كتاب : جمع الجواهر في الملح والنوادر
المؤلف : الحُصريِ

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، فعرفنا بلذة الفرح شدة الترح، وبحلاوة الحياة مرارة الوفاة. قال الطائي:
أوما رأيت منازل ابنة مالكٍ ... رسمت له كيف الزفير رسومها
والحادثات وإن أصابك بؤسها ... فهو الذي أدراك كيف نعيمها
وقال:
إساءة دهرٍ أذكرت حسن فعله ... ولولا الشري لم يعرف الشهد ذائقه
وصلى الله على خير مبعوث، وأكرم وارث وموروث، محمد الذي أخرجنا من الضيق إلى الفسحة، وبعث إلينا بالحنيفية السمحة، ليضع عن ولد إسماعيل أغلال بني إسرائيل، بل ليرفع عن كل من دخل في السلم، من جملة العرب والعجم، ما أضلع حمله وأظلع ثقله، صلى الله عليه صلاةً تزلف لديه، وتصعد في الكلم الطيب إليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
سبب وضع الكتاب
سألت أطال الله بقاءك، وحرس إخاءك، من زكا بسقي مودتك زرعه ونما، وعلا برعي محبتك فرعه وسما، فانقاد إليك قلبه بغير زمام، وصح فيك حبه بغير سقام أن يجمع لك كتاباً في جواهر النوادر ولمح الملح، وفواكه الفكاهات، ومنازه المضحكات، ترتاح إليه الأرواح، وتطيب له القلوب، وتفتق فيه الآذان، وتشحذ به الأذهان، ويطلق النفس من رباطها، ويعيد إليها عادة نشاطه إذا انقبضت بعد انبساطها، فقد قيل: القلب إذا أكره عمي.
وقال بكر بن عبد الله المزني: لا تكدوا هذه القلوب ولا تهملوها. وخير الكلام ما كان عقيب جمام، ومن أكره بصره عشي، وعاودوا الفكرة عند نبوات القلوب، وأشحذوها بالمذاكرة، ولا تيأسوا من إصابة الحكمة إذا امتحنتم ببعض الاستغلاق؛ فإن من أدمن قرع الباب ولج.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني لأستجم نفسي ببعض الباطل ليكون أقوى لها على الحق.
وقال الحسن البصري رحمه الله: حادثوا هذه القلوب بذكر الله؛ فإنها سريعة الدثور، واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة؛ وإنكم إن لم تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية.
وقال أردشير بن بابك: إن للقلوب محبة، وللنفوس مللاً؛ ففرقوا بين الحكمين يكون ذلك استجماماً.
وقال في حكة آل داود: لا ينبغي للعاقل أن يخلي نفسه من أربع؛ من عدة لمعاد، وإصلاح لمعاش، وفكر يقف به على ما يصلحه لما يفسده، ولذة في غير محرم يستعين بها على الحالات الثلاث.
وقال أبو الفتح كشاجم:
عجبي للمرء تعالت حاله ... وكفاه اللّه ذلات الطلب
كيف لا يقسم شطري عمره ... بين حالين نعيم وأدب
ساعة يمتع فيها نفسه ... من غذاء وشراب منتخب
ودنوٍّ من دمىّ هنّ له ... حين يشتاق إلى اللعب لعب
فإذا ما زال من ذا حظّه ... فنشيدٌ وحديث وكتب
ساعةً جدّاً وأخرى لعباً ... فإذا ما غسق الليل انتصب
فقضى الدنيا نهاراً حقّها ... وقضى للّه ليلاً ما يجب
تلك أعمالٌ متى يعمل بها ... عاملٌ يسعد ويرشد ويصب
منهج الكتاب
فأجبتك إلى ملتمسك بكتاب كللت نظامه، وثقلت أعلامه، بذهب يروق سبك إبريزه، ويرق حوك تطريزه، من نوادر المتقدمين والمتأخرين، وجواهر العقلاء والمجانين، وغرائب السقاط والفضلاء، وعجائب الأجواد والبخلاء، وطرف الجهال والعلماء، وتحف المغفلين والفهماء، ونتف الفلاسفة والحكماء، وبدائع السؤال والقصاص، وروائع العوام والخواص، وفواكه الأشراف والسفلة، ومنازه الطفيليين والأكلة، وأخبار المخانيث والخصيان، وآثار النساء والصبيان.
وأتيت به على سبيل الاختصار، وطريق الاختيار؛ وجعلته بتنويع الكلام، كالمائدة الجامعة لفنون الطعام؛ إذ همم الناس مفترقة، وأغراضهم غير متفقة، ولا أعلم حقيقة ما تستندره، ولا محض ما تؤثره؛ إذ لا يحيط بذلك إلا علام الغيوب، المطلع على ما في القلوب.
وقد تجنبت أن أهدي إليك، وأورد عليك، ما يخرج به قائله في الدين عن اتباع سبيل المؤمنين، فمن أهل الإلحاد والأهواء، من يسر حسواً في ارتغاء، ويطلب ما يشفى به من دائه، ويضحك خاصة أودائه، ويغر به من ضعفت نحيزته، وهفت غريزته، بألطف ما يمكنه، كمون الأفعوان، في أصول الريحان، إذا قابله بشمه، قتله بسمه.

كما حكى الجاحظ عن الشرقي بن القطامي أن ابن أبي عتيق لقي عائشة رضي الله عنها على بغلة. فقال: إلى أين يا أماه ؟ فقالت له: أصلح بين حيين تقاتلا، فقال: عزمت عليك إلا ما رجعت، فما غسلنا أيدينا من يوم الجمل حتى نرجع إلى يوم البغلة.
وهذه حكاية أوردها الشرقي لغله ودغله على وجه النادرة؛ لتحفظ ويضحك منها، ويتعلق بها من ضعف عمله، وقل عزمه؛ فيكون ذلك أنجع وأنفع لما أراد من التعرض لعرض أم المؤمنين رضي الله عنها.
ومثل هذا كثير مما لو ذكرته لدخلت فيما أنكرته. فقد قيل: الراوية أحد الشاتمين، كما قيل: السامع أحد القائلين.
وقد قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وقد مر به عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد بن أبي بكر فلم يسلما عليه:
مساء تراب الأرض منها خلقتما ... فيها المعاد والرجوع إلى الحشر
ولا تعجبا أن ترجعا فتسلّما ... فما حشي الإنسان شرّاً من الكبر
وقال آخر:
إن كنت لا ترهب ذمّي لما ... تعرف من صفحي عن الجاهل
فاخش سكوتي إذ أنا منصت ... فيك لمسموع خنا القائل
فسامع السوء شريكٌ له ... ومطعم المأكول كالآكل
ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل
مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدرٍ سائل
وقد رام ابن قتيبة تسهيل السبيل في مثل هذا، فقال: مهما مر بك من كلام تنفر عنه نفسك، فلا تعرض عنه بوجهك، فالقول منسوب إلى قائله، والفعل عائد إلى فاعله.
قلت: وليت شعري ما اللذة فيما يضحك منه من هو معرض عنه، إلا أن يدخل في حد المستهزئين، وحيز المتلاعبين. نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
وأنشد أبو نواس الجماز شعراً من أعابيثه ومجونه كفر فيه، وقال للجماز: أين أنت من أهل الطراز ؟ قال: أنا لا أتعرض لمن أعضائي جنده يحرك علي منها ساكناً أو يسكن متحركاً فأهلك.
وقد طرد الجماز أصله في التحرز مما تعلق عليه من شناعة، أو تلزمه فيه بباعة، فقال يمدح:
أقول بيتاً واحداً أكتفي ... بذكره من دون أبيات
إنّ عليّ بن أبي جعفر ... أكرم أهل الأرض من آت
فقد سلم مما كاد يقع فيه أبو الخطاب عمرو بن عامر السعدي، وقد أنشد موسى الهادي:
يا خير من عقدت كفّاه حجزته ... وخير من قلّدته أمرها مضر
فانقلبت عيناه في رأسه، واحمر وجهه، وقال: إلا من ؟ ويحك ! ولم يكن أبو الخطاب استثنى أحداً، وإنما جرى على مذهب الشعراء في تفضيل الممدوح على أهل العصر؛ فلما رأى ما بوجه الهادي من إرادة الإيقاع به قال ارتجالاً:
إلاّ النبيّ رسول اللّه إنّ له ... فخراً وأنت بذاك الفخر تفتخر
فسري عنه ووصله.

تدرج الكتاب ولذة الانتقال من حال إلى حال
وقد جعلت ما عملت مدبجاً مدرجاً، لتلذ النفس بالانتقال من حال إلى حال، فقد جبلت على محبة التحول، وطبعت على اختيار التنقل.
وقد قيل: إن عبد الله بن طاهر لما أسر نصر بن شبث بكيسوم، وأنفذه إلى المأمون، جلس مجلساً أنصف فيه من وجوه القواد، ومن أمراء الأجناد، وضرب الأعناق، وقطع الأيدي، ورد كبار المظالم، ثم قام وقد دلكت الشمس؛ فتلقاه الخدم، فأخذ هذا سيفه، وهذا قباءه، هذا إزاره. فلما دخل دعا بنعل رقيقة فلبسها، ثم رفع ثوبه على عاتقه وتوجه نحو البستان وهو يتغنى:
النّشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكفّ عنم
قال عيسى بن يزيد: وكنت جرياً عليه، فجذبت ثوبه من عاتقه وقلت له: أتقعد بالغداة قعود كسرى أو قيصر أو ذي القرنين، ثم تعمل الساعة عمل علويه ومخارق ؟ فرد ثوبه على عاتقه وهو يقول:
لا بدّ للنفس إن كانت مصرّفة ... من أن تنقّل من حالٍ إلى حال
قال أبو القاسم بن جدار: كأنه ذهب إلى ما فعله أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه حين قام من بعض مجالسه الجليلة التي كان يدون فيها الدواوين ويمصر الأمصار، ويقمع الأعداء، ويؤيد الإسلام، فدخل منزله ثم رفع صوته وهو يقول:
وكيف ثوائي بالمدينة بعدما ... قضى وطراً منها جميل بن معمر

فلحقه عبد الرحمن بن عوف فاستأذن عليه، فقيل: عبد الرحمن يا أمير المؤمنين بالباب. فلما دخل عليه، قال: ما صوت سمعته منك آنفاً يا أمير المؤمنين ؟ فقال: يا أبا محمد، إيهاً عنك ! فإن الناس إن أخلوا قالوا.
وقد قلت:
فرّقت في التأليف معتمداً ... ما كان لو قد شئت يأتلف
والعقد ما اختلفت جواهره ... إلاّ ليشرق حين يختلف
إن كان الشيء مع نظيره يذهب بنوره، ويغض من بهائه؛ ويخلق من روائه؛ فقد زعموا أن المجرة كواكب مضيئة مجتمعة؛ فكسف بعضها نور بعض؛ فصارت طريقاً في السماء بيضاء. وقال ابن الرومي:
وبيضاء يخبو درّها من بياضها ... ويذكو بها ياقوتها والزبرجد
إلا أن تندرج الحكاية في الحكايات، ويتسلسل البيت مع الأبيات، فيكون الجمع أزين من القطع، والتوصيل أحسن من التفصيل، فأقرنها بأشكالها، وأجملها مع أمثالها.

لاختيار المطايبات والمداعبات أصول
ولاختيار المطايبات والمداعبات وما انخرط في سلكها من الملح والمزح أصول لا يخرج فيها عنها، وفصول لا يخرج بها منها، وقد يستندر الحار المنضج، والبارد المثلج؛ لأن إفراط البرد، يعود به إلى الضد. ولذلك قول أبو نواس:
قل للزّهيريّ إن حدا وشدا ... أقلل وأكثر فأنت مهذار
سخنت من شدة البرودة ح ... تى صرت عندي كأنك النار
لا يعجب السامعون من صفتي ... كذلك الثلج باردٌ حار
وفي كليلة ودمنة: لا ينبغي اللجاج في إسقاط ذي الهمة والرأي وإزالته؛ فإنه إما شرس الطبيعة كالحية إن وطئت فلم تلسع لم يغتر بها فيعاد لوطئها، وإما سبح الطبع كالصندل البارد، إن أفرط في حكه عاد حاراً مؤذياً.
وقالوا: إنما ملح القرد عند الناس لإفراط قبحه. وقد قال ابن الرومي في الخصيان:
معشراً أشبهوا القرود ولكن ... خالفوها في خفّة الأرواح
لأن العبد إذا خصي استرخت معاقد عصبه، وحدث في طبعه نشاط في الخدمة؛ فيحصل بين حالين لا يطيق المبالغة فيهما فيضيق صدره، وتثقل روحه. وقد قال أبو تمام:
أمن عمىً نزل الناس الربى فنجوا ... وأنتم نصب سيل القنّة العرم
أم ذاك من هممٍ جاشت وكم صفة ... حدا إليها غلوّ القوم في الهمم
وكان يقال: من التوقي ترك الإفراط في التوقي، وإنما الموت المحبب والسقم المغيب، أن تقع النادرة فاترة فتخرج عن رتبة الهزل والجد، ودرجة الحر والبرد، فيكون بها جهد الكرب على القلب؛ كما قال أبو بكر الخوارزمي: أثقل من عذاب الفراق، وكتاب الطلاق، وموت الحبيب، وطلعة الرقيب، وقدح اللبلاب في كف المريض، ونظرة الذل إلى البغيض ، وأشد من خراج بلا غلة، ودواء بلا علة، وطلعة الموت في عين الكافر، وقد ختم عمره في الكبائر، وأعظم من ليلة المسافر، في عين كانون الآخر، على إكاف يابس، تحت مطر وبرد قارس.
ومن أمثال البغداديين: هو أثقل من مغن وسط، ومن مضحك وسط. وقال ابن الرومي يهجو أحمد بن طيفور:
فقدتك يا بن أبي طافر ... وأطعمت فقدك من شاعر
فلت بسخن ولا بارد ... وما بين ذين سوى الفاتر
وأنت كذاك تغثّي النفو ... س بغثية الفاتر الخاثر
شرط المسامر والمنادر
ومن شرط المسامر والمنادر أن يكون خفيف الإشارة، لطيف العبارة، ظريفاً رشيقاً، لبقاً رفيقاً، غير فدم ولا ثقيل، ولا عنيف ولا جهول؛ قد لبس لكل حالة لباسها، وركب لكل آلة أفراسها، فطبق المفاصل، وأصاب الشواكل، وكان برائق حلاوته، وفائق طلاوته، يضع الهناء مواضع النقب، ويعرف كيف يخرج مما يدخل فيه، إذا خاف ألا يتسحسن ما يأتيه.
كما ذكر عن الفتح بن خاقان أنه كان مع المتوكل فرمى المتوكل عصفوراً فأخطأه. فقال: أحسنت يا أمير المؤمنين ! فنظر إليه نظرة منكرة. فقال: إلى الطائر حتى سلم؛ فضحك المتوكل.
وذكر لبعض ولاة البصرة لما وليها حلاوة الجماز، وأن أكثر نوادره على الطعام، فأحضره، وقدمت المائدة، فأتى بنادرة فاخرة وأتبعها بأخرى فلم تستملح. فقال: لعل الأمير أنكر برد ما أتيت به ؟ وإنما احتذيت حذوه في تقديم البوارد قبل الحوار.
كلما طال كلامه انحل نظامه

ولا يحب أن يكون كلما طال كلامه انحل نظامه؛ بل يأتي في آخر ما أحكمه بما ينسي ما تقدمه، وإلا كان كما ذكر الجاحظ: أن الرشيد أحب أن ينظر إلى شعيب القلال كيف يعمل ؟ فأدخل القصر، وأتي بكل ما يحتاج إليه من آلة العمل؛ فبينما هو يعمل إذ بصر بالرشيد فنهض قائماً. فقال له: دونك وما دعيت له؛ فإني لم آتك لتقوم إلي؛ بل لتعمل بين يدي. فقال: وأنا أصلحك الله لم آتك ليسوء أدبي؛ وإنما أتيتك لأزداد أدباً؛ فأعجب الرشيد به، وقال له: بلغني أنك إنما تعرضت لي حين كسدت صناعتك ؟ فقال: يا سيدي، وما كساد عملي في خلال وجهك! فضحك الرشيد حتى غطى وجهه. وقال: ما رأيت أنطق منه ولا أعيا منه ! ينبغي أن يكون أعقل الناس وأجهل الناس. وكذلك كان.

سر النادرة دون مطمطة ومجمجة
ويجب إذا حكى النادرة الظريفة، والحكمة اللطيفة، ألا يعربها فتثقل، ولا يمجمجها فتجهل، ولا يمطمطها فتبرد، ولا يقطعها فتجمد. ولو أن قائلاً حكى قول مزيد المدني، وقد أكل طعاماً فأثقله. فقيل له: تقيأه يذهب ما بك. فقال: خبز نقي، ولحم جدي، والله لو وجدته قياً لأكلته. فلو أعطاه حقه من الإعراب فقال: خبز نقي، ولحم جدي، والله لو وجدته قيئاً لأكلته، لخرج عن حده، وأفلج من برده.
وكذلك لو ذهب بما يحتاج إلى الإعراب من كلام الفصحاء والأعراب إلى اللحن لاستغث واسترث. كما ذكروا أن الحجاج بعث إلى ولي البصرة أن اختر لي من عندك عشر فصحاء، فاختار رجالاً فيهم كثير بن أبي كثير وكان عربياً فصيحاً قال كثير: فقلت: بم أفلت من الحجاج ؟ ثم قلت في نفسي: باللحن؛ فلما دخلت عليه دعاني فقال: ما اسمك ؟ قلت: كثير. قال: ابن من ؟ فقلت: إن قلت: ابن أبو كثير خفت أن يتجاوزها. فقلت: ابن أبا كثير. فقال: اذهب فعليك لعنة الله وعلى من بعث بك، جروا في عنقه ! فأخرجت.
وقال رجل للحسن البصري رحمه الله: ما تقول في رجل مات وترك أبيه وأخيه ؟ فقال: أغيلمة إن فهمناهم لم يفهموا، وإن علمناهم لم يعلموا، قل: ترك أباه وأخاه، فقال له: فما لأباه وأخاه ؟ فقال الحسن: قل لأبيه ولأخيه، قال: أرى كلما تابعتك خالفتني.
ولكل صناعة آلة، ولكل بضاعة حالة. وذم رجل رجلاً فقال: أقداحه محاجم ودعواته ملاوم، وكئوسه محابر، ونوادره بوارد.
وقال الزبير: رؤي الغاضري ينازع أشعب الطمع عند بعض الولاة فقال: أيها الأمير، إنه يريد أن يدخل علي في صناعتي، ويشاركني في بضاعتي، وهيئته هيأة قاض، والأمير يضحك.
وقال عمرو بن عثمان:
واشتياقي إلى أبي الخطاب ... وأحاديثه الرقاق العذاب
وإشارته التي استعارت ... حركات المهجور عند العتاب
ويجب على اللبيب المطرب ألا يطيل فيمل، ولا يقصر فيخل، فللكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، قال أحمد بن الطيب السرخسي تلميذ أحمد بن إسحاق الكندي: كنت يوماً عند العباس بن خالد، وكان ممن حبب إليه أن يتحدث، فأقبل يحدثني، وينتقل من حديث إلى حديث، وكان في صحن منزله، فلما بلغتنا الشمس انتقلنا من موضع إلى موضع آخر حتى صار الظل فيئاً. فلما أكثر وأضجر، ومللت حسن الأدب في حسن الاستماع، وذكرت قول الأوزاعي: إن حسن الاستماع قوة للمحدث، فقلت له: إذا كنت وأنا أسمع قد عييت مما لا كلفة علي فيه؛ فكيف بك وأنت المتكلم ؟ فقال: إن الكلام يحلل الفضول الغليظة التي تعرض في اللهوات وأصل اللسان، ومنابت الأسنان؛ فوثبت وقلت: ما أراني معك في إلا أيارج الفيقرا إذ أنت تتغرغر بي منذ اليوم، والله لا أجلس، واجتهد بي فلم أفعل.
وقال أحمد بن الطيب: كنا مرة عند بعض إخواننا، فتكلم فأعجبه من نفسه الكلام، ومنا حسن الاستماع، حتى أفرط؛ فعرض لبعض من حضر ملل؛ فقال: إذا بارك الله في شيء لم يفن، وقد جعل الله في حديث أخينا هذه البركة.
وقال عبد الله بن سالم في رجل كثير الكلام:
لي صاحبٌ في حديثه بركه ... يزيد هذا السكون والحركه
لو قال لا في قليل أحرفها ... لردّها بالحروف مشتبكه
والتحفظ في هذا الباب من أكبر الأسباب؛ لأن المنادر والمهاتر والمسامر قد تمر له النادرة المضحكة، والطيبة المحركة؛ فيستغرب المجلس، وتطرب الأنفس؛ فيدعوه ما استحسن منه، واستندر عنه، أن يعود إلى مثلها فينقص من حيث ظن أنه زاد، ويفسد عليه ما أراد.

وقد كتب أبو الفضل محمد بن الحسين بن العميد إلى أبي عبد الله الطبري لما استحضره عضد الدولة للمنادمة: وقفت على ما وصفته من بر الأمير بك، وتوفره عليك، وليس العجب أن يتناهى مثله في الكرم إلى أبعد غاياته؛ وإنما العجب أن يقصر في مساعيه عن نيل المجد كله، وحيازة الفضل بأجمعه؛ وقد رجوت أن يكون ما يغرسه أجدر غرس بالزكاء، وأضمنه للريع والنماء؛ فأرع ذلك، واركب في الخدمة طريقة تبعدك من الملال، وتوسطك في الحضور بين الإكثار والإقلال، ولا تسترسل كل الاسترسال، فلأن تدعى من بعيد مرات، خير من أن تقصى من قريب مرة. وليكن كلامك جواباً تتحرز فيه من الخطل والإسهاب، ولا تعجبن بتأتي كلمة محمودة، فيلح بك الإطناب توقعاً لمثلها، فربما هدمت ما بنته الأولى.
وبضاعتك في الشرب مزجاة، وبالعقل يزم اللسان، ويلزم السداد؛ فلا تستفزنك طربة الكرم على ما يفسد تمييزك. والشفاعة لا تعرض لها فإنها مخلقة للجاه، فإن اضطررت إليها فلا تهجم عليها حتى تعرف موقعها، وتطالع موضعها، فإن وجدت النفس بالإجابة سمحة، وإلى الإسعاف هشة، فأظهر ما في نفسك غير مخفف؛ ولا توهم أن في الرد عليك ما يوحشك، ولا في المنع ما يغيظك. وليكن انطلاق وجهك إذا دفعت عن حاجتك، أكثر منه عند نجاحها على يدك؛ ليخف كلامك ولا يثقل على مستمعيه منك، أقول ما أقوله غير واعظ ولا مرشد، فقد كمل الله خصالك، وفضلك على كل حالك، لكن أنبه تنبيه المشارك، وأعلم للذكرى موقعاً لطيفاً.
وذكر لعبد الله بن طاهر رجل يصلح للمنادمة، فأحضره فأقبل يأتي بالأشياء في غير مواضعها. فقال: يا هذا، إما أقللت فضولك أو دخولك.

الحاجة إلى الهزل
وهذه النوادر أكرمك الله وإن وقع عليها اسم الهزل، وأسقطت من عين العقل، عند من لا يعلم مواقع الكلم، ولا يفهم مواضع الحكم، فليس ذلك بمروجها، ولا بمبهرجها عند أهل العقول وأولي التحصيل العارفين بمعاقد المعاني، وقواعد المباني، وهل يستندر من المغمورين والمشهورين، ويستظرف من المغفلين والمعقلين، إلا ما خرج عن قدر أشكالهم، وبعد من فكر أمثالهم، وإنما يذكر ما يستظرف، لخروجه عما يعرف.
ومنها ما يدخل في باب الطيب والاستندار، وقد قال الجاحظ: ليس شيء من الكلام يسقط البتة، فسخيف الألفاظ يحتاج إلى سخيف المعاني. وقد قيل: لكل مقام مقال، وقيل لبشار بن برد، كم بين قولك:
أمن طللٍ بالجزع لن يتكلّما ... وأقفر إلا أن ترى مذمما
في نظائر هذه القصيدة من شعرك، ومن قولك:
لبابة ربّة البيت ... تبيع الخلّ بالزيت
لها سبع دجاجاتٍ ... وديكٌ حسن الصوت
فقال: إنما القدرة على الشعر أن يوضع الجد والهزل في موضعه، ولبابة هذه جارة لي تنفعني بما تبعث لي من بيض دجاجها، وهذا الشعر أحسن موضعاً عندها من:
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل
ولما استقرت الخلافة للمعتز بالله شخص إليه أبو العبر من ولد عبد الصمد بن علي فهنأه بالخلافة وتعرض لصلته بالجد، وهجا المستعين كما فعل البحتري في قصيدته التي أولها:
يجانبنا في الحبّ من لا نجانبه ... ويبعد منّا في الهوى من نقاربه
فلم يقبل عليها، فعمل أبو العبر قصيدة مزدوجة كلها هزل من غير تقويم ولا إعراب منها قوله: أيا أحمد الرقيع، ومن أكلك الرجيع، أتنسى من كان، نصيرك قهرمان، فيأتيك بالسويق، من السوق والدقيق، فصرت الآن في الدار، على رتبة البزار، أما تعلم يا فار، بأن الله يختار، ويعطي غيرك الملك، عزيزاً يركب الفلك.
وفيها ما لا يذكر من حماقات واختلال، وبرد وانحلال، وكلام مرذول، غث مهزول؛ فضحك المعتز منها، وأمر له بألف دينار، فألح على جعفر بن محمود الإسكافي في الاقتضاء، وهو حينئذ وزير المعتز، فألط عليه. فقال له جعفر: عهدي ببني هاشم يأخذون الصلات بشرفهم وعلومهم وجدهم، وأنت تأخذ بالمحال والهزل؛ فأنت عجيب من بينهم !! فقال أبو العبر: صدقت أنا عجيب من بينهم، كما أنت عجيب في أهل إسكاف، كلهم نواصب وأنت من بينهم رافضي، وكان جعفر ينسب إلى ذلك. ثم أنشد أبو العبر قول جميل:
بثينة قالت يا جميل أربتنا ... فقلت كلانا يا بثين مريب
وأريبنا من لا يؤدّي أمانةً ... ومن لا يفي بالعهد حين يغيب

فدفع إليه الألف دينار، واستعفاه أن يعاود مثل هذا.
وكانت لأبي العبر مع موسى بن عبد الملك قصة مثل هذه في أيام المتوكل: رفع إليه كتاباً بأرزاقه وأرزاق جماعة من أهله ليوقع فيه ويختمه؛ فدافعه به موسى مدةً، فوقف له يوماً فلما ركب أنشده:
موسى إلى كم تتبرّد ... وكم وكم تتردّد
موسى أجزني كتابي ... بحقّ ربّك الأسود
يريد محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، والإمامية تزعم أنه إمام وقته، فجزع موسى وسأله كتم ما كان عليه ومعاودة مثله: وأنشد أبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري المتوكل قصيدته:
من أيّ ثغرٍ تبتسم ... وبأيّ طرفٍ تحتكم
حسن يضنّ بحسنه ... والحسن أشبه بالكرم
أفديه من ظلكم الوشا ... ة وإن أساء وإن ظلم
وهي حلوة الروي، مليحة العروض، حسنة الطبع، فكان البحتري فيه كبر وإعجاب. فإذا أنشد، قال: ما لكم لا تعجبون، أما حسن ما تسمعون ؟! فقام إليه أبو العنبس الصيمري وقد قال ذلك فقال:
عن أيّ سلح تلتقم ... وبأيّ كفّ تلتطم
ذقن الوليد البحتريّ ... أبي عبادة في الرّحم
أدخلت رأسك في الرحم
فولى البحتري مغضباً، فقال أبو العنبس: وعلمت أنك تنهزم.
فضحك المتوكل حتى فحص برجليه وأمر بالجائزة لأبي العنبس.
وقد يحتاج العاقل المميز، والفاضل المبرز، إلى الهزل كاحتياجه إلى الجد، ويفتقر إلى الجور كافتقاره إلى القصد؛ وعلم الفتى في غير موضعه جهل.
وصحب الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه قوماً في سفره فكان يجاريهم على أخلاقهم، ويخالطهم في أحوالهم، وهم لا يعرفونه، فلما دخل مصر حضروا الجامع، فوجدوه يفتي في حلال الله وحرامه، ويقضي في شرائعه وأحكامه، والناس مطرقون لإجلاله، فرآهم فاستدعاهم، فلما انصرفوا سئل عنهم فأنشد:
وأنزلني طول النّوى دار غربةٍ ... إذا شئت لاقيت امرأً لا أشاكله
أُحامقه حتى يقال سجيّة ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
وقد يخرج الفطن اللبيب، وينتج الطبن الأديب، من الهزل السخيف، غرائب الجد الشريف، فالنار قد تلتظى من ناضر السلم.
ولما قال بشار بن برد:
كأن فؤاده كرة تنزّى ... حذار البين لو نفع الحذار
جفت عيني عن التغميض حتى ... كأنّ جفونها عنها قصار
يروّعه السّرار بكل شيء ... مخافة أن يكون به السّرار
قيل له: من أين أخذت هذا ؟ قال: من قول أشعب الطماع: ما رأيت اثنين يتساران إلا ظننتهم يأمران لي بشيء.
ومر مزيد المديني مزبد المدني بجرة مغطاة، فقال له بعض جيرانه: ما هذا ؟ فقال له: يا أحمق، فلم سترناه !! أخذه ابن الرومي، فقال لمن سأله: لم تلزم العمة ؟
يأيها السائلي لأُخبره ... عني لم لا أزال معتجرا
أستر شيئاً لو كان يمكنني ... تعريفه السائلين ما سترا
وكان ابن الرومي أقرع الرأس، وقد أخبر بعلة ذلك في قوله:
تعمّمت إحصاناً لرأسي برهةً ... من القرّ يوماً والحرور إذا سفع
فلما دهى طول التعمّم لّمتي ... فأزرى بها بعد الأصالة والفرع
عزمت على لبس العمامة حيلةً ... لتستر ما جرّت عليّ من الصّلع
فيا لك من جانٍ عليّ جنايةً ... جعلت إليه من جنايته الفزع
وأعجب شيء كان دائي جعلته ... دوائي على عمدٍ وأعجب بأن نفع

الهزل من الجد
وقد يستجلب من الجديات الصريحة، ظرائف الهزليات المليحة، فقد قيل على وجه الذم: من حفر لأخيه حفرةً وقع فيها، وقيل: من سل سيف البغي قتل به، وقال ابن المعتز في الفصول القصار: لم يقع سيف حيلته إلا على مقاتله. وأنشدوا لبعض الأعراب:
رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي ... بريّاً ومن جال الطويّ رماني

والذي أنشده سيبويه: ومن أجل، والجال والجول: الناحية. والطوي: البئر. يريد رماني بما عاد عليه ضره وشره، كمن يرمي من بئر فيعود رميه عليه. فانظر إلى هذا المعنى كيف أخذه عبادة المخنث لما نكب المتوكل محمد بن عبد الملك الزيات ورماه في تنور كان ابن الزيات اتخذه لابن أسباط المصري، وجعله كله مسامير، فإذا وقف الواقف لم يقدر يتحرك إلى ناحية إلا ضربته المسامير، فلا يزال قائماً حتى يموت. فاطلع عليه عبادة المخنث فقال له: أردت أن تخبز في هذا التنور، فخبزت فيه، فضحك المتوكل. فقال عبادة: هذا يا أمير المؤمنين مثل رجل كان حفاراً للقبور مات، فمرت به واحدة من أصحابنا فقالت: أما علمت أنه من حفر لأخيه حفرةً يسقط فيها.

الظريف من الخطاب يخلص من الهلاك
وكم ظريفة من الخطاب، ومليحة من الجواب، خلصت من الهلاك، من نصبت له الأشراك، وسلمت من الحتوف، من أصلتت له السيوف.
قال الأصمعي: خرج الحجاج متصيداً، فوقف على أعرابي يرعى إبلاً وقد انقطع عن أصحابه، فقال: يا أعرابي، كيف سيرة أميركم الحجاج ؟ فقال الأعرابي: غشوم ظلوم لا حياه الله ولا بياه. قال الحجاج: فلو شكوتموه إلى أمير المؤمنين ؟ فقال الأعرابي: هو أظلم منه وأغشم، عليه لعنة الله ! قال: فبينا هو كذلك إذ أحاطت به جنوده، فأومأ إلى الأعرابي فأخذ وحمل، فلما صار معهم قال: من هذا ؟ قالوا: الأمير الحجاج، فعلم أنه قد أحيط به، فحرك دابته حتى صار بالقرب منه، فناداه: أيها الأمير: قال: ما تشاء يا أعرابي ؟ قال: أحب أن يكون السر الذي بيني وبينك مكتوماً؛ فضحك الحجاج وخلى سبيله.
وخرج مرة أخرى فلقي رجلاً. فقال: كيف سيرة الحجاج فيكم ؟ فشتمه أقبح من شتم الأول حتى أغضبه، فقال: أتدري من أنا ؟ قال: ومن عسيت أن تكون ؟ قال: أنا الحجاج، قال: أوتدري من أنا ؟ قال: ومن أنت ؟ قال: أنا مولى بني عامر، أجن في الشهر مرتين هذه إحداهما. فضحك وتركه.
المهدي وأحد المصلين
وقدم المهدي المدينة، فخرج ليلةً إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً ليصلي، فبينما هو كذلك إذ جاء مدني فقام إلى جانبه يصلي، فلما قضى صلاته قال للمدني: أقدم خليفتكم؟ قال: نعم ! فعل الله به وفعل وأراحنا منه، وجعل يدعو على المهدي وانصرف؛ فدخل عليه الربيع؛ فقال: يا ربيع؛ جلس إلى جانبي البارحة مدني فما ترك دعاءً إلا ودعا به علي. فقال: أتعرفه ؟ قال: نعم، إذا رأيته ! ثم ركب المهدي واجتمع أهل المدينة ينظرون، فوقعت عينه على الرجل؛ فقال: يا ربيع؛ ألا ترى الرجل الذي صفته كذا وكذا ! هو ذاك صاحبي، فأمر به الربيع فأخذ، فلما رجع المهدي دعا به. فقال: يا هذا، هل أسأت إليك قط ؟ قال: لا؛ قال: فهل لك مظلمة تطالبني بها ؟ قال: لا، قال: فما دعاؤك علي حين صليت إلى جانبي ؟ فقال المدني: فديتك والله ! وعتق ما أملك؛ وامرأتي طالق إن لم أكن أغير كنيتي في اليوم مرتين وثلاثاً للملال. فضحك المهدي وأحسن صلته.
حسن التخلص
وخرج ابن أحمد المدني أيام العصبية إلى أذربيجان، فلقيه فرسان، فسقط في يده، فقال: الساعة يسألونني من أنا ؟ وأخاف أن أقول مضري وهم يمانية، أو يماني وهم مضرية، فيقتلونني؛ فقربوا منه، وقالوا: يا فتى، ممن أنت ؟ قال: ولد زنا، عافاكم الله ! فضحكوا منه، وأعطوه الأمان، فأخبرهم بنفسه، فأرسلوا معه من يوصله إلى مقصده.

وخرج الربيع من عند أبي جعفر عبد الله المنصور فقال: أمير المؤمنين يسأل من يعرف من يشبهه من خلفاء بني أمية أن يذكر ما عنده، فقال أبو بكر بن عياش المنتوف: أنا أعرف ذلك، ولكن لا أقول إلا مشافهة، فدخل ثم خرج فقال: أمير المؤمنين يقول لك: قد علمت أنك إنما تطلب الدخول لتتوسل إلى أموالنا، فأدخل. فدخل فقال له: من أشبه من خلفاء بني أمية ؟ فقال: عبد الملك بن مروان. قال: كيف قلت ذلك ؟ قال: لأن أول اسمك عين وهو أول اسمه عين، وأول اسم أبيه ميم، وأول اسم أبيك ميم، وقتل ثلاثة أول أسمائهم عين وكذلك أنت، قال: ومن قتل ؟ قال: عبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وعمرو بن سعيد بن العاص، وقتلت يا أمير المؤمنين عبد الرحمن بن مسلم يريد أبا مسلم الخراساني وعبد الجبار بن عبد الرحمن الخارجي، قال: وأردت أن أقول، وقتلت عبد الله بن علي عمك، فعرفت أنه يكره ذلك؛ لأنه أسقط عليه البيت الذي كان فيه، وادعى أن البيت سقط، وقد كان عيسى بن موسى يسام في نزع البيعة، وهو مضيق عليه، فقلت: وسقط الحائط على عبد الله بن علي. قال: فالحائط سقط عليه فما علينا ؟ فقلت: لا شيء يا أمير المؤمنين. وها هنا حائط آخر مائل على عين أخرى وهو عيسى بن موسى إن لم تدعموه بفضلكم خفت أن يسقط. فضحك ثم قال: أولى لك.
وخرج المأمون منفرداً فإذا بأعرابي فسلم عليه. فقال: ما أقدمك يا أعرابي ؟ قال: الرجاء لهذا الخليفة، وقد قلت أبياتاً أستمطر بها فضله، قال: أنشدنيها، قال: يا ركيك، أويحسن أن أنشدك ما أنشد الملوك ؟ فقال: يا أعرابي، إنك لن تصل إليه ولن تقدر مع امتناع أبوابه وشدة حجابه، ولكن هل لك أن تنحلنيها، وهذه ألف دينار فخذها وانصرف ودعني أتوسل، لعلي أتوصل ؟ قال: لقد رضيت، فبينما هما في المراجعة إذ أحدقت الخيل به وسلم عليه بالخلافة، فعلم الأعرابي أنه قد وقع، فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين؛ أتحفظ من لغات اليمن شيئاً ؟ قال: نعم! قال: فمن يبدل القاف كافاً ؟ قال: بنو الحارث بن كعب، قال: لعنها الله من لغة لا أعود إليها بعد اليوم. فضحك المأمون وأمر له بألف دينار.

المأمون ومخارق
وغنى مخارق بحضرة المأمون أبيات مسكين الدارمي وذهب عنه معناها وفيمن قيلت، وهي:
على الطائر الميمون والسعد إنّه ... لكلك أناسٍ أنجمٌ وسعود
ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر ... ومروان أم ماذا يقول سعيد
إذا المنبر الغربيّ خلّى مكانه ... فإنّ أمير المؤمنين يزيد
وابن عامر هو عبد الله بن عامر بن كريز، ومروان بن الحكم بن أبي العاص، وسعيد بن العاص، وهؤلاء شيوخ بني أمية والمترشحون للخلافة بعد معاوية، وعمرو بن سعيد بن العاص هو الأشدق، وطلب الخروج على عبد الملك بن مروان فقتله. فلما بلغ مخارق إلى آخر البيت الأخير وهم أن يقول يزيد استيقظ، فقال: مخارق، فضحك المأمون وقال: لو قلت يزيد ما عشت.
الملح تصرف المخاوف وتنقذ الملهوف
وكم صرفت الملح من مخوف، وأنقذت من ملهوف. قال عيسى بن يزيد بن دأب: أرسل يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن جعفر في جارية له مغنية يسأله إياها؛ فقال له الرسول: أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك: فلانة أعجبتني، ويجب أن تؤثرني بها. فقال عبد الله لمولاه بديح المليح: أي شيء يقول ؟ قال بديح: فقلت له: يقرئك السلام، ويقول: كيف بت في ليلتك هذه ؟ قال: يقول عبد الله: أقرئ أمير المؤمنين السلام. فقال الرسول: ليس كذا قلت ولا له جئت. فقال: ما يقول ؟ فأعاد بديح القول، فخرج الرسول مغضباً ومضى إلى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، بلغت ابن جعفر رسالتك وإلى جنبه رجل مجنون ما أدري كيف هو يحكي خلاف ما أقول ! فقال: علي به، قال بديح: فذهب بي إليه، فلما دخلت شتمني وقال: تصنع هذا؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، متى عهدك بابن جعفر لا يسمع ؟ إقباله علي يسألني منع لجاريته وبخل بها؛ كره أن يعطيكها لمحبته لها فما ذنبي أنا ؟! فضحك يزيد وقال: لعل الشيخ ضنين بجاريته.
المأمون يشدد في الغناء

وكان المأمون قد حرم الغناء وشدد فيه فلقي علي بن هشام إسحاق بن إبراهيم الموصلي على الجسر، فقال إسحاق لعلي بكلام يخفيه: قد زارتني اليوم فلانة، وهي أطيب الناس غناءً، فبحياتي إلا كنت اليوم عندي. فوعده بالحضور وتفرقا، وإذا بطفيلي يسمع كلامهما فمضى من وقته، فلبس ثياباً حسنة؛ واستعار من بعض إخوانه بغلة فارهة بسرجها ولجامها، فركبها وأتى باب علي بن هشام بعد أن نزل من الركوب بساعة، فقال للحاجب: عرف الأمير أن رسول صاحبه إسحاق بن إبراهيم بالباب؛ فدخل الحاجب وخرج مسرعاً وقال: ادخل جعلت فداك، فدخل على علي فرحب به، فقال له: يا سيدي يقول لك أخوك: تعلم ما اتفقنا عليه فلم تأخرت عني ؟ فقال له: الساعة وحياتك نزلت من الركوب، والساعة أغير ثيابي وأوافيه، فاستوى على دابته ووافى منزل إسحاق؛ فقال للحاجب: عرف الأمير أني رسول علي بن هشام؛ فدخل الحاجب وخرج فقال: ادخل ! جعلني الله فداك؛ فدخل فسلم وقال: أخوك يقرئك السلام ويقول لك: الساعة نزلت من الركوب، وقد غيرت ثيابي وتأهبت للمسير فما ترى ؟ فقال: قل له يا سيدي قتلتنا جوعاً، فبحياتي إلا ما حضرت. فرجع إلى باب علي وقال للحاجب: تعرفه أن الأمير أمرني ألا أبرح أو يجيء معي.
فغير علي بن هشام ثيابه، وركب دابته، وتبعه الطفيلي حتى نزل بباب إسحاق بن إبراهيم، ونزل الطفيلي معه، ودخلا جميعاً فسلما وجلسا، وجيء بالطعام فأكلوا، وإسحاق لا يشك أنه أخص الناس بعلي، وعلي لا يشك أنه أخص الناس بإسحاق، ثم غسلوا أيديهم وقدموا الشراب، وخرجت جارية من أحسن الناس وجهاً وزياً، فجلست وأتيت بعود، فغنت أحسن غناء، ودارت الأقداح فلم يزالوا على ذلك إلى بعد العصر، وأخذ الطفيلي البول حتى كاد يأتي على ثيابه فصبر جهده؛ فلما عيل صبره قام فدخل الخلاء، فقال علي لإسحاق: يا سيدي، ما أخف روح هذا الفتى وأحل نوادره ! فمن أي وقع لك ؟ قال أوليس هو صاحبك ؟! قال: لا وحياتك ولا رأيته قبل يومي هذا، قال: فإنه جاءني برسالتك وقص قصته؛ وقص إسحاق مثلها، وداخله من الغيظ ما لم يملك معه نفسه؛ وقال: طفيلي يستجرىء علي وعلى النظر إلى حرمي والدخول إلى داري ! يا غلمان: السياط والعقابين، المقارع والجلادين. فقامت في الدار جلبة، وأحضروا جميع ذلك، والطفيلي يسمع وهو في الخلاء، ثم إنه خرج رافعاً ثيابه غير مكترث بما فعلوه، وهو مقبل على تكة لباسه يشدها، ويتمشى في صحن الدار وهو يقول: جعلت فداك ! إيش بي من جهدك ! فهل عرفتني مع هذا كله ؟ فقال إسحاق: ومن أنت ؟ فقال: أنا صاحب خبر أمير المؤمنين، وعينه على سره، والله لولا تحرمي بطعامك وممالحتي لتركتكما في عمىً من أمري، حتى كنت تعرف عاقبة حالك وإقدامك على ما فيه هلاكك وفساد أمرك ! فقام إليه إسحاق وعلي يسكتانه وقالا له: يا هذا، إننا لم نعرفك ولم نعلم حالك، ولك الفضل علينا، وأنت المحسن المجمل إلينا؛ ولكن تمم إحسانك بسترك ما نحن عليه.
ثم قال إسحاق: يا غلام، الخلع ! فأتي بثياب فاخرة فصبت عليه، وتقدم بإسراج دابة هملاج بسرج مخفف ولجام حسن؛ ولم يزالا به حتى طابت نفسه، ووعدهما كتمان أمرهما، وحضر وقت الانصراف فودعهما وانصرف، فأتبعه إسحاق بخادمه معه صرة فيها ثلاثمائة دينار، فأخذها وركب الدابة ومضى.
فلما كان من الغد دخل علي بن هشام على المأمون. فقال: يا علي؛ كيف كان خبرك أمس ؟ على حسب ما يجري السؤال عنه فتغير لونه، ولم يشك في أن الحديث رفع إليه؛ فأكب على البساط يقبله وقال: يا أمير المؤمنين، العفو، يا أمير المؤمنين، الأمان. قال: لك الأمان. فأخبره بالقصة من أولها إلى آخرها. فضحك المأمون حتى كاد يغشى عليه، وقال: ما في الدنيا أملح من هذا. ووجه خلف إسحاق، فلما حضر قال: هيه يا إسحاق ؟ كيف كان خبرك أمس ؟ فأخبره كخبر علي بن هشام والمأمون يضحك. ثم قال: يا إسحاق؛ بحياتي أطلب الرجل وجئني به، فلم يزل يطلبه حتى وجده، فكان أحد ندماء المأمون.

الجنابي وصاحب الأحمال

ولما ظفر سليمان بن حسن الجنابي يوم الهبير بالحجاج وقتلهم فأخذ أموالهم، كان في جملة ما أخذ أحمال فيها من رفيع البز والثقل وظريف الوشي والمصمت ما أعجبه وأبهته. فقال: علي بصاحب هذه الأحمال. قال صاحبها: فأتيته فقال: ما منعك أن يكون ما جئت به أكثر من هذا ؟ فقلت: لو علمت أن السوق بهذا النفاق لفعلت، فاستظرفني ودفع إلي مالاً وجميع ما أخذ لي، وأرسل معي من يحفظني حتى وصلت.
وكان أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات الوزير المعروف بابن حنزابة وحنزابة: أمه رومية، ولها من العقل والحزم ما نوه باسمها قد اقتطع في أيام الإخشيد قيمة مائة دينار في أمور تولاها له، فحاسب أبا زكريا النصراني، المعروف بحبوسة، وكان على الخراج، فألزمه عشرة آلاف دينار وطالبه بها، فقال: أعز الله الأمير ! وهل قامت علي حجة يلزمني بها الأداء؟ قال: هو ما أقول لك يا لص ! فقال: إنما هو لصيص، فضحك وتركه.

الملح تبلغ المطالب وترفع من لا قدم لقومه
وكم أفادت من الرغائب، وبلغت من المطالب، ورفعت من لا قدم لقومه، ولا أمس ليومه.
كما حكى أبو الحسن المدائني قال: كان بالبصرة ثلاثة إخوان يتعاشرون ولا يفترقون؛ اثنان شاعران والآخر منجم لا يحسن شيئاً، ففني ما بأيديهم، فخرج الشاعران إلى بغداد، فمدحا من بها من الأشراف؛ فرجعا وقد اعتقدا أموالاً نفيسة، وبقي صاحبهما في فقره؛ فقالا له: لو ذهبت فتسببت ؟ فقال: ما لي صناعة ولا عندي بضاعة. فقالا: على كل حال معك ظرف ولك لطف.
فخرج إلى بغداد واتصل بيقطين بن موسى وقال: ما أتيت إليك بشيء، غير أني أكذب الناس، فضحك وخف على قلبه؛ فكان في جملة حاشيته.
فغضب المهدي على عبد الله بن مالك الخزاعي؛ فأتاه الرجل وهو من المهدي في أشد السخط، وقد ألزمه داره؛ فقال للحاجب: استأذن على الأمير، وقل له: رسول الأمير يقطين بالباب، فدخل وخرج له بالإذن فدخل. وقال: الأمير يقول لك: اليوم كنت عند أمير المؤمنين فدكرته سالف حقوقك وقديم خدمتك؛ فعفا عنك، وأمرك بالركوب غداً ليخلع عليك ويجدد الرضا عنك بمحضر الناس.
فسر عبد الله بذلك، ودفع إلى الرجل مالاً، وبكر إلى دار المهدي، فاستأذن عليه. فلما دخل قال: ما جاء بك ؟ قبحك الله ! وقد أمرناك بلزوم دارك ؟ قال: أوما رضيت عني يا أمير المؤمنين، وأمرت يقطيناً بإحضاري ؟ فقال: إذاً لا رضي الله عني، ولا خطر هذا بقلبي. قال: فرسوله أتاني بذلك. قال: علي بيقطين: فأتي به فقال: أتكذب علي وتحكي علي ما لم أقله ؟ قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ قال: زعمت أني رضيت عن هذا. فقال يقطين: وأيمان البيعة يا أمير المؤمنين إن كنت سمعت بشيء من هذا أو قلته. قال عبد الله: بل أتاني رسولك فلان. فبعث خلف الرجل بحضرة المهدي، فلما حضر قال: ما هذا الذي فعلت ؟ قال: يا سيدي، هذا بعض ذلك المتاع، بدأت في نشره خوفاً عليه من السوس. فقال المهدي: ما يقول ؟ فأخبره يقطين بأول أمره معه، فضحك المهدي وجدد الرضا عن عبد الله بن مالك، ووصل الرجل بصلة جزيلة، ووصله عبد الله بأوفر صلة؛ فانصرف إلى صاحبيه واسع النعمة عظيم المال.
حاجة أهل الأدب إلى ظريف المضحكات
وهل يستغني أهل الأدب وأولو الأرب عن معرفة ظريف المضحكات، وشريف المفاكهات، إذا لاطفوا ظريفاً، أو مازحوا شريفاً ؟ فقد قال الأصمعي: بالعلم وصلنا وبالملح نلنا.
وروى أبو هفان قال: دخل أبو نواس على يحيى بن خالد فقال له: يا أبا علي؛ أنشدني بعض ما قلت؛ فأنشده:
كم من حديثٍ معجب لي عندكا ... لو قد نبذت به إليك لسرّكا
إني أنا الرجل الحكيم بطبعه ... ويزيد في علمي حكاية من حكى
أتتّبع الظرفاء أكتب عنهم ... كيما أحدث من أحبّ فيضحكا
فقال له يحيى: يا أبا علي؛ إن زندك ليوري بأول قدحة. فقال ارتجالاً في معنى قول يحيى:
أما زند أبي عليّ إنه ... زندٌ إذا استوريت سهل قد حكى
إنّ الإله لعلمه بعباده ... قد صاغ جدّك للسماح ومزحكا
تأبى الصنائع همّتي وقريحتي ... من أهلها وتعاف إلاّ منحكا
وحضر الجماز مع أبي نواس مجلس قينة، فأقبل الجماز يمالحها ويمازحها وأبو نواس ساكت؛ فمالت إليه، فقال الجماز:

أبو نواس جذره شعره ... وجذرنا حسن الحكايات
فجذرنا أكثر من جذره ... مدّاً على أهل المروءات
فقال أبو نواس:
صدقت لا ننكر هذا كما ... أمّك رأس في المناحات
فأقبلت القينة على أبي نواس وغنت، فقال لها الجماز: ما سمعت والله أحسن من هذا، فقال أبو نواس: ولا نواح أمك إلا أن يكون عليك فإنه والله أحسن. وكان يصطحبان وهما حدثان، وأمه أذين النائحة وله يقول أبو نواس:
اسقني يابن أذين ... من سلاف الزّرجون
وقال أبو ذؤيب في الملح:
وسرب يطلّى بالعبير كأنه ... دماء ظباءٍ بالنّحور ذبيح
بذلت لهنّ القول إنك واجدٌ ... لما شئته حلو الكلام مليح
فأمكنّه ممّا يقول وبعضهم ... شقيّ لدى خيراتهن نطيح
يريد أن الملاحة نفعته عندهنّ حتى أمكنّه مما يريد: وقال أعرابي:
ألا زعمت عفراء بالشام أنني ... غلام جوارٍ لا غلام حروب
وإني لأهدى بالأوانس كالدّمى ... وإني بأطراف القنا للعوب
وإني على ما كان من عنجهيّتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب
كأن الأدب غريبة عند العرب؛ فافتخر بما عنده منه، وأنه يرجو به القربى ويأمل به الزلفى.

من فقدت مؤانسته ثقل ظلمه
ورب مجلس فض فيه ختام النشاط، ونشر بساط الانبساط، وفيه بغيض لا يفيض، بقدح في مزح، قد ثقل ظله، وركد نسيمه، وجمد هواه، وغارت نجومه؛ فاستثقله من حضر، وعاد صفوهم إلى كدر، وأنكرت مجالسته؛ إذ فقدت مؤانسته، ولو كانت له دراية، أو معه رواية، أو عنده حكاية، ما كان كما قال الشاعر:
مشتمل بالبغض لا تنثني ... إليه بغضاً لحظة الرّامق
يظلّ في مجلسنا جالساً ... أثقل من واشٍ على عاشق
ولا كما قال الحمدوني لبعض الثقلاء:
سألتك باللّه إلاّ صدقت ... وعلمي بأنّك لا تصدق
أتبغض نفسك من بغضها ... وإلاّ فأنت إذاً أحمق
وقال أبو علي العتابي: حدثني الحمدوني قال: بعث إلي أحمد بن حرب المهلبي في غداة السماء فيها مغيمة، فأتيته والمائدة مغطاة موضوعة، وقد وافت عجاب المغنية قبلي، فأكلنا جميعاً وجلسنا على شرابنا، فما راعنا إلا داق يقرع الباب. فأتاه الغلام فقال: بالباب فلان. فقال لي: إنه فتى ظريف من آل المهلب؛ فقلت: ما نريد غير ما نحن فيه، فأذن له، فجاء يخطر وقدامي قدح فيه شراب فكسره، وإذا رجل آدم أدلم ضخم، فتكلم فإذا به أعيا الناس، وتخطى وجلس بيني وبين عجاب، فدعوت بدواة وقرطاس وكتبت:
كدّر اللّه عيش من كدّر العي ... ش وقد كان سائغاً مستطابا
جاءنا والسماء تؤذن بالغي ... ث وقد طابق السماع الشرابا
كسر الكأس وهي كالكوكب الدرّ ... ي ضمّت من المدام لعابا
قلت لما رميت منه بما أك ... ره والدّهر ما أفاد أصابا
عجّل اللّه غارةً لابن حرب ... تدع الدار بعد شهرٍ خرابا
ودفعت لرقعة إلى أحمد، فقرأها وقال: ويحك ! هلا نفست ؟ فقلت: بعد حول ؟ قال: قلت: إنما أردت أن أقول بعد يوم، ولكن خلفت أن تلحقني مضرته. وفطن الثقيل فنهض. فقال لي: آذيته، فقلت: بل هو آذاني.
وهذا لعمري وإن أساء في قدومه وإقدامه، فقد أحسن في نهوضه وقيامه، وقد قال الشاعر:
ولما تخوفت ولا لوم أن ... تدبر من ودّك بالمقبل
أقللت من إتيانكم إنّه ... من خاف أن يثقل لم يثقل
وكان يجالس أبا عبيدة معمر بن المثنى رجل ثقيل اسمه زنباع، فكان كالشجا المعترض في حلقه يتناكده ويسيء خلقه؛ فلا يتكلم أبو عبيدة بكلمة إلا عارضه بكثرة جهله، وقلة عقله. فقال رجل لأبي عبيدة: مم اشتقت الزنبعة في كلام العرب ؟ فقال: من التثاقل والتباغض، ومنه سمي جليسنا هذا زنباعاً.
وامتحن أبو عبد الرحمن العتبي بمثل ذلك من رجل، فلما طال عليه أنشده:
أما والذي نادى من الطور عبده ... وأنزل فرقاناً وأوحى إلى النّحل
لقد ولدت حوّاء منك بليّةً ... عليّ أقاسيها وثقلاً من الثقل

وانحدر خالد بن صفوان مع بلال بن أبي بردة إلى البصرة، فلما اقتربا من البطيحة قال بلال لخالد: أتستثقل عكابة النميري ؟ قال: كدت والله أيها الأمير تصدع قلبي؛ حين دنونا من آجام البطيحة، وعكر البصرة، وغثاء البحر، ذكرت لي رجلاً هو أثقل على قلبي من شارب الأيارج بماء البحر بعقب التخمة، وساعة الحجامة.
وكان عكابة بن غيلة هذا أهوج جاهلاً، ودخل على بلال فرأى ثوراً مجللاً ناحية الدار فقال: ما أفره هذا البغل إلا أن حوافره مشققة.
وترك بعض الظرفاء النبيذ، فتحاماه معاشروه خوفاً أن يكون ما أحدث من الترك دعاه إلى زيادة النسك، وأوجب له الانقباض والإعراض عما كانوا معه فيه يفيضون ويخوضون فقال:
تحاموني لتركي شرب راحٍ ... وقالوا يشرب الماء القراحا
وما انفردوا بها دوني لفضلٍ ... إذا ما كنت أكثرهم مزاحا
وأرقصهم على وترٍ وصنجٍ ... وأظرفهم وألطفهم مراحا
إذا شقّوا الجيوب شققت جيبي ... وإن صاحوا علوتهم صياحا

الفكاهة من أسباب الاقتراب
وقال الفتح بن خاقان: ما رأيت أحلى من ابن أبي دواد، كنت يوماً ألاعب المتوكل الشطرنج فاستؤذن له، وهو يومئذ قاضي القضاة، لم يتغير عما كان عليه أيام الواثق بعد، وله جلالة الشرف والعلم؛ فأمرنا بعض الغلمان برفعها استحياء منه، فقال له المتوكل: والله ما ترفع، وما كنت لأستتر من ابن أبي دواد بشيء لا أستتر به من الله عز وجل؛ فدخل وهي بين أيدينا، فقال له المتوكل: أيها القاضي؛ إن الفتح استحيا منك، فأراد رفع الشطرنج، فقال: ما استحيا مني؛ إنما كره أن أعلم عليه، فاستحلاه المتوكل، وخف على قلبه.
ورب مستثقل ازور له الجناب، وطال به الاجتناب، كانت له الفكاهة من أسباب الاقتراب. وذكر أن روح بن زنباع بعد ما بينه وبين عبد الملك بن مروان حتى استثقل جانبه؛ وأحس روح منه التغير؛ فقال لبعض جلساء عبد الملك: إذا حضرنا مجلس الأنس عند أمير المؤمنين فسلني: هل كان ابن عمر يسمع المزاح ؟ فلما اجتمعوا سأل الرجل روحاً فقال: نعم ! وإن أذن أمير المؤمنين تحدثت. فقال عبد الملك: قل، فقال: إن ابن أبي عتيق كان صاحب لهو وغزل وعلى عفافه وشرفه؛ وكانت له امرأة من أشراف قريش، فغاضبته في بعض الأمر، فقالت:
ذهب الإله بما تعيش به ... وقمرت مالك أيّما قمر
أنفقت مالك غير متّئدٍ ... في كل زانيةٍ وفي الخمر
فكتب ابن أبي عتيق الشعر وخرج به في يده، فلقي ابن عمر فقال: ما ترى فيمن هجاني في هذا الشعر ؟ فقال: أرى أن تعفو وتصفح، قال: والله لئن لقيت قائلهما لأ... فأخذ ابن عمر الأفكل، ولبط به الأرض، وقال: لا أكلمك أبداً، ثم لقيه بد ذلك؛ فلما أبصره ابن عمر أعرض عنه، فقال له: بالقبر ومن فيه إلا سمعت مني حرفين، فولاه قفاه، وأنصت له، فقال: علمت يا أبا عبيد الرحمن أني لقيت قائل ذلك الشعر و... ؟ فصعق عبد الله وسقط على الأرض، فلما رأى ابن أبي عتيق ما حل به دنا من أذنه، فقال: إنها امرأتي أعزك الله. فقام ابن عمر فقبله بين عينيه. فقال عبد الملك: ما أملحك يا روح ! إنك كل يوم لتأتينا بطريفة.
جبن روح
وكان روح مفرطاً في الجبن، فلما ولى عبد الملك أخاه بشراً على الكوفة أصحبه روحاً، وقال له: يا بني، روح مثل عمك فلا تقطع أمراً دونه لصدقه وعفافه وصحبته لنا أهل البيت. وقال لروح: اخرج مع ابن أخيك. فخرج معه وكان بشر ظريفاً أديباً، يحب الشعر والسمر والسماع والشرب؛ فراقب روحاً، وقال لأصحابه: أخاف أن يكتب بأخبارنا إلى أمير المؤمنين، فضمن له بعض ندمائه أن يكفيه أمره من غير سخط ولا لائمة، وكان روح غيوراً إذا خرج من منزله أغلقه ثم ختمه بخاتمه حتى يعود فيفضه بيده، فأخذ الفتى دواة وقلماً، وأتى ممسياً فقعد بالقرب من دار روح مستخفياً، وخرج روح إلى الصلاة، فتوصل الفتى حتى دخل الدهليز وكمن تحت درجة فيه وكتب في الحائط:
يا روح من لبنيّات وأرملة ... إذا نعاك لأهل المشرق الناعي
إن ابن مروان قد حانت منيّته ... فاحتل لنفسك يا روح بن زنباع
فلا تغرنّك أبكار منعّمة ... فاسمع هديت مقال الناصح الداعي

ثم رجع إلى مكانه من الدهليز، فلما خرج روح من الغلس، وتبعه غلمانه خرج الفتى في جملتهم متنكراً وخلص.
فلما أسفر الصبح دخل روح فتأمل الكتابة فراعه وقال: ما كتب هذا إنسي، وما يدخل هذه الدار سواي، ولا حظ في المقام بالعراق؛ ثم نهض من ساعته ودخل على بشر وقال: يابن أخي، أوصني بما أحببت من حاجة أو سبب عند أمير المؤمنين. فقال له: هل رأيت منا ما تكره؛ أو أنكرت شيئاً من سيرتنا فلم يسعك المقام ؟ فقال: لا والله، جزاك الله عن نفسك وعن سلطانك خيراً، ولكن حدث أمر لا بد لي من الشخوص فيه. فأقسم عليه ليخبرنه بالخبر. فقال: إن أمير المؤمنين قد مات أو هو ميت. فقال بشر: ومن أين علمت ذلك ؟ فأخبره بخبر الكتابة، وقال: ليس يدخل داري أحد غيري، وما كتبه إلا الملائكة أو الجن. فقال بشر: أقم فإني لأرجو ألا يكون لهذا حقيقة. فأبى.
وقدم على عبد الملك فقال له: ما أقدمك ؟ أنكرت شيئاً من حال بشر ؟ قال: لا والله، وذكر حسن سيرته، وقال: إنما جئت في أمر لا يمكنني ذكره إلا خالياً. فقال عبد الملك: إن شئتم، وخلا بروح فأخبره القصة، وأنشد الأبيات؛ فضحك عبد الملك حتى فحص برجليه، وقال: ثقلت والله على بشر؛ فاحتال عليك ليخلوا له أمره.

من مزح الجادين
قال إسحاق: حدثني رجل من قريش قال: قال لي محمد بن خالد القرشي: ذكرت لي جارية عند أبي فلان القاضي، فامض بنا إليه. قال: فصرنا إليه واستأذنا فإذا هو يصلي؛ فلما فرغ من صلاته قال: لأمر ما جئتم ؟ قلت: فلانة. قال لغلامه: يا غلام، علي بفلانة لتخرج، فخرجت علينا جارية كأنها مها تتثنى في مشيتها؛ فلما قعدت وضع عود في حجرها، فجسته واندفعت تغني:
عوجي عليّ وسلّمي جبر ... كيف الوقوف وأنتم سفر
ما نلتقي إلا ثلاث منى ... حتى يفرّق بيننا النّفر
فقام القاضي على أربعة، قال: انحروني فإني بدنة، أهدوني فإني بدنة، والله لا أبيعها بمال يكال، ولا بمال يوزن، ولا بالخلافة، ولا بالدنيا، انصرفوا.
وأتى إسحاق بن إبراهيم الموصلي باب الفضل بن يحيى فحجبه خادم اسمه نافذ مرات؛ فلقيه الفضل فقال: ما لك لا تأتينا يا إسحاق ؟ فقال: أتيت أعز الله الأمير فحجبني نافذ. قال: ف ...، قال: لا يمكنني، فأتى بعد ذلك فحجبه فكتب إلى الفضل:
جعلت فداءك من كل سوءٍ ... إلى حسن رأيك أشكو أناسا
يحولون بيني وبين السلام ... فلست أسلّم إلا اختلاسا
وأنفذت أمرك في نافذٍ ... فما زاده ذاك إلاّ شماسا
فلقيه بعد ذلك فقال: يا إسحاق، أكان ما ذكرت ؟ فقال: بعض ذلك أصلح الله الأمير، فضحك وتقدم ألا يحجبه أحد إن أراد الدخول، وإنما كان الفضل استثقل إسحاق لبأو كان فيه، وكان الفضل أكبر الناس كبراً، وأعظمهم تعاظماً. وقال بعض الشعراء:
وما على المرء ما لم يأت فاحشةً ... في لذة العيش لا عارٌ ولا حرج
يأيها اللائمي فيما لهوت به ... عرّج بلومك إني عنه منعرج
بعض من كرهوا المزاح
فإن كره قوم المزاح فلقول أكثم بن صيفي: المزاح يزيح بهجة الأشراف.
وقال أبو سليمان الداراني: أنا أكره المزاح لأنه مزاح عن الحق.
وقال الحسن البصري: المزاح اختراع من الهواء.
وقال زياد: من كثر مزاحه قل إلى النباهة ارتياحه.
وقال عمر بن عبد العزيز: إياك والمزاح فإنه يجر القبيحة، ويورث الضغينة.
وقال الأحنف: لن يسود مزاح، ولن يعظم مفاكه.
وقال سعيد بن العاص لابنه: لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترىء عليك.
وقال أبو نواس:
صار جدّاً ما مزحت به ... رب جدّ ساقه اللعب
متى يكون المزاح مكروها
ً
وقال ابن المعتز: من كثر مزاحه لم يخل من استخفاف به، أو حقد عليه. فإنما ذلك إذا كان المزاح غالباً على المرء، وكان المرء فيه غالباً يجريه في كل مكان ومع كل إنسان. وقد قال عمر رضي الله عنه للأحنف: من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر مزاحه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل ورعه، وذهب حياؤه، ومن ذهب حياؤه مات قلبه.
أو ينزله الممازح تعريضاً بالمعايب، وتنبيهاً على المثالب؛ فذلك المكروه الذميم وصاحبه الملوم.

وقد قال خالد بن صفوان: يسعط أحدكم أخاه بمثل الخردل، ويقرعه بمثل الجندل، ويفرغ عليه بمثل المرجل، ويقول: إنما كنت أمزح.
وقال محمود الوراق:
تلقى الفتى يلقى أخاه وخدنه ... في لحن منطقه بما لا يذكر
ويقول كنت ممازحاً ومداعباً ... هيهات نارك في الحشا تتسعّر
أوما علمت وكان جهلك غالباً ... أنّ المزاح هو السباب الأصغر
وقال ابن الرومي:
حبذا حشمة الصديق إذا ما ... حجزت بينه وبين العقوق
حين لا حبّا انبساطٌ يؤدي ... ه إلى ترك واجبات الحقوق
أين منجاتنا إذا ما لقينا ... من مسيغ الشجا شجىً في الحلوق

من حسنوا المزاح
وإلا فقد قالوا: لا بأس في المزاح بغير ريبة.
وكان يقال: المزاح من أخلاق ذوي الدماثة.
روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من كانت فيه دعاة فقد برىء من الكبر. وقد قيل: الممازح يقرب من ذي الحاجة إليه، ويمكن من الدالة عليه. وما زال الأشراف يمزحون ويسمحون بما لم يغض من دياناتهم، ولا يقدح من مروءاتهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت بالحنيفية السمحة. وقال عليه الصلاة والسلام: إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً.
من مزاح النبي صلى الله عليه وسلم
فمن مزاحه صلى الله عليه وسلم ما روى أنس بن مالك قال: كان لنا أخ يكنى أبا عمير. وكان له نغر يلعب به. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه حزيناً فقال: مال له ؟ قالوا: مات نغره، فكان إذا رآه بعد ذلك قال: يا أبا عمير ما فعل النغير ؟ وكان رجل من أشجع يقال له زاهر بن حرام لا يزال يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالهدية من البادية والطرفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه. فبينما هو في بعض أسواق المدينة إذ أتاه النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه فاحتضنه وقال: من يشتري مني هذا العبد ؟ فالتفت الرجل فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقبل يده وقال: تجدني كاسداً يا رسول الله. فقال: لا، لكنك عند الله ربيح.
وأتت إليه صلى الله عليه وسلم امرأة فذكرت زوجها بشيء. فقال: زوجك الذي في عينه بياض. قال: فمضت فجعلت تتأمل زوجها فقال: ما لك ؟ قالت: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إن في عينك بياضاً. فقال: بياض عيني أكثر من سوادها.
سماع النبي صلى الله عليه وسلم للمزاح
وأما سماعه صلى الله عليه وسلم لذلك فقد روي: أن صهيباً دخل عليه وعينه وجعة وبين يديه تمر، فأقبل صهيب يأكل؛ فقال: أتأكل التمر وعينك وجعة ؟ فقال: إنما آكل بحذاء العين الصحيحة، فتبسم صلى الله عليه وسلم.
وذكروا أن أعرابياً أتاه فألفاه مغموماً ممتقع اللون؛ فقيل له: لا تكلمه وهو على هذه الحالة، فقال: لا أدعه أو يضحك. ثم جثا بين يديه فقال: يا رسول الله؛ بأبي أنت وأمي ! إن الدجال يخرج وقد هلك الناس جوعاً فيأتيهم بالثريد، فترى أن آكل من ثريده حتى إذا تضلعت كذبته ؟ فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: يغنيك الله بما يغني به المؤمنين حينئذ.
وقالت أم سلمة: خرج أبو بكر رضي الله عنه في تجارة إلى البصرة، قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه سويبط بن حرملة وكان قد شهد بدراً ونعيمان، وكان سويبط على الزاد، وكان نعيمان مزاحاً، فقال له نعيمان: أطعمني، فقال: حتى يجيء أبو بكر، فقال: أما لأغيظنك، فمروا بقوم فقال نعيمان: أتشترون مني عبداً ؟ فقالوا: نعم ! فقال: إنه عبد له كلام وهو قائل لكم: إنه حر، فإذا قال هذه المقالة تركتموه فلا تفسدوا علي عبدي. فقالوا: بل نشتريه. قال: فاشتروه مني بعشر قلائص، ثم أخذوه فوضعوا في عنقه حبلاً، فقال سويبط: إني حر ولست بعبد وهذا يستهزىء بكم. فقالوا له: قد خبرنا خبرك، فانطلقوا به، فجاء أبو بكر فأخبروه الخبر، فاتبع القوم فرد عليهم القلائص وأخذ منهم سويبطاً. ولما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر، ضحك صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله.

وكان سويبط قد كف بصره بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيه نعيمان في المسجد وهو يقول: من يخرجني حتى أبول ؟ قال: أنا، وأخذ بيده فمضى به إلى زاوية في المسجد عامرة بالناس، فقال له: بل ههنا، فلما كشف ثوبه صاح الناس عليه من كل ناحية. فقال: من غرني ؟ قالوا: نعيمان، فقال: لله علي لئن لقيته لأضربنه بعصاي؛ فلقيه بعد أيام فقال: أتحب أن أدلك على نعيمان لتوفي نذرك ؟ قال: نعم، لله أبوك ! فأخذ بيده حتى أتى عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو يصلي فقال: هذا هو. فرفع عصاه وضربه؛ فصاح به الناس وقالوا: أوجعت أمير المؤمنين، فقال: من قادني ؟ قالوا: نعيمان، قال: لا يغرني بعدها.
وابتاع عبد الله بن رواحة جاريةً وكتم ذلك امرأته؛ فبلغا ذلك فالتمست كونه عندها فأخبرت بذلك؛ فلما جاءها قالت له: بلغني أنك ابتعت جاريةً وأنك الساعة خرجت من عندها، وما أحسبك إلا جنباً ؟ قال: ما فعلت، قالت: فاقرأ آيات من القرآن فقال:
شهدت بأنّ وعد اللّه حقٌ ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طافٍ ... وفوق العرش ربّ العالمينا
وتحمله ملائكةٌ شدادٌ ... ملائكة الإله مقربينا
فقالت: أما إذ قد قرأت القرآن فقد علمت أنك مكذوب عليك.
وافتقدته ليلةً أخرى فلم تجده على فراشها، فلم تزل تطلبه حتى قدرت عليه في ناحية الدار، فقالت: الآن صدقت ما بلغني فجحدها. فقالت: اقرأ آيات من القرآن، فقال:
وفينا رسول اللّه يتلو كتابه ... كما انشقّ معروفٌ من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أنّ ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا أثقلت بالمشركين المضاجع
وأعلم علماً ليس بالظنّ أنني ... إلى اللّه محشورٌ هناك فراجع
فقالت: آمنت بالله وكذبت ظني. فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فضحك وقال: هذا لعمري من معاريض الكلام، يغفر الله يابن رواحة خياركم خيركم لنسائكم.
وقال العجاج: أنشدت أبا هريرة:
طاف الخيالان فهاجا سقماً ... خيال سلمى وخيالٌ تكتّما
قامت تريك رهبة أن تصرما ... ساقاً بخنداةً وكعباً أدرما
فقال أبو هريرة: قد كان يحدي بها ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكر.

زعم قوم أن إنشاد الشعر ينقض الوضوء
وقيل لابن سيرين: إن قوماً يرون أن إنشاد الشعر ينقض الوضوء؛ فقال:
نبّثت أن فتاةً كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطّول
ثم قال: الله أكبر ودخل في الصلاة.
وسئل عن ذلك مرة أخرى وقد استفتح الصلاة فأنشد للأعشى:
وتسخن ليلة لا يستطيع ... نباحاً بها الكلب إلاّ هريرا
وتبرد برد رداء العرو ... س بالصيف رقرقت فيه العبيرا
ثم كبر وصلى.
وقال جرير بن حازم: كنت في مسجد الجهاضم فقرضت بيت شعر، فقالوا: ما نراك إلا قد أحدثت فتوضأ، فذعرني قولهم؛ فأتيت ابن سيرين وقد قام إلى الصلاة فقلت: رويدك يا أبا بكر! فقال: مهيم ؟ فعرفته، فقال: هلا رددت عليهم:
ديارٌ لرملة إذ عيشنا ... بها عيشة الأنعم الأفضل
وإذ ودّها فارغٌ للصدي ... ق لم تتغيّر ولم تتبدّل
كأنّ الثلوج وماء السحا ... ب والقرقفيّة بالفلفل
وماء القرنفل والزنجبي ... ل شيب به ثمر السنبل
يصبّ على برد أنيابها ... قبيل الصباح ولم ينجل
ثم قال: الله أكبر.
وقيل لابن سيرين: أنشد القذع من الشعر وأصلي ؟ فقال:
وأنت لو باكرت مشمولةً ... صفراء مثل الفرس الأشقر
رحت وفي رجليك ما فيهما ... وقد بدا هنك من المئزر
مساجلة بين ابن الأنباري وابن المعتز
وها هنا مساجلة جرت بين أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري وأبي العباس عبد الله بن المعتز، لها في هذا الموضع موقع وهي طويلة اختصرت منها موضع الحاجة:

كتب ابن الأنباري إليه: جرى في مجلس الأمير ذكر الحسن بن هانىء والشعر الذي قاله في المجون وأنشده وهو يؤم قوماً في صلاة؛ وهو إن لكل ساقطة لاقطة، وإن لكلام القوم رواة، وكل مقول محمول. فكان حق شعر هذا الخليع ألا يتلقاه الناس بألسنتهم؛ ولا يدونونه في كتبهم، ولا يحمله متقدمهم إلى متأخرهم؛ لأن ذوي الأقدار والأسنان يجلون عن روايته، والأحداث يغشون بحفظه، ولا ينشد في المساجد، ولا يتحمل بذكره في المشاهد؛ فإن صنع فيه غناء كان أعظم لبليته؛ لأنه إنما يظهر في غلبة سلطان الهوى، فيهيج الدواعي الدنيئة، ويقوي الخواطر الرديئة؛ والإنسان ضعيف يتنازعه على ضعفه سلطان القوى؛ ونفسه الأمارة بالسوء، والنفس في انصبابها إلى لذاتها بمنزلة كوة منحدرة من رأس رابية إلى قرار فيه نار، إن لم تحبس بزواجر الدين والحياء أداها انحدارها إلى ما فيه هلكتها.
والحسن بن هانىء ومن سلك سبيله من الشعر الذي ذكرناه شطار كشفوا للناس عوارهم، وهتكوا عندهم أسرارهم، وأبدوا لهم مساويهم ومخازيهم، وحسنوا ركوب القبائح.
فعلى كل متدين أن يذم أخبارهم وأفعالهم، وعلى كل متصور أن يستقبح ما استحسنوه، ويتنزه من فعله وحكايته. وقول هذا الخليع: ترك ركوب المعاصي إزراء بعفو الله تعالى حض على المعاصي أن يتقرب إلى الله عز وجل بها تعظيماً للعفو، وكفى بهذا مجوناً وخلعاً داعياً إلى التهمة لقائله في عظم الدين، وأحسن من هذا وأوضح قول أبي العتاهية:
يخاف معاصيه من يتوب ... فكيف ترى حال من لا يتوب

جواب ابن المعتز
فأجابه ابن المعتز: لم يقل أبو نواس ترك المعاصي إزراء بعفو الله تعالى، وإنما حكى ذلك عن متكلم غيره، والبيت الذي أنشد له بحضرتنا:
لا تحظر العفو إن كنت امرأً حرجاً ... فإن حظركه بالدين إزراء
وهذا بيت يجوز للناس جميعاً استحسانه والتمثل به، ولم يؤسس الشعر بانيه على أن يكون المبرز في ميدانه من اقتصر على الصدق ولم يغو بصبوة، ولم يرخص في هفوة، ولم ينطق بكذبة، ولم يغرق في ذم، ولم يتجاوز في مدح، ولم يزور الباطل ويكسبه معارض الحق؛ ولو سلك بالشعر هذا المسلك لكان صاحب لوائه من المتقدمين أمية ابن أبي الصلت الثقفي، وعدي بن زيد العبادي؛ إذ كانا أكثر تذكيراً وتحذيراً ومواعظ في أشعارهما من امرىء القيس والنابغة. فقد قال امرؤ القيس:
سموت إليها بعدما نام أهلها ... سموّ حباب الماء حالاً على حال
فأصبحت معشوقاً وأصبح بعلها ... عليه القتام سيّىء الظنّ والبال
يغطّ غطيط البكر شدّ خناقه ... ليقتلني والمرء ليس بقتّال
وقال النابغة:
وإذا لمست لمست أخثم رابياً ... متحيّزاً بمكانه ملء اليد
وإذا طعنت طعنت في مستهدفٍ ... وابي المجسّة بالعبير مقرمد
وهل يتناشد الناس أشعار امرىء القيس والأعشى والفرزدق وعمر بن أبي ربيعة وبشار وأبي نواس على تعيهرهم، ومهاجاة جرير والفرزدق إلا على ملأ الناس وفي حلق المساجد ؟ وهل يروي ذلك إلا العلماء الموثوق بصدقهم. وقد نفى حسان بن ثابت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فما بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك عليه في هجائه حيث يقول:
وأنت ربيط نيط في آل هاشمٍ ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
وقد زعم بعض الرواة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحارث: أنت من خير أهلي. وما نهى النبي صلى الله عليه وسلم ولا السلف الصالح من الخلفاء المهديين بعده عن إنشاد شعر عاهر ولا فاجر.
ولقد أنشد سعيد بن المسيب وغيره من نظرائه تهاجي جرير وعمر بن لجأ فجعل يقول: أكله أكله. يعني أكله جرير ولم ينكر شيئاً مما سمعه.
رد ابن الأنباري

فأجابه ابن الأنباري: قد صدق سيدنا أيده الله في كل ما قاله من الأشعار التي عدل قائلوها عن سنن المؤمنين المتقين، ولم أكن أجهل أكثر ذلك، إلا أنه لم يخطر ببالي ذكر ما كنت أعرف منه في وقت كتابتي ما كتبت به، وما كل ما يعرف الإنسان يحضره، ولا تتواتى كل وقت خواطره؛ على أن الذي جرى في هذا الأمر إنما هو على سبيل التعلم والتفهم. يذكر الذاكر شيئاً قد تقدم صوابه. فيحتج له، وعليه فيه حجة قد تركها، فيكشف السامع لها غطاءه مستبصراً أو مذكراً، فإن كان الحق ضالته وجد ما ابتغى، وغنم ما وجد، وإن أنف من الرجوع، واشتد عليه النزوع، جحد ما علم، واحتج لما جهل؛ لأن كل مطالب بباطل لا يخلو من جهل بما يدعي، أو جهل بما يعرف، ولم يعقد أعز الله الأمير مجلس لمناظرة في علم يعطى النظر فيه حقه إلا فاز المرء فيه باستفادة صواب كان يجهله، ورجوع عن خطأ كان يعتقده.
ولست أعز الله الأمير بمعصوم، ومن لم يكن معصوماً لم يكن صوابه بمضمون، ولا زلله بمأمون، وعلى حسب ما جرى تعلق قلبي بمعرف ما تضمنته رقعتي هذه من الأمير، فإن كان لامتنانه بتعريفي ذلك في جواب عنها وجيه جرى فيه على عادة طوله وفضله إن شاء الله.

جواب ابن المعتز
فأجابه ابن المعتز: إنما أحببت أعزك الله أن تكون من الإخوان الذين يتجانون ثمر التناصح فيتذاكرون فيتذكرون، ويتدارسون فيفيدون ويستفيدون، ففتحت بيني وبينك هذا الباب آذناً بالولوج علي منه، واثقاً بكمال عقلك في المسارعة إليه، وصنت مودتنا على استحسان مزور، وتعمد الجحد في إقراره، وملق مكاشر يظهر التصديق بلا إنكار. ولا يزال الإخوان يسافرون في المودة حتى يلقوا الثقة فتلقى عصا التسيار، وتطمئن بهم الدار، وتقبل وفود النصائح، وتؤمن خبايا الضمائر، وتلقى ملابس التخلق، وتحل عقد التحفظ، وقد أبعدك الله تعالى من الخطأ لما أشرق نور الصواب، ولم لا وبلى يصطرعان على الحق، وبالتعب وطىء فراش الراحة، وبالبحث تستخرج دفائن العلوم، ولا فرق بين إنسان يقاد وبهيمة تنقاد.
ولولا أن الناس اختلفوا متفرقين لاختلفوا متشاحين، ولما قصدوا بالسكنى إلا بقعةً من الدنيا يتنافسون فيها، ويتفانون عليها؛ وخير الاختلاف ما اجتنب معنى التمادي على الباطل فاهتدي فيه بالتبصير. كما روي أن علياً رضي الله عنه حاج عمر رضي الله عنه في المرأة التي وضعت لستة أشهر، فأراد عمر رجمها فقال له: قد قال الله تعالى: " وَحَمْلُه وفِصَالُه ثلاثون شهراً " . فرجع عن ذلك عمر وأمضاه.
وبالتقليد هلك مترفو الكفار القائلون: " إنّا وجَدْنَا آباءنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارهم مُقْتَدُون " . وقال بعضهم: إذا سرك أن تعرف خطأ مؤدبك فجالس غيره. وقال عمر رضي الله عنه: ليس شيء أضر بالمرء من لجاجة في جهل. وإنما كان يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل والبحث لشفقته على أمته من نزول معترض يثقل عليهم فيما يسألون عنه، ثم كره عمر وعلي رضوان الله عليهما ما كان يجري على سبيل التعنت، ويفارق سبيل التفقه. ولذلك قال علي رضي الله عنه لابن الكوا: سل تفقهاً ولا تسل تعنتاً.
ظرف أهل المدينة
وقال مالك: ما رأيت أشبه بأهل المدينة من ابن سيرين، وأهل المدينة أرق الناس أدباً، وأحلاهم طرباً، وأبرعهم شيماً، وأطبعهم كرماً، ويقال: دل حجازي، وعشق يماني. وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
إنّ قلبي بالتلّ تلّ عزازٍ ... مع ظبي من الظباء الجوازي
شادن لم ير العراق وفيه ... مع ظرف العراق دلّ الحجا
وقال أبو تمام:
من شاعرٍ وقف الكلام ببابه ... واكتنّ في كنفي ذراه المنطق
قد ثقّفت منه الشآم وسهّلت ... منه الحجاز ورقّقته المشرق
وكان عبد الملك بن الماجشون يقول: لقد كنا بالمدينة وإن الرجل يحدثني بالحديث من الفقه فيمله علي، ويذكر الخبر من الملح فأستعيده فلا يفعل. ويقول: لا أعطيك ملحي، وأهبك ظرفي وأدبي.
وقال ابن الماجشون: إني لأسمع الكلمة المليحة وما لي إلا قميص واحد فأدفعه إلى صاحبها وأستكسي الله عز وجل. وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحداً لا يتمنى النسيب ؟ قال: أما من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا.
أبو السائب وفكاهاته

وكان أبو السائب كثير الطرب، غزير الأدب، وله فكاهات مذكورة، وأخبار مشهورة. وكان جده يكنى أبا السائب أيضاً، وكان خليطاً للنبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام؛ وأقبل الإسلام فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكره يقول: نعم الخليط كان أبو السائب لا يداري ولا يماري. واسم أبي السائب عبد الله، وكان أشراف المدينة يقدمونه ويعظمونه لشرف منصبه، وحلاوة طربه. قال الزبير بن بكار: كانت سليمة المشاوبية عاشقة لأفلح مولى الزهريين، فأتاها يوماً أبو السائب المخزومي فقال: حدثيني، هل أتاك من حبيبك رسول ؟ قالت: لا. قال: فهل قلت في ذلك شعراً ؟ قالت: نعم، ثم أنشدته:
ألا ليت لي نحو الحبيب مبلّغاً ... يبلّغه التسليم ثمّ يقول
سليمة نضوٌ ما ترجّى حياتها ... من الشوق والشوق الشديد قتول
تعالج أحزاناً وتبكي صبابةً ... وأنت لما تلقاه فيك جهول
فقال أبو السائب: أنا والله رسولك؛ فحفظ الشعر وتوجه نحو أفلح في يوم صائف شديد حره، فلقيه رجل من الأنصار فقال: يا أبا السائب؛ من أين أقبلت ؟ قال: من عند سليمة المشاوبية. قال: وإلى أين تريد ؟ قال: أريد أفلح مولى الزهريين أبلغه رسالتها. قال: أفي مثل هذا الوقت ؟ قال: إليك يابن أخي ؟ فإن الجنة حفت بالمكاره؛ وما عبد الله إلا بالصبر على ما ترى.
وقال الزبير: حدثني جدي قال: أتاني أبو السائب المخزومي في ليلة بعدما رقد الناس، فأشرفت عليه وقلت: هل من حاجة ؟ فقال: سهرت فذكرت أخاً لي أستمتع به فلم أجد أحداً سواك، فلو مضيت بنا إلى العقيق فتناشدنا وتحدثنا ؟ قلت: نعم ! فنزلت فما زال في حديث إلى أن أنشدته في بعض ذلك بيتي العرجي:
باتا بأنعم ليلةٍ حتى بدا ... صبحٌ تلوّح كالأغرّ الأشقر
فتلازما عند الفراق صبابةً ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فقال: أعده، فأعدته فقال: أحسنت والله ! وامرأتي طالق إن نطقت بحرف حتى أرجع إلى بيتي غيره، فمضينا فتلقانا عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب وهو منصرف من ماله يريد المدينة. فقال: كيف أنت يا أبا السائب ؟ فقال:
فتلازما عند الفراق صبابةً ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فالتفت إلي، وقال: متى أنكرت عقل صاحبك ؟ قلت: منذ الليلة، قال: لله أي كهل أصيبت به قريش. ثم مضينا فلقينا محمد بن عمران التيمي قاضي المدينة يريد مالاً له على بغلة، وكان أثقل الناس جسماً، ومعه غلام له على عنقه مخلاة فيها قيد البغلة، فسلم عليه ثم قال: كيف أنت يا أبا السائب ؟ فقال:
فتلازما عند الفراق صبابةً ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فالتفت إلي وقال: متى أنكرت عقل صابحك ؟ قلت: آنفاً؛ فتركني وانصرف، فقلت: أفتدعه هكذا؟ ما آمن أن يتهور في بعض آبار العقيق، قال: صدقت، يا غلام، هات قيد البغلة، فوضعه في رجله وهو ينشد البيت ويدافع بيده؛ فلما أطال نزل الشيخ عن البغلة وقال: يا غلام، احمله على بغلتي وألحقه بأهله؛ فلما كان بحيث علمت أنه قد فاته أخبرته الخبر فضحك. وقال: قبحك الله ماجناً فضحت شيخاً من قريش وعذبتني وأنا لا أقدر أن أتحرك.
وروى مصعب بن الزبير عن عبد الله، قال: كان عروة بن أذينة نازلاً في دارى بالعقيق فسمعته ينشد لنفسه:
إنّ التي زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوىً لها
فيك الذي زعمت بها فكلاكما ... أبدى لصاحبه الصبابة كلّها
ولعمرها إن كان حبّك فوقها ... يوماً وقد ضحيت إذاً لأظلّها
فإذا وجدت لها وساوس سلوةٍ ... شفع الضمير إلى الفؤاد فسلّها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقةٍ فأدقّها وأجلّها
لما عرضت مسلّماً لي حاجةً ... أخشى صعوبتها وأرجو ذلّها
منعت تحيّتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلّها
فدنا وقال لعلّها معذورةٌ ... في بعض رقبتها فقلت لعلّها

فأتاني أبو السائب المخزومي فقلت له بعد الترحيب والبشر : ألك حاجة ؟ قال: نعم ! أبيات لعروة بلغني أنك سمعته ينشدها ؟ فلما بلغت إلى قوله: فدنا وقال لعلها معذورة، طرب وصاح، وقال: هذا والله الصادق العهد، الدائم الود، لا الذي يقول:
إن كان أهلك يمنعونك رغبةً ... عني فأهلي بي أضنّ وأرغب
أوليس لي قربى إذا أقصيتني ... حدبوا عليّ وعندي المستعتب
فلئن دنوت لأدنونّ بعفّةٍ ... ولئن نأيت لما ورائي أرحب
يأبى وعيشك أن أكون مقصّراً ... رأيٌ أعيش به وقلب قلّب
لقد عدا هذا الأعرابي طوره، وتجاوز قدره، وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحب الأبيات الأولى لحسن الظن بها، وطلب العذر لها. فعرضت عليه الطعام فقال: سبحان الله ! أويحسن الظن بمثلي أن يأكل طعاماً بعد سماع هذه الأبيات ؟ والله ما كنت لأخلط بها طعاماً حتى الليل، وانصرف.
والأبيات التي أنشدها أبو السائب لبعض الهذليين هي من مليح الشعر أولها:
طرقتك زينب والركاب مناخةٌ ... بحطيم مكّة والنّدى يتصبّب
بثنيّة العلمين وهناً بعدما ... خفق السّماك وعارضته العقرب
وتحية وكرامة لخيالها ... ومع التحية والكرامة مرحب
أنى اهتديت ومن هداك ودوننا ... حمل فقّلة عاذب فالمرقب

ارتياح أهل المدينة إلى المزاح وانقطاعهم إلى السماع
ولأهل المدينة من الارتياح إلى المزاح، والانقطاع للسماع ما هو مشهور عندهم، مأثور منهم. قال عبد الله بن جعفر: أنا لي عند السماع هزة لو سئلت عندها لأعطيت، ولو قاتلت معها لأبليت.
وقال أبو العيناء: قال الأصمعي: مررت بدار الزبير بالبصرة، فإذا بشيخ من أهل المدينة من ولد الزبير يكنى أبا ريحانة جالس بالباب وعليه شملة تستره؛ فسلمت عليه وجلست إليه؛ فبينا أنا كذلك إذ طلعت علينا سوداء تحمل قربةً، فلما نظر إليها لم يتمالك أن قام إليها وقال لها: غنني صوتاً، فقالت: إن موالي أعجلوني، قال: لا بد من ذلك، قالت: أما والقربة على كتفي فلا، قال: فأنا أحملها: فأخذ القربة منها فحملها واندفعت تغني:
فؤادي أسيرٌ لا يفكّ ومهجتي ... تقضّى وأحزاني عليك تطول
ولي مقلةٌ قرحى لطول اشتياقها ... إليك وأجفاني عليك همول
فديتك، أعدائي كثيرٌ وشقّتي ... بعيد وأشياعي لديك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلّة ... فأفنيت علاّتي فكيف أقول !
فطرب وصرخ، وضرب بالقربة فشقها؛ وقامت الجارية تبكي، وقالت: ما هذا بجزائي منك، شفعتك في حاجتك، فعرضتني لما أكره من موالي ! فقال: لا تغتمي فالمصيبة علي حصلت، ونزع الشملة، ووضع يداً من قدام ويداً من خلف، وباعها وابتاع لها قربة وقعد بتلك الحال؛ فاجتاز به رجل من ولد علي رضي الله عنه، فعرف حاله فقال: يا أبا ريحانة؛ أحسبك من الذين قال الله عز وجل فيهم: " فما ربحَتْ تجارتهم وما كانوا مهتدين " . قال: لا، يابن رسول الله، ولكني من الذين يقول الله لهم: " فبشِّرْ عبادي الذين يستمعون القولَ فيتبعونَ أحسنَه، أولئك الذين هداهم اللّه وأولئك هم أولو الألباب " . فضحك وأمر له بألف درهم.
وقال رجل لابن جعدبة: يا أبا الحكم؛ الرجل الذي يشدو بالأصوات ما ترى فيه ؟ قال: سبحان الله ! كنا إذا أتت على الرجل أربعون سنة لا يحسن عشرة أصوات عددناه من أهل بقيع الغرقد يعني الموتى.
ومر بالأوقص المخزومي وهو قاضي المدينة يتغنى بليل فأشرف عليه، وقال: يا هذا؛ شربت حراماً، وأيقظت نياماً، وغنيت خطأ، خذ عني وأصلح له الغناء.
غناء في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم

وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: حدثت أن مدنياً كان يصلي مذ طلعت الشمس إلى أن قارب النهار أن ينتصف، ومن ورائه رجل يتغنى، وهما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا برجل من الشرط قد قبض على الرجل فقال: أترفع عقيرتك بالغناء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأخذه؛ فانفتل المدني من صلاته، فلم يزل يطلب إليه فيه حتى استنقذه، ثم أقبل عليه فقال: أتدري لم شفعت فيك ؟ قال: لا، ولكني إخالك رحمتني، قال: إذاً فلا رحمني الله. قال: فأحسبك عرفت قرابةً بيننا. قال: إذاً قطعها الله، قال: فليد تقدمت مني إليك، قال: والله ولا عرفتك قبلها. قال: فأخبرني. قال: سمعتك تغنيت آنفاً فأقمت واوات معبد، أما والله لو أسأت التأدية لكنت أحد الأعوان عليك.
قال: والصوت الذي ينسب إلى واوات معبد شعر الأعشى الذي يعاتب فيه يزيد بن مسهر الشيباني وهو:
هريرة ودّعها وإن لام لائمٌ ... غداة غدٍ أم أنت للبين واجم
لقد كان في حولٍ ثواء ثويته ... تقضّى لباناتٌ ويسأم سائم
ويروى أن معبداً بلغه أن قتيبة بن مسلم فتح خمس مدائن؛ فقال: لقد غنيت بخمسة أصوات هن أشد من فتح المدائن التي فتحها قتيبة. والأصوات قال المبرد: أحدها، للأعشى يعاتب يزيد بن مسهر الشيباني: هريرة ودعها وإن لام لائم. فأنشد البيتين. والثاني: قوله يعاتبه:
ودّع هريرة إنّ الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرّجل
غيداء فرعاء مصقولٌ عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
والثالث، للشماخ بن ضرار بن مرة بن غطفان يقوله لعرابة بن أوس:
رأيت عرابة الأوسي ينمى ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تلقّاها عرابة باليمين
إذا بلّغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
والرابع، لعمر بن أبي ربيعة:
ودّع أمامة قبل أن تترحّلا ... واسأل فإنّ قليله أن تسألا
أمكث لعمرك ساعةً فتأنّها ... فعسى الذي بخلت به أن يبذلا
لسنا نبالي حين ندرك حاجةً ... إن بات أو ظلّ المطيّ معقّلا
قال أبو العباس: والشعر الخامس لا أعرف قائله. قلت: وهو لعروة بن أذينة الليثي:
غرابٌ وظبيٌ أعصب القرن نادباً ... ببين وصردان العشيّ تصيح
لعمري لئن شطّت بعثمة دارها ... لقد كنت من خوف الفراق أليح
وكتب سليمان بن عبد الملك إلى عثمان بن حيان المرى: أحص المخنثين، فوقعت فوق الحاء نقطة فأخذهم وخصاهم وفيهم الدلال؛ فبلغ ذلك ابن أبي عتيق وقد قام إلى الصلاة فقال: أوقد خصي الدلال ؟ إنا لله ! لقد كان يحسن أن يغني:
لمن طللٌ بذات الجي ... ش أمسى دارساً خلقا
ثم دخل في الصلاة؛ فلما فرغ من قراءة أم الكتاب قال: السلام عليكم، وكان يحسن خفيف هذا الشعر ولا يحسن ثقيله.

من طرف ابن أبي عتيق
ولابن أبي عتيق عجائب ظريفة، أذكر لك منها ما يصلح ويملح؛ منها أنه سمع وهو بالمدينة قول ابن أبي ربيعة:
فما نلت منها محرماً غير أنّنا ... كلانا من الثوب المطارف لابس
فقال: أبنا يلعب ابن أبي ربيعة ؟ فأي محرم بقي ؟ فركب بغلته متوجهاً إلى مكة، ودخل أنصاب الحرم، وقيل له: أحرم ! قال: إن ذا الحاجة لا يحرم. فلقي ابن أبي ربيعة؛ فقال: أما زعمت أنك لم تركب محرماً قط ؟ قال: بلى ! قال: فما قولك: كلانا من الثوب... البيت ؟ فقال له: إني أخبرك؛ خرجت بعلة المسجد، وخرجت زينب تريده، فالتقينا فاتعدنا، فصرنا إلى بعض الشعاب، فأخذتنا السماء، فأمرت بمطرفي فسترنا الغلمان لئلا يروا بها بلة فيقولوا لها: هلا استترت بسقائف المسجد ؟ فقال له ابن أبي عتيق: يا عاهر ! هذا البيت يحتاج إلى حاضنة ؟ وابن أبي عتيق الذي سمع قول ابن أبي ربيعة:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي ... أتحبّ القتول أخت الرّباب
قلت وجدي بها كوجدك بالما ... ء إذا ما فقدت برد الشراب
أزهقت أُمّ نوفلٍ إذ دعتها ... مهجتي، ما لقاتلي من متاب
أبرزوها مثل المهاة تهادى ... بين خمسٍ كواعبٍ أتراب

وهي مكنونةٌ تحيّر منها ... في أديم الخدّين ماء الشباب
ثم قالوا تحبّها قلت بهراً ... عدد الرمل والحصى والتراب
من رسولي إلى الثريّا بأني ... ضقت ذرعاً بهجرها والكتاب
فلما سمع هذا البيت قال: إياي أراد وبي هتف ونوه؛ والله لا ذقت طعاماً أو أشخص إليها وأصلح بينهما.
قال مولى لبني تميم: فنهض ونهضت معه حتى خرج إلى سوق الضمرتين، فأتى قوماً من بني الديل من حنيفة يكرون النجائب، فقال: بكم تكرونني راحلتين إلى مكة ؟ قالوا: بكذا وكذا، فقلت لبعض التجار: استوضعوا شيئاً؛ فقال ابن أبي عتيق: ويحك ! إن المكاس ليس من أخلاق الناس، ثم ركب واحدة وركبت الأخرى وأجد السير، فقلت: ارفق بنفسك. فقال: ويحك: أبادر حبل الوصل أن يقتضبا وما أملح الدنيا إذا تم الوصل بين عمر والثريا. فقدمنا مكة، وأتى باب الثريا، فقالت: والله ما كنت لنا زواراً. قال: أجل ! ولكني جئت برسالة؛ يقول لك ابن عمك عمر: ضقت ذرعاً بهجرك والكتاب. فلامه عمر. فقال ابن أبي عتيق: إنما رأيتك مبادراً تلتمس رسولاً فخففت في حاجتك، فإنما كان ثوابي أن أشكر.
وسمع ابن أبي عتيق قول العرجي:
وما ليلةٌ عندي وإن قيل ليلة ... ولا ليلة الأضحى ولا ليلة الفطر
معادلة الإثنين عندي وبالحري ... يكون سواءً مثلها ليلة القدر
وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... لخادمها قومي سلي لي عن الوتر
فجاءت تقول الناس في تسع عشرة ... ولا تعجلي عنه فإنّك في أجر
فقال: هذه أفقه من ابن شهاب، وهي حرة لله عز وجل من مالي إن أجاز أهلها ذلك.

مع الحسن بن علي
وقال له مروان بن الحكم يوماً: إني مشغوف ببغلة للحسن بن علي، قال له: فإن دفعتها إليك أتقضي لي ثلاثين حاجةً ؟ ومروان يومئذ أمير المدينة، قال: فإذا اجتمع الناس عندك في العشية فإني آخذ في مآثر قريش، فأمسك عن الحسن فلمني على ذلك. فلما أخذوا في مجالسهم أفاض في أولية قريش؛ فقال له مروان: أما تذكر أولية أبي محمد، وله في هذا ما ليس لأحد ؟ فقال: إنما كنا في ذكر الأشراف ولو كنا في ذكر الأنبياء لقدمنا لأبي محمد. فلما خرج الحسن ليركب البغلة تبعه ابن أبي عتيق: فقال له الحسن وتبسم: ألك حاجة ؟ قال: نعم ! ذكرت البغلة ؟ فنزل الحسن ودفعها إليه.
ومن ظريف أخباره أن عثمان بن حيان المري لما دخل المدينة والياً عليها اجتمع إليه الأشراف من قريش والأنصار. فقالوا: إنك لا تعمل عملاً أجدى ولا أولى من تحريم الغناء والرثاء. ففعل وأجلهم ثلاثاً، فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة فحط رحله بباب سلامة الزرقاء، فقال لها: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي. فقالت: أو ما تدري ما حدث ؟ وأخبرته الخبر. فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه، ولا بأس عليك. ثم مضى إلى عثمان بن حيان فاستأذن عليه، وأخبره أن أجل ما أقدمه حب التسليم عليه، وقال له: من أفضل ما عملت به تحريم الغناء والرثاء. فقال: إن أهلك أشاروا علي بذلك. قال: فإنك قد وفقت، ولكني رسول امرأة إليك تقول: كانت هذه صناعتي فبنت منها، وأنا أسألك أيها الأمير ألا تحول بيني وبين مجاورة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عثمان: إذاً أدعها لك. قال: إذاً لا تدعك الناس. ولكن تدعوها فتنظر إليها فإن كانت ممن يترك تركتها. قال: فادع بها. فأمرها ابن أبي عتيق فتقشفت وأخذت سبحة في يديها، وصارت إليه، فحدثته عن مآثر آبائه، ففكه لها. فقال ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير، ففعلت فأعجب بذلك. فقال لها: فاحدي للأمير ففعلت، فأعجب بحدائها. ثم قال لها: غبري للأمير، فجعل يعجب بذلك، فقال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعاتها؛ فقال: قل لها فلتقل ! فأمرها فغنت:
سددن خصاص الخيم لمّا دخلنه ... بكلّ بنانٍ واضحٍ وجبين
فنزل عثمان عن سريره حتى جلس بين يديها، ثم قال: والله ما مثلك يخرج عن المدينة. فقال له ابن أبي عتيق: يقول الناس أذن لسلامة في المقام ومنع غيرها ! فقال عثمان: قد أذنت لهم جميعاً.

وابن أبي عتيق: هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، وكان أجل أهل زمانه، وذكر أنه دخل على عائشة وهي لم بها، فقال: كيف أنت يا أماه ؟ جعلت فداك ! قالت: في الموت، قال: فلا إذاً، إنما ظننت أن في الأمر فسحةً، فضحكت وقالت: ما تدع مزحك بحال !

معاوية يداوي أذنه بالغناء
وقال ابن جريج: كان عبد الله بن جعفر إذا قدم على معاوية أنزله داره وأظهر له من إكرامه وبره ما يستحقه؛ فكان ذلك يغيظ فاختة بنت قرظة بن عبد بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف زوج معاوية، فسمعت ذات ليلة عند عبد الله غناء، فجاءت إلى معاوية فقالت: هلم فاسمع ما في منزل هذا الذي جعلته بين لحمك ودمك، وأنزلته مع حرمك ! قال: فجاء معاوية سمع وانصرف، فلما كان آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله، فجاء فأيقظ فاختة وقال: اسمعي مكان ما أسمعتني !! ثم إنه أرق ذات ليلة فقال لجريج خادمه: اذهب فانظر من عند عبد الله وأخبره أني في أثرك، فأتاه فأعلمه ذلك، فأقام عبد الله من عنده، ثم دخل معاوية فلم ير في المجلس أحداً، فقال لعبد الله: مجلس من هذا ؟ قال: مجلس فلان، قال: فمره أن يرجع إليه، ثم قال: مجلس من هذا ؟ قال: مجلس فلان، قال: فمره أن يرجع إليه؛ فرجعوا حتى لم يبق إلا مجلس واحد، قال: مجلس من هذا ؟ قال: مجلس واحد يداوي الآذان. قال: مره فليرجع فإن بأذني علةً، فأمر عبد الله بديحاً المليح فخرج؛ فأدناه معاوية منه وأراه أذنه. وقال: أنظر ما ترى فيها ؟ قال: هي مسدودة وتحتاج إلى فتح وتنقية، قال: شأنك أمكنتك منها، ولا تضع يدك عليها إن كنت غير حاذق بعلاجها. قال عبد الله: يا أمير المؤمنين؛ هو حاذق، ما يعالج في دارنا غيره. فقال معاوية: وشهد شاهد من أهلها، فاندفع يغني من شعر زهير بن أبي سلمى:
أمن أمّ أوفى دمنةٌ لم تكلّم ... بحومانة الدرّاج فالمتثلّم
فجعل عبد الله بن جعفر يلحظ معاوية وهو يحرك يديه ورجليه، فقال: يعيرك الجهل يا أمير المؤمنين، فقال: إن الجهل مني لعلى بعد يابن جعفر، قبح الله ضيافة يكون الضيف فيها بحيث لا يساعد المضيف على أخلاقه، ثم قال لبديح: لقد فتحت جارحة لا تألم أبداً؛ ثم نهض وخرج.
من طرف بديح
وكان بديح أحلى الناس وأذكاهم، وهو الذي قال له الوليد بن يزيد: يا بديح؛ خذ بنا في الأماني، فإني أغلبك فيها، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أغلبك لأني فقير وأنت خليفة، وإنما يتمنى المرء ما عسى أن يبلغ إليه وأنت قد بلغت الآمال. قال: لا تتمنى شيئاً إلا تمنيت ما هو أكثر منه. قال: فإني أتمنى كفلين من العذاب وأن يلعنني الله لعناً وبيلاً، فقال: اعزب لعنك الله دون خلقه.
ودخل عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان وقد اشتى عرق النسا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن مولاي بديحاً أحذق الناس برقيته، قال: أتجيئني به ؟ فجاءه به فرقاً؛ فبات تلك الليلة هادئاً، فلما أصح سأله عبد الله بن جعفر عن حاله، فأخبره بما وجد من العافية؛ ثم قال لبديح: اكتب لنا هذه الرقية لتكون عندنا، قال: لا أفعل، قال: أقسمت عليك لتفعلن، قال اكتب:
ألا إنّ أيامي وأيامك التي ... مضين لنا لم أدر ما ألم الهجر
مضين وما شيء مضى لك عائدٌ ... فهل لك فيها إن تولّين من عذر
دعي ما مضى واستقبلي العيش إنني ... رأيت لذيذ العيش مستقبل العمر
فما نازع الدهر امرأً في انقلابه ... فأعتبه إلاّ بقاصمة الظّهر
فقال عبد الملك: فأي شيء هذا ؟ قال: امرأتي طالق إن كنت رقيتك إلا بهذه ! قال: ويحك ! استر علينا، قال: كيف أستر ما سارت به الركبان !
يتغنى في مسجد الأحزاب
قال أبو مسلم الهلالي المكي: حدثني أبي عن أبيه قال: أتيت عبد العزيز بن المطلب أسأله عن بيعة الجن للنبي صلى الله عليه وسلم بمسجد الأحزاب وما كان بدؤها ؟ فوجدته مستلقياً يتغنى:
فما روضة بالحزن معشبة الثرى ... يمجّ الندى جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزّة موهناً ... إذا أوقدت بالمندل الرطب نارها
من الخفرات البيض لم تلق شقوة ... وفي الحسب المكنون صافٍ نجارها

إذا خفيت كانت لعينك قرّةً ... وإن تبد يوماً لم يعمّك عارها
فقلت له: مثلك أصلحك الله يتغنى ؟ أما والله لأحدون بها ركبان نجد، فعاود يتغنى:
فما ظبيةٌ أدماء خفّاقة الحشا ... تجوب بطفليها متون الخمائل
بأحسن منها إذ تقول تدلّلاً ... وأدمعها يجرين حشو المكاحل
تمتّع بذا اليوم القصير فإنّه ... رهينٌ بأيام الشهور الأطاول
فندمت على قولي وقلت: أتحدثني في هذا بشيء ؟ قال: نعم ! حدثني أبي أنه دخل على سالم بن عبد الله وأشعب الطماع يغنيه:
مغيريّة كالبدر سنة وجهها ... مطهرة الأثواب والدين وافر
من الخفرات البيض لم تلق ريبةً ... ولم يستزلها عن تقى اللّه شاعر
لها حسبٌ زاكٍ وعرض مهذّب ... وعن كل مكروهٍ من الأمر زاجر
فقال سالم: زدني، فغنى:
ألّمت به والليل داجٍ كأنه ... جناح غرابٍ عندما نفض القطرا
فقلت أعطّار ثوى في رحالنا ... وما حملت ليلى نشرها عطرا
فقال له سالم: أما والله لولا أن تداوله الرواة لأحسنت جائزتك؛ لأنك من هذا الأمر بمكان.

غناء ومزاح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال إبراهيم الحراني: حججت مع أمير المؤمنين الرشيد فدخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبينا أنا بين القبر والمنبر إذ أنا برجل حسن الهيئة خاضب، ومعه رجل في مثل حاله؛ فحانت مني التفاتة فإذا هو يقوس حاجبه ويفتح فاه، ويلوي عنقه ويشير بعينه، فتجوزت في صلاتي ثم سلمت فقلت: أفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تتغنى ؟! فقال: قنعك الله خزية، ما أجهلك ! أما في الجنة غناء ؟ قلت: بلى لعمري فيها ما تشتهي النفس وتلذ الأعين، قال: أما نحن في روضة من رياض الجنة ؟ قلت: لا ! قال: واحرباه ! أترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ! فنحن في تلك الروضة. قلت: قبح الله شيخاً ما أسفهه ! قال: بالقبر والمنبر لما أنصت إلي ؟ فتخوفت ألا أنصت؛ فاندفع يغني بصوت يخفيه:
فليست عشيات الحمى برواجعٍ ... إليك، ولكن خلّ عينيك تدمعا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
الشعر للصمة بن عبد الله القشيري.
فوالله إن قمت إلى الصلاة لما دخل قلبي؛ فلما رأى ما نزل بي قال: يا بن أم، أرى نفسك قد استجابت وطابت، فهل لك في زيادة ؟ قلت: ويحك ! في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم !! قال: أنا والله أعرف بالله ورسوله منك، فدعنا من جهلك؛ ثم تغنى:
فلو كان واشٍ بالمدينة داره ... وداري بأقصى حضرموت اهتدى ليا
وماذا لهم لا أحسن اللّه حفظهم ... من الشأن في تصريم ليلى حباليا
الشعر لمجنون بني عامر الملوح.
فقال له صاحبه: يا بن أم؛ أحسنت والله، وعتق أهلك، لو كان أمير المؤمنين الرشيد في هذا الموضع لخلع عليك ثيابه طرباً. قال: فقمت وهما لا يعلمان من أنا، فدخلت على أمير المؤمنين فأعلمته الخبر؛ فقال: أدركهما لا يفوتانك.
فوجهت من جاء بهما، فلما دخلا عليه دخلا بوجوه قد ذهب ماؤها، وأنا قائم على رأسه، فقال: يا إبراهيم؛ هذان هما ؟ قلت: نعم. فنظر إلي المغني منهما وقال: سعاية في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فسري عن أمير المؤمنين بعض غضبه، وتبسم فقال: ما كنتما فيه ؟ قالا: في خير. قال: فماذا الخير ؟ فسكتا. فقال للمغني منهما: من أنت ؟ فابتدره جماعة فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذا ابن جريج فقيه مكة، فقال: فقيه مكة يتغنى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم !! قال: يا أمير المؤمنين؛ لم يكن ذلك مني بالقصد للغناء ولكني كنت أسمعت هذا المخزومي يعني صاحبه صوتين، فلم يزالا في قلبي حتى التقينا، فأحببت أن يأخذهما عني، فأخذهما، وحلف أني قد أحسنت، وأنه لو كان في الموضع أمير المؤمنين لخلع علي وسكت.
فقال الرشيد: تركت من الحديث شيئاً ؟ قال: ما تركت شيئاً يا أمير المؤمنين. قال: والله لتقولن. قال: يا أمير المؤمنين، زعم أنك لو كنت في موضعه لخلعت علي ثياباً مشقوقةً طرباً.

فتبسم وقال: أما هذا فلا، ولكن نخلعها عليك صحيحةً فهي خير لك. ثم دعا بثياب فلبسها ونبذ ثيابه، وأمر له بعشرين ألف درهم ولصاحبه بعشرة آلاف درهم. وقال: لا تعودن لهذا. فقال صاحبه: إلا أن يحج أمير المؤمنين ثانية. فضحك وقال: ألحقوه بصاحبه في الجائزة.

في سوق القسي
قال إبراهيم الحراني: ثم قدمنا مكة فإني لفي سوق القسي أساوم بقوس عربية بكنانتها، إذ بإنسان عن يميني يقول: نعم القوس في يدك. قلت: أريد أبسط منها قليلاً ؟ قال: فعندي بغيتك إئت المنزل، فصرت إليه، فأخرج إلي قوساً جيدةً لينةً حسنة الصنعة، قلت: نعم ! هذه أريد، فكم ثمنها ؟ قال: عشرة دنانير، قلت: يا هذا، أغرقت في النزع، قال: هذا سومي، فهات سومك أنت. قلت بدينارين. فأحد النظر، وقال: وآتيك؛ فالذي كان يجب للطبيعة أن تأتي به تحول فصار ضحكاً. فقلت: غضب الله عليك، تطلق لسانك في حرم الله وأمنه في أيام عظيمة؛ فأنت بمثل هذه السن تتكلم بهذا الكلام !! فقال: هو ما قلت لك، إنما هو بيع وشراء، فلا تغضب؛ فإني لم أغضب من عطيتك.
قال: ففارقته، ودخلت على أمير المؤمنين، فقلت: يا سيدي؛ ههنا خبر أعجب من خبر ابن جريج ! وحدثته الحديث، فقال: ارجع وجئني به، فوجهت غلاماً كان معي وأنا أساومه ومعه أعوان؛ فجاءوا به، فلما دخل عليه قال: هذا صاحبك يا إبراهيم ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين ! فقال الرشيد: ماذا قلت لهذا حين ساومك بالقوس ؟ قال: قد دار بيني وبينه كلام. قال: أخبرني به. قال: لست مني على سوم فأخبرك. قال: فماذا قال لك ؟ قال: هو أعلم بما قال. فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين؛ أخرج إلي قوساً عربية بكنانتها، فقلت: بكم هذه ؟ قال: بعشرة دنانير. قلت: أسرفت فخذ مني دينارين. قال: وآتيك. قال الرشيد: كذا كان ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ إنما هذا شراء وبيع ولم يتم لي بيعها بما أعطاني، وظننت أن بضاعته قليلة فقلت: آخذ دينارين وعروضاً بالباقي.
فضحك الرشيد حتى تبسط. ثم قال: قاتلك الله ! فما أقبح مجونك ! ووصله.
قال إبراهيم: فلما انصرفنا خارجين عن مكة مررت به، فوقفت عليه وسلمت عليه. فقال: ما ترى في تيك القوس ؟ ألك فيها رأي ؟ قلت: أما على شريطتك الأولى فلا. قال: فلا بأس فخذها مني بدينارين وغن لي ثلاثة أصوات، أو خذها بخمسة وأغنيك أربعة أصوات، ثلاثة لمعبد، وواحد لابن عائشة كان يفعل فيه ما أحل الله وحرم، قلت: هذا وحده. فاندفع يغني:
وخطّا بأطراف الأسنّة مضجعي ... وردّا على عيني فضل ردائيا
الشعر لمالك بن الريب المازني فأجاده ما شاء وحسنه. فقلت: لولا أن أمير المؤمنين قد قدمت له دابته لوقفت عليك. فقال: امض عليك السلام وإن كان في القلب ما فيه؛ إذ بخلت على أخيك بضمة أو ضمتين. قلت: ما لك لعنك الله ! وفارقته، وحدثت أمير المؤمنين بما قال فقال: يا إبراهيم، تجد بالعراق طولاً وعرضاً واحداً له ما لأهل الحرمين من الذكاء والظرف ؟ قلت: لا أعرف موضعه.
الأشراف تعجبهم الملح
وقال الأصمعي: أنشدت محمد بن عمران قاضي المدينة وكان أعقل من رأيته:
يأيها السائل عن منزلي ... نزلت بالخان على نفسي
يغدو عليّ الخبز من خابزٍ ... لا يقبل الرهن ولا ينسي
آكل من كيسي ومن كسوتي ... حتى لقد أوجعني ضرسي
فقال: اكتب لي الأبيات. فقلت: أصلحك الله؛ هذا لا يشبه مثلك، إنما يروي مثل هذا الأحداث، قال: اكتبها لي، فالأشراف تعجبهم الملح.
وقد قال الطائي في عمرو بن طوق التغلبي:
الجد شيمته وفيه فكاهة ... سمحٌ ولا جدٌّ لمن لم يلعب
شرسٌ ويتبع ذاك لين خليقةٍ ... لا خير في الصهباء ما لم تقطب
وقال في الحسن بن وهب:
للّه أيامٌ خطبنا لينها ... في ظله بالخندريس السلسل
بمدامةٍ نغم السماع خفيرها ... لا خير في المعلول غير معلّل
يعشو عليها وهو يجلو مقلتي ... بازٍ ويغفل وهو غير مغفل
لا طائشٌ تهفو خلائقه ولا ... خشن الوقار كأنه في محفل
فكهٌ يجمّ الجدّ أحياناً وقد ... ينضى ويهزل عيش من لم يهزل
وقال أبو الفتح علي بن محمد البستي:

أفد طبعك المكدود بالهمّ راحةً ... براحٍ وعلّله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته ذاك فليكن ... بمقدار ما تعطي الطعام من الملح

بدء الكتاب
وهذا حين أبتدىء متصرفاً بك من بلاغة خطاب، إلى براعة جواب، وصريح منادرة، إلى مليح مهاترة، وغريب مراجعة، إلى عجيب منازعة، وتشبيه واقع، إلى مثل صادع، وغير ذلك مما يحي موات القلوب، ويشفي نجي الكروب، مما تجذل له الخواطر، وترتاح إليه السرائر، وتنفتح به الأسماع، وتنشرح له الطباع.
فما مر به من هذه النوادر فلا تنظر إليها نظر المنكر فتعرض عنها صفحاً، وتطوي دونها كشحاً، إذا وقعت فيها كلمة قذف، أو لفظة سخف. وتقول: قد قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لغلامه ورأى روث دابة: نح ذلك النقيل تصوناً عن اسم الروث. وقال: عرضت لي دمل تحت يدي فآلمتني، ولم يقل تحت إبطي.
وكان الحجاج على قبح أفعاله، وسوء أحواله، يتنزه عن أن ينطق بلفظة سخيفة. وقد قال لمن اتهمه بمال ابن الأشعث: لو خبأته تحت، حتى قال: تحت ذيلك، لم يكن بد من إخراجه. وإنما أراد أن يقول تحت استك.
وأكثر القاذورات وردت بالكنايات؛ كالغائط وهو المطمئن من الأرض. وكانا إذا أرادوا قضاء الحاجة ذهبوا إلى ذلك الموضع؛ فسمي ما يخرج من الإنسان باسم موضعه. وكذلك الاستنجاء أيضاً مأخوذ من النجو، وهو المكان المرتفع؛ لاستتارهم وراءه. والحش: البستان. والعذرة: فناء الدار. وكذلك وصفهم لطيب الأردان، وهي الأكمام، وإنما يراد ما تحتها، وإنما ذلك كله للفرار من النطق بأسماء الأقذار.
وليس في كل موضع أعزك الله تحسن الكنايات عن لفظ فحش، ولا بكل مكان يجمل الإعراض عن معنى وحش. فيكون كما حكى الجاحظ: أن رجلاً بعث غلامه إلى غريم له، فأساء الغلام خطابه، فخرق الغريم ثيابه؛ فرجع إلى مولاه، فقال: ما لك ؟ قال: شتمك يا مولاي، فلم أحتمل الصبر، فرددت عله، فحل بي ما ترى، قال؛ وما كان شتمه ؟ قال: قال لي: أدخل هن الحمار في حر أم من أرسلك. فقال له مولاه: دعني عنك مما جرى، ولكن لم لم تجعل لي من الوقار ما جعلته لأير الحمار حين كنيت عن ذا ولم تكن عن ذا ! فلو صرح بالجميع لكان أسلم له من الذنب، وآمن من العتب.
وقد قال أبو فراس الحمداني لرسول أرسله إلى من يهواه، فجفا في جوابه، فلطف الرسول رسالته فتبين أبو فراس ذلك فأنشده:
وكنى الرسول عن الجواب تظرّفاً ... ولئن كنى فلقد علمنا ما عنى
قل يا رسول ولا تحاش، فإنّه ... لا بدّ منه أساء بي أم أحسنا
الذنب لي فيما جناه لأنني ... مكّنته من مهجتي فتمكّنا
أخذه بعض المتأخرين فقال:
يا رسولي خلّ عنك الظّ ... رف إن كنت رسولا
لا تقل ما لم يقله ... واشف بالصدق الغليلا
وهذا وإن لم يكن من محض هذا الباب، إذ كان إنما يستطاب، لأنه من الأحباب، كقول الآخر:
أتاني عنك شتمك لي وسبّي ... أليس جرى بفيك اسمي فحسبي
وكما قال منصور النمري:
لا يطيب الهوى ولا يحسن الح ... بّ لخلقٍ إلاّ بخمس خصال
بسماع الهوى وعذل نصيحٍ ... وعتابٍ وهجرةٍ وتقال
وكقول الآخر:
دع الحبّ يصلى بالأذى من حبيبه ... فإنّ الأذى ممن يحبّ سرور
غبار قطيع الشاء في عين ربّها ... إذا ما تلا آثارهن ذرور
وقول الآخر:
لولا طراد الخيل لم تك لذّةٌ ... فتطاردي لي بالوصال قليلا
هذا الشراب أخو الحياة وما له ... من لذةٍ حتى يصيب غليلا
فهو يلم ببعض جهاته، ويتطرف بإحدى جنباته.
وفي مثل التهاتر يمكن قول العتبي فيما سهل سبيله من ترك الإعراض عما كان مثله بالقول لقائله كالولد لناجله: ما على مبصره أن يراه شريراً فاتكاً، دون أن يراه وقوراً ناسكاً. وإنما تلزم عمدته، وتعود عهدته، في سخفه وجهله، على نفسه وأهله. وقد قال بعض الظرفاء:
إنما للناس منّا ... حسن خلقٍ ومزاح
ولنا ما كان فيا ... من فسادٍ أو صلاح

ولو كنت هنا إنما آتي بما فيه ركانة وأصالة، دون ما فيه سخافة ورذالة، لزال عن الملح اسمها، وارتفع عنها وسمها، وخرجت عن حدودها، وأفلتت من قيودها. ولا بد من توشيحه بلطئاف من الجد، وظرائف من القصد، تتعلق بأغصانه، وتتشبث بأفنانه؛ ليكون استراحة للناظر، وإجماماً للخاطر؛ وكما يمل الجد، فيدخل فيه الهزل؛ كذلك يمل الرقيق فيحتاج إلى الجزل. والله أستغفر مما شغل به الخاطر، وأتعب له الناظر، وصرف إليه الفكر، واستخدم فيه السر، مما غيره أعم فائدة، وأتم عائدة؛ فهو الرؤوف الرحيم، والجواد الكريم.

من ملح أشعب
قيل لأشعب الطماع: لقد لقيت التابعين وكثيراً من الصحابة، فهل رويت مع علو سنك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: نعم، حدثني عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خلتان لا تجتمعان في مؤمن. قيل: وما هما ؟ قال: نسيت واحدةً، ونسي عكرمة الأخرى.
وقيل له: كم كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر رطلاً.
وهذا كما قيل لطفيلي: كم اثنين في اثنين ؟ قال: أربعة أرغفة.
وسألته صديقة له خاتماً وقالت له: أذكرك به. قال: اذكري أنك سألتني فمنعتك.
وساوم بقوس بندق، فقال صاحبها: بدينار، فقال: والله لو كنت إذا رميت بها طائراً وقع مشوياً بين رغيفين ما اشتريتها بدينار.
وأهدى رجل من ولد عامر بن لؤي إلى إسماعيل الأعرج فالوذجة وأشعب حاضر فقال: كل يا أشعب، فأكل منها، فقال له: كيف تراها ؟ قال: الطلاق يلزمه إن لم تكن عملت قبل أن يوحي ربك إلى النحل، أي ليس فيها حلاوة.
وبأشعب هذا يضرب المثل في الطمع. قال الشاعر:
إني لأعجب من مطالك أعجب ... من طول تردادي إليك وتكذب
وتقول لي تأتي وتحلف كاذباً ... فأجيء من طمعٍ إليك وأذهب
فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلسٍ ... قالوا مسيلمة وهذا أشعب
وقيل له: أرأيت أطمع منك ؟ قال: نعم كلبة آل أبي فلان، رأت شخصاً يمضغ علكاً، فتبعته فرسخاً تظن أنه يرمي لها بشيء من الخبز.
ومر أشعب برجل يعمل طبقاً من الخيزران؛ فقال له: أريد أن تزيد فيه طوقاً أو طوقين. قال: فما فائدتك ؟ قال: لعل أحداً من أشراف المدينة يهدي لنا فيه شيئاً.
وكان أشعب يعشق امرأة بالمدينة ويتحدث فيها حتى عرف بها، فقال لها جاراتها: لو سألته شيئاً ؟ فأتاها يوماً فقالت: إن جاراتي يقلن ما يصلك بشيء. فخرج عنها ولم يقربها شهرين. ثم أتاها فأخرجت له قدحاً فيه ماء، فقالت له: اشرب هذا للفزع ! فقال: بل أنت اشربيه للطمع، ومضى فلم يعد إليها.
وأشعب هذا: هو أشعب بن جبير مولى عبد الله بن الزبير، وكان أحلى الناس مفاكهةً.
قال الزبير بن بكار: أهل المدينة يقولون: تغير كل شيء من الدنيا إلا ملح أشعب، وخبز أبي الغيث، ومشية برة. وكان أبو الغيث يعالج الخبز بالمدينة؛ وبرة بنت سعد بن الأسود؛ وكانت من أجمل النساء وأحسنهن مشية.
وكان أشعب قد نشأ في حجر عائشة بنت عثمان بن عفان رضي الله عنه مع أبي الزناد. قال أشعب: فلم يزل يعلو وأسفل حتى بلغنا الغاية.
قال: وأسلمته عائشة إلى من يعلمه البز؛ فسألته بعد سنة أين بلغت ؟ قال: نصف العمل وبقي نصفه، قالت له: كيف ؟ قال: تعلمت النشر وبقي الطي.
وكان أشعب أطيب الناس غناء، وأكثرهم ملحاً، ونسك في آخر عمره ومات على ذلك رحمه الله تعالى. وكان يوم قتل عثمان غلاماً يسقي الماء وبقي إلى خلافة المهدي.
وخرج سالم بن عبد الله متنزهاً إلى ناحية من نواحي المدينة ومعه أهله وحرمه، فبلغ أشعب الخبر، فوافاهم يريد التطفيل؛ فصادف الباب مغلقاً، فتسور الحائط عليهم. فقال له سالم: ويلك يا أشعب ! معي بناتي وحرمي ! فقال له أشعب: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق، وإنك لتعلم ما نريد. فضحك منه وأمر له بطعام أكله وحمل منه إلى منزله.
وكان يقول: ما أحسست قط بجار لي يطبخ قدراً إلا غسلت الغضار، وكسرت الخبز، وانتظرته يحمل إلي قدره.

وقال له بعض أصحابه: لو صرت إلي العشية نتحدث ؟ فقال: أخاف أن يجيء ثقيل، قال: ليس معنا ثالث فمضى معه. قال: فلما صلينا الظهر ودعونا بالطعام إذا بشخص يدق الباب، فقال أشعب: ترى أنا قد صرنا إلى ما نكره ؟ قال فقلت له: إنه صديق وفيه عشر خصال إن كرهت واحدةً منهن لم آذن له. قال: هات. قلت: الأولى أنه لا يأكل ولا يشرب، قال: التسع لك، إئذن له.
وهذا نظير حديث الغاضري وقد أتى الحسن بن زيد وهو أمير المدينة. فقال: جعلت فداك ! إني عصيت الله ورسوله، قال: بئس ما صنعت ! وكيف ذاك ؟ قال: لأن الله عز وجل يقول " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأةً. وأنا أطعت امرأتي فاشتريت غلاماً فأبق، فقال الحسن: اختر واحدةً من ثلاث؛ إن شئت ثمن الغلام، فقال: بأبي أنت ! قف عند هذه فلا تجاوزها. قال: أعرض عليك الخصلتين ؟ قال: لا، حسبي هذه.
وغاضبت مصعب بن الزبير زوجه عائشة بنت طلحة، فاشتد ذلك عليه وشكا أمره إلى خاصته. فقال له أشعب: فما لي إذا هي كلمتك ؟ قال: عشرة آلاف درهم؛ فأتى إليها فقال: يابنة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفضلي بكلام الأمير؛ فقد استشفع بي عندك، وأجزل لي العطية إن أنت كلمته. قالت: لا سبيل إلى ذلك يا أشعب؛ وانتهرته. فقال: جعلت فداك ! كلميه حتى أقبض عشرة آلاف درهم، ثم ارجعي إلى ما عودك الله من سوء الخلق، فضحكت فقامت فصالحته.

عبد الملك بن مروان وعمر بن بلال
والشيء يذكر بالشيء، أي بما قاربه. كان عبد الملك بن مروان محباً لعاتكة بنت يزيد بن معاوية؛ فغاضبته يوماً، وسدت الباب الذي بينها وبينه؛ فساءه ذلك وتعاضله، وشكا إلى من يأنس به من خاصته، فقال له عمر بن بلال الأسدي: إن أنا أرضيتها لك حتى ترى فما الثواب؟ قال: حكمك. فأتى إلى بابها، وقد مزق ثوبه وسوده؛ فاستأذن عليها وقال: أعلموها أن الأمر الذي جئت فيه عظيم. فأذنت له؛ فلما دخل رمى بنفسه وبكى. فقالت: ما لك يا عم ؟ قال: لي ولدان هما من الإحسان إلي في الغاية، وقد عدا أحدهما على أخيه فقتله، وفجعني به؛ فاحتسبته وقلت: يبقى لي ولد أتسلى به؛ فأخذه أمير المؤمنين وقال: لا بد من القود، وإلا فالناس يجترئون على القتل، وهو قاتله إلا أن يغيثني الله بك ! ففتحت الباب ودخلت على عبد الملك وأكبت على البساط تقبله وتقول: يا أمير المؤمنين؛ قد تعلم فضل عمر بن بلال، وقد عزمت على قتل ابنه؛ فشفعني فيه ؟ فقال عبد الملك: ما كنت بالذي أفعل؛ فأخذت في التضرع والخضوع حتى وعدها العفو عنه وصلح ما بينهما؛ فوفى لعمر بما وعده به.
إفهام من الفتى وفهم من المنصور
وعلى ذكر عاتكة بنت يزيد، قال المدائني: لما حج أبو جعفر المنصور قال للربيع: ابغني فتى من أهل المدينة أديباً ظريفاً عالماً بقديم ديارها، ورسوم آثارها فقد بعد عهدي بديار قومي، وأريد الوقوف عليها؛ فالتمس له الربيع فتىً من أعلم الناس بالمدينة، وأعرفهم بظريف الأخبار، وشريف الأشعار؛ فعجب المنصور منه؛ وكان يسايره أحسن مسايرة، ويحاضره أزين محاضرة، ولا يبتدئه بخطاب إلا على وجه الجواب؛ فإذا سأله أتى بأوضح دلالة، وأفصح مقالة؛ فأعجب به المنصور غاية الإعجاب، وقال للربيع: ادفع إليه عشرة آلاف درهم؛ وكان الفتى مملقاً مضطراً؛ فتشاغل الربيع عنه واضطرته الحاجة إلى الاقتضاء، فاجتاز مع المنصور بدار عاتكة؛ فقال: يا أمير المؤمنين؛ هذا بيت عاتكة بنت يزيد بن معاوية الذي يقول فيه الأحوص بن محمد:
يا بيت عاتكة الذي أتعزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكّل
فقال المنصور: ما هاج منه ما ليس هو طبعه: من أن يخبر بما لم يستخبر عنه، ويجيب بما لم يسأل عنه ؟ ثم أقبل يردد أبيات القصيدة في نفسه إلى أن بلغ إلى آخرها وهو:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل
فدعا بالربيع وقال له: هل دفعت للمدني ما أمرنا له به ؟ فقال: أخرته علة كذا يا أمير المؤمنين، قال: أضعفها له وعجلها.
وهذا أحسن إفهام من الفتى، وأدق فهم من المنصور، ولم أسمع في التعريض بألطف منه.

ولقول الأحوص هذا سبب ذكره عبد الله بن عبيدة بن عمار بن ياسر. قال: خرجت أنا والأحوص بن محمد مع عبد الله بن الحسن إلى الحج، فلما كنا بقديد قلنا لعبد الله بن الحسن: لو أرسلت إلى سليمان بن أبي دباكل الخزاعي، فأنشدنا من رقيق شعره ؟ فأرسل إليه، فأنشدنا قصيدةً له يقول فيها:
يا بيت خنساء الذي أتجنّب ... ذهب الزمان وحبّها لا يذهب
أصبحت أمنحت الصدود وإنما ... قسماً إليك مع الصدود لأجنب
ما لي أحنّ إذا جمالك قرّبت ... وأصدّ عنك وأنت مني أقرب
للّه درّك هل إليك معوّل ... لمتيّم أم هل لودّك مطلب ؟
فلقد رأيتك قبل ذاك وإنني ... لموكّل بهواك لو يتجنّب
إذ نحن في الزمن الرجيّ وأنتم ... متجاورون، كلاكما لا يرقب
تبكي الحمامة شجوها فتهيجني ... ويروح عازب همّي وتخصب
وأرى السميّة باسمكم فيزيدني ... شوقاً إليك سميّك المتقرب
وأرى العدو يودّكم فأودّه ... إن كان ينبىء عنك أو يتنسّب
وأحالف الواشين فيك تجمّلاً ... وهم عليّ ذوو ضغائن دوّب
ثم اتخذتهم عليّ وليجةً ... حتى غضبت ومثل ذلك يغضب
فلما كان من قابل حج أبو بكر بن عبد العزيز، فلما مر بالمدينة دخل عليه الأحوص بن محمد فاستصحبه ففعل. فلما خرج الأحوص قال له بعض من عنده: ما تريد بنفسك ؟ تقدم الشام بالأحوص وفيها من تبعك من بني أبيك وهو من السفه على ما علمت ! فلما رجع أبو بكر من الحج دخل عليه الأحوص منتجزاً ما وعده من الصحابة، فدعا له بمائة دينار وأثواب وقال: يا خال؛ إني نظرت فيما ضمنت لك من الصحابة، فكرهت أن أهجم بك على أمير المؤمنين. فقال الأحوص: لا حاجة لي بعطيتك، ولكني سعيت عندك، ثم خرج، فأرسل عمر بن عبد العزيز إلى الأحوص وهو أمير المدينة فلما دخل عليه أعطاه مائة دينار وكساه ثياباً، ثم قال له: يا خال؛ هب لي عرض أخي، قال: هو لك، ثم خرج الأحوص وهو يقول في عروض قصيدة سليمان بن أبي دباكل يمدح عمر:
يا بيت عاتكة الذي أتعزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكّل
هل عيشنا بك في زمانك راجعٌ ... فلقد تفاحش بعدك المتعلّل
أصبحت أمنحك الصدود وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميل
فصددت عنك وما صددت لبغضة ... أخشى مقالة كاشحٍ لا يغفل
وتجنّبي بيت الحبيب أزوره ... أرضي البغيض به حديثٌ معضل
إنّ الزمان وعيشنا ذاك الذي ... كنّا بلذّته نسرّ ونجذل
ذهبت بشاشته وأصبح ذكره ... أسفاً يعلّ به الفؤاد وينهل
حتى انتهى إلى قوله:
فسموت عن أخلاقهم وتركتهم ... لنداك، إنّ الحازم المتوكّل
ووعدتني في حاجتي فصدقتني ... ووفيت إذ كذبوا الحديث وبدّلوا
ولقد بدأت أريد ودّ معاشرٍ ... وعدوا مواعد أُخلفت إذ حصّلوا
حتى إذا رجع اليقين مطامعي ... يأساً وأخلفني الذين أؤمّل
زايلت ما صنعوا إليك برحلة ... عجلى وعندك عنهم المتحوّل
وأراك تفعل ما تقول، وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل
فقال عمر بن عبد العزيز: ما أراك أعفيتني مما استعفيك.
والأحوص وإن كان ممن أغار على قصيدة سليمان، فقد أربى عليه في الإحسان، وكان كما قال ابن المرزبان؛ وقد أنشد لابن المعتز قصيدته في مناقضة ابن طباطبا العلوي التي أولها:
دعوا الأُسد تكنس في غابها ... ولا تدخلوا بين أنيابها
قال: قد أخذه من قول بعض العباسيين:
دعوا الأسد تسكن أغيالها ... ولا تقربوها وأشبالها
أخذ ساجاً ورده عاجاً، وغل قطيفة، ورد ديباجاً.

طرف مستملحة
قال سذابة المغني لأبي العباس المبرد: صر إلي اليوم لنأنس بك. قال: أي شيء عندك آكل ؟ قال: أنت وأنا عليك. يريد لحماً مبرداً وعليه سذاب.

ولقي برد الخيار الكاتب أبا العباس المبرد على الجسر في يوم بارد. فقال: أنت المبرد، وأنا برد الخيار، واليوم بارد؛ اعبر بنا لئلا يصيب الناس الفالج.
وقال عون بن محمد: لقيت باذروجة المغني وسكباج الراقص بسر من رأى، فصحت: يا غلام، المائدة؛ فقد وافت الألوان، فضحكوا؛ وأقسم علينا باذروجة؛ فكنا يومنا عنده في أطيب عيش.

من طرف ابن جدار وشعره
وكان ابن جدار كاتب العباس بن أحمد بن طولون بارد المشاهدة، فعاد أبا حفص بن أبي أيوب ابن أخت الوزير، فوافاه وقد أصابته قشعريرة. فقال: ما تجد ؟ جعلت فداك ! قال: أجدك.
وكان أبو حفص أديباً شاعراً بليغاً ولهاً، وقد رأى ورداً قريباً من أقحوان فقال:
أرى أقحواناتٍ يطفن بناصعٍ ... من الورد مخضرّ النبات نضيد
يميّله ريح الصّبا فكأنه ... ثغور دنت شوقاً للثم خدود
وكان ابن جدار ينقل أخبار أبي حفص إلى العباس بن أحمد بن طولون، فصار إليه يوماً فقال: أعزك الله؛ إنما مجلس المدام حرمة أنس، ومسرح لبانة، ومذاد هم، ومرتع لهو، ومهد سرور؛ وإنما توسطته عند من لا يتهم غيبه، وقد بلغني ما تنهيه إلى أميرنا أبي الفضل من أخبار مجالسي. وأنشد:
ولقد قلت للأخلاّء يوماً ... قول ساعٍ بالنصح لو سمعوه
إنّما مجلس المدام بساطٌ ... للمودّات بينهم وضعوه
فإذا ما انتهوا إلى ما أرادوا ... من نعيمٍ ولذةٍ رفعوه
فاعتذر إليه وحلف أنه ما فعل، وقام عن مجلسه. وأنشد:
كم من أخٍ أوجست منه خيفة ... فأنست بعد وداده بفراقه
لم أحمد الأيّام منه خليقةً ... فتركته مستمتعاً بخلاقه
وكان ابن جدار قبل تعلقه بالعباس يتكسب بالشعر ويقنع باليسير، فصار إلى دار إسحاق بن دينار بن عبد الله وامتدحه، فلم يهب له شيئاً؛ فقال فيه:
عجب الناس أن مدحت ابن دينا ... ر فلم يجزني على مدحيه
قلت لا تعجبوا فما قدم اللّؤ ... م عجيباً منه ولا منه أخيه
إنّ ديناره أبوه، ومن جا ... د من الناس لامرىءٍ بأبيه ؟
وهو القائل في القلم:
وعاشقٍ تحت رواق الدجى ... أغرى به الحيرة فقدان
أهيف ممشوق بتحريكه ... يحلّ عقد السرّ إعلان
يحوك وشياً لم يحك مثله ... بلاغةٌ تحكى وبرهان
وربّما أحيا وأهدى الرّدى ... ففيه ماذيٌّ وخطبان
وفيه للناظر أٌعجوبة ... يكسو عراة وهو عريان
تجري به خمسٌ مطايا له ... مختلفات القدّ أقران
له لسانٌ مرهفٌ حدّه ... من ريقة الكرسف ريّان
في دقّة المعنى إذا أغرقت ... للقول في التدقيق أذهان
إذا احتسى كأساً كلون الدّجا ... حرّك منه الرأس نشوان
كأنّما ينثر من لفظه ... درٌّ وياقوتٌ ومرجان
ترى بسيط الفكر في نظمه ... شخصاً له حدٌّ وجثمان
كأنّما يسحب في إثره ... ذيلاً من الحكمة سحبان
لولا ما قام منار الهدى ... ولا سما بالملك ديوان
بين ابن مكرم وأبي العيناء
قدم محمد بن مكرم من الجبل؛ فقال له أبو العيناء: ما لك لم تهد إلينا شيئاً ؟ فقال: والله ما قدمت إلا في خف، قال: كذبت، ولو قدمت في خف خفت روحك. وأكثر عليه أبو العيناء من المهاترة، فقال: إن زدت علي قمت، قال: أراك تتهددنا بالعافية.
وكانا يشربان يوماً عند صديق لهما، فقال ابن مكرم لصاحب الدار: أقوم إلى الخلاء؛ فقال أبو العيناء: إذاً لا يعود إلينا منك شيء.
وولد لأبي العيناء مولود فأتاه ابن مكرم مهنئاً، فوضع بين يدي أبي العيناء حجراً وانصرف. فجسه أبو العيناء فوجده حجراً. فقال: من وضع هذا ؟ فقالوا: تركه ابن مكرم لما قدم، قال: لعنه الله؛ إنما عرض بقول النبي صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر.

وأتى محمد بن مكرم شاعر فقال: إني قد هجوتك بشعر ؟ فقال: قل، فوالله لئن أحسنت لأخلعن عليك خلعةً، فأنشده:
يا فتى مكرم تنحّ عن الفخ ... ر فما مكرمٌ وما دينار
لا تفاخر إذا فخرت بهذي ... ن فذا كودن وذاك حمار
فقال: أحسنت، ولكني أكسوك من ثيابنا، يا غلام، ارم عليه جلاً وبرذعةً.

عود إلى الطرف المتفرقة
دخل بعض أبناء الملوك على المبرد وعنده سلة حلوى قد أعدها لبعض إخوانه، فوجد ابنه الفرصة في اشتغال أبيه فأقبل يأكل منها. فنظر إليه المبرد فأنشده:
الناس في غفلاتهم ... ورحى المنيّة تطحن
ودخل أبو الحارث حمير على بعض الملوك فرأى بين يديه سلة حلوى. فقال: ما في هذا أيها الأمير ؟ قال: باذنجان. وكان أبو الحارث يكره الباذنجان كراهية شديدة.
وأصلح محمد بن يحيى بن خالد دعوةً، وأمر الطباخ أن يجعل الباذنجان في جميع الطعام، وحضر أبو الحارث فكلما قدم لون وهم بالأكل منعه ما يراه إلى أن ضاق فأقبل يأكل بدقة المائدة فعطش فقال: اسقوني ماءً لا باذنجان فيه.
ودخل على محمد بن يحيى وبين يديه مزورات وكان محمياً، فأكل معه وخرج من عنده، فلقيه بعض إخوانه، فغطى رأسه منهم واستخفى فقالوا: ما لك يا أبا الحارث ؟ قال: أكلت عند محمد بن يحيى بقولاً كثيرة. قالوا: فما تخاف ؟ قال: أخاف أن يمر المساح فيمسحني خضراء فلا يقبلوا مني مظلمةً.
وهذا كما حكي عن الحسين بن عبد السلام المصري المعروف بالجمل: أنه مر ببعض إخوانه بعقبة النجارين، وهو يعدو بأكثر مما يقدر عليه، فقال له: قف علي، فخاف أن تكون نزلت به نزلة، فأتاه إلى الدار فخرج مستخفياً. فقال: ما لك يا أبا عبد الله ؟ قال: أما علمت أن السخرة وقعت في الجمال ؟ فما يؤمنني أن يقال هذا الجمل، فأؤخذ فلا أتخلص إلا بشفاعة. وكان الجمل حلواً ظريفاً.
ابن المدبر يجيز بالصلاة
وكان أبو الحسن أحمد بن المدبر إذا مدحه شاعر فلم يحسن وكل به من يمضي معه إلى الجامع فلا يفارقه حتى يصلي مائة ركعةً؛ فتحاماه الشعراء، فأتاه الجمل فأنشده:
أردنا في أبي حسن مديحاً ... كما بالمدح تنتجع الولاة
فقلنا أكرم الثفلين طرّاً ... ومن كفّاه دجلة والفرات
فقالوا يقبل المدحات لكن ... جوائزه إلى الناس الصّلاة
فقلت لهم: وما تغني صلاتي ... عيالي ! إنّما الشأن الزكاة
فأمّا إذ أبى إلاّ صلاتي ... وعاقتني الهموم الشاغلات
فيأمر لي بكسر الصاد منها ... لعليّ أن تنشّطني الصّلات
فيصلح لي على هذي حياتي ... ويصلح لي على هذي الممات
فأمر له بمائة دينار.
وقيل له: من أين اهتديت إلى هذا ؟ قال: من قول أبي تمام:
هنّ الحمام فإن كسرت عيافةً ... من حائهنّ فإنّهن حمام
برمكي بخيل
وكان محمد بن يحيى البرمكي يبخل، ولم يكن بخيلاً إلا بالإضافة إلى أخويه الفضل وجعفر؛ وكان أبو الحارث حمير يكثر وصفه بذلك، فقيل له يوماً: كيف مائدة محمد ؟ فقال: أما خوانه فعدسة، وأما صحافه فمنقورة من خشب الخشخاش، وبين الرغيف والرغيف فترة. قيل: فمن يحضرها ؟ قال: أكرم الخلق وألأمهم يريد الملائكة عليهم السلام والذباب. وقد ذكر غير هذا والحكايات تختلف.
وقيل له: كيف كنت عنده ؟ قال: عليه الطلاق إن لم يكن أقام ثلاثة أيام وبطنه يظن أن رأسه قطع؛ لأنه لم يدخل إليه آثار طعام ولا شراب.
من مستجاد ما قيل في البخل
ومن مستجاد ما قيل في البخل مما جمع إلى الخلاعة براعة قول أبي نواس في إسماعيل بن نيبخت:
على خبز إسماعيل واقية البخل ... فقد حلّ في دار الأمان من الأكل
وما خبزه إلا كآوى يرى ابنها ... ولسنا نراها في الحزون ولا السّهل
وما خبزه إلاّ كالعنقاء مغرب ... تصوّر في بسط الملوك وفي المثل
يحدّث عنها الناس من غير رؤيةٍ ... سوى صورة ما إن تمر ولا تجلي
وما خبزه إلا كليب بن وائل ... لبالي يحمي عزّه منبت البقل
وإذ هو لا يستبّ خصمان عنده ... ولا الصوت مرفوع بجدٍّ ولا هزل

فإن خبز إسماعيل حلّ به الذي ... أصاب كليباً لم يكن ذاك عن ذلّ
ولكن قضاءٌ ليس يسطاع ردّه ... بحيلة ذي دهي ولا مكر ذي عقل
قال الجاحظ: وأبيات أبي نواس على أنه مولد شاطر أشعر من شعر المهلهل في إطراق المجلس بكليب أخيه إذ يقول:
نبّئت أنّ النار بعدك أوقدت ... واستبّ بعدك يا كليب المجلس
وتحدّثوا في أمر كلّ عظيمةٍ ... لو كنت حاضر أمرهم لم ينبسوا
وكان كليب إذا جلس في ناديه لم يرفع أحد طرفه، ولا ينطق بكلمة إجلالاً له.
وقال أبو نواس:
رأيت قدور الناس سوداً من الصّلى ... وقدر الرقاشيّين زهراء كالبدر
يضيق بحيزوم البعوضة صدرها ... ويخرج ما فيها على طرف الظفر
يبيّنها للمعتفي بفنائهم ... ثلاثٌ كخطّ الثاء من نقط الحبر
إذا ما تنادوا للرحيل سعى بها ... أمامهم الحوليّ من ولد الذّرّ
وهذا القدر ضد قدر القائل:
وبوّأت قدري موضعاً فوضعتها ... برابيةٍ ما بين ميثٍ وأجرع
جعلت لها هضب الرّجام وطخفةً ... وغولاً أثافيّ دونها لم تنزّع
بقدرٍ كأنّ الليل شحنة قعرها ... ترى الفيل فيها طافياً لم يقطّع
ويجب أن يأكل ما في هذا القدر من ذكر الفرزدق في قوله:
لعمرك ما الأرزاق حين اكتيالها ... بأكثر خيراً من خوان العذافر
ولو ضافه الدّجّال يلتمس القرى ... وحلّ على خبّازه بالعساكر
بعدّة يأجوج ومأجوج كلّهم ... لأشبعهم يوماً غداء عذافر

طرف مليحة
ودخل رجل على المتوكل فقال له: ما اسمك ؟ قال: قطان. قال: وما صناعتك ؟ قال: حمدان. قال: لعل اسمك حمدان وصناعتك قطان ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ولكني دهشت لهيبتك.
وقال رجل لآخر معه كلب: ما اسمك ؟ قال: وثاب. قال: وما اسم كلبك ؟ قال: عروة، قال: واخلافاه ! وقال ابن قادم: كنا نماشي ابن المغتاب القاضي، فمررنا بمقبرة، فإذا عليها مكتوب: بركة من الله صاحبها. وكنا في إملاك فإذا على منارة مكتوب: كل نفس ذائقة الموت. فقلت: هذه بتلك.
وممن وقع له هذا على الغلط فأحسن الاستدراك مطيع بن إياس الحارثي، فإنه دخل على الهادي في حياة المهدي وهو ولي عهد، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقيل له: مه ! فقال: بعد أمير المؤمنين.
يتعمدان المقلوب
وأما أبو العبر ومحمد بن حكيم الكنتجي فقد كانا يتعمدان المقلوب رقاعةً ومجانةً، وأبو العبر هو الذي كتب لبعض أصحابه: أما قبل فأحكم بنيانك على الرمل، واحبس الماء في الهواء، حتى يغرق الناس من العطش؛ فإنك إذا فعلت ذلك أمرت لك كل يوم بسبعة آلاف درهم ينقص كل درهم سبعة دوانيق.
وكتب يوم إلا تسعاً لخمس وأربعين ليلةً خلت من شهر ربيع الأوسط سنة عشرين إلا مائتين. وله مثل هذا كثير من منظوم ومنثور. وهو القائل:
الخوخ يعشق وكنة الرّمّان ... والطيلسان قرابة الخفّان
يا من رمى قلبي فعرقب أذنه ... فشممت منه حموضة الكتّان
وقال أبو العبر: كنا نختلف ونحن أحداث إلى رجل يعلمنا الهزل، فكان يقول: أول ما تريدون قلب الأشياء، فكنا نقول إذا أصبح: كيف أمسيت ؟ وإذا أمسى: كيف أصبحت ؟ وإذا قال: تعال نتأخر إلى خلف؛ وكانت له أرزاق تعمل كتابتها في كل سنة، فعمل مرة وأن معه الكتاب، فلما فرغ من التوقيع وبقي الختم. قال: أتربه وجئني به، فمضيت فصببت عليه الماء فبطل، فقال: ويحك ! ما صنعت ؟ قلت: ما نحن فيه طول النهار من قلب الأشياء ! قال: والله لا تصحبني بعد اليوم فأنت أستاذ الأستاذين.
وكان نقش خاتم أبي العبر توفي جحا يوم الأربعاء.
وتعرض للمتوكل والمتوكل مشرف على مظهر في قصره الجعفري وقد جعل في رجليه قلنسوتين وعلى رأسه خفاًن وقد جعل سراويله قميصاً، وقميصه سراويل، فقال: علي بهذا المثلة؛ فدخل عليه فقال: أنت شارب ؟ قال: ما أنا إلا عنفقة. قال: إني أضع الأدهم في رجليك وأنفيك في فارس، قال: ضع في رجلي الأشهب وانفني إلى راجل ! قال: أتراني في قتلك مأثوم؟ قال: بل ماء بصل يا أمير المؤمنين، فضحك ووصله.

وأبو العبر القائل في الجد:
ليس لي مال ولي كرمٌ ... فبه أقوى على عدمي
لا أقول اللّه يظلمني ... كيف أشكو غير متّهم
قنعت نفسي بما رزقت ... وتمشّت في العلا هممي
ولبست الصبر سابغةً ... فهي من فرقي إلى قدمي
فإذا ما الدهر عاتبني ... لم تجدني كافر النعم
وله في الرقيق:
رقّ حتى يكاد خدّك يجري ... رقةً والجفون ترنو بسحر
يا قليل الشبه مستظرف الشك ... ل بديع الجمال مغرىً بهجر
كفّ عني الصدود يا واحد الحس ... ن فقد عيل من صدودك صبري
وله أيضاً:
أبكي إذا غضبت حتى إذا رضيت ... بكيت عند الرضا خوفاً من الغضب
فالموت إن رضيت والموت إن غضبت ... أنّى يرجّى سلوٌّ، عشت في تعب
وهذا قريب من قول فضل الشاعرة، وقيل سعيد بن حميد:
ما كنت أيام كنت راضيةً ... عني بذاك الرضا بمغتبط
علماً بأنّ الرضا سيتبعه ... منك التجنّي وكثرة السّخط
فكلّ ما ساءني فعن خلقٍ ... منك وما سرّني فعن غلط
هذا البيت الأخير كقول أبي العيناء، وقد سأله المتوكل عن ميمون بن إبراهيم صاحب ديوان البريد وكان يبغضه فقال: يد تسرق، مثله مثل يهودي سرق نصف جزيته، فله إقدام بما أدى، وإحجام بما بقي، إساءته طبيعة، وإحسانه تكلف.

أبو محجن الثقفي وطرف من أدبه
ولما مات أبو محجن الثقفي وقف رجل على قبره، فقال: رحمك الله أبا محجن ! فوالله لقد كنت قليل المراء، جيد الغناء، غير نعاس، ولا عباس، ولا حابس للكاس.
واسم أبي محجن عروة بن حبيب، وكان فارساً شاعراً، وكان مشتهراً بالشراب كثيراً يقول فيه؛ فحده عمر رضي الله عنه مرات، ثم أخرجه إلى العراق، فشرب، فحده سعد بن أبي وقاص وسجنه في قصر العذيب، وكان سعد مريضاً في القصر، وأقام المسلمون في حرب القادسية أياماً، فوجهت الأعاجم قوماً إلى القصر ليأخذوا من فيه، فاحتال أبو محجن حتى ركب فرس سعد من غير علمه فخر فأوقع بهم؛ فرآه سعد، فلما انصرف بالظفر خلى سبيله. وقال: لا أضربك بعدها في الشرب، قال: فإني لا أذوقها أبداً.
ودخل ابن أبي محجن على معاوية فقال له: أبوك الذي يقول ؟
إذا متّ فادفنّي إلى جنب كرمةٍ ... تروّي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفننّي في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما متّ ألاّ أذوقها
فقال: يا أمير المؤمنين؛ لو شئت لذكرت من شعره ما هو أحسن من هذا وأنشد:
لا تسألي القوم عن مالي وكثرته ... وسائلي القوم عن بأسي وعن خلقي
القوم أعلم أني من سراتهم ... إذا تطيش يد الرّعديدة الفرق
أُعطى السنان غداة الروع حصّته ... وعامل الرمح أرويه من العلق
وأطعن الطعنة النّجلاء عن عرضٍ ... وأكتم السرّ فيه ضربة العنق
فقال: لئن كنا أسأنا المقال، لا نسيء الفعال؛ وأمر له بصلة.
الحجاج يضحك في جنازة رجل من أهل الشام
وقال ابن عائشة: مات رجل من أهل الشام، فحضر الحجاج جنازته، وكان عظيم القدر، وله عز وجاه؛ فصلى عليه وجلس على شفير قبره، وقال: لينزل قبره بعض إخوانه، فنزل نفر منهم، فقال أحدهم وهو يسوي التراب عليه : رحمك الله يا أبا فلان؛ فإن كنت ما علمت لتجيد الغناء، وتسرع رد الكأس، ولقد وقعت بموضع سوء لا تخرج منه إلا يوم الدكة.
قال: فما تمالك الحجاج أن ضحك، وكان لا يضحك في جد ولا في هزل، ثم قال للرجل: هذا موضع هذا الأمر. ويلك ؟ قال: أصلح الله الأمير، فرسي حبيس في سبيل الله لو سمعه الأمير يتغنى:
يا لبينى أوقدي النارا ... إنّ من تهوين قد جارا
ربّ نارٍ بتّ أرمقها ... تقضم الهنديّ والغارا
عندها ظبيٌ يؤججها ... عاقدٌ في الخصر زنّارا
وكان الميت يسمى سعنة. فقال: أخرجوه من القبر يا أهل الشام، ما أبين حجة أهل العراق في جهلكم ! وكان الميت أقبح خلق الله وجهاً، فلم يبق أحد ممن حضر إلا استغرق ضحكاً.
أهل الشام

وأهل الشام غاية في الجهل والغباوة. ودخل رجل من أهل العراق الشام في أيام عبد الملك في حوائج له، فحجب عنه، فدخل في غمار الناس، فقال عبد الملك لجلسائه: ما معنى قول الشاعر:
إذا ما المواشط باكرنها ... وأتبعن بالظّفر وحفاً طويلا
تخذن القرون فعقّلنها ... كعقل العسيف غرابيب ميلا
يصف شعر امرأة، والوحف: البشام، والعسيف: الأجير، والغرابيب الشديدة السواد؛ يريد عناقيد الكرم. وروي عراجين ميلاً فسكتوا عن آخرهم.
فقال العراقي لرجل من أهل الشام له بزة وهيئة: أرأيتك إن أخبرتك بمعناه وحصل لك الحظ عند أمير المؤمنين أتقربني منه حتى أسأله حاجتي ؟ قال: لك ذلك. قال: إنما يصف البطيخ، فوثب الشامي، وقال ذلك، فافتضح وانقلب المجلس ضحكاً. فقال له عبد الملك: من أين لك هذا العلم ؟ قال: هذا العراقي ابن اللخناء قال لي ذلك. فقال عبد الملك: ما أدخلك ؟ أذكر حاجتك ؟ فذكرها فقضاها له وقال: أخرج من الشام لا تفسدها علي بمجاورتك.

مما جمع التصرف في الإحسان
ومما جمع التصرف في الإحسان وبديع الافتنان، قول مسلم بن الوليد الأنصاري:
أجدّك ما تدرين أن ربّ ليلةٍ ... كأنّ دجاها من قرونك ينشر
نصبت لها حتى تجلّت بغرّةٍ ... كغرّة يحيى حين يذكر جعفر
يريد يحيى بن خالد بن برمك وجعفراً ابنه. وقال ابن المعتز:
سقتني في ليلٍ شبيهٍ بشعرها ... شبيهة خدّيها بغير رقيب
فأمسيت في ليلين بالشّعر والدّجى ... وشمسين من خمرٍ وخدّ حبيب
وقال أبو الطيب:
نشرت ثلاث ذوائبٍ من شعرها ... في ليلةٍ فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقتٍ معا
من أعجب ما قيل في وصف الشعر
ومن أعجب ما قيل في وصف الشعر ما جمع فيه وصف سواده وتمامه، وأتى بالتشبيه الواقع، والوصف الرائع؛ قول أبي الحسن علي بن العباس الرومي:
وفاحمٍ وارد يقبّل مم ... شاه إذا اختال مسبلاً غدره
أقبل كاللّيل من مفارقه ... منحدراً لا يذمّ منحدره
حتى تناهى إلى مواطئه ... يلثم من كلّ موطىءٍ عفره
كأنّه عاشقٌ دنا شغفاً ... حتّى قضى من حبيبه وطره
يغشى غواشي قرونه قدماً ... بيضاء للناظرين مقتدره
مثل الثرّيا إذا بدت سحراً ... بعد غمامٍ وحاسرٍ حسره
وقد أخذه منه بعض أهل العصر وهو محمد بن مطران فقاربه في الإحسان:
ظباءٌ أعارتها المها حسن مشيها ... كما قد أعارتها العيون الجآذر
فمن حسن ذاك المشي جاءت فقبّلت ... مواطىء من أقدامهنّ الضفائر
بنو أمية وأهل العراق
وكان بنو أمية يكرهون أهل العراق لفطنتهم ورقتهم؛ إذ سياسة الأغبياء أسهل عليهم؛ فقد قال الإسكندر لأرسطا طاليس: قد أعياني أهل العراق، ما أجري عليهم حيلةً إلا وجدتهم قد سبقوني إلى الخلاص، فتخلصوا قبل إيقاعها بهم؛ وقد عزمت على قتلهم عن آخرهم. فقال: إذا قتلتهم فهل تقدر على قتل الهواء الذي غذى طباعهم وخصهم بهذا الذكاء ؟ فإن ماتوا ظهر في موضعهم من يشاكلهم. فقال: ما الرأي ؟ قال: من كان فيه هذا العقل كانت فيه أنفة وحمية وشراسة خلق، وقلة رضاً بالضيم؛ فاقسمها طوائف، وول على كل طائفة أميراً، فإنهم يختلفون، فإذا اختلفوا فلت شوكتهم فغفلوا. فأقاموا مختلفين أربعمائة عام حتى جمعهم أردشير بن بابك وقال: إن كلمةً فرقت بيننا أربعمائة سنة لمشؤومة.
إياس بن معاوية أمام القاضي
ودخل إياس بن معاوية بن قرة الشام وهو صغير؛ فخاصم شيخاً إلى القاضي وأقبل يصول عليه، فقال القاضي: اسكت يا صبي. فقال: فمن ينطق بحجتي ؟ قال: إنه شيخ كبير، قال: إن الحق أكبر منه. قال القاضي: ما أراك تقول حقاً؛ فقال: لا إله إلا الله. فركب القاضي من وقته إلى عبد الملك فأخبره فقال: عجل بقضاء حاجته وأخرجه من الشام لئلا يفسدها.
وبإياس يضرب المثل في الذكاء قال الطائي:
إقدام عمروٍ في سماحة حاتمٍ ... في حلم أحنفي في ذكاء إياس
أحزم الملوك

خرج بعض ملوك الفرس متنزهاً، فلقيه بعض الحكماء فسأله عن أحزم الملوك ؟ فقال: من ملك جده وهزله، وقهر لبه هواه، وأعرب لسانه عن ضميره، ولم يختدعه رضاه عن سخطه، ولا غضبه عن صدقه. فقال الملك: لا، بل أحزم الملوك من إذا جاع أكل، وإذا عطش شرب، وإذا تعب استراح. فقال له: أيها الملك؛ قد أجدت الفطنة، أهذا لك علم مستفاد أم غريزي ؟ قال: كان لي معلم من حكماء الهند، وكان هذا نقش خاتمه. قال: فهل علمك غير هذا ؟ قال: ومن أين يوجد هذا عند رجل واحد. ثم قال الملك: علمني من حكمتك أيها الحكيم. قال: نعم ! احفظ عني ثلاث كلمات؛ قال: صدقت، فهات، قال: صقلك لسيف ليس له جوهر من طبعه خطأ، وبذرك الحب في الأرض السبخة ترجو نباته جهل، وحملك الصعب السير على الرياضة عناء. ومن هنا أخذ أبو تمام قوله:
في دولة غرّاء معتصميّة ... ميمونة الإدبار والإقبال
فتعمّق الوزراء يطفو فوقها ... طفو القذى وتعقّب العذّال
والسيف ما لم يلف فيه صقلٌ ... من طبعه لم ينتفع بصقال

من نوادر الملوك والعمال والقضاة
وكان القلهمان أحد حكماء الهند وفيلسوف أطبائهم وترجمان علومهم، وكان ترجمان ملك من ملوكهم يقال له ياكهثر بن شبرام، وكان ركيكاً إلا أنه من أهل بيت المملكة، فقال يوماً للقلهمان: ما العلم الأكبر ؟ قال: معرفة الطب. قال: فإني أعلم من الطب أكثره. قال: فما دواء المبرسم أيها الملك ؟ قال: الموت حتى تقل حرارة صدره ثم يعالج بعد بالأدوية الباردة. قال القلهمان: أيها الملك، من يحييه بعد الموت ؟ قال: ليس هذا من الطب. هذا علم آخر يوجد في كتاب النجوم. ولم أنظر في شيء منه إلا في باب الحياة، فإني وجدتها خيراً للإنسان من الموت. قال القلهمان: أيها الملك، على كل حال خير للجاهل. قال: لو نظر الجاهل في باب الموت لعلم أني قلت الحق.
وسألت أبو عون رجلاً عن مسألة فقال: على الخبير سقطت، سألت عنها أبي فقال: سألت أبي فقال: لا أدري.
قال أزهر: استعدت امرأة على زوجها عند ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك وهو قاض فادعت مهرها ألف درهم، فقال: ألك بينة ؟ قالت: لا، قال: أفأحلفه لك ؟ قالت: إنه فاجر يحلف؛ ولكن ابعث إلى إسحاق بن سويد الفقيه فسله أن يحلف لي عنه. قال فأرسل إلى إسحاق بن سويد فلما حضر. قال له: احلف لهذه المرأة ما لها على زوجها ألف درهم ؟ قال إسحاق: ما أنا وهذا ! قال: فيبطل حق هذه المرأة ؟ لتحلفن لها أو لأحبسنك، فلم يحلف فحبسه. فأتاه ابن سيرين فقال: لا ألومك على حبسك إسحاق، ولكن لم وليت القضاء ؟ قال: أكرهني عليه السلطان. قال: كنت تعلمه أنك لا تحسنه. قال: كنت أنا أكذب ؟ وكان نصر بن مقبل بن الوزير على الرقة عاملاً لهارون الرشيد، فأخذ بعض أصحابه رجلاً ينكح شاة، وأجمعوا الذهاب به إلى نصر، وكان الرجل ظريفاً فقال: يا قوم؛ إنها والله ملك يميني. فضحوا منه وخلوا سبيله، وذهبوا بالشاة إلى نصر؛ فأمر أن تضرب الحد، فإن ماتت تصلب، قالوا: إنها بهيمة ؟ قال: وإن كانت بهيمة؛ فإن الحدود لا تعطل، وإن عطلتها فبئس الوالي أنا.
فانتهى حديثه إلى الرشيد ولم يكن رآه، وكان نبيل القد، حسن المنظر، جليل القدر؛ فدعا به فوقف بين يديه، فقال: من أنت ؟ قال: مولى لبني الكلب يا أمير المؤمنين، فضحك. ثم قال: كيف بصرك في الحكم ؟ قال: البهائم يا أمير المؤمنين والناس عندي سواء، ولو وجب الحكم على بهيمة وكانت أمي أم أختي لحددتها، ولم تأخذني في الله لومة لائم. فأمر هارون ألا يستعمل، فلم يزل معطلاً حتى ولي المأمون، فرفع يسأله الاستعانة به، فولاه طبرناباذ، وأمره أن يكون على العصير بها، فلم يزل على ذلك حتى مات.
وكان مقاتل بن حسان على قضاء البصرة، فسأله رجل عن مسألة. فقال: لا أعرف الجواب، فقال: أنت قاض ولا تحسن المسألة ؟ قال: نعم ! لأن الثور أعظم من الحمار ولا يحسن أن يركض ركض الحمار. قال: أيها القاضي؛ فهذا مثلك ؟ قال: بل هذا مثلي ومثلك. قال: فأيهما أنت ؟ قال: أنبلهما وأعظمهما يعني الثور.
حسن مظهر وسوء مخبر

قال أبو الهذيل العلاف: كان يختلف إلي فتىً من أهل الموصل حسن السمت، نير الوجه، تقي الثياب؛ فكان يصمت في المجلس، وإذا أتاه النهوض قال: أستغفر الله لي وللمتكلم، ثم يمضي. قال: فنبل في عيني، ولاط بقلبي، وحلا في صدري؛ فذكرت قول الحكيم في كتاب جاودان خرد: يحرم على السامع تكذيب القائل إلا في ثلاث هن غير الحق؛ صبر الجاهل على مضض المصيبة، وعاقل أبغض من أحسن إليه، وحماة أحبت كنة.
فقال الفتى: لولا حفظي لنظير هذه الكلمات وسماعهن من ثقة ! فاشرأببنا إليه وقلنا: ماذا ذاك ؟ يرحمك الله ! وظننا أنه سيأتي بأحسن منهن. فقال: حدثني أبي عن جدي أنه قرأ في بعض كتب الحكماء: ليس الجائع كالشبعان، ولا المكسي كالعريان، ولا النائم كاليقظان.
فطأطأت رأسي، وجعل أصحابي ينظرون إلي وإليه، وكرهت أن أسأله عن شيء بعد هذا. فقال له بعضهم: من أنت يا فتى ؟ قال: من فوق الأرض ومن تحت السماء. قال: فمن العرب أم من الموالي ؟ قال: من أوسطهما، قال: فما الاسم ؟ قال: لجام، قال: فما الكنية ؟ قال أبو السراج، قال: فما بالك لا تنهض ؟ فوالله ما أنت إلا حمار، فوثب قائماً. وقال: ليس البحث منكم، ولكن مني حيث أجلس إلى أمثالكم ولا تعرفون ما طحاها.

من كتب الفرس
وكتاب جاودان خرد من أجل كتب الفرس، وكان سببه على ما ذكر الجاحظ أن بعض الأكاسرة كان زاهداً في كتب الأدب، راغباً في التكبر عن النظر فيهما، والتعظم عن الاشتغال بشيء منها، وكان له وزير يقال له كنجور بن أسفنديار، فصنع ترجمة لكتاب لم يعلمها أحد، وجعلها في ورقة، وألقاها إلى الملك وكانت الترجمة: هذا كتاب تصفية الأذهان، ونقاء الفكر، وسراج القلوب، من كتاب واضح عمود الحكمة.
فلما نظر الملك إلى هذه الترجمة شغفه حسنها، فقال لكنجور: لقد غلبت هذه الترجمة على هواي، وقادت عزمي، وبعثت رأيي على هذا الكتاب؛ فسل عنه سؤالاً حفياً يرجع بجلية الخبر، وابعث الحكماء الأدلاء، على تفتيش منازل الحكماء، فإن وجدته في شيء من مملكتي، كنت أولى الناس باصطناع صاحبه، وإن وصف أنه في شيء من أقاليم الهند، كتبت إلى ملك ذلك الإقليم، وسألته المن علي بدفع نسخة منه، وكافأته بهدية مكافأة مثلي على وجود طلبته.
فقال كنجور: أيها الملك، لست أفزع باستفراغ مجهودي والله المعين. وصار إلى منزله ولم يخرج منه حتى صنع كتابه المعروف بجاودان خرد.
قال الجاحظ: حدثني الواقدي قال: قال الفضل بن سهل: لما دعي للمأمون بكور خراسان بالخلافة جاءتنا هدايا الملوك سروراً بمكانه من الخلافة، ووجه ملك كابلستان شيخاً يقال له ذوبان، وكتب يذكر أنه وجه بهدية ليس في الأرض أسنى ولا أرفع ولا أنبل ولا أفخر منها. فعجب المأمون وقال: سل الشيخ ما معه من الهدية ؟ فقال: ما معي شيء أكثر من علمي، فقلت: وأي شيء علمك ؟ قال: رأي ينفع، وتدبير يقطع، وجلالة تجمع. فسر المأمون به وأمر بإنزاله وإكرامه وكتمان أمره؛ فلما أجمع على التوجه إلى العراق لقتال محمد الأمين أخيه دعا بذوبان، فقال: ما ترى في التوجه إلى العراق ؟ قال: رأي دقيق، وحزم مصيب، وملك حريب، والسبب ماض، فاقض ما أنت قاض. قال: فمن نوجه ؟ قال: الفتى الأعور، الطاهر الأطهر، الظاهر الأظهر، يستر ولا يفتر؛ قوي مرهوب، مقاتل غير مغلوب.
قال: فمن نوجه معه من الجند ؟ قال: أربعة آلاف، صوارم الأسياف، لا ينقصن في العدد، ولا يحتجن إلى مدد. قال: فما رأيت المأمون سر كسروره ذلك اليوم.
فوجه بطاهر؛ فلما تهيأ له الخروج سأل ذوبان: في أي وقت يخرج من النهار ؟ قال: مع طلوع الفجر يجمع لك الأمر، وتصير إلى النصر.
فخرج في ذلك الوقت، فلما كتب بذكر مقدمه الري دعا المأمون بذوبان فقال: قد قرب صاحبنا من العدو وقربوا منه، فما عندك دلالة أبو بينة تكون لنا أو علينا ؟ قال: قد تعرفت شانه، إذ أتى فسطاطه، كان نصر سريع، وقتل ذريع، وتفرقت تلك الجموع، والنصر له لا عليه، ثم يرجع الأمر إليك وإليه.

فكتب المأمون بذلك إلى طاهر ليقوي عزمه، فلما كتب بقتله علي بن عيسى ابن ماهان واستيلائه على عسكره وأمواله، وخبر ما أولى الله المأمون في أوليائه؛ من النصر والظفر بأعدائه، دعا ذوبان وأمر له بمائة ألف درهم فلم يقبلها. وقال: أيها الملك؛ إن ملكي لم يوجهني إليك هدية لينقصك مالك؛ فلا تجعل ردي نعمتك سخطاً؛ فليس عن استخفافٍ بقدرها؛ وسوف أقبل ما يفي بهذا المال ويزيد، وهو كتاب يوجد في العراق فيه مكارم الأخلاق، وعلوم الآفاق، وهو كتاب عظيم للفرس، فيه شفاء النفس، به من صنوف الآداب، ما لا يوجد في كتاب، عند عاقل لبيب، ولا فطن أريب، يوجد في خزائن، عند الإيوان بالمدائن.
فلما قدم المأمون بغداد، واستقر بها ملكه اقتضاه ذوبان حاجته، وأمر أن تكتب القصة والموضع الذي يشير إليه، فكتب: سر إلى وسط الإيوان، من غير زيادة ولا نقصان، واجعل القسمة بالذرعان، ثم احفر المدر، فاقلع الحجر؛ فإذا وصلت إلى الساجة، فاقتلعها تجد الحاجة، فخذها ولا تعرض لغيرها، فيلزمك غب ضيرها.
فوجه المأمون في ذلك رسولاً حصيفاً، فسار إلى الموضع، ففعل ما قيل له؛ فوجد صندوقاً صغيراً من زجاج أسود عليه قفل منه، فحمله ورد الحفرة إلى حالها الأول.
قال عمرو بن بحر: فحدثني الحسن بن سهل قال: إني لعند المأمون إذ وصل ذلك الصندوق، فجعل يتعجب منه، ثم دعا بذوبان فقال له: هذه بغيتك ؟ قال: نعم ! أيها الملك، لست ممن تنقض رغبته ذمام عهده، ولا يحل طمعه عقدة وفائه، ثم تكلم بلسانه، ونفخ في القفل فانفتح، فأدخل يده وأخرج منه خرقة ديباج فنشرها فسقط منها أوراق، فرد الأوراق في الخرقة ونهض. ثم قال: أيها الملك، هذا الصندوق يصلح لرفيع خبيات خزائنك، فأمر به فرفع.
قال الحسن بن سهيل: فقلت: ترى يا أمير المؤمنين أن أسأله ما في هذا الكتاب ؟ قال: يا حسن، أفر من اللؤم ثم أرجع إليه ؟ أمرته ألا يفتحه بين يدي قطعاً للطمع فيه، وصمتةً بالمسألة عنه، وتحرياً للرغبة فيه، والله لا كان هذا أبداً.
فلما خرج صرت إلى منزله فسألته عنه مسألة راغب فيه، فقال: هذا كتاب جاودان خرد تأليف كنجور ملك سبراشهرا، فقلت: أعطني ورقةً منه أنظر فيها. فأعطاني فوقعت عليها عيني. وأسرجت لها ذهني، وأجلت فيها فكري؛ فلم أزدد منه إلا بعداً؛ فدعوت بالخضر بن علي، وذلك في صدر النهار، فلم ينتصف حتى فرغ من قراءتها بينه وبين نفسه؛ ثم جعل يفسرها وأنا أكتب، ثم رددت الورقة وأخذت منه نحو ثلاثين ورقة، فدخلت عليه يوماً فقلت: يا ذوبان؛ يكون في الدنيا من يحسن مثل هذا الكتاب ؟ قال: يجوز أن يكون فيها من يحسن ترجمة هذا الكتاب، ولا يجوز أن يكون فيها من يحسن مثل هذا الكتاب. قلت: فهل تعرف من يترجمه ؟ قال: نعم، وأصفه لك، هو طوال أنزع، إن تكلم تتعتع، يفوق أهل زمانه، بما يكون من شأنه، اسمه خضير، يقوم بأمر خطر، لو كان له عمر، ولولا أن العلم سبيل الدنيا والآخرة، وهو الكرامة الفاخرة، ومن معرفة قدره الضن به، لرأيت أن أدفعه إليك بتمامه، ولكن لا سبيل إلى أكثر مما أخذت.
ولم تكن الأوراق التي أخذتها على التأليف؛ لأنا أصبنا ورقة فيها علامات فيها الكنوز، وآخر الورقة مكتوب: دليل هذا الباب في الورقة التي تليها؛ ولم نجد غير هذا بتاً؛ غير أنا وجدنا أبواباً من الحكمة تشهد لها القلوب بحقيقة الصحة، وتحلف طيها الألسن بغاية النهاية.
هذا من كلام الحسن بن سهل كقول أبي تمام يصف شعره:
ومحلفةٍ لمّا ترد أُذن سامعٍ ... فتصدر إلاّ عن يمينٍ وشاهد

قال الجاحظ: وحدثني الحسن بن سهل قال: قال لي المأمون: أي كتب العرب أنبل ؟ قال قلت المبتدأ ؟ قال: لا. قلت: فالتاريخ ؟ قال: لا، فسكت، فقال: تفسير القرآن، لأنه لا شبه له، وتفسيره لا شبه له. ثم قال: أي كتب العجم أنبل ؟ فاستعرضتها فقلت: هذا كتاب ذوبان، وقد كتبت بعضه، فقال: إيتني به معجلاً. فوجهت في حمله، فوافاني الرسول وقد نهض يريد الصلاة. فقال: فلما رآني مقبلاً والكتاب معي انحرف عن القبلة، وأخذ الكتاب وجعل ينظر فيه، فإذا فرغ من باب قال: لا إله إلا الله، فلما طال ذلك عليه قعد وجعل يقرأ؛ فقلت: الصلاة تفوت وهذا لا يفوت. قال: صدقت غير أني أخاف السهو في الصلاة لاشتغال قلبي بلذيذ ما في هذا الكتاب، وما أجد للسهو حائلاً غير ذكر الموت فجعل يقرأ: " إنك ميت وإنهم ميتون " . ثم وضع الكتاب. وقام فكبر؛ فلما فرغ من صلاته نظر فيه حتى أتى على آخره. ثم قال: أين تمامه ؟ قلت: عند ذوبان لم يدفعه إلي. فقال: لولا أن العهد حبل أحد طرفيه بيد الله والآخر بأيدينا لأخذته منه، فهذا والله الكلام، لا ما نحن فيه من لي ألسنتنا في فجوات أشداقنا.

من الحكم
قال الحسن بن سهل: قرأت في هذا الكتاب: ثلاث لا يصلح فسادهن بشيء من الحيل: العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء، والركاكة في العقول. وثلاث لا يستفسد صلاحهن بنوع من المكر: العبادة في العلماء، والقنوع في المستبصرين، والسخاء في ذوي الأخطار. وثلاث لا يشبع منهن: الحياة، والعافية، والمال. وثلاث تبطل مع ثلاث: الشدة مع الحيلة، والعجلة مع التأني، والإسراف مع القصد.
وهذا كما قال الخضر بن علي: رأيت بعدن حجراً مكتوباً عليه بالحميرية: يأيها الشديد؛ احذر الحيلة، ويأيها العجول؛ احذر التأني، ويأيها المحارب؛ لا تأمن من التفكر في العاقبة، ويأيها الرائد موجوداً لا تقطع أملك عن بلوغ مثله.
أما قوله للمحارب، فقد قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: من فكر في العواقب لم يشجع.
شجاعة وحسن بلاء
وقال سعد بن ناشب الغنوي:
عليكم بداري فاهدموها فإنّها ... تراث كريم لا يخاف العواقبا
إذا همّ ألقى بين عينيه همّه ... ونكّب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلاّ قائم السيف صاحبا
وقد قال معاوية رضي الله عنه: هممت مرات كثيرةً بصفين أن أخيس فلم يردني إلا أبيات ابن الإطنابة:
أبت لي عفّتي وأبى بلائي ... وأخذي المجد بالثمن الربيح
وقولي كلّما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
وإقدامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
لأدفع من مآثر صالحاتٍ ... وأمنع بعد عن نسبٍ صريح
وابن الإطنابة هو عمرو بن عامر بن زيد مناة بن مالك بن الأغر الخزرجي، وهو فارس مشهور معروف، والإطنابة أمه.
وقد أحسن قطري بن الفجاءة في هذا المعنى حيث قال:
وقولي كلّما جاشت لنفسي ... من الأعداء ويحك لا تراعي
فإنك لو سألت مزيد يومٍ ... أبى الأجل المقدّر أن تطاعي
وقال بعض الغزاة: فتحنا حصناً من بلاد الروم، فرأينا فيه صورة أسد من حجر عليه مكتوب: الحيلة خير من الشدة، والتأني أفضل من العجلة، والجهل في الحرب أحزم من العقل، والتفكر في العاقبة من أمارة الجزع.
ووجه ملك الروم إلى الرشيد بثلاثة أسياف مع هدايا كثيرة، على سيف منها مكتوب: أيها المقاتل؛ احمل تغنم، ولا تفكر في العاقبة تهزم. وعلى الثاني: التأني فيما لا تخاف عليه الفوت، أفضل من العجلة إلى إدراك الأمل. وعلى الآخر: إن لم تصل ضربة سيفك، فصلها بإلقاء خوفك.
وهذا كقول كعب بن مالك الأنصاري:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدماً ونحلقها إذا لم تلحق
وكقول نهشل بن حري:
إذا الكماة تأبّوا أن ينالهم ... حدّ السيوف وصلناها بأيدينا
وأعطى بعض الأمراء سيفاً لرجل فقال له: صله بخطواتك. فقال له: الصبر أقرب من تلك الخطوة.
وأعطى آخر لرجل سيفاً فسأله بدله، وقال: هو غير ماض. قال: خذه، فالسيوف مأمورة، قال: فهذا أمر ألا يقطع.

وانهزم رجل، فدخل على أميره فشتمه وقال: أعطيت بيدك وهربت، ولم توغل ولا صبرت ! فقال: لئن تشتمني أصلحك الله وأنا حي خير من أن تترحم علي وأنا ميت.
وقيل لأعرابي: اخرج إلى الغزو ! فقال: أنا والله أكره الموت على فراشي، فكيف أمشي إليه ركضاً ؟!.
أخذ هذا المعنى أحمد بن أبي فنن فقال مستطرداً يمدح أبا دلف القاسم بن عيسى العجلي والاستطراد أن يريك الفارس أنه ولى، وإنما ولى لتتبعه فيكر عليك كذلك الشاعر يريك أنه يصف شيئاً، ثم يعن له معنىً فيأتي به، وكأنه ليس من قصده ولم يقصد غيره:
ما لي وما لك قد كلّفتني شططاً ... حمل السلاح وقول الدارعين قف
أمن رجال المنايا خلتني رجلاً ... أُمسي وأُصبح مشتاقاً إلى التلف
أرى المنايا على غيري فأكرهها ... فكيف أمشي إليها بارز الكتف ؟
أخلت أنّ سواد الليل غيّرني ... أو أنّ قلبي في جنبي أبي دلف ؟
لأنه كان شديد السواد.
ولما دخل على المعتز قال: هذا الشاعر الأسود ؟ قال: لا يضره سواده، أعزكم الله تعالى؛ فإن بيض أباديكم عنده.
وقال المنصور لبعض الخوارج وقد أتي به أسيرا : أخبرني أي أصحابي كان أشد إقداماً في مبارزتكم ؟ فقال: ما أعرف وجوههم مقبلين، وإنما أعرف أقفاءهم؛ فمرهم أن يدبروا لأعرفك أشدهم إدباراً.
أخذه ابن الرومي فقال في سليمان بن عبد الله بن طاهر وكان قد خرج في بعض الوجوه فهزم:
قرن سليمان قد أضرّ به ... شوقٌ إلى وجهه سيدنفه
أعرض عن قرنه وفرّ فما ... أصبح شيءٌ عليه يعطفه
كم يعد القرن باللقاء وكم ... يكذب في وعده ويخلفه
لا يعرف القرن وجهه ويرى ... قفاه من فرسخٍ فيعرفه
وله في هذا المعنى أهاج كثيرة فمن ظريفها:
سليمان ميمون النقيبة حازم ... ولكنّه حتمٌ عليه الهزائم
ألا عوّذوه من توالي فتوحه ... عسى أن تردّ العين عنه التمائم
وقال:
جاء سليمان بني طاهر ... فاجتاح معتزّ بني المعتصم
كأنّ بغداد لدن أبصرت ... طلعته نائحةٌ تلتدم
مستقبل منه ومستدبر ... وجه بخيلٌ وقفاً منهزم

من ملح أبي دلامة
وقال روح بن حاتم لأبي دلامة: اخرج معي وهذه عشرة آلاف درهم. فقال:
إني أعوذ بروحٍ أن يقرّبني ... إلى الحمام فتشقى بي بنو أسد
إنّ المهلّب حبّ الموت أورثكم ... وما ورثت اختيار الموت من أحد
وكان أبو دلامة شاعراً فصيحاً، وماجناً مليحاً، واسمه زند بن الجون الأزدي.
ودخل على أبي جعفر المنصور فأنشده وذكر زوجته:
فاخرنطمت ثم قالت وهي مغضبةٌ ... أأنت تتلو كتاب اللّه يالكع ؟!
قم كي تبيع لنا نخلاً ومزدرعاً ... كما لجارتنا نخلٌ ومزدرع
خادع خليفتنا عنها بمسألةٍ ... إنّ الخليفة للسؤّال ينخدع
قال: قد أمرنا لك بمائة جريب عامر، ومائة جريب غامر. فقال: وما الغامر يا أمير المؤمنين ؟ قال: الذي لا ينبت، قال: فإني أقطعك عشرة آلاف جريب من فيافي بني أسد. فضحك وأمر له بالجميع عامراً، فقال: إئذن لي في تقبيل يدك يا أمير المؤمنين ؟ فقال: أما هذه فدعها، فقال: ما منعت عيالي شيئاً أسهل عليهم من هذه.
ودخل أبو دلامة يوماً على أبي جعفر المنصور فأنشده:
إنّي رأيتك في المنا ... م وأنت تعطيني خياره
مملوءةً بدراهم ... وعليك تأويل العباره
فقال له المنصور: امض فأتني بخيارة أملؤها لك دراهم. فمضى فأتى بأعظم دباءة توجد. ما هذا ؟ قال: يلزمني الطلاق إن كنت رأيت إلا دباءة، ولكني نسيت، فلما رأيت الدباءة في السوق ذكرتها.
وهذا إنما أخذه من ابن عبدل الأسدي، وقد دخل على بعض بني مروان، فقال: تأذن لي أصلحك الله أن أقص عليك رؤيا رأيتها ؟ فقال: هات؛ فأنشد:
أغفيت قبل الصبح نوم مسهّدٍ ... في ليلةٍ ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنّك رعتني بوليدةٍ ... فتذانةٍ حسن عليّ قيامها

وببدرةٍ حملت إليّ وبغلةٍ ... دهماء ناجيةٍ يصلّ لجامها
فدعوت ربي أن يثيبك جنّةً ... عوضاً يصيبك بردها وسلامها
فقال: عندي كل شيء إلا البغلة فإنها عندنا شهباء. فقال: امرأتي طالق إن كنت رأيتها إلا شهباء، ولكني غلطت.
ولابن عدل ظريفة مع بشر بن مروان: وذلك أنه كان متصلاً به، منقطعاً إليه، فأغفله، فغاب عنه أياماً ثم أتاه فقال: أين غبت، فقد طلبتك فلم أقدر عليك ؟ قال: خرجت أيها الأمير إلى البادية أطلب التزوج بابنة عم لي أيم فقالت: لي أموال متفرقة على الناس، وأنا امرأة لا قيم لي، فاقتضها لي وأنا أتزوجك؛ فاقتضيت لها جميع أموالها، فلما فرغت كتبت إلي:
سيخطئك الذي أمّلت منّي ... بقطع حبال وصلك من حبالي
كما أخطاك معروف ابن بشر ... وكنت تعدّ ذلك رأس مال
فضحك وقال: ما أحسن ما تلطفت.
ودخل أبو دلامة يوماً على المنصور وبين أصبعيه خرقة، فقال له: ما هذا يا أبا دلامة ؟ فقال: ولدت لي الباحة صبية وقد قلت فيها:
فما ولدتك مريم أُمّ عسى ... ولم يكفلك لقمان الحكيم
ولكن قد ولدت لأمّ سوءٍ ... يقوم بأمرها بعلٌ لئيم
فضحك المنصور وقال: ما تريد ؟ قال: ملء هذه الخرقة أستعين بها على تربيتها. فقال المنصور: أملأوها دراهم، ففتحوها فإذا هي رداء رقيق كبير، فملأوه؛ فأخذ عشرة آلاف درهم.
وكان المنصور بخيلاً، وإنما كان أبو دلامة يستنزله بالملح لشدة بخله، فقد كان يتجاوز الغاية في ذلك.

بخل المنصور
وكان المنصور قبل أن يلي الخلافة ينزل على أزهر السمان، فلما استخلف صار إليه أزهر. فقال: ما أقدمك ؟ قال: حاجة أمير المؤمنين؛ علي أربعة آلاف درهم، ولي دار متهدمة، وأريد البناء لابني محمد. فأمر له باثني عشر ألف درهم. وقال: يا أزهر؛ لا تأتنا طالب حاجة. قال: أفعل.
فلما كان بعد قليل عاد فقال: يا أزهر؛ ما جاء بك ؟ قال: جئت مسلماً على أمير المؤمنين، قال: إنه ليقع في نفسي أن ما أتيت إلا لما أتيت له في المرة الأولى، وأمر له باثني عشر ألف درهم. وقال: لا تأتنا طالب حاجة ولا مسلماً. قال: نعم ! ثم ما لبث أن عاد فقال: يا أزهر؛ ما جاء بك؟ قال: دعاء كنت سمعت أمير المؤمنين يدعو به فجئت مستملياً لآخذه عن أمير المؤمنين. فقال: لا تكتبه فإن غير مستجاب، لأني دعوت الله به أن يرحني منك فلم يستجب لي. ثم صرفه ولم يعطه شيئاً.
ابن هرمة يمدح المنصور فيجيزه
ولما دخل عليه إبراهيم بن علي بن هرمة أنشده قصيدته التي يقول فيها:
له لحظاتٌ في حفافيّ سريره ... إذا كرّها فيها عقابٌ ونائل
فأمّ الذي أمّنت آمنة الردى ... وأمّ الذي حاولت بالثكل ثاكل
فرفع الحجاب له، وأقبل عليه وأمر له بعشرة آلاف درهم. ثم قال: يا إبراهيم: لا تتلفا طمعاً في مثلها، فما كل وقت تصل إلينا، ولا يصلك منا مثلها. فقال: ألقاك بها يا أمير المؤمنين يوم العرض بختم الجهبذ. فضحك. وقال: اذكر حوائجك ؟ فقال: تكتب لي إلى عامل المدينة ألا يحدني إذا أتي بي إليه وأنا سكران، فقال: هذا حد من حدود الله لا يمكن تعطيله. فقال: تحتال لي يا أمير المؤمنين، فكتب إلى عامر المدينة؛ من أتاك بابن هرمة وهو سكران فاضربه الحد، واضرب الذي يأتيك به مائة. فتحاماه الشرط. فكانوا يمرون به مطروحاً في سكك المدينة فيقولون: من يشتري ثمانين بمائة ؟!
مدحة وعطاء
وقال المؤمل بن أميل: قدمت على المهدي وهو إذ ذاك ولي عهد أبيه، فامتدحته فأمر لي بعشرين ألف درهم، فكتب ذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن الأمير أمر لشاعر بعشرين ألف درهم، فكتب إليه يعذله ويلومه، ويقول: إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر إذا أقام ببابك سنة أربعة آلاف درهم، وكتب إلى كاتبه أن يوجه إليه بالشاعر، فطلب فلم يقدر عليه، فكتب إليه أن قد توجه إلى مدينة السلام.

فأجلس قائداً من قواده على جسر النهروان، وأمره أن يتصفح الناس رجلاً رجلاً، فجعل لا يمر به قافلة إلا تصفحهم، فمرت القافلة التي فيها المؤمل، فقال له: من أنت ؟ قال: المؤمل بن أميل من زوار المهدي، قال: إياك أردت، قال المؤمل: فكاد والله قلبي ينصدع خوفاً من أبي جعفر، فقبض علي، وقال: سر، فسرت معه فسلمني إلى الربيع، فدخل الربيع على المنصور فقال له: هذا الشاعر قد ظفرنا به. قال: أدخلوه. قال: فدخلت عليه فسلمت فرد السلام. فقلت: ليس ههنا إلا الخير، فقال: أنت المؤمل بن أميل ؟ قلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين، أنا المؤمل، فقال: أتيت غلاماً غراً فجدعته فانخدع !! فقلت: بل أتيت كريماً فخدعته فانخدع، والكريم يخدع، قال: فكأن ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته:
هو المهديّ إلاّ أنّ فيه ... مشابه صورة القمر المنير
تشابه ذا وذا فهما إذا ما ... أنارا يشكلان على البصير
فهذا في الضياء سراج عدلٍ ... وهذا في الظلام سراج نور
ولكن فضّل الرحمن هذا ... على ذا بالمنابر والسرير
وبالملك العزيز فذا أميرٌ ... وما ذا بالأمير ولا الوزير
ونقص الشهر يخمد ذا، وهذا ... منيرٌ عند نقصان الشهور
فيابن خليفة اللّه المصفّى ... به تعلو مفاخرة الفخور
لئن فتّ الملوك وقد توافوا ... إليك من السهولة والوعور
لقد سبق الملوك أبوك حتّى ... أتوا ما بين كابٍ أو حسير
وجئت وراءه تجري حثيثاً ... وما بك حين تجري من فتور
فقال الناس ما هذان إلاّ ... كما بين الخليق من الجدير
لئن فات الكبير مدى الصغير ... فذا فضل الكبير على الصغير
وإن بلغ الصغير مدى الكبير ... فقد خلق الصغير من الكبير
فقال: والله لقد أحسنت، ولكن لا تساوي عشرين ألف درهم، فأين المال ؟ قلت: هوذا، قال: يا ربيع، انزل معه فأعطه عشرة آلاف درهم وخذ الباقي.
فلما صارت الخلافة إلى المهدي وولي ابن ثوبان المظالم، وكان يجلس للناس بالرصافة، فإذا ملأ ثوبه رقاعاً دفعها إلى المهدي؛ فدفعت إليه رقعةً، فلما دخل بها ابن ثوبان وجعل المهدي ينظر في الرقاع حتى نظر في رقعتي ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير المؤمنين، ما رأيتك ضحكت من شيء إلا من هذه الرقعة ؟ فقال: هذه رقعة أعرف سببها، ردوا عليه العشرة آلاف، فردت.
أخذ قوله في القمر علي بن الجهم فقال:
رأيت الهلال على وجهه ... فلم أدر أيّهما أنور
سوى أنّ ذاك بعيد المحلّ ... وهذا قريبٌ لمن ينظر
وذاك يغيب وذا حاضر ... وما من يغيب كمن يحضر
وقال إبراهيم بن العباس:
وعابك أقوامٌ فقالوا شبيهةً ... لبدر الدجى حاشاك أن تشبهي البدرا
لئن شبّهوك البدر ليلة تمّه ... لقد قارفوا الشّنعاء واقترفوا الوزرا
أيشبه بدرٌ آفلٌ نصف شهره ... ضياءً منيراً يطلع الشهر والدهرا ؟
وإنما نقل المؤمل في موازنة المهدي بالمنصور قول زهير بن أبي سلمى: قال الربيع بن يونس الحاجب: كنا وقوفاً على رأس المنصور في يوم عيد وقد طرحت وسادةٌ بين يديه؛ فجلس المهدي عليها، والناس سماطان على مراتبهم، إذ أقبل صالح بن المنصور الملقب بالمسكين وهو حدث فوقف بين السماطين فسلم وأحسن ثم استأذن في الكلام فأذن له فتكلم. قال الربيع: فلم يبلغه ذلك اليوم خطيب؛ فمد المنصور يده فقال: إلي يا بني، فلما دنا منه اعتنقه وأقعده قدامه، ثم نظر في وجوه القوم هل منهم أحد يصف كلامه وما كان منه ! فكلهم هاب المهدي، فقال عقال بن شبة فقال: لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين، ما أفصح لسانه، وأبين بيانه، وأمضى جنانه، وأبل ريقه، وأغمض عروقه، وأسهل طريقه ! وحق لمن كان أمير المؤمنين أباه، والمهدي أخاه، أن يكون كما قال زهير:
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهلٍ ... فبالذي قدّما من صالحٍ سبقا

قال الربيع: فقال لي أبو عبد الله وكان إلى جانبي ما رأيت مثل عقال بن شبة قط؛ أرضى أمير المؤمنين، ومدح الغلام، وسلم من مذمة المهدي.
فقال المنصور للربيع: لا ينصرف التميمي إلا بثلاثين ألف درهم.
قال أبو بكر الصولي: وأبيات المؤمل حسان لا أعرف له خيراً منها، ولو قلت: إنه لا يعد شاعراً إلا بها ما أبعدت، وما كان يعرفها الناس، وإنما شهر بقصيدته التي أولها:
شفّ المؤمّل يوم الحيرة النظر ... ليت المؤمّل لم يخلق له بصر
ويقال: إنه لما قال هذا عمي، فرأى في منامه إنساناً يقول له: هذا ما تمنيت في شعرك. ومن أحسن ما قاله المؤمل قوله:
أبهار قد هيجت لي أوجاعاً ... وتركتني صبّاً بكم مطواعا
بحديثك الحسن الذي لو حدّثت ... وحش الفلاة به لجئن سراعا
واللّه لو علم البهار بأنها ... أضحت سميّته لطال ذراعا

أبو دلامة والمنصور
وكان المنصور قد أخذ الناس بلباس قلانس طوال، وأن يكتبوا في ظهور ثيابهم: " فسيكفيكهم اللّه وهو السميع العليم " ، وأن يطيلوا حمائل سيوفهم. فدخل أبو دلامة عليه في ذلك الزي، فقال: كيف حالك يا أبا دلامة ؟ فقال: ما حال من صار وجهه في وسطه، وسيفه في استه، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره !! فأمر المنصور بتغيير ذلك الزي.
ودخل أبو دلامة على أم سلمة بنت يعقوب بن مسلمة المخزومية زوجة أبي العباس السفاح يعزيها عنه فبكى وأنشد قصيدةً منها:
أمسيت بالأنبار يابن محمّدٍ ... لا تستطيع من البلاد حويلا
ويلي عليك وويل أهلي كلّهم ... ويلاً وهولاً في الحياة طويلا
فلتبكينّ لك النساء بعبرةٍ ... وليبكينّ لك الرجال عويلا
مات النّدى إذ متّ يابن محمد ... فجعلته لك في التراب عديلا
إن أجملوا في الصبر عنك فلم يكن ... صبري ولا جلدي عليك جميلا
يجدون منك خلائفاً وأنا امرؤٌ ... لو عشت دهري ما وجدت بديلا
إني سألت النّاس بعدك كلّهم ... فوجدت أسمح من وجدت بخيلا
ألشقوتي أُخّرت بعدك للذي ... يدع العزيز من الرجال ذليلا
ألشقوتي أُخّرت بعدك للذي ... يدع السمين من العيال هزيلا
فقالت له أم سلمة: يا زند، ما أصيب أحد بأمير المؤمنين غيري وغيرك ؟ قال: ولا سواي، أنت لك ولد منه تتسلين به، وأنا لا ولد لي مه. فضحكت أم سلمة ولم تكن ضحكت منذ مات أبو العباس، وقالت: يا زند، ما تدع أحداً إلا أضحكته !.
وأنشد أبو دلامة المنصور هذه القصيدة فأبكى الناس جميعاً، وغضب المنصور غضباً شديداً. وقال: لئن سمعتك بعد اليوم تنشدها لأقطعن لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن أبا العباس كان لي مكرماً وهو الذي جاء بي من البدو كما جاء يوسف عليه السلام بإخوته، فقل كما قال الله عز وجل " لا تثريبَ عليكم اليوم يغفرُ اللّه لكم وهو أرحمُ الراحمين " .
فسري عن المنصور وضحك، وقال: قد أقلناك فسل حاجتك ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبا العباس قد كان أمر لي بعشرة آلاف درهم وهو مريض ولم أقبضها. فقال المنصور: ومن يعلم ذلك ؟ قال: هؤلاء كلهم، وأشار إلى جماعة ممن حضر. فوثب سليمان بن مجاهد وأبو الجهم، فقالا: نحن نعلم ذلك. فقال المنصور لأبي أيوب المورياني: ادفعها إليه وسيره إلى هذا الطاغية يعني عبد الله بن علي، وكان قد خرج وأظهر الخلاف عليه بناحية الشام، وجمع جمعاً كثيراً من بقايا بني أمية وقوادهم، وأهل البأس والنجدة.
فقال أبو دلامة: يا أمير المؤمنين؛ إني أعيذك بالله أن أخرج معهم، فإني والله مشؤوم. فقال المنصور: إن يمني يغلب شؤمك، فاخرج مع الجيش. فقال: والله ما أحب يا أمير المؤمنين، ولا أرى أن تجرب؛ فإني لا أدري على أي المنزلتين تكون. فقال: دعني فلا بد من مسيرك. فقال: يا أمير المؤمنين؛ والله لأصدقنك، إني حضرت تسعة عساكر هزمتها كلها، وإن شئت بينتها لك؛ فاستفرغ المنصور ضحكاً، وأمره بالتخلف مع عيسى بن موسى بالكوفة.

وأراد موسى بن داود الخروج إلى الحج، فقال لأبي دلامة: تأهب حتى تخرج معي في هذا الوجه، وأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال له: خلف لعيالك ما يكفيهم واخرج؛ وإنما أراد أن يأنس به في طريقه بحديثه وأشعاره ونوادره.
فلما حضر خروج موسى هرب أبو دلامة إلى سواد الكوفة، فجعل يشرب من خمرها ويتمتع في نزهها، فسأل عنه فأخبروها باستتاره، فطلبه فلم يقدر عليه، وخاف أن يفوته الحج؛ فلما يئس منه قال: دعوه إلى النار وحر سقر وأليم عذابه. فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة قد خرج من قرية يريد أخرى، فبصر به. فقال: ائتوني بعدو الله الكذاب، فر من الحق إلى الباطل، ومن الحج إلى حانات الخمارين، قيدوه وألقوه في بعض المحامل. ففعل ذلك به، فلما ولت الإبل، صاح أبو دلامة بأعلى صوته:
يأيها الناس قولوا أجمعين معي ... صلّى الإله على موسى بن داود
كأنّ ديباجتي خدّيه من ذهبٍ ... إذا تشرّف في أثوابه السود
أما أبوك فعين الجود نعرفه ... وأنت أشبه خلق اللّه بالجود
نبّئت أنّ طريق الحجّ معطشةٌ ... من الطلاء وما شربي بتصريد
واللّه ما فيّ من خيرٍ فتطلبه ... في المسلمين وما ديني بمحمود
إني أعوذ بداودٍ وتربته ... من أن أحجّ بكرهٍ يابن داود
فقال موسى: ألقوه عن المحمل، فعليه لعنة الله، ودعوه يذهب إلى سقر وحر نارها، فألقوه.
ومضى موسى لوجهه، فما زال أبو دلامة يتمتع بالنزه، ويشرب الخمر حتى أتلف العشرة آلاف رهم، وانصرف موسى من حجه، فدخل أبو دلامة يهنئه، فلما رآه قال: أتدري ما فاتك من الخير ؟ فقال: والله ما فاتني خير ليلاً ولا نهاراً يريد الشرب والقصف فضحك ووصله.
ودخل أبو دلامة على المهدي وعنده عيسى بن موسى، والعباس بن محمد، وناس من بني هاشم، فقال المهدي: يا أبا دلامة. قال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: اهج من شئت ممن ضمه هذا المجلس ولك الجائزة؛ فنظر في القوم فلم ير إلا شريفاً قريباً من المهدي، فقال: أنا أحد من في المجلس ثم أنشده:
ألا أبلغ إليك أبا دلامه ... فليس من الكرام ولا كرامه
إذا لبس العمامة قلت قردٌ ... وخنزيرٌ إذا نزع العمامه
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا ... فلا تفرح فقد دنت القيامه
قال: فضحك المهدي، وسر القوم، إذ لم يسود بأحد منهم، فقال له المهدي: تمن. فقال: يا أمير المؤمنين؛ تأمر لي بكلب صيد، فقال: يابن الفاعلة؛ وما تصنع به ؟ فقال: إن كانت الحاجة لي فليس لك أن تعرض فيها. فقال: صدقت أعطوه كلباً، فأعطي. فقال: يا أمير المؤمنين: لا بد لهذا الكلب من كلاب. فأمر له بغلام مملوك، فقال: يا أمير المؤمنين، أو يتهيأ لي أن أصيد راجلاً ؟ فقال: أعطوه دابةً، فقال: ومن يسوس الدابة ؟ فقال: أعطوه غلاماً سائساً. فقال: ومن ينحر الصيد ويصلحه ؟ فقال: أعطوه طباخاً. فقال: ومن يأويهم ؟ فقال: أعطوه داراً، فبكى أبو دلامة وقال: ومن يمون هؤلاء كلهم ؟ فقال: يكتب له إلى البصرة بمائة جريب عامرة، ومائتي جريب غامرة. فقال: وما الغامرة ؟ قال: التي لا نبات فيها. قال: فأنا أعطيك مائتي ألف جريب من فيافي بني أسد، فضحك وقال: ما تريد ؟ قال: بيت المال. قال: على أن أخرج المال منه. قال: فإذاً يصير غامراً، فاستفرغ ضاحكاً وقال: اذهب فقد جعلناها لك كلها عامرة. فقال: يا أمير المؤمنين؛ ائذن لي أن أقبل يدك، قال: أما هذه فدعا. فقال: والله ما تمنع عيالي شيئاً أهون عليهم من هذا، فناوله يده فقبلها. وقد تقدم له بعض هذا حكاية مع المنصور، والرواة يختلفون، وهو أدب لا يخطب أبكاره بالنسب.
وخرج أبو دلامة مع المهدي وعلي بن سليمان إلى الصيد، فعن لهم ظبي؛ فرماه المهدي فأصابه، ورمى علي بن سليمان فأصاب كلب الصيد، فضحك المهدي وقال لأبي دلامة: قل في هذا شيئاً فأنشد:
قد رمى المهديّ ظبياً ... شكّ بالسهم فؤاده
وعليّ بن سليما ... ن رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما ك ... لّ امرىءٍ يأكل زاده
فاستفرغ المهدي ضحكاً وأمر له بجائزة.

وكان أبو العباس السفاح مولعاً بأبي دلامة، لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً لكثرة نوادره وجودةً شعره، ومعرفته بأيام الناس وأخبارهم؛ وكان أبو دلامة يهرب منه جهده، ويأتي حانات الخمارين فيشرب مع إخوانه من الشعراء، وكان يحب مجالستهم وتهرب من مؤانستنا ؟ فقال: والله يا أمر المؤمنين؛ إن الفضل والشرف والعز والخير كله في الوقوف ببابك ولزوم خدمتك، ولكن نكره كما ذكرت، ولا مللتك قط، وإنك لتعلم ذلك، ولكنك قد اعتدت حانات الخمارين، ومجالسة أهل المجون. ثم أمره بلزوم قصره، ووكل به من يمنعه الخروج، وأمره بملازمة المسجد الذي يصلي فيه السفاح، حتى أضر به فقال:
ألم تعلموا أنّ الخليفة لزّني ... بمسجده والقصر، ما لي وللقصر !
أُصلّي به الأولى مع العصر آيساً ... فويلي من الأولى وويلي من العصر
ويحبسني عن مجلسٍ أستلذّه ... أعلّل فيه بالسماع وبالخمر
وواللّه ما لي نيّةٌ في صلاته ... ولا البرّ والإحسان والخير من أمري
وما ضرّه، واللّه يصلح أمره ... لو أنّ ذنوب العالمين على ظهري
فلما بلغت الأبيات السفاح قال: دعوه وشأنه، فوالله ما أفلح قط.
وشرب أبو دلامة مع حماد عجرد، فأتى المهدي بأبي دلامة فقال: استنكهوه؛ ففعلوا فوجدوا رائحة الخمر، فأحب أن يعبث به؛ فأمر الربيع أن يحبسه في بيت الدجاج ويطين عليه الباب، ففعل؛ ثم أمر بعد يومين فأخرج ملبباً بطيلسانه، فأقيم بين يديه، فقال: يا عدو الله؛ أتشرب الخمر ؟ أما إني لأقيمن عليك الحد، ولا تأخذني فيك لومة لائم، فأنشأ أبو دلامة:
أمير المؤمنين، فدتك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي
أُقاد إلى السجون بغير جرمٍ ... كأني بعض عمّال الخراج
ولو معهم حبست لكان خيراً ... ولكني حبست مع الدّجاج
أمن صهباء ! ريح المسك فيها ... ترقرق في الإناء لدى المزاج
عقار مثل عين الديك صرفٌ ... كأنّ شعاعها لهب السّراج
وقد طبخت بنار اللّه حتى ... لقد صارت من النّطف النّضاج
وقد كانت تحدّثني ذنوبي ... بأنّي من عقابك غير ناجي
على أني وإن لاقيت شرّاً ... لخيرك، بعد ذاك الشر، راجي
فأمر به فأقيم عليه الحد، ثم أمر له بأربعة آلاف درهم، فلما ولى قال الربيع: يا أمير المؤمنين، أما سمعت قوله:
وقد طبخت بنار اللّه حتى ... لقد صارت من النّطف النّضاج
قال: بلى، فما يعني بذلك ؟ قال: يعني به الشمس. قال: ردوه نسأله عن ذلك. فلما حضر قال له المهدي: ما تعني بنار الله ؟ أتعني بها الشمس ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، ولكن: نار الله الموقدة، التي تطلع على فؤاد الربيع مؤصدة، وعلى من أخبرك أني عنيت بها الشمس مطبقة؛ فضح المهدي وجلساؤه وعفا عنه، فذهب.
وخرج الربيع إلى أصحاب المنصور وهم بالباب، وقد هرب منه سلم غلامه، فقال لهم: أمير المؤمنين يقرئكم السلام، ويقول لكم: إن غلامي سلماً قد هرب، ومحال أن يهرب أحد من غلماني إلا وقد أسند أمره إلى واحد منكم.
فقام أبو دلامة فقال: بلغ عنا أمير المؤمنين كما بلغتنا عنه. قال: نعم ! قال: أما سلم فلا نعرف خبره ولا قصته، ولكن هذا بديع يريد الهروب، فرأي أمير المؤمنين في أخذه، وكان بينه وبين بديع تباعد، فبلغ ذاك المنصور فهرب.
وماتت حمادة بنت علي بن عبد الله بن عباس، فصار المنصور إلى شفير قبرها ينتظر الجنازة، وكان أبو دلامة حاضراً فقال: ما أعددت لهذه الحفرة يا أبا دلامة ؟ فقال: عمة أمير المؤمنين يؤتى بها الساعة.
أخذت امرأة في زنا وطيف بها على جمل، فمرت ببعض المجان فقال لها: كيف خلفت الحاج ؟ قالت: بخير، وقد كانت أمك معنا، فخرجت في النفر الأول.

من ملح الجماز
وقال رجل للجماز: أشتهي أن أرى الشيطان. فقال له: انظر في المرآة فإنك تراه.
وقال له رجل: أنا وجع من دمل فيّ. قال له: وأين هي ؟ قال: في أخس موضع مني. قال: كذبت؛ لأني لا أرى في وجهك شيئاً.

وقال له رجل: يا أبا عبد الله؛ أنا رجل جامد العين، لو مات أبي ما بكيت، ولكن إذا سمعت الصوت الفريح من الوجه المليح، بكيت حتى أغمي علي. فعلام يدل هذا ؟ قال: على أنك لا تلفح أبداً.
وقال له رجل: أردت أن أحمل أمي إلى بغداد، فخفت إن حملتها في البحر أن تعطب، وإن حملتها في البر أن تتعب. قال: فخذها في سفتجة.
قال بعض جلساء المتوكل: كنا نكثر عنده ذكر الجماز حتى اشتاقه، فكتب في حمله من البصرة. فلما دخل عليه أفحم. فقال له المتوكل: تكلم فإني أحب أن أستبرئك. فقال: بحيضة أم بحيضتين يا أمير المؤمنين ؟ فضحك المتوكل. ثم قال له الفتح: قد ولاك أمير المؤمنين على الكلاب والقردة. قال: فاسمع لي وأطع، فأنت من رعيتي. فقال له: إذا وهب لك أمير المؤمنين جارية، فما تصنع بها ؟ فقال: أنا أعرف من نفسي ما تحتاج والله جارية إلا أن أقود عليها. فضحك المتوكل، وأمر له بعشرة آلاف درهم، فمات فرحاً ولم يصل إلى البصرة.
وكان الجماز لا يدخل بيته أكثر من ثلاثة لضيقه، فدعا ثلاثةً من إخوانه فأتاه ستة، ووقف كل واحد على رجل وقرعوا الباب، فنظر من كوة أسفل الباب وكذلك كان يعمل فعد ستة أرجل، فلما فتح الباب دخلوا؛ فقال: اخرجوا عني فإني دعوت أناساً ولم أدع كراكي.
والجماز هو أبو عبد الله محمد بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياسر، وكانوا يزعمون أنهم من حمير صليبة نالهم سباء في خلافة أبي بكر وهم مواليه، وسلم الخاسر عمه. وكان الجماز صاحباً لأبي نواس حتى ماتا. ووصف أبا نواس، فقال: كان أظرف الناس منطقاً، وأغزرهم أدباً، وأقدرهم على الكلام، وأسرعهم جواباً، وأكثرهم حياءً؛ وكان أبيض اللون، جميل الوجه، مليح النغمة والشارة، ملتف الأعضاء، بين الطويل والقصير، مسنون الوجه، قائم الأنف، حسن العينين والمضحك حلو الصورة، لطيف الكف والأطراف، وكان فصيح اللسان، جيد البيان، كثير النوادر؛ وكان راويةً للأشعار، وعلامة بالأخبار، وكان كلامه شعراً غير موزون.
وأقبل أبو شراعة والجماز في حديثه وكانت يد أبي شراعة كأنها كربة نخل وكان أقبح الناس وجهاً، فقال الجماز: فلو كانت أطرافه على أبي شراعة لتم حسنه.
فغضب أبو شراعة، فبصق الناس في وجهه.

من أدب أبي شراعة
وأبو شراعة شاعر مجيد وهو القائل:
بني رياح أعاد اللّه نعمتكم ... خير المعاد وأسقى ربعكم ديما
فكم به من فتىً حلو شمائله ... يكاد ينهلّ من أعطافه كرما
لم يلبسوا نعمةً للّه مذ خلقوا ... إلا تلبّسها إخوانهم نعما
قال أبو العباس المبرد: وكان أبو شراعة حليماً مألوفاً، جميل الخلق، كريم العشرة، وكان يقول من الشعر ما يجانب به مذاهب المحدثين، ويقترف طريق الماضين وأهل البادية؛ فشعره عربي محض، واسمه أحمد بن محمد بن شراعة القيسي ومن شعره:
تقول ابنة البكريّ حين أؤوبها ... هزيلاً وبعض الآيبين سمين
لك الخير لا يدخل لأهلك رحله ... فإنّك في القوم الكرام مكين
ذريني أمت من قبل حلّي محلّة ... لها في وجوه السائلين غضون
وأفدي بمالي ماء وجهي فإنني ... بما فيه من ماء الحياة ضنين
فقالت: لحاك اللّه لا تنأ جانباً ... فقلت: لإخواني الكرام عيون
وله يهجو أحمد بن المدبر وأخاه إبراهيم:
حجاب ابن المدبّر كسرويٌّ ... كذاك حجاب كسرى أردشير
شهدت بأنّه من آل كسرى ... سلوه هل شهدت له بزور
كفاك شهادتي بالحقّ لولا ... تضاحك من أرى حول السرير
فإن يكن المدبّر جرمقيّاً ... فلست بذاكرٍ أهل القبور
وكتب إلى سعيد بن موسى بن سيد بن سلم الباهلي، يستهديه نبيذاً، ووجه إليه بقرابة في غلاف:
إليك ابن موسى الخير أعملت ناقتي ... مجلّلةً يضفو عليها جلالها
كتوم الوجى لا تشتكي ألم السرى ... سواء عليها موتها واعتلالها
إذا سقيت أبصرت ما جوف بطنها ... وإن ظمئت لم يبد منها هزالها
وإن حملت حملاً تكلّفت حملها ... وإن حطّ عنها لم أبل كيف حالها

بعثنا بها تسمو العيون وراءها ... إليك وما يخشى عليها كلالها
وغنّى مغنّينا بصوتٍ فشاقني ... متى راجعٌ من أُمّ عمرو خيالها
أحب لكم قيس بن عيلان كلها ... ويعجبني فرسانها ورجالها
وما لي لا أهوى بقاء قبيلةٍ ... أبوك لها بدرٌ وأنت هلالها

من مليح شعر الجماز
وللجماز مقطعات ملاح، في ضروب الهجاء والامتداح، منها قوله في خصي كان يكايده على قينة؛ يسمى رباح:
ما للخصيّ رباح ... وللغواني الملاح
أليس زانٍ خصيٌّ ... غازٍ بغير سلاح
وفي مثله يقول ابن الرومي:
معشرٌ أشبهوا القرود ولكن ... خالفوها في خفّة الأرواح
نمشة فوق صفرة فتراه ... كونيم الذباب في اللّفّاح
قال الجاحظ: في الخصي عشرة أحوال متضادة: لم يخرج من ظهره مؤمن، ولا خرج من ظهر مؤمن، وهو أكثر الناس غيرة، وأشدهم قيادة، وهو أضعف الناس معدة، وأشرههم على طعام، وهو أسوأ الناس أدباً، وهو يعلم الأدب، وهو أغزر الناس دمعة، وأقساهم قلباً، وما خلا قط مع امرأة إلا حدثته نفسه أنه رجل، ولا خلا مع رجل إلا حدثته نفسه أنه امرأة.
وقال الجماز لبعض المسجديين:
تركت المسجد الجامع ... والتّرك له ريبه
فلا نافلة تأتي ... ولا تشهد مكتوبه
وأخبارك تأتينا ... على الأعلام منصوبه
فإن زدت من الغيب ... زدناك من الغيبه
ومثله قول أبي القاسم إسماعيل بن عباد، في مغن يعرف بابن عذاب:
أقول قولاً بلا احتشام ... يقبله كل من يعيه
ابن عذابٍ إذا تغنّى ... فإنني منه في أبيه
وقال الجماز في المتوكل:
قالوا امتدحت الإمام قلت لهم ... أخاف ألا أحدّه بصفه
وكيف يعطي على المدائح من ... كان أبو السّمط عنده طرفه
كأنّ إنشادنا مدائحه ... أنصاف كتب ليست بمؤتلفه
أخذه من قول أبي تمام:
أذكت عليك شهاب نارٍ في الحشا ... بالعذل وهناً أخت آل شهاب
عذلاً شبيهاً بالجنون كأنّما ... قرأت به الورهاء نصف كتاب
بين علي بن الجهم وأبي السمط
وكان أبو السمط بن أبي حفصة أثيراً عند المتوكل؛ وكان علي بن الجهم يقع فيه لمنزلته عند المتوكل وحسده له؛ فأغرى بينهما يوماً فقال لحمدون النديم: أيهما أشعر ؟ فقال: يا أمير المؤمنين؛ طرحتني بين لحيي أسدين. قال: لتقولن. قال: أعرقهما بالشعر أشعرهما. فقال المتوكل: يا علي، قد حكم حمدون عليك. قال: علم رأيك فيه فساعدك. فقال المتوكل: تهاجيا. فقال علي: قد كظني الشراب، فإذا أفقت قلت؛ فقال أبو السمط بديهاً:
إنّ ابن جهمٍ في المغيب يسبّني ... ويقول لي حسناً إذا لاقاني
إنّ ابن جهمٍ ليس يرحم أمّه ... لو كان يرحمها لما عاداني
فضحك المتوكل، وانخذل ابن الجهم؛ فقال أبو السمط:
لعمرك ما جهم بن بدرٍ بشاعرٍ ... وهذا عليٌّ بعده يصنع الشّعرا
ولكن أبي قد كان جراً لإمّه ... فلما تعاطى الشعر أمرا
ولما أفاق عليّ بن الجهم من سكره قال:
بلاءٌ ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسبٍ ودين
يبيحك منه عرضاً لم يصنه ... ويرتع منك في عرضٍ مصون
العجم والشعر
ودخل الضبي على عبد الله بن طاهر، فأنشد شعراً حسناً وبحضرته أعرابي؛ فقال الأعرابي: ممن تكون ؟ قال: من العجم. قال: وما للعجم والشعر وإنما الشعر للعرب، وكل من قاله من العجم فإنما نزا على أمه أعرابي. فقال: وكذلك من لا يقول الشعر منكم، فإنما نزا على أمه أعجمي إذاً ؟ فأفحمه.
من شعر الجماز
ودخل الجماز على بعض ولاة البصرة فأنشده:
أثكلتني البرّ وعنّيتني ... ما كان هذا أملي فيكا
لا تتفنّي بعد ما رشتني ... فإنني بعض أياديكا
فضحك، ثم قال: ثم ماذا ؟ فقال: ثوب سمرقندي هو، أنشدك إياه مزارعة.

وقيل لعقيل بن علفة: لم تقصر شعرك ؟ فقال: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق. وقيل لآخر مثل ذلك. فقال: لم أر المثل السائر إلا بيتاً واحداً.
ولم يكن للجماز حظ في التطويل، وإنما كان يقول البيتين والثلاثة، وإنما قال بيتاً واحداً:
وقعنا من أبي خزيٍ ... على خزيٍ من الخزي
لم يقل غير هذا، وكذلك ابن بسام، ومنصور بن إسماعيل الفقيه. والمصريون يقولون: احذر منصوراً إذا رمح بالروح. وهو القائل لما ذهب بصره وجفاه الإخوان والرفقاء:
من قال مات ولم يستوف مدّته ... بعظم نازلةٍ نالته مضرور
وليس في الحقّ أن يحيا فتىً بلغت ... به نهاية ما يخشى المقادير
فقل له غير مرتابٍ بفعلته ... أو سوء مذهبه قد عاش منصور
ومن ظريف شعره:
تكاد تضيق الأرض عنه برحبها ... إذا نحن قلنا خيرنا الباذل السّمح
فإن قيل من هذا البغيض أقل لكم ... على شرط كتمان الحديث هو الفتح
وقال منصور:
يا من يرى المتعة في دينه ... جلاًّ وإن كانت بلا مهر
ولا يرى تسعين تطليقةً ... تبين منها ربّة الخدر
من ههنا طابت مواليكم ... فاجتهدوا في الحمد والشكر
وقال:
أبى الناس أن يدعوا موسراً ... سليم الأديم سليم النسب
وقد خبّروك فإن لم تطب ... بعرضك نفساً فطب بالذهب
وقال:
يا من تولّى فأبدى ... لنا الجفا وتبدّل
أليس منك سمعنا ... من لم يمت فسيعزل
وأتى باب بعض الأشراف الرئيسيين، فحجبه خادم اسمه شقيف فقال:
إذا وقع الضرير على خصيّ ... فقد وقع المصاب على مصاب
وكانت أم هذا الشريف أمةً ثمنها ثمانية عشر ديناراً؛ فعتب على منصور فقال:
من فاتني بأبيه ... ولم يفتني بأمّه
ورام شتمي ظلماً ... سكتّ عن نصف شتمه
فدفع إليه مائة دينار. وقال: اسكت عن الجميع.
فانظر أعزك الله البليغ إذا شاء كيف يجعل الجد هزلاً، والمعرى محلىً.
هذا المعنى إنما اهتدى إليه من قول عنترة بن شداد العبسي وأمه أمة سوداء اسمها زبيبة:
إني امرؤٌ من خير عبسٍ منصباً ... شطري وأحمي سائري بالمنصل
وسأستقل إن شاء الله، ذكر ابن بسام، ونقل ظريف ما له في غير هذا الموضع.

طرف وأخبار متفرقة
وكتب ابن الكلبي صاح الخبر إلى المتوكل أن المعروف بابن المغربي القائد اجتاز البارحة بالجسر سكران، فشخر ونخر، وبربر وزمجر وجرجر، وبأبأ بفيه، وخرق الشريحة، ومر منصلتاً، وقال: أنا الكركدن فاعرفوني.
فضحك المتوكل حتى استلقى، وقال: قد عرفنا ما كتب به البغيض إلا حرفاً واحداً فعلي به.
فلما جاء قال: ما معنى قولك: بأبأ بفيه ؟ قال: يا مولاي؛ لما توسط الجسر قال بفيه: بب بب. فقال له المتوكل: انصرف في غير حفظ الله.
وركب المأمون ليلاً فإذا بثمامة بن أشرس سكران، فلما علم بالمأمون توارى عنه، فقصده المأمون حتى وقف عليه. فقال: ثمامة ؟ قال: إي والله. قال: أسكران ؟ قال: لا والله. قال: فمن أنا ؟ فال: لا أدري والله. قال: عليك لعنة الله. قال: تترى إن شاء الله. فضحك وتركه.
فراسة المهدي
ولما فرغ المهدي من قصره بعيساباذ ركب في جماعة للنظر إليه، فدخله مفاجأة، وأخرج كل من هناك من الناس، وبقي رجلان خفيا عن أبصار الأعوان؛ فرأى المهدي أحدهما وهو دهش لا يعقل. فقال: من أنت ؟ قال: أنا أنا أنا أنا. فقال: من أنت ؟ ويلك ! قال: لا أدري لا أدري لا أدري لا أدري. قال: ألك حاجة ؟ قال: لا لا لا لا. قال: أخرجوه، أخرج الله روحه. فلما خرج قال المهدي لغلامه: اتبعه إلى منزله، وسل عنه، فإني أراه حائكاً، فخرج الغلام يقفوه.

ثم رأى الآخر فاستنطقه فأجابه بقلب جريء، ولسان طلق؛ وقال: رجل من أبناء دعوتك. قال: فما جاء بك إلى هنا ؟ قال: جئت لأنظر إلى هذا البناء، وأتمتع بالنظر إليه، وأكثر الدعاء لأمير المؤمنين بطول البقاء، وتمام النعمة، ونماء العز، والسلامة. قال: أفلك حاجة ؟ قال: نعم ! خطبت ابنة عمي فردني أبوها وقال لي: لا مال لك، والناس إنما يرغبون في الأموال، وأنا لها وامق، وإليها تائق. قال: قد أمرت لك بخمسين ألفاً. قال: يا أمير المؤمنين؛ قد وصلت فأجزلت الصلة، وأعظمت المنة؛ فجعل الله باقي عمرك أكثر من ماضيه، وآخر أيامك خيراً من أولها، وأمتعك بما أنعم به عليك، وأمتع رعيتك بك.
فأمر بتعجيل صلته، ووجه بعض خدمه فقال: سل عن مهنته، فإني أراه كاتباً، فرجع الرسولان بحصة ما تفرسه المهدي.

بدن بلا رأس
وأخذ رجل من لحية مديني شيئاً، فانتظر أن يقول له: قطع الله عنك القذى، فقال له: لم لم تقل لي قلع الله عنك الأسواء ؟ قال المديني: بأبي أنت وأمي ! إني نظرت فلم أر شيئاً أقبح من وجهك، فكرهت أن أقول: قلع الله عنك الأسواء؛ فأكون قد دعوت عليك فيتركك الله بدناً بلا رأس.
قال أبو العيناء: استودع رجل عند إمام حلته قارورة زنبق فجحده إياها، وقام يصلي بهم شهر رمضان وقرأ: " قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون " وكررها. فقال الرجل: قارورة زنبق.
المهدي ينفرد من عسكره
انفرد المهدي من عسكره فاجتاز برجل على ماء، فقال: ألك طعام ؟ قال: نعم ! وقدم إليه سفرة كانت معه، فأكل المهدي ثم غسل يده. فقال له الرجل: أصلحك الله ! معي شراب فهل لك فيه؟ قال: نعم ! فشرب، فلما انتشى قال للرجل: أتعرفني ؟ قال: لا. قال: أنا صديق لوزير أمير المؤمنين، وسأسأله في أن يسبب لك أسباباً تنتفع بها؛ ثم شرب قدحاً ثانياً، وقال: أتعرفني من أنا؟ فقال: لقد قلت إنك صديق لوزير أمير المؤمنين. فقال: أنا وزير أمير المؤمنين. ثم شرب ثالثاً. وقال: أتدري من أنا ؟ فقال: قل لكي أرى. قال: أنا أمير المؤمنين. فسد الرجل ركوته ونحاها ناحيةً، فقال له المهدي: ما لك عجلت برفعها ؟ قال: شربت ثلاثة أقداح فادعيت الخلافة؛ فإن شربت الرابعة ادعيت النبوة، فليس بيني وبينك عمل. فضحك المهدي وأدركته الخيل فجعلوا يترجلون ويسلمون عليه بالخلافة، ثم ركب المهدي وأمرهم بالتحفظ على الرجل؛ فلما تيقن الرجل الأمر سألهم أن يقربوه من أمير المؤمنين، فقربوه منه. فقال: يا أمير المؤمنين، نصيحة، فأدناه، فقال: ما رأيت أصدق منك في دعواك، وغن ادعيت الرابعة، فأنا أول مؤمن بك. فضحك المهدي منه وأمر له بصلة وضمه إلى ندمائه.
من شعر إسماعيل بن جامع
قال سفيان بن عيينة وقد رأى إسماعيل بن جامع السهمي وعليه بزة وأثواب حسان؛ فقال: لقد أثرى هذا الفتى، فعلام يحيا ويعطى ؟ قالوا: إنه يغني هؤلاء الملوك، قال: بماذا يغنيهم ؟ أتحفظون شيئاً مما يقول ؟ فأنشده بعضهم:
أطوف نهاري مع الطائفين ... وأرفع من مئزري المسبل
قال: أحسن، ثم ماذا ؟ فأنشدوه:
وأسجد بالليل حتى الصّباح ... وأتلو من المحكم المنزل
قال: أجاد والله. ثم ماذا ؟ فأنشدوه:
عسى فارج الكرب عن يوسفٍ ... يسخّر لي ربّة المحمل
فقال: آه آه آه ! أمسك عليك، اللهم لا تسخرها له.
ابن جامع أطيب الناس غناء
وكان ابن جامع أطيب الناس غناءً، فاعتقد بغنائه عقداً نفيسة، وأموالاً جزيلة. حكى عن نفسه قال: ضمني الدهر ضماً شديداً وأنا بمكة، فانتقلت بعيالي إلى المدينة، فأصبحت يوماً وما أملك إلا ثلاثة دراهم، فهي في كمي، وأنا جالس مع بعض أهل المدينة على مناقشة ومذاكرة إذ قال بعضنا: إنه ليبلغنا أن الرشيد يتشوق إليك وأنت ضائع في بلدنا. قال: فما لي من نهوض. قالوا: نحن ننهضك. فقمت مولياً فإذا بجارية حميراء على رأسها جرة تريد الركي، وهي تسعى بين يدي وتترنم بصوت شج في غنائها وتقول:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقال لنا ما أقصر اللّيل عندنا
إذا أقبل الليل المضرّ بذي الهوى ... جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا
وذاك لأنّ النوم يغشى عيونهم ... سريعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا

فلو أنهم كانوا يلاقون مثلما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
فأخذ غناؤها بمجامع قلبي، ولم أدرك منه حرفاً. فقلت: يا جارية؛ ما أدري أوجهك أحسن أم صوتك ؟ فلو شئت أعدت علي الوصف. قالت: حباً وكرامة. ثم أسندت ظهرها إلى الحائط ثم غنته، فوالله ما دار لي منه حرف. فقلت: يا جارية؛ فلو شئت أعدت علي الصوت مرة أخرى. قالت: حباً وكرامة، ثم أسندت ظهرها إلى الجدار ووضعت الجرة ثم غنته؛ فوالله ما دار لي منه حرف. فقلت: يا جارية؛ لقد أحسنت وتفضلت، فلو شئت أعدت الصوت مرة أخرى؛ فغضبت وكلحت وقالت: ما أعجب أحدكم يأتي إلى الجارية عليها غلة فيقول: أعيدي علي، فضربت بيدي إلى الثلاثة دراهم فدفعتها إليها فأخذتها شبيهة المتكرهة؛ وقالت: أنت تريد أن تأخذ مني صوتاً أحسبك تأخذ عليه ألف دينار وألف دينار وألف دينار. فقلت: أرجو أن يؤول الأمر إلى ما تحسبين، فانبعثت تغني، وأعملت فكري في غنائها حتى داري لي الصوت وفهمته، فانصرفت مسروراً إلى منزلي أردده حتى خلف على لساني، ثم أقبلت أريد بغداد، فنزل بي المكاري على باب المحول أولاً ولا أدري أين أتوجه، ولا من أقصد ؟ حتى انتهى بي السير إلى الجسر، فرأيت الناس يعبرون؛ فعبرت معهم، حتى انتهيت إلى شارع الميدان، إلى باب الفضل بن الربيع. فرأيت هناك مسجداً مرتفعاً. فقلت: هذا مسجد قوم سراة، وحضر المغرب فلم ألبث أن جاء المؤذن، فأذن وأقام الصلاة فصليت، ثم أقمت مكاني حتى عاد المؤذن للعشاء، فأقام الصلاة فصليت على تعب وجوع، ثم انصرف الناس وبقي في المسجد رجل، فصلى خلفه جماعة، وجماعة من الخدم جلوس، وقوم ينتظرون فراغه، فصلى ملياً ثم انصرف إلي بجمع جسده، وقال لي: أحسبك غريباً. قلت: أجل، وليس لي بهذا البلد معرفة، وليست صناعتي من الصنائع التي يتيمم بها إلى أهل الخير. قال: وما صناعتك ؟ قلت: الغناء. فوثب مبادراً ووكل بي بعض من معه، فقلت للموكل بي: من هذا ؟ قال: سلام الأبرش. ثم انتهى إلى دار من دور الخلافة؛ فمشى بي في دهليزها ساعةً، حتى انتهى إلى مقصورة من مقاصيرها، فأدخلني فيها، ودعا لي بطعام؛ فأتينا بمائدة عليها من كل طعام، فأقبلت على الأكل حتى ترادت نفسي إلي؛ ثم سمعت ركضاً في الدهليز، وإذا إنسان يقول: أين الرجل ؟ فقيل: هوذا. فقال: ادعوا له بغسول وطيب وخلعة حسنة، ففعل ذلك بي وخلقت. وأخذ بيدي الرجل وحملني على دابته، وأتى بي إلى دار الخلافة، فلم يزل يجاور بي داراً بعد دار، حتى انتهى إلى دار قوراء، فيها أسرة منصوبة بعضها إلى بعض، فلما انتهى بي إلى تلك الأسرة، أمرني بالصعود فصعدت، وإذا رجل جالس وعن يمينه ثلاث جوار في حجورهن العيدان، وفي حجر الرجل عود، فرحب بي ذلك الرجل، وإذا مجالس قد كان فيها قوم فقاموا عنها، ثم لم ألبث أن أخرج خادم من وراء الستر؛ فقال للرجل: تغن؛ فغنى الصوت فوالله ما أحسن الغناء ولا أحسن الصوت، وهو هذا:
لم تمش ميلاً ولم تركب على جملٍ ... ولم تر الشمس إلاّ دونها الكلل
فقام الخادم إلى الجارية التي تلي الرجل، فقال: تغني؛ فغنت بصوت لين كانت فيه أحسن من الرجل حالاً، ثم قال للثانية فغنت، وللثالثة فغنت بصوت لحنين؛ ثم عاد الخادم فقال لي: تغن رحمك الله ! فغنيت بصوت الرجل على غير ما غناه، فإذا نحو من خمسين خادماً يحضرون إلى الأسرة، فقال لي: ويحك ! لمن هذا الغناء ؟ قلت: لي، فانصرفوا وخرج الخادم فقال: كذبت، هذا الغناء لإسماعيل بن جامع. قال: فسكت، ثم دار الدور، فلما انتهى إلي خرج الخادم فقال: تغن رحمك الله ! فقلت في نفسي: أي شيء أنتظر، فاندفعت أغني بصوت لا يعرف إلا لي:
عوجي عليّ فسلّمي جبر ... كيف الوقوف وأنتم سفر
ما نلتقي إلاّ ثلاث منى ... حتى يفرّق بيننا الدّهر

قال: فزلزلت عليهم الدار، وخرج الخادم فقال: لمن هذا الغناء ؟ فقلت: لي. فقال: كذبت، هذا غناء إسماعيل بن جامع، فما شعرت إلا وأمير المؤمنين وجعفر بن يحيى قد أقبلا من وراء الستر الذي كان يخرج منه الخادم. فقال لي الربيع: هذا أمير المؤمنين قد أقبل عليك. فلما صعد السرير وثبت على قدم أمير المؤمنين أقبلها، فقال: ابن جامع ؟ قلت: ابن جامع، جعلني الله فداك. قال: اجلس يابن جامع، وجلس أمير المؤمنين وجعفر في المواضع الخالية. فقال لي: يابن جامع؛ أبشر وابسط أملك؛ فدعوت له. ثم قال لي: غنّ يابن جامع، فخطر ببالي صوت الجارية المدنية فغنيته، فنظر أمير المؤمنين إلى جعفر، وقال: أسمعت كذا قط ؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما خرق سمعي مثل هذا. فرفع الرشيد رأسه إلى خادم وقال له: كيس فيه ألف دينار، فمضى الخادم فلم يلبث أن جاء بكيس فيه ألف دينار، فصيرته تحت فخذي. ثم قال: يا إسماعيل؛ غنّ ما حضرك؛ فأقبلت أقصد إلى الصوت بعد الصوت، فلم أزل كذلك إلى أن عسعس الليل. فقال: يا إسماعيل، قد أتعبناك هذه الليلة للسرور بغنائك؛ فأعد على أمير المؤمنين الصوت الذي تغنيت أولاً، فغنيته؛ فرفع رأسه إلى الخادم، فقال له: كيس فيه ألف دينار، فذكرت قول الجارية لي: إني أحسبك تأخذ فيه ألف دينار وألف دينار وألف دينار. ثم قال: انصرف، فبقيت لا أدري أين أقصد في ذلك الوقت؛ فما هو إلا أن نزلت عن الأسرة حتى وثب إلي فراشان فأخذ أحدهما بيدي، فمضيا بي ولا أدري إلى أين يتوجهان، حتى وقفا على باب داري هذه، فإذا أمير المؤمنين قد أمر سلاماً الأبرش فابتاع داراً، وحشاها بالجواري والخدم والوصفاء والفرش والطعام والشراب. ورفع إلي أحدهما إضبارة مفاتيح. فقال: ادخل، بارك الله لك. هذا مفتاح بيت مالك، وهذا مفتاح حجر جواريك، وهذا مفتاح بيت فرشك وآنيتك؛ فدخلت الدار وأنا أيسر أهل بغداد وأحسنهم حالاً، والحمد لرب العالمين.

من مليح ما جاء في المغنيات والغناء
ومن مليح ما جاء في المغنيات والغناء قول بشار بن برد:
وصفراء مثل الزعفران شربتها ... على وجه صفراء الترائب رود
حسدت عليها كلّ شيءٍ يمسّها ... وما كنت لولا حسنها بحسود
كأنّ مليكاً جالساً في ثيابها ... تؤمّل رؤياه عيون وفود
من البيض لم تسرح على أهل ثلّةٍ ... سواماً ولم ترتفع حداج قعود
إذا نطقت صحنا وصاح لها الصّدى ... صياح جنودٍ وجّهت لجنود
تميت به ألبابنا وقلوبنا ... مراراً وتحييهنّ بعد همود
ظللنا بذاك الديدن اليوم كلّه ... كأنّا من الفردوس تحت خلود
ولا بأس إلاّ أننا عند أهلها ... شهودٌ وما ألبابنا بشهود
وقال:
لعمر أبي زوّارها الصّيد إنّنا ... لفي منظرٍ منها وحسن سماع
تصلّي لها آذاننا وعيوننا ... إذا ما التقينا والقلوب دواعي
وقال:
وصفراء مثل الخيزرانة لم تعش ... ببؤسٍ ولم تركب مطيّة راعي
جرى اللؤلؤ المكنون فوق لسانها ... لزوّارها من مزهرٍ ويراع
إذا قلّدت أطرافها العود زلزلت ... قلوباً دعاها للوساوس داع
كأنهم في جنّةٍ قد تلاحقت ... محاسنها من روضةٍ ويفاع
يروحون من تغريدها وحديثها ... نشاوى وما تسقيهم بصواع
لعوبٌ بألباب الرجال إذا رنت ... أُضيع التقى والغيّ غير مضاع
والشعر في هذا المعنى واسع الذرع، سابغ الدرع؛ ولأبي الفتح كشاجم فيه كل شيء مليح، فمن ذلك قوله:
جاءت بعودٍ كأنّ الحبّ أنحله ... فما يرى فيه إلاّ الوهم والشبح
فحرّكته وغنّت في الثقيل لنا ... صوتاً به النار في الأحشاء تنقدح
بيضاء يحضر طيب العيش إن حضرت ... وإن نأت عنك غاب اللهو والفرح
كلّ اللّباس عليها معرضٌ حسنٌ ... وكلّ ما تتغنّى فيه مقترح
وهذا مقول عبد الله بن المعتز:
وغنّت فأغنت عن المسمعي ... ن وارتجّ بالطرب المجلس

محاسنها نزهةٌ للعيون ... ومعرضها كلّ ما تلبس
ولأبي الفتح:
جاءت بعودٍ كأنّ نغمته ... صوت فتاةٍ تشكو فراق فتى
محفّفٍ حفّت النفوس به ... كأنّما الزهر حوله نبتا
دارت ملاويه فيه واختلفت ... مثل اختلاف اليدين شبّكتا
لو حرّكته وراء منهزمٍ ... على بريدٍ لعاج والتفتا
يا حسن صوتيهما كأنهما ... أُختان في صنعةٍ تراسلتا
تراه عنها ينوب إن سكتت ... طوراً وعنه تنوب إن سكتا
وله:
آه من بحّةٍ بغير انقطاع ... لفتاةٍ موصولة الإيقاع
أتعبت صوتها وقد يجتنى من ... تعب الصوت راحة الأسماع
فغدت تكثر الشّحاج وحطّت ... طبقات الأوتار بعد ارتفاع
كأنين المحبّ ضعّف منه ... صوت شكواه شدّة الأوجاع
وله:
أشتهي في الغناء بحّة حلقٍ ... ناعم الصوت متعبٍ مكدود
لا أُحبّ الأوتار تعلو كما لا ... أشتهي الضرب لازماً للعمود
وأحبّ المجنبات كحبّي ... للمبادي موصولةً بالنشيد
كهبوب الصّبا توسّط حالاً ... بين حالين شدةٍ وركود
وله أيضاً:
غنّت فخلت أظنّني طرباً ... أسمو إلى الأفلاك أو أرقى
لو لم تحرّكه أناملها ... كان الهواء يعيده نطقا
جسّته عالمةً بجسّتها ... جسّ الطبيب لمدنفٍ عرقا
فحسبت يمناها، وقد ضربت ... رعداً وخلت يسارها برقا
وأبو الفتح كشاجم هذا اسمه محمود بن الحسن بن السندي، من أهل هذه الصناعة، وله في الغناء كتاب مليح. وقد دل على فعاله بمقاله:
أفدي التي كلف الفؤاد من أجلها ... بالعود حتى شفّني إطرابا
باهت بجمع صناعتين فأظهرت ... كبراً لذاك وأُعجبت إعجابا
قالت فضلتك بالغناء وأنت لا ... تشدو، وكنّا مثلكم كتّابا
فعبثت بالأوتار حتى لم أدع ... نغماً ولم أعقل لهنّ حسابا
وألفتها فأغار ذاك على يدي ... قلمي وعاتبها عليه عتابا
فجعلت للقرطاس جانب صدره ... وجعلت جانب عجزه مضرابا
وكان كامل آلات الظرف، جامعاً لخلال الأدب واللطف، وله تآليف ملاح، تدل على معرفته وتوسعه، وقد ذكروا أنه سمى نفسه كشاجم لما يعلمه؛ فالكاف من كاتب، والشين من شاعر، والألف من أديب، والجيم من منجم، والميم من مغن.
وقال أبو عثمان سعيد بن الحسن الناجم:
لقد جاد من عابثٍ ضربها ... وزاد كما زاد تغريدها
إذا نوت الصوت قبل الغنا ... ء أنشدنا شعرها عودها
وقد قال أستاذه ابن الرومي في نحوه:
ضربك في عودك لم يخرجا ... عن حاله، والعود في الضرب
كأنّما وقعهما في الحشا ... وقع الحيا في زمن الجدب
أخذ هذا أبو الحسن المنجم بن يونس المصري فقال:
غنّت فأخفت صوتها في عودها ... فكأنّما الصوتان صوت العود
غيداء تأمر عودها فيطيعها ... أبداً ويتبعها اتباع ودود
أندى من النّوّار صبحاً صوتها ... وأرقّ من نشر الثنا المعهود
فكأنّما الصوتان حين تمازجا ... ماء الغمامة وابنة العنقود
ومثل هذا:
سلامة بن سعيد ... يجيد حثّ الراح
إذا تغنّى زمرنا ... عليه بالأقداح
وقال الناجم:
تأتي أغاني عابث ... أبداً بأفراح النفوس
تشدو فترقص الرؤو ... س لها وتزمر الكؤوس
وقال:
وما صدحت عابث ومزهرها ... إلاّ وثقنا باللهو والفرح
لها غناءٌ كالبرء في جسد ... أضناه طول السّقام والتّرح
تعبدها الراح فهي ما صدحت ... إبريقنا ساجداً إلى القدح
وقال:
إذا أنت ميّزت بين الغنا ... ء ميّزتها الأحذق الأطيبا
تهزّ القريض بألحانها ... كما هزّت الغصن ريح الصّبا
وقال:

ما تغنّت إلاّ تكشّف همٌّ ... عن فؤادٍ وأقلعت أحزان
تفضل المسمعين حسناً وطيباً ... مثل ما يفضل السماع العيان
وقال:
ما نطقت عابث ومزهرها ... إلاّ ظللنا للراح نعملها
تطلب أوتارها الهموم بأو ... تارها فما تستفيق تقتلها
وقال:
لها غناء مطرب معجب ... يفعل ما تفعله الخمره
تشوق الأُذن إلى شدوها ... تشوّق العين إلى الخضره
كأنما فرحة من زارها ... فرحة من طارت له القمره
لو أن إسحاق شدا شدوها ... لخلت من يسمع في سحره
مندرةٌ في كل ألحانها ... لا كالتي تحسن في النّدره
وقال:
لقد برعت عابث في الغنا ... وزادت فأربت على البارع
يسبّح سامعها معجباً ... وأصواتها سبحة السامع
وقال:
شدوٌ ألذّ من ابتدا ... ء العين في إغفائها
أحلى وأشهى من منى ... نفسٍ وصدق رجائها
وقال ابن الرومي في بستان جارية أم علي بنت الراسبي:
واهاً لذاك الغناء من طبق ... على جميع الأنام مقتدر
أضحت من الساكني حفائرهم ... سكنى الغوالي مداهن السرر
يا مشرباً كان لي بلا كدرٍ ... يا سمراً كان لي بلا سهر
أصبحت بالترب غير راجحة ... عنه وقد ترجحين بالبدر
وتبعه الناجم، فقال في عجاب جارية أبي مروان:
أضحى الثرى بجوارها ... عطر المسالك والمسارب
حلّت حفيرتها حلو ... ل المسك في سرر الكواعب
يا درّة كانت تضي ... ء لناظري من كلّ جانب
وهذا من قول بشار:
درّةٌ حيثما أديرت أضاءت ... ومشمٌّ من حيث ما شمّ فاحا
وجنانٌ قال الإله لها كو ... ني فكانت روحاً وروحاً وراحا
وله:
تلقى بتسبيحةٍ من حسن ما خلقت ... وتستفزّ حشا الرائي بإرعاد
كأنّما صوّرت من ماء لؤلؤة ... فكلّ جارحةٍ وجهٌ بمرصاد
والبيت الأول من هذين قد تقدم نظيره من قول الناجم.

من ظن به خير فانكشف عن شر
رجع ما انقطع: ممن ظن به خير فانكشف عن شر، قال يزيد بن هارون: كنت بالحيرة فرأيت شيخاً عليه طيلسان، وعلى رأسه طويلة، وله سمت حسن، فرجوت أن يكون عنده حديث فقلت: يا شيخ؛ عندك حديث ؟ فقال: أما حديث فلا، ولكن عندي قديم طيب؛ فإذا هو خمار.
وسال العقيق في بعض السنين، فخرج الناس إلى الصحراء وفيهم سفيان الثوري؛ فلما كثر الناس انكفأ يريد منزله، فبصر بشيخ ضرير قد أهدف على المائة وبيده عصاً يخترق صفوف النساء، وهو يبكي بكاءً شديداً؛ فظن سفيان أن بكاءه لما فرط له معهن، فنظر إليه حتى إذا صار في آخر الصفوف جنح على محجته واستقبلهن بوجهه، وكفكف عن عبرته وأنشأ:
عليكنّ السلام فليس منّي ... لكنّ فدعنني غير السلام
تحالفت العصا لتشدّ ظهري ... وتجبر عثري عند القيام
فقال له سفيان: أما كان لك فيما مضى من عمرك عظة عن معاصي الله عز وجل ؟ فقال: بأبي أنت ! تمنعني من تلك الحوراء الطرف، الوافية الردف، الحسنة التبختر، الوانية التكسر، كالظبي الغرير، والمهاة عند الغدير، التي يقول في صويحباتها الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما يرى ... فإذا عطلن فهنّ خير عواطل
يرمينني لا يستترن بجنّةٍ ... إلاّ الصّبا أين مقاتلي
يلبسن أردية الشباب لأهلها ... ويجرّ باطلهنّ حبل الباطل
فمضى سفيان يستعيذ بالله منه.
ومثل قوله قول كشاجم:
يقولون تب والكاس في يد أغيد ... وصوت المثاني والمثالث عالي
فقلت لهم لو كنت عاينت توبةً ... وعاينت هذا في المنام بدا لي
من ظريف الصفات
وما جرى ههنا شوطاً في ظريف الصفات، يطيب مغناه ويحسن معناه. قال أشجع بن عمرو:
وماجت كموج البحر بين ثيابها ... يميل بها شطرٌ ويعدلها شطر
إذا وصفت ما فوق مجرى وشاحها ... غلائلها ردّت شهادتها الأزر

البحتري:
رددن ما خفقت منها الخصور إلى ... ما في المآزر فاستثقلن أردافا
إذا نضون شغوف الريط آونةً ... قشرن عن لؤلؤ البحرين أصدافا
ابن الرومي:
النار في خدّيه تتّقد ... والماء من برديه يطّرد
ضدّان قد جمعا كأنّهما ... دمعي يسحّ ولوعتي تقد
وقال:
صدور فوقهنّ حقاق عاجٍ ... ودرٌّ زانه حسن اتّساق
يقول القائلون إذا رأوه ... أهذا الدرّ من تلك الحقاق ؟
أخذه من قوله عبد الله بن السمط:
كأن الثدي إذا ما بدت ... وزان العقزد بهنّ النحورا
حقاقٌ من العاج مكنونةٌ ... حملن في الدرّ شيئاً يسيرا
أبو النجم الكاتب:
فيا عجبي من صورةٍ آدميّةٍ ... علاها بياض الشمس في صفرة القمر
فجاءت كمثل الدرّ يشرق لونها ... وريحانة البستان للشمّ والنظر
يذكرني رؤياك ريحاً مريضة ... جرت بنسيم الروض في غلس السّحر
ابن الرومي:
فالعين لا تنفكّ من نظرٍ ... والقلب لا ينفكّ من فكر
ومحاسن الأشياء فيك معاً ... فملالتيك ملالتي بصري
وقال:
لا شيء إلاّ وفيه أحسنه ... فالعين منه إليه تنتقل
فوائد العين فيه طارفة ... كأنما أخرياتها الأول
وقال عبد القادر بن شعيب السلمي:
يا حصن مسلمة الذي أهدى لنا ... حور الظباء سقيت صوب الماطر
قد كان يبلغني فكنت مكذباً ... عن حسن أهلك في الزمان الغابر
حتى رأيت الشمس أشرق نورها ... في الحيّ بين خلاخلٍ وأساور
ورأيت غزلان الخدور سوافراً ... يبسمن عن كالأقحوان الزاهر
فجنيت من ثمر الصبابة والهوى ... وشممت من ورق السرور الناضر
فرمين منّي مقتلاً فقتلنني ... يا من رأى ليثاً قتيل جآذر
ومر أعرابي بأبي نواس وهو ينشد بعض الأمراء:
ويلي على نجل العيو ... ن النّهد والقبّ البطون
الكاتبات عن الضمي ... ر لنا بألسنة الجفون
فقال الأعرابي: ويلك أنت وحدك من هذا ؟ بل ويلي أنا وويلي أبي وأمي وبني عمي، وهذا الفاعل القائم بين يديك.

التقعر في الكلام
كان رجل من التجار له ولد يتقعر في كلامه، ويستعمل الغريب؛ فجفاه أبوه استثقالاً له وتبرماً به، ومما كان يأتي به، فاعتل أبوه علةً شديدة أشرف منها على الموت. فقال: أشتهي أن أرى ولدي، فأحضروهم بين يديه وأخر هذا ثم أخر حتى لم يبق سواه، فقالوا له: ندعو لك بأخينا فلان ؟ فقال: هو والله يقتلني بكلامه، فقالوا: قد ضمن ألا يتكلم بشيء تكرهه؛ فأذن لهم. فلما دخل قال: السلام عليك يا أبت، قل أشهد أن لا إله إلا الله، وإن شئت قل أشهد أن لا إله إلا الله؛ فقد قال الفراء: كلاهما جائز، والأولى أحب إلى سيبويه. والله يا أبتي ما شغلني غير أبي علي، فإنه دعاني بالأمس، فأهرس وأعدس، وأرزز وأوزز، وسكبج وسبج، وزربج وطبهج، وأبصل وأمصل، ودجدج وافلوذج ولوزج.
فصاح أبوه العليل: السلاح السلاح، صيحوا لي بجارنا الشماس لأوصيه أن يدفنني مع النصارى وأستريح من كلام هذا البندق.
وهاج بأبي علقمة النحوي دم فأتوه بحجام؛ فقال له: اشدد قصب المحاجم، وأرهف ظبات المشارط، وأسرع الوضع، وعجل النزع، وليكن شرطك وخزاً، ومصك نهزاً، ولا تكرهن أبياً، ولا تردن أتياً.
فقال الحجام: ابعث خلفي عمرو بن معديكرب، وأما أنا فلا طاقة لي بالحرب.
وهاج به مرار فسقط فأقبل قوم يعضون إبهامه، ويؤذنون في أذنه؛ فقام من غمرات غشيته، فقال: ما لكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة؛ افرنقعوا عني. فقال بعضهم: اتركوه فإن جنيته تتكلم بالهندية.

وقال أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن اليتيم: كنت أماشي أبا جعفر بن النحاس حتى وقفنا على بائع تمر، فقال له أبو جعفر: كيف تبيعني ؟ قال: ثلاثة ونص بدرهم. قال له: قل ثلاثة ونصف بدرهم. قال: ثلاثة ونصف بدرهم. فقال له: قل ثلاثة ونصف بالكسر، فضجر وقال: ونصف، أفرغ لسانك فنحن في بيع وشراء لسنا في نحو. قال: فاجعله أربعة ؟ قال: أفعل يا بغيض، فوزن له بدرهم؛ فقال له أبو جعفر: أدر الصنجة من الكفة إلى الكفة، فقال: أنا أعرف ابن النحاس فإنه أحمقكم، قال ابن اليتيم فقلت له: أبيت أن تنصرف إلا مصفوعاً.
وكان أبو العباس مليح الشعر وهو القائل:
لا لأني أنساك أُكثر ذكرا ... ك ولكن بذاك يجري لساني
أنت في القلب والجوانح والرو ... ح وأنت المنى وأنت الأماني
كل عضوٍ منّي يراك من الشو ... ق بعينٍ غنيةٍ عن عياني
ودخل بستان حسين بن الماذرائي فعلق بثوبه غصن ورد فقال:
علق الورد بي وقال إلى أي ... ن وعندي روائح الأحباب
قلت آليت لا أشمّك حتّى ... أتروّى من الثنايا العذاب
وقال:
يا زائري في ظلمة ال ... ليل البهيم على وجل
حافٍ وقد جعل القنا ... ع على النهار من الخجل
هلاّ انتعلت بوجنت ... يّ فكان يضرب بي المثل
سبحان من جعل الخدو ... د عذاب قلبي والمقل

الفرزدق وخالد بن صفوان
قال خالد بن صفوان للفرزدق: يا أبا فراس، لو رأتك صويحبات يوسف لما أكبرنك ولا قطعن أيديهن ؟ فقال: وأنت يا خالد، لو رأتك صاحبة موسى لما قالت: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين.
ووهب رجل لابن سيابة ديناراً، ثم بعث إليه ليأنس به، فكتب إليه: شغلتنا أموالنا وأهلونا.
وجاور ابن سيابة قوماً فأزعجوه. فقال: ولم تخرجوني من جواركم ؟ قالوا: أنت مريب، قال: فمن أذل من مريب وأحسن جواراً.
وفيه يقول عتبة الأعور:
يابن الذي عاش غير مهتضمٍ ... يرحمه اللّه أيّما رجل
له رقاب الملوك خاضعةٌ ... ما بين حافٍ منهم ومنتعل
أبوك أوهى النّجاد عاتقه ... كم من كميّ أردى ومن بطل
يأخذ من ماله ومن دمه ... لم يمس من دائر على وجل
في كفّه صارمٌ يقلّبه ... يقدّ أعناق سادةٍ نبل
وهذا بديع في وصف حجام.
وقال آخر يصف حجاماً:
له جونةٌ فيها ثلاثون مخلباً ... مناقيرها بيضٌ وأجوافها حمر
إذا عوّج الكتّاب يوماً سطورهم ... فليس بمعوجّ له أبداً سطر
وصف بعض المزينين
وقد قال بعض المزينين:
قصصت بموسى الغدر ناصية العهد ... وأجريت شرط البين في جبهة الودّ
قططت بمقراض الجفا طرّة الوفا ... فجبهة وجه الودّ مكشوفة الجلد
وما زلت مصّاصاً بجمجمة القلى ... أخا النأي في العتبى على القرب والبعد
كلام مستطرف لأهل الصناعات من طريق صناعاتهم
ولأهل الصناعات من طريق صناعاتهم كلام مستظرف؛ وربما اتفقت الاستعارة مطردة للشاعر على معنى في صناعة، حتى كأنه عانى تلك الصناعة بما جرى على لسانه من البراعة، في وصف حقائقها، ونعت طرائقها؛ كقول عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع.
غرست الهوى حتى إذا أورق الهوى ... فأينع في أغصانه ثمر الوصل
وحفّت به أنهاره في غياضه ... فأصبح ملتفّ الحدائق بالحمل
ولم يبق إلا المجتنى من ثماره ... سرور التصافي والمودة والبذل
أطاف بنا ريح الوشاة فهيّجت ... سحابة هجران تكفّ على رسل
فمالت عزاليها عليه فأحرقت ... غصون الهوى والودّ منّا بلا دخل
ودبّت سيول الهجر حول أصوله ... فأغصانه فاستقلعته من الأصل
وقال علي بن هشام:
حصد الحبيب وصالنا بمناجلٍ ... طبع المناجل من حديد البين
والشوق يطحنه بأرحية الهوى ... والعين تعجنه بماء العين
والقلب يخبزه بنيران الأسى ... والنفس تأكله بلونٍ لون

قال الجاحظ: سألت وراقاً عن حاله ؟ فقال: عيشي أضيق من محبرة، وجسمي أدق من مسطرة، وجاهي أرق من الزجاج، ووجهي عند الناس أشد سواداً من الحبر بالزاج، وحظي أخفى من شق القلم، وجسمي أضعف من قصبة، وطعامي أمض من الحبر، وشرابي أمر من العفص؛ وسوء الحال ألزم بي من الصمغ. فقلت: لقد عبرت ببلاء عن بلاء.
وللجاحظ في هذا النوع رسالة كتب بها إلى المعتصم، وقيل إلى المتوكل في الحض على تعليم أولاده ضروب العلوم وأنواع الأدب وهي: يا أمير المؤمنين: علم بنيك من أنواع الأدب ما أمكن؛ فإنك إن أفردتهم بشيء واحد ثم سئلوا عن غيره لم يعرفوه؛ وذلك أن حزاماً صاحب خيلك حين سألته عن الوقعة ببلاد الروم، قال: لقيناهم في مقدار الإصطبل، فما كان إلا بمقدار ما يحس الرجل دابته حتى قتلناهم؛ فتركناهم في مثل نثير السرجين، فلو طرحت روثة لما سقطت إلا على ذنب برذون.
وكان قد أنشد في الغزل:
غن يهدم الصدّ عن قلبي مذاوده ... فإنّ قلبي بقتّ الصبر معمور
ويح امرىءٍ في وثاق الحبّ يكبحه ... لجام هجرٍ على الأسقام مقرور
أنل خليلك نيلاً من وصالك أو ... حسن الرقاد فإنّ النوم مأسور
أمنت فتل شكالي حين ودّعني ... ومبضع الحب في كفيه مطرور
لبست برقع هجر بعد ذلك في ... إصطبل ودّ فروث الحبّ منثور
وسألت بختيشوع الطبيب عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مقدار ساحة البيمارستان؛ فما كان إلا بمقدار ما يختلف الرجل مقعدين حتى تركناهم في محقنة ثم قتلناهم، فلو طرحت مبضعاً لما وقع إلا على أكحل رجل.
وكان قد قال في الغزل:
شرب الوصل بجنح الهجر فاستط ... لق بطن الوصال بالإسهال
ففؤاد المحبّ ينحله السّه ... د وقلبي معلّقٌ بالمطال
وفؤادي مبرسمٌ ذو زحيرٍ ... يابن ماسويه ضاق احتيالي
لو ببقراط بعض ما بي وجالي ... نوس ماتا منه بأسوأ حال
وسألت جعفر الخياط عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مثل سوق الخلقان؛ فما كان إلا بقدر ما يخيط الرجل درزاً، حتى تركناهم في أضيق من جربان، فلو طرحت إبرة لما وقعت إلا على درز رجل.
وكان قد قال في الغزل:
فتقت بالهجران درز الهوى ... بإبرة من إبر الصدّ
فالقلب من ضيق سراويله ... يعثر بي في تكّة الجهد
حسدتني يا طيلسان الهوى ... منه على سوءٍ شقا جدّي
أزرار عيني فيك موصولةٌ ... بعروة الدّمع على خدّي
يادستبان القلب يا زيقه ... عذّبني الدركنز بالوعد
قد قصّ ما أعرف من وصله ... مقراض بين مرهف الحدّ
يا حجزة النفس ويا ذيلها ... ما لي من وصلك من بدّ
ويا جرّبان سروري ويا ... جيب غرامي حلت عن عهدي
وسألت إسحاق بن إبراهيم عن ذلك وكان زارعاً فقال: لقيناهم في مثل جريب من الأرض؛ فما كان إلا بقدر ما يسقي الرجل مشارة حتى قتلناهم عن آخرهم، فلو طرحت منجلاً لما سقط إلا على رأس رجل؛ فصاروا مثل أكوام التبن إذا خرج عن الحب.
وكان قد قال في الغزل:
زرعت هواه في جريبٍ مثلّثٍ ... وأسقيته ماء الدوام على العهد
فلما تعالى النبت واخضرّ يانعاً ... وأفرك حبّ الحبّ في سنبل الودّ
أتته أكفّ الهجر فيها مناجلٌ ... فأسرعن فيه حين أدرك بالحصد
فيا شؤم مالي إذ يعطل للشقا ... ويا ويح ثوري صار معلفه كبدي
وسألت فرجاً الرخجي عن مثل ذلك وكان خبازاً فقال: لقيناهم في مثل مقدار جفنة، فما كان إلا بقدر ما يعجن الرجل قفيزاً أو يخبز أرغفة، حتى صيرناهم في أضيق من جحر التنور، فلو طرحت جردقاً لما وقع إلا في خوان الخبز على كثرة القتلى.
وقد كان أنشد في الغزل:
قد عجن الهجر دقيق الهوى ... في جفنةٍ من خشب الصدّ
فاختمر البين فنار الهوى ... تزجي بشوك الهجر من بعدي
وأقبل الصدّ بهجرانه ... يفحص عن أرغفة الوجد
جرادقاً للوعد مسمومةً ... مثرودةً في قصعة الجهد

وسألت عبد الله بن عبد الصمد عن مثل ذلك وكان مؤدباً فقال: لقيناهم في مقدار كنف، فما كان إلا بمقدار ما يقرأ الصبي إمامة، حتى تركناهم في أضيق من فم الرقم، فلو طرحت دواةً لما سقطت إلا على حجر قتيل.
وقد كان قال في الغزل:
قد أمات الهجران صبيان قلبي ... ففؤادي مولّهٌ ذو خبال
كسر البين لوح وصلي فما أط ... مع ممن هويته في وصال
وقع الرقم عن دواتي فمذ أطل ... ق مولاي حبله من حبالي
مشق الحبّ من فؤادي لوحي ... ن فأغرى جوانحي بالسلال
لاق كبدي دواته فمداد ال ... عين مذ صدّ مالكي ذو انهمال
وسألت الجهم بن بدر عن مثل ذلك وكان صاحب حمام ت فقال: لقيناهم في مثل بيت الابتذال، فقاتلناهم بقدر ما تخلف النورة، ثم ألجأناهم إلى أضيق من الأبزن، فهزمناهم بقدر ما يغسل الرجل وجهه؛ فلو طرحت ليفة لما وقعت إلا على ظهر رجل.
وقد كان قال في الغزل:
يا نورة الهجر غلفت الصفا ... بما بدا من ليفة الصدّ
يا مبذر الأسقام حتّى متى ... تنقع في حوضٍ من الجهد
انقل ذيول الوصل لي مرة ... منك بزنبيلٍ من الودّ
فالبين مذ أوقد حمّامه ... هيّج قلبي مشلّح الوجد
أفسد خطمي الهوى والصفا ... بحاله الناقض للعهد
وسألت الحسن بن أبي قماش وكان أبوه كناساً فقال: لقيناهم بقدر ما يكنس الرجل زنبيلاً، حتى تركناهم في أضيق من جحر المخرج، فلو رميت بنت وردان لما وقعت إلا على ظهر قتيل.
وكان قد قال في الغزل:
أصبح قلبي للهوى مخرجاً ... تسلح فيه فقحة الهجر
خنافس الهجران أثكلنني ... نومي فولّى معرضاً صبري
وبنت وردان الهوى تيّمت ... عقلي فما أعقل ما أمري
وسألت أحمد الشرابي، فقال: لقيناهم في مقدار بيت شراب، فلم يكن إلا بمقدار ما يبزل الرجل دنا، حتى تركناهم في أضيق من رطلية، ثم سالت دماؤهم كالدردي، فلو طرحت كأساً لما وقع إلا في كف رجل.
وكان قد قال في الغزل:
شربت بكأس اللّهو من راحة الهوى ... ورقرقت خمر الوصل في قدح البين
فسالت دنان الحبّ يدفقها الصبا ... وكرّت قرابات دمعي على عيني
وسألت عبد الله الطاهري وكان طباخاً فقال: لقيناهم في مقدار مطبخ أمير المؤمنين، فما كان إلا بمقدار ما يشوي الرجل حملاً أو جدباً، أو يفرغ من طبخ ثلاثة ألوان، أو يعقد فالوذجةً، حتى تركناهم في أضيق من أثافي القدر، فلو طرحت ملعقة لما وقعت إلا على بطن قتيل.
وكان قد قال في الغزل:
شبه الفالوذج في حمرة الخ ... دّ ولوزينج النفوس الظماء
أنت جوزينج الفؤاد وفي اللي ... ن كلين الخبيصة الصفراء
أنت مستهترٌ بسكباج ودّ ... بعد جوزابة بجنب شواء
يا قتار القدور في يوم عرسٍ ... وشبيهاً بشهدةٍ بيضاء
أنت أشهى إلى الفؤاد من الزب ... د مع البرسيان وقت الغداء
أطعم الحاسدين ألوان غمّ ... في قصاع الأحزان والضراء
قد غلا القلب مذ خلت منك داري ... غليان القدور بعد الصّلاء
هام لمّا كسرت فيك غضارا ... ت سروري مفارق الشّحناء
إنّ إسفيداج وجهك يشفي ... من رقيق الأحزان أي شفاء
فتفضل على العميد بماء ... ورد يكبت قلوب العداء
وسألت داود الفراش عن مثل ذلك قال: لقيناهم في مثل تربيع الفسطاط، فما كان إلا بقدر ما يفرش الرجل بيتاً أو بيتين، حتى تركناهم في أضيق من صاريات ثم قتلناهم، فلو رأيت نجار التراب عليهم وقد سالت دماؤهم في حمرة الأرمني.
وكان قد أنشدني في الغزل:
كنس الهجر ساحة الوصل لمّا ... عثر البين في وجوه صفائي
فلقد بثّ في فراش همومي ... تحت خدّي وسائداً لضنائي
حين هيأت بيت حسن من الوص ... ل لأثوابه ستور إخاء

فرش الهجر لي بيوت مسوحٍ ... متّكاها مطارح الحصباء
رقّ للصبّ من بواعث وجدٍ ... قد تخالسنه صباح مساء
يا أمير المؤمنين: إنما ينطق اللسان بما يتصور الجنان، ويظهر في الكلام ما يخطر على الأوهام، فمن لم يعرف إلا شيئاً واحداً لم يتكلم إلا عليه، ومن كثر علمه كثرت خواطره، واتسعت مذاهبه، ورب هزل أنفع من جد؛ إذا أصيب به موضع الحاجة إليه، ووضع بحيث تقع همم النفوس عليه، والسلام.
والجاحظ صنع هذه الأشعار لما وضع هذه الأخبار، وكان قديراً على الشعر سراقاً له. روى أبو مسلم الكشي قال: حدثني إبراهيم بن رباح قال: مدحني حماد بن أبان اللاحقي بشعر فيه هذان البيتان:
بدا حين أثرى بإخوانه ... ففلّل فيهم شباة العدم
وذكّره الحزم غبّ الأمور ... فبادر قبل انتقال النعم
فروي هذا الشعر وعرف بالبصرة، ثم جاءني الجاحظ فمدحني بشعر أدخل فيه هذين البيتين، فاحتملت ذلك وأثبته؛ فبينما أنا جالس يوماً في مجلس أحمد بن أبي دواد والجاحظ في مجلسه، إذ قال لي أحمد ما وصفت بشيء أحسن مما مدحني به أبو عثمان، وأنشدني البيتين. فقلت: إن مادحك أعزك الله يجد فيك مقالاً والجاحظ ملأ عينيه مني ولا يستحي مني.
وله في رسالة إلى أبي الفرج محمد بن نجاح قصيدة مستحسنة أولها:
أقام يداً والخفض راضٍ بحظّه ... وذو الحظّ يسري حيث لا أحد يسري
يظنّ الرضا بالقوت شيئاً مهوّناً ... ودون الرضا كأسٌ أمرّ من الصبر
وقد طعن أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني بديع الزمان على بلاغة الجاحظ فقال: هو في أحد شقي البلاغة يقف، وفي الآخر يقتطف، والبليغ من لم يقصر نظمه عن نثره ولم يزر كلامه بشعره، أفترون للجاحظ شعراً رائقاً ؟ قالوا: لا. قال: فهلموا إلى نثره تجدوه قريب العبارات، بعيد الإشارات، قليل الاستعارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من بديعه يهمله.
وليس هذا موضع الكلام على بلاغته، وإلا فكنت أنبه على معايب كلامه ومقابحه، ومحاسن خطابه وممادحه.

وهذه أوصاف بليغة في البلاغات، على ألسنة قوم من أهل الصناعات
اجتمع قوم من أهل البلاغات، فوصفوا بلاغاتهم من طريق صناعاتهم: فقال الجوهري: أحسن الكلام نظاماً ما ثقبته يد الفكرة، ونظمته الفطنة، ونضد جوهر معانيه في سموط ألفاظه، فاحتملته نحور الرواة.
وقال العطار: أطيب الكلام ما عجن عنبر ألفاظه بمسك معانيه؛ ففاح نسيم نشقه، وسطت رائحة عبقه؛ فتعلقت به الرواة، وتعطرت به السراة.
وقال الصائغ: خير الكلام ما أحميته بكور الفكرة، وسبكته بمشاعل النظر، وخلصته من خبث الإطناب، فبرز بروز الإبريز في معنىً وجيز.
وقال الصيرفي: خير الكلام ما نفدته يد البصيرة، واجتلته عين الروية، ووزنته بمعيار الفصاحة، فلا نظر يزيفه، ولا سماع يبهرجه.
وقال الحداد: خير الكلام ما نصبت عليه منفخة الروية، وأشعلت فيه نار البصيرة، ثم أخرجته من فحم الإفحام، ورققته بفطيس الإفهام.
وقال النجار: خير الكلام ما أحكمت نجر معناه بقدوم التقدير، ونشرته بمنشار التدبير، فصار باباً لبيت البيان، وعارضةً لسقف اللسان.
وقال النجاد: أحسن الكلام ما لطفت رفارف ألفاظه، وحسنت مطارح معانيه؛ فتنزهت في زرابي محاسنه عيون الناظرين، وأصاخت لنمارق بهجته آذان السامعين.
وقال الماتح: أبين الكلام ما علقت وذم ألفاظه بكرب معانيه، ثم أرسلته بقليب الفطن، فمنحت به سقاءً يكشف الشبهات، واستنبطت به معنى يروي من ظمأ المشكلات.
وقال الخياط: البلاغة قميص فجربانه البيان، وجيبه المعرفة، وكماه الوجازة، ودخاريصه الإفهام، ودروزه الحلاوة، ولابسه جسد اللفظ، وروحه المعنى.
وقال الصباغ: أحسن الكلام ما لم تنصل بهجة إيجازه، ولم تكشف صبغة إعجازه، وقد صقلته يد الروية من كمود الإشكال، فراع كواعب الآداب، وألف عذارى الألباب.
وقال البزاز: أحسن الكلام ما صدق رقم ألفاظه، وحسن نشر معانيه، فلم يستعجم عنك نشر، ولم يستبهم عليك طي.
وقال الحائك: أحسن الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه، فخرج مفوفاً منيراً، وموشى محبراً.

وقال الرائض: خير الكلام ما لم يخرج عن حد التخليع إلى منزلة التقريب إلا بعد الرياضة؛ وكان كالمهر الذي أطمع أول رياضته، في تمام ثقافته.
وقال الجمال: البليغ من أخذ بخطام كلامه فأناخه في مبرك المعنى، ثم جعل الاختصار له عقالاً، والإيجاز له مجالاً، لم يند عن الأذهان، ولم يشذ عن الآذان.
وقال المخنث: خير الكلام ما تكسرت أطرافه، وتثنت أعطافه، وكان لفظه حلةً، ومعناه حليةً.
وقال الخمار: أبلغ الكلام ما طبخته مراجل العلم، وصفاه راووق الفهم، وضمته دنان الحكمة، فتمشت في المفاصل عذوبته، وفي الأفكار رقته، وفي العقول حدته.
وقال الفقاعي: خير الكلام ما روحت ألفاظه غباوة الشك، ورفعت رقته فظاظة الجهل، فطاب حساء فطنته، وعذب مص جرعته.
وقال الطبيب: خير الكلام ما إذا باشر بيانه سقم الشبهة، استطلقت طبيعة الغباوة؛ فشفي من سوء التفهم، وأورث صحة التوهم.
وقال الكحال: كما أن الرمد قذى الأبصار، فالشبهة قذى الأبصار، فاكحل عين اللكنة بميل البلاغة، واجل رمص الغفلة بمرود اليقظة.
ثم قال: أجمعوا كلهم على أن أبلغ الكلام، ما إذا أشرقت شمسه، انكشف لبسه، وإذا صدقت أنواؤه، اخضرت أحماؤه.
وهذا المعنى كثير، وإنما آخذ من كل فن اليسير.

من مستطرف الأخبار
وقال رجل لغلامه: التمس لي داراً لا تكون بجوار مسجد فإني أحب الأفراح، فاكترى له داراً بين مسجدين. فقال له: ما هذا ؟! قال: يا مولاي، لا تدري المعنى؛ أهل هذا المسجد يظنونك في هذا، وأهل ذا يظنونك في ذا، وأنت قد ظفرت بما تحب.
وقال أبو الجهم أحمد بن بدر للمتوكل وذكر نجاح بن سلمة أو غيره:
إمام الهدى وابن الدعاة إلى الهدى ... ومنهج خير العالمين محمّد
أعنّي على والٍ يجوز تعبّداً ... عليّ عسوف الظلم غير مؤيّد
وما لي ذنبٌ عنده غير أنني ... عليم بما يختار لليوم والغد
ولا خير للطّرار في قرب نائب ... ولا للمريب الفعل في قرب مسجد
صحب الغاضري رجلاً من قريش من مكة إلى المدينة فقال القرشي: يا غلام؛ أطعمنا دجاجةً، فأتى بها باردة، فقال: ويحك أسخنها. ورفع غداؤهم ولم يؤت بالدجاجة، فلما كان العشاء قال: يا غلام، عشاءنا. فلما أتاهم العشاء قال: هات تلك الدجاجة، فأتى بها باردة، فقال: أسخنها. فقال الغاضري: أخبروني عن دجاجتكم هذه أمن آل فرعون هي ؟ فإني أراها تعرض على النار غدوةً وعشياً.
فقال: ويحك يا غاضري اكتمها علي، ولك مني مائة دينار. فقال: والله مما كنت لأبيعها بشيء.
طيلسان ابن حرب
أخذه الحمدوني فقال في طيلسان ابن حرب:
يابن حرب أطلت ظلمي برفوي ... طيلساناً قد كنت عنه غنيّا
هو في الرّفو آل فرعون في العر ... ض على النار بكرةً وعشيّا
زرت فيه معاشراً فازدروني ... فتغنّيت إذ رأوني زريّا
جئت في زيّ سائلٍ كي أراكم ... وعلى الباب قد وقفت مليّا
وكان أحمد بن حرب المهلبي من المحسنين إليه، المنعمين عليه، وله فيه مدائح كثيرة، فوهبه طيلساناً أخضر، فوجد فيه فزراً ولم يرضه. قال أبو العباس المبرد: فأنشدنا فيه عشر مقطعات ضمن أواخرها أبيات أغان ملاحاً، فاستحلينا مذهبه فيها فجعلها خمسين شعراً فطارت كل مطير، وسارت كل مسير، حتى قال:
طيلسان لابن حربٍ ... ذو أيادٍ ليس تحصى
أنا فيه أشعر النّا ... س إذا ما الشعر نصّا
وأراني صرت أدنى ... بعد ما قد كنت أقصى
واتقاني النّاس وازدا ... دوا على شعري حرصا
ولكم قد حاز لي ... أردية تترى وقمصا
كان دهراً طيلساناً ... ثم قد أصبح شصّا
وقال ابن الرومي في هجائه عمراً الكاتب الملقب بخرطوم، وكان من خاصة القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير:
أغلقت حانوتي لطو ... ل كساده وفتحت عمرا
يا طيلسان الحمدن ... يّ شفعت فيّ وكنت وترا
عمرا أخوك جعلته ... لي مكسباً فأفدت وفرا
لا تبعدا من صاحبي ... ن لقيتما ضعةً وفقرا

قال ابن أبي عون: مر الحمدوني بابن حرب وهو جالس على باب داره وعلى كتفه وسادة. قال: لأي شيء هذه يا حمدوني ؟ قال: أرقع بها طيلسانك. قال: ما تزال تهجونا منثوراً وموزوناً !!.
ومن طريف شعره فيه:
يا طيلسان ابن حربٍ قد هممت بأن ... تودي بجسمي كما أودي بك الزمن
ما فيك من حيلة تغني ولا ثمنٍ ... قد أوهنت حيلتي أركانك الوهن
فلو تراني لدى الرّفّاء مرتبطاً ... كأنني في يديه الدهر مرتهن
أقول حين رآني الناس ألزمه ... كأنّما لي في حانوته وطن
من كان يسأل عنّا أين منزلنا ؟ ... فالأقحوانة منّا منزلٌ قمن
البيت للحارث بن خالد المخزومي.
وقال:
قل لابن حرب طيلسا ... نك قوم نوحٍ منه أحدث
أفنى القرون ولم يزل ... عمّن مضى من قبل يورث
فإذا العيون لحظنه ... فكأنّه باللحظ يحرث
يودي إذا لم أرفه ... وإذا رفوت فليس يلبث
كالكلب إن تحمل علي ... ه الدهر أو تتركه يلهث
وقال:
وهبت لنا ابن حرب طيلساناً ... يزيد المرء في الضعة اتضاعا
يسلّم صاحبي فيقدّ شبراً ... له وأقدّ في ردّي ذراعا
أجيل الطّرف في طرفيه طولاً ... وعرضاً ما أرى إلاّ رقاعا
فلست أشكّ أن قد كان قدماً ... لنوحٍ في سفينته شراعا
فقد غنّيت إذ أبصرت منه ... جوانبه على بدني تداعى
قفي قبل التفرّق يا ضباعا ... ولا يك موقفٌ منك الوداعا
البيت للقطامي عمير بن شييم التغلبي: وقال فيه:
قل لابن حرب طيلسانك قد ... أوهى قواي بكثرة القدم
متبيّنٌ فيه لمبصره ... آثار رفو أوائل الأُمم
فكأنّه الخمر التي وصفت ... في يا شقيق النفس من حكم
فإذا رممناه فقيل لنا ... قد صح قال له البلى: انهدم
مثل السقيم برا فعاوده ... نكسٌ فأسلمه إلى سقم
أنشدت حين طغى فأعجزني ... ومن العناء رياضة الهرم
والخمرة التي وصفت فيما ذكر لأبي نواس:
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم
فاسقني الخمر التي اعتجرت ... بخمار الشيب في الرّحم
ثمّت انصات الشباب لها ... بعد أن جازت مدى الهرم
فهي لليوم الذي بزلت ... وهي تلو الدهر في القدم
عتّقت حتى لو اتصلت ... بلسانٍ ناطقٍ وفم
لاحتبت في القوم مائلة ... ثم قصّت قصة الأمم
فرعتها بالمزاج يدٌ ... خلقت للكأس والقلم
في ندامى سادة نجب ... أخذوا اللذّات من أمم
فتمشّت في مفاصلهم ... كتمشّي البرء في السقم
صنعت في البيت إذ مزجت ... كصنيع الصّبح في الظلم
فاهتدى ساري الظلام بها ... كاهتداء السفر بالعلم
وزعم ابن قتيبة أن هذا الشعر لوالبة بن الحباب، وإنما يخاطب به أبا نواس الحكمي. وقال غيره: بل الشعر لأبي نواس وإنما أغار على والبة في قوله:
يا شقيق النفس من أسد ... لم تنم عيني ولم تكد
وقال الحمدوني:
طيلسانٌ لابن حرب جاءني ... قد قضى التمزيق منه وطره
أنا من خوفي عليه أبداً ... سامريٌّ ليس يألو حذره
يابن حربٍ خذه أو فابعث بما ... يشتري عجلاً بصفر عشره
فلعلّ اللّه يحييه لنا ... إن ضربناه ببعض البقره
فهو قد أدرك نوحاً، فعسى ... عنده من علم نوحٍ خبره
أبداً يقرأُ من أبصره ... أئذا كنّا عظاماً نخره
وكان يقول: أنا ابن قولي، يريد أنتسب إليه كما أنتسب إلى أبي. وقال:
يابن حرب كسوتني طيلساناً ... ملّ من صحبة الزمان وصدّا
فحسبنا نسج العناكب إذ قي ... س إلى ضعف طيلسانك سدّا

إن تنسمت فيه ينجرّ جرّاً ... أو تبسمت منه ينقدّ قدّا
طال ترداده إلى الرّفو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدّى
وكان أبو تمام يقول: أنا ابن قولي:
نقّل فؤادك أين شئت من الهوى ... ما الحبّ إلاّ للحبيب الأوّل
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأوّل منزل
وقال الحمدوني في الطيلسان:
ولي طيلسانٌ إن تأمّلت شخصه ... تيّقنت أنّ الدهر يفنى وينقرض
تصدّع حتّى قد أمنت انصداعه ... وأظهرت الأيام من عمره الغرض
فلو أنّ أصحاب الكلام يرونه ... لماروك فيه وادّعوا أنه العرض
وقال:
يابن حربٍ كسوتني طيلساناً ... أمرضته الأوجاع فهو سقيم
فإذا ما لبست قلت سبحا ... نك تحيي العظام وهي رميم
طيلسانٌ له إذا هبّت الرّي ... ح عليه بمنكبيّ هميم
لو يدبّ الحوليّ من ولد الذ ... رّ عليه لأندبته الكلوم
وقال:
إن ابن حرب كساني ... ثوباً يطيل انحرافه
أظلّ أدفع عنه ... وأتّقي كلّ آفه
فقد تعلمت من خش ... يتي عليه الشقافه

من الملح
وقف أبو العيناء على باب صاعد بن مخلد فقيل له: إنه يصلي فانصرف، ثم عاوده، فقيل له: إنه يصلي. فقال: لكل جديد لذة. وكان صاعد نصرانياً ثم ارتقت به الحال أن توزر للموفق بن أحمد بن المتوكل، وكان أخوه المعتمد الخليفة ولم يكن له مع الموفق أمر ولا نهي، وقد قال المعتمد لما ملك عليه أخوه الأمر، أو قيل على لسانه:
أليس من العجائب أنّ مثلي ... يرى ما قلّ ممتنعاً عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شيءٌ في يديه
ولما أجاب الصولي أبا القاسم بن عبد الله ملك المغرب اقتضى ذكر ولد العباس والخلفاء خليفةً خليفةً حتى انتهى إلى المعتمد فقال:
ومعتمدٌ من بعدهم وموفّقٌ ... يردّد من إرث الخلافة ما ذهب
موازٍ لهم في كل فضلٍ وسؤددٍ ... وإن لم يكن في العدّ منهم لمن حسب
ولما احتاج الصولي إلى ذكر الموفق لشهامته وحزامته، وكأن القصيدة إنما أجاب بها على المقتدر بن جعفر بن المعتضد بن الموفق، فلو لم يذكره لانقطع عليه ما أراد.
وكان المعتمد مضعوفاً، وكان أمره قبل تمكن الموفق في يد وصيف حتى قال باذنجانة الكاتب:
يا دولة بائرة ... كاسفة ما تبتغى
خليفة مستضعف ... بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له ... كما تقول الببّغا
ودخل أبو خالد يزيد المهلبي على المعتمد مرات، فأنشده قصائد على الدال؛ فقال: يا يزيد؛ ما أراك تعدو الدال ؟ فقال: وكيف أعزك الله يا أمير المؤمنين واسمي يزيد، وأبي محمد وأكنى بأبي خالد، وأنت المعتمد، وتسمى بأحمد، ومن صفاتك السيد والماجد والجواد، فأين أدع الدال؟ وهذا كقول أبي صدقة المدني وقد قيل له: ما أشد إلحافك ؟ فقال: تلومونني على ذلك وأنا اسمي مسكين، وكنيتي أبو صدقة، واسم أبي صدقة، واسم امرأتي فاقة.
من طرف أبي العيناء
ووقف أبو العيناء على باب إبراهيم بن رباح فقيل: هو مشغول. فقال: إذا شغل بكأس يمناه، وبحر يسراه، وانتسب إلى أب لا يعرف أباه، لم يحفل بحجاب من أتاه.

ودخل أبو العيناء على المتوكل؛ فقال: أي شيء تحسن ؟ قال: أفهم وأفهم، وآخذ من المجلس ما حوى، مرة أغلب ومرة أغلب. قال: كيف شربك للنبيذ ؟ قال: أعجز عن قليله وافتضح عند كثيره. قال: فما تقول في بلدك البصرة ؟ قال: ماؤها أجاج، وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم. قال: ارفع حوائجك إلينا. قال: قد رفعتها إلى الله، فما أحب نجاحه فليس ينفعني شرحه. قال: نحب أن تلزم مجلسنا. قال: يا أمير المؤمنين، إن أجهل الناس من يجهل نفسه؛ أنا امرؤ محجوب والمحجوب تختلف إشارته، وقد يجوز قصده، فيصغي إلى غير من يحدثه، ويقبل بحديثه على غير من يسمع منه، وجائز أن يتكلم بكلام غير راض، ومتى لم أفرق بين هذين هلكت. وأخرى: كل من في مجلسك يخدمك، وأنا أحتاج أن أخدم، ولم أقل هذا جهلاً مني بما في هذا المجلس من الفائدة، ولكني اخترت العافية على التعرض للبلاء. قال الفتح بن خاقان: يا أمير المؤمنين، هذا رجل عاقل عارف بنفسه وبحق الملوك. قال: فيلزمنا في كل الأوقات لزوم الفرض الواجب.
وبلغ أبا العيناء أن المتوكل قال: لولا أن أبا العيناء ضرير لنادمناه. فقال: إن أعفاني أمير المؤمنين من رؤية الأهلة وقراءة نقش الفصوص فأنا أصلح للمنادمة. وإنما هذا تولع منه بلسانه؛ واقتدار على الكلام، وإلا فقد تعافى من ذلك المقام.
ودخل على إبراهيم بن المدبر وعنده الفضل اليزيدي معلم ولده وإبراهيم جالس. فقال للمعلم: في باب هذا ؟ قال في باب الفاعل والمفعول به. فقال: هذا بابي وباب الوالدة أعزها الله. فغضب اليزيدي ونهض.
أخذه البحتري فقال لإبراهيم بن المدبر:
أي شيءٍ ألهاك عن سرّ من را ... ء وظلّ للعيش فيها ظليل
إقتصار على أحاديث فضل ... وهو مستكرهٌ كثير الفضول
لم تكن نهزة الوضيع ولا رو ... حك كانت لفقاً لروح الثقيل
فعلام اصطنعت منكسف البا ... ل معار الحذاق نزر القبول
إن ترده تجده أخلق من شي ... ب الغواني ومن تعفّي الطلول
مسرجاً ملجماً وما متّع الصب ... ح إدلاجاً للجسّ والتطفيل
غير أنّ المعلمين على حال م ... قليلي التمييز ضعفي العقول
فإذا ما تذكّر الناس معنى ... من مبين الأشعار أو مجهول
قال هذا لنا ونحن كشفنا ... غيبه للسؤال والمسؤول
ضرب الأصمعي فيهم أم الأح ... مر أم لحقوا... الخليل
أبداً شأنه التردّد في الفا ... عل من والديه والمفعول

ظريف مملق
قال الصولي: كان بالبصرة رجل مهلبي ظريف مملق، وكان له إخوان فقالوا له: ألا تدعوننا ؟ فقال لهم: ألا تدعونني ؟ فألحوا عليه فارتهن قطيفةً له على دراهم، فاشترى لهم ما يصلحهم، ودعا مغنيةً فكان اقتراحهم عليها:
ليت الذين تحمّلوا أحنوا ... أمّا أنا فأضرّ بي الحزن
فقال المهلبي: أما هذا الذي تقولونه فما أدري ما هو ؟ أما أنا فقطيفتي رهن؛ فضحكوا وغرموا له ما أنفق.
ودعا رجل قوماً، فما كان مع المغرب أراد انصرافهم، وأرادوا المقام عده، فاقتضوه في السراج. فقال لهم: أما سمعتم قول الله تعالى: " وإذا أظلم عليهم قاموا " .
من نوادر المتنبئين
وادعى رجل النبوة في أيام المأمون، فأحضره المأمون وقال له: ما دليل نبوتك ؟ قال: أن أعلم ما انعقد عليه ضميرك. فقال: ما هو ؟ قال: في نفسك أصلحك الله أني كاذب؛ فضحك منه وتركه.
وأتي المعتصم برجل ادعى النبوة. فقال: ما آيتك ؟ قال: آية موسى. قال: فألق عصاك تكن ثعباناً مبيناً ؟ قال: حتى تقول: أنا ربكم الأعلى.
وادعى آخر النبوة بالكوفة، فأدخل على واليها. فقال: ما صناعتك ؟ قال: حائك، قال: نبي حائك؟! قال: فأردت نبياً صيرفياً ؟ الله يعلم حيث يجعل رسالته.
ومن نوادر الفقهاء والمغفلين والمرائين وغيرهم
وسأل رجل بعض الفقهاء عن القبلة للصائم في رمضان ؟ فقال: تكره للشاب ويرخص فيها للشيخ. قال: إنها في معشوقة ؟ قال: يابن أخي، هذا يكره في شوال.
قيل لمغفل: قد غلا الدقيق. فقال: وما أبالي؛ إني أشتري الخبز من السوق.

قال حيان بن غضبان العجلي وقد ورث نصف دار أبيه : أريد أن أبيع نصف حصتي من الدار وأشتري الباقي، فتصير الدار كلها لي.
وشكا أهل بدلة إلى المأمون والياً عليهم؛ فقال: كذبتم عليه، قد صح عندي عدله فيكم وإحسانه إليكم. فقال شيخ منهم: يا أمير المؤمنين؛ فما هذه المحبة لنا دون سائر رعيتك، قد عدل فينا خمس سنين فانقله إلى غيرنا حتى يشمل عدله الجميع، وتريح معنا الكل؛ فضحك منهم وصرفه عنهم.
قال دعبل: ما غلبني إلا مخنث؛ قلت له: والله لأهجونك. قال: والله لئن هجوتني لأخرجن أمك في الخيال.
ورئي بعض المرائين على باب بعض الملوك، وبين عينيه سجادة عظيمة، فقيل له: مثل هذا الدرهم بين عينيك، وأنت محتاج إلى أبواب الملوك ! فقال: إنه ضرب على غير السكة.
وعمل بعض المرائين بين عينيه سجادة دلكها بنواة وثوم، وعصب الثوم بين عينيه ونام؛ فتحركت العصابة؛ فصارت في ناحية صدغه سجادة كبيرة. فقال له ابنه: ما هذا يا أبت ؟ فقال: أصبح أبوك ممن يعبد الله على حرف.
ومن أملح ما في هذا قول أبي نواس وقد نهاه الأمين عن الخمر:
عين الخليفة بي موكّلةٌ ... عقد الحذار بطرفها طرفي
صحّت علانيتي له وأرى ... دين الضمير له على حرف
ولئن وعدتك تركها عدةً ... إني عليك لخائفٌ خلفي
وقال ابن المعتز:
يأيها الجاني ويستخفي ... ليس تجنّيك من الظرف
إنّك والشوق إلينا كمن ... يؤمن باللّه على حرف
محوت آثارك عن ودّنا ... غير آثارك في الصّحف
فإن تحاملت لنا زورةً ... يوماً تحاملت على ضعف
وأتى ابن عائشة إلى بعض الملوك فأنشده:
اعطف عليّ فالكريم يعطف ... قد غلق الرّهن وملّ المسلف
وارتهني الدفّ وبيع المصحف
فقال: يا فاسق، أترهن دفاً وتبيع مصحفاً ! قال: اتكلت في المصحف أعزك الله تعالى وأجلك.

من نوادر بهلول
قال رجل لبهلول المجنون: قد أمر أمير المؤمنين لكل مجنون بدرهمين. فقال له بهلول: فهل أخذت نصيبك.
وأودع بهلول بعض الأفنية بالكوفة عشرين درهماً ورجل خياط ينظر إليه من حيث لا يعلم به بهلول؛ فلما انصرف أخذ الخياط الدراهم، فعاد بهلول يطلبها فلم يجدها، فعلم أنه لم يؤت إلا من الخياط. فمر به فقال: يا فلان؛ خذ بيدك عشرة دراهم وخذ ثلاثين وخذ كذا... حتى بلغ المائة. قال: وزدها عشرين كم يكون المال ؟ قال: مائةً وعشرين. قال: أصبت ومضى. فقال الخياط في نفسه: ما أظنه إلا يمضي بهذه الدراهم التي حسبها ليزيدها على العشرين فلأردنها إلى موضعها، فإذا زاد عليها أخذت الجميع ففعل؛ فكر بهلول إلى الموضع، فأخذ الدراهم وأحدث في موضعها ثم مضى؛ فقام الرجل مسرعاً، فلما أدخل يده امتلأت حدثاً، ولم يجد شيئاً؛ فعارضه بهلول، وقال: خذ في يدك كذا وكذا. كم في يدك ؟ قال: مائة وعشرون. قال: ما في يدك إلا حدث، فانتشر خبر الخياط، وولع الصبيان فيه حتى هرب من الكوفة.
ولبهلول هذا حكم؛ وكان يتشيع فقيل له يوماً: أيما أفضل أبو بكر أم علي رضي الله عنهما ؟ فقال له: أما وأنا في كندة فعلي، وأما وأنا في ضبة فأبو بكر. وكندة بالكوفة من غلاة الرافضة، وبنو ضبة أهل سنة.
ولما دخل الرشيد الكوفة خرج الناس للنظر إليه، فناداه بهلول ثلاثاً. فقال: من المجترىء علي في هذا الموضع ؟ قيل: بهلول المجنون. فرفع السجافة وقال: بهلول ؟ قال: لبيك يا أمير المؤمنين، روينا عن أيمن بن نائل قال: حدثنا قدامة عن ابن عبد الله العامري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة لا ضرب ولا طرد ولا قيل بين يديه إليك إليك؛ وتواضعك في سفرك هذا خير لك من تجبرك وتكبرك. قال: فبكى الرشيد حتى جرت دموعه على الأرض، وقال: أحسنت يا بهلول، زدنا يرحمك الله.

قال: وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما رجل آتاه الله مالاً وجمالاً وسلطاناً فأنفق في ماله وعف في جماله وعدل في سلطانه كتب في خالص ديوان الله من الأبرار. قال: أحسنت يا بهلول، وأمر له بجائزة سنية، فقال: يا أمير المؤمنين؛ ردها على من أخذتها منه؛ فلا حاجة لي بها. فقال: يا بهلول؛ إن كان عليك دين قضيناه. قال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء أهل الرأي بالكوفة أجمعوا على أن قضاء الدين بالدين لا يجوز. قال: فنجري عليك ما يكفيك؛ فرفع رأسه إلى السماء وقال: يا أمير المؤمنين؛ أنا وأنت في عيال الله، ومحال أن يذكرك وينساني؛ فأرسل الرشيد السجف وسار.
وقيل: إن بهلولاً كان يستعمل الجنون ستراً على نفسه.

من نوادر المجانين
وقال هارون المخزومي: رأيت مجنونين يتنازعان رغيفاً يقول أحدهما: هذا أنت تأكله، ويقول الآخر: بل أنت تأكله. قال: فقلت لهما وأنا أظن أن أربح عليهما : أنا آكله. فقالا: يا أحمق، إنه مع أدم. فقلت: وما أدمه ؟ قالا: وجء الحلق وصفع العنق. فوليت عنهما، فقالا: يا مجنون؛ لولا بشاعة الأدم لكنا أكلناه منذ حين.
وقيل لسعيد العامري وكان من أصحاب النوبهاري : لقد حظيت بكثرة المال. قال: فإني بعتك مالي كله بحبة من عقل غفار الموسوس. قلت: وأي شيء رأيت من عقله ؟ قال: رأيته يوماً وقد وقف عليه رجلان أحدهما سكران، فجعل السكران يفتري عليه وهو يفتري على الصاحي؛ فقلت له: لم لا تشتم الذي يشتمك ؟ قال: لأن معه شيطاناً لا أقوى عليه، فالتفت إلي السكران وقال: يابن الفاعلة؛ أتحرضه علي ؟ ورفع رجله من الأرض فشيعني بها موضحة ومر يعدو. فقال غفار: من هذا فررت.
من نوادر أبي نواس
ومر عثمان بن حفص الثقفي بأبي نواس وقد خرج من علة وهو مصفر الوجه، وكان عثمان أقبح الناس وجهاً. فقال له عثمان: ما لي أراك مصفراً ؟ فقال أبو نواس: رأيتك فذكرت ذنوبي. قال: وما ذكر ذنوبك عند رؤيتي ؟ فقال: خفت أن يعقابني الله فيمسخني قرداً مثلك.
ولما حبس الأمين أبا نواس دخل عليه خال الفضل بن الربيع، وكان يتعهد المحبوسين، ويسأل عنهم وكانت فيه غفلة، فأتى أبا نواس وقال: ما جرمك حتى حبست في حبس الزنادقة ؟ أزنديق أنت ؟ قال: معاذ الله. قال: أتعبد الكبش ؟ قال: ولكني آكله بصوفه. قال: أتعبد الشمس ؟ قال: والله ما أجلس فيها من بغضها، فكيف أعبدها ! قال: أفتعبد الديك ؟ قال: لا والله، بل آكله، ولقد ذبحت ألف ديك، لأن ديكاً نفرني مرة، فحلفت ألا أجد ديكاً إلا ذبحته. قال: فلأي شيء حبست ؟ قال: لأني أشرب شراب أهل الجنة، وأنام خلف الناس. قال: وأنا أيضاً أفعل ذلك، ثم خرج إلى الفضل فقال: ما تحسون جوار الله تحبسون من لا ذنب له، سألت رجلاً في الحبس عن خبره، فقال كذا وكذا، وعرفه بكل ما جرى بينه وبين أبي نواس، فضحك ودخل على الأمين فأخبره الخبر، فأمر بتخليته للحال.
الأمين يحبس أبا نواس
وكان أبو نواس حبس في أيام الأمين مرتين؛ إحداهما أنه بلغ الأمين قوله:
ومستعبد إخوانه بثرائه ... لبست له كبراً أبرّ على الكبر
إذا ضمّني يوماً وإياه مجلسٌ ... رأى جانبي وعراً يزيد على الوعر
أُخالفه في شكله وأجرّه ... على المنطق المنزور والنّظر الشّزر
فواللّه لا ألوي لساني بحاجةٍ ... إلى أحدٍ حتى أُوسّد في قبري
وقد زادني تيهاً على الناس أنني ... أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر
فلو لم أنل فخراً لكانت صيانتي ... فمي عن جميع الناس حسبي من فخر
فلا يطمعنّ في ذاك منّي طامعٌ ... ولا صاحب التاج المحجّب في القصر
فقال: وبلغ بك الأمر إلى أن تعرض بي في شعرك يابن اللخناء ! فقال سليمان بن أبي جعفر: هو والله يا أمير المؤمنين زنديق، وقد شهد عندي جماعة أنه شرب ماء مطر مع خمر، فقيل له: لم فعلت ذلك ؟ قال: لأشرب الملائكة فإنه كان مع كل قطرة ملك، فأمر بحبسه فقال:
يا ربّ إنّ القوم قد ظلموني ... وبلا اقتراف خطيئةٍ حبسوني
وإلى الجحود بما عليه طوّيتي ... بالزور والبهتان قد نسبوني
أما الأمين فلست أرجو دفعه ... عنّي فمن لي اليوم بالمأمون

فقال المأمون لما بلغه ذلك: والله لئن أدركته لأحسنن إليه، فمات قبل دخول المأمون بغداد.
ولما دخل بها سنة أربع ومائتين وأتاه الشعراء يمدحونه قال: ما فعل أبو علي الحسن بن هانىء؟ قالوا: توفي، فلم يسمع منهم شعراً وتوجع وقال: لقد ذهب ظرف الزمان بموته، وانحطت رتبة الشعر بذهابه.
وكان أبو نواس في آخر أيام الأمين مستخفياً فلم يظهر حتى قتل؛ لأنه كان أملح الناس وجهاً، وكان أبو نواس إذا نظر إليه بقي باهتاً فقال فيه:
عذّب قلبي ولا أقول بمن ... أخاف من لا يخاف من أحد
إذا تفكّرت في هواي له ... مسست رأسي هل طار عن جسدي
إني على ما ذكرت من فرقي ... لآمل أن أناله بيدي
وقال:
يا قاتل الرجل البريّ ... وسالباً عزّ المليك
كيف السبيل للثم سا ... لفتيك أو تقبيل فيك
اللّه يعلم أنني ... أهوى هواك وأشتهيك
وأصدّ عنك حذار أن ... تقع الظنون عليّ فيك
فظهر الشعر، فلم يزل أبو نواس مستخفياً.
وحبسه الأمين قبل ذلك: وذلك لأن المأمون لما خلعه بخراسان ووجه طاهر بن الحسين إليه ليحاربه، كان يعمل بعيوب الأمين كتباً لتقرأ على المنابر بخراسان، وكان مما عابه به أنه قال: احتبس شاعراً ماجناً كافراً يقال له الحسن بن هانىء، واستخلصه معه لشرب الخمر وارتكاب المآثم وانتهاك المحارم، وهو القائل:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهر
وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى ... فلا خير في اللذّات من دونها ستر
قال أبو علي محمد بن المظفر الحاتمي: هذا معنى ظريف، يقول: إن الملاذ بالحواس الخمس وهي: النظر والسماع والشم والذوق واللمس؛ فقد استمتعت حاسة البصر بالنظر إليها، وحاسة الشم بتضوعها وطيب نكهتها، وحاسة الذوق بطعمها، وحاسة اللمس بلين اللمس، وبقي حاسة السمع معطلة. فقال: وقل لي هي الخمر؛ لتلتذ حاسة السماع فيكمل الاستمتاع.
ثم يذكر الأمين في خطبة العراق، فيقول: أهل فسق وخمور وفجور وماخور، ويقوم رجل بين يديه فينشد أعابيس أبي نواس كقوله:
يا أحمد المرتجى في كل نائبةٍ ... قم سيدي نعص جبّار السموات
فقام والليل يجلوه النهار كما ... يجلي التبسّم عن غرّ الثنيّات
ومن هنا أخذ ابن الرومي، فجاء بأبدع عبارة، وأنصع استعارة، وأصح تشبيه، وأملح تنبيه. فقال يصف سوداء:
يفترّ ذاك السواد عن يققٍ ... من ثغرها كاللآلىء اليقق
كأنّها والمزاح يضحكها ... ليلٌ تعرّى دجاه عن فلق
فاتصل بالأمين خبر المأمون، فأغراه الفضل بن الربيع بأبي نواس فحبسه، فكتب أبو نواس إلى الفضل من الحبس:
أنت يابن الربيع علّمتني الخي ... ر وعوّدتنيه والخير عاده
فارعوى باطلي وعاودني حل ... مي وأحدثت رغبةً وزهاده
لو تراني شبهتني الحسن البص ... ريّ في حال نسكه أو قتاده
المسابيح في ذراعي والمص ... حف في لبّي مكان القلاده
فإذا شئت أن ترى طرفةً تع ... جب منها مليحةً مستفاده
فادع بي لا عدمت تقويم مثلي ... فتأمّل بعينك السّجّاده
ترى أثراً من الصلاة بوجهي ... توقن النفس أنّها من عباده
لو رآها بعض الرائين يوماً ... لاشتراها يعدّها للشهاده
ولقد طالما شقيت ولكن ... أدركتني على يديك السعاده
فلما بلغ الشعر الفضل ضحك، وقال: من علم أن السجادة تصلح للشهادة بعد؛ وكلم فيه الأمين فتركه بعد أن أخذ عليه ألا يشرب الخمر فقال:
ما من يدٍ في الناس واجدةٍ ... كيدي أبي العباس مولاها
نام الثقات على مضاجعهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها
قد كنت خفتك ثم أمّنني ... من أن أخافك خوفك اللّه
فعفوت عنّي عفو مقتدرٍ ... وجبت له نقمٌ فألفاها
ومن قوله في ترك الشرب:
أيّها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلاّ شميما

نالني بالملام فيها إمامٌ ... ما أرى لي خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإنّي ... لست إلاّ على الحديث نديما
فكأني وما أزيّن منها ... قعديٌّ يزيّن التّحكيما
كلّ عن حمله السّلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق ألاّ يقيما
والقعد: فرقة من الخوارج يأمرون الناس بالخروج وهم لا يخرجون. وزعم المبرد أنه لم يسبق إلى هذا المعنى. وقال في ذلك أيضاً:
غنّنا بالطّلول كيف بلينا ... واسقنا نعطك الثناء الثمينا
من سلافٍ كأنها كلّ شيءٍ ... يتمنّى مخيّر أن تكونا
أكل الدهر ما تجسّم منها ... وتبقّى لبابها المكنونا
فإذا ما اجتليتها فهباءٌ ... يمنع الكفّ ما تبيح العيونا
ثم شجّت فاستضحكت عن لآلٍ ... لو تجمّعن في يدٍ لاقتنينا
في كئوسٍ كأنهنّ نجومٌ ... دائراتٌ بروجها أيدينا
طالعاتٌ مع السقاة علينا ... فإذا ما غربن يغربن فينا
لو ترى الشّرب حولها من بعيد ... قلت قومٌ من قرّةٍ يصطلونا
وغزال يديرها ببنانٍ ... ناعماتٍ يزيدها المزج لينا
كلما شئت علّني برضابٍ ... يترك القلب للسرور قرينا
ذاك عيشٌ لو دام لي غير أني ... عفته مكرهاً وخفت الأمينا
وقال أيضاً:
أعاذل أعتبت الإمام وأعتبا ... وأعربت عمّا في الضمير وأعربا
وقلت لساقيها أجزها فلم يكن ... ليأبى أمير المؤمنين وأشربا
فجوّزها عني سلافاً ترى لها ... إلى الأفق الأعلى شعاعاً مطنّبا
إذا عبّ منها شارب القوم خلته ... يقبّل في داجٍ من الليل كوكبا
ترى حيثما كانت من البيت مشرقاً ... وما لم تكن فيه من البيت مغربا
يدور بها رطب البنان ترى له ... على مستدار الخدّ صدغاً معقربا
سقاهم ومنّاني بعينيه منيةً ... فكانت إلى قلبي ألذّ وأطيبا

بين أبي نواس والحسين بن الضحاك
قال الحسين بن الضحاك: أنشدت أبا نواس قولي:
وشاطريّ اللسان مختلف السّ ... سكرة شاب المجون بالنسك
فلما بلغت فيه:
كأنّما نصب كأسه قمرٌ ... يكرع في بعض أنجم الفلك
نعر نعرة منكرة. فقلت: ما لك فقد رعتني ! فقال: هذا المعنى أنا أحق به، ولكن سترى لمن يروى ثم أنشدني بعد أيام:
إذا عبّ منها شارب القوم خلته ... يقبّل في داجٍ من الليل كوكبا
فقلت: هذه مطالبة يا أبا علي. فقال: أتظن أنه يروى لك معنى مليح وأنا في الحياة ! وقال فيه ابن الرومي فجاء بأحسن منهما:
ومهفهف كملت ملاحته ... حتى تجاوز منية النفس
تصبو الكئوس إلى مراشفه ... وتضجّ في يده من الحبس
أبصرته والكأس بين فمٍ ... منه وبين أناملٍ خمس
وكأنها وكأنّ شاربها ... قمرٌ يقبّل عارض الشمس
من غزل بشار
وإنما اتبع أبو نواس في هذه الأشعار التي وصف فيها ترك الشرب وطاعته لأمر الأمين مذهب أبي معاذ بشار بن برد وذلك أنه لما قال:
لا يؤيسنّك من مخبّأةٍ ... قولٌ تغلّظه وإن جرحا
عسر النساء إلى مياسرةٍ ... والصعب يركب بعدما جمحا
فبلغ ذلك المهدي فغاظه، وقال: يحرض الناس على الفجور، ويسهل لهم السبيل إليه. فقال له خالد بن يزيد بن منصور الحميري: يا أمير المؤمنين، ق افتتن النساء بشعره، وأي امرأة لا تصبو إلى مثل قوله:
عجبت فطمة من نعتي لها ... هل يجيد النعت مكفوف البصر
بنت عشرٍ وثلاثٍ قسّمت ... بين غصن وكثيب وقمر
درّة بحريّة مكنونةٌ ... مازها التّاجر من بين الدّرر
أذرت الدّمع وقالت ويلتي ... من ولوع الكفّ ركّاب الخطر

أُمتي بدّد هذا لعبي ... ووشاحي حلّه حتى انتثر
فدعيني معه يا أُمّتي ... علّنا في خلوةٍ نقضي الوطر
أقبلت في خلوةٍ تضربها ... واعتراها كجنون مستعر
بأبي واللّه ما أحسنه ... دمع عيني غسّل الكحل قطر
أيها النّوام هبّوا ويحكم ... وسلوني اليوم ما طعم السهر
فأمره المهدي ألا يتغزل؛ فقال أشعاراً في ذلك منها:
يا منظراً حسناً رأيته ... من وجه جاريةٍ فديته
واللّه ربّ محمدٍ ... ما أن غدرت ولا نويته
أعرضت عنك وربّما ... عرض البلاء وما اتّقيته
إنّ الخليفة قد أبى ... وإذا أبى شيئاً أبيته
ويشوقني بيت الحبي ... ب إذا غدوت وأين بيته
ومخضّبٍ رخص البنا ... ن بكى عليّ وما بكيته
قام الخليفة دونه ... فصبرت عنه وما قليته
ونهاني الملك الهما ... م عن النساء فما عصيته
بل وقد وفيت فلم أضع ... عهداً ولا وأياً وأيته
وأنا المطلّ على العدا ... وإذا غلا الحمد اشتريته
وقال:
واللّه لولا رضا الخليفة ما ... أعطيت ضيماً عليّ في شجني
قد عشت بين النّدمان والرّا ... ح والمزهر في ظلّ مجلسٍ حسن
ثم نهاني المهديّ فانصرفت ... نفسي صنيع الموفّق اللّقن
وقال:
أفنيت عمري وتقضّى الشباب ... بين الحميّا والجواري الأواب
فالآن شفّعت إمام الهدى ... وربما طبت لحبّ وطاب
لهوتن حتى راعني داعياً ... صوت أمير المؤمنين المجاب
لبيك لبيك ! هجرت الصّبا ... ونام عذّالي ومات العتاب
أبصرت رشدي وتركت المنى ... وربما ذلّت لهنّ الرقاب
وفي هذه الكلمة يقول:
يا حامد الفعل ولم يبله ... سبقت بالسّيل سيل السحاب
الفعل أولى بثناء الفتى ... ما جاءه من خطأٍ أو صواب
دع قول واءٍ وانتظر فعله ... ينبي عن اللّقحة ما في الحلاب
إذا غدا المهديّ في جنده ... وراح في آل الرسول الغضاب
بدا لك المعروف في وجهه ... كالظّلم يجري في الثنايا العذاب
ومن شعره المطرب في الغزل قوله:
أيّها السّاقيان صبّا شرابي ... واسقياني من ريق بيضاء رود
إن دائي الصّدى وإنّ شفائي ... شربةٌ من رضاب ثغرٍ برود
عندها الصبر عن لقائي وعندي ... زفراتٌ يأكلن قلب الجليد
ولها مبسمٌ كثغر الأقاحي ... وحديثٌ كالوشي وشي البرود
نزلت في السواد من حبّة القل ... ب ونالت زيادة المستزيد
ثم قالت: نلقاك بعد ليالٍ ... والليالي يبلين كلّ جديد
لا أبالي من ضنّ عنّي بوصلٍ ... إن قضى اللّه منك لي يوم جود
وقوله:
لو عاينوها لم يلوموا على البكا ... كريماً سقاه الخمر بدرٌ محلّق
فكيف تناسى من يكون حديثه ... بأذني وإني غيبت قرطٌ معلّق
وقوله:
كأنّها حين لاحت في مجاسدها ... فارتجّ أسفلها واهتزّ أعلاها
حوراء جاءت من الفردوس تفتنه ... كالشمس طلعتها والمسك ريّاها
من اللواتي غدت فرداً وشقّ لها ... من ثوبه الحسن سربالاً فردّاها
راحت ولم تعطه برءاً لقرحته ... منها ولو سألته النفس أعطاها
تغمّه نفسه من طول صبوتها ... حتى لو اجتمعت في الكفّ ألقاها
ما شاهد القوم إلا ظلّ يذكرها ... ولا خلا ساعةً إلاّ تمنّاها
وقول بشار: عجبت فطمة من نعتي لها قد احتذاه محمد بن مناذر:
قد جدّ بي في اللعب ... ذو راحة من تعب
جسم من الفضة قد ... أُشرب ماء الذهب

جارية صغيرة ... مشغولة باللعب
صاحت وقد روّعتها ... بقبلة واحربي
أنت وربّي يا فتى ... تريد أن تصنع بي
إيّاك أن يدعو علي ... ك اليوم أمّي وأبي
فلم أزل أختلها ... حتى علوت مركبي
وهي كغصن مالت الرّ ... يح به مضطرب
تجود عيناها بجا ... ري دمعها المنسكب

من مليح ما قيل في الصغار
ومن مليح ما قيل في الصغار قول أبي نواس الحسن بن هانىء:
حين أوفى على ثلاث وعشر ... لم يطل عهد أذنه بالشنوف
وبه غنّة الصبا تعتليها ... بحّة الاحتلام للتشريف
حين رام أنسنا منه بعين ... وثنى أختها من التخويف
وقال عبد الله بن الحسين الكاتب:
جاريةٌ أذهلها اللعب ... عمّا يقول الهائم الصبّ
شكوت ما ألقاه من حبّها ... فأقلت تسأل ما الحبّ
وقال ابن المعتز:
الآن زاد على عشر بواحدة ... وزاد أخرى وشاب الحبّ بالخدع
وجاوب اللحظ منه لحظ عاشقه ... وجرّر الوعد بين اليأس والطمع
وكان غرّاً بقتلي ليس يحسنه ... والآن بدّع في قتلي على البدع
وقال غيره:
إني بليت بطفلة ... هيفاء جائلة الوشاح
ومليحة يا ويلتي ... ماذا لقيت من الملاح
ما جاز عشراً سنّها ... بيضاء كالقمر اللّياح
وقال أعرابي في جارية صغيرة وعده أبوها أن يزوجها منه:
أعلقني بعشقها أبوها ... مليحة العينين عذبٌ فوها
قليلة الأيام إن عدّوها ... لا تحسن السبّ إذا سبّوها
وقال قيس بن الملوح:
وعلّقت ليلى وهي غرٌّ صغيرة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا ... إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم
من نوادر مزيد المديني
مزيد المديني، قالت له امرأته يوماً ليس شيء أربح من عمل النبيذ، فعملته، فأتاها برجل معه درهم واحد. فقالت له: لا أبيعه إلا جملة، فأتى صاحب الشرطة فقال له: إن امرأتي عندها نبيذ؛ فوجه الحرس، وقال: كونوا معه، فإن كان في بيته نبيذ فاطرحوه وامرأته في الحبس، وإن لم يكن فيه شيء فردوه إلي.
فجاءوا فدخلوا منزله فوجدوا النبيذ. فقال لامرأته: قد جئتك بمن يأخذه جملةً، فكسروا جرار النبيذ وجلدوهما جميعاً، ومضوا بهما إلى الحبس، فلما حصلا فيه قال لامرأته: وأزيدك فائدة نحن فيه لم تخطر ببالك. قالت: وما هي يا مشؤوم ؟ قال: استرحنا من كرى البيت.
وزفت إليه امرأة فأتته الماشطة وهي تجلي، فقالت: انحلها شيئاً. قال: قد نحلتها تطليقة.
ودفع قميصه إلى الغسال، فرده إليه وقد نقص شبراً. فقال: ليس هذا قميصي؛ قميصي أتم من هذا شبراً. قال: جعلت فداك ! إنما تقلص في الغلس لأنه قطن. فقال له مزيد: اقعد حاسبني، في كم غسلة يرجع جرمازاً.
ودخل على بعض الموالي وكان المولى ذا مال كثير وهو على سرير ممتد، وبين يديه ولد من ولد أبي بكر الصدق وآخر من ولد عمر بن الخطاب وهما على الأرض. فتجهمه وقال: قبحك الله يا مزيد، فما أكثر إلحافك، وأشد إجحافك ! كل يوم تأتيني سائلاً ! قال: لم آتك في مسألة، وإنما أتيتك أسألك عن معنى قول الحارث بن خالد المخزومي:
إنّي وما نحروا غداة منىً ... عند الجمار تؤودها العقل
لو بدّلت أعلى منازلها ... سفلاً وأصبح سفلها يعلو
فلما رأيتك فوق ورأيت هذين تحتك عرفت معنى البيتين.
فقال: اعزب عليك لعنة الله، وارتج المجلس ضحكاً.
شعر ابن أبي ربيعة والحارث المخزومي

أقسام الكتاب
1 2 3