كتاب : الزهرة
المؤلف : ابن داود الأصبهاني

فيا نفسُ ذلِّي بعدَ ميٍّ وسامحِي ... فقدْ سامحتْ ميٌّ وذلَّ قرينُها
وقال عمر بن نجا:
أتَى البخلُ دونَ الجودِ مِنْ أُمِّ واصلٍ ... وضنَّ علينا بالعطاءِ ضنينُها
فللهِ درِّي يومَ مالتْ مودَّتي ... إليها ولم ترجعْ إليَّ يمينُها
وما خُنتها إنَّ الخيانةَ كاسمِها ... ولا نصحتْ نفسي لنفسٍ تخونُها
مددتِ حبالاً منكِ حتَّى تقطَّعتْ ... إليَّ وما خانَ الحبالَ متينُها
فكيفَ أشعتِ السِّرَّ أُمَّ واصلٍ ... وما أخلصَ الأسرارَ إلاَّ أمينُها
وقال آخر:
أكرُّ إلى ليلَى وأحسبُ أنَّني ... كريمٌ علَى ليلَى وغيري كريمُها
فأصبحتُ قد أجمعتُ هجراً لبيتِها ... وفي العينِ مِنْ ليلَى قذًى ما يريمُها
لئنْ آثرتْ بالودِّ أهلَ بلادِها ... علَى نازحٍ مِنْ أرضِها لا يريمُها
وما يستوِي مَنْ لا يرَى غيرَ لمَّةٍ ... ومَنْ هوَ عندَها لا يريمُها
وقال بعض الأعراب:
شكوتُ إلى رفيقيَّ الَّذي بي ... فجاءانِي وقد جمعَا دواءَ
وجاءا بالطَّبيبِ ليكوِياني ... وما أبغِي عدِمتُهُما اكتواءَ
فلو ذهبا إلى ليلَى فشاءتْ ... لأهدتْ لِي منَ السَّقمِ الشِّفاءَ
تقولُ نعمْ سأقضِي ثمَّ تلوِي ... ولا تنوِي وإنْ قدرتْ قضاءَ
أصارمةٌ حبالَ الوصلِ ليلَى ... لأخضعَ يدَّعي دونِي ولاءَ
ومؤثرةُ الرِّجالِ عليَّ ليلَى ... ولم أُؤثرْ علَى ليلَى النِّساءَ
ولو كانتْ تسوسُ البحرَ ليلَى ... صدرْنا عن شرائعهِ ظماءَ
فمرَّا صاحبيَّ بدارِ ليلَى ... جُعلتُ لها وإنْ بخلتْ فداءَ
أريتُكَ إنْ منعتَ كلامَ ليلَى ... أتمنعُني علَى ليلَى البكاءَ
ولبعض أهل هذا العصر:
وتزعم للواشين أني فاسدٌ ... عليك وأني لستُ مما عهدتني
وما فسدت لي يشهدُ اللهُ نيةٌ ... ولكنما استفسدتني فأتهمتني
غدرتَ بعهدي عامداً وأخفتني ... فخفت ولو آمنتني لأتمنتني
إلى الله أشكو لا إليك فطالما ... شكوت الذي ألقى إليك فزدتني
وله أيضاً:
أُفوِّضُ أسبابي إلى اللهِ كلَّها ... وأقنعُ بالمقدورِ فيها وأرتَضي
واسمحُ بالتَّفويضِ حتَّى إذا انتهَى ... ضميري إلى ما بينَنا لم أُفوِّضِ
وباللهِ لو خيِّرتُ بينكَ غادراً ... وبينَ كِلا المُلكينِ تخييرَ مُقتضِ
رضيتُكَ حظّاً منهما غيرَ أنَّني ... بهذا الَّذي ترضاهُ لي غيرُ مرتضِ
وله أيضاً:
أبتْ غلَباتُ الشَّوقِ إلاَّ تقرُّبا ... إليكَ ونأيُ العذلِ إلاَّ تجنُّبا
عليَّ رقيبٌ منكَ خالٍ بمهجَتي ... إذا أنا سهَّلتُ اطِّراحكَ صعَّبا
فها أنذا وقفٌ عليكَ مجرَّبٌ ... إذا ما نبَا بي مركبٌ رمتُ مركبَا
وما كانَ صدِّي عنكَ صدَّ ملالةٍ ... ولا كانَ إقبالي عليكَ تطرُّبا
ولا كانَ ذاكَ العذلُ إلاَّ نصيحةً ... ولا ذلكَ الإغضاءُ إلاَّ تهيُّبا
ولا الهجرُ إلاَّ فرطُ منٍّ ولا الرِّضى ... بلا سببٍ إلاَّ اشتياقاً معذَّبا
ومَنْ يُمنعِ العذب الزُّلال ويمتنعْ ... منَ الشُّربِ مِنْ سؤرِ الكلابِ تغضُّبا
خليقٌ إذا لمْ يستطعْ شربَ غيرهِ ... وخافَ المنايا أنْ يذلَّ فيشربا
إذا المرءُ لمْ يُقدرْ لهُ ما يريدُهُ ... أرادَ الَّذي يُقضى لهُ شاءَ أمْ أبى
وأنشد أعرابي ببلاد نجد:
فيا عجبَا مِنْ صونيَ الودَّ في الحشا ... لمنْ هوَ فيما قد بدَا لي واترُ
ومِنْ طلبِي بالودِّ ثأري ولم يكنْ ... ليُدركَ تبلاً بالمودَّةِ ثائرُ
فيا عجبَا منِّي ومنها تُضيعُني ... وأحفظُها هذا اختلافُ السَّرائرِ
ويا عجبَا كيفَ اتَّفقنا فناصحٌ ... مصرٌّ ومطويٌّ علَى الغشِّ غادرُ
وقال البحتري:
مغتربُ الدَّارِ إنْ أرضهُ أجدْ ... مسافةَ النَّجم دونَ مُغتربهْ
راجعتهُ القولَ في ملاطفةٍ ... أهربُ مِنْ صدقهِ إلى كذبهْ
وقال آخر:
سأعرضُ بالشَّكِ دونَ اليقينِ ... حتَّى أُحسِّنَ غيرَ الحسنْ
وأقنعُ إذْ خُنتني مُعلناً ... بقولكَ في السِّرِّ لي لم أخنْ

وقال مسلم بن الوليد:
سلوتُ وإنْ قالَ العواذلُ لا يسلو ... وأقسمتُ لا يرقَى إلى سمعيَ العذلُ
أجارتنا ما في فراقكِ راحةٌ ... ولكنْ جرَى قولٌ فأنتِ بهِ بَسلُ
أمَا واغتيالِ الدَّهرِ خلَّةَ بينَنا ... لقد غالَ إلفاً ساكناً بهمُ الشَّملُ
فما بِي إلى مستطرفِ العيشِ وحشةٌ ... وإنْ كنتُ لا مالٌ لديَّ ولا أهلُ
تتالَى بكِ الأمرُ الَّذي تكرهينهُ ... إلى الحلمِ بالعُتبَى وقد سبقَ الجهلُ
عليكِ سلامٌ مِنْ أخٍ كانَ صاحباً ... بهِ تنزلُ الشَّكوى ويحتملَ الثِّقلُ
إذا تمَّ حالٌ وهو غايةُ مَنْ بكى ... حلا بعدكِ العيشُ الَّذي قلتُ لا يحلُو
وهذا كلام يستغني قارئه بقراءته عن التَّنبيه على تناقضه واستحالته ولا عذر في ذلك إلاَّ غلبة الحيرة على قائله وفي دون هذه الحال ما يذهل العقول ويطيش الألباب وليس العجب ممَّن أخطأ في هذا وإنَّما العجب ممَّن أصاب.
وقال علي بن محمد العلوي:
لياليَ يألفُكَ الغانياتُ ... وكنَّ وكنتَ صغيراً صغارا
وقد كنتَ تملكُ ألحاظهنَّ ... فصرنَ يُعرنكَ لحظاً مُعارا
فأصبحنَ أعقبنَ بعدَ الودادِ ... بعاداً وبعدَ السُّكونِ النَّفارا
لا غرَّني غررُ الحادثاتِ ... وقد كنتُ أوسِعُهنَّ اغترارا
وقال البحتري:
أَخفي هوًى في الضُّلوعِ وأُظهرُ ... وأُلامُ في كمدٍ عليكِ وأُعذرُ
وأراكِ خنتِ على النَّوى مَنْ لم يخنْ ... عهدَ الهوَى وهجرتِ مَنْ لا يهجرُ
وطلبتُ منكِ مودَّةً لم أُعطَها ... إنَّ المعنَّى طالبٌ لا يظفرُ
هل دَينُ عَلوةَ يُستطاعُ فيُقتضى ... أوْ ظلمُ عَلوةَ يستفيقُ فيُقصِرُ
وقال أيضاً:
تمادَى بها وجدِي وملِّكَ وصلَها ... خليُّ الحشا في وصلِها جدُّ زاهدِ
وما النَّاسُ إلاَّ واجدٌ غيرُ مالكٍ ... لِما يبتغِي أوْ مالكٌ غيرُ واجدِ
سقَى الغيثَ أكتافَ الحِمى مِنْ محلَّةٍ ... إلى الحِقفِ مِنْ رملِ اللِّوى المُتقاوِدِ
وقال آخر:
طلبتُ أخاً محضاً صحيحاً مسلَّماً ... نقيّاً منَ الآفاتِ في كلِّ موسمِ
لأمنحَهُ ودِّي فلم أُدركِ الَّذي ... طلبتُ ومَنْ لي بالصَّحيحِ لمسلمِ
وقال الأحوص:
قد ودَّعتْكَ وداعَ الصَّارمِ القالي ... نعمْ وداعُ بناءٍ غيرَ إذلالِ
وعادَ ما ودَّعتني مِنْ مودَّتها ... بعدَ المواثيقِ كالجاري منَ الآلِ
فقلتُ لمَّا أتاني أنَّها ختَرَتْ ... وطاوعتْ قولَ أعدائِي وعذَّالي
إنْ تصرمِ الحبلَ أوْ تُرضِ الوشاةَ بنا ... أوْ تُمسِ قد رضيَتْ منَّا بأبدالِ
فقد أراها وما تبغِي بنا بدَلاً ... ولا تطيعُ بنا في سالفِ الحالِ
أبقَى لها الدَّهرُ مِنْ ودِّي الَّذي عهدتْ ... أمرَينِ لم يبرَحا منِّي علَى بالِ
شوقاً إليها إذا بتَّتْ مناسبَها ... يوماً وأبصرتُ منها رسمَ أطلالِ
وحفظَ ما استودعتْ عندِي وقد زعمتْ ... أنْ ليسَ يحسنُ حفظَ السِّرِّ أمثالِي
إنْ كانَ يُسلِي فؤادِي ما أتيتِ بهِ ... فلا رجعتُ إلى أهلي ولا مالي
جُهداً لأُعلمَها الودَّ الَّذي عهدتْ ... عندِي وأكَّدتُ أقوالاً بأقوالِ
وقال أيضاً:
متى ما تُحلِّي مِنْ ذُرى الأرضِ تلعةً ... أزركِ ويكثرْ حيثُ كنتِ تردُّدي
وإنْ كدتُ شوقاً موهناً وذكرتُها ... لأرجعُ بالرَّوحاءِ عَودِي علَى بَدِي
وقلتُ لعينِي قد شقيتُ بذكرِها ... فجودِي بماءِ المقلتينِ أوِ اجمُدي
أجدَّكَ تنسَى أُمَّ عمرٍو وذكرُها ... شعاركَ دونَ الثَّوبِ في كلِّ مرقدِ
فإنْ تتَّبعها تُغضِ عيناً علَى القذَى ... وإنْ تجتنبْها بعدَ ما نلتَ تكمدِ
أمَّا من دعته الضرورة إلى الصبر على من غدر به فلا مدخل لنا في أمره وأما من يتمنَّى لإلفه أن يميل إلى حبِّ غيره ليكون ذلك عاطفاً له عليه وداعياً له إلى وصله فهو من الحمق في محلٍّ قلَّ ما يتهيَّأ مثله وما أحسب من هذه صفته يكون إلاَّ داخلاً في جملة من وقعت لهم المحابُّ لتنفيذ ضرب من الشَّهوات.
وقال بعض المحدثين:

ولمَّا بدا لي أنَّها ما تحبُّني ... وأنَّ فؤادِي ليسَ عنها بمُنسلِي
تمنَّيتُ أنْ تهوَى سوايَ لعلَّها ... تذوقُ حراراتِ الهوَى فترقُّ لي
وأحس من هذا ومن كل ما تقدمه قول الآخر:
واللهِ لا نظرتْ عيني إليكَ ولا ... سالتْ مساربُها شوقاً إليكَ دمَا
إلاَّ رياءً لدفعِ القولِ عنكَ ولا ... نازعتُكَ الدَّهر إلاَّ مكرهاً كلمَا
إنْ كنتَ خنتَ فلمْ أُضمرْ خيانتكمْ ... واللهُ يأخذُ ممَّن خانَ أوْ ظلمَا
سماحةً لمحبٍّ خانَ صاحبهُ ... ما خانَ قطُّ محبٌّ يعرفُ الكرمَا
هذا البائس قد ألزم نفسه قطيعة من غدر به وصبَّرها على المكروه كله إلاَّ أنَّه مع ذلك غير مضيع لما في ذمَّته من رعاية صاحبه بنفي الظُّنون عنه وهذا أكثر ما يمكن من الرعاية أو أتمُّ ما يتهيَّأ من الصِّيانة لمن بادر بالخيانة ولمن ضيَّع حقوق الأمانة ومن منع نفسه من طاعة الاشتياق وهو بعد مقيم تحت راية الإشفاق فقد قدر على أمر عظيم وظفر بحظ جسيم.
وقال جميل:
أتَوْني فقالُوا يا جميلُ تبدَّلتْ ... بُثينةُ أبدالاً فقلتُ لعلَّها
وعلَّ حبالاً كنتُ أحكمتُ عقدَها ... أُتيحَ لها واشٍ رفيقٌ فحلَّها
وحدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي قال: حدثنا عبد الملك بن شبيب قال: حدثنا مشيختنا قال: بينما الحكم بن عمر الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسير بخراسان في بعض البلاد وهو واليها إذ سمع في بعض غياطلها رجلاً يغنِّي بهذين البيتين:
تعزَّ بصبرٍ لا وجدِّكَ لا تُرى ... بِوادِي الحصى أُخرى اللَّيالي الغوابرِ
كأنَّ فؤادِي مِنْ تذكُّرهِ الحمى ... وأهلَ الحمى يهفو بهِ ريشُ طائرِ
فوقف وقال عليَّ بالرجل فأُتي به فقال ويحك ما أنت؟ قال رجل من أهل نجد من بني عامر كنت في الدَّهر من بني عامر فقال: هل لك في الحمى؟ فقال ما لي إلى ذلك سبيل ولي بالبلاد أهل وولد قال فإني أحمل معك أهلك وولدك قال فكيف بالمعاش لا حاجة لي في هذا قال ما من ذلك بدّ وأمر به أن يُحمل قال فاضطرب في أيديهم حتَّى مات وهذا من أعجب ما سمعت في معناه ولا أعرف لهذا الرجل عذراً في الفرار من الموضع الَّذي يهواه إلاَّ أن يكون قد اتَّصل به عن محبوبه من الغدر ما لا تنبسط على مثله يد الصَّبر فكان المقام على الفراق والتَّجلُّد على دواعي الاشتياق أهون عليه من مشاهدة ما لا طاقة له به عند التَّلاق.

الباب الرابع والعشرون
مَنْ تجلَّد علَى النَّوى فقد تعرَّض للبلا
اجتراء العشَّاق على المبادرة إلى الفراق يكون إما لنفي أقوال الوشاة عنهم وعن أنفسهم وإما لضجرة تلحقهم من مكروه يقع بهم وإما لنشاط في النَّفس وزهد ليحقها لقوَّة الظَّفر بما قد حصل لها فترى نفسها أجلَّ من محبوبها لأنَّها مالكة ولا شيء في العالم يعدله وهو وإن كان مالكاً لها فإنَّها لا ترى نفسها في حدِّ ما يُفتخر بملكه فهي لهذه العلَّة تتكبَّر عليه.
ولبعض أهل هذا العصر:
أصولُ بهِ تيهاً عليهِ فمنْ رأَى ... منَ النَّاسِ قبلي عاشقاً يتصلَّفُ
إذا خفتُ منهُ الغدرَ أبَى توافياً ... يزولُ بهِ خوفي ويبقَى التَّخوُّفُ
وربَّما أعرض العاشق عن المعشوق إما من جهة الامتحان للصبر وإما لتجديد حاله عند محبوبه وكثيراً ما يجري الأمر في ذلك على ضدِّ تقديره.
وفي هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر:
ألا يا قومِي للهوَى المُتزايدِ ... وطولِ اشتياقِ الرَّاحلِ المُتباعدِ
رحلتُ لكيْ أحظَى إذا أُبتُ قادماً ... فأوردَنِي التّرحالُ سوءَ المواردِ
كأنِّي لديغٌ حارَ عنْ كنهِ دائهِ ... طبيبِ فداواهُ بسمِّ الأساودِ
فمالَ معَ الدَّاءِ القديمِ دواؤهُ ... فيا لكَ مِنْ داءٍ طريفٍ وتالدِ
وقال أبو تمام:
هيَ البدرُ يُغنيها تودُّدُ وجهها ... إلى كلِّ مَنْ لاقتْ وإنْ لم تودَّدِ
علَى أنَّني لمْ أحوِ وفراً مجمَّعاً ... ففزتُ بهِ إلاَّ بشملٍ مبدَّدِ
ولمْ تعطِني الأيَّامُ نوماً مسكِّناً ... ألذُّ بهِ إلاَّ بنومٍ مشرَّدِ
وطولُ مقامِ المرءِ في الحيِّ مُخلِقٌ ... لديباجتيهِ فاغتربْ تتجدَّدِ

فإنِّي رأيتُ الشَّمسَ زيدتْ محبَّةً ... إلى النَّاسِ أنْ ليستْ عليهمْ بسرمدِ
وله أيضاً:
أقلْبي قد أضاقَ بُكاكَ ذرعِي ... وما ضاقتْ بنازلةٍ ذِراعِي
أآلفةَ النَّحيبِ كمِ افتراقٍ ... ألمَّ فكانَ داعيةَ اجتماعِ
وليستْ فرحةُ الأوباتِ إلاَّ ... لموقوفٍ علَى ترحِ الوداعِ
وقال زهير بن أبي سلمى:
لعمركَ والخطوبُ معبِّراتٌ ... وفي طولِ المعاشرةِ التَّقالي
لقدْ باليتُ مظعنَ أُمِّ أوفَى ... ولكنْ أُمُّ أوفَى لا تُبالي
وقال آخر:
وأُعرضُ حتَّى يحسبَ النَّاسُ إنَّما ... بيَ الهجرُ لا واللهِ ما بي لكِ الهجرُ
ولكنْ أرُوضُ النَّفسَ أنظرُ هلْ لها ... إذا فارقتْ يوماً أحبَّتها صبرُ
وقال آخر:
سأرفضُ ما يخافُ عليَّ منهُ ... وأتركُ ما هويتُ لِما خشيتُ
لسانُ المرءِ يُنبي عنْ نجاهُ ... وعيُّ المرءِ يسترهُ السُّكوتُ
وقال آخر:
وكنتُ كذِي داءٍ وأنتَ دواؤهُ ... فهبْني لدائِي إذْ منعتَ شفائيَا
شفائيَ أنْ تختصَّني بكراهةٍ ... وتدرأَ عنِّي الكاشحينَ الأعاديَا
فإلاَّ تنلْني مِنْ يديكَ كرامةٌ ... أُولِّ وأُصبحُ مِنْ قرى الشَّآمِ خاليَا
وأرضَى بأُخرى قد تبدَّلتُ إنَّني ... إذا ساءني وادٍ تبدَّلتُ واديَا
وإلفٍ صبرتُ النَّفسَ عنهُ وقدْ أرَى ... غداةَ فراقِ الحيِّ ألاَّ تلاقيَا
وقدْ قادَني الجيرانُ حبّاً وقدتهمْ ... وفارقتُ حتَّى ما تحنُّ جِماليَا
وقال آخر:
وفارقتُ حتَّى ما أُبالي منَ النَّوى ... وإنْ بانَ جيرانٌ عليَّ كرامُ
فقدْ جعلتْ نفسِي علَى النَّأيِ تنطوِي ... وعَيني علَى فقدِ الحبيبِ تنامُ
وقال عمر بن أبي ربيعة:
وكم مِن خلَّةٍ أعرضتُ عنها ... لغيرِ قلًى وكنتُ بها ضنينا
أردتُ فراقَها فصددتُ عنها ... ولو جُنَّ الفؤادُ بها جنونا
وقال عمر بن نجا:
تقطَّعَ منها الودُّ إلاَّ بقيَّةً ... وحالَ الهوَى عمَّا تريدُ فأبعدَا
فأصبحَ هذا النَّأيُ شيئاً كرهتهُ ... عسَى أنْ ترَى ما تكرهُ النَّفسُ أرشدَا
ولم أرَ منها غيرَ مقعدِ ساعةٍ ... بهِ اختبلتْ عقلِي فيا لكَ مقعدا
وقال أبو تمام:
تصدَّتْ وحبلُ البينِ مستحصدٌ شزرُ ... وقد سهَّلَ التَّوديعُ ما وعَّر الهجْرُ
بكتهُ بما أبكتهُ أيَّامَ صدرُها ... خليٌّ وما يخلو لهُ مِنْ هوًى صدْرُ
وقالتْ أتنسى البدرَ قلتُ تجلُّداً ... إذا الشَّمسُ لن تغربْ فلا طلعَ البدْرُ
فأبدتْ حناناً مِنْ دموعٍ نظامُها ... علَى الخدِّ إلاَّ أنَّ صائغَها الشَّفْرُ
وما الدَّمعُ ثانٍ عزمتي ولَوَ انَّها ... سقى خدَّها مِنْ كلِّ عينٍ لها شفْرُ
وقال آخر:
إذا ما أرادَ الغزوَ لمْ يثنِ همَّهُ ... حصانٌ عليها نظمُ درٍّ يزينُها
نهتهُ فلم ترَ النَّهيَ عاقهُ ... بكتْ فبكَى ممَّا عناها قطينُها
وأنشدني أحمد بن يحيى النحوي:
لمْ أنسَ يومَ الرَّحيلِ عبرَتَها ... وطرفُها في دموعِها غرقُ
وقولَها والرِّكابُ واقفةٌ ... تترُكُني هكذا وتنطلقُ
وقلَّ من اجترأ هذا الضَّرب من الاجتراء وحمل نفسه على هذه الفظاظة والجفاء إلاَّ كان سريع النَّدم على صنيعه شديد الأسف على تصنيعه فكان كالذي يقول معنِّفاً لنفسه وموبِّخاً لها عند ما نزل به:
بكيتَ دماً حتَّى القيامةِ والحشرِ ... ولا زلتَ مغلوبَ العزيمةِ والصَّبرِ
أتظعنُ طوعَ النَّفسِ عمَّن تحبُّهُ ... وتبكِي كما يبكِي المُفارقُ عن صغرِ
أقمْ لا تسِرْ والهمُّ عنكَ بمعزلٍ ... ودمعكَ باقٍ في جفونكَ لا يجرِي
وكالذي يقول:
أتظعنُ عنْ حبيبكَ ثمَّ تبكِي ... عليهِ فمنْ دعاكَ إلى الفراقِ
كأنَّكَ لمْ تذقْ للبينِ طعماً ... فتعلمَ أنَّه مرُّ المذاقِ
أقمْ وانعمْ بطولِ القربِ منهُ ... ولا تظعنْ وتكتبْ باشتياقِ
فما اعتاضَ المفارقُ مِنْ حبيبٍ ... ولو يُعطَى الشَّآمَ معَ العراقِ
وقال يزيد بن الطثرية:

أتبكي علَى ليلَى ونفسكَ باعدتْ ... مزاركَ مِنْ ليلَى وشعباكُما معَا
وما حسناً أنْ تأتيَ الصَّرمَ طائعاً ... وتجزعَ أنْ داعي الصَّبابةِ أسمعَا
قِفا ودِّعا نجداً ومَنْ حلَّ بالحمى ... وقلَّ لنجدٍ عندنا أنْ يودَّعا
وأذكرُ أيَّامَ الحمى ثمَّ ألتوِي ... علَى كبدِي مِنْ خشيةٍ أنْ تصدَّعا
وليستْ عشيَّاتِ الحمى برواجعٍ ... عليكَ ولكنْ خلِّ عينيكَ تدمعَا
وقال أبو تمام:
أصغَى إلى البينِ مغترّاً فلا جرَما ... إنَّ النَّوى أسأرتْ في عقلهِ لمَمَا
أصمَّني سرُّهم أيَّامَ فرقتهمْ ... هل كنتَ تعرفُ شيئاً يورِثُ الصَّمما
نأَى فظلَّتْ لوشكِ البينِ مقلتهُ ... تُبدي نجيعاً ويُبدي جسمهُ سقَما
أظلَّهُ البينُ حتَّى أنَّه رجلٌ ... لو ماتَ مِنْ شغلهِ بالبينِ ما علِما
وقال علي بن الجهم:
يا رحمَتا للغريبِ في البلدِ النَّا ... زحِ ماذا بنفسهِ صنَعا
فارقَ أحبابهُ فنا انتفعُوا ... بالعيشِ مِنْ بعدهِ ولا انتفعَا
وقال المجنون:
فإن ترجعِ الأيَّامُ بيني وبينَها ... بذي الأثلِ صيفاً مثلَ صيفِي ومربَعي
أشدُّ بأعناقِ النَّوى بعدَ هذهِ ... مرائرَ إنْ جاذَبتها لمْ تقطَّعِ
وقال زياد بن أبي زياد:
أطعتُ بها قولَ الوشاةِ فلا أرَى ال ... وشاةَ انتهَوْا عنَّا ولا الدَّهرَ اعْتَبا
فلا تكُ كالنَّاسِي الخليلِ إذا دنتْ ... بهِ الدَّارُ والباكِي إذا ما تغيَّبا
وقال هدبة بن خشرم:
ألا يا لقومِي للنَّوائبِ والدَّهرِ ... وللمرءِ يُردِي نفسهُ وهوَ لا يدرِي
ألا ليتَ شِعري هل إلى أُمِّ معمرٍ ... علَى ما لَقينا مِنْ ثناءٍ ومِنْ هجرِ
تباريحُ يلقاها الفؤادُ صبابةً ... إليها وذِكراها علَى حينِ لا ذكرِ
فيا قلبُ لمْ يألفْ كإلفكَ آلفٌ ... ويا حبَّها لم يغرِ شيءٌ كما تُغري
وما عندَها للمستهامِ فؤادهُ ... بها إنْ ألمَّتْ مِنْ جزاءٍ ومِنْ شكرِ
وقال آخر:
بكرتْ عليكَ فهيَّجتْ وجدا ... بِسُرى الرِّياحِ وأذكرتْ نجدا
أتحنُّ مِنْ شوقٍ إذا ذكرتْ ... نجدٌ وأنتَ تركتَها عمدا
وقال آخر:
ألا هل إلى ليلَى قُبيلَ منيَّتي ... سبيلٌ وهلْ للنَّاجعينَ رجوعُ
إلى اللهِ أشكُو نيَّةً شقَّتِ العصا ... هيَ اليومَ شتَّى وهي أمسِ جميعُ
لعمركَ إنِّي يومَ جرعاءِ مالكٍ ... لعاصٍ لأمرِ العاذلين مُضيعُ
مضَى زمنٌ والنَّاسُ يستشفعونَ بي ... فهلْ لي إلى ليلَى الغداةَ شفيعُ
ندمتُ علَى ما كانَ منِّي ندامةً ... كما ندمَ المغبونُ حينَ يبيعُ
فقدتُك مِنْ قلبٍ شجاعٍ فإنَّني ... نهيتكَ عن هذا وأنتَ جميعُ
وقرَّبتَ لي غيرَ القريبِ وأشرفتْ ... هناكَ ثنايا ما لهنَّ طلوعُ
وقال الوليد بن عبيد الطائي:
قلْ للرِّياحِ إذا جريتِ فبلِّغي ... كبدِي نسيماً مِنْ جنابِ نسيمِ
أُخدعتُ عنكَ وأنتَ بدرٌ خادعٌ ... للَّيلِ عن ظلمٍ بهِ وغيومِ
وظلمتُ نفسِي جاهداً في ظلمِها ... فاسمعْ مقالةَ ظالمٍ مظلومِ
كرُمَ الزَّمانُ ولمتُ فيكَ ولا أرَى ... عجباً سوَى كرمِ الزَّمانِ ولوْمي
لا كانَ حبِّي أينَ كانَ وأنتَ لي ... ملكٌ وعهدي منكَ غيرُ ذميمِ
الآنَ أطمعُ في الوصالِ ودونَنا ... عينُ الرَّقيبِ وبابُ إبراهيمِ
وقال الأحوص:
فوا ندَمِي إذْ لم أعجْ إذْ تقولُ لي ... تقدَّمْ فشيِّعنا إلى ضحوةِ الغدِ
فأصبحتُ ممَّا كانَ بيني وبينها ... سوَى ذكرِها كالقابضِ الماء باليدِ
وقال الحسين بن مطير الأسدي:
لقد كنتُ جلداً قبلَ أن توقدَ النَّوى ... علَى كبدِي ناراً بطيئاً خمودُها
وقد كنتُ أرجو أنْ تموتَ صبابتي ... إذا قدمتْ أيَّامُها وعهودُها
فقدْ جعلتْ في حبَّةِ القلبِ والحشا ... عهودَ الهوَى تُولَى بشوقٍ يعيدُها
وقال آخر:
هممتَ بفرقةٍ والموتُ فيها ... كأنَّكَ حتفَ نفسكَ تستثيرُ
فلا تجسرْ علَى أمرٍ قويٍّ ... عليكَ فربَّما هلكَ الجسورُ

وقال قيس بن ذريح:
وخبَّرتَني يا قلبُ أنَّكَ صابرٌ ... علَى الهجرِ مِنْ لُبنى فسوفَ تذوقُ
فمتْ كمداً أوْ عشْ سقيماً فإنَّما ... تُكلِّفُني ما لا أراكَ تطيقُ
وقال عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود:
فيا مَنْ لنفسٍ لا تموتُ فينقضِي ... عناها ولا تحيَى حياةً لها طعمُ
فذُقْ هجرَها قد كنتَ تزعمُ أنَّه ... رشادٌ ألا يا ربَّما كذبَ الزَّعمُ
وقال ابن الدمينة:
وقد زعمُوا أنَّ المحبَّ إذا دنا ... يملُّ وأنَّ النَّأيَ يشفِي منَ الوجدِ
بكلٍّ تداوَينا فلم يُشفَ ما بنا ... علَى ذاكَ قربُ الدَّارِ خيرٌ منَ البعدِ
وقال آخر:
وأكثرُ ما في النَّفسِ أنِّي صرمتُها ... ولم يتحوَّلْ حبُّها عنْ فؤادِيا
طلبنا دواءَ الحبِّ عصراً فلمْ نجدْ ... منَ الحبِّ إلاَّ مَنْ يحبُّ مُداويا

الباب الخامس والعشرون
في الوداعِ قبلَ الفراقِ بلاغٌ إلى وقتِ التَّلاقِ
فعل الوداع وتركه نقص كله ممن قدر أن يرد الفراق عن نفسه وذلك إن الحزم لأهل الهوى ألاَّ يبسطوا على أرواحهم يد النوى فإن عذاب الهوى مع حضور المحبوب ينغِّص العيش ويبرِّح القلوب فكيف إذا تحكَّم فيه سلطان الفراق وأمدَّت صاحبه الفكر بخواطر الإشفاق والتهبت في الضَّمير لوعات الاشتياق حينئذ تُسكب العبرات وتتمكَّن الحسرات.
وقال حبيب بن أوس الطائي:
أمَّا الهوَى فهوَ العذابُ فإن جرتْ ... فيهِ النَّوى فأَليمُ كلِّ أليمِ
فإن كان لا بدَّ من فراق فلا يكن إلاَّ بعد تشييع ووداع بلغني عن محمد بن سيرين أنَّه قال إن كان لا بدَّ من قيد فليكن مجليّاً.
وفي هذا المعنى يقول بعض أهل هذا العصر:
تمتَّعْ من حبيبكَ بالوداعِ ... فما بعدَ الفراقِ منِ اجتماعِ
فكم جرِّعنَ منْ هجرٍ وغدرٍ ... ومنْ حالِ ارتفاعٍ واتِّضاعِ
وكم كاسٍ أمرَّ منَ المنايا ... شربتُ فلم يضقْ عنها ذِراعي
فلمْ أرَ في الَّذي قاسيتُ شيئاً ... أشدَّ منَ الفراقِ بلا وداعِ
تعالَى اللهُ كلُّ مواصلاتٍ ... وإنْ طالتْ تؤولُ إلى انقطاعِ
واختيارات العشَّاق تفاوتُ في أمر الوداع تفاوتاً شديداً فبعضهم مسارع إلى الفراق تغنُّماً للوداع فمنهم الَّذي يقول:
منْ يكنْ يكرهُ الفراقَ فإنِّي ... أشتهيهِ لموضعِ التَّسليمِ
إنَّ فيهِ عناقة لوداعٍ ... وانتظارِي عناقةً لقدومِ
ومنهم الَّذي يقول:
لستُ ممَّن يذمُّ يومَ الفراقِ ... ولهُ منَّةٌ علَى العشَّاقِ
إنَّ فيهِ اعتناقةً لوداعِ ... وانتظارَ اعتناقِ يومِ التَّلاقِ
وقال البحتري في هذا المعنى وله في ضده وما منهما إلاَّ مختار في بابه:
فأحسنْ بنا والدَّمعُ بالدَّمعِ واشجٌ ... يمازجهُ والخدُّ بالخدِّ مُلصقُ
وقد ضمَّنا وشكُ التَّلاقي ولفَّنا ... عناقٌ علَى أعناقِنا ثمَّ ضيِّقُ
فلمْ ترَ إلاَّ مخبراً عن صبابةٍ ... بشكوَى وإلاَّ عبرةً تترقرقُ
ومِنْ قُبَلٍ قبلَ التَّشاكي وبعدهُ ... نكادُ بها من شدَّةِ اللَّثمِ نشرقُ
فلو فهمَ النَّاسُ التَّلاقي وحسنهُ ... لحُبِّبَ من أجلِ التَّلاقي التَّفرُّقُ
ومنهم من يصبر على الفراق ويتعمَّد التَّخلُّف عن الوداع إشفاقاً من مضاضة وعجزاً عن معاتبة ساعته.
فمنهم البحتري حيث يقول:
اللهُ جاركَ في انطلاقكْ ... تلقاءَ شآمكَ أوْ عراقكْ
لا تعذُلنِّي في خروجِي ... يومَ سرتَ ولمْ أُلاقكْ
إنِّي عرفتُ مواقفاً ... للبينِ تسفحُ غربَ ماقِكْ
وعرفتُ ما يلقَى المودِّ ... عُ عندَ ضمِّكَ واعتناقكْ
وعلمتُ أنَّ لقاءَنا ... سببُ اشتياقِي واشتياقكْ
وتركتُ ذاكَ تعمُّداً ... وخرجتُ أهربُ مِنْ فراقكْ
وحكى أبو سليمان عن ابن الأعرابي أنَّه قال قلت لعمار بن عقيل بن بلال بن جرير ما كان أبوك صانعاً حيث يقول:
لو كنتُ أعلمُ أنَّ آخرَ عهدكمْ ... يومَ الفراقِ فعلتُ ما لمْ أفعلِ

قال فما يهمُّني إن قال كان يقلع عينيه ولا يرى أحبابه الظَّاعنين فمن يقع به الفراق اضطراراً ويترك هو الوداع اختياراً فهو أحسن حالاً ممَّن يضطر إلى الأمرين جميعاً فإن اجتماع الهجر والفراق يتلف مهجة المشتاق.
وفي مثل ذلك يقول البحتري:
عدتْنا عوادِي الحبِّ عنها وزادَنا ... بها كلَفاً أنَّ الوداعَ علَى عتبِ
ولي ظمأٌ لا يملكُ الماءُ دفعهُ ... إلى نهلةٍ مِنْ ريقها الخصر العذبِ
وفي نحوه يقول أبو تمام:
أنأياً واجتناباً أيُّ صبرٍ ... معَ البلوَى يعرِّسُ بين ذينِ
ألمْ يُقنعكَ فيهِ الهجرُ حتَّى ... جمعتَ لقلبهِ هجراً ببينِ
وعلى أنَّ من المحبوبين من يدعوه حضور الفراق إلى الحرص على التَّوديع والتَّلاق فيكون وقوع النَّوى سبباً لاستخراج ما في نفسه من الضِّغن.
فمن ذلك قول أبي تمام:
أعرضتْ برهةً فلمَّا أحسَّتْ ... بالنَّوى أعرضتْ عنِ الإعراضِ
نظرتْ فالتفتُّ منها إلى أح ... لى سوادٍ رأيتهُ في بياضِ
ومنه قول الآخر:
ألمْ ترَ قيسٌ كلُّها أنَّ عزَّها ... غداةَ غدٍ عن دارهِ الدَّهرَ ظاعنُ
هُنالكَ جادتْ بالدُّموعِ موانعُ ال ... عيونِ وسُلَّتْ بالفراقِ الضَّغائنِ
وقال آخر:
عشيَّةَ أدعُو مُسعدي فلمْ أجدْ ... إلى حرِّ ما ألقَى منَ الشَّوقِ مُسعدا
عشيَّةَ زمُّوا للفراقِ جِمالهمْ ... فلمْ ترَ إلاَّ واضعاً في يدي يدا
وقال آخر:
فلا أنسَ مِ الأشياءِ لا أنسَ قولَها ... وأدمعُها يُذرينَ حشوَ المكاحلِ
تمتَّعْ بذا اليومِ القصيرِ فإنَّه ... رهينٌ بأيَّامِ الشُّهورِ الأطاولِ
وقال آخر:
أقولُ لمُقلَتي لمَّا التقينا ... وقدْ شرقتْ مآقيها بماءِ
خُذي لي اليومَ مِنْ نظرٍ بحظٍّ ... فسوفَ تُوكَّلينَ إلى البكاءِ
وقال آخر:
أقولُ لهُ يومَ ودَّعتهُ ... وكلٌّ بعبرتهِ مُبْلِسُ
لئنْ رجعتْ عنكَ أجسامُنا ... لقدْ سافرتْ معكَ الأنفسُ
وأنشدنا أحمد بن يحيى:
إنَّ الظَّعائنَ يومَ جوِّ سويقةٍ ... أبكينَ عندَ فراقهنَّ عيونا
غيَّضنَ مِنْ عبراتهنَّ وقلنَ لي ... ماذا لقيتَ منَ الهوَى ولقينا
وقال جرير:
ودِّعْ أُمامةَ حانَ منكَ رحيلُ ... إنَّ الوداعَ لمنْ تحبُّ قليلُ
تلكَ القلوبُ صوادياً تيَّمْتها ... وأرَى الشِّفاءَ وما إليهِ سبيلُ
أعذرتُ في طلبِ النَّوالِ إليكمُ ... لو كانَ من ملكَ النَّوالَ نبيلُ
وقال ذو الرمة:
لعمركَ إنِّي يومَ جرعاءَ مالكٍ ... لشوقيَ منقادُ الجنيبةِ تابعُ
فأخْذُ الهوَى فوقَ الحلاقيمِ مُخرسٌ ... لنا إذْ نُحيَّا أن نسلِّمَ مانعُ
فلمَّا عرفْنا آيةَ البينِ بغتةً ... وهذا النَّوى بينَ الخليطينِ قاطعُ
لحِقْنا وراجعنا الحمولَ وإنَّما ... تُقضِّي دياناتِ الوداعِ المراجعُ
فلمَّا تلاحقْنا ولا مثلَ ما بنا ... منَ الوجدِ لا تنقضُّ منهُ الأضالعُ
غدونَ فأحسنَّ الوداعَ فلمْ نقلْ ... كما قلنَ إلاَّ أن تشيرَ الأصابعُ
وخالسنَ تبساماً إلينا كأنَّما ... تصيبُ بهِ حبَّ القلوبِ القوارعُ
وقال الحسين بن الضحاك:
هلاَّ رحمتِ تلدُّدَ المشتاقِ ... ومننتِ قبلَ فراقهِ بتلاقي
نفسِي الفداءُ لخائفٍ مترقِّبٍ ... جعلَ الوداعَ إشارةً بعناقِ
إذْ لا جوابَ لمفحمٍ متحيِّرٍ ... إلاَّ الدُّموعُ تصانُ بالإطلاقِ
وقال عبيد الله بن الصمة:
ولمْ أرَ مثلَ العامريَّةِ قبلَها ... ولا بعدَها يومَ التقينا مودِّعا
شكوتُ إليها فيضةَ الحيِّ بالحشا ... وخشيةَ شملِ الحيِّ أنْ يتصدَّعا
فما راجعتْنا غيرَ صمتٍ وإنَّه ... تكادُ لهُ الأحشاءُ أنْ تتقطَّعا
لقد خفتُ أن لا تقنعَ النَّفسُ دونَها ... بشيءٍ منَ الدُّنيا وإنْ كانَ مُقنعا
وأعذلُ فيها النَّفسَ إذا حيلَ دونَها ... وتأبَى إليها النَّفسُ إلاَّ تطلُّعا
وقال الطرماح:
كأنْ لم يرعكَ الظَّاعنونَ ببينهمْ ... بلَى مثلُ فقدِ الظَّاعنينَ يروعُ

يراقبنَ أبصارَ الغيارَى بأعينٍ ... عواذرَ ما تجرِي لهنَّ دموعُ
وقال البحتري:
وقفْنا والعيونُ مثقَّلاتٌ ... يغالبُ طرفَها نظرٌ كليلُ
نهتهُ رِقبةُ الواشينَ حتَّى ... تعلَّقَ لا يفيضُ ولا يسيلُ
وقال قيس بن الحدادية الخزاعي:
أجدَّكَ إنْ نُعمٌ نأتْ أنتَ جازعُ ... وقدْ قربتْ أوْ أنَّ ذلكَ نافعُ
وحسبيَ مِنْ نأيٍ ثلاثةُ أشهرٍ ... ومنْ جزعٍ إنْ زادَ شوقكَ رابعُ
وقالتْ وعيناها تفيضانِ بالبُكا ... بأهليَ خبِّرني متى أنتَ راجعُ
فقلتُ لها تاللهِ يدرِي مسافرٌ ... إذا أضمرتهُ الأرضُ ما اللهُ صانعُ
وقال آخر:
راعكَ البينُ والمحبُّ يراعُ ... حينَ قالُوا تشتُّتٌ وانصداعُ
لستُ أنسَى مقالَها يومَ ولَّتْ ... وقُصارَى المشيِّعينَ الوداعُ
وقال آخر:
ليسَ شيءٌ منَ الفراقِ إذا كا ... نَ أخُو الحبِّ والِهاً كلِفا
أحرقَ منْ وقفةِ المشيِّعِ للقل ... بِ يريدُ الوداعَ مُنصرفا
وقال طريح:
يا ليتَ شِعري عنِ الحيِّ الذينَ غدَوْا ... هل بعدَ فرقتهمْ للشَّملِ مجتمعُ
أتبعتهمْ مقلةً جادتْ بأدمعِها ... والقلبُ منِّي علَى آثارهمْ قطعُ
فكلُّ ما كنتُ أخشَى قد فُجعتُ بهِ ... فليسَ لي منْ فراقٍ مرَّةً جزعُ
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
تقضَّتْ لُباناتٌ وجدَّ رحيلُ ... ولم يُشفَ من أهلِ الصَّفاءِ غليلُ
ومُدَّتْ كفوفٌ للوداعِ فصافحتْ ... وكادتْ عيونٌ للفراقِ تسيلُ
ولا بدَّ للإلفينِ من يومِ لوعةٍ ... إذا ما خليلٌ بانَ عنهُ خليلُ
وكمْ منْ دمٍ قد طُلَّ يومَ تحمَّلتْ ... أوانسُ لا يُودَى لهنَّ قتيلُ
غداةَ جعلتُ الصَّبرَ شيئاً نسيتهُ ... وأعولتُ لو أجدَى عليَّ عويلُ
وقال آخر:
تفرَّقَ أهلي من مُقيمٍ وظاعنٍ ... فللّهِ درِّي أيُّ أهليَّ أتبعُ
أقامَ الأُلى لا أستطيعُ فراقهمْ ... وبانَ الأُلى قلبي بهمْ يتقطَّعُ
بعينيَّ تلكَ العيرُ حتَّى تجاوزتْ ... وحتَّى أتَى من دونِها الخبتُ أجمعُ
وأعرضَ مِنْ رضوَى معَ اللَّيلِ دامسٌ ... هضابٌ تردُّ الطَّرفَ عمَّنْ تشيَّعُ
وقال البحتري:
قد أرتكَ الدُّموعُ يومَ تولَّتْ ... ظعنُ الحيِّ ما وراءَ الدُّموعِ
عبراتٌ ملءَ الجفونِ مَرَتها ... حرقٌ للفراقِ ملءَ الضُّلوعِ
إنْ يثُبْ وادعُ الضَّميرِ فعندِي ... نصبٌ مِنْ عشيَّةِ التَّوديعِ
فُرقةٌ لم تدعْ لعينيْ محبٍّ ... نظراً بالعقيقِ غيرَ الرُّبوعِ
وقال أيضاً:
رحلُوا فأيَّةُ عبرةٍ لم تُسكبِ ... أسفاً وأيُّ عزيمةٍ لم تُغلبِ
لو كنتَ شاهدَنا وما صنعَ الهوَى ... بقلوبِنا لحسدتَ مَنْ لم يُحببِ
وقال أيضاً:
منزلٌ هاجَ لي الصَّبابةَ والشَّو ... قُ قريني وساءَ ذاكَ قرينا
وتودُّ القلوبُ يومَ استقلَّتْ ... ظعنُ الحيِّ أن تكونَ عيونا
فاتْرُكاني فما أُطيعُ عذولاً ... واخْذُلاني فما أُريدُ مُعينا
وقال أبو تمام:
لا أظلمَ النَّأيُ قدْ كانتْ خلائقُها ... من قبلِ وشكِ النَّوى عندي نوًى قذُفا
ودِّعْ فؤادكَ توديعَ الفراقِ فما ... أراهُ مِنْ سفرِ التَّوديعِ مُنصرفا
وقال آخر:
لم أنسَ إذْ قالتْ غداةَ النَّوى ... ودمعُها منحدرٌ واكفُ
لأنتَ أحلَى مِنْ لذيذِ الكرَى ... ومِنْ أمانٍ نالهُ خائفُ
وقال البحتري:
وانثنتْ وُجهةَ الفراقِ فأرسلْ ... تُ إليها عيناً عليها تجودُ
نظرةٌ خلفَها الدُّموعُ عِجالاً ... تتمارَى ودونَها التَّسهيدُ
أترى فائتاً يرجَّى ويوماً ... مثلَ يومِي برامَتينِ يعودُ
وقال بعض الظاهريين:
قفِي ودِّعينا قبلَ أنْ تصدعَ النَّوى ... بوصلكِ شملاً لم يكنْ متصدِّعا
ولا تجمعِي هجراً عليَّ وفرقةً ... فما جُمعا قبلِي علَى عاشقٍ معَا

الباب السادس والعشرون
ما خُلق الفراق إلاَّ لتعذيب العشَّاق
أما الفراق فمستغنٍ ببشاعة اسمه عن الإغراق في وصفه.

ولقد أحسن حبيب بن أوس الطائي في قوله:
أخٌ لي لَوُ اعطيتُ المُنى باسمِ فقدهِ ... بلا فقدهِ كانتْ بهِ ثمناً بخسَا
فلو أنَّ نفسِي ألفُ نفسٍ لما انثنتْ ... يدُ البينِ أو تُودِي بآخرها نفسَا
وقد اختلف العشاق في التفصيل والفراق فمن أهل الهوى من يُعظم شأن الهجر على شأن النَّوى وينشد محتجّاً لذلك:
وأنقذَها مِنْ غمرةِ الموتِ أنَّه ... صدودُ فراقٍ لا صدودُ تعمُّدِ
فأجرَى لها الإشفاقُ دمعاً مورَّداً ... من الدَّمِ يجرِي فوقَ خدٍّ مورَّدِ
وأكثر أهل هذا الشأن يُغلبون شأن النَّوى على شأن الهجر بل يغلِّبونه على كل مكروه من الأمر غير الخيانة والغدر.
ولقد أحسن أبو تمام حبيب بن أوس الطائي حيث يقول:
وكانَ عزيزاً أنَّ بيني وبينكمْ ... حجاباً فقدْ أصبحتُ منكمْ علَى شهرِ
وأبكاهُما للعينِ واللهِ إنَّني ... أُحاذرُ أنْ لا نلتقي آخرَ الدَّهرِ
وكمْ دونَنا مِنْ مهمهٍ مُتنازحٍ ... ومن جبلٍ وعرٍ ومن بلدٍ قفرِ
وما زلتُ أرضى مِنْ خليلِي بهجرهِ ... فأحسبُ أنْ لا داءَ أدوَى منَ الهجرِ
إلى أنْ رمانا دهرُنا بتفرُّقٍ ... فأيقنتُ أنَّ البينَ قاصمةُ الظَّهرِ
ونحن نقول الآن الفرقان بين الفراق والهجران الَّذي يعظم عندي أمر الهجر إنَّما هو منسبة ما بينه وبين الغدر لأنَّ الهجر إذا خرج عن أن يكون عقاباً على ذنبٍ أو تذلُّلاً بإظهار تجنٍّ أو عتب أو مراقبة لواشٍ أو مللاً من العذل فلا معذر له غير الغدر والخيانة وترك المقام للهوى بحق الرعاية فهذا أصعب أسباب الهجر ومما ينقص من صعوبته ويكفُّ من عاديته أنَّه إذا جرى هذا المجرى لحق المقصود به ضربٌ من الغيظ لقبح ما صنع به عن غير سبب موجب له وليس شخص المحبوب بناءٍ عن نظره فيتمالك عنه من إزعاج الشوق بفكره ما يذهب بغيظه ويُلين من قلبه ومع الفراق زوال ذلك كله لأن غيبة الشخص عن الناظر مزيلة لكل غيظ وغافرة لكل ذنب وذاهبة بكل عجب يتداخل المحبوب والمحب فالنفوس تذل للفراق وتنقاد معه لدواعي الإشفاق والاشتياق فهذا مقدار ما يتسهّل لنا من وصفهما ويجوز أن نقطع به من الحكم بينهما.
قال ابن ميادة:
سلِ اللهَ صبراً واعترفْ بفراقِ ... عسى بعدَ بينٍ أن يكونَ تلاقي
ألا ليتني قبلَ الفراقِ وبعدهُ ... سقاني بكأسٍ للمنيَّةِ ساقي
وقال آخر:
فوا حسرتا لمْ أقضِ منكمْ لُبانة ... ولم أتمتَّعْ بالجوارِ وبالقُربِ
وفُرِّقَ بيني في المسيرِ وبينكمْ ... فها أنذا قاضٍ علَى إثركمْ نحْبي
وقال آخر:
ألا مَنْ لقلبٍ مُعرضٍ للنَّوائبِ ... رمتْهُ خُطوبُ الدَّهرِ من كلِّ جانبِ
تبيَّنَ يومَ البينِ أنَّ اعتزامه ع ... لى الصَّبرِ من إحدى الظُّنونِ الكواذبِ
وقال آخر:
مَنْ كانَ لمْ يذُقِ الهوَى أوْ ذاقهُ ... فلقدْ أخذتُ منَ الهوَى بنصيبِ
فرأيتُ أنَّ أشدَّ كلِّ بليَّةٍ ... قُضيتْ علَى أحدٍ فراقُ حبيبِ
وقال أبو تمام:
لو كانَ في البينِ إذْ بانوا لهمْ دعَةٌ ... لكانَ بينهمُ منْ أعظمِ الخطرِ
فكيفَ والبينُ موصولٌ بهِ تعبٌ ... يكلِّفُ البيدَ في الإدلاجِ والبُكرِ
لو أنَّ ما تبتليني الحادثاتُ بهِ ... يكونُ بالماءِ لم يُشربْ من الكدرِ
لو كانَ بالعيسِ ما بي يومَ رحلتهمْ ... أعيَتْ علَى السَّائقِ الحادي فلم تسرِ
كأنَّ أيدي مطاياهُمْ إذا وخدَتْ ... يقعْنَ في حُرِّ وجهي أوْ علَى بصري
وقال ابن الدمينة:
إلى اللهِ أشكو مُضمراتٍ من الهوَى ... طواهُنَّ طولُ النَّأيِ طيَّ الصَّحائفِ
أقامَ بنحْوِ الماءِ قلبي وباعدَتْ ... بسائرِ جِثماني قلاصُ الغلائفِ
وقال معاذ ليلَى العقبلي:
أقامَ فريقٌ من أُناسٍ تودُّهمْ ... بذاتِ الشَّرى عندي وبانَ فريقُ
بحاجةِ محزونٍ ثباتُ فؤادهِ ... رهينٌ ببيضاتِ الحجالِ صديقُ
تحمَّلْنَ أنْ هبَّتْ لهنَّ عشيَّةً ... جَنوبٌ وأنْ لاحتْ لهنَّ بروقُ
فواكبدي أُكْوى عليها وإنَّها ... مخافةَ هيضاتِ النَّوى لخَفوقُ
وقال المعلوط:

دعوْتُ ربِّي دُعائي فاستجابَ لهُ ... كما دعا ربَّهُ نوحٌ وأيَّوبُ
أن ينزعَ الدَّاءَ من قلبي ويجعلهُ ... في قلبِ سُلمى وحملُ الدَّاءِ تعطيبُ
لِيُبرئَ اللهُ قلباً من صبابتهِ ... فلا أحنُّ إذا حنَّ المطاريبُ
قلبي بنجدٍ وأجلادي تهاميةٌ ... ما بعد هذا منَ التَّعذيبِ تعذيبُ
وقال جران العود ومن النَّاس من يرويه لذي الرمة:
أيا كبدي كادتْ عشيَّةَ غُرَّبٍ ... منَ الوجدِ إثرَ الظَّاعنينَ تصدَّعُ
عشيَّةَ ما فيمنْ أقامَ بغُرَّبٍ ... مُقامٌ ولا فيمنْ مضى مُتسرَّعُ
عشيَّةَ ما لي حيلةٌ غيرَ أنَّني ... بلفظِ الحصى والخطِّ في الدَّارِ مولعُ
أخطُّ وأمحو كلَّ خطٍّ خططْتُهُ ... بكفِّيَ والغِربانُ في الدَّارِ وقَّعُ
كأنَّ سناناً فارسيّاً أصابني ... علَى كبدي بلْ لوعةُ الحبِّ أوجعُ
وما يُرجعُ الشَّوقُ الزَّمانَ الَّذي مضى ... ولا للفتى في دمنةِ الدَّارِ مَجزعُ
فما كانَ مشؤوماً لنا طائرُ الهوَى ... ولا ذلَّ للبينِ الفؤادُ المروَّعُ
وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر لطفيل الغنوي:
وما أنا بالمُستنكرِ البينِ إنَّني ... بذي لطَفِ الجيرانِ قِدْماً مُفجَّعُ
جديرٌ بهِ من كلِّ حيٍّ لقيتهُمْ ... إذا أنسٌ عزُّوا عليَّ تصدَّعوا
وقال آخر:
أمَّا الرَّحيلُ فحينَ جدَّ ترحَّلتْ ... مهجُ النُّفوسِ لهُ عنِ الأجسادِ
من لم يمُتْ والبينُ يصدعُ شملَهُ ... لم يدْرِ كيفَ تفتُّتُ الأكبادِ
وقال إسحاق الموصلي:
إقْرَ السَّلامَ علَى الذَّلفاءِ إذْ شحطَتْ ... وقُلْ لها قد أذقْتِ القلبَ ما خافا
فما وجدْتُ إلى إلفٍ فُجعتُ بهِ ... وجدي عليكِ وقد فارقتُ أُلاَّفا
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر:
خليليَّ إنِّي لم أجدْ بردَ مشربٍ ... ولا طعمَ نومٍ مُذْ نأتْ أمُّ حاجبِ
وما زالَ مذْ لم يلقها القلبُ صادياً ... وإن كانَ يُسقى من لذيذِ المشاربِ
وقال آخر:
أحجَّاجَ بيتِ اللهِ في أيِّ هودجٍ ... وفي أيِّ خِدرٍ من خدوركمُ قلبي
أأبقى أسيرَ الحبِّ في أرضِ غُربةٍ ... وحاديكمُ يحدو بقلبي معَ الرَّكبِ
وقال الحسين الخليع:
بنفسي حبيبٌ أَمَّ مكَّةَ مُكرهاً ... يُعالجُ مستوراً منَ الحزنِ والألمْ
كلانا وحيدٌ لا يُسرُّ بمؤْنسٍ ... منَ النَّاسِ حتَّى تنقضي الأشهرُ الحرمْ
أحنُّ إلى شهرِ المحرَّمِ ليتهُ ... غَداةَ غدٍ قد كانَ أوْ بانَ فانصرمْ
أُلامُ علَى شُغلي بمن أنا شغلهُ ... إذا طافَ أوْ أصغى إلى الرُّكنِ فاستلمْ
سترْنا بظهرِ الغيبِ ما كانَ بيننا ... ونحفظُ عهدينا علَى رغمِ منْ رغمْ
وقال ذو الرمة:
أراحَ فريقُ جيرتِكَ الجِمالا ... كأنَّهمُ يريدونَ انتقالا
فكدْتُ أموتُ من حزنٍ عليهمْ ... ولمْ أرَ صاحبَ الأظعانِ آلا
وميَّةُ في الظَّعائنِ وهيَ شكَّتْ ... سوادَ القلبِ فاقتُتِلَ اقتتالا
ولمْ أرَ مثلَها نظراً وعيناً ... ولا أُمَّ الغزالِ ولا الغزالا
هيَ السُّقمُ الَّذي لا بُرءَ منهُ ... وبُرءُ السُّقمُ لو بذلتْ نوالا
وقال معقل بن عيسى أخو أبي الدلف:
لَعمري لئنْ قرَّتْ بقُربكَ أعينٌ ... لقد سخنَتْ بالقربِ منكَ عيونُ
فسرْ أوْ أقمْ وقْفٌ عليكَ مودَّتي ... مكانُكَ منْ قلبي عليكَ مصونُ
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
راحوا ورحنا علَى آثارهمِ أُصُلاً ... مُحمِّلينَ منَ الأثقالِ أوقارا
كأنَّ أنفُسنا لم ترتحلْ معنا ... أوْ سرنَ في أوَّلِ الحيِّ الَّذي سارا
وقال آخر:
عجِلَ الفِراقُ بما كرهْتُ وطالما ... كانَ الفِراقُ بما كرهْتُ عجولا
وأرى الَّتي هامَ الفؤادُ بذكرِها ... أصبحْتُ منها فارغاً مشغولا
وقال آخر:
بنفسيَ مَنْ أُمسي وأُضحي لنأيهِ ... وشوقي إليهِ في عناءٍ وفي كرْبِ
فإنْ يرتحلْ جسمي معَ الرَّكْبِ مُكرهاً ... يُقمْ عندها قلبي وأمضي بلا قلبِ
ولبعض أهل هذا العصر:

وكنتُ أرى أن قدْ تناهى بيَ الهوَى ... إلى غايةٍ ما بعدها ليَ مذهَبُ
فلمَّا تفرَّقنا تذكَّرْتُ ما مضى ... فأيقنتُ أنِّي إنَّما كنتُ ألعبُ
فقدْ والَّذي لو شاءَ لم يخلُقِ النَّوى ... عُرضْتُ فما أدري إلى أينَ أذهبُ
وقال آخر:
وأخلَتْ فشطَّتْ عن مُقامي وخانني ... وما ... مِنْ ضنى الموتِ لا تُخلي
لقدْ غادرتْني لا صحيحاً لصحَّتي ... ولا راجياً بِراً ولا مُدركاً تبْلي
وقال آخر:
أغارَ علينا الدهرُ حتَّى كأنَّما ... يُطالبنا الدَّهرُ المغيرُ بأوتارِ
بتشتيتِ أُلاَّفٍ وتغريبِ منزلٍ ... وتفريقِ إخوانٍ وتقليبِ أوطارِ
وقدْ علمَ الدَّهرُ الخؤونُ بأنَّني ... أصولُ عليهِ صوْلةَ الأسدِ الضَّاري
وقال علي بن محمد العلوي الكوفي:
ولقدْ نظرْتُ إلى الفراقِ ولم أجد ... للموتِ لو فُقدَ الفراقُ سبيلا
يا ساعةَ البينِ انبري فكأنَّما ... واصلتِ ساعاتِ القيامةِ طولا
وقال الطائي:
يومَ الفراقِ لقدْ خُلقتَ طويلا ... لم تُبقِ لي صبراً ولا معقولا
لو حارَ من قادَ المنيَّةَ لمْ يُردْ ... إلاَّ الفراقَ علَى النُّفوسِ دليلا
قالوا الرَّحيلُ فما شككْتُ بأنَّها ... نفسي عنِ الدُّنيا تريدُ رحيلا
الصَّبرُ أجملُ غيرَ أنَّ تلذُّذاً ... في الحبِّ أحرى أن يكونَ جميلا
أتظنُّني أجدُ السَّبيلَ إلى العزا ... وجدَ الحِمامُ إذاً إليَّ سبيلا
ردُّ الجموحِ الصَّعبِ أسهلُ مطلباً ... من ردِّ دمعٍ قدْ أرادَ مسيلا
وقال أبو تمام:
نوًى كانقضاضِ النَّجمِ كانتْ نتيجةً ... منَ الهزلِ يوماً إنَّ هزْلَ الهوَى جِدُّ
فلا تحسِبا هنداً لها الغدرُ وحدها ... سجيَّةُ نفسٍ كلُّ غانيةٍ هنْدُ
وكمْ تحتَ أوراقِ الصَّبابةِ من فتًى ... منَ القومِ حُرٍّ دمعهُ للهوى عبدُ
محمَّدُ يا ابن الهيثمِ انقلبَتْ بنا ... نوًى خطأٌ في عقبها لوعةٌ عمْدُ
وحقدٌ منَ الأيَّامِ وهيَ قديرةٌ ... وشرُّ السَّجايا قُدرةٌ حازها حقدُ
وقال علي بن محمد العلوي:
أتْبعتهُمْ نفساً تَدْمى مسالكهُ ... كأنَّهُ من حِمى الأحشاءِ مقدودُ
ما زلتُ أعرفُ أيَّامي وأُنكرُها ... حتَّى انبرتْ وهيَ لا بيضٌ ولا سودُ
خاضتْ بيَ الشَّكَّ حتَّى قالَ قائلُها ... لا القربُ قرْبٌ ولا التَّبعيدُ تبعيدُ
وقال آخر:
لَعمري لئنْ شطَّتْ بعُتمةَ دارُها ... لقد كنتُ من وشكِ الفراقِ أُليحُ
أروحُ بهمٍّ ثمَّ أغدو بمثلهِ ... وتحسبُ أنِّي في الثِّيابِ صحيحُ
وقال آخر:
سنحَ الهوَى فكتمْتُ نفسي حاجةً ... بلغَ التَّجلُّدَ ذو العزاءِ الصَّابرِ
نهوى الخليطَ وإنْ أقمْنا بعدهُ ... إنَّ المقيمَ مكلَّفٌ بالسَّائرِ
وقال آخر:
وفي الجيرةِ الغادينَ من بطنِ وجْرةٍ ... غزالٌ أحمُّ المُقْلتينِ ربيبُ
فلا تحسبي أنَّ الغريبَ الَّذي نأى ... ولكنَّ مَنْ تنأيْنَ عنهُ غريبُ
وقال آخر:
تركْتِ بقلبي من فراقكِ لوعةً ... ستُتْلفُ ما أبقى وداعُكِ من نفسي
أروحُ وأغدو مُستكيناً كأنَّني ... أُراقبُ حتفي حينَ أُصبحُ أوْ أُمسي

الباب السابع والعشرون
من غاب قرينهُ كثر حنينه
من شأن من غاب عن خليله أن تناله حيرةٌ في جميع أموره يصحو عنها ويرجع إليه تمييزه فمن كان المتناول له من تلك الحيرة والآخذ بعنانه من تلك الغمرة داعٍ من غلبات الاشتياق وناهٍ عن المقام في قبضة الفراق لم يتمالك عن أحبابه وقتاً من الأوقات ولم يتشاغل عنهم بضربٍ من اللذَّات ومن كان الآخذ بيده من تلك الغمرات والمتخلِّص بخواطره من تلك السَّكرات ضرباً من الاشتغال بغير تلك الحال سلا على مرِّ الأيَّام والليالي وما دام في تلك الحيرة فهو متشاغل بتذكُّر من فارقه والشَّوق والحنين إلى من خلَّفه ألم تسمع الَّذي يقول:
وإنَّ امرءاً في بلدةٍ نصفُ قلبهِ ... ونصفٌ بأُخرى غيرِها لصبورُ
وددْتُ من الشَّوقِ المُبرِّحِ أنَّني ... أُعارُ جناحَيْ طائرٍ فأطيرُ

فما من نعيمِ العيشِ بعدكِ لذَّةٌ ... ولا لسرورٍ لستِ فيهِ سرورُ
والَّذي يقول:
بأكنافِ الحجازِ هوًى دفينُ ... يؤرِّقُني إذا هدَتِ العيونُ
أحنُّ إلى الحجازِ وساكنيهِ ... حنينَ الإلفِ فارقهُ القرينُ
وأبكي حينَ ترقدُ كلُّ عينٍ ... بكاءً بينَ زفرتهِ أنينُ
وقال آخر:
ذكرتُكِ ذكرى هائمٍ بكِ تنتهي ... إليكِ أمانيهِ وإنْ لم يكنْ وصلُ
وليسَتْ بذكرى ساعةٍ بعدَ ساعةٍ ... ولكنَّها موصولةٌ ما لها فصلُ
وقال أبو عطاء السندي:
ذكرتُكِ والخطِيُّ يخطرُ بيننا ... وقدْ نهكَتْ منَّا المُثقَّفةُ السُّمْرُ
فوالله ما أدري وإنِّي لصادقٌ ... أداءٌ عناني منْ ودادكِ أمْ سحْرُ
فإنْ يكُ سحراً فاعذُريني علَى الهوَى ... وإنْ يكُ داءً غيرَهُ فلكِ العُذرُ
وقال آخر:
ألا يا لقومي للصَّبابةِ والذِّكرِ ... وللقدَرِ السَّاري إليكَ ولا تدري
وللشَّيءِ تنساهُ وتذكرُ غيرَهُ ... وللشَّيءِ لا تنساهُ إلاَّ علَى ذكرِ
وقال آخر:
دعاكِ ضمانُ اللهِ يا أمَّ مالكٍ ... ولله أنْ يشفينَ أغنى وأوسعُ
يُذكِّرُنيكِ الخيرُ والشَّرُّ والَّذي ... أخافُ وأرجو والَّذي أتوقَّعُ
وقال مسلم بن الوليد:
يذكِّرُنيكَ البُخْلُ والجودُ والعلى ... وقيلُ الخنا والحلمُ والعلمُ والجهلُ
فألقاكَ عن مكروهِها مُتنزِّهاً ... وألقاكَ في محمودها ولكَ الفضلُ
وقال آخر:
ذكرْتُ بهِ منْ لنْ أُبالي بذكرهِ ... تفرُّقَ شعبٍ في النَّوى مُتزايلِ
وإنَّ امرءاً بالشَّامِ أكثرُ أهلهِ ... وبُطنانَ ليسَ الشَّوقُ عنهُ بغافلِ
وقال آخر:
وذكرْتُ هنداً والمطايا تعتلي ... بالقومِ قد قطعوا العقيقَ وأنجدوا
بعُدَ الطَّريقُ فباتَ يقسمُ أمرهُ ... أيجودُ بالعبراتِ أمْ يتجلَّدُ
ولقدْ حُبستُ علَى البِعادِ فزادني ... طولُ البِعادِ حرارةً لا تبردُ
وقال معاذ ليلَى:
ذكرتُكِ حيثُ استأمنَ الوحشُ والتقتْ ... رفاقٌ منَ الآفاقِ شتَّى شعوبُها
وعندَ الحطيمِ قدْ ذكرتُكِ ذكرةً ... أرى أنَّ نفسي سوفَ يأتيكِ حوبُها
دعا المحرمونَ اللهَ يستغفرونهُ ... بمكَّةَ يوماً أنْ تُمحَّى ذنوبُها
فناديْتُ أنْ يا ربِّ أوَّلُ سِئلتي ... لنفسيَ ليلَى ثمَّ أنتَ حسيبُها
فإنْ أُعْطَ ليلَى في حياتيَ لا يتُبْ ... إلى اللهِ عبدٌ توبةً لا أتوبُها
وقال آخر:
لقدْ زادني الحُجَّاجُ شوقاً إليكمُ ... وما كنتُ قبلَ اليومِ للحجِّ قاليا
وما نظرتْ عيني إلى شخصِ قادمٍ ... من الحجِّ إلاَّ بلَّ دمعي ردائيا
وقال آخر:
فما وجدَتْ كوجدي أمُّ سقْبٍ ... أضاعتْهُ فرجَّعتِ الحنينا
ولا شمطاءُ لمْ تترُكْ شفاها ... لها من تسعةٍ إلاَّ حُنينا
وقال بعض الأعراب:
وما وجدُ أعرابيَّةٍ قذفَتْ بها ... نوى غُربةٍ من حيثُ لم تكُ طُلَّتِ
تمنَّتْ أحاليبَ الرَّعاءِ وخيمةً ... بنجدٍ فلمْ يُقدرْ لها ما تمنَّتِ
إذا ذكرَتْ ماءَ العضاهِ وطيبهُ ... وبردَ الحصى من نحوِ نجدٍ أرنَّتِ
بأعظمَ من وجدٍ بريَّا وجدْتهُ ... غداةَ غدوْنا غُربةً واطمأنَّتِ
فإنْ يكُ هذا آخرَ العهْدِ منهمُ ... فهذا الَّذي كُنَّا ظننَّا وظنَّتِ
وقال الحسين الخليع:
يا مَنْ شغلْتُ بهجرهِ ووصالهِ ... هِممَ المُنى ونسيتُ يومَ معادي
والله ما التقتِ الجفونُ بطرفةٍ ... إلاَّ وذِكرُكَ خاطرٌ بفؤادي
وقال ذو الرمة:
إذا خطرَتْ من ذكرِ ميَّةَ خطرةٌ ... علَى القلبِ كادَتْ في فؤادِكَ تجرحُ
علَى حينِ راهقْتُ الثَّلاثينَ وارعوَتْ ... لِداتي وكادَ الحلمُ بالجهلِ يرجحُ
ذكرتُكِ أنْ مرَّتْ بنا أمُّ شادنٍ ... أمامَ المطايا تشرئبُّ وتسنحُ
رأتنا كأنَّا عامدونَ لقصدِها ... بهِ فهيَ تدنو تارةً وتزَحْزحُ
هيَ الشِّبهُ أعطافاً وجيداً ومُقلةً ... وميَّةُ أبهى بعدُ منها وأملحُ
وأنشدتني أعرابية بالبادية:

هلِ الشَّوقُ إلاَّ مثلُ ما أتكلَّفُ ... أبينُ وعيني ما تَني الدَّهرَ تذرفُ
تذكَّرْتُ بيتاً من نُعيْمةَ والنَّوى ... قريبٌ وقد كانَ الَّذي أتخوَّفُ
فقدْ ظنَّ هذا القلبُ أنْ ليسَ ناظراً ... إلى وجهها ما كذَّبَ الله خندفُ
فيا قلبُ صبراً واعترافاً بما قضى ... لكَ الله إنَّ الحرَّ بالصَّبرِ يُعرفُ
تجلَّدْ وأجملْ واصطبرْ وازجُرْ الأسى ... لعلَّ النَّوى يوماً بنعمةَ تُسعفُ
عسى دارُها أنْ ترعَوي بعدَ بُعدها ... عليكَ وتلقاها كما كنتَ تعزفُ
وقال آخر:
هلِ الشَّوقُ إلاَّ أنْ يحنَّ غريبُ ... وأنْ يستطيلَ العهدُ وهوَ قريبُ
لياليَ يدعوني الصِّبى فأُجيبهُ ... وللشَّوقِ داعٍ مُسمعٌ ومُجيبُ
وقائلةٍ ما بالُ لونكَ شاحباً ... وأهونُ ما بي أنْ يكونَ شحوبُ
فقلتُ لها في الصَّدْرِ منِّي بلابلُ ... تقطَّعُ أنفاسي لها وتذوبُ
وقال بعض الأعراب:
ولو أنَّ ما ألقى وما بي منَ الهوَى ... بأرعنَ رُكناهُ صفاً وحديدُ
تفطَّرَ من وجدٍ وذابَ حديدهُ ... وأمسى تراهُ العينُ وهوَ عميدُ
ثلاثونَ يوماً كلَّ يومٍ وليلةٍ ... أموتُ وأحيا إنَّ ذا لشديدُ
وقال آخر:
أصابني بعدكِ ضُرُّ الهوَى ... ومسَّني كربٌ وإقلاقُ
ويعلمُ اللهُ بحسْبي بهِ ... أنِّي إلى وجهكِ مُشتاقُ
وقال آخر:
أحنُّ إلى ليلَى وقد شطَّتِ النَّوى ... بليلى كما حنَّ اليراعُ المُثقَّبُ
يقولونَ ليلَى عذَّبتْكَ بحبِّها ... ألا حبَّذا ذاكَ الحبيبُ المعذِّبُ
وقال آخر:
أحنُّ إلى أرضِ الحجازِ وحاجتي ... خيامٌ بنجدٍ دونها الطَّرفُ يقصرُ
وما نظري من نحوِ نجدٍ بنافعي ... أجلْ لا ولكنِّي علَى ذاكَ أنظرُ
أفي كلِّ يومٍ نظرةٌ ثمَّ عَبرةٌ ... بعينيكَ يجري ماءها يتحدَّرُ
متى يستريحُ القلبُ إمَّا مُجاورٌ ... حزينٌ وإمَّا نازحٌ يتذكَّرُ
ولبعض أهل هذا العصر:
كفى حَزناً ألا أُعاينَ بُقعةً ... من الأرضِ إلاَّ زدْتُ شوقاً إليكمُ
وإنِّي متى ما طابَ لي خفضُ عيشةٍ ... تذكَّرتُ أيَّاماً مضتْ لي لديكمُ
فنغَّصَ تَذكاري لها طيبَ عيشَتي ... فقلتُ سيفْنَى ذا فيأسى عليكمُ
وقال آخر:
لئنْ درسَتْ أسبابُ ما كانَ بيننا ... منَ الوصلِ ما شوقي إليكِ بدارسِ
ولا أنا منْ أنْ يجمعَ اللهُ بيننا ... علَى جُمْلِ ما كنَّا عليهِ بيائسِ
وقال آخر:
خليليَّ لا تستسلما وادعوا الَّذي ... لهُ كلُّ أمرٍ أنْ يصوبَ ربيعُ
حياً لبلادٍ طيَّرَ المحْلُ أهلها ... وجبراً لعظْمٍ في شظَناهُ صدوعُ
عسى أنْ يحلَّ الحيُّ جرعاءَ وابلٍ ... وعلَّ النَّوى بالظَّاعنينَ تريعُ
أفي كلِّ عامٍ زفرةٌ مُستجدَّةٌ ... تضمَّنُها منِّي حشًى وضلوعُ
وقال أبو تمام:
إذا بنْتَ لم أحزَنْ لفقدِ مُفارقٍ ... سواكَ ولمْ أفرحْ بقربِ مُقيمِ
فيا ليتني أفديكَ من غُربةِ النَّوى ... بكلِّ خليلٍ واصلٍ وحميمِ
وقال آخر:
إذا كنتَ لا يُسليكَ عمَّنْ تحبُّهُ ... فراقٌ ولا يشفيكَ طولُ تلاقِ
فهلْ أنتَ إلاَّ مُستعيرٌ حُشاشةً ... بمهجةِ نفسٍ آذنتْ بفراقِ
وقال يزيد بن الطثرية:
ولمَّا رأيتُ البِشرَ قد حالَ دونهمْ ... ووافَتْ بناتُ الصَّدرِ يهوينَ نُزَّعا
تلفَّتُّ نحوَ الحيِّ حتَّى رأيتُني ... وجعْتُ منَ الإصغاءِ ليتاً وأخدعا
وقال ابن الدمينة:
حننْتُ لذكرى منْ أميمةَ وارْعوى ... لها من قديماتِ الهوَى كلُّ سالفِ
حنيناً ولوعاتٍ يفضنَ لها سوى ... بوادرِ غرباتِ الدُّموعِ الذَّوارفِ
وقال بعض الأعراب:
فلا تُشرفنْ رأسَ اليفاعِ فإنَّني ... لدى الشَّوقِ من رأسِ اليفاعِ قديرُ
إذا شرفَ المحزونُ بشراً رأيتهُ ... يُسكِّنُ أحشاءً تكادُ تطيرُ
وقال الحسين بن مطير:
إذا ارتحلتْ منْ ساحلِ البحرِ رِفقةٌ ... مشرِّقةٌ هاجَ الفؤادَ ارتحالُها

فإنْ لا يُصاحبْها يُتبِّعْ بأعينٍ ... سريعٍ برقراقِ الدُّموعِ اكتحالُها
وقال أيضاً:
أحنُّ ويثنيني الهوَى نحوَ يثربٍ ... ويزدادُ شوقي كلَّ ممسًى وشارقِ
كذاكَ الهوَى يُزري بمنْ كان عاشقاً ... ونوْلُ الهوَى يحنو علَى كلِّ عاشقِ
وقال آخر:
فما سرْتُ من ميلٍ ولا بتُّ ليلةً ... منَ الدَّهرِ إلاَّ اعتادني لكِ طائفُ
وكمْ من بديل قدْ وجدنا وطوْفةٍ ... فتأبى عليَّ النَّفسَ تلكَ الطَّوائفُ
وقال زيادة بن زيد:
تذكَّرَ عنْ شحطٍ أُميمةَ فارْعوى ... لها بعدَ إقصارٍ وطولِ نُكوبِ
وإنَّ امرءاً قدْ جرَّبَ الدَّهرَ لم يخفْ ... تقلُّبَ عصريهِ لغيرُ لبيبِ
هلِ الدَّهرُ والأيَّامُ إلاَّ كما أرى ... رزيَّةُ مالٍ أوْ فراقُ حبيبِ
ولبعض أهل هذا العصر:
إلى اللهِ أشكو عبرةً قد أظلَّتِ ... ونفساً إذا ما عزَّها الشَّوقُ ذلَّتِ
تحنُّ إلى أرضِ الحجازِ ودونها ... تنائفُ لو تسري بها الرِّيحُ ضلَّتِ
وإنِّي بها لو لا أماني تغرُّها ... وقد أرجفتْ هوجُ المطايا وكلَّتِ
أأمنعُ منْ وادي زُبالةَ شربةً ... وقدْ نهِلتْ منهُ الكلابُ وعلَّتِ
سقى اللهُ رملَ القاعِ والقاعَ فاللِّوى ... فقدْ عطفَتْ نفسي إليهِ وحنَّتِ
وأسقى لِوى جبليْ زرودَ ومُرْبخاً ... سحائبُ لا يلقى الظَّما ما أظلَّتِ
هممْتُ فلمْ أربعْ علَى الفكْرِ لحظةً ... وقد كانَ حظُّ النَّفسِ أنْ لو تأنَّتِ
وأصبحتُ لهْفاناً علَى ما أضعتهُ ... كذاكَ يكونُ الرَّأيُ ما لم يُثبَّتِ

الباب الثامن والعشرون
من لم يلحق بالحمول بكى علَى الطُّلول
إذا كان صحوُ المفارق لأحبابه من التحنُّن الَّذي ذكرناه بقلبه داعياً له قبل هواه ندم على مقامه بعد مضيّ أحبابه أوْ على اجترائه على السَّفر وأحبَّته مقيمون في الحضر فاستقبح صنيعه وتلافى تصنيعه فإن كان المحبُّ هو المسافر عن حبيبه.
كان كالذي يقول:
بينما هنَّ منْ بلاكثَ فالقا ... عِ سِراعاً والعيسُ تهوي هويَّا
خطرَتْ خطرةٌ علَى القلبِ وهناً ... من هواها فما استطعتُ مُضيَّاً
قلتُ لبَّيكِ إذْ دعاني لكِ الشَّوْ ... قُ وللحاديينِ كُدَّا المطيَّا
وكما قال عبيد الراعي:
دعاني الهوَى من أمِّ وبرٍ ودونها ... ثلاثةُ أخماسٍ فديتُكَ داعيا
فعُجنا لذكراها وتشبيهِ صوتِها ... قلاصاً بمجهولِ الفلاةِ صواديا
بغبراءَ مِحرافٍ يبيتُ دليلُها ... مُشيحاً عليها للفراقدِ راعيا
وإن كانَ المحبوب المسافر والمحبُّ هو المتخلِّف عن إلفه تعسَّف ركوب المهالك في اللَّحاق.
كما قال العرجي:
كم قدْ عصيتُ إليكِ من مُتنصَّحٍ ... داني القرابةِ أوْ وعيدِ أعادي
وتنوفةٍ غبراءَ أرمي عرضها ... شوقاً إليكِ بلا هدايةِ هادي
وقال:
قُلْ لهادي المطيِّ يرفقْ قليلا ... يجعلِ العيسَ سيرهُنَّ ذميلا
لا تقِفْها علَى السَّبيلِ ودعْها ... يهْدِها شوقُ من عليها السَّبيلا
وقال:
أمَّا الدِّيارُ فقلَّما لبثوا بها ... بعدَ اشتياقِ العيسِ والرُّكبانِ
وضعوا سياطَ الشَّوقِ في أعناقها ... حتَّى وردْنَ بهمْ علَى الأوْطانِ
وقال:
ويومٍ كتنُّورِ الطَّواهي سحرْنهُ ... وألقينَ فيه الجزلَ حتَّى تضرَّما
قذفْتُ بنفسي في أجيجِ سمومهِ ... وبالعيسِ حتَّى بُلَّ مشفرُها دما
أُؤمِّلُ أنْ ألقى منَ النَّاسِ عالماً ... بأخباركُمْ أوْ أنْ أُلمَّ مُسلِّما
وأنشدني بعض أعراب البادية:
بانتْ أنيسُ فما بالقلبِ معقولُ ... ولا علَى الجيرةِ الغادينَ تعويلُ
حتَّى شددْتُ برحلي قبلَ برذعتي ... والقلبُ مُختبلٌ واللُّبُّ متبولُ
ثمَّ اعتورْتُ علَى نِضوي ليُلْحقني ... أخرى الحمولِ الغوادي وهوَ معقولُ
وقال الراعي:
بانَ الأحبَّةُ بالعهدِ الَّذي عهدوا ... فلا تمالكَ عن أرضٍ لها عمدوا
حتَّى إذا حالتِ الأرجاءُ دونهمُ ... أرجاءُ ترمُدَ كلَّ الطَّرفُ أوْ بعدوا

لولا المخاوفُ والأوصابُ قدْ قطعتْ ... عرضَ الفلاةِ بنا المهريَّةُ الأُجُدُ
ولئن كان أفرط في الإحسان في البيت الأول لقد أفرط في الإساءة في البيت الآخر ولولا أنَّ قوله فلا تمالك عن أرض لها عمدوا من أحسن الكلام لفظاً وأصحِّه معنًى وأليقه بما قصدناه لأضربنا عن ذكره لقباحة ما عقب به وما المخاوف والأوصاب حتَّى يعتذر بها في التخلُّف عن الأحباب لقد بلغني أنَّ بشر بن مروان كان في معسكرٍ له بظهر البصرة فنادى بكثرة انصراف الجند من العسكر إلى المدينة فنادى مناديه من وجد بالبصرة من الجند سمِّرت كفُّه بمسمارٍ وكان في العسكر فتًى يألف خلَّةً له بالبصرة فكتب إليها.
لولا مخافة بشرٍ أوْ عقوبته وأن يسمِّر في كفِّي بمسمار إذن لعطلت ثغري ثمَّ زرتكم إنَّ المحبَّ إذا ما اشتاق زوَّار.
فكتبت إليه:
ليسَ المحبُّ الَّذي يخشى العقابَ ولوْ ... كانت عقوبتهُ في كيَّةِ النَّارِ
إنَّ المحبَّ الَّذي لا عيشَ ينفعهُ ... أوْ يستقرَّ ومنْ يهواهُ في الدَّارِ
فلمَّا قرأ الأبيات دخل البصرة فأخذه صاحب الحرس فجاء به إلى بشر بن مروان فقال له بشرٌ ألم تسمع النِّداء قال بلى قال فما حملك على مخالفته قال هذه الأبيات ودفعها إلى بشر فلمَّا قرأها أمر مناديه فنادى من أحبَّ المقام في العسكر فليقم ومن أحبَّ دخول البصرة فليدخل.
وقال آخر:
فلوْ حشدوا بالإنسِ والجنِّ دونها ... لأنْ يمنعوني أنْ أجيءَ لجيتُ
ولوْ خُلطَ السُّمُّ الذُّعافُ بريقهِ ... لسُقِّيتُ منهُ نهلةً فرويتُ
ولبعض أهل هذا العصر:
سقى اللهُ رملَ القاعِ وبلاً وديمةً ... لتحْيَ بهِ تلكَ الرُّسومُ الدَّوارسُ
أشوْقاً إلى نجدٍ ودونَ لقائها ... أهاويلُ يُخشى قطعها وبسابسُ
علَى أنَّ عبدَ الشَّوقِ ليستْ تهولهُ ... حُزونُ الفيافي واللَّيالي الدَّوامسُ
بما حبلَتْ فلتأتني منْ بلائِها ... فليسَ لما يقضي بهِ الله حابسُ
وله أيضاً:
دعانيَ الشَّوقُ والرُّكبانُ قدْ هجدوا ... والشَّمسُ في آخرِ الجوزاءِ تتَّقدُ
والقيظُ مُحتدمٌ والرُّوحُ منصرمٌ ... والرَّأيُ مختلفٌ والحتفُ مُطَّردُ
والبيدُ مُغبرَّةُ الأرجاءِ مُقفرةٌ ... كأنَّ أعلامها في الآلِ ترتعدُ
فظلْتُ طوعاً لداعي الشَّوقِ أُوقظهمْ ... وعلَّ أكثرهمْ ساهونَ ما رقدوا
حتَّى إذا قلتُ شدُّوا قالَ بعضهمُ ... قد جُنَّ هذا فخلُّوا عنهُ وابتعدوا
يذرونَ ما وجدوا من حرِّ يومهمِ ... وقتَ النُّزولِ ولا يدرونَ ما أجدُ
حرُّ الفِراقُ إذا ما الهجرُ ساعدَهُ ... حرٌّ تُخصُّ بهِ الأحشاءُ والكبدُ
وقال أبو دهبل:
أأتركُ ليلَى ليسَ بيني وبينها ... سوى ليلةٍ إنِّي إذاً لَصبورُ
هَبوني امرءاً منكمْ أضلَّ بعيرَهُ ... لهُ ذمَّةٌ إنَّ الذِّمامَ كبيرُ
وللصَّاحبُ المتروكُ أعظمُ ذِمَّةً ... علَى صاحبٍ من أن يضلَّ بعيرُ
عفا الله عن ليلَى الغداةَ فإنَّها ... إذا وليَتْ حكماً عليَّ تجورُ
وأنشدني أعرابي ببلاد نجد:
فلوْ أنَّ شرقَ الشَّمسِ بيني وبينها ... وأهلي وراءَ الغربِ حيثُ تغيبُ
لَداورْتُ قطعَ الأرضِ بيني وبينها ... وقال الهوَى لي إنَّهُ لقريبُ
ولبعض أهل هذا العصر:
يا منْ تجاوزَ حدَّ السَّمعِ والبصرِ ... ومنْ يفوقُ ضياءَ الشَّمسِ والقمرِ
لو كنتَ تعلمُ ما ألقى من السَّهرِ ... وما أُقاسي منَ الأشجانِ والفكرِ
وما تضمَّنَ قلبي من هواكَ إذاً ... لما رثيْتَ لجسمي منْ أذى المطرِ
أنَّى يضرُّ ندى الأمطارِ ذا كبدٍ ... حرَّى وقلبٍ بنارِ الشَّوقِ مُستعرِ
لو كانَ دونكَ بحرُ الصِّينِ مُعترضاً ... لخلْتُ ذاكَ سراباً دارسَ الأثرِ
ولو أذنتَ وفيما بيننا سقرٌ ... لهوَّنَ الشَّوقُ خوضَ النَّارِ في سقرِ
لا تكذبنَّ فما حالٌ تضمَّنها ... قلبُ المشوقِ توازي حالَ مُنتظرِ
وقال بعض الأسديين:
فإنْ تدعي نجداً ندعْهُ ومنْ بهِ ... وإنْ تسكُني نجداً فيا حبَّذا نجدُ

وإنْ كانَ يومُ الوعدِ يومَ لقائنا ... فلا تعذلاني أن أقولَ متى الوعدُ
وقال نوال:
وإن ترتبعْ ريَّا بغورِ تهامةٍ ... نُقِمْ عندها أوْ تترُكِ البرَّ نُنجدِ
وإنْ حاربَتْ ريَّا نُحاربْ وإنْ تدِنْ ... ندنْ دينها لا عيْبَ للمتودِّدِ
وقال امرؤ القيس بن حجر:
وأصبحتُ ودَّعْتُ الصِّبى غيرَ أنَّني ... أُراقبُ خلاتٍ من العيشِ أربعا
فمنهنَّ نصُّ العيسِ واللَّيلُ دامسٌ ... يُيمِّمنَ مجهولاً من الأرضِ بَلْقعا
خوارجَ من برِّيَّةٍ نحوَ قريةٍ ... يُجدِّدْنَ وصلاً أوْ يُقرِّبنَ مطْمَعا
وقال ذو الرمة:
تذكَّرتُ ميّاً بعدَ ما حالَ دونها ... سهوبٌ ترامى بالمراسيلِ بيدُها
إذا لامعاتُ البيدِ أعرضنَ دونها ... تقاربَ لي من حبِّ ميٍّ بعيدُها
وقال ضابي بن الحارث بن أرطاة البرجمي:
وكمْ دونَ سُلمى من فلاةٍ كأنَّما ... تجلَّلَ أعلاها مُلاءً مُفصَّلا
مُحقَّفةٍ لا يهتدي لسبيلها ... منَ القومِ إلاَّ منْ مضى وتوكَّلا
يُهالُ بها ركبُ الفلاةِ منَ الرَّدى ... ومن خوفِ حاديهمْ وما قدْ تحمَّلا
قطعتُ إلى معروفها مُنكراتها ... إذا الآلُ بالبيدِ البسابسِ هرْولا
وقال جميل بن معمر:
ألا أيُّها العشَّاقُ ويحَكمُ هُبُّوا ... أُسائلكمُ هلْ يقتلُ الرَّجلَ الحبُّ
ألا ربَّ ركبٍ قد رفعتُ وجيفهُمْ ... إليكِ ولولا أنتِ لم يوجفِ الرَّكبُ
لها النَّظرةُ الأولى عليهمْ وبسطةٌ ... وإنْ كرَّتِ الأبصارُ كانَ لها العقْبُ
وقال جرير:
لشتَّانَ يومٌ بينَ سَجفٍ وكلَّةٍ ... ومرُّ المطايا تغتدي وتروَّحُ
نقيسُ بقيَّاتِ النِّطَّافِ علَى الحصى ... وهنَّ علَى طيِّ الحيازيمِ جُنَّحُ
ويومٍ من الجوزاءِ مُستوْقدِ الحصى ... تكادُ صياصي العينِ فيهِ تصيَّحُ
شديدِ اللَّظى حامي الوديقةِ ريحهُ ... أشدُّ لظًى من شمسهِ حينَ يصْمحُ
نصبْتُ له وجهي وحرفاً كأنَّها ... منَ الجهدِ والإسآدِ قرمٌ مُلوَّحُ
وقال علي بن محمد العلوي:
هذا وحرفٍ إذا ماتتْ مفاصلهُ ... عن راكبٍ وصلَتْ أكفالَهُ بيدُ
يهماءُ لا يتخطَّاها الدَّليلُ سُرًى ... إلاَّ وناظرهُ بالنَّجمِ معقودُ
جاوزتُها والرَّدى رحبٌ معالمهُ ... فيها ومسلكُها بالخوفِ مسدودُ
ولبعض أهل هذا العصر:
كمْ دونَ أرضكَ من وادٍ ومن علَمٍ ... كأنَّ أعلاهُ بالأفلاكِ مُنتسجُ
ومنْ مروجٍ كظهرِ التُّرسِ مُظلمةٍ ... كأنَّ حصبائَها تحتَ الدُّجى سُبُجُ
حتَّى إذا الشَّمسُ لاحتْ في سَباسبها ... حسبْتَ أعلامها في الآلِ تختلجُ
وكمْ فلاةٍ يفوتُ الطَّرفَ آخرها ... للجنِّ باللَّيلِ في أقطارها وهجُ
يهماءُ غبراءُ لا يدري الدَّليلُ بها ... في أيِّ أرجائها يُرجى لهُ الفرجُ
قطعتُها بابنِ حرفٍ ضامرٍ قطمٍ ... صلبِ المناسمِ في إرْقالهِ هوَجُ
شوقاً إليكَ ولولا ما أُكابدهُ ... لكانَ لي في بلادِ اللهِ مُنفرَجُ
فإن تجدْ لي فَمحقوقٌ بذاكَ وإنْ ... تبخلْ عليَّ فلا لومٌ ولا حرجُ
قوله فمحقوقٌ بذاك يعني أنت محقوقٌ بالفضل ليس تجشُّمي ما وصفته لك أوجب ذلك لي عليك بذلك على أنَّه أراد بذلك قوله وإن تبخل عليَّ فلا لومٌ ولا حرج لأنه لو كان حقّاً له كان ظالمه حرجاً فعلى هذا التَّفسير يصير معنى الكلام صحيحاً ولو قصد ذلك المعنى الآخر كان خطأً قبيحاً.
وقال آخر:
أقولُ لصاحبيَّ بأرضِ نجدٍ ... وجدَّ مسيرُنا ودَنا الطُّروقُ
أرى قلبي سينقطعُ اشتياقاً ... وأحزاناً وما انقطعَ الطَّريقُ
وقال آخر:
لمَّا وردْتُ التَّغلبِ ... يَّةَ عندَ مُنصرفِ الرِّفاقِ
وشممْتُ من أرضِ الحجا ... زِ نسيمَ أرواحِ العراقِ
أيقنتُ لي ولمنْ أُح ... بُّ بجمعِ شملٍ واتِّفاقِ
وقال القعقاع الذهلي:
خليليَّ ما منْ ليلةٍ تسريانها ... منَ الدَّهرِ إلاَّ نفَّستْ عنكُما كربا
أليسَ يزيدُ السَّيرُ عن كلِّ ليلةٍ ... ويزدادُ يومٌ من أحبَّتنا قُرْبا

إذا الجبلُ النَّائي حواكِ مقيلهُ ... جعلنا علينا أنْ نُجاورَهُ نحبا
فما ذكرَتْ عندي لها من سميَّةٍ ... فتملكَ عيني من مدامعها غربا
من شأن من قصد لقاء أحبابه أن تتطاول عليه الطَّريق عند اقترابه ويلحقه حينئذٍ من الضَّجر مع قربه منه أضعاف ما ناله إذْ كان متباعداً عنه.
وفي ذلك يقول الموصلي:
طربْتَ إلى الأُصَيْبِيةِ الصِّغارِ ... وهاجكَ منهمُ قربُ المزارِ
وأبرحُ ما يكونُ الشَّوقُ يوماً ... إذا دنتِ الدِّيارُ من الدِّيارِ
فهذا لعمري قولٌ حقٌّ غير أنَّه لم يُخبر بعلَّته.
ولقد أحسن الَّذي يقول في نحوه:
هلِ الحبُّ إلاَّ زفرةٌ بعدَ عبرةٍ ... وحرٌّ علَى الأحشاءِ ليسَ لهُ برْدُ
وفيضُ دموعِ العينِ يا ميُّ كلَّما ... بدا علمٌ منْ أرضكُمْ لم يكنْ يبدو
وقد ذكر عمر بن أبي ربيعة هذا المعنى فجوّده أنشدني له أبو العباس أحمد بن يحيى:
خليليَّ ما بالُ المطايا كأنَّما ... نراها علَى الأدبارِ بالقومِ تنكِصُ
وقدْ أتعبَ الحادي سُراهنَّ وانثنى ... بهنَّ فما بالرَّاجعاتِ مُقلِّصُ
وقدْ قُطعتْ أعناقهُنَّ صبابةً ... فأنفسُها ممَّا يُلاقينَ شُخَّصُ
يزدْنَ بنا قُرباً فيزدادُ شوقُنا ... إذا ازدادَ طولُ العهدِ والبعدُ ينقصُ
أفلا ترى إلى إيضاحه أنَّ العلّة في تزايد شوقه إنَّما هي تطاول مدَّةٍ وأنَّه كلَّما قطع جزءٌ من الطريق فقرب المقصود زاد في مدَّة المفارقة وقتٌ فزاد الاشتياق على حسب تزايد مدَّة الفراق على أنَّ عمر قد أوضح أشياء وأغفل شيئاً من أنَّ تطاول المدَّة يزيد في الشَّوق مع تقارب الشُّقَّة ولم يذكر أنَّ قوَّة الرَّجاء لسرعة اللِّقاء من أقوى الأسباب في تقوية الشَّوق عند الاقتراب.

الباب التاسع والعشرون
من قصَّر عن مصاحبة الجار لم تنفعه مسائلة الدَّار
حدَّثني أبو العبَّاس أحمد بن يحيى النَّحويُّ قال حدَّثنا أبو سعيد قال حدَّثنا الهرويُّ قال حدثنا موسى بن جعفرٍ بن كثيِّرٍ قال كان المجنون لما أصابه ما أصابه يخرج فإذا أتى الشَّام قال لهم أين أرض بني عامر فقالوا له وأين أنت من أرض بني عامرٍ وقف عند جبلٍ يقال له التَّوباد ثمَّ أنشد:
وأجهشْتُ للتَّوبادِ لمَّا رأيتهُ ... وهلَّلَ للرَّحمانِ حينَ رآني
وأذريْتُ دمعَ العينِ لمَّا رأيتهُ ... ونادى بأعلى صوتهِ فدعاني
وقلتُ له أينَ الَّذينَ عهدتهمْ ... حوالَيْكَ في عيشٍ وخير زمانِ
فقالَ مضوْا واستودعوني بلادهُمْ ... ومنْ ذا الَّذي يبقى علَى الحدثانِ
وإنِّي لأبكي اليومَ من حذري غداً ... فراقَكَ والحيَّانِ مُؤْتلفانِ
سجالاً وتهْتاناً ووبْلاً وديمةً ... وسحّاً وتسجاماً وينهملانِ
قال ثمَّ يمضي حتَّى يأتي العراق فيقول مثل ذلك ثمَّ يأتي اليمن فيقول مثل ذلك.
وقال الوليد بن عبيد الطائي:
ذاكَ وادي الأراكِ فاحبسْ قليلاً ... مُقصراً منْ صبابةٍ أوْ مُطيلا
قِفْ مشوقاً أوْ مُسعداً أوْ حزيناً ... أوْ مُعيناً أوْ عاذراً أوْ عذولا
إنَّ بينَ الكثيبِ فالجزعِ فالآ ... رامِ رَبْعاً لآلِ هندٍ محيلا
أبلَتِ الرِّيحُ والرَّوائحُ والأ ... يَّامُ منهُ معالماً وطُلولا
وخلافُ الجميلِ قولُكَ للذا ... كرِ عهدَ الأحبابِ صبراً جميلا
لا تلُمْهُ علَى مواصلةِ الدَّمْ ... عِ ولؤمٌ لومُ الخليلِ الخليلا
لم يكنْ يومُنا طويلاً بنعما ... نٍ ولكن كانَ البُكاءُ طويلا
وقال يحيى بن منصور:
أما يستفيقُ القلبُ إلاَّ انبرى لهُ ... توهُّمُ دارٍ من سعادٍ ومربَعِ
أُخادعُ عنْ عِرفانها العينَ إنَّها ... متى تُثبتِ الأطلالَ عينيَ تدمعِ
عهدْنا بها وحشاً عليها براقعٌ ... وهذي وحوشٌ حُسَّرٌ لم تُبرقعِ
وقال ذو الرمة:
أإنْ ترسَّمتَ من خرقاءَ منزلةً ... ماءُ الصَّبابةِ من عينيكَ مسجومُ
منازلُ الحيِّ إذْ لا الدَّارُ نازحةٌ ... بالأصفياءِ وإذْ لا العيشُ مذمومُ
تعتادني زفراتٌ حينَ أذكرُها ... تكادُ تنقدُّ منهُنَّ الحيازيمُ
وقال أيضاً:

كأنَّ ديارَ الحيِّ بالزُّرقِ حلقةٌ ... منَ الأرضِ أوْ مكتوبةٌ بمِدادِ
إذا قلتُ تعفو لاحَ منها مُهيِّجٌ ... عليَّ الهوَى من طارفٍ وتِلادِ
وما أنا في دارٍ لميٍّ عرفتُها ... بجلدٍ ولا عيني بها بجمادِ
إذا قلتُ بعدَ الجهدِ يا ميُّ نلتقي ... عدتْني بكرْهٍ أن أراكِ عوادي
ودويَّةٍ مثلُ السَّماءِ اعتسفتُها ... وقد صبغَ اللَّيلُ الحصى بسوادِ
أمَّا تشبيهه رسوم الدَّار بالحلقة من الأرض فهذا إحسانٌ في معناه وإعرابٌ في لفظه وما أساء في تشبيهها بالكتابة بالمداد غير أنَّ هذا مسبوقٌ إليه فالمعيد لذكره غير ملومٍ فيه ولا محمودٍ عليه وأما إخباره بأنَّها تهيج هواه وادكاره فهو أيضاً معنًى غير مبتدعٍ إلاَّ أنَّه يدلُّ على ضعفٍ في الحال ونقصٍ في الجزع ويشهد بما قلناه اعتذاره إلى من يهواه ومن تركه القصد إلى لقائه بأنه إذا عزم على ذلك عداه عنه مكروهٌ من أشغاله وكلُّ هذه الأوصاف تدلُّ على قصور حاله.
ولقد قال البحتري في أكثر هذه الأحوال فأحسن فيما قال فمن ذلك قوله:
دَمنٌ كمثلِ طرائقِ الوشْيِ انجلَتْ ... لمَعاتهُنَّ منَ الرِّداءِ المُنهَجِ
يضْعُفنَ عنْ إذكارنا عهدَ الصِّبى ... أوْ أنْ يهجْنَ صبابةً لم تهتجِ
ولرُبَّ دهرٍ قد تبسَّمَ ضاحكاً ... عن طرَّتَيْ زمنٍ بهنَّ مُدبَّجِ
منْ قبلِ داعيةُ الفراقِ ورحلةٌ ... منعَتْ مُغازلةَ الغزالِ الأدْعجِ
لأُكلِّفنَّ العيسَ أبعدَ غايةٍ ... يجري إليها خائفٌ أوْ مُرتجِ
وله أيضاً:
لا تقفْ بي علَى الدِّيارِ فإنِّي ... لستُ من أربُعٍ ورسمٍ مُحيلِ
في بكاءٍ علَى الأحبَّةِ شغلٌ ... لأخي الحبِّ عنْ بُكاءِ الطُّلولِ
علَى أنَّه قد نقض أيضاً علَى نفسه هذا المعنى الَّذي استحسناه بقوله:
أينَ أهلُ القبابِ بالأجرعِ الفَرْ ... دِ تولُّوا لا أينَ أهلُ القِبابِ
سقمٌ دونَ أعينٍ ذاتِ سُقمٍ ... وعذابٌ دونَ الثَّنايا العِذابِ
وكمثلِ الأحبابِ لو يعلمُ العا ... ذلُ عندي منازلُ الأحبابِ
فهو يوهمُنا في الأبيات الأول أنَّ الصَّبابة قد ملكت هممه وأفكاره وتناولت خواطره وادِّكاره حتَّى لم تدع فيه فضلاً لعارضٍ يهيجه ولا لمنزلٍ يذكّره وأنَّ شغله بالتَّفرُّد بالبكاء على إلفه يمنعه من التَّشاغل بالوقوف على منزله وهو في هذه الأبيات لا يرضى أن يجعل البكاء على الدَّار لضروبٍ من ضروب الادِّكار برغم أنَّ موقعها في فؤاده كموقع من كان فيها من أحبابه وهذا أفرط في التَّفاوت والمناقضات غير أنَّ من تكلَّم على قدر الأوقات وجرى مع أحكام الهوَى على حسب الغايات غدر بل تحيَّل في قوله فضلاً عن أن يخالف مذهباً إلى غيره.
ولقد أنصف الَّذي يقول:
لَعمركَ ما أبكي علَى الدَّارِ إذْ خلتْ ... ولكن لأهلِ الدَّارِ إذْ ودَّعوا الدَّارا
تولُّوا فولَّى العيشُ من بعدِ غبْطةٍ ... وأبقوا بقلبي من تذكُّرهمْ نارا
وقال ذو الرمة:
بجرعائها من ساكنِ الحيِّ ملعبٌ ... وآريُّ أفراسٍ كجُرثومةِ النَّملِ
كأنْ لم يكُنها الحيُّ إذْ أنتَ مرَّةً ... بها ميِّتُ الأهواءِ مجتمعُ الشَّملِ
بكيتُ علَى ميٍّ بها إذْ عرفتُها ... وهجْتُ الهوَى حتَّى بكى القومُ من أجلي
فظلُّوا ومنهمْ دمعهُ غالبٌ لهُ ... وآخَرُ يثني عبرةَ العينِ بالهملِ
وهلْ همَلانُ العينِ راجعُ ما مضى ... من الوجدِ أوْ مُدْنيكِ يا ميُّ من أهلي
ألا لا أُبالي الموتَ إن كانَ قبلهُ ... لقاءٌ لميٍّ وارتجاعٌ من الوصلِ
وقال أيضاً:
قِفِ العيسَ في أطلالِ ميَّةَ فاسألِ ... رُسوماً كأخلاقِ الرِّداءِ المُسلسلِ
أظنُّ الَّذي يُجدي عليكَ سؤالُها ... دموعاً كتبذيرِ الجُمانِ المفصَّلِ
وكائنْ تخطَّتْ ناقتي منْ مفازةٍ ... ومن نائمٍ عن ليلةٍ مُتزمِّلِ
وقال ذو الرمة:
وقفْتُ علَى ربْعٍ لميَّةَ ناقتي ... فما زلتُ أبكي عندهُ وأُخاطبُهْ
وأُسقيهِ حتَّى كادَ ممَّا أبثُّهُ ... تُكلِّمني أحجارهُ وملاعبُهْ

ألا لا أرى مثلَ الهوَى داءَ مسلمٍ ... كريمٍ ولا مثلَ الهوَى ليمَ صاحبُهْ
وقال أيضاً:
أمنزلتَيْ ميٍّ سلامٌ عليكما ... هلِ الأزمنُ الَّلاتي مضيْنَ رواجعُ
وهلْ يرجعُ التَّسليمَ أوْ يكشفُ العمى ... ثلاثُ الأثافي والدِّيارُ البلاقعُ
توهَّمْتها يوماً فقلتُ لصاحبي ... وليسَ بها إلاَّ الظِّباءُ الخواضعُ
قفِ العيسَ تنظرْ نظرةً في ديارها ... وهل ذاكَ من داءِ الصَّبابةِ نافعُ
فقال أما تغشى لميَّةَ منزلاً ... من الدَّهر إلاَّ قلتَ هلْ أنتَ رابعُ
وقال أبو تمام:
أوَ ما رأيتَ منازلَ ابنةِ مالكٍ ... رسمتْ لهُ كيفَ الزَّفيرُ رسومُها
وكأنَّما ألقى عصاهُ بها البِلى ... من شقَّةٍ قُذفٍ فليسَ يريمُها
والحادثاتُ وإنْ أصابكَ بؤسُها ... فهوَ الَّذي أنباكَ كيفَ نعيمُها
فلقَبلُ أظهرَ صقلُ سيفٍ إثرَهُ ... فبدا وهذَّبتِ القلوبَ همومُها
وقال البحتري:
أمحلَّتَيْ سُلمى بكاظمةَ اسلما ... وتعلَّما أنَّ الجوى ما هجتُما
أبكيكُما دمعاً ولو أنِّي علَى ... قدرِ الجوى أبكي بكيتُكُما دما
طللا أُكفكفُ فيهِ دمعاً مُعرباً ... بجوًى وأقرأُ منهُ خطّاً أعجما
تأبى رُباهُ أنْ تُجيبَ ولم يكنْ ... مُستخبراً ليُجيبَ حتَّى يفهما
وقال أيضاً:
يا يومُ عرِّجْ بلْ وراءكَ يا غدُ ... قدْ أجمعوا بيناً وأنتَ الموعِدُ
في كلِّ يومٍ دمنةٌ من حُبِّهمْ ... تُقوي وربعٌ بعدهُمْ يتأبَّدُ
دمِنٌ تقاضاهنَّ أعلامَ البِلى ... هوجُ الرِّياح البادياتُ العُوَّدُ
حتَّى فنينَ وما البقاءُ لواحدٍ ... والدَّهرُ في أطرافهِ يتردَّدُ
وقال أبو تمام:
ديارٌ هراقَتْ كلَّ عينٍ شحيحةٍ ... وأوطأتِ الأحزانَ كلَّ حشًى جلْدِ
فعوجا صدورَ الأرْحبيِّ وأسهلا ... بذاكَ الكثيبِ السَّهلِ والعلَمِ الفرْدِ
فلا تسألاني عن هويٍّ طُعمتُما ... جواهُ فليسَ الوجدُ إلاَّ منَ الوجدِ
وقال البحتري لنفسه:
لا دمنةٌ بلِوى خبْتٍ ولا طللُ ... يردُّ قولاً علَى ذي لوعةٍ يسلُ
إنْ عنَّ دمعكَ في إثرِ الرُّسومِ فلمْ ... يصبْ عليها فعندي مدمعٌ ذللُ
هلْ أنتَ يوماً مُعيري نظرةً فترى ... في رملِ يبرينَ عيراً سيرُها رملُ
شبُّوا النَّوى بحُداةٍ ما لها وطنٌ ... إلاَّ النَّوى وجِمالٍ ما لها عقُلُ
وقال ذو الرمة:
يقولُ بالزُّرقِ صحبي إذْ وقفتُ بهمْ ... في دارِ ميَّةَ استسقي لها المطرا
لو كان قلبكَ من صخرٍ لصدَّعهُ ... هيجُ الدِّيارِ لكَ الأحزانَ والذِّكرا
وزفرةٌ تعتريني كلَّما ذُكرتْ ... ميٌّ لهُ أوْ نحا من نحوها البصرا
ما زلتُ أطردُ في آثارهِمْ نظري ... والشَّوقُ يقتادُ في ذي الحاجةِ النَّظرا
وقال أيضاً:
عرفتُ لها داراً فأبصرَ صاحبي ... صحيفةَ وجهي قدْ تغيَّرَ حالُها
فقلتُ لنفسي من حياءٍ رددْتُهُ ... إليها وقد بلَّ الجفونَ بَلالُها
أمِنْ أجلِ دارٍ طيَّرَ البينُ أهلَها ... أيادي سبا بعدي وطالَ احتيالُها
فؤادكَ مبثوثٌ عليكَ شجونهُ ... وعينكَ يعصي عاذليكَ انهمالُها
وقال الراعي:
ألا أيُّها الرَّبعُ الخلاءُ مشاربُهْ ... أشِرْ للفتى من أينَ صارَ حبائبُهْ
فلمَّا رأينا أنَّما هوَ منزلٌ ... وموقدُ نارٍ قلَّما عادَ حاطبُهْ
مضيْتُ علَى شأني بمرَّةِ مُخرجٍ ... عنِ الشَّأوِ ذي شغبٍ علَى من يحاربُهْ
ولبعض أهل هذا العصر:
أتهجرُ منْ تحبُّ وأنتَ جارُ ... وتطلبهُمْ وقدْ بعُدَ المزارُ
وتسكنُ بعدَ نأيهمِ اشتياقاً ... وتسألُ في المنازلِ أينَ ساروا
تركْتَ سؤالهُمْ وهمُ جميعٌ ... وترجو أنْ تُخبِّركَ الدِّيارُ
فأنتَ كمُشتري أثرٍ بعينٍ ... فقلبكَ بالصَّبابةِ مُستطارُ
فنفسكَ لُمْ ولا تلمِ المطايا ... ومُتْ أسفاً فقد حقَّ الحذارُ
سمعتَ بنأيهُمْ وظللْتَ حيّاً ... فقدتُكَ كيفَ يُهنيكَ القرارُ

إذا ما الصَّبُّ أسلمهُ صدودٌ ... إلى بينٍ فمهجتهُ جُبارُ
تباعدَ من هويتَ وأنتَ دانٍ ... فلا تتعبْ فليسَ لكَ اعتذارُ
إذا ما بانَ من تهوى فولَّى ... ولجَّ بكَ الهوَى فالصَّبرُ عارُ
وله أيضاً:
أمرُّ علَى المنزلِ كالغريبِ ... أُسائلُ من لقيتُ عنِ الحبيبِ
وما يغني الوقوفُ علَى الأثافي ... ونُؤيِ الدَّارِ عنْ دنفٍ كئيبِ
حبستُ بها المطيَّ فلمْ تُجبني ... ولمْ ترحمْ بلا شكٍّ نحيبي
فقلتُ لها سكوتُكِ ذا عجيبٌ ... وأعجبُ من سكوتكِ أنْ تُجيبي
شكوْتُ إلى الدِّيارِ فما شفتْني ... بلى شاقتْ إلى وجهِ الحبيبِ
فمنْ يُنجي العليلَ منَ المنايا ... إذا كانَ البلاءُ منَ الطَّبيبِ

الباب الثلاثون
من مُنع من البراح تشوَّق بالرِّياح
كلُّ متشوَّقٍ من العشَّاق بنسيم ريحٍ أوْ لمعان برقٍ أوْ سجع حمامٍ فهو ناقصٌ عن حال التَّمام من جهتين إحداهما قلَّة صبره على فقد صاحبه حتَّى يحتاج أن يرى ما يشوقه بذكره والأخرى أنَّ من كانت هذه صفته فإنَّ الصَّبابة لم تتمالك على قلبه فتشغله عن أن يتشوَّق بشيءٍ يلمُّ به غير أنَّ الشَّوق بما ذكرناه إنَّما يقصِّر بأهله عن درجة الكمال وليس بمدخلٍ لهم في جملة الموصوفين بالنَّقص والإخلال ومن مختار ما قيل في الشَّوق بالرِّياح.
قول ذي الرمة:
إذا هبَّتِ الأرياحُ من نحوِ جانبٍ ... بهِ أهلُ ميٍّ هاجَ شوقي هبوبُها
هوًى تذرفُ العينانِ منهُ وإنَّما ... هوى كلِّ نفسٍ حيثُ حلَّ حبيبُها
وقال آخر:
وقدْ عاودتْنا الرِّيحُ منها بنفحةٍ ... علَى كبدٍ من طيبِ أرواحها بردُ
عِديني بنفسي أنتِ وعداً فربَّما ... جلا كربةَ المكروبِ عن قلبه الوعْدُ
فقدْ بتُّ لا قومٌ ولا كبليَّتي ... ولا مثلُ وجدي في الشِّفا بكمُ وجدُ
وقال مجنون بني عامر:
أيا جبليْ نعمانَ باللهِ خلِّيا ... طريقَ الصَّبا يخلصْ إليَّ نسيمُها
أجدْ بردَها أوْ تشفِ منِّي حرارةً ... علَى كبدٍ لمْ يبقَ إلاَّ صميمُها
فإنَّ الصَّبا ريحٌ إذا ما تنسَّمتْ ... علَى نفسِ مغمومٍ تجلَّتْ غيومُها
وقال ابن الدمينة:
وقدْ جعلتْ ريَّا الجنوبِ إذا جرتْ ... علَى ضعفِها تبدَا لنا وتطيبُ
جنوبٌ بريَّا مِنْ أُميمةَ تغتدِي ... حجازيَّةً عُلويةً وتؤوبُ
وقالت وجيهة بنت أوس الضبية:
فلو أنَّ ريحاً بلَّغتْ وحْيَ مُرسل ... حفِيِّ لناجيتُ الجنوبَ علَى النَّقبِ
فقلتُ لها أدِّي إليهمْ تحيَّتي ... ولا تخلطيها طالَ سعدكِ بالتُّربِ
فإنِّي إذا هبَّتْ شمالٌ سألتُها ... هلِ ازدادَ صدَّاحُ النُّميرةِ مِنْ قربِ
وقال يزيد بن الطثرية:
إذا ما الرِّيحُ نحوَ الأثلِ هبَّتْ ... وجدتُ الرِّيحَ طيِّبةً جنوبا
فماذا يمنعُ الأرواحَ تسرِي ... بريَّا أُمِّ عمرو أنْ تطيبا
أليستْ أُعطيتْ في حسنِ خلقٍ ... كما شاءتْ وجُنِّبتِ العيوبا
وقال آخر:
خليليَّ مِنْ سكانَ مُرَّانَ هاجَني ... سكونُ الجنوبِ مرَّةً وابتسامُها
فإنْ تسأَلاني ما دوائِي فإنَّني ... بمنزلةٍ أعيَى الطَّبيبَ سقامُها
وقال صخر الحرمازي:
لعمركَ ما ميعادُ عينيكَ بالبُكا ... بداراءَ إلاَّ أنْ تهبَّ جنوبُ
أُعاشرُ في داراءَ مَنْ لا أُحبُّهُ ... وبالرَّملِ مهجورٌ إليَّ حبيبُ
وقال آخر:
عليكِ سلامُ اللهِ أمَّا قلوبُنا ... فمرضَى وأمَّا ودُّنا فصحيحُ
وإنِّي لأستسقِي بكلِّ سحابةٍ ... تمرُّ بها منْ نحوِ أرضكِ ريحُ
قال آخر:
هوَى صاحِبي ريحُ الشَّمالِ إذا جرتْ ... وأهوَى لنفسي أنْ تهبَّ جنوبُ
وما ذاكَ إلاَّ أنَّها حينَ تنتهي ... تناهَى وفيها مِنْ أُميمةَ طيبُ
فويلِي منَ العذَّالِ ما يترُكونني ... بغمِّي أمَا في العاذلينَ لبيبُ
يقولُونَ لو عزَّيتَ قلبكَ لارْعَوى ... فقلتُ وهلْ للعاشقينَ قلوبُ
وقال مهدي بن الملوح:
إذا الرِّيحُ مِنْ نحوِ الحبيبِ تنسَّمتْ ... وجدتُ لريَّاها علَى كبدِي بردَا

علَى كبدٍ قدْ كادَ يُبدي بها الجوى ... صدوعاً وبعضُ القومِ يحسبُني جلدا
وقال آخر:
تمرُّ الصَّبا بساكنِ ذي الغضا ... فيصدعُ قلبي أنْ يهبَّ هبوبُها
قريبةُ عهدٍ بالحبيبِ وإنَّما ... هوَى كلِّ نفسٍ حيثُ كانَ حبيبُها
وقال الجويرية:
يصحِّحُ أوصابي علَى النَّأيِ والهوَى ... مُهيجُ الصَّبا مِنْ نحوِها حينَ تنفحُ
وما اعترضتْ للرَّكبِ أدماءُ حرّةٌ ... منَ العينِ إلاَّ ظلَّتِ العينُ تسفحُ
وعاتبةٍ عندِي لها قلتُ أقْصري ... فغيركِ خيرٌ منكِ قولاً وأنصحُ
وقال الورد بن الورد العجلي:
أمُغترباً أصبحتَ في دارِ مهرةٍ ... ألا كلُّ نجديٍّ هناكَ غريبُ
إذا هبَّ عُلويُّ الرِّياحِ وجدتَني ... كأنِّي لعُلويِّ الرِّياحِ نسيبُ
ألا حبَّذا الإصعادُ لو تستطيعهُ ... ولكنْ أجلْ لا ما أقامَ عسيبُ
فإنْ مرَّ ركبٌ مُصعدونَ فقلبهُ ... معَ المُصعدينَ الرَّائحينَ جنيبُ
سلِ الرِّيحَ إنْ هبَّتْ جنوباً ضعيفةً ... متى عهدُها بالدَّيرِ زِير حبيبُ
متى عهدُها بالمُوقلاتِ وحبَّذا ... شواكلُ ذاكَ العيشِ حينَ يطيبُ
ولا خيرَ في الدُّنيا إذا أنتَ لمْ تزرْ ... حبيباً ولمْ يطربْ إليكَ حبيبُ
وقال آخر:
ألا ليتَ شِعري هلْ يعودَنَّ ما مضَى ... لياليَ عيشُ الأصفياءِ رطيبُ
وهلْ عائدٌ قبلَ المماتِ فراجعٌ ... علَى عهدهِ دهرٌ إليَّ حبيبُ
وإنِّي لتُحْييني الصَّبا وتُميتُني ... إذا ما جرتْ بعدَ الشَّمالِ جنوبُ
وتبردُ نفسي بلْ تعيشُ حشاشَتي ... شمالٌ بها بعدَ الهدوِّ هبوبُ
وأرتاحُ للبرقِ اليمانِي كأنَّني ... لهُ حينَ يجري في السَّماءِ نسيبُ
وقال ابن الدمينة:
ألا لا أُحبُّ السَّيرَ إلاَّ مُصعِّداً ... ولا الرِّيحَ إلاَّ أنْ تهبَّ جنوبُ
إذا هبَّ عُلويُّ الرِّياحِ وجدتَني ... كأنِّي لعُلويِّ الرِّياحِ نسيبُ
وقال آخر:
إذا هبَّتِ الأرواحُ مِنْ نحوِ أرضهمْ ... وجدتُ لريَّاها إذا ما جرتْ بردَا
ومَنْ يلبسِ الدُّنيا ونُعمى ويختلفْ ... عليهِ جَديداها يُجِدَّا لهُ فقدا
وقال ابن الدمينة:
فيا حسراتِ النَّفسِ مِنْ غربةِ النَّوى ... إذا قسمتْها نيَّةٌ وشعوبُ
ومِنْ خطراتٍ تعتَريني وزفرةٍ ... لها بينَ جلدي والعظامِ دبيبُ
وقدْ جعلتْ ريَّا الجنوبِ إذا جرتْ ... علَى طيبِها تبدَا لنا وتطيبُ
جنوبٌ بريَّا مِنْ أُميمةَ تغتدي ... حجازيَّةً علويَّةً وتؤوبُ
وقال هدبة بن خشرم:
ألا ليتَ الرِّياحَ مسخَّراتٌ ... لِحاجتنا تراوحُ أوْ تؤُبُ
فتُبلغنا الشَّمالُ إذا أتتْنا ... وتُبلغَ أهلَنا عنَّا الجنوبُ
ولبعض أهل هذا العصر في هذا المعنى:
مباشرةُ النَّسيمِ لشخصِ إلفي ... أشدُّ عليَّ مِنْ فقدِ الحبيبِ
نأَى عنِّي الحبيبُ فصارَ قلبي ... يغارُ علَى الصَّبا وعلَى الجنوبِ
ولوْ يسطيعُ ما درجتْ دَبورٌ ... إذنْ ونهَى الشَّمالُ عنِ الجنوبِ
خليلِي مِنْ نواكَ أخذتُ حظِّي ... فهلْ لي في نوالكَ مِنْ نصيبِ
نُفيتُ منَ الهوَى إنْ كانَ قلبي ... دعَى ودّاً كودِّكَ في المغيبِ
وقال حميد بن ثور:
يهشُّ لنجديِّ الرِّياحِ كأنَّهُ ... أخُو كربةٍ داني الإسارِ طليقُ
فيا طيبَ ريَّاها وبردَ نسيمِها ... إذا حانَ مِنْ حامي النَّهارِ طروقُ
وقال جرير:
يا حبَّذا جبلُ الرَّيانِ مِنْ جبلٍ ... وحبَّذا ساكنُ الرَّيانِ مَنْ كانا
وحبَّذا نفحاتٌ منْ يمانيَةٍ ... تأتيكَ منْ قبلِ الرَّيانِ أحيانا
وقال آخر:
إذا هبَّ علويُّ الرِّياحِ وجدتَني ... يهشُّ لعلويِّ الرِّياحِ فؤاديا
فإنْ هبَّتِ الرِّيحُ الصَّبا هيَّجتْ لنا ... دواعيَ حزنٍ لم يجدنَ مُداويا
وما هبَّتِ الرِّيحُ الصَّحيحةُ موهناً ... منَ اللَّيلِ إلاَّ بتُّ للرِّيحِ ضاويا
وإلاَّ علتْني عبرةٌ ثمَّ زفرةٌ ... وإلاَّ تداعى القلبُ منِّي تداعيا
وقالت امرأة من مرة:

ألا خَليا بردَ الجنوبِ فإنَّهُ ... يُداوي فؤادي مِنْ هواهُ نسيمُها
وكيفَ تُداوي الرِّيحُ شوقاً مماطلاً ... وعيناً طويلاً للدُّموعِ سجومُها
وقال آخر:
حسبتُ الغضا يشفي هُيامِي فلم أجدْ ... شميمَ الغضا يشفي هُيامَ فؤاديا
بلَى لو أتتْنا الرِّيحُ تُدلجُ موهناً ... بريحِ الخزامى كانَ أشفى لِما بِيا
وقال الوقاف وهو الورد بن الورد الجعدي:
إذا تركتْ وحشيَّةٌ نجدَ لم يكنْ ... لعينيكَ ممَّا يشكوانِ طبيبُ
إذا راحَ ركبٌ مُصعدونَ فقلبهُ ... معَ المصعدينَ الرَّائحينَ جنيبُ
وكانتْ رياحُ الشَّامِ تُبغضُ مرَّةً ... فقدْ جعلتْ تلكَ الرِّياحُ تطيبُ
وقد كانَ علويُّ الرِّياحِ أحبَّها ... إلينا فقدْ دارتْ هناكَ جنوبُ
وقال آخر:
ألا حبَّذا يومٌ تهبُّ به الصَّبا ... لنا وعشيَّاتٌ تدانتْ غيومُها
بنُعمانَ إذْ أهلي بنُعمانَ جيرةٌ ... لياليَ إذْ يرضَى بدارٍ مقيمُها
وقال كلاب بن عقبة:
بأهلي ونفسي مَنْ تجنَّبتُ دارهُ ... ومَنْ لا أرَى لي مِنْ زيارتهِ بدَّا
ومَنْ ردَّني إذْ جئتُ زائرَ بيتهِ ... ولو زارَ بيتي ما أُهينَ ولا رُدَّا
ومَنْ لا تهبُّ الرِّيحُ مِنْ شقِّ أرضهِ ... فتبلغَني إلاَّ وجدتُ لها بردا
وقال آخر:
ما هبَّتِ الرِّيحُ مِنْ تلقاءِ أرضكمُ ... إلاَّ وجدتُ لها برداً علَى كبدي
ولا تنسَّمتْ أُخرى أستفيقُ لها ... إلاَّ وجدتُ خيالاً منكَ بالرَّصدِ
وقال ابن الدمينة:
يمانيَةٌ هبَّتْ بليلٍ فأرَّقتْ ... حشاشةَ نفسٍ قد تعنَّى طبيبُها
أبِيني إذا استخبرتِ هل تحفظُ الهوَى ... أُميمةُ أم هلْ عادَ بعدِي رقيبُها
وقال الورد بن الورد العبسي:
ألا ليتَ أنَّ الرِّيحَ في ذاتِ بينِنا ... رسولٌ فتطوي بينَنا بلداً قفْرا
فتخبرَها ماذا لقينا منَ الهوَى ... وتُخبرنا عنها علانيَةً جهرا
وقال آخر:
ألا يا جبالَ الغورِ خلِّينَ بينَنا ... وبينَ الصَّبا يخرجُ علينا سَنينُها
فقدْ طالَ ما حالت ذُراكنَّ بينَنا ... وبينَ ذُرى نجدٍ فما نسْتَبينُها
وقال طريح بن إسماعيل:
هلِ الرِّيحُ مِنْ صبٍّ مقيمٍ مريحةٌ ... علَى الظَّاعنِ النَّائي سلامَ المسلمِ
وكيفَ تناسى مَنْ تجدِّدُ ذكرَهُ ... نسيمُ الرِّياحِ للصَّبا المتنسَّمِ
وقالت العيوق بنت مسعود:
إذا هبَّتِ الأرواحُ زادتْ صبابةً ... عليَّ وبرحاً في فؤادي هبوبُها
ألا ليتَ أنَّ الرِّيحَ ما حلَّ أهلُنا ... بصحراءِ نجدٍ لا تهبُّ جنوبُها
وآلتْ يميناً لا تهبُّ شمالُها ... ولا نكباً إلاَّ صَباً نستطيبُها
وقال آخر:
ألا حبَّذا ريحُ الأُلا إذا جرتْ ... بريَّاهُ هبَّاتُ الرِّياحِ الجنائبُ
وإنِّي لمعذورٌ إلى الشَّوقِ كلَّما ... بدَا لي مِنْ نخلِ الصَّباحِ النَّصائبُ
وقال آخر:
هلِ الرِّيحُ أوْ برقُ اليمامةِ مخبرٌ ... ضمائرَ حاجٍ لا أُطيقُ لها ذكرا
سُليمى سقَاها اللهُ حيثُ تصرَّفتْ ... بها غُرباتُ الدَّارِ عن دارِنا القطرا
إذا درجتْ ريحُ الصَّبا وتنسَّمتْ ... تعرَّفتُ مِنْ نجدٍ وساكنهِ نشرا
تقرَّفَ قرحُ القلبِ بعدْ انْدِمالهِ ... فهيَّجَ دمعاً لا جموداً ولا نذرا

الباب الحادي والثلاثون
في لوامعِ البروقِ أُنسٌ للمستوحشِ المشوقِ
حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي قال حدثنا عبد الله بن شيب قال حدثنا مروان بن أبي بكرة قال حدثني محمد بن إبراهيم الليثي قال حدثني محمد بن معن الغفاري قال اقتحمتِ السَّنة ودخل المدينة ناسٌ من الأعراب منهم صرَّة من كلاب وكانوا يدعون عامَهم ذلك الجُراف قال فأبرقوا ليلة في النَّجد وغدوت عليهم فإذا غلام منهم قد عاد جلداً وعظماً ضيعةً ومرضاً وضمانة حبٍّ وإذا هو قد رفع عقيرته بأبيات والهاً من الليل:
ألا يا سنا برقٍ علَى فلكِ الحمى ... ليَهنكَ مِنْ برقٍ عليَّ كريمُ
لمعتَ اقتداءَ الطَّيرِ والقومُ هجَّعٌ ... فهيَّجتَ أسقاماً وأنتَ سليمُ

فبتُّ بحدِّ المِرفقينِ أشيمهُ ... كأنِّي لبرقٍ بالسَّتَارِ حميمُ
فهلْ مِنْ معيرٍ طرفَ عينٍ جليَّةٍ ... فإنسانُ عينِ العامريِّ كليمُ
وفي قلبهِ البرقُ المُلالي رَميَّةٌ ... بذكرِ الحمى وهنا تكادُ تهيمُ
قال فقلت له ففي دون ما بك يُفحم عن الشِّعر فقال صدقت ولكنَّ البرق أنطقني ثمَّ ما لبث يومه ذلك حتَّى مات.
وقال آخر:
أقولُ لبوَّابَيْنِ والسِّجنُ مغلقٌ ... وطالَ عليَّ اللَّيلُ ما تَرَيانِ
فقالا نرَى برقاً يلوحُ وما الَّذي ... يشوقكَ مِنْ برقٍ يلوحُ يَمانِ
فقلتُ افتحا لي البابَ أجلسْ إليكُما ... لعلِّي أرَى البرقَ الَّذي تَرَيانِ
فقالُوا أُمرنا بالوثاقِ وما لنا ... بمعصيةِ السُّلطانِ فيكَ يَدانِ
ألا ليتَ شِعري وهو ممَّا يهمُّني ... متى أنا والصَّهَّالُ مُلتقيانِ
وأنشدني أحمد بن يحيى:
أكلَّما لمعتْ بالغورِ بارقةٌ ... هفا إليها جَناحا قلبكَ الخفقُ
إنْ كنتَ مثَّلتَها مِنْ كلِّ رابعةٍ ... للشَّمسِ والبدرِ أوْ للمنظرِ الأنقِ
لتُصبحنَّ قتيلاً طُلَّ مصرعهُ ... مِنْ طعنةٍ في الحشا مكتومةِ العلقِ
وقال الأحوص:
أصاحِ ألمْ تحزنكَ ريحٌ مريضةٌ ... وبرقٌ تلالا بالعقيقينِ لامعُ
فإنَّ غريبَ الدَّارِ ممَّ يشوقهُ ... نسيمُ الرِّياحِ والبروقُ اللَّوامعُ
ومنْ دونِ ما أسمُو بطرفي لأرضهمْ ... مفاوزُ مُغبرٌّ منَ التِّيهِ واسعُ
فأبدتْ كثيراً نظرَتي منْ صبابتي ... وأكثرُ منهُ ما تجنُّ الأضالعُ
أهمُّ لأنسَى ذكرَها ويشوقُني ... رفاقٌ إلى أهلِ الحجازِ نوازعُ
وقالت رامة بنت الشماخ:
أُلامُ علَى نجدٍ ومنْ تكُ دارهُ ... بنجدٍ يُهجهُ الشَّوقُ شيءٌ يرايعهْ
تُهجهُ جنوبٌ حينَ تبدُو بنشرها ... يمانيةٌ والبرقُ إذْ لاحَ لامعهْ
وقالت امرأة من طي:
إذا ما صَبيرُ المزنُ أومضَ برقهُ ... ببغدادَ لم تبلجْ بعيني بوارقهْ
ولكنْ متى ما تبدُ منهُ مخيلةٌ ... بنجدٍ فذاكَ البرقُ لا بدَّ شائقهْ
وقالت الخنساء:
أمبتدرٌ قلبي إن العينُ آنستْ ... سنا بارقٍ بالنجدِ غير تهامي
فليت سماكياً يطيرُ ربابهُ ... يقادُ إلى أهلِ الغضا بزمامِ
فيشربَ منهُ جَحْوشٌ ويشيمهُ ... بعينيْ قطاميٍّ أغرَّ شآمي
فأُقسمُ أنِّي قد وجدتُ لجَحْوشٍ ... إذا جاءَ والمستأذنونَ نيامُ
فإنْ كنتَ من أهلِ الحجازِ فلا تلحْ ... وإنْ كنتَ نجديّاً فلحْ بسلامِ
فأهلُ الحجازِ معشرٌ ما أُحبُّهمْ ... وأهلُ الغضا قومٌ عليَّ كرامُ
وقال عبد الرحمن بن دارة:
نظرتُ ودورٌ من نصيبينَ دونَنا ... كأنَّ غريباتِ العيونِ بها رُمدُ
لكيما أرى البرقَ الَّذي أومضتْ بهِ ... ذُرى المزنِ علويّاً وكيفَ لنا يبدُو
وإنِّي ونجداً كالقريبينِ قَطَّعا ... قوًى من جبالٍ لم يشدُّ لها عقدُ
وقال أبو القمقام الأسدي:
خليليَّ طالَ اللَّيلُ واشتغلَ القذَى ... بعينيَّ واستأنستُ برقاً يمانيا
خليليَّ إلا تبكيا لأخيكما ... . . ما بي أقل . .
وقال آخر:
أرقتُ وهاجَني البرقُ البعيدُ ... أريدُ لكي يعودَ فلا يعودُ
أُريدُ لكي أزورَ بلادَ ليلَى ... فأمَّا غيرُ ذاكَ فلا أُريدُ
عليَّ أليَّةٌ إنْ كنتُ أدري ... أينقصُ حبُّ ليلَى أم يزيدُ
ولبعض أهل هذا العصر:
أرقتُ لبرقٍ من تهامةَ خافقٍ ... كأنَّ سنَا إيماضهِ قلبُ عاشقِ
يلوحُ فأزدادُ اشتياقاً وما أرَى ... يشوِّقني لولاكَ من ضوءِ بارقِ
متى تدنُو لا يملكْ ليَ الشَّوقُ لوعةً ... وإنْ تنأى عنِّي فالتَّوهُّم شائقي
فرأيكَ في عبدٍ إليكَ مفرُّهُ ... لتنعشَهُ بالوصلِ قبلَ العوائقِ
وأنشدني أبو طاهر الدمشقي:
أعنِّي علَى بارقٍ ناصب ... خفيٍّ كلمحكَ بالحاجبِ
كأنَّ تألُّقهُ في السَّماءِ ... يدَا كاتبٍ أوْ يدا حاسبِ
وقال علي بن محمد العلوي:
شجاكَ الوميضُ ولذعُ المضيضِ ... بنارِ الهوَى وببرقٍ يماني

كأنَّ تألّقهُ في السَّماءِ ... رجعُ حسابٍ خفيفِ البنانِ
كأنِّيَ لم أدرِ أنَّ الرَّدى ... لهتكِ ستورِ الضَّنى قد رآني
أخلايَّ أُحفيكمُ طائعاً ... وأنتمُ مُنى النَّفسِ دونَ الأماني
ولكنْ يدُ الدَّهرِ رهنٌ بما ... سيُرمَى بأسهمهِ الفرقدانِ
عسَى الدَّهرُ أنْ يثنِ لي عطفهُ ... بعطفِ الهوَى وبعيشٍ لِيانِ
وقال البحتري:
خيالٌ ملمٌّ أو حبيبٌ مسلّمُ ... وبرقٌ تجلَّى أوْ حريقٌ مضرِّمُ
تقيَّضَ لي من حيثُ لا أعلمُ النَّوى ... ويسري إليَّ الشَّوقُ من حيثُ أعلمُ
وقال النابغة:
أرقتُ وأصحابي هجوعٌ بربوةٍ ... لبرقٍ تلالا في تهامةَ لامعُ
فأبدَى هموماً مِنْ همومٍ أجلُّها ... وأكثرُ منها ما تجنُّ الأضالعُ
وقال آخر:
أرقتُ لبرقٍ آخرَ اللَّيلِ يلمعُ ... سرَى دائباً فيما نهبُّ ونهجعُ
سرَى كاحتساءِ الطَّيرِ واللَّيلُ ضاربٌ ... بأرواقهِ والصُّبحُ قدْ كادَ يسطعُ
وقال آخر:
بدَا البرقُ مِنْ نحوِ الحجزِ فشاقَني ... وكلُّ حجازيٍّ لهُ البرقُ شائقُ
سرَى مثلَ نبضِ العرقِ واللَّيلُ دونهُ ... وأعلامُ نجدٍ كلُّها والأسالقُ
وقال دعبل:
ما زلتُ أكلأُ برقاً في جوانبهِ ... كطرفةِ العينِ تخبُو ثمَّ تختطفُ
برقٌ تجاسرَ مِنْ خفَّانَ لامعهُ ... يقضي الصَّبابةَ مِنْ قلبي وينصرفُ
وقال آخر:
شبَّهتُ في أُخرياتِ اللَّيلِ مِنْ رجبٍ ... برقاً أتتْنا بهِ الجوزاءُ شؤْبوبا
صنجاً بصنائعهِ الأوتارُ قدْ نُصبتْ ... بينَ السَّماءِ وبينَ الأرضِ مضروبا
وقال آخر:
أضاءَ البرقُ ليلةَ أذرعاتٍ ... هوًى لا يستطيعُ لهُ طِلابا
هوًى بتهامةٍ وهوًى بنجدٍ ... فأيُّ هواكَ تتركُ حينَ آبا
وقال كثيّر:
أهاجكَ برقٌ آخرَ اللَّيلِ واصبُ ... تضمَّنهُ فرشُ الحيا فالمساربُ
تألَّقَ واحْمَوْمَى وخيَّمَ في الرُّبَى ... أحمُّ الذُّرى ذو هيدبٍ متراكبُ
إذا حرَّكتهُ الرِّيحُ أرزمَ جانبٌ ... بلا هرَقٍ منهُ وأومضَ جانبُ
كما أومضتْ بالعينِ ثمَّ تبسَّمتْ ... جريعٌ بدا منها جبينٌ وحاجبُ
يصحُّ النَّدى لا يذكرُ السَّيرَ أهلهُ ... ولا يرجعُ الماشي بهِ وهوَ جادبُ
وقال آخر:
وأرتاحُ للبرقِ اليمانِي كأنَّني ... لهُ حينَ يجري في السَّماءِ نسيبُ
ولي كبدٌ حرَّى بما قدْ تضمَّنتْ ... عليهِ وعينٌ بالدُّموعِ سكوبُ
أُصعِّدُ أنفاساً حنيناً ولوعةً ... كما حنَّ مقصورُ اليديْنِ قضيبُ
وقال أبو هلال الأسدي:
أشاقتكَ البوارقُ والجنوبُ ... ومِنْ عالي الرِّياحِ لها هبوبُ
أتتكَ بنفحةٍ مِنْ ريحِ نجدٍ ... تضوَّعُ والعرارُ بها مشوبُ
وشمتُ البارقاتِ فقلتُ جادتْ ... حيالَ القاعِ أوْ مُطِرَ القلوبُ
وقال محمد بن عبد الله الفقعسي:
أقولُ لقمقامِ بنِ زيدٍ أما ترَى ... سنا البرقِ يبدُو للعيونِ النَّواظرِ
فإنْ تبكِي للبرقِ الَّذي هيَّجَ الهوَى ... أُعنكَ وإن تصبرْ فلستُ بصابرِ
سقَى اللهُ حيّاً بينَ صارَةَ والحمى ... حِمى فَيْدَ صوبَ العاجناتِ المواطرِ
أمينٌ واد اللهِ مَنْ كانَ منهمُ ... إليهمْ ووقَّاهُ حِمامَ المقادرِ
وقال بعض العامريين:
عدمتُ جداراً يمنعُ البرقَ أنْ يُرَى ... معَ اللَّيلِ علويّاً تطيرُ شقائقهْ
وسقياً لذاكَ البرقِ لو أستطيعهُ ... ولكنْ عدِمنا نيَّةً ما توافقهْ
وقال آخر:
أعنِّي علَى برقٍ أُريكَ وميضهُ ... تضيءُ دجنَّاتِ الظَّلامِ لوامعهْ
إذا اكتحلتْ عينا محبٍّ بضوئهِ ... تجافتْ بهِ حتَّى الصَّباحِ مضاجعهْ
فباتَ وِسادي ساعدٌ قلَّ لحمهُ ... عنِ العظمِ حتَّى كادَ تبدُو أشاجعهْ
وقال آخر:
نفى النَّومَ عنِّي فالفؤادُ كئيبُ ... نوائبُ همٍّ ما تزالُ تنوبُ
وما جزعاً مِنْ خشيةِ الموتِ أخضلتْ ... دموعِي ولكنَّ الغريبَ غريبُ
وإنِّي لأرعَى النَّجمَ حتَّى كأنَّني ... علَى كلِّ نجمٍ في السَّماءِ رقيبُ

ولبعض أهل هذا العصر:
أراعكَ برقٌ في دجى اللَّيلِ لامعُ ... أجلْ كلُّ ما يلقاهُ ذو الشَّوقِ رائعُ
أألآنَ تخشَى البرقَ والإلفُ حاضرٌ ... فكيفَ إذا ما لاحَ والإلفُ شاسعُ
وهاجتْ رياحٌ زدْنَ ذا الشَّوقِ صبوةً ... وباكرتِ الأيكُ الحمامُ السَّواجعُ
وعاشرتَ أقواماً فلمْ تلقَ فيهمِ ... خليلكَ فاستعصتْ عليكَ المدامعُ
وأصبحتَ لا تروِي منَ الشِّعرِ إذْ نأَى ... هواكَ وباتَ الشِّعرُ للنَّاسِ واسعُ
سِوَى قولِ غيلانَ بنِ عقبةَ نادماً ... هلِ الأزمنُ اللاَّتي مضينَ رواجعُ
هناكَ تمنَّى أنَّ عينيكَ لم تكنْ ... وأنَّكَ لم ترحلْ وإلفكَ رابعُ
فكلُّ الَّذي تلقَى يسوؤكَ إنْ دنَا ... ودلُّ الَّذي تلقَى إذا بانَ فاجعُ
فيا ويكَ لا تسرع إلى البينِ إنَّه ... هوَ الموتُ فاحْذرْ غِبَّ ما أنتَ صانعُ
وله أيضاً:
أمنْ أجلِ سارٍ في دجى اللَّيلِ لامعِ ... جفوتُ حذارَ البينِ لِينَ المضاجعِ
علامَ تخافُ البينَ والبينُ راحةٌ ... إذا كانَ قربُ الدَّارِ ليسَ بنافعِ
إذا لم تزلْ ممَّنْ تحبُّ مروَّعاً ... بغدرٍ فإنَّ الهجرَ ليسَ برائعِ

الباب الثاني والثلاثون
في تلهُّب النِّيرانِ أُنسٌ للمدنف الحيران
أنشدني أبو طاهر الدمشقي قال أنشدني محمد بن الوليد الحيدري من أهل فلسطين:
رأيتُ بجرمِ عذرةَ ضوءَ نارٍ ... تلألأَ وهيَ نازحةُ المكانِ
فشبَّهَ صاحبايَ بها سُهيلاً ... فقلتُ تبيَّنَا ما تُبصرانِ
أنارٌ أُوقدتْ فتنوَّراها ... بدتْ لكُما أمِ البرقُ اليمانِي
وكيفَ ودونَها الفلَجاتُ تبدُو ... وكيفَ وأنتُما لا ترفعانِ
كأنَّ الرِّيحَ تصدعُ مِنْ سناها ... بنائقَ جنَّةٍ مِنْ أرجوانِ
وقال جامع الكلابي:
وإنِّي لنارٍ أُوقدتْ بينَ ذي الغضا ... علَى ما بعينِي مِنْ قذًى لبصيرُ
أضاءتْ لنا وحشيَّةً غيرَ أنَّها ... معَ الإنسِ ترعَى ما رعَوْا وتسيرُ
وقال جميل بن معمر:
أكذَّبتُ طرفي أمْ رأيتُ بذي الغضا ... لبُثنةَ ناراً فارْفَعوا أيُّها الرَّكبُ
إلى ضوءِ نارٍ ما تبوخُ كأنَّها ... منَ البعدِ والإقواءِ جيبٌ لها نقبُ
وقال كثيّر:
رأيتُ وأصحابِي بأيْلةَ موهنا ... وقدْ عادُ نجمُ الفرقدِ المتصوّبُ
لعزَّةَ ناراً ما تبوخُ كأنَّها ... إذا ما رمقْناها منَ البعدِ كوكبُ
وقال آخر:
يا موقداً نارِي يُذكيها ويُخمدُها ... قرَّ الشَّتاءِ بأرواحٍ وأمطارِ
قمْ فاصطلِ النَّارِ من قلبي مضرَّمةً ... بالشَّوقِ تغنَ يا موقدَ النَّارِ
ويا أخا الذَّودِ قدْ طالَ الظَّماءُ بها ... لمْ تدرِ ما الرّيُّ مِنْ جدبٍ وإقفارِ
ردْ بالعطاشِ علَى عيني ومحجرِها ... تُروي العطاشَ بدمعٍ واكفٍ جارِي
وقال آخر:
يا موقدَ النَّارِ بالزّنادِ ... وطالبَ الجمرِ في الرَّمادِ
دعْ عنكَ شكّاً وخذْ يقيناً ... واقتبسِ النَّارَ مِنْ فؤادي
وقال الشماخ:
وكنتُ إذا ما جئتُ ليلَى تبرقعتْ ... لقدْ رابَني منها الغداةَ سفورُها
وأُشرفُ بالغورِ اليفاعَ لعلَّني ... أرَى نارَ ليلَى أوْ يراني بصيرُها
حمامةَ بطنِ الوادِيينِ ترنَّمي ... سقاكِ منَ الغرِّ العذابِ مطيرُها
أبِيني لنا لا زالَ ريشُكِ ناعماً ... ولا زلتِ في خضراءَ دانٍ بريرُها
وقال الأحوص بن محمد:
ضوءُ نارٍ بدَا لعينيكَ أمْ شُ ... بَّتْ بذي الأثلِ مِنْ سلامةَ نارُ
تلكَ دارُ الغضا وحسّاً وقد يأ ... لفُها المجتدونَ والزُّوَّارُ
أصبحتْ دمنةً تلوحُ بمتنٍ ... تعتفيها الرِّياحُ والأمطارُ
وكذاكَ الزَّمانُ يذهبُ بال ... نَّاسِ وتبقَى الدِّيارُ والآثارُ
وقال آخر:
يا موقدَ النَّارِ بالصَّحراءِ مِنْ عمَقٍ ... قمْ فاصطلي مِنْ فؤادٍ هائمٍ قلقِ
النَّارُ تُطفى وبردُ القرِّ يخمدُها ... ونارُ قلبيَ لا تطفَى منَ الحرقِ
وقال بعض الأعراب:

أنارٌ بدتْ يا عبدُ مِنْ ساكنِ الغضا ... معَ اللَّيلِ أمْ برقٌ تلألأ ناصبُ
فأحببْ بتلكَ النَّارِ والموقدِ الَّذي ... لهُ عندَ جرعاءِ النُّميرةِ حاطبُ
لمنْ ضوءُ نارٍ بالبطاحِ كأنَّها ... منَ الوحشِ بيضاءُ اللَّبانِ سلوبُ
إذا صدَّعتها الرِّيحُ بانَ بضوئِها ... منَ الأثْلِ فرعٌ يابسٌ ورطيبُ
يراها فيرْجوها وليسَ بآيسٍ ... وفيها عنِ القصدِ المبينِ نكوبُ
فأمَّا علَى طلاَّبِ بانٍ فساعةٌ ... وأمَّا علَى ذي حاجةٍ فقريبُ
وقال آخر:
ونارٍ كسحرِ العَودِ ترفعُ ضوءها ... معَ اللَّيلِ هبَّاتُ الرِّياحِ الصَّواردُ
أحيدُ بأيدي العيسِ عنْ قصدِ دارِها ... وقلبي إليها بالمودَّةِ قاصدُ
وقال آخر:
وطيبةُ قالتْ أوقدِ النَّارَ علَّهُ ... يراها مضلٌّ قدْ سرَى فيؤوبُ
لها موقدٌ مِنْ أهلِها وكأنَّهُ ... إذا أُوقدتْ ليلاً أغنُّ غضوبُ
وقال ربيعة بن ثابت:
لمنْ ضوءُ نارٍ قابلت أعينَ الرَّكبِ ... تشبُّ بلدْنِ العُودِ والمندلِ الرَّطبِ
فقلتُ لقدْ آنستُ ناراً كأنَّها ... صفا كوكبٍ لاحتْ فحنَّ لها قلبِي
وقال ابن الدمينة:
بدتْ نارُ أمِّ العمرو بين حوائلٍ ... وبينَ اللّوَى كالبرقِ داني المعانِ
فيا حبَّذا مِنْ ضوءِ برقٍ بدا لنا ... ويا حبَّذا مِنْ موقدٍ ودخانِ
بدتْ نارُها يا ملحَ مَنْ هيَ نارُهُ ... ويا حبَّذا مِنْ مصطلًى ومكانِ
وقال آخر:
ألا ليتَ أنَّ الطَّلَّ يُطفئُ نارَنا ... فيقبِسَني مِنْ نارِ وجناءَ قابسُ
وماذا عليهمْ لو تصلَّى بضوءها ... علَى النَّأيِ مشبوحُ الذَّراعبْنِ بائسُ
وقال ابن مقيل:
إذا النَّاسُ قالُوا كيفَ أنتَ وقدْ بدا ... ضميرُ الَّذي بِي قلتُ للنَّاسِ صالحُ
إذا قيلَ مِنْ دهماءَ حيِّرتَ أنَّها ... منَ الجنِّ لم يوقدْ لنا النَّارَ قادحُ
وكيفَ ولا نارٌ لدهماءَ أُوقدتْ ... قريباً ولا كلبٌ منَ اللَّيلِ نابحُ
وإنِّيَ ألْحاني علَى أنْ أُحبّها ... رجالٌ تقوِّيهمْ قلوبٌ صحائحُ
ولو أنَّ ما ألقَى منَ الشَّوقِ والهوَى ... لأُهلكَ مالٌ لمْ تسعهُ المسارحُ
وقال امرؤ القيس:
تنوَّرتُها مِنْ أذرِعاتٍ وأهلُها ... بيثربَ أدنَى دارِها نظرٌ عالِ
نظرتُ إليها والنَّجومُ كأنَّها ... مصابيحُ رهبانٍ تشبُّ لقفَّالِ
فقالت سباكَ اللهُ إنَّكَ فاضحي ... ألستَ ترَى السُّمارَ والنَّاسَ أحوالِي
فقلتُ يمينَ اللهِ أبرحُ قاعداً ... ولو قطعُوا رأسي لديكِ وأوصالِي
فلمَّا تنازعْنا الحديثَ وأسمحتْ ... هصرتُ بغصنٍ ذي شماريخَ ميَّالِ
فصرنا إلى الحُسنى ورقَّ كلامُنا ... ورضتُ فذلَّتْ صعبةً أيَّ إذلالِ
حلفتُ لها باللهِ حلفةَ فاجرٍ ... لنامُوا فما إنْ مِنْ حديثٍ ولا صالِ
سموتُ إليها بعدَما نامَ أهلُها ... سموَّ حبابِ الماءِ حالاً علَى حالِ
فأصبحتُ معشوقاً وأصبحَ بعلُها ... عليهِ القَتامَ سيِّئَ الظَّنِّ والبالِ
أمَّا البيت الأول فهو نهاية لا يتهيَّأ مجاوزتها بل لا تتمكن مقاربتها لأنه ذكر أنَّه تخيَّل نارها من المدينة وهو بالشام فساقه الشَّوق إليها من أجل ذلك وقد بلغني أنَّ أعرابياً ذكر صاحبةً له فقال إنِّي لأذكرها وبيني وبينها عقبة طائرٍ وأجد من ذكرها ريح المسك ويقال أنَّ عقبة الطَّائر مئة فرسخ فهذا لعمري مقاربٌ لبيت امرئ القيس ولذلك عليه فضل السَّابق على المسبوق وفضل النَّظم على المنثور وفضل الطَّاعة لاشتياقه وانقياده معه إلى إلفه الَّذي شاقه غير أنَّه عقَّب ذلك بما عفَّ على حسنه ومحا موضع الفخر له به.
وقال الأحوص:
صاحِ هلْ أبصرتَ بالخبْ ... تينِ مِنْ أسماءَ نارا
موهناً شُبَّتْ لعيني ... كَ فلمْ توقدْ نهارَا
كَتَلالي البرقِ في العا ... رضِ ذي المزنِ اسْتَطارا
أذكرَتْني الوصلَ مِنْ سُلْ ... مَى وأيَّاماً قِصارا
لمْ تُثِبْ بالوصلِ سُلمَى ... جارَها إذْ كانَ جارَا
عاشقاً أفنَى طوالَ الدَّ ... هرِ خوفاً واستِتارا

وقال أيضاً:
رأيتُ لها ناراً تُشبُّ ودونَها ... بواطنُ من ذِي رجرجٍ وظواهرُ
فخفَّضتُ قلبِي بعدَما قلتُ إنَّه ... إلى نارِها مِنْ عاصفُ الشَّوقِ طائرُ
فقلتُ لعمرٍو تلكَ يا عمرُو دارها ... تُشبُّ بها نارٌ فهلْ أنتَ ناظرُ
تقادمَ منِّي العهدُ حتَّى كأنَّني ... تذكَّرتُها مِنْ طولِ ما مرَّ هاجرُ
وفي مثلِ ما جرَّبتُ منذُ صحبتَني ... عذرتَ أيا يحيَى لَوَ انَّكَ عاذرُ
كريمٌ يُميتُ السِّرَّ حتَّى كأنَّهُ ... عَمٍ بنواحِي أمرِها وهوَ خابرُ
إذا قلتُ أنْساها وأخلقَ ذكرُها ... تنثَّتْ بذكْراها همومٌ نوافرُ
وقال أيضاً:
أمنْ خُليدةَ وهناً شُبَّتِ النَّارُ ... ودونَها مِنْ ظلامُ اللَّيلِ أستارُ
باتتْ تُشبُّ وبتْنا اللَّيلَ نرقبُها ... تُعنَى قلوبٌ بها مرضَى وأبصارُ
يا حبَّذا تلكَ مِنْ نارٍ وموقدُها ... وأهلُنا باللِّوى إذْ نحنُ أجوارُ
خُليدُ لا تبعدِي ما عنكِ إقصارُ ... وإنْ بخلتِ وإنْ شطَّتْ بكِ الدَّارُ
فما أُبالي إذا أمسيتِ جارَتَنا ... مقيمةً هلْ أقامَ النَّاسُ أمْ سارُوا
لو دبَّ حوليُّ ذَرٍّ تحتَ مدرعِها ... أضحَى بها منْ دبيبِ الذَّرِّ آثارُ
وقال أيضاً:
يا موقدَ النَّارِ بالعلياءِ مِنْ إضَمِ ... أوقدْ فقدْ هجتَ شوقاً غيرَ منصرمِ
يا موقدَ النَّارِ أوقدْها فإنَّ لها ... سَناً يهيجُ فؤادَ العاشقِ السَّدمِ
نارٌ أضاءَ سناها إذْ تشبُّ لنا ... سعديَّةً دلُّها يشفي منَ السَّقمِ
ولائمٍ لامَني فيها فقلتُ لهُ ... قد شفَّ جسمي الَّذي ألقَى بها ودَمي
فما طربتَ لشجوٍ كنتَ تأملهُ ... ولا تأمَّلتَ تلكَ الدَّارِ مِنْ أممِ
وقال آخر:
كأنَّ فؤادي في يدٍ علقتْ بهِ ... محاذرةً أن يقضبَ الحبلَ قاضبهْ
وأُشفقُ مِنْ وشكِ الفراقِ وإنَّني ... أظنُّ لمحمولٌ عليهِ فراكبهْ
نظرتُ ودونِي السُّحقُ مِنْ نخلِ بارقٍ ... بنظرةِ سامِي الطَّرفِ حجنٍ مخالبهْ
لأُبصرَ ناراً بالجواءِ ودونَها ... مسيرةُ شهرٍ لا يعرِّسُ راكبهْ
فواللهِ ما أدرِي أغالَبَني الهوَى ... إلى أهلِ تلكَ الأرضِ أمْ أنا غالبهْ
فإنْ أستطعْ أغلِبْ وإنْ يغلبِ الهوَى ... فمثلُ الَّذي لاقيتُ يُغلبُ صاحبهْ
وقال آخر:
أحقّاً عبادَ اللهِ أنْ لستُ رائياً ... أُميمةَ إنْ حاضرتُ أوْ كنتُ بادِيا
ولا مبصراً بالأجرعِ الفردِ نارَها ... ولا ثانياً يُمنى يديْهَا وِسادِيا
ولا قائلاً تَقضي الدُّيونَ فإنَّها ... ديونُ غريمٍ ما أساءَ التَّقاضيا
ولبعض أهل هذا العصر:
أرقتُ لنارٍ بالطُّليحةِ أُوقدتْ ... تراءَتْ للحظِ العينِ ثمَّ تستَّرتْ
علتْ وخبتْ ثمَّ انجلتْ وتطاولتْ ... علَى هضباتِ الرَّملِ ثمَّ تخفَّضتْ
فلمْ يخبُ شوقِي إذْ خبتْ بلْ تلهَّبتْ ... صبابةُ قلبي بالهوى لمَّا تلهَّبتْ
وما ردَّ عنها الطَّرفَ بعدُ مكانِها ... ولكنْ دموعُ العينِ لمَّا تهلَّلتْ
ذكرتُ بها الدَّهرَ الَّذي ليسَ عائداً ... وما نُسيَتْ أيَّامهُ بلْ تُنُسِّيَتْ
فما أنصفتْ أذكتْ هوًى حينَ أُذكِيَتْ ... ولمْ تُطفَ نيرانُ الهوَى حينَ أُطفئتْ

الباب الثالث والثلاثون
في نوحِ الحَمامِ أُنسٌ للمنفردِ المُستهامِ
ذكروا أنَّ مجنون بني عامر رقد ليلةً تحت شجرةٍ فانتبه بتغريد طائرٍ فأنشأ:
لقدْ هتفتْ في جنحِ ليلٍ حمامةٌ ... علَى فننٍ تدعُو وإنِّي لنائمُ
فقلتُ اعتذاراً عندَ ذاكَ وإنَّني ... لنفسِي فيما قدْ رأيتُ للائمُ
أأزعمُ أنِّي عاشقٌ ذو صبابةٍ ... بليلَى ولا أبكِي وتبكِي الحمائمُ
كذبتُ وبيتِ اللهِ لوْ كنتُ عاشقاً ... لمَا سبقَني بالبكاءِ الحمائمُ
وقال شقيق بن سليك الأسدي:
ولمْ أبكِ حتَّى هيَّجتْني حمامةٌ ... بعَبْنِ الحمامِ الوُرقِ فاستخرجتُ وجدِي
فقد هيَّجتْ منِّي حمامةُ أيكةٍ ... منَ الوجدِ شوقاً كنتُ أكتمهُ جُهدِي

تُنادِي هُذيلاً فوقَ أخضرَ ناعمٍ ... غذاهُ ربيعٌ باكرٌ في ثرًى جعدِ
فقلتُ تعالَيْ نبكِ مِنْ ذكرِ ما خَلا ... ونذكرُ منهُ ما نُسرُّ وما نُبدِي
فإنْ تُسعدِيني نبكِ عبرتَنا معاً ... وإلاَّ فإنَّي سوفَ أسفحُها وحدِي
وهذه حال ناقصة منها في المحبَّة من ليست له حال تبة جحدر الفقعسي حيث يقول:
وكنتُ قدِ اندملتُ فهاجَ شوقِي ... بُكاءَ حمامتينِ تَجاوبانِ
تَجاوبَتَا بلحنٍ أعجميٍّ ... علَى غُصنينِ مِنْ غرَبٍ وبانِ
افتراه إن سلا عمَّن يهواه لم يبق له في قلبه أثر من حبِّه ولا خاطر شارد من ذكره يعيد هواه على فكره فيعطف قلبه عليه إذ لم يستطع أن يردَّ وجده إليه حتَّى يكون نوح الحمام أقوى شيئاً في ردِّ قلبه إلى أحبابه مَن كان السبب في تعذيبه نوح الحمام كان السبب في تبعيده أضعف نوائب الأيَّام ولكنَّ أبا صخر الهذلي قال قولاً لا يهجَّن من ابتدعه ولا يقال على من انتخبه وهو:
وليسَ المعنَّى بالَّذي لا يهجنهُ ... إلى الشَّوقِ إلاَّ الهاتفاتُ السَّواجعُ
ولا بالَّذي إنْ صدَّ يومَّ خليلهُ ... يقولُ ويُبدي الصَّبرَ إنِّي لجازعُ
ولكنَّهُ سقمُ الجوَى ومطالهُ ... وموتُ الجفا ثمَّ الشُّؤونُ الدَّوامعُ
رشَاشاً وتَهتاناً ووبلاً وديمةً ... كذلك تُبدي ما تجنُّ الأضالعُ
وقال آخر:
ألا يا حماماتِ اللِّوَى عُدنَ عودةً ... فإنِّي إلى أصواتكنَّ حزينُ
فعُدنَ فلمَّا عدنَ كدنَ يُمتنَنِي ... وكدتُ بأسرارِي لهنَّ أُبينُ
ولمْ ترَ عيني قبلهنَّ حمائماً ... بَكينَ ولمْ تدمعْ لهنَّ عيونُ
وقال آخر:
يا طائرينَ علَى غُصنٍ أنا لكُما ... مِنْ أنصحِ النَّاسِ لا أبغِي بهِ ثمنَا
كونا إذا طرتُما زوجاً إخالكُما ... لا تأمنانِ إذا أُفردتُما حزَنا
هذا أنا لا علَى غيري أدلُّكما ... لاقيتُ جهداً بتركي الإلفَ والوطنا
وقال آخر:
ألا يا حمامَ الأيكِ إلفُكَ حاضرٌ ... وعودكَ ميَّادٌ ففيمَ تنوحُ
أفقْ لا تنحْ من غيرِ شيءٍ فإنَّني ... بكيتُ زماناً والفؤادُ صحيحُ
وقال آخر:
دعاني الهوَى والشَّوقُ لمَّا ترنَّمتْ ... علَى الأيكِ من بينِ الغصونِ طروبُ
تُجاوبها وُرقُ يُرعْنَ لصوتها ... وكلٌّ لكلٍّ مسعدٍ ومُجيبُ
ألا يا حمامَ الأيكِ ما لك باكياً ... أفارقتَ إلفاً أمْ جفاكَ حبيبُ
وقال آخر:
أُلامُ علَى فيضِ الدُّموعِ وإنَّني ... بفيضِ الدُّموعِ الجارياتِ جديرُ
أيبكي حمامُ الأيكِ من فقدِ إلفهِ ... وأحبسُ دمعي إنَّني لصبورُ
وقال بعض الأعراب:
ألا قاتل الله الحماماتِ غُدوةً ... علَى الفرعِ ماذا هيَّجتْ حينَ غنَّتِ
تغنَّتْ غناءً أعجميّاً فهيَّجتْ ... هوايَ الَّذي كانت ضلوعي أجنَّتِ
نظرتُ بصحراءِ البريدَيْنِ نظرةً ... حجازيَّةً لو جُنَّ طرفٌ لجنَّتِ
ولو هملتْ عينٌ دماً من صبابةٍ ... إذاً هملتْ عيني دماً وأهمَّتِ
وقال ابن الدمينة:
ألا يا صَبا نجدٍ متى هجتِ من نجدِ ... لقد زادني مسراكِ وجداً علَى جدِ
أإنْ هتفتْ ورقاءُ في رونقِ الضُّحى ... علَى غصنٍ غضِّ النَّباتِ منَ الرَّندِ
بكيتَ كما يبكي الوليدُ ولم يكنْ ... جليداً وأبديتَ الَّذي كنتَ لا تُبدي
وقال ناقد بن عطارد العبشمي:
ويثني الشَّوقَ حينَ أقولُ يخبو ... بكاءُ حمامةٍ فيلجُّ حينا
مطوَّقةُ الجناحِ إذا استقلَّتْ ... علَى فننٍ سمعتُ لها رنينا
يميلُ بها ويرفعُها مراراً ... ويسعفُ صوتها قلباً حزينا
كأنَّ بنحرها والجيدِ منها ... إذا ما أُمكنتْ للنَّاظرينا
مخطّاً كان من قلمٍ لطيفٍ ... فخطَّ بجيدها والنَّحرِ نوتا
وقال نبهان العبشمي:
أحقّاً يا حمامةَ بطنِ قَوٍّ ... بهذا الوجدِ أنَّكِ تصدُقينا
غلبتكِ يا حمامةَ بطنِ قوٍّ ... وقبلكِ ما غلبتُ الهائمينا
غلبتكِ في البكاءِ بأنَّ ليلِي ... أُواصلهُ وأنَّكِ تهجَعينا
وأنِّي أشتكِي فأُقولُ حقّاً ... وأنَّكِ تشتكينَ فتكذِبينا

وأنَّكِ أجرأُ الأحياءِ طرّاً ... علَى سفكِ الدِّماءِ وتسلَمينا
وقال أبو تمام الطائي:
أتَضعضعتْ عبراتُ عينكَ إذْ دعتْ ... ورقاءُ حينَ تضعضعَ الإظلامُ
لا تنشِجنَّ لها فإنَّ بُكاءهَا ... ضحكٌ وإنَّ بكاءكَ استغرامُ
هنَّ الحَمامُ فإنْ كسرتَ عَيافةً ... مِنْ حائهِنَّ فإنَّهنَّ حِمامُ
وقال البحتري:
ما لخُضرٍ ينُحْنَ في القضُبِ الخُضْ ... رِ علَى كلِّ صاحبٍ مفقودِ
عاطلاتٌ بلْ حالياتٌ يُردِّدْ ... نَ الشَّجى في قلائدٍ وعقودِ
زِذْنَني صبوةً وذكَّرنني عهْ ... داً قديماً مِنْ ناقضٍ للعهودِ
ما يريدُ الحَمامُ في كلِّ وادٍ ... مِنْ عميدٍ صبٍّ بغيرِ عميدِ
كلَّما أُخمدتْ لهُ نارُ شوقٍ ... هِجنَها بالبكاءِ والتغريدِ
وقال بعض الأعراب:
إلى اللهِ أشكو مقلةً أريحيَّةً ... وقلباً متى يعرِض لهُ الشَّوقُ يرجفُ
ونفساً تمنَّى مخرجاً مِنْ وِعائها ... إذا سمعتْ صوتَ الحمامةِ تهتفُ
وقال يزيد بن الطثرية:
وأسلمَني الباكونَ إلاَّ حمامةً ... مطوَّقةً قدْ صانعتْ ما أُصانعُ
إذا نحنُ أنفدْنا الدُّموعَ عشيَّةً ... فموعدُنا قرنٌ منَ الشَّمسِ طالعُ
وقال بعض الأدباء:
ناحتْ مطوَّقةٌ ببابِ الطَّاقِ ... فجرتْ سوابقُ دمعكَ المهراقِ
حنَّتْ إلى أرضِ الحجازِ بحُرقةٍ ... تُشجِي فؤادَ الهائمِ المشتاقِ
إنَّ الحمائمَ لم تزلْ بحنينَها ... قِدماً تُبكِّي أعينَ العشَّاقِ
كانتْ تفرِّخُ بالأراكِ وربَّما ... سكنتْ بنجدٍ في فروعِ السَّاقِ
فأتَى الفراقُ بها العراقَ فأصبحتْ ... بعدَ الأراكِ تنوحُ في الأسواقِ
فتبعتُها لمَّا سمعتُ حنينَها ... وعلَى الحمامةِ جُدتُ بالإطلاقِ
بي مثلُ ما بكِ يا حمامةُ فاسأَلِي ... مَنْ فكَّ أسركِ أنْ يفكَّ وثاقِي
وقال بعض الأعراب:
صَدوحُ الضُّحى هيَّاجةُ اللَّحنِ لم تزلْ ... قيودُ الهوَى تُهدَى لها وتقودُها
جزوعٌ جمودُ العينِ دائمةُ البُكا ... وكيفَ بُكا ذي مقلةٍ وجمودُها
مطوَّقةٌ لمْ تُطربِ العينَ فضَّةٌ ... عليها ولمْ يعطلْ منَ الحِليِ جيدُها
وقال آخر:
مطوَّقةٌ لا تفتحُ الفمَ بالَّذي ... تقولُ وقدْ هاجتْ ليَ الشَّوقَ أجمَعا
تُؤلِّفُ أحزاناً تفرَّقنَ بالهوَى ... إذا وافقتْ شعبَ الفؤادِ تصدَّعا
دعتْ ساقَ حرٍّ بالمراويحِ وانتحتْ ... لها الرِّيحُ في وادٍ فراخٌ فأسرَعَا
وحقَّ لمصبوبِ الحشَا بيدِ الهوَى ... إذا حنَّ باكٍ أن يحنَّ ويجزَعا
وقال آخر:
ألا هلَ إلى قمريَّةٍ في حمائمٍ ... بنخلةَ أوْ بالمرجتينِ سَبيلُ
فتُلبسَني قمريَّةٌ مِنْ جناحِها ... وذلكَ نيلٌ للمحبِّ قليلُ
مطوَّقةٌ طوقاً ترَى لفصوصِهِ ... روائعَ ياقوتٍ لهنَّ فصولُ
وقال آخر:
رويدكَ يا قمريُّ لستُ بمضمرٍ ... منَ الشَّوقِ إلاَّ دونَ ما أنا مُضمرُ
ليَكْفكَ أنَّ القلبَ منذُ تنكَّرتْ ... أُمامةُ مِنْ معروفِها متنكِّرُ
سقَى اللهُ أيَّاماً خلتْ وليالِياً ... فلم يبقَ إلاَّ عهدُها والتَّذكُّرُ
لئنْ كانتِ الدُّنيا عنتْنَا إساءةً ... لمَا أحسنتْ في سالفِ الدَّهرِ أكثرُ
وقال بعض العقيليين:
لقدْ هاجَ لي شوقاً وما كنتُ سالياً ... ولا كنتُ لو رُمتُ اصطباراً لأصبِرا
حمامةُ وادٍ هيَّجتْ بعدَ هجعةٍ ... حمائمَ وُرقاً مُسعداً أوْ معذِّرا
كأنَّ حمامَ الوادِيينِ ودوْمةٍ ... نوائحُ قامتْ إذا دجَى اللَّيلُ حسَّرا
محلاَّةُ طوقٍ ليسَ تخشَى انقضابهُ ... إذا همَّ أن يهوِي تبدَّلَ آخرا
دعتْ فوقَ ساقٍ دعوةً وتناولتْ ... بها صحرا علَى بديل لتحذَرَا
وإنَّ هذا لمن نفيس الكلام قد اشتمل على لفظ فصيح ومعنى صحيح ألا ترى إلى احترازه من أن يتوهَّم سامع كلامه أنَّ الحمام أعاد له الشوق بعد سلوته أو ردَّ عليه ما كان ذهب من صبوته ثمَّ ما عقَّب به بعد ذلك من الجزالة السَّهلة والرِّقَّة المستحسنة.
ولقد أحسن الَّذي يقول:

وقبليَ أبكَى كلَّ مَنْ كانَ ذا هوًى ... هتوفُ البواكِي والدِّيارُ البلاقعُ
وهنَّ علَى الأطلالِ مِنْ كلِّ جانبٍ ... نوائحُ ما تخضلُّ منها المدامعُ
مزَبْرَجةُ الأعناقِ نمرٌ ظهورُها ... مخطَّمةٌ بالدُّرِّ خضر روائعُ
ومِنْ قطعِ الياقوتِ صِيغتْ عقودُها ... خواضبُ بالحنَّاءِ منها الأصابعُ
وأحسن أيضاً الَّذي يقول:
وقدْ كدتُ يومَ الحزنِ لمَّا ترنَّمتْ ... هتوفُ الضُّحى محزونةً بالتَّرنُّمِ
أموتُ لمبْكاها أسًى إنَّ لوعَتي ... ووجدِي بسُعْدَى قاتلٌ لي فاعلمِ
فلوْ قبلَ مبْكَاها بكيتُ صبابةً ... بسُعدَى شَفيتُ النَّفسَ قبلَ التَّندُّمِ
ولكنْ بكتْ قبلِي فهيَّجَ لي البُكا ... هواها فقلتُ الفضلُ للمتقدِّمُ
وقال حميد بن ثور:
وما هاجَ هذا الشَّوقُ إلاَّ حمامةٌ ... دعتْ ساقَ حرٍّ نوحةً وترنُّما
بكتْ شجوَ ثكلَى قدْ أُصيبَ حميمُها ... مخافةَ بينٍ يتركُ الحبلَ أجذَما
فلمْ أرَ مثلي شاقهُ صوتُ مثلِها ... ولا عربيّاً شاقهُ صوتُ أعجَمَا
وقال آخر:
يهيجُ عليَّ الشَّوقَ نوْحُ حمامةٍ ... دعتْ شجوها في إثر إلفٍ تشوُّقا
دعتْ فبكتْ عينا محبٍّ لصوتِها ... وفاضَ لها ماءُ الهوَى فترقرقا
يلذُّ بها الرَّائي جناحاً مولَّجاً ... ومتْناً سماويّاً من اللَّونِ أزرقا
خفضتُ إليها القلبَ حتَّى تشرَّبتْ ... حلاوتَها أحشاؤهُ فتشوَّقا
أقولُ لها نوحي أُعنْكِ ولم أكنْ ... لأُسعدَ بالأمسِ الحمامَ المطوَّقا
ولبعض أهل هذا العصر:
أرى نوحُ الحمامِ يشوقُ قوماً ... وفي نوحِ الحمائمِ لي عزاءُ
إذا بكتِ الحمائمُ وهيَ وحشٌ ... وأزعجها التفرُّقُ والجفاءُ
فما جزعَ الأنيسِ منَ التَّصابي ... إذا امتنعَ التَّزاوُرَ واللِّقاءُ

الباب الرابع والثلاثون
من امتحن بالمفارقة والهجر اشتغل فكره بالعيافة والزَّجر
سبيل كلّ مشغوف بشيء ما كان أن يحذر عليه ما دام في قبضته ويرجو رجوعه إذا خرج عن يده فالمحبُّ ما دام مقيماً مع محبوبه فخواطره موقوفةٌ على الحذر عليه من الزوال وفكره مرتهنةٌ بالخوف من تغيّر الحال فإذا فارق محبوبه وافتقد مطلوبه اشتغلت خواطره بتأميل أوبته كاشتغالها بمحاذرة فرقته إذ هو غير خال من الأحوال فتراه حينئذ يتيامن بالسَّوانح حسب تشاؤمه بالبوارح وقد قالت الشعراء في كلّ ذلك ونحن إن شاء الله نذكر من أقاويلهم حسب ما يحتمله الباب إذ كنَّا غير متجاوزين لما شرطناه في صدر الكتاب.
قال عبد الله بن قيس الرقيات:
بشَّرَ الظَّبيُ والغرابُ بسُعدى ... مرحباً بالذي يقولُ الغرابُ
قالَ لي إنَّ خيرَ سُعدى قريبٌ ... قدْ أنى أنْ يكونَ منهُ اقترابُ
قلتُ أنَّى تكونُ سعدى قريباً ... وعليها الحصونُ والأبوابُ
حبَّذا الرِّيمُ والوشاحانِ والقصْ ... رُ الَّذي لا تنالهُ الأسبابُ
فعسى أنْ يُؤتِّىَ الله أمراً ... ليسَ في غيِّهِ علينا ارتقابُ
وقال آخر:
نعبَ الغرابُ برؤيةِ الأحبابِ ... فلذاكَ صرتُ أليفَ كلِّ غرابِ
لا شُكَّ ريشكَ إذْ نعبْتَ بقربهمْ ... وسقيتَ مُزنَ صبيبِ كلِّ سحابِ
وسكنتَ بينَ حدائقٍ في جنَّةٍ ... محفوفةٍ بالنَّخلِ والأعنابِ
وقال الراعي:
جرى يومُ رُحنا عامدينَ لأهلِها ... عُقابٌ فقالَ القومُ مرَّ سنيحُ
وكرَّ رجالٌ منهمُ وتراجعوا ... فقلتُ لهمْ طيرٌ إليَّ بريحُ
عقابٌ بأعقابٍ من الدَّارِ بعدما ... مضتْ نيَّةٌ تُقصي المحبَّ طروحُ
وقالوا نراهُ هُدهداً فوقَ بانةٍ ... هدًى وبيانٌ والطَّريقُ تلوحُ
وقالوا دمَ دامتْ مودَّةٌ بيننا ... ودامَ لنا صفوٌ صفاهُ صريحُ
وقال جران العود:
جرى يومَ جئنا بالجِمالِ نزفُّها ... عقابٌ وشحَّاجٌ من البينِ يبرحُ
فأمَّا العقابُ فهو منها عقوبةٌ ... وأمَّا الغرابُ فالغريبُ المطرَّحُ

أفلا ترى إلى تقارب ما بين هذين التَّأويلين الرَّاعي لأنه كان مفارقاً لأحبابه وجرى العقاب بالأعقاب من الدَّار ورجوع الحال إلى ما يهوى لضعف المخاوف من المفارق وقوَّة الآمال وهذا لأنه كان مقيماً مع أحبَّته وجرى العقاب بالعقوبة من صاحبته فهذا كلُّه شاهدٌ لما قد ذكرناه.
وقال جحدر الفقعسي:
تغنَّى الطَّائرانِ ببينِ سُعدى ... علَى غُصْنينِ من غربٍ وبانِ
فقلتُ لصاحبيَّ وكنتُ أحرى ... بزجرِ الطَّيرِ ماذا تُخبرانِ
فقالا الدَّارُ جامعةٌ بسُعدى ... فقلتُ بَلَ انْتُما مُتمنِّيانِ
وكانَ البانُ أنْ بانتْ سُليمى ... وفي الغربِ اغترابٌ غيرُ داني
إذا جاوزتُما سُعفاتِ حجْرٍ ... وأكنافَ اليمامةِ فانعياني
وقال آخر:
رأيتُ غُراباً واقعاً فوقَ بانةٍ ... يُشرشرُ أعلى ريشهِ ويُطائرُهْ
فقلتُ لوَ انِّي لو أشارَ زجرتهُ ... بنفسيَ للنَّهديِّ هلْ أنتَ زاجرُهْ
فقالَ غُرابٌ باغترابٍ من النَّوى ... وفي البانِ بينٌ من حبيبٍ تُجاورُهْ
فما أعْيفَ النَّهديَّ لا درَّ درُّهُ ... وأزجرَهُ للطَّيرِ لا عزَّ ناصرهْ
وقال عروة بن حزام:
ألا يا غُرابيْ دمنةِ الدَّارِ بيِّنا ... أبالصَّرمِ من عفراءَ تنتحبانِ
فإنْ كانَ حقّاً ما تقولانِ فانهضا ... بلحمي إلى وكْرَيكما فكُلاني
ولا يدرينَّ النَّاسُ ما كانَ ميتتي ... ولا يأكُلنَّ الطَّيرُ ما تذرانِ
فعفراءُ أصفى النَّاسِ عندي مودَّةً ... وعفراءُ عنِّي المُعرضُ المُتواني
وقال قيس بن ذريح:
ألا يا غرابَ البينِ قد طرتَ بالذي ... أُحاذرُ من لُبنى فهل أنتَ واقعُ
أتبكي علَى لُبنى وأنتَ تركتَها ... فقد ذهبتْ لُبنى فما أنتَ صانع
وطارَ غرابُ البينِ وانشقَّتِ العصا ... بلُبنى كما شقَّ الأديمَ الصَّوانعُ
وقال آخر:
ألا يا غرابَيْ دارِ أسماءَ بشِّرا ... بخيرٍ وطيرا بعدنا اليومَ أوقَعا
فقدْ كنتُما واللهِ حينَ نعبْتُما ... كداعٍ دعا بالبينِ عُدوى فأسمعا
ولا وجْدَ إلاَّ دونَ وجدٍ وجدْتُهُ ... غدا إذْ وجدنا عرصةَ الدَّارِ بلقعا
وقال آخر:
جرى نازحٌ من آلِ زينبَ عُدوةً ... أمامَ المطايا أعورُ العينِ أعصبُ
وأسحمُ شحَّاجٌ علَى غصنِ بانةٍ ... مُقدَّدُ أطرافِ الجناحيْنِ بنعبُ
فلا طارَ إلاَّ في النواهضِ بعدها ... غُرابٌ وباتَ الطَّيرُ في الحبلِ يضربُ
وقال الضحاك الخفاجي:
ألا يزجرُ الأُلاَّفُ والنَّاشطُ الفردا ... بلى باللِّوى بُعداً لهُ إذْ جرى بُعدا
جرى بانحلال الشَّوقِ في داخلِ الحشا ... ومُستعجمٍ لا يستطيعُ لهُ ردَّا
وقال ثوابة بن زيات الأسدي:
ألا يا غُرابَيْ بينِ ظمياءَ طالما ... تعرَّضتُما لي تنزعانِ شجاكُما
فيا لكما من طائرَيْنِ شجيتُما ... بشحطِ النَّوى حتَّى يطولَ جواكُما
وقال عدي بن زيد:
دعا صُرَدٌ يوماً علَى عودِ شوْحطٍ ... وصاحَ بذاتِ البينِ منها غُرابُها
فقلتُ أتصْريداً وشحطاً وغرْبةً ... وبيناً فهذا بينُها واغترابُها
وقال قيس بن ذريح:
ألا يا غُرابَ البينِ لونكَ شاحبٌ ... وأنتَ بلوْعاتِ الفراقِ جديرُ
فإنْ كانَ حقّاً ما تقولُ فأصبحتْ ... همومُكَ شتَّى بثُّهنَّ كثيرُ
ودرتَ بأعْداءٍ حبيبُكَ فيهمِ ... كما قد تراني بالعدوِّ أدورُ
وقال جميل بن معمر:
ألا يا غرابَ البينِ فيمَ تصيحُ ... فصوتُكَ مشْنيٌّ إليِّ قبيحُ
وكلُّ غداةٍ لا أبا لكَ تنتحي ... إليَّ فتلقاني وأنتَ مُشيحُ
تحدِّثني أنْ لستُ لاقيَ نعمةٍ ... بعُدتَ ولا أمسى لديكَ نصيحُ
فإنْ لم تهجني ذاتَ يومٍ فإنَّهُ ... سيكفيكَ ورقاءُ السَّراةِ صدوحُ
وقال أبو ذؤيب الهذلي:
أبالصَّرمِ من أسماءَ خبَّركَ الَّذي ... جرى بيننا يومَ استقلَّتْ ركابُها
زجرتُ لها طيرَ الشِّمالِ فإنْ تصبْ ... هواكَ الَّذي تهوى يصبكَ اجتنابُها
عصاني إليها القلبُ أنِّي لأمرهِ ... سميعٌ فما أدري أرُشدٌ طلابُها

فقلتُ لقلبي يا لكَ الخيرُ إنَّما ... يُدلِّيكَ للموتِ الصَّريحِ اجتنابُها
وقال جرير:
بانَ الخليطُ برامتيْنِ فودَّعوا ... أوَ كلَّما رفعوا لبينٍ تجزعُ
أنَّ الشَّواحجَ بالضُّحى هيَّجنني ... في دارِ زينبَ والحمامُ الوُقَّعُ
نعبَ الغرابُ فقلتُ بينٌ عاجلٌ ... وجرى بهِ الصُّرَدُ الغداةَ الألمعُ
وقال آخر:
ألا يا غرابَ البينِ ما لكَ كلَّما ... ذكرتُ لُبيْنى طرتَ لي عن شماليا
أعندكَ علمُ الغيبِ أمْ أنتَ مخبري ... بحقٍّ عنِ الأمرِ الَّذي قد بداليا
فلا حملتْ رجلاكَ عشّاً لبيضةٍ ... ولا زالَ ريشٌ من جناحكَ باليا
وقال بعض الأعراب:
ألا يا غرابَ البينِ هلْ أنتَ بائعي ... جناحيْكَ أمْ مُستبدلاً بهما بُرْدي
فما زلتُ أبكي عندهُ وأبثُّهُ ... من الشَّوقِ حتَّى جاءني فبكا عندي
وقال آخر:
كذبتَ غرابَ البينِ ما أنتَ واجدٌ ... بإلفٍ وما شوقي وشوقُكَ واحدُ
زعمتَ لحاكَ اللهُ أنَّكَ مدنفٌ ... فهلْ لكَ في دعواكَ ويحَكَ شاهدُ
يُترجمُ ما يُخفي المحبُّ دموعهُ ... ودمعيَ مُنصبٌّ ودمعكَ جامدُ
فكيفَ هوانا واحداً وفصاحتي ... تصرِّحُ عن وجدي ولفظكَ جاحدُ
وقال آخر:
فأوَّلُ طيرٍ حينَ رُحنا عشيَّةً ... جنوبٌ أُصيلاناً وقدْ جنحَ العصرُ
فقلتُ جَنوبٌ باجتنابكَ أهلَها ... ونفحُ الصَّبا تلكَ الصَّبابةُ والهجرُ
وقالَ غُرابٌ باغترابٍ من النَّوى ... وقطعِ القُوى تلكَ العيافةُ والزَّجرُ
وقال المرقش السدوسي:
ولقدْ غدوتُ وكنتُ لا ... أغدو علَى واقٍ وحاتمْ
فإذا الأشائمُ كالأيا ... مِنِ والأيامنُ كالأشائمْ
وكذاكَ لا خيرٌ ولا ... شرٌّ علَى أحدٍ بدائمْ
وقال الحارث بن سمر الحنفي:
ولستُ بمُشفقٍ من ضُرِّ نجمٍ ... ولا أرجو المنافعَ في النُّجومِ
وما نعبَ الغرابُ لنا بيُمنٍ ... وما نعبَ الغرابُ لنا بشومِ
ولكنْ ما أرادَ الله أمضى ... كذلك قدرةُ الرَّؤوفِ الرَّحيمِ
ولبعض أهل هذا العصر:
أيا قلبُ لا تجزعْ منَ البينِ واصطبرْ ... فلستَ لما يُقضى عليكَ بدافعِ
توكَّلْ علَى الرَّحمانِ إنْ كنتَ مؤمناً ... يُجرْكَ ودعني من نحوسِ الطَّوالعِ
فكلُّ الَّذي قد قدَّرَ اللهُ واقعٌ ... وما لم يقدِّرْهُ فليسَ بواقعِ
وقال جهم بن عبد الرحمن الأسدي:
ألمْ ترَ أنَّ العائفَيْنِ ولو حوتْ ... لكَ الطَّيرُ عمَّا في غدٍ عميانِ
يظنَّانِ ظنّاً مرَّةً يُخطئانهِ ... وأخرى علَى بعض الَّذي يصفانِ
قضى اللهُ ألاَّ يعلمَ الغيبَ غيرهُ ... ففي أيِّ أمرِ اللهِ تمتريانِ
وقال عروة بن الورد:
تقولُ سُليمى لو أقمتَ بسرِّنا ... ولم تدرِ أنِّي للمُقامِ أُطوِّفُ
أرى أمَّ حسَّانَ الغداةَ تلومُني ... تخوِّفُني الأقدارُ واللهُ أخوفُ
لعلَّ الَّذي خوَّفتنا من أمامنا ... يصادفهُ من أهلِنا المتخوَّفُ
وقال الكميت:
وما أنا ممَّنْ يزجرُ الطَّيرَ همُّهُ ... أصاحَ غرابٌ أمْ تعرَّضَ ثعلبُ
ولا السَّانحاتُ البارحاتُ عشيَّةً ... أمرَّ سليمُ القلبِ أمْ مرَّ أعضبُ
وقال مجنون بني عامر:
ألا يا غراباً صاحَ من نحوِ أرضِها ... أفقْ لا أفقتُ الدَّهرَ من صيحانِ
ولا كنتَ من ريبِ الحوادثِ سالماً ... جناحاكَ إنْ أزمعتَ بالطَّيرانِ
وقال آخر:
أمِنْ أجلِ غربانٍ تصايحْنَ غُدوةً ... ببينِ حبيبٍ ماءُ عينيْكَ يسفحُ
ألا يا غرابَ البينِ لا صحتَ بعدها ... وأمكنَ من أوداجِ خلفكَ مذبحُ
وقال آخر:
كأنِّي غداةَ البينِ إذْ صاحَ شاحجٌ ... من الطَّيرِ مشنيُّ الصِّياحِ لعينُ
سليمٌ رماهُ الحزنُ أمَّا نهارهُ ... فغشْيٌ وأمَّا ليلهُ فأنينُ
وقال آخر:
يا طائرَيْ بينِ سُعدى لو أبثُّكما ... نجيَّ نفسي وحاجاتي وأسراري
لمْ تفجعاني ببينٍ تنبعانِ بهِ ... ولمْ تُحقَّا بهِ وجدي واحذاري
وقال آخر:

وكادَ غداةَ سارَ الحيُّ يُبدي ... ضميرَ القلبِ تشحاجُ الغرابِ
غدا بي شامتاً وغدوتُ صبّاً ... يُريني ما بهِ وأُريهِ ما بي
يضاحكُني فيضحكُ حينَ أبكي ... كذلكَ دابهُ أبداً ودابي
فلوْ أنَّ الغرابَ يرقُّ يوماً ... لرقَّ لطولِ وجدي واكتئابي
لعلَّ الدَّهرَ يقلبُ حالتيهِ ... فإنَّ الدَّهرَ حولٌ ذو انقلابِ
فيقلقَهُ اشتياقٌ وارتياحٌ ... ويوحشَهُ اغترابٌ كاغترابي

الباب الخامس والثلاثون
في حنين البعير المفارق أُنسٌ لكلِّ صبٍّ وامقٍ
قال مرة بن عقيل:
لَعمري لقدْ هاجتْ عليَّ حمامةٌ ... قُلوصَ العباديينَ ليلةَ حلَّتِ
تعدَّتْ لها واللَّيلُ مُلقٍ رِواقهُ ... فجاوبْنَها حتَّى مللنَ وملَّتِ
وقال تميم بن كميل الأسدي:
يحنُّ قعودي بعدما كمُلَ السُّرى ... بنخلةَ والضُّمرُ الحراجيجُ ضُمَّرُ
يحنُّ إلى وردِ الحشاشةِ بعدما ... ترامى بهِ خرقٌ من البيدِ أغبرُ
وباتَ يجوبُ البيدَ واللَّيلُ مائلٌ ... يثنَّى لتعريسٍ يحنُّ وأزفرُ
وبي مثلُ ما يلقى منَ الشَّوقِ والهوَى ... علَى أنَّني أُخفي الَّذي بي وأُظهرُ
فقلتُ لهُ لمَّا رأيتُ الَّذي بهِ ... كلانا إلى وردِ الحشاشةِ أصورُ
فليتَ الَّذي ينسى تذكُّرَ إلفهِ ... وسرباً بأحواضِ الحشاشةِ يُنحرُ
وقال أيضاً:
يحنُّ قعودي ذو الحياطِ صبابةً ... بمكَّةَ وهناً من تذكُّرهِ نجدا
تذكَّرَ نجداً موهناً بعدما انطوتْ ... ثميلتهُ وازدادَ عن إلفهِ بُعدا
تذكَّرَ نجداً حادياً بعدَ قادمٍ ... ولا يلبثُ الشَّوقانِ أن يصدعا الكِبدا
فقلتُ لهُ قد هجتَ بي شاعفَ الهوَى ... أصابَ حمامُ الموتِ أضعفنا وجدا
وقال آخر:
أيضربُ جوْنٌ أنْ تحنَّ غريبةٌ ... وما ذنبُ جونٍ أن تحنَّ الأباعرُ
يقولونَ لا تنظرْ وتلكَ بليَّةٌ ... بلى كلُّ ذي عينينِ لا بدَّ ناظرُ
وقال آخر:
باتتْ تشوِّقُني برجعِ حنينها ... وأزيدها شوقاً برجعِ حنيني
نِضْويْنِ مُقترنيْنِ بينَ تِهامةٍ ... طويا الضُّلوعَ علَى جوًى مكنونِ
لو خبَّرتْ عنِّي القَلوصُ لخبَّرتْ ... عن مُستقرِّ صبابةِ المحزونِ
وقال عروة بن حزام:
هوى ناقتي خلفي وقدَّاميَ الهوَى ... وإنِّي وإيَّاها لمختلفانِ
فلو تركتْني ناقتي من حنينها ... وما بيَ من وجدٍ إذنْ لكفاني
فإن تحملي شوقي وشوقكِ تُثْقلي ... وما لكِ بالحِملِ الثَّقيلِ يدانِ
وقال آخر:
تحنُّ قلوصي نحوَ نجدٍ وقد أرى ... بعينيَّ أنِّي لستُ موردَها نجدا
ولا وارداً أمواهَ أجْبِلةِ الحمى ... وإنْ زهقَتْ نفسي علَى وردِها جُهدا
وقال النجاشي:
رأتْ ناقتي ماءَ الفراتِ وذوقهُ ... أمرُّ منَ السُّمِّ الذُّعافِ وأمقرا
وريعَتْ منَ العاقولِ لمَّا رأتْ بهِ ... صياحَ النَّبيطِ والسَّفينِ المقيَّرا
وحنَّتْ حنيناً موجعاً هيَّجتْ به ... فؤاداً إلى أنْ يدركَ الرَّبْوَ أصورا
فقلتُ لها بعضَ الحنينِ فإنَّ بي ... كوجدكِ إلاَّ إنَّني كنتُ أصبرا
وقال آخر:
حنَّتْ وما عقلتْ فكيفَ إذا بكى ... شوقاً يُلامُ علَى البُكا منْ يعقِلُ
ذكرتْ قُرى نجدٍ فأقلقها الهوَى ... وقُرى العراقِ وليْلهُنَّ الأطولُ
وكأنَّما يُجنى لها ولركبها ... بنطافِ دجلةَ والفراتِ الحنظلُ
وتمرُّ من لُججِ السَّرابِ موارقاً ... والخرقُ أغبرُ والقتامُ مجلِّلُ
فغدتْ وأيدي الصُّبحِ تلمعُ في الدُّجى ... كالبيضِ تُغمدُ تارةً وتُسلَّلُ
وقال جرير:
أرى ناقتي تشكو طروقاً وشاقها ... وميضٌ إلى ذاتِ السَّلاسلِ لامعُ
فقلتُ لها حنِّي رُويداً فإنَّني ... إلى أهلِ نجدٍ من تهامةَ نازعُ
فلمَّا رأتْ أنْ لا قُفولَ وإنَّما ... لها من هواها ما تجنُّ الأضالعُ
تمطَّتْ لمجدولٍ طويلٍ فطالعتْ ... وماذا منَ البرقِ اليماني تُطالعُ
وقال آخر:
وحنَّتْ قَلوصي آخرَ اللَّيلِ حنَّةً ... فيا روعةً ما راعَ قلبي حنينُها

سعتْ في عقالَيْها ولاحَ لعيْنها ... سنا بارقٍ وهناً فجنُّ جنونُها
فما برحتْ حتَّى ارعوينا لصوْتِها ... وحتَّى انبرى منَّا المعينُ يعينُها
تحنُّ إلى أهلِ الحجازِ صبابةً ... وقدْ بُتَّ من أهلِ الحجازِ قرينُها
فيا ربِّ أطلقْ قيدها وجريرها ... فقدْ راعني بالمسجدَيْنِ حنينها
وقال آخر:
أزادَ اللهُ نقيكِ في السُّلامى ... علَى منْ بالحنينِ تُعوِّلينا
فلستِ وإن حننْتِ أشدَّ وجداً ... ولكنِّي أُسرُّ وتُعلنينا
وبي مثلُ الَّذي بكِ غيرَ أنِّي ... أُجلُّ عنِ العقالِ وتُعقلينا
وقالت امرأة من دارم:
ألا أيُّها البِكرُ الأنانيُّ إنَّني ... وإيَّاكَ في كلبٍ لمُغتريانِ
تحنُّ وأبكي إنَّ ذا لبليَّةٌ ... وإنَّا علَى البلوى لمصطلحانِ
فمن يكُ لمْ يغرضْ فإنِّي وناقتي ... جميعاً إلى أهلِ الحِمى غرضانِ
تحنُّ فتُبدي ما بها من صبابةٍ ... وأُخفي الَّذي لولا المُنى لعصاني
وقال آخر:
كتموا غداةَ البينِ رحلتهُمْ ... فعرفتُها بخواطرِ القلبِ
فتبعتهُمْ وظننْتُ أنْ بعُدوا ... وإذا همُ منَّا علَى قُربِ
ما زالَ هادي الشَّوقِ يُرشدني ... حتَّى لحقْتُ بأوَّلِ الرَّكبِ
ظلَّتْ مطاياهُمْ تُلاحظنا ... ودموعُها سكْباً علَى سكبِ
أتخالُها عشقَتْ فهنَّ إذاً ... شركاؤُنا وأبيكَ في الحبِّ
وقال الأحوص:
تذكَّرَ سُلمى بعدما حالَ دونها ... منَ النَّأيِ ما يُسلي فهلْ أنتَ صابرُ
فأنتَ إلى سُلمى تحنُّ صبابةً ... كما حنَّ أُلاَّفُ المطيِّ السَّواجرُ
وما كنتُ أدري قبلها أنَّ ذا الهوَى ... يزيدُ اشتياقاً أنْ تحنَّ الأباعرُ
ألا حبَّذا سُلمى الفؤادُ وحبَّذا ... زيارتُها لو يُستطاعُ التَّزاورُ
لقدْ بخلَتْ بالودِّ حتَّى كأنَّها ... خليلُ صفاءٍ غيَّبتْهُ المقابرُ
فإنْ أكُ قد ودَّعتُها وهجرتُها ... فما عن تقالٍ كانَ ذاكَ التَّهاجرُ
ألا ليتَ أنَّا لم نكنْ قبلُ جيرةً ... جميعاً ألا ليتَ دامَ التَّجاورُ
سيُلقى لها في الصَّدرِ من مُضمرِ الحشا ... سريرةُ ودٍّ يومَ تُبلى السَّرائرُ
وقد قالت الشُّعراء أيضاً في تفضيل ما بين حنينهِم وحنين الإبل في تشاؤمهم بها وتطيُّرهم منها أشعاراً كثيرةً فممَّا ذكروه في وصف حنينهم وحنينها.
قول ثعلبة بن أوس الكلابي:
وما عودٌ يحنُّ ببطنِ نجدٍ ... مُغالى الشَّوقِ مُضطمرٌ قليلا
إلى وادٍ تذكَّرَ عُدوتَيْهِ ... أسنَّ بهِ وكانَ بهِ فصيلا
فبدِّلَ مشرباً من ذاكَ ملحاً ... وظِمأً بعدَ قصرتهِ طويلا
يحنُّ إلى الجنائبِ هيَّجتْهُ ... ضُحيّاً أوْ هببْنَ له أصيلا
بأكثرَ غُلَّةً منِّي وجهداً ... علَى إضماريَ الهجرَ الطَّويلا
وقال أيضاً:
وما ذو شُقَّةٍ يقضي حنيناً ... بنجدٍ كان مُغترباً مَريعا
يمارسُ راعياً لا لينَ فيهِ ... وقيداً قدْ أضرَّ بهِ وجيعا
إذا ما البرقُ لاحَ لهُ سناهُ ... حجازيّاً سمعتَ لهُ سجيعا
وأنشدني أعرابي بالبادية:
خليليَّ جَمْجمتُ الهوَى وكتمتهُ ... زماناً فقدْ أضحى بجسميَ باديا
كما جمجمَتْ وجناءُ قد طالَ حبسُها ... وأكثرَ فيها النَّاظرونَ التَّماديا
فلمَّا استبانوا ما بها جعلوا لها ... سوى مربعِ الأُلاَّفِ قيداً وراعيا
وقال آخر:
لَعمركَ ما خوصُ العيونِ شوارقٌ ... روائمُ أظْآرٌ عطفنَ علَى سقْبِ
يُغذِّينهُ لو يستطعْنَ ارتشَفْنهُ ... إذا استفْنَهُ يزددْنَ نكباً علَى نكبِ
بأوجدَ منِّي يومَ ولَّتْ حمولهُمْ ... وقد طلعَتْ أولى الرِّكابِ منَ النَّقْبِ
وأنشدني أعرابي ببلاد نجد:
متى تظعني يا ميُّ من دارِ جِبرتي ... أمُتْ والهوَى برحٌ علَى منْ يطالبُهْ
أكنْ مثلَ ذي الأُلاَّفِ شُدَّ وظيفهُ ... إلى يدهِ الأخرى وولَّى صواحبُهْ
تباريْنَ أظلافاً وقاربَ خطْوهُ ... عنِ الذَّودِ تفنيداً وهنَّ حبائبُهْ

إذا حنَّ لم يُسمعْ رجيعُ حنينهِ ... فلا القيدُ مُنحلٌّ ولا هو قاضبُهْ
وقال عروة بن أذينة:
وتفرَّقوا بعدَ الجميعِ لِنيَّةٍ ... لا بدَّ أن يتفرَّقَ الجيرانُ
لا تصبرُ الإبلُ الجِلادُ تفرَّقتْ ... حتَّى تحنَّ ويصبرُ الإنسانُ
ومما ذكروا في التطيّر منها والكراهية لها قول عوف الراهب:
غلطَ الذينَ رأيتهمْ بجهالةٍ ... يلحوْنَ كلُّهمُ غُراباً ينعقُ
ما الذَّنبُ إلاَّ للأباعرِ أنَّها ... مما يُشتُّ جميعهمْ ويفرِّقُ
إنَّ الغرابَ بيُمنهِ تُدني النَّوى ... وتشتُّ بالشَّملِ الشَّتيتِ الأينقُ
وقال أبو الشيص في مثل ذلك:
ما فرَّقَ الأحبابَ بعْ ... دَ اللهِ إلاَّ الإبلُ
والنَّاسُ يلحوْنَ غُرا ... بَ البينِ لمَّا جهلوا
وما علَى ظهرِ غُرا ... بِ البينِ تُمطى الرُّحلُ
ولا إذا صاحَ في ال ... دِّيارِ احتملوا
وما غُرابُ البينِ إلاَّ ... ناقةٌ أوْ جملُ
وقال آخر:
ما المنايا إلاَّ المطايا وما فرَّ ... قَ شيءٌ تفريقَها الأحبابا
ظلَّ حاديهمُ يسوقُ بقلبي ... ويرى أنَّهُ يسوقُ الرِّكابا
ولبعض أهل هذا العصر:
ولمَّا أتوْنا بالمطايا وقرَّبوا ... محاملَ لمْ تُشددْ عليها قيودُها
تيمَّمْتكُمْ عمداً لأحظى بلحظةٍ ... لعلِّي إن فارقتكُمْ لا أُعيدُها
فلمْ أنسَ إذْ قيَّدتُ رحلَ مطيَّتي ... وقلتُ لحادي الذَّودِ لم لا تقودُها
كأنَّكَ لمْ تعلمْ بأن ربَّ لحظةٍ ... تفوتُكَ لا تدري متى تستفيدها
فلو لمْ تكنْ تهوى الفراقَ نحرْتَها ... ولم تلتمسْ عمداً لها من يقودُها
فيا عجبا منِّي ومن صبرِ مُهجتي ... عليَّ وقدْ أعيَتْ علَى من يكيدُها
أضنُّ بها عمَّنْ يرى المُلكَ دونها ... وأبذلُها طوعاً لمن لا يريدُها

الباب السادس والثلاثون
من فاته الوصال نعشه الخيال
قد تقدَّم قولنا في عيب من خلَّف خليله أوْ تخلَّف عنه في وقته أوْ عن اللُّحوق به على حسب طاقته ثمَّ وكَّدنا عيب من لم يرض حتَّى أقرَّ بأنَّ المشوِّق له إلى إلفه عارضٌ غير متمكِّنٍ له من نفسه وأصحاب هذا الباب الَّذي نحن في أوَّله يلحقهم ذلك العيب كلُّه ويزدادون معه لوماً على مسامحتهم أنفسهم في التَّلذُّذ برقادهم وأخلاَّؤهم ظاعنون عن بلادهم ومن الصُّوفيَّة من لا يقنع لهم بما ألحقناه من العيب بهم حتَّى يقولوا إنَّ النَّوم لو كان مانعاً لهم لكان تخصيصهم إيَّاه بأنَّه يريهم أحبَّتهم نقصاً بيِّناً في مودَّتهم فإنَّ الحال إذا تمكَّنت لم تفترق الرُّوحان وإن افترق الشَّخصان فالمحبُّ المشاهد لصاحبه على كلِّ حالٍ مستغنٍ عن الاستعانة على إحضاره برؤية الخيال ومن طرائف ما قيل في الخيال وأدلّه على ضعف قائله في الحال.
قول ذي الرمة:
فيا ميُّ هلْ يُجزى بُكائي بمثلهِ ... مراراً وأنفاسي عليكِ الزَّوافرُ
وإنْ لامني يا ميُّ من دونَ صُحبتي ... لكِ الدَّهرَ من أُحدوثةِ النَّفسِ ذاكرُ
وأنْ لا ينالَ الرَّكبُ يا ميُّ وقفةً ... منَ اللَّيلِ إلاَّ اعتادني لكِ زائرُ
فهذا أحسن الله جزاءه لم يرض بالعيب الَّذي ذكرناه حتَّى طالب محبوبه بأن يجازيه على تخييله إيَّاه في منامه ثمَّ لم يقنعه أن يجازى بمثل بكائه مراراً فأما اعتذاره بأنه لا يرقد إلاَّ اعتاده منها زائرٌ فقد يتهيَّأ أن يخفَّف جرمه فيه فضربٌ من المعاذر فيقال إنَّه إنَّما عنى أنَّه لا ينفكُّ خاطره من ذكرها فإذا رقد رأى خيالها بقلبه لشدَّة غلبته في حال اليقظة على فكره وأما ما ذكره سوى ذلك من المحالات فإنَّه ينبو عن مراتب الاعتذارات وقد قال قيس بن الملوَّح ما إن لم يكن موفياً على حدِّ الكمال فإنَّه إلى الجليلة من الأحوال وهو:
وإنِّي لأستسقي وما بيَ عطشةٌ ... لعلَّ خيالاً منكِ يلقى خياليا
وأخرجُ من بينِ الجلوسِ لعلَّني ... أُحدِّثُ نفسي عنك في السرِّ خاليا

فهذا البائس إذاً تناعس وليس بناعسٍ ليتعلَّل بخيالها إذا فاته ما يؤمِّله من وصالها فنحن نشهد له بالتَّمام في هذه الحال ولا ندري ما الَّذي يوجب له الغيبة عن إلفه حتَّى اضطرَّه إلى التَّعلُّل بطيفه فنعلم أين منه ذلك تماماً أم يوجب عليه ملاماً.
وما قصّر أيضاً الحسين بن وهب حيث يقول:
أرَقتُ وكيفَ لي بالنَّومِ كيفا ... فألقى من حبيبِ النَّفسِ طيْفا
أقولُ لها متى وتقولُ حتَّى ... وتمطُلني الهوَى بنعمْ وسوْفا
ولولا فرطُ إشفاقي عليها ... غدوْتُ محكَّماً وشهرْتُ سيْفا
ولكنِّي إذا فكَّرتُ فيها ... نهتْني النَّفسُ إشفاقاً وخوفا
ومن مليح ما يدخل في هذا الباب وإن كان مشهوراً في النَّاس:
فقلتُ لها بخلتِ عليَّ يقظى ... فجودي في المنامِ لِمُستهامِ
فقالت لي وصرتَ تنامُ أيضاً ... وتطمعُ أن تواصلَ في المنامِ
ولبعض أهل هذا العصر:
جُعلتُ فداكَ لم يخطر ببالي ... حضورُ البينِ إلاَّ مذْ ليالي
فقد وهواكَ زادنيَ اشتياقا ... علَى شوقي نواكَ وأنتَ قالي
وأكَّدَ ذاكَ أنِّي مذْ ليالٍ ... سهرتُ فلمْ يزُرْ طيفُ الخيالِ
فبتُّ علَى الفراشِ كأنَّ قلبي ... يقلِّبهُ هواكَ علَى المقالي
وكانَ الطَّيفُ يكشفُ بعضَ ما بي ... ولستَ تراهُ يطرُقني بحالِ
فقلْ لي بالذي أصفاكَ ودِّي ... أأنتَ نهيْتَ طيفكَ عن وصالي
أمِ السَّهرُ الَّذي ألزمتَنيهِ ... نفى عنِّي الخيالَ فلا أُبالي
ولبعض أهل الأدب:
أعادَ عليَّ الله يومَ وصالكَ ... وأخطرني قبلَ المماتِ ببالكَ
يُضاعفُ ما بي أنَّني لكَ وامقٌ ... أميرٌ بما تهوى ولستَ كذلكَ
منعت جفوني أن تنامَ قريرةً ... ولو نمتُ أرضاني طروقُ خيالكَ
وحلَّلْتَ عهدي في الهوَى وتركتني ... أُعقِّدُ ما حلَّلْتهُ من حبالكَ
ومن مختار ما قالت الشعراء في الخيال علَى تقصير قائله عن بلوغ درج الكمال:
أسْرَتْ لعينكَ ليلَى بعدَ مغفاها ... يا حبَّذا بعدَ نومِ العينِ مسراها
فقلتُ حُيِّيتَ من طيفٍ ألمَّ بنا ... إن كنتَ تمثالها أوْ كنتَ إيَّاها
وقال العرجي:
وقد كنتُ أرجو أنَّ نأيكِ راحةٌ ... ولم أدرِ أنَّ الطَّيفَ إن نمتُ طالبي
فواللهِ لا يُنكى محبٌّ بمثلها ... وإن كانَ مكروهاً فراقُ الحبائبِ
وأنشدني أعرابي بالبادية:
حلمتُ أقرَّ اللهُ عينيَ أنَّني ... أرى أُمَّ لهوِ القلبِ فيمنْ أُجاورُ
فلمَّا انتبهْنا بالخيالِ الَّذي سرى ... إذا صوتُ جنٍّ والنُّجومُ الزَّواهرُ
فعدتُ لكيْما أن تعودَ فلمْ تعدْ ... وعاودني منها الَّذي قد أُحاذرُ
وقال بعض الأعراب وكان محبوساً في سجن الطائف:
فأنَّى اهتدَتْ تسري وأنَّى تخلَّصتْ ... إليَّ وبابُ السِّجنِ بالعتلِ موثَقُ
عجبْتُ لمسراها وسربٍ سرتْ بهِ بُعَ ... يدَ الكرى كادتْ له الأرضُ تشرقُ
فلا تحسبي أنِّي تخشَّعتُ بعدكُمْ ... لشيءٍ ولا أنِّي منَ الموتِ أفرقُ
ولكنَّ ما بي من هواكِ ضمانةٌ ... كما كنتُ ألقى منكِ إذْ أنا مُطلقُ
فأمَّا الهوَى منِّي إليكِ فطائحٌ ... يمانٍ ولكنِّي بمكَّةَ موثقُ
ألمَّتْ فحيَّتْ ثمَّ قامتْ فودَّعتْ ... فكادتْ عليها مهجةُ النَّفسِ تزهقُ
فما برحتْ حتَّى وددْتُ بأنَّني ... بما في فؤادي من دمِ الجوفِ أشرقُ
وقال الأقرع القشيري:
ألمَّتْ فحيَّاها فهبَّ فحلَّقتْ ... معَ النَّجمِ رؤيا في المنامِ كذوبُ
لقدْ شغفتني أمُّ عمرٍو وبغَّضتْ ... إليَّ نساءً ما لهنَّ ذنوبُ
وأنشدتني ستيرة العصيبية:
ألمَّ خيالُ طَيبةَ أجنبيَّا ... فحيَّا الرَّكبَ دوني والمطيَّا
لما حيَّيْتهمْ يا طيفُ دوني ... وأنتَ أحبُّهمْ شخصاً إليَّا
ألمَّ بنا فسلَّمَ ثمَّ ولَّى ... علَى الهجَّادِ تسليماً خفيَّا
فلمَّا أنْ كشفْتُ غطاءَ رأسي ... إذا أنا لا أرى إلاَّ النَّضيَّا
وأينُقَنا الثَّلاثَ ملقَّياتٍ ... علَى متنِ الطَّريقِ وصاحبيَّا

وزرقاً بالجفيرِ مُنشَّباتٍ ... وشوحطةً ترنُّ ومشرفيَّا
فكلَّفنا سُراها أن رحلنا ... وأحثثنا الأميرَ العامريَّا
وأنشدني أعرابي ببلاد نجد:
ألا طرقَتْ جمْلٌ وبيني وبينها ... مهامِهُ أمْراتٌ وداويةٌ قفرُ
فقلتُ لها كيفَ اهتديْتِ لصاحبٍ ... ونضوٍ طواهُ السَّيرُ مَمْساهما وعرُ
فقالتْ أمنْتَ الدَّهرَ ألاَّ تُحبَّني ... فقلتُ عداني النَّأيُ والأعينُ الخزرُ
علَى أنِّني أهواكِ ما هبَّتِ الصَّبا ... وما سكنتْ سلمى وأكنافها العفرُ
وما هتفتْ يوماً لإلفٍ حمامةٌ ... علَى بانةٍ أفنانها عطَّفٌ خضرُ
فدوميَ علَى العهدِ الَّذي كانَ بيننا ... فما يُبتغى منِّي ولا منكِ لي عذرُ
وقال الحسين بن الضحاك:
سقياً لزورٍ منْ طيفِ مُحتجبٍ ... عاتبتهُ في المنامِ فاعتذرا
فزالَ حقدُ الضَّميرِ عنْ سكنٍ ... يُسخطني رائحاً ومُبتكرا
رضيتُ من عذرِ منْ أقامَ علَى الذَّنْ ... بِ بطيفٍ ألمَّ مُعتذرا
وقال الرقاد بن المنذر الضبي:
ألا طرقَتْ أسماءُ واللَّيلُ دامسٌ ... فأحببْ بها من طارقٍ حينَ يطرقُ
وما طرقَتْ إلاَّ لتُحدثَ ذكرةً ... وتُحكمَ وصلاً بيننا كادَ يخلقُ
وقال أبو تمام الطائي:
عادكَ الزَّورُ ليلةَ الرَّملِ منْ رمْ ... لةَ بينَ الحمى وبينَ المطالي
قمْ فما زاركَ الخيالُ ولك ... نَّكَ بالفكرِ زُرتَ طيفَ الخيالِ
وقال البحتري:
وليلةَ هوَّمنا علَى العيسِ أرسلتْ ... بطيفِ خيالٍ يشبهُ الحقَّ باطلُهْ
فلولا بياضُ الصُّبحِ طالَ تشبُّثي ... بعِطفيْ غزالٍ بتُّ وهناً أُغازلُهْ
وكم من يدٍ للَّيلِ عندي حميدةٍ ... وللصُّبحِ من خطبٍ تذمُّ غوائلُهْ
وقال أيضاً:
مثالُكَ من طيفِ الخيالِ المعاودِ ... ألمَّ بنا من أُفقهُ المُتباعدِ
يُحيِّي هجوداً ميِّتينَ منَ الكرى ... وما نفعُ إهداءِ السَّلامِ لهاجدِ
وقال أيضاً:
إذا نسيتُ هوى ليلَى أشادَ بهِ ... طيفٌ سرى في سوادِ اللَّيلِ إذْ جنحا
دنا إليَّ علَى بعدٍ فأرَّقني ... حتَّى تبلَّجَ وجهُ الصُّبحِ فاتَّضحا
عجبْتُ منهُ تخطَّى القاعَ من إضَمٍ ... وجاوزَ الرَّملَ من خبتٍ وما برحا
وقال أبو تمام:
إسْتَزارتْهُ فكرتي في المنامِ ... فأتاني في خفيةٍ واكتتامِ
فاللَّيالي أحفى بقلبي إذا ما ... جرحتْهُ النَّوى من الأيَّامِ
يا لها ليلةً تنزَّهتِ الأرْ ... واحُ فيها سرّاً منَ الأجسامِ
مجلسٌ لم يكنْ لنا فيهِ عيبٌ ... غيرَ أنَّا في دعوةِ الأحلامِ
وقال عمر بن ربيعة المرقش:
أمِنْ بنتِ عجلانَ الخيالُ المبرِّحُ ... ألمَّ ورحْلي ساقطٌ مُتزحزحُ
فلمَّا انتبهنا بالخيالِ وراعني ... إذا هوَ رحلي والبلادُ توضَّحُ
ولكنَّهُ زَوْرٌ يوقِّظُ نائماً ... ويحدثُ أشجاناً بقلبكَ تجرحُ
بكلِّ مبيتٍ يعترينا ومنزلٍ ... فلوْ أنَّها إذْ تدلجُ اللَّيل تصبحُ
فولَّتْ وقد بثَّتْ تباريحَ ما ترى ... ووجدي بها من قبلِ ذلك أبرحُ
وقال عبادة الطائي:
أما وهواكَ حِلفةَ ذي اجتهادِ ... يعدُّ الغيَّ فيكِ منَ الرَّشادِ
لقدْ أذكى فراقُكِ نارَ وجدي ... وعرَّفَ بينَ عيني والسُّهادِ
وما ناديتني للشَّوقِ إلاَّ ... عجلتُ بهِ فلبَّيْتُ المنادي
وهجرُ القربِ منها كانَ أشهى ... إلى المشتاقِ من وصلِ البعادِ
وقال أيضاً:
وإنِّي وإنْ ضنَّتْ عليَّ بودِّها ... لأرتاحُ منها للخيالِ المؤرِّقِ
يعزُّ علَى الواشينَ لو يعلمونها ... ليالٍ لنا نزدارُ فيها ونلتقي
فكمْ غلَّةٍ للشَّوقِ أطفأتُ حرَّها ... بطيفٍ متى يطرقْ دجى اللَّيل يطرُقِ
أضمُّ عليهِ جفنَ عيني تعلُّقاً ... بهِ عندَ إجلاءِ النُّعاسِ المرفِّقِ
وقال أيضاً:
دعا عبرتي تجري علَى الجورِ والقصدِ ... أظنُّ نسيماً قارفَ الهجرَ من بعدي
خلا ناظري من طيفهِ بعدَ شخصهِ ... فيا عجباً للدَّهرِ فقداً علَى فقدِ

خليليَّ هلْ من نظرةٍ توصلانها ... إلى وجناتٍ ينتسبْنَ إلى الوردِ
وقد كادَ هذا القلبُ ينقدُّ دونهُ ... إذا اهتزَّ في قربٍ من العينِ أوْ بعدِ
فلو تُمْكنُ الشَّكوى لخبَّركَ البكا ... حقيقةَ ما عندي وإن جلَّ ما عندي
وقال أيضاً:
أنسيمُ هلْ للدَّهرِ وعدٌ صادقُ ... فيما يؤمِّلهُ المحبُّ الوامقُ
ما لي فقدْتُكَ في المنامِ ولم يزلْ ... عوْنَ المشوقِ إذا جفاهُ الشَّائقُ
أمنعْتَ أنتَ منَ الزِّيارةِ رِقبةً ... منهم فهلْ منعَ الخيالُ الطَّارقُ
الآنَ جازَ بنا الهوَى مِقدارهُ ... في أهلهِ وعلمتُ أنِّي عاشقُ
ولبعض أهل هذا العصر:
وقدْ كنتُ لا أرضى منَ النَّيلِ بالرِّضا ... وأقبلُ ما فوقَ الرِّضى مُتلوِّما
فلمَّا تفرَّقنا وشطَّتْ بنا النَّوى ... قنعْتُ بطيفِ منكَ يأتي مُسلِّما
فساعفني وهناً خيالكَ في الكرى ... فزارَ وحيَّا ثمَّ قامَ فسلَّما
بنفسي وأهلي من خيالٍ ألمَّ بي ... فداوى سقامي ثمَّ بانَ فأسقما
فواحسرتا لم أدرِ أنَّى اهتدى لنا ... ولمْ أدرِ إذْ ولَّى إلى أينَ يمَّما
رعاهُ ضمانُ اللهِ في كلِّ حالةٍ ... وإن ذرفَتْ عيني لفرقتهِ دما

الباب السابع والثلاثون
من مُنع من النَّظر استأنس بالأثر
قال بعض الأعراب:
أيا شجراتِ الوابشيَّاتِ إنَّني ... لكُنَّ علَى مرِّ الزَّمانِ صديقُ
ولو لم تُجاوركُنَّ أسماءُ لم يصلْ ... إليكنَّ من قلبي الغداةَ فريقُ
يميلُ الهوَى بي نحوكُنَّ وقد أرى ... بعينيَّ ما لي نحوكنَّ طريقُ
فلوْ كنتُ أُهدي الغيثَ أو كنتُ والياً ... علَى الماءِ لم تعطشْ لكُنَّ عروقُ
وقال آخر:
يا سرحةَ الدَّوحِ أينَ الحيُّ واكبدي ... لهفاً تذوبُ وبيتِ اللهِ من حسرِ
ها أنتِ عجماءُ عمَّا قد سُئِلتِ فما ... بالُ المنازلِ لم تنطقْ ولم تحرِ
يا قاتَلَ اللهُ غادات قرعنَ لنا ... حبَّ القلوبِ بما استودعْنَ من حورِ
عنَّتْ لنا وعيون من براقعها ... مكنونةٌ مُقلُ الغزلانِ والبقرِ
باللهِ يا ظبياتِ القاعِ قُلنَ لنا ... ليْلايَ منكنَّ أم ليلَى منَ البشرِ
يا ما أُميْلَحَ غزلاناً شدنّ لها ... هوَ لِباي بينَ الضَّالِ والسَّمُرِ
وقال بعض الأعراب:
ألا هلْ إلى شمِّ الخُزامى ونظرةٍ ... إلى قرقرى قبلَ المماتِ سبيلُ
أيا أثلاتِ القاعِ من بطنِ توضحٍ ... حنيني إلى أفيائكُنَّ طويلُ
ويا أثلاتِ القاعِ قد ملَّ صُحبتي ... سُرايَ فهل في ظلِّكنَّ مقيلُ
ويا أثلاتِ القاعِ قلبي معلَّقٌ ... بكُنَّ وجدْوى خيركُنَّ قليلُ
ويا أثلاتِ القاعِ ظاهرُ ما بدا ... بجسمي علَى ما في الفؤادِ دليلُ
وقال بشر بن هذيل العبسي:
فيا طلحتَيْ لوذانَ لا زالَ فيكُما ... لمنْ يبتغي ظلَّيْكُما فننانِ
وإن كنتما قد هجتُما لوعةَ الهوَى ... ودانيْتُما ما ليسَ بالمتدانِ
وقال آخر:
تجرَّمَ أهلوها لئنْ كنتُ مُشعراً ... جَنوباً بها يا طولَ هذا التجرُّمِ
وما ليَ من ذنبٍ إليهمْ علمتهُ ... سوى أنَّني قد قلتُ يا سرحةُ اسلَمي
بلى فاسلَمي ثمَّ اسلمي ثمَّتَ اسلمي ... ثلاثَ تحيَّاتٍ وإن لم تكلَّمي
وقال حميد بن ثور:
أبى اللهُ إلاَّ أنَّ سرحةَ مالك ... علَى كلِّ آفاقِ العضاهِ تروقُ
نمى النَّبتُ حتَّى نالَ أفنانَها العلى ... وفي الماءِ أصلٌ ثابتٌ وعروقُ
فيا طيبَ ريَّاها ويا بردَ ظلِّها ... إذا حانَ من شمسِ النَّهارِ زروقُ
وهلْ أنا إنْ علَّلتُ نفسي بسرحةٍ ... منَ السَّرحِ موجودٌ عليَّ طريقُ
حمى ظلَّها شكْسُ الخليقةِ خائفٌ ... عليها غرامَ الطَّائفينَ شفيقُ
فلا الظِّلُّ منها بالضُّحى نستطيعهُ ... ولا الفيءُ منها في العشيِّ نذوقُ
وقال آخر:
أيا نخلتَيْ أوْلٍ سقى الأصلَ منكُما ... مُهيجُ الرُّبى والمدجناتُ رواكُما
ويا نخلتَيْ أوْلٍ إذا هبَّتِ الصَّبا ... وأمسيْتُ مقروراً ذكرْتُ ذُراكُما

ويا نخلتَيْ أوْلٍ بليتُ وأنتما ... جديدانِ كالبُردَيْنِ طابَ شذاكُما
وقال خلف بن روح الأسدي:
أيا نخلتَيْ بطنِ العقيقِ أمانعي ... جنى النَّخلِ والبينُ انتظاري جناكُما
لقد خِفْتُ ألاَّ تنفعاني بطائلٍ ... ويُكتبَ في الدُّنيا لغيري جداكُما
وقال بعض الأعراب:
أيا منْ لِعينٍ لا ترى قُللَ الحمى ... ولا جبلَ الأوسالِ إلاَّ استهلَّتِ
لجوجٌ إذا لجَّتْ بكيٌّ إذا بكتْ ... بكتْ فأدقَّتْ في البُكا وأجلَّتِ
نعِمْنا زماناً باللِّوى ثمَّ أصبحتْ ... بِراقُ اللِّوى من أهلها قد تخلَّتِ
ألا قاتلَ اللهُ اللِّوى من محلَّةٍ ... وقاتلَ دنيانا بها كيفَ ولَّتِ
وقال آخر:
إقرأْ علَى الوشلِ السَّلامَ وقلْ لهُ ... كلُّ المشاربِ مذْ هجرْتَ ذميمُ
سقياً لظلِّكَ بالعشيِّ وبالضُّحى ... ولِبردِ مائكَ والمياهُ حميمُ
لو كنتُ أقدرُ منعَ مائكَ لمْ يذقْ ... ما في قِلاتكَ ما حييتُ لئيمُ
وقال آخر:
ألا حبَّذا أعطانُ فلجةَ بالضُّحى ... وخيمُ ذرَى في جلْهَتَيْها المُنصَّبُ
يقولونَ مِلحٌ ماءُ فلجةَ آجنٌ ... أجلْ هوَ مملوحٌ إلى النَّفسِ طيِّبُ
وقال ابن الدمينة:
خليليَّ رُوحا بالهجينِ فسلِّما ... علَى الخيمِ أوْ مُرَّا بذي العشراتِ
وقِيلا بنا في ظلّهنَّ ورمْيِنا ... ذراهنَّ رميَ المحرمِ الجمراتِ
وقُولا لمنْ لاقيتُما يا هديتُما ... أحثَّا لنا في الطَّوافِ مِنْ بكراتِ
قلائصَ فيهنَّ الَّتي كِبرُ همّها ... أنينٌ وتُذري الدَّمعَ بالزَّفراتِ
ولبعض بني كلاب:
ألا حبَّذا الماءُ الَّذي قابلَ الحمى ... ويا حبَّذا مِنْ أجلِ ظمياءَ حاصرهْ
ولو سألتْ ظمياءُ يوماً بوجهِها ... سحابَ الثُّريَّا لاستهلَّتْ مواطرهْ
وقال آخر:
يقرُّ بعيني أنْ أرَى بمكانهِ ... سُهيلاً كطرفِ الأخدرِ المتشاوسِ
وأنْ أُشرفَ القاراتِ مِنْ أيسرِ الحمى ... فتبدُو والأنضاءُ حوصٌ خوامسُ
ذكرتكِ ذِكرى مثلها صدَّعَ الحشا ... بتوٍّ وأُخرى مثلها يومَ حابسِ
ويومَ تعالتْ بي السَّفينةُ وارتمَى ... بيَ البحرُ في آذيهِ المتلاطسِ
وقال ورد الهلالي:
سقَى اللهُ نجداً مِنْ ربيعٍ ومصيفٍ ... وماذا تُرجِّي مِنْ ربيعٍ سقَى نجدا
بلَى إنَّه قدْ كانَ للبيضِ مرَّةً ... وللعيشِ والفتيانِ منزلةً حمدَا
وقال آخر:
ألا حبَّذا الدَّهنَا وطيبُ ترابِها ... وأرضٌ خلاءٌ يصدعُ اللَّيلُ هامُها
ونصُّ المهاري بالعشيَّاتِ والضُّحى ... إلى بقرٍ وحيُ العيونِ كلامُها
وقال آخر:
خليليَّ إنِّي واقفٌ فمسلِّمٌ ... علَى ..... خالطَ اللَّحمَ والدَّما
ولو زالَ هضبُ الرَّملِ عنْ سكناتهِ ... ليمَّمتُ مِنْ وجدٍ بهِ حيثُ يمَّما
ولو نطقتْ ضمرُ الجبالِ لعاشقٍ ... حزينٍ لحيَّانا إذاً وتكلَّما
وقال آخر:
سلِّمْ علَى قطَنٍ إنْ كنتَ لاقيهُ ... سلامَ مَنْ كانَ يهوَى مرَّةً قطَنا
أُحبُّهُ والَّذي أرسَى قواعدهُ ... حبّاً إذا ظهرتْ آياتهُ بطَنا
يا ليتَنا لا نريمُ الدَّهرَ ساحتهُ ... أوْ كانَ إنْ نحنُ سرنا غربةً معَنا
وقال جرير:
ألا حيِّ رهبَى ثمَّ حيِّ المطاليا ... فقدْ كانَ مأنوساً فأصبحَ خالِيا
ألا أيُّها الوادِي الَّذي ضمَّ سيلهُ ... إلينا نوَى ظمياءَ حيِّيتَ وادِيا
نظرتُ برهبَى والظَّعائنُ باللِّوى ... فطارتْ برهبَى شعبةٌ مِنْ فؤادِيا
وقال آخر:
أيا نخلتَيْ شرقِ العذابِ هَلَ انْتُما ... إذا احتملَ الجيرانُ محتملانِ
تفرَّقَ أُلاَّفٌ كثيرٌ وأنتما ... مقيمانِ ينبُو عنكُما الحدثانِ
كأنَّكما قدَّامَ جيشٍ طليعةٌ ... علَى حاضرِ الرَّوحاءِ مرتبيانِ
وقال آخر:
ألا حبَّذا نجدٌ وطيبُ ترابِها ... وغلظةُ دنيا أهلِ نجدٍ ولينُها
نظرتُ بأعلى الجلهتَيْنِ فلم أجدْ ... سِوى مِنْ سُهيلٍ لمحةً أستبينها
فكذَّبتُ طرفَ العينِ ثمَّ ردَّدتهُ ... فراجعَ نفسِي بعدَ شكٍّ يقينُها

وقال آخر:
بليتُ بلى البردٍ اليماني ولا أرى ... جناناً ولا أكنافَ ذروةَ تخلقُ
ألوي حيازيمي بهنَّ صبابةً ... كما تتلوى الحيةُ المتسرقُ
وقال آخر:
أيا سروَتَيْ وادي العقيقِ سُقيتما ... حياً غضَّةَ الأنفاسِ طيّبةَ الوردِ
تروَّيتما مجَّ النِّدى وتغلغلتْ ... عروقُكُما تحتَ النَّدى في ثرًى جعدِ
ولا يهنأنْ ظلاَّكما إنْ تباعدتْ ... بيَ الدَّارُ مَنْ يرجُو ظلالكُما بعدِي
وقال آخر:
تذكّرني خزاماً كلُّ أرضٍ ... منَ الأرضينَ حلَّ بها خزامُ
بهذا الزَّادِ يحيى كلُّ صبٍّ ... فليتَ الزَّادَ كانَ هو الحِمامُ
وقال آخر:
تحنُّ إلى الرَّملِ اليمانِي صبابةً ... وهذا لعمري لوْ قنعتَ كثيبُ
فأينَ الأراكُ الدَّوحُ والسِّدرُ والغضا ... ومستخبرٌ عمَّن تحبُّ قريبُ
هناكَ يغنِّينَا الحمامُ ونجتَني ... جنَى النَّخلِ يحلوْلِي لنا ويطيبُ
وقال آخر:
أقمنا مُكرهينَ بها فلمَّا ... ألفْناها خرجنا كارهينَ
وما حبُّ البلادِ بنا ولكنْ ... أمرُّ العيشِ فرقةُ مَنْ هوينا
وقال ورد بن عبد الرحمن الأسدي:
أيا كبدِي ماذا أُلاقي منَ الهوَى ... إذا الرَّسُّ في آلِ السَّرابِ بدَا لِيا
ضمنتُ الهوَى للرَّسِّ في مُضمرِ الحشا ... ولمْ يضمرِ الرَّسُّ الغداةَ الهوَى لِيا
أعدُّ اللَّيالي ليلةً بعدَ ليلةٍ ... للقيانِ لاهٍ لا يعدُّ اللَّياليا
وقال آخر:
أرَى كلَّ أرضٍ دمَّنتها وإنْ مضتْ ... لها حججٌ يزدادُ طيباً ترابُها
ألمْ تعلمنْ يا ربِّ أنَّ ربَّ دعوةٍ ... دعوتكَ فيها مخلصاً لوْ أُجابُها
لعمرُ أبي ليلَى لئنْ هيَ أصبحتْ ... بوادي القرى ما ضرَّ غيريَ اغترابُها
وقال آخر:
أمَا والَّذي حجَّ الملبُّونَ بيتهُ ... سلاماً ومولَى كلِّ باقٍ وهالكِ
وربِّ القلاصِ الحوصِ تدمَى أُنوفُها ... بنخلةَ والسَّاعونَ حولَ المناسكِ
لقدْ صرتُ آتي الأرضَ ما يستفزُّني ... لها الشَّوقُ لولا أنَّها مِنْ دياركِ
لئنْ قطعَ اليأسُ الحنينَ فإنَّهُ ... رقوءٌ لإذرافِ الدُّموعِ السَّوافكِ
ولبعض أهل هذا العصر:
سقى اللهُ رملَ القاعِ في النَّخلاتِ ... فذاكَ الكثيبَ الفردَ في السَّمراتِ
فقبرَ العباديِّ الَّذي دونَ مُربِخٍ ... فمربخَ والغدرانَ فالهضباتِ
فجبلَيْ زرودٍ فالطَّليحةَ فاللِّوى ... فإنَّ لها عندِي يداً وهناتِ
ولمْ يبقَ مِنْ لذَّاتها غيرُ ذكرةٍ ... تقطَّعُ نفسِي عندَها حسراتِ
لقصرٍ علَى وادِي زُبالةَ مشرفٍ ... أُكفكفُ في أكنافهِ عبَراتي
أحبُّ إلى نفسِي وأشقَى لشجوِها ... وأولَى بها مِنْ هذهِ القُرياتِ
عسَى اللهُ لا تيأسْ سيأذنُ عاجلاً ... بنصرةِ مظلومٍ وفكِّ عُناةِ
وترضَى قلوبٌ قدْ تواترَ سخطُها ... عليَّ فعادتْني بغيرِ تِراتِ

الباب الثامن والثلاثون
مَنْ حُجبَ عن الأثرِ تعلَّل بالذِّكرِ
قال القمقام الأسدي:
ألا ليتَ شِعري هلْ ترَى تذكرينَني ... فذكركِ في الدُّنيا إليَّ حبيبُ
وهلْ لي نصيبٌ في فؤادكِ ثابتٌ ... كما لكِ عندِي في الفؤادِ نصيبُ
رأيْنا نفوساً هيّماً طالَ حبسُها ... علَى غيرِ جرمٍ ما لهنَّ ذنوبُ
يحمنَ حيامَ الهيمِ لمْ تلقَ ساقياً ... أثابَ النُّفوسَ الحيّماتِ مُثيبُ
فلستُ بمتروكٍ فاشرَب شُربةً ... ولا النَّفسُ عمَّا لا تنالُ تطيبُ
وقال حميد بن ثور:
فلا يبعدِ اللهُ الشَّبابَ وقولها ... إذا ما صبوْنا صبوةً ستتوبُ
لياليَ سمعُ الغانياتِ وطرفُها ... إليَّ وإذْ رِيحي لهنَّ جنوبُ
وأرضَى بقولِ النَّاسِ أنتَ مهوّنٌ ... علينا وإذْ غصنُ الشَّبابِ رطيبُ
وقال النابغة الجعدي:
تذكَّرتُ والذِّكرى تضرُّ بذي الهوَى ... ومِنْ حاجةِ المحزونِ أنْ يتذكَّرا
ندامايَ عندَ المنذرِ بنِ محرِّقٍ ... أرَى اليومَ منهمْ ظاهرَ الأرضِ مقفرَا
وقال متمم بن نويرة:

وكنَّا كندمانيْ جَذيمةَ حقبةً ... منَ الدَّهرِ حتَّى قيلَ لنْ يتصدَّعا
فلمَّا تفرَّقنا كأنِّي ومالكاً ... لطولِ اجتماعٍ لمْ نقمْ ليلةً معَا
فإنْ تكنِ الأيَّامُ فرَّقنَ بينَنا ... فقدْ بانَ محموداً أخي يومَ ودَّعا
وقال عدي بن زيد:
فإنْ أمسيتُ مكتئباً حزيناً ... كثيرَ الهمِّ يشهدُني الحذارُ
فقدْ بُدِّلتُ ذاكَ بنُعمِ بالٍ ... وأيَّامٍ لياليها قصارُ
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر قال أنشدنا أبو تمام لنفسه:
ألا إنَّ صدرِي مِنْ غرامِي بلاقعٌ ... عشيَّةَ شاقتْني الدِّيارُ البلاقعُ
لئنْ كانَ أمسَى شملُ وحشكَ جامعاً ... لقدْ كانَ لي شملٌ بأُنسكَ جامعُ
أُسيءُ علَى الدَّهرِ الثَّناءَ فقدْ قضَى ... عليَّ بجورٍ صرفهُ المتتابعُ
وقال حميد بن ثور:
قضَى اللهُ في بعضِ المكارهِ للفتَى ... رشاداً وفي بعضِ الهوَى ما يحاذرُ
شربْنا بثُعبانٍ منَ الطَّودِ بردَها ... شفاءً لغمٍّ وهيَ داءٌ مخامرُ
لياليَ دُنيانا علينا رحيبةٌ ... وإذْ عامرٌ في أوَّلِ الدَّهرِ عامرُ
وقدْ كنتُ في بعضِ الصَّبابةِ أتَّقي ... وأخشَى علينا أنْ تدورَ الدَّوائرُ
وأعلمُ أنِّي إنْ تغطَّيتُ مرَّةً ... منَ الدَّهرِ مكشوفٌ غطائِي فناظرُ
وقال أيضاً:
خليليَّ إنْ دامَ همُّ النُّفوسِ ... عليها ثلاثَ ليالٍ قتلْ
علَى أنَّ شيئاً سمعْنا بهِ ... يسمَّى السُّرورُ مضَى ما فعلْ
وقال البحتري:
عيشٌ لنا بالأبرقَيْنِ تأبَّدتْ ... أيَّامهُ وتجدَّدتْ ذكراهُ
والعيشُ ما فارقتهُ فذكرتهُ ... لهفاً وليسَ العيشُ ما تنساهُ
وقال محمد بن عبيد الأزدي:
فلمَّا قضيْنا عصمةً مِنْ حديثِنا ... وقدْ فاضَ مِنْ بعدِ الحديثِ المدامعُ
جرَى بينَنا منَّا رسيسٌ يزيدُنا ... سقاماً إذا ما استيقنتهُ المسامعُ
كأنْ لمْ تجاورْنا أُميمُ ولمْ تقمْ ... بفيضِ الحمَى إذْ أنتَ بالعيشِ قانعُ
فهلْ مثلَ أيَّامٍ تسلَّفنَ بالحمَى ... عوائدُ أوْ عيشُ السّتارَيْنِ واقعُ
وقال قيس بن ذريح:
فإنْ تكنِ الدُّنيا بليلَى تقلَّبتْ ... عليَّ وللدُّنيا بطونٌ وأظهرُ
فقدْ كانَ فيها للأمانةِ موضعٌ ... وللكفِّ مرتادٌ وللعينِ منظرُ
وللهائمِ الظَّمآنِ ريٌّ بريقِها ... وللدَّنفِ المشتاقِ خمرٌ مسكِّرُ
قال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي فقلنا له فما الَّذي بقي بعد ما وصفت قال بقيت الموافقة.
وقال البحتري:
كانَ الوصالُ بُعيدَ هجرٍ منقضٍ ... زمنَ اللِّوَى وقُبيلَ بينٍ آفدِ
ما كانَ إلاَّ لفتةً مِنْ ناظرٍ ... عجلٍ بها أوْ نهلةً مِنْ واردِ
ولبعض أهل هذا العصر:
رعَى اللهُ دهراً فاتَ لمْ أقضِ حقَّهُ ... وقدْ كنتُ طبّا بالأُمورِ مجرِّبا
لياليَ ما كانتْ رياحكَ شمألاً ... عليَّ ولا كانتْ بروقكَ خلَّبا
لياليَ وفَّيتُ الهوَى فوقَ حقِّهِ ... وفاءً وظرفاً صادقاً وتأدُّبا
فلمْ أرَ ودّاً عادَ ذنباً وقدْ مضتْ ... لهُ حقبٌ يشجَى بذكراهُ مَنْ صبَا
ولمْ أرَ سهماً هتَّكَ الدِّرعَ وانتهَى ... إلى القلبِ قِدماً ثمَّ قصَّر أوْ نبَا
ولا عذرَ للصَّمصامِ إنْ بلغَ الحشا ... وكَلَّ ولمْ يثلمْ لهُ العظمُ مضربَا
ولا لجوادٍ سابقَ الرِّيحَ سالماً ... وقامَ فأعيَا بلْ تقطَّرَ أوْ كبَا
فأنَّى بعذرٍ في اطِّراحِي وجفوتي ... ونقضِ عهودٍ أُكِّدتْ زمنَ الصِّبا
إذا عوقبَ الجانِي علَى قدرِ جرمهِ ... فتعنيفُهُ بعدَ العقابِ منَ الرِّبا
وقال ابن ميادة:
ألا يا لقومِي للهوَى والتَّذكُّرِ ... وعينٍ قذَى إنسانها أُمُّ جحدرِ
فلمْ ترَ عيني مثلَ قلبيَ لمْ يطرْ ... ولا كضلوعِي فوقهُ لمْ تكسَّرِ
وقال الطرماح:
عرفتُ لسلمَى رسمَ دارٍ تخالُها ... ملاعبَ جِنٍّ أوْ كتاباً منمنمَا
وعهدِي بسلمَى والشَّبابُ كأنَّهُ ... عسيبٌ نمَى في ريِّهِ فتقوَّما

يعضُّ سِواراها جلانَا لَوَ أنَّها ... إذا بلغا الكفَّينِ أنْ يتقدَّما
وقال الحسن بن وهب:
الدَّمعُ مِنْ عينيْ أخيكَ غزيرُ ... في ليلهِ ونهارهِ محدورُ
ذكرٌ يجولُ بها الضَّميرُ كأنَّما ... يُذكَى بها تحتَ الفؤادِ سعيرُ
وقال علي بن محمد العلوي:
شآكَ الزَّمانُ بكرِّ الزَّمانِ ... وأفناكَ مِنْ كرِّهِ كلُّ فانِ
إساءةُ دهركَ محفوفةٌ ... بما لمْ يكنْ للصِّبى في ضمانِ
لياليَ لا يشبعُ النَّاظرا ... نِ مَا قابلاكَ ولا يُروَيانِ
لياليَ لمْ يكتسِي العارضا ... نِ شيباً ولمْ يقصصِ الشَّاربانِ
فإنْ يكُ هذا الزَّمانُ انقضى ... وبُدِّلتَ أخبارهُ بالعيانِ
فلا بالقِلى تتناسَى الصِّبى ... ولا بالرِّضا رضيَ العاذلانِ
ونازلةٍ كنتُ مِنْ حدِّها ... علَى غزرٍ مثلَ حدِّ السِّنانِ
ومِنْ نكباتِ خطوبِ الزَّمانِ ... أُلاحظُها بجنانِ الجبانِ
ألا هلْ سبيلٌ إلى نظرةٍ ... بكُوفانَ يحيَى بها النَّاظرانِ
وهلْ أدنوَنْ مِنْ وجوهٍ نأتْ ... وهنَّ منَ النَّفسِ دونَ الدَّواني
أُناسٌ همُ الأُنسُ دونَ الأنيسِ ... وجنَّاتُ عيشكَ دونَ الجنانِ
وله أيضاً:
واهاً لأيَّامِ الشَّبا ... بِ وما لبسنَ منَ الزَّخارفْ
وزوالهنَّ بمَا عرفْ ... تُ منَ المناكرِ والمعارفْ
أيَّامَ ذكركَ في دوا ... وينِ الصِّبى صدرَ الصَّحائفْ
وقفَ النَّعيمُ عنِ الصَّبا ... وزَلَلْتُ عنْ تلكَ الموقفْ
وقال البحتري:
أرسومُ دارٍ أمْ سطورُ كتابِ ... ذهبتْ بشاشتُها معَ الأحقابِ
يجتازُ زائرُها بغيرِ لُبانةٍ ... ويُردُّ سائلُها بغيرِ جوابِ
ولربَّما كانَ الزَّمانُ محبَّباً ... فنبَا بمنْ فيها منَ الأحبابِ
أيَّامَ عُودُ الدَّهرِ أخضرُ والهوَى ... تربٌ لبيضِ ظِبائها الأترابِ
لوْ تُسعفينَ وما سألتُ مشقَّةً ... لعدلتِ حرَّ جوًى ببردِ رُضابِ
ولئنْ شكوتُ ظَمايَ إنَّكِ لَلَّتي ... قِدماً جعلتِ منَ السَّرابِ شرابِي
وعُتبتُ مِنْ حُبِّيكِ حتَّى إنَّني ... أخشَى ملامكِ أنْ أبثَّكِ ما بي
وقال أيضاً:
سقَى اللهُ عهداً مِنْ أُناسٍ تصرَّمتْ ... مودَّتهمْ إلاَّ التَّوهُّمُ والذِّكرُ
وفاءٌ منَ الأيَّامِ رجعُ حُدوجهمْ ... كما أنَّ تشريدَ الزَّمانِ بهمْ غدرُ
هلِ العيشُ إلاَّ أنْ تُساعفنا النَّوى ... بوصلِ سعادٍ أوْ يساعدَنا الدَّهرُ
علَى أنَّها ما عندَها لمُواصلٍ ... وصالٌ ولا عنها لمصطبرٍ صبرُ
إذا ما نهَى النَّاهي فلجَّ بيَ الهوَى ... أصاختْ إلى الواشي فلجَّ بها الهجرُ
ويومَ تثنَّتْ للوداعِ وسلَّمتْ ... بعينينِ موصولٌ بلحظِهما السِّحرُ
توهَّمتُها ألوَى بأجفانها الكرَى ... كرَى النَّومِ أوْ مالتْ بأعظُمها الخمرُ
وقال المرار الفقعسي:
ألا ذكِّراني يا خليليَّ ما مضَى ... منَ العيشِ إذْ لمْ يبقَ إلاَّ تذكُّري
وإذْ لاهتزازِ العيشِ بالرَّكبِ لذَّةٌ ... وإذْ كلُّ شربٍ باردٍ لمْ يُكدَّرِ
وإذْ أنتَ لمْ تشعرْ بعينٍ سخينةٍ ... بكتْ مِنْ فراقٍ لكنِ الآنَ فاشعرِ
وقال أبو صخر الهذلي:
وإنِّي لتعرُوني لذكراكِ رعشةٌ ... كما انتفضَ العصفورُ بلَّلهُ القطرُ
عجبتُ لسعيِ الدَّهرِ بيني وبينَها ... فلمَّا انقضَى ما بينَنا سكنَ الدَّهرُ
أمَا والَّذي أبكَى وأضحكَ والَّذي ... أماتَ وأحيَى والَّذي أمرهُ الأمرُ
لقدْ تَرَكتْني أحسدُ الوحشَ أنْ أرَى ... أليفَيْنِ منها ما يروعُهما الذُّعرُ
هجرتكِ حتَّى قلتِ لا أعرفُ القِلَى ... وزرتكِ حتَّى قلتِ ليسَ لهُ صبرُ
فيا هجرَ ليلَى قدْ بلغتَ بيَ المدَى ... وزدتَ علَى ما لمْ يكنْ يبلغُ الهجرُ
وقال السري بن مغيث النوفلي:
ألا هلْ مُقيتي اللهُ في أنْ ذكرتُها ... وهنَّ بأعلَى ذاتِ عرقٍ خواضعُ
سُحيراً وأصحابِي يلبُّونَ بعدَما ... بدَا وجهُ مشهورٍ منَ الصُّبحِ ساطعُ

تمضَوْا هدَاكمْ ربُّ موسى فإنَّني ... مُنيخٌ فباكٍ بكيةً ثمَّ رافعُ
وبينَ الصَّفا والرُّكنِ نادمتُ صُحبتي ... بذكراكِ والعوَّادُ ساعٍ وراكعُ
وفي جوفِ بيتِ اللهِ جمجمتُ زفرةً ... عليها وظلَّتْ تستهلُّ المدامعُ
ومِنْ نفرٍ عندَ التَّنبُّهِ جئتهمْ ... وكلُّهم مِنْ خشيةِ اللهِ خاشعُ
فقلتُ لهم هلْ تعلمونَ منَ الجوَى ... دواءً فقالُوا أنتَ في النَّارِ واقعُ
فقلتُ لهمْ هلْ تعلمونَ بما الَّذي ... أُرجِّي ولا ما اللهُ بالعبدِ صانعُ
أيجعلُني في النَّارِ ربِّي وحبُّها ... علَى كبدِي منهُ شؤونٌ صوادعُ

الباب التاسع والثلاثون
مُسامرةُ الأوهامِ والأماني سببٌ لتمام العجزِ والتَّواني
قال حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى قال حدثني أبو العالية قال حدثني حباب القشيري قال لمَّا ملك الوليد بن يزيد بعث إلى ابن ميادة وكان معجباً بشِعره فألزمه بابه فاشتاق الشَّيخ لمَّا طال مقامه فقال:
ألا ليتَ شِعرِي هلْ أبيتنَّ ليلةً ... بحرَّةِ ليلَى حيثُ ربَّتَني أهلِي
بلادٌ بها نِيطتْ عليَّ تمائِمِي ... وقُطِّعنَ عنِّي حيثُ أدركَني عقلِي
فإن كنتُ عنْ تلكَ المواطنِ حَابسِي ... فأيسِرْ عليَّ الرِّزقَ واجمعْ إذاً شملِي
قال فلمَّا سمع شِعره كتب إلى مصدِّق كلبٍ أن يعطيه مئة ناقةٍ دهماءَ جعاداً.
وقال ابن ميادة:
ألا ليتَ شِعرِي هلْ يحلَّنَّ أهلَها ... وأهلكَ روضاتٍ ببطنِ اللِّوى خُضرا
وهلْ تأتينَّ الرِّيحُ تدرجُ موهناً ... بريَّاكِ تعرُوني بها بلداً قفرَا
بريحِ خُزامَى الرَّملِ باتَ معانقاً ... فرُوعُ الأقاحِي تهضبُ الطَّل والقطرَا
ألا ليتَني ألقاكِ يا أُمَّ جحدرٍ ... قريباً فأمَّا الصَّبرُ عنكِ فلا صبرَا
ألا لا تلُظِّي السِّترَ يا أُمَّ جحدرٍ ... كفَى بذُرى الأعلامِ مِنْ دوننا سِترا
وأنشدني أحمد بن يحيى:
قالتْ أُميمةُ ما لجسمكَ شاحباً ... وجدٌ بقلبِي يا أُميمُ برَاني
للهِ صاحبيَ الَّذي نبَّأتهُ ... وشكوتُ حبُّكِ عندهُ فكَواني
ظنَّ المكاوِي مُخرجاتِ حرارةٍ ... بينَ الضُّلوعِ ودونَها هَيَماني
يا للرِّجالِ أمَا رأَى ما شفَّني ... أفلا بذكركِ والمُنى داوانِي
وقال كثيّر:
وددتُ وما تُغني الودادةُ أنَّني ... بما في ضميرِ الحاجبيَّةِ عالمُ
فإنْ كانَ خيراً سرَّني وعلمتهُ ... وإن كانَ شرّاً لمْ تلُمْني اللَّوائمُ
وما ذكرتكِ النَّفسُ إلاَّ تفرَّقتْ ... فريقينِ منها عاذرٌ لي ولائمُ
وقال البحتري:
مُنَى النَّفسِ في أسماءَ لوْ تستطيعُها ... بها وجدُها مِنْ غادةٍ وولوعُها
عجبتُ لها تُبدِي القِلى وأودُّها ... وللنَّفسِ تَعصينِي هوًى وأُطيعُها
وقال آخر:
وددتُ بأنَّ النَّاسَ كلّهمُ أنا ... وأنِّي فداءٌ للَّذي أنا عاشقهْ
وأنِّي إذا صاحبتُ للعرضِ مِنْ غدٍ ... إلى اللهِ جيراناً هناكَ أُوافقهْ
فإمَّا إلى جنَّاتِ عدنٍ نكنْ معاً ... وإمَّا إلى نارٍ ففيها أُرافقهْ
وقال كثيّر:
يودُّ بأنْ يُمسي سقيماً لعلَّها ... إذا سمعتْ عنهُ بشكوَى تُراسلهْ
ويرتاحُ للمعروفِ في طلبِ العُلى ... لتُحمدُ يوماً عندَ ليلَى شمائلهْ
فلوْ كنتُ في كبلٍ وبحتُ بعَوْلَتي ... إليهِ ألانتْ جمَّةً لي سلاسلهْ
ويدركُ غيري عندَ غيركِ حظَّهُ ... بشِعري ويُعييني بهِ ما أُحاولهْ
فلا هانتِ الأشعارُ بعدِي وبعدكمْ ... مُحبّاً وماتَ الشِّعرُ بعدِي وقائلهْ
وقال آخر:
تمنَّيتُ في عرضِ الأمانِي وربَّما ... تمنَّى الفتَى أُمنيَّةً لنْ ينالَها
لَوَ انِّي وسُعدى جارُ بيتٍ حبائباً ... فتعلمَ حالِي ثمَّ أعلَمَ حالها
وقال عمر بن أبي ربيعة:
يا ليتَني قدْ أجزتُ الحبلَ دونكمُ ... حبلَ المعرَّفِ أوْ جاورتُ ذا عُشرِ
إنَّ الثَّواءَ بأرضٍ لا أراكِ بها ... فاسْتيقنيهِ ثواءٌ حقٌّ ذي كدَرِ
وما مللتُ ولكنْ زادَ حبُّكمُ ... وما ذكرتكِ إلاَّ ظَلتُ كالسَّدرِ

أُذري الدُّموعَ كذِي سقمٍ يُخامرهُ ... وما يخامرُ مِنْ سقمٍ سوَى الذِّكرِ
كمْ قدْ ذكرتكِ لوْ أُجزَى بذكركمُ ... يا أشبهَ النَّاسِ كلِّ النَّاسِ بالقمرِ
إنِّي لأجذَلُ أنْ أمشِي مقابلهُ ... حبّاً لرؤيةِ مَنْ أحببتُ في الصُّورِ
ولبعض أهل هذا العصر:
زُبالةُ لا همَّ اسقِها ثمَّ روِّها ... وقلَّتْ لها أضعافُ ذي الدَّعواتِ
ألا هلْ إلى نجدٍ وماءٍ بقاعِها ... سبيلٌ وأرواحٍ بها عطراتِ
وهلْ لي إلى تلكَ الطُّليحةِ عودةٌ ... علَى مثلِ تلكَ الحالِ قبلَ وفاتِي
فأشربَ مِنْ ماءِ السَّماءِ فأرتوي ... وأرعَى معَ الغزلانِ في الفلواتِ
وأُلصقَ أحشائِي برملِ زُبالةٍ ... وآنسَ بالظِّلمانِ والظَّبياتِ
وقال بعض الأعراب:
يا ليتَ شِعري وليتٌ أصبحتْ حرَجاً ... هلْ أهبطنَّ بلاداً ما بها دورُ
ألا سبيلَ إلى نجدٍ وساكِنها ... أمْ لا بنجدٍ حبيبُ الأهلِ مهجورُ
لقدْ تبدَّلتُ مِنْ نجدٍ وساكنهِ ... أرضاً بها الدِّيكُ يزقُو والسَّنانيرُ
وقال آخر:
ليتَ شِعري وأينَ منِّيَ ليتٌ ... إنَّ ليتاً وإنَّ لوّاً عناءُ
أيُّ ساعٍ سعى ليقطعَ حبلِي ... حينَ لاحتْ للصَّالحِ الجوزاءُ
واستكنَّ العصفورُ كُرهاً معَ الضَّ ... بِّ وأوفَى في عودهِ الحرباءُ
وأما أهلُ قريةٍ أنكرُوني ... عرفَتْني الدَّوِّيَّةُ الملساءُ
عرفتْ ليلَها الطَّويل وليلِي ... إنَّ ليلَ المحزونِ فيهِ عناءُ
وقال آخر:
عسَى اللهُ يا ظلاَّمُ أنْ يعقبَ الهوَى ... فتلقَى كما قدْ كنتُ فيكِ لقيتُ
وتنهَيْ فتزدادِي إليَّ صبابةً ... كما ازددتُ في حبِّيكِ حينَ نُهيتُ
ألمْ تعلمِي يا ريقةَ الوصلِ أنَّني ... شربتُ بصابٍ بعدكمْ فرويتُ
وإنِّي لخيرٍ قدْ تداويتُ بعدكمْ ... بهجرٍ لكمْ مِنْ حبِّكمْ فبريتُ
وقال آخر:
ألا ليتَني لا أطلبُ الدَّهرَ حاجةً ... ولا بغيةً إلاَّ عليكِ طريقُها
فيا حبَّذا مِنْ منظرٍ لوْ تنالهُ ... عذابُ الثَّنايا أُمُّ عمرٍو وريقُها
وقال آخر:
إذا كلَّمْتِني وكحلتِ عيني ... بعينكِ فامنَعي ما شئتِ منِّي
إذا ازدحمتْ همومِي في فؤادِي ... طلبتُ لها المخارجَ بالتَّمنِّي
وقال آخر:
ألا ليتَ بعدَ الموتِ أُنشرُ نشرةً ... فأنظرَ ما شمطاءُ صانعةٌ بعدِي
أترعَى وصالَ العهدِ بيني وبينَها ... فذلكَ ظنِّي أمْ تغيَّرُ عنْ عهدِي
وقال العباس بن الأحنف
تمنَّى رجالٌ ما أحبُّوا وإنَّما ... تمنَّيتُ أنْ أشكُو إليها وتسمعَا
أرَى كلَّ معشوقينِ غيرِي وغيرَها ... قدِ استعذَبا طعمَ الهوَى وتمتَّعا
وإنِّي وإيَّاها علَى حدِّ رقبةٍ ... وتفريقِ شملٍ لمْ نبتْ ليلةً معَا
وإنِّي لأنهَى النَّفسَ عنها ولمْ تكنْ ... بشيءٍ منَ الدُّنيا سواها لتقْنَعا
وقال جميل:
ألا ليتَنا نحيَى جميعاً وإنْ نمتْ ... يجاورُ في الموتَى ضريحِي ضريحُها
فما أنا في طولِ الحياةِ براغبٍ ... إذا قيلَ قدْ سُوِّي عليها صفيحُها
أظلُّ نهارِي مُستهاماً ونلتَقِي ... معَ اللَّيلِ رُوحي في المنامِ وروحُها
وقال أبو بكر عبد الرحمن الزهري:
ولمَّا نزلْنا منزلاً طلَّهُ النَّدى ... أنيقاً وبستاناً منَ النَّورِ حاليا
أجدَّ لنا طيبُ المكانِ وحسنهُ ... مُنًى فتمنَّينا فكنتِ الأمانيا
وقال مزاحم العقيلي:
وددتُ علَى ما كانَ منْ شرفِ الفتَى ... وجهلِ الأمانِي أنَّ ما شئتُ تفعلُ
فترجعَ أيَّامٌ مضينَ بنعمةٍ ... علينا وهلْ يُثنَى منَ العيشِ أوَّلُ
وقال جرير:
أُؤمِّلُ أنْ أُلاقيَ آلَ ليلَى ... كما يرجُو أخُو السَّنةِ الرَّبيعا
فلستُ بنائمٍ إلاَّ بهمٍّ ... ولا مستيقظاً إلاَّ مَروعا
وقال آخر:
فما مسَّ جنبِي الأرضَ إلاَّ ذكرتُها ... وإلاَّ وجدتُ ريحَها في ثيابيا
فيا ربِّ إنْ كانتْ عروضُ هيَ المُنى ... فزنِّي بعينيها كما زِنتَها لِيا
وقال سعد ذلفاء:

فليتَ ابنَ أوسٍ حينَ يأتيهِ أهلُها ... يخاصمهمْ أهلِي قضانِي لها عبْدا
فتربطُني ذلفاءَ في شقِّ بيتِها ... إلى الطَّنبِ الأقصَى فتوسعُني جلدا
فأضحكَ منها إذا تقولُ نساؤُها ... لكِ الويلُ يا ذلفاءُ لا تقتُلي سعدَا
وقال عروة بن حزام:
كأنَّ قطاةً عُلِّقتْ بجناحِها ... علَى كبدِي مِنْ شدَّةِ الخفقانِ
ألا ليتَنا نحيَى جميعاً وليتَنا ... إذا نحنُ مُتنا ضمَّنا كفنانِ
ألا ليتَنا عفراءُ مِنْ غيرِ ريبةٍ ... بعيرانِ نرعَى القفرَ مؤتلفانِ
وإنِّي لأهوَى الحشرَ إذْ قيلَ إنَّني ... وعفراءَ يومَ الحشرِ ملتقيانِ
وقال آخر:
ألا مَنْ لهمٍّ بتُّ وحدِي أُكابدهْ ... ومَنْ يكُ ذا همٍّ يبتْ وهوَ عامدهْ
تذكَّرتُ بطنَ الحِبرِ يا ليتَني بهِ ... إذا اعتمَّ بيتاً متنهُ وأجالدهْ
وقال الأحوص:
إنِّي لآملُ أن تدنُو وإنْ بعُدتْ ... والشَّيءُ يؤملُ أنْ يدنُو وإنْ بعُدا
أبغضتُ كلَّ بلادٍ كنتُ آلفُها ... فما أُلائمُ إلاَّ أرضَها بلدَا
يا للرِّجالِ لمقتولٍ بلا ترَةٍ ... لا يأخذونَ لهُ عقلاً ولا قوَدا
إنْ قرَّبتْ لمْ يُفقْ عنها وإنْ بعُدتْ ... تقطَّعتْ نفسهُ مِنْ حبِّها قدَدا
ما تذكرُ الدَّهرَ لي سُعدى وإنْ نزحتْ ... إلاَّ ترقرقَ ماءُ العينِ فاطَّردا
ولا قرأتُ كتاباً منكِ يبلُغُني ... إلاَّ تنفَّستُ مِنْ وجدٍ بكمْ صعدا
وقدْ بدتْ لي مِنْ سُعدى معاتبةٌ ... أمسَى وأضحَى بها جدِّي وما سعِدا
ولو أُعاتبُ ذا حقدٍ قتلتُ لهُ ... نفساً مُعاتَبَتي إيَّاكِ ما حقدا
وقال النميري:
ألا هلْ إلى نصِّ النَّواعجِ بالضُّحى ... وشمِّ الخُزامى بالعشيِّ سبيلُ
بلادٌ بها أمسَى الهوَى غيرَ أنَّني ... أميلُ معَ المقدارِ حيثُ يميلُ
وقال أبو القمقام الفقعسي:
يقرُّ بعيني أن أرَى رملةَ الغضا ... إذا ما بدتْ يوماً لعينِي قِلالُها
ولستُ وإنْ أحببتُ مَنْ يسكنُ الغضا ... بأوَّلِ راجٍ حاجةً لا ينالُها
وقال أيضاً:
تبدَّلَ هذا السِّدرُ أهلاً وليتَني ... أرَى السِّدرَ بعدِي كيفَ كانتْ بدائلهْ
فعهدِي بهِ عذبَ الجنَى ناعمَ الذُّرَى ... تطيبُ وتندَى بالعشيِّ أصائلهْ
كما لوْ وشَى بالسِّدرِ واشٍ رددْتهُ ... كئيباً ولمْ تملحْ لديَّ شمائلهْ
وقال آخر:
ألا هلْ إلى إلمامةٍ قبلَ موتِنا ... سبيلٌ وهلْ للنَّازحينَ رجوعُ
وهلْ لعيونٍ قدْ بكينَ إلى الفلا ... وأبكينَ حتَّى ما لهنَّ دموعُ
يُحاذرنَ إنْ لا يرتجعنَ إلى الفلا ... وإنْ لا يُراعُ الشَّملُ وهوَ جميعُ

الباب الأربعون
مَنْ قصُرَ نومُهُ طالَ ليلُهُ
أمَّا هؤلاء الذين ترجمنا هذا الباب بذكرهم فهم على كلِّ الأحوال أعذر ممَّن كان قبلهم على أنَّ فراغهم لوصف ما بدا لهم هُجنة بهم ودلالة على ضعف أحوالهم وقال الطائي وما أظنُّ أنَّه احترز به من هذا اللَّوم الَّذي يلحق غيره فألزم نفسه أكثر ما حذره وذلك قوله:
لستُ أدري أطالَ ليلِي أمْ لا ... كيفَ يدرِي بذاكَ مَنْ يتقلاَّ
لوْ تفرَّغتُ في استطالةِ ليلِي ... ولرعيِ النُّجومِ كنتُ مخلاَّ
فهو وإنْ كانت جهالته بحاله دالَّة على قوَّة اشتغاله فإنَّ علمه بالعلَّة الَّتي أوجبت جهله بها ضربٌ من الفلسفة الَّتي لا يصلح أن يعلمها إلاَّ متخلٍّ من هذه الحالة كلِّها ففرَّ من شيءٍ ووقع في أعظم منه ألا ترى أنَّ البهائم تجد ألم ما ينالها وتُظهر التَّأذِّي به وليس يعلم أنَّ الاشتغال بالألم يمنع من وصفه إلاَّ أهل الفلسفة والحكم والتَّكلُّف إذا دخل في شيء نبَّه على موضعه وترجم عن ضمير متحلِّله ولسنا قادرين على ذكر حال تامَّة عن أحد من الشُّعراء في هذا الباب لأنَّ كلّ واصف بوصفه أدلّ الأشياء على ضعفه فأهل التَّمام إذن سكوتٌ عن الوصف مستغرقون في غمراته مشتغلون به عن صفاته ولكنَّا نذكر عن أهل الضَّعف المستطيعين لترتيب الوصف أحسن ما يحضرنا من أقاويلهم وما زادوا فيه على أمثالهم ونظرائهم.
قال النابغة الذبياني:

كِليني لهمٍّ يا أُميمةُ ناصبِ ... وليلٍ أُقاسيهِ بطيءُ الكواكبِ
وصدرٍ أراحَ اللَّيلَ غاربَ همِّهِ ... يُضاعفُ فيه الحزنَ مِنْ كلِّ جانبِ
تقاعسَ حتَّى قلتُ ليسَ بمنقضٍ ... وليسَ الَّذي يرعَى النُّجومَ بآيبِ
وقال عبيد الراعي:
كأنَّ بلادهنَّ سماءُ ليلٍ ... تكشَّفُ عنْ كواكبها الغيومُ
مللتُ بها الثَّواءَ وأرقتْني ... همومٌ ما تنامُ ولا تُنيمُ
أبيتُ بها أُراعي كلّ نجمٍ ... وشرُّ رعايةِ العينِ النُّجومُ
وقال سويد بن أبي كاهل:
وأبيتُ اللَّيلَ ما أرقدهُ ... وبعينيَّ إذا النَّجمُ طلعْ
فإذا ما قلتُ ليلِي قدْ مضَى ... عطفَ الأوَّلُ منهُ فرجعْ
يسحبُ اللَّيلُ نجوماً ظلَّعاً ... فتُواليها بطيئاتُ التَّبعْ
وقال جرير:
أتَى دونَ هذا اليومِ همٌّ فاسهَرَا ... أُراعي نجوماً تالياتٍ وغُوَّرا
أقولُ لها مِنْ أجلهِ ليسَ طولُها ... كطولِ اللَّيالي ليتَ صُبحكِ نوَّرا
وقال أبو تمام:
أفنَى وليلي ليسَ يفنَى آخرهْ ... هاتَا مواردهُ فأينَ مصادرهْ
نامتْ عيونُ الشَّامتينَ تيقُّناً ... أنْ ليسَ يهجعُ والهمومُ تسامرهْ
لا شيءَ ضائرُ عاشقٍ فإذا نأَى ... عنهُ الحبيبُ فكلُّ شيءٍ ضائرهْ
وقال كثيّر:
ولِي منكِ أيَّامٌ إذا تشحطُ النَّوى ... طوالٌ وليلاتٌ تزولُ نجومُها
إذا سمتُ نفسِي هجرَها واجتنابَها ... رأتْ غمراتِ الموتِ فيما أسومُها
وذكروا أنَّ علي بن الجهم لمَّا طُعن في برِّيَّة حلب قال لغلامه في أول اللَّيل أطلعَ النَّجمُ أم لا؟ فقال له غلامه هذا بعد وقت العشاء فأنشأ يقول:
هلْ زِيدَ في اللَّيلِ ليلُ ... أمْ سالَ بالصُّبحِ سيلُ
ذكرتُ أهلَ دُجيلٍ ... وأينَ منِّي دُجيلُ
ثمَّ مات من ليلته.
وقال البحتري:
مغانِي سُليمى بالعقيقِ ودونَها ... أجدَّ الشَّجى إخلاقُها ودثورُها
وألحقَني بالشَّيبِ في عقرِ دارهِ ... مناقلُ في عرضِ الشَّبابِ أسيرُها
مضتْ في سوادِ الرَّأسِ أُولى بطالَتي ... فدعْني يُصاحبْ وخْطَ رأسي أخيرُها
وأطريتَ لي بغدادَ إطراءَ مادحٍ ... وهذي لياليها فكيفَ شهورُها
وقال أيضاً:
أُنبِّيكَ عنْ عيني وطولِ سهادِها ... ووحدةِ نفسِي بالأسَى وانفرادِها
وأنَّ الهمومَ اعتدنَ بعدكِ مضجَعي ... وأنتِ الَّتي وكَّلْتني باعتيادِها
خليليَّ إنِّي ذاكرٌ عهدَ خلَّةٍ ... تولَّتْ ولمْ أذممْ حميدَ ودادِها
فواعجَبا ما كانَ أقصرَ دهرَها ... لديَّ وأدنَى قربَها مِنْ بعادِها
وكنتُ أرَى أنَّ الرَّدى قبلَ بينِها ... وأنَّ افتقادَ العيشِ قبلَ افتقادِها
بنفسيَ مَنْ عاديتُ مِنْ أجلِ فقدهِ ... بلادِي ولولا فقدهُ لمْ أُعادِها
وقال أبو تمام:
رأيتُ في النَّومِ أنَّ الصُّلحَ قدْ فسدَا ... وأنَّ مولايَ بعدَ القربِ قدْ بعُدا
لِمْ لَمْ أمتْ جزعاً لِم لَم أمتْ أسفاً ... لِم لَم أمت حزناً لِم لَم أمتْ كمدَا
قدْ كدتُ أحلفُ لولا أنَّه سرَفٌ ... أنْ لا أذوقَ رُقاداً بعدهُ أبدا
فهذا قد زادنا رتبة على ما عنى لأنه لم يدع النوم شوقاً إلى من يهواه ثمَّ رأى في النَّوم ما قد وصف وهو يزعم أنَّ تركه إيّاه مع ذلك سرف ولو جعل امتناعه من ترك النَّوم شوقاً إلى رؤية الطَّيف فقال قد كدتُ أحلف لولا الطَّيف مجتهداً ألا أذوق رقاداً بعده أبداً كان أعذر على كلّ حال وإن دخل ذلك ضروبٌ من الاختلال منها أنَّه نام أوَّلاً حتَّى رأى ما رأى، ومنها أنَّه لم يتهيَّأ له ترك النَّوم إلاَّ بيمين على نفسه، ومنها أنَّه مع ذلك لم يحلف أيضاً وإنَّما أرجف باليمين.
وقال أيضاً:
لا نِمتَ عيناً ولا لُقِّيتَ عافيةً ... وكانَ حظُّكَ بعدَ اللَّيلةِ الأرَقا
أنمتَ لا نمتَ في خيرٍ ولا دعَةٍ ... حتَّى أتَى أجلُ الميعادِ فانطلَقا

فهذا عافانا الله وإيَّاه ألوَم في هذا النَّوم من كلِّ ما لمناه لأنَّ الإنسان يشغل قلبه بمجيء خادمه من حاجة لا قدر لها في قلبه فيشغله ذلك عن نومه فكيف لمن يعِده من يهواه بزيارة فينام عن موعده.
وقال البحتري:
أُنظرْ إلى ناظرٍ قدْ شفَّهُ السّهدُ ... واعطفْ علَى مهجةٍ أودَى بها الكمدُ
لا ذُقتَ ما ذاقهُ مَنْ أنتَ مالكهُ ... ولا وجدتَ بهِ مثلَ الَّذي يجدُ
أخفَى هواكَ فنمَّتهُ مدامعهُ ... والعينُ تعربُ عمَّا ضمَّتِ الكبدُ
فإنْ جحدتَ الَّذي قاساهُ بينهُما ... فشاهداهُ عليكَ الخدُّ والجسدُ
وأنشدني محمد بن الخطاب الكلابي لنفسه:
أرقتُ وحالفتْ لِينَ الوِسادِ ... ولمْ يسعدْ ولُذَّتْ بالمهادِ
وباتتْ والسُّرورُ لها ضجيعٌ ... يجنَّبها مجانبةُ الرُّقادِ
وبتُّ ومرهفاتُ الشَّوقِ تفرِي ... بها عنقَ الكرَى يدُ السُّهَادِ
فكمْ تروِي بأدمعِنا خدوداً ... لنا جرحَى وأنفسُنا صوادِ
وقال آخر:
تطاولَ أيَّامي ولَلَّيلُ أطولُ ... ولامَ علَى حبِّي أُميمةَ عُذَّلُ
يلومونَ صبّاً أضرعَ الحبُّ جسمهُ ... وما ضرَّهمْ لوْ لمْ يلوموا وأجملوا
وقال آخر:
قدْ كانَ يكفيكَ ما بالحسمِ مِنْ سقمٍ ... لِمْ زِدْتني سهراً لا مسَّكَ السَّهرُ
عينٌ مُؤرَّقةٌ والجسمُ مختبلٌ ... والقلبُ بينهما تخلُو بهِ الفكرُ
يا حارِمِي لذَّةَ الدُّنيا وبهجتَها ... قد كانَ يُقنعني مِنْ وجهكَ النَّظرُ
ولبعض أهل هذا العصر:
يا مانعاً مُقلتي مِنْ لذَّةِ الوسنِ ... رُوحي تَقيكَ منَ الأسواءِ والحزنِ
واللهِ لا سكنتْ روحي إلى سكنٍ ... إلاَّ إليكَ ولا حنَّتْ إلى وطنِ
ولنْ أقولَ ولوْ أضنَى الهوَى كبدِي ... ردّاً لقولكَ لي قدْ خنتَ لم أخُنِ
هبْني غريباً أُلامُ اليومَ فيكَ ألمْ ... أكنْ حقيقاً بأنْ أُعدَى علَى الزَّمنِ
فلا تدعْ رعيَ ما قد كنتَ تعلمهُ ... منِّي يقيناً وتهجرْني علَى الظِّننِ
فلمْ تزلْ مذْ عرفتُ الحبَّ في كبدِي ... أحبَّ واللهِ مِنْ روحي إلى بدنِي
وتوهم هؤلاء بمنع أحبَّتهم إيَّاهم النَّوم وإن كان مُسقطاً عنهم لائمة النُّوَّام فإنَّه موجب عليهم ضرباً من الملام لأن في الحال يرون سهرهم بالفكر في أحبَّتهم نعمة لا يعرف قدرها فضلاً عن أن يؤدَّى شكرها.
ولقد أحسن الَّذي يقول:
يا نسيمَ الرَّوضِ في السَّحرِ ... وشبيهَ الشَّمسِ والقمرِ
إنَّ مَنْ أسهرتَ ليلتهُ ... لقريرُ العينِ بالسَّهرِ
على أنَّه غير مأمون على صاحب هذا الشِّعر أن يكون السَّهر الَّذي مدحه هو السَّهر مع إلفه لا السَّهر بالفكرة في أمره ومن أبلغ ما قيل في طول الليل.
قول خالد الكاتب:
رقدتَ فلمْ ترثِ للسَّاهرِ ... وليلُ المحبِّ بلا آخرِ
ولمْ تدرِ بعدَ ذهابِ الرُّقا ... دِ ما صنعَ الدَّمعُ بالنَّاظرِ
ولقد أكثر النَّاس في استطالة الليل وأصحّ ما قيل فيه معنًى.
قول بشار:
لمْ يطلْ ليلِي ولكنْ لمْ أنمْ ... ونفَى عنِّي الكرَى طيفٌ ألمّْ
وإذا قلتُ لها جُودِي لنا ... خرجتْ بالصَّمتِ عنْ لا ونعمْ
وأنشدني أبو الفضل بن أبي طاهر قال أنشدني أبو دعامة علي بن زيد لخليل بن هشام:
يقولونَ طالَ اللَّيلُ واللَّيلُ لمْ يطلْ ... ولكنَّ مَنْ يهوَى منَ الهمِّ يسهرُ
وكمْ ليلةٍ طالتْ عليَّ بهجركمْ ... وأُخرى تليها نلتقِي فهيَ تقصرُ
ولا أعلم أحداً استطالَ الليل ممّن خبَّر بعلّة استطالته ولا ممّن لم يخبّرها شرح السبب المضجر من اللَّيل ما هو غير الطرماح حيث يقول:
ألا أيُّها اللَّيلُ الطَّويلُ ألا اصبَحِ ... بصبحٍ وما الإصباحُ فيها بأروحِ
علَى أنَّ للعينينِ في الصُّبحِ راحةً ... بطرحِهِما طرفيهِما كلَّ مطرحِ
وهذا قول امرئ القيس:
ألا أيُّها اللَّيلُ الطَّويلُ ألا انجلِي ... بصبحٍ وما الإصباحُ فيكَ بأمثلِ

إلاَّ أنَّ امرء القيس لم يقل لم صار النَّهار وإن لم يكن أمثل من اللَّيل والقلوب إليه أميل منها إلى اللَّيل كما بيَّنه الطرمّاح ومن سرق معنى فزاد فيه احتمل له جرم سرقته لموضع زيادته ومن أحسن ما قيل في ترك النَّوم قول مسلم بن الوليد:
لمَّا التَقَيْنا افْترعْنا في تعاتُبِنا ... منَ الحديثِ ومِنْ لذَّاتهِ العُذرا
قالتْ أأقررتَ بالإجرامِ قلتُ نعمْ ... إنْ كانَ جرمٌ علَى الإقرارِ مُغتفرا
لمْ تُغمضِ العينُ مذْ عُلِّقتُ حبُّكمُ ... إلاَّ إذا خالستْها عينكِ النَّظرا
ولقد أحسن بشار بن برد حيث يقول:
كأنَّ جفونهُ سُملتْ بشوكٍ ... فليسَ لنومهِ فيها قرارُ
جفتْ عيني عنِ التَّغميضِ حتَّى ... كأنَّ جفونها عنها قِصارُ
أقولُ وليلَتي تزدادُ طولاً ... أما للَّيلِ بعدهمُ نهارُ
وقال آخر:
وعينٍ لنا من ذكرِ صعبةَ واكفٍ ... إذا غاضها كانتْ سريعاً جُمومها
تنامُ قريراتُ العيونِ وبينها ... وبينَ حجابَيْها قذًى لا يريمُها
وقال آخر:
لعلَّ جفوناً فرَّقَ البينُ بينها ... وبينَ الكرى تحظى بطعمِ رُقادِ
ويُحسرُ دمعٌ ما يزالُ كأنَّهُ ... علَى الخدِّ مُنهلاًّ تدافعُ وادِ
كأنَّ السَّواري والغوادي تكلَّفتْ ... لهُ بسواري أدمعٍ وغوادي
وقال آخر:
إذا زُيِّنتْ بالدُّرِّ يوماً فإنَّها ... تُزيِّنهُ والدُّرُّ ليسَ يزينُها
أبيتُ طوالَ الدَّهرِ أبكي لذكرها ... بعينِ محبٍّ ما تلاقى جفونها
وأقطعُ أيَّامي بهمٍّ وفكرةٍ ... أُعلِّلُ نفساً قد براني حنينها
وأحفظها في الغيبِ حتَّى كأنَّني ... حلفتُ لها باللهِ أن لا أخونها
وقال جرير:
ألا حيِّ الدِّيارَ بسُعدَ إنِّي ... أحبُّ لحبِّ فاطمةَ الدِّيارا
أرادَ الظَّاعنونَ ليُحزنوني ... فهاجوا صدعَ قلبيَ فاستطارا
أبيتُ اللَّيلَ أرقبُ كلَّ نجمٍ ... تعرَّضَ حيثُ أنجدَ أو أغارا
يهيمُ فؤادهُ والعينُ تلقَى ... منَ العبراتِ جولاً وانحدارا
وقال أيضاً:
نامَ الخليُّ وما رقدْتُ لحبِّكُمْ ... ليلَ التَّمامِ تأرُّقاً وسهودا
وإذا رجوتُ بأنْ تُقرِّبكِ النَّوى ... كانَ القريبُ لما رجوْتُ بعيدا
وقال الراعي:
كفاني مُقاساةَ الكرى وكفيْتُهُ ... كلاءُ النُّجومِ والنُّعاسُ معانقُهْ
فباتَ يُريهِ عرسهِ و..... ... وبتُّ أُراعي النَّجمَ أينَ مخافقُهْ
وقال امرؤ القيس:
أعنِّي علَى الأشجانِ والذِّكراتِ ... يبتْنَ علَى ذي الهمِّ مُعتكراتِ
ظللْتُ ردائي فوقَ رأسيَ قاعداً ... أعدُّ الحصى ما تنقضي عبراتي
بليلِ التَّمامِ أوْ وُصلْنَ بمثلهِ ... مُقايسةً أيَّامها نكراتِ
وأنشدتني أعرابية بالبادية:
أرقْتُ وطالتْ ليلتي بأبانِ ... لبرقٍ سرى بعدَ الهدوِّ يماني
فيا عمُّ عمَّ السُّوءِ فرَّقْتَ بيننا ... ونحنُ جميعاً شملُنا متداني
وقال محمد بن عبد الملك الزيات:
كتبَتْ علَى فصٍّ لخاتَمها ... منْ ملَّ من أحبابهِ رقدا
فكتبْتُ في فصِّي ليبلغها ... من نامَ لم يشعرْ بمنْ سهدا
قالتْ يعارضني بخاتمهِ ... والله لا كلَّمتهُ أبدا
وقال آخر:
ولي مقلةٌ عهدها بالمنامِ ... بعيدٌ وبالدَّمعِ عهدٌ قريبْ
يحارُ إذا زادَ طرفي المنامُ ... كما حارَ في الحيِّ ضيفٌ غريبْ

الباب الحادي والأربعون
من غلب عزاه كثر بكاه
أمَّا أهل هذا الباب فقد انفردوا بأمرٍ يقوم لهم ببعض العذر على أنَّ ذلك الأمر الَّذي يعذرهم هو بعينهِ يدلُّ على نقيصتهمْ فأما جهته المحمودة فهي وصف الحال بالدَّمع لا يمكن فيها من التَّصنُّع ما يمكن في الصِّفات بالألسن وأما جهته المذمومة وهي أنَّ امتناع الدَّمع من الجريان أوَّل على تظاهر ألم الأشجان لعلَّةٍ سنذكرها في الباب الثاني ولا نألو إن شاء الله أن نذكر من هذا الباب أحسن ما قيل فيه على النقص الَّذي يلحق قائليه ثمَّ نذكر الحال التَّامة في الباب الَّذي يليه.
أنشدني أبو عبادة البحتري لنفسه:

لعمْرُ الرُّسومِ الدَّارساتِ لقد جرتْ ... بريَّا سعادٍ وهي طيِّبةُ العرْفِ
بكيْنا فمنْ دمعٍ يمازجهُ دمٌ ... هناكَ ومن دمعٍ نجودُ به صرفِ
وقال أبو تمام الطائي:
لا عذرَ للصبِّ أن يُفني الحياءَ ولا ... للدَّمعِ بعدَ مضيِّ الحيِّ أنْ يقفا
حتَّى يطلُّ بماءٍ سافحٍ ودمٍ ... في الرَّبعِ يُحسبُ من عينيهِ قدْ رعِفا
وقال آخر:
وبتُّ من الأحزانِ قد أسفرَ الضُّحى ... وفي كبدي من جمرهنَّ حريقُ
مزجْتُ دماً بالدُّمعِ حتَّى كأنَّما ... يُذابُ بعيني لؤلؤٌ وعقيقُ
وقال أحمد بن أبي طاهر:
دموعٌ فيضهُنَّ معَ الدِماءِ ... كما ورَّدْتَ حاشيةَ الرِّداءِ
أُريحُ إلى الدُّموعِ الوجدَ منِّي ... إذا ما عزَّني حسنُ العزاءِ
ملامكَ ليسَ من عينيكَ دمعي ... ولا بحشاكَ أسقامي ودائي
وقال آخر:
فما زالَ يشكو الحبَّ حتَّى كأنَّما ... تنفَّسَ من أحشائهِ أوْ تكلَّما
ويبكي فأبكي رحمةً لبُكائهِ ... إذا ما بكى دمعاً بكيتُ له دما
وقال آخر:
وقفنا وثالثُنا عبرةٌ ... فيشكو إليَّ وأشكو إليهْ
وولَّى يخوضُ دموعاً جرَيْ ... نَ من مُقلتيَّ ومن مُقلتيهْ
ويستودعُ الله ما في يديَّ ... وأستودعُ الله ما في يديهْ
وقال آخر:
يقولُ وقد أبكى البُكاءَ بمُقلتي ... نُدوباً ألا داويتَ عينيكَ بالكُحلِ
فقلتُ رأيتُ الكُحلَ يشغلُ قدرهُ ... من العينِ قدراً لم يكنْ عنكَ في شُغلِ
وقال آخر:
محبٌّ بكتْ عيناهُ من حبِّ قاتلٍ ... فيا قاتلاً يبكي عليهِ قتيلُ
خليلٌ جفاني كانَ روحي لروحهِ ... خليلاً وهلْ يجفو الخليلَ خليلُ
وقال آخر:
وما شنَّتا خرقاءُ واهيتا الكُلى ... سقى بهما ساقٍ ولم يتبلَّلا
بأضيعَ من عينيكَ للماءِ كلَّما ... توسَّمْتَ برقاً أوْ توهَّمْتَ منزلا
وقال أبو حية النميري:
لعينيكَ يومَ البينِ أسرعُ واكفاً ... منَ الفنن الممطورِ وهو مروحُ
إذا قلتُ يفنى ماؤها اليومَ أصبحتْ ... غداً وهيَ ريَّا الماقيَيْنِ نضوحُ
وقال جران العود:
أبيتُ كأنَّ العينَ أفنانُ سدرةٍ ... إذا ما بدا من آخرِ اللَّيلِ تنطفُ
أُراقبُ لمحاً من سُهيلٍ كأنَّهُ ... إذا ما بدا من آخرِ اللَّيلِ يطرفُ
وقال ابن هرمة:
استبقِ دمعكَ لا يودي البكاءُ بهِ ... واكففْ بوادرَ من عينيكَ تستبقُ
ليسَ الشُّؤونُ وإن جادتْ بباقيةٍ ... ولا الجفونُ علَى هذا ولا الحدقُ
وقال آخر:
وممَّا شجاني أنَّها يومَ ودَّعتْ ... تولَّتْ وماءُ العينِ في الجفنِ حائرُ
فلمَّا أعادتْ من بعيدٍ بنظرةٍ ... إليَّ التفاتاً أسلمتْهُ المحاجرُ
وقال ابن ميادة:
ألا مَنْ لعَيْنٍ لا ترى صائباً ولا ... ترى واديَ الطَّرفاء إلاَّ استهلَّتِ
بماءٍ لوَ انَّ المُزنَ جادتْ بمثلهِ ... رضينا بما جادتْ بهِ حينَ ولَّتِ
وللعينِ فيضاتٌ إذا ما ذكرتُها ... وللصَّدرِ بلبالٌ إذا العينُ كلَّتِ
وقال الطائي:
لو قيلَ سلْ تُعطَ المنى أنْ لو درى ... مولاهُ في الخُلواتِ كيفَ بُكاؤهُ
مطرٌ منَ العبراتِ خدِّي أرضهُ ... حتَّى الصَّباحِ ومُقلتيَّ سماؤهُ
وقال ابن قوفا:
سيِّدي أنتَ لمْ أقُلْ سيِّدي أنْ ... تَ لمخلوقٍ سواكَ والصَّبُّ عبدُ
كبدٌ رطبةٌ تذوبُ منَ الوجْ ... دِ وخدٌّ فيهِ منَ الدَّمعِ خدُّ
وقال آخر:
نظرتُ كأنِّي من وراءِ زجاجةٍ ... إلى الدَّارِ من ماءِ الصَّبابةِ أنظرُ
فعينايَ طوراً تغرقانِ منَ البُكا ... فأغشى وطوراً تحسرانِ فأُبصرُ
وهذا مأخوذ من قول ذي الرمة:
لعمركَ إنِّي يومَ جرعاءِ مالكٍ ... لذو عبرةٍ كُلاًّ تفيضُ وتخنقُ
وإنسانُ عيني يحسرُ الماءُ مرَّةً ... فيبدو وأحياناً يجمُّ فيغرقُ
وقال ابن هرمة:
كأنَّ عينيَ إذْ ولَّتْ حمولهُمْ ... عنَّا جناحا حمامٍ صادفا مطرا
أوْ لؤلؤٌ سلسٌ في عقدِ جاريةٍ ... خرقاءَ نازعها الوُلدانُ فانتثرا
وقال آخر:

تكادُ أُخرى دموعي من تسرُّعها ... تفيضُ قبلَ الأُلى أنْ ينحدرْنَ معا
وغاضَ عنها كثيراً راجعاً حذراً ... ولنْ ترى قاتلاً كالدَّمعِ إن رجعا
وقال أبو نواس:
يا قمراً أبصرْتُ في مأتمٍ ... يندبُ شجواً بينَ أترابِ
تبكي فتُذري الدُّرَّ من عينها ... وتلطمُ الوردَ بعنَّابِ
وقال أيضاً:
تقولُ غداةَ البينِ عندَ وداعها ... ليَ الكبدُ الحرَّى فسرْ ولكَ الصَّبرا
وقدْ سبقتْها عبرةٌ فدموعها ... علَى خدِّها بيضٌ وفي نحرها صفرُ
وقال بعض الأعراب:
عشيُّ وداع قبِّحتْ من عشيَّةٍ ... ولكنَّها لا قُبِّحتْ من مُودَّعِ
كأنَّ انحدارَ الدَّمعِ منها تعدُّهُ ... لها ذاتُ سلكٍ قيلَ عُدِّي وأسرعي
وقال ابن الدمينة:
أفي كلِّ يومٍ أنتَ رامٍ بلادها ... بعينيْنِ إنساناهُما غرقانِ
إذا اغروْرَقَتْ عينايَ قال صحابتي ... لقدْ أُولعَتْ عيناكَ بالهملانِ
ألا فاحملاني باركَ اللهُ فيكُما ... إلى حاضرِ الرَّوحاءِ ثمَّ ذراني
وقال الركاض الزبيري:
فيا مَنْ لعينٍ قد أضرَّ بها البُكا ... فهلْ حاولتْ من طولِ ما سجمَتْ تعمى
وقلبٍ كئيبٍ لا يزالُ كأنَّما ... يُقلَّبُ في أعراضهِ ميسمٌ مُحْمى
وقال البحتري:
دنتْ فدنا هجرانُها فإذا نأتْ ... غدا وصلُها المطلوبُ أنأى وأسحقا
وما ربَّما بلْ كلَّما عنَّ ذكرُها ... بكيْتَ فأبكيتَ الحمامَ المُطوَّقا
وقال آخر:
عرِّجْ بذي سلمٍ ففيهِ المنزلُ ... ليقولَ صبٌّ ما أرادَ ويفعلُ
سارتْ مقدَّمةُ الدُّموعِ وخلَّفتْ ... حُرقاً توقَّدُ في الحشا ما ترحلُ
إنَّ الفراقَ كما علمْتَ فخلِّني ... ومدامعاً تسعُ الفراقَ وتفضلُ
إلاَّ يكنْ صبرٌ جميلٌ فالهوى ... نشوانُ يجملُ فيه ما لا يجملُ
ولبعض أهل هذا العصر:
ولمَّا وقفنا للوداعِ وبيننا ... أحاديثُ يُعْيي الحاسبينَ عديدُها
تبادرَ دمعي فانصرفْتُ تهضُّني ... إلى عبرتي بُقيا عليكَ أذودُها
فما أشبهتْ عينايَ إلاَّ سحابةً ... دنا صرْبُها واستعجلتها رعودُها
فما زالَ زجرُ الرَّعدِ يحدو سحابها ... فتبدو وأرواحُ الشَّمالِ تُحيدُها
فما أقلعَتْ حتَّى بكتْ فتضاحكَتْ ... رياضُ الرُّبى فاخضرَّ بالعشبِ عودها
وهلْ تتلافى ذاتُ عقدٍ جُمانَها ... إذا انسلَّ من سلكِ النِّظامِ فريدُها
فقال رفيقي ما للونِكَ حائلاً ... وعينيكَ ما يعدو جفونكَ جودُها
فأغضيْتُ عن ردِّ الجوابِ تبلُّداً ... وخيرُ قلوبِ العاشقينَ بليدُها
وقال البحتري:
لعَمرُ المغاني يومَ صحراءِ أرثدِ ... لقد هيَّجتْ وجداً علَى ذيَ توجُّدِ
منازلُ أمستْ للرِّياحِ منازلاً ... تردَّدُ منها بينَ نؤْيٍ ورِمْددِ
شجتْ صاحبي أطلالُها فتهلَّلتْ ... مدامعهُ فيها وما قلتُ أسعدِ
وقلَّتْ لدارِ المالكيَّةِ عبرةٌ ... منَ الشَّوقِ لم تُملكْ بصبرٍ فتُرْددِ
سقتها الغوادي حيثُ حلَّتْ ديارُها ... علَى أنَّها لم تشفِ ذا الغُلَّةِ الصَّدِّي
تزيدينَ هجراً كلَّما ازددْتُ صبوةً ... طلاباً لأنْ أُردى فها أنذا رَدِ
وقال الحسين بن الضحاك:
هَبوني أغضُّ إذا ما بدتْ ... وأملكُ طرفي فلا أنظرُ
فكيفَ انتصاري إذا ما الدُّموعُ ... نطقْنَ فبُحْنَ بما أُضمرُ
وقال آخر:
ألا أيُّها الباكونَ من ألمِ الهوَى ... أظنُّكمُ أُدركْتُمُ بذنوبِ
تعالَوْا نُدافعْ جُهدنا عنْ قلوبنا ... فنوشكَ أن نبقى بغيرِ قلوبِ
وقال البحتري:
أعرضْتِ حتَّى خلْتُ أنِّي ظالمٌ ... وعتبتِ حتَّى قلتُ إنِّي مُذنبُ
سأعدُّ ما ألقى فإنْ كذَّبتني ... فسلي الدُّموعَ فإنَّها لا تكذبُ
وقال آخر:
قالوا تصنَّعَ بالبُكاءِ فقلتُ هلْ ... يبكي الشَّجيُّ لغيرِ ما في قلبهِ
ولقدْ ألِفتُ الدَّمعَ حتَّى ربَّما ... جرتِ الجفونُ بهِ ولم أعلمْ بهِ
وقال آخر:
وغائبِ الرُّوحِ شاهدِ البدنِ ... يبكي بعينٍ قليلةِ الوسنِ

يبكي عليها بها مخافةَ أنْ ... تقْرِنهُ والظَّلامَ في قرَنِ
وقال البحتري:
هلْ أنتَ من حبِّ ليلَى آخذٌ بيدي ... أوْ ناصرٌ لي علَى التَّعذيبِ والسَّهدِ
وهلْ دموعٌ أفاضَ الحزنُ ريِّقَها ... تُدني منَ البعدِ أوْ تشفي منَ الكمدِ
قد باتَ مُستعبراً من كانَ مُصطبراً ... وعادَ ذا جزعٍ من كانَ ذا جلدِ
إنْ أسخطَ الهجرُ لا أرجِعْ إلى بدلٍ ... منهُ وإنْ أطلُبِ السُّلوانَ لا أجدِ
وقال الأعشى:
وفاضتْ دموعي فظلَّ الشُّؤونُ ... إمَّا وكيفاً وإمَّا انحدارا
كما أسلمَ السِّلكُ منْ نظمهِ ... لآلئَ مُنحدراتٍ صغارا
وقال آخر:
ولوْ أنَّ دمعي لم يفضْ لتقطَّعتْ ... نباتُ فؤادي حينَ تُذكرُ من وجدي
وقدْ صرمتْني إذْ تيقَّنَ قلبُها ... بأنْ لستُ عنها بالصَّبورِ ولا الجلدِ
فيا ليتني واللهِ متُّ ولمْ أكنْ ... فتحتُ لها بالدَّمعِ باباً منَ الصَّدِّ
وقال آخر:
أعيْنَيَّ ما لي كلَّما بتُّ ليلةً ... بأرضٍ فضاءٍ كانِ دمعي قراكُما
أعينيَّ لامَ اللهُ من لامَ فيكُما ... مُحبّاً وآذى من يريدُ أذاكُما
أعينيَّ صبراً أعقباني حلاوةً ... فقدْ خفتُ من طولِ البكاءِ عماكُما
ألا قد أرى واللهِ أنْ قد قذيتُما ... بمن لا يبالي أن يطولَ قذاكُما
أجدَّكُما لا تذكرا زمناً مضى ... بصنعاءَ لا بلْ جنِّباني نداكُما
وأنشدتني مريم الأسدية:
أعينيَّ من كحلِ الطَّبيبِ تداويا ... فلا كحلَ بعدَ اليومِ يشفي قذاكُما
أعينيَّ كفَّا الدَّمعَ لا تُشمتا بنا ... عدوّاً ولا يُحزنْ صديقاً بكاكُما

الباب الثاني والأربعون
نحول الجسد من دلائل الكمد
أمَّا الدَّلالة على صحَّة هذا القول من جهة الطِّبِّ فهي إنَّ الحرارة المتولِّدة من الحزن تنحاز إلى القلب من سائر أعضاء البدن ثمَّ تتصاعد إلى الدِّماغ فتتولَّد بخاراتٍ رديَّةً فإن طاقتها الطَّبيعة بالقوَّة الغريزيَّة أذابت تلك البخارات الرَّديَّة فأجرتها دموعاً وربَّما أضرَّ كثرة جريانها بالمجاري فأدماها فجرى الدَّم مجرى الدَّمع وهكذا تذيب تلك القوى البخارات المتولِّدة في الدِّماغ في كمون الحرارة لما يعرض للرَّأس من حرٍّ وبردٍ فتجريه من الأنف زكاماً فتذهب غائلته ولو لم تذبه وتجره من الأنف صار كيموساً غليظاً ومادَّة منصبةً إلى بعض الأعضاء الرَّئيسية فحينئذٍ تتلف أوْ تولِّد علَّةً غليظةً فكذلك الدُّموع إن لم تطق تذويبها القوى الطَّبيعيَّة واشتغلت عنها بمدافعة ما هو أخوف على النَّفس منها صارت تلك البخارات كيموساً غليظاً فولَّد أمراً عظيماً وإمَّا أن يستقرَّ في الدماغ فيفسد ما جمع فيبطل الذّكر ويفسد الفكر ويهيج التَّخييلات المستحيلات وذلك هو الجنون بعينه وربَّما فسدت منه كرَّةً أو كرَّتين فيفسد بفسادها ما كان مستقيماً بصلاحها وشرح ذلك يطول وليس من جنس ما ابتدأناه فيجب علينا أن نشرح منه ما أجملناه وربَّما انحدر ذلك الكيموس عن الدماغ إلى القلب فهتك بعض الحجب أوْ جميعها وكان منه حينئذٍ التَّلف لا محالة والله أعلم وربَّما انحدر إلى الكبد فمنع شهوة الطَّعام والشَّراب فحينئذٍ يكون نحول الجسم وضعف القوَّة ولقد أصاب كلَّ الإصابة على الإصابة حيث يقول:
عجائبُ الحبِّ لا تفنى وأوَّلها ... ممَّنْ تحبُّ بتكذيبٍ وإنكارِ
ماءُ المدامعِ نارُ الشَّوقِ تُحدرهُ ... فهلْ سمعتَ بماءٍ فاضَ من نارِ
لأنَّ هذا هو الَّذي قدَّمنا ذكره من أنَّ الحرارات هي المولِّدة لتلك البخارات الَّتي يحدث الدَّمع منها بإذابة الحرارة الغريزية لها وقد ذكرت الشعراء جملاً من أن فيض الدمع أروح من كمونه ولم يدلُّوا على سبب ذلك ولا أحسبهم وقفوا عليه ومن أقربهم وصفاً له الَّذي يقول:
كتمتُ الهوَى حتَّى بدا كتَمانهُ ... وفاضَ فنمَّتْهُ عليَّ المدامعُ
ولو لمْ يفضْ دمعي لعادَ إلى الحشا ... فقطَّعَ ما تُحنى عليهِ الأضالعُ
وقال بعض الأعراب:
يقولونَ لا تُنزفْ دموعكَ بالبُكا ... فقلتُ وهلْ للعاشقينَ دموعُ
لئنْ كانَ أبقى لي التَّشوُّقُ قطرةً ... لهنَّ إذنْ من عاشقٍ لمُضيعُ

أظنُّ دموعَ العينِ تذهبُ باطناً ... إلى القلبِ حتَّى انصاعَ وهو صديعُ
وقال عمرو بن متبعة الرقاشي:
تضيقُ جفونُ العينِ عنْ عبراتها ... فتفسحُها بعدَ التَّجلُّدِ والصَّبرِ
وغُصَّةِ صدرٍ أظهرتْها فرفَّهتْ ... حرارةَ حزنٍ في الجوانحِ والصَّدرِ
وقال آخر:
سأبكي وما لي عبرةٌ من معوَّلٍ ... لديكِ وما لي غيرُ حبِّكِ من جُرمِ
لعلَّ انسكابَ الدَّمعِ يُعقبُ راحةً ... من الوجدِ أوْ يشفي الفؤادَ منَ السُّقمِ
وظنِّيَ أنْ لا يذهبَ الحزنُ بالبكا ... عليكِ وأن أزدادَ كلْماً علَى كلْمِ
وقال ذو الرمة:
فوالله ما أدري أجوْلانُ عبرةٍ ... تجودُ بها العينانِ أحرى أمِ الصَّبرُ
وفي هملانِ العينِ من غُصَّةِ الهوَى ... رواحٌ وفي الصَّبرِ الجلادةُ والأجْرُ
وقال الفرزدق:
ألمْ ترَ أنِّي يومَ حرِّ سُويقةٍ ... بكيتُ فنادتني هُنيدةُ ماليا
خليلٌ دعا والرَّملُ بيني وبينهُ ... فأسمعني سقياً لذلكَ داعيا
وكانَ جوابي أنْ بكيْتُ صبابةً ... وفدَّيْتُ من لوْ يستطيعُ فدانيا
وقلتُ لها إنَّ البكاءَ لَراحةٌ ... به يشتفي من ظنَّ أن لا تلاقيا
وقال ذو الرمة:
أمِنْ حذرِ الهجرانِ قلبكَ يجمحُ ... كأنَّ فلوّاً بينَ حِضْنيكَ يرمحُ
أمنزلتَيْ ميٍّ سلامٌ عليكما ... علَى النَّأيِ والنَّائي يودُّ وينصحُ
وإنْ كنتُما قد هجتُما راجعَ الهوَى ... لذي الشَّوقِ حتَّى ظلَّتِ العينُ تفسحُ
أجلْ عبرةٌ كادتْ لفُرقانِ منزلٍ ... لميَّةَ لو لمْ تُسهلِ العينُ تذبحُ
وقال أيضاً:
خليليَّ عوجا من صدورِ الرَّواحلِ ... بجُمهورِ حزْوى فأبكيا في المنازلِ
لعلَّ انحدارَ الدَّمعِ يُعقبُ راحةً ... من الوجدِ أو يشفي نجيَّ البلابلِ
دعاني وما داعي الهوَى من بلادها ... إذا ما نأتْ خرقاءُ عنِّي بغافلِ
وما يومُ خرقاءَ الَّذي فيهِ نلتقي ... بنحسٍ علَى عيني ولا متطاولِ
وإنِّي لأُنحي الطَّرفَ من نحوِ غيرها ... حياءً ولو طاوعتهُ لم يُعادلِ
إذا قلتُ ودِّعْ وصلَ خرقاءَ واجتنبْ ... زيارتها تخلق حبالُ الوسائلِ
أبتْ ذكرٌ عوَّدْنَ أحشاءَ قلبهِ ... خفوقاً وقضَّاتُ الهوَى في المفاصلِ
ولقد أحسن سابق اليزيدي في قوله:
وقد رابني من فعلِ عينيَ أنَّها ... إذا ذُكرتْ سُعدى اعتراني جُمودُها
وفي الدَّمعِ لو جادتْ به العينُ شاهدٌ ... عليها فلمْ يشهدْ لنفسي شهودُها
ولبعض أهل هذا العصر:
يا من إذا صدَّ لم أُظهرْ له جزَعا ... لا تحسبنِّي علَى الهجرانِ ذا جلَدِ
ما يمنعُ الدَّمعَ أن تجري غواربهُ ... إلاَّ شماتةُ من قدْ كانَ ذا حسدِ
فيضُ الدُّموعِ وإنْ تمَّتْ بوادرُها ... أشفى لمنْ عالجَ البلوى منَ الكمدِ
وقال آخر:
نزفتُ دمعي وأزمعْتُ الرَّحيلَ غداً ... فكيفَ أبكي ودمعُ العينِ منزوفُ
واسَوْأتي من عيونِ العاشقينَ غداً ... إذا رحلتُ ودمعُ العينِ مكفوفُ
هذا البائس يعتذر من ذهاب دموعه ولو عرف علَّة ذهابها لكان محتاجاً إلى الاعتذار لو دامت من دوامها.
وأحسن من هذا قول قيس بن ذريح:
تُشوِّقني ذكرى إذا ما ذكرتُها ... وكمْ عرضُ أرضٍ دونها وسماءُ
ومن عبراتٍ تعتريني أكفُّها ... ومن زفراتٍ ما لهنَّ فناءُ
ومن قولها إنَّ القُوى قد تقطَّعتْ ... وهلْ لقُوًى لا تستجدُّ بقاءُ
ومن أنَّها باتتْ ولم تدرِ ما الَّذي ... لها عندنا من خلَّةٍ وصفاءُ
ومن أريحيَّاتِ الصِّبى عندَ ذكرها ... ولمَّاتِ شوقٍ ما بهنَّ خفاءُ
فلا حبَّ حتَّى يلصقَ العظمُ بالحشا ... ولا وجدَ حتَّى لا يكونَ بكاءُ
وقد لطف أبو تمام في هذا المعنى حيث يقول:
وإذا فقدْتَ أخاً ولم تفقدْ لهُ ... دمعاً ولا صبراً فلستَ بفاقدِ
أفلا ترى إلى إزرائه على الدَّمع وتقصيره بأهله وإخباره أنَّ من قويت حاله انقطع دمعه ونحل جسمه.
ولقد أحسن الَّذي يقول:
قدْكَ فلا دمعٌ ولا صبرُ ... ربعُ الهوَى من أهلهِ قفْرُ

عمرُ الفتَى في كلِّ لذَّاتهِ ... فإنْ نأتْ عنهُ فلا عمرُ
وقال محمد العلوي:
أبقى الهوَى منهُ جسماً كالهواءِ ضنًى ... لقدْ تنسَّمَ منهُ وهوَ مفؤودُ
أنستُ بالذِّكرِ منها والسُّهادِ لهُ ... أعجبْ بهِ من مسيءٍ وهو مورودُ
وقال قيس بن الملوح:
فأنتِ الَّتي إنْ شئتِ أشقيتِ عيشتي ... وإنْ شئتِ بعدَ اللهِ أنعمتِ باليا
وأنتِ الَّتي ما من صديقٍ ولا عدًى ... رأى نضْوَ ما أبقيت إلاَّ رثى ليا
وقال البحتري:
ألا هلْ أتاها بالمغيبِ سلامي ... وهل خبرَتْ وجدي بها وغرامي
وهلْ علمتْ أنِّي ضنيتُ وأنَّها ... شفائيَ من داءِ الضَّنى وسقامي
فداؤُكِ ما أبقيتِ منِّي فإنَّهُ ... حُشاشةُ جسمٍ في نحولِ عظامي
وقال ماني:
ها أنا ذا يُسقطني للبِلى ... عن فرشتي أنفاسُ عوَّادي
لو يحسدُ السِّلكُ علَى دقَّةٍ ... حقّاً لأمسى بعضَ حسَّادي
وقال أيضاً:
ومُدنفٍ زادَ في النُّحولِ منِ ال ... وجدِ إلى مثلِ دقَّةِ الألِفِ
يشاركُ الطَّيرَ في النَّحيبِ ولا ... يشركهُ في النُّحولِ والقصفِ
وقال أيضاً:
أما ترَيْني ناحلَ الجسمِ ... أصيرُ من همٍّ إلى همِّ
أُنقلُ من ثوبٍ إلى دونهِ ... حتَّى كأنِّي بدنُ الكُمِّ
ولقد أحسن الَّذي يقول:
غابوا فأضحى بدني بعدهُمْ ... لا تبصرُ العينُ لهُ فيَّا
بادى وجه إتلافهِمْ ... إذا رأوْني بعدهُمْ حيَّا
واخَجلتا منهمْ ومن قولهمْ ... ما ضرَّكَ الفقدُ لنا شيَّا
وقال آخر:
شِعْرُ ميتٍ أتاكَ عن لفظِ حيٍّ ... صارَ بينَ الحياةِ والموتِ وقْفا
قد برتْهُ حوادثُ الدَّهرِ حتَّى ... كادَ عن أعينِ الحوادثِ يخفى
وقال عمر بن أبي ربيعة:
إرحمي مُغرماً بحبِّكِ لاقى ... من جوى الحبِّ والصَّبابةِ جهدا
قد براهُ وشفَّهُ الحبُّ حتَّى ... صارَ ممَّا بهِ عظاماً وجِلدا
وأنشدني بعض الأدباء:
لم يبقَ إلاَّ نفسٌ خافتُ ... ومقلةٌ إنسانُها باهتُ
ومغرمٌ توقدُ أحشاؤهُ ... بالنَّارِ إلاَّ أنَّهُ ساكتُ
لم يبقَ في أعضالهِ مفصلٌ ... إلاَّ وفيهِ سقمٌ ثابتُ
ولبعض أهل هذا العصر:
يُعيِّرني الواشي بأنْ لستُ مُدْنفاً ... كما هو من فرطِ الصَّبابةِ مدنفُ
فيا كاشحاً قد جاءَ في زيِّ ناصحٍ ... تشاغلْ بغيري لستُ ممَّنْ يُعرَّفُ
ولا تلحَني فيمنْ أحبُّ فإنَّني ... أضنُّ به ممَّا تظنُّ وأشغفُ
سلوهُ فإنِّي لا أكلِّمُ واشياً ... أيدْري بمنْ يلحي وفيمنْ يُعنِّفُ
وقال مجنون بني عامر:
يا دارَ ليلَى بسقْطِ الحيِّ قد دُرستْ ... إلاَّ الثُّمامُ وإلاَّ موقدُ النَّارِ
أبلى عظامكَ بعدَ اللَّحمِ ذكرهُما ... كما تتبَّعَ قِدحَ الشَّوحطِ الباري
فبين صاحب هذا الكلام وصاحب الكلام الَّذي قبله بوْنٌ بعيدٌ وتفاوتٌ شديدٌ ويزعم أنَّ تزايد الحال توجب له نفي الهزال وهذا لم يرض لنفسه بنحول اللَّحم حتَّى أضاف إليه نحول العظم.
ولبعض أهل هذا العصر:
أهيمُ بذكرِ الكرخِ منِّي صبابةً ... وما بيَ إلاَّ حبُّ من حلَّ بالكرخِ
تجرَّعْتُ كأساً من صدودِ محمَّدٍ ... فقدْ أوهنَتْ عظمي وجازتْ علَى المُخِّ
فلستُ أُبالي بالرَّدى بعد فقدهِ ... وهل يجزعُ المذبوحُ من ألمِ السَّلخِ
وقال آخر:
قالتْ ظلومُ سميَّةُ الظُّلمِ ... إنِّي رأيتُكَ ناحلَ الجسمِ
يا من رمى قلبي فأقصدهُ ... أنتَ الخبيرُ بموضعِ السَّهمِ
وقال أبو العتاهية:
أخِلاَّيَ بي شجوٌ وليسَ بكمْ شجوُ ... وكلُّ امرئٍ ممَّا بصاحبهِ خِلْوُ
رأيتُ الهوَى جمرَ الغضا غيرَ أنَّهُ ... علَى كلِّ حالٍ عندَ صاحبهِ حلوُ
وقال جرير:
أتنسى يومَ حوْمَلَ والدَّخولِ ... وموقفنا علَى الطَّللِ المحيلِ
وقالتْ قد نحلْتَ وشبْتَ بعدي ... بحقِّ الشَّيبِ بعدكِ والنُّحولِ
وقال آخر:
تقولُ وقد كتبتُ دقيقَ خطِّي ... إليها لم تجنَّبْتَ الجليلا

فقلتُ لها نحلْتُ وصارَ خطِّي ... مُساعدةً لصاحبهِ نحيلا
وقال آخر:
إنَّا منَ الحيِّ أقبلنا نؤُمُّكمُ ... أنضاءَ شوقٍ علَى أنضاءِ أسفارِ
والصَّبُّ لا بدَّ أن يُبدي صبابتهُ ... إذا تبدَّلَ غيرَ الدَّارِ بالدَّارِ
وهذا مأخوذ من قول امرئ القيس:
أكلَ الوجيفُ لحومهُمْ ولحومَها ... فأتوْكَ أنضاءً علَى أنضاءِ
وقال الأحوص:
نفى نَوْمي وأسهرني غليلُ ... وهمٌّ هاجَهُ حزنٌ طويلُ
وقالوا قد نحلْتَ وكنتَ جلْداً ... وأيسرُ ما مُنيتُ به النُّحولُ
فإنْ يكنِ العويلُ يردُّ شيئاً ... فقدْ أعولتُ إن نفعَ العويلُ
وكانتْ لا يُلائمُها مبيتٌ ... عليها إنْ عتبتُ ولا مقيلُ
وكنَّا في الصَّفاءِ كماءِ مزنٍ ... تُشابُ بهِ مُعتَّقةٌ شمولُ
وأُعجلُ عن سؤالِ الرَّكبِ صحبي ... وأكرهُ أن يقالَ لهمْ أقيلوا
فقدْ أصبحتُ بعدكِ لا أُبالي ... أسارَ الرَّكبُ أمْ طالَ النُّزولُ
فمنْ يكُ بالقُفولِ قريرَ عينٍ ... فما أمسيتُ يعجبُني القُفولُ
كأنَّكَ لم تُلاقِ الدَّهرَ يوماً ... خليلاً حينَ يُفردكَ الخليلُ
فصبراً للحوادثِ كلُّ حيٍّ ... سبيلُ الهالكينَ لهُ سبيلُ

الباب الثالث والأربعون
طريق الصَّبر بعيدٌ وكتمان الحبِّ شديدٌ
كان يقال سرُّك أسيرك فإذا تكلَّمت به صرت أسيره وأمَّا إفشاء من يحبُّ سرَّه إلى محبوبه فقد تقدَّم القول فيه بما في بعضه بلاغٌ وأمَّا اطِّلاع سائر النَّاس على وجد المحبّ بالمحبوب فهو خطأ من وجوهٍ أوَّلها تعرُّض المحبوب لما لا يحبّ من القالات والتَّشنيعات ثمَّ تعرُّض المحبّ نفسه للسِّعاية والارتقاب له وإنَّما يوصى بهذه الوصيّة من أمر سرّه إليه فأمّا من قد أخرجت الحال زمام السّرّ من يديه فلا ذنب له ولا لوم عليه وأمّا أسرار المحبوب عند المحبّ مثل مواعيده له وزيارته إيَّاه ومساعدته له على ما يهواه وما يجري بينهما من المعاتبات بل من سرائر المخاصمات فإنَّ غالبات الوجد لا توجب إفشائه بل توجب صونه وإخفائه ولن يشيع مثل ما وصفنا إلاَّ ضعيفٌ في الحال جدّاً فكتمان هذا أبين وجوباً من أن نزيد القول فيه توكيداً وإفشاء المحبَّة وحدها إلى غير المحبوب فواجبٌ على من أطاق كتمها ألاَّ يظهرها ومن عجز فخارجٌ عن باب المنع والوجوب ومن ضاق صدره عن سرِّه فلم يلم غيره على نشره وإن كان في الحقيقة ملوماً لأنَّ للمرء أن يتطوَّع بإظهار سرِّه وعلى المستودع أن لا يظهر سرَّ مستودعه.
ولبعض الأدباء في ذلك:
إذا ضاقَ صدرُ المرءِ عن سرِّ نفسهِ ... فصدرُ الَّذي يُستودعُ السِّرَّ أضيقُ
ورُبَّ فتًى يجفو كرائمَ مالهِ ... ويرعى سوامَ الأبعدينَ فيُشفقُ
وقال يزيد بن الطثرية:
ومُستخبرٍ عنها ليعلمَ ما الَّذي ... لها في فؤادي غيرَ أنِّي أُحاذرُهْ
وردْتُ به عمياءَ منها ولمْ أكُنْ ... إذا ما وشى واشٍ بليلى أُناظرُهْ
وقال آخر:
كريمٌ يُميتُ السِّرَّ حتَّى كأنَّهُ ... إذا استخبروهُ عنْ حديثكِ جاهلُهْ
رعى سرَّكُمْ في مُضمرِ القلبِ والحشا ... حفيظٌ عليكمْ لا تخافُ غوائلُهْ
وأكتمُ نفسي بعضَ سرِّي تكرُّماً ... إذا ما أضاعَ السِّرَّ في السِّرِّ جاهلُهْ
ومُستسقطي بالجدِّ والهزلِ قد نبتْ ... علَى كلِّ حالٍ عن صفاتي معاولُهْ
تسقَّطني عنكُمْ فأخلفْتُ ظنَّهُ ... وذو اللُّبِّ قد يُعيي الرِّجالَ تُحاولُهْ
فما رامَ حتَّى عادَ شكّاً يقينهُ ... وأخلفهُ منِّي الَّذي كانَ ياملُهْ
وقال آخر:
قد جرَّرَ النَّاسُ أذيالَ الظُّنونِ بنا ... وفرَّقَ النَّاسُ فينا ظنَّهمْ فرَقا
فجاهلٌ ينتحي بالظَّنِّ غيركمُ ... وصادقٌ ليسَ يدري أنَّهُ صدقا
وقال بعض الأعراب:
وإنِّي لأستحييكِ أن أُطلقَ الهوَى ... وأن لا تُعدَّى خلسةَ اللَّحظاتِ
سأطوي الهوَى تحتَ الحشا طيَّ نازحٍ ... قضى وطراً إن لم تبُحْ عبراتي
وأصبرُ للهجرانِ حتَّى يملَّني ... وأدفعَ عنكِ السَّوءَ بالشُّبهاتِ
وقال آخر:

وما وجدُ مِلْواحٍ منَ الهيمِ خُلِّيتْ ... عن الماءِ حتَّى جوْفُها مُتصلصلُ
تحومُ وتغشاها العصيُّ وحولها ... أقاطيعُ أنعامٍ تعلُّ وتنهلُ
بأكثرَ منِّي غلَّةً وتعطُّفاً ... إلى الوردِ إلاَّ أنَّني أتجمَّلُ
وقال ابن الدمينة:
وكنَّا كريمَيْ معشرِ حُمَّ بيننا ... تصافٍ فصُنَّاهُ بحسنِ صوانِ
سيبقى فلا يفنى ويخفى فلا يُرى ... وما علموا من أمرنا ببيانِ
وقال ذو الرمة:
فما زلتُ أطوي النَّفسَ حتَّى كأنَّها ... بذي الرِّمثِ لم تخطرْ علَى قلبِ ذاكرِ
حياءً وإشفاقاً منَ الرَّكبِ أن يروا ... دليلاً علَى مستودعاتِ السَّرائرِ
ولعَمري إنَّ هذه الحال لجميلةٌ بين أهل الصَّفاء غير أنَّها من الأعداء أحسن منها من الأولياء إذْ ليس عجيباً أن يكتم الوليُّ سرَّ وليِّه كما يعجب من كتمان العدوِّ سرَّ عدوِّه.
وقد قال بعض أهل هذا العصر في هذا النحو:
وإنِّي وإن شاعتْ لديكَ سرائري ... فإنَّ الَّذي استودعتني غيرُ شائعِ
أبى اللهُ لي إلاَّ الوفاءَ لكلِّ منْ ... رعى ليَ عهدي أوْ أضاعَ ودائعي
فكُنْ آمناً من أنْ أُذيعَ بسرِّكمْ ... فما سرُّ أعدائي لديَّ بذائعِ
وما أنا ممدوحاً بحفظِ وديعةٍ ... أقلُّ حقوقِ النَّاسِ حفظُ الودائعِ
وقال آخر:
لعَمركَ ما استودَعْتُ سرِّي وسرَّها ... سوانا حِذاراً أن تضيعَ السَّرائرُ
ولا خاطبتْها مُقلتايَ بلحظةٍ ... فتعرفَ نجوانا العيونُ النَّواظرُ
ولكنْ جعلتُ الوهمَ بيني وبينها ... رسولاً فأدْني ما تجنُّ الضَّمائرُ
أصونُ الهوَى بُقيا عليهِ منَ العد ... ى مخافةَ أن يُغرى بذكراهُ ذاكرُ
وقال آخر:
تواقفَ معشوقانِ من غيرِ موعدٍ ... وغُيِّبَ عن نجواهُما كلُّ كاشحِ
وكلَّتْ جفونُ العينِ عن حملِ مائها ... فما ملكتْ فيضَ الدُّموعِ السَّوافحِ
وإنِّي لأطوي السِّرَّ عن كلِّ صاحبٍ ... وإن كانَ للأسرارِ عدْلَ الجوانحِ
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى لعمر بن أبي ربيعة:
جرى ناصحٌ بالوُدِّ بيني وبينها ... فقرَّبني يومَ الحِصابِ إلى قتلي
فلمَّا تواقفنا عرفْتُ الَّذي بها ... كمثلِ الَّذي بي حذوكَ النَّعلَ بالنَّعلِ
فسلَّمتُ فاستأنستُ خيفةَ أن يرى ... عدوٌّ مكاني أو يرى كاشحٌ فعلي
فقالتْ وألقتْ جانبَ السِّترِ إنَّما ... معي فتكلَّمْ غيرَ ذي رقبةٍ أهلي
فقلتُ لها ما بي لكمْ من ضراعةٍ ... ولكنَّ سرِّي ليسَ يحملهُ مثلي
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر:
ألا حبَّذا حبِّي وأرضٌ يحلُّها ... وثوبٌ عليها في الثِّيابِ رقيقُ
وفي القلبِ من حبِّي الَّذي ما درى بهِ ... عدوٌّ ولم يظهرْ عليهِ صديقُ
وقال آخر:
خشيتُ لساني أن يكونَ خؤونا ... فأودعْتُهُ قلبي فكانَ أمينا
وقلتُ ليخفى دونَ عيني وناظري ... أيا حركاتي كنَّ فيهِ سكونا
فما إنْ رأتْ عيني لعينيَ قطرةً ... ولا سمعتْ أُذني لفِيَّ أنينا
لقد أحسنتْ أحشايَ تربيةَ الهوَى ... فها هو ذا كهلاً وكان جنينا
ولم أرَ قلباً خالياً أُودعَ الهوَى ... فدانَ لهُ حتَّى اصطفاهُ قرينا
وقال ابن ميادة:
وإنِّي لِما استودعْتُ يا أمَّ مالكٍ ... علَى قدمٍ من عهدهِ لكَتومُ
وإنِّي علَى الشَّوقِ الَّذي أنا داخلٌ ... إذا باحَ أصحابُ الهوَى لضمومُ
وقال آخر:
وحبٍّ كأطباقِ البحارِ كتمتهُ ... معَ القلبِ لم يعلمْ بهِ منْ أُلاطفُ
وإنِّي أكُمُّ السِّرَّ حتَّى أردَّهُ ... سليمَ الصَّفا لم تمتهنْهُ الزَّعانفُ
وأُخفي منَ الوجدِ الَّذي ما لوَ انَّهُ ... يشيعُ لحرَّ الموطناتِ الألايفُ

وإنَّ البيت الثالث من هذه الأبيات ليس من الكلام الَّذي لا يقع مثله في النَّدرات ولئن كان صادقاً فيما قال إنَّه من صون إلفه لعلى حالٍ توجب له غلبة الوفاء بعهده والرِّعاية لودِّه إنَّ امرءاً يثق من وجده بأنَّ الإشاعة لذكره تدعو المستوطن الآلف إلى مفارقة الوطنين وطن روحه ووطن جسمه ثمَّ يترك ذلك ويتجشَّم مضاضة الكتمان في قلبه على الإشارة بذكر إلفه بما عساه غير مؤدٍّ إلى ضرره لشديد الإبقاء على إلفه ولمتمكِّن القدر على نفسه لأنَّ من ملكه الشّوق ملكاً صحيحاً عجز لأن لا يكون سرّه تصريحاً على أنَّ صاحبنا قد عرّض تعريضاً مليحاً بذكره لموضع إقامة قلبه إذْ هو بلا شكٍّ موضع إلفه وإنِّي لأستطرف قول نبهان العبشمي:
أما واللهِ ثمَّ اللهِ حقّاً ... يميناً ثمَّ أُتبعُها يمينا
لقدْ نزلتْ أُمامة من فؤادي ... تِلاعاً ما أُبحنَ ولا رُعينا
أظلُّ وما أبثُّ النَّاسَ أمري ... ولا يخفى الَّذي بيَ فاعلمينا
أذودُ النَّفسَ عن ليلَى وإنِّي ... ليعصيني شواجرُ قد صدينا
يرينُ مشارباً ويُذدنَ عنها ... ويُكثرنَ الصُّدودَ وما روينا
فهو أعزَّه الله لم يرض بتسميةٍ واحدةٍ حتَّى سمَّى اثنتين سمَّى الَّتي هو مقبلٌ عليها والَّتي هو يجب الانصراف عنها ثمَّ لا يسكت مع ما جناه حتَّى يمتنَّ بأنه يكاتم هواه ليت شعري ما الَّذي بقي عليه أن يخبر به بعد وصفه لمحلِّ من يهواه من قلبه وإخباره في الشِّعر باسمه ولولا أنَّ هذا بابٌ لا يحتمل لمن ذكرت حاله فيه ما يحتمل لمن ذكر في الباب الَّذي يليه لصفحنا عن هذا وأضعافه.
ولعمري لقد أحسن الَّذي يقول:
رماني بها قلبي فلمْ يُخطِ مقتلي ... ولم يكُ من يرمي تصاب مقاتلُهْ
فإنْ متُّ فابكوني قتيلاً بطرفها ... قتيلَ عدوٍّ حاضرٍ ما يزايلُهْ
شكى وكنى عمَّنْ أحبَّ ولم يبُحْ ... بأكثرَ من هذا الَّذي هو قائلُهْ
وإنَّ أحقَّ النَّاسِ أنْ يكثُرَ البكا ... عليهِ قتيلٌ ليسَ يُعرفُ قاتلُهْ
وأحسن مسلم بن الوليد في قوله:
عندي وعندكَ علمُ ما عندي ... من ضُرِّ ما أُخفي وما أُبدي
لا أشتكي ما بي إليكَ ولوْ ... نطقتْ بهِ العبراتُ في خدِّي
وجدي عليكَ أراهُ يُقنعُني ... من وصفِ ما ألقى منَ الوجدِ
فإذا اصطبرتُ علَى السكوتِ فلمْ ... أنطقْ فممَّا بي منَ الوجدِ
وأحسن الَّذي يقول:
وإنِّي لأُغضي الطَّرفَ عنكِ تجمُّلاً ... وقلبي إلى أشياءَ عطشانُ جائعُ
فلا يسمعنْ سرِّي وسرَّكِ ثالثٌ ... ألا كلُّ سرٍّ جاوزَ اثنينِ شائعُ
وأحسن سوار بن المضرّب حيث يقول:
إنِّي سأسترُ ما ذو العقلِ ساترهُ ... من حاجةٍ وأُميتُ السرَّ كِتمانا
وحاجةٍ دونَ أخرى قد بدأتُ بها ... جعلتُها للَّتي أخفيْتُ عُنوانا
إنِّي كأنِّي أرى مَنْ لا حياءَ لهُ ... ولا أمانةَ وسطَ النَّاسِ عُريانا
وقال كثير:
وقد زعمَتْ أنِّي تغيَّرتُ بعدها ... ومن ذا الَّذي يا عزُّ لا يتغيَّرُ
تغيَّرَ جسمي والخليقةُ كالذي ... عهدْتِ ولم يخبرْ بسرِّكِ مُخبرُ
وقال ذو الرحل لقمان بن توبة القشيري:
خليليَّ سيرا فاسألا أمَّ عاصمٍ ... لنا عن بقيَّاتِ العهودِ القدائم
ألمْ تعلمي يا عمرَكِ اللهُ أنَّني ... بذكركِ هدَّاءٌ علَى النَّأيِ هائم
وإنِّي علَى الهجرانِ يا أمَّ عاصمٍ ... أدومُ علَى عهدِ الخليلِ المكارم
إذا السِّرُّ عندي من خليلٍ تضمَّنتْ ... به النَّفسُ لم يعلمْ به الدَّهرَ عالم
ترى بينَ أحناء الفؤادِ وضمِّهِ ... إلى القلبِ أحناءَ الضُّلوعِ الكواتم
وقال الحسين بن الضحاك:
أيا منْ سروري به شقوةٌ ... ومن صفوُ عيشي بهِ أكدرُ
تجنَّيْتَ تطلبُ لمَّا مللْتَ ... عليَّ الذُّنوبَ ولا تقدرُ
وماذا يضرُّكَ من شهرتي ... إذا كانَ سرُّكَ لا يُشهرُ
أمنِّي تخافُ انتشارَ الحديثِ ... وحظِّيَ في سترهِ أوفرُ
ولو لم يكنْ فيَّ بُقيا عليكَ ... نظرتُ لروحي كما تنظرُ
وقال بشار بن برد:
كتمْتُ عواذلي ما في فؤادي ... وقلتُ لهمْ لِيُتَّهمَ البعيدُ

ففاضَتْ عبرةٌ أشفقْتُ منها ... تسيلُ كأنَّ وابلها الفريدُ
فقالتْ قدْ بكيتَ فقلتُ كلاَّ ... وهلْ يبكي منَ الشَّوقِ الجليدُ
ولكنِّي أصابَ سوادَ عيني ... عُويدُ قذًى له طرَفٌ حديدُ
فقالوا ما لدمعتها سواءٌ ... أكلْتَيْ مُقلتيكَ أصابَ عودُ
فقبلَ دموعِ عينكَ خبَّرتْنا ... بما جمجمتَ زفرتُكَ الصَّعودُ
وقال آخر:
شيَّعتهمْ فاسترابوني فقلتُ لهمْ ... إنِّي بُعثتُ معَ الأجمالِ أحدوها
قالوا فما نفسٌ يعلو كذا صعَداً ... أمْ ما لعينكَ ما ترقا مآقيها
قلتُ التَّنفُّسُ للآدابِ نحوكمُ ... وماءُ عينيَ جارٍ من قذًى فيها
وأنشدتني ستيرة العصيبية:
ونادى بالتَّرحُّلِ بعضُ صحبي ... فرحتُ ومُقلتي غرقى بماها
فراحوا والشَّقيُّ له ديونٌ ... وأشيا من حوائجَ ما قضاها
فأرخيْتُ العمامةَ دونَ صحبي ... علَى عيني وقلتُ جرى قذاها
وما لي حاجةٌ إلاَّ ببكرٍ ... وما ذنبي علَى أحدٍ سواها
فقالوا من ضِراري كيفَ بكرُ ... وكيفَ تراكَ ترجو أن تراها
فقلتُ اللهُ حمَّ فراقَ بكرٍ ... فأرجو أنْ يحمَّ لنا لِقاها
ولبعض أهل هذا العصر:
وكمْ ليلةٍ قد بتُّ أرقبُ صبحها ... وأنجمها في الجوِّ ما تتزحزحُ
ويُمنايَ فوقَ القلبِ تُبردُ حرَّةٌ ... ويُسرايَ تحتَ الخدِّ والعينُ تسفحُ
فأصبحتُ مجهوداً عميداً منَ الهوَى ... وقد كادَ قلبي بالصَّبابةِ يطفحُ
وما علمَ الواشونَ فضلاً عنِ العِدى ... بسرٍّ وما مثلي بسرِّكَ بُفصحُ
فإنْ كانَ هذا القولُ عذراً قبلتهُ ... وإن كانَ تعذيراً فمثلكَ يصفحُ

الباب الرابع والأربعون
مَنْ غُلب صبرهُ ظهرَ سرُّهُ
ذكروا أنَّ سكينة بنت الحسين ركبت في جواريها فمرَّت بعروة بن أُذينة الليثي وهو يغنِّي فقالت لجواريها: من الشَّيخ؟ قالوا: عروة فعدلت نحوه ثمَّ قالت: يا أبا التَّمام أنت تزعم أنَّك لم تعشق قطّ وأنت تقول:
قالتْ وأبثثْتُها وجدِي فبحتُ بهِ ... قدْ كنتَ عندِي تحتَ السِّترِ فاستترِ
ألستَ تبصرُ مَنْ حولِي فقلتُ لها ... غطَّى هواكِ وما ألقَى علَى بصرِي
كلُّ مَن ترى حولي مِن جواريَّ أحرارٌ إن كان خرج هذا الكلام من قلبٍ سليمٍ قطُّ.
وقال آخر:
وإنْ أُخفِي حبَّ الحاجبيِّ فطالَما ... وإنْ أُبدهِ يوماً فقدْ غُلبَ الصَّبرُ
أقولُ وعينِي تستهلُّ بمائِها ... أمَا ليَ في هذا وأمثالهِ أجرُ
وقال أبو ذؤيب الهذلي:
وعيَّرَها الواشونَ أنِّي أُحبُّها ... وتلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عنكَ عارُها
فإنْ أعتذرْ منها فإنِّي مكذَّبٌ ... وإنْ تعتذرْ يُرددْ عليها اعتذارُها
وقال الضحاك بن عقيل:
يقولونَ مجنونٌ بسمراءَ مولعٌ ... ألا حبَّذا جنٌّ بها وولوعُ
وما زلتُ أُخفِي حبَّ سمراءَ منهمُ ... وتعلمُ نفسِي أنَّه سيشيعُ
ولا خيرَ في حبٍّ يكونُ كأنَّهُ ... شغافٌ أجنَّتهُ حشاً وضلوعُ
وقال الحسين بن وهب:
قدْ كتمتُ الهوَى بمبلغِ جُهدي ... فبدَا منهُ غيرُ ما كنتُ أُبدي
فخلعتُ العذارَ فليعلمِ النَّاسُ ... بأنِّي إيَّاكِ أُصفِي بودِّي
وأنشدني أحمد بن يحيى:
ولي كبدٌ مقروحةٌ مَنْ يبيعُني ... بها كبداً ليستْ بذاتِ قروحِ
أباها عليَّ النَّاسُ لا يشترُونَها ... ومَنْ يشترِي ذا علَّةٍ بصحيحِ
وقال معاذ ليلَى:
وما زلتُ أعلُو حبَّ ليلَى فلمْ يزلْ ... بيَ النَّقضُ والإبرامُ حتَّى علانِيا
وأشهدُ عندَ اللهِ أنِّي أُحبُّها ... فهذا لها عندِي فما عندَها لِيا
قضَى اللهُ بالمعروفِ منها لغيرِنا ... وبالشَّوقِ منها والتَّصابِي قضَى لِيا
فلوْ كنتُ أعمَى أخبطُ الأرضَ بالعصَا ... أصمَّ فنادتْني أحببتُ المُناديا
خليليَّ إلاَّ تبكِيا ليَ أستعنْ ... خليلاً إذا أنفدتُ دمعِي بكَى لِيا
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي لامرأة من خثعم:
وإنْ تسألُونيَ مَنْ أُحبُّ فإنَّني ... أُحبُّ وبيتَ اللهِ كعبَ بنَ طارقِ

أُحبُّ الفتَى الجعدَ السَّلوليَّ والعصا ... منَ النَّبعِ هيَّاها لضربِ المفارقِ
وقال أبو العتاهية:
قالَ لي أحمدٌ ولمْ يدرِ ما بِي ... أتحبُّ الغداةَ عُتبةَ حقَّا
فتنفَّستُ ثمَّ قلتُ نعمْ حُ ... بّاً جرَى في العظامِ عرقاً فعِرقا
وقال آخر:
وقالَ نساءٌ لسنَ لي بنواصحٍ ... ليعلمنَ ما أُخفي ويعلمنَ ما أُبدِي
أأحببتَ ليلَى جهدَ حبِّكَ كلِّهِ ... لعمرُ أبي ليلَى وزدتُ علَى الجهدِ
علَى ذاكَ ما يمحُو ليَ الذَّنبُ عندَها ... وتمحُو دواعِي حبِّها ذنبَها عندِي
ولبعض أهل هذا العصر:
أرَى كلَّ مرتابٍ يخافُ خيالهُ ... كأنَّ عيونَ العالمينَ تراقبهْ
يكادُ لفرطِ الخوفِ يُبدِي ضميرهُ ... لكلِّ امرئٍ تُخشَى عليهِ عواقبهْ
عليَّ بوادٍ مَنْ يخافُ اغتيابُهُ ... تُبتُّ لديها في الأنامِ مناقبهْ
فإيَّاكُما يا صاحبيَّ ومشهداً ... تُنسِّيكما ما سرَّ منهُ عواقبهْ
وإيَّاكُما والذَّنبَ ترتكِبانهِ ... وإنْ كانَ في الأحيانِ يعذرُ راكبهْ
فما كلُّ معذورٍ حقيقاً بعذرهِ ... ولا كلُّ معذولٍ تعيبُ معايبهْ
وقال الحطيئة:
أكلُّ النَّاسِ يكتمُ حبَّ هندٍ ... وما يخفى بذلكَ مِنْ خفيِّ
وما لكَ غيرَ نظَّارٍ إليها ... كما نظرَ الفقيرُ إلى الغنيِّ
وقال الأحوص:
لقد سلا كلُّ صبٍّ أوْ قضَى وطراً ... وما سلوتُ وما قضَّيتُ أوطارِي
أضمرتُ ذاكَ زماناً ثمَّ بحتُ بهِ ... فزادَني سقماً بَوحي وإضماري
أخفيتُ في العرفِ هذا النُّكرَ ذلكمُ ... فصرَّحَ الوجدُ عنْ عُرفِي وإنكارِي
وهذا لعمري من حسن الكلام ونفيسه ألا ترى إلى إخباره عن اجتهاده في كتم ما في قلبه حتَّى صرَّح الوجد به من غير قصد له ولا اختيار منه وهذه هي الحال التامة من جهتين إحداهما أن يكون المحبُّ مؤثراً الإسرار على الإعلان والأخرى أن يكون الوجد تملَّكه ملكاً يزول معه الكتمان فيكون ضابطاً لنفسه مؤثراً لكتمان سرِّ ما دام التَّمييز معه إلى أن يغلبه من الوجد ما لا يستطيع أن يدفعه.
ولقد أحسن البحتري غاية الإحسان حيث يقول:
نصرتُ لها الشَّوقَ اللَّجوجَ بأدمعٍ ... تلاحقنَ في أعقابِ وصلٍ تصرَّما
وتيَّمنِي أنَّ الجوَى غيرُ مُقصرٍ ... وأنَّ الحمَى وصفٌ لمنْ حلَّ بالحمَى
أُؤلِّفُ نفساً قدْ أُعيدتْ علَى الهوَى ... شعاعاً وقلباً في الغواني مقسَّما
لقدْ أخذَ الرُّكبانُ أمسِ وغادرُوا ... حديثَينِ منَّا ظاهراً ومكتَّما
وما كانَ بادِي الحبِّ منَّا ومنكمُ ... ليخفَى ولا سرُّ التَّلاقي ليُعلما
أفلا ترى إلى حسن قسمته لما خفي وما ظهر من سرِّه فأعلمك أنَّ ما به من غلبات الوجد أخرجها الشَّوق عن يده فظهرت لمن بحضرته وأنَّ ما استودعه من السَّرائر الَّتي كانت بينه وبين إلفه لم يكن ليطَّلع عليها غيره وهذا هو الَّذي أطريناه ومدحنا من فعله في الباب الماضي من وجوب ظهور الحال وحدها واستخفاء ما بعدها والعلَّة في ذلك أنَّ مكتوم الحبّ يظهره الدَّمع ومكنون ما جرى من المحبِّين لا يظهره غير النُّطق والنَّاس قادرون على حبس ألسنتهم وعاجزون عن حبس دمعهم سيَّما إذا ملكهم اشتياق أو جدَّ بهم فراقٌ.
ولقد أحسن الَّذي يقول:
يا حسرَتا قدْ فُقدَ العمرُ ... وليسَ لي عنْ مالِكِي صبرُ
وكمْ أُدارِي النَّاسَ عنْ قصَّتي ... وليسَ لي عنْ مالِكِي سرُّ
يا ربِّ قدْ عذَّبتني بالهوَى ... طفلاً وكهلاً فلكَ الشُّكرُ
وقال جرير:
وما زالَ عنِّي قائدُ الشَّوقِ والهوَى ... وذكركِ حتَّى كادَ يبدُو ويُفصحُ
أصونُ الهوَى مِنْ خشيةٍ أنْ تعرَّها ... عيونٌ وأعداءٌ منَ القومِ كشَّحِ
فما برحَ الوجدُ الَّذي قدْ تلبَّستْ ... بهِ النَّفسُ حتَّى كادَ لي الشَّوقُ يذبحُ
وقال العرجي:
إذا رمتُ كتماناً لوجدكِ حرَّشتْ ... عليكِ العدَى عينٌ بسرِّكِ تنطقُ
لها شاهدٌ مِنْ دمعِها كلَّما وفَى ... جرَى شاهدٌ مِنْ دمعِها يترقرقُ
وقال يزيد بن الطثرية:

جرَى واكفُ العينينِ بالدِّيمةِ السَّكبِ ... وراجعَني مِنْ ذكرِ ما قدْ مضَى حبِّي
وأبدَى الهوَى ما كنتُ أُخفي منَ العدَى ... وجنَّ لتذكارِ الصِّبى مرَّةً قلبِي
متى يُرسلِ المُشفِي إنِ النَّاسُ محَّلوا ... عيوناً لأكنافِ المدينةِ فالهضبِ
أمتْ كمداً أوْ أضنَ حتَّى يُغيثني ... مغيثٌ بسيبٍ مِنْ نداهنَّ أوْ قربِ
حنَا الحائمُ الصَّادي إليها وخُلِّيتْ ... قلوبٌ فما يقدرونَ منها علَى شربِ
جعلنَ الهوَى داءً علينا وما لنا ... إليهنَّ إذا أورَدْننا الدَّاءَ مِنْ ذنبِ
وقال آخر:
ولمَّا رأَى ألاَّ سبيلَ وأنَّه ... هوَ البينُ مقصوراً عليهِ الأضالعُ
تهتَّكَ عنْ أسرارِ قلبٍ وأسجمتْ ... مدامعُ عينٍ بينَها السِّرُّ ضائعُ
وقال العباس بن الأحنف:
أمسَى بكاكَ علَى هواكَ دليلا ... فازجرْ دموعكَ عنْ أن تفيض همولا
دار الجليس عن الدموع فإن بدتْ ... فانظر إلى أفقِ السماء طويلا
وقال آخر:
بين الجوانح منك قلبٌ خافقُ ... ولسان دمعك عن ضميركَ ناطقُ
إجهرْ بحبِّكَ طالَما أسررْتَهُ ... وإذا استترَ الحبُّ ماتَ العاشقُ
وقال آخر:
لولا تحدُّرُ دمعي حينَ تذكرُ لي ... لمْ يعلمِ النَّاسُ مِنْ سرِّي بمكتومِ
فما احتِيالي بعينٍ غيرِ راقيةٍ ... تبكِي بدمعينِ مذروفٍ ومسجومِ
نمَّتْ عليَّ فأبدتْ ما استترتُ بهِ ... وقدْ يكونُ سَتيراً غيرَ مذمومِ
وقال أبو حفص الشطرنجي:
وقالتْ بحتَ بالأسرارِ عنِّي ... وما هذا بفعلِ أخي الكريمةْ
فقلتُ لها فدتكِ النَّفسُ نمَّتْ ... بما لاقيتُ مُقلتيَ المشومةْ
فألقتْ نفسَها ضحكاً وقالتْ ... قدِ ارتفعَ الحديثُ عنِ النَّميمةْ
ولقد أحسن ابن قنبر حيث يقول:
خُذيني بما يجنِي لِسانِي واصفَحِي ... لنا عنْ جناياتِ الدُّموعِ البواردِ
فقدْ شهرتْني مرَّةً بعدَ مرَّةٍ ... فأبدتْ برغمي خافياتِ سرائرِي
ولوْ أنَّ عَيني طاوعتْني لاختَفَى ... عليَّ الهوَى أُخرى اللَّيالي الغوابرِ
ولكنَّها تُبدِي إذا ما ذكرتكمْ ... بفيضِ مآقيها خَبايا الضمائرِ
وقال أحمد بن أبي قين:
ولمَّا أبتْ عينايَ أنْ تستُرا الهوَى ... وأنْ تقِفا فيضُ الدُّموعِ السَّواكبِ
تثاءبتُ كَيْلا ينكرَ الدَّمعُ منكرٌ ... ولكنْ قليلٌ ما بقاءُ التَّثاؤبِ
أعرَّضْتُماني للنَّدِي ونمتُما ... عليَّ لبئسَ الصَّاحبانِ لصاحبِ
وقال النابغة:
طوَى كشحاً خليلكَ والجناحَا ... لبينٍ منكَ يومَ غدَا وراحَا
فيا لكِ حاجةً في صدرِ صبٍّ ... رأَى الأظعانَ باكرةً فباحَا
وقال البحتري:
يا أخا الأزدِ ما حفظتَ الإخاءَ ... لمحبٍّ وما ذكرتَ الوفاءَ
عذلاً يتركُ الحنينَ أنيناً ... في هوًى يتركُ الدُّموعَ دماءَ
كيفَ أغدُو منَ الصَّبابةِ خلْواً ... بعدَما راحتِ الدِّيارُ خلاءَ
حجبوها حتَّى بدتْ لفراقٍ ... كانَ داءً لعاشقٍ ودواءَ
أضحكَ البينُ يومَ ذاكَ وأبكَى ... كلَّ ذِي صبوةٍ وسرَّ وساءَ
فجعلنا الوداعَ فيهِ سلاماً ... وجعلنا الفراقَ فيهِ لقاءَ
ووشتْ بي إلى الوشاةِ دموعُ ال ... عينِ حتَّى حسبتُها أعداءَ
قد كثَّر النَّاس في شكاية الدَّمع وخبَّروا بأنَّه من أشدّ الأشياء دلالة على السُّرور بما امتنع بضروب من الصَّنائع إمَّا لفرط جفاف في الدِّماغ يحتمل ما ورد عليه من البخارات فلا ينحدر عنه حتَّى يكثر كثرةً غالبةً وربَّما امتنع لشدَّة الكمد حسب ما ذكرناه بديَّا وللهوى دلالات تتبيَّن في الزَّفرات واللَّون والنَّظر والإرشادات لا تكاد تفتقد وجدها ومفتقدها أيضاً يراها وإن لم يعرف لها شبيهاً عند تلاقي المتحابَّين.
أنشدنا أحمد بن أبي طاهر:
تكلَّمُ عمَّا في الصُّدورِ عيونُنا ... وتفقهُ عنَّا أعينٌ وحواجبُ
فمنْ قالَ إنَّ الحبَّ يخفَى لذِي الهوَى ... إذا ما رأَى أحبابهُ فهوَ كاذبُ
ولبعض أهل هذا العصر:

لا خيرَ في عاشقٍ يُخفي صبابتهُ ... بالقولِ والشَّوقِ مِنْ زفراتهِ بادِي
يُخفي هواهُ وما يخفَى علَى أحدٍ ... حتَّى علَى العيسِ والرُّكبانِ والحادِي
وقال مسلم بن الوليد:
أمَّا الجميعُ فزايلوكَ لنيَّةٍ ... فمتَى تراهمْ راجعينَ قفُولا
تاللهِ ما علمَ السُّرورُ ولا الكرَى ... أنَّ الفراقَ منَ اللِّقاءِ أُدِيلا
فإذا زجرتُ القلبَ عادَ وجيبُهُ ... وإذا حبستُ الدَّمعَ فاضَ هُمولا
وإذا رجعتُ إلى الهوَى بعثَ الهوَى ... نفَساً يكونُ علَى الضَّميرِ دليلا
ولبعض أهل هذا العصر:
هُبونِي أخفيتُ الَّذي بي منَ الهوَى ... ألمْ يكُ عنْ ما بي ضميرٌ مُترجِما
وما زلتُ أستحيي منَ النَّاسِ أن أُرَى ... ظلوماً لإلفِي أوْ أُرَى متظلِّما
وباللهِ ما حلتُ الغداةَ عنِ الَّذي ... عهدتَ ولكنْ كنتُ إذْ ذاكَ مُنعما
وقدْ ذابَ قلبِي اليومَ شوقاً وصبوةً ... إليكَ وما ترْثِي لقلبِي منهُما
فلا تتعجَّبْ إنْ تظلَّمتُ مُحوَجاً ... فقدْ حانَ للمظلومِ أنْ يتظلَّما
وقال آخر:
لو كنتُ أُظهرُ ما أُكاتمكمْ بهِ ... هلْ كنتُ إلاَّ مُخبراً بودادِي
أفليسَ في نظَري تأمُّلُ بائنٍ ... يُنبيكَ عمَّا في ضميرِ فؤادِي
فهذه الجهات كلّها تنمُّ الهوَى على أهله وتدلُّ مشاهدتها على موضعه وربَّما كان إفراط التَّحفُّظ دالاً على هوى التَّحفُّظ لأنَّ التَّصنُّع الشَّديد يخرج عند العادة فيوقع التّهمة بمن استعمله لقد سمعت فتًى من أهل الأدب يقول لآخر من أهل الهوى وقد أفرط في احتشامه وحاذر أن يطَّلع على شيءٍ من حاله قد والله بلغ منِّي ما أراه بك على أنَّه ما يظهر لي من حالك إلاَّ كتمانك لأمرك.
ولبعض أهل هذا العصر في نحو ذلك:
أريتَنِي النَّجمَ يجري بالنَّهارِ فلا ... فرقاً أرَى بينَ إصباحِي وإمسائِي
أخفيتُ حبَّكَ حتَّى قدْ ضُنيتُ بهِ ... فصارَ يُظهرُ ما أُخفيهِ إخفائِي

الباب الخامس والأربعون
مَنْ لم يقعْ لهُ الهوَى باكتسابٍ لم ينزجرْ بالعتابِ
العلَّة في ذلك أنَّ المعاتبة إنَّما هي توقيف على مواضع المصلحة وتبين لما في الحال الَّتي بقي عليها المعاتب من المنقصة فمن كان أصل هواه اختياراً لنفسه فتبيَّن موضع النَّقص في اختياره رجع إلى قول عذَّاله ومن وقع هواه مضطراً بغلبة إلى الانقياد لإلفه لم يعلق العذل بسمعه لأنَّ العذل يأتيه من غير جهته والشَّيءُ لا يوجب زواله إلاَّ ضدُّ ما أوجب ثباته فكما أنَّ الهوَى الاختياريَّ يضادُّه التَّوقيف على مواضع الحال فيوجب على صاحبه أن يختار إزالته فكذلك الهوَى الاضطراريُّ لا يزايله إلاَّ اضطرارٌ يضادُّه والهوَى الاختياريُّ أيضاً على ضعفه لا تمحوه ضروريَّته ولا تعارض في تركه لأنَّها تجيء من غير جهته وهو لا يزول إلاَّ بزوال الجهة الَّتي أوجبته إذْ محالٌ أن يكون شيءٌ علَّةً لشيءٍ فيزول المعلول والعلَّة قائمةٌ.
ولقد أحسن عمر بن ضبيعة الرقاشي حيث يقول:
قضَى اللهُ حبَّ المالكيَّةِ فاصطبرْ ... عليهِ فقدْ تجرِي الأُمورُ علَى قدرِ
ألا فليقلْ مَنْ شاءَ ما شاءَ إنَّما ... يُلامُ الفتَى فيما استطاعَ منَ الأمرِ
وللبحتري في نحو ذلك:
للحبِّ عهدٌ في فؤادِي لمْ يخنْ ... منه السُّلوُّ وذمَّةٌ لمْ تخفرِ
لا أبتغِي بدلاً بسُلمَى خُلَّةً ... فلتقتربْ بالوصلِ أوْ فلتهجرِ
وقال يحيى بن منصور:
يلومكَ فيها اللائمونَ كأنَّني ... لأمرِ الوشاةِ مستقيدٌ مسلِّمُ
وإنِّي أرَى العينَ الَّتي لا تُنيمُها ... إذا جعلتْ عينُ الوشاةِ تُنوِّمُ
فها أنا متروكٌ وبثِّي فإنَّهُ ... شتيتٌ بهِ أهواؤهُ متقسِّمُ
ولقد أحسن أبو تمام حيث يقول:
ألمْ ترَني خلَّيتُ عيني وشانَها ... ولمْ أحفلِ الدُّنيا ولا حدَثانَها
لقدْ خوَّفتْني النَّائباتُ صروفَها ... ولو آمنتْني ما قبلتُ أمانَها
عِنانٌ منَ اللَّذَّاتِ قدْ كانَ في يدي ... فلمَّا مضَى الإلفُ استردَّتْ عنانَها
يقولونَ هلْ يبكِي الفتَى لخريدةٍ ... متَى ما أرادَ اعتاضَ عَشراً مكانَها

وهلْ يستعيضُ المرءُ مِنْ خَمسِ كفِّهِ ... ولو صاغَ مِنْ حرِّ اللُّجينِ بنانَها
وأنشدني أحمد بن يحيى:
لا تلْحِيا في حبِّ ظَبيةَ هائماً ... أمسَى بظبيةَ هائماً مشغولا
هَيمانُ يعطشُ بالفراتِ لحبٌّها ... ويزيدهُ بردُ الشَّبابِ غَليلا
وقال آخر:
فكادَ يعتبُني في غيرِ فاحشةٍ ... بعضِ اتِّباعِ الهوَى والمشربَ الألفُ
يا أيُّها العاذلُ الرَّاجي لأُعتبهُ ... ماذا تراكَ منَ التَّلوامِ تَعترفُ
أفي الصِّبى لمتَني أنتَ الفداءُ لهُ ... وهلْ عصَى لكَ مِنْ لذَّاتهِ خلَفُ
إذا ذممتَ الصِّبى يوماً فلا ترَني ... ممَّنْ يطيعُكَ أوْ يرضَى بما تصفُ
إنَّ القلوبُ إذا نيَّاتها اختلفتْ ... فلا تكادُ على الأضغانِ تأتلفُ
وأنشدني أحمد بن يحيى:
وقدْ علمتْ سمراءُ أنَّ حديثَها ... فجيعٌ كما ماءُ السَّماءِ فجيعُ
إذا أمرتْكَ العاذلاتُ بصرمِها ... هفتْ كبدٌ ممَّا يقُلْنَ صديعُ
وزادني غيره:
وكيف أُطيعُ العاذلاتِ وحبُّها ... يورِّقُني والعاذلاتُ هجوعُ
وقال أبو صخر الهذلي:
أرِقتُ ونامَ عنِّي مَنْ يلومُ ... ولكنْ لمْ تنمْ عنِّي الهمومُ
كأنِّي مِنْ تذكُّرها أُلاقي ... أذًى ما أظلمَ اللَّيلُ البهيمُ
سليمٌ ملَّ منهُ أقرَبوهُ ... وعطَّلهُ المُداوي والحميمُ
يلومكَ في مودَّتها رجالٌ ... لَوَ انَّهمُ بدائكَ لمْ يلومُوا
قلوبهمُ وأنفسهمْ صحاحٌ ... وقلبكَ مِنْ تذكُّرها سقيمُ
فأنتَ وإنْ لحاكَ النَّاسُ فيها ... جميعَ النَّاسِ تعصِي أوْ تلومُ
وقال الضحاك بن عقيل الخفاجي:
لقدْ لامَني فيها رجالٌ وقدْ أرَى ... مكانَ نساءٍ قدْ مُلئنَ لها حقدا
يُخبِّروني أنِّي سفيهٌ فزادَني ... مقالةُ مَنْ قدْ قالَ لي ولَها وَجدا
علَى حبِّها فازددتُ ضعفاً ولم أكنْ ... أرَى قبلُ عندِي غيرَ ما استسلفتْ ودَّا
وهذا لعمري من أحسن الكلام وجيده وإن كان في البيت الأخير غلط يسير لأنه زعم أنَّ من ملامهم فيها زاده ضعفاً من محبَّتها والعذل لا يزيد المحبة ولا ينقصها ولكن النَّفس إذا اشتدَّ ضنُّها فغُري العذل بمسامعها عارضها ضربٌ من الإشفاق على حال من عوتبت في محبَّته وخشيت أن يكون العذل مزيلاً له عن مرتبته وكان تحريك خاطرة الضَّنّ بذلك زائدة في القلق ومهيِّجة للفكر فيتوهَّم صاحبها أنَّ محبَّته قد تزايدت وما تزايدت ولا تناقصت وهذا الغلط لم يجر على صاحب هذه الأبيات وحده بل قد جرى على من قبله وبعده.
وقال معاذ ليلى في نحو ذلك:
يقرُّ بعيني قربُها ويَزيدُني ... بها عجباً مَنْ كانَ عندِي يعيبُها
وكمْ قائلٍ قد قالَ تُبْ فعصيتهُ ... وتلكَ لعمري توبةٌ لا أتوبُها
فيا نفسُ صبراً لستُ واللهِ فاعلَمي ... بأوَّلِ نفسٍ غابَ عنها حبيبُها
وقال عمر بن يحيى الطائي:
قالَ العواذلُ لي أينقصُ حبُّها ... لا بلْ علَى رغمِ الوشاةِ يزيدُ
تأبَى قرابةُ بينِنا ومودَّةٌ ... ولها عليَّ مواثقٌ وعهودُ
طُوِّينَ في حججٍ مضينَ سوالفٍ ... حذارَ الوشاةِ فنقضُهنَّ شديدُ
وإذا تعرَّضَ زاجرٌ عنْ حبِّها ... قُلنا عليكَ صفائحٌ ولحودُ
وقالت وجيهة بنت أوس:
وعاذلةٍ تغدُو عليَّ تلومُني ... علَى الشَّوقِ لمْ تمحُ الصَّبابةَ مِنْ قلبِي
فما ليَ إنْ أحببتُ أرضَ عشيرتِي ... وأحببتُ طرفاءَ القُصيبةِ مِنْ ذنبِ
وقال مالك بن حارث الهذلي:
يقولُ العاذلاتُ أكلَّ يومٍ ... لسُرُّبةِ مالكٍ عنَقٌ شَناحُ
وقدْ خرجتْ نفوسهمْ فماتُوا ... علَى إخوانهمْ وهمُ صحاحُ
ولستُ مقصِّراً ما سافَ مالِي ... ولو عُرضتْ لِلَبَّتيَ الرِّماحُ
فلومُوا ما بدَا لكمُ فإنِّي ... سأُعتبكمْ إذا انفسخَ المُراحُ
وقال جرير:
إذا ما نمتِ هانَ عليكِ ليلِي ... وليلُ الطَّارقاتِ منَ الهمومِ
إذا ما لُمتِني وعذرتُ نفسِي ... فلومِي ما بدَا لكِ أنْ تلومِي
وقال القعقاع:

خليليَّ مرَّا بي قليلاً لتؤجَرا ... وأنْ تكسَبا خيراً منَ الحمدِ والأجرِ
فقالا اتَّقِ اللهَ العليَّ فإنَّما ... تُصلِّيكَ أسبابَ الهوَى لهبُ الجمرِ
فقلتُ أطيعانِي فليسَ عليكُما ... حسابِي إذا لاقيتُ ربِّي ولا وِزرِي
عليَّ الذي أجنِي وليسَ عليكُما ... وربِّي أولى بالتَّجوُّزِ والغفرِ
أتحرقُني يا ربِّ إنْ عجتُ عَوجةً ... علَى رخصةِ الأطرافِ طيِّبةِ النَّشرِ
أما العذل الذي يقع ابتداء فليس على النَّفس منه من المؤونة كما عليها من عذل من أملت عنده من المعونة ولقد كسب هذا البائس على نفسه تعباً كاسراً لمنقلبه ومسقطاً لهمَّته باستدعائه المساعدة من ذكر قصَّته ومن هذا وأشباهه كرهنا للمحبِّ الاطلاع على أسراره ولكن متى غُلب على أمره لم يلم على إفشاء سرِّه.
ولقد أحسن أبو تمام الطائي حيث يقول:
فحْواكَ عينٌ علَى نجواكَ يا مَذِلُ ... حتَّامَ لا يتقضَّى قولكَ الخطِلُ
وإنَّ أسمجَ مَنْ تشكُو إليهِ هوًى ... مَنْ كانَ أحسنَ شيءٍ عندهُ العذلُ
وقال يزيد بن الطثرية:
تذكَّرتُ ذاتَ الخالِ مِنْ فرطِ حبِّها ... ضُحًى والقِلاصُ اليَعمُلاتُ بنا تخدِي
فما ملكتْ عينايَ حينَ ذكرتُها ... دموعَهما حتَّى انحدرنَ علَى خدِّي
فأنَّبني صحبِي وقالُوا أمنْ هوًى ... بكيتَ ولو كانُوا همُ وجدُوا وجدِي
وقالُوا لقدْ كنَّا نعدُّكَ مرَّةً ... جليداً وما هذا بفعلِ فتًى جلدِ
ألا لا تلومُوني فلستُ وإنْ نأتْ ... بمُنصرمٍ عنها هوايَ ولا ودِّي
ألمْ تعلَمَا أنَّ الرَّعابيبَ لمْ تزلْ ... مَفاتينَ قبلِي للكهولِ وللمُردِ
فإنْ أغوَلا تُكتبْ عليكم غوايَتي ... أجلْ لا وإنْ أرشدْ فليسَ لكمْ رُشدي
وإنَّ لِذاتِ الخالِ يا صلحِ زُلفةً ... ومنزلةً ما نالَها أحدٌ غيرِي
وقال أيضاً:
ألا يا خليليَّ الَّذينَ تواصَيا ... بيَ اللَّومَ إلاَّ أنْ أُطيعَ وأسمعَا
قفا فانظُرا لا بدَّ مِنْ رجعِ نظرةٍ ... يمانيَّةٍ شتَّى بها القومُ أوْ معَا
لمُغتصبٍ قد عزَّهُ القومُ أمرهُ ... يكفُّ حياءً عبرةً أنْ تطلَّعا
فإنْ كنتمُ ترجونَ أنْ تصرِفوا الهوَى ... بِيهمَا ويُروَى في السَّرابِ فينقَعا
فردُّوا هبوبَ الرِّيحِ أوْ غيِّروا الهوَى ... إذا حلَّ ألواذَ الحشا فتمنَّعا
وقال ذو الرمة:
أعاذلَ قدْ أكثرتِ مِنْ قيلِ قائلٍ ... وعيبٌ علَى ذي اللُّبِّ لومُ العواذلِ
أعاذلَ قد جرَّبتُ في الدَّهرِ ما كفَى ... ونظَّرتُ في أعقابِ حقٍّ وباطلِ
فما الدَّهرُ مِنْ خرقاءَ إلاَّ كما أرى ... حنينٌ وتذارفُ الدُّموعِ الهواطلِ
وقال عدي بن زيد:
وعاذلةٍ هبَّتْ بليلٍ تلومُني ... فلمَّا غلتْ في اللَّومِ قلتُ لها اقصِرِي
أعاذلَ قد أطنبتِ غيرَ مُصيبةٍ ... فإنْ كنتِ في غيٍّ فنفسكِ فارْشِدي
أعاذلَ إنَّ الجهلَ مِنْ لذَّةِ الفتَى ... وإنَّ المنايا للرِّجالِ بمرصدِ
كفَى حزَناً للمرءِ أيَّامُ دهرهِ ... تروحُ لهُ بالواعظاتِ وتغتدِي
وأنشدني أحمد بن يحيى لجميل بن معمر:
يقولونَ مهلاً يا جميلُ وإنَّني ... لأُقسمُ ما بي عنْ بُثينةَ مِنْ مهلِ
أحلماً فقبلَ اليومِ كانَ أوانهُ ... أَمَ اخشَى فقبلَ اليومِ أُوعدتُ بالقتلِ
وقال آخر:
تقولُ العاذلاتُ تعزَّ عنها ... وداوِ غليلَ قلبكَ بالسُّلوِّ
وكيفَ ونظرةٌ منها اختلاساً ... ألذَّ منَ الشَّماتةِ بالعدوِّ
وقال الطائي:
أذكتْ عليكَ شهابَ نارٍ في الحشا ... بالعذلِ وهناً أُختُ آلِ شهابِ
عذلاً شبيهاً بالجنونِ كأنَّما ... قرأتْ بهِ الورهاءُ نصفَ كتابِ
وقال البحتري:
طفقتْ تلومُ وَلاتَ حينَ ملامهِ ... لا عندَ كرَّتهِ ولا إحجامهِ
لمْ يروِ مِنْ ماءِ الشَّبابِ ولا انجلتْ ... ذهبيَّةُ الصَّبَواتِ عنْ أيَّامهِ
وقال آخر:
مِنْ أجلكِ ظلَّ العائداتُ يلُمْنني ... ويزعمنَ أنِّي في طلابكِ عانِي

ويرفدْنني نصحاً زعمنَ وإنَّهُ ... لَفي حرجٍ مَنْ لامَني ونَهانِي
وقال آخر:
أترانِي تاركاً باللهِ ... ما أقوَى لِما أهوَى
أنا أشهدُ أنَّ الحبَّ ... مِنْ قلبِي إذنْ دعوَى
وذكروا أنَّ العتبي حبس ابناً له في بيتٍ لمَّا ظهر على أنَّه عاشق ليكون الحبس رادعاً له ففتح الباب عنه بعد مدَّة فوجده قد كتب على الحائط:
أتظنُّ ويحكَ أنَّني أبلَى ... وأُطيعُ في الهوَى عقلا
ومدَّ الحرف الأخير مع استدارة حائط البيت أجمع فلمَّا نظر أبوه إلى ذلك يئس منه فخلَّى سبيله.
وقال آخر:
يلومكَ فيها اللاَّئمونَ نصاحةً ... فليتَ الهوَى باللاَّئمينَ مكانِيا
لَوَ انَّ الهوَى عنْ حبِّ ليلَى أطاعني ... أطعتُ ولكنَّ الهوَى قدْ عصانِيا
وهذا الكلام لا يكون إلاَّ عن حال ضعيفة أو بعقب ضجرةٍ شديدةٍ لأنَّ صاحبه لم يرضَ بالتَّبرُّم من هواه حتَّى ضمَّ إلى ذلك تمنِّي انصراف الحال إلى سواه وأحسن من هذا قولاً وأجمل منه فعلاً الذي يقول:
تشكَّى المحبُّونَ الصَّبابةَ ليتَني ... تحمَّلتُ ما يلقَوْنَ مِنْ بينِهم وحدِي
وكانتْ لنفسِي لذَّةُ الحبِّ كلُّها ... فلمْ يلقَها قبلِي محبٌّ ولا بعدِي
وأحسن مجنون بني عامر حيث يقول:
وقالُوا لوْ تشاءُ سلوتَ عنها ... فقلتُ لهمْ فإنِّي لا أشاءُ
لها حبٌّ تمكَّنَ مِنْ فؤادِي ... فليسَ لهُ وإنْ زُجر انتهاءُ
وقال آخر:
يقولونَ لي اصبرْ وائْتجرْ قلتُ طالَما ... صبرتُ ولكنْ لا أرَى الصَّبرَ ينفعُ
فيا ليتَ أجرِي كانَ قسِّمَ بينهمْ ... ومِنْ دونِيَ الصَّمانُ فالخبتُ أجمعُ
ولبعض أهل هذا العصر:
يُعاتبُني أُناسٌ في التَّصابِي ... بألبابٍ وأفئدةٍ صحاحِ
إذا اختلطَ الظَّلامُ وهمْ سُكارَى ... بكاساتِ الرُّقادِ إلى الصَّباحِ
ولِي سُكرٌ يُجنِّبني رُقادِي ... فما أدرِي الغدوَّ منَ الرَّواحِ
أمَا لي في بلادِ اللهِ بابٌ ... يؤدِّيني إلى سبلِ النَّجاحِ
بلَى في الأرضِ متَّسعٌ عريضٌ ... ولكنْ قدْ مُنعتُ منَ البراحِ
وما يُغنِي العقابَ عيانُ صيدٍ ... إذا كانَ العقابُ بلا جناحِ

الباب السادس والأربعون
مَنْ قدُمَ هواهُ قوِيَ أساهُ
من كان أوَّل ما وقع به من أسباب المحبة استحساناً ثمَّ ينمي على الترتيب الذي وصفناه حالاً فحالاً حتَّى ينتهي إلى بعض الأحوال الصِّعاب التي ذكرناها كان زوالها إن زال بطيئاً ومن عشق بأوَّل النَّظر سلا مع أوَّل الظَّفر فإن لم يظفر بمن يهواه سلا إذا تعذَّر عليه ما يتمنَّاه فإذا وقع الهوى بأوَّل نظر ثمَّ ارتقى صاحبه ارتقاءً بغير ترتيب حتَّى صار مدلَّهاً بمن يهواه قبل أن تطول معاشرته كان بقاء ذلك الهوى يسيراً وهكذا كل شيءٍ في العالم إن اعتبرته وجدت ما ارتقى إلى هذه الغاية القصوى بغير ترتيب انحطَّ انحطاطاً طويلاً ولعمري لقد أحسن الذي يقول:
وما كانَ حُبِّيها لأوَّلِ نظرةٍ ... ولا غمرةً مِنْ صبوةٍ فتجلَّتِ
ولكنَّها الدُّنيا تولَّتْ فما الَّذي ... يُعزِّي عنِ الدُّنيا إذا ما تولَّتِ
وقال الحسين بن وهب في هذا المعنى فأحسن:
أرَى كلَّ يومٍ لوعةً أستجدُّها ... ونفساً يُعنِّيها هواها وجهدُها
وصبوةَ قلبٍ كانَ هولاً بدِيُّها ... فعادتْ علَى الأيَّامِ قدْ جدَّ جدُّها
وقال آخر:
شوقي إليكَ علَى الأيَّامِ يزدادُ ... والقلبُ بعدكَ للأحزانِ مُنقادُ
يا لهفَ نفسِي علَى إلفٍ فُجعتُ بهِ ... كأنَّ أيَّامهُ في الحسنِ أعيادُ
وقال آخر:
وإنِّي وإيَّاها لكالخمرِ والغِنى ... متَى تستطعْ منها الزِّيادةَ تزددِ
إذا ازددتُ منها زدتُ وجداً بقُربها ... فكيفَ احتراسِي مِنْ هوًى متجدِّدِ
وقال كثير:
يلومكَ في ليلَى وعقلكَ عندَها ... رجالٌ ولمْ تذهبْ لهمْ بعقولِ
وما زلتُ مِنْ ليلَى لدُنْ طرَّ شارِبي ... إلى اليومِ كالمُلقَى بكلِّ سبيلِ
وقال بعض الأعراب:
سقَى اللهُ مِنْ حبِّي لهُ كلَّ ليلةٍ ... ويومٍ علَى مرِّ السِّنينَ يزيدُ

جرَى حبُّها والدَّهرُ في طلقَيْهما ... فضُعضعَ ركنَ الدَّهرِ وهو جليدُ
وقال أبو تمام:
هوًى كانَ خَلساً إنَّ مِنْ أبردِ الهوَى ... هوًى جلتُ في أفنائهِ وهو خاملُ
ولنْ تنظمَ العقدَ الكعابُ لزينةٍ ... كما انتظمَ الشَّملَ الشَّتيتَ الشمائلُ
وقدْ تألفُ العينُ الدُّجى وهو قيدُها ... ويُرجَى شفاءُ السُّمِّ والسُّمُّ قاتلُ
وقال مجنون بني عامر:
فلوْ كانَ حبِّي آلَ ليلَى كحادثٍ ... إلى وقتِ يومٍ قدْ تقضَّتْ همومُها
ولكنَّ حبِّي آلَ ليلَى فدائمٌ ... وأقتلُ أدواءِ الرِّجالِ قديمُها
وقال كثير:
تعلَّقَ ناشئاً مِنْ حبِّ سلمَى ... هوًى سكنَ الفؤادَ فما يزولُ
فلمْ تذهلْ مودَّتها غُلاماً ... وقدْ ينسَى ويطَّرفُ الملولُ
وأدرككَ المشيبُ علَى هواهَا ... فلا شيبٌ نهاكَ ولا ذهولُ
وقال جميل:
علقتُ الهوَى منها وليداً فلمْ يزلْ ... إلى اليومِ ينمِي حبُّها ويزيدُ
وأفنيتُ عمرِي بانتظارِي نوالَها ... وأبليتُ فيها الدَّهرَ وهو جديدُ
ألا ليتَ شِعري هلْ أبيتنَّ ليلةً ... بوادِي القُرى إنِّي إذنْ لسعيدُ
لكلِّ حديثٍ عندهنَّ بشاشةٌ ... وكلُّ قتيلٍ بينهنَّ شهيدُ
وقال آخر:
لي حبيبٌ ينعَى إليَّ رجائِي ... كلَّما خلتُ قلبهُ لِي يلينُ
للمُنى عندَ ذكرهِ في ضميرِي ... حركاتٌ كأنَّهنَّ سكونُ
انتظاري لهُ علَى حادثِ الدَّه ... رِ قديمٌ إن انظرَتني المنونُ
يا هوانَ الدُّنيا عليَّ إذا ما ... كنتُ فيها ممَّنْ عليكَ يهونُ
وقال آخر:
وقفتُ لليلَى بعدَ عشرينَ حجَّةً ... بمنزلةٍ فانهلَّتِ العينُ تدمعُ
وأمرضَ قلبي حبُّها وطلابُها ... فيا لعديٍّ دعوةً كيفَ أصنعُ
وأتبعُ ليلَى حيثُ سارتْ وخيَّمتْ ... وما النَّاسُ إلاَّ آلفٌ ومودِّعُ
كأنَّ زماماً في الفؤادِ معلَّقٌ ... تقودُ بهِ حيثُ استمرَّتْ وأتبعُ
وقال مجنون بني عامر:
تمرُّ اللَّيالي والشُّهورُ ولا أرَى ... ولُوعي بها يزدادُ إلاَّ تماديا
قضاها لغيرِي وابتَلاني بحبِّها ... فهلاَّ بشيءٍ غيرَ ليلَى ابتلانِيا
وقال مسلم بن الوليد:
أُعاودُ ما قدَّمتهُ مِنْ رجائِها ... إذا عاودتْ بالنَّاسِ فيها المطامعُ
وما زيَّنتها العينُ لي عنْ لجاجةٍ ... ولكنْ جرَى فيها الهوَى وهو طائعُ
وقال البحتري:
تجنَّبتْ ليلَى أنْ يلجَّ بكَ الهوَى ... وهيهاتَ كانَ الحبُّ قبلَ التَّجنُّب
فلوْ تلتَقي أصداؤنا بعدَ موتِنا ... ومِنْ دونِ رَمْسَينا منَ الأرضِ منكبُ
لظلَّ صدَى رَمسي وإنْ كنتُ رمَّةً ... لصوتِ صدَى ليلَى يهشُّ ويطربُ
ألا إنَّما غادرتِ يا أُمَّ مالكٍ ... صدًى أينما تذهبُ الرِّيحُ يذهب
لقدْ عشتُ مِنْ ليلَى زماناً أُحبُّها ... أخا الموتِ إذ بعضُ المحبِّينَ يكذبُ
وقال آخر:
فلو كنتُ أدرِي أنَّما كانَ كائنٌ ... وأنَّ جديدَ الوصلِ قدْ جدَّ غابرهْ
تعزَّيتُ قبلَ اليومِ حتَّى يكونَ لي ... صريمةُ أمرٍ تستمرُّ مرائرهْ
وقال عروة بن حزام:
ألفنا الهوَى واستحكمَ الحبُّ بيننا ... وليدَيْنِ ما مرَّتْ لنا سنتانِ
فذُقنا رخاءَ العيشِ عشرينَ حجَّةً ... أليفينِ ما نرتاعُ للحدثانِ
جعلتُ لعرَّافِ اليمامةِ حكمهُ ... وعراف حجرٍ إن هما شفياني
فما تركا من حيلةٍ يعلمانها ... ولا رُقيةٍ إلاَّ بها رقَيانِي
فقالا شفاكَ اللهُ واللهِ ما لنا ... بما حُمِّلتْ منكَ الضُّلوعُ يدانِ
وقال أيضاً
وآخرُ عهدٍ لي بعفراءَ أنَّها ... تُريكَ بناناً كفُّهنَّ خضيبُ
عشيَّةَ لا عفراءُ منكَ بعيدةٌ ... فتسلَى ولا عفراءُ منكَ قريبُ
وقال آخر:
عشيَّةَ لا خلفِي مقرٌّ ولا الهوَى ... أمامِي ولا وجدِي كوجدِ غريبِ
وكلُّ محبٍّ قدْ سلا غيرَ أنَّني ... غريبُ الهوَى يا ويحَ كلِّ غريبِ
وقال ابن هرمة:
أرَى الدَّهرَ يُنسيني أحاديثَ جمَّةً ... أتتْ مِنْ صديقٍ أوْ عدوٍّ يشيعُها

أقسام الكتاب
1 2 3 4