كتاب : جمع الجواهر في الملح والنوادر
المؤلف : الحُصريِ

وذكر بحضرة ابن أبي عتيق شعر عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد المخزومي؛ فقال رجل من ولد خالد بن العاص: صاحبنا أشعر يعني الحارث فقال ابن أبي عتيق: بعض قولك يابن أخي ! فلشعر ابن أبي ربيعة لوطةٌ بالقلب، وعلق بالنفس، ودرك للحاجة، ليس لشعر الحارث، وما عصير الله قط بشعر أكثر مما عصي بشعر ابن أبي ربيعة، فخذ عني ما أصف لك: أشعر قريش من رق معناه، ولطف مدخله، وسهل مخرجه، وتعطفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن صاحبه. فقال الذي من ولد خالد بن العاص: صاحبنا يقول:
إنّي وما نحروا غداة منىً ... عند الجمار تؤودها العقل
لو بدّلت أعلى منازلها ... سفلاً وأصبح سفلها يعلو
فيكاد يعرفها الخبير بها ... فيردّه الإقواء والمحل
لعرفت مغناها بما احتملت ... منّي الضلوع لأهلها قبل
فقال ابن أبي عتيق: يابن أخي، استر على صاحبك، ولا تشاهد المحاضر بمثل هذا؛ أما تطير عليها الحارث، حين قلب ربعها، فجعل عاليه سافله؛ ما بقي عليه إلا أن يسأل الله حجارةً من سجيل وعذاباً أليماً. ابن أبي ربيعة كان أحسن للربع مخاطبةً وأجمل مصاحبة حيث يقول:
سائلاً الربع بالبليّ وقولاً ... هجت شوقاً لنا الغداة طويلا
أين أهلٌ حلّوك إذ أنت مسرو ... رٌ بهم آهلٌ أراك جميلا
قال ساروا وأمعنوا واستقلّوا ... وبكرهي لو استطعت سبيلا
سئمونا وما سئمت مقاماً ... واستحبّوا دماثةً وسهولا
وإنما أخذ الحارث قوله: لعرفت مغناها بما احتملت... البيت من قول امرىء القيس.
قال علي بن الصباح وراق أبي محلم: قال لي أبو محلم: أتعرف لامرىء القيس أبياتاً سينية قالها عند موته في قروحه والحلة المسمومة، غير القصيدة التي أولها:
ألمّا على الربع القديم بعسعسا ... كأني أنادي أو أكلّم أخرسا
فقلت: لا أعرف غيرها. فقال: أنشدني جماعة من الرواة، وأنشد أبياتاً أولها:
لمن طلل درست آيه ... وغيّره سالف الأحرس
تنكّره العين من حادثٍ ... ويعرفه شغف الأنفس

حديث الأطلال والدمن
وأخذه طريح بن إسماعيل الثقفي فقال وأحسن:
تستخبر الدّمن القفار ولم تكن ... لتردّ أخباراً على مستخبر
فأخذه أبو نواس، إلا أنه قلبه فجعل الإنكار للقلب فقال:
ألا لا أرى مثلي امترى اليوم في رسم ... تعرّفه عيني ويلفظه وهمي
أتت صور الأشياء بيني وبينه ... فظنّي كلا ظنّ وعلمي كلا علم
قال ولو قال: تنكره عينين ويعرفه وهمي، لكان كالأول وكان أجود فلعل أبا نواس قصد الخلاف وأعجبه قوله: ويلفظه وهمي؛ لأنها لفظة جرت ملحيةً.
وقد ملح الحسن بن وهب في هذا المعنى إلا أنه ألم به وأجمله ولم يذكر القلب فقال:
أبليت جسمي من بعد جدّته ... فما تكاد العيون تبصره
كأنّه رسم منزلٍ خلقٍ ... تعرفه العين ثم تنكره
وزعم يحيى بن منصور الذهلي أنه يعرف معهد أحبابه بقلبه ويكتمه عينه فقال:
أما يستفيق القلب إلاّ انبرى له ... تذكّر طيفٍ من سعاد ومربع
أُخادع عن عرفانه العين إنه ... متى تعرف الأطلال عيني تدمع
وقال غيره:
هي الدار التي تعر ... ف أم لا تعرف الدارا
ترى منها لأحباب ... ك أعلاماً وآثارا
فيبدي القلب عرفاناً ... وتبدي العين إنكارا
من التقعير
وحصلت لأبي علقمة النحوي علة، فدخل عليه أعين الطبيب يعوده. فقال: ما تجد ؟ قال: أكلت من لحوم هذه الجوازل، فطسئت طسأة، فأصابني وجع ما بين الوابلة إلى دأية العنق، فما زال يزيد وينمى حتى خالط الخلب والشراسف، فما ترى ؟ قال: خذ خربقاً وسلفقاً وشبرقاً فزهزقه وزقزقه واغسله بماء روث واشربه.
فقال: ما تقول ؟ فقال: وصفت لي من الداء ما لا أعرف، فوصلت لك من الدواء ما لا تعرف. قال: ويحك فما أفهمتني. قال: لعن الله اقلنا إفهاماً لصاحبه.
من نوادر النحويين

وقال رجل اسمه عمر لعلي بن سليمان الأخفش: علمني مسألةً من النحو ؟ قال: تعلم أن اسمك لا ينصرف. فأتاه يوماً وهو على شغل. فقال: من بالباب. قال: عمر. قال: عمر اليوم ينصرف. قال: أوليس قد زعمت أنه لا ينصرف ؟ قال: ذاك إذا كان معرفة وهو الآن نكرة ! وقال الصولي: سكر هارون النديم عند المعتضد سكراً شديداً، ونهض الجلساء كلهم سواه فقال له الخادم الموكل بالندماء: انصرف. فقال: أمير المؤمنين أمرني بالمبيت هاهنا. فقال: يا أمير المؤمنين؛ هارون ينصرف. قال: لا ينصرف.
فلما أصبح رآه المعتضد، فقال: من هذا ؟ قيل: هارون بن علي. فقال للخادم الموكل بالندماء: متى تقدم للجلساء المبيت هنا ؟ فقال: أنت أعزك الله قلت: هارون لا ينصرف، قال: إنا لله ! إنما أردت النحو.
قال أبو العبر: قال لي أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: الظبي معرفة أو نكرة ؟ فقلت: إن كان مشوياً على المائدة فمعرفة، وإن كان في الصحراء فهو نكرة. فقال: ما في الدنيا أعرف منك بالنحو.
أبو الحسن علي بن سليمان كتب إلى بعض إخوانه يستعير دابة ودابة لا تجيء بوزن الشعر؛ لأنه جمع بين ساكنين:
أردت الركوب إلى حاجةٍ ... فجد لي بفاعلةٍ من دببت
فأجابه الفتى وكان ظريفاً:
زيد بها وجعٌ غامز ... فكن أنت لي فاعلاً من عذرت
ومن ملح النحويين:
أفي الحقّ أن يعطى ثلاثون شاعراً ... ويحرم ما دون الرضا شاعر مثلي !!
كما سامحوا عمراً بواوٍ مزيدةٍ ... وضويق باسم اللّه في ألف الوصل
وقال أبو الفتح البستي:
حذفت وغيري مثبتٌ في مكانه ... كأنّي نون الجمع حين تضاف

المتوكل وعبادة المخنث
وكن المتوكل قد بسط من عبادة المخنث للدخول معه على كل حال، فدخل عليه وهو نائم مع سواد كان يحبها؛ فلما رآه أمرها أن تغطي وجهها. فقال: يا أمير المؤمنين؛ ومن معك ؟ قال: ويلك ! وبلغ فضولك إلى هذا الموضع !، ومدت الجارية رجلها فبانت سوداء. فقال: يا أمير المؤمنين؛ تنام ورجلك في الخف. فقال المتوكل: قم عليك لعنة الله ! وضحك وأمر له بصلة فأخذها وانصرف.
وكان عبادة يشرب بين يديه ويترك في القدح فضلة. فقال: يا عبادة؛ ما تدري ما يقول الناس ؟ قال: وما هو ؟ قال: يقولنه إن شارب النبيذ إذا شرب وعبس وجهه وفضلت في القدح فضلة فإن إبليس يضرب قفاه ويقول: اشرب فضلة ما استطبت.
فمضت الأيام واصطبح المتوكل وعبادة حاضر، وشرب قدحاً كان في يديه وفضلت فضلة. فقال: يا أمير المؤمنين، جاءك الرجل.
وتجارى الجواري بحضرة المتوكل فسبقتهن جارية ممشوقة. فقال المتوكل لعبادة: اجر معها حتى ننظر من يسبق صاحبه. فقال عبادة: إن سبقتها فما لي ؟ قال: هي لك، وإن سبقتك صفعتك. فجرت معه الجارية فسبقته مرة بعد أخرى، فقال: يا أمير المؤمنين؛ كيف لا تسبقني وهي تجري بمدادين وأنا أركض بخرجين؛ فضحك المتوكل ووهبها له.
وغفل عنه المتوكل مرة فكتب له رقعة يسأذنه في الحج فضحك. وقال: عبادة يحج ؟ علي به، فلما دخل عليه قال له: ما خبرك ؟ فقال: يا أمير المؤمنين؛ لقد تواضعت حتى ما آكل إلا الخشكار، ولا أشرب إلا نبيذ الدردي، ولا أسمع إلا غناء حواء، فأمر له بصلة.
جحظة يصف ضيق العيش
ألم جحظة البرمكي بهذا المعنى فقال:
إنّي رضيت من الرحيق ... بشراب تمرٍ كالعقيق
ورضيت من أكل السمي ... ذ بأكل مسودّ الدقيق
ورضيت من سعة الصحو ... ن بمنزلٍ ضنكٍ وضيق
وجعلت تغريد الحما ... مة منزلي عند الشروق
فغدوت كسرى صاحب ال ... إيوان والعيش الأنيق
وحجبت نفسي عن حجا ... ب الباخلين ذوي الطريق
القاطعين مخافة ال ... إنفاق أسباب الصّديق
جيران يتشممون الأماني
قال ابن أبي عتيق لامرأته: تمنيت أن يهدى إلينا مسلوخ، فنتخذ من الطعام لون كذا ولون كذا، فسمعته جارة له، فظنت أنه أمر بعمل ما سمعته، فانتظرت إلى وقت الطعام، ثم جاءت فقرعت الباب، وقالت: شممت رائحة قدوركم فجئت لتطعموني منها. فقال ابن أبي عتيق لامرأته: أنت طالق إن أقمنا في هذه الدار التي جيرانها يتشممون الأماني.
التمني والحلم أخوان

ولبس مزيد جبة فقيل له: أتتمنى أن تكون لك ؟ قال: نعم ! وأضرب عشرين سوطاً. قيل: ولم؟ ويحك ؟ قال: لا يكون شيء إلا بشيء.
قال الأصمعي: طلب الحجاج رجلاً فهرب منه، فمر بساباط فيه كلب نائم في ظله. فقال: يا ليتني مثل هذا الكلب، فما أتت ساعة حتى مر به الكلب وفي عنقه حبل، فسأل عنه فقالوا: جاء كتاب الحجاج وبه يأمر بقتل الكلاب.
وفي كتاب للهند أن ناسكاً كان له سمن وعسل في جرة؛ ففكر يوماً فقال: أبيع هذه الجرة بعشرة دارهم فأشتري خمس أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، فيبلغ النتاج في سنتين مائتين، وأبتاع بكل أربع بقرة، وأزرع وينمى المال في يدي، فأتخذ المساكن والعبيد، ويولد لي ولد، فأسميه كذا وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربت بعصاي رأسه، وكانت في يده عصا فرفعها كالضارب، فأصابت الجرة، فانكسرت وتبدد السمن والعسل.
قال يزيد بن معاوية: ثلاث يخلقن العقل، وفيهن دليل على الضعف: سرعة الجواب، وطول التمني، والاستغراب في الضحك. وكان يقال: التمني والحلم أخوان. وقالوا في نقيض ذلك: الأمل رفيق مؤنس، إن لم يبلغك فقد ألهاك. وأنشدوا:
أتاني من ليلى جوابٌ كأنّما ... سقتني به ليلى على ظمأٍ بردا
منىً إن تكن حقّاً تكن أحسن المنى ... وإلاّ فقد عشنا بها زمناً رغدا
وقال أعرابي:
رفعت عن الدنيا المنى غير حبها ... فما أسأل الدنيا ولا أستزيدها
وتحت مجاري الصدر منّا مودّةٌ ... تطلّع سرّاً لا ينادى وليدها
وقيل لأعرابي: ما أمتع لذات الدنيا ؟ فقال: ممازحة الحبيب، ومغالطة الرقيب، وأمان تقطع بها أيامك، وأنشد:
علّليني بموعد ... وامطلي ما حييت به
ودعيني أفوز من ... ك بنجوى تطلّبه
فعسى يعثر الزما ... ن بحظّي فينتبه

عزة توازن بين شعر الأحوص وكثير
ودخل كثير بن عبد الرحمن على عزة؛ فقالت: ما ينبغي أن نأذن لك في الجلوس. قال ولم ذلك؟ قالت: لأني رأيت الأحوص ألين جانباً عند القوافي منك في شعره، وأضرع خداً للنساء وأنه الذي يقول:
يأيها اللائمي فيها لأصرمها ... أكثرت لو كان يغني عنك إكثار
أقصر فلست مطاعاً إذ وشيت بها ... لا القلب سالٍ ولا في حبّها عار
ويعجبني قوله:
أدور ولولا أن أرى أمّ جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور
وما كنت زوّاراً ولكنّ ذا الهوى ... إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور
لقد منعت معروفا أمّ جعفر ... وإني إلى معروفها لفقير
ويعجبني قوله:
كم من دنيٍّ لها قد صرت أتبعه ... ولو صحا القلب عنها كان لي تبعا
لا أستطيع نزوعاً عن محبّتها ... أويصنع الحبّ بي فوق الذي صنعا
أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعني ... حتى إذا قلت هذا صادقٌ نزعا
وزادني رغبة في الحب أن منعت ... أشهى إلى المرء من دنياه ما منعا
وقوله:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
وما العيش إلاّ ما تلذّ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنان وفنّدا
وإني لأهواها وأهوى لقاءها ... كما يشتهي الصادي الشراب المبرّدا
علاقة حبٍّ لجّ في سنن الصّبا ... فأبلى وما يزداد إلا تجدّدا
هذان البيتان ألحقهما الضبي وغيره بهذا الموضع من شعر الأحوص، وأنشدهما أبو بكر بن دريد لأعرابي.
فقال لها كثير: والله لقد أجاد فما استجفيت من قولي ؟ قالت: فذلك قولك:
وكنت إذا ما جئت أجللن مجلسي ... وأظهرن مني هيبة لا تجهّما
يحاذرن مني غيرةً قد عرفنها ... قديماً فما يضحكن إلاّ تبسّما
تراهنّ إلاّ أن يؤدين نظرةً ... بمؤخر عينٍ أو يقلّبن معصما
كواظم ما ينطقن إلا محورة ... رجيعة قول بعد أن تتفهما
وكنّ إذا ما قلن شيئاً يسرّه ... أسرّ الرضا في نفسه وتجرّما
وقولك:
وددت وبيت اللّه أنك بكرة ... هجان وأني مصعب ثم نهرب

كلانا به عرٌّ فمن يرنا يقل ... على حسنها جرباء تعدي وأجرب
نكون لذي مالٍ كثير مغفّل ... فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب
إذا ما وردا منهلاً صاحب أهله ... علينا فما ننفكّ نجفى ونضرب
ويحك ؟! لقد أردت بي الشنعاء، ما وجدت أمنية أوطأ من هذه ؟ فخرج من عندها خجلاً.
وكثير إن قبح في هذا فقد ملح في قوله:
فليت قلوصي عند عزّة قيّدت ... بقيد ضعيفٍ غرّ منها فضلّت
وغودر في الحيّ المقيمين رحلها ... وكان لها باغٍ سواي وندّت
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... وأخرى رمى فيها الزمان فشلّت
وكنت كذات الظّلع لمّا تحاملت ... على ظلعها بعد العثار استقلّت
أريد ثواءً عندها وأظنّها ... إذا ما أطلنا عنده المكث ملّت
وكان كثير على حدة خارطه وجودة شعره أحمق الناس. ودخل عليه نفر من قريش يعودونه وهو عليل ويهزأون به؛ قال بعضهم فقلت له: كيف نجدك ؟ قال: بخير. ثم قال: هل سمعتم الناس يقولون شيئاً ؟ قلت: نعم سمعتهم يقولون: إنك الدجال. قال: أما لئن قالوا ذلك إني لأجد في عيني اليمنى ضعفاً مذ أيام.

من نوادر الحمقى والممرورين
قال الجاحظ: حدثني ثمامة بن أشرس قال: كان ممرور يأتي ساقية لنا سحراً فلا يزال يمشي مع دابتها ذاهباً وراجعاً في شدة الحر والبرد، فإذا أمسى توضأ وصلى وقال: اللهم اجعل لنا من هذا الهم فرجاً ومخرجاً، ثم انصرف إلى بيته؛ فكان كذلك إلى أن مات.
قال وحدثني ثمامة قال: مررت في غب مطر، والأرض ندية، والسماء مغيمة، والريح شمالية، وإذا شيخ أصفر كأنه جرادة، وقد جلس على قارعة الطريق وحجام زنجي يحجمه، وقد وضع على كاهله وأخدعيه محجمة كأنها قعب وقد مص دمه حتى كاد يستفرغه. قال: فوقفت عليه وقلت: يا شيخ، لم تحتجم في مثل هذا اليوم ؟ فقال: لمكان الصفار الذي فيّ.
من علامات الحمق
قال الجاحظ: ما رأيت رجلاً عظيم اللحية إلا وجدته كوسج العقل.
وقالت أعرابية لقاض قضى عليها: عظم رأسك، فبعد فهمك؛ وانسدلت لحيتك، فانشمر عقلك، وما رأيت ميتاً يقضي بين حيين قبلك.
وعاب كوسج ألحى، فقرأ: " البلد الطيب بخرج نباته بإذن ربه والذي خَبثُ لا يخرج إلا نكداً " فقرأ الكوسج: " قل لا يستَوِي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث " .
قال هشام بن عبد الملك يوماً في مجلسه: يعرف حمق الرجل بخصال أربع: بطول لحيته وشناعة كنيته، ونقش خاتمه، وإفراط شهوته. ثم رمى بصره إلى رجل طويل اللحية في أقصى المجلس فدعا به. فقال: هذه واحدة، ثم سأله عن كنيته فقال: كنيتي أبو الياقوت الأحمر. فقال: وما نقش خاتمك ؟ قال: " وتفقّد الطير " ، فقال: " ماليَ لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين " .
وخرج مهزم بن الفرج القبعسي فقال: أيها الأمير، إني قد قلت بيتاً، وأنشد:
كفى حزناً أن الفراء كثيرة ... وأني بمرو الشاهجان بلا فرو
فقال طاهر: هذه والله قافية شرود، أجيزوا؛ فأرتج عليهم. فقال مهزم: أنا أولى بإجابة نفسي. وقال:
صدقت لعمري إنها لكثيرة ... ولكنها عند الكرام أولي الثرو
فضحك طاهر، وقال: أما لئن أغفلناك حتى حملناك على سوء القول لنفسك سنستدرك، وأمر له بعشر أثواب من وبر الخز والوشي؛ فباع منها تسعاً بتسعين ألف درهم وأمسك واحدة.
من الأجوبة المضحكة
قال الجاحظ: كان جعيفران الموسوس يماشي رجلاً من إخوانه على قارعة الطريق، فدفع الرجل جعيفران على كلب فقال: ما هذا ؟ قال: أردت أن أقرنك به. قال: فمع من أنا منذ الغداة؟ شرب طوقان المغني عند الشريف الرضي فسرق رداؤه، فلما أصبح افتقده؛ فقال: قد سرق ردائي. فقال له الشريف: سبحان الله ! من تتهم منا ؟ أما علمت أن النبيذ بساط يطوى عليه. فقال: انشروا بساطكم حتى آخذ ردائي واطووه إلى يوم القيامة.
ودخل رجل أكول على قوم، فأكل أكلاً ذريعاً. فقال أحدهم: عجبت من أكله وسرطه. وقال الآخر: وشقه دجاجة ببطة، وقال آخر: وأكله دجاجة وبطة. وقال آخر: كأن جالينوس تحت إبطه.
فقالوا له: أما الذي قلناه فمفهوم، فما معنى قولك: كأن جالينوس تحت إبطه ؟ قال: لكي يناوله الجوارشن لئلا يتخم.

قيل لمخنث: كم ورثت أختك من زوجها ؟ قال: أربعة أشهر وعشراً يريد العدة.
قال بعض العلويين لأبي العيناء: يقتضي وقد أمرت بالصلاة علي أن تقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. قال: نعم ! فإذا قلت: الطيبين الأخيار خرجت أنت منهم.
أخذه يزيد بن محمد المهلبي فقال في صاحب الزنج بالبصرة:
أيها الخائن الذي دمّر البص ... رة أبشر من بعدها بدمار
إن تقل جدّي النبيّ فما أن ... ت من الطيبين والأخيار
قد نفى اللّه في الكتاب ابن نوح ... حين كان ابنه من الكفار
وإنما قال المهلبي هذا له قبل أن ينكشف أمره أن دعي.

صاحب الزنج
قال أبو بكر الصولي: وحدثني محمد بن أبي الأزهر وقد أذكرته خبر علي ابن محمد صاحب الزنج، فقال: ادعى أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي رضوان الله عليهم، فنظرت مولده ومولد محمد بن أحمد الذي ادعاه فكان بينهما ثلاث سنين، وكان لمحمد بن أحمد ولد اسمه علي مات بعد هذا المدعي اسمه ونسبه بزمان، ثم رجع عن هذا النسب فادعى أنه علي بن محمد بن عبد الرحمن بن رحيب بن يحيى المقتول بخراسان من زيد بن علي. قال أبو عبد الله محمد بن علي بن حمزة: لم يكن ليحيى ولد يقال له رحيب ولا غيره لأنه قتل ابن ثماني عشرة سنة ولا ولد له. وقال بشر بن محمد بن السري بن عبد الرحمن بن رحيب: هو ابن عم أبي لحاً وهو علي بن محمد بن عبد الرحمن بن رحيب، ورحيب رجل من العجم من ضياع الري. وكانت مدته من حين نجم إلى أن قتل أربع عشرة سنة، وجملة من قتل ألف ألف وخمسمائة ألف، وله شعر حسن مطبوع، وزعم أبو بكر بن دريد أنه عمل له أكثره وما أرى هذا يصح؛ لأنه لا يشاكل طريق ابن دريد: فمنه:
ما تغطّي عساكر الليل منّي ... ما تجلّي مضاحك الصبح عنّي
جسم سيف في جوف غمد ثيابٍ ... صدر إنسٍ من تحته قلب جني
ميت حسٍّ وحيّ نفسٍ كما الشم ... س يرى مشيها بعين التظنّي
شمّريّ إذا استقلّ بعزمٍ ... لم يعرّج بليتني ولو أنّي
ما ينال الكرى سويداه إلاّ ... حسوة الطائر الذي لا يثنّي
إن رماه خطب قرى الخطب رأيٌ ... فيه روع النّجا وحكم التأنّي
كم ظلام جعلته طيلساني ... صاحبي همّتي وقلبي مجنّي
كم حبال قطعت في وصل أخرى ... تاركاً ما أخاف من سوء ظنّي
مستخفّ بذا وذاك وهذا ... لم أُسمع ندامتي قرع سنّي
أنا روض الرّبيع في كل زهرٍ ... فيلسوف الزّمان في كل فنّ
وقال:
لقد علمت هاشمٌ أنّنا ... صباح الوجوه غداة الصّياح
وأنّا إذا زعزعت في الوغى ... ذيول الرّياح ذبول الرماح
نسوق السّيوف بدفع الحتوف ... وننكي الجراح بكفّ الجراح
ونسمو سماحاً أكفّ السّماح ... بقسم رماح وبيض صفاح
وقرم صبحناه في داره ... بكل أقبٍّ ونهدٍ وقاح
فغودر بعد عناق الملاح ... ضجيع النّجيع مرح الجراح
كليل الأنين مذال الجبين ... مهين السّلاح مهيض الجناح
صلى نور عيني بنور الأقاح ... وراح الأكفّ بماء وراح
فما طول عشقي مزاح الملاح ... بمشتغل عن صياح الصباح
وقال:
أسمعاني الصياح بالإمليس ... وصياح العيرانة العيطموس
واتركاني من قرع مزهر ريا ... واختلاف الكئوس بالخندريس
ليس تبنى العلا بذاك وهذا ... لكن الضرب عند أزم الضروس
عيّفت عن كل اللبانات نفسي ... وسمت نحو غير ذلك حدوسي
وخلا من هواجس النأي قلبي ... كخلوّ الطلول بعد الأنيس
واسبطّرت حمالق القوم للمو ... ت وصارت نفوسهم في الرّؤوس
رب سيد يحمي الخميس بعضبٍ ... ويجلي ظلام ليل الخميس
عمّمته يمنى يديّ بعضبٍ ... تركت جنبه كجنب العروس

تخبرنك الكماة عن غدواتي ... في غداة الوغى أبا قابوس
فسلوا عامراً وعارض لمّا ... أن لقوا بالفجور والتدليس
أتروني أقرّ بالنّوم غمضاً ... يا عبيد الصليب والناقوس
وقال:
وإنّا لتصبح أسيافنا ... إذا ما اصطبحنا بيوم سفوك
منا برهنّ بطون الأكف ... وأغمادهنّ رؤوس الملوك
وما لي في الخلق من مشبهٍ ... ولا في اكتساب العلا من شريك
وقال يخاطب بني العباس:
بني عمنا لا توقدوا نار فتنة ... بطيء على مرّ الليالي خمودها
بني عمّنا إنا وأنتم أناملٌ ... تضمّنها من راحتيها عقودها
بني عمّنا ولّيتم التّرك أمرنا ... بديئاً وأعقاباً ونحن شهودها
فأُقسم لا ذقت القراح وإن أذق ... فبلغه عيش أو يبار عميدها
وقال:
لهف نفسي على قصورٍ ببغدا ... د وما قد حوته من كلّ عاص
وخمور هناك تشرب جهراً ... ورجالٍ على المعاصي حراص
لست بابن الفواطم الزّهر إن لم ... أُقحم الخيل بين تلك العراص
وقتله الموفق بعد أن جرت له معه مواقعة عظيمة، وجرح الموفق جرحاً في صدره أشرف منه على الموت، ولذلك قال ابن المعتز:
شقّ الصفوف بسيفه ... وشفى حزازات الإحن
دامي الجراح كأنها ... وردٌ تفتّح في غصن

ومن ملح النوادر
قال الجاحظ: سمعت رجلاً يقول لآخر: ضربنا الساعة زنديقاً. قال: وأي شيء الزنديق ؟ قال: الذي يقطع المزيقة. قلت: وكيف علمت أنه يقطع المزيقة ؟ قال: رأيته يأكل التين بالخل.
وهذا كما قال النظام لرجل: أتعرف فلاناً المجوسي ؟ قال: أعرفه، ذاك الذي يحلق وسط رأسه مثل اليهود. قال: لا مجوسياً عرفت ولا يهودياً وصفت.
باع مزيد المديني دابة، فلما كان من الغد أتاه النخاسون طمعاً، فلما نظر إليهم قد أقبلوا نحوه قام يصلي فأطال الصلاة، فقالوا له وهم لا يعفرونه : يا عبد الله؛ قد ذهب يومنا، فأطمعهم طول قيامه، وكان أحسن الناس سمتاً وأظهرهم هدياً، فانفتل من صلاته فقال: ما بالكم ؟ فقد قطعتم علي صلاتي. فقالوا له: قد ظهر بالدابة عيب. قال: وما عيبه قالوا: يخلع الرسن. قال: لا أعرفه بهذه الصفة؛ فماذا تريدون ؟ قالوا: خصلة من ثلاث؛ إما الحطيطة، وإما رد الثمن وأخذ الدابة، وإما اليمين بالله أنك ما تعرف هذا فيه.
فقال: أما الثمن فقد فرقناه، وأما الحطيطة فما تمكننا، وأما اليمين فإني ما حلفت قط على حق ولا على باطل، فاعفوني منها؛ فإنها أصعب الخطط عندي. قالوا: ما من ذلك بد؛ فانطلق بنا إلى الوالي. فقام معهم، فلما بصر به الوالي ضحك، وقال: ما جاء بك أبا إسحاق ؟ فقص عليه القصة. فقال: قد أنصفك القوم. فقال: أعز الله الأمير، أحلف وأنا في هذه السن، وضرب يده على لحيته وبكى. وقال: ما حلفت على حق ولا على باطل والتوى. قال: لا بد، فالتوى ساعة؛ ثم قال: أصلح الله الأمير فإن حملت نفسي على اليمين وحلفت وأعنتوني بعد ؟ قال: أوجعهم ضرباً، وأحبسهم. فلما سمع ذلك استقبل القبلة وقال: بلغت السماء، وكورت الشمس، ونثرت الكواكب، وشربت البحر، ولطعت ما في المصحف من الذكر الحكيم، وتوليت عاقر الناقة، وسرقت عصا موسى عليه السلام، ولقيت الله بذنب فرعون يوم قال: أنا ربكم الأعلى؛ وغير ذلك من محرج الأيمان، لقد كان عندي دواب كلها تخلع أرسانها، فكان هذا الحمار يقوم فيعديها عليها ويصلحها بفمه قليلاً قليلاً. فضحك الوالي حتى فحص برجليه، وبهت النخاسون، وعجبوا منه وانصرفوا عنه.
وقال بعض الشعراء:
سألوني اليمين فارتعت منها ... كي يغرّوا بذلك الارتياع
ثم أرسلتها كمنحدر السي ... ل تهادى من المحلّ اليفاع
قاض دفع مالاً لمن توجّه إليه باليمين

ومن ظريف ما في هذا الباب ما حكاه الصولي قال: كنت يوماً بين يدي أمير المؤمنين الراضي بالله إذ دخل عليه بعض الخدم برقعة دفعها صاحب الخبر الملازم لمجلس أبي عمر القاضي، يذكر أن رجلاً أحضر خصماً للقاضي، وادعى عليه مائة دينار؛ فألزم القاضي الغريم اليمين؛ إذ لم يجد الخصم بينة؛ فأخذ الدواة وكتب بيتين فدفعهما إلى القاضي، فأمر القاضي غلامه فأحضر مائة دينار ودفعها إلى الرجل، والبيتان هما:
وإني لذو حلفٍ كاذب ... إذا ما اضطررت وفي الأمر ضيق
وهل من جناحٍ على مسلمٍ ... يدافع باللّه ما لا يطيق
فعجب الراضي من الرجل وديانته، لخلاصه من الحكم؛ وعجب من كرم القاضي وحسن ما فعله، ثم أمرني بالركوب إلى القاضي ومسألته في البحث عن صاحب البيتين وإحضاره إليه. فلم نزل أياماً حتى حصل لنا، فجئنا به إلى دار السلطان، فمر له بألف دينار وخمس خلع ومركوب حسن، وأمره بملازمة الدار؛ ثم قلده الأهواز وأعمالها.

من نوادر اللصوص
وخرج أبو سعيد الحربي مرة وهو شارب، فجلس يبول وعليه طيلسان خلق إبريسمي، فمر به بعض المكارين في الليل، وتناول طيلسانه، فصاح به أبو سعيد: فقال له الفتى: ما تريد ؟ قال: أصرف الله عنك الأذى.
ودخل على أبي سعيد اللصوص فأخذوا كل ما في داره، فلما مضوا حمل أبو سعيد البارية ومضى في أثرهم فنظر إليه أحدهم فقال: أي شيء تصنع معنا ؟ قال: نطلب بيتاً نتحول فيه بمرة، فضحك اللصوص وردوا عليه ما أخذوه منه.
من نوادر الأطباء
وكان ببغداد طبيب اسمه نعمان لا ينجح مريض على يديه، فقال فيه بعض الشعراء:
أقول لنعمانٍ وقد ساق طبّه ... نفوساً نفيسات إلى داخل الأرض
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقال كشاجم لعيسى بن نوح النصراني:
عيسى الطبيب ترفّق ... فأنت طوفان نوح
يأبى علاجك إلاّ ... فراق جسمٍ لروح
شتّان ما بين عيسى ... وبين عيسى المسيح
هذاك محيٍ لميتٍ ... وذا مميت صحيح
هذا منقول من قول رجل من بني تميم، لما دخل هلال بن أحوز البصرة بعد إيقاعه بني المهلب، وقد أطافت به بنو تميم، فقال شيخ من الأزد: رجالهم يطيفون به كما يطيفون بعيسى ابن مريم. فقال التميمي: هذا ضد عيسى ابن مريم؛ فإن ذاك يحيي الموتى وهذا يميت الأحياء.
من نوادر الفقهاء
قال رجل للشعبي: ما تقول في رجل أدخل أصبعه في أنفه فخرج عليه دم، أترى له أن يحجم ؟ فقال: الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة.
وقال له رجل: ما تقول في رجل شتمني في أول يوم من شهر رمضان، أتراه يؤجر ؟ قال: إن قال لك يا أحمق رجوت له ذلك.
دخل زاهر بن العلاء على الحجاج فنسي التسليم، فقال: التحيات لله الطيبات الصلوات لله. ثم ذكر التسليم فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته.
من طرف المعزين
ودخل بعض الهاشميين على الرشيد معزياً. فقال: يا أمير المؤمنين، أحسن الله عزاك، وربك عزاك، وأحاله علينا وعليك بخير، ورحم فلاناً ولا عرفه قليلاً ولا كثيراً، تأمر بشيء يا أمير المؤمنين ؟ قال: نعم ! آمر أهلك أن يدفنوك؛ فإن موتك حياة وحياتك موت.
مات أخ لأبي علقمة النحوي، فأتى ابنه يعلم أبا علقمة بموت أخيه. فقال: ما كانت علته ؟ فقال الغلام: تورمت رجلاه فانتهى الورم إلى ركبتاه. فقال أبو علقمة: لحنت؛ فقل: إلى ركبتيه. فقال الغلام: لقد شق عليك موت أبي حيث لم تدع بغضك ساعة !
من نوادر المحبين
ومرت بداود بن المعتمر امرأة جميلة، فقام يتبعها حتى أدركها. فقال: لولا ما رأيت عليك من سيماء الخير لم أتبعك، فضحكت حتى استندت إلى الحائط. فقالت: إنما يمنع مثلك من الطمع في مثلي ما يرى من سيماء الخير، فإذا كان هذا هو الذي يطمع في النساء فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وتعشق أبو القماقم السقا قينة فبعث إليها: حضر عندي إخوان فابعثي إلي بجام لوزينج آكله على ذكرك. فبعثت إليه به. فلما كان من الغد بعث إليها: أرسل لي بطبق مازاورد آكله على ذكرك. فقالت: جعلت فداك، ذكروا أن منبع الحب من القلب، فإذا تناهى بلغ إلى الكبد، وأنا أرى حبك لا يتجاوز معدتك. فقال: إنما فعلت هذا لأقوى على محبتك، ألم تسمعي قول الشاعر:
إذا كان في قلبي طعامٌ ذكرتها ... وإن جعت لم تخطر ببالي ولا فكري
وإن كان هذا العام قد قلّ بقله ... فقبح من يهواك يا ربّة الخدر
ويزداد حبّي إن شبعت تجدّداً ... وإن جعت يوماً لم تكوني على ذكري
ومن مليح ما في هذا الباب أن أبا مسعود الأعمى كان جالساً في صحن داره، فأشرفت عليه جارية ظريفة، فعضت تفاحة ورمت بها في حجره. فتناولها وقال:
أيا تفاحة رمّت ... فؤادي للهوى رمّا
لقد أهداك إنسان ... وأهداك لأمرٍ ما
ليهدي لاعج الشوق ... إلى من عضّ أو شمّا
فلم تكن إلا ساعة حتى وافت جارية لها، معها جام لوزينج وهي تقول: مولاتي تقرئك السلام وتقول لك: قد سمعت شعرك، ورأيتك بدأت بالعض قبل الشم، فعلمت أنك جائع؛ فتبلغ بهذا الجام حتى يدرك طعامنا. قال: وكيف كنت أقول ؟ قالت: كنت تقول:
أيا تفّاحة رضّت ... فؤادي للهوى رضّا
لقد أهداك إنسانٌ ... وأهداك لما يرضى
ليهدي لاعج الشوق ... إلى من شمّ أو عضّا
وكان أحمد بن أبي طاهر قبيح الوجه، وكان له جارية من أحسن النساء، فضحك إليها يوماً فعبست في وجهه، فقال لها: أضحك في وجهك فتعبسين في وجهي ؟ فقالت: نظرت أنت إلى ما سرك فضحكت ونظرت إلى ما ساءني فعبست.
وليس هذا كقول حمرة امرأة عمران بن حطان وكان قبيحاً وكانت جميلة: إني لأرجو أن نكون جميعاً في الجنة. فقال: ولم ؟ قالت: لأنك أعطيت مثلي فشكرت، وأعطيت أنا مثلك فصبرت؛ فالصابر والشاكر في الجنة.
وخطبت بعده فلبس بعض ثيابه وخرجت تتمثل بقوله:
تلبس يوماً عرسه من ثيابه ... إذا قيل هذا يا حميرة خاطب
فانصرفوا عنها.
وكان أبو الحسن جحظة البرمكي أطيب الناس غناء، وأحسنهم مجالسة، وأمتهم مؤانسة، وكان قبيح المنظر جداً جاحظ العينين وفيه يقول ابن الرومي:
نبئت جحظ يستعير جحوظه ... من فيل شطرنج ومن سرطان
يا رحمتي لمنادميه تحملوا ... ألم العيون للذّة الآذان

وعد بكفن بعد أيام !
قال المدائني: جاء رجل إلى جار له من الأشراف فقال له: جارك فلان توفي ولا كفن له فتأمر له بكفن، فقال: والله الآن ما عندي شيء، ولكن تعاودنا بعد أيام. قال: فنملحه أصلحك الله إلى أن يتيسر الكفن !
دينار يلد
وجدت امرأة أشعب ديناراً فأتته به، فقال: ادفعيه إلي حتى يلد لك في كل أسبوع درهمين، فدفعته إليه، فصار يدفع إليها في كل أسبوع درهمين؛ فلما كان في الأسبوع الرابع طلبته منه، فقال لها: مات في النفاس، فقالت: ويلي عليك ! كيف يموت الدينار ؟ فقال لها: الويل لك على أهلك ! كيف تصدقين بولادته وتنكرين موته في نفاسه.
سقط أحدب في بئر، فذهبت حدبته وصار آدر، فدخل إليه جيرانه يهنئونه، فقال: لا تفعلوا فالذي جاء شر من الأول.
قال ابن خالويه: استعرضت جارية فقلت لها: أبكر أنت أم أيش ؟ قالت: أيش، فاشتريتها.
من نوادر المعزين أيضا
ً
قال أبو العالية: لما مات سعيد بن مسلم الباهلي قال لي الرشيد: علم فلاناً تعزية يعزي بها ولد سعيد لفتى من بني هاشم. فقلت للفتى: إذا صرت للقوم فقل: عظم الله أجركم، وأحسن عزاءكم، ورحم سعيداً. قال: هذا طويل. فقلت فقل: أعظم الله أجركم، وختم بالصبر على قلوبكم. قال: هذا أطول من ذاك. قال فقلت: أعظم الله أجركم وكررته عليه يومين، فلما كان اليوم الثالث ركب وركبنا معه، فلما قرب من باب القوم خرجوا إليه حفاةً إعظاماً له، فلما رآهم قال: ما فعل سعيد ؟ قالوا: مات، قال: جيد وما أظن ذلك، فإيش عملتم به ؟ قالوا: دفناه. قال: أحسنتم. ثم انصرف.

لما مات سليمان بن وهب لقي الناس عبيد الله بن سليمان يعزونه، فأتاه بعض أولاد الأشراف؛ فقال: مات سليمان ؟ قال: نعم ! وقال: ومات أبو علي قبله ؟ قال: نعم ! قال: ومات أبوهما ؟ قال: نعم ! قال: هذا كما قال الله تعالى: " وإنْ منكم إلا وارِدُها كان على ربك حَتْماً مقضيّاً " ؛ " فأوردهم النار " ، " وبئس القَرار " .

بنو وهب من الظرفاء والكتاب
وبنو وهب من ظرفاء الكتاب وأدبائهم، ولهم الرسائل الحسان، والشعر الجيد، وفيهم يقول أبو تمام:
كلّ شعب كنتم به آل وهبٍ ... فهو شعبي وشعب كلّ أديب
إنّ قلبي لكم كالكبد الحر ... رى وقلبي لغيركم كالقلوب
وكان الحسن بن وهب يهوى بنان جارية ابن حماد، وكان من ظريف أخباره معها: أن الواثق تقدم إلى إيتاخ باتخاذ حلتين من رفيع الوشي على صفة دفعها إليه وأمره بتعجيلهما؛ فتقدم إيتاخ في ذلك إلى سليمان بن وبه كاتبه، فجد في الحلتين حتى فرغ منهما الصانع وأحضرتا، فعرضتا على الواثق فاستحسنهما وأمر بقطعهما، فتشاغل عن قطعهما، وسأل أخاه الحسن بالنيابة عنه في ذلك، فقطع الحسن منهما قميصاً لبنان وانصرف إلى منزله فأحضرها وخلعه عليها وجلس يشرب معها. واتصل الخبر بسليمان، فقامت عليه القيامة وأمر بإحضار الوشائين وطلب شكلاً لهما فتعذر عليه، فابتاع حلةً تقاربهما بخمسة آلاف درهم وصدق إيتاخ عن خبره، فطلبهما الواثق فدافعه إيتاخ بهما، وتعلل عليه إلى أن فرغ الخياطون من الحلة التي ابتاعها سليمان بن وهب، وأحضرت للواثق، فلما لبسها أنكرها، ودعا إيتاخ فسأله عن السبب فصدقه، فضحك ضحكاً كثيراً، ودعا خادماً فأمره بإحضار الحس وبنان على الصورة التي يجدهما عليها، فأحضرهما في قبة، فلما رآهما الواثق قال للحسن: ويلك تأخذ ثوبي تقطعه لهذي بغير أمري؛ قال: أنت يا أمير المؤمنين تقدر على مثله، وأنا لا أقدر عليه، وأنا والله أحبها وأعجبني الثوب فتقربت منها به. فضحك ووصله وصرفهما.
وفيها يقول الحسن:
أقول وقد حاولت تقبيل كفّها ... وبي رعدةٌ أهتّزّ منها وأسكن
ليهنئك أني أشجع الناس كلّهم ... لدى الحرب إلاّ أنني عنك أجبن
وحضرت عنده يوماً وقرب منها ناراً فتأذت منها؛ فقال الحسن:
بأبي كرهت النار حتى أُبعدت ... فعلمت ما معناك في إبعادها
هي ضرّةٌ لك في التماع بهائها ... وهبوب نفحتها لدى إيقادها
وأرى صنيعك في القلوب صنيعها ... بسيالها وأراكها وعرادها
شركتك في كل الأمور بفعلها ... وضيائها وصلاحها وفسادها
قال أبو فراس: قال لي عبيد الله بن سليمان بن وهب وهو وزير: أنشدني مما تحفظه من شعر عمي أبي علي فأنشدته:
بنفسي وأهلي ساحر الطرف فاتره ... محكّمة أجفانه ومحاجره
فقال عبيد الله: لقد كان رحمه الله كثيراً ما يضع خده على خدي وأنا غلام وينشد هذا الشعر ويبكي. فقلت: يا سيدي، كان يتعشقها ليقول شعراً. ومن طبع كلامه قوله: شربت البارحة على وجه الجوزاء، فلما انتبه الفجر نمت، فما أفقت حتى لفحني قميص الشمس.
تضمين أبيات مالك بن الريب
وأنشدونا في تضمين أبيات مالك بن الريب المازني في قصيدته:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بذات الغضا أُزجي القلاص النواجيا
وسمعت من ينشدها لابن الرومي وأخلق بها أن تكون له:
تعرّض لي بعد القطيعة مالكي ... وأظهر فضلاً بعد ما كان جافيا
وقد كدّر الإنبات ماء شبابه ... فأصبح رنقاً بعد ما كان صافيا
فقلت له جرّعت بالشعر نسوة ... فقال أجل كلّ العيال رثى ليا
فمنهن أختي وابنتاها وخالتي ... وباكية أخرى تهيج البواكيا
فبينا يعاطيني الكلام بدا له ... حريفان عن بعدٍ فصاح مناديا
خذاني فجرّاني بدمعي إليكما ... فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا
معاوية بن مروان وحمار الرحى

كان معاوية بن مروان أخو عبد الملك بن مروان مغفلاً؛ فبينا هو واقف بباب دمشق ينتظر عبد الملك على باب طحان إذ نظر إلى حمار يدور بالرحى، وفي عنقه جلجل. فقال للطحان: لم جعلت في عنق الحمار جلجلاً. قال: لربما أدركتني سآمة أو نعسة، فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت بأنه قد قام فصحت به. فقال له معاوية: أرأيت إن قام ومال برأسه هكذا وهكذا وحرك رأسه ما علمك أنه قائم ؟ فقال الطحان: ومن لحماري بمثل عقل الأمير أعزه الله تعالى !

في مرض الجاحظ
قال بعض البرامكة: كنت بالسند، فاتصل بي أني صرفت عنها، وكنت كسبت ثلاثين ألف دينار؛ فخفت أن يجفوني الصارف ويسعى إليه بالمال، فصغته عشرة آلاف إهليلجة، كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل، وجعلتها في حمل إهليلج، ولم أبعد أن جاء الصارف، فركبت البحر وانحدرت إلى البصرة؛ فأخبرت أن بها الجاحظ وأنه عليل؛ فأحببت أن أراه قبل وفاته؛ فصرت إليه، فأفضيت إلى باب دار لطيف؛ فقرعته، فخرجت إلي جارية صفراء، فقالت: من أنت ؟ قلت: شيخ غريب؛ أحب أن أدخل إلى الشيخ فأسر بالنظر إليه؛ فأدت الجارية ما قلت، وكانت المسافة قريبةً لقصر الدهليز والحجرة؛ فسمعته يقول: ما يصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حائل ؟ فأخبرتني، فقلت: لا بد من الوصول إليه. فقال: هذا رجل اجتاز بالبصرة، فسمع بي وبعلتي، فقال: أراه قبل موته لأقول قد رأيت الجاحظ.
فدخلت فسلمت، فرد رداً جميلاً، واستدناني وقال: من تكون أعزك الله ؟ فانتسبت إليه، فقال: رحم الله آباءك وقومك السمحاء الأجواد، الفصحاء الأمجاد، فلقد كانت أيامهم روض الأزمنة، ولقد انجبر بهم قوم كثير، فسقياً لهم ورعياً. فدعوت له وقلت: أنا أسأل الشيخ أن ينشدني شيئاً من ألذ الشعر أذكره به، فأنشدني:
لئن قدّمت قبلي رجالٌ لطالما ... مشيت على رسلي فكنت المقدّما
ولكن رأيت الدهر تأتي صروفه ... فتبرم منقوضاً وتنفض مبرما
ثم نهضت، فلما قاربت الدهليز صاح بي: يا فتى، أرأيت مفلوجاً ينفعه الإهليلج ؟ قلت: لا ! قال: أنا ينفعني الإهليلج الذي معك فأهد لنا منه. فقلت: السمع والطاعة. وخرجت مفرط التعجب من وقوفه على خبري حتى كأن بعض أحبابي كاتبه بحالي وقت أن صغته، فأنفذت إليه مائة إهليلجة.
وهذا يدل على كثرة بحثه وتنقيره؛ إذ كان وهو في هذه السن العالية والفالج الشديد تنشر عنده الأخبار، ولا تطوى عنه الأسرار، فكيف كان قبل هذا ؟ ومن إحدى عجائبه أنه ألف كتاب الحيوان وهو على تلك الحال.
وقيل لأبي العيناء: ليت شعري؛ أي شيء كان الجاحظ يحسن ؟ فقال: ليت شعري أي شيء كان الجاحظ لا يحسن ؟ وفيه يقول الشاعر:
ولقد رأيت العلم يو ... ماً ما حواه اللاّفظ
حتى أقام طريقه ... عمرو بن بحر الجاحظ
وأتى أبو العيناء الجاحظ يسأله في رجل أن يكتب له كتاب عناية إلى صاحب البصرة. فقال: نعم ! لا تنصرف إلا به، وكتب له الجاحظ الكتاب وختمه ودفعه إليه، فأتى إلى أبي العيناء بالكتاب؛ فقال: افضضه واقرأه علي؛ لأرى ما كتب وأعيده إليه ليختمه، ففتحه فإذا فيه: كتابي إليك سألني فيه من أخافه لمن لا أعرفهن فافعل في أمره ما تراه، والسلام. فغضب ونهض إلى الجاحظ، فقال: أعرفك باعتنائي بهذا الرجل فكتبت له مثل هذا ! فقال: لا تنكر ذلك فإنها أمارة بيني وبينه إذا عنيت برجل. فقال: بل أنت ولد زنا لم تك قط لرشدة. قال: أتشتمني ؟ قال: لا، إنها أمارة لي عند الثناء على إنسان.
ومن نوادر المتنبئين
ادعى رجل النبوة في زمن المهدي وأدخل عليه. فقال: أنت نبي ؟ قال: نعم ! قال: إلى من بعثت. قال: أوتركتموني أن أبعث إلى أحد ؟ بعثت بالغداة وحبست بالعشي. فقال: صدقت، أعجلناك ! وضحك منه ووصله وأطلقه.
طمع أشعب
قيل لأشعب: ما بلغ من طمعك ؟ قال: ما رأيت عروساً تزف إلا وظننتها لي، ولا رأيت جنازة إلا وظننت أن صاحبها أوصى لي بشيء. ولقد أطاف بي مرة صبيان فنادوا: يا أشعب ! يا أشعب ! فأضجروني، فدفعتهم عني بأن قلت لهم: دار فلان تهب، فبادروا. فلما ولوا ظننت أني صادق، فتبعتهم.
من نوادر الولاة

قال الشافعي: رأيت بالعراق أربعة أشياء لم أر مثلها؛ رأيت جدة بنت إحدى وعشرين سنة، ورأيت قلنسوة قاض وسعت ثمانية نوى، ورأيت شيخاً ابن نيف وتسعين سنة يمشي على القيان يعلمهن الغناء وضرب العود، وإذا صلى صلى قاعداً، ورأيت والياً سأل بعض من يلم به: لم لا يجتمع الناس على بابي ؟ فقال: لأنك عدل لا تضرب أحداً؛ فوجه إلى إمام مسجد الجامع، فأمر بضربه بالسياط؛ فاجتمع الناس على بابه وأقبلوا يتزاحمون، والرجل يقول: ما ذنبي، أيها الأمير؟ والأمير يقول له: جملني بنفسك قليلاً يا شيخ.
وولى الحجاج أعرابياً على تبالة فجمع أهلها وقال: إن الأمير أوصاني عليكم؛ ووالله لا أحسن أن أقضي بين خصمين مرتين، وواله لا أوتى بظالم ولا مظلوم إلا وضربته حتى أقتله، فتناصف الناس بينهم.

من ملح أبي الأسود
قال المدائني: كان لأبي الأسود الدؤلي دكان إلى صدر الرجل يجلس فيه وحده، ويضع بين يديه مائدة ويدعو إليها كل من يمر به، وليس لأحد أن يجلس؛ فينصرفون عنه.
وكان أبخل الناس، فمر به صبي من الأنصار؛ فقال له أبو الأسود: هلم إلى الغداء يا فتى؛ فأتى إليه، فلم ير موضعاً يجلس فيه، فتناول المائدة فوضعها في الأرض ثم قال: يا أبا الأسود، إن كان لك في الغداء حاجة فانزل؛ وأقبل الفتى يأكل حتى أتى على جميع ما في المائدة، وسقطت آخر الطعام من يده لقمة على الأرض فأخذها وقال: لا أدعها للشيطان. فقال أبو الأسود: والله ما تدعها للملائكة المقربين، فكيف تدعها للشياطين ! ثم قال له: ما اسمك ؟ قال: لقمان. فقال أبو الأسود: أهلك كانوا أعلم زمانهم إذ سموك بهذا الاسم، ولم يعد بعد إلى ما كان يصنع.
واسم أبي الأسود ظالم بن عمرو من بني الدئل من كنانة، وكان قد أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وسافر إلى البصرة على عهد عمر رضي الله عنه، واستعمله علي بن أبي طالب رضي الله عنه على البصرة وكان شيعياً، وهو أول من وضع العربية وهو القائل:
أمنت على السرّ امرءاً غير حازم ... ولكنه في الودّ غير مريب
أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار آذنت بثقوب
وما كلّ ذي لبٍ بمؤتيك نصحه ... وما كل مؤتٍ نصحه بلبيب
ولكن متى ما جمعا عند واحدٍ ... فحقّ له من طاعة بنصيب
وكان مجاوراً لبني قشير وهم عثمانية وكانوا يرجمونه، فإذا أصبح شكاهم؛ فيقولون: ما نحن رجمناك، الله تعالى رجمك. فيقول: كذبتم يا فعلاء، أنتم ترمون فتخطئون ولو كان الله رماني ما أخطأني؛ ثم باع داره وانتقل عنهم. فقيل له: أبعت دارك ؟ فقال: بل بعت جاري، وفيهم يقول:
يقول الأرذلون بنو قشير ... طوال الدهر ما تنسى عليّا
أحب محمداً حبّاً شديداً ... وعبّاساً وحمزة والوصيّا
فإن يك حبّهم رشداً أصبه ... ولست بمخطىءٍ إن كان غيّا
فقالوا له: أشككت ؟ فقال: مما شك الله تعالى إذ يقول: " وإنا أو إياكم لعلى هُدَّى أو في ضلالٍ مبين " .
وقال عمر بن شبة: لما وقعت الفتنة أيام ابن الزبير بالبصرة مر أبو الأسود على مجلس ابن قشير، فقال: على ماذا أجمع أمركم في هذه الفتنة ؟ قالوا: لم تسألنا يا أبا الأسود ؟ قال: لأخالفكم، فإن الله لم يجمعكم على حق.
وأنشد ابن شبة في هذا المعنى لبعض المحدثين:
إذا أشبه الأمران يوماً وأشكلا ... عليّ فلم أعرف صواباً ولم أدر
سألت أبا بكر خليل محمّدٍ ... فقلت له ما تستحبّ من الأمر ؟
فإن قال قولاً قلت شيئاً خلافه ... لأنّ خلاف الحقّ قول أبي بكر
رسالة أبي العيناء في أحمد بن الخصيب
ومن هنا أخذ أبو العيناء قوله في أحمد بن الخصيب: لو تأمل أحد أخلاقه فاجتنبها لاستغنى عن الآداب يطلبها.

وهذا مما يقرأه أبو العيناء في كلام طويل عمله على ألسنة القواد والكتاب والرؤساء وغيرهم لما نكب أحمد. فقال: قال محمد بن عبد الله بن طاهر: غدر بمن آثرهن وتخطى ما لا يقدره، فحل به ما يحذره. وقال ابن طالون: تكبر وتجبر ودبر فدمر. وقال موسى بن بغا الكبير: لولا أن القدر يغشى البصر لما نهى ابن الخصيب فينا ولا أمر. وقال فارس بن بغا: لم تتم له نعمة، لأنه لم تكن له في الخير همة. وقال سليمان بن يحيى بن معاذ: كان يأمر ولا يأتمر، وينهى ولا يزدجر، ويعبر ولا يعتبر. وقال جعفر أبو عبد الواحد: أحسن حسناته سيئة وأصغر سيئاته كبيرة.

وقال مروان بن عيسى بن جعفر الهاشمي: كانت دولته دولة المجانين، خرجت من الدنيا والدين. وقال أبو عبد الله محمد بن زبيدة: بعد من الشرف؛ فتحامل عليه؛ وقرب من ضده فمال إليه. وقال إسحاق بن إبراهيم الطاهري: كان إذا دنوت منه غرك، وإذا بعدت عنه ضرك. وقال داود بن إسحاق بن محمد بن العباس: ما أحسن قط إلا أخطأ، ولا أصاب إلا تعدى. وقال ابن أيوب: نعمته أعجب من نكبته. وقال ميمون بن إبراهيم: لو تأمل أحد أخلاقه فاجتنبها لاستغنى عن الآداب أن يطلبها. وقال الحسن بن محمد بن أبي الشوارب القاضي: كان يحسد المحسنين ويجتنب أفعالهم، ويذم المسيئين ويعمل أعمالهم. وقال عيسى بن فرخان شاه: أعقل منه مجنون، وأجن منه لا يكون. وقال برد الخيار: ما كان أقرب وليه مما يكره وعدوه مما يحب ! وقال ابن حمدون: لئن منحته القدرة لقد حملته النكبة. وقال أحمد بن أبي الأصبغ: ما علمت أن خدمة الشياطين أيسر من خدمة المجانين؛ كان غضبه إذا أطعناه أكثر من غضبه إذا عصيناه. وقال إبراهيم بن رباح: كان لا يفهم ولا يفهم، وينقض ما يبرم. وقال سعيد بن حميد: كان يخافه الناصح ويأمنه الغاش، ولا يبالي أن يراه الله مسيئاً. وقال جعفر بن الفضل الجرجرائي: ما زال يستوحش من النعمة حتى أنس بالنقمة. وقال إبراهيم بن الجراح: كان إذا أحسن اعتذر، وإذا أساء امتن. وقال محمد بن مجمع: مجامعه ردية وأوانيه دنية، ضاعت بينهما الرعية. وقال عبد الله بن منصور: كنت أرثي للسلطان في قربه، كما أرثي للأمة من ظلمه. وقال إبراهيم بن المدبر: لئن كان حكمه بالخطإ نافذاً، لقد اصبح الحكم فيه بالصواب ماضياً. وقال عطية الكاتب: قد عرف غب ما صنع وما حصد إلا ما زرع. وقال سلمة بن سعيد: عرف نصيحتي فعاداني واجتهادي فنافاني. وقال ابن فراشة: كنت إذا نصحته زناني، وإذا أخشنته مناني. وقال محمد بن داود التستري: كان لا يرى درهماً في يد سواه إلا حسبه حقاً له تخطاه. وقال أيوب بن سليمان: كان لا يعلم ولا يتعلم ويستصغر من يتعلم. وقال يعقوب بن أحمد: كان وليه على وجل وعدوه على أمل. وقال ابن ثوابة الكاتب: أساء عشرة الأحرار فأصبح مقفر الديار. وقال عريب: لم يجاور النعمة بالشكر فحل به ما استحقه بالكفر. وقال شاربه: ما أنور بفقده الأيام وأسر بهلاكه الإسلام ! وقال محمد بن الزيات: قال المعتصم: لسان بذيء وخلق رديء وطبع مسيء. وقال سعيد بن هارون: لقد رحم الله عباده إذ طهر منه بلاده. وقال سليمان بن بشار: اشتد طغيانه فبعدت أوطانه. وقال ميمون بن هارون: كتب الله له البلاء صراحاً فأنبت له كالنملة جناحاً. وقال سليمان بن وهب: كان سفلة المحضر، سيىء المنظر، رديء المخبر. وقال حجاج بن هارون: والله ما كان له في الشرف أسباب متان، ولا في الخير عادات حسان. وقال بعض الندماء: ما رأيته سمى على طعام قط، ولا استثنى في يمين، ولا حمد الله على نعمة. وقال تمام بن كثير الهاشمي نديم المتوكل من ولد الحارث بن العباس: كان البذاء عنده عادة، والسخف مروءة، وقذف المحصنات فرض. وقال سعيد الصغير: حمل حتفه بكفه ورمى نفسه بسهمه. وقال صالح الحريري: لا يسعى إليه حر وإن مسه الضر. وقال إسحاق بن صالح بن مرشد: تعرض لسخط الله فأصبح في لعنة الله. وقال أبو الفرج بن نجاح: ما سمعته قط إلا زارياً على الزمان، عاتباً على الإخوان، آمناً من الحدثان. وقال محمد بن نصر بن منصور بن بسام: صار سلطان البغي إليه فحلت دائرة السوء عليه. وقال أحمد بن عبد الرحمن الكلبي: جهله عامر الغفلة، وسفهه قاهر الحملة. وقال إبراهيم بن سعيد: إن من عجائب الدهر أن يكون له في الأمة نهي أو أمر. وقال نمرة الرائض: لو كان ابن الخصيب دابة لكدح بلجامه، وتقاعس في عنانه، وحرن في ميدانه. وقال ابن مزينة: كنت إذا وقع شعره على صدري أحسست النقصان في عقلي. وقال أبو عبد الله الصفار: ما أكثر خطإ ابن الخصيب، وأحوجه إلى ما نحن فيه حتى يصيب. وقال بعض كتابه: كنت أرى قلم ابن الخصيب يكتب بما لا يصيب وهو أطول من هذا.

الكلمات التي قيلت بعد وفاة الإسكندر
وهذا ضد هذه الكلمات التي قيلت بعد وفاة الإسكندر نبه بها حكماء زمانه، اخترت منها هنا قطعة:

لما جعل في تابوت ذهب تقدم إليه أحدهم فقال: كان الإسكندر يخبأ الذهب فقد صار الذهب الآن يخبؤه. وقال الآخر: انظر إلى حلم النائم كيف انقضى وإلى ظل الغمام كيف انجلى. ودخل عليه آخر فقال: قد أمات هذا الميت كثيراً من الناس لئلا يموت، وقد مات الآن. وتقدم آخر فقال: ما لك لا تقل عضواً من أعضائك، وقد كنت تستقل بملك العباد. ودخل آخر فقال: ما لك لا ترغب بنفسك عن الجحر الضيق، وقد كنت ترغب بها عن رحب البلاد ! ودخل آخر فقال: كان لا يقدر عنده على الكلام، فالآن لا يقدر عنده على السكوت. وقال آخر: كان غالباً فصار مغلوباً، وآكلاً فصار مأكولاً. وقال آخر: ما كان أقبح إفراطك في التجبر أمس مع شدة خضوعك اليوم. وقالت بنت دارا بن دارا: ما ظننت غالب أبي يغلب. وقال رئيس الطباخين: نضدت النضائد، وألقيت الوسائد، ونصبت الموائد، ولست أرى عميد القوم. وقال آخر: حركنا الملك يسكونه. وقال آخر: كان الملك أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس.
أخذ قوله: حركنا بسكونه أبو إسحاق بن القاسم أبو العتاهية، فقال:
يا عليّ بن ثابت بان منّي ... صاحبٌ جلّ قدره يوم بنتا
قد لعمري حكيت لي غصص المو ... ت وحرّكتني لها وسكنتا
وأخذ قوله الآخر فقال:
كفى حزناً بموتك ثمّ إني ... نفضت تراب قبرك عن يديّا
وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... وأنت اليوم أوعظ منك حيّا

أحمد بن الخصيب وبعض أخباره
وكان أحمد بن الخصيب القائم بأمر المنتصر بعد قتله أباه المتوكل واستيلائه على الخلافة، فلما مات المنتصر أقره المستعين أحمد بن المعتصم على ما كان، ولم يطل عمر المنتصر بعد أبيه.
ومن عجائب الاتفاقات ما حكاه بعض أصحاب التواريخ: أن المنتصر لما أصبح في الخلافة وجلس للبيعة، فرش في الدار بساط جليل كسروي، فوقف أحد رجال المنتصر على بعض صنائعه، وقد نظر إلى دارة فيها صورة رجل ميت مسجى على سريره، وقدامه ملك منتصب على سرير الملك، على رأسه التاج، والمرازبة قيام بين يديه، وعلى رأسه سطور بالفارسية؛ فلما نظر الرجل إلى الصورة وقرأ ما عليها دمعت عيناه، فدعا به وقال له: ما هذا الذي تنظر إليه ؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين. قال: فلم بكيت ؟ قال: طرفت عيني بثوبي. قال: لا بد من الصدق عما رأيت. قال: وقعت عيني يا أمير المؤمنين على هذه الصورة، فبقيت أعجب من حسن تصويرها، ثم قرأت ما عليها مكتوب فإذا هو: هذه صورة شيرويه بن كسرى قتل أباه فلم يعش بعده إلا تسعة شهور.
فانخذل المنتصر ووجم، ولم يعش إلا هذا القدر، فأقام أحمد بن الخصيب مع المستعين على ما كان عليه. وكانت حال أوتامش التركي قد توافت في أيام المستعين فاستخف به ابن الخصيب، وجاءه بعض كتابه فأسمعه ما كره فجاء إلى صاحبه فعرفه ما جرى، فكرب إلى المستعين، فحمله إلى مكروهه، فأمر بهدم داره واستصفاء أمواله وبعثه إلى أقريطش.
وكان ابن الخصيب غبياً جاهلاً. قال إبراهيم بن المدبر: كنت يوماً عنده فقدم الطعام وفيه هليون فأكب عليه، فقلت: أراك راغباً في الهليون، فقال: بلغني أنه يزيد في السهاد، ويؤيد في الباه، ثم جلسنا للشرب فغنت بعض القيان:
إنّ العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللبّ حتّى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق اللّه أركانا
فقال: هذا الشعر لأبي. فقلت: قاتل الله جريراً ما كان أسرقه لشعر أبيك ! وماتت له بنية، فخرج إلى جلسائه يعصر عينيه، وقال: قد قلت في هذه الصبية:
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
فقال له بعض جلسائه: أعز الله الوزير هذا مشهور في شعر جرير. فقال: لعله وافقه.

وكان كاتب أوتامش شجاع بن القاسم، وابن الخصيب عنده سحبان وائل، وكان شجاع أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولا يفهم، وإنما علم علامات يكتبها في التواقيع. قال الحسن بن مخلد: وصفني محمد بن عبد الله بن طاهر للمستعين وسأله أن يدخلني في جملة من ينادمه؛ فدعاني لمنادمته يوماً، فإنا لقعود بين يديه ومعنا أوتامش إذ دخل شجاع بن القاسم ومعه شيء يريد عرضهن فنظرت إليه، وقد أخرج سراويله من خفه، ووقع على قدميه، ودخل تحت عقبه من إحدى رجليه وهو يسحبه ويدوسه، فغمزت محمد بن عبد الله فضحك، ورأى المستعين ذلك؛ فسأله عن سبب ضحكه فدافعه. فقال له: بحياتي. فقال له: سل الحسن يا سيدي، فنظر إلي وقال: هيه يا حسن !! فأومأت إلى سراويل شجاع؛ فضحك حتى استلقى، وقال: ويلك يا شجاع !! ما هذا؟ قال: الساعة يا سيدي داسني كلب فخزقت سراويله وثيابه، فازداد ضحك المستعين وأهل المجلس، وضجر أوتامش من ضحكهم بكاتبه.
وسأل شجاعاً بعض الهاشميين حاجة؛ فقال لهم: ليس الأمر فيها إلي وهو للأمير يعني أوتامش وهو يجلس أول من أمس يعني بعد غد.
وكانت جميع أتباع شجاع تخاليط، وجملة كلامه أغاليط.
قال ابن عمار: عملت شعراً رائجياً لا معنى له، وواقفت سعيد بن عبيد على أن يروي الشعر رجلاً من الهاشميين، وكان لنا صديقاً، وكان جلداً شهماً، على أن ينشده شجاع بن القاسم ويعرفه أنه مدح له، وضمنا له على ذلك ألف درهم. والشعر:
شجاعٌ لجاعٌ كاتبٌ لاتبٌ معاً ... كجلمود صخر حطّه السيل من عل
خبيصٌ لبيصٌ مستمرٌ مقوّم ... كثيرٌ أثيرٌ ذو شمال مهذّب
بليغٌ لبيغٌ كلّما شئت قلته ... فإن كنت مسكاتاً عن القول فاسكت
فطينٌ لطينٌ آمرٌ لك زاجرٌ ... حصيفٌ لصيفٌ كل ذلك يعلم
أريب لبيب فيه فهم وعفّة ... عليم بشعر حين أنشد يشهد
كريم حليم قابض متباسط ... إذا جئته يوماً إلى البذل يسمح
فوقف إليه. وقال: أيها الوزير؛ ليس العشر من صناعتي، ولكنك أحسنت إلي وإلى أهلي بما أوجب شكرك، فتكلفت أبياتاً مدحتك فيها، فتفضل بسماعها. فقال: قد أغناك شرفك وحالك عن الشعر. فقال: لا بد أن يتفضل الأمير بسماعها، فأنشد الأبيات فشكره عليها وسر بها سروراً زائداً؛ ودخل إلى المستعين فأخرج له صلة عشرة آلاف درهم، وأجرى له ألف درهم في كل شهر. فقال لهما الطالبي: أنتما أوصلتما ذلك إلي، والله لا أخذت منكما شيئاً، ولولا اتساعكما لوصلتكما بما وصلت به.
وقدم إليه شاعر محسن فقال له: قد سبق إلي من الوزير وعد وتلاه شكر، والوزير حقيق بإنجاز وعده وقبول شكري وأنشده:
أبو حسن يزيد الملك حسناً ... ويصدق في المواعد والمقال
جبانٌ عن مذمّة آمليه ... جريءٌ في العطّية والنّوال
أجلّ اللّه في سرٍّ وجهرٍ ... فأعطاه المهابة بالجلال
فقال له: وما يدريك أني جبان ! ولم يفهم معناه. فقال. أعزك الله، إنما قلت إنك تجبن عن البخل ولا تبخل بشيء، وإلا فأنت شجاع كاسمك. فقال: ما أعطيك على هذا الشعر شيئاً، ولكن على ميلك وشكرك، ووقع له بألف دينار، ولو فهم ما قال لجعل مكان الألف ألوفاً.
وفي المستعين يقول البحتري من قصيدة طويلة:
وما لحية القصّار حين تنفّشت ... بجالبة خيراً على من يناسبه
يجوز ابن جلاّد على الشعر عنده ... ويغدو شجاعٌ وهو للجهل كاتبه
الحسين بن مخلد لم يكن كاتباً ولا منادماً
وكان الحسن بن مخلد مضطلعاً بأمر الدواوين عالماً بالدخل والخرج، ولم تكن له صناعة في الكتابة ولا استحقاق للمنادمة.
قال أبو الفضل أحمد بن سليمان: جمعني والحسن بن مخلد مجلس فيه أبي، فسألني عن سني فأخبرته وأخبرني عن سنه، فرأيته أكبر مني بعشر سنين. فقلت له: قال لي الزبير بن بكار: كانت العرب تقول العشرة بين المشايخ لدة. فغضب وظن أني قد شتمته، والتفت إلى أبي فقال: يا أبا أيوب، ليس كل من علم شيئاً من العربية يطلق لسانه في الناس بالشتم. فقال له أبي: إنه لم يرد مكروهاً، وإنما أراد التقرب منك، ومعنى لدة ترب؛ فلم يسكن إلى أن افترقنا.

من نوادر أبي الحارث

سقط أبو الحارث حمير من سطح؛ فقيل له: أكان السطح مرتفعاً ؟ قال: لا تسأل عن شيء ؟ استطبت برد الهواء قبل الوصول إلى الأرض.
وقال رجل: أشتهي أن أرى خلفي. فجاءه أبو الحارث بمرآة فجعلها تلقاء وجهه.
وتشهى قوم ضروباً من الطعام. فقالوا: ما تشتهي يا أبا الحارث ؟ فقال: الوفاء بهذا.
وأكل يوماً مع قوم رؤوساً، فتبادروا إلى الأعين ليقتلعوها فتنحى ناحية. فقالوا: مالك ؟ قال: ظننتكم ناساً فإذا أنتم نسور.
وجلس يتغدى مع الرشيد وعيسى بن جعفر فأتي بخوان عليه ثلاثة أرغفة، فأكل أبو الحارث رغيفه قبلهما. وقال: يا غلام، فرسي ! ففزع الرشيد وقال: ويلك ! مالك ؟ قال: أريد أن أركب إلى ذلك الرغيف الذي بين يديك، فضحك الرشيد وأمر له بجائزة.
ومال أبو الحارث على زفر بن الحارث وعنده جوار يغنين وأبو الحارث جائع. فقال: اسقوا أبا الحارث وغنينه ما يقترح. فقال: بحياتي غنين:
خليليّ داويتما ظاهراً ... فمن ذا يداوي باطنا
فقال زفر: غنين:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل اللّه لا يخيب
ونظر أبو الحارث إلى برذون يستسقى عليه الماء فقال:
وما المرء إلاّ حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل
لو أن هذا البرذون هملج لما فعل به هذا.
ونصب مع رفقاء له قدراً وجعل فيها لحماً. فلما تلهوجت نشل بعضهم قطعةً وقال: تحتاج إلى ملح، ونشل آخر قطعة وقال: تحتاج إلى أبزار، ونشل آخر قطعة وقال: تحتاج إلى بصل، فرفع أبو الحارث القدر وقال: والله تحتاج هذه القدر إلى لحم.

طرف متفرقة
وسرق مدني قميصاً فبعثه مع ابنه يبيعه، فسرق منه في الطريق، فلما رجع قال أبوه: بعت القميص. قال: نعم ! قال: بكم ؟ قال: برأس المال.
دعا بعض الملوك بأبي علقمة الممرور وآخر مجنون ليضحك منهما، فشتماه فغضب. وقال: السياط يا جلادين. فقالا: كنا مجنونين فصرنا ثلاثة، فضحك وأجزل صلتهما.
وطبخ بعض البخلاء قدراً فقعد هو وامرأته يأكلان. فقال: ما أطيب هذا القدر لولا الزحام ! قالت: أي زحام ها هنا إنما أنا وأنت ! قال: كنت أحب أن أكون أنا والقدر.
أبو الأغر يظن الكلب لصا
ً
نزل شيخ أعرابي من بني نهشل يكنى أبا الأغر على بنت أخت له من قريش بالبصرة، وذلك في شهر رمضان؛ فخرج الناس إلى ضياعهم؛ وخرج النساء يصلين في المسجد، ولم يبق في الدار إلا الإماء؛ فدخل كلب فرأى بيتاً فدخله وانصفق الباب، فسمع الإماء الحركة فظنن لصاً دخل الدار؛ فذهبت إحداهن إلى أبي الأغر فأخبرته، فأخذ عصاً ووقف على باب البيت. فقال: إيها والله ! إني بك لعارف، فهل أنت من لصوص بني مازن، وشربت نبيذاً حامضاً خبيثاً حتى إذا دارت الأقداح في رأسك منتك نفسك الأماني، فقلت: أطرق دور بني عمرو، والرجال خلوف، والنساء يصلين في مسجدهن فأسرقهن، سوءةً لك ! والله ما يفعل هذا حر، بئسما منتك نفسك ! فاخرج بالعفو عنك، وإلا دخلت بالعقوبة عليك، وأيم الله لتخرجن أو لأهتفن هتفةً يلتقي فيها الحيان عمرو وحنظلة، ويصير زيد زيداً، وتجيء سعد بعدد الحصى وتسيل عليك الرجال من هاهنا وهناها؛ ولئن فعلت لتكونن أشأم مولود في بني تميم.
فلما رأى أنه لا يجيبه أخذه باللين، فقال: اخرج بأبي أنت منصوراً مستوراً، إني والله ما أراك تعرفني، ولئن عرفتني لوثقت بقولي، واطمأننت إلي، أنا أبو الأغر النهشلي، وأنا خال القوم وجلدة ما بين أعينهم، لا يعصون لي رأياً، وأنا خفير كفيل أجعلك شحمة بين أذني وعاتقي، فاخرج أنت في ذمتي، وإلا فعندي قوصرتان أهداهما إلي ابن أختي البار الوصول، فخذ إحداهما فانتبذها حلالاً من الله ورسوله. وكان الكلب إذا سمع هذا الكلام أطرق، وإذا سكت وثب يريد الخروج، فتهافت أبو الأغر ثم قال: يا ألأم الناس، أراني بك الليلة في واد وأنت في آخر، وأنت في داري أقلب البيضاء والصفراء، فتصيح وتطرق، وإذا سكت عنك وثبت تريد الخروج، والله لتخرجن أو لألجن عليك.
فلما طال وقوفه جاءت جارية وقالت: أعرابي مجنون ! والله ما أرى في البيت أحداً، ودفعت الباب، فخرج الكلب مبادراً، ووقع أبو الأغر مستلقياًن فقلن له: قم ويحك ! فإنه كلب. فقال: الحمد لله الذي مسخه كلباً وكفى العرب حرباً.
أبو حية النميري يتوهم البرذون لصا
ً

وقد روى ابن قتيبة وغيره هذا المقام لأبي حية النميري، واسمه الهيثم بن الربيع، وعليه عول أبو علي محمد بن الحسن المظفر الحاتمي في الحكاية التي وضعها على أستاذه علي بن هارون وأتى فيها بكل مليحة نادرة. وزعم أنه أحس حس برذون في إصطبله فراعه وتوهمه لصاً وهي طويلة في نحو أربعة أجلاد وقال في أولها: هذه حكاية أبي الحسن علي بن هارون مع اللص الذي تخيل أنه دخل داره، أخبرني بها أبو القاسم القنطري وغيره من حاشية أبي الحسن، ولفظ بعضهم يزيد على بعض؛ فجمعت الروايات على اختلافها، ونظمت شتيتها، وهذبت العبارة عنها، وأوردت المعاني مكسوةً من النثر الرائع، والتشبيه الواقع، مما يطرب سامعه، ويروق متصفحه؛ ليكون وروده أغرب وحفظه أقرب. ونحلت أبا الحسن وجماعة ولده قطعاً من بارع الشعر، تناسب قطع الرياض بنت القطر، صنعتها على ألسنتهم، ونسبتها إلى ارتجازاتهم، وتمثلت عنهم بفقر من أشعار العرب أسميت قائلها؛ لئلا تلتبس بما اختصصت في نظمه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وقال في آخرها: لقد كان في نبأ هذه الكريمة تبصرة لمستبصر، وتذكرة لمتذكر. هذا ولم تقترح فيها الأقران، ولا تنازلت فيها الفرسان، ولا استبهمت فيها البهم، ولا أريق فيها ملء محجم دم؛ وإنما هو تخييل جبان، وتسويل جنان. ولقد عزونا إلى هذه الطائفة من التشبيهات الباهرة والأمثال النادرة ما يبعد جداً عن مثلها؛ وإنما بعثنا على ذلك أشر الشبيبة، ومرح الصبا، ولين الغصن، وفضل القدرة، واستجابة لما تدعيه من أفانين الكلام؛ ونستغفر الله من فضول العمل.

من شعر أبي حية النميري
وأبو حية النميري من أحسن الناس شعراً وأرقهم فيه طبعاً، على لوثة كانت به؛ وهو القائل:
ألا أيّها الربع القواء ألا انطق ... سقتك الغوادي من أهاضيب فوّق
مرابيع وسميّ تسوق نشاطه ... جرار الصّبا في العارض المتألّق
وما أنت إلاّ ما أرى بعد ما أرى ... يد الحي في زي بعيني مونق
غراب ينادي يوم لا القلب عقله ... صحيح ولا الشعب الذي انصاع ملتقي
جزيت غراب البين شرّاً لطالما ... شقيت بتحجال الغراب المنعّق
ورقراقة تفترّ عن متبسّم ... كنور الأقاحي طيّب المتذوّق
إذا امتضغت بعد امتناع من الضحى ... أنابيب من عود الأراك المخلّق
سقت شعث المسواك ماء غمامة ... فضيضاً بخرطوم العراق المصفّق
فإن ذقت فاها بعدما سقط النّدى ... بعطفي بخنداة رداح المنطق
شممت العرار الغضّ غبّ هميمة ... ونور الأقاحي في الندى المترقرق
شرقت بريّا عارضيها كأنما ... شرقت بدار... العراق المعتق
هذا شعر ظريف الصنعة حسن الوشي والسبك؛ وقد ملح ما شاء في وصف الثغر وطيب النكهة، وهو معنى حسن جميل.
أحسن ما قيل في وصف الثغر
قال أبو العباس بن الفرج الرياشي سمعت الأصمعي يقول: أحسن ما قيل في وصف الثغر قول ذي الرمة:
وتجلو بفرعٍ من أراكٍ كأنه ... من العنبر الهندي والمسك يصبح
ذرى أقحوان واجه الليل وارتقى ... إليه الندى من راحة المتروّح
هجان الثنايا مغربٌ لو تبسّمت ... لأخرس عنه كاد بالقول يفصح
وكتب كشاجم إلى بعض القينات وأهدى إليها سواكاً:
قد بعثناه لكي تجلي به ... واضحاً كاللؤلؤ الرطب الأغر
طاب منه العرف حتى خلته ... كان من ريقك يسقى في الشجر
ليتني المهدى فيروي عطشي ... برد أنيابك في كلّ سحر
وأما واللّه لو يعلم ما ... حظّه منك لأثنى وشكر
وقد أحسن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر إذ يقول:
وإذا سألتك رشف ريقك قلت لي ... أخشى عقوبة مالك الأملاك
ماذا عليك دفعت قبلك للثّرى ... من أن أكون خليفة المسواك
أيجوز عندك أن يكون متيّم ... صبٌّ بحبك دون عود أراك
وقال ابن الرومي:
ألا طالما سؤت الغيور ساءني ... وبات كلانا من أخيه على وحر

وقبّلت أفواهاً عذاباً كأنها ... ينابيع خمرٍ حصّبت لؤلؤ البحر
وقال:
تعلك ريقاً يطرد النوم برده ... ويشفي القلوب الحائمات الصواديا
وهل ثغبٌ حصباؤه مثل ثغرها ... يصادف إلاّ طيّب الطعم صافيا
وقال:
وما تعتريها علّة بشريّةٌ ... من النوم إلا أنها تتخثّر
كذلك أنفاس الرياض بسحرةٍ ... تطيب وأنفاس الورى تتغيّر
وقال ابن المعتز:
بأبي حبيبٌ كنت أعهده ... لي واصلاً فازورّ جانبه
عبق الكلام كمسكةٍ نفحت ... من فيه ترضي من يعاتبه
وقال العطري:
ذات خدين ناعمين ضني ... نين بما فيهما من التفاح
وثنايا وريقةٍ كغدير ... من عقارٍ وروضةٍ من أقاح

طرف وملح متفرقة
أكل الحجاج مع رجل بيضاً، فأقبل يأكل المح ويرمي إليه بالبياض؛ فقال الرجل: أيها الأمير؛ عدل العجة.
وكان بعض الأكاسرة يتطير، فلقيه رجل أعور، فأمر بحبسه، فأقام مدة ثم أطلقه فتعرض له فقال: لم حبستني ؟ قال: تشاءمت بك. قال: فأنت أشأم مني؛ خرجت من قصرك فلقيتني فلم تر إلا خيراً؛ وخرجت أنا فلقيتك فحبستني. فقال الملك: صدق وأمر له بصلة.
قال رجل لأحدب: لئن رفستك لأقيمن حدبتك ! قال: إنك إذاً لعظيم البركة علي.
قال الفضل اليزيدي: كان محمد بن نصر بن منصور بن بسام أشد الناس همة وآلة وغناء، وكان ناقص الأدب، وكنت أختلف إلى ولده علي يقرأ علي الشعر؛ فدخلت يوماً وهو يشرب وعنده عبد الله بن محمد بن إسحاق، وكان مثله في الجهل، وقد مدت الستارة فغنت القينة:
ألا حيّ الديار بسعد إني ... أُحبّ لحبّ من سكن الديارا
أراد الظاعنون ليحزنوني ... فهاجوا صدع قلبي فاستطارا
فقال عبد الله بن محمد بن إسحاق لمحمد: لولا جهل الأعراب ما جرى ذكر السعد هاهنا. فقال له محمد: لا تفعل، فإنه يقوي معدهم ويصلح أسنانهم.
وكان علي بن محمد مليح المقطعات، حلو الشعر، خبيث الهجاء، وليس له حظ في التطويل، إنما يسنح له المعنى، فإذا أراد أن يركب عليه معنى آخر استهدم بناؤه، وهو القائل في أبي يحيى المنجم يرثيه:
قد زرت قبرك يا عليّ مسلّماً ... ولك الزيارة من أقلّ الواجب
ولو استطعت حملت عنك ترابه ... فلطالما عنّي حملت نوائبي
ودمي فلو أني علمت بأنه ... يسقي ثراك سقاه صوب الصائب
لسكبته أسفاً عليك وحسرة ... وجعلت ذاك مكان دمعٍ ساكب
ولئن ذهبت بملء قبرك سؤدداً ... لجميل ما أبقيت ليس بذاهب
وقد أنشد هذه الأبيات أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري لغيره. وقال:
كم قد قطعت إليك من ديمومةٍ ... نطف المياه بها سواد النّاظر
في ليلة فيها السّماء مرذّة ... سوداء مظلمةٌ كقلب الكافر
وقال في جحظة البرمكي:
يا من هجوناه فغنّانا ... أنت، وبيت اللّه، أهجانا
سيّان إن غنّى لنا جحظةٌ ... أو مرّ مجنونٌ بنا فزنّانا
وقال في المعتضد وقد ختن ولده:
انصرف الناس من ختانٍ ... يرعون من جوعهم خزامى
فقلت لا تعجبوا لهذا ... فهكذا تختن اليتامى
وقال يستطرد بالمعتضد:
وعدت بوعدٍ فأخلفته ... وما كان ضرّك ألاّ تعد
تحبّ الثّناء وتأبى العطاء ... وما تمّ ذلك للمعتضد
وقال في العباس بن الحسن لما ولي الوزارة:
وزارة العباس من نحسها ... تستقلع الدّولة من أُسّها
شبّهته حين بدا مقبلاً ... في خلعٍ يخجل من لبسها
خازنة الكسوة قد قدّرت ... ثياب مولاها على نفسها
وقال ابن بسام في أبيه، وكان مولعاً بهجائه:
خبيصةٌ تعقد من سكّره ... وبرمة تطبخ من قنبره
عند فتى أسمح من حاتمٍ ... يطبخ قدرين على مجمره
وليس ذا في كلّ أوقاته ... لكنه في الدعوة المنكره
مهاجاة بين ابن المعتز وابن بسام
وكان ابن المعتز يهاجيه، فمن ذلك قوله فيه:

يا ثقيلاً على القلوب إذا ع ... نّ لها أيقنت بطول الجهاد
يا قذىً في العيون يا حرقةً بي ... ن التّراقي حزازةً في الفؤاد
يا طلوع العذول ما بين إلفٍ ... يا غريماً وافى على ميعاد
يا ركوداً في يوم غيمٍ وصيفٍ ... يا وجوه التّجار يوم الكساد
خلّ عنّا فإنما أنت فينا ... واو عمرٍو أو كالحديث المعاد
فأجابه ابن بسام بقوله:
فقدتك يا قذاةً في شرابٍ ... دخلت من الدناءة كلّ باب
لئيم الفعل أشأم من غرابٍ ... وضيع القدر أطفل من ذباب
وأثقل حين تبدو من رقيبٍ ... وأكذب حين تنطق من سراب
وأغدر للصديق من الليالي ... وأنكى للقلوب من العتاب

من ملح المهاجاة
ومن ملح هذا الباب قول جحظة:
يا لفظة النعيّ بموت الخليل ... يا وقفة التوديع بين الحمول
يا شربة اليارج يا أجرة ال ... منزل يا وجه العذول الثقيل
يا طلعة النعش ويا منزلاً ... أقفر من بعد الأنيس الحلول
يا نهضة المحبوب عن غضبةٍ ... يا نعمةً قد آذنت بالرّحيل
ويا كتاباً جاء من مخلفٍ ... للوعد مملوءاً بعذرٍ طويل
يا بكرة الثكلى إلى حفرةٍ ... مستودع فيها عزيز الثكول
يا وثبة الحافظ مستعجلاً ... لصرفه القينات عند الأصيل
ويا طبيباً قد أتى باكراً ... على أخي سقمٍ بماء البقول
يا شوكةً في قدمٍ رخصةٍ ... ليس إلى إخراجها من سبيل
يا عثرة المجذوم في رجله ... ويا صعود السّعر عند المعيل
يا ردّة الحاجب عن قسوةٍ ... ونكسةً من بعد برء العليل
وجحظة هذا أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك.
قال أبو الحسن محمد بن محمد بن مقلة الوزير: سألت جحظة من لقبك بهذا اللقب ؟ فقال: أبو العبر لقيني فقال: ما هو حيوان إن نكسوه أتانا آلة للمراكب البحرية. فقلت: علق إذا نكسوه صار قلعاً. فقال: أحسنت يا جحظة؛ فلزمني هذا اللقب. وكان طيب الغناء حسن المسموع؛ إلا أنه ثقيل اليد في الضرب. وكان حلو النادرة كثير الحكاية صالح الشعر، ولا تزال تندر له الأبيات الجيدة.
أنشدت سكينة بنت الحسين رضي الله عنها قول الشاعر:
فما للنّوى لا بارك اللّه في النّوى ... وعهد النّوى يوم الفراق ذميم
من ملح النحويين المتقعرين
قال أبو علقمة النحوي لجارية كان يهواها: يا خريدة؛ أخالك عروباً، فما بالنا نمقك وتشنئينا ؟ فقال: ما رأيت أحداً يحب أحداً ويشتمه سواك.
الخريدة: الناعمة اللينة، والعروبة: المتحببة إلى زوجها.
وقال بلال بن أبي بردة لجلسائه: ما العروب من النساء ؟ فماجوا، وأقبل إسحاق بن عبد الله بن الحارث فقالوا: قد جاءكم فسلوه. فقال: هي الخفرة المتبذلة لزوجها، وأنشد:
يعربن عند بعولهنّ إذا خلوا ... فإذا خرجن فإنهنّ خفار
والمقة: المحبة.
وقد حكى قول أبي علقمة عبد الرحمن الطلحي.
وأتي الهيثم بن العريان بغريم قد مطلب غريمه ديناراً؛ فقال: ما تقول ؟ قال: إنه ابتاعني عنجراً واستنسأته حولاً فصار لا يلقاني في لقم إلا اقتضاني. فقال الهيثم: أمن بني أمية أنت ؟ قال: لا. قال: فمن أكفائهم من بني هاشم ؟ قال: لا. قال: ويلي على ابن الفاعلة، فعلى من تتكلم بهذا الكلام ؟ السياط ! فلما جرد قال: أصلحك الله؛ إن إزاري مرعبلة. فقال: دعوه، فلو ترك التثاقل بالغريب في وقت لتركه الآن.
العنجر: عجم الزبيب. واللقم: الطريق، والمرعبلة: الخلقة.
ابن منارة وأبو العيناء
دخل أبو العيناء على ابن منارة الكاتب وعنده أبو عبد الله بن المرزبان. فقال لابن منارة: أحب أن أعبث بأبي العيناء. فقال له: لا تقوم به. فأبى إلا العبث به، فلما جلس أبو العيناء قال له: يا أبا عبد الله؛ لم لبست جباعة ؟ قال: وما الجباعة ؟ قال: التي ما بين جبة ودراعة. قال أبو العيناء: لأنك صفديم. قال: وما صفديم ؟ قال: الذي هو ما بين صفعان ونديم.
سيبويه المصري وبعض ندماء كافور

ودخل أبو بكر سيبويه المصري نافلة البصرة على كافور الإخشيدي وعنده بعض ندمائه. فقال: أيها الاستاذ، دعني أهاتره. فقال: إنك لا تطيقه. قال: لا بد من ذلك. قال: شأنك. قال: يا أبا بكر، ما حد الرأس ؟ قال: ما أحاط به جربانك، وأدبك عليه سلطانك، ولاعبك فيه إخوانك. فخجل الرجل، وضحك كل من حضر.
وكان سيبويه هذا يشبه بأبي العيناء في سرعة جوابه، وجودة بديهته، وكثرة روايته. وكان الناس يتبعونه ويكتبون ما يقول، وكان قد شرب البلاذر فعرضت له حدة مفرطة.
وأحضره أبو بكر محمد بن الخازن، فقال: بلغي بلاء لسانك، وكثرة أذاك للناس، وقبيح معاملتك للأشراف؛ فاحذر أن تعود؛ فينالك مني أشد العقوبة، وصال عليه بالكلام.
وكان الصبيان يتولعون به إذا مر ويصيحون: يا خازن ! يا خازن ! اخرج عليه فيغضب؛ فقال له ذلك يوماً صبي وأبو بكر المعيطي حاضر فضحك المعيطي؛ فقال للصبي: ضرب الله عنق الخازن كما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنق عقبة بن أبي معيط يوم يدر على الكفر، وضرب ظهر أبيك بالسوط كما ضرب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ظهر الوليد بن عقبة على شرب الخمر، وألحقك يا صبي بالصبية. فقام المعيطي كأنما نشر من قبر.
يريد بقوله للصبي: وألحقك بالصبية قول النبي صلى الله عليه وسلم لعقبة بن أبي معيط وقد قال له: فمن للصبية يا محمد ؟ قال: النار والعياذ بالله منها.

سيبويه يريد دخول الحمام
دخل مفلح الحسني الحمام وكان من جملة أصحاب الحسن بن عبد الله بن طغج بن جف الفرغاني، وإليه ينسب، فأتى سيبويه ليدخل فقيل له: الأمير مفلح أخلاه فاصبر ساعة. فقال: أومثلي يمنع الدخول ؟ لا أنقى الله مغسوله، ولا بلغه سوله، ولا وقاه من العذاب مهوله. وجلس حتى خرج. فقال له: إن الحمام لا يخلى إلا لأحد ثلاثة: مبتلى في قله، أو مبتلى في دبره، أو سلطان يخاف من شره، فأي الثلاثة أنت ؟ قال: أنا المغروم أعزك الله.
مجاورة
وهذا كجواب أشمول الإخشيدي، وكانت له دار مشرفة على النيل يتنزه إليها في زمان المد وطيب الهواء، وكان يجاوره العباس بن البصري في راقوبة له، فاحتسبت في تلك الدور، وقيل لكافور: إنها مبنية في فناء النيل فأمر بهدمها، فدخل ابن البصري على كافور فأنشده:
يأيها الأستاذ يا ذا الّذي ... همّته أعلى من الكوكب
انظر إليّ وإلى فاقتي ... وارث لضعفي ولما حلّ بي
فإنّ لي بالشطّ راقوبةً ... أضيق من قارورة المحلب
صغيرةً ضيقةً عرضها ... عرض سرير جاء في مركب
كأنها رجلٌ سماريّةٌ ... أخرجها... أو زيزب
لو رأيت الزنج في شطّنا ... وقد أحاطوا بأبي تغلب
عمّة ذا حمراء مصقولةٌ ... وفاس ذا معتدل المحرب
في يد ذا حلب هائلٌ ... يا ربّ سلّمني من المحلب
إن أخذتني ضربةٌ منهم ... رأيتني أرقص كالأحدب
قد أحدق الصّفع بجيراننا ... بالشطّ بالأقرب فالأقرب
وإن تماديت وخلّيتني ... خشيت أن أدخل في اللولب
فضحك كافور، والتفت إلى أشمول: وقال: أنت بجواره ؟ قال: أنا ما لي دار أعز الله الأستاذ قد سلمت.
تيه وكبر
وكان أبو الفضل بن حنزابة ربما رفع أنفه تيهاً؛ فقال له وقد رآه فعل ذلك: أشم الوزير أيده الله رائحة كريهةً فشمر أنفه ؟ فخجل فأطرق.
واستعمل أبو بكر النهوض فلقيه رجل فقال: من أين يا أبا بكر ؟ فقال: من عند الزاهي بنفسه المدل بعرسه، التائه على أبناء جنسه. وكانت بنت الإخشيد تحته، فلذلك قال: المدل بعرسه.
وأتى مسلم بن عبد الله الحسيني وهو من أهل الحجاز وأوطن مصر فحجب عنه. فقال: قولوا له يرجع إلى لبس العبا، ومص النوى، وسكنى الفلا، فهو أشبه به من نعيم الدنيا.
دار شؤم
وكانت دار أبي جعفر أحمد بن نصر التاجر المغربي بمصر معروفة بالشؤم من قبل أبي جعفر، فكان أبو بكر يمر بها فيقول: يا سيدتي تعودين إلى عادتك الجميلة. وأخباره كثيرة.
من نوادر المخنثين

لما جعل عيسى بن موسى ولي العهد بعد المهدي وكان ولي عهد المنصور، قال لمخنث قدم إليه وقد جنى جناية: ما أراك تعرفني فكنت تفعل هذا الفعل ؟ قال: بلى والله أيها الأمير، إني بك لعارف؛ فأنت الذي كنت غداً فصرت بعد غد.
خرج مخنث في شدة الهاجرة ببغداد وهو وقت لا يتصرف فيه أحد، فلقيه رجل فقال: لكم الليل ولنا النهار. فقال: صدقت، ولكن رأيت وجهك فظننته قطعةً من الليل.

أبو العبر وامرأته
مرض رجل فجاء أبو العبر يعوده وقد ثقل، فصاحت امرأته؛ من لي بعدك يا سيدي ؟ قال: فغمزها أبو العبر وأومأ إليها أنا لك بعده، فلما مات الرجل وانقضت عدتها تزوجها أبو العبر، فأقامت عنده حيناً؛ ثم حضرت أبا العبر الوفاة، فجاء عواده؛ فصاحت من لي بعدك يا سيدي ؟ ففتح عينيه وقال: لا يغمزها إلا من تكون أمه زانية.
عجوز وشابة
وبينا ابن أبي ليلى في مجلس القضاء إذ تقدم إليه امرأتان عجوز وشابة. فقالت الشابة: أنا أصلح الله القاضي امرأة مبدنة، وقد بهرني النفس؛ فإن رأى القاضي أن يأذن لي فأحسر عن وجهي فليفعل. فقالت العجوز: أصلح الله القاضي، إنها من أحسن الناس وجهاً، وإنما تريد أن تخدع القاضي، لا أمتعها الله بما وهبها من الجمال. فقال لها ابن أبي ليلى: إذا أنت شددت قناعك فشأنك ووجهك.
فحسرت الفتاة عن وجه جميل. ثم قالت: أصلح الله القاضي، إن هذه عمتي وأنا أسميها أمي لكبر سنها، وإن أبي مات وخلف مالاً، وخلفني في حجرها؛ فجعلت تمونني وتحسن التدبير في المال وتوفيره علي، إلى أن بلغت مبلغ النساء فخطبني ابن عم لي فزوجتني منه، فكان بي وبه من الحب ما لا يوقف على صفته، ثم إن ابنةً لعمتي أدركت، فجعلت هذه ترغب زوجي فيها؛ فتاقت نفسه إليها فخطبها. فقالت: لست أزوجكها حتى تجعل أمر بنت أخي في يدي. فقال لها: قد فعلت ! فلم أشعر حتى أتاني رسولها فقال: عمتك تقرئك السلام وتقول لك: إن زوجك خطب ابنتي، وإني أبيت أن أزوجها منه حتى يجعل أمرك في يدي ففعل ذلك فأنت طالق، فحمد الله تعالى على ما بليت به.
وإن زوج عمتي هذه قدم من سفر، فسألني عن قصتي فأخبرته فقال: تزوجيني نفسك ؟ فقلت: نعم ! على أن تجعل أمر عمتي في يدي. قال لي: فما تصنعين إذاً ؟ قلت: ذلك إلي؛ إما أن أعفو وإما أن أقتص. قال: قد فعلت، فأرسلت إلى عمتي أن زوجك خطبني وأني أبيت عليه حتى يجعل أمرك في يدي، ففعل؛ فأنت طالق ! فضحك ابن أبي ليلى ! فقالت العجوز: لا تضحك أيها القاضي، فالذي بقي أكثر وأعظم. فقالت الشابة: ثم إن زوج عمتي مات فجعلت تخاصمني في ميراثه، فقلت لها: هو زوجي وأنا أحق بميراثه، فأغرت ابن عمي ووكلته بخصومتي ففعل.
فقلت: يابن العم؛ إن الحق لا يستحى منه وقد صلحت لك إذ نكحت زوجا غيرك، فهل لك في مراجعتي ؟ فقال: كان ما كان ولا ذنب لي فيه، بل كنا على أشد رغبة وأعظم محبة. ثم قال: أوتفعلين ؟ قلت: على أن تجعل أمر بنت عمتي بيدي. قال: قد فعلت. فأرست إلى بنت عمتي أن زوجك خطبني وأني أبيت عليه حتى يجعل أمرك في يدي ففعل، فأنت طالق.
فقالت العجوز: أصلح الله القاضي؛ أيحل هذا، أطلق أنا وابنتي ؟ فقال ابن أبي ليلى: نعم، التعس والنكس لك.
ثم ركب إلى المنصور فأخبره حتى ضحك وفحص برجليه، وقال: أبعد الله العجوز ولا فرج عنها.
حمار عاقل
أتى رجل نخاساً فقال: اشتر لي حماراً ليس بالصغير المحتقر، ولا الكبير المشتهر، إن أشبعته شكر، وإن أجعته صبر، وإن خلا الطريق تدفق، وإن كثر الزحام ترفق، لا يصدم بي السواري، ولا يدخل بي تحت البواري، إن ركبته هام، وإن ركبه غيري نام. فقال له النخاس: أنظرني قليلاً، فإن مسخ الله ابن أبي ليلى القاضي حماراً اشتريته لك.
جارية

وكتب بعض الكتاب إلى محمد بن منصور: وإن بين كل أمر يطالبه الرجاء وبين المطلوب إليه ذريعةً يتوصل بها إلى معروفه، ولي بارتجائك لمعرفتي بفضلك، وكذا الوسيلة، وما كنت متوسلاً إليك بشيء هو أرجى في حاجتي، ولا أصلح لطلبتي من التوسل إليك بحسن الظن فيك، وحاجتي أكرمك الله ظريفة من الجواري لم تتداولها أيدي التجار، ولا تبذلها معاودة العرض، ولي فيها شريطة أعرضها عليك لترى رأيك فيها، أحبرها فرعاء فإنه يقال: إذا اتخذت الجارية فاستجد شعرها؛ فإن الشعر أحد الوجهين؛ وتكون رائقة البياض، تامة القوام؛ فإن البياض والطول نصف الحسن؛ وتكون مليحة المضحك، فإنه أول ما يجلب المحبة، ويكسب الحظوة، ولست أكره الانكسار في الثدي، لأنه ليس للناهد عندي سوى لذة النظر. ولست من قول الشاعر:
جال الوشاح عن قضيبٍ زانه ... رمّان ثدي ليس يقطف ناهد
في شيء. وأكره العجيزة العظيمة وأريدها وسطاً؛ لأن خير الأمور أوسطها، لها طرف أدعج، وحاجب أزج، وكفل مرتج، وما وافقت هذه الصفة، وكانت رخيمة الكلام، شهية النغمة، فهي حرة قبل أن ترسلها، وحاجتي أبقاك الله يحملها قدرك ويستحقها شكرك. وأنا بالإضعاف حري، وأنت بالإسعاف قمين.
فأنفذ إليه محمد بن منصور خمسمائة دينار، وكتب إليه: قد سألت أكرمك الله عن هذه الصفة فلم أجدها، فالتمسها أنت؛ فإن وجدتها فهذه خمسمائة دينار تدفعها عربوناً حتى أبعث إليك بالثمن، والسلام.

خطبة النكاح
قال أبو سودة لابنه: يا بني، تعلم خطبة النكاح، فإني أريد أن أنكح أخاك، قال: نعم ! فلما كان من الليل قال: أتعلمت شيئاً ؟ قال: نعم ! قال: هات. قال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. حي على الصلاة حي على الفلاح. فقال أبوه: يا بني، لا تقم الصلاة حتى أذهب وأجيء، فإني على غير وضوء.
وهذا كقول ابن أبي حفصة لما قال علي بن الجهم قصيدته التي أولها:
اللّه أكبر والخليفة جعفر
أراد عليٌّ أن يقول قصيدة ... بمدح أمير المؤمنين فأذّنا
فقلت له لا تعجلنّ إقامةً ... فلست على طهرٍ فقال: ولا أنا
قال يزيد بن أبي حبيب لرجل: من أين أقبلت ؟ قال: من أسفل الأرض. فقال له: كيف خلفت قارون ؟ وقال عبد الله بن خزيمة لصاحب شرطته: أين تذهب يا هامان ؟ قال: أبني لك صرحاً.
صبي يتعلم الهجاء
أسلم رجل ابنه إلى المعلم وقال له: علمه الهجاء، ولا تشغله بغيره، فطال ترداده إلى المكتب؛ فقال أبوه: تعلمت الهجاء ؟ قال: نعم ! قال: ما هجاء طير ؟ قال: ط أ س ر أ أ ح ألا ي أ، قال: ما هجاء سمكة ؟ فقال: س م ك أ ه أ خ ح د د، فأرسل إلى المعلم فحضر. فقال له: ويحك ! تقدمت إليك أن تعلم هذا الصبي الهجاء، وقد سألته عن هجاء طير، فقال كذا وكذا، وسألته عن هجاء سمكة، فقال: كذا وكذا. فقال المعلم: تجيء إلى صبي صغير تهجيه شيئاً يطير في الهواء وشيئاً يغوص في قعر البحر كيف يتهجاه ! فقال: هجه أنت. فقال المعلم: أهجي لك حماد ؟ قال: هج. فقال: ح م د ك س، فانتهره أبو الولد وانصرف.
أبو محمد النوبهاري أتاه رجل فقال: وضعت رأسي في حجر امرأتي فقالت: ما أثقل رأسك! فقلت: أنت طالق إن كان رأسي أثقل من رأسك. فقال: تطلق عليك، فقيل له: ولم ؟ فقال: لأن القصابين أجمعوا على أن رأس الكبش أثقل من رأس النعجة.
وكان المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أصيبت عينه عام غزوة مسلمة القسطنطينية، وكان يطعم الطعام حيث نزل. فجاء أعرابي فجعل يديم النظر إلى المغيرة ولا يأكل. فقال له: ما لك يا أعرابي ؟ فقال: إنه ليعجبني كثرة طعامك، وتريبني عينك. قال: وما يريبك منها ؟ فقال: أراك أعور تطعم الطعام، وهذه صفة الدجال. فضحك المغيرة وقال: كل يا أعرابي فإن الدجال لا تصاب عينه في سبيل الله.
من شعر أبي العتاهية
حضر يعقوب بن إسحاق الكندي مجلساً فيه قينة، فقالت له: اقترح. فقال لها غني:
لو تجسّين يا عتيبة عرقي ... لوجدت الفؤاد قرحاً تفقّا
فقالت: إن أردت جسّ العروق والنظر إلى الأبوال فعليك بالبيمارستان.
هذا البيت في أبيات لأبي العتاهية إسماعيل بن القاسم ويكنى بأبي إسحاق وأبو العتاهية لقب وفيها:

قال لي أحمدٌ ليعلم ما بي ... أتحبّ الغداة عتبة حقّا
فتألّمت ثم قلت نعم ... ها جرى في العروق عرقاً فعرقا
قد لعمري ملّ الطبيب وملّ ال ... عواد مني ممّا أُعنّى وأشقى
ليتني متّ فاسترحت فإني ... أبداً ما حييت منها ملقّى
وكان أبو العتاهية سهل الشعر لينه، وتندر له الأبيات على صحة شعره فتحسن، وكان يقال: شعر أبي العتاهية سباطة الملوك تجد فيها الدرة والخرفة، وأنشد الجاحظ شعره فمجه فقال: ألفيته أملس المتون ليس له عيون.
وقد قال ابن الرومي لرجل أنشده شعراً سليماً من العيوب مطبوعاً عارياً من تدقيق المعاني: نحن أعزك الله نحب مع السلامة الغنيمة.
وكان الرشيد مغرماً بشعره مستظرفاً له. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ذكرت عند الرشيد بذم، وكان فيه أن قيل: هو يا أمير المؤمنين على حداثة سنه وقصر معرفته يخالفك؛ فيقدم العباس بن الأحنف على أبي العتاهية، فاستحضرني وقال: من أشعر عندك أبو العتاهية أم العباس ؟ فعرفت ما أراد فقلت: أبو العتاهية: فقال: أنشدني للعباس فأنشدته أحسن ما أعرف له:
أُحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالةٌ نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق
فقال: فأنشدني لأبي العتاهية فأنشدته أحسن ما أعرف له:
كأنّ عتّابة من حسنها ... دمية قسٍّ فتنت قسّها
يا ربّ لو أنسيتنيها بما ... في جنّة الفردوس لم أنسها
إني إذاً مثل التي لم تزل ... دائرةً في طحنها كدسها
حتى إذا لم يبق منه سوى ... حفنة برٍّ خنقت نفسها
فقال: هذا الذي أنشدت لأبي العتاهية من أعابيثه التي لا يلقى بها بالاً، ولكن هلا أنشدتني قوله:
قال لي أحمد ولم يدر ما بي ... أتحبّ الغداة عتبة حقّا
وأشد الأبيات، ثم قال: أيحسن أحد أن يقول: فتنفست ثم قلت: نعم. قلت: لا يا أمير المؤمنين وما أحفظ الشعر. قال: احفظه ! وكنت أعرف به منه.

من جيد شعره
ومن جيد شعر أبي العتاهية قوله لأحمد بن يوسف، وكان له صديقاً قبل الوزارة، فلما وزر للمأمون جفاه:
أبا جعفر إنّ الشريف يهينه ... تناهيه من دون الأخلاّء بالوفر
فإن تهت يوماً بالذي نلت من غنىً ... فإنّ عزائي بالتّجمّل والصبر
ألم تر أنّ الفقر يرجى له الغنى ... وأن الغنى يخشى عليه من الفقر
وقوله له وقد أتاه فقيل له إنه نائم:
لئن عدت بعد اليوم إنّي لظالم ... سأصرف وجهي حين تبغى المكارم
متى يظفر الغادي إليك بحاجةٍ ... ونصفك محجوبٌ ونصفك نائم
وقوله:
ميّت مات وهو في وارف العي ... ش مقيمٌ في ظل عيش ظليل
في عداد الموتى وفي ساكني الدّن ... يا أبو جعفر أخي وخليلي
لم يمت ميتة الوفاء ولكن ... مات عن كلّ صالحٍ وجميل
وهذا القول لعمرو بن مسعدة:
عييت عن العهد القديم عييتا ... وضيعت عهداً كان لي ونسيتا
وقد كنت في أيام ضعفٍ من القوى ... أبرّ وأوفى منك حين قويتا
تجاهلت عمّا كنت تحسن وصفه ... ومتّ عن الإحسان حين حييتا
وكان عمرو بن مسعدة صديقاً له قبل ارتقاء حاله، فلما بلغ في أيام المأمون إلى رتبة الوزارة ساله حاجةً فلم يقضها، فتأخر عنه فغضب عمرو وحجبه فكتب إليه:
بلوت إخاء النّاس يا عمرو كلّهم ... وجرّبت حتى أحكمتني تجاربي
فلم أر ودّ الناس إلاّ رضاهم ... فمن يزر أو يغضب فليس بصاحب
وانحدر إلى واسط فلم يعد حتى تغيرت حال عمرو.
فأما شعره في الزهد فقد فاق فيه الشعراء وبز النظراء؛ وغزله يلين كثيراً ويشاكل كلام النساء، كقوله:
لجّت عتيبة في هجري فقلت لها ... تبارك اللّه ما أجفاك يا ملكه
إن كنت أزمعت يا سؤلي ويا أملي ... حقّاً على عبدك المسكين بالهلكه
فقد رضيت بما أصبحت راضيةً ... ها قد هلكت على اسم اللّه والبركه

وربما بلغ بلينه إلى الإضحاك كقوله:
عتّابة النّفس كاعبٌ شكله ... كحلاء بالحسن غير مكتحله
باللّه هل تذكرين يا سكني ... وأنت لا تقصرين في الحجله
أيام كنّا ونحن في صغر ... نلعب هالا مهلهلا هلله
وهذا وإن قصد به الهزل فليس في حلاوة قول العباس:
لست أنسى مقالها لرسولي ... أبداً أو تضمّني أرماسي
هات قل لي كتاب من ذا فإني ... من في خيفةٍ وفي إيجاس
فنبذت الكتاب سرّاً إليها ... فتبدّى العنوان من عبّاس
فرمت بالكتاب زهواً وقالت ... ما بقى للقرود إلاّ الكراسي
ولا كملاحة قوله:
جارية أعجبها حسنها ... ومثلها في الخلق لم يخلق
عرّفتها أنّي محبٌّ لها ... فأقبلت تضحك من منطقي
وانصرفت نحو فتاةٍ لها ... كالرشأ الأغيد في قرطق
قالت لها قولي لهذا الفتى ... انظر إلى وجهك ثم اعشق

من نوادر الجهلاء واللكن
وكان بالرملة شيخ نظير لأبي بكر النابلسي في طريق الزهد، وكان ألكن اللسان؛ فنزل بعض الجند دار صديق له، فخاف طول مكثه، وأن تصير الدار نزلاً للجند، وسار بذلك إلى الشيخ، وسأله أن يبعث إليه من يعرفه بالرجل أنه من خاصته لينتقل عنها؛ فأنفذ معه رسولاً، ثم رأى الشيخ أن قيامه آكد فنهض فلحقه. فقام الجندي إليه؛ فقال: أيها الشيخ الجليل سيدي؛ أتاني رسولك، ولا والله أقيم أكثر من يومين ألتمس منزلاً وأنتقل. فقال الشيخ: نعم ! يا سيدي وشهرين إذا شئت، وما هذا التضييق على نفسك ؟ فقال صاحب الدار: والله أعزك الله لئن أقام بها عشرة أيام لتصيرن داري نزلاً. فقال: يا هذا، إنك إن تقول، إن هؤلاء، إنما أحب إليك أن يأتوا إلى دارك، لسبب ما، فليس الأمر كما زعمت. فقال: فسر لي أكرمك الله هذا الكلام، وأنا أهب له الدار.
وكان بالرملة أيضاً كاتب جاهل ألكن، فأرسل غلامه إلى الصوارف يبتاع له شراباً، فاشترى له ركوة شراب، وحملها على حمار وأتى الرملة. فقبض عليه أصحاب المصالح، فقالوا: زن درهماً، فامتنع، فأرجلوه عن الحمار فضربوه خمسين مقرعة، وأخذوا الشراب والحمار؛ فأتى مولاه فأخبره. فكتب إلى متولي النظر في أمرهم: أما بعد، فإن غلاماً، وإن حماراً، ألبسبله، فضرباه خمسين رطلاً في ركوة، فرأيك في إطلاق الحمار، وأبقاك.
وقال بعض إخوانه: كنت عند فاحتجم، فقال: ما عندي اليوم شراب نبيذ، فاجلس حتى أكتب إلى صديقي فلان يبعث لي بقنينة أشربها معك. فقلت له: أنت مطول في كتبك فاعمل على الاختصار. فكتب: أما بعد احتجمت قنينة والسلام، فقلت له: ولا هذا كله ! ومثل هذا في الاختصار، قيل إن شاعراً مدح نصر بن سيار بقصيدة فيها مائة بيت كلها نسيب، وإنما المدح منها في بيتين. فقال له نصر: ما تركت معنى ظريفاً ولا نسيباً مليحاً إلا أوردته في نسيبك دون مدحك. فقال: غداً أغدو عليك بغير هذا؛ فغدا عليه بقصيدة أولها:
هل تعرف الدار لأم الغمر ... دع ذا وحبّر مدحةً في نصر
وكتب هذا الكاتب كتاباً إلى بعض إخوانه: اشتهيت وليس عندي إلا، وليس يحلو إلا من عندك، وهو الدمكسك أصلحك الله، يطرح الحشمة، فأرسل إلى ممسا منفصلاً والسلام.
أراد النمكسود وهو لحم يقطع طوابيق ويشد بالملح في ألواح وينشر حتى يذهب ماؤه وينشف؛ فإذا احتيج إلى شيء منه بل بالماء وأصلح؛ وإنما يستعمل كذا ليسافر به ولا يفسد. ولذا قال أبو العيناء: الزينبي نمكسود الخمر.
وكتب رجل إلى قاض في أمر قوم من جيرانه اختصموا: إن الذي لم يجر بينهما غير مفهوم، وقد أردت الاستصلاح فعاد استفساداً؛ فإن رأى القاضي أدام الله عزله أن يصفح عن كتابي فإن فيه نقصاً. فقال القاضي. لا، بل فيه زيادة لام، كفانا الله شرها.
من معاريض الكلام
ورثي قبران مكتوب على أحدهما: من رآني فلا يغتر بالدنيا، فإني كنت من ملوكها، أصرف الريح كيف شئت. وعلى الآخر مكتوب: كذب، إنما كان حداداً ينفخ بالزق.
وكان بالكوفة رجل باقلاني، فخرج الطائف ليلاً فأخذه سكران؛ فقال: من أنت ؟ فقال:
أنا ابن الذي لا تنزل الدّهر قدره ... وإن نزلت يوماً فسوف تعود

ترى الناس أفواجاً إلى ضوء ناره ... فمنهم قيامٌ حولها وقعود
فقال الطائف: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تجاوزوا عن ذوي الهيئات؛ خلوا سبيله. فلما أصبح سأل عنه فإذا هو ابن باقلاني. فقال: إن لم يترك لنسبه فقد ترك لأدبه.
ومثله من المعاريض قول ابن شبرمة؛ وقد سئل عن رجل، فقال: إن له شرفاً وقدماً وبيتاً، فنظر فإذا هو ساقط. فقيل له في ذلك. فقال: ما كذبت: شرفه: أذناه وقدمه التي يمشي عليها، ولا بد أن يكون له بيت يأوي إليه.
وسئل آخر عن رجل؛ فقال: رزين المجلس، نافذ الطعنة؛ فحسبوه سيداً، فإذا هو خياط طويل الجلوس نافذ الإبرة.

من طرف النوادر
طلب العتبي بعد ثمانين سنة أن يتزوج، فقيل له في ذلك. فقال: أولاد الزمان فسدوا فأردت أن أذلهم باليتم، قبل أن يذلوني بالعقوق.
بعث بعض ولد عيسى بن جعفر إلى جماعة من المخنثين فأتوه، فجعلوا يلعبون ويرقصون وبقي مخنث منهم لا يتحرك. فقال: ما لك ؟ قال: لا أحسن شيئاً. قال: فلم دخلت يابن الفاعلة ؟ يا غلام ائتني بسكرجة مملوءة روثاً وأخرى مملوءة جمراً، فأتاه بهما. فقال: والله لتأكلن من أحدهما أو لأضربنك حتى تموت. قال: يا مولاي؛ دعني أصلي ركعتين. قال: قم فصل؛ فقام يصلي فأطال. فقال له: يابن الفاعلة، إلى كم تصلي ؟ قد صليت أكثر من عشرين ركعة ! فقال: يا سيدي؛ أنا دائب أدعو الله أن يمسخني نعامةً فأقوى على أكل الجمر، أو خنزيراً فأقوى على أكل الخرا، فلم يستجب لي بعد؛ فدعني أصلي وأدعو، فلعله يستجاب لي؛ فضحك منه ووصله.
هبت ريح شديدة، فقال الناس: قامت القيامة. فقال ربدة المخنث: يا حمقاء؛ القيامة هكذا على البارد بلا دابة ولا دجال ولا دخان ولا يأجوج ولا مأجوج.
ورأى مخنث شيخاً هرماً، فقال: عدمته، كأنه قصر ابن هبيرة ذهب رسمه وبقي اسمه.
من نوادر الأعراب
قدم قوم لأعرابي قريساً فأمعن في أكله. فقيل له: يا أعرابي ؟ ما هذا ؟ قال: فالوذج؛ إلا أنكم أحمضتموه.
وابتاع أعرابي غلاماً؛ فقالوا له: إنا نبرأ إليك من عيب فيه. قال: ما هو ؟ قالوا: يبول في الفراش: قال: إن وجد فراشاً فليفعل.
وقيل لأعرابي: لم إذا غضبنا على غلام لنا قلنا له: أباعك الله في الأعراب قال: لأنا نطيل كده، ونعري جلده، ونجيع كبده.
وقال أبو تمام لرجل سرق شعره:
إنما الضّيغم الهصور أبو الأش ... بال رئبال كلّ خيسٍ وغاب
من عدت خيله على سرح شعري ... وهو للحين راتعٌ في كتابي
غارة أسخنت عيون القوافي ... فاستحلّت محارم الآداب
يا عذارى الكلام صرتنّ من بع ... دي سبايا تبعن في الأعراب
ورأى أعرابي سراويل في فلاة، فأخذه يظنه قميصاً لم يعرف كيف يلبسه !! فمر يعدو ورماه؛ فلقيه رجل فقال: ما لك يا أعرابي ؟ قال: أصبت قميصاً للشيطان، وأخاف أن يلحقني فيقول: لم أخذت قميصي ؟
أعرابي في عرس

وقال الهيثم بن عدي: سمعت أعرابياً يقول: دخلت حضرتكم بعد عيد الأضحى، فإذا أنا بجمع عظيم عليهم أنواع الثياب من بيض وحمر وصفر، فكأنها زهر البستان. فقلت في نفسي: هذا العيد الذي يذكر أصحابنا الحضر يتزينون فيه، ثم رجعت إلى عقلي فقلت: وأي عيد هو ؟ وقد خرجت بعد الأضحى، فبينا أنا باهت أفكر في أمري إذ أخذ بيدي رجل منهم. فقال: ادخل يا أعرابي. فدخلت فإذا بمجلس منضد بالنضائد، موسد بالوسائد، وفي صدره سرير، وعليه رجل جالس، والناس صموت عن يمينه وشماله. فقلت في نفسي: هذا الخليفة الذي يذكرون، فقبل الأرض وقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقيل: اسكت يا أعرابي، هذا عروس ونحن في عرسه؛ فهيىء لي موضع في المجلس، فجلست فيه. فقدمت هنات مدورات من خشب عليها ثياب متلاحمة النسج، فهممت أن أسند في ثوب منها أرقع به إزاري. فقيل لي: مد يدك يا أعرابي وكل، فإذا هو ضرب من الخبز لا أعرفه، ثم قدمت أنواع من الطعام حلوة وحامضة وحارة وباردة، فأكلت؛ ثم أتي بأوان فيها ماء أحمر فجعلوا يصبون في أقداح ويشربون، فناولني منه قدحاً؛ فقلت: أخاف أن يقتلني. فقالوا: يا أعرابي؛ إنه يهضم ما في بطنك، فشربته فحدث في قلبي طرب لا أعرفه، وهممت أن أهشم الذي بجانبي، وأن أقول للآخر: يابن الزانية ! فأقبلوا يسألون رجلاً، ويقولون: أمتعنا بنفسك، فأتى بهنات لها رأسان مشدودان بالخيوط المحصدة؛ فأقبل يضرب رأسه، فيخرج منها رعد كهزيم الرعد وزئير الأسد. وأخرج رجل من كمه شيئاً كفيشلة الحمار، فأقبل يردد عليه به. وأقبل آخر ينتخ حتى كبح به الأرض. فقلت: مجنون ورب الكعبة !! ثم أقبلوا يضرعون إلى آخر ويرغبون إليه؛ فأتاهم بدابة من خشب عينها ف صدرها إذا فتلت أذنها تكلم فوها؛ فطرب كل من حضر وطربت حتى تقدمت إليه، وقلت: يا سيدي؛ ما هذه الدابة ؟ فقال: يا أعرابي؛ هذه يقال لها البربط. فقلت: آمنت بالله وبالبربط، ثم سقوني قدحاً آخر، فأخذتني نومة لم يوقظني منها إلا حر الشمس من الغد.

البحتري يهجو علي بن يحيى
وفي علي بن يحيى يقول البحتري يهجوه:
وأكثرت غشيان المقابر زائراً ... عليّ بن يحيى جار أهل المقابر
فإلاّ يكن ميت الحياة فإنّه ... من اللؤم ميت الجود ميت المآثر
قال أبو العيناء: محمد بن مكرم والعباس بن رستم تعجلا الجنة في الدنيا، يشربان الخمر ولا يصليان.
من مكارم أبي الصقر
ومما يعد من مكارم أبي الصقر أنه لما ولي الوزارة بعد صاعد دخل عليه ابن ثوابة فقال: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين. قال: لا تثريب عليك يا أبا العباس يغفر الله لك وهو أرحم الراحمين.
ولما ولي أبو الصقر الوزارة خير أبا العيناء فيما يحب حتى يفعله به. فقال: أريد أن يكتب لي الوزير إلى أحمد بن محمد الطائي يعرفه مكاني، ويلزمه قضاء حق مثلي من خدمه. فكتب إليه كتاباً بخطه فأوصله إلى الطائي، فسبب له في مدة شهر مقدار ألف دينار، وعاشره أجمل عشرة؛ فانصرف بأجمل ما يحب.
كتاب أبي العيناء إلى أبي الصقر
وكتب إلى أبي الصقر كتاباً متضمنه: أنا أعز الله الوزير طليقك من الفقر، ونقيذك من البؤس، أخذت بيدي من عثرة الدهر، وكبوة الفقر؛ وعلى أية حال حين نفدت الأولياء والأشكال، والإخوان والأمثال الذي يفهمون في غير تعب؛ وهم الناس كانوا غياثاً للناس، فحللت عقدة الخلة، ورددت إلي بعد النفور النعمة، وكتبت إلى الطائي كتاباً، فكأنما كان منه إليك، أتيته وقد استصعبت علي الأمور، وأحاطت بي النوائب، فكثر من بشره، وأعطى من ماله أكرمه، ومن بر أحكمه، ولم يزل مكرماً لي مدة ما أقمت، ومثقلاً لي من فوائده لما ودعت؛ حكمني في ماله فتحكمت، وأنت تعرف جوري إذا تمكنت، وزادني من طوله فشكرت؛ فأحسن الله جزاءك، وأعظم حباءك، وقدمني أمامك، وأعاذني من فقدك وحمامك، وقد أنفقت علي ما ملكك الله، وأنفقت من الشكر ما يسر الله لي. والله عز وجل يقول: " لِيُنْفِقْ ذو سَعَةٍ من سعته " ؛ فالحمد لله الذي جعلك اليد العليا، والرتبة السامية؛ لا أزال الله عن هذه الأمة ما بسط لها من عدلك، وبث فيها من رفدك.
أبو العيناء أول من أظهر العقوق لوالديه

قال أبو العيناء: أنا أول من أظهر العقوق بالبصرة لوالديه. قال أبي: إن الله قد قرن طاعته بطاعتي؛ فقال: " اشكر لي ولوالديك " . فقلت: يا أبت؛ إن الله أمنني عليك ولم يأمنك علي. فقال: " ولا تقتلوا أولادكم خشيةَ إمْلاَق نحن نرزقكم وإياهم " .
وقال أعرابي لأبيه: يا أبت، إن كبير حقك علي لا يبطل صغير حقي عليك، والذي تمت به إلي أمت بمثله، ولست أزعم أنا سواء ولكن لا يحل الاعتداء.

ابناك كعينيك
وحكى أبو الحسن محمد بن جعفر بن لنكك البصري عن أبيه أنه جاور ببغداد في أيام المقتدر رجلاً من جلة الكتاب، ونشأ له ولدان فتنا بغداد بحسنهما، فبلغ الأكبر منهما، فنقله من المكتب إلى الديوان، وأراد أن يحصنه بجارية فابتاعها له بألف دينار، وقال: لا تعلم أخاك فإنه يصغر عن ذلك، فنمت داية الأصغر الأمر إليه، وقالت: إن أباك خص أخاك بشيء دونك. فقال لها: بم خصه ؟ قالت: بجارية. قال: هو إليها أحوج وأنا عنها أغنى، غير أني أشفق أن يتسع الخرق، وما علمت أنه فضل مذ نشأ علي بشيء، وأنا أجله عن المشافهة، ولكن هاتي دواة، فكتب إليه:
ليس لي بعد إلهي ... مشتكى إلاّ إليكا
وأخي في الفضل مثلي ... وكلانا في يديكا
لا تفضّله عليّ ... بالحبا من ناظريكا
إنما ابناك كعيني ... ك فداوي مقلتيكا
إن أذقت العين كحلاً ... هاجت الأخرى عليكا
فابتاع له جارية بثمن جارية أخيه وأنفذها إليه.
بخور غير طائل
وحضر أبو الحسن بن لنكك عند أبي الفتح نصر بن أحمد الخبزأرزي فبرخه ببخور غير طائل فقال:
تبصّر في فؤادي فضل حبٍّ ... يفوق به على كلّ الصحاب
أتيناه فبخّرنا بشيءٍ ... من السقف المدخّن بالتهاب
فقمت مبادراً وحسبت نصراً ... يريد بذاك طردي أو غيابي
فقال متى أراك أبا حسين ؟ ... فقلت له إذا اتّسخت ثيابي
بين أبي علي البصير وأبي العيناء
قال أبو علي البصير لأبي العيناء: في أي وقت ولدت من النهار ؟ قال: طلوع الشمس. قال: فلذلك خرجت مكدياً؛ لأنه وقت انتشار المساكين. فقال له أبو العيناء: بيني وبينك مناسبة العمى، قال: كلا ! إني من عميان الدواب، وأنت من عميان العصا.
بلغت أبا علي البصير عن أبي العيناء قوارص بظهر الغيب؛ فكتب إليه: أستزيد الله في بقائك؛ وأستمتعه بإخائك، وأستحفظه النعمى عندك. رب مزح أعزك الله قد بعث جداً، وجور قد أحدث قصداً، ورب أمر صغير خطره، قد أعقب أمراً كبيراً آخرهن ونحن باستزادتنا بعهدك، ومحاماتنا على ودك، وتمسكنا بعرى الأسباب التي بيننا وبينك، واحتراسنا من جناية الدهر علينا فيك، لا نقتصر على الاستظهار بالحجة، والإبلاغ في المعذرة، دون استفراغ المجهود، وبلوغ الغاية في التأني، والحيلة في استرجاع ما شذ عنا منك، وإبطال ما نمت به الأخبار إلينا عنك، من تحليك بنا في العيب، وتناولت إيانا في الغيب، فلا يزال أخ لك مد الله في عمرك تعد له، على نفسك، وثوقه لك وعليك، قد ساقط إلي أحاديث عنك بطبائعها صلاح القلوب قليلاً بها بقاء المودة، سريعة في حل عقدتها وقطع مودتها، أحاديث، أكره لنفسي بدأها ولك عاقبتها، وكنت لا أزال أرد ما يرد علي منها بتأول لفظك وحسن الظن بمعناك، والتماس العذر لك على ضيق مخرجه، وصعوبة مطلبه؛ وأغلب رأيي لهواك، وأقف غضبي على عتباك، وأحفظ قصدك إلي متنصلاً بما بلغني عنك؛ إلى حرم بيني وبينك، لا يجب حفظها علي دونك، حتى عاد تعريضك تصريحاً، وتمريضك تصحيحاً، وفي نسبته في صحتي إلى العمى، وفي حلمي إلى الضعف، إلى أن يئس الصديق من نصري، لما رأى من إغضائي في أمر نفسي، وقد بقي مع فضلة من أداتي أنت تملكها دوني، فإن صنتها لي ووفرتها على من أساء الاختيار؛ ولا أعدم أنصاراً من الأحرار، أسعد بمؤازرتهم ومكاشفتهم، وأستغني بنفسي عنهم.
وقد كتبت في هذا المعنى بأبيات هي لما قبلها ولما يكون بعدها، فرأيك في تفهمها نفعك الله بها:
أبلغ أبا العيناء إن لاقيته ... قولاً يكون لدائه حسما
نبئت أنّك في المغيب تسبّني ... وإذا التقينا كنت لي سلما

فتروم هجوي جاهداً ونقيصتي ... سفهاً أراه بادياً حلما
لا تغتنم لحمي فليس بأكلة ... واعلم بأنك واجدٌ لحما
إني أُعيذك أن تكون رميّةً ... لسهام رامٍ إن رمى أصمى

شتم ورد
وشتم أبا علي البصير بعض الطالبيين، فقال: إنا والله ما نعيا من جوابك، ولا نعجز عن مساءتك، ولكنا نكون خيراً لنسبك منك، ونحفظ ما أضعفت، فاشكر توفير ما وفرنا منك، ولا يغرنك بالجهل علينا حلمنا عنك.
من شعر أبي علي البصير
وأبو علي هو القائل:
ألّمت بنا يوم الرحيل اختلاسة ... فأضرم نيران الجوى النظر الخلس
تأبّت قليلاً وهي ترعد خيفةً ... كما تتأبّى حين ترتعد الشمس
فخاطبها صمتي بما أنا مضمرٌ ... وأبلست حتى لست يسمع لي حسّ
وولّت كما ولّى الشباب لطيّة ... طوت دونها كشحاً على يأسها النّفس
وقال يمدح الفتح بن خاقان:
سمعنا بأشعار الملوك فكلّها ... إذا عضّ متنيه الثقاف تأوّدا
سوى ما سمعنا لامرىء القيس إنه ... يكون إذا لم يشعر الفتح أوحدا
أقام زماناً يسمع القول صامتاً ... ونحسبه إن رام أكدى وأصلدا
فلما امتطاه راكباً ذلّ صعبه ... وسار فأضحى قد أغار وأنجدا
وقال يصف ليلة مطر:
وليلة عارض لا نوم فيها ... أرقت لها إلى الصبح الفتيق
حمى فيها الكرى عيني ببيتٍ ... كأنّ سماءها عين المشوق
تواصلت السحائب وهو بيتٌ ... وصدّت وهو قارعة الطريق
وهذا كقول ابن المعتز:
روينا فما نزداد يا ربّ من حياً ... وأنت على ما في الضمير شهيد
سقوف بيوتي صرن أرضاً أدوسها ... وحيطان داري ركّعٌ وسجود
من نوادر اللصوص
ذهبت ثياب رجل في الحمام، فجعل يقول: أنا أعلم، أنا أعلم، واللص يسمعه؛ ففزع وظن أنه قد فطن به؛ فردها. وقال له: إني سمعتك تقول: أنا أعلم، فما الذي تعلم ؟ قال: أعلم أنه إن عدمت ثيابي مت من البرد.
مستميح ولص
زار رجل الخصيب بن عبد الحميد وهو أمير على مصر مستميحاً فلم يعطه شيئاً فانصرف. فأخذه أبو الندى اللص وكان يقطع الطريق فقال: هات ما أعطاك الخصيب. قال: لم يعطني شيئاً، فضربه مائتي مقرعة يقرره على ما ظن أنه ستره عنه. ثم قدم على الخصيب بعد ذلك زائراً فلم يعطه شيئاً: فقال: جعلت فداك ! تكتب إلى أبي الندى أنك لم تعطني شيئاً لئلا يضربني، فضحك ووصله.
من طرائف الأجوبة
ومر سالم بن أبي العقار بمحمد بن عمران الطلحي وكان سالم أحد المجان فقال له سالم: هذه الشيبة والهيئة الحسنة والخضاب، ولا تنزع عما أنت فيه !! فقال: يا أبا سليمان؛ إني لأهم بذلك، فإذا مررت بمنزل ابن عمك طلحة بن بلال فرأيت على حاله لم يخسف به علمت أن في الأمر فسحة بعد.
ولما مرض أبو نواس دخل عليه الجماز يعوده. فقال: اتق الله، فكم من محصنة قد قذفت، ومن سيئة قد اقترفت، وأنت على هذه الحال؛ فتب قبل الموت. فقال: صدقت. ولكن لا أفعل ! قال: ولم ؟ قال: مخافة أن تكون توبتي على يد واحد مثلك.
وقال الجماز: أراد أن يكتب أبو نواس إلى إخوان له دعاهم، فلم يجد قرطاساً يكتب فيه ! فكتب في رأس غلام له أصلع ما أراد، ثم قال فيه: فإذا قرأت كتابي، فأحرقوا القرطاس. فضحكوا منه وتركوا للغلام جلدة رأسه.
نوادر لابن الجصاص
تقدم الوزير علي بن عيسى إلى ابن أبي عبد الله بن الجصاص في البكور، فأتاه نصف النهار. فقال: ما أخرك يا أبا عبد الله ؟ قال بمحلتي أعز الله الأمير كلاب تنبح الليل أجمع، فأسهرتني البارحة، فلما كان مع وجه السحر سكن نباحها، فنمت فغلبتني عيني إلى الآن، فقال له: وما لك يا أبا عبد الله لا تتقدم في قتلها ؟ قال: ومن يستطيعها أيها الوزير ؟ وكل واحد منها مثلي ومثل أبيك رحمه الله.

وخرجت يده من الفراش في ليلة باردة، فأعادها إلى جسده بثقل النوم فأيقظته، فقبض عليها بيده الأخرى، وصاح: اللصوص اللصوص ! هذا اللص جاء ينازعني وقد قبضت عليه، أدركوني لئلا يكون في يده حديدة يضربني بها، فجاءوا بالسراج فوجدوه قد قبض بيده على يده.
ودخل على ابن له وقد احتضر، فبكى عند رأسه، وقال: كفاك الله يا بني الليلة مؤنة هاروت وماروت. قالوا: وما هاروت وماروت ؟ قال: لعن الله النسيان، إنما أردت يأجوج ومأجوج. قالوا: وما يأجوج ومأجوج ؟ قال: فطالوت وجالوت. قالوا: فلعلك أردت منكراً ونكيراً. قال: والله ما أردت إلا غيرهما !! يريد ما أردت غيرهما.
وغفل عنه أهله يوماً فسمعوا صياحه؛ فأتوه فوجدوه في بيت كالميت. فقالوا: ما لك ؟ قال؛ فكرت في كثرة مالي وشدة مصادرة السلطان للتجار في هذا الوقت وتعذيبه لهم بالتعليق، فعلقت نفسي ونظرت كيف صبري، فزحلت فلم أتخلص حتى كدت أموت.
وهذه الحكايات عن ابن الجصاص تنسب إلى غيره، والمحدثون مختلفون في حكاياتهم ومضطربون في رواياتهم.
وكان المعتضد إذا رأى ابن الجصاص يقول: هذا الأحمق المرزوق ! وكان أوسع الناس دنيا، له من المال ما لا ينتهى إلى عده، ولا يوقف على حده. وبلغ من جده أنه قال: تمنيت أن أخسر، فقيل لي: اشتر التمر من الكوفة وبعه بالبصرة، ففعلت ذلك؛ فاتفق أن نخل البصرة لم يحمل في ذلك العام؛ فربحت ربحاً واسعاً.
وكان المعتضد لما زفت إليه قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون بعث أبوها إلى ابن الجصاص مائتي ألف دينار، وكتب إليه قد جهزناها بما قدرنا عليه، وبالعراق طرائف لم تصل إلى أيدينا، فاشتر ما تراه؛ فاحتجز المال ولم يسأل عنه.
وكان ابن المعتز لما خلع المقتدر لم يقم في الخلافة إلا يومين غير تامين، ثم اضطرب حبله، فهرب إلى دار بن الجصاص فأخرج منها، أخرجه المقتدر بعد أيام إلى القضاة والعدول ميتاً.

سبب طلب ابن المعتز للخلافة
وكان سبب طلب ابن المعتز للخلافة: أن المقتدر وهو جعفر بن المعتضد وأمه أمة سوداء واسمها شعب لما استخلف أرجف الناس فيه وتكلموا في أمره. وقالوا: كيف يلي الخلافة من لم يبلغ الحلم ؟ وكانت سنه يومئذ ثلاث عشرة سنة وشهراً وعشرين يوماً، وقالوا: لا بد من خلعه لأنه سادس.
قال الصولي: وقد جرى في السادس أمر طريف من الاتفاق؛ وذلك أن الله تبارك وتعالى أورث الأرض سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين بعه أربعة. واستخلف بعد علي رضي الله عنه الحسن ابنه وهو السادس فخلع. وسلم الأمر إلى معاوية ثم إلى يزيد بن معاوية ثم إلى معاوية بن يزيد ثم مروان بن عبد الحكم ثم عبد الملك بن مروان ثم بويع ابن الزبير في أيامه أو بعدها وهو السادس فخلع، ثم انقضت دولة بني أمية ولم يكمل بعد الوليد ستة، وإنما ولي يزيد بن الوليد الناقص وإبراهيم بن الوليد بن مروان ومروان بن محمد وهو آخر ملوك بني أمية. ثم استفتح ملك بني العباس بأبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور ومحمد بن المنصور المهدي وموسى الهادي بن المهدي وهارون الرشيد بن المهدي والأمين بن الرشيد بن المهدي وهو السادس فخلع، ثم ولي المأمون بن الرشيد والمعتصم أخوه والواثق بن المعتصم والمتوكل بن المعتصم والمنتصر بن المتوكل والمستعين أحمد بن المعتصم فخلع وهو السادس.

قلت أنا: وولي القاهر محمد بن المعتضد والراضي أبو العباس بن المقتدر والمتقي أبو إسحاق بن المقتدر والمستكفي والمطيع الفضل بن جعفر المقتدر والطائع أبو بكر عبد الكريم بن المطيع وهو السادس فخلع. وولي بعده أبو العباس القادر وهو الخليفة في هذا الزمان، وكان الإرجاف في أول ولاية المقتدر شديداً من الخاصة والعامة، فلما قتل العباس وزيره أخذ محمد بن داود بن الجراح البيعة على الناس لعبد الله بن المعتز، ووجه إلى القضاة والعدول، فاجتمع من القواد وغيره زهاء خمسة آلاف سوى الأتباع، فأظهر لهم محمد بن داود عبد الله بن المعتز، وكتب كتاباً خلع فيه المقتدر، واحتج بأن إمامته لا تجوز لقصوره من بلوغ الحلم وصغره عن الخلافة، واستحقاق عبد الله إياها لكماله وحنكته ومعرفته في أمور المسلمين وعلمه بشرائع الدين، فشهد العدول على ما في الكتاب ومن حضر من أشراف بغداد، وبايعوا ابن المعتز ولقبوه المنتصف، ويقال الراضي، ويقال القائم بالحق، وتقلد ابن الجراح الوزارة، وتكلم عبد الله بن المعتز وذكر المقتدر وأنه لا صلاة للناس معه ولا حج ولا غزو. وقال: قد آن للحق أن يتضح، وللباطل أن يفتضح، وقام وكيع فقرظه وذكر محاسنه وذكر شعر أبي العتاهية في هارون الرشيد وهو:
أتته الخلافة منقادةً ... إليه تجرّر أذيالها
فلم تك تصلح إلاّ له ... ولم يك يصلح إلاّ لها
ولو رامها أحدٌ غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها
ولم يبق في دار المقتدر حينئذ إلا نفر يسير، وهر بعضهم إلى ابن المعتز، فسعى مؤنس الخازن وسوسن في نقض هذا العقد في اليوم الثاني، وجددا للناس بيعة المقتدر، وأخرجا الأموال فزادا في الأعطية، فانجفل الناس إليهما، ولم يبق مع ابن المعتز أحد؛ فهرب إلى دار ابن الجصاص، وهذا خبر طويل ليس هذا موضع استقصائه. ثم خلع المقتدر بعد ذلك وقتل في الحرب، ولم يقتل في الإسلام خليفة بين الصفين غيره.
ولما ظهر ابن المعتز ميتاً رثاه الناس؛ فقال ابن بسام:
للّه درّك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لوٌّ ولا ليت فتنقصه ... وإنما أدركته جرفة الأدب
وطولب ابن الجصاص بالتجائه إليه، وأراد المقتدر قتله. فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنه ابن عمك، وقد لجأ إلى داري، وأنا غائب عنها، فكتمت أمره لعل رأيك يحسن فيه، ولست بمضاد في خلافة ولا قادح في مملكة، وقتلي لا ينفعك؛ وفي حياتي لك فائدة. قال: وما فائدة حياتك ؟ قال: أدفع إليك كل يوم ألف دينار؛ فترك ووفى في ذلك مدة.

رثاء ابن بسام لابن المعتز
وقد استحسن لابن بسام رثاؤه لابن المعتز على سوء رأيه فيه ومهاجاته له.
كتاب للبديع في مرض الخوارزمي
وقد أحسن بديع الزمان في هذا المعنى كل الإحسان، وقد كتب إليه إبراهيم بن أحمد بن حمزة يهنئه بمرض أبي بكر الخوارزمي وكان بينهما من المهاجاة والمهاترة والمنازعة والمنافرة ما يطول به الشرح: الحر أطال الله بقاءك لا سيما إذا عرف الدهر معرفتي، ووصف أحواله صفتي، إذا نظر علم أن نعم الدهر ما دامت معدومة فهي أماني، فإذا وجدت فهي عواري، وأن محن الأيام وإن مطلت فتستنفد، وإن لم تصب فكأن قد؛ فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه. والشامت إن أفلت فليس يفوت. وإن لم يمت فسوف يموت، وما أقبح الشماتة بمن أمن الإماتة، فكيف بمن يتوقعها بعد كل لحظة، وعقيب كل لفظة، والدهر غرثان طعمه الخيار، وظمآن شربه الأحرار. فهل يشمت المرء بأنياب آكله، أو يسر العاقل بسلاح قاتله ؟ وهو الفاضل شفاه الله، وإن ظاهرنا بالعداوة قليلاً، فقد باطناه وداً جميلاً، والحر عند الحمية لا يصطاد، ولكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد؛ فلا تتصور حالي إلا بصورتها من التوجع لعلته، والتحزن لمرضته، وقاه الله المكروه، ووقاني الله سماع المكروه فيه.
الخوارزمي رافضي

وكان الخوارزمي رافضياً غالياً؛ أخبرني من رآه بنيسابور وقد خرج سكران وقد كظه الشراب فطلب فقاعاً فلم يجده، فقال: أيعوزني الفقاع لما طلبته. فإذا كان يهتف بهذه الجملة لغير علة، فكيف به مع تفزيع العلل، وتوسيع الأمل، ممن يطابقه على كفره، ويوافقه في سره. وكان فاحشاً بذيئاً، مستخفاً جريئاً على ذوي الإنعام عليه، والإحسان إليه، قال إسماعيل بن عباد لما بلغه موته:
سألت بريداً من خراسان مقبلاً ... أمات خوارزميكم ؟ قال لي: نعم !
فقلت اكتبوا بالجصّ من فوق قبره ... ألا لعن الرحمن من يكفر النّعم

وسع قبيح في جبهة الخوارزمي
وكان هجا بعض الملوك فظفر به فوسمه في جبهته سطرين فيهما شطران بأقبح هجاء، فكان يشد العمامة على حاجبيه ستراً عليهما. ولذلك قال البديع في مناظرته إياه وقد ذكر مجلساً طويلاً غنى المغني بحضرتنا:
وشبهنا بنفسج عارضيه ... بقايا اللطم في الخدّ الرقيق
فقال للحاضرين: أنا أروي الشعر الذي منه هذا البيت وهذا لا يرويه. فقلت: روايتي تخالف روايتك، وإذا أنشدتكها على روايتي ساءتك في استماعها، ولم يسرك مصنوعها. قال: وكيف روايتك ؟ قال قلت:
وشبهنا بنفسج عارضيه ... بقايا الوسم في الوجه الصفيق
فلما أضجرته النكتة، أخذته السكتة، فخمدت ناره، ووقف حماره.
بين البديع والخوارزمي
وكان البديع رحمه الله، وهو أبو الفضل أحمد بن الحسين: قد أشرقه بريقه، ووعر عليه ما سهل من طريقه. وكان الخوارزمي يرميه ببغض علي رضوان الله عليه، ويشنع علي بذلك ويغري به الطالبيين:
يقولون لي لا تحبّ الوصيّ ؟ ... فقلت الثّرى بفم الكاذب
أُحبّ النبيّ وآل النبيّ ... وأختص آل أبي طالب
وأُعطي الصحابة حقّ الولاء ... وأجري على سنن الواجب
فإن كان نصباً ولاء الجميع ... فإني كما زعموا ناصبي
وإن كان رفضاً ولاء الوصيّ ... فلا برح الرّفض من جانبي
فللّه أنتم وبهتانكم ... وللّه من عجب عاجب
وإن كنتم من ولاء الوصيّ ... على العجب كنت على الغارب
يرى اللّه سرّي إذا لم تروه ... فلم تحكمون على الغائب
ألا تبصرون لرشدٍ معي ... ولا تهتدون إلى اللّه بي
أعزّ النبيّ وأصحابه ... فما المرء إلاّ مع الصاحب
أيرجو الشفاعة من سبّهم ؟ ... بل المثل السوء للضارب
حنانيك من طمع باردٍ ... ولبيك من أملٍ كاذب
له في المكاره قلب الجبان ... وفي الشبهات يد الحاطب
كتاب البديع إلى بعض الرؤساء
وكتب البديع إلى بعض الرؤساء وذكر الخوارزمي: ما ألوم هذا الفاضل على نشر شر طواه، وموقد حرب اجتواه، ولكني ألومه على ما نواه، ولم يتبع فيه هواه، ورامه، ولم يبلغ تمامه. وأقول: قد ضرب فأين الإيجاع ؟ وأنذر فأين الإيقاع ؟ وهذه بوارقه، فأين صواعقه ؟ وذاك وعيده، فأين عديده ؟ وتلك بنوده، فأين جنوده ؟ وأنشد:
هذي معاهده فأين عهود
ما أهول رعده، لو أمطر بعده ! اللهم لا كفران، أراه أشفق لغريب أن يظهر عواره، وإن طار طواره، فإن كان قصد هذا القصد فقد أساء إلى نفسه من حيث أحسن إلي، وأجحف بفضله من حيث أبقى علي، وأوهم الناس أنه هاب البحر أن يخوضه، والأسد أن يروضه، وشجعني عن لقائه، بعد أن فزعن بإيمائه، فبينا كنت أنشد: إن جنبي عن الفراش لنابي إذ أنشدت: طاب ليلي وطاب فيه شرابي، وبينا كنت أقول: ما لقلبي كأنه ليس مني إذ قلت: أين من كان موعداً لي بأني.
من مساجلات البديع والخوارزمي
وبين البديع والخوارزمي مراسلات ومساجلات، ومجالس ظريفة ومقامات، في ابتداء وجواب، أخذت بوصل الحكمة وفصل الخطاب، ومن الهزل والجد.

فمن ظريف ما لأبي بكر من رسالة طويلة يهزأ بها بالبديع: تواضع لنا رحمك الله، فإن التواضع خلق من أخلاق السلف، وشبكة من شباك الشرف، وتصدق علينا ببشرك، فإن الله يجزي المتصدقين، وأحسن فإن الله يحب المحسنين، ولاين إخوانك في قولك وفعلك، ولو كنت فظاً غليط القلب لانفضوا من حولك. ولولا أني رحمك الله لا أقول بالرجعة، ولا أذهب مذهب التناسخية، لظننت أنك يونس بن فروة إذ قيل فيه:
أمّا ابن فروة يونس فكأنه ... من كبره ذاك الحمار القائم
ما الناس عندك غير نفسك وحدها ... والناس عندك ما عداك بهائم
فلقد أعجبت بنفسك الخسيسة التي لا تستحق العجب، وأحببت ما لا يساوي الحب، حتى كأن كسرى أنو شروان حامل غاشيتك، وكأن قارون وكيل نفقتك، وحتى كأنك بنيت منارة الإسكندرية من آجر دارك، وشدت ملعب سليمان من بقايا رخام صحنك؛ وكأن خاتم الدنيا في خصرك، وحساب خرجها ودخلها في بنصرك، وحتى كأن الشمس تطلع من جبينك، والغمام يندى من يمينك، وكأن كسرى أنو شروان صاحب نفقة إصطبل دوابك، ونمرود بن كنعان قهرمانك على ولدك وأهلك، وحتى كأن الكبريت الأحمر خزف دارك، والدرة اليتيمة في أخس سوارك.
رحمك الله ! دع لليونانية من الحكمة ما ينفق به سوقهم، واترك لبني العباس من التملك ما تمشي به أمورهم، وأبق للشمس والقمر من الحسن بمقدار ما يلوحان به، ويطلعان فيه؛ وانظر إلى النساء من وراء حجاب، ومن خلف برقع، وإلا خرجن في عشقك من ستر الله، وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله، ولا تحمل الحرائر على خشونة الطلاق، ولا تذق المماليك مرارة العناق.
رحمك الله ! لي حوائج إن قضيتها فقد تسلفت شكري وثنائي، وإن رددتني عنها فقد رأيت أنموذج سخطي وشكواي، قد اتفق الناس على ضياع النسخة الأولى من كتاب العين فأملها علينا رحمك الله ! والكيمياء فقد أنفقت فيها الأموال، وتعب فيها الرجال، ثم لم يحصوا منها إلا على مواعيد مزخرفة، وأماني مسوفة، فما عليك لو علمتناها، وأغنيت الفقراء، وزدت الأغنياء، وأرحت الناس من الضرب في البلاد، ومن الكد والاجتهاد، ومن أن يخدم فقير غنياً، ويتخذ بعضهم بعضاً سخرياً.
والزيج الأكبر فقد انقطع أصله، ومات أهله، وهو من مفاخر الروم علينا، ومن محاسنهم دوننا. فاعمل على إصلاحه، ولا تدع النصارى يفضلون المسلمين في إبداعه. ومسجد دمشق فهو حسنة يباهي أهل المغرب أهل المشرق، فابن لنا مثله، ولا تثبت علينا فضله؛ فإنما هي ساعة من هندستك، وجزء نستعمله من أجزاء حكمتك.
أنا لو سلمت أنك إنسان لنفيت عن نفسي الإنسانية، وقضيت عليها بالبهيمية، وصرت أعلى منك في النقص حكمة، وفي الجهل طبقة. وإذا أردت أن تعلم أني في ذمك جاد، وفي مدحك لاعب، وفي الشهادة عليك صادق، وفي الشهادة لك كاذب، فانظر إلى تهافت كلامي إذا لاينتك وجاملتك، وإصابتي الغرض وحزي المفصل إذا كاشفتك وباينتك، وذلك أن الصادق معان مأخوذ بيديه، والكاذب مخذول مغضوب عليه، وما كان الله ليوفقني وأنا أجامل من لا يعرف قط إجمالاً ولا تجميلاً، وأفضل من لم يناسب مذ كان إفضالاً ولا تفضيلاً.
وليس يخفى عليك أكرمك الله تطاول أهل العراق بعبد الله بن هلال الهجري صديق إبليس؛ فأرنا رحمك الله من عجائب صنعتك، ولطائف شعبذتك، وأظهر من كتبك ما تحاكي به كتب اليونانية، وتكسد شعرهم وتهدم فخرهم؛ فإن إبليس تلميذ لك، تعلم منك وأخذ عنك؛ وشتان بين من يدعي أن إبليس من أعوانه، وبين من يدعي أنه من غلمانه. وهل استنظر إبليس إلى يوم الوقت المعلوم إلا ليدرك زمانك، ويرى برهانك، أي وفقدك فلا شيء أعز علي منه ! ولا أحسن في عني، أما سمعت قول علي بن جبلة في أبي دلف:
إنما الدّنيا أبو دلفٍ ... بين بادية ومحتضره
فإذا ولّى أبو دلفٍ ... ولّت الدّنيا على أثره
إلا غضبت عليه، واعتقدت أنه أخذ صفتك، وأعار أبا دلف مدحتك، ولا سمعت قوله:
إما الدّنيا حميدٌ ... وعطاياه الجسام
فإذا ولّى حميدٌ ... فعلى الدنيا السلام
إلا تمنيت لو عرفت قبره فرجمته، أو عرفت بيته فهدمته، ولا سمعت قول ليلى الأخيلية:
فتى كان أحيى من فتاة حيّية ... وأشجع من ليث بخفّان خادر

إلا قلت: كيف لو رأت ليلى أخانا، فتعلم أين دعواها من دعوانا. ولا أنشدت قول أبي السعلاء في الرشيد:
أغيثاً تحمل الناق ... ة أم تحمل هارونا
أم الشمس أم البدر ... أم الدنيا أم الدينا
فإني والله أتعجب حين قاله في غيرك، كيف لم ترم جهنم بشرارها، والشياطين بأحجارها، وأعجب من قول من قال في معن بن زائدة:
مسحت معدّ وجه معنٍ سابقاً ... لما جرى وجرى ذوو الأحساب
كيف يسبق غيرك في حلبة وأنت في عدادها، أم كيف يكون غيرك سابق جيادها ؟ أنت أيدك الله بين هؤلاء الشعراء مرحوم مظلوم، سلبوك علاك وهي حلاك، ونحلوها قوماً سواك، والمدح الكاذب ذم، والبناء على غير أساس هدم.
وهي طويلة جداً، مر له فيها إحسان كثير. وإنما احتذى في أثرها مثال رسالة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ لأحمد بن عبد الوهاب المعروفة برسالة الطول والعرض وتعرف برسالة التوسع والتدوير ورسالة المفاكهات، واتبع أيضاً طريق أبي الفضل بن العميد في رسالته لابن سمكة النحوي.

بين الخوارزمي والبديع
وقد جمع بديع الزمان جوامع ما جرى بينه وبينه في كتاب أنفذه إلى بعض الأشراف، أنا أكتب منه ها هنا قطعة على اختصار، وهو وإن كان طويلاً فليس مملولاً، لما ألبسه من حلل البلاغة، وحلل البراعة، وجدته في الآذان، وحلاوته في الأذهان؛ وفيه أنواع تنفتح لها الأسماع، وتنشرح لها الطباع، مما ألف هذا الكتاب له من الملح الظريفة، والفكاهات الشريفة.
وأولها: سأل السيد أمتع الله ببقائه إخوانه أن أملي جوامع ما جرى بيننا وبين أبي بكر الخوارزمي أعزه الله من مناظرة مرة، ومنافرة أخرى، وموادعة أولاً، ومنازعة ثانياً، إملاء يجعل الأسماع له عياناً؛ فتلقيته بالطاعة، على حسب الاستطاعة، ولكن للقضية سبب لا تطيب إلا به، ومقدمات لا تحسن إلا معها، وسأسوق بعون الله صدر حديثنا إلى النجز، كما يساق الماء إلى الأرض الجرز: وأولها: إنا وطئنا خراسان، فما اخترنا إلا نيسابور داراً، وإلا جوار السادة جواراً، لا جرم إنا حططنا بها الرحل، ومددنا عليها الطنب، وقديماً كنا نسمع بحديث هذا الفاضل فنتشوقه، ونخبر به ونخبره على الغيب فنتعشقه، ونقدر أنا إذا وطئنا أرضه، ووردنا بلده، يخرج لنا في العشرة على القشرة، وفي المودة عن الجلدة، فقد كانت كلمة الغربة جمعتنا، ولحمة الأدب نظمتنا، وقد قال شاعر القوم غير مدافع.
أجارتنا إنّا غريبان ها هنا ... وكلّ غريبٍ للغريب نسيب
فأخلف ذلك الظن كل الإخلاف، واختلف ذلك التقدير كل الاختلاف، وقد كان اتفق علينا في ذلك الطريق من العرب اتفاق، لم يوجبه استحقاق، من بزة بزوها، وفضة فضوها، وذهب ذهبوا به. ووردنا نيسابور براحة أنقى من الراحة، وكيس أخلى من جوف حمار، وزي أوحش من طلعة المعلم، بل اطلاعة الرقيب، فما حللنا إلا قصبة جواره، ولا وطئنا إلا عتبة داره، هذا بعد رقعة قدمناها، وأحوال أنس نظمناها؛ فلما أخذتنا عينه، سقانا الدردي من أول دنه، وأجنانا سوء العشرة من باكورة فنه، من طرف نظر بشطره، وقيام دفع في صدره، وصديق استهان بقدره، وضيف استخف بأمره؛ لكنا أقطعناه جانب أخلاقه، ووليناه خطة رأيه، وقاربناه إذ جاذب؛ وواصلناه إذ جانب، ولبسناه على خشونته، وشربناه على كدورته، ورددنا الأمر في ذلك إلى زي استغثه، ولباس استرثه، وكاتبناه نستلين قياده، ونستميل فؤاده، ونقيم مناده، بما هذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم الأستاذ أبو بكر والله يطيل بقاءه، أزرى بضيفه إذ وجده يضرب إليه آباط القلة، في أطمار الغربة؛ فأعمل في ترتيبه أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أصناف المضايقة، من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام، ومضغ للكلام، وتكلف لرد السلام.
وقد قبلت ترتيبه صعراً، واحتملته وزراً، واحتضنته نكراً، وتأبطته شراً، ولم آله عذراً، فإنما المرء بالمال، وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال، أتقذر صف النعال. فلو أني صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت: إن بوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وناساً يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف:
وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوههم ... وأنديةٌ ينتابها القول والفعل

فلو طرحت بأبي بكر إليهم طوائح الغربة لوجد منال البشر قريباً، ومحط الرحل رحيباً، ووجه المضيف خصيباً.
ورأي الأستاذ أبي بكر أيده الله في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه ود، والمر الذي يتلوه موفق إن شاء الله تعالى.
فأجاب بما في نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم: وصلت رقعة سيدي ورئيسي، أطال الله بقاءه، إلى آخر السكباج، وعرفت ما تضمنه من خشن خطابه، ومؤلم عتبه وعتابه، وصرفت ذلك منه إلى الضجرة التي لا يخلو منها من مسه عسر، ونبا به دهر، والحمد لله الذي جعلني موضع أنسه، ومظنة مشتكى ما في نفسه.
أما شكاة سيدي ورئيسي من مضايقتي إياه كما زعم في القيام، فقد وفيته حقه أيده الله سلاماً وقياماً على قدر ما قدرت عليه، ووصلت إليه، ولم أرفع عليه إلا السيد أبا البركات العلوي، وما كنت لأوثر أحداً على من أبوه الرسول وأمه البتول، وشاهده التوراة والإنجيل، وناصره التأويل والتنزيل، والبشير به جبريل وميكائيل. فأما القوم الذين صدر عنهم سيدي فكما وصف: حسن عشرة، وسداد طريقة، وكمال تفصيل وجملة، ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، ونلت المراد:
فإن أك قد فارقت نجداً وأهله ... فما عهد نجدٍ عندنا بذميم
والله يعلم نيتي للأحرار كافة، ولسيدي من بينهم خاصة؛ فإن أعانني على بعض ما في نفسي بلغت له بعض ما فيه النية، وجاوزت به مسافة القدرة، وإن قطع علي طريق عزمي بالمعارضة، وسوء المؤاخذة، صرفت عناني عن طريق الاختيار، بيد الاضطرار:
وما النفس إلاّ نطفةٌ بقرارةٍ ... إذا لم تكدّر كان صفواً غديرها
وبعد: فحبذا عتاب سيدي إذا استوجبنا عتباً، واقترفنا ذنباً؛ فأما أن يسلفنا العربدة، فنحن نصونه عن ذلك، ونصون أنفسنا عن احتماله؛ ولست أسومه أن يقول: استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين. ولكني أسأله أن يقول: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.
فحين ورد الجواب، وعين العذر رائدة تركناه بعره، وطويناه على غره وعمدنا لذكره فسحوناه، ومن صحيفتنا محوناه؛ وصرنا إلى اسمه فأخذناه ونبذناه، وربكنا خطته، وتجنبنا خطته، فلا طرنا إليه ولا طرنا به. ومضى على ذلك الأسبوع ودبت الأيام، ودرجت الليالي، وتطاولت المدة، وتصرم الشهر، وصرنا لا نعير الأيام ذكره، ولا نودع الصدور حديثه، وجعل هذا الفاضل يستزيد ويستعيد، بألفاظ تقطفها الأسماع من لسانه، وتوردها إلي، وكلمات تحفظها الألسنة من فمه وتعيدها علي، فكاتبناه بما هذه نسخته: أنا أرد من سيدي الأستاذ أطال الله بقاءه شرعة وده وإن لم تصف، وألبس حلة بره وإن لم تضف، وقصاراي أن أكيله صاعاً عن مد؛ فإني وإن كنت في الأدب دعي النسب، ضعيف السبب، سيىء المنقلب: ضيق المضطرب، أمت إلى عشرة أهله بنيقة، وأنزع إلى خدمة أصحابه بطريقة، ولكن بقي أن يكون الخليط منصفاً في الوداد، إن زرت زار، وإن عدت عاد. وسيدي أيده الله ناقشني في القبول أولاً، وصارفني في الإقبال ثانياً. فأما حديث الإقبال، وأمر الإنزال، فنطاق الطمع ضيق عنه، غير متسع لتوقعه منه، وبعد، فكلفة الفضل هينة، وفروض الود متعينة، وأرض العشرة لينة، وطرقها بينة، فلم أختار قعود التغالي مركباً، وصعود التعالي مذهباً، وهلا ذاد الطير عن شجر العشرة، وذاق الحلو من ثمرها؛ فقد علم الله تعالى أن شوقي إليه قد كد الفؤاد برحاً إلى برح، ونكأه قرحاً على قرح، ولكنها مرة مرة ونفس حرة، لم تقد إلا بالإعظام، ولم تلق إلا بالإجلال والإكرام، وإذا استعفاني من معاتبته، وأعفى نفسه من كلف الفضل يتجشمها، فليس إلا غصص الشوق أتجرعها، وحلل الصبر أتدرعها، ولم أعره من نفسي، وأنا أعلم لو أني أعرت جناحي طائر لما طرت إلا إليه، ولا وقعت إلا عليه:
أحبّك يا شمس المعالي وبدرها ... وإن لامني فيك السّها والفراقد
وذاك لأنّ الفضل عندك باهرٌ ... وليس لأنّ العيش عندك بارد

فلما وردت عليه الرقعة؛ حشد تلاميذه وخدمه، وزم عن الجواب قلمه، وحبس للإيجاب قدمه، وطلع مع الفجر علينا. ونظمت حاشيتنا دار الإمام أبي الطيب. فقلت: الآن تشرق الحشمة وتنور، وتنجد في العشرة وتغور، وقصدناه شاكرين لمأتاه؛ وانتظرنا عادة بره، وتوقعنا مادة فضله، فكان خلباً شمناه، وآلاً وردناه، وصرفنا الأمر في تأخره، وتأخرنا عنه إلى ما قال عبد الله بن المعتز:
إّنا على البعاد والتفرّق ... لنلتقي بالذكر إن لم نلتق
وقول آخر وقد أحسن وزاد:
أحبّك في البتول وفي أبيها ... ولكنّي أحبّك من بعيد
وبقينا نلتقي خيالاً، ونقنع بالذكر وصالاً، حتى جعلت عواصفه تهب، وعقاربه تدب، وهو لا يرضى بالتعريض حتى يصرح، ولا يقنع بالنفاق حتى يعلن، وأفضت الحال به وبنا معه إلى أن قال: لو أن بهذا البلد رجلاً تأخذه هزة الهمم، وتملكه أريحية الكرم، لجمع بيني وبين فلان يعنيني:
ثم أرى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتي أم حمار
وود فلان بوسطاه، بل بيمناه، لو رحلنا وقلنا في المناخ له، وأتى بكلمات تحذو هذا الحذو، وتنحو هذا النحو، وألفاظ أتتنا من علو، فكان من جوابنا: بعض الوعيد يذهب في البيد. وقلنا: الصدق ينبىء عنك لا الوعيد. وقلنا: إن أجرأ الناس على الأسد أكثرهم له رؤية.
وقد قال بعض أصحابنا: قلت لفلان: لا تناظر فلاناً فإنه يغلبك. قال: أمثلي يغب وعندي دفتر مجلد، ووجدنا عندنا دفاتر مجلدة، وأجزاء مجودة، وأنشدناه قول حجل بن نضلة:
جاء شقيقٌ عارضناه رمحه ... إنّ بني عمّك فيهم رماح
هل أحدث الدهر لنا توبة ... أم هل رفت أم شقيق سلاح
وقلنا: إنا نقتحم الخطب، ونوسط الحرب، فنردها مفحمين ونصدر بلغاء:
وألسننا قبل النزيل قصيرة ... ولكنّها بعد النّزال تطول
فمن ظنّ أن قد يلاقي الحرو ... ب وألاّ يصاب فقد ظنّ عجزا
فإنك متى شئت لقيت منا خصماً ضخماً، ينهشك قضماً، ويأكلك خضماً، وحملناه على قول القائل:
السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب تأخذ من أنفاسها جزع
وقلنا له:
نصحتك فالتمس يأويك غيري ... طعاماً إنّ لحمي كان مرّا
ألم يبلغك ما فعلت ظباه ... بكاظمةٍ غداة لقيت عمرا
وجعل الشيطان يثقل بذلك أجفان طرفه، ويقيم به شعرات أنفه:
وحتى ظنّ أنّ الغشّ نصحي ... وخالفني كأنّي قلت هجرا
واتفق أن السيد أبا علي أدام الله عزه نشط للجمع بيننا؛ فدعاني فأجبت، وعرض علي حضور أبي بكر فطلبت ذلك، وقلت: هذه عدة لم أزل أتنجزها، وفرصة لا أزال أنتهزها.
فتجشم السيد أبو الحسن أعزه الله مكاتبته يستدعيه، فاعتذر أبو بكر بعذر في التأخر. فقلت: لا ولا كرامة للدهر أن نقعد تحت ضيمه، أو نقبل خسف ظلمه. وكتبت أنا له أشحذ عزمته على البدار، وألوي رأيه عن الاعتذار، وأعرفه ما في ذلك من ظنون تشتبه، وتهم تتجه، وتناذير تختلف، واعتقادات تخلف، وقدنا إليه مركوباً لنكون قد ألزمناه الحج، وأعطيناه الراحلة؛ فجاءنا بطبقة أف، وعدد تف:
كل بغيض طوله أصبع ... وأنفه خمس أشبار
مع أصحاب عانات، وأرباب جربانات، وسرحنا الطرف منه ومنهم في أحمى من است النمر، وأعطس من أنف النغر، فرأينا رجالاً جوفاً، قد حلقوا صوفاً، فأمنا المعرة، ولم نخش المضرة.
والمناظرة بينهما يطول ذكرها، ويعظم قدرها، ويخرج بها الكتاب عن حده؛ ولكني ألمع منها باليسير، إذ لو ذكرت جميع المعارضات والمناقضات، والمبادهة والمواجهة، لأضعفت على ما كتبت.
فمن ذلك أن البديع قال قلت له: اقترح علي غاية ما في طوقك، ونهاية ما في وسعك، حتى أقترح عليك أربعمائة صنف من الترسل؛ فإن سرت فيها برجلين، ولم أطر بجناحين، فلك فيها السبق.
مثال ذلك، أن أقول لك: اكتب كتاباً يقرأ جوابه منه؛ هل يمكنك أن تكتب ؟ أو أقول لك: اكتب كتاباً على المعنى الذي أقترح، وانظم شعراً وافرغ منهما فراغاً واحداً؛ هل كنت تمد لهذا ساعداً ؟

أو أقول لك: اكتب كتاباً في المعنى الذي أقول وأنص عليه، وأنشد من القصائد ما أريده من غير تثاقل ولا تغافل، حتى إذا كتبت ذلك قرىء من آخره إلى أوله، وانتظمت معانيه إذا قرىء من أسفله؛ هل كنت تفوق لهذا الغرض سهماً، أو تجيل قدحاً، أو تصيب نجحاً ؟ أو قلت لك: اكتب كتاباً إذا قرىء من أوله إلى آخره كان كاتباً، وإذا عكست سطوره مخالفة كان جواباً؛ هل كنت في هذا العمل واري الزند، قاصد القصد ؟ أو قلت لك: اكتب كتاباً على المعنى الذي أقترح، لا يكون فيه معنى متصل من واو تتقدم الكلمة، أو منفصل عنها بديهة، هل كنت تفعل ؟ أو قلت لك: اكتب كتاباً خالياً من الألف واللام، لا تصب معانيه إلا على قالب ألفاظه، ولا تخرجه من جهة أغراضه، هل كنت تقف من ذلك موقفاً مشهوراً ؟ أو يبعك ربك مقاماً محموداً؟ أو قلت لك: اكتب كتاباً أوائل سطوره كلها ميم، وآخرها جيم، على المعنى الذي أريد، هل كنت تغلو في قوسه غلوة، أو تخطو في أرضه خطوة ؟ أو أقول لك: اكتب كتاباً يخلو من الحروف العواطل، هل كنت تحظى منها بطائل ؟ أو تبل لهاتك بناطل ؟ أو أقول لك: اكتب كتاباً إذا قرىء معوجاً، أو سرد معرجاً، كان شعراً، هل كنت تقطع في ذلك شعراً ؟ بلى، والله تصيب ولكن من بدنك، وتقطع ولكن من ذقنك.
أو أقول لك: اكتب كتاباً إذا فسر من وجه كان مدحاً، وإذا فسر من وجه آخر كان قدحاً، هل كنت تقدر على هذه العمدة ؟ أو تخرج من هذه العهدة ؟ أو أقول لك: اكتب كتاباً كنت قد حفظته من دون أن لحظته، هل كنت تثق من نفسك به ؟ بل است البائن أعلم.
فقال أبو بكر: هذه الأبواب شعبذة فقلت: وهذا القول طرمذة، فما الذي تحسن أنت من الكتابة وفنونها، حتى أباحثك عن مكنونها، وأكاثرك بمخزونها، وأثير فيها قلمك، وأسبر لسانك وفمك. فقال: الكتابة التي يتعاطاها أهل الزمان، المتعارفة بين الناس.
فقلت: أليس لا تحسن من الكتابة إلا هذه الطريقة الساذجة، وهذا النوع الواحد المتداول بكل قلم، المتناول بكل يد وفم، ولا تحسن هذه الشعبذة.
فقال: نعم ! فقلت: هات الآن حتى أطاولك بهذا الحبل، وأنابلك بهذا النبل، ثم تقاس ألفاظي بألفظاك، ويعارض إنشائي بإنشائك؛ فأقترح كتاباً يكتب في النقود وفسادها، وفي التجارات وكسادها ووقوفها، والبضاعات وانقطاعها، والأسعار وغلائها.
فكتب أبو بكر بما نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، الدرهم والدينار ثمن الدنيا والآخرة؛ بهما يتوصل إلى جنات النعيم، ويخلد في نار الجحيم، قال الله تعالى: " خُذ من أموالهم صدقةً تُطهِّرهم وتزكّيهم بها وصَلّ عليهم إنّ صلاتك سكنٌ لهم واللّه سميع عليم " . وقد بلغنا من فساد النقود ما أكبرناه أشد الإكبار؛ وأنكرناه أعظم الإنكار، لما نراه من الصلاح للعباد، وننويه من الخير للبلاد، وتعرفنا في ذلك بما يربح الناس في الزرع والضرع إلى كلمات لم تعلق بحفظنا.
فقلت: إن الإنكار والإكبار، والبلاد والعباد، وجنات النعيم ونار الجحيم، والزرع والضرع، قد نبت عن العد، وزلت عن اليد، وقد كتبت كما ترى بما ساوق فيه اللسان القلم، وسابقت اليد الفم، ولا أطالبك بمثل ما أنشأت. فاقرأه ولك اليد، وناولته الرقعة فبقي وبقيت الجماعة، وبهت وبهتت الكافة.
وهذا ما كتب البديع ارتجالاً: بسم الله الرحمن الرحيم: الله شاء أن المحاضر صدور بها وتملأ المنابر، ظهور لها وتفرع الدفاتر، وجوه بها وتمشق المحابر، بطون لها ترشق آثاراً، كانت فيه، آمالنا مقتضى على أياديه، في تأييده الله أدام الأمير جرى، وإذا المسلمين ظهور عن الثقل هذا ويرفع الدين، أهل عن الكل هذا يحط أن في إليه نتضرع، ونحن واقفة، والتجارات زائفة، والنقود صيارفة، أجمع الناس صار فقد كريماً نظراً إلينا لينظر شيمه، مصاب وانتجعنا كرمه، بارقة وشمنا هممه، على آمالنا رقاب وعلقنا أحوالنا، وجوه له وكشفنا آمالنا، وفود إليه بعثنا فقد نظره بجميل يتداركنا أن ونعماءه تأييده وأدام بقاءه الله أدام الحال الجليل الأمير رأى أن وصلى الله على النبي محمد وآله وصحبه وسلم.

فجعلت أقرؤه منكوساً، وأسرده معكوساً، والعيون تبرق وتحار. فلما فرغت من قراءتها انقطع ظهر أحد الخصمين. وقال الناس: قد عرفنا الفاضل من المفضول، ثم ملنا إلى اللغة والعروض والنحو والشعر والحفظ، فلما برد ضجر الناس وقاموا يفدونني بالأمهات، ويشتمون الفرس المنبت؛ وقام أبو بكر فغشي عليه، وقمت إليه فقلت:
يعزّ عليّ في الميدان أنّي ... قتلت مناسبي جلداً وقهرا
ولكن رمت شيئاً لم يرمه ... سواك فلم أطق يا ليث صبرا
وخرجت وقد اجتمع الناس؛ فتلقوني بالشفاه تقبيلاً، وبالأفواه تبجيلاً، وانتظروا خروجه إلى أن غابت الشمس فلم يظهر أبو بكر، حتى خفره الليل بجنوده، وخلع عليه الظلام خلع بروده.

عود إلى النوادر مع الشق
كان بمصر شريف من ولد أبي العباس يعرف بأبي جعفر الشق، شبيه بابن الجصاص في الغفلة والجد والنعمة. قال أبو القاسم بن محمد التنوخي: بعثني أبي إليه من قرية تعرف بتلا يستقرضه عشرة أرداب قمحاً وثلاثين زوج بقر، وكتب معي بذلك رقعة؛ فأتيت إليه وسلمت عليه ودفعت إليه الرقعة. فقال: ذكرت أباك بخير وحرس وأسعده، فهو صاحبي وصديقي وخليطي، وأين هو الآن ؟ قلت: بقرية تلا أعز الله سيدي الشريف. قال: نعم ! حفظه الله ه بالفسطاط معنا؛ وقد انقطع عنا كذا، ما كنت أظنه إلا غائباً. قلت: لا يا سيدي هو بتلا. قال: فما لك ما قلت لي ؟ فما كان سبيله أن يؤنسني برقعة من قبله. قلت: يا سيدي، قد دفعت إليك رقعته. قال: وأين هي ؟ قلت: تحت البساط، فأخذها وقرأها وقال: قل لي الآن؛ كان لك أخ أعرفه حار الرأس حاد الذهن، يحسن النحو والعروض والشعر، فما فعل الله به ؟ قلت: أنا هو أعزك الله. قال: كبرت كذا، وعهدي بك تأتيني معه وأنت بزقة مخطة لعقة قردلاش. قلت: نعم! أيد الله الشريف. قال: وما الذي جئت به ؟ قلت له: والدي بعثني إليك برقعة يسألك فيها قرض عشرة أرادب قمحاً وثلاثين زوج بقر. قال: وهو الآن بالفسطاط ؟ قلت: لا يا سيدي هو بتلا. قال: نعم ! وإنما ذاك الفتى أخوك ؟ قلت: لا، أنا هو، فهو يراجعني الكلام، وقد ضجرت من شدة غفلته وكثرة نسيانه لما أقول له، حتى أقبل كاتبه أبو الحسين، فقال: سل هذا الفت ما أراد. فسألني فعرفته فأخبره فقال له: نفذ له حاجته، فوقع لي الكتاب بما أراد. وقال: تلقاني للقبض بالديوان، فشكرت الشريف ونهضت.
فقال: اصبر يا بني فقد حضر طعامنا. وقدم الطعام وفيه حصرمية غير محكمة، فرفع يده وقال: مثل مطبخي يكون فيه مثل هذه ! علي بالطباخ، فأتى، فقال له: ما هذا العمل ؟ فقال: يا سيدي؛ إنما أنا صانعٌ وعلى قدر ما أعطى أعمل، وقد سألت المنفق يشتري لي ما أحتاج إليه فتأخر عني فعملت على غير تمكن؛ فجاء التقصير كما ترى.
فقال: علي بالمنفق فأحضر. فقال: مالي قليل ؟ قال: لا يا سيدي، بل عندك نعم واسعة. قال: فما لك تضايقنا في النفقة ولا توسع كما وسع الله علينا ؟ قال: يا سيدي، إنما أنفق ما أعطى، وقد سألت الجهبذ أن يدفع لي فتأخر عني. فقال: علي بالجهبذ فأتي به. فقال: ما لك لم تدفع للمنفق شيئاً ؟ قال: لم يوقع لي الكاتب. فقال للكاتب: لم لم تدفع إليه شيئاً ؟ فتلعثم في الكلام ولم يكن عنده جواب. فقال للكاتب: قف ها هنا فوقف، ووقف خلفه الجهبذ، ووقف خلف الجهبذ المنفق، وخلف المنفق الطباخ. وقال: نفيت من العباس إن لم يصفع كل واحد منكم من يليه بأكثر ما يقدر عليه، فتصافعوا.
قال: فخرجت وأنا متعجب من غباوته ودقته في هذا الحكم.
إذا ذهب الحمار بأم عمرو
ودخل عليه كاتبه أبو الحسين فوجده يبكي بكاءً شديداً، ويقول: واإنقصام ظهراه، واهلاكاه ! فقلت: ما للشريف لا أبكى الله عينه ؟ فقال: ماتت الكبيرة يريد أمه وكان باراً بها. فقلت: ماتت ؟ قال: نعم ! فشققت جيبي وأظهرت من الجزع ما يجب لمثلي. ثم إني أنكرت الحال إذ لم أجد لذلك دليلاً، لا أحد يعزيه، ولا في الدار حركة؛ فبقيت حائراً حتى أتت الخادمة. فقالت: الكبيرة تقرئك السلام، وتقول لك: إيش تأكل اليوم ؟ قال: قولي لها، ومتى أكلت قط بغير شهوتك ؟ فقلت: يا سيدي، والكبيرة في الحياة ؟ فقال: وإيش تظن أنها ماتت من حق ؟ إنما رأيت البارحة في المنام كأنها راكبة على حمار مصري تسقيه من النيل، فذكرت قول الشاعر: إذا ذهب الحمار بأم عمرو..... البيت المشهور.

لقد أنسيت أن أمك امرأة !
وقال أبو الحسين كاتبه: وأتيت إليه يوماً وقد مات والدتي فعرفته فبكى، وقال: ماتت كبيرتي ومربيتي، وهو كان أكبر منها بأربعين سنة. ثم قال لغلامه: يا بشرى، قم فجئني بعشرين ديناراً فأتاه بها. فقال: خذها فاشتر بعشرة دنانير كفناً وتصدق بخمسة دنانير على القبر، وأقبل يصرف الخمسة الباقية فيما يحتاج إليه من تجيزها. ثم قال لغلام آخر: امض أنت يا لؤلؤ إلى فلان صاحبنا لا يفوتك يغسلها، فاستحييت منه. وقلت: يا سيدي، ابعث خلفك فلانة جارة لنا تغسلها. قال: يا أبا الحسين، ما تدع عقلك في فرح ولا حزن، كأن حرمك ما هي حرمي ! كيف يدخل عليها من لا نعرفه. قلت: نعم ! تأذن لي بذلك. قال: لا والله ما يغسلها إلا فلان ! فقلت: وكيف يغسل رجل امرأة ؟ قال: وإنما أمك امرأة، والله لقد أنسيت !
خدعنا عابر الرؤيا !
وكان يوماً عند أبي بكر المادراني ثم خرج وهو طيب الخلق، فاجتاز بابن زنبور فسمع خفق أوتار وغناء في داخل الدار، فوقف يسمع؛ فرآه غلام لابن زنبور فدخل فأعلم مولاه فخرج حافياً. وقال: يا مولاي الشريف، تشرفني بالدخول ! قال: نعم، فدخل فقدم له طعاماً فأكل وشرب ثلاثة أقداح وغنى ثلاثة أصوات وانصرف، فنام ليلته فلما أصبح قال: يا بشرى؛ جئني الساعة بأبي شامة العابر، فأتاه به فقال: رأيت البارحة كأني خرجت من دار إخواني فاجتزت بدار حسنة، فسمعت خفق العيدان، وغناء القيان، فخرج إلي صاحب الدار، فأدخلني فأفضيت إلى بستان في الساحة، أمامه نهر جليل، في صدره شاذروان، وقد فرش المجلس بأنواع الديباج المثقل، وضربت ستارة فيها غرائب الصور وعجائب الصنائع، وفيها قيان بأيديهن العيدان وهن يغنين أحسن الأغاني؛ فقدم لي خوان عليه من كل الألوان فأكلت وشرب وغنيت وانصرفت.
ففسر له الرؤيا على ما يسره؛ فأمر له بخمسة دنانير، ثم مر بعد أيام بابن زنبور وهو جالس على باب داره. فقال له: يا سيدي الشريف، ما تشرفني بعودة. قال: إذا ماذا ؟ قال: تثني إلى عادة حضورك. قال: ومتى تقدم إلى ذلك ؟ قال: ليلة كذا. قال: وإنما خدعنا العابر وأخذ متاعنا بالباطل ! امضوا إليه وردوا الخمسة دنانير منه؛ ثم فكر ساعة، وقال: دعوه لعله أنفقها وهو فقير !
تشتمني غائباً وحاضراً
وشرب مرةً أخرى عند ابن زنبور الكاتب ومعه ابن المادراني، وحضر القيان فغنين أطيب غناء؛ فقام الشريف إلى قضاء الحاجة، فأتت دابة ابن المادراني فانصرف، والشريف في الخلاء، فقضى حاجته وعاد إلى موضعه، وكان ابن زنبور لما انصرف أبو بكر رجع في دسته، فالتفت إليه الشريف، وقال: يا أبا بكر؛ هذا الكلب ابن زنبور عنده مثل هذا السماع الطيب، ولا يمتعنا به كل وقت إنما يدعونا من مدة إلى مدة. فقال له ابن زنبور: هو على قدر ما يتفق له من الفراغ وهو مشتغل مع سلطانه في أكثر أيامه. قال: لا والله ! ما هو إلا كلب تجلب فاعل صانع. فقال له: أعز الله الشريف؛ أبو بكر انصرف وأنا ابن زنبور ! فقال له: اعذرني والله ما ظننتك إلا ابن المادراني ؟ فقال: أراك تشتمني غائباً وحاضراً !
أنا أبكر إليك
وقال له بعض أصحاب الإخشيد: أحب أن تبكر إلي بالغداة في حاجة للأمير، أيده الله، وذكر الحاجة. فقال: أنا آتيك أول الناس كلهم، فمضى وأكل وشرب أقداحاً، ونام القائلة فاستيقظ بالعشي، فقام مذعوراً؛ فلبس ثيابه، وركب إلى الرئيس؛ فاستأذن عليه فدخل، وقال: اعذرني أعزك الله فقد ضربني النوم، والله ما صليت الصبح من السرعة، ولقد آثرت المجيء إليك عليها، وأنا أستغفر الله عليها؛ فضحك حتى استلقى. وقال له: قد احتجنا إلى تأخير الأمر إلى الغد إن شاء الله. قال: فأنا أبكر إليك على كل حال، وانصرف.
من ملح الأعراب
قال بعض الرواة: خرجنا نريد البصرة فنزلنا على ماء لبني سعد، فإذا أعرابية نائمة فأنبهناها للصلاة؛ فأتت الماء فوجدته بارداً فتوجهت إلى القبلة قاعدة ولم تمس الماء، فكبرت ثم قالت: اللهم قمت وأنا عجلى، وصليت وأنا كلى؛ فاغفر لي عدد الثرى. قال: فعجبنا وقلنا: ما تجوز لك الصلاة وما هذه بقراءة ! قالت: والله إن هذه لصلاتي منذ أربعين سنة.

وقام أعرابي وقد حضرت الصلاة فقال: حي على العمل الصالح، قد قامت بالفلاح. ثم تقدم فكبر. وقال: اللهم احفظ لي حسبي ونسبي، واردد علي ضالتي، واحفظ هملي، والسلام عليكم.
وصلت أعرابية في شهر رمضان فقرأ الإمام السجدة فسجد وسجدت الناس؛ فخرجت تحضر وتنادي، صعق الناس ورب الكعبة، وقامت القيامة ! وقام أعرابي يصلي وحلفه قوم جلوس، فقال: الله أكبر ! أفلح من هب إلى صلاته، وأخرج الواجب من زكاته، وأطعم المسكين من نخلاته، وحافظ على بعيره وشاته؛ فضحك القوم. فقال: أمن هينمتي ضحكتم ؟ أشهد عند الله على عمتي أنها سمعت ذلك من فيّ مسيلمة.
وقف أعرابي يسأل فقال له رجل: يا أعرابي؛ هل لك في خير مما تطلب ؟ قال: ما هو ؟ قال: أعلمك سورة من القرآن. فقال: لا والله؛ إني لأحسن ما إن عملت به لكفاني !؟ أحسن منه خمس سور، فاستقرأته فقرأ: الحمد، والنصر، والكوثر وسكت. فقلت: هذه ثلاث، فأين الاثنتان؟ قال: إني وهبتهما لابن عمي وعلمته إياهما، ولا والله لا أرجع في شيء أبداً.
دخل أعرابي الحمام فلما أحس بوهجه أنشأ يقول:
أُدخلت في بيت لهم مهندس ... قد ضربوه بالرخام الأملس
فسكّ سمعي واستطار نفسي ... وقلت في نفسي بالتوسوس
أدخلت في النار ولما أُرمس

لأعرابي في الطلاء بالنورة
وقال أعرابي في الطلاء بالنورة:
أناسٌ عليهم كسوة لا تجنّهم ... سرابيل خضر ليس فيها بنائق
يبيعهموها تاجرٌ لا يقيلهم ... ببيعهم تلك السرابيل حاذق
ولكشاجم في ذلك
وقال أبو الفتح كشاجم:
ومجرّد كالسيف أسلم نفسه ... بمجرد يكسوه ما لا ينسج
ثوباً تمزّقه الأنامل رقةً ... ويذوب من نظر العيون وينهج
فكأنه لما استقلّ بجسمه ... نصفان ذا عاجٌ وذا فيروزج
ومن نوادر الأعراب
وهب سليمان بن أبي جعفر لأعرابي كساء شامية؛ فلما أتى أهله وأبصره صبيانه تطايروا فزعاً من بين يديه، وقالوا: لقد أصابت أبانا داهية، فأنشد:
طرحت عمامتي ولبست تاجاً ... على عنقي له ذنبٌ طويل
تصايح صبيتي لمّا رأوه ... وقالوا جاء سعلاةٌ وغول
قيل لأعرابي: أتعرف أبا عمرة يريد الجوع ؟ قال: وكيف لا أعرفه وهو متربع على كبدي؟ وقيل لآخر: أتتخمون ؟ قال: وما التخمة ؟ إن كانت التي يدور منها الرأس فما تفارقنا يريد الجوع.
ومر أعرابي بمرآة ملقاة في مزبلة، فنظر وجهه فيها، فإذا هو سمج بغيض، فرمى بها وقال: ما طرحك أهلك من خير.
ونظر مزيد وجهه في المرآة فرآه قبيحاً. فقال: الحمد لله الذي لم يحمد على المكروه سواه.
والشيء يذكر بما قاربه.
من هجاء الحطيئة
رأى الحطيئة وجهه في بئر فقال:
أرى لي وجهاً قبّح الّله خلقه ... فقبّح من وجهٍ وقبّح حامله
ولهذا خبر؛ ذكرت الرواة: أن الزبرقان بن بدر استعدى على الحطيئة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: هجاني بقوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي
فقال عمر: ما أرى هذا هجاءً؛ وكان أعلم بذلك من كل أحد، ولكنه أراد درء الحدود بالشبهات. فقال الزبرقان: هذا حسان بن ثابت. فقال: علي بحسان، فأنشده الشعر. فقال: ما هجاه يا أمير المؤمنين ولكن سلح عليه ! فأحضر الحطيئة، وقال: هات الشفرة أقطع لسانه ؟ فاستشفع فيه فحبسه، فكتب إليه من الحبس:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر
غادرت كاسبهم في قعر مظلمةٍ ... فاغفر هداك مليك الناس يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدّموك لها ... لكن لأنفسهم كانت لها الأُثر
فبكى عمر وأحضره. فقال: قد والله يا أمير المؤمنين هجوت أبي وامرأتي وأمي. قال: وكيف ذلك ؟ قال قلت لأبي:
ولقد رأيتك في المنام فسؤتني ... وأبا بنيك فساءني في المجلس
وقلت لأمي:
تنحّي فاجلسي مني بعيداً ... أراح اللّه منك العالمينا
أغربالاً إذا استودعت سرّاً ... وكانوناً على المتحدّثينا

وقلت لامرأتي:
أطوّف ما أُطوّف ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع
واطلعت في بئر فرأيت وجهي قبيحاً فقلت:
أبت شفتاي اليوم إلاّ تكلّما ... بسوءٍ فلا أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهاً قبّح اللّه خلقه ... فقبّح من وجهٍ وقبّح حامله
فتبسم عمر، وقال: فإن عفونا عنك، أتهجو بعدها أحداً ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، وعلي بذلك عهد الله ! فقال: لكأني بفتىً من قريش قد نصب لك نمرقة، فاتكأت عليها، وأقبلت تنشده في أعراض المسلمين. قال: أعوذ بالله يا أمير المؤمنين.
قال بعض الرواة: فوالله لقد رأيته عند عبيد الله بن زياد على الحال التي ذكر عمر، فقلت له: لكأن أمير المؤمنين عمر كان حاضراً لك اليوم، فتأوه. وقال: رحم الله ذلك المرء، فما أصدق فراسته !

من مليح ما قيل في المرآة
ومن مليح ما قيل في مرآة، قول كشاجم يصف مرآة أهداها:
أخت شمس الضحى في الشكل والإش ... راق غير الإعشاء للأجفان
ذات طوق مشرّف من لجينٍ ... أجريت فيه صفرة العقيان
فهو كالهالة المحيطة بالبد ... ر لستّ مضين بعد ثمان
وعلى ظهرها فوارس تلهو ... ببزاةٍ تعدو على غزلان
لك فيها إذا تأمّلت فألٌ ... حسن مخبر بنيل الأماني
لم يكن قبلها في الماء جرم ... حاصرٌ نفسة بغير أوان
هي شمسٌ فإن مثالك يوماً ... لاح فيها فأنتما شمسان
فالقها منك بالّذي ما رآه ... خائفٌ فانثنى بغير أمان
وقال ابن المعتز:
مبيّنتي لي كلّما رمت نظرةً ... وناصحتي مع فقد كلّ صديق
يقابلني منها الذي لا عدمته ... بلجّة ماءٍ وهو غير غريق
أشار في البيت الأول إلى قول ذي الرمة وذكر ناقته:
لها أذنٌ حشرٌ وذفرى أسيلةٌ ... وخدٌّ كمرآة الغريبة أسجح
يريد أن الغريبة لا ناصح لها، فهي تجلو مرآتها وتحافظ عليها.
ابن يونس يصف غلاما
ً
وقال أبو الحسن بن يونس المصري يصف غلاماً:
يجري النسيم على غلالة خدّه ... وأرقّ منه ما يمرّ عليه
ناولته المرآة ينظر وجهه ... فعكست فتنة ناظريه إليه
وأهدى بعض الكتاب إلى رئيسه مرآة؛ فقال: من أين وقع اختيارك عليها ؟ قال: لتذكرني بها كلما نظرت إلى وجهك الحسن.
بين سقراط وامرأته
وقالت امرأة سقراط له: ما أقبح وجهك ! قال: لولا أنك من المرايا الصدئة لتبين لك حسن وجهي.
وكانت امرأته كثيرة الأذى له؛ أقبلت يوماً تشتمه وهو ملح ينظر في كتاب ولا يلتفت إليها، وهي تغسل ثوباً، فأخذت الغسالة وأراقتها عليه. فقال: ما زلت تبرقين وترعدين حتى أمطرت.
ولما مضي به ليقتل أقبلت تبكي وتصيح: وامظلوماه. فقال: أكان يسرك أن أقتل ظالماً ؟ ومر هو وغيره من الحكماء بامرأة مصلوبة، فقال: ليت يثمر لنا مثل هذا الثمر.
من ملح أبي العيناء
سرق حمر أبي العيناء فتخلف عن أبي الصقر. فقال له: ما خلفك عنا يا أبا عبد الله ؟ قال: سرق حماري. قال: وكيف سرق ؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك ! قال: ما منعك أن تأتينا على غيره. قال: أقعدني عن الشراء قلة ذات يساري، وعن الكراء دالة المكاري، وعن الإعارة منة العواري.
وقيل له: ما بقي أحد يحب أن يلقى، قال: إلا في بئر !
الأنوف الكبيرة
وذكر له ولد عيسى بن موسى، وكانت أنوفهم كباراً معوجة فقال: كأن أنوفهم قبور نصبت على غير القبلة.
ونظر مخنث رجلاً كبير الأنف فيه شعر. فقال: كأن أنفه كنيف مملوء شسوعاً.
قال أبو حاتم السجستاني: قدم علينا أعرابي كأن أنفه كوز في عظمه، فضحكنا منه. فقال: أتضحكون من أنفي ؟ وأنا ولله ما اسمي في قومي إلا الأفطس.
وقال محمد بن عبد الملك الزيات في عيسى بن زينب:
إنّ عيسى أنف أنفه ... أنفه ضعفٌ لضعفه
لو تراه وهو في السر ... ج وقد مال بعطفه
لحسبت الأنف في السر ... ج وعيسى مثل ردفه
رجع إلى ملح أبي العيناء
قال أبو العيناء لابنه وهو مريض: أي شيء تشتهي ؟ قال: اليتم.

وكان في مجلس إسماعيل بن إسحاق القاضي، فدخل رجل ومشى على رجله فصاح؛ فقال: بسم الله ! قال: القصاب يذبح ويقول: بسم الله.
وكان يوماً على بابه فمر به رجل فسلم عليه وقام يمشي معه. فقال: لا تعن يا أبا عبد الله. فقال: ما عنى من أبعدك عن داره ! وقال له المتوكل: لا تكثر الوقيعة في الناس. قال: إن لي في بصري لشغلاً. قال: ذاك أشد لحنقك على أهل العافية.
وقال له المتوكل يوماً: هل رأيت طالبياً قط حسن الوجه ؟ قال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت أحداً يسأل أعمى عن هذا ! قال: لم تكن ضريراً فيما سلف، وإنما سألتك عما تقدم. قال: نعم ! رأيت ببغداد منذ ثلاثين سنة فتى ما رأيت أجمل منه، ولا ألطف شمائل. فقال المتوكل: نجده كان مؤاجراً وكنت تقود عليه. فقال أبو العيناء: معاذ الله يا أمير المؤمنين أتراني أترك موالي، وأقود على الغرباء ! فقال له المتوكل: اسكت يا مأبون. فقال له: مولى القوم منهم.
وكان ولاء أبي العيناء لأبي العباس، فقال المتوكل: قاتله الله ! أردت أن أشتفي منه فاشتفى مني.
وقال له مرة: كيف أصبحت يا أبا عبد الله ؟ قال: في داء يتمناه الناس.
قيل له: وكم سنك ؟ قال: قبضة. يريد ثلاثاً وتسعين سنة.
ويقال: إن جده الأكبر لقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأساء مخاطبته، فدعا عليه وعلى ولده بالعمى، فكل من عمي منهم فهو صحيح النسب. وكان قبل العمى أحول.
قال: ذكرت لبعض القينات فاستظرفتني واستحسنتني على السماع؛ فلما رأتني استقبحتني فقلت لها:
وشاطرة لما رأتني تنكّرت ... وقالت قبيح أحولٌ ما له جسم
فإن تنكري مني احولالاً فإنني ... أريبٌ أديب لا غبيٌّ ولا فدم
فقالت: أنا لم أردك لأوليك ديوان الزمام.

أبو العيناء مع المتوكل
وهذا مجلس له مع المتوكل من طريق الصولي، وله مجالس يدخل الرواة بعضها في بعض. قال الصولي: حدثني أبو العيناء قال: أدخلت على المتوكل، فدعوت له وكلمته فاستحسن كلامي، وقال: بلغني أن فيك بذاء. قلت: يا أمير المؤمنين؛ إن يكن الشر الذي بلغك عني ذكر المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فقد زكى الله تعالى وذم؛ فقال: نعم العبد إنه أواب. وقال: هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم. وقال الشاعر:
إذا أنا لم أمدح على الخير أهله ... ولم أذمم الجبس اللئيم المذمّما
ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه ... وشقّ لي اللّه المسامع والفما
وإن كان الشر الذي بلغك عني كفعل العقرب الذي تلدغ النبي والذمي بطبع لا بتمييز؛ فقد صان الله عبدك عن ذلك. قال: بلغني أنك رافضي. قال: وكيف أكون رافضياً وبلدي البصرة، ومنشئي في مسجد جامعها، وأستاذي الأصمعي. وليس يخلو القوم إن كانوا أرادوا ديناً أو دنيا، فإن كانوا أرادوا الدين فقد أجمع المسلمون على تقديم من أخروا وإيمان من كفروا؛ وإن كانوا أرادوا الدنيا فأنت وآباؤك أمراء لا دين إلا بكم، ولا دنيا إلا معكم. قال: فكيف ترى داري هذه؟ قال: رأيت الناس بنوا دارهم في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك. قال: فما تقول في عبيد الله بن يحيى ؟ قال: نعم العبد لله ولك، مقسم بين طاعته وخدمتك، يؤثر رضاك على كل فائدة، وما عاد بصلاح ملكك على كل لذة. قال: قد أردتك لمجالستي. قال: أنا رجل محجوب وقد تقدم هذا قال: فوصلني بعشرة آلاف درهم.
وكان نجاح بن سلمة قد ضمن الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك بمال عظيم للمتوكل؛ فاحتال عبيد الله بن يحيى حتى يضمناه بذلك وعاد عليه الأمر، ثم اغتال موسى بن عبد الملك فقتله، فبلغ الأمر المتوكل، فأكبره وهم بالإيقاع بموسى، فتلطف عبيد الله بن يحيى وعمه الفتح بن خاقان حتى سكن غضبه، واتفق ذلك في ولادة المعتز فاشتغل باللهو والسرور بذلك، فدخل أبو العيناء بعد ذلك على المتوكل، وكان واجداً على موسى بن عبد الملك ؟ فقال: ما تقول في نجاح بن سلمة ؟ قال: ما قاله الله عز وجل: فوكزه موسى فقضى عليه. واتصل بذلك بموسى فلقيه عبيد الله بن يحيى. فقال: أيها الوزير، أردت قتلي فلم تجد حيلةً إلا إدخال أبي العيناء على أمير المؤمنين مع عداوته لي؛ فعاتب عبيد الله أبا العيناء على ذلك فقال: ما استعذبت الوقيعة فيه حتى ذممت سريرته فيك، فأمسك عنه.

ثم دخل بعد ذلك على المتوكل. فقال له: كيف كنت بعدي ؟ فقال: في أحوال مختلفة خيرها رؤيتك، وشرها غيبتك. فقال: قد والله اشتقتك. قال: إنما يشتاق العبد ربه؛ لأنه يعتذر عليه لقاء مولاه، وأما السيد فمتى أراد عبده دعاه. فقال له: من أسخى من رأيت ؟ قال ابن أبي دواد. فقال له المتوكل: تأتي إلى رجل قد رفضته فتنسبه إلى السخاء. قال: إن الصدق يا أمير المؤمنين ليس في موضع أنفق منه في مجلسك، وإن الناس يغلطون فيمن ينسبونه إلى الجود؛ لأن البرامكة منسوب إلى الرشيد، وجود الحسن والفضل ابني سهل منسوب إلى المأمون، وجود ابن أبي دواد منسوب إلى المعتصم، وإذا نسبت الناس الفتح بن خاقان وعبيد الله بن يحيى إلى السخاء فذاك سخاؤك يا أمير المؤمنين. قال: صدقت ! فمن أبخل من رأيت ؟ قال: موسى بن عبد الملك. قال: وما رأيت من بخله ؟ قال: رأيته يحرم القريب كما يحرم البعيد، ويعتذر من الإحسان كما يعتذر من الإساءة. قال: قد وقعت فيه عندي مرتين، وما أحب ذلك لك؛ فالقه واعتذر إليه، ولا يعلم أني وجهت بك. قال: يا أمير المؤمنين؛ تستكتمني بحضرة ألف. قال: لن تخاف. قال: علي الاحتراس من الخوف. وسار إلى موسى، فاعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه وافترقا عن صلح، فلقيه بعد أيام بالجعفري فقال له: يا أبا عبد الله؛ قد اصطلحنا، فما لك لا تأتينا ؟ قال: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس. قال موسى: ما أرانا إلا كما كنا.
وقال له المتوكل: إبراهيم بن نوح النصراني واجد عليك. فقال: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، وقال له: إن جماعة الكتاب يلومونك. فقال:
إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً عليّ لئامها

ومن نوادره
ووقف به رجل من العامة فأحس به. فقال: من هذا ؟ قال: رجل من بني آدم، قال: مرحباً بك، أطال الله بقاءك، وبقيت في الدنيا، ما أظن هذا النسل إلا قد انقطع.
وزحمه رجل على حمار بالجسر، فضرب بيده على أذن الحمار. وقال: يا إنسان، قل للحمار الذي فوقك يقول: الطريق ! وسئل أبو العيناء عن مالك بن طوق فقال: لو كان في بني إسرائيل ونزل ذبح البقرة ما ذبح غيره. قيل: فأخوه عمر ؟ قال: كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. قيل: فما تقول في محمد بن مكرم والعباس بن رستم ؟ قال: هما الخمر والميسر إثمهما أكبر من نفعهما.
وقال له ابن مكرم: إن ابن الكلبي تعجبه الرائحة الخبيثة، قال: يا سيدي؛ لو وجدك لترشفك.
ودعا ضريراً يعشيه فلم يدع شيئاً إلا أكله. فقال له: يا هذا؛ دعوتك رحمة، فصيرتني رحمة.
وقدم إليه أبو عيسى بن المتوكل سكباجة، فجعل لا تقع يده إلا على عظم. فقال: جعلت فداك، هذه قدر أو قبر ؟
قصيدة لابن طباطبا في دعوة
وهذا كلما ذكر ابن طباطبا العلوي وقد دعاه بعض إخوانه فتأخر عنه الطعام إلى أن اشتد به الجوع، ثم قدم إليه جدياً هزيلاً فقال:
يا دعوة مغبّرةً قاتمة ... كأنها من سفرة قادمه
قد قدّموا فيها مسيحيةً ... أضحت على إسلامها نادمه
وبعد شطرنجية لم تزل ... أيدٍ وأيدٍ حولها حائمه
فلم نزل في لعبها ساعةً ... ثم رفعناها على قائمه
وكرر الأرز، فقال:
أرزٌّ جاء يتبعه أرزّ ... هو الإيطاء يتّخذ اتخاذا
فإيطاء القريض كما علمنا ... وإيطاء الطعام يكون هذا
فدعا الرجل جماعةً من الشطرنجيين، وقال: تعالوا حتى تروا الشطرنجية، فكتب إليه:
ورقعةٍ كنّا رفعناها ... نشرتها لمّا طويناها
أعددت للعاب شطرنجها ... لو أمكن القمر قمرناها
واللّه لو أحضرتها زيريا ... ما ميّز الفرزان والشّاها
الإيطاء
والإيطاء تكرار القوافي بتكرار معانيها، كقول امرىء القيس:
عظيم طويل مطمئنٌّ كأنّه ... بأسفل ذي ماوان سرحة مرقب
وليس بإيطاء قول الأمير أبي الفضل عبيد الله الميكالي:
وكل غنىً يتيه به غنيٌّ ... فمرتجع بموتٍ أو زوال
وهب جدّي طوى لي الأرض طرّاً ... أليس الموت يزوي ما زوى لي
وقوله:
أخوك من إن كنت في ... بؤسى ونعمى عادلك

وإن بداك منعماً ... بالبرّ منه عادلك
وقوله:
جامل الناس في المزا ... ح وخلّ المزاحمه
وتفاصح وقل لمن ... يتعاطى المزاح مه ؟

الطعام والموائد
وعلى ذكر الطعام. قال الجماز: جاءنا فلان بمائدة كأنها زمن البرامكة على العفاة؛ ثم جاءنا بشراب كأنه دمعة اليتيم على باب القاضي:
قد جنّ أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائده
وقال ابن الرومي يصف طعاماً أكله عند أبي بكر الباقطاني:
وسميطة صفراء ديناريّة ... ثمناً ولوناً زفّها لك حزور
عظمت فكادت أن تكون أوزّة ... وهوت فكاد إهابها يتفطّر
ظلنا نقشّر جلدها عن لحمها ... وكأنّ تبراً عن لجين يقشر
وتقدّمتها قبل ذاك ثرائدٌ ... مثل الرياض بمثلهن يصدّر
ومرقّقات كلّهنّ مزخرفٌ ... بالبيض منها ملبس ومدثّر
وأتت قطائف بعد ذاك لطائفٌ ... ترضى اللهاة بها ويرضى الحنجر
ضحك الوجوه من الطبرزد فوقها ... دمع العيون من الدهان يعصّر
ومن ملح ما قيل في القطائف، قول علي بن يحيى بن منصور بن المنجم:
قطائف قد حشيت باللّوز ... والسكر الماذيّ حشو الموز
تسبح في آذيّ دهن الجوز ... سررت لمّا وقعت في حوزي
سرور عبّاس بقرب فوز
ولم يقل أحد في اللوزينج أحسن من قول ابن الرومي:
لا يخطئني منك لوزينجٌ ... إذا بدا أعجب أو عجّبا
لم تغلق الشهوة أبوابها ... إلا أبت زلفاه أن يحجبا
لو شاء أن يذهب في صخرة ... لسهّل الطيّب له مذهبا
يدور بالنّفخة في جامه ... دوراً ترى الدّهن له لولبا
عاون فيه منظرٌ مخبراً ... مستحسنٌ ساعد مستعذبا
مستكثف الحشو ولكنّه ... أرقّ قشراً من نسيم الصّبا
كأنما قدّت جلابيبه ... من أعين القطر إذا قبّبا
يخال من رقة خرشائه ... شارك في الأجنحة الجندبا
لو أنه صوّر من خبزه ... ثغرٌ لكان الواضح الأشنبا
من كل بيضاء يودّ الفتى ... أن يجعل الكفّ لها مركبا
مدهونة زرقاء مدفونة ... شهباء تحكي الأزرق الأشهبا
ملذّ عين وفم حسّنت ... وطيّبت حتى صبا من صبا
ذيق له اللّوز فما مرّة ... مرّت على الذائق إلاّ أبى
وانتقد السكّر نقّاده ... وشاوروا في نقده المذهبا
فلا إذا العين رأته نبت ... ولا إذا الضرس علاه نبا
لا تنكروا الإدلال من وامق ... وجّه تلقاءكم المطلبا
هذه الأبيات يقولها في قصيدة طويلة يمدح بها أبا العباس أحمد بن محمد بن عبيد الله بن بشر المرثدي ويهنيه بابن له ولد، أولها:
بدرٌ وشمس ولدا كوكبا ... أقسمت باللّه لقد أنجبا
وقال أبو عثمان الناجم: دخلت على أبي الحسن وهو يعمل هذه القصيدة؛ فقلت له: لو تفاءلت لأبي العباس بسبعة من الولد؛ لأن عباس يجيء منكوساً سابع، فلو تصور ذلك لجاء المعنى ظريفاً؛ فقال بديهاً:
وقد تفاءلت له زاجراً ... كنيته لا زاجراً ثعلبا
إنّي تأمّلت له كنيةً ... إذا بدا مقلوبها أعجبا
يصوغها العكس أبا سابع ... وذاك فأل لم يعد معطبا
وقد أتاه منهم واحدٌ ... فلننتظرهم ستّة غيّبا
في مدةٍ تغمرها نعمة ... يجعلها اللّه له ترتبا
حتى تراه جالساً بينهم ... أجلّ من رضوى ومن كبكبا
كالبدر وافى الأرض من نوره ... بين نجوم سبعة فاختبا
وليشكر الناجم عن هذه ... فإنّها من بعض ما بوّبا
أسدى وألحمت فتىً لم أزل ... أشكر ما أسدى وما سبّبا
وقال يصف الرؤوس والرغفان:
ما إن رأينا من طعامٍ حاضر ... نعتدّه لفجاءة الزوّار

كمهيئين من الطعام أصبحا ... شبهاً من الأبرار والفجّار
روس وأرغفة ضخام فخمة ... قد أخرجت من جاحم فوّار
كوجوه أهل الجنة ابتسمت لنا ... مقرونة بوجوه أهل النار
ومن تشابيهه العقم:
ما أنس لا أنس خبّازاً مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللّمع بالبصر
ما بين رؤيتها في كفّه كرةً ... وبين رؤيته قوراء كالقمر
إلاّ بمقدار ما تنداح دائرةٌ ... في صحفة الماء يرمى فيه بالحجر
وكان ابن الرومي منهوماً في المآكل وهي التي قتلته، وكان معجباً بالسمك، فوعده أبو العباس المرثدي أن يبعث إليه كل يوم بوظيفة لا يقطعها، فبعث إليه منه يوم سبت ثم قطعه، فكتب إليه:
ما لحيتاننا جفتنا وأنّى ... أخلف الزائرون منتظريهم
جاء في السبت زورهم فأتينا ... من حفاظٍ عليه ما يكفيهم
وجعلناه يوم عيد عظيمٍ ... فكأنّا اليهود أو نحكيهم
وأرهم مصمّمين على الهج ... ر فلم يسخطون من يرضيهم
قد سبتنا فما أتتنا وكانوا ... يوم لا يسبتون لا تأتيهم
فاتصل ذلك بالناجم فكتب إليه:
أبا حسنٍ أنت من لا تزا ... ل يحمد في الفضل رجحانه
فكم تحسن الظنّ بالمرثديّ ... وقد قلّل اللّه إحسانه
ألم تدر أن الفتى كالسراب م ... إذا وعد الخير إخوانه
وبحر السراب يفوت الطلوب م ... فقل في طلابك حيتانه
وخرج ابن الرومي مع بعض إخوانه في حداثته إلى بعض المتنزهات، وقصدوا كرماً رازقياً، فشربوا هناك عامة يومهم، وكانوا يتهمونه في الشعر. فقالوا: إن كان ما تنشدنا لك فقل في هذا شيئاً. فقال: لا تريموا حتى أقول، ثم أنشد بديهاً:
ورازقيّ مخطف الخصور ... كأنّه مخازن البلّور
قد ضمّنت مسكاً إلى الشطور ... وفي الأعالي ماء وردٍ جوري
لم يبق من وهج الحرور ... إلاّ ضياء في ظروف نور
لو أنه يبقى على الدهور ... قرّط آذان الحسان الحور
بلا مزيد وبلا شذور ... له مذاق العسل المشور
وبرد مسّ الخصر المقرور ... ونكهة المسك مع الكافور
ورقة الماء على الصدور ... باكرته والطير في الوكور
بفتيةٍ من ولد المنصور ... أملأُ للعين من البدور
حتى أتينا خيمة الناطور ... قبل ارتفاع الشمس للذرور
فانحطّ كالطاوي من الصقور ... بطاعة الراغب لا المقهور
والحرّ عبد الحلب المشطور ... حتى أتانا بضروع حور
مملوءة من عسلٍ محصور ... والطّلّ مثل اللؤلؤ المنثور
ينساب مثل الحية المذعور ... بين سماطي شجرٍ مسطور
ناهيك للعنقود من ظهور ... فنيلت الأوطار في سرور
وكل ما يقضى من الأمور ... تعلّةٌ من يومنا المنظور
ومتعةٌ من متع الغرور

استوت بديهته وفكرته
قال الناجم: جلست معه على باب داره وقد أبل من علة، فمر بنا الحاجب، فقال: قوما عندي نتحدث اليوم، وعندي مصوص وأشياء لطيفة لا تضرك؛ وأشرب مع أبي عثمان بحضرتك ونتآنس يومنا.
فقال: إنا نأتيك الساعة وأبو عثمان فامض ونحن في أثرك؛ فمضى ولحقناه فحجب عنا، فانصرفنا وأبو الحسن مغضب، فدخلت على أبي الحسن في ذلك اليوم، فوجدت بين يديه قصيدة طويلة جداً أولها:
نجذاك يابن الحاجب الحاجب ... وأين ينجو منّي الهارب
فعجبت من سرعة عمله. وقلت: أعزك الله؛ متى عملتها ؟ قال: الساعة. قلت: وأين مسودتها ؟ قال: هي هذه. قلت: وما فيها حرف مصلح. قال: قد استوت بديهتي وفكرتي، فما أعمل شيئاً فأكاد أصلحه.
سبب موته

وكان سبب موته أنه كان منقطعاً إلى القاسم بن عبيد الله بن وهب؛ وكان القاسم مغرماً بشعرهن مستظرفاً له، محسناً إليه. فقال له أبوه: قد أردت أن أرى من روميك هذا ؟ فأحضره وحضر أبوه، فلما انفض المجلس قال له: كيف رأيته ؟ قال: أرى ما يسوءني ولا يسرني، أرى رجلاً صحيح الشعر، سقيم العقل، ومثل هذا لا تؤمن بوادره؛ وأقل غضبة يغضبها تبقي في أعراضنا ما لا يغسله الدهر، والرأي إبعاده، قال: وكيف ذلك بعد اتصاله ؟ أخاف أن يظهر ما أضمره، قال: يا بني؛ اتبع فيه قول أبي حية:
يقلن لها في السرّ هديك لا يرح ... صحيحاً وإلاّ تقتليه فألمم
فأخبر القاسم بقول أبيه ابن فراس، وكان أشد الناس عداوةً لابن الرومي. فقال: إنما أشار عليك باغتياله، وأنا أكفيك أمره، فسم له لوزينجة وقدم له الجام وهي في أعلاه، فلما تناولها أحس بالموت ونهض قائماً. فقال له: إلى أين يا أبا الحسن ؟ قال: إلى حيث أرسلتني. قال: اصرفوه، فقد غلب عليه السكر؛ فخرج وهو لما به؛ فلقي الناجم فقال:
أبا عثمان أنت عميد قومك ... وجودك للعشيرة دون لؤمك
تمتّع من أخيك فما أراه ... يراك ولا تراه بعد يومك
وكان شديد التغير، سريع الانقلاب، ضيق الصدر، قليل الصبر، مفرط الطيرة غالياً فيها، وكان عظيم التخوف، كثير التجسس؛ يراه من يلقاه كالمتوجس المذعور.

شدة خوفه
ذكر بعض أصحابه قال: كنت أسايره ونحن سائرون، فلم أنشب أن تراءيته قد ترجل عن دابته بسرعة، ولجأ إلى بعض الدكاكين وأسلم الدابة؛ فأمرت من أمسكها وأتيت إليه فقلت: ما بالك يا أبا الحسن ؟ وإذا هو يضطرب اضطراباً شديداً؛ فأمسكت عنه حتى سكن وقام فركب الدابة. فقلت له: ما الذي هاجك ؟ قال: أما ترى ذاك ؟ وإذا برجل من العامة يحمل ذوبينا وهي عصا في طرفها حديد بشعبتين. فقلت: أراه. فقال: أوما ترى البركار الذي بيده، ما يؤمنني أن يلويه على عنقي فيفتله.
وحكي عنه: أنه سأل الموفق أو غيره في قدح محكم رآه فأعجبه فوهبه إياه. قال بعض إخوانه: وكنت معه، وقد خرج من دار السلطان، فوضعه على رأسه ثم أزاله بسرعة ثم وضعه على ركبته، ثم رمى به فكسره. فقلت له: ما هذا الخاطر الفاسد ؟ قال: وصل إلي هذا القدح وما على وجه الأرض أحب إلي منه، فوضعته على أشرف أعضائي ! ثم ذكرت قول بعض الحكماء: إن الصاعقة إذا قابلت الشيء الشفاف انحدرت إليه، فخفت أن تقع علي صاعقة فتهلكني، ثم وضعته على ركبتي، فخفت أن تصدمني دابة فينكسر فيدخل في جسمي فيكون سبب علة مزمنة، وخفت أن يكون الذي دعاني إلى طلبه ما أراده الله بي، فرأيت الراحة في كسره.
حكايات عن تطيره
وكان أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش غلام أبي العباس المبرد في أيام ابن أبي أوفى شاباً مترفاً، وأديباً مستظرفاً، وكان يعبث به فيقرع عليه الباب. فيقال له: من بالباب ؟ فيقول: قولوا لأبي الحسن: مرة بن حنظلة؛ فيتطير لقوله ويقيم أياماً لا يخرج من داره، وكان ذلك سبب هجائه إياه.
وقرع عليه الباب يوماً وقيل: إن البحتري وجه إليه من قرع عليه بابه فقال: من هذا ؟ فقال: سخطة الحي القيوم، والمهل والغسلين والزقوم، والشيطان الرجيم، وكل بلاء كان أو يكون، إلى يوم الدين؛ فأقام مدةً لم يخرج، فسأل عنه الموفق، فقيل: هو في حبس البحتري !

وتخلف أياماً عن بعض الأشراف بسبب طيرة عرضت له، فبعث إليه غلاماً جميلاً فقرع الباب. فقيل: من ؟ قال: إقبال؛ فخرج فرأى وجهاً مستحسن الصورة حسن الهيئة. فقال له: مولاي يرغب في حضورك، فمشى معه ثم توجس وبقي باهتاً مطرقاً لا ينصرف، ثم مشى قليلاً؛ فلما قارب الجسر انفتل بسرعة شديدة، ثم مضى على وجهه إلى داره، فأغلق الباب على نفسه، وكتب إلى الرجل: تخلفت أطال الله بقاءك عن حظي من لقائك، لاعدمته لي أياماً، وأنا أتقلى على جماجم الضجر، بما جرى به القدر، من كلام سمعته وأمر توقعته؛ فأتاني غلام جميل اسمه إقبال؛ فقلت: هذا حسن، فخرجت معه، ثم فكرت أن إقبالاً إذا نكس كان لا بقاء ! فقلت: هذا حسن، فخرجت معه، ثم فكرت أن إقبالاً إذا نكس كان لا بقاء ! فقلت: هذا من ذاك؛ فمشيت معه مقدماً رجلاً ومؤخراً أخرى حتى صرت بالجسر، فرأيت حبالاً مفتولة قد التوت، فصار كل واحد منها في صورة لام ألف، فقلت: هذه تحقق ما ظننت من لا بقاء بقولها: لا لا، فما حصلت في الدار، إلا بعد خوف مضي المقدار، فابسط العذر في التأخر، والسلام.
وقال علي بن إبراهيم كاتب مسرور البلخي: كنت بداري جالساً بباب الشعير على أسرة نصبت لي في صحن الدار؛ فإذا حجارة قد سقطت علي، فبادرت هارباً، وأمرت الغلام بالصعود إلى السطح والنظر إلى كل ناحية من أين تأتينا ؟ فقال لي: امرأة من دار ابن الرومي الشاعر قد أشرفت وقالت: اتقوا الله فينا، واسقونا جرةً من الماء وإلا هلكنا؛ فقد مات من عندنا عطشاً؛ فتقدمت إلى امرأة عندنا ذات عقل ومعرفة بأن تصعد إليها وتخاطبها ففعلت. وبادرت بالجرة وأتبعتها بشيء من المأكول. ثم عادت وقالت: ذكرت المرأة أن الباب مقفل عليها منذ ثلاث بسبب طيرة ابن الرومي، وأنه يلبس ثيابه كل يوم ويتعوذ، ثم يصير إلى الباب والمفتاح بيده، ثم يضع عينه على ثقب في خشب الباب، فتقع على جار له كان نازلاً بإزائه، وكان أعور يقعد كل غداة على بابه؛ فإذا رآه رجع وخلع ثيابه. وقال: لا يفتح أحد الباب. فعجبت من حديثها؛ وبعثت بخادم لي كان يعرفه فأمرته بأن يجلس بإزاء بابه، وكانت العين تميل إليه. وتقدمت إلى بعض غلماني أن يدعو الجار الأعور؛ فلما حضر عندي أدى الغلام إلى ابن الرومي رسالتي يستدعيه الحضور، فإني لجالس وعندي الأعور إذ وافى أبو حذيفة الطرسوسي ومعه برذعة المسوس صاحب المعتضد؛ ودخل ابن الرومي فلما تخطى عتبة باب الصحن عثر فانقطع شسع نعله فدخل مذعوراً، وكان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظراً يدل على تغير حاله، فدخل وهو لا يرى جاره المتطير منه. فقلت له: يا أبا الحسن، ما لك ؟ أيكون شيء في خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم ونظرك إلى وجهه الجميل ؟ فقال: قد لحقني ما رأيت من العثرة؛ لأني فكرت أن به عاهةً وهي قطع أنثييه. فقال برذعة: وشيخنا يتطير ؟ قلت: نعم ! ويفرط. قال: ومن هو؟ قلت: أبو الحسن بن الرومي. قال: الشاعر ؟ قلت: نعم ! فأقبل عليه وأنشده:
ولما رأيت الدهر يؤذن صرفه ... بتفريق ما بيني وبين الحبائب
رجعت على نفسي فوطّنتها على ... ركوب جميل الصّبر عند النوائب
ومن صحب الدنيا على جور حكمها ... فأيامه محفوفةٌ بالمصائب
فخذ خلسةً من كل يوم تعيشه ... وكن حذراً من كامنات العواقب
ودع عنك ذكر الفأل والزّجر واطّرح ... تطيّر دارٍ أو تفاؤل صاحب
فبقي ابن الرومي باهتاً؛ ولم أدر أنه شغل قلبه بحفظ ما أنشده، ثم قام أبو حذيفة وبرذعة معه، فحلف ابن الرومي ألا يتطير أبداً من هذا ولا من غيره، وأومأ إلى جاره. فقلت: وهذا الفكر أيضاً من التطير، فأمسك. وعجب من جودة الشعر ومعناه في حسن مأتاه. فقلت له: ليتنا كتبناه. فقال: اكتبه فقد حفظته، وأملاه علي.

ومن الدليل على شدة حذره وعظم تطيره
ومن الدليل على شدة حذره، وعظم تطير، قوله لأبي العباس أحمد بن محمد بن ثوابة، وقد ندبه إلى الخروج وركوب دجلة:
حضضت على حطبي لناري فلا تدع، ... لك الخير، تحذيري شرار المحاطب
ومن يلق ما لاقيت من كلّ مجتنى ... من الشوك يزهد في الثمار الأطايب
أذاقتني الأسفار ما كرّه الغنى ... إليّ وأغراني برفض المطالب

ومن نكبةٍ لاقيتها بعد نكبةٍ ... رهبت اعتساف الأرض ذات المناكب
وصبري على الإقتار أيسر محملاً ... عليّ من التغرير بعد التجارب
لقيت من البرّ التباريح بعدما ... لقيت من البحر ابيضاض الذوائب
سقيت على ريٍّ به ألف مطرةٍ ... شغفت لبغضيها بحبّ المجادب
ولم أسقها بل ساقها لمكيدتي ... تحامق دهرٍ جدّ بي كالملاعب
أبي أن يغيث الأرض حتى إذا ارتمت ... برحلي أتاها بالغيوث السواكب
سقى الأرض من أجلي فأضحت مزلّة ... تمايل صاحبها تمايل شارب
فملت إلى خانٍ مرثٍّ بناؤه ... مميل غريق الثوب لهفان لاغب
فما زلت في خوف وجوع ووحشة ... وفي سهرٍ يستغرق الليل واصب
يؤرّقني سقفٌ كأني تحته ... من الوكف تحت المدجنات الهواضب
تراه إذا ما الطين أثقل متنه ... تصرّ نواحيه صرير الجنادب
وكم خان سفرٍ خان فانقضّ فوقهم ... كما انقضّ صقر الدجن فوق الأرانب
وما زال ضاحي البرّ يضرب أهله ... بسوطي عذابٍ جامدٍ بعد ذائب
ألا ربّ نارٍ بالفضاء اصطليتها ... من الضّحّ يودي لفحها بالحواجب
فدع عنك ذكر البرّ، إنّي رأيته ... لمن خاف هول البحر شرّ المهاوب
وما زال يبغيني الحتوف موارباً ... يحوم على قتلي وغير موارب
فطوراً يغاديني بلصّ مصلّت ... وطوراً يمسّيني بورد المشارب
وأما بلاء البحر عندي فإنه ... طواني على روع مع الرّوح واقب
ولو ثاب عقلي لم أدع ذكر بعضه ... ولكنّه من هوله غير ثائب
ولم لا ولو أُلقيت فيه وصخرةً ... لوافيت منه القعر أول راسب
ولم أتعلّم قطّ من ذي سباحةٍ ... سوى الغوص، والمضعوف غير مغالب
فأيسر إشفاقي من الماء أنني ... أمرّ به في الكوز مرّ المجانب
وأخشى الرّدى منه على نفس شاربٍ ... فكيف بأمنيه على نفس راكب
أظلّ إذا هزّته ريحٌ ولألأت ... له الشمس أمواجاً طوال الغوارب
كأني أرى فيهنّ فرسان بهمة ... يليحون نحوي بالسيوف القواضب
فإن قلت لي قد يركب اليمّ طامياً ... ودجلة عند اليمّ بعض المذانب
لدجلة خبٌّ ليس لليمّ، إنها ... ترائي بحلم تحته جهل واثب
وللبحر إنذار بعرض متونه ... وما فيه من آذيّه المتراكب

من الطرائف
قيل لقينة: صوم يوم عرفة كفارة ذنوب سنة؛ فصامت إلى الظهر وأفطرت. فقيل لها: ما هذا ؟ قالت: يكفيني ستة أشهر.
قعد رجل على باب داره، فأتاه سائل يسأله. فقال له: اجلس، ثم صاح بجارية عند فقال: ادفعي إلى هذا مكوكاً من حنطة. قالت: ما بقي عندنا حنطة. قال: فأعطيه درهماً. قالت: ما بقي عندنا دراهم. قال: فأطعميه رغيفاً. قالت: وما عندنا رغيف، فالتفت إليه وقال: انصرف يابن الفاعلة. فقال السائل: سبحان الله تحرمني وتشتمني ! قال: أحببت أن تنصرف وأنت مأجور.
ورأى أعرابي الناس بمكة وكل واحد يتصدق ويعتق ما أمكنه. فقال: يا رب، أنت تعلم أنه لا مال لي، وأشهدك أن امرأتي طالق لوجهك يا أرحم الراحمين ! وكان في زمن المهدي رجل ادعى النبوة فأحضروه إلى المهدي. فقال له: ما أنت ؟ قال: نبي. قال: إلى من بعثت ؟ فقال له: ما أكثر فضولك ! إيش عليك ؟ قال: قل، وإلا أمرت بقتلك. قال: بعثت إلى أهل خراسان. قال: ولم لم تسافر إليهم ؟ قال: ما معي نفقة، فضحك منه وأمر له بنفقة، وقال: هذا قد غلبت عليه المرة.
وجاء رجل إلى أبي ضمضم يستعدي على رجل في دابة اشتراها منه، وظهر بها عيب. فقال له أبو ضمضم: وما عيبها ؟ قال: في أصل ذنبها مثل الرمانة، وفي ظهرها مثل التفاحة، وفي عجيزتها مثل الجوزة، وفي بطنها مثل الموزة، وفي حلقها مثل الأترنجة. فقال له أبو ضمضم: مر عنا يا بارد، هذه صفة بستان ليست بصفة دابة.

شرب ابن حمدون النديم مع المتوكل وبحضرته غلام مليح الوجه؛ فتأمله ابن حمدون تأملاً شديداً، وقد حمل الشراب إليه. فقال المتوكل: يابن حمدون، ما الحكم في الرجل إذا نظر إلى غلام فتى ؟ قال: أن تقطع أذنه. قال: ليحكم عليك بحكمك، فأمر أن تعرك أذنه حتى تخضر ثم تقطع، وأمر بنفيه إلى بغداد. فلقيه إسحاق بن إبراهيم الموصلي بها فسأله عن حاله، وعمن ينادم المتوكل معه. فقال: أحد ندمائه ابن عمرو البازيار؛ فسأله إسحاق عن محله من العلم والفهم. فقال له: أكثر ما يقول للخليفة؛ أبقاك الله يا أمير المؤمنين إلى يوم القيامة وبعد القيامة بشيء كثير. فقال له إسحاق: اعمل على أنه كان لك كر آذان فقطعت؛ أليس ذلك أسهل من حضور مجلس تقاسي فيه ابن عمرو البازيار.
وكان ابن حمدون أخف الناس روحاً وأحلاهم دعابةً، وكان المتوكل يستملحه. فقال يوماً: الزئبق من أين يجاء به ؟ فقال ابن حمدون: من الشيز، وأنا أعرف الناس بها. قال: قد وليتك إياها فاخرج إليها، فضاقت به الدنيا، وأنشده:
ولاية الشيز عزلٌ ... والعزل عنها ولايه
فولّني العزل عنها ... إن كنت بي ذا عنايه
فضحك المتوكل وأعفاه. وذكر الصولي أن أخاه أحمد عمل له البيتين.

بين أبي العيناء وابن الزيات
دخل أبو العيناء على محمد بن عبد الملك الزيات الوزير، فجعل لا يكلمه إلا بأطرافه. فقال: إن من حق نعمة الله عليك، لما قد أهلك له في هذه الحال التي أنت عليها، أن تجعل البسطة لأهل الحاجة إليك؛ فبقضاء الحاجات تدوم النعم.
فقال محمد: أما إني أعرفك فضولياً كثير الكلام، أوترى أن طول لسانك يمنع مع أن أؤدبك إذا زللت؛ وأمر به إلى الحبس.
فكتب إليه من الحبس: قد علمت أن الحبس لم يكن تقدم إليك، ولكنك أحببت أن تريني مقدار قدرتك علي؛ لأن كل جديد يستلذ؛ ولا بأس أن تريني من عفوك مثلما أريتنا من قدرتك، فأمر بإطلاقه.
وانقطع عنه مدةً فلقيه، فحبس محمد بن عبد الملك دابته عليه. فقال: ما لي لا أراك يا أبا عبد الله تواصلنا حسب إيجابنا لك ؟ فقال له أبو العيناء: أما المعرفة بعنايتك فمناكرة، ولكنني أحسب الذي جدد استبطاءك فراغ حبسك ممن كان فيه، فأحببت أن تغمرني فيه.
لؤم ابن الزيات
وكان محمد بن عبد الملك على علمه وأدبه ألأم الناس، فمن عجيب لؤمه أنه كان له جار في انخفاض حاله، وكان بينهما ما يكون بين الجيران من التباعد؛ فلما بلغ محمد ما بلغ شخص الرجل إلى سر من رأى، فورد بابه وهو يتغدى، فوصل إليه وهو على طعامه، فتركه قائماً لا يرفع طرفه إليه، فلما فرغ من أكله قال: ما خبرك ؟ قال: قد أصارك الله أيها الوزير إلى أجل الآمال فيك، وصرف أعناق الناس إليك، وقد علمت ما كنت تنقمه علي، وقد غير الدهر حالي؛ فوردت إليك مستقيلاً عثراتي، مستعطفاً على خلاتي.
فقال له: قد علمت هذا، فانصرف وعد إلي في غد. فولى الرجل؛ فلما صار في صحن الدار دعا به، فلما صار بين قال له: والله ما لك عندي شيء، ثم أقبل على بعض من كان بين يديه، فقال: إنما رددته وآيسته بخلاً عليه بفسحة الأمل بقية يومه.
وهذا كقول بعضهم:
إن قلت إنّك كالسحاب لكان ذا ... وصفاً لمثلك زائداً في الحال
إنّ السحاب لذو مواعد جمّةٍ ... وبخلت بالموعود والأفعال
وكان محمد بن عبد الملك واحداً في صناعته، مفرداً في براعته.
بين أبي السمراء وعبد الله بن طاهر
وكان أبو السمراء العلاء بن عاصم بن عصمة العسكري نديم عبد الله بن طاهر يأنس به، ويجاريه الشعر، فكتب إليه:
تقول لمّا جعلت أبكي ... سلوه باللّه ممّ يبكي ؟
فقلت أبكي لما أراه ... عمّا قليلٍ يكون منك
قالت فلا تخش قلت ما لي ... قلبٌ على الدهر يأتمنك
لا غرّني الدهر منك ودٌّ ... قالت ولا غرّني التبكّي
فوقع ابن طاهر في ظاهرها بديهاً:
لا أشتكي من هواك إلاّ ... إليك لو ينفع التشكي
حلفت جهد اليمين أن لا ... أزول إلاّ إليك عنك
كلفتني السعي في طريقٍ ... وعرٍ قليل الأنيس ضنك
فرحت بي في إسار قلبي ... ثم تشاغلت عند فكّي
ومن جيد شعره في جارية له توفيت:

يقول لي الخلاّن لو زرت قبرها ... فقلت: وهل غير الفؤاد له قبر
على حين لم أحدث فأجهل فقدها ... ولم أبلغ السنّ التي معها صبر
وهذا مأخوذ من قول أبي مسلم عبد الرحمن بن سلم، في فصل من كتاب كتبه إلى عبد الله بن علي عند محاربته إياه، لما خلع أبا جعفر المنصور: لأنزلنك موارد ضيقة، حتى أبدلك بالحلاوة علقماً، تمج من تمطقها دماً؛ أمنت صولتي، وقد كبرت عن صغر، وصغرت عن كبر، فأنا كما قال الأول:
وهل يخشى وعيد الناس إلاّ ... كبير السنّ والضّرع الصغير

شراب عتيق من محمد بن عبد الملك
قال ابن حمدون النديم: أهدى إلينا محمد بن عبد الملك ونحن بالبدندون شراباً عتيقاً وكتب رقعة فيها:
ما إن ترى مثلي أخاً ... أندى يداً وأدرّ جودا
أسقي الصديق ببلدةٍ ... لم يسق فيها الماء عودا
صفراء صافية كأ ... نّ على جوانبها العقودا
فإن استقلّ بشكرها ... أوجبت بالشكر المزيدا
فإذا خشيت على الصني ... عة بالتقادم أن تبيدا
أنشأت أخرى غيرها ... فتركتها غضّاً جديدا
خذها إليك كأنما ... كسيت زجاجتها فريدا
واجعل عليك بأن تقي ... م بشكرها أبداً عهودا
الملك مضطر إلى كفاية منه
وكان المعتصم أمر بأن يعطى الواثق عشرة آلاف درهم، يستعين بها على أمره ويصلح بها ما يحتاج إلى إصلاحه، فدافعه بذلك مدافعةً متصلة أحوجته إلى شكايته إلى المعتصم؛ فأنكر عليه تأخر المال. فقال: يا أمير المؤمنين، العدل أولى بك وأشبه بقولك وفعلك، ولك عدة أولاد أنت في أمرهم بين خلتين؛ إما أن تسوي بينهم في العطية فتجحف ببيت المال، وإما أن تخص بعضهم فتحيف على الباقين. فقال: قد رهنت لساني فما تصنع ؟ قال: تأمر لباقي ولدك بإقطاعات وصلات، وتطلق لهارون صدراً من المال، فأدافعه بباقيه ويتسع الأمير قليلاً، وتدبر الأمر بعد ذلك بما تراه.
فقال له: وفقك الله فما زلت أعرف الصواب في مشورتك؛ وتأدى الخبر إلى هارون، فحلف بعتق عبيده ومماليكه، وبحبس عدة خيل ووقف عدة ضياع، وصدقة مال جليل، لئن ظفر بمحمد ليقتلنه؛ وكتب اليمين بخطه وجعلها في درج وأودعها دابته.
ومرت مدة وأفضى الأمر إلى هارون، وكان ذا أنات وعقل. وكره أن يعاجله فيقول الناس بادر بشفاء غيظه؛ ثم عزم على الإيقاع به، فتقدم بأن يجمع له من وجوه الكتاب من يصلح لولاية الدواوين والوزارة فجمعوا، ودعا بواحد منهم؛ وقال له: اكتب كذا في أمر رسمه له. فاعتزل وكتب وعرض الكتاب عليه فلم يرضه حتى امتحن الجميع، فأمر حاجبه فقال: أدخل من الملك مضطر إليه: محمد ابن عبد الملك، فجيء به وهو واجم مضطرب؛ فلما وقف قال له: اكتب إلى صاحب خراسان في كذا وكذا. فأخرج من كمه نصفاً ومن خفه دواةً، وابتدأ يكتب بين يديه حتى فرغ من الكتاب، ثم أخرج خريطةً فيها حصى فأترب الكتاب وأصلحه وتقدم فناوله إياه، فوجده قد أتى على جميع ما في نفسه؛ فأعجب به جداً. وقال: اختمه فأخرج من الخريطة طيناً فوضعه عليه وتناوله فختمه وأنفذه من ساعته.
فقال هارون لخادم له: امض إلى دابتي وقل لها: توجه إلي بالدرج الفلاني؛ فمضى الخادم فجاء به، فأخرج الرقعة فدفعها إليه. فقال: يا أمير المؤمنين؛ أنا عبد من عبيدك، إن وفيت بيمينك فأنت محكم، وإن كفرت وصفحت كان أشبه بك. قال: لا والله ! ما يمنعني من الوفاء بيميني إلا النفاسة على أن يخلو الملك من مثلك، وأمر بعتق من حلف بعتقه، ووقف الضياع، وحبس الخيل، وأنفذ صدقة المال.

وقد فعل أبو شجاع فناخسرو قريباً من هذا بأبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، وذلك أنه كان كاتب بختيار بن معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي، وبين أبي شجاع وبين بختيار منافسة بالرياسة، فلما خلع الفضل بن جعفر وهو المطيع لله، وأقيم ابنه أبو بكر عبد الكريم الطائع لله سنة أربع وستين وثلاثمائة استولى على جميع أموره فناخسرو، وصار إليه تدبير المملكة، وليس للخليفة سوى الاسم، وقتل بختيار ومحي أمره، فأحضر أبو شجاع عضد الدولة أبا إسحاق. وقال: قد علمت ما كنت تعاملني به من قبيح المكاتبة، وقد أحفظني ذلك ودعاني إلى قتلك، فرأيت قتلك من الفساد في الأرض إذ كنت مقدماً في صناعتك، ولكن لا تعمل لي عملاً، واستصفى أمواله وحبسه، وولى ديوان الإنشاء مكانه أبا منصور بن المرزبان الشيرازي، وكان غايةً في البلاغة والفصاحة وحسن آلات الكتابة.

الصابي في حبسه
وكتب أبو إسحاق من الحبس إلى بعض إخوانه: نحن في الصحبة كالنسرين لكني واقع، وأنت طائر، وعلى الطائر أن يغشى ويراجع.
وزاره أبو الفرج الببغاء الشاعر زورة ثم قطعه، فكتب إليه:
أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تزل ... يزيدك صرف الدهر حظّاً إذا نقص
مضت مدة أستام ودك غالياً ... فأرخصته والبيع غالٍ ومرتخص
وآنستني في محبسي بزيارةٍ ... شفت قرماً من صاحبٍ لك قد خلص
ولكنّها كانت كحسوة طائرٍ ... فواقاً كما يستفرض السادة الفرص
وأحسبك استوحشت من ضيق محبسي ... وعادك عيد من تذكّرك القفص
من المنسر الأشفى ومن حزّة المدى ... ومن بندق الرامي ومن قصّة المقص
ومن صعدة فيها من الدّبق لهذم ... لفرسانكم عند الطعان بها قعص
فهذي دواهي الطير، وقّيت شرّها ... إذا الدهر من أحداثه جرّع الغصص
فأجابه أبو الفرج:
أيا ماجداً قد يمّم المجد ما نكص ... وبدر تمام مذ تكامل ما نقص
ستخلص من هذا السّرار وأيّما ... هلال توارى في السرار فما خلص
بدولة تاج الملّة الملك الذي ... له في أعالي قبّة المشتري خصص
تقنّصت أنصافي وما كنت قبل ذا ... أظنّ بأنّ المرء بالبرّ يقتنص
وبعد فلا أخشى تقنّص جارح ... وقلبك لي وكرٌ ورأيك لي قفص
من شعر الصابئ
وقال أبو إسحاق الصابىء:
جملة الإنسان جيفه ... وهيولاه سخيفه
فلماذا ليت شعري ... قيل للنفس الشريفه
إنما ذلك فيه ... قدرة اللّه اللطيفه
وقال:
وأحقّ من نكسته ... بالصفع من درجاته
من مجده من غيره ... وسفاله من ذاته
من النقد
أخذه من سقراط، وقد مر به بعض الملوك فركله برجله. وقال: قم ! فقام غير مرتاع منه ولا ملتفت إليه. فقال الملك: أما عرفتني ؟ قال: لا ! ولكن أرى فيك طبع الكلاب فهي تركل بأرجلها، فغضب، وقال: أتقول لي هذا وأنت عبدي. فقال: لا ! بل أنت عبدي. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأن شهواتك ملكتك وأنا ملكتها. قال: فإني الملك ابن الأملاق السادة، ولنا كذا وكذا ألف فيل، وكذا وكذا ألف مركوب، وأقبل يعدد عليه ما يملكه من العروض والجواهر والعقار. فقال: أراك تفخر علي بما ليس من جنسك، وإنما سبيلك أن تفخر علي بنفسك، ولكن تعالى نخلع ثيابنا ونلبس جميعاً ثوباً من ماء في هذا اليم ونتكلم، فحينئذ يتبين الفاضل من المفضول؛ فانصرف خجلاً.
الصابي وعضد الدولة
وأهدى الصابىء إلى عضد الدولة في يوم مهرجان اصطرلاباً بقدر الدرهم، وكتب معه، وكان حينئذ معتقلاً:
أهدى إليك بنو الحاجات واحتشدوا ... في مهرجانٍ جديدٍ أنت تبليه
لكنّ عبدك إبراهيم حين رأى ... سموّ قدرك عن شيءٍ يساميه
لم يرض بالأرض يهديها إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه
فرضي عنه وأخرجه من السجن.
وقال الصابىء لأبي القاسم إسماعيل بن عباد الصاحب:
اللّه حسبي فيك من كلّ ما ... يعوّذ العبد به المولى

واسلم وعش لا زلت في نعمةٍ ... أنت بها من غيرك الأولى

من ملح مزيد
قال مزيد لامرأته: أنت غير شفيقة علي، ولا راعية لي. فقالت: والله لأنا أرعى بك من التي كانت قبلي وأشفق. قال: أنت طالق ثلاثاً، لقد كنت آتيها بالجرادة فتطبخ لي منها أربعة ألوان وتشوي جنينها. فدعته إلى القاضي، فجعل القاضي يطلب له المخرج فقال: أصلحك الله ! لا عليك إن أشكلت المسألة فهي طالق ثلاثين.
قال محمد بن حرب: أتيت بمزيد وامرأة ورجل أصيبا في بيته وأنا على شرطة المدينة، فحبسته وخليت سبيلهما، ثم دعوت به وقلت: ما خبرك ؟ قال: أطلقتم الزوج حمام وحبستم الزاجل.
وكان أبو حبيب مضحك المهدي يحفظ نوادر مزيد ويحكيها له فيصله. فقال له مزيد: بأبي أنت! أنا أزرع وأنت تحصد.
ولقي مزيد رجلاً كان صديقاً لأبيه. فقال: يا بني، كان أبوك عظيم اللحية، فما بالك أجرودي ؟ فقال مزيد: أنا خرجت لأمي.
وكسا امرأته قميصاً فشكت إليه غلظه وخشونته، فقال: أترينه أخشن من الطلاق ؟
من الأجوبة الطريفة
ناظر سعيد بن حميد الدهقان بعض آل أبي لهب؛ فقال: من فضلنا نحن الفرس أن لنا بيوت النيران. فقال اللهبي: وجهنم قطيعة لجدي.
رمي فضولي في النار؛ فقال: الحطب رطب !
من ملح البخلاء
وقال بعض البخلاء لغلامه: هات الطعام وأغلق الباب. فقال: يا مولاي؛ هذا خطأ، إنما يقال: أغلق الباب وهات الطعام. فقال له: أنت حر لوجه الله لمعرفتك بالحزم.
قال جهم بن خلف: أتينا اليمامة فنزلنا على مروان بن أبي حفصة فأطعمنا تمراً. ثم قال لغلامه: خذ هذا الفلس فاشتر به زيتاً، فأتى الغلام به. فقال له: خنتني. فقال: وكيف أخونك في فلس ؟ قال: أخذته لنفسك واستوهبت الزيت.
وقال الأحنف بن قيس: يا بني تميم، أتبخلونني وربما أشرت عليكم برأي خير من مائة ألف درهم ؟ فقال بعض من سمعه: تقويمك الرأي عليه غاية البخل.
من أظرف ما قيل في بخيل
ومن أظرف ما قيل في بخيل:
وأخٍ مسّه نزولي بقرحٍ ... مثلما مسّني من الجوع قرح
قال إذ زرت وهو في شدة السك ... رة بالهمّ طافح ليس يصحو
لم تغرّبت قلت قال رسول الل ... ه والقول منه نصحٌ ونجح
سافروا تغنموا فقال وقد قا ... ل تمام الحديث جوعوا تصحّوا
غفلة
مر رجل بإنسان وعلى عاتقه عصا في طرفيها زنبيلان قد كادا يحطمانه، في أحدهما بر وفي الآخر تراب. فقال: لم فعلت هذا ؟ قال: عدلت البر بالتراب، لأنه كان قد أمالني إلى أحد جنبي؛ فأخذ الرجل زنبيل التراب وقلبه وقسم البر نصفاً في الزنبيلين. وقال: الآن فاحمل، فحمله فخف عليه؛ فقال: ما أعقلك من شيخ !.
يتماوت ليسأل الكفن
وشرب أحمد بن أبي طاهر مع أبي هفان حتى فني ما معهما، وكانا بجوار المعلى ابن أيوب؛ فقال ابن أبي طاهر لأبي هفان: تماوت حتى اسأل المعلى في كفنك. فسجاه ومضى إلى المعلى فقال: أصلحك الله، نزلنا في جوارك فوجب عليك حقنا، وقد مات أبو هفان وليس له كفن. فقال لوكيله: أمض إليه لتشاهده وادفع له كفناً. فأتى فوجده مسجى فنقر أنفه فضرط، فقال له: ما هذا؟ قال ابن أبي طاهر: أصلحك الله بقية روحه كرهت نكهته فخرجت من دبره، فأخبر المعلى فضحك وأمر لهما بدنانير كثيرة.
متجسس متماوت
وكان أحمد بن طولون قد نابذ الموفق وباينه بالعداوة وخلعه، وكان قد ضبط مصر من الجواسيس وكان متيقظاً فهماً، فأشرف من قصره يوماً، فإذا بجنازة قد مرت عليه. فقال: علي بالنعش ومن فيه. فأحضروه، فقال: قم يا متماوت، ثم دعا بالسياف وقال: اضربه، فقام الميت من نعشه، فقال له: أنت متجسس من ناحية أحمد ؟ قال نعم ! قال: لو لم أتقدم إليك لقتلتك وقتلت من معك، وأمر من أخرجهم عن عمل مصر. فقيل له: من أين علمت ذلك ؟ فقال: رأيت القوم ليس عليهم كآبة من مات له ميت، ورأيتهم يطوفون بالقصر، ونظرت إليه في النعش فرأيت رجليه قائمتين ورجل الميت تسترخي؛ فحكمت أنه حي، فلما حضر رأيته يسارق النفس فصحت القضية.
من الطرف
وحضر علي بن بسام مع جحظة البرمكي دعوةً، فتفرق الجماعة المخاد، وبقي جحظة. فقال: ما لكم لم تدفعوا إلي مخدة ؟ فقال له ابن بسام: عن قليل تصير إليك كلها.

واشتد البرد سنة؛ فقال أبو العيناء: إن دام هذا كانت بيوتنا التنانير.
وقال رجل لامرأته: الحمد لله الذي رزقنا ولداً طيباً. قالت: ما رزق أحد مثلما رزقنا، فدعياه فجاء، فقال له الأبك يا بني، من حفر البحر ؟ قال: موسى بن عمران. قال: من بلطه ؟ قال: محمد بن الحجاج. فشقت المرأة جيبها ونشرت شعرها وأقبلت تبكي. فقال أبوه: ما لك ؟ فقالت: ما يعيش ابني مع هذا الذكاء.

ابن المعذل والمخنث
رأى عبد الصمد بن المعذل مخنثاً ليلة أربعة عشر من شهر رمضان، وهو مضطجع على ظهره يخاطب القمر ويقول: لا أماتني الله منك بحسرة، أو تقع في المحاق، فما كانت ليلة سبعة وعشرين رأى عبد الصمد الهلال، فقال:
يا قمراً قد صار مثل الهلال ... من بعد ما صيّرني كالخلال
الحمد للّه الذي لم أمت ... حتّى أرانيك بهذا السّلال
الصوم في الربيع
وقال أبو عون الكاتب:
جاءنا الصوم في الربيع فهلاّ ... اختار ربعاً من سائر الأرباع
وتولّى شعبان إلا بقايا ... كالعقابيل من دم المرتاع
فكأنّ الربيع في الصوم عقدٌ ... فوق نحر غطّاه فضل قناع
شعبان ورمضان
وقال البحتري:
لاحت تباشير الخريف وأعرضت ... قطع الغمام وشارفت أن تهطلا
فتروّ من شعبان إن وراءه ... شهراً يمانعنا الرحيق السلسلا
وقال:
ومّما دهى الفتيان أنهم أتوا ... بآخر شعبان على أول الورد
يوم الشك
وكتب كشاجم إلى بعض إخوانه في يوم شك:
هو يوم شكٍّ يا عل ... يّ وأمره مذ كان يحذر
والجوّ حلّته ممسّ ... كةٌ ومطرفه معنبر
والماء فضيّ القمي ... ص وطيلسان الأرض أخضر
نبتٌ يصعّد نوره ... في الأرض قطر ندىً تحدّر
ولنا فضيلاتٌ تكو ... ن ليومنا قوتاً مقدّر
ومدامةٌ صفراء أد ... رك عمرها كسرى وقيصر
فانهض بنا لنحتّ من ... كاساتنا ما كان أكبر
أو لا فإنّك جاهلٌ ... إن قلت إنّك سوف تعذر
تشبيب بامرأة رعناء
كانت لرجل من العرب امرأة رعناء؛ فدخل عليها يوماً وهي مغضبة، فقالت: ما لك لا تشبب بي كما يشبب الرجال بنسائهن ؟ فقال: إني أفعل ! وأنشدها:
تمّت عبيدة إلاّ في ملاحتها ... والحسن منها بحيث الشمس والقمر
ما خالف الظبي منها حين تبصرها ... إلا سوالفها والجيد والنظر
قل للذي عابها من حاسدٍ حنقٍ ... أقصر فرأس الذي قد عيب والحجر
فضحكت ورضيت عنه.
مما يشك هل هو مدح أو هجاء
ومما يشكل هل هو مدح أو هجاء، أن أبا الينبغي دفع إلى خياط أعور اسمه زيد طيلساناً يقوره له، فلما جاءه ليأخذه دفعه إليه، وقال له: قد خطت لك شيئاً لا تدري أهو طيلسان أو هو دواج. فقال: وأنا أقول فيك بيتاً لا تدري أو هو مدح أو هجاء. وأنشده:
خاط لي زيد قباء ... ليت عينيه سواء
يريد بسواء: يكونان صحيحتين أو ذاهبتين.
ومن هنا اهتدى أبو الطيب المتنبي إلى قوله:
فيابن كروّسٍ يا نصف أعمى ... وإن تفخر فيا نصف البصير
تعادينا لأنّا غير لكنٍ ... وتبغضنا لأنّا غير عور
وكان أبو الينبغي ضعيف الشعر، قلما يصح له الوزن، إلا أنه كان ظريفاً طيباً. ودخل عليه وقد حبس، فقيل له: ما كان خبرك ؟ قال أبو الينبغي: قلت ما لا ينبغي ففعل بي ما ينبغي.
ومما يسأل عنه أصحاب المعاني هل هو مدح أو هجاء:
تكامل فيه البخل والجود فاعتلى ... بفضلهما، والبخل بالمرء يزري
وهذا يمدحه؛ يريد أن يجود بماله ويبخل بعرضه.
وقد قال حماد عجرد يمدح محمد بن أبي العباس:
حليم جهولٌ فأمّا التي ... يقال له عندها يجهل
فعند الوغى واشتجار القنا ... إذا الحرب أشعلها مشعل
جوادٌ بخيل فأمّا الذي ... على كل حال به يبخل
فدين وعرض، ودين الكر ... يم ذي الرأي والعرض لا يبذل

وليس بما ملكت كفّه ... من البحر في وجوده يعدل
يداه الحيا في حفوف الثرى ... وطعنته في الوغى الفيصل
إذا ذكر الناس أهل النّدى ... بأسمائهم فاسمه الأوّل
محمد أنت الذي إن سمو ... ت ذي المعمّ لك المخول
يذمّك كبش الوغى في الوغى ... ويحمدك الرمح والمنصل

أعجزتك القافية !
وذكر أن هاشمياً قال لعمر بن أبي ربيعة: لولا بغضكم لنا يا بني مخزوم ما قلت:
بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفلٍ ... أبوها وإمّا عبد شمس وهاشم
فقدمت علينا بني نوفل وبني أمية؛ فتوهمه ابن أبي ربيعة عاقلاً، فقال: لا بأس بتقديم المفضول على الفاضل في اللفظ، قال حسان بن ثابت:
وما زال في السادات من آل هاشم ... مكارم صدقٍ لا تعدّ ومفخر
بهاليل منهم جعفر وابن أمّه ... عليٌّ ومنهم أحمد المتخيّر
وأيضاً فالشعر على الميم، فلم يمكن في القافية، إلا ما قلت لك. قال: فأعجزتك الحيلة ؟ قال: وكيف أحتال ؟ قال تقول:
بعيدة مهوى القرط إمّا لهاشم ... أبوها وإمّا عبد شمس ونوفل ميم
فضحك وقال: وهنا لقد عجزت عن هذا.
نقد لشعر امرىء القيس
ومن عجيب ما يتعلق بهذا الباب إنه وصل إلى حضرة سيف الدولة رجل من أهل بغداد يعرف بالمبحث، وكان ينقر على العلماء والشعراء بما لم يدفعه الخصم ولا ينكره الوهم، فتلقاه سيف الدولة باليمين؛ وأعجب به إعجاباً شديداً؛ فقال يوماً: أخطأ امرؤ القيس في قوله:
كأني لم أركب جواداً للذّة ... ولم أتبطّن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزّقّ الرويّ ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّةً بعد إجفال
وهذا معدول عن وجهه لا شك فيه. فقيل: وكيف ذلك ؟ قال: إنما سبيله أن يقول:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كرّي كرةً بعد إجفال
ولم أسبأ الزقّ الرويّ للذة ... ولم أتبطّن كاعباً ذات خلخال
فيقترن ذكر الخيل بما يشاكلها في البيت كله، ويقترن ذكر الشرب واللهو بالنساء. ويكون قوله: للذة في الشرب أطبع منه في الركوب.
فبهت الحاضرون، واهتز سيف الدولة، وقال؛ هذا التهدي وحق أبي ! فقال بعض الحاضرين من العلماء للمبحث: أنت أخطأت وطعنت على القرآن إن كنت تعمدت ؟ فقال سيف الدولة: وكيف ذلك ؟ فقال: قال الله تبارك وتعالى: إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. وعلى قياسه يجب أن يكون: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ، ولا تعرى فيها ولا تضحى. وإنما عطفه امرؤ القيس بالواو التي لا توجب تعقيباً، ولا ترتب ترتيباً؛ فخجل وانقطع.
في مجلس الوليد
وقال خالد: قدمت على الولد بن يزيد في مجلس ناهيك من مجلس، فألفيته على سريره وبين يديه معبد. ومالك بن أبي السمح، وابن عائشة، وأبو كامل عذيل الدمشقي؛ ومالك بن أبي السمح، وابن عائشة، وأبو كامل عذيل الدمشقي؛ فجعلوا يغنون حتى بلغت النوبة إلي فغنيت:
سرى همّي وهمّ المرء يسري ... وغاب النجم إلاّ قيد فتر
أُراقب في المجرة كلّ نجمٍ ... تعرّض أو على البحرات يجري
بهمٍّ ما أزال به قريناً ... كأنّ القلب أبطن حرّ جمر
على بكر أخي فارقت بكراً ... وأيّ العيش يحسن بعد بكر
فقال: أعد يا صاح، فأعدت. فقال: من يقوله ؟ قلت: عروة بن أذينة الليثي. فقال: وأي العيش يصلح بعد بكر ؟ هذا الذي نحن فيه، والله لقد تحجر واسعاً على رغم أنفه.
وأنشدت سكينة بنت الحسين رضوان الله عنهما هذا الشعر؛ فقالت: ومن بكر ؟ فوصف لها. فقالت: ذاك الأسود الذي كان يمر بنا، والله لقد طاب كل شيء بعده حتى الخبر والزيت !
السماع وما ينبغي له من الشعر

قلت أنا: وليت شعري إذا كان السماع داعية الأنس، وعشيق النفس، الذي ينهكها إذا أسرها الهم، ويبسطها إذا قبضها الغم، وهو المستأذن على القلب، المنقذ له من الكرب، الداخل عليه من غير تعب، والوارد إليه بغير نصب، وقد قال أرسطا طاليس: لما حددنا المنطق وجدنا فيه ما لا يبلغه اللسان إلا آلة، فركبنا العود على الطبائع، لاستخراج تلك الودائع، فلما قابلت النفس استماع ما ظهر منه عشقته بالعنصر.
وقالوا: كل شراب بلا سماع الدن أولى به؛ فما باله لا تستخرج له الأشعار الرقيقة، ذات المعاني الدقيقة الأنيقة، والألفاظ الناعمة الشكلة، في الأبيات الغزلة، التي تطرب بالتكلم قبل الترنم، ويتجنب ما كان من صفات الجيوش والمقانب، والغارات والكتائب، والأحزان والمصائب؛ فلأن يسمع من كان ثملاً جذلاً:
ظفرت بقبلةٍ منه اختلاساً ... وكنت من الرقيب على حذار
ألذّ من الصبوح على غمامٍ ... ومن برد النسيم على خمار
أحب إليه من أن يسمع:
إنّ السنان وحدّ السيف لو نطقا ... لحدّثا عنك يوم الروع بالعجب
أنفقت مالك تعطيه وتبذله ... يا متلف الفضّة البيضاء والذهب
إلا أن يكون سامعه كمهلهل، وربيعة بن مكدم، وعتيبة بن الحارث بن شهاب؛ هذا على أن هذا الشعر ليس بتحسين الحظ في فصاحة اللفظ، ولا قاصر المرمى عن إدراك المعنى، كقول مروان بن صرد أخي أبي بكر بن صرد في يزيد بن يزيد فيه يقول:
أما أبوك فأندى العالمين يداً ... وكان عمّك معنٌ سيد العرب
عيدانكم خير عيدان وأطيبها ... عيدان نبع وليس النبع كالغرب
وإنكم سادةٌ أوليتم حسباً ... وأنتم قالةٌ للشّعر والخطب
ولكن لكل مكان ما يليق بموضعه، ويحسن بموقعه؛ فأشبه أوقات اللهو والشراب، ذكر التغزل بالأحباب.
وقد قال بعض البلغاء: لولا العشق والهوى، لم توجد لذة الصبا، ولم يكن الطرب والغناء، ولنقص نعيم أهل الدنيا.
وكان ابن الرومي يقول: لو ملكت الأمر وأدركت ملحن هذا الشعر لقتلته:
كليبٌ لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرّج بالدّم
رمى ضرع ناب فاستمرت بطعنةٍ ... كحاشية البرد اليمانيّ المسهّم
وقال ثمامة بن أشرس: كنت عند المأمون يوماً إذ جاءه الحاجب يستأذن لعمير المأموني، فكرهت ذلك، ورأى الكراهة في وجهي. فقال: يا ثمامة، ما لك ؟ قلت: يا أمير المؤمنين إنا إذا غنانا عمير ذكر مواطن الإبل، وكثبان الرمل، وإذا غنتنا فلانة انبسط أملي، وقوي جذلي، وانشرح صدري، وذكرت الجنان. كم يا أمير المؤمنين بين أن تغنيك جارية غادة، كأنها غصن بان، بمقلة وسنان، كأنما خلقت من ياقوتة، أو خرطت من درة، بشعر عكاشة العمي:
من كفّ جاريةٍ كأنّ بنانها ... من فضّةٍ قد طرّزت عنّابا
وكأنّ يمناها إذا ضربت بها ... تلقي على يدها الشمال حسابا
وبين أن يغنيك رجل ملتف اللحية، غليظ الأصابع، خشن الكف، بشعر ورقاء بن زهير:
رأيت زهيراً تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
وكم بين من يحضرك من تشتهي النظر إليه، وبين من لا يقف طرفك عليه ؟ فتبسم المأمون. وقال: إن الفرق لواضح، وإن المنهج لفسيح، يا غلام؛ لا تأذن له ! وأحضر قينة. قال: فظللنا في أمتع يوم.

من طيبات الأغاني ومطربات القيان
وقد كتبت جرءاً مما قيل في طيبات الأغاني ومطربات القيان، وأنا أعيد منها هنا قطعة ترتاح إليها الأرواح: أنشد أبو العباس أحمد بن محمد الأنباري الناشىء في مثل قول عكاشة:
وإذا بصرت بكفّها اليسرى حكت ... يد كاتبٍ يلقي عليك صنوفا
وكأنّما المضراب في أوتاره ... قلم يمجمج في الكتاب حروفا
ويجسّه إبهامها فكأنّه ... في النقر ينفي بهرجاً وزيوفا
أخذ هذا البيت من قول أبي شجرة السلمي وذكر ناقته:
يطير عنها حصا الظّران من بلدٍ ... كما تنوقد عند الجهبذ الورق
وأصله من قول امرىء القيس:
كأنّ صليل المرو حين تطيره ... صليل زيوفٍ ينتقدن بعبقرا
وقال ابن العجاج:

كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق ... أيدي نساءٍ يتعاطين الورق
وقال أبو نواس:
وأهيف مثل طاقة ياسمين ... له حظّان من دنيا ودين
يحرّك حين يشدو ساكناتٍ ... وتنبعث الطبائع للسكون
وهذا مليحٌ، يريد حركة الجوانح للغناء، وسكون الجوارح للاستماع.

صفة القيان والعيدان
ومن عجيب ما قيل في صفات القيان والعيدان قول ابن الرومي.
وقيانٍ كأنّها أُمهاتٌ ... عاطفاتٌ على بنيها حواني
مطفلات وما حملن جنيناً ... مرضعات ولسن ذات لبان
ملقمات أطفالهنّ ثديّاً ... ناهداتٍ كأحسن الرمّان
مفعمات كأنها حافلاتٌ ... وهي صفر من درّة الألبان
كل طفل يدعى بأسماء شتّى ... بين عود ومزهر وكران
أمّه دهرها تترجم عنه ... وهو بادي الغنى عن الترجمان
وأنشد أبو علي الحاتمي لأبي بكر الصولي:
وغناءٌ أرقّ من دمعة الص ... بّ وشكوى المتيّم المهجور
يشغل الفهم عن تظنٍّ وفهمٍ ... فهو يصغي بظاهرٍ وضمير
صافح السمع بالذي يشتهيه ... فأذاق النفوس طعم السرور
ليس بالقائل الضعيف إذا ما ... راض نغماً ولا الشنيع الجهير
يجتني السمع منه أحسن ممّا ... تجتني العين من وجوه البدور
إبليس ينادم إبراهيم الموصلي
قال إبراهيم الموصلي: استأذنت الرشيد في أن يهب لي في كل أسبوع يوماً، أخلو فيه مع جواري، فأذن لي في يوم الأحد وقال: هو يوم أستثقله؛ فلما كان في بعض الآحاد أتيت الدار، فدخلت الحجاب ألا يأذنوا لأحد علي وأغلقت الأبواب.
فما هو إلا أن جلست حتى دخل علي شيخ حسن السمت والهيئة، على رأسه قلنسوة لاطئة، وفي رجله خفان أحمران، وفي يده عكازة مقمعة بفضة، وعليه غلالة سكب.
فلما رأيته امتلأت غيظاً، وقلت: ألم آمر الحجاب ألا يأذنوا لأحد، فسلم. فأفكرت وقلت: لعلهم علموا من الشيخ ظرفاً وهيئة، فأحبوا أن يؤنسوني به في هذا اليوم؛ فلما أمرته بالجلوس جلس، وقال: يا إبراهيم ألا تغنيني صوتاً ؟ فامتلأت عليه غيظاً ولم أجد إلى ردة سبيلاً؛ لأنه في منزلي، وحملته منه على سوء أدب العامة؛ فأخذت العود وضربت وغنيت ووضعت العود. فقال لي: لم قطعت هزارك ؟ فزادني غيظاً، وقلت لا يسيدني ولا يكنيني ولا يقول: أحسنت ! فأخذت العود فغنيت الثانية، فقال لي: أحسنت، فكدت والله أشق ثيابي، فغنيت تمام الهزار. فقال: أحسنت يا سيدي ! ثم قال: ناولني العود، فوالله لقد استجابه، فوضعه في حجره، ثم جسه من غير أن يكون ضرب بأنملة، فوالله لقد خلت زوال نعمتي في حبسه، ثم ضرب وغنى:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجداً على وجد
أإن هتفت ورقاء في رونق الضّحى ... على فنن غضّ النبات من الرّند
بكيت كما يبكي الوليد ولم أكن ... جليداً وأبديت الذي لم أكن أُبدي
وقد زعموا أنّ المحبّ إذا دنا ... يملّ وأنّ النأي يسلي من الوجد
بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خيرٌ من البعد
فوالله لقد خلت كل شيء في الحضرة يتغنى معه حتى الأبواب والستور، ثم ضرب وغنى:
ألا يا حمامات اللّوى عدن عودةً ... فإني إلى أصواتكنّ حزين
فعدن فلما عدن كدن يمتنني ... وكدت بأسراري لهنّ أُبين
دعون بترداد الهدير كأنما ... شربن حميّا أو بهنّ جنون
فلم تر عيني مثلهنّ حمائماً ... بكين ولم تدمع لهنّ عيون
ثم ضرب وغنى:
قفا ودعا نجداً ومن حلّ بالحمى ... وقلّ لنجدٍ عندنا أن يودّعا
وأذكر أيام لحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشيةٍ أن تصدّعا
فليست عشيّات الحمى برواجع ... إليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
وأعذر فيها النفس إن حيل دونها ... وتأبى إليها النفس إلاّ تطلّعا

فوالله لقد تغنى كل شيء معه بالحضرة، حتى النمارق والوسائد وقميصي الذي على بدني؛ فقال: يا أبا إسحاق ! هذا الغناء الماخوري، تعلمه وعلمه جواريك، ثم وضع العود من حجره وقام إلى الدار فلم أره، فدفعت أبواب الحرم فإذا هي مغلقة؛ فقلت: ويحكن هل سمعتن ما سمعت، أو رأيتن ما رأيت ؟ قلن: نعم ! سمعنا وأعدن الأصوات علي وقد لقنها؛ فسألت الحجاب عن الرجل؛ فقالوا لي: لم يدخل عليك أحد حتى يخرج، فأمرت بدابتي فأسرجت، فركبت من فوري إلى دار الخليفة واستأذنت؛ فلما رآني قال: ألم تنصرف آنفاً على نية المقام في منزلك والخلوة بأهلك؛ قلت: يا سيدي؛ جئت بغريبة؛ وقصصت عليه القصة من أولها إلى آخرها، فضحك حتى رفع الوسائد برجليه، وقال لي: كان نديمك اليوم أبو مرة، وددت أنه لوم متعنا بنفسه كما متعك.
واشتهر إبراهيم بهذا الطريق، واشتهته الناس فلم تبق جارية لقنته من إبراهيم إلا زيد في ثمنها؛ قال اللاحقي:
لا جزى اللّه الموصليّ أبا إس ... حاق عنّا خيراً ولا إحسانا
جاءنا مرسلاً بوحيٍ من الشي ... طان أغلى به علينا القيانا
من غناءٍ كأنه سكرات ال ... حب يصغي القلوب والآذانا

أبو فراس يستميل سيف الدولة إلى الغناء
ومن مليح هذا المعنى قول أبي فراس: كان سيف الدولة لا يشرب النبيذ ولا يسمع القيان ويحظرهما، فوافت ظلوم الشهرامية، وكانت إحدى المحسنات، وكان بحضرته ابن المنجم أحد المحسنين، فتاقت نفسي إلى سماع ظلوم؛ فسألت الأمير أن يحضرهما لأسمعهما مجتمعين؛ فوعدني بإحضارهما مجلسه من يومه، فانصرفت وأنا غير واثق بذلك لعلمي بضعف نيته في مثله، ووجهت إلى ظلوم أتقدم إليها بالاستعداد، وحصلت عندي ابن المنجم، وأقمت أنتظر رسوله إلى أن غربت الشمس، فكتبت إليه:
محلّك الجوزاء بل أرفع ... وصدرك الدهناء بل أوسع
وقلبك الرّحب الذي لم يزل ... للجدّ والهزل به موضع
رفّه بقرع العود سمعاً غدا ... قرع العوالي جلّ ما يسمع
فبلغت هذه الأبيات أبا محمد الحسن بن محمد بن هارون المهلبي؛ فأمر بها فلحنت وغني بها، فلم يشرب بقية يومه ذلك إلا عليها.
من شعر أبي فراس
وأبو فراس هو الحارث بن سعيد بن حمدان؛ وفي أبي فراس يقول القاضي ابن الهيثم:
أيقنت أني ما بقي ... ت رهين شكر الحارث
فإذا المنية أشرفت ... ورّثت ذاك لوارثي
رقّي له من بعد سي ... يّدنا وليس لثالث
قال أبو فراس: فحاولت جوابه على هذه القافية فما أمكنني شيء أرتضيه، فكتبت إليه:
لئن جمعتنا غدوةً أرض يابس ... فإنّ لها عندي يداً لا أضيعها
أحبّ بلاد اللّه أرضٌ تحلّها ... إليّ، ودار تحتويك ربوعها
أفي كلّ يوم رحلة بعد رحلة ... تجرّع نفسي حسرةً وتروعها
فلي أبداً قلبٌ كثير نزاعه ... ولي أبداً نفسٌ قليل نزوعها
لحى اللّه قلباً لا يهيم صبابةً ... إليك وعيناً لا تفيض دموعها
وكان أبو فراس حسن الشعر، جيد النمط، ولقوته من الطلاوة والحلاوة ما يشهد به ما أنشد له.
وكان أبو القاسم الصاحب يقول: بدىء الشعر بملك، وختم بملك؛ بدىء بامرىء القيس، وختم بأبي فراس.
بين أبي فراس وسيف الدولة
وكتب أبو فراس إلى سيف الدولة وقد سار إلى منزله: كتابي أطال الله بقاء الأمير من منزلي، وقد وردته ورود السالم الغانم موقر الظهر وفراً وشكراً؛ فاستحسن سيف الدولة بلاغته فقال:
هل للفصاحة والسما ... حة والعلا عنّي محيد
في كل يوم استقي ... د من العلاء وأستفيد
ويزيد فيّ إذا رأي ... تك في الندى خلقٌ جدي
وأهدى الناس إلى سيف الدولة في بعض الأعياد فأكثروا؛ فاستشارهم أبو فراس فيما يهديه إليه، فكل أشار بشيء، فخالهم وكتب إليه:
نفسي فداؤك قد بعث ... ت بمهجتي بيد الرسول
أهديت نفسي، إنما ... يهدى الجليل إلى الجليل
وجعلت ما ملكت يدي ... بشرى المبشّر بالقبول
ووقع بين أبي فراس وبين بني عمه عداء وهو صغير؛ فمزح سيف الدولة معه بالتعصب عليه فقال:

قد كنت عدّتي التي أسطو بها ... ويدي إذا خان الزمان وساعدي
فرميت منك بضدّ ما أمّلته ... والمرء يشرق بالزّلال البارد
فصبرت كالولد التقيّ لبرّه ... أغضى على مضضٍ لضرب الوالد
وقال يفخر:
لنا بيتٌ على طنب الثريا ... بعيد مذاهب الأكناف سامي
تظلّله الفوارس بالعوالي ... وتفرشه الولائد بالطعام
وقال يصف السبي.
وخريدة كرمت على آبائها ... وعلى بوادر خيلنا لم تكرم
خطبت بحدّ السيف حتى زوّجت ... كرهاً وكان صداقها للمقسم
راحت وصاحبها بعرس حاضرٍ ... يرضي الإله وأهلها في مأتم
وقال:
ما كنت مذ كنت إلاّ طوع خلاّني ... ليست مؤاخذة الخلاّن من شاني
يجني الصديق فأستحلي جنايته ... حتى أدلّ على عفوي وإحساني
ويتبع الذّنب ذنباً حين يعرفني ... عمداً فأُتبع غفراناً بغفران
يجني عليّ فأحنو صافحاً كرماً ... لا شيء أحسن من حانٍ على جان
وقال:
فواللّه ما أضمرت في الحبّ سلوةً ... وواللّه ما حدّثت نفسي بالصبر
وإنك في عيني لأبهى من الغنى ... وإنك في قلبي لأحلى من النّصر
فيا حكمي المأمول جرت مع الهوى ... ويا ثقتي المأمون جرت مع الدهر
وقال:
سكرت من لحظه لا من مدامته ... وما بالنوم عن عيني تمايله
وما السّلاف دهتني بل سوالفه ... ولا الشّمول ازدهتني بل شمائله
ألوى بصبري أصداغٌ لوين له ... وغلّ صدري ما تحوي غلائله
وقال:
وظبي غرير في فؤادي كناسه ... إذا كنست عين الفلاة وحورها
فمن خلقه لبّاتها ونحورها ... ومن خلقه عصيانها ونفورها
وقال:
ألزمني ذنباً ولا ذنب لي ... ولجّ في الهجران والعتب
أُحاول الصبر على هجره ... والصبر محظورٌ على الصبّ
من لي بكتمان هوى شادنٍ ... عيني له عينٌ على قلبي
عرّضت صبري وعلوّي له ... فاستشهدا في طاعة الحبّ
وقال:
لبسنا رداء الليل، والليل راضعٌ ... إلى أن تردّى رأسه بمشيب
وبتنا كغصني بانةٍ عطفتهما ... مع الصبح ريحاً شمألٍ وجنوب
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنّه ... مبادي نصولٍ في عذار خضيب
فيا ليل قد فارقت غير مذمّم ... ويا صبح قد أقبلت غير حبيب
وقال:
قل لأحبابنا الجفاة رويداً ... درّجونا على احتمال الملال
إنّ ذاك الصدود من غير جرمٍ ... لم يدع في موضعاً للوصال
أحسنوا في هواكم أو أسيئوا ... لا عدمناكم على كلّ حال
وقال:
ومغضٍ للمهابة عن جوابي ... وإنّ لسانه العضب الصقيل
أطلت عتابته عنتاً وظلماً ... فدمّع ثم قال: كما تقول
وقال:
بتنا نعلّل من ساقٍ أغنّ لنا ... بخمرتين من الصهباء والخدّ
كأنّه حين أزكى نار وجنته ... سكراً وأسبل فضل الفاحم الجعد
يعدّ ماء عناقيد بطرّته ... بماء ما حملت خدّاه من ورد
وقال:
أيا سافراً ورداء الخجل ... مقيمٌ بوجنته لم يزل
بعيشك ردّ عليك اللثام ... أخاف عليك جراح المقل
فما حقّ حسنك أن يجتلى ... ولا حقّ وجهك أن يبتذل
أمنت عليك صروف الزمان ... كما قد أمنت عليّ الملل
وقال:
لا غرو إن فتنتك بال ... ألحاظ فاترة الجفون
فمصارع العشاق ما ... بين الفتور إلى الفتون
اصبر فمن سنن الهوى ... صبر الضنين على الضنين
وقال:
سقى ثرى حلب، ما دمت سانها ... يا بدر، غيثان منهلٌّ ومنبجس
كأنّما البدر والولدان موحشة ... وربعها دونهنّ العامر الأنس
أسير عنها لأمرٍ ما فيزعجني ... حتى يعود إليها الخدّر الكبس

مثل الحصاة التي يرمى بها أبداً ... إلى السماء فترقى ثم تنعكس
وقال أبو فراس في رسول ملك الروم إذ جاء يطلب الهدنة، فأمر سيف الدولة بالركوب بالسلاح، فركب من داره ألف غلام مملوك بألف جوشن مذهب على ألف فرس عتيق بألف تجفاف، وركب الناس والقواد على تبعيتهم وسلاحهم وراياتهم، حتى طبق الجيش جبل جوشن وما حوله. فقلت:
علونا جوشناً بأشد منه ... وأثبت عند مشتجر الرماح
بجيش جاش بالفرسان حتّى ... ظننت البرّ بحراً من سلاح
فألسنةٌ من العذبات حمر ... تخاطبنا بأفواه الرياح
وأروع جسمه ليلٌ بهيمٌ ... وغرّته عمودٌ من صباح
صفوحٌ عند قدرته كريمٌ ... قليل الصّفح ما بين الصفاح
كأن ثباته للقلب قلبٌ ... وهيبته جناحٌ للجناح

طرف من أخبار المهلبي
وعلى ذكر المهلبي أذكر طرفاً من ظريف أخباره، وشريف آثاره، وإنما أسلسل أخبار أمثاله من أشراف العصر، وأفراد الدهر، تعمداً للذة الجدة، ورونق الحداثة؛ إذا كان ما لم يقرع الآذان، أدعى إلى الاستحسان، مما تكرر حتى تكدر.
والمهلبي هو أبو محمد الحسن بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، وكان المطيع لله الفضل بن جعفر المقتدر، لما ولي الخلافة بعد المستكفي، قام بجميع أموره معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي، وصحبه أجمل صحبة من أول ولايته إلى سنة موته وهي سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وعقد الديلمي أمر وزارته للمهلبي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. وكان المهلبي من سروات الناس وأدبائهم وأجوادهم وأعزائهم، وفيه يقول أبو إسحاق الصابىء:
نعم اللّه كالوحوش وما تأ ... لف إلاّ أخايراً نسّاكا
نفّرتها أيام قومٍ وصيّ ... رت لها البرّ والتّقى أشراكا
وفيه يقول:
قل للوزير أبي محمد الذي ... قد أعجزت كلّ الورى أوصافه
لك في المجالس منطقٌ يشفي الجوى ... ويسوغ في أذن الأديب سلافه
وكأنّ لفظك لؤلؤ متنخّل ... وكأنما آذاننا أصدافه
وفيه يقول أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن نباتة السعدي:
أنا عبد من لو قال للشمس اغربي ... غربت وقد طلعت على الأشهاد
المستقل من الوزارة رتبةً ... إشراقها فوق الخلافة بادي
عقّ الكماة لخوفه هيجاءهم ... وهم لطاعته من الأولاد
وتقنعوا بالنزر من أيامهم ... حتى ظنناهم من الزهاد
ومن التراب عجاجهم وعجاجه ... ممّا يحطّم من قناً وجياد
القائد الخيل العتاق كأنها ... أسد مخالبها صدور صعاد
كذب المحدّث بالشجاعة والندى ... عن خندف وربيعة وإياد
لو أبصرت عيناه آل مهلب ... والخيل راوية النحور صوادي
يخرجن من رهج العجاج كأنما ... أسيافهم خرجت من الأغماد
أوما رأيت جنابهم متدفّقاً ... متوسعاً لتضايق الرّوّاد
ووجوههم للبذل من إشراقها ... قد قنّعت شمس الضحى بسواد
لرأيت أو كادت جفونك أن ترى ... لجج البحار وآنف الأطواد
وعلمت أنهم على رغم العدى ... ذهبوا بكل ندىً وكلّ جلاد
يا من نصغّره إذا قلنا له ... ملك الملوك وماجد الأمجاد
وذباب سيفك إنه قسم الوغى ... والموت في ثوب من الفرصاد
لأطرزنّ بك الزمان مدائحاً ... تختال بين الشدو والإنشاد
تدع المسامع والقلوب لحسنها ... عند الرواة تشدّ بالأصفاد
وقال فيه:
ألكني إلى آل المهلب إنهم ... لأرفع من زهر النجوم وأثقب
إذا سلبوا الأموال من شنّ غارة ... أغار عليها المجتدون ليسلبوا
فلا زالت الأملاك تطلب رفدهم ... فتدنى وتعطى فوق ما تتطّلب

ولا برحت حمر المنايا وسودها ... إلى بأسهم يوم الوغى تتحزّب
فما استمطروا للجود إلاّ تدفّقوا ... ولا استصرخوا للطّعن إلاّ تلبّبوا
إليك أمين اللّه في الأرض شمّرت ... عزيمة صبحٍ بالدّجى تتجلبب
يرى حظّه مستأخراً وهو أوّلٌ ... وآماله مغلوبة وهو أغلب
وأنت شبابٌ للذي شاب مقبلٌ ... إليه ووجهٌ للذي خاب ملحب
تقود أبيّات الأمور كأنّها ... إليك أسارى في الأزمّة تجنب
وتطعن في صدر الكتائب معلماً ... كأنك في صدر الدواوين تكتب
نداؤك أملى والجياد منابرٌ ... وأبطالها بالمشرفّية تخطب
أذمّ زياداً في ركاكة رأيه ... وفي قوله: أيّ الرجال المهذب
وهل يحسن التهذيب منك خلائقاً ... أرقّ من الماء الزلال وأعذب
تكلّم والنعمان بدر سمائه ... وكلّ مليكٍ عند نعمان كوكب
ولو أبصرت عيناه شخصك مرّة ... لأبصر منه شمسه وهي غيهب
إذا ذكرت أيامك الغرّ أظلمت ... تميم وقيس والرباب وتغلب
لقد صرّحوا بالمال لي وهو مبهم ... وقد عرّضوا بالقول لي وهو موجب
ولي همةٌ لا تطلب المال للغنى ... ولكنها منك المودّة تطلب
فإن كان قولي دون قدرك قدره ... فما أنا فيه في امتداحك مذنب
إذا كانت الأشياء دونك قدرها ... فغير ملومٍ أن يقصّر مسهب
زياد: هو النابغة الذبياني؛ وإنما عنى قوله في اعتذاره للنعمان بن المنذر:
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمّه ... على شعثٍ أيّ الرجال المهذب
ألم تر أنّ اللّه أعطاك سورةً ... ترى كل ملكٍ دونها يتذبذب
بأنّك شمسٌ والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب
وإنما أخذ النابغة هذا من قول شاعر من كندة قديم:
تكاد تميد الأرض بالناس إن رأوا ... لعمرو بن هند غضبةً وهو عاتب
هو الشمس وافت يوم دجنٍ فأفضلت ... على كل نورس والملوك كواكب

من حياة المهلبي
والمدح في أبي محمد المهلبي كثير، وإنما يؤخذ من كل شيء ما اختير. وكان قبل تعلقه بحبل السلطان سائحاً في الأرض على طريق الفقر والتصوف. قال أبو علي الصوفي: كنت معه في بعض أوقاته، أماشيه في بعض طرقاته؛ فضجر لضيق الحال، فقال:
ألا موتٌ يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن روح حرّ ... تصدّق بالوفاة على أخيه
قال: فاشتريت له رطل لحم وطبخته له. ثم تصرف بنا الدهر وبلغ المهلبي مبلغه؛ قال أبو علي: فاجتزت البصرة واجتزت بأسلمان، فإذا أنا بناشطيات وحراقات وزيارب وطيارات في عدة وعدة. فقلت: لمن هذا ؟ فقيل: للوزير أبي محمد المهلبي، فنعتوا لي صاحبي، فتوصلت إليه حتى رأيته، فكتبت رقعة واحتلت حتى دخلت، فسلمت وجلست، حتى إذا خلا المجلس رفعت إليه الرقعة، وفيها:
ألا قل للوزير بلا احتشام ... مقال مذكّر ما قد نسيه
أتذكر أن تقول لضيق عيشٍ ... ألا موتٌ يباع فأشتريه
فنظر إلي، وقال: نعم ! ونهض وأنهضني معه في مجلس أنسه، وجعل يذكر لي كيف توافت حاله؛ وقدم الطعام فأطعمنا، وأقبل ثلاثة من الغلمان على رأس أحدهم ثلاث بدر، ومع آخر تخوت وثياب رفيعة، ومع آخر طيب وبخور؛ وأقبلت بغلة رائعة بسرج ثقيل؛ فقال لي: يا أبا علي؛ تفضل بقبول هذه، ولا تتأخر عن حاجة تعرض لك، فشكرته وانصرفت؛ فلما هممت بالخروج من الباب استردني وأنشدني بديهاً:
رقّ الزمان لفاقتي ... ورثى لطول تحرّقي
فأنالني ما أرتجي ... وأجار ممّا أتّقي
فلأغفرنّ له القدي ... م من الذنوب السّبّق
إلاّ جنايته لما ... فعل المشيب بمفرقي
العباس بن الحسين وآثاره

ولما مات المهلبي وجد عليه أحمد بن بويه وجداً شديداً ولم يستوزر أحداً بعده، وبلغ منه أبو الفضل العباس بن الحسين بن عبد بن فاخر بعد المهلبي مبلغاً عالياً؛ للمصاهرة التي كانت بينه وبين المهلبي؛ ولأنه كان يخلفه في الدواوين؛ فكان يخطب درجة المهلبي في الوزارة فلم يبلغها.
وكان العباس ممن تعظمه الملوك وتعرف قدره في الفرس وسبقه، وكان بنو بويه يخاطبونه بالشيخ؛ ولما حصلوا بأرض العراق استدعوه من فارس اشتياقاً إليه، وحاجةً إلى رأيه؛ لما كانوا يعرفون من ثقته، وكان يتخذ من الزي وتفخيم شأن الملك ما كان يحسن به في عين أحمد بن بويه؛ إذ كان يحب من أصحابه ذلك.
وكان مما عمله العباس المغيض الذي بظاهر السندية، الذي ينزع من نهر عيسى بن موسى الهاشمي النازع من الزاب الأعظم بناحية البثق المعروف ببثق الروبانية وهو الذي تعمره ملوك العراق، وتحوط به الأعمال التي ترد إلى كل ناحية حظها من الشرب الذي تكون به عماراتها واستقامة ربوعها ووفور أموالها وتمام خراجها.
وهذا المغيض عملته الأكاسرة لينتفع به عند زيادة المياه وكثرتها؛ فإنها حين تخشى البثق المقدم ذكره وغيره من البثوق أن تزيد المياه عليها فتخرقها فينصرف الماء عن سائر الضياع، فإذا خشي ذلك فتح هذا المغيض فانصرف ما يزيد من الماء عن قدر ما ينتفع به إليه، حتى يصب في نهر يعرف بصرصر حتى يفرغ في دجلة، فعمل هذا المغيض من ماله بعد فساد ما كان قبله. وسائر هذه البثوق تسترم بعد خمسين عاماً من بعد عمارتها إلى السبعين، أكثره على ما يذكرون.
ثم عمر الدار المعروفة بخاقان، وهي في ملك ولده وما يليها من الدور التي كانت تجاورها بشاطىء دجلة، وهذه الدار معروفة عند الملوك معظمة في نفوسهم، وهي دار لها حدان، فالجبلي منها ينتهي إلى دجلة، والشرقي منها ينتهي إلى نهر الصراة النازع من نهر عيسى النازع من الفرات الأعظم، حتى يلتقي هذان النهران.
وقد كان في قديم الزمان بلغ أمرها بعض ملوك الروم؛ وصف له أن بالعراق داراً يجتمع فيها دجلة والفرات، فأعظم ذلك وأكبره، وأكذب من أخبره به. ثم كشف عن ذلك لعظمه عنده فوجده حقاً، فعمر العباس هذه الدار على أحسن مما كانت عليه، بل أزيد من ذلك، وانتهى خبرها إلى أحمد بن بويه فأحب النظر إليها؛ فاصطنع له طعاماً ورتب الناس على أحسن ما يكون من ترتيب مثله، وفرش مجالسها وقبابها ومحالها وخباءها ورحابها وخورنقاتها وجيرياتها، بألوان المثقل بالمذهب، والأرمني الرفيع على أصنافه، والخزو المقطوع المرقوم المثقل بالذهب على أجناسه وألوانه، والمحفور الدجلي القديم والمحفور الأرمني، وغير ذلك من أصناف الفرش مما أحدثه العراقيون.
وكان ذلك على حين طيب الزمان، واجتماع خيرات كل أوان، في زمن الورد ووقت النيروز الفارسي، وهو حين تكامل النبت وزيادة المياه، وطلوع الثمار، وزهر الأشجار.
واصطنع في البستان الأعظم على البركة التي يجتمع بفنائها الجبلي والشرقي دجلة والفرات قصراً مبنياً من السكر على أربع طبقات، بأبواب تدور به، وأبواب تغلق عليها من فوقها طبقة فطبقة، تطلع من تلك الأبواب صور من السكر على هيئة الجواري الغلمان بصنوف الملاهي في أحسن الملابس والحلل، وجعل على شرفاتها وطبقاتها وحناياها صور أنواع الطير والحيوان والوحش، وجعل من ورائها رجالاً تنفخ بالبوقات والمزامير، كل صنف يخرج منه صوت يليق بصورته صوت مثله؛ وكل ذلك من السكر المموه بصنوف الأصباغ والنقوش والذهب. ثم نصب القيان وأصحاب الملاهي على طبقاتهم مفترقين في تلك المجالس.
وحضر أحمد بن بويه وولده بختيار وإبراهيم ومحمد: كل منهم في قواده وجنده وكتابه ووجوه رجاله وحاشيته. وأمر بعرض دجلة. فمد من جانبها الغربي الذي هو الركن المجتمع فيه دجلة والفرات إلى الجانب الشرقي الذي بإزائه حبل مفتول، ونثر على الماء من الورد ما غطى دجلة من الجانب إلى الجانب الآخر، إلا ما خرقته أنواع المراكب من الطيارات والزلالات والحديديات والزبازب والسماريات التي ركبها أحمد وأصحابه إلى من سواهم من العامة، وانتظمت هذه المراكب جانبي دجلة من حد هذه الدار وما بإزائه من الجسر الذي بباب الطاق، وصار المسلوك من دجلة في وسطها، وصار ذلك الورد يستقبل المنحدر إلى الدار يمنعه الحبل المعترض من الجري مع الماء من تحته.

ثم تلقى أحمد وبنيه بما أعد لهم من الكرامة والحباء؛ فكان من صنوف ذلك دنانير ودراهم ضربها في كل دينار منهما ودرهم خمسة دنانير وخمسة دراهم عليها صنوف الصور في أواني الذهب والفضة، الفضة في الذهب، والذهب في الفضة، وأنواع البز من صنوف الحرير والنسيج والخز والشرب وأصناف المتاع، وأعد من الخيل والمراكب والغلمان بصنوف الملابس بقدر ما يقتضيه ما قدمنا ذكره.
ثم اخذ في إطعام الجميع؛ حتى عم سائرهم صغيرهم وكبيرهم. إلى أن وصل ذلك بأصحاب السفن، فأتى على سائرهم طعاماً وشراباً.
ولما حضر الانصراف قدم بين يدي أحمد من تلك الصواني الذهب والفضة من كل صنف صينيتين، في كل واحدة ألف دينار وألف درهم، ومن الخلع والدواب والمراكب ما يشاكل ذلك، وجعل لبختيار بن أحمد ما يشاكل ذلك، ولكل واحد من إخوته نصف ذلك؛ وعم سائر القواد والرؤساء على أقدارهم من كسوة وغيرها، كل إنسان بقدره؛ ثم أمر بنهب القصر السكر، فنهبه الحشم والغلمان والعامة حتى أتوا على آخره.
وقد حكى منصور بن عيسى بن سوادة الكاتب، وكان يلي دواة العباس وكان خصيصى به قديم الصحبة له خبيراً بأمره؛ قال: قدم سيدنا أبو الفضل مقدار ما لزمه على إصلاح المغيض، وبناء الدار، وما أنفقه في الدعوة من ماله سوى ما عضده به الكتاب والعمال والصناع، فكان مبلغه ستمائة ألف دينار، فسئل عن مقدار ما كان أعانه من قدمنا ذكره؛ فقال: هو والله أكثر من أن أحصيه ! ولم يكن للعباس علم ولا ضرب في الكتابة بسهم، ولكن كانت له دراية بالأعمال، وتصرف في أمور السلطان؛ وكانت له همة عالية. ويقال: إن جده فاخراً كان إسكافاً.

زوج العباس بنت المهلبي
وكان العباس تزوج زينة بنت المهلبي، وكانت قد بلغت بها الحال إلى أن اتخذت الجواري الأتراك حجاباً في زي الرجال على ما جرى به رسم السلطان، وكان لها كتاب من النساء؛ مثل سلمى النوبختية، وعائشة بنت نصر القسوري حاجب المقتدر، وغيرهما من القهارمة؛ ومن يتصرف في الأعمال تصرف الرجال، وكان لها كرم وجود في الأموال.
فلما قبض على زوجها أبي الفضل بعد وزارته الثانية لبختيار بن أحمد، وقد صارت الوزارة لمحمد بن بقية اختفت زينة بنت الحسن وسائر أسبابها؛ فجعلت عليها العيون في كل مكان، واستقصى على أبي الفضل زوجها؛ وسلم إلى محمد بن عمر بن يحيى بعد طاهر العلوي، فخرج به من بغداد إلى الكوفة؛ فأقام عنده مدةً يسيرة ثم مات، ودفن هناك في النجف بجوار قبر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
ولم يزل بختيار يطلب زينة وأسبابها، فعثر على أكثر أسبابها فلم يجد لها موضعاً؛ وكان سبب اختفائها منه أنه راسلها في حين القبض على أبي الفضل، وأعلمها أنه يسومه الترك ليتزوج بها؛ فردت أقبح رد، وأنكرت ذلك؛ فكان ذلك سبب اختفائها، وكان لها من الذخائر والودائع في أيدي جماعة مما كان يغني كثيراً من الناس، فلما بلغ بها الأمر طمع كل واحد فيما في يده والغدر به.
ولما كان بعد اليأس من وجودها، ظهر بظاهر الخلد بقرب محلة تعرف بالدسترقين فرد محمل مغطى، فيه امرأة في أخلاق وعند رأسها رقعة مكتوب فيها زينة بنت الحسن بن محمد المهلبي الوزير؛ فاشتهر ذلك عند الخاصة والعامة، ووافى القاضي أبو تمام الحسن بن محمد الهاشمي المعروف بالزينبي، فاحتملها لداره وتولى من أمرها ما يجب لمثلها، ودفنها في مقابر قريش؛ وقد كانت أختاها تحت ولديه أبي الحسن وأبي القاسم.
الحب والطعام
وكان أبو الحارث حسين يظهر لجارية من المحبة أمراً عظيماً فدعته وأخرت الطعام إلى أن ضاق. فقال: يا سيدتي؛ ما لي لا أسمع للغداء ذكراً. فقالت: يا سبحان الله ! أما يكفيك النظر إلي وما ترغبه فيّ من أن تقول هذا ؟ فقال: يا سيدتي؛ لو جلس جميل وبثينة من بكرة إلى هذا الوقت لا يأكلان طعاماً لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه.
شركة
أراد قوم من البصرة الجمع؛ فقال أحدهم: علي الطعام. وقال أحدهم: علي الشراب. وقالوا: ما عليك أنت يا أبا إسحاق ؟ فقال: لعنة الله علي إذا لم آكل وأشرب معكم؛ فضحكوا منه ومضوا به.
ولكن اللجام لي
قال أبو عبيدة: أجريت الخيل في الحلبة؛ فجاء فرس من الخيل سابقاً، فجعل رجل من النظارة يكثر الفرح ويكبر ويصفق. فقال له رجل إلى جانبه: يا فتى؛ الفرس لك ؟ قال: لا ! ولكن اللجام لي !.
طفيلي في عرس

دخل طفيلي عرساً فلم يقدر على الدخول، فأخذ قرطاساً وأدرجه ولم يكتب فيه شيئاً، وسأل عن العروس، هل له قرابة غائب ؟ فقيل: أخوه. فكتب عنوان الكتاب من فلان بن فلان إلى أخيه، وجاء فدق الباب. وقال: معي كتاب من أخي العروس، فخرج العروس مبادراً فأدخله وأحضر له الطعام؛ فلما قرأ العنوان قال: سبحان الله ! تراه نسي اسمي إذ لم يكتبه على الكتاب ؟ فقال الطفيلي: وأعجب من هذا أنه لم يكتب داخله شيئاً من العجلة، فعلم مراده وأدخله.
وأنشد بعضهم لأبي محمد بن وكيع:
بينا أنزّل أمري أن يجي فرجٌ ... مقدّماً فيه بين السّوق والليت
إذا بصرت بباب الدار مستلماً ... فملت مستمعاً أُصغي إلى الصوت
فقلت من جا بباب الدار يقرعه ... نادى أنا فرجٌ زن لي كرى بيتي

عتاب طفيلي على التطفيل ورده
عوتب طفيلي على التطفيل؛ فقال: والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل، ولا نصبت الموائد إلا لتوكل، وإني لأجمع في التطفيل خلالاً، أدخل مجالساً، وأقعد مستأنساً، وأنبسط وإن كان رب الدار عابساً، ولا أتكلف مغرماً، ولا أنفق درهماً، ولا أتعب خادماً.
وصية طفيلي لأصحابه
قال ابن دراج الطفيلي لأصحابه: لا يهولنكم غلق الأبواب، ولا شدة الحجاب، ولا عنف البواب، وتحذير العقاب، ومبارزة الألقاب؛ فإن ذلك صائر بكم إلى محمود النوال، ومغن لكم عن ذل السؤال، واحتملوا الوكزة الموهنة، واللطمة المزمنة، في جنب الظفر بالبغية، والدرك للأمنية، والزموا الطوزجة للمعاشرين، والخفة بالواردين والصادرين. والتملق للملهين والمطربين، والبشاشة بالخدم والموكلين؛ فإذا وصلتم إلى مرادكم فكلوا محتكرين؛ وادخروا لغدكم مجتهدين؛ فإنك أحق بالطعام ممن دعي إليه، وأولى ممن صنع له؛ فكونوا لوقته حافظين، وفي طلبه متمسكين، واذكروا قول أبي نواس:
ليخمس مال اللّه من كلّ فاجرٍ ... وذي بطنةٍ للطيبات أكول
تقاصر لينالك الضرب
جلد بعض الشرط رجلاً وكان الجلاد قصيراً دميماً والمجلود طويلاً؛ فقال له الجلاد: تقاصر لينالك الضرب. فقال: ويلك ! إلى أكل الفالوذج تدعوني ؟ والله لوددت أن تكون أنت أقصر من يأجوج ومأجوج، وأنا أطول من عوج.
أمنية المبغض
دخل أعرابي من ثقيف على خالد بن عبد الله القسري، فشكا إليه قلة المطر، وجفوف الشجر، وكثرة العيال، وعدم المال. وكان خالد مبغضاً لثقيف، فقال: أما ما ذكرته من قلة المطر فوددت أن الله جل اسمه ضرب بينكم وبين السماء صفائح من حديد؛ وجعل مسيلها مما يلي البحر، فلا تصل إليكم قطرة من مائها. وأما ما ذكرت من يبس الشجر فوددت أن الله أحرق ما لديكم من ذلك. وأما ما ذكرت من قلة المال وكثرة العيال فوددت أن الله قطع يديك ورجليك ولم يجعل لأهلك كاسباً غيرك.
فقال: أيها الأمير؛ أصلحك الله، وطئت أرضك، وأملت رفدك، فلا تصرفني بحسرة الحرمان، واجعل قراي منك بقدر أملي فيك، لا بقدر نسبي عندك. قال: يا غلام، أعطه بدرة، ثم زاده أخرى.
النكث في البيع خير من خيانة الشريك
وجلس مالك بن طوق في قصره في شباك مطل على رحبته، ومعه جلساؤه، إذ أقبل أعرابي تخب به ناقته؛ فقال: إياي أراد، ونحو قصد. ولعل معه أدباً ينتفع به، ثم أمر بإدخاله؛ فلما مثل بين يديه قال: ما أقدمك يا أعرابي ؟ قال: سيب الأمير ورجاء نائله. قال: هل قدمت أمام رغبتك وسيلة ؟ قال: نعم ؟ أربعة أبيات قلتها بظهر البرية، فلما رأيت ما بباب الأمير من الهيبة والجلال استحقرتها واستصغرتها. قال: فهل لك أن تنشدنا أبياتك على أن نجيزك عليها ألف درهم، فإن كنت ممن أحسن ربحنا عليك، وإلا فقد نلت مرادك، وربحت علينا. قال: رضيت، وأنشده:
وما زلت أخشى الدهر حتى تعلّقت ... يداي بمن لا يتّقي الدهر صاحبه
فلما رآني الدهر تحت جناحه ... رأى مرتقىً صعباً منيعاً مطالبه
رآني بحيث النّجم في رأس باذخٍ ... تظلّ الورى أكنافه وجوانبه
فتىً كسماء الغيث والناس حوله ... إذا قحطوا جادت عليهم سحائبه

فقال: قد والله ظفرنا يا أعرابي، ورزقنا الفلج عليك، والله ما قيمتها إلا عشرة آلاف درهم. قال: فإن لي صاحباً شاركته فيها، وما أراه يرضي ببيعي. قال: أتراك حدثتك نفسك بالنكث ؟ قال: نعم ؟ وجدت النكث في البيع خيراً من خيانة الشريك. فأمر له بعشرة آلاف دينار.

المتوكل وقطاطة
وركب المتوكل زلالاً ومعه قطاطة وعبادة المخنثان، وكان قطاطة طويلاً جداً؛ فجعل يغني إلى أن هبت ريح شديدة وثارت دجلة، فأمسك عن الغناء. فقال له المتوكل: ما لك ؟ قال: يا سيدي؛ أفزعني ما أرى؛ فرفع عبادة يده وصفعه، وقال: يابن الفاعلة ! تتوهم أن في دجلة ماءً يطولك.
لبيد بن ربيعة في مجلس النعمان
لما أراد لبيد بن ربيعة أهله على إحضاره مجلس النعمان، ومقاولة ابن زياد العبسي على ما خاطب به أهله بحضرة النعمان، أراد أهله أن يختبروه لأنهم استصغروه؛ فنظر عمه إلى بقلة لاصقة بالأرض وهي جدير الأرض فقال: صف لنا هذه البقلة حتى أسمع. فقال لبيد: إن هذه البقلة رذلة دقيقة الخيطان، ذليلة الأغصان، لا تذكي ناراً، ولا تستر جاراً، ولا تؤهل داراً، عودها ضئيل، وخيرها قليل، وبلده شاسع، ونبتها خاضع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، أقصر البقول فرعاً، وأخبثها مرعىً، وأصعبها قلعاً، فحرباً لجارها وجدعاً، فالقوا إلي أخا عبس، أرجعه عنكم بتعس، وأتركه من أمره بلبس. فقال له: سر ! فلما قدم على النعمان وعنده الربيع أنشده:
نحن بنو أمّ البنين الأربعه ... الضاربون الهام تحت الخيضعه
والمطعمون الجفنة المدعدعه
من طرف بشار
وكان بشار جالساً على باب داره، فمر به ابن أخيه مع أصحاب له. فقال: أصحاب ابن أخي هؤلاء أتراك. قيل: من أين علمت ؟ قال: لأني لا أسمع لهم حس نعال.
وقيل لبشار: إن فلاناً يزعم أنه لا يبالي بلقاء واحد أو ألف. فقال: صدق؛ لأنه يفر من الواحد كما يفر من الألف.
يطحن مكان الحمار
حكى المدائني، قال: كان في المدينة امرأة جميلة عفيفة ذات زوج، وكان فتىً من أهل المدينة يتبعها كلما خرجت ويعرض لها؛ فلما أذاها شكته إلى زوجها. فقال لها: فما عندك في أمره حيلة ! قالت: قد فكرت في شيء إن ساعدتني عليه. قال: فأنا أساعدك. فبعثت جاريتها إليه تقول: إن الذي بقلبي منك أكثر مما بقلبك مني، ولكني امرأة مستورة ولا أعرف الفساد؛ فكنت أمتنع عليك وفي قلبي النار. فلما بلغته الرسالة استطار فرحاً، وقال للجارية: ما أدري كيف أؤدي شكرك إذ جرى هذا الأمر على يدك، فبلغيها السلام وقولي لها: إني صائر إليك غداً، ووهب للجارية ديناراً. وطالت ليلته حتى أصبح فوجه إليها بجدي وفاكهة. فقالت الجارية: قد وجب علي شكرك لإجابتك إياي في حاجة مولاتي، وأنال أشير عليك بحيلة بها يتم أمرك. قال: وما هي ؟ قالت: سيدتي فيها حشمة وخجل وانقباض عن الرجال، فإذا جلست معك فلا تتعرض لها بكلام ولا بغيره، حتى تشرب معك أقداحاً. قال: نعم ! وصعدت الجارية فعاونت سيدتها على إصلاح الجدي والطعام؛ فلما أحكمتاه نزلت الجارية وبسطت لسيدتها مصلى وجاءت فسلمت وقعدت، وجاءت الجارية بالطشت والماء فغسلت أيديهما، ووضعت المائدة بينهما، وجاءت بالجدي والطعام.
فحين أخذ المخذول اللقمة فوضعها في فمه جاء الزوج فقرع الباب؛ فوضعت المرأة يدها على رأسها وقالت: افتضحت وهلكت. فقال: دعي الجزع واحتالي في موضع أكمن فيه إلى خروجه. قالت: ما أعرف موضعاً يخفى عليه إلا أن تحل الحمار الذي في الدهليز وتقوم في مكانه. فقال: افعلي ! فجاءت الجارية إلى حمار يطحن في الدهليز مشدود العينين فنحته وربطت المغرور مكانه. وقالت: اطحن مكان الحمار ولا تمسك فيفطن بك؛ فإني أرجو أن يخرج سريعاً وترجع إلى سرورك، ثم فتحت الباب ودخل الزوج، فقالت له: خرجت على أن تقيم أياماً ! فما الذي جاء بك الساعة ؟ قالت: كنت عزمت على ذلك فمر بي إخوان فعرضت عليهم المقام في الضيعة. فقالوا: لا يمكننا اليوم، ولكننا إن شاء الله تعالى نصير إليك غداً؛ فأردت أن يكون مجيئهم إلى البيت أسهل علي؛ فبادرت إليك لتصلحي ما يحتاجون إليه وخاصة الدقيق، فينبغي ألا يفتر الحمار في الدقيق.

فجلسا يأكلان والمخذول يطحن، ثم وضعا نبيذاً وجعلا يشربان، والزوج يقول ساعةً بعد ساعة: هاتي العصا لكي أقوم لهذا الحمار الملعون، فإني أراه كسلان؛ ونحن نحتاج إلى الدقيق كثيراً، فتقوم الجارية فتقول له: الله الله في نفسك ! لا تفتر؛ فإني أخاف أن يقوم فيراك.
فلم يزل يطحن دائباً والرجل يشرب مع امرأته إلى أن طلع الفجر، فقام الرجل فتهيأ للصلاة وخرج إلى المسجد، فحلت المغرور وقالت: طر إلى بيتك لئلا يراك إنسان فتفتضح.
فخرج يعدو على وجهه عريان ويده على سوءته، فدخل إلى منزله وبقي مسبوتاً مطروحاً على وجهه لا يحرك عضواً.
فلما كان بعد مدة قالت المرأة لزوجها: قد بقي علينا شيء من الولع بالمخذول. قال: شأنك. فبعثت إليه وقال: مولاتي تقرئك السلام وتقول لك: الله يعلم ما تداخل قلبي مما نزل بك؛ ولوددت أن أقيك بنفسي، ولكن المقادير تنزل من السماء، وإني إليك لمشتاقة، فأحب أن تصير إلينا، فإن زوجي قد خرج إلى موضع له فيه مقام شهر، فنستأنس جميعاً ونسترجع ما فاتنا؛ فالتفت إليها سريعاً، وقال: عسى قد فرغ دقيقكم ؟.

بشار وخال المهدي
ودخل بشار على المهدي ينشد شعراً وعنده خاله يزيد بن منصور الحميري وكان مغفلاً؛ فقال: ما صناعتك أيها الشيخ ؟ قال: أنظم اللؤلؤ. فقال المهدي: أتهزأ بخالي ؟ وما أقول لمن يرى شيخاً أعمى ينشد شعراً فيسأله عن صناعته !
بشار وجواري المهدي
وقالت جواري المهدي له: إن بشاراً لأطيب الناس مفاكهةً، وهو ضرير البصر، ولا غيرة بك علينا معه إذ لا يرانا، فلو أدخلته إلينا ؟ ففعل. فبادرنه وطايبنه وقلن: إنك أبونا. فقال: ونحن على دين كسرى؛ فبلغ ذلك المهدي فمنعه فيما بعد من الدخول عليهن.
أخذه المتنبي فقال:
يا أُخت معتنق الفوارس في الوغى ... لأخوك ثم أرقّ منك وأرحم
يرنو إليك مع العفاف وعنده ... إنّ المجوس تصيب فيما تحكم
بشار أحد الأعاجيب
وبشار بن برد، أحد الأعاجيب، خلق أكمه، وهو يشبه التشابيه التي لم يسبق إليها، مما لا يدركه البصير، وهو أول من فتق البديع للمحدثين. وقتله المهدي سنة سبع وستين ومائة.
سبب قتله
وكان سبب قتله أن المهدي قدم البصرة، فأعطى الشعراء ولم يعط بشاراً شيئاً، فأتى بشار إلى مجلس يونس النحوي، فقال: أههنا أحد يحتشم منه ؟ قالوا: لا ! فأنشده:
فليت ما أنفقت في مصرنا ... كان جميعاً في حر الخيزران
فبلغ ذلك يعقوب بن داود مع ما بلغه من هجائه إياه؛ فدخل على المهدي، فقال له: يا أمير المؤمنين، قد بلغ من هذا الأعمى المشرك أن يهجو أمير المؤمنين ؟ قال: ويحك ! وما قال ؟ قال: تعفيني يا أمير المؤمنين من إنشاد ذلك. فأبى عليه فأنشده ما قال؛ فوجه في حمله؛ فخاف يعقوب أن يقدم على المهدي فيمدحه فيعفو عنه، فوجه إليه من لقيه في البطيحة فضربه بالسياط حتى مات، وجعل يقول: ويلك ! أزعجتني؛ أما علت أني شاعر وليي العهد موسى وهارون. فقال له: يا زنديق، تضرب ولا تقول بسم الله ! قال: ويلك، أثريد هو فأسمي الله عليه.
قال: فأرسل المهدي إلى منزل بشار من يفتشه وهو يقول: لعلنا نجد شيئاً تقام به الحجة. قال: فوجد صندوقاً مقفلاً بقفل وثيق؛ فظنوا أن فيه بعض ما اتهم به، فإذا فيه طومار مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أردت هجاء آل سليمان بن علي لإساءتهم إلي، وطلبهم لي، ثم ذكرت قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتركتهم لله ولرسوله؛ ولكني قد قلت وأنا أستغفر الله تعالى:
دينار آل سليمانٍ ودرهمهم ... كالبابليّين حفّا بالعفاريت
لا يبصران ولا يرجى لقاؤهما ... كما سمعت بهاروتٍ وماروت
من جيد شعر بشار
ومن جيد شعره قوله:
أمن تجنّي حبيبٍ بات غضبانا ... أصبحت من سكرات الموت نشوانا
يا قوم أُذني لبعض الحيّ عاشقةٌ ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهوى فقلت لهم ... الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
يا ليتني كنت تفّاحاً براحتها ... أو كنت من قضب الريحان ريحانا
حتى إذا استنشقت ريحي وأعجبها ... ونحن في خلوةٍ حوّلت إنسانا

لا تعذلوني فإنّي من تذكّرها ... نشوان هل يعذل الصاحون سكرانا
لم أدر ما وصفها يقظان قد علمت ... وقد لهوت بها في النّوم أزمانا
باتت تناولني فاها فألثمه ... جنّيّة زوّجت في النّوم إنسانا
وقال:
يا قرّة العين إني لا أُسّميك ... أكني بأُخرى أُسمّيها وأعنيك
أخشى عليك من الجيران واحدةً ... أو سهم غيران يرميني ويرميك
يا أطيب النّاس ريقاً غير مختبرٍ ... إلاّ شهادة أطراف المساويك
قد زرتنا مرّةً في الدهر واحدةً ... عودي ولا تجعليها بيضة الديك
يا رحمة اللّه حلّي في منازلنا ... حسبي برائحة الفردوس من فيك
إنّ الذي بات مغبوطاً بنعمته ... كفّ تمسّك أو كفّ تعاطيك
يسرني وجهك المعشوق مقبلةً ... وإن توليت راعتني تواليك
كأنّ مسكاً وريحاناً وغاليةً ... ما بين حجلك أو أعلى ذفاريك
وقال:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيفٌ ألم
رفّهي يا عبد عني واعلمي ... أنّني يا عبد من لحمٍ ودم
إنّ لي جسماً ضعيفاً ناحلاً ... لو توكّأت عليه لانهدم
ختم الحبّ لها في عنقي ... موضع الخاتم من أهل الذمم
وإذا قلت لها جودي لنا ... خرجت بالصّمت من لا ونعم
قال مروان بن أبي حفصة: أنشدني بشار هذه القصيدة فلما بلغ هذا البيت قلت له: جعلني الله فداك أبا معاذ ! هلا قلت: خرست، قال لي: فض الله فاك؛ إني إذاً لفي عقلك ! أتطنز علي من أن أجيب بالخرس !

نسب بشار
وبشار مولى لعقيل بن كعب، وهو يفتخر في شعره بالمضرية.
ولما دخل على المهدي في أول دخلاته قال: فيمن تعتد ؟ قال: أما اللسان فعربي، وأما الأصل فكما قلت:
ونبّئت قوماً لهم إحنةٌ ... يقولون ماذا وأنت العلم
ألا أيّها السائلي جاهلاً ... ليعرفني أنا أنف الكرم
نمت في الكرام بني عامر ... فروعي وأصلي قريش العجم
وإني لأُغني مقام الفتى ... وأُصبي الفتاة ولا تعتصم
البيت الأول يشبه قول جميل:
فليت رجالاً فيك قد نذروا دمي ... وهمّوا بقتلي يا بثين لقوني
يقولون لي أهلاً وسهلاً ومرحباً ... ولو ظفروا بي ساعةً قتلوني
إذا ما رأوني مقبلاً من ثنيّةٍ ... يقولون: من هذا ؟ وقد عرفوني
وفي هذه القصيدة يقول بشار
أصفراء ليس الفتى صخرة ... ولكنّه نصب همٍّ وغم
صببت هواك على قلبه ... فباح وأعلن ما قد كتم
وبيضاء يضحك ماء الشبا ... ب في وجهها لك إذ تبتسم
دوار العذارى إذا زرنها ... أطفن بحوراء مثل الصّنم
وفيها يقول يمدح عمر بن العلاء:
إذا أيقظتك حروب العدى ... فنبّه لها عمراً ثم نم
فتىً لا ينام على دمنةٍ ... ولا يشرب الماء إلاّ بسم
دعاني إلى عمرٍ جوده ... وقول العشيرة بحرٌ خضم
ولولا الذي ذكروا لمن أكن ... لمدح ريحانةً قبل شم
يلذّ العطاء وسفك الدماء ... ويغدو على نقمٍ أو نعم
تطوف العفاة بأبوابه ... طواف الحجيج ببيت الحرم
إذا عرض اللهو في صدره ... بدا بالعطايا وضرب البهم
وجال اللّواء على رأسه ... يدوّم كالمضرحيّ القرم
وقال بشار:
حيّيا صاحبيّ أمّ العلاء ... واحذرا طرف عينها الحوراء
عذّبتني بالحبّ عذّبها اللّ ... ه لما تشتهي من الأهواء
إنّ في عينها دواءً وداءً ... لمحبّ، والداء قبل الدواء
يقول فيها يمدح عقبة بن سلم الهنائي:
مالكيٌّ ينشقّ عن كفّه الجو ... د كما انشقّت الدّجا عن ضياء
إنما لذّة الجواد ابن سلمٍ ... في عطاءٍ لراغبٍ أو لقاء

ليس يعطيك للرجاء ولا الخو ... ف ولكن يلذّ طعم العطاء
يسقط الطير حيث يلتقط الح ... بّ وتغشى منازل الكرماء
وكان بشار سجاعاً خطيباً صاحب منثور ومزدوج ورجز ورسائل مختارة على كثير من الكلام.
ودخل على عقبة بن سلم وعنده عقبة بن رؤبة بن العجاج فأنشده أرجوزة، ثم أقبل على بشار، فقال: هذا طراز لا تحسنه يا أبا معاذ. فقال: والله لأنا أرجز منك ومن أبيك ومن جدك. ثم غدا على عقبة من الغد فأنشده أرجوزة أولها:
يا طلل الحيّ بذات الصّمد ... باللّه خبّر كيف كنت بعدي
بدت بخدٍّ وجلت عن خدّ ... ثم انثنت كالنّفس المرتدّ
وصاحب كالدمّل الممدّ ... حملته في رقعةٍ من جلدي
حتى اغتدى غير فقيد الفقد ... وما درى ما رغبتي وزهدي
الحرّ يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الردّ
يقول فيها:
اسلم وحيّيت أبا الملدّ ... والبس طرازاً غير مستردّ
للّه أيامك في معدّ
وهي طويلة. فأجزل صلته؛ فلما سمع ابن رؤبة ما فيها من الغريب قال: أنا وأبي وجدي فتحنا الغريب، وإني لخيلق أن أسده عليهم ! فقال بشار: ارحمهم رحمك الله ! قال: أتستخف بي وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر ؟ قال: فإذاً أنت من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

من نوادر جامع بن وهب
كان جامع بن وهب الصيدلاني من أكبر الناس دنيا، وأعظمهم غفلة، اشترى مرة ثلجاً كثيراً، فقيل له: إنه كثر. فقال: أريد أن أمصه وأرمي بثفله.
وأعطي ببغل له ثمناً خسيساً، فقال: ما للعقار ببغداد قيمة ! ودخل بستاناً له؛ فقال لوكيله: اغرس لي بصلاً بخل؛ فإنه نافع للصفراء.
وكتب إليه بعض الكتاب كتاباً، فأجابه عنه، وعنوانه: من ذاك الذي كتب إلي.
وعثرت به البغلة؛ فقال لغلامه: انظر هل سال من أصبعها دم ؟ وكتب إلى ابنه وقد خرج من مكة: يا ولدي، إن قدرت أن تضحي عندنا فافعل، لنفرح بك في العيد ! وسقطت ابنته في البئر، فقال: يا بنية، لا تبرحي من مكانك حتى أجيء بمن يخرجك منها !
من نوادر المغفلين
وتبخر مغفل في ثياب نفيسة فاحترقت، فحلف بالطلاق لا يتبخر بعدها إلا عريان.
وأتى آخر ليكسر لوزة؛ فزلقت عن الحجر. فقال: كل شيء يفر من الموت حتى البهائم أيضاً.
واعظ فيه غفلة
وكان بمصر واعظ يقال له أبو عبد الله الخواص، من أشد الناس غفلةً؛ وقف به رجل من العامة يقال له محمد القمقاني الخباز، فقال له: أصلحك الله، لي نفس معلولة لا تجيب إلى شيء من الخير؛ فما يصلحها لي ؟ قال: اقرأ القرآن وأكثر منه. قال: ما أحفظ غير الحمد، وقل هو الله أحد، وقد قرأتهما مرات كثيرة، ونفسي بحالها. قال: فاذكر الموت. قال: لك الله ! قد فعلت فما خشعت، ولا جاء منها شيء. قال: فأكثر حضور مجالس الذكر. قال: من أين أجد ؟ وقد تركت شغلي ولزمت المجالس، ونفسي كما هي. قال: لعن الله نفسك فإنها مشؤومة ملعونة كما قلت؛ والرأي أن تمضي بها إلى جرمان بن مطهر صاحب الشرطة يؤدبها لعله يجيء منها بشيء.
خليفة بيطار
كان هشام بن عبد الملك أحول قبيح المنظر، فعرضت عليه خيل الجند، فعرض رجل من أهل حمص فرساً نفوراً. فقال له هشام: ما هذا ؟ قال: أصلحك الله هو فاره، ولكنه ظن أنك حيزون البيطار. فقال: اعزب في لعنة الله.
تغفل أهل حمص
أصاب حمصي جملاً؛ فقيل له: عرفه ! قال: أبيعه وأعرف ثمنه.
قل علي بن عيسى الوزير: كان يبلغني عن أهل حمص تغفل فأظن أكثره تشنيعاً، حتى دخلتها؛ فإذا برجل بين يدي حجام وقد مص عنقه بمحجمتين لم أر أكبر منهما، وهو يشرط في وسط عنقه؛ فلما رآني أقبلت في موكب قال: من هذا ؟ فقال الحجام: هذا الوزير علي بن عيسى؛ فقام، والمحجمة في عنقه والدم يسيل على كتفيه وظهره، وقال: السلام عليك؛ إيش كان خبرك أيها الوزير ؟ قلت: خيراً، وانصرف؛ فحلفت ألا أدخل حمص ونزلت بظاهرها حتى أنجزت ما أتيت فيه.
بيع قرد

أقسام الكتاب
1 2 3