كتاب : لباب الآداب
المؤلف : أسامة بن منقذ

بسم الله الرحمن الرحيم
باب
الوصايا
الوصية وصيتان: وصية الأحياء للأحياء - وهي أدب وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وتحذير من زلل، وتبصرة بصالح عمل.
ووصية الأموات للأحياء عند الموت، بحق يجب عليهم أدآؤه، ودين يجب عليهم قضآؤه.
وقد أمرنا بالوصية بذلك عند الموت في الكتاب العزيز، والأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين، فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم " .
وأخبرني الشيخ الصالح أبو الحسن علي بن سالم بن الأعز علي السنبسي رحمه الله بثغر شيزر في سنة تسع وتسعين وأربع مائة، قال: حدثني الشيخ أبو صالح محمد بن علي المهذب بن أبي حامد رحمه الله بمعرة النعمان في منزله، قال: حدثني جدي أبو الحسين علي بن المهذب رحمه الله، قال: حدثنا جدي أبو حامد محمد بن همام، قال: حدثنا محمد بن سليم القرشي، قال: حدثنا إبراهيم بن هدبة عن انس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن امرأتين أتتا النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم: واحدة عليها ثياب خضر، والأخرى عليها ثياب صفر. واحدة تتكلم، والأخرى لاتتكلم، كلتاهما من أهل الجنة؛ قال: تتكلمين وهذه لاتتكلم ؟ قالت: أنا إذ مت أوصيت، وهذه ماتت بغير وصية، فهي لا تتكلم الى يوم القيامة " .
فالوصية مندوب إليها، مأمور بها. وسأورد في هذا الكتاب ما يحضرني منها في اختصار؛ وأفتتحه بشيء مما ورد في الكتاب العزيز من ذلك، ثم ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أفيض في سوى ذلك
فمما ورد في الكتاب العزيز
قول الله عز وجل في سورة النساء - والوصية من الله تبارك وتعالى أمر - : " يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا، تبتغون عرض الحيوة الدنيا، فعند الله مغانم كثيرة، كذلك كنتم من قبل، فمن الله عليكم فتبينوا، إن الله كان بما تعملون خبيرا " ومنها سورة النساء: " ولله ما في السماوات وما في الأرض، ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله، وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنياً حميداً " ومن سورة الأنعام: " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين " ومنها سورة الأنعام: " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم، كذلك زينا لكل أمة عملهم، ثم إلى ربهم مرجعهم، فينبئهم بما كانوا يعملون " ومنها سورة الأنعام: " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، ألا تشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ذالكم وصاكم به لعلكم تعقلون، ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا نكلف نفسا إلا بوسعها، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا، ذالكم وصاكم به لعلكم تذكرون، وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذالكم وصاكم به لعلكم تتقون "

ومن سورة بني إسرائيل: " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا، ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً، وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا، وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " ومن سورة الكهف: " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله، واذكر ربك إذا نسيت، وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا " . ومنها: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا، وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها، وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، بئس الشراب وساءت مرتفقا " ومن سورة طه: " فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى، ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه، ورزق ربك خير وأبقى، وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا، نحن نرزقك والعاقبة للتقوى " ومن سورة العنكبوت: " ووصينا الإنسان بوالديه حسنا، وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون " ومن سورة لقمان: " ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن، وفصاله في عامين، أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير "

ومن الأحاديث في ذلك
عن عبد الله بن عمر رضوان الله عليهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عند لسان كل قائل، فليتق الله عبد، ولينظر ما يقول " روى: " أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أوصني؛ قال: عليك باليأس مما في يدي الناس، وإياك والطمع، فإنه فقر حاضر، وإذا صليت فصل صلاة مودع، وإياك وما يعتذر منه " وعن إسماعيل بن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوصي رجلا فقال: " أقلل من الدين تعش حرا، وأقلل من الذنوب يهن عليك الموت، وانظر في أي نصاب تصير ولدك، فإن العرق دساس " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أوصاني ربي جل وعز بتسعٍ، وأنا أوصيكم بهن: أوصاني بالسر والعلانية، وأن أعفو عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وان يكون صمتي فكرا، ونطقي ذكرا، ونظري عبرا " روى أبو القاسم الزجاجي عن حرملة بن عبد الله قال: " ارتحلت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزداد من العلم، فجئت حتى قمت بين يديه، فقلت: يارسول الله، ما تأمرني أن أعمل به ؟ فقال: يا حرملة، إبت المعروف، واجتنب المنكر، وانظر إلى الذي تحب أن يقوله القوم من الخير إذا قمت من عندهم فأته، وانظر إلى الذي تكره أن يقوله القوم من الشر إذا قمت من عندهم فاجتنبه. قال حرملة: فلما قمت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرت، فاذا هما أمران لم يتركا شيئا من إتيان المعروف واجتناب المنكر " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوصيكم بثلاث، وأنهاكم من ثلاث: أوصيكم بالذكر، فان الله تعالى يقول: " فاذكروني أذكركم " ، وأوصيكم بالشكر، فان الله تعالى يقول: " لئن شكرتم لأزيدنكم " ، وأوصيكم بالدعاء، فان الله تعالى يقول: " ادعوني أستجب لكم " ، وأنهاكم عن البغي، فان الله تعالى يقول: " إنما بغيكم على أنفسكم " ؛ وأنهاكم عن المكر، فإن الله تعالى يقول: " ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله " ؛ وأنهاكم عن النكث، فإن الله جل جلاله يقول: " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " .
وقال عيسى ابن مريم صلى الله عليه لأصحابه: " إذا اتخذتم الناس رؤوسا فكونوا أذنابا " .
وقال عليه السلام: " يا معشر الحواريين، تحببوا إلى الله تعالى ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إليه بالبعد منهم، والتمسوا رضاه بسخطهم " .

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " قدم رسول الله صلى الله عليه السلام المدينة وأنا ابن ثماني سنين، فانطلقت بي أمي إليه، فقالت: يارسول الله، إنه ليس أحد من الأنصار إلا وقد أتحفك بهدية، وإني لم أجد شيئا أتحفك به غير ابني هذا، فأحب أن أتحفك به، وتقبله مني، يخدمك ما بدا لك. قال أنس رضي الله عنه: فخدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين؛ فما ضربني ضربة، ولا سبني سبة قط، ولا انتهزني قط، ولا عبس في وجهي قط. وقال: يا بني، اكتم سري تكن مؤمنا. قال: فكانت أمي تسألني عن الشيء من سر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أخبرها به؛ وإن كانت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم - ورحمة الله عليهن - يسألنني عن سر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أخبرهن به؛ وما أنا بمخبر بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً حتى أموت. قال: وقال لي: يا بني، عليك بإسباغ الوضوء يزد في عمرك ويحبك حافظاك. يا بني، بالغ في غسلك من الجنابة، فإنك تخرج من مغتسلك وليس عليك ذنب ولا خطية. قلت يا رسول الله، وما المبالغة في الغسل ؟ قال: أن تبل أصول الشعر وتنقى البشر. يا بني، كن إن استطعت أن تكون على وضوء فافعل، فإنه من أتاه ملك الموت وهو على وضوء أعطي الشهادة. يا بني، إن استطعت أن لا تزال تصلي فإن الملائكة تصلي عليك ما دمت تصلي. يا بني، إياك والالتفات في الصلاة فإنه هلكة. يا بني إذا ركعت فارفع يديك عن جنبيك، وضع كفيك على ركبتيك. يابني، إذا رفعت رأسك من السجود فأسكن كل عضو موضعه، فإن الله عز وجل لا ينظر يوم القيامة إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه. يابني، إذا قعدت بين السجدتين فابسط ظهري قدميك على الأرض، وضع أليتيك على عقبيك، فإن ذلك من سنتي. ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة. لا تُقْعِ كم يقعي الكلب، ولا تنقر كما ينقر الديك. يابني إذا خرجت من منزلك فلا يقعن بصرك على أحداً أهل القبلة إلا سلمت عليه، فإنك ترجع وقد زيد في حسناتك. يابني، إن استطعت أن تُمسي وتصبح وليس في قلبك غش لأحد فافعل، فإنه أهون عليك في الحساب. يا بني، إن حفظت وصيتي فلا يكونن شيء أحب إليك من الموت " وعن أسامة بن زيد رحمهما الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما كرهت أن يراه الناس منك، فلا تعمله إذا خلوت " .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من الكبائر أن يشتم الرجل والديه. قالوا: وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه " قيل: مر عيسى بن مريم صلى الله عليه على قوم يبكون على ذنوبهم فقال: " دعوها يُغْفر لكم " وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي وقال: " يا أبا هريرة، اتقِ المحارم تكن أعبَد الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسِن إلى جارك تكن مؤمناً، وحبْ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً، وإياك وكثرة الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب " .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرِم جاره. قالوا: يا رسول الله، وما حق الجار على الجار ؟ قال: إن سألك فأعطِه، وإن استعانك فأعنْه، وإن استقرضك فأقرضه، وإن دعاك فأجبه، وإن مرض فعدْه، وإن مات فشيّعه، وإن أصابته مصيبة فعزِّه، ولا تؤذِه بقُتارِ قِدْرِك إلا أن تغرف له منها، ولا ترفع عليه البناء لتسد عليه الريح إلا بإذنه " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أوصني. قال: عليك بتقوى الله، فإنه جِماع كل خير، وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية الاسلام؛ وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنه نور في الأرض وذكر لك في السماء؛ واخزن لسانك إلا من خير، فإنه بذاك تغلب الشيطان "

وعن أبي أمية، قال: سألنا أبا ثعلبة الخشني رحمه الله، فقلنا: كيف نصنع بهذه الآية ؟ قال: أية آية ؟ قلت: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم " ؛ فقال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً. سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " نعم؛ ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر؛ حتى إذا رأيتم شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمراً لا يدان لك به، فعليك بنفسك، ودع أمر العوام، فإن من ورائكم أياماً، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله " وعن عبد العزيز قال: أوحى الله سبحانه إلى داوود عليه السلام: " يا داوود، اصبر على المؤونة، تأتِك المعونة " وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله، وما هن ؟ قال: الشرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال، قال موسى عليه السلام: " يا ربِّ، أيُّ عبادك أغنى ؟ قال: الراضي بما أعطيته. قال: فأيُّ عبادك أحبُّ إليك ؟ قال: أكثرهم لي ذكراً. قال: يا ربِّ، فأي عبادك أحكَم ؟ قال: الذي يحكم على نفسه بما يحكم على الناس " وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن مشى معه أكثر من ميل يوصيه قال: يا معاذ، أوصيك بتقوى الله العظيم، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وحفظ الجار، وخفض الجناح، ولين الكلام، ورحمة اليتيم، والتفقه في القرآن، وحب الآخرة. يا معاذ، لا تُفسد أرضاً، ولا تشتم مسلماً، ولا تصدق كاذباً، ولا تَعْصِ إماماً عادلاً. يا معاذ، أوصيك بذكر الله عند كل شجر وحجر، وأن تحْدِثْ لكل ذنبٍ توبة: السر بالسر، والعلانية بالعلانية. يا معاذ، إني أحب لك ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي. يا معاذ، إني لو أعلم أنّا لو نلتقي لقصرت لك من الوصية، ولكني لا أرانا نلتقي إلى يوم القيامة. يا معاذ، إني أحبَّكم إليّ من لقيني يوم القيامة على مثل الحالة التي فارقتني عليها " قال أبو موسى العطار: حدثني رجل قال: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله، أوصني. فقال: من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كان غده شراً من يومه، فهو ملعون، ومن لم يتفقد النقصان من نفسه فهو في نقصان، فالموت خيرٌ له " عن عقبة بن أبي الصَّهباء قال: لما ضرب ابن ملجم - لعنة الله - أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه دخل عليه الحسن رضوان الله عليه - وهو باكٍ - فقال: ما يبكيك يا بني ؟ قال: وما لي لا أبكي، وأنت في أول يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا ؟! قال يا بني، احفظ عني أربعاً وأربعاً، لا يضرك ما عملت معهن. قال: وما هن يا أبَه ؟ قال: " أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العُجب، وأكرم الحسب حسن الخُلق " . قال: يا أبَهْ هذه الأربع فأعطني الأربع. قال: " يا بني، إياك ومصادقة الكذاب؛ فإنه يقرّب عليك البعيد، ويبعد عليك القريب. وإياك ومصادقة الأحمق؛ فإنه يريد أن ينفعك فيضرك. وإياك ومصادقة البخيل؛ فإنه يقعد عنك أحْوج ما تكون إليه. وإياك ومصادقة الفاجر، فإنه يبيعك بالتافه " وقال محمد بن علي رضوان الله عليهما لابنه: يا بني، لا تكْسَلْ، فإنك إن كسِلتَ لم تؤدِّ حقاً؛ ولا تضجر، فإنك إن ضجِرت لم تصبر على حق؛ ولا تمتنع من حقٍ، فإنه ما من عبد يمتنع من حق إلا فتح الله عليه باب باطل فأنفق فيه أمثاله .

قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: " من عرّض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن؛ ومن كتم سره كانت الخيرة بيده. وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك عليه. ولا تظنَّنَّ بكلمة خرجت من امرئ مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير مخرجاً؛ وعليك بإخوان الصدق فَكِسْ في اكتسابهم، فإنهم زينة في الرخاء، عدة في البلاء. ولا تهاون في الحلف بالله فيهينك. وعليك بالصدق ولو قتلك، ولا تعتز إلى من لا يغنيك؛ واعتزل عدوك؛ واحذر صديقك إلا الأمين: والأمين من خشي الله تعالى. ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك فيفضحك. وتخشَّع عند القبور؛ وآخ الإخوان على قدر التقوى؛ ولا تستعن على حاجتك من لا يحب نجاحها لك؛ وشاور في أمرك الذين يخافون الله عز وجل " ومن عجيب الوصايا ما روي عن قتادة قال: أخبرني محمد بن ثابت بن قيس ابن شماس الأنصاري رحمه الله، قال: " كان ثابت بن قيس رجلاً جهير الصوت، يحب الجمال والشرف، وكان قومه قد عرفوه بذلك. فلما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم " إن الله لا يحب كل مختال فخور " ، انصرف ثابت بن قيس بن شماس رحمه الله من عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينتحب؛ فدخل بيته وأغلق عليه وطفق يبكي، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه بشير بن سعد رحمه الله فأخبره خبره. فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أمره، فقال: أنزل الله تعالى عليك " إن الله لا يحب كل مختال فخور " وأنا أحب الجمال، وأحب أن أسود قومي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لست منهم. إنك تعيش بخير، وتموت بخير وتدخل الجنة. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من بيته، وسرّ بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أنزل الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " ، رجع ثابت ابن قيس بن شماس رحمه الله إلى بيته ينتحب؛ فدخل بيته وأغلق عليه. فافتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه أبا مسعود الأنصاري رحمه الله فأخبره خبره. فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: إن الله عز وجل أنزل عليك " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " وأنا جهير الصوت، فأخاف أن يكون قد حبِط عملي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لست منهم، إنك تعيش حميداً وتقتل شهيداً، ويدخلك الله الجنة. فكان ثابت رحمه الله يتوقع الشهادة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرزقها. فلما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدَّت العرب، وبعث أبو بكر الصديق - رضوان الله عليه - خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى اليمامة، انتدب ثابت بن قيس بن شماس، فعقد له أبو بكر الصديق رضي الله عنه لواءً على الأنصار رضي الله عنهم. ثم سار مع خالد إلى أهل الردة، فشهد وقعة طُلَيحة بن خويلد وأصحابه، ثم شهد اليمامة، فلما رأى انكشاف المسلمين، قال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم: ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفرا لأنفسهما حفرتين وقاما فيهما - مع سالم مولى أبي حذيفة راية المهاجرين، ومع ثابت بن قيس راية الأنصار - حتى قتلا رضي الله عنهما، وعلى ثابت درع له نفيسة كانت لآبائه، فمر به رجل من الضاحية فأخذها عنه، وهو قتيل رحمه الله، فأري بلال بن رباح - رحمه الله - ثابت بن قيس يقول له في منامه: إني أوصيك بوصية، فإياك ان تقول هذا حلم فتضيعها. إني لما قتلت بالأمس جاء رجل من ضاحية نجد، وعليّ درعي فأخذها، فأتى بها منزله فأكفأ عليها برمةً، وجعل على البرمة رحلاً، وخباؤه في أقصى العسكر، إلى جانب خبائه فرس يستن في طوله. فأْتِ خالد بن الوليد فخبِّره، فليبعث إلى درعي فليأخذها، وإذا قدمت على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن عليّ من الدين كذا، ولي من الدين كذا؛ وسعد ومبارك غلاماي حرَّان: فإياك أن تقول هذا حلم فتضيِّعه. فلما أصبح بلال رحمه الله أتى خالداً رحمه الله فخبره الخبر؛ فبعث خالد نفراً إلى الدرع فوجدوها كما قال، فلما قدم بلال رحمه الله المدينة، أتى أبا بكر الصديق رضوان الله عليه فأخبره بوصية ثابت بن قيس بن شماس رحمه الله فأجازها. فلا نعلم أحداً من المسلمين أُجيزت وصيته بعد موته على هذا الوجه إلا ثابت بن قيس بن شماس رحمه الله " .

عن الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال لي أبي: إني أرى أمير المؤمنين - يعني عمر بن الخطاب رضوان الله عليه - يدنيك دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فاحفظ عني ثلاثاً: لا يجرّبَنَّ عليك كذباً، ولا تغتابنَّ عنده أحداً، ولا تفشينَّ له سراً. قال: فقلت: يا أبا عباس كل واحدة خير من ألف دينار، قال: كل واحدة منهن خير من عشرة آلاف دينار .
قال عبد الله بن الحسن بن الحسين رضوان الله عليهم لابنه محمد رضي الله عنه: يا بني، احذر مشورة الجاهل وإن كان ناصحاً، كما تحذر العاقل إذا كان عدواً؛ فيوشك أن يورطك الجاهل بمشورته في بعض اغتراره، فيسبق إليك مكروه فكر العاقل. وإياك ومعاداة الرجال، فإنها لن تعدِّيك مكرَ حليم أو مفاجأة جاهل .
كتب إلى عبد الله بن الحسن رضي الله عنهما صديقٌ له: أوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنه جعل لمن اتقاه من عباده المَخْرَجْ مما يكره، والرزق من حيث لا يحتسب .
دخل كعب الأحبار يوماً على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، فأمره بالجلوس إلى جانبه، فتنحَّى كعب قليلاً، فقال له عمر: ما منعك من الجلوس إلى جانبي ؟ قال: يا أمير المؤمنين، وجدت في حكمة لقمان مما أوصى به ابنه أن قال له: يا بني، إذا قعدت إلى ذي سلطان فليكن بينك وبينه مقعد رجلٍ، فلعله أن يأتيه من هو آثر عنده منك، فيريد أن تنحَّى له عن مجلسك، فيكون ذلك نقصاً عليك وشيناً .
قال المدائني: قال زيد بن علي رضي الله عنهما لأصحابه: أوصيكم بتقوى الله، فإن الموصي بها لم يدخر نصيحة، ولم يقصر في الإبلاغ. فاتقوا الله في الأمر الذي لا يفوتكم منه شيء وإن جهلتموه؛ وأجملوا في الطلب، ولا تستعينوا بنِعَم الله على معاصيه. وتفكروا وأبصروا: هل لكم قِبَلَ خالقكم من عمل صالح قدَّمتموه فشكره لكم ؟ فبذلك جعلكم لله تعالى أهل الكتاب والسنة، وفضلكم على أديان آبائكم. ألم يستخرجكم نُطفاً من أصلاب قوم كانوا كافرين، حتى بثكم في حجور أهل التوحيد، وبث من سواكم في حجور أهل الشرك ؟ فبأي سوابق أعمالكم طهَّركم ؟ إلا بمنّه وفضله الذي يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم .
كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول لأصحابه: لا تكلفوا من أمور الناس ما لم تُكلَّفوا، ولا تحاسبوهم دون ربهم تعالى. ابن آدم، عليك نفسك: فإنه من يُكثِر تتبُّع الناس لما يرى في أيديهم يطل حزنه، ويكثر فكره، ولا يُشْفَى غيظه .
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه في وصيته: إنه لا بد لك من نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج. فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه، فإنه سيمر على نصيبك من الدنيا فينتظمه انتظاماً، ويزول معك حيث ما زلت .
عن الأحنف بن قيس رحمه الله قال، قال لي عمر رضوان الله عليه: يا أحنف، من كثر ضحكه قلَّت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عُرف به، ومن كثُر كلامه كثُر سقطُه، ومن كثُر سقطُه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه
لا تله عن أمر وهَى منه جانب ... فيتبعه في الوَهْيِ لا شكَّ سائره
إذا طَرَفٌ من حَبْلك انحَلَّ صدرُه ... تداعت وشيكَا بانحلالٍ مرائره
وقال آخر :
اقضِ الحوائجَ ما استطع ... ت، وكُنْ لهمِّ أخيك فارِجْ
فَلَخَيْرُ أيامِ الفتى ... يومٌ قَضى فيه الحوائجْ
كتب بعض الحكماء إلى أخ له: أما بعد، فاجعل القنوع ذخراً تبلغ به إلى أن يفتح باب يحسن بك الدخول فيه؛ فإن الثقة من القانع لن تخذل، وعون الله سبحانه مع ذي الأناة. وما أقرب الصنع من الملهوف ! وربما كان الفقر نوعاً من آداب الله عز وجل، وخيرةً في العواقب. والحظوظ مراتب. فلا تعجل على ثمرة لم تُدرك، فإنك تدركها في أوانها عذبة. والمدبر لك أعلم بالوقت الذي تصلح فيه لما توصل به؛ فثق بخيرته لك في الأمور كلها .
وقال المهلَّب بن أبي صفرة رحمه الله لولده: إذا سمع أحدكم العوراء فليتطأطأ لها تخطَّه .
قال أبو حازم رحمه الله: رأيت الدنيا شيئين: لي ولغيري: فما كان لغيري فلا سبيل إليه، وما كان لي فلو جهدت لم أقدر عليه قبل وقته. ففيم أتعب نفسي ؟

قال المدائني: لقي رجل راهباً فقال له: يا راهب، كيف ترى الدهر ؟ قال: يُخلِق الأبدان، ويُجدِّد الآمال، ويُقرِّب المَنيّة. قال: فما حال أهله ؟ قال: من ظفر به تعب، ومن فاته نصب. قال: فما المغني ؟ قال: قطع الرجاء. قال: فأي الأصحاب آثر وأوفى ؟ قال: العمل الصالح والتقوى. قال: فأيهم أضرَّ وأردى ؟ قال: النفس والهوى. قال: فأين المخرج ؟ قال: سلوك المنهج. قال: وما هو ؟ قال: ترك الراحة وبذل المجهود. قال: أوصني، قال: قد فعلت عن الشعبي قال: قلت لابن هبيرة: عليك بالتُؤَدة فإنك على رد ما لم تفعل أقدر منك على رد ما فعلتَ .
عن العتبي، قال: حدثني بعض علماء الفرس أن أردشير قال لابنه: يا بني، إن المُلك والدِّين أخوان، ولا غِنى بأحدهما عن صاحبه، ولا قوِام له إلا به. الدين أُسٌ، والمُلك حارس؛ فما لم يكن له أس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع. يا بني، اجعل مرتبتك مع أهل المراتب، وعطيتك لأهل الجهاد، وبشرك لأهل الدين، وسرك لمن يعنيه ما عناك من أهل العقل .
وعن سعد بن عبد العزيز رحمه الله قال: من أحسن فليرجُ الثواب، ومن أساء فلا يستنكر الجزاء، ومن أخذ عزاً بغير حق أورثه الله تعالى ذلاً بحق، ومن جمع مالاً بظلم أورثه الله فقراً بغير ظلم .
ووصى حكيم ابنه فقال: يا بني، إن المُدْبِر لا يوفَّق لطرق المراشد. فإياك وصحبة المدبر؛ فإنك إن صحبته علق بك إدباره، وإن تركته بعد صحبتك إياه تتبعت نفسك آثاره .
وقال الحكيم: من التوفيق حفظ التجربة .
وقال بعض العلماء: صُنْ عفتك بالحلم، ومروءتك بالعفاف، ونجدتك بمجانبة الخيلاء، وجهدك بالإجمال في الطلب .
كتب حكيم إلى حكيم: من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر في العواقب نجا، ومن أطاع هواه ضل، ومن لم يحلم ندم، ومن صبر غنِم، ومن خاف رحِم، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهِم، ومن فهم علِم .
قال أنوشروان لابنه: يا بني، إن من أخلاق الملوك العز والأنفة. وإنك ستُبلى بمداراة أقوام، وإن سَفَهَ السفيه ربما تُطْلَعُ منه فإن كافأته بالسفه فكأنك رضيت بما أتى. فاجتنب أن تحتذي على مثاله، فإن كان سفهه عندك مذموماً فحقِّق ذمَّك إياه بترك معارضته بمثله .
عن عطاء بن مسلم الخَفَّاف قال، قال لي سفيان رضي الله عنه: يا عطاء، احذر الناس، وأنا فاحذرني. فلو خالفت رجلاً في رمَّانة، قال: حامضة، وقلت: حلوة؛ أو قال: حلوة، وقلت: حامضة - : لخشيت أن يشيط بدمي .
أوصى رجل ابنه فقال: إن وصيتي مع وصية الله عز وجل لَهُجْنَة، وإن في التذكرة لَيقظة، وعَوْدُ الخير محمود. وأنا أسترعي لك - بعد وفاتي - الذي أحسن إليك في حياتي. تحرَّ في كل أمرك طاعة الله تُنْجِك، وإياك فالأخرى فتُردك. وابذل لِجِلَّةِ الناس إكرامَك تنصرف إليك أبصارهم، وابذل لسائرهم بشْرَك يطِبْ ذكرُك في أفواههم. وأصلِح بكلِّ الأدب لسانك، واستعمل في إصلاحها بدنك؛ فإن الأدب أول مدلول به على عقلك .
وأوصى بعض الحكماء بنيه فقال: أصلحوا ألسنتكم، فإن الرجل تنوبه النائبة فيستعير من أخيه ثوبه، ومن صديقه دابته، ولا يجد من يعيره لسانه .
قال الصولي: كاتبت أبا حنيفة رحمه الله فأغفلت التاريخ، فكتب إلي: وصل كتابك مبهم الأوان، مظلم البيان، فأدى خبراً ما القرب فيه بأولى من البعد منه. فإذا كتبت - أعزك الله - فلتكن كتبك موسومة بالتاريخ، لأعرف أدنى آثارك وأقرب أخبارك قال أبو العيناء: سمعت الحسن بن سهل يقول: من أحبَّ الازدياد من النعم فليشكر، ومن أحب المنزلة عند السلطان فليعظه، ومن أحب بقاء عزه فليتواضع، ومن أحب السلامة فليدم الحذر .
قال لقمان لابنه: إياك وصاحب السوء، فإنه كالسيف المسلول: يعجب منظره، ويقبح أثره، ولا يهوننَّ عليك من قبح منظره ورثّ لباسه، فإن الله تعالى إنما ينظر إلى القلوب ويجازي بالأعمال .
كان قسّ بن ساعدة يفد على قيصر ويزوره، فقال له: يا قس، ما أفضل العقل ؟ قال: معرفة المرء بنفسه. قال: فما أفضل العلم؟، قال: وقوف المرء عند علمه. قال: فما أفضل المروءة ؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. قال: فما أفضل المال ؟ قال: ما قضي به الحق .
لما حضرت أبا بكر الصديق - رضوان الله عليه - الوفاة دعا عثمان بن عفان، رضوان الله عليه، وقال: اكتب .

بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قُحافة، في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها؛ حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدِّق الشاك المكذب: إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، فإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً. فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدَّل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا يعلم الغيب إلا الله " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " ، والسلام عليكم ورحمة الله .
روي أن عمر - رضوان الله عليه - أوصى ابنه عبد الله عند الموت، فقال: عليك بخصال الإيمان. قال: وما هنَّ يا أبَه ؟ قال: الصوم في شدة أيام الصيف، وقتال الأعداء بالسيف، والصبر على المصيبة، وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتي، وتعجيل الصلاة في يوم الغيم، وترك ردْغًة الخَبَال. قال فقال: وما ردغة الخبال ؟ قال: شرب الخمر ... وقال: إذا قبضت فغمضني، واقتصد في الكفن، ولا تخرجن معي امرأة، ولا تزكوني بما ليس فيّ، فإن الله تعالى هو أعلم بي. وأسرعوا بي في المشي، فإنه إن كان لي عند الله خيرٌ قدَّمتموني إلى ما هو خير لي، وإن كنت على غير ذلك كنتم قد ألقيتم على رقابكم شراً تحملونه .
لما حضرت عبد الله بن شداد الوفاة دعا ابنه محمداً فقال له: يا بني، أرى داعي الموت لا يقلِع، ومن مضى منَّا لا يرجع، ومن بقي فإليه ينزِع، وليس أحد عليه بممتنع؛ وإني أوصيك - يا بني - بوصية فاحفظها: عليك بتقوى الله العظيم، وليكن أولى الأمور بك الشكر لله وحسن النية في السر والعلانية. واعلم بأن الشاكر مزاد، والتقوى خير زاد. وكن - يا بني - كما قال الحطيئة :
ولست أرى السعادة جمع مالٍ، ... ولكن التقيَّ هو السعيدُ
وتقوى الله خير الزاد ذخراً ، ... وعند الله للأتقى مزيدُ
وما لا بد أن يأتي قريبٌ ... ولكن الذي يمضي بعيدُ
ثم قال: يا بني، لا تزهدن في معروف؛ فإن الدهر ذو صروف، والأيام ذات نوائب، على الشاهد والغائب. فكم من راغب كان مرغوباً إليه، وطالب قد أصبح مطلوباً ما لديه. واعلم بأن الزمان ذو ألوان، ومن يصحب الزمان يرى الهوان. وكن كما قال أخو بني الدُّئِل أبو الأسود الدؤلي :
وعَدِّدْ من الرحمن فضلاً ونعمةً ... عليك، إذا ما جاء للخير طالبُ
وإن امرأً لا يرتجى الخير عنده ... يكن هيِّناً ثِقْلاً على من يصاحبُ
فلا تمنعنْ ذا حاجة جاء طالباً ؛ ... فإنك لا تدري متى أنت راغبُ
رأيتُ تصاريف الزمان بأهله ... وبينهم فيه تكون النوائبُ
ثم قال: يا بني، كن جواداً بالمال في مواضع الحق، بخيلاً بالأسرار عن جميع الخلق؛ فإن أحمد جود الحر الإنفاق في وجوه البر؛ وإن أحمد بخل الحر، الضَن بمكتوم السر، وكن - يا بني - كما قال قيس بن الخطيم الأنصاري :
أجود بمضنون التلادِ وإنني ... بسرِّك عمن سالني لضنينُ
إذا جاوز الاثنين سرٌ، فإنه ... بنَثٍّ وتكثير الحديث قمينُ
وإن ضيَّع الإخوان سراً فإنني ... كتوم لأسرار العشير أمينُ
وعندي له يوماً إذا ما ائتُمِنتهُ ... مكانٌ بسوداءِ الفؤاد مكينُ
ثم قال: يا بني، وإن غلبت يوماً عن المال فلا تدع الحيلة بكل مكان؛ فإن الكريم محتال، واللئيم مغتال. وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالاً - : أقل ما تكون في الباطن مالاً. واعلم أن الكريم من كرمت عند الحاجة طبيعته وظهرت عند الإنفاد نعمته وكن كما قال الشاعر ابن خذّاق العبدي :
وجدتُ أبي قد أورثه أبوهُ ... خلالاً قد تعدُّ من المعالي
فأكرمُ ما تكون عليَّ نفسي ... إذا ما قل في الأزمات مالي
فتحسن سيرتي، وأصون عِرْضي ... ويجمُلُ عند أهل الرأي حالي
فإن نلت الغنى لم أغلُ فيه ... ولم أخصُصْ بجفوتي الموالي
ثم قال: يا بني، وإن سمعت كلمةً من حاسد، فكن كأنك لست بالشاهد، فإنك إن أمضيتها حيالها، وقع العيب على من قالها. وقد كان يقال: إن الأريب العاقل هو الفطن المتغافل. وكن كما قال حاتم الطائي :
وما من شيمتي شتمُ ابن عمي ... وما أنا مخلفٌ من يرتجيني
وكلمةِ حاسدٍ من غير جُرْمٍ ... سمعتُ، فقلتُ: مرّي فانفذيني

فعابوها عليَّ ولم تعِبْني ... ولم يعْرَق لها يوماً جبيني
وذو اللونين يلقاني طليقاً ... وليس إذا تغيَّب يأتليني
بصُرْتُ بعيبهِ فكفَفْتُ عنه ... محافظةً على حسبي وديني
ثم قال: يا بني، لا تواخِ أخاً حتى تعاشره وتعرف أمره، وتتفقد موارده ومصادره؛ فإذا استطبت العشرة، ورضيت الخِبرة، فآخه على إقالة العثرة، والمواساة في العُسْرة. وكن - يا بني - كما قال المقنَّع الكندي :
أُبْلُ الرجالَ إذا أردتَ إخاءهم ... وتوسَّمَنَّ فَعَالهم وتفقَّدِ
فإذا ظفرتَ بذي الأمانة والتُّقى ... فَبِهِ اليَدَيْنِ قريرَ عَيْنٍ فاشْدُدِ
وإذا رأيتَ ... ولا محالةَ زلَّةً فعلى أخيك بفضلِ حِلْمِكَ فارْدُدِ
ثم قال: يا بني، وإذا أحببت حبيباً فلا تفرط، وإذا أبغضت بغيضاً فلا تشطط، فإنه قد قال أمير المؤمنين رضوان الله عليه : " أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما. وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما " . وكن كما قال الشاعر هدبة بن الخشرم العذري :
وكنْ معقِلاً للخير، واصفحْ عن الخَنَى ... فإنك راءٍ ما حييتَ وسامعُ
وأحبِبْ ... إذا أحببت حباً مقارباً فإنك لا تدري متى أنت نازعُ
وأبغض ... إذا أبغضت بغضاً مقارباً فإنك لا تدري متى الود راجع
وعليك - يا بني - بصحبة الأخيار وصدق الحديث، وإياك وصحبة الأشرار فإنه عار. وكن كما قال الدارمي :
صاحب الأخيار وارغب فيهم ... رُبَّ من صاحبته مثلُ الجَرَبْ
ودَع الناس فلا تشتمهم ، ... وإذا شاتمت، فاشتم ذا حسبْ
إن من شاتم وغداً كالذي ... يشتري الصفرَ بأعيان الذهبْ
واصدق الناس إذا حدَّثتهم ... ودع الكذب فمن شاء كذبْ
رُبَّ مهزولٍ سمينٌ عِرْضُه ... وسمينِ الجسم مهزولُ الحسَبْ
ثم قال: يا بني، وإذا آخيت فآخ من يعد لنوائب الزمان. وعليك بذوي الألباب الذي ثقفتهم الآداب، ووثَّقتهم الأحساب، فإنهم أطيبُ مختبر، وأكرم محْتضر، وأعذب معتصر. واحذر إخاء كلِّ جهول، وصحبة كل عجول، فإنه لا يغفر الزَّلَة، وإن عرف العلَّة، سريعٌ غضَبه، عالٍ لهبه، إن سأل ألحف، وإن وعد أخلف، يرى ما يعطيك غُرماً، وما يأخذ منك غُنْماً؛ فهو يرضيك، ما طمع فيك؛ فإذا يئس من خيرك، مال إلى غيرك. وفي مثله يقول الشاعر :
لا تواخ ... الدهر جِبْساً راضعاً مُلْهَبَ الشرّ، قليل المنفعهْ
ما ينلْ منك فأحلى مغنمٍ ... ويرى ظرفاً به أن يمنعهْ
يسألُ الناس ولا يعطيهمُ ... ثكِلتْهُ أُمُّهُ، ما أطمَعَهْ !
ثم قال: يا بني، من عتب على الزمان، وتتبع عثرات الإخوان، قطعهُ صديقه، وملَّه رفيقه، واحتماه الأهلون، وظفر به الشامتون، ومن سار في البلاد ثمَّر المراد. وطالب الكفاف - بالقناعة والعفاف - : يعيش حميداً، ويموت فقيداً. وقد قال النابغة :
إذا المرء لم يطلُب معاشاً لنفسِه ... شكا الفقرَ، أولامَ الصديق فأكثرا
وصارَ على الأدنينَ كلاًّ، وأوشكتْ ... صلاتُ ذوي القربى له أن تنكَّرا
فسرْ في بلاد الله والتمسِ الغنى ، ... تعِشْ ذا يسارٍ أو تموتَ فتُعذرَا
وما طالبُ الحاجاتِ في كل وجهة ... من الناس، إلا من أجدَّ وشمَّرا
ولا ترْضَ من عيشٍ بدونٍ، ولا تنمْ ... وكيف ينامُ الليلَ من باتَ مُعْسِرا ؟
ثم قال: وليكن إخوانك وأهل بطانتك أولِي الدين والعفاف، والمروءات والأخلاق الجميلة، فإني رأيت إخوانَ المرء يده التي يبطش بها، ولسانه الذي يصول به، وجناحه الذي ينهض به. فاصحب هؤلاء تجدهم إخواناً، وعلى الخير أعواناً. واجتنب الصِّغار الأخطار، اللئام الأقدار، الذين لا يحامون على حسب، ولا يرجعون إلى نسب، ولا يصبرون على نائبةٍ، ولا ينظرون في عاقبةٍ؛ فإنهم إن رأوك في رخاءٍ سألوك، وإن رأوك في شدةٍ أسلموك؛ ولعلهم أن يكونوا عليك مع بعض الأعداء .
واعلم بأن الرجل بلا خدِين، كذي الشِّمال بلا يمين. واخلِطْ نفسك مع الأبرار، وطهرها من الفجَّار، فالمرء يُعرف بقرينه. وقد قال الشاعر :

وقارن ... إذا قارنتَ حراً؛ فإنما يزينُ ويُزري بالفتى قُرَناؤهُ
ولن يهلك الانسانُ إلا إذا أتى ... من الأمر ما لم يرضهُ نُصَحَاؤهُ
إذا قلَّ ما الوجه قلَّ حياؤُهُ ... ولا خيرَ في وجه إذا قلَّ ماؤُهُ
ثم قال: يا بني، قد جمعت لك مصالح نفسك، فاستفتح الله بمسامع عقلك؛ وتفهَّم ما وصفت لك بالتجارب، تحُزْ صلاح العواقب .
واعلم أن من حاسب نفسه تورَّعْ، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر في العواقب نجا، ومن اعتبر أبصر، ومن فهم علم، وفي التواني تكون الهلكة، وفي التأني السلامة. وزارع البر يحصد السرور. والقليل مع القناعة في القصد، خير من الكثير مع السرف في المذلة. والتقوى نجاة، والطاعة ملك؛ وحليف الصدق موفق، وصاحب الكذب مخدول؛ وصديق الجاهل تعب، ونديم العاقل مغتبط. فإذا جهلت فسلْ، وإذا ندمت فأقلع، وإذا غضبت فأمسك. ومن لاقاك بالبشر فقد أدى إلى الصنيعة، ومن أقرضك الثناء فاقضِهِ الفضل .
وضع - يا بني - الصنائع عند الكرام ذوي الأحساب، ولا تضعَنَّ معروفك عند اللئام فتضيعه، فإن الكريم يشكرك ويرصدك بالمكافأة، وإن اللئيم يحسب ذلك حتماً، ويؤول أمرك معه إلى المذلة. وقد قال الشاعر :
إذا أوليتَ معروفاً لئيماً ... فعدَّك قد قتلتَ له قتيلا
فعُدْ ... من ذاك معتدراً إليه وقلْ: " إني أتيتك مستقيلا
فإن تغفر فمجترمٌ عظيمٌ ... وإن عاقبت لم تظلم فتيلا "
وإن أوليت ذلك ذا وفاءٍ ... فقد أودعته شكراً طويلا
لما حضرت المهلب بن أبي صفرة رحمه الله الوفاة، قال لولده وأهله: أوصيكم بتقوى الله، وصلة الرحم: فإن تقوى الله تعقب الجنة؛ وإن صلة الرحم تنسئ الأجل، وتثري المال، وتجمع الشمل، وتكثر العدد وتعمر الديار، وتعز الجانب .
وأنهاكم عن معصية الله تعالى، فإن معصية الله تعقب النار؛ وإن قطيعة الرحم تورث الذلة والقلة، وتقل العدد، وتفرق الجمع، وتذر الديار بلا قِع، وتذهب المال، وتطمع العدو، وتبدي العورة .
يا بني، قومكم قومكم: إنه ليس لكم فضل عليهم، بل هم أفضل منكم، إذ فضلوكم وسودوكم، أوطؤا أعقابكم، وبلغوا حاجتكم فيما أردتم وأعانوكم؛ فإن طلبوا فأطلبوهم، وإن سألوا فأعطوهم، وإن لم يسلوا فابتدئوهم، وإن شتموا فاحتملوهم، وإن غشوا أبوابكم فلتفتح لهم ولا تغلق دونهم .
يا بني، إني أحب للرجل منكم أن يكون لفعله الفضل على لسانه، وأكره للرجل منكم أن يكون للسانه الفضل على فعله .
يا بني، اتقوا الجواب، وزلة اللسان: فإني وجدت الرجل تعثر قدمه فيقوم من زلته وينتعش منها سوياً، ويزل لسانه فيوبقه ويكون فيه هلكته .
يا بني، إذا غدا عليكم رجل وراح فكفى بذلك مسألة وتذكرة بنفسه .
يا بني، ثيابكم على غيركم أجمل منها عليكم، ودوابكم تحت غيركم أجمل منها تحتكم .
يا بني، أحبوا المعروف، وأنكروا المنكر واجتنبوه، وآثروا الجود على البخل، واصطنعوا العرب وأكرموهم، فإن العربي تعده العدة فيموت دونك، ويشكر لك، فكيف بالصنيعة إذا وصلت إليه في احتماله لها وشكره، والوفاء منه لصاحبها ؟ يا بني، سودوا أكابركم، واعرفوا فضل ذوي أسنانكم؛ وارحموا صغيركم وقربوه وألطفوه، وأجبروا يتيمكم وعودوا عليه بما قدرتم؛ ثم خذوا على أيدي سفهائكم، وتعاهدوا فقراءكم وجيرانكم بما قدرتم عليه؛ واصبروا للحقوق ونوائب الدهور؛ واحذروا عار غدٍ؛ وعليكم في الحرب بالأناة والتؤدة في اللقاء، وعليكم بالتماس الخديعة في الحرب لعدوكم؛ وإياكم والنزق والعجلة، فإن المكيدة والأناة والخديعة أنفع من الشجاعة والشدة .
واعلموا أن القتال والمكيدة مع الصبر، فإذا كان اللقاء، نزل القضاء المبرم. فإن ظفر المرء وقد أخذ بالحزم قال القائل: قد أتى الأمر من وجهه؛ وإن لم يظفر قال: ما ضيَّع ولا فرَّط، ولكن القضاء غالب .
يا بني، الزموا الحزم على أي الحالين وقع الأمر؛ والزموا الطاعة والجماعة؛ وتواصلوا وتوازروا وتعاطفوا، فإن ذلك يثبت المودة، وتحابوا؛ وخذوا بما أوصيكم به بالجد والقوة، والقيام به والتعهد له، وترك الغفلة عنه، تظفروا بدنياكم ما كنتم فيها، وآخرتكم إذا صرتم إليها، ولا قوة إلا بالله .

يا بني، وليكن أول ما تبدؤن به أنفسكم إذا أصبحتم تعلم القرآن والسنن، وأداء الفرائض؛ وتأدبوا بأدب الصالحين من قبلكم من سلفكم؛ ولا تقاعدوا أهل الدعارة والريبة، ولا تخالطوهم، ولا يطمعن في ذلك منكم. وإياكم والخفة في مجالسكم وكثرة الكلام، فإنه لا يسلم منه صاحبه. وأدوا حق الله تعالى عليكم؛ فإني قد أبلغت إليكم في وصيتي، واتخذت الله حجة عليكم .
وتوفي بمرْوٍ الروذ بعد ولاية خراسان أربع سنين. وفيه يقول نهار بن توسعة التميمي :
ألا ذهب الغزو المقرِّبُ للغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلَّبِ
أقاما بمرو الروذ رهن ترابه ... وقد غيبا عن كل شرقٍ ومغربِ
قال الشاعر من وصية عبد الملك بن مروان لبنيه :
انفوا الضغائن والتخاذل عنكمُ ... عند البعيد، وفي الحضور الشُهَّدِ
بصلاح ذات البين طول بقائكم ؛ ... إن مدَّ في عمري وإن لم يمددِ
فَلِمثل ريب الدهر ألفةُ بينكم ... بتواصلٍ وتراحمٍ وتوددِ
وانفوا الضغائن والتخاذل عنكم ... بتكرم وتوسع وتغمدِ
حتى تلين جلودكم وقلوبكم ... لمسودٍ منكم وغير مسودِ
إن القداحَ إذا اجتمعنَ فرامَها ... بالكسْرِ ذو بطشٍ شديد أيِّدِ :
عزَّتْ فلم تُكْسر؛ وإن هي بدِّدَتْ ... فالوهنُ والتكسيرُ للمتبددِ
وقال آخر :
وادنُ ليدنو منك مَنْ كان نائياً ... وَشُبْ منك بعض اللين والبذل في العُدْمِ
تنلْ بارتجاءِ القوم والخوف طاعةً ... فتوصف في التدبير بالحزم والعزمِ
وقال آخر :
نظيرك لا تُظهر عليه تطاولاً ... فتملأَ ضِغْناً صدره بالتطاولِ
ولكن له لِنْ، وارعَ ... إن كنت راعياً له الحق وارمم حاله بالنوافلِ
وقال آخر :
ولا تهدمنَّ بنيان من قد وجدتهُ ... بنى لك بنياناً، وكن أنت بانيا
وقال آخر:
ولا تأمننَّ الدهر حراً وترتَهُ ... ولا تحسبنه ليلُه عنك نائما

باب
السياسة
من سورة آل عمران: " فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين " ومن سورة حم السجدة: " ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال: إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه هو السميع العليم " .
ومن سورة حم عسق: " فلذلك فادع، واستقم كما أُمرت، ولا تتبع أهواءهم، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأُمرتُ لإعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا، وإليه المصير " .
ومن سورة المزمل: " واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا " .
ومن الأحاديث
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يومٌ من إمام عدل خيرٌ من عبادة ستين سنة، وحدٌ يقام في الأرض بحقه أزكى من مطر أربعين صباحاً " .
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من رفق بأمتي رفق الله تعالى به، ومن شق على أمتي شق الله عليه " .
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من الناس أعظم أجراً من وزير صالح مع سلطان يأمره بذات الله فيطيعه " .
وعن أبي رجاء العطاردي رحمه الله قال: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو على المنبر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الوالي العادل المتواضع ظلُّ الله عز وجل في أرضه، فمن نصحه في نفسه وفي عباد الله حشره الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله، ومن غشه في نفسه وفي عباد الله خذله الله يوم القيامة. ويرفع للوالي العادل المتواضع في كل يوم وليلة عمل ستين صديقاً كلهم عابد مجتهد في نفسه " .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحب الناس إلى الله عز وجل وأقربهم منه مجلساً - : الإمام العادل " .

وعن أبي هريرة رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة درجة لا ينالها إلا ثلاثة: إمامٌ عادلٌ، وذو رحم وصول، وذو عيال صبور. فقال علي رضوان الله عليه: وما صبر ذي العيال ؟ قال: لا يمن على أهله بما أنفق عليهم " .
وعن أبي هريرة رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا هريرة، عدل ساعةٍ خيرٌ من عبادة ستين سنة، قيام ليلها وصيام نهارها. يا أبا هريرة، جور ساعة في حكم أشد وأعظم عند الله من معاصي ستين سنة " .
وعن عبد الله بن مغفلٍ رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه مالا يعطي على العنف " .
وقال زياد عن أبيه: جمال الولاية شدة في غير إفراط، وأيمنٌ في غير إهمال.
وقال معاوية رحمه الله لعمرو بن سعيد: ما بين أن تملك الملك رعيته وبين أن يملكها إلا الحزم والتواني.
وعن المدائني قال: قال الوليد بن عبد الملك لأبيه: يا أبه، ما السياسة ؟ قال: هيبة الخاصة مع صدق محبتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع فإن شكرها أقرب للأيدي منها.
وقالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: من أراد الله به خيراً جعل الله له وزير صدقٍ صالحاً؛ إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه.
عهد بعض الملوك إلى وصية فقال: كن بالحق عمولاً قؤولا، وعما جهلت سؤولا، وافحص عن الأمور تنجل، واستبطن أهل التقوى وذوي الأحساب، تزن نفسك وتحكم أمرك. وإياك وقبول التزكية فيما لاتشك أنك فيه مكذوب، فإنها خدعة تتبعها صرعة. ولا تختص بسرك إلا من يكتمه، ولا تول أمرك إلا من يهمه، ولا تثق برجل تتهمه، ولا تعود لسانك الخنا وكثرة التألي، ولا تكلف نفسك مالا تقوى عليه، وإذا هممت بخير فعجله، وإذا هممت بخلافه فتأن فيه، وارحم ترحم.
وعهد آخر إلى وصية فقال: اتق من فوقك، يتقك من تحتك؛ وكما تحب أن يفعل بك فافعل برعيتك، وانظر كل حسنٍ فالزمه واستكثر من مثله، وكل قبيح فارفضه؛ وبالنصحاء يستبين لك ذلك، وخيرهم أهل الدين وأهل النظر في العواقب. ولا تستنصح غاشا، ولا تستغش ناصحاً؛ فربما غش العاقل إذا وتر أو حرم أو كان ضعيف الورع. ولكل طبقة مهنة، وكل ذي علم بأمر فهو أولى به. وإنما رأيت آفة الملوك في ثلاثة أمور، فاحسم عنك واحداً وأحكم اثنين - : اتباع الهوى، وتولية من لايستحق، وطي أمور الرعية عن الراعي، فإنك إن ملكت هواك لم تعمل إلا بالحق، وإن وليت المستحق كان عونا لك على ما يجب، ولم تضع الأمور على يديه. وإذا تناهت إليك الأمور من أمور الرعية على حقائقها، عاش الوضيع، وحذر الرفيع، وأمسك الظلوم، وأمن المظلوم .
قال كسرى: إني ضبطت ملكي بأني لم أهزل في أمر ولا نهي قط ؛ح وأعطيت للغناء لا للرضى، وعاقبت للأدب لا للغضب، وصدقتهم الوعد والوعيد، وعممت بالعدل والإنصاف، وكففت يدي عن دمائهم وأموالهم إلا بحقها.
وغضب كسرى على رجل من أصحابه فأمر بحبسه وقطع ما كان جاريا عليه، فقال له بزر جمهر: إن الملوك تؤدب بالهجران، ولا تعاقب بالحرمان.
لما أقدم محمد بن عبد الله بن خالد أذربيجان - أميراً عليها - جاء قوم إلى كاتبه، فقالوا له: ها هنا أموال قد أخفيت، وحقوق قد بطلت. فكتب الكاتب بذلك رقعة إلى الأمير، فأجابه الأمير في ظهرها: أجر الناس على دواوينهم، وما صح من قوانينهم، واعلم أني ما وردت الناحية لإحياء الرسوم الردية، والاستماع من سقاط الرعية، فلا تركن إلى الفضول، وتدع الذي توجبه العقول، فإنما هي أيام تمضي، ومدة تنقضي؛ فإما ذكر جميل، وإما خزى طويل. وإياك وقول جرير:
وكنتَ إِذا نزلتَ بدارِ قومٍ ... رَحَلتَ بخزيةٍ وتركتَ عاراً
واعمل على أن يكون الدعاء لنا لا علينا .
وقع بعض العمال إلى كسرى قباذ في أنطاكية: للملك، جماعة قد فسدت نياتهم، وخبثت ضمائرهم، وقد هموا بما لم يفعلوا، وهم غير مأمونين على المملكة؛ وهم: فلان وفلان وفلان، فإن رأى الملك أن يعاجلهم فعل. فوقع في رقعته: إنما أملك الأجساد لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالرضى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.
روي أن الموبذ سمع ضحك الخدم في مجلس أنوشروان، فقال له: أما تمنع هؤلاء الغلمان ؟ فقال له أنوشروان: إنما يهابنا أعداؤنا.

أوصى الاسكندر صاحب جيش له، فقال: حبب إلى العدو الهرب. قال: نعم. قال: فكيف تصنع ؟ قال: إن ثبتوا جددت في قتالهم، وإذا انهزموا لم أطلبهم. قال: أصبت.
وقال قتيبة بن مسلم: ملاك السلطان الشدة على المريب، والإغضاء عن المحسن، ولين القول لأهل الفضل.
قال ابن الكلبي: بلغني أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه سأل كبيراً من كبراء فارس: أي ملوككم أحمد عندكم ؟ فقال: لأردشير فضيلة السبق في المملكة، غير أن أحمدهم سيرةً أنوشروان. قال: فأي أخلاقه كان أغلب عليه ؟ قال: الحلم والأناة؛ فقال علي رضوان الله عليه: هما توأمٌ ينتجهما علو الهمة .
وقالت أم جبغويه ملك طخارستان لنصر بن سيار: ينبغي للأمير أن يكون له ستة أشياء: وزير يثق به ويفضي إليه بسره، وحصن يلجأ إليه، إذا فزع أنجاه، تعني فرساً جواداً، وسيفٌ إذا نازل به الأقران لم يخف أن يخونه، وذخيرة خفيفة المحمل إذا نابته نائبةٌ حملها، وامرأة إذا دخل عليها أذهبت همه، وطباخ إذا لم يشته الطعام صنع له شيئاً يشتهيه.
وقال بزر جمهر :عاملوا أحرار الناس بصفو المودة، وعاملوا العامة بالرغبة والرهبة، وعاملوا السفلة بالمخافة صراحاً.
وقال بعض ملوك الفرس لحكيم من حكمائهم: أي الملوك أحزم ؟ قال: من ملك جده هزله، وقهر لبه هواه، وأعرب عن ضميره فعله، ولم يخدعه رضاه عن حظه، ولا غضبه عن كيده.
وقيل لملك قد زال عنه ملكه: ما الذي سلبك ما كنت فيه ؟ قال: دفع عمل يومٍ إلى غد، والتماس عذرٍ بتضييع عمل.
وكتب بعض الحكماء إلى ملك زمانه: لا تستكفين من مهامك مخدوعاً عن عقله. والمخدوع عن عقله من بلغ به قدرٌ لا يستحقه، وأثيب ثواباً لا يستوجبه.
كتب بعض ملوك العجم إلى بعض حكمائهم: إن الحكماء قد أكثروا في وصف خلال أسباب الفتن، فاكتب إلي بما ينشئها ويميتها، فكتب إليه: تنشئها ضغائن، وتنتجها أثرة وأطماع لم يقمعها ذعرٌ وجرأة عامةٍ ولدها استخفافٌ بخاصةٍ، وأكدها انبساط الألسن بضمائر القلوب، وإشفاق موسرٍ، وأمل معسر، وغفلة متلذذٍ، ويقظة محرومٍ. ويميتها ذل مسلوبٍ وعز سالبٍ، ودرك بعيدٍ وموت أملٍ، وذهاب ذعرٍ وتمني رغبٍ. فكتب إليه: الذي وصفت كما وصفت. فأي الامور أدفع لما ذكرت ؟ فكتب إليه: أخذ العدة لما تخاف حلوله، وإيثار الجد حتى تبيد الهزل، والعمل بالعدل في الغضب والرضا.
قال المدائني: لما ولي زياد بن أبيه صعد المنبر بعد صلاة الظهر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني رأيت خلالاً ثلاثاً نبذت إليكم فيها بالنصيحة: رأيت إعظام ذي الشرف، وإجلال ذي العلم، وتوقير ذوي الأسنان، وإني أعاهد الله لا يأتيني شريف بوضيع لم يعرف له شرفه - على ضعته - : إلا عاقبته، ولا يأتيني عالم بجاهل لاحاه في علمه ليهجنه عليه - : إلا عاقبته، فإنما الناس بأعلامهم وذوي أسنانهم. ثم تمثل:
تُهدَى الأُمورُ بأهل الرأْي ماصَلَحتْ ... فإِن تولتْ فبالأشرارِ تَنْقَادُ
لايَصْلُحُ القومُ فَوْضَى لاسَرَاةَ لَهُمْ ... ولاَ سَرَاةَ إذا جُهالُهم سَادُوا
قال أبو الحسن المدائني: أوفد زياد بن أبيه عبيد بن كعب النميري إلى معاوية، فقال له معاوية: أخبرني عن زياد ؟ قال: يستعمل على الخير والأمانة، دون الهوى، ويعاقب على قدر الذنب، ويسمر فيستحزم بحديث الليل تدبير النهار. قال: أحسن. فكيف يعمل في حقوق الناس ؟ قال: يأخذ ماله عفواً. قال: فكيف عطاياه ؟ يمنع حتى يبخل، ويعطي حتى يقال جواد. قال :أحسن. إن البذل رضيع العدل. فكيف الشفاعة عنده ؟ قال: ليس فيها مطمع، وما فعل من خير فلك وله.
عن المدائني قال: لما هلك معاوية، وملك ابنه يزيد، أتته بنو أمية، فأظهر لهم يقظةً وتفقداً لأمور الرعية، حتى بلغ خسيسها، فأعجبهم مارأوا منه، وظهر على ألسن العامة حزمه، فقال لهم عبد الملك بن مروان: مارأيتم منه ؟ فقال أحدهم: أنساني معاوية. فقال: وأي أموره أنساكم معاوية ؟ فقال: من تفقده أمور الرعية ما كان أغفله معاوية. قال: إن معاوية لم يكن يغفل من الأمور مهما؛ فهل يتفقد خسيسها ؟ قال: نعم. قال: أزرى بالمهم، لأنه إذا استكفى بالخسيس لم تفرغ نفسه للمهم .

وقالت الحكماء: إن الملوك حقيقيون باختيار الأعوان فيما يهتمون به من أعمالهم وأمورهم، من غير ان يكرهوا على ذلك أحداً فان المكره لا يستطيع المبالغة في العمل.
وقالوا: ينبغي للملك أن يجتنب السكر، لأنه حارس المملكة، ومن القبيح أن يحتاج الحارس إلى من يحرسه ! وقالوا: إن السلطان إذا كان حارساً ووزراؤه وزراء سوء منعوا خيره من الناس، فلم يجتر عليه أحد ولم يدن منه، وإنما مثله في ذلك كالماء الصافي الطيب الذي فيه التماسيح فلا يستطيع أحد - وإن كان سابحاً وكان إلى الماء محتاجاً - : أن يدخله، وإنما حيلة الملوك وزينتهم أصحابهم: إن يكثروا ويصلحوا.
قالوا: ويجب على الملوك تعاهد عمالهم، والتفقد لأمورهم، حتى لايخفى عليهم إحسان محسنٍ، ولا إساءة مسيء. ثم عليهم بعد ذلك أن لايتركوا محسناً بغير جزآء، ولا يقروا مسيئاً ولا عاجزاً على العجز والإساءة، فإنهم إن صنعوا ذلك، تهاون المحسن، واجترأ المسيء، وفسد الأمر، وضاع العمل.
وقالوا: ينبغي للملك أن يحصن دون المتهم أسراره وأموره، ولا يدينه من مواضع أسراره، ولا من ماء الحوض الذي يعد لغسله، ولا من فرشه ودثاره، ولا من كسوته، ولا من مراكبه، ولا من سلاحه، ولا من طعامه وشرابه، ولا من دهنه وطيبه.
وقالوا: إن اللثيم الجاهل لا يزال ناصحاً حتى يرفع إلى المنزلة التي ليس لها بأهلٍ، فإذا بلغها التمس ما فوقها بالغش والخيانة؛ وإن اللثيم لا يخدم السلطان وينصح له إلا عن فرقٍ أو حاجةٍ، فإذا أمن وذهبت الحاجة عاد إلى جوهره، كذنب الكلب الذي يربط ليستقيم، فلا يزال مستقيماً ما دام مربوطا، فاذا حل عاد إلى أصله فانحنى.
وقالوا: إنما يؤتى السلطان من قبل ست خلالٍ: الحرمان، والفتنة، والهوى، والفظاظة، والزمان، والخرق. فأما الحرمان فأن يحرم من الأعوان والنصحاء والساسة أهل الرأي والنجدة والأمانة، أو يقصد بعض من هو كذلك منهم. وأما الفتنة فتحزب الناس ووقوع الحرب بينهم. وأما الهوى فالإغرام بالنساء والدعة والشراب، أو بالصيد وما أشبه ذلك. وأما الفظاظة فإفراط الشدة حتى ينبسط اللسان بالشتم، واليد بالبطش في غير موضعهما. وأما الزمان فهو ما يصيب الناس من السنين والموتان ونقص الثمرات والغرق وأشباه ذلك. وأما الخرق فإعمال الشدة في موضع اللين، واللين في موضع الشدة.
وقالوا: إن الملوك إذا وكلوا إلى غيرهم ما ينبغي لهم مباشرته بأنفسهم ضاعت أمورهم ودعوا الفساد إلى أنفسهم.
وقالوا: إذا ضيع الملك الفرصة، وترفع عن الحيلة، وأنف من التحرز، وظن أنه يكتفي بنفسه - : فهنالك من سدد إليه سهمه وجد عورته واضحةً، ومقاتله باديةً. وينبغي أن تكون الملوك أغلب على الدين من المدعين له؛ ويحذروا مبادرة السفل إياهم إلى دراسة الدين وتأويله والتفقه فيه، لئلا يحدث في الناس رياسات مستسرة في من قد ضغروا قدره من سفل الرعية وحشو العامة، فإنه لم يجتمع قط رئيس دينٍ ورئيس ملكٍ إلا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس من الملك.
وقالوا: إذا عرف الملك من الرجل أنه قد ساواه في الرأي والمنزلة والهيبة والمال والتبع فليصرعه، وإلا كان هو المصروع.
وقالوا: ينبغي للملك أن يقل الإذن للعامة، لأنهم إذا لم يروه هابوه، وإذا رأوه كثيراً هان عليهم؛ كما أن الأسد يهابه كل من رآه، إلا الرعاة، فإنهم من كثرة مايرونه قد هان عليهم.
وقيل: سلطانٌ تخافه الرعية خيرٌ من سلطان يخافها، وخير الملوك ما أشبه النسر حوله الجيف، لا ماأشبه الجيفة حولها النسور.
وقال أبرويز لابنه: استكثر القليل مما تأخذ، واستقل الكثير مما تعطي؛ واعلم أن قرة أعين الكرام في الإعطاء، وقرة أعين اللئام في الأخذ. والملك إذا كان على رأس الكرماء فهو جدير أن يعطي ما وجد، ويمتنع من الأخذ ما استطاع .
وقال أيضا: املك الرعية بالإحسان إليها، تظفر بالمحبة منها، فإن ذلك بإحسانك أدوم منه باعتسافك، وليس الملك ملك الأبدان. واعلم أن الرعية إن قدرت أن تقول قدرت أن تفعل، فاجتهد أن لاتقول تسلم من أن تفعل.
وقال الحكيم: إذا تناصرت عليك الخصوم فلن يدفع ذلك غير الله سبحانه، ثم عزمٌ لا يشوبه وهن، وصدقٌ لايطمع فيه التكذيب، ومضاءٌ لايقارنه الشك، وصبرٌ لا يختانه جزع، ونيةٌ لا يتقسمها عجزٌ.

وقال الحكيم: يجب على الملك الفاضل أن يحصن عقله من العجب، ووقاره من الكبر، وعطاءه من السرف، وصرامته من العنف، وحياءه من البلادة، وحلمه من التهاون، وإمضاءه من العجلة، وعقوبته من الإفراط، وعفوه من تعطيل الحقوق، وصمته من العي، واستئناسه من البذآء، وخلواته من الإصاعة، وعزماته من اللجاجة، وأناته من الملالة، وفرحاته من البطر، وروعاته من الاستسلام.
وقالت حكماء الهند: الملك إذا لم يقبل من نصحائه ما يثقل عليه مما ينصحون له به - : لم يحمد غب أمره، كالعليل الذي يدع ما يسف له الطبيب ويعود إلى استعمال ما يشتهي، فمن التمس الرخصة من الإخوان عند المشاورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشبهة - : أخطأ الرأي، وازداد مرضاً، واحتمل وزراً.
وقالت حكماء الهند: الملوك ثلاثة: حازمان وعاجز. فاحد الحازمين: من إذا نزل به الأمر المخوف لم يدهش، ولم يذهب قلبه شعاعاً، ولم يعي برأيه وحيلته ومكيدته التي بها يرجو النجاة. والثاني - وهو أحزم من هذا - : ذو العدة الذي يعرف الأمر متقدماً قبل وقوعه فيعظمه إعظامه، ويحتال له حيلته، كأنه رأي عينٍ، فيحسم الداء قبل أن يبتلى به، ويدفع الأمر قبل وقوعه. وأما العاجز: فهو الذي لا يزال في التردد والتمني حق يهلك نفسه.
وقالت الحكماء: الطمأنينة مقرونةٌ بالمضار، والحذر مقرون بالنجاة. ومن ضيع الحزم وهو غني عنه ضيعه الحزم حين يفتقر إليه.
وقالوا: من أخذ بالحزم وقدم الحذر وجاءت المقادير بخلاف مراده - : كان أحمد رأياً وأظهر عذراً ممن عمل بالتفريط، وإن اتفقت له الأمور على ما يريد. فليس على العاقل النظر في القدر الذي لايدري ما يأتيه منه، وما ينصرف عنه؛ وليكن عليه العمل بالحزم في أمره ومحاسبة نفسه في ذلك.
وقال الحكماء: الحازم من لم يشغله البطر بالنعمة عن العمل للعاقبة، والهم بالحادثة عن الحيلة لدفعها .
وقالوا: الحزم: الحذر عند الأمن. والعاقل من حذر الليل والنهار، فإن فيهما مكمن الآفات.
وقالوا: إياك أن يطمعك الاغترار: بالتهاون بالعدو الضعيف، فإن العدو الضعيف المحترس من العدو ) القوي ( - : أحرى بالظفر من العدو القوي المغتر بالعدو الضعيف.
وقالت الحكماء: العجز عجزان: عجز عن طلب الأمر وقد أمكن، والجد في طلبه وقد فات.
وقالت الحكماء: من كانت فيه ثلاث خلالٍ لم يستقم له أمرٌ: التواني في العمل، والتضييع للفرص، والتصديق لكل مخبرٍ .
وقد قيل: أربعة أشياء لا يستقل قليلها: المرض، والنار، والدين، والعداوة.
وقالوا: إن العاقل وإن كان واثقا بقوته وعقله - : فليس ينبغي أن يحمله ذلك على أن يجني على نفسه العداوة والبغضاء اتكالاً على ما عنده من الرأي والقوة. كما أن العاقل إذا كان عنده الترياق لاينبغي له أن يشرب السم اتكالا على ما عنده.
وقالوا: احذر معاداة الذليل، فربما شرق العزيز بالذبابة.
وقالت الحكماء: لاتنم عن عدوك، فإنه غير نائم عنك، ولا تتغافل عنه، فإنه غير متغافل عن تتبع عثراتك، وكيف لايكون كذلك، وهو يرى أن بحياتك يكون موته، وبغناك يكون فقره، وبقوتك يكون ضعفه ؟ ! وقد قال مؤلف الكتاب:
لا تَحْقِرَن مِنَ الضعيفِ عداوَةً ... فالنار يَحرِقُ جمرُها وشَرارُها
واحذَرْ مداجاةَ العدو وكَيدَهُ ... إن العداوةَ لَيسَ تَخْبُو نارُهَا
وقال العربي:
لِلِهِ درك؛ ما تَظُن بثائر ... حرانَ ليس عن التِرَاتِ برَاقد ؟!
أيقظْتَهُ ... ورقدتَ عنه ولم ينم حَنَقاً عليك؛ وكيفَ نَوْمُ الحاقدِ ؟!
إن تُمْكِنِ الأيام منك ... وعلها يوماً يكِلْ لك بالصوَاعِ الزَائِدِ
وقالت الحكماء: إياك والثقة بعدوك إذا صالحك وأظهر لك غاية النصيحة، فإن صلح العدو لا يسكن إليه، ولا يغتر به؛ فإن الماء لو أسخن فأطيل إسخانه لم يمنعه ذلك من إطفاء النار إذا صب عليها. وإنما صاحب العدو المصالح كصاحب حية يحملها في كمه.
وقالوا: إذا أحدث لك عدوك صداقةً - لعلةٍ ألجأته إلى ذلك - فبعد زوال تلك العلة ترجع العداوة إلى ما كانت عليه؛ كالماء الذي يطال إسخانه، فإذا رفع عن النار عاد بارداً .

وقالوا: إن الأحقاد مخوفةٌ حيث كانت، وأشدها ما كان في أنفس الملوك؛ فإن الملوك يدينون بالانتقام، ويرون الطلب بالوتر مكرمةً. فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بسكون الحقد، فإنما مثله في القلب - ما لم يجد محركاً - مثل الجمر المكنون ما لم يجد حطباً. ولا يزال الحقد يتطلع إلى العلل كما تبتغي النار الحطب؛ فإذا وجد علة استعر استعارا النار، فلا يطفئه ماءٌ ولا كلامٌ ولا لينٌ ولا رفقٌ ولا خضوعٌ ولا تضرعٌ، ولا شيءٌ دون الأنفس.
وقد قيل: أحزم الملوك من لم يلتمس الأمر بالقتال، وهو يجد إلى غير القتال سبيلاً، لأن النفقة في القتال من الأنفس؛ وسائر الأشياء إنما النفقة فيها من الأموال والقول.
وقالوا: أضعف حيل الحرب اللقاء. وصرعة اللين والمكر أشد استئصالا للعدو من صرعة المكابرة. والحازم إذا نابه الأمر العظيم المفظع الذي يخاف منه الجائحة المخوفة على نفسه وقومه - : لم يجزع من شدةٍ يصبر عليها، لما يرجو من حميد عاقبتها، ولم يجد لذلك مسا، ولم يشمخ بنفسه عن الخضوع لمن هو دونه، حتى يبلغ حاجته ومقصوده، وهو حامد لغب أمره، لما كان من رأيه وحسن اصطباره.
وقال الشاعر:
إذَا المَرْءُ أَوْلادَك الهوانَ فأَوْلِهِ ... هَواناً، وَإِن كانت قريباً أَوَاصِرُهْ
فإِنْ أَنتَ لم تَقدِرْ على أن تهِينَه ... فذَرْهُ إلى اليوم الذي أَنْتَ قادِرُهْ
وقاربْ إذا ما لم تكُنْ لكَ قُدْرَةٌ ... وَصَمم إذا أَيْقَنْتَ أَنكَ فاقِرُهْ

كتب أرسطاطاليس إلى الإسكندر: " إنك قد أصبحت ملكاً على ذوي جنسك، وأوتيت فضيلة الرئاسة عليهم، فمما تشرف به رئاستك وتزيدها نبلاً - : أن تستصلح العامة، لتكون رأساً لخيار محمودين، لا لشرارٍ مذمومين. ورئاسة الاغتصاب - وإن كانت تذم لخصالٍ شتى - فإن أول ما فيها من المذمة أنها تحط قدر الرئاسة. وذلك: أن الناس في سلطان الغاصب كالعبيد لا كالأحرار، ورئاسة الأحرار أشرف من رئاسة العبيد، ومن تخير رئاسة العبيد على رئاسة الأحرار كمن تخير رعي البهائم على رعي الناس، وهو يظن أنه قد أصاب وغنم. فحال الغاصب - فيما يركب من الغصب - هذه الحال؛ لأنه يطلب محل الملك وشرفه، وليس شيءٌ أبعد من شرف الملك من الاغتصاب، لأن الغاصب في شكل المولى، والملك في شكل الأب اللطيف. ومما يضع قدر الرئاسة ما كان يصنع ملك فارس: فإنه كان يسمي أباه وكل أحدٍ من رعيته: عبيداً. والرئاسة على الأحرار والأفاضل خيرٌ من التسلط على العبيد وإن كثروا؛ وهي عند الناس جميعاً أولى، ولا سيما لذوي الفهم والأخطار. وأنت حقيقٌ أن تسل سخيمة العامة، بما تذيقهم من رفق تدبيرك، وتضعه عنهم من مكروه العنف والخصاصة؛ فإن العبيد إذا عرضوا على المشترين لا يسألون عن يسارهم وجاههم، وإنما يسألون عن أخلاقهم،: وهل فيهم فظاظة ؟ فالأحرار أجدر أن يتعرفوا ذلك، وأن يعروا منه إذا كان ذلك في السلطان؛ ولذلك ما يصيرون إلى خلعه والوثوب عليه. وإذا ظهرت على فئةٍ فضع من أوزار الحرب وأوزار الغضب، لأنهم في تلك الحال كانوا عدوا، وفي هذه الحال صاروا خولاً فقد ينبغي أن تبدلهم من الغضب رحمةً وعطفاً. وقد ينبغي للسلطان أن يعرف مقدار الغضب، فلا يكون غضبه شديداً طويلاً، ولا ضعيفاً قصيراً، فإن ذلك من أخلاق السباع، وهذا من أخلاق الصبيان. ومن كبر الهمة أن يكون الملك متعطفاً على الناس،، فإنه بالعطف والرحمة ينبل ويبعد صيته. وأنا أعرفك على هذا المذهب، ولكني لا آمن أن تتوانى فيه، مما جرى عليك من ناسٍ كثيرٍ من سوء المشورة؛ فإن كثيراً من الناس يشيرون - إذا استشيروا - بغير ما يشاكل المشار عليه، بل بما يشاكلهم، وليس بما ينتفع به في الأمر الحادث، ولكن بما يخصهم نفعه في أنفسهم. وأنا أحب لك أن تقتدي برأي أسندوس حيث يقول: إن فعل الخير في الجملة أفضل من فعل الشر، ومن يستطيع أن يغلب الشر بالخير دون الشر، فهي أشرف الغلبتين؛ لأن الغلبة بالشر جلدٌ، والغلبة بالخير فضيلةٌ. واعلم أنه قد أمكنك أن تودع الناس من حسن أثرك ما ينشر ذكره في آفاق البلاد، ويبقى على وجه الدهر - : فافترصْ ذلك في أوانه. واعلم أن الذي يتعجب منه الناس: الجزالة وكبر الهمة؛ والذي يحبون عليه: التواضع ولين الجانب. فاجمع الأمرين، تستجمع محبة الناس لك، وتعجبهم منك. ولا تمتنع أن تتكلم بما يطيب قلوب العامة؛ فإن الناس ينقادون للكلام أكثر من انقيادهم بالبطش. ولا تحسب أن ذلك يضع من قدرك، بل يزيده نبلاً: أن تنطق بالخير إذ أنت على الشر قادر. واعلم أن التودد من الضعيف يعد ملقاً، والتودد من القوي يعد تواضعاً وكبر همةٍ؛ فلا تمتنع أن تتودد إلى العامة لتحصل لك محبتهم، وتنال الطاعة منهم. واعلم أن الأيام تأتي على كل شيء فتخلق الأفعال، وتمحو الآثار، وتميت الذكر، إلا ما رسخ في قلوب الناس، لمحبةٍ تتوارثها الأعقاب. فاجتهد أن نظفر بالذكر الذي لايموت، بأن تودع قلوب الناس محبة يبقى بها ذكر مناقبك، وشرف مساعيك. ولا ينبغي للمدبر أن يتخذ الرعية مالاً وقنيةً، ولكن يتخذهم أهلاً وإخواناً. ولا ترغب في الكرامة التي تنالها من العامة كرهاً، ولكن التي تستحقها بحسن الأثر وصواب التدبير.
قيل: بلغ بعض الملوك حسن سياسة ملكٍ آخر، فكتب إليه: " قد بلغت من حسن السياسة ما لم يبلغه ملك، فافدني: ما الذي بلغكه ؟ " فكتب إليه: " لم أهزل في أمر ولا نهي ولا وعيد، واستكفيت للكفاية، وأثبت على الغناء لا على الهوى، واودعت القلوب هيبة لم يشبها مقتٌ، ووداً لم يشبه كذب، وعممت بالقوت، ومنعت الفضول " .
قيل: لما أراد الإسكندر الخروج إلى أقاصي الأرض قال لأرسطاطاليس: أخرج معي؛ قال: قد نحل بدني، وضعفت عن الحركة، فلا تزعجني. قال: فأوصني في عمالي خاصةً. قال: أنظر من كان منهم له عبيد فاحسن سياستهم فوله الجند، ومن كانت له ضيعة ٌ فأحسن تدبيرها فوله الخراج.

عن عوانة قال: قال زياد بن أبيه: ماغلبي معاوية في شيء من أمر السياسة إلا في شيء واحدٍ، وذاك: أنني استعملت رجلاً على دست ميسان، فكسر الخراج ولحق بمعاوية، فكتبت إليه أسأله أن يبعثه إلي، فكتب إلي: " بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإنه ليس ينبغي لمثلي ومثلك أن نسوس الناس جميعاً بسياسةٍ واحدةٍ: أن نشتد جميعاً فنحرجهم، أو نلين جميعاً فنمزجهم؛ ولكن تكون أنت تلي الفظاظة والغلظة، وأكون أنا ألي الرأفة والرحمة؛ فإذا هرب هارب من بابٍ وجد باباً فدخل فيه. والسلام " .
قال بعض الحكماء: منازل الرأي أربعة: التقدم في الأمر قبل حلوله؛ فإن قصر فيه فالجد عند وقوعه، فإن قصر عن ذلك فالسعي في التخلص منه، فإن قصر فيه فليس إلا بذهاب الزمان الذي يذهب بنفع صواب الرأي.
روي أن بعض ملوك الفرس سأل حكيماً من حكمائهم: ما شيءٌ يعز به السلطان ؟ قال: الطاعة. قال: فما سبب الطاعة ؟ قال: التودد إلى الخاصة، والعدل على العامة. قال: فما صلاح الملك ؟ قال: الرفق بالرعية، وأخذ الحق منهم في غير مشقة، وأداؤه إليهم عند أوانه، وسد الفروج، وأمن السبل، وإنصاف المظلوم من الظالم، وأن لايفرط القوي على الضعيف. قال: فما صلاح الملك ؟ قال: وزراؤه أصوله؛ فإن هم فسدوا فسد وإن صلحوا صلح. قال: فأية خصلةٍ تكون في الملك أنفع ؟ قال: صدق النية.
وقال بعض الحكماء: لا تصغر أمر عدوٍ تحاربه؛ فإنك إن ظفرت به لم تحمد، وإن عجزت عنه لم تعذر.
وقال الحكيم: يجب على السلطان أن يعمل بثلاث خصال: تأخير العقوبة في سلطان الغضب، وتعجيل مكافأة المحسن، والعمل بالأناة فيما يحدث؛ فإن له في تأخير العقوبة إمكان العفو، وفي تعجيل المكافأة بالإحسان المسارعة في الطاعة من الرعبة، وفي الأناة انفساح الرأي واتضاح الصواب.
وقال أنوشروان: الناس ثلاث طبقاتٍ، تسوسهم ثلاث سياساتٍ: طبقةٌ من خاصة الأبرار، تسوسهم بالعطف واللين والإحسان، وطبقةٌ من خاصة الأشرار، تسوسهم بالغلظة والشدة، وطبقةٌ - وهم العامة - تسوسهم باللين والشدة، لئلا تحرجهم الشدة ولا يبطرهم اللين.
روي ان ملكاً من ملوك اليمن أوصى من يخلفه من بعده، فقال: أوصيتك بتقوى الله، فإنك إن تتقه يهدك ويكفك ويرض عنك، ومتى يرض رب عبد يرضه. وآمرك أن لاتعجل فيما تخاف فيه الفوت؛ فإن العجلة مندمةٌ. وإذا شككت في أمرٍ فشاور من ينصح لك، وإن اتهمت فاستبدل، وإذا استكفيت فاختر، واذا قلت فاصدق، وإذا وعدت فأنجز، وإذا أوعدت في حق فأنفذ. واعلم أنك إن ضبطت حاشيتك ضبطت قاصيتك.
وأوصى ملك من ملوك حمير أخاه، فقال: لا تتجاوز بالأمور حدودها، ولا يكن الإفراط من شأنك في نكالٍ ولا نوال؛ فإنه في النوال يجحف ويكثر فيه عليك ،، وفي النكال ما يؤثمك ويحنق عليك ويبغضك. وإذا أنكرت نفسك فأمسك وغالب هواك، فإنه أضر ما اتبعت، واعمل بالحق فإنه لا يضيق معه شيءٌ، ولا يتعب منه عاقل، ولا يتعقب منه تبعةٌ. وليكن خوف بطانتك منك أشد من أمنهم بك.
وقال الحكيم: ما استعين على العزم بمثل مجانبة الهوى.
وقال آخر: من جعل ملكه خادماً لدينه انقاد له كل سلطان، ومن جعل دينه خادماً لملكه طمع فيه كل إنسان.
وقال آخر: من تمام الكرم أن تذكر الخدمة لك، وتنسى النعمة منك؛ وتفطن للرغبة إليك وتتغابى عن الجناية عليك.
وقال آخر: ما أقبح منع الإحسان مع حسن الإمكان.
وقال آخر: كن بعيد الهمم إذا طلبت، كريم الظفر إذا غلبت، جميل العفو إذا قدرت، كثير الشكر إذا ظهرت.
وقال الآخر: أحسن إلى من كان له قدمةٌ في الأصل، وسابقة في الفضل. ولا يزهدنك فيه سوء الحالة منه، وإدبار الدولة عنه، فإنك لا تحلو - في اصطناعك له وإحسانك إليه - : من نفس حرةٍ تملك رقها، أو مكرمةٍ حسنةٍ توفي حقها، فإن الدنيا تجبر كما تكسر، والدولة تقبل كما تدبر. وقال آخر: بالراعي تصلح الرعية، وبالعدل تملك البرية.
وقال آخر: من ظلم يتيماً ظلم أولاده، ومن أفسد أمره أفسد معاده.
وقال آخر: أفضل الملوك من أحسن في فعله ونيته، وعدل في جنده ورعيته؛ وأعظم الملوك من ملك نفسه وبسط عدله.
وقال آخر: سلطان السوء يخيف البريء ويصطنع الدنيء.
وقال الحكيم: ليكن مرجعك إلى الحق، ومنزعك إلى الصدق. فالحق أقوى معين، والصدق أفضل قرين.

وقال: استعن على العدل بخلتين: قلة الطمع، وشدة الورع.
وقال آخر: لا تعودن نفسك إلا ما يكتب لك أجره، ويحسن عنك نشره .
قال آخر: ارفق بإخوانك، واكفهم غرب لسانك؛ فطعن اللسان أشد من طعن السنان، وجرح الكلام أصعب من جرح الحسام.
قال العتابي: مما يعين على العدل اصطناع من يؤثر التقى، واطراح من يقبل الرشا، واستكفاء من يعدل في القضية، واستخلاف من يشفق على الرعية.
وقال أردشير: حقيقٌعلى كل ملكٍ أن يتفقد وزيره ونديمه وحاجبه وكاتبه: فإن وزيره قوام ملكه، ونديمه بيان معرفته، وكاتبه وكيل معرفته، وحاجبه برهان سياسته.
وقال بهرام جور: لاشيء أضر بالمبك من استخبار من لايصدق إذا خبر، واستكفاء من لا ينصح إذا دبر.
وقال أبرويز: من اعتمد على كفاة السوء ما ينجو من رأي فاسد، وظن كاذب، وعدو غالب. وإن مما يعود بنصح الولاة ويؤمنهم غدر الكفاة - : ربهم لسالف النعم، وحفظهم لواجب الذمم، وتعففهم عن أموال الخدم، وتصرفهم على شرط الكرم. فمن خافه وزيره سآء تدبيره، ومن طمع في أموال عماله الجأهم إلى اقتطاع أمواله.
وقال الحكيم: بالراعي تَصْلُح الرعية. وبالعدل تُملك البرية. ومن مال إلى الحق، مال إليه الخلق. ومن سهل سيف العدوان، سُلِبَ عز السلطان. ومن أحسن الملكة، أمن الهلكة. وأفضل الملوك من أحسن في فعله ونيته، وعدل في جنده ورعيته.
قال الحكيم: الأدب أدبان: أدب شريعةٍ ،وأدب سياسةٍ. فأدب الشريعة ما انتهى إلى قضاء الفرض، وأدب السياسة ما أعان على عمارة الأرض، وكلاهما يرجع إلى العدل، الذي به سلامة السلطان، وعمارة البلدان، وصلاح الرعية، وكمال المزية، لأن من ترك الفرض ظلم نفسه، ومن خرب الأرض ظلم غيره.
وقال أفلاطون: بالعدل ثبات الأشياء، وبالجور زوالها، لأن المعتدل هو الذي لا يزول.
وقال الإسكندر: لا ينبغي لمن تمسك بالعدل أن يخاف أحداً، فقد قيل: إن العدول لا يخافون الله تعالى، أي: لا خوف عليهم منه، إذ اتبعوا رضاه وانتهوا إلى أمره.
وقال ذيوجانس للإسكندر: أيها الملك، عليك بالاعتدال في الأمور، فإن الزيادة عيبٌ، والنقصان عجزٌ.
وقال الإسكندر لقومٍ من حكماء الهند: أيما أفضل: العدل أو الشجاعة ؟ قالوا: إذا استعمل العدل استغني عن الشجاعة.
وقال بزرجمهر: العدل هو ميزان الباري جلَّ وعزَّ، وذلك هو مبرَّاٌ من كل زيغ وميل.
وقيل لأردشير: من الذي لا يخاف أحداً ؟ قال: الذي لا يخافه أحدٌ. فمن عدل في حكمه وكفَّ عن ظلمه - : نصره الحق، وأطاعة الخلق، وملك القلوب، وأمن الحروب. وإن أول العدل أن يبدأ الإنسان بنفسه، فيلزمها كل خلَّةٍ زكيَّةٍ، وخصلةٍ مرضيَّة، ومذهبٍ سديد، ومكسبٍ حميد، ليسلم عاجلاً ويسعد آجلاً.
وقال أفلاطون: من بدأ بنفسه أدرك سياسة الناس.
وقال: أصلحوا أنفسكم تصلح لكم آخرتكم.
وقال أسطاطاليس: أصلح نفسك لنفسك، يكن الناس تبعاً لك.
وقال بزرجمهر: من حق الملك أن يستوزر من يحفظ دينه، ويستبطن من يحفظ سره.
وقال أبرويز: أجهل الناس من يعتمد في أموره على من لا يأمل خيره، ولايأمن شره .
وقال الحكيم: من عدل في سلطانه، استغنى عن أعوانه .
وقال: لأن تحسن وتكفر، خيرٌ من أن تسيء وتشكر. فمن أحسن فبنفسه بدا ومن أساء فعلى نفسه اعتدى .
وقال الحكيم: من أحب نفسه اجتنب الآثام، ومن أحب ولده رحم الأيتام.
وقال: إذا بني الملك على قواعد العدل - أو دعم بدواعم العدل - وحصَّن بدوام الشكر، وحرس بإعمال البصر - : نصر الله وإليه، وخذل معاديه، وعضده بالقدر، وسلمه من الغير. فاعدل فيما وليت، واشكر الله على ما أوليت، يمدك الخالق، ويدك الخلائق.
وقال الحكيم: حاجة السلطان إلى صلاح نفسه، أشد من حاجته إلى صلاح رعيته. وفائدته في إحسان سيرته، أعظم من فائدته في ثبات وطأته. لأنه إذا اصلح نفسه صلحت رعيته. وإذا أحسن سيرته ثبتت وطأته، ثم بقى له جميل الأحدوثة والذكر، ويتوفر عليه جزيل المثوبة والأجر. لأن السلطان خليفة الله في أرضه، والحاكم في حدود دينه وفرضه، قد خصة الله بإحسانه، وأشركه في سلطانه، وندبه لرعاية خلقه، ونصبه لنصرة حقه. فإن أطاعه في أوامره ونواهيه تكفَّل بنصره، وإن عصاه فيهما وكله إلى نفسه .

وقال الحكيم: من ملَّكه الله من أرضه وبلاده، وائتمنه على خلقه وعباده، وبسط يده وسلطانه، ورفع محلَّه ومكانه - : فحقيقٌ عليه أن يؤدي الأمانة، ويخلص الديانة، ويجمل السيرة، ويحسن السريرة، ويجعل الحق دأبه المعهود، والأجر غرضه المقصود، فالظلم يزل القدم، ويزيل النعم، ويجلب النقم، ويهلك الأمم .
وقال: من أبلى جدَّته في خدمتك، وأفنى مدته في طاعتك - : فارعَ ذمامه في حياته، وتكفل أيتامه بعد وفاته. فإن الوفاء لك، بقدر الرجاء فيك .
أفضِ على جيشك سَيْب عطائك، وأصرف إليهم أحسن عنايتك وإرعائك، فإنهم أهل الأنفة والحمية، وحفظ الحوزة والرعية، وسيوف الملك، وحصون الممالك والبلدان، وأوثق الأصحاب والأعوان، بهم تدفع العوادي وتقهر الأعادي، ويزال الخلل، ويضبط العمل. قوِّ ضعيفهم يقوِّ أمرك، وأغن فقيرهم يشد أزرك، وامنحهم قبل الفرض، واختبرهم عند العرض، ولا تثبت منهم إلا الوفي الكمي الذي لا يعدل عن الوفاء، ولا يجبن لدى الهيجاء فإن المراد منهم قوة العدة، لا كثرة العدة. وإن أصاب أحدهم في وقعة تندبه لها، أو حملة تبرز فيها، ما يعطله عن اللقاء، ويؤخره عن الأكفاء - : فلا تمح اسمه، ولا تمنع رسمه. وإن قُتل في طاعتك، واستشهد تحت رايتك - : فاكفل بنيه، وذب عن أهله وذويه، فإن ذلك يزيدهم رغبة في خدمتك، ويسهل عليهم بذل المهج والأرواح في نصرة دولتك ودعوتك .
وقال الحكيم: من أبرم الأمر بلا تدبير، صيَّره الدهر إلى تدمير. ومن أخلد إلى التواني، حصل على الأماني. وزوال الدول، باصطناع السفل .
وقال الحكيم: الصبر على ما تكرهه وتجتويه، يؤديك إلى ما تحبه وتشتهيه .
وقال: من اغتر بحاله، قصر في احتياله. ومن اغتر بمسالمة الزمن، عثر بمصادمة المحن .
وقال: من أعجبته آراؤه، غلبته أعداؤه. ومن ساء تدبيره، كذب تقديره. ومن جهل مواطئ قدمه، عثر بدواعي ندمه .
وقال: من أتم النصح، الإشارة بالصلح. ومن أضر الغدر، الإشارة بالشر .
وقال: من استصلح عدوه زاد في عدده. ومن استفسد صديقه نقص من عدده .
وقال: لا تثق بالصديق قبل الخبرة، ولا توقع بالعدو قبل القدرة .
وقال: لا تفتح باباً يُعييك سَدُّه، ولا ترم سهماً، يعجزك رده، ولا تفسدنَّ أمراً يعييك إصلاحه، ولا تغلق باباً يعجزك افتتاحه .
وقال: الكسل يمنع من الطلب، والفشل يدفع إلى العطب. ومن حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء، ويجمع إلى عقله عقل الحكماء، ويديم الاسترشاد، بترك الاستبداد، فالرأي الفذ ربما زل، والعقل الفذ ربما ضل .
من أعرض عن الحزم والاحتراس، وبنى على غير أساس - : زال عنه العز، واستولى عليه العجز، وصار من يومه في نحس، ومن غده في لبس .
تاج الملك وحصنه إنصافه، وسلاحه كُفاته، وماله رعيته .
إذا أنشأت حرباً فأرهجها، وإذا أوقدت ناراً فأججها، واستعمل في الضعفاء حسن الحراسة، واستعمل في الأقوياء حكم السياسة، فمن لم تقمعه بسياستك، أطمعته في رياستك، وعُدَّ أضعف أعدائك قوياً، وأجبن أضدادك جرياً تكف الغيلة، وتأمن الحيلة .
من استعان بصغار رجاله، على كبار أعماله - : ضيَّع العمل، وأوقع الخلل .
الخطأ مع العجلة، والصواب مع التؤدة، ففوَّض كل أمر إلى أهله، وائتد في عقده وحله، تأمن الزلل وتبلغ الأمل .
الشركة في الرأي تؤدي إلى صوابه، والشركة في الملك تؤدي إلى اضطرابه .
أغنى الأغنياء من لم يكن للحرص أسيراً، وأجل الأمراء من لم يكن الهوى عليه أميراً. فمن حق السائس أن يسوس نفسه قبل جنده، ويقهر هواه قبل ضده .
من جدَّ في حرب عدوه وقتاله، واحتال في قتله واستئصاله - : يشغل بذلك قلبه، ويسخط ربه، وينفق عليه ماله، ويكد فيه نفسه ورجاله، ثم يكون من أمره على غرر، ومن حربه على خطر. ولو استعطفه بلطف مقاله، واستصلحه بحسن فعاله، واتخذه ولياً صفياً يشاركه في الخير والشر، ويساهمه في النفع والضر، ويعضده في الأحداث والعوادي، وينجده على الأضداد والأعادي - : لكان أصلح له في دينه ودنياه، وأعود عليه في بدئه وعقباه.
لا تصطنع من خانة الأصل، ولا تستنصح من فاته العقل، لأن من لا أصل له يغش من حيث ينصح، ومن لا عقل له يفسد من حيث يصلح، وذلك مما يعز توقيه، ويفوت تداركه وتلافيه .

وإذا ولّيت فولِّ الملىء الوفي الذي يحسن كفايته غناؤه، ويجمل رعايته وفاؤه، ويعلم بواطن الأمور وظواهرها، ويعرف موارد الأعمال ومصادرها. فالولاة أركان الملك، وخُزَّان المِلك، وحصون الدَّولة، وعيون الدعوة، وبهم تستقيم الأعمال، وتجتمع الأموال، ويقوى السلطان، وتعمر البلدان. فإن استقاموا استقامت الأمور، وإن اضطربوا اضطرب الجمهور .
وأما من يتصل بنسبك، أو يجب حقه عليك - : فأدِم له بِشرك وإقبالك، وأفض عليه برَّك وإفضالك. فتكون قد قضيتَ واجبه، وأمنت جانبه، ووليت العمل من يقيم ميله، ويزيل خلله، ويجنيك ثماره، ويكفيك انتشاره .
وقالوا: الأمور التي يشرف بها المَلِك ثلاثةٌ: سن السنن الجميلة، وفتح الفتوح المذكورة، وعمارة البلدان المعطلة .
العفو احتمال الذنب الذي لا يكون عن عمد، ولا يقصد بحد، ولا ينقض سنة، ولا يولِّد جرأةً. فأما الذنب الذي يرتكب عمداً، ويوجب جراءةً - : فالاحتمال له ترخيصٌ في الذنوب، والتجاوز عنه إبطالٌ للحدود، وذلك مما لا تحتمله السياسة، ولا تطلقه الشريعة. فلا يكونن عفوك وتجاوزك وحلمك وإغضاؤك سبباً للجراءة عليك، وعلةً للإساءة إليك. فإن الناس رجلان: عاقلٌ يكتفي بالعدل والتأنيب، وجاهلٌ يحوج إلى الضرب والتأديب، فمن عفا عمن يستوجب العقوبة، كمن عاقب من يستوجب المثوبة .
إذا عقدت فأحكم، وإذا دبَّرت فأبرم، وإذا قلت فاصدق، وإذا فعلت فارفق، ولا تستكفِ إلى الكفاة النصحاء، ولا تستبطن إلا الثقات الأمناء. وإذا استكفيتهم شغلاً، أو وليتهم أمراً - : فأحسن الثقة بهم، وأكد الحجة عليهم، ولا تتهمهم فيه، ولا تعارضهم في توليه، ما لم يعدلوا عن نصح وأمانة، ولم يقصروا عن ضبط وكفاية. فإن رأيت منهم عذراً، أو تبينت منهم عجزاً - : فاستبدل بهم، واستوف مالك عليهم، ولا تقلد منهم أحداً، ولا تعتمد عليهم أبداً. فمن عارض مع الاستقلال والأمانة، قبض كُفاته وعمَّاله. ومن قلد مع العجز والخيانة، ضيَّع ماله وأعماله .
تجرَّع من عدوك الغُصَّة، إلى أن تجد الفرصة، فإذا وجدتها فانتهزها قبل أن يفوتك الدرك، أو يعينه الفلك، فإن الدنيا دولٌ تقلبها الأقدار، ويهدمها الليل والنهار .
تفقد أمر عدوك قبل أن يمتد باعه، ويطول ذراعه، وتكثر شكته، وتشتد شوكته. وعالجه قبل أن يعضل داؤه، ويصعب دواؤه. فكل أمرٍ لا يداوى قبل أن يعضل، ولا يدبر قبل أن يستفحل - : يعجز عنه مداويه، ويصعب تداركه وتلافيه. ولا تشغل نفسك بإصلاح ما بعد عنك، حتى من إصلاح ما قرب منك .
اعلم أن السعاية نارٌ، وقبولها والعمل بها دناءة، والثقة بأهلها غباوة. لأن الذي يحمل الساعي على سعايته قلة ورع، أو شدة طمع، أو لؤم طبع، أو طلب نفع. فأعرِض عن السعاة، وعدَّهم من جملة العداة، لأنهم يفسدون دينك، ويزيلون يقينك، وينقضون عهدك ونيتك، ويخنقون خدمك ورعيتك، ويحملونك على اكتساب الآثام، ويعرضونك لاجتلاب الملام .
واعتمد في أعمالك على أهل المروءة، وفي قتالك على أهل الحمية، ولا تباشر الحرب بنفسك، فإنك لا تخلو في ذلك من ملكٍ تخاطر به، أو هُلْكٍ تبادر إليه .
ولتكن مشاورتك بالليل، فإنه أجمع للفكر، وأعون على الذكر، ثم شاور في أمرك من تثق بعقله ووده .
أي ملك أحسن إلى كُفاته وأعوانه، استظهر لملكه وسلطانه. وأي ملك عدل في حكمه وقضيته، استغنى عن جنده ورعيته. وأي ملك نفذ في ملكه حكم النساء، نفذ في دولته حكم الأعداء. وأي ملك ملكته حاشيته وأصحابه، اضطربت عليه أموره وأسبابه. وأي ملك عمي عن سياسة داره ودانيته، عمي عن سياسة أقطاره وقاصيته. وأي ملك خفت وطأته على أهل الفساد، ثقلت عليه وطأة الأعداء والأضداد .
أربعة لا يزول معها ملك: حفظ الدين. واستكفاء الأمين. وتقديم الحزم. وإمضاء العزم .
وأربعة لا يثبت معها ملك: غش الوزير. وسوء التدبير. وخبث النية. وظلم الرعية .
أربعة تولِّد المحبة: حسن البِشْرِ. وبَذْلُ البر. وقَصْد الوِفاق. وترك النفاق .
أربعة من علامات الكرم: بذل الندى. وكف الأذى. وتعجيل المثوبة. وتأخير العقوبة.
أربعة يزلن بأربعة: النعمة بالكفران. والقدرة بالعدوان. والدولة بالإغفال. والحظوة بالإدلال .
أربعة تدل على صحة الرأي: طول الفكر. وحفظ السر. وفرط الاجتهاد. وترك الاستبداد .

أربعة توصل إلى أربعة: الصبر إلى المحبوب. والجد إلى المطلوب. والزهد إلى التُقى. والقناعة إلى الغنى .
أربعة لا تستغني عن أربعة: الرعية عن السياسة. والجيش عن القادة. والرأي عن الاستشارة. والعزم عن الاستخارة .
ومن أمن المكائد، لقي الشدائد. ومن أمن المكر، لقي الشر.
لا تقطع قريباً وإن كفر، ولا تأمن عدواً وإن شكر .
ضعف النظر يورث العثار، وضعف الرأي يورث الدمار .
قال معاوية بن أبي سفيان لصعصعة بن صوحان: صفْ لي عمر بن الخطاب ؟ فقال: كان عالماً برعيته، عادلاً في قضيته، عارياً من الكبر، قبولاً للعذْر، سهل الحجاب، مصون الباب، متحرياً للصواب، رفيقاً بالضعيف، غير محاب للقريب، ولا جاف للغريب .
دخل حكيم على بعض الملوك، فقال له: ما أقدمك ؟ قال: حوادث الدهر، وخذلان الصبر. قال: فعندنا درك ما قصدت له، فأفدنا شيئاً. قال: أذكر حسرات التفريط تلذَّ الحزم، والحظ مصارع الهزل تؤثر الجد، وألقِ خطرات الهوى تذكر عواقبها. إن الدهر قد نبهك من رقدتك، وأظهر لك ما كان استتر عنك، فلا حين أحين من سلامة مع تضييع، ولا عدو أقتل من أمن الاغترار، ولا تخاذل أخذل من رأي ينتجته قدره .
قال الحكيم: إذا استبد الملك برأيه عميت عليه المراشد .
قال الحكيم: الحازم فيما أشكل عليه من الرأي مثل الذي أضل جوهرة فجمع ما حول مسقطها من التراب فنخله حتى وجدها. كذلك الحازم يجمع أصناف الرأي في الأمر المشكل ثم يخلصه ويسقط بعضه حتى يحصل منه الرأي الخالص .
وذلك في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه " وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله " .
قال أبو الحسن علي بن محمد الصغاني في كتاب " الفرائد والقلائد " في الاستعانة على حسن السياسة: آفة الملوك سوء السيرة. وآفة الوزراء خبث السريرة. وآفة الجند مخالفة القادة. وآفة الرعية مخالفة الطاعة. وآفة الزعماء ضعف السياسة. وآفة العلماء حب الرياسة. وآفة القضاة شدة الطمع. وآفة العدول قلة الورع. وآفة العدل ميل الولاة. وآفة الملك تضادد الحماة. وآفة الحرب إضاعة الحزم. وآفة القوي استضعاف الخصم.
وقال: الحزم أسد الآراء، والغفلة أضر الأعداء. ومن قعد عن حيلته أقامته الشدائد، ومن نام عن عدوه أنبهته المكائد. ومن سالم الناس سلم، ومن قدّم الحزم غنم. ومن لزم الحلم لم يعدم السلم. ومن ضعف رأيه قوي ضده، ومن ساء تدبيره أهلكه جده. والغرة ثمرة الجهل، والتجربة مرآة العقل. والصبر على الغُصَّة، يؤدي إلى الفرصة. ومن استرشد غوياً ضل، ومن استنجد ضعيفاً ذل. ومن ضل مشيره قلَّ نصيره. والأناة حسنٌ، والتودد يمن. من نام عن نصرة وليه، انتبه بوطأة عدوه. ومن دام كسله، خاب أمله. والعجول مخطئ وإن ملك، والمتئد مصيب وإن هلك. ومن بان عجزه، زال عزه. ومن استبد برأيه، خفَّت وطأته على أعدائه. وعلَّة الأمن، سوء الظن. ومن أمارة الخذلان، معاداة الإخوان. ومن علامات الإقبال، اصطناع الرجال. ومن كثرت مخافته، قلَّت آفته. ومن طلب الرياسة، أحسن السياسة. واستفساد الصديق، من عدم التوفيق. والرفق مفتاح الرزق. ومن نظر في العواقب، سلم من النوائب. وفضيلة السلطان، عمارة البلدان .
من استحلى معاداة الرجال، استمر ملاقاة القتال. ومن فعل ما شاء، لقي ما ساء. من خانه الوزير، فاته التدبير. من كتم سره، أحكم أمره. ومن كثر اعتباره، قلَّ عثاره، ومن عمل بالرأي اعتلى مناره. ومن أحكم التجارب، أحمد العواقب. ومن أمارات الجد حسن الجِدّ. وزوال الدول، باصطناع السُّفَّل. القليل مع التدبير، أبقى من الكثير مع التبذير. عزيمة الصبر، تطفئ نار الشر، فإن الصبر على ما تكرهه وتجتويه، يؤديك إلى ما تحبه وتشتهيه. من وثِق بإحسانك، أشفق على سلطانك .

إذا استشرت الجاهل، اختارَ لك الباطل. ومن اغتر بحاله، قصَّر في احتياله. ومن اغتر بمسالمة الزمن، عثر بمصادمة المحن. ومن اقتحم الأمور، لقي المحذور. ومن ترك ما يعنيه، امتُحِن بما لا يعنيه. ومن استعان بذوي العقول، فاز بدرك المأمول. ومن استشار ذوي الألباب، سلك سبيل الصواب. ومن ضيَّع أمره ضيَّع كل أمر، ومن جهل قدره جهل كل قدر. والحازم من حفظ ما في يده، ولم يؤخر شغل يومه إلى غده. ومن طلب مالا يكون طال به تعبه، ومن فعل مالا يجوز كان فيه عطبه. لا تثق بالصديق قبل الخبرة، ولا توقع بالعدو قبل القدرة. وإذا أشكلت عليك الأمور، وتغير عليك الجمهور - : فارجع إلى رأي العقلاء، وافزع إلى استشارة النصحاء، ولا تأنف من الاسترشاد، ولا تستنكف من الاستمداد، فلأن تسأل وتسلم، خيرٌ من أن تستبد وتندم. ومن نصحك فلا تستبدل به، ومن وعظك فلا تستوحش منه، فمن نصحك أحسن إليك، ومن وعظك أشفق عليك .
واعلم أن الأيدي بأصابعها، والملوك بصنائعها، فلا يغرنك كبر الجسم، ممن صغر في المعرفة والعلم، ولا طول القامة، ممن قصَّر في الكفاية والاستقامة، فأن الدرة على صغرها - : أعود من الصخرة على كبرها .
واعلم أن سبب هلاك الملوك والممالك اطراح ذوي الفضائل، واصطناع ذوي الوسائل، والاستخفاف بعظة الناصح، والاغترار بتزكية المادح .
واعلم أن عمال الولاة بمنزلة سلاحهم في القتال، وسهامهم في النضال. ومن ولي الملك بلا كفاة، كمن لقي الحرب بلا حماة. ومما يديم لك نصحهم ووفاءهم، ويحفظ عليك ودهم وولاءهم - : قلة الطمع فيهم، وحسن المقابلة لمساعيهم.
واعلم أنك إن طمعت منهم في ذرة، طمعوا منك في بُدْرة، وإن ارتجعت من رفقهم ديناراً، اقتطعوا من ملكك قنطاراً، ثم أساءوا القول فيك، وأنكروا بِيض صنائعك وأياديك. وإذا اصطنعت فاصطنع من ينزع إلى أصل وأبوة. ويرجع إلى عقل ومروءة، فإن الأصل والأبوَّة تمنعانه من الغدر والخيانة، والعقل والمروءة يبعثانه على الوفاء والأمانة، فإن كل فرع يرجع إلى أصله، وكل شيء يعود إلى طبعه .
وقالت الحكماء: الملك كالبحر الأعظم: تستمد منه الأنهار الصغار، فإن كان عذباً عذُبت، وإن كان ملحاً ملُحت .
وقالوا: مهما كان في الملك فإنه لا ينبغي أن يكون فيه خمس خصال: لا ينبغي أن يكون كذاباً، فإنه إذا كان كذاباً فوعد خيراً لم يرجَ، أو توعد بِشرٍّ لم يُخَفْ. ولا ينبغي أن يكون بخيلاً، فإنه إذا كان بخيلاً لم يناصحه أحد، ولا تصلح الولاية إلا بالمناصحة. ولا ينبغي أن يكون حديداً، فإنه إن كان حديداً - مع المقدرة - هلكت الرعية. ولا ينبغي أن يكون حسوداً، فإنه إن كان حسوداً لم يشرِّف أحداً، ولا يصلح الناس إلا على أشرافهم. ولا ينبغي أن يكون جباناً، فإنه إن كان جباناً اجترأ عليه عدوه، وضاعت ثغوره .
وقالوا: لا ينبغي للملك أن يكون جائراً، ومن عنده يلتمس العدل. ولا سفيهاً، ومن عنده يلتمس الحلم. ولا غضوباً، لأن القدرة من وراء حاجته. ولا كذوباً، لأنه ليس يقدر أحد على استكراهه على مالا يريد. ولا حقوداً، لأن قدره قد جلَّ عن المكافأة .
وقالوا: أفضل الملوك من بقي بالعدل ذكره، واستملى منه من يأتي بعده .
وقالوا: من ملك فقد استوفى من رعاياه وشريعته أجرته، وهو التملك، وبقي عليه ما يجب لهما من الخدمة، وهو إقامة السنن والدين، والعدل على الرعية، ومنع من قوي فيها عمن ضعف منها .
أي ملك أحسن إلى كفاته وأعوانه، استظهر لملكه وسلطانه. وإذا عدل في حكمه وقضيته، استغنى عن جنده ورعيته. وأي ملك نفذ في ملكه حكم النساء، نفذ في دولته حكم الأعداء. وأي ملك ملكته حاشيته وأصحابه، اضطربت عليه أموره وأسبابه. وأي ملك خفت وطأته على أهل الفساد، ثقلت عليه وطأة الأعداء والأضداد .
إذا بُني الملك على قواعد العدل، ودعائم العقل، وحصِّن بدوام الشكر، وحرس بأعمال البر - : نصر الله واليه، وخذل معاديه، وعضده بالقدر، وسلمه من الغير .
وقالت الحكماء: السلطان خليفة الله في أرضه، والحاكم في حدود دينه وفرضه، قد خصَّه الله تعالى بإحسانه، وأشركه في سلطانه، وندبه لرعاية خلقه، ونصبه لنصرة حقه، فإن أطاعه في أوامره ونواهيه تكفل نصره، وإن عصاه فيهما وكله إلى نفسه .

ويجب على السلطان أن لا يلح في تضييع حق ذي الحق، ووضع منزلة ذي المروءة، وأن يستدرك رأيه في صلاح ذلك، ولا يغرَّه أن يرى من صاحبه - المفعول ذلك به - رضىً. فإن الناس في ذلك رجلان: رجل أصل طباعه الشراسة، فهو كالحية التي وطئها الواطئ فلم تلدغه - : لم يكن جديراً أن يغره ذلك منها فيعود لوطئها ثانيةً. ورجل أصل طباعه السهولة، فهو كالصندل البارد الذي إذا أُفرط في حكه عاد حاراً مؤذياً .
وقالوا: قلوب الرعية خزائن مَلِكَها، فما استودعها من شيء فليعلم أنه فيها. وإنما سلطان المَلِك على الأجساد دون القلوب، فإن غلب الناس على ذات أيديهم فلن يقدر أن يغلبهم على قلوبهم .
وقالت الحكماء: عمود الدنيا وصلاح الدين: في مملكة عادلة، وسلطان ورع قوي، ورعية طائعة .
قلت: أذكرني قول الحكيم: " إنما سلطان الملك على الأجساد دون القلوب " أمراً شهدته بمصر في سنة سبع وأربعين وخمس مائة، وهو: أن رسول ملك الحبشة وكتابه وصل إلى الملك العادل " أبي الحسن علي بن السلار " رضي الله عنه، فسأله أن يأمر البطرك بمصر أن يعزل بطرك الحبشة - وتلك البلاد كلها مردودة إلى نظر بطرك مصر - فأمر الملك العادل بإحضار البطرك، فحضر وأنا عنده، فرأيت شيخاً نحيفاً مصفرَّاً، فأدناه حتى وقف عند باب المجلس، فسلم، ثم انحرف فجلس على دكلٍ في الدار، ونفَّذ إليه يقول له: ملك الحبشة قد شكا من البطرك الذي يتولى بلاده، وسألني في التقدم إليك بعزلة. فقال: يا مولاي، ما وليته حتى اختبرته، ورأيته يصلح للناموس الذي هو فيه، وما ظهر لي من أمره ما يوجب عزله، ولا يسعني في ديني أن أعمل فيه بغير الواجب، ولا يجوز لي أن أعزله. فاغتاظ الملك العادل - رحمه الله - من قوله، وأمر باعتقاله، فاعتقل يومين. ثم أنفذ إليه - وأنا حاضر - يقول له: لا بد من عزل هذا البطرك لأجل سؤال ملك الحبشة في ذلك. فقال: يا مولاي، ما عندي جوابٌ غير ما قلته لك، وحكمك وقدرتك إنما هي على الجسم الضعيف الذي بين يديك، وأما ديني فما لك عليه سبيل، والله ما أعزله ولو نالني كل مكروه. فأمر الملك العادل - رحمه الله - بإطلاقه، واعتذر إلى ملك الحبشة .
رجع القول إلى السياسة .
قال الحكيم: اعلم أن الملوك ثلاثة: ملك دين، وملك حزم، وملك هوى. فأما ملك الدين فإنه إذا أقام لأهله دينهم، كان دينهم هو الذي يعطيهم الذي لهم، ويلحق بهم الذي عليهم - : أرضاهم ذلك، وأنزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم. وأما ملك الحزم فإنه يقوم به الأمر، ولا يسلم من الطعن والسخط، ولن يضر طعن مع حزم القوي. وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار الدهر .
وقال الحكيم: أمرُّ ما يحتاج إليه المَلِك من أمر الدين والدنيا رأيان: رأي يقوي سلطانه، ورأي يزينه في الناس. ورأي القوة أحقهما في التبدية، وأولاهما بالأثرة، ورأي التزيين أحضرهما حلاوة، وأكثرهما أعواناً، مع أن القوة من الزينة، والزينة من القوة، ولكن الأمر ينسب إلى معظمه .
وقال الشاعر :
ركوبك الهول ما أيقنتَ فرصتهُ ... جهلٌ، ورأيكَ بالإقحامِ تغريرُ
فاعمل صواباً تجدْ بالحزمِ مأثرةً ... فلن يُذمَّ لأهلِ الحزمِ تدبيرُ
فإن ظفرتَ مصيباً أو هلكتَ بهِ ... فأنت عند ذوي الألباب معدورُ
وإن ظفرتَ على جهلٍ فعشتَ به ... قالوا: جهولٌ أعانتهُ المقاديرُ !
وقال آخر :
إذا الأمرُ أشكلَ إنفاذهُ ... ولم ترَ منهُ سبيلا فسيحا
فشاورْ بأمركَ في سترةٍ ... أخاكَ أخاكَ اللبيبَ النصيحا
فرُبَّتما فرَّج الناصحونَ ... وأبدّوا من الرأي رأياً صحيحا
ولا يلبثُ المستشيرُ الرجالَ ... إذا هو شاورَ أن يستريحا
وقال آخر:
تهْدَى الأمورُ بأهل الرأي ما صلحتْ ... فإن تولتْ فبالأشرارِ تنقادُ
لا يصلحُ القومُ فوضى لا سراةَ لهمْ ... ولا سراةَ إذا جُهَّالُهُم سادوا

باب
الكرم
قال الله عز وجل في سورة البقرة: " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خلةٌ ولا شفاعةٌ، والكافرون هم الظالمون " .

ومنها: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل في كل سنبلةٍ مائة حبةٍ، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم، الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مَنَّاً ولا أذىً لهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون " .
ومنها: " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه، واعلموا أن الله غنيٌ حميد، الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرةً منه وفضلاً، والله واسع عليم " .
ومنها: " وما تنفقوا من خيرٍ فلأنفسكم، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، وما تنفقوا من خيرٍ يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون " .
ومن سورة آل عمران: " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم، بل هو شرٌّ لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات والأرض، والله بما تعملون خبير " .
ومن سورة النساء: " إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، وأعتدنا للكافرين عذاباً مُهيناً " .
ومن سورة إبراهيم: " قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً من قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خلالٌ " .
ومن سورة بني إسرائيل: " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق، وكان الإنسان قتورا " .
ومن سورة سبأ: " قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له، وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين " .
ومن سورة يس: " وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ؟ إن أنتم إلا في ضلالٍ مبينٍ " .
ومن سورة محمد صلى الله عليه وسلم: " إنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ، وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم، إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم، فأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله، فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء، وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " .
ومن سورة الحديد: " وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله، ولله ميراث السماوات والأرض، لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلاً وعد الله الحسنى، والله بما تعملون خبيرٌ " .
ومنها: " ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ومن يتولَّ فإن الله هو الغني الحميد " .
ومن سورة التغابن: " فاتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا وأطيعوا وأنفِقوا خيراً لأنفسكم، ومن يوقَ شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون " .

ومن الأحاديث
عن علي بن زيد بن جدعان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى ليحب أن يُرى أثر نعمته على عبده في مأكله ومشربه " .
وعن ابن جريج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى ليحب البيت الخصب " .
وعن عطاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال: أحب الطعام إلى الله تعالى ما كثرت عليه الأيدي .
وعن شهر بن حوشب قال: كان يقال: إذا اجتمع للطعام أربع فقد كمل كل شيء: إذا كان أوله حلالاً، وذُكر اسم الله تعالى عليه حين يوضع، وكثرت عليه الأيدي، وحمد الله تعالى حين يفرغ منه .
وعن جابر بن عبد الله رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كفى بالمرء شراً أن يتسخَّط ما قرِّب إليه " .
وقال جابر رحمه الله: هلاكٌ بالرجل يدخل عليه الرجل من إخوانه فيحتقر ما في بيته أن يقدمه له، وهلاكٌ بالقوم أن يحتقروا ما قرِّب إليهم .
وعن الأصمعي عن إسحاق بن إبراهيم قال: دخلنا على كهمس العابد رحمه الله، فقدم إلينا إحدى عشرة تمرةً حمراء، وقال: هذا الجهد من أخيكم، والله المستعان .
وقال الأحنف بن قيس: ثلاث ليس فيهن انتظار: الجنازة إذا وجدت من يحملها. والأيِّم إذا أصبت لها كفؤاً. والضيف إذا نزل لم يُنتظر له الكلفة .

وعن بكر بن عبد الله المزني رحمه الله قال: إذا أتاك الضيف فلا تنتظر به ما ليس عندك وتمنعه ما عندك، قدِّم له ما حضر، وانتظر بعد ذلك ما تريد من إكرامه .
وقال أبو خلدة: دخلنا على محمد بن سيرين رحمه الله أنا وعبد الله بن عون فقال: ما أدري ما أتحفكم ؟ كل منكم في بيته خبزٌ ولحم، ولكن سأطعمكم شيئاً لا أراه في بيوتكم، فجاء بشهدة، فكان يقطع بالسكين ويلقمنا .
وعن الأعمش عن خيثمة قال: كان عيسى ابن مريم صلى الله عليه إذا دعا أصحابه قام عليهم، ثم قال: هكذا اصنعوا بالقِرى.
وعن أبي هريرة رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من السُّنة أن يمشي الرجل مع ضيفه إلى باب الدار " .
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: " لما قدم وفد النجاشي على النبي صلى الله عليه وسلم قام يخدمهم، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله، قال: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، فأنا أحب أن أكافئهم " .
وسئل مجاهد رحمه الله عن قول الله تعالى: " ضيف إبراهيم المكرمين " قال: خدمته إياهم بنفسه .
عن ثابت البناني رحمه الله قال: جئت إلى أنس بن مالك رحمه الله لأبيت عنده، فلما تعشينا جاء الغلام بالطسْت، فوضعه بين يدي أنسٍ، فأخذه أنسٌ، وضعه بين يديَّ، فرددته إليه، فقال لي: يا ثابت، إذا دخلت على أخيك المسلم فأكرمك فاقبل كرامته: حيث أجلسك فاجلس، وما قدَّم إليك فكُل، فإن المؤمن إنما يكرم ربه عز وجل .
وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا وضعت المائدة فليأكل الرجل مما يليه، ولا يرفع يديه وإن شبع، وليعذِّر، فإن ذلك يخجل جليسه " . التعذير: التقصير .
وكان بعض السلف رضي الله عنهم يقول: مؤاكلة الأسخياء دواء، ومؤاكلة البخلاء داء .
وروي: الخير أسرع إلى البيت الذي يُطعم في الطعام من السيل إلى مستقره .
وعن عبد الله بن عمرو رحمه الله: " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أي الإسلام خيرٌ ؟ قال: تُطعم الطعام وتفشي السلام على من عرفت ومن لم تعرف " .
وعن أبي هريرة رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا إنَّ كل جوادٍ في الجنة، حتم على الله تعالى، وأنا به كفيلٌ. ألا وإن كل بخيل في النار حتمٌ على الله تعالى، وأنا به كفيل. قالوا: يا رسول الله: مَنِ الجواد، ومن البخيل ؟ قال: الجواد من جاد بحقوق الله في ماله، والبخيل من منع حقوق الله تعالى وبخل على ربه. وليس الجواد من أخذ حراماً وأنفق إسرافاً " .
وعن أبي هريرة رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن السخيَّ قريبٌ من الله، قريبٌ من الناس، قريبٌ من الجنة، بعيدٌ من النار. وإن البخيل بعيدٌ من الله، بعيدٌ من النا، بعيدٌ من الجنة، قريبٌ من النار. ولَجاهلٌ سخيٌ أحبُّ إلى الله تعالى من عابد بخيل. وأكبر الداء البخل " وعن عبد الله بن عمرو رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خُلُقان يحبهما الله عز وجل، وخلقان يبغضهما الله عز وجل: فأما اللذان يحبهما الله تعالى فالسخاء وحسن الخُلُق. وأما اللذان يبغضهما الله عز وجل فالبخل وسوء الخلق. وإذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله على قضاء حوائج الناس " .
رفع الواقدي رحمه الله إلى المأمون رقعةً يذكر فيها كثرة الدين وقلة صبره عليه. فوقَّع فيها المأمون: أنت رجلٌ فيك خلتان: السخاء والحياء. فالسخاء أطلق ما في يديك، والحياء منعك من إبلاغنا ما أنت عليه. وقد أمرت لك بمائة ألفٍ، فإن كنتُ أصبتُ إرادتك فازدد في بسط يدك وإن لم أصبْ إرادتك فبجنايتك على نفسك. وأنت كنت حدثتني - إذ كنت على قضاء الرشيد - عن محمد بن اسحاق عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن مفاتيح أرزاق العباد بإزاء العرش، يبعث الله عز وجل إلى عباده على قدر نفقتهم، فمن قَلَّل قُلِّل له، ومن كثَّر كُثِّر له " . فقال الواقدي: فلمذاكرة أمير المؤمنين أعجب إليَّ من الجائزة .
وعن جابر بن عبد الله رحمه الله قال: " سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان ؟ فقال: الصبر والسماح " .
وعن الحميدي قال: قدِمَ الشافعي رضي الله عنه مرةً من اليمن، ومعه عشرون ألف دينار، فضرب خيمته خارجاً من مكة، وأقام حتى فرقها كلها .

وعن أبي الحسن المدائني عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه اطَّلع من وافد قومٍ على كذبةٍ، فقال: لولا سخاءٌ فيك وَمِقَكَ الله عليه لشرَّدت بك من وافد قومٍ " .
وقال: أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى عليه السلام: أن لا تقتل السامري، فإنه سخي .
وقيل للحسن بن علي رضوان الله عليهما: من الجواد ؟ قال: الذي لو كانت الدنيا له فأنفقها لرأى على نفسه بعد ذلك حقوقاً .
وقال أبو الحسن المدائني: تحمَّل الهُذيْل بن زُفر بن الحارث دِياتِ قومه، فأتى يزيد بن المهلب، فقال: أصلحك الله، إنه قد عظُم شأنك عن أن يستعان بك أو يستعان عليك، ولست تصنع شيئاً من المعروف إلا أنت أعظم منه، وليس العجب أن تفعل، إنما العجب أن لا تفعل ! فقال: حاجتك ؟ فسأله أن يعينه في الديات التي تحمل، فأمر له بها وبمائة ألف درهم، فقبل الديات ولم يقبل المائة ألف درهم، وقال: ليس هذا موضعها .
ودعا الحسن رحمه الله حجَّاماً ليُسوِّي من شاربه، فأعطاه درهمين، فقيل له في ذلك: فقال لا تدَنِّقوا فيدَنَّق عليكم .
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: ربَّ رجلٍ فاجرٍ في دينه، أخرق في معيشته - : يدخل بسماحه الجنة .
وقال شيخٌ من بني عمرو بن كلابٍ: خرج عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما يريد الشأم، فألجأه المطر إلى أبيات، فإذا قبةٌ حمراء بفنائها رجلٌ ينادي: الذَّرى الذَّرى ! قال عبد الله: فأنخنا فدخلنا القبة، وحُطَّ عن رواحلنا، ثم أتى بجزورٍ فنحرها، فبتْنا في شِواءٍ وقديد وتحدث معنا من الليل هنيهة ثم انصرف. فلما أصبح وقف عن القبة، وسألنا عن مبيتنا ؟ وانصرف، فأتى بجزورٍ فعقرها، فقلنا: رحمك الله ما تريد إلى هذا ؟ ! قال: كلوا رحمكم الله طرياً، فإنا لا نطعم الضيف غابَّاً. قال عبد الله رحمه الله: فدعوتُ بثوبٍ فجعلت فيه زعفراناً وصررتُ في طرفٍ منه مائة دينارٍ، ثم بعثت به إلى أهله، فقالوا: إنا لا نقدر على أخذه إلا بإذنه، فسألته أن يقبله مني، فأبى، فلما ارتحلنا وودعته أمرْتُ فألقي الثوب بين البيوت، ومضينا. فإنا لنسير إذ لحقنا على فرسٍ مشْرعاً رُمحه، قد احمرَّت عيناه، والثوب بين يديه، فصاح بنا: أغنوا عني هذا، ونبذه إلينا، وولّى وهو يقول :
وإذا أخذتُ ثواب ما أعطيتُهُ ... فكفى بذاكَ لنائِلي تكديرا
عن محمد بن سلاَّم قال: أخبرني أبان بن عثمان قال: أراد رجلٌ أن يضارَّ عُبيد الله بن العباس - رضي الله عنهما - فأتى وجوه قريشٍ، فقال: يقول لكم عبيد الله: تغدُّوا عندي اليوم. فأتوه فملئت عليه الدار، فقال: ما هذا ؟! فأُخبر بما صنع الرجل، وعرف ما أراد. فأمر بالباب فأُغلِق، وأرسل إلى السوق فجيء بالفاكهة، وأرسل قوماً فذبحوا وخبزوا وشووا، فلم ينقضِ أكلهم للفاكهة حتى جاء الطعام، وكان فيما أتاهم من الفاكهة الأُتْرُجُّ والعسل، قال: فأكل القوم حتى صدروا، فقال عبيد الله لوكلائه: أموجودٌ هذا كلما أردت ؟ قالوا: نعم، قال: فليتغدّ عندنا هؤلاء في كل يوم .
وقال مصعب الزبيري حجّ معاوية بن أبي سفيان، فلما انصرف مرّ بالمدينة، فقال الحسين بن علي لأخيه الحسن - رحمهما الله - : لا تلقَه ولا تسلِّم عليه. فلما خرج معاوية رحمه الله، قال الحسن: يا أخي، إن علينا ديناً ولا بد لي أن أذهب إليه، فلحقه بثنية النول، وهو منحدر على الوادي، فسلّم عليه وأخبره بدينه، فمروا ببختيٍّ عليه ثمانون ألف دينار، وهو يضلعُ وهم يُزَجُّونه، فقال معاوية: ما هذا ؟ قالوا: أعيى وعليه المال، ونحن نزجِّيه ليلحق، فقال: اصرفوه إلى أبي محمد، فدفعه إليه وعليه ثمانون ألف دينار.

قال: لما قدم مصعب بن الزبير - رحمهما الله - من العراق القدمة الأولى مر بالمدينة ليلاً، فجاوزها ونزل البيداء، فبلغ عبد الله بن جعفر وعاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم ما صنع من ذلك، فالتقيا في صلاة الصبح في المسجد، فقال أحدهما لصاحبه: هل لك بنا فيه، فلا ينجيه منا ما فعل ؟ فركبا إليه، حتى أتياه بالبيداء خلف الشجرة إلى مكة، فوجدا فسطاطاً مضروباً وقد فُرش، فقيل لهما: انزلا حتى يخرج إليكما، فأتاهما يمشي، حتى دخل عليهما الفسطاط، فسلَّم عليهما وحياهما، ثم قال له عبد الله بن جعفر: إنه قد بلغنا خبر وأردنا أن نلقيه إليك لتكون منه على علم: إن أخاك عبد الله بن الزبير لا يضع عبد الله بن أبي فروة من لسانه، فجعل عليه: لئن أظفره الله به ليقطعن يده وليأتين على ما وراء ظهره، فخذ حذرك، فإنما يريد قتلك. فأمر مصعب براحلتين فرحلتا، ثم قال: عليَّ بعبد الله بن أبي فروة، فأتاه عبد الله بن أبي فروة، فقال له: إنه بلغني أن أمير المؤمنين عليك غضبان، ولا قرار على غضبه، فعزمت عليك إلا ركبت وعون معك من أعوانك هاتين الراحلتين، ثم مضيت حتى تدفع يدك في يده، ثم لا يسألك عن شيء إلا صدقته عنه، اركب، فركب ومضى لوجهه. ثم أقبل مصعب على عبد الله بن جعفر وعلى عاصم، فقال: كأني بكما التقيتما في المسجد، فذكرتما مروري بالمدينة ليلاً، ثم تجاوزتها ولم أنزل بها، غير صلاةٍ صليتها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلتما: لا ندعه، ولنغيظنه ؟! والله ما يغيظني من أمير المؤمنين شيء، وما عندنا إلا السمع والطاعة، ولكني أعتذر إليكما: إنه كتب إلي يأمرني أن أطوي المدينة فلا أجعلها منزلاً حتى يكون منزلي البيداء، ثم لا أريمها حتى يأتيني أمره، فلم أجاوز ما أمرني به، وما أجهل حقوقكما وما يجب لكما علي، يا عاصم، احتكم وسل ما شئت. فجعل عاصم يقول كذا وكذا، حتى ذكر الغلة والماشية والرقيق وما يحتاج إليه الانسان، فقال: قوِّم هذا، قال: عشرين ألف دينار، قال: هي لك، قال: وصلتك رحم أيها الأمير. ثم أقبل على عبد الله بن جعفر وقال: هي لك وضعفها، فقال له عبد الله: ما منعك أن تحكِّمني كما حكَّمت صاحبي ؟! قال: أنا أعرف سرفك ! ولك في هذا مقنع ! قال: أما لو فعلت لأخرجتك صفراً، أو لألحقتك عجزاً ! فأمر لهما بالمال وانصرفا .
قال: قدم المغيرة بن خنساء - أظنه " ابن حبناء " - على طلحة الطلحات يطلب صلته فأخرج إليه حجري ياقوت في درج، فقال: أيما أحبُّ إليك: عشرة آلاف، أو هذان الحجران ؟ فقال: ما كنت لأختار الحجارة على الدراهم ! فأعطاه عشرة آلاف درهم فقال: إن نفسي قد تتبعت أحد الحجرين، فدفعهما إليه، فقال المغيرة :
أرى الناس عاضوا ثم غاضوا ولا أرى ... بني خَلَفٍ إلا رواءَ المواردِ
إذا نفعوا عادوا لمن ينفعونهُ ... وكائنْ ترى من نافعٍ غير عائدِ
وقال مصعب: قدم الراعي على سعيد بن عبد الرحمن بن عتَّاب بن أسيد بن أبي العيص، فأنشده مديحه، فقال له: حاجتك ؟ قال: ثلاثة آلاف دينار، فأمر له بها. فقال: حاجةٌ أخرى. قال: ما هي ؟ قال: ترحلني الساعة، فرحله إلى أهله، فقال :
وأنضاءٍ أنخن إلى سعيدٍ ... طُروقاً ثم عجَّلن ابتكارا
حمدن مزاره ورضين منه ... عطاءً لم يكن عدةً ضمارا

قال أبو الحسن المدائني: لقي ابن أبي بكرة سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنهم - وقد ولاه معاوية خراسان، وابن أبي بكرة يريد المدينة - فرأى خباءً مضروباً رثّاً، فقال: لمن هذا ؟ قالوا: لسعيد بن عثمان بن عفان، يريد خراسان. فمشى إليه، وقال: أنت ابن أمير المؤمنين عثمان والي خراسان في هذه الهيئة ؟ ! اجعل طريقك بالبصرة، وأكتب إلى وكيلي يجهزك. فكتب إلى وكيله سليم الناصح: أن أعطه عشرين ألفاً وعشرين عبداً وعشرين برذوناً وعشرين بعيراً وعشرين طيلساناً. فظن سعيد بن عثمان بن عفان رحمه الله أنه يهزأ به، فدخل البصرة، فنزل على مولى لعثمان بن عفان رحمه الله، وقال: إن ابن أبي بكرة قد كتب إلى وكيله بشيء، أفتراه ينفذ ما كتب به ؟ فأرسل إلى وكيله، فأعطاه الكتاب، فقال: أجلني جمعةً، فأجله، فأتاه بما في الكتاب. ثم قال له سليم: ألك حاجةٌ ؟ فقال له سعيدٌ: ولو كانت لي حاجةٌ كنت تقضيها ؟ قال: أما في مثل ما أعطاك مولاي ما كنت لأفعل، فقال سعيد: ما أدري أيكما أكرم ؟ !.
عن سليمان بن عياش قال: قال إبراهيم بن هشام - وكان في مالٍ له قريباً من أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة: - هل لكم أن أبخل أبا عبيدة بن عبد الله ؟ ! فركب إليه في سبعين راكباً، وأبو عبيدة بماله بالفرش، فوافاه قبل طلوع الشمس؛ فقال له: أصلحك الله، انزل بنا، قال: لسنا ننزل، ولكن عجل لنا ما حضر، فوافاه بسبعين رأساً قد شويت من الليل، فغاظه ما رأى من تعجيل ذلك عليه، فانصرف ولم يأكل عنده شيئاً.
قال أبو الحسن المدائني: قال عبد الله بن عباس رحمه الله: لقد رأيت من عبد الله بن عامرٍ منظراً وددت أني كنت فعلته ! كنا في الربيع في المسجد، فنشأت سحابةٌ فأمطرت فتقوضت الحلق، فدعا ابن عامرٍ بطيالسةٍ، فألقى على كل رجلٍ من جلسائه طيلساناً مطبقاً، ثم لم تلبث أن تجلت، فقال: قوموا بها.
قال مصعب الزبيري: حدثني مصعب بن عثمان قال: كان قيس بن سعد بن عبادة رحمه الله بعين، وكان بينه وبين رجلٍ عداوةٌ، وكان لقيسٍ على الناس دينٌ كثيرٌ، فذهب الرجل إلى الناس، فقال: يدعوكم قيسٌ، فحضره ناسٌ كثير، فقال: ما بال الناس ؟ ! فأخبر بذلك، فأخذ صكاكاً كانت عنده بعشرين ألف دينار فقال: هذه لكم، فتوزعوها بينكم.
قال: وباع ثابت بن عبيد الله دار الشقاق من مقاتل بن مقاتل بنسيئة، ثم تقاضاه، فلزمه في مسجد ابن أبي عبيدة، فرأى عبيد الله مقاتلاً، فقال له: مالك يا أبا المهاجر ؟ قال: لزمني ابنك، قال: بم ؟ قال: بثمن دار الشقاق، قال: يا ثابت، ما وجدت محبساً لغرمائك إلا داري ؟ ادفع إليه صكه وأعوضك، فعوضه عنها.
كان الحزين الكناني مع قوم من أهل المدينة يقامر، فعّمر ثيابه، فكان عرياناً في جانب البيت، وكانوا بالعقيق، فبيناهم كذلك إذ أقبل عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، فقال الحزين: أعطوني ثوباً حتى ألقاه، فلعله يخلف علي ثيابي، فما أمنوه حتى تبعه رجلٌ يمسك بطرف رداء أعاروه إياه، فقال له :
أَقُولُ لَهُ حِينَ وَاجَهْتُهُ : ... عَليْكَ السلاَمُ أَبَا جَعْفَرِ
قال: وعليك السلام، فقال:
فَأَنْتَ المُهَذبُ مِنْ هَاشِمٍ ... وَفِي البَيْتِ مِنْهُ الذِي يُذْكَرُ
فقال: كذبت ! ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
فَهَذِي ثِيَابِيَ قد أَخْلَقَتْ ... وَقَدْ عَضني زَمَنٌ مُنْكَرُ
قال: فثيابي لك بها، وانصرف حتى أتى منزله، وبعث إليه بثيابه التي كانت عليه.
قال أبو الحسن المدائني: كان لبيد بن ربيعة لا يمر به يومٌ إلا أراق فيه دماً، وكان يفعل إذا هبت الرياح، وربما ذبح العناق إذا أضاق، فصعد الوليد بن عقبة المنبر وقد هبت الرياح، فقال: أعينوا أبا عقيل على مروءته، وبعث إليه بمائة ناقةٍ، فلما جاءته قال لابنته: أجيبيه عني، وكان لبيدٌ قد ترك قول الشعر، فقالت ابنته:
إِذَا هَبتْ رِيَاحُ أَبِي عَقِيلٍ ... دَعَوْنَا عِنْدَ هَبتِهَا الوَلِيدَا
طَوِيلَ البَاعِ أَبْيَضَ عَبْشَمِيًا ... أَعَانَ عَلَى مُرُوءَتِهِ لَبِيدَا
بِأَمْثَالِ الهِضَابِ كَأَن رَكْباً ... عَلَيْهَا مِنْ بَني حَامٍ قُعُوداً
أَبَا وَهْبٍ جَزَاك َ اللهُ خَيْراً ... نَحَرْناهَا وأَطْعَمْنَا الثرِيدَا

فَعُدْ إن الكَريمَ لَهُ مَعَادٌ ... وَظَني يَابْنَ أَرْوَى أَنْ تَعُودَا
فقال لها أبوها لبيد: أحسنت، لولا أنك سالت فقالت: إن الملوك لا يستحي من مسئلتهم، قال: وأنت في هذه أشعر.
قال: خرج عبد الرحمن بن هشام في بعض طرقه، ثم انصرف على طريق الكوفة، فمر بالوليد بن عقبة، فلما صار بقصر ابن مقاتل أنفض من الزاد، فبعث إلى الوليد بن عقبة براحلتين، ولم يدخل الكوفة، ومضى على طريق المدينة، وقال: إنا أرملنا من الزاد، فابعث إلينا من زاد العراق، فبعث إليه عليهما ستين ألف درهم.
قال أبو الحسن المدائني: بلغني أن أسد بن عبد الله قدم خراسان، ومعه مرزبان مرو الروذ، فلما صار بأصبهان بعث إلى واليها خالد بن ورقاء الرياحي: أن ابعث إلينا من شهد بلادك. فنظر خالد فوجد في بيت المال سبع مائة ألف درهم، فأمر بحملها إليه، وكتب إليه: إنّي قد بعثت إليك بجميع ما كان عندي من الشّهد، ولو حضرني أكثر منه لبعثت اليك به. فقال المرزبان: لست أعجب من قدر المال، ولكن من بعثه كلّ شيء عنده .
قال ابن عائشة: كان طلحة بن عبد اللّه بن عوف جواداً، وولي المدينة، وأنشدني بعض قريش فيه:
يا طلح أنت أخو النّدى وعقيده ... إنّ النّدى إن مات طلحة ماتا
إنّ الفعال إليك أطلق رحله ... فبحيث بتّ من المنازل باتا
قال: وقدم الفرزدق المدينة وقد مات طلحة، فقال: يا أهل المدينة، أنتم أذلّ قوم في الأرض. قالوا: وما ذاك ؟ قال: غلبكم الموت على طلحة.
قال مصعب بن عبد اللّه الزبيري: حدثني مصعب بن عثمان عن نوفل بن عمارة قال: بلغني أنّ رجلاً من قريش من بني أميّة بن عبد شمس، له قدرٌ وخطرٌ، لم يسم لي - : رهقة دينٌ، وكان له مال من نخل وزرع، فخاف أن يباع ماله عليه، فشخص من المدينة يريد الكوفة، يعمد خالد بن عبد اللّه القسري - وكان والياً لهشام بن عبد الملك على العراق، وكان يبرّ من قدم عليه من قريش - فخرج الرجل إليه، وأعدّ له الهدايا من طرف المدينة، فسار حتّى قدم فيداً فأصبح بها، فنظر إلى فسطاط عنده جماعة، فسأل عنه ؟ فقيل له: الحكم بن المطلب بن حنطب، فلبس نعليه ثم خرج حتّى دخل عليه، فلما رأه قام إليه فتلقاه وسلّم عليه، وأجلسه في صدر فراشه، ثم سأله عن مخرجه ؟ فأخبره بدينه وما أراد من إتيان خالد بن عبد اللّه القسري، فقال له الحكم: انطلق بنا إلى منزلك، فلو علمت بمقدمك لسبقتك إلى إتيانك، فمضى معه حتى أتى منزله، فرأى الهدايا التّي أعدّ لخالد، فتحدث معه ساعة ثم قال: إن منزلنا أحضر عدة، وأنت مسافر ونحن مقيمون، فأقسمت عليك إلا قمت معي إلى المنزل وجعلت لنا من هديتك نصيباً، فقام معه، وقال: حذ منها ما أحببت، فأمر بها فحملت إلى منزله، وجعل الرجل يستحي أن يمنعه شيئاً منها، حتّى صار معه إلى منزله، فدعا بالغداء فتغدّى، وأمر بالهدايا ففتحت، فأكل منها هو ومن حضر، ثم أمر ببقيّتها فرفع إلى خزانته، وقام الناس. ثم أقبل على الرجل فقال: أنا أولى بك من خالد وأقرب إليك رحماً ومنزلاً، وهاهنا مال للغارمين أنت أولى الناس به، ليس عليك فيه منّة إلا للّه تعالى، يقضى به دينك. ثم دعا بكيس فيه ثلاثة ألاف دينار، فدفعه إليه، وقال: قد قرّب اللّه عليك الخطوة فانصرف إلى أهلك مصاحباً محفوظاً. فقام الرجل من عنده وهو يدعو ويشكر، ولم يكن له همّة إلا الرجوع إلى أهله، و انطلق الحكم معه ليشيّعه، فسار معه، ثم قال لكأني بزوجتك قد قالت لك: أين طرائف العراق ؟ أما كان لنا معك نصيب ؟ ثم أخرج صرّة فيها خمس مائة دينار، وقال: أقسم عليك إلا جعلت لها هذه عوضاً عن هدايا العراق. وودعه وانصرف.

قال مصعب: كان الحكم بن المطلب من أبرّ الناس بأبيه وكان أبوه - المطلب بن عبد اللّه - يحب ابناً له يقال له " الحارث " حباً شديداً مفرطاً، وكانت بالمدينة جارية مشهورة بالجمال والفراهة، فاشتراها الحكم من أهلها بمال عظيم، فقال له أهلها - وكانت مولدة عندهم - : دعها عندنا حتى نصلح من شأنها، ثم نزفها إليك بما تستأهل الجارية منا، فإنما هي لنا ولدٌ. فتركها عندهم حتى أصلحوا حالها، ثم نقلوها كما تزف العروس إلى زوجها، وتهيأ الحكم بأجمل ثيابه وتطيب. ثم انطلق، ثم بدأ بأبيه ليراه في تلك الهيئة ويدعوا له - تبركاً بدعائه - حتى دخل عليه وعنده الحارث بن المطلب أخوه. فلما رآه أبوه في تلك الهيئة أقبل عليه فقال: إنّ لي حاجة. قال: ما تقول يا أبه ؟ إنما أنا عبدك، فمرني بما أحببت. قال: تهب جاريتك هذه للحارث أخيك: وتعطيه ثيابك التي عليك، وتطبيه من طيبك، وتدعه حتى يدخل على هذه الجارية، فإني لا أشك إلا نفسه قد تاقت إليها ! فقال له الحارث: لم تكدر على أخي وتفسد عليه قلبه ؟ وذهب يريد يحلف. فبدره الحكم، فقال: هي حرة إن لم تفعل ما أمرك به أبي، فإن قرة عيني أسر إلي من هذه الجارية. وخلع ثيابه فألبسه إياها، وطيبه، ودفع إليه الجارية ! ! قال: وكان الحكم بعد حاله هذه قد تخلى من الدنيا، ولزم الثغور، حتى مات بالشام بمنبج. وأمه السيدة بنت جابر بن الأسود بن عوف الزهرية .
وفي الحكم يقول ابن هرمة :
ماذا بمنبج لو تنبش مقابرها ... من المقدم بالمعروف والكرم ؟
سالوا عن المجد والمعروف: " مافعلا ؟ " ... فقلت: " إنهما ماتا مع الحكم "
قال مصعب الزبيري: وحدثني عبد اللّه بن مصعب قال: خرج عبيد اللّه بن عباس - رحمهما اللّه - يريد معاوية، فأصابته السماء وهو في أرض قفر ليلاً، فرفعت له نار، فقال لغلام مقسم: أقصد بنا النار، فأتاها، فاذا شيخ معه أهله، وكان عبيد اللّه من أجمل الناس، فلما رآه الشيخ أعظمه، وقال لامرأته: إن كان هذا قرشياً فهو من بني هاشم، وإن كان يمانياً فهو من بني آكل المرار، فهيئي لنا عنزك أقضي بها ذمامه، فقالت له امرأته: اذاً تموت ابنتي من الجوع، قال الشيخ: الموت خير من اللؤم، فأخذ الشفرة وقام إلى العنز وهو يقول :
قرينتا لاتوقظي بنيه ... إن توقظيها تنتحب عليهْ
وتنزع الشفرة من يديه ... أبغض بهذا وبذا إليهْ
فذبحها، وحدّث عبيد اللّه حتى نضجت، فأكل عبيد اللّه منها وبات ليلته، فلما قرب الرحيل قال لمقسم: كم معك من نفقتنا ؟ قال: خمس مائة دينار، قال: ألقها إلى الشيخ، قال مقسم: سبحان اللّه ! إنما كان يكفيه أن تضعف له ثمن عنزه، واللّه ما يعرفك، ولا يدري من أنت!! قال: لكني أعرف نفسي، وأدري من أنا ! هذا لم يكن له من الدنيا غير هذه العنز، فجاد لنا بها وهو لا يعرفنا، فخرج من دنياه، وأعطيناه بعض دنيانا، فهو أجود منا ! وسار عُبيد الله حتى قدم على معاوية، وقضى حوائجه، فلما انصرف قال: يا مقسم، مُرَّ بنا على الشيخ ننظر كيف حاله فإذا إبلٌ عظيمة، وأنشده الشيخ شعراً قال فيه :
توسمَّته لما رأيت مهابةً ... عليه وقلت: المرء من آل هاشمِ
وإلا فمن آلِ المرارِ فإنهم ... ملوك ملوكٍ من ملوكٍ خضارمِ
فقمت إلى عنزٍ بقية أعنزٍ ... فأذبحها فعل امرئٍ غير عاتمِ
فعوَّضني منها غناي ولم تكن ... تساوي عنا في غير خمس دراهمِ
فقلت لعرسي ... في الخلا وصبيتي : أألحق هذا أو هو أضغاث حالمِ ؟!
فقالوا جميعاً: لا، بل الحق هذه ... يخبُّ بها الركبان وسط المواسمِ
بخمسِ مئتينٍ من دنانيرَ عُوِّضت ... من العنز، ما جادت بها كف حاتمِ
فلما ارتحل عُبيد الله سار الشيخ في العرب بالذي صنع عُبيد الله، وبلغ ذلك معاوية، فقال: لله عُبيد الله ! من أي بيضةٍ خرج، ومن أي عشٍ درج ! وهذا لعمري من فعلاته !!

أذكرني قول مِقسِمٍ مولى عُبيد الله بن عباس رضي الله عنهما - : شيئاً جرى لي، وإن لم يكن من باب الكرم. قلت يوماً لمؤدبي - الشيخ العالم أبي عبد الله محمد بن يوسف المعروف بابن المنيرة: - يا شيخ أبا عبد الله، لو ركبت حصاناً، ولبست كزاغنداً واعتقلت رمحاً، ووقفت في طريق مسجد القاضي - وكان الإفرنج يدخلون من هناك لقتالنا - لكنت تردُّهم وتمنعهم ؟! قال: لا والله، إلا كانوا يجوزون كلهم ! قلتُ: كانوا يُبصرون هيكلك - وما يعرفونك - فيخافون منك ! قال: سبحان الله ! إن لم يعرفوني أنا ما أعرف نفسي ؟!! قال الهيثم بن عدي: حدثني أبو جَهضم - شيخٌ من بني العنبر - عن أبيه قال: أقبل عُبيد الله بن أبي بكرة - رحمه الله - مرَّة من العراق، فمرَّ بنا في منازلنا، ونحن بالجبَّانة، فإن شابٌ من الحي قد كان يختلف إليه، فلما رآه قال: أبا حاتم، فداك أبي وأمي، طعامٌ حاضرٌ، فلو نزلت له ؟! فنزل، قال: وأمه تخبز، فقام داجنةٍ له فذبحها، وقال لأخيه: اكْشُطْ جلدها، ودخل عُبيد الله منزله، فجاء ببساطٍ، وما جُعل تحته فراش ولا مصلَّى، إلاّ أنه أتاه بمرفقةٍ فاتكأ عليها، وجلس أصحابه، وسُلخت الشاة، وجُعلت في التنور، وأخرج الخبز حاراً ففتّه، ثم كدر عليه السَّمن، ثم علاه بالسمن على الشاة، ثم جاء بالجفنة يحملها حتى وضعها بين يديه، فقال عُبيد الله: ما أكلتُ قط طعاماً أطيب من هذا، ثم دعا بتمرٍ بَرْنِيٍّ وزُبْدٍ، فأكل، ثم توضأ وركب. فقلت: ويحك ! ما صنعت ! أمِثل عُبيد الله يدخل منزلك ثم أجلسته على بساط ؟! فقال: قد علم أني لم آله تكرمةً، وإني أتيته بما عندي، وقد ذبحت له فلانة الداجنة. قال: فأقمنا يومين، ثم جاء رسوله فدعاه، فقال له: والله ما زلتُ معجباً بك ! ثم سرَّني إلقاؤك الحشمة فيما بيني وبينك، وقد رأيت أمراً غمني، خذ هذه الخمسة آلاف درهم فابتع بها سواراً لابنتك، وهذه الثلاثون ألف درهم فأقم بها وجهك، وهذه الخمسة آلاف درهم فابن بها دارك، وهذه خمسون جريباً قد أمرت لك بها. قال أبو جهضم: فحدثني أبي قال: فرأيته بعد ذلك وإنه لمن رجال بني تميم يساراً وفضلاً وهيبةً .
عن الهيم عن صالح بن حسان قال: قدم عبد الرحمن بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان رحمه الله، وكان رجلاً فقيهاً فاضلاً موسراً كثير الغزو والحج، أعطى حتى بلغت عطاياه قواعد المسجد، قال: فبينا هو يوماً يتغدَّى حيث فرغ من غدائه - : إذ استأذن عليه رجلٌ مكفوفٌ من بني فهرٍ، تقوده أمةٌ سوداءٌ، فقال: يا غلام، طعامك، فأقبل يأكل معه كأنه لم يأكل شيئاً، ثم قال: حاجتك، قال: حفظك الله، شيخٌ من بني فهر، لي أربع بنات، ليس لي ولا لهن إلا الأمة السوداء، فإن خدمتني أضرَّ ذلك بهن، وإن خدمتهن أضر ذلك بي، ووالله ما أصبحت أملك شيئاً، فانظر في حاجتي وصلك الله، فأقبل يعتذر إليه: ويذكر مسيره ومن يأتيه من قومه وما يتكلف، فقلنا: يعطيه خمسة دنانير، فإن أعطاه عشرةً فذلك كثير ! فقال: يا غلام، أعطه أربع مائة دينار، وأخدم كل ابنة له خادماً، وأعطه قائداً، وأجر عليه من مالنا بالسقيا كذا وكذا وسقْاً من تمر. فلما نهض الشيخ قيل له: يرحمك الله ! اعتذرت إليه فقلنا: يعطيه خمس دنانير فإن زاده أعطاه عشرة دنانير ! فقال: إي والله ! لأن يكون فعلي أحسن من قولي أحب إليَّ من أن يكون قولي أحسن من فعلي !! وعن صالح بن حسان قال: لما قدم سليمان بن عبد الله المدينة أهدى له خارجة بن زيد بن ثابت رحمه الله ألف عرق موز، وألف قرعة عسل أبيض، وألف شاة، ومائة أوزة، وألف دجاجة، ومائة جزور، فقال له سليمان: يا خارجة، أجحفت بنفسك، وما كنت تصنع بهذا في مثل هذا الموضع ؟! فقال: يا أمير المؤمنين، قدمت بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت في بني مالك بن النجار، فأنت ضيفٌ، وإنما هذا قِرى. قال: يغفر الله لك ! هذا أجحف ببني مخزوم، وصلك الله. قال صالح: فقال سليمان: هذا وأبيكم السؤدد ! رجلٌ أهدى إليّ - فسمَّى كل ما أهدى له، حتى أتى على آخره - ثم سأل: ما عليه من الدين ؟ فقال: خمسة وعشرون ألف دينار، قال: اقضوها عنه، وأمر له بعشرة آلاف دينار، وهلك خارجة في تلك السنة، حين صدر سليمان عن الحج، سنة تسع وتسعين .

عن عكرمة بن الأغر عن أبيه قال: كان الأشعث بن قيس لا يقدم من سفر فيصلي الفجر إلا كسا أهل المسجد ووصلهم، قال: وكانت لي على رجل من كندة ألف وخمس مائة درهم، فأتيته أتقاضاه، فقال: ما عندي شيء، ولكن الأشعث قد قدم اليوم، وما قدم من سفرٍ قط فصلَّى الفجر في المسجد - : إلا كسا ووصل، فاحضرنا بالغداة فصلِّ معنا، فإني لأرجو أن تأخذ مالك. قال: فصليت معهم الفجر، فلما سلّم الإمام قال رجلٌ فقال: أيها القوم، أقيموا في صفوفكم. ثم أعطى كل رجلٍ حلةً وخمس مائة درهم فقال: فجاءني الرجل فأعطاني الخمس مائة درهم التي دفعت إليه، وأعطيت أنا خمس مائة أخرى لنفسي. فانصرفت بألف درهم .
وعن أبي المجالد الجهني قال: كان زيد بن وهب إذا خرج عطاؤه لم يدع أحداً من كبار أهل ربيعة إلا كساه ثوباً، ويهب لمن كان صغيراً درهما. فلا والله ما رأيت ألفي درهم أعظم بركة من ألفي درهم زيد بن وهب. وذلك: أن القبيلة يظلون فرحين من ثياب وطعام ودراهم: الصغير والكبير .
وقدم على مخلد بن يزيد بن المهلب رجل قد كان زاره فأجازه وقضى حوائجه، فلما عاد قال له مخلد: ألم تكن أتيتنا فأجزناك ؟ قال: نعم. قال: فما ردك ؟ قال: قول الكميت فيك :
فأعطى ثم أعطى ثم عدنا ... فأعطى ثم عدت له فعادا
مِراراً ما أعود إليه إلا ... تبسَّم ضاحكاً وثنى الوسادا
فاضعف له مخلدٌ ما كان أعطاه .
عن إسماعيل بن عبد الله قال: قدم الراعي الشاعر على خالد بن عبد الله القسري ومعه ابنه جندل، فكان يغشاه مع أبيه، ثم فقده، فقال له: ما فعل ابنك ؟ فقال: توفي - أصلح الله الأمير - بعد أن زوَّجته وأصدقته. فأمر له خالد بدية ابنه وصداقه. فقال الراعي :
ودَّيتَ ابن راعي الإبل إذ حان يومه ... وشقَّ له قبراً بأرضك لاحدُ
وقد كان مات الجود حتى نعشتهُ ... وذكّيت نار الجودِ والجودُ خامدُ
فلا حملتْ أنثى ولا آب غائب ... ولا ولدت أنثى إذا مات خالدُ
قال المدائني: خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر - رضوان الله عليهم - حجَّاجاً، ففاتتهم أثقالهم، فجاعوا وعطشوا، فمروا بعجوز في خباءٍ لها، فقالوا: هل من شرابٍ ؟ قالت: نعم. فأناخوا إليها، وليس لها إلا شويهة، فقالت: احتلبوها وامتذقوا لبنها، ففعلوا. وقالوا: هل من طعام ؟ قالت: لا، إلا هي، فليذبحها أحدكم حتى أصنعها لكم، فذبحها أحدكم، فشوت وأكلوا، وقالوا عندها حتى أبردوا. ثم قالوا: نحن نفرٌ من قريش، نريد هذا الوجه، فإذا انصرفنا سالمين فألمي بنا، فأنا صانعون بك خيراً. ثم رحلوا وأقبل زوجها فقالت: سمعت ؟! فقال: لم أسمع ! وخبرته الخبر، فأحال عليها ضرباً فشجَّها، ثم قال: تذبحين عنزي لأعبد لا تدرين من هم، ثم يقولون: نفرٌ من قريش ؟! ثم ضرب الدهر ضربانه، واضطرته الحاجة إلى أن دخلت هي وزوجها المدينة، فمرَّت العجوز يوماً تسوق حماراً لها تنقل عليه البعر تبيعه - : إذ أبصرها الحسن بن علي - رضوان الله عليهما - فعرفها، فأمر من أتاه بها، فقال: أتعرفيني ؟ قالت: لا، فذكر لها العنز، فقالت: بأبي وأمي، إنك لأنت هو ؟! قال: نعم، قال: أفما لقيت صاحبيك ؟ قالت: لا، فأمر من اشترى لها من شاء الصدقة ألف شاة وأعطاها ألف دينار، وبعث بها مع رسول إلى الحسين رضي الله عنه، فسأل عما فعل الحسن ؟ فأعطاها مثل ذلك. ثم بعث بها إلى عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، فسأل عما أعطياها ؟ فأضعفه لها، وقال: لو بدأت بي لأتعبتهما. فانصرفت إلى زوجها بأربعة آلاف دينار، وأربعة آلاف شاة .
قال أبو الحسن المدائني: كان عُبيد الله بن قيس الرقيات منقطعاً إلى عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، فكان يصله ويقضي دينه، فجاءت صلة عبد الله بن جعفر في بعض ما كانت تجيء، وعُبيد الله بن قيس الرقيات غائب، وكان معاوية رحمه الله يصل عبد الله بن جعفر في كل سنة بمائة ألف، فأمر عبد الله بُديحاً غلامه فخبأ لعُبيد الله بن قيس صلته، فلما قدم أخذها، وقال :
إذا زرت عبد اللهِ ... نفسي فؤادهُ رجعتُ بفضلٍ من يداه ونائلِ
وإن غبتُ عنه كان للودِّ حافظاً ... ولم يكُ عني بالمغيبِ بغافلِ
تداركني عبد الإلهِ وقد بدتْ ... لذي الحقدِ والشنآنِ مني مقاتلي

حبَاني لما جئتُهُ بعطيةٍ ... وجاريةٍ حسناءَ ذات خلاخلِ
قال محمد بن سلاّم: قيل لعبد العزيز بن مروان: المتوكل الليثي شاعر مصر بالباب، فأذن له. فلما قام بين يديه أُرْتِجَ عليه، وكان عبد العزيز مهيباً، فقال المتوكل: أصلح الله الأمير، عظمت في عيني وملأت صدري، فاختلس مني ما كنت قلت. فنكس عبد العزيز ينكت بقضيبه الأرض. فقال المتوكل: أصلح الله الأمير، حضرني بيتان، قال: هاتهما، فقال :
في كفه خيزرانٌ نشره عبقٌ ... من كفِّ أروع في عِرْنِينه شممُ
يُغضي حياءً ويُغضى من مهابتهِ ... فما يكلَّم إلا حينَ يبتسمُ
فأمر له بمنديلٍ فبسطهُ، ثم دعا بأربعة آلاف درهم فألقاها فيه، ودعا بعبدين، وقال: اختر أيهما شئت، فقال: هذا وسيمٌ جسيمٌ وبه عوارٌ، وهذا أحبُّ إلينا منه، قال: فعلينا تردُّ العوار ؟! خذْهما جميعاً والمنديل بما فيه .
قلت: سمعت في هذين البيتين، وأنهما من جملة أبياتٍ للفرزدق بن غالب .
قال أبو الحسن المدائني: قام رجلٌ إلى أسد بن عبد الله فسأله، فأعرض عنه، فقال: أما والله وإني لأسألك من غير حاجة، قال: فما يدعوك إلى مسئلتي إذاً ؟! قال: رأيتك تحب من أعطيتهُ، فأحببت أن تحبني، فأعطاه عشرة آلاف درهم .
كان أسماء بن خارجة يقول: إنما يسألني رجلان: كريمٌ احتاج، فأنا أحق من سد خلته، وستر ما هو فيه، وأعانه على خصاصته. وإما لئيم اشتريت منه عرضي .
ومرض قيس بن سعد بن عبادة رحمه الله فاستبطأ إخوانه عن عيادته. فسأل عنهم ؟ فقيل: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة. ثم أمر منادياً فنادى: من كان لقيسٍ عليه دينٌ فهو في حلٍ منه. فكسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده .
عن حسين الخادم قال: حدثني ليث الطويل قال: كنت في موكب يزيد بن مزيد الشيباني وهو يدور في برية الرقة على شاطئ الفرات، إذ طلع عليه أعرابيٌ كلبيٌ على ناقة له، فلما صار غير بعيد عقل ناقته، ثم أقبل يوجف حتى وقف بين يدي يزيد، فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ما خطبك أيها الأعرابي ؟ قال: أصلح الله الأمير، لم تسألني عن الخطب من قبل أن تسألني عن الاسم والنسب والسبب والبلد ؟! قال: يا أعرابي، إذا سألتك عن ذلك ثم عرفتك، فقد صارت المعرفة شافعةً لك في حاجتك، وأيمُ الله ما يحضرني شفيعٌ هو أعز عليَّ من ماء وجهك، فما خطبك يا أعرابي ؟ قال: أصلح الله الأمير، دَيْنٌ فادحٌ. وفقر فاضح. قال: يا أعرابي، وما بلغ من دينك الفادح وفقرك الفاضح ؟ قال: أصلح الله الأمير، الدَّين الفادح: خمس مائة دينار، أخذتها في سنين سغبة، فوصلت بها الأرحام، وأطمعت بها الطعام، ابتغاء الأجر، واكتساب الشكر، حتى أجلتني عن البلد الرحب، وحملتني على المسلك الصعب، وأما الفقر الفاضح: فاغتراب وانفراد، ووحدانية وعيال كثيرة من بنين وبنات وأخوات وأمهات مصونات، طالما صنتهن من الحر والقر، فهدمهن الدهر، وكشفهن الفقر، بعد عز وامتناع، وخدمٍ وأتباع، وظلف وكراع، أفناه الضيف والسيف، فأقبلت أجرهن من الصحصحان حفاةً عراةً جياعاً، كلما عثرت إحداهن هتفت باسمك: " يا يزيد " حتى نزلت بهن في هذا الشعب - وأومى بيده إلى الجبل - ثم أتيتك، أيها الأمير، ولي فيهن بنيةٌ صغيرة، وقد قالت في الأمير أبياتاً، وحملتنيها إليه، وأقسمت عليَّ بحقه أن أنشده إياها، فقال يزيد: ما قالت الصبية ؟ قال: هي التي تقول :
ليس ينفي حوادث الدهر عنا ... وخطوبَ الزمان إلا يزيدُ
سيدٌ أجمعت عليه معدٌّ ... فله في أمورها الإقليدُ
ملكٌ يرتجى نداه ويُخشى ... بأسهُ في الوغى، قريبٌ بعيدُ
لا يجير الملوك منه طريداً ... وإذا ما أجار عزّ الطريدُ
فدعِ الصحصحان واقصدْ يزيداً ... فلنا في جواره ما نريدُ
قال: فقال يزيد: إي والله يا أعرابي، إن لك ولها في جوارنا ما تريد، هل يقضي دَيْنك ويسدُّ فقرك عشرة آلاف درهم ؟ قال: لا والله - أصلح الله الأمير - ولا مثلها، قال: هي لك عندي، وللجارية مثلها، ثم صرفه معه إلى داره، وأمر له بثمانين ألف درهم .

وعن حسين الخادم، قال: بينا أنا ذات يوم في مسجد الرحبة في يوم جمعة، والناس بين راكع وساجد من بعد صلاة الظهر، إذ مثل بين يدي غلام أعرابي حسن الوجه حدث السن في أطمار خلقةٍ، كالقضيب الذابل، يقلب في فكية لساناً أبين من الصبح، وأحلى من الشهد، فكان في بعض ما سمعته منه: " أيها الناس، إن الفقر أقامني لديكم مقام المذنب إليكم، وقد انغلق علي فيه باب الشكر، فافتحوا لي باب العذر، رحمكم الله، فلقد أحسن الذي يقول:
كأن فقيراً حين يغدو لحاجةٍ ... إلى كل من يلقى من الناس مذنب
والله إني لأنفر من منن اللئام نفور الوحش من زئير الأسد، وإنما قصدت هذا الملك السيد، الذي زينته أفعاله، وشرفته أحواله، فنفرني بوابه وتنكر لي حجابه، فخرجت في يومي هذا الى عامتكم ملتمساً منكم رجلاً عربياً تقياً نقياً هبرزياً يكون سبباً لي إليه " .
قال حسين الخادم: وكان إلى جانبي يزيد بن حلوان القناني، فقال: يا أبا خالد ما أرى هذا الأعرابي قصد غيرك، ولا أراد سواك، فصدق ظنه، وأبلغ به أمنيته. فقلت: نعم يأبا عبد الله، انهض بينا، فنهض ونهضت والأعرابي ثالثنا، حتى دخلنا على الأمير طوق بن مالكٍ، فسلمنا عليه، وأنشده الأعرابي:
يا طوق، إن الزمان حاربني ... وكنت في إخوةٍ وأخوال
وفي رجالٍ مثل البدور وفي ... قومٍ إلى ثروةٍ وأموال
فلم تزل بي صروفه وبهم ... تنقل من حالةٍ إلى حَالِ
فاستلب المال من يدي وعدا ... على رجالي عدو ربيَالِ
حتى دعيت " الغريب في الأ ... رض والمسكين " بعد كثرة المال
فقلت: من لي وللزمان ؟ ومن ... يصدق ظني به وآمَالِي؟
فقيل: طوق بن مالكٍ ملك الن ... اس ومأوى الطريد والجالي
طوقٌ إذا عاذ واستعاذ به المل ... هوف أضحى بموضع الوالِي
فجئتُ يا طوقُ عائذاً بك من ... شر الزمان وسوء أعمالِي
قال: فضحك طوقٌ، وقال: أعرابيُّ، أما شر زمانك فقد بدا لنا من قبيح حالتك، فم سوء أعمالك ؟ قال: أصلح الله الأمير، العزبة والغربة، فقال طوقٌ: نكدٌ وشؤمٌ، ثم أمر له بجائزةٍ وجاريةٍ وخلعٍ ودابةٍ، وانصرف إلى أهله على أحسن حالٍ.
قال عبد الله بن المعتز:
لا صاحبتني يدٌ لم تغن ألف يدٍ ... ولم ترد القنا حمر الخياشِيمِ
بادر بجودك بادر قبل عائقةٍ ... فإن وعد الفتى عندي من اللوم
لما احتضر محمد بن اسامة بن زيد بن حارثة - رحمهما الله - حضره الهاشميون، وأطاف به غرماؤه، فقال لهم حسن بن حسن رحمهما الله: أنا أضمن ما عليه، قالوا لا نريد، دع ما لنا يكون مكانه. فقال له علي بن الحسين رحمهما الله: أتحب أن أضمنه لهم ؟ قال: نعم، قال: أفتحب أن اقضيه أنت حيٌّ ؟ قال: وددت. قال: فانصرف إلى مالٍ كان عنده، أودعه إياه مروان بن الحكم، فقال: ما يمنعني أن أحول هذا المال وأضمنه ؟! فقضاهم فلما أسرع فيه أتاه كتاب عبد الملك بن مروان: إن مروان قد توفي، وأوصي: أنه قد أودعك مالاً وأنه قد سوغك إياه.
دخل طرماح بن حكيم الطائي على خالد بن عبد الله القسري، فقال له: أنشدني بعض شعرك، فأنشده:
وشيبني مالا أزال مناهضاً ... بغير غنى أسمو به وأَبُوعُ
وإن رجال المال أضحوا ومالهم ... لهم عند أبواب الملوك شَفِيعُ
أمخترمي ريب المنون ولم أنل ... من المال ما أعصي به وأطيع ؟!
فأمر له بخمسين ألف درهمٍ، وقال له: اعص الآن وأطع.

كان علي بن عيس ضامن أعمال الخراج والضياع فبقيت عليه بقية مبلغها أربعون ألف دينارٍ، فألح المأمون في اقتضائه إياها ومطالبته بها، إلى أن قال لعلي بن صالح حاجبه: طالب علي بن عيسى بما بقي عليه، وأنظره ثلاثاً فإن أخضر المال قبل انقضائها، وإلا اضربه بالسياط حتى يؤديها أو يتلف. فانصرف علي بن عيسى من دار المأمون آيساً من نفسه، إذ كان لا يعرف وجهاً يخلصه من المال. فقال له كاتبه: لو عرجت على غسان بن عبادٍ وخبرته خبرك لرجوت لك أن يعنيك على أمرك. فقال له: على ما بيني وبينه ؟ ! فقال: نعم، فإن الرجل أريحي كريم. فحملته الحال التي هو عليها على قبول ذلك من كاتبه. فدخلا إلى غسان، فقام إليه وتلقاه بالجميل ووفاه حقه. فقال له: الذي بيني وبينك لا يوجب ما أسديته من تكرمة. فقال: ذاك بحيث تقع المنافسة عليه والمضايقة فيه، والذي بيني وبينك نحن عليه بحالته، ولد خولك داري حرمة توجب لك بلوغ مارجوته عندي، فاذكر إن كانت لك حاجة. فقص عليه كاتبه القصة. فقال: أرجو أن يكفيكه اللّه: ولم يزده شيئاً. فنهض علي بن عيسى، وخرج من عنده آيساً من خيره، نادماً على قصده له. وقال لكاتبه: ما أفدتني بقصد غسان ودخولي عليه إلا تعجيل الشماتة والهوان، وعساه يجد بذلك السبيل إلى التشفي بي. فلم يصل علي بن عيسى إلى داره حتى حضر إليه كاتب غسان ومعه المال على البغال، وبلغه سلامه. وقال: قد حضر المال فتقدم بتسليمه، وبكّر إلى دار أمير المؤمنين من غد. فبكر علي بن عيسى فوجد غساناً قد سبقه إلى الدار، ودخل على المأمون ومثل بين الصفين وقال: يا أمير المؤمنين، إن لعلي بن عيسى بحضرتك حرمة وخدمة وسالف أصل، ولأمير الؤمنين عليه إحسان وهو ولي ربه وحفظه، وقد لحقه من الخسران والجائحة في ضمانه ما قد تعارفه الناس، وخرج أمر أمير المؤمنين بالشد عليه في المطالبة، وتوعده من ضرب السياط بما يلتف نفسه - : ما أطار عقله، وأذهل لبه، وأدهشه عن الاضطراب في الخلاص، والاحتيال فيما عليه، مع قدرته على ذلك. فإن رآى أمير المؤمنين أن يشفعني فيه ببعض ما عليه، فهي صنيعة يجددها عندي ويحرس بها قديم إحسانه، ويضاعف وجوب الشكر بها، والاعتداد بسبوغ النعمة فيها. ولم يزل يتلطف إلى حطه النصف مما عليه، وأقتصر منه على عشرين ألف دينار. فقال غسان: على أن يجدد أمير المؤمنين عليه الضمان، ويشرفه بخلع تقوي نفسه، وترهف عزمه، ويعرف بها مكان الرضى عنه. فأجابه المأمون إلى ذلك. فقال: فيأذن لي أمير المؤمنين في حمل الدواة إلى حضرته ليوقع بما رآه من هذا الإنعام، فيبقى شرف حملها علي وعلى عقبي من بعدي ؟ فقال: افعل. فحمل الدواة إلى بين يديه، فوقع له المأمون بما التمس، وخرج علي بن عيسى بالخلع والتوقيع بيده. فلما حصل في داره حمل من المال عشرين ألف دينار، وأعاد ما بقي على غسان، وشكره على جميله. فقال غسان، لكاتب علي بن عيسى: كأنني شفعت إلى أمير المؤمنين ليعيد إلي المال ؟ ! لم أستحطه ذلك إلا ليتوفر عليه وينتفع به، وليس يعود إلى منزلي منه شيءٌ أبداً. وأعاد المال عليه. فكان ذلك سبب صلاح ما بينهما، وعرف علي بن عيسى قدر ما فعله معه غسان، ولم يزل يحدث به إلى آخر عمره.

روي: أن عبد اللّه بن عباس أتى الحسن والحسين رضوان اللّه عليهم فقال: إن أخي وأخاكما قد أسرع في ماله إسراعاً قد خفت على نفاده، وله صبيةٌ قد خفت أن يدعهم عالةً، وقد عاتبته في ذلك مراراً، ولا أراه يقلع ولا ينزع، وأرجو أن يكون لكما مطيعاً، وإن قولكما عنده مقبولٌ، فلو عاتبتماه ؟ فقالا: نفعل، فصارا إليه، فلما دخلا وجداه يطعم الناس، وإذا جزرٌ تنحر. فقال أحدهما لصاحبه: هذا بعض ما شكاه عبد الله. ثم صارا إليه، فاستقبلهما وأسهل لهما عن فراشه، ولقيهما بالإجلال والإعظام. وقالا: أتيناك في حاجةٍ. فقال: الحوائج بعد الغداء، قالا: فهاته، قال: ما كنت لأغديكما بنحيرةٍ لغيركما. فاجتبسهما حتى نحر لهما، فلما طعما وفرغا سألهما عن حاجتهما ؟ فقالا: إن أخانا وأخاك عبد الله أتانا فسألنا معاتبتك على إسرافك في مالك، وقد رأينا بعض ما شكا، ولك بنون، ولسنا نأمن عليهم الضيعة بعدك. فقال: ما لقولكما عندي مردٌّ، ولا لي عما تأمراني به مدفعٌ، لكني أخبر كما بقصتي، وأرد الأمر إليكما، فما أمر تماني به أتيته، وما نهيتماني عنه وقفت عنده. فقالا: هات. فقال: إن الله تبارك وتعالى عودني عادة جميلة، فعودتها عباده، ولست آمن إن قطعت عادتي عن عباده أن يقطع عادته عني. فقالا: لا نأمرك في هذا بشيءٍ. وقاما فانصرفا حامدين لأمره.
قدم عيينةٌ بن مرداسٍ المعروف بابن فسوةٍ على ابن عامرٍ البصرة - وهو واليها - فأغفل الغلمان أمره، فقال:
كأَنِّي وَنِضْوِي عندَ بَابِ ابنِ عامر ... مِنَ الصِّرِّ ذِئْبَا قَفْرَةٍ غَرِثانِ
فَبِتُّ وَصِنَّبْرُ الشِّتّاءِ يَلُفُّنِي ... وقَدْ مَسَّ بَرْدٌ سَاعِدِي وَبَنَانِي
فَما أَوْقَدُوا نَاراً ولاَ أَحْضَرُوا قِرًى ... وَلاَ اعْتَذَرُوا مِنْ عُسْرَةٍ بِلِسَانِ
فلما بلغ شعره ابن عامرٍ أقسم: " لا يغلق له بابٌ " فكانت أبوابه تبيت مفتوحةً.
قال الحكيم: الجود خلقةٌ أثرت عذوبة لذة الثناء على لذة المال، وهو من أمهات المحاسن، ومن الكرم بسبيلٍ خاصةٍ، وبمكانٍ رفيعٍ من القلوب.
وقال حاتم بن عبد الله الطائيُّ:
يابْنَةَ عَبْدِ اللهِ وَابْنَةَ مالِكٍ ... وَيابْنَةَ ذِي البُرْدَيْن والفَرَسِ النَّهْدِِ
إِذَا مَا صَنَعْتِ الزَّادَ فالتَمسي لَهُ ... أَكِيلاً، فإِني لَسْتُ آكُلُهُ وَحْدِي
بَعيداً قَصِِيّاً أَوْ قَرِيباً، فإِنني ... أَخَافُ مَذمَّاتِ الأَحَادِيثِ مِنْ بَعْدِي
وقال الشريف الرضي - رضي الله عنه - في ترك المال للوارث:
يَا آمِنَ الأَقْدَارِ بادِرْ صَرْفَها ... وَاعْلَمْ بِأَنّ الطّالِبِينَ حِثَاثُ
خُذْ مِنْ تُرَاثِكَ مَا اسْتَطَعْتَ فإِنّما ... شُرَكاؤكَ الأيَّامُ وَالْوُرَّاثُ
أَلمَالُ ... مَالُ المَرْءِ : ما قُضِيَتْ بِهِ الشَّ هَوَاتُ أَوْ دُفِعَتْ بِهِ الأَحْدَاثُ
ما كانَ مِنْهُ فاضِلاً عَنْ قُوتِهِ ... فَلْيَعْلَمَنَّ بِأَنّهُ مِيراثُ
وقال أعرابي من بني أسدٍ:
يَقُولُونَ: ) ثمِّرْ مَا اسْتَطَعْتَ ( وَإِنَّمَا ... لِوَارِثِهِ مَا ثمَّرَ المَالَ كاسِبُهْ
فَكلْهُ وَ أَطْعِمْهُ وَ خَالِسْهُ وَارِثاً ... شَحِيحاً وَدَهْراً تَعْتَرِيهِ نَوَائِبُهْ
ينظر إليه قول المسعودي:
إِنَّ الكِرَامَ مُنَاهِبُو ... كَ المَجْدَ كلَّهُمُ فَناهِبْ
أَخْلِفْ وَأَتْلِفْ، كلُّ شَيْءٍ ... زَعْزَعَتَهُ الرِّيحُ ذَاهِبْ
كان يقال: إنما نلقى ما أسلفنا، ولا نلقى ما خلفنا.
روي: أن هشام بن عبد الملك بن مروان لما ثقل في مرضه الذي مات فيه - : بكى عليه ولده. فقال لهم: جاد لكم هشامٌ بالدنيا، وجدتم عليه بالبكا، وترك لكم ما كسب، وتركتم عليه ما اكتسب، فما أسوأ حال هشام إن لم يغفر الله له.
فأخذ هذا المعنى محمودٌ الوراق فقال:
تمَتَّعْ بمالِكَ قَبلَ الممَاتِ ... وإلاّ فَلاَ مالَ إِنْ أَنتَ مُتّا
شَقِيت بهِ ثمَّ خَلَّفْتَهُ ... لِغيْرِكَ، بُعْداً وَسُحْقاً ومَقْتاً
فَجَادُوا عَلَيْكَ بِزُورِ الْبُكا ... وَجُدْتَ علَيْهِمْ بما قَدْ جَمَعْتَا

وأَوْهَبْتَهُمْ كلَّ مَا في يَدَيْكَ ... وَخَلَّوْكَ رَهْناً بماَ قَدْ كَسَبتَا
يقال: مال الميت يعزي ورثته عنه.
فأخذ هذا المعنى ابن الرومي فقال:
بَقَّيْتَ مَالَكَ مِيرَاثاً لِوَارِثِهِ ... فلَيْتَ شِعْرِيَ: مَا بَقَّى لَكَ المَالُ ؟ !
أَلْقَوْمُ بَعْدَكَ في حَالٍ تسُرُّهُمُ ... فكَيفَ بَعْدَهُ حَالَتْ بِكَ الحالُ ؟
مَلُّوا البُكاءَ فَما يَبْكِيكَ مِنْ أَحَدٍ ... وَاسْتَحْكَمَ الْقِيل في المِيرَاثِ وَالقَالُ
وَلَّتْهُمُ عَنْكَ دُنْيَا أَقْبَلَتْ لَهُمُ ... وَأَدْبَرَتْ عَنْكَ، وَالأَيَّامُ أَحْوالُ
عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - أنه قال: إنما تخلف مالك لأحد رجلين: رجل عمل فيه بطاعة الله تعالى، فسعد بما شقيت فيه، أو رجل عمل فيه بمعصية الله تعالى، فشقي بما جمعت له.
وقيل لابن عمر رضوان الله عليه: توفي زيد بن خارجة وترك مائة ألف درهمٍ. قال: لكنهما لا تتركه.
بعث معاوية بن أبي سفيان رحمه الله إلى عبيد بن شرية الجرهمي - وكان من المعمرين - فقال له: ما أدركت ؟ فقال: أدركت يوماً شبيهاً بيومٍ قبله، وليلة شبيهةً بأختها، ومولوداً يولد، وحياًّ يموت. قال: أخبرني بأعجب ما رأيت. قال: حضرت جنازةً فذكرت الموت والبلى، فخنقتني العبرة فقلت متمثلاً:
يا قَلْبُ إِنَّكَ في أَسْمَاءَ مَغْرُورُ ... فاذْكُرْ، وهَلْ يَنْفَعَنْكَ اليَوْمَ تَََذْكِيرُ ؟
فاسْتَقْدِرِ اللهَ خَيْراً وَارْضَيَنَّ بِهِ ... فَبَيْنَمَا العُسْرُ إذْ دَارَتْ مَيَاسيرُ
وَبَيْنَمَا المَرْءُ فِي الأَحْيَاءِ مُغْتَبِطاً ... إذ صارَ في القَبْرِ تعْفُوهُ الأعاصِيرُ
حتَّى كأنْ لم يَكُنْ إلاّ تَذَكُّرُهُ ... وَالدَّهْرُ أَيَّتَما حالٍ دَهَارِيرُ
يَبْكي الغريبُ عليْهِ ليْسَ يَعْرِفُهُ ... وَذُو قَرَابَتِهِ في الحَيِّ مَسْرُورُ
فقال لي رجلٌ من أهل الجنازة: أتدري لمن هذا الشعر ؟ قلت: لا.
قال: هو لهذا المدفون، وأنت غريبٌ تبكي عليه، وقراباته الذين يرثونه مسرورون ! وقيل: هذا الشعر لجبلة بن الحارث. وقيل: الميت عثمان بن لبيدٍ العذري.
ما أحسن ما اعتذر حاتم بن عبد الله الطائيُّ عن كرمه من قصيدة له !:
أَمَاوِيَّ ما يُغْنِي الثَّرَاءُ عنِ الْفَتَى ... إذا حَشْرَجَتْ يوْماً وضاقً بها الصَّدْرُ
أَمَاويَّ إنْ يُصْبِحْ صَدَايَ بِقَفْرَةٍ ... مِنَ الأَرْضِ لاَ مَاءٌ لَدَيَّ وَلاَ خَمْرُ
أَرَى أَنَّ ما أنْفَقْتُ لَمْ يَكُ ضائِرِي ... وأنَّ يدِي مِمَّا بَخِلْتُ بهِ صِفْرُ
ومثله قول الآخر:
أَرأَيْت إنْ صَرَخَتْ بِلَيْلٍ هَامَتي ... وخَرَجْتُ مِنْهَا بالِياً أثوَابي
هَلْ تَخْمِشَنْ إِبِلي عليَّ وُجُوهَهَا ؟ ... أمْ هَلْ تُشَدُّ رُؤوسُهَا بِسِلاَبِ ؟
أَأَصُرَّها وَبُنَيُّ عَمِّي ساغِبٌ ؟ ! ... لَكَفَاكِ مِنْ إِبَةٍ عليَّ وَعَابِ
سأل رجلٌ الحسن بن علي - رضوان الله عليهما - حاجةً، فقال له: يا هذا، حقُّ سؤالك إياي يعظم لديّ، ومعرفتي ما يجب لك تكبر عليَّ، ويدي تعجز عن نيلك ما أنت أهله، والكثير في ذات الله تعالى قليلٌ، وما في ملكتي وفاءٌ لشكرك، فإن قبلت الميسور، ورفعت عني مؤونة الاحتيال والاهتمام لما اتكلف من واجبك - : فعلت. فقال: يابن رسول الله، أقبل القليل، وأشكر العطية، وأعذر على المنع. فدعا الحسن - رضوان الله عليه - وكيله، وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها ثم قال: هات الفاضل من الثلثمائة ألف درهم، فأحضر خمسين ألفاً. قال: فما فعلت الخمس مائة دينارٍ ؟ قال: هي عندي، قال: أحضرها، فأحضرت، فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل. وقال: هات من يحملها، فأتاه بحمالين، فدفع إليهم الحسن - رضوان الله عليه - رداءه لكري الحمل، فقال له مواليه: والله ما بقي عندنا درهمٌ، فقال: لكني أرجو أن يكون لي عند الله تعالى أجرٌ عظيمٌ.

عن محمد بن المنكدر عن أم ذرة - وكانت تخدم عائشة رضوان الله عليها - قالت: بعث ابن الزبير رحمه الله إلى خالته أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها - : في غرارتين ثمانين ومائة ألف درهمٍ، فدعت بطبقٍ فجعلت تقسمه بين الناس، حتى فرغ، فلما أمست قالت: يا جارية، هاتي فطوري، فجاءت بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرَّة: ما استطعت - فيما قسمت اليوم - أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه ؟ ! فقالت: لو كنت ذكرتيني لفعلت ! ! يروى: أنه كان لعثمان بن عفان على طلحة بن عبيد الله - رضوان الله عليهما - خمسون ألف درهمٍ، فخرج عثمان يوماً إلى المسجد، فقال له طلحة: قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال له عثمان رضي الله عنه: هو لك يا أبا محمدٍ معونةً على مروءتك.
خرج عبد الله بن عامر بن كريزٍ رحمه الله من المسجد يريد منزله، وهو وحده، فقام إليه غلامٌ من ثقيفٍ فمشى إلى جانبه، فقال له عبد الله: ألك حاجةٌ يا غلام ؟ قال: سلامتك وفلاحك، رأيتك تمشي وحدك فقلت: " أقيك بنفسي وأعوذ بالله إن طار بجناحك مكروهٌ " فأخذ عبد الله بيده، ومشى معه إلى منزله، ثم دعا بألف دينارٍ فدفعها إلى الغلام، وقال: استنفق هذه، فنعم ما أدَّبك أهلك.
قيل: اشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيطٍ داره التي في السوق بسبعين ألف درهمٍ، فلما كان الليل سمع بكاء آل خالدٍ، فقال لأهله: ما لهؤلاء ؟ قال: يبكون من أجل دارهم. قال: يا غلام، إئتهم فأعلمهم أن المال والدار لهم جميعاً.
عن الحسن بن خضر قال: لما أفضت الخلافة إلى بني العباس اختفت رجالٌ من بني أمية، وكان فيمن اختفى إبراهيم بن سليمان بن عبد المك، حتى أخذ له داوود بن العباس أماناً، وكان إبراهيم رجلا عالماً حدثاً، فخصَّ بأبي العباس، فقال له يوما: حدثني عن ما مرَّ بك في اختفائك ؟ قال: كنت - يا أمير المؤمنين - مختفياً بالحيرة، في منزلٍ شارعٍ عن الصحراء، فبينا أنا على ظهر بيتٍ اذ نظرت إلى أعلامٍ سودٍ قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة، فوقع في روعي أنها تريدني، فخرجت من الدار متنكّراً، حتى أتيت الكوفة، ولا أعرف بها أحداً أختفي عنده، فبقيت متلدِّداً، فإذا ببابٍ كبيرٍ ورحبةٍ واسعةٍ، فدخلت فيها، فإذا رجلٌ وسيم الهيئة على فرسٍ قد دخل الرحبة، ومعه جماعةٌ من غلمانه وأتباعه، فقال: من أنت ؟ وما حاجتك ؟ فقلت: رجلٌ مختفٍ يخاف على دمه، استجار بمنزلك. فأدخلني منزله، ثم صيَّرني في حجرةٍ تلي حرمه، وكنت عنده فيما أحبُّ من مطعمٍ ومشربٍ وملبس، ولا يسألني عن شيءٍ من حالي، إلاَّ أنه يركب في كلِّ يومٍ ركبةً. فقلت له يوماً: أراك تدمن الرُّكوب، ففيم ذلك ؟ فقال: إن إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبراً، وقد بلغني أنه مختفٍ، وأنا أطلبه لاِدْرِكَ منه ثأْري ! فكثر - واللهِ - تعجُّبي، إذ ساقني القدر إلى حتفي، في منزل من يطلب دمي ! وكرهت الحياة. فسألت الرجل عن اسمه واسم أبيه ؟ فخبَّرني. فعرفت أنَّ الخبر صحيح، وأنا قتلت أباه صبراً. فقلت: ياهذا، قد وجب عليَّ حقك، ومن حقك علي أن أدلك على خصمك، وأقرب عليك الخطوة. قال: وما ذاك ؟ قلت: أنا ابراهيم بن سليمان قاتل أبيك، فخذ بثأرك ! فقال: إني أحسبك رجلاً قد مضَّه الاختفاء، فأحبَّ الموت. فقلت: بل الحقُّ ما قلت لك، أنا قتلته يوم كذا وكذا، بسبب كذا وكذا. فلما عرف صدقي اربدَّ وجهه واحمرَّت عيناه، وأطرق مليًّا، ثم قال: أما أنت فستلقى أبي فيأخذ بثأره منك، وأما أنا فغير مخفرٍ ذمَّتي، فاخرج عني، فلست آمن نفسي عليك ! وأعطاني ألف دينارٍ. فأخذتها وخرجت من عنده. فهذا أكرم رجلٍ رأيته بعد أمير المؤمنين.

قال القاضي أبو علي المحسِّن بن أبي القاسم علي بن محمد التَّنوخيّ رحمه الله: حدثني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني إملاء من حفظه وأنا أسمع، قال: قرأت في بعض أخبار الأوائل: أن الإسكندر لما انتهى إلى بلد الصين، ونازل ملكها - : أتاه حاجبه، وقد مضى من الليل شطره، فقال له: رسول ملك الصين بالباب يستأذن عليك. فقال: ائذن له. فلما دخل وقف بين يديه وسلم، وقال: إن رأى الملك أن يخليني فليفعل. فأمر الإسكندر من بحضرته بالانصراف، وبقي حاجبه، فقال له الرسول: إن الذي جئت له لا يحتمل أن يسمعه غيرك، فأمر بتفتيشه، ففتِّش، فلم يوجد معه شيءٌ من السِّلاح. فوضع الإسكندر بين يديه سيفاً مجرَّداً، وقال له: قف مكانك، وقل ما شئت. ثم أخرج كل من كان عنده. فلما خلا المكان قال له الرسول: إني أنا ملك الصين، لا رسوله، وقد حضرت أسألك عمّا تريده ؟ فإن كان ممّا يمكن الانقياد إليه ولو على أصعب الوجوه - : أجبت إليه، وغنيت أنا وأنت عن الحرب. فقال له الإسكندر: وما أمنك مني ؟ ! فقال: لعلمي بأنك رجلٌ عاقلٌ، وأنه ليس بيننا عداوةٌ متقدِّمةٌ، ولا مطالبةٌ بذحلٍ، وأنك تعلم أن أهل الصين متى قتلتني لا يسلمون إليك ملكهم، ولم يمنعهم عدمهم إياي أن ينصبوا لأنفسهم ملكا غيري، ثم تنسب انت إلى غير الحميد وضدِّ الحزم. فأطرق الإسكندر مفكِّراً في مقالته، وعلم أنه رجلٌ عاقلٌ. ثم قال له: الذي أريد منك ارتفاع ملكك ثلاث سنين عاجلاً، ونصف ارتفاعه في كل سنةٍ. قال: هل غير ذلك ! قال: لا. قال: قد أجبتك. قال: فكيف تكون حالك حينئذٍ ؟ أكون قتيل أول محاربٍ، وأكلة أول مفترس. قال: فان قنعت منك بارتفاع سنتين، كيف يكون حالك ؟ قال: أصلح - إذا لزمت - مما تقدم ذكره. قال: فان قنعت منك بارتفاع سنةٍ واحدةٍ ؟ قال: يكون ذلك مضرًّا بي ومذهباً لجميع لذّاتي. قال: فان اقتصرت منك على السُدس ؟ قال: يكون السُّدُسُ موفَّرا، والباقي لجيشي وأسباب الملك. قال: قد اقتصرت على هذا. فشكره وانصرف. فلما أصبح وطلعت الشمس أقبل جيش الصين، حتى طبق الأرض واحتاط بجيش الإسكندر، حتى خافوا الهلكة، وتواثب أصحابه فركبوا الخيل واستعدوا للحرب. فبيناهم كذلك إذ ظهر ملك الصين عليه التاج. فلما رأى الإسكندر ترجل، فقال له الإسكندر: أغدرت ؟ ! قال: لا والله، قال: فما هذا الجيش ؟ قال: أردت أن أعلمك أني لم أطعك من قلةٍ، ولا من ضعفٍ ولينٍ، وأنت ترى هذا الجيش، وما غاب عنك أكثر، لكني رأيت العالم الأثير مقبلاً عليك، ممكِّناً لك، فعلمت أنه من حارب العالم الأثير غلب، فأردت طاعته بطاعتك، والذِّلَّة لأمره بالذِّلة لك فقال الإسكندر: ليس مثلك من يؤخذ منه شيءٌ، فما رأيت بيني وبينك أحداً يستحقُّ التفضيل والوصف بالعقل غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك، وأنا منصرفٌ عنك. فقال ملك الصين: أما إذ فعلت ذاك فلست تخسر. فلما انصرف الإسكندر أتبعه ملك الصين من الهدايا والألطاف بضعف ما كان قرَّر معه.
قلت: قد جرى في مدَّتي ما يشاكل حديث الإسكندر، وأنا مورده.

وذلك: أن الإفرنج - خذلهم الله - لما خرجوا في سنة تسعين وأربع مائة، وفتحوا أنطاكية، وقهروا أهل الشأْم - : تداخلهم الطمع، وحدثتهم نفوسهم بملك بغداد وبلاد الشرق، فحشدوا وجمعوا وساروا يريدون البلاد، وصاحب الموصل في ذلك الوقت حكرمش، فجمع أمراء التركمان الأرتقية ومن قدر عليه، ولقيهم على الخابور فكسرهم، وأسر من يقدمهم: الملك بغدوين البرونس وجوسلين، وسيَّرهم إلى قلعة جعبر، إلى عند الأمير شهاب الدين مالك بن سالم، وأودعهم عنده، وعاد من بقي من الإفرنج إلى بلادهم، ومقدمهم ميمون صاحب أنطاكية، فركب في البحر وسار إلى بلاده، يستنجد بالإفرنج ويحشد ويرجع، فمات قبل ذلك، ومات حكرمش صاحب الموصل، وأقطع السلطان الموصل جاولي سقاوي، فعزم على الغزاة، وتوجه إلى الشأم، فوصل قلعة جعبر، وطلب أسارى الإفرنج الذين عند صاحبها، فقال: هم بحكمك، قال: اقطع عليهم مالاً يشترون به أنفسهم، فتحدَّث معهم شهاب الدين، وقرَّر عليهم مائة ألف دينارٍ، وعرَّف جاولي بذلك، فقال: أنفذ لي جوسلين، فلما حضر عنده قال: قطعتم على أنفسكم مائة الف دينارٍ ؟ قال: نعم، قال: تشتهي أهب لك عشرة آلاف دينار ؟ قال: ما ينكر لمثلك أن يوهب عشرة آلاف دينار ! قال: تشتهي أن أوهب لك عشرين ألف دينار ؟ قال: ما يصلح لملكٍ مثلك أن يتلاهى بمثلي ! قال: والله ما تلاهيت بك، ولو أردت أن آخذ منك المال ما أبصرتك ولا تحدثت معك، وأنا أطلقكم وأخلي لكم المال كله، بلى لي حاجةٌ، نقضوها لي ؟ قال: ما هي ؟ قال: صاحب أنطاكية وصاحب حلبٍ أعدائي، أريدكم تعينوني على قتالهم. وكان صاحب أنطاكية: دنكري، وصاحب حلب: الملك رضوان، فقال جوسلين: نمضي ونجتمع - فارسنا وراجلنا - ونصلك نقاتل معك كل من قاتلك، فأطلقهم، فمضوا، حشدوا وجمعوا، ووصلوا إلى خدمته، وسار - هو وهم - إلى لقاء عسكر حلبٍ وعسكر أنطاكية، حتى التقوا، فحدَّثني من حضر حربهم قال: كان وقع السيوف بينهم - يعني الإفرنج - كوقع الفؤوس في الحطب، فكسرهم صاحب أنطاكية، فأما المسلمين فطار من سلم منهم، وأما الفرنج فأسر من فرسانهم جماعةٌ كبيرةٌ، فجاؤوا إلى عند دنكري صاحب أنطاكية ثاني يوم أسرهم، وقالوا له: أي شيءٍ تريد تعمل بنا ؟ قال: أحملكم إلى أنطاكية، أحبسكم، قالوا: والله ما فينا من يتبعك ولا يجيء معك، نحن عراة، ما معنا ثيابٌ ولا نفقةٌ ولا فرشٌ ننام فيها، ولا معنا غلمانٌ يخدمونا، قال: وأي شيء تعملون ؟ قالوا: تخلينا نمضي إلى بيوتنا نعمل شغلنا ونجيء إلى الحبس، قال: امضوا، فمضوا، أحضروا غلمانهم ونفقاتهم وفرشهم، ووصلوا إلى عنده إلى أنطاكية، فحبسهم إلى حين تسهل خلاصهم.
روى أبو الفرج الأصبهاني عن أبي بكر الهذلي قال: لما أطلق امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحطيئة الشاعر من حبسه قال له: يا أمير المؤمنين، اكتب لي إلى علقمة بن علاثة كتاباً لأقصده به، فقد منعتني التكسب بشعري. قال: لا أفعل. فقيل له: يا أمير المؤمنين، وما عليك من ذلك ؟ ! إن علقمة ليس بعاملك فتخشى أن تأثم، وإنما هو رجلٌ من المسلمين، فتشفع له إليه. فكتب له بما أراد، فمضى الحطيئة بالكتاب، فصادف علقمة قد مات والناس ينصرفون عن قبره. فوقف عليه ثم أنشد قوله:
لَعَمْرِي لَنِعْمَ المَرْءُ مِنْ آل جَعفَرٍ ... بِحُورَانَ أَمْسَى أَعْلَقَتْهُ الحَبَائِلُ
فإنْ تَحْيَ لاَ أَمْلَلْ حَيَاتي، وإن تَمُتْ ... فَما فِي حَيَاةٍ بَعْدَ مَوْتِكَ طَائِلُ
ومَا كانَ بَيني ... لَوْ لَقِيتُكَ سَالِماً وَبَيْنَ الغِنَى إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
فقال له ابنه: كم ظننت أن علقمة يعطيك ؟ قال: مائة ناقةٍ، قال: فلك مائة ناقة تتبعها مائةٌ من أولادها. فأعطاه إياها.

وعن القحذميّ قال: لزم يزيد بن مفرّغٍ غرماؤه بدينٍ لهم. فقال لهم :انطلقوا نجلس على باب الأمير، عسى أن يخرج الأشراف من عنده فيروني فيقضوا عني. فانطلقوا به، فكان أول من خرج إما عمر بن عبيد الله ابن معمرٍ، وإما طلحة الطلحات. فلما رآه قال: أبا عثمان، ما أقعدك ها هنا ؟ ! قال: غرمائي هؤلاء، لزموني بدينٍ لهم علي، قال: وكم هو ؟ قال: سبعون ألفاً، قال: علي منها عشرة آلاف درهم. ثم خرج الآخر على الأثر، فسأله عما سأله عنه صاحبه ؟ فقال: هل خرج أحدٌ قبلي ؟ قالوا: نعم، فلان، قال: فما صنع ؟ قالوا: ضمن عشرة آلاف درهم، قال: فعليّ مثلها. وجعل الناس يخرجون، فمنهم من يضمن الألف إلى أكثر من ذلك، حتى ضمنوا أربعين الفاً. وكان يأمل عبيد الله بن أبي بكرة رحمه الله، فلم يخرج حتى غربت الشمس، فخرج مبادراً، فلم يره، حتى كاد يبلغ بيته. فقيل له: إنك مررت بابن مفرغ ملزوماً، وقد مرَّ به الأشراف فضمنوا عنه، فقال: واسوأتاه ! إني لخائفٌ أن يظنَّ بي أنى تغافلت عنه. وكرَّ راجعاً فوجده قاعداً، فقال: أبا عثمان، ما أجلسك ها هنا ؟ قال: غرمائي هؤلاء، يلزموني، قال: وكم عليك ؟ قال: سبعون الفاً، قال: وكم ضمن عنك ؟ قال: أربعون ألفاً، قال فاستمتع بها وعلي دينك أجمع. فقال فيه:
لَوْ شِئْتَ أَنْ تَغْنَيْ وَلَمْ تَنْصَبِي ... عِشْتِ بِأَسْبابِ أَبي حَاتِمِ
عِشْتِ بِأَسبابِ الجَوَادِ الذِي ... لاَ يَخْتِمُ الأَموَالَ بِالخَاتَمِ
منْ كَفِّ بُهْلُولٍ لَهُ غُرَّةٌ ... مَا إِنْ لِمَنْ عَادَاهُ مِنْ عَاصِمِ
المُطْعِمُ النَّاسَ إِذَا حَارَدَتْ ... نَكْبَاؤُهَا فِي الزَّمَنِ العَارِمِ
وَالفَاصِلُ الخُطّةَ يَوْمَ اللِّحَا ... لِلأمْرِ عِنْدَ الكُربَةِ اللاّزِمِ
جَاوَرَتْهُ ... حِينَاً فَأَحْمَدْتُهُ أُثْنِي، وَمَا الحَامِدُ كَالاّئِمَ
كَمْ مِنْ عَدُوٍّ كَاشِحٍ شَامِتٍ ... أَخْزَيْتَهُ يَوْماً وَمِنْ ظَالِمِ
أَذَقْتَهُ الْمَوْتَ عَلى غِرَّةٍ ... بِأَبْيَضَ ذِي رَوْنَقٍ صَارِمِ

روى أبو الفرج الأصبهاني عن مسلم بن الوليد - المعروف بصريع الغواني - قال: كنت يوماً جالساً في دكان خياطٍ بإزاء منزلي، إذ رأيت طارقاً ببابي، فقمت إليه، فإذا هو صديقٌ لي من أهل الكوفة، قد قدم من قمَّ، فسررت به. وكأن إنساناً لطم وجهي، لم يكن عندي درهم واحد أنفقه عليه ! فقمت فسلمت عليه وأدخلته منزلي. وأخذت خفين كانا لي أتجمل بهما، فدفعتهما، إلى جاريتي، وكتبت معها رقعة إلى بعض معارفي في السوق، وأسأله أن يبيعها ويشتري لي لحماً وخبزاً بشي سميته له. فمضت الجارية، وعادت إلي، وقد اشترى كل ما ذكرته له. وقد باع الخف بتسعة دراهم، وكأنها إنما جاءتني بخفين جديدين. فقعدت أنا وضيفي نطبخ، فسألت جاراً لي أن يسقينا قارورة نبيذ، فوجه بها الي، وأمرت الجارية أن تغلق باب الدار، مخافة طارقٍ يجيءى فيشركنا فيما نحن فيه، ليبقى وله ما نأكله إلى أن ينصرف. فإنا لجالسان نطبخ إذ طرق طارقٌ الباب، فقلت للجارية: انظري من هذا ؟ فنظرت في شق الباب فإذا رجلٌ عليه سوادٌ وشاشيةٌ ومنطقةٌ، ومعه شاكريٌ، فخبرتني بموضعه، فأنكرت أمري، ثم رجعت إلى نفسي، فقلت: لست بصاحب دعارة، ولا للسلطان عليه سبيل. فتحت الباب وخرجت إليه، فنزل عن دابته، وقال: أنت مسلم بن الوليد ؟ قلت: نعم. قال: كيف لي بمعرفتك؟ قلت: الذي دلك على منزلي يصحح لك معرفتي! فقال إلى غلامه امض إلى الخياط فسله عنه. فمضي فسأله عني، فقال: نعم، هو مسلم بن الوليد. فأخرج اليّ كتاباً من خفّه، قال: هذا كتاب الأمير يزيد بن مزيد إلي يأمرني ألا أفضه إلا عند لقائك. فاذا فيه: " اذا لقيت مسلم بن الوليد فادفع اليه هذه العشرة آلاف درهم التي أنفذتها، تكون له في منزله، وأدفع إليه ثلاثة آلاف درهم لنفقته، ليتحمل بها إلينا " فأخذت الثلاثة والعشرة، ودخلت إلى منزلي والرجل معي، فأكلنا ذلك الطعام، وازددت فيه وفي الشراب، واشتريت فاكهة، واتسعت، ووهبت لضيفي من الدراهم ما يهدي به هدية لعياله، وأخذت في الجهاز، ثم مازلت معه حتى صرنا إلى الرقة إلى باب يزيد بن مزيد، فدخل الرجل فاذا هو أحد حجابه، فوجده في الحّمام، فخرج إلي فجلس معي قليلاً، ثم خبر الحاجب بأنه قد خرج من الحمام، فأدخلني إليه، فاذا هو على كرسي جالس، وعلى رأسه وصيفة بيدها غلاف مرآة، وبيده هو مرآة ومشط يسرح به لحيت، فقال لي: يا مسلم، ما الذي أبطأ بك عنا ؟ فقلت: أيها الأمير، قلة ذات اليد، قال: فأنشدني، فأنشدته قصيدتي التي جئته بها:
أُجْرِرْتُ حَبْلَ خَلِيعِ في الصِّبَا غَزِلٍ ... وَشَمَّرَتْ هِمَمُ الْعذَّالِ في الْعَذَلِ
هَاجَ البُكَاءَ عَلَى العَيْنِ الطَّمُوحِ هَوُى ... مُفَقَّ بَيْنَ تَوْدِيعٍ وَمُرْتَحَل
أمَا كَفى اُلْبَينَ أَنْ أُرْمى بأَسْهُمِهِ ... حَتّى رَمَانِي بِلَحْظِ الأعْيُنِ النُّجُلِ
ممَّا جَنَتْ لِي وَإنْ كانَتْ مُنًى صَدَقَتْ ... صبَابَةً خُلَسُ التَّسْلِيمَ بِالقُبَلِ
فلما صرت فيها إلى قولي:
مُوفٍ عَلى مُهَجٍ في يَوْمِ ذِي رَهَجٍ ... كأنّهُ أَجَلٌ يَسْعَى إِلى أَمَلِ
تَرَاهُ في الأمْنِ في دِرْعٍ مُضَاعَفَةٍ ... لاَ يَأْمَنُ الدَّهْرَ أَنْ يُدْعَى عَلى عَجَلِ
لاَيَعْبَقُ الطِّيْبُ خَدَّيْهِ وَمَفْرِقَهُ ... وَلاَ يُمَسِّحُ عَيْنَيْهِ مِنَ الكُحُلِ
- : وضع المرآة في غلافها، وقال للجارية: انصرفي، فقد حرم مسلمٌ علينا الطيب، فلما فرغت من القصيدة، قال لي: يا مسلم، أتدري ما الذي حداني على أن وجهت إليك ؟ فقلت: لا والله، ما أدري. فقال: كنت عند الرشيد منذ ليالٍ أغمز رجليه إذ قال لي: يا زيد، من القائل فيك :
سَلَّ الخَلِيفَةُ سَيْفاً مِنْ بَنِي مَطَرٍ ... يَمضِي فَيَخْتَرِمُ الأَجْسَادَ وَاَلْهَامَا
كالدَّهْرِ لاَيَنثني عَمَّا يَهُمُّ بِهِ ... قّدْ أَوْسَعَ النَّاسَ وَإِرْغَامَا

فقلت له: لا والله، ما أدري ! فقال الرشيد: يا سبحان الله ! إنك لمقيمٌ على أعرابيتك، يقال فيك مثل هذا الشعر ولا تدري من قائله ؟ ! فسألت عن قائله فأخبرت أنك أنت هو، فقم حتى أدخلك على الرشيد. فما علمت حتى خرج عليَّ الإذن، فأذن لي. فدخلت على الرشيد، وأنشدته مالي فيه من الشعر، فأمر لي بمائتي ألف درهم. فلما انصرفت إلى يزيد أمر لي بمائة ألف وتسعين ألف درهم، وقال: لايجوز لي أن أعطيك مثل ما أعطاك أمير المؤمنين. وأقطعني إقطاعات تبلغ غلتها مائتي ألف درهم.
قال مسلم: ثم أفضت بي الأمور بعد ذلك إلى أن أغضبني، فهجوته، فشكاني إلى الرشيد، فدعاني، فقال: أتبيعني عرض يزيد ؟ قلت: نعم، يا أمير المؤمنين. فقال لي: بكم ؟ فقلت: برغيفٍ ! فغضب حتى خفته على نفسي، وقال: قد كنت أرى أن أشتريه منك بمالٍ جسيمٍ، فلست أفعل ولا كرامة، فقد علمت إحسانه إليك، أنا نفيٌّ عن أبي، ولله ثم والله لئن بلغني أنك هجوته لأنزعن لسانك من بين فكَّيك. فأمسكت عنه بعد ذلك، وما ذكرته بخيرٍ ولا بشرٍّ.
روى أبو الفرج الأصبهاني عمرو بن بانة قال: ركبت يوماً الى دار صالح بن الرشيد، فاجتزت بمحمد بن جعفر بن موسى الهادي، وكان معاقراً للصبوح، فألفيته في ذلك اليوم خالياً منه، فسألته عن السبب في تعطيله إياه ؟ فقال: نيران علي غضبى - يعني جاريةً كانت لبعض النخاسين ببغداد، وكانت إحدى المحسنات، وكانت بارعة الجمال، ظريفة اللسان، وكان قد أفرط في حبِّها، حتى عرف بها - : فقلت له: ما تحبُّ ؟ قال: تجعل طريقك على مولاها، فانه سيخرجها إليك، فاذا فعل دفعت رقعتي هذه إليها، ودفع لي رقعةً فيها:
" ضَيَّعْتِ عَهْدَ فَتًى لِعَهْدِكِ حَافِظٍ ... فِي حِفْظِهِ عَجَبٌ وَفِي تضْيِيعِكِ
ونَأَيْتِ عَنْهُ فَما لهُ مِنْ حِيلَةٍ ... إلاَّ الْوُقُوفُ إِلَى أَوَانِ رُجُوعِكِ
مُتَخَشِّعاً يُذْرِي عَلَيْكِ دُمُوعَهُ ... أَسَفاً وَيَعْجَبُ مِنْ جُمُودِ دُمُوعِكِ
إِنْ تَقْتُلِيهِ وتذْهَبي بِفُؤَادِهِ ... فَبِحُسْنِ وَجْهِكِ لاَ بحُسْنِ صَنيعِكِ "
فقلت له: نعم أنا أتحمل هذه الرسالة، وكرامةً، على ما فيها، حفظاً لروحك عليك؛ فإني لا آمن أن يتمادى بك هذا الأمر. فأخذت الرقعة، وجعلتُ طريقي على منزل النخَّاس، فبعث للجارية: اخرجي، فخرجت، فدفعت إليها الرقعة، وأخبرتها بخبري، فضحكت، ورجعت الى الموضع الذي خرجت منه، فجلست جلسةً خفيفةً، ثم إذا بها قد وافَتْني ومعها رقعةٌ فيها:
" وَمَا زِلْتَ تُقْصِيني وَتُغْرِي بيَ الرَّدَى ... وَتَهْجُرَنِي حَتَّى مَرَنْتَ عَلَى الهَجْرِ
وَتَقْطَعُ أسْبَابي وَتَنسَى مَوَدَّتِي ... فكَيْفَ تَرَى يَامَالِكِي في الهَوَى صَبْرِي ؟ !
فَأَصْبَحْتُ لاَ أَدْرِي: أَيَأْساً تَصَبُّرِي ... عَلَى الهَجْرِ ؟ أَمْ حَدُّ التَّصَبُّرِ ؟ لاَ أَدْرِي ! "
قال: فأخذت الرقعة منها، وأوصلتها اليه، وصرت الى منزل لي، فصنعت في شعر محمد بن جعفرٍ لَحْناً، وفي شعرها لحناً. ثم سرت إلى الأمير صالح بن الرشيد، فعرفته ما كان من خبري، وغنيته الصوتين. فامر بإسراج دوابّه، فأسرجت، وركب وركبت معه الى النخَّاس - مولى نيران - فما برحنا حتى اشتراها بثلاثة آلاف دينارٍ، وحملها إلى دار محمد بن جعفر، فوهبها له. فأقمنا يومنا عنده.

قال القاضي أبو علي المحسّن بن أبي القاسم علي التَّنوخي: خرج رجلان من المدينة، يريدان عبد الله بن عامر بن كُرَبْزٍ، للوفادة عليه: أحدهما من ولد جابر بن عبد الله الأنصاري، والآخر من ثقيف. وكان عبد الله عاملا بالعراق لعثمان بن عفان رضي الله عنه. فأقبلا يسيران، حتى إذا كانا بناحية البصرة قال الأنصاري للثقفي: هل لك في رأي رأيته ؟قال: أعرضه، قال: ننيخ رواحلنا ونتوضى ونصلي ركعتين، نحمد اللّه عز وجل فيهما على ما قضى من سفرنا. قال له: نعم، هذا الرأي الذي لا يرد. قال: ففعلاً. ثم التفت الانصاري إلى الثقفي: فقال له: يا أخا ثقيف، ما رأيك ؟ قال: وأي موضع رأي هذا ؟ ! قضيت سفري، وأنضيت بدني، وأتعبت راحلتي، ولا مؤمل دون ابن عامر، فهل لك من رأي غير هذا ؟! قال: نعم، إنني لما صليت فكرت، فاستحييت من ربي أن يراني طالب رزق من عند غيره. ثم قال: اللهم رازق ابن عامر ارزقني من فضلك. ثم ولى راجعاً إلى المدينة. ودخل الثقفي إلى البصرة، فمكث على باب ابن عامر أياماً، فلما أذن له دخل عليه، وكان قد كتب إليه من المدينة بخبرهما، فلما رآه رحّب به، وقال: ألم أخبر أن ابن جابر خرج معك ؟ فأخبره ما كان منهما. فبكى ابن عامر، وقال: والله ما قالها أشراً ولا بطراً، ولكن رأى مجرى الرزق ومخرج النعمة، فعلم أن الله عز وجل هو الذي فعل ذلك، فسأله من فضله. ثم أمر للثقفي بأربعة آلافٍ وكسوةٍ وطُرِفٍ، وأضعف ذلك للأنصاري، فخرج الثقفي وهو يقول :
أمامةٌ ما سعْيُ الحريصِ بزائدٍ ... فتيلاً، ولا عَجْزُ الضعيفِ بضائرِ
خرجْنا جميعاً من مساقطِ رُوسِنا ... على ثِقةٍ منَّا بجُود ابن عامرِ
فلما أنخنا الناعجات ببابهِ ... تأخَّر عني اليثربي ابن جابرِ
وقال: " ستكفيني عطية قادرٍ ... على ما يشاءُ اليوم للخلق قاهرِ
فإن الذي أعطى العراق ابن عامرٍ ... لَربي الذي أرجو لسد مفاقري "
فلما رآني قال: " أين ابن جابرٍ ؟ " ... وحنَّ كما حنَّت عِرابُ الأباعرِ
فأضعفَ عبد الله ... إذ غاب حطَّه على حظِّ لهفانٍ من الحرص فاغرِ
قال الشافعي رحمه الله: لا أزال أحب حمَّاد بن أبي سليمان، لشيء بلغني عنه: أنه كان يوماً راكباً حماراً له، فحركه، فانقطع زرٌ له، فمر على خياط، فأراد أن ينزل، فسوَّى زرَّه، فأخرج له صرَّة فيها عشرة دنانير، فسلمها إلى الخياط، واعتذر إليه من قلتها .
قال الحُميدي: قدم الشافعي رحمه الله من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار، فضرب خباءه في موضع خارج عن مكة، ونثر الدنانير على ثوبٍ، ثم أقبل على كل من دخل عليه، يقبض قبضه ويعطيه، حتى صلى الظهر، ونفض الثوب وليس عليه شيء .

عن الأصمعي قال: قدم وفدٌ على أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك، وفيهم رجل من قريش، يقال له: إسماعيل بن أبي الجهم؛ وكان أكبرهم سناً، وأفضلهم رأياً وحلماً، فقام متوكئاً على عصا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن خطباء قريش قد قالت فيك فأطنبت، وأثنت عليك فأحسنت، ووالله ما بلغ قائلهم قدرك، ولا أحصى مثنيهم فضلك، أفتأذن لي في الكلام ؟ قال: فتكلم قال: فأوجز أم أطنب ؟ قال: بل أوجز. قال: تولاك الله - يا أمير المؤمنين - بالحسنى، وزينك بالتقوى، وجمع لك خير الآخرة والأولى، إن لي حوائج فأذكرها ؟ قال: نعم، قال: كبرت سني، وضعفت قواي، واشتدت حاجتي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسري وينفي فقري - : فعل. فقال: يابن أبي الجهم، وما يجبر كسرك وينفي فقرك ؟ قال: ألف دينار وألف دينار وألف دينار، قال: هيهات يابن أبي الجهم ! بيت المال لا يحتمل هذا. قال: كأنك آليت - يا أمير المؤمنين - أن لا تقضي لي حاجة مقامي هذا ؟! قال: فألف دينار لماذا ؟ قال: أقضي بها ديناً فدحني حمله، وأرهقني أهله. قال: نِعْم المسلك أسلكتها، ديناً قضيت، وأمانة أديت، وألف دينارٍ لماذا ؟ قال: أزوج بها من أدرك من ولدي، فأشد بهم عضدي، ويكثر بهم عددي. قال: ولا بأس، غضضت طرفاً، وحصَّنت فرجاً، وأكثرت نسلاً، وألف دينارٍ ؟ قال: اشتري بها أرضاً أعود بها على ولدي، ويفضل فضلها على ذوي قراباتي. قال: ولا بأس، أردت ذخراً، ورجوت أجراً، ووصلت رحماً، قد أمرنا لك بها. قال: المحمود الله على ذلك، وجزاك الله - يا أمير المؤمنين - والرحم خيراً. فقال هشام: تالله ما رأيت رجلاً ألطف في سؤال، ولا أرفق في مقالٍ - : منه، هكذا فليكن القرشي.

باب
الشجاعة
قال الله عز وجل في سورة البقرة: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة أشد من القتل. ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم. كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين " .
ومنها: " كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون " .
ومنها: " فلما فصل طالوت بالجنود قال: إن الله مبتليكم بنهرٍ، فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده. فشربوا منه إلا قليلاً منهم. فلما جاوزه هو والذين ءامنوا معه قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده. قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله: كم من فئةٍ قليلة غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله. والله مع الصابرين، ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا: ربنا أفرغ علينا صبراً وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت، وءاتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضلٍ على العالمين " .
ومن سورة آل عمران: " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزَّى: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، ليجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم. والله يحيي ويميت. والله بما تعملون بصير، ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون، ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون " .
ومنها: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً. بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما ءاتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " .

ومن سورة النساء: " فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة. ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً، وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا، الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت. فقاتلوا أولياء الشيطان، إن كيد الشيطان كان ضعيفاً، ألم تر إلى الذين قيل لهم: كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة، فلما كتب عليهم القتال إذا فريقٌ منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية. وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خيرٌ لمن اتقى ولا تظلمون قتيلا، أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيدةٍ. وإن تصبهم حسنةٌ يقولوا: هذه من عند الله. وإن تصبهم سيئةٌ يقولوا: هذه من عندك. قل كلٌ من عند الله. فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً " .
ومنها: " ولا تهنوا في ابتغاء القوم، إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون. وكان الله عليماً حكيماً " .
ومن سورة الأنفال: " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم: أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين، وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم. وما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيزٌ حكيم " .
ومنها: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذٍ دبره إلا متحرفاً لقتالٍ أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم، وبئس المصير " .
ومنها: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير، وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نِعم المولى ونعم النصير " .
ومنها: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين " .
ومنها: " يا أيها النبي حرّض المؤمنين على القتال. إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين. وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قومٌ لا يفقهون، آلآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً. فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين " .
ومن سورة التوبة: " ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرةٍ ! أتخشونهم ؟! فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم، ويتوب الله على من يشاء، والله عليم حكيم " .
ومنها: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " .
ومنها: " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا. فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى. وكلمة الله هي العليا. والله عزيز حكيم، انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله. ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون " .
ومنها: " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم. ومأواهم جهنم وبئس المصير " .
ومنها: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة: يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون. وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن. ومن أوفى بعهده من الله. فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم، التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله. وبشر المؤمنين " .
ومنها: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة. واعلموا أن الله مع المتقين " .

ومن سورة الحج: " أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا. وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً. ولينصرن الله من ينصره. إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. ولله عاقبة الأمور " .
ومنها: يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون، وجاهدوا في الله حق جهاده. هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم، هو سمَّاكم المسلمين من قبل وفي هذا، ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس. فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم، فنعم المولى ونعم النصير " .
ومن سورة محمد: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها. ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلوا بعضكم ببعض. والذين قتلو في سبيل الله فلن يضل أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم، ويدخلهم الجنة عرَّفها لهم، يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " .
ومن سورة الفتح: " قل للمخلَّفين من الأعراب: ستدعون إلى قومٍ أولي بأسٍ شديدٍ تقاتلونهم أو يسلمون، فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً، وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً " .
ومن سورة الحجرات: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. أولئك هم الصادقون " .
ومن سورة الصف: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيانٌ مرصوصٌ " .
ومنها: " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارةٍ تنجيكم من عذابٍ أليم ؟، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم. ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون، يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن. ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها: نصرٌ من الله وفتحٌ قريب. وبشّر المؤمنين، يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: من أنصاري إلى الله ؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله. فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة، فأيدنا الذين ءامنوا على عدوهم. فأصبحوا ظاهرين " .
ومن سورة التحريم: " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلُظ عليهم ومأواهم جهنم، وبئس المصير " .

ومن الأحاديث
عن هشام بن الحسن رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لَغدوةٌ أو روحة في سبيل الله تعالى أفضل من الأرض وما عليها. ولَموقِف رجلٍ في الصف أفضل من عبادة ستين سنة " .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ابن رواحة - رحمه الله - في سريةٍ، فوافق ذلك يوم الجمعة، فقال: أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ألحق بأصحابي، وقد غدا أصحابه، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما لك لم تغد مع أصحابك ؟ قال: أحببت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحق بأصحابي. فقال صلى الله عليه وسلم: لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما أدركت فضل غدوتهم " .
وعن أبي هريرة رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عُرض عليّ أول ثلاثة يدخلون الجنة من بني آدم، وأول ثلاثة يدخلون النار. فأما أول الثلاثة الذين يدخلون الجنة - : فالشهيد، وعبدٌ مملوك لم يشغله رق الدنيا عن طاعة الله تعالى، وفقيرٌ متعفف ذو عيال. وأما الثلاثة نفرٍ الذين يدخلون النار - : فأميرٌ مسلط، وذو مال لا يؤدي منه حق الله تعالى، وفقيرٌ فخور " .
وعن أنس بن مالك رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من عبدٍ يموت وله عند الله خيرٌ يتمنى الرجوع إلى الدنيا، وإن كان له الدنيا، لما يخاف من هول الموت - : إلا الشهيد، لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى " .

وعن سعيد بن جبير رحمه الله في قول الله تعالى: " فصَعِقَ من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله " قال: هم الشهداء، متقلدو السيوف حول العرش. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والذي نفسي بيده لوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل " .
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً: اللون لون الدم والريح ريح المسك " .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه لما كان يوم أحدٍ قال: من يأتيني بخبرسعد بن الربيع الأنصاري ؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله. فذهب الرجل يطوف بين القتلى، فقال له سعد بن الربيع: ما شأنك ؟ فقال الرجل: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك لآتيه بخبرك. فقال: فاذهب إليه فأقره مني السلام، وأخبره أني قد طعنت اثنتي عشرة طعنة، وأني قد أُنفذت مقاتلي. وأخبِر قومنا أنه لا عذر لكم إن قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وواحدٌ منكم حيٌ " .
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وقوف ساعة في الصف في سبيل الله تعالى أفضل من قيام ليلة القدر تحت الحجر الأسود " .
وروي عنه صلى الله عليه وسلم: " أنه سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك خير ما تُسأل، فأعطني أفضل ما تعطي. فقال: إن استُجيب لك أُهريق دمك في سبيل الله تعالى " .
وعن عسعس بن سلامة قال: " أتى رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبل يتعبد ففقد وطلب، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الذي حملك على ذلك ؟ فقال: يا رسول الله، أردت أن أعتزل فأتعبد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل، فإن صبر أحدكم ساعة من النهار في بعض مرابط الإسلام خيرٌ من عبادة رجلٍ خالٍ أربعين سنة " .
وعن أنس بن مالك رحمه الله قال: لما طُعن خالي حرام بن ملحان - رحمه الله - يوم بئر معونة قال بالدم هكذا: فنضحه على وجهه ورأسه، ثم قال: فُزت ورب الكعبة " .
وعن عبد الله بن عمرو رضوان الله عليهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أول ثلاثة يدخلون الجنة: الفقراء المهاجرون الذين تتقى بهم المكاره، وإذا أُمروا سمعوا وأطاعوا، وإذا كان للرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقضَ له حتى يموت وهي في صدره. وإن الله عز وجل ليدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها، فيقول تعالى: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي فقُتلوا، وأُوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي، ادخلوا الجنة. فيدخلونها بغير حساب. وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربنا نحن نسبح بحمدك الليل والنهار ونقدِّس لك، من هؤلاء الذي آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب عز وجل: هؤلاء عبادي الذين قُتلوا في سبيلي وأُوذوا في سبيلي. فتدخل عليهم الملائكة من كل باب: " سلامٌ عليكم بما صبرتم فنِعم عقبى الدار " .
وعن أبي بكر بن عبد الله بن قيس رحمه الله قال: سمعت أبي - وهو بحضرة العدو - يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف " . فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى، أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا ؟ قال: نعم. قال: فجع إلى أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام. ثم كسر جفن سيفه فألقاه، ثم مشى إلى العدو بسيفه، فضرب به حتى قُتل رحمه الله .
وعن النعمان بن بشير رحمه الله قال: قد كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجلٌ: ما أُبالي ألاّ أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أُبالي ألاّ أعمل عملاً بعد الاسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر رضي الله عنه، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يوم الجمعة - ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل: " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله " .
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشهيد لا يجد مس القتل إلا كما يجد أحدكم القرصة يُقرصها " .

وعن أبي عبس رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما اغبرَّت قدما عبدٍ في سبيل الله فتمسهما النار " .
أورد الإمام أبو الليث السمرقندي رحمه الله في كتاب تنبيه الغافلين: " أن رجلاً حبشياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إني كما ترى: دميم الخلقة، منتن الريح، غير زاكي الحسب، فأين أنا إن قاتلت حتى أُقتل ؟ قال: أنت في الجنة. فأسلم الرجل، فقال: عندي غنمٌ فكيف أصنع بها ؟ قال: وجهها إلى المدينة ثم صِحْ بها، فإنها ترجع إلى أهلها. ففعل ذلك. ثم التحم القتال فاقتتلوا، فلما افترق القوم قال النبي صلى الله عليه وسلم: تفقدوا إخوانكم. ففعلوا، فقالوا: يا رسول الله، ذلك الرجل قُتل في وادي كذا. فقام النبي صلى الله عليه وسلم معهم. فلما أشرف عليه قال: اليوم حسَّن الله وجهك، وطيَّب ريحك، وزكَّى حَسَبك. ثم أعرض عنه. فقالوا: رأيناك أعرضت عنه ؟ قال: والذي نفسي بيده، لقد رأيت أزواجه من الحور العين ابتدرن حتى بدت خلاخلهن " .
وأورد الامام أبو الحسن يحيى بن نجاح رحمه الله في كتاب سبل الخيرات قال: يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا أخبركم بخير الناس منزلةً ؟ رجلٌ أخذ بعنان فرسه يجاهد في سبيل الله تعالى " .
وأورد أبو الليث السمرقندي رحمه الله عن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سأل الله تعالى الشهادة فمات كان له أجر شهيد " .
وعن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون " قال: أرواحهم كطيورٌ خضرٌ تسرح في الجنة، ثم تأوي إلى قناديل خضرٍ معلقة تحت العرش .
وأورد الإمام الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصبهاني رحمه الله في كتاب الترغيب والترهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشهداء ثلاثة رجال: رجلٌ خرج بماله ونفسه محتسباً في سبيل الله تعالى، لا يريد أن يَقتل ولا يُقتل، لتكثير سواد المسلمين - : فإن مات أو قُتل غُفرت له ذنوبه كلها، وأُجير من عذاب القبر، وأومن من الفزع الأكبر، وزوج من الحور العين وحلّت عليه الكرامة ووضع على رأسه تاج الوقار والخلد. والثاني: رجلٌ جاهد بنفسه وماله محتسباً، يريد أن يَقتل ولا يُقتل - : فإن مات أو قتل كانت ركبته مع ركبة ابراهيم خليل الرحمن عليه السلام بين يدي اللّه عز وجل في مقعد صدق عند مليك مقتدر. والثالث: رجلٌ خرج في نفسه وماله محتسباً، يريد أن يَقتل ويُقتل - : فإن مات أو قُتل جاء يوم القيامة شاهراً سيفه واضعه على عنقه، والناس جاثون على الركب، يقول: ألا فافسحوا لنا مرتين، فإنا قد بذلنا دماءنا وأموالنا لله عز وجل " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، لو قال ذلك لابراهيم خليل الرحمن أو لنبي من الأنبياء لتنحى لهم عن الطريق، لما يرى من واجب حقهم. حتى يأتوا منابر من نورٍ عن يمين العرش، فيجلسون ينظرون كيف يُقضى بين الناس، لا يجدون غمَّ الموت، ولا يغتمون في البرزخ، ولا تفزعهم الصيحة، ولا يهمهم الحساب ولا الميزان ولا الصراط، ينظرون كيف يُقضى بين الناس، ولا يسألون شيئاً إلا أُعطوا، ولا يشفعون في واحدٍ إلا شُفعوا فيه، ويُعطى من الجنة ما أحب، وينزل من الجنة حيث أحب " .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الغازي في سبيل الله، والحاج إلى بيت الله، والمعتمر - : وفد الله عز وجل، سألوا فأعطاهم، ودعوا فأجابهم " .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه سُئل: أي الأعمال أفضل ؟ قال: الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، والجهاد في سبيل الله تعالى " .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أصيب إخوانكم بأحدٍ جعل الله أرواحهم في أجواف طيرٍ خضرٍ، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتاوي إلى قناديل من ذهبٍ معلقة في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومبيتهم قالوا: من يُبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق. لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب ؟ فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم. فأنزل الله عز وجل: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون " إلى آخر الآية .

ومما ورد في أسماء الشجاعة

قال أبو زيد: يقال: رجل " شجاعٌ " من قوم " شُجعة " . ويقال: " شجاع " و " شجيع " بمعنى واحد. و " الشجاع " : ضرب من الحيات .
وقال صاحب المنضد: " الشجع في الإبل: سرعة نقل القوائم، يقول العرب: بعير شجع، وناقة شجعة " .
قال أبو بكر بن دريد: " رجل شجاع: أي جريء، والأشجع من الرجال بيِّن الشجاعة، وهو الذي كأن به جنوناً " .
وقال صاحب كتاب العين: " الشِجاع يُجمع: شُِجعان، والشِجاع الحية الذكر " .
وقال اللحياني: ويقال للحية أيضاً: " أشجع " .
و " الزميع " الشجاع الذي يُزمع بالأمر ثم لا ينثني، وهم " الزُّمعاء " والمصدر " الزِّماع " .
ويقال: " شجاع باسلٌ " وهو: عُبوسٌ في غضبٍ. و " استبسل فلانٌ للموت " أي: وطَّن نفسه عليه واستسلم للقتل، قال الله تعالى: " أُبسِلوا ) 6: 70 ( " أي: أُسلموا بذنوبهم. وكل من خُذِل وأُسلم فقد " أُبسل " .
ثم رجل " بطل " وهو: الرجل الذي يبطل الأشياء والدِّماء، ولا يدرَك عنده ثأرٌ .
ثم رجل " بُهْمَةٌ " وهو الذي لا يُدرى من أين يؤتى لشدة بأسه وتيقظه .
ثم رجل " حَلْبَسٌ " قال الكسائي: هو الذي يلازم قرنه فلا يفارقه " .
وقال الهُنائي: " الحلبس " و " الحبلبس " هو: الحريص الملازم .
ورجل " ألْيَس " قال الهنائي: " الألْيس " الشجاع، وجمعه " لِيسٌ " و " الأليس " : الذي لا يبرح متهللاً .
ثم رجل " غشمشم " و " الغشمشم " : الذي يركب رأسه، ولا يثنيه شيء عما يريد .
وناقة " غشمشمة " : عزيزة النفس، و " الغشم " الظلم .
ورجلٌ " أيهم " قال الليث: " الأيهم " و " الأهيم " الذي لا ينحاش لشيء .
وقال الهنائي: " الأيهم " البطيء الرجوع إلى الحق، الذي لا يقبل الحجة إذا وقعت عليه، ولا يرى إلا رأيه. و " الأيهم " الجبل الطويل الذي لا نبات فيه .
ثم رجل " صِمَّة " قال الهنائي: هو الرجل الشجاع المصمم. والجمع " صمم " .
ثم رجل " بُهمة " - وقد تقدم ذكره - " البُهمة " جماعة الفرسان، والجمع " بُهم " يقال: باب " مبهم " وحلقة " مبهمة " لا يعرف بابها .
ثم رجل " ذِمرٌ " من قوم " أذمار " و " ذميرٌ " وهو الشجاع المنكر .
ثم رجل " نهيكٌ " قال الليث: هو الرجل الشجاع الجريء، و " النهيك " المبالغ في كل شيء، وهو من الإبل: القوي .
ثم رجل " محرب " وهو المقدم على الحرب، العالم الخبير بها، المجرب لها، الحسن التصرف بها.
ثم رجل " مرير " قال الثعالبي: إذا كان الرجل شديد القلب رابط الجأش - : فهو " مرير " . قال الهنائي: " المرة " القوة .
ثم رجل " غلثٌ " قال الأصمعي: هو الشديد القتال، اللزوم لمن بارزه يطلبه .
وقال الهنائي: " الغَلْث " - بالغين المعجمة والثاء المعجمة بثلاث: - هو الرجل الشديد القتال، اللزوم لمن طلب .
ويقال: " إنه لَعِلب شرٍّ " - بعين غير معجمة وباء معجمة من تحتها واحدة - : إذا كان قوياً على الشر والحرب .
ثم رجل " مِخَشٌّ " قال أبو عمرو: هو الرجل الجريء على الليل. و " المحش " الذي كلما رق جانب من الحرب قوَّاه، وكلما بردت الحرب أوقدها، وكلما تخاذل الناس حرضَّهم وشجَّعهم .
وقال الهنائي " حَشَّ الإبل يحشها حشاً " إذا ساقها سَوقاً شديداً .
ثم رجل " باسل " و " باسر " إذا كان عبوس الشجاعة والغضب. قال الهنائي: أي عبوسٌ .
ثم رجل " مغامز " إذا كان شجاعاً مقداماً، يرمي بنفسه في غمار الحرب، ويتهجم على اللقاء .
قيل: أول من أوتي فضيلة الشجاعة والإقدام - : هودٌ النبي صلى الله عليه وسلم .
وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام .
وقال بعض النسابين: إن هوداً هو: عابر بن شالخ بن أرْفَخْشد بن سام بن نوح عليه السلام .
أرسله الله سبحانه إلى عاد. وكانت مساكنهم الشِّحْر، من أرض اليمن إلى بلاد حضرموت إلى عُمان، يأمرهم أن يوحدوا الله، ويكفوا عن الظلم لا غير، فأبوا عليه وكذّبوه، وقالوا: " من أشد منا قوة ؟ " فكان هود عليه السلام يلبس لأمته يقول " كيدوني جميعاً ثم لا تنظرون " ، فلا يقدمون عليه ولا ينابذونه. فدعا عليهم، فأرسل الله تعالى عليهم الريح العقيم، وهي التي لا تلقح الشجر، ولا ينمي عليها النبات .
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: كان طول عادٍ مائة ذراع، وأقصرهم سبعين ذراعاً .
وقبر هود عليه السلام بتلك الناحية .

ولما نزل موسى بن عمران صلى الله عليه ببني إسرائيل أرض كنعان، من أرض الشأم، وكان بلعام بن باعورا ببالعة، قرية من قرى البلقاء، وهو الذي قال الله فيه " آتيناه آياتنا فانسلخ منها " - : أتى قوم بلعام إليه وقالوا: ادعُ عليهم، فقال: كيف أدعو على نبي الله ؟! ولكن زينوا أجمل نسائكم وابعثوهن إلى العسكر، فإن واقعوا إحداهن نزل عليهم العذاب، ففعلوا، وبعثوا بالنساء إلى عسكر موسى عليه السلام، فمرت امرأة منهن برجلٍ من عظماء بني إسرائيل، فأخذ بيدها، ثم أقبل بها حتى وقف على النبي موسى عليه السلام، فقال: أظنك تقول: هذه حرامٌ عليك ؟ قال: أجل، هي حرامٌ عليك، لا تقربها، قال: والله لا أطيعك في هذا، ثم دخل قبته فوقع عليها، وأرسل الله تعالى الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى عليه السلام - : رجلاً قد أُعطي بسطة في الخلق وقوة في البطش، وكان غائباً، فجاء والطاعون يحوس في بني إسرائيل، فأخذ حربته - وكانت كلها حديداً - ثم دخل عليهما القبة وهما مضطجعان فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أسندها إلى ذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، فرفع الله سبحانه عنهم الطاعون، فحسب من هلك بالطاعون من بني إسرائيل من بين ما أصاب ذلك الرجل من المرأة إلى أن قتلهما فنحاص - : فوجد قد هلك منهم سبعون ألفاً، والمقلل يقول: عشرون ألفاً والله تعالى أعلم .

من اشتهر بالفتك في الجاهلية
عُبيد بن نشبة بن مرة بن غيظ بن مرة بن سعد بن ذبيان. والحارث بن ظالم المري. والبرَّاض بن قيس الكناني. وتأبطَّ شراً، وهو: ثابت بن جابر بن سفيان الفهمي. وحنظلة بن قايد: أحد بني عمرو بن أسد بن خزيمة .
ومن شهر بالفتك في الإسلام
أبو حردبة. ومالك بن الريب المازني. وعبيد الله بن الحر الجعفي. وعقبة بن هبيرة الأسدي. وعبد الله بن سبرة الحرشي. وعبد الله بن خازم السلمي. والقتال الكلابي. وقرَّان بن بشار الفقعسي. وعبد الله بن حجاج الثعلبي. وعبيد الله بن زياد بن ظبيان، أحد بني تيم الله بن ثعلبة بن عكابة.
قال عمران بن الحصين رحمه الله: " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرف عمامتي من ورائي، فقال: يا عمران، إن الله يحب الإنفاق ويبغض الإقتار، فأنفق وأطعم ولا تصر صراً فيعسر عليك الطلب. واعلم أن الله يحب النظر النافذ عند مجيء الشبهات، والعقل الكامل عند نزول الشهوات، ويحب السماحة ولو على تمرات، ويحب الشجاعة ولو على قتل حية " .
وعن أبي بكر بن عبد الله بن قيس رحمه الله قال: سمعت أبي - وهو بحضرة العدو - يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف " فقام إليه رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى، أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا ؟ قال: نعم. قال: فرجع إلى أصحابه قال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو، فضرب به حتى قُتل رحمه الله، ولم يُذكر اسمه .
وأما من كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمة الله عليهم أجمعين من الشجعان - وكلهم كان مقداماً في الحرب حريص على الشهادة - : ولأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه التقدمة في الإقدام، والصيت الشائع في الشجاعة .
فإنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعة بدر، وهي أول وقعة كانت في الإسلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم، والمشركون تسع مائة رجل، فنصر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، وقتل من المشركين سبعون رجلاً، وأُسر سبعون رجلاً، فكان من قتله منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أربعة وعشرين رجلاً، سوى من شارك في قتله. وقد ذكرت شيئاً من حروبه وواقعاته في كتابي المترجم بكتاب فضائل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، فغنيت عن إعادته هنا.
ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - بل من أهله - ابن عمته الزبير بن العوام رضي الله عنه، المشهور بالإقدام والبأس .
روى المدائني عن مُصعب بن عبد الله الزبيري قال: أجمع أهل الإسلام أنه لم يكن في الناس راجلٌ أشجع من علي بن أبي طالب، ولا فارس أشجع من الزبير بن العوام رضي الله عنهما .

وروى أحمد بن يوسف بن إبراهيم: أن أمر إفريقية اضطرب بتنازع أعيانِها الرياسة فيها، فكتب عمرو بن العاص من مصر - وهو يومئذٍ عليها - إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: يخبره بذلك، وأنه قد عزم أن يسيِّر إليها جيشاً، واستدعى من عمر رضي الله عنه نجدةً. فكتب إليه عمر يستصوب رأيه، ويذكر له: أنه ينفذ إليه على إثر كتابه ألف فارس، فتشوف عمرو إليهم، فوافاه الزبير بن العوام رضي الله عنه وحده، ومعه كتاب عمر رضي الله عنه: " قد أنفذت إليك الزبير بن العوام، وهو عندي يعدل ألف فارس إن شاء الله " وسيَّر عمرو الجيش إلى إفريقية. فلما انتهوا إلى مفرق طريقين خافوا أن يسلكوا في أحد الطريقين فتقع بهم مكيدة في الأخرى، فقال لهم الزبير رضي الله عنه: أفردوني في إحدى الطريقين، فإني أكفيكموها. فسار وحده في أحد الطريقين، وسلك الجيش في الطريق الأخرى، واتفق أن كانت طريق الزبير قريبة جداً، فلم تزل الشمس حتى وافى حصن إفريقية، فنزل عن دابته واحتش لها بقلاً يشغلها به، وقام يصلي، وأشرف كفرة إفريقية من حصنها، فرأوا رجلاً واحداً من المسلمين حسن الطمأنينة، غير قلق في موضعه، ولا مستوحش من محله، فقالوا لرجل من شجعانهم: اخرج إليه واكفنا مؤونته، فخرج إليه، وركب الزبير رضي الله عنه فرسه وجاوله فقتله، وخرج إليه فارسان، فطعن أحدهما فقتله وهرب الآخر منه، وصار إلى أصحابه، فقال: لو خرجتم بأجمعكم إلى هذا الرجل لقتلكم، فريعوا منه ووجهوا إليهم أسقفهم، فقالوا: يا هذا، ما تلتمس ؟ وهل جئتنا وحدك أو في جماعة ؟ فقال: أنا واحدٌ من جمعٍ كثير قد توجهوا معي إليكم، والذي ألتمسه أن تسلموا أو تؤدوا إلينا الجزية، قال: فنحن نجيب إلى أحدهما، فماسحوه وفتحوا له الباب، ووافى الجيش وقد فتح الزبير رضي الله عنه إفريقية وحده .
ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن عمرو بن الجموح رحمه الله، شهد بدراً، قال: " سمعت القوم - يعني المشركين - وأبو جهل في مثل الحرجة يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه. فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربةً أطنت قدمه من نصف ساقه، فوالله ما شبَّهتها - حين طاحت - إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها، قال: فضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنها، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها " .
قال ابن اسحاق: ثم عاش رحمه الله بعد ذلك حتى كان زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه .
ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو دُجانة سِماك بن خَرَشة بن لَوْذان بن عبد ودٍّ بن يزيد بن ثعلبة بن الخزرج، رضي الله عنه، شهد حروب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد قبل القتال: " من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ " فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، منهم الزبير بن العوام رحمه الله، حتى قام أبو دُجانة سِماك بن خَرَشة رضي الله عنه، فقال: ما حقه يا رسول الله ؟ قال: " تضرِب به في العدو حتى ينحني " قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه. فأعطاه إياه. وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكان إذا أعلم بعصابةٍ حمراء علم الناس أنه سيقاتل. فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك فعصب بها رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا دُجانة يتبختر - : " إنها لَمشيةٌ يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع " قال الزبير بن العوام رحمه الله: فوجدت في نفسي، حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دُجانة، وقلت: أنا ابن صفيَّة عمَّته، ومن قريش، وقد قمت إليه فسألته إياه قبله، فأعطاه إياه وتركني ! والله لأنظرنَّ ما يصنع. فاتبعته، وأخرج عصابة فعصَّب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دُجانة عصابة الموت، وكذا كانت تقول إذا تعصَّب بها، فخرج وهو يقول :
أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيلِ
أن لا أقومَ الدهرَ في الكَيُّولِ ... أضربْ بسيف الله والرسولِ

الكَيُّول: آخر الصفوف، وقيل: وراء القوم. قال الزبير: فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله، وكان في المشركين رجلٌ لا يدع جريحاً إلا دفَّف عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا، فاختلفا ضربتين: فضرب المشرك أبا دُجانة فاتقاها بدرقته، فعضَّت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عزل بالسيف عنها، وقال: أكرمتُ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة. فقال الزبير: فقلت: الله ورسوله أعلم .
ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: البراء بن مالك رضي الله عنه، حضر القتال يوم مسيلمة الكذاب وقد قُتل أكثر أصحاب مسيلمة والتجأ منهم نحو من سبعة آلاف إلى حديقة الموت - وإنما سميت " حديقة الموت " لكثرة من قتل بها، وكان اسمها قبل ذلك " أبّاض " - فامتنعوا فيها، فقال البراء بن مالك رحمه الله: احملوني على الجدار حتى تطرحوني عليهم، فقالوا: لا نفعل يا براء، قال: والله لتفعلن، فحملوه على الجدار، فرأى كثرتهم، فقال: أنزلوني، فأنزلوه، ثم قال: احملوني على الجدار، فحملوه، فقال: أفٍ لهذا جَشعاً ! ثم اقتحم عليهم الحديقة، فقاتلهم على الباب حتى فتحه للمسلمين، ودخلوا عليهم فقتلوهم أجمعين، وكانوا في سبعة آلاف رجل، وقُتل من بني حنيفة في الفضاء سبعة آلاف وفي الطلب مثلها، وقُتل من المسلمين نحوٌ من تسع مائة رجل. رضي الله عنهم .
وعن إسماعيل بن عمر رضي الله عنه قال: لما فرض عمر رضوان الله عليه الدواوين جاء طلحة بن عُبيد الله رحمه الله بنفرٍ من بني تميم يستفرض لهم، وجاء رجلٌ من الأنصار بغلامٍ مصفرٍّ سقيمٍ، فقال: من هذا الغلام ؟ قال: هذا ابن أخيك البراء بن النضر، فقال عمر رضي الله عنه: مرحباً وأهلاً، وضمَّه إليه، وفرض له في أربعة آلاف، فقال طلحة: يا أمير المؤمنين، انظر في أصحابي هؤلاء، قال: نعم، ففرض لهم في ستمائة ستمائة، فقال طلحة: ما رأيت كاليوم شيئاً أبعد من شيء ! أي شيء هذا ؟! فقال عمر رحمه الله عليه: أنت يا طلحة تظن أنني منزلٌ هؤلاء بمنزلة هذا ؟! إني رأيت أبا هذا جاء يوم أُحدٍ وأنا وأبو بكر قد تحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُتل، فقال: يا أبا بكر، ويا عمر، ما لي أراكما جالسين ؟! إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قُتل فإن الله حي لا يموت، ثم ولّى بسيفه، فضُرب عشرين ضربة، أعدها في وجهه وصدره، ثم قُتِل رحمه الله، وهؤلاء قتل آباؤهم على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإطفاء نور الله تعالى، فمعاذ الله أن أجعلهم بمنزلته .
وأمدَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليه سعد بن أبي وقاص رحمه الله في حرب القادسية - : بجيشٍ عليه هاشم بن عتبة المرقال، فوصلهم والعسكران متواقفان: المسلمون ورُستم، فوقف هاشم بن عتبة مقابل موكب منهم، ثم أخذ سهماً فوضعه في قوسه ورماهم، فوقع سهمه في أُذن فرسه فخلها، فضحك، وقال واسوأتاه ! من رمية رجلٍ كل من ترى ينتظره !! أين ترون كان سهمي بالغاً لو لم يصب أذن الفرس ؟ قالوا: العتيق - وهو نهر خلف ذلك الموكب - فنزل عن فرسه، ثم سار يضربهم بسيفه، حتى أوصلهم العتيق، ثم رجع إلى موقفه .
ووقفت الأعاجم كتيبة فيها فيل، فقال: عمرو بن معدي كرب رحمه الله: أنا حاملٌ على الفيل ومن معه، فلا تدعوني أكثر من جزر جزور، فإن تأخرتم عني فقدتم أبا ثور، وأين لكم مثل أبي ثور ؟! فقذف نفسه في وسطهم، فاستلحموه، وشجروه بالرماح طويلاً، ثم أفضى إلى السيف، ثم سقط عن فرسه، فتعطَّفت عليه رجالهم، ونادى المسلمون: أبو ثور، الله الله، فإنه إن هلك لم تجدوا منه عوضاً ! وحملوا عليهم فأفرجوهم عنه، وإذا هو قد طُعن من كل ناحية، وإن هو جاثٍ على ركبتيه قد أزبد، يضرب بسيفه يميناً وشمالاً، وإذا سواعد الرجال وأسوقهم حوله كأنها أكاريع الغنم، فلما انفرج عنه الأعاجم أخذ برجل فرسٍ منهم، فحركه الفارس فلم يستطع براحاً، فنزل عنه الفارس، وانهزم إلى أصحابه، وركبه عمرو، فقال له رجل: فداك أبي وأمي يا أبا ثور، كيف تجدك ؟ قال: أجدني صالحاً، قال: فإذا إهابه قد خرِّق، فعصِّب بالعمائم، وعاد إلى القتال كأنه لم يصنع شيئاً .

روي أن عمرو بن معدي كرب الزبيدي رحمه الله قال: لو طُفْتُ بظعينةٍ أحياءَ العرب ما خفت عليها، ما لم ألقَ عبديها وحرَّيها - يعني بالعبدين: عنترة بن شداد والسُّليْك بن السُّلكة، والحرَّين: دريد بن الصِّمَّة وربيعة بن مكدَّم - قال: وكلاًّ قد لقيت، وأعطاني الله النصر عليه، قيل له: فما تقول في عامر بن الطفيل ؟ قال: أقول فيه ما قاله :
إذا مات عمروٌ قلتُ للخيل: " أوطئي ... زبيداً، فقد أودَى بنجدتهِ عمرو
فأما وعمروٌ في زبيدٍ فلا أرى ... لكم غزوهم، فارضوا بما حَكَمَ الدهرُ !
فَلَيْتَ زُبيداً زِيدَ فيها كَضِعفها ... وليتَ أبا ثورٍ يجيشُ به البحرُ !! "
وكان لعمرو بن معدي كرب أخٌ أكبر منه، يقال له: عبد الله، وكانت له التقدمة والرئاسة دون عمرو، وكان له أختٌ يقال لها: ريحانة، ولها يعني عمروٌ بقوله في قصيدةٍ له :
أَمِنْ ريحانةَ الداعي السميعُ ... يؤرِّقني وأصحابي هُجُوعُ
يقول في هذه القصيدة، وهو بيت حكمة :
إذا لم تستطع أمراً فدعْهُ ... وجاوزْهُ إلى ما تستطِيعُ
فقتل عبد الله، وبذل قاتلوه الدية لعمرو، فجنح إلى ذلك، فقالت أخته تحرِّضه على الطلب بدم أخيه :
أرسلَ عبد اللهِ إذ حان يومهُ ... إلى قومهِ: لا تعقِلوا لهم دمي
ولا تقبلوا منهم إفالا وأبكراً ... وأُترَكَ في بيتٍ بصعدةَ مظلمِ
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكمُ ... فمُشٌّوا بآذان النعام المصلَّمِ
ولا تشربوا إلى فضولَ نسائكمُ ... إذا ارتملت أعقابهنَّ من الدمِ
ودعْ عنكَ عمراً إن عمراً مسالمٌ ... وهلْ بطنُ عمرٍ وغير شبرٍ لمطعمِ ؟!
فحرَّك هذا الشعر عَمْراً، وطلب بثأرِ أخيه، وتقدَّم في الحروب والشجاعة، حتى كان منه ما كان .
والسُّليك بن السَّلكة القائل :
قرِّبِ النَّحَّام مني يا غلامْ ... واطرحِ السرجَ عليهِ واللِّجامْ
أعلمِ الفتيان: أني خائضٌ ... غمرةَ الموتِ، فمن شاءَ أقامْ
وفي السُّليك تقول السُّلكة أمه، وقد قُتل :
طافَ يبغي نجوةً ... من هلاكٍ فهلكْ
ليتَ شِعري ضلةً ! ... أيُّ شيء قتلكْ ؟
أمريضٌ لم تُعدْ ... أم عدوٌّ ختلكْ ؟
كلُّ شيءٍ قاتلٌ ... حين تلقى أجلكْ
والمنايا رصدٌ ... للفتى حيثُ سلكْ
أيُّ شيءٍ حسنٍ ... لفتىً لم يكُ لكْ ؟
وعنترة بن شداد القائل من قصيدة :
وَسَلي لِكَيما تخبري بفعالنا ... عند الوغى ومواقفِ الأبطالِ
والخيلُ تعثرُ بالقنا في جاحمٍ ... تهفو به ويجلن كلَّ مجالِ
وأنا المجرَّبُ في المواطنِ كلها ... من آلِ عبسٍ منصبي وفعالي
منهم أبي حقاً فهم لي والدٌ ... والأم من حامٍ فهم أخوالي
وأنا المنية حين تشتجرُ القنا ... والطعنُ مني سابق الآجالِ
ولربَّ قرنٍ قد تركتُ مجدَّلاً ... بلبانهِ كنواضحِ الجريالِ
تنتابُهُ طُلْسُ الذئابِ مغادراً ... في قفْرةٍ متمزق السربالِ
أَوْجرتهُ لَدْنَ المهزَّةِ ذابلاً ... مرنتْ عليهِ أشاجِعِي وخِصالي
قول عنترة: " مرنت عليه أشاجعي وخصالي " مثل قول قيس بن الخطيم :
ملكتُ بها كفي فأنهرتُ فتْقها ... ترى قائماً من دونها ما وراءها
وتحت هذا القول معنىً لا يعرف حقيقته إلا من باشر الحرب، ولم يزل فيها طاعناً ومطعوناً، وقد يتهجم الإنسان على السرية والموكب فيطعن فيه مخاطراً بنفسه، خائفاً من الموت، فتسترخي يده على الرمح حتى يسبح الرمح في كفه - : فلا يكون للطعنة كبير تأثير. فعنترة وقيسٌ يشيران إلى أنهما ما أصابهما ذلك، ولا استرخت يدهما من الروع .
وقال مؤلف الكتاب :
إن يحسدوا في السلم من ... زلتي من العز المنيفِ
فبما أُهين النفس في ... يومِ الوغى يوم الصفوفِ
فلطالما أقدمتُ إقدا ... مَ الحتوفِ على الحتوفِ
بعزيمةٍ أمضى على ... حد السيوف من السيوفِ
وفي ربيعة بن مكدم الفراسي يقول بعض العرب، وقد اجتاز بقبره، يعتذر إذ لم ينحر عليه ناقته :
لا يبعدنَّ ربيعةُ بن مكدَّمٍ ... وسقى الغوادي قبرَه بذنوبِ

نفرتْ قَلُوصي من حجارةٍ حرةٍ ... بنيت على سمحِ اليدين وهوبِ
لا تنفِري يا ناقَ منه فإنه ... شرِّيبُ خمرٍ مسعرٌ لِحروبِ
لولا السِّفارُ وطولُ خرقٍ مهمهٍ ... لتركتها تحبو على العُرقوبِ
وسيأتي شيءٌ من أخباره .
وعامر بن الطفيل القائل :
إني وإن كنتُ ابن سيد عامرٍ ... وفارسها المشهور في كل موكبِ
لما سوَّدتني عامرٌ عن كلالةٍ ... أبى الله أن أسمو بأمٍ ولا أبِ
ولكنني أحمي حِماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكبي
ودريد بن الصمة الجشمي القائل في أخيه عبد الله :
تنادوا فقالوا: أردتِ الخيل فارساً ... فقلتُ: أعبدُ الله ذلكم الردي ؟
فجئتُ إليهِ والرماحُ تنوشهُ ... كوقع الصياصي في النسيج الممددِ
فطاعنتْ عنه الخيلَ حتى تبددوا ... وحتى علاني حالك اللون أسودي
فما رمت حتى خرقتني رماحهم ... وغودرت أكبو في القنا المتقصدِ
فِعال امرئٍ آسى أخاه بنفسه ... ويعلم أن المرء غير مخلدِ
وهو القائل في إخوته وقد قتلوا :
تقول: ألا تبكي أخاك ؟ وقد أرى ... مكان البكا لكن بنيت على الصبرِ
فقلت: أعبد الله أبكي ؟ أم الذي ... على الجدث الأعلى قتيل أبي بكرِ
وعبد يغوثَ أم نديمي مالكاً ؟ ... وعزَّ المصابُ حثوَ قبرٍ على قبرِ
أبى القتل إلا آل صمة إنهم ... أبوا غيرهم، والقدر يجري على قدرِ
قال مصعب بن عبد الله الزبيري: قلت لأبي: ما بلغ من شجاعة هؤلاء الثلاثة، حيث يقول عبد الله بن الزبير: يا له فتحاً ! لو كان له رجالٌ مثل مصعب ومصعب ومختار ؟! قال: إنهم بيّتوا ليلةً مسلحةً للحجَّاج، فقتلوا مائة رجل بأيديهم.
وقالت جمرة امرأة عمران بن حطان لعمران: ألم تزعم أنك لم تكذب في شعرك قط ؟ قال: نعم. قالت: فقولك:
وكذاك مجزأة بن ثور ... كان أشجع من أسامه
هل رأيت رجلاً أشجع من الأسد ؟! قال: فهل رأيت أنت أسداً فتح مدينة وحده ؟! قالت: لا. قال: فمجزأة بن ثور فتح مدينة تستر وحده .
قال عبد الله بن الزبير: لما اصطفنا يوم الجمل خرج علينا صائحٌ يصيح من قبل عليٍّ رضوان الله عليه: يا معشر فتيان قريش، أحذِّركم الرجلين العابدين: جندب بن زهير والأشتر مالك رضي الله عنهما، فلا تقوموا لأسنتهما، أما جندب بن زهير فرجلٌ ربعةٌ يجر درعه حتى يعفو أمره، وأما الأشتر فلأنيابه قعقعةٌ في الحرب .
والأشتر مالك بن الحارث رضي الله عنه القائل :
بقَّيتُ وفري وانحرفت عن العلى ... ولقيت أضيافي بوجه عبوسِ
إن لم أشنَّ على ابن حربٍ غارةً ... لم تخلُ يوماً من نهابِ نفوسِ
خيلاً كأمثال السعالي شزَّباً ... تغدو ببيضٍ في الكريهة شوسِ
حميَ الحديدُ عليهم فكأنهم ... لمعاتُ برقٍ أو شعاعُ شموسِ
وإنما سمي مالك بن الحارث " الأشتر " بضربةٍ أصابته في قتال بني حنيفة حين ارتدوا. وذلك: أنه حين تواقف الفئتان دعا أبا مسيكة الإيادي، فخرج إليه، فقال له: ويحك يا أبا مسيكة ! بعد الإسلام والتوحيد ارتددتَ ورجعت إلى الكفر ؟! فقال: يا مالك، إياك عني، إنهم يحرِّمون الخمر ولا صبر عنها ! قال: فهل لك في المبارزة ؟ قال: نعم. فالتقيا، فتطاعنا بالرماح، ثم رمياها وصارا إلى السيوف، فضربه أبو مسيكة فشق رأسه حتى شتر عينه، فعاد معتنقاً رقيه فرسه، فاجتمع حوله أصحابه يبكون، فقال لأحدهم: أدخل إصبعك في فمي، فعضها مالك، فالتوى الرجل من شدة العضة ! فقال: لا بأس على صاحبكم، إذا سلمت الأضراس سلم الراس، ثم قال احشوها سويقاً ثم شدوها بعمامة، ثم قال: هاتوا فرسي ! قالوا: إلى أين ؟ قال: إلى أبي مسيكة ! فركب، ودعا أبا مسيكة، فخرج إليهم مثل السهم، فتجاولا، فضر به مالك فقطعه إلى السرج، وعاد، فبقي مغمى عليه عدة أيام رضي الله عنه. فبهذه الضربة سمي " الأشتر " .
وقال حُضين بن المنذر - صاحب راية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - : ابتذال النفس في الحرب أبقى لها إذا تأخرت الآجال .
قال أبجر بن جابر العجلي لبنيه: إن سركم طول البقاء، وحسن الثناء، والنكاية في الأعداء - فلا تمنحوا عدوكم أكتافكم، فإن أمثل القوم بقية الصابر .

وقيل لعباد بن الحصين الحبطي: في أي جنة تحب أن تلقى عدوك. قال: في أجلٍ مستأخر .
وقال خالد بن الوليد رحمه الله: ما ليلةٌ أقرَّ لعيني من ليلةٍ يُهدى إليَّ فيها عروسٌ، اللهم إلا ليلةً أغدو فيها لقتال العدو .
عن المدائني قال: كانت قريشٌ تقول: ما استوسق أمر الجاهلية والإسلام لأحد غير خالد بن الوليد، فإنه لم يهزم قط رضي الله عنه .
وعن المدائني قال: كان سعيد بن الأوس بن أبي البختري من أجمل الناس وأشجعهم، وكان يختال في مشيته. فنظر إليه عبد الله بن الزبير رحمه الله يوماً وهو يتبختر بين الصفين، فقال: كنت أظن أن مشيته تخلق فإذا هي سجية .
وقاتل يوم الحرة فأبلى وأحسن، وكانوا قد بنوا على المصاف جدارات لئلا يفر بعضهم من بعض، فقال رجل من أهل المدينة من موالي قريش: بصُرتُ به وهو راجعٌ وقد انهزم وهو يمشي على رِسْلِهِ، فقلت: بأبي أنت وأمي، إني أخاف عليك الطلب، فجعل ينظر إلي ويتبسم، وأنا أكرر عليه القول، ولا يزيدني عن النظر والتبسم شيئاً !! فجعلت أعجب من ذلك ؟ فالتفت فإذا أنا بفارس، فصحت: بأبي وأمي، خلفك، فانكفأ إلى الفارس فقنطره. فقلت: اركب - جعلت فداك - فرسه وانجُ، فإني أخاف عليك حثيث الطلب، فجعل ينظر إلي ويتبسم. قال: فتعلقت ببعض الجدارات، وسعيت، فانتهيت إلى صور من أصوار الحرة، فأقمت فيه إلى الليل. فلما ضربني البرد التمست وتحركت وقد غلبتني عيني فإذا أنا عريان ! فعلمت أن تبسمه كان من عريي وتحذيري .
قلت: كان بيننا وبين الإسماعيلية قتال في قلعة " شيزر " في سنة سبع وعشرين وخمس مائة، لعملةٍ عملوها علينا، ملكوا بها حصن " شيزر " ، وجماعتنا في ظاهر البلد ركاب، والشيخ العالم أبو عبد الله محمد بن يوسف بن المنيرة رحمه الله في دار والدي، يعلم إخوتي رحمهم الله، فلما وقع الصياح في الحصن تراكضنا وصعدنا في الحبال، والشيخ أبو عبد الله قد مضى إلى داره إلى الجامع، وكانت داره في الجامع، فوصل عمي " فخر الدين أبو كامل شافع بن علي رحمه الله " إلى تحت الجامع، والشيخ أبو عبد الله مشرفٌ عليه، فقال له صاحبٌ لعمي: يا شيخ أبا عبد الله، دلي لنا حبلاً، قال: ما عندي حبل، قال: فدلِّ عمامتك ! فأبطأ عليه، فتجاوزه وطلع من مكان آخر. فقيل للشيخ أبي عبد الله: كنت عريان وعلى رأسك عمامة ؟! قال: لا، ما كان عليّ عمامة ! ثم أفكر فقال: بلى والله، قد قال لي وهب بن التنوخي وهو مع الأمير فخر الدين أبي كامل شافع: دلي لنا حبلاً، قلت: ما عندي حبل، فقال: دلِّ لنا عمامتك - : ولو لم يكن قد رأى عليَّ عمامة ما قال ذلك !! فكان رحمه الله عريان وعليه عمامة، ولا يدري بالحال التي هو عليها، لرعبه وضعف قلبه !! عن مصعب الزبيري قال: حدثني مصعب بن عثمان قال قال علي بن يزيد بن ركانة: ما نفعتني قوتي قط كما نفعتني مرة بأرض الروم: كنت غازياً، فمررت وأصحابي في يوم شديد الحر، وإذا أنا بنهر جار على رضراضٍ لم أر مثل صفائه وشدة برده، فقلت لأصحابي: تمهلوا في سيركم حتى أدخل في هذا النهر فاغتسل ثم ألحقكم. ومضى أصحابي، ونزلت عن دابتي، ووضعت سلاحي، فلما دخلت النهر رفعت رأسي، إذا أنا بعلجين على رأسي قد أخذا سلاحي ودابتي، وقالا: اخرج، فقلت: ها أناذا لديكما، وأريتهما أنني قد خفت منهما، وتفارقت لهما، ثم رفعت يدي إلى الواحد ويدي الأخرى إلى الآخر، فلما أخذاني جذبتهما جذبة واحدة فألقيتهما في الماء، فما زلت أغط هذا مرة وهذا مرة حتى قتلتهما. فخرجت ولبست سلاحي وركبت دابتي ولحقت أصحابي .
قلت: جرى مثل هذا بعسقلان، لرجل من تباة البلد، يقال له " ابن الجلنار " كان مشغوفاً بالصيد بالبواشق، وكان مشهوراً بالقوة. فركب وخرج من عسقلان وعلى يده باشق يتصيد به في شجر الجميز، فخرج عليه فارسان من العرب، وقالا: انزل، فنزل عن فرسه، وقال لهما: لكما في هذا الطير حاجة ؟ قالا: لا. فشدَّ الباشق على غصن شجرة، ثم اختلفا على مهاميز حليٍ في رجليه، فقال لهما: أنتما اثنان، يأخذ كل واحد منكما فردة مهماز، ومد رجليه لهما، فجلسا يقلعان المهاميز من رجليه، فمسك رقبة ذا، ورقبة ذا، وضرب رأسيهما بعضهما ببعض، ولا يقدران على الخلاص من يده حتى قتلهما، وأخذ خيلهما وسلاحهما وباشقه ودخل المدينة !

وقد كان عندنا بشيزر رجل يقال له " محمد بن البشيبش " كان يخدم جدِّي " سديد الملك أبو الحسن علي بن نصر بن منقذ الكناني رحمه الله " وكيلاً على ضيعة ببلد " كفرطاب " يقال لها " أرجة " أدركته أنا وهو شيخ كبير، وكان أيِّداً شجاعاً. قال: جئت يوماً في الحر إلى ركية أرجة لأشرب، فرأيت رجلاً عليه معرقة امرأة، وعلى كتفه كارة ثياب، فتداخلني الطمع فيه، فقلت: حط الكارة فأظهر لي خوفاً ! وقال: ها يا مولاي ! وحطها عن كتفه، فتقدمت إليها لأخذها، فمد يده، فقبض على ركبتي ورفعني من الأرض، ثم ضرب بي الأرض، وبرك عليّ، وأخرج من وسطه سكينا كشعلة النار ليقتلني، فقلت: الصّنيعة ! فنهض عني وخلاني، وقال: لا تحتقر الرجال، ثم فتح الكارة فأخرج منها قميصاً دفعه إليّ، فقلت له: بالله من أين اقبلت ؟ قال من المعرة، فتحت البارحة دكان الصبغ فأخذت كل ما كان فيها، ثم أخذ كارته ومشى.
قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد رضي الله عنهما يوم صفين لمعاوية: ما رأيت أعجب منك يا أمير المؤمنين ! إن كنت لتتقدم حتى أقول: أحبّ الموت، ثم تستأخر حتى أقول: أراد الهرب ! ! قال: يا عبد الرحمن: إني والله ما أتقدم لأقتل، ولا أتأخر لأهرب، ولكن أتقدم إذا كان التقدم غنماً وأتأخر إذا كان التأخر حزماً. كما قال الكنانيّ:
شُجَاعاً إِذَا مَا أمْكَنتْنِيَ فُرْصَةٌ ... فإنْ لَمْ تَكنّ لِي فُرْصَةٌ فَجَبَانُ
قلت: هذا كلام خبيرٍ بالحرب. وهو الذريعة إلى الظفر أو السلامة، إلاّ مع الاضطرار. فإنَّ المضطرَّ لا يليق به إلاّ الإقدام، فان كان في الأجل فسحةٌ فهو ينجو مشكوراً، وإن انتهت المدّة فموت المقدم أكرم من موت المولّي.
قال الحجاج بن يوسف لوازع بن ذوالة الكلبي: كيف قتلت همَّام بن قبيصة النمري ؟ قال: مرَّ بي والناس منهزمون، ولو شاء أن يذهب لذهب، فلما رآني قصد لي، فضربته وضربتي، وسقط، فحاول القيام فلم يقدر، فقال وهو في الموت:
تَعِسْتَ ابنَ ذاتِ النَّوْفِ أَجْهِزْ عَلَى امْرِئُ ... يَرَى المَوْتَ خَيراً من فِرَارٍ وأكْرَمَا
وَلا تَتْرُكَنِّي بالحُشَاشَةِ إِنَّني ... صَبُورٌ إذَا مَا النِّكْسُ مِثْلُكَ أَحْجَمَا
فدنوت منه، فقال: أجهز عليَّ قبَّحك الله ! فقد كنت أحب أن يلي هذا مني هو أربط جأشاً منك ! فاحتززتُ رأسه فأتيت به مروان بن الحكم.
وعن رجل من تميم، قال: جاء رجلٌ من كلبٍ يوم المرج برأس ابن عمرو العقيلي إلى مروان بن الحكم، فقال له مروان: من قتل هذا ؟ قال: أنا .قال: كذبت. قال: المكذب أكذب ! أنا والله قتلته، مر وهو تعدو به فرسه وهو يقول:
قَدْ طَابَ وِرْدُ المَوْتِ ... مَرْوَانَ فَرِدْ لاَ تَحْسَبَنَّ العَيْشَ أَدْنَى لِلرَّشَدْ
لاَ خَيْرَ فِي طُولِ الحَيَاةِ فِي كَبَدْ
قال: فطعنته فسقط، فنزلت إليه وهو مثبتٌ، وهو يقول:
بُعْداً وَسُحْقاً لاِمْرِئٍ عَاشَ فِي ... ذُلٍّ وَفِي كَفَّيْهِ عَضْبٌ صَقِيلُ
وقال مؤلف الكتاب:
سَلْ بِي كُمَاةَ الْوَغَى كُلِّ مُعْتَرَكٍ ... يَضِيقُ بالنَّفْسِ فِيهِ صَدْرُ ذِي البَأْسِ
يَنَبِّئُووكَ بِأَنِي فِي مَضَايِقِهَا ... ثَََبْتٌ إذَا الخَوْفُ هزَّ الشَّاهِقَ الرَّاسِي
أَخُوضُهَا كَشِهَابِ القَذْفِ يَصْحَبُنِي ... عَضْبٌ كبرقٍ سرى أو ضوءٍ مقباسِ
إذا ضربت به قِرناً أُنازله ... أو جاه عن عائدٍ يغشاه أو آسي
وقال أفلاطون: الشجاعة من أقوى فضائل العالم، لأنها تبرز ما حاوله من القول أو الفعل .
والشجاعة تكون في الضعيف البدن، الخلو من العمل بشيءٍ من السلاح، فيسمَّى صاحبها شجاعاً، ألا ترى أن سقراط كان يعد في الشجعان، وما بارز عدواً، ولا حمل شيئاً من السلاح ! ولكنه قدمت إليه شربة السم وهو يتكلم في النفس مع ملأٍ عنده، فما تغيَّر حتى انقضى كلامه، ثم شربها فمات ! .

وعن يوسف بن إبراهيم: أن أبا دُلفٍ القاسم بن عيسى رحمه الله كان يشكو نقصان حاسية الشم والذوق، فسألته عن الوقت الذي بدأ به هذا ؟ فقال: وجدته في شبيبتي، وله خبر عجيب !: كانت والدتي ترخِّم اسمي استصغاراً لمحلي، فتقول: فعل " قاسِ " وابعثوا إلى " قاس " فيكرثني ذلك، فإني لجالس في بعض الليالي بين جواريَّ وهن يغنين وقد ابتدأت الشرب - : إذ دخلت عليَّ جارية لها مكينة عندها فقالت: إن سيدتي تقول: أنا كنت أعرَف بك ممن يلومني فيك ! أتُسيغ النبيذ وقد قتل أخاك ابن عمك ؟! وانصرفتْ. فتسرعت إلى رمحي، وركبت فرسي وحدي، لا أنتظر غلاماً، ولا أتلبث على صاحب. فاستقبلني وهو يزئر زئير الأسد، وفي يده عمود حديد، فلما رأيته حملت عليه برمحي، فطعنته وأثبته، فسبح في طعنته، وما احتمل من ألم السباحة فيها حتى ضربني بذلك العمود في رأسي، وكانت تحت عمامتي زردية، فوقتني حد ضربته، ولو تمكن مني لأبارني بعموده. فنقص من ذلك الوقت حس شمي وذوقي، وخر لوجهه، فاحتززت رأسه، ودخلت به إلى أمي وهي تصلي، فوضعته بين يديها، فلما فرغت من صلاتها، قالت: أحسن قاسم ! ثم دعت بطيب فضمخته، وبعثت به إلى أمه، وقالت لرسولها: قل لها: عزيزٌ عليَّ أن نتقاطع أرحامنا، ونتشاغل بسفك دمائنا عن دماء أعدائنا ! قد وجهت إليك بمن جرَّعني كأس الثكل ،ن ولم يعلم أن قاتل ولدي مقتول، فخذي بحظك من الفجيعة عليه، ووقدة الثكل فيه !! وقال يزيد بن سلمة الوشاء: سرنا في رفقةٍ صغيرةٍ كانت فيها قبةٌ مسترة حولها خدم وعجائز، فتوهمتها قبة جارية لبعض الطاهرية. وكان في رفقتنا شابٌ كثير المزاح حلو النادرة، فقرب مني في المسايرة، فكان مما جرى بيني وبينه أن سألته عن القبة: لمن هي من حرم الطاهرية ؟ فقال لي: فيها شاب مؤنث من أبنائهم غير متماسك. فجعلته بالي، فكنت ربما رأيته يتطلع من فروج الأغشية، ثم رأيته بعد ذلك وقد رفع له بعض السجوف. واتفق أن أفضينا في المسير إلى كرمان، فاعترض القافلة أسد في خلقة هائلة، فتخوف أهل الرفقة منه، وقيل لهم: إنه لا يقلع عن الرفقة إلا بافتراس بعضهم، فاجتمع من في الرفقة وماجوا، وارتفع لغطهم، وكنت قريباً من قبة المؤنث، فسمعته يقول: يا دادا ! ما للناس ؟ قالت: خير يا سيدي، وبرزت لنا عجوز في عنقها سبحة، فقالت: يا هؤلاء، قد وجب حق صحبتنا عليكم، وإن علم هذا الفتى بخبر الأسد ثكلناه، فاسكتوا، فقال لها المزَّاح: نحن في شغل بأنفسنا. وأعاد المؤنث القول: يا دادا ! ما للناس ؟ فصاح المزَّاح: الأسد قد وقف لنا يريد أن يفترس منا واحداً. فخرج من القبة ومعه سيف مشهور ودرقة، ووثب إلى الأرض، وأجال بصره حتى تأمل الأسد، ثم قصده ولم يواجهه، فما شك أحد منا أنه يفترسه، فانفتل انفتالةً وضرب الأسد فحلَّ كتفه، وضربه أخرى ففرَّغ حشوته، وهو يروغ روغاناً لم يتمكن الأسد منه معه، ثم احتز رأسه وحمله في درقته والناس ينظرون، ورجع فألقى ما في يده، وقال: يا دادا ! عييت والله ! فلم يبقَ منا رئيس حتى غمَّر يديه ورجليه. قال يزيد بن مسلمة: فقلت له: لِمَ راوغته - يا سيدي - وأنت قادر على قتله بالمكافحة ؟ فقال: أردت أن يسلم وجهه من ضربتي وتكون ضرباتي ضربات من كرَّ عليه وهو منهزم ! فكان المزَّاح بعد ذلك يقول: إذا كان التخنيث فليكن مثل تخنيث الطاهري ! وما زلنا به آمنين حتى دخلنا بغداد .
الشيء يذكر بالشيء: كان عندنا بشيزر مخنث يحضر الأعراس والجنائز، اسمه " سبيكة " إذا وقع القتال لبس درعاً وأخذ سيفه وترسه، وقال: بطل التخنيث ! وخرج يضرب بالسيف .
ومن العار على السيوف أن يحملها ويضرب بها المخانيث .
وروى أحمد بن أبي يعقوب قال: أحضر داود بن على بن عبد الله بن العباس جماعة من بني أمية يضرب أعناقهم، وشرع السيَّاف فيهم، فبرقت برقة، فهمس غلامٌ منهم بهذين البيتين :
تألَّق البرق نجدياً فقلت له : ... يا أيها البرق إني عنك مشغولُ
يكفيك مني عدوٌ ثائرٌ حنقٌ ... في كفه كحبابٍ الماء مصقولُ
فقال داود بن علي: ما تقول ؟ قال: بيتين قلتهما في هذه الساعة، وأنشده إياهما. فقال: وما كان لك في وقوع السيف فيكم وازعٌ ؟! ثم قال للسيَّاف: ما ينبغي أن تستبقي لنا عدواً من شجاعته أن يعمل الشعر الجيد والسيف على ودجه، فضرب عنقه .

وأعجب من هذا ما جرى لهدبة بن خشرم العذري، وقد أُخرج من السجن إلى القتل، وحوله أهله وإخوانه يشجعونه ويصبرونه، فقال: لا تظنوا أن الموت عندي صعب، ودليل سهولته عليَّ أني إذا ضُربت رقبتي مددت رجلي وقبضتها ثلاث مرات ! فلما ضُربت رقبته فعل ذلك !!

حكاية
وشاهدت رجلاً من أجنادنا من الأكراد ينعت بزهر الدولة بختيار " القبر صي " ، سمي بذلك لصغر خلقته، وكان رحمه الله من خيار المسلمين في الشجاعة والدين، وقد ظهر عندنا أسد، فحمل عليه، فاستقبله الأسد فحاص به الحصان فرماه، فجاءه الأسد، فرفع رجله لقمها الأسد، وبادرناه فقتلنا الأسد، فقال له: يا زهر الدولة، ما معنى رفع رجلك إلى الأسد ؟ قال رأيتها أكسى ما فيَّ، في الران والساق موزا والخف، فقلت إن أمسك أضلاعي كسرها، وإن مسك رأسي فجشه، يشتغل برجلي إلى أن يفرج الله ! فعجبنا من حضور فكره في ذلك الوقت .
حكاية
وعن أبي يعقوب قال: كنت قائماً بين يدي الرشيد وقد قدم إليه جماعة من الملحدين، فدعا بالسيَّاف لقتلهم، فلما رآه شيخٌ منهم اضطرب وجزع، فقال له شاب منهم: يا شيخ، ترتاع من سيف هذا وفي بدنك أربعة أسياف لا بد أن يقتلك أحدها ؟! وهي: الدم والبلغم والصفراء والسوداء ؟! فتماسك الشيخ. فأمر الرشيد بأن يقدم قتل الشاب، وقال: هذا الغلام فتنة من فتنهم.
قال عامر بن الطفيل :
سلِ الخيل عني: هل علاها إذا عدَتْ ... إلى الروع بالأبطال من فارسٍ مثلي ؟
وهل كرَّها كرِّي إذا هي أقبلتْ ... تواخطُ بالأبطال في الحَلَقِ الجدْلِ ؟
إذحالَ منها عارضٌ دون عارضٍ ... كثيفٍ وأبدتْ حدَّ أنيابها العُصْلِ
كشفتُ قناع الموت بيني وبينها ... وأشليتها حتى تقوم على رجلِ
وأبست إبساساً بها وامتريتها ... فدرَّت غزاراً بالتليل وبالنبل
وكان الذي يلقى الرَّدى من لقيته ... وما أشبه الآجال من فارسٍ قبلي
ألستُ بفيفِ الريح أول مقدمٍ ... على رحيي موتٍ مراجلها تغلي ؟!
هتكت بنصل السيف أقراب مسهرٍ ... ولا شيء أسنى بالكرام من القتلِ
قال الشيخ أبو العلاء بن سليمان المعري :
من السعد في دنياك أن يهلك الفتى ... بهيجاء يغشى أهلها الطعن والضربا
فإن قبيحاً بالمسوَّد أن يرى ... على فرشه يشكو إلى البقر الكربا !
وقال علوي البصرة: نقلها ابن خلكان للأمير قِرواش رحمه الله تعالى
من كان يُحمد أو يُذم مورَّثاً ... للمال من آبائهِ وجدودهِ
فأنا امرؤٌ للهِ أحمدُ وحدهُ ... حمداً كفيلاً لي بحسن مزيدهِ
ولأبيضٍ كالملح ما جرَّدته ... إلا وبان الموت في تجريدهِ
ولأسمرٍ لدن الكعوب كأنما ... ماء المنية كامنٌ في عودهِ
بهما حويتُ المال إلا أنني ... سلطتُ جودَ يدي على تبديدهِ
وقال مؤلف الكتاب :
سأنفقُ مالي في اكتساب مكارمٍ ... أعيش بها بعد الممات مخلَّدا
وأسعى إلى الهيجاء لا أرهب الرَّدى ... ولا أتخشَّى عاملاً ومهندا
بكل فتىً يلقى المنية باسماً ... كان له في الموت عيشاً مجددا
فإن نلتُ ما أرجو فللمجد ثم لي ... وإن متُّ خلَّفتُ الثناء المؤبدا
وقال مؤلف الكتاب أيضاً :
قلبي وصبري إلفان مذ خُلقا ... تقاسما صادقين لا افترقا
أمشي الهوينا والخطبُ في طلبي ... يوضع طوراً وتارةً عنقا
أحنو ضلوعي في كل حادثةٍ ... على فؤادٍ لا يعرف القلقا
لا يزدهيه خوف الحِمام ولا ... عهدتُهُ في ملِّمةٍ خفقا
وقال مالك بن حريم الهمداني لعمرو بن معدي كرب :
يا عمرو لو أبصرتني ... لرفوتني في الخيل رَفْوَا
للقيت مني عربداً ... يقطو إلى الفرسان قَطْوَا
لما رأيتُ نساءنا ... يدخلن تحت البيت حَبْوَا
وسمعت زجر الخيل في ... جو الظلام هبي وهَبْوَا
في فيلقٍ ملمومةٍ ... تعطو على النجدات عَطْوَا
أقبلتُ أفلي بالحسا ... مِ معاً رؤوسَ القومِ فَلْوَا
والبيض تلمع بيننا ... تعصو بها الفرسان عَصْوَا
وقال عمرو بن معدي :
أعددتُ للهيجاء سا ... بغةً وعداءً عَلَنْدى

نهداً وذا شُطبٍ يق ... دُّ البيض والأبدان قدَّا
لما رأيتُ نساءنا ... يفحصن بالمعزاء شدَّا
وبدت لميس كأنها ... وجه النهار إذا تبدى
نازلت كبشهم ولم ... أرَ من نزال الكبش بُدَّا
هم ينذرون دمي وأَنْ ... ذِرُ إن لقيت بأن أشدَّا
قال قيس بن أبي حازم: حضر عمرو بن معدي كرب - رحمه الله - الناس يوم القادسية وهم يتقاتلون، فرماه رجل من العجم بنشابة فوقعت في كتفه، وكان عليه درع حصينة، فلم تنفذ، وحمل عمرو على العلج فعانقه، وسقطا إلى الأرض فقتله عمرو وسلبه، ورجع يسلبه وهو يقول :
أنا أبو ثورٍ وسيفي ذو النون ... أضربهم ضرب غلامٍ مجنونْ
يالَ زُبيدٍ إنهم يموتونْ
وشهد عمرو بن معدي القادسية وهو ابن مائة وست سنين، وقيل: ابن مائة وعشر سنين. ولما قتل العلج عبر جسر القادسية هو وقيس بن مكشوح ومالك بن الحارث الأشتر النخعي رحمهم الله، وكان عمرو آخرهم، وكانت فرسه ضعيفه، فطلب غيرها، فأُتي بفرس فأخذ بعكوة ذنبه وجلد به الأرض، فأقعى الفرس، فرده، وأتى بآخر ففعل به مثل ذلك، فتحلحل ولم يُقْعِ، فقال: هذا على كل حال أقوى من تلك. وقال لأصحابه: إني حاملٌ وعابرٌ الجسر، فإن أسرعتم بمقدار جزر جزور وجدتموني وسيفي بيدي أقاتل به تلقاء وجهي، وإن أبطأتم وجدتموني قتيلاً وقد قتلت وجزرت ! ثم انغمس فحمل في القوم، فقال بعضهم: يا بني زبيد، علام تدعون صاحبكم ؟ فوالله ما أرى أن تدركوه حياً. فحملوا، فانتهوا إليه وقد صُرع عن فرسه، وهو آخذ برجل فرس رجلٍ من العجم فأمسكها، وإن الفارس ليضرب الفرس فما يقدر أن يتحرك من يده. فلما غشيه أصحابه رمى العجمي بنفسه وخلَّى فرسه، فركبه عمرو، وقال: أنا أبو ثور ! كدتم والله تفقدوني ! قالوا: فأين فرسك ؟ قال: ضربته نشابةٌ فشب فصرعني وعار .
نقلت من خط النجيرمي قال: كان الفند من الفرسان الشجعاء القدماء وهو: شهل بن شيبان بن ربيعة بن زِمَّان، وإنما سمي " الفند " لأنه شُبِّه بالقطعة من الجبل، وكان عظيماً. وأمدَّت بنو حنيفة - يوم قِضَة - بكر بن وائل بالفند، وقالوا: قد أمددناكم بألف رجل، وكان شيخاً كبيراً يومئذٍ، فطعن مالك بن عوف بن الحارث بن زهير بن جُشم وخلفه رديف له يقال له الثريار بن مازن بن جشم بن عوف بن وائل بن الأوس - : فانتظمهما برمحه وقال :
أيا طعنة ما شيخٍ ... كبيرٍ يفنٍ بالِ
كجيب الدِّفْنس الورها ... ء ريعت بعد إجفالِ
تفتَّيت بها إذ ك ... رِه الشِّكَّة أمثالي
وشهد الفند الزماني حرب بكر وتغلب وقد قارب المائة سنة، فأبلى بلاءً حسناً، وكان يوم التحالق الذي يقول فيه طرفة بن العبد :
سائلوا عنا الذي يعرفنا ... بقوانا يوم تحلاق اللِّممْ
يوم تبدي البيض عن أسواقها ... وتلف الخيل أعراج النعمْ
أنشد المبرِّد لبعضهم :
ألم تعلمي يا عِصْمَ كيف حفيظتي ... إذا الشر خاضت جانبيه المجادحُ
أفر حذار الشر والشر تاركي ... وأطعن في أنيابه وهو كالحُ
وأنشد المبرِّد :
لَعمركَ ما دهري بزِقٍ وقَينةٍ ... وطِرْفٍ وأثوابٍ جيادٍ ومطعمِ
ولكنما دهري رواقٌ يحفُّهُ ... ثمانون ألفاً من فصيحٍ وأعجمِ
يقودون قُبَّ الخيل أرسانها القنا ... إذا غضبت جادت سماؤك بالدمِ
وقال الزبير بن عبد المطلب :
ويُذهب نخوة المختال عني ... رقيق الحد ضرْبَتُهُ صَمُوتُ
بكفَّي ماجدٍ لا عيبَ فيه ... إذا لقيَ الكريهة يستميتُ
قال شبيلٌ الفزاري :
قد علم المستأخرون في الوَهَلْ ... إذا السيوفُ عريت من الخِللْ
أن الفِرارَ لا يزيدُ في الأجلْ
وقال قيس بن الخطيم من قصيدة :
إذا ما فررنا كان أسوأ فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكبِ
صدود الخدود والقنا متشاجرٌ ... ولا تبرح الأقدام عند التضاربِ
أُجالدهم يوم الحديقة حاسراً ... كأن يدي بالسيف مِخراقُ لاعبِ
قال الفُضيل بن خُديج: شهدت من مصعب بن الزبير مشهداً، ورأيت منه شيئاً ما علمته لأحدٍ: إني لمعه في الوقعة التي قتل فيها، وقد أسلمه من أسلمه، وقتل وجوه من بقي معه - : وهو لا يكرثه ذلك، وسمعته ينشد :

ونحن أناسٌ لا نرى القتل سبَّةً ... على أحدٍ يحمي الذمار ويمنعُ
بنو الحرب أُرضعنا بهِ، غير فُحَّشٍ ، ... ولا نحن مما جرَّت الحرب نفْزَعُ
جِلادٌ على ريب الحوادث لا ترى ... على هالكِ عينٌ لنا الدهر تدمعُ
وأُنشد مسلمة بن عبد الملك بعد قتل يزيد بن المهلَّب قول ثابت قطنة :
ياليت أُسرتك الذين تغيبوا ... كانوا لنصرك يا يزيدُ شهودا
فقال مسلمة: وأنا والله وددت ذلك: أنهم كانوا يومئذٍ شهوداً فسقيتهم بكأسهِ .
ومثله قول الآخر :
فوَا أسفي أن لا أكون شهدته ... فطاحت شِمالي عنده ويميني
وكنتُ لقيتُ الموت أحمرَ دونه ... كما كان يلقى الدهر أغبر دوني
قال أبو الحسن العسكري: لحق أبو دُلفٍ أكراداً قطعوا الطريق في عمله، وقد أردف منهم فارس رفيقاً له خلفه، فطعنهما جميعاً فأنفذ فيهما الرمح، فتحدث الناس: أنه أنفذ بطعنة واحدة فارسين. فلما قدم من وجهه دخل إليه بكر بن النطاح فأنشده :
قالوا: وينظم فارسين بطعنةٍ ... يوم اللقاء ولا يراه جليلا
لا تعجبوا لو أن طول قناته ... ميلٌ إذاً نظم الفوارس ميلا
فأمر له أبو دُلف بعشرة آلاف درهم .
روي: أن دريد بن الصمة خرج في فوارس من بني جشم، حتى إذا كان بوادٍ لبني كنانة، يقال له " الأخرم " ، وهو يريد الغارة على بني كنانة - : رُفع له رجلٌ من ناحية الوادي، معه ظعينة، فلما نظر إليه قال لفارسٍ من أصحابه: صِحْ به أن خلَّ الظعينة وانجُ بنفسك - وهو لا يعرفه - فانتهى إليه الرجل فصاح به وألح عليه، فلما أبى إلا الإلحاح عليه ألقى زمام الناقة إلى الظعينة وقال :
سيري على رِسلك سير الآمنِ ... سير رداحٍ ذات جأشٍ ساكنِ
إن انثنائي دون قِرني شائني ... فابلي بلائي واخبري وعايني
ثم حمل على الفارس فقتله، وعاد إلى زمام ظعينته فأخذه، فبعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع صاحبه، فرآه صريعاً، فصاح به، فتصامم عليه، فظنَّ أنه لم يسمع، فغشيه، فألقى الزمام إلى الظعينة، ثم حمل على الفارس فصرعه، وهو يقول :
خلِّ سبيل الحرة المنيعة ... إنك لاقٍ دونها ربيعهْ
في كفِّه خطيَّةٌ مطيعه ... أوْلاَ، فخذها طعنةً سريعهْ
فالطعن مني في الوغى شريعهْ
فلما أبطأ على دريد بعث في أثرهما فارساً آخر لينظر ما صنع صاحباه، فانتهى إليهما فرآهما صريعين، ونظر الفارس يقود ظعينته ويجر رمحه، فقال له الفارس: خلِّ عن الظعينة، فألقى إليها الزمام، وقال لها: اقصِدي قصد البيوت، ثم أقبل عليه فقال :
ماذا تريدُ من شتيمٍ عابسِ ؟! ... أما ترى الفارس بعد الفارسِ ؟!
أرادهما عامل رمحٍ يابسِ
ثم طعنه فصرعه، وانكسر رمحه، فارتاب دريد وظنَّ أنهم قد أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل، فلحق بهم، فوجد ربيعة لا رمح معه، وقد دنا من الحي، ووجد القوم قد قتلوا. فقال له دريد: أيها الفارس، إني أضنُّ بمثلك على القتل، وإن الخيل ثائرةٌ بأصحابها، ولا أرى معك رمحاً، وأراك حديث السن فدونك هذا الرمح، فإني راجعٌ إلى أصحابي، ومثبطهم عنك. فأتى دريدٌ أصحابه فقال: إن فارس الظعينة قد حماها، وقتل فوارسنا، وانتزع رمحي، ولا طمع لكم فيه، فانصرف القوم، فقال دريد :
ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بمثلهِ ... حاميَ الظعينة فارساً لم يُقتلِ
أردى فوارسَ لم يكونوا نُهْزَةً ... ثم استمرَّ كأنه لم يفعلِ
متهللاً تبدو أَسرَّةُ وجههِ ... مثل الحسامِ جلتهُ كفُّ الصيقلِ
يُزجي ظعينته ويسحبُ رُمحه ... متوجهاً يُمناه نحو المنزلِ
وترى الفوارس من مخافة رمحهِ ... مثل البغاثِ خشينَ وقعَ الأجدلِ
ياليت شِعري من أبوه وأمه ؟! ... يا صاحِ من يكُ مثله لم يُجْهلِ
وقال ربيعة بن مكدَّم في ذلك :
إن كان ينفعك السؤال فسائلي ... عني الظعينة يوم وادي الأخرمِ
إذهي لأول من أتاها نُهبةٌ ... لولا طِعان ربيعةَ بن مُكدَّمِ
إذ قال لي أدنى الفوارس ميتةً : ... خلِّ الظعينة طائعاً لم تندمِ
فصرفتُ راحلة الظعينة نحوه ... عمداً ليعلم بعض ما لم يعلمِ
وهتكتُ بالرمحِ الطويلِ إهابَهُ ... فهوى صريعاً لليدين وللفمِ

ومنحت آخر بعده جياشةً ... نجلاءَ فاغرةً كشِدقِ الأعلمِ
ولقد شفعتهما بآخر ثالثٍ ... وأبى الفرار لي الغداة تكرُّمي
ولم يلبث بنو كنانة - رهط ربيعة بن مكدَّم - أن أغاروا على بني جُشم - رهط دريد بن الصمة - فقتلوا منهم وأسروا وغنموا وأسروا دريد بن الصمة، فأخفى نفسه، فبينا هو عندهم محبوس إذ جاء نسوة يتهادَين إليه، فصرخت امرأة منهن، فقالت: هلكتم وأهلكتم ! ماذا جرَّ علينا قومنا ؟! هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينة ! ثم ألقت ثوبها عليه، وقالت: يا آلِ فراس ! أنا جارةٌ له منكم، هذا صاحبنا يوم الوادي. فسألوه: من هو ؟ فقال: دريد بن الصمة، فمن صاحبي ؟ قالت: ربيعة بن مكدَّم، قال: فما فعل ؟ قالت: قتلته بنو سليم، قال: فمن الظعينة التي كنت معه ؟ قالت: رَيْطَة بنت جِذل الطِّعان، وأنا هي، وأنا امرأته. فحبسه القوم، وآمروا أنفسهم وقالوا: لا ينبغي أن نكفر نعمة دريد عندنا. وقال بعضهم: والله لا يخرج من أيدينا إلا برضا المخارق الذي أسره. فانبعثت المرأة في الليل فقالت :
سنجزي دريداً عن ربيعة نعمةً ... وكل امرئٍ يُجزى بما كان قدَّما
فإن كان خيراً كان خيراً جزاؤه ... وإن كان شراً كان شراً مذمَّما
سنجزيه نعمى لم تكن بصغيرةٍ ... بإعطائه الرمح السديد المقوَّما
فقد أدركت كفَّاه فينا جزاءه ... وأهلٌ بأن يجزى الذي كان أنْعَمَا
فلا تكفروه حقَّ نُعماه فيكم ... ولا تركبوا تلك التي تملأ الفما
فلو كان حياً لم يضقْ بثوابه ... ذراعاً غنياً كان أو كان مُعدما
ففكوا دريداً من إسار مخارقٍ ... ولا تجعلوا البؤسى إلى الشر سلَّما
فأصبح القوم وقد أجمع ملؤهم، إلى أن سلموا دريداً إلى ريطة، فجهزته وزودته، ولحق بقومه، ولم يزل كافاً عن غزو بني فراس حتى هلك .
روي: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضوان الله عليه قال لعمرو بن معدي كرب الزبيدي رحمه الله: أخبرني عن أشجع من رأيت. قال: والله - يا أمير المؤمنين - لأخبرنك عن أجبن الناس وعن أحيل الناس وعن أشجع الناس. فقال له عمر رحمه الله: هات. فقال : ارتبعت الضبابية - يعني فرسه - فخرجت كأحسن ما رأيت، وكانت شقَّاء مقَّاء طويلة الأنقاء، فركبتها، ثم آليت لا لقيت أحداً إلا قتلته ! فخرجت وهي تنقز بي، فإذا أنا بفتىً، فقلت: خذ حذرك فإني قاتلك ! فقال: ألا تنصفني يا أبا ثور ؟ أنا كما ترى أعزل أميل عوَّارة، أمهلني حتى آخذ نبلي ! قلت: وما غناؤها عنك ؟ قال: أمتنع بها منك، قلت: خذها، قال: لا، أو تعطيني من العهود ما يثلجني أنك لا تروعني أو آخذها، فأثلجته، فقال: وإله قريش لا آخذها أبداً ! فسلم - والله - مني وذهب. فهذا أحيل الناس !! فمضيت حتى اشتمل علي الليل، فوالله إني لأسير في قمرٍ زاهرٍ إذا بفتىً على فرسٍ يقود ظعينة وهو يقول :
يا لُبينا يا لُبينا ... ليته يُعدى علينا
ثم يُبلى ما لدينا
ثم يخرج حنظلة من مخلاته فيرمي بها إلى السماء، فلا تبلغ الأرض حتى ينتظمها بمشقص من نبله ! فقلت له: خذ حذرك - ثكلتك أمك - فإني قاتلك ! فمال عن فرسه فإذا هو في الأرض مضطجعاً، فقلت: إن هذا إلاّ استخفافٌ، فصحت به: ويلك ما اجهلك ! فلم يتحلحل، فدنوت منه حتى شككت بالرمح إهابه، فاذا به كأنه قد مات منذ سنة ! ! فمضيت وتركته، فهذا أجبن الناس ! ومضيت فأصبحت بين دكادك ورمالٍ، فنظرت إلى أبياتٍ فعدلت اليها، فاذا فيهنَّ جوارٍ ثلاثة كأنهن نجوم الثريّا، فبكين حين رأينني، فقلت: ما يبكيكنَّ ؟ قلن: لما ابتلينا به منك، ومن ورائنا أختٌ لنا هي أجمل منّا ! فأشرفت من فدفدٍ، فاذا من لم أر قط أحسن منه ومن وجهه، فاذا بغلامٍ يخصف نعله وعليه ذؤابةٌ يسحبها، فلما نظرني وثب إلى الفرس مبادراً، فسبقني إلى البيوت، فوجد النساء قد ارتعن، فسمعته يقول:
مَهْلاً نُسَيَّاتِي إذاً لا تَرْتَعْنْ ... إِنْ يُمْنَعِ اليَوْمَ نِسَاءٌ تُمْنَعْنْ
أَرْخِينَ أَذْيَالَ المُرَوطِ وَارْبَعْنْ

فلما دنوت منه قال: أتطردني أو أطردك ؟ قلت: بل أطردك، وركضت في أثره، حتى إذا مكنت السِّنان من كتفيه أتكأت عليه فاذا هو لبب فرسه، ثم استوى في سرجه، فقلت: أقلني ! قال: اطرد، فطردته، حتى ظننت أن السنان في ماضغيه فاعتمدت عليه فاذا هو قائم في الأرض والسنان ماضٍ، واستوى على فرسه، فقلت: أقلني ! قال: قد أقلتك فاطرد، فطردته، حتى إذا أمكنت السنان من متنه اتَّكيت عليه وأنا أظنُّ أن قد فرغ منه جال في سرحه حتى نظرت الى يده في الأرض، ومضى السنان زالجاً، ثم استوى، وقال: أبعد ثلاثٍ تريد ماذا ؟ ! اطردني ثكلتك أمك ! فولَّيت وأنا مرعوب منه، فلما غشيني التفتُّ فاذا هو يطردني بالرمح بلاسنان، فكفَّ عني واستنزلني، فنزلت ونزل، فجزَّ ناصيتي ثم قال: انطلق فإني أنفس بك عن القتل ! فكان ذلك عندي - والله يا أمير المؤمنين - أشدَّ من القتل، فذاك يا أمير المؤمنين أشجع من لقيت، وسألت عنه ؟ فقيل لي: ربيعة بن مكدَّم الفراسيّ من بني كنانة.
روى أبو الفرج الأصبهاني قال: أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عنترة بن شدّادٍ:
وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأَظَلَّهُ ... حَتّى أَنالَ بِهِ كرِيمَ المَأْكَلِ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما وصف لي أعرابيّ قط فأحببت أن أراه إلاّ عنترة " وهذا البيت من قطعة شعرٍ لعنترة، كان سببها - فيما رواه أبو عمرٍ و الشيباني - : أن بني عبسٍ أغارت على بني تميم، وعليهم قيس بن زهيرٍ، فانهزمت بنو عبس، وطلبتهم بنو تمم، ووقف لهم عنترة، ولحقتهم كتيبةٌ من الخيل، فحامى عنترة عن بني عبسٍ، فلم يصب منهم مدبرٌ، فساء ذلك قيس بن زهير، وشقَّ عليه صنيع عنترة. فقال حين رجع: والله ما حمى الناس إلاّ ابن السَّوداء، فبلغ ذلك عنترة، وكان قيسٌ أكولاً، فقال عنترة يعرِّض به ويجيبه عن ذكر أمِّه:
بَكَرَتْ تُخَوِّفُني الحتُوفَ كَأَنّني ... أَصْبَحْتُ عَنْ غَرَضِ الحتُوفِ بمَعْزِلِ
فأَجَبْتُها: إنَّ المَنِيَّةَ مَنْهَلٌ ... لاَبُدَّ أَنْ أُسْقَى بِكَأْسِ المَنْهَلِ
فاقَنِي حَيَاءَكِ ... لاَ أَبَالَكِ وَاعْلَمي أَنِّي امْرُؤٌ سَأَمُوتُ إِنْ لَمْ أُقْتلِ
إِنَّ المَنِيَّةَ لَوْ تُمَثَّلُ مُثِّلَتْ ... مِثْلي إذَا نَزَلُوا بِضَنْكِ المَنْزِلِ
وَأَنَا امْرُؤٌ مِنْ خَيْرِ عَبْسٍ مَنْصِباً ... شَطْرِي، وَأَحْمِي سَائِرِي بِالمُنْصُلِ
وَإِذَا الكَتِيبَةُ أَحْجَمَتْ وَتَلاَحَظَتْ ... أُلْفِيتُ خَيْراً مِنْ مُعِمٍّ مُثخْوِلِ
وَالخَيْلُ تَعْلَمُ وَالْفوَارِسُ أَنَّني ... فَرَّقْتُ جَمْعَمُمُ بِطَعنَةِ فَيْصَل
إذ لاَ أُبَادِرُ فِي المَضِيقِ فَوَارِسِي ... أَوْ لاَ أُوَكَّلُ بِالرَّعِيلِ الأَوَّل
إِنْ يُلْحَقُوا أَكْرُرْ، وَإِنْ يُسْتَلْحَمُوا ... أَشْدُدْ، وَإِنْ يُلْفَوْا بِضَنْكٍ أَنْزِلِ
حِينَ النُّزُولُ يَكُونُ غَايَةَ مِثْلِنَا ... وَيَفِرُّ كلُّ مُضَلَّلٍ مُسْتَوْهِلِ
وَالخَيْلُ سَاهِمَةُ الوُجُوهِ كَأَنَّمَا ... تُسْقَى فَوَارِسُها نَقِيْعَ الحَنْظَلِ
وَلَقَدْ أَبِيْتُ عَلى الطَّوى وأَظَلُّهُ ... حَتَّى أَنَالَ بِهِ كَرِيمَ المَأْكَلِ

أقسام الكتاب
1 2 3