الكتاب : المحاسن والأضداد
المؤلف : أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ البصري

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على رسوله ، سيدنا محمد ، وآله أجمعين .
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، رحمه الله :
إني ربما ألفت الكتاب المحكم المتقن في الدين ، والفقه ، والرسائل ، والخطب ، والخراج ، والأحكام ، وسائر فنون الحكمة ، وأنسبه إلى نفسي ، فيتواطأ على الطعن فيه جماعة من أهل العلم بالحسد المركب فيهم ، وهم يعرفون براعته ونصاحته ؛ وأكثر ما يكون هذا منهم إذا كان الكتاب مؤلفاً لملك معه المقدرة على التقديم ، والتأخير ، والحط ، والرفع ، والترهيب ، والترغيب ، فإنهم يهتاجون عند ذلك ، اهتياج الإبل المغتلمة . فإن أمكنتهم الحيلة في إسقاط ذلك الكتاب عند السيد الذي ألف له ، فهو الذي قصدوه وأرادوه ، وإن كان السيد المؤلف فيه الكتاب تحريراً نقاباً ، ونقريساً بليغاً ، وحاذقاً فطناً ، وأعجزتهم الحيلة ، سرقوا معاني ذلك الكتاب ، وألفوا من أعراضه وحواشيه كتاباً وأهدوه إلى ملك آخر ، ومتوا إليه به ، وهم قد ذموه وثلبوه لما رأوه منسوباً إلي ، وموسوماً بي . وربما ألفت الكتاب الذي هو دونه في معانيه وألفاظه ، فأترجمه باسم غيري ، وأحيله على من تقد مني عصره مثل ابن المقفع والخليل وسلم صاحب بيت الحكمة ، ويحي بن خالد ، والعتابي ، ومن أشبه هؤلاء من مؤلفي الكتب ، فيأتيني أولئك القوم بأعيانهم ، الطاعنون على الكتاب الذي كان أحكم من هذا الكتاب ، لاستنساخ هذا الكتاب وقراءته علي ، ويكتبونه بخطوطهم ، ويصيرونه إماماً يقتدون به ويتدارسونه بينهم ، ويتأدبون به ، ويستعملون ألفاظه ومعانيه في كتبهم وخطاباتهم ، ويروونه عني لغيرهم من طلاب ذلك الجنس ، فتثبت لهم به رياسة يأتم بهم قوم فيه ، لأنه لم يترجم باسمي ، ولم ينسب إلى تأليفي . وهذا كتاب وسمته بالمحاسن

والأضداد لم أسبق إلى نحلته ، ولم يسألني أحد صنعه ؛ ابتدأته بذكر محاسن الكتابة ، والكتب ، وختمته في ذكر شئ من محاسن الموت ، والله يكلؤه من حاسد إذا حسد .
محاسن الكتابة والكتب
كانت العجم تقيد مآثرها بالبنيان والمدن والحصون ، مثل بناء ازدشير وبناء اصطخر ، وبناء المدائن والسدير ، والمدن والحصون ، ثم أن العرب شاركت العجم في البنيان ، وتفردت بالكتب والأخبار ، والشعر والآثار ؛ فلها من البنيان غمدان ، وكعبة نجران ، وقصر مأرب ، وقصر مارد ، وقصر شعوب ، والأبلق الفرد وغير ذلك من البنيان ، وتصنيف الكتب أشد تقييداً للمآثر على ممر الأيام والدهور من البنيان ، لأن البناء لا محالة يدرس ، وتعفى رسومه ، والكتاب باق يقع من قرن إلى قرن ، ومن أمة إلى أمة ، فهو أبداً جديد ، والناظر فيه مستفيد ، وهو أبلغ في تحصيل المآثر من البنيان ، والتصاوير ، وكانت العجم تجعل الكتاب في الصخور ، ونقشاً في الحجارة ، وخلقة مركبة في البنيان ، فربما كان الكتاب هو الناتئ ، وربما كان هو المحفور ، إذا كان ذلك تاريخاً لأمر جسيم ، أو عهداً لأمر عظيم ، أو موعظة يرتجى نفعها ، أو أحياء شرف يريدون تخليد ذكره ، كما كتبوا على قبة غمدان وعلى باب القيروان ، وعلى باب سمرقند ، وعلى عمود مأرب ، وعلى ركن المقشعر ، وعلى الأبلق الفرد ، وعلى باب الرها ؛ يعمدون إلى المواضع المشهورة والأماكن المذكورة ، فيضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور ، وأمنعها من الدروس . وأجدر أن يراه من مر به ، ولا ينسى على وجه الدهور . ولولا الحكم المحفوظة والكتب المدونة ، لبطل أكثر العلم ، ولغلب سلطان النسيان سلطان الذكر ، ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار ، ولو لم يتم ذلك لحرمنا أكثر النفع ، ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها ، وخلدت من عجيب حكمتها ، ودونت من أنواع سيرها ، حتى شاهدنا بها ما غاب عنا ، فتحنا بها كل مستغلق ، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم ، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم ، لقد بخس حظنا منه ، وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر ، والعلماء بمخارج الملل وأرباب النحل ، وورثة الأنبياء وأعوان الخلفاء ، يكتبون كتب الظرفاء والصلحاء ، وكتب الملاهي ، وكتب أعوان الصلحاء ، وكتب أصحاب المراء

والخصومات ، وكتب السخفاء وحمية الجاهلية ، ومنهم من يفرط في العلم أيام خموله وترك ذكره وحداثة سنه ، ولولا جياد الكتب وحسانها لما تحركت همم هؤلاء لطلب العلم ، ونازعت إلى حب الكتب وألفت من حال الجهل وإن يكونوا في غمار الوحش ، ولدخل عليهم من الضرر والمشقة وسوء الحال ما عسى أن يكون لا يمكن الإخبار عن مقداره إلا بالكلام الكثير . وسمعت محمد بن الجهم يقول : إذا غشيني النعاس في غير وقت النوم تناولت كتاباً فأجد اهتزازي للفوائد الأريحية التي تعتريني من سرور الإستنباه وعز التبين ، أشد إيقاظاً من نهيق الحمار ، وهدة الهدم ، فإني إذا استحسنت كتاباً واستجدته ورجوت فائدته ، لم أوثر عليه عوضاً ، ولم أبغ به بدلاً ، فلا أزال أنظر فيه ساعة بعد ساعة ، كم بقي من ورقة مخافة استنفاده ، وانقطاع المادة من قبله . وقال ابن داحة : كان عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب لا يجالس الناس فنزل مقبرة من المقابر وكان لا يزال في يده كتاب يقرؤه ، فسئل عن ذلك فقال : لم أر أوعظ من قبر ولا آنس من كتاب ، ولا أسلم من الوحدة . وأهدى بعض الكتاب إلى صديق له دفتراً وكتب معه : هديتي هذه ، أعزك الله ، تزكو على الإنفاق ، وتربو على الكد ، لا تفسدها العواري ، ولا تخلقها كثرة التقليب ، وهي إنس في الليل والنهار والسفر والحضر تصلح للدنيا والآخرة تؤنس في الخلوة وتمنع من الوحدة ، مسامر مساعد ، ومحدث مطواع ، ونديم صدق . وقال بعض الحكماء : الكتب بساتين العلماء ، وقال آخر : ذهبت المكارم إلا من الكتب . قال الجاحظ : وأنا أحفظ وأقول : الكتاب نعم الذخر والعقدة ، والجليس والعمدة ، ونعم النشرة ونعم النزهة ، ونعم المشتغل والحرفة ، ونعم الأنيس ساعة الوحدة ، ونعم المعرفة ببلاد الغربة ، ونعم القرين والدخيل والزميل ، ونعم الوزير والنزيل . والكتاب وعاء ملئ علماً ، وظرف حشي ظرفاً ، وإناء شحن مزاحاً ، إن شئت كان أعيا من باقل ، وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل ، وإن شئت سرتك نوادره ، وشجتك مواعظه ، ومن لك بواعظ مله ، وبناسك فاتك ، وناطق أخرس ؛ ومن لك بطبيب أعرابي ، ورومي هندي ، وفارسي يوناني ، ونديم مولد ، ونجيب ممتع ؛ ومن لك بشيء يجمع الأول والآخر ، والناقص والوافر ،

والشاهد والغائب ، والرفيع والوضيع ، والغث والسمين ، والشكل وخلافه ، والجنس وضده ؛ وبعد فما رأيت بستاناً يحمل في ردن ، وروضة تنقل في حجر ، ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء ، ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك ولا ينطق إلا بما تهوى ، آمن من الأرض وأكتم للسر من صاحب السر ، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة ؛ ولا أعلم جاراً آمن ، ولا خليطاً أنصف ، ولا رفيقاً أطوع ، ولا معلماً أخضع ، ولا صاحباً أظهر كفاية وعناية ، ولا أقل أملاكاً ولا إبراما ، ولا أبعد من مراء ، ولا أترك لشغب ، ولا أزهد في جدال ، ولا أكف في قتال من كتاب ، ولا أعم بياناً ، ولا أحسن مؤاتاةً ، ولا عجل مكافأةً ، ولا شجرة أطول عمراً ، ولا أطيب ثمراً ، ولا أقرب مجتنى ، ولا أسرع إدراكاً ، ولا أوجد في كل إبان من كتاب . ولا أعلم نتاجاً في حداثة سنه ، وقرب ميلاده ، ورخص ثمنه وإمكان وجوده ، يجمع من السير العجيبة ، والعلوم الغريبة ، وآثار العقول الصحيحة ومحمود الأذهان اللطيفة ، ومن الحكم الرفيعة ، والمذاهب القديمة ، والتجارب الحكيمة والأخبار عن القرون الماضية ، والبلاد النازحة ، والأمثال السائرة والأمم البائدة ما يجمعه كتاب ، ومن لك بزائر إن شئت كانت زيارته غباً وورده خمساً ، وإن شئت لزمك لزوم ظلك ، وكان منك كبعضك . والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك ، والصديق الذي لا يستبطئك ، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق ، ولا يعاملك بالمكر ، ولا يخدعك بالنفاق . والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك ، وشحذ طباعك ، وبسط لسانك ، وجود بيانك ، وفخم ألفاظك ، وبجح نفسك ، وعمر صدرك ، ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك ، يطيعك بالليل طاعته بالنهار ، وفي السفر طاعته في الحضر ، وهو المعلم إن افتقرت إليه لا يحقرك ، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة ، وإن عزلت لم يدع طاعتك ، وإن هبت ريح أعدائك لم ينقلب عليك ، ومتى كنت متعلقاً منه بأدنى حبل لم تضطرك معه وحشة الوحدة إلى جليس السوء ، وإن أمثل ما يقطع به الفراغ نهارهم وأصحاب الكفايات ساعات ليلهم ، نظر في كتاب لا يزال لهم فيه ازدياد في تجربة ، وعقل ومروءة وصون عرض وإصلاح دين ، وتثمير مال ، ورب صنيعة ، وابتداء إنعام . ولو لم يكن من فضله عليك ، وإحسانه إليك ، إلا منعه لك من الجلوس

على بابك ، والنظر إلى المارة بك مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم ، ومن فضول النظر وملابسة صغار الناس ، ومن حضور ألفاظهم الساقطة ، ومعانيهم الفاسدة ، وأخلاقهم الردية ، وجهالتهم المذمومة ، لكان في ذلك إلا أنه يشغلك عن سخف المنى ، واعتياد الراحة ، وعن اللعب ، وكل ما تشتهيه ، لقد كان له في ذلك على صاحبه اسبغ النعم ، وأعظم المنة . وجملة الكتاب وإن كثر ورقه ، فليس مما يمل لأنه وإن كان كتاباً واحداً ، فإنه كتب كثيرة في خطابه ، والعلم بالشريعة والأحكام ، والمعرفة بالسياسة والتدبير ، وقال مصعب بن الزبير : إن الناس يتحدثون بأحسن ما يحفظون ، ويحفظون أحسن ما يكتبون ، ويكتبون أحسن ما يسمعون ، فإذا أخذت الأدب فخذه من أفواه الرجال ، فإنك لا ترى ولا تسمع إلا مختاراً ولؤلؤاً منظوماً . وقال لقمان لابنه : يا بني نافس في طلب العلم ، فإنه ميراث غير مسلوب ، وقرين غير مرغوب ، ونفيس حظ من الناس وفي الناس مطلوب ، وقال الزهري : الأدب ذكر لا يحبه إلا الذكور من الرجال ولا يبغضه إلا مؤنثهم . وقال إذا سمعت أدباً فاكتبه ولو في حائط ، وقال منصور بن المهدي للمأمون : أيحسن بنا طلب العلم والأدب ؟ قال : والله لأن أموت طالباً للأدب خير لي أن أعيش قانعاً بالجهل . قال : فإلى متى يحسن بي ذلك ؟ قال : ما حسنت الحياة بك . مساوئ اللحن في اللغة و
ضده
الحديث المرفوع : رحم الله عبداً أصلح من لسانه . وكان الوليد بن عبد الملك لحنة فدخل عليه إعرابي يوماً فقال : أنصفني من ختني يا أمير المؤمنين ، فقال : ومن ختنك ؟ قال : رجل من الحي لا أعرف اسمه ، فقال عمر بن عبد العزيز : إن أمير المؤمنين يقول لك من ختنك ؟ فقال : هو ذا بالباب . فقال الوليد لعمر : ما هذا ؟ قال : النحو الذي كنت أخبرتك عنه ، قال : لا جرم فإني لا أصلي بالناس حتى أتعلمه . قال : وسمع أعرابي مؤذناً يقول : أشهد أن محمداً رسول الله فقال : يفعل ماذا ؟ قال : وقال رجل لزياد : أيهما الأمير ؟ إن أبينا ملك ، وإن أخينا غصبنا على ميراثنا من أبانا . فقال زياد : ما ضيعت من نفسك أكثر مما

ضاع من ميراث أبيك ، فلا رحم الله أباك حيث ترك ابناً مثلك . وقال مولى لزياد : أيها الأمير احذوا لنا همار وهش ، فقال : ما تقول ؟ فقال : احذوا لنا إيراً ، فقال زياد : الأول خير من الثاني . قال واختصم رجلان إلى عمر بن عبد العزيز فجعلا يلحنان : فقال الحاجب : قمنا فقد أوذيتما أمير المؤمنين ، فقال عمر للحاجب : أنت والله أشد إذاء منهما ؛ قال : وقال بشر المريسي ، وكان كثير اللحن : قضى لكم الأمير على أحسن الوجوه وأهنؤها ، فقال القاسم التمار : هذا على قوله : إن سليمى والله يكلؤها . . . ضنت بشيء ما كان يرزؤها مكان احتجاج القاسم أطيب من لحن بشر . قال : وكان زياد النبطي شديد اللكنة ، وكان نحوياً ، فدعا غلامه ثلاثاً ، فلما أجابه قال : من لدن دأوتك إلى أن ديتني ما كنت تصنأ ، يريد دعوتك وجئتني وتصنع ، ومر ماسرجويه الطبيب بمعاذ بن مسلم فقال : يا ماسرجويه : إني لأجد في حلقي بحجاً . قال : هو من عمل بلغم . فلما جاوزه قال : تراني لا أحسن أن أقول بلغم ولكنه قال بالعربية ، فأجبته بضدها .
محاسن المخاطبات
حكوا عن ابن القرية ، إنه دخل على عبد الملك بن مروان ، فبينا هو عنده إذ دخل بنو عبد الملك عليه فقال : من هؤلاء الفتية يا أمير المؤمنين ؟ قال : ولد أمير المؤمنين ، قال : بارك الله لك فيهم كما بارك لأبيك فيك ، وبارك لهم فيك كما بارك لك في أبيك ، قال : فشحن فاه دراً . قال : وقال عمارة بن حمزة لأبي العباس ، وقد أمر له بجوهر نفيس : وصلك الله يا أمير المؤمنين وبرك ، فو الله لئن أردنا شكرك على إنعامك ليقصرن كما قصر الله بنا عن منزلتك . قيل ودخل إسحاق بن إبراهيم الموصلي على الرشيد فقال : مالك ؟ قال : سوامي سوام المكثرين تجملاً . . . ومالي كما قد تعلمين قليل وآمرة بالبخل قلت لها اقصري . . . فذلك شئ ما إليه سبيل

وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى . . . ورأي أمير المؤمنين جميل أرى الناس خلان الجواد ، ولا أرى . . . بخيلاً له في العالمين خليل فقال الرشيد : هذا والله الشعر الذي صحت معانيه ، وقويت أركانه ومبانيه ، ولذ على أفواه القائلين وأسماع السامعين . يا غلام احمل إليه خمسين ألف درهم ، قال إسحاق : يا أمير المؤمنين كيف أقبل صلتك ، وقد مدحت شعري بأكثر مما مدحتك به ؟ قال الأصمعي : فعلمت أنه أصيد للدراهم مني . قال : ودخل المأمون ، ذات يوم الديوان ، فنظر إلى غلام جميل ، على أذنه قلم ، فقال : من أنت ؟ قال : أنا الناشئ في دولتك ، المتقلب في نعمتك ، المؤمل لخدمتك ، الحسن ابن رجاء ، فقال المأمون : بالإحسان في البديهة تتفاضل العقول ، يرفع عن مرتبة الديوان إلى مراتب الخاصة ، ويعطي مائة ألف درهم تقوية له . قال : ووصف يحيى بن خالد الفضل بن سهل ، وهو غلام على المجوسية للرشيد ، وذكر أدبه ، وحسن معرفته ، فعمل على ضمه إلى المأمون ، فقال ليحيى يوماً : ادخل إلى هذا الغلام المجوسي ، حتى أنظر إليه فأوصله ، فلما مثل بين يديه ووقف ، تحير ، فأراد الكلام فارتج عليه ، فأدركته كبوة ، فنظر الرشيد إلى يحيى نظرة منكرة لما كان تقدم من تقريضه إياه ، فانبعث الفضل بن سهل فقال : يا أمير المؤمنين إن من أبين الدلائل على فراهة الملوك شدة إفراط هيبته لسيده ، فقال له الرشيد : أحسنت والله لئن كان سكوتك لتقول هذا إنه لحسن ، ولئن كان شيئاً أدركك عند انقطاعك ، إنه لأحسن وأحسن ، ثم جعل لا يسأله عن شئ إلا رآه فيه مقدماً ، فضمه إلى المأمون . قال : وقال الفضل بن سهل للمأمون ، وقد سأله حاجة لبعض أهل بيوتات دهاقين سمرقند كان وعده تعجيل إنفاذها فتأخر ذلك : هب لوعدك مذكراً من نفسك وهنئ سائلك حلاوة نعمتك ، واجعل ميلك إلى ذلك في الكرم حثاً على اصطفاء شكر الطالبين ، تشهد لك القلوب بحقائق الكرم ، والألسن بنهاية الجود ، فقال : قد جعلت إليك إجابة سؤالي عني بما ترى فيهم ، وآخذك في التقصير فيما يلزم لهم من غير استثمار أو معاودة في إخراج الصكاك من أحضر الأموال متناولاً ، قال : إذن ، لا تجدي معرفتي بما يجب لأمير المؤمنين الهناء به بما يديم له منهم حسن الثناء ، ويستمد

بدعائهم طول البقاء . وقال الفضل بن سهل للمأمون : يا أمير المؤمنين اجعل نعمتك صائنة لوجوه خدمك عن إراقة مائها في غضاضة السؤال ، فقال : والله لا كان ذلك إلا كذلك . قال ودخل العتابي على المأمون . فقال : خبرت بوفاتك فغمتني ، ثم جاءتني وفادتك فسرتني ، فقال : يا أمير المؤمنين كيف أمدحك ، أم بماذا أصفك ، ولا دين إلا بك ، ولا دنيا إلا معك ؟ قال : سلني ما بدا لك ؟ قال : يداك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة . قال : وقدم السعدي أبو وجزة على المهلب بن أبي صفرة ، فقال : أصلح الله الأمير . إني قد قطعت إليك الدهناء ، وضربت إليك آباط الإبل من يثرب . قال فهل أتيتنا بوسيلة أو عشرة أو قرابة ؟ ، قال : لا ولكني رأيتك لحاجتي أهلاً ، فإن قمت بها ، فأهل ذلك ، وإن يحل دونها حائل ، لم أذمم يومك ، ولم أيأس من غدك . فقال المهلب : يعطي ما في بيت المال . فوجد مائة ألف درهم ، فدفعت إليه ، فأخذها وقال : يا من على الجود صاغ الله راحته . . . فليس غير البذل والجود عمت عطاياك من بالشرق قاطبةً . . . فأنت والجود منحوتان من عود وقد يجب على العاقل الراغب في الأدب أن يحفظ هذه المخاطبات ، ويدمن قراءتها ، وقد قال الأصمعي : أما لو أعي كل ما أسمع . . . وأحفظ من ذاك ما أجمع ولم أستفد غير ما قد جمعت . . . لقيل : أنا العالم المقنع ولكن نفسي إلى كل شئ . . . من العلم تسمعه ، تنزع ، فلا أنا أحفظ ما قد جمعت . . . ولا أنا من جمعه أشبع وأقعد للجهل في مجلس . . . وعلمي في الكتب مستودع ومن يك في علمه هكذا . . . يكن دهره القهقرى يرجع يضيع من المال ما قد جمعت . . . وعلمك في الكتب مستودع إذا لم تكن حافظاً واعياً . . . فجمعك للكتب ما ينفع

وقال بعضهم : الحفظ مع الإقلال أمكن ، وهو مع الإكثار أبعد . وتغيير الطبائع زمن رطوبة الغصن أقبل . وفيها قال الشاعر : أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى . . . فصادف قلباً خالياً فتمكنا وقيل : العلم في الصغر كالنقش في الحجر ، والعلم في الكبر كالعلامة على المدر . . فسمع ذلك ، الأحنف ، فقال : الكبير أكثر عقلاً ولكنه أكثر شغلاً ، كما قال : وإن من أدبته في الصبا . . . كالعود يسقى الماء في غرسه حتى تراه مورقاً ناضراً . . . بعد الذي أبصرت من يبسه والصبي عن الصبي أفهم ، وهو له آلف ، وإليه أنزع ؛ وكذلك العالم عن العالم ، والجاهل عن الجاهل . وقال الله تعالى : ' ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً ' ، لأن الإنسان عن الإنسان أفهم ، وطباعه بطباعه آنس .
ضده
قال : دخل أبو علقمة النحوي على أعين الطبيب ، فقال : إني أكلت من لحوم الجوازئ ، وطسئت طسأة ، فأصابني وجع بين الوابلة إلى دأية العنق ؛ فلم يزل يربو وينمو حتى خالط الشراسيف ؛ فهل عندك دواء ؟ قال : نعم . خذ خوفقاً وسربقاً ورقرقاً ، فاغسله واشربه بماء . فقال : لا أدري ما تقول ، قال : ولا أنا دريت ما قلت . قال : وقال يوماً آخر : إني أجد معمعة في قلبي ، وقرقرة في صدري ، فقال له : أما المعمعة فلا أعرفها ، وأما القرقرة فهي ضراط غير نضيج . قال : وأتى رجل الهيثم بن العريان ، بغريم له قد مطله حقه ، فقال : أصلح الله الأمير إن لي على هذا حقاً قد غلبني عليه . فقال له الآخر : أصلحك الله . إن هذا باعني عنجداً ، واستنسأته حولاً ، وشرطت عليه أن أعطيه مياومة ؛ فهو لا يلقاني في لقم إلا اقتضاني ذهباً . فقال له الهيثم : أمن بني أمية أنت ؟ قال : لا . قال : أفمن بني هاشم أنت ؟ قال : لا . قال : أفمن أكفائهم من العرب ؟ قال : لا . قال : ويلي عليك انزعوا ثيابه . فلما أرادوا أن ينزعوا ثيابه قال : أصلحك الله ، إن إزاري مرعبل . قال : دعوه ، فلو ترك الغريب في موضع لتركه في هذا

الموضع . قال : ومر أبو علقمة ببعض الطرق ، فهاجت به مرة ، فوثب عليه قوم ، فجعلوا يعصرون إبهامه ، ثم يؤذنون في أذنه . فأفلت من أيديهم ، فقال : ما بالكم تتكأ كأون علي تكأكؤكم على ذي جنة ؟ افرنقعوا عني . فقال رجل منهم : دعوه ، فإن شيطانه يتكلم بالهندية . قال : وقال لحجام يحجمه : اشدد قصب الملازم ، وأرهف ظبة المشارط ، وخفف الوضع ، وعجل النزع ، وليكن شرطك وخزاً ، ومصك نهزاً ، ولا تكرهن أبياً ، ولا تردن أتياً ، فوضع الحجام محاجمه في جونته ، وانصرف .
محاسن المكاتبات
قال كعب العبسي لعروة بن الزبير : قد أذنبت ذنباً إلى الوليد بن عبد الملك ، وليس يزيل غضبه شئ ، فاكتب لي إليه ، فكتب إليه : لو لم يكن لكعب من قديم حرمته ما يغفر له عظيم جريرته ، لوجب أن لا تحرمه التفيؤ بظل عفوك الذي تأمله القلوب ، ولا تعلق به الذنوب . وقد استشفع بي إليك ، فوثقت له منك بعفو لا يخالطه سخط . فحقق أمله ، وصدق ثقتي بك ، تجد الشكر وافياً بالنعمة . فكتب إليه الوليد : قد شكرت رغبته إليك ، وعفوت عنه لمعوله عليك ، وله عندي ما يحب ، فلا تقطع كتبك عني في أمثاله وفي سائر أمورك . وكتب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر إلى بعض إخوانه : أما بعد ، فقد عاعقني الشك عن عزيمة الرأي ، ابتدأتني بلطف من غير خبرة ، ثم أعقبتني جفاء من غير ذنب . فأطمعني أولك في إحسانك ، وأيأسني آخرك من وفاتك . فلا أنا في غير الرجاء مجمع لك اطراحاً ، ولا في غد انتظره منك على ثقة . فسبحان من لو شاء كشف إيضاح الرأي فيك ، فأقمنا على ائتلاف أو افترقنا على اختلاف . قال : وسخط مسلمة بن عبد الملك على العريان بن الهيثم ، فعزله عن شرطة الكوفة ، فشكا ذلك إلى عمر بن عبد العزيز ، فكتب إليه : إن من حفظ أنعم الله ، رعاية ذوي الإحسان ؛ ومن إظهار شكر الموهوب ، صفح القادر عن الذنب ، ومن تمام السؤدد حفظ الودائع ، واستتمام الصنائع . وقد كنت أودعت العريان نعمة من أنعمك ، فسلبتها عجلة سخطك ، وأنصفته عصبته ، على أن

وليته ثم عزلته وخليته ، وأنا شفيعه ؛ فأحب أن تجعل له من قلبك نصيبه ، ولا تخرجه من حسن رأيك ، فتضيع ما أودعته وتتوى ما أفسدته . فعفا عنه ، ورده إلى عمله . قال : وغضب سليمان بن عبد الملك على ابن عبيد مولاه ، فشكا إلى سعيد بن المسيب ذلك ، فكتب إليه : أما بعد ، فإن أمير المؤمنين في الموضع الذي يرتفع قدره عما تقتضيه رعيته ، وفي عفو أمير المؤمنين سعة للمسيئين ، فرضي عنه . قال : وطلب العتابي من رجل حاجة ، فقضى له بعضها ، ومطله ببعض . فكتب إليه : أما بعد ، فقد تركتني منتظراً لوعدك ، منتجزاً لرفدك . وصاحب الحاجة محتاج إلى نعم هنيئة . أو لا ، مريحة ؛ والعذر الجميل أحسن من المطل الطويل . وقد قلت بيتي شعر : بسطت لساني ثم أوثقت نصفه . . . فنصف لساني بامتداحك مطلق فإن أنت لم تنجز عداتي تركتني . . . وباقي لسان الشكر بالناس موثق قال : وكتب عمرو بن مسعدة إلى المأمون في رجل من بني ضبة ، يستشفع له بالزيادة في منزلته ، وجعل كتابه تعريضاً : أما بعد ، فقد استشفع بي فلان ، يا أمير المؤمنين ، لتطولك علي ، في إلحاقه بنظرائه من الخاصة فيما يرتزقون به ؛ وأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين ، وفي ابتدائه بذلك تعدي طاعته . والسلام . فكتب إليه المأمون : قد عرفنا تصريحك له ، وتعريضك لنفسك ، وأجبناك إليهما ، ووقفناك عليهما . قال : وكتب عمرو بن مسعدة إلى المأمون كتاباً يستعطفه على الجند : كتابي إلى أمير المؤمنين ، ومن قبلي من أجناده وقواده في الطاعة والانقياد على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم ، واختلت أحوالهم ، فقال المأمون : والله لأقضين حق هذا الكلام ، وأمر بإعطائهم لثمانية أشهر . قال : وقدم رجل من أبناء دهاقين قريش على المأمون لعدة سلفت منه ، فطال على الرجل انتظار خروج أمر المأمون ، فقال لعمرو بن مسعدة : توسل في رقعة مني إلى أمير المؤمنين تكون أنت الذي تكتبها ، تكن لك علي نعمتان . فكتب : إن رأى أمير المؤمنين أن يفك أسر عبده من ربقة المطل بقضاء حاجته ، ويأذن له في

الانصراف إلى بلده ، فعل إن شاء الله . فلما قرأ المأمون الرقعة ، دعا عمراً ، فجعل يعجبه من حسن لفظها ، وإيجاز المراد ، فقال عمرو : فما نتيجتها يا أمير المؤمنين ؟ قال : الكتاب له في هذا الوقت بما وعدناه ، لئلا يتأخر فضل استحساننا كلامه ، وبجائزة مائة ألف درهم ، صلة عن دناءة المطل وسماجة الأغفال ، ففعل ذلك له . وحدثنا إسماعيل بن أبي شاكر ، قال : لما أصاب أهل مكة السيل الذي شارف الحجر ، ومات تحته خلق كثير ، كتب عبيد الله بن الحسن العلوي ، وهو والي الحرمين إلى المأمون : إن أهل حرم الله ، وجيران بيته ، وآلاف مسجده وعمرة بلاده ، قد استجاروا بعز معروفك من سيل تراكمت أخرياته في هدم البنيان ، وقتل الرجال والنسوان ، واجتياح الأصول ، وجرف الأبقال ، حتى ما ترك طارفاً ولا تالداً للراجع إليهما في مطعم ، ولا ملبس . فقد شغلهم طلب الغذاء عن الاستراحة إلى البكاء على الأمهات والأولاد والآباء والأجداد ، فأجرهم يا أمير المؤمنين بعطفك عليهم ، وإحسانك إليهم تجد الله مكافئك عنهم ، ومثيبك عز الشكر منهم . قال : فوجه إليهم المأمون بالأموال الكثيرة ، وكتب إلى عبيد الله : أما بعد فقد وصلت شكيتك لأهل حرم الله أمير المؤمنين ، فبكاهم بقلب رحمته ، وأنجدهم بسبب نعمته ، وهو متبع ما أسلف إليهم بما يخلفه عليهم عاجلاً وآجلاً ، إن أذن الله تثبيت عزمه على صحة نيته ؛ قال : فصار كتابه هذا آنس لأهل مكة من الأموال التي أنفذها إليهم . قال : وكتب جعفر بن محمد بن الأشعث إلى يحيى بن خالد يستعفيه من العمل : شكري لك على ما أريد الخروج منه شكر من سأل الدخول فيه ، قال وكتب علي بن هشام إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي : ما أدري كيف أصنع ؟ أغيب فأشتاق ، وألتقي ولا أشتفي ، ثم يحدث لي اللقاء الذي طلبت منه الشفاء ، نوعاً من الحرقة للوعة الفرقة . قال : وكتب معقل إلى أبي دلف : فلان جميل الحال عند الكرام ، فإن أنت لم ترتبط بفضلك عليه ، فعل غيرك . وكتب أبو هاشم الحربي إلى بعض الأمراء : غرضي من الأمير معوز ، والصبر على الحرمان معجز . وكتب آخر إلى صديق له : أما بعد فقد أصبح لنا من فضل الله ما لا نحصيه ، مع كثرة ما نعصيه ، وما ندري ما نشكر : أجميل ما نشر ، أم كثير ما ستر ، أم عظيم ما أبلى ، أم كثير ما عفا ؟ غير أنه يلزمنا في كل الأمور شكره ويجب علينا حمده فاستزد الله في حسن بلائه كشكرك على حسن آلائه

ضده
قال الجاحظ : كتب ابن المراكبي إلى بعض ملوك بغداد : جعلت فداك ، برحمته . قال : وقرأت على عنوان كتاب لأبي الحسن الشمري : للموت لنا قبلة ، وقرأت أيضاً على عنوان كتاب : إلى الذي كتب إلي .
محاسن الجواب
قال : دخل رجل على كسرى أبرويز ، فشكا إليه عاملاً غصبه على ضيعة له ، فقال له كسرى : منذ كم هي في يدك ؟ قال : منذ أربعين سنة ، قال : فأنت تأكلها أربعين سنة ما عليك أن يأكل عاملي منها سنة واحدة ؟ فقال : وما كان على الملك أن يأكل بهرام جور الملك سنة واحدة ؟ فقال : ادفعوا في قفاه فأخرجوه ، فلما خرج أمكنته التفاتة ، فقال : دخلت بمظلمة وخرجت بثنتين . فقال كسرى : ردوه ، وأمر برد ضيعته ، وصيره في خاصته . ويقال : إن سعيد بن مرة الكندي ، حين أتى معاوية قال له : أنت سعيد ، قال : أمير المؤمنين سعيد ، وأنا ابن مرة . قال : ودخل السيد بن أنس الأزدي على المأمون ، فقال : أنت السيد ؟ فقال : أنت السيد يا أمير المؤمنين ، وأنا ابن أنس . قال : وقيل للعباس بن عبد المطلب : أنت أكير أم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ قال : هو عليه الصلاة والسلام أكبر مني ، وأنا ولدت قبله . قال : وقال الحجاج للمهلب : أنا أطول أم أنت ؟ قال الأمير أطول وأنا أبسط قامة منه . قيل : ووقف المهدي على امرأة من بني ثعل فقال لها : ممن العجوز ؟ قالت : من طئ ؟ قال : ما منع طيئاً أن يكون فيها آخر مثل حاتم . قالت : الذي منع العرب أن يكون فيها آخر مثلك ، وأعجب بقولها ووصلها . قيل : ولما استوثق أمر العراق لعبد الله بن الزبير ، وجه مصعب إليه وفداً ، فلما قدموا عليه ، قال لهم : وددت أن لي بكل خمسة منكم رجلاً من أهل الشام ، فقال رجل من أهل العراق : يا أمير المؤمنين علقناك ، وعلقت بأهل الشام ، وعلق أهل الشام بآل مروان ، فما أعرف لنا مثلاً إلا قول الأعشى :

علقتها عرضاً وعلقت رجلاً . . . غيري وعلق أخرى غيرها الرجل فما وجدنا جواباً أحسن من هذا . قال : وقال مسلمة بن عبد الملك : ما شيء يؤتى العبد بعد الإيمان بالله تعالى ، أحب إلي من جواب حاضر ، فإن الجواب إذا انعقب لم يكن شيئاً . مساوئ الجواب قال : اجتمع عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهثم ، فذكر عمرو الزبرقان قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، إنه إطعام جواد الكف ، مطاع في أدانيه ، شديد العارضة ، مانع لما وراء ظهره . فقال الزبرقان : بأبي أنت وأمي يا رسول الله إنه ليعرف مني أكثر من هذا ، ولكنه يحسدني . فقال عمرو : والله يا نبي الله ، إن هذا لزمر المروءة ، ضيق العطن ، لئيم العم ، أحمق الخال ، فرأى الكراهية في وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما اختلف قوله ، فقال : يا رسول الله ما كذبت في الأولى ، ولقد صدقت في الأخرى ، ولكني رضيت فقلت أحسن ما علمت ، وسخطت فقلت أسوأ ما أعلم . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إن من البيان لسحراً ، وإن من الشعر لحكما . وذكروا إن الوليد بن عقبة قال لعقيل بن أبي طالب : علبك على الثروة والعدد . قال : وسبقني وإياك إلى الجنة . قال الوليد : أما والله إن شدقيك لمتضمخان من دم عثمان . قال عقيل : ما لك ولقريش ؟ وإنما أنت فيهم كمنيح الميسر . فقال الوليد : والله إني لأرى لو أن أهل الأرض اشتركوا في قتله لوردوا صعوداً ، فقال له عقيل : كلا ، أما ترغب عن صحبة أبيك ؟ قال : وقال رجل من قريش لخالد بن صفوان : ما اسمك ؟ قال : خالد بن صفوان ابن الأهتم ، قال : إن اسمك لكذب ما أنت بخالد ، وإن أباك لصفوان وهو حجر ، وإن جدك لأهتم والصحيح خير من الأهتم ، قال له خالد : من أي قريش أنت ؟ قال : من عبد الدار بن قصي بن كلاب ، قال : لقد هشمتك هاشم ، وأمتك أمية ، وجمحت لك جمح ، وخزمتك مخزوم ، وأقصتك قصي ، فجعلتك عبد دارها ، تفتح إذا دخلوا ، وتغلق إذا خرجوا . قيل : ومر الفرزدق فرأى خليفة الشاعر فقال له : يا أبا فراس من القائل :

هو القين وابن القين لا قين مثله . . . لفطح المساحي ، أو لجدل الأداهم قال الفرزدق : الذي يقول : هو اللص وابن اللص لا لص مثله . . . لنقب جدار أو لطر الدراهم
محاسن حفظ اللسان
قال أكثم بن صيفي : مقتل الرجل بين فكيه - يعني لسانه - وقال : رب قول أشد من صول ، وقال : لكل ساقطة لا قطة . وقال المهلب لبنيه : اتقوا زلة اللسان فإني وجدت الرجل تعثر قدمه فيقوم من عثرته ، ويزل لسانه فيكون فيه هلاكه . قال يونس بن عبيد : ليست خلة من خلال الخير تكون في الرجل هي أحرى أن تكون جامعة لأنواع الخير كلها من حفظ اللسان . وقال قسامة بن زهير : يا معشر الناس ، إن كلامكم أكثر من صمتكم ، فاستعينوا على الكلام بالصمت ، وعلى الصواب بالفكر . وكان يقال : ينبغي للعاقل أن يحفظ لسانه كما يحفظ موضع قدمه ، ومن لم يحفظ لسانه فقد سلطه على هلاكه . وقال الشاعر : عليك حفظ اللسان مجتهداً . . . فإن جل الهلاك في زلله وقال غيره : وجرح السيف تأسوه فيبرا . . . وجرح الدهر ما جرح اللسان جرحات الطعان لها التئام . . . ولا يلتام ما جرح اللسان وقال غيره : احفظ لسانك لا تقول فتبتلي . . . إن البلاء موكل بالمنطق وقال غيره : لعمرك ما شئ علمت مكانه . . . أحق بسجن من لسان مذلل

على فيك مما ليس يعنيك قوله . . . بقفل شديد حيث ما كنت فاقفل قيل : تكلم أربعة من الملوك بأربع كلمات كأنما رميت عن قوس واحد : قال كسرى : أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت ، وقال ملك الهند : إذا تكلمت بكلمة ملكتني ، وإن كنت أملكها ، وقال قيصر : لا أندم على ما لم أقل ، وقد ندمت على ما قلت ، وقال ملك الصين : عاقبة ما قد جرى به القول أشد من الندم على ترك القول . وقال بعضهم : من حصافة الإنسان أن يكون الاستماع أحب إليه من النطق ، إذا وجد من يكفيه ، فإنه لن يعدم الصمت . والاستماع سلامة ، وزيادة في العلم ، وقال بعض الحكماء : من قدر على أن يقول فيحسن ، فإنه قادر على أن يصمت فيحسن . وقال بعضهم : كان ابن عبيدة الريحاني المتكلم الفصيح صاحب التصانيف يقول : الصمت أمان من تحريف اللفظ ، وعصمة من زيغ المنطق ، وسلامة من فضول القول . وقال أبو عبيد الله كاتب المهدي : كن على التماس الحظ بالسكوت أحرص منك على التماسه بالكلام . وكان يقال : من سكت فسلم كان كمن قال فغنم . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إن الله تعالى يكره الإنبعاق في الكلام . يرحم الله امرأ أوجز كلامه ، واقتصر على حاجته . قيل : وكلم رجل سقراط عند قتله بكلام أطاله ، فقال : أنساني أول كلامك طول عهده ، وفارق آخره فهمي لتفاوته . ولما قدم ليقتل بكت امرأته فقال لها : ما يبكيك ؟ قالت : تقتل ظلماً قال : وكنت تحبين أن أقتل حقاً أو أقتل ظلماً . وشتم رجل المهلب ، فلم يجبه ، فقيل له : حلمت عنه ، فقال : ما أعرف مساويه ، وكرهت أن أبهته بما ليس فيه . وقال سلمة بن القاسم عن الزبير قال : حملت إلى المتوكل وأدخلت عليه فقال : يا أبا عبد الله الزم أبا عبد الله - يعني المعتز - حتى تعلمه من فقه المدنيين ، فأدخلت حجرة ، فإذا أنا بالمعتز قد أتى ، في رجله نعل من ذهب ، وقد عثر به ، فسال دمه ، فجعل يغسل الدم ، ويقول : يصاب الفتى من عثرة بلسانه . . . وليس يصاب المرء من عثرة الرجل فعثرته من فيه ترمي برأسه . . . وعثرته بالرجل تبرا على مهل

فقلت في نفسي : ضممت إلى من أريد أن أتعلم منه .
ضده
سئل بعض الحكماء عن المنطق فقال : إنك تمدح الصمت بالمنطق ولا تمدح المنطق بالصمت ، وما عبر به عن شئ فهو أفضل منه . وسئل آخر عنهما فقال : أخزى الله المساكتة ما أفسدها للسان ، وأجلبها للعي ، ووالله للمهاراة في استخراج حق أهدم للعي من النار في يابس العرفج . فقيل له : قد عرفت ما في المماراة من الذم . فقال : ما فيها أقل ضرراً من السكتة التي تورث عللاً ، وتولد داء أيسره العي . وقال بعض الحكماء : اللسان عضو فإن مرنته مرن ، وإن تركته حرن ، وممن أفرط في قوله فاستقيل بالحلم ، ما حكي عن شهرام المروزي ، فإنه جرى بينه وبين أبي مسلم صاحب الدولة كلام ، فما زال أبو مسلم يحاوره إلى أن قال له شهرام : يا لقطة . فصمت أبو مسلم ، وندم شهرام على ما سبق به لسانه ، وأقبل معتذراً خاضعاً ومتنصلاً ؛ فلما رأى ذلك أبو مسلم ، قال : لسان سبق ، ووهم أخطأ ، وإنما الغضب شيطان ، والذنب لي ، لأني جرأتك على نفسي بطول احتمالي منك ، فإن كنت معتمداً للذنب فقد شركتك فيه ، وإن كنت مغلوباً فالعذر يسعك ، وقد غفرنا لك على كل حال . قال شهرام : أيها الملك عفو مثلك لا يكون غروراً قال : أجل ، قال : وإن عظيم ذنبي لن يدع قلبي يسكن ، ولج في الاعتذار ، فقال أبو مسلم : يا عجباً كنت تسئ وأنا أحسن ، فإذا أحسنت أسأت .
محاسن كتمان السر
قال : كان المنصور يقول : الملك يحتمل كل شئ من أصحابه إلا ثلاثاً : إفشاء السر ، والتعريض للحر ، والقدح في الملك . وكان يقول : سرك من دمك فانظر من تملكه . وكان يقول : سرك لا تطلع عليه غيرك ، وإن من أنفذ البصائر كتمان السر حتى يبرم المبروم . وقيل لأبي مسلم : بأي شئ أدركت هذا الأمر ؟ قال : ارتديت بالكتمان ، واتزرت

بالحزم ، وحالفت الصبر ، وساعدت المقادير ، فأدركت طلبتي ، وحزت بغيتي ؛ وأنشد في ذلك : أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت . . . عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا ما زلت أسعى عليهم في ديارهم . . . والقوم في ملكهم بالشام قد رقدوا حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا . . . من نومة لم ينمها قبلهم أحد ومن رعى غنماً في أرض مسبعة . . . ونام عنها تولى رعيها الأسد قال : وقال عبد الملك بن مروان للشعبي ، لما دخل عليه : جنبني خصالاً أربعاً : لا تطريني في وجهي ، ولا تجرين علي كذبة ، ولا تغتابن عندي أحداً ، ولا تفشين لي سراً ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : استعينوا على إنجاح حوائجكم بكتمان السر فإن كل ذي نعمة محسود . وأنشد اليزيدي في ذلك : النجم أقرب من سر إذا اشتملت . . . مني على السر أضلاع وأحشاء وقال غيره : ونفسك فاحفظها ولا تفش للعدى . . . من السر ما يطوي عليه ضميرها فما يحفظ المكتوم من سر أهله . . . إذا عقد الأسرار ضاع كثيرها من القوم إلا ذو عفاف يعينه . . . على ذاك منه صدق نفس وخيرها قال معاوية ابن أبي سفيان : أعنت على علي بن أبي طالب بأربع خصال : كان رجلاً ظهره علنةً لا يكتم سراً ، وكنت كتوماً لسري ، وكان لا يسعى حتى يفاجئه الأمر مفاجأة ، وكنت أبادر إلى ذلك ، وكان في أخبث جند وأشدهم خلافاً ، وكنت في أطوع جند وأقلهم خلافاً ، وكنت أحب إلى قريش منه ، فنلت ما شئت فلله من جامع إلي ، ومفرق عنه . وكان يقال : لكاتم سره من كتمانه إحدى فضيلتين : الظفر بحاجته والسلامة من شره ، فمن أحسن فليحمد الله وله المنة عليه ، ومن أساء فليستغفر الله . وقال بعضهم : كتمانك سرك يعقبك السلامة ، وإفشاؤك سرك يعقبك الندامة ، والصبر على كتمان السر أيسر من الندم على إفشائه . وقال بعضهم : ما أقبح بالإنسان أن يخاف على ما في يده من اللصوص

فيخفيه ، ويمكن عدوه من نفسه بإظهاره ما في قلبه من سر نفسه وسر أخيه ؛ ومن عجز عن تقويم أمره فلا يلومن إلا نفسه إن لم يستقم له . وقال معاوية : ما أفشيت سري إلى أحد إلا أعقبني طول الندم ، وشدة الأسف ، ولا أودعته جوانح صدري فحكمته بين أضلاعي ، إلا أكسبني مجداً وذكراً ، وسناء ورفعة . فقيل : ولا ابن العاص . قال : ولا ابن العاص . وكان يقول : ما كنت كاتمه من عدوك فلا تظهر عليه صديقك . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : من كتم سره كانت الخيرة في يده ، ومن عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن ؛ وضع أمر أخيك على أحسنه ، ولا تظن بكلمة خرجت منه سواء ما كنت واجداً لها في الخير مذهباً ، وما كافأت من عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله جل اسمه فيه ، وعليك باخوان الصدق فإنهم زينة عند الرخاء ، وعصمة عند البلاء . وحدث إبراهيم بن عيسى قال : ذاكرت المنصور ، ذات يوم ، في أبي مسلم ، وصونه السر ، وكتمه حتى فعل ما فعل ، فأنشد : تقسمني أمران لم أفتتحهما . . . بحزم ولم تعركهما لي الكراكر وما ساور الأحشاء مثل دفينة . . . من الهم ردتها إليك المعاذر وقد علمت أفناء عدنان أنني . . . على مثلها مقدامة متجاسر وقال آخر : صن السر بالكتمان يرضك غبه . . . فقد يظهر السر المضيع فيندم ولا تفشين سراً إلى غير أهله . . . فيظهر خرق الشر من حيث يكتم وما زلت في الكتمان حتى كأنني . . . برجع جواب السائلي عنه أعجم لنسلم من قول الوشاة وتسلمي . . . سلمت وهل حي على الدهر يسلم وقال آخر : أمني تخاف انتشار الحديث . . . وحظي في ستره أوفر

ولو لم أصنه لبقيا عليك . . . نظرت لنفسي كما تنظر وقال أبو نواس : لا تفش أسرارك للناس . . . وداو أحزانك بالكاس فإن إبليس على ما به . . . أرأف بالناس من الناس وقال المبرد : أحسن ما سمعت في حفظ اللسان والسر ما روي لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : لعمرك إن وشاة الرجا . . . ل لا يتركون أديماً صحيحا فلا تبد سرك إلا إليك . . . فإن لكل نصيح نصيحا وقال العتبي : ولي صاحب سري المكتم عنده . . . محاريق نيران بليل تحرق غدوت على أسراره فكسوتها . . . ثياباً من الكتمان ما تتخرق فمن كانت الأسرار تطفو بصدره . . . فأسرار صدري بالأحاديث تغرق فلا تودعن الدهر سرك أحمقاً . . . فإنك إن أودعته منه أحمق وحسبك في ستر الأحاديث واعظاً . . . من القول ما قال الأديب الموفق إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه . . . فصدر الذي يستودع السر أضيق وقال آخر : لا يكتم السر إلا كل ذي خطر . . . فالسر عند كرام الناس مكتوم والسر عندي في بيت له غلق . . . قد ضاع مفتاحه والباب مردوم قيل : دخل أبو العتاهية على المهدي ، وقد ذاع شعره في عتبة ، فقال : ما أحسنت في حبك ، ولا أجملت في إذاعة سرك ، فقال :

من كان يزعم أن سيكتم حبه . . . أو يستطيع الستر فهو كذوب الحب أغلب للرجال بقهره . . . من أن يرى للسر فيه نصيب وإذا بدا سر اللبيب فإنه . . . لم يبد إلا والفتى مغلوب إني لأحسد ذا هوىً مستحفظاً . . . لم تتهمه أعين وقلوب فاستحسن المهدي شعره وقال : قد عذرناك على إذاعة سرك ، ووصلناك على حسن عذرك ، إن كتمان السر أحسن من إذاعته . وقال زياد : لكل مستشير ثقة ، وإن الناس قد ابتدعت بهم خصلتان : إذاعة السر ، وترك النصيحة ، وليس للسر موضع إلا أحد رجلين : إما أخروي يرجو ثواب الله ، أو دينوي له شرف في نفسه ، وعقل يصون به حسبه ، وهما معدومان في هذا الدهر . وقال المهلب : ما ضاقت صدور الرجال عن شئ كما تضيق عن السر كما قال الشاعر : ولربما كتم الوقور فصرحت . . . حركاته للناس عن كتمانه ولربما رزق الفتى بسكوته . . . ولربما حرم الفتى ببيانه وقال آخر : إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرها . . . فسرك عند الناس أفشى وأضيع وقال آخر : لساني كتوم لأسراركم . . . ودمعي نموم لسري مذيع فلولا الدموع كتمت الهوى . . . ولولا الهوى لم تكن لي دموع
محاسن المشورة
يقال : إذا استخار الرجل ربه ، واستشار نصيحه واجتهد ، فقد قضى ما عليه ، ويقضي

الله في أمره ما يحب . وقال آخر : حسن المشورة من المشير قضاء حق النعمة . وقيل : إذا استشرت فانصح ، وإذا قدرت فاصفح . وقيل : من وعظ أخاه سراً زانه ومن وعظه جهراً شانه . وقال آخر : الاعتصام بالمشورة نجاة . وقال آخر : نصف عقلك مع أخيك ، فاستشره . وقال آخر : إذا أراد الله لعبد هلاكاً أهلكه برأيه . وقال آخر : المشورة تقوم اعوجاج الرأي . وقال : إياك ومشورة النساء ، فإن رأيهن إلى أفن ، وعزمهن إلى وهن .
ضده
قال بعض أهل العلم : لو لم يكن في المشورة إلا استضعاف صاحبك لك وظهور فقرك إليه ، لوجب اطراح ما تفيده المشورة ، والقاء ما يكسبه الامتنان ؛ وما استشرت أحداً إلا كنت عند نفسي ضعيفاً ، وكان عندي قوياً ، وتصاغرت له ودخلته العزة ، فإياك والمشورة وإن ضاقت بك المذاهب ، واختلفت عليك المسالك ، وأداك الاستبهام إلى الخطأ الفادح ، فإن صاحبها أبداً مستدل مستضعف ، وعليك بالاستبداد فإن صاحبه أبداً جليل في العيون ، مهيب في الصدور ، ولن تزال كذلك ما استغنيت عن ذوي العقول ، فإذا افتقرت إليها حقرتك العيون ، ورجفت بك أركانك ، وتضعضع بنيانك ، وفسد تدبيرك ، واستحقرك الصغير ، واستخف بك الكبير ، وعرفت بالحاجة إليهم . وقيل : نعم المستشار العلم ، ونعم الوزير العقل . وممن اقتصر على رأيه دون المشورة ، الشعبي ، فإنه خرج مع ابن الأشعث ، فقدم به على الحجاج ؛ فلقيه يزيد بن أبي مسلم ، كاتب الحجاج ، فقال له : أشر علي فقال : لا أدري بما أشير ، ولكن أعتذر بما قدرت عليه . وأشار بذلك عليه كافة أصحابه ، قال الشعبي : فلما دخلت خالفت مشورتهم ، ورأيت والله غير الذي قالوا ، فسلمت عليه بالأمرة ، ثم قلت : أيد الله الأمير ، إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم الله أنه الحق ، ولك الله أن لا أقول في مقامي هذا إلا الحق ، قد جهدنا وحرضنا ، فما كنا بالأقوياء الفجرة ، ولا الأتقياء البررة ، ولقد نصرك الله علينا ، وأظفرك بنا فإن سطوت فبذنوبنا ، وإن عفوت فبحلمك ، والحجة لك علينا . فقال الحجاج : أنت والله أحب إلينا قولاً ممن يدخل علينا

وسيفه يقطر من دمائنا ويقول : والله ما فعلت ولا شهدت ، أنت آمن يا شعبي . فقلت : أيها الأمير اكتحلت والله بعدك ، السهر ، واستجلست الخوف ، وقطعت صالح الإخوان ، ولم أجد من الأمير خلفاً . قال : صدقت ، وانصرفت .
محاسن الشكر
قال بعض الحكماء : صن شكرك عمن لا يستحقه ، واستر ماء وجهك بالقناعة . وقال الفضل بن سهل : من أحب الازدياد من النعم فليشكر ، ومن أحب المنزلة فليكف ، ومن أحب بقاء عزه فليسقط دالته ومكره . ومن ذلك قول رجل لرجل شكره في معروف : لقد ثبتت في القلب منك مودة . . . كما ثبتت في الراحتين الأصابع قال : واصطنع رجل رجلاً فسأله يوماً : أتحبني يا فلان قال : نعم أحبك حباً لو كان فوقك لأظلك ، أو كان تحتك لأقلك . وقال كسرى أنو شروان : المنعم أفضل من الشاكر ، لأنه جعل له السبيل إلى الشكر . واختصر حبيب ابن أوس هذا في مصراع واحد فقال : لهان علينا أن نقول وتفعلا قال الباهلي عن أبي فروة : مكتوب في التوراة : ' أشكر من أنعم عليك ، وأنعم على من شكرك فإنه لا زوال للنعم إذا شكرت ، ولا إقامة لها إذا كفرت . والشكر زيادة في النعم ، وأمان من الغير . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' خمس تعاجل صاحبهن بالعقوبة : البغي ، والغدر ، وعقوق الوالدين ، وقطيعة الرحم ، ومعروف لا يشكر ' ، وأنشد الحطيئة عمر ، وكعب الأحبار عنده : من يفعل الخير لا يعدم جوازيه . . . لا يذهب العرف بين الله والناس

فقال كعب : يا أمير المؤمنين من هذا الذي قال هذا ؟ هو مكتوب في التوراة ؟ فقال عمر : كيف ذلك ؟ قال في التوراة مكتوب : ' من يصنع الخير لا يضيع عندي لا يذهب العرف بيني وبين عبدي ' . وقيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فما هذا الاجتهاد ؟ فقال : ' أفلا أكون عبداً شكوراً ' . وفي الحديث أن رجلاً قال في الصلاة خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : اللهم ربنا لك الحمد حمداً مباركاً طيباً زكياً ، فلما انصرف ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : ' أيكم صاحب الكلمة ' ؟ قال أحدهم : أنا يا رسول الله . فقال : لقد رأيت سبعة وثلاثين ملكاً يبتدرون أيهم يكتبها أولاً ، وقيل نسيان النعمة أول درجات الكفر . وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : المعروف يكفر من كفره لأنه يشكرك عليه أشكر الشاكرين ، وقد قيل في ذلك : يد المعروف غنم حيث كانت . . . تحملها كفور أم شكور فعند الشاكرين لها جزاء . . . وعند الله ما كفر الكفور وقال بعض الحكماء : ما أنعم الله على عبد نعمة فشكر عليها إلا ترك حسابه عليها . وقال بعض الحكماء : عند التراخي عن شكر النعم تحل عظائم النقم . وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كثيراً ما يقول لعائشة ما فعل بيتك فتنشده : يجزيك أو يثنى عليك وإن من . . . أثنى عليك بما فعلت كمن جزى فيقول ( صلى الله عليه وسلم ) : صدق القائل ، يا عائشة ، إن الله إذا أجرى على يد رجل خيراً فلم يشكره ، فليس لله بشاكر . وقيل لذي الرمة : لم خصصت بلال بن أبي بردة بمدحك ؟ قال : لأنه وطأ مضجعي ، وأكرم مجلسي ، وأحسن صلتي ، فحق لكثير معروفه عندي أن يستولي على شكري . ومنهم من يقدم ترك مطالبة الشكر وينسبه إلى مكارم الأخلاق ، من ذلك ما قاله بزرجمهر : من انتظر بمعروفه شكرك عاجل المكافأة . وقال بعض الحكماء : إن الكفر يقطع مادة الإنعام ، فكذلك الاستطالة بالصنيعة تمحق الأجر . وقال علي بن عبيدة : من المكارم الظاهرة ، وسنن النفس الشريفة ، ترك طلب الشكر

على الإحسان ، ورفع الهمة عن طلب المكافأة ، واستكثار القليل من الشكر ، واستقلال الكثير مما يبذل من نفسه . . . وفصل من كتاب ولست أقابل أياديك ، ولا أستديم إحسانك إلا بالشكر الذي جعله الله للنعم حارساً ، وللحق مؤيداً ، وللمزيد سبباً . مساوئ اصطناع المعروف قال بعض الحكماء : المعروف إلى الكرام يعقب خيراً ، وإلى اللئام يعقب شراً ، ومثل ذلك مثل المطر ، يشرب منه الصدف فيعقب لؤلؤاً ، وتشرب منه الأفاعي فيعقب سماً . وقال سفيان : وجدنا أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام . وقال أثار جماعة من الأعراب ضبعاً ، فدخلت خباء شيخ منهم ، فقالوا : أخرجها ، فقال : ما كنت لأفعل ، وقد استجارت بي ، فانصرفوا وقد كانت هزيلاً ، فأحضر لها لقاحاً ، وجعل يسقيها حتى عاشت ، فنام الشيخ ذات يوم فوثبت عليه فقتلته . فقال شاعرهم في ذلك : ومن يصنع المعروف في غير أهله . . . يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر أقام لها لما أناخت ببابه . . . لتسمن ألبان اللقاح الدرائر فأسمنها حتى إذا ما تمكنت . . . فرته بأنياب لها وأظافر فقل لذوي المعروف هذا جزاء من . . . يجود بإحسان إلى غير شاكر قيل : وأصاب إعرابي جرو ذئب فاحتمله إلى خبائه وقرب له شاة فلم يزل يمتص من لبنها حتى سمن وكبر ثم شد على الشاة فقتلها ، فقال الأعرابي يذكر ذلك : غذتك شويهتي ونشأت عندي . . . فمن أدراك أن أباك ذيب فجعت نسيةً وصغار قوم . . . بشاتهم وأنت لها ربيب إذا كان الطباع طباع سوء . . . فليس بنافع أدب الأديب وفي المثل : سمن كلبك يأكلك . وأنشد :

هم سمنوا كلباً ليأكل بعضهم . . . ولو عملوا بالحزم ما سمنوا كلبا وقال آخر : وإني وقيساً كالمسمن كلبه . . . فخدشه أنيابه وأظافره ويضرب المثل بسنمار ، وكان بني للنعمان بن المنذر الخورنق فأعجبه وكره أن يبني لغيره مثله فرمى به من أعلاه فمات ، فقيل فيه : جزينا بني سعد بحسن بلائهم . . . جزاء سنمار وما كان ذا ذنب وقال بشار : أثني عليك ولي حال تكذبني . . . فيما أقول فأستحيي من الناس قد قلت إن أبا حفص لأكرم من . . . يمشي فخاصمني في ذاك إفلاسي حتى إذا قيل ما أعطاك من صفد . . . طأطأت من سوء حالي عندها راسي ولأبي الهول : كأني إذ مدحتك يا ابن معن . . . رآني الناس في رمضان أزني فإن أك رحت عنك بغير شئ . . . فلا تفرح كذلك كان ظني وقال آخر : لحى الله قوماً أعجبتهم مدائحي . . . فقالوا مقالاً في ملام وفي عتب أبا حازم تمدح . فقلت معذراً . . . هبوني امرأً جربت سيفي على كلب وقال آخر : عثمان يعلم أن الحمد ذو ثمن . . . لكنه يشتهي حمداً بمجان والناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً . . . حتى يروا عنده آثار إحسان

وقال آخر : يحب المديح أبو خالد . . . ويغضب من صلة المادح كبكر تحب لذيذ النكاح . . . وتجزع من صولة الناكح وقال آخر : ولو كان يستغني عن الشكر سيد . . . لعزة ملك أو علو مكان لما أمر الله العباد بشكره . . . فقال اشكروني أيها الثقلان
محاسن الصدق
قال بعض الحكماء : عليك بالصدق فيما السيف القاطع في كف الرجل الشجاع بأعز من الصدق ؛ والصدق عز وإن كان فيه ما تكره ، والكذب ذل وإن كان فيه ما تحب ؛ ومن عرف بالكذب اتهم في الصدق . وقيل : الصدق ميزان الله الذي يدور عليه العدل ، والكذب مكيال الشيطان الذي يدور عليه الجور . وقال ابن السماك : ما أحسبني أوجر على ترك الكذب لأني أتركه أنفة . وقال آخر : لو لم يترك العاقل الكذب إلا مروءة لكان بذلك حقيقا ، فكيف وفيه المأتم والعار ؟ وقال الشعبي : عليك بالصدق حيث ترى أنه يضرك فإنه ينفعك ، واجتنب الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك . وقال بعضهم : الصدق عز والكذب خضوع . ومدح قوم بالصدق ، منهم أبو ذر رضي الله عنه ، فإن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء ، ولا طلعت الشمس على ذي لهجة أصدق من أبي ذر . ومنهم العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فإنه روى أنه أطلع على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وعنده جبريل ، فقال له جبريل : هذا عمك العباس قال : نعم ، قال : إن الله تعالى يأمرك أن تقرأ عليه السلام ، وتعلمه أن اسمه عند الله الصادق ، وإن له شفاعة يوم القيامة . فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك ، فتبسم فقال : ' إن شئت أخبرتك مما به تبسمت ، وإن شئت أن تقول

فقل ، فقال : بل تعلمني يا رسول الله ، فقال : لأنك لم تحلف يميناً في جاهلية ولا إسلام برة ولا فاجرة ، ولم تقل لسائل : لا ، ' قال : والذي بعثك بالحق نبياً ، ما تبسمت إلا لذلك . ويروى أن رجلاً أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إني أستسر بخلال : الزنا والسرقة وشرب الخمر والكذب فأيهن أحببت تركته . قال : دع الكذب ، فمضى الرجل فهم بالزنا ، فقال : يسألني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإن جحدت ، نقضت ما جعلته له ، وإن أقررت حددت ، فلم يزن . فهم بالسرقة وشرب الخمر ، ففكر في ذلك فرجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له : قد تركتهن أجمع . فأما من رخص له في الكذب ، فيروى عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنه قال : ' لا يصلح الكذب إلا في ثلاث : كذب الرجل لأهله ليرضيها وكذب في إصلاح ما بين الناس وكذب في حرب ' . وروي عن المغيرة بن إبراهيم أنه قال : لم يرخص لأحد في الكذب إلا للحجاج ابن علاط ، فإنه لما فتحت خيبر قال : يا رسول الله : إن لي عند امرأة من قريش وديعة ، فأذن لي يا رسول الله أن أكذب عليك كذبة لعلي أستل وديعتي ، فرخص له في ذلك . فقدم مكة فأخبرهم أنه ترك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسيراً في أيديهم يأتمرون فيه ، فقائل يقول : يقتل ، وقائل يقول : لا بل يبعث به إلى قومه فتكون منة ، فجعل المشركون يتباشرون بذلك ويوئسون العباس عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والعباس يريهم التجمل ، وأخذ الرجل وديعته فاستقبله العباس وقال : ويحك ما الذي أخبرت به ؟ فأعلمه السبب ، ثم أخبره أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد فتح خيبر ، ونكح صفية بنت حيي بن أخطب ، وقتل زوجها وأباها ، ثم قال : أكتم علي اليوم وغداً حتى أمضي ، ففعل ذلك ، فلما مضى يومان أخبرهم العباس بالذي أخبره ، فقالوا : من أخبرك بهذا ؟ قال : من أخبركم بضده .
ضده
قيل : وجد في بعض كتب الهند : ليس لكذوب مروءة ، ولا لضجور رياسة ، ولا لملول وفاء ، ولا لبخيل صديق . وقال قتيبة بن مسلم : لا تطلبن الحوائج من كذوب ،

فإنه يقربها وإن كانت بعيدة ، ويبعدها إن كانت قريبة ؛ ولا إلى رجل قد جعل المسألة مأكلة ، فإنه يقدم حاجته قبلها ، ويجعل حاجتك وقاية لها ؛ ولا إلى أحمق فإنه يريد نفعك فيضرك . وقيل : أمران لا ينفكان من كذب : كثرة المواعيد ، وشدة الاعتذار . وقيل : كفاك موبخاً على الكذب ، علمك بأنك كاذب . وقال رجل لأبي حنيفة : ما كذبت قط ، قال : أما هذه فواحدة . وفي المثل : هو أكذب من أخيذ السند ، وذلك أنه يؤخذ الخسيس منهم ، فيزعم أنه ابن الملك . وكذلك يقال : أكذب من سياح خراسان ، لأنهم يجتازون في كل بلد ، ويكذبون للسؤال والمسألة . ويقال : هو أكذب من الشيخ الغريب ، وذلك أنه يتزوج في الغربة ، وهو ابن سبعين سنة ، فيزعم أنه ابن أربعين . ويقال : هو أكذب من مسيلمة وبه يضرب المثل . ومما قيل في ذلك من الشعر : حسب الكذوب من البلية . . . بعض ما يحكى عليه ما إن سمعت بكذبة . . . من غيره نسبت إليه وقال آخر : لقد أخلفتني وحلفت حتى . . . إخالك قد كذبت وإن صدقتا ألا لا تحلفن على كلام . . . فأكذب ما تكون إذا حلفتا وقال آخر : قد كنت أنجر دهراً ما وعدت إلى . . . أن أتلف الوعد ما جمعت من نشب فإن أك صرت في وعدي أخا كذب . . . فنصرة الصدق أفضت بي إلى الكذب قال الأصمعي : قال الخليل بن سهل : يا أبا سعيد أعلمت أن طول رمح رستم كان سبعين ذراعاً من حديد مصمت ، في غلظ الراقود ، فقلت : ههنا إعرابي له معرفة ، فاذهب بنا إليه فحدثه بهذا . فذهبت به إلى الأعرابي فحدثه ، فقال الأعرابي : قد سمعت بذلك ، وبلغنا أن رستم هذا كان هو واسفنديار أتيا لقمان بن عاد بالبادية ، فوجداه نائماً ،

ورأسه في حجر أمه ، فقالت لهما : ما شأنكما ، فقالا : بلغنا شدة هذا الرجل فأتيناه ، فانتبه فزعاً من كلامهما ، فنفخهما ، فألقاهما إلى أصبهان ، فقبرهما اليوم بها ، فقال الخليل : قبحك الله ما أكذبك قال : يا بن أخي ما بينا شيئاً إلا وهو دون الراقود . قيل : وقدم بعض العمال من عمل ، فدعا قوماً إلى طعامه ، وجعل يحدثهم بالكذب ، فقال بعضهم : نحن كما قال عز وجل سماعون للكذب أكالون للسحت . قيل : وكان رجال من أهل المدينة من بين فقيه وراوية وشاعر ، يأتون بغداد ، فيرجعون بحظوة وحال حسنة ؛ فاجتمع عدة منهم ، فقالوا لصديق لهم لم يكن عنده شئ من الأدب : لو أتيت العراق فلعلك أن تصيب شيئاً . قال : أنتم أصحاب آداب تلتمسون بها . فقالوا : نحن نحتال لك ، فأخرجوه ، فلما قدم بغداد طلب الاتصال بعلي بن يقطين ، وشكا إليه الحاجة ، فقال : ما عندك من الأدب ؟ فقال : ليس عندي من الأدب شئ غير أني أكذب الكذبة وأخيل إلى من يسمعها أني صادق . وكان ظريفاً مليحاً ، فأعجب به ، وعرض عليه مالاً ، فأبى أن يقبله وقال : ما أريد منك إلا أن تسهل أذني ، وتدني مجلسي . قال : ذاك لك . وكان من أقرب الناس إليه مجلساً حتى عرف بذلك . وكان المهدي قد غضب على رجل من القواد ، واستصفى ماله ، وكان يختلف إلى علي بن يقطين ، رجاء أن يكلم له المهدي ، وكان يرى قرب المديني ، ومكانه من علي ، فأتى المديني عشياً فقال : ما البشرى ؟ قال : لك البشرى وحكمك ، قال : أرسلني علي بن يقطين إليك وهو يقرئك السلام ويقول : قد كلمت أمير المؤمنين في أمرك ، ورضي عنك ، وأمر برد مالك وضياعك ويأمرك بالغدو إليه لتغدو معه إلى أمير المؤمنين متشكراً . فدعا له الرجل بألف دينار وكسوة وحملان ، وغدا على علي مع جماعة من وجوه العسكر متشكراً ، فقال له علي : وما ذاك ؟ قال : أخبرني أبو فلان - وهو إلى جنبه - كلامك أمير المؤمنين في أمري ورضاه عني ، فالتفت إلى المديني وقال : ما هذا ؟ فقال : أصلحك الله ، هذا بعض ذلك المتاع نشرناه ، فضحك علي وقال : علي بدابتي ، وركب إلى المهدي ، وحدثه الحديث ، فضحك المهدي وقال : إنا قد رضينا عن الرجل ورددنا عليه ماله ، وأجرى على المديني رزقاً واسعاً ، واستوصى به خيراً ، ثم وصله ، وكان يعرف بكذاب أمير المؤمنين .

محاسن العفو
قيل : أسر مصعب بن الزبير رجلاً من أصحاب المختار ، فأمر بضرب عنقه فقال : أيها الأمير ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة فأتعلق بأطرافك وأقول : رب سل مصعباً فيم قتلني ؟ فقال : أطلقوه ، فقال أيها الأمير اجعل ما وهبت لي من عمري في خفض عيش ، فقال أعطوه مائة ألف درهم ، قال : بأبي أنت وأمي أشهدك أن لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفاً قال : لم ؟ قال لقوله فيك : إنما مصعب شهاب من الله . . . تجلت عن وجهه الظلماء ملكه ملك رأفة ليس فيه . . . جبروت ولا له كبرياء فضحك مصعب وقال : لقد تلطفت وإن فيك لموضعاً للصنيعة ، وأمر له بالمائة ألف ، ولابن قيس الرقيات بخمسين ألف درهم . قيل : وأمر الرشيد يحيى بن خالج بحبس رجل جنى جناية فحبسه ، ثم سأل عنه الرشيد فقيل : هو كثير الصلاة والدعاء ، فقال للموكل به : عرض له بأن تكلمني وتسألني إطلاقه ، فقال له الموكل ذلك ، فقال لأمير المؤمنين أن كل يوم يمضي من نعمتك ينقص من محنتي ، والأمر قريب ، والموعد الصراط ، وإلحاحك الله ، فخر الرشيد مغشياً عليه ثم أفاق وأمر بإطلاقه . وقيل ظفر المأمون برجل كان يطلبه فلما دخل عليه قال : يا عدو الله أنت الذي تفسد في الأرض بغير الحق . يا غلام خذه إليك فاسقه كأس المنية . فقال : يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تستبقيني حتى أؤيدك بمال ؟ قال : لا سبيل إلى ذلك ، فقال : يا أمير المؤمنين فدعني أنشدك أبياتاً . قال : هات . فأنشده : زعموا بأن الباز علق مرة . . . عصفور بر ساقه المقدور فتكلم العصفور تحت جناحه . . . والباز منقض عليه يطير ما بي لما يغني لمثلك شبعةً . . . ولئن أكلت فأنني لحقير فتبسم الباز المدل بنفسه . . . كرما وأطلق ذلك العصفور

فقال له المأمون : أحسنت . ما جرى ذلك على لسانك إلا لبقية بقيت من عمرك ، فأطلقه وخلع عليه ووصله . وعن بعضهم أن والياً أتى برجل جنى جناية ، فأمر بضربه ، فلما مد قال : بحق رأس أمك ألا عفوت عني . قال : أوجع . فقال : بحق خديها ونحرها ، قال : اضرب . قال : بحق ثدييها ، قال : اضرب . قال : بحق سرتها . قال : ويلكم دعوه لا ينحدر قليلاً . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ' إن الرجل إذا ظلم فلم ينتصر ، ولم يجد من ينصره فرفع طرفه إلى السماء ودعا ، قال الله له : لبيك عبدي أنصرك عاجلاً وآجلاً ' . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) في قولهم : ' أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ' ، وقد سئل عن ذلك فقيل : أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً ؟ فقال : تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه . وقال فضيل بن عياض : بكى أبي فقلت : ما يبكيك ؟ فقال : أبكي على ظالمي . ومن أخذ مالي ، أرحمه غداً إذا وقف بين يدي الله عز وجل ، وسأله فلا تكون له حجة . وقال الحسن البصري : أيها المتصدق على السائل يرحمه ، ارحم أولاً من ظلمت . وروي عن عبد الله بن سلام قال : قرأت في بعض الكتب : قال الله عز وجل : إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني . قال خالد بن صفوان : إياكم ومجانيق الضعفاء يعني الدعاء .
ضده
قيل : لما قالت التغلبية للجحاف بن حكيم السلمي ، في وقعته بالبشر : قوض الله عمادك ، وأطال سهادك ، وأقل رقادك ، فو الله إن قتلت إلا نساء أسافلهن دمي ، وأعاليهن ندي ، قال لمن حوله : لولا أن تلد مثلها لخليت سبيلها . فبلغ ذلك الحسن البصري فقال : أما الجحاف فجذوة من نار جهنم . قال : ولما بنى زياد بناء البصرة ، أمر أصحابه أن يسمعوا من أفواه الناس ، فأتى برجل تلا آية : أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . قال : وما دعاك إلى هذا ؟ قال : آية من كتاب الله عز وجل خطرت على بالي فتلوتها ، والله لأعملن فيك بالآية الثانية : وإذا بطشتم

جبارين ، ثم أمر به فبني عليه ركن من أركان القصر . قال وبعث زياد إلى رجل من بني تميم فقال : أخبروني بصلحاء كل ناحية ، فأخبروه ، فاختار منهم رجالاً فضمنهم الطريق ، وقال : لو ضاع بيني وبين خراسان حبل لعلمت من لقطه . وكان يدفن الناس أحياء ، وينزع أضلاع اللصوص . قال : وقال عبد الملك للحجاج : كيف تسير في الناس ؟ قال : انظر إلى عجوز أدركت زياداً ، فاسألها عن سيرته ، فاعمل بها ، فأخذ والله بسنته حتى ما ترك منها شيئاً . وذكروا أن الحجاج لما أتى المدينة أرسل إلى الحسن بن الحسن رضي الله عنه فقال : هات سيف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ودرعه ، قال : لا أفعل ، قال : فجاء الحجاج بالسيف والسوط فقال : والله لأضربنك بهذا السوط حتى أقطعه ، ثم لأضربنك بهذا السيف حتى تبرد أو تأتيني بهما ، فقال الناس : يا أبا محمد لا تعرض لهذا الجبار ، قال : فجاء الحسن بسيف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ودرعه فوضعهما بين يدي الحجاج ، فأرسل الحجاج إلى رجل من بني أبي رافع مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له : هل تعرف سيف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ قال : نعم ، فخلطه بين أسيافه ثم قال : أخرجه . ثم جاء بالدرع فنظر إليها ، ثم قال : هناك علامة كانت على الفضل بن العباس يوم اليرموك ، فطعن بحربة فخرقت الدرع فعرفناها ، فوجد الدرع على ما قال . فقال الحجاج : أما والله لو لم تجئني به ، وجئت بغيره لضربت به رأسك . وذكروا أن الحجاج قال ذات ليلة لحاجبه : أعسس بنفسك ، فمن وجدته فجئني به فلما أصبح أتاه بثلاثة ، فقال : أصلح الله الأمير ما وجدت إلا هؤلاء الثلاثة ، فقال الحجاج لواحد منهم : ما كان سبب خروجك بالليل وقد نادى المنادي أن لا يخرج أحد بالليل ، قال : أصلح الله الأمير كنت سكران فغلبني السكر فخرجت ولا أعقل ، ففكر ساعة ثم قال : سكران غلبه سكره خلوا عنه لا تعودن . ثم قال للآخر : فأنت ما كان سبب خروجك ؟ قال : أصلح الله الأمير كنت مع قوم في مجلس يشربون فوقعت بينهم عربدة فخفت على نفسي فخرجت ، ففكر الحجاج ساعة فقال : رجل أحب المسالمة خلوا عنه ، ثم قال للآخر : ما كان سبب خروجك ؟ فقال : لي والدة عجوز ، وأنا رجل حمال فرجعت إلى بيتي فقالت والدتي : ما ذقت إلى هذا الوقت طعاماً ولا ذواقاً ، فخرجت التمس لها ذلك فأخذني العسس ، ففكر ساعة ثم قال : يا غلام أضرب

عنقه ، فإذا رأسه بين رجليه .
محاسن الصبر على الحبس
قال الكسروي : وقع كسرى بن هرمز إلى بعض المحبسين : من صبر على النازلة ، كان كمن لم تنزل به ، ومن طول في الحبل كان فيه عطبه ، ومن أكل بلا مقدار تلفت نفسه . قيل ودخل ابن الزيات على الأفشين وهو محبوس فقال يخاطبه : اصبر لها صبر أقوام نفوسهم . . . لا تستريح إلى عقل ولا قود فقال الأفشين : من صحب الزمان لم ينج من خيره أو شره ووجد الكرامة والهوان ، ثم قال : لم ينج من خيرها أو شرها أحد . . . فاذكر شوائبها إن كنت من أحد خاضت بك المنية الحمقاء غمرتها . . . فتلك أمواجها ترميك بالزبد ولعلي بن الجهم لما حبسه المتوكل : قالت حبست فقلت ليس بضائري . . . حبسي وأي مهند لا يغمد أو ما رأيت الليث يألف غيله . . . كبراً وأوباش السباع تردد والنار في أحجارها مخبوءة . . . لا تصطلى إن لم تثرها الأزند والبدر يدركه الظلام فتنجلي . . . أيامه وكأنه متجدد والزاعبية لا يقيم كعوبها . . . إلا الثقاف وجذوة تتوقد غير الليالي بادئات عود . . . والمال عارية يفاد وينفد لا يؤيسنك من تفرج كربة . . . خطب أتاك به الزمان الأنكد فلكل حال معقب ولربما . . . أجلى لك المكروه عما تحمد

كم من عليل قد تخطاه الردى . . . فنجا ومات طبيبه والعود صبراً فإن اليوم يعقبه غد . . . ويد الخلافة لا تطاولها يد والحبس ما لم تغشه لدنية . . . شنعاء نعم المنزل المتورد لو لم يكن في الحبس إلا أنه . . . لا يستذلك بالحجاب الأعبد بيت يجدد للكريم كرامةً . . . ويزار فيه ولا يزور ويحمد أبلغ أمير المؤمنين ودونه . . . خوف العدا ومخاوف لا تنفد أنتم بنو عم النبي محمد . . . أولى بما شرع النبي محمد ما كان من حسن فأنتم أهله . . . كرمت مغارسكم وطاب المحتد أمن السوية يا ابن عم محمد . . . خصم تقربه وآخر يبعد يا أحمد ابن أبي دؤاد إنما . . . تدعى لكل كريهة يا أحمد إن الذين سعوا إليك بباطل . . . أعداء نعمتك التي لا تجعد شهدوا وغبنا عنهم فتحكموا . . . فينا وليس كعائب من يشهد لو يجمع الخصماء عندك منزل . . . يوماً لبان لك الطريق الأرشد والشمس لولا أنها محجوبة . . . عن ناظريك لما أضاء الفرقد
ضده
أنشدنا عاصم بن محمد الكاتب لنفسه ، لما حبسه أحمد بن عبد العزيز ابن أبي دلف قوله : قالت : حبست . فقلت : خطب أنكد . . . أنحى علي به الزمان المرصد

لو كنت حراً كان سربي مطلقاً . . . ما كنت أحبس عنوةً وأقيد لو كنت كالسيف المهند لم يكن . . . وقت الكريهة والشدائد يغمد لو كنت كالليث الهصور لما رعت . . . في الذئاب وجذوتي تتوقد من قال إن الحبس بيت كرامة . . . فمكاثر في قوله متجلد ما الحبس إلا بيت كل مهانة . . . ومذلة ومكاره لا تنفد إن زارني فيه العدو فشامت . . . يبدي التوجع تارةً ويفند أو زارني فيه المحب فموجع . . . يذري الدموع بزفرة تتردد يكفيك أن الحبس بيت لا يرى . . . أحد عليه من الخلائق يحسد تمضي الليالي لا أذوق لرقدة . . . طعماً وكيف يذوق من لا يرقد في مطبق فيه النهار مشاكل . . . لليل والظلمات فيه سرمد فإلى متى هذا الشقاء مؤكد . . . وإلى متى هذا البلاء مجدد ما لي مجير غير سيدي الذي . . . ما زال يكفلني فنعم السيد غذيت حشاشة مهجتي بنوافل . . . من سيبه وصنائع لا تجحد عشرين حولاً عشت تحت جناحه . . . عيش الملوك وحالتي تتزيد فخلا العدو بموضعي من قلبه . . . فحشاه جمراً ناره تتوقد فاغفر لعبدك ذنبه متطولاً . . . فالحقد منك سجية لا تعهد واذكر خصائص خدمتي ومقاومي . . . أيام كنت جميع أمري تحمد وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، رضي الله عنهم :

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها . . . فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا دخل السجان يوماً لحاجة . . . عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا ونفرح بالرؤيا فجل حديثنا . . . إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا فإن حسنت كانت بطيئاً مجيئها . . . وإن قبحت لم تنتظر وأتت سعيا وقال آخر : ألا أحد يدعو لأهل محلة . . . مقيمين في الدنيا وقد فارقوا الدنيا كأنهم لم يعرفوا غير دارهم . . . ولم يعرفوا غير الشدائد والبلوى وقال ابن المعتز : تعلمت في السجن نسج التكك . . . وكنت امرأ قبل حبسي ملك وقيدت بعد ركوب الجياد . . . وما ذاك إلا بدور الفلك ألم تبصر الطير في جوها . . . تكاد تلاصق ذات الحيك إذا أبصرته خطوب الزمان . . . أوقعنه في حبال الشرك فهذاك من حالك قد يصاد . . . ومن قعر بحر يصاد السمك ووجد في البيت الذي قتل فيه ، مكتوب بخطه على الأرض : يا نفس صبراً لعل الخير عقباك . . . خانتك بعد طوال الأمن دنياك مرت بنا سحراً ظير فقلت لها . . . طوباك يا ليتني إياك طوباك وقال إعرابي : ولما دخلت السجن كبر أهله . . . وقالوا أبو ليلى الغداة حزين وفي الباب مكتوب على صفحاته . . . بانك تنزو ثم سوف تلين

وفي الحديث المرفوع إن يوسف عليه السلام شكا إلى الله تعالى طول الحبس فأوحى إليه أنت حبست نفسك حين قلت : رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه ، ول قلت العافية أحب إلي لعوفيت . قال : وكتب يوسف عليه السلام على باب السجن : هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء .
محاسن المودة
قال بعض الحكماء : ليس للإنسان تنعم إلا بمودات الاخوان وقال آخر : الازدياد من الاخوان زيادة في الآجال وتوفير لحسن الحال ، وقيل : عاشر الناس معاشرة إن عشتم حنوا إليكم وإن متم بكوا عليكم ، وقال : قد يمكث الناس حينا ليس بينهم . . . ود فيزرعه التسليم واللطف يسلى الشقيقين طول النأي بينهما . . . وتلتقي شعب شتى فتأتلف وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لابنه الحسين : ابذل لصديقك كل مودة ولا تطمئن إليه كل الطمأنينة أعطه كل المواساة ولا تفش إليه كل الأسرار . وقال العباس بن حرير : المودة تعاطف القلوب وائتلاف الأرواح وانس النفوس ووحشة الأشخاص عند تنائي اللقاء وظهور السرور بكثرة التزاور وعلى حسب مشاكلة الجواهر يكون الإنفاق في الخصال . وقال بعضهم : من لم يواخ من الأخوان إلا من لا عيب فيه قل صديقه ، ومن لم يرض من صديقه إلا بإيثاره إياه على نفسه دام سخطه ، ومن عاتب على غير ذنب كثر عدوه . وكان يقال : أعجز الناس من فرط في طلب الأخوان . وقال الشاعر في مثله : لعمرك ما مال الفتى بذخيرة . . . ولكن إخوان الثقات الذخائر

(
ضده
) قال المأمون : الأخوان ثلاث طبقات : طبقة كالغذاء لا يستغني عنه ، وطبقة كالدواء يحتاج إليه أحيانا ، وطبقة كالداء لا يحتاج إليه . وكتب بعض الكتاب أن فلاناً أولاني جميلاً من البشر مقروناً بلطيف من الخطاب في بسط وجه ولين كنف ، فلما كشفه الامتحان بيسير الحاجة كان كالتابوت المطلي عليه بالذهب المملوء بالعذرة أعجبك حسنه ما دام مطيفاً فلما فتح آنذاك نتنه فلا أبعد الله غيره ، ومما قيل في ذلك : والله لو كرهت كفي منادمتي . . . لقلت للكف بيني إذ كرهتني وقال آخر : ولو أني تخالفني شمالي . . . لما اتبعتها أبداً يميني إذاً لقطعتها ولقلت بيني . . . كذلك اجتوي من يجتويني وقال آخر : من لم يزدك فلا ترده . . . ليكن كمن لم تستفده باعد أخاك ببعده . . . فإذا نأى شبراً فزده وقال آخر : تود عدوي ثم تزعم أنني . . . أودك إن الرأي منك لعازب وليس أخي من ودني رأي عينه . . . ولكن أخي من ودني وهو غائب وقال آخر : إن اختيارك لا عن خبرة سلفت . . . إلا الرجاء وما يخطئ النظر كالمستغيث ببطن السيل يحسبه . . . حرزا يبادره إذ بله المطر وقال آخر :

وصاحب كان لي وكنت له . . . أشفق من والد ومن ولد وكان لي مؤنسا وكنت له . . . ليست بنا وحشة إلى أحد كنا كساق مشت بها قدم . . . أو كذراع نيطت إلى عضد حتى إذا أمكن الحوادث من . . . حظي وحل الزمان من عقدي أزور عني وكان ينظر من . . . عيني ويرمي بساعدي ويدي حتى إذا استرفدت يدي يده . . . كنت كمسترفد يد الأسد وقال آخر : فيا عجبا لمن ربيت طفلا . . . القمه بأطراف البنان أعلمه الرماية كل يوم . . . فلما اشتد ساعده رماني أعلمه الفتوه كل حين . . . فلما طر شاربه جفاني أعلمه الرواية كل وقت . . . فلما صار شاعرها هجاني
محاسن الولايات
سئل عمار ياسر رضي الله عنه عن الولاية فقال : هي حلوة الرضاع مرة الفطام . وذكروه أنه كان سبب عزل الحجاج بن يوسف عن المدينة ، وقد وفد من أهل المدينة منهم عيسى بن طلحة بن عبيد الله عبد الملك بن مروان ، فأثنوا على الحجاج وعيسى ساكت ، فلما فاقوا ثبت عيسى حتى خلا له وجه عبد الملك فقام فجلس بين يديه فقال : يا أمير المؤمنين من أنا ؟ قال : عيسى بن طلحة بن عبيد الله ، قال : فمن أنت ؟ قال : عبد الملك بن مروان . قال : أفجهلتنا أو تغيرت بعدنا ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : وليت علينا

الحجاج بن يوسف يسير بالباطل ويحملنا على أن تثني عليه بغير الحق والله لئن أعدته علينا لنعصيك ملكك ، فقال له عبد الملك : انصرف والزم بيتك ولا تذكرن من هذا شيئاً ، قال : فقام إلى منزله وأصبح الحجاج غادياً إلى عيسى بن طلحة فقال : جزاك الله عن خلوتك بأمير المؤمنين خيراً فقد أبدلني بكم خيراً وأبدلكم بي غيري وولاني العراق . وعن معمر بن وهيب قال : كان عبد الملك عندما استعفى أهل العراق من الحجاج قال لهم : اختاروا أي هذين شئتم ، يعني أخاه محمد بن مروان وابنه عبد الله بن عبد الملك - مكان الحجاج ؟ فكتب إليه الحجاج : يا أمير المؤمنين ، إن أهل العراق استعفوا عثمان بن عفان من سعيد بن العاص ما عفاهم منه فساروا إليه من قابل وقتلوه ، فقال : صدق ورب الكعبة ، وكتب إلى محمد وعبد الله بالسمع والطاعة له .
ضده
كتب عبد الصمد بن المعذل إلى صديق له ولي النفاطات فأظهر تيهاً : لعمري لقد أظهرت تيهاً كأنما . . . توليت للفضل بن مروان عكبرا دع الكبر واستبق التواضع إنه . . . قبيح بوالي النفط أن يتغيرا لحفظ عيون النفط أحدثت نخوةً . . . فكيف به لو كان مسكاً وعنبرا وقال ابن المعتز : كم ثانه بولاية . . . وبعزله يعدو البريد سكر الولاية طيب . . . وخماره صعب شديد وقال آخر : لا تفرحن فكل وال يعزل . . . وكما عزلت فمن قريب تقتل

وكذا الزمان بما يسرك تارةً . . . وبما يسوءك تارةً يتنقل
محاسن الصحبة
قيل : قال علقمة بن ليث لابنه : يا بني ، إن نازعتك نفسك إلى الرجال يوماً لحاجتك إليهم فاصحب من أن صحبته زانك ، وإن تخففت له صانك ، وإن نزلت بك مؤونة مانك ، وإن قلت صدق قولك ، وإن صلت شدد صولك ، اصحب من إذا مددت إليه يدك لفضل مدها ، وإن رأى منك حسنة عدها ، وإن بدت منك ثلمة سدها ، واصحب من لا تأتيك منه البوائق ، ولا تختلف عليك من الطرائف ولا يخذلك عند الحقائق ، وقال آخر : اصحب من خولك نفسه وملكك خدمته وتخيرك لزمانه ، فقد وجب عليك حق وذمامه . وكان يقال : من قبل صلتك فقد باعك مروءته وأذل لقدرك عزه . وقال بعضهم لصاحبه : أنا أطوع لك من اليد وأذل من النعل . وقال بعضهم : إذا رأيت كلباً ترك صاحبه وتبعك فارجمه فإنه تاركك كما ترك صاحبه . وقال ابن أبي دؤاد لرجل انقطع إلى محمد بن عبد الملك الزيات : ما خبرك مع صاحبك ؟ فقال : لا يقصر في الإحسان إلي ، فقال : يا هذا إن لسان حالك يكذب لسان مقالك .
ضده
قال : كان يوسف بن عمر الثقفي يتولى العراقين لهشام بن عبد الملك ، وكان مذموماً في عمله ، فخبرني المدائني قال : وزن يوسف بن عمر درهماً فنقص حبة فكتب إلى دور الضرب بالعراق يضرب أهلها مائة . قيل : وخطب في مسجد الكوفة إنسان مجنون فقال : يا أهل الكوفة ألم أنهكم أن تدخلوا مساجدكم المجانين اضربوا عنقه فضربت عنقه . قال : وقال لهمام ابن يحيى وكان عاملاً له : يا فاسق ، خربت مهرجا نقذق قال : إني لم أكن عليها إنما كنت على ماه دينار وعمرت البلاد فأعاد ذلك عليه مراراً ،

فقال همام : قد أخبرتك إني كنت على ماه دينار وتقول : ضربت مهرجاً نقذق فلم يزل يعذبه حتى مات . قال : وقال لكاتبه وقد احتبس عن ديوانه يوماً : ما حبسك ؟ قال : اشتكيت ضرسي قال : تشكي ضرسك وتقعد عن الديوان ودعا الحجام وأمره أن يقلع ضرسين من أضراسه . وعن المدائني قال : حدثني رضيع كان ليوسف بن عمر من بني عبس قال : كنت لا أحجب عنه وعن خدمته فدعا ذات يوم بجوار له ثلاث ودعا بخصي له يقال له حديج فقرب إليه واحدة فقال لها : إني أريد الشخوص أفأخلفك أو أشخصك معي ؟ فقالت : صحبة الأمير أحب إلي ، ولكني أحسب أن مقامي وتخلفي أعفى وأخف على قلبه . فقال : أحببت التخلف للفجور يا حديج اضرب فضربها حتى أوجعها ثم أمره أن يأتيه بالثانية ، وقد رأت ما لقيت صاحبتها فقال لها : إني أريد الشخوص أفأخلفك أم أخرجك ؟ فقالت : ما أعدل بصحبة الأمير شيئاً بل تخرجني قال : أحببت الجماع ، ما تريدين أن يفوتك ليلة يا حديج ، اضرب فضربها حتى أوجعها ، ثم أمره أن يأتيه بالثالثة ، وقد رأت ما لقيت ، المتقدمتان ، فقال لها : إني أريد الشخوص أفأخلفك أم أخرجك ؟ قال : الأمير أعلم لينظر أخف الأمرين عليه فليفعله . قال : اختياري لنفسك قالت : ما عندي اختيار فليختر الأمر . قال : قد فرغت من كل عمل فلم يبق لي إلا أن أختار لك أوجعها ياحديج ، فضربها حتى أوجعها . قال الرجل : فكأنما أوجعني من شدة غيظه عليه ، فولت الجارية فتبعها الخادم فلما بعدت قالت : الخيرة والله في فراقك ما تقرعني أحد بصحبتك فلم يفهم يوسف كلامها . فقال : ما تقول يا حديج ؟ قال : قالت كذا وكذا . فقال : يابن الخبيثة من أمرك أن تعلمني يا غلام ، خذ السوط من يده فأوجع رأسه . فما زال يضربه حتى اشتفى ، فتعرف من الغلام الآخر كم ضربت ؟ قال : لا أدري . قال : عدو الله ، أتخرج حاصلي من بيت مالي من غير حساب ، اقتلوه ، فقتلوه .

محاسن التطير
عن عكرمة قال : كنا جلوساً عند ابن العباس وابن عمر فطار غراب يصبح ، فقال رجل من القوم : خير خير ، فقال ابن العباس : لا خير ولا شر ، والذي حضرنا من الشعر في مثله لأبي الشيص : ما فرق الأحباب بع . . . د الله إلا الإبل والناس يلحون غرا . . . ب البين لما جهلوا وما على ظهر غرا . . . ب البين تطوى الرحل ولا إذا صاح غرا . . . ب في الديار ارتحلوا وما غراب البين إ . . . لا ناقة أو جمل وقال آخر : أترحل عمن أنت صب بمثله . . . وتلحي غراب البين أنك تظلم أقم فغراب البين غير مفرق . . . ولا يأتي إلا على الفصل يحكم وقال آخر : غلط الذين رأيتهم بجهالة . . . يلحون كلهم غراباً ينعق ما الذنب إلا للجمال فإنها . . . مما يشتت شملهم ويفرق إن الغراب بيمنه يدنى النوى . . . وتشتت الشمل الجميع الأنيق وقال آخر : لا يعلم المرء ليلا ما يصبحه . . . إلا كواذب مما يخبر الفال والفال والزجر والكهان كلهم . . . مضللون ودون الغيب أقفال

(
ضده
) حكي عن النعمان بن المنذر أنه خرج متصيداً ومعه عدي بن زيد العبادي فمر بآرام - وهي القبور - فقال عدي : أبيت اللعن ، أتدري ما تقول هذه الآرام ؟ فقال : لا قال : إنها تقول : أيها الركب المخفو . . . ن على الأرض تمرون لكما كنتم فكنا . . . وكما كنا تكونون فقال : أعد فأعادها فترك صيده ورجع كئيباً ، وخرج معه مرة أخرى فوقف على آرام بظهر الحيرة ، فقال عدي : أبيت اللعن ، أتدري ما تقول هذه الآرام قال : لا ، قال : إنها تقول : رب ركب قد أناخوا عندنا . . . يشربون الخمر بالماء الزلال ثم أضحوا عصف الدهر بهم . . . وكذاك الدهر حالا بعد حال فانصرف وترك صيده . قال : ولما خرج خالد بن الوليد إلى أهل الردة انتهى إلى حي من تغلب فأغار عليهم وقتلهم ، وكان رجل منهم جالساً على شراب له وهو يغني بهذا البيت : ألا عللاني قبل جيش أبي بكر . . . لعل منايانا قريب وما ندري فوقف عليه رجل من أصحاب خالد فضرب عنقه ، فإذا رأسه في الجفنة التي كان يشرب منها . وهذا كقولهم : إن البلاء موكل بالمنطق .

محاسن الوفاء
قيل في المثل : أوفى من مكيهة وهي امرأة من بني قيس بن ثعلبة ، كان من وفائها أن السليك بن سلكة غزا بكر بن وائل ، فلم يجد غفلة يلتمسها ، فخرج جماعة من بكر فوجدوا أثر قدم على الماء فقالوا : إن هذا الأثر قدم ورد الماء ، فقصدوا له ، فلما وافى حملوا عليه فعدا حتى ولج قبة فكيهة فاستجار بها ، فأدخلته تحت درعها فانتزعوا ضمارها فنادت إخوتها فجاءوا عشرة ، فمنعوهم منها . قال : وكان سليك يقول : كأني أجد خشونة شعر استها على ظهري حين أدخلتني تحت درعها : وقال : لعمر أبيك والأنبياء تنمي . . . لينقم الجار أخت بني عوارا من الخفرات لم تفضح أخاها . . . ولم ترفع لوالدها شنارا عنيت به فكيهة حين قامت . . . لدخل السيف فانتزعوا الخمارا ويقال أيضاً : هو أوفى من أم جميل ، وهي من رهط ابن أبي بردة من دوس ، وكان من وفائها أن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي قتل رجلاً من الأزد فبلغ ذلك قومه بالسراة فوثبوا على ضرار بن الخطاب الفهري ليقتلوه فعدا حتى دخل بيت أم جميل وعاذ بها ، فقامت في وجوههم ودعت قومها فمنعوه لها فلما ولي عمر بن الخطاب ظنت أنه أخوه فأتته بالمدينة ، فلما انتسبت له عرف القصة فقال : إني لست بأخيه إلا في الإسلام وهو غاز وقد عرفنا منتك عليه وأعطاها على أنها ابنة سبيل ويقال : أوفى من السموءل بن عاديا ، وكان من وفائه أن امرأ القيس بن حجر لما أراد الخروج إلى قيصر استودع السموءل دروعاً له فلما مات امرأ القيس غزاه ملك من ملوك الشام فتحرز منه السموءل فأخذ الملك ابناً له خارج الحصن وصاح ، يا سموءل هذا ابنك في يدي وقد علمت أن امرأ القيس ابن عمي وأنا أحق بميراثه ، فإن دفعت إلي الدروع وإلا ذبحت ابنك . فقال : أجلني فأجله ، فجمع أهل بيته فشاورهم فكلهم أشاروا بدفع الدروع وأن يستنفذ ابنه ، فلما أصبح أشرف عليه وقال : ليس لي إلى دفع الدروع سبيل فاصنع

ما أنت صانع فذبح الملك ابنه وهو ينظر إليه وكان يهودياً ، وانصرف الملك ووافى السموءل بالدروع الموسم فدفعها إلى ورثة امرأ القيس : وقال في ذلك : وفيت بأدرع الكندي إني . . . إذا ما خان أقوام وفيت وقالوا عنده كنز رهيب . . . فلا وأبيك أغدر ما مشيت بنى لي عادياً حصناً حصيناً . . . وبئراً كلما شئت استقيت وفي ذلك يقول الأعشى : كن كالسموءل إذ طاف الهمام به . . . في جحفل كسواد الليل جرار بالأبلق الفرد من تيماء منزله . . . حصن حصين وجار غير غدار خبره خطتي خسف فقال له . . . مهما تقولن فإني سامع حار فقال ثكل وغدر أنت بينهما . . . فاختر فما فيهما حظ لمختار فشك غير طويل ثم قال له . . . اقتل أسيرك إني مانع جاري ويقال : أوفى من الحارث بن عباد ، وكان من وفائه أنه أسر عدي بن ربيعة ولم يعرفه ، فقال له : دلني على عدي بن ربيعة ولك الآمال ، فقال : أنا آمن أن دللتك عليه ، قال : نعم . قال : فأنا عدي بن ربيعة فخلاه وفي ذلك يقول الشعر : لهف نفسي على عدي وقد شا . . . رفه الموت واجتوته المنون ويقال : هو أوفى من عوف بن محلم ، وكان من وفائه أن مروان القرظ غزا بكر بن وائل ففضوا جيشه وأسره رجل منهم وهو لا يعرفه فأتى به أمه فقالت : إنك تختال بأسيرك كأنك جئت بمروان القرظ فقال لها مروان : وما ترجين من مروان ؟ قالت : عظم فدائه . قال : وكم ترجين من فدائه ؟ قالت : مائة بعير . قال مروان : لك ذلك على أن ترديني إلى خماعة بنت عوف بن محلم ، قالت : ومن لي بالمائة فأخذ عوداً من الأرض وقال : هذا لك ، فمضت به إلى عوف فاستجار بخماعة ابنته فبعثت به إلى عوف ، ثم

إن عمرو بن هند بعث إلى عوف أن يأتيه بمروان ، وكان واجداً عليه في شئ ، فقال عوف لرسوله : إن خماعة ابنتي قد أجارته ، فقال : إن الملك قد آلى أن يعفو عنه أو يضع كفه في كفه ، فقال عوف : يفضل ذلك على أن تكون كفي بين أيديهما ، فأجابه عمرو إلى ذلك ، فجاء عوف بمروان فأدخله عليه فوضع يده في يده ووضع يده بين أيديهما فعفا عنه . ومنهم الطائي صاحب النعمان ابن المنذر ، وكان من وفائه أن النعمان ركب في يوم بؤسه ، وكان له يومان يوم بؤس ويوم نعيم لم يلقه أحد في يوم بؤسه إلا قتله ولا في يوم نعيمه إلا أحياه وحباه وأعطاه ، فاستقبله في يوم بؤسه إعرابي من طئ ، فقال : حيا الله الملك ، لي صبية وصغاراً لم أوصي بهم أحداً فإن رأى الملك أن يأذن لي في إتيانهم وأعطيه عهد الله أن أرجع إليه إذا أوصيت بهم حتى أضع يدي بين يديه ، فرق له النعمان وقال له : لا إلا أن يضمنك رجل ممن معنا فإن لم تأت قتلناه ، وكان مع النعمان شريك بن عمرو بن شراجيل فنظر إليه الطائي وقال : يا شريك ابن عمرو . . . هل من الموت محاله يا أخا كل مضاف . . . يا أخا من لا أخاله يا أخا النعمان فك اليوم عن شيخ غلاله ابن شيبان قتيل . . . أصلح الله فعاله فقال شريك : هو علي أصلح الله الملك ، فمضى الطائي وأجل له أجلاً يأتي فيه ، فلما كان ذلك اليوم أحضر النعمان شريكاً وجعل يقول له : إن صدر هذا اليوم قد ولي وشريك يقول : ليس لك علي سبيل حتى نمسي فلما أمسوا أقبل شخص والنعمان ينظر إلى شريك فقال شريك : ليس لك علي سبيل حتى يدنو الشخص فلعله صاحبي ، فبينما هما كذلك إذ أقبل الطائي فقال النعمان : والله ما رأيت أكرم منكما وما أدري أيكما أكرم أهذا الذي ضمنك وهو الموت أم أنت وقد رجعت إلى القتل ؟ والله لا أكون الأم الثلاثة ، فأطلقه وأمر برفع يوم بؤسه . وأنشد الطائي :

ولقد دعتني للخلاف عشيرتي . . . فأبيت عند تجهم الأقوال إني امرؤ مني الوفاء سجية . . . وفعال كل مهذب بذال فقال النعمان : ما حملك على الوفاء ؟ قال : ديني . قال : وما دينك ؟ قال : النصرانية . قال : أعرضها علي ، فعرضها عليه ، فتنصر النعمان .
ضده
قيل : كتب صاحب بريد همذان إلى المأمون وهو بخراسان يعلمه إن كاتب صاحب البريد المعزول أخبره أن صاحبه وصاحب الخراج كانا تواطأا على إخراج مائتي ألف درهم من بيت المال وأقسماها بينهما ، فوضع المأمون ، إنا نرى قبول السعاية شراً من السعاية لأن السعاية دلالة والقبول إجارة وليس من دل على شئ كمن قبله وأجازه ، فأنف الساعي عند ذلك وقال : يا أمير المؤمنين رضي الله عنك . المعذرة فإن الساعي وإن كان في سعايته صادقاً لقد كان صدقه لئيماً إذ لم يحفظ الحرمة ولم يف لصاحبه . قال : ودخل رجل على سليمان بن عبد الملك فقال : يا أمير المؤمنين ، عندي نصيحة . قال : وما نصيحتك هذه ؟ قال : فلان كان عاملاً ليزيد بن معاوية وعبد الملك والوليد ، فخانهم فيما تولاه ثم اقتطع أموالاً كثيرة جليلة فمر باستخراجهما منه . قال : أنت شر منه وأخون حيث أطلقت على أمره وأظهرته ولولا أني أنفر النصاح لعاقبتك ، ولكن اختر مني خصلة من ثلاث . قال : أعرضهن يا أمير المؤمنين . قال : إن شئت فتشنا عما ذكرت ، فإن كنت صادقاً مقتناك ، وإن كنت كاذباً عاقبناك وإن استقلت أقلناك ، فاستقاله الرجل .
محاسن السخاء
روي عن نافع قال : لقي يحيى بن زكريا عليه السلام إبليس لعنه الله فقال :

أخبرني بأحب الناس إليك وأبغضهم إليك . قال : أحبهم إلي كل مؤمن بخيل وأبغضهم إلي كل منافق سخي . قال : ولم ذاك ؟ قال : لأن السخاء خلق الله الأعظم فأخشى أن يطلع عليه في بعض سخائه فيغفر له . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : السخي قريب من الله قريب من الناس بعيد من النار والبخل بعيد من الله من الجنة قريب من النار ، والجاهل السخي أحب إلى الله عز وجل من عابد بخيل وأدوأ الداء البخل . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ما أشرقت شمس إلا ومعها ملكان يناديان يسمعان الخلائق غير الجن والأنس وهما الثقلان : اللهم عجل المنفق خلفاً ولممسك تلفاً وملكان يناديان : أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى . وعن الشعبي قال : قالت أم البنين ابنة عبد العزيز أخت عمر بن عبد العزيز وكان تحب الوليد بن عبد الملك : لو كان البخل قميصاً ما لبسته أو طريقاً ما سلكتها ، وكانت تعتق كل يوم رقبة ، وتحمل على قريش في سبيل الله وكانت تقول : البخل كل البخل من بخل على نفسه بالجنة . وقيل اعتقت هند بنت عبد المطلب في يوم واحد وأربعين رقبة . وقال بعض الحكماء : ثواب الجود خلف ومحبة ومكافأة ، وثواب البخل حرمان وإتلاف ومذمة . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : يا علي ، كن شجاعاً فإن الله يحب الشجاع ، وكن سخياً فإن الله يحب السخي وكن غيوراً فإن الله يحب الغيور . يا علي : وإن إنسان سألك حاجة ليس لها بأهل فكن أنت أهلاً لها . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : السخاء شجرة في الجنة من أخذ منها بغصن مد به إلى الجنة . وقال عبد العزيز بن مروان : لو لم يدخل على البخلاء في لؤمهم إلا سوء ظنهم بالله عز وجل لكان عظيماً وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : تجافوا عن ذنب السخي فإن الله آخذ بيده كلما عثر . وقال بهرام جور : من أحب أن يعرف فضل الجود على سائر الأشياء فلينظر إلى ما جاد الله به على الخلق من المواهب الجليلة والرغائب النفيسة والنسيم والريح كما وعدهم الله بالجنان فإنه لولا رضاه الجود لم يصطفه لنفسه . وقال الموبذان لأبرويز : أكنتم تمنون أنتم وآباؤكم بالمعروف وتترصدون عليه بالمكافأة ؟ قال : لا ، ولا نستحسن ذلك لخولنا وعبيدنا فكيف نرى ذلك وفي كتاب الله ديننا من فعل

معروفاً خفياً وأظهره ليتطول به على المنعم عليه فقد نبذ الدين وراء ظهره واستوجب أن لا نعده من الأبرار ولا نذكره في الأتقياء والصالحين ؟ قيل : وسئل الإسكندر : ما أكبر ما شيدت به ملكك ؟ قال : ابتداري إلى اصطناع الرجال والإحسان إليهم . قال : وكتب ارسطاطاليس في رسالته إلى الإسكندر : وأعلم أن الأيام تأتي على كل شئ فتخلقه وتخلق آثاره وتميت الأفعال إلا ما رسخ في قلوب الناس . فأودع قلوبهم محبة آبدة تبقي بها حسن ذكرك وكريم فعالك وشرف آثارك . قال : ولما قدم بزرجمهر إلى القتل قيل له : إنك في آخر وقت من أوقات الدنيا وأول وقت من أوقات الآخرة فتكلم بكلام تذكر به . فقال : أي شئ أقول ؟ الكلام كثير ولكن إن أمكنك أن يكون حديثاً حسناً فافعل . قيل : وتنازع رجلان أحدهما من أبناء العجم والآخر إعرابي من الضيافة . فقال الإعرابي : نحن أقرى للضيف . قال : وكيف ذلك ؟ قال : لأن أحدنا ربما لا يملك إلا بعيراً فإذا حل به ضيف نحره له ، فقال له الأعجمي : فنحن أحسن مذهب في القرى منكم ، قال : وما ذاك ؟ قال : نحن نسمي الضيف مهمان ومعناه أنه أكبر من في المنزل وأملكنا به ، وقال بعض الحكماء : بلق الجود من قام بالمجهود . وقيل الجواد من لم يضن بالموجود . وقال المأمون : الجود بذل الموجود والبخل سوء الظن بالمعبود . قيل وشكا رجل إلى إياس بن معاوية كثرة ما يهب ويصل الناس وينفق . قال : إن النفقة داعية الرزق وكان جالساً على باب فقال للرجل : أغلق هذا الباب فأغلقه . فقال : هل تدخل فيه الريح ؟ قال : لا . قال : فافتحه ، ففتحه فجعلت الريح تخترق في البيت ، فقال : هكذا الرزق أغلقت فلم تدخل الريح فكذلك إذا أمسكت لم يأتك الرزق . قيل : ووصل المأمون محمد بن عباد المهلبي بمائة ألف دينار ففرقها على إخوانه فبلغ ذلك المأمون . فقال : يا أبا عبد الله إن بيوت الأموال لا تقوم بهذا . فقال : يا أمير المؤمنين البخل بالموجود سوء الظن بالمعبود . وعن أمية ابن يزيد الأموي قال : كنا عند عبد الرحمن بن يزيد ابن معاوية فجاءه رجل من أهل بيته فسأله المعونة على تزويج ، فقال له قولاً ضعيفاً فيه وعد وقلة أطماع . فلما قام من عنده ومضى دعا صاحب خزانته فقال : أعطه أربعمائة دينار فاستكثرناها وقلنا : كنت

رددت عليه رداً ظننا إنك تعطيه شيئاً قليلاً فإذا أنت أعطيته أكثر مما آمل ، فقال : إني أحب أن يكون فعلي أحسن من قولي . وبحاتم يضرب المثل والسخاء ، فحدثنا عن بعض حالات حاتم . قيل : كان حاتم جواداً شاعراً وكان حيثما نزل عرف منزله وكان ظفراً إذا قاتل غلب وإذا غنم نهب وإذا سئل وهب وإذا ضرب بالقداح سبق وإذا أسر أطلق ، وكان أقسم أن لا يقتل واحداً ، قيل : ولما بلغ حاتماً قول المتلمس الضبعي : قليل المال تصلحه فيبقى . . . ولا يبقى الكثير مع الفساد وحفظ المال أيسره من بفاه . . . وضرب في البلاد بغير زاد فقال : ما له قطع الله لسانه ، يحرض الناس على البخل أفلا قال : فلا الجود يفني المال قبل فنائه . . . ولا البخل في مال الشحيح يزيد فلا تلتمس رزقا بعيش مقتر . . . لكل غد رزقا يعود جديد ألم تر أن الرزق غاد ورائح . . . وأن الذي أعطاك سوف يعيد قال : ونزل على حاتم ضيف ولم يحضره القرى فنحر ناقة الضيف وعشاه وغداه وقال : إنك قد أقرضتني ناقتك فاحتكم علي . قال : راحلتني . قال : لك عشرون أرضيت ؟ قال : نعم وفوق الرضى . قال : إليك أربعون . ثم قال : لمن بحضرته من قومه ، من أتانا نياقه فله ناقتان بعد إلغاءه ، فأتوه بأربعين فدفعها إلى الضيف . وحكوا عن حاتم أنه خرج في الشهر الحرام يطلب حاجة فلما كان بأرض عنزة ناداه أسير فيهم . يا أبا سفانة قد أكلني الأسار والقمل . قال : والله ما أنا في بلادي ولا معي شئ وقد أسأت إلى أن نوهت باسمي فذهب إلى العنزين فساومهم فيه واشتراه منهم وقال : خلوا عنه وأنا أقيم مكانه في قيده حتى أؤدي قراه ، ففعلوا فأتاهم بغداء . قيل : ولما مات حاتم خرج رجل من بني أسد يعرف بأبي الخيبري في نفر من قومه وذلك قبل أن يعلم كثير من العرب بموته فأناخوا بقبره فقال : والله لأحلفن للعرب أنني نزلت بحاتم

وسألته القرى فلم يفعل وجعل يضرب القبر برجله ويقول : عجل أبا سفانة قراكا . . . فسوف أنبي سائلي ثناكا فقال بعضهم : ما لك تنادي رمة باتوا مكانهم فقام صاحب القول من نومه مذعوراً فقال : يا قوم عليكم مطاياكم فإن حاتماً أتاني فأنشدني : أيا الخيبري وأنت امرؤ . . . ظلوم العشرة شتامها فماذا أردت إلى رقة . . . بدوية صخبت هامها تبغي أذاها وإعسارها . . . وحولك طئ وإنعامها وإنا لننعم أضيافنا . . . من الكوم بالسيف نعتامها وقيل في المثل : هو أجود من كعب بن إمامة وكان من إياد وبلغ من جوده أنه خرج في ركب فيهم رجل من بني النمر بن قاسط في شهر ناجر وألجأهم العطش فظلوا فتصافتوا ماءهم فجعل النميري يشرب نصيبه فإذا أراد كعب أن يشرب نصيبه . قال : آثر أخاك النمري فيؤثره حتى أضر به العطش فلما رأى ذلك استحث ناقته وبادر حتى رفعت أعلام الماء وقيل له : رد كعب فإنك وارد فمات قبل أن يرد ونجا رفيقه . ومن قول أبي تمام : هو البحر من أي النواحي أتيته . . . فلجته المعروف والجود ساحله كريم إذا ما جئت للعرف طالباً . . . حباك بما تحوي عليه أنامله فلو لم يكن في كفه غير نفسه . . . لجاد بها فليتق الله سائله وللبحتري : لو أن كفك لم تجد لمؤمل . . . لكفاه عاجل وجهك المتهلل ولو أن مجدك لم يكن متقادماً . . . أغناك آخر سؤدد عن أول

ولبكر بن لنطاح في أبي دلف : بطل بصدر حسامه وسنانه . . . أجلان من صدر ومن أبراد ورث المكارم وابتناها قاسم . . . بصفائح واسنة وجياد يا عصمة العرب التي لو لم تكن . . . حياً إذا كانت بغير عماد إن العيون إذا رأتك بعزمه . . . فتحت منه مواضع الأسداد وكأن رمحك منقع في عصفر . . . وكان سيفك سل من فرصاد لو صال من غضب أبو دلف على . . . بيض السيوف لذبن في الأغماد أورى ونور للعداوة والهوى . . . نارين : نار دم ونار زناد قال أبو هفان : انتشرت هذه الأبيات عبد العزيز بن أبي دلف بسر من رأى فقال : هل سمعت بمثل هذه الأبيات ؟ قلت : لا ، قال : ولغيره من أبي دلف : ولو يجوز لقال الناس كلهم . . . لولا أبو دلف ما أورق الشجر قال ابن يحيى النديم : دعاني المتوكل ذات يوم وهو مخمور فقال : أنشدني قول عمارة في أهل بغداد فأنشدته : ومن يشتري مني ملوك مخرم . . . أبع حسناً وابني هشام بدرهم وأعطي رجاءً بعد ذاك زيادة . . . وأمنح ديناراً بغير قتوم فإن طلبوا مني الزيادة زدتهم . . . أبا دلف والمستطيل بن أكثم فقال المتوكل : ويلي على ابن البوال على عقبيه يهجو شقيقه دولة العباس قال : فهل عندك من أعدم في أبي دلف القاسم بن عيسى شئ ؟ قلت : يا أمير المؤمنين قول الإعرابي الذي يقول فيه :

أبا دلف إن السماحة لم تزل . . . مغللة تشكو إلى الله غلها فبشرها ربي بميلاد قاسم . . . فأرسل جبريلاً إليها فحلها وقال غيره : حر إذا جئته يوماً لتسأله . . . أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا يخفي صنائعه والله يظهرها . . . إن الجميل إذا أخفيته ظهرا وقال آخر : فتى عاهد الرحمن فابذل ماله . . . فليس تراه الدهر إلا على العهد فتى قصرت آماله عن فعاله . . . وليس على الحر الكريم سوى الجهل وقال آخر : إذا ما أتاه السائلون توقدت . . . عليه مصابيح الطلاقة والبشر له من ذوي المعروف نعمى كأنها . . . مواقع ماء المزن في البلد القفر وقال آخر : عاد السرور إليك في الأعياد . . . وسعدت من دنياك بالإسعاد رفقا بعبد جل ما أوليته . . . رفقا فقد أثقلته بأيادي ملأ النفوس مهابة ومحبة . . . بدر بدا متغمرا بسواد ما أن أرى لك مشبهاً فيمن أرى . . . إن الكرام قليلة الأنداد وقال في ابن أبي دؤاد : بدا حين أثرى بإخوانه . . . فقلل عنهم شبات العدم وحذره الحزم صرف الزمان . . . فبادر قبل انتقال النعم

فليس وإن نجل البا . . . خلون يقرع سناً له من ندم ولا ينكث الأرض عند السؤال . . . ليمنع سؤاله عن نعم ويروي في الحديث : ' إنه لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد صالح أبداً ' . ويقولون : الشحيح أغدر من الظالم أقسم الله بعزته لا يساكنه بخيل في جنته . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : من فتح له باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه . وقال الشاعر في ذلك : ليبس في كل ساعة وأوان . . . نتهيا سنائع الإحسان فإذا أمكنت تقدمت فيها . . . حذراً من تعذر الإمكان وذكر عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، إن أمير المؤمنين علياً صلوات الله عليه بعثه إلى حكيم بن حزام بن خويلد يسأله مالاً ، فانطلق به إلى منزله ، فوجد في الطريق صوفاً ، فأخذه ومر بقطعة كساء فأخذها ، فلما صار إلى المنزل أعطاه طرف الصوف فجعل يفتله حتى صيره خيطاً ، ثم دعا بغرارة مخرقة فرقعها بالكساء وخيطها بالخيط وصر فيها ثلاثين ألف درهم فحملت معه . قال : وأبى قوم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري رحمه الله يسألونه في حمالة فصادفوه في حائط له يتتبع ما يسقط من الثمر فيعزل جيده ورديئه على حدة فهموا بأن يرجعوا عنه وقالوا ما نظن عنده خيراً . ثم كلموه فأعطاهم ، فقال رجل من القوم : لقد رأيناك تصنع شيئاً لا يشبه فعالك . فقال : وما ذاك ؟ فأخبروه . فقال : إن الذي رأيتم يؤول إلى اجتماع ما ينفع وينمو ، ومنها قيل : الذود إلى الذود إبل . وأنشدوا : أب كبير هامه صغير . . . وفي البحور تغرق البحور وقال آخر : قد يلحق الصغير بالجليل . . . وإنما القرم من الأفيل

وسحق النخل من الغسيل قال : وأتى رجل ابن طلحة بن عبيد الله فسأله حمالة فرآه يهنأ بعيراً له فقال : يا غلام أخرج إليه بدرة . فقبضها وقال : أردت أن أتصرف حين رأيتك تهنأ بالبعير فقال : إنا لا نضيع الصغير ولا يتعاظمنا الكبير .
مساوئ البخل
المثل السائر في البخل : هو أبخل من مادر ، وهو رجل من بني هلال بن عامر بلغ من بخله أنه كان يسقي إبله فبقي في أسفل الحوض ماء قليل فسلح فيه ومدر الحوض به فسمي مادراً . وذكروا أن بني هلال وبني فزارة تنافروا إلى أنس بن مدرك وتراضوا به ، فقالت بني فزارة : لم نعرفه ، وكان سبب ذلك أن ثلاثة اصطحبوا : فزاري ، وثعلبي ، وكلابي ، فصادفوا حمار وحش ، ومضى الفزاري في بعض حوائجه فطبخا وأكلا وخبأا للفزاري أير الحمار فلما رجع قالا : قد خبأنا لك حقك فكل ، فأقبل يأكل ولا يسيغه فجعلا يضحكان : ففطن وأخذ السيف وقام إليهما وقال : لتأكلان منه أو لأقتلكما ، فامتنعا فضرب أحدهما فقتله وتناوله الآخر فأكل منه ، فقال فيهم الشاعر :
نشدتك يا فزار وأنت شيخ . . . إذا خيرت تخطئ في الخيار أصيحانية أدمت بسمن . . . أحب إليك أم أير الحمار بلى أير الحمار وخصيتاه . . . أحب إلى فزارة من فزاري فقالت بنو فزارة : منكم يا بني هلال من سقى إبله فلما رويت سلح في الحوض ومدره بخلاً فنفرهم أنس بن مدرك على الهلاليين فأخذ الفزاريون منهم مائة بعير وكانوا تراهنوا عليها ، وفي بني هلال يقول الشاعر :

لقد جللت خزياً هلال بن عامر
بني عامر طرا بسلحة مادر
فأف لكم لا تذكر والفخر بعدها
بني عامر أنتم شرار العشائر
وفي المثل : هو أبخل من أبي حباحب ، وهو رجل في الجاهلية بلغ من بخله أنه كان يسرج السراج ، فإذا أراد أحد أن يأخذه منه أطفأه ، فضرب به المثل . ومنهم صاحب نجيح بن سلكة اليربوعي ، فإنه ذكر أن نجيحاً اليربوعي خرج يوماً يتصيد ، فعرض له حمار وحش فاتبعه حتى دفع إلى أكمة ، فإذا هو برجل أعمى أسود قاعد في أطمار ، بين يديه ذهب وفضة ودر وياقوت ، فدنا منه فتناول بعضها ولم يستطع أن يحرك يده حتى ألقاه ، فقال : يا هذا ، ما هذا الذي بين يديك ؟ وكيف يستطاع أخذه ؟ وهل هو لك أم لغيرك ؟ فإني أعجب مما أرى أجواد أنت فتجود لنا أم بخيل فأعذرك ؟ فقال الأعمى : أطلب رجلاً فقد منذ سنين وهو سعد ابن خشرم بن شماس فأتني به نعطك ما تشاء ، فانطلق نجيع مسرعاً قد استطير فؤاده حتى وصل إلى قومه ودخل خباءه ووضع رأسه فنام لما به من الغم لا يدري من سعد بن خشرم ، فأتاه آت في منامه فقال له : يا نجيع إن سعد بن خشرم في حي بني محلم من ولد ذهل بن شيبان ، فسأله عن بني محلم ثم سأل عن خشرم بن شماس فإذا هو بشيخ قاعد على باب خبائه فحياه نجيح ، فرد عليه السلام ، فقال له نجيح : من أنت ؟ قال : أنا خشرم بن شماس . قال له : فأين ولدك سعد ؟ قال : خرج من طلب نجيح اليربوعي وذلك أن آتياً أتاه في منامه فحدثه أن مالاً له في نواحي بني يربوع لا يعلم به إلا نجيح اليربوعي ، فضرب نجيح فرسه ومضى وهو يقول : أيطلبني من قد عناني طلابه . . . فيا ليتني ألقاك سعد بن خشرم أتيت بني يربوع تبغي لقاءنا . . . وجئت لكي ألقاك ، حي محلم فلما دنا من محلته استقبله سعد فقال له نجيح : أيها الراكب هل لقيت سعداً في بني يربوع ؟ قال : أنا سعد فهل تدل على نجيح ؟ قال : أنا نجيح . وحدثه بالحديث فقال : الدال على الخير كفاعله - وهو أول من قالها - فانطلقا حتى أتيا ذلك المكان فتوارى

الرجل الأعمى عنهما وترك المال فأخذه سعد كله ، فقال نجيح : يا سعد قاسمني ، فقال له اطوعني وعن مالي كشحاً . وأتى أن يعطيه شيئاً فانتضى نجيح سيفاً ، فجعل يضربه حتى برد فلما وقع قتيلاً تحول الرجل الحافظ للمال سعلاة ، فأسرع في أكل سعد وعاد المال إلى مكانه فلما رأى نجيح ذلك ولى هارباً إلى قومه . قيل : وكان أبو عبس بخيلاً وكان إذا وضع الدرهم في يده نقره بإصبعه ثم يقول : كم مدينة قد دخلتها ، ويد قد وقعت فيها الآن ، الآن استقر بك القرار واطمأنت بك الدار ، ثم يرمي به في صندوقه فيكون آخر العهد به . قيل : ونظر سليمان بن مزاحم إلى درهم فقال في شق : لا إله إلا الله ، وفي شق محمد رسول الله ، ما ينبغي أن تكون إلا معاذة ، وقذفه في صندوقه . وذكروا أنه كان بالري عامل على الخراج يقال له المسيب فأتاه شاعر يمتدحه فلم يعطه شيئاً ثم سعل سعلة فضرط ، فقال الشاعر : أتيت المسيب في حاجة . . . فما زال يسعل حتى ضرط فقال : غلطنا حساب الخراج . . . فقلت من الضرط جاء الغلط فما زالوا يقولون ذلك حتى هرب منها من غير عزل . قال : وكتب أرسطا طاليس إلى رجل بشيء فلم يفعل فكتب إليه : إن كنت أردت فلم تقدر فمعذور ، وإن كنت قدرت ولم ترد ، فسيأتيك يوم تريد فيه فلا تقدر . قال : وسمع أبو الأسود الدؤلي رجلاً يقول : من يعشي الجائع ؟ فعشاه ثم قام الرجل ليخرج فقال : هيهات تخرج فتؤذي الناس كما آذيتني ، ووضع رجله في الأدهم حتى أصبح . قال : وكان رجل يأتي ابن المقفع فيلح عليه وسأله أن يتغدى عنده ويقول : لعلك تظن أني أتكلف لك شيئاً والله لا أقدم لك إلا ما عندي ، فلما أتاه لم يجد في بيته إلا كسراً يابسة وملح جريش . وجاء سائل إلى الباب فقال له : وسع الله عليك ، فلم يذهب فقال : والله لئن خرجت إليك لأدفن رأسك ، فقال ابن المقفع للسائل : ويحك لو عرفت من صدق وعيده ما أعرف من صدق وعده لم تزد كلمة ولم تقم طرفة عين قال : وكتب إبراهيم بن سيابة إلى صديق له كثير المال يستسلفه ، فكتب إليه : العيال كثير والدخل قليل والمال مكذوب عليه .

فكتب إليه : إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً ، وإن كنت صادقاً فجعلك الله معذوراً . وكتب آخر إلى آخر يصف رجلاً : أما بعد فإنك كتبت تسأل عن فلان كأنك هممت به أو حدثتك نفسك بالقدوم إليه فلا تفعل . فإن حسن الظن به لا يقع في الوهم إلا بخذلان الله ، والطمع فيما عنده لا يخطر على القلب إلا بسوء التوكل على الله ، والرجاء فيما في يده لا ينبغي إلا بعد اليأس من رحمة الله . إنه يرى الإيثار الذي يرضى به التبذير الذي يعاقب عليه والاقتصاد الذي أمر به الإسراف الذي يعاقب عليه ، وإن بني إسرائيل لم يستبدلوا العدس والبصل بالمن والسلوى إلا لفضل أخلاقهم وقديم علمهم وأن الصنيعة مرفوعة والصلة موضوعة ، والهبة مكروهة والصدقة منحوسة والتوسع ضلالة ، والجود فسوق ، والسخاء من همزات الشياطين . وإن مواساة الرجال من الذنوب الموبقة والأفضال عليهم من إحدى الكبائر . وأيم الله أنه يقول أن الله لا يغفر أن يؤثر المرء في خصاصة نفسه ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ومن آثر على نفسه فقد ضل ضلالاً بعيداً كأنه لم يسمع بالمعروف إلا في الجاهلية ، الذي قطع الله أدبارهم ونهى المسلمين عن إتباع آثارهم وإن الرجفة لم تأخذ أهل مدين إلا لسخاء كان فيهم ولا أهلكت الريح عاداً إلا لتوسع كان منهم فهو يخشى العقاب على الإنفاق ويرجو الثواب على الإقتار ويعد نفسه خاسراً أو يعدها الفقر ويأمرها بالبخل خيفة أن تمر به قوارع الدهر وأن يصيبه ما أصاب القرون الأولى ، فأقم رحمك الله مكانك واصطبر على عسرك عسى الله أن يبد لنا وإياك خيراً منه زكاة وأقرب رحماً . ولبعض الكتاب : أما بعد فإن كثير المواعيد من غير نجح عار على المطلوب إليه وقلتها مع نجح الحاجة مكرمة من صاحبها ، وقد رددتنا في حاجتنا هذه في كثرة مواعيدك من غير نجح لها حتى كأنا قد رضينا بالتعلل لها دون النجاح كقول القائل : لا تجعلنا ككمون بمزرعة . . . إن فاته الماء أروته المواعيد وكتب آخر : ما رأيت طيب قولك أسره سوء فعلك ولا مثل بسط وجهك خالفه طول تنكيدك ولا مثل قرب عدتك باعدها إفراط مطلك ولا مثل أنس مذاهبك أوحش منه اختيار عواقبك حتى كأن الدهر أودعك لطيف الحيلة بالمكر بأهل الحلة ،

وكأنه زينك فيه بالخديعة لتدرك منهم فرصة الهلكة . وقد قيل : وعد الكريم نقد وتعجيل ، ووعد اللئيم مطل وتأجيل . وقال بعضهم : وعدتنا مواعيد عرقوب ومطلتنا مطل نعاس الكلب ، وغررتنا غرور السراب ، ومنيتنا أماني الكمون . ولبعضهم : أما بعد فلا تدعني مقلقاً بوعدك فالعذر الجميل أحسن من المطل الطويل ، فإن كنت تريد الإنعام فأنجح وإن تعذرت الحاجة فأوضح ، وأعلمني ذلك لأصرف وجه الطلب إلى غيرك . وذكروا أن فتى من مراد كان يختلف إلى عمرو بن العاص فقال له ذات يوم : إنك امرأة ؟ قال : لا . قال : فتزوج وعلي المهر ، فرجع إلى أمه فأخبرها الخبر فقالت : إذا حدثتك النفس إنك قادر . . . على ما حوت أيدي الرجال فكذب فتزوج وأتى عمرو بن العاص فاعتل عليه ولم ينجز وعده فشكا ذلك إلى أمه فقالت : لا تغضبن على امرئ في ماله . . . وعلى كرائم حر مالك فاغضب ووصف إعرابي رجلاً فقال له : بشر مطمع ومطل مؤيس وكنت منه أبداً بين الطمع واليأس لا بذل سريح ولا مطل مريح ، وقال إعرابي : أنا من فلان في أماني تهبط العصم وخلف يذكر العدم ولست بالحريص الذي إذا وعده الكذوب علق نفسه لديه واتعب راحته إليه ، وذكر إعرابي رجلاً فقال له : مواعيد عواقبها المطل وثمارها الخلف ومحصولها اليأس ، ويقال : سرعة اليأس أحد النجحين ، وقال بعضهم : مواعيد فلان مواعيد عرقوب ، ولمع الآل ، وبرق الخلب ، وأماني الكون ، ونار الحباحب ، وصلف تحت الراعدة ، ومما قيل في ذلك : أروح وأغدو نحوكم في حوائجي . . . فأصبح فيها غدوةً كالذي أمسي وقد كنت أرجو للصديق شفاعتي . . . فقد صرت أرضى أن أشفع في نفسي ولأبي النواس : وعدتني وعدك حتى إذا . . . أطمعتني في كنز قارون جئت من الليل بغسالة . . . تغسل ما قلت بصابون

ولأبي تمام : يحتاج من يرتجي نوالكم . . . إلى ثلاث من غير تكذيب كنوز قارون أن تكون له . . . وعمر نوح وصبر أيوب وقال آخر : إني رأيت من المكارم حسبكم . . . أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا وقال حسان بن ثابت : إني لأعجب من قول غررت به . . . حلو يمد إليه السمع والبصر لو تسمع العصم من صم الجبال به . . . ظلت من الراسيات العصم تنحدر كالخمر والشهد يجري فوق ظاهره . . . وما لباطنه طعم ولا خبر وكالسراب شبيهاً بالغدير وإن . . . تبغ السراب فلا عين ولا قطر لا ينبت العشب عن برق وراعدة . . . غراء ليس لها سيل ولا مطر وقال آخر : رأيت أبا عثمان يبذل عرضه . . . وخبز أبي عثمان في أحرز الحرز يحن إلى جاراته بعد شبعه . . . وجاراته غرثى تحن إلى الخبز وقال آخر : ما كنت أحسب أن الخبز فاكهة . . . حتى نزلت على أرض بن منصور الحابس الروث في اعفاج بغلته . . . خوفاً على الحب من لقط العصافير وقال آخر : نوالك دونه خرط القياد . . . وخبزك كالثريا في البعاد ترى الإصلاح صوفك لا لنسك . . . وكسر الخبز من عمل الفساد

أرى عمر الرغيف يطول جداً . . . لديك كأنه من قوم عاد وقال آخر : اللؤم منك على الطعام طباع . . . فعيال بيتك ما حييت جياع وإذا يمر بباب دارك سائل . . . حملت عليه نوابح وسباع وعلى رغيفك حية مسمومة . . . وعلى خوانك عقرب وشجاع وقال آخر : يا تارك البيت على الضيف . . . وهارباً عنه من الخوف طيفك قد جاء بخبز له . . . فارجع وكن ضيفاً على الضيف إذا اشتهى الضيف طبيخ الشتا . . . أتاه بالشهوة في الصيف وإن دنا المسكين من بابه . . . شد على المسكين بالسيف وقال آخر : رأى ضيفك بالدار . . . وكرب الجوع يغشاه على خبزك مكتوباً . . . سيكفيكم الله وقال آخر : لأبي نوح رغيف . . . أبدا في حجر دايه ابدا يمسحه الدهر . . . بكم ووقايه وله كاتب سر . . . خط فيه بعنايه فسيكفيكهم الله . . . إلى آخر الآية وقال آخر :

الخبز يبطي حين يدعو به . . . كأنه يقدم من قاف ويمدح الملح لأصحابه . . . يقول هذا ملح سيراف سيان أكل الخبز في داره . . . وقلع عينيه بخطاف وقال آخر : فتىً لا يغار على عرسه . . . ولكن يغار علي خبزه فمنه يد الجود مقبوضة . . . وكف السماحة في عجزه وقال آخر : يصونون أثوابهم في التخوت . . . وأزواجهم بذلة في السكك ينحون من رام رغفانهم . . . ويدنون من رام حل التكك وقال آخر : أما الرغيف على الخوا . . . ن فمن حمامات الحرم ما إن يجس ولا يمس ولا يذاق ولا يشم فتراه أخضر بابسا . . . بالي النقوش من الهرم وقال آخر : أتينا أبا طاهر مفطرين . . . إلى داره فرجعنا صياما وجاء بخبز له حامض . . . فقلت دعوه وموتوا كراما وقال آخر : يبخل بالماء ولو أنه . . . منغمس في وسط النيل شحاً فلا تطمع في خبزه . . . ولو تشفعت بجبريل وعن حذيفة بن محمد الطائي قال : قال الرشيد : ما لأحد من المولودين ما لأبي

نواس في الهجاء : وما روحتنا لتذب عنا . . . ولكن خفت مرزئة الذباب شرابك كالسراب إذا التقينا . . . وخبزك عند منقطع التراب وقال آخر : خان عهدي عمرو وما خنت عهده . . . وجفاني وما تغيرت بعده ليس لي ما حييت ذنب إليه . . . غير أني يوماً تغذيت عنده وقال الخليل بن أحمد العروضي الأزدي : فكفاه لم تخلقا للندى . . . ولم يك بخلهما بدعه فكف على الخبز مقبوضة . . . كما نقضت مائة تسعه وكف ثلاثة آلافها . . . وتسع مئيها لها شرعه وقال ابن أبي البغل : وكل من أجتديه في بلد . . . أروم مما لديه في صفد يعقد لي باليسار أربعةً . . . منقوضة تسعةً إلى العدد وقال آخر : أتيت أبا عمرو أرجي نواله . . . فزاد أبو عمرو على حزني حزنا فكنت كباغي القرن أسلم أذنه . . . فآب بلا أذن ولم يستفد قرنا

محاسن الشجاعة
قيل : كان باليمامة رجل من بني حنيفة يقال له جحدر بن مالك ، وكان لسناً فاتكاً شجاعاً شاعراً ، وكان قد أبر على أهل هجر وناحيتها ، فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فكتب إلى عامل اليمامة يوبخه بتلاعب جحدر به ، ويأمره بالتجرد في طلبه حتى يظفر به ، فبعث العامل إلى فتية من بني يربوع بن حنظلة ، فجعل لهم جعلاً عظيماً إن هم قتلوا جحدراً أو أتوه به أسيراً ، ووعدهم أن يوفدهم إلى الحجاج ويسني فرائضهم ، فخرج الفتية في طلبه حتى إذا كانوا قريباً منه بعثوا إليه رجلاً منهم يريه أنهم يريدون الانقطاع إليه والتحرم به ، فوثق بهم واطمأن إليهم ، فبينما هم على ذلك إذ شدوه وثاقاً وقدموا به إلى العامل ، فبعث به معهم إلى الحجاج وكتب يثني على الفتية . فلما قدموا على الحجاج قال له : أنت جحدر ؟ قال : نعم . قال : ما حملك على ما بلغني عنك ؟ قال : جرأة الجنان ، وجفوة السلطان ، وكلب الزمان ، قال : وما الذي بلغ من أمرك فيجترئ جنانك ويصلك سلطانك ولا يكلب زمانك ؟ قال : لو بلاني الأمير لوجدني من صالحي الأعوان ، وبهم الفرسان وممن أوفى على أهل الزمان . قال الحجاج : إنا قاذفوك في قبة فيها أسد فإن قتلك كفانا مؤونتك ، وإن قتلته خليناك ووصلناك ، قال : قد أعطيت أصلحك الله الأمنية وأعظمت المنة وقربت المحنة . فأمر به فاستوثق منه بالحديد وألقي في السجن ، وكتب إلى عامله بكسكر يأمره أن يصيد له أسداً ضارياً ، فلم يلبث العام أن بعث إليه بأسد ضاريات قد أبرت على أهل تلك الناحية ، ومنعت عامة مراعيهم ومسارح دوابهم ، فجعل منها واحداً في تابوت يجر على عجلة ، فلما قدموا به على الحجاج أمر فألقى في حيز وأجيع ثلاثاً ، ثم بعث إلى جحدر فأخرج وأعطي سيفاً ودلي عليه فمشى إلى الأسد وأنشأ يقول : ليث وليث في مكان ضنك . . . كلاهما ذو أنف ومحك وصولة في بطشة وفتك . . . إن يكشف الله قناع الشك وظفراً بجؤجؤ وبرك . . . فهو أحق منزل بترك

الذئب يعوي والغراب يبكي حتى إذا كان منه على قدر رمح تمطى الأسد وزأر وحمل عليه فتلقاه جحدر بالسيف فضرب هامته ففلقها وسقط الأسد كأنه خيمة قوضتها الريح ، فانثنى جحدر وقد تلطخ بدمه لشدة حملة الأسد عليه ، فكبر الناس فقال الحجاج : يا جحدر إن أحببت أن ألحقك ببلادك وأحسن صحبتك وجائزتك فعلت بك ، وإن أحببت أن تقيم عندنا أقمت فأسنينا فريضتك ، قال : اختار صحبة الأمير ، ففرض له ولجماعة أهل بيته وأنشأ جحدر يقول : يا جمل إنك لو رأيت بسالتي . . . في يوم هيج مردف وعجاج وتقدمي لليث أرسف نحوه . . . حتى أكابده على الإحراج جهم كأن جبينه لما بدا . . . طبق الرحى متفجر الأثباج يرنو بناظرتين تحسب فيهما . . . من ظن خالهما شعاع سراج شثن براثنه كأن نيوبه . . . زرق المعاول أو شذاة زجاج وكأنما خيطن عليه عباءة . . . برقاء أو خلق من الديباج قرنان محتضران قد ربتهما . . . أم المنية غير ذات نتاج وعلمت إني أن أبيت نزاله . . . إني من الحجاج لست بناج فمشيت أرشف في الحديد مكبلاً . . . بالموت نفسي عند ذاك أناجي والناس منهم شامت وعصابة . . . عبراتهم لي بالحلوق شواجي ففلقت هامته فخر مكانه . . . أطم تقوض مائل الأبراج ثم انثنيت وفي قميصي شاهد . . . مما جرى من شاخب الأوداج أيقنت إني ذو خفاظ ماجد . . . من نسل أملاك ذوي أتواج

فلئن قدفت إلى المنية عامداً . . . إني لخيرك بعد ذلك راجي علم النساء بأنني لا أنثني . . . إذ لا يثقن بغيره الأزواج وحكى عن الطفيل بن عامر العمري قال : خرجت ذات يوم أريد الغار ، وكنت رجلاً أحب الوحدة ، فبينا أنا أسير إذ ضللت الطريق الذي أردته ، فسرت أياماً لا أدري أين أتوجه حتى نفذ زادي ، فجعلت آكل الحشيش وورق الشجر حتى أشرفت على الهلاك ويئست من الحياة ، فبينا أنا أسير إذ أبصرت قطيع غنم في ناجية من الطريق فملت إليها ، وإذا شاب حسن الوجه فصيح اللسان ، فقال لي : يا بن العم أين تريد ؟ فقلت : أردت حاجة لي من بعض المدن وما ظني إلا قد ضللت الطريق ، فقال : أجل إن بينك وبين الطريق مسيرة أيام فانزل حتى تستريح وتطمئن وتريح فرسك ، فنزلت فرمى لفرسي حشيشاً وجاء إلي بثريد كثير ولبن ، ثم قام إلى كبش فذبحه وأجج ناراً وجعل يكبب لي ويطعمني حتى اكتفيت ، فلما جنتا الليل قام وفرش لي وقال : قم فارم بنفسك فإن النوم اذهب لتعبك وارجع لنفسك ، فقمت ووضعت رأسي ، فبينا أنا نائم إذ أقبلت جارية لم تر عيناي مثلها قط حسناً وجمالاً ، فقصدت إلى الفتى وجعل كل واحد منهما يشكو إلى صاحبه ما يلقى من الوجد به ، فامتنع علي النوم لحسن حديثهما فلما كان في وقت السخر قاما إلى منزلها ، فلما أصبحنا دنوت منه فقلت له : ممن الرجل ؟ قال : أنا فلان بن فلان ، فانتسب لي معرفته فقلت له : ويحك إن أباك لسيد قومه ، فما حملك وضعك نفسك في هذا المكان ؟ فقال : أنا والله أخبرك ، كنت عاشقاً لابنة عمي هذه التي رأيتها وكانت هي أيضاً لي واهقة ، فشاع خبرنا في الناس ، فأتيت عمي فسألته أن يزوجنيها . فقال : يا بني ، والله ما سألت شططاً ، وهاهي بآثر عندي منك ، ولكن الناس قد تحدثوا بشيء وعمك يكره المقالة القبيحة ، ولكن انظر غيرها في قومك حتى يقوم عمك بالواجب لك ، فقلت : لا حاجة لي فيما ذكرت وتحملت عليه بجماعة من قومي فردهم وزوجها رجلاً من ثقيف له رياسة وقدر فحملها إلى ههنا - وأشار إلى خيم كثيرة بالقرب منا

- فضاقت علي الدنيا برحبها وخرجت في أثرها فلما رأتني فرحت فرحاً شديداً وقلت لها : لا تخبري أحداً إني منك بسبيل ثم أتيت زوجها وقلت : أنا رجل من الأزد أصبت دماً وأن خائف ، وقد قصدتك لما أعرف من رغبتك في اصطناع المعروف ولي بصر بالغنم إن رأيت أن تعطيني من غنمك شيئاً فأكون من جوارك وكنفك فأفعل . قال : نعم وكرامة ، فأعطاني مائة شاة وقال لي : لا تبعد بها من الحي ، وكانت ابنة عمي تخرج إلي كل ليلة في الوقت الذي رأيت وتنصرف ، فلما رأى حسن حال الغنم أعطاني هذه فرضيت من الدنيا بما ترى . قال : فأقمت عنده أياماً فبينا أنا نائم إذ نبهني وقال : يا أخا بني عامر ، قلت له : ما شأنك ؟ قال : إن ابنة عمي قد أبطأت ولم تكن هذه عادتها وو الله ما أظن ذلك إلا لأمر حادث فحدثني فجعلت أحدثه ، فأنشأ يقول : ما بال مية لا تأتي كعادتها . . . هل هاجها طرب أوصدها شغل لكن قلبي لا يعنيه غيركم . . . حتى الممات ولا لي غيركم أمل لو تعلمين الذي لي من فراقكم . . . لما اعتذرت ولا طابت لك العلل نفسي فداؤك قد أحللت بي حرقاً . . . تكاد من حرها إلا حشاء تفصل لو كان عادية منه على جبل . . . لزل وأنهد من أركانه الجبل فو الله ما اكتحل بغمض حتى انفجر عمود الصبح وقام ومر نحو الحي فأبطأ عني ساعة ثم أقبل ومعه شئ وجعل يبكي عليه ، فقلت له : ما هذا ؟ قال : هذه ابنة عمي افترسها السبع فأكل بعضها ووضعها بالقرب مني فأوجع والله قلبي ، ثم تناول سيفه ومر نحو الحي فأبطأ هنيهة ثم أقبل إلي وعلى عاتقه ليث كأنه حمار فقلت له : ما هذا ؟ قال : صاحبي ، قلت : وكيف علمته ؟ قال : إني قصدت الموضع الذي أصابها فيه وعلمت أنه سيعود إلى ما فضل منها ، فجاء قاصداً إلى ذلك الموضع فعلمت أنه هو فحملت عليه فقتلته ، ثم قام فحفر في الأرض فأمعن وأخرج ثوباً جديداً وقال : يا أخا بني عامر إذا أنا مت فأدرجني معها في هذا الثوب ، ثم ضعنا في هذه الحفرة وهل التراب واكتب هذين

البيتين على قبرنا وعليك السلام : كنا على ظهرها والعيش في مهل . . . والدهر يجمعنا والدار والوطن فخاننا الدهر في تفريق الفتنا . . . واليوم يجمعنا في بطنها الكفن ثم التفت إلى الأسد وقال : ألا أيها الليث المدل بنفسه . . . هبلت لقد جرت يداك لنا حزنا وغادرتني فرداً وقد كنت آلفاً . . . وصيرت آفاق البلاد لنا سجنا أأصحب دهراً خانني بفراقها . . . معاذ إلهي أن أكون له خدنا ثم قال : يا أخا بني عامر إذا فرغت من شأننا فصح في إدبار هذه الغنم ، فردها إلى صاحبها ثم قام إلى شجرة فاختنق حتى مات ، فقمت فأدرجتهما في ذلك الثوب ووضعتهما في تلك الحفرة وكتبت البيتين على قبرهما ، ورددت الغنم إلى صاحبها ، وسألني القوم فأخبرتهم الخبر ، فخرج جماعة منهم فقالوا : والله لننحرن عليه تعظيماً له ، فخرجوا وأخرجوا مائة ناقة وتسامع الناس فاجتمعوا إلينا فنحرت ثلثمائة ناقة ثم انصرفنا . وقيل لما كان من أمر عبد الرحمن من الأشعث الكندي ما كان ، قال الحجاج اطلبوا لي شهاب بن حرقة السعدي في الأسرى أو القتلى فوجدوه في الأسرى فلما أدخل على الحجاج قال له : من أنت ؟ قال : أنا شهاب بن حرقة ، قال : والله لأقتلنك ، قال : ما كان الأمير بالذي يقتلني . قال : ولم ؟ قال : لأن في خصالاً يرغب فيهن الأمير . قال : وما هن ؟ قال : ضروب بالصفيحة ، هزوم للكثيرة من الكتيبة ، أحمي الجار وأذب عن الذمار وأجود على العسر من اليسر غير بطئ عن النصر . قال الحجاج : ما أحسن هذه الخصال فأخبرني بأشد شئ مر عليك ، قال : نعم أصلح الله الأمير : بينا أنا أسير ، ومركبي وثير ، في عصبة من قومي ، في ليلتي ويومي ، يمضون كالآجادل ، في الحرب كالبواسل ، أنا المصاع فيهم ، في كل ما يليهم ، فسرت خمساً عوماً وبعد خمس يوماً ، حتى وردت أرضاً ، ما أن ترام عرضاً ، من بلد البحرين ، عند طلوع العين ، فهجتهم نهاراً ، التمس المغارا ، حتى إذا كان السحر ، من بعد ما غاب القمر ، إذا أنا بعير ، يقودها خفير ،

موقرة متاعاً ، مقيلة سراعاً ، فصلت بالسنان ، مع سادة فتيان ، فسقتها جميعاً ، أحثها سريعاً ، أريد رجع عالج ، أمعج بالعناجج ، أسير في الليالي ، خرقاً بعيداً خالي ، وقد لقينا تعباً ، وبعد ذاك نصباً ، حتى إذا هبطنا ، من بعد ما صعدنا ، عنت لنا بيدانه ، قد كان فيها عانه ، رميتها بقوسي ، في مهمه كالترس ، حتى إذا ما أمعنت ، بالقفز ثم درمت ، وردت قصراً منهلاً ، في جوفه طام حالاً ، وعنده خبيمة ، في جوفها نعيمة ، غزيرة كالشمس ، فاقت جميع الأنس ، فعجت مهري عندها ، حتى وقفت معها ، حييت ثم ردت ، في لطف وحيت ، فقلت يا لعوب ، والطفلة العروب ، هل عندكم قراء ، إذ نحن بالعراء ، قالت نعم برحب ، في لطف وقرب ، أربع هنا عتيداً ، ولا تكن بعيداً ، حتى يجئك عامر ، مثل الهلال زاهر ، فعجت عن قريب ، في باطن الكئيب ، حتى رأيت عامراً ، يحمل ليثاً خادراً ، على عتيق سابح ، كمثل طود اللامح . قال : وكان الحجاج متكئاً فاستوى جالساً ثم قال : ويحك دعنا من السجع والرجز وخذ في الحديث ، قال : نعم أيها الأمير ثم نزل فربط فرسه وجمع حجارة وأوقد عليه ناراً وشق عن بطن الأسد وألقى مرافه في النار فجعلت ، أصلح الله الأمير ، اسمع للحم الأسد نشيشاً فقالت له نعيمة : قد جائنا ضيف وأنت في الصيد ، قال : فما فعل ؟ قالت : ها هو ذاك بظهر الكثيب والخيمة ، فأومأت إلي ، فأتيتها ، فإذا أنا بغلام أمرد كأن وجهه دارة القمر فربط فرسي إلى جنب فرسه ودعاني إلى طعامه فلم أمتنع عن أكل لحم الأسد لشدة الجوع ، فأكلت أنا ونعيمة منه بعضه وأتى الغلام على آخره ، ثم قام إلى زق فيه خمر فشرب ، ثم سقاني فشربت ثم شرب الغلام حتى أتى إلى آخره ، فبينما نحن كذلك إذ سمعت وقع حوافر خيل أصحابي فقمت وركبت فرسي وتناولت رمحي وصرت معهم ثم قلت : يا غلام خل عن الجارية ولك ما سواها فقال : ويلك أحفظ الممالحة ، قلت : لابد من الجارية وفارس ، فالتفت إليها وقال لها : قفي ، ثم قال : يا فتيان هل لكم في العافية ؟ وإلا فارس وفارس فبرز إليه رجل من أصحابي فقال له الغلام : من أنت ؟ فلست

أقاتل من لا أعرفه ولا أقاتل إلا كفوءاً أعرفه ، فقال : أنا عاصم بن كلبة السعدي ، فشد عليه وأنشد يقول : إنك يا عاصم بي لجاهل . . . إذ رمت أمراً أنت عنه ناكل إني كمي في الحروب باسل . . . ليث إذا اصطك الليوث بازل ضراب هامات العدى منازل . . . قتال أقران الوغى مقاتل ثم طعنته فقتلته . وقال : يا فتيان ، هل لكم في العافية ؟ وإلا فارس وفارس ، فتقدم إليه آخر من أصحابي فقال له الغلام : من أنت ؟ فقال : أنا صابر بن حرقة . فشد عليه وأنشأ يقول : إنك والإله لست صابرا . . . على سنان يجلب المقادرا ومنصل مثل الشهاب باترا . . . في كف قزم يمنع الحرائرا إني إذا رمت امرأ فآسرا . . . يكون قرني في الحروب بائرا ثم طعنه فقتله . ثم قال : يا فتيان هل لكم في العافية ؟ وإلا فارس لفارس فلما رأيت ذلك هالني أمره وأشفقت على أصحابي فقلت : احملوا عليه حملة رجل واحد فلما رأى ذلك أنشأ يقول : الآن طاب الموت ثم طابا . . . إذ تطلبون رخصة كعابا ولا نريد بعدها عتابا فركبت نعيمة فرسها وأخذت رمحا فما زال يجالدنا ونعيمة حتى قتل منا عشرين رجلاً فأشفقت على أصحالي فقلت : يا غلام قد قبلنا العافية والسلامة . فقال : ما كان أحسن هذا لو كان أولاً ونزلنا وسالمنا . ثم قلت : يا عامر بحق الممالحة من أنت ؟ قال : أنا عامر بن حرقة الطائي وهذه ابنة عمي ونحن في هذه البرية منذ زمان ودهر ما مر بنا إنسي غيركم ، فقلت : من أين طعامكم ؟ قال حشرات الطير والوحش والسباع . قلت : فمن أين شرابكم ؟ قال : الخمر أجلبها من بلاد البحرين كل عام مرة أو مرتين . قلت : إن معي مائة من

الإبل موقرة متاعاً فخذ منها حاجتك . فقال : لا أرب لي فيها ولو أردت ذلك لكنت أقدر عليه فارتحلنا عنه منصرفين . فقال الحجاج : الآن يا عدو الله طاب قتلك لغدرك بالفتى . قال : كان خروجي على الأمير أصلحه الله أعظم من ذلك فإن عفا عني الأمير رجوت أن لا يؤاخذني بغيره فأطلقه ووصله ورده إلى بلده .
ضده
قال : دخل أبو زبيد الطائي على عثمان بن عفان في خلافته ، وكان نصرانياً فقال له : بلغني أنك تجيد وصف الأسد . فقال له : لقد رأيت منه منظراً وشهدت منه مخبراً لا يزال ذكره يتجدد على قلبي . قال : هات ما مر على رأسك منه . قال : خرجت يا أمير المؤمنين في صيابة ، من إفناء قبائل العرب ذوي شارة حسنة ترتمي بنا المهاري بأكسائها القزوانيات ومعنا البغال عليها العبيد يقودون عتاق الخيل نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام ، فاخروط بنا المسير في حمارة القيظ حتى إذا عصبت الأفواه وذبلت الشفاه وشالت المياه وأذكت الجوزاء المعزاء وذاب الصيخد وصر الجندب وضايق العصفور الضب في وجاره قال قائلنا : أيها الركب غوروا بنا في دوح هذا الوادي فإذا واد كثير الدغل دائم الغلل شجراؤه مغنة وأطياره مرنة ، فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات فأصبنا من فصلات المزاود وأتبعناها بالماء البارد ، فأنا لنصف حر يومنا ومماطلته إذ صر أقصى الخيل أذنيه وفحص الأرض بيده ، ثم ما لبث إن جال فحمحم وبال فهمهم ثم فعل فعله الذي يليه واحد بعد واحد فتضعضعت الخيل وتكعكعت الإبل وتقهقرت البغال ، فمن نافر بشكاله وناهض بعقاله فعلمنا أن قد أتينا وأنه السبع لا شك فيه ففزع كل امرئ منا إلى سيفه واستله من جربانه ، ثم وقفنا له رزدقاً فأقبل يتطالع في مشيته كأنه مجنوب أو في هجار لصدره نحيط وليلا غيمه غطيط ولطرفه وميض ولا رساغى نقيض كأنما يخبط هشيماً أو يطأ صريماً ، وإذا هامة كالمجن وخد كالمسن وعينان سجراوان كأنهما سراجان يقدان وقصرة ربلة ولهذمة رهلة وكتد مغبط وزور مفرط وساعد مجدول وعضد مفتول وكف شثنة البراسن إلى مخالب كالمحاجن ثم ضرب

بذنبه فأرهج وكشر فأفرج عن أنياب كالمعاول مصقولة غير مفلولة وفم أشدق كالغار الأخرق ثم تمطى فأسرع بيديه وحفر وركبه برجليه حتى صار ظله مثليه ، ثم أقعى فاقشعر ، ثم مثل فاكفهر ، ثم تجهم فازبأر ، فلا والذي بيته في السماء ما أتقيناه بأول من أخ لنا من بني فزارة كان ضخم الجزارة فوهصه ثم أقعصه فقضقض متنه وبقر بطنه ، فجعل يلغ في دمه فذمرت أصحابي فبعد لأي ما استقدموا فكر مقشعر الزبرة كأن به شيهماً حولياً فاختلج من دوني رجلاً أعجز ذا حوايا فنفضة نفضة فتزايلت أوصاله وانقطعت أوداجه ، ثم نهم فقرقر ، ثم زفر فبربر ، ثم زأر فجرجر ثم لحظ ، فو الله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه عن شماله ويمينه ، فارتعشت الأيدي واصطكت الأرجل وأطت الأضلاع وارتجت الأسماع وحمجلت العيون وانخزلت المتون ولحقت الظهور البطون ثم ساءت الظنون وأنشأ يقول : عبوس شموس ، مصلخد خنايس . . . جرئ على الأرواج للقرن قاهر منيع ويحمي كل واد يرومه . . . شديد أصول الماضغين مكابر براثنه شثن وعينا في الدجى . . . كجمر الغضا في وجهه الشر ظاهر يدل بأثياب حداد كأنها . . . إذا قلص الأشداق عنها خناجر فقال عثمان : أكفف لا أم لك ، فلقد أرعبت قلوب المسلمين ولقد وصفته حتى كأني أنظر إليه يريد يواثبني . وقيل في المثل : وهو أجبن من هجرس - وهو القرد - وذلك لأنه لا ينام إلا وفي يده حجر مخافة أن يأكله الذئب . وحدثنا رجل بمكة قال : إذا كان الليل رأيت القرود تجتمع في موضع واحد ثم تبيت مستطيلة واحداً في أثر واحد في يد كل واحد منهم حجر لئلا ترقد فيأتيها الذئب فيأكلها وإن نام واحد وسقط الحجر من يده خرج فتحرك الآخر فصار قدامه فلا نزال كذلك طول الليل فتصبح وقد صارت من الموضع الذي باتت فيه على ثلاثة أميال أو أكثر جبناً . وقيل : هو أجبن من صافر وهو طائر يتعلق برجليه وينكس رأسه ثم يصفر ليلته كلها خوفاً من أن ينام فيؤخذ . وقيل أيضاً : هو أجبن من المنزوف ضرطاً . وكان من حديثه أن

نسوة من العرب لم يكن لهن رجل فتزوجت واحدة منهن برجل كان ينام إلى الضحى فغذا انتبه ضربنه وقلن له قم فاصطبح ويقول : لو لعادية نبهتنني - أي خيل عادية هليكن مغيرة فأدخلها عنكن - فلما رأين ذلك فرحن وقلن : إن صاحبنا لشجاع ثن اقبلن عليه وقلن : تعالين نجربه فأتينه كما كن يأتينه فأيقظنه فقال : لو لعادية نبهتنني فقلن له : نواصي الخيل معك ، فجعل يقول : الخيل الخيل ويضرط حتى مات فضرب به المثل . وقيل لجبان : انهزمت فغضب الأمير عليك ، قال : ليغضب الأمير وأنا حي أحب إلي من أن يرضى وأنا ميت . وقبل لبعض المجان : ما لك لا تغزو ؟ قال : والله إني لأبغض الموت على فراشي فكيف أمر إليه ركضاً ؟ قال : وقال الحجاج لحميد الأرقط وقد أنشده قصيدة يصف فيها الحرب : يا حميد هل قاتلت قط ؟ قال : لا أيها الأمير إلا في النوم . قال : وكيف كانت وقعتك ؟ قال : انتبهت وأنا منهزم . ومما قيل في ذلك من الشعر : ظلت تشجعني هند بتضليل . . . وللشجاعة خطب غير مجهول هاتي شجاعاً لغير القتل مصرعه . . . أوجدك ألف جبان غير مقتول الحرب توسع من يصلى بها حربا . . . يتم العيال وإثكان المثاكيل اسم الوغى اشتق من غوغاء يحربها . . . يغدون للموت كالطير الأبابيل والله لو أن جبريلاً تكفل لي . . . بالنصر ما خاطرت نفسي لجبريل هل غير أن يعذروني أنني فشل . . . فكل هذا نعم فأغروا بتعزيلي إن أعتذر من فراري في الوغى أبداً . . . كان اعتذاري رديداً غير مقبول اسمع أخبرك عن بأسي بذي سلب . . . خلاف بأس المساعير البهاليل لما بدت منهم نحوي عشوزنة . . . شماء تشرع في عرضي وفي طولي

فقلت ويحكم لا ترهبوا جلدي . . . رمحي كسير وسيفي غير مصقول لما اتقيتهم طوعاً بذات يد . . . وانصعت أطوي الفلا ميلاً إلى ميل الله خلصني منهم وفلسفتي . . . حتى تخلصت مخضوب السراويل وقال آخر : أضحت تشجعني هند فقلت لها . . . إن الشجاعة مقرون بها العطب لا والذي قبحت الأنظار كعبته . . . ما يشتهي الموت عندي من له إرب للحرب قوم أضل الله سعيهم . . . إذا دعتهم إلى حوماتها وثبوا ولست منهم ولا أهوى فعالهم . . . لا القتل يعجبني منهم ولا السلب وقال آخر : يقول لي الأمير بغير جرم . . . تقدم حين حل بنا المراس فما لي أن أطعتك في حياة . . . ولا لي غير هذا الراس راس
محاسن حب الوطن
قال عمر بن الخطاب : لولا حب الوطن لخرب بلد السوء . وكان يقدم : بحب الأوطان عمرت البلدان ، وقال جالينوس : يتروح العليل بنسيم أرضه كما تتروح الأرض الجدبة ببل المطر . وقال بقراط : يداوي كل عليل بعقاقير أرضه كأن الطبيعة تنزع إلى غذائها ، ومما يؤكد ذلك قول إعرابي وقد مرض بالحضر فقيل له : ما تشتهي ؟ فقال : مخيضاً روباً وضباً مشوياً ، وقد قيل : أحق البلدان بنزاعك إليها بلد أمصك حلب رضاعه ، وقيل : احفظ أرضاً أرسخك رضاعها ، وأصلحك غذاؤها ، وارع حمى اكتنفك فناؤه ، وقيل : لا تشك بلداً فيه قبائلك . وقيل : من علامة الرشد أن تكون النفس

إلى أوطانها مشتاقة وإلى مولدها تواقة . وحدثنا بعض بني هاشم قال : قلت لإعرابي : من أين أقبلت ؟ قال : من هذه البادية ، قلت : وأين تسكن منها ؟ قال : مساقط الحمى حمى ضرية ما إن لعمر الله أريد بها بدلاً ولا أبتغي عنها حولاً حفتها الفلوات فلا يملولح ماؤها وتحمى تربتها ليس فيها أذى ولا قذى ولا وعك ولا لوم ونحن بارفه عيش وأوسع معيشة وأسبغ نعمة . قلت : ما طعامكم ؟ قال : بخ بخ الهبيد والضباب واليرابيع مع القنافذ والحيات وريثما والله أكلنا القد واشتوينا الجلد فلا نعلم أحداً أخصب منا عيشاً ، فالحمد لله على ما رزق من السعة وبسط من حسن الدعة . وقيل لإعرابي : كيف تصنع بالبادية إذا انتصف النهار وانتعل كل شئ ظله ؟ فقال : وهل العيش إلا ذاك ؟ يمشي أحدنا ميلاً فيرفض عرقاً كأنه الجمان ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساه وتقبل الرياح من كل جانب فكأنه في إيوان كسرى . وقال بعض الحكماء عسرك في بلدك خير من يسرك في غربتك . وقيل لإعرابي : ما الغبطة ؟ قال : الكفاية ولزوم الأوطان والجلوس مع الإخوان ، وقيل : فما الذل ؟ قال : التنقل في البلدان والتنحي عن الأوطان . وقال بعض الأدباء : الغربة ذلة والذلة قلة ، وقال الآخر : لا تنهض عن وطنك ووكرك فتنقصك الغربة وتصمتك الوحدة . وشبهت الحكماء الغريب باليتيم اللطيم الذي ثكل أبويه فلا أم تر أمه ولا أب يحدب عليه . وكان يقال : الغريب عن وطنه ومحل رضاعه كالفرس الذي زايل أرضه وفقد شربه فهو ذاو لا يثمر وذابل لا ينضر . وكان يقال : الجالي عن مسقط رأسه كالعير عن موضعه الذي هو لكل رام رمية ، وأحسن من ذلك وأصدق قول الله عز وجل : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء . وقال تعالى : ولو أنما كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ، فقرن جل ذكره الجلاء عن الوطن بالقتل ، وقال تقدست أسماؤه : وما لنا إلا أن نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ، فجعل القتال بازاء الجلاء ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : الخروج عن الوطن عقوبة ، ومما قيل في ذلك من الشعر : إذا ما ذكرت الثغر فاضت مدامعي . . . وأضحى فؤادي نهبة للهماهم

حنينا إلى أرض بها اخضر شاربي . . . وحلت بها عني عقود التمائم والطف قوم بالقتة أهل أرضه . . . أرعاهم للمرء حق التقادم وقال آخر : أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي . . . خيام بنجد دونها الطرف يقصر وما نظري من نحو نجد بنافعي . . . أجل لا ولكني على ذاك أنظر ففي كل يوم قطرة ثم عبرة . . . لعيشك يجري ماؤها يتحدر متى يسترح قلب فإما محاذر . . . حزين وإما نازح يتذكر وقال آخر : نقل فؤادك حيث شئت من الهوى . . . ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه القتى . . . وحنينه أبداً لأول منزل وقال ابن أبي السرح : قرأت على حائط بيتي شعر ، وهما : إن الغريب ولو يكون ببلدة . . . يجبى إليه خرجها لغريب وأقل ما يلقى الغريب من الأذى . . . إن يستذل وإن يقال كذوب وقال : وقرأت على حائط بعسكر مكرم : إن الغريب إذا ينادي موجعاً . . . عند الشدائد كان غير مجاب فإذا نظرت إلى الغريب فكن له . . . مترحماً لتباعد الأحباب وقال : وقرأت على حائط ببغداد : غريب الدار ليس له صديق . . . جميع سؤاله أين الطريق تعلق بالسؤال لكل شئ . . . كما يتعلق الرجل الغريق

فلا تجزع فكل قتى سيأتي . . . على حالاته سعة وضيق وقال : ووجدت على حائط باب مكتوباً : عليك سلام الله يا خير منزل . . . رحلنا وخلفناك غير ذميم فإن تكن الأيام فرقن بيننا . . . فما أحد من ريبها بسليم وقال آخر : وإن اغتراب المرء من غير حاجة . . . ولا فاقة يسمو لها لعجيب فحسب امرئ ذلاً ولو أدرك الغنى . . . ونال ثراءً ، أن يقال غريب وقال آخر : إن الغريب وإن يكن في غبطة . . . لمعذب وفؤاده محزون ومتى يكون مع التغرب عاشقاً . . . ومفارقاً يا رب كيف يكون وقال آخر : إن الغريب ذليل أينما سلكا . . . لو أنه ملك كل الورى ملكا إذا تغنى حمام الأيك في غصن . . . حن الغريب إلى أوطانه فبكى وقال آخر : سل الله الإياب من المغيب . . . فكم قد رد مثلك من غريب وسل الحزن منك بحسن ظن . . . ولا تيأس من الفرج القريب وقال آخر : تصبر ولا تعجل وقيت من الردى . . . لعل إياب الظاعنين قريب فقلت وفي قلبي جوى لفراقها : . . . ألا لا تصبرني فلست أجبيب

وقال آخر : أعاذل حبي للغريب سجية . . . وكل غريب للغريب حبيب لئن قلت لم أجزع من البين إن مضوا . . . لطيتهم إني إذاً لكذوب بلى غبرات الشوق اضرمت الحشا . . . ففاضت لها من مقلتي غروب وقال آخر : إذا اغترب الكريم رأى أموراً . . . مجللة يشيب لها الوليد وقال آخر : ما كنت أحسب أن يكو . . . ن كذا تفرقنا سريعا بخل الزمان علي أن . . . نبقى كما كنا جميعا فأحلني في بلدة . . . وأحلك البلد الشسيعا قد كنت أنتظر الوصال . . . فصرت أنتظر الرجوعا وقال آخر : نسيم الخزامى والرياح التي جرت . . . بنجد على نجد تذكرني نجدا أتاني نسيم السدر طيباً إلى الحمى . . . فذكرني نجداً فقطعني وجدا وفي معناه الدعاء للمسافر بأيمن طالع وأسر طائر ولا كبا بك مركب ولا أشت بك مذهب ولا تعذر عليك مطلب سهل الله لك السير وأتالك القصد وطوى لك البعد بمسرة الظفر وكرامة المدخر . على الطائر الميمون والكوكب السعد إلى حيث تتقاصر أيدي الحوادث عنك وتتقاعس نوائب الأيام دونك بسهولة الطلب ونجاح المنقلب . كان الله لك في سفرك خفيراً وفي حضرك ظهيراً بسعي نجيح وأوب سريح . بصرك الله محلك وهداك رحلك وسر بأوبتك أهلك ولا زلت آمناً مقيماً وظاعناً بأسعد جد وأنجح

مطلب واسر منقلب وأكرم بدأة وأحمد عاقبة . أشخص مصحوباً بالسلامة والكلاءة آئباً بالنجح والغبطة محوطاً فيما تطالعه بالعناية والشفقة في ودائع الله وكنفه وجواره وستره وأمانه وحفظه وذمامه . وقال رجل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إني أريد سفراً ، فقال : في كنف الله وستره زودك الله التقوى ووجهك إلى الخير حيثما كنت استخلف الله فيك واستخلفه منك . وقال الشاعر : في كنف الله وفي ستره . . . من ليس يخلو القلب من ذكره وقال آخر : ارحل أبا بشر بأيمن طائر . . . وعلى السعادة والسلامة فانزل
ضده
قال بعض حكماء الفلاسفة : اطلبوا الرزق في البعد فإنكم إن لم تكسبوا مالاً غنمتم عقلاً كثيراً ، وقال آخر : لا يألف الوطن إلا ضيق العطن . وقيل : لا توجشنك الغربة إذا آنستك النعمة . وقيل : الفقير في الأهل مصروم والغني في الغربة موصول . وقال : لا تستوحش من الغربة إذا أنست مصروماً . وقيل : أوحش قومك ما كان في إيحاشهم أنسك واهجر وطنك ما نبت عنه نفسك . وأنشد : لا يمنعنك خفض العيش في دعة . . . نزوع نفس إلى أهل وأوطان تلقى بكل بلاد إن حللت بها . . . أهلاً بأهل وجيراناً بجيران وقال آخر : نبت بك الدار فسر آمنا . . . فللفتى حيث انتهى دار وفي معناه الدعاء إلى المسافر بالبارح الأشأم والسانح الأعضب والصرد الأنكد والسفر الأبعد . لا استمرت به مطيته ولا استتبت به أمنيته ولا تراخت منيته . بنحس مستمر وعيش مر . لا قرى إذا استضاف ولا أمن إذا خاف . ويقال إن علياً عليه

السلام لما اتصل له مسير معاوية قال : لا أرشد الله قائده ولا أسعد رائده ولا أصاب غيثاً ولا سار إلا ريثاً ولا رافق إلا ليثاً أبعده الله وأسحقه وأوقد على أثره وأحرقه لا حط الله رحله ولا كشف محله ولا بشر به أهله ، لا زكى له مطلب ولا رحب له مذهب ولا يسر له مراماً لا فرج الله له غمه ولا سرى همه لا سقاه الله ماء ولا حل عقده ولا أروى زنده جعله الله سفر الفراق وعصى الشقاق وأنشد : بأنكد طائر وبشر فال . . . لأبعد غاية وأخس حال بحد السد حيث يكون مني . . . كما بين الجنوب إلى الشمال غريباً تمتطي قدميك دهرا . . . على خوف تحن إلى العيال وقال آخر : إذا استقلت بك الركاب . . . فحيث لا درت السحاب وحيث لا تبتغي فلاحا . . . وحيث لا يرتجى إياب وحيث ما درت فيه يوما . . . قايلك الذئب والغراب وقال آخر : فسر بالنحوس إلى بلدة . . . تعمر فيها ولا ترزق ولا تمرع الأرهن من زهرة . . . ولا يثمر الشجر المورق تفيض البحار بها مرة . . . ويكدى السحاب بها المغدق وقال آخر : أدنى خطاك الهند والصين . . . وكل نحس بك مقرون بحيث لا يأنس مستوحش . . . وحيث لا يفرح محزون تهوي بك الأرض إلى بلدة . . . ليس بها حاء ولا طين

محاسن الدهاء والحيل
قال الهيثم بن الحسن بن عمار : قدم سنيح من خزاعة أيام المختار فنزل على عبد الرحمن بن إبان الخزاعي ، فلما رأى ما تصنع سوقة المختار من الأعظام جعل يقول : يا عباد الله أبا المختار يصنع هذا والله لقد رأيته يتتبع الإماء بالحجاز فبلغ ذلك المختار فدعا به وقال : ما هذا الذي بلغني عنك . قال : الباطل ، فأمر بضرب عنقه . فقال : لا والله لا تقدر على ذلك ، قال : ولم ؟ قال : أما دون أن أنظر إليك وقد هدمت مدينة دمشق حجراً حجراً وقتلت المقاتلة وسبيت الذرية ثم تصلبني على شجرة على نهر والله إني لأعرف الشجرة الساعة وأعرف شاطئ ذلك النهر . فالتفت المختار إلى أصحابه فقال لهم : إن الرجل قد عرف الشجرة فحبس حتى إذا كان الليل بعث إليه فقال : يا أخا خزاعة أو مزاج عند القتل ؟ قال : أنشدك الله أن أقتل ضياعاً ، قال : وما تطلب ههنا ؟ قال : أربعة آلاف درهم أقتضي بها ديني . قال : ادفعوها إليه وإياك أن تصيح بالكوفة . فقبضها وخرج عنه . وعنه قال سراقة البارقي من ظرفاء أهل الكوفة فأسره رجل من أصحاب المختار فأتى به المختار فقال له : أسرك هذا ؟ قال سراقة : كذب والله ما أسرني إلا رجل عليه ثياب بيض على فرس أبلق . فقال المختار : إلا أن الرجل قد عاين المائكة ضلوا سبيله . فلما أفلت منه أنشأ يقول : ألا أبلغ أبا إسحاق إني . . . رأيت البلق دهما مصمتات أري عين ما لم ترأياه . . . كلانا عالم بالترهات كفرت يوحيكم وجعلت نذراً . . . علي قتالكم حتى الممات وعنه قال : كان الأحوص بن جعفر المخزومي يتغذى في دير اللج في يوم شديد ومعه حمزة بن بيض وسراقة البارقي ، فلما كان على ظهر الكوفى وعليه الوبر والخز وعليهما الأطمار قال حمزة لسراقة : أين يذهب بنا في البرد ونحن في أطمار ؟ قال :

سأكفيكه . فبينما هو يسير إذ دنا منهم راكب مقبل فحرك سراقة دابته نحوه وواقفه ساعة ولحق بالأحوص ، فقال له : ما خبرك الراكب ؟ قال : زعم أن فوارج خرجت بالقطقطانة . قال : بعيد . قال : إن الخوارج تسير في ليلة ثلاثين فرسخاً وأكثر . وكان الأحوص أحد الجبناء فثنى رأس دابته وقال : ردوا طعامنا نتغذى في المنزل . فلما حاذى منزله قال لأصحابه : ادخلوا . ومضى إلى خالد بن عبد الله القسري فقال : خرجت خارجة بالقطقطانة . فنادى خالد في العسكر فجمعهم ووجه خيلاً تركض نحو اللج لتعرف الخبر فأعلموه أنه لا أصل للخبر . فقال للأحوص : من أعلمك بهذا ؟ قال : سراقة . قال : وأين هو ؟ قال : في منزلي ، فأرسل إليه من أتاه به . قال : أنت أخبرته عن الخارجة ؟ قال : ما فعلت أصلح الله الأمير ، قال له الأحوص : أتكذبني بين يدي الأمير ، قال خالد : ويحك أصدقني . قال : نعم أخرجنا في هذا البرد وقد ظاهر الخز والوبر ونحن في أطمارنا هذه فأحببت أن أرده ، فقال له خالد : ويحك وهذا مما يتلاعب به ، وسراقة هذا هو القائل : قالوا سراقة عنين فقلت لهم . . . الله أعلم أني غير عنين فإن ظننتم بي الشيء الذي زعموا . . . فقربوني من بنت ابن ياسين وذكروا : إن شبيب بن يزيد الخارجي مر بغلام مستنقع في الفرات فقال له : يا غلام أخرج إني أسألك ، فعرفه الغلام فقال له : إني أخاف . أفآمن أنا إذا خرجت حتى ألبس ثيابي : قال : نعم ، فخرج وقال : والله لا ألبسها اليوم . فضحك شبيب وقال : خدعتني ورب الكعبة ووكل به رجلاً من أصحابه يحفظه إلا يصيبه أحد بمكروه . قال : وكان رجل من الخوارج يقول : فمنا يزيد والبطين وقعنب . . . ومنا أمير المؤمنين شبيب فسار البيت حتى سمعه عبد الملك بن مروان فأمر بطلب قائله فأتي به ، فلما وقف بين يديه قال : أنت القائل : ومنا أمير المؤمنين شبيب . . . قال : لم أقل هكذا يا أمير المؤمنين إنما قلت : ومنا أمير المؤمنين شبيب .

فضحك عبد الملك وأمر بتخليه سبيله ، فتخلص بدهائه وفطنته لإزالة الأعراب من الرفع إلى النصب . وزعموا أن عمرو بن معدي كرب هجم في بعض غاراته على شابة جميلة منفردة وأخذها فلما أمعن بها بكت . فقال : ما يبكيك ؟ قال : أبكي لفراقي بنات عمي هن مثلي في الجمال وأفضل مني خرجت معهن فانقطعنا عن الحي ، قال : وأين هن ؟ قال : خلف ذلك الجبل ، ووددت إذ أخذتني أنك أخذتهن معي فامض إلى الموضع الذي وصفته فمضى إلى هنالك ، فما شعر بشيء حتى هجم على فارس شاك في السلاح فعرض عليه المصارعة فصارعه الفارس ، ثم عرض عليه ضروباً من المناوشة فغلبه الفارس في كلها . فسأله عمرو عن اسمه فإذا هو ربيعة بن مكرم الكناني فاستنقذ الجارية . وعن عطاء أن مخارق بن عفان ومعن بن زائدة تلقيا رجلاً ببلاد الشرك ومعه جارية لم يريا أحسن منها شباباً وجمالاً ، فصاحا به خل عنها ، ومعه قوس فرمى بها وهابا الإقدام عليه ، ثم عاد ليرمي فانقطعت وتره وسلم الجارية وأسند في جبل كان قريباً منه فابتدراه وأخذا الجارية ، وكان في أذنها قرط فيه درة فانتزعاه من أذنها ، فقالت ، وما قدر هذه لو رأيتما درتين معه في قلنسوته وفي القلنسوة وتر قد أعده ونسيه من الدهش . فلما سمع قول المرأة ذكر الوتر فأخذه وعقده في قوسه ، فوليا ليست لهما همة إلا الالتجاء وخليا عن الجارية . وعن الهيثم قال : كان الحجاج حسوداً لا يتم له صنيعة حتى يفسدها فوجه عمارة بن تميم اللخمي إلى عبد الرحمن محمد بن الأشعث فظفر به وصنع ما صنع ، ورجع إلى الحجاج بالفتح ولم ير منه ما أحب وكره منافرته ، وكان عاقلاً رفيقاً فجعل يرفق به ويقول : أيها الأمير أشرف العرب ، أنت من شرفته شرف ، ومن وضعته أتضع ، وما ينكر ذلك مع رفقك ويمنك ومشورتك ورأيك ، وما كان هذا كله إلا بصنع الله وتدبيرك وليس أحد أشكر لبلائك مني ومن ابن الأشعث ، وما خطره حتى عزم الحجاج على المسير إلى عبد الملك ، فأخرج عمارة معه وعمارة يومئذ على أهل فلسطين أمير ، فلم يزل يلطف بالحجاج في مسيره ويعظه حتى قدموا على عبد الملك ، فلما قامت الخطباء بين يديه وأثنت على الحجاج قام عمارة فقال : يا أمير المؤمنين سل الحجاج عن طاعتي ومناصحتي وبلائي ، قال الحجاج : يا أمير المؤمنين صنع وصنع ومن بأسه ونجدته وعفافه كذا وكذا وهو أيمن الناس نقيبة

وأعلمهم بتدبير السياسة ولم يبق في الثناء عليه غاية . فقال عمارة : قد رضيت يا أمير المؤمنين ، قال : نعم فرضي الله عنك حتى خالها ثلاثاً في كلها يقول قد رضيت ، قال عمارة : فلا رضي الله عن الحجاج يا أمير المؤمنين ولا حفظه ولا عافاه فهو والله السئ التدبير الذي قد أفسد عليك أهل العراق وألب الناس عليك وما أتيت إلا من قبله ومن قلة عقله وضعف رأيه وقلة بصره بالسياسة ، فلك والله أمثالها إن لم تعزله ، فقال الحجاج : مه يا عمارة ، فقال : إني أعلم أنه ما خرج هذا منك إلا عن معتبة ولك عندي العتبى وأرسل إليه ، فقال : ما كنت أظن أن عقلك على هذا أرجع إليه بعد الذي كان من طعني عليه وقولي عند أمير المؤمنين ما قلت فيه : لا ولا كرامة .
ضده
قيل : هو أحمق من عجل ، وهو عجل بن لجيم ، وذلك إنه قيل له : ما سميت فرسك ؟ ففقأ عينه وقال : سميته الأعور ، فقال الشاعر فيه : رمتني بنو عجل بداء أبيهم . . . وأي امرئ في الناس أحمق من عجل أليس أبوهم عار عين جواده . . . فصارت به الأمثال تضرب في الجهل وقيل : هو أحمق من هبنقة ، وبلغ من خمقه أنه ضل له بعير فجعل ينادي : من وجد بعيري فهو له ، فقيل له : ولم تنشره ؟ قال : وأين حلاوة الظفر والوجدان ؟ واختصمت إليه الطفاوة وبنو راسب في رجل ادعى هؤلاء ، وهؤلاء فيه فقالوا : انظروا بالله من طلع علينا ؟ فلما دنا قصوا عليه القصة فقال هبنقة : الحكم في هذا بين ، اذهبوا به إلى نهر البصرة فألقوه فيه ، فإن كان راسبياً رسب ، وإن كان طفاوياً طفا . فقال الرجل : أريد أن أكون من أحد هذين الحيين ولا حاجة لي في الديوان . وقيل : هو أحمق من دغة وهي مارية بنت مغنج تزوجت في بني العنبر وهي صغيرة فلما ضربها المخاض ظنت أنها تريد الخلاء فخرجت

تتبرز فصاح الولد فجاءت منصرفة ، فصاحت : يا أماه هل يفتح الجعر فاه ؟ قالت : نعم ، ويدعو أباه ، فسبت بنو العنبر بذلك ، فقيل : بنو الجعراء . وقيل : هو أحمق من باقل ، وكان اشترى عنزاً بأحد عشر درهماً فسئل بكم اشتريت الهنز ؟ ففتح كفيه وفرق أصابعه وأخرج لسانه ، يريد أحد عشر درهماً فعيروه بذلك ، قال الشاعر : يلومون في حمقه بالقلا . . . كأن الحماقة لم تخلق فلا تكثروا العذل في عيه . . . فللصمت أجمل بالأموق خروج اللسان وفتح البنان . . . أحب إلينا من المنطق ومما قيل أيضاً من الشعر فيه : يا ثابت العقل كم عاينت ذا حمق . . . الرزق أغرى به من لازم الجرب فأنني واجد في الناس واحدة . . . الرزق أروغ شئ عن ذوي الأدب وخصلة ليس فيها من يخالفني . . . الرزق والنوك مقرونان في سبب وقال آخر : أرى زمناً نوكاه أسعد خلقه . . . على أنه يشقى به كل عاقل علا فوقه رجلاه والرأس تحته . . . فكب الأعالي بارتفاع الأسافل وقال آخر : كم من قوي قوي في تقلبه . . . مهذب اللب عند الرزق منحرف ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط . . . كأنه من خليج البحر يغترف

محاسن المفاخرة
قال رسول الله صلى لله عليه وسلم : أنا سيد ولد آدم ولا فخر . وسمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجلاً بيتاً من الشعر : إني امرؤ حميرى حين تنسبني . . . لا من ربيعة آبائي ولا مضر فقال له : ذلك ألأم لك وأبعد عن الله ورسوله ، وقال بعضهم : إذا مضر الحمراء كانت أرومتي . . . وقام بنصري خازم وابن خازم عطست بأنف شامخ وتناولت . . . يداي الثريا قاعداً غير قائم شعيب بن إبراهيم عن علي بن يزيد عن عبد الله بن الحارث عن عبد المطلب ابن ربيعة قال : مر العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بنفر من قريش وهم يقولون إنما محمد من أهله مثل نخلة نبتت في كناسة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى لله عليه وسلم فوجد منه فخرج حتى قام فيهم خطيباً ثم قال : أيها لناس ، من أنا ؟ قالوا : أنت رسول الله . قال : أفأنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ، إن الله عز وجل خلق خلقه فجعلني من خير خلقه ثم جعل الخلق الذي أنا منهم فريقين فجعلني من خير الفريقين من خلقه ، ثم جعل الخلق الذي أنا منهم شعوباً فجعلني في خيرهم شعباً ، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني من خيرهم بيتاً فأنا خيركم بيتاً وخيركم والداً وإني مباه لكم . قم يا عباس فقام عن يمينه ، ثم قال : قم يا سعد فقام عن يساره فقال : يقرب امرؤ منكم عماً مثل هذا وخالاً مثل هذا . وحدثنا سنان بن الحسن التستري عن إسماعيل بن مهران العسكري عن إبان بن عثمان عن عكرمة عن ابن عباس رحمهما الله تعالى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال : لما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعرض نفسه على القبائل خرج وأنا معه وأبو بكر وكان عالماً بأنساب العرب فوقفنا على مجلس من مجالس العرب عليهم الوقار والسكينة ، فتقدم أبو بكر فسلم عليهم فردوا عليه السلام فقال : ممن القوم ؟ فقالوا : من ربيعة . قال : من هامتها أم لهازمها ؟ قالوا : بل من هامتها العظمى . قال : وأي هامتها ؟

قالوا : ذهل . قال : ذهل الأكبر أم ذهل الأصغر ؟ قالوا : بل الأكبر . قال : فمنكم عوف الذي كان يقال لأحر بوادي عوف ؟ قالوا : لا . قال : أفمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء ومنتهى الأحياء ؟ قالوا : لا . قال : أفمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار ؟ قالوا : لا . قال : أفمنكم المزدلف صاحب العمامة ؟ قالوا : لا . قال : أفأنتم أخوال الملوك من كندة ؟ قالوا : لا . قال : أفأنتم أصهار الملوك من لخم ؟ قالوا : لا . قال : فلستم من ذهل الأكبر إذا أنتم من ذهل الأصغر . فقام إليه أعرابي غلام حسن بقل وجهه فأخذ بزمام ناقته ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واقف على ناقته يسمع مخاطبته فقال : لنا على سائلنا أن نسأله . . . والعبء لا تعرفه أو تحمله يا هذا إنك قد سألتنا أي مسألة شئت فلم نكتمك شيئاً فأخبرنا ممن أنت ؟ فقال أبو بكر : من قريش . فقال : بخ بخ أهل الشرف والرياسة فأخبرني من أي قريش أنت ؟ قال : من بني تميم بن مرة . قال : أفمنكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر فكان له مجمع ؟ قال أبو بكر : لا . قال : أفمنكم هاشم الذي يقول فيه الشاعر : عمرو العلى هشم الثريد لقومه . . . ورجال مكة مسنتون عجاف قال أبو بكر : لا . قال : أفمنكم شيبة الحمد الذي كان وجهه يضئ في الليلة الداجية مطعم الطير ؟ قال : لا . قال : أفمن المضيفين بالناس أنت . قال : لا . قال : أفمن أهل الرفادة أنت ؟ قال : لا . قال : أفمن أهل السقاية أنت ؟ قال : لا . قال : أفمن أهل الحجابة أنت ؟ قال : لا . قال : أما والله لو شئت لأخبرتك لست من أشراف قريش ، فاجتذب أبو بكر زمام ناقته كهيئة المغضب فقال الأعرابي : صادف در السيل در يدفعه . . . في هضبة ترفعه وتضعه فتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . قال علي كرم الله وجهه : فقلت : يا أبا بكر لقد وقعت من هذا الأعرابي على باقعة . قال : أجل يا أبا الحسن ، ما من طامة إلا وفوقها طامة وإن البلاء موكل بالمنطق . قال : وأتى الحسن ابن علي رضي الله عنهما معاوية بن أبي سفيان وقد سبقه ابن العباس رحمه الله فأمر معاوية بإنزاله فبينا معاوية مع عمرو بن

العاص ومروان بن الحكم وزياد المدعى إلى أبي سفيان يتحاورون في قديمهم ومجدهم إذ قال معاوية : قد أكثرتم الفخر ولو حضركم الحسن بن علي وعبد الله بن عباس لقصروا من أعنتكم ، فقال زياد : وكيف ذاك يا أمير المؤمنين وما يقومان لمروان ابن الحكم في غرب منطقه ولا لنا في بواذخنا فابعث إليهما حتى نسمع كلامهما . فقال معاوية لعمرو : ما تقول في هذا الليل فابعث إليهما في غد ، فبعث معاوية بابنه يزيد إليهما فأتيا فدخلا عليه وبدأ معاوية فقال : إني أجلكما وأرفع قدركما على المسامر بالليل ولا سيما أنت يا أبا محمد فأنك ابن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسيد شباب أهل الجنة . فشكر له ، فلما استويا في مجلسهما علم عمرو أن الحدة ستقع به فقال : والله لابد أن أتكلم فإن قهرت فسبيل ذلك وإن قهرت أكون قد ابتدأت . فقال يا حسن أنا قد تفاوضنا فقلنا إن رجال بني أمية أصبر على اللقاء وأمضى في الوغاء وأوفى عهداً وأكرم ضيماً وأمنع لما وراء ضهورهم من بني عبد المطلب ، ثم تكلم مروان بن الحكم فقال : كيف لا يكون ذلك وقد قارعناهم فغلبناهم وحاربناهم فملكناهم فإن شئنا عفونا وإن شئنا بطشنا . ثم تكلم زياد فقال : ما ينبغي لهم أن ينكروا الفضل لأهله ويجحدوا الخير في مظانه نحن الحملة في الحروب ولنا الفضل على سائر الناس قديماً وحديثاً ، فتكلم الحسن بن علي رضي الله عنه فقال : ليس من الحزم أن يصمت الرجل عن إيراد الحجة ولكن من الأفك أن ينطق الرجل بالخنا ويصور الكذب في صورة الحق يا عمرو افتخاراً بالكذب وجراءة على الأفك ما زلت أعرف مثالبك الخبيثة أبديها مرة بعد مرة أتذكر مصابيح الدجى وأعلام الهدى وفرسان الطراد وحتوف الأقران وأبناء الطعان وربيع الضيفان ومعدن العلم ومهبط النبوة ؟ وزعمتم أنكم أحمى لما وراء ظهوركم وقد تبين ذلك يوم بدر حين نكصت الأبطال وتساورت الأقران واقتحمت الليوث ، واعتركت المنية وقامت رحاها على قطبها ، وفرت عن نابها ، وطار شرار الحرب ، فقتلنا رجالكم ومن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ذرايكم ، وكنتم لعمري في هذا اليوم غير مانعين لما وراء ظهوركم من بني عبد المطلب ثم قال : وأما أنت يا مروان فما أنت والإكثار في قريش وأنت ابن طليق وأبوك طريد تتقلب في خزاية إلى سوءة ، وقد أتى بك إلى أمير المؤمنين يوم الجمل ،

فلما رأيت الضرغام قد دميت براثنه ، واشتبكت أنيابه كنت كما قال الأول : بصبصن ثم رمين بالأبعار فلما من عليك بالعفو وأرخى خناقك بعد ما ضاق عليك وغصصت بريقك لا تقعد منا مقعد أهل الشكر ولكن تسوينا وتجارينا ، ونحن من لا يدركنا عار ولا يلحقنا خزاية ، ثم التفت إلى زياد وقال : وما أنت يا زياد وقريش ما أعرف لك فيها أديماً صحيحاً . ولا فرعاً نابتاً ولا قديماً ثابتاً ولا منبتاً كريماً ، كانت أمك بغياً يتداولها رجالات قريش وفجار العرب ، فلما ولدت لم تعرف لك العرب والدا فادعاك هذا - يعني معاوية - فما لك والافتخار ؟ تكفيك سمية ويكفينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبي سيد المؤمنين الذي لم يرتد على عقبيه وعماي حمزة سيد الشهداء وجعفر الطيار في الجنة ، وأنا وأخي سيدا شباب أهل الجنة ، ثم التفت إلى ابن العباس فقال : إنما هي بغاث الطير انقض عليها البازي ، فأراد ابن العباس أن يتكلم فأقسم عليه معاوية أن يكف فكف ، ثم خرجا ، فقال معاوية : أجاد عمرو الكلام أولا لولا أن حجته دحضت ، وقد تكلم مروان لولا أنه نكص ثم التفت إلى زياد فقال : ما دعاك إلى محاورته ما كنت إلا كالحجل في كف العقاب . فقال عمرو : أفلا رميت من ورائنا ؟ قال معاوية : إذا كنت شريككم في الجهل أفأفاخر رجلاً ، رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جده وهو سيد من مضى ومن بقي وأمه فاطمة سيدة نساء العالمين ثم قال لهم : والله لئن سمع أهل الشام ذلك أنه للسوءة السواء . فقال عمرو : لقد أبقى عليك ولكنه طحن مروان وزياداً طحن الرحى بثفالها ووطئهما وطئ البازل القراد بمنسمه ، فقال زياد : والله لقد فعل ولكنك يا معاوية تريد الإغراء بيننا وبينهم لا جرم والله لا شهدت مجلساً يكونان فيه إلا كنت معهما على من فاخرهما ، فخلا ابن عباس بالحسن رضي الله عنه فقل بين عينيه وقال : أفديك بابن عمي والله ما زال بحرك يزخر وأنت تصول حتى شفيتني من أولاد البغايا . ثم إن الحسن رضي الله عنه غاب أياماً ثم رجع حتى دخل علي معاوية وعنده عبد الله بن الزبير . فقال معاوية : يا أبا محمد إني أظنك تعباً نصباً فأت المنزل فأرح نفسك ، فقام الحسن رضي الله عنه ، فخرج ،

فقال معاوية لعبد الله بن الزبير : لو افتخرت على الحسن فأنت ابن حواري رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وابن عمته ولأبيك في الإسلام نصيب وافر ، فقال ابن الزبير : أنا له . ثم جعل ليلته يطلب الحجج فلما أصبح دخل على معاوية وجاء الحسن رضي الله عنه فحياه معاوية وسأله عن مبيته فقال : خير مبيت وأكرم مستفاض ، فلما استوى في مجلسه قال له ابن الزبير : لولا أنك خواراً في الحروب غير مقدام ما سلمت لمعاوية الأمر وكنت لا تحتاج إلى اختراق السهول وقطع المراحل والمفاوز تطلب معروفه وتقوم ببابه وكنت حرياً أن لا تفعل ذلك وأنت ابن علي في بأسه ونجدته ، فما أدري ما الذي حملك على ذلك ؟ أضعف حال أم وحي نحيزه ؟ ما أظن لك مخرجاً من هذين الحالين أما والله لو استجمع لي ما استجمع لك لعلمت أنني ابن الزبير وأنني لا أنكص عن الأبطال ، وكيف لا أكون كذلك وجدتي صفية بنت عبد المطلب وأبي الزبير حواري رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأشد الناس بأساً وأكرمهم حسباً في الجاهلية ، وأطوعهم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فالتفت الحسن إليه وقال : أما والله لولا أن بني أمية تنسبني إلى العجز عن المقال لكففت عنك تهاوناً بك ، ولكن سأبين ذلك لتعلم أني لست بالكليل . أإياي تعير وعلي تفتخر ، ولم تك لجدك في الجاهلية مكرمة أن لا تزوجه عمتي صفية بنت عبد المطلب فبذخ بها على جميع العرب وشرف بمكانها ، فكيف تفاخر من في القلادة واسطتها وفي الأشراف سادتها ؟ نحن أكرم أهل الأرض زنداً ، لنا المشرق الثاقب والكرم الغالب ، ثم تزعم أني سلمت الأمر لمعاوية فكيف يكون ؟ ويحك كذلك وأنا ابن أشجع العرب ولدتني فاطمة سيدة النساء وخيرة الأمهات لم أفعل ويحك ذلك جبناً ولا فرقاً ، ولكنه بايعني مثلك وهو يطلب يثرة ويداجيني المودة قلم أثق بنصرته لأنك بيت غدر وأهل إحن ووتر ، فيكف لا تكون كما أقول ؟ وقد بايع أمير المؤمنين أبوك ثم نكث بيعته ونكص على عقبيه واختدع حشية من خشايا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليضل بها الناس ، فلما دلف نحو الأعنة ورأى بريق الأسنة قتل بمضيعة لا ناصر له وأتى بك أسيراً ، وقد وطئتك الكماة بأظلافها والخيل بسنابكها واعتلاك الأشتر فغصصت بريقك واقعيت على عقبيك كالكلب إذا احتوشته الليوث ، فنحن ويحك نور البلاد وأملاكها وبنا تفتخر الأمة وإلينا تلقى مقاليد الأزمة ،

نصول وأنت تختدع النساء ثم تفتخر على بني الأنبياء لم تزل الأقاويل منا مقبولة وعليك وعلى أبيك مردودة دخل الناس في دين جدي طائعين وكارهين ، ثم بايعوا أمير المؤمنين صلوات الله عليه فسار إلى أبيك وطلحة حيث نكثا البيعة وخدعا عرس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقتلا عند نكثهما بيعته وأتي بك أسيراً تبصبص بذنبك فناشدته الرحم أن لا يقتلك فعفا عنك ، فأنت عتاقة أبي وأنا سيدك وأبي سيد أبيك ، فذق وبال أمرك ، فقال ابن الزبير : أعذرنا يا أبا محمد فإنما حملني على محاورتك هذا واشتهى الإغراء بيننا فهلا إذ جهلت أمسكت عني فإنكم أهل بيت سجيتكم الحلم ، قال الحسن : يا معاوية أنظر ، أأكع عن محاورة أحد ويحك ؟ أتدري من أي شجرة أنا وإلى من أنتمي ؟ انته عني قبل أن اسمك بسمة يتحدث بها الركبان في آفاق البلدان ، قال ابن الزبير : هو لذلك أهل ، فقال : معاوية أما إنه قد شفا بلابل صدري منك ورمى فقتلك فبقيت في يده كالحجل في كف البازي بك كيف شاء ، فلا أراك تفتخر على أحد بعد هذا . وذكروا أن الحسن بن علي صلوات الله عليهما دخل على معاوية فقال في كلام جرى من معاوية في ذلك : فتخر الأمة وإلينا تلقى مقاليد الأزمة ، نصول وأنت تختدع النساء ثم تفتخر على بني الأنبياء لم تزل الأقاويل منا مقبولة وعليك وعلى أبيك مردودة دخل الناس في دين جدي طائعين وكارهين ، ثم بايعوا أمير المؤمنين صلوات الله عليه فسار إلى أبيك وطلحة حيث نكثا البيعة وخدعا عرس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقتلا عند نكثهما بيعته وأتي بك أسيراً تبصبص بذنبك فناشدته الرحم أن لا يقتلك فعفا عنك ، فأنت عتاقة أبي وأنا سيدك وأبي سيد أبيك ، فذق وبال أمرك ، فقال ابن الزبير : أعذرنا يا أبا محمد فإنما حملني على محاورتك هذا واشتهى الإغراء بيننا فهلا إذ جهلت أمسكت عني فإنكم أهل بيت سجيتكم الحلم ، قال الحسن : يا معاوية أنظر ، أأكع عن محاورة أحد ويحك ؟ أتدري من أي شجرة أنا وإلى من أنتمي ؟ انته عني قبل أن اسمك بسمة يتحدث بها الركبان في آفاق البلدان ، قال ابن الزبير : هو لذلك أهل ، فقال : معاوية أما إنه قد شفا بلابل صدري منك ورمى فقتلك فبقيت في يده كالحجل في كف البازي بك كيف شاء ، فلا أراك تفتخر على أحد بعد هذا . وذكروا أن الحسن بن علي صلوات الله عليهما دخل على معاوية فقال في كلام جرى من معاوية في ذلك : فيم الكلام وقد سبقت مبرزا . . . سبق الجواد من المدى والمقوس . فقال معاوية ، إياي تعني ؟ والله لآتينك بما تعرفه قلبك ولا ينكره جلساؤك ، أنا ابن بطحاء مكة ، أنا ابن أجودها جوداً وأكرمها أبوة وجدوداً وأوفاها عهوداً ، أنا ابن من ساد قريشاً ناشئاً . فقال الحسن : أجل إياك أعني ، افعلي تفتخر يا معاوية وأنا ابن ماء السماء وعروق الثرى وابن من ساد أهل الدنيا بالحسب الثاقب والشرف الفائق والقديم السابق وابن من رضاه رضى الرحمن وسخطه سخط الرحمن فهل لك أب كأبي وقديم كقديمي ، فإن تقل : لا تغلب ، وإن تقل : نعم تكذب ، فقال : أقول ، لا تصديقاً لقولك ، فقال الحسن رضي الله عنه : ألحق أبلج لا تزيغ سبيله . . . والحق يعرفه ذوو الألباب قال : وقال معاوية ذات يوم ، وعنده أشراف الناس من قريش وغيرهم : أخبروني

بأكرم الناس أباً وأماً وعماً وعمة وخالاً وخالة وجداً وجدة ، فقام مالك بن عجلان ، وأومأ إلى الحسن ابن علي صلوات الله عليه ، فقال : هو ذا أبوه علي بن أبي طالب ، وأمه فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وعمه جعفر الطيار ، وعمته أم هانئ بنت أبي طالب ، وخاله القاسم ابن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وخالته زينب بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وجده رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وجدته خديجة بنت خويلد . فسكت القوم ، ونهض الحسن ، فأقبل عمرو بن العاص على مالك فقال : أحب بني هاشم حملك على أن تكلمت بالباطل ؟ فقال ابن عجلان : ما قلت إلا حقاً ، وما أحد من الناس يطلب مرضاة مخلوق بمعصية الخالق لا لم يعط أمنيته في دنياه ، وختم له بالشقاء في آخرته ، بنو هاشم أنضركم عوداً وأوراكم زنداً ، أكذلك هو معاوية ؟ قال : اللهم نعم . قال : واستأذن الحسن ابن علي رضي الله عنه على معاوية ، وعنده عبد الله بن جعفر وعمرو ابن العاص ، فأذن له ، فلما أقبل قال عمرو : قد جائكم الفهه العيي الذي كان بين لحييه وعقله ، فقال عبد الله بن جعفر : مه ، والله لقد رمت صخرة ململمة تنحط عنها السيول ، وتقصر دونها الوعول ، لا تبلغها السهام ، فإياك والحسن إياك ، فإنك لا تزال راتعاً في لحم رجل من قريش ، ولقد رميت فما برح سهمك ، وقدحت ، فما أورى زندك . فسمع الحسن الكلام ، فلما أخذ مجلسه قال : يا معاوية لا يزال عندك عبد يرتع في لحوم الناس ، أما والله لئن شئت ليكونن بيننا ما تتفاقم فيه الأمور ، وتحرج منه الصدور ثم أنشأ يقول : أتأمر يا معاوي عبد سهم . . . بشتمي والملا منا شهود إذا أخذت مجالسها قريش . . . فقد علمت قريش ما تريد أ أنت تظل تشتمني سفاهاً . . . لضغن ما يزول ولا يبيد فهل لك من أب كأب تسامي . . . به من قد تسامي أو تكيد ولا جد كجدي يا بن حرب . . . رسول الله إن ذكر الجدود ولا أم كأمي من قريش . . . إذا ما حصل الحسب التليد

فما مثلي تهكم بابن حرب . . . ولا مثلي ينهنه الوعيد فمهلاً لا تهج منا أموراً . . . يشيب لهولها الطفل الوليد وذكروا أن عمرو بن العاص قال لمعاوية : ابعث إلى الحسن بن علي فأخره أن يخطب على المنبر ، فلعله يحصر ، فيكون في ذلك ما نعيره به . فبعث إليه معاوية ، فأمره أن يخطب ، فصعد المنبر وقد اجتمع الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب ابن عم النبي ، أنا ابن البشير النذير ، السراج المنير ، أنا ابن من بعثه الله رحمة للعالمين . أنا ابن من بعث إلى الجن والأنس ، أنا ابن مستجاب الدعوة ، أنا ابن الشفيع المطاع ، أنا ابن أول من ينفض رأسه من التراب ، أنا ابن أول من يقرع باب الجنة ، أنا ابن من قاتلت معه الملائكة ونصر بالرعب من مسيرة شهر ، وأمعن في هذا الباب ولم يزل ، حتى أظلمت الأرض على معاوية ، فقال : يا حسن قد كنت ترجو أن تكون خليفة ولست هناك ، قال الحسن : إنما الخليفة من سار بسيرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعمل بطاعته ، وليس الخليفة من دان بالجور ، وعطل السنين ، واتخذ الدنيا أباً وأماً ، ولكن ذلك ملك أصاب ملكاً يمتع به قليلاً ويعذب بعده طويلاً ، وكان قد انقطع عنه واستعجل لدته وبقيت عليه التبعة ؟ فكان كما قال الله تعالى : وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين . ثم انصرف ، فقال معاوية لعمرو : ما أردت إلا هتكي . ما كان أهل الشام يرون أحداً مثلي ، حتى سمعوا من الحسن ما سمعوا . قال : وقدم الحسن بن علي رضي الله عنه على معاوية ، فلما دخل عليه ، وجد عنده عمرو ابن العاص ، ومروان بن الحكم ، والمغيرة بن شعبة ، وصناديد قومه ووجوه أهل بيته ، ووجوه أهل اليمن وأهل الشام . فلما نظر إليه معاوية ، أقعده على سريره ، وأقبل عليه بوجهه يريه السرور به وبقدومه ، فحسده مروان وقد كان معاوية قال لهم : لا تحاوروا هذين الرجلين ، فقد قلداكم العار عند أهل الشام - يعني الحسن ابن علي رضي الله عنه ، وعبد الله بن عباس - فقال مروان : يا حسن ، لولا حلم أمير المؤمنين وما قد بناه له آباؤه الكرام من المجد والعلى ، ما أقعدك هذا المقعد ،

ولقتلك ، وأنت لهذا مستحق بقودك الجماهير إلينا ، فلما قاومتنا وعلمت ألا طاقة لك بفرسان أهل الشام ، وصناديد بني أمية ، أذعنت بالطاعة ، واحتجزت بالبيعة ، وبعثت تطلب الأمان . أما والله لولا ذلك لأراق دمك ، ولعلمت أنا نعطي السيوف حقها عند الوغى ، فاحمد الله إذ ابتلاك بمعاوية ، وعفا عنك بحلمه ، ثم صنع بك ما ترى . فنظر إليه الحسن وقال : ويلك يا مروان ، لقد تقلدت مقاليد العار في الحروب عند مشاهدتها . والمخاذلة عند مخالطتها . هبلتك أمك . لنا الحجج البوالغ ، ولنا عليكم ، إن شكرتم ، النعم السوابغ ، ندعوكم إلى النجاة ، وتدعوننا إلى النار ، فشتان ما بين المنزلتين . تفتخر ببني أمية وتزعم أنهم صبر في الحرب ، أتسد عند اللقاء ، ثكلتك الثواكل أولئك البهاليل السادة ، والحماة الذادة ، والكرام القادة ، بنو عبد المطلب . أما والله لقد رأيتهم أنت ، وجميع من في المجلس ، ما هالتهم الأهوال ، ولا حادوا عن الأبطال ، كالليوث الضارية الباسلة الحنقة ، فعندما وليت هارباً وأخذت أسيراً ، فقلدت قومك العار ، لأنك في الحروب خوار ، أتهرق دمي ؟ فهلا أهرقت دم من وثب على عثمان في الدار ، فذبحه كما يذبح الحمل وأنت تثغو ثغاء النعجة ، وتنادي بالويل والثبور كالمرأة الوكعاء ، ما دافعت عنه بسهم ، ولا منعت دونه بحرب ، قد ارتعدت فرائصك ، وغشي بصرك ، واستغثت كما يستغيث العبد بربه ، فأنجيتك من القتل ، ثم جعلت تبحث عن دمي ، وتحض على قتلي ، لو رام ذلك معاوية معك ، لذبح كما ذبح ابن عفان ، وأنت معه أقصر يداً ، وأضيق باعاً ، وأجبن قلباً من أن تجسر على ذلك ، ثم تزعم أني ابتليت بحلم معاوية ؟ أما والله لهو أعرف بشأنه ، وأشكر لنا إذ وليناه هذا الأمر ، فمتى بدا له ، فلا يغضين جفنه على القذى معك ، فو الله لأعنفن أهل الشام بجيش يضيق فضاؤه ، ويستأصل فرسانه ، ثم لا ينفعك عند ذلك الروغان والهرب ، ولا تنتفع بتدريجك الكلام ، فنحن من لا يجهل آباؤنا الكرام القدماء الأكابر ، وفروعنا السادة الأخيار الأفاضل ، انطق إن كنت صادقاً . فقال عمرو : ينطق بالخنا وتنطق بالصدق ، ثم أنشأ يقول : قد يضرط العير والمكواة تأخذه . . . لا يضرط العير والمكواة في النار ذق وبال أمرك يا مروان فأقبل معاوية فقال : قد نهيتك عن هذا الرجل ،

وأنت تأبى إلا انهماكا فيما لا يعنيك ، أربع على نفسك فليس أبوه كأبيك ، ولا هو مثلك . أنت ابن الطريد الشريد وهو ابن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولكن رب باحث عن حتفه بظلفه . فقال : مروان : ارم دون بيضتك ، وقم بحجة عشيرتك ، ثم قال لعمرو : لقد طعنك أبوه فوقيت نفسك بخصيتيك ، ومنها ثنيت أعنتك ، وقام مغضباً . فقال معاوية : لا تجار البحار فتغمرك ، ولا الحبال فتقهرك ، واسترح من الاعتذار . قال : ولقي عمرو بن العاص ، الحسن بن علي عليهما السلام في الطواف ، فقال : يا حسن أزعمت أن الدين با يقوم إلا بك وبأبيك ؟ فقد رأيت الله أقامه بمعاوية ، فجعله ثابتاً بعد ميله ، وبيناً بعد خفائه ، أفيرضى الله قتل عثمان ، أم من الحق أن تدور بالبيت كما يدور الجمل بالطحين ؟ عليك ثياب كغرق البيض ، وأنت قاتل عثمان ، والله إنه لألم للشمث ، وأسهل للوعث ، إن يوردك معاوية حياض أبيك . فقال الحسن صلوات الله عليه : إن لأهل النار علامات يعرفون بها : وهي الإلحاد في دين الله ، والموالاة لأعداء الله ، والانحراف عن دين الله ، والله إنك لتعلم أن علياً لم يتريث في الأمر ، ولم يشك في الله طرفة عين ، وأيم الله لتنتهين يا بن العاص ، أو لأقرعن قصتك - يعني جبينه - بقراع وكلام ، وإياك والجراءة علي فإن من عرفت لست بضعيف المغمز ، ولا بهش المشاشة - يعني العظام - ولا بمرئ المأكلة ، وإني لمن قريش كأوسط القلادة ، معرق حسبي لا أدعى لغير أبي ، وقد تحاكمت فيك رجال من قريش ، فغضب عليك ألأمها حسباً ، وأعظمها لعنة ، فإياك عني فإنما أنت نجس ، ونحن أهل بيت الطهارة ، أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيراً . قال : واجتمع الحسن بن علي صلوات الله عليهما ، وعمرو بن العاص ، فقال الحسن : قد علمت قريش بأسرها أني منها في عز أرومها لم أطبع على ضعف ، ولم أعكس على خسف ، أعرف نسبي ، وأدعى لأبي . فقال عمرو : وقد علمت قريش أنك ابن أقلها عقلاً ، وأكثرها جهلاً ، وإن فيك خصالاً لو لم يكن فيك إلا واحدة منها ، لشملك خزيها ، كما شمل البياض الحائك ، وايم الله لئن لم تنته عما أراك تصنع ، لا كبسن لك حافة كجلد العائط ، إذا اعتاطت رحمها ، فما تحمل ، أرميك من خللها بأحر من وقع الأثافي ، أعرك منها أديمك عرك السلعة ، فإنك طالما ركبت المنحدر ، ونزلت في أعراض الوعر ، التماساً للفرقة وإرصاداً للفتنة ، ولن يزيدك الله فيها إلا فظاعة . فقال الحسن : أما والله لو كنت تسمو بحسبك ،

وتعمل برأيك ، ما سلكت فج قصد ، ولا حللت راية مجد ، أما والله لو أطاعنا معاوية ، لجعلك بمنزلة العدو الكاشح ، وإنه طال ما تأخر شأوك ، واستشر داؤك ، وطمح بك الرجاء إلى الغاية القصوى التي لا يورق بها غصنك ، ولا يخضر منها رعيك ، أما والله لتوشكن بابن العاص أن تقع بين لحيي ضرغام ، ولا ينجيك منه الروغان إذا التقت حلقتا البطان . ابن المنذر عن أبيه الشعبي عن ابن عباس أنه دخل المسجد وقد سار الحسين بن علي رضي الله عنه إلى العراق ، فإذا هو بابن الزبير في جماعة من قريش ، قد استعلاهم بالكلام ، فجاء ابن عباس فضرب بيده على عضد ابن الزبير ، وقال : أصبحت والله كما قال الشاعر : يا لك من قنبرة بمعمر . . . خلالك الجو فبيضي وأصفري ونقري ما شئت أن تنقري . . . قد ذهب الصياد عنك فابشري لابد من أخذك يوماً فاصبري خلت الحجاز من الحسين بن علي ، وأقبلت تهدر في جوانبها ، فغضب ابن الزبير وقال : والله إنك لترى أنك أحق بهذا من غيرك ، فقال ابن عباس : إنما يرى ذلك من كان في حال شك ، وأنا من ذلك على يقين ، قال : وبأي شئ أستحق عندك أنك بهذا الأمر أحق مني ؟ فقال ابن عباس : لأنا أحق بمن يدل بحقه ، وبأي شئ أستحق عندك أنك أحق بها من سائر العرب إلا بنا ؟ فقال ابن الزبير : أستحق عندي أني أحق بها منكم لشرفي عليكم قديماً وحديثاً ، فقال : أنت أشرف أم من شرفت به ؟ فقال : إن من شرفت به زادني شرفاً إلى شرفي ، قال : فمني الزيادة أم منك ؟ فتبسم ابن عباس ، فقال ابن الزبير : يابن عباس ، دعني من لسانك هذا الذي تقلبه كيف شئت ، والله يا بني هاشم لا تحبوننا أبداً . قال ابن عباس : صدقت ، نحن أهل بيت مع الله ، لا نحب من أبغضه الله ، قال : يا بن عباس ، أما ينبغي لك أن تصفح عن كلمة واحدة ؟ قال : إنما يصفح عمن أقر ، وأما من هر فلا ، والفضل لأهل الفضل ، قال ابن الزبير : فأين الفضل ؟ قال : عند أهل البيت لا تصرفه عن أهله فتظلم ، ولا تضعه في غير أهله فتندم . قال ابن الزبير : أفلست من أهله ؟ قال : بلى إن نبذت الحسد ، ولزمت الجدد . وانقضى حديثهما . وروي عن

ابن عباس أنه قال : قدمت على معاوية وقد قعد على سريره وجمع من بني أمية ووفود العرب عنده ، فدخلت ، وسلمت ، وقعدت فقال : يا بن عباس من الناس ؟ فقلت : نحن ، قال : فإذا غبتم ، قلت : فلا أحد ، قال : فإنك ترى إني قعدت هذا المقعد بكم ، قلت : نعم فيمن قعدت ؟ قال : بمن كان مثل حرب ابن أمية ، قلت : من كفأ عليه إناءه وأجاره بردائه . قال : فغضب وقال : أرحني من شخصك شهراً ، فقد أمرت لك بصلتك ، وأضعفتها لك ، فلما خرج ابن عباس ، قال لخاصته : ألا تسألونني ما الذي أغضب معاوية ؟ قالوا : بلى ، فقل بفضلك ، قال : إن أباه حرباً لم يلق أحداً من رؤساء قريش في عقبة ولا مضيق إلا تقدمه حتى يجوزه ، فلقيه يوماً رجل من تميم في عقبة فتقدمه التميمي ، فقال حرب : أنا حرب بن أمية ، فلم يلتفت إليه وجازه ، فقال : موعدك مكة ، فخافه التميمي ، ثم أراد دخول مكة ، فقال : من يجيرني من حرب بن أمية ؟ فقيل له : عبد المطلب ، فقال : عبد المطلب أجل قدراً من أن يجير على حرب . فأتى ليلاً إلى دار الزبير بن عبد المطلب فدق بابه فقال الزبير لعبده : قد جاءنا رجل إما طالب قرى ، وإما مستجير ، وقد أجبناه إلى ما يريد ، ثم خرج الزبير إليه ، فقال التميمي : لاقيت حرباً في الثنية مقبلاً . . . والصبح أبلج ضوءه للساري فدعا بصوتٍ واكتنى ليروعني . . . وسما علي سمو ليثٍ ضاري فتركته كالكلب ينبح ظله . . . وأتيت قرم معالم وفخار ليثاً هزبراً يستجار بعزه . . . رحب المباءة مكرماً للجار ولقد حلفت بمكة وبزمزمٍ . . . والبيت ذي الأحجار والأستار إن الزبير لما نعي من خوفه . . . ما كبر الحجاج في الأمصار فقدمه الزبير وأجاره ، ودخل به المسجد ، فرآه حرب فقام إليه فلطمه ، فحمل عليه الزبير بالسيف فولى هارباً يعدو حتى دخل دار عبد المطلب فقال : أجرني من الزبير ، فأكفأ عليه جفنة كان هاشم يطعم فيها الناس ، فبقي تحتها ساعة ثم قال له : أخرج ، قال : وكيف

أخرج وعلى الباب تسعة من بنيك قد احتبوا بسيوفهم ؟ فألقى عليه رداء كان كساه إياه سيف بن ذي يزن ، له طرتان خضراوان ، فخرج عليهم فعلموا أنه قد أجاره عبد المطلب فتفرقوا عنه . قال : وحضر مجلس ماوية عبد الله بن جعفر ، فقال عمرو بن العاص : قد جاءكم رجل كثير الخلوات بالتمني ، والطرات بالتغني ، محب للقيان ، كثير مزاحه ، شديد طماحه ، صدود عن الشبان ، ظاهر الطيس ، رخي العيش ، أخاذ بالسلف ، منفاق بالسرف ، فقال ابن عباس : كذبت ، والله ، أنت ، وليس كما ذكرت ، ولكنه لله ذكور ، ولنعمائه شكور ، وعن الخنا زجور ، جواد كريم ، سيد حليم ، إذا رمى أصاب ، وإذا سئل أجاب ، غير حصر ولا هياب ، ولا غيابه مغتاب ؛ حل من قريش في كريم النصاب كالهزبر الضرغام ، الجريء المقدام ، في الحسب القمقام ، ليس بدعي ولا دنيء ، لا كمن اختصم فيه من قريش شرارها ، فغلب عليه جزارها ، فأصبح ألأمها حسباً ، وأدناها منصباً ينوء منها بالذليل ، ويأوي منها إلى القليل ، مذبذب بين الحين كالساقط بين المهدين ، لا المضطر فيهم عرفوه ، ولا الظاعن عنهم فقدوه ، فليت شعري بأي قدر تتعرض للرجال ، وبأي حسب تعتد به عند النضال ؟ أبنفسك ، وأنت الوغد اللئيم ، والنكد الذميم ، والوضيع الذميم ؟ أم بمن تنمى إليهم ، وهم أهل السفه والطيس ، والدناءة في قريش ؟ لا بشرف في الجاهلية شهروا ، ولا بقديم في الإسلام ذكروا ، جعلت تتكلم بغير لسانك ، وتنطق بالزور في غير أقرانك ، والله لكان أبين للفضل ، وأبعد للعدوان ، أن ينزلك معاوية منزلة البعيد السحيق ، فإنه طالما سلس داؤك ، وطمح بك رجاؤك إلى الغاية القصوى التي لم يخضر فيها رعيك ، ولم يورق فيها غصنك . فقال عبد الله بن جعفر : أقسمت عليك لما أمسكت ، فإنك عني ناضلت ، ولي فاوضت ، فقال ابن عباس : دعني والعبد فإنه قد كان ثهدر خالياً ، ولا يجد ملا حياص ، وقد أتيح له ضيغم شرس ، للأقران مفترس ، وللأرواح مختلس ، فقال ابن العاص : دعني يا أمير المؤمنين أنتصف منه ، فو الله ما ترك شيئاً . قال ابن عباس : دعه فلا يبقى المبقي إلا على نفسه . فو الله إن قلبي لشديد ، وإن جوابي لعتيد ، وإني لكما قال نابغة بني ذبيان : وقدماً قد قرعت وقارعوني . . . فما نزر الكلام ولا شجاني

يصد الشاعر العراف عني . . . صدود البكر عن قرم هجان قال : وبلغ عاثمة بيت عاثم ثلب معاوية وعمر بن العاص لبني هاشم ، فقال لأهل مكة : أيها الناس ، إن بني هاشم سادت فجادت ، وملكت وملكت ، وفضلت وفضلت ، واصطفت واصطفيت ، ليس فيها كدر عيب ولا أفك ريب ، ولا خسروا طاغين ولا خازين ولا نادمين ، ولا هم من المغضوب عليهم ولا الضالين ، إن بني هاشم أطول الناس باعاً ، وأمجد الناس أصلاً ، وأعظم الناس حلماً ، وأكثر الناس علماً وعطاءً ، منا عبد مناف المؤثر ، وفيه يقول الشاعر : كانت قريش بيضةً فتفلقت . . . فالمح خالصها لعبد مناف وولده هاشم الذي هشم الثريد لقومه ، وفيه يقول الشاعر : عمر العلا هشم الثريد لقومه . . . ورجال مكة مسنتون عجاف ومنا عبد المطلب الذي سقينا به الغيث ، وفيه يقول أبو طالب : ونحن سني المحل قام شفيعنا . . . بمكة يدعو والمياه تغور وابنه أبو طالب عظيم قريش ، وفيه يقول الشاعر : آتيته ملكاً فقام بحاجتي . . . وترى العليج خائباً مذموما ومنا العباس بن عبد المطلب ، أردفه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأعطاه ماله ، وفيه يقول الشاعر : رديف رسول الله لم نر مثله . . . ولا مثله حتى القيامة يولد ومنا حمزة سيد الشهداء ، وفيه يقول الشاعر : أبا يعلي بك الأركان هدت . . . وأنت الماجد البر الوصول ومنا جعفر ذو الجناحين ، أحسن الناس حالاً ، وأكملهم كمالاً ، ليس بغدار ولا جبان ،

أبدله الله بكلتا يديه جناحين يطير بهما ف يالجنة ، وفيه يقول الشاعر : هاتوا كجعفرنا ومثل علينا . . . كانا أعز الناس عند الخالق ومنا أبو الحسن علي بن أبي طالب ، صلوات الله عليه ، أفرس بني هاشم ، وأكرم من احتبى وانتعل ، وفيه يقول الشاعر : علي ألف الفرقان صحفاً . . . ووالى المصطفي طفلاً صبيا ومنا الحسن بن علي عليه السلام ، سبط رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وسيد شباب أهل الجنة ، وفيه يقول الشاعر : يا أجل الأنام يابن الوصي . . . أنت سبط النبي وابن علي ومنا الحسين بن علي حمله جبريل عليه السلام على عاتقه ، وكفاه بذلك فخراً ، وفيه يقول الشاعر : حب الحسين ذخيرةٌ لمحبه . . . يا رب فاحشرني غداً في حزبه يا معشر قريش والله ما معاوية كأمير المؤمنين علي ، ولا هو كما يزعم هو والله شانئ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإني آتية معاوية وقائلة له ما يعرق منه جبينه ، ويكثر منه عويله وأنينه ، فكتب عامل معاوية إليه بذلك ، فلما بلغه أنها قربت منه ، أمر بدار ضيافة فنظفت ، وألقى فيها فرش ، فلما قربت من المدينة ، استقبلها يزيد في حشمه ومماليكه ، فلما دخلت المدينة ، أتت دار أخيها عمرو بن عائم ، فقال لها يزيد : إن أبا عبد الرحمن يأمرك أن تنتقلي إلى دار ضيافته ، وكانت لا تعرفه ، فقالت : من أنت كلاك الله ؟ قال : أبا يزيد بن معاوية ، قات : فلا رعاك الله يا ناقص لست بزائد ، فتغير لون يزيد ، وأتى أباه فأخبره فقال : هي أسن قريش وأعظمهم حلماً ، قال يزيد : كم تعد لها ؟ قال : كانت تعد على عهد رسول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أربعمائة عام ، وهي من بقية الكرام ، فلما كان من الغد أتاها معاوية فسلم عليها فقالت : على المؤمنين السلام ، وعلى الكافرين الهوان والملام ، ثم قالت : أفيكم عمرو بن العاص قال عمرو : ها أناذا ، قالت : أنت تسب قريشاً وبني هاشم ، وأنت أهل السب ، وفيك السب ، وإليك يعود السب ، يا عمرو إني والله عارفه بك وبعيوبك ،

وعيوب أمك ، وإني اذكر ذلك : ولدت من أمة سوداء ، مجنونة حمقاء ، تبول من قياسها ، وتعلوها اللئام ، وإذا لامسها الفحل فكان نطفتها أنفذ من نطفته ، ركبها في يوم واحد أربعون رجلاً ، وأما أنت فقد رأيتك غاوياً غير مرشد ، ومفسداً غير مصلح ، والله لقد رأيت فحل زوجتك على فراشك ، فا غرت ولا أنكرت ، وأما أنت يا معاوية فما كنت في خير ، ولا ربيت في نعمة ، فما بالك ولبني هاشم ؟ نساؤك كنسائهم ؟ أم أعطى أمية في الجاهلية والإسلام ما أعطى هاشم ؟ وكفى فراً برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال معاوية : أيتها الكبيرة أنا كاف عن بني هاشم ، قالت : فإني أكتب عليك كتاباً فقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دعا ربه أن يستجيب لي خمس دعوات ، أفأجعل تلك الدعوات كلها فيك ؟ فخاف معاوية فحلف لا يسب بني هاشم أبداً ، فهذا ما كان بين معاوية وبين بني هاشم من المفاخرة . قال : وكان علي بن عبد الله بن عباس عند عبد الملك بن مروان ، فاخذ عبد الملك يذكر أيام بني أمية ، فبينا هو على ذلك ، نادى المنادي بالآذان ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، فقال علي : هذي المكارم لا قعبان من لبن . . . شيباً بماء ، فعادا بعد أبوالا فقال عبد الملك : الحق في هذا أبين من أن يكابر . قال علي بن محمد النديم : دخلت على المتوكل وعنده الرضي فقال : يا علي من أشعر الناس في زماننا ؟ قلت : البحتري ، قال : وبعده ، قلت : مروان بن أبي حفصة عبدك ، فالتفت إلى الرضي فقال : يا بن عم ، من أشعر الناس ؟ قال : علي بن محمد العلوي ، قال وما تحفظ من شعره ؟ قال قوله : لقد فاخرتنا من قريش عصابةٌ . . . بمط خدودٍ وامتداد أصابع فلما تنازعنا القضاء قضى لنا . . . عليهم بما نهوى نداء الصوامع فقال المتوكل : ما معنى قوله : نداء الصوامع ؟ قال : الشهادة ، قال : وأبيك أنه أشعر الناس . ومما قيل في هذا المعنى من الشعر قوله أيضاً : بلغنا السماء بأنسابنا . . . ولولا السماء لجزنا السماء

فحسبك من سؤدد أننا . . . بحسن البلاء كشفنا البلاء إذا ذكر الناس كنا ملوكاً . . . وكانوا عبيداً وكانوا إماء يطيب الثناء لآبائنا . . . وذكر علي يطيب الثناء هجاني رجالٌ ولم أهجهم . . . أبى الله لي أن أقول الهجاء وقال آخر : وإني من القوم الذين عرفتهم . . . إذا مات منهم سيدٌ قام صاحبه أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم . . . دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه نجوم السماء كلما انقض كوكبٌ . . . بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكبه وقال آخر : خطباء حين يقول قائلهم . . . بيض الوجوه مقاولٌ لسن لا يفطنون لعيب جارهم . . . وهم لحفظ جوارهم فطن
ضده
عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسل : ' لا تفتخروا بآبائكم في الجاهلية فو الذي نفسي بيده لما يدحرج الجعل برجله خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية ' . قال : وكان الحسن البصري يقول : يا ابن آدم ، لم تفتخر ، وإنما خرجت من سبيل بولين نطفة مشجت بأقذار . وقال بعضهم لرجل : أتفتخر ؟ ويحك وأولك نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بينهما وعاء عذرة ، فما هذا الافتخار ؟ وروي عن ابن عباس ، أنه قال : الناس يتفاضلون في الدنيا بالشرف والبيوتات والإمارات والغنى والجمال والهيئة والمنطق ، ويتفاضلون في الآخرة بالتقوى واليقين ، وأتقاهم أحسنهم يقيناً ، وأزكاهم عملاً ، وأرفعهم درجة . وقيل في ذلك :

يزين الفتى في الناس صحة عقله . . . وإن كان محظوراً عليه مكاسبه وشين الفتى في الناس قلة عقله . . . وإن كرمت آباؤه ومناسبه وقيل لعامر بن قيس : ما تقول في الإنسان ؟ قال : وما أقول فيمن إن جاع ضرع وإن شبع بغى وطغى . وقال بعض الحكماء : لا يكون الشرف بالنسب . ألا ترى أن أخوين لأب وأم يكون أحدهما أشرف من الآخر ، ولو كان ذلك من قبل النسب لما كان لا حد منهم على الآخر فضل ، لأن نسبهما واحد ، ولكن ذلك من قبل الأفعال ، لأن الشرف إنا هو بالفضل بالنسب . قال الشاعر : أبوك أبي والجد لا شك واحدٌ . . . ولكننا عودان آس وخروع وبلغنا عن المدائني قال : ليس لا سؤدد بالشرف ، وقد ساد الأحنف بن قيس بحلمه ، وحصين ابن المنذر برأيه ، ومالك بن مسمع بمحبته في العامة ، وسويد بن منجوف بعطفه على أرامل قومه ، وساد المهلب بن أبي صفرة بجميع هذه الخصال . وأما الشرف بالدين فالحديث المعروف عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) انه أتاه أعرابي ، فقال : بأبي أنت وأمي ، يا رسول الله ، من أكرم الناس حسناً ؟ قال : أحسنهم خلقاً وأفضلهم تقوى ، فانصرف الأعرابي ، فقال : ردوه ، ثم قال : يا أعرابي ، لعلك أردت أكرم الناس نسباً ، قال : نعم يا رسول الله ، قال : يوسف الصديق ، صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله فأين مثل هؤلاء الآباء في جميع الدنيا ما كان مثلهم ولا يكون مثلهم أحد أبداً ، وقال الشاعر في ذلك : ولم أر كالأسباط أبناء والدٍ . . . ولا كأبيهم والداً حين ينسب قال : ودخل عيينة بن حصن الفاري على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فانتسب له ، فقال : أنا ابن الأشياخ الأكارم ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : أنت إذاً يوسف صديق الرحمن عليه السلام ابن يعقوب إسرائيل الله أو إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : خير البشر آدم ، وخير العرب محمد ، وخير الفرس سلمان الفارسي ،

وخير الروم صهيب ، وخير الحبشة بلال . قال : وسمع عمر بن الخطاب ، وهو خليفة ، صوتاً ولفظاً بالباب فقال لبعض من عنده : اخرج فانظر من كان من المهاجرين الأولين فأدخله ، فخرج الرسول فوجد بلالاً وصهيباً وسلمان فأدخلهم ، وكان أبو سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو في عصابة من قريش جلوساً على الباب فقال : يا معشر قريش ، أنتم صناديد العرب وأشرافها وفرسانها بالباب ، ويدخل حبشي وفارسي ورومي ، فقال سهيل : يا أبا سفيان أنفسكم فلوموا ، ولا تذموا أمير المؤمنين . دعي القوم فأجابوا ، ودعيتم فأبيتم ، وهم يوم القيامة أعظم درجات واكثر تفضيلاً ، فقال أبو سفيان : لا خير في مكان يكون فيه بلال شريفاً . فأمات صناعات الأشراف ، فغنه روى أن أبا طالب كان يعالج العطر والبز ، وأما أبو بكر وعمر وطلحة وعبد الرحمن بن عوف فكانوا بزازين ، وكان سعد بن أبي وقاص يعذق النخل ، وكان أوه عتبة نجاراً ، وكان العاص بن هشام أخو أبي جهل بن هشام جزاراً ، وكان الوليد ابن المغيرة حداداًن وكان عقبة بن علي معك خماراً ، وكان عثمان بن طلحة صاحب مفتاح البيت خيااً ، وكان أبو سفيان بن حرب يبيع الزيت والأدم ، وكان أمية بن خلف يبيع البرم ، وكان عبد الله بن جدعان نخاساً ، وكان العاص بن وائل يعالج الخيل والإبل ، وكان جرير بن عمرو وقيس أبو الضحاك بن قيس ، ومعمر بن عثمان ، وسيرين بن محمد بن سيرين ، كانوا كلهم حدادين ، وكان المسيب أبو سعيد زياتاً ، وكان ميمون بن مهران بزازاً ، وكان مالك بن دينار وراقاً ، وكان أبوحنيفة صاحب الرأي خزاراً ، وكان مجمع الزاهد حائكاً . قيل : اتخذ يزيد بن المهلب بستاناً في داره بخراسان ، فلما ولي قتيبة بن مسلم ، جعله لإبله ، فقال مرزبان مرو : هذا كان بستاناً وقد اتخذته لإبلك ، فقال قتيبة : أبي كان اشتربان وكان أبو يزيد بستانبان فمنها صار ذلك كذلك . قال : وذكروا أن المأمون ذكر أصحاب الصناعات فقال : السوقة سفل ، والصناع أنذال ، والتجار بخلاء ، والكتاب ملوك على الناس ، والناس أربعة : أصحاب الحرف وهي : أمارة ، وتجارة ، وصناعة ، وزراعة ، فمن لم يكن منهم صار عيالاً عليهم .

محاسن الثقة بالله سبحانه
قيل : خطب سليمان بن عبد الملك فقال : الحمد لله الذي أنقذني من ناره بخلافته . وقال الوليد بن عبد الملك : لأشفعن للحجاج بن يوسف ، وقرة بن شريك عند ربي . وقال الحجاج : يقولون مات الحجاج ، ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت ، والله ما رضي الله البقاء إلا لأهون عليه ، أليس إبليس إذ قال ' رب انظر ني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم . وقال أبو جعفر المنصور : الحمد لله الذي أجارني بخلافته ، وأنقذني من النار بها . وحدثني إبراهيم بن عبد الله عن أنس بن مالك قال : دخلنا على قوم من الأنصار ، وفيهم فتى عليل ، فلم نخرج من عنده حتى قضى نحبه ، فإذا عجوز عند رأسه ، فالتفت إليها بعض القوم فقال : استسلمي لأمر الله واحبسبي ، قالت : أمات ابني ؟ قال : نعم ، قالت : أحق ما تقولون ؟ قلنا : نعم ، فمدت يدها إلى السماء وقالت : اللهم إنك تعلم أني أسلمت لك ، وهاجرت إلى نبيك محمد صلوات الله عليه ، رجاء أن تغيثني عند كل شدة ، فلا تحملني هذه المصيبة اليوم ، فكشف ابنها الذي سجيناه وجهه ، وما برحنا حتى طعم ، وشرب ، وطعمنا معه .
ضده
قال عيسى بن مريم صلوات الله تعالى عليه : يا معشر الحواريين أن ابن آدم مخلوق في الدنيا في أربع منازل : هو في ثلاث منها واثق ، وهو في الرابعة سيء الظن يخف خذلان الله إياه ، فإما المنزلة الأولى فإنه خلق في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، فوفاه الله رزقه في جوف ظلمة البطن ، فإذا أخرج من ظلمة البطن ، وقع في اللبن لا يخطو إليه بقدم ولا ساق ، ولا يتناوله بيد ، ولا ينهض إليه بقوة ، بل يكره إليه إكراهاً ، ويؤجر إيجاراً حتى ينبت عليه لحمه ودمه ، فإذا ارتفع عن اللبن ، وقع في المنزلة الثالثة من الطعام من أبويه يكسبان عليه من حلال وحرام ، فغن ماتا ، عطف عليه الناس ، هذا يطعمه ،

وهذا يسقيه ، وهذا يؤويه ، وهذا يكسوه . فإذا وقع في المنزلة الرابعة ، واشتد واستوى ، وكان رجلاً ، خشي أن يرزق ، فيثب على الناس ، فيخون أماناتهم ، ويسرق أمتعتهم ، ويغصبهم أموالهم مخافة خذلان الله تعالى إياه .
محاسن طلب الرزق
قال عمرو بن عتبة : من لم يقدمه الحزم أخره العجز ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : يقول الله تبارك وتعالى : يا بن آدم أحدث لي سفراً أحدث لك رزقاً ، وفي بعض الحديث : سافروا وتغنموا . وقال الكميت بن زيد الأسدي : ولن يذبح هموم النفس إن حضرت . . . حاجات مثلك إلا الرحل والجمل وقال أبو تمام الطائي : وطول مقام المرء في الحي مخلقٌ . . . لديباجتيه ، فاغترب تتجدد فإني رأيت الشمس زيدت محبةً . . . إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد وقال بعض الحكماء : لا تدع الحيلة في التماس الرزق بكل مكان ، فغ ، الكريم محتال ، والدنيء عيال وأنشد : فسر في بلاد الله والتمس الغنى . . . تعش ذا يسارٍ أو تموت فتعذرا ولا ترض من عيشٍ بدونٍ ولا تمن . . . وكيف ينام الليل من كان معسرا وتقول العامة : كلب جوال خير من أسد رابض ، وتقول : نم إلى دماغه صائفاً غلت قدره شاتياً . ووقع عبد الله بن طاهر : نم سعى رعى ، ومن لزم المنام رأى الأحلام . هذا المعنى سرقه من توقيعات أنوشروان فإنه يقول : هرك رود جرد هرك خسبد خراب ببند . وأنشد :

كفى حزناً أن النوى قذفت بنا . . . بعيداً وأن الرزق أعيت مذاهبه ولو أننا إذ فرق الدهر بيننا . . . غنى واحدٍ منا تمول صاحبه ولكننا من دهرنا في مؤونةٍ . . . يكالبنا طوراً وطوراً نكالبه وقال آخر : ومن يك مثلي ذا عيالٍ ومقتراً . . . من المال يطرح نفسه كل مطرح ليبلغ عذراً أو ينال غنيمةً . . . ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح وقال آخر : وليس الرزق عن طلبٍ حثيثٍ . . . ولكن أدل دلوك في الدلاء تحئك بملئها حيناً وطوراً . . . تجيء بحماةٍ وقليل ماء
ضده
قيل : وجد في بعض خزائن ملوك العجم لوح من حجارة ، مكتوب عليه : كت لما لا ترجو ، أرجى منك لما ترجو ؛ فغن موسى عليه السلام خرج ليقبس ناراً ، فنودي بالنبوة . وبلغنا عن ابن السماك أنه قال : لا تشتغل بالرزق المضمون عن العمل المفروض ، وكن اليوم مشغولاً بما أنت مسؤول عنه غداً ، وإياك والفضول ، فإن حسابها يطول . قال الشاعر : إني علمت ، وعلم المرء ينفعه . . . أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى له فيعنين تطلبه . . . ولو قعدت ، أتاني لا يعنيني وقال آخر : لعمرك ما كل التعطل ضائر . . . ولا كل شغلٍ فيه للمرء منفعه

إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى . . . عليك سواءً ، فاغتنم لذة الدعة وقال آخر : سهل عليك ، فغن الرزق مقدور . . . وكل مستأنفٍ في اللوح ، مسطور أتى القضاء بما فيه لمدته . . . وكل ما لم يكن فيه ، فمخطور لا تكذبن فخير القول أصدقه . . . إن الحريص على الدنيا لمغرور وقال آخر : لا تعتبن على العباد فإنما . . . يأتيك رزقك حين يؤذن فيه وقال آخر : هي المقادير تجري ف أعنتها . . . فاصبر فليس لها صبرٌ على حال يوماً تريش خسيس القوم ترفعه . . . دون الماء يوماً تخفض العالي وقال آخر : اصبر على زمن جم نوائبه . . . فليس من شدةٍ إلا لها فرج تلقاه بالأمس في عمياء مظلمةٍ . . . ويصبح اليوم قد لاحت له السرج وقال آخر : ألا رب راج حاجةً لا ينالها . . . وآخر قد تقضى له وهو آيس يجول لها هذا وتقضى لغيره . . . فتأتي الذي تقضى له وهو جالس وقال آخر : فلما أن عنيت بما ألاقي . . . وأعيتني المسائل بالقروض دعوت الله لا أرجو سواه . . . وارب العرش ذو فرج عريض

وقال آخر : يا صاحب الهم إن الهم منفرجٌ . . . أبشر بخيرٍ كأن قد فرج الله اليأس يقطع أحياناً بصاحبه . . . لا تيأسن فإن الصانع الله إذا ابتليت فثق بالله وارض به . . . إن الذي يكشف البلوى هو الله وقال آخر : وإذا تصبك من الحوادث نكبةٌ . . . فاصبر ، فكل بليةٍ تتكشف
محاسن المواعظ
قال الأصمعي : حجبت ، فنزلت ضرية ، فإذا أعرابي قد كور عمامته على رأسه ، وقد تنكب قوساً ؛ فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس إنما الدنيا دار ممر ، والآخرة دار مقر . فخذوا من مركم لمقركم ، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم . أما بعد ، فغنه لن يستقبل أحدٌ يوماً من عمره إلا بفراق آخر نم أجله ؛ فاستعجلوا لا ، فسكم لما تقدمون عليه ، لا لما تظعنون عنه ؛ وراقبوا من ترجعون إليه ، فغنه لا قوي أقوى نم خالق ولا ضعيف أضعف من مخلوق ، ولا مهرب من الله إلا إليه ؛ وكيف يهرب من يتقلب بين يدي طالبه وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة ، فقد فاز ، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور . وقال بعض الأعراب : إن الموت ليقتحم على بين آدم كاقتحام الشيب على الشباب ؛ ومن عرف الدنيا لم يفرح بها فهو خائف ، ولم يحزن فيها على بلوى ؛ ولا طالب أغشم من الموت ، ومن عطف عليه الليل والنهار أردياه ، ومن وكل به المؤت أفناه . وقال أعرابي : كيف يفرح بممر تنقصه الساعات ، وبسلامة بدن معرض للآفات ؟ لقد عجبت من المرء يفر الموت ، وهو سبيله ، ولا أرى أحداً إلا استدركه الموت . وقيل : وجد في كتاب من كتب بزرجمهر صحيفة مكتوب فيها : إن حاجة الله إلى عباده أن

يعرفوه ؛ فمن عرفه لم يعصه طرفة عين . كيف البقاء مع الفناء ، وكيف يأسى المرء على ما فاته ، والموت يطلبه ؟ وقال كسرى : لم يكن من حق علمه أن يقتل وإني لنادم على ذلك . . قال : وحضرت الوفاة رجلاً من حكماء فارس فقيل له : كيف حالك ؟ قال : كيف يكون حال من يريد سفراً بعيداً بغير زاد ، ويقدم على ملك عادل بغير حجة ، ويسكن قبراً موحشاً بغير أنيس ؟
ضده
قيل : لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ، جزع أبوه عليه جزعاً شديداً ، فقال ذات يوم لمن حضره : هل من منشد شعراً يعزيني به أو واعظ يخفف عني فأتسلى به ؟ فقال رجل من أهل الشام : يا أمير المؤمنين كل خليل مفارق خليلة بأن يموت أو يذهب إلى مكان ، فتبسم عمر بن عبد العزيز وقال : مصيبتي فيك زادتني إلى مصيبتي مصيبة . وأصيب الحجاج بن يوسف بمصيبة ، وعنده رسول لعبد الملك بن مروان ، فقال : ليت إني وجدت إنساناً يخفف عني مصيبتي ، فقال له الرسول : أقول ، قال : قل قال : كل إنسان مفارق صاحبه بموت أو بصلب أو بنار تقع عليه من فوق البيت ، أو يقع عليه البيت ، أو يسقط في بئر ، أو يغشى عليه أو يكون شئ لا يعرفه . فضحك الحجاج وقال : مصيبتي في أمير المؤمنين أعظم حين وجه مثلك رسولاً .
محاسن فضل الدنيا
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عافية لمن لها عنها ، ودار غنى لمن تزود منها ، مسجد أنبياء الله ، ومهبط وحيه ، ومصلى ملائكته ، ومتجر أوليائه يكسبون فيها الرحمة ، ويربحون فيها الجنة ، فمن ذا يذمها ؟ وقد آذنت ببنيها ، ونادت بفراقها ، ونعت نفسها ، وشوقت بسرورها إلى السرور ، وببلائها إلى البلاء تخويفاً

وتحذيراً ، وترغيباً وترهيباً ، فيا أيها الذام للدنيا والمفتتن بغرورها متى غرتك : أبمصارع آبائك من البلى ، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى ؟ كم عللت بكفيك ، وكم مرضت بيديك ؟ تبتغي لهم الشفاء ، وتستوصف لهم الأطباء ، وتلتمس لهم الدواء ؟ لم تنفعهم بطلبتك ، ولم تشفعهم بشفاعتك ، ولم تستشفهم باستشفائك بطبك . مثلت بهم الدنيا مصرعك ومضجعك ، حيث لا ينفعك بطاؤك ، ولا يغني عنك أحباؤك . ثم التفت إلى قبور هناك ، فقال : يا أهل الثراء والعز ، الأزواج قد نكحت ، والأموال قد قسمت ، والدور قد سكنت . هذا خير ما عندنا ، فما خير ما عندكم ؟ ثم قال لمن حضر : والله ، لو أذن لهم لأجابوا بأن خير الزاد التقوى ، وأنشد : ما أحسن الدنيا وإقبالها . . . إذا أطاع الله م نالها من لم يواس الناس من فضلها . . . عرض للإدبار إقبالها قال أبو حازم : الدنيا طالبة ومطلوبة . طالب الدنيا يطلبه الموت حتى يخرجه منها ، وطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى توفيه رزقه . وقال الحسن البصري : بينا أنا أطوف بالبيت ، إذا أنا بعجوز متعبدة ، فقلت : من أنت ؟ فقالت : من بنات ملوك غسان ، قلت : فمن أين طعامك ؟ قالت : إذا كان آخر النهار ، جاءتني امرأة متزينة ، فتضع بين يدي كوزاً من ماء ، ورغيفين ، قلت لها : أتعرفينها ؟ قالت : اللهم لا . قلت : هي الدنيا خدمت ربك ، جل ذكره ، فبعث إليك الدنيا فخدمتك .
ضده
زعموا أن زياد بن أبيه مر بالجدة ، فنظر إلى دير هناك ، فقال لخادمه : لمن هذا ؟ قيل له : هذا دير حرقة بنت النعمان بن المنذر ، فقال : ميلوا بنا إليه نسمع كلامها ، فجاءت إلى وراء الباب فكلمها الخادم فقال لها : كلمي الأمير ، فقالت : أ أوجز أم أطيل ؟ قال : بل أوجزي ، قالت : كنا أهل بيت طلعت الشمس علينا وما على الأرض أحد أعز منا ، وما غابت تلك الشمس حتى رحمنا عدونا ، قال : فأمر لها بأوساق من شعير ، فقالت : أطعمتك يد

شبعاء جاعت ، ولا أطعمتك يد جوعاء شبعت ، فسر زياد بكلامها ، فقال لشاعر معه : قيد هذا الكلام ليدرس ، فقال : سل الخير أهل الخير قدماً ولا تسل . . . فتىً ذاق طعم الخير منذ قريب ويقال : إن فروة بن إياس بن قبيصة انتهى إلى دير حرقة بنت النعمان ، فألفاها وهي تبكي ، فقال لها : ما يبكيك ؟ قالت : ما من دار امتلأت سروراً بعد ذلك تبوراً ، ثم قالت : فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا . . . إذا نحن فيهم سوقة نتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها . . . تقلب تارات بنا وتصرف قال : وقالت حرقة بنت النعمان لسعد بن أبي وقاص : لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة ، ولا زالت لكريم إليك حاجة ، وعقد لك المنن في أعناق الكرام ، ولا أزال بك عن كريم نعمة ، ولا أزالها بغيرك إلا جعلك سبباً لردها عليه . قال : وقال عبد الله بن مروان لسلم بن يزيد الفهمي : أي الزمان أدركت أفضل وأي ملوكه أكمل ؟ قال : أما الملوك فلم أر غلا ذاماً وحامداً ، وأما الزمان فرفع أقواماً ووضع آخرين ، وكلهم يذم زمانه لأنه يبلي جديدهم ويهرم صغيرهم ، وكل ما فيه منقطع إلا الأمل ، قال : فأخبرني عن فهم ، قال : هم كما قال الشاعر : درج الليل والنهار على فه . . . م بن عمرو فأصبحوا كالرميم وخلت دارهم فأضحت قفاراً . . . بعد عز وثروة ونعيم وكذاك الزمان يذهب بالنا . . . س وتبقى ديارهم كالرسوم قال : فمن يقول منكم : رأيت الناس مذ خلقوا وكانوا . . . يحبون الغني من الرجال وإن كان الغني أقل خيراً . . . بخيلاً بالقليل من النوال

فلا أدري علام وفيم هذا . . . وماذا يرتجون من المحال أ للدنيا فليس هناك دنيا . . . ولا يرجى لحادثة الليالي قال : أنا ، وقد كتمتها . قال : ولما دخل علي صلوات الله عليه المدائن فنظر إلى إيوان كسرى أنشد بعض من حضره قول الأسود بن يعفر : ماذا يؤمل بعد آل محرق . . . تركوا منازلهم وبعد إياد أهل الخورنق والسدير وبارق . . . والقصر ذي الشرفات من سنداد نزلوا بأنقرة يسيل عليهم . . . ماء الفرات يجئ من أطواد أرض تخيرها لطيب نسيمها . . . كعب بن مامة وابن أم دواد جرت الرياح على محل ديارهم . . . فكأنما كانوا على ميعاد فإذا النعيم وكل ما يلهى به . . . يوماً يصير إلى بلىً ونفاد وقال علي صلوات الله عليه : أبلغ من ذلك قول الله تعالى : كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك ، وأورثناها قوماً آخرين ، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين . وقال عبد الله المعتز : أهل الدنيا كركب ، يسار بهم ، وهم نيام . وقال غيره : طلاق الدنيا مهر الجنة ، وذكروا أن إعرابياً ذكر الدنيا ، فقال : هي جمة المصائب ، رنقة المشارب . وقال آخر : الدنيا لا تمتعك بصاحب . قال أبو الدرداء : من هوان الدنيا على الله تعالى إنه لا يعصى إلا فيها ، ولا ينال ما عنده إلا بتركها وقال : إذا أقبلت الدنيا على امرئ أعارته محاسن غيره ، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه . وقال الشاعر : أيا دنيا حسرت لنا قناعاً . . . وكان جمال وجهك في النقاب ديار طالما حجبت وعزت . . . فأصبح إذنها سهل الحجاب

وقد كانت لنا الأيام ذلت . . . فقد قرنت بأيام صعاب كأن العيش فيها كان ظلاً . . . يقلبه الزمان إلى ذهاب قال الأصمعي : وجد في دار سليمان بن داود ، عليه السلام ، على قبته مكتوباً : ومن يحمد الدنيا لشئ يسره . . . فسوف لعمري عن قريب يلومها إذا أدبرت كانت على المرء حسرةً . . . وإن أقبلت كانت كثيراً همومها وكان إبراهيم بن أدهم ينشد : نرقع دنيانا بتمزيق ديننا . . . فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع وقال أبو العتاهية : يا من ترفع بالدنيا وزينتها . . . ليس الترفع رفع الطين بالطين إذا أردت شريف القوم كلهم . . . فأنظر إلى ملك في زي مسكين ذاك الذي عظمت في الناس همته . . . وذاك يصح للدنيا وللدين وقال آخر : هب الدنيا تساق إليك عفواً . . . أليس مصير ذاك إلى زوال وقال محمود الوراق : هي الدنيا فلا يغررك منها . . . مخائل تستفز ذوي العقول أقل قليلها يكفيك منها . . . ولكن لست تقنع بالقليل تشيد وتبتني في كل يوم . . . وأنت على التجهز للرحيل ومن هذا على الأيام تبقى . . . مضاربه بمدرجة السيول وقال آخر : دنيا تداولها العباد ذميمة . . . شيبت بأكره من نقيع الحنظل

وثبات دنيا ما تزال ملمةً . . . منها فجائع مثل وقع الجندل وقال آخر : حتى متى أنت في دنياك مشتغل . . . وعامل الله بالرحمن مشغول وقال أبو نواس الحسن بن هانئ : دع الحرص على الدنيا . . . وفي العيش فلا تطمع ولا تجمع لك المال . . . فما تدري لمن تجمع ولا تدري أفي أرض . . . ك أم في غيرها تصرع ؟ قال الأصمعي : سمعت أبا عمرو بن العلاء وهو يقول : بينا أنا أدور في بعض البراري ، إذا أنا بصوت : وإن امرأ دنياه أكثر همه . . . لمستمسك منها بحبل غرور فقلت : أ إنسي أم جني ؟ ، فلم يجبني ، فنقشته على خاتمي . قال : وسمع يحي بن خالد بيت العدوي في وصفه الدنيا : حتوفها رصد ، وعيشها نكد . . . وشربها رنق ، وملكها دول فقال : لقد نظن في هذا البيت صفة الدنيا . قال : وسمع المأمون بيت أبي فراس : إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت . . . له عن عدو في ثياب صديق فقال : لو سئلت الدنيا عن نفسها ما وصفت نفسها كصفة أبي فراس . وقيل الحسن البصري : ما تقول في الدنيا ؟ قال : ما أقول في دار ، حالها حساب ، وحرامها عقاب ، فقيل : ما سمعنا كلاماً أوجز من هذا . قال : بلى ، كلام عمر بن عبد العزيز ، كتب إليه عدي بن أرطأة : وهي على حمص ، قد تهدمت واحتاجت إلى صلاح حيطانها ، فكتب إليه : حصنها بالعدل ونق طرقها من الظلم ، والسلام .

محاسن الزهد
قال محمد بن الحسن عن أبي تمام ، وكان قد عرف ضيغماً : كنت معه في طريق مكة ، فلما بعدنا في الرمل ، نظر إلى ما تلقى الإبل من شدة الحر ، فبكى ضيغم ، فقلت : لو دعوت الله أن يمطر علينا ، كان أخف على هذه الإبل ، قال : فنظر إلى السماء وقال : إن شاء الله فعل ، قال فو الله ما كان إلا أن تكلم ، حتى نشأت سحابة ، فهطلت . وعن عطاء بن يسار أن أبا مسلم الخولاني خرج إلى السوق بدرهم يشتري لأهله دقيقاً ، فعرض له سائل فأعطاه بعضه ، ثم عرض له سائل آخر فأعطاه الباقي ، فأتى النجارين فملأ مزوده من نشارة الخشب ، وأتى منزله فألقاه ، وخرج هارباً من أهله ، فاتخذت المرأة المزود فإذا دقيق حواري ، لم تر مثله فعجنته وخبزته ، فلما جاء قال : أين لك هذا ؟ قالت : الدقيق الذي جئت به . وعن أبي عبد الله القرشي ، عن صديق له قال : دخلت بئر زمزم فإذا بشخص ينزع الدلو مما يلي الركن ، فلما شرب أرسل الدلو ، فأخذته ، فشربت فضلته ، فإذا هو سويق لم أر أطيب منه ؛ فلما كانت القابلة في ذلك الوقت جاء الرجل ، وقد أسبل ثويه على وجهه ، ونزع الدلو فشرب ثم أرسله فأخذته فشربت فضلته فإذا هو ما مضروب بالعسل ، لم أر شيئاً قط أطيب منه ، فأردت أن آخذ طرف ثوبه فانظر من هو ففاتني ، فلما كان في الليلة الثالثة قعدت قبالة زمزم في ذلك الوقت ، فجاء الرجل ، وقد أسبل ثوبه على وجهه ، فنزع الدلو ، فشرب ، وأرسله ، وأخذته ، وشربت فضلته ، فإذا هو أطيب من الأول ، فقلت : يا هذا أسالك برب هذه البنية من أنت ؟ قال : تكتم علي حتى الموت ؟ قلت : نعم . قال لي : أنا سفيان الثوري ، وكانت تلك الشربة تكفيني إذا شربتها إلى مثلها لا أجد جوعاً ولا عطشاً . وقال الأصمعي : أرأيت إعرابياً يكدح جبهته في الأرض يريد أن تجعل سجادة . فقلت : ما تصنع ؟ قال : إني وجدت الأثر في وجه الرجل الصالح . وقال الشاعر : كيف يبكي لمحبس في طلول . . . من سيقضي ليوم حبس طويل إن في البعث والحساب لشغلاً . . . عن وقوف برسم ربع محيل

وقال آخر : إن الشقي الذي في النار منزله . . . والفوز فوز الذي ينجو من النار يا رب أسرفت في ذنبي ومعصيتي . . . وقد علمت يقيناً سوء آثاري فاغفر ذنوباً إلهي قد أحطت بها . . . رب العباد ، وزحزحني عن النار وقال ذو الرمة : تعصي الإله وأنت تظهر حبه . . . هذا محال في القياس بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته . . . إن المحب لمن يحب يطيع وقال أبو نواس : أيا عجباً كيف يعصى الإله . . . أم كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكة . . . وتسكينة فاعلمن شاهد وفي كل شئ له آية . . . تدل على أنه واحد وقال أيضاً : سبحان من خلق الخل . . . ق من ضعيف مهين يسوقهم من قرار . . . إلى قرار مكين يجوز خلقاً فخلقاً . . . في الحجب دون العيون حتى بدت حركات . . . مخلوقة من سكون وقال آخر : أخي ما بال قلبك ليس ينقى . . . كأنك ما تظن الموت حقاً ألا يا بن الذين مضوا وبادوا . . . أما والله ما ذهبوا لتبقى

وما لك غير تقوى الله زاد . . . إذا جعلت إلى اللهوات ترقى وقال آخر : يا قلب مهلاً وكن على حذر . . . فقد لعمري أمرت بالحذر ما لك بالترهات مشتغلاً . . . أفي يديك الأمان من سقر وقال آخر : إن كنت تؤمن بالقيامة . . . واجترأت على الخطيه فلقد هلكت وإن جحد . . . ت فذاك أعظم للبليه وقال آخر : وأفنية الملوك محجبات . . . وباب الله مبذول الفناء فما أرجو سواه لكشف ضري . . . ولا أفزع إلى غير الدعاء ولا أدعو إلى اللإواء كهفاً . . . سوى من لا يصم عن الدعاء
ضده
قيل : كان جندي بقزوين يصلي في بعض المساجد ، فافتقده المؤذن أياماً ، فصار إليه ، وقرع بابه عليه ، فخرج إليه ، فقال له المؤذن : أبو من ؟ قال : أبو الجحيم ، قال : بئس ، ياهذا رد الباب . قال : وقيل للقيني : ما أيسر ذنبك ؟ قال : ليلة الدير . قيل له : وما ليلة الدير ؟ قال : نزلت بدير نصرانية فأكلت عندها طفشيلاً بلحم خنزير ، وشربت خمرها ، وفجرت بها ، وسرقت كساءها ، وخرجت . قيل أتى خمسة من الفتيان إلى قرية ، فنزلوا على

باب خان ، فقام أحدهم يصلي ، والباقون جلوس ، فمرت بهم نبطية ، فقالوا : دلينا على قحبة قالت : نعم ، كم أنتم ؟ قالوا : نحن أربعة ، فأومى الذي يصلي ، بيده : سبحان الله أنا الخامس . وقال الشاعر : وإنني في الصلاة أحضرها . . . ضحكة أهل الصلاة إن شهدوا أقعد في سجدة إذا ركعوا . . . وأرفع الرأس إن هم سجدوا أسجد والقوم راكعون معاً . . . وأسرع الوثب إن هم قعدوا فلست أدري إذا هم فرغوا . . . كم كان تلك الصلاة والعدد وقال آخر : وأصلي فأغلط الدهر فيما . . . بين سبع وأربع وثمان ومواقيت حينها لست أدري . . . ما أذان موقت من أذان وقال آخر : نعم الفتى لو كان يعرف ربه . . . ويقيم وقت صلاته حماد عدلت مشافره الدنان فأنفه . . . مثل القدوم يسنه الحداد فأبيض من شرب المدامة وجهه . . . فبياضه يوم الحساب سواد وقال آخر : إن قرأ العاديات في رجب . . . لم يعد منها إلا إلى رجب بل نحن لا نستطيع في سنة . . . نختم تبت يدا أبي لهب

محاسن النساء النادبات
قيل : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يستحسن قول الخنساء في صخر أخيها : لابد من ميتة في صرفها غير . . . والدهر من شأنه حول وإضرار وإن صخراً لتأتم الهداة به . . . كأنه علم في رأسه نار وقيل للخنساء : صفي لنا صخراً ؟ فقالت : كان مطر السنة الغبراء ، وذعاف الكتيبة الحمراء . قيل : فمعاوية ؟ قالت : حياء الجدبة إذا نزل ، وقرى الضيف إذا حل . قيل : فأيهما كان عليك أحنى ؟ قالت : أما صخر فسقام الجسد ، وأما معاوية فجمرة الكبد ، وأنشدت : أسدان محمرا المخالب نجدةً . . . غيثان في الزمن الغضوب الأعسر قمران في النادي رفيعا محتد . . . في المجد فرعا سؤدد متخير وروي إنها دخلت على عائشة أم المؤمنين ، وعليها صدار من شعر ، فقالت لها عائشة : أتتخذين الصدار ، وقد نهى عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقالت : يا أم المؤمنين إن زوجي كان رجلاً متلافاً منفقاً ، فقال لي : لو أتيت معاوية فاستنته ، فخرجت وقد لقيني صخر ، فأخبرته فشاطرني ماله ثلاث مرات ، فقالت له امرأته : لو أعطيتها من شرارها - تعني الإبل - فقال : تالله لا أمنحها شرارها . . . وهي حصان قد كفتني عارها وإن هلكت مزقت خمارها . . . واتخذت من شعر صدارها فلما هلك صخر اتخذت هذا الصدار ، ونذرت أن لا أنزعه حتى تموت . قال ثور بن معن السلمي : حدثني أبي قال : دخلت على الخنساء في الجاهلية وعليها صدار من شعر ، وهي تجهز ابنتها ، فكلمتها في طرح الصدار ، فقالت : يا حمقاء والله لأنا أحسن منك عرساً ، وأطيب منك درساً ، وأرق منك نعلاً . قال عبد الرحمن بن مرة

عن بعض أشياخه أن عمر بن الخطاب قال للخنساء : ما أقرح مآقي عينيك ؟ قالت : بكائي على السادات من مضر ، قال : يا خنساء إنهم في النار ، قالت : ذلك أطول لعويلي . ومما اخترنا من أشعارها قولها : تفرقني الدهر قرعاً وغمزاً . . . وأوجعني الدهر نهشاً ووخزا وأفنى رجالي فبادوا معاً . . . فأصبح قلبي لهم مستفزا كأن لم يكونوا حمىً يتقى . . . إذ الناس إذ ذاك من عز بزا وكانوا سراة بني مالك . . . وزين العشيرة مجداً وعزا وهم في القديم صحاح الأدي . . . م والكائنون من الناس حرزا بسمر الرماح وبيض الصفاح . . . فبالبيض ضرباً وبالسمر وخزا حززنا نواصي فرسانكم . . . وكانوا يظنون أن لا تحزا ومن ظن ممن يلاقي الحروب . . . بأن لا يصاب فقد ظن عجزا نعف ونعرف حق القرى . . . ونتخذ الحمد ذخراً وكنزا ونلبس في الحرب نسج الحديد . . . وفي السلم نلبس خزاً وقزا وروي خبر الخنساء من جهة أخرى : ذكروا أنها أقبلت حاجة ، فمرت بالمدينة ومعها أناس من قومها ، فأتوا عمر بن الخطاب ، فقالوا : هذه خنساء ، فلو وعظتها فقد طال بكاؤها في الجاهلية والإسلام ، فقام عمر وأتاها وقال : يا خنساء ، قال : فرفعت رأسها ، فقالت : ما تشاء وما الذي تريد ؟ فقال : ما الذي أقرح مآقي عينينك ؟ قالت : البكاء على سادات مضر . قال : إنهم هلكوا في الجاهلية ، وهم أعضاد اللهب ، وحشو جهنم ، قالت : فداك أبي وأمي ، فذلك الذي زادني وجعاً ، قال : فأنشديني ما قلت ، قالت : أما أني لا أنشدك ما قلت قبل اليوم ، ولكني أنشدك ما قلته الساعة ، فقالت :

سقى جدثاً أعراق غمرة دونه . . . وبيشه ديمات الربيع ووابله وكنت أعير الدمع قبلك من بكى . . . فأنت على من مات قبلك شاغله وأرعيهم سمعي إذا ذكروا الأسى . . . وفي الصدر مني زفرة لا تزايله فقال عمر : دعوها فإنها لا تزال حزينة أبدا . ليلى الأخيلية هجاها رجل من قومها فقال : ألا حييا ليلى وقولا لها هلا . . . فقد ركبت أيراً أغر محجلاً فأجابته : تعيرني داء بأمك مثله . . . وأي جواد لا يقال له هلا ذكروا أنها دخلت على عبد الملك بن مروان ، فقال لها : يا ليلى هل بقي في قلبك من حب توبة ، فتى الفتيان ، شئ ؟ قالت : وكيف أنساه ؟ وهو الذي يقول يا أمير المؤمنين : ولو أن ليلى في ذرى متمنع . . . بنجران لالتفت علي قصورها حمامة بطن الواديين ترنمي . . . سقاك من الغر الغوادي مطيرها أبيني لنا لا زال ريشك ناعماً . . . وبيضك في خضراء غصن نضيرها تقول رجال لا يضيرك نأيها . . . بلى كل ما شف الفنوس يضيرها أيذهب ريعان الشباب ولم أزر . . . كواعب في همدان بيضاً نحورها قال : عمرك الله أن تذكيه . ولتوبة في ليلى الأخيلية : ولو أن ليلى الأخيلية سلمت . . . علي ودوني جندل وصفائح لسلمت تسليم البشاشة أو زقا . . . إليها صدىً من جانب القبر صائح ولو أن ليلى في السماء لأصعدت . . . بطرفي إلى ليلى العيون اللوامح

فلما مات توبة ، مر زوج ليلى بليلى على قبره ، فقال لها : سلمي على توبة فإنه زعم في شعره أنه يسلم عليك تسليم البشاشة ، فقالت : ما تريد إلى من بليت عظامه ، فقال : والله لتفعلن ، فقالت وهي على البعير : سلام عليك يا توبة ، فتى الفتيان . وكانت قطاة مستظلة في ثقب من ثقب القبر ، فلما سمعت الصوت ، طارت وصاحت ، فنفر البعير ورمى بليلى فماتت ، فدفنت إلى جنب قبر توبة . قال : وسأل الحجاج ليلى : هل كان بينك وبين توبة ريبة قط ؟ قالت : لا والذي أسأله صلاحك إلا أنه مرة قال لي قولاً ظننت أنه خنع لبعض الأمر فقلت له : وذي حاجة قلنا له لا تبح بها . . . فليس إليها ما حييت سبيل لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه . . . وأنت لأخرى فارغ وخليل فما كلمني بعد ذلك بشيء ، حتى فرق بيني وبينه الموت . قال الحجاج : فما كان بعد ذلك ؟ قالت : لم يلبث أن قال لصاحب له : إذا أتيت الحاضر من بني عباد فقل بأعلى صوتك : عفا الله عنها هل أبيتن ليلةً . . . من الدهر لا يسري إلي خيالها فلما سمعت الصوت ، خرجت ، فقلت : وعنه عفا ربي وأحسن حاله . . . تعز علينا حاجة لا ينالها قال : ودخلت ليلى على الحجاج فأنشدته قولها فيه : إذا نزل الحجاج أرضاً سقيمةً . . . تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها . . . غلام إذا هز القناة ثناها أحجاج لا تعطي العصاة مناهم . . . ولا الله يعطي للعصاة مناها فوصلها الحجاج بألف دينار ، وقال : لو قلت : بدل غلام همام لكان أحسن . هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان قيل : لما قتل شيبة وعتبة ، ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة ، رئتهم هند فقالت :

إني رأيت فساداً بعد إصلاح . . . في عبد شمس فقلبي غير مرتاح هاجت لهم ادمعٌ تترى ومنبعها . . . من رأس محروبةٍ ما إن لها لاحي لما تنادت بنو فهرٍ على حنقٍ . . . والموت بينهم ساعٍ لأرواح كأنما النسج في قتلى مصرعةٍ . . . سرجٌ أضاءت على جدرٍ وألواح يا آل هاشم إنا لا نصالحكم . . . حتى نرى الخيل تردي كل كفاح إن يمكن الله يوماً من هزيمتكم . . . يورث نساءكم داءً بتقراح فأجابتها عمرة بنت عبد الله بن رواحة الأنصاري : يا هند مهلاً لقد لاقيت مهبلةً . . . يوم الأعنة والأرواح في الراح أسدٌ غطارفةٌ غرٌ جحاجحةٌ . . . أبناء محصنةٌ بيضٌ لجحجاح هنالك الفوز والرضوان إن صبروا . . . مع الرسول فما آبوا تقباح الله أهلكهم والأوس شاهدةٌ . . . والخزرج الغر فيهم كل مجتاح لا تبعدن فإني غير صاريخةٍ . . . وكيف تصرخ ذات البعل : يا صاح
النساء الماجنات
قال سليمان بن عبد الملك : أنشدوني أحسن ما سمعتم من شعر النساء ، فقال بعضهم : يا أمير المؤمنين سار رجل من الظرفاء في بعض طرقاته ، إذ أخذته السماء ، فوقف تحت مظلة ليستكن من المطر ، وجارية مشرفة عليه ، فلما رأته حذفته بحجر فرفع رأسه وقال : لو بتفاحةٍ رميت رجونا . . . ومن الرمي بالحصاة جفاء

فأجابته : ما جهلنا الذي ذكرت من الشكل . . . ولا بالذي نراه خفاء وداية معها ، فقالت : قد بدأتيه ما ذكرت وجدي . . . ليت شعري فهل لهذا وفاء وسائلة في الباب ، فقالت : قد لعمري دعوتها فاجابت . . . هي داءٌ وأنت منه شفاء قال سليمان : قاتلها الله هي والله أشعرهم . عنان جارية الناطفي ، قال السلواني : دخلت يوماً على عنان وعندها رجل أعرابي ، فقالت : أيا عم لقد أتى الله بك ، قلت : وما ذاك ؟ قالت : هذا الأعرابي دخل علي فقال : بلغني أنك تقولين الشعر فقولي بيتاً ، فقلت لها : قولي ، فقالت : قد رتج علي ، فقل أنت ، فقلت : لقد جد الفراق وعيل صبري . . . عشية عيرهم للبين زمت فقال الأعرابي : نظرت إلى أواخرها ضحيا . . . وقد بانت وأرض الشام أمت فقالت عنان : كتمت هواكم في الصدر مني . . . على أن الدموع علي نمت فقال الأعرابي : أنت والله أشعرنا ، ولولا أنك مجرمة رجل لقبلتك ، ولكني أقبل البساط . وقال بعضهم : دخلت علي عنان فإذا عليها قميص يكاد يقطر صبغة وقد تناولها مولاها بضرب شديد وهي تبكي فقلت : إن عناناً أرسلت دمعها . . . كالدر إذ ينسل من سمطه فقالت وأشارت إلى مولاها : فليت من يضربها ظالماً . . . تجف يمناه على سوطه

فقال مولاها : هي حرة لوجه الله إن ضربتها ظالماً أو غير ظالم . قال : واجتمع أبو نواس ، والفضل الرقاشي ، والحسين الخليع ، وعمرو الوراق ، ومحكم بن رزين ، والحسين الخياط في منزل عنان فتناشدوا إلى وقت العصر ، فلما أرادوا الانصراف قالوا : أين نحن الليلة ؟ فكل قال : عندي ؟ فقالت عنان : بالله قولوا شعراً وارضوا بحكمي ، فقال الرقاشي : عذراء ذات احمرارٍ . . . إني بها لا أحاشي قوموا نداماي رؤوا . . . مشاشكم من مشاشي وناطحوني كئوساً . . . نطاح صلب الكباش وإن نكلت فحلٌّ . . . لكم دمي ورياشي فقال أبو نواس : لا بل إلي ثقاتي . . . قوموا بنا بحياتي قوموا نلذ جميعاً . . . بقول هاك وهات فإن أردتم فتاةً . . . أتيتكم بفتاتي وإن أردتم غلاماً . . . صادفتموني مؤاتي فبادروه مجوناً . . . في وقت كل صلاة وقال الحسين الخليع : أنا الخليع فقوموا . . . إلى شراب الخليع إلى شرابٍ لذيذٍ . . . وأكل جدي رضيع ونيك أحوى رخيمٍ . . . بالخندريس صريع قوموا تنالوا وشيكاً . . . مثال ملك رفيع وقال الوراق :

قوموا إلى بيت عمرو . . . إلى سماع وخمر وساقيات علينا . . . تطاع في كل أمر وبيسري رخيمٍ . . . يزهو بجيد ونحر فذاك بر وإن . . . شئتم أتينا ببحر هذا وليس عليكم . . . أولى ولا وقت عصر وقال محكم بن رزين : قوموا إلى دار لهوٍ . . . وظل بيت دفين فيه من الورد والمر . . . زنجوش والياسمين وريح مسك ذكي . . . وجيد المرزجون قومو فصيروا جميعاً . . . إلى الفتى ابن رزين فقال الحسين الخياط : قضت عنان علينا . . . بأن نزور حسينا وأن تقروا لديه . . . بالقصف واللهو عينا فما رأينا كظرف . . . الحسين فيما رأينا قد قرب الله منه . . . زيناً وباعد شيئا قوموا وقولوا أجزنا . . . ما قد قضيت علينا وقالت عنان : مهلاً فديتك مهلاً . . . عنان أحرى وأولى بأن تنالوا لديها . . . أسنى النعيم وأحلى

فإن عندي حراماً . . . من الشراب وحلا لا تطمعوا في سوائي . . . من البرية كلا يا سادتي خبروني . . . أجاز حكمي أم لا فقالوا جميعاً : قد أجزنا حكمك وأقاموا عندها . قال : وكتبت عنان إلى الفضل بن الربيع : كن لي هديت إلى الخليفة سلما . . . بوركت يا بن وزيره من سلم حث الإمام على شراي وقل له . . . ريحانةٌ ذخرت لأنفك فاشمم وكانت عنان تتوقى أبا نواس ، وتخاف مجونه وسفهه ، وفيها يقول : عنان يا من تشبه العينا . . . أنتم على الحب تلومونا حسنك حسن لا يرى مثله . . . قد ترك الناس مجانينا فتهيأت لأبي نواس ، وتصنعت له ، إلى أن صار إليها ، فرأى عندها بعض وجوه أهل بغداد ، فأحب أن يخجلها ، فقال لها : ما تأمرين لصب . . . يكفيه منك قطيره فقالت : إياي تعني بهذا . . . عليك فاجلد عميره فقال : إني أخاف وربي . . . على يدي من عبيره فقالت : عليك أمك نكها . . . فإنها كندبيره فأخجلته ، وشاع الخبر حتى بلغ الرشيد فاستظرفها ، وطلبها من الناطفي ، فحملت إليه فقال لها : يا عنان ، قالت : لبيك يا سيدي ، فقال : ما تأمرين لصب ؟ قالت : قد مضى الجواب في هذا يا أمير المؤمنين ، قال : بحياتي كيف قلت ؟ قالت : قلت : إياي تعني بهذا . . . عليك فاجلد عميره

فضحك الرشيد وطلبها من مولاها ، فاستام فيها مالاً جزيلاً ، فردها . عريب جارية المأمون : وأنتم أناسٌ فيكم الغدر شيمةٌ . . . لكم أوجه شتى وألسنةٌ عشر عجبت لقلبي كيف يصبو إليكم . . . على عظم ما يلقى وليس له صبر فضل الشاعرة : حدثنا القاسم بن عبد الله الحراني قال : كنت عند سعيد بن حميد الكاتب ذات يوم وقد افتصد ، فأتته هدايا فضل الشاعرة ألف جدي ، وألف دجاجة ، وألف طبق رياحين ، وطيب وعنبر ، وغير ذلك ، فلما وصل ذلك كتب إليها : إن هذا اليوم لا يتم سروره إلا بك وبحضورك . وكانت من أحسن الناس ضرباً بالعود ، وأملحهم صوتاً ، وأجودهم شعراً ، فأتته ، فضرب بينه وبينها حجاب ، وأحضر قوماً ندماءه ، ووضعت المائدة ، وجئ بالشراب ، فلما شربنا أقداحنا أخذت عودها فغنت بهذا الشعر ، والصوت لها والشعر والأبيات هذه : يا من أطلت تفرسي . . . في وجهه وتنفسي أفديك من متدلل . . . يزهو بقتل الأنفس هبني أسأت وما أسأ . . . ت بلى أقول أنا المسي أحلفتني أن لا أسا . . . رق نظرةً في مجلسي فنظرت نظرة عاشقٍ . . . أتبعتها بتنفسي ونسيت أني قد حلفت . . . فما يقال لمن نسي وضربت أيضاً وغنت : عاد الحبيب إلى الرضا . . . فصفحت عما قد مضى من بعد ما لصدوده . . . شمت الحسود فعرضا تعس البغيض فلم يزل . . . لصدودنا متعرضا

هبني أسأت وما أسأ . . . ت فإن أسأت لك الرضا قال : فما أتى علي يوم أسر من ذلك اليوم . صاحبة الفرزدق : ذكروا أن الفرزدق كان مع أصحاب له فإذا هو بجارية مع مولاها ، فقال لأصحابه : هل أخجل لكم هذه ؟ قالوا : نعم ، فقال : إن لي إيراً خبيثاً . . . لونه يحكي الكميتا لو يرى في السقف صدعا . . . لتحول عنكبوتا أو يرى في الأرض شقاً . . . لنز حتى يموتا فقالت الجارية : زوجوا هذا بألفٍ . . . وأرى ذلك قوتا قبل أن ينقلب الدا . . . ء فلا يأتي ويوتى فخجل الفرزدق وانصرف . صاحبة جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي ، قالت : عزمت على قلبي بأن أكتم الهوى . . . فضج ونادى إنني غير عاقل فإن حان موتي لم أدعك بغصتي . . . وأقررت قبل الموت أنك قاتلي جارية البارقي : ذكروا أنها أنشدت في مجلس عمرو بن مسعدة : يا أحسن العالم حتى متى . . . يرتفع الحب وانحط وكيف منجاي وبحر الهوى . . . مذ حف بي ليس له شط فأجيبت : يدركك الوصل فتنجو به . . . أو يقع البحر فتنحط

المغنية المليحة : قال علي بن الجهم : كنت في مجلس محمد بن عمرو بن مسعدة ، فأقبلت جارية كأنها البدر ليلة التمام ، بلون كأنه الدر في البياض ، مع احمرار خدين كشقائق النعمان فسلمت ، فقال لي محمد : يا أبا الحسن هذه الجنة التي كنتم توعدون ، فقالت : وما الوعد يا سؤلي وغاية منيتي . . . فإن فؤادي من مقالك طائر فقال لها محمد : أما وإله العرش ما قلت سيئاً . . . وما كان إلا أنني لك شاكر فقال ابن الجهم : أمسك فديتك عن عتاب محمد . . . فهو المصون لوده ، المتحاذر فأقبلت تحدثنا ، فإذا عقل كامل ، وجمال فاضل ، وحسن قاتل ، وردف مائل فقلت : لقد أقر الله عيناً تراك ، فقالت : أقر الله أعينكم ، وزادكم سروراً وغبطة . ثم اندفعت تغني بنغمة لم أسمع أحسن منها : أروح بهم من هواك مبرح . . . أناجي به قلباً كثير التفكر عليك سلامٌ لا زيادة بيننا . . . ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمرٍ فما زلنا يومنا ذلك معها في الفردوس الأعلى ، وما ذكرتها ، بعد ذلك ، إلا اشتقت لها ، وأسفت عليها . محمد بن حماد قال : كنا يوماً عند إسحاق بن نجيح ، وعنده جارية يقال لها شادن ، موصوفة بجودة ضرب العود ، وشجو صوت ، وحسن خلق ، وظرف مجلس ، وحلاوة وجه ، وأخذت العود وغنت : ظبيٌ تكامل في نهاية حسنه . . . فزها ببهجته وتاه بصده فالشمس تطلع من فرند جبينه . . . والبدر يغرق في شقائق خده ملك الجمال بأسره فكأنما . . . حسن البرية كلها من عنده يا رب هب لي وصله وبقاءه . . . أبداً فلست بعائشٍ من بعده

فطارت عقولنا ، وذهلت ألبابنا من حسن غنائها وظرفها ، فقلت : يا سيدتي ، من هذا الذي تكامل في الحسن والبهاء سواك ؟ فقالت : فإن بحت نالتني عيونٌ كثيرةٌ . . . وأضعف عن كتمانه حين أكتم محاسن
الأعرابيات
حدثنا ثعلب عن الفتح بن خاقان قال : لما خرج المتوكل إلى دمشق ، كنت عديله ، فلما صرنا بقنسرين ، قطعت بنو سليم على التجار ، فأنهى ذلك إليه ، فوجه قائداً من وجوه قواده إليه فحاصرهم ، فلما قربنا من القوم ، إذا نحن بجارية ذات جمال وهيئة ، وهي تقول : أمير المؤمنين سما إلينا . . . سمو البدر مال به الغريف فإن نسلم فعفو الله نرجو . . . وإن نقتل فقاتلنا شريف فقال لها المتوكل : أحسنت ما جزاؤها يا فتح ، قلت العفو والصلة ، فأمر لها بعشرة آلاف درهم وقال لها : مري إلى قومك وقولي لهم : لا تردوا المال على التجار فإني أعوضهم عنه . قال الأصمعي : خرجت إلى بادية ، فإذا أنا بخباء فيه امرأة ، فدنوت فسلمت ، فإذا هي أحسن الناس وجهاً ، وأعدلهم قامةً ، وأفصحهم لساناً ، فحار فيها بصري ، واعترتني خجلة ، فقالت : ما وقوفك ؟ فقلت : هل عندكم من مخيض اليوم نشربه . . . أم هل سبيلٌ إلى تقبيل عينيك فلست أبغي سوى عينيك منزلةً . . . أم هل تجودي لنا عضاً بخديك أو تأذنين بريقٍ منك أرشفه . . . أو لمس بطنك أو تغميز ثدييك ردي الجواب على من زاده كلفاً . . . تكريره الطرف في أجدال ساقيك فرفعت رأسها إلي وقالت : يا شيخ ألا تستحي ؟ ارجع إلى أهلك وارغب في مثلك .

وقال بعضهم : رأيت إعرابية بالنباح فقلت لها : أنشدين ؟ قالت : نعم في مثلك ، ورب الكعبة ، قلت : فأنشدتني ، فأنشأت تقول : لا بارك الله فيمن كان يخبرني . . . أن المحب إذا ما شاء ينصرف وجد المحب إذا ما بان صاحبه . . . وجد الصبي بثديي أمه الكلف قال : قلت لها : أنشديني من قولك ، فقالت : بنفسي من هواه على التنائي . . . وطول الدهر مؤتنقٌ جديد ومن هو في الصلاة حديث نفسي . . . وعدل الروح عندي بل يزيد فقلت لها : إن هذا كلام من قد عشق . فقالت : وهل يعرى من ذلك من له سمع وقلب ؟ ثم أنشدتني : ألا بأبي والله من ليس نافعي . . . بشيء ولا قلبي على الوجد شاكره ومن كبدي تهفو إذا ذكر اسمه . . . بشيء ومن قلبي على النأي ذاكره له خفقانٌ يرفع الجيب بالشجى . . . ويقطع أزرار الجربان ثائره قال : وكتب عمر بن أبي ربيعة إلى امرأة بالمدينة : برز البدر في جوارٍ تهادى . . . مخطفات الخصور معتجرات فتنفست ثم قلت لبكرٍ . . . عجلت في الحياة لي حيبات هل سبيلٌ إلى التي لا أبالي . . . بعدها أن أموت قبل وفاتي فأجابته : قد أتانا الرسول بالأبيات . . . في كتابٍ قد خط بالترهات حائر الطرف إن نظرت وماطر . . . فك عندي بصادق النظرات غر غيري فقد عرفت لغيري . . . عهدك الخائن القليل الثبات

المتكلمات
حدث عمر بن يزيد الأسدي ، قال : مررت بخرقاء ، صاحبة ذي الرمة فقلت لها : هل حججت قط ؟ قالت : أما علمت أني منسك من مناسك الحج ، ما منعك أن تسلم علي ؟ أما سمعت قول عمك ذي الرمة : تمام الحج أن تقف المطايا . . . على خرقاء واضعة اللثام فقلت لها : لقد أثر فيك الدهر ، قالت أما سمعت قول العجيف العقيلي حيث يقول : وخرقاءٌ لا تزداد إلا ملاحةً . . . ولو عمرت تعمير نوحٍ وجلت قال : ورأيتها وإن فيها لمباشرة ، وإن ديباجة وجهها لطرية كأنها فتاة ، وإنها لتزيد يومئذ على المائة ، ولقد حدثت أنه شبب بها ذو الرمة ، وهي ابنة ثمانين سنة . وحدث رجل من بني أسد قال : أدركت ميا صاحبة ذي الرمة ، وكان الرجل أعور قال : ورأيتها في نسوة من قومها فقلت : أهذه مي ؟ وأومأت إليها ، فقلنا : فقلت : ما أدري ما كان يعجب ذا الرمة منك ، وما أراك على ما كان يصف ؟ فتنفست الصعداء وقالت : إنه كان ينظر بعينين وأنت تنظر إلي بعين واحدة . وروي الأصمعي عن رجل من أهل الشام قال : قدمت المدينة ، فقصدت منزل ابن هرمة ، فإذا بنية له تلعب ، فقلت لها : ما فعل أبوك ؟ قالت : وفد إلى بعض الأخوان ، قلت : فانحري لنا ناقة فإنا أضيافك ، قالت : يا عماه والذي خلقك ما عندنا شئ ، قلت : فباطل ما قال أبوك قالت : فما قال ؟ قلت ، قال : كم ناقة قد وجأت منحرها . . . لمستهل الشوبوب أو جمل قالت : يا عماه فذلك القول من أبي أصارنا إلى أن ليس عندنا شئ ، قال : وأتى زيادٌ الأقطع باب الفرزدق ، وكان له صديقاً ، فخرجت إليه ابنة الفرزدق ، وكانت تسمى مكية ، وأمها حبشية ، فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : مكية قال : ابنة من ؟ قالت : ابنة الفرزدق قال : فأمك ؟ قالت : حبشية ، فأمسك عنها فقالت : ما بال يدك مقطوعة ؟ قال : قطعها الحرورية ، قالت : بل

قطعت في اللصوصية ، قال : عليك وعلى أبيك لعنة الله ، وجاء الفرزدق فأخبر بالخبر ، فقال : أشهد أنها بنتي ، وأنشأ يقول : حام إذا ما كنت ذا حميه . . . بدرامي بنته صبيه صمحمح مثل أبي مكيه وحدث سليمان ابن عباس السعدي قال : كان كثير يلقى حاج أهل المدينة بقديد على ست مراحل ، ففعل عاماً من الأعوام غير يومهم الذي نزلوا فيه ، فوقف حتى ارتفع النهار ، فركب جملاً في يوم صائف ، ووافى قديدا وقد كل بعيره وتعب ، فوجدهم قد ارتحلوا ، وقد بقي فتى من قريش ، فقال الفتى لكثير : اجلس . قال : فجلس كثير إلى جنبي ، ولم يسلم علي ، فجاءت امرأة وسيمة جميلة ، فجلست إلى خيمة من خيام قديد ، واستقبلت كثيراً فقالت : أنت كثير ؟ قال : نعم ، قالت : أنت ابن أبي جمعة ؟ قال : نعم ، قالت : أنت الذي تقول : وكنت إذا ما جئت أجللن مجلسي . . . وأضمرن مني هيبةً لا تجهما قال : نعم ، قالت : فعلى هذا الوجه هيبة ، إن كنت كاذباً فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . قال : فضجر كثير وقال : ومن أنت ؟ فسكتت ، ولم تجبه بشيء ، فسأل الموالي التي في الخيام عنها ، فلم يخبرنه ، فضجر واختلط عقله ، فلما سكن قالت : أنت الذي تقول : متى تنشرا عني العمامة تبصرا . . . جميل المحيا أغفلته الدواهن أهذا الوجه جليل ؟ إن كان كاذباً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، فاختلط وقال : لو عرفتك لفعلت وفعلت . فلما سكن ، قالت له : أنت الذي تقول : يروق العيون الناظرات كأنه . . . هرقلي وزنٍ أحمر التبر راجح أهذا الوجه الذي يروق الناظرات ؟ إن كنت كاذباً فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . قال : فازداد ضجراً واختلط ، وقال : لو عرفتك والله لقطعتك وقومك هجاء . ثم قام فاتبعته طرفي حتى توارى عني ، ثم نظرت إلى المرأة ، فإذا هي قد غابت عني ، فقلت لمولاة من بنات قديد : لك الله على أن أخبرتني من هذه المرأة أن أطوي لك ثوبي هذين ، إذا

قضيت حجي ، ثم أعطيكهما . فقالت : والله لو أعطيتني زنتهما ذهباً ، ما أخبرتك من هي ؟ هذا كثير مولاي لم أخبره . قال القرشي : فرحت وبي أشد مما بكثير . قيل : وقدم كثير الكوفة ، وكان شيعياً من أصحاب محمد بن الحنفية ، فقال : دلوني على منزل قطام ، قيل له : وما تريد منها ؟ قال : أريد أن أوبخها في قتل علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، فقيل له : عد عن رأيك فإن عقلها ليس كعقول النساء ، قال : لا والله لا أنتهي حتى أنظر إليها وأكلمها . فخرج يسأل عن منزلها حتى دفع إليها ، فاستأذن فأذنت له ، فرأى امرأة برزة قد تخددت ، وقد حنا الدهر من قناتها ، فقالت : من الرجل ؟ قال : كثير بن عبد الرحمن ، قالت : التيمي الخزاعي ؟ قال : التيمي الخزاعي ، ثم قال لها : أنت قطام ؟ قالت : نعم ، قال : أنت صاحبة علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ؟ قالت : بل صاحبة عبد الرحمن بن ملحم . قال : أليس هو قتل علياً ؟ قالت : بل مات بأجله . قال : والله إني كنت أحب أن أراك فلما رأيتك نبت عيني عنك ، وما ومقك قلبي ، ولا احلوليت في صدري ، قالت : أنت والله قصير القامة ، صغير الهامة ، ضعيف الدعامة ، كما قيل : لأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه . فأنشأ كثير يقول : رأت رجلاً أودى السفار بجسمه . . . فلم يبق إلا منطقٌ وجناحن قالت : لله درك ما عرفت إلا بعزة تقصيراً بك ، قال : والله لقد سار لها شعري ، وطار بها ذكري ، وقرب من الخلفاء مجلسي ، وإنها لكما قلت فيها : وإن خفيت كانت لعينيك قرةً . . . وإن تبد يوماً لم يعمك عارها من الخفرات البيض لم تر شقوةً . . . وفي الحسب المحض الرفيع نجارها فما روضةٌ بالحزن طيبة الثرى . . . يمج الندى جثجاثها وعرارها بأطيب من فيها إذا جئت طارقاً . . . وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها قالت : والله ما سمعت شعراً أضعف من شعرك هذا ، والله لو فعل هذا بزنجية طاب ريحها . ألا قلت كما قالك امرؤ القيس :

ألم تر أني كلما جئت طارقاً . . . وجدت بها طيباً وإن لم تطيب قال : فلله در بلادك وخرج وهو يقول : ألحق أبلج لا تزيغ سبيله . . . والحق يعرفه ذوو الألباب قال : وقال المسيب راوية كثير : انطلق كثير مرة فقال لي : هل لك في عكرمة بن عبد الرحمن بن هشام ؟ وهو يومئذ على حنظلة بن عمرو بن تميم ، فقلت : نعم ، قال : فخرجنا نريده حتى صدرنا عن المدينة ، إذا نحن بامرأة على راحلة تسير ، فسرت حذاءها ، فقالت : أتروي لكثير شيئاً ، قلت نعم . قالت : أنشدني ، فأنشدتها من شعره ، فقالت : أين هو ؟ قلت : هو ذاك الذي ترين على غير الطريق ، فقالت بعد أن دنت منه : قاتل الله زوج عزة حيث يقول : لعمرك ما رب الرباب كثيرٌ . . . بفحلٍ ولا آباؤه بفحول فغضب كثير وسار وتركها ، ثم نزل منزلاً ، فجاءت جارية لها تدعوه ، فأبى كثير أن يأتيها فقلت : ما رأيت مثلك قط امرأة مثل هذه ترسل إليك ، فتأبى عليها ؟ فلم أزل به حتى أتاها ، قال : فسفرت عن وجهها ، فإذا هي أجمل الناس وأكملهم ظرفاً وعقلاً ، وإذا هي غاضرة أم ولد بشر بن مروان ، فصحبناها حتى كنا بزبالة فمالت بنا الطريق ، فقالت له : هل لك أن تأتي الكوفة فأضمن لك على بشر الصلة والجائزة ؟ فأبى وأمرت له بخمسة آلاف درهم ، ولي بألفين ، فلما أخذنا الخمسة الآلاف قال : ما أصنع بمكرمة ، وقد أصبت ما ترى ؟ فذلك قوله حيث يقول : شجا أظعان غاضرة الغوادي . . . بغير مشورةٍ عوضاً فؤادي أغاضر لو رأيت غداة بنتم . . . حنو العائدات على وسادي رثيت لعاشقٍ لم تشكميه . . . جوانحه تلذع بالزناد الشكيمة : العطية ، والزناد : جمع زند وهو عود يقدح منه النار . قال الكم بن صخر الثقفي : حججت فرأيت بأقرة امرأتين لم أر كجمالهما وظرفهما وثيابهما ، فلما

حججت وصرنا بأقرة ، إذا أنا بإحدى الجاريتين قد جاءت ، فسألت سؤال منكر ، فقلت : فلانة ؟ قالت : فداك أبي وأمي رأيتك عاماً أول شاباً سوقة ، والعام شيخاً ملكاً ، وفي وقت دون ذلك ما تنكر المرأة صاحبها . فقلت : ما فعلت أختك ؟ فتنفست الصعداء وقالت : قدم علينا ابن عم لنا فتزوجها ، فخرج بها إلى نجد فذاك حيث أقول : إذا ما قفلنا نحو نجدٍ وأهله . . . فحسبي من الدنيا القفول إلى نجد فقلت : أما أني لو أدركتها لتزوجتها ، قالت : فداك أبي وأمي ، فما يمنعك من شريكتها في حسنها ، وشقيقتها في حسبها ، قلت ، قول كثير : إذا وصلتنا خلةٌ كي تزيلنا . . . أبينا وقلنا الحاجبية أول قالت : وكثير بيني وبينك أليس هو الذي يقول : هل وصل عزة إلا وصل غانيةٍ . . . في وصل غانيةٍ من وصلها خلف قال : فتركت جوابها ، ولم يمنعني منه إلا العي .
محاسن النساء
قيل : أحسن النساء الرقيقة البشرة ، النقية اللون ، يضرب لونها بالغداة إلى الحمرة ، وبالعشي إلى الصفرة . وقالت العرب : المرأة الحسناء أرق ما تكون محاسن ، صبيحة عرسها ، وأيام نفاسها ، وفي البطن الثاني من حملها . وقيل لأعرابي : أتحسن صفة النساء ؟ قال : نعم ، إذا عذب هناياها ، وسهل خداها ، ونهد ثدياها ، وفعم ساعداها ، والتف فخذاها ، وعرض وركاها ، وجدل ساقاها ، فتلك هم النفس ومناها . ووصف أعرابي امرأة فقال : كان وجهها السقم لمن رآها ، والبرء لمن ناجاها . وذكر أعرابي امرأة فقال : أرسل الحسن إلى خديها

أقسام الكتاب
1 2