كتاب : المستجاد من فعلات الأجواد
المؤلف : القاضي التنوخي

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
الحمد لله ذي الجود والكرم، ومسبغ الآلاء والنعم، وصلى الله على خير من مشى على قدم، المصطفى المبعوث إلى سائر الأمم، محمد بن عبد الله منقذنا من الضلال والظلم، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وسلم.
أما بعد أطال الله في النعمة عمرك، وحسن مع التقى عملك، وبلغك في السلامة أملك، وختم بالصالحات أجلك، فإنك طلبت مني أن أجمع لك من أخبار الأجواد أجودها، ومن فعالات الكرام أسناها وارشدها، فاستخرت الله في المقال، وتخيرت من ذلك ما سنح لي في الحال، مما أحسبه يستفز القارئ والسامع، ويقع منه أرفع المواقع، وألفته كتاباً سميته المستجاد من فعالات الأجواد فكان للقبه مطابقاً، ولغرضك موافقاً، ولما يستحسن سابقاً وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
حكايا الأجواد
حكاية
روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نام على فراش النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعت قريش على قتله يفديه بنفسه، فأوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه، ولكما الخيار فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة، فأحب كل كمال الحياة واختارها، فأوحى الله تعالى إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين نبيي محمد وقد نزل على فراشه ونام عليه علي " يفديه بنفسه ويؤثره " بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبريل عن رأسه وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي بخٍ بخٍ، من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة، فأنزل الله تعالى: )ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله(.
حكاية
سأل رجل الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما حاجة، فقال له يا هذا حق سؤالك إياي يعظم لدي، ومعرفتي بما يجب لك تكبر علي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله تعالى قليل، وما في ملكي وفاء لشكرك، فإن قبلت الميسور ورفعت عني مؤونة الاحتيال والاهتمام لما اتكلف من واجبك فعلت فقال: يا ابن بنت رسول الله اقبل القليل، واشكر العطية، واعذر على المنع، فدعا الحسن بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها، ثم قال: هات الفاضل من الثلاثمائة ألف فأحضر خمسين ألفاً قال: فما فعلت بالخمسمائة دينار قال: هي عندي قال: أحضرها فأحضرت فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل، وقال هات من يحملها لك، فأتاه بحمالين فدفع إليهما الحسن رداءه لكراء الحمل، فقال له مواليه: والله ما عندنا درهم فقال: لكنني أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم.
حكاية
قال أبو الحسن المدايني: خرج الحسن والحسين رضي الله عنهما وعبد الله بن جعفر حجاجاً ففاتتهم أثقالهم فجاعوا وعطشوا، فمروا بعجوز في خباء لها فقال لها أحدهم: هل من شراب؟ قالت نعم، فأناخوا إليها وليس لها إلا شويهة في كسر الخيمة. فقالت: احلبوها وامتذقوا لبنها ففعلوا، ثم قالوا لها هل من طعام؟ قالت: لا إلا هذه الشاة فليذبحها أحدكم حتى أهبئ لكم منها ما تأكلون، فقام إليها أحدهم فذبحها وكشطها، ثم هيأت لهم طعاماً فأكلوا وأقاموا حتى أبردوا، فلما ارتحلوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا رجعنا سالمين فألمي بنا، فإنا صانعون إليك خيراً، ثم ارتحلوا. وأقبل زوجها فأخبرته بخبر القوم والشاة، فغضب وقال: ويحك تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم ثم تقولين نفر من قريش.

ثم بعد مدة ألجأتهما الحاجة إلى دخول المدينة فدخلاها، وجعلا ينقلان البعر ويبيعانه، ويعيشان بثمنه. فمرت العجوز في بعض سكك المدينة فإذا الحسن بن علي رضي الله عنه على باب داره جالس، فعرف العجوز وهي له منكرة، فبعث إليها غلامه، فدعا بها فقال لها، يا أمة الله، أتعرفينني قالت: لا، قال: أنا ضيفك يوم كذا، قالت: بأبي أنت وأمي. ثم أمر فاشترى لها من شاء الصدقة ألف شاة، وأمر لها معها بألف دينار، وبعث بها مع غلامه إلى الحسين رضي الله عنه، فقال لها الحسين: بكم وصلك أخي؟ قالت: بألف شاة وألف دينار، فأمر لها الحسين أيضاً بمثل ذلك، ثم بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر، فقال لها: بكم وصلك الحسن والحسين؟ قالت: بألفي شاة وألفي دينار، فأمر لها عبد الله بألفي شاة وألفي دينار، وقال لها لو بدأت بي لأتبعتهما. فرجعت العجوز إلى زوجها بأربعة آلاف دينار وأربعة آلاف شاة.

حكاية
عن محمد بن المنكدر عن أم ذرة وكانت تخدم عائشة رضي الله عنها، قالت: إن ابن الزبير بعث إليها بمال في غرارتين ثمانين ومائة وألف، فدعت بطبق فجعلت تقسمه بين الناس " حتى فرغ " فلما أمست قالت: يا جارية هاتي فطوري فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة: ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه؟ فقالت لو كنت ذكرتني لفعلت.
حكاية
قال مصعب بن الزبير: حج معاوية، فلما انصرف مر بالمدينة، فقال الحسين بن علي لأخيه الحسن رضي الله عنهما لا تلقه ولا تسلم عليه. فلما خرج معاوية، قال الحسن: يا أخي إن علينا ديناً ولا بد لنا من إتيانه " فلحقه بثينة النول، وهو منحدر على الوادي " فسلم عليه وأخبره بدينه " فمروا ينختي عليه ثمانون ألف دينار قد أعيا وتخلف عن الإبل وقوم يسوقونه. فقال معاوية؟ ما هذا؟ فذكر له، فقال: اصرفوه بما عليه إلى أبي محمد، فأخذه وعاد " .
حكاية
اجتمع قراء البصرة إلى ابن عباس وهو عامل البصرة، فقالوا لنا جار صوام قوام يتمنى كل واحد منا أن يكون مثله، وقد زوج ابنة له من ابن أخيه وهو فقير ليس عنده ما يجهزها به، فقام عبد الله ابن عباس فأخذ بأيديهم فأدخلهم داره ففتح صندوقاً فأخرج منه ست بدر، ثم قال: احملوا " فحملوا " . فقال ابن عباس: ما أنصفناه أعطيناه ما يشغله عن صيامه وقيامه، ارجعوا نكن أعوانه على تجهيزها فليس للدنيا من القدر ما يشغل به مؤمناً عن عبادة ربه تعالى، وما بنا من التكبر ما لا نخدم معه أولياء الله تعالى. ففعل وفعلوا.
حكاية
ويروى أنه كان لعثمان على طلحة خمسون ألف درهم، فخرج عثمان يوماً إلى المسجد، فقال له طلحة: قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال: هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك.
حكاية
وقالت سعدى بنت عوف: دخلت على طلحة بن عبيد الله فرأيت منه ثقلاً، فقلت: ما لك؟ قال: اجتمع عندي مال " أهمني " وغمني. فقلت: وما يغمك؟ ادع قومك فاقسمه فيهم. فقال: يا غلام علي بقومي فقسمه فيهم فسألت الخادم: كم كان؟ قال: أربعمائة ألف.
حكاية
قال الحارث المحاسبي: بلغنا أن عبد الرحمن بن عوف قدمت عليه عير من اليمن، فضجت المدينة ضجة واحدة، فقالت عائشة: ما هذا؟ فقيل لها: عير قدمت لعبد الرحمن، قالت: صدق الله ورسوله، فبلغ ذلك عبد الرحمن فسألها فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني رأيت الجنة فرأيت فقراء المهاجرين والمسلمين يدخلونها سعياً ولم أر أحداً من الأغنياء يدخلها معهم إلا حبواً. فقال عبد الرحمن: إن العير وما عليها في سبيل الله، وإن أرقها أحرار لعلي أن أدخلها معهم سعياً.
حكاية
عن ابان بن عثمان قال: أراد رجل أن يضار عبيد الله بن عباس فأتى وجوه قريش فقال لهم: يقول لكم عبد الله: تغدوا عندي اليوم فأتوه حتى ملأوا عليه الدار. فقال عبد الله: ما هذا؟ فأخبر الخبر، فأمر بشراء فاكهة وأمر قوماً فطبخوا وخبزوا وقدمت الفاكهة إليهم، فلم يفرغوا منها حتى وضعت الموائد، فأكلوا حتى صدروا عنها فقال عبيد الله لوكلائه: أموجود، كلما أردت، مثل هذا؟ قالوا نعم. قال: فليتغد عندنا هؤلاء كل يوم.
حكاية

وحكي أنه لما أجدب الناس بمصر وعبد الحميد بن سعد أميرهم، فقال والله لأعلمن الشيطان إني عدوه فعال محاويجهم ففتح الحواصل ونفقها إلى أن رخصت الأسعار، ثم عزل عنهم ورحل، وللتجار عليه ألف ألف درهم رهنهم بها حلي نسائه، وقيمته خمسة آلاف ألف درهم. فلما تعذر عليه ارتجاعه كتب إليهم بيعه دفع الفاضل منه إلى من لم تنله صلته.

حكاية
قيل وخرج عبد الله بن عامر بن كريز من المسجد يريد منزله وهو وحده، فقام إليه غلام من ثقيف فمشى إلى جانبه، فقال له عبد الله: ألك حاجة يا غلام؟ قال صلاحك وفلاحك، رأيتك تمشي وحدك فقلت أقيك بنفسي وأعوذ بالله إن طار بجناحك مكروه. فأخذ عبد الله بيده ومشى معه إلى منزله. ثم دعا بألف دينار فدفعها إلى الغلام وقال: استنفق هذه فنعم ما أدبك به أهلك.
حكاية
اشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره التي في السوق بتسعين ألف درهم. فلما كان الليل سمع بكاء آل خالد، فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ قالوا: يبكون لدارهم التي اشتريت. قال: يا غلام: ابتهم فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعاً.
حكاية
يروى أن عبد الله بن جعفر خرج إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيها غلام أسود يقوم عليها فأتي بقوته ثلاثة أقراص، ودخل كلب فدنا من الغلام فرمى إليه بقرص فأكله، ورمى إليه بالثاني فأكله، ثم الثالث فأكله، وعبد الله ينظر إليه فقال: يا غلام، كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فلم آثرت هذا الكلب؟ قال: ما هي بأرض كلاب وأخاله جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت رده. قال: فما أن صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا. فقال عبد الله ابن جعفر: ألام على السخاء إن هذا لأسخى مني؟ فاشترى الحائط والغلام وما فيه من آلات، وأعتق الغلام ووهب ذلك كله له.
حكاية
قيل جرى بين الحسين بن علي وأخيه محمد بن الحنفية كلام فانصرفا متغاضبين، فلما وصل محمد إلى منلزه أخذ رقعة فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن علي بن أبي طالب إلى الحسين بن علي ابن أبي طالب، أما بعد فإن لك شرفاً لا أبلغه، وفضلاً لا أدركه، فإذا قرأت رقعتي هذه فالبس رداءك ونعليك وصر إلي فترضيني، وإياك أن أسبقك إلى الفعل الذي أنت أولى به مني والسلام. قال: فلما قرأ الحسين الرقعة قال: يا غلام ردائي ونعلي، فلبسهما ثم جاء إلى أخيه محمد فترضاه وصالحه. قال: ودار بين الحسن والحسين رضي الله عنهما كلام فقيل للحسين: لو أني أخاك متنصلاً فقال: إن الفضل للمبتدئ بالتفضل، ولست أرى أن يكون لي على أخي فضل فبلغ ذلك الحسن فأتاه.
حكاية
حدث أبو فرج الأصبهاني عن اسحق قال: حدثني مصعب الزبيري عن محمد بن عبد الله بن أبي مليكة، عن أبيه عن جده قال: كان بالمدينة رجل ناسك من أهل العلم والفقه وكان يغشى عبد الله بن جعفر فسمع يوماً جارية مغنية لبعض النخاسين تغني مرتنمة:
بانت سعاد فأمسى حبلها انقطعا ... واحتلت الغور فالجدين فالفرعا
فأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
فاشتهر بها وهام وترك ما كان عليه حتى مشى إليه عطاء وطاووس فلاماه فكان جوابه أن يتمثل بقول الشاعر:
يلومني فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالي أطار اللوم أم وقعا

وبلغ عبد الله بن جعفر فبعث إلى النخاس فاستعرض الجارية وسمع غناها بهذا الصوت فقال لها: ممن أخذتيه؟ قالت: من عزة الميلاء فابتاعها بأربعين ألف درهم، وأمر قيمة جواريه أن تزينها وتحليها ففعلت، ثم بعث إلى الرجل فسأله عن خبره فأعلمه إياه، وصدقه عنه، فقال له: أتحب أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية؟ قال: نعم. فدعا بعزة الميلاء وقال: غنيه إياه فغنته، فصفق الرجل وخر مغشياً عليه فقال ابن جعفر: أثمنا فيه، الماء الماء، فنضح على وجهه فلما أفاق قال له: أكل هذا بلغ بك عشقها؟ قال: وما خفي عليك أكثر. قال: أفتحب أن تسمعه منها؟ قال: قد رأيت ما حل حين سمتعه من غيرها وأنا لا أحبها، فكيف يكون حالي إن سمعته منها وأنا لا أقدر على ملكها: قال أتعرفها إن رأيتها؟ قال: أو أعرف غيرها؟ فأمر بها فأخرجت فقال: خذها فهي لك والله ما نظرت إليها عن عرض فقبل الرجل يديه ورجليه وقال: أنمت عيني وأحييت نفسي وتركتني أعيش بين قومي ورددت إلي عقلي، ودعا له دعاءً كثيراً، فقال له ابن جعفر: أرضيت؟ قال: إي والله وفوق الرضا. فقال ابن جعفر: ما أرضى أن أعطيكها هكذا. يا غلام، احمل معه مثل ثمنها لئلا تهتم بها وتهم بك فراج بها والمال.

حكاية

روى أبو موسى محمد بن الفضل بن يعقوب كاتب عيسى بن جعفر ووصيه قال: حدثني أبي قال: كنت آلف زينب بنت سليمان ابن علي بن عبد الله بن عباس واكتب عنها أخبار أهلها، وكانت لها جارية يقال لها " كتاب " . فوقعت في نفسي، فبكرت إليها يوماً فقلت: لي حاجة فقالت: سلني ما أحببت. فقلت: إن كتاباً جاريتك قد شغلت قلبي علي فهبيها لي فقالت: أقعد أحدثك حديثاً كان أمس أنفع لك من كل كتاب على ظهر الأرض وأنت من كتاب على وعد. كنت أمس عند الخيزران، وعادتها إذا كنت عندها أن تجلس في عتبة الرواق المقابل للإيوان وأجلس بازائها، وفي الصدر مجلس المهدي يقعد فيه، وهو يقصدنا في كل وقت فيجلس ساعة ثم ينهض، فبينما نحن كذلك إذ دخلت علينا جارية من جواريها اللائي يحجبنها، فقالت: أعز الله السيدة، بالباب امرأة لها جمال وخلقة حسنة، ليس وراء ما هي عليه من سوء الحال غاية، تستأذن عليك، وقد سألتها عن اسمها فامتنعت أن تخبرني فالتفتت إلي الخيزران فقالت: ما ترين؟ فقلت: أدخليها فإنه لا بد من فائدة أو ثواب. فدخلت امرأة كأجمل النساء وأكملهن لا تتوارى، فوقفت إلى جانب عضادتي في الباب ثم سلمت متضائلة، ثم قالت: أنا مزنة بنت مروان بن محمد الأموي. قالت زينب: وكنت متكئة فاستويت جالسة فقلت: مزنة! ما أتاك؟ فلا حيا الله ولا قرب، والحمد لله الذي أزال نعمتك وهتك سترك وأذلك، تذكرين يا عدوة الله حين أتاك عجائز أهل بيتي يسألنك أن تكلمي صاحبك في لاذن في دفن إبراهيم بن محمد فوثبت عليهن وأسمعتهن ما أسمعت، وأمرت بإخراجهن فأخرجن على الحالة التي أخرجن عليها؟ قالت: فضحكت، فما أنسى حسن ثغرها وعلو صوتها بالقهقهة، ثم قالت أي بنت عمي شيء أعجبك من حسن صنع الله بي على العقوق، حتى أردت أن تتأسي بي فيه؟ والله إني لقد فعلت بنساء أهل بيتك ما فعلت، فأسلمني الله إليك ذليلة جائعة عريانة، فكان هذا مقدار شكرك الله تعالى على ما أولاك في. ثم قالت: السلام عليكم، وولت، فصاحت بها الخيزران: ليس هذا لك، علي استأذنت، وإلي قصدت، فما ذنبي؟ فرجعت وقالت: لعمري لقد صدقت يا أخية وكان مما ردني إليك ما أنا عليه من الضر والجهد قالت زينب: فنهضت إليها الخيزران لتعانقها فقالت: ليس في لذلك موضع مع الحال التي أنا عليها قالت الخيزران لها فالحمام إذاً، وأمرت جماعة من جواريها بالدخول معها إلى الحمام فدخلت وطلبت ماشطة ترمي ما على وجهها من الشعر، فخرجت جارية من جواري الخيزران وهي تضحك، فقالت لها الخيزران: ما يضحكك؟ قالت: أضحك يا سيدتي من هذه المرأة ومن تحكمها علينا، فإنها تفعل من ذلك فعلاً ما تفعلينه أنت. فلم تزل حتى أخرجت من الحمام فوافتها الخلع والطيب وأخذت من الثياب ما أرادت، ثم تطيبت وخرجت إلينا فعانقتها الخيزران وأجلستها في الموضع الذي يجلس فيه أمير المؤمنين المهدي إذا دخل. ثم قالت لها الخيزران: هل لك في الطعام فانا لم نطعم بعد؟ فقالت: والله ما فيكن أحد أحوج إليه مني فعجلوه. فأتي بالمائدة، فجعلت تأكل غير محتشمة، وتلقمنا وتضع بين أيدينا، إلى أن اكتفت، ثم غسلنا أيدينا فقالت لها الخيزران: من وراءك ممن تعنين به؟ قالت: ما خارج هذه الدار أحد من خلق الله بيني وبينه نسب، قالت الخيزران: إن كان هذا هكذا فقومي حتى تختاري لنفسك مقصورة من مقاصيرنا، وأحول إليها جميع ما تحتاجين إليه ثم لا نفترق حتى يفرق بيننا الموت. فقامت فطفنا بها في المقاصير، فاختارت أوسعها وأنزهها ولم تبرح حتى حول إليها جميع ما تحتاج إليه من الفرش والكسى والحرائر والرقيق، ثم تركناها فيها وخرجنا عنها، فقالت الخيزران: إن هذه المرأة قد كانت فيما كانت فيه وقد مسها ضر، وليس يغسل ما في قلبها إلا بالمال، فاحملوا إليها خمسمائة ألف درهم، فحملت إليها.

ووافانا المهدي فسألنا عن الخبر فحدثته حديثها وما لقيتها به فوالله ما انتظر أن أعرفه جوابها، حتى وثب مغضباً في وجهي وقال: يا زينب الله الله! هذا مقدار شكرك لله على نعمته، وقد أمكنك من مثل هذه المرأة على هذه الحالة التي هي عليها؟ فوالله لولا محلك من قلبي لحلفت ألا أكلمك أبداً: فقلت قد اعتذرت إليها فرضيت، ثم قصصت عليه قصتها كلها، وما فعلت الخيزران بها، فقال لخادم كان معه: احمل إليها مائة بدرة، وادخل إليها وأبلغها مني السلام وقل لها: والله إني ما سررت منذ دهري سريري اليوم بمكانك، وأنا أخوك ومن يوجب حقك، فلا تدعي حاجة إلا سألتها. ولولا أني أكره أن احشمك لعبرت إليك مسلماً عليك وقاضياً لحقك، فمضى الخادم بالمال والرسالة فأقبلت إلينا معه، فسلمت على المهدي وشكرت له فعله، وأثنت على الخيزران وقالت: ما علي من أمير المؤمنين من حشمة، أنا في عداد حرمه، وقعدت ساعة ثم قامت إلى منزلها، فخلفتها عند الخيزران كأنها لم تزل في ذلك القصر. فهذا الحديث خير لك من كتاب وقد وهبت لك كتاباً فانصرفت من عندها فأتبعتها بما مليء به داري.

حكاية
قال أبو الفرج الأصبهاني: حدثني الحسن بن علي قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا اسحق بن موسى الأنصاري قال: حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن اسحق قال: كان ناس من أهل المدينة يعيشون وما يدرون من أين معاشهم، فلما مات علي بن الحسين رضي الله عنهما فقدوا ما كانوا يؤتون به من الليل فانكشف حالهم.
حكاية
ويروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه عبر طائفاً بالمدينة أيام خلافته فإذا بجارية تبكي وتقول:
وهويته من قبل قطع تمائمي ... متمايساً مثل القضيب الناعم
وكأن نور البدر يشبه وجهه ... يمشي فيصعد في ذؤابة هاشم
فقرع عليها الباب فخرجت إليه فقال لها: احرة أنت أم أمة؟ فقالت بل أمة يا صاحب رسول الله. فقال لها: من هويت؟ فبكت وقالت: بحق صاحب القبر ألا انصرفت عني. فقال: لست برائم عن مكاني حتى تعلميني فقالت:
وأنا التي قدح الفراق بقلبها ... فبكت لحب محمد بن القاسم
فصار أبو بكر رضي الله عنه إلى المسجد وبعث إلى مولاها فاشتراها منه وبعث بها إلى محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وقال: هؤلاء فتن الرجال، لكم والله أذهبن من كريم، وعطب عليهن من سليم.
حكاية
حدث أبو الحسن علي بن صالح البلخي بمصر قال أخبرني بعض " عمال " شيوخنا عن شيبة بن محمد الدمشقي قال: كان في أيام سليمان بن عبد الملك ابن مروان بن الحكم رجل يقال له: خزيمة بن بشر، من بني أسد بالرقة؛ وكانت له مروءة ونعمة حسنة وفضل وبر بالإخوان، فلم يزل على تلك الحال حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يتفضل عليهم فواسوه حيناً ثم ملوه، فلما لاح ه تغيرهم أتى امرأته وكانت ابنة عمه فقال لها: يا بنت عم! قد رأيت من أخوتي تغيراً وقد عزمت على لزوم بيتي إلى يأتيني الموت. وأغلق بابه عليه، وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد وبقي حائراً في أمره.
وكان عكرمة الفياض الربعي والياً على الجزيرة، فبينما هو في مجلسه وعنده جماعة من أهل البلد إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر فقال عكرمة: ما حاله؟ فقالوا: صار من سوء الحال إلى أمر لا يوصف، فأغلق بابه ولزم بيته، فقال الفياض، وإنما سمي بذلك لأجل كرمه: فما وجد خزيمة بن بشر مواسياً ولا مكافياً؟ قالوا: لا. فامسك، ثم لما كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس " واحد " ، ثم أمر بإسراج دابته وخرج سراً من أهله فركب ومعه غلام من غلمانه يحمل المال، ثم سار حتى وقف بباب خزيمة فأخذ الكيس من الغلام ثم أبعده " عنه " ، وتقدم إلى الباب فدقه بنفسه فخرج إليه خزيمة فناوله الكيس وقال له: أصلح بهذا شأنك، فتناوله خزيمة فرآه ثقيلاً فوضعه، ثم أمسك لجام الدابة، وقال له: من أنت؟ جعلت فداك. قال: ما جئتك هذه الساعة وأنا أريد أن تعرفني. قال خزيمة: فما أقبل أو تخبرني من أنت. قال: أنا جابر عثرات الكرام قال: زدني قال: لا. ثم مضى ودخل خزيمة بالكيس إلى امرأته فقال لها: أبشري فقد أتى الله بالفرج والخير، ولو كانت فلوساً فهي كثيرة. قومي فأسرجي. قالت: لا سبيل إلى السراج. فبات يلمسها فيجد خشونة الدنانير ولا يصدق.

ورجع عكرمة إلى منزله فوجد امرأته قد افتقدته وسألت عنه فأخبرت بركوبه منفرداً فارتابت لذلك، فشقت جيبهاً ولطمت خدها: فلما رآها على تلك الحال قال لها: ما دهاك يا بنت عم. قالت: غدرت يا عكرمة بابنة عمك. قال وما ذاك؟ قالت: أمير الجزيرة يخرج بعد هدأة من الليل منفرداً من غلمانه في سر من أهله! والله ما يخرج إلا إلى زوجة أو سرية قال: لقد علم الله أني ما خرجت إلى واحدة منها. قالت: فخبرني فيم خرجت؟ قال: يا هذه! لم أخرج في هذا الوقت وأنا أريد أن يعلم بي أحد قالت: لا بد. قال فاكتميه إذاً قالت: أفعل، فأخبرها القصة على وجهها، وما كان من قوله ورده عليه، ثم قال لها: أتحبين أن أحلف لك؟ قالت: لا فإن قلبي قد سكن إلى ما ذكرت.
قال: ثم أصبح خزيمة فصالح الغرماء وأصلح من حاله. ثم تجهز يريد سليمان بن عبد الملك بفلسطين، فلما وقف ببابه دخل الحاجب فأخبره بمكانه وكان مشهور المروءة، كان سليمان به عارفاً فأذن له، فلما دخل عليه وسلم بالخلافة، قال: يا خزيمة، ما أبطأك عنا؟ قال: سوء الحال. قال: فما منعك من النهضة إلينا؟ قال: ضعفي. قال فيم نهضت؟ قال: لم أعلم يا أمير المؤمنين بعد هدأة الليل إلا ورجل طرق بابي فكان منه كيت وكيت، وأخبره القصة من أولها إلى آخرها فقال له: هل تعرفه؟ قال: ما عرفته يا أمير المؤمنين وذلك لأنه كان متنكراً وما سمعت منه إلا: جابر عثرات الكرام قال: فتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته، وقال لو عرفناه لأعناه على مروءته ثم قال: علي بقناة فأتي بها فعقد لخزيمة الولاية على الجزيرة على عمل عكرمة الفياض.

فخرج خزيمة طالباً للجزيرة فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلد للقائه فسلم عليه سارا جميعاً إلى ان دخلا البلد فنزل خزيمة في دارة الإمارة وأمر أن يؤخذ عكرمة وأن يحاسب فحوسب، فوجدت عليه فضول كثيرة فطلب خزيمة بأدائها فقال: ما لي إلى شيء منها سبيل قال: لا بد منها قال: ما هي عندي فاصنع ما أنت صانع، فأمر به إلى الحبس ثم بعث إليه يطالبه فأرسل إليه: إني لست ممن يصون ماله بعرضه فاصنع ما شئت فأمر به فكبل بالحديد وضيق عليه وأقام كذلك شهراً أو أكثر، فأضناه ذلك وأضر به، وبلغ ابنة عمه ضره فجزعت واغتنمت لذلك ثم دعت مولاة لها ذات عقل وقالت: امضي الساعة إلى باب هذا الأمير فقولي: عندي نصيحة. فإذا طلبت منك فقولي: لا أقولها إلا للأمير خزيمة بن بشر، فإذا دخلت عليه فسليه أن يخليك فإذا فعل فقولي له: ما كان هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك، كافأته بالحبس والضيق والحديد. قال: ففعلت ذلك، فلما سمع خزيمة قولها قال: واسوأتاه! وإنه لهو؟ قالت: نعم. فأمر من وقته بدابته فأسرجت وبعث إلى رؤوس أهل البلد فجمعهم وأتى بهم إلى باب الحبس ففتح، ودخل خزيمة ومن معه، فألفى عكرمة في قاع الحبس متغيراً قد أضناه الضر. فلما نضر إليه عكرمة وإلى الناس أحشمه ذلك ونكس رأسه، فأقبل خزيمة حتى أكب رأسه فقبله. فرفع عكرمة رأسه وقال: ما أعقب هذا منك؟ قال: كريم فعالك وسوء مكافأتي. قال: فغفر الله لنا ولك. ثم أمر بالحداد ففك القيد عنه، وأمر خزيمة أن يوضع في رجل نفسه. فقال عكرمة: تريد ماذا؟ قال: أريد أن ينالني الضر مثل ما نالك. قال: أقسم عليك بالله ألا تفعل. فخرجا جميعاً إلى أن وصلا دار خزيمة فودعه عكرمة وأراد الانصراف. قال له: ما أنت ببارح. قال: وما تريد؟ قال: أغير من حالك، وحيائي من ابنة عمك أشد من حيائي منك. ثم أمر بالحمام فأخلي ودخلا جميعاً، ثم قام خزيمة فتولى خدمته بنفسه، ثم خرجا، فخلع عليه وجمله وحمل إليه مالاً كثيراً، ثم سار معه إلى داره واستأذنه في الاعتذار إلى ابنة عمه فأذن له فاعتذر لها وتذمم من فعله ذلك ثم سأله أن يسير معه إلى أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك وهو " يومئذ " مقيم بالرملة، " فأنعم به لذلك فسارا جميعاً حتى قدما على سليمان ابن عبد الملك " فدخل الحاجب فأعلمه بقدوم خزيمة بن بشر فراعه ذلك وقال: والي الجزيرة يقدم بغير أمرنا؟ " مع قرب العهد به " ما هذا إلا لحادث عظيم. فلما دخل عليه قال له قبل أن يسلم: ما وراءك يا خزيمة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين. قال: فما الذي أقدمك؟ قال: ظفرت بجابر عثرات الكرام فأحببت أن أسرك به، لما رأيت من تلهفك وشوقك إلى رؤيته. قال: ومن هو؟ قال عكرمة الفياض فأذن له بالدخول. فدخل وسلم عليه بالخلافة، فرحب به وأدناه من مجلسه، وقال: يا عكرمة! ما كان خيرك له إلا وبالاً عليك. ثم قال: اكتب حوائجك كلها وما تختاره في رقعة. قال: أويعفيني أمير المؤمنين؟ قال: لا بد. ثم دعا بدواة وقرطاس وقال: اعتزل واكتب جميع حوائجك، ففعل ذلك، فأمر بقضائها جميعاً من ساعته، وأمر له بعشرة آلاف دينار وسفطين من ثياب ثم دعا بقناة وعقد له على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان وقال له: أمر خزيمة إليك، إن شئت أبقيته وإن شئت عزلته، قال: بل أرده إلى عمله يا أمير المؤمنين. ثم انصرفا جميعاً. ولم يزالا عاملين لسليمان بن عبد الملك مدة خلافته.

حكاية

حدث الحسن بن خضر قال: لما أفضت الخلافة إلى بني العباس استخفى رجال بني أمية، وكان فيمن استخفى منهم إبراهيم بن سليمان ابن عبد الملك، حتى أخذ له داود بن العباس أماناً. وكان إبراهيم رجلاً عالماً حدثاً فخص بأبي العباس السفاح فقال له يوماً: حدثني عما مر بك في اختفائك قال: كنت يا أمير المؤمنين مختفياً بالحيرة في منزل شارف على الصحراء، فبينا أنا على ظهر بيت إذ نظرت إلى أعلام سود قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة، فوقع في روعي أنها تريدني، فخرجت من الدار متنكراً حتى أتيت الكوفة ولا أعرف بها أحداً أختفي عنده، فبقيت متلدداً فإذا أنا بباب كبير، ورحبة واسعة فدخلت فيها، وإذا رجل وسيم حسن الهيئة على فرس قد دخل الرحبة، ومعه جماعة من غلمانه وأتباعه فقال لي من أنت وما حاجتك؟ قلت: رجل مستخف يخاف على دمه استئجار بمنزلك، فأدخلني منزله، ثم صيرني في حجرة تلي حرمه، فكنت عنده في كل ما أحب من مطعم ومشرب وملبس، ولا يسألني عن شيء من حالي إلا أنه يركب في كل يوم ركبة، فقلت له يوماً: أراك تدمن الركوب ففيم ذلك؟ فقال: إن إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبراً، وقد بلغني أنه مستخف، وأنا أطلبه لأدرك منه ثأري، فكثر، والله، تعجبي من ادبارنا، إذ ساقني القدر إلى حتفي في منزل من يطلب دمي، وكرهت الحياة فسألت الرجل عن اسمه واسم أبيه، فأخبرني فعرفت أن الخبر صحيح، وأنا كنت قتلت أباه صبراً، فقلت: يا هذا قد وجب علي حقك، ومن حقك علي أن أدلك على خصمك، وأقرب عليك الخطوة، قال: وما ذاك؟ قلت أنا إبراهيم بن سليمان قاتل أبيك، فخذ بثأرك، فقال: إني أحسبك رجلاً قد أمضك الاختفاء، فأحببت الموت، قلت: بل الحق ما قلت لك، أنا قتلته يوم كذا وكذا " بسبب كذا وكذا " فلما عرف صدقي اربد وجهه واحمرت عيناه وأطرق ملياً، ثم قال، أما أنت فستلقى أبي فيأخذ بثأره منك، وأما أنا فغير مخفر ذمتي، فأخرج عني، فلست آمن نفسي عليك " بعدها " وأعطاني ألف دينار فلم آخذها، وخرجت من عنده، فهذا أكرم رجل رأيته بعد أمير المؤمنين.

حكاية
قيل كان لعبد الله بن الزبير أرض متاخمة لأرض معاوية بن أبي سفيان، قد جعل فيها عبيداً له من الزنوج يعمرونها، فدخلوا على أرض عبد الله، فكتب إلى معاوية: " أما بعد يا معاوية فامنع عبدانك من الدخول في أرضي وإلا كان لي ولك شأن. " فلما وقف معاوية على الكتاب " كان إذ ذاك أمير المؤمنين دفعه إلى ابنه يزيد، فلما قرأه قال له: يا بني ما ترى؟ قال: أرى أن تنفذ إليه جيشاً أوله عنده وآخره عندك، يأتوك برأسه قال او خير من ذلك يا بني، علي بدواة وقرطاس وكتب: " وقفت على كتاب ابن حواري رسول الله، وساءني ما ساءه، والدنيا بأسرها عندي هينة في جنب رضاه، وقد كتبت له على نفسي صكاً بالأرض والعبدان، وأشهدت علي فيه، فليستضفها مع عبدانها إلى أرضه وعبيده والسلام " . فلما وقف عبد الله على كتاب معاوية كتب إليه: " وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه فلا عدم الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل والسلام " . فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله رماه إلى ابنه يزيد، فلما قرأه أسفر وجهه، فقال له: يا بني إذا بليت بمثل هذا الداء فدواه بمثل هذا الدواء.
حكاية
قال عبد الله بن سليمان: كنت بحضرة والدي في ديوان الخراج بسر من رأى وهو يتولاه إذ دخل عليه أحمد بن أبي خالد " الصريفيني " الكاتب فقام له أبي من مجلسه وأقعده في صدره، وتشاغل به، فلم ينظر في عمل حتى نهض، ثم قام معه وأمر غلمانه بالخروج بين يديه، فاستعظمت أنا وكل من في المجلس هذا، لأن رسم أصحاب الدواوين صغارهم وكبارهم لا يقومون في الديوان لأحد ممن يدخل إليهم، وتبين أبي ذلك في وجهي فقال لي: يا بني إذا خلونا فسلني عن السبب فيما عملته مع هذا الرجل.

قال: وكان أبي يأكل في الديوان وينام فيه ويعمل عشياً الحسبانات فلما جلسنا نأكل لم أذكره إلى أن كاد الطعام ينقضي، فقال لي هو مبتدئاً:يا بني شغلك الطعام عما قلت لك تذكرني به؟ فقلت: لا، ولكن أردت أن يكون ذلك على خلوة فقال: هذا وقت خلوة ثم قال: ألست أنكرت والحاضرون قيامي لأحمد بن أبي خالد في دخوله وخروجه وما عملته معه؟ فقلت: بلى قال: كان هذا يتقلد مصر سنين، فوليت أعمالها وصرفته عنها، وقد كانت مدته فيها طالت فتتبعته، فرأيت آثار رجل لم أر أجمل آثاراً منه، ولا أعف عن أموال السلطان والرعية، ولا رأيت رعية لعامل أشكر من رعيته له، وكان الحسين الخادم المعروف بعرق الموت صاحب البريد بمصر أصدق الناس له مع هذا، وكان من أبغض الناس " إلي " وأشدهم اضطراباً في أخلاقه، فلم أتعلق عليه بحجة، ووجدته قد أخر رفع الحساب لسنة متقدمة وسنته التي هو فيها ولم يستتمها لصرفي له عنها، ولم ينفذه لي الديوان فسمته أن يحط من الدخل ويزيد من النفقات والأرزاق، ويكسر من البقايا في كل سنة مائة ألف دينار لآخذها لنفسي، فامتنع من ذلك، فأغلظت له وتوعدته، ونزلت معه إلى مائة ألف دينار واحدة للسنتين وحلفت له أيماناً مغلظة مؤكدة أني لا أقنع منه بأقل منها، فأقام على امتناعه وقال: لا أخون لنفسي فكيف أخون لغيري وأزيل ما قام به جاهي من العفاف؟ فحبسته وقيدته فلم يجب، وأقام مقيداً في الحبس شهوراً. وكتب عرق الموت صاحب البريد الخبر إلى المتوكل، وحلف له أن أموال مصر لا تفي بنفقتي ومؤنتي، ويصف أحمد بن أبي خالد ويذكر ميل الرعية إليه وعفته، فأرسل المتوكل بتوليته فأنا ذات يوم على المائدة آكل إذ وردت علي رقعة أحمد بن أبي خالد يسألني استدعاءه المهم يلقيه إلي فلم أشك أنه قد استضر بالحبس والقيد، وقد عزم على الاستجابة لمرادي، فلما غسلت يدي دعوته فاستخلاني فأخليته، فقال: أما آن لك يا سيدي أن ترق لي مما أنا فيه من غير ذنب إليك " ولا جرم ولا قديم ذحل " ولا عداوة؟ فقلت أنت اخترت لنفسك ذلك، وقد سمعت يميني وليس منها مخرج، فاستجب لما أريده منك " واخرج " فأخذ يستعطفني " ويخدمني ويخدعني " " فجاءني ضد ما قدرته فيه " فغاظني فشتمته وقلت له هذا الأمر المهم الذي ذكرت لي في رقعتك أنك أردت إلقاءه إلي هو أن تستعطفني وتستجير بي وتخدعني؟ فقال: يا سيدي وليس الآن عندك غير هذا؟ فقلت: لا فقال: إذا كان ليس عندك غير هذا، فاقرأ يا سيدي هذا، واخرج إلي كتاباً لطيفاً مختوماً في ربع قرطاس ففضضته فإذا هو بخط المتوكل الذي أعرفه " يأمرني فيه " بالانصراف وتسليم ما أتولاه إلى أحمد بن أبي خالد والخروج إليه مما يلزمني ورفع الحساب إليه والامتثال لأمره وطاعته والمسير عن مصر بعد ذلك فورد علي أقبح مورد لقرب عهد الرجل بشتمي له والإساءة إليه، وإنه في الحال تحت حديدي ومكارهي، فأمسكت مبهوتاً، ولم ألبث أن دخل أمير مصر إذ ذاك في أصحابه وغلمانه فوكل بداري وجميع ما أملكه وأصحابي وغلماني وجهابذتي وكتابي. وجعلت أزحف من الصدر حتى صرت بين يدي أحمد بن أبي خالد، ولست أستطيع القيام وهو في قيوده بعد. فدعا أمير البلد بحداد فحل قيوده، فمددت رجلاي ليوضع فيها القيد، فقال لي: يا أبا أيوب ضم اقدامك، فوثب قائماً ثم قال لي: يا أبا أيوب: أنت قريب عهد بعمالة هذا البلد، ولا منزل لك فيه ولا صديق، ومعك حرم وحاشية، وليس يسعك إلا هذا الدار، وكانت دار العمالة، وأما أنا فأجد عدة مواضع " غيرها " وليس لي كبير حاشية، ومن نكبة وقيد خرجت،فأقم مكانك، وخرج عني وصرف التوكيل عني وعن الدار، وأخذ كتابي واشياعي إليه، فلما انصرف قلت لغلماني: هذا الذي أراه في النوم؟ انظروا من وكل بنا فقالوا: ما وكل بنا أحداً، فعجبت من ذلك شديداً، وما صليت العصر حتى عاد إلي من كان حمله معه من المتصرفين والكتاب والجهابذة مطلقين وقالوا: أخذ خطوطنا برفع الحساب، وأمرنا بالملازمة وأطلقنا، فازداد عجبي، فلما كان من غد باكرتي مسلماً ورحت إليه في عشية ذلك اليوم، فأقمت ثلاثين يوماً أن سبقني إلى المجيء وإلا رحت إليه، وإن راح إلي وإلا باكرته، وكل يوم تجيئني هداياه " وألطافه " من الثلج والفاكهة والحيوان والحلوى والطيب، فلما كان بعد ثلاثين يوماً جاءني فقال لي: قد عشقت مصر يا أبا أيوب، والله ما هي طيبة الهواء ولا عذية، وإنما تطيب لغير

أهلها بالولاية فيها والاكتساب، ولو قد رحلت إلى بغداد وسر من رأى لما أقمت إلا شهراً، ثم تتقلد أجل الأعمال، فقلت: والله ما أقمت إلا متوقعاً لأمرك في الخروج، فقال: أعطني خط كاتبك بأن عليه القيام بالحساب، وأخرج في حفظ الله، فأحضرت كاتبي وأخت خطه كما أراد، وسلمت الخط إليه، فقال لي: اخرج أي وقت شئت، فخرج " من غد " هو وأمير مصر وقاضيها ووجوهها وأهلها وشيعوني إلى ظاهر مصر. وقال لي: تقيم في أول منزل على خمسة فراسخ إلى أن أزيح علة قائد يصحبك برجاله إلى الرملة فإن الطريق فاسد، فاستوحشت من ذلك وقلت: هذا إنما غرني حتى أخرج كل ما املكه وجميع ما كسبت فيتمكن منه في ظاهر البلد فيقبضه ثم يردني إلى الحبس والتوكيل والمطالبة، ويحتج علي بكتاب ثان، يذكر أنه " صك " فخرجت وأقمت بالمرحلة التي يذكر مستسلماً للقضاء متوقعاً للشر، إلى أن رأيت أوائل عسكره مقبل من مصر، فقلت: لعله القائد الذي يريد أن يصحبنيه أو لعله يريد أن يقبض علي به، فأمرت غلماني بمعرفة ذلك وما الخبر؟ فقالوا: العامل أحمد بن أبي خالد قد جاء، فلم أشك في أنه قد ورد البلاء بوروده، فخرجت من مضربي فلقيته وسلمت عليه، فلما جلس قال: اخلونا، فلم أشك " أنه " للقبض علي فطار عقلين وقام من كان عندي فلما لم يبق عندي أحد قال: أنا أعلم أن أيامك لم تطل بمصر، ولا حظيت فيها بكبير فائدة، وذلك الباب الذي سألتنيه في ولايتك لم أستجب إليك، وأخرت الأذن لك في الانصراف منذ أول الأمر إلى الآن، لأني تشاغلت بالفراغ لك منه، وقد حططت من الارتفاع وزدت في النفقات في كل سنة خمسة عشر ألف دينار " تكون " للسنتين ثلاثين ألف دينار وهو يقرب ولا يظهر، ويكون أيسر مما أردته مني في ذلك الوقت، وقد " تشاغلت به حتى " جمعته لك، وهذا المال على البغال، وقد جئتك به فتقدم إلى من يستلمه فتقدمت لقبضه وقبلت يده، وقلت قد والله يا سيدي فعلت ما لم تفعل البرامكة، فأنكر ذلك مني وتقبض عنه وقبل يدي ورجلي وقال: ههنا شيء آخر أريد أن تقبله فقلت: ما هو قال: خمسة آلاف دينار وقد استحققها من رزقي، فامتنعت من ذلك، وقلت: فيما قد تفضلت به كفاية، فحلف بالطلاق أن أقبلها منه فقبلتها، فقال: وههنا ألطاف من هدايا مصر أحببت أن أصحبك إياها، فإنك تمضي إلى كتاب الدواوين ورؤساء الحضرة فيقولون لك: وليت مصر فأين نصيبنا من هداياها؟ ولم تطل أيامك فتعد ذلك لهم، وقد جمعت لك منه ما يشتمل عليه هذا الثبت وأخرج درجاً فيه ثبت جامع لكل شيء في الدنيا حسن طريف جليل القدر من كل جنس من ثياب دبيق وقصب وخدم وبغال ودواب وحمير وفرش وطيب حتى أقلام ومداد ما يكون قيمته مالاً كثيراً، فأمرت بتسلمه وزدت في شكره، فقال لي: يا سيدي أنا مغرى بحب الفرش وقد استعملت لي بيتاً أرمنياً بأرمينية وهو عشر مصليات بمخادها ومساندها ومساورها ومطارحها وبسطها وهو بطرز مذهبة قد قام علي بخمسة آلاف دينار على شدة احتياطي، وقد أهديته لك، فإن أهديته إلى الوزير عبدك وإن أهديته إلى الخليفة ملكته به، وإن أبقيته لنفسك وتجملت به كان أحب إلي، قال: وحمله فما رأيت مثله قط، ولم تسمح نفسي بإهدائه لأحد ولا باستعماله، فما ابتذلت منه شيئاً يا بني إلا يوم إعذارك، فإني اتخذت منه الصدر ومسانده ومخاده، أفتلومني يا بني علي أن أقوم لهذا الرجل؟ فقلت: لا والله يا أبي؛ ولا علي ما هو أكثر من القيام، لو كان مستطاعاً. قال: فكان أبي بعد ذلك إذا صرف رجلاً عن عمل، عامله بكل جميل، ويقول: علمنا ابن أبي خالد أحسن الله جزاءه حسن التصرف.

حكاية
قيل لما احترق المسجد بمصر، ظن المسلمون أن النصارى أحرقوه، فحرقوا خاناً لهم، فقبض السلطان جماعة من الذين أحرقوا الخان، فكتب رقاعاً فيها القتل، وفيها القطع، وفيها الجلد فنثرها عليهم، فمن وقعت له رقعة فعل به ما فيها، فوقعت رقعة فيها القتل بيد رجل فقال: ما كنت أبالي لولا أم لي، وكان بجنبه بعض الفتيان، فقال: في رقعتي الجلد، وليس لي أم، فادفع إلي رقعتك وخذ رقعتي ففعلا، فقتل ذلك وجلد هذا.
حكاية
وقال الأستاذ أبو علي لما سعي غلام خليل بالصوفية إلى الخليفة بالزندقة أمر بضرب أعناقهم، فأما الجنيد فإنه تستر بالفقه، وكان يفتي على مذهب أبي ثور، وأما الشحام والرقام والثوري وجماعة فقبض عليهم وبسط النطع لضرب أعناقهم، فتقدم الثوري فقال له السياف: أتدري لماذا تتقدم؟ قال: نعم قال: وما يعجلك؟ قال: أؤثر أصحابي بحياة ساعة، فتحير السياف ونمي الخبر إلى الخليفة. فردهم إلى القاضي ليتعرف حالهم فألقى القاضي على أبي الحسين الثوري مسائل فقهية فأجاب عن الكل، ثم أخذ يقول: وبعد فإن لله عباداً إذا قاموا قاموا لله، وإذا نطقوا نطقوا بالله، وسرد ألفاظاً حتى أبكى القاضي، فأرسل إلى الخليفة وقال: " إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم " فأمر بإطلاق سراحهم فأطلقوا.
حكاية
قيل لما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير، رحل إلى عبد الملك ابن مروان، ومعه إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله. فلما قدم على عبد الملك لم يبدأ بشيء من الكلام سوى أن قال: قدمت إليك يا أمير المؤمنين برجل الحجاز في الشرف الأبوة، لم أدع له فيها والله نظيراً في كمال المروءة والأدب، وحسن المذهب والطاعة " والنصيحة " مع القرابة من أمير المؤمنين: إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله، فافعل به يا أمير المؤمنين ما يستحق أن يفعل بمثله في أبوته وشرفه. فقال له: يا أبا محمد أذكرتنا حقاً واجباً ورحماً قريبة، ائذنوا لإبراهيم فلما دخل وسلم " بالخلافة " أمر بالجلوس في صدر المجلس فقال له عبد الملك: أن أبا محمد ذكرنا ما لم نزل نعرفك به في الأبوة والشرف، فلا تدع حاجة من خاص أمرك وعامه إلا سألتها. فقال إبراهيم: أما الحوائج التي يبتغى بها الزلفى ويرجى بها الثواب، فما كان لله خالصاً ولنبيه صلى الله عليه وسلم، ولك وللمسلمين عندي نصيحة لا أجد بداً من ذكري إياها. قال: أهي دون أبي محمد؟ قال: نعم قال: قم يا حجاج فنهض الحجاج خجلاً لا يبصر أين يطأ ثم قال: قل يا ابن طلحة فقال: تالله يا أمير المؤمنين إنك عهدت إلى الحجاج في ظلمه وتغطرسه وتعديه، وبعده عن الحق وإصغائه إلى الباطل، فوليته الحرمين وفيهما من فيهما من أبناء المهاجرين والأنصار وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسومهم الخسف ويطؤهم بالعسف بطغام أهل الشام ورعاع لا روية لهم في إقامة حق ولا في إزاحة باطل فاعزله. قال: فأطرق عبد الملك ساعة ثم رفع رأسه، فقال كذبت ومنت يا ابن طلحة، ولقد ظن بك الحجاج غير ما هو فيك، قم، فربما ظن الخير بغير أهله. قال إبراهيم: فقمت ووالله ما أبصر طريقاً واتبعني حرسياً وقال له: أشدد يدك به، قال إبراهيم: فما زلت جالساً، ودعي الحجاج فما زالا يتناجيان طويلاً حتى ساء ظني، ولم أشك أنه في أمري، قال: ثم دعا بي فقمت فلقيني الحجاج في الصحن خارجاً فقبل بين عيني وقال: إذا جزى الله المتواخين بفضل ودهما خيراً فليسحن جزاءك عني، والله لئن عشت لك لا رفعن ناظرك ولا وطئن عقبك قال: فقلت في نفسي أنه يهزأ بي والله الحجاج، ودخلت على عبد الملك فأجلسي مجلسي الأول ثم قال: يا ابن طلحة هل شركك في نصيحتك أحد؟ فقلت لا والله يا أمير المؤمنين، ولا أردت إلا الله ورسوله والمسلمين وأنت، قال قد علمت ذلك، وقد عزلن الحجاج عن الحرمين عندما كرهته، وأعلمته انك استقللت له ذلك " وسألتني له ولاية كبيرة ولقد " وليته العراقين، وأعلمته انك استدعيت ذلك له استزادة، ليلزمه من زمامك ما يؤدي به عني إليك أجر نصيحتك، فاخرج معه فإنك غير ذام صحبته، فخرجت معه ونالني منه كل خير.
حكاية

قال القاضي أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي حدثني أبو الفرج الأصبهاني من حفظه قال: قرأت في بعض أخبار الأوائل أن الاسكندر لما انتهى إلى الصين ونازل ملكها، أتاه حاجبه، وقد مضى من الليل شطره فقال له: رسول ملك الصين بالباب يستأذن عليك فقال: ائذن له، فلما دخل وقف بين يديه وسلم، وقال: إن رأى الملك أن يخليني فليفعل، فأمر الاسكندر من بحضرته بالانصراف وبقي حاجبه فقال له الرسول: إن الذي جئت له لا يحتمل أن يسمعه غيرك، فأمر بتفتيشه ففتش، فلم يوجد معه شيء من السلاح، فوضع الاسكندر بين يديه سيفاً مجرداً وقال له: قف مكانك وقل ما شئت، ثم أخرج كل من كان عنده، فلما خلا المكان قال له الرسول: إني ملك الصين لا رسوله، وقد حضرت أسألك عما تريده مني، فإن كان مما يمكن الانقياد إليه، ولو على أصعب الوجوه أجبت إليه، وغنيت أنا وإياك عن الحرب، فقال له لاسكندر: وما أمنك مني؟ قال: علمي بأنك رجل عاقل، وإنه ليس بيننا عداوة متقدمة، ولا مطالبة بذحل، وإنك تعلم أن أهل الصين إن قتلتني لا يسلمون ملكهم إليك، ولا يمنعهم عدمهم إياي أن ينصبوا نفسهم ملكاً غيري، ثم تنسب أنت إلى عين الجهل وضد الحزم.
فأطرق الاسكندر مفكراً في مقالته، وعلم أنه رجل عاقل. ثم قال له: الذي أريده منك ارتفاع ملكك لثلاث سنين عاجلاً، ونصف ارتفاعه في كل سنة، فقال: هل غير ذلك شيء؟ قال: لا، قال: قد أجبتك. قال: فكيف تكون حالك حينئذ؟ قال: أكون قتيل أول محارب، وأكلة أول مفترس قال: وإن قنعت منك بارتفاع سنتين كيف يكون حالك؟ قال: أصلح مما يكون إذا لزمت بما تقدم ذكره. قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنة واحدة، قال: يكون ذلك مجحفاً بملكي ومذهباً لجميع لذاتي: قال: فإن اقتصرت منك على السدس. قال: يكون السدس موفراً والباقي لجيشي ولأسباب الملك، قال: فقد اقتصرت منك على هذا فشكره وانصرف. فلما أصبح وطلعت الشمس أقبل جيش الصين حتى طبق الأرض، وأحاط بجيش الاسكندر حتى خافوا الهلكة، وتواثب أصحابه فركبوا واستعدوا للحرب، فبينا هم كذلك إذ ظهر ملك الصين وعليه التاج، فلما رأى الاسكندر ترجل، فقال له الاسكندر: أغدرت؟ قال: لا والله. قال: فما هذا الجيش؟ قال: أردت أن أعلمك أني لم أطعك من قلة ولا ضعف، ولأن ترى الجيش وما غاب عنك منه أكثر، لكني رأيت العالم الأثير مقبلاً عليك ممكناً لك، فعلمت أنه من حارب العالم الأثير غلب، فأردت طاعته بطاعتك، والذلة لأمره بالذلة لك، فقال الاسكندر: ليس مثلك من يؤخذ منه شيء، فما رأيت بيني وبينك أحداً يستحق التفضيل والوصف بالعقل غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك، وأنا منصرف عنك، فقال ملك الصين: أما إذا فعلت ذلك فلست تخسر، فلما انصرف الاسكندر أتبعه ملك الصين من الهدايا والألطاف بضعف ما كان قرره معه.

حكاية

حدث نمير الهلالي قال: كان من فتيان بني هلال فتى يقال له بشر بن عبد الله ويعرف بالأشتر، وكان من سادات بني هلال أحسنهم وجهاً، وأسخاهم كفاً، وكان معجباً بجارية من قومه تدعى جيداء وكانت بارعة الجمال والكمال، ثم اشتهر أمره وأمرها وظهر خبرهما، ووقع الشر بين أهلهما، إلى أن كانت بين الفريقين دماء، ثم افترقوا وابتعدت منازلهم. قال نمير: فلما طال على الأشتر الفراق، وتمادى به البعد، جاءني فقال: يا نمير هل من خير؟ قلت: عندي، فقل ما أحببت فقال: تساعدني على زيارة جيداء، فقد أذهب الشوق روحي، قلت: نعم، بالحب والكرامة، فانهض بنا إذا شئت، فركب وركبت معه وسرنا يومنا وليلتنا العشاء والغد، حتى إذا كان العشاء أنخنا رواحلنا في شعب قريب من الفريق، فقال: يا نمير اذهب فتأنس بالناس، واذكر إن لقيت أحداً انك طالب ضالة، ولا تعرض بذكري بين شفة ولسان، إلا أن تلقى جاريتها فلانة راعية غنمهم فاقرأها مني السلام وسلها عن الخبر، واعلمها موضعي. قال نمير: فخرجت لا أعدو ما أمرني به حتى لقيت الجارية، فأبلغتها الرسالة وأعلمتها مكانه، وسألتها عن الخبر، فقالت هي والله مشدد عليها محتفظ بها، ولكن موعدكم أولئك الشحرات اللواتي عند أعقاب البيوت مع صلاة العشاء الآخرة. قال: فانصرفت إلى صاحبي فأعلمته الخبر، ثم نهضت أنا وإياه نقود رواحلنا حتى أتينا الموزن في الوقت الموعود، فلم نلبث إلا قليلاً وإذا جيداء تمشي قريباً منأً، فوثب الأشتر فصافحها وسلم عيها، وقمت أنا مولياً عنهما فقالا: نقسم عليك ألا رجعت، فوالله ما نحن في مكروه، ولا بيننا ما يستر عنك، فرجعت إليهما فجلست معهما. فقال لها الأشتر ما فيك حيلة يا جيداء فتتعلل الليلة. قالت: لا والله ما لي إلى ذلك من سبيل إلا أن يرجع الذي عرفت من البلاء والشر، فقال لها لا بد من ذلك، ولو كان ما عسى أن يكون؛ قالت: فهل في صاحبك هذا من خير؟ قلت: قولي ما بدا لك، فإني أنتهي إلى رأيك، ولو كان في ذلك ذهاب نفسي. فخلعت ثيابها فقالت لي: البسها وأعطني ثيابك، ففعلت، ثم قالت، اذهب إلى بيتي فادخل في ستري فإن زوجي سيأتيك فيطلب منك القدح ليحلب فيه، ثم يأتيك بعد فراغه من الحلب والقدح ملآن فيقول: هاك غبوقك، فلا تأخذه منه حتى تطيل ذلك عليه، ثم خذه أو دعه حتى يضعه ويذهب، ولست تراه إن شاء الله تعالى. قال: فذهبت ففعلت ما أمرتني به، حتى إذا جاء بالقدح فلم آخذه منه حتى طال نكدي عليه، ثم اهويت لآخذه منه فأهوى هو ليضعه فاختلفت أيدينا على الإناء فانفك وانهرق اللبن فقال: هذا الطماح جيداء، وضرب بيده على مقدم البيت فاستخرج سوطاً ملوياً مثل الثعبان، ثم دخل فهتك الستر علي وأمتع السوط مني تمام عشرين سوطاً ثم جاءت أمه وأخته فانتزعاني من يده، ولا والله ما فعلتا ذلك حتى زال عقلي وهممت أن أوجره السكين وإن كان فيها الموت، فلما خرجوا شددت ستري وقعدت كما كنت، فلم ألبث إلا قليلاً حتى دخلت أم جيداء، فكلمتني وهي لا تشك أني ابنتها، واندفعت في البكاء والنحيب فتغطيت بثوبي، ووليتها ظهري، فقالت: يا بنية اتق الله في نفسك، ولا تعرضي لمكروه زوجك، فذلك أولى بك، وأما الأشتر فقد هلك آخر الدهر وخرجت من عندي وقالت: سأرسل إليك أختك تؤنسك الليلة، فلبثت غير كثير، وإذا بالجارية قد جاءت، فجعلت تبكي وتدعو على من ضربني، وأنا لا أكلمها ثم اضجعت إلى جنبي، فلما استمكنت منها شددت يدي على فيها وقلت: يا هذه تلك أختك مع الأشتر عند الشجرات، وقد قطع ظهري الليلة بسببها، وأنت أولى بالستر عليها، فاختاري لنفسك ولها، فوالله لئن تكلمت بكلمة لأصيحن أنا بجهدي حتى تكون الفضيحة شاملة، ثم رفعت يدي عن فيها، فاهتزت كما تهتز القصبة، فلم أزل بها حتى أنست، فباتت والله معي أحسن رفيق رافقته قط، ولم نزل نتحدث وتضحك مني ومما نالني، وتمكنت منها تمكن من لو رام ريبة قدر عليها، ولكن الله عصم فله الحمد، ولم نزل كذلك حتى برق الفجر، وإذا جيداء قد دخلت علينا، فلما رأتنا ارتاءت وقالت: ويحك من هذه؟ قلت: أختك قالت: وما الخبر؟ قلت: هي تخبرك فإنها نعم الأخت، وأخذت ثيابي ومضيت إلى صاحبي فركبت أنا وهو، وحدثته ما أصابني، وكشفت له عن ظهري، فإذا فيه ضرب رمى الله ضاربه بالنار الصيعلم كل ضربة يخرج منها الدم، فلما رأى ذلك قال: قد عظم صنيعك، ووجب شكرك، وطالت يدك

فلا حرمني الله مكافأتك، ولم يزل لي شاكراً معترفاً.

حكاية
حدث عبد الرحمن بن عمر الفهري عن رجال سماهم قال: أمر المأمون أن يحمل إليه من أهل البصرة عشرة كانوا قد رموا بالزندقة عنده فحملوا، فبينما أحد الطفيليين يرتاد إذ رآهم مجتمعين يمضي بهم إلى الساحل للمسير إلى بغداد، فقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لوليمة، فانسل معهم ودخل في جملتهم، ومضى بهم الموكلون إلى البحر، فأطلعوهم في زورق قد أعد لهم، فقال الطفيلي: لا شك إنها نزهة فصعد معهم في الزورق، فلم يكن بأسرع من ان قيد القوم وقيد الطفيلي معهم، فعلم أنه قد وقع في ورطة، ورام الخلاص فلم يقدر، ثم دفع الملاح وساروا إلى أن وصلوا بغداد، وحملوا حتى أدخلوا على المأمون، فأمر بضرب أعناقهم، فاستدعوا بأسمائهم رجلاً رجلاً، فكل من دعا سأله وأمر بضرب عنقه، حتى لم إلا الطفيلي، وفرغت العدة، فقال المأمون للموكلين بهم: ما هذا؟ قالوا: والله، ما ندري يا أمير المؤمنين، غير أنا وجدناه مع القوم فجئنا به فقال المأمون ما قضيتك ويلك؟ فقال يا أمير المؤمنين امرأته طالق إن كان يعرف من أقوالهم شيئاً، ولا يعرف غير لا إله إلا الله محمد رسول الله وأنا إنما رأيتهم مجتمعين فظننت أنهم يدعون إلى وليمة أو دعوة فالتحقت بهم، فضحك المأمون ثم قال: بلغ من شؤم التطفل أن أحل صاحبه هذا المحل، لقد سلم هذا الجاهل من الموت، ولكن يؤدب حتى يتوب.
قال: وإبراهيم بن المهدي حاضر يومئذ، فقال: يا أمير المؤمنين هبه لي وأحدثك بحديث عن نفسي في التطفيل عجيب، قال: وهبته له فهات حديثك، فقاتل: يا أمير المؤمنين خرجت يوماً متنكراً أنظر إلى سكك بغداد فاستهواني التفرج وانتهى بي المشي إلى جناح شممت فيه روائح طعام وأبازير قد فاحت، فتاقت نفسي إليها ووقفت يا أمير المؤمنين لا أقدر على المضي، فرفعت بصري فإذا شباك، وإذا خله كف ومعصم ما رأيت أحسن منه، فوقفت حائراً، ونسيت روائح الطعام بذلك الكف والمعصم، وأخذت في أعمال الحيلة إلى الوصول إليه، فنظرت وإذا خياط قريب من ذلك الموضع، فتقدمت إليه وسلمت عليه، فرد علي فقلت: يا سيدي لمن هذه الدار؟ فقال: لرجل من البزازين. قلت: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان قلت: أهو ممن يشرب الخمر قال: نعم، وأحسب أن اليوم عنده دعوة وليس ينادم إلا تجاراً مثله مستورين. وبيننا نحن في الكلام إذ أقبل رجلان نبيلان راكبان، فقال هؤلاء ندماؤه، فقلت: ما اسماهما وما كناهما، فقيل فلان وفلان، فحركت دابتي فلحقتهما، فقلت جعلت فداكما قد استبطأكما أبو فلان أعزه الله، وسايرتهما حتى أتينا الباب، فدخلت ودخلا، فلما رآني صاحب المنزل معهما لم يشك أني منهما بسبيل، فرحب بي وأجلسني في أفضل المواضع، ثم جيء بالمائدة، ونقلت إليها الألوان، فكان طعمها يا أمير المؤمنين أطيب وألذ من ريحها. فقلت في نفسي هذه الألوان قد من الله علي ببلوغ الغرض منها، بقي الكف والمعصم، ثم جيء بالوضوء فغسلنا، ثم نقلنا إلى مجلس المنادمة، فإذا أشكل مجلس وأظرفه في سائر أموره وجعل صاحب المنزل يلطف بي ويقبل علي في الحديث لظنه أني ضيف لأضيافه، وهم لي على مثل ذلك يظنون أن إكرامه لي عن معرفة متقدمة وصداقة. حتى إذا شربنا أقداحاً فخرجت علينا جارية كأنها غصن بان في غاية الظرف وحسن الهيئة، فسلمت غير خجلة، وثنيت لها وسادة فجلست عليها، وأتي بعود فأخذت وجسته أحسن جس فإذا هي حاذقة واندفعت فغنت:
توهمها طرفي فأصبح خدها ... وفي مكان الوهم من نظري أثر
ومر بفكري شخصها فجرحته ... ولم أر شخصاً قبل يجرحه الفكر
وصافحها كفي فآلم كفها ... فمن لمس كفي في أناملها عقر
ثم اندفعت فغنت أيضاً:
أشرت إليها هل عرفت مودتي؟ ... فردت بطرف العين: أني على العهد
فحدث عن الاظهار عمداً لسرها ... وحادت عن الإظهار أيضاً على عمد
فصحت السلاح السلاح، وجاءني من الطرب ما لم أملك معه نفسي، فطرب القوم أيضاً طرباً شديداً. ثم غنت:
أليس عجيباً أن بيتاً يضمني ... وإياك لا نخلو ولا نتكلم
سوى أعين تبدي سرائر أنفس ... وتقطيع أنفاس على النار تضرم
إشارة أفواه، وغمز حاجب، ... وتكسير أجفان، وكف تسلم

فحسدتها والله يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالغناء وإصابتها معنى الشعر، لأنها لم تخرج من الفن الذي ابتدأت به، فقلت: قد بقي عليك يا جارية شيء فرمت بالعود، وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء، فندمت على ما كان مني، ورأيت القوم كأنهم تنكروا لي، فقلت في نفسي: فإنني جميع ما أملت أن لم أتلاف قصتي، فقلت: أثم عود؟ قالوا: نعم فأتيت بعود مليح الصنعة، فأصلحت ما أردت فيه، ثم اندفعت فغنيت:
ما للمنازل لا تجبن حزيناً ... أصممن أم قدم البلا فبلينا
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك ما يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
راحوا العشية روحة مذكورة ... إن حرن خرنا أو هدين هدينا "
ورموا بهن سواهما عرض الفلا ... إن متن متن وإن حيين حيينا
فما استتمته يا أمير المؤمنين حتى وثبت الجارية فأكبت على رجلي تقبلهما وتقول: معذرة إليك يا سيدي، والله ما علمت مكانك، وما سمعت مثل هذه الصنعة من أحد، وقام مولاها وجميع من كان حاضراً فصنعوا كصنيعها، ثم زاد القوم في إكرامي وتبجيلي فطربوا غاية الطرب، وشربوا بالكاسات والطاسات، فلما رأيت طربهم اندفعت فغنيت:
أفي الله أن تمسين لا تذكرينني ... وقد سجمت عيناني من ذكرك الدما
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عل مني وتبذل علقما
فردي مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه ذاهل العقل مغرما
إلى الله اشكوانها أجنبية ... والتي لها بالود ما عشت مكرما
فرأيت من طرب القوم شيئاً حسبت أنهم فارقوا عقولهم، فأمسكت ساعة حتى راجعوا أمرهم وهدأت نفوسهم، ثم اندفعت فغنيت:
هذا محبك مطوي على كمده ... صب مدامعه تجري على جسده
له يد تسأل الرحمن راحته ... مما به، ويد أخرى على كبده
يا من رأى كلفاً، مستهتراً دنفاً ... كانت منيته في عينه ويده

فجعلت الجارية تصيح: هذا والله الغناء لا ما نحن فيه، وشرب القوم وبقي في صاحب المنزل مسكة لجودة شربه، فسكر القوم وغلبوا على أرواحهم، فأمر غلمانه بحفظهم وإيصالهم إلى منازلهم، فانصرفوا وخلوت معه، وشرب أقداحاً، ثم قال: يا سيدي ذهب ما مضى من عمري هدراً إذ لم أعرف مثلك، ولم أحاضر رئيساً يشبهك، فبالله يا مولاي من أنت لأعرف نديمي؟ فأخذت أوري عليه، وهو يقسم علي إلى أن أعلمته من أنا على الحقيقة، فوثب قائماً على قدميه وقال: لقد عجبت أن يكون هذا الفضل إلا لمثلك، ولقد أسدى إلي الزمان يداً لا أقوم بشكرها، ومتى طمعت بأن تزورني الخلافة في منزلي، وتنادمني ليلتي أجمع! ما هذا إلا في المنام، فلا أتممت ليلتي إلا قائماً بين يديك، إذ كنت أحقر من أن أجالس الخلافة، فأقسمت عليه أن اجلس فجلس، ثم أخذ يسألني: ما السبب في حضوري عنده، بألطف سؤال وأرق معنى، فأخبرته يا أمير المؤمنين القصة من أولها إلى آخرها وما سترت منها شيئاً، ثم قلت: أما الطعام فقد نلت منه بغيتي، فقال: والكف والمعصم تنال إن شاء الله، ثم قال: يا فلانة قولي لفلانة، جارية له، تنزل، ثم جعل يستدعي واحدة واحدة يعرضها علي، وأنا لا أرى صاحبتي: إلى أن قال: والله ما بقي غير أمي وأختي، ووالله لينزلن، فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداك أبدأ بالأخت قبل الأم، فإني أحتشم أن أنظر إلى كف والدتك قال: حباً وكرامة، ثم نزلت أخته فأراني كفها فإذا هي التي رأيتها فقلت: حسبك، هذه الجارية، فأمر غلمانه لوقته باستدعاء عشرة مشايخ سماهم، ثم قام فأخرج بدرتين فيهما عشرون ألف درهم، وحضر المشايخ فقال لهم: هذا سيدي إبراهيم بن المهدي يخطب إلي أختي فلانة، وأشهدكم أني قد زوجتها له، وأمهرتها عنه عشرة آلاف درهم، فقلت: قد رضيت وقبلت النكاح، فشهدوا علينا، ثم دفع البدرة الواحدة إلى أخته، والأخرى فرقها على المشايخ، ثم قال: أعذرونا فهو ما حضر على مثل هذه الحال، فشكروا ودعوا له وانصرفوا ثم قال: يا سيدي أمهد لك مهداً في بعض البيوت فتنام مع أهلك؟ فاحشمني ما رأيت من كرمه، وتذممت أن أخلوا بها في داره، فقلت: بل أحضر عمارية فاحملها إلى منزلي فقال: ما شئت، فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي، فوحقك يا أمير المؤمنين، لقد حمل إلي من الجهاز ما ضاقت عنه بيوتنا على سعتها، فأولدتها هذا الغلام القائم بين يدي أمير المؤمنين.
فعجب المأمون من كرم هذا الرجل فقال: لله دره ما سمعت قط بمثلها فعلة، ثم أطلق الطفيلي وأجازه، وأمر إبراهيم بإحضار الرجل ليشاهده، فأحضر بين يديه فاستنطقه فأعجب به وصار من جملة خواصه ومحاضريه.

حكاية

حكي عن بعض أهل العلم قال: كان يجلس إلي شيخ، فأي شيء تكلمت فيه من العلوم بكى، حتى طال ذلك علي فقلت له يوماً وقد خلونا: أراك ملازماً مجلسي ثم لا تسأل عن شيء، ولا أزال أراك باكياً فما حالك؟ قال: نعم يا سيدي، كنت رجلاً أشتري الغلمان وأبيعهم لأجل الفائدة، فوقع إلي دفعة غلام وضئ الوجه، كامل الخلقة، وكان صغيراً فابتعته بثلاثمائة دينار، وزينته وهيأته لمن يرغب في ابتياعه، فعبر بنا ذات يوم غلام شاب حسن الوجه، فلما رأى الغلام نزل عن دابته وقال: هذا الغلام للبيع؟ قلت: نعم، فقلب الغلام واستعرضه، وقال له: ما اسمك وما جنسك وما الذي تحسن أن عمل، فأخبره ثم قال لي: بكم هو فقلت: بألف دينار، فغمز يد الغلام نغزة ثم انصرف، فنظرت في يد الغلام صرة، فاعتبرتها فإذا فيها مائة دينار، فقلت له: أتعرف الرجل؟ فقال: لا، فلما كان من الغد جاء ففعل كفعله بالأمس، فلما كان في اليوم الثالث جاء ففعل كفعله في اليومين المتقدمين، فقلت في نفسي: ما وهب هذا لهذا ثلاثمائة دينار إلا وهو يهواه، وليس يقدر على ما ذكرته له من الثمن. فتبعته حتى عرفت مكانه، فلما كان العشاء أمرت الغلام بلبس أفخر ثيابه وطيبته وزينته، وقلت له: إن هذا الرجل قد صار إلينا منه مثل ثمنك، وقد عزمت على حملك إليه فكن له طوعاً، وأعلمني بما يجري به معه، وصرت به إلى منزل الرجل بعد صلاة العشاء الآخرة، فنقرت الباب نقرات، فخرج وفتح الباب، فلما رآنا بهت ثم استرجع وقال: ما الذي جاء بكما؟ فقلت: إن هذا الغلام قد قلبته على بعض ملوك البغداديين الساعة ولم ينفصل له أمر معه، وأخاف عليه الطائف فببته لي عندك إلى الغداة، فقال: أدخل فبت معه إلى بكرة فقلت: لا أتمكن من ذلك فدعه عندك، وإياك أن يخرج من بيتك وحكمك إلى أن آتيك باكراً، وانصرفت وأوبت إلى فراشي، مفكراً في أمره، وإذا الغلام قد أتى مذعوراً يبكي فقلت له: ما وراءك؟ قال لي: مات الرجل الساعة، فقلت: ويحك وكيف كان ذلك؟ قال: دخلت معه فاحضر لي طعاماً فأكلت وغسلت يدي وطيبني ثم جاء فوضع إصبعه السبابة على خدي ثم قال: أشهد أنك لحسن، وما تدعوني إليه نفسي منك لقبيح، وما أوعد الله عليه من العقوبة أقبح وأشد، ثم استرجع، ثم وضع إصبعه على خدي أيضاً ثم قال: أشهد أنك لحسن، وما وعد الله عليها من الخير والثواب أحسن وأحسن، ثم سقط فحركته فإذا هو قد مات. قال الشيخ: فأنا أبكي على ذلك الشاب وظرفه وحسنه وعفته إلى أن أموت.

حكاية
قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدايني عن أبي بكر الهذلي قال: لما أطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحطيئة من حبسه قال له: يا أمير المؤمنين أكتب لي كتاباً إلى علقمة بن علاثة أقصده به، فقد منعني التكسب بشعري، فقال: لا أفعل، فقيل له: يا أمير المؤمنين، وما عليك من ذلك، علقمة ليس بعاملك فتخشى أن تأثم فيه، وإنما هو رجل من المسلمين تشفع له إليه. فكتب له بما أراد، فمضى الحطيئة بالكتاب فصادف علقمة قد مات، والناس ينصرفون عن قبره، فوقف عليه ثم أنشد:
لعمري لنعم المرء من آل جعفر ... بحوران أمسى علقته الحبائل
فإن تحيي لا أملل وإن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل
وما كان بيني، لو لقيتك سالماً، ... وبين الغنى إلا ليال قلائل
فقال له ابنه: كم ظننت أن علقمة يعطيك؟ قال: مائة ناقة فقال: لك مائة ناقة تتبعها مائة من أولادها، فأعطاه إياها.
حكاية

وقال أبو الفرج أيضاً: أخبرني أبو زيد قال أخبرني عمي عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبيه قال: أخبرني شيخ من بني نبهان قال: أصابت بني شيبان سنة ذهبت بالأموال، فخرج رجل منهم بعياله، حتى أنزلهم الحيرة فقال لهم: كونوا قريباً من الملك يصبكم من خيره، حتى أرجع إليكم وآلى على نفسه ألية ألا يرجع حتى يكسبهم خيراً أو يموت، فتزود زاداً، ثم مشى يوماً إلى الليل، فإذا هو بمهر مقيد يدور حول خباء فقال: هذا أول الغنيمة فذهب يحله ويركبه، فنودي خل عنه واغنم نفسك، فتركه ومضى سبعة أيام حتى انتهى إلى عطن إبل مع تطفيل الشمس، فإذا خباء عظيم وقبة من أدم قال: فقلت في نفسي ما لهذا الخباء بد من أهل، وما لهذه القبة بد من رب، وما لهذا العطن بد من إبل، فنظرت في الخباء فإذا شيخ كبير قد اختلفت ترقوتاه كأنه نسر، فجلست خلفه مختبئاً، فلما وجبت الشمس إذا بفارس قد أقبل لم أر فارساً قط أعظم منه ولا أجسم، على فرس مشترف ومعه أسودان يمشيان بجنبيه، وإذا مائة من الإبل مع فحلها فبرك الفحل وبركن حوله، ونزل عن فرسه فقال لأحد عبديه: احلب فلانة ثم اسقي الشيخ، فحلب في عس حتى ملأه ووضعه بين يدي الشيخ، وتنحى فكرع فيه الشيخ مرة أو مرتين ثم نزع فثرت إليه فشربته فرجع إليه العبد فقال: يا مولاي قد أتى على آخره، ففرح بذلك، وقال له أحلب له فلانة فحلبها ثم وضع العس بين يدي الشيخ فكرع فيه كرعة واحدة، ثم نزع فثرت إليه فشربت نصفه وكرهت أن آتي على آخره فاتهم. فجاء العبد فأخذه وقال لمولاه: قد شرب وروي قال: دعه ثم أمر بشاة فذبحت وشوى للشيخ منها ثم أكل هو وعبدانه فأمهلت حتى إذا ناموا وسمعت الغطيط ثرت إلى الفحل فحللت عقاله وركبته، فاندفع بي وتبعته الإبل، فمشيت ليلتي حتى الصباح. فلما أصبحت نظرت فلم أر أحداً فشللتها حينئذ شلاً عنيفاً حتى تعالى النهار، ثم التفت التفاتة فإذا أنا بشيء كأنه طائر فما زال يدنو مني حتى تبينته فإذا هو فارس على فرس، وإذا هو صاحبي بالأمس، فعقلت الفحل، ونثلت كنانتي ووقفت بينه وبين الإبل، فوقف بعيداً فقال: أحلل عقاله فقلت: كلا والله لقد خلفت نسيات بالحيرة وآليت ألية ألا أرجع حتى أفيدهن خيراً أو أموت، قال: فنك ميت، حل عقاله لا أم لك فقلت: هو ما قلت لك، قال: انك لمغرور، انصب لي خطامه واجعل لي منه خمس عجر ففعلت فقال: أين تحب أن أضع سمهي فقلت: في هذا الموضع، فكأنما وضعه فيه بيده، ثم أقبل يرمي حتى أصاب الخمس بخمسة أسهم، فرددت نبلي في كنانتي، وحططت قوسي، ووقفت مستسلماً فدنا مني فأخذ السيف والقوس ثم قال: ارتدف خلفي وعرف أني الذي رشبت عنده اللبن فقال: كيف ظنك بي؟ فقلت أحسن ظن، قال: وكيف؟ قلت: لما لقيت من تعب ليلتك، وقد أظفرك الله بي. فقال: أترانا كنا نهجيك بسوء وقد بت تنادم مهلهلاً، قلت: أزيد الخيل أنت؟ قال: نعم، أنا زيد الخيل، قلت: كن خير آخذ، قال: ليس عليك بأس. فمضى إلى موضعه الذي كان به، ثم قال: أما لو كانت هذه الإبل لي لسلمتها إليك، ولكنها لابنة مهلهل فأقم علي فإني على شرف فأقمت عنده أياماً ثم أغار على بني نمير بالملح فأصاب مائة بعير فقال: أهذه أحب إليك أم تلك؟ فقلت: بل هذه قال: دونكها وبعث معي خبراء من ماء إلى ماء حتى وردوا الحيرة، فلقيني نبطي فقال: يا أعرابي ابسرك أن لك بإبلك هذه بستاناً من هذه البساتين قلت: وكيف؟ قال: هذا أوان نبي يخرج فيملك هذه الأرض، ويحول بين أربابها وبينها، حتى إن أحدكم ليبتاع البستان بثمن بعير، قال: فارتحلت بأهلي حتى انتهيت إلى موضع، فبينا نحن بالشطين على ماء لنا وقد كان الحوفزان بن شريك أرغا على بني تميم، إذ جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا، وما مضت إلا أيام حتى اشتريت بثمن بعير من إبلي بستاناً بالحيرة.

حكاية

وقال أيضاً أخبرني محمد بن الحسين بن دريد قال: أخبرنا الحرماني عن العباس بن هشام عن أبيه: قال عتب بنت عفيف وهي أم حاتم الطائي ذات يسار، وكانت من اسخى الناس وأقراهم للضيف، وكانت لا تليق شيئاً تملكه، فلما رأى أخوتها إتلافها مالها حجروا عليها ومنعوها مالها، فمكثت دهراً لا يدفع إليها شيء منه، حتى إذا ظنوا أنها قد وجدت ألم ذلك أعطوها صرمة من إبلها، فجاءتها امرأة من مازن وكانت تأتيها في كل سنة تسألها فقالت لها: دونك هذه الصرمة فخذيها فوالله لقد أمضني من الجوع ما لا أمنع بعده سائلاً أبداً، ثم أنشأت تقول:
لعمري لقد ما عضني الجوع عضة ... فآليت ألا أمنع الدهر جائعا
فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني ... فإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا
فماذا عسيتم أن تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا
وهل ما ترون اليوم إلا طبيعة ... فكيف بتركي يا ابن أم الطبائعا

حكاية
وحدث الهيثم بن عدي وقيل القاسم بن عدي عمن حدثه عن ملخان بن " أخي " ماوية امرأة حاتم قال: قلت لماوية: يا عمتاه حدثيني ببعض عجائب حاتم فقلت: كل أمره عجب فعن أيه تسأل؟ قلت: حدثيني ما شئت قالت: أصابت الناس سنة فأذهبت الخف والظلف فإني وإياه ذات ليلة قد اسهرنا الجوع، فأخذ هو عدياً وأخذت سفانة وجعلنا نعللنهما حتى ناما، ثم اقبل علي يعللني بالحديث لكي أنام، فرققت لما به من الجهد، فأمسكت عن كلامه لينام، فقال: لي أنمت؟ مراراً فلم أجبه، فسكت ونظر وشق الخباء فإذا بشيء قد أقبل فرفع رأسه فإذا امرأة فقال: من هذا؟ فقالت: أنا يا أبا سفانة أتيتك من عند صبية يتعاوون كالذئاب جوعاً، فقال: أحضريني صبيانك فوالله لأشبعنهم قالت: فقمت سريعة فقلت: بماذا يا حاتم؟ فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعلل فقال: والله لأشبعن صبيانك مع صبيانها، فلما جاءت قام إلى فرسه فذبحها، ثم قدح ناراً فأججها، ثم دفع إليها شفرة وقال: اشوي وكلي، ثم قال لي: أيقظي صبيتك فأيقظتهما ثم قال: إن هذا للؤم تأكلون واهل الصرم حالهم مثل حالكم، فجعل يأتي الصرم بيتاً بيتاً فيقول: انهضوا؛ عليكم النار، قال فاجتمعوا حول تلك الفرس، وتقنع بكسائه وجلس ناحية. فما أصبحوا ومن الفرس على الأرض قليل ولا كثير إلا عظم وحافر، وإنه لأشد جوعاً منهم وما ذاقه.
حكاية
قال أبو الفرج أخبرني أحمد بن محمد البزاز الأطروش قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا هشام بن محمد قال: حدثنا أبو مسكين جعفر ابن المحرز بن الوليد عن أبيه قال: قال الوليد جده وهو مولى لأبي هريرة: سمعت محرز بن أبي هريرة يتحدث قال: كان رجل يقال له أبو الخيبري مر في نفر من قومه بقبر حاتم، وحوله أنصاب متقابلات من حجارة كأنهن نساء ينحن، قال: فنزلوا به فبات أبو الخيبري ليلته كلها يقول: أبا عدي أقر أضيافك قال: فيقال له: مهلاً ما تكلم من رمة بالية؟ فقال إن طيئاً يزعمون أنه لم ينزل به أحد وهو ميت إلا أقراه " كالمستهزئ " قال فلما كان في آخر الليل نام أبو الخيبري حتى إذا كان في السحر وثب، فجعل يصيح واراحلتاه، فقال له أصحابه: ويلك ما لك قال: خرج والله حاتم بالسيف وأنا أنظر إليه حتى عقر ناقتي قالوا: كذبت قال: بلى فنظروا إلى راحلته فإذا هي مختزلة ما تنبعث قالوا لقد والله قراك، فذبحوها وظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه وانطلقوا، فساروا ما شاء الله ثم نظروا إلى راكب فإذا هو عدي بن حاتم قائداً جملاً أسود فلحقهم فقال: أيكم أبو الخيبري؟ قالوا: هذا، فقال: جاءني أبي في النوم فذكر لي شتمك إياه وإنه أقرى راحلتك أصحابك، وقد قال في ذلك أبياتاً ورددها علي حتى حفظتها:
أبا الخيبري وأنت أمرؤ ... ظلوم البرية شتامها
فماذا أردت إلى رمة ... ببادية صيحت هامها؟
أتبغي أذاها وإعسارها ... وحولك غوث وأنعامها
وإنا لنطعم أضيافنا ... من الكوم بالسيف نعتامها
وقد أمرني أن أحملك على بعير فدونكه فأخذه وركبه وذهبوا
حكاية

قال: أخبرني أحمد بن محمد البزاز الأطروش قال: حدثنا أبو مسكين جعفر بن المحرز ابن الوليد عن أبيه قال الواقدي: كان إبراهيم بن المهدي قد ادعى الخلافة لنفسه بالري، وأقام مالكها سنة وأحد عشر شهراً واثني عشر يوماً، وله أخبار كثيرة أحسنها عندي ما حكاه لي قال: لما دخل المأمون الري وطلبني أشد طلب وجعل لمن أتى بي مائة ألف درهم، خفت على نفسي وتحيرت في أمري فخرجت من داري في وقت الظهر وكان يوماً صائفاً، ولا أدري أين أتوجه فمررت على وجهي حتى وقعت في زقاق لا ينفذ فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن عدت على أثري يرتاب بي، فرأيت في صدر الزقاق عبداً أسود قائماً على باب داره، فتقدمت إليه وقلت له: عندك موضع أقيم فيه ساعة من نهار؟ فقال: نعم، وفتح الباب فقال: يا سيدي أدخل بالرحب والسعة، أنا لك والمنزل وبحكمك. فدخلت إلى بيت نظيف فيه حصير نظيف ومخدة جلد إلا أنها نظيفة ثم أغلق الباب علي ومضى فتوهمته قد سمع الجعالة في، وأنه خرج ليدل علي، فبقيت على مثل النار قلقاً، فبينا أنا كذلك إذ أقبل معه حمال عليه كل ما يحتاج إليه من خبز ولحم وقدر جديدة وآلتها وجرة نظيفة وكيزان جدد، فحط من الحمال ثم التفت إلي وقال: جعلني الله فداك، أنا رجل حجام، وأنا أعلم أنك تقز نفسك مني لما أتولاه من معيشتي، فشأنك بما لم تقع عليه يد، وكانت لي حاجة إلى الطعام فطبخت لنفسي قدراً ما أذكر أني أكلت مثلها، فلما قضيت أربي من الطعام قال: هل لك في شراب فإنه لم يسلي الهم، ويطيب الفم، ويجيد النفس، ويذهب الغم؟ فقلت: ما أكره ذلك رغبة في أن أوانسه فأتى بقطرميز جديد لم تمسه يد، وجاءني بدنين من شراب مطيب وقال لي: روق لنفسك فروقت شراباً نهاية في الجودة، وأحضر لي قدحاً جديداً وفاكهة و قلاً مختلفة في طسوت فخار جديدة ثم قال بعد ذلك: أتأذن لي، جعلت فداك، أن أقعد ناحية منك وآتي بنبيذ لي فأشرب منه سروراً بك فقلت له: افعل فشرب وشربت ثلاثاً، ثم أدخل إلى خزانة له فأخرج عوداً مصفحاً فقال: يا سيدي ليس من قدري أنا أسألك تغني، ولكن قد وجبت علي مروءتك حرمتي، فإن رأيت أن تشرف عبدك بأن تغني لنفسك فافعل، فقلت من أين لك أني أحسن الغناء، فقال متعجباً يا سبحان الله أنت أشهر من ذلك أنت إبراهيم بن المهدي خليفتنا بالأمس الذي جعل المأمون لمن دله عليك مائة ألف درهم، قال: فلما قال ذلك عظمت همته ومروءته عندي وعلمت أن نخوته أجل مما بذل في، فتناولت العود فأصلحته فغنيت، وقد مر بخاطري فراق أهلي وولدي:
وعسى الذي أهدى ليوسف أهله ... وأعزه في السجن وهو أسير
أن يستجيب لنا فيجمع شملنا ... والله رب العالمين قدير
فقال يا سيدي أتجعل ما تغنيه ما اقتضيتك إياه؟ قلت نعم قال عن لي:
إن الذي عقد الذي انعقدت به ... عقد المكاره فيك يحسن حلها
فاصبر فإن الله يعقب راحة ... فلعلها أن تنجلي ولعلها
فغنيته ولم أكن أحسن لحنه لكنني لحنته في الوقت وتفاءلت به وحسن عندي إيراده، فشربت وشربت، وقال: عن يا سيدي:
فلا تجزع وإن أعسرت يوماً ... فقد أيسرت في الزمن الطويل
ولا تيأس فإن اليأس كفر ... لعل الله يغني عن قليل
ولا تظنن بربك غير خير ... فإن الله أولى بالجميل
وكنت أعرفه فغنيته فشرب وشربت وقال: لله علي نذر إذا آنستني بقربك وما كنت أحسب أن الزمان يسمح بكونك في منزلي فإن رأيت أن تغني:
وإذا تنازعني أقول لها اصبري ... موت يريحك أو علو المنبر
ما قد قضي بأنفس فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدر
فغنيته وحسن في نفسي اقتضاؤه وآنست به واستظرفه ثم قال: يا سيدي أتأذن لي أن أغني ما سنح وإن كنت من غير أهل هذه الصناعة فقلت: زيادة في أدبك ومروءتك، فأخذ العود وتغنى:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لما ما أقصر الليل عندنا
وذاك لأن النوم يغشى عيونهم ... سريعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا
إذا ما دنا الليل المضر بذي الهوى ... جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا
فلو إنهم كانوا يلاقون مثل ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
فوالله لقد أحسست البيت قد سار بي، وذهب عني كل ما كان بي من الهلع وأنسيته، وسألته أن يغني فغنى:

تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
وإنا لقوم لا نرى سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
قد أخلني من الطرب ما لا مزيد عليه إلى أن عاجلني السكر وإياه فلم أستيقظ إلا بعد المغرب، فعاودني فكري في نفاسة هذا الحجام، وحسن أدبه وظرفه، وكيف اقتضاني من الغناء ما أراد به أن يسليني وغنائي ما فيه إشارة لتخصصه، فقمت وغسلت وجهي وأيقظته، وأخذت خريطة كانت صحبتي فيها دنانير لها قيمة كبيرة فرميت بها إليها وقلت له: أستودعك الله فإني ماض من عندك، وأسألك أن تصرف ما في هذه الخريطة في بعض مهماتك، ولك عندي المزيد إن أمنت من خوفي فأعادها إلي منكراً وقال: يا سيدي إن الصعلوك منا لا قدر له عندكم من ذوي الرياسات، وتظن به الظنون الردية، أآخذ على ما وهبنيه الزمان من قربك وحلولك عندي ثمناً؟ فألححت عليه فأومأ إلى موسى له وقال: والله لئن راجعتني في ذلك لأقتلن نفسي، فخشيت عليه وأخذت الخريطة وأعدتها إلى كمي، وقد أثقلني حملها، فلما انتهيت إلى باب داره معولاً على الخروج قال: يا سيدي إن هذا الموضع أخفى لك من غيره وليس في مؤنتك فأقم عندي إلى أن يفرج الله عنك، فرجعت وسألته أن يكون منفقاً من تلك الخريطة فلم يفعل، وكان في كل يوم يفعل مثل ما فعل في يوم حلولي به، فأقمت أياماً في أطيب عيش، فتذممت من الإقامة في مؤنته، واحتشمت من التثقيل عليه فتركته، وقد مضى يجدد لنا أحوالنا، فقمت وقد تزينت بزي النساء بالخف والنقاب وخرجت، فلما صرت في الطريق داخلني من الخوف شيء شديد، وجئت لأعبر الجسر فإذا الماء بموضع قد رش حتى صار زلقاً فبصر بي جندي ممن كان يخدمني فعرفني، فقال: هذه حاجة المأمون وتعلق بي فمن حلاوة الروح ودفعته وفرسه فرميتهما في ذلك الزلق فصار عبرة، وتبادر الناس ليقتلوه، فاجتهدت في المشي حتى قطعت الجسر، ودخلت زقاقاً فوجدت باب دار وامرأة في دهليزه فقلت: يا سيدة النساء أحقني دمي فإني رجل خائف، فقالت: على الرحب، وأطلعتني إلى غرفة، وفرشت لي وقدمت لي طعاماً، وقالت ليهدأ روعك فما يعلم مخلوق بك عندي، ولو أقمت سنة، فهي معي في ذلك وإذا الباب يدق دقاً عنيفاً فخرجت ففتحت الباب وإذا بصاحبي الذي دفعته على الجسر وهو مشدود الرأس ودمه يجري على ثيابه وليس معه فرس فقالت له: ما دهاك؟ فقال لها: إن حديثي عجيب، ظفرت بالغنى وانفلت مني، قالت: وكيف ذاك؟ قال: إبراهيم بن المهدي لقيته وعنقت به فدفعني والفرس، فأصابني ما ترين وانفلت مني، ولو كنت حملته إلى المأمون لجعلت مائة ألف درهم فأخرجت له حراقاً علته في جرحه وعصبته، وفرشت له في القاعة ونام عليلاً، وطلعت إلي وقالت أظنك صاحب القصة فقلت: نعم قالت: لا بأس عليك. ثم جددت الكرامة لي وأقمت عندها ثلاثاً. ثم قالت: إني خائفة عليك من هذا الرجل لئلا يطلع على أمرك فينم بك فانج بنفسك. فسألتها إمهالي إلى الليل ففعلت. فلما دخل الليل لبست زي النساء وخرجت من عندها فأتيت إلى بيت مولاة كانت لي. فلما رأتني بكت وتوجعت لي وحمدت الله على سلامتي، وخرجت كأنها تريد السوق للاهتمام في الضيافة، فظننت خيراً، فما شعرت إلا بإبراهيم الموصلي بنفسه في خيله ورجله وحفله والمولاة معه حتى سلمتني إليه، فرأيت الموت عياناً، وحملت بزيي إلى المأمون، فجلس مجلساً عاماً وأدخلني إليه، فلما قمت بين يديه سلمت عليه بالخلافة فقال: لا سلم الله عليك، ولا حياك ولا رعاك، فقلت: على سرلك يا أمير المؤمنين إن ولي الثار محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الرجاء لم يأمن عادية الدهر، وقد جعلك الله تعالى فوق كل عفو، كما جعل كل ذنب دون عفوك، فإن تأخذ فبحقك وإن تعف فبفضلك ثم أنشدت:
ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أولا ... فاصفح بحلمك عنه
إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فكنه
فرفع رأسه إليه فبدرته وقلت:
أتيت ذنباً عظيماً ... وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمن ... وإن جزيت فعدل

فرق لي المأمون، واستروحت روائج الرحمة في شمائله، ثم أقبل على أخيه أبي اسحق المعتصم وابنه العباس وجميع من حضر من خاصته فقال: ما ترون في أمره، فكل أشار بقتلي إلا انهم اختلفوا في القتلة كيف تكون، فقال المأمون لأحمد بن أبي خالد: ما تقول يا أحمد فقال: يا أمير المؤمنين إن قتلته وجدك مقلك قتل مثله، وإن عفوت عنه لم تجد مثلك عفا عن مثله، فنكس المأمون رأسه وجعل ينكت بإصبعه في الأرض وقال متمثلاً:
قومي هم قتلوا اميم أخي ... فإذا رميت أصابني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللاً ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي
فكشفت المقنعة عن رأسي وكبرت تكبيرة عظيمة وقلت: عفا عني والله أمير المؤمنين، فقال المأمون: لا بأس عليك يا عم اعتذر فقلت: ذنبي يا أمير المؤمنين أعظم من أن أتفوه معه بعذر، وعفوك أعظم من أن أنطق معه بشكر، ولكني أقول:
إن الذي خلق المكارم حازها ... في صلب آدم للإمام السابع
ملئت قلوب الناس منك مهابة ... وتظل تكلؤهم بقلب خاشع
فعفوت عمن لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع
ورحمت أطفالاً كأفراخ القطا ... وحنين والدة بقلب جازع
رد الحياة علي بعد ذهابها ... كرم المليك العادل المتواضع
فقال لي المأمون: لا تثريب عليك اليوم قد عفوت عنك، ورددت عليك مالك وضياعك، فقلت:
رددت مالي ولم تبخل علي به ... وقبل ردك مالي قد حقنت دمي
أمنت منك وقد خولتني نعماً ... نعم الحياتان من موت ومن عدم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال حتى أسل النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عارية رجعت ... إليك لو لم تهبها كنت لم تلم
البر لي منك وطء العذر عندك لي ... فيما أتيت فلم تعذل ولم تلم
فإن جحدتك ما أوليت من نعم ... إني إلى اللوم أولى منك بالكرم
فقال المأمون: إن من الكلام كلاماً كالدرر وهذا منه، وأمر لإبراهيم بمال وخلع وقال: يا إبراهيم إن أبا إسحاق والعباس أشارا بقتلك فقلت: إنهما نصحا لك يا أمير المؤمنين، ولكن أبيت إلا ما أنت أهله، ودفعت ما خفت بما رجوت، فقال المأمون قد مات حقدي بحياة عذرك وعفوت عنك، وأعظم من عفوي عنك أني لم أجرعك مرارة امتنان الشافعين، ثم سجد المأمون طويلاً ثم رفع رأسه فقال: يا إبراهيم أتدري لم سجدت؟ فقلت: شكراً لله الذي أظفرك بعدو دولتك فقال: ما أردت هذا ولكن شكراً لله على ما ألهمنيه من العفو عنك، فحدثني الآن حديثك، فشرحت له صورة أمري وما جرى لي مع الحجام والجندي والمولاة التي أسلمتني، فأمر المأمون بإحضارها وهي في دارها تنتظر الجائزة فقال لها: ما حملك على ما فعلت مع إنعام إبراهيم وأهله عليك؟ فقالت: رغبة في المال. فقال لها: هل لك ولد أو زوج قالت: لا، فأمر بضربها مائتي سوط وخلدها السجن. ثم قال: أحضروا الجندي وامرأته والحجام فأحضروا، فسأل الجندي عن السبب الذي حمله على ما فعل فقال: الرغبة في المال فقال له المأمون: أنت أولى أن تكون حجاماً من أن تكون من أوليائنا ووكل به من يلزمه الجلوس في دكان الحجام ليتعلم الحجامة، واستخدم زوجته بعد الإحسان إليها قهرمانة في قصره، وقال هذه امرأة عاقلة أديبة تصلح للمهمات. ثم قال للحجام: لقد ظهر من مروءتك ما تجب به المحافظة عليك، وسلم إليه دار الجندي ودابته، وخلع عليه وأثبته برزقه وزيادة ألف دينار في كل سنة ولم يزل بخير إلى أن مات.

حكاية
حدث سليمان بن وهب قال: لما نكبني الواثق قال لمحمد بن عبد الملك الزيات: عذب سليمان وضيق عليه، وصادره وطالبه بالأموال. قال سليمان " فألبسني جبة صوف وقيدني وضيق علي، وكان يحضرني في دار الواثق ويخاطبني أغلظ مخاطبة ويهددني ويعاملني أقبح معاملة وأشنعها، ويكتب المخبرون بذلك إلى الواثق فيعجبه، فإذا كان الليل أمر محمد بن عبد الملك بنزع قيودي وتغيير ثيابي، ويطرح لي مصلى ويأنس بي ويأكل ويشرب معي، ويشاورني في أموره، ويفضي إلي بأسراره، فإذا كان وقت انصرافي عنه ضرب بيده على كتفي وقال: يا أبا أيوب هذا حق المودة، وذاك حق السلطان، لا تنكر هذا ولا تنكر ذاك، فأشكر له فعله فإذا كان في غد عدنا إلى ما كنا عليه كأنا ما تعارفنا.
حكاية

حدث حماد بن إسحاق عن أبيه قال: دخلت إلى الفضل بين الربيع وقد بلغ الرشيد يحي بن عبد الله بن الحسن وقد كان أمره بقتله فلم يظهر له أنه بلغه إطلاقه إياه، وسأله عن خبره على قتله؟ فقال: لا، فقال له: أين هو، قال: أطلقته، قال: ولم؟ قال: لأنه سألني بحق الله تعالى ورسوله وقرابته منه ومنك، وحلف لي أنه لا يحدث حدثاً، وإنه يجيئني متى طلبته، فأطرق ساعة ثم قال له: امض بنفسك في طلبه حتى تجيئني به وأخرج الساعة، فخرج. قال إسحاق: فدخلت إليه مهنئاً بالسلامة، فقلت له: ما رأيت أثبت من جأشك ولا أصح من رأيك فيما جرى وأنت والله كما قال أشجع:
بديهته وفكرته سواء ... إذا ما نابه الخطب الكبير
وأحزم ما يكون الدهر رأياً ... إذا عيي المشاور والمشير
وصدر فيه للهم اتساع ... إذا ضاقت من الهم الصدور
فقال الفضل: انظروا كم أعطي أشجع على هذه القصيدة فاحملوا إلى أبي محمد مثله. قال فوجد قد أخذ ثلاثين ألف درهم فحملت إلي.

حكاية
قال أبو الفرج الأصبهاني: حدثني بن محمد بن الجعد ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا محمد بن زكريا العلاني قال: حدثنا ابن عائشة قال: حج هشام بن عبد الملك في خلافة الوليد أخيه ومعه أهل الشام فجهد أن يستلم الحجر فلم يقدر من ازدحام الناس، فنصب له منبر فجلس عليه ينظر إلى الناس، فأقبل زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما، وهو أحسن الناس وجهاً، وأنظفهم ثوباً؛ وأطيبهم رائحة، فطاف بالبيت فلما بلغ الحجر تنحى الناس كلهم له وأخلوا الجحر ليستلمه، هيبة له وإجلالاً، فغاظ ذلك هشاماً وبلغ منه، فقال رجل لهشام: من هذا أصلح الله الأمير؟ قال: لا أعرفه، وكان به عارفاً، ولكنه خاف أن يرغب فيه أهل الشام ويسمعوا منه. فقال الفرزدق، وكان لذلك كله حاضراً: أنا أعرفه فسلني يا شامي من هو، قال: ومن هو؟ قال:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النفي الطاهر العلم
" بكفه خيزران ريحه عبق ... بكف أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... وما يكلم إلا حين يبتسم "
إذا رأته قريش قال قائلها: ... إلى مكارم هذا ينسب الكرم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
فليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
أي الخلائق ليست في رقابهم ... لأولية هذا أو له نعم
من يعرف الله يعرف أولية ذا ... فالدين من بيت هذا ناله الأمم
فحبسه هشام فقال الفرزدق:
أيحبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يهوي منيبها
يقلب رأساً لم يكن رأس سيد ... وعيناً له حولاء تبدو عيوبها
فبعث هشام إليه فأخرجه خشية لسانه. ووجه إليه علي بن الحسين عشرة آلاف درهم وقال أعذرنا يا أبا فراس فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر منها لوصلناك به فردها وقال: ما قلت ما كان إلا لله، وما كنت لأرزأك عليه شيئاً، فقال له علي بن الحسين: قد رأى الله مكانك فشكرك، ولكنا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً ما نرجع فيه، وأقسم عليه فقبلها.
حكاية
حدث أحمد بن يحيى المكي " قال كان إسحاق الموصلي يكثر مديح البرامكة ويطنب في الثناء عليهم، فحضر ذات يوم مجلس الفضل بن الربيع فأجرى ذكر البرامكة، وكان يغيظ الفضل ويبلغ منه كل مبلغ، فقال بعض من حضر لإسحاق: أما تنفك من ذكر هؤلاء القوم وتقلع عن ذلك، ولك في الثناء على الوزير ما تبلغ به عنده أعلى الرتب، وتحل من نفسه عليه أرفع محل، فأمسك الفضل عن الكلام إعجاباً بما خوطب به إسحاق. فقال اسحق: أما البرامكة وملازمتي لهم وحبي فيهم وثنائي عليهم فأشهر من أن أجحده، وذلك والله أقل ما يستحقونه مني، ثم أقبل على الفضل وقد أغاظه مدحه لهم. فقال له: اسمع مني شيئاً مما فعلوه بي، ليس هو بكبير من صنائعهم عندي ولا عند أبي قبلي، فإن وجهت لي في ذلك عذراً وإلا فلم.

كنت في ابتداء أمري نازلاً مع أبي في داره، وكان لا يزال يجري من غلماني وغلمانه وجواري وجواريه الخصومة، كما يجري بين هذه الطبقات، فيشكونهم إليه، فأتبين الضجر والتنكر في وجهه، فاستأجرت داراً بقربه وانتقلت إليها أنا وجواري وغلماني. وكانت داراً واسعة فلم أرض ما عندي من الآلة لها، ولا لمن يدخل إلي من أخواني أن يروا مثله عندي. ففكرت في ذلك وكيف أصنع فيه فزاد فكري إلى أن خطر ببالي قبح الأحدوثة من نزول مثلي في دار بأجرة، وإني لا آمن في وقت أن يستأذن علي وعندي من احتشمه ولا يعلم حالي، فيقال: صاحب دارك يطلب أجرة الدار فضاق بذلك صدري ضيقاً شديداً حتى جاوز الحد فأمرت غلماني أن يسرجوا لي حماراً كان عندي لأمضي إلى الصحراء أتفرج فيها مما دخل قلبي فأسرج لي، ولبست رداء ونعلاً وركبت، فأفضى بي المسير وأنا مفكر لا أميز الطريق التي أسلك فيها حتى هجم بي على باب يحيى بن خالد فوثب غلمانه إلي وقالوا أين هذه الطريق؟ فقلت: إلى الوزير أعزه الله، فاستأذنوا لي في الدخول فدخلت، وبقيت خجلاً، قد وقعت في أمرين قبيحين، إن دخلت عليه برداء ونعل، وأعلمته أني قصدته في تلك الحال كان سوء أدب، وإن قلت له أني كنت مجازاً ولم أقصدك فجعلتك طريقاً كان قبيحاً، ثم عزمت على صدقه، فلما رآني تبسم فقال: ما هذا الزي يا أبا محمد احتسبنا لك بالبر والقصد والتفقد ثم علمنا أنك جعلتنا طريقاً فقلت: لا والله أيد الله الوزير ولكني أصدقك قال: هات، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها فقال: هذا حق مستو " كذا " افهذا شغل قلبك؟ قلت: إي والله، وزاد فقال: لا تشغل قلبك بهذا، يا غلام ردوا حماره وهاتوا له خلعة، فجاءوني بخلعة تامة من ثيابه فلبستها، ودعا بالطعام فأكلت، ووضع النبيذ فشربت وشرب وغنيته، ودعا في وسط ذلك بدواة وكتب أربع رقاع ظننت أن بعضها توقيع لي بجائزة، ثم دعا بعض وكلائه فدفع إليه الرقاع، وساره بشيء، فزاد طمعي في الجائزة، ومضى الرجل وجلسنا نشرب وأنا أنتظر فلا أرى شيئاً إلا الغنيمة. ثم اتكأ يحيى بن خالد فنام، وقمت من عنده وأنا منكسر خائب، فخرجت فقدم إلي حماري فركبته وسرت، فلما تجاوزت الدار قال لي غلامي: إلى أين تمضي؟ قلت: إلى الدار، قال: قد والله بيعت الدار وابتيع الدرب كله، وأشهد على أصحابها، ووزن الثمن، والمشتري جالس على بابك ينتظرك ليعرفك وأظنه ابتاع ذلك للسلطان، لأني رأيت الأمر في عجلته واستحثاثه أمراً سلطانياً، فوقعت من ذلك في أمر لم يكن في حسابي، وسرت وأنا لا أدري ما أعمل، فلما نزلت على باب داري إذا بالوكيل الذي ساره يحيى قد قام إلي فقال: أدخل أيدك الله دارك، حتى أدخل في أمر أحتاج فيه إلى مخاطبتك، فطابت نفسي فدخلت ودخل إلي فأقراني توقيع يحيى يطلق لأبي محمد إسحاق مائة ألف درهم يبتاع بها داره، وجميع ما يجاورها ويلاصقها، والتوقيع الثاني إلى ابنه الفضل " :قد أمرت لأبي إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع بها داره، فأطلق له مائة ألف أخرى لينفقها على إصلاح الدار كما يريد وبنائها كما يشتهي " والتوقيع الثالث إلى ابنه جعفر " قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف يبتاع له بها منزلاً يسكنه، وأمر له أخوك بمائة ألف درهم ينفقها على بنائها ومرمتها على ما يريده: فأطلق له مائة ألف درهم ليبتاع له بها فرشاً لمنزله " والتوقيع الرابع إلى محمد " قد أمرت وأخواك لأبي محمد إسحاق بثلاثمائة ألف درهم لمنزل يبتاعه، ونفقة ينفقها عليه، وفرش يتبدله فيه فمر له أنت بمائة ألف درهم يصرفها في سائر نفقته " وقال لي الوكيل: قد حملت المال واشتريت كل شيء جاورك بسبعين ألف درهم وهذه الكتب بالابتياعات باسمي والإقرار لك، وهذا المال، بورك لك فيه، فأقبضه فقبضته، وأصبحت أحسن حالاً من أبي في منزلي وسائر فرشي وآلتي فلا والله ما هذا من أكبر شيء فعلوه بي أفألام على شكرهم؟

حكاية

قيل تذاكر جلساء معاوية بحضرته يوماً أشراف الناس وذوي الوجاهة والبيوت الجليلة، والحسين بن علي رضي الله عنهما حاضر، فقال معاوية من تعرفون أكرم الناس أباً وأماً وجداً وجدةً وعماً وعمةً وخالاً وخالةً؟ فقالوا: أمير المؤمنين أعلم، فأخذ بيد الحسين بن علي رضي الله عنهما وقال: هذا أبوه علي بن أبي طالب وأمه فاطمة بنت محمد وجده رسول الله وجدته خديجة وعمه جعفر بن أبي طالب، وعمته هالة بنت أبي طالب، وخاله القاسم ابن رسول الله، وخالته زينب بنت محمد. فقال كلهم: صدق أمير المؤمنين.

حكاية
قال أبو الفرج الأصبهاني في كتابه: أخبرني أحمد بن عبيد الله ابن عمار قال: حدثنا سليمان بن ابي شيخ قال: حدثنا محمد بن الحكم عن عوانة أن عبيد الله بن أبي بكرة كتب إلى يزيد بن أبي ربيعة بن مفرغ أني قد توجهت إلى سجستان فالحق بي لعلك إن أقدمت على ألا تندم ولا تذم رأيك، فتجهز ابن مفرغ وخرج حتى أتى إلى سجستان ممسياً فدخل عليه فشغله بالحديث، وأمر له بمنزل وفرش وخدم، وجعل يطاوله حتى علم أنه قد استتم ما أمر له به، ثم صرفه إلى المنزل الذي هيئ له، ثم دعا به في اليوم الثاني فقال له: يا ابن مفرغ انك قد تجشمت إلي شقة بعيدة، وقم أتسع لك الأمل، فرحلت إلي لأقضي عنك دينك، ولأغنيك عن الناس، وقلت: أبو حاتم بسجستان قمن لي بالغنى بعده فقال: والله ما أخطأت أيها الأمير مما كان في نفسي شيئاً فقال عبيد الله: أما والله لأفعلن ذلك، ولأقلن لبثك عندي، ولأحسنن صلتك، فأمر له بمائة ألف درهم ومائة وصيفة ومائة نجيبة، وأمر له بما ينفقه إلى أن يبلغ بلده سوى المائة ألف، وبمن يكفيه الخدمة من غلمانه ومواليه، وقال له:إن من خفة السفر أن لا تهتم بخف ولا حافر، فكان مقامه عنده سبعة أيام، ثم ارتحل وشيعه عبيد الله بن أبي بكرة إلى قرية على أربعة فراسخ يقال لها زالق، ثم قال له: يا ابن مفرغ أنه ينبغي للمودع أن ينصرف وللمتكلم أن يسكت، وأنا من قد عرفت، فانفق على الأمل، وحسن ظنك بي ورجاءك في وإذا بدا لك أن تعود فعد والسلام ثم صار ابن مفرغ حتى الأهواز فرجعت عنه رسل عبيد الله، وقالوا: قد بلغنا حيث أمرنا قال: أجل، ثم أمر أناهيد بنت أعنق، امرأة كان يهواها، أن تفتح الباب، وقال لها كل ما دخل دارك فهو لك، وأقام بالأهواز ودعا ندماء كانوا له من فتيان العرب، فلم يبق ظريف ولا مغن إلا أتاه، واستماحه جماعة قصدوه من أهل البصرة والكوفة والشام فأعطاهم، ولم يفارق اناهيد ومعه شيء من المال، وجعل القوم يسألونه عن عبيد الله بن أبي بكرة وكيف هو وأخلاقه " وجوده " فقال:
يسائلني أهل العراق عن الندى ... فقلت عبيد الله حلف المكارم
فتى حاتمي في سجستان رحله ... وحسبك جوداً أن يكون كحاتم
سما لينال المكرمات فنالها ... بشدة ضرغام وبذل الدراهم
وحلم إذا ماسورة الحرب أطلقت ... حبا القوم عند الفادح المتفاقم
وإن له في كل حي صنيعة ... يحدثها الركبان أهل المواسم
دعاني إليه جوده ووفاؤه ... ومن دون مسراه عداة الأعاجم
فلم أثو إلا جمعة في جواره ... ويومين حلا من ألية آثم
إلى أن دعاني زانة الله بالعلى ... فأنبت من راشي مهيض القوادم
وقال إذا ما شئت يا ابن مفرغ ... فعد عودة ليست كأضغاث حالم
فقلت له: لا يبعد الله داره، ... أعود إذا ما جئتكم غير حاشم
وأحمدت وردي إذ وردت حياضه ... وكل كريم نهزة للأكارم
" فأصبح لا يرجو العراق وأهله ... سواء لنفع أو لدفع العظائم "
وإن عبيد الله هيأ رفده ... سراحاً وأعطى خيره غير عاقم
حكاية

وقال أبو الفرج أيضاً: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب ابن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا القخذمي وقال: لزم يزيد بن مفرغ غرماؤه بدين فقال لهم: انطلقوا نجلس على باب الأمير عيسى إلى أن يخرج الأشراف فيروني، فيقضوا عني ديني، فانطلقوا به، فكان أول من خرج اما عمر بن عبيد الله بن معمر، واما طلحة الطلحات، فلما رآه قال: أبا عثمان ما أقعدك ههنا؟ قال: غرمائي هؤلاء لزموني بدين لهم علي قال: وكم هو؟ قال سبعون ألفاً قال: علي منها عشرة آلاف درهم، ثم خرج الآخر على الأثر فسأله عما سأله صاحبه فقال: هل خرج أحد قبلي؟ قالوا: نعم فلان، قال: فما صنع؟ قال: ضمن عشرة آلاف درهم فقال علي مثلها، وجعل الناس يخرجون، فمنهم من يضمن الألف إلى أكثر من ذلك، حتى ضمنوا أربعين ألفاً وكان يأمل عبيد الله بن أبي بكرة فلم يخرج حتى غربت الشمس فخرج مبادراً فلم يره حتى كاد يبلغ بيته فقيل له: إنك مررت بابن مفرغ ملزوماً، وقد مر به الأشراف فضمنوا عنه، قال: واسوأتاه إني لخائف أن يظن بي أني تغافلت عنه، فكر راجعاً فوجده قاعداً فقال له: أبا عثمان ما يجلسك ها هنا؟ قال: غرمائي هؤلاء يلزمونني قال: وكم عليك؟ قال: سبعون ألفاً، قال: وكم ضمن عنك قال: أربعون ألفاً. قال: فاستمتع بها وعلي دينك أجمع فقال فيه:
لو شئت لم تعني ولم تنصب ... عشت بأسباب أبي حاتم
عشت بأسباب الجواد الذي ... لا يختم الأموال بالخاتم
من كف بهلول له عدة ... ما ان لمن عاداه من عاصم
المطعم الناس إذا حاردت ... نكباؤها في الزمن العارم
والفاصل الخطة يوم اللحا ... للأمر عند الكربة اللازم
جاورته حيناً فأحمدته ... أثني وما الحامد كاللائم
كم من عدو كاشح شامت ... أخزيته يوماً ومن ظالم
أذقته الموت على غرة ... بأبيض ذي رونق صارم

حكاية
وقال أيضاً: حدثني محمد بن جرير الطبري عن شيوخه إلى أن بلغ به يحيى بن عروة بن أذينة قال: أتى أبي وجماعة من الشعراء هشام ابن عبد الملك، فنسبهم فانتسبوا، فلما عرف أبي قال له أنت القائل:
لقدعلمت، وما الأشراف من خلفي
إن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعينني تطلبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنيني
وإن حظ امرئ غيري سيبلغه ... لا بد لا بد أن يحتازه دوني
لا خير في طمع يدني لمنقصة ... وغبر من كفاف العيش يكفيني
لا أركب الأمر تزري به عواقبه ... ولا يعاب به عرضي ولا ديني
كم من فقير غني النفس تعرفه ... ومن غني فقير النفس مسكين
ومن عدو رماني لو قعدت له ... لم يأخذ النصف مني حين يرميني
ومن أخ لي طوى كشحاً فقلت له ... إن انطواءك عني سوف يطويني
إني لأنطق فيما كان من أربي ... وأكثر الصمت فيما ليس يعنيني
لا أبتغي وصل من يبغي مفارقتي ... ولا ألين لمن لا يشتهي ليني
فقال له ابن أذينة: نعم أنا قائلها، قال: أفلا قعدت في بيتك حتى يأتيك رزقك؟ وغفل عنه هشام، فخرج من وقته وركب راحلته ومضى منصرفاً، فافتقده هشام فعرف خبره فأتبعه بجائزة، وقال للرسول: قل له: أردت أن تكذبنا وتصدق نفسك، فمضى الرسول فلحقه وقد نزل على ماء يتغدى عليه، فأبلغه رسالته ودفع إليه الجائزة فقال: قل له صدقني ربي وكذبك قال يحيى بن عروة: وفرض له فريضتين كنت أنا في إحداهما.
حكاية
وقال أبو الفرج أيضاً أخبرني محمد بن عمران الصيرفي والحسن بن علي الخفاف عن شيوخهم قالوا: دخل يزيد بن مزيد على الرشيد فقال له: يا بن مزيد من الذي يقول فيك:
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يمسح عينيه من الكحل
قد عود الطير عادات وثقن بها ... فهن يتبعنه في كل مرتحل
فقال: لا أعرف قائله يا أمير المؤمنين فقال له هارون: أيقال فيك مثل هذا الشعر ولا تعرف قائله؟ فخرج من عنده خجلاً. فلما صار إلى منزله دعا حاجبه فقال: من بالباب من الشعراء؟ قال مسلم بن الوليد قال: وكيف حجبته عني ولم تعلمني بمكانه، قال: أخبرته أنك مضيق وأنه ليس في يدك شيء تعطيه، وسألته الإمساك والمقام أياماً إلى أن تتسع قال: فأنكر ذلك عليه وقال: أدخله إلي فأدخله إليه فأنشد قوله فيه:

أجررت حبل خليع في الصبا غزل ... وقصرت همم العذال عن عذلي
رد البكاء من العين الطموح هوى ... مفرق بين توديع ومرتحل
أما كفى البين أن أرمى بأسهمه ... حتى رماني بلحظ الأعين النجل
مما جنت لي وإن كانت مني صدقت ... صبابة خلس التسليم بالمقل
إلى أن يقول فيها:
موف على مهج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل
تراه في الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعي على عجل
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يمسح عينيه من الكحل
إذا انتضى سيفه كانت مسالكه ... مسالك الموت في الأحشاء والمقل
وإن خلت بحديث النفس نظرته ... حي الرجاء ومات الخوف من وجل
كالليث إن هجته فالموت راحته ... لا يستريح إلى الأيام والدول
قد عود الطير عادات وثقن بها ... فهن يتبعنه في كل مرتحل
لله من هاشم في أرضه جبل ... وأنت وابنك ركنا ذلك الجبل
صدقت ظني وصدقت الظنون به ... وحط جودك عقد الرحل عن جملي
فقال له قد أمرنا لك بخمسين ألف درهم فاقبضها واعذر فخرج الحاجب فقال: قد أمرني أن أرهن ضيعة من ضياعه على مائة ألف درهم خمسون ألفاً منها لك وخمسون ألفاً لنفقته فأعطاه إياها، وكتب صاحب الخبر بذلك إلى الرشيد فأمر له بمائتي ألف درهم وقال اقض الخمسين الألف التي أخذها الشاعر وزده مثلها وخذ مائة ألف لنفسك. فأفتك ضيعته، وأعطى مسلماً خمسين ألفاً أخرى.

حكاية
قيل كان مخارق يهوى جارية لأم جعفر يقال لها نهار وكان بها كلفاً، ويستر ذلك عن أم جعفر حتى بلغها، فأقصته ومنعته من المرور ببابها فلما علم أن الخبر قد بلغ إلى أم جعفر قطعها وتحاماها إجلالاً لأم جعفر وطمعاً في السلو عنها فضاق ذرعه بذلك فبينا هو ذات ليلة في زلال وقد انصرف من دار المأمون، وأم جعفر تشرف على دجلة إذ حاذى دارها، فرآى الشمع يزهر فيها؛ فلما صار بمسمع منها ومرأى اندفع فغنى بشعر العباس الأحنف:
إن يمنعوني ممري قرب دارهم ... فسوف أنظر من بعد إلى الدار
لا يقدرون على منعي ولو جهدوا ... إذا مررت وتسليمي بإضمار
ما ضر جيرانكم والله يصلحهم ... لولا شقائي إقبالي وإدباري
سيما الهوى شهرت حتى عرفت بها ... إني محب وما بالحب من عار
فقالت أم جعفر: مخارق والله ردوه فصاحوا به فقدم، وأمره الخدم بالصعود فصعد، وأمرت له أم جعفر بكرسي وصينية فيها نيبذ فشرب وخلعت عليه وأمرت الجواري فغنين ثم ضربن عليه فغنى فكان أول ما غنى بشعر العباس أيضاً:
أغيب عنك بود ما يغيره ... نأي المحل ولا صرف من الزمن
فإن أعش فلعل الدهر يجمعنا ... وإن أمت فقتيل الهم والحزن
قد حسن الله في عيني ما صنعت ... حتى أرى حسناً ما ليس بالحسن
قال: فاندفعت نهار وتغنت كأنها تتابعه وإنما أجابته عن معنى ما عرض لها به.
تعتل بالشغل عنا ما تلم بنا ... الشغل للقبل ليس الشغل للبدن
فظنت أمر جعفر أنها خاطبته بما في نفسها فضحكت وقالت: ما سمعنا بأحسن مما صنعتما ووهبتها له.
حكاية
قال أبو زيد: أغار قوم من العرب على نعم لأحمد بن عنقاء الفزاري فاستاقوها حتى لم يبق له منها شيء، فأتى ابن أخيه فقال له: يا ابن أخي إنه قد نزل بعمك ما ترى فهل من حلوبة قال: نعم يا عم يروح المال فأبلغ مزادك، فلما راح ماله قسمه إياه وأعطاه شطره فقال ابن عنقاء:
رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسر كما جهر
دعاني فواساني ولو ضمن لم ألم ... على حين لا بادٍ يرجى ولا حضر
فقلت له خيراً أو أثنيت فعله ... وأوفاك ما أبليت من ذم أو شكر
غلام رماه الله بالخير يافعاً ... له سيمياء لا تشق على البصر
كأن الثريا علقت في جبينه ... وفي خده الشعرى وفي وجهه القمر
ولما رأى المجد استردت ثيابه ... تردى رداء واسع الذيل واتزر
إذا قبلت العوراء ولى كأنه ... ذليل بلا ذل ولو شاء لانتصر
حكاية

عن ابن عمر قال: رأى إسحاق بن إبراهيم " الظاهري في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: أطلق القائل، فاستيقظ مرتاعاً، ودعا بشمعة وأحضر الكتب الواردة من أصحاب الحبوس، فلم ير فيها ذكر قاتل، فأمر بإحضار السندي وعباس وسألا لهما عن الخبر فقال له عباس: نعم قد كتبنا بخير قائل، فأعاد النظر فيها، فوجد الكتاب في أضعاف القراطيس، وإذا رجل قد شهد عليه بالقتل وأقر به فأمر بإحضاره. فلما مثل بين يديه ورأى ما به من الارتياع قال له: إن صدقتني اطلقتك فانبرى يخبره. فذكر أنه كان هو وعدة معه يرتكبون كل عظيمة، ويستحلون كل محرم، وكان اجتماعهم بمدينة أبى جعفر يعتكفون على كل بلية. فلما كان في بعض الأيام جاءتهم عجوز كانت تختلف إليهم للفساد، ومعها جارية بارعة الجمال، قال: فلما توسطت الجارية الدار ورأتنا صرخت صرخة ثم غمي عليها، فلما أفاقت قالت: الله الله في، فإن هذه العجوز قد خدعتني وأعلمتني أن في جيرانها قوماً لهم حق لم ير مثله، وشوقتني إلى النظر فيه، فخرجت معها واثقة بقولها، فهجمت بي عليكم، وجدي رسول الله وأمي فاطمة وأبي الحسين بن علي فاحفظوهم في، فكأنها والله إنما أغرتهم بنفسها. فقمت دونها ومنعت منها، وقاتلت من أرادها فنالني جراحات، فعمدت إلى أشدهم " كان في أمرها كلبهم " فقتلته وتخلصت الجارية منه آمنة وأخرجتها سالمة، فسمعتها تقول مخاطبة لي: يسترك الله كما سترتني، وكان لك كما كنت لي، وسمع الجيران ضجة فدخلوا إلينا، والسكين في يدي، والرجل يتشحط في دمه، فرفعت على تلك الحالة فقال إسحاق: قد عرفت لك ما كان منك ووهبتك لله ولرسوله. قال الرجل: فوحق من وهبتني له لا عدت إلى معصية أبداً.

حكاية
قال أبو الفرج الأصفهاني يرفعه إلى علي بن عمر قال: حدثني مسلم ابن الوليد المعروف بصريع الغواني قال: كنت جالساً يوماً في دكان خياط بازاء منزلي، إذ رأيت طارقاً ببابي، فقمت إليه فإذا هو صديق لي من أهل الكوفة قد قدم من قم فسررت به، وكان إنساناً لطم وجهي لأنه لم يكن عندي درهم واحد أنفقه عليه، فقمت فسلمت عليه وأدخلته منزلي وأخذت خفين كانا لي أتجمل بهما فدفعتهما إلى جاريتي وكتبت معها رقعة إلى بعض معارفي في السوق أسأله أن يبيع الخفين ويشتري لي لحماً وخبزاً بشيء سميته له، فمضت الجارية وعادت إلي وقد اشترى كل ما حددته له وقد باع الخف بتسعة دراهم، فكأنها إنما جاءتني بخفين جديدين، فقعدت أنا وضيفي نطبخ، وسألت جاراً لي أن يسقينا قارورة نبيذ. فوجه بها إلي، وأمرت الجارية أن تغلق الباب مخافة طارق يجيء فيشركنا فيما نحن فيه، ورجاء أن يبقى لي وله ما نأكله إلى أن ينصرف. فانا لجالسنا نطبخ حتى طرق الباب فقلت للجارية: أنظري من هذا، فنظرت من شق الباب فإذا هو رجل عليه سواد وشاشية ومنطقة ومعه شاكري، فخبرتني بموضعه فأنكرت أمري، ثم رجعت إلى نفسي وقلت: لست بصاحب دعارة، ولا للسلطان علي سبيل، ففتحت الباب وخرجت إليه فنزل عن دابته وقال: أأنت مسلم بن الوليد؟ قلت: نعم، قال: كيف لي بمعرفتك؟ قلت الذي دلك على منزلي يصحح لك معرفتي، فقال لغلامه: امض إلى الخياط فسله عنه، فمضى فسأله عني فقال: نعم هو مسلم بن الوليد، فأخرج إلي كتاباً من خفه وقال: هذا كتاب الأمير يزيد بن مزيد إلي يأمرني ألا لأفضه إلا عند لقائك، وفضه فإذا فيه: إذا لقيت مسلم بن الوليد فادفع إليه هذه العشرة آلاف درهم التي أنفذتها، تكون له في منزله، وادفع إليه ثلاثة آلاف درهم لنفقته ليتحمل بها إلينا فأخذت الثلاثة والعشرة ودخلت إلى منزلي، والرجل معي، فأكلنا ذلك الطعام، وازددت فيه وفي الشراب، واشتريت فاكهة واتسعت، ووهبت لضيفي من الدراهم ما يهدي به هدية لعياله، وأخذت في الجهاز ثم ما زلت معه حتى صرنا إلى الرقة إلى باب يزيد بن مزيد فدخل الرجل فإذا هو أحد حجابه، فوجده في الحمام، فخرج إلي فجلس معي قليلاً، ثم خبرني الحاجب بأنه خرج من الحمام فأدخلني فإذا هو على كرسي جالس، وعلى رأسه وصيفة بيدها غلاف مرآة، وبيده هو مرآة ومشط يسرح به لحيته، فقال لي: يا مسلم ما الذي أبطأ بك عنا؟ فقلت: أيها الأمير قلة ذات اليد، قال: فأنشدني فأنشدته قصيدتي التي جئته بها:
أجررت حبل خليع في الصبا غزل ... وقصرت همم العذال عن عذلي
فلما صرت إلى قولي:

لا يعبق الطيب خديه ومفرقته ... ولا يمسح عينيه من الكحل
وضع المرآة في غلافها، وقال للجارية: انصرفي فقد حرم مسلم علينا الطيب. فلما فرغت من القصيدة قال لي: يا مسلم أتدري ما الذي حداني على أن وجهت إليك؟ فقلت: لا والله لا أدري، فقال: كنت عند الرشيد منذ ليال أغمز رجليه إذ قال لي: يا يزيد أتدري من القائل فيك؟
سل الخليفة سيفاً من بني مطر ... يمضي فيتخرم الأحشاء وإلهاما
كالدهر لا ينثني عما يهم به ... قد أوسع الناس إنعاماً وإرغاما
فقلت: لا والله ما أدري. فقال الرشيد: يا سبحان الله إنك مقيم على أعرابيتك، يقال فيك مثل هذا الشعر، ولا تدري من قائله؟ فسألت عن قائله، فأخبرت إنك أنت هو، فقم حتى أدخلك على أمير المؤمنين، ثم قام فدخل إلى الرشيد فما لبثت حتى خرج علي الآذن، فدخلت على الرشيد، وأنشدته ما لي فيه من الشعر، فأمر لي بمائة ألف درهم، ويزيد بتسعين ألفاً وقال: لا يجوز أن أعطيك مثلما أعطاك أمير المؤمنين، وأقطعني اقطاعات تبلغ غلتها مائتي ألف درهم. قال مسلم: ثم أفضت الأمور بعد ذلك إلى أن أغضبني فهجوته فشكاني إلى الرشيد فدعاني وقال: أتبيعني عرض يزيد؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين فقال:بكم فقلت: برغيف خبز، فغضب حتى خفته على نفسي، وقال: قد كنت أرى أن أشتريه منك بمال جسيم، ولست أفعل ولا كرامة، فقد علمت إحسانه إليك " أنا نفي عن أبي والله " والله لئن بلغني أنك هجوته لأنزعن لسانك من بين فكيك، فأمسكت عنه بعد ذلك، وما ذكرته بخير ولا شر.

حكاية
قال الواقدي: كان لي صديقان أحدهما هاشمي " والآخر نبطي " وكنا كنفس واحدة، فنالتني ضيقة شديدة وحضر العيد فقالت لي امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء قد قطعوا قلبي رحمة لهم، لأنهم يرون صبيان جيراننا وقد تزينوا في عيدهم وهم على الهيئة، فلو احتلت فيما نصرفه في كسوتهم، فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة علي مما حضر، فوجه إلي كيساً مختوماً ذكر أن فيه ألف درهم، فما استقر قراره حتى كتب إلي الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوته صاحبي، فوجهت إليه بالكيس على حاله وخرجت إلى المسجد فأقمت ليلتي مستحيياً من امرأتي، فلما دخلت عليها استحسنت ذلك ولم تعنفني فيه، فبينا أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس على هيئته وقال: أصدقني عما فعلته فيما وجهت به إليك، فعرفته الخبر على جليته فقال: إنك وجهت إلي وما أملك على الأرض إلا ما بعثت به إليك، وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة فوجه إلي بكيسي وخاتمي قال: فأخرجت للمرأة مائة درهم وتقاسمنا الباقي بيننا أثلاثاً. ونمي الخبر إلى المأمون فدعاني وسألني عنه فشرحته له، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار منها ألف للمرأة وألفان لكل واحد منا.
حكاية
قال أبو الفرج الأصبهاني: حدثني أحمد بن أبي طاهر قال: حدثني أبو دعامة علي بن يزيد قال: حدثني التميمي أو محمد قال: دخلت على الحسن بن سهل فأنشدته مديحاً في المأمون ومديحاً فيه، وعنده طاهر بن الحسين، فقال له طاهر: هذا والله أيها الأمير الذي يقول في محمد المخلوع:
لا بد من سكرة على طرب ... لعل روحاً يدال من كرب
خليفة الله خير منتخب ... لخير أم من هاشم وأب
خلافة الله قد توارثها ... آباؤه في سوالف الكتب
فهي له دنكم لمورثة ... عن خاتم الأنبياء في الحقب
يا ابن الذي في ذوائب الش ... رف الأقدم أنتم دعائم العرب
قال الحسن: عرض والله ابن اللخناء بأمير المؤمنين، والله لأعلمنه، وقام إلى المأمون فأخبره فقال له المأمون: وما عليه في ذلك؟ رجل أمل رجلا فمدحه، والله لقد أحسن لنا وأساء إليه، إذ لم يقترب إليه إلا بشرب الخمر، ثم دعاني فخلع علي وأمر لي بعشرة آلاف درهم
حكاية
قبيل خرج عبد الملك بن مروان إلى الغوطة متنزهاً، فبينا هو يسير مر على قنطرة منصوبة على بعض مياهها، وقد تأخر عنه العسكر وانفرد عن حشمه، فلما نزل من القنطرة جاءه رجل من العرب على فرس فراعه ذلك، فقال له: من أنت وما أمرك؟ فقال يا أمير المؤمنين أنا أحد فرسان العرب، وقد دعاني إليك أملي إياك، وتعويل أهل الحاجة عليك، فارددني إلى أهلي سالماً، ومن مالك موفوراً غانماً، قال: يا أخا العرب، أما سمعت قول الشاعر:

أعص العواذل وارم النبل عن عرض ... بذي سبيب يقاسي ليلة خببا
حتى تمول مالاً أو يقال فتى ... لاقى التي تشعب الفتيان فانشعبا
" لا خير عند فتىً أودت مروءته ... يعطي المقادة من لا يحسن الجنبا "
قال: وكذلك قال الشاعر يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم قال: سأعمل بما قال سلام عليكم وولى بفرسه وذهب، فلما غاب عن عين عبد الملك وتلاحق به عسكره، تقدم في طلب الرجل فلم يدركه، ثم ضرب الدهر ضرباته، فورد على عبد الملك أن رجلاً من العرب خرج في بعض النواحي وانضاف إليه جماعة وأن مالاً حمل إلى عبد الملك فخرج عليه الطريق فأخذه فأنفذ إليه عبد الملك جيشاً فكسره، ثم لم تطل الأيام حتى استفحل أمره واشتدت شوكته، فكتب إليه عبد الملك يستخبره ما دعاه إلى الخروج عن الطاعة والمبارزة في الحرب، فكتب إليه: أنا الفارس صاحب الغوطة؛ وقد عملت ما أشرت به، ولم أر منه إلى الآن إلا خيراً، فكتب إليه عبد الملك يرغبه ويؤمنه ويعده أنه متى صار إليه طائعاً أحسن مكافئته، وحمل إليه مالاً له قدر، فانصرف إليه وترك ما كان بصدده، فكان من المتقدمين عنده وحسن بلاؤه

حكاية
وقال: دخل مسلم بن الوليد يوماً على الفضل بن يحيى، وقد كان أتاه خبر سره، فجلس للشعراء فمدحوه وأثابهم، ونظر في حوائج الناس فقضاها، وتفرق الناس عنه وجلس للشراب، ومسلم غير حاضر لذلك، وإنما بلغه حين انقضى المجلس، فأدخل عليه فاستأذن في الإنشاد فأذن له فأنشد فيه:
أتتك المطايا تهتدي بمطية ... عليها فتى كالنصل يؤنسه النصل
حتى انتهى فيها إلى قوله:
وردت رواق الفضل آمل فضله ... فحظ الثناء الجزل نائله الجزل
فتى ترتعي الآمال مزنة جوده ... إذا كان مرعاها الأماني والمطل
تساقط يمناه الندى، وشماله ال ... ردى وعيون القول منطقه الفصل
ألح على الأيام بعري خطوبها ... على منهج ألفى أباه به قبل
أناف به العلياء يحيى وخالد ... فليس له مثل ولا لهما مثل
فروع أصابت مغرساً متمكناً ... وأصلاً فطابت حيث وجهها الأصل
بكف أبي العباس يستمطر الغنى ... وتستنزل النعمى ويسترعف الفصل
قال: فطرب الفضل طرباً شديداً، وأمر بأن تعد الأبيات فعدت، فكانت ثمانين، فأمر له بثمانين ألف درهم، وقال لولا أنها أكثر ما وصل بها شاعر لزدتك، ولكنه شأو لا يمكن تجاوزه، يعني أن الرشيد رسمه لمروان بن أبي حفصة وأمره بالجلوس معه والمقام عنده لمنادمته فأقام عنده.
حكاية
قال أبو الفرج الأصبهاني بإسناد ذكره أن عمرو بن بانه قال: ركبت يوماً إلى دار صالح بن الرشيد فاجتزت بمحمد بن جعفر بن موسى الهادي وكان معاقراً للصبوح، فألفيته في ذلك اليوم خالياً منه، فسألته عن السبب في تعطيله إياه فقال نيران علي غضبي - يعني جارية كانت لبعض النخاسين ببغداد، وكانت إحدى المحسنات وكانت بارعة الجمال ظريفة اللسان، وكان قد أفرط في حبها حتى عرف به - فقلت له: فما تحب؟ قال: أن تجعل طريقك على مولاها فإنه سيخرجها إليك، فإذا فعل دفعت رقعتي هذه إليها ودفع إلي رقعة فيها:
ضيعت عهد فتى لعهدك حافظ ... في حفظه عجب وفي تضييعك
ونأيت عنه فما به من حيلة ... إلا الوقوف إلى أوان رجوعك
متخشعاً يذري عليك دموعه ... أسفاً ويعجب من جمد دموعك
أن تفلتيه وتذهبي بفؤاده ... فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك
فقلت له: نعم أنا أتحمل هذه الرسالة وكرامة علي ما فيها، حفظاً لروحك عليك فإني لا آمن أن يتمادى بك هذا الأمر. فأخذت الرقعة وجعلت طريقي على منزل النخاس. فبعث إلى الجارية أن أخرجي فخرجت، فدفعت إليها القرعة، وأخبرتها بخبري فضحكت، ورجعت إلى الموضع الذي خرجت منه، وجلست جلسة خفيفة ثم إذا بها قد وافتني ومعها رقعة فيها:
وما زلت تقصيني وتغري بي العدى ... وتهجرني حتى مرنت على الهجر
وتقطع أسبابي وتنسى مودتي ... فكيف ترى يا مالكي في الهوى صبري
فأصبحت لا أدري أيأساً تصبري ... على الهجر؟ أم أجد التصبر لا أدري

قال: فأخذت الرقعة منها وأوصلتها إليه، وصرت إلى منزلي فصنعت في بيتي محمد بن جعفر لحناً وفي شعرها لحناً، ثم صرت إلى الأمير صالح ابن الرشيد فعرفته ما كان من خبري وغنيته الصوتين. فأمر بإسراج دابته فأسرجت وركب وركبت معه إلى النخاس - مولى نيران - فما برحنا حتى اشتراها منه بثلاثة آلاف دينار وحملها إلى دار محمد بن جعفر فوهبها له وأقمنا يوماً عنده.

حكاية
حدث أحمد بن أبي داود القاضي قال: ما رأيت رجلاً عرض علي الموت فلم يكترث به ولا " شغله عما أراده حتى بلغه وخلصه الله من القتل " إلا تميم بن جميل السدوسي الخارجي، وكان قد خرج على المعتصم، ورأيته قد جيء به أسيراً فأدخل عليه يوم موكب، وقد جلس المعتصم للناس مجلساً عاماً، ودعا بالسيف والنطع. فلما مثل بين يديه، نظره المعتصم فأعجبه حسنه وقده ومشيته إلى الموت غير مكترث به، فأطال الفكر فيه، ثم استنطقه لينظر أين عقله ولسانه من جماله، فقال: يا تميم إن كان لك عذر فأت به. فقال: أما إذا أذن أمير المؤمنين في الكلام فإني أقول: الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله سلالة من ماء مهين. يا أمير المؤمنين جبر الله بك صدع الدين، ولم بك شعث الإسلام والمسلمين، وأخمد بك شهاب الباطل، وأنار بك سبيل الحق، إن الذنوب يا أمير المؤمنين تخرس الألسنة، وتصدع الأفئدة، وايم الله لقد عظمت الجريرة، وانقطعت الحجة، وساء الظن، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأنت إلى العفو أقرب، وهو بك أشبه وأليق ثم أنشده:
أرى الموت بين السيف والنطع كامناً ... يلاحظني من حيث ما أتلفت
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي ... وأي امرئ مما قضى الله يفلت
وأي امرئ يدلي بعذر وحجة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت
يعز على الأوس بن ثعلب موقف ... يسل علي السيف فيه وأسكت
وما جزعي من أن أموت وإنني ... لأعلم أن الموت شيء مؤقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم ... وقد لطموا حر الخدود وصوتوا
فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة ... أذود الردى عنهم وإن مت موتوا
وكم قائل لا يبعد الله داره ... وآخر جذلان يسر ويشمت
قال: فبكى االمعتصم ثم قال: إن من البيان لسحراً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: يا تميم كاد والله يسبق السيف العذل، وقد وهبتك لله ولصبيتك وعفوت عن زلتك، ثم عقد له ولاية على عمله، وخلع عليه وأعطاه خمسين ألف دينار.
حكاية
قيل وقف أعرابي على باب داود بن المهلب سنة ولا يؤذن له. فلما أذن للناس إذناً عاماً ودخل في جملتهم، فقضى حوائج الناس على طبقاتهم، وبقي هو، فرفع داود رأسه وقال: ألك حاجة يا بدوي؟ فقال: نعم أصلح الله الأمير إني أتيتك ممتدحاً بأبيات من الشعر، أؤمل بكل بيت منها ألف درهم. فقال له يا داود: على رسلك، ثم دخل بيته وتقلد سيفه وخرج. وقال: قل، فإن أحسنت حكمناك، وإن لم تحسن حرمناك، فاندفع:
أمنت بداود وجود يمينه ... من الحدث المخشي والبؤس والفقر
أمنت فلا أخشى بداود نكبة ... ولا حدثاناً إذ شددت به أزري
فما طلحة الطلحات ساواه في الندى ... ولا حاتم الطائي ولا خالد القسري
له حكم لقمان وصورة يوسف ... وملك سليمان وصدق أبي ذر
فتى تهرب الأموال من جود كفه ... كما يهرب الشيطان من ليلة القدر
له همم لا منتهى لكبيرها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر
وراحته لو أن معشار عشرها ... على البر كان البر أندى من البحر
فقال له داود: أحسن يا أعرابي، وقد حكمناك فأيما أحب إليك أن أعطيك على قدرك أو على قدري، أو على قدر الشعر، قال: بل على قدر الشعر، فأمر له على كل بيت بألف درهم وانصرف، فقال بعض جلسائه: لو استعدته أيها الأمير فاستخبرته لم اختار على قدر الشعر ولم يختر على قدرك؟ فأمر برده واستخبره على ذلك، فقال: أيها الأمير نظرت إلى الدنيا بما فيها فإذا هي لا تفي بمعشار عشر قدرك، فأشفقت أن أسألك ما لا تطيق. فقال: أحسنت والله أحسن من شعرك، وضاعف له الجائزة فأخذها وانصرف.
حكاية

العتبي عن أبيه قال: قدك " زيد " بن منية من البصرة على معاوية، وهو أخو يعلى بن منية صاحب الجمل جمل عائشة رضي الله عنها ومتولي تلك الحروب ورأس أهل البصرة، وكانت ابنة يعلي عند عتبة بن أبي سفيان. فلما دخل على معاوية شكا إليه دينه. فقال: يا كعب أعطه ثلاثين ألفاً. فلما ولى. قال: وليوم الجمل ثلاثين ألفاً " أخرى " ثم قال: الحق بصهرك - يعني عتبة - فقدم على عتبة مضر فقال: إني سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف، ألبس لك أردية الليل مرة وأخوض لجج السراب أخرى، موقراً من حسن الظن بك، وهارباً من دهر قطم، ودين لزم، بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين. فقال عتبة: إن الدهر أعاركم غنى وخلطكم بنا، ثم استرد ما أمكنه أخذه وقد بقي لكم منا ما لا ضيعة معه، وأنا أرفع يدي ويدك بيد الله، فأعطاه ستين ألفاً كما أعطاه معاوية.

حكاية
قال الأصمعي: مررت ببعض أحياء العرب وكنت أروي أشعارهم وأطرف أخبارهم، فخرجت من الحي وكأنني لم أدخله، فرماني الدهر إلى بعض الأفاريق، فاستسقيت من أهل الفريق ماء فلم أسق، فخرجت من الحي فانتهيت إلى بيت مفرد فاستسقيت أهله ماء فخرجت إلي جارية وبيدها قعب من لبن، وفي الأخرى وعاء فيه ماء. فقالت: يا هناه، هذا ماء وهذا لبن، فأيهما شئت فابدأ، وإن أردت الطعام فهو لك معد فعجبت من سخائها عند بخل قومها ومبيتي بينهم، ثم شكوت إليها بخل قومها فقالت: اسمع مني ثم طفقت تقول:
خذ من الناس ما تيسر ... ودع من الناس ما تعسر
فإنما الناس من زجاج ... إن لم ترفق به تكسر
فانصرفت بالبيتين، ولهما أحب إلي من مائتي دينار، ثم رأيت نشزاً عالياً عليه بيت مفرد فقلت: ما هذا البيت الذي أرى إلا الذي كرم، ولعلي أجد فيه عالماً فأممته، فلما دنوت منه إذا رجل قائم على الباب، فلما رآني ولج البيت فولجت في أثره فخرج من كسر البيت فخرجت في أثره، فتبعته فنظر إلي ثم وقف فبكى بكاءً عالياً، وأنشأ يقول:
وقفت وقوف الشك ثم استمر بي ... يقين بأن الموت خير من الفقر
وقائلة تخشى علي من الردى ... وللموت خير من حياة على عسر
سأسكب مالاً أو أموت ببلدة ... يقل بها فيض الدموع على قبري
فقلت: هذا كلام أديب، وشعر لبيب، فزدني من كلامك، زادك الله من كل خير، فقال:
رزقت لباً ولم أرزق مروءته ... وما المروءة إلا كثرة المال
إذا أردت مساماة تقاعدني ... عما ينوه باسمي رقة الحال
فقلت له: يا هذا إني جليس الخليفة فلعلي أزرع لك عنده خيراً، فزدني من كلامك وحسن نظامك، فطفق يقول:
من يزرع الخير يحصد ما يسر به ... وزارع الشر منكوس على الرأس
إن الأولى كان يرجى فضا نائلهم ... أضحوا لدي جدث في بطن ارماس
فأتيت بمقالته الرشيد فأعجب بها ودفع إلي ألف دينار وأمرني بالرجوع قبل إلمامي بأهلي، وقال: تدفعها إلى الرجل، وإن لم تلقه فادفع المال إلى أقرب الناس إليه، فأتيت الحي وقصدت البيت، فإذا بالبيت قد قوض، فسألت عنه، فقبل أنه دعي فاجاب، فسألت عن أقرب الناس إليه فقيل لي: صاحبة هذا البيت المفرد فأتيته، فإذا هي صاحبتي التي سقتني الماء، فسألتها عن أخيها، فقالت: يا هناه كان والله يحمل المغارم، ويبتني المكارم، ويدفع العظائم، أسلمه قومه للنوائب، وتركوه للمصائب، فهلك والله ضياعاً، ولم يخلف متاعاً، فقلت لها يا هذه إن معي ألف دينار حباك بها أمير المؤمنين. فقالت: وصل الله أمير المؤمنين بالكرامة، وأجزل له الثواب في دار المقامة. ثم قالت: والله لنحن أكرم من أن يجتمع عندنا ألف دينار نحاسب بها ونعذب إليها، ثم قالت لخادمتها: ائتني بعجائز الحي، فأتتها بخمسين عجوزاً فقسمت المال بينهن، ولم تدخر منه إلا ما أصاب واحدة منهن.
حكاية
قيل كان لكثير عزة غلام تاجر فأتى الشام بمتاع يبيعه فأرسلت عزة امرأة تطلب لها ثياباً، فوقفت على غلام كثير وهي لا تعرفه، فابتاعت منه حاجتها ولم تدفع الثمن فكان يختلف إليها مقتضياً فأنشد ذات يوم من قول مولاه:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها

قال: فقالت له المرأة التي ابتاعت منه الثياب: هذه والله دار عزة، ولها والله ابتعت منك الثياب، فقال والله وأنا غلام كثير، وأشهد الله أن الثياب لها، ولا آخذ من ثمنها شيئاً، فبلغ ذلك كثيراً فقال: وأنا أشهد الله أنه حر وما بقي معه من المال فهو له.

حكاية
أخبر الهيثم بن عدي قال: تمارى ثلاثة في الأجواد فقال رجل: أسخى الناس في عصرنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال آخر: بل أسخى الناس اليوم عرابة الأوسي وقال آخر: بل هو قيس بن سعد بن عبادة، فتلاحوا فأفرطوا في المراء، وكثر ضجيجهم وهم بفناء الكعبة فقال لهم رجل: قد أكثرتم الملاحاة فلا عليكم أن يمضي كل واحد منكم إلى صاحبه يسأله حتى ننظر ما يعطيه فنحكم على العيان. فقام صاحب عبد الله بن جعفر إليه فصادفه وقد وضع رجله في غرز راحلته يزيد ضيعة له فقال له: يا ابن هم رسول الله قال: قل ما تشاء. قال: ابن سبيل منقطع، فأخرج رجله من الغرز وقال: ضع رجلك واستو على الناقة، وخذ ما في الحقيبة ولا تخدع عن السيف فإنه من سيوف علي بن أبي طالب. قال: فجاء بالناقة والحقيبة فيها مطارف خز وأربعة آلاف دينار، وأعظمها وأجلها السيف. ومضى صاحب قيس بن سعد ابن عبادة فصادفه نائماً فقالت الجارية: هو نائم فما حاجتك إليه؟ قال أين سبيل ومنقطع به. قالت: حاجتك أهون من إيقاظه، هذا كيس فيه سبعمائة دينار ما في دار قيس اليوم غيره، " خذه " وامض إلى معاطن الإبل إلى مولانا بعلامتنا فخذ راحلة من رواحله وما يصلحها وعبداً، وامض لشأنك. فقيل أن قيس لما انتبه من رقدته أخبرته الجارية بما صنعت فأعتقها. ومضى صاحب عرابة الأوسي إليه فألفاه قد خرج من منزله يريد الصلاة وهو يمشي على عبدين، وقد كف بصره فقال: يا عرابة قال: قل ما تشاء، فقال: ابن سبيل ومنقطع به، قال: فخلى العبدين، وصفق بيده اليمنى على اليسرى، ثم قال: أواه " أواه والله " ما أصبح ولا أمسي الليل عرابة وقد تركت له الحقوق مالاً ولكن خذهما يعني العبدين. فقال: ما كنت بالذي أقص جناحك منهما، قال: إن لم تأخذهما فهما حران، فإن شئت فخذ وإن شئت فاعتق، وأقبل يلمس الحائط بيده راجعاً إلى منزله. قال: فأخذهما وجاء بهما. فقيل إنهم أجود الناس في عصرهم إلا أنهم حكموا لعرابة لأنه أعطى جهده.
حكاية
قال عبد الله بن المعتمر القيسي: حججت سنة إلى بيت الله الحرام، فلما قضيت حجي عدت لزيارة قبر محمد صلى الله عليه وسلم، فبينا أنا ذات جالس بين القبر والروضة إذ سمعت أنيناً عالياً وحنيناً بادياً فأنصت إليه فإذا هو يقول:
أشجاك نوح حمائم السدر ... فأهجن منك بلابل الصدر
أم عز نومك ذكر غانية ... أهدت إليك وساوس الذكر
في ليلة نام الخلي بها ... وخلوت بالأحزان والفكر
يا ليلة طالت على دنف ... يشكو الفراق وقلة الصبر
أسلمت من يهوى لحر جوى ... متوقد كتوقد الجمر
فالبدر بشهد أنني كلف ... مغرى بحب شبيهة البدر
ما كنت أحسبني بها شجناً ... حتى بليت وكنت لا أدري
قال: ثم انقطع الصوت ولا أدري من أين جاءني، فبقيت حائراً ساعة، فإذا به قد أعاد البكاء والحنين وأنشأ يقول:
أشجاك من ريا الخيال زائر ... والليل مسود الذوائب عاكر
واعتاد مهجتك الهوى برسيسه ... واهتاج مقلتك المنام الباكر
ناديت ليلى والظلام كأنه ... يم تلاطم فيه موج زاخر
والبدر يسري في السماء كأنه ... ملك ترحل والنجوم عساكر
فإذا تعرضت الثريا خلتها ... كأساً به حبب السلافة دائر
فترى به الجوزاء ترقص في الدجى ... رقص الحبيب علاه سكر ظاهر
يا ليل طلت على محب ماله ... إلا الصباح مساعد ومؤازر
فأجابني مت حتف أنفك واعلمن ... أن الهوى لهو الهوان الحاضر

قال: فنهضت عند ابتدائه بالأبيات أؤم الصوت، فما انتهى إلى آخرها إلا وأنا عنده، فرأيت غلاماً لما بقل عذاره، وقد خرق الدمع في وجنتيه خرقين. فقلت: نعمت ظلاماً، قال: وأنت نعمت ظلاماً، فمن الرجل؟ قلت: عبد الله بن المعتمر القيسي قال: ألك حاجة يا فتى؟ قلت: إني كنت جالساً في الروضة فما راعني في هذه الليلة إلا صوتك، فبنفسي أقيك وبروحي أفديك " وبمالي أواسيك " ما الذي تجد؟ قال: إن كان ولا بد فاجلس فجلست فقال: أنا عيينة بن الحباب ابن المنذر بن الجموح الأنصاري، غدوت إلى مسجد الأحزاب فبقيت ساجداً راكعاً، ثم اعتزلت غير بعيد، فإذا نسوة يتهادين كأنهن القطا، وفي وسطهن جارية بديعة الجمال في نشبها كاملة الملاحة في عصرها، نورها يسطع، وطيبها يتضوع، فوقفت علي وقالت: يا عيينة ما تقول في وصل من طلب وصلك؟ ثم تركتني وذهبت، فلم أسمع لها خبراً، ولا قفوت لها أثراً، فأنا حيران أنتقل من مكان إلى مكان، ثم صرخ صرخة عظيمة، وأكب على الأرض " مغشياً عليه " ثم أفاق بعد ساعة فكأنما صبغت ديباجته بورس وأنشأ يقول:
أراكم بقلبي من بلاد بعيدة ... تراكم تروني بالقلوب على البعد
فؤادي وطرفي يأسفان عليكم ... وعندكم روحي وذكركم عندي
ولست ألذ العيش حتى أراكم ... ولو كنت في الفردوس أو جنة الخلد
قال: فقلت له: يا أخي ثب إلى ربك، واستقل من ذنبك، فإن بين يديك هول المطلع وشر المضجع فقال: هيهات هيهات ما أنا بسال حتى يؤوب القارظان ولم أزل به إلى أن طلع الصباح، فقلت له: قم بنا إلى مسجد الأحزاب، فلعل " الله " أن يكشف كربتك. قال: أرجو ذلك ببركة طلعتك إن شاء الله تعالى فسرنا إلى أن وردنا مسجد الأحزاب فسمعته يقول:
يا للرجال ليوم الأربعاء أما ... ينفك يحدث لي بعد النهى طربا
ما أن يزال غزال فيه يظلمني ... يهوي إلى مسجد الأحزاب منتقبا
يخبر الناس أن الأجر همته ... وما أتى طالباً للأجر محتسبا
لو كان يبغي ثواباً ما أتى ظهراً ... مضمخاً بفتيت المسك مختضبا
فجلسنا حتى صلينا الظهر، فإذا بالنسوة أقبلن، وما الجارية فيهن، فقلن: يا عيينة وما ظنك بطالبة وصلك وكاسفة بالك؟ قال: وما بالها؟ قلن: أخذها أبوها وارتحل إلى السماوة، فسألتهن عن الجارية فقلن: هي ريا ابنة الغطريف السلمي، فرفع رأسه إليهن وأنشأ يقول:
خليلي ريا قد أجد بكورها ... وسارت إلى أرض السماوة عيرها
خليلي ما تقضي به أم مالك ... علي فما يعدو علي أميرها
خليلي إني قد عشيت من البكا ... فهل عند غيري مقلة أستعيرها

قال:فقلت يا عيينة إني وردت " الحجاز " بمال جزيل " وطرف وتحف وقماش ومتاع " أريد به أهل الستر، ووالله لأبذلنه أمامك، حتى أعطيك الرضا وفوق الرضا، قم بنا إلى مجلس الأنصار، فقمنا حتى أشرفنا على ملأ منهم، فسلمت فأحسنوا الرد ثم قلت: أيها الملأ ما تقولون في عيينة وأبيه؟ قالوا: خير وابن خير من سادات العرب قلت: إنه قد رمي بداهية من الهوى، وقد نزل بفؤاده رسيس الجوى، وما أريد منكم إلا المعونة إلى السماوة، فقالوا: سمعاً وطاعة، فربكنا وركب القوم معنا حتى أشرفنا على منازل بني سليم بأرجاء خفان من السماوة فقلنا: أين منزل السيد الغطريف قالوا: أمامكم، فسرنا وأعلم الغطريف بنا فخرج مبادراً فاستقبلنا وقال: حييتم بالإكرام، وحبيتم بأفضل الأنعام. فقلنا وأنت حييت وحبيت، إننا لك أضياف قال: نزلتم أفضل منزل، وحللتم أكرم معقل. ثم قال: يا معشر العبيد أنزلوا القوم، ففرشت لنا الأنطاع والنمارق " والزرابي " فنزلنا ثم ذبحت الذبائح، ونحرت النحائر فقلنا: " يا سيد القوم " لسنا بذائقين لك طعاماً حتى تقضي حاجتنا، وتردنا بمسرتنا، قال: وما حاجتكم؟ قلنا: نخطب عقيلتك الكريمة لعيينة بن الحباب بن المنذر الطيب العنصر، الحالي المفخر. فقال: يا أخوتاه إن التي تخطبونها أمرها إلى نفسها، وها أنا أدخل أخبرها. ثم نهض مغضباً فدخل على ريا وكانت كاسمها فقالت: يا أبي ما لي أرى الغضب بيناً عليك؟ فقال لها: ورد الأنصار يخطبونك مني فقالت: سادة كرام، أبطال عظام، استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلمن الخطبة منهم؟ قال لفتى يعرف بعيينة الحباب قالت: تالله لقد سمعت عن عيينة هذا، إنه يفي بما وعد، ويدرك إذا قصد، ويأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد، فقال: أقسم لا أزوجنك أبداً به، فقد نمي إلي بعض حديثك معه، فقالت: ما كان ذلك، ولكن إذا أقسمت فإن الأنصار لايردون رداً قبيحاً، فأحسن لهم الرد قال: بأي شيء قالت: أغلظ لهم في المهر فإنهم يرجعون فلا يجيبون قال: ما أحسن ما قلت، ثم خرج مبادراً فقال: إن فتاة الحي أجابت ولكن أريد لها مهر مثلها، فمن القائم به؟ قال عبد الله بن المعتمر: أنا قل ما شئت، قال: أريد ألف مثقال من الذهب الأحمر، قال: لك ذلك، قال: وأريد خمسة آلاف درهم من ضرب هجر قال: لك ذلك، قال: وأريد مائة ثوب من الابراد والحبر، قال: لك ذلك. قال: وأريد عشرين ثوباً من الوشي المطير قال: لك ذلك، قال: وأريد عقداً من الجوهر، قال: لك ذلك. قال: وأريد خمسة أكرشة من العنبر قال: لك ذلك. قال: وأريد عشرين نافجة من المسك الأذفر قال: لك ذلك. فهل أجبت؟ قال: أجل.
قال فأنفذ عبد الله بن المعتمر نفراً من الأنصار إلى المدينة فأتوا بجميع ما ضمنه، وذبحت الغنم والنعم، واجتمع الناس لأكل الطعام، قال: فأقمنا أربعين يوماً على هذه الحال، ثم قال: خذوا فتاتكم وانصرفوا مصاحبين. ثم حملها في هودج وجهزها بثلاثين راحلة عليها من التحف والطرف شيء كثير، وودعنا وسرنا حتى إذا بقي بيننا وبين المدينة مرحلة واحدة خرجت علينا خيل تريد الإغارة، وأحسب أنها بني سليم فحمل عليها عيينة بن الحباب فقتل منها عدة رجال، وانحرف نحونا راجعاً وبه طعنة تفور دماً، ثم سقط إلى الأرض، وأتتنا النصرة من سكان الأرض فطردوا عن الخيل، وقد قضى عيينة نحبه، فقلنا: واعيينتاه، فسمعتنا الجارية فألقت نفسها عليه، وجعلت تترشفه وتصيح بحرقة وتقول:
تصبرت لا أني صبرت وإنما ... أعلل نفسي أنها بك لاحقة
ولو أنصفت نفسي لكانت إلى الردى ... أمامك من دون البرية سابقة
فما أحد بعدي وبعدك منصف ... خليلاً ولا نفس لنفس بصادقة
ثم شهقت شهقة واحدة فقضت نحبها، فاحتفرنا لهما جدثاً واحداً وواريناهما فيه، ورجعت إلى ديار قومي وأقمت سبع سنين ثم عدت إلى الحجاز، فوردت إلى الزيارة فقلت: والله لأعودن إلى قبر عيينة أزوره فأتيت على القبر فإذا عليه شجرة نابتة عليها عصائب حمر وصفر وخضر، فقلت لأرباب المنزل: ما يقال لهذه الشجرة؟ قالوا: شجرة العروسين، فأقمت عند القبر يوماً وليلة، ثم انصرفت فكان آخر العهد به والسلام.

حكاية

حدث أبو بكر محمد بن علي الماذرائي بمصر قال: كنت أساير أبا الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون بدمشق وقد خرجنا للصيد وأخذنا على نهر ثورا، فبينا نحن نسير إذ تلقاه أعرابي فأخذ بعنان فرسه وأنشده:
إن السنان وحد السيف لو نطقا ... لحدثا عنك بين الناس بالعجب
أفنيت مالك تعطيه وتنهبه ... يا آفة الفضة البيضاء والذهب
فقال أبو الجيش: يا غلام ادفع إليه ما في الخريطة، وكان فيها خمسمائة دينار، فقال: أيها الأمير زدني، فقال أبو الجيش لمن حضر من الغلمان: اطرحوا سيوفكم ومناطقكم عليه فبادر سبعة عشر غلاماً فطرحوا مناطقهم و سيوفهم. فقال: أيها الأمير انقلني، فأمر أن يدفع إليه بغل من بغال الموكب وحمل ذلك معه، وعدنا من الصيد. فما استقر بي مجلسي حتى ودر علي توقيع أبي الجيش خماويه: " تقدم أمتعني الله بك بصياغة سبعة عشر سيفاً وسبع عشرة منطقة ذهباً جيداً للغلمان مكان ما بذلوه، ليتحسر من تأخر من الغلمان على ما فاتهم من ذلك "

حكاية
ركب الفضل بن يحيى يوماً من منزله بالخلد يريد منزله بباب الشماسية فتلقاه فتى من الأبناء مملك، ومعه جماعة من الناس يحملون إملاكه فلما رأى الفتى نزل وقبل يده ولم يكن يعرفه، فسأله عن الصداق فعرف أنه أربعة آلاف درهم. فأمر له بأربعة آلاف درهم صداق زوجته، وأربعة آلاف درهم ثمن منزل يسكنه. وأربعة آلاف درهم للنفقة على وليمته. وأربعة آلاف درهم يستعين بها على العقد الذي عقده على نفسه وانصرف.
حكاية
قيل ركب محمد بن إبراهيم الإمام دين فركب إلى الفضل بن يحيى ومعه حق فيه جوهر فقال له: قصرت بنا غلاتنا، وأغفل أمرنا خليفتنا، وتزايدت مؤنتنا، فلزمنا دين احتجنا إلى أدائه، وهو ألف ألف درهم، وكرهت بذل وجهي للتجار واذالة عرضي بينهم، ولك من يعطيك منهم ما تحب، ومعي رهن يفي بذلك، فإن رأيت أن تأمر بعضهم بقبضه، وحمل المال إلينا فعلت فدعا الفضل بالحق فرأى ما فيه وختمه بخاتم محمد بن إبراهيم ثم قال له: نجح الحاجة إن تقيم اليوم عندي فقال له: إن في المقام علي مشقة. فقال له: وما يشق عليك من ذلك؟ إن رأيت أن تلبس بعض ثيابنا " دعوت به " وإلا أمرت بإحضار ثياب من دارك، فأقام ونهض الفضل، فدعا بوكيله فأمره بحمل المال وتسليمه إلى خادم محمد ابن إبراهيم، وتسليم الحق الذي فيه الجوهر بخاتمه إليه، وأخذ خطه بذلك، ففعل الوكيل ذلك، وأقام محمد عنده إلى المغرب، وليس عنده شيء من الخبر، ثم انصرف إلى منزله فرأى المال، وأحضر الخادم الحق. فغدا على الفضل يشكره فوجده قد سبقه بالركوب إلى دار الرشيد، فوقف منتظراً له على باب الرشيد، فقيل له قد خرج من الباب الآخر، فأتبعه فوجده وقد دخل إلى ابنه فوقف ينتظره فقيل له: قد خرج من الباب الآخر قاصداً إلى منزله، فانصرف عنه، فلما وصل إلى منزله وجه الفضل إليه ألف ألف درهم أخرى، فغدا عليه فشكره وأطال، فأعلمه الفضل أنه بات بليلة طالت غماً بما شكاه، إلى أن لقي الرشيد فأعلمه بحاله، فأمره بالتقدير له، ولم يزل يماسكه إلى أن تقرر الحال معه على ألف ألف درهم وقال: إنه لم يصلك بمثلها قط، ولا زاد على عشرين ألف دينار، فشكرته وسألته أن يصلك بها صكاً بخطه ويجعلني الرسول ففعل، فشكره محمد وقال: صدق أمير المؤمنين إنه لم يصلني قط بأكثر من عشرين ألف دينار وهذا إنما تهيأ بك وعلى يديك، وما أقدر على القيام بحقك، ولا على شكر أجازي به معروفك، غير أن علي وعلي، وحلف أيماناً مؤكدة، إن وقفت على باب أحد سواك، ولا سألت غيرك حاجة أبداً ولو استفقت التراب. فكان لا يركب إلى غير الفضل إلى أن كان من أمرهم ما حدث. فكان بعد ذلك لا يركب إلى غير الرشيد ويعود إلى منزله؛ فعوتب بعد تقضي أيامهم في ترك البيان الفضل بن الربيع. فقال: والله لو عمرت ألف عام ومصصت الثماد ما وقفت بباب أحد بعد الفضل بن يحيى، ولا سألته حاجة أبداً حتى ألقى الله عز وحل. ولم تزل تلك حاله إلى أن مات.
حكاية

قيل لما حج الرشيد ورجع قافلاً نزل الأنبار فدعا صالحاً صاحب المصلى حين تنكر على البرامكة فقال له: أخرج إلى منصور بن زياد فقل له: قد صحت عليك عشرة آلاف ألف درهم فاحملها إلي من يومك هذا فإن هو دفعها إليك كاملة قبل مغيب الشمس من يومك هذا وإلا فاحمل إلي رأسه، وإياك ومراجعتي في شيء من أمره. قال صالح: فخرجت إلى منصور وهو في الدار فعرفته الخبر فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهبت والله نفسي، ثم حلف أنه لا يعرف موضع ثلاثمائة ألف درهم فكيف عشرة آلاف الف درهم، فقال له صالح: خذ في عملك، فقال له: امض بنا إلى منزلي حتى أوصي وأتقدر في أمري، فمضينا، فما هو إلا أن دخل حتى ارتفع الصراخ من منازله وحجر نسائه، فأوصى وخرج وما فيه دم، فقال " صالح " : امض بنا إلى أن أتى يحيى بن خالد فلعل الله يأتينا بفرج من جهته. فمضى معه فدخل على يحيى وهو يبكي، فقال له يحيى: ما وراءك؟ فقص عليه القصة، فقلق يحيى لأمره وأطرق مفكراً، ثم دعا خازنه فقال له: كم عندك من المال؟ قال: خمسة آلاف ألف درهم، قال: أحضرني مفاتيحها فأحضره إياها، ثم وجه إلى الفضل ولده: " إنك كنت أعلمتني، فداك أبوك " أن عندك " ألفي ألف درهم وددت أنك تشتري بها ضيعة، وقد وجدت لك ضيعة يبقى ذكرها وشكرها، وتحمد ثمرتها، فوجه إلينا بالمال، فوجه به ثم قال للرسول: امض إلى جعفر فقل له: ابعث إلي، فداك أبوك، بألف ألف درهم لحق لزمني فوجهها إليه. وقال صالح: هذه ثمانية آلاف ألف درهم، ثم أطال في إطراقه لأنه لم يكن بقي عنده شيء، ثم رفع رأسه إلى خادم له فقال: امض إلى دنانير فقل لها وجهي " إلي " بالعقد الذي كان أمير المؤمنين وهبه لك فجاء به، فإذا عقد " عظيم " كعظم الذراع، فقال لصالح: اشتريت هذا للرشيد بمائة ألف وعشرين ألف دينار، فوهبه الخليفة لدنانير، وقد حسبناه " عليك " بألفي درهم، وهذا تمام المال فانصرف وخل عن صاحبنا لا سبيل لك عليه. قال صالح: فأخذت ذلك ورددت منصوراً معي. فلما صرنا بالباب أنشأ يقول متمثلاً:
فما بقي علي تركتماني ... ولكن خفتما صرد النبال
فقال صالح: ما على الأرض كلها رجل أكرم من رجل خرجنا من عنده، ولا سمعت بمثله فيمن مضى، ولا يكون " مثله " قيمن بقي، ولا على ظهر الأرض رجل أخبث سريرة ولا أردأ طبعاً من هذا النبطي إذ لم يشكر من أحياه. قال: ثم صرت إلى الرشيد فقصصت عليه قصة المال، وطويت عنه. قال منصور لأني خفت إن سمعه أمر بقتله. فقال الرشيد: أما أنا قد علمت أنه إن نجا لم ينج إلا بأهل هذا البيت. وقال: اقبض المال واردد العقد على دنانير فإني لم أك أهب هبة فترجع إلي. قال صالح: فلم أطب نفساً بترك تعريف يحيى ما قال منصور، فقلت: لما رأيته بعد أن أطنبت في شكره ووصف ما كان منه: لقد أنعمت على غير شاكر قابل أكرم فعل بألأم قول قال: وكيف ذلك؟ فأخبرته بما قال " وما كان منه " فجعل والله يطلب له المعاذير ويقول: يا أبا علي إن المنخوب القلب ربما سبقه لسانه بما ليس في ضميره، وقد كان الرجل في حال عظيمة، فقلت: والله ما أدري من أي أمر بك أعجب أمن أوله أم من آخره لكنني أعلم أن الدهر لا يخلف مثلك أبداً.

حكاية

قال القاضي أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي مؤلف كتاب الفرج بعد الشدة في كتابه: حدثني علي بن هشام قال: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى يتحدث قال: سمعت عيد الله بن سليمان بن وهب يقول حدثني أبي قال: كنت وأبو العباس أحمد بن الخصيب مع خلق من العمال والكتاب معتقلين في يدي محمد بن عبد الملك الزيات في آخر وزارته للواثق، واشتد مرض الواثق، وحجب ستة أيام عن الناس، فدخل عليه أبو عبد الله أحمد بن أبي داود قاضي القضاة رحمه الله تعالى فقال له الواثق: يا أبا عبد الله وكان يكنيه: ذهبت مني الدنيا والآخرة، أما الدنيا فما ترى من حضور الموت، وأما الآخرة فما أسلفت من العمل القبيح، فهل عندك من دواء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قد عزل محمد بن عبد الملك جماعة من الكتاب وغرك فيهم، وملأ منهم الحبوس، ولم يحصل من جهتهم على كبير شيء، وهو خلق كثير وراءهم ألف يد ترفع إلى الله عليك، فتأمر بإطلاقهم لترفع أيدي بالدعاء لك، فلعل الله تعالى أن يهب لك العافية فأنت محتاج في هذا الحال إلى أن تقل خصومك. فقال: نعم ما أشرت به، وقع إليه عني بإطلاقهم قال: إن رأى خطي عاند ولج، ولكن يغتنم أمير المؤمنين الثواب ويحمل على نفسه ويتساند ويوقع لهم بخطه، ففعل الواثق ذلك ووقع بخط مضطرب إلى ابن الزيات بإطلاقهم، وإطلاق كل من كان في الحبوس من غير استئمار ولا مراجعة. قال: يا أمير المؤمنين تقدم إلى الحاجب ايتاخ أن يمضي بالتوقيع إليه، ولا يدعه يعمل شيئاً أو يطلقهم، وأن يحول بينه وبين الوصول إليك أو يكتب رقعة أو يشتغل بشيء البتة إلا بعد إطلاقهم، وإن لقيه راكباً في الطريق فينزله عن دابته ويجلسه، حتى ينتهي إلى أمرك. فتقدم الواثق إلى ايتاخ بامتثال ذلك فتوجه، فلقي ابن الزيات راكباً يريد الخليفة، فقال له: تنزل عن دابتك وتجلس على غاشيتك فارتاع وظن أن الحادثة قد وقعت به، فنزل وجلس على غاشيته. فوقفه على التوقيع فامتنع، وقال: إذا أطلقت هؤلاء من أين أنفق الأموال وأقيم الأنزال. فقال: لا بد من ذلك. قال: اركب واستأذنه، فقال: لا سبيل إلى ما ذكرت، قال: فدعني أكاتب، قال: ولا هذا. ولم يدعه يبرح من موضعه حتى وقع بإطلاق القوم عن آخرهم. فصار الحاجب إلينا، ونحن في الحابس أيأس ما كنا من الفرج، وقد بلغنا اشتداد علة الواثق وأرجف لابنه بالخلافة، وكان صبياً، فخفنا أن يتم ذلك فيجعل ابن الزيات للصبي شيخاً ويتولى التدبير فيتلفنا وقد امتنعنا من الطعام والشراب لفرط الغم.
فلما دخل ايتاخ الحبس لم نشك أنه إنما حضر لبلية. فقال: البشارة بالإطلاق، وعرفنا صورة الحال وأطلقنا، فحمدنا الله تعالى، ودعونا لأحمد بن أبي داود والخليفة، وانصرفنا إلى منزلنا. فأقمنا لحظة ثم خرجنا فوقفنا لأحمد ابن أبي داود على طريقه ننتظر عوده من دار الخليفة. فحين رأيناه ترجلنا ودعونا له وشكرناه، فأنكر ذلك وأكبره ومنعنا من الترجل فلم نمتنع، فوقف حتى ركبنا وسايرناه، فأخذ يخبرنا بالخبر ونحن نشكره، وهو يستصغر ما فعل ويقول: " هذا أقل حقوقكم " وستعلمون ما أفعله مستأنفاً، ورجع إلى دار الخليفة عشياً فقال له الواثق: قد تبركت برأيك يا أبا عبد الله ووجدت خفاً من العلة ونشطت وأكلت وزن خمسة دراهم خبزاً بصدر دراج. فقال له يا أمير المؤمنين تلك الأيدي التي كانت تدعو عليك غدوة، قد صارت تدعو لك عشية ويدعو لك بسببهم خلق كثير من رعيتك، إلا أنهم قد صاروا إلى دور خراب، وأحوال قبيحة، بغير فرش ولا كسوة ولا دواب، موتى جوعاً وهزالاً. قال: فما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين تستكمل نعمة الله تعالى عليك، وتكمل نعمتك عند هؤلاء القوم بما تفعله معهم. قال: وما ذك؟ قال في الخزائن والاصطبلات بقايا ما أخذ منهم، فلو أمرت أن ينظر في ذلك، فكل من وجد له شيء باق رد عليه، ويفرج لهم عن ضياعهم ليعيشوا بها، ويخف الإثم، ويتضاعف الدعاء، وتقوى العافية. قال: وقع عني بذلك فوقع عنه، فما شعرنا إلا وقد رجعت علينا نعمنا. ومات الواثق بعد ثلاثة أيام أو أربعة، وفرج الله عنا بابن أبي داود، وبقيت له هذه المكرمة في أعناقنا.

حكاية

قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني إسماعيل بن يونس يرفعه إلى جرير قال: قال يونس الكاتب: خرجت إلى الشام في خلافة هشام بن عبد الملك ومعي جاريتي عاتكة وكنت قد علمتها وهذبتها، وأنا أقدر فيها ما أستغني به، فلما قربنا من دمشق، نزلت القافلة على غدير ماء ونزلت ناحية منها. فأصبت من طعام كان معي وأخرجت ركوة فيها فضلة نبيذ كان معي فشربت، فبينا أنا في تلك الحال إذا فتى حسن الوجه والهيئة على فرس أشقر ومعه خادمان، وعليه ثياب وشي مذهبة فما أدري أوجهه أحسن أم ثيابه أم دابته. فسلم علي وقال أتقبل ضيفاً؟ فقمت وأخذت بركابه، وتحققت أنه من أهل بيت الخلافة ودخلتني له هيبة وإجلال. وقلت: انزل يا سيدي فنزل وقال: اسقنا من شرابك فسقيته. وقال إن سهل عليك أن تغني لي صوتاً فافعل فغنيته:
ليت شعري أأول الهرج هذا ... أم زمان من فتنة غير هرج
فطرب واستعاده ثم قال قل لجاريتك تغني لنا صوتاً فغنت لحني في شعر ابن هرمة
أفاطم إن النأي يسلي ذوي الهوى ... وإن بعادي زادني بكم وجدا

فطرب وشرب واستعاده مراراً حتى صليت العشاء الآخرة فقال لي: ما أقدمك علينا هذا البلد؟ فقلت أردت بيع جاريتي هذه قال: وكم قدرت فيها من الثمن؟ قلت: ما أقضي به ديني وأصلح به حالي، فقال: يقنعك ثلاثون ألفاً! فقلت ما أحوجني إلى فضل الله تعالى والمزيد منه قال: فيقنعك أربعون ألفاً؟ قلت فيها قضاء ديني وأبقى صفراً مجرداً. قال فقد أخذتها بخمسين ألف درهم، ولك بعد ذلك جائزة وكسوة ونفقة لطريقك وأن أشركك في حالي أبداً ما بقيت فقلت قد بعتكها قال: قد قبلت أفتثق بي أن أحمل إليك ذلك غداً وأحملها معي، أم تكون عندك؟ فحملني السكر وهيبته والحشمة منه على أن قلت: نعم قد وثقت بك فخذها، بارك الله لك فيها، فقال: لأحد خادميه: احملها على دابتك وارتدف وراءها وامض بها، وركب فرسه وودعني، فما هو إلا أن غاب عني حتى عرفت موضع خطأي وغلطي وقلت ماذا صنعت بنفسي وجنيت عليها؟ أسلمت جارية إلى رجل لا أعرفه ولا أدري مما هو ولا ما اسمه ونسبه، ولا من أي البلاد هو، وهبني عرفته من أين أصل إليه، وجلست مفكراً حتى أصبحت، فصليت وجلست موضعي ورحل أصحابي ودخلوا دمشق وصهرتني الشمس فترددت بين المقام وبين الدخول. فقلت: إن دخلت لم آمن من أن يجيء رسول الرجل يطلبن فلا يجدني ولا يعرف موضعي، وأكون قد جنيت على نفسي جنانة ثانية، فأقمت ونفذت رحلي مع بعض أهل المدينة، وجلست في ظل جدار هناك. فلما أضحى النهار إذا أحد الخادمين اللذين كانا بالأمس مع الرجل قد أقبل إلي، فما أذكر إنني سررت بشيء سروري بالنظر إليه. فقال لي: أنا منذ الصباح أدور في طلبك في رفقتك. فقبل أن أسأله عن شيء قلت: من صاحبي؟ فقال: ولي العهد الوليد ابن يزيد فسكنت نفسي، ثم قال: قم فاركب، وإذا معه دابة، فركبت ودخلت إليه، فإذا الجارية قد أفرد لها حجرة وهي فيؤها، فأدخلني إليها. فلما رأتني وثبت وسلمت علي، فقلت: ما كان منك؟ قالت: دخل إلى داره وأنزلت ههنا وتفقدت بما أحتاج إليه، وأنا كما ترى بثياب السفر، فجلست عندها، وإذا الخادم قد أقبل فقال: قم، فقمت، وأدخلني إلى صاحبي بالأمس، وهو جالس على سريره، فقال: من تكون؟ فقلت: يونس الكاتب، فقال مرحباً بك، قد كنت والله إليك مشتاقاً، وكنت أسمع بخبرك فكيف كان مبيتك في ليلتك؟ فقلت: بخير أعز الله الأمير. فقال: أما ندمت على ما كان منك البارحة، وقلت دفعت جاريتي إلى رجل لا أعرفه؟ فقلت: أيها الأمير معاذ الله أن أندم ولو أهديتها إلى الأمير، وما قدر هذه الجارية؟ فقال: لكني ندمت على أخذها منك، وقلت: رجل غريب لا يعرفني وقد غممته الليلة، وسفهت رأبي في استعجالي في أخذها. أفتذكر ما كان بيننا بالأمس؟ قلت: نعم، قال: أوقد بعتني الجارية بخمسين ألف درهم؟ قلت: نعم. قال: هات يا غلام المال، فجاء به الغلمان يحملونه ووضعوه بين يديه. قال: هات يا غلام ألف دينار مفرداً فجيء بالكيس فوضعه ثم قال: هات خمسمائة دينار أخرى فجاء بها فوضعها أيضاً ثم قال: هذا مال ثمن جاريتك ضمه إليك. وهذا ألف دينار لحسن ظنك بنا، وهذه خمسمائة دينار لنفقة طريقك وما تبتاعه لأهلك، أرضيت؟ فقبلت يده ورجله وقلت: قد والله ملأت عيني ويدي. قال: يا غلام قدم إليك دابة بسرجها ولجامها لمركوبة وبغلاً لثقله. ثم قال إذا بلغك أن هذا الأمر قد أفضى إلي فزرني، فوالله لأملأن يديك ولأغنينك ما بقيت. فخرجت وتوجهت إلى بلدي. فلما أفضت الخلافة إليه صرت إليه فوفى والله بوعده وزاد، وكنت معه في أيسر حال، وأسنى منزلة، وقد اتسعت أحوالي، واقتنيت من الضياع والأملاك ما أعيش فيه إلى الآن ومن بعدي، ولم أزل معه حتى قتل.

حكاية

قيل كان الأفشين مبغضاً لأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي وحاسداً له على فضله، فحمل نفسه يوماً على قتله واستدعاه باستحثاث وإزعاج، وكان أبو دلف صديقاً لقاضي القضاة أحمد بن أبي داود. فبعث إليه أدركني فمن أمري كذا وكذا. فكرب مسرعاً واستحضر من حضره من الشهود. فلما ورد باب الأفشين قال له الغلمان: نستأذن لك قال: الأمر أعجل من ذلك، ونزل ودخل فألقى الأفشين جالساً في موضعه، وقد أقيم أبو دلف بين يديه في الصحن. فلما رأى الأفشين قاضي القضاة دخل بلا إذن بهت فقال له أحمد بن أبي داود أيها الأمير أنا رسول أمير المؤمنين إليك يأمرك أن لا تحدث في أمر القاسم حدثاً إلا بإذنه. ثم التفت إلى الشهود فقال اشهدوا أني قد بلغت رسالة أمير المؤمنين، والقاسم حي معافى ثم خرج فأتى باب المعتصم مسرعاً،واستأذن عليه فأذن له فلما دخل عليه قال: يا أمير المؤمنين: قد كذبت عليك واحدة أرجو بها الجنة ولك بها الفخر قال وما هي؟ قال كان من الأمر كيت وكيت قال: فضحك المعتصم وقال: أحسنت أحسن الله إليك. ثم لم يلبث أن جاء الأفشين مستأذنا فأذن له، فلما استقر مجلسه قال يا أمير المؤمنين جاءتني رسالة منك مع قاضي القضاة في مغنى أبي دلف فما تأمر في شأنه؟ قال نعم أرسلت إليك فيه فأحذر أن تتعرض له إلا بخير، فأفلت بذلك من يده.

حكاية
حدث القاضي أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي في كتاب الفرج بعد الشدة. حدثني أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني قال: كان محمد بن زيد العلوي الداعي بطبرستان إذا افتتح الخاج نظر ما في بيت المال من خراج السنة التي قبلها، وفرقه في قبائل قريش على دعوتهم وفي الأنصار وفي الفقهاء وأهل القرآن وسائر طبقات الناس، إلى أن يفرق جميع ما بقي فجلس سنة من السنين يفرق مثل ذلك على عادته، فلما بدأ ببني عبد مناف، وقد فرغ من بني هاشم، دعا سائر بني عبد مناف فقال إليه رجل فقال: من أي بني عبد مناف أنت؟ قال من بني أمية، قال من أيهم أنت؟ فسكت قال: لعلك من ولد معاوية؟ قال نعم قال أمن أيهم أنت؟ فسكت قال لعلك من ولد يزيد؟ قال نعم. قال: قال بئس الاختيار اخترت لنفسك، من قصدك " بلدا " ولاية آل أبي طالب وعندك ثأرهم في سيدهم، وقد كانت لك مندوحة عنهم بالشام والعراق عند من يتولى جدك ويحب برك. فإن كنت جئت عن جهل منك بهاذ فما يكون بعد جهلك جهل. وإن كنت جئت مستهزئاً بهم فقد خاطرت بنفسك فنظر إليه العلويون نظراً شديداً فصاح بهم محمد وقال: كفوا عافاكم الله كأنكم تظنون أن في قتل هذا دركاً أو ثأراً للحسنين بن علي، وأي جرم لهذا إن الله تعالى قد حرم أن تطالب نفس بغير ما اكتسبت، والله لا يعرض له أحد إلا أقدته به، واسمعوا حديثاً أحدثكم به يكون لكم قدوة فيما تستأنفون:

حدثني أبي عن أبيه قال: عرض على المنصور سنة حج جوهر فاخر فعرفه وقال: هذا كان لهشام بن عبد الملك، وهذا يعنيه قد بلغني خبره عند ابنه محمد، وما بقي منهم أحد غيره. ثم قال للربيع: إذا كان غداً وصليت بالناس في المسجد الحرام، وحصل الناس فيه فأغلق الأبواب ووكل بها ثقاتك من الشيعة وأقفلها، وافتح للناس باباً واحداً منها، وقف عليه فلا يخرج أحد إلا من قد عرفته. فلما كان من غد فعل الربيع ذلك، وتبين محمد بن هشام القصة، وعلم أنه هو المطلوب وإنه مأخوذ فتحير. وأقبل محمد بن زيد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب على أثر ذلك فرآه متحيراً وهو لا يعرفه فأنكر أمره وقال له. يا هذا أراك متحيراً متلدداً فمن أنت ولك أمان الله تعالى التام العام وأنت في ذمتي حتى أخلصك بعون الله تعالى قال: أنا محمد بن هشام بن عبد الملك فمن أنت؟ قال أنا محمد بم زيد بن علي بن الحسين قال: فعند الله أحتسب نفسي، إذ قال: لا بأس عليك يا ابن عم، فإنك لست قاتل زيد ولا في قتلك إدراك ثأره، وأنا الآن بخلاصك أولى مني بإسلامك، ولكن تعذرني فيما أتناولك به من مكروه وقبيح خطاب أخاطبك به يكون فيه خلاصك، بمشيئة الله تعالى. فقال: يا سيدي أنت وذاك، فطرح رداءه على رأسه ووجهه ولببه به وأقبل يسحبه، فلما وقعت عين الربيع عليه لطمه لطمات، وجاء به إلى الربيع، وقال يا أبا الفضل إن هذا الخبيث جمال من أهل الكوفة أكراني جماله ذاهباً وعائداً وقد هرب مني في هذا الوقت، وأكرى لبعض القواد الخراسانية، ولي عليه بذلك شهود، فتضم إلي حرسيين يصيران به معي إلى القاضي ويمنعان الخراساني من اعتراضه إن اعترضنا، فضم إليه الربيع حرسيين وقال امضيا به معه بعد من المسجد قال له: يا خبيث أتؤدي إلي حقي؟ قال نعم يا ابن رسول الله، فقال للحرسيين: انصرفا في حفظ الله تعالى فانصرفا. فلما بعدا أطلقه، فقبل محمد بن هشام رأسه وقال: بأبي أنت والله وأمي، فالله أعلم حيث يجعل رسالاته ثم أخرج جوهراً له قدر عظيم فدفعه إليه وقال: تشرفني يا سيدي بقبول هذا مني، قال: اذهب بمتاعك يا ابن عم، فإنا أهل البيت لا نقبل على المعروف مكافأة، وقد تركت لك دم زيد وهو أعظم قدراً من متاعك، فانصرف راشداً ووار شخصك عن هذا الرجل إلى أن يخرج، فإنه مجد في طلبك، فمضى وتوارى.
قال ثم أمر محمد بن زيد الداعي " بطبرستان " للأموي بمثل ما أمر به لسائر بني عبد مناف، وضم إليه جماعة من مواليه، وأمرهم أن يخرجوه إلى الري ويأتوه بكتابه بسلامته، فقام الأموي فقبل رأسه ومضى معهم حتى بلغ مأمنه وجاؤوه بكتاب بسلامته.

حكاية
قال أبو القاسم بن المعمر الزهري: كنت أسير مع يحيى بن خالد وهو بين ابنيه الفضل وجعفر، فإذا أبو الينبغي واقف على الطريق فناداني يا زهري فاستشرفت له فقال:
صحبت البرامك عشراً ولاء ... وبيتي كرا وخبزي شرا
قال: فسمعه يحيى فالتفت إلى الفضل وجعفر وقال: أف لهذا الفعل، أبو الينبغي ممن يحاسب؟ فلما كان الغد جاءني أبو الينبغي فقلت: ويحك ما هذا الذي عرضت نفسك له. فقال: أسكت ما هو إلا أن انصرفت إلى منزلي حتى جاءني من قبل الفضل بدرة ومن قبل جعفر بدرة، ووهب لي كل واحد منهما داراً، وأجرى علي من مطبخه ما يكفيني.
حكاية
قيل عرض محمد بن الجهم داراً له للبيع بخمسين ألف درهم، فلما حضر الشهود ليشهدوا قال: بكم تشترون مني جوار سعيد بن العاص، وكانت الدار في جوار سعيد بن العاص فقالوا: وإن الجوار ليباع، فقال: وكيف لا يباع جوار من إن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتداك، وإن أسأت إليه أحسن إليك. قال: فبلغ ذلك سعيداً فوجه إليه بمائة ألف درهم، وقال له: امسك عليك دارك.
حكاية

حدث إبراهيم بن المهدي قال: خلا جعفر بن يحيى يوماً في منزله وحضر ندماؤه وكنت فيهم: فتضمخ بالخلوق ولبس الحرير، وفعل بنا مثل ذلك، وتقدم إلى الحاجب يحفظ الباب إلا من عبد الملك بن نجران كاتبه. فوقع في أذن الحاجب عبد الملك دون ابن نجران ومضى صدر من النهار، وبلغ عبد الملك بن صالح بن علي الهاشمي عم الرشيد مقام جعفر في منزله فركب إليه، فلما وصل دار جعفر وجه الحاجب إليه أن قد حضر عبد الملك فقال: يؤذن له، وهو يضن أنه كاتبه، فدخل عبد الملك بن صالح في سواده " ورصافيته " يرفل، على جلالته وورعه، ونبيه قدره وأدبه فلما رآه جعفر اسود وجهه، وعظم ذلك وارتاع له. وكان عبد الملك لا يشرب النبيذ، وكان ذلك سبب موجدة الرشيد عليه، لأنه كان يلتمس منادمته فيأبى عليه. فوقف عبد الملك على ما رأى من جعفر، فدعا غلامه فناوله سواده وعمامته وسيف، وأقبل حتى وقف على باب المجلس " الذي نحن فيه " فسلم وقال: " أشركونا في أمركم " افعلوا بنا ما فعلتم بأنفسكم، فدنا منه خادم فألبسه الحرير وضمخه بالخلوق، ثم جلس ودعا بطعام فأكل، ودعا بنبيذ فأتي ركل فشربه وقال لجعفر: والله ما شربته قط قبل اليوم فليخفف عني فدعا برطلية فجعلت بين يديه، وجعل كلما فعل شيئاً من ذلك سري عن جعفر، فلما أراد الانصراف قال له: جعفر: جعلني الله فداك، قد تطولت وساعدت، فسل حاجتك فما تحيط مقدرتي بمكافأة ما كان منك اليوم، إن في قلب أمير المؤمنين علي هناة فأسأله الرضا عني قال: قد رضي عنك أمير المؤمنين " وزال ما عنده منك " قال: وعلي أربعة آلاف ألف درهم تقضى عني، قال: إنها لك من لك من عندي حاضرة، ولكن أجعلها من مال أمير المؤمنين فإنه أنبل لك وأحب إليك. قال: وإبراهيم ولدي أحب أن أشد ظهره بصهر " من ولد " الخلافة. قال: قد زوجه أمير المؤمنين ابنته العالية قال: وأحب أن يخفق على رأسه لواء، قال: قد ولاه أمير المؤمنين مصر. وانصرف عبد الملك ونحن متعجبون من إقدام جعفر على قضاء الحوائج من غير استئذان وقلنا لعله أن يجاب إلى ما سأل من الحوائج، فكيف التزويج، هل يطلق لجعفر أو لغيره ذلك فلما كان من الغد غدونا فوقفنا على باب الرشيد، ودخل جعفر فلم يلبث أن دعي أبو يوسف القاضي ومحمد بن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك ابن صالح ثم خرج إبراهيم والألوية بين يديه وقد خلع عليه، وزوج العالية ابنة الرشيد، وكتب سجله على مصر، وحملت البدر إلى منزل عبد الملك. وخرج جعفر فأشار إلينا بأتباعه إلى منزله فلما عدنا إلى دار جعفر قال: تعلقت قلوبكم بأول أمر عبد الملك فأحببتم على آخره: إني لما دخلت على أمير المؤمنين؛ وقمت بين يديه، ابتدأت أحدثه القصة من أولها إلى آخرها فجعل يقول: حسن والله حسن والله، حتى أتممت خبره وما أحببته به فجعل يقول في كل ذلك: أحسنت أحسنت فكان ما رأيتم. قال إبراهيم بن المهدي؛ فوالله ما أدري أيهم أكرم وأعجب فعلاً، ما ابتدأه عبد الملك بن صالح من المساعدة وشرب الخمر وغير ذلك، وكان رجل جد " وتعفف ووقار وناموس " أم إقدام جعفر على الرشيد بما أقدم. أم إمضاء الرشيد جميع ما حكم به جعفر عليه.؟

حكاية

قيل كان بين غسان بن عبادة وبين علي بن عيسى القمي وقعة أدت إلى عداوة، وكان علي بن عيسى ضامناً أعمال الخراج والضياع ببلده، فبقيت عليه بقية مبلغها أربعون ألف دينار، فألح المأمون في قتضائه إياها، ومطالبته بها إلى أن قال لعلي بن صالح حاجبه: طالب علي بن عيسى بما بقى عليه، وأنظره ثلاثة أيام، فإن أحضر المال قبل انقضائها وإلا فاضربه بالسياط، حتى يؤديها أو يتلف. فانصرف علي بن عيسى من دار المأمون آيساً من نفسه، إذ كان لا يعرف وجهاً يخلصه من المال، فقال له كاتبه: لو عرجت على غسان بن عباد وخبرته خبرك لرجوت لك أن يعينك على أمرك. فقال له: على ما بيني وبينه؟ قال: نعم، فإن الرجل أريحي كريم. فحملته الحالة التي هو عليها على قبول ذلك من كاتبه فدخلا على غسان فقام إليه وتلقاه بالقبول ووفاه حقه. فقال له علي بن عيسى: الحال التي بيني وبينك لا يوجب لي ما أبديت من كرمك فقال: ذلك بحسب أمر تقع المنافسة عليه والمضايقة فيه، والذي بيني وبينك دعه بحاله، ولدخولك داري حرمة توجب لك على بلوغ ما رجوته عندي، فاذكر إن كانت لك حاجة. فقص عليه كاتبه القصة. فقال: أرجو أن يكفيه الله تعالى، ولم يزد على هذا شيئاً فنهض علي بن عيسى وخرج " من عنده " آيساً " من خيره " نادناً على قصده غسان على ما بينهما وقال لكاتبه لما خرج: ما أفدتني بقصد غسان، وإلزامي الدخول عليه إلا تعجيل الشماتة والهوان وعساه أن يجد بذلك " السبيل " إلى التشفي بي. فلم يصر علي بن عيسى إلى داره حتى حضر إليه كاتب غسان ومعه البغال عليها المال، فبلغه سلامه، وقال: قد حضر المال، فتقدم بتسليمه، وبكر على دار أمير المؤمنين من غد فبكر علي بن عيسى فوجد غسان " قد سبقه إليها " ودخل على المأمون ومثل بين الصفين. وقال: يا أمير المؤمنين إن لعلي بن عيسى حرمة وخدمة، وسالف أصل ولأمير المؤمنين إليه إحسان هو ولي ربه وحفظه. وقد لحقه من الخسران والجائحة في ضمانه مما قد تعارفه الناس. وقد خرج أمير المؤمنين بالاشتداد عليه في المطالبة وتوعده من ضرب السوط بمال يتلف نفسه، ما أطار عقله وأذهب لبه وأدهشه عن الاضطراب في الخلاص، والاحتيال فيما عليه، مع عدم القدرة على ذلك، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجريني على حسنى عادات كرمه عندي، فيشفعني فيه ببعض ما عليه، فهي صنيعة يجددها عندي تحرس ما تقدم من إحسانه، وتضاعف وجوب الشكر عليها، والاعتداد بسبوغ نعمه بها. ولم يزل بلطف به بهذا ونحوه إلى أن حط النصف مما عليه، واقتصر منه على عشرين ألف دينار. فقال غسان: على أن يجدد أمير المؤمنين عليه الضمان، ويضرفه يخلع تقوي نفسه، وترهف عزمه ويعرف بها مكان الرضى عنه. فأجابه المأمون إلى ذلك. قال: فأذن لي أمير المؤمنين أن أحمل الدواة إلى حضرته ليوقع بما رآه من هذا الإنعام، فيبقى شرف حملها علي وعلى عقبي من بعدي. فقال: افعل، فحمل الدواة وأحضرها فوقع المأمون له بما التمس، وخرج علي بن عيسى بالخلع عليه، والتوقيع بيده فلما حصل في داره حمل من المال عشرين ألف دينار وأعادها على غسان وشركه على جميل فعله معه، فقال لكاتبه: كأنني شفعت إلى أمير المؤمنين ليعيد إلي المال؟ ولم استحطه ذلك إلا ليتوفر عليه وينتفع به، وليس يعود إلي منه شيء أبداً. وأعاد المال إليه وكان ذلك سبب صلاح ما بينهما. وعرف علي بن عيسى قدر ما فعله معه غسان فلم يزل يخدمه إلى آخر العمر.

حكاية

حدث القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي في كتابه قال: حدثني الصولي قال: حدثني محمد بن القاسم بن خلاد قال: رفع بعض العمال إلى المعتصم، وكان قد تولى من الخراج والحرب ما كان يتولاه خالد بن يزيد )بن مزيد( وذلك أن خالد بن يزيد اقتطع الأموال واحتجز بعضها، فغضب المعتصم، وحلف ليأخذن أموال خالد وليعاقبنه وينفيه، فلجأ خالد إلى أحمد بن أبي داود القاضي، فاحتال حتى جمع بينه وبين خصمه فلم يقم على خالد حجة، فعرف ابن أبي داود القاضي المعتصم بذلك، وشفع إليه في خالد فلم يشفعه وأحضر خالداً وأحضر له آلات العقوبة، وكان قبل ذلك قبض أمواله وضياعه، وصرفه عن العمل. وحضر ابن أبي داود المجلس فجلس دون مجلسه الذي كان يجلس فيه، فقال له المعتصم: ارتفع إلى مكانك، فقال: يا أمير المؤمنين ما أستحق إلا دون هذا المجلس، قال: وكيف؟ قال الناس يزعمون أنه ليس محلي محل من يشفع في رجل قذف بما ليس فيه، ولم يصح عليه منه شيء فلم يشفع. قال: فارتفع إلى موضعك قال: مشفعاً أو غير مشفع قال: بل مشفعاً قد وهبت لك خالداً ورضيت عنه. قال: إن الناس لا يعلمون بهذا قال: قد رددت إليه جميع ما قبض منه من ضياعه وأمواله قال فامر بفك قيوده واخلع عليه، ففعل ذلك قال: يا أمير المؤمنين قد استحق هو أصحابه رزق ستة أشهر، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجعلها صلة له. قال: لتحمل معه فخرج خالد وعليه الخلع والمال بين يديه والناس ينظرون الإيقاع به فلما رأوه على تلك الحال سروا وصاح به رجل: نحمد الله على خلاصك يا سيد العرب. فقال: مه بل سيد العرب والله ابن أبي داود الذي طوقني هذه المكرمة التي لا تنفك من عنقي أبداً.

حكاية
قيل كان فتى من ذوي النعم قعد به زمانه وكانت له جارية حسناء محسنة في الغناء، فضاق بهما الخناق، واشتدت بهما الحال في عدم ما يقتاتان به. فقال لها: قد ترين ما قد صرنا إليه من هذه الحالة السيئة ووالله لموتي وأنت معي أهون علي مما أذكره لك ويسؤني أن أراك على غير الحال التي تسرني " فيك " ، ونهاية أمرنا أن تحل بأحدنا منيته فيقتل الآخر نفسه عليه. فإن رأيت أن أبيعك لمن يحسن إليك، فيغسل عنك ما أنت فيه وأتفرج أنا بما " لعله " يصير إلي من الثمن، ولعلك تحصلين عند من تتوصلين إلى نفعي معه. فقالت: والله لموتي معك على هذي الحال، آثر عندي من انتقالي إلى غيرك، ولو كان ملكاً، ولكن اصنع ما بدا لك. قال: فخرج وعرضها للبيع فأشار عليه أحد أصدقائه ممن له رأي بحملها إلى عمر بن عبيد الله بن معمر، وكان أميراً بالعراق. قال: فحملها إليه فلما عرضت عليه استحسنها، وقال لمولاها: كم كان شراؤها عليك؟ قال: مائة ألف درهم، وقد أنفقت عليها مائة ألف دينار. قال: أما ما أنفقت عليها فغير محتسب لك به لأنك أنفقتها في لذاتك. وأما ثمنها فقد أمرنا لك بمائة ألف درهم وعشرة أسفاط ثياب وعشرة أروس من الخيل، وعشرة من الرقيق، أرضيت؟ قال: نعم أرضى الله الأمير. وأمر بالمال فأحضر وأمر قهرمانته بإدخال الجارية إلى دار الحرم، فأمسكت بجانب الستر وبكت وقالت:
هنيئاً لك المال الذي قد أفدته ... ولم يبق في كفي غير التحسر
أقول لنفسي وهي في كرباتها ... أقلي فقد بان الحبيب أو أكثري
إذا لم يكن للأمر عندك حيلة ... ولم تجدي بدأً من الصبر فاصبري
فأجابها مولاها يقول:
ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري
أروج بهم من فراقك موجع ... أناجي به قلباً قليل التصبر
عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فقال ابن معمر: قد شئت فخذها بارك الله بك فيها، وفيما صار مني إليك، فأخذها وأخذ المال والخيل والرقيق والثياب، وعاد وقد أثرى وحسنت حاله.
حكاية

حدث موسى بن الحسين بن زياد قال: كان محمد بن أوس يتعشق غرس جارية عيناء ابنة مطهر الصاغاني وكانت لا تخرج في اليوم والليلة إلا بخمسة دنانير. وكان إذا استدعاها وخرجت إليه اقتطعها شهراً أو أكثر، فحجبتها عنه في بعض الأوقات، واحتجت عليه بكسوة الشتاء فكتب إليها رقعة يسألها إنقاذها، ووعدها أن يكلم الوزير في أمر أرزاقه لتبلغ محبوبها. وكتب رقعة أخرى إلى الوزير عبيد الله بن يحيى ابن خاقان وخرج باكراً مغلساً ليلقى الوزير بالرقعة. فغلط بين الرقعتين فحمل على كمه الرقعة التي كتبها إلى عيناء. فلما رأى الوزير ذهب ليترجل فمنعه من ذلك، فسلم ودفع الرقعة إليه، فدعا عبيد الله بالشمع فأدني منه، وقرأ الرقعة في الطريق واستدعى أحمد بن العباس وساره، وقال: خذ هذه الرقعة فاعمل بما فيها. وأوحى إليه بشيء سراً، فمضى إلى عيناء فابتاع الجارية منها وابتاع لها وصيفة بمائة دينار وكسوة بثلاثمائة دينار، وصار بالجميع إلى منزل محمد بن أوس. وقد كان الوزير أمسكه إلى وقت الطعام فتغدى معه وجلس للشراب. قال أحمد بن العباس: فلما حصلت ما أمرني له أتيته فقال لي الوزير: ما صنعت فيما أمرتك به؟ فقلت: قد أنجزته. فقال: لمحمد بن أوس: صر إلى منزلك فإن الغلام يلقاك. فلما دخل منزله لقيته الجارية منبسطة مقبلة عليه غير محتشمة ولا منقبضة، وكانت في مدة عشقه لها تمنعه من الدنو لها فجرى على عادته تلك في الإمساك عنها، وترك مقاربتها، لما كان يعرفه منها. فقالت: لا تنقبض فما لي اليوم منك امتناع، وأنا اليوم ملك يديك. قال: وما القصة؟ فأخبرته بما كان من أحمد بن العباس عن أمر الوزير. فعجب من ذلك ولم يعرف سببه ثم فكر في الرقعة فقام لينظر الرقعة الأخرى فألفى التي كتبها إلى الوزير باقية فعلم أنه غلط بين الرقعتين، فركب إلى دار الوزير واستأن عليه ليعتذر إليه فأنفذ إليه: أنت الليلة عروس اذهب فأقم في عرسك سبعة أيام، ثم صر إلينا بعد ذلك. فعاد إلى داره وأقام مع الجارية أياماً، وأنفذ إليه عبيد الله توقيعاً بأرزاقه، وقد زاد فيها ورفع مرتبته، فسار إليه بعد ذلك وشكره على ما كان منه إليه.

حكاية
قيل كان أوس ابن حارثة المري رئيساً مسوداً نبيلاً عالي الهمة وله أخبار كثيرة فمن أحسنها ما رواه أبو الفرج الشلحي عن ابن حاتم عن الأصمعي، قال: حدثنا أبو عمرو بن العلاء عن أشياخه قال: جلس النعمان ابن المنذر يوم نعيمه في حلة مذهبة مطوقة بالدر لم ير أحسن منها، وأذن للعرب فدخلوا عليه، وكان فيهم أوس بن حارثة بن لام الطائي. قال: فجعلت وجوه العرب تعجب من حسن الحلة ويتحدث بعضها إلى بعض، وأوس بن حارثة مطرق، فقال: النعمان: ما أرى فيمن دخل إلي إلا من استحسن هذه الحلة على نقصان قدرها عندي غيرك يا أوس. فقال:

أيها الملك أسعدك إلاهك، وساعدك زمانك. إنما تستحسن هذه إذا كانت في يد تاجرها، وأما إذا كانت على الملك، وتهلل وجهه المشرق فيها، فالأبصار مقصورة عليه دونها، فاسترجح عقله واستحسن ما أتى به، فعرض للنعمان خالد بن بشر بالتماسها. فقال النعمان: أنا أفكر ليلتي وأدفعها غداً إلى من أرى أنه سيد العرب، فانصرفوا وكل طامع مهموم. فلما كان من غد تزينت وجوه العرب وغدت إلى باب النعمان، تسحب أذيالها وتنظر في أعطافها، وكل يرى أنه صاحب الحلة، وتأخر أوس بن حارثة. فقال له أصحابه: ما لك لا تغدو إلى دار الملك فلعلك تكون المسود في العرب بأخذها فيتم فخرك: فقال أوس: يا سبحان الله إن كنت سيد قومي فلست بسيد طبقات العرب عند نفسي، وإنما وعد الملك أن يدفع الحلة إلى سيد العرب ولست أعرفه مني ولا من غيري، إلا أن الملك أولى برأيه. فإن أنا حضرت ولم آخذها انصرفت منقوصاً مهموماً، وإن كنت المطلوب فسيرسل إلي، فأمسكوا عنه مستعجزين لرأيه. قال: ونظر النعمان في وجوه الجماعة ففقد أوساً فوقع له ما فكر فيه. فاستدعى بعض بطانته وأنفذه كالمتعرف خبره من غلمانه، فأعيد عليه ما قال. فأعاده على النعمان فقال: امض إليه وقل له الملك يستبطئك على تأخرك، واستدعه فحضر يومه ذاك في الثوب الذي حضر فيه أمسه. وكانت وجوه العرب سرت بتأخره ولاستشعارها أن الملك كان يدفع إليه الحلة لو حضر. فلما أخذ مجلسه من حضرة النعمان رفعه وقدمه ثم مد يده إليه وقال: أراك لم تغير ثوبك في يومك فالبس هذه الحلة لتتجمل بها بين من تجمل من أصحابك، فلبسها، فحسدته وجوه العرب وقالوا ليس يخفض رافعته غير الهجاء وليس له مثل جرول، فكلموا جرولاً فقال: لا سبيل عندي إليه وكيف أهجو رجلاً حسيباً لا ينكر بيته كريماً لا يغب عطاؤه، فاضلاً لا يطعن على رأيه، شجاعاً لا يصطلى بناره، محسناً لا أرى في بيتي شيئاً إلا من أفضاله. ثم قال:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
قال: فسمع بشر بن أبي خازم " أحد بني أسد بن خزيمة " بذلك فرغب في البذل وعزم أن يهجوه فجعلوا له ثلاثمائة بعير أو شبيهاً بها فهجاه. فوجه أوس إلى أبله التي استعجلها وما كان له قبلها، فطردها وحصلها عنده، وطلبه ليقتله فهرب من يده، وجعل يطلب عزيزاً يستجير به فلا يقصد أحداً إلا قال له: أجيرك من كل الناس إلا من أوس بن حارثة، فإني ما أحب عداوته. فبينا هو يدور وقد أذكى أوس العيون عليه، إذ رآه بعض من كان يرصده فقبض عليه وحمله إلى أوس. فلما حصل في يد مشاور أمه سعدى فيه، وكان قد هجاها فأكثر. وقال أي قتلة تحبين أن أقتله؟ قالت: كلا والله يا أوس إن قتلته ليثبتن قوله كالنقش في الصخر، وليس يمحو هجاءه عنك إلا مديحه لك، فامنن عليه واطلقه، واردد عليه ما أخذ له. فعلم أن الصواب ما أشارت به، وأحضره وقال له: ما ترى إني صانع بك؟ قال: تقتلني. قال: أنت مستحق لذلك مني لكن سعدى رقت لك واشارت علي فيك بامر وأنا فاعله، ثم أمر به. ففك عنه ورد عليه إبله وزاد عليها من عنده، وكساه وحمله، وقال له: انصرف إلى أهلك راشداً. قال: فرفع بشريده وطرفه إلى السماء ثم قال: اللهم اشهد على بشر أنه لا يمدح أحداً غير أوس بن حارثة ما مددت له في العمر. قال: فمدحه بعدة قصائد هي ثابتة في ديوانه. ومن قوله:
إلى أوس بن حارثة بن لأم ... ليقضي حاجتي فيمن قضاها
إذا ما راية رفعت لمجد ... أقاموها ليبلغ منتهاها
فما وطي الحصا مثل ابن سعدى ... ولا لبس النعال ولا احتذاها

حكاية

ذكر عبد الله بن منصور قال: كنت يوماً في مجلس الفضل بن يحيى فأتاه الحاجب فقال: إن بالباب رجلاً قد أكثر في طلب الإذن، وزعم أن له يداً يمت بها، قال: أدخله، فدخل رجل جميل الوجه رث الهيئة. فأحسن السلام، فأومأ إليه بالجلوس فجلس فلما علم أنه قد انطلق وأمكنه الكلام قال له: ما حاجتك؟ قال له: قد أعربت عنها رثاثة هيئتي وضعف طاقتي. قال: أجل. فما الذي تمت به؟ قال ولادة تقرب من لادتك، وجوار يدنو من جوارك، واسم مشتق من اسمك. قال الفضل: أما الجوار فقد يمكن أن يكون كما قلت، وقد يوافق الاسم الاسم، ولكن ما علمك بالولادة؟ قال: أعلمتني أمي أنها لما وضعتني قيل لها أنه ولد الليلة ليحيى بن خالد غلام وسمي الفضل، فسمتني فضيلاً إعظاماً لاسمك أن تلحقني به " وصغرته لقصور قدري عن قدرك " ، فتبسم الفضل وقال: كم أتى عليك من السنين قال: خمس وثلاثون سنة قال: صدقت هذا المقدار الذي أعد لنفسي قال: فما فعلت أمك؟ قال: توفيت رحمها الله قال: فما منعك من اللحوق بنا فيما مضى؟ قال: كانت في عامية وحداثة تقعد بي عن لقاء الملوك، قال: يا غلام أعطه لكل عام مضى من سنيه ألفاً، وأعطه من كسوتنا ومراكبنا ما يصلح به، فلم يخرج من الدار إلا وقد طاف به أخوته وخاصة أهله.

حكاية
يروى أن رجلاً جاء إلى عبيد الله بن العباس وهو بفناء داره فقام بين يديه فقال: يا ابن العباس إن لي عندك يداً وقد احتجت إليها، فصعد فيه بصر وصوبه فلم يعرفه. ثم قال له: ما يدك عندنا فإني لا أثبتك؟ قال رأيتك واقفاً بزمزم، وغلامك يمتح لك من مائها، والشمس قد صهرتك، فظللنك بطرف إزاري حتى شربت قال أجل إني لأذكر ذلك، وإنه ليتردد بين خاطري وفكري. ثم قال لقيمه: ما عندك؟ قال مائتا دينار وعشرة آلاف درهم قال: ادفعها كلها إليه وما أراها تفي بحق يده عندنا. فقال له الرجل: والله لو لم يكن لإسماعيل ولد غيرك لكان فيك ما كفاه، فكيف وقد ولد سيد الأولين والآخرين محمداً صلى الله عليه وسلم ثم " شفعه " بك وبأبيك.
حكاية
قيل كان لعمرو بن دوسرة أخ قد كلف بابنة عمه كلفاً شديداً وكان أبوها يكره ذلك ويأباه، فشكاه إلى خالد بن عبد الله القسري وهو يومئذ على العراق، وذكر أنه يسيء جواره وسأله حبسه فحبسه ثم سئل خالد فيه فأطلقه، فلبث الفتى مدة كافا عن ابنة عمه ثم زاد ما به غلبه فرط الشوق، فحمل نفسه على أن تسور دار عمه ليرى ابنته، فنذر به وقبض عليه، وأتي به خالداً وادعى عليه السرقة، وأتى بجماعة يشهدون أنهم وجدوه في علو داره ليلاً، فسأله خالد فاعترف الفتى بالسرقة ليدفع الظنة عن ابنة عمه، فعزم خالد على قطع يده. فكتب أخوه رقعة ودفعها إلى من أولها إلى خالد وكان فيها:
أخالد قد أوطئت والله عشوة ... وما العاشق المظلوم فينا يسارق
أقر بما لم يجنه غير أنه ... رأى القطيع أولى من فضيحة عاشق
ولو لا الذي قد خفت من قطع كفه ... لألفيت في أمر الفتى غير ناطق
إذا بدت الغايات في السبق للعلى ... ابن عبد الله أول سابق
فأرسل خالد مولى له يوثق به ليكشف حاله ويقف على حقيقة الأمر فأتاه بالصحيح من أمر الغلام، فأحضر عمه وألزمه بتزويج الجارية من ابن عمها فامتنع وقال ليس هو كفؤاً لها. فقال: بلى والله إنه لفوق الكفؤ إذ بذل يده عنها. ولئن لم تزوجه لأزوجنها منه وأنت كاره. فزوجها أبوها وساق خالد المهر عنه من ماله وأمره بلزومه لينفعه فلزمه، وكان الفتى يسمى العاشق إلى أن مات.
حكاية

وعن واقد بن محمد الواقدي قال: حدثنا أبي أنه رفع رقعة إلى المأمون يذكر فيها كثرة الدين وقلة صبره عليه فوقع المأمون على ظهر رقعته: " إنك لرجل اجتمع فيك خصلتان سخاء وحياء، فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يدك، وأما الحياء فهو الذي يمنعك تبليغنا ما أنت فيه، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم، فإن كنت قد أصبحت فازدد في بسك يدك، وإن لم أكن أصبت فجنايتك على نفسك فأنت حدثتني، وكنت على قضاء الرشيد، عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير بن العوام: " يا زبير " علم أن أرزاق العباد بإزاء العرش، يبعث الله تعالى إلى كل عبد بقدر نفقته، فمن كثر كثر له ومن قلل قلل له، وأنت أعلم " . قال الواقدي: فوالله لمذاكرة المأمون إياي الحديث أحب إلي من الجائزة. " ومن مئة ألف " .

حكاية
وصح أن أبا طالب بن كثير كان شيعياً فقال له رجل: بحق علي بن أبي طالب إلا ما وهبت لي نخيلك بموضع كهذا. قال: قد فعلت وحقه لأعطينك ما يليها. وكان ذلك أضعاف ما طلب الرجل.
حكاية
ذكر بعض الرواة أن معاوية ابن أبي سفيان أهدى إلى عبيد الله بن العباس، وهو عنده بالشام، من هدايا النيروز حللاً كثيرة ومسكاً وآنية من ذهب وفضة، ووجهها مع حاجبه. فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب وهو ينظر إليها فقال: هل في نفسك منها شيء؟ قال: نعم والله إن في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف، فضحك عبيد الله وقال: فشأنك بها فهي لك. قال: جُعلت فداك أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيجد علي. قال فاختمها بخاتمك وادفعها إلى الخازر فإذا حان خروجنا حملها إليك ليلاً. قال الحاجب: والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم، ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه - يعني معاوية - فظن عبيد الله أنها مكيدة منه فقال: دع عنك هذا الكلام فإنا قوم نفي بما وعدنا، ولا ننقض ما أكدنا.
حكاية
قيل كان أبو مزيد أحد الكرماء فمدحه أحد الشعراء فقال للشاعر: والله ما عندي ما أعطيك ولكن قدمني إلى القاضي وادَّعِ علي بعشرة آلاف درهم أقر لك بها ثم احبسني فإن أهلي لا يتركونني محبوساً ففعل ذلك، فلم يمس حتى دفعت إليه عشرة آلاف درهم وأُخرج أبو مزيد من الحبس.
حكاية
وكان معن بن زائدة عاملاً على العراقين بالبصرة فحضر بابه شاعر فأقام مدة يريد الدخول عليه فلم يتهيأ له. فقال يوماً لبعض خدمه: إذا دخل الأمير البستان فعرّفوني. فلما دخل أعلمه فكتب الشاعر بيتاً من الشعر على خشبة فألقاها في الماء الذي يدخل بستان معن، وكان معن جالساً على رأس الماء فلما بصر بالخشبة أخذها وقرأها فإذا فيها مكتوب:
أيا جود معن ناج معناً بحاجتي ... فما لي إلى معن سواك سبيل
فقال: من صاحب هذا؟ فدعي بالرجل فقال: كيف قلت؟ فأنشده البيت، فأمر له بعشر بدر فأخذها ووضع الأمير الخشبة تحت بساطه، فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط وقرأ ما فيها. دعا بالرجل فدفع له مائة ألف درهم أخرى، وكذلك في اليوم الثالث. فلما أخذها منه الرجل تفكر وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه. فخرج " فتوجه إلى حال سبيله " فلما كان في اليوم الرابع قرأ ما فيها ودعا بالرجل فطلب فلم يوجد فقال معن: حق علي أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت المال درهم ولا دينار.
حكاية
قيل أنفذ هارون الرشيد إلى مالك بن أنس رضي الله عنه خمسمائة دينار فبلغ ذلك الليث بن سعد فأنفذ إليه ألف دينار، فغضب الرشيد وقال: أعطيه خمسمائة دينار وتعطيه أنت ألف دينار، وأنت من رعيتي فقال: يا أمير المؤمنين إن لي في كل يوم من غلتي ألف دينار، فاستحييت أن أعطي مثله أقل من دخل يوم. وحكي أنه لم تجب عليه زكاة قط، مع أن دخله ألف دينار في كل يوم.
حكاية
دخل سعيد بن خالد على سليمان بن عبد الملك، وكان رجلاً جواداً، فإذا لم يجد شيئاً كتب لمن يسأله الصكاك على نفسه حتى يخرج عطاؤه. فلما نظر إليه سليمان تمثل بهذا البيت:
إني سمعت مع الصباح منادياً ... يا من يعين على الفتى المعوان
ثم قال: حاجتك؟ قال ديني قال: كم هو؟ قال ثلاثون ألف دينار قال: لك دينك ومثله.
حكاية

وقيل مرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ إخوانه، فقيل أنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة. ثم أمر منادياً فنادى من كان لقيس عليه حق فهو منه في حل فكسرت درجته " بالعشي " لكثرة من عاده.

حكاية
قال الشيخ أبو سعيد " الخركوشي النيسابوري سمعت " محمد بن محمد الحافظ يقول سمعت " الشافعي يقول: كان بمصر رجل عرف بأن يجمع للفقراء فولد لبعضهم ولد. قال: فجئت إليه وقلت: ولد لي مولود وليس معي شيء فقام معي، ودخل على جماعة فلم يفتح عليه بشيء. فجاء إلى قبر رجل يعرفه وجلس عنده وقال: رجمك الله كنت تفعل وتصنع، وإني درت اليوم وطلبت جماعة في شيء لمولود فلم يتفق لي شيء. ثم قام وأخرج ديناراً فكسره نصفين وناولني نصفه وقال: هذا دين عليك إلى أن يفتح الله لك بشيء، فأخذته وانصرفت وأصلحت ما اتفق لي به. فرأى " المحتسب " ، تلك الليلة " ذلك الشخص صاحب القبر في منامه وهو يقول: قد سمعت جميع ما قلت، وليس لنا إذن في الجواب. ولكن احضر منزلي وقل لأولادي يحفرون مكان الكانون ويخرجون قربة فيها خمسمائة دينار فاحملها إلى هذا الرجل. قال: فلما كان من الغد، تقدم إلى منزل الميت وقص القصة فقالوا له: اجلس وحفروا الموضع وأخرجوا الدنانير وجاءوا بها فوضعوها بيد يديه فقال: هذا ما لكم وليس لرؤياي حكم. فقالوا: هو يتسخى ميتاً ونحن لا نتسخى أحياء، والله لا تمسكنا منها بشيء. فلما ألحوا عليه حمل الدنانير إلى الرجل صاحب المولود وذكر له القصة. قال: فأخذ منها ديناراً فكسره نصفين فأعطاه النصف الذي أقرضه وحمل النصف الآخر، وقال: يكفيني هذا، تصدق بها على الفقراء قال: أبو سعيد فلا أدري أي هؤلاء أسخى الميت أم السائل أو أولاده؟
حكاية
وروي أن الشافعي لم مرِض مرَض موته قال: مُروا فلاناً بغسلي. فلما توفي بلغه خبر وفاته فحضر وقال: ايتوني بتذكرته فأُتي بها فنظر فيها فإذا على الشافعي رضي الله عنه سبعون ألف درهم فكتبها على نفسه " وقضاها عنه " ، وقال: هذا غُسلي إياه أي أنه إنما أراد هذا.
حكاية
وقال الشافعي رحمه الله: لا أزال أحب حماد بن أبي سليمان لشيء بلغني عنه، " ذلك " أنه كان يوماً راكباً حماراً له فحركه فانقطع زره، فمر على خياط فأراد أن ينزل إليه يسوي زره. فقال الخياط: والله لا نزلت، وقام إليه وسوى زره، وهو راكب، فأخرج إليه صرة فيها عشرة دنانير، فسلمها إلى الخياط واعتذر إليه من قلتها.
حكاية
عن الربيع بن سليمان أنه قال: أخذ رجل بركاب الشافعي رضي الله عنه فقال: يا ربيع أعطه أربعة دنانير واعتذر إليه عني.
حكاية
ويروى أن طلحة الطلحات خرج في يوم صائف فأصابه الحر فعطش، فنظر إلى دار لها فناء حسن، وظل ممدود، فعدل إليها، وجلس ثم استسقى ماء، فخرجت إليه جارية نظيفة بيدها إناء نظيف فيه ماء بارد، فشرب وقال: يا جارية ما أنظفك وأنظف ما معك، فقالت: جُعلت فداك إن أهلي علموا بموضعك فثوقوا فيما أنفذوه إليك. فعجب من عقلها وكرهم أهلها وسأل عن رب الدار فقيل أنه مختف من دين ركبه، وأن الدار رهن عند غريمه في ألف دينار، فأرسل إلى الرجل فاستخرجه، وبعث إلى الغريم فدفع إليه ماله، ورد على الرجل داره وأجزل صلته، وقال متى مسك من دهرك بؤس فاقصدنا فأنا معينك على دهرك.
حكاية
وقال الربيع: سمعت الحميدي يقول: قدم الشافعي رحمه الله من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار فضرب خِباءه في موضع خارج من مكة ونثر الدنانير على ثوب ثم أقبل على كل من دخل عليه يقبض قبضة ويعطيه حتى صلى الظهر، ونفض الثوب وليس عليه شيء.
حكاية
قال محمد بن عباد المهلبي: دخل أبي على المأمون فوصله بمائة ألف درهم فلما قام من عنده تصدق بها فأُخبر بذلك المأمون فلما عاد إليه عاتبه في ذلك فقال: يا أمير المؤمنين منع الجود من سوء الظن بالمعبود، فوصله بمائتي ألف أخرى.
حكاية

وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي، ومعي شيء من ماء، وأنا أفول إن كان به رمق أسقيته، ومسحت به وجهه. فإذا أنا به فقلت: أَسقيك ماء فأشار أي نعم. فلما هم أن يشرب إذا برجل يقول: آه آه، فأشار ابن عمي أن أنطلق به إليه " قال فجئته " ، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك. فسمعني آخر فقال: آه آه، فأشار هشام أن أنطلق به إليه فجئته. فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.

حكاية
ودخل رجل على سالم بن قتيبة الباهلي يكلمه في حاجة فوضع نصل سيفه على إصبع سالم واتكأ عليه. وجعل يكلمه في حاجته وقد أدماه، وسالم صابر فلما فرغ الرجل من حاجته وخرج دعا سالم بمنديل فمسح الدم عن إصبعه وغسله، فقيل له: هلا نحّيت رجلك أصلحك الله أو أمرته برفع سيفه عنه؟ فقال: خشيت أن أقطعه عن حاجته.
حكاية
وذكر خزيم بن أبي يحيى المزني أن الرشيد دعاه يوماً ليأكل معه فلما توسط الأكل رفع رأسه إلى رجل يكلمه بالفارسية. قال فقلت: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد أن تسر إليه فإني أفهم الفارسية، فأمرني أن أتنحى ليتقدم إليه بما يريد، فأعجب الرشيد كرم أخلاقه وصدقه وخاطب ذلك الرجل سراً بما أراد وأمر لخزيم بصلة سنية.
حكاية
ذكر أن عبيد الله بن العباس أتاه سائل وهو لا يعرفه فقال له. تصدق علي بشيء فإني نُبئت أن عبيد الله بن العباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر إليه فقال: وأين أنا من عبيد الله فقال: أين أنت منه في الحسب أم في الكرم؟ قال: فيهما جميعاً، قال: أما الحسب في الرجل فمروءته وفعله، وإذا شئت فعلت " وإذا فعلت " كنت حسيباً. فأعطاه ألفي درهم واعتذر إليه من ضيق نفقته. فقال له السائل: إن لم تكن عبيد الله بن العباس فأنت خير منه، وإن كنت إياه فأَنت اليوم خير منك أمس فأعطاه ألفاً أخرى فقال له السائل: هذه هزة كريم حسيب، والله لقد نقرت حبة قلبي فأفرغتها في قلبك، فما أخطأت إلا باعتراض السر من جوانحي.
حكاية
" من ملح ما ذكر في حفظ السر وكتمانه ما " حدث " به " أبو سفيان الحميري وصالح بن سليمان قللا: أراد الوليد بن يزيد الحج فاتّعد قوم من وجوه الشام أن يثبوا به فأتوا خالد بن عبد الله القسري ليكون معهم فأبى عليهم قالوا: فتكتم علينا، قال: أما هذا فنعم. فمشى خالد القسري إلى خالد بن الوليد ين يزيد فقال له: قل لأمير المؤمنين يدع الحج في عامه هذا، فقال: ولم؟ قال: أخاف عليه، فأعلم خالد أباه فأحضره. وقال: أحقاً ما يقول خالد عنك يا خالد؟ قال نعم قال: أعده علي فأعاد قوله. فقال: ومن هؤلاء الذين تخافهم عليّ فسمِّهم؟ قال: لا أفعل قال: لتقولن قال: لا أقول قال: إذاً أبعث بك إلى يوسف بن عمر قال: وإن فعلت. فبعث به إلى يوسف فعذَّبه إلى أن مات، ولم يسم القوم ولا أحداً منهم.
حكاية
قيل لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى والي البصرة أن يحضر إياس بن معاوية المزني والقاسم بن ربيعة الجوشني ولينظر أنفذهما في الحكم فليقلده إياه فلما وقف على الكتاب استدعاهما وقرأه عليهما فقال له إياس اسأل عني وعنه فقيهي المصر الحسن وابن سيرين، وكان القاسم صديقاً لهما، ففطن لما قصد إياس. فقال: أيها الأمير لا تسأل عني وعنه أحداً، واسمع مني ومنه، قال: قل، قال: والله الذي لا إله إلا هو، وحلف يميناً مستوفاة جامعة لمعاني الحلف، إن إياس بن معاوية لأصلح للحكم مني وأنفذ فيه، فإن كنت عندك صادقاً فقلده " بيميني " وإن كنت عندك كاذباً فما يحل لك أن تقلد الحكم بين المسلمين من يبارز الله بمثل هذه اليمين كاذباً. فقال إياس: لا تسمع منه أيها الأمير فإنك جئت به إلى شفير جهنم، فافتدى نفسه أن يقع فيها بيمين حلفها كاذباً يكفر عنها ويستغفر الله منها وينجو " مما كان " فقال له الأمير: أوليس قد فطنت أنت لها يا إياس؟ وقلده الحكم بين الناس.
حكاية

لما حضرت عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الوفاة دعا بنيه، وكانوا أحد عشر ابناً وكان عنده مَسلمة بن عبد الملك، ولم يخلِّف غير بضعة عشر ديناراً فأمر أن يكفن ويشرى له موضع يدفن فيه بخمسة دنانير ويفض الباقي على ورثته. فأصاب كل ابن نصفاً وربع دينار. فقال: يا بني ليس لي مال فأوصي فيه، ولكني قد تركتكم وما لأحدٍ قِبَلكم تَبعة، فلا تقع عين أحد منكم على أحد إلا ويرى له عليكم حقاً. قال له مسلمة: أَوَ خير من ذلك يا أمير المؤمنين. قال: وما هو، قال: هذه ثلاثمائة ألف دينار فرِّقها فيهم، وإن شئت فتصدق بها. قال: أَوَ خير من ذلك يا مسلمة قال: وما هو؟ قال تردها إلى من أخذتها منه، فإنها ليست لك بحق، فقال له مسلمة: رحمك الله يا أمير المؤمنين حياً وميتاً، فقد ألنت منا قلوباً قاسية، وذكرتها وإن كانت ناسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكراً، فيقال أنه ما روئي قط أحد من أولاد عمر بن عبد العزيز إلا وهو غني. ولقد شوهد أحدهم وقد جهز من خالص ماله مائة فارس على مائة فرس في سبيل الله.
ولما حضر هشام بن عبد الملك الوفاة خلف أحد عشر ابناً كما خلف عمر فأَوصى فأصاب كل واحد من البنين ألف ألفِ دينار. فيقال أنه لم يُرَ أحد منهم قط إلا وهو فقير، وقد شوهد أحدهم وهو يوقد في أتون الحمام على ملء بطنه.

حكاية
حدث أحمد بن موسى قال: قال الربيع: ما رأيت رجلاً أربط جأشاً ولا أثبت جناناً من رجل رفع عليه إلى أمير المؤمنين المنصور أن عنده ودائع وأموالاً لبني أمية. فأمرني بإحضاره، فأحضرته ودخلت به إليه. فقال له المنصور: قد رفع إلينا خبر الودائع والأموال " التي عندك " لبني أمية فاخرج إلينا منها. فقال: يا أمير المؤمنين أوارث أنت لبني أمية؟ قال: لا قال: فوصي لهم في أموالهم ورباعهم؟ قال: لا. قال: فما مسألتك عما في يدي من ذلك؟ فأطرق المنصور ساعة ثم رفع رأسه إليه وقال: إن بني أمية ظلموا المسلمين فيها، وأنا وكيل المسلمين في حقهم، وأريد أن آخذ ما ظلموا فيه المسلمين فأجعله في بيت مالهم. فقال: يا أمير المؤمنين تحتاج إلى إقامة البينة العادلة على أن ما في يدي لبني أمية مما خانوا وظلموا فيه دون غيره، فقد كان لنبي أمية أموال غير أموال المسلمين. قال: فأطرق المنصور ساعة ثم رفع رأسه إليه وقال: صَدَق يا ربيع ما يجب على الشيخ شيء. ثم قال: هل لك من حاجة؟ فقال: حاجتي يا أمير المؤمنين أن تنفذ كتابي على البريد إلى أهلي ليسكنوا إلى سلامتي، فإنهم قد راعهم أشخاصي وقد بقيت لي حاجة أخرى يا أمير المؤمنين، قال: وما هي؟ قال: تجمع بيني وبين من سعى بي إليك، فوالله ما لبني أُمية في يدي مال ولا وديعة، ولكني لما مثلت بين يديك، وسألتني عما سألتني عنه، علمت ما ينجيني منك إلا هذا القول، لما اشتهر من عدلك، فقلت: إن ذلك أقرب إلى الخلاص والنجاة. فقال: يا ربيع اجمع بينه وبين من سعى به فجمعت بينهما فعرفه، فقال: هذا غلامي سرق علي ثلاثة آلاف دينار من مال وأبق مني " وخاف من طلبي له فسعى بي عند أمير المؤمنين، قال " فشد المنصور على الغلام " وخوفه " فأقر أنه غلامه وأنه أخذ له المال الذي ذكره وأبق منه، وأنه سعى به كذباً عليه وخوفاً من أن يقع في يده، فقال المنصور للشيخ: نسألك أن تصفح عنه قال: قد صفحت عنه وعن جرمه وأعتقته ووهبت له الثلاثة آلاف التي أخذها وثلاثة آلاف أخرى. فقال له المنصور: ما على ما فعلته مزيد. قال: بل هذا حق كلامك يا أمير المؤمنين وانصرف. فكان المنصور يتعجب منه كلما ذكره ويقول: ما رأيت مثل ذلك الشيخ يا ربيع.
حكاية
قيل أقام رجل على باب معن مدة لا يصل إليه، فلما طال مقامه كتب إليه رقعة فيها:
فما في يدك الخير يا معن كله ... وفي الأرض أسباب وفيها مذاهب
ستأتي بنات العمر ما أنت صانع ... إذا فتشت عن الإياب الحقائب
ووكل من يوصلها إليه وسار فلما وصلت إليه وقرأها أمر برده وقال: والله ليفتشن عن خير كثير، وأمر فملئت حقيبته دراهم.
حكاية
قال بعض العرب خرجت في بعض الليالي السود فإذا بجارية كأنها صنم فراودتها عن نفسها، فقالت: يا هذا ما لك زاجر من عقل إذا لم يكن لك زاجر من دين؟ فأخجلني كلامها، فقلت إنما كنت مازحاً، فقالت:
وإياك إياك المزاح فإنه ... يطمّع فيك الطفل والرجل النذلا

ويذهب ماء الوجه بعد حيائه ... ويورث بعد العز صاحبه ذلا

حكاية
يروى أن رجلاً من الأنصار جاء إلى عبد الله بن العباس فقال له: يا ابن عم رسول الله إنه ولد لي في هذه الليلة مولود وإني سميته باسمك تبركاً به وإن أمه ماتت فقال عبد الله: بارك الله لك في الصبية وأجزل لك في الصبر على المصيبة، ثم دعا بوكيله فقال: انطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تحضنه وادفع إليه مائتي دينار للنفقة على تربيته ثم قال للأنصاري: عد إلينا بعد أيام فإنك جئتنا وفي العيش بؤس، وفي المال قلة قال الأنصاري: جُعلت فداك لو سبقت حاتماً بيوم واحد ما ذكرته العرب أبداً، ولكنه سبقك فصرت تالياً، وأنا أشهد أن عفوك. أكثر من جوده، وطلّ كرمك أكثر من وبله.
حكاية
قال خرج رجلان من المدينة يريدان عبد الله بن عامر بن كُريز للوفادة عليه. أحدهما من ولد جابر بن عبد الله الأنصاري، والآخر من ثقيف. وكان عبد الله عاملاً بالعراق لعثمان بن عفان رضي الله عنه. فأقبلا يسيران حتى إذا كانا بناحية البصرة قال الأنصاري للثقفي: هل لك في رأي رأيته؟ قال اعرضه. قال: ننيخ رواحلنا ونتوضأ ونصلي ركعتين نحمد الله عز وجل فيهما على ما قضى من سفرنا. قال: نِعم هذا الرأي الذي لا يُردّ. قال: ففعلا ثم التفت الأنصاري إلى الثقفي فقال له: يا أخا ثقيف ما رأيك؟ قال وأي موضوع رأي هذا، قضيت سفري، وأنضيت بدني وأتعبت راحلتي، ولا مؤمل دون ابن عامر فهل لك من رأي غير هذا؟ قال: نعم، قال: وما هو؟ قال إنني لما صليت، فكرت فاستحييت من ربي أن يراني طالب رزق من عند غيره. ثم قال: اللهم رازق ابن عامر ارزقني من فضلك، ثم ولى راجعاً إلى المدينة. ودخل الثقفي إلى البصرة فمكث على باب ابن عامر أياماً، فلما أُذن له، دخل عليه، وكان كُتب إليه بخبرهما، فلما رآه رحب به وقال: أَلم أُخبر أن ابن جابر خرج معك؟ فأخبره ما كان منهما، فبكى ابن عامر وقال: والله ما قالها أشِراً ولا بطراً، ولكن رأى مجرى الرزق ومخرج النعمة، فعلم أن الله هو الذي فعل ذلك، فسأله من فضله. ثم أمر الثقفي بأربعة آلاف درهم وكسوة وطرف وأضعف ذلك للأنصاري، فخرج الثقفي وهو يقول:
أمامة ما سعي الحريص بزائد ... فتيلاً ولا عجز الضعيف بضائر
خرجنا جميعاً من مساقط رؤوسنا ... على ثقة منا بجود ابن عامر
فلما أنخنا الناعجات ببابه ... تأخر عني اليثربي ابن جابر
وقال ستكفيني عطية قادر ... على ما يشاء اليوم للخلق قاهر
فإن الذي أعطى العراق ابن عامر ... لربي الذي أرجو لسد مفاقري
فلما رآني قال ابن جابر؟ ... وحن كما حنت ضراب الأباعر
فأضعف عبد الله إذ غاب شخصه ... على حظ لهفان من الحرص فاغر
حكاية
قال خرج على الرشيد بعض الخوارج، فأنهض إليه جيشاً فظفر به، فلما دخل عليه قال: ما تريد أن أصنع بك؟ قال الذي تريد أن يصنع الله بك إذا وفقت بين يديه، فأطرق الرشيد ملياً ثم رفع رأسه وأمر بإطلاقه فلما خرج قال بعض من حضر: يا أمير المؤمنين يقتل رجالك، ويفني أموالك، وتطلقه بكلمة واحدة، تأمل هذا الأمر فإنه يجري عليك أهل الشر، فأمر برده فلما مثل بين يديه علم أنه قد شنع به عنده. فقال: أمير المؤمنين لا تطعهم فيّ، فلو أطاع الله عز وجل فيك ما استخلفك لحظة واحدة، فأمر بإطلاقه وقال: لا يعاود " ني أحد " في شأنه.
حكاية
قيل أتى معن بن زائدة بأسرى فعرضهم على السيف. فقال له بعضهم: نحن أسراك أيها الأمير ونحن نحتاج إلى شيء من الطعام، فأمر لهم بذلك، فأتي بأنطاع فبسطت وأتي بالطعام. فقال لأصحابه: أمعنوا في الأكل ومعن ينظر إليهم ويتعجب منهم، فلما فرغوا من أكلهم قام فقال أيها الأمير قد كنا قبلُ أسراك ونحن الآن أضيافك، فانظر ماذا تصنع بأضيافك. فعفى عنهم وخلى سبيلهم. فقال له بعض من حضر ما ندري أيها الأمير أي يوميك أشرف يوم ظفرك أو يوم عفوك!
حكاية
قال روح بن مقاتل: لما زُفت بوران بنت الحسن بن سهل إلى المأمون كتبت إليه حظيته عريب تقول:
أنعم، تخطتك عيون الردى ... بزف بوران مع الدهر
بيضة خدر لم يزل نجمها ... بنجم مأمون الورى يجري
حتى استقر الملك في حجرها ... بورك في ذلك من حجر

يا سيدي لا تنس عهدي وما ... أطلب شيئاً غير ما تدري
فوقفت بوران على الرقعة وقالت: قد عرفت ما تريد، ثم قالت: يا أمير المؤمنين أنعم بالأذن في زفها إليك، فهو والله مكافأتها على شعرها.
فقال: ذلك إليك ففعلت فزفت معها، وسر المأمون بما اجتمع له من الألفة بين زوجته وحظيته.

حكاية
سعيد بن مسلم الباهلي. قال: قدم على الرشيد أعرابي من باهلة، وعليه جبة حبر ورداء يمان، قد شده على وسطه ثم ثناه على عاتقه، وعمامة قد عصبها على خديه، وأرخى لها عذبة من خلفه؛ فقعد بين يدي الرشيد فقال له سعيد: يا أعرابي خذ في شرف أمير المؤمنين فاندفع في شعره، فقال له الرشيد: يا أعرابي أسمعك محسناً، وأذكرك فهماً، فقل لنا بيتين في هذين. يعني محمد الأمين وعبد الله المأمون ابنيه وهما حوله. فقال: يا أمير المؤمنين: أطلعتني على الوعر القردد، ولزحتني عن السهل الجدجد روعة الخلافة وبهر الدرجة ونفور القوافي عن البديهة فارددني تتألف لي نوافرها، وتسكن روعتي. قال: قد فعلت، وجعلت اعتذارك بدلاً من امتحانك فقال يا أمير المؤمنين نفست الخناق وأرسلت الميدان للسباق ثم أنشأ يقول:
بنيت بعبد الله ثم محمد ... درى قبة الإسلام فاخضر عودها
هما طنباها بارك الله فيهما ... وأنت أمير المؤمنين عمودها
فقال له الرشيد: وأنت يا أعرابي بارك الله فيك، فسل ولا تكن مسألتك دون إحسانك. قال " مائة ناقة " يا أمير المؤمنين، فأمر له بمائة ناقة وسبع خلع.
حكاية
قالوا دخل عمارة بن حمزة على المنصور فقعد في مجلسه فقام رجل فقال: مظلوم يا أمير المؤمنين، قال: من ظلمك؟ قال: عمارة غصبني ضيعتي، فقال المنصور: قم يا عمارة فاقعد مع خصمك. فقال: ما هو لي بخصم يا أمير المؤمنين. قال وكف ذلك؟ قال: إن كانت الضيعة له فلست أُنازعه فيها، وإن كانت لي فهي له، ولا أقوم من مجلس قد شرفني به أمير المؤمنين، ورفعني إليه، وأقعد في أدنى منه بسبب ضيعة!
حكاية
قيل لما تفرق الأمر على مروان الجعدي وأيقن بزوال ملكه وغلبه بنو هاشم عليه، قال لعبد الحميد بن يحيى كاتبه: أني قد احتجت أن تكون مع عدوي، وتظهر لهم الغدر في، فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إليك يدعوهم إلى حسن الظن بك، فإن استطعت أن تنفعني في حياتي وألا تعجز عن حفظ حرمتي بعد وفاتي. فقال عبد الحميد: إن الذي أمرتني به أنفع الأمرين لك وأقبحهما بي. وما عندي إلا الوفاء حتى يفتح الله لك أو أُقتل معك ثم قال:
أُسر وفاءً ثم أُظهر غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره
حكاية
حدث عمر بن شَبَّة، قال: وفد مطيع بن إياس على يزيد بن جرير ابن عبد الله القسري وقد مدحه بقصيدته التي أولها:
أمِنْ آل ليلى حرمت البكورا ... ولم تلق ليلى فتشفي الضمرا
وقد كنت دهرك فيما خلا ... ليلى وجارات ليلى زؤرا
إلى أن يقول في مديحه فيها:
تقول ابنتي إذا رأت رحلتي ... وقربت للبين عيساً وكورا
إلى من أراك، وقتك الحتو ... ف نفسي، تجشمت هذا المصيرا؟
فقلت إلى الفحل الذي ... يفك الأسير ويغني الفقيرا
أخي العرب أشبه عند الندى ... وحمل المثين أباه جريرا
إذا استكثر المجتدون القلي؟ ... ل للمعتفين استقل الكثيرا
إذا عسر الخير في المجتدي؟ ... ن كان لديه عتيداً يسيرا
وليس بمانع ذي حاجة ... ولا خاذل من أتى مستجيرا
بنفسي أقيك أبا خالد ... إذا ما العداة أغاروا النحورا

فلما بلغ يزيد خبر قدومه دعا به ليلاً ولم يعلم أحد بحضوره. ثم قال له: قد عرفت خبرك وإني معجل جائزتك ساعتي هذه، فإذا حضرت غداً فإني سأخاطبك مخاطبة فيها جفاء، وأزودك نفقة طريقك وأصرفك لئلا يبلغ أبا جعفر المنصور خبري فيهلكني. وأمر له بمائتي دينار وصرفه فلما أصبح أتاه فاستأذنه في الإنشاد فقال له: يا هذا لقد رميت بأملك غير مرمى، وفي أي شيء أنا حتى تنتجعني الشعراء؟ لقد أسأت إليّ لأني لا أستطيع تبليغك محبتك، ولا آمن سخطك وذمك. فقال له: تسمع ما قلت فإني أقبل ميسورك، وأبسط عذرك، فاستمع منه كالمكره. فلما فرغ قال لغلامه: يا غلام كم يبلغ ما بقي من نفقتك؟ قال: ثلاثمائة درهم، قال أعطه مائة درهم لنفقة طريقه، ومائة درهم ينصرف بها إلى أهله، واحتبس لنفقتك مائة درهم، ففعل الغلام ذلك، وانصرف مطيع عنه شاكراً، ولم يعرف أبو جعفر خبرهما.

حكاية
قال الأصمعي: قصدت في بعض الأيام رجلاً كنت أغشاه لكرمه فوجدت على بابه بواباً فمنعني من الدخول إليه. ثم قال: والله يا أصمعي ما أوقفني على بابه لأمنع متك الدخول إليه إلا رقة حاله، وقصور يده، فكتبت رقعة أقول فيها:
إذا كان الكريم له حجاب ... فما فضل الكريم على اللئيم
ثم قلت له: أوصل رقعتي هذه إليه ففعل. فعادت الرقعة وقد وقع على ظهرها:
إذا كان الكريم قليل مال ... تستر بالحجاب عن الغريم
وأرسل مع الرقعة صرة فيها خمسمائة دينار. فقلت والله لأتحفن أمير المؤمنين بهذا الخبر، " فما مر بي مثله " فجئت إليه، فلما رآني قال لي: من أين يا أصمعي؟ قلت: من عند رجل أكرم الأحياء حاشا أمير المؤمنين. قال: ومن هو؟ قلت: رجل قراني علمه وماله. ثم دفعت إليه الرقعة والصرة " وأوعدت عليه الخبر فلما رآى الصرة اربد وجهه " فقال: هذا ختم بيت مالي، ولا بد لي من الرجل الذي أدفعها إليك. فقلت: والله يا أمير المؤمنين إني لأستحي أن أروعه برسلك، فقل لبعض خواسه: امض مع الأصمعي فإذا أراك الرجل فقل له: أجب أمير المؤمنين من غير إزعاج ولا إظهار شدة. قال: فلما حضر الرجل بين يدي أمير المؤمنين قال: أما أنت بالأمس الذي وقفت بموكبنا وشكوت إلينا رقة حالك وأن الزمان قد أناخ عليك بكلكله؟ فدفعنا إليك هذه الصرة لتصلح بها حالك، فقصدك الأصمعي ببيت شعر واحد فدفعتها إليه. فقال: والله ما كذبت فيما شكوته لأمير المؤمنين من رقة الحال، وصعوبة الزمان، لكني استحييت من الله أن أعيد قاصدي إلا كما أعادني أمير المؤمنين. فقال أمير المؤمنين: لله أنت فما ولدت العرب أكرم منك، ثم أمر له بألف دينار. قال الأصمعي: فقلت ألحقني يا أمير المؤمنين فتبسم، وأمر أن تكمل لي ألف دينار وأعاد الرجل من جملة ندمائه.
حكاية

حدث صالح بن علي الأضخم " وكان من وجوه الكتاب قال: طالت بي " العطلة وبلغ بي ذلك أعظم الحاجة فبكرت يوماً إلى أحمد ابن أبي خالد الوزير لأعلمه بخلل أحوالي وأسأله لم شعثي. فخرج من بابه وبين يديه الشمع قاصداً دار المأمون. فلما نظر إلي أنكر بكوري وعبس في وجهي وقال: في الدنيا أحد بكر هذا البكور ليشغلنا " عن أمورنا " . فقلت ليس العجب منك أصلحك الله فيما لقيتني به، إنما العجب مني إذ سهرت ليلي وأسهرت جميع أهلي ترقباً للصبح حتى أصير إليك في صلاح أحوالي بعد وقوع الاختيار عليك فيما أؤمله عندك. لكن علي وعلى " وحلف بأيمان البيعة " إن وقفت لك بباب أو سألتك حاجة حتى تصير إلي معتذراً مما لقيتني به، وانصرفت مغموماً مفكراً فيه، نادماً على ما فرك مني من اليمين، آيساً من الفرج لاستبعاد مجيء الوزير إلي، واعتذاره لي، راجعاً باللوم على نفسي، فإني كذلك إذ دخل علي بعض الغلمان، فقال إن الوزير أحمد بن أبي خالد أخذ في شارعنا، ثم دخل آخر فقال: إنه دخل دربنا، ودخل ثالث فقال: إنه قرب من بابنا فدخل آخر فقال: قد دخل دارنا فخرجت مستقبلاً له فلما استقر به المجلس قال لي: كان أمير المؤمنين قد أمرني بالبكور إليه في بعض مهماته فدخلت إليه وقد بلغ بي السهر والغم بما فرط مني إليك حتى أنكر حالي فقصصت عليه القصة. فقال: قد أسأت إلى الرجل ولا عليك أن تعتذر إليه، قلت: فامضي إليه فارغ اليد قال فتريد ماذا؟ فقلت: تقضي دينه فقال: وكم ذلك؟ فقلت ثلاثمائة ألف درهم فأمرني بالتوقيع لك بها. فقلت: يا أمير المؤمنين إذا قضى دينه فيرجع إلي ماذا، قال وقع له بثلاثمائة ألف أخرى يصلح بها حاله. قلت: فولاية يشرف بها، قال: وله أو غيرها مما يشبهها قلت: فمعونة يستعين بها على سفره فأمر أن يوقع لك بمائة ألف درهم، وهذه التوقيعات كلها لك بكل ذلك ونثرها من كمه وانصرف.

حكاية
قيل نذر المهدي دم رجل من أهل الكوفة، وكان يسعى في فساد دولته، وجعل لمن دل عليه أو جاء به مائة ألف درهم فأقام الرجل حيناً متوارياً ثم أنه ظهر بمدينة السلام فبينا هو يمشي في بعض نواحيها إذ بصر به رجل من أهل الكوفة فعرفه فأخذ بمجامع ثيابه وقال: هذا بغية أمير المؤمنين. فبينا الرجل على تلك الحال إذ سمع وقع الحوافر من ورائه فالتفت فإذا معن بن زائدة. فقال: يا أبا الوليد أجرني أجارك الله فوقف وقال للرجل الذي تعلق به: ما شأنك قال: بغية أمير المؤمنين الذي نذر دمه، وأعطى لمن دل عليه مائة ألف درهم. فقال: يا غلام انزل عن دابتك واحمل الرجل عليها فصاح المتعلق به ياللناس: أيحال بيني وبين طلبة أمير المؤمنين. فقال له معن: اذهب وأخبره أنه عندي. فانطلق الرجل إلى باب المهدي فأخبر الحاجب فدخل إلى المهدي فأخبره، فأمر بإحضار معن، فأتته الرسل فدعا أهل بيته ومواليه وقال لا يصل هذا الرجل شر وفيكم عين تطرف ثم سار إلى المهدي فدخل وسلم، فلم يرد عليه السلام، قال: يا معن أتجير علي قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ونعم أيضاً واشتد خضبه فقال يا أمير المؤمنين قتلت في طاعتكم باليمن في يوم واحد خمسة عشر ألفاً، إلى أيام كثيرة قد تقدم بلائي وحسن غنائي، فما رأيتموني أهلاً أن يوهب لي رجل واحد استجاربي. فاطرق المهدي طويلاً ثم رفع رأسه وقد سري عنه. وقال: قد أجرنا من أجرت يا معن. قال معن: فإن رأى أمير المؤمنين أن يصله فيكون قد أحياه وأغناه. قال: قد أمرنا له بخمسين ألف درهم. قال: يا أمير المؤمنين إن صلات الخلفاء تكون على قدر جنايات الرعية، وإن ذنب الرجل عظيم، فاجزل له الصلة. قال: قد أمرنا له بمائة ألف درهم قال: فعجلها له يا أمير المؤمنين، فإن الخير أعجله فأمر بتعجيلها له. فانصرف معن بالمال إلى الرجل، وقال له: خذ صلتك والحق بأهلك وإياك ومخالفة خلفاء الله تعالى.
حكاية
قال أبو عبد الله النديم: لقد رأيت الملوك في مقاصيرها ومجامعها فما رأيت أغزر أدباً من الواثق، خرج علينا ذات يوم وهو يقول: لعمري لقد عرض عرضه من عرضه لقول الخزاعي
خليلي ماذا أرتجي من غد امرئ ... طوى الكشح عني اليوم وهو مكين
وإن امرأ قد ضن عني بمنطق ... يسد به فقر امرئ لضنين

فانبرى إليه أحمد بن أبي داود كأنما أنشط من عقال يسأل في رجل من اليمامة، فأسهب في الشفاعة وأطنب، وذهب في القول كل مذهب، فقال له الواثق: يا أبا عبد الله لقد أكثرت في غير كثير ولا طيب فقال يا أمير المؤمنين إنه صديقي.
وأهون ما يعطي الصديق صديقه ... من الهين الموجود أن يتكلما
فقال الواثق: ما قدر هذا اليمامي أن يكون صديقك وإنما حسبه أن يكون من بعض خولك فقال: يا أمير المؤمنين إنه شهر بالاستشفاع بي عندك، وجعلني بمرأى مسمع من الرد والإسعاف، فإن لم أقم له هذا المقام كنت إذاً كما قال أمير المؤمنين:
خليلي ماذا أرتجي من غد امرئ ... طوى الكشح عني اليوم وهو مكين
وإن امرأ قد ضن عني بمنطق ... يسد به فقر امرئ لضنين
فقال الواثق لمحمد بن عبد الملك الزيات: بالله يا محمد ألا عجلت لأبي عبد الله حاجته ليسلم من هجنة المطل كما سلم من هجنة الرد.

حكاية
قيل سأل رجل حاتماً الطائي فقال: يا حاتم هل غلبك أحد في الكرم؟ قال: نعم غلام يتيم من طيء نزلت بفنائه وكان له عشرة أرؤس من الغنم، فعمد إلى رأس منها فذبحه. وأصلح من لحمه، وقدم إلي، وكان فيما قدم إلي الدماغ، فتناولت منه فاستطبته، فقلت: طيب والله. فخرج من بين يدي، وجعل يذبح رأساً رأساً، ويقدم إلي الدماغ وأنا لا أعلم. فلما خرجت لأرحل نظرت حول بيته دماً عظيماً وإذا هو قد ذبح الغنم بأسره. فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: يا سبحان الله تستطيب شيئاً أملكه فأبخل عليك به، إن ذلك لسبة على العرب قبيحة. قيل يا حاتم: فما الذي عوضته؟ قال: ثلاثمائة ناقة حمراء وخمسمائة رأس من الغنم، فقيل أنت إذاً أكرم منه فقال: بل هو أكرم، لأنه جاد بكل ما يمكله وإنما جدت بقليل من كثير.
حكاية
وحدث أبو اليقظان عن جويربة قال: أتى النصيب عبد الله بن جعفر فحمله وأعطاه وكساه فقال له قائل: يا ابن جعفر أعطيت هذا العبد الأسود هذه العطايا؟ فقال: والله إن كان هذا أسود إن ثناه لأبيض، وإن شعره ليهزني، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال وما ذاك؟ إنما هي رواحل تنضى، وثياب تبلى؛ ودراهم تفنى، وثناؤه يبقى، ومديحه يروى.
حكاية
قدم زياد الأعجم على المهلب بن أبي صفرة بخراسان ونزل على ابنه حبيب فجلسا ذات عشية على شراب وفي الدار شجرة علها حمامة فجعلت تغرد وزياد الأعجم يقول:
تغني أنت في ذممي وعهدي ... وذمة والدي أن لا تضاري
وبيتك أصلحيه ولا تخافي ... على صفر مزغبة صغار
فإنك كلما غنيت صوتاً ... ذكرت أحبتي وذكرت داري
فإن هم يفتلوك طلبت ثأري ... بقتلهم لأنك في جواري
فأخذ حبيب سهماً فرماها فأثبتها فماتت، فقال له زياد قتلت جاري، بيني وبينك الأمير المهلب ثم أتى المهلب فأخبره فقال: يا حبيب ادفع إلى أبي أمامة ألف دينار قال حبيب: أعز الله الأمير كنت ألعب. فقال: أمع هذا لعب؟ جار أبي أمامة جاري، فدفع إليه حبيب ألف دينار فقال زياد الأعجم:
فلله عيناً من رأى كقضية ... قضاها فأمضاها الأمير المهلب
قضى ألف دينار بجار أجرته ... من الطير حضان على البيض ينعب
رماه حبيب بن المهلب رمية ... فأنفذه بالسهم والشمس تغرب
فألزمه عقل القتيل بزجرة ... وقال حبيب إنما كنت ألعب
فقال زياد لا يروع جاره ... وجارة جاري مثل جاري وأقرب
فلما سمعه المهلب أجازه بجائزة حسنة وصرفه مكرماً وبلغ هذا العشر الحجاج، فقال: ما أخطأت العرب إذ جعلت المهلب شيخها.
حكاية

ومن ملح أخبار القاضي أحمد بن أبي داود ما حكي أن المعتصم كان بالجوسق مع ندمائه وقد عزم على الاصطباح، وأمر كلاً منهم أن يطبخ قدراً، ونظر سلامة غلام أحمد بن أبي داود. فقال: هذا غلام ابن أبي داود جاء ليعرف خبرنا، والساعة يأتي، فيقول: فلان الهاشمي، وفلان القرشي، وفلان الأنصاري، وفلان العربي، فيقطعنا بحوائجه عما كنا عزمنا عليه وأنا أشهدكم أني لا أقضي له اليوم حاجة. فلم يكن بأسرع من أن يدخل ايتاخ يستأذن لأحمد بن أبي داود. فقال لجلسائه: كيف ترون؟ قالوا: لا تأذن له يا أمير المؤمنين. قال: سوأَة لهذا الرأي والله لحمي سنة أسهل علي من ذلك، فأذن له فدخل فما هو إلا أن سلم وجلس وتكلم، حتى أسفر وجه المعتصم، وضحكت إليه جوارحه. ثم قال يا أبا عبد الله قد طبخ كل واحد من هؤلاء قدراً، وقد جعلناك حكماً في أطيبها. قال: فلتحضر لآكل وأحكم بعلم. فأمر المعتصم بإحضارها فأحضرت القدور بين يديه وتقدم القاضي أحمد بن أبي داود، فجعل يأكل من أول كل قدر أكلاً تاماً فقال له المعتصم: هذا ظلم قال: وكيف ذاك؟ قال أراك قد أمعنت في هذا اللون وستحكم لصاحبه. قال: يا أمير المؤمنين ليس بلقمة ولا باثنتين تدرك المعرفة بأخلاط الطعام، وعلي أن أوفي كلاً منها حقها في الذوق، ثم يقع الحكم بعد ذلك، فتبسم المعتصم وقال: شأنك إذاً، وأكل من جميعها كما ذكر، ثم قال: أما هذه فقد أحسن صاحبها إذ أظهر فلفلها وقلل كمونها، وأما هذه فقد أجاد صاحبها إذ كثر خلها وقلل فلفلها ليشتهى حمضها. وأما هذه فقد أحكمها طباخها بتقليل مائها وكثرة رُبها وأقبل يصفها واحدةً واحدة حتى أتى على جميعها بصفات سر بها أصحابها. وأمر المعتصم بإحضار المائدة فأكل مع القوم بأكلهم أنظف أكل وأحسنه. فمرة يحدثهم بأخبار الأكلة في صدر الإسلام مثل معاوية بن أبي سفيان وسليمان بن عبد الملك وعبيد الله بن زياد والحجاج، ومرة يحدثهم أكلة دهره مثل ميسرة التراس وحاتم الكيال واسحق الحمامي. فلما رفعت الموائد قال له المعتصم: ألك حاجة يا أبا عبد الله؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين قال: فاذكرها فإن أصحابنا يريدون أن يتشاغلوا بقية يومهم. فقال: رجل من أهل يا أمير المؤمنين قد وطئه الدهر فغير من حاله وخشن معيشته قال: ومن هو؟ قال: سليمان بن عبد الملك النوفلي. قال: قدّر له ما يصلحه قال: خمسين ألف درهم قال قد أمرت له بها. قال: وحاجة أخرى قال وما هي؟ قال: ضياع هارون توغر بها له. قال: قد فعلت قال: فوالله ما برح حتى سأل في ثلاث عشرة حاجة لا يرده المعتصم عن شيء منها. ثم قام خطيباً فقال: يا أمير المؤمنين عَمّرك الله طويلاً فبعمرك يخصب جناب رعيتك ويلين عيشهم وتنمو أموالهم ولا زلت ممتعاً بالسلامة منعاً بالكرامة مدفوعاً عنك حوادث الزمان وغيرها ، ثم انصرف. فقال المعتصم: هذا والله الذي يُتزيّن بمثله ويُبتهج بقربه. أما رأيتم كيف دخل؟ وكيف أكل، وكيف وصف القدور، وكيف انبسط في الحديث، وكيف طاب به أكلنا، والله لا يردّ هذا عن حاجة إلا لئيم الأصل، خبيث الفرع، والله لو سألني في مجلسي هذا ما قيمته عشرة آلاف ألف درهم ما رددته عنها فإني أعلم أنه يكسبني في الدنيا جمالاً وحمداً، وفي الآخرة ثواباً وأجراً.

حكاية
حدث الأصمعي قال: وقعت حرب بالبادية، واتصلت بالبصرة، وتفاقم الأمر فيها حتى مشى الناس في الصلح بين الحيين، فاجتمعوا في المسجد الجامع. قال فبعثت وأنا " حينئذ " غلام إلى القعقاع بن الضرار الدارمي فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت فوجدته في شملته يخلط بزراً فخبرته مجتمع القوم، فأمهل حتى أكل العنز، ثم غسل الصفحة وصاح: يا جارية غدينا، فأتته بتمر وزيت. قال فدعاني لآكل معه فأكلت، حتى إذا قضى أربه من الأكل، وثب إلى طين ملقى في الدار فغسل منه يده، ثم استسقى ماءً فشربه، ثم مسح فاضله على وجهه ثم قال: الحمد لله ماء فرات وتمر البصرة وزيت الشام، متى يؤدى شكر هذه النعمة؟ ثم أخذ رداءة وارتدى به على تلك الشملة. قال الأصمعي: فتجافيت عنه استقباحاً لزيه. فلما دخل المسجد صلى ركعتين، ثم مشى إلى القوم فلم تبق حبوة إلا حلت إعظاماً له. ثم جلس فتحمل جميع ما كان بين الأحياء من الديات في ماله فنهض وهو سيد الكافة بفضله.
حكاية

قيل لمعاوية بن أبي سفيان: بالحيرة رجل من جرهم له قدم وسن وفصاحة وعقل، وقد مضت عليه برهة من دهره، ورأى أعاجيب في عصره.
فقال معاوية: علي به، فلما حضر قال له: من الرجل؟ قال: عبيد بن شرية قال: ثم ممن؟ قال: من قوم ليست لهم بقية. قال: فكم مضى عليك من عمرك؟ قال: عشرون ومائتا سنة، قال: أهمتك السنون؟ قال: أجل يا أمير المؤمنين، وقرعتني بريبها المنون، قال: فما رأيت في سنيك وطول ما عمرت؟ قال: رأيت يوماً في إثر يومٍ يتبعه، ورأيت قوماً يمضون ولا يرجعون، فهم يجمعون لما يبيد عنهم، ولا يعتبرون بمن مضى قبلهم، فذهب الدهر بهم كل مذهب، ولولا أن المولود يلد لذهبت الأرض بمن عليها، ولولا أن الحي يموت لضاقت الأرض بمن فيها. قال له معاوية: إن عندك لعلما؟ قال: نعم فسلني، قال: فأي المال رأيت أنفع، وإلى صاحبه بالخير أسرع؟ قال: عين خرَّارة، في أرض خوَّارة، تعول ولا تُعال. قال: ثم مه؟ قال: فرس، في بطنها فرس، تتبعها فرس، قال: فأين أنت عن الصهابية الحمر والعوسية الشقر، قال: تلك يا أمير المؤمنين لغيرك، قال: لمن؟ قال: لمن وليها بيده ولم يكلها إلى غيره.
قال: فأين أنت عن الذهب والفضة؟ قال: حجران يصطكان إن أقبلت عليهما نفدا، وإن تركتهما لم يزيدا. قال له معاوية: فأخبرني بأعجب ما رأيت في عمرك، قال: نعم يا أمير المؤمنين، كنت في حي من أحياء العرب وقد مات لهم ميت يقال له جبلة بن الحويرث فمشيت في جنازته وأنست بجماعته، فلما دلي في قبره واعول النساء في إثره أدركتني عليه عبرة لم أستطع ردها، وتمثلت بأبيات كنت سمعتها " قال معاوية: قل يا أخا جرهم فأنشد " :
يا قلب أنت في أسماء مغرور ... فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير
قد بحت بالحب ما تخفيه من أحد ... حتى جرت بك اطلاقاً محاضير
تريد أمراً فما تدري أعاجله ... خير لنفسك أم ما فيه تأخير
فاسترزق الله مما في خزائنه ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذ صار في التراب تعفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
كأنه لم يكن إلا تذكرة ... والدهر أينما حال دهارير؟
فبينما أنا أردد هذه الأبيات وعينان ينسكبان انسكاباً لا أملك رد دمعهما. إذ قال لي رجل إلى جنبي من عذرة: يا أبا عبد الله هل تعرف قائل هذا الشعر؟ قلت لا والله. قال هذا الميت " الذي دفناه " وأنت الغريب الذي تبكي عليه، " ولا تعرفه ولا تعلم أنه قائل هذا الشعر " وذو قرابته الذي ذكر أنه مسرور هو ذاك، وأشار إلى رجل في الجماعة وقال: والله ما يستطيع كتمان ما هو عليه من السرور بفقده. فقال له معاوية: يا أخا جرهم سل ما شئت قال: ما مضى من عمري ترده؟ والأجل إذا حضر تدفعه؟ قال: ليس ذلك إلي سل غير ذلك قال: يا أمير المؤمنين ليس إليك الدنيا فترد شبابي، ولا الآخرة فتكرم مآبي، وأما المال فقد أخذت " منه " في عنفواني ما كفاني. قال لابد أن تسألني قال: أما إذ أبيت فامر لي برغيفين أتغدى بأحدهما وأتعشى بالآخر، واتق الله واعلم أنك مفارق ما أنت فيه، وقادم على ما قدمت، فأمر له معاوية برواحل كثيرة من الحنطة وغيرها فردّها. وقال إن أعطيت المسلمين كلهم مثل ما أعطيتني أخذت وإلا فلا حاجة لي في ذلك وودعه وانصرف.

حكاية

وملح ما سطر ومستحسن ما ذكر ما حدث به رسول ملك الخزر وهو عند الفضل بن سهل عن أُخت ملكهم واسمها خاتون. قال: أصابتنا سنة احتدم شواظها علينا بحرارة المصائب وصنوف الآفات ففزع الناس إلى الملك فلم يدر ما يجيبهم به. فقالت له خاتون: أيها الملك إن الحزم علق لا يخلق جديده، وسبب لا يمتهن عزيزه وهو دليل الملك على استصلاح مملكته، وزاجره عن استفسادها. وقد فزعت رعيتك إليك لفرط العجز عن الالتجاء إلى من لا تزيده الإساءة إلى خلقه عزاً، ولا ينقصه العود إليهم بالإحسان ملكاً، وما أحد أولى بحفظ الوصية من الوصي، ولا بركوب الدلالة من الدال، ولا بحسن الرعاية من الراعي، ولم نزل في نقمة لم تغيرها نقمة، وفي رضا لم تكدره سخطة، إلى أن جرى القدر بما عمي عنه البصر، وذهب عنه الحذر، فسلب الموهوب، والسالب هو الواهب. فعد إليه بشكر النعم وعذ به من فظيع النقم، فمتى تنسه ينسك، ولا تجعلن الحياء من التذلل للمعز المذل شركاً بينك وبين رعيتك فتستحق مذموم العاقبة، ولكن مرهم ونفسك بصرف القلوب إلى الإقرار له بكنه القدرة وبتذلل الألسن في الدعاء بمحض الشكر له، فإن الملك ربما عاقب عبده ليرجعه عن شيء فعل إلى صالح عمل، وليتبعه على ذاك الشكر لما يحرز به فضلاً آخر. قال: فأمرهم الملك أن تقوم فيهم فتنذرهم بهذا الكلام، ففعلت. " فتلقوا وعظها بالقبول، ورجعوا عن باب الملك الأدنى إلى باب الملك الأعلى. وقد علم الله منهم قبول الوعظ والأمر والنهي، فحال عليهم الحول، وما أحد منهم مفتقر لنعمة كان عليها، وتواترت عليهم الزيادات بجميل الصنع ولله الحمد والشكر.

حكاية
قال أبو بكر " الهذلي " أخبرنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه عبد الملك الأصمعي قال:قدم وفد على هشام بن عبد الملك وفيهم رجل من قريش يقال له إسماعيل بن أبي الجهم، وكان أكبرهم سناً؛ وأفضلهم رأياً وحكماً، فقام متوكئاً على عصا، فقال: يا أمير المؤمنين إن خطباء قريش قد قالت فأطنبت وأثنت عليك فأحسنت، ووالله ما بلغ قائلهم قدرك ولا أحصى مثنيهم فضلك، أفتأذن لي في الكلام؟ قال: تكلم قال:أفأوجز أم أطنب؟ قال: بل أوجز. قال:تولاك الله يا أمير المؤمنين بالحسنى وزينك بالتقوى، وجمع لك بين الآخرة والأولى، إن لي حوائج أفأذكرها؟ قال: نعم: قال: كبرت سني فضعفت قوتي، واشتدت حاجتي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسري، وينفي فقري فليفعل فقال:يا ابن الجهم، وما يجبر كسرك وينفي فقرك؟ قال: ألف دينار وألف دينار وألف دينار، قال: هيهات يا ابن أبي الجهم بيت المال لا يحتمل هذا، قال: كأنك آليت يا أمير المؤمنين أن لا تقضي لي حاجة في مقامي هذا، فقال هشام: فألف دينار لماذا؟ قال: أقضي بها ديناً قد حنا ظهري وأرهقني حمله. قال: نعم المسالك سلكتها، ديناً قضيت؛ وأمانة أديت، وألف دينار لماذا؟ قال:أزوج بها من أدرك من ولدي، فأشد بهم عضدي، ويكثر بهم عددي. قال:لا بأس غضضت طرفاً، وحصنت فرجاً، وأكثرت نسلاً، وألف دينار لماذا؟ قال: أشتري بها أرضاً فأعود بفضلها على ولدي، وبفضل فضلها على ذوي قربتي، قال: ولا بأس أردت ذخراً، ورجوت أجراً، ووصلت رحماً، قد أمرنا لك بها. قال:المحمود الله على ذلك، وجزاك الله يا أمير المؤمنين والرحم خيراً. فقال هشام: تالله ما رأيت رجلاً ألطف في سؤال، ولا أرفق في مقال منه، هكذا فليكن القرشي.
حكاية

حدث علقمة قال حدثني الفصل بن زياد قال: حدثني أبو زيد بن نوفل قال: سمعت محرز بن ناجية الرصافي يقول: كنت أحد من وقعت عليه التهمة في مال مصر أيام الواثق، فطلبني السلطان طلباً شديداً حتى ضاقت علي الرصافة وغيرها من المدن، فخرجت أريد البادية مرتاداً رجلاً عزيز الجار، منيع الدار، أعوذ به، وأنزل عليه، حتى انتهيت إلى بني شيبان، فرفع لي بيت مشرف بظهر رابية منيعة وبفنائه فرس مربوط، ورمح مركوز، يلمع سنانه، ومن تحته حلة عظيمة، فدنوت ونزلت عن الفرس وتقدمت فسلمت على أهل البيت فرد علي السلام نساء من وراء السجف، ثم تقدمن فرفعن خلل الستور بعيون كعيون أخشاف الظباء، ثم تكلمت إحداهن فقالت: اطمئن يا حضري فلنعم مناخ الصديق أنخت. فقلت: وأنى يأمن المطلوب ويأمن المرغوب دون أن يأوي إلى جبل يعصمه، أو معقل يمنعه، وقليلاً ما يهجع من السلطان طالبه، والخوف غالبه. قالت: يا حضري قد ترجم لسانك عن ذنب كبير وقلب صغير وأيم الله لقد حللت بفناء بيت لا يضام فيه أحد، ولا يجوع فيه كبد، ما دام لهذا الحي سند، هذا بيت الأسون بن قنان، أخواله الأراقم، وأعمامه شيبان، صعلوك الحي في ماله، وسيدهم في فعاله، له الجوار ووقود النار، وطلب الثار، لا ينازع ولا يقارع، وبهذا وصفته أمامة بنت الجلاح الكلبية حيث تقول:
إذا شئت أن تلقى فتىً لو وزنته ... بكل معدي وكل يماني
وفي بهم حلماً وجوداً وسؤددا ... وبأساً فهذا الأسود بن قنان
فتىً كالفتاة البكر يشرق وجهه ... كأن تلالي وجهه قمران
أغر أبر ابني نزار ويعرب ... وأوثقهم عقداً بقول لسان
وأوفاهم عهداً وأطولهم يداً ... وأكرمهم فعلاً بكل مكان
وأضربهم بالسيف من دون جاره ... وأطعنهم من دونه بسنان
فتىً لا ترى بعمرك الدهر مثله ... ليوم نزال أو ليزم طعان
كأن العطايا والمنايا بكفه ... سحابان نهلان منهمان
قال: فقلت لها قد هدأت الروعة، وسكنت الوحشة، فمن لي به. قالت: يا جارية ادعي مولاك، فخرجت الجارية من مؤخر البيت فلم تلبث إلا قليلاً حتى جاءت وهو معها في جماعة من الحي، فنظرت فإذا بغلام شاب حين اخضر شاربه واختط عارضه وخشي جانبه، فقمت فسلمت فرد علي السلام ورحب وقرب، وقال: أي المنعمين علينا أنت، فسبقتني المرأة فقالت: يا أبا مرهف هذا رجل أحب جوارك، ورغب في قربك، نبت به أوطانه، وأزعجه سلطانه، وأوحشه زمانه، وقد ضمنا له عنك ما يضمن لمثله مثلك. فقال:بل الله فاك، وقال: اجلس فجلست وفي يدي يده. وأقبل على الجماعة بوجهه ثم قال:يا معشر بني أبي وذوي رحمي اشهدوا أن هذا الرجل في جواري وذمتي فمن أراده فقد أرادني، ومن كاده فقد كادني. ثم أمر فضرب لي بيت إلى جانب بيته، وأجرى علي ما أحتاج إليه. فلم أزل في جواره إلى أن هلك الواثق، وأنا عنده في أهنأ عيش، وأغبط نعم، فرحلت عنه وأنا من أشكر الناس له.

حكاية
ذكر الأصمعي قال:كان لأبي حنيفة القاضي جار بالكوفة يغني، فكان إذا انصرف وقد سكر يغني وهو في غرفته فيسمعه أبو حنيفة فيعجبه وكان يكثر أن يغني هذا البيت من الشعر:
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فلقيه العسس ليلة فأخذوه وحبس، ففقد أبو حنيفة صوته تلك الليلة فسأل عنه من غد فأُخبر أنه حبس، فدعا بسواده وطويلته فلبسها وبكر إلى عيسى بن موسى وقال إن لي جاراً أخذه عسسك البارحة وحبس، وما علمت فيه إلا خيراً فقال عيسى بن موسى سلموا إلى أبي حنيفة كل من أخذه العسس الليلة فأُطلقوا جميعاً. فلما خرج الفتى دعا به أبو حنيفة ثم قال له سراً: ألست كنت تغني يا فتى كل ليلة: " أضاعوني وأي فتىً أضاعوا " فهل أضعناك؟ فقال: لا والله أيها القاضي، ولكن أحسنت وتكرمت أحسن الله جزاءك. قال: فعد إلى ما كنت تغنيه فإني آنس به ولم أر به بأساً قال له: أفعل.
حكاية
قسل جاء أعرابي إلى طلحة فسأله وتقرب إليه برحم. فقال: إن هذه الرحم ما سألني أحد بها قبلك، إن لي أرضاً قد أعطاني بها عثمان ثلاثمائة ألف، فإن شئت فاقبضها وأ، شئت بعتها من عثمان ودفعت إليك الثمن فاختار الأرض فأمر بتسليمها.
حكاية

وفد عبد الله بن جعفر الطيار رضي الله عنهما على يزيد بن معاوية فقال له الخليفة: كم كان أمير المؤمنين يعطيك يعني أباه. قال: كان رحمه الله يعطيني ألف ألفَ درهم قال " يزيد " قد أمرنا لك بمثل ذلك وزودناك لترحمك عليه ألفَ ألف فقال بأبي أنت وأمي، فجزاك الله عني خيراً فقال: ولهذه ألف ألفْ فقال: أما إني لا أقولها لأحد بعدك. قال: ولهذه ألفُ ألف. " قال ما يمنعني من الإطناب في وصفك إلا الإشفاق عليك من جودك قال: " ولهذه ألفُ ألف. وحمل المال كله معه. فقيل له: يا أمير المؤمنين فرقت مال المسلمين على رجل واحد. قال: إنما فرقته على أهل المدينة أجمعين. ثم وكل به من يعلم خبره من حيث لا ينظر، فصحبه. فلما دخل المدينة فرق فيها تلك الأموال حتى احتاج بعد شهر إلى القرض.

حكاية
سأل عبد الملك بن مروان أسماء بن خارجة بلغني عنك خصال فحدثني بها قال: " يا أمير المؤمنين هي من غيري أحسن منها مني. قال: عزمت عليك إلا حدثتني بها فقال: يا أمير المؤمنين ما مددت رجلي بين يدي جليس لي قط، ولا صنعت طعاماً فدعوت إليه قوماً إلا كانوا بإجابتي أمن عليّ مني عليهم، ولا نصب لي رجل وجهه قط يسألني حاجة فاستكثرت شيئاً أعطيه إياه.
حكاية
وأخبر الفضل الضبي قال: وفد ابن المولى على يزيد بن حاتم المهلبي وقد مدحه بقصيدته التي يقول فيها:
يا واحد العرب الذي ... أضحى وليس له نظير
لو كان مثلك آخر ... ما كان في الدنيا فقير
فدعا بخازنه وقال: كم في بيت المال؟ فقال: فيه من الورق والعين بقيمة عشرين ألف دينار، فقال له: ادفعها إليه، ثم قال له: يا أخير المعذرة إلى الله وإليك لو كان في ملكي أكثر من هذا لما احتجته.
حكاية
وروي عن لقيط قال: وقف موسى شهوات ليزيد بن خالد بن يزيد ابن معاوية على بابه بدمشق وكان فتى جواداً سمحاً فلما ركب وثب إليه وأخذ بعنان دابته وقال:
قم فصوت إذا أتيت دمشقاً: ... يا يزيد بن خالد بن يزيد
يا يزيد بن خالد إن تجبني ... يلقني طائري بنجم السعود
فأمر له بخمسة آلاف درهم وكسوة وقال له كلما شئت فنادنا فإنا نجيبك.
حكاية
وروي عن حكم الوادي قال: أدخلني عمر الوادي على يزيد وهو على حمار وعليه جبة وشي ورداء وشي وخفا وشي وفي يده عقد جوهر وفي كمه شيء لا أدري ما هو. فقال من غناني ما أشتهي فله ما في كمي وما علي وما معي وما تحتي يعني الحمار، فغنوه كلهم فلم يطرب. ثم قال لي: عن يا غلام فغنيت:
إكليلها ألوان، ووجهها فتان ... وخالها فريد، ليس له جيران
إذا مشت تثنى كأنها ثعبان
فطرب وأخرج ما في كمه فإذا كيس فيه ألف دينار فرمى به إلي مع عقد الجوهر. فلما دخل بعض إلي بالحمار وجميع ما كان عليه.
حكاية
وحدث إبراهيم بن خلف قال: بينا أبو دلف يسير مع أخيه معقل ابن عيسى وهما إذ ذاك بالعراق إذ مرا بقصر فأشرف منه جاريتان، فقالت إحداهما للأخرى هذا أبو دلف الذي يقول فيه الشاعر:
إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
فقال الأخرى: أو هذا هو؟ قد كنت والله أحب أن أراه، منذ سمعت ما قيل فيه، فالتفت أبو دلف إلى معقل فقال: ما أنصفنا علي بن جبلة ولا وفيناه حقه وإن ذلك لمن كبير همي وكان أعطاه ألف دينار.
حكاية
وحدث إبراهيم بن أحمد قال: قدم أمية بن أبي الصلت مكة على عبد الله بن جدعان، فلما دخل عليه قال له عبد الله: أمر ما جاء بك فقال أمية: كلاب غرمائي قد نبحتني ونهشتني فقال له عبد الله: قدمت علي وأنا عليل من ديون لزمتني، فأنظرني قليلاً يجم ما في يدي، وقد ضمنت قضاء دينك ولا أسأل عن مبلغه، فأقام أمية أياماً وأتاه فقال:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء؟
وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المهذب والثناء
كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا ماء
تباري الريح مكرمة وجوداً ... إذا ما الكلب أجحره الشتاء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
إذا خلفت عبد الله فاعلم ... بأن القوم ليس لهم جزاء
فأرضك كل مكرمة بناها ... بنو تميم وأنت لها سماء

فأبرز فضله حقاً عليهم ... برزت لناظرها السماء
وهل تخفى السماء على بصير ... وهل للشمس طالعة خفاء
فلما أنشده أمية هذه الأبيات كانت عنده قينتان فقال لأمية: خذ أيتهما شئت فأخذ إحداهما وانصرف. فمر بمجلس من مجالس قريش فلاموه على أخذها وقالوا لقد أجحفت به في انتزاعها منه فلو رددتها عليه، فإن الشيخ يحتاج إلى خدمتهما، لكان ذلك أقرب لك عنده وأكرم من كل حق ضمته لك فوقع الكلام من أمية موقعاً وندم، فرجع إليه ليردها عليه، فلما أتاه بها قال له ابن جدعان: لعلك إنما رددتها لأن قريشاً لاموك على أخذها، وقالوا لك كذا وكذا ووصف لأمية ما قال له القوم فقال أمية: والله ما أخطأت يا أبا زهير مما قالوا شيئاً. قال عبد الله: فما الذي قلت في ذلك؟ فقال أمية:
عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ... يبذل وما كل العطاء يزين
وليس بشين لامرئ بذل وجهه ... إليك كما بعض السؤال يشين
فقال له عبد الله خذ الأخرى، فأخذهما جميعاً وخرج، فلما صار إلى القوم بهما أنشأ يقول:
ذكر ابن جدعان بخ؟ ... ير كلما ذكر الكرام
من لا يجور ولا يعق ... ولا يبخله اللئام
يهب النجيبة والنجيب ... له الرجال والزمام

حكاية
دخل يزيد بن معاوية على أبيه فوجده مطرقاً فقال: يا أمير المؤمنين ما هذا الأمر الذي أشجاك؟ قال:أمر أمرضني وأقلقني منذ اليوم، وما أدري ما اعمل فيه قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا الفاسق أبو دهبل كتب إلى أختك عاتكة بهذه الأبيات:
أعاتك هلا إذ بخلت فلم تري ... لذي صبوة زلفى لديك ولا حقا
رددت فؤاداً قد تولى به الهوى ... وسكنت عيناً لا تمل ولا ترقا
ولكن خلعت القلب بالوعد والمنى ... ولم أر يوماً منك جوداً ولا صدقاً
فواكبدي إذ ليس لي منك مجلس ... فأشكو الذي بي من هواك وما ألقى
وأكبر همي أن أرى منك مرسلاً ... وطول النهار جالس أرقب الطرقا
رأيتك تزدادين للصب غلظة ... ويزداد قلبي كل يوم لكم عشقاً
فلم تزل باكية منذ اليوم قد أفسدها الخبيث فما ترى فيه؟ قال: والله يا أمير المؤمنين إن الشأن فيه لهين قال: وما هو؟ قال: عبد من عبيدك يكمن له في بعض أزقة مكة فيريحنا منه. فقال معاوية: أُفٍ لك، والله إن امرءاً يريد بك ما يريد ويسمو بك إلى ما يسمو لغير ذي رأي.، فأنت قد ضاق ذرعك بكلمة، وقصر فيها باعك، حتى أردت أن تقتل فيها رجلاً من قريش. أو ما تعلم أنك إن فعلت ذلك صدقت قوله وجعلتنا أحدوثة أبداً. قال: يا أمير المؤمنين إنه قال قصيدة أخرى تناشدها أهل مكة وسارت حتى بلغتني فأوجعتني وحملتني على ما أشرت فيه قال: وما هي قال:
حمى الملك الجبار في لقاءها ... فمن دونها تخشى المتالف والقتل
فلا خير في حب يخاف وباله ... ولا في حبيب لا يكون له وصل
فواكبدي إني سهرت بحبها ... ولم تك فيما بيننا ساعة بذل
ويا عجباً إني أُكاتم حبها ... وقد شاع حتى قطعت دونها السبل

فقال معاوية: قد والله رفهت عني فما كنت آمن أن يكون وصل إليها، فإما وهو يشكو أنه لم يكن بينهما وصل ولا بذل فالخطب أيسر علي، قم عني واكتم ما كان. فقام يزيد وانصرف. وحج معاوية في تلك السنة، فلما انقضت أيام الحج كتب أسماء وجوه قريش وأشرافهم وكتب فيهم اسم أبي دَهْبَل، ثم دعاهم ففرق في جميعهم الصلات السنية، وأجازهم الجوائز الكثيرة فلما قبض أبو دهبل جائزته وقام لينصرف، دعا معاوية إليه فقال له: يا أبا دهبل مالي أرى أبا خالد يزيد بن أمير المؤمنين عليك ساخطاً في قوارص ثابتة عنك، وشعر لا تزال قد نطفقت به وأُنفذ إلى خصمائنا وموالينا؟ لا تعرض لأبي خالد، فجعل أبو دهبل يعتذر إليه ويحلف أنه مكذوب عليه. فقال له معاوية: لا بأس عليم وما يضرك هذا عندنا، هل تأهلت؟ قال: لا. قال: فأي بنات عمك أحب إليك قال: فلانة. قال: قد زوجكها أمير المؤمنين وأصدقها عنك ألفي دينار وأمر لك بألف دينار. فلما قبض قال: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفو لي عما مضى فإن نطقت ببيت في معنى ما سبق مني فقد أبحت به دمي وفلانة التي زوجنيها أمير المؤمنين طالق البتة. فسرّ بذلك معاوية، وضمن له أن يرضي يزيد عنه، ووعده بإدرار ما وصله به كل سنة وانصرف إلى دمشق، ولم يحج معاوية في تلك السنة إلا من أجل أبي دهبل.

حكاية
خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطوف ليلة بالمدينة، وكان يفعل ذلك كثيراً، فمر بامرأة من نساء العرب مغلقة عليها بابها وهي تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا لا شيء غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه
وبت إلا هي غير بدع منعماً ... لطيف الحشا لا يحتويه مصاحبه
يلاعبني فوق الحشايا وتارة ... يعاتبني في حبه وأعاتبه
ولكنني أخشى رقيباً موكلاً ... بأنفسنا لا يستريح مراقبه
ثم تنفست الصعداء وقالت: أهان علي بن أبي طالب وحشتي في بيتي وغيبة زوجي عني؟ فقال عمر: يرحمك الله وأين زوجك؟ فقالت له: في بعث كذا، فكتب في الوقت بقفوله عليها وبعث إليها بنفقة وكسوة.
حكاية
كان لسليمان بن عبد الملك مؤذن يؤذنه في قصره بأوقات الصلاة، فجاءته جارية له مولدة فقالت: يا أمير المؤمنين إن فلاناً المؤذن إذا مررت به لم يقلع بصره عني، وكان سليمان أشد الناس غيرة، فهم إن يأمر بالمؤذن. ثم قال تزيني وتطيبي وامضي إليه فقولي له إنه لم يخف عني نظرك إلي، وبقلبي منك أكثر مما بقلبك مني، فإن تكن لك حاجة فقد أمكنك مني ما تريد، وهذا أمير المؤمنين غافل، فإن لم تبادر وإلا لم أرجع إليك أبداً. فمضت إلى المؤذن وقالت له ما قال لها، فرفع طرفه إلى السماء وقال: يا جليل أين سترك الجميل، ثم قال: اذهبي ولا ترجعي، فعسى أن يكون الملتقى بين يدي من لا يخيب الظن. فرجعت إلى سليمان وأخبرته الخبر فأرسل إليه. فلما دخل على سليمان قال له الحاجب: إن أمير المؤمنين رأى أن يهب لك فلانة ويحمل إليك معها خمسين ألف درهم تنفقها عليها، قال: هيهات يا أمير المؤمنين إني والله ذبحت طمعي منها من أول لحظة رأيتها، وجعلتها ذخيرة لي عند الله، وأنا أستحي أن أسترجع شيئاً ادخرته عنده. فجهد به سليمان أن يأخذ المال والجارية فلم يفعل، فكان يعجب منه، ولا يزال يحدث أصحابه بحديثه.
؟
حكاية
حكي عن المأمون أنه قال: حججت فلما صرت بصور أحببت أن أدخل دير المجانين فأرى من فيه منهم، فدخلت فرأيت فيهم شاباً حسن الوجه، نظيف الثوب، فسلمت عليه فقال: هل تحسن النحو؟ قلت: أحسن منه ما أصلح به لساني. قال: فهل تروي الشعر؟ قلت: نعم، قال فأنشدني فأنشدته لأبي العتاهية:
أذاب الهوى جسمي ولحمي وقوتي ... فلم يبق إلا الروح والجسد النضو
رأيت الهوى جمر الغضا غير أنه ... على كل حال عند صاحبه حلو
فخر مغشياً عليه، فسألته عن قصته فعرفت أنه من بني تميم هوي ابنة عم له وهويته، فسعي بينهما حتى نزعت منه فوسوسا جميعاً. وها هي في الدير الآخر، فمضيت حتى دخلت عليها فلما رأتني تنفست الصعداء ثم قالت: إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون فسألتني من أين أقبلت؟ فقلت: من الدير وعرفتها حال الفتى فبكت ثم قالت:
أما والذي لو شاء لم يخلق النوى ... لئن غبت عن عيني لما غبت عن قلبي

يوهمنيك الشوق حتى كأنني ... أناجيك عن قرب وما أنت في قربي
قال فدعا المأمون وأمر بعلاجهما فعولجا حتى برئا وزوج الفتى من ابنة عمه وأجرى عليهما ما يصلحهما وكانا في جملة حاشيته حتى مات.
؟

حكاية
عتب عبد الله بن طاهر على بعض كتابه فسجنه في مقصورة. فأشرفت عليه جارية لعبد الله كانت حظية عنده فنظرت إلى الفتى وكان أديباً ووافقت نظرة منه إليها. فوقع في قلبها محبة شديدة وعالجت الصبر عنه فلم تقدر عليه. فأخذت رقعة فكتبت فيها:
أيها الزاني بعين ... يه وفي الطرف حتوف
إن ترد وصلاً فقد ... أمكنك الظبي الألوف
ثم دلت إليه الرقعة بخيط، فلما قرأها كتب فيها:
إن تريني راني ... العينين فالقلب عفيف
ليس إلا النظر الفا ... تك والعقل ظريف
فلما رأته الجارية يكتب في الرقعة جواباً فرحت ولم تشك أنه فيها أرغب. فلما رفعت الرقعة وقرأتها ساءها رده فقلبتها وكتبت في ظهرها:
قد أردناك على أن ... تجتلي ظبياً ألوفا
فأبيت الآن لا ... زلت لقيديك حليفاً
ثم دلتها فلما قرأها كتب فيها:
ما تركت الظبي إني ... كنت للظبي عنيفا
غير أني خفت رباً ... لم يزل براً رؤوفا
فرفعت الرقة فلما رأتها ساءها ذلك فأومأت بها لتجعلها في جيبها فجعلتها بين ثوبها وهي لا تدري. فدخلت مقصورتها، وجاء عبد الله ماشياً في سطح قصره فمر بالرقعة فتناولها فعرف خط الجارية وخط الفتى، فحجب من عفته وصبره عنها على حسنها وجمالها، وكانت من أعز جواريه عليه فدخل عليها فوجدها مكتئبة حزينة. فقال: ما هذه الرقعة يا فلانة؟. قالت: أعز الله الأمير هي ما رأيت. قال لها: فالله عليك شاهد أنه لأحب إليك مني قالت: إي والله. قال:فأمر الفتى ففكت قيوده وكساه وأجازه وقال له: خذ هذه الجارية بجميع ما يحويه ملكها ثواباً لعفتك وتقاك وخوفك الله تعالى، ورفع مرتبته من كتابه، ولم يزل مكرماً له.
؟؟
حكاية
قال الهيثم بن عدي كان يزيد بن قرة الشيباني شديداً منيعاً، وكان يرى رأي الخوارج، ولم يكن يخشى عمال العراق، فغاظ ذلك الحجاج وبلغ منه فكتب إلى عبد الملك يخبره بذلك فكتب إليه عبد الملك احتل له فإن قدرت عليه فاضرب عنقه. فدعا الحجاج يزيد بن رويم وجرير بن يزيد فأكرمهما وأدناهما وقال ليزيد لك شرط العراق ولجرير ديوان الخراج إن أتيتماني بيزيد بن قرة. فركبا إليه فقالا له: إن الأمير قد غضب عليك وإنا نخاف أن ينال غضبه جميع أهلك فاركب إليه. قال: لا أفعل إنه إن نظر إلي قتلني، قالوا له: ما هو فاعل ولابد لك أن تركب معنا. فأتى معهما وتهيأ للقتل وخرج نساؤه معه. فلما دخل على الحجاج قال له: أنت يزيد بن قرة؟ قال نعم. قال: قتلني الله إن لم أقتلك، قال نشدتك الله أن تقتلني فإني قيّم أربع وعشرين امرأة ليس فيهن رجل غيري ولا لهن قيم سواي. قال: ومن يعلم ذلك؟ قال هن بالباب. فأمر بإدخالهن وكل واحدة منهن تقول اقتلني ودعه. فيقول من أنت؟ فتقول عمته أو خالته أو بنته أو بنت أخ أو بنت أخت حتى اجتمعن بين يديه. فقالت أخته:
أحجاج هبه اليوم لله وحده ... وللباكيات الصارخات تفجعا
أحجاج إما أن تمن بنعمة ... عليه وإما أن تقتلنا معا
أحجاج كم تُفجِع به إن قتلته ... ثماني عشر واثنتيت وأربعا
أحجاج لو تسمع بكاء نسائه ... وعماته يفدينه الليل أجمعا
فرق لها الحجاج وبكى وحبسه وكتب في أمره إلى عبد الملك يصف ما جرى. فكتب إليه أُعف عنه وأَلحق عياله في العطاء ففعل.
؟
حكاية
قيل لأبي عقيل البليغ: كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة؟ قال: رأيت رغبته في الإنعام فوق رغبته في الشكر، وحاجته إلى قضاء الحاجة أشد من حاجة صاحب الحاجة.
؟؟
حكاية
لقي أبو دلامة أبو دلف في مصادله وهو والي العراق فأخذ بعنان فرسه وأنشد:
إني حلفت لئن رأيتك سالماً ... بقرى العراق وأنت ذو وفر
لتصلين على النبي محمد ... ولتملأن دراهماً حجري
فقال: أما الصلاة على النبي محمد فصلى الله عليه وسلم. وأما الدراهم فلا. قال له: جعلت فداك لا تفرق بينهما بالذي أسأله أن لا يفرق بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فاستسلفها أبو دلف وصبت في حجره حتى أثقلته.
حكاية
الشيباني قال: نظر زياد إلى رجل من ضبة يأكل أكلاً قبيحاً، و هو أقبح الناس وجهاً. فقال له: يا أخا ضبة كم عيالك؟ قال: سبع بنات أنا أجمل منهن وهن آكل مني. فقال زياد: لله دره ما ألطف سؤاله. افرضوا لكل واحدة منهن مائة وخادماً، وعجلوا له ولهن بأرزاقهم. فخرج الضبي وهو يقول:
إذا كنت مرتاد السماحة والندى ... فبادر زياداً أو أخاً لزياد
يجيبك امرؤ يعطي على الحمد ماله ... إذا ظن بالمعروف كل جواد
وما لي لا أثني عليه وإنما ... طريقي من معروفه وتلادي
حكاية
أتى رجل معن بن زائدة يستحمله فقال: يا غلام أعطه فرساً وبرذوناً وبغلاً وعيراً وبعرياً وجارية ولو عرفت مركوباً غير هؤلاء أعطيتك.
حكاية
كتب رجل من العلماء إلى يزيد بن حاتم يستوصله فبعث إليه بثلاثين ألفاً وكتب إليه: أما بعد فقد بعثت إليك بثلاثين ألفاً ولا أكثرها امتناناً ولا أقللها تجبراً ولا أستثنيك عليها ثناءً ولا أقطع لك بها رجاءً والسلام.
حكاية
بينما خالد بن عبد الله القسري في مطلة له إذ نظر إلى أعرابي يخب به بعيره فقال لحاجبه: إذا قدم فلا تجبه. فلما قدم أدخله عليه فسلم وقال:
أصلحك الله قلَّ ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
ألحَّ دهرٌ رمى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا
فقال خالد: أرسلوك وانتظروا والله لأسيرك حتى تنصرف إليهم بما يسرهم وأمر له بجائزة عظيمة وكسوة شريفة.
حكاية
قال أبو عبيدة اجتمعت وفود العرب عند النعمان بن المنذر فأخرج إليهم بُردي محرق. وقال ليقم أعز العرب قبيلة فليلبسها فقام عامر ابن أحيم السعدي فاتزر بأحدهما وارتدى بالآخر. فقال له النعمان: لم أنت أعز العرب؟ فقال: العز والعد من العرب في معد ثم في نزار ثم في تميم ثم في كعب ثم في عوف ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني. فسكت الناس فقال النعمان: هذه حالتك في قومك فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك؟ فقال أنا أبو عشرة وعم عشرة وخال عشرة وأما في نفسي فهذا شاهدي. ثم وضع قدمه على الأرض وقال: أزالها عن مكانها فله مائة من الإبل فلم يقم إليه أحد فذهب بالبردين.
حكاية
وذكر القخذمي وابن عائشة وخالد بن جمل أن ابن أبي عتيق صار إلى الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وعبد الله بن جعفر وجماعة من قريش فقال لهم: إن لي حاجة إلى رجل أخشى أن يردني فيها وإني أستعين بجاهكم وأموالكم فيها عليه فقالوا له: ذلك مبذول لك منا، فاجتمعوا ليوم وعدهم فيه، فمضى بهم إلى روج لبنى. فلما رآهم أعظم مصيرهم إليه وأكبرهم فقالوا: قد جئناك بأجمعنا في حاجة ابن أبي عتيق فقال:هي مقضية كائنة ما كانت. فقال ابن أبي عتيق: قد قضيتها كائنة ما كانت كم أهل أو مال أو ملك؟ قال: نعم. قال: تهب لهم ولي روجتك لبنى وتطلقها. قال فإني أشهدكم أنها طالق ثلاثاً، فاستحى القوم واعتذروا وقالوا: والله ما عرفنا حاجته ولو عرفنا أنها هذه ما سألناك إياها. فعوضه الحسن من ذلك مائة ألف درهم وحملها ابن أبي عتيق إليه. فلم تزل عنده حتى انقضت عدتها فتسأل القوم أباها وزوجها قيساً ولم تزل معه حتى مات. فقال قيس يمدح ابن أبي عتيق:
جزى الرحمن أفضل ما يجازي ... على الإحسان خيراً من صديق
فقد جربت إخواني جميعاً ... فما ألفيت كابن أبي عتيق
سعى في جمع شملي بعد صدع ... ورأي حدث فيه عن الطريق
وأطفى لوعة كانت بقلبي ... أغصتني حرارتها بريقي
فقال له ابن أبي عتيق: يا حبيبي أمسك عن هذا المديح فما يسمعه أحد إلا ظنني قوّاداً.
حكاية
وذكر حماد بن إسحاق قال: حدثني أبي قال: صرت إلى سُرَّ من رأى بعد قدومي من الحج فدخلت إلى الواثق فقال: بأي شيء أطرفتني من حديث الأعراب وأشعارهم. فقلت: يا أمير المؤمنين جلس إلي فتى من الأعراب في بعض المنازل فرأيت منه أحلى ما رأيت من القتيان منظراً وحديثاً وظرفاً وأدباً فاستنشدته فأنشدني:
سقى العلم الفرد الذي في ظلاله ... غزالان مكتنان مؤتلفان
إذا أنما التفا بجيدي تواصل ... وطرفاهما للريب مسترقان
أرعتهما ختلاً فلم أستطعهما ... ورمياً ففاتاني وقد قتلاني

ثم تنفس تنفساً ظننت أنه قد تقطعت حيازمه فقلت ما لك بأبي أنت؟ فقال: إن وراء هذين الجبلين " شجىً لي " وقد حيل بيني وبين المرور بهذه البلاد وهدروا دمي وإنما أتمتع بالنظر إلى الجبلين تعللاً بهما إذا قدم الحجاج ثم يحال بيني وبين ذلك. فقلت له: زدني مما قلت في ذلك، فأنشدني:
إذا ما وردت الماء في بعض أهله ... حضور فعرض بي كأنك مازح
فإن سألت عني حضور فقل لها ... به غير من دائه وهو صالح
فأمر الواثق فكتبت له الشعرين فلما كان بعد أيام دعاني فقال: قد صنع بعض عجائز دارنا في أحد الشعرين لحناً فاسمعه فإن ارتضيته أظهرناه وإن رأيت فيه موضع إصلاح أصلحته. فغني لنا " فيه " من وراء الستارة. فكان في نهاية الجودة وكذلك كان يفعل إذا صنع شيئاً. فقلت له: أحسن والله صانعه يا أمير المؤمنين ما شاء الله. فقال: بحياتي، فقلت: وحياتك، وحلفت له بما وثق به، فأمر لي برطل فشربته. ثم أخذ العود وتغناه ثلاث مرات وسقاني ثلاثة أرطال وأمر لي بثلاثين ألف درهم. فلما كان بعد أيام دعاني فقال: قد صنع أيضاً عندنا في الشعر الآخر وأمر فغني به، فكانت حالي فيه مثل الحال في الأول. ثم غناه لما استحسنه وحلفت له على جودته ثلاث مرات وسقاني ثلاثة أرطال وأمر لي بثلاثين ألف درهم. ثم قال: هل قضيت حق هديتك فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فأطال الله بقاك، وتمم نعمتك، ولا أفقدنيها منك ربك. ثم قال: لكنك لم تقض حق جليسك الأعرابي ولا سألتني معرفته، وقد سبقت " منه " مسألتك، وكتبت بخبره إلى صاحب الحجاز، وأمرته بإحضاره وخطبه المرأة، وحمل صداقها إلى قومها عنه من مالنا، فقبلت يده وقلت:السبق إلى المكارم لك، وأنت أولى بها من غيرك.

حكاية
أذن معاوية بن أبي سفيان للناس يوماً فوقف له فتىً من الأعراب فحدر اللثام وأنشأ يقول:
معاوي يا ذا الحلم والعلم والعقل ... ويا ذا الندى والجود والمجد والفضل
أتيتك لما ضاق في الأرض مسلكي ... فبالله لا تقطع رجائي من العدل
وخذ لي بأنصافي من الجائر الذي ... رماني بسهم كان أهونه قتلي
وهم بقتلي غير أن منيتي ... تنائت ولم أستكمل الرزق من أكلي
فقال معاوية: ما خطبك؟ فقال: جعلني الله فداك أنا رجل من أهل البصرة تزوجت ابنه عم لي وكنت لها عاشقاً، وكانت معجبة بي، فوقع بيني وبين أبيها ما يقع بين الأختان من الكلام فحجبها عني، فأخذني من ذلك ما لا يعلمه إلا الله. فأتيت عاملك ابن أم الحكم فشكوت إليه بعض ما أجد، فرق لي فبعث إليها وإلى أبيها فأتى بهما. فلما نظرا إليها أعجبته فأمر بي فحبست من غير أن يسمع منها ولا من أبيها، ثم بعث إليّ أن طلقها فأبيت، فعذبني بأنواع العذاب، فلما خشيت التلف طلقتها. فيا غياث المكروب هل من حيلة فقد أذهلني الحزن وأسهرني القلق. فقال معاوية: والله ما رأيت كاليوم قط، ثم دعا بدواة وقرطاس وقال: اكتب إليه يا غلام وأكد عليه في البعثة بها لميعاد، وكتب في أسفل الكتاب:
أُعطي آلهي عهداً لا أكفره ... وأبرأ اليوم من ديني وإيماني
إن أنت خالفتني فيما كتبت به ... لأجعلنك لحماً بين عقباني
فحمل الرسل الكتاب وانطلقوا ودخلوا عليه فلما قرأه تنفس الصعداء، ثم أعاد قراءته ثم تنفس الصعداء، ثم قال: لوددت أن معاوية تركها عندي سنة ثم عرضني على السيف. وأمرها فتجهزت، وأمر للرسل بثلاثين ألف درهم وقال: إن خيّرك معاوية فاختاريني. فقالت: أقول ما يجري الله على لساني. وكتب كتاباً إلى معاوية يقول في أسفله.
لا تحنثن أمير المؤمنين فقد ... أوفيت نذرك في رفق وإمكان
وقد أتيت بوجه لا شبيه له ... فيما يرى الناس من أنس ومن جان
فاعذر فإنك لو أبصرت صورتها ... لقلت ما هذه تمثال إنسان
فخرج الرسل حتى قدموا على معاوية والعذري مقيم، فلما نظر إليها معاوية أعجبته، وقال للأعرابي: ويحك هل من صبر عنها مع جليل العوض منها؟ قال: لا والله، ولو فرق بين جسدي ورأسي، وأنشأ يقول:
لا تجعلني والأمثال تضرب بي ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
واللهِ والله لا فارقتها أبداً ... حتى أوسد في تراب وأحجار

فغضب معاوية فقال: اختاري إن شئت الأعرابي، وإن شئت ابن أم الحكم، وإن شئت أنا، فقبضت على يد الأعرابي وقالت:
هذا وإن أصبح في أطماري ... أكرم عندي من أبي وجاري
وصاحب الدرهم والدينار ... والأمر والنهي مع الأكبار
أخاف إن فعلت حر النار
فأمرها معاوية أن تعتد، فلما اعتدت زوجها الأعرابي وأمر لها بألف دينار لجهازها، وللفتى بألف دينار، ورده إلى البصرة.
قال المؤلف رحمه الله: فهذه مائة وخمسون خبراً من أحسن ما يسطر وأفخر ما يذكر وينشر. وقد ذيلت ذلك بنكت عجيبة من الأجوبة المصيبة فإنها تستجاد من الأقوال كما أستجيد ما قبلها من الأفعال. والله ولي التوفيق والإقبال:

نكت عجيبة
نكتة
قال الأصمعي: سمعت مولى لآل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أخذ عبد الملك بن مروان رجلاً كان يرى رأي شبيب الخارجي فقال له عبد الملك: ألست القائل؟
ومنا سويد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
فقال الرجل لم أقل هكذا. وإنما قلت: ومنا أمير المؤمنين شبيب ينصب الراء على النداء المضاف. فكان تقديره ومنا يا أمير المؤمنين شبيب. فنفى يومئذ الخلافة عن شبيب الخارجي، والخبر مشهور، فاستحسن عبد الملك حضور ذهنه وحسن اعتذاره فأطلقه.
نكتة
قال رجل ليزيد بن المهلب في حرب: ما لسيفك يقطع وسيوفنا لا تقطع على أنا نغالي بها. فأخذ يزيد يده فوضعها على قلبه وقال: كيف ترى سكونه قال أراه ساكناً. قال بهذا يقطع سيفي.
نكتة
لما أتى الحجاج بعمران بن حطان أسيراً قال: يا حرسي اضرب عنق ابن الزانية. فقال عمران: بئس ما أدبك به أهلك يا حجاج. أبعد الموت منزلة أُصافعك عليها، ما كان يؤمنك أن ألقاك بمثلها، فاستحى الحجاج وأطلقه.
نكتة
قال المنصور لعمرو بن عبيد: بلغني أن كتاب إبراهيم بن عبد الله ابن الحسن ابن الحسين ورد عليك. فقال: قد رأينا له كتاباً وما قرأته، وأنت تعلم رأيي في الخوارج، فقال له ثبت يقينك بحلفه، فقال: لئن كذبت تقية لأحلفن لك تقية.
نكتة
خرج الحجاج بن يوسف متصيداً، فلقي أعرابياً فقال: كيف سيرة الحجاج فيكم؟ قال: ظلوم غشوم لا حياه الله ولا بياه، قال له: فلو شكوتموه إلى أمير المؤمنين عبد الملك؟ فقال الأعرابي: هو والله أظلم منه وأغشم، فعليه لعنة الله. فأغضب ذلك الحجاج وقال له: أما تدري من أنا؟ قال: وما عسيت أن تكون؟ قال: أنا الحجاج فقال الأعرابي: وتدري من أنا؟ قال: لا، من أنت؟ قال مولى بني أبي ثور أجن مرتين من الشهر وهذه إحداهما، فضحك الحجاج وانصرف عنه.
نكتة
تقدم أعرابي مع خصم له إلى بعض الولاة. فقال له الوالي: قل الحق وإلا أوجعتك ضرباً، فقال له الأعرابي: فأنت أيضاً فاعمل به فما وعدك الله منه أعظم مما وعدتني منك.
نكتة
حدث زرارة الفقمي قال: دخل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج على سليمان بن عبد الملك بعد موت الحجاج واستخلاف سليمان. فقال له سليمان: على من آثرك وجعلك وزيراً لنفسه لعنة الله. فقال له يزيد: جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين إنك نظرت إلي والأمور عني مدبرة، ولو كانت علي مقبلة لعظم في عينيك ما استصغرت مني. قال له سلميان: أترى الحجاج قد قر في قرارها يعني جهنم أن بقي يهوي إلى قعرها؟ قال: يا أمير المؤمنين هو بين أخيك وأبيك فضعه حيث شئت فخجل سليمان.
نكتة
كان الفرزدق ينشد شعره بالمربد من البصرة، والناس مجتمعون حوله إذ مر به الكميت وهو علام فوقف، فقال له الفرزدق: ليسرك أني أبوك؟ فقال: أما أبي فلا أريد به بدلاً ولكن يسرني لو كنت أُمي ليذوق أبي عسيلتك. فقال الفرزدق: اكتمها على عمك يا ابن أخي فما مر بي مثلها.
نكتة
قيل لزينب بنت الزبير: أهزل ما تكونين إذا قدم زوجك، وكان زوجها عنبسة بن أبي سفيان، فقالت: إن الحرة لا تجامع زوجها بملء بطنها.
نكتة
قال معاوية ابن أبي سفيان يوماً لابن عباس بعد أن عمي: يا بني هاشم ما أكثر ما تصابون في أبصاركم. فقال ابن عباس: وأنتم في بصائركم.
نكتة
قال أبو بكر الصولي: قال رجل لخالد الكاتب وقد هجاه هجواً أفحش فيه: بأي وجه تلقاني؟ فقال: بالوجه الذي ألقى فيه ربي مع كثرة ذنوبي.
نكتة
أقسام الكتاب
1 2