد التيمي
وكان المستورد كثير الصلاة شديد الاجتهاد، وله آداب يوصي بها، وهي محفوظة عنه.
كان يقول: إذا أفضيت بسري إلى صديقي فأفشاه لم ألمه، لأني كنت أولى بحفظه.
وكان يقول: لا تفش إلى أحد سراً، وإن كان مخلصاً، إلا على جهة المشاورة.
وكان يقول: كن أحرص على حفظ سر صاحبك منك على حقن دمك.
وكان يقول: أول ما يدل عليه عائب الناس معرفته بالعيوب، ولا يعيب إلا معيب.
وكان يقول: المال غير باق عليك فاشتر من الحمد ما يبقى عليك.
وكان يقول: بذل المال في حقه استدعاء للمزيد من الجواد.
وكان يكثر أن يقول: لو ملكت الأرض بحذافيرها، ثم دعيت إلى أن أستفيد بها خطيئة ما فعلت.

الخوارج ومعاوية
قال: وخرجت الخوارج، واتصل خروجها، وإنما نذكر منهم من كان ذا خبر طريف، واتصلت به حكم من كلام وأشعار.
فأول من خرج بعد قتل علي بن أبي طالب عليه السلام حوثرة الأسدي، فإنه كان متنحياً بالبندنيجين1، فكتب إلى حابس الطائي يسأله أن يتولى أمر
ـــــــ
1 البندنيجين. بلظ المثنى: بلد طرف النهروان من أعمال بغداد.

الخوارج حتى يسير إليه بجمعه، فيتعاضدا على مجاهدة معاوية، فأجابه فرجعا إلى موضع أصحاب النخيلة، ومعاوية بالكوفة حيث دخلها مع الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، بعد أن بايعه الحسن والحسين عليهما السلام وقيس بن سعد بن عبادة.
ثم خرج الحسن يريد المدينة، فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربتهم، فقال الحسن: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين، ولا أحسب ذلك يسعني، أفأقاتل عنك قوماً أنت والله أولى بالقتال منهم! فلما رجع الجواب إليه جيشاً "أكثره أهل الكوفة"1 ثم قال لأبيه أبي حوثرة: قم فاكفني2 أمر أبنك فصار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع, فأبى فأداره, فصمم، فقال له: يا بني أجيئك بابنك فلعلك تراه فتحن إليه? فقال: يا أبت، أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني! فرجع إلى معاوية فأخبره الخبر3، فقال: يا أبا حوثرة، عتا4 هذا جداً!.
فلما نظر حوثرة إلى أهل الكوفة قال: يا أعداء الله، أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه، واليوم تقاتلون مع معاوية لتشدوا سلطانه!.
فخرج إليه أبوه فدعاه إلى البراز، فقال: يا أبت، لك في عيري مندوحة، ولي في غيرك عنك مذهب، ثم حمل على القوم وهو يقول:
أكرر على هذي الجموع حوثره ... فعن قليل ما تنال المغفرة
فحمل عليه رجل من طيئ5 فقتله، فرأى أثر السجود قد لوح جبهته، فندم على قتله، ثم انهزم القوم جميعاً.
وأنا أحسب أن قول القائل:
وأجرأ من رأيت بظهر عيب ... على عيب الرجال ذوو العيوب
ـــــــ
1 ر: جيشا أكثرهم من أهل الكوفة.
2 ر: "اكفني امر ابنك".
3 ساقطة من ر.
4 عتا: استكبر.
5 نقل المرصفي عن ابن الأثير أنه عبد الله بن عوف قائد ذلك الجيش.

إنما أخذه من كلام المستورد، قال رجل للمستورد. أريد أن أرى رجلاً عياباً، قال: ألتمسه بفضل معايب فيه.
وقال العباس بن الأحنف يعاتب من اتهمه بإفشاء سره:
تعتبت تطلب ما استحق ... بها لهجر منك ولا تقدر
وماذا يضيرك من شهرتي1 ... إذا كان سرك لا يشهر
أمني تخاف انتشار الحديث ... وحظي في ستره أوفر
ولو لم تكن في بقيا عليك ... نظرت لنفسي كما تنظر
ـــــــ
1 ر: "يضرك" بتشديد الراء.

من أخبار مقتل الإمام علي، ووصيته لأبنائه
ويروى من حديث محمد بن كعب القرظي قال: قال عمار بن ياسر، خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة ذات العشيرة فلما قفلنا نزلنا منزلاً، فخرجت أنا وعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه ننظر إلى قوم يعتملون، فنعسنا فنمنا، فسفت علينا الريح التراب، فما نبهنا إلا كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لعلي: "يا أبا تراب - لما عليه من التراب - أتعلم من أشقى الناس "? فقال: خبرني يا رسول الله? فقال: "أشقى الناس اثنان: أحمر ثمود الذي عقر الناقة، وأشقاها الذي يخضب هذه" - ووضع يده على لحيته – "من هذا"، ووضع يده على قرنه.
ويروى عن عياض بن خليفة الخزاعي قال: تلقاني عل صلوات الله عليه في الغلس، فقال لي: من أنت? قلت: عياض بن خليفة الخزاعي، فقال: ظننتك أشقاها الذي يخضب هذه من هذا ووضع يده على لحيته وعلى قرنه.
ويروى: أنه كان يقول كثيراً - قال أبو العباس: أحسبه عند الضجر بأصحابه -: ما يمنع أشقاها أن يخضب هذه من هذا!

ويروى عن رجل من ثقيف أنه خرج الناس يعلفون دوابهم بالمدائن، وأراد علي أمير المؤمنين المسير إلى الشأم، فوجه معقل بن قيس الرياحي ليرجعهم إليه، وكان ابن عم لي في آخر من خرج فأتيت الحسن بن علي عليه السلام ذات عشية، فسألته أن يأخذ لي كتاب أمير المؤمنين إلى معقل بن قيس في الترفيه1 عن ابن عمي، فإنه في آخر من خرج، فقال: تغدو علينا والكتاب مختوم إن شاء الله تعالى، فبت ليلتي ثم أصبحت والناس يقولون: قتل أمير المؤمنين الليلة، فأتيت الحسن، وإذا به في دار علي عليه السلام، فقال: لو لا ما حدث لقضينا حاجتك، ثم قال: حدثني أبي عليه السلام البارحة في هذا المسجد فقال: يا بني، إني صليت ما رزق الله، ثم نمت نومة، فرأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فشكوت إليه ما أنا فيه من مخالفة أصحابي وقلة رغبتهم في الجهاد، فقال: ادع الله أن يريحك منهم، فدعوت الله. قال الحسن :ثم خرج إلى الصلاة فكان ما قد علمت.
وحدثت من غير وجه أن علياً لما ضرب ثم دخل منزله اعترته غشية ثم أفاق. فدعا الحسن والحسين، فقال :أوصيكما بتقوى الله والرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا. ولا تأسفا على شيء فاكما منها. اعملا الخير، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً. ثم دعا محمداً فقال: أما سمعت ما أوصيت به أخويك? قال: بلى. قال: فإني أوصيك به. وعليك ببر أخويك وتوقيرهما ومعرفة فضلهما. ولا تقطع أمراً دونهما. ثم أقبل عليهما فقال: أوصيكما به خيراً، فإنه شقيقكما وابن أبيكما. وأنتما تعلمان أن أباكما كان يحبه، فأحباه. فلما قضى علي كرم الله وجهه، قالت أم العريان:
وكنا قبل مهلكه زماناً ... نرى نجوى رسول الله فينا
قتلتم خير من ركب المطايا ... وأكرمهم ومن ركب السفينا
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فلا قرت عيون الشامتينا
ـــــــ
1 الترفيه: التنفس.

ويروى أن عبد الرحمن بن ملجم بات تلك الليلة عند الأشعث بن قيس بن معدي كرب، وأن حجر بن عدي سمع الأشعث يقول له: فضحك الصبح، فلما قالوا: قتل أمير المؤمنين. قال حجر بن عدي للأشعث. أنت قتلته يا أعور! ويروى أن الذي سمع ذاك أخو الأشعث، عفيف بن قيس، وأنه قال لأخيه: عن أمرك كان هذا يا أعور!
وأخبار الخوارج كثيرة طويلة. وليس كتابنا هذا1 مفرداً لهم، ولكنا2 نذكر من أمورهم ما فيه معنى وأدب، أو شعر مستطرف، أو كلام من خطبة معروفة مختارة.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 "لكنا".

الخوارج وزياد
خرج قريب بن مرة الأزدي وزحاف الطائي - وكانا مجتهدين بالبصرة في أيام زياد، واختلف الناس في أمورهما: أيهما كان الرئيس - فاعترضا الناس. فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار، فقتلاه، وكان يقال له: رؤبة الضبعي، وتنادى الناس، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف، فناداه الناس من ظهور البيوت: الحرورية الحرورية! انج بنفسك. فنادوه: لسنا قربة الله من الخير، وزحاف، لا عفا الله عنه، ركباها عشواء مظلمة يريد اعتراضهما الناس ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا، حتى مرا ببني علي بن سود من الأزد، وكان فيهم مائة يجيدون الرمي، فرموهم رمياً شديداً، فصاحوا: يا بني علي! البقيا، لا رماء بيننا، فقال رجل من بني علي:
لا شيء للقوم سوى السهام ... مشحوذة في غلس الظلام1
فعرد عنهم2 الخوارج، وخافوا الطلب، فاشتقوا مقبرة بني يشكر، حتى نفذوا إلى مزينة، ينتظرون من يلحق بهم من مضر وغيرها، فجاءهم ثمانون،
ـــــــ
1 شحذ السيف: إجلاؤه.
2 عرد الرجل تعريدا, إذا عدا فزعا.

وخرجت إليهم بنو طاحية بن سود وقبائل مزينة وغيرها، فاستقتل الخوارج فقتلوا عن آخرهم.
ثم غدا الناس إلى زياد فقال: ألا ينهى كل قوم سفهاءهم! يا معشر الأزد، لو لا أنكم أطفأتم هذه النار لقلت: إنكم أرثتموها. فكانت القبائل إذا أحست بخارجية فيهم شدتهم وثاقاً1. وأتت بهم زياداً. فكان هذا أحد ما يذكر من صحة تدبيره.
وله أخرى في الخوارج، أخرجوا معهم امرأة فكفر بها فقتلها. ثم عراها. فلم تخرج النساء بعد على زياد، وكن إذا دعين إلى الخروج قلن: لو لا التعرية لسارعنا.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.

قتل مصعب لامرأة المختار
ولما قتل مصعب بن الزبير بنت النعمان بن بشير الأنصارية، امرأة المختار - وليس هذا من أخبار الخوارج - أنكره الخوارج غاية الإنكار، ورأوه قد أتى بقتل النساء أمراً عظيماً، لأنه أتى ما نهى عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سائر نساء المشركين. وللخواص منهن أخبار، فقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
إن من أعظم الكبائر عندي ... قتل حسناء غادة عطبول1
قتلت باطلاً عل غير ذنب ... إن لله درها من قتيل!
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول2
قال: وكان3 الخوارج أيام ابن عامر أخرجوا معهم امرأتين، يقال لأحدهما كحيلة، والأخرى قطام، فجعل أصحاب ابن عامر يغيرونهم ويصيحون بهم: يا أصحاب كحيلة وقطام! يعرضون لهم بالفجور، فتناديهم الخوارج بالدفع والردع، ويقول قائلهم: لا تقف ما ليس لك به علم.
ـــــــ
1 العطبول: المرأة التامة الخلق.
2 المحصنات: العفيفات.
3 ر: "وكانت".

ويروى عن ابن عباس في هذه الآية: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} 1، قال: أعياد المشركين. وقال ابن مسعود: الزور: الغناء. فقيل لابن عباس: أو ما هذا في الشهادة بالزور! فقال: لا، إنما آية شهادة الزور {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 2.
ـــــــ
1 سورة الفرقان 22.
2 سورة الإسراء 36.

عبد الله بن زياد والخوارج
عاد الحديث إلى أمر الخوارج.
وكانت1 من المجتهدات من الخوارج - ولو قلت: من المجتهدين، وأنت تعني امرأة كان أفصح، لأنك تريد رجالاً ونساء هي إحداهم، كما قال الله عز وجل: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} 2 وقال جل ثناؤه: {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} 3 - البلجاء وهي امرأة من بني حرام بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، من رهط سجاح، التي كانت تنبأت - وسنذكر خبرها في موضعه إن شاء الله - وكان مرداس بن حدير أبو بلال، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة تعظمه الخوارج، وكان مجتهداً كثير الصواب في لفظه، فلقيه غيلان بن خرشة الضبي، فقال: يا أبا بلال! إني سمعت الأمير البارحة عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء، وأحسبها ستؤخذ، فمضى إليها أبو بلال، فقال لها: إن الله قد وسع على المؤمنين في التقية4 فاستتري؛ فإن هذا المسرف على نفسه، الجبار العنيد قد ذكرك، قالت: إن يأخذني فهو أشقى بي، فأما أنا فما أحب أن يعنت إنسان بسببي.
فوجه إليها عبيد الله بن زياد، فأتي بها فقطع يديها ورجليها، ورمى بها في السوق، فمر أبو بلال والناس مجتمعون، فقال: ما هذا? فقالوا: البلجاء، فعرج إليها فنظر، ثم عض على لحيته، وقال لنفسه: لهذه أطيب نفساً عن بقية الدنيا منك يا مرداس.
ـــــــ
1 ر: "وكان".
2 سورة التحريم 12
3 سورة الشعراء 171.
4 التقية: حفظ النفس بما يستطاع من المكروه.

ثم إن عبيد الله تتبع الخوارج فحبسهم، وحبس مرداساً، فرأى صاحت السجن شدة اجتهاده وحلاوة منطقه فقال له: إني أرى لك مذهباً حسناً، وإني لا أحب أن أوليك معروفاً؛ إن تركتك تنصرف ليلاً إلى بيتك، أتدلج1 إلي? قال: نعم. فكان يفعل ذلك به.
ولج عبيد الله في حبس الخوارج وقتلهم، فكلم في بعض الخوارج فلج وأبى، وقال: أقمع النفاق قبل أن ينجم2. لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع3.
فلما كان ذات يوم قتل رجل من الخوارج رجلاً من الشرط، فقال ابن زياد: ما أدري ما أصنع بهؤلاء! كلما أمرت رجلاً بقتل رجل منهم فتكوا بقاتله! لأقتلن من في حبسي منهم. فأخرج السجان مرداساً إلى منزله كما كان يفعل، وأتى مرداساً الخبر، فلما كان السحر تهيأ للرجوع، فقال له أهله: اتق الله في نفسك، فإنك إن رجعت قتلت؛ فقال: إني ما كنت لألقى الله غادراً. فرجع إلى السجان فقال: إني قد علمت ما عزم عليه صاحبك، فقال: أعلمت ورجعت?!
ـــــــ
1 الإدلاج: السير من آخلر الليل.
2 بنجم: يطلع.
3 اليراع: القصب الفارسي.

من أخبار مرداس أبي بلال
ويروى أن مرداساً مر بأعرابي يهنأ1 بعيراً له، فهرج2 البعير، فسقط مرداس مغشياً عليه، فظن الأعرابي أنه قد صرع، فقرأ في أذنه، فلما أفاق قال له الأعرابي: قرأت في أذنك، فقال له مرداس: ليس بي ما خفته علي، ولكني رأيت بعيرك هرج من القطران، فذكرت به قطران جهنم، فأصابني ما رأيت، فقال: لا جرم، والله لا فارقتك أبداً!
وكان مرداس قد شهد صفين مع علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. وأنكر التحكيم، وشهد النهر ونجا فيمن نجا، فلما خرج من حبس ابن زياد
ـــــــ
1 يهنا بعيرا: يطلية بالهناء, وهو القطران.
2 هرج: تعب وتحير.

ورأى جد ابن زياد في طلب الشراة عزم على الخروج، فقال لأصحابه: أنه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين، تجري علينا أحكامهم، مجانبين للعدل، مفارقين للفصل1. والله إن الصبر على هذا لعظيم، وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكنا ننتبذ عنهم، ولا نجرد سيفاً، ولا نقاتل إلا من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلاً، منهم حريث بن حجل، وكهمس بن طلق الصريمي، فأرادوا أن يولوا أمرهم حريثاً، فأبى فولوا أمرهم مرداساً، فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رباح الأنصاري - وكان له صديقاً، فقال له: يا أخي2، أين تريد? قال أريد أن أهرب بديني وأديان أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة. فقال له: أعلم بكم أحد? قال: لا، قال: فارجع، قال أو تخاف علي مكروهاً? قال: نعم، وأن يؤتى بك! قال: فلا تخف، فإني لا أجرد سيفاً، ولا أخيف أحداً، ولا أقاتل إلا من قاتلني. ثم مضى حتى نزل آسك - وهو ما بين رامهرمز - وأرجان - فمر به مال يحمل لابن زياد، وقد قارب أصحابه الأربعين، فحط ذلك المال، فأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه، ورد الباقي على الرسل، وقال: قولوا لصاحبكم: إنما قبضنا أعطياتنا. فقال بعض أصحابه: فعلام تدع الباقي! فقال: إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة فلا نقاتلهم.
ولأبي بلال أشعار في الخروج اخترت منها قوله:
أبعد ابن وهب ذي النزاهة والتقى ... ومن خاض في تلك الحروب المهالكا3
أحب بقاء أو أرجي سلامة ... وقد قتلوا زيد بن حصن ومالكا!
فيا رب سلم نيتي وبصيرتي ... وهب لي التقى حتى ألاقي أولئكا
قوله: "وقد قتلوا" ولم يذكر أحداً، فإنما فعل ذلك لعلم الناس أنه يعني مخالفيه، وإنما يحتاج الضمير إلى ذكر قبله ليعرف، فلو قال رجل: ضربته، لم يجز، لأنه لم يذكر أحداً قبل ذكره الهاء، ولو رأيت قوما ًيلتمسون الهلال فقال قائل4: هذا هو، لم يحتج إلى تقدمة الذكر؛ لأن المطوب معلوم، وعلى هذا قال
ـــــــ
1 الفصل: قول الحق.
2 لفظ: "ياأخي" من ر.
3 ابن وهب: هو عبد الله بن وهب الراسبي.
4 ر: "قوم".

علقمة بن عبدة في افتتاح قصيدته:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
لأنه قد علم أنه يريد حبيبة له.
وقوله: حتى ألاقي ولم يحرك الباء، فقد مضى شرحه مستقصى.
ويروى أن رجلاً من أصحاب ابن زياد قال: خرجنا في جيش نريد خراسان، فمررنا بآسك، فإذا نحن بهم ستة وثلاثين رجلاً، فصاح بنا أبو بلال: أقاصدون لقتالنا أنتم? - وكنت أنا وأخي قد دخلنا زرباً - فوقف أخي ببابه فقال: السلام عليكم، فقال مرداس: وعليكم السلام، فقال لأخي: أجئتم لقتالنا? فقال له: لا، إنما نريد خراسان، قال: فأبلغوا من لقيكم أنا لم نخرج لنفسد في الأرض، ولا لنروع أحداً. ولكن هرباً من الظلم، ولسنا نقاتل إلا من يقاتلنا، ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا، ثم قال: أندب إلينا أحد? قلنا: نعم، أسلم بن زرعة الكلابي، قال: فمتى ترونه يصل إلينا? قلنا: يوم كذا وكذا، فقال أبو بلال: حسبنا الله ونعم الوكيل! وجهز عبيد الله أسلم بن زرعة في أسرع وقت، ووجه إليهم في ألفين، وقد تتام صحاب مرداس أربعين رجلاً، فلما صار إليهم أسلم صاح به أبو بلال: اتق الله يا أسلم؛ فإنا لا نريد قتالاً، ولا نحتجن فيئاً. فما الذي تريد? قال: أريد أن أردكم إلى ابن زياد، قال مرداس: إذن يقتلنا، قال: وإن قتلكم! قال: تشركه في دمائنا، قال: إني أدين الله1 بأنه محق وأنكم مبطلون، فصاح به حريث بن حجل: أهو محق وهو يطيع الفجرة، وهو أحدهم، ويقتل بالظنة، ويخص بالفيء، ويجوز في الحكم! أما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة براء، وأنا أحد قتلته، ولقد وضعت في بطنه دراهم كانت معه! ثم حملوا عليه حملة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه من غير قتال. وكان معبد، أحد الخوارج، قد كاد
ـــــــ
1 ر: "أدين بأنه محق".

يأخذه. فلما ورد على ابن زياد غضب عليه غضباً شديداً، وقال: ويلك! أتمضي في ألفين فتهزم لحملة أربعين! وكان أسلم يقول: لأن يذمني ابن زياد حياً أحب إلي من أن يمدحني ميتاً!
وكان إذا خرج إلى السوق أو مر بصبيان صاحوا به: أبو بلال وراءك! وربما صاحوا به: يا معبد خذه، حتى شكا ذلك إلى ابن زياد، فأمر ابن زياد الشرط أن يكفوا الناس عنه، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك؛ من بني تيم اللات بن ثعلبة، في كلمة له:
فلما أصبحوا صلوا وقاموا ... إلى الجرد العتاق مسومينا1
فلما استجمعوا حملوا عليهم ... فظل ذوو الجعائل يقتلونا
بقية يومهم حتى أتاهم ... سواد الليل فيه يراوغونا
يقول بصيرهم لما أتاهم ... بأن القوم ولوا هاربينا
أألفا مؤمن فيما زعمتم ... ولكن الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة غير شك ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
ثم ندب لهم عبيد الله بن زياد الناس، فاختار عباد بن أخضر وليس بابن في أربعة آلاف، فنهد لهم. ويزعم أهل العلم أن القوم قد كانوا تنحوا عن داربجرد من أرض فارس، فصار إليهم عباد وكان التقاؤهم في يوم جمعة، فناداه أبو بلال: اخرج إلي يا عباد، فإني أريد أن أحاورك. فخرج إليه، فقال: ما الذي تبغي? قال: أن آخذ بأقفائكم فأردكم إلى الأمير عبيد الله بن زياد قال: أو غير ذلك! قال: أن ترجع، فإنا لا نخيف سبيلا، ولا نذعر مسلماً، ولا نحارب إلا من حاربنا، ولا نجبي إلا ما حمينا. فقال له عباد. الأمر ما قلت لك. فقال له حريث بن حجل: أتحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبار عنيد! قال لهم: أنتم أولى بالضلال منه، وما من ذاك بد!
ـــــــ
1 مسومين: معلمين بعلامات يعرفون بها في الحرب.

وقدم القعقاع بن الباهلي من خراسان يريد الحج. فلما رأى الجمعين قال: ما هذا? قالوا: الشراة. فحمل عليهم. ونشبت الحرب، فأخذ القعقاع أسيراً، فأتي به بلال، فقال: ما أنت? قال: لست من أعدائك، وإنما قدمت للحج فجهلت وغررت، فأطلقه، فرجع إلى عباد فأصلح من شأنه. ثم حمل عليهم ثانية، وهو يقول:
أقاتلهم وليس علي بعث ... نشاطاً ليس هذا بالنشاط
أكر على الحروريين مهري ... لأحملهم على وضح الصراط
فحمل عليه حريث بن حجل السدوسي وكهمس بن طلق الصريمي، فأسراه فقتلاه ولم يأتيا به أبا بلال، فلم يزل القوم يجتلدون حتى جاء وقت الصلاة، صلاة يوم الجمعة، فناداهم أبو بلال: يا قوم، هذا وقت الصلاة، فوادعونا حتى نصلي وتصلوا. قالوا: لك ذاك، فرمى القوم أجمعون أسلحتهم وعمدوا للصلاة، فأسرع عباد ومن معه والحرورية مبطئون، فهم من بين راكع وقائم وساجد في الصلاة وقاعد، حتى مال عليهم عباد ومن معه، فقتلوهم جميعاً. وأتي برأس أبي بلال.
وتروي الشراة أن مرداساً أبا بلال، لما قعد على أصحابه وعزم على الخروج، رفع يديه وقال: اللهم إن كان ما نحن فيه حقاً فأرنا آية. قال1: فرجف البيت. وقال آخرون: فارتفع السقف.
فروى أهل العلم أن رجلاً من الخوارج ذكر ذلك لأبي العالية الرياحي يعجبه من الآية، ويرغبه في مذهب القوم، فقال أبو العالية: كاد الخسف ينزل بهم، ثم أدركتهم نظرة الله.
فلما فرع من أولئك الجماعة أقبل بهم فصلبت رؤوسهم، وفيهم داود بن شبث، وكان ناسكاً، وفيهم حبيبة النصري من قيس، وكان مجتهداً.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.

فيروى عن عمران بن حطان أنه قال: قال لي حبيبة: لما عزمت على الخروج فكرت في بناتي، فقلت ذات ليلة: لأمسكن عن تفقدهن حتى أنظر، فلما كان في جوف الليل استسقت بنية لي، فقالت: يا أبت اسقني، فلما أجبها، فأعادت، فقامت أخية لها أسن منها، فسقتها. فعلمت أن الله عز وجل غير مضيعهن، فأتممت عزمي.
وكان في القوم كهمس، وكان من أبر الناس بأمه، فقال لها: يا أمه! لو لا مكانك لخرجت، فقالت: يا بني، قد وهبتك لله، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك الحبطي:
ألا في الله لا في الناس شالت ... بداود وإخوته الجذوع
مضوا قتلاً وتمزيقاً وصلباً ... تحوم عليهم طير وقوع
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع
وقال عمران بن حطان:
يا عين بكي لمرداس ومصرعه ... يا رب مرداس اجعلني كمرداس
تركتني هائماً أبكي لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس
أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ... ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
إما شربت بكأس دار أولها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس
فكل من لم يذقها شارب عجلاً ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس

عباد بن أخضر المازني
قال أبو العباس: ثم إن عباد بن أخضر المازني لبث دهراً في المصر، موصوفاً بما كان منه، فلم يزل على ذلك حتى ائتمر به جماعة من الخوارج أن يفتكوا به، فذمر بعضهم بعضاً على ذلك1. فجلسوا له في يوم جمعة وقد أقبل على بغلة
ـــــــ
1 ذمره: لامه.

له، وابنه رديفه. فقام إليه رجل منهم، فقال: أسألك عن مسألة. قال: قل. قال: أرأيت رجلاً قتل رجلاً بغير حق، وللقاتل جاه وقدر وناحية من السلطان، ألولي ذلك المقتول أن يفتك به إن قدر عليه? قال: بل يرفعه إلى السلطان. قال: إن السلطان لا يعدي عليه لمكانه منه وعظيم جاهه عنده. قال: أخاف عليه إن فتك به فتك به السلطان. قال: دع ما تخافه من ناحية السلطان، أتلحقه تبعة فيما بينه وبين الله? قال: لا. قال: فحكم هو وأصحابه وخبطوه بأسيافهم. ورمى عباد ابنه فنجا. وتنادى الناس قتل عاد! فاجتمع الناس فأخذوا أفواه الطرق، وكان مقتل عباد في سكة بني مازن عند مسجد بني كليب فجاء معبد بن أخضر أخو عباد - وهو معبد بن علقمة، وأخضر زوج أمهما - في جماعة من بني مازن، فصاحوا بالناس: دعونا وثأرنا. فأحجم الناس وتقدم المازنيون، فحاربوا الخوارج حتى قتلوهم جميعاً، لم يفلت منهم أحد إلا عبيدة بن هلال، فإنه خرق خصاً ونفذ منه. ففي ذلك يقول الفرزدق:
لقد أدرك الأوتار غير ذميمة ... إذا ذم طلاب التراث الأخاضر
هم جردوا الأسياف يوم ابن أخضر ... فنالوا التي ما فوقها نال ثائر
أفادوا به أسداً لها في اقتحامها ... إذا برزت نحو الحروب بصائر1
ثم ذكر بني كليب لأنه قتل بحضرة مسجدهم ولم ينصروه، فقال في كلمته هذه:
كفعل كليب إذ أخلت بجارها ... ونضر اللئيم معتم وهو حاضر2
وما لكليب حين تذكر أول ... وما لكليب حين تذكر آخر
وقال معبد بن أخضر:
سأحمي دماء الأخضريين إنه ... أبى الناس إلا أن يقولوا ابن أخضرا
ـــــــ
1 أقادوا أسدا. قتلوهم به.
2 يقال: اعتم الرجل في الشئ, إذا أبطأ فيه.

عروة بن أدبة
وكان مقتل عباد وعبيد الله بن زياد بالكوفة. وخليفته على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة. فكتب إليه يأمره ألا يدع أحداً يعرف بهذا الرأي إلا حبسه وجد في

طلبه ممن تغيب منهم. فجعل عبيد الله بن أبي بكرة يتتبعهم فيأخذهم، فإذا شفع إليه في أحد منهم كفله إلى أن يقدم ابن زياد، حتى أتي بعروة بن أدية فأطلقه، وقال: أنا كفيلك. فلما قدم عبيد الله بن زياد أخذ من في الحبس1 منهم فقتلهم جميعاً. وطلب الكفلاء بمن كفلوا به منهم، فكل من جاءه بصاحبه أطلقه، وقتل الخارجي، ومن لم يأت بمن كفل به منهم قتله، ثم قال لعبيد الله بن أبي بكرة: هات عروة بن أدية، قال: لا أقدر عليه، قال: إذاً والله أقتلك فإنك كفيله، فلم يزل يطلبه حتى دل عليه في سرب2 العلاء بن سوية المنقري، فكتب بذلك إلى عبيدة الله بن زياد. فقرأ عليه الكاتب: إنا أصبناه في شرب فتهانف به عبيد الله بن زياد، وكان كثير المحاورة، عاشقاً للكلام الجيد، مستحسناً للصواب منه؛ لا يزال يبحث عن عذره، فإذا سمع الكلمة الجيدة عرج عليها. ويروى أنه قال في عقب مقتل الحسين بن علي عليه السلام لزينب بنت علي رحمهما الله - وكانت أسن من حمل إليه منهن، وقد كلمته فأفصحت وأبلغت، وأخذت من الحجة - فقال لها: إن تكوني بلغت في الحجة حاجتك فقد كان أبوك خطيباً وشاعراً، فقالت: ما للنساء والشعر3! وكان مع هذا ألكن يرتضخ4 لغة فارسية. وقال لرجل مرة، واتهمه برأي الخوارج: أهروري منذ اليوم! رجع الحديث: فقال للكاتب: صحفت والله ولؤمت، إنما هو "في سرب العلاء بن سوية". ولوددت أنه كان ممن يشرب النبيذ.
فلما أقيم عروة بن أدية بين يديه حاوره. وقد اختلف في خبره5. وأصحه عندنا أنه قال: لقد6 جهزت أخاك علي. فقال: والله لقد كنت به ضنيناً، وكان لي عزاً، ولقد أردت له ما أريد7 لنفسي، فعزم عزما فمضى عليه، وما
ـــــــ
1 ر: "السجن".
2 السرب: الطريق والمسلك.
3 س: "وللشعر".
4 يرتضخ: يميل إليها في نطقه.
5 ر: "وقد اختلف الناس في خبره".
6 كلمة "لقد" ساقطة من ر.
7 ر: "مأريده".

أحب لنفسي إلا المقام وترك الخروج، قال له أفأنت على رأيه? قال: كنا1 نعبد رباً واحداً. قال: أما لأمثلن بك! قال له: اختر لنفسك من القصاص ما شئت. فأمر به فقطعوا يديه ورجليه، ثم قال له: كيف ترى? قال: أفسدت علي دنياي وأفسدت عليك آخرتك ثم أمر فقتل، ثم صلب على باب داره. ثم دعا مولاه فسأله عنه. فأجابه جواباً قد2 مضى ذكره.
قوله: فتهانف. حقيقته: تضاحك به ضحك هزء. وقل ابن أبي ربيعة المخزومي:
ولقد قالت لجارات لها ... وتعرت ذات يوم تبترد
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله أم لا يقتصد!
فتهانفن وقد قلن لها ... حسن في كل عين من تود
حسد حملنه من أجلها ... وقديماً كان في الناس الحسد
ـــــــ
1 ر: "كلنا".
2 ساقطة من ر.

أمر زياد مع الخوارج
وكان عبيد الله لا يلبث الخوارج، يحبسهم تارة ويقتلهم تارة، وأكثر ذلك يقتلهم، ولا يتغافل عن أحد منهم، وسبب ذلك أنه أطلقهم من حبس زياد لما ولي بعده، فخرجوا عليه.
فأما زياد فكان يقتل المعلن ويستصلح المسر، ولا يجرد السيف حتى تزول التهمة. ووجه يوماً بحينة بن كبيش الأعرجي إلى رجل من بني سعد يرى رأي الخوارج، فجاءه بحينة فأخذه. فقال: إني أريد أن أحدث وضوءاً للصلاة، فدعني أدخل منزلي1. قال: ومن لي بخروجك? قال: الله عز وجل، فتركه. فدخل فأحدث وضوءاً ثم خرج، فأتى به بحينة زياداً. فلما مثل بين يديه ذكر الله زياد، ثم صلى على نبيه، ثم ذكر
ـــــــ
1 ر: "أدخل إلى منزلي".

أبا بكر وعمر وعثمان بخير، ثم قال: قعدت عني فأنكرت ذلك، فذكر الرجل ربه فكمده، ثم ذكر النبي عليه السلام، ثم ذكر أبا بكر وعمر بخير، ولم يذكر عثمان. ثم أقبل على زياد فقال: إنك قد قلت قولاً فصدقه بفعلك، وكان من قولك: ومن قعد عنا لم نهجه. فقعدت. فأمر له بصلة وكسوة وحملان، فخرج الرجل من عند زياد وتلقاه الناس يسألونه، فقال: ما كلكم أستطيع أن أخبره، ولكني دخلت على رجل لا يملك ضراً ولا نفعاً لنفسه، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فرزق الله منه ما ترون.
وكان زياد يبعث إلى الجماعة منه فيقول: أأحسب الذي يمنعكم من إتياني إلا الرجلة1 فيقولون: أجل، فيحملهم ويقول: اغشوني الآن واسمروا عندي. فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فال: قاتل الله زياداً! جمع لهم كما تجمع الذرة2، وحاطهم كما تحوط الأم البرة، وأصلح العراق بأهل العراق، وترك أهل الشام بشأمهم3، وجبى العراق مائة ألف ألف وثمانية عشر ألف ألف.
قال أبو العباس: وبلغ زياداً عن رجل يكنى أبا الخير، من أهل البأس والنجدة، أنه يرى رأي الخوارج، فدعاه فولاه جندي سابور وما يليا، ورزقه أربعة آلاف درهم في كل شهر، وجعل عمالته في كل سنة مائة ألف، فكان أبو الخير يقول: ما رأيت شيئاً خيراً من لزوم الطاعة والتقلب بين أظهر الجماعة! فلم يزل والياً حتى أنكر منه زياد شيئاً فتنمر لزياد فحبسه، فلم يخرج من حبسه حتى مات.
ـــــــ
1 الرجلة: المشي على الرجلين.
2 الذرة: واحدة الذر, وهو النمل الصغار.
3 ر: "في شأمهم".

الرهين المرادي وشعره
وقال الرهين وكان رجلاً من مراد، وكان لا يرى القعود عن الحرب وكان في الدهاء ولمعرفة والشعر والفقه بقول الخوارج، بمنزلة عمران بن حطان، وكان عمران بن حطان في وقته شاعر قعد لصفرية ورئيسهم ومفتيهم.

وللرهين المرادي، ولعمران بن حطان مسائل كثيرة من أبواب العلم في القرآن والآثار، وفي السير والسنن، وفي الغريب، وفي1 الشعر، نذكر طريفها إن شاء الله. قال المرادي:
يا نفس قد طال في الدنيا مرواغتي ... لا تأمنن لصرف الدهر تنقيصا2
إني لبائع ما يفنى لباقية ... إن لم يعقني رجاء العيش تربيصا3
وأسأل الله بيع النفس محتسباً ... حتى ألاقي في الفردوس حرقوصا
[قال الأخفش: حرقوص: ذو الثدية].
وابن المنيح ومرداساً وإخوته ... إذ فارقوا زهرة الدنيا مخاميصا4
قال أبو العباس: وهذه كلمة له، وله أشعار كثيرة في مذاهبهم.
وكان زياد ولى شيبان بن عبد الله الأشعري صاحب مقبرة بني شيبان باب عثمان وما يليه، فجد في طلب الخوارج وأخافهم، وكانوا قد5 كثروا، فلم يزل كذلك حتى أتاه ليلة - وهو متكئ بباب داره - رجلان من الخوارج، فضرباه بأسيافهما فقتلاه. وخرج بنون له للإغاثة فقتلوا، ثم قتلهما الناس. فأتي زياد بعد ذلك برجل من الخوارج، فقال: اقتلوه متكئاً كما قتل شيبان متكئاً. فصاح الخارجي: يا عدلاه! يهزأ به.
فأما قول جرير:
ومنا فتى الفتيان والبأس معقل ... ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا
فإنه أراد معقل بن قيس الرياحي، ورياح بن يربوع، وجرير من كليب بن يربوع.
وقوله:
ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا
ـــــــ
1 ر: "والشعر".
2 ر. س: "تنغيصا".
3 التربيص: الانتظار.
4 المخاميص: جمع مخامص, وهو الضامر البطن.
5 ساقطة من ر.

يريد المستورد التيمي، وهو من بني تيم1 بن عبد مناة بن أد، وتميم ابن مر بن أد.
وأما قول ابن الرقيات:
والذي نغص ابن دومة ما تو ... حي الشياطين والسيوف ظماء
فأباح العراق يضربهم بالسيف ... صلتاً وفي الضراب غلاء2
فإنما يريد بابن دومة المختار بن أبي عبيد الثقفي، والذي نغصه مصعب نب الزبير، وكان المختار لا يوقف له على مذهب، كان خارجياً، ثم صار زبيرياً، ثم صار رافضياً في ظاهره.
وقوله: "ما توحي الشياطين"، فإن المختار كان يدعي أنه يلهم ضرباً من السجاعة3 لأمور تكون، ثم يحتال فيوقعها، فيقول للناس: هذا من عند الله عز وجل.
فمن ذلك قوله ذات يوم: لتنزلن من السماء نار دهماء، فلتحرقن دار أسماء. فذكر ذلك لأسماء بن خارجة، فقال: أقد سجع بي أبو إسحاق! هو والله محرق داري! فتركه والدار وهرب من الكوفة.
وقال في بعض سجعه: أما والذي شرع الأديان، وجنب الأوثان، وكره العصيان، لأقلن أزد عمان، وجل قيس عيلان، وتميماً أولياء الشيطان، حاشا النجيب ظبيان! فكان ظبيان النجيب يقول: لم أزل في عمر المختار أتقلب آمناً.
ـــــــ
1 ر: "من تميم".
2 الصلت: الماضي في الشئ. والغلاء: مجاوزة القدر في كل شئ.
3 السجاعة: صناعة السجع.

المختار بن عبيد وبعض أخباره
ويروى أن المختار بن أبي عبيد - وكان والياً لابن الزبير على الكوفة - اتهمه ابن الزبير، فولى رجلاً من قريش الكوفة. فلما أطل قال لجماعة من أهلها: اخرجوا إلى هذا المغرور فردوه، فخرجوا إليه، فقالوا: أين تريد? والله لئن دخلت الكوفة ليقتلنك المختار، فرجع.

وكتب المختار إلى ابن الزبير: إن صاحبك جاءنا فلما قاربنا رجع، فما أدري ما الذي رده! فغضب ابن الزبير على القرشي وعجزه ورده إلى الكوفة، فلما شارفها قال المختار: اخرجوا إلى هذا المغرور فردوه. فخرجوا إليه، فقالوا: إنه والله قاتلك، فرجع. وكتب المختار إلى ابن الزبير بمثل كتابه الأول. فلام القرشي، فلما كان في الثالثة فطن ابن الزبير، وعلم بذلك المختار، وكان ابن الزبير قد حبس محمد بن الحنفية مع خمسة عشر رجلاً من بني هاشم، فقال: لتبايعن أو لأحرقنكم، فأبوا بيعته. وكان السجن الذي حبسهم فيه يدعى سجن عارم، ففي ذلك يقول كثير:
تخبر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المظلوم في سجن عارم
ومن يلق هذا الشيخ بالخيف من منى ... من الناس يعلم أنه غير ظالم
سمي النبي المصطفى وابن عمه ... وفكاك أغلال وقاضي مغارم
وكان عبد الله بن الزبير يدعى العائذ، لأنه عاذ بالبيت، ففي ذلك يقول ابن الرقيات يذكر مصعباً:
بلد تأمن الحمامة فيه ... حيث عاذ الخليفة المظلوم
وكان عبد الله يدعى المحل، لإحلاله القتال في الحرم، وفي ذلك يقول رجل في رملة بنت الزبير:
ألا من لقلب معنى غزل ... بذكر المحلة أخت المحل
وكان عبد الله بن الزبير يظهر البغض لابن الحنفية إلى بغض أهله، وكان يحسده على أيده1، ويقال: إن علياً استطال درعاً فقال: لينقص منها كذا وكذا حلقة، فقبض محمد بن الحنفية بإحدى يديه على ذيلها، وبالأخرى على فضلها، ثم جذبها فقطعه من الموضع الذي حده أبوه، فكان ابن الزبير إذا حدث بهذا الحديث غضب واعتراه له أفكل2.
فلما رأى المختار أن ابن الزبير قد فطن لما أراد كتب إليه: من المختار بن أبي عبيد الثقفي خليفة الوصي محمد بن علي أمير المؤمنين أبي عبد الله بن أسماء، ثم
ـــــــ
1 الأيد: القوة.
2 الافكل: اسم للرعدة تعلو الإنسان.

ملأ الكتاب بسبه وسب أبيه. وكان قبل ذلك في وقت إظهاره طاعة ابن الزبير يدس إلى الشيعة، ويعلمهم موالاته أياهم، وخيرهم أنه على رأيهم وحمد مذاهبهم، وأنه سيظهر ذلك عما قليل. ثم وجه جماعة تسير الليل وتكمن النهار، حتى كسروا سجن عارم واستخرجوا منه بني هاشم، ثم ساروا بهم إلى مأمنهم.
وكان من عجائب المختار أنه كتب إلى إبراهيم بن مالك الأشتر يسأله الخروج إلى الطلب بدم الحسين بن علي رضي الله عنهما، فأبى عليه إبراهيم إلا أن يستأذن محمد بن علي بن أبي طالب، فكتب إليه يستأذنه في ذلك1، فعلم محمد أن المختار لا عقد له، فكتب محمد إلى إبراهيم بن الأشتر: إنه ما يسوؤني أن يأخذ الله لحقنا على يدي من شاء2 من خلقه. فخرج معه إبراهيم بن الأشتر، فوجهه3 نحو عبيد الله بن زياد. وخرج يشيعه ماشياً، فقال له إبراهيم: اركب يا أبا إسحاق! فقال: إني أحب أن تغبر قدماي في نصرة آل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فشيعه فرسخين، ودفع إلى قوم من خاصته حماماً بيضاً ضخاماً، وقال: إن رأيتم الأمر لنا فدعوها، وإن رأيتم الأمر علينا فأرسلوها، وقال للناس: إن استقمتم فبنصر الله، وإن حصتم حيصة4 فإني أجد في محكم الكتاب، وفي اليقين والصواب، أن الله مؤيدكم بملائكة غضاب، تأتي في صور الحمام دوين السحاب.
فلما صار ابن الأشتر بخازر5 وبها عبيد الله بن زياد قال: من صاحب الجيش? قيل له: ابن الأشتر، قال: أليس الغلام الذي كان يطير الحمام بالكوفة? قالوا: بلى، قال: ليس بشيء، وعلى ميمنة ابن زياد، حصين6 بن نمير السكوني من كندة ويقال السكوني والسكوني، والسدوسي والسدوسي، كذا كان أبو عبيدة يقول.
[قال أبو الحسن: السكوني أكثر]7، وعلى ميسرته عمير بن الحباب فارس الإسلام.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ر: "من يشاء".
3 ر: "فتوجه".
4 حصتم حيصة: ذهبتم تطلبون الفرار.
5 خازر: نهر بين إربل والموصل.
6 ر: "حضين", وما أثبته عن الأصل.
7 ما بين العلامتين من زيادات ر.

فقال حصين بن نمير لابن زياد: إن عمير بن الحباب غير ناس قتلى المرج1. وإني لا أثق لك به. فقال ابن زياد: أنت لي عدو، قال حصين: ستعلم.
قال ابن الحباب: فلما كان الليلة التي يريد أن نواقع ابن الأشتر في صبيحتها خرجت إليه، وكان لي صديقاً، ومعي رجل من قومي، فصرت إلى عسكره، فرأيته وعليه قميص هروي2 وملاءة، وهو متوشح3 السيف يجوس عسكره فيأمر فيه وينهى، فالتزمته من ورائه، فوالله ما التفت إلي، ولكن قال: من هذا? فقلت: عمير بن الحباب، فقال: مرحباً بأبي المغلس، كن بهذا الموضع حتى أعود إليك، فقلت لصاحبي: أرأيت أشجع من هذا قط! يحتضنه رجل من عسكر عدوه، ولا يدري من هو? فلا يلتفت إليه، ثم عاد إلي وهو في أربعة آلاف، فقال: ما الخبر? فقلت: القوم كثير، والرأي أن تناجزهم، فإنه لا صبر بهذه العصابة القليلة على مطاولة هذا الجمع الكثير، فقال: نصبح إن شاء الله ثم نحاكمهم إلى ظبات السيوف وأطراف القنا، فقلت: أنا منخزل عنك بثلث الناس غداً.
فلما التقوا كانت على أصحاب إبراهيم في أول النهار، فأرسل أصحاب المختار الطير، فتصايح الناس: الملائكة! فتراجعوا، ونكس عمير بن الحباب رايته، ونادى: يا لثأرات المرج! وأنزل بالميسرة كلها، وفيها قيس فلم يعصوه، واقتتل الناس حتى اختلط الظلام، وأسرع القتل في أصحاب عبيد الله بن زياد. ثم انكشفوا ووضع السيف فيهم حتى أفنوا، فقال ابن الأشتر لقد ضربت رجلاً على شاطئ هذا النهر فرجع إلي سيفي، فيه4 راحة المسك. ورأيت إقداماً وجزأة، فصرعته فذهبت يداه قبل المشرق، ورجلاه قبل المغرب، فانظروا.
فأتوه بالنيران، فإذا هو عبيد الله بن زياد.
وقد كان عند المختار كرسي قديم العهد، فغشاه بالديباج، وقال: هذا الكرسي من ذخائر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فضعوه في
ـــــــ
1 قتلى المرج, يريد مرج راهط, وقد قتلت يوم ذلك قبائل قيس مقتلة لم تر مثلها. قاله المرصفي.
2 هروي: منسوب على هراة إحدى مدن خراسان.
3 ر: "متشح".
4 ر: "ومنه".

براكاء الحرب، وقاتلوا عليه، فإن محله فيكم محل السكينة في بني إسرائيل. ويقال إنه اشترى ذلك الكرسي من نجار بدرهمين1.
وقوله: في براكاء القتال ويقال: براكاء وبروكاء، وهو موضع اصطدام القوم، وقال الشاعر2:
وليس بمنقذ لك منه إلا ... براكاء القتال أو الفرار
ـــــــ
1 ر: "بدرهمين من بخار".
2 حاشية الأصل: "البيت لبشر بن خازم" ويروى:
ولا ينجى من الغمرات إلا

وهذا باب 1 اللام التي للاستغاثة والتي للإضافة
...
إذا استغثت بواحد أو بجزاعة فاللام مفتوحة، تقول: يا للرجال، ويا للقوم، ويا لزيد! إذا كنت تدعوهم.
وإنما فتحتها لتفصل بين المدعو والمدعو له، ووجب أن تفتحها لأن أصل اللام الخافضة إنما كان الفتح، فكسرت مع المظهر ليفصل بينها وبين لام التوكيد، تقول: إن هذا لزيد، إذا أردت: إن هذا زيد، وتقول: إن هذا لزيد، إذا أردت أنه في ملكه، ولو فتحت لالتبسا2.
فإن وقعت اللام على مضمر فتحتها على أصلها، فقلت: إن هذا لك، وإن هذا لأنت، إذا أردت لام التوكيد ليس ههنا لبس، وذاك أن الأسماء المضمرة على غير لفظ المظهرة، فلهذا أجريتها على الأرض، والاستغاثة إلى أصلها من أجل اللبس.
والمدعو له في بابه، فاللام معه مكسورة، تقول: يا للرجال للماء! ويا للرجال للعجب ويا لزيد للخطب الجليل! قال الشاعر:
يا للرجال ليوم الأربعاء أما ... ينفك يبعث لي بعد النبي طربا3
ـــــــ
1 ر: "هذا".
2 ر: "لالتبستا".
3 لعبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي.

وقال آخر:
تكنفني الوشاة فأعجوني ... فيا للناس للواشي المطاع1
وفي الحديث لما طعن العلج - أو العبد - عمر بن الخطاب رضوان الله عليه صاح: يا لله يا للمسلمين!.
وتقول: يا للعجب، إذا كنت تدعو إليه، ويا لغير العجب، كأنك قلت: يا للناس للعجب. وينشد هذا البيت:
يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والصالحين على سمعان من جار2
فيا لغير اللعنة، كأنه قال: يا قوم لعنة الله والأقوام كلهم.
وزعم سيبويه أن هذه اللام التي للإستغاثة دليل، بمنزلة الألف التي تبين بالهاء في الوقف إذا أردت أن تسمع بعيداً، فإنما هي للاستغاثة بمنزلة هذه اللام، وذلك قولك: يا قوماه! على غير الندبة، ولكن للاستغاثة ومد الصوت.
والقول كما قال، محلهما عند العرب محل واحد، فإن وصلت حذفت الهاء، لأنها زيدت في الوقف لخفاء الألف، كما تزاد لبيان الحركة، فإذا وصلت أغنى ما بعدها عنها، تقول: يا قوماً تعالوا، ويا زيداً لا تفعل، ولا يجوز أن تقول: يا لزيد وهو مقبل عليك، وكذلك لا يجوز أن تقول: يا زيداه، وهو معك، إنما يقال ذلك للبعيد، أو ينبه به النائم.
فإن قلت: يا لزيد ولعمرو، كسرة اللام في "عمرو" وهو مدعو، لأنك إنما فتحت اللام في "زيد" لتفصل بين المدعو إليه، فلما عطفت على زيد استغنيت عن الفصل، لأنك إذا عطفت عليه شيئاً صار في مثل حاله.
ونظير ذلك الحكاية، يقول الرجل: أرأيت زيداً، فتقول، من "زيداً"? وإنما حكيت قوله ليعلم أنك إنما تستفهمه عن الذي ذكر بعينه، ولا تسأله عن زيد غيره، والموضع موضع رفع، لأنه ابتداء وخبر، فإن قلت: ومن زيد? أو فمن زيد? لم يكن إلا رفعاً، لأنك عطفت على كلامه، فاستغنيت عن الحكاية، لأن العطف لا يكون مستأنفاً.
ونظير هذا الذي ذكرت لك في اللام قول الشاعر:
يبكيك ناء بعيد الدار مغترب ... يا للكهول وللشبان للعجب!
فقد أحكمت كل ما في هذا الباب.
ـــــــ
1 نسبة المرصفي إلي قيس بن ذريح وقبله:
فواكبدي وعاودني رداعي ... وكان فراق لبني كالخداع
2 سمعان: بفتح السين وكسرها. وكلامها صحيح.

ثم نعود إلى ذكر الخوارج
خالد بن عباد السدوسي
قال أبو العباس: وذكر لعبد الله بن زياد رجل من بني سدوسي، يقال له خالد بن عباد - أو ابن عبادة - وكان من نساكهم، فوجه إليه فأخذه، فأتاه رجل من آل ثور، فكذب عنه، وقال: هو صهري وهو في ضمني، فخلى عنه، فلم يزل الرجل يتفقده حتى تغيب، فأتى ابن زياد فأخبره، فبعث إلى خالد بن عباد فأخذ، فقال عبيد الله بن زياد: أين كنت في غيبتك هذه? قال: كنت عند قوم يذكرون الله ويذكرون أئمة الجور فيتبرأون منهم! قال: ادللني عليهم1، قال: إذن يسعدوا وتشقى، ولم أكن لأروعهم! قال: فما تقول في أبي بكر وعمر? خيراً، قال: أمير المؤمنين عثمان، أتتولاه وأمير المؤمنين معاوية? قال: إن كانا وليين لله فلست أعاديهما، فأراغه مرات فلم يرجع، فعزم على قتله، فأمر بإخراجه إلى رحبة2 تعرف برحبة الزينبي.
فجعل الشرط يتفادون من قتله، ويروغون عنه توقياً، لأنه كان شاسفاً3، عليه أثر العباد، حتى أتى المثلم بن مسروح الباهلي، وكان من الشرط، فتقدم فقتله، فائتمر به الخوارج ليقتلوه. وكان مغرماً باللقاح4، يتتبعها5 فيشتريها من مظانها، وهم في تفقده، فدسوا إليه رجلاً في هيئة الفتيان، عليه ردع زعفران6
ـــــــ
1 ر: "دلني عليهم".
2 الرحبة: الفجوة الواسعة بين الدور.
3 الشاسف: اليابس من الهزل.
4 اللقحة: الناقة التي لها لبن.
5 ر: "يتتبعها".
6 الودع: اللطخ بالطيب والزعفران.

فلقيه بالمربد1 وهو يسأل عن لقحة صفي2، فقال له الفتى: إن كنت تبلغ3 فعندي ما يغنيك عن غيره، فامض معي.
فمضى المثلم على فرسه والفتى أمامه، حتى أتى به بني سعد، فدخل داراً، وقال له: ادخل على فرسك، فلما دخل وتوغل في الدار أغلق الباب، وثارت به الخوارج فاعتوره حريث بن حجل، وكهمس بن طلق الصريمي فقتلاه، وجعلا دراهم كانت معه في بطنه، ودفناه في ناحية الدار، وحكا آثار الدم، وخليا فرسه في الليل، فأصيب من الغد في المربد، وتجسس4 عنه الباهليون فلم يروا له أثراً، فاتهموا به بني سدوس، فاستدوا عليهم السلطان، وجعل السدوسيون يحلفون، وتحامل5 ابن زياد مع الباهليين، فأخذ من السدوسيين أربع ديات، وقال:ما أدري ما أصنع بهؤلاء الخوارج! كلما أمرت بقتل واحد منهم اغتالوا قاتله فلم يعلم بمكانه، حتى خرج مرداس، فلما واقفهم ابن زرعة الكلابي صاح بهم حريث بن حجل: أههنا من بالهة أحد? قالوا: نعم، قال: يا أعداء الله، أخذتم بالمثلم أربع ديات وأنا قتلته6 وجعلت دراهم كانت معه في بطنه، وهو في موضع كذا مدفون، فلما انهزموا صاروا إلى الدار، فصابوا أشلاءه والدراهم، ففي ذلك يقول أبو الأسود الدؤلي:
آليت لا أغدو إلى رب لقحة ... أساومه حتى يعود المثلم7
ثم خرجت خوارج لا ذكر لهم، كلهم قتل، حتى انتهى الأمر إلى الأزارقة.
ـــــــ
1 المربد" المكان الذي تحبس فيه الفبل وتصان. ومنه سمي مربد البصر’. وكان موضع سوق اللإبل.
2 الصفي: الناقة الغزيرة اللبن, والجمع صفايا.
3 تبلغ: يريد إن كنت تبلغ بها ثمنا جيدا. قاله المرصفي.
4 ر: "وتحسن".
5 ر: "فتحامل".
6 ر: "وأنا قاتله".
7 بعده كما ذكره المرصفي:
وقال له كوماء حمراء جلدة ... وقاربه في السوم والقتل يكتم
فأصبح قد عمى على الناس أمره ... وقد بات يجري فوق أثوابه الدم
وقد كان فيما كان منه بمعزل ... ولكن حين المرء للمرء مسلم

تفرق الخوارج
ومن ههنا افترقت الخوارج فصارت على أربعة أضرب.
الإباضية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض.
والصفرية، واختلفوا في تسميتهم، فقالوا قوم: سموا بابن صفار1 وقال آخرون - وأكثر المتكلمين عليه -: هم قوم نهكتهم العبادة فاصفرت وجوههم..
ومنهم البيهسية وهم أصحاب بيهس2.
ومنهم الأزارقة، وهم أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي.
وكانوا قبل على رأي واحد، لا يختلفون إلا في الشيء الشاذ من الفروع، كما قال صخر بن عروة: إني كرهت قتال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لسابقته وقرابته، فأما الآن فلا يسعني إلا الخروج، وكان اعتزل عبد الله بن وهب يوم النهر فضللته3 الخوارج بامتناعه من قتال علي.
ـــــــ
1 هو عبد الله بن الصفا.
2 هو هيصم بن جابر.
3 ضللته: نسبته إلى الضلال.

الخوارج وابن الزبير
فكان أول أمرهم الذي نستاقه: أن جماعة من الخوارج، منهم نجدة بن عامر الحنفي، عزموا على أن يقصدوا مكة، لما توجه مسلم بن عقبة يريد المدينة لوقعة الحرة، فقالوا: هذا ينصرف عن المدينة إلى مكة، ويجب علينا أن نمنع حرم الله منه، ونمتحن ابن الزبير، فإن كان على رأينا بايعناه، فمضوا لذلك.
فكان أول أمرهم أن أبا الوازع الراسبي - وكان من مجتهدي الخوارج - كان يذمر نفسه ويلومها على القعود، وكان شاعراً، وكان يفعل ذلك بأصحابه، فأتى نافع بن الأزرق وهو في جماعة من أصحابه، يصف لهم جور السلطان - وكان ذا لسان عضب، واحتجاج وصبر على المنازعة - فأتاه أبو الوازع، فقال يا نافع، لقد أعطيت لساناً صارماً وقلباً كليلاً، فلوددت أن صرامة لسانك كانت لقلبك، وكلال قلبك كان للسانك، أتحض على الحق وتقعد عنه، وتقبح الباطل وتقيم عليه! فقال: إلى أن يجتمع1 من أصحابك من تنكي به عدوك، فقال أبو الوازع:
ـــــــ
1 ر: "تجمع".

لسانك لا ينكى به القوم إنما ... تنال بكفيك النجاة من الكرب
فجاهد أناساً حاربوا اله واصطبر ... عسى الله أن يخزي غوي بني حرب
ثم قال: والله لا ألومك ونفسي ألوم، ولأغدون غدوة لا أنثني بعدها أبداً. ثم مضى فاشترى سيفاً، وأتى صيقلاً1 كان يذم الخوارج ويدل على عوراتهم، فشاوره في السيف فحمده، فقال: اشحذه، فشحذه، حتى إذا رضيه حكم وخبط به الصقيل وحمل على الناس فتهاربوا منه، حتى أتى مقبرة بني يشكر، فدفع عليه رجل حائط السترة فكرهت ذلك بنو يشكر، خوفاً أن تجعل الخوارج قبره مهاجراً، فلما رأى ذلك نافع وأصحابه جدوا، وخرج في ذلك جماعة، فكان ممن خرج عيسى بن فاتك الشاعر الخطي، من تيم اللات بن ثعلبة، ومقتله بعد خروج الأزارقة.
فمضى نافع وأصحابه من الحرورية قبل الاختلاف إلى مكة، ليمنعوا الحرم من جيش مسلم بن عقبة، فلما صاروا إلى ابن الزبير عرفوه أنفسهم، فأظهر لهم أنه على رأيهم، حتى أتاهم مسلم بن عقبة وأهل الشأم، فدافعوهم إلى أن يأتي رأي يزيد بن معاوية، ولم يبايعوا ابن الزبير.
ثم تناظروا فيما بينهم، فقالوا: ندخل إلى هذا الرجل فنظر ما عنده، فإن قدم أبا بكر وعمر، وبرئ من عثمان وعلي، وكفر أباه وطلحة، بايعناه، وإن تكن الأخرى ظهر لنا ما عنده، فتشاغلنا بما يجدي علينا. فدخلوا على ابن الزبير، وهو متبذل، وأصحابه متفرقون عنه، فقالوا: إنا جئناك لتخبرنا رأيك، فإن كنت عل الصواب بايعناك، وإن كنت إلى غيره دعوناك إلى الحق، ما تقول في الشيخين? قال: خيراً، قالوا: فما تقول في عثمان، الذي أحمى الحمى، وآوى الطريد، وأظهر لأهل مصر شيئاً وكتب بخلافه، وأوطأ آل أبي معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين? وفي الذي بعده الذي حكم في دين الله الرجال، وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم? وفي أبيك وصاحبه، وقد بايعا علياً وهو إمام عادل مرضي، لم يظهر منه كفر، ثم نكثا بعرض من أعراض الدنيا، وأخرجا عائشة تقاتل، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن2 في بيوتهن? وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى
ـــــــ
1 الصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها.
2 يشير على قوله تعالى في سورة الأحزاب 33: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}.

التوبة! فإن أنت قلت كما نقول فلك الزلفة عند الله والنصر على أيدينا، ونسأل الله لك التوفيق، وإن "أبيت خذلك الله وانتصر منك بأيدينا"1.
فقال ابن الزبير: إن الله أمر - وله العزة والقدرة - في مخاطبة أكفر الكافرين وأعتى العتاة بأرفه2 من هذا القول، فقال لموسى ولأخيه - صلى الله عليهما - في فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 3، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تؤذوا الأحياء بسب الموتى" فنهى عن سب أبي جهل من أجل عكرمة ابنه، وأبو جهل عدو الله وعدو الرسول، والمقيم على الشرك، والجاد في المحاربة، والمتبغض إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الهجرة، والمحارب له بعدها، وكفى بالشرك ذنباً! وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سميتم فيه طلحة وأبي، أن تقولوا: أتبرأ من الظالمين? فإن كانا منهم، دخلا في غمار4 الناس، وإن لم يكونا منهم لم تحفظوني5 بسب أبي وصاحبه، وأنتم تعلمون أن الله جل وعز قال للمؤمن في أبويه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} 6, وقال جل ثناؤه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} 7. وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده، وليس يقنعكم إلا التوقيف والتصريح، ولعمري إن ذلك لأحرى بقطع الحجج، وأوضح لمنهاج الحق، وأولى بأن يعرف كل صاحبه من عدوه، فروحوا إلي من عشيتكم هذه أكشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله.
فلما كان العشي راحوا إليه، فخرج إليهم وقد لبس سلاحه، فلما رأى ذلك نجدة قال: هذا خروج منابذ لكم، فجلس على رفع من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم ذكر أبا بكر وعمر أحسن ذكر، ثم ذكر عثمان في السنين الأوائل من خلافته، ثم وصلهن بالسنين التي أنكروا سيرتها فيها، فجعلها كالماضية، وخبر أنه آوى الحكم بن أبي العاص بإذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ـــــــ
1 كذا وردت العبارة في الأصل. س. وفي ر: "وإن ابيت إلا نصر رأيك الأول. وتصويب أبيك وصاحبه. والتحقيق بعثمان, والتولي على الست التي أحلت دمه. ونقضت......وافدت إمامته, خذلك الله وانتصر من بأيدينا".
2 في ر: "بارأف".
3 سورة طه 44.
4 غمار الناس:جماعتهم.
5 لم تحفظوني: لم تغظبوني.
6 سورة لقمان 15.
7 سورة البقرة 83.

وذكر الحمى وما كان فيه من الصلاح، وأن القوم استعتبوه من أمور، وكان له أن يفعلها أولاً مصيباً، ثم أعتبهم بعد محسناً، وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمن لهم العتبى؛ ثم كتب لهم ذلك الكتاب بقتلهم، فدفعوا الكتاب إليه، فحلف أنه لم يكتبه ولم يأمر به، وقد أمر بقبول اليمنين ممن ليس له مثل سابقته، مع ما أجتمع له من صهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومكانه من الإمامة، وأن بيعة الرضوان تحت الشجرة إنما كانت بسببه، وعثمان الرجل الذي لزمته يمين لو حلف عليها لحلف عل حق فافتداها بمائة ألف ولم يحلف، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض".
فعثمان أمير المؤمنين كصاحبيه، وأنا ولي وليه، وعدو عدوه، وأبي وصاحبه صاحبا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسول الله يقول عن الله تعالى يوم أحد لما قطعت إصبع طلحة: "سبقته إلى الجنة"، وقال: "أوجب طلحة". وكان الصديق إذا ذكر يوم أحد، قال: ذاك يوم كله أو جله لطلحة، والزبير حواري رسول الله وصفوته، وقد ذكر أنهما في الجنة، وقال جل وعز: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 1، وما أخبرنا بعد أنه سخط عليهم، فإن يكن ما سعوا فيه حقاً فأهل ذلك هم، وإن يكن زلة ففي عفو الله تمحيصها، وفيما وفقتهم له من السابقة مع نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومهما ذكرتموهما به فقد بدأتم بأمكم عائشة رضي الله عنها، فإن أبى آب أن تكون له أماً نبذ اسم الإيمان عنه، قال الله جل وعز وقوله الحق: {النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2.
فنظر بعضهم إلى بعض، ثم انصرفوا عنه.
وكان سبب وضع الحرب بين ابن الزبير وبين أهل الشأم - بعد إذ كان3 حصين بن نمير قد حصر ابن الزبير - أنه أتاهم موت يزيد بن معاوية فتوادع الناس، وقد كان أهل الشأم ضجروا من المقام على ابن الزبير، وحنقت الخوارج في قتالهم، ففي ذلك يقول رجل من قضاعة:
ـــــــ
1 سورة الفتح 18.
2 سورة الاحزاب 6.
3 ر: "أن كان".

يا صاحبي ارتجلا ثم املسا ... لا تحسبا لدى الحصين محبسا
إن لدى الأركان ناسناً بؤسا
- [قال الأخفش: حفظي بأساً أبؤسا] -
وبارقات يختلسن الأنفسا ... إذا الفتى حكم يوماً كلسا
قوله: ثم أملسا يريد: تخلصا تخلصاً سهلاً. وكلس، أي جمل وجد.
ولما سمح ابن الزبير للخوارج في القول وأظهر أنه منهم قال رجل يقال له فلان بن همام1، من رهط الفرزدق:
يا ابن الزبير أتهوى عصبة قتلوا ... ظلماً أباك ولما تنزع الشكك
ضحوا بعثمان يوم النحر ضاحية ... ما أعظم الحرمة والعظمى التي انتهكوا!
فقال ابن الزبير: لو شايعتني الترك والديلم على قتال أهل الشأم لشايعتها.
الشكك: جمع شكة، وهي السلاح، قال الشاعر:
ومدججاً يسعى بشكته ... محمرة عيناه كالكلب
فتفرقت الخوارج عن ابن الزبير لما تولى عثمان، فصارت طائفة إلى البصرة، وطائفة إلى اليمامة، وكان رجاء النصري2 وهو الذي جمعهم للمدافعة عن الحرم، فكان فيمن صار إلى البصرة نافع بن الأزرق الحنفي، وبنو الماحوز السليطيون، ورئيسهم حسان بن بحدج3، فلما صاروا إلى البصرة نظروا في أمورهم فأمروا عليهم نافعاً.
ـــــــ
1 ر: "قيس بن همام".
2 كذا في الأصل. وفي ر: "النميري".
3 ر: "محرج".

خروج نافع بن الأزرق بقومه إلى الأهواز
ويروى أن أبا الجلد اليشكري قال لنافع يوماً: يا نافع، إن لجهنم سبعة أبواب، وإن أشدها حراً للباب الذي أعد للخوارج، فإن قدرت ألا تكون منهم

فافعل، فأجمع القوم على الخروج، فمضى بهم نافع إلى الأهواز1 في سنة أربع وستين، فأقاموا بها، لا يهيجون أحداً، ويناظرهم الناس.
وكان سبب خروجهم إلى الأهواز أنه لما مات يزيد بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد، وكان في السجن يومئذ أربعمائة رجل من الخوارج، وضعف أمر ابن زياد، فكلم فيهم فأطلقهم، فأفسدوا البيعة عليه، وفشوا في الناس، يدعون إلى محاربة السلطان ويظهرون ما هم عليه، حتى اضطر على عبيد الله أمره، فتحول عن دار الإمارة إلى الأزد، ونشأت الحرب بسببه بين الأزد وربيعة وبين بني تميم، فاعتزلهم الخوارج إلا نفراً منهم من بني تميم، معهم عبس بن طلق الصريمي أخو كهمس فإنهم أعانوا قومهم، فكان عبس الطعان في سعد، والرباب في القلب بحذاء الأزد، وكان حارثة بن بد اليربوعي في حنظلة بحذاء بكر بن وائل، وفي ذلك يقول حارثة بن بدر للأحنف؛ وهو صخر بن قيس:
سيكفيك عبس أخو كهمس ... مواقفة الأزد بالمربد
وتكفيك عمرو على رسلها ... لكيز بن أقصى وما عددوا
- لكيز هو عبد القيس -
وتكفيك بكراً إذا أقبلت ... بضرب يسيب له الأمرد
فلما قتل مسعود بن عمرو المعني، وتكاف الناس، أقام نافع بن الأزرق بموضعه بالأهواز، ولم يعد إلى البصرة، وطردوا عمال السلطان عنها، وجبوا الفيء.
ـــــــ
1 الاهواز: سبع كور بين البصرة وفارس.

خروج نجدة بن عامر على نافع بن الأزرق والرسائل التي دارت بينهما
ولم يزالوا على رأي واحد، يتولون أهل النهر ومرداساً ومن خرج معه، حتى جاء مولى لبني هاشم إلى نافع، فقل له: إن أطفال المشركين في النار، وإن من خالفنا مشرك، فدماء هؤلاء الأطفال لنا حلال، قال له نافع: كفرت وأحللت بنفسك1، قال له: إن لم آتك بهذا من كتاب الله فاقتلني، {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا
ـــــــ
1 ر: س: "وأدللت".

تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} 1، فهذا أمر الكافرين وأمر أطفالهم. فشهد نافع أنهم جميعاً في النار، ورأى قتلهم. وقال: الدار دار كفر إلا من اظهر ايمانه, ولا يحل أكل ذبائحهم2, تناكحهم، ولا توارثهم، ومتى جاء منهم جاء فعلينا أن نمتحنه، وهم ككفار العرب، لا نقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، والقعد بمنزلتهم، والتقية لا تحل، فإن الله تعالى يقول: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} 3، وقال عز وجل فيمن كان على خلافهم: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 4. فنفر جماعة من الخوارج عنه، منهم نجدة بن عامر، واحتج عليه بقول الله عز وجل: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 5 وبقوله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} 6، فالقعد منا، والجهاد إذا أمكن أفضل، لقوله جل وعز: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} 7.
ثم مضى نجدة بأصحابه إلى اليمامة وتفرقوا في البلدان.
فلما تتابع8 نافع في رأيه وخالف أصحابه، وكان أبو طالوت سالم بن مطر بالخضارم9 في جماعة قد بايعوه، فلما انخزل نجدة خلعوا أبا طالوت، وصاروا إلى نجدة فبايعوه، ولقي نجدة وأصحابه قوماً من الخوارج بالعرمة10 والعرمة كالسكر11، وجمعها عرم، وفي القرآن المجيد {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} 12، وقل النابغة الجعدي:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
فقال لهم أصحاب نجدة: إن نافعاً قد أكفر13 القعد ورأى الاستعراض، وقتل الأطفال، فانصرفوا مع نجدة، فلما صار باليمامة كتاب إلى نافع.
ـــــــ
1 سورة نوح: 26 – 27.
2 س: "لا تحل".
3 سورة النساء 77.
4 سورة المائدة 54.
5 سورة آل عمران 28.
6 سورة غافر 28.
7 سورة النساء 95.
8 التتابع في الشر وهو التهافت عليه.
9 خضارم: اسم واد باليمامة.
10 العرمة: أرض صلبة تتاخم الدهناء.
11 السكر, بكسر فسكون: اسم لما سد به فم النهر.
12 سورة سبأ 16.
13 ر: "كفر".

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كالأخ البر، لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا ترى معونة ظالم، كذلك كنت أنت وأصحابك. أما تذكر قولك: لو لا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر جميع رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين? فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء رضوانه، وأصبت من الحق فصه، وركبت مره، تجرد لك الشيطان، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن أصحابك، فاستمالك واستهواك واستغواك وأغواك، فغويت فأكفرت الذين عذرهم الله في كتابه من قعد المسلمين وضعفتهم، فقال جل ثناؤه، وقوله الحق ووعده الصدق: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} 1. ثم سماهم أحسن الأسماء، فقال: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} 2. ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتلهم، وقال الله عز ذكره: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 3, وقال في القعد خيراً، وفضل الله من جاهد عليهم. ولا يدفع منزلة أكثر الناس عملاً منزلة من هو دونه، أو ما سمعت قوله عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} 4، فجعلهم الله من المؤمنين، وفضل عليهم المجاهدين بأعمالهم، ورأيت ألا تؤدي الأمانة إلى من خالفك، والله يأمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها، فاتق الله وانظر لنفسك، واتق يوماً: {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} 5، فإن الله عز ذكره بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل، والسلام.
فكتب إليه نافع:
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فقد أتاني كتابك تعظني فيه وتذكرني، وتنصح لي وتزجرني، وتصف ما كنت عليه من الحق، وما كنت أوثره من الصواب، وأنا أسأل الله جل وعز أن يجعلني من الذين يستمعون القول
ـــــــ
1 سورة التوبه 91.
2 سورة التوبة 91.
3 سورة الأنعام 164.
4 سورة النساء 95.
5 سورة لقمان 33.

فيتبعون أحسنه، وعبت علي ما دنت به من إكفار القعد وقتل الأطفال واستحلال الأمانة، فسأفسر لك لم ذلك إن شاء الله.
أما هؤلاء القعد فليسوا كمن ذكرت ممن كان بعهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين، لا يجدون إلى الهرب سبيلاً، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقة، وهؤلاء قد فقهوا في الدين، وقرأوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح، وقد عرفت ما قال الله عز جل فيمن كان مثلهم، إذ قالوا: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} 1. فقيل لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 2. وقال: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} 3، وقال: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} 4، فخبر بتذيرهم، وأنهم كذبوا، الله ورسوله، وقال: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 5. فانظر إلى أسمائهم وسماتهم.
وأما أمر الأطفال فإن نبي الله نوحاً عليه السلام كان أعلم بالله - يا نجدة - مني ومنك، فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} 6، فسماهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف كان ذلك في قوم نوح ولا نكون نقوله ببني ومنا! والله يقول: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} 7، وهؤلاء كمشركي العرب، لا نقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام.
وأما استغلال أمانات من خالفنا فإن الله عز وجل أحل لنا أموالهم، كما أحل لنا دماءهم، فدماؤهم حلال طلق8، وأموالهم فيء للمسلمين. فاتق الله وراجع نفسك، فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة، ولن يسعك خذلاننا، والقعود عنا، وترك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا، والسلام على من أقر بالحق وعمل به.
ـــــــ
1 سورة النساء 97.
2 سورة النساء 97.
3 سورة التوبة 81.
4 سورة التوبة 90.
5 سورة التوبة 90.
6 سورة نوح 27,26.
7 سورة القمر 43.
8 الطلق: الحلال.

كتاب نافع إلى ابن الزبير
وكتب نافع إلى عبد الله بن الزبير يدعوه إلى أمره:

أما بعد، فإني أحذرك من الله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 1. فاتق الله ربك، ولا تتول الظالمين، فإن الله يقول: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} 2. وقد حضرت عثمان يوم قتل، فلعمري لئن قتل مظلوماً لقد كفر قاتلوه وخاذلوه، ولئن كان قاتلوه مهتدين - وإنهم لمهتدون - لقد كفر من يتولاه وينصره ويعضده. ولقد علمت أن أباك وطلحة وعثمان، فكيف3 ولاية قاتل متعمد ومقبول في دين واحد! ولقد ملك علي بعده فنفى الشبهات، وأقام الحدود، وأجرى الأحكام مجاريها، وأعطى الأمور حقائقها، فيما عليه وله، فبايعه أبوك وطلحة، ثم خلعاه ظالمين له، وإن القول فيك وفيهما لكما قال ابن عباس: إن يكن علي في وقت معصيتكم ومحاربتكم له كان مؤمناً؛ أما لقد كفرتم بقتال المؤمنين وأئمة العدل، ولئن كان كافراً كما زعمتم، وفي الحكم جائراً، لقد بؤتم بغضب من الله لفراركم من الزحف، ولقد كنت له عدواً. ولسيرته عاتباً، فكيف توليته بعد موته! فاتق الله فإنه يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 4.
ـــــــ
1 سورة آل عمران 30.
2 سورة آل عمران 28.
3 ر: "وكيف".
4 سورة المائدة 51.

كتاب نافع إلى المحكمة من أهل البصرة
وكتب نافع إلى من بالبصرة من المحكمة:
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. والله إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة، والدين واحد، ففيم المقام بين أظهر الكفار، ترون الظلم ليلاً ونهاراً، وقد ندبكم الله إلى الجهاد فقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} 1، ولم يجعل لكم في التخلف عذراً في حال من الحال، فقال: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} 2! وإنما عذر الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون ومن كانت إقامته لعلة، ثم فضل عليهم مع ذلك
ـــــــ
1 سورررة التوبة 36.
2 سورة التوبة 41.

المجاهدين، فقال: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 1؛ فلا تغتروا ولا تطمئنوا إلى الدنيا، فإنها مرارة مكارة، لذتها نافذة، ونعمتها بائدة، حفت بالشهوات اغتراراً، وأظهرت حبرة2. وأضمرت عبرة، فليس آكل منها أكلة تسره، ولا شارب شربة تؤنفه3 ؛ إلا دنا بها درجة إلى أجله، وتباعد بها مسافة من أمله، وإنما جعلها الله داراً لمن تزود منها إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، فلن يرضى بها حازم داراً، ولا حليم بها قراراً، فاتقوا الله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 4. والسلام على من اتبع الهدى.
فورد كتابه عليهم، وفي القوم يومئذ أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي، وعبد الله بن إباض المري، من بني مرة بن عبيد. فأقبل أبو بيهس على ابن إباض فقال: إن نافعاً غلا فكفر، وإنك قصرت فكفرت. تزعم أن من خالفنا ليس بمشرك، وإنما هم كفار النعم؛ لتمسكهم بالكتاب، وإقرارهم بالرسول. وتزعم أن مناكحهم ومواريثهم والإقامة فيهم حل طلق5 ? وأنا أقول: إن أعداءنا كأعداء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تحل لنا الإقامة فيهم، كما فعل المسلمون في إقامتهم بمكة، وأحكام المشركين تجري فيهم6، وأزعم أن مناكحهم ومواريثهم تجوز لأنهم منافقون يظهرون الإسلام، وأن حكمهم عند الله حكم المشركين.
فصاروا في هذا الوقت على ثلاثة أقاويل: قول نافع في البراءة والاستعراض واستحلال الأمانة وقتل الأطفال. وقول أبي بيهس الذي ذكرناه. وقول عبد الله بن إباض. وهو أقرب الأقاويل إلى السنة من أقاويل الضلال. والصفرية والنجدية في ذلك الوقت يقولون بقول ابن إباض. وقد قال ابن إباض ما ذكرنا من مقالته.
وأنا أقول: إن عدونا كعدو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكني أحرم مناكحتهم ومواريثهم، لأن معهم التوحيد والإقرار معهم التوحيد والإقرار بالكتاب والرسول عليه السلام، فأرى معهم دعوة المسلمين تجمعهم، وأراهم كفاراً للنعم. وقالت الصفرية ألين من هذا القول في أمر القعد، حتى صار عامتهم قعداً واختلفوا فيهم، وقد ذكرنا ذلك فقال قوم:
ـــــــ
1 سورة النساء 95.
2 الحبرة: النعمة وسعة العيش.
3 تؤنقه: تعجبه.
4 سورة البقرة 197.
5 طلق: حلال.
6 ر: "فيها".

سموا صفرية، لأنهم أصحاب ابن صفار، وقال قوم: إنما سموا بصفرة علتهم، وتصديق ذلك قول ابن عاصم الليثي، وكان يرى رأي الخوارج، فتركه وصار مرجئاً:
فارقت نجدت والذين تزرقوا ... وابن الزبير وشيعة الكذاب1
والصفرة الأذان الذين تخيروا ... ديناً بلا ثقة ولا بكتاب
- خفف الهمزة من الآذان ولو لا ذلك لانكسر الشعر -
وقال أبو بيهس: الدار دار كفر، والاستعراض فيها جائز، وإن أصيب من الأطفال فلا حرج.
إلى ههنا انتهت المقالة.
ـــــــ
1 يعني بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد الثقفي.

مقتل نافع بالأهواز
وتفرقت الخوارج على الأضرب الأربعة التي ذكرنا، وأقام نافع بالأهواز يعترض الناس ويقتل الأطفال، فإذا أجيب إلى المقالة جبا الخراج، وفشا عماله في السواد1، فارتاع لذلك أهل البصرة، فاجتمعوا إلى الأحنف بن قيس، فشكوا ذلك إليه، وقالوا: ليس بيننا وبين العدو إلا ليلتان، وسيرتهم ما ترى، فقال الأحنف: إن فعلهم في مصركم - إن ظفروا به - كفعلهم في سوادكم، فجدوا في جهاد عدوكم، فاجتمع إليه عشرة آلاف، فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب - وهو ببة2 - فسأله أن يؤمر عليهم، فاختار لهم ابن عبيس3 بن كريز، وكان ديناً شجاعاً، فأمره عليهم وشيعه، فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس فقال: إني ما خرجت لامتيار4، ذهب ولا فضة وإني
ـــــــ
1 يريد بالسواد أرض العراق وضياعه.
2 الببة في الأصل: كثرة اللحم وتراكبه. لقب به عبد الله بن الحارث, وكانت أمه ترقصه وتقول:
لأنكحن ببه ... جارية كالقبه
مكرمة محببه ... تحب أهل الكعبه
3 هو ميلم بن عبيس.
4 الأمتيار هنا: جلب الطعام.

لأحارب قوماً إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا سيوفهم ورماحهم، فمن كان شأنه الجهاد فلينهض، ومن أحب الحياة فليرجع. فرجع نفر يسير، ومضى الباقون معه، فلما صاروا بدولاب1 خرج إليهم نافع، فاقتتلوا قتالاً شديداً، حتى تكسرت الرماح، وعقرت الخيل، وكثرت الجراح، والقتلى2، وتضاربوا بالسيوف والعمد، فقتل في المعركة ابن عبيس ونافع بن الأزرق.
وكان ابن عبيس قد تقدم إلى أصحابه فقال: إن أصبت فأميركم الربيع بن عمرو الأجذم الغداني، فلما أصيب ابن عبيس أخذ الربيع الراية، وكان نافع قد استخلف عبيد الله بن الماحوز السليطي، فكان الرئيسان من بني يربوع: رئيس المسلمين من بني غدانة بن يربوع، فاقتتلوا قتالاً شديداً.
وادعى قتل نافع سلامة الباهلي، وقال: لما قتلته وكنت على برذون ورد3، إذا برجل على فرس - وأنا واقف في خمس قيس - ينادي يا صاحب الورد! هلم إلى المبارزة، فوقفت في خمس بني تميم. فإذا به يعرضها علي، وجعلت أتنقل من خمس إلى خمس إلى خمس، وليس يزايلني، فصرت إلى رحلي، ثم رجعت، فرآني فدعاني إلى المبارزة، فلما أكثر خرجت إليه فاختلفنا ضربتين، فضربته فصرعته، فنزلت لسلبه وأخذ رأسه، فإذا امرأة قد رأتني حين قتلت نافعاً، فخرجت لتثأر به، فلم يزل الربيع الأجذم يقاتلهم نيفاً وعشرين يوماً، حتى قال يوماً: أنا مقتول لا محالة، قالوا: وكيف? قال: لأني رأيت البارحة كأن يدي التي أصيبت بكابل انحطت من السماء فاستشلتني، فلما كان الغد قاتل إلى الليل، ثم غاداهم فقتل. فتدافع أهل البصرة الراية حتى خافوا العطب، إذ لم يكن لهم رئيس، ثم أجمعوا على الحجاج بن باب الحميري فأباها، فقيل له: ألا ترى أن رؤساء العرب بالحضرة، وقد اختاروك من بينهم! فقال: مشؤومة، ما يأخذها أحد إلا قتل، ثم أخذها، فلم يزل يقاتل الخوارج بدولاب، والخوارج أعد بالآلات والدروع والجواشن4، فالتقى الحجاج بن باب وعمران بن الحارث الراسبي، وذلك بعد
ـــــــ
1 دولاب: قرية بينها وبين الاهواز أربعة فراسخ.
2 ر: "والقتلى".
3 الورد: لون أحمر يضرب إلى صفرة حسنة في كل شئ.
4 الجواشن: جمع جوشن, وهو الدرع.

أن اقتتلوا زهاء شهر، فاختلفا ضربتين، فسقطا ميتين، فقالت أمر عمران ترثيه:
الله أيد عمراناً وطهره ... وكان عمران يدعو الله في السحر
يدعوه سراً وإعلاناً ليرزقه ... شهادة بيدي ملحادة غدر
ولى صحابته عن حر ملحمة ... وشد عمران كالضرغامة الهصر
قول الربيع: "استشلتني"، أي أخذتني إليها واتنفذتني. يقال: استشلاه واشتلاه. وفي الحديث "إن السارق إذا قطع سبقته يده إلى النار، فإن تاب استشلاها"، قال رؤبة:
إن سليمان اشتلانا ابن علي
وقول الناس: "اشليت كلبي" أي أغريته بالصيد، خطأ، إنما يقال: آسدته وأشليته: دعوته.
وقولها: "بيدي ملحادة" "مفعال" من الإلحاد، كما تقول: رجل معطاة يا فتى، ومحسان، ومكرام، وأدخلت الهاء للمبالغة، كما تدخل في رواية وعلامة ونسابة.
و"غدر" "فعل" من الغدر، ول"فعل" باب نذكره في عقب هذه القصة، إذا فرغنا من خبر هذه الوقعة.
والضرغامة: من أسماء الأسد.
والهصر: الذي يهصر كل شيء، أي يثنيه، قال امرؤ القيس:
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ... هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
ولذكرنا الصفرية والأزراقة والبيهسية والإباضية تفسير، لم نسب إلى ابن الأزرق بالأزارقة، وإلى أبي بيهس بالكنية المضاف إليها، ونسب إلى صفر ولم ينسب إلى واحدهم، ونسب إلى ابن إباض فجعل النسب إلى أبيه? وهذا نذكره بعد باب "فعل".

لقطري في يوم دولاب
قال أبو العباس: ومما قيل من الشعر في يوم دولاب قول قطري:
لعمرك إني في الحياة لزاهد ... وفي العيش ما لم ألق أم حكيم1
من الخفرات البيض لم ير مثلها ... شفاء لذي بث ولا لسقيم
لعمرك إني يوم ألطم وجهها ... على نائبات الدهر جد لئيم
ولو شهدتني يوم دولاب أبصرت ... طعان فتى في الحرب غير ذميم
غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم
وكان لعبد القيس أول جدها ... وأحلافها من يحصب وسليم2
وظلت شيوخ الأزد في حومة الوغى ... تعوم وظلنا في الجلاد نعوم3
فلم أر يوماً كان أكثر مقعصاً ... يمج دماً من فائظ وكليم4
وضاربة خدا كريماً على فتى ... أغر نجيب الأمهات كريم
أصيب بدولاب ولم تك موطناً ... له أرض دولاب ودير حميم5
فلو شهدتنا يوم ذاك وخلنا ... تبيح من الكفار كل حريم
رأت فتية باعوا الإله نفوسهم ... بجنات عدن عنده ونعيم
قوله: "ولو شهدتنا يوم دولاب" فلم ينصرف "دولاب" فإنما ذاك لأنه أراد البلدة، ودولاب: أعجمي، معرب، وكل ما كان من الأسماء الأعجمية نكرة بغير
ـــــــ
1 أم حكيم امرأة من الخوارج كانت مع قطري. وكانت من أجمل النساء وجها, وأحسنهم بدينهم تمسكا. كانت تحمل على الناس وترجز:
أحمل رأسا قد سئمت حمله ... وقد مللت دهنه وغسله
ألا فتى يحمل عني ثقله
2 يحصب بن مالك بن حمير, وسليم بن منصور. من قيس عيلان, وأصله مصغر وكبر للوزن.
3 في البيت إقواء.
4 المقعص: المطعون. والفائظ. من قولهم: فاظ الرجل إذا مات.
5 دير حميم: موضع بالأهواز.

الألف واللام، فإذا دخلته الألف واللام فقد صار معرباً، وصار على قياس الأسماء العربية، لا يمنعه من الصرف إلا ما يمنع العربي، فدولاب،" فوعال" مثل طومار وسولاف. وكل شيء لا يخص واحداً من الجنس م غيره فهو نكرة، نحو: رجل، لأن هذا الاسم يلحق كل ما كان على بنيته، وكذلك حمل وجبل وما أشبه ذلك، فإن وقع الاسم في كلام العجم معرفة فلا سبيل إلى إدخال الألف واللام عليه، لأنه معرفة، فلا معنى لتعريف آخر فيه، فذلك غير منصرف، نحو فرعون وقارون، وكذلك إسحاق وإبراهيم، ويعقوب.
وقوله:
غداة طفت علماء بكر بن وائل
وهو يريد على الماء، فإن العرب إذا التقت في مثل هذا الموضع لامان استجازوا حذف إحداهما استثقالاً للتضعيف، لأن ما بقي دليل على ما حذف، يقولون، لأن ما بقي دليل على ما حذف، يقولون "علماء بنو فلان" كما قال الفرزدق:
وما سبق القيسي من ضعف حيلة ... ولكن طفت علماء قلفة خالد
وكذلك كل اسم من أسماء القبائل تظهر فيه لام المعرفة فإنهم يجيزون معه حذف النون التي في قولك بنو لقرب مخرج النون من اللام، وذلك قولك: فلان من بلحارث وبلعنبر، وبلهجيم.
وقال آخر نم الخوارج:
يرى من جاء ينظر من دجيل ... شيوخ الأزد طافية لحاها1
وقال رجل منهم:
شمت ابن بدر والحوادث جمة ... والحائرون بنافع بن الأزرق
والموت حتم لا محالة واقع ... من لا يصبحه نهاراً يطرق
فلئن أمير المؤمنين أصابه ... ريب المنون فمن يصبه يغلق
ـــــــ
1 دجيل: نهر بالأهواز.

نصب بعد "إن" لأن حرف الجزاء للفعل، فإنما أراد: فلئن أصاب أمير المؤمنين، فلما حذف هذا الفعل وأضمر ذكر أصابه ليدل عليه، ومثله قول النمر بن تولب:
لا تجزعي إن منفساً أهلكته ... وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
وقال ذو الرمة:
إذا ابن أبي موسى بلالاً بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر1
لأن إذا لا يليها إلا الفعل، وهي به أولى.
ـــــــ
1 الوصل: واحد الأوصال, وهي المفاصل.

هذا باب فعل
اعلم أن كل اسم على مثال "فعل" مصروف في المعرفة والنكرة إذا كان اسماً أصلياً أو نعتاً، فالأسماء نحو، صرد ونغر وجعل، وكذلك إن كان جمعاً، نحو: ظلم وغرف. وإن سميت بشيء من هذا رجلاً انصرف في المعرفة والنكرة. وأما النعت، فنحو: رجل حطم، كما قال:
قد لفها الليل بسواق حطم
وكذلك مال لبد، وهو الكثير، من قوله جل جلاله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً} 1.
فإن كان الاسم على "فعل" معدولاً عن "فاعل" لم ينصرف إذا كان اسم رجل في المعرفة، وينصرف في النكرة، وذلك نحو: عمر وقثم، لأنه معدول عن عامر، وهو الاسم الجاري على الفعل، فهذا مما معرفته قبل نكرته، فإذا أريد به مذهب المعرفة جاز أن تبنيه في النداء من كل فعل، لأن المنادى مشار إليه، وذلك قولك: يا فسق، ويا خبث، تريد: يا فاسق ويا خبيث.
وإنما قالت: "بيدي ملحادة غدر" في النداء للضرورة، فنقلته معرفة من النداء، ثم جعلته نكرة لخروجه عن الإشارة، فنعتت به "ملحادة" كما قال الحطيئة:
أجول ما أجول ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع
وهذا لا يقع إلا في النداء، ولكن للشاعر نقله نكرة ونقله معرفة، على حد ما كان له في النداء. فيلحق قولها "غدر" بقوله: رجل حطم، ومال لبد، وما أشبهه. وفعال في المؤنث بمنزلة "فعل" في المذكر، ولو سميت رجلاً "حطماً" لصرفته، من قولك: هذا سائق حطم، لأنه قد وقع نكرة غير معدول، فهو في النعوت بمنزلة "صرد" في الأسماء.
ـــــــ
1 سورة البلد.

هذا

باب النسب إلى المضاف
النسب إلى العلم المضاف
اعلم أنك إذا نسبت إلى علم مضاف فالوجه أن تنسب إلى الاسم الأول، وذلك قولك في عبد القيس: عبدي، وكذلك في عبد الله بن دارم، فإن كان الاسم الثاني أشهر من الأول جاز النسب إليه، لئلا يقع في النسب التباس من اسم باسم، وذلك قولك في النسب إلى عبد مناف منافي، وإلى أبي بكر بن كلاب بكري.
قد يجوز، وهو قليل، أن تبني له من الاسمين اسماً على مثال الأربعة لينتظم النسب، وذلك قولك في النسب إلى عبد الدار بن قصي عبدري، وفي النسب إلى عبد القيس عبقسي.

النسب إلى المضاف غير العلم
فإن كان المضاف غير علم فالنسب إلى الثاني على كل حال، وذلك قولك في النسب إلى ابن الزبير زبيري، لأن ابن الزبير إنما صار معرفة بالزبير، وكذلك النسب إلى ابن رألان رألاني، فلذلك قالوا في النسب إلى ابن الأزرق أزرقي، وإلى أبي بيهس، بيهسي.

النسب إلى الجماعة
فأما قولهم: "صفري" فإنما أرادوا الصفر الألوان، فنسبوا إلى الجماعة، وحق الجماعة إذا نسب إليها أن يقع النسب إلى واحدها، كقولك: مهلبي، ومسمعي، ولكن جعلوا "صفراً" اسماً للجماعة، ثم نسبوا غليه، ولم يقولوا: أصفري، فينسب إلى واحدها، وإما كان ذلك لأنهم جعلوا الصفر اسماً للجماعة، كما تسمى القبيلة بالاسم الواحد، ألا ترى أن النسب إلى الأنصار، أنصاري لأنه كان علماً للقبيلة وكذلك مدائني. وتقول في النسب إلى الأبناء من بني سعد أبناوي، لأنه اسم للجماعة.
فأما قولهم: "الأزارقة"، فهذا باب من النسب آخر، وهو أن يسمى كل واحد منهم باسم الأب، إذا كانوا ينسبون، ونظيره المهالبة، والمسامعة، والمناذرة.

ويقولون: جاءني النميرون والأشعرون. جعل كل واحد منهم نميراً وأشعر، فهذا يتصل في القبائل، على ما ذكرت لك.
وقد تنسب الجماعة إلى الواحد على رأي أو دين، فيكون له مثل نسب الولادة، كما قالوا أزرقي، لمن كان على رأي ابن الأزرق، كما تقول تميمي وقيسي لمن ولده تميم وقيس، ومن قرأ: " سلام على آل ياسين " " الصافات: 130 " ، فإنما يريد إلياس عليه السلام ومن كان على دينه، كما قال:
قدني من نصر الخبيبيين قد
يريد أبا خبيب ومن معه.
وقد يجتمع الرجال مع الرجل في التثنية إذا كان مجازهما واحداً في أكثر الأمر على لفظ أحدهما، فمن ذلك قولهم: العمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن ذلك قولهم: الخبيبان لعبد الله ومصعب، وقد مضى تفسيره.

عاد القول في الخوارج
قال: والأزارقة لا تكفر أحداً من أهل مقالتها في دار الهجرة إلا القاتل رجلاً مسلماً، فإنهم يقولون: المسلم حجة الله، والقاتل قصد لقطع الحجة.
الأزارقة وولاة البصرة
ويروى أن نافعاً مر بمالك بن مسمع في الحرب التي كانت بين الأزد وربيعة وبني تميم، ونافع متقلد سيفاً، فقام إليه مالك فضرب بيده إلى حمالة سيفه وقال: ألا تنصرنا في حربنا هذه! فقال: لا يحل لي، قال: فما بال مؤمني بني تميم ينصرون كفارهم في هذه الحرب! فأمسك عنه، وخرج بعد ذلك بأيام إلى الأهواز، فلما قتل من قتل ممن بخازر من الخوارج في أيام ابن الماحوز كره ببة القتال، وأقام حارثة بن بدر الغداني بإزاء الخوارج، يناوشهم على غير ولاية، وكان يقول: ما عذرنا عند إخواننا من أهل البصرة إن وصل إليهم الخوارج ونحن دونهم! فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير يخبرونه بقعود ببة، ويسألونه أن يولي والياً، فكتب إلى أنس بن مالك أن يصلي بالناس، فصلى بهم أربعين يوماً، وكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر فولاه البصرة. فلقيه الكتاب وهو يريد الحج، وهو في بعض الطريق، فرجع فأقام بالبصرة، وولى أخاه عثمان محاربة الأزارقة، فخرج إليهم في اثني عشر ألفاً، ولقيه حارقة فيمن كان معه، وعبيد الله بن الماحوز في الخوارج بسوق الأهواز، فلما عبروا إليهم دجيلاً نهض إليهم الخوارج، وذلك قبيل الظهر، فقال عثمان بن عبيد الله لحارثة بن بدر: أما الخوارج إلا ما أرى? فقال له حارثة: حسبك بهؤلاء! فقال: لا جرم، والله لا أتغدى حتى أناجزهم! فقال له حارثة: إن هؤلاء لا يقاتلون بالتعسف، فأبق على نفسك وجندك، فقال: أبيتم يا1 أهل العراق إلا جبنا! وأنت يا حارثة، ما علمك بالحرب? أنت والله بغير هذا أعلم! يعرض له بالشراب. فغضب حارثة، فاعتزل، وحاربهم عثمان يومه إلى أن غابت الشمس، فأجلت الحرب عنه قتيلاً، وانهزم الناس، وأخذ حارثة الراية، وصاح بالناس: أنا حراثة بن بدر، فثاب إليه قومه، فعبر بهم دجيلاً، وبلغ فل عثمان البصرة؛ وخاف الناس الخوارج خوفاً شديداً.
ـــــــ
1 ر: "أهل العراق", بحذف النداء.

وعزل ابن الزبير عمر بن عبيد الله، وولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، المعروف بالقباع، أحد بني مخزوم، وهو أخو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي الشاعر، فقدم البصرة، فكتب إليه حارثة ابن بدر يسأله الولاية والمدد، فأراد توليته1، فقال له رجل من بكر بن وائل: إن حارثة ليس بذاك، إنما هو رجل شراب2، وفيه يقول رجل من قومه3:
ألم تر أن حارثة بن بدر ... يصلي وهو أكفر من حمار
ألم تر أن للفتيان حظاً ... وحظك في البغايا والقمار
فكتب إليه القباع: تكفيني4 حربهم إن شاء الله.
فقام حارثة يدافعهم.
فقال شاعر من بني تميم يذكر عثمان بن عبيد الله بن معمر ومسلم بن عبيس وحارثة بن بدر:
مضى ابن عبيس صابراً غير عاجز ... وأعقبنا هذا الحجازي عثمان
فأرعد من قبل اللقاء ابن معمر ... وأبرق والبرق اليماني خوان
فضحت قريشاً غثها وسمينها ... وقيل بنو تيم بن مرة عزلان5
فلولا ابن بدر لعراقين لم يقم ... بما قام فيه للعراقين إنسان
إذا قيل من حام الحقيقة أومأت ... إليه معد بالأنوف وقحطان
قوله: فأرعد، زعم الأصمعي أنه خطأ، وأن الكميت أخطأ في قوله:
أرعد وأبرق يا يزيد ... فما وعيدك لي بضائر
وزعم أن هذا البيت الذي يرى لمهلهل، مصنوع محدث، وهو قوله:
ـــــــ
1 ر: "أن يولية".
2 ر: "صاحب".
3 نسبه المرصفي إلى علقمة بن عبد المازني.
4 ر: "تكفي".
5 عزلان: جمع أعزل, وهو من لا سلاح معه.

أنبضوا معجس القسي وأبرقنا كما ترعد الفحول الفحولا1
وأنه لا يقال إلا "رعد وبرق" إذا أوعد وتهدد، وهو "يرعد ويبرق" وكذا يقال: رعدت السماء وبرقت، وأرعدنا وأبرقنا، إذا دخلنا في الرعد والبرق، قال الشاعر:
فقل لأبي قابوس ماشئت فارعد
وروى غير الأصمعي "أرعد" وأبرق على ضعف.
وقوله: و"البرق اليماني خوان"، يريد والبرق اليماني يخون. وأجود النسب إلى اليمن "يمني" ويجوز "يمان" بتخفيف الياء، وهو حسن، وهو في أكثر الكلام، تكون الألف عوضاً من إحدى الياءين، ويجوز "يماني" فاعلم، تكون الألف زائدة وتشدد الياء، قال العباس بن عبد المطلب:
ضربناهم ضرب الأحامس غدوة ... بكل يماني إذا هز صمما2
ـــــــ
1 الإنباض: جذب الونر ليرن, ومعجس القوس: مقبضها, أو موضع السهم منها.
2 الأحامس: جمع أحمس, وهو الشديد الصلب في الدين والقتال.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7