كتاب : الزهرة
المؤلف : ابن داود الأصبهاني

ولمْ يُنسِنيها الدَّهرُ إلاَّ وذكرُها ... بحيثُ تحنَّتْ دونَ نفسِي ضلوعُها
وإنْ لم يكنْ منها لنا غيرُ ذكرةٍ ... وقولٍ لعلَّ الدَّهر يوماً يريعُها
فقدْ أحرزتْ منِّي فؤاداً متيَّماً ... وعيناً عليها لا تجفُّ دموعُها
أتنسينَ أيَّامِي وأيَّامكِ الَّتي ... إذا ذكرتْها النَّفسُ كادتْ تذيعُها
وقال آخر:
أُحبِّكِ أصنافاً منَ الحبِّ لم أجدْ ... لها مثلاً في سائرِ النَّاسِ يعرفُ
فمنهنَّ حبٌّ للمحبِّ ورحمةٌ ... لمعرفَتي منهُ بما يتكلَّفُ
ومنهنَّ أنْ لا يخطرَ الدَّهرَ ذكركمْ ... علَى القلبِ إلاَّ كادتِ النَّفسُ تتلفُ
وحبٌّ بدا بالجسمِ واللَّونُ ظاهرٌ ... وحبُّ الَّذي نفسي منَ الرُّوحِ ألطفُ
وحبٌّ هو الدَّاءُ العياءُ بعينهِ ... لهُ ذكرٌ تعدُو عليَّ فأدنفُ
فلا أنا منهُ مستريحٌ فميّتٌ ... ولا هوَ علَى ما قد حييتُ مخفَّفُ
وقال هدبة بن خشرم:
تذكَّرَ حبّاً كانَ في مَيعةِ الصِّبى ... ووجداً بها بعدَ المشيبِ معقَّبا
إذا كادَ ينساها الفؤادُ ذكرتَها ... فيا لكَ قد عنَّى الفؤادَ وعذَّبا
ضنًى مِنْ هواها مُستكنّاً كأنَّهُ ... خليعُ قداحٍ لم يجدْ مُتنشَّبا
بعينيكَ زالَ الحيُّ منها لنيَّةٍ ... قذوفٍ تشوقُ الآلفَ المتطرِّبا
وقدْ طالَما عُلِّقتْ ليلَى معمَّداً ... وليداً إلى أنْ صار رأسكَ أشيبا
رأيتكَ مِنْ ليلَى كذِي الدَّاءِ لم يجدْ ... طبيباً يُداوِي ما بهِ فتطبَّبا
فلمَّا اشتفَى ممَّا بهِ علَّ طبُّهُ ... علَى نفسهِ مِنْ طولِ ما كانَ جرَّبا
وأنشدنا أحمد بن يحيى لذي الرمة:
أيا ميُّ إنَّ الحبَّ حُبَّانِ منهُما ... قديمٌ وحبٌّ حينَ شبَّتْ شبائبهْ
إذا اجتمعا قالَ القديمُ غلبتهُ ... وقالَ الَّذي مِنْ بعدهِ أنا غالبهْ
وأخبرنا أبو العباس عليّ ابن الأعرابي أنَّ ميَّة قالت اللَّهمَّ لا تقضِ بينهما.
وقال بشار:
بكيتُ منَ الدَّاءِ داءِ الهوى ... إليها وأنْ ليسَ لي مُسعدُ
وقد وعدتْ صفَداً في غدٍ ... وقدْ وعدتْ ثمَّ لا تصفِدُ
وإنِّي علَى طولِ إخلافِها ... لأرجُو الوفاءَ ولا أحقدُ
إذا أُخلفَ اليومَ ظنِّي بها ... يكونُ لنا في غدٍ موعدُ
صبرتُ علَى طولِ أيَّامِها ... حفاظاً وصبرُ الفتَى أعوَدُ
وما ضرَّ يومٌ بداءِ الهوَى ... محبّاً إذا ما شفاهُ الغدُ
سوَى شوق عَيني إلى وجهِها ... وإنِّي إذا فارقتْ أكمَدُ
فهؤلاء البائسون قد صيروا على أحبَّتهم إمَّا طائعين وإمَّا كارهين فإن كانوا طائعين فهو أحمدُ ممَّن يتلاعب وينتقل في كل ساعة عن إلفه إلى سواه وإن كانوا كارهين فإنَّ السبب الَّذي اضطرهم إلى المقام على ما يؤلمهم ويمنعهم عن الانتقال إلى ما يختارونه لو لم يكن سبباً أملك بهم منهم ما عليهم فهم على كل الجهات أتمُّ في الحال ممَّن جعل هواه ضرباً من الإشغال ينفرد له إذا نشط ويتركه إذا كسل كالذين قدَّمنا وصفهم في صدر هذا الكتاب من أنَّهم لم يرتقوا في المحبَّة على من انتهى بل صعدوا بأول نظرة إلى ذروتها فكما كان ارتقاؤهم سريعاً كان انحطاطهم قريباً.
فمنهم الوليد بن عبيد الطائي حيث يقول:
نظرةٌ ردَّتِ الهوَى الشَّرقَ غرْبا ... وأمالتْ نهجَ الدُّموعِ الجوارِي
ما ظننتُ الأهواءَ قبلكِ تُمحَى ... مِنْ صدورِ العشَّاقِ محوَ الدِّيارِ
كانَ يحلُو هذا الهوَى فأراهُ ... عادَ مرّاً والسُّكْرُ قبلَ الخمارِ
وإذا ما تنكَّرتْ لي بلادٌ ... أوْ خليلٌ فإنَّني بالخيارِ
وله أيضاً:
أتَى دونَها نأيُ البلادِ ونصُّنا ... سَواهمَ خيلٍ كالأعنَّةِ ضمَّرُ
ولمَّا خطوْنا دجلةَ انصرمَ الهوَى ... فلمْ تبقَ إلاَّ لفتةُ المتذكِّرِ
وخاطرُ شوقٍ ما يزالُ يَهيجُنا ... لبادينَ مِنْ أهلِ الشَّآمِ وحضَّرِ
ولأبي نواس في نحو ذلك:
ألا قلْ لأخلاَّئي ... ومَنْ همتُ بهمْ وجدا
ومَنْ كانُوا مَواليَّ ... ومَنْ كنتُ لهمْ عبْدا
شربْنا ماءَ بغدادَ ... فأنساكمُ جِدَّا

فلا ترعَوْا لنا عهداً ... فما نرعَى لكمْ عهْدا
وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر لإبراهيم بن العباس في نحو ذلك:
بقلبِي عنْ هوَى البيضِ انصرافُ ... ويُعجبُني منَ السُّمرِ انعطافُ
فإنْ أنصفنَ في ودِّي وإلاَّ ... فليسَ عليَّ مِنْ قلبي خلافُ
وقال جرير:
هوًى بتهامةٍ وهوًى بنجدٍ ... فقتَّلني التَّهائمُ والنُّجودِ
أخالدُ قد هويتُكِ بعدَ هندٍ ... فشيَّبني الخوالدُ والهنودُ
والأصل البين في ذلك قول عمر بن أبي ربيعة:
لقدْ جلبتكَ العينُ أوَّلَ نظرةٍ ... وأُعطيتَ منِّي يا ابنَ عمِّ قَبولا
فأصبحتَ همّاً للفؤادِ وحسرةً ... وظلاًّ منَ الدُّنيا عليَّ ظَليلا
ولغيره في مثله:
يا رامياً ليسَ يدرِي ما الَّذي فعَلا ... إحبسْ عليكَ فإنَّ السَّمَ قدْ قتلا
أصبتَ أسودَ قلبِي إذ رميتَ فلا ... شُلَّتْ يمينكَ لِمْ صيَّرتني مثلا
فأخلِقْ بمن يسقمهُ أوَّل داءٍ أنْ يشفيه أوَّل دواءٍ

الباب السابع والأربعون
مَنْ شابتْ ذوائبهُ جفاهُ حبائبهُ
بلغني عن بعض الأكاسرة أنه قال كنت أظن أني إذا شبت زهدت في النساء فلم أزل مغموماً بذلك ولم أدر أنِّي إذا شبت كنت أنا فيهنَّ اشدّ زهداً ولعمري إن من قرب من آخر عمره لجدير أن يصرف همَّته إلى ما يعيد عليه نفعاً في آخرته ويتشاغل بأحكام الدَّار الَّتي يصير إليها عن أسباب الدَّار الَّتي ينتقل عنها فإن لم يقع ذلك له اختياراً وقع أكثره به اضطراراً.
أنشدنا أحمد بن يحيى النحوي:
قعدَ الشَّيبُ بي عنِ اللَّذاتِ ... ورَماني بجفوةِ الفتياتِ
فإذا رُمتُ سترهُ بخضابٍ ... فضَحتهُ طلائعُ النَّاصلاتِ
ما رأيتُ الخضابَ إلاَّ سراباً ... غرَّني لمعُهُ بأرضٍ فلاةِ
فإذا ما دَعا إلى الكأسِ داعٍ ... قلتُ مَا للكبيرِ والنَّشواتِ
لستُ بعدَ المشيبِ ألتذُّ بالعي ... شِ فدعْني وغصَّةَ العبراتِ
إنَّ فقدَ الشَّبابِ أنزلَني بعْ ... دكَ دارَ الهمومِ والحسراتِ
ورمانِي بحادثِ الشَّيبِ دهرٌ ... قارَعَتني أيَّامهُ عنْ حياتِي
وقال آخر:
في كلّ يومٍ أرَى بيضاءَ قدْ طلعتْ ... كأنَّها أُنبتتْ في ناظرِ البصرِ
لئنْ حجبتُكِ بالمِقراضِ عنْ بصرِي ... لما حجبتكِ عنْ همِّي وعنْ فكرِي
وأنشدني البحتري لنفسه:
ثنتْ طرفَها دونَ المشيبِ ومَنْ يشبْ ... فكلُّ الغوانِي عنهُ مثنيَّةُ الطَّرفِ
وجُنَّ الهوَى فيها عشيَّةَ أعرضتْ ... بناظرَتَيْ ريمٍ وسالفَتي خشفِ
وأفلجَ برَّاقِ يروحُ رُضابهُ ... حَراماً علَى التَّقبيلِ بسلاً علَى الرَّشفِ
وقال علي بن العباس الرومي:
هيَ الأعينُ النّجلُ الَّتي أنتَ تشتكِي ... مواقعَها في القلبِ والرَّأسُ أسودُ
فما لكَ تأْسَى الآنَ لمَّا رأيتَها ... وقدْ جعلتْ مرمَى سواكَ تعمَّدُ
كذلكَ تلكَ النَّبلُ مَنْ قصدتَ لهُ ... ومَنْ نكَّبتْ عنهُ منَ القومِ مُقصدُ
وعزَّاكَ عنْ ليلِ الشَّبابِ معاشرٌ ... فقالُوا نهارُ الشَّيبِ أهدَى وأرشدُ
وكلُّ نهارِ المرءِ أهدَى لسعيهِ ... ولكنَّ ظلَّ اللَّيلِ أندَى وأبردُ
وفقدُ الشَّبابِ الموتُ يوجدُ طعمهُ ... صُراحاً وطعمُ الموتِ بالموتِ يُفقدُ
أرَى الدَّهرَ أجرَى ليلهُ ونهارهُ ... بعدلٍ فلا هذا ولا ذاكَ سرمدُ
وجارَ علَى ليلِ الشَّبابِ فضامَهُ ... نهارُ مشيبٍ سَرمدٍ ليسَ ينفدُ
وقال ابن حازم:
لا حينَ صبرٍ فخل الدمع ينهملُ ... فقدُ الشبابِ بيومِ المرء متصلُ
كفاك بالشيب ذنباً عند غانيةٍ ... وبالشبابِ شفيعاً أيها الرجلُ
لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها ... من الشبابِ بيومٍ واحدٍ بدلُ
ربَّ عيشٍ لنا برامةَ رطبٍ ... وليالٍ فيها طوالٍ قصارِ
قبلَ أنْ يقبِلَ المشيبُ وتبدُو ... هفواتُ الشَّبابِ في إدبارِ
كلُّ عذرٍ مِنْ كلِّ ذنبٍ ولكنْ ... أُعوزَ العذرُ مِنْ بياضِ العذارِ
وقال جميل بن معمر:
تقولُ بثينةُ لمَّا رأتْ ... فنوناً منَ الشَّعرِ الأحمرِ

كبرتَ جميلُ وأوْدَى الشَّبابُ ... فقلتُ بٌثينُ ألا فاقصِرِي
أتنسينَ أيَّامَنا باللِّوَى ... وأيَّامَنا بذوي الأجفرِ
وإذْ لِمَّتي كجناحِ الغُرا ... بِ تُطلَى بالمسكِ والعنبرِ
قريبانِ مربعُنا واحدٌ ... فكيفَ كبرتُ ولمْ تكبَري
وهذا تعريض مليح بل هو تعبير لها صريح لأنه قد ذكر أنَّهما كانا قرينين ومحالٌ أن يكبر واحد ويصغر واحد فهو قد عيَّرها كما عيَّرته وقد يحتمل أن يكون لم يردْ تعييرها وإنما أراد أنَّ السبب الَّذي ظهر له ليس من كبره وإنما هو لأهوال ما يمرُّ به وأحسن من قوله لفظاً وأوضح معنًى.
قول البحتري:
عيَّرتْني بالشَّيبِ وهيَ بدتْهُ ... في عِذارِي بالصَّدِّ والاجتنابِ
لا تريهِ عاراً فما هوَ بال ... شَّيبِ ولكنَّهُ جلاءُ الشَّبابِ
وبياضُ البازيِّ أصدقُ حسناً ... إنْ تأمَّلتِ مِنْ سوادِ الغُرابِ
وقال محمد بن أبي حازم:
نظرتْ إليَّ بعينِ مَنْ لمْ يعذلِ ... لمَّا تمكَّنَ طرفُها مِنْ مقلَتِي
لمَّا أضاءتْ بالمشيبِ مفارِقِي ... صدَّتْ صدودَ مُفارق متجمِّلِ
فجعلتُ أطلبُ وصلَها بتذلُّلٍ ... والشَّيبُ يغمزُها بألاَّ تفعلِي
وقال أشجع:
فإنْ تضعِ الأيَّامَ لي مِنْ متونِها ... فقدْ حملتْني فوقَ كاهلِها الصَّعبِ
وموتُ الفتَى خيرٌ لهُ مِنْ حياتهِ ... إذا كانَ ذا حالينِ يصبُو ولا يُصبِي
وقال أبو الشيص:
خلعَ الصِّبى عنْ منكبيهِ مَشيبُ ... وطوَى الذَّوائبَ رأسهُ المخضوبُ
ما كانَ أنضرَ عيشهُ وأغضَّهُ ... أيَّامَ فضلُ ردائهِ مسحوبُ
وقال الحسين بن الضحاك:
تذكَّرَ مِنْ غرَّاتهِ ما تذكَّرا ... وأعولَ أيَّامَ الشَّبابِ فأكثرا
وما برحتْ عاداتهُ مستقرَّةً ... ولكنْ أجلَّ الشَّيبُ عنها ووقَّرا
يهمُّ ويستحْيي تقاربَ خطوهِ ... فيتركُ همَّ النَّفسِ في الصَّدرِ مُضمرَا
ولمْ يبقَ فيهِ إذ تأمَّلَ شخصهُ ... شفيعٌ إلى الحسناءِ إلاَّ تنكَّرا
ألا لا أرَى في العيشِ للمرءِ مُتعةً ... إذا ما شبابُ المرءِ ولَّى فأدبَرا
وقال أبو تمام:
شابَ رأْسي وما رأَيتُ مَشيبَ الرَّ ... أْسِ إلاَّ مِنْ فضلِ شيبِ الفؤادِ
وكذاكَ القلوبُ في كلِّ بؤسٍ ... ونعيمٍ طلائعُ الأجسادِ
طالَ إنكارِي البياضَ وإنْ عُمِّ ... رتُ شيئاً أنكرتُ لونَ السَّوادِ
زارَني شخصهُ بطلعةِ ضيمٍ ... عمَّرتْ مجلِسِي منَ العُوَّادِ
وقال أيضاً
كلُّ داءٍ يُرجَى الدَّواءُ لهُ ... إلاَّ الفظيعينِ ميتةً ومَشيبا
يا نسيبَ الثَّغامِ ذنبُك أبقَى ... حسَناتِي عندَ الحسانِ ذنوبَا
ولئنْ عِبنَ ما رأينَ لقدْ أنْ ... كرنَ مُستنكراً وعِبنَ مَعيبا
لوْ رأَى اللهُ أنَّ للشَّيبِ ظرفاً ... جاورتهُ الأبرارُ في الخلدِ شِيبا
وقال إبراهيم بن هرمة:
ألا إنَّ سلمَى اليومَ جدَّتْ قُوى الحبلِ ... وأرضتْ بكَ الأعداءَ مِنْ غيرِ ما ذَحلِ
فإنْ تبكِها يوماً تُبكِّ بعولةٍ ... علَى لطَفٍ في جنبِ سلمَى ولا بذلِ
سوَى أنْ رأينَ الشَّيبَ أبيضَ واضحاً ... كأنَّ الَّذي بي لمْ ينلْ أحداً قبلِي
وقال أيضاً
في الشَّيبِ زجرٌ لهُ لو كانَ ينزجرُ ... وبالغٌ منهُ لولا أنَّهُ حجرُ
إبيضَّ وأحمرَّ مِنْ فوديهِ وارتجعتْ ... جليَّة الصُّبحِ ما قدْ أغفلَ السَّحرُ
وللفتَى مُهلةٌ في الحبِّ واسعةٌ ... ما لمْ يمتْ في نواحِي رأسهِ الشَّعرُ
قالتْ مشيبٌ وعشقٌ رُحتَ بينَهما ... وذاكَ في ذاكَ ذنبٌ ليسَ يغتفرُ
وقال أيضاً
يقولونَ هلْ بعدَ الثَّلاثينَ ملعبُ ... فقلتُ وهلْ قبلَ الثَّلاثينَ ملعبُ
لقدْ جلَّ قدرُ الشَّيبِ إنْ كنتُ كلَّما ... بدتْ شيبةٌ يعرَى منَ اللَّهوِ مركبُ
وهذا لعمري مِن حسن الكلام وفصيحه ومن أحسن ما أعرف في التجلُّد علَى الشيب قول محمد بن عبد الملك:
وعائبٍ عابَني بشيبٍ ... لمْ يأْلُ لمَّا ألمَّ وقتهْ
فقلْ لمنْ عابَني بشَيبي ... يا عائبَ الشَّيبِ لا بلغتهْ

ولبعض أهل هذا العصر:
وقائلةٍ قدْ كانَ عذركَ واسعاً ... لياليَ كانَ الشَّعرُ في الرَّأسِ أسودا
فقلتُ لها والدَّمعُ جارٍ كأنَّهُ ... نظامٌ تعدَّى سلكهُ مُتبدِّدا
لئنْ كانَ هذا الشَّيبُ غرَّكِ فاعلَمِي ... بأنِّي صحِبتُ الشَّيبَ مذْ كنتُ أمردا
أبِالشَّيبِ يُنهى عنْ مساعدةِ الهوَى ... ولولا الهوَى ما كنتُ للشَّيبِ مُسعِدا
وقال علي بن العباس الرومي:
يا بياضَ المشيبِ سوَّدتَ وجهِي ... عندَ بيضِ الوجوهِ سودِ القرونِ
فلعمرِي لأُخفينَّكَ جُهدي ... عنْ عَيانِي وعنْ عَيانِ العيونِ
ولعمرِي لأُتركنَّكَ لا تضْ ... حكُ في رأسِ آسفٍ محزونِ
بسوادٍ فيهِ بياضٌ لوجهِي ... وسوادٍ لوجهكَ الملعونِ
وقال البحتري
يُفاوتُ مِنْ تأليفِ شِعبِي وشِعبِها ... تناهِي شبابِي وابتداءُ شبابَها
عسَى بكَ أنْ تدنُو منَ الوصلِ بعدَما ... تباعدتْ مِنْ أسبابهِ وعسَى بها
ولمْ أرتضِ الدُّنيا أوانَ مجيئِها ... فكيفَ ارتِضائيها أوانَ ذهابِها
وقال أيضاً
وأضللتُ حِلمي فالتفتُّ إلى الصِّبى ... سِفاهاً وقدْ جزتُ الشَّبابَ مراحِلا
فللهِ أيَّامُ الشَّبابِ وحسنُ ما ... فعلنَ بنا لوْ لمْ يكنَّ قلائلا
وقال أبو الشيص:
أبقَى الزَّمانُ بهِ ندوبَ عِضاضِ ... ورمَى سوادَ قرونهِ ببياضِ
نفرتْ بهِ كأسُ النَّديمِ فأعرضتْ ... عنهُ الكواعبُ أيَّما إعراضِ
ولربَّما جُعلتْ محاسنُ وجههِ ... لجفونِها غرضاً منَ الأغراضِ
أيَّامَ أفراسُ الشَّبابِ جوامحٌ ... تأبَى أعنَّتها علَى الرُّوَّاضِ
وقال الطائي:
غرَّةٌ بَهْمةٌ ألا إنَّما كنْ ... تُ أغرّاً أيَّامَ كنتُ بَهيما
دِقَّةٌ في الحياةِ تُدعى جلالاً ... مثلَ ما سمِّيَ اللَّديغُ سَليما
وقال البحتري
عذلَتْنا في عشقِها أُمُّ عمرٍو ... هلْ سمعتمْ بالعاذلِ المعشوقِ
ورأتْ لمَّةً ألمَّ بها الشَّيبُ ... فرِيعتْ مِنْ ظلمةٍ في شروقِ
ولعمري لولا الأقاحِي لأبصرْ ... تَ أنيقَ الرّياضِ غيرَ أنيقِ
وسوادُ العيونِ لوْ لمْ يُحسَّنْ ... ببياضٍ ما كانَ بالموموقِ
أيُّ ليلٍ يبهَى بغيرِ نجومٍ ... أوْ سحابٍ تندَى بغيرِ بروقِ
وقال عمر بن أبي ربيعة:
رأتْني خضيبَ الرَّأسِ شمَّرتُ مِئزَرِي ... وقدْ عهدتْني أسودَ الرَّأسِ مُسدِلا
فقالتْ لأُخرَى عندَها تعرفينهُ ... أليسَ بهِ قالتْ بلَى ما تبدَّلا
سوَى أنَّهُ قدْ لاحتِ الشَّمسُ لونهُ ... وفارقَ أشياعَ الصِّبى وتنقَّلا
ولاحَ قتيرٌ في مفارقِ رأسهِ ... إذا غفلتْ عنهُ الخواضبُ أنصَلا
وكانَ الشَّبابُ الغضُّ كالغيمِ خَيَّلتْ ... سماوتُهُ إذ هبَّتِ الرِّيحُ فانْجَلى
وقال منصور النمري:
ما تنقَضِي حسرةٌ منِّي ولا جزعُ ... إذا ذكرتُ شباباً ليسَ يرتجعُ
بانَ الشَّبابُ وفاتَنِي بِشِرَّتهِ ... صروفُ دهرٍ علَى الأيَّامِ لِي تبعُ
تعجَّبتْ أنْ رأتْ أسرابَ دمعتهِ ... في حليةِ الخدِّ أجراهَا حشًى وجعُ
أصبحتِ لمْ تطعَمِي كلَّ الشَّبابِ ولمْ ... تشجَيْ بغصَّتهِ فالعذرُ لا يقعُ

الباب الثامن والأربعون
مَنْ يئسَ ممَّن يهواهُ فلمْ يلتفتْ مِنْ وقتهِ سلاهُ

العلَّة في ذلك أنَّ اليأس هو مفارقة النَّفس للرَّجاء الَّتي كانت تعتاض به من حال الصّفات وتتماسك بمسامرته من سطوة الفراق الَّذي مُنيت بمشاهدته فأوَّل روعات اليأس تلقى القلب وهو غير مستعد لمقاومتها ولا مُصاب بمشاهدتها فتجرحه دفعةً واحدةً عادةً إلى غير عادةٍ والرَّوعة الثانية ترد على القلب وقد ذلَّلته لها الرَّوعة الأوَّلة فللثانية ألم المعاودة وليس لها ألمٌ وفقد العادة والرَّوعة الأوَّلة فيها مشاهدة المكروه ومفارقة ما تعوَّدت من المحبوب فإن هي لم تُتلف وفيها مكروهان لم تتلف الثانية وليس فيها إلاَّ أحدهما وكذلك كلّ روعةٍ يجلبها الفكر والتَّذكُّر هي أهون من الَّتي قبلها لأن المتقدّمة قدِ انذرت بها ووطَّأت المواضع لها حتَّى ينحلَّ ذلك أجمع من النَّفس حالاً بعد حالٍ لأنَّ دوام الرَّوعات إنَّما يكون بتنازع المخاوف والآمال فإذا وقع اليأس زال الخوف بوقوع المخوِّف وانقطع الأمل بذهاب المأمول.
ولعمري لقد أحسن البحتري حيث يقول:
حَنيني إلى ذاكَ القليبِ ولوعَتي ... عليهِ وقلَّتْ لوعَتي وحَنيني
خلا أمَلي مِنْ يوسفِ بنِ محمَّدٍ ... وأُوحشَ فكرِي بعدهُ وظنونِي
وكانتْ يدِي شلَّتْ ونفسِي تخوَّنتْ ... ودُنيايَ بانتْ يومَ بانَ ودِيني
فوا أسَفي ألاَّ أكونَ شهدتهُ ... فجاشتْ شمالِي عندهُ ويميني
فإذا بقيت الخواطر بغير محرك يزعجها تحللت مضاضة ذلك الألم الَّذي نزل بها ألا ترى أنَّ الحريق إذا صبَّ عليه الماء أفسد الماء موضعاً وأفسدت النار آخر ..... قائمين فإذا ذهبا جميعاً بقي من تأثير النَّار يبس وحرارات ومن تأثير الماء برد ورطوبات ثمَّ تحلَّلا جميعاً على مرّ الأوقات والعلَّة في قتل روعة اليأس الأوَّلة أنَّ القلب يُحمى بورود المكاره عليه وسبيل سائر البدن أن يمدَّ القلب بمثل ما فيه من حرّ أو برد فإذا كثر ذلك انهتك حجاب القلب فكان التَّلف حينئذ لأنَّ القلب لا يصل إليه ألم نيَّة غير الألم الفكرة إلاّ أتلف صاحبه والعامَّة تقول شهق فلان فلا تصدَّعت مرارته ولعمري إنَّ المرارة لتحمى ولو زادت حرارتها لانصدعت ولو انصدعت لأتلفت ولكن إلى أن تحمل المرارة حمَّى تصدِّعها يكون قد حمي القلب وتصدَّع بل تقطَّع ومثل ذلك لو أنَّ قدراً من شمع وقار ثمَّ صبَّ فيها ماء ثمَّ أُوقد تحتها النار فلعمري إنَّ النَّار تذيب القار وإنَّ القار إذا ذاب انصبَّ الماء غير أنَّ قبل ذوب القار يكون انحلال الشمع وتليفةُ النَّار فكذلك القلب ينهتك حجابه بالحرارة المنحازة إليه قبل انهتاك الحرارة بحين طويل وتظنّ العامّة بل كثير من الخاصة أنَّ الزّفير سبب التَّلف وليس الأمر كذلك بل هو إذا أراد الله عزّ وجلّ سبب لدفع التَّلف وذلك أنَّ القلب إذا أفرط الحميُ عليه اجتلبت له القوى الغريزيَّة روحاً تدفع مضرَّة ذلك عنه فتجلبه له من نسيم الهوى الخارج عنه فربَّما جاء من النّسيم ما يدفع مضرَّة تلك الحرارة فيكون زفير ولا يكون تلف وربَّما ضعف النّسيم المجتلب وحمي في المجاري لشدَّة ما يلقاه من الحرارات فيعجز برده عن دفع مضرَّة الحرارة المحيطة بالقلب فتهتك الحرارة الحجاب ويكون التلف فلأنَّهم يرون التَّلف على أثر الزَّفرة يرون أنه قد وقع من أجلها وهو في الحقيقة إنَّما وقع من أجل ضدّها وقد تقتل أيضاً أوَّل مفاجأة الفرح الغالب بإفراط بردها كما تقتل أوَّل مفاجأة الحزن بإفراط حرّها لأنه ينحاز إلى القلب من سائر الأعضاء برد لا تفي به حرارة الغريزيَّة فيجمد دم القلب ويحدث التَّلف ولا يكون معه زفير ولا شهيق لأن النَّفس لا تجتلب الحرارة من خارج البدن كما تجتلب البرودة وقولهم أقرَّ الله عينك وأسخن الله عين فلان إنَّما هو لأنَّ دمعة الحزن حارَّة ودمعة الفرح باردة وكلّ واحدة من الفرح والحزن إذا استوطن النَّفس أنست بمجاورته قليلاً حتَّى يصير كالخلق المعتاد لها وكالطبع القائم بها ومن جيد ما قيل في باب التَّسلِّي عمَّن يئس منه:
هيَ الشَّمسُ مسكنُها في السَّماءِ ... فعزِّ الفؤادَ عزاءً جميلا
فلنْ تستطيعَ إليها الصُّعودَ ... ولنْ تستطيعَ إليكَ النُّزولا
وقال امرؤ القيس:
عيناكَ دمعُهما سِجالُ ... كأنَّ شأنيهِما أوشالُ

مِنْ ذكرِ ليلَى وأينَ ليلَى ... وخيرُ ما نلتَ ما ينالُ
أنشدني أحمد بن يحيى لأم الضحاك المحاربية:
سألتُ المحبِّينَ الَّذينَ تحمَّلوا ... تباريحَ هذا الحبِّ في سالفِ الدَّهرِ
فقلتُ لهمْ ما يُذهبُ الحبَّ بعدَما ... تبوَّأ ما بينَ الجوانحِ والصَّدرِ
فقالُوا شفاءُ الحبِّ يُزيلهُ ... مِن آخرَ أوْ نأيٌ طويلٌ على هجرِ
أوِ اليأسُ حتَّى تذهلَ النَّفسُ بعدَما ... رجتْ طمعاً واليأسُ عوناً علَى الصَّبرِ
وقال آخر:
فيا ربِّ إنْ أهلِكْ ولمْ تُروَ هامَتي ... بليلَى أمتْ لا قبرَ أعطشُ مِنْ قبرِي
وإنْ أكُ عنْ ليلَى سلوتُ فإنَّما ... تسلَّيتُ عنْ يأسٍ ولمْ أسلُ عنْ صبرِ
وإنْ يكُ عنْ ليلَى غنًى وتخلُّدٌ ... فربَّ غنَى نفسٍ قريبٍ منَ الفقرِ
وقال كثيّر:
وإنِّي لآتيكمْ وإنِّي لراجعٌ ... بغيرِ الجوَى مِنْ عندكم لمْ أُزوَّدِ
إذا دبَرانٌ منكِ يوماً لقيتهُ ... أُؤمِّلُ أنْ ألقاكِ بعدُ بأسعدِ
فإنْ يسلُ عنكِ القلبُ أوْ يدعِ الصِّبى ... فباليأْسِ يسلو عنكِ لا بالتَّجلُّدِ
وقال علي بن محمد العلوي:
كانَ يُبكيني الغناءُ سروراً ... فأرانِيَ أبكِي لهُ اليومَ حُزنا
آهِ مِنْ خطرةِ الكبيرِ إذا ما ... خطرَ اليأسُ دونَ ما يتمنَّى
وقال البحتري
أرجُو عواطفَ مِنْ ليلَى ويُؤيِسُني ... دوامُ ليلَى علَى الهجرِ الَّذي تلِدا
ولمْ يعُدْني لها طيفٌ فيفْجَأني ... إلاَّ علَى أبرحِ الوجدِ الَّذي عُهدا
وقال أيضاً
يرجُو مُقارنةَ الحبيبِ ودونهُ ... وجدٌ يُبرِّحُ بالمَهارِي القُودِ
ومتى يُساعدُنا الوصالُ ودهرُنا ... يومانِ يومُ نوًى ويومُ صدودِ
واليأسُ إحدَى الرَّاحتينِ ولنْ ترَى ... تعباً كظنِّ الخائبِ المكدودِ
ولبعض أهل هذا العصر:
سأكفيكَ نفسِي لا كفايةَ غادرٍ ... ولا سامعاً عذلاً ولا متعتّبا
ولكنَّ يأساً لمْ يرَ النَّاسُ مثلهُ ... وصبراً علَى مرِّ المقاديرِ مُنصِبا
وفي دونِ ما بُلِّغتهُ بلْ رأيتهُ ... بلاغٌ ولكنْ لا أرَى عنكَ مَذهبا
وله أيضاً:
حاولتُ أمراً فلمْ يجرِ القضاءُ بهِ ... ولا أرَى أحداً يُعدَى علَى القدرِ
فقدْ صبرتُ لأمرِ اللهِ مُحتسباً ... واليأسُ مِنْ أشبهِ الأشياءِ بالظَّفرِ
فالحمدُ للهِ شكراً لا شريكَ لهُ ... ما أولعَ الدَّهرَ والأيَّامَ بالغيَرِ
وقال البحتري
عزَّيتُ نفسِي ببردِ اليأسِ بعدهمُ ... وما تعزَّيتُ مِنْ صبرٍ ولا جلدِ
إنَّ النَّوى والهوَى شيئانِ ما اجتَمَعا ... فخلَّيا أحداً يصبُو إلى أحدِ
وقال أيضاً
محلَّتُنا والعيشُ غضٌّ نباتهُ ... وأفنيةُ الأيَّامِ خضرٌ ظلالُها
وليلَى علَى العهدِ الَّذي كانَ لمْ تغُلْ ... نَواها ولا حالتْ إلى الصَّدِّ حالُها
وكنتُ أُرجِّي وصلَها عندَ هجرِها ... فقدْ بانَ منِّي هجرُها ووصالُها
ولا قُربَ إلاَّ أنْ يعاودَ ذِكرها ... ولا وصلَ إلاَّ أنْ يُطيفَ خيالُها
وقال الأحوص:
تذكَّرتُ أيَّاماً مضينَ منَ الصِّبى ... وهيهاتَ هيهاتَ إليكَ رجوعُها
تُؤمِّلُ نُعمى أنْ تريعَ بها النَّوى ... ألا حبَّذا نُعمى وسوفَ تريعُها
لعمرِي لراعَتْني نوائحُ غُدوةٌ ... فصدَّعَ قلبِي بالفراقِ جميعُها
فظَلتُ كأنِّي خشيةَ البينِ إذ أنا ... أخُو جِنَّةٍ لا يستبلُّ صريعُها
وقال آخر:
أمَا واللهِ غيرَ قلًى لليلَى ... ولكنْ يا لهُ يأساً مُبينَا
لقدْ جعلتْ دَواوينَ الغَوانِي ... سِوى ديوانِ حبِّكِ يمَّحينَا
وقال بشار بن برد:
أُحبُّ بأنْ أكونَ علَى بيانٍ ... وأخشَى أنْ أموتَ منَ البيانِ
فقدْ أصبحتُ لا فرِحاً بدُنيا ... ولا مُستنكراً دارَ الهوانِ
يُقلِّبُني الهوَى ظهراً لبطنٍ ... فما يخفَى علَى أحدٍ يرَانِي
وقال ذو الرمة:
أفِي كلِّ أطلالٍ بها منكَ جنَّةٌ ... كما جُنَّ مقرونُ الوَظيفينِ نازعُ

ولا بدَّ مِنْ ميٍّ وقدْ حِيلَ دونَها ... فما أنتَ فيما بينَ هاتَينِ صانعُ
أمُستوجبٌ أجرَ الصَّبورِ فكاظمٌ ... علَى الوجدِ أمْ مُبدِي الضَّميرِ فجازعُ
وقال مجنون بني عامر:
فيا قلبُ متْ حزناً ولا تكُ جازعاً ... فإنَّ جزوعَ القومِ ليسَ بخالدِ
هويتَ فتاةً نيلُها الخلدُ فالتمسْ ... سبيلاً إلى ما لستَ يوماً بواجدِ
أحنُّ إلى نجدٍ وإنِّي ليائسٌ ... طوالَ اللَّيالي مِنْ قفولٍ إلى نجدِ
وإنَّكَ لا ليلَى ولا نجدَ فاعترفْ ... بهجرٍ إلى يومِ القيامةِ والوعدِ
وقال آخر:
خَلتْ عنْ ثرَى نجدٍ فما طابَ بعدَها ... ولوْ راجعتْ نجداً لطابَ إذنْ نجدُ
هو اليأسُ مِنْ ليلَى علَى أنَّ حبَّها ... مُقيمُ المراسِي لمْ يزل عندَنا بعدُ
وقال آخر:
ألا لا أُحبُّ السَّيرَ إلاَّ مُصعِّداً ... ولا البرقُ إلاَّ أنْ يلوحَ يمانِيا
علَى مثلِ ليلَى يقتلُ المرءُ نفسهُ ... وإنْ كنتُ عنْ ليلَى علَى النَّايِ طاوِيا
ولبعض أهل هذا العصر:
يقولُ أبَعْدَ اليأسِ تبكِي صبابةً ... فقلتُ وهلْ قبلَ الإياسِ بكاءُ
أبكي علَى مَن لستُ أرجُو ارتجاعهُ ... وأبكي علَى أنْ لا يكونَ رجاءُ
وقال آخر:
يقولُونَ عنْ ليلَى عَييتَ وإنَّما ... بيَ اليأسُ عنْ ليلَى وليسَ بيَ الصَّبرُ
فيا حبَّذا ليلَى إذِ الدَّهرُ صالحٌ ... وسَقياً لليلى بعدَما خبُثَ الدَّهرُ
وإنِّي لأهواها وإنِّي لآيسٌ ... هوًى وإياسٌ كيفَ ضمَّهما الصَّدرُ
وهذا من أحسن ما مرَّ ويمرُّ لأنه قد جمع لفظاً لطيفاً ومعنًى مليحاً هذا البائس قد علم أنَّ اليأس لا يكون معه هوًى لأحدٍ من النَّاس فأظهر التَّعجُّب منه لأنه خارج عن عادته ووجد في قلبه بقايا من الحزن لألم الفراق وليس هو هوًى قائمٌ ولكنَّه تأثير الاحتراق يزول حالاً بعد حالٍ إذ لم يدركه غليل الإشفاق ولم تحرّكه غلبات الاشتياق فظنَّ لشدَّة مضاضته أنَّ الهوى بعدُ مقيمٌ في قلبه.
وقال آخر:
نظرتُ وأصحابِي بنجدٍ غُديَّةً ... لأُبصرهمْ أمْ هلْ أرَى فيَّ مطمعا
بنظرةِ مشتاقٍ رأَى اليأسَ والهوَى ... جميعاً فعزَّى نفسهُ ثمَّ رجَّعا
شربتُ حراراتِ الفراقِ فلمْ أجدْ ... كمثلكِ مشروباً أمرَّ وأوجَعا
وقاسيتُ تفريقَ الجميعِ فلمْ يدعْ ... تفرُّقُ أُلاَّفي لعينيَّ مطعما
وأنشدني أحمد بن يحيى عن زيد بن بكَّار لرجل من بني أسد:
وكنتَ إذا اشتفيتَ بريحِ نجدٍ ... وماءِ البيرِ مِنْ غللٍ شفاها
فلمَّا أنْ رأيتَ بها أُموراً ... تقادمَ وهلُها وبدَا ثَآها
عرجتَ علَى المنازلِ غيرَ بُغضٍ ... وأسمحَ علوُ نفسكَ عنْ هواهَا
وساقتكَ المقادرُ واللَّيالي ... إلى أنْ لا تَراكَ ولا تَراها
ولبعض أهل هذا العصر:
أمنتُ عليكَ الدَّهرَ والدَّهرُ غادرُ ... وسكَّنتُ قلبي عنكَ والقلبُ نافرُ
وما ذاكَ عنْ إلفٍ تخيَّرتُ وصلهُ ... عليكَ ولا أنِّي بعهدكَ غادرُ
ولكنَّ صرفَ الدَّهرِ قدْ عجَّلَ الرَّدى ... وأيأسَني منْ أنْ تدورَ الدَّوائرُ
فلستُ أُرجِّيهِ ولستُ أخافهُ ... وهلْ يرتَجي ذو اللُّبِّ ما لا يحاذرُ
إذا بلغَ المكروهُ بي غايةَ المدَى ... فأهونُ ما تجرِي إليهِ المقادرُ
تناسيتَ أيَّامَ الصَّفاءِ الَّتي مضتْ ... لديكَ علَى أنِّي لها الدَّهرَ ذاكرُ
أُثبِّتُ قلبي عنكَ والوّدُّ ثابتٌ ... وهل تصبرُ الأحشاءُ والحزنُ صابرُ
إلى اللهِ أشكُو لا إليكَ فإنَّهُ ... علَى ردِّ أيَّامِ الصَّفاءِ لقادرُ
وقال العتبي:
فيا ويحَ قلبٍ عذَّبَ العينَ بالبُكا ... علَى كلِّ شِفرٍ مِنْ مدامعِها غربُ
ويا ويحَ مشتاقٍ محَا اليأسُ ما رجَا ... لحُرقتهِ شرقٌ وليسَ لها غربُ
وقال ذو الرمة:
تحنُّ إلى ميٍّ كما حنَّ نازعٌ ... دعاهُ الهوَى فارتدَّ مِنْ قيدهِ قصرَا
ولا ميَّ إلاَّ أنْ تزورَ بمشرقٍ ... أوِ الزُّرقِ مِنْ أطلالِها دِمناً قفرَا
وأنشدني أبو طاهر الدمشقي لبعض الأعراب:

أظنُّ اليومَ آخرَ عهدِ نجدٍ ... ألا فاقرأ علَى نجدٍ سلاما
فربَّتَما سكنتَ بحرِّ نجدٍ ... وربَّتَما ركبتَ بها السَّواما
وربَّتَما رأيتَ لأهلِ نجدٍ ... علَى العلاَّتِ أخلاقاً كراما
وإنِّي للمكلَّفُ حبَّ نجدٍ ... وإنِّي للمسرُّ بها السَّقاما
فهؤلاء الذين ذكروا أشعارهم قد سلوا على أوَّل روعات اليأس فمنهم من تشاغل بإظهار الحنين تجمّلاً للنَّاس ومنهم من صرَّح بالسّلوِّ عن نفسه ومنهم من اشتغل بمعالجة ما بقي من الهوَى في قلبه ونحن الآن نذكر طرفاً من أخبار من تمكَّنت الرَّوعة الأولى من نفسه وتظاهر سلطانه على قلبه فبلغ إلى ما لا يمكن منه تلافٍ ولا ينفع فيه استعطاف حدَّثني أبو طاهر الدمشقي قال حدثنا حامد بن يحيى النَّجليّ قال حدثنا سفيان قال حدثنا عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن رجل من مُزينة يقال له ابن عاصم عن أبيه قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سريَّة وقال إن رأيتم مسجداً أو سمعتم مؤذّناً فلا تقتلوا أحداً وإنَّا قد لقينا قوماً فأسرناهم ورأى نسوة وهو في ذمَّته فدنا إلى هؤلاء أفض إليهنَّ فدنَا إلى امرأة منهنَّ فقال أسلمي حُبيش قبل نفاذ العيش.
أرأيتِ إذ طالبتكمْ فوجدتمُ ... بحَليةَ أوْ ألفيتكمْ بالخوانقِ
ألمْ يكُ حقّاً أنْ ينوَّلَ عاشقٌ ... تكلَّفَ إدلاجَ السُّرى والودائقِ
فلا ذنبَ لِي قدْ قلتُ إذ أهلُنا معاً ... أثِيبي بودٍّ قبلَ إحدَى الصَّفائقِ
أثِيبي بودٍّ قبلَ أنْ تشحطَ النَّوى ... وينأَى الأميرُ بالحبيبِ المفارقِ
قال فقالت وأنت فحييت عشراً وتسعاً وترَا وثمانياً تترَا قال ثمَّ قدَّمناه فضربنا عنقه فنزلت إليه امرأة تخصُّه فأكبَّت عليه فما زالت تحنُّ عليه حتَّى ماتت وقال الجاحظ ذُكرت لأمير المؤمنين المتوكّل لتأديب بعض ولده فلمَّا رآني استشبع منظري فأمر لي بعشرة آلاف وصرفني فخرجت من عنده فلقيت محمَّد بن إبراهيم وهو يريد الانحدار إلى مدينة السَّلام فعرض عليَّ الخروج معه وقرَّب حرَّاقته ونصب ستارته وأمر بالغناء فاندفعتْ عوَّادة له فغنَّت:
كلَّ يومٍ قطيعةٌ وعتابُ ... ينقضِي دهرُنا ونحنُ غِضابُ
ليتَ شِعري أنا خُصصتُ بهذا ... دونَ ذا الخلقِ أمْ كذا الأحبابُ
ثمَّ سكتت وأمر طُنبوريَّة فغنَّت:
وا رحمَتَا للعاشِقينا ... ما إنْ أرَى لهمُ مُعينا
كمْ يهجرونَ ويُضربونَ ... ويُقطعونَ فيصبِرُونا
فقالت لها العوَّادة فيصنعون ماذا؟ قالت ويصنعون هكذا وضربت بيدها إلى السّتارة فهتكتها وبرزت كأنَّها فلقة قمر فزجَّت نفسها إلى الماء قال وعلى رأس محمَّد غلام يضاهيها في الجَمال وبيده مِذبَّة فلمَّا رأَى ما صنعت ألقى المذبَّة من يده وأتى الموضع فنظر إليها وهي تمرُّ بين الماء فأنشأ يقول:
أنتَ الَّتي غرَّقْتِني ... بعدَ القضَا لوْ تعلَمينا
وزجَّ بنفسه في أثرها فأدار الملاَّح الحرَّاقة فإذا بهما معتنقان ثمَّ غاصا فلم يُريا فهال ذلك محمداً واستفظعه وقال لي أبا عمرو ولتحدّثني بحديث يُسليني عن فعل هذين وإلا ألحقتك بهما قال فحضرني خبر سليمان بن عبد الملك وقد قعد للمظالم وعُرضت عليه القصص فمرَّت به قصَّة فيها إن رأى أمير المؤمنين أعزَّه الله أن يُخرج إليَّ جاريته فلانة حتَّى تغنِّيني ثلاثة أصوات فعل فاغتاظ سليمان وأمر من يخرج إليه فيأتيه برأسه واسترجع وأتبع الرسول برسول آخر يأمره أن يدخل إليه فلمّا وقف بين يديه قال له ما الَّذي حملك على ما صنعت؟ قال الثّقة بحملك والاتّكال على عفوك فأمره بالقعود حتَّى إذا لم يبق من بني أُميَّة أحد إلاَّ خرج فأمر فأُخرجت الجارية ومعها عودها ثمَّ قال قل لها غنِّي فقال لها الفتى غنِّي:
أفاطمَ مهلاً بعضَ هذا التَّدلُّلِ ... وإن كنتِ قدْ أزمعتِ هجري فاجْمِلي
فغنَّته فقال له سليمان قل قال تأمر لي برطل فشربه ثمَّ قال له قل قال غنِّي:
تألَّقَ البرقُ نجديّاً فقلتُ لهُ ... يا أيُّها البرقُ إنِّي عنكَ مشغولُ
فغنَّته فقال له سليمان قل قال تأمر لي برطل فأُتي برطل فشربه ثمَّ قال له قل قال غنِّي:
حبَّذا رجعُها إليها يدَيْها ... في يدَيْ درعِها تحلُّ الإزارا

فغنَّته فقال له قل قال تأمر لي برطل فأُتي برطل فما استتمَّ شربه حتَّى وثب فصعد على قبَّة لسليمان فرمى بنفسه على دماغه فقال سليمان إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون أتراه الأحمق الجاهل ظنَّ أنِّي أُخرج الجارية إليه وأردُّها إلى ملكي يا غلمان خذوا بيدها فانطلقوا بها إلى أهله إن كان له أهل وإلا فبيعوها وتصدَّقوا عنه فلمَّا انطلقوا بها نظرت إلى حفرة في دار سليمان قد أُعدَّت للمطر فجذبت نفسها من أيديهم وأنشأت تقول:
مَنْ ماتَ عشقاً فليمتْ هكذا ... لا خيرَ في الحبِّ بلا موتِ
وزجَّت بنفسها على دماغها فماتت فسُري عن محمَّد وأحسن صلتي وذكر لنا أنَّ محمَّداً بن حميد الطُّوسي كان جالساً مع ندمانه يوماً فغنَّت جارية له وراء السِّتارة:
يا قمرَ القصرِ متى تطلعُ ... أشقَى وغيرِي بكَ مُستمتعُ
إنْ كانَ ربِّي قدْ قضَى كلَّ ذا ... منكَ علَى رأْسِي فما أصنعُ
قال وعلى رأس محمَّد غلام بيده قدح يسقيه فرمى بالقدح من يده وقال تصنعين هكذا ورمى بنفسه من الدَّار إلى الدِّجلة فهتكت الجارية السِّتارة ثمَّ رمت بنفسها على أثره فنزل الغاصة خلفها فلم يجدوا واحداً منهما فقطع محمَّد الشُّرب وقام من مجلسه وأخبار هذا الباب أكثر من أن يتضمَّنها مثل هذا الكتاب غير أنَّا اقتصرنا منها على ما يكون معه مضربين عنها ولا مكترثين بها ولقد كادت شهرتها له لتمنعنا عن ذكرها غير أنَّها كانت شاهداً لما قدَّمناه وأحببنا أن يؤيّد بذكرها على ما شرطناه.

الباب التاسع والأربعون
لا يُعرف المقيمُ علَى العهدِ إلاَّ عندَ فراقٍ أو صدٍّ
من شأن من كان مجاوراً لأحبَّائه وسامحته الأيَّام ببلوغ محابّه أن يصرف خواطره إليهم وان لا يؤثر صحبة أحد غيرهم عليهم بل الجاري من عادة أهل الأدب إذا أقبل عليهم يستثقلون أن يظهروا له المودَّة بل يعتقدونها في الحقيقة فإذا كانت هذه حال أهل الأدب مع من يعاشرهم من غير الأحباب كان أحبابهم أحرى أن يغلبوا على قلوبهم وإنَّما يبين الصَّادق في هواه إذا فارقه أو صدَّ عنه من يهواه فأقام حينئذ عليه ولم ينتقل إلى ما سواه.
أنشدني أحمد بن يحيى النحوي لعمر بن أبي ربيعة:
يقولونَ إنِّي لستُ أصدقُ في الهوَى ... وإنِّي لا أرعاكَ حينَ أغيبُ
فما بالُ طرفِي عفَّ عمَّا تساقطتْ ... لهُ أنفسٌ مِنْ معشرٍ وقلوبُ
عشيَّةَ لا يستنكرُ القومُ إنْ رأوْا ... سفاهَ الحِجى ممَّنْ يُقالُ لبيبُ
ولا نظرةً مِنْ عاشقٍ إنْ مضتْ لهُ ... بعينِ الصِّبى كسلَى القيامِ لعوبُ
يُروِّحُ يرجُو أنْ تحطَّ ذنوبهُ ... فراحَ وقدْ عادتْ عليهِ ذنوبُ
وما الشَّكُّ أسلانِي ولكنْ لذِي الهوَى ... علَى العينِ منِّي في الفؤادِ رقيبُ
ولقد أحسن ذو الرمة حيث يقول:
إذا غيَّرَ النَّأيُ المحبِّينَ لم أجدْ ... رسيسَ الهوَى مِنْ حبِّ ميَّةَ يبرحُ
تصرَّفُ أهواءُ القلوبِ ولا أرَى ... نصيبكِ مِنْ قلبِي لغيركِ يُمنحُ
أرَى الحبَّ بالهجرانِ يُمحَى فيمتَحِي ... وحبّكِ ممَّا يستجدُّ ويذبحُ
أبِينُ وشكوَى بالنَّهارِ شديدةٌ ... عليَّ وما يأتِي بهِ اللَّيلُ أبرحُ
هيَ البرءُ والأسقامُ والهمُّ ذكرُها ... وموتُ الهوَى لولا التَّنائِي المبرّحُ
إذا قلتُ تدنُو ميَّةُ اغبرَّ دونَها ... فيافٍ لطرفِ العينِ فيهنَّ مطرحُ
فلا القربُ يُبدي مِنْ هواهَا ملالةً ... ولا حبُّها إنْ تنزحِ الدَّارُ ينزحُ
وقال أيضاً
هواكِ الَّذي ينهاضُ بعدَ اندِمالهِ ... كما هاضَ حادٍ متعبٌ صاحبَ الكسرِ
إذا قلتُ قدْ ودَّعتهُ رجعتْ بهِ ... شجونٌ وأذكارٌ تردَّدُ في الصَّدرِ
وإنْ قلتُ يسلُو حبَّ ميَّةَ قلبهُ ... أبَى حبُّها إلاَّ بقاءً علَى الهجرِ
وقال أيضاً
يزيدُ التَّنائِي وصلَ خرقاءَ جدَّةً ... إذا خانَ أرماثَ الحبالِ وصولُها
لقدْ أُشربتْ نفسِي لميٍّ مودَّةً ... تقضَّى اللَّيالي وهيَ باقٍ وسيلُها
وقال أيضاً
فلمْ يبقَ ممَّا كانَ بيني وبينَها ... منَ الوصلِ إلاَّ ما تجنُّ الجوانحُ

أصيداءُ هلْ قيظُ الرَّمادةِ راجعٌ ... لياليهِ أوْ أيَّامهنَّ الصَّوالحُ
سواءٌ عليكَ اليومَ انصاعتِ النَّوى ... بصيداءَ أمْ أنحَى لكَ السَّيفَ ذابحُ
إذا لمْ تزرْها مِنْ قريبٍ تناولتْ ... بنا دارَ صيداءَ القِلاصُ الطَّلائحُ
وقال أيضاً
ولمْ تُنسِني ميّاً نوًى ذاتُ غُربةٍ ... شطونٌ ولا المستطرفاتُ الأوانسُ
إذا قلتُ أسلُو عنكِ يا ميُّ لمْ يزلْ ... محلّ لدارٍ مِنْ دياركِ ناكسُ
فكيفَ بميٍّ لا تؤاتيكَ دارُها ... ولا أنتَ طاوِي الكشحِ منها فيائسُ
وقال هدبة بن خشرم:
يُجدُّ النَّأيُ ذكركِ في فؤادِي ... إذا وهلتْ علَى النَّأيِ القلوبُ
وقدْ علمتْ سُليمى أنَّ عودِي ... علَى الأحداثِ ذو وتدٍ صليبُ
عسَى الكربُ الَّذي أمسيتُ فيهِ ... يكونُ وراءهُ فرجٌ قريبُ
وقال آخر:
وإنِّي وإسماعيلَ يومَ افتراقِنا ... لكالجفنِ يومَ الرَّوعِ زايلهُ النَّصلُ
فإنْ أغشَى قوماً بعدهُ أوْ أزُرهمُ ... فكالوحشِ يدنيها منَ الأنسِ المحْلُ
وقال العرجي:
ألا أيُّها الرَّبعُ الَّذي بانَ أهلهُ ... فأمسَى قفاراً موحشاً غيرَ آهلِ
هَلَ انتَ مجيبٌ أينَ أهلكَ ذا هوًى ... وأنتَ خبيرٌ إنْ نطقتَ لسائلِ
وأيُّ بلادِ اللهِ حلُّوا فإنَّني ... علَى العهدِ راعٍ للحبيبِ المزايلِ
وقال الحسين بن الضحاك:
لشتَّانَ إشفاقِي عليكِ وقسوةٌ ... أطلتِ بها شجوَ الفؤادِ علَى العمدِ
وما حلتُ للهجرانِ عنْ حالِ صبوةٍ ... إليكِ ولكنْ حالَ جسمِي عنِ العهدِ
وقال الحسحاس الأسدي:
فما بيضةٌ باتَ الظَّليمُ يحفُّها ... ويرفعُ عنها جؤجؤاً مُتجافيا
ويكشفُ عنها وهيَ بيضاءُ ظلَّهُ ... وقد راجعتْ قرناً منَ الشَّمسِ ضاحيا
بأحسنَ منها يومَ قالتْ أرائحٌ ... معَ الرَّكبِ أمْ ثاوٍ لدَينا لياليا
فإنْ تبقَ لا تملكْ وإنْ تُضحِ عادياً ... تزوَّدْ وترجعْ عنْ عُميرةَ واقِيا
وقال تأبَّط شرَّا:
ألمْ تشلِ اليومَ الحمولُ البواكرُ ... بلَى فاعترف صبراً فهلْ أنتَ صابرُ
وشاقتكَ هندٌ يومَ فارقَ أهلُها ... بها أسفاً إنَّ الخطوبُ تغادرُ
فإنْ تصرِميني أوْ تُسيئي لعشرَتِي ... فإنِّي لصرَّامُ القرينِ معاشرُ
وقال أبو ذؤيب الهذلي:
فإنْ وصلتْ حبلَ الصَّفاءِ ندُمْ لها ... وإنْ صرمتهُ فانصرفْ عنْ تجاملِ
لعمرِي لأنتَ البيتُ أُكرمُ أهلهُ ... وأقعدُ في أفنائهِ بالأصائلِ
وفيكَ الَّتي لا يبرحُ القلبُ حبَّها ... وأذكرُها ما أرزمتْ أُمُّ حائلِ
وحتَّى يؤوبَ الفارطانِ كلاهُما ... ويُنشرُ في الهلكَى كُليبٌ لوائلِ
وقال زهير:
تأوَّبني ذكرُ الأحبَّةِ بعدَما ... هجعتُ ودونِي قلَّة الحزنِ والرَّملُ
وكلُّ محبٍّ يُحدثُ النَّأيُ بعدهُ ... سلوَّ فؤادٍ غيرَ حبّكِ ما يسلُو
وقال جميل بن معمر:
وما أحدثَ النَّأيُ المفرِّقُ بيننا ... سلوّاً ولا طولُ اجتماعٍ تقالِيا
كأنْ لمْ يكنْ بينٌ إذا كانَ بعدَهُ ... تلاقٍ ولكنْ ما إخالُ تلاقيا
وقال عروة بن حزام:
فواللهِ لا أنساكِ ما هبَّتِ الصَّبا ... وما أعقبتْها في البحارِ جنوبُ
ولستُ أرَى نفسِي علَى طولِ نأيكمْ ... وبُعدكِ منِّي ما حييتُ تطيبُ
فأوَّلَ ذكرِي أنتِ في كلِّ مصبحٍ ... وآخرُ ذكرِي عندَ كلِّ غروبِ
فوا كبدَا أضحتْ قريحاً كأنَّما ... تلذِّعُها بالكيِّ كفُّ طبيبِ
وقال آخر:
لا والَّذي عمدَ الحجَّاجُ كعبتهُ ... فهمْ سراعٌ إلى مرضاتهِ وفُقُ
لا تذهلُ النَّفسُ عنْ ليلَى وإنْ ذهلتْ ... ما دامَ للهضبِ هضبِ الغايةِ البرُقُ
وقال البحتري
تقضَّى الصِّبى إلاَّ خيالاً يعودُني ... بهِ ذُو دلالٍ أحورُ الطَّرفِ فاترهْ
فيذْكِرني الوصلَ القديمَ وليلةً ... لدَى سمُراتِ الجزعِ إذ نامَ سامرهْ
وعهداً أبيْنَا فيهِ إلاَّ تبايُناً ... فلا أنا ناسيهِ ولا هو ذاكرهْ

إذا التهبتْ في لحظِ عينيهِ غضبةٌ ... رأيتُ المنايا في النُّفوسِ تؤامرهْ
وقال الضحاك بن عقيل:
أسمراءُ إنَّ اليأسَ مُسلٍ ذوِي الهوَى ... ونأيكِ عندِي زادَ قلبِي بكمْ وجدَا
أرَى حرجاً ما نلتُ مِنْ ودِّ غيركمْ ... ونافلةً ما نلتُ مِنْ ودِّكمْ رُشدا
وقال الهذلي:
وإنِّي علَى أنْ قدْ تجشَّمتُ هجرَها ... لِما ضمَّنتني أُمُّ عمرٍو لضامنُ
يُوافيكَ منها طارقٌ كلَّ ليلةٍ ... حبيبٌ كما وافَى الغريمَ المُداينُ
وقال ابن الدمينة:
وإنِّي لأستحييكِ حتَّى كأنَّما ... عليَّ بظهرِ الغيبِ منكِ رقيبُ
حذارَ القِلَى والصَّرمِ منكِ وإنَّني ... علَى العهدِ ما داومْتِني لصليبُ
فيا حسراتِ النَّفسِ مِنْ غربةِ النَّوى ... إذا اقتسمتها نيَّةٌ وشعوبُ
ومِنْ خطراتٍ تعتريني وزفرةٍ ... لها بينَ جلدِي والعظامِ دبيبُ
أما هذا فقد أحسن في البيت الأول وبرد في البيت الثاني إذ جعل علَّته في الوفاء لها حذار قِلاها وصرمها وعلى أنه لم يرض أيضاً بذلك حتَّى جعل مداومته عليها متَّصلة بمداومتها عليه لا غير وهذه حال مفرطة الخساسة متناهية القباحة.
ولبعض أهل هذا العصر:
يا غارسَ الحبّ بينَ القلبِ والكبدِ ... هتكتَ بالهجرِ بينَ الصَّبرِ والجلدِ
إذا دعَا اليأسُ قلبِي عنكَ قالَ لهُ ... حسنُ الرَّجاءِ فلمْ يصدرْ ولم يردِ
يا مَنْ نقومُ مقامَ الموتِ فرقتهُ ... ومَنْ يحلُّ محلَّ الرُّوحِ مِنْ جسدِي
فقدْ جاوزَ الشَّوقُ بي أقصَى مراتبهِ ... فإنْ طلبتُ مزيداً منهُ لمْ أجدِ
واللهِ لا ألفتْ نفسِي سواكَ ولوْ ... فرَّقتْ بالهجرِ بينَ الرُّوحِ والجسدِ
إنْ توفِ لي لا أردْ ما دمتُ لي بدلاً ... وإنْ تعزَّيتُ لمْ أُرِكْنَ إلى أحدِ
وقال آخر:
أهجراً وقيداً واشتياقاً وغربةً ... وهجرَ حبيبٍ إنَّ ذا لعظيمُ
وإنْ امرءاً دامتْ مواثيقُ عهدهِ ... علَى مثلِ ما قاسيتهُ لكريمُ
وقال معاذ ليلَى:
وللنَّفسِ ساعاتٌ تهشُّ لذكرِها ... فتحيَى وساعاتٌ لها تستَكِينُها
فإنْ تكُ ليلَى استودَعَتْني أمانةً ... فلا وأبي ليلَى إذاً لا أخونُها
وقال المؤمّل:
لسْنا بسالينَ إنْ سلَوْا أبداً ... عنهمْ ولا صابرينَ إنْ صبرُوا
نحنُ إذاً في الجفاءِ مثلهمُ ... إذا هجرناهمُ كمَا هجرُوا
إنْ يقطعُونا فطالَما وصلُوا ... وإنْ يغيبُوا فربَّما حضرُوا
وقال البحتري
أُلامُ علَى هواكِ وليسَ عدلاً ... إذا أحببتُ مثلكِ أنْ أُلاما
أعيدِي فيَّ نظرةَ مُستثيبٍ ... توخَّى الهجرَ أوْ كرهَ الأثاما
ترَيْ كبداً محرَّقةً وعيناً ... مؤرَّقةً وقلباً مُستهاما
لئنْ أضحتْ محلَّتنا عِراقاً ... مشرِّقةً وحِلَّتها شآما
فلمْ أُحدثْ لها إلاَّ وداداً ... ولمْ أزددْ بها إلاَّ غراما
وقال أيضاً
هجرتْنا عنْ غيرِ جرمٍ نوَارُ ... ولدَيْها الحاجاتُ والأوطارُ
وأقامتْ بجوِّ بِطْياسَ حتَّى ... كثُرَ اللَّيلُ دونَها والنَّهارُ
إنْ جرَى بيننا وبينكِ هجرٌ ... وتناءتْ منَّا ومنكِ الدِّيارُ
فالغليلُ الَّذي علمتِ مقيمٌ ... والدُّموعُ الَّتي عهدتِ غزارُ
وقال مجنون بني عامر:
وتعذُبُ لي مِنْ غيرِها فأعافُها ... مشاربُ فيها مقنعٌ لوْ أُريدُها
وأمنحُها أقصَى هوايَ وإنَّني ... علَى ثقةٍ مِنْ أنَّ حظِّي صدودُها
وقال نصيب:
أصدَّتْ غداةَ الجزعِ ذِي الطَّلحِ زينبُ ... تقطِّعُ منها حبلَها أمْ تقضِّبُ
وقدْ عبثتْ فيما مضَى وهيَ خلَّةٌ ... صديقٌ لنا أوْ ذاكَ ما كنتُ أحسبُ
ترَى عجباً في غبطةٍ أنْ نزورَها ... ونحنُ بها منها أسرُّ وأعجبُ
وفي الرَّكبِ جثْماني ونفسِي رهينةٌ ... لزينبَ لمْ أذهبْ بها حينَ أذهبُ
فبانتْ ولا يُنسيكَها النَّأيُ إنَّها ... علَى نأيِها نصبٌ لقلبكَ منصبُ
وقال آخر:
حلفتُ لها بِما نحَّتْ قريشٌ ... يميناً والسَّوانحِ يومَ جمعِ

لأنتِ علَى التَّنائِي فاعْلَميهِ ... أحبُّ إليَّ مِنْ بصري وسمعِي

الباب الخمسون
قليلُ الوفاءِ بعدَ الوفاةِ أجلُّ مِنْ كثيرهِ وقتَ الحياةِ
الوفاء اسم للثَّبات على الشَّرائط فكلُّ من عقد على نفسه أو عقد عليه غيره ممَّن يلزمه عقده شيئاً فثبت عليه ولم يزل عنه سمِّي موفياً وكلُّ من شرط على نفسه شرطاً وزال عنه للزَّوال سمِّي غادراً وليس يسمَّى موفياً من فعل فعلاً جميلاً لم يشرط على نفسه فعله ولا شرطه عليه من يلزمه شرطه ولا يسمّى غادراً من فعل فعلاً قبيحاً لم يجب عليه تركه ولا شرط عليه من يحبُّ شرطه فالمحبوب يكون موفياً لمحبِّه ويكون غادراً بعهده والمحبّ لا يكون موفياً ولا غادراً لأنَّ محبَّته قائدةٌ له إلى محابّ إلفه فيما يصلح الانقياد إلى مثله فهو يأتي طاعته بطبعه لا وفاءً بشرط لزمه وكلّ من لم يصلح أن يسمَّى موفياً لم يصلح أن يسمَّى غادراً وإنَّما يصلح أن يكون المحبوب موفياً وغادراً لأنه يأتي ما يأتيه مختاراً ويشرط لإلفه الشَّرائط على نفسه فيفعل ما ضمن أو يتركه فيكون موفياً أو غادراً بفعله أو تركه وهذا الَّذي ذكرناه من أنَّ المحبّ لا يكون موفياً ولا غادراً إنَّما هو ما دامت محبَّته قائمة فأمَّا إذا زالت المحبَّة بسلوٍّ عارض أو بوفاة المحبوب فالمحبّ حينئذ يكون موفياً غادراً.
قالت امرأة من عامر بن صبعة:
وإنِّي لأستحييهِ والتُّربُ بينَنا ... كما كنتُ أستحييهِ حينَ يرانِي
أهابُكَ إجلالاً وإنْ كنتَ في الثَّرَى ... لوجهكَ يوماً إنْ يسؤْكَ مكانِي
ويروى عن هذه المرأة أنَّها زارت قبر زوجها وعليها حليٌّ وثيابٌ مصبَّغة فالتزمت القبر ثمَّ أنشأت تقول:
يا صاحبَ القبرِ يا مَنْ كانَ ينعمُ بي ... عيشاً ويكثرُ في الدُّنيا مؤاتاتِي
نسيتَ ما كنتَ مِنْ قربِي تحبُّ وما ... قدْ كانَ يُلهيكَ مِنْ ترجيعِ أصواتِي
أزورُ قبركَ في حلْيٍ وفي حُللٍ ... كأنَّني لستُ مِنْ أهلِ المصيباتِ
فمنْ رآنِي مِنْ حزنِي مفجَّعةً ... طويلةَ الحزنِ في زوَّارِ أمواتِ
فبينما هي ملتزمة القبر إذ شهقت شهقةً فماتت وليس موت هذه المرأة بعد وفاة زوجها بمدَّة نقضاً لما قدَّمنا ذكره في الباب الَّذي ذكرنا فيه أنَّ من يئس ممَّن يهواه فلم يلتفت من وقته سلاه لما قدَّمنا في ذلك من البرهان وأرينا فيه من الأمثال ونحن نقول الآن من فجأه الحزن دفعة واحدة من غير مقدّمة حتَّى يمضي عليه مدَّة خوف جوًى ولا حذارٍ طبيعي لم يستنكر منه أن يزول تمييزه فلا يفهم ما نزل به حتَّى تمضي عليه مدة متطاولة فربَّما انحلَّت سكرته إلى إفاقة سلوٍّ مريح وربَّما انحلَّت بوقوع تلف صحيح وعلى أنَّ الضَّنين المشفق العالم بنوب الزَّمان والمستعدّ لخطوب الأيَّام قد يلحقه بمفاجأة المكروه ما يزيل تمييزه ويبطل تدبيره وينسيه ما كان ذاكراً له ولمعترفاته وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ناله من وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم ما لا خفاء به على الخاصَّة ولا على كثير من العامَّة من انتضائه سيفه وقوله إنَّ رسول الله لا يموت وليقومنَّ فليقطّعنَّ أيدي رجالٍ وأرجلهم حتَّى قال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه إن الله جلَّ وعزَّ يقول )إنَّك ميتٌ وإنَّهم ميّتون( قال عمر رضي الله عنه فكأنِّي لم أسمعه إلاَّ يومئذ ويروى عن إبان تغلب أنه قال بينا أنا في بعض الفلوات في طلب ذود ضالَّة إذ بصرت بجارية أعشَى إشراق وجهها بصري فقالت لي مالي أراك مدلَّهاً قلت في طلب ذودٍ لي ضالَّة قالت هل أدلّك على من يعلم علمهنَّ فإن شاء ردَّهنَّ عليك فقلت نعم بأبي أنتِ مسرعاً قالت إنَّ الَّذي أعطاكهنَّ هو الَّذي أخذهنَّ فاسأله من طريق اليقين لا من طريق الاختيار فلمَّا رأيت حسن منظرها وحلاوة منطقها قلت هل لك من زوجٍ؟ قالت كان فدُعيَ فعاد إلى ما منه خُلق فأجاب فقلت فهل لك من زوجٍ لا تُخشى بوائقه ولا تذمُّ خلائقه؟ فأطرقت مليّاً وعيناها تهملان بالدُّموع ثمَّ أنشأت تقول:
كنَّا كغُصنينِ في أرضٍ غِذاؤهُما ... ماءُ الجداولِ في روضاتِ جنَّاتِ
وكانَ عاهدَني إنْ خانَني زمنٌ ... ألاَّ يضاجعَ أُنثَى بعدَ مثواتِي

وكنتُ عاهدتهُ أيضاً فعاجلَهُ ... ريبُ المنونِ قريباً مُذْ سُنيَّاتِ
فاردعْ عنانكَ عمَّنْ ليسَ يخلبُها ... عنِ الوفاءِ خلاَبٌ بالتَّحيَّاتِ
ويروى عن الأصمعي أنه قال دخلت فإذا أنا بامرأة تنوح على قبر وهي مسفرة فلمَّا رأتني غطَّت وجهها ثمَّ كشفته فقالت:
لا صنتُ وجهاً كنتَ صائنهُ ... يوماً ووجهكَ في الثَّرى يبلَى
يا عِصمتي في النَّائباتِ ويا ... رُكني القويَّ ويا يدي اليُمنَى
وقال آخر:
وقائلةٍ لمَّا رأتْني مدلَّهاً ... أُناديكَ تاراتٍ وأبكيكَ تاراتِ
لقدْ كنتَ جلداً للرَّزيَّاتِ قبلَها ... فقلتُ لها ليستْ كإحدَى الرَّزيَّاتِ
أصابَ بكَ الدَّهرُ الرَّزيَّةَ واشتفَى ... بيومكَ مِنْ أيَّامِ لهوِي ولذَّاتي
وقالت ليلَى الأخيلية ترثي توبة بن الحمير:
وأقسمتُ أبكِي بعدَ توبةَ هالكاً ... وأحفلُ مَنْ دارتْ عليهِ الدَّوائرُ
لعمركَ ما بالموتِ عارٌ علَى الفتَى ... إذا لمْ تصبْهُ في الحياةِ المعايرُ
ولا الحيُّ ممَّا يحدثُ الدَّهرُ معتبٌ ... ولا الميتُ إنْ لمْ يصبرِ الحيُّ ناشرُ
وما أحدٌ حيّاً وإنْ كانَ ناجياً ... بأخلدَ ممَّنْ غيَّبتهُ المقابرُ
وكلُّ شبابٍ أوْ جديدٍ إلى بلًى ... وكلُّ امرئٍ يوماً إلى اللهِ صائرُ
وذكروا أنَّها دخلت على الحجاج بن يوسف يوماً فقال لها بلغني أنَّكِ مررتِ على قبر توبة فعدلت عنه فوالله ما وفيتِ له ولو كان مكانك ما عدل عن قبركِ فقلت أصلح الله الأمير إنَّ لي عذراً قال وما هو قالت إنِّي سمعته يقول:
ولو أنَّ ليلَى الأخيليَّةَ سلَّمتْ ... عليَّ وفوقي تربةٌ وصفائحُ
لسلَّمتُ تسليمَ البشاشةِ أوْ زَقَا ... إليها صدًى مِنْ جانبِ القبرِ صائحُ
وكان معي نسوة قد سمعن قوله فكرهت أن أمرَّ بهنَّ على قبره فلا يكون ما قال فأكون قد كذَّبته فاستحسن الحجَّاج ذلك منها وأمر بقضاء حوائجها.
وقال آخر:
دعوتكَ يا عليُّ فلمْ تجبْني ... فرُدَّتْ دعوَتي يأساً عليَّا
بموتكَ بانتِ اللَّذَّاتُ عنِّي ... وكانتْ حيَّةً إذ كنتَ حيَّا
فيا أسفِي عليكَ وطولَ شوقِي ... إليكَ لَوَ انَّ ذاكَ يردُّ شيَّا
وقال البحتري
سقَى اللهُ الجزيرةَ لا لشيءٍ ... سوَى أنْ يرتَوي ذاكَ القُليبُ
نصيبِي كانَ مِنْ دُنيايَ ولَّى ... فلا الدُّنيا تحسُّ ولا النَّصيبُ
تولَّى العيشُ إذ ولَّى التَّصابي ... وماتَ الحبُّ إذ ماتَ الحبيبُ
وقال أيضاً
بنا أنتِ مِنْ مجفوَّةٍ لمْ تعتَّبِ ... ومعذورةٍ في هجرها لمْ تؤنَّبِ
ونازحةٍ والدَّارُ منها قريبةٌ ... وما قربُ ثاوٍ في التُّرابِ مغيَّبُ
وقال جرير:
لولا الحياءُ لعادَني استعبارُ ... ولزُرتُ قبركِ والحبيبُ يُزارُ
كانتْ إذا هجرَ الضَّجيعُ فراشَها ... صِينَ الحديثُ وعفَّتِ الأسرارُ
لا يلبثُ القُرناءُ أنْ يتفرَّقوا ... ليلٌ يكرُّ عليهمِ ونهارُ
وقال أبو نواس:
طوَى الموتُ ما بينِي وبينَ محمَّدٍ ... وليسَ لِما تطوِي المنيَّة ناشرُ
لئنْ عمرتْ دورٌ بمنْ لا أُحبُّهُ ... لقدْ عمرتْ ممَّنْ حبُّ المقابرُ
وكنتُ عليهِ أحذرُ الموتَ وحدهُ ... فلمْ يبقَ لي شيءٌ عليهِ أُحاذرُ
وقال آخر:
كُتبَ السَّواد لناظري ... تبكي عليكَ وناظرُ
مَنْ شاءَ بعدكَ فليمُتْ ... فعليكَ كنتُ أُحاذرُ
وقال أشجع:
لئنْ أنا لمْ أُدركْ منَ الموتِ ثَارِيا ... ولمْ أشفِ قرحاً دامياً مِنْ فؤادِيا
لتختَرِ مَنِّي الحادثاتُ وحسرَتي ... بأحمدَ في سوداءِ قلبي كما هِيا
لقدْ أفسدَ الدُّنيا عليَّ فراقهُ ... وكدَّرَ منها كلَّ ما كانَ صافِيا
وأذكرُ ألاَّ نلتَقي فكأنَّما ... أُعالجُ أنفاسَ المنايا القواضِيا
ويمنعُني مِنْ لذَّةِ العيشِ أنَّني ... أراكَ إذا فارقتُ لهواً ترانِيا
وأنشدني أحمد بن طاهر قال: أنشدنا أبو تمام لنفسه:
هوَ الدَّهرُ لا يشوِي وهنَّ المصائبُ ... وأكثرُ آمالِ النُّفوسِ كواذبُ

وقلتُ أخِي قالُوا أخٌ مِنْ قرابةٍ ... فقلتُ نعمْ إنَّ الشُّكولَ أقاربُ
نَسيبيَ في رأيٍ وعزمٍ ومذهبٍ ... وإنْ باعدتْنا في الأُصولِ المناسبُ
كأنْ لمْ يقلْ يوماً كأنَّ فتنثنِي ... إلى قولهِ الأسماعُ وهيَ رواغبُ
ولمْ أتجهَّمْ ريبَ دهرِي برأيهِ ... فلمْ يجتمعْ لي رأيهُ والنَّوائبُ
عجبتُ لصبرِي بعدهُ وهوَ ميِّتٌ ... وكنتُ امرءاً أبكِي دماً وهوَ غائبُ
علَى أنَّها الأيَّامُ قدْ صرنَ كلُّها ... عجائبَ حتَّى ليسَ فيها عجائبُ
وأنشدني أبو طاهر الدمشقي للحسين بن وهب:
سقَى بالمُوصلِ القبرَ الغريبا ... سحائبُ ينتحبْنَ لنا نَحيبا
فإنَّ ترابَ ذاكَ القبرِ يحوِي ... حبيباً كانَ لي يُدعَى حَبيبا
فقدْنا منكَ عِلقاً كانَ يُدني ... إلينا البرَّ والنَّسبَ القَريبا
فلمَّا بنتَ نكَّرتِ اللَّيالي ... قريبَ النَّاسِ والأقصَى الغَريبا
وأبدَى الدَّهرُ قبحَ صحيفتيهِ ... ووجهاً كالحاً جَهماً قطُوبا
فأحرِ بأنْ يطيبَ الموتُ فيهِ ... وأحرِ بعيشهِ ألاَّ يَطيبا
وقال علي بن محمد العلوي:
مَنْ لي بمثلكَ يا روحَ الحياةِ ويا ... يُمنى يديَّ وقدْ شُلَّتْ منَ العضُدِ
مَنْ لي بمثلكَ أرعاهُ لحادثةٍ ... تُشكَى إليهِ ولا تُشكى إلى أحدِ
قدْ ذقتُ أنواعَ ثُكلٍ أنتَ أبلغُها ... منَ القلوبِ وأخناها علَى الجلَدِ
فاليومَ لمْ يبقَ شيءٌ أستريحُ لهُ ... إلاَّ تفتُّتُ أحشائِي منَ الكمَدِ
قلْ للرَّدَى لا يُغادرْ بعدهُ أحداً ... وللمنيَّةِ مَنْ أحببتِ فاعتمدِي
إنَّ السُّرورَ تقضَّى يومَ فارقَني ... وآذنَ العيشُ بالتَّكديرِ والنَّكدِ
وقال محمد بن مناذر يرثي صاحبه عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي:
كلُّ حيٍّ لاقِي الحِمامَ فمُودِي ... ما لحيٍّ مؤمَّلٍ مِن خُلودِ
لا تهابُ المنونُ خلقاً ولا تُب ... قِي علَى والدٍ ولا مولودِ
فَلَوَ انَّ الأيَّامَ يُخلدنَ شيئاً ... لعُلاهُ أخلدنَ عبدَ المجيدِ
ويحَ أيدٍ حثتْ عليهِ وأيدٍ ... غيَّبتهُ ما غيَّبتْ في الصَّعيدِ
إنَّ عبدَ المجيدِ يومَ تولَّى ... هدَّ ركناً ما كانَ بالمهدودِ
هدَّ رُكني عبدُ المجيدِ وقدْ كنْ ... تُ بركنٍ أنوءُ منهُ شديدِ
حينَ تمَّتْ آدابهُ وتردَّى ... برداءٍ منَ الشَّبابِ جديدِ
وسمتْ نحوهُ العيونُ وما كا ... نَ عليهِ لزائدٍ مِنْ مَزيدِ
فإذا ما ذكرتهُ عرضتْ لي ... غُصَّةٌ في اللّهَى وحبلِ الوريدِ
وكأنِّي أدعوهُ وهو قريبٌ ... حينَ أدعوهُ مِنْ مكانٍ بعيدِ
فلئنْ صارَ لا يجيبُ لقدْ كا ... نَ سَميعاً هشّاً إذا هوَ نُودي
كانَ لي عصمةً فأودَى بهِ الدَّه ... رُ فيا حسرةَ الفريدِ الوحيدِ
يا فتًى كانَ للمقاماتِ زَيناً ... لا أراهُ في المشهدِ المشهودِ
لهفَ نفسِي ألاَّ أراكَ وهلْ عنْ ... دكَ لي إنْ دعوتُ مِنْ مردودِ
خُنتكَ الودَّ لمْ أمتْ كمَداً بعْ ... دكَ إنِّي عليكَ حقُّ جليدِ
لوْ فدَى الحيُّ ميّتاً لفدتْ نفْ ... سكَ نفسِي بطارِفِي وتَليدي
ولئنْ كنتُ لمْ أمتْ مِنْ جوَى الحزْ ... نِ عليهِ لأبلغنْ مجهُودي
لأُقيمنَّ مأتماً كنجومِ اللَّيْ ... لِ غُرّاً يلطمنَ حرَّ الخدودِ
موجعاتٍ يبكينَ للكبدِ الح ... رَّى عليهِ وللفؤادِ العميدِ
ولبعض أهل هذا العصر:
أمثلُ الَّذي ألقَى يُقاومهُ صبرُ ... فأصبرَ أمْ مثلي يُنهنهُهُ الزَّجرُ
لئنْ كنتُ غرّاً بالَّذي قدْ لقيتهُ ... لفي فقدِ تمييزِي يحقُّ ليَ الأجرُ
تقضَّتْ صباباتِي إليهِ وقصَّرتْ ... ظنوني بهِ بلْ ليسَ ظنٌّ ولا ذكرُ
وكفَّ رجائِي فاطمأنَّتْ مَخافتي ... فلمْ يبقَ لي إلاَّ التَّأسُّفُ والفكرُ
فما لي رجاءٌ غيرَ قربِ منِّيَّتِي ... ولا خوفَ إلاَّ أنْ يطولَ بيَ العمرُ
ولوْ لمْ يحُل أسرُ المنيَّةِ بينهُ ... وبينيَ لم أحفلْ بما صنعَ الدَّهرُ

فليتَ المنايا وحدَها سمحتْ بهِ ... ونازَعَنيهِ البينُ والهجرُ والغدرُ
وبلغني أنَّ جميلاً لمَّا حضرته الوفاة قال: من يأخذ ناقتي هذه وما عليها ويأتي ماء بني فلان فينشد عنده هذين البيتين؟ فقال له بعض من حضره: أنا، فأنشده:
ذكرَ النَّعيُّ وما كَنَا بجميلِ ... وثوَى بمصرَ ثواءَ غيرِ قُفولِ
غدرَ الزَّمانُ بفارسٍ ذِي بَهمةٍ ... ثبتٍ إذا جعلَ اللّواءُ يزولُ
فلمَّا قضى حياته أتى الرَّجل الماء الَّذي وُصف له فأنشد البيتين عنده فخرجت بُثينة ناشرةً شعرها شاقَّةً جيبها لاطمةً وجهها وهي تقول: يا أيُّها النَّاعي بفيكَ الحجرُ أمَا واللهِ لئنْ كذَبْتني لقد فضحتني ولئن كنتَ صدقتَني لقد قتلتني ثمَّ أنشأت تقول:
وإنَّ سلوِّي عنْ جميلٍ لساعةٌ ... منَ الدَّهرِ ما جاءتْ ولا حانَ حينُها
سواءٌ علينا يا جميلُ بنَ معمرٍ ... إذا متَّ بأساءُ الحياةِ ولينُها
ويقال أنَّها لم تقل شعراً غيره وذكروا أنَّ عروة بن حزام لمَّا انصرف من عند عفراء ابنة عقال فتوفِّي وجداً بها وصبابةً إليها مرَّ به ركبٌ فعرفوه فلمَّا انتهوا إلى منزل عفراء صاح صائح منهم:
ألا أيُّها القصرُ المغفَّلُ أهلهُ ... نعَيْنا إليكمْ عُروةَ بنَ حزامِ
ففهمت صوته ففزعت وأشرفت فقالت:
ألا أيُّها الرَّكبُ المُخِبُّونَ ويحَكُم ... بحقٍّ نعيتمْ عروةَ بنَ حزامِ
فأجابها رجل من القوم:
نعمْ قدْ تركناهُ بأرضٍ بعيدةٍ ... مُقيماً بها في سبسبٍ وأكامِ
فقالت لهم:
فإنْ كانَ حقّاً ما تقولونَ فاعلمُوا ... بأنْ قدْ نعيتمْ بدرَ كلِّ ظلامِ
فلا لقيَ الفتيانُ بعدكَ لذَّةً ... ولا رَجعوا مِنْ غيبةٍ بسلامِ
ولا وضعتْ أُنثَى تماماً بمثلهِ ... ولا فرحتْ مِنْ بعدهِ بغُلامِ
ولا لا بلغتمْ حيثُ وجِّهتمُ لهُ ... ونُغِّصتمُ لذَّاتِ طلِّ طعامِ
ثمَّ سألتهم أين دفنوه فأخبروها فسارت إلى قبره فلمَّا قاربته قالت: أنزلوني فإنِّي أُريد قضاء حاجةٍ فأنزلوها فانسلَّت إلى القبر فانكبَّت عليه فما راعهم إلاَّ صوتها فلمَّا سمعوه بادروا إليها فإذا هي ممدودة علَى القبر قد خرجت نفسُها فدفنوها إلى جنبه.
تمَّ القول ولله الحمد والمنَّة والصَّلاة علَى رسول الله.

قد وفَّينا بحمد الله من التَّشبيب بكل ما ضمنَّاه على حسن الترتيب الَّذي قدَّمناه فأفردنا له خمسين باباً ووفَّينا كلّ باب مائة بيت مع ما دخل فيها من توابع الأبيات وشواهد الاحتجاجات ولو لم يدخل في الباب من الشعر إلاَّ ما يواطئ ترجمته مفرداً من كل ما يتصل به لجاء أكثر الأشعار متبتِّراً ولبقي عامَّة الكلام مستوحشاً لأنَّ البيت يقتضي الأبيات والكلام يطلب الاحتجاجات وليس حسناً أن يُذكر البيت لمعنًى فيه يشاكل الباب وتُفرد سائر معانيه المتعلّقة بالبيت الَّذي يليه ممَّا ينتظم معها وينبّه على صحَّتها وحسنها على أنَّه لو لزمنا أن لا نضمّن الباب إلاَّ ما يطابق لفظه مفرداً ممَّا يقتضيه ويتَّصل به ألزمنا تفصيل المصراع من المصراع الَّذي لا يشاكله حتَّى لا يكون في البيت كلمةٌ تقتضي معنًى ليس الباب موجباً له لأنَّ في أشعار بلغاء العرب الَّذي يتضمَّن أوَّله معنًى ويتضمَّن آخره غيره إذ البلاغة الصحيحة والمخاطبة الفصيحة في جمع المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة وربَّما تضمَّن المصراع المتأخِّر ضدَّ ما يتضمنَّه المصراع المتقدّم ولو فعلنا ذلك لخرج كتابنا عن حدّ العلوم المستعملة والآداب المستحسنة إلى حدّ الجهالات المطربة والنوادر المضحكة ولخرجت الأبيات لتقطّع نظامها وبتر كلامها عن باب الأشعار فإذا كان الاختيار والاضطرار معاً يمنعان من أن لا ندخل في باب إلاَّ ما توجبه ترجمته المتقدّمة له إذاً فلا بدَّ من إدخال البيت مع البيت يزاوجه ومع الاحتجاج يطابقه وإن كان ممَّا لو أُفرد في نفسه لكان البيت غنيّاً عن ذكره والَّذي منعني أن أجعل أبيات كلّ باب مائة كاملة في خاصّية معناه سوى ما يتَّصل به ممَّا يدخل في معنى سواه شيئان أحدهما أنِّي لو فعلت ذلك لم أضبطه إلاَّ بتحليل المقطوعات بل بانتخاب كلّ واحد من الأبيات وفي ذلك ما قدَّمنا ذكره من تهجين الكتاب وتقبيح الأبواب والآخر أنَّ الأبواب حينئذٍ كانت تكون بغير عددٍ محصورٍ ولا حدّ مقصور وإنَّما عمدنا أن يكون الكتاب مائة باب بمائة بيت فيشتمل طرفاه على عشرة آلاف بيت وللمحافظة على ذلك والمراعاة لتمام الشَّرط فيه أعدت فيما ذكرته من سرقات الشعراء خمسة أبيات فقد مرَّت في أبواب الغزل تكون قصاصاً من الخمسة الأبيات الَّتي في الرسالة المقدَّمة في صدر الكتاب فنحن لأن لا يخرج العدد عن حدّ ما قصدناه أعدنا أبياتاً قصاصاً عن الأبيات ليست محسوبة في باب وإنَّما هي متمثَّل بها في عروض الخطاب فلو سامحنا في أن تكون الاحتجاجات والأبيات المتعلّقات بما يشاكل الباب من الأبيات غير داخلات في العدد لاستحالت التَّسوية بين الأبواب ولفسد ترتيب الكتاب.

ونحن الآن إن شاء الله وقد أتينا على الخمسين الماضية من الأبواب مبتدئون في الخمسين الباقية من الكتاب فأوَّل ما نشرع فيه من ذلك ما قيل في تعظيم أمر الله عزَّ وجلَّ والتَّنبيه على قدرته والدلالة على آلائه والتَّحذير من سطوته ثمَّ تعقب ذلك ما قيل في رسوله صلى الله عليه وسلّم ثمَّ نتبع ذلك ما قيل في المختارين من أهل بيته رحمة الله عليهم وصلواته ثمَّ ننسِّق إلى آخرها على أحقّ التَّرتيب بها حسب ما تبلغه أفهامنا ويومي إليه اختيارنا وإنَّما قدَّمت أبواب الغزل منها دِيناً ودنيا وممَّا هو أدعى إلى مصالح النَّفس وأدخل في باب التَّقوى لأن مذهب الشُّعراء أن تجعل التَّشبيب في صدر كلامها مقدّمة لما تحاوله في خطابها حتَّى أنَّ الشِّعر الَّذي لا تشبيب له ليلقَّب بالحصا وتسمَّى القصيدة منه البتراء وإنَّ قائلها ليخرج عند أهل العلم بالأشعار عند عمل يدخل فيه الموصوفون بالاقتدار والمنسوبون إلى حسن الاختيار فأحببت أن لا أخرج في تأليف الشِّعر عن مذهب الشُّعراء دليلاً عمَّا ضمنت من رعاية حقوق المشاكلة ولم يصلح إذا انقضى ذكر التَّشبيب بالغزل أن أُقدم على أمر الله عزَّ وجلَّ أمراً ولا أرسم بين يديَّ الأشعار الدَّالَّة على عظمته شِعراً ولم أجد أحداً من الشُّعراء اتَّسع في هذا النَّحو اتّساع أُميَّة بن أبي الصَّلت على أنَّه لم يسلم فيعظم الإسلام في قلبه ما لا تعظمه إقامته على كفره وأشعار أهل الجاهليَّة في هذا المعنى وما كان شكله أولى أن يقدَّم من أشعار الإسلاميين لا لسبقهم في الزَّمان ولا لتقدُّمهم في الأسنان ولكن لأنَّ إقرار الخصم بدعوى خصمه أقطع للجدل من ادِّعاء المرء حقّاً لنفسه وإن أقام البيّنة بصحّة قوله ونحن نقدِّم إن شاء الله ولا قوَّة إلاَّ بالله ما نختاره من شعر أُميَّة وأصحابه والدَّاخلين معه في بابه وإن لم يبلغوه فقد رموا غرضه فقاربوه.
يتلوه الباب الحادي والخمسون ذكر ما قاله أُميَّة ونظراؤه في تعظيم أمر الله جلَّ ثناؤه والحمد لله ربِّ العالمين والصَّلاة على رسوله محمَّدٍ وآله أجمعين.
بلغ هذا الكتاب المبارك تصحيحاً ومقابلةً مع نسخة أصله على حسب الجهد والطَّاقة فصحَّ ووافق في ذي قعدة سنة ثمان عشرة وسبع مائة من الهجرة النَّبويَّة.
كُتب مقابلةً مع المملوك محمد بن أبي المقاتل أحمد بن فهد بن أبي الفداء إسماعيل بن إبراهيم الحمى أيَّده الله تعالى.

الباب الحادي والخمسون
ذكر
ما قاله أمية ونظراؤه في تعظيم الله جل شأنه
وقال أمية بن أبي الصلت:
ألا كل شيءٍ هالك غيرَ ربّنا ... ولله ميراث الَّذي كانَ فانيا
وإن يكُ شيئاً خالداً ومُعمراً ... تأمل تجدْ من فوقه الله باقيا
له ما رأت عين البصير وفوقه ... سماء الإله فوق ست ثمانيا
إلى أن يفوت المرء رحمة ربّه ... ولو كانَ تحت الأرض سبعين واديا
وقال أيضاً:
ويوم موعدهم أن يخرجوا زمراً ... يوم التغابُن إذْ لا ينفع الحذرُ
وحوسبوا بالذي لم يحصه أحدٌ ... منهم وفي مثل ذاك اليومِ مُعتبرُ
فمنهم فرحٌ راضٍ بمبعثه ... وآخرون عَصوا مأواهمُ سَقَرُ
يقول خزَّانها ما كانَ غيكم ... ألم يكن جاءكم من ربّكم نُذُرُ
قالوا بلَى فأطعنا سادةً بَطروا ... وغرّنا طول هذا العيش والعمرُ
فذاك محبسهم لا يبرحون به ... طول المقام وإن ضجّوا وإن صبروا
قالَ امكثوا في عذاب النَّار ما لكمُ ... إلاَّ السَّلاسل والأغلال والسُّقُرُ
وآخرون علَى الأعرافِ قد طمعوا ... بجنَّةٍ حفّها الرُّمَّان والخضُرُ
يُسقَون فيها بكأسٍ لذّة أُنف ... صفراء لا ...... فيها ولا سكرُ
مزاجها سلسبيلٌ ماؤها غدقٌ ... عذب المذاقةِ لا ملحٌ ولا كدرُ
كائن خلت فيهم من أمَّةٍ ظلمت ... قد كانَ جاءهم من قبلهم نُذرُ
فأهلكوا بعذاب خصّ دابرهم ... فما استطاعوا له صرفاً ولا انتصروا
فصدِّقوا بلقاءِ الله ربّكم ... ولا يصُدنكم عن ذكرِهِ البَطَرُ
وقال أيضاً:
لك الحمد والنعماء والفضل ربّنا ... فلا شيءَ أعلَى منك جَدّاً ولا مجدُ
مليك علَى عرش السَّماء مهيمنٌ ... لعزّته تعنو الوجوه وتسجدُ

ولا بشرٌ يسمو إليه بطرفِهِ ... ودون حجاب النّور خلق مؤيَّدُ
ملائكة أقدامهم تحت أرضِهِ ... وأعناقهم فوقَ السَّموات صعدُ
فمن حاملٍ إحدَى قوائم عرشه ... بأيد ولولا ذاكَ كلوا وبلدوا
قيام علَى الأقدام عانين تحته ... فرائصهم من شدَّة الخوف تُرعدُ
فهم عند ربّ ينظرونَ لأمرِهِ ... يُصيخون بالأسماع للوحيِ رُكَّدُ
أميناه روح القدس جبريل منهما ... وميكال ذي الرّوح القويُّ المُسدّدُ
ملائكة لا يفترون عبادةً ... كروبيّةٌ منهم ركوعٌ وسُجْدُ
فساجدهم لا يرفع الدَّهر رأسه ... يُعظّمُ ربّاً فوقه ويُمجِّدُ
وراكعهم يحنو له الظهر خاشعاً ... يردِّدُ آلاء الإله ويحمدُ
ومنهمْ ملفٌّ في جناحيه رأسه ... يكادُ لذكرَى ربّه يتفصَّدُ
وحُرَّاسُ أبواب السَّموات دونَهُ ... قيامٌ لديه بالمقاليد رُصَّدُ
ودون كثيف الملك في غامض الهَوَى ... ملائكةٌ تنحطُّ فيه وتصعدُ
وبين طباق الأرض تحتَ بطونها ... ملائكة بالأمرِ فيها تردّدُ
فسبحان من لا يقدر الخلق قَدْرَهُ ... ومن هو فوق العرش فرد مُوحدُ
وأنى يكون الخلق كالخالق الَّذي ... يدومُ ويبقَى والخليقةُ تنفذُ
وليس لمخلوقٍ علَى الخلقِ جِذّهُ ... ومن ذا علَى مرِّ الحوادثِ يخلدُ
فيفنَى ولا يبقى سوى القاهر الَّذي ... يُميتُ ويُحيي دائماً ليسَ يهمدُ
تسبحهُ الطَّيرُ الكوامنُ في الخفَى ... وإذْ هي في جوّ السَّماء تُصَعَّدُ
ألا أيُّها القلب المقيم علَى الهَوَى ... إلى أي هذا الدَّهر منك التصدُّدُ
ألا إنَّما الدُّنيا بلاغٌ وبلغةٌ ... وبينا الفَتَى فيها مهيبٌ مُسودُ
إذا انقلبت عنه وزالَ نعيمها ... وأصبحَ من تربِ القبورِ يوسَّدُ
وفارق روحاً كانَ بينَ حياتِهِ ... وجاورَ موتى ماله مُتبدَّدُ
فأيّ فتًى قبلي رأيتم مخلداً ... لهُ في قديمِ الدَّهرِ ما يتزودُ
ولن تسلم الدُّنيا وإن ضنَّ أهلها ... بصحبتها والدَّهر قد يتجدّدُ
ألست ترَى فيما مضَى لك عبرة ... فَمَهْ لا تكن يا قلبُ أعمَى تلددُ
فقد جاءَ ما لا ريبَ فيه من الهدى ... وليس يرد الحقّ إلاَّ مفندُ
فكن خائفاً للموت والبعث بعده ... ولا تكُ فيمن غرَّه اليوم أوْ غدُ
فإنَّك في دنيا غرور لأهلها ... وفيها عدوٌّ كاشحُ الصَّدرِ يوقِدُ
من الحقد نيران العداوة بيننا ... لأن قال ربي للملائكة اسجدوا
لآدم لما كمل اللهُ حقّه ... فخرّوا له طوعاً سجوداً وكددُوا
وقال عدوّ الله للكبر والشقا ... لطين علَى نارِ السّموم فسوَّدوا
فأخرجه العصيان من خير منزلٍ ... فذاك الَّذي في سالف الدَّهر يحقدُ
علينا ولا نالوا خبالاً وحيلةً ... لنوردها ناراً عليها سيوردُ
جحيماً تلظى لا يقترّ ساعةً ... ولا الحرّ منها آخر الدَّهر يبردُ
فما لك في الشَّيطان والنَّار أسوة ... إذا ما صليتَ النَّارَ بل أنتَ أبعدُ
هو القائد الدَّاعي إلى النَّارِ لابثاً ... ليوردنا منها ويَتوردُ
فما لك في عذرٍ وطاعةِ فاسق ... وما لك في نار صليتَ بها يدُ
وقال أيضاً:
الحمدُ لله الَّذي لم يتَّخذ ... ولداً وقدَّر خلقهُ تقديرا
وأعوذُ باللهِ العليّ مكانه ... ذي العرش لم أعلم سواه مجيرا
من حرِّ نار لا يفترّ عنهم ... وهناً أُعدت للظّلوم مصيرا
فيها السَّلاسل والعذابُ لمن طغَى ... يدعون منها حَسرةً وثبورا
لا يسمعنَّ حسيسها يا ربّنا ... يوماً نغيطٌ شهقةً وزفيرا
قد تأمرون القسط في أعمالهم ... لا يظلمون لذي الحساب نقيرا
فاغفر لي اللّهم ذنبي كلّه ... أما أبيتُك يومَ ذاك فقيرا
وقال أيضاً:
لكَ الحمدُ والمنّ ربّ العبا ... د وأنت المليك وأنتَ الحكمْ
أمرت بالإنسان من نُطفةٍ ... تُخلق في البطنِ بعدَ الرّحمْ
وإنِّي أدينُ لكم إنكم ... سيصدقكم ربُّكم ما زعمْ
ولستم بأحسن صنعاً ولا ... أشدَّ قوى صُلُبٍ من أَدَمْ

مصانع لقمان قد نالها ... لها ثلب طامحاتُ المجمْ
إذا ما دخلت محاريبهم ... رأيتَ نصاراهم كالنّعمْ
خلا وقد كانَ أربابها ... عتاق الوجوه حسان اللّحَمْ
ملوكاً علَى أنَّهم سُوقةٌ ... ولا يدهم كظباء السَّلمْ
فَغيّر ذلك ريبُ المَنون ... والمرء ليسَ له مال يحتكمْ
وقال زهير بن أبي سُلمى:
واعلم ما في اليوم والأمس قبلَهُ ... ولكنَّني عن علم ما في غدٍ عم
فلا تكتمنَّ الله ما في نفوسكم ... ليخفَى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخّر فيوضع في كتاب فيدّخر ... ليومِ الحساب أوْ يعجل فينقم
وقال عدي بن زيد:
أينَ كسرَى خير الملوك وأبو سا ... سان أمْ أينَ قبله سابورُ
وبنو الأصفر الكرام ملوك الرُّ ... وم لم يبقَ منهم مذكورُ
وأخو الخُضْر إذْ بناهُ وإذْ ... دجلة تجبى إليه والخابورُ
لم يهبْهُ ريبُ المنونِ فبادَ ... الملك عنه فبابُهُ مهجورُ
ثمَّ أضحَوْا كأنَّهم ورقٌ جفَّ ... فألوتْ به الصَّبا والدَّبورُ
وقال لبيد بن ربيعة:
ألا كلُّ شيءٍ ما خَلا الله باطلُ ... وكلُّ نعيم لا محالة زائلُ
وكلُّ أُناسٍ سوف يدخل بينهم ... دويهيةٌ تَصفرُّ منها الأناملُ
إذا المرءُ أسرَى ليلةً خال أنَّه ... قضى عملاً والمرءُ ما عاشَ عاملُ
فقولا له إنْ كانَ يعقل أمرَهُ ... ألمَّا يَعظْك الدَّهرُ أمُّك هابلُ
حدَّثنا إسماعيل بن إسحاق قال: حدَّثنا عمرو بن مرزوق قال: أخبرنا شعبة بن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه: إن أصدق بيت قاله الشاعر:
ألا كلُّ شيءٍ ما خَلا الله باطلُ
وقال ابن أبي عيينة:
ما راح يوم علَى حيّ ولا ابتكرا ... إلاَّ رأَى عبرة فيه إنْ اعتبرا
ولا أتتْ ساعة في الدَّهر فانصرفتْ ... حتَّى تؤثّرَ في قومٍ لها أثرا
إنَّ اللَّيالي والأيَّام إن سُئلتْ ... عن عيبِ أنفسها لم تكتم الخبرا
وقال آخر:
أيا عجباً كيفَ يُعصَى الإلهُ ... أم كيفَ يَجحده الجاحدُ
ولله في كلِّ تحريكةٍ ... وفي كلِّ تسكينةٍ شاهدُ
وفي كلِّ حالٍ لهُ آيةٌ ... تدلّ علَى أنَّه واحدُ
وقال أبو العتاهية:
سبحان ذي الملكوت أيَّةُ ليلةٍ ... مُخضتْ صبيحتُهُ بيوم الموقفِ
لو أنَّ عيناً وهّمتها نفسها ... يوم الحساب مُمثلاً لم يَطرفِ
وإن هذا لمن أحسن كلام قيل في باب التخويف بلاغة في الوعظ وسلامة في اللفظ. وقد قال أبو نواس في باب الأطماع فقارب في هذا المعنى في الجودة وإنْ كان في الحقيقة ضدّه وهو قوله:
ساءَكَ الدَّهرُ بشيءٍ ... وبما سرَّكَ أكثرْ
يا كثير الذَّنب عفوُ ... الله من ذنبك أكبرْ
ولقد أحسن الذي يقول:
لعمرك ما يدري الفَتَى كيفَ يتَّقي ... نوائب هذا الدَّهر أمْ كيفَ يحذَرُ
فمن كانَ ذا عذر لديكَ وحجَّةٍ ... فعذري إقراري بأن ليس أعذَرُ
ومن أحسن ما أعرف في هذا المعنى قول محمود الوراق:
إذا كانَ شكرِي نعمة الله نعمة ... عليَّ له في مثلها يجب الشُّكرُ
وكيفَ بلوغ الشّكر إلاَّ بفضلهِ ... وإنْ طالت الأيَّام واتَّصل العمرُ
فأمَّا ما ذكرناه في هذا الباب من الأشعار الإسلامية فلا حاجة بنا إلى الاحتجاج به، ولا إلى الاعتذار منه. وأمَّا ما حكيناه من الأشعار الجاهلية ففيها لعمري عبرة لمن اعتبر، وعظة لمن تذكَّر وتدبَّر.

ولأميَّة بن أبي الصلت خاصة ليس لغيره من الشعراء عامة، وإن في تبيّنه الله عزّ وجلّ ما نبّهه عليه وتعريفه إيَّاه ما عرفه من عظمته، ودلَّه عليه من قدرته، ثمَّ في خذلانه له عن الانقياد إلى طاعته، والرجوع إلى شريعته، لدليلاً بيناً على أنَّه ليس لمخلوق مع الخالق أمر ولا اختيار، جلَّ الله عمَّا يقول الملحدون إن في شعر أمية طعناً على الدين من قِبل أنَّه مواطن لبعض ما في القرآن، وموافق لكثير ممَّا في شريعة الإسلام. قالوا: فهذا يدلّ على أن القرآن منه أجدر. ومن معانيه استخرج الله عز وجل تعالى عن قولهم علواً كبيراً. ولو ساعدهم التوفيق على فهم ما اعتقدوه، بل لو صَدَفهم الحياء عن قبح ما انتحلوه، ولاستحيَوا عن ذكر ما ذكر أمية بن أبي الصلت، وإن كان جاهلياً فقد أدرك الإسلام، ومدح النبي - صلى الله عليه - وذلك موجود في شعره، ومفهوم عند أهل الخبرة به. وكيف يتوهم لبيب أوْ يستخبر لبيب أن يهجر عليه عقله أو يحمل نفسه بدعوى ما يتهيأ تكذيبه فيه بأهون السعي من مخالفته، أم كيف يظن بالنبي - صلى الله عليه - أنَّه يأخذ المعاني من أمية وأمية يشهدُ بتصديقه، ويقرُّ بكتابه، ويعزل نفسه عن التأخر بالدخول في ملته، وذلك موجود فيما ذكرناه من شعره وما لم نذكره.
وسنذكر بعض ما مدح به أمية النبي - صلى الله عليه - في بابه إن شاء الله ولا قوَّة إلاَّ بالله.

الباب الثاني والخمسون
ما مدح به أمية النبي
صلى الله عليه وسلّم وما استشهد وأنشد بين يديه
حدَّثنا أحمد بن عبيد بن ناصح قال: حدَّثنا علي بن محمد المدائني قال: حدَّثنا محمد بن عبد الله بن أخي الزهري بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن سعد بن أبي وقاص قال: قدم وفد ربيعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - فسألهم عن قس بن ساعدة الإيادي وكان نازلاً فيهم: ما فعل؟ فقالوا: هلك يا رسول الله، فقال: والله لقد رأيته يوماً بعكاظ وهو على جمل له أحمر وهو يخطب النَّاس وهو يقول: أيُّها النَّاس اجتمعوا واسمعوا واسمعوا وعوا: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، ما لي أرى النَّاس يذهبون فلا يرجعون، أرَضُوا بالإقامة فأقاموا، أم تركوا فناموا، إنَّ في السَّماء لخبراً، وإنَّ في الأرض لعبراً، ليل موضوع، وسقف مرفوع، وبحار لا تفور، ونجوم تمور، ثمَّ بحور، أقسم قس قسماً بالله وما أتمَّ، إنَّ لله ديناً هو أرضى من دينٍ نحن عليه، ثمَّ تكلَّم بأبيات شعر ما أدري ما هي؟ فقال أبو بكر: أنا شاهد ذلك يا نبي الله فقال: أنشدها، فأنشأ أبو بكر - رضي الله عنه - يقول:
في الذَّاهبين الأوَّلين ... من القرونِ لنا بَصائر
لما رأيت موارداً ... للموتِ ليسَ لها مصادر
ورأيت قومي نحوَها ... يسعى الأكابرُ والأصاغر
لا يرجعُ الماضي إليك ... ولا من الباقين غابر
أيقنتُ أنِّي لا محالة ... حيثُ صارَ القومُ صائر
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقول لعائشة: " يا حميراء ما فعلت أبياتك " ؟ قالت: فكنت أقول: يا رسول الله قال الشاعر:
ارفع ضعيفك لا يحلْ بك ضَعفهُ ... يوماً فتدركه العواقب قد نمَا
يجزيك أوْ يثني عليك وإن من ... أثنَى عليك بما فعلت فقد جزَا
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: نعم يا عائشة إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة قال لعبد من عبيده: " عبدي صنع إليك معروفاً فهل شكرته؟ فيقول: يا ربِّ علمت أنَّه منك فشكرت لك، فيقول: لِمَ تشكرني إذا لم تشكر من أجريتُ ذلك علي يديه " .
ومع هذه الأبيات:
إنَّ الكريم إذا أردت وصاله ... لم تلف حبلي واهياً رثَّ القُوى
أرعَى أمانتَهُ وأحفظُ عهده ... جهدي فيأتي بعد ذلك ما أتَى
وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - أنشدته عائشة الأربعة الأبيات فقال: قال لي جبريل - عليه السلام - : من آويته خيراً فذلك فقد كافى.
وروي في بعض الأخبار أن ضرار بن الأزور الأسدي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأسلم وقال:
تركتُ الخمورَ وضربَ القداح ... واللَّهو تضربه وابتهالا
وكزي المخبر في عمره ... وشدّي عن المشركين القتالا
فيا ربّ لا أعتبر صفقتي ... فقد بعتُ أهلي ومالي بدالا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما غبنت صفقتك يا ضرار.
وروي أن النابغة الجعدي أنشد النبي - صلى الله عليه وسلّم - :
بلغنا السَّماءَ مجدُنا وسناؤنا ... وإنَّا لنرجو فوقَ ذلك مُظْهرَا
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: إلى أين؟ قال: إلى الجنة بك يا رسول الله. قال: لا يفضض الله فاك.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم سمع رجلاً ينشد:
إنِّي امرؤ حميريٌّ حين تنسبني ... لا من ربيعة آبائي ولا مُضَرُ
فقال: ذاك أبعد من الله ورسوله والوجه في هذا والله أعلم أن افتخاره بأنَّه لا من ربيعة ولا من مضر هو الَّذي أوجب له الذّمّ والتّباعد من الله عز وجل ورسوله عليه السلام لا أن كونه من حمير موجب لذلك.
والَّذي يروى أن النبي صلى الله عليه وسلّم أنشده واستنشده أكثر من ذاك. وقد روي عن ابن الشريد عن أبيه قال: استنشدني النبي صلى الله عليه وسلّم فأنشدته مائة قافية لامية فقال: إن كان ليسلم ماذا كان قد أنشد النبي صلى الله عليه وسلّم من شعر رجل واحد مقدار ما حددناه نحن للباب فكيف يتهيء لنا استيعاب ما استنشده وما مدح به في باب غير أن الاستقصاء أصلح من طلب الغاية بالتطويل والإكثار ونحن الآن نذكر طرفاً ممَّا مدح به رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما رثي به بعد وفاته. وقال أبو بكر الصديق رحمة الله عليه يرثي رسول الله صلى الله عليه:
أمستْ تأوّبني همومٌ جمَّةٌ ... مثلُ الصُّخور قد أمستْ هدَّت الجسدا
ليت القيامةَ قامت عند مهلكه ... كي لا نرَى بعده مالاً ولا ولدا
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرثيه:
ما زلت مُذْ وضع الفراش لجسمه ... وثوى مريضاً خائفاً أتوقّعُ
شفقاً عليه أن يزول مكانه ... عنَّا فنبقَى بعده نتفجّعُ
نفسي فداؤك من لنا في أمرنا ... أمنٌ نشاوره إذا نتوجَّعُ
وإذا تحلّ بنا الحوادث من لنا ... بالوحي من ربٍّ سميع نسمعُ
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يرثيه:
أمن بعد تكفيني النَّبيّ ودفنه ... بأثوابه آسى علَى هالكٍ نوَى
رُزينا رسول الله فينا فلن نرَى ... بذلك عدلاً ما حيينا من الردَى
وكانَ لنا كالحصن من دون أهله ... لهم معقل فينا حريزٌ من العِدَى
وكنَّا برؤياه نرى النّور والهدَى ... صباحَ مساءَ راحَ فينا أوْ اغتدَى
فقد غشيتنا ظلمةٌ بعد موته ... نهاراً فقد زادت علَى ظلمة الدُّجَى
فيا خير من صمّ الجوانح والحشا ... ويا خير ميت ضمّه التّرب والثّرَى
كأنَّ أُمور النَّاس بعدك ضمنت ... سفينة نوح البحر والبحر قد سمَا
فضاق فضاء الأرض عنهم برحبه ... لفقد رسول الله إذ قيل قد قضى
فقد نزلت بالمسلمين مصيبة ... كصدع الصَّفا لا شعب للصّدع في الصفا
فإن يستقل النَّاس تلك مصيبة ... ولن يجبر العظم الكسير إذا وهى
وفي كل وقت للصلاة يهيجهُ ... بلال ويدعو باسمه كلما دعا
ويطلب أقوام مواريث هالك ... ولله ميراث النبوة والهدى
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام:
ألا طرق الناعي بليل فراعني ... وأرقني لما استقل مُناديا
فقلت له لما رأيت الَّذي أتى ... أغير رسول الله إن كنت ناعيا
فحقق ما أشفقت منه ولم تُبل ... وكان خليلي غريا وجماليا
فوالله ما أنساك أحمد ما مشت ... بي العيس في أرض وجاوزتُ واديا
وكنت مَتَى أهبط من الأرض تلعةً ... أرى أثراً منه جديداً وباليا
شديد جرى في الصدر نهدٌ مصدرٌ ... هو الموت مغدواً عليه وغاديا
وقالت صفية بنت عبد المطلب ترثيه عليه السلام:
طال ليلي أسعدنني أخواتي ... ليس ميتي كسائر الأمواتِ
ليس ميتي من مات في النا ... س ولا كان مثله في الحياةِ
طال ليلي لنكبةٍ قطعتني ... لا أرى مثلها من النكباتِ
وقالت صفية:
ما لعينيَّ لا تجودانِ رِيّا ... قد رُزينا خير البرية حيّا
يوم نادى إلى الصلاة بلال ... فبكينا بعد النداء مليّا
كل يوم أصبحت فيه ثقيلاً ... لا ترد الجواب منك إليّا
لم أجد قبلها ولست بلاقٍ ... بعدها غصة أمر عليّا

وحمان الشَّيخ منحدر في عار ... ضيه كالمسك فاح ذكيّا
وهي في الصدر قد تساق حثيثاً ... ومن الوقت عند ذاك هويّا
ليت يومي يكون قبلك يوماً ... أنضج القلب للحرارة كيّا
خُلقاً عالياً وديناً كريماً ... وصراطاً تُهدي به مستويا
وسراجاً يهدي الظلام منيراً ... ونبيّاً مسوداً عربيّا
حازماً عازماً حليماً كريماً ... عايداً بالنوال برّاً تقيّا
إن يوماً أتى عليك ليوم ... كُدّرت شمسُه وكان جليّا
فعليك السلام منّا ومن ربك ... بالروح بُكرةً وعَشِيّا
وقال أبو سفيان بن الحارث:
أرقت فبات ليلي لا يزول ... وليل أخي المصيبة فيه طولُ
فقد عظمت مصيبته وجلت ... عشية قيل قد قُبض الرسولُ
فكلّ النَّاس منقطعين فيها ... كأن النَّاس ليس لهم حويلُ
كأن النَّاس إذْ فقدوه عُمياً ... أضر بلب حارمهم عليلُ
نبيّ كان يجلو الشك عنّا ... بما يوحى إليه وما يقولُ
ويهدينا فلا نخشى ضلالاً ... علينا والرسول لنا دليلُ
يخبرنا بظهر الغيب عما ... يكون فلا يجور ولا يحولُ
ولم ترَ مثله في النَّاس حيّا ... وليس له من الموتى عديلُ
أفاطم إن جزعت فذاك عذراً ... وإن لم تجزعي فهو السبيلُ
فعودي بالعزاء فإن فيه ... ثواب الله والفصل الجزيل
وقولي في أبيك ولا تملي ... وهل يُخزي بفعل أبيكِ قيلُ
فقبر أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد النَّاس الرسولُ
وقال كعب بن مالك:
ونائحةٍ حَرّى تَحرَّقُ بالبُكا ... وتلطم منها خَدَّها والمُقلّدا
علَى هالكٍ بعد النبيّ محمد ... ولو عقلت لم تبكِ إلاَّ مُحمدا
فُجِعْنا بخير النَّاس حيّاً وميّتا ... وأدناهُ من أهل السَّموات مَقْعدا
وأعظمهُ فقداً علَى كل مُسلمٍ ... وأعظَمهم في النَّاس كلهمُ يَدا
إذا كانَ منه القولَ كان موفقاً ... وإن كان حيّاً كان نوراً مُجدَدا
وقد وازنتْ أخلاقُهُ المجدَ والتُّقى ... فلن تَلْقه إلاَّ رشيداً ومُرشدا
وقال عمرو بن سالم الخزاعي:
لعمري لئن جادت دموعي بالبكا ... لمحقوقةٌ أن تستهل وتدمعا
أبا حفص إن الأمر جلّ عن البكا ... غداة نعى الناعي النبي فأسمعا
فلم أرَ يوماً كان أعظم حادثاً ... ولم أرَ يوماً كان أكثر موجعا
فوالله لا أنساك ما دمت ذاكراً ... لشيء وما قَلّبتُ كفّاً وإصبعا
إذا ذكرت نفسي فراقَ محمد ... تهيجُ حزني عند ذلك أجمعا
وقال الزبرقان بن بدر:
آليت لا آسي علَى هالك ... بعد نبيِّ الله خيرِ الأنام
بعد النبي كان لنا هادياً ... من حَيرةٍ كانت وبدرَ الظلام
يا مبلغ الأخيار عن ربّه ... فينا ويا مُحيي ليل التّمام
فاستأثر الله به إذْ وفى ... أيامه عند حضور الحِمام
وأي قوم أدركوا غبطة ... دامت لهم من آل حام وسام
وقال حسان بن ثابت:
إن الرزية لا رزية مثلها ... ميتٌ بطيبةَ مثله لم يفقدِ
فلقد أصيب جميع أمته به ... من كان مولوداً ومن لم يولدِ
والنَّاس كلهم لما قد عالهم ... ترجو شفاعته بذاك المشهد
حتَّى الخليل أبوه في أشياعه ... ونجيّه موسى النبيّ المهتدي
متواضعين لربّهم بفَعالهم ... تلك الفضيلة واجتماع السؤدد
يا خير من شدَّ المطية نحوه ... وفد لحاجته تروح وتغتدي
أنت الَّذي استنقذتَنا من حفرة ... من يهوَ فيها من قُواه يبعدِ
وهديتنا بعد الضلالة والرَّدى ... فهدى الإله إلى السبيل الرشَّد
فجزاك عنّا الله خير جزئه ... بمقام محمود المقام مسوَّدِ
وقال أمية يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهي أبيات اخترناها، وقد ذكرنا بعض القصيدة في الباب الماضي وإنّما أردنا هذه الأبيات من هذا الباب لندل على جهل من حكينا قوله في الباب الَّذي قبله:
محمداً أرسله بالهدى ... فعاش غنيّاً ولم يُهتضَمْ
عطاءٌ من الله أعطيته ... وخصَّ به الله أهلَ الحرمْ
وقد علموا أنّه خيرهم ... وفي بيتهم ذي النّدى والكرمْ

نبيّ الهدى طيبٌ صادقٌ ... رحيم رؤوف بوصل الرحمْ
به ختم الله من قبله ... ومن بعده من نبيٍّ ختمْ
يموت كما مات من قد مضى ... يُردُّ إلى الله باري النسمْ
مع الأنبياء في جنان الخلود ... همُ أهلها غير حل القسمْ
وقال حسان بن ثابت:
هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
وقال الله قد أرسلت عبداً ... يقول الحق ارتفع البلاء
أتهجوه ولستَ لهُ بكفءٍ ... فشرّكما لخيركما الفداءُ
وهذا لعمري من أحسن الكلام لفظاً وأصحَّه معنى ولا أعرفُ بعده في الأنصاف غاية، ولا أقلَّ منه في الاختصار نهاية. ومن أشبه شيء به قصة عبد الله ابن رواحه حين تظلّمت اليهود من خرصه عليهم بخيبر فقال: إن شئتم أخذتموه بخرصي، وأعطيتموني ما يجب، وإن شئتم أخذتموه بما خرصته وقاسمتكم فأعطيتكم حقكم منه على ذلك. فقالت اليهود: هذا والله الحق، بهذا قامت السَّموات. وهذا المعنى الَّذي اختاره حسان رحمه الله في مدح النبيّ صلى الله عليه وسلّم وهو الاختيار في مثله، لأن من استعار وصفه بغاية ما يستحقه، والاقتصار من مدحه على ما لا يتهيأ للخصم دفعه أولى من غيره، وبما عسى أن يمدح النبيّ صلى الله عليه فيكون مستوعباً لفضله، ومقارناً لوضعه. وكل ما مدح فإنما يجري إلى منتهى عمله. وفضله صلى الله عليه، يُحلّ عن أن تدركه الخواطر والأفكار ويكبر عن أن تحيط بجمعه الروايات والأخبار صلى الله عليه وعلى أصحابه وآله المنتجبين صلاة تُبلّغه رضاه، وتتجاوز به إلى أن يقصر عنه مناه. وعليه وعليهم السلام ورحمة الله.

الباب الثالث والخمسون
ذكر
ما قاله شعراء الإسلام في أهل بيت النبي
عليه السلام.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يرثي عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما:
أتاني أن هنداً خل ضخمٍ ... دعتْ دَرَكاً وبشَّرت الهُنُودا
فإن تفخر بحمزةَ يومَ ولَّى ... مع الشُّهداء مُحتسباً شهيدا
فإنا قد قتلنا يومَ بدرٍ ... أبا جهلٍ وعُتبةَ والوليدا
وشَيْبةَ قد تركنا يوم أُحدٍ ... علَى أثوابهِ عَلقاً حَشيدا
وثوّى من جهنَّمَ شرَّ دارٍ ... عليه ولم يَحدْ عنها مَحيدا
فما سيَّان من هو في جحيمٍ ... يكونُ شرابهُ فيها صديدا
ومن هو في الجنان يُدَرُّ فيها ... عليه الرّزق مُغتبطاً حميدا
وقال أمير المؤمنين علي أيضاً يرثيه رضي الله عنهما:
رأيت المشركين بَغَوا علينا ... ولجَّوا في الرَّديدةِ والضَّلالِ
وقالوا نحنُ أكثرُ إذْ تقُونا ... غداةَ الرَّوع بالأسلِ النّهالِ
فإن يبغوا ويفتخروا علينا ... بحمزة فهو في الغُرُفِ العوالي
فقد أودَى بعُتبة يومَ بدرٍ ... وقد أبلى وجاهدَ غير آلِ
وقد غادرتُ كبشهم جهاراً ... بحمدِ اللهِ طلحةَ في المجالِ
فخرَّ لوجهه ورفعتُ عنه ... رقيَ الحدِّ جُوَّدَ بالصِّقالِ
وقال حسان بن ثابت يرثيه رضي الله عنهما:
هل تعرف الدَّار عفا رسمُها ... بعدَكَ صوْبَ المُسبل الهاطلِ
سألتُها عن ذاك فاستعجمتْ ... لم تدرِ ما مرجوعةُ السَّائلِ
دعْ عنك داراً قد عفا رسمُها ... وابكِ علَى حمزةَ ذي النَّائلِ
واللابسِ الخيلَ إذا أحجمتْ ... كالليث في غاباته الباسلِ
أبيض في الذّروة من هاشمٍ ... لم يَمْردون الحقّ بالباطلِ
مالَ شهيداً بين أسيافكم ... شلَّتْ يدا وحشيِّ من قاتلِ
أظلمت الأرضُ لفقدانهِ ... واسودَّ لونُ القمرِ الناصِلِ
صلَّى عليك الله في جنَّةٍ ... عاليةٍ مُكرمَةِ الدَّاخلِ
كنَّا نرَى حمزة ذخراً لنا ... من كلِّ أمرٍ نالنا نازلِ
وكانَ في الإسلامِ ذا تدراءٍ ... لم يكُ بالواني ولا الخاذلِ
لا تفرحي يا هندُ واستحملي ... دمعاً وأذري عبرَةَ الثاكلِ
وابكي علَى شيبة إذْ قطَّهُ ... بالسَّيف تحت الرَّهج الكاهلِ
إذْ مالَ في مشيخةٍ منكُمُ ... في كلِّ عاتٍ قلبُهُ جاهلِ
نقلتُمُ حمزة في عصبةٍ ... تمشون تحت الحلق الفاصلِ

غداة جبريل وزيراً له ... نعمَ وزيرُ الفارس الحاملِ
وقال حسان يرثي جعفراً ومن قتل معه - رضي الله عنهم - :
تأوَّبني همٌّ بيثربَ أعسَرُ ... وهمٌّ إذا ما نوَّمَ الناسُ مُسْهرُ
لذكرى حبيب هيَّجت لك عبرةً ... سفوحاً وأسبابُ البكاءِ التّذكُّرُ
فلا يبعدنَّ الله قتلى تتابعوا ... بمؤتةَ منهمْ ذو الجناحين جعفرُ
غداة مضَى بالمؤمنينِ يقودهم ... إلى الموت ميمون النَّقيبةِ أزهَرُ
فطاعنَ حتَّى مالَ في غير مُوسِدٍ ... لمعترك فيه القنا يتكسَّرُ
وكنَّا نرَى في جعفر ومحمدٍ ... وقاراً وأمراً حازماً حين يأمُرُ
وما زالَ في الإسلامِ من آل هاشمٍ ... دعائمُ عزٍّ لا يُرام ومفخرُ
وهمْ جبل الإسلام والنَّاس حولهم ... رُكامٌ إلى طودٍ يروقُ ويقهرُ
بهاليلُ منهم جعفرٌ وابن أُمَّةٍ ... عليّ ومنهم أحمدُ المتخيَّرُ
وحمزةُ والعبَّاس منهمْ ومنهمُ ... عقيلٌ وماءُ العود من حيث يعصرُ
بهم تُقدحُ اللأواءُ في كلِّ معركٍ ... عَماسٍ إذا ما ضاقَ بالنَّاس مصدرُ
وقال آخر:
أُحبُّ عليّاً وأبناءهُ ... ولا أصرف الحُبّ عن جعفرِ
وحمزة منِّي له شُعبةٌ ... من الحبِّ صادقةُ المكسرِ
وفاز أبو الفضل عمّ الرَّ ... سول بالحبّ منِّي وبالأوفرِ
عرانين زندهمُ ثاقبٌ ... وعودهُمُ طيبُ المكسرِ
إذا انتسبوا نسبوا في القد ... يم إلى العزِّ والعدد الأكثرِ
كفاكَ بهم وبأبنائهم ... لدينك في النَّاس من معشرِ
أُحبُّهم للَّذي خصَّهمْ ... إله السَّموات بالكوثرِ
وقال آخر:
هلْ لقريش كُلِّها صادقاً ... والحقَّ من جاوزه أبطلا
إن تعرفوا فضل بني هاشمٍ ... نعرف لكم فضلاً وإلاَّ فلا
إن قلتُمُ بالمصطفى فضلنا ... فقدرهم قبلكمُ أولا
فأيّهم أولى به منكم ... بذلك الحكم أتى منزِلا
وقال دعبل بن علي:
مدارسُ آياتٍ خَلَتْ من تلاوةٍ ... ومنزلِ وحي مُقفرِ العرصَاتِ
لآلِ رسولِ الله بالخيف من مِنًى ... وبالبيتِ والتجميرِ والعرفاتِ
ديارُ عليَّ والحسين وجعفرٍ ... وحمزة والسّجّاد ذي الثفناتِ
قفا نسأل الدَّار الَّتي خفّ أهلها ... مَتَى عهدها بالصَّوم والصَّلواتِ
وابن الأولى شطَّتْ بهم غُربةُ النَّوى ... أفانين في الآفاقِ مفترقاتِ
بنفسيَ أنتمْ من كهولٍ وفتيةٍ ... لفكِّ عناةٍ أو لحملِ دياتِ
أُحبُّ قصي الرّحم من أجلِ حبّكم ... وأهجرُ فيكم زوجتي وبناتي
وما النَّاس إلاَّ غاضبٌ ومكذبُ ... ومضطغِنٌ ذو حَنَّةٍ وتراتِ
ويروى أن زينب بنت علي بن أبي طالب يوم قتل الحسين أخرجت رأسها من الخباء فقالت:
ماذا تقولون إن قالَ النبيُّ لكمْ ... ماذا فعلتم وأنتمْ آخرُ الأُممِ
بعترتي وبأهلي عند مُفتقدي ... منهمْ أُسارى ومنهمْ ضُرّجوا بدمِ
ما كانَ هذا جزائِي إذْ نصحت لكم ... أنْ تخلفوني بشرٍّ في ذوِي رَحمي
وقال سليمان بن قَتَّة مولى بني مدكور يوم الحسين رضي الله عنه:
مررتُ علَى أبياتِ آلِ محمَّدٍ ... فلم أرَها كعهدها يوم حُلَّتِ
فلا يُبعد اللهُ الدّيارَ وأهلها ... وإنْ أصبحتْ من أهلها قد تخلّتِ
وكانوا رجاءً ثمَّ عادوا رزيَّةً ... لقد عَظُمت تلك الرَّزايا وحلَّتِ
وإن قتيلَ الطفّ من آل هاشمٍ ... أذلَّ رقابَ المسلمين فذلّتِ
وقال منصور بن سلمة:
بنو بني الله يغدون في ... خوف ويغدو الناس في أمنِ
أمنهم ذا وهم جهرة ... من بين هذا الأنس والجنِّ
لو أنهم أولاد فرعون أو ... هامان ما زادوا وهُمْ ظبي
نالت علي بن أبي طالبٍ ... منهم يد لم تدر ما تجني
من يك ذا ضغنٍ على والدٍ ... بطالب الأولاد بالطعنِ
أحقاد بدر طالبتها العدى ... من أهل بيت الرجس واللعنِ
لا يُبعد الله ثوى عصبةٍ ... من هاشمٍ أفناهم المفتي
ما قتلوا إلا وقد اغدرت ... أيديهم بالضربِ والطعنِ
وقال أيضاً:

ولد النَّبيّ ومن أُحبُّهمُ ... يتطامَنون مخافةَ القتلِ
أمن النَّصارى واليهود وهمْ ... من أُمَّة التَّوحيد في الأزلِ
وقال أيضاً:
أُريق دم الحسين ولم يُراعوا ... وفي الأحياء أموات العُقولِ
ألا يأبَى جَبينكَ من جبينٍ ... جرَى دَمه علَى خدٍّ أسيلِ
فؤادك والسّلوّ فإن قلبي ... سبايا إن تعود إلى ذهولِ
وقد شرقت رماح بني زيادٍ ... تُروّى من دماء بني الرَّسولِ
أنشدني محمد بن الخطاب لنفسه في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
هو الَّذي أودَى وليداً ... في الوغى وشيبه جرَّعه
أنشدني محمد قال: أنشدني بعض النصارى لنفسه:
عديٍّ وتيم لا أُحاول ذكرَها ... بسوءٍ ولكنَّني محبٌّ لهاشمِ
وهل يعتريني في عليٍّ ورهطِهِ ... إذا لم أخف في الله لومة لائمِ
يقولون ما بال النّصارى تحبّه ... وأهل النُّهى من مغرب وأعاجمِ
فقلت لهم إنِّي لأحسبُ حبَّه ... طواهُ إلهي في صُدور البهائمِ
ولم نذكر شعر النصارى في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه افتقاراً إليه ولا اتكالاً في فضائلهم عليه، ولكن أردنا أن ننبّه على من قصدهم من أهل ملتهم الَّذي أوجبه عليه لهم في قوله تبارك وتعالى في محكم كتابه: )قل لا أسألكم عليه أجراً إلاَّ المودَّة في القربى( ولو أنَّ الله جلَّ ثناؤه أجاز سفك دمائهم رضوان الله عليهم، واعتقاد عداوتهم نصّاً في محكم التَّنزيل مكان ما أنزله في الحضّ على مودّتهم لما زاد المعاندون على ما فعلوا بهم بل قد أنزل الله في قتل المشركين، فما أتتك من حريمهم، ولا سبي نسائهم، ولا ذبح أطفالهم ولا قتل ساداتهم، ولا شردوا عن أوطانهم، ولا أخيفوا في مأمنهم ولا استفرع المجهود في مكارههم. وقد فعل ذلك كلّه بآل رسول الله صلى الله عليه، ولعمري ما رجع ضرر ذلك إلاَّ على من فعله، ولا احتقب الوزر فيه إلاَّ الَّذي ارتكبه. وعند الله المجازاة للمظلومين، والانتصاف لهم من المعتدين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وذكروا أنَّه لمَّا وجَّه معاوية زيد بن أرطأة في طلب شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام. هرب منه عبيد الله بن العباس فوجد ابنين له صغاراً فقتلهما، ففي ذلك تقول أُمّهما:
يا مَنْ أحسَّ بُنيَّيّ اللَّذين هما ... كالدُّرَّتين تَشَظَّى عنهما الصَّدفُ
يا مَنْ أحسَّ بُنيَّيّ اللَّذين هما ... سَمعي وقلبي فقلبي اليوم مُختطفُ
نُبّئتُ بُسْراً وما صدَّقتُ ما زعموا ... من قولهم ومن الأمرِ الَّذي اقترفوا
أُنحى علَى وَدَجيْ ابنيّ مُرهفةً ... مشحوذةً وكذاك الظّلمُ والسَّرفُ
من ذا رأَى أنَّني حَرَّى مفجعةً ... علَى صبيَّين ضاعا إذْ مضَى السَّلفُ
ثمَّ اجتمع بسر وعبد الله عند معاوية بعد ذلك فقال له عبيد الله: أهو الشَّيخ قاتل الصبيين، والله لوددت أن الأرض أخرجتني عندك. قال: فقد أخرجتك الساعة فمه. فقال: والله لو أن معي سيفي، فقال: هاك سيفك وأهوى بيده ليناوله سيفه فقال له معاوية: أُفٍّ لك من شيخ. ما أجهلك تجيء إلى رجل قد قتلت ابنه فتعطيه سيفك كأنَّك لم تعرف أكباد بني هاشم، أما والله لو بدأ بك ثمَّ لثنَّى بي. فقال عبيد الله لمعاوية: لا والله لبدأتُ بك ثمَّ لثنَّيت به، وقال إبراهيم ابن عبد الله بن الحسين يرثي أخاه محمد بن عبد الله عندما قتله عيسى بن موسى بن محمد في المعركة:
أبا المنازلِ يا خيرَ الفوارس مَنْ ... يُفجعْ بمثلك في الدُّنيا فقد فُجِعا
اللهُ يعلمُ أنِّي لو خشيتهُمُ ... وأوجسَ القلبُ من خوفٍ لهم فزعا
لم يقتلوهُ ولم تسلم أخِي لهمُ ... حتَّى نعيشَ جميعاً أوْ نموت معَا
ولبعض المحدثين يخاطب بعض قتلة الطالبيين:
قتلتَ أعزَّ من ركبَ المطايا ... وجئتك أستلينك بالكلامِ
وعزَّ عليَّ أن ألقاكَ إلاَّ ... وفيما بيننا حَدُّ الحُسامِ
ولكن الجناح إذا أُصيبت ... قوادمه ترفُّ علَى الأكامِ

الباب الرابع والخمسون
مراثي الملوك والسادات
وأهل الفضل والرئاسات

حدَّثني أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدَّثني محمد بن الفضل بن العباس قال: خرج الغريض ومعبد حتَّى إذا كانا على الثنيّة الَّذي تشرف بهم على مكَّة فقال الغريض لمعبد: لك كلّ من كان بها من أهل المدينة فاندفع يغني راكباً نحو المدينة:
يا راكباً نحو المدينة جَرةً ... أُجُداً تنازع حلْقةً وزماما
أقرأ علَى أهل البقيع من أمري ... عَمْد علَى أهل البقيع سلاما
كم غيّبوا فيه كريماً ماجداً ... كهلاً ومُقتبلَ الشَّباب غُلاما
ونفيسةً في أهلها مزكوةً ... جَمَعت صباحةَ جُثَّةٍ وثماما
فسمعتُ البكاء من سطوح مكة من ها هنا ومن ها هنا من كان بها أم كان من أهل المدينة. فاندفع يتغنى:
أسعداني بعبرةٍ أسرابِ ... من دموعٍ كثيرة التّسكابِ
إن أهل الخضابِ قد تركوني ... موزعاً مولعاً بأهل الخضابِ
سكنوا الجزْع جزعَ بنت أبي مو ... سى إلى النَّخلِ من صُفيّ السيابِ
سكنوا بعد غبطةٍ ورجاءٍ ... وسرورٍ بالعيشِ تحتَ التُّرابِ
كم بذاك الحجون من حيّ صدقٍ ... وكُهول أعفَّةٍ وشبابِ
فارقوني وقد علمتُ يقيناً ... ما لمن ماتَ مِيتةً من إيابِ
أهلُ بيت تَتَابعوا للمنايا ... ما علَى الموتِ بعدهُم من عتابِ
فلي اليوم بعدهم وعليهم ... صرتُ فرداً وملَّني أصحابي
قال: فما بقيت دار إلاَّ سمعنا فيها الصّراخ يصرخون حتَّى اصطبحوا.
وقال زهير بن أبي سُلمى يرثي النعمان بن المنذر بن ماء السَّماء، وكان سبب زوال ملكه فيما بلغنا أنَّه قتل عدي بن زيد العبادي، وكان النعمان قد ضمَّ زيد بن عدي إلى بعض أصحاب كسرَى، فنشأ زيد ولم يزل يتوصل إلى كسرَى حتَّى استكتبه فقال زيد لكسرى: لم يبق على الملك إلاَّ أن يتزوج إلى العرب فقال لكسرى وهل يأتي على ذلك أحد؟ فقال: أيها الملك إن العرب يشقّ عليها أن يتزوج إليها غير عربي، ولكن النعمان عاملك، فلو كتبت إليه في ذلك. فكتب إليه، فكتب النعمان يدعو الملك للزواج من بنات عمّه اللاتي كأنّهنّ المها ويخطب ....... فقال كسرى لزيد: ما يقول النعمان؟ فقال: يقول على الملك ببنات عمه اللاتي يتشبهن بالبقر، وأوهمه أن هذا على جهة العيب والبغيضة. فغضب كسرى، وكتب إليه يأمره بالقدوم عليه. فجزع النعمان من ذلك، وخاف أن يكون إشخاصه إيَّاه لمكروه يريده به، فجمع أقاربه وعشائره وشاورهم في أمره فقال له ذوو الرأي منهم: لا طاقة له بمغالبته وعصيانه ونحن بين يديك، فأجمع على الشخوص إليه. فلمَّا كان بساباط تلقَّاه زيد بن عدي. فقال له: انجُ نُعيم. يصغره بذلك ويحقّره. فقال له: أنت تقول هذا يا زيد، والله لئن رجعتُ لألحقنَّك بأبيك، فقال: انجُ نعيم فوالله لقد ضربت لك أُخيةً لا يقطعها إلاَّ المهر الأرن، فسار حتَّى أتَى كسرى، فوجه به إلى خانقين فيقال انه لم يزل محبوساً حتَّى هلك. ويقال أنَّه كان في محبسه يسأل زيداً الصفح عن جرمه والسعي في تخليصه فيقول صار فلم يرجع، فإمّا أن يردَّه وإمَّا أن يلحق به، ففي أمر النعم يقول زهير:
أراني إذا ما شئتُ لاقيتُ آيةً ... تُذكِّرني بعضَ الَّذي كنتُ ناسيا
ألم تَرَ للنعمان كانَ بنجوةٍ ... من الشَّرِّ لو أنَّ أمراً كانَ ناجيا
فغيَّر عنه مُلكَ عشرين حجّةً ... من الدَّهر يوماً واحداً كانَ عاديا
فلم أَرَ مَسلوباً له مثلُ ملكِهِ ... أقلَّ صديقاً كافياً ومُواسيا
رأيتهُمُ لم يُشركوا بنُفوسِهم ... مَنيَّتَه لمَّا رأوا أنّها هيا
سوى أنَّ حيّاً من رَوَاحَةَ حافظوا ... وكانوا زماناً يكرهونَ المُجازيا
فقالَ لهم خيراً وأثنَى عليهُمُ ... وودَّعهم توديعَ أن لا تلاقيا
وقال الذبياني:
لا يهنئِ النَّاس ما يرْعَوْنَ من كَلأٍ ... وما يسوقونَ من أهلٍ ومن مالِ
بعدَ ابن عاتكة الثَّاوي ببلقعةٍ ... أمسى ببلدةٍ لا عمٍّ ولا خالِ
حسبُ الخليلينِ نأيُ الأرض بينهُما ... هذا عليها وهذا تحتها بالِ
وقال رجل من طي:
لعمري لقد أردوك غيرَ مُؤمّل ... ولا مُعْلق بابَ السَّماحةِ بالعذرِ
سأبكيك لا مستبقياً فيضَ عبرةٍ ... ولا طالباً بالصَّبر عاقبةَ الصَّبرِ
وقال آخر:

فتًى كانَ مكراماً لنفسٍ كريمةٍ ... مَهيباً لدنيا غيرَ مأمونة العذْرِ
وكانَ لأحداث المنايا ذخيرةً ... فليسَ لها من بعده اليوم من ذُخرِ
وقال الخريمي:
وما شابَ حتَّى شادَ للمجد بيتَهُ ... وحتَّى اكتسى ثوبي جمال وسُؤددِ
لذكراك أحلى في الفؤادِ وفي الحشا ... من الشّهد بالعذب الزُّلالِ المبرّدِ
علَى أن بين السّحر والنَّحر جمرةً ... مَتَى ما أهيّجها بذكراك توقدِ
فقدتك فقد الطّفل أُمّاً حفيَّةً ... علَى صَرَعٍ منه وحَدثان مولدِ
دعاها فلمَّا استجمعت من دُعائه ... أجالَ علَى ثدي لأُخرى مُجدّدِ
فأنكره فارتاعَ يلمسُ أُمَّهُ ... وباتَ له ليلَ السَّليم المُسهّدِ
وقال مطيع بن أياس:
أقولُ للموت حين نازله ... والموتُ مقدامَهُ علَى البهمِ
لو قد تَدَبَّرت ما صنعتَ به ... عضضتَ كفّاً عليه من ندمِ
فاذهبْ بما شئتَ إذْ ذهبت به ... ما بعدَ يحيى للرُّزء من ألمِ
وقال آخر:
أودى محمدٌ المؤمّلُ والَّذي ... شُلَّتْ بمصرعه يدُ المعروفِ
من بعد ما أفنَى المُنى بكمالِهِ ... وحوَى فضيلة فعل كلّ شريفِ
قَتَلتهُ عين العُجب نيط بها العَمَى ... والدَّهرُ يأتي كرّة بصروفِ
أمسَى يكبّدُ نفسه فكأنَّه ... قمرٌ تَغَشَّاه الدُّجَى بكسوفِ
ومشى البلى في جسمِهِ فكأنَّه ... ورد قطيفٌ مؤذن بحفوفِ
لو شئت لا شئت العزاءَ لنبّهتْ ... بالوجد عنِّي لوعتي ونُحوفي
بأبي أهنتَ عليَّ كلّ رزيَّةٍ ... وأطلتَ في كدرِ الحياة وقوفي
وقال آخر:
لهفي عليك للَهفة من خائفٍ ... كنت المجير لها وليس مُجيرُ
أما القبورُ فلا تزالُ أنيسةً ... بجوار قبرك والدِّيارُ قبورُ
جلَّتْ مصيبتُهُ فعمَّ مُصابُهُ ... والنَّاس كلهمُ به مأجورُ
والنَّاسُ مأتمهمْ عليه واحدٌ ... في كلِّ دارٍ رنَّةٌ وزفيرُ
تجري عليك دموعُ من لم تُولِهِ ... خيراً لأنَّك بالثَّناءِ جديرُ
ردَّتْ مكارمُهُ عليه حَياته ... وكأنَّه من نشرها منشورُ
وقد أخذ الطائي في هذا المعنى بلطف في قوله أنشدنا أحمد بن أبي طاهر عنه:
محمَّد بن حُميد أخلقت رِمَمُهْ ... هُريقَ ماء المعالي مذْ هُريقَ دمُهْ
رأيته بنجاد السَّيف محتبياً ... في اليومِ كالبدرِ حلَّت وجهَهُ ظُلمهْ
في روضة قد علا ساحاتها زهراً ... أيقنت بعد انتباهي أنَّها نِعمهْ
فقلتُ والدَّمعُ من حزنٍ ومن فرحٍ ... في النَّومِ قد أخذ الخدَّين مُنسجمُهْ
ألمْ تمتْ يا شقيق الجود مذْ زمنٍ ... فقالَ لي لم تمتْ مَنْ لم يمتْ كرمُهْ
وقال آخر:
مضَى فمضتْ عيني به كلُّ لذَّةٍ ... تقرُّ بها عيناي وانقطعا معا
دَفَعنا بك الأقدار حتَّى إذا أتتْ ... تُريدك لم نَسْطِعْ لها عنك مدفعا
وقال آخر:
غدا ناعيك يومَ غدا بخطْبٍ ... يبُثُّ الشَّيْبَ في رأسِ الوليدِ
وتقعُدُ قائماً يشجى حشاهُ ... ويطلق للقيامِ حَبَى القعودِ
وأضحت خُشَّعاً منه نزارٌ ... مُركّبة الرَّواجب في الخدودِ
وقال معن بن زائدة في يزيد بن عمرو بن هبيرة:
ألا إن عيناً لم تجُدْ يومَ واسطٍ ... عليك بما في دمعها لَجمودُ
لفقد أخٍ كانَ الإخاء إخاءهُ ... إذا عُدَّ أوْ خانَ الودود ودودُ
علَى ذكر قيس الخافقين وخندفٍ ... أغرَّ له الغُرُّ الكرام وفودُ
فلم أنسَهُ إذْ خندق الموت حولَهُ ... عليه من الحتفِ المُطلّ حدودُ
فقيل له اقذف بالحياةِ وانْجها ... وثاباً له طوع الفراق حدودُ
فقاتل حتَّى أعذر الحيّ منهمُ ... وقام له بالعُذر ثَمَّ شهودُ
وفلَّ الحسامُ العضبُ الأسمر الَّذي ... بناه وظلَّ الطّرف وهو تليدُ
كأنَّك لم تَبْعد علَى مُتعهد ... بلى كُلّ من تحت التُّراب فقيدُ
وقال آخر:
لعمرُك ما الرَّزيَّةُ فقدُ مالٍ ... ولا شاةٌ تموتُ ولا بعيرُ
ولكن الرَّزيَّة فقدُ ميتٍ ... يموت لموته بشر كثيرُ
وقال:

عليك سلام الله قيسَ بن عاصمٍ ... ورحمتُهُ ما شاءَ أن يترحّما
تحيَّة من ألبسته منك نعمةً ... إذا زارَ عن شحطٍ بلادك سَلّما
فما كانَ قيسٌ هُلكُهُ هُلكُ واحدٍ ... ولكنَّه بنيانُ قومٍ تهدَّما
وقال آخر:
أحقّاً عبادَ الله أن لستُ رائياً ... عمارة طول الدَّهر إلاَّ توهّما
فأقسم ما حشمتهُ من مُلمةٍ ... تؤود كرام القوم إلاَّ تجشّما
ولا قلتُ مهلاً وهو غضبان قد علا ... من الغيظ وسط القوم إلاَّ تبسّما
وقال النمر بن تولب:
أبا خالدٍ ما كان أدهى مُصيبةً ... أصابتْ مَعَدّاً يومَ أصبحتَ ثاويا
لعمري لئن شرّ الأعادي فأظهروا ... شماتاً لقد مرّوا بربعك خاليا
فإن تكُ أفْنَتْهُ اللّيالي وأوشكت ... فإن له مجداً سيُفنى اللياليا
وقال آخر وأحسبه لبيداً:
لَعَمري لئن كان المُخبِّرُ صادقاً ... لقد رُزئتْ في سالف الدَّهر جَعفرُ
أخاً كان أما كلّ شيء سألته ... فيُعطي وأمَّا كل ذنبٍ فيعفِرُ
وقال حارثة بن بدر يرثي زياداً:
صلّى الإله علَى قبرٍ وطَهَّره ... عند الثويَّة يَسفى فوْقَه المورُ
زَفَّت إليه قريش نعشَ سيدها ... فالجود والحزم فيه اليوم مقبورُ
أبا المغيرةِ والدُّنيا مفجعَةٌ ... وإن من غُرَّ بالدنيا لمغرورُ
قد كان عندك للمعروف معرفةٌ ... وكان عندك للنكراء تنكيرُ
وكنت تسعى وتُعطي المال من سَعَةٍ ... إن كان بابك أضحى وهو مهجورُ
والنَّاس بعدك قد خَفَّت حُلومُهم ... كأنَّما نفخت فيها الأعاصيرُ
وقال آخر يرثي معن بن زائدة:
ألِمّا علَى مَعْنٍ فقولا لقبرهِ ... سُقيتَ العوادي مَرْبعاً ثمَّ مَرْبَعا
أحينَ ثوى معنِ ثوى الجود والنَّدَى ... وأصبحَ عرنين المكارم أجدعا
أيا قبرَ مَعْنٍ أنت أولُ حُفرةٍ ... من الأرضِ خُطَّت للسّماحة مضجعا
ويا قبرَ مَعْنٍ كيف واريتَ جوده ... وقد كان منه البَرُّ والبحرُ مُترعا
بَلى قد وَسِعْتَ الجودَ والجود ميتٌ ... ولو كان حيّاً ضقْتَ حتَّى تَصَدَّعا
فتًى عيش في معروفه بعد موته ... كما السيلُ أضحى بعد مجراهُ مرْتعا
وقال آخر:
تولى سعيد حين لم يبْقَ مَشْرِقٌ ... ولا مَغْرِبٌ إلاَّ له فيه مادحُ
كأنْ لم يَمُتْ حَيّ سواكَ ولم يقُمْ ... علَى أحد إلاَّ عليكَ النّوائحُ
لئن حَسُنتْ فيك المراثي وذكرُها ... لقد حَسُنتْ من قبلُ فيك المدائحُ
وقال إبراهيم بن هشام يرثي عمرو بن جري:
ولو كان البكاء يردُّ حقّاً ... علَى قَدر الرزايا بالعبادِ
لكان بُكاك بعد أبي حَويّ ... يقلُّ ولو جرى بدم الفؤادِ
مضى وأقام ما دجت اللّيالي ... له مَجْدٌ يُجلُّ عن المقادِ
وقال آخر:
فلله جاريّ اللذان هُما ... قريبين منّي والمزارُ بَعيدُ
مُقيمان بالبيداء لا يبرحانها ... ولا يسألان الركب أين تريدُ
هما تركا عيني لا ماء فيهما ... وشكا فؤاد القلب وهو عميدُ
وبلغنا أنَّه كان سبب موت مروان بن عبد الملك أنَّه وقع بينه وبين أخيه سليمان فقال يا ابن من تلحن أمه ففتح فاه ليجيبه وإلى جانبه عمر بن عبد العزيز فأمسك عليه فيه، وردّ كلمته وقال: يا أبا عبد الملك أخوك وابن أبيك وله السن عليك، فقال أبا حفص قتلتني، قال: وما صنعتُ بك؟ قال: رددت في جوفي أحر من الجمر، ومال لجنبه فمات وفيه يقول جرير يخاطب أخاه لأمه يزيد بن عبد الملك:
أبا خالدٍ فارقت مروان عن رضَى ... وكان يُزين الأرضَ أن تنزلا معا
نسيرُ فلا مروان للحيّ إن شَتَوْا ... ولا الرّكبُ إن أمسَوْا مخفين جوعا

الباب الخامس والخمسون
نوح الأهل والإخوان علَى من فقدوه من الشجعان
أنشد أحمد بن أبي طاهر عن أبي تمام:
كذا فليجلَّ الخطْبُ ولْيَفْدح الأمرُ ... وليس لعينٍ لم يَفضْ ماؤه عُذْرُ
إلاَّ في سبيل الله من عُطّلتْ له ... فجاجُ سبيل الله وانثغرَ الثغرُ
فتًى كلّ ما فاضَتْ عُيونُ قبيلةٍ ... دماً ضحكت عنه الأحاديثُ والذكرُ

فتى مات بين الضرب والطّعن ميتةً ... تقوم مقام النصر إن فاته النصرُ
وما مات حتَّى ماتَ مضربُ سيفهِ ... من الضرب واعتلَّت عليه القنا السُّمْرُ
وقد كان قرب الموتِ سهلاً فَردَّه ... إليه الحفاظُ المرُّ والخُلُقُ الوعْرُ
ونفسِ تَعاف العارَ حتَّى كأنه ... هو الكفرُ يوم الروع أوْ دونه الكفرُ
فأثبتَ في مستنقعِ الموتِ رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشرُ
كأنَّ بني نبهان يومَ وفاتِهِ ... نجومُ سماء خرَّ من بينها البدرُ
وأنَّى لهم صبرٌ عليه وقد مضَى ... إلى الموت حتَّى استشهدا هو والصَّبرُ
فتًى كانَ عذب الرّوح لا من غضاضةٍ ... ولكنّ كبراً أن يكونَ به كِبرُ
فتًى سلبتهُ الخيلُ وهو حمًى لها ... وبَزّته نار الحرب وهو لها جمرُ
وقد كانت البِيض المآثر في الوغى ... بواتِر فهي الآن من بعده بُتْرُ
لئن أُبغضَ الدَّهرُ الخؤونُ لفقدهِ ... لعَهدي به ممَّن يُحَبّ به الدَّهرُ
لئن غدرتْ في الرَّوع أيَّامُهُ به ... لما زالت الأيامُ شيمتُها الغدرُ
لئن أُلبست فيه المنية طيئاً ... لما عريت منه تميم ولا بكرُ
كذلك ما ننفكُّ تفقدُ هالكاً ... يُشاركنا في فقده البدو والحضْرُ
ثوى في الثرى من كان يحيا به الثرى ... ويغمرُ صَرفُ الدَّهر نائلهُ الغمْرُ
مضى طاهِرَ الأثواب لم يبْق روْضةٌ ... غداةَ ثوى إلاَّ اشتهتْ أنَّها قبرُ
عليك سلامُ الله وقفاً فإنني ... رأيتُ الكريمَ الحُرّ ليس له عمرُ
وقالت امرأة من كندة في أخوتها:
أبَوْ أنْ يفرُّوا والقنا في نحورهم ... فماتوا وأطرافُ القنا تقطرُ الدّما
ولو أنهم فرّوا لكانوا أعزّةً ... ولكنْ رأوا صبراً علَى الموت أكرما
هَوتْ أمهم ماذا بهم يومَ صُرَّعوا ... بجيشانَ من أسباب مجد تصرَّما
أنشدنا أحمد لأبي تمام:
بأبي وغير أبي وذاك قليلُ ... ثاوٍ عليه ثرى النياح مهيلُ
خَذلتْهُ أُسرتهُ كأنَّ سراتهُمْ ... جَهلوا بأنَّ الخاذل المخذولُ
أكلالُ أشلال الفوارس بالقنا ... أضحى بهنَّ وشُلوهُ مكلولُ
كُفّي فقتلُ محمدٍ لي شاهدٌ ... إن العزيزَ مع القضاءِ ذليلُ
أنسى أبا نصرٍ نسيتُ إذن يدي ... في حيثُ ينتصرُ الفَتَى ويُنيلُ
هيهاتَ لا يأتي الزَّمان بمثله ... إن الزّمانَ بمثله لبخيلُ
للسيفِ بعدك حُرقةٌ وعويلُ ... وعليك من وجد التليد غليلُ
إنْ طالَ يومُكَ في الوغى فلقد ترى ... فيه ويومُ الهام منكَ طويلُ
يا يومَ قَحْطَبة لقد أبقيتَ لي ... حُرَقاً أرى أيامَها ستطولُ
ليثٌ لو أن الليثَ قام مقامه ... لانصاعَ وهو يَراعةٌ إجفيلُ
لما رأى جَمْعاً قليلاً في الوغى ... وأولو الحفاظ من القليل قليلُ
لاقى الكريهةَ وهو مُغمِدُ رَوْعِه ... فيها ولكن سيفُهُ مسلولُ
ومشى إلى الموت الزؤام كأنما ... هو من سهولته عليه دخيلُ
ما زال ذاك الصَّبرُ وهو عليكمُ ... بالموت في ظِلِّ السيوف كفيلُ
مُسْتبسلونَ كأنما مُهجاتُكمْ ... ليست لكم إلاَّ غداة تسيلُ
ألِفوا المنايا والقتيل لديهُمُ ... من أن يُخلي العيشَ وهو قتيلُ
إن كان رَيبُ الدَّهر أثكلنيكُمُ ... فالدَّهر أيضاً ميّتٌ مثكولُ
وأنشدني بعض الأدباء:
أيا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تجزع علَى ابن طريفِ
فتى لا يُحبُّ الزادَ إلاَّ من التقى ... ولا المال إلاَّ من قنا وسيوفِ
وأنشدني ابن أبي طاهر لأبي تمام:
لو فَرَّ سيفٌ من العَيّوق مُنطلِقاً ... ما كان إلاَّ علَى هاماتهم يَقعُ
يودُّ أعداؤهم لو أنهم قُتِلوا ... وأنهم صنعوا مثل الَّذي صنعوا
ويضحك الدَّهرُ منهم عن غطارفةٍ ... كأن أيامَهمْ من حُسنها جُمعُ
منْ لم يُعاينْ أبا نصرٍ وقاتله ... فما رأى ضيغماً في شَدقِها سُبَعُ
فيمَ الشماتَةُ إعلاناً بأسُدِ وغًى ... أفناهُمُ الصبرُ إذْ أبقاكُمُ الجزعُ

لا غرو إن قُتلوا صبراً وإن جزعوا ... والقتلُ للصبر في حكم الفَتَى جَزعُ
وقالت الخنساء ترثي أخاها صخراً:
ألا ما لعينكِ أم ما لها ... لقد أخضلَ الدمعُ سِرْبالَها
فأقسمتُ أأسى علَى هالك ... وأسأل باكيةً ما لها
وخَيْل تكدّسُ مشى الوعو ... ل نازلت بالسيف أبطالها
بمُعْتَركٍ بينهم ضيّقٍ ... تجرُّ المنيَّةُ أذيالها
تُقابلُها فإذا أدْبَرتْ ... بَلَلْتَ من الطعن أكفالَها
ومُحْصنَةٍ من بنات الملو ... كِ قَعْقَعْت بالرمح خلخالها
فإن تك مُرَّةَ أوْدَتْ به ... فقد كان يكثرُ تقتالها
أنشدنا أحمد بن أبي طاهر لأبي تمام قالت الخنساء:
اذهب فلا يُبْعدنكَ الله من رجلٍ ... تَرّاك ضَيْم وطَلاّبٍ بأوتارِ
قد كنتَ تحمل قلباً ليس مؤتسياً ... مُركباً من نصاب غير خَوّارِ
مثلَ السنان كضوءِ البدر صورتُه ... جَلْدُ المريرة حُرُّ وابن أحرارِ
فسوف أبكيكَ ما ناحت مُطوّقةً ... وما أضاء نجومُ اللَّيل للساري
أبلغْ خفافاً وعوفاً غيرَ مُقصرةٍ ... عميمة من نداء غير أسرارِ
شُدّوا المآزرَ حتَّى تستقاد لكم ... وشمّروا إنَّها أيامَ تشمارِ
وأبكى فتى البأس لاقتهُ منِّيَّته ... وكلُّ نفسٍ إلى وقتِ ومقدارِ
كأنهم يوم راموهُ بجمعهمُ ... راموا الشكيمة من ذي لبدة ضارِ
مَتَى تفرَّجت الآلاف عن رجلٍ ... ماضٍ علَى الهول هادٍ غير مختارِ
تجيش منه فويق الثدي من يده ... معايد من نجيع الجوف فوّارِ
لو منكمُ كان فينا لم ينل أبداً ... حتَّى تلاقوا أموراً ذات آثارِ
أعني الذين إليهم كان منزلةً ... هل تعلمون ذِمامَ الضيف والجارِ
خفاف بن ندبة وعوف هذان اللذان عاتبتهما من الفرسان المعدودين وكانا مع صخر فهربا عنه، وقد أدرك خفافاً الإسلام فأسلم، وشعر الخنساء هذا من أجود الشعر لفظاً وأحسنه معنى، ألا ترى إلى اعتذارها من قتله أنَّه لم يقتله رجلٌ مثله، وإنَّما تفرجت الألف عنه وحده، ثمَّ أبى معاينتها من فزعته واستنهاضها الشجعان لاستغاثة النسوان، وقد كانت الخنساء من أحسن أهل زمانها، ثمَّ رُزئت أخاها معاوية ثمَّ عمرو، فلم تزل تبكيه وتُحسن القولَ في مراثيه حتَّى رُزئت أخاها صخراً بعده، قد رزئتها المصايب، وهذَّبت شعرها النوائب، وقلَّ من ناله من الجزع مثل ما نالها، لقد بلغني أن أخوتها أن استعدَوا عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تبكي عليه فإنَّه من أهل النار. قالت ذلك أعظم لحزني عليه، وبلغني عن عمر رضي الله عنه، أنَّه قال: دعوها فكلُّ ذي شجو تبكي شجوه وهذا الَّذي اعتذرت به لأخيها من قبله هو من أحسن ما تهيأ الاعتذار به اعتذرت بالمقدار الَّذي لا شيء يجاوز مثله، ولا أحد يخرج عن قبضته ثمَّ لم تقتصر عليه وحده حتَّى وضعت كثرة المؤازرين علَى قبله.
وما قصَّر أبو تمام فيما ذكرناه، وما نذكره إن شاء الله من اعتذاره لمن يرثيه ...... للقتل ...... للصبر على الفرار من اللقاء، والجزع عند معاينة الأكفاء، وأحسبُ أن أبا تمام كان معجباً بهذا المعنى الَّذي قد وقع له فلذلك كان كثيراً ما يردده. وأنشدني أحمد بن أبي طاهر:
إن ينتخِل حدثان الموت أنفسكم ... ويسلم الناسُ بين السرّ والعَطَنِ
فالماء ليس عجيباً أن أعذبهُ ... يفنى ويمتدّ عُمرُ الآجن الآسنِ
رُزءٌ علَى طيء ألقى كلاكِلَه ... لا بل علَى أزد لا بل علَى اليمنِ
لم يُثكلوا ليث حرْبٍ مثل محطبةٍ ... من بعد قحطبةٍ في سالف الزمنِ
إلاَّ تكن صَهرت عن منظر حَسَنٍ ... منه فقد صدرت عن مسمعٍ حسنِ
رأى المنايا خيالات النفوس ولم ... تسكن سوى المنية العليا إلى سكنِ
لو لم يمُتْ بين أطراف الرماح إذاً ... لمات لو لم يمُت من شدة الحَزنِ

أما صدر الكلام فحسن، وأمَّا البيت الأخير ففيه إفراط شديد، ومعنى ليس بالعذب، ولا بالشديد، وذلك أن الشجاع إنَّما يؤثر الموت على الفرار خوفاً لما يلحقه من العار، فإنما إيثاره قتل الأعداء له على قتله لهم، وظفرهم به وبقومه على ظفره بهم وبقومهم. فهذا يخرج عن حد الشجاعة، ويدخل في حدّ الرقاعة، وليس ينبغي لكل من تمكن من معنى، وتسهّل له نظمه أن ينظمه في شعره، ويحتمل ما يدخل فيه من المجال، رغبةً في التوفيق في الحال، وطلب التوسط والاعتدال، خيرُ على كل حال، لأنه لا يخرج عن حدّ التقصير والإخلال، ولا يبلغ بصاحبه إلى درجة المحال.
قالت بنت بدر ترثي الزبير بن العوام:
غَدَ ابن جُرْموزٍ بفارس بُهْمَةٍ ... يومَ اللقاء وكان غيرَ مُعَرَّدِ
يا عمرو لو نبَّهتهُ لوجدتَهُ ... لا طائشاً رعشَ الجنانِ ولا اليدِ
ثكِلتكَ أمُّكَ إن قتلتَ لمُسلماً ... حلَّتْ عليكَ عُقوبةُ المُتعمِّدِ
وكان قتل الزبير فيما بلغنا أنَّه لما انصرف عن البصرة تبعه ابن جرموز فعطف عليه الزبير فقال له: نشدتُكَ بالله فكف عنه، فلما جاوزه تبعه فلما عطف عليه الزبير رحمه الله ناشده فكف عنه، فلما صار على قريب من فرسخين من البصرة نام فضربه بن جرموز مغتالاً، فقال: ما له قاتله الله يذكرني بالله ثمَّ ينساه فأخذ رأسه وصار به إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال للآذن ائذن له، وبشره بالنار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: بشِّر قاتل ابن صفية بالنار فقال ابن جرموز:
أتيتُ عليّاً برأس الزبير ... وقد كنت أرجو به الزُّلفةِ
فبشَّر بالنَّار قبل العيا ... نِ فبئس بشارة ذي التحفةِ
فسيّان عندي رأسُ الزبيرِ ... وضرطة عنز بذي الجُحفةِ
أنشدنا ابن أبي طاهر:
دموعٌ أجابت داعيَ الحُزن هُجَّعُ ... توصَّلُ منا عن قلوب تَقطَّعُ
عفاءٌ علَى الدُّنيا طويل فإنها ... تُفرّق من حيث ابتدت تتجمّعُ
ولما قضى ثوب الحياة وأوقعت ... به نائبات الموت ما يتوقعُ
غدا ليس يدري كيف يصنع مُعْدمٌ ... دَرى دمعُهُ من وجده كيف يصنعُ
وقمنا فقلنا بعد أن أُفردَ الثوى ... به ما يُقالُ للسحابة تُقلع
ألمْ تكُ ترعانا من الدَّهر إن سطا ... وتحفظ من آمالنا ما نُضيّعُ
وتربطُ جأشاً والكماةُ قُلوبُهم ... تزعزع خوفاً من فتى يتزعزعُ
فأُنطق فيه حامد وهو مُفْحمٌ ... وأُفحمَ فيه حاسدٌ وهو مِصْقَعُ
وقال البحتري:
قبور بأطراف الثغور كأنها ... مواقعُها منها مواقعُ أنجمِ
حتوف أصابتها الحتوف وأسهمٌ ... من الموت كرَّ الموت فيها بأسهمِ
تُرى البيض لم تعرفهمُ حيث واجهت ... وجوههُمُ في المأزق المتجهمِ
بلى أن حدَّ السَّيف أعذرُ صاحبٍ ... وأكفرُ من نالتْهُ نعمةُ منعمِ

الباب السادس والخمسون
ذكر
النوح علَى من مات من الأبناء والقرابات
ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلّم، لما قتل النَّضْر بن الحارث بن كَلْدة جاءت أخته فعلقت بزمام راحلته صلى الله عليه وأنشأت تقول:
يا راكباً إن الأثيلَ مظنَّةٌ ... من صُبْحِ خامسةٍ وأنتَ مُوفَّقُ
بلِّغ به مَيْتاً بأن تحيةً ... ما إن تزال به النجائب تخْفقُ
منّي إليه وعَبْرةٍ مسفوحةً ... جادتْ لمائحها وأُخرى تخْنُقُ
هل يسمعَنَّ النَّضِرُ إنْ ناديتهُ ... إن كان يسمعُ ميتٌ لا ينطقُ
ظلّت سيوفُ بني أبيه تَنوشُهُ ... لله أرحامٌ هناك تَشقّقُ
النضرُ أقربُ ما أخذت قرابةً ... وأحقُّهم إنْ كان عتْقٌ يُعْتقُ
ما كان ضَرَّك لو منَنْت ورُبّما ... منَّ الفَتَى وهو المغيظَ المُحنقُ
فيقال أن النبي صلى الله عليه قال: لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته، وليس هذا مستنكر من أخلاقه. وذكروا أن أبا بكر الصديق رحمه الله صلى الصبح يوماً فلما انفتل قام متمم بن نويرة في مؤخر الناس، وكان رجلاً أعورَ ذميماً فاتّكى علَى سيَّةِ قوسه ثمَّ قال:
نِعمَ القتيلُ إذا الرياحُ تناوحت ... خلف البيوت قُتلْتَ يا ابنَ الأزورِ

أدعوتهُ بالله ثمَّ غرَرْتهُ ... لو هو دعاكَ بربه لم يُغررِ
وأومأ إلى أبي بكر فقال أبو بكر: والله ما دعوته، ولا غدرت به. ثمَّ بكى مُتمّم وانخرط على سيَّةِ قوسه حتَّى دمعت عينه العوراء. ثمَّ أتمَّ شعره فقال:
لا يُمسكَ العوراءَ تحت ثيابه ... حُلوٌ شمائله عفيف المئزر
ولنعمَ حشوَ الدرع كنت وحاسراً ... ولنعم مأوى الطارق المتنوّر
فقال له عمر: لوددت أنك رثيتَ أخي بمثل هذا. فقال يا أبا حفص: لو لم أعلم أن أخي صار حيث ما صار أخوك ما رثيته: يعني أن أخا عمر مات شهيداً فقال عمر: ما عزَّاني أحدٌ عن أخي بمثل تعزيته. وذكروا أنّ مُتمّم بن نويرة كان لا يمرُّ بقبر، ولا يُذكر الموت بحضرته إلاَّ قال: يا مالك ثمَّ فاضت عبرته ففي ذلك يقول:
وقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللِّوى فالدكادكِ
فقلت لهم إن الأسى يبعث البُكا ... ذروني فهذا كلُّه قبرُ مالك
وقال دُريد بن الصمّة يرثي أخاه:
أمرتهُمُ أمري بمُنْعرج اللِّوى ... ولم يسْتبينوا النُّصحَ إلاَّ ضُحى الغدِ
فلما عصوني كنتُ منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنَّني غيرُ مُهْتدِ
فما أنا إلاَّ من غزيّة إن غَوتْ ... غويتُ وإن ترشُدْ غزيّةَ أرشُدِ
وقلتُ لهم طنّوا بألفي مُقاتل ... سرابهمُ في الفارسيِّ المُسَرَّدِ
دعاني أخي والخيلُ بيني وبينهُ ... فلما دعاني لم يجدْني بقُعْددِ
فجئت إليه والرماح تنوشهُ ... كوقع الصّياصي في النسيج المُمدَّدِ
وكنتُ كذاتِ البَوِّ ريعتْ فأقبلت ... إلى قطع من جلد سَقْب مُقدّدِ
فطاعنتُ عنه الخيلَ حتَّى تنهنهتْ ... وحتَّى علاني حالك اللون أسودِ
فنادوا وقالوا أردت الخيلَ فارساً ... فقلتُ أعبدَ الله ذلكم الرَّدي
فإن يكُ عبد الله خلَّى مكانهُ ... فما كان وقّافاً ولا طائشَ اليدِ
قليل التشكّي للمصيبات حافظٌ ... من اليومِ أعقابَ الأحاديثِ في غدِ
وقالت الخنساء في أخيها:
وقد كنتُ أستعفي الإله إذا اشتكى ... من الأجر لي فيه وإنْ عَظُم الأجْرُ
وأجزعُ أن تنأى به بين أهله ... فكيف ببينٍ صار معتاده الحشرُ
وقالت أيضاً:
يا صخر بنت فهاجني تذكاري ... شأنيك عاش بذلةٍ وصغار
كنا نعدُّ لك المدائح كلها ... فاليوم صرت تناح في الأشعار
وقال أيضاً:
ألا يا صخرُ إن أبكيتَ عَيْني ... فقد أضحكتني دهْراً طويلا
بكيتُك في نساءٍ مُعْولاتٍ ... وكنتُ أحقَّ من أبدى العويلا
دفعتُ بك الجليلَ وأنت حيٌّ ... فمن ذا يدفعُ الخطبَ الجليلا
إذا قَبُحَ البُكاءُ علَى قتيلٍ ... رأيتُ بكاءك الحَسنَ الجميلا
ولما مات عاصم بن عمر بن عبد العزيز جزع عليه أخوه عبد الله فرثاه فقال:
فإنْ تكُ أحزان وفائض عَبْرةٍ ... أثرْنَ دماً من داخل الجوف منقعا
تجرّعتما في عاصمٍ واحتسبْتُها ... لأعظمَ منها ما احتسى وتجرَّعا
فليتَ المنايا كُنَّ صادفْنَ غيرهُ ... فعشنا جميعاً أوْ ذهبْنَ بنا معا
وقال ربيع الأسدي يرثي أخاه:
كأني وصيفيُّ شقيقيَ لم نَقُلْ ... لموقد نار آخرَ اللَّيل أوْقدِ
فلو أنَّها إحدى يديَّ رُزِئتها ... ولكنْ يدي بانتْ علَى إثرها يدي
وقال آخر في أخ له قُتل:
زعموا قُتلتَ وعندهُمْ عُذْرُ ... كذبوا وقبرك ما لهُ عُذرُ
والله لو بِك لم أدَعْ أحداً ... إلاَّ قتلتَ لفاتني الوترُ
قال العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان، وكان من رواة أخبار الجاهلية والإسلام ومات له بنون فرثاهم مراتٍ كثيرة منها:
أضْحتْ بخدي الدموع رسومُ ... أسفاً عليك وفي الفؤادِ كُلومُ
والصبرُ يُحمدُ في المصائبِ كُلِّها ... إلاَّ عليك فإنَّه مَذمومُ
ما واحدٌ في ستةٍ أسكنتُهم ... حُفَراً تُقسَّمُ بينهم ورجومُ
لولا معالمُ رسمهن لما اهتدى ... لحميمه بين القُبور حميمُ
وقال أيضاً:
أما يزجُر الدَّهرُ عنِّي المنونا ... يُبَقّي البنات ويُفني البنونا
وكنتُ أبا ستة كالبدو ... رقدَ فقأوا أعين الحاسدينا

فمروا علَى حادثات الزما ... نِ كمرّ الدراهم بالناقدينا
وما زال ذلك دأب الزما ... نِ حتَّى أماتهمُ أجمعينا
وحتَّى بكى لي حُسَّادهُمْ ... وقد أقرحوا بالدموع الجفونا
وحسبُك من حادث بامرئ ... ترى حاسديه له راحمينا
فمن كان يُسليه مرُّ السنين ... فحزني تجدّده لي السنونا
وقال محمد بن حسّان الضَّبِّيّ:
هيئْ لأحمدَ في الثرى بيتُ ... وخلا لهُ من أهلهِ بيتُ
وكأن مولده ويوم وفاته ... صوتٌ دعا فأجابه صوتُ
ومات ابن لأرطاة بن سُهيَّة من غطفان، فأقام على قبره حولاً يأتيه كلَّ غداة فيقول: يا عمرو إنْ أقمتُ حتَّى أصبح هل أنت غادٍ معي. وينصرف، فلما كان عند رأس الحول انصرف عن قبره وأنشأ يقول:
وقفتُ علَى قبر ابن ليلَى ولم يكُنْ ... وقوفي عليه غير مبكًى ومجزع
هل أنت ابن ليلَى إن نظرتُك ليلةً ... من القوم أو غادٍ غداة غدٍ معي
وذكروا أن خالد بن الوليد قتل رجلاً من بني عُذرة يقال له فطن بن شريع، فأقبلت أمه فقالت:
ألا تلك المسرَّةُ لا تدومُ ... ولا يبقى علَى الدَّهر النعيمُ
ولا يبقى علَى الحدثانِ عَقْرٌ ... بشاهقةٍ لها أمُّ رؤومُ
وقالت أيضاً:
يا جامعاً جامعَ الأحشاء والكبدِ ... يا ليتَ أمَّكَ لم تولد ولم تَلدِ
ثمَّ انكبت عليه وشهقت وماتت.
وقالت امرأة ترثي ابنها:
لا يبعد الله فتياناً رزئتهم ... بانوا لوقتِ مناياهم وقد بعدوا
أمست قبورُهمُ شتَّى وتجمعُهمْ ... حوض المنايا ولم يجْمعهم بلدُ
ميتٌ بمصرَ وميت بالعراق ... وميتٌ بالحجاز منايا بينهم بدَدُ
دُعوا من المجد أحياناً إلى أجلٍ ... حتَّى إذا أكملتْ أطمارُهمْ وردوا
كانت لهم هممٌ فرّقْنَ بينهم ... إذا القعاديد عن أمثالهم قعدوا
بذل الجميل وتفريج الجليل ... وإعطاءَ الجزيل إذا لم يُعْطه أحدُ
وقال آخر:
لقد شمتَ الأعداء بي وتنكّرتْ ... عيونٌ أراها بعدَ هُلك أبي عمرو
تجرّى عليَّ الدَّهر لمّا فقدتهُ ... ولو كان حيّاً لاجترأتُ علَى الدَّهرِ
أسكّان بطنِ الأرض لو يُقبلُ الفدا ... فدينا وأعطينا بكم ساكنَ الظّهرِ
وقاسمني دهري بنيَّ بحُكمه ... فلما ترقّى شطرُهُ مالَ في شطري
فأضحوا ديوناً للمنايا ومن يكُنْ ... عليه لها دينٌ قضاه إلى العُسرِ
كأنهمُ لم يعرف الدَّهر غيرهم ... فثكلٌ علَى ثكلٍ وقبرٌ جدا قبرِ
وكنتُ به أُكنى فأصبحتُ كلَّما ... كنيتُ به فاضَتْ دموعي علَى نحري
ألا ليتَ أمي لم تلدني وليتني ... سبقتُكَ إذْ كنا إلى غاية نجري
وقال بعض الشعراء يرثي ابناً له مفقوداً:
فلو صارفونا النَّاس قبلي بينهم ... أُتيحَ له موتٌ فأضْمَرهُ قبرُ
إذن لصبرتُ النَّفس ثمَّ احتسبتهُ ... وفي الصبر لله المثوبة والأجْرُ
ولكنْ طوَتْ عنّي المقادير علمه ... فما لي به منذ انثنى شخصه خبرُ
أموتٌ فيُسلى أم حياةٌ فترتجى ... أبرُّ أتى من دون مثواه أوْ بحرُ
فرحمتك اللهم قد بلغ الأسى ... نهاية مجهودي فقد غلب الصبرُ
وقال الفضل بن العباس الكاتب:
نفسي فداءُ فقيد خفَّف المؤنا ... طول الحياة وعند الطَّعن إذْ طَعَنا
فما حمينا له زاداً يزوّدهُ ... ولا كفلنا له نعشاً ولا كفنا
مضى علَى وجهه لا عن مُراغمةٍ ... تشجيه منا وإلاَّ استدعت له الإحنا
قد كنتَ تذكرُ أن الأمرَ مُقتربٌ ... في سفرةٍ لم تزلْ منها تُحذرُنا
فليت شعري أمقتولاً ثويتَ بها ... أوْ في عراض الرَّدَى أمسيت مُرْتهنا
يقربنّكَ لأم الأرض أكِلة ... لم يبق فيه لنا روحاً ولا بدنا
أودى الزَّمان بعباسٍ وخلَّفني ... من بعده كمداً حيرانَ مُرتهنا
كأنني والهٌ اغتيل واحدُها ... فليس تألفُ من ثُكل به وطنا
فإن تضمّنهُ ربي إليه فما ... أُحصي السوالف من نعماه والمننا
وفي نحو ذلك وهو من نفس الكلام:
ليتَ شعري ضلَّةً ... أيُّ شيءٍ قتلكْ
أعدوُّ لم تخف ... ه أم رصيدٌ ختلكْ

طاف يبغي نجوةً ... من هلاكٍ فهلكْ
كل شيءٍ قاتل ... حين تلقى أجلك
والمنايا رَصَدٌ ... للفَتَى حيثُ سلكْ
أيُّ شيءٍ حسنٍ ... في فتًى لم يكُ لكْ

الباب السابع والخمسون
ذكر
من جزع فاحتاج إلى تعزية أوليائه
ومن رزق الصبر فاستغنى بحسن عزائه
حدثنا القاضي إبراهيم بن عيسى الزهري قال، وحدثنا محمد بن عاصم صاحب الحانات قال: حدثنا سليمان بن عمرو وأبو داود النخعي عن مهاجر بن الشامي عن عبد الرحيم بن غُنم عن معاذ بن جبل قال: مات ابن لي فكتب إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم. من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل سلام عليك، فإنِّي أحمدُ إليك الله الَّذي لا إله إلاَّ هو. أما بعد، فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثمَّ أن أنفسنا وأموالنا وأهالينا وأولادنا مواهب لله الهينة ...... المستودعة متعك به في غبطة وسرور، وقبضه أجر كبير إن صبرت واحتسبت، فلا تجمعنَّ عليك يا معاذ أن يُحيط جزعك أجرك فتندم على ما فاتك، فلو قدمت على ثواب مصيبتك عرفت أن المصيبة قد قصرت عنه، واعلم أن الجزع لا يردُّ ميتاً، ولا يدفع حزناً، فليذهب أسفك ما هو نازل بك، فكان قدر السلام. لولا ما تقدم من ضماننا أن نُضمّن كل باب مائة بيت من الشعر لاستغنينا بهذه التعزية وحدها عن كل ما كان من جنسها لأنها بحمد الله مستغنية عما يوجدها، دالّة على قبح ما يخالفها. وما عسى أن نذكر بعدها، هل تركت لقائل مقالاً أوْ ضمنت أقطارها زللاً واختلالا معاذ الله هي أحسن كمالاً، وأتم جمالاً من أن يحبسها التوكيد أوْ ينوء بها التأييد، وأنَّها لموجبة على من عقلها أن يعتد المصيبة نعمة، وأن يرى الجزع منها نعمة، ولقد أصاب أبو تمام الطائي بعض الإصابة في قوله، وإن كان سمع هذه التعزية وكسا شعره بعض معانيها فقد أحسن في فعله حيث يقول:
لله درُّ بني خليفٍ معشراً ... أي امرءٍ فُجعوا به ولربما
فُجعوا بذي الحسب التليد فأصبحوا ... لا مُلبسين ولا ضعافاً رُخّما
حتَّى كأنَّ عدوّهم ممَّا يرى ... من صبرهم حسبَ المصيبة أنعما
وممَّن عزَّى نفسه فأحسن تعزيتها، وكفى أولياءه مداراتها، ومؤونة التشاغل بها ابن سبيل معبد البجلي حيث يقول:
وهوَّن عنِّي بعض وجدي أنَّني ... رأيت المنايا تغتدي وتَنوبُ
وأنِّي رأيتُ النَّاس أفنى كرامَهم ... حوادث ذل العالمين نصيبُ
وما نحن إلاَّ منهمُ غير أننا ... إلى أجل ندعى له فنجيبُ
ولقد أحسن الَّذي يقول:
وهوَّن وجدي إنَّما هو كائن ... أمامي وإنِّي واردُ اليوم أوْ غدِ
وهوَّنَ وجدي إنَّني لم أقلْ له ... كذبتَ ولم أبخلْ بما ملكتْ يدي
وقال عبد الصمد يرثي عمرو بن سعيد بن سَلَم:
تولى أبو عمرو فقلت له عمرو ... كفانا طلوعُ البدر غيبوبة البدر
وكنا عليه نحذِر الدَّهر وحده ... فلم يبقَ ما يُخشى عليه من الدَّهر
وهوّن وجدي أن من عاش بعده ... مُلاقي الَّذي لاقى وإن مُدَّ في العُمر
وهوّن وجدي إنَّني لا أرى امرءً ... من النَّاس إلا وهو مُغضٍ علَى وتر
وكانت تعم النَّاس نعماء كفّه ... فعمّوا عليه بالمصيبةِ والأجر
وما قصرت الخنساء حيث تقول:
ولو لا كثرةُ الباكين حولي ... علَى إخوانهم لقتلتُ نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزّي النَّفس عنه بالتأسي
وهذا لعمري من أحسن الكلام لفظاً، وأحسنه اختصاراً، وأشدَّه استيفاءً لأجل معنى، وذلك أنَّها وكَّدت جزعها عليه بإخبارها أنَّه لا مانع لها من قتل نفسها إلاَّ كثرة نظائرها، ثمَّ أفردت قتيلها من جملة قتلى غيرها فشبهت نفسها بأنفسهم، ورفعت قتيلها عن قتلاهم، وقد أحسن الَّذي يقول، وإن كان دون ذلك:
ولا تجزعي يا أمّ زيدٍ وفاته ... ستأتي المنايا كل حاف وذي نعل
فلولا الأسى ما بتُ في الحبس ليلةً ... ولكنْ إذا ما شئتُ جاوبني مثلي
وقال الحسن بن عبيد الربيعي في أخيه جبار:
وطيّب نفسي عن خليلي أنَّني ... إذا شئتُ لاقيتُ امرءً يتلَهفُ
جرينا لما حالَ الحوادث بينه ... وبين الأحباء الَّذي كان يألفُ

أجدكَ لا تنسى ولا أنت ذاكراً ... خليلك إلاَّ ارفضَّت العين تَذرفُ
ولقد أحسن الَّذي يقول:
عزَّ من ظنَّ أن يفوتَ المنايا ... والمنايا قلائدُ الأعناقِ
إنَّما عجلت سهام المنايا ... فالذي أخّرت سريع اللِّحاقِ
قلتُ للفرقدين واللَّيل مُلقٍ ... سود أكنافه علَى الآفاقِ
أبقيا ما بقيتما فسيرمى ... بين شخصيكما بسهم الفراقِ
وقال آخر:
لعمري لقد راعت أُمامة طلعتي ... وإن ثوابي عندها لقليلُ
يقول أراه غرّه لاهياً به ... وذلك خطبٌ لو علمت جليلُ
فلا تحسبي أنِّي تناسيتُ عهده ... ولكنَّ صبري يا عُميمُ جميلُ
وقال آخر:
بأبي وأمي من عبأتُ حَنوطهُ ... بيدي ومن بوَّأتُهُ لَحْدا
فارقتُه لا أشتكي لفِراقه ... وخُلقتُ يومَ خُلقتُ جَلْدا
ولأبي العتاهية:
قدم العهدُ وأسلاني الزَّمنْ ... إن في القبر لمسلى والكفن
وكما تَبْلى وجوهٌ في الثوى ... فكذا يبلى عليهن الحَزنْ
وقال آخر في ابنٍ له:
أجارتَنا لا تجزعي وأنيبي ... أتاني من الموت المُطلِّ نصيبي
عجبتُ لإسراع المنيَّة نحوهُ ... وما كان لو كليتُه بعجيبِ
يؤمل عيشاً في حياة ذميمةٍ ... أضرَّتْ بأبدانٍ لنا وقلوبِ
وما خير عيش لا يزال مُقرَّعاً ... بفوت نعيمٍ أوْ بموت حبيبِ
لعمري لقد دافعت يوم محمدٍ ... لو أن المنايا ترعوي لطبيب
وقال أعرابيّ وقتل أخوه ابناً له، فقدم ليقتاد منه، فلما أهوى بالسيف ارتعد زنده فألقى السَّيف وعفا عنه وقال:
أقول للنفس تأنيباً وتعزيةً ... إحدى يديّ أصابتني ولم تُرد
كلاهما خَلَفٌ من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
وقال أبو خراش:
حمدتُ إلهي بعد عروة إذْ نجا ... خراشٌ وبعض الشرِّ أهونُ من بعض
علَى أنَّها تعفو الكُلوم وأنَّها ... توكّل بالأدنى وإنْ جلَّ ما مضى
فوالله لا أنسى قتيلاً رُزئته ... فجانب قوسي ما مشيت علَى الأرض
ولم أدرِ من ألقى عليه رداءه ... علَى أنَّه قد شلّ عن ماجد محض
وقال هشام أخو ذي الرّمَّة:
تسلّيتُ عن أوفى بغيْلان بعدَه ... عزاءً وجَفنُ العين بالدمع مُتْرَعُ
ولم تُنسني وفى المصائبُ بعده ... ولكنّ نكأ القرح بالقرح أوجعُ
وقال آخر:
فكان سنانٌ من هريم خليقةً ... وحصناً وأمراً سالماً يتعتبُ
كواكبُ دجن كلما انقض كوكبٌ ... بدا وانجلت عنه الدجنة كوكبُ
وقال أوس بن حجر وكان فيما ذكر أبو عبيدة شاعر مضر حتَّى نشأ زهير والنابغة فوضعا منه ولكنه شاعر تميم غير مدافع:
أيتُها النَّفسُ اجملي طَمعا ... إنَّ الَّذي تحْذرينَ قد وقَعا
إنَّ الَّذي جمعَ السماحة والنجدةَ ... والبأسَ والنَّدَى جمعا
وهذا أتمُّ في الحال ممَّا ذكرناه قبله أنَّه تسلَّى عن منيته بغيره لأن هذا جعل النَّاس وحده سبباً لتسلية نفسه وأولئك جعلوا حياة الباقي سبباً للتسلي عن المضي. وهذا يعتوره حالان من النقصان أحدهما تقصير بالماضي إذْ كان من بعده يُسلّي فقده، ويسدُّ موضعه. والثاني تقصير القائل بنفسه إذْ جعلها غير منقادة له في التسلِّي عن من يئست منه إلاَّ بإقامة عوض ينوب عنه. وقال رجل لعمر بن عبد العزيز عند وفاة ابنه عبد الملك:
تعزّ أميرَ المؤمنين فإنَّه ... لما قد ترى يُغذي الصغيرُ ويولدُ
هل ابنُك إلاَّ من سلالةِ آدمٍ ... لكُلٍّ علَى حوض المنيَّةِ موْرِدُ
ولما قتل بُسْر بن أرطاة عمرو بن أراكة جزع عليه أخوه عبد الملك:
لعمري لئن أتْبعتَ عينيك ما مضى ... به الدَّهرُ أوْ ساقَ الحِمامُ إلى القبرِ
لتَسْتنفدَن ماء الشؤون بأسرهِ ... ولو كنتَ تَمريهنَّ من لجج البحرِ
تبيَّنْ فإنْ كان البُكا ردَّ هالكاً ... علَى أحد فاجهدْ بُكاك علَى عمرو
ولا تبك ميتاً بعد ميتٍ أجنَّهُ ... عليُّ وعباسٌ وآلُ أبي بكرِ
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة:
ترى المرء يبكيه إذا مات قبله ... وموت الَّذي يبكي عليه قريبُ

يود الفَتَى المال الكثير وإنَّما ... لنفس الفَتَى ممَّا ينال نصيبُ
وقال آخر:
لا تكره المكروه عند نزوله ... إنَّ العواقبَ لم تزل متباينة
كم من يدٍ لا يُستقلُّ بشكرها ... لله في ظل المكاره كامنة
وقال آخر يعزي رجلاً عن أبيه:
اصْبر لكلِّ مُصيبةٍ وتجلّدِ ... واعلمْ بأن المرءَ غيرُ مُخلَّدِ
وإذا ذكرتَ محمداً ومصابَه ... فاذكرْ مصابَك بالنبي محمدِ
وبلغني أن رجلاً عزَّى يحيى عن حرمةٍ له فقال: أيها الوزير تقديم الحرم من النعم وتمثل:
تعزَّ إذا رُزئتَ فخيرُ درعٍ ... تسرْبَل للمصائب درعُ صبرِ
ولم أرَ نعمةً شملت كريماً ... كعورةِ مُسلم سترت بقبرِ
وقال بعض الطاهريين:
لكلِّ أبي أنثى إذا ما ترعرعتْ ... ثلاثةُ أصهارٍ إذا ذُكرَ الصهرُ
فأمٌّ تراعيها وبعلُ يصونُها ... وقبرٌ يواريها وخيرهمُ القبرُ
وقال البحتري:
أتبكي من لا يُنازلُ بالسي ... ف مُشيحاً ولا يهُزُّ اللواءَ
لَسْنَ من زينة الحياة كعهد الله ... منها الأموال والأبناءَ
وتلقت إلى القبائل فانطُرْ ... أُمهاتٍ يُنْسَبْن أم آباءَ
ولعمري العجزُ عندي إلاَّ ... أن يبين الرِّجال تبكي النِّساءَ
وقال يزيد بن الحكم الثقفي:
فإن تحتسبْ تؤجر وإن تبكه تكن ... كباكيةٍ لم يُحيى ميتاً بكاؤها
ومن سِرِّ حظي مُسلم من مصيبةٍ ... بكاءٌ وأحزان قليلٌ جداؤها
وذكر لنا أن محمد بن عبد الملك الزيَّات كانت له جارية وكان بها ضنيناً وكان له منها ابن يقال له عمرو، فماتت وابنه صغير فقال فيها:
ألا من رأى الطفل المفارق أمّهُ ... بعيد الكرى عيناه تنسكبانِ
ضعيف القوى لا يطلب الأجر حسبةً ... ولا يأتسي بالناس والحدثانِ
رأى كل أمٍّ وابنها غير أُمّه ... يبيتان تحت اللَّيل ينتجيانِ
يرنُّ بصوت مضَّ قلبي نشيجه ... وسحّ دموع ثرّة الهملانِ
فلا تلحياني إن بكيتُ فإنما ... أداوي بهذا الدمع ما تريانِ
وهذا لعمري اعتذار من شدة الجزع ينكأ قلوب اللائمين وسلَّى عيون الشامتين ويخرج المُعزين إلى التعزية، وتُستغربُ معانيه، ويُستجاد شعره ويُستعذبُ لفظه على معاره ...... قول ماويّة بن مُرَّة امرأة كليب تشتكي ما بها من قتل أخيها لزوجها:
يا قتيلاً قوَّضَ الدَّهرُ به ... سَقْفَ بيتي جميعاً من عَلِ
هدَّم البيت الَّذي استحدثتهُ ... وبدا في هدم بيتي الأول
يا نسائي دونكن اليوم قد ... خصَّني الدَّهر برزء مُعْضل
حضني قتلُ كليب بلظًى ... من ورائي ولظى مستقبلي
ليس من يبكي ليومين كمن ... إنَّما يبكي ليومٍ مُقبلِ
درك الثائر شافيه وفي ... دركي ثأري ثُكلُ الثُكلِ
قتل جساسٍ علَى وجدي به ... قاطع ظهري ومُفنٍ أجلي
لو بعين فُديت عين سوى ... أختها فانفقأت لم أحفلِ
إن تكن أختُ امرئٍ ليمتْ علَى ... شفقٍ منها عليه فافعلِ
جلَّ عندي فعلُ جساس فيا ... حسرتي عما انجلى أو ينجلي
إنَّني قاتلةٌ مقتولة ... ولعلَّ الله أن يرتاح لي
وقال آخر:
تمنى ابنتايَ أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلاَّ من ربيعة أو مُضَرْ
وباكيتان تندبان لعاقلٍ ... أخا ثقةٍ لا عين منها ولا أثرْ
وقوما فقولا بالذي قد علمتما ... ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعرْ
وقولا هو المرء الَّذي لا خليله ... أضاع ولا خان الوفاء ولا غدرْ
إلى الحول ثمَّ اسم السلام عليكما ... ومن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتذرْ
وهذا من الكلام السائر اللفظ المستعمل المعنى إذْ ليس ترى ميتاً وإن جل رزؤه وعظم فقده يبكي عليه إلاَّ في الندرات، فأمَّا النياحة والاجتماعات فلا يراها إلاَّ قبل الحول، وليس يستحسن من أهل المصائب مراعاة الحزن والإفراط في باب الجزع، وليس يحسن أيضاً التحقق بقسوة القلب وقلة الجزع من فقد المحبوب كالذي يقول:
يُبكى علينا ولا نبكي علَى أحدٍ ... لنحن أغلظُ أكباداً من الإبل

ولكن بين الطرفين واسطة عادلة، فيها رقة تشاكل طباع المؤمنين، وحسن تجلّد يشبه أخلاق المتقين، فقد روي عن النبي صلى الله عليه أنَّه بكى على ابنه إبراهيم وقال: لو نفع الحزن حزنّا عليك حزناً هو أشدّ من هذا وأنا عليك يا إبراهيم لمحزونون، تدمع العين، ويحرق القلب، ولا نقول ما يسخط الرب.

الباب الثامن والخمسون
ذكر
التزهيد فيما يفنى والترغيب فيما يبقى
بلغنا أن أمية بن أبي الصلت أُغمي عليه في مرضه الَّذي مات فيه، فأفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما هأنذا لديكما، لا ثري فأعتذر ولا ذو قوة فأنتصر. ثمَّ أُغمي عليه ثمَّ أفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما لا مال لي يفتديني ولا عشيرة تحميني، ثمَّ قال:
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قِلال الجبال أرعى الوعولا
كل عيش وإن تطاولَ يوماً ... صائرٌ مرَّه إلى أن يزولا
فاجعل الموت نُصب عينيك واحذرْ ... غولة الدَّهر إن للدهر غولا
أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي لنافع بن لقيط القفعسي:
اذهبْ إليك فليس يعلمُ عالمٌ ... من أين يُجمعُ خطُّه المكتوبُ
يسعى ويأملُ والمنيَّةُ خلفه ... يوفي الأكام بها عليه رقيبُ
يسعى الفَتَى لينال أقصى سعيه ... هيهات ذاك ودون ذاك خطوبُ
لا الموتُ مُحتقرُ الصغير فعادلٌ ... عنه ولا كِبرُ الكبير مهيبُ
فلئن بُليتُ لقد عبرتُ كأنني ... غصنٌ تفيّأهُ الرياح رطيبُ
وكذاك حقّاً من يعمرُ يبلهِ ... كرّ الزَّمان عليه والتقليبُ
حتَّى تعود إلى البلى وكأنه ... بالكفّ أفوقُ ناصلٍ مغصوبُ
مرط الفداد فليس فيه مصنّع ... لا الريش ينفعه ولا التعقيبُ
وقال لبيد:
المرءُ يأملُ أن يعيش وطول عيشٍ ما يضرُّه
تفنى بشاشتُه ويبقى حلوِ العيش مُرُّه
وتصرّف الحالات حتَّى لا يرى شيئاً يسرُّه
كم شامتاً بي إن هلكتُ وقائلاً لله درُّه
وقال أيضاً:
بلينا وما تَبْلى النجومُ الطوالعُ ... ويبقى الخيالُ بعدنا والمصانعُ
وما النَّاس إلاَّ كالديار وأهلها ... بها يومَ حلّوها ونغدو بلاقعُ
وما المرء إلاَّ كالشهاب وضوؤهُ ... يحورُ رماداً بعد إذْ هو ساطعُ
وما المال والأهلون إلاَّ ودائعٌ ... ولا بدَّ يوماً أن تُردَّ الودائعُ
أُخبَّر أخبارَ القرون الَّتي مضت ... أؤود كأني كلَّما قمتُ راكعُ
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لُزومُ العصا تُحنى عليه الأضالعُ
فأصبحتُ مثلَ السَّيف أخلق جفنَه ... تقادُم عهد القين والنصل قاطعُ
أعاذِلَ ما يُدريك إلاَّ تظنناً ... إذا رحل السُّفّار من هو راجعُ
وذكر ابن الأعرابي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما في شعر العرب أحكم من شعر بعض العابدين:
لقد غرَّتْ الدُّنيا رجالاً فأصبحوا ... بمنزلة ما بعدها مُتحوَّلُ
فساخِطُ أمر لا يُبدَّلُ غيرهُ ... وراضٍ بأمرٍ غيرَه سيُبدَّلُ
وبالغُ أمرٍ كان يأملُ دونه ... ومُخْتلجٌ من دون ما كان يأملُ
وقال آخر:
يا موتُ ما أقساك من نازلٍ ... تنزل بالمرءِ علَى رغمهِ
تستخرج العذراء من خدرها ... وتأخذ الواحد من أمّهِ
وقال الفرزدق:
أخاف وراء القبر إن لم يُعافني ... أشدَّ من القبرِ التهاباً وأضيقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى ... إلى النَّار مغلولَ القِلادةِ أزرقا
وقال الخليل بن أحمد:
وقبلكَ داوى الطبيبُ المريضَ ... فعاشَ المريضُ ومات الطبيبُ
فكن مستعدّاً لداعي الفنا ... فإن الَّذي هو آتٍ قريبُ
وقال التستري:
ويلٌ لمن لمْ يرحَم الله ... ومن تكونُ النّارُ مثواهُ
يا غفلتي من كل يومٍ مضى ... يُذكرني الموتَ وأنساهُ
كأنّما قد قيل في مجلسٍ ... قد كنتُ آتيهِ وأغشاهُ
صار البشيريُّ إلى ربِّهِ ... يرحمُنا الله وإياهُ
وقال محمود الورَّاق:
بقّيت مالك ميراثاً لوارثه ... فليت شعري ما بقّى لك المالُ
القوم بعدك في حالٍ يسرّهمُ ... فكيفَ بعدهمُ حالتْ بك الحالُ

ملّوا البكاءَ فما يبكيك من أحدٍ ... واستحكم القيلُ في الميراث والقالُ
ألْهتهُمُ عنك دنيا أقبلتْ لهمُ ... وأدبرت عنك والأيام أحوالُ
وقيل للمؤيد مات الملك فقال: كان أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس، فأخذه أبو العتاهية فقال:
بكيتُكَ يا أخي بدموعِ عينيْ ... فما أغنى البكاءُ عليكَ شَيَّا
وكانت في حياتك لي عِظاتٌ ... وأنتَ اليومَ أوعظُ منكَ حيّا
وقال أبو نُواس:
أيَّة نارٍ قدحَ القادحُ ... وأيَّ حكم بلغَ المازحُ
لله درّ الشَّيْب من واعظٍ ... وناصح لو قُبل الناصحُ
أغدُ فما في الشَّيْب أغلوطةٌ ... ورُحْ بما أنت له رائحُ
من يتق الله فذاك الَّذي ... سيق له المُتّجرُ الرابحُ
لا يجتلي الحوراءَ في خدرِها ... إلاَّ فتًى ميزانه راجحُ
فاسمُ بعينيك إلى نسوةٍ ... مهورُهنَّ العملُ الصالحُ
وقال أيضاً:
إذا امتحن الدُّنيا لبيبٌ تكشَّفت ... له عن عدوٍ في ثياب صديقِ
وما النَّاس إلاَّ هالكٌ وابن هالكٍ ... وذو نسبٍ في الهالكين عريقِ
وقال أبو دؤاد الإيادي:
وكلُّ حصنٍ وإن طالت سلامتُهُ ... يوماً ستدركه النكباءُ والحوبُ
كل امرئٍ بلقاء الموت مُرْتهنٌ ... كأنه غرضٌ للموتِ منصوبُ
وقال حاتم طيّ:
وما أهل طود مكفهرّ حصونهُ ... من الموت إلاَّ مثلُ من حلَّ بالصحرِ
وما دارع إلاَّ كآخرَ حاسر ... وما مُقترٌ إلاَّ كآخرَ ذي وَفْرِ
تنوطُ لنا حُبَّ الحياةِ نفوسُنا ... ويسري إلينا الموت من حيث لا ندري
وقال آخر:
لعمرك ما الدُّنيا بدار إقامةٍ ... ولو عَقلوا كانوا جميعاً علَى رجلِ
فما تبحث الساعات إلاَّ عن البلى ... ولا تنطوي الأيام إلاَّ علَى ثُكلِ
وقال مُضرّس بن ربَعي:
وما هي إلاَّ ليلةٌ ثمَّ يومها ... وحولٌ إلى حولٍ وشهرٌ إلى شهرِ
منايا يُقرِّبنَ الصحيحَ من البِلى ... ويُدْنينَ ذا الجسم الصحيح من القبرِ
ويتركن أزواجَ الغَيورِ لغيرهِ ... ويقسمنَ ما يحوي الشحيحُ من الوفرِ
وقال آخر:
وما أهل الحياة لنا بأهلٍ ... ولا دار الفناء لنا بدارِ
وما أموالنا إلاَّ عَوارٍ ... سيأخذها المعير من المُعارِ
وقال آخر:
وما الدُّنيا لصاحبها بدارٍ ... وما حظُّ البنان من الخضاب
غَناءٌ عن مؤمله قليلٌ ... دنوّ اللاّمعات من السّراب
وما أدري وإن سافرت يوماً ... علَى رجع الظنون مَتَى إيابي
وقال أبو بكر العَرْزمي:
نُراعُ إذا الجنائز قابلتنا ... ونَسكنُ حين تخفى ذاهباتِ
كروعة ثلّةٍ لمُغارِ سبعٍ ... فلمّا غاب عادت راتعاتِ
وقال آخر:
اسمع فقد آذنك الصوتُ ... إن لم تبادر فهو الفوتُ
نِلْ كلَّما شئت وعش آمناً ... آخرُ هذا كلِّهِ الموتُ
وهذا مأخوذ من قول النابغة:
وعمرو بنُ دُهْمانَ الهُنيدةَ عاشها ... وتسعينَ عاماً ثمَّ قُوّم فانصاتا
فعادَ سوادُ الرأس بعد بياضه ... وعاجله شرْخُ الشَّبابِ الَّذي فاتا
وعاجله حلم أصيلٌ وقوَّةٌ ... ولكنه من بعد ذا كُلِّهِ ماتا
وذكر عن الأصمعي أنَّه قال: أصبت حفراً حول الحيرة فإذا فيه رجلٌ عليه حلتان وإذا عند رأسه لوحٌ مكتوب فيه أنا عبد بن حيّان بن بقيلة:
حلبت الدَّهر أشطره حياتي ... ونلتُ من المنى فوق المزيدِ
وكافحتُ الأمورَ وكافحتني ... ولم أخضعْ لمعضلةٍ كؤودِ
وكدتُ أنالُ في الشرف الثريّا ... ولكنْ لا سبيلَ إلى الخلودِ
وقال آخر:
استعدّي يا نفسُ للموت واسعَيْ ... لنجاةٍ فالحازمُ المستعدُّ
قد تبينتُ أنَّه ليس للحيِّ خل ... ودٌ ولا من الموت بدُّ
أيُّ ملكٍ في الأرض أوْ أيُّ حظٍّ ... لامرئ حظه من الأرض خُلْدُ
كيف يهوى امرء لذاذة أيّا ... مٍ عليه الأنفاسُ فيها تعدُّ
ولعمري لقد طَرِفَ إسماعيل بن جعفر حيث يقول:
أصبحتِ الدُّنيا لنا عِبرةً ... والحمدُ لله علَى ذالكا
اجتمعَ الناسُ علَى ذَمِّها ... وما نرى منهمْ لها تاركا

الباب التاسع والخمسون
ذكر
أشعار الظرفاء من الملوك والخلفاء
قال أبو بكر الصديق رحمه الله:
لمّا رأيتُ نبيَّنا متحملاً ... وضاقتْ عليَّ بعرْضهنَّ الدُّورُ
يا ليتني من قبل مَهلكِ صاحبي ... غُيِّبْتُ في جَدثٍ عليَّ صُخورُ
فلتحدثُنَّ بدائعٌ من بعدهِ ... تعيا بهنَّ جوانحٌ وصدورُ
وقال أيضاً رضي الله عنه:
علّل النَّفسَ بالكَفاف وإلاَّ ... طلبتْ منك فوق ما يكفيها
ما لما قد مضى ولا للذي لم ... يأتِ من لذَّةٍ لمستحليها
إنَّما أنت طولُ عمرك ما عُمر ... تَ للساعة الَّتي أنت فيها
وقال معاوية:
سرحتُ بطالتي وأرحتُ حِلمي ... وفيَّ علَى تحلّميَ اعتراضُ
علَى أنِّي اجتنبتُ إذا دعتني ... إلى حاجاتها الحَدقُ المراضُ
وقال الوليد بن يزيد:
شاع شعري في سُلَيْمَى وظهرْ ... ورواهُ كل بدوٍ وحضرْ
وتهادته الجواري بينها ... وتغنَّين به حتَّى انتشرْ
لو علمنا لسليمى أثراً ... لسجدنا ألفَ ألفٍ للأثرْ
وقال المهدي:
من العين واقفة عبرة ... فلا هي تجودُ ولا تقطرُ
ومن تحت أحشائه لوعةٌ ... إليكَ بها كبدٌ تزفرُ
فيا رامياً في حشا نفسه ... بسهم الفراق وما يشعرُ
ببغداد ينزل من قد هويتُ ... وأنت غداً مُربع منكرُ
وقال الرشيد:
ملك الثلاثُ الآنساتُ عناني ... وجَلَلْن في قلبي بكُلّ مكانِ
ما لي تُطاوعني البريَّة كُلّها ... وأُطيعهنَّ وهنَّ من عِصياني
ما ذاك إلاَّ أنَّ سلطان الهَوَى ... وبه قَوين أعزُّ من سُلطاني
وذكروا أن الفضل بن الرَّبيع اشتكى شكاة، فكتب إليه الرشيد: أطال الله مدَّتك وأدام عافيتك، ما منعني من المسير إليك إلاَّ التطير من عيادتك واعذر أخاك فوالله ما جفاك ولا قلاك ولا استبدل بك سواك، وفيك أقول:
أعزز عليَّ بأن تبيت عليلا ... أوْ أن يحلّ بك السّقام نزيلا
ولقد سألت فأُبت عنك بغصةٍ ... إذْ قيل أوعك أوْ أُحِسَّ عليلا
فوددتُ أنِّي مالكٌ لسلامتي ... فأعيركاها بكرةً وأصيلا
هذا أخٌ لك يشتكي إذْ تشتكي ... وكذا الخليل إذا أحبَّ خليلا
وقال إبراهيم بن المهدي يرثي ابناً له:
نأى آخرَ الأيام عنك حبيبُ ... فللعينِ سَحٌّ دائم وغروبُ
يؤوبُ إلى أوطانه كلُّ غائبٍ ... وأحمدُ في الغيّاب ليس يؤوبُ
تبدّل داراً غيرَ داري وجيرة ... سِوايَ وأحداثُ الزَّمانِ تنوبُ
أقامَ بها مستوطناً غيرَ أنَّه ... علَى طول أيَّام المُقام غريبُ
قليلٌ من الأيَّام لم تروِ ناظري ... بها منه حتَّى أغفلته شعوبُ
كطلّ سحابٍ لم يُقمْ غيرَ ساعةٍ ... إلى أن أطاحتْهُ وطاحَ جنوبُ
أوْ الشَّمس لمَّا من غمامٍ تحسَّرت ... مساءً وقد ولَّت وحانَ غروبُ
وكانَ نصيبَ العين من كلِّ لذَّةٍ ... فأضحَى وما للعينِ منه نصيبُ
وكانت يدي ملأى به ثمَّ أصبحتْ ... بعدل إلهي وهي منه سليبُ
فأصبحت مجنوناً كئيباً كأنَّني ... عليَّ لمن ألقَى الغداةَ ذنوبُ
سأبكيك ما أبقتْ دموعي والبُكا ... بعينيَّ ماءً يا بنيَّ يجيبُ
وما لاحَ نجمٌ أوْ تغنَّتْ حمامةٌ ... وما اخضرَّ في فرع الأراك قضيبُ
وأُضمرُ إن أنفذتُ دمعيَ لوعة ... عليك بها تحت الضّلوع وجيبُ
فما لي إلاَّ الموت بعدكَ راحةٌ ... وليسَ لنا في العيشِ بعدك طيبُ
قصمت حياتي بعد ما هدَّ منكبي ... أخوك ورأسي قد علاهُ مشيبُ
وإنِّي وإن قُدِّمتَ قبلي لعالِمٌ ... بأنِّي وإن أبطأتُ منكَ قريبُ
وإن صباحاً نلتقي في مسائهِ ... صباحٌ إلى قلبي الغداةَ حبيبُ
وقال إبراهيم يعتذر إلى المأمون في عقد البيعة في غيبته وادعائه الخلافة لنفسه:
واللهُ يعلم ما أقولُ فإنَّه ... جهدُ الأليَّة من حَنيفٍ راكعِ
ما إن عصيتُكَ والغواةُ تمدُّني ... أسبابُها إلاَّ بنيَّةِ طائعِ
فعلوتَ حتَّى لم يكُن عن مثله ... عفوٌ ولم يشفَع لديك بشافعِ

إلاَّ العلوَّ عن العقوبة بعدما ... ظفرتْ يداك بمستكين خاضعِ
ورحمت أطفالاً كأفراخ القطا ... وحنينَ والهةٍ كقوسِ النازعِ
نفسي فداؤكَ إن تضلّ مُعاذري ... وألوذُ منكَ بفضلِ حلم واسعِ
وقال المأمون حين أخذ إبراهيم:
لمَّا رأيت الذّنوب جلَّت ... عن المجازاة بالعقابِ
جعلت فيه العقاب عفواً ... أقصَى من الضَّرب للرقابِ
ذكروا أن المأمون أرسل غلاماً له إلى جارية يهواها فأبطأ عليه، فلما أقبل أنشأ يقول:
بعثتكَ مشتاقاً ففُزت بنظرةٍ ... وأبطأتَ حتَّى قد أسأتُ بك الظّنَّا
ومازحتَ من أهوَى وكنت مقرَّباً ... فيا ليتَ شعري عن لقائك ما أغنَى
وأمرحتَ طرفاً في محاسنِ وجهها ... ومتَّعتَ باستمتاع نغمتها أُذنا
أرَى أثراً منها بعينك بَيِّناً ... لقد سَرَقتْ عيناكَ من حسنها حُسنا
وقال المأمون أيضاً:
أَرَى ماءً وبي عطشٌ شديدٌ ... ولكنْ لا سبيلَ إلى الورودِ
أما يكفيكِ أنَّكِ تمْلِكيني ... وأنَّ النَّاسَ كلّهُمُ عَبيدي
وقال المتوكل:
جَزعتُ للحبِّ والحُمَّى صبرت لها ... إنِّي لأعجبُ من صبرِي ومن جَزعِي
من كانَ يشغلَهُ عن إلفهِ وجعٌ ... فليسَ يشغَلُني عن حبّكم وجعِي
وما أمَلُّ حبيبي ليتني أبداً ... مع الحبيب ويا ليت الحبيبُ معِي
هذه مائة بيت من أشعار الخلفاء، ولو شئنا أن نختار من شعر واحد منهم مائة بيت لم يكن ذلك متعذراً، غير أنَّا لم نحب أن نزيد على ما شرطناه ولا نغيِّر الرسم عمَّا ابتدأناه.
وقال النجاشي يفضّل عليّاً على معاوية:
نعم الفَتَى أنتَ لولا أنَّ بينكما ... كما يُفاضَلُ نورُ الشَّمس والقمرُ
إنِّي امرؤٌ قلَّ ما أثني علَى أحدٍ ... حتَّى أَرَى بعض ما يأتي وما يذرُ
لا تحمدنَّ امرءاً حتَّى تجرِّبَه ... ولا تذُمنَّ من لم يبلُهُ الخبرُ
وممَّا قيل في الجود. قال أبو تمام:
لئن جحدتْكَ ما أوليتَ من حسنٍ ... إني لفي اللُّؤْم أحظى منك في اللُّومِ
أنسَى ابتسامَكَ والألوانُ كاسفةٌ ... تبسُّم الصُّبح في داجٍ من الظُّلَمِ
رددتَ رونقَ وجهي في صحيفتهِ ... ردَّ الصّقال بهاءِ الصَّارم الخَذِمِ
وما أُبالي وخيرُ القول أصدقهُ ... حقنتَ لي ماءَ وجهي أَمْ حقنتَ دمي
وقال أيضاً:
ولو كانَ للشّكرِ شخصٌ يبينُ ... إذا ما تأمَّلهُ النَّاظرُ
لمثلتهُ لك حتَّى تراهُ ... فتعلم أنِّي امرؤٌ شاكرُ
قال: وأنشدني أحمد بن يحيى:
قد نزلنا به نريد قِراهُ ... فانثنَى يحمدُ الصّيام فصُمنا
ثمَّ أمسَى يُواتر الصَّومَ حتَّى ... بلغَ الجوع جهدنا فارتحلنا
وأنشدنا:
فتى لرغيفه شنف وقرطٌ ... ومرسلتان من خَرَز وشذرِ
ودون رغيفهِ قلْعُ الثَّنايا ... وحربٌ مثلُ وقعةِ يوم بدرِ
وإن ذُكرَ الرَّغيف بكى عليه ... بُكا الخنساءِ إذْ فُجعت بصخرِ
وقال:
أَرَى ضيفك في الدَّار ... وكربُ الجوع يغشاهُ
علَى خبزك مكت ... وبٌ سيكفيكهم اللهُ
وقال دعبل:
يا تارك البيت من الضَّيفِ ... وهارب منه من الخوفِ
الضَّيف قد جاءَ بزادٍ لهُ ... فراجعْ فكن ضيفاً علَى الضَّيفِ
وقال آخر:
حُملتُ علَى أعورٍ أعرجٍ ... فلا للرّكوب ولا للثَّمنْ
حُملتُ علَى زمنٍ شاعرٍ ... فسوف تَكافا بشعر زمنْ
أبا الفضل غُرْماً وذمّاً معَا ... فما كنتَ ترجو بهذا الغبنْ
وقال أبو الشمقمق:
طعامك في السَّحاب إذا سعينا ... وماؤك عند منقطع التُّرابِ
وما روَّحتنا لتذبَّ عنَّا ... ولكنْ خوفَ مَرْزئَةِ الذُّبابِ
وقال آخر:
عُذرُكَ عندِي بكَ مبسوطُ ... والذَّنبُ عن مثلكَ محطوطُ
ليس بمسخوطٍ فِعالُ امرئٍ ... كلّ الَّذي يفعل مسخوطُ
قد كانَ حظّاً لك مسترجحاً ... لو كانَ في أمرك تخليطُ
؟؟

الباب الستون
إنِّي أَرَى من له قنوعٌ ... يعذل من نالَ ما تمنَّى
والرّزق يأتِي بلا عناءٍ ... وربَّما فاتَ من تعنَّى
وقال أبو دلف:

إنَّ نفسِي كريمةٌ تألف الصَّ ... بر إذا ما تغيّرت حالاتي
لو دعتني إلى الدناة حياتي ... يا بن عيسى هانتْ عليَّ وفاتي
إنَّما تحمدُ السَّخايا من الأح ... رار عند النَّوائب المعضلاتِ
كلُّ حيٍّ يبقى علَى الصَّبر ف ... ي اليسرِ وصبر الكريم في النَّائباتِ
أنشدني بعض أهل الأدب:
لا تكثري لم أرُمْ يا ويكِ في الطَّلبِ ... أيَّ البلادِ وأيَّ الأرضِ لم أجُبِ
هذا وفيَّ خلالٌ كلُّها سببٌ ... إلى الغنِى غيرَ أنَّ الرّزقَ لم يجبِ
لا أتّهم الله في رزقي فما صرفتْ ... عنِّي المكاسبَ إلاَّ حرفةُ الأدبِ
ومن الباب الخامس والسبعين ذكر من افتخر لنفسه بالإغضاء عن خصمه.
وقال المتلمس:
تحلَّمْ عن الأدنين واستبقِ ودَّهم ... ولن تستطيعَ الحلمَ حتَّى تحلَّما
وكنَّا إذا الجبار صعَّر خدَّه ... أقمنا له من درّه فتقوَّما
فلو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما
وما كنت إلاَّ مثل قاطع كفّه ... بكفٍّ له أُخرى فأصبح أجذما
يداه أصابتْ هذه حتفَ هذه ... فلم تجدِ الأُخرى عليها مُقدَّما
فلمَّا أفاد الكفّ بالكفّ لم يجدْ ... له دركاً في أن تَبينا فأحجما
فأطرقَ إطراق الشُّجاع ولو يرَى ... مَساغاً لنابيه الشُّجاعُ فلمّما
وقال وعلة الجرمي:
ما بال من أسعى لأجبر عظمه ... حفاظاً وينوي من سَفَاهته كسرِي
أعودُ علَى ذي الجهل والذّنب منهم ... بحلمي ولو عاقبتُ غرَّقهم بحرِي
ألم تعلموا أنِّي تُخافُ غَرامتي ... وأنَّ قناتي لا تلينُ علَى الكسرِ
وقال آخر:
إن كنت لا ترهبُ ذمِّي لما ... تعرف من صفحي عن الجاهلِ
فاخش سكوتي إذْ أنا منصتٌ ... فيك لمسموعِ خنى القائلِ
فسامع السّوء مشرّبه ... ومُطعمُ الأكلةِ كالآكلِ
مقالة السّوء إلى أهلِها ... أسرعُ من مُنحدرِ السَّائلِ
ومن دعا النَّاس إلى عيبه ... ذمُّوهُ بالحقِّ وبالباطلِ
وقال:
توخَّ من الطرقِ أوساطها ... وعَدِّ عن الجانب المشتبه
وسمعكَ صُنْ عن سماعِ القبيح ... شريك لقائله فانتبه
وقال لبيد بن ربيعة:
ستذكركم منَّا نفوس وأعينٌ ... ذوارفُ لم تضننْ بدمعٍ غُروبها
وهل يَعْدُوَنْ بين الحبيب فراقه ... نعمْ ذلُّ نفسٍ أن يَبين حبيبُها
رأيتُ عذابَ الماء إن حيل دونها ... كفاك لما لا بدَّ منه شريبُها
وقال آخر:
وتجزعُ نفسُ المرءِ من شَدِّ مِرّةٍ ... فيسمع ألفاً مثلها ثمَّ يصبرُ
فلا تعْذِراني إنْ أُسيءَ فإنَّما ... شرارُ الرِّجالِ من يُسيء ثمَّ يُعذرُ
وقال ابن أوس المزني:
لعمرُكَ ما أدري وإنِّي لأوْجَلُ ... علَى أيِّنا تعدُو المنيَّةُ أوَّلُ
وإنِّي لأرجو دائم العهد لم أحُلْ ... إن أبزاك خطبٌ أوْ نبا بك منزلُ
أُحاربُ من حاربت من ذي عداوةٍ ... وأحبسُ مالي إن غرمتَ فأعقلُ
وإن سؤتني يوماً صفحتُ إلى غدٍ ... ليقبلَ يوم منك آخر مقبلُ
ستقطعُ في الدُّنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أيَّ كفَّيك تبذلُ
إذا أنت لم تُنصفْ أخاكَ وجدتَهُ ... علَى طرف الهجران إنْ كانَ يعقلُ
ويركبُ حدّ السَّيف من أن تضيمَهُ ... إذا لم يكنْ عن شفرةِ السَّيف مَعدلُ
وفي النَّاسِ إن رثت حبالُكَ واصلٌ ... وفي الأرض عن دار القلى مُتحوّلُ
إذا انصرفتْ نفسي عن الشَّيء لم يكنْ ... إليه بوجهٍ آخِرَ الدَّهر تقبلُ
أخبرني محمد بن الخطاب أن فتى من الأعراب خطب لبنت عم له وكان معسراً فأبى عمُّه أن يزوّجه فكتب إلى ابنة عمه هذه الأبيات:
يا هذه كم يكون اللّوم والفَندُ ... لا تعذلي رجلاً أثوابُهُ قِدَدُ
إن أُمسِ منفرداً فالبدرُ منفردٌ ... واللَّيث منفردٌ والسَّيف منفردُ
أوْ كنتِ أنكرتِ طِمريه وقد خَلِقا ... فالبحر من فوقه الأقذاء والزَّبَدُ
إنْ كانَ صرفُ الليالي رثَّ بزّته ... فبين ثوبيه منها ضيغم لُبَدُ

قال: فدخلت بالأبيات على أبيها فقال: ما أُريد بذلك صداقٌ غيرها فزوَّجه إيَّاها.
وفي الباب الستين ما جاء في ذم المزاح وكثرة الكلام، أخبرني أحمد بن عبيد ورجل من العرب قال: خرجت في بعض ليالي الظلم فإذا أنا بجارية كأنها صنم، فراودتها عن نفسها، فقالت: يا هذا ما لك زاجر من عقل إذا لم يكن لك ناهٍ من دين. فقلت: والله ما ترانا إلاَّ الكواكب. قالت: وأين مكوكبها؟ فأخجلني كلامها فقلت: إنَّما كنت أمزح. فأنشأت تقول:
فإيَّاك إيَّاك المزاحَ فإنَّهُ ... يُجري عليك الطفلَ والرَّجل النَّذْلا
ويُذهبُ ماء الوجه بعد بهائه ... ويورثُ بعد العزّ صاحبه الذُّلاَّ
وقال بعض الحكماء: لكل شيء بدء، وبدء العداوة المزاح. وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى عماله: امنعوا النَّاس من المزاح فإنَّه يذهب المروءة ويوغر الصدر. وقال بعض الشعراء:
مازحْ أخاكَ إذا أرادَ مُزاحا ... وتوقَّ منه في المزاحِ جماحا
فلربَّما مزَحَ الصَّديق بمزحةٍ ... كانتْ لبابِ عداوةٍ مفتاحا
وقال بعض الشعراء:
إمحض مودَّتك الكريم فإنَّما ... مرعى ذوي الأحساب كلُّ كريمِ
فأخا الشّراف من الرِّجال مروءة ... والموت خيرٌ من إخاء لئيمِ
وقال يحيى بن أكثم القاضي:
وقارنْ إذا قارنتَ حرّاً فإنَّما ... يَزين ويُزري بالفتَى قُرناؤهُ
إذا المرء لم يختر صديقاً لنفسهِ ... فناد في السّوق هذا جزاؤهُ
وأنشدني منشد:
طلبت امرءاً محضاً صحيحاً مُسلّماً ... نقيّاً من الآفات في كلِّ موسمِ
لأمنحهُ ودِّي فلم أُدرك الَّذي ... طلبتُ ومن لي بالصَّحيح المسلَّمِ
فلمَّا بدا لي أنَّني لستُ مدركاً ... من النَّاس إلاَّ بالمريض المسقَّمِ
صبرتُ ومن يصبرْ يجدْ غِبَّ صبرهِ ... ألذ وأحلا من جَنَا النَّحل في الفمِ
ومن لا يطبْ نفساً ويستبقِ صاحباً ... ويغفرْ لأهل الودّ يصرَمْ ويُصرمِ
وأنشدني الحسن بن عليل الغنوي:
القَ بالبشر من لقيتَ من النَّ ... اس جميعاً ولاقِهم بالطَّلاقة
تجنِ منهم بهِ ثمارَ عجيب ... طيّبٍ طعمُهُ لذيذِ المذاقة
ودع التّيه والعُبوسَ عن النَّ ... اس فإنَّ العبوس رأس الحماقة
وكان يقال: لا تهذر في منطقك ولا تخبر بذات نفسك ولا تغترَّ بعدوك ولا تفرط في حبِّ صديقك، واعلم أن شرَّ الأخلاق ملالة الصاحب وتقريب المتباعد. وأنشدني أحمد بن يحيى الكندي:
وكُن معدناً للحلمِ واصفحْ عن الأذَى ... فإنَّك راءٍ ما عملت وسامعُ
وبلغني أن أبا نواس قال هذه الأبيات على البديهة في الوقت الَّذي كان فيه محمد الأمين أمير المؤمنين، وذلك أنَّه ركب الحرّاقات إلى الشماسية فاصطفت له الخيل والرِّجال على شاطئ دجلة وحملت معه المطابخ والخزائن، وكان ركوبه حراقة تمثال أسد فما رأَى النَّاس منظراً كان أحسن من ذلك المنظر والسير، وركب أبو نواس معه وكان يومئذ ينادمه فقال:
سخَّر اللهُ للأمين مَطايا ... لم تُسخَّر لصاحبِ المحرابِ
وإذا ما ركابُهُ سرنَ برّاً ... سارَ في الماءِ راكباً ليثَ غابِ
أسدٌ باسط ذراعيه يعدو ... وافر الشدق كالح الأنيابِ
عجبَ النَّاسُ إذْ رأوك علَى ص ... ورة ليثٍ تمرُّ مرَّ السَّحابِ
سبَحوا إذْ رأوك سرتَ عليه ... كيف لو أبصروك فوق العُقابِ
باركَ اللهُ للأمين وأبقا ... هُ وأبقى له رداءَ الشَّبابِ
ملِكٌ تقصُرُ المدائح عنهُ ... هاشميّ موفقٌ للصَّوابِ
قال: وبلغني أن أبا نواس حضر يوماً مجلس محمد فورد على محمد كتاب العمَّال يُخبر أن رجلاً من الشُّراة، ويصف شدَّة شوكته وقوَّة أمره فقال لبشر خادمه وكان يحبّه: ينبغي أن توجّه أبا نواس إلى هناك يريد الشاري. وأظهر لأبي نواس جدّاً وكان مزَّاحاً، وأمر أن تُراح علَّته فيما يحتاج إليه من المال والسلاح وقال لبشر: انظر ما يرد عليك من أبي نواس في هذا الباب فاعرضه عليَّ. فلمَّا انصرف أبو نواس كتب إلى بشر الخادم بهذه الأبيات:
يا بشرُ ما لي وللسَّلاح ولل ... حربِ ونجمي في اللَّهو والطَّربِ
لا تنفرني فإنَّني رجلٌ ... أكعُّ عند اللّقاء والطَّلبِ

وليس لي همَّةٌ سوى طلبي ... أي الفريقين خِيرَ للهربِ
وإن رأيتُ الشُّراةَ قد قربوا ... ألجمتُ مُهري من جانب الذَّنبِ
ولستُ أيضاً فلا أغرّكما ... أُفرقُ بين العنان واللببِ
ولستُ أدري ما السَّاعدان من ال ... ترس ولا بيضة من اليلبِ
والرَّكض فوق الفراش منتطحاً ... فإنَّني فيه فارس العربِ
فأوصلها بشر إلى الأمير فلمَّا قرأها استطار ضحكاً ثمَّ دعا به فأحسن صلته.

الباب الحادي والستون
ذكر
من فضل على نظرائه ومدح بحسن رأيه
حدَّثني حمدان بن علي الوراق قال: حدَّثنا أبو بكر قال: حدَّثنا شيخ لنا قال: أخبرنا مُخالد عن عامر قال: سئلت أو سئل ابن عباس: أيّ النَّاس كان أول إسلاماً؟ قال: أما سمعت قول حسَّان بن ثابت:
إذا تذكَّرتَ شجواً من أخي ثقةٍ ... فاذكر أخاكَ أبا بكر بما فَعَلا
خير البريَّة أتقاها وأعدلها ... إلاَّ النَّبيّ وأوفاها بما حملا
الثاني التاليَ المحمودَ مشهدُهُ ... وأوَّل النَّاسِ منهم صدَّق الرُّسلا
وقال زهير:
إنَّ البخيلَ ملومٌ حيثُ كانَ ول ... كنَّ الجوادَ علَى علاَّته هرِمُ
هو الجوادُ الَّذي يُعطيكَ نائلَهُ ... عفواً فيظلم أحياناً فيضطلمُ
وقال الحطيئة:
أولئك قومٌ إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفَوْا وإن عقدوا شدُّوا
وإن قالَ مولاهم علَى أيِّ حالةٍ ... من الأمرِ رُدُّوا فضلَ أحلامكم ردُّوا
وإن كانت النَّعماءُ فيهم جَزَوْا بها ... وإن أنعموا لا كدَّروها ولا كدُّوا
يَسوسون أحلاماً بعيداً أناتُها ... وإنْ غَضبوا جاءَ الحفيظةُ والحدُّ
أقلُّوا عليهم لا أبا لأبيكُمُ ... من اللَّوم أوْ سدُّوا المكان الَّذي سدُّوا
وقد لامني أبناء سعدٍ وأسرفت ... وما قلتُ إلاَّ بالَّذي علمتْ سعدُ
وقال الأخطل:
بهم عن الجهل عن قولِ الخَنَا خرسٌ ... وإن ألمَّتْ به مكروهة صبروا
شمس العداوة حتَّى يستفاد لهم ... وأعظم النَّاس أحلاماً إذا قدروا
وقال محمد بن زياد الحارثي:
تخالهم صمّاً عن الجهلِ والخَنَا ... وخُرْساً عن الفحشاءِ عند التهاجُرِ
ومرضَى إذا لاقوا حياءً وعفَّةً ... وعند الحفاظِ كاللّيوث الخوادرِ
لهم ذلُّ إنصافٍ وأُنسُ تواضع ... بهم ولهم ذلَّت رقابُ المعاشرِ
كأنَّ بهم وصماً يخافون عارَهُ ... وما وصمُهُمْ إلاَّ اتّقاءَ المعايرِ
وقال آخر:
إن كنت تطلب صفوة من عيشةٍ ... فاجعلْ محلَّك بين آل زيادِ
تحللْ بقومٍ من أُميَّة سادة ... زهر الوجوه أعفَّة أنجادِ
الموطئين بجارهم أكتافهم ... والجاعلين لهم صدور النَّادي
وقال كثيّر:
شهدتُ ابنَ ليلَى في مواطن قد خلتْ ... يزيدُ بها ذا الحلمِ حلماً حُضورها
فلا هاجراتُ القولِ يُؤثرنَ عنده ... ولا كلماتُ النُّصحِ مُلقى مُشيرها
تَرَى القومَ يخفونَ المواعظَ عنده ... ويُنذرهمْ عورَ الكلامِ نَذيرها
وقال معن بن أوس:
وما بلغت كفّ امرئ متناولٍ ... من المجدِ إلاَّ حيث ما نلت أطولُ
ولا بلغَ المهدونَ نحوكَ مدحةً ... ولا أطنبوا إلاَّ الَّذي فيكَ أفضلُ
وقال أبو دهبل:
نَزْر الكلام من الحياءِ تخالهُ ... سقماً وليسَ بجسمهِ سقْمُ
عُقِمَ النِّساءُ فما يلدنَ بشبههِ ... إنَّ النِّساء بمثله عُقْمُ
وقال مروان بن أبي حفصة لمعن بن زائدة:
تشابه يوماه عليَّ فأشكلا ... فما نحن ندري أيَّ يوميه أفضلُ
أيوم نداه أم يوم بأسه ... وما منهما إلاَّ أغرّ محجّلُ
وقال الحسين بن مطير:
له يوم بؤسٍ فيه للنَّاس أبؤسُ ... ويومُ نعيم فيه للنَّاس أنعُمُ
فيمطر يوم الجود في كفِّه النَّدَى ... ويمطر يوم البأس من كفِّه الدمُ
فلو أنَّ يوم الجود خلَّى يمينه ... علَى الأرض لم يصبح علَى الأرضِ معدمُ
ولو أنَّ يوم البأس خلَّى شماله ... علَى الأرض لم يصبح علَى الأرضِ محرمُ
وقال أبو دهبل:
ما زلت للعفو في الذُّنوب وإط ... لاقٍ لعانٍ بجرمِهِ غلقِ

حتَّى تمنَّى البُراةُ أنَّهُمُ ... عندك أمسوا في القدّ والحلقِ
وقال آخر:
ولقد ترَى ناديهم فكأنَّه ... طوق المجرَّةِ نظرةً وتماما
أمراءُ غير مؤمَّرين ترَى لهم ... أمراً وهم من هيبةٍ إعظاما
وقال ابن هرمة:
لهُ لحظات في حوافي سَريرهِ ... إذا كرَّها فيها عِقاب ونائلُ
فأمّ الَّذي آمنت آمِنة الرَّدَى ... وأُمُّ الَّذي حاولت بالثُّكل ثاكلُ
إذا ما أتَى شيئاً مضَى كالَّذي أتَى ... وما قالَ إنِّي فاعلٌ فهو فاعلُ
كريمٌ له وجهان وجهٌ لدى الرضا ... أسيلٌ ووجهٌ للكريهةِ باسلُ
وقال آخر:
إذا انتدى واحْتبى بالسَّيف دانَ لهُ ... شوسُ الرِّجال خُضوع الجُرْب للطالي
كأنَّما الطَّيرُ منهم فوقَ هامتهم ... لا خوفَ ظُلمٍ ولكن خوفَ إجلالِ
وقال ابنُ الخياط في مالك بن أنس:
يأبَى الجوابَ فما يراجعُ هيبةً ... والسَّائلون نواكِسُ الأذقانِ
هذا التَّقيُّ وعزُّ سلطان الغِنَى ... فهو المطاعُ وليس ذا سلطانِ
وقال آخر:
كأنَّك مطّلع في القلوب ... إذا ما تناجتْ بأسرارها
وقوفك تحتَ ظلالِ القَنَا ... أقامَ الخلافة في دارِها
وقال محمد بن بشير الخارجي:
يا أيُّها المتمنِّي أن يكون فتًى ... مثل ابن ليلَى لقد خلَّى لكَ السُّبُلا
أعْدُد نظائر أخلاق عُددن لهُ ... هل سَبَّ في رجلٍ أوْ سُبَّ أوْ بَخلا
وقال ربيعة الرقيّ:
لشتَّانَ ما بينَ اليَزيدين في الورى ... يزيدُ سليم والأغرُّ ابنُ حاتم
فلا يحسِبِ التَّمتام أنِّي هجوتُهُ ... ولكنَّني فضَّلتُ أهلَ المكارمِ
وقال آخر:
يا أخا العرف إذا ع ... زَّ إلى العرف الطَّريق
وأخا الموتَى إذا ل ... م يبقَ للموتَى صديق
وقال آخر:
كريمٌ لهُ نفسان نفسٌ يلينها ... ليدفعَ عن سلطانها سنن الكبر
إذا نازعته نفسه عظمَ قدرها ... دعاه إلى تصغيرها عِظَمُ القدر
وقال آخر:
لئنْ كنت محتاجاً إلى الحلمِ إنَّني ... إلى الجهلِ في بعض الأحايينِ أحوجُ
ولي فرسٌ للحلمِ بالحلمِ مُلجمٌ ... ولي فرسٌ للجهلِ بالجهلِ مُسرَجُ
فمنْ شاءَ تقويمي فإنِّي مُقوَّمٌ ... ومن شاءَ تعويجي فإنِّي مُعوَّجُ
وقال آخر:
كريمٌ يغضُّ الطَّرفَ فضلُ حيائهِ ... ويدنُو وأطرافُ الرِّماحِ دَوانِ
وكالسَّيف إن لاينتهُ لانَ متنُهُ ... وحَدَّاهُ إن خاشنتُهُ خشِنانِ
وقال بعض بني ثعل:
تلمَّظ السَّيفُ من شوق إلى أنسٍ ... فالموتُ يَلْحَظ والأقدارُ تنتظرُ
أظلَّهُ منك حتْف قد تجلَّله ... حتَّى تؤاصرَ فيه رأيكَ القِدَرُ
أمضَى من السَّيف إلاَّ عندَ قدرته ... وليسَ للسَّيفِ عفوٌ حين يقتدرُ
وقال البحتري:
خرْقٌ إذا بلَغَ الزَّمانُ فناءَهُ ... نكَصَتْ عواقبُه علَى الأعقابِ
نَصَر السماحَ علَى البلادِ ولم يقفْ ... دون المكارمِ وقفةَ المُرتابِ
ولئنْ طلبتُ شبيهَهُ إنِّي إذاً ... لمُكلّف طلَبَ المُحال ركابي
وقال أيضاً:
لا يكفهرُّ إذا انحازَ الوقارُ بهِ ... ولا تطيشُ نواحيه إذا مزَحَا
حنَّت إلى السُّؤددِ العلياء نهضتُهُ ... ولو يوازن رَضْوى حلمه رجحا
وقال أيضاً:
إذا انسابَ في تدبير رأيٍ تَرادفتْ ... له فِطنٌ يُنْجِحنَ في كلِّ مطلَّبِ
خفيُّ مدبِّ الكيد بين أناته ... تسرّعَ جهلِ الطاْئش المُتوثِّبِ
وقال أيضاً:
رزينٌ إذا ما القومُ خفّتْ حلومهمْ ... وقورٌ إذا ما حادثُ الدَّهرِ أجْلَبا
فتًى لا يُضيِّع وجه حزْمٍ ولم يبتْ ... يلاحظُ أعجازَ الأُمورِ تعقُّبا
إذا همَّ لم يقعدْ به العجز مَقعداً ... وإنْ كفَّ لم يذهبْ به الخرقُ مذهبا
وما نقَمَ الحسَّادُ إلاَّ ضلالةً ... لديكَ وفعلاً أرْيحيّاً مهذَّبا
وقال أيضاً:
له فِكَرٌ بين الغيوبِ يُديرها ... إذا ما انتهَى منها فهنَّ مقالدُهْ
صواعقُ إنْ لو ألقَ من تلك بعضها ... علَى يَذْبُلٍ لانقضَّ أوْ ذابَ جامدُهْ

غمام حيا ما تستريح بروقُهُ ... وعارضُ موتٍ ما تقيل رواعدُهْ
وعمرُ بن مُعدي إن ذهبتَ تهيجهُ ... وأوسُ بن سُعدى إنْ ذهبتَ تكايدُهْ
تظلُّ المنايا والعطايا قرائناً ... لعافٍ يُرجِّيه وغاوٍ يُعاندُهْ
له بدعٌ في الجودِ تدعو عذولهُ ... عليه إلى استحسانها فتباعدُهْ
وقال أيضاً:
لولا عليُّ بن مُرٍّ لاستتمَّ لنا ... خِلْفٌ من العيشِ فيه الصَّاب والصَّبرُ
ألحَّ جوداً ولم يضرُرْ سحائبُهْ ... وربَّما ظنَّ عند الحاجة المطرُ
لا يُتعبُ النائلُ المبذولُ همَّتهُ ... وكيفَ يُتعبُ عينَ النَّاظرِ النَّظرُ
مواهبٌ ما تجشَّمنا السُّؤالَ لها ... إنَّ الغمامَ قليب ليس يُحتقرُ
يُهابُ فينا وما في لحظه شِزرٌ ... وسطَ النديّ وما في خدِّه صَعَرُ
إذا ارتقَى في أعالي الرَّأي لاحَ له ... ما في الغيوبِ الَّتي تخفَى فتستترُ
ومُصعدٌ في هضابِ المجدِ يطلعُها ... كأنَّهُ لسكونِ الجأشِ مُنحدرُ
ما زالَ يسبقُ حتَّى قالَ حاسدُهُ ... لهُ الطَّريقُ إلى العلياءِ مُختصرُ
نهيتُ حُسَّادهُ عنهُ وقلتُ لهم ... السَّيلُ باللَّيلِ لا يبقَى ولا يَذَرُ
كُفُّوا وإلاَّ كففتمْ مُضمري أسِفاً ... إذا تنمَّر في أقدامِهِ النَّمِرُ
ألوى إذا شابكَ الأعداء كفَّهم ... حتَّى يروحَ وفي أظفارِهِ الظَّفَرُ
واللؤمَ أن تَدخلوا في حدِّ سخْطتهِ ... علماً بأن سوف يعفو حينَ يقتدرُ
وقال أيضاً:
عزَماتٌ يُصبنَ ناجيةَ الخطْ ... ب ولو كانَ من وراءِ حجابِ
يتوقَّدْن والكواكبُ مطفاةٌ ... ويقطعنَ والسّيوفُ نَوابي
تركَ الخفضَ للدَّنيء وقاس ... صَعبةَ من صعوب تلك الرَّوابي
سامَ للمجدِ فاشتراه وقد با ... تَ عليهِ مُزايداً للسَّحابِ
واحدُ القصدِ طرفُهُ في ارتفاعٍ ... من سُمُوٍّ وكفُّهُ في انصِبابِ
صُنتَني عن مُعاندٍ لا أسمّي ... أوَّلوهُمْ إلاَّ غَداة سِبابِ
وقد ذكرنا في هذا الباب طرفاً من الأخلاق المحمودة مجملاً، ونحن نذكر إن شاء الله ما بقي من ذلك مفصلاً، فنفرد لكلّ باب منه ما يشاكله ومن شأن كثير من الشعراء أن يفرطوا فيما يصفونه وليس ذلك بمحمود في خلائق الكرماء ولا مستحسن من أفعال الشعراء إلاَّ من أسرف في الحفظ كان مقتراً ومن أسرف في الشَّجاعة كان متهوراً، كما أن من أسرف في الجدّ عدَّ جباناً، ومن تجاوز حدّ الحلم كان مستدلاً، كما أنَّ من تعدَّى الانتصار عُدَّ خرقاً، ومن أفرط في قلَّة الكلام كان مستجهلاً، كما أنَّ من أفرط في الإطراء كان مهذاراً. والتأديب بتأديب الله عزّ وجلّ وأدب رسوله صلى الله عليه وسلّم هو الطريق الَّذي من سلكه اهتدى، والوجه الَّذي من قصده آمن من بوائق الرَّدى. قال الله يمدح قوماً: )والَّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما(.
أخبرنا الحارث بن أبي أسامة عن العباس بن الفضل عن أبي عبد الله التميمي قال: أخبرني الحسين بن عبد الله قال: حدَّثني من سمع النابغة الجعدي يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأنشدته، فذكر أبياتاً وحكى كلاماً بعدها، قال: فلمَّا أنشدته:
ولا خير في حلمٍ إذا لم يكن له ... بَوادِرُ تَحْمي صَفوه أن يُكدَّرا
ولا خير في جهلٍ إذا لم يكن له ... حَلوم إذا ما أورَدَ الأمر أصدرا
قال النَّبيّ صلى الله عليه: " لا يفضض الله فاك " .

الباب الثاني والستون
ذكر
من سود في حداثته وقدم في بلاغته
أنشدني أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
لعمرك إنِّي يوم فيد لمعتلٍ ... بما ساء أعدائي علَى كثرةِ الدخرِ
أمارس عن نفسٍ عليَّ كريمةٍ ... موطنةٍ عند النوائب للصبرِ
وما زلتُ أعلو القول حتَّى لو أنَّني ... أجوّبه في الصَّخر لانجاب الصخرِ
وما زلت مذ كنت ابن عشرين حجة ... أُواري عدوّي أوْ أقوم علَى ثغرِ
ويوم يودّ المرء لو غصَّ قبله ... بمرأى المنايا قد شددت لها أزري
لابن بيض في هذا المعنى:
بلغتَ لعشر مضَتْ من سني ... ك ما يبلغُ السيدُ الأشيبُ

فهمّك منها جسام الأمو ... ر وهمُّ لداتك أن يلْعبوا
وجدت فقلت ألا سائلٌ ... فيُعطى وهل راغبٌ يرغبُ
فمنك العطية للسائلين ... وممَّن ينوبك أن يطلبُ
وأنك في أدبٍ ما نشأت ... فنعم لعمرك ما أدَّبوا
أتيناك في حاجة فاقضها ... وقُلْ مرحباً يجبُ المرحبُ
وألا تَكِلنا إلى معشرٍ ... مَتَى يَعِدوا عِدةً يكذبوا
وقال البحتري:
لا تنظرَنَّ إلى الفيَّاض من صِغَرٍ ... في السِّنِّ وانظر إلى المجد الَّذي شادا
إن النّجومَ نجومَ اللَّيل أصغرُها ... في العين أذهبها في الجوِّ إصعادا
وقالت الخنساء:
أعينيَّ جودا ولا تجمُدا ... أما تبكيان لصخر النَّدى
ألا تبكيان الجريءَ الجميلَ ... ألا تبكيان الفَتَى السيّدا
رفيعَ العمادِ طويلَ النجا ... دِ سادَ عشيرتَهُ أمْرَدا
إذا القومُ مدُّوا بأيديهمُ ... إلى المجد مدَّ إليه يدا
فنالَ الَّذي فوق أيديهم ... من المجد حتَّى نما مصعدا
يُكلّفُهُ القومُ ما عالهم ... وإن كان أصغرهُمْ مولدا
ترى المجدَ يَهْوي إلى بيته ... يرى أفضلَ الكسبِ أن يُحمدا
وقال آخر يرثي العديل بن الفرخ:
فما ولدت مثل العديل حليلةٌ ... قديماً ولا مستحدثات الحلائلِ
وما زال مذ شدَّ الإزار بوسطه ... يفتح للأبواب بكر بن وائلِ
وقال الفرزدق:
وتبكي علَى السيوب بكر بن وائلٍ ... وينهى عن ابني مسمع من بكاهما
غلامان شبَّا في الحروب وأدركا ... كرام المساعي قبل فصل لحاهما
ولو كان حيّاً مالك وابن مالك ... إذاً أوقدوا نارين يعلو سناهما
وقال آخر:
ولو أن معشراً كبني صُريمٍ ... تلفّهُمُ التهائمُ والنُّجودُ
أجلَّ جلالةً وأعزَّ فَقْداً ... وأقضى للحُقوق وهم قُعودُ
وأكثرَ ناشِئاً مِخراقَ حربٍ ... يُعينُ علَى السِّيادة أوْ يَسودُ
وقال آخر:
حديث السنّ عاب أبوه عنه ... ففاض به الزلازل والحروبُ
جديرٌ أن يعادي الخيل منه ... علَى حجباتها بدمٍ صبيبُ
وقال آخر:
رأيت أبا الوليد غداةَ جَمعٍ ... به شيبٌ وما فقد الشَّبابا
ولكن تحت ذاكَ الشّيبِ حزمٌ ... إذا ما ظَنَّ أعرض أوْ أصابا
وقال آخر:
بكى صاحبي لما رأى الموت فوقه ... مُظلاً كإظلال السَّحاب إذا اكفَهر
فقلت له صبراً خليلي فإنَّما ... يكونُ غداً حسنُ الثناءِ لمن صبر
فما أخَّر الإحجامُ يوماً معجِّلاً ... ولا عجَّل الإقدامُ ما أخَّر القدر
فنبهته سهم الفؤاد كأنه ... صفيحة هندي قضى حقه ذكر
وكرَّ حفاظاً خشية العار بعدما ... رأى الموت معروفاً علَى منهج الفكر
غلامٌ رماه الله بالخير ناشئاً ... له سَيمياء لا تَشُقّ علَى البصر
كأنَّ الثريَّا علقت في جبينه ... وفي نحره الشِّعرى وفي خدّه القمر
إذا قيلت العوراء أغضى كأنَّه ... ذليل بلا ذلٍّ ولو شاء لانتصر
ولبعضهم في عبد الله بن الزبير:
تُبيّنَ فيه ميسَمُ العزِّ والنُّهى ... وَليداً يُفدّى بين أيدي القوابلِ
فلمّا تردَّى بالحمائل وانتحى ... بَصُرتَ بأطراف الرّماح الذَّوابلِ
تيقَّنت الأعداءُ أن سِنانَهُ ... يُطيلُ جنينَ الأمّهاتِ الثواكلِ
وأنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي لكرّوس بن يزيد الطائي:
رأتنيَ من لُبْسي المشيب فأمَّلتْ ... غَنائي فكوني آملاً خيرَ آملِ
لئن فرِحتْ بي معقل عند شَيبتي ... لقد فرحتُ بي بين أيدي القوابلِ
أهلَّ به لما استهلَّ بصوته ... حِسانُ الوجوه ليّناتُ الأناملِ
وقال أبو تمّام الطائي:
لهفي علَى تلك المشاهد فيهما ... لو أُمْهِلتْ حتَّى تكون شمائِلا
إن الهلالَ إذا رأيتَ نُموَّهُ ... أيقنتَ أنْ سيكونُ بدراً كاملا
وقال البحتري:
غريبُ السَّجايا ما تزالُ عُقولنا ... مُدَلَّهة في خلةٍ من خلالِه
عناهُ الحِجى عن عُنْفوانِ شبابه ... فأقبلَ كهلاً قبل حين اكتهالِه

وثقْتُ بنُعماهُ ولم تجتمع بها ... يدي ورأيتُ النجحَ قبل سُؤالِه
وتعلَمُ أن السَّيف يكفيكَ حدُّهُ ... مكاثرةَ الأقرانِ قبلَ استلالِه
أبا حسنٍ أنشأتَ في أُفق النَّدَى ... لنا كرماً آمالُنا في ظلالِه
مضى منك وسميُّ فجُدْ بوليِّهِ ... وعوّدَ من نُعماك فضلَ نوالِه
وقال أيضاً:
فتًى لم يُنكِّبهُ الشَّبابُ علَى الحجى ... ولم ينس عهد اللَّهو والشيبُ شامله
إذا سؤددٌ أدنى له مدَّ هِمَّةً ... إلى سؤددٍ نائي المحلّ يُزاوله
توقَّعُ أنْ يحْتلَّها درجَ العُلى ... كما انتظرت أوْبَ الهلال منازله
وقال آخر:
فقدناك فِقدانَ الحياة وأقبلتْ ... تُلاحظنا خُزراً إلينا والقبائلُ
ولو أنك المرجوُّ منا لأصبحتْ ... أعالي الدّنا منها وهنَّ أسافلُ
ردَدنا إليه الأمرَ طوعاً ولم نَقُلْ ... لهُ في الَّذي يأتيه ما أنت فاعلُ
به جُمعَ الشّملُ الشتيتُ وفُرِّقتْ ... عباديدُ في القوم اللُّهى والنوافلُ
ومن يرَ جدوى يوسفَ بن محمدٍ ... يرَ اليمَّ لم يجمعْ جناييه ساحلُ
أغرُّ إذا عُدَّتْ مناقبُ فعله ... توهَّمتَ أنَّ الحقَ منهنَّ باطلُ
تطاطا حدود الزور تحت سكوته ... وتنتظرُ الأسماعُ ما هو قائلُ
وقد حُقِّقَتْ فيه الظنون وصدقت ... علَى ما حكت من قبل هذا الدلائلُ
ولا عجبُ أن رجّم الغيبَ عالمٌ ... فقبل الغيوبِ ما تكون المخايلُ
وقال أبو تمام الطائي:
مقاماتُنا وقفٌ علَى الحلم والحِجى ... وأمرَدُنا كهلٌ وأشيبُنا حَبْرُ
فأعجبْ به يهدي إلى الموتِ نحره ... وأعجبُ منه كيف يبقى له نحرُ
يُشيِّعه أبناءُ موتٍ علَى الوغى ... يُشيِّعهم صبرٌ يُشيِّعهم نصرُ
بخَيلٍ لزيدِ الخيل فيها فوارسٌ ... إذا نطقوا في مجلسٍ خرس الدَّهرُ
وقال آخر:
تعلَّمْ فليس المرء يخلَق عالماً ... وليس أخو علمٍ كمن هو جاهلُ
وإن كبير القوم لا علم عنده ... صغيراً إذا التفَّت عليه المحافلُ
وقال قيس بن عاصم:
خُطباءُ حين يقوم قائلُهم ... بيضُ الوجوه مَصاقِعٌ لُسْنُ
لا يَفْطنونَ لعيبِ جارِهمُ ... وهُمُ بحسن جوارِهمْ فُطْنُ
ولبعضهم في عبد الله بن عباس رحمة الله عليه:
إذا قال لم يَتْرك مقالاً لقائلٍ ... بملتقطاتٍ لا ترى بينها فَصْلا
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدَعْ ... لذي أربٍ في القولِ جداً ولا هَزْلا
وقال آخر وهو حسان بن ثابت:
وقد كنا نقول إذا رأينا ... لذي جسمٍ يُعدُّ وذي بَيانِ
كأنَّكَ أيُّها المُعْطى بياناً ... وجِسْماً من بني عبدِ المَدانِ
وقال آخر:
وأحلام عادٍ لا نخاف جليسَهم ... وإن نطق العوراءَ غَربُ لسانِ
إذا حُدِّثوا لم تخشَ سوءَ استماعهم ... وإن حَدَّثوا لَذّوا بحسن بيانِ
وقال البحتري:
صارِمَ العزم حاضِرَ الحزم ساري ال ... فِكْرِ ثبتَ المقامِ صلْبَ العودِ
دقَّ فهماً وجلَّ حلماً فأرضى ال ... لَّهَ فينا والواثقَ بن الرشيدِ
واستوى النَّاسُ فالقريبُ قريبٌ ... عنده والبعيدُ غيرُ بعيدِ
لا يميلُ الهَوَى به حين يُمضي ال ... أمرَ بين المُقلِّ والمورودِ
في نظامٍ من الأمور جميلٍ ماش ... كَّ امرؤ أنَّه نِظامُ فريدِ
مشرقٌ في جوانب السَّمعِ ما يُخْلِ ... قُهُ عَوْدهُ علَى المُستعيدِ
ومعانٍ لو فصَّلتها القوافي ... هجنتْ شعرَ جَرْوَلٍ ولبيدِ
جزن مُستعملَ الكلام اختياراً ... وتجنَّبنَ ظُلمةَ التَّعقيدِ
وركبْنَ اللَّفظَ القريبَ فأدرك ... نَ به غايةَ المُرادِ البعيدِ
وأَرَى الخلق مجمعين علَى فَضْ ... لِكَ ما بين سيدٍ ومسودِ
عرفَ العاملون فضلكَ بالعل ... م وقال الجُهَّال بالتَّقليدِ
وقال أيضاً:
حكمَ يسابحها خلال بنانِه ... متدفقاً وقليبُه في قلبه
كالرّوض مؤتلقاً بحُمرةِ نَوْرهِ ... وبياضِ زهْرتِه وخُضرةِ عشبِه

أنَّه قد خرج هذا الرَّجُل أعني محمد بن عبد الله بن الحسن فقال إنِّي قلت أبياتاً فاحفظها عنِّي:
أَرَى النَّاسَ في أمرٍ سحيلٍ فلا نزل ... علَى حذر حتَّى ترى الأمر مُبرَما
فإنك لا تسطيعُ ردَّ الَّذي مضى ... من القول عن زلاّته فارق الفما
وكائنْ ترى من وافر العِرض سالم ... وآخرَ أردى نفسه فتكلَّما

الباب الثالث والستون
ذكر
التفضيل بالإحسان والمدح بشرف الأنساب
وقال زهير بن أبي سلمى المُزني:
علَى مُكثريهم حقّ من يعْتريهمُ ... وعند المُقلِّينَ السَّماحةُ والبَذْلُ
وما كان من خير أتَوْهُ فإنَّما ... يقدمُهم آباءُ آبائهم قبلُ
وهل يُنبتُ الخطّيّ إلاَّ وشيجُه ... وينبُتُ إلاَّ في منابتها النخلُ
سعى بعدهُم قومٌ لكي يدركوهُم ... فلم يفعلوا ولم يُلاقوا ولم يألوا
وقال آخر:
إنْ يسألوا الخير يُعطوهُ وإن جهدوا ... فالجهد يُخرج منهم طيب إخبارِ
هَيْنون ليْنون أيسارُ ذوو كرمٍ ... سُوّاسُ مكرمةٍ أبناءُ أيارِ
لا ينطقون عن الفحشاء إن نطقوا ... ولا يُمارَون إنْ ماروا بإكثارِ
من تلقَ منهم تَقُلْ لاقيتُ سيدهُم ... مثلَ النّجومِ الَّتي يسري بها السَّاري
وقال المسيب بن علس:
يبيتُ الملوكُ علَى عَتْبها ... وشَيْبانَ إنْ غضبَتْ تُعتبُ
وكالراح بالماء أحلامُهم ... وأخْلاقهم منهما أعذَبُ
وكالمسكِ تُربُ مقاماتهم ... وتربُ قبورهمُ أطيبُ
وقال بعض العبديين وتروى لزهير:
لو كان يُقعد فوق الشَّمس من أحدٍ ... قومٌ لمجدهمُ أوْ جودهم قَعدوا
قوم أبوهم سِنانٌ حين تَنْسبُهُم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
إنسٌ إذا أمنوا جنُّ إذا فزعوا ... غرُّ بهاليل في أعناقهم صيَدُ
مُحَسّدون علَى ما كان من نِعَمٍ ... لا ينزع الله منهم ما له حُسدوا
وقال أعشى همدان في خالد بن ورقاء:
رأيتُ ثناءَ النَّاس بالغيب طيباً ... وقالوا فلانُ ماجدٌ وابنُ ماجد
فإن يكُ عَتّابٌ مضى لسبيلِه ... فما مات من أبقى له مثلُ خالد
وقال حسان بن ثابت:
بيض الوجوه كريمة أنسابُهم ... شُمُّ الأنوف من الطِّراز الأوّل
يُعشَوْن حتَّى ما تهرُّ كِلابُهمْ ... لا يسألونَ عن السّوادِ المُقبل
وقال الحطيئة:
هُمُ المتحفزون علَى المنايا ... بمال الجار ذلك والوفاءُ
هُمُ القوم الذين إذا ألمَّت ... من الأيَّام مُظلمةٌ أضاؤا
إذا نزل الشتاء بجار قومٍ ... تجنَّبَ جارَ بيتهمُ الشتاءُ
فابقوا لا أبا لكمُ عليهم ... فإن ملامة المولى شقاءُ
فإن سعاته لكم سُعاة ... وإن نماءهم لكمُ نماءُ
وإن أباهُم الأدنى أبوكم ... وإنَّ صدورهم لكم بِراءُ
وإن بلاءهم ما قدْ علمتُم ... علَى الأيَّام إنْ نفعَ البلاءُ
وثغرٍ لا يُقام به كَفوكم ... ولم يكُ دونهم لكم كِفاءُ
بجمهور يحار الطرف فيه ... يظل مُعظِّلاً فيه الفضاءُ
وقال أيضاً:
إذا قيل أيُّ النَّاس أوفى قبيلةٍ ... وأكرمُ يوماً لا توارى كواكبُه
فإنَّ بني عمرو بن لأم أرومةً ... علتْ يوم صعب لا تُنال مراقبه
أضاءت لهم أحسابُهم ووجوهُهم ... دُجى اللَّيل حتَّى نظَّمَ الجزع ثاقبُه
وقال آخر:
هُمُ الغُرّ الوجوه بني سنان ... لو أنك تَستضيءُ بهم أضاءوا
همُ حلُّوا من الشرف المُعلَّى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا
فلو أن السَّماءَ دنت لمجدٍ ... ومكرمةٍ دنتْ لهم السَّماءُ
وقال آخر:
وكم فيهم من سيد وابن سيد ... وفيٍّ بعقد الجار حين يُفارقُه
يكاد الغمام الغرُّ يرعد إن رأى ... وجوه بني لأم وينهلُّ بارقه
وقال أبو دهبل الجُمحي:
إن البيوت معادن فنَجارُهُ ... ذهبٌ وكلُّ بيوته ضَخْمُ
مُتهلّل بنعَمْ ولا متباعِدٌ ... سيَّان منه الوفرُ والعُدْمُ
وقال العجير السلولي:
وإن ابنَ عمّي لابنُ زيد وأمُّه ... لبلاَّلُ أيدي خلة الشّولِ بالدَّمِ

طلوع الثنايا بالمطايا وسابق ... إلى غايةٍ من يبتدرها يُقَدّمِ
من النفر المُدلين في كل حُجَّةٍ ... لمستحمد في جولة الرأي محكمِ
جديرون ألاَّ يذكرون بريبةٍ ... ولا يُغرمون الدَّهر ما لم تغرّمِ
وقال آخر:
هو السابق التالي أبوه كما تلى ... أبوه أباه سيد وابن سيد
كأنَّ علَى عرنينه وجبينه ... شعاعين لاجى من شمال وفرقد
وقال آخر:
بنى آباؤه للمجد بيتاً ... توارثَهُ كريمٌ عن كريم
فما اتكل القديم علَى حديث ... ولا اتكل الحديث علَى قديم
وقال الفرزدق:
علَى عهد ذي القَرْنَين كانت سيوفكم ... عَمائمَ هامات الرِّجال البَطارق
أغرّ ترى سيما التقى بجبينهِ ... إذا ما غدا والمسكُ فوق المفارق
وقال أيضاً:
رأيت النَّاس قد خافوك حتَّى ... خَشوك كخشية النَّاس السّحابا
فليس بزايل للحرب منهم ... شِهابُ يطفئون به شِهابا
وقال مروان بن أبي حفصة:
ما كلَّ جارهم الثواء ولا قَلى ... يوماً جوار بني حنيفة جارُ
إن الَّذي سمك السَّماء بنى لنا ... مجداً تقطع دونه الأبصارُ
وقال عبد الله بن الزّبير الأسدي:
إذا مات ابن خارجة بن حِصنٍ ... فلا مطرتْ علَى الأرض السَّماءُ
ولا جاء البشير بغُنم جيشٍ ... ولا حملت علَى الطّهر النِّساءُ
فيوم منكَ خير من رجال ... كثير حولهم نعم وشاءُ
فبورك في بنيك وفي أبيهم ... إذا عدوا ونحنُ لك الفداءُ
وقال آخر:
إن قوماً منهم عُميرٌ وأش ... باه عميرٍ ومنهم لسفاحُ
لجديرون بالوفاء إذا صاح ... أهل النجدة السلاح للسلاحُ
وقال ابن أذينة الكناني:
إذا قريش تولّى أمرَ صاحبها ... فاستَيْقِنَنَّ بأنْ لا خيرَ في أحدِ
رهط النَّبيّ وأولى النَّاسِ منزلةً ... بكل خير وأثرى النَّاس في العددِ
وقال القطامي:
أما قريش فلن تلقاهم أبداً ... إلاَّ وهم خيرُ من يُحفى وينْتعلُ
إلاَّ وهُم جبلُ الله الَّتي قَصُرت ... عنه الجبال فما وازى به جبل
وقال آخر:
آلُ الرسولِ خيارُ النَّاس كُلِّهم ... وخيرُ آلِ رسولِ الله هارون
رضيتُ حكمك لا أبغي به بدلاً ... لأنَّ حكمكَ بالتوفيق مقرونُ
وقال علي بن الجهم:
أغيرَ كتاب الله تَبْغونَ شاهداً ... لكم يا بني العباس بالعُسر واليُسر
كفاكم بأن الله فوَّض أمرَهُ ... إليكم وأوصى أن أطيعوا أولي الأمر
ومن أرسل الله العباد وسبله ... سوى جنب ذي القربى القريبة من أجر
ومن كان مجهول المكان فإنما ... منازلكم بين الحجون إلى الحجر
وقال البحتري:
وإذا أبو الفضل استعار سجيَّةً ... للمكرمات فمن أبي يعقوب
لا يحتذي خلق القصيّ ولا يرى ... متشبهاً في سُؤددٍ بغريب
شرف تتابَع كابرٌ عن كابر ... كالرمح أنبوباً علَى أنبوب
وأَرَى النجابة لا تكون لماهرٍ ... لنجيب قومٍ ليس بابن نجيب
أعيا خطوب الدَّهر حتَّى لفَّها ... والدَّهر سلك حوادث وخطوب
دانٍ علَى أيدي العُفاة وشاسع ... عن كل ندٍّ في النَّدَى وضريب
كالبدر أفرط في العُلو وضوؤه ... للعصبة السارين جِدُّ قريب
وقال أيضاً:
جمال الليالي في بقائك فلْيَدُمْ ... بقاؤك في عُمْر عليهن زائد
ملكتُ به ودَّ العدى وأجدّ لي ... أواصر قربى في الرِّجال الأباعدِ
وإن بطلت مسعاه مجد بعيدة ... ينلها بجدٍ أريحييّ ووالدِ
كما مدَّت الكف المضاف بنانها ... إلى عضد في المكرمات وساعد
ولم أرَ أمثال الرِّجال تفاوتت ... إلى الفضل حتَّى عُدَّ ألفٍ بواحد
ولا خير في أخلاقه غير أنَّه ... غريبُ الأسى فيها قليل المساعد
مكارم هنَّ الغيظ باتَ غليلُه ... يُضرّم في صدر الحسود المكايد
ولن تستبين الدَّهر موضع نعمةٍ ... إذا أنت لم تُدْللْ عليها بحاسد
وقال أيضاً:
لكم بيت الأعاجم حين يُبنى ... ومفتخر المرازبة العظام
يلومك في النَّدَى من لم يورث ... علا الشرف الَّذي عنه تُحامي

وكم من سؤددٍ غلَّستَ فيه ... ولم يرفع عن النفر النيام
وقال أيضاً:
نبهت من نبهان مجداً لم يزل ... قدْماً لمحمود الفعال رفيعا
ولئن تبينت العُلى لهم لما ان ... فكوا أصولاً للعُلى وفروعا
قومٌ إذا لبسوا الدروع لموقفٍ ... لبستهُمُ الأعراض فيه دروعا
في معرك ضنكٍ تخال به القنا ... بين الضلوع إذا انحنين ضلوعا
كنت السبيل إلى الرَّدى إذْ كنت في ... قبض النفوس إلى الحِمام شفيعا
وقال أيضاً:
يُنسيك جود الغيث جودُهم إذا ... عثرت أكفهُم بعام مُجْدب
حتَّى لو أن المجد خيِّر في الورى ... نسباً لأصبح ينتمي في تغلبِ
مَلِك له في كل يوم كريهةٍ ... إقدام عزٍّ واعتزام مُجرّبِ
وتراه في ظُلم الوغى فتخالُه ... قمراً يشدّ علَى الرِّجال بكوكبِ
إنِّي أتيتك طالباً فبسطت من ... أملي وطُلت بجود كفك مطلبي
وغدوتَ خير حياطة منّي علَى ... نفسي وأرأف بي هنالك من أبي
أعطيتني حتَّى حسبت جزيل ما ... أعطيتنيه وديعةً لم توهبِ
ولقد أحسن الَّذي يقول:
لو أن كفك لم تجدْ لمؤمَلٍ ... لكفاه عاجل وجهك المُتهلّل
ولو أن مجدك لم يكن متقادماً ... أغناك آخر سؤدد عن أول

الباب الرابع والستون
ذكر
من قدم بجسارته ومدح بشجاعته
وقال الأعشى:
وأبصرت بيضاً بالأكفِّ صوارماً ... تزايلَ منهن الرقاب الكواهل
مضاربها من طول ما ضربوا بها ... ومن عضَّ هام الدارعين بواجل
وقال المخبل بن السبيع العنبري:
وكم من أمير قد فككتم قيوده ... وسهل دم هرقتموه علَى سحلِ
إذا ما لقوا أقرانهم قتلوهم ... وإن قتلوا لم يقشعِرّوا من القتلِ
وقال مُعَلّى الطائي:
مشت الهُوينى في العدو سيوفُه ... حتَّى عرفْنَ مسالِكَ الأرواحِ
سخِطتْ جماجمهُمُ علَى أجسادهم ... فتبدلت سخطاً صدورُ رِماحِ
وقال أبو نواس:
وإذا مجَّ الفنا عَلَقاً ... وتراءى الموتُ في صوره
راح في ثِنْي مفاضته ... أسدٌ تدمى شَبا ظُفره
تتأبى الطير غزوته ... ثقةً بالشبع من جَزره
وقال مسلم بن الوليد الأنصاري:
سدّ الثغور يزيد بعدما انفرجت ... بقائم السَّيف لا بالختل والحِيَلِ
موف علَى مُهج في يوم ذي رَهجٍ ... كأنَّهُ أجلٌ يسعى إلى أملِ
ينال بالرِّفق ما يعيا الرّجالُ به ... كالموتِ مستعجلاً يأتي علَى مهلِ
وقال أيضاً:
لو أنَّ قوماً يُخْلَقون منيَّةً ... بنفوسهم كانوا بني جبريلا
قوم إذا هجر الهجير من الوغى ... جعلوا الجماجمَ للسيوف مَقيلا
وأنشدني محمد بن الخطاب الكلابي لغيره:
عددت أيامك المحجلة الغرّ ... فأعيت وخيرها عدها
وما انتضيت السيوف يوم وغى ... إلاَّ وفي الهام طلت تغمدها
وقال آخر:
يُضحي علَى المجد مأموناً إذا اشتجرت ... سُمْرُ القنا وعلى الأرواح مُتَّهما
قد فُصِّلت راحتاه من حفيظتِه ... فخيل من شدّة التعبيس مُبْتسما
لم يطغ قوم وإن كانوا ذوي رحمٍ ... إلاَّ رأى السَّيف أدنى منهم زَحما
مشت قلوب رجالٍ في صدورهم ... لما رأوك تمشي نحوهم قَدَما
أنظرتهم عزمات لو رميت بها ... يوم الكريهةِ ركن الدَّهر لانهدما
إذا همُ نكِصو كانت لهم عُقُلاً ... وإن همُ حَجموا كانت لهم لُجما
حتَّى انتهكت بحدِّ السَّيف أنفُسهم ... جزاءَ ما انتهكوا من قبلك الحُرما
أضحكت منهم ضِباعَ الجوّ ضاحيةً ... بعد العُبوسِ وأبكيت السيوف دَما
لما مخضتَ الأمانيّ الَّتي اختلفوا ... عادت هموماً وكانت قبلها هِمَما
وقال آخر:
لا تَدْعُوَنْ نوحَ بن عمرو دعوةً ... للخطب إلاَّ أن يكونَ جليلا
ثَبْتُ المقامِ يرى القبيلة واحداً ... ويُرى فيحسبَهُ القبيلُ قبيلا
وقال آخر:
شهدتُه والمنايا غير دافعةٍ ... والمجد يوجدُ والأرواح تفتقدُ
يكاد حين يُلاقي القرن من حنقٍ ... قبل السنان علَى حوبائه يَرِدُ

لا يوم أكبر منه منظراً حسناً ... والمشرفيَّة في هاماتهم تَخِدُ
أنهبت أرواحه الأرماح إذْ شرعت ... ما أن تُردُّ لغيب الدَّهر عنه يدُ
كأنها وهي في الأوداج والغةٌ ... وفي الكُلى تجدُ الغيظَ الَّذي نجدُ
من كلِّ أزرقَ نظّار بلا نظرٍ ... إلى المقاتلَ ما في متنه أوَدُ
كأنه كان تِربَ الحب مذ زمنٍ ... فليس يُعجزُه قلبٌ ولا كَبِدُ
إنَّ ابن يوسف نجّى الثغرَ من سنةٍ ... أعوامَ يوسفَ عيشٌ عندها رغَدُ
فأفخر فما من سماءٍ للندى رُفعتْ ... إلاَّ وأفعالك الحُسنى لها عَمدُ
واعذرْ حسودَك فيما قد خُصصت به ... إنَّ العُلى حسنُ في مثلها الحسدُ
وقال البحتري:
ركوبُ لأثباجِ المتالفِ عالمٌ ... بأنَّ المعالي دونهنَّ المهالك
مُطِلٌّ علَى الروح المنيع كأنه ... لصرف المنايا في النُّفوس مُشارك
فما تترك الأيَّام من هو آخذٌ ... ولا تأخذ الأيَّام من هو تارك
مَتَى يأتكَ المقدارُ لا تُدْعَ هالِكاً ... ولكن زمانٌ غال مثلك هالك
وقال أيضاً:
وقد جرَّبوا بالأمس منكَ عزيمةً ... فضلْتَ بها السيفَ الحُسام المُجرَّبا
غداةَ لقيتَ الميثَ والليثُ مُخْدِرٌ ... يُجرِّدُ ناباً للِّقاء ومِخْلَبا
فلم أرَ ضِرغامين أصدق منكما ... عِراكاً إذا الهيّابةُ النكس كذَّبا
هزبرٌ مشى يبغي هزبراً وأغلبٌ ... من القوم يغشى باسلَ الوجه أغلبا
أدلّ بشغب ثمَّ هالَتْهُ صوْلةٌ ... رآك لها أمضى جناباً وأشعبا
حملتَ عليه السَّيف لا عزمُك انثنى ... ولا يدُك ارتدَّتْ ولا حدَّه نبا
وكنتَ مَتَى تجمع يمينك تهتك ال ... ضَّريبةَ أوْ لا تُبق للسيف مضْربا
فاحْجَم لما لم يجد فيك مطمعاً ... وأقدمَ لما لم يجد عنك مهْربا
فلم يغله إن كرَّ نحوكَ مُقبلاً ... ولم يُنجه أن حاد عنك مُنكبّا
وقال أيضاً:
مُدبِّرُ حرب لم يبتْ عند غيره ... ولم يسر في أحشائه وَهَلُ الرعبِ
يُقلقله شوق إلى القرن مُعجلٌ ... لذي الطَّعَن حتَّى تستريحَ إلى الضربِ
أضاءت لنا الدُّنيا به بعد ظُلمةٍ ... وأجلَتْ لنا الأيَّام عن خُلق رطبِ
وما زال عبد الله يُكسي شمائلاً ... يقُمن مقام الروض في ناضر العشبِ
فتى يتعالى بالتواضع جاهداً ... ويُعجب من أهل المخيلة والعُجبِ
أمنتُ به حدَّ الزَّمان ففلَّهُ ... وقد يثلِمُ العضبُ المُهند في العضبِ
فلم أمل إلاَّ من مودته يدي ... ولا قُلتُ إلاَّ من مواهبه حَسبي
وقال النَّابغة الذّبياني:
يصونون أجساداً قديماً نعيمُها ... بخالصة الأردان خُضْرِ المناكبِ
ولا يحسبون الخير لا شرَّ بعدهُ ... ولا يحسبونَ الشرَّ ضربةَ لازبِ
ولا عيبَ فيهم غير أنَّ سيوفهم ... بهن فُلولُ من قِراع الكتائب
فهمْ يتساقَوْن المنيَّةَ بينهُمْ ... بأيديهم بيضُ رقاقُ المضاربِ
إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا ... إلى الضرب أرقالَ الجِمالِ المصاعبِ
قال وأنشدني أحمد بن أبي طاهر قال أنشدني أبو تمام:
يمدُّون بالبيض القواطع أيْدياً ... وهُنَّ سواءٌ والسّيوف القواطعُ
إذا أسروا لم يأسِر البغيُ عفوهم ... ولم يُمسِ عانٍ منهمُ وهو كانعُ
إذا أطلقوا عنه جوامعَ كيده ... تيقن أن المنَّ أيضاً جوامِعُ

الباب الخامس والستون
ذكر
من وصف بصباحته ومدح بسماحته
قال النابغة الذبياني:
ألم ترَ أنَّ الله أعطاكَ سورَةً ... ترى كلَّ ملك دونها يتذبذبُ
بأنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا ما بدت لم يبدُ منهن كوكبُ
وقال زياد الأعجم:
تراه إذا ما جئته مُتهلِّلاً ... كأنك مُعطيه الَّذي أنتَ سائلُهْ
كريم إذا ما جئت للعرف طالباً ... حباك بما تحنو عليه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجادَ بها فليتق الله سائله
وقال الحطيئة فيما أَرَى:
تزور امرأً يؤتى علَى الحمد ما لهُ ... ولم يعطِ أثمانَ المحامدِ تُحمَدِ

يرى البُخْلَ لا يبقى علَى المرء مالَهُ ... ويعلمُ أن الشُّحَّ غير مُخلدِ
كسوب ومتلافٌ إذا ما سألتَهُ ... تهلَّل واهتزَّ اهتزاز المهندِ
مَتَى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خيرَ نارٍ عندها خير موقدِ
وقال أبو العتاهية:
إن المطايا تشتكيكَ لأنها ... قطَعتْ إليكَ سباسيباً ورِمالا
فإذا وردن بنا وردن مُخِفَّةً ... وإذا صدرن بنا صدرنَ ثِقالا
وقال آخر:
راح السريّ وراح الجود يَتبعه ... وإنَّما النَّاس مذموم ومحمودُ
من كان يضمن للسؤال حاجتهم ... ومن يقول إذا أعطاهم عودوا
وقال آخر:
قد زيَّنوا أحسابهم بسماحهم ... لا خيرَ في حسب بغير سماح
أموالهم مبذولة ونفوسُهم ... للموت عند مجالس الأرواح
وقال آخر:
أناسٌ بما أفنوا من المال أحرزوا ... محامدَ ما يبقى من الحمد والأجر
رأوا أن دُنياهُم تبيد فأنزلوا ... نفوسُهم منها بمنزلةِ السفر
وقال آخر:
نزلتُ علَى آل المهلب شاتياً ... بعيداً عن الأوطان في زمن مَحْلِ
فما زالَ بي إكرامُهم وافتقادُهمْ ... وألطافُهمْ حتَّى حسِبتهُمُ أهلي
البحتري:
جادَ حتَّى أفنى السُّؤال فلمّا ... بادَ منا السؤال جادَ ابتداءَ
فهو يُعطي جزلاً ويُثني عليه ... ثمَّ يُعطي علَى الثناء جزاءَ
وقال علي بن العباس الرومي:
لا يُبذل الرِّفْدَ حين يبذله ... كمشتري الحمد أوْ كمُعتاضهِ
بل يفعل العُرف حين يفعله ... لجوهر العرف لا لأعواضهِ

الباب السادس والستون
ذكر
من أسدى المعروف إليه فشكره وأظهر ما عليه
ذكروا أن القطامي كان يهجو قيساً فأسره زفر بن الحارث فامتن عليه وأمر له بمائة من الإبل فامتدحه بعد ذلك بأشعار كثيرة منها قوله:
منْ مُبلغ زفر القيسي مَدحته ... عن القطامي قولاً غيرَ إفنادِ
إنِّي وإنْ كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلاَّ ضربةُ الهادي
مُثنٍ عليك بما استبقيت معرفه ... وقد تعرض منّي مُقبل بادي
إذْ يعتريك رجال يبتغون دمي ... ولو أطعتهُم أبكيت عوادي
وقال ذو الرُّمَّة:
لولا اختياري أبا حفصٍ وطاعته ... كادَ الهَوَى من غداة البين يعتزمُ
له عليَّ أيادٍ لستُ أكفرها ... فإنما الكفرُ أن لا تشكر النعمُ
إذا هبطت بلاداً لا أراك بها ... تجهمتني وحالت دوننا الظلمُ
أغرّ أروع بهلول أخي ثقةٍ ... حلاحل من يراه اللين والكرمُ
يُريد ذا الشَّيْب منه شيبه كرماً ... ويستبين فتاهم حين يحتلمُ
وقال محمد بن سعيد السعدي:
سأشكر عمرواً إن تراخت منيتي ... أياديَ لم تُمنَن وإنْ هي جلَّت
فتى غيرُ محجوب النَّدَى عن صديقه ... ولا مظهرَ الشكوى إذا النعل زُلَّت
رأى خلة من حيث يُخفى مكانُها ... وكانت قذى عينيه حتَّى تجلَّت
وقال آخر:
شكرتك إن الشكر حظُّ من التُّقى ... وما كلُّ من أوليْتهُ نعمةً يقضي
فأحييتَ لي ذكرى ومن كان خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنبهُ من بعضِ
وقال آخر:
فلو كان للشكر شخصٌ يبين ... إذا ما تأمَّلَهُ النَّاظرُ
لمثَّلتُهُ لكَ حتَّى تراهُ ... فتعلم أنِّي امرؤ شاكر
وهذا الكلام حسن إن ترك على جملته، وقبيح إن كشف عن حقيقته، وذلك أن صاحبه لم يقصد بشكره، وإلى أن يؤدي الحق الَّذي لزمه في نفسه وإنَّما قصد إلى أن ولي النعمة يشكره وفي إظهار الشكر خلال كثيرة كل واحدة منها أجلَّ من هذه الخلة قدراً، وأجمل منها ذكراً، على أن هذه وإن كان غيرها أحسن في الحقيقة منها فإنَّه لاعناً بالمنعم عليه عنها لئلا يقع عنده. أن إمساكه قصدٌ منه إلى كفران نعمته، فيمنعه ذلك من معاودة الأنعام عليه، وعلى مثله كما قال عنترة العبسي:
نبئت عمرو غير شاكر نعمتي ... والكفر مجنية لشكر المنعم

وقد غلط قوم من المتفلسفين غلطاً دخلوا به في جملة جهال المتكبرين فزعموا أن إظهار الشكر وتلقيه بالقبول قبيحان وأنهما جميعاً يدلان من الشاكر والمشكور على صغر النفس، ونقصان الهمة. وليس الأمر كذلك بل تركه يدل على كفران النعمة، والاستكبار عن قبوله يدل على قلة الفهم، وضعف الروية، إذْ الله جلّ ثناؤه وهو خالق الخلق بتفضله وموفق من شاء منهم لطاعته ويسمي نفسه تبارك وتعالى شاكراً فإذا جاز أن يكون الله تبارك وتعالى شاكراً لمن أطاعه على طاعته إياه وهو الموفق لها وخالق القدرة على فعلها فكيف ينكر على من ابتدأه مخلوق مثله بنعمه أن يظهرها وأن يشكر لموليه إياها على فعلها وإذا كان الله جلّ ثناؤه يحض على شكر نفسه ويقبله من خلقه فكيف ينساغ للمخلوق أن يأباه ويترفع عن قبوله ولقد أحسن الَّذي يقول:
ولو كان يستغني عن الشكر ماجدٌ ... لِعزة مُلك أوْ عُلوِّ مكان
لما ندبَ الله العِبادَ لشكره ... فقال اشكروني أيها الثقلان

الباب السابع والستون
ذكر
ما يجعل من الاستبطاء مقدمة بين يدي الهجاء
حدثني أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن حبيب الحارثي قال: حدثنا وهب يعني ابن جرير عن جويرية، حدثنا نافع أنَّه كان تحت منبر ابن الزبير، يوم دعا إلى نفسه، وحدثني أن أبا حُرّة الأسلمي صاحب العبا، كان رجلاً من الموالي شاعراً شجاعاً مقاتلاً فقام إليه فقال: يا ابن الزبير ما سفكنا الدماء، ولا قاتلنا النَّاس إلاَّ في ملكك، قال: فمن تبغون سواي؟ قال: فهل انتظرت حتَّى نكون نحن ندعوك ففارقه ثمَّ أنشأ يقول:
إن الموالي أمست وهي عاتبةٌ ... علَى الخليفة تشكو الجوع والحربا
ماذا علينا وماذا كان يرزؤنا ... أيُّ الملوك علَى ما حوله غَلبا
نُعاهدُ الله عهداً لا نخيس به ... لا نسأل الدَّهر شورى بعدما ذهبا
وذكروا أن رجلاً من بني ضَبَّة دخل علَى عبد الملك بن مروان فقال: السلام عليك:
والله ما ندري إذا ما فاتنا ... طلبٌ إليكَ من الَّذي نتطلَّبُ
ولقد طلبنا في البلاد فلم نجد ... أحداً سواك إلى المكارم يُنسبُ
فاصبر لغادتك الَّتي عوَّدتنا ... أو لا فأرشِدْنا إلى منْ نذهبُ
قال: لا أجد. وأمر له بألف دينار وانصرف. فلما حال عليه الحول رجع وهو يقول:
يؤوب الَّذي يأتي من العرف أنَّه ... إذا فعلَ المعروف زادَ وتمما
وليس كبانٍ حين تمّم مثلها ... تتبعهُ بالنقص حتَّى تهدَّما
فأمر له بألفي دينار فانصرف. ولقد أحسن الَّذي يقول وهو يزيد بن محمد المهلبي:
رأى النَّاس فوق المجد مقدار مجدكم ... فقد سألوكم فوق ما كان يُسألُ
بلغتَ الَّذي قد كنت أمّلتُ فيكمُ ... وإن كنتُ لم أبلغ لكم ما أؤمِلُ
وما لي حقّ واجبٌ غير أنَّني ... إليكم بكم في حاجتي أتوسَّلُ
وقال آخر:
ومن يكُ مفتاحاً لخير يُريدهُ ... فإنك قفلٌ يا سعيدُ بنُ خالدِ
أبيتَ فلا تُعطي ولا أنت مانع ... كأنك منها بين سُخنٍ وباردِ
وقال إبراهيم بن العباس الكاتب:
إن امرءاً ضنَّ بمعروفه ... عنّي لمبذولٌ له عُذري
ما أنا بالراغب في عرفه ... إذْ كان لا يرغبُ في شكري
وأنشدنا أحمد بن طاهر لنفسه:
طوى شيماً كانت تروح وتغتدي ... وسائلَ من أعيت عليه وسائلُهْ
فيا عارضاً للعرف أقلع مُزْنُه ... ويا وارداً للسيل جُفَّت مسايلُهْ
ولكنني أطوي الحسام إذا مضى ... وإن كان يوم الروع غيري حاملُه
وأثني علَى جَيحانَ إنْ غاض ماؤه ... وإنْ كان ذوداً غير ذودي ناهلُهْ
وله أيضاً:
ما ماء كفّك إنْ جادت وإنْ بخلتْ ... من ماء وجهي وإن أفْنيتُه عِوَضُ
إنِّي بأيسرَ ما أدْنيتُ مُنبسطٌ ... كذا بأيسرَ ما أقصيتُ مُنْقَبضُ
من أشتكي وإلى من أعتري وندى ... من أجتدي كلُّ أمر فيك مُنتقضُ
مودَّةٌ ذهب أثمارُها شُبَهُ ... وهمهُ جوهرُ معروفها عَرضُ
وله أيضاً:
نأيتُ فلا مالٌ حويتُ ولم أقم ... فأمتَع إذْ فُجعتُ بالمال والأهلِ
بَخلتُ علَى عرضي بما فيه صونُه ... رجاءَ اجتناءِ الجود من شجر البُخل

عصَيتُ شبا عزمي لطامةِ حيرةٍ ... دعتني إلى أن أفتح القُفل بالقُفلِ
عِدات كرَيْعان السراب إذا جرى ... تُنَسّر عن منعٍ وتُطوى علَى مطلِ
فلو شاء من لو شاءَ لم يثْن أمره ... لصيَّر فضل المال عند ذوي الفضل
ولو أنَّني أعطيتُ يأسي نصيبَهُ ... إذن لأخذتُ الدَّهر من مأخذ سهلِ
ولم يكُ ما جرَّعتُ نفسي من الأسى ... ولم يكُ ما جرَّعت قومي من الثُكلِ
وله أيضاً:
فأين قصائدٌ لي فيك تأبى ... وتأنَفُ أن أهانَ وأن أُذالا
من السحر الحلال لمجتنيه ... ولم أرَ مثلَهُ سحراً حلالا
وله أيضاً:
ما أملي فيك بالضعيف ولا ... ظنِّي في نجْمهِ بمكذوبِ
ولا قبولي ما كنت جُدْتَ به ... عليَّ بالأمس خُلسةَ الذيبِ
أقلُّ إخوانكَ الحميد غِنًى ... وأكثرُ الماء غيرُ مشروبِ
لي أملٌ دائم الوقوفِ علَى ... مُنتظر من جَداك مرقوبِ
وهِمَّةٌ ما تزالُ حائمةً ... حول رواقٍ عليك مضروبِ
فكيف ألجأتني إلى الأمد الأب ... عد من يوسف بن يعقوبِ
المانعي اليأسَ من بخالتِهِ ... والموسعي من عِدات عُرقوبِ
لستُ علَى غِرَّةٍ بمُشْتملٍ ... ولا إلى مطمع بمنسوبِ
ولا لمثلي في القولِ منك رِضاً ... والقول في المجد غيرُ محسوبِ
أما نوالٌ يُدنيكَ من مِدَحي ... أوْ اعتذار يكفيك تأنيبي
وقال علي بن الجهم:
أطاهر إنِّي عن خراسان راحل ... ومُسْتخبَرٌ عنها فما أنا قائل
أأشكوك أم أثني عليك وإنَّما ... تخيَّرتُ أدَّته إليك المحافل
ومن أحسن ما قيل في الاستيطاء لعطاء وألطفه معنى قول البحتري:
أعاتبُ إخواني ولستُ ألومُهمْ ... مُكافحةً أن الملوم المُلَوَّمُ
وما أنت بالثاني عِناناً عن العلى ... ولا أنا بالخلّ الَّذي يتجرَّمُ
سأحملُ نفسي عنك حملَ مُجامل ... وأكرِمُها إن كانتِ النَّفس تُكرمُ
وأبعدُ حتَّى تعرضَ الأرض بيننا ... ويُمسي التلاقي وهو غيبٌ مُرجَّمُ
عليك السّلامُ أقصر الوصل فانطوى ... واجمع توديعاً أخوك المسلّمُ
وما منعَ الفتحُ بن خاقان نَيْلهُ ... ولكنها الأقدارُ تُعطي وتحْرمُ
خلا أن باباً ربما التاثَ دونه ... ووجهاً طليقاً ربما يتجهَّمُ
سحاب خَطاني جودُهُ وهو مُسبلٌ ... وبحر عداني فيضُهُ وهو مُفعمُ
وبدرٌ أضاءَ البدرَ شرقاً ومَغرباً ... وموضعُ رجلي منه أسود مُظلمُ
أأشكو نداه بعدما وسِعَ الورى ... ومن ذا يذم الغيثَ إلاَّ مُذَمّمُ
وله أيضاً:
أمرْتَ بأنْ أُقيمَ علَى انتظار ... لرأيك أنَّه الرأي الأصيلُ
وراقبت الرسولَ وقلتُ يأتي ... بتبيانٍ فما جاءَ الرسولُ
فليس بغير أمركَ لي مُقامٌ ... ولا عن غير إذنك لي رحيلُ
وقد أوقفت عزمي والمطايا ... فقُلْ شيئاً لأفعلَ ما تقولُ
وقال أيضاً:
إذا محاسني اللاتي أُدِلُّ بها ... كانت ذُنوبي فقل لي كيف أعتذرُ
أهزُّ بالشعر أقواماً ذوي وسنٍ ... لو أنهم ضربوا بالسيف ما شعروا
عليَّ نحتُ القوافي من مقاطعها ... وما عليَّ إذا لم تَفْهم البقَرُ
أبَعْدَ عشرين شهراً لا جداً فيرى ... به انصراف ولا وعْدٌ فيُنتظرُ
وله أيضاً:
رأيتُك تهوى اقتناءَ المديح ... وتجهلُ مقدارَ إيجابهِ
وكيف تُرجِّي وصولاً إلي ... ه ولم تتوصَّلْ بأسبابهِ
لئن كنت أنحله الأكرمي ... ن فما أنت أول أربابه
وأنْ أتطلَّب به نائلاً ... فلستَ مليّاً بأطلابه
وأنْ أتصدق به حِسبةً ... فإن المساكين أوْلى بهِ
وقال أيضاً:
وعدْتَ بِرْذَوْناً فردَّدْتني ... إليكَ حتَّى قام بِرْذَوني
مَنيَّتي الأدْهمَ من بعدما ... فجعتني بالأشهب الجَوْنِ
إن يكذب الميعادَ تظلِمْ وإنْ ... يصدق فبرذون بِبِرذونِ

الباب الثامن والستون
ذكر
من هجي بفعله وعير ببخله

البخلاء على ضروب فبعضهم أقبح من بعض فمنهم من يبخل على غيره بما هو محتاج إليه لمصلحة نفسه، ومنهم من يبخل بما هو مستغن عنه، ومنهم من يبخل بمال غيره وقد جرى على البحتري نوع من البخل طريف.
بلغني أن بعض الكتاب عاتبه على احتشامه فاستقرض منه عشرين ديناراً فمنعه فقال في ذلك:
إن انبسطنا ردنا عن رادتنا ... أوْ احتشمنا فعدلٌ موشكٌ المَضَضِ
ما ضر ملتمس الجدوى إذا لحظت ... عيناه عندكم إخفاقَ مقترضِ
وحدثني أبو بكر بن أبي خيثمة قال: حدثني سليمان بن أبي صالح بن مسلم قال: كان شريك بن عبد الله على قضاء الكوفة فخرج يتلقى الخيزران فبلغ قرية يقال لها شاهي وأبطأت الخيزران فأقام ثلاثاً ينتظرها فيبس خبزه فجعل يبلَّهُ بالماء ويأكل فقال العلاء بن المنهال الغنوي:
فما لك موضعاً في كل يومٍ ... تلقّى من يحجُّ من النّساءِ
مقيمٌ في قرى شاهي ثلاثاً ... بلا زادٍ سوى كِسرٍ وماءِ
قال سليمان فعزله يعني شريكاً موسى بن المهدي، فقال موسى بن عيسى لشريك: يا أبا عبد الله عزلوك عن القضاء ما رأينا قاضياً عزل قال: هم الملوك يعزلون ويخلفون.
وقال أيضاً:
في كلّ يوم وقفةٌ بفنائهِ ... تخزي الشريفَ وردَّةٌ عن بابهِ
أسمع لغضبانٍ تثبت ساعة ... فبَداك قبل هجائه بعتابهِ
تالله يسهرُ في مديحك ليلهُ ... متململاً وتنامُ دونَ ثوابهِ
يعرض أن أباه خلع. وقال أوس بن حجر:
هَممتَ بباعٍ ثمَّ قصرت دونهُ ... كما تنهض الرجزاء شُدَّ عِقالُها
وإن كثيراً أن تكلف مفرقاً ... من القول أعلا سورة لا تنالها
وقال الأعشى:
أعَلقمُ قد حكَّمتني فوجدْتَني ... بكم عالماً علَى الخصومةِ غائصا
كلا أبوَيكم كان فرعاً دِعامةً ... ولكنهمْ زادوا وأصبحْتَ ناقصا
تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم ... وجاراتُكُمْ شعثاً يُبِتْنَ خمائصا
وقال الخليل بن أحمد:
كفّاك لن تُخلقا للنَّدى ... ولم يكُ بخلُهما بدعَهْ
فكفُّ ثلاثة آلافِها ... وتِسعمئيها لها شِرعه
وكفُّ عن الخير مقبوضةٌ ... كما قبضت مائة تِسعَه
وأنشدنا أبو العباس:
فتًى لرغيفهِ شَنْفٌ وقرط ... ومرسلتان من خَزَرٍ وشَذْر
ودون رغيفه لمس الثُّريَّا ... وحربٌ مثل وقعة يوم بدر
وإن ذكر الرَّغيف بكى عليه ... بُكا الخنساء إذْ فُجعت بصخر
وأنشدنا أيضاً:
أَرَى ضيفك في الدَّار ... وكربُ الموت يغشاهُ
علَى خبزك مكتوبٌ ... سيكفيكهم اللهُ
وقال دعبل:
يا تارك الدَّار على الضَّيفِ ... وهارباً منها من الخوفِ
ضيفك قد جاءَ بزادٍ لهُ ... فارجعْ وكن ضيفاً علَى الضَّيفِ
وقال آخر:
قد كنت أحسبُ أنَّ الخبز فاكهة ... حتَّى مررت علَى أوفى بن منصور
يا حابس الرَّوث في أعفاج بغلته ... خوفاً علَى الحبّ من لقطِ العصافير
وقال أبو الشمقمق:
طعامك في السَّحاب إذا التقينا ... وماؤك عند منقطع التُّرابِ
وما روَّحتنا لتذبَّ عنَّا ... ولكنْ خفت مَرْزئَةِ الذُّبابِ
وقال آخر:
نوالك دونه خرطُ القتاد ... وخبزك كالثُّريَّا في البعادِ
ترى الإصلاح صومك لا لنسكٍ ... وكسرك للرَّغيف من الفسادِ
ولو أبصرت ضيفكَ في منامٍ ... لحرَّمتَ المنام إلى التنادِ
وما أهجوكَ أنَّك كفء شعري ... ولكنِّي هجوتكَ للكسادِ
وبلغني أن علي بن العباس الرومي مدح ابن المدبر بأبيات فلما طال تردده في اقتضاء ثوابها دفع لحاجب إليه الأبيات وقال: يقول لك امتدح بها من شئت فاعتزل عن الباب فكتب إليه هذه الأبيات وأنفذها إليه:
رَدَدتَ عليَّ شعري بعد مطلٍ ... وقد دنَّستَ مَلبهُ الجديدا
وقلتَ امدح به من شئتَ غيري ... ومن ذا يقبل المِدَ الرديدا
ولا سيما إذا أعبقت فيه ... فحازيك اللواتي لن تبيدا
وهل للحيِّ في أثواب مَيْتٍ ... لبوس بعدما امتلأتْ صَديدا
وقال علي بن الجهم:
جمعت أمرين ضلّ الحزم بينهما ... تِيه الملوك وأفعال المماليك

أردت شكراً بِلا مَنٍّ ومرزأةٍ ... لقد سلكت سبيلاً غير مسلوك
وقال أبو تمام:
عياش إنك للئيمٌ وإنَّني ... إذْ صرت موضعَ مطلبي للئيم
السحتُ أعذبُ من نوالك مطمعاً ... والمهل والغسلين والزقّوم
لما بدا لي في صميمك ما بدا ... بل لم يصب لك لا أصيب صميم
جددتُ في ذَمِّيك حبلَ قصائد ... جالت به الدُّنيا وأنتَ مقيم
وقال أيضاً:
ليُسوِّدنَّ بقاعَ وَجهك منطقي ... أضعافَ ما سوَّدتَ وجهَ قصيدي
وليفضحنَّك في المحافل كلِّها ... صَدري كما فضحتْ يداكَ ورودي
وله أيضاً:
توهُّمُ آجلِ الطمع المُغيتي ... تيقنُ عاجلِ اليأس المنيل
فأجدى مَوقفي بنداك جَدوَى ... وقوفِ الصَّبِّ في الطلل المُحيل
وكنتُ أعزُّ عزّاً من قنوعٍ ... يعوِّضه صفوح من ملول
فصرت أذلّ من معنَى دقيق ... به فَقْر إلى ذهن جليل
فما أدري عَمَاي عن ارتيادي ... دَهاني أم عَمَاك عن الجَميل
ذخرتك للجزيلِ وأنت لغوٌ ... ظلمتُك لستَ من أهلِ الجزيل
رُويدَك إن لؤمكَ سوف يجلو ... لك الظّلماء عن حُزن طويل
وأقلل إن كبركَ سوف يَصلى ... بنيراني أقلُّ من القَليل
مَراراتُ المُقامِ عليكَ تعفو ... فتذهب في حلاوات الرَّحيل
وله أيضاً:
أضحَوْا بمُستنِّ سيل الذمّ وارتفعتْ ... أموالهم في هضاب المَطل والعِلل
من كلِّ أظمى الثرى والأرض قد نهلتْ ... ومقشعرّ الذّرى والشَّمس في الحمل
وأخرسِ الجود تلقَى الدَّهرَ سائله ... كأنَّهُ واقف منه علَى طَلَل
وله أيضاً:
ستعلم يا عياش إن كنت تعلمُ ... فتندمُ إن خلاَّك جهلُكَ تندمُ
وقفتُ عليكَ الذمّ حتَّى كأنّما ... لديك الغنَى أوْ ليسَ في الأرضِ درهمُ
وكفكفتُ عنكَ الذمّ حتَّى كأنّما ... أجاركَ مجدٌ أوْ كأني مفحَمُ
فلمَّا بدا لي منكَ لؤمٌ تحفّهُ ... حرَّ ميَّةٌ ينشقُّ عنها التَّبظْرُمُ
تركتكَ ما إنْ في أديمكَ ظاهرٌ ... ولا باطن إلاَّ ولي فيه ميسمُ
وأيسَرُ من تَسآلكَ العيُّ والعمَى ... وأعذبُ من إحسانكَ القيحُ والدمُ
رأيتكَ من مالٍ وجود ومحتِدٍ ... لأعدمُ من أن يسْتَريشك مُعدَمُ
وما ليَ أهجو حضرموت كأنَّهمْ ... أضاعوا ذمامي أوْ كأنَّك منهُمُ
وقال البحتري:
خطب المديح فقلتُ خلِّ طريقَهُ ... ليجوز عنك فلستَ من أكفائه
وقد انتمَى فانظُرْ إلى أخلاقه ... صفحاً ولا تنظرْ إلى آبائه
أعطى القليلَ وذاك مبلغُ قدرِهِ ... ثمَّ استردَّ وذاك مبلغُ رائه
ولبعض بني أسد:
وما جاءني من خالد غير خمسةٍ ... وما خمسة من خالد بقليل
ثقيل علَى ظهر الجواد إذا غدا ... وليس علَى أعدائه بثقيل
وقال الأخطل:
ما زالَ فينا رباطُ الخيل مُعلمةً ... وفي كُليب رباطُ الذلِّ والعارِ
قومٌ إذا استنبحَ الأضياف كلبهُمُ ... قالوا لأُمِّهم بولي علَى النَّارِ
وقال أبو تمام الطائي:
أتطمعَ أن تُعَدَّ كريم قومٍ ... وبابُكَ لا يطيفُ به كريمُ
كمن جعلَ الحضيض له مهاداً ... ويزعمُ أن أخوته النُّجومُ
فما أنت اللَّئيمُ أباً ولكن ... زمانٌ سُدتَ فيه هو اللَّئيمُ
وقال البحتري:
وأكثر ما لسائلهم لديهم ... إذا ما جاءَ قولهُمُ تعودُ
ووعد ليس يُعرفُ من عُبوس ان ... قباضِهم أوعدٌ أمْ وَعيدُ
وقال أيضاً:
لو صافحوا المُزن ما ابتلتْ أناملهم ... ولو يَخوضونَ بحر الصِّين ما غَرِقوا
جَفُّوا من اللّؤم حتَّى لو بَدا لهمُ ... ضوءُ السَّنا في سواد اللَّيل لاحترقوا

الباب التاسع والستون
ذكر
من هجي بالفرار من اللقاء
والجزع من مواقعة الأعداء وأول بابه
قال حسان بن ثابت يعير الحارث بن هشام بفراره وتسليمه من معه:
إن كنت كاذبة الَّذي حدثتني ... فنجوتِ منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبَّةَ أن يُقاتل دونهم ... ونجا برأس طِمرَّةٍ ولِجام
وقال الحارث بن هشام معتذراً من ذلك:

الله يعلمُ ما تركتُ قتالهم ... حتَّى علَوْا فرسي بأشقرَ مُزبِدِ
وعلمتُ أنِّي إنْ أُقاتلُ واحداً ... أُقتلْ ولا يضرُرْ عدوِّي مشهدي
فصددتُ عنهمْ والأحبَّةُ فيهمُ ... رَصداً لهمْ بعقاب يوم مَرصدِ
ومن العجائب أن يُعير حسان أحداً بالفرار من اللقاء، ومكانه من الجُبن المكان الَّذي لا يجهله من روى الأشعار، وعلم طرفاً من الأخبار.
وبلغني أنَّه كان يهاجي قيس بن الخطيم وكان فيما هجاه به قوله:
فلا تجزعنّ يا قيس وأربعْ فإنَّما ... قُصاراك أن تلقَى فألقى محمدا
فلما بلغ هذا البيت قيساً قال: هذا حسان بن ثابت. قالوا: نعم، قال: لم يكن هذا كلامه يوم انهزم من أول السطح إلى آخره، ومن آخره إلى أوله.
وقال جرير يعير الفرزدق بنبوّ السَّيف عن قطع العلج الَّذي ضربه:
بسيف أبي رعوان سيف مُجاشعٍ ... ضربتَ ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ضربتَ به عند الأمام فأرعَشَتْ ... يَداك وقالوا مُرهف غير صارم
فقال الفرزدق يجيبه ويعتذر من ذلك:
فهل ضربةُ الرُّومي جاعلة لكم ... أباً عن كليب أو أباً مثل دارمِ
فلا نقتل الأسرى ولكن نفكُّهم ... إذا أثقلَ الأعناق حملُ المغارم
وقال أيضاً:
وما نَبَا السيفُ من جُبن ولا دَهشٍ ... عند الأمام ولكنْ أُخِّرَ القَدَرُ
ولو ضربتُ علَى عَمْدٍ مقلَّدُه ... لخرَّ جُثمانه ما فوقهُ شَعَرُ
وما يعجِّل نفساً قبلَ مِيتتِها ... جمعُ اليدين ولا الصّمصامةُ الذكرُ
وقال أيضاً:
فإن يكُ سيفٌ خان أوْ قَدَرٌ أبى ... لتأخير نفس حتفها غيرُ شاهدِ
وقال الطرماح:
لا عزَّ نصرُ امرئ أمسى له فرسٌ ... علَى تميمٍ يريدُ النَّصرَ من أحدِ
لو كانَ وَرد تميم ثمَّ قيل لها ... حوض النَّبيّ عليه الأزد لم ترِدِ
لو أنزلَ اللهُ وحياً أن يُعذّبها ... إن لم تَعد لقتالِ الأزد لم تعدِ
وقال أيضاً:
نُبئت تيماً محتذي حرب طيئٍ ... تَباركت يا ربَّ الخطوب الأوائلِ
وما خلقتْ تيمٌ وزيدُ مناتها ... وضبَّةَ إلاَّ بعد خَلق القبائلِ
لقد زادني حبّاً إليَّ تقبّضي ... بغيضٍ إلى كلِّ امرئ غير طائلِ
إذا ما رآني قطّع الطّرف بينه ... وبيني فعل العارف المتجاهلِ
ملأتُ عليه الأرض حتَّى كأنَّها ... من الضّيق في عينيه كِفةُ حابلِ
وقال آخر:
لحا اللهُ أهزلنا جارهُ ... وأسمننا حين نشتو فصالا
والأمنا عند غِبِّ اللّقا ... ء إذا ما دعوتُك عَمّاً وخالا
وأجبنا أسوةً في اللّقا ... ء إذا ما السُّيوف عَلوْن القلالا
وقال الفرزدق:
كأني علَى ذي الطبي عينٌ بَصيرة ... مُفَقّدة أوْ منظر هو ناظره
يحاذرُ حتَّى يحسب النَّاس كلّهم ... من الظنّ لا تخفى عليهم سرائره
وقال آخر:
كأنَّ بلادَ الله وهي عريضةٌ ... علَى الخائف المطلوب كفّة حابلِ
يؤدي إليه أن كلَّ ثنيَّةٍ ... تيمَّمَها ترميه منها بقاتلِ
وقال آخر:
أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامةٌ ... رَبداء تفزعُ من صَفيرِ الصَّافرِ
هلاَّ برزت إلى الغزالة في الوغى ... بل كانَ قلبُك في جَناحي طائرِ
صدعت غزالة قلبه بفوارس ... تركت مناظره كأمس الدَّابرِ
وقال آخر:
جهلاً علينا وجُبْناً عن عدوّكم ... لبئستِ الخلّتانِ الجهلُ والجُبُنُ
إذا رأوا خلّة طاروا بها فرحاً ... منِّي وما علموا من صالحٍ دَفنوا
وقال أبو تمام:
لو لم تراجعهم لراجعهم ... ما في صدورهم من الأوجالِ
قد أترعتْ منها الجوانح رهبةً ... بَطَلت لديها سورةُ الأبطالِ
لم يُكسَ شخصٌ فيئه حتَّى رمى ... وقت الزَّوال نعيمهم بزوالِ
برزت بهم هفوات علمهمُ وقد ... يُردي الجمال تعسُّف الجمَّالِ
وكأنَّما احتالت عليه نفسُهُ ... إذْ لم تنلْهُ حيلةُ المحتالِ
ترك الأحبَّة سالياً لا ناسياً ... عذرُ النسيِّ خلافُ عذر السَّالي
ما زالَ مغلوبَ العزيمة سادراً ... حتَّى غدا في القيد والأغلالِ

لا كعبَ أسفلُ موضعاً من كعبه ... مع أنَّه عن كلِّ كعب عالِ
سامٍ كأنَّ العزّ يجذبُ ضيعَهُ ... وسُمُوُّه من ذلَّة وسفالِ
مُتفرغ أبداً وليس بفارغٍ ... من لا سبيل له إلى الأشغالِ
وقال أيضاً:
أعطى بكلتا يديه ثمَّ قيل له ... هذا أبو دُلف العجلي قد دَلَفا
جيران تحسب أن النَّقع من دهشٍ ... طوراً ......
تركت أجفانه مغموضة أبداً ... ذُلاً يمكن عينيه ولا وَطَفا
برقٌ إذا رقّ غيثٌ باتَ مختطفاً ... للطرف أصبح للهامات مختطفا
وللبحتري:
وقد شاغبَ الإسلام خمسين حجَّةً ... فلا الخوفُ ناهيه ولا الحُلمُ زاجرُه
ولمَّا التقى الجمعان لم تجتمع لهُ ... يَداه ولم ينبت علَى البيض أطرُه
فجاءَ مجيء العير قادتْهُ حَيرةٌ ... إلى أهرت الشّدقين تُدمَى أظافرُه
ومن كانَ في استسلامه لائماً لهُ ... فإنِّي علَى ما كانَ من ذاكَ عاذرُه
وكيفَ يفوتُ اللَّيثَ في قيد لحظهِ ... وكانَ علَى شهرين همٌّ يُحاصرُه
فإن أدركتْهُ بالعراق نيَّةٌ ... فقاتلهُ عند الخليفةِ آسرُه
بتدبيرك الميمون أعلى مكيدة ... وكلَّتْ عليه سمرُهُ وبواترُه
وظنّك سرٌّ لو تكلف ظنّهُ ... دجا اللَّيل عنَّا لم تسعْه ضمائرُه

الباب السبعون
ذكر
من هجي بقبح خلقته وعيب بسوء خليقته
أنشدني بعض أهل الأدب في أبي يعلى الكاتب:
نعمة الله لا تُعاب ولكن ... ربَّما استُقْبحت علَى أقوامِ
لا يليقُ الغنَى بوجه أبي يعلى ... لا ولا نُور بهجةَ الإسلامِ
وسخ الثَّوب والقلانِسِ والبِرْ ... ذونِ والوجه والقَفَا والغُلامِ
لا تمسّوا دواته فتصيبوا ... من دماءِ الحُسين في الأقلامِ
وقال آخر:
خنازير نامُوا عن المكرمات ... فقام بهم قائمٌ لم يَنَمْ
فيا قُبحهُمْ في الَّذي مُلِّكوا ... ويا حُسنهمْ في زَوال النِّعمْ
وقال آخر:
لستُ أدري ما أُسمِّي رجُلاً ... قلَّ منه ملحُهُ حتَّى مَلح
فهو كالقرد إذا استقبحتُهُ ... زادَ في عينيك حُسناً ما قَبح
وقال آخر:
يا مَن تبرَّمتِ الدُّنيا بطلعته ... كما تبرَّمت الأجفان بالسُّهدِ
يمشي علَى الأرضِ مختالاً فأحسبُه ... من بغض طلعته يمشي علَى الكبدِ
لو كانَ للخلق جزءٌ من سماحته ... لم يقدم الموت إشفاقاً علَى أحدِ
وقال آذرست المعلم:
لنا صاحبٌ مُولَع بالمراء ... كثيرُ الجدال قليلُ الصَّواب
ألجّ لجاجاً من الخُنفساء ... وأزهَى إذا ما مشَى من غراب
وقال محمد بن حازم الباهلي:
يطول بقربك اليوم القصيرُ ... ويَرحل إن مررت بنا السُّرورُ
لقاؤك للمبكِّر فأل سوءٍ ... ووجهكَ أربعاءٌ لا تدورُ
وقال آخر:
عذرُك عندي بكَ مبسوطُ ... والذَّنبُ عن مثلك محطوطُ
ليس بمسخُوط فعالُ امرئ ... كلُّ الَّذي يفعل مسخوطُ
قد كانَ حظّاً لك مُسترجحاً ... لو كانَ في أمرك تخليطُ
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر:
ويومٍ كنارِ الشَّوق في القلبِ حرَّهُ ... علَى أنَّه منه أحرُّ وأرقَدُ
ظللتُ به عندَ المبرِّدِ قائظاً ... فما زلتُ في ألفاظهِ أتبرَّدُ
وقال آخر:
رأيتكَ قائلاً للشَّاة فرِّي ... وللذِّئب العشا قبل الرَّواحِ
وللرَّكب المُعرى لا تنامُوا ... وللّصّ الوجا قبل الصَّباحِ
وقال آخر يصف شناعة أبي جهل:
وشاعرٍ يهتكُ من عِرضه ... أضعافَ ما يهتكُ من عِرضي
عجبتُ لمَّا جاءني شِعرُهُ ... وبعضُهُ يسخرُ من بعضِ
ومن خبيث الهجاء قول الآخر:
أحسن ما في خالدٍ وجُهُ ... فقِسْ علَى الغائب بالشَّاهدِ
ومثله:
قَبُحتْ مناظرهمْ فحينَ خَبرتُهمْ ... حَسُنتْ مناظِرهم بقُبحِ المخبَرِ
وقال الحطيئة يهجو ابنته:
تنحَّيْ فاجلسِي منِّي بعيداً ... أراحَ اللهُ منكِ العالمينَا
حياتكِ ما علمتُ حياةَ سوءٍ ... وموتُكِ قد يسرُّ الصَّالحينا
أغِربالاً إذا استُودِعتِ سرّاً ... وكانُوناً علَى المتحدِّثينا

وقال أعرابيّ يهجو أباه، وذلك أنَّه دخل على كسرى، فلما نظر إلى حسن مقاصيره وبهاء مملكته أنشأ يقول:
لكسرى كانَ أعقلَ من تميمٍ ... ليالي فرَّ من بلدِ الضَّبابِ
فأسكن أهلَهُ ببلادِ رحبٍ ... وأشجارٍ وأنهارٍ عذابِ
فصارَ بنو أبيه بها ملوكاً ... وصرن نحنُ أشباه الكلابِ
فلا رحم الإله هدى تميمٍ ... لقد أزرى بنا في كلِّ بابِ
وقال آخر يمدح أباه ويهجو نفسه:
ورِثنا المجدَ عن آباء صدقٍ ... أسأنا في ديارهمُ الصَّنيعا
إذا البيتُ الرَّفيع تعاورتهُ ... بُناة السَّوْء أوشك أن يضيعا
وقال آخر:
أبوكَ أبٌ حُرٌّ وأمُّكَ حُرّةٌ ... وهل يلِدُ الحُرّانِ غيرَ نجيبِ
فلا يعجبنَّ النَّاسُ منكَ ومنهما ... فما خبَثٌ من فضة بعجيبِ

الباب الحادي والسبعون
ذكر
من هجي بأصله دون ما يظهر من فضله
أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى عن أبي عبد الله بن الأعرابي قال: تمثل عبد الملك بن مروان لمسلمة بن عبد الملك وكان في خيله فسبق وكان ابن أمة والشعر لعبد القيس:
نهيتكُمُ أن تحملوا هجناءكم ... علَى خيلكم يوم الرّهان فتدركوا
فتُضعف ساقاه ويفترُ كفُّه ... وتحذرُ فخذاهُ فلا يتحركُ
وما يستوي المرءان هذا ابن حُرَّةٍ ... وهذا ابن أخرى ظهرها متشرّكُ
وأدركنه خالاته فحولنهُ ... ألا إن عِرقَ السوء لا بد مُدركُ
قال: فقال مسلمة، والشعر لمسكين الحنظلي:
وكائن ترى فينا من ابن سبيَّةٍ ... إذا التقت الخيلان يطعنها شزرا
فما زادها فينا السِّباء مذلَّةً ... ولا خبزت خبزاً ولا طبخت قدرا
ولكن خلطناها بخبز نسائنا ... فجاءت بهم بيضاً وجوهُهم زهرا
وقال أبو تمام:
إذا افتخرت يوماً تميمٌ بقَوْسها ... فخاراً علَى ما وطَّنَتْ من مناقبِ
فأنتُمْ بذي قارٍ أمالت سيوفُكمْ ... عُروش الذين استوهبوا قوس حاجبِ
مناعٍ لأقوامٍ مَتَى تَقْرِنونَها ... محاسِنَ أقوامٍ تكنْ كالمعايبِ
وقال الطِرِمَّاح:
تَميمٌ بطُرْقِ اللؤمِ أهدَى من القَطَا ... ولو سلكتْ طُرْقَ المكارمِ ضلَّتِ
أَرَى اللَّيلَ يَجلوه النهار ولا أَرَى ... رجالَ المخازي عن تميمٍ تجلَّتِ
ذبحنا فَسَمَّينا فَحَلَّ ذبيحُنا ... وما ذبحتْ يوماً تميمٌ فسمَّتِ
ولو أنَّ برغوثاً علَى ظهرِ قملةٍ ... يكُرُّ علَى ضيفيْ تَميمٍ لولَّتِ
وقال جرير:
ويُقضَى الأمرُ حينَ تَغيبُ تيْمٌ ... ولا يُستَأذَنون وهم شُهُودُ
وإنَّكَ لو رأيتَ عبيدَ تيْمٍ ... وتَيْماً قلتَ إنّهمُ العبيدُ
وقال آخر:
ولا عدمت امرءاً هالتك هيبته ... حتَّى حسبتَ المنايا تسبق الأجلا
ولا أسنَّة قوم أرشدوك بها ... سُبل الفرار فلم تعدل بها السبلا
وقال الأعشى أوْ الرّاعي:
إلى الله أشكو أنَّني كنتُ نائماً ... فقام سَلوليُّ فبالَ علَى رجلي
فقلتُ لأصحابي اقطعوها فإنني ... كريمٌ وإنِّي غير مُدْخلها رَحلي
وقال عميرة بن جُعيل:
كسا الله حيّى تغلب ابنةَ وائلٍ ... من اللؤم أظفاراً بطيئاً نُصولُها
فما بهمُ أن لا يكونوا طُروقةً ... كراماً ولكنْ غيَّرتها فحولُها
إذا رحلوا عن دارِ عزّ تقاولوا ... عليها وردوا وفدَهُم يستقيلُها
وقال آخر:
وليسوا لعمرو غير تأثيل نسبةٍ ... ولكن عمرواً غيَّبَتْهُ المقابرُ
إذا عُيّروا قالوا مقادير قُدّرتْ ... وما العارُ إلاَّ أن تجود المقادِرُ
وقال زيد بن الحكم الكلابي:
دفعناكم بالقول حتَّى بطرْتُمُ ... وبالراح حتَّى كان دفع الأصابع
فلما رأينا جهلَكمْ غيرَ مُنْتهٍ ... وما غاب من أحلامِكُمْ غير راجع
مسسنا من الإباء شيئاً وكُلنا ... إلى حسَبٍ في قومه غير واضع
فلما بلغنا الأمهات وجدتُمُ ... بنيّ عمكم كانوا كرام المضاجع
وقال آخر:
فإنَّ من غايةِ حرصِ الفَتَى ... طلابَه المعروفَ في باهله
كبيرُهم وغدٌ ومولودهم ... تلعنه من لؤمه القابله
وقال جميل:

أبوك حبابٌ سارق الضيف بُرده ... وجدّي يا حجاج فارس شمّرا
بنو الصالحين الصالحون ومن يكنْ ... بأباء سوءٍ تلقهم حيثُ سيَّرا
فإن تغضبوا من قسمة الله حظكم ... فلله إذْ لم يُرضكم كان أبصرا
وقال الخزرجي:
أيزيد أنك لم تزل بمذلةٍ ... حتَّى لففتَ أباك في الأكفانِ
فاشكرْ بلاء الموت عندك إنَّه ... أودى بلؤم الحيّ في شيبانِ
وقال أبو نواس:
الحمدُ لله هذا أعجبُ العجبِ ... الهيثمُ بن عَديٍّ صار في العربِ
إذا نسبتَ عديّاً في نبي ثُكلٍ ... فقدمْ الدال قبل العين في النسبِ
وقال آخر:
نطقت بنو أسد ولم تتطهَّر ... وتكلمتْ سرّاً ولمّا تجهرِ
وابن الحُبابِ صليبة زعموا هُمُ ... ومن المحال صليبةُ من أشقرِ
وقال آخر:
أيها المدّعي سُليماً سفاها ... لستَ منها ولا قلامةَ ظُفر
إنَّما أنت في سُليم كواوٍ ... ألحقتْ في الهجاء ظلماً بعمرو
وقال آخر:
لو أن موتى تميم كلهم نُشروا ... فأثبتوك لقيل الأمرُ مصنوعُ
إن الجديد إذا ما زيدَ في خَلق ... تبيّن النَّاس أن الثّوبَ مرقوعُ
وقال مَخْلَد الموصلي:
أنظرْ إليه وإلى حُمقهِ ... كيف تَطايا وهو منشورُ
ويلك من ألقاك في دعوةٍ ... قلبُك منها الدَّهرَ مذعورُ
لو ذُكرتْ طيُّ علَى فرسخٍ ... أظلمَ في ناظركَ النُّورُ
وقال بشر بن شبيب:
إذا ما بدا عمرو بدت منه خلقةٌ ... تدل علَى مكنونه حين يُقبل
بياضُ خراسانٍ ولُكنةُ فارس ... ورقَّةُ رومي وشعرٌ مفلفل
وقال مسلم:
أما الهجاء فدقّ عِرضك دونه ... والمدح فيك كما علمتَ جليلُ
فاذهبْ فأنت طليقُ عرضك أنَّه ... عرض عززت به وأنت ذليلُ
وقال محمد بن حماد:
أجارتنا بان الخليط فأبشري ... فما العيشُ إلاَّ أن يبين خليط
أعاتبه في عرضه ليصونَه ... ولا علم لي أن الأمير لقيط
وقال آخر:
لا خيرَ في صاعد فأذكره ... والخير يأتيك من يدي عُمَرِ
ليس له ما خلا اسمه نسبٌ ... كأنه آدمٌ أبو البشرِ
وقال علي بن الجهم:
بني ميتم هل تدرون ما الخبرُ ... وكيف يُستر أمر ليس ينسترُ
حاجيتكم من أبوكم يا بني عُصَبٍ ... شتَّى ولكنما للعاهر الحجرُ
قد كان شيخكم شيخاً له خطرٌ ... لكنَّ أُمكمُ في أمرها نظرُ
ولم تكنْ أمكم والله يحفظُها ... محجوبة دونها الأحراسُ والسُّترُ
كانت مغنية الفتيان إن شربوا ... وغير ممنوعة منهم إذا سَكِروا
وقال أبو الموق المديني:
لم يته قطُّ علَى النَّا ... س شريفٌ يا أبا سعد
فتهْ ما شئتَ إذْ أنت ... بلا أصل ولا جدِّ
وإذ حظكَ في النس ... بة بين الحُرّ والعَبْدِ
وإذ قاذفُك المفحشُ ... في أمنٍ من الحَدِّ
وقال البحتري:
لَردّدتُ العتابَ عليكَ حتَّى ... سئمتُ وآخرُ الودِّ العتابُ
وهان عليك سخطي حين تغدو ... بعرضٍ ليس تأكُلهُ الكلابُ
وهل يشفي السباب من ابن لؤمٍ ... دنيءٍ ليس يؤلمُه السّبابُ
وأنشدني محمد بن المرزبان لنفسه:
أيُّ نغلٍ لزينةٍ وزواني ... علقته يد الهجاء هجاني
كلّ من رام لي هجاء وقذفاً ... بكتابٍ يبديه أوْ بلسانِ
فاللواتي عليه حَرّمهُنَّ الله ... في سورة النِّساء زوانِ

قال أبو بكر: قد كنتُ أكره أن أضمّن هذا الكتاب شيئاً من القذف، أوْ أشوبه بضرب من السفه والسخف، أو أذكر فيه هجاءً لقبيلة يجب على كافة المسلمين صونها، أوْ لرجل يكون سبيله في وجوب صيانته سبيلها، ولولا ذلك لكان في نقائض جرير والفرزدق وحدهما أوْ في قصيدتي الكميت ودعبل وحدهما، أوْ في أشعار الحكمي وضربائه دون من تقدمهم ما يملأ هذا الباب، بل ما يفي بجميع هذا الكتاب من أنواع التهاجي والتفاخر، ولولا أن معاني هذه الثلاثة الأبيات من المعاني المفردات الَّتي لا يكاد يقع مثلها سلاسة لفظ، واستيفاء معنى. وأنَّها مع ذلك ليس فيها ذكرٌ لأحد باسمه ولا نسب له بقبيلته، فيشترك فيها هو وغيره ما ذكرتها. ونحن الآن إن شاء الله إذْ أتينا في أبواب الهجاء من الأشعار بما فيه بلاغ. مبتدئون بأبواب الفخار.

الباب الثاني والسبعون
ذكر
من فخر بحسبه وامتدح بنسبه
قال امرؤ القيس:
إنّا وإن أحسابنا كَرُمت ... لسنا علَى الأحساب نتَّكلُ
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعلُ مثل ما فعلوا
وقال آخر:
عادوا مروءتنا فضُلِّل سعيهم ... ولكُلِّ بيت مروءةٍ أعداءُ
لسنا إذا ذكر الفعال كمعشرٍ ... أزرى بفعل أبيهمُ الأبناءُ
وقال رجل من بني نهشل:
إنّا بنو نهشل لا ندَّعي لأبٍ ... عنه ولا هو بالأبناء يَشرينا
إن تُبْتَدرْ غايةٌ يوماً لمكرُمةٍ ... تلقَ السوابقَ منَّا والمُصلّينا
وليسَ يَهلكُ منّا سيدٌ أبداً ... إلاَّ افتلينا غُلاماً سيّداً فينا
إنّا لمن معْشرٍ أفنى أوائلهُمْ ... قولُ الكماة ألا أين المحامونا
لو كان في الألف منّا واحدٌ فدَعوا ... من فارس خالَهُمْ إيّاهُ يعنونا
ولا تراهم وإنْ جلَّتْ مُصيبتُهمْ ... مع البُكاةِ علَى من ماتَ يبكونا
إنّا لنُرخِصُ يوم الرَّوع أنفُسنا ... ولو نُسامُ بها في الأمن أُغلينا
بيض مفارقنا تغلي مراجلُنا ... نأسوا بأموالنا آثار أيدينا
وقال السموأل بن عادياء أوْ عبد الرحمن القيني أوْ عبد الملك الحارثي المعروف باللجلاج:
تعيِّرنا أنَّا قليلٌ عديدُنا ... فقلتُ لها إنَّ الكرامَ قلِيلُ
وما ضرَّنا أنَّا قليلٌ وجارُنا ... عزيزٌ وجارُ الأكرمينَ ذلِيلُ
وما قلَّ منْ كانتْ بقاياهُ مثلنا ... شبابٌ تسامى للعُلى وكهولُ
لنا جبلٌ يحتلُّهُ مَن نجيرهُ ... منيف يردُّ الطَّرفَ وهوَ كلِيلُ
رسا أصلهُ تحتَ الثَّرى وسما بهِ ... إلى النَّجمِ فرعٌ لا ينالُ طوِيلُ
وما ماتَ منَّا ميِّتٌ حتفَ أنفهِ ... ولا طلَّ منَّا حيثُ كانَ قتِيلُ
تسيلُ على حدِّ السّيوفِ دماؤنا ... وليستْ على غيرِ الحديد تسِيلُ
ونحن أناسٌ لا نرى القتلَ سبَّةً ... إذا ما رأتهُ عامرُ وسلُولُ
يقرِّبُ حبَّ الموتِ آجالَنا لنا ... وتكرههُ آجالهمْ فتطُولُ
وننكرُ إنْ شئنا على النَّاسِ قولهمْ ... ولا ينكرونَ القولَ حينَ نقُولُ
إذا سيِّدٌ منَّا خلا قامَ سيِّدٌ ... قؤولٌ بما قالَ الكرامُ فعُولُ
وما أُخمدتْ نارٌ لنا دونَ طارقٍ ... ولا ذمَّنا في النَّازلينَ نزِيلُ
وأسيافنا في كلِّ شرقٍ ومغربٍ ... بها منْ قراعِ الدَّارعينَ فلُولُ
معودةٌ ألا تسلى نضالها ... فتغمد حتى يستباح قبيلُ
إذا المرءُ لمْ يدنسِ منَ اللُّؤمِ عرضهُ ... فكلُّ راءٍ يرتديهِ جمِيلُ
وإنْ هو لمْ يحملْ على النَّفسِ ضيمَها ... فليسَ إلى حسنِ الثَّناءِ سبِيلُ
وقال لقيط بن زُرارة:
وإنِّي من القوم الذين عرفْتَهُمْ ... إذا مات منهمْ سيّدٌ قام صاحبُ
نجومُ سماء كلما غاب كوكبٌ ... بدا كوكب تأوي إليه الكواكبُ
وقال الخريمي في نحوه:
بقيَّةُ أقمارٍ من الغُرِّ لو خَبَتْ ... لظلَّتْ مَعدٌّ في الدُّجى تتسكّعُ
إذا قمرٌ منها تَغوّر أوْ خبا ... بدا قمرٌ في جانب الأفق يَلْمعُ
وقال البعيث بن حُريث:
دعاني يزيد بعد ما ساءَ ظنُّهُ ... وعيسى وقد كانا علَى حدِّ مَنْكِبِ

وقد علما أن العشيرة كلَّها ... سوى محضري من خاذلين وغُيَّبِ
وكنت أنا الحامي حقيقة وائل ... كما كان يحمي عن حقائقها أبي
وقال آخر:
أنا إذا مالت دواعي الهَوَى ... وأنْصَتَ السامعُ للقائلِ
واضطرب القوم بأحسابهم ... نقضي بحقٍّ عادلٍ فاصلِ
لا نجعل الباطل حقّاً ولا ... نعرض دون الحق بالباطلِ
نخافُ أن تسفه أحلامُنا ... فنخمل الدَّهر مع الخاملِ
وقال أوس بن مغراء:
وكلُّ من تبع الإسلام تابعنا ... وكلُّ من خالف الإسلام يخشانا
ولا ترى معشراً نبكي لميّتهم ... إذا تولَّى وهم يبكون موتانا
يستأذنون فإن تأذنْ لقائلهم ... ينطق وإن ننه يسكت جِريانا
لا تطلع الشَّمس إلاَّ عند أوَّلنا ... ولا تغيِّب إلاَّ عند أُخرانا
وقال قيس بن عاصم:
إنِّي امرؤ ما يعتري خلقي ... دَنَسٌ يغيِّرهُ ولا أَفْنُ
من مِنْقَرٍ في بيت مكرمةٍ ... والفرعُ ينبُتُ حوله الغصنُ
وقال زبان بن سيار الفزاري:
أبي حملَ الألف الَّذي جرَّ حارثٌ ... علَى قومه إذْ غابَ عنها رجالُها
ولسنا كقومٍ مُحْدثينَ سيادةً ... يُرى مالُها ولا يُحسُّ فَعَالُها
مساعيهُمُ مقصورةٌ في بيوتهمْ ... ومسعاتُنا ذبيان طُرّاً عيالها
وللأسلع بن فضاض الطُّهوي:
فداءٌ لقومي كلَّ معشرِ حارمٍ ... طريد ومخذولٍ بما جرَّ مُسلمِ
همُ ألجموا الخصمَ الَّذي يستفزّني ... وهمْ قصموا حجلي وهمْ حقنوا دمي
بأيدٍ يفرّجنَ المضيقَ وألسنٍ ... سِلاطٍ وجمع ذي زهاءٍ عرمرمِ
وقال جرير:
أبونا خليل الله والله ربُّنا ... رضينا بما أعطى المليك وقدَّرا
لنا قبلة الله الَّتي يُفتدى بها ... فأورثنا ملكاً وعزّاً معمّرا
ومنَّا سليمان الَّذي سأل ربّه ... فأعطاهُ بنياناً ومُلْكاً مُسخّرا
ويعقوب منَّا زاده الله بسطةً ... وكانَ ابنُ يعقوبٍ نبيّاً مُصوّرا
وموسى وعيسى والَّذي خرَّ ساجداً ... فأنبتَ زرعاً دمعُ عينيه أخضرا
وتجمعنا والغرُّ أولادُ سارةٍ ... أبٌ لا نُبالي بعده مَنْ تَعَذّرا
وأبناء إسحاق اللّيوث إذا غدوا ... محاميلُ قودٍ يلبسون السَنَوّرا
فيوماً سرابيل الحديد عليهم ... ويوماً ترَى عَصباً وخزّاً مُنيّرا
إذا افتخروا عَدّا الصبهبذَ منهمُ ... وكسرى وسابور الهمام وقيصرا
وكانَ كتاب الله فينا نبوةً ... وكانوا باصطخر الملوك وتسترا
وقال أيضاً:
مضرٌ أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا خُزرَ تغلِبَ من أبٍ كأبينا
إن الَّذي حرم الخلافة تغلباً ... جعل النُّبوَّةَ والخلافة فينا
هذا ابن عمِّي في دمشق خليفة ... لو شئتُ ساقكم إليَّ قطينا
وقال دعبل:
تطهَّر من أفاضلنا رجالٌ ... وحبُّ الله للمتطهِّرينا
وأنزلَ آيةً إنْ قاتلوهم ... يعذّبهم بأيديكم فنونا
فإن قلتمْ رسول الله منَّا ... فإنَّ محمداً للمسلمينا
وقال إسحاق الموصلي:
إذا مضرُ الحمراء كانتْ أرومتي ... وقامَ بنصري خازم وابنُ خازم
عطستُ بأنفي شامخاً وتناولت ... يداي الثُّريَّا قاعداً غير قائم
وقال أبو دلف:
أنا ابن السَّابقين إلى المعالي ... ولو أنِّي سكتُّ لما خفيتُ
وعلَّمني أبي قتل الأعادي ... وضرّاني بهمْ حتَّى ضَريتُ
تجنُّ لأرضَ أن أُدعى باسمي ... وتنهدُّ الجبالُ إذا كنيتُ
قال أبو بكر: قد مضى عظم هذا الباب، ولم نقضِ فيه لأحد من آل رسول الله صلى الله عليه، من الافتخار، ولم نؤخر ذكرهم، لأن غيرهم كان أحق بالتقدمة منهم، غير أنا أحببنا أن نختم الكتاب بذكرهم، ونقطع بالقضية لهم على غيرهم ونحن الآن نذكر قليلاً من كثير ما لهم إذ كان فضلهم أبين من أن يحتاج إلى توكيده بشعرهم، أوْ بشعر غيرهم، والحمد لله على ذلك.
قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه:
محمد النَّبيّ أخي وصهري ... وحمزة سيّد الشُّهداء عمِّي
وجعفر الَّذي يُضحي ويُمسي ... يطيرُ مع الملائكة ابن أُمي

وبنت محمدٍ سكني وعِرسي ... مسوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ابنايَ منها ... فأيَّكم له سهمٌ كسهمي
سبقتكمُ إلى الإسلام طرّاً ... غلاماً ما بلغت أوان حلمي
وأوجب لي ولايته عليكم ... رسول الله يومَ غدير خُمِّ
وقال هارون الرشيد:
ما الفخر أنِّي إمام النَّاس كلّهم ... فخري بنفسي وآبائي من السَّلف
والعقلُ والفضل في مجدي وفي نطقي ... وما تكامل في خلقي من الشَّرف
وقال علي بن محمد العلوي:
إنِّي وقومي في أنساب قومهمُ ... كمسجد الخيف في بحبوحة الخيف
ما عُلِّق السَّيف منَّا بابن عاشرةٍ ... إلاَّ وهمّتُهُ أمضى من السَّيف
وله أيضاً:
لقد فاخرتنا من قريش عصابةٌ ... بمدِّ رؤوس بل بمدِّ الأصابعِ
فلمَّا تنازعنا القضاء قضى لنا ... عليهم بما تهوَى نداءُ الصَّوامعِ
وله أيضاً:
إذا ما علا الأعواد منَّا ابن حرَّةٍ ... فأسفر عن بدرٍ ولاحظ عن صفرِ
رأيت عدوَّ الدّين أخنعَ كاسفاً ... وذا الدِّين والإسلام منبلج الصَّدرِ
لنا سيّداً هادي الأنام أُبوَّةً ... وساداتنا هم في المواقفِ والحشرِ
وما عالنت كفٌّ بإنكار فضلنا ... من النَّاس إلاَّ وهي مُذعنةُ السّرِّ
وإنَّا أُناسٌ ما تزالُ نفوسُنا ... مُحَبَّسةٌ بين المكارمِ والفخرِ
وله أيضاً:
وإن بكم يا آل أحمد أشرقتْ ... وجوهُ قريش لا يوجه من الفخرِ
أُناسٌ هُمُ عِدلُ القران ومأ ... لفُ البيان وأصحاب الحكومة في بدرِ
ومازهم الجبَّار منهم بخلَّةٍ ... يراها ذوو الأقدار ناهية القدرِ
أباحَ لكم إرساخ كلّ مُصدق ... ونزَّه عنه أوجُهَ النَّفَرِ الزُّهرِ
فأعطاهُمُ الخمسَ الَّذي فُضِّلوا به ... بآيةِ ذي القُربَى علَى العسر واليسرِ
وقالَ وأنذر أقربيك فخُلِّصتْ ... بنو هاشمٍ قرباه دون بني فهرِ
إذا قلتُمُ منَّا الرَّسول فقولهمْ ... أبونا رسولُ الله فخرٌ علَى فخرِ
وآخاهم مثلاً بمثلٍ فأصبحتْ ... أُخوَّتُهُ كالشَّمس ضُمَّتْ إلى البدرِ
فآخَى عليّاً دونكم وآصاره ... لكم علماً بين الهداية والكفرِ

الباب الثالث والسبعون
ذكر
ما للشعراء من الافتخار بالسخاء
قال حاتم بن عبد الله الطائي:
أماويَّ قد طالَ التَّجنُّبُ والهجرُ ... وقد عذرتني في طلابكمُ العذرُ
أماويَّ إنَّ المالَ غادٍ ورائحٌ ... ويبقى من المالِ الأحاديثُ والذِّكرُ
أماويَّ إنِّي لا أقولُ لسائلٍ ... إذا جاءَ يوماً حلَّ في مالنا نذرُ
أماويَّ إمَّا مانعٌ فمبيّنٌ ... وإمَّا عطاءٌ لا ينهنههُ الزَّجرُ
أماويَّ إنْ يصبحْ صدايَ بقفرةٍ ... من الأرضِ لا مالٌ لديَّ ولا خمرُ
ترَي أنَّ ما أهلكتُ لم يكُ ضرَّني ... وأنَّ يدي ممَّا بخلتُ به صفرُ
وقدْ علمَ الأقوامُ لو أنَّ حاتماً ... أرادَ ثراءَ المالِ كانَ لهُ وفرُ
وأنِّي لا آلو بمالي صنيعةً ... فأوَّله زادٌ وآخره ذُخرُ
يفكُّ بهِ العاني ويؤكلُ طيِّباً ... وما إنْ تعرِّيهِ القداحُ ولا الخمرُ
ولا أظلمُ ابنَ العمِّ إنْ كانَ إخوتي ... شهوداً وقد أودى بإخوتهِ الدَّهرُ
عنينا زماناً بالتَّصعلكِ والغنى ... وكلاّ سقاناهُ بكأسيهما الدَّهرُ
فما زادَنا بغياً على ذي قرابةٍ ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقرُ
وقال آخر:
ذريني أكن للمالِ ربّاً ولا يكنْ ... لي المال ربي تحمدي غَيّه غدا
أريني جواداً ماتَ هزلاً لعلَّني ... أَرَى ما ترين أو بخيلاً مخلَّدا
وقال آخر:
فلسنا نناجي غيرنا في أُمورنا ... ولا نتَّقي ما تُتَّقى في الَّذي يقْضي
غنينا بعزّ الله لا عزَّ غيرَهُ ... عن النَّاس لما احتاج بعض إلى بعضِ
وقال الحكم الأسدي:
وأُعسرُ أحياناً فتشتدّ عُسرتي ... فأُدركُ ميسورَ الغِنى ومعي عِرضي
وأقضي علَى نفسي إذا الأمرُ نابني ... وفي النَّاس من يُقضى عليه ولا يقضي
وقال ابن حازم:

للنَّاس مال ولي مالان مالُهما ... إذا تحارس أهل المالِ حُرَّاسُ
مالي الرّضا بالَّذي أصبحت أملكه ... ومالي اليأسُ ممَّا يملك النَّاسُ
وقال آخر:
إنِّي أَرَى من لهُ قنوعُ ... يَعدلُ من نالَ أوْ تعنَّى
والرّزق يأتي بلا عناءٍ ... وربَّما فاتَ ما تمنَّى
وقال آخر:
ويمنعني وسوء الحال ليلٌ ... فأكثر ما أقول بك استعنتُ
ويسألني صديقي كيفَ حالِي ... فأوهمه الغنى ولقد جُهدتُ
ولولا أن أذكر الموت يُسلي ... عن الدُّنيا ولذّتها أسفتُ
وأعظمُ من نزول الموت أنِّي ... أُدانُ بما كسبتُ وما اكتسبتُ
وقال آخر:
ناري ونار الجار واحدةٌ ... وإليه قبْلي تنزل القدْرُ
ما ضرَّ جار لي مجاورني ... ألاَّ يكونَ لبابهِ سِتْرُ
وقال جعفر بن أبي طالب:
يا ليت للنَّاسِ رسماً في وجوههُم ... تبين أخلاقهم فيه إذا اجتمعوا
وليتَ رزق أُناس مثل نائلهم ... قوتاً بقوت وتوسيعاً إذا اتّسعوا
وليتَ ذا الفُحش لاقى فاحشاً أبداً ... وذا التحكّم أهل الحلم فارتدعوا
وليتَ من يمنع المعروف يُحرمهُ ... حتَّى يذوقَ أُناسٌ مثل ما صنعوا
وقال كعب بن زهير:
وعاذلةٍ تخشى الرَّدَى أن يصيبني ... تروح وتغدو بالملامة والهَشَمْ
تقول هلكنا إن هلكتَ وإنَّما ... علَى الله أرزاق العباد كما زعمْ
فإنِّي أُحبُّ الخلد لو أستطيعُهُ ... وكالخلد عندي أن أموتَ ولم أُلَمْ
وقال عروة بن الورد:
إنِّي امرؤ عافي إنائي شِركةٌ ... وأنتَ امرؤ عافي إنائك واحدُ
أتهزأ منِّي إن سمنت وأن ترى ... بجسمي شحوب الحقّ والحقُّ جاهدُ
أُقسِّمُ جسمي في جسوم كثيرةٍ ... وأحسو قُراح الماء والماء باردُ
وقال ابن البرصاء:
ولستَ بذي فضل وإن كنتَ نلتَهُ ... علَى الحيِّ حتَّى لا تضُرَّ وتنفعا
أمن أجلِ أن لم تلقَ عزّاً كعزّنا ... وتستجلب الأدنى إذا خابَ أودعا
غضضتَ بأطرافِ البنان نفاسةً ... علَى المجدِ حتَّى لم تدعْ لك إصبعا
وقال بشر بن المغيرة:
جفاني الأميرُ والمغيرةُ قد جَفَا ... وأمسى يزيدُ لي قد ازورَّ حاجبُهْ
وكلُّهمُ قد نالَ شِبعاً لبطنهِ ... وشِبعُ الفَتَى لؤمٌ إذا جاعَ صاحبُهْ
فيا عَمِّ مهلاً واتَّخذني لنوبةٍ ... تنوبُ فإن الدَّهر جمٌّ نوائبُهْ
أنا السَّيف إلاَّ أنَّ للسَّيف نَبوةً ... ومثليَ لا تنبُو عليك مضاربُهْ
وقال آخر:
فيا بنتَ عبد الله وابنةَ مالكٍ ... ويا بنتَ ذي البُردين والفرس الوردِ
إذا ما صنعتِ الزَّادَ فالتمسي له ... أكيلاً فإنِّي لستُ آكلهُ وحدي
أخاً طارقاً أوْ جارَ بيتٍ فإنني ... أخافُ ذميمات الأحاديث من بعدي
وإنِّي لعبدُ الضَّيف ما دامَ ثاوياً ... وما فيَّ إلاَّ تلك من شيم العبْدِ
وقال عبد الله بن سبرة:
شتَّان عندي من أُصيبَ ببلدةٍ ... يهوى إليَّ ومن أُصيبَ مجاوري
إن المصابَ إذا أُصيب ببلدةٍ ... يهوى إليَّ كجار بيتي الحاضرِ
قالت هوازنُ والخطوب كثيرةٌ ... ما ذنبُ قومك في القتيلِ الزَّائرِ
فكفيت قومك عقله ووديته ... وسننتَ ذلك سُنَّة في عامرِ
وقال عبد العزيز بن زرارة:
لقد علمتْ أُمُّ الحويرث أنَّني ... إذا نزلَ الأضيافُ غير ذميم
فإن لا أكن عينَ الشُّجاع فإنَّني ... أردُّ سنانَ الرُّمح غير سليم
وإن لا أكن عين الجواد فإنَّني ... علَى المالِ في الظّلماءِ غيرُ لئيم
وقال بعض بني عجل:
إذا كنت ذا حظٍّ من المالِ فالتمسْ ... به الأجر وارفعْ ذكرَ مَن في المقابرِ
وإن كثيرَ المال يفنى وفضلَهُ ... كظلِّ مقيل الشَّمس عند الهواجرِ
وقال آخر:
وإنَّا لمشَّاؤون بين رجالنا ... إلى الضَّيف منَّا ملحِفٌ ومُنيمُ
فذو الحلم منَّا جاهلٌ دون ضيفهِ ... وذو الجهلِ منَّا عن أذاهُ حليمُ
وقال آخر:
إذا نحنُ قلنا صَدّق القولَ فِعلُنا ... وكم قائلٍ يُكذِّبهُ الفعلُ
وقال آخر:

ألا تَرَينَ وقد قطَّعتني عَذَلاً ... ماذا من البعدِ بين البُخل والجُودِ
ألاَّ يكن وَرقٌ يوماً أجودُ بها ... للمُعتفينَ فإنِّي ليِّنٌ عودي
لن يعدم المبتغي للخير يسألني ... إما نوالي وإما حُسن مردودي
وقال آخر:
ومُسْتنبح قبل الهُدُوّ دعوتُهُ ... بشقراءَ مثل الفجرِ ذاك وَقودُها
فقلتُ له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... بطارق نارٍ مُحْمد مَن يرودُها
فإن شئت آويناك في الحيِّ مُكرماً ... وإنْ شئت بلغناك أرضاً تُريدُها
وقال آخر:
ومُسْتنبح قال الصَّدي مثلَ قولِهِ ... رفعت له ناراً لها حطبٌ جَزْلُ
وقمتُ إليه مسرعاً فكتمتُهُ ... مخافة قومي أن يفوزوا به قبلُ
وداويتُهُ من سوءِ ما فعلَ الطّوي ... بتعجيل ما ضمَّ المزادة والرَّحلُ
وأوسعني حمداً وأوسعتهُ قِرًى ... فارتجْ بحمدٍ كانَ كاسبهُ الأكلُ
وقال آخر:
ومُسْتنبح تهوى مساقطُ رأسهِ ... إلى كلِّ شخصٍ وهو للسمع أصورُ
يصفِّقُهُ أنفٌ من الريح باردٌ ... ونكباءُ ليلٍ من جُمادى وصرصرُ
حبيبٌ إلى كلبِ الكريم مُناخُهُ ... بغيضٌ إلى الكوماء والكلبُ أبصَرُ
خَطأتُ له ناري فأبصرَ ضوءها ... وما كانَ لولا خطأة النَّار يُبصرُ
دَعَتهُ بغر اسمٍ هلمّ إلى القرى ... فأسرعَ يبوعُ الأرض والنَّار تزهَرُ
فلما أضاءتْ شخصهُ قلتُ مرحباً ... رَشَدتَ وللصَّالين بالنَّار أبشروا
وقمتُ بنصل السَّيف والبرك جاهد ... لها زورةٌ والموتُ في السَّيف يُنظرُ
فأغضضتُهُ الطُّولى سناماً وخيرَها ... ولاءً وخيرُ الخير ما يُتخيَّرُ
وقال آخر:
أجَلَّكَ قومٌ حين صرتَ إلى الغِنَى ... وكلُّ غنيٍّ في العيونِ جليلُ
وليسَ الغِنَى إلاَّ غنًى زيَّنَ الفَتَى ... عشيَّة يَقري أوْ غداة يُنيلُ
وقال آخر:
رمَى الفقرُ بالفتيان حتَّى كأنَّهم ... بأقطار آفاقِ البلادِ نجومُ
وإن امرءاً لم يُفقرِ العام بيتَهُ ... ولم يتخدَّدْ لحمهُ للئيمُ
وقال الخُريمي:
وإنِّي لسهلُ الوجه للمُبتغي القِرى ... وإنَّ فنائي للقِرى لرحيبُ
أُضاحكُ ضيفي قبل إنزال رَحْله ... ليُخصبَ عندي والمحلُّ جَديبُ
وما الخصبُ للأضياف أن يكثر القِرى ... ولكنَّما وجهُ الكريم خصيبُ
وقال الحسين بن رجاء بن أبي الضحاك:
قد يصبرُ الحرُّ علَى السَّيف ... ويأنفُ الصَّبر علَى الحيفِ
ويؤثر الموت علَى حالةٍ ... يَعجزُ فيها عن قِرى الضَّيفِ
وقال آخر:
اللَّيلُ يا غلامُ ليلٌ قرُّ ... والريحُ يا موقدُ فيها صِرُّ
فأجّج النَّارَ لمن يمُرُّ ... إن جَلَبتَ ضيفاً فأنتَ حُرُّ
قال علي بن الجهم في كلب أهداه إلى بعض إخوانه يوصيه به:
أُوصيك خيراً به فإنَّ ل ... هُ سجيَّةً لا أزال أحمدُها
يدلُّ ضيفي عليَّ في غسق ... اللَّيل إذا النَّار نام موقدها
وقال علي بن محمد العلوي:
يسترسل الضَّيف في أبياتنا أُنساً ... فليسَ يعلمُ خلقٌ أيُّنا الضَّيفُ
والسَّيفُ إن قسته يوماً بنا شبهاً ... في الرَّوع لم يدْر عزماً أيُّنا السَّيفُ
قال أبو بكر محمد بن داود: وهذا أحسن ما قيل في معناه، على أن الافتخار كله عندي يقبح، وأقبحه الافتخار بالسخاء خاصة، لأن الأجمل بأهل الكرم أن تنشر عنهم فضائلهم، وأن يعترفوا هم بالتقصير على أنفسهم، فإن استقلالهم لمعروفهم الَّذي يستكثره غيرهم دلَّ على كرم طباعهم من الشحح بما صنعوا من معروف إلى غيرهم حتَّى إن ذكر مكارمهم بحضرتهم غير جميل من مادحيهم وتلقِّيهم إيَّاه بالقبول غير محمود من فعلهم. وليس يجمل الافتخار في حال من الأحوال إلاَّ بمن كفر نعمه، ونسب إلى غير ما يستحقّه، فيحسن منه حينئذٍ الاعتذار لنفسه بما ينفي عنه ما قرب به كالذي يقول:
يُعيّرني بالدّين قومي وإنَّما ... دُيونيَ في أشياءَ تكسبهمْ حمدا
وعلى كل حال فالافتخار بالسخاء أجمل من الافتخار بضدّه، كما افتخر الَّذي يقول في شعره:
وإنَّا لنجفو الضَّيف من غير عُسرةٍ ... مخافَةَ أن يُعزى بنا فيعود

أقسام الكتاب
1 2 3 4