كتاب : الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن الإسلام
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي

بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن يا ألله
الحمد لله الذي من علينا بتوحيده وجعلنا من أفضل عبيده الذي جنبنا الأهواء المذلة والآراء المضلة أرانا الحق إذ هدانا لبرهانه ودليله وأظهر لنا الباطل وتفضل علينا بالعدول عن سبيله نحمده بمحامده التي لا تحصى ونشكره على الآية التي لم تزل تترى ونسأله الصلاة على نجبه من كافة الورى أنبيائه ورسله أئمة الهدى وخصوصا المبعوث إلى الثقلين المفضل على العالمين المؤيد بالآيات الصادعة والبراهين القاطعة موضح الحق بواضحات الدلائل ومرهق الكفر والباطل صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وعلى جميع النبيين والمرسلين ورضى الله عن خلفائه الراشدين وعن صحابته أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد
فقد وقفت وفقك الله على كتاب كتب به بعض المنتحلين لدين الملة النصرانية سماه كتاب تثليث الوحدانية بعث به من طليطلة أعادها الله إلى مدينة قرطبة حرسها الله متعرضا فيه لدين المسلمين نائلا فيه من عصابة الحق الموحدين سائلا عما لا يعنيه ومتكلما بما لا يدريه فأمعنت النظر فيه فإذا بالمتكلم يهرف بما لا يعرف وينطق بما لا يحقق ناقض ولم يشعر وعمى من حيث يظن أنه يستبصر ام تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون أن هم إلا كالأنعام بل هم أضل يلحن إذا كتب ويعجم متى أعرب ... وذي خطل في القول تحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله ...
دل بقوله على ضعف عقله وبمكاتبته على سوء محاولته تعاطى درجة النظار وسود بأباطيله ذلك الطومار ليستزل به الأغبياء

الأغمار ويحصل بذلك على مآكله شنار فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون وليته إذا ادعى النظر سلك طريقه وألتزم شروطه فاعترف بالبديهيات ولم ينظر الضروريات التي هي أصول النظريات ولكن حل من عنقه ربقة العقول فهو في كل جهالة يجول وإليها يدعو وبها يقول فليته لو دفن من عواره ما كان مسطورا ولكن كان ذلك عليه في الكتاب مسطورا ... وإن لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوراته لدليل ...
فاستخرت الله تعالى في جوابه على تخليط معانيه وتثبيج خطابه بعد أن أقول له اعلم يا هذا إن البغاة بأرضنا لا تستنسر والتمييز عندنا بين الفضة والقصة متيسر وها أنا إن شاء الله تعالى أجاوبك على ما كتبت حرفا حرفا وأبين فساده الذي لا يكاد يخفى على أنهم لو فتح عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون فكيف لا وقد ركبوا من استحالة الإتحاد والتثليث والحلول ما يدرك فساده بضرورة العقول وقد قالوا في الآب والإبن والأقانيم ما تمجه بفطرته الأولى كل ذي فهم مستقيم ولا يتسع لقبوله قلب ذي عقل سليم ... ومن كان اللعين له لسانا ... فكل جداله زور ونكر ... فكل مقالهم إفك وزيغ ... ونص كتابهم شرك وكفر ...
ومن أعظم ما ظهر عليهم من الفاسد فصرفوا لذلك عن التوفيق والرشاد إنكارهم ما يدل على نبوة نبينا من المعجزات وواضح الدلالات وقد قاربت الضرورات حتى أنكروا ما جاء في كتبهم من الإعلام على نبوته وإيجاب إتباع شريعته فلقد كانو يجدونه مكتوبا عندهم ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم وسأذكر إن شاء الله تعالى ما وقع في أناجيلهم من وصفه وصحيح نعته ولما تبين للعقلاء عنادهم سقط لذلك إرشادهم ووجب حملهم على السيف وجهادهم فقد يفعل الله بالسيف واللسان ما لا يفعل بالبرهان ومن كلام الحكماء يزغ الله بالسلطان مالا يزغ بالقرآن فأعرض العقلاء عنهم

واكتفوا من الرد عليهم بحكاية مذهبهم ووكلوا الناظر فيه لظهور تناقضه وفساد معانيه
وقد كنت عزمت على الإقتداء بالعقلاء في الإعراض حتى أكثر هذا المتكلم من التعرض والإعتراض فتعين لذلك الجواب وأنا أسأل الله التوفيق للصواب ومجانبة الخطأ وما يوجب العتاب أنه ولى التوفيق وهو بإجابة السائلين حقيق
فصل لتعلم يا هذا المنتسب لدين المسيح أنى أجاوبك إن شاء الله تعالى بمنطق عربي فصيح أسلك فيه مسلك الأنصاف وأترك طريق التعصب والإعتساف على أن كلامك لا يستحق الإصغاء إليه ولا الجواب عنه لأنك لا تحسن السؤال ولا تعرف ترتيب المقال بل تقول ما لا تفهم وتكتفي بأنك تتكلم ولكون كلامك هذا كثير الغلط ظاهر التناقض والشطط وأنت مع ذلك لا تعرف مذاهب النصارى المتقدمين الذين كانوا بنوع نظر متمسكين وإن كانوا عن مذهب الحق ناكبين حتى أنهم لو سمعوا كثيرا مما ذكرته لتبرأوا عنه ولأنفوا منه إذ لا ينسب أكثر ذلك إلى من تكايس منهم ولا يروى بحال عنهم على أنهم في أصول عقائدهم مختلفون وفي ورطة الجهل مرتبكون وسنبين لك ذلك كله إن شاء الله تعالى
ولما تبين ذلك منك أعرض المسلمون عن جوابك ونزهوا أنفسهم عن خطابك إذ الأعراض عن الجاهلين شرعة رب العالمين على لسان سيد المرسلين وأيضا فمن لم يعرف شروط النظر ولم يسلك مسالك البحث والعبر فالكلام معه ضرب في حديد بارد وعمل ليس له جدوى ولا عايد
ولما أعرضوا عنك لجهالتك تبجحت بذلك عند عصابتك فظننت أن سكوتنا عنك إنما هو لرهبة منك حتى لقد أبلغتنا عنك نكرا وقلت في كتابك هذا فحشا وهجرا فنحن وإياك كما قال ... سكت عن السفيه فظن أنى ... عييت عن الجواب وما عييت ...
فعظم هذا الأمر حين نمى خبره إلى مع أنه رغب إلى في ذلك جماعة من الإخوان فصار ذلك على كأنه من فروض الأعيان فاغتنمتها

فرصة وسررت بها قصة لعلمي أن النكاية في العدو بالبرهان واللسان أوقع من نكاية السيف والسنان
والرجا من مالك الدارين الجمع بين الأمرين واحراز أجر العملين على أنى لا أتعرضهم بقزع السباب ولا أنزل معهم إلا إعتذار وعتاب وإنما هو إظهار جهلهم وتناقض مذهبهم وقولهم
فأذكر كلام هذا السائل كما بلغني وأبين من خطئه وتناقضه ما شاء الله أن يفهمني فأناقشه في لفظه وأظهر سوء نقله وحفظه
فتارة أسأله وأخرى أجاوبه ليعلم أن الناقد بصير والباحث خبير وليتبين عيه وجهله للكبير والصغير ثم من بعد الفراغ من تتبع كلامه أعطف بالمناظرة على أقسته ورهبانه فأحكى مذاهبهم كما دونوها في كتبهم وعلى ما تلقفوها من أسقاقفتهم ثم أسبرها على محك العرض وأبين بعض مافيها من الفساد والنقض وما توفيقي إلا بالله وهو حسبي ونعم الوكيل
وقد استخرت الله تعالى في أن أجمل هذا الكتاب على صدر وأربعة أبواب
الباب الأول في الكلام على الأقانيم الباب الثاني : في الاتحاد والحلول
الباب الثالث في الكلام على النبوات وإثبات نبوة نبينا عليه الصلاة و السلام
الباب الرابع في جمل من فروع أحكامهم أبين فيها أن ليس لهم في أحكامهم مستند إلا محض الهوى والتحكم واللدد
وكل باب من هذه الأبواب يتضمن فصولا وأنا أسأل الله تعالى أن يطلق ألسنتنا بالحق والحكمة ويخرسها عن الباطل والفتنة أنه ذو الفضل والنعمة والعفو والرحمة

صدر الكتاب
نذكر في هذا الصدر كلام هذا السائل في خطبة كتابه والجواب عليها إن شاء الله تعالى
فصل
في حكاية كلام السائل في خطبة كتابه
قال كتاب تثليث الوحدانية في معرفة الله ثم قال الحمد لله بالغ القوى التي فطرنا عليها وأمرنا بحمده فنحن نحمده ونشكره ونعظمه بمثل تعارفنا في الحمد والشكر والتعظيم لملوكنا وأهل الرهبة من ذوي السلطان منا فرضا له شاكرين حامدين معظمين غير واقفين على ذاته ولا مدركين لشيء منه وإنما نقع على أسماء أفعاله في خليقته وتدبيره في ربوبيته
الجواب عن ترجمته أما قوله تثليث الوحدانية فكلام متناقض لفظا وفاسد معنى بيان ذلك أن قوله تثليث الوحدانية كلام مركب من مضاف ومضاف إليه ولا يفهم المضاف ما لم يفهم المضاف إليه فأقول لفظ الوحدانية مأخوذ من الوحدة ومعناها راجع إلى نفى التعدد والكثرة فهي إذن من أسماء السلوب فإذا وصفنا بها موجودا فقد نفينا عنه التعدد والكثرة والتثليث معناه تعدد وكثرة فإذا أضاف هذا القائل التثليث للوحدة فكأنه قال تكثير مالا يتكثر وتكثير مالا يتكثر باطل بالضرورة فأول كلمة تكلم بها هذا السائل متناقضة وباطلة بالضرورة
وأما قوله في معرفة الله فقول لم يحط بمعناه ولا فهم مسماه وإلا فما حد المعرفة وكم أقسامها وهل يصح أن تكون مكتسبة لنا وهل يجوز عقلا أن يكلفنا بها الأنبياء وإن جاز ذلك فما طريق تحصيلها
ثم هول بهذا اللفظ وأوهم أنه حصل منها علىحظ فإن كان دليلك يا هذا على معرفة الله تعالى ما ضممته كتابك فابك على مصابك واقرع

أسفا على عقل نابك فإن الواقف على معناه المقتحم لفحواه علم على القطع والقط أنك لم تعرف الله تعالى قط لأنك لم تذكر فيه دليلا صحيحا نعم ولا قولا فصيحا وإن كان لك دليل آخر على معرفة الله تعالى لم تذكره هنا فهذه ترجمة بلا معنى واسم يهول بلا مسمى كلامك ياهذا كفارع حمص خلى من المعنى ولكن يجمع ... ثم نظم هذه الترجمة على ما أبديناه من التناقض أن يقال تكثير ما لا يتكثر في معرفة الله وأي رابط بهذا الكلام وهل هذا إلا مضحكة الخاص والعام وعار لم يصل إليه أحد من عقلاء الأنام
ثم بعد ذلك شرع هذا القائل في الخطابة وصنعة الكتابة فسحب على سحبان ثوب النسيان وأنسى أبان كل ما أبان وصير فصيح وائل أعيا من باقل فقال الحمد لله بالغ القوى التي فطرنا عليها فيا للعجب ويا لضيعة الدين والأدب ... دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الجائع العاري ...
أما قوله الحمد لله فكلام حق ومقال صدق عند من عرف معناه وفهم فحواه وأما عندك فكلام سمعته وما وعيته وكيف تعيه أو تطمع في أنك تدريه وأنت بمعزل عن اللسان عرى عن تحصيل شرائط البرهان
دليل ذلك أن الحمد لله يتوجه لأسئلة وأنت لا تهتدي لفهمها فكيف لحلها منها لفظية ومنها معنوية فأولها حده وإلى ماذا يرجع وما الفرق بينه وبين الشكر وهل هو في هذا الموضع عام أم لا وهل يصح أن يطلق على غير الله وإن أطلق فهل بالحقيقة أم بالمجاز وعلى أي وجه يضاف إلى الله تعالى أعلى جهة الملك أو على جهة الإستحقاق أو غيرهما من أنواع الإضافة ولأي شيء يوضع في أوائل الكتب ولا يكتفي عنه بالتسمية
وأما قولك بالغ القوى فكلام مختل صدر عمن لم يحصل تنزيل مفهومه على فائدة لأن المتكلم به عمل بالغ موضع مبلغ ثم ذهب

بمبلغ إلى معنى خالق والعرب الذين تكلم هذا السائل بكلامهم وتعاطى مفهوم خطابهم لا يتكلمون بالغ في معنى الخالق لتباين اللفظين وإختلاف المفهومين ومعنى الخلق المشهور عندهم إختراع ما لم يكن والإبلاغ هو أيضا له كائن إلى غاية ما فإن أنكر هذا المتكلم أن يكون أراد هذا فقد شهد على نفسه بالغلط واعترف بأن كلامه من أرذل أرذل السقط
ثم أضاف بالغ إلى القوى والقوى جمع قوة وهي القدرة والشدة فإن كنت تريد هذا فأي فائدة للفظك وأي لطيفة لقولك التي فطرنا عليها وفي الثيران والأباعير والحمير من هو أشد منك وأقوى فقد فضلها عليك حيث أبلغها من الشدة أكثر مما أبلغك
ولقد كان ينبغي لك يا هذا أن تذكر من نعم الله عليك النعمة الخاصة بالإنسان وهو المعنى الذي به تميز عن أصناف الحيوان ثم من عجيب أمر هذا السائل وأدل دليل على بلادته وجهله أن هذه الخطبة التي صدر بها كتابه على ما هي عليه من تثبيج النظم وعدم الفصاحة إنما نقلها من رسالة عبد الرحمن بن عصن ختن شبيب التي كان أساقفة النصارى كتبوا بها إلى الإمام الزاهد أبي مروان بن ميسرة ونسبوها لعبد الرحمن وكانوا قد اجتمعوا على كتابتها بطليطلة أعادها الله فلما كتبوها بعثوا بها إلى القاضي أبي مروان بن ميسرة فبعد أن بذلوا جدهم وأجهدوا جهدهم كتبوا له رسالة مفتتحها هذه الخطبة في بطاقة صغيرة عدد أسطارها نحو ثلاثين لحنوا فيها وصحفوا في تسعة وعشرين موضعا منها ومع ذلك فأخلوا بالكلام ولم يتحصل لهم من سؤالهم مطلب ولا مرام فأجابهم الإمام القاضي رحمه الله وأحسن في الجواب وأظهر لهم جهلهم وتبلدهم في ذلك الكتاب
فلو كان هذا السائل عارفا بمصالحه مميزا بين محاسنه ومقابحه لاكتفى بإفحام أساقفته المتقدمة وعثرته الجاهلة المضممة ولكان يستر ظاهر خطاياهم وركيك كلامهم ولكن أراد الله تجديد ما قدم لهم من الفضيحة بمقالة صابية صحيحة ثم ليته إذ نقل إلى كتابه كلامهم لم يفسر المعنى ولم يغير اللفظ بل غيره تغييرا يدل على عدم الهجاء وقلة الحفظ فقال الحمدلله بالغ القوى وهي في كتابهم المتقدم الذكر الذي نقل منه الحمدلله بألغ القوى وبين مفهوم كلامه

وكلامهم ما بين القرن والقدم وما بين فصاحة العرب ورطانة العجم
وأما قولك وأمرنا بحمده فقول لا تعرف حقيقته ولا تسلك طريقته حتى تعرف إن كان الله آمرا أم لا وإن كان آمرا فما حقيقة أمره وإلى ماذا يرجع وهل هو قديم أو حادث إلى أسئلة كثيرة لا تعرف أنك مأمون من جهة الله تعالى حتى تعرفها فأعد للمسائل جوابا وللسائل خطابا
وأما قوله فنحن نحمده ونشكره ونعظمه بمثل تعارفنا في الحمد والشكر فكلام يدور على اللسان ولم يستقر لك شيء منه بالجنان وكيف يحمد الله من ينتقصه وكيف يشكره من يكفره وهل الحمد والنقصان والشكر والكفران إلا أمران متناقضان
بيان ذلك أنكم تجعلون لله ما تكرهون لأنفسكم وتنتقصون به أبناء جنسكم ها أنتم تكرهون لرهبانكم وأقستكم إتخاذ الزوجة والولد لئلا يتلطخ برذيلة مجرى البول ودم الحيض أو تتشبه نسبة الزوجة والولد ثم إنكم بجهالتكم تزعمون أن اللاهوت تدرع بناسوت المسيح وسكن في ظلمة الرحم مدة ثم خرج على مجرى البول ودم الحيض وتعلقت نسبة الولد والزوجة وأنتم تجعلون لله ما تكرهون وتصف ألسنتكم الكذب لا جرم أن لكم النار وأنكم مفرطون وكيف يعظمه من يعبد غيره ويعظم سواه ويخالفه في أمره ويرتكب ما عصاه وها أنتم قد اتخذتم المسيح إلها أو شطر إله وعبدتم من دون الله غيره وعظمتم سواه وخالفتم في ذلك قول المسيح عليه السلام وعصيتم أمر خالقه ومرسله ذي الجلال والإكرام وأنتم تقرأون في كتابكم عن أشعياء عليه السلام أنه قال عن الله مبشرا بالمسيح عليه السلام هذا غلامي المصطفى وحبيبي الذي ارتضت به نفسي وكذلك تقرأون في إنجيل ماركش أن المسيح قال

للعالم الذي سأله عن أول العهود إن السيد إلهك إله واحد وذكر كلاما فقال له العالم قلت الحق يا معلم إن الله وحده ولا إله غيره فالله تعالى يقول عن المسيح هو غلامي وأنتم تقولون هو ولدك والمسيح يقول لا إله إلا الله وأنتم تقولون أنت إله آخر فتعالى الله عما تقولون وسبحانه عما تصفون وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله تعالى فها أنتم قد خالفتم أمر الله وعظمتم سوى الله وهذا إنجيل متاؤوش يشهد عليكم بخلاف ما إليه صرتم فإن فيه أن المسيح قال لإبليس حين رام خديعته قد صار مكتوبا أن تعبد السيد إلهك وتخدمه وحده وأنتم تعبدون غير الله وتسجدون لسواه تتحكمون في ذلك بأهوائكم وتخالفون قول أنبيائكم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وتقول بالعظائم على الله
وأما قولك بمثل تعارفنا في الحمد فإن كان وضع تعارف موضع معرفة فقد أخل بالمعنى وخالف اللغة ولو كان يشم رائحة من كلام الفصحاء لوبخ نفسه على القالة هذه الشنعاء ولو نزلناه على أنه أراد ما تعارفه مخاطبوه فيما بينهم في معنى حمدالله لكان كلامه أيضا متناقضا وفاسدا وعن الصواب حايدا فإن حمد الله عندهم ذم وشكرهم له كفر كما تقدم ومن كان حمده لله ذما

وشكره له كفرا وكان معرفته مثل شكره وحمده فقد حصل من العلم على ضده وخرج من الشكر عن حده
وأما قولك والتعظيم لملوكنا وأهل الرهبة من ذوي السلطان منا فقول لا يدل على زهدك في الدنيا وإقتدائك بورع المسيح عيسى وبخشية المعمد يحيى عظمت الملوك لملكهم طمعا في نيل سحت ملكهم وأعرضت عن القسيسين ونسكهم ولو هديت السبيل لكان الأنبياء والحواريون أحق وأولى بالثناء والتبجيل لكن استهواك الطمع وإستفزك الجشع فآثرت الدنيا عن الآخرة فصفقتك اذن خاسرة وتجارتك بائرة
وأما قولك فرضا له شاكرين حامدين معظمين فكلام غير منتظم وليس له مفهوم ملتئم ذهب معناه لكثرة لحنه يمجه العاقل ببديهة ذهنه أتلفت معناه رضانة العجم فكأنه تبقى في نفس قائلة مكتتم
وأما قولك غير واقفين على ذاته ولا مدركين لشيء منه فلعمري لقد صدقت وبما أنت عليه من الجهل بمعبودك نطقت فأين هذا من قولك كتاب تثليث الوحدانية في معرفة الله فقد جعلت هذا الكتاب بزعمك موصلا إلى معرفة الله ثم لم ترجع النفس حتى شهدت على نفسك بالجهل بالله فظهر تناقض إعتقادك على لسانك وفي تقييدك وكذلك يفعل الله بكل جاهل مهذار وكيف يعرف الله من لم يقف على معرفة ذاته ولا علم شيئا من صفاته وهل ذاته تعالى إلا عبارة عن وجوده فإن الموجودات الموجود من غير مزيد على ما يعرف في موضعه بالبرهان فمن لم يعرف ذاته تعالى لم يعرف وجوده ومن لم يعرف وجوده فإما شاك وإما جاهل
وأما قوله وإنما نقع على أسماء أفعاله في خليقته وتدبيره في ربوبيته فكلام لم يورده فصيحا ولا فهمه صحيحا دليل أنه لم يرده فصيحا أنه أراد بقوله نقع نعرف وإلا لم يستقم كلامه فكأنه قال وإنما نعرف أسماء أفعاله وأين نعرف من نقع وأي جامع بينهما عند من عقل وسمع فإن مفهوم وقع وحقيقته سقط الشيء من أعلى إلى أسفل وليس لهذا المعنى في كلامه مدخل وأما أنه لم يفهمه صحيحا فيدل عليه أنه لا يجيب إذا سئل عنه فأصخ يا هذا

سمعك واستعن ملاك جمعك فإني أسألك وإياهم عن حد الإسم وحقيقته وهل هو المسمى أو غيره فإن كان غيره فما حد الإسم وما حد المسمى وما حد التسمية ثم هل ينقسم الإسم بالإضافة إلى المسمى أم لا ينقسم فإن انقسم فعلى كم قسم وإنما أوردت عليه هذه الأسئلة كيلا له بضاعة وليكون ذلك أبلغ في دفعه وأقطع لنزاعه ثم إنه أضاف أسماء إلى أفعال الله ولا يشك عاقل فاهم في أن أفعال الله تعالى إنما يراد بها مخلوقاته ومخلوقاته وخليقته واحد في المعنى فكأنه قال على ما يقتضيه ظاهر كلامه وإنما نقع على أسماء مخلوقاته في مخلوقاته فأبدل لفظ مخلوقاته بأفعاله وهذا كلام قليل العائدة بل عديم الفائدة ثم أسماء أفعاله إنما هي عبارة عن الألفاظ الدالة على أفعاله وأفعاله كما قلنا مخلوقاته كلفظ السماء والأرض وغير ذلك فمن عرف الألفاظ الدالة على هذه المخلوقات أي شيء يحصل له بسببها من معرفة الله تعالى وأي دلالة وأي نسبة بين معرفة اللفظ الذي يدل على السماء في التخاطب مثلا وبين معرفة الله تعالى وهل قوله هذا إلا هذيان من القول وارتباك في ورطة الجهل
وأا قوله وتدبيره في ربوبيته فالظاهر من لفظ التدبير السابق منه إلى الفهم أنه عبارة عن التفكر النفسي والتقدير الذهني والباري سبحانه متعال عن التدبير الذي هو التفكر والتقدير فإنه لا يتصور إلا في حق من جهل شيئا فأراد أن يستعمل فكرة في تحصيل العلم به والجهل على الله محال فالتدبير بمعنى الفكر عليه محال فإن أراد السائل بكلامه غير هذا فلا بد من بيانه وإيضاح برهانه
وأما الربوبية فلفظ مشتق من لفظ الرب والرب في مستعمل كلام العرب له معنيان مستعملان أحدهما السيد والثاني المالك فإن أراد به المعنى الأول الذي يرجع إلى السؤدد والشرف فهو خطأ من حيث أن سؤدده واجب له فلا يحتاج في تحصيله إلى سبب من تدبير ولا مقتضى تفكير ومقتضى كلامه ومفهومه أنه دبر في ربوبيته وأوجدها عن تدبيره لنفسه وهذا جهل بواح وكفر صراح وإن أراد به المعنى الثاني الذي يرجع معناه إلى الملك فلا يستقيم أيضا على ظاهر كلامه فإنه يكون معنى كلامه أنه دبر في ملكه وأوجده

عن التدبير الذي هو روية وتفكير ويتعالى عن ذلك الخالق القدير المنزه عن خواطر النفس وهواجس الضمير
ثم لما فرغ هذا السائل من خطبته الغراء البديعة الإنشاء التي من وقف عليها علم أنه عن المعارف مصروف وأنه لا يفهم المعاني ولا يحسن كتابة الحروف شرع في طريقة الجدال وكيفية الإستدلال فكأنه في نظم مقعولاته الطوسى وفي آداب جدله البروى ولعمر الله لو كان هذا السائل عاقلا لستر عواره ولم يبد غارة
ولكنه جهل فقال وحيث وجب أن يسكن جال
ولقد كان ينبغي لهذا السائل ألا يتكلم في شيء من علوم الإعتقاد حتى يحسن شروط النظر ويحكم ما يحتاج إليه من المواد والفكر ولما بادر إلى الكلام في ذلك من غير تحصيل شيء مما هنالك تثبج عليه كلامه وصعب عليه مرامه فربما كان المعنى الذي يقصده قريبا فيبعده أو مجتمعا فيبدده وسيتبين ذلك في كلامه
ولما كان ذلك رأيت أنى إن تتبعت كلامه كما تتبعت خطبته خرج الأمر الإعتدال وأدى ذلك إلى الكسل والملال وضياع الزمن في ضروب الهذيان هو غاية الخسران فرأيت أن أعرض عن آحاد كلماته وأناقشه في معانيها ومفهوماتها ثم إني ربما لا أتكلم معه حتى أحكى مذهبه وأبين له ما أراده بكلام حسن وجيز ليكون ذلك أبلغ في الفهم وأمكن في التمييز وإلى الله عز و جل أرغب وعليه أتوكل في أن يشرح صدورنا وييسر علينا أمورنا ويستعملنا فيما يقربنا منه وينفعنا عنده أنه ولى ذلك القادر عليه
تم الصدر والآن نشرع في الأبواب

الباب الأول
في بيان مذاهبهم في الأقانيم وإبطال قولهم فيها
الأقانيم أسماء وأفعال
أقانيم القدرة والعلم والحياة
تعليل التثليث
دليل التثليث
في بيان اختلافهم في الأقانيم

الفصل الأول

الأقانيم أسماء أفعال
في حكاية كلام السائل والجواب عنه
قال السائل
الآن وجب على أن أسألك في أمر التثليث عن خلق الله لجميع ما خلق إن كان خلقهم بقدرة وعلم وإرادة أم خلقهم بغير هذا فإذا اضطرتك المسألة إلى القول بها فإنى أسألك إن كانت أسماء لذاته أو أسماء لأفعاله فإن قلت هي أسماء لذاته فقد نقضت وجعلتها أسماء للذات ووقعت فيما أنكرت من الجسم وإن قلت من أسماء أفعاله التي منها سمى قادر عالم مريد فهو التثليث الذي أمرنا به
الجواب عنه
سألت يا هذا المقدام بعد إعجام واستبهام هل خلق الله تعالى الخلق بقدرة وعلم وإرادة أم بغيرهم وهذا السؤال كان ينبغي لك ألا تسأل عنه حتى تفرغ من معرفة المراتب التي قبله وذلك أنك لا تصل إلى ما سألت عنه حتى تعرف معنى الخلق وهل العالم مخلوق وإن كان مخلوقا فهل يحتاج إلى خالق أم لا فإذا بلغت إلى هنا وقطعت هذه المفاوز التي لا تقطع بالمنى ولا يتخلص منها بالهويني ولا يكتفي في تحصيل العلم بذلك بالتقليد بل بالنظر الشديد والبرهان العتيد
حينئذ كان ينبغي أن تسأل عما سألت عنه لكنك يجهلك بطريقة النظر قدمت وأخرت وفعلت فعلتك التي فعلت ولو كانت ممن له في النظر نصيب لضربت فيه بسهم مصيب ولاقتديت بمعلمكم الأزعم وأسقفكم الأعظم أغشتين فها هو يقول في مصحف العالم

الكائن في أول ورقة منه ينبغي أن يجعل الكلام في النظريات على منازل ودرجات ليكون من اجتمع معنا في الدرجة الأولى تكلمنا معه في الدرجة الثانية ومن اجتمع معنا في الدرجة الثانية تكلمنا معه في الدرجة الثالثة ثم نمضى كذلك إلى أقصى نهايات الكلام فإنما يكون فساد الكلام وتناقضه وإشتباهه من قبل النقص في معرفة هذا الدرج لأنا متى ناظرنا في الدرجة الثانية من لم يجتمع معنا في الأولى لم يبلغ الكلام غاية ولم يقف على نهاية
وعلى منواله نسج حفص بن البر في أقواله ولقد كان لك فيهما أسوة لو كنت أهلا للقدوة فبينك وبين من سؤالك هذا ثلاثة أدراج حارت فيها عقول كثير من النظار وفنيت أزمان ونفدت أعمار فكلامك يا هذا فاسد هجين بشهادة قسيسكم أغشتين
وأما قولك فإذا اضطرتك المسألة إلى القول بها فقول غير صحيح والجهل على قائله يلوح وكيف تضطر المسألة مع نظر سقيم أخذت مقدماته بالتحكم والتسليم وإنما كان يلزم ذلك لو نزلت في

كلامك على شرط السبر والتقسيم ونهجت منهج النظر القويم والا فبم تنكر على الدهرى حيث يقول لا أسلم أن العالم مخلوق وبم تنكر على الفلسفي حيث يقول أسلم أنه مخلوق لكن لا أسلم أنه محتاج إلى خالق مخترعه بعد العدم وبم تنكر على الطبيعي حيث يقول لا يحتاج عالم الطبائع إلى خالق ذي قدرة وعلم وإرادة وحياة ثم لأي شيء تحكمت وقلت إنها ثلاثة فلعلها أكثر أو أقل ولا بد لك من معرفة إبطال مذاهب هؤلاء بالبرهان وحينئذ تحصل على مرتبة الإيقان وهذا ليس بغشك فاضطجع على نمشك ... خلى الطريق لمن يبنى المنار به ... واقعد ببرزة حيث اضطرك القدر ...
وأما قولك فإني أسألك إن كانت أسماء لذاته أو أسماء لأفعاله فإن قلت هي أسماء لذاته هي أسماء لذاته فقد نقضت وجعلتها أسماء للذات ووقعت فيما أنكرت من الجسم فسؤال لا يستحق أن يسمع ولا لصاحبه في العقل مطمع قسمت وسبرت وبقيت عليك أقسام وما شعرت إذ لقائل أن يقول ليست هذه الأسماء من أسماء الذات ولا من أسماء الأفعال بل هي قسم آخر وهو أسماء الصفات والتقسيم متى لم يكن دائرا بين النفى والإثبات فهو معرض للنقوض والآفات ثم أطرف من العنقاء شرعة في أول كلامه في المسميات ثم أخذه في الكلام في الأسماء ولم يفرق بين الإسم والمسمى فهو جاهل أعمى
ثم انظر بله هذا السائل وعدم حسه فلقد خرج بجهله عن أبناء جنسه كيف قال فإن قلت هي أسماء لذاته فقد نقضت وجعلتها أسما للذات وأي فرق بين قوله في المقدم وبين قوله في التالي وهل هذا إلا بمثابة من يقول إن قلت هذا اليوم نهارا فقد نقضت وجعلته نهارا
فما أعرفك يا هذا بنتيجة الشرطى المتصل وحدوده وبحد النقيض وشروطه فلو استرزقت الله عقلا لكان الأحرى بك من الكلام في المعتقدات والأولى ثم أعجب من ذلك كله أنك لزمت من قال إن العلم والقدرة والإرادة أسماء للذات القول بالتجسيم وهذا نتيجة الجهل الصميم والفهم المستقيم وهذا من أين يلزم

أمن نقيض التالي أو عين المقدم فوالذي خص الأذكياء بالعقول لقد أربيت في جهلك على كل جهول وأتيت بما ليس بمفهوم ولا معقول
وأما قولك وإن قلت من أسماء أفعاله التي منها سمى قادر عالم مريد فهو التثليث الذي أمرنا بالقول به فيقضى أن الأقانيم من أسماء الأفعال فهذا قول لا يقول به المجانين ولا الأطفال فإن معنى تسمية الله تعالى بأسماء الأفعال إنما معناها عند العقلاء أن يخلق الله فعلا يسمى ذلك الفعل باسم فيشتق لله تعالى من ذلك الفعل إسم مثال ذلك خالق ورازق يقالان على الله تعالى باعتبار خلق الخلق ورزق الرزق فإن أردت هذا المعنى كان ذلك محالا على الصفات العلى فإن صفاته سبحانه وتعالى ليست بمخلوقة على ما يعرف في موضعه وأيضا فلو جاز أن يسمى بعلم يخلقه عالما وبإرادة يخلقها مريدا وبقدرة يخلقها قادرا جاز أن يسمى بحركة يخلقها متحركا وبصوت يخلقه مصوتا وذلك مجرى إلى جهالات لا يقول بها عاقل فإن أراد هذا السائل بأسماء الأفعال أمر آخر فهو إنما اصطلح مع نفسه فكان ينبغي له أن يفسر ما يقول إذ لم يتكلم بما اصطلح عليه أرباب العقول
وأما قولك فهو التثليث الذي أمرنا بالقول به فقول فيه كذبت وعلى الله ورسله افتريت فإن الرسل عليهم السلام لم تأمر بإعتقاد التثليث لأحد من الأنام بل قالت الأنبياء عليهم السلام ما يعرفه الخاص والعام فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة ولقد حصل للعقلاء بالتواتر وعلموا بالوراثة أن الله تعالى قال لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة ثم قولك هذا تريد به أنكم أمرتم بإعتقاد آلهة ثلاثة وإنكم قيل لكم اعتقدوا في الله تعالى أنه آلهة ثلاثة إله واحد وقولوا به وليس الأمر كذلك عند رهبانكم المتقدمين وأساقفتكم الماضين
هذا أغشتين يقول بعد أن تكلم في الأقانيم ما تثبت أنها صفات على ما يقتضيه كلامه ذلك أنه قال وهذا قولنا في الأقانيم الثلاثة التي لا يمكن جحدها منه ولا وصفه بغيرها وهذا تصريح

منه بأنها صفات ثم قال بعد ذلك فهذا قولنا في التثليث الذي وصفه الإنجيل وأمرنا بالإيمان به وسيأتي نص كلامه ولم يقل أمرنا بأن نعتقد أن الله واحد ثلاثة فإن الواحد لا يكون ثلاثة والثلاثة لا تكون واحدا كما قد تبين فساده بل مفهوم قوله أن الإنجيل وصف أن الله تعالى موصوف بهذه الصفات وأمرنا بالتصديق بذلك ولو أنكتم عن ألسنتكم أمر التثليث واعتقدتم أن الله تعالى واحد موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال لوفقتم في هذه المسألة للصواب ولحصلتم منها على الحق بلا ارتياب ولكن من حرم التوفيق استدبر الطريق ونكل عن التحقيق
على أن ما ذكرته في أمر التثليث لا يستقيم على رأي المتقدمين من أحباركم هذا صاحب كتاب المسائل السبع والخمسين يقول فيها لا نقول إن التثليث ممتزج في أقنوم واحد كقول شباليش ولا إلهية متحدة أو متبعضة الذات كفرية آريش بل أن أقنوم الآب غير أقنوم الإبن وأقنوم الإبن غير الروح لكن التثليث المقدس ذات واحدة فإذا لم تكن ممتزجة وكان كل أقنوم منها غير الآخر والأقنوم معناه عندكم الشيء المستغنى بذاته عن أصل جوهره في إقامة خاصة جوهريته فكيف يتسع عقل لأن يقول إن هذه الثلاثة المتغايرة التي هي على ما ذكر واحد وهل قائله إلا معتوه أو معاند

الفصل الثاني
أقانيم القدرة والعلم والحياة
في حكاية كلامه أيضا
قال
فإن قلت لم لا تقولون بسم العالم القادر المريد إذا قلتم بإسم الآب والإبن والروح القدس فيتبين آب وابن وروح القدس ثالثا
اعلم أن المسيح لما بعث الحواريين إلى جميع الأجناس قال لهم من آمن منهم فعمدوه على اسم الآب والإبن والروح القدس وإنما خاطبنا بمثل تعاقلنا فجعل هذه الأسماء كاختلاف قضايا تلك الأفعال ثم واسط ثم أخر
فأول القضايا خلق الله الجميع بيد سماها أبا وأضافها إلى القدرة وأضاف قضية وعظ المسيح للناس إلى العلم وسماه ابنا لأن العلم لا يوقع عليه حتى يتولد كلاما وأضاف قضية فناء جميع الدنيا ومكافأة أهلها بأعمالهم إلى الإرادة وسماها روح القدس الذي هو قادر عالم مريد اسما للواحد الذي لا يتكثر
والجواب عن قوله
اعلم يا هذا إنك لم تحسن السؤال ولا حصلت منه على صواب مقال بل حصل منه في عنقك غل وفي رجليك عقال قلبت السؤال ولم تشعر وجهلت من حيث ظننت أنك تستبصر اردت أن تقول في الإعتراض الذي وجهته على نفسك لم لا تكتفون باسم القادر العالم المريد ولا تقولون باسم الآب والإبن وروح القدس فقدمت وأخرت وباللفظ والمعنى أخللت

ثم أنتجت النتيجة قبل ذكر المقدمات فصار لذلك كلامك من أرك الترهات فقلت فيها فيتبين آب وابن وروح القدس ثالثا وهذا كلام مختل ناقص مشوب بالفساد غير خالص وإنما كان صوابه أن يقول فيتبين أنه آب وابن ثم قلت ثالثا بالنصب بخطك ضبطه مشعرا بأنك أعربته بل بالإتفاق كتبته ولم تشعر بأنك قلبته وأما قولك إن المسيح لما بعث الحواريين إلى جميع الأجناس فكلاما نقلته مدعيا أنك رويته ونحن يجب علينا أن نتوقف في أخباركم ولا نقطع بتصديقكم ولا بأكذابكم بل نقول ما أمرنا به الرسول وبلغنا على ألسنة النقلة العدول آمنا بالله ورسله فإن صدقتم لم نكذبكم وإن كذبتم لم نصدقكم ومع تسليم ذك جدلا فلا بد أن نباحثكم فيما نقلتم ونتفقه فيما حكيتم
فنقول ظاهر قولك هذا يفهم منه أن رسالة عيسى كانت عامة لجميع الأجناس وليس الأمر على ما زعمتم وسيأتي الكلام على هذا في باب النبوات وكذا الكلام على المعمودية وما يلزم عليها يأتى في باب الكلام على أحكامهم إن شاء الله تعالى
وأما استدلالاته على اعتقاد وجوب الآب والإبن والروح القدس وإطلاق القول بذلك بما قاله عيسى للحواريين فلا حجة لك فيه إذ ليس بنص قاطع بل هو مما تقولون أنتم فيه متشابه فإنه يحتمل أن يكون مراده به عمدوهم على تركهم هذا القول كما يقول القائل كل على اسم الله وامش على اسم الله أي على بركة اسم الله ولم يعين الآب والإبن من هما ولا ما المعنى المراد بهما فلعله أراد بالأب هنا الملك الذي نفخ في مريم أمه الروح إذ نفخه سبب علوق أمه وحبلها به وأراد بالإبن نفسه إذ خلقه الله تعالى من نفخة الملك فالنفخة له بمثابة النطفة في حق غيره

ثم لا يبعد أيضا في التأويل إن صح عن عيسى عليه السلام أنه كان يطلق على الله لفظ الأب أن يكون مراده به أنه ذو حفظ له وذو رحمة وحنان عليه وعلى عباده الصالحين فهو لهم بمنزلة الأب الشفيق الرحيم وهم له في القيام بحقوقه وعبادته بمنزلة الولد البار ويحتمل أن يكون تجوز بإطلاق هذا اللفظ على الله تعالى لأنه معلمه وهاديه ومرشده كما يقال المعلم أبو المتعلم ومن هذا قوله تعالى في كتابنا ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل على أحد تأويلاته
ومن هذين التأويلين يصح حل ما وقع في أناجيلهم من هذا اللفظ بل هذان التأويلان ظاهران وسائعان فهيا ويشهد لهذين التأويلين قول عيسى للحواريين على ما جاء في سورة الوصية حيث قال لهم
إذا صليتم فقولوا يا أبانا السماوي تقدس إسمك وقرب ملكك ثم قال بعد كلام ووصايا فإذا كنتم أنتم على شرتكم تعرفون إعطاء الخيرات أولادكم فكيف أبوكم السماوي
وكذلك وقع في إنجيل يوحنا يحيى أن عيسى قال لليهود أنا عالم أن من نسل إبراهيم ولكن تريدون قتلى لأنكم

لا تعلق بكم وصيتي فأعلمكم بما رأيت عند الآب وأنتم إنما تعملون ما رأيتم من أبيكم فأجابوه وقالوا إنما أبونا إبراهيم فقال لهم إن كنتم بنى إبراهيم فاقفوا أثره ولا تريدوا قتلى على أنى رجل وذنبي إليكم الحق الذي سمعت عن الله ولم يفعل إبراهيم غير هذا إنكم تقفون آثار أبيكم فقالوا به لسنا أولاد زنا وإنما نحن بنو الله فقال لهم لو كان الله أباكم لحفظتموني لأنني منه
ثم نقول لأنه عليه السلام وإن كان يطلق هذه الأسماء فإنما كان يطلقها متمثلا بها وهكذا أكثر كلامه الذي يحكون في إنجيلهم
ثم قد نهى عن إطلاقها في الإنجيل الحواريين قال في إنجيل لوقا للحواريين ما تقولون أنتم فأجابه سمعون بيطر وقال له أنت المسيح ابن الله فنهاهم وكذلك كان يقول إذا كان يخرج الجنون عن المجانين فكانت تخرج وهي تقول أنت ابن الله فكان ينتهرهم ويمنعهم من هذا القول

فهذا يدل دلالة بينة على أن المسيح كان يطلق لفظ الآب على الله تعالى بالمعنى الذي يطلق على إبراهيم عليه السلام أنه أب وذلك بمعنى المعلم الشفيق وكذلك جاء اللفظ في كتابنا ملة أبيكم إبراهيم وبذلك المعنى تقول اليهود والنصارى في إبراهيم وليس على حقيقة الأبوة ومع ذلك ف ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين
وكذلك في الإنجيل في غير ما موضع قال لكم أبوكم وقلت لأبي ويلزم على مساق هذا ألا يخص المسيح باسم الإبن ولا الله تعالى باسم الأب
وما بالنا نطول الأنفاس مع هؤلاء الجهال فإنه إذا احتمل هذه التأويلات كان من المتشابهات ولا ينبغي أن يصير إليه في الإحتجاجات وخصوصا في الإعتقادات ثم نقول لا يخلو المستدل بذلك أو ما يقاربه على المعنى المتقدم أما أن يريد به حقيقة الأب والإبن أو لا يريد ذلك فإن أراد الحقيقة كان محالا وباطلا فإن حقيقة الأب عند العقلاء حيوان ولد من نطفة حيوان هو من نوعه وبهذه النسبة والصفة تفهم حقيقة الإبن وهذان الوصفان محالان على القدرة والعلم فإن العلم ليس بحيوان مولود من نطفة حيوان ولا القدرة حيوان يخرج منها نطفة يتولد منها حيوان وهذا معلوم البطلان بالضرورة

وإن أراد بذلك المجاز فلا يصح له حمله على المجاز حتى يجتمع المجاز والحقيقة في أمر ما فإنك إذا قلت زيد أسد إنما تجوزت بلفظ الأسد وأطلقته على زيد لأجل الشجاعة الجامعة بين الأسد وزيد ولولا ذلك لما صح المجاز فإذن لا بد لهذا المتجوز من جامع بين الحقيقة والمجاز فما الجامع الذي لأجله تجوز هذا المحتج فإن قال الأمر الجامع أن القدرة أصل العلم وقد قال ذلك في داخل كتابه منعنا ذلك ولم نسأله وقلنا المفهوم من القدرة والمعقول منها عند العقلاء صفة بها يوجد ما لم يكن موجودا والمعقول من العلم أنه صفة كاشفة نفسها ومعلومها يصدر عنها الأحكام والإتقان وهما في حق الله تعالى أزليان عندنا وعندهم وإذا كانا كذلك فلا يتقدم أحدهما على الآخر في الوجود وإذا لم يصح ذلك فلا يكون أحدهما أصلا للآخر فإن أراد هذا القائل التقدم في الذهن فالعلم هو المتقدم في الذهن لأنه لا يصح فعل اختياري من غير عالم فإن العلم شرط الإيجاد والشرط متقدم في الذهن على فعلم ويتحقق هذا المعنى على القطع عند من عرف الفرق بين العلم المشروط بالضرورة وكذلك نقول علم زيد فقدر ولا نقول قدر الفعلى والإنفعالي ولو عكستم ما ذكرتم فسميتم العلم أبا والقدرة ابنا لكان أحق بذلك وأولى
ثم نقول لأي شيء صرتم إلى الجامع بين الحقيقة والمجاز هو الذي ذكرتم وبم تنكرون على من يزعم أن هنالك وجها آخر لم تطلعوا عليه ثم تحكمتم بتعيين هذا الوجه الذي ذكرتم
ثم نقول أنتم قاطعون بتعيين هذا الوجه الذي أبديتم أو غير قاطعين فإن زعموا أنهم قاطعون فما مستند قطعهم فلا بد من إبدائه ولا شك في أنهم يجدون في هذا المعنى نصا قاطعا فإن زعموا أنهم ليسوا بقاطعين فقد اعترفوا بأنهم شاكون في إعتقادهم وقد كفونا مؤنة الكلام معهم فإنهم أسندوا إعتقاداتهم إلى الشك وكفى بذلك زورا وإفكا ثم يلزمهم على تسليم ما ذكروه من الجامع الذي أبدعون أن يكون الباري تعالى وتنزه وتقدس أبا لكل المخلوقات إذ هو أصل كل المحدثات أي موجدها ومخترعها
وأما قولك فجعل هذه الأسماء ثلاثا فيفهم منه أن هذه الثلاثة لأقانيم الذي تقدم ذكرها مجعولة وأن الله تعالى هو الذي جعلها

وإن كانت بجعل الله فهي بخلقه وما كان بخلقه فهو محدث فيلزمك على ظاهر قولك أن هذه الأقانيم محدثة باختراعه تعالى وأنتم تقولون أنها أزليات قديمة
وأما قولك التي هي أسماء أفعاله فقد أبطلناه فيما تقدم حيث بينا حقيقة أسماء الأفعال ومن وقف على ذلك تبين بطلانه هنالك وأما قولك مختلفة الأسماء كاختلاف قضايا تلك الأفعال ثم واسط ثم أخر فكلام لا يروقك منظره ولا يعيد فائدة مخبره يشهد على قائله بالجنون ويضحك من عدم فائدته وارتباطه العاقلون أراد هذا الجاهل أن يتكلم فخرس وكذلك يفعل الله بكل مبطل إذا نكس وإنما أراد هذا المبطل ولم تطاوعه العبارة لما لم يحصل أن هذه الأقانيم الثلاثة إنما سميت أبا وإبنا وروح القدس باعتبار قضايا ثلاث وذلك أن القدرة إنما سميت أبا باعتبار أنها أصل الموجودات إذ بها وجدت وإنما سمى العلم ابنا باعتبار أنه اتحد بالإبن الذي هو المسيح وصدر عنه وإنما سميت الإرادة روح القدس باعتبار مكافأة الخلق في الدار الآخرة بالنعيم
فإن زعمت أنك لم ترد هذا فكلامك غير معقول وقولك ليس بمقبول وهذا الذي أبديته في هذا الكلام لم يقل به أحد فيما علمت من عقلاء نصارى الأنام وكفى بقولك عارا مبين مخالفته لأسقفكم أغشتين فها هو يقول في مصحف العالم الكائن إنما سمى العلم ابنا بإضافته إلى القدرة إذ القدرة أصله وكما صار التعارف الأعجمي أن تسمى القدرة التي هي الأصل والدا كذلك صار التعارف في ذلك اللسان أن يسمى العلم المنسوب إليها ابنا فقوله هذا مخالف لقولك ورأيه غير موافق لرأيك على أنه غلط في قوله أن القدرة أصل العلم ويتبين غلطه عند من وقف على ما قدمته قبل لكنه وإن كان قد غلط فالأمر عليه أقرب والخلاف معه أهون لأنه رجع الخلاف معه إلى إطلاق لفظ وليس وراء ذلك كثير حظ
وأما قولك لأن العلم لا يوقع عليه حتى يتولد كلاما فكلام حطيط ينبئ عن جهل وتخليط فإن العلم لا يتولد كلاما إذ لو جاز ذلك لانقلبت حقيقة العلم ولو جاز انقلاب حقيقة واحدة لجاز انقلاب كل حقيقة فيقلب القديم حادثا والحادث قديما والجسم عرضا

والسواد بياضا إلى غير ذلك من أنواع إنقلاب الحقائق ثم قولك فاسد وباطل بالضرورة فإنا نعلم أمورا من غير كلام موصل إلى ذلك فقولنا بوجود أنفسنا وبإلهنا ولذاتنا ومحسوساتنا بديهيات
ثم قد صرحت بلفظ التولد وهو باطل من أصله فإن المتولدات ممكنات وكل ممكن مقدور بقدرة الله تعالى فكل المولدات مقدورة بقدرة الله تعالى وإنما ثبت أنها حدثت بقدرة الله تعالى فلا يقال أنها متولدات
أقول هذا والكلام شجون والعلم فنون على أني أعرف أنك لا تفهم ما أقول وإنما أخاطب أهل الفهم والعقول
وأما قولك الذي هو قادر عالم مريد اسما للواحد الذي لا يتكثر فقول يدل على تخبطك وسوء تناولك نقضت به ما تقدم من قولك حيث جعلت الأقانيم أسماء أفعال بزعمك ثم قد صرحت ها هنا بأنها أسماء للواحد الذي لا يتكثر ولو حكى مثل هذا الكلام عن المستغرقين النوام لقيل هذا أضغاث أحلام
وبعد هذا فلتعلم أني تجاوزت عنك في هذا الفصل ولم أؤاخذك بكل ما فيه من خطل القول خشية طول الكلام وتبدد المطلب وبعد المرام وأول ذلك أنك لحنت وصحفت في ثمانية مواضع تتبين للناشئين بل المراضع

الفصل الثالث
تعليل التثليث
في حكاية كلامه أيضا
ثم قال
فإن قلت بالتثليث لأنها أسماء أفعال الله فأسماء أفعاله أكثر من ثلاثة فقولوا بها كقولكم بالتثليث لأن عزيز وقوى وغلوب وسميع وقاهر وبصير وغفور وراضي وساخط ومعاقب وغيرها من أسماء أفعاله فقولوا بها أجمع كقولكم بالتثليث قلت لك هذه التي ذركناها هي أصول جميع التسمية ومنها تنبثق وفيها تندعم فعزير وقوي وغلوب وقاهر وما أشبهها أصلها القدرة ومنها تنبثق وفيما تندغم وغفور ورحيم وراضي وساخط ومعاقب أصلها الإرادة منها تنبثق وفيها تندغم فإن قلت فقديم وحي ليست منبثقة منها ولا مندغمة فيها فقولوا بالتخميس قلت لك إن قديم وحي أسماء ذات لا أسماء أفعال وكل اسم للذات إنما يؤدي معنى واحدا لنفي ضده فقديم لنفي محدث وحى لنفي ميت ورب لنفى مربوب وإله لنفى مألوه فكل اسم من هذه القدرة والعلم والإرادة التي هي أسماء أفعال ثلاثة لذات واحدة لا يتكثر وكما أنا قد فهمنا أن نفس الإنسان لا يقوم لها فعل إلا عن ثلاثة إن نقص منها واحد لم يتم له فعل وإن زاد فيها رابع لم يتفق كذلك فهمنا عن خالقنا أن تدبيره بنا عن ثلاثة وذلك أن الإنسان لا يقوم له فعل دون الثلاثة وذلك القدرة والعلم والإرادة ولا رابع منها فإن عجزت منها واحدة لم يتم له بالإثنين فعل لأنه إن علم وأراد ولم يقدر فقد عجز وإن قدر وعلم ولم يريد فلا يتم له شيء إلا بالإرادة وإن قدر ولم يعلم لم يتم له فعل بالجهل فقرب لنا الكتاب معرفة الخالق بخلقه لهم بمثل تعارفنا في أنفسنا أن القدرة والعلم والإرادة خواص قائمة هي المتممة للفعل منا وإنها لذات واحدة وكذلك التثليث في الله واحد
الجواب عن ما ذكر
اعلم يا هذا أنك اعترضت على نفسك بما يدل على كلال ذهنك وعدم حدسك لأنك أخللت بالسؤال وتحكمت في

الإنفصال أما إخلالك بالسؤال فأول ذلك أنك لحنت في هذا الفصل في ثمانية عشر موضعا وذلك بين عند من تأمل مكتوبك وثانية أنه كان ينبغي لك أن تقدم قبل هذا السؤال النظر في حد هذه الأقانيم وحقيقتها ثم في الدليل على وجودها فإن النظر في كون الشيء واحدا أو كثيرا إنما يصار إليه بعد معرفة حقيقته ومعرفة وجوده فإذا فرغت من ذلك نظرت فيها هل وجودها زائد على الذات أعنى ذات الفاعل أم هو عين الذات فإذا عرفت هذه المطالب كلها حينئذ كان يمكنك أن تنظر هل هي واحدة أم كثيرة أو هل ترجع إلى شيء أو يرجع إليها شيء لا بد لكل ناظر ينظر فيها نظرت أنت فيه أن تعرف قبله ما ذكرته بالبراهين القاطعة وإلا فكيف تتكلم في فرع لم يثبت عندك أصله ولو كنت في نظرك من المتفطنين لنظرت على الطريقة التي علمها لكم أغشتين
وأما تحكم في الإنفصال فإنما يتبين إذا حكيت كلامك وفهمت مرادك وذلك أنك وجهت على نفسك كان قائلا قال لك لم جعلت الأقانيم ثلاثة وأسماء الله تعالى أكثر من ذلك قانفصلت عن ذلك وقلت أسماء اللة تعالى وإن كانت كثيرة فإنما ترجع إلى هذه الثلاثة فقاهر وقوي وغلوب وما أشبهها راجع إلى القدرة وغفور ورحيم وما أشبههما راجع إلى الإرادة هذا مقتضى كلامك بعد التكرار والإكثار وهذا كله منك تحكم بما لم يقم لك عليه دليل ولا يشهد له من كلامك نظر ولا تعليل
وإلا فما الذي يدلك على أن أسماء مختلفة المفهومات والحقائق راجعة إلى معنى واحد وإن جاز أن ترد الأسماء المختلفة المفهومات إلى معنى واحد بالتحكم جاز أن تقضى بعكس ذلك وهو أن ترد الأسماء المترادفة على معنى واحد إلى معان مختلفة وذلك لا يقوله الغبي الجاهل بله الكيس الفاضل تقول على جهة السؤال وبه يظهر تحكمك في الإنفصال بم تنكر على من يزعم أن جميع صفات الكمال مثل القدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام والحياة والقدم والبقاء وغير ذلك من صفات الكمال والإستغناء هي أقانيم الموجودات وأصولها فإن الممكنات إنما يتبدل عدمها بوجودها بإيجاد موجد متصف بصفات الكمال ومنزه عن صفات النقص والإفتقار وإن اتصف بصفات النقص والإفتقار كان محتاجا إلى مزيل النقص

عنه ومن كان محتاجا كان ممكنا وكل ممكن فلابد أن يستند وجوبه إلى سبب واجب الوجود فحصل من هذا أن صفات الكمال والإستغناء كلها لا يصح إيجاد موجود محدث إلا ممن اتصف بمجموعها وأن من لم يتصف بها فلا يصح منه إيجاد موجود فإذن هي أصول الموجودات الممكنة فإذن هي أقانيم على قولك
وسيأتي مزيد كلام في الأقانيم ثم نقول إن قضيت برجوع هذه الأسماء بعضها إلى بعض مع تباين مفهوماتها واختلاف معانيها فلم لا تقضى برجوع الإرادة إلى العلم وبرجوع العلم إلى التجرد عن المادة كما زعمت الفلاسفة ولم لا تقضى برجوع القدرة إلى الوجود كما قد ذهب إليه طوائف من النصارى المتقدمين فقد كان طوائف منهم لا يعدون القدرة أقنوما وكانوا يردونها إلى الوجود وكانوا يردون الإرادة للحياة فالأقانيم عندهم الوجود والعلم والحياة وسيأتي حكاية مذهبهم إن شاء الله تعالى
وهذا كله يدل على أنكم في عقائدكم متحكمون لا ترجعون فيها إلى أصل عليه تعولون
وأما سؤالك الثاني الذي وجهت على نفسك فوارد عليك ولازم لك ولم تنفصل عنه على أنك أخللت به فإن الذي يعترض به عليك أكثر من قديم وحي اذ قد يرد عليك الوجود فان اصل الاقانيم ةالسمع والبصر فإن لا يصح رجوعها بحال إلى العلم فإن العلم لا ينوب عن الإدراك فأنا بالضرورة نعلم الفرق بين العلم بالصوت وسماع الصوت وبين العلم بالمرئى ورؤية المرئى مثال ذلك أنا نعلم معلوما على غاية ما يمكن من العلم ثم إذا رأيناه حصل لنا بالضرورة مزيد وضوح ومزيد بينة على العلم به وكذلك في المسموع فذلك المزيد وتلك المزيد أما أن نقول أن الله تبارك وتعالى مدرك لها أو ليس مدركا لها فإن لم يدركها فقد فاته بعض المزايا ولم يحصل له ذلك الوضوح فيكون من يدركها وحصلت له أكمل ممن لم تحصل له فيؤدي إلى أن يكون المخلوق أكمل من الخالق والمصنوع أشرف وأتم من الصانع وذلك محال وإن كان مدركا لها فبذلك الإدراك يسمى بصيرا سمعيا وهو زائد على العلم فإن العلم لا يغنى عنه كما تقدم ولسنا تشترط فيها بنية مخصوصة ولا جارحة ولا

اتصال أشعة بل تنزه الله تعالى عن كل ما يوهم النقص القصور في حقه وهذا كما أنا لم نشترط في كونه تعالى عالما قلبا ولا دماغا ولا في كونه قادرا بنية ولا آلة بل السمع والبصر ادراكان أعنى صفتين متعلقتين بالمسموعات والمبصرات على ما يعرف في موضعه فإذا تبين أنهما لا يرجعان إلى العلم فعدوهما أقنومين زائدين على ما ذكرتم وهذا ما لا محيص عنه و لا جواب عليه
وأما قولك وكل اسم للذات إنما يؤدي معنى واحدا لنفى ضده فكلام من لم يحنكه الإعتبار ولا عرف اصطلاح النظار وذلك أنك أطلقت صفات الذات وصفات الأفعال على ما لم يطلقه عليه النظار ولا أستعمله في نظره أحد من علماء الأمصار
ونحن نذكر اصطلاح النظار المعتبرين في صفة النظر والأفكار في إطلاق هذه الأسماء ليتبين للواقف على هذا الكتاب أنك لم تعرف شيئا من اصطلاحاتهم ولاحطت على شيء من مفهوماتهم
قالوا إنما تطلق الأسماء بحسب المسميات والمسميات إما ذات أو أمر زائد على الذات فالذي يدل من الأسماء على الذات هو الذي يقال عليه اسم ذات مثال قولنا إنسان وملك ومن أسمائه تبارك وتعال الله والحق وأما الذي يدل على أمر زائد على الذات فذلك الأمر إما أن يكون نفى شيء عن الذات أو ثبوت شيء للذات فالذي يدل على نفي شيء عن الذات هو الذي يقال عليه اسم سلب مثال ذلك فقير وسالم ومن أسمائه تبارك وتعالى القدوس والسلام فإنها تدل على البراءة من العيوب وعلى نفيها وأما الذي يدل على ثبوت شيء للذات فذلك الثابت إما أن يقوم بالذات أو لا يقوم بها فالذي يقوم بالذات هو الذي يقال عليه اسم صفة ومثال ذلك عالم وقادر وسميع وبصير فإن هذه صفات زائدة على الذات وأما الزائد على الذات الذي لا يقوم بها فهو الذي يقال عليه إسم الفعل وقد يقال عليه اسم الإضافة مثل خالق ورازق وما أشبه ذلك
فحصل من التقسيم أن الأسماء على أربعة أضرب أسماء ذات وأسماء صفات وأسماء سلوب وأسماء أفعال وقد يقال عليها

المعتبرين فإن كنت اصطلحت مع نفسك على غير ما تعارفه النظار خلست على شيء مما كان عليه العلماء والأحبار فتكلم باصطلاحك مع نفسك ولا تخاطب به أحدا من أبناء جنسك ولا يظن ظان أن هذا السائل اراد بأسماء الأفعال الأسماء التي لا يوجد الفعل إلا بها مثل العلم والقدرة والإرادة فإنه قد جعل من أسماء الأفعال مالا يوجد به فعل كسميع وبصير وغيرهما مما ذكر وفيما أحسب أنه أراد هذا المعنى ولم تساعده العبارة فعنى وعنى
وأما قولك حي لنفى ميت ورب لنفى مربوب وإله لنفى مألوه فكلام مجنون معتوه فإنه إن جاز أن يكون حيا من أسماء السلوب والنفى فما المانع من أن يكون العلم من أسماء السلوب فإنه ممكن أن يقال عالم لنفى جاهل ومريد لنفى كاره وقادر لنفى عاجز وهكذا يجري في جميع الصفات والأسماء التي لها نقائض وذلك يؤدي إلى جهالات وجحد المعقولات وأيضا فإن كانت الحياة سلبا فيستحيل أن تكون شرطا للعلم والقدرة والإرادة وغيرها وكونها شرطا لهذه الصفات معلوم بالضرورة والنفى لا يكون شرطا ولا مشروطا في مثل ما نحن فيه
ثم نقول قولك هذا مخالف لما تقوله أقستكم هذا صاحب كتاب الحروف يقول الباري تعالى لم يزل حيا بروحه وناطقا بكلمته فمهما قلت لم يزل حيا ولم يزل ناطقا أوجبت في نطقك لحياته ونطقه الأزلية وهذا منه تصريح بأن الحياة ليست ترجع إلى نفى الموت ثم قال بعد ذلك بكلام وروحه أعنى حياته أقنوم خاص كامل لم يزل وسيأتي الكلام معه في هذا إن شاء الله تعالى
وأما قولك رب لنفى مربوب فقول مختلط عقله مغلوب فإن الرب معناه الملك فهو من أسماء الإضافة والأفعال وأما الإله فهو من الآلهة وهي العبادة فهو مألوه أي معبود آلهة عبادة فهو من أسماء الأفعال والإضافة
وأما قولك وكما أنا قد فهمنا أن نفس الإنسان لا يقوم لها فعل إلا عن ثلاثة كذلك فهمنا عن خالقنا أن تدبيره بنا عن ثلاثة فقول يدل على سوء نظرك وقلة تثبتك وذلك أن مفهوم ما ذكرته في هذا

الفصل على تثبيجه وسوء ترتيبه هو أنك قلت إن الإنسان لا يتأتى منه فعل حتى يكون قادرا عالما مريدا فإن نقصه منها واحد لم يصح إيجاد الفعل منه فكذلك خالقنا سبحانه وتعالى هو قادر عالم مريد ولو نقصه منها واحد لم يصح منه إيجاد فعل كالإنسان هذا مفهوم كلامك على كثرته
وهذا كلام فاسد لأنه قياس الغائب على الشاهد إذ هو قياس خال عن الجامع وأيضا فلو كان هنالك جامع لكان باطلا فإنه قياس جزئي على جزئى وذلك إنما هو صالح للظنيات لا للعمليات ولو جاز قياس الباري سبحانه على خلقه للزم ألا يكون قادرا حتى يكون ذا آلة وعصب ويد الجارحة فإن الواحد منا لا يكون قادرا حتى يكون كذلك وكذلك كان يلزم ألا يكون عالما حتى يكون ذا قلب ودماغ إلى غير ذلك من المحالات ويلزمك على مساق قولك أن يكون الباري تعلى جسما فانك كما لم ترى موجدا ولا فاعل لفعل الا قادرا عالما مريدا كذلك لم ترد فاعلا ولا موجدا إلا جسما وهذه جهالات لازمة على قولك ومنتجة عن صمم جهلك فلا تنتفع بهذا الكلام حتى تسبره على محك النظار الأعلام ولو تتبعنا خطاك في هذا الفصل لطال الكلام ولكثر عليك التوبيخ والملام لكنا نكل الناظر فيه للوقوف على فساد معانيه

الفصل الرابع
دليل التثليث
في حكاية كلامه أيضا
قال
فإن سأل سائل من المخالفين فقال فما الدليل على صدق ما تدعون من تثليث وحدانية الخالق وكيف يمكن أن تكون الثلاثة واحدا والواحد ثلاثة مع ما ابتدأتم به من القول وإثباتكم إياه فردا لم يزل
قلنا لهم أما أن تكون الثلاثة واحدا والواحد ثلاثة فلذلك لعمرى مالا يمكن كونه ولكن نقول أن جوهرا قديما لم يزل موجودا بثلاث خواص أزليات جوهرات غير متباينات ولا متفرقات في الجوهر القديم الأزلي اليذي لا يتبعض ولا يتجزأ بعينه وكماله فلا هو ثلاثة وجميع الثلاثة خواص هي بمعنى ما هو واحد ولا هو واحد بمعنى ما هو ثلاثة أعنى ليس هو خاصة واحدة بل ثلاثة خواص فهذا مذهبنا في تثليث وحدانية الخالق
الجواب عنه
هذا السؤال الذي وجهت على نفسك وارد عليك ولازم لك وأما انفصالك عنه فمخرجك عن ملة النصرانية ولا يبقى عليك منها بقية وذلك أن مرادك من هذا الجواب أنك قلت كلاما معناه أن كون الواحد ثلاثة والثلاثة واحدا غير جائز عقلا ولكن معنى التثليث أن الله تعالى جوهر قديم لم يزل موصوفا بثلاث خواص أوليات فهو واحد بمجموع الأقانيم وثلاثة بتفريق الأقانيم وتلك الأقانيم لا تفارق وجوده ولا تباينه ولا يمكن أن يحمل كلامك إلا على هذا وإن حمل على غيره فهو بعيد وغيره مفيد
وهذا الذي ذكرته لا يسأله لك أكثر النصارى بل يتبرأون عنه ولا يرضون بشيء منه إذ نصارى قبلك أكثرهم متفقون على أن الأقانيم الثلاثة آلهة وأنها إله واحد فأنت تقول هي خواص وهم يقولون آلهة فأي شيء يجمع بين الخاصية والإلهية وبينهما ما بين السماء

والأرض والرفع والخفض وسيتضح ذلك اذا نقلنا مذاهبهم في ذلك ان شاء اللة تعالى ثم نقول لهم لأي شيء تحكمتم بتسمية خالقكم جوهرا وفي أي موضع كتب الأنبياء وجدتم الأمر بذلك أو على لسان من بلغكم الأمر به ولا تجدون لإثبات الأمر بذلك سبيلا غير التحكم ولو كنتم ممن يستحى من الله لما تحكمتم عليه بأن سميتموه بما لم يسم به نفسه ولو أن واحد منكم سمى له ولد بغير أمره لأنف من ذلك وعظيم عليه ولوبخ المسمى لأنه تصرف فيما لا ينبغي له هذا إذا كان الإسم مما يفهم منه المدح فما ظنك لو سمى بلقب يفهم منه النقص والعيب ولفظ الجوهر في المتعارف عند النظار وغيرهم يطلقونه على المتحيز وهو الجرم الشاغل قدرا من المساحة ولا بد له من الحركة والسكون وهما دليلا تغيره وحدوثه فإن أردت به معنى آخر فلا بد من بيانه إذا لم تتكلم بما تكلم به أرباب النظر المذللول سبل العبر

الفصل الخامس
في بيان اختلافهم في الأقانيم
نبين في هذا الفصل مذاهب أوائلهم ونتكلم معهم فيها ونوضح مسائلهم فيها إن شاء الله تعالى ونحكى مذاهبهم بألفاظهم كما وجدتها في كتبهم ولم أعول في ذلك على نقل علمائنا عنهم فقط بل تتبعت ما أمكنني من كتبهم والله الموفق
قالوا
لما أفهمتنا الشواهد العقلية أن الخالق لم يزل حيا ولم يزل ناطقا قلنا فهل يحق أن يكون هو بحياته ونطقه شخصا واحدا جامعا لأجزاء مختلفة كما يقال في حد الإنسان أنه حيوان ناطق مائت إذ تسمى أجزاء جوهره مع أعراضه المختلفة فيه أقنوما واحدا شخصا واحدا ولا يسمى كل جزء وكل عرض منها أقنوما أنسيا وذلك لأن اسم الأقنوم واجب للشيء المستغنى بذاته القائم بشخصه لالذي الإضطرار ولالذي الإشتباك كالأعراض فإن الأجزاء والأعراض لا تقوم مكتفية بذواتها كما أن حر النار الذي هو جزء من قوى النار لا يقوم بذاته أقنوما منفردا دون أصلية النار وضوئها وكذلك الأعراض المشتبكة في الجوهر كالسواد والبياض وما أشب 4 ههما لا تقوم أشخاصها مكتفية بذواتها دون الجوهر اللازم لها فالأقنوم هو المستغنى بذاته عن أصل جوهريته كالإنسان المستغنى بخاصية إنسانه عن الناس والشجرة عن الأشجار والدينار عن الدنانير فامتناع أجزاء الإنسان من القيام أشخاصا لاضطرارها وعجزها عن القيام بذواتها كروحه العاجزة عن القيام بتحديدها إنسانا دون جسمه ونطقه وكذلك نطفة وجسمه يعجز كل واحد منهما عن القيام بتحديده إنسانا دون روحه وذلك لاضطرار كل جزء منها إلى صاحبه في القيام بإنسانيته
فإذا تقرر هذا فحياة الله ونطقه لا يخلو من أن يكونا جزأين من جوهره كما هو من الإنسان أو غير جوهرة فان قلنا هما جزءان من الجوهره ألزمنا ما يلزم الإنسان من الإضطرار والتأليف لأنا وجدنا

أجزاء الإنسان لاضطرار بعضها إلى بعض تقصر عن إحتمال أسماء الأقانيم وهذا يستحيل على الجوهر الأزلي إذ هو و متعالى عن الأجزاء والتأليف والتركيب والأعراض فأوجبوا أن تكون خواصه لغنائه وكمالها تسمى أقانيم قائمة بخواصها ومستحقة الذي توصف به بجوهرية قديمة كقدمه لا جزأين مركبين ولا عرضين منفصلين لأنه لم يزل حيا وناطقا بكلمته
ومن زعم أن الحياة من الله والنطق منه محدثان وصف الله تعالى في أزليته بالموت والجهل وإن قلنا حياته ونطقه غير جوهره أزليان فقد أشركنا مع الله في أزليته غيره فلذلك يسمى كل واحد من الروح والكلمة جوهرية خاصة فوجب أن يكون جوهر الخالق تعالى أقنوما خاصا قائما كاملا بخاصيه لم يزل ونطقه الذي هو كلمته أقنوما خاصا كاملا قائما بخاصية لم تزل وروحه أعنى حياته أقنوما خاصا كاملا بخاصة لم يزل فهذه ثلاثة أقانيم معروفة بمعانيها لا متفاصلة ولا متركبة ولا متشابكة جوهر واحد ذات واحدة
هذا كلام صاحب الحروف وهو عندهم القسيس المعروف ولقد رام تحسين مذهبهم وتبيين مطلبهم ولكن لا يستوي الظل والعود أعوج ولا يصلح المذهب وقائله أهوج ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر ...
وهم مع ذلك فيما ذكرناه من الأقانيم مختلفون وبالحيرة عمهون
هذا صاحب كتاب المسائل يقول هذه الثلاثة الأقانيم متوحدة لأجل الآب متساوية لأجل الإبن منتظمة الروح فنؤمن أن الأب أب لأجل أنه ذو ابن والإبن ابن لأنه ذو أب والروح القدس منبثق لأنه من الآب والإبن فالأب أصلية الإلهية لأنه كما لا يخلو قط أن يكون إلها كذلك لم يخلو قط أن يكون أبا الذي الإبن منه مولود والذي الروح القدس منه ليس مولودا لأنه ليس ابنا ولا غير مولود لأنه ليس مخلوقا لأنه ليس من شيء بل إله منبثق من الآب والإبن إله

وأقنوم الآب غير أقنوم الإبن وأقنوم الإبن غير أقنوم الروح القدس لكن التثليث المقدس ذات واحدة إلهية واحدة وهذا تصريح بأن الأقانيم آلهة وإن كان واحد منها غير الآخر
وقد ذهب شباليش إلى أن الثلاثة الأقانيم ممتزجة في أقنوم واحد وهو عند كثير منهم مكفرا وكالمكفر وقد ذهب آريش إلى أنه إلهية الأقانيم منخزلة ومتبعضة الذات وهو عندهم مفتر خارجي
وقال صاحب كتاب المسائل لسنا نؤمن أن في التثليث شيئا مخلوقا أو خادما كالذي أنشأه دنونيشيش أو غير معتزل كقول أونوميش أو ناقص الإمتنان كقول أوتفش أو مقدما أو مؤخرا أو صغيرا كقول آريش ولا ذا جسد كقول مالطه وترتليان ولا مصورا بالحيدية كقول أربد ونمرشيش أو محجوبا بعضه عن بعض كقول أوريان ولا مربيا من المخلوقات كقول فرشاط ولا متفرق الإدارة والعوائد كقول مرحيون ولا منقلبا من ذات التثليث إلى طبيعة المخلوقات كقول فلاطون و ترتلليان ولا منفردا في رتبة مشتركا في أخرى كقول أوريان ولا ممتزجا كقول شباليش بدل كله كامل لأنه كله واحد ومن واحد لا تعدد كزعم شلبانش
وإذا وفقت على هذه الأقاويل الضعيفة والآراء السخيفة لم تشك في تخبطهم في عقائدهم وحيرتهم في مقاصدهم قالوا في الله تبارك وتعالى بآرائهم واتبعوا فيها ظاهر أهوائهم فهم في ريبهم يترددون ولجهالهم مقلدون وبضلالهم مقتدرون
ولما رأينا هذه المذاهب الركيكة لا تستحق أن تحكى بل يضحك من ذهاب عقول أربابها ويبكي أعرضت عنها أعراض المطلع على عوره أمام من يخاف جوره فعزمت على نقل مذهب كبيرهم أغشتين فإن مذهبه في الأقانيم مقارب في الصفات مذهب المسلمين
وذلك أنه قال بعد مقدمة كلام يرجع حاصله إلى ما نذكره

لما أقر علماء المجوس بالقوة الماسكة لكل شيء وأراد بعضهم أن ينزلوها جوهرا غير حي ولا مستغن بنفسه وجب علينا أن نحتج عليهم بما يضمهم إلى الإقرار بأن تلك القدرة ذات علم وإرادة
قال وقد رد علينا هذه المقالة برفيريش فقال لا نقول أنه شيء فيكون قد سميناه بالإشياء التي لا تسلم من عيب ولكنا نقول إنه ولا نقول شيء ثم قال ألستم تقرأون أن الذي قدر هو الذي علم وأن الذي علم هو الذي أراد فهو واحد في جميع المعاني وإنما القدرة والعلم والإرادة أسماء صارت فيما بين الخلق والمخلوق وليست لا خالقة ولا مخلوقة لأنه لو لم يكن الشيء المقدور لم يسم ذا قدرة ولو لم يكن الشيء المعلوم لم يسم ذا علم وكذلك القول في الإرادة فهذه الأسماء إنما هي أعراض وأسماء فيما بينه وبين الخلق مثل قولنا ذو رحمة وذو حكم وذو عقاب فلو لم يكن الخلق المرحوم لم يلزمه اسم الرحمة وكذلك غيرها
قال أغشتين في جوابه عن قوله لا نقول أن لكل شيء عقيب وما لم يكن له عقيب فليس بشيء لأن عقيب شيء لا شيء وإذا كان إنما ينفى عنه اسم شيء لأن الأشياء كلها له فمثل ذلك يجب عليه في قوله أن أو قوله كان مع أنا لا نعرف شيئا نقول فيه أن إلا بعد معرفتنا إياه شيئا وحسبنا في هذا قولنا شيء ليس كشيء من جميع الأشياء
قال وأما قوله أن القدرة والعلم إنما هي أعراض لزمنه فيما بينه وبين الخلق وأنها مثل الرحمة والحكم فأنا نحتج عليه في ذلك بأن نقول لست تنكر أنه كان قبل الأشياء ودون الأشياء بلا إبتداء فهل تقدر أن تجحد أنه كان أبدا قادرا فإذا أقررت أنه لم يزل قادرا فقد أقررت أن القدرة صفة أزلية فإن قلت أنه لا يجوز أن يسمى قبل أن يكون الشيء المقدور عليه وإنما يسمى قادرا بعد كون الشيء المقدور علينا قلنا أفكان يقدر على أن يقدر أم لا فلا بد لك من أن تقول كان يقدر على أن يقدر أم لا فلا بد لك من أن تقول كان يقدر فيلزمك وصفه بالقدرة على كل حال

وكذلك قولنا في العلم والإرادة وقولك يرحم ويغفر ويحكم ليس مثل قولنا يقدر ويعلم ويريد لأنك لا تقول كان أبدا يرحم وكان أبدا يخلق ولا بد من أن تقول كان أبدا يقدر وكان أبدا يعلم وكان أبدا يريد
ثم قال بعد كلامه مع الفلاسفة فنحن ما لم نصفه بالعلم والإرادة لم نصفه بمدبر ولا حي
ثم قال إن قلنا عرفناه بوحدانيته وعلمناه بذاته من غير نظرنا إلى فعله الدال على قدرته وعلمه وإرادته فقد كذبنا لأنه لا يقدر أحد أن يقول أنه وقع على معرفته إلا بما نظر إليه من خلقه وتفكر فيه من حكمه وبمعرفته بنفسه وكل هذا إقرار بالثلاثة الأقانيم التي ذكرنا لأنا لما وجدنا الخلق الذي لم يقدر أن يكون بنفسه وجب الإقرار بالشيء الذي قدر أن يكون وهي القدرة التي سماها علماء المجوس الهيول ثم لما نظرنا إلى تدبير الخلق وجب الإقرار بالعلم والإرادة لأن التدبير لا يكون إلا ممن يعلم ويريد فثلاثتها إسم لإله واحد ونعت لمدبر فرد ولا تجد هي غيره ولا يجد هو غيرها فهذا قولنا في التثليث الذي وصفه الإنجيل وأمر بالإيمان به وسماه باللسان العجمي الآب والإبن والروح القدس
فهذا كلام هذا القس والنصارى يعترفون بأنه أعرفهم بدينهم وأعلمهم بشرعهم ويقينهم ينص على أن الأقانيم الثلاثة صفات ونعوت للواحد الفرد ولا يقال فيها أنها هو ولا هي غيره وهو لعمرى من المسددين في هذا النظر إذ قد سلك مناهج البحث والعبر ولقد قارب الحنيفية وتباعد عن الملة النصرانية إلا أننا ننازعه نزاعين أحدهما في تسمية هذه الصفات الآب والإبن والروح القدس على ما تقرر وهذا نزاع لفظي ليس بكبير ولا له حظ خطير والنزاع الثاني في أنه قصر الأقانيم على هذه الثلاثة ولم يعد الحياة فيها كما فعل غيره منهم وكذلك الوجود الموصوف بهذه الصفات لم يعده أقنوما وقد صرح بأنها صفات ولا بد للصفات من موصوف بها

وسنعطف عليه بالرد إذا تكلمنا مع غيره إن شاء الله تعالى ومع هذا فقد سلك هذا الرجل مسلك أرباب العقول وتبرأ من جهالة كل جهول وإذا كان كذلك فسبيلنا أن نتكلم مع الذي صدرنا هذا الفصل بذكر كلامه فإنه كثير الفساد مضرب عن الرشاد ويتضمن الرد عليه الرد على غيره ممن يقول مثل قوله أو ما يقاربه مستعينين بالله متوكلين عليه
الجواب عن ما ذكره المصدر كلامه
لتعلم أيها الناظر في كتابنا أننا يمكننا أن نناقش هذا القائل كما ناقشنا السائل فإن كلامه كثير الغلط ظاهر التكلف والشطط لكنا تركنا مناقشته اللفظية وصرفنا المناقشة للمباحثة المعنوية كراهة للإكثار وميلا للإيجاز والإختصار وأيضا فإن نفس الله في العمر وصرف عنا عوائق الدهر فسنرد عليه في كتاب مفرد إن شاء الله تعالى أبين فيه غلطاته وأوضح جهالاته وسقطاته بحول الله وقوته
فنقول له لا يشك عاقل سليم الفطرة أن خالق العالم موجود ليس بمعدوم وقد اعترفتم بأنه حي عالم ومن لم يعترف بذلك أقيمت عليه البراهين القاطعة فإذا تقرر ذلك قلنا فمفهوم أنه حي هو عين مفهوم أنه عالم أو غيره فإن كان عينه فقولكم حي عالم كقولكم حي حي أو عالم عالم والفرق ما بينهما معلوم ضرورة ولو كان عينه لاختلطت الحقائق فثبت أنهما متغايران متعددان فإذا ثبت ذلك فأما أن يرجعا إلى الخالق سبحانه وتعالى في قولكم أنه حي عالم أو لا يرجعان فإن لم يرجعا لم يصح الإخبار عنه بهما ولم يكونا وصفين له فثبت أنهما يرجعان إليه وإذا ثبت ذلك فأما أن يكونا من أوصافه تعالى النفسية أعنى الذاتية فإن كانا من أوصافه النفسية أدى ذلك إلى أن يكون ذاته وماهيته متركبة متبعضة وذلك محال على ما قررتم فيما تقدم من كلامكم
وأيضا لو عقل كون العلم والحياة من الأوصاف النفسية في محل عقل ذلك في كل محل ويلزم من ذلك كون العلم والحياة من صفات أنفسنا وذلك معلوم البطلان بالضرورة

وأيضا فلو جاز ذلك للزم أن يكون العلم والحياة قائمين بأنفسهما أعنى موصوفين لأن جزء القائم بنفسه قائم بنفسه وقد ثبت بالأدلة القاطعة أن الباري تعالى قائم بنفسه والمعقول من العلم والحياة أنهما صفتان لا موصوفان فإذا تقرر ذلك وثبت لزم منه أنهما زائدان على النفس فإذ ثبت ذلك فأما أن يقوما به أو لا يقوما به فإن لم يقوما به لم يتصف بهما ولو جاز أن يتصف فيما لا يقوم به لجاز ذلك في حقنا فكان يلزم عليه أن يكون علم زيد يتصف به عمرو وذلك محال ضرورة فدل ذلك على أنهما قائمان به فإذا قاما به وهما وجودان زائدان على الذات حصل من ذلك كله أن ذاته واحدة لا تركيب فيها ولا تعدد وأن صفاته الزائدة هي المتعددة وهذا لا إحالة فيه بل هو الحق الذي لا غبار عليه ولا بد لكل ناظر من الرجوع وأن تخبط إليه فهكذا ينبغي أن تفيهم صفات الباري تبارك وتعالى وتقدس وتنزه عما يقول الجاحدون والكافرون علوا كبيرا
وهذه الطريقة البرهانية تجرى في كل صفة يدعى ثبوتها للباري تعالى وبعد الإنتهاء إلى هذا المحل ينظر هل أوصافه أزلية أم ليست أزلية والحق أنها أزلية ولا محرز أن يكون شيء منها حادثا إذ لو كان شيء من صفاته حادثا للزم عليه أن يكون محلا للحوادث ويلزم على ذلك حدوثه تعالى وهو محال على ما يعرف في موضعه فإذا تمهد هذا الأصل قلنا بعده للمتكلم معه الأقانيم عندكم لا تخلو من أن ترجع إما إلى صفاته النفسية أو إلى صفاته المعنوية أعنى الزائدة على النفس ولا واسطة بين القسمين فإن رددتموها إلى القسم الأول لزمكم ما تقدم من المحالات حذو النعل بالنعل وإن رددتموها إلى القسم الآخر فلأي معنى قلتم في حد الأقنوم أنه الشيء المستغنى بذاته عن أصل جوهره في إقامة خاصة جوهريته وهل المفهوم من هذا إلا أنه صفة نفس لأن المستغنى بذاته عن أصل جوهره هو الذي نعبر نحن عنه بالقائم بنفسه ويعبر عنه غيرنا من النظار بالموجود لا في موضوع
وأيضا إن كان أراد هذا القائل أن الأقنوم هو الصفة الزائدة على الذات فيلزمه أن يجعل الأعراض أقانيم فإنها زائدة على الذات

ومن عجيب أمره أنه ألزم من قال إن العلم والحياة غير الجوهر الإشراك به وأي إشراك يلزم من قال إن صفات المعاني زائدة على ذات الموصوف بها وكيف يمكن أن يقول عاقل إن الصفة الزائدة على الجوهر أنها عين الجوهر وهل قائل هذا إلا جاهل أو متجاهل
فتحصل من هذا كله أن الأقانيم لا يصح عندهم أن تقال على الصفات النفسية ولا على الصفات المعنوية ولا يعقل هنالك أمر آخر متوسط بينهما فقولهم في الأقانيم غير معقول فكأنه قول مجنون مخبول
ثم نقول لهذا القائل لأي شيء لم تجعل القدرة من الأقانيم كما ذهب إليه مقدمكم الأقدم وأسقفكم الأزعم أغشتين فتكون الأقانيم أربعة فإن قال إن القدرة ترجع إلى الوجود كما صرح بذلك بعضهم فنقول لمن يقول ذلك ولم ذلك وهل لا يرجع العلم والحياة إلى الوجود وما الفصل بينهما إلا محض التحكم
وكذلك القول في الإرادة ترجع إلى الحياة
قيل له إن صح ذلك فليرجع إليها العلم وإن جاز شيء من ذلك فلترجع كل واحدة من هذه الصفات إلى الأخرى ويرجع الكل إلى الموجود والوجود هو نفس الذات فترجع الأقانيم الثلاثة إلى واحد وهو محال على ما تقدم لكم وعليكم ويكون هذا أيضا قولا بإمتزاج الثلاثة الأقانيم في أقنوم واحد كقول الخارجي الجاهل شباليش وأنتم لا ترضون شيئا من قوله ولا مذهبه
ثم نقول لأي شيء تحكمتم بأن الأقانيم ثلاثة وهلا أضفتم إليها القدرة والعلم والسمع والبصر كما تقدم الكلام عليه أو لعلها اثنان وعدم انتصارهم يدل على ضعف أنصارهم ولا حجة لهم في هذه المواطن كلها أكثر من التحكم فينبغي إذن أن يتكلم معهم على جهة المناقضة والتهكم وغايتهم في ذلك أن يرجعوا إلى الإستقراء والتمثيل وهما في المعتقدات طريقا الخطأ والتضليل
ثم نقول هذه الأقانيم الثلاثة قد قلتم أن كل واحد منها مستغن بذاته عن أصل جوهره وإذا كان ذلك فأما أن يكون كل واحد منها

إلها أو جزء إله أو يكون مجموعها إلها واحدا فإن كان جزء إله لزم عليه أن يكون الإله متركبا متبعضا ويلزمكم على ذلك إبطال التثليث الذي تقولون به ويلزمكم على ذلك الإمتزاج الذي ذهب إليه شباليش وإن كان كل واحد منها إلها بإنفراده لزمكم على ذلك أمور كثيرة مشينة باطلة منها أن يكون كل واحد من هذه الأقانيم حيا عالما مريدا قادرا موصوفا بصفات الكمال إذ الإله هو الموصوف بصفات الكمال المتعالى عن صفات النقص فإذا التزم ذلك ملتزم لزم عليه أن تقوم الصفة بالصفة وإن جاز ذلك جاز أن يقوم العلم والقدرة بالإرادة والإرادة والقدرة بالعلم والقدرة والعلم بالحركة والحركة والقدرة والعلم باللون إلى غير ذلك من أنواع الجهالات التي لا يبوء بها عاقل ولا يرضى بسماعها فاضل وإن جاز قيام الصفة بالصفة جاز أن يقوم بالصفة صفة وبتلك الصفة صفة ويتسلسل وما يتسلسل لم يتحصل ويلزم عليه أن تكون الأقانيم لا نهاية لها إذ العلم يقوم به حياة وتلك الحياة حية بحياة إلى غير آخر ومنها أن تكون القدرة قادرة بقدرة والعلم عالم بعلم والحياة حية بحياة إلى غير ذلك من الصفات وهذا غير معقول فإن العلم والقدرة وسائرصفات المعاني إنما توجب أحكامها للمحال التي تقوم بها لا لأنفسها بالعلم لا يكون عالما ولا قادرا وكذلك القدرة لا تكون عالمة ولا قادرة وكذلك سائرها وإنما العالم والقادر والمريد والحي هو الذات الذي تقوم به هذه الصفات وهذا معلوم من غير أسباب ولا أطناب
ومنها أن يكون الإله صفة لموصوف فإن المفهوم المعقول من هذه الأقانيم أنها صفات لا موصوفات على ما تقدم إلى أمور كثيرة يطول الكلام بذكرها
ثم نرجع إلى بقية التقسيم فنقول وإن لم تكن هذا الأقانيم حية ولا عالمة ولا قادرة فلا تكون إلهية وقد أطبق النصارى على أنها آلهة ويلزمهم أن لم تكن الأقانيم موصوفة بهذه الصفات وصفها بأضدادها أو بالإنفكاك عنها إن لم يوصف بحياة وصفت بالإنفكاك عنها والمنفك عن الحياة ميت فيلزم عليه أن يقولوا بآلهة أموات وكذلك يلزم في سائر الصفات

وقد كع المصدر بكلامه عن هذا الإلزام وصعب عليه المرام فتكلم بما لا يعقل فليته سكت ولم يتقول وبعد الخبط والتأوه قال هذا ما لا يجوز لنا به التفوه ومن أراد أن يقضي العجب العجاب فليقف على ذلك الكتاب
وتلخيص ما ذكره في الإنفصال أن قال إن قلنا إن الأب ليس يحيا كذبنا وإن قلنا هو الحياة أبطلنا فإذا كان ليس حيا وليس بحياة وجب أن يكون حيا بلا محالة وكذلك قال في العلم والحياة
ومن أفضى به إلى هذا الهذيان بحثه ونزاعه فقد تعين تركه وإنقطاعه وحسبك في شر سماعه وذلك كله يدل على أنهم ليسوا من العقلاء ولا معدودين من جملة الفضلاء بل قد انخرطوا في سلك الحمقاء الجهلة الأغبياء فهم قد جعلوا إلههم هواهم فأضلهم لذلك وأرداهم فهم كما قال الله العظيم في محكم كتابه الكريم أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا
أما حكاية صاحب كتاب المسائل فكلام يدل على أن القوم ليس فيهم مستحي ولا عاقل كابروا الضرورات وجحدوا المعقولات تارة يتناقضون وأخرى يتواقحون إفتراء على الله وإستهانة بحرم الله وحسبك دليلا على ذلك إختلافهم في البديهيات هنالك وقد وكلت الناظر فيه لظهور تناقضه وفساد معانيه فإن غاية الناظر في كلامه أن يلزمه من المحال والتناقض مثل ما صرح بإلتزامه ومن أنكر الضروريات وارتكب المحالات فدار المرضى والمجانين أولى به وأليق من اشتغاله بالمعقولات

الباب الثاني
في بيان مذاهبهم في الإتحاد والحلول وإبطال قولهم فيها
أتحاد الكلمة
معنى الإتحاد
الواسطة بين الله وبين موسى
تجسد الواسطة
كلام المتقدمين
مذهب أغشتين إذ هو زعيم القسيسين
الفصل الأول
إتحاد الكلمة
في حكاية كلام هذا السائل
قال السائل
ثم نبدأ بالقول في الإتحاد فإن قلت فإذا كان التثليث عندكم أسماء أفعال لخواص قائمة والذات واحد لا ينقسم ولا يتبعض فلم بعضتموه دون الآب وروح القدس ولم سميتموه أبا وروح القدس
أعلم أنها لما تعارفت القضايا بالأفعال اختلفت أسماءها كما قدمنا فاختلفت قضية خلق الخليقة بيد إلى القدرة وسميت أبا وأضفت قضية الموعظة إلى العلم المتولد كلاما وسمى ابنا وانفردت قضية الوعظ باللحمة دون غيرها لأن المسيح إنما اتخذ في الدنيا للموعظة لا لخلق الخليقة لأن الله لو اتخذ جسما ليخلق به الخلق بيد يسمى الجسم أبا وأضفت اللحمة إلى الأب ولكنه إنما اتخذه لموعظة الخلق والوعظ مضاف إلى العلم المتولد كلاما فسمى إبنا فلذلك قال الإنجيل التحمت الكلمة وسكنت فينا فأفرد الكلمة بالإلتحام لأنها الواعظة بالأمر والنهى دون القدرة والإرادة فهذا أخصر شرح الإتحاد
الجواب عن كلامه
يا عجبا من بلادة صاحب هذا السؤال كيف لم يحسن إذ تثبج عليه المقال وكثر عليه اللحن والإختلال حتى أخل بمفهومه وعدل عن السؤال فصار كلامه لذلك كأنه كلام مجنون مخبول إذا تهذبن ولم يثبت فيما يقول وذلك أنه وجد على نفسه في كلامه هذا أسئلة انفصل بزعمه عن واحد منها وتغافل عن سائرها جهلا منه بورودها وحيدا عن جوابها

أحد الأسئلة أنه أراد أن يقول قد قلتم أن التثليث قد رردتموه إلى ثلاثة خواص لواحد لا يتبعض فلم بعضتم ما لم يتبعض وثانيها لم اتحد الإبن بالمسيح دون الآب وروح القدس وهذا تضمنه كلامه حيث قال دون الآب وروح القدس وثالثها لم سميتم المسيح إبنا ورابعها لم سميتم الله تعالى أبا وخامسها لم سميتم إرادة الله تعالى روح القدس
على أن ظاهر كلامه يدل على أن السؤالين الأخيرين إنما هما راجعان إلى المسيح ألا ترى أنه أعاد الضمير أعنى ضمير سميتموه عليه لكنه لم يرد هذا ويدل عليه أنه لم يسم أحد منهم المسيح أبا ولا روح القدس وإنما سموه إبنا فتارة يقولون عليه ابن الله وتارة ابن الإنسان وأما روح القدس فقد تقدم في اصطلاح هذا السائل أنه أراد به الإرادة ومن اصطلاح غيره أنه أراد به الحياة ولم يقل قط أحد منهم أن المسيح أتحدت به إرادة الله وحياته ولم يقل قط أحد منهم أن المسيح اتحدت به إرادة الله وحياته فلما وجه على نفسه هذه الأسئلة التي لم يشعر بوجه لزومها ولم ينفصل عن شيء منها أخذ بعد ذلك بزعمه يتفضل بكلام لا يلتئم ولا يتصل فأسهب في التكرار والترداد فصار كلامه لذلك أبرد من حديث معاد
ثم قال في الجواب ما كان قد فرغ منه ولقد كان يستغني عنه قد قدمنا أن الأقانيم الثلاثة إنما سميت بالإبن والآب وروح القدس لاختلاف القضايا الثلاث فأضيف الخلق إلى القدرة وسمى أبا وأضيفت الموعظة إلى العلم وسمى إبنا وهذا كلام مكرر مستغنى عنه في جواب ما سأل عنه إذ لاتعلق له به وإنما الكلام الذي يمكن أن يكون جوابا لبعض ما سأل عنه هو قوله إنفردت قضية الوعظ باللحمة دون غيرها لأن المسيح إنما اتخذ في الدنيا للموعظة وسكنت فينا لا لخلق الخليقة ولذلك قال الإنجيل التحمت الكلمة وسكنت فينا هذا مقتضى كلامه في الإنفصال 2 بعد تلفيق مبدد وتهذيب مثبج المقال ومع هذا فكلام هذا السائل لا يقبل التلفيق من صانع فإن الفتق اتسع على الراقع وبعد تقرير هذا نقول
قد تقدم جوابك عن أكثر هذا الفصل فيما تقدم حيث تكلمنا في الأقانيم وعلى أسماء الأفعال وعلى التثليث وعلى القضايا الثلاث بما أغنى عن إعادته فمن أراد أن يتحقق فساد هذا الكلام فليعد نظرا

فيما تقدم وإنما الكلام معك هنا على قولك إنما اتحدت بالمسيح الكلمة التي هي العلم لأن المسيح اتخذ للموعظة كيف يتمكن عاقل من أن يقول هذا الذي ذكرته وعيسى عليه السلام قد اتخذه الله تعالى لابراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وخلق الطير من الطين وهذه الأمور كلها لا يمكن أن تقع إلا بالقدرة والإرادة فقولوا أنهما اتحدتا به ولا فرق بينهما وبين العلم لولا محض الجهل والتحكم لاسيما وقد جاء في بعض كتبهم أن عيسى عليه السلام قال قدرته قدرتي ومشيئته مشيئتي أو قولوا أنه عليه السلام كان يفعل هذه الأمور الخارقة للعادة بغير قدرة فيلزمكم أن يفعلها بغير علم ثم يلزمك على مساق كلامك أن يكون كل من اتخذ للموعظة من الأنبياء والعلماء أن يتحد بلحمة الإبن
وأما قولك إن الله لو اتخذ جسما ليخلق به الخلق لسمى ذلك الجسم أبا فهو الزام مالا يلزم فإن الله تعالى قد اتخذ الأرض والماء والهواء والنار ليخلق بهم الخلوقات ولا يلزم من ذلك أن يكون أبا ولا أن يسمى أبا وهي أجسام
وأما قولك فلذلك قال الإنجيل التحمت الكلمة وسكنت فينا فلقد خالفت التنزيل وحرفت التأويل فهلا عليك سترت على مكرك ولم تلبس على نفسك وخصمك ولأي شيء لم تذكر الكلام من أوله وتسوقه على منازله أتظن أن المسلمين ليسوا بكتبكم عارفين ولا لتحريفكم وتلبيسكم منتهين تالله لقد فيهم من تعرف منها الحق الذي لا تعرفون ويتحقق منها الحق الذي لا تعرفون ويتحقق منها ما أنتم فيه تشكون ويعلم منها ما أنتم به جاهلون
ومن ذلك أن هذا الكلام الذي حكيته عن الإنجيل وسلكت به مسلك التجهيل هو في إنجيل يوحنا بن سبداي المصور بزعمكم بصورة عقاب يقول عن عيسى عليه السلام من يقبله منهم وآمن بإسمه أعطاهم سلطانا ليكونوا أولاد الله وهم الذين لم يتولدوا من دم ولا شهوة لحوم ولا شهوة رجل لكن توالدوا من

الله فالتحمت الكلم وسكنت فينا ورأينا عظمته كعظمة ولد الله الفرد المحشو رضوانا وصدقا
هذا مساق كلامه في الإنجيل وهذا الكلام لا يستدل على ما ذكرت ولا على غيره حتى يعلم أن عيسى عليه السلام هو الذي قاله وليس هو في الإنجيل مرفوعا إلى عيسى ولا مسندا إليه ولا مخبرا به عن الله تعالى وغايته إن صح أن يكون موقوفا على يوحنا ومن قوله وحاشا عن قول مثله ثم لو سلمنا ذلك فليس بمعصوم فإن العصمة إنما ثبتت للأنبياء أو لمن أخبر الأنبياء عنهم أنهم معصومون وهذا ليس بنبي ولا بلغ عن الأنبياء بطريق قاطع أنه معصوم وسيأتي الكلام على هذا في باب النبوات إن شاء الله تعالى
وبتقدير أنه معصوم فكتابكم قابل للتحريف والتغيير فإنه لم تكمل فيه شروط التواتر فإنه راجع إلى أخبار آحاد لا تفيد علما على ما نبينه وعلى التقريب إن أناجيلكم إنما هي أربعة عن أربعة كل واحد منهم لا يفيد خبره العلم بأنه خبر واحد ومع ذلك فلو أنهم تواردوا على نقل خبر واحد لكان نقلهم لا يفيد اليقين فإن الخبر الذي يحصل به العلم اليقين إنما هو المتواتر حقيقة الخبر المفيد للعلم بالمخبر عنه الذي تحيل العادة على ناقليه الغلط والتواطؤ على الكذب على ما يأتي إن شاء الله
وعلى تسليم أنه لا يقبل التغيير ولا التحريف فهذا الكلام ليس بنص قاطع بل هو محتمل للتأويل وتأويله معضود بسياقة اللفظ وذلك أن مساق هذا الكلام يقتضى أن كل من آمن بعيسى عليه السلام

فإنه توالد من الله والتحمت الكلمة به وسكنت فيه ولذلك قال ولكن توالدوا من الله فالتحمت بالكلمة وسكنت فينا
فإن كنت تريد أن تستدل بهذا اللفظ على أن الكلمة اتحدت بالمسيح خاصة فليس لك فيه دليل بل يدل ظاهره على أن كل من آمن به التحمت الكلمة به وسكنت فيه وهذا شيء لا تقولون به ولا يذهب إليه أحد منكم فهلا عليكم فهمتم كتابه وتدبرم خطابه ورددتم آخر الكلام على أوله حتى تعرفوا نصه من مؤوله على أنه لو كان نصا قاطعا لا يحتمل التأويل لما كان ينبغي لعقل أن يقول بمقتضاه فإن الإتحاد محال قطعا على ما يأتي إن شاء الله تعالى إذ تكلمنا على حقيقة الإتحاد والحلول
وأما قوله فأفرد الكلمة بالإلتحام لأنها الواعظة بالأمر والنهى فقول لم يقله الإنجيل ولا دل عليه ظاهر ولا تأويل وغاية ما في الإنجيل أن الكلمة التحمت وليس فيه لأنها الواعظة فمن عرفك أن الكلمة اتحدت لهذه العلة بل لعلها التحمت لعلة أخرى لم تعلمها أنت ولا غيرك لعلها التحمت لا لعة بل لنفسها وإنما نزلنا في هذا المحل على تسليم الإلتحام وإن كان باطلا بالبرهان ليتبين أن هذا المذهب هذيان
وأما قوله لأنها الواعظة بالأمر والنهى فقول من لا يعرف فرق ما بين الأمر والنهى والوعظ ولا حصل من الشرع ولا من العقل على حظ فإن الوعظ مخالف للأمر والنهى بحقيقته ومقصوده إذ قد يعظ الواعظ من غير أمر ولا نهى وينهى ويأمر ولا يعظ فهما أمران مفترقان غير متلازمين على ما يعرف في موضعه
وأما قوله فهذا أخصر شرح الإتحاد فالسين موضع الصاد أليق إذ الخسران إليه أقرب وبه ألزق لأنك أوهمت أنك شرحت وأوضحت واختصرت وأوجزت بل أخللت وطوت وبفائدة ما أتيت وكيف تصح لك هذه الدعوى وقد قلت كلاما لا فائدة له ولا جدوى دليل ذلك أنك اعترضت على نفسك بإعتراضات كثرة ثم إنك حدت عن الجواب ولم تأت بفصل خطاب بل أتيت بكلام يشهد عليك عند العقلاء بالبلادة وقله التحصيل وعدم الإجادة

وقد كان ينبغي لك أن تبين حققة الإتحاد والحلول وتبين فرق ما بين مذهب الروم فيه وبين ما به تقول وتبين الفرق بينه وبين الإختلاط والإمتزاج وبعد ذلك تستدل على صحة وقوعه وعلى اختصاص عيسى عليه السلام به دون غيره من الأنبياء فلو فعلت ذلك حينئذ كان ينبغي لك أن تدعي أنك شرحت وأوضحت وأما الآن فقد جهلت وافتضحت

الفصل الثاني
معنى الإتحاد
من حكاية كلامه أيضا
قال
فإن سأل سائل عن معنى الإتحاد قلنا نقول بذلك تقليدا للإنجيل والنبيين ورسل رب العالمين فيما نقلوا من ذلك وأعلموناه عمن الله وفيما نص لنا عنهم تصديق الأخبار الذي لا تكاذب فيها
فإن قلت وكيف يجوز أن يتوحد القديم بالحادث والخالق بالمخلوق قلنا على تقليد الكتاب وعلى الجائز في العقول وذلك أنا لا نقول إن القديم في الجوهر صار حادثا ولا الحادث في الجوهر صار قديما ولكنا نقول صار الحادث إلها ولا نقول صار الإله حادثا كما نقول صارت الفحمة نارا ولا نقول صارت النار فحمة
فإن قلت فما علة هذا الإتحاد قيل لك الإرادة وسائلك هذا كسائل يسأل فقال لم خلق الله العالم فمن الجواب له أن يقال له أراد ذلك فإن قلت أفهذا الإتحاد قديم أو حادث قيل لك قديم وحادث فإن قلت فكيف يكون قديما وحادثا قيل لك قديم بالقوة حادث بالفعل وكل عنده حاضر لأنه تبارك وتعالى لا تأخذه الأزمان ولا يعد الأشياء بالأعداد وكل عنده حاضر مقيم
الجواب عنه
هذا كلام تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع سأل فيه قائله عن حقيقة الإتحاد ومعناه فأجابه بالدليل عليه وما جرى مجراه ومن حق الإنفصال أن يكون مطابقا للسؤال فكان يلزمك لما سئلت عن معنى الإتحاد أن تجيب بحده وحقيقته ثم بعد ذلك تستدل على صحته ووجوده إن صح ذلك وأمكن الإستدلال هنالك

أما قولك في جواب من سألك عن الإتحاد وحقيقته نقول بذلك تقليدا للإنجيل والنبيين ورسل رب العالمين فكلام غير متين لا يصدر مثله عن عقل رصين
لتعلم يا هذا أن الأنبياء عليهم السلام صادقون مصدقون والصادق ما يخبر بصحة ما يعلم بالعقول فساده وإستحالته فإن الصادق لا يناقض قوله دليل العقل ولا يعارضه بل يصدقه ويشهد بصحته فلو فرضنا شخصا جاء بأمر معجز فيما يرى وادعى أنه أرسله الله لنا ليخبرنا أن الثلاثة واحد من حيث هي ثلاثة وأن الواحد ثلاثة من حيث أنه واحد وفهم ذلك منه بنص لا يقبل التأويل لبادر العقلاء إلى تكذيبه ولعلموا أن ما أظهره على جهة المعجزة إنما هي حيلة ومخرقة لأن المعجزة إنما هي دليل الصدق ولا يقلب دليل الصدق دليل الكذب
وكذلك لو قال إن الضدين يجتمعان بعد مراعاة شروط التضاد وكذلك لو أخبر أن الله تعالى يقلب جوهرا عرضا ولونا وطعما إلى غير ذلك من أنواع المحالات ومن هذا القبيل هو ما ادعيتم من الإتحاد وسيتبين إن شاء الله
وبعد هذا فلو فرضنا نبينا علمنا صدقه على القطع تكلم بشيء من هذا فيكون ذلك الكلام لا يدل على ذلك المعنى دلالة قاطعة بل دلالة محتملة أو ظاهرة فسبيلنا أن نتأول إن وجدنا وجها للتأويل أو نتوقف على تأويله إن لم نجد له محملا في التأويل مع أن العقل يعلم استحالة الظاهر ويكل معرفة باطنه إلى الله تعالى فإن الشرائع وإن لم تأت بما يخالف العقول فقد تأتي مما تقصر العقول عن دركه وفرق بين يعلمه العقلاء بين العلم بالإستحالة وبين عدم العلم بالإستحالة فإن عدم العلم بالإستحالة لا يلزم منه نفى الجواز ولا إثباته ولانفى الوجوب ولا إثباته وهذا مما لا خفاء به عند العقلاء
وأما قولك وعلى الجائز في العقول فينبغي لنا أن نسألك هنا أسئلة تبين أنك بما ادعيت جهول فنقول لك ما حد العقل أولا وما حد الجائز العقلي وما حقيقته وكم أقسامه وما حد الواجب

العقلي وكم أقسامه وما حد المحال العقلي وكم أقسامه فإذا فرغت من جواب هذه المسائل سألناك هل أحكام العقل تنحصر في هذه الثلاثة أم تزيد عليها أم تنقص عنها ولعمري ما ينبغي أن تتكلم مع من لا يعرفها وأعلم علىالقطع والثبات أنك لا تعرفها ولا قرأت على من يفهمها وإلا فالجواب وإن لم تجب وإلا فيظهر أنك من دينك على شك وإرتياب ثم نقول كيف يتجاسر عاقل أن يقول إن علم الله تعالى الذي هو صفته ولازم له وقديم أزلي حل في جسد إنسان حادث بعد أن لم يكن حالا فيه ومع أنه حل فيه فهو لم يفارق الله تعالى ولولا الله تعالى سلبكم عقولكم وإبتلاكم بظلمة التقليد الذي أفضى بكم إلى مكابرة العقول وإنكار البداية لما وجد مثل هذا المذهب مستقرا في قلب مجنون فأجرى في قلب غافل ولكن لله تعالى سر في أبعاد بعض العباد ومن يضلل الله فما له من هاد
وأما قولك إنا لا نقول أن القديم في الجوهر صار حادثا ولا الحادث في الجوهر صار قديما ولكنا نقول صار الحادث إلها فهذا القول منك يدل على أنك تقول بحلول الحادث في الجوهر وإتحاده به ولم يقل بهذا قط أحد من المخلوقات وهذا أشنع وأقبح وأمحل من إتحاد القديم بالحادث وحلوله فيه وهذا الذي ذكرت أنه يلزمك يدل عليه قولك ولا الحادث في الجوهر صار قديما فنفيت عن الحادث القدم وأبقيت عليه الحلول في الجواهر وهذا بين بنفسه من كلامك ثم هذا الذي فررت منه يلزمك وذلك أنا نقول هذا القديم الحال لا يخلو أن يكون حالا في ناسوت المسيح قبل خلق المسيح أو لم يكن فإن كان حالا فيه قبل خلقه كان محالا وباطلا بالضرورة فإنه قبل خلقه معدوم والموجود لا يحل في المعدوم وإن كان حلوله في ناسوته بعد خلقه فقبل خلقه لم يكن حالا فقد حدث له حلول وقد صار حالا بعد أن لم يكن حالا ويلزم على هذا أن تقوم الحوادث بالقديم وهو محال فإنه يؤدي إلى حدوثه على ما يعرفه أرباب النظر
وأما قولك صار الحادث إلها فكلام تشمئز منه النفوس

ويشهد لقائله بالويل والعكوس وكيف لا يستحي العاقل من مثل هذا الكلام الذي والله هو عار على الأنام وكيف يتصور أن يعقل الإلهية لمحدث مخلوق يحزن تارة ويفرح أخرى ويجوع تارة ويشبع أخرى ويتبول ويتغوط وتظفر به أعداؤه ويعذبونه بالضرب والإهانة والشوك والصلب والقتل بزعمكم وهو مع ذلك يقول اعبدوا الله ربي وربكم ويقول لكم إذا صليتم فقولوا يا أبانا السماوي تقدس اسمك وقرب ملكك ويقول إن الله وحده ولا إله إلا هو ويقول لإبليس إنما أمرت أن تعبد السيد إلهك وحده ويقول حين قرب رفعه وأعلمه الله به سيلقى ابن الإنسان ما كتب له يعنى نفسه ثم تقدم وسجد على الأرض ودعى أن يزاح عنه ما هو فيه وقال يا أبتاه إنك قادر على جميع الأشياء فرج عني هذه الكأس وقال في إنجيل لوقا يا أبتاه إن كانت هذه الكأس لا تقدر تجاوزني حتى أشربها فلتكن إرادتك

ومن اطلع على أناجيلكم علم على القطع أن عيسى عليه السلام برئ مما تدعونه به وتنسبونه إليه وستلقونه بين يدي الله في الوقت الذي يقول الله تبارك وتعالى يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخدوني وأمي إلهين من دون الله فيتبرأ من ذلك القول فيقول سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب علهيم وأنت على كل شيء شهيد
وقد جاءنا على لسان من دلت المعجزة بصدقه أن الله تعالى إذا حشر الخلائق في صعيد واحد يعنى يوم القيامة فيقال للنصارى ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد المسيح ابن الله فيقول لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبه ولا ولد ثم يقال لهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا
فالله الله أدرك بقية نفسك قبل حلول رمسك واستعمل سديد عقلك ولا تعول على تقليد فاسد نقلك واتبع الدين القويم دين الأب إبراهيم فما كان يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين
فالله يعلم أني أنظر إليك وإلى كافة خلق الله بعين الرحمة وأسأله هداية من ضل من هذة الأمة وأتأسف على الأباطيل التي ينتحلون فإنا لله وإنا إليه راجعون وسيأتي إن شاء الله تعالى في النبوات كلام على حقائق الملل وتبين الهداة والضالين من ذوي النحل ولا حول ولا قوة إلا بالله
وأما قولك كما نقول صارت الفحمة نارا ولا نقول صارت النار فحمة فتمثيل ليس بمستقيم ولا جار على منهج قويم وذلك

أن الفحمة مهما صارت نارا فقد حدثت النارية وانعدمت الفحمية وليس هذا مساويا لقولك صار الحادث إلها فإن الشيء الذي صار به الحادث إلها عندكم هو قديم فكيف تشبههه بالنارية الطارئة وهي حادثة وإن ساويت بينهما لزمك أن يكون الحال في الناسوت حادثا أو النارية قديمة فترتفع الفحمية وهو محال بالضرورة
وأما قولك فإن قلت فما علة هذا الإتحاد قيل لك الإرادة فهذا قول فاسد فإن الإرادة إنما يصح تعلقها بالجائزات ولا يصح تعلقها بالمحالات والإتحاد محال فلا تتعلق به الإرادة على ما نقرره إن شاء الله إذا نقلنا مذاهب أقستكم في هذا المعنى وتكلمنا معهم عليها
وأما قولك في جواب سائلك عن الإتحاد هل حادث أو قديم حيث قلت إنه قديم وحادث فقول لم يقل به مؤمن ولا ناكث فإن الجمع بين القدم والحدوث مما يعلم فساده بضرورة العقل فإن معنى القديم الذي لا أول لوجوده والحادث هو الذي لوجوده أول والجمع بين نفى الأولية وإثبات الأولية محال
وأما قولك قديم بالقوة حادث بالفعل فكلام ليس له أصل إذ لا يعقل العقلاء في القدم قوة ولا فعلا فإن القدم من أسماء السلوب والقوة والفعل فإنما يتواردان عند القائلين بهما على الصفات الوجوديات وعلى عدمها مع إمكان وجودها ثم إنا نسألك عن حد القوة وحقيقتها وما الفرق بينهما وبين الإمكان وهل هي موجودة وعن حد الفعل وما حقيقته
فإنك تكلمت بما سمعته وما حصلته ولا وعيته
وأما قولك وكل عنده حاضر مقيم فكلام حق ومقال صدق إن كنت أردت بحاضر أنه معلوم وقد أخطأت بإدخالك مقيم في هذا المعنى فإن المقيم إنما هو مأخوذ من أقام بالموضع إذا ثبت فيه فإن أردت هذا المعنى لزمك أن تكون المعدومات الممكنة موجودة عنده في حال عدمها وذلك محال وإن أردت غيره فكان ينبغي لك أن تبين مرادك فإنك لم تتكلم به على مقتضى كلام القوم الذين تعاطيت التكلم بلسانهم

ثم قولك لأنه تبارك وتعالى لا تأخذه الأزمان ذكرته موهما أنك تستدل به على أنه تعالى عالم بجميع الأمور محيط بالكل ولا يدل ذلك على ما أردته وإلا فكونه قابلا للزمان أو غير قابل للزمان ما المناسبة بينه وبين كونه عالما بجميع المعلومات أو ببعضها ولا بد أن يسأل عن الزمان ما هو وهل هو موجود أو معدوم فإن كان موجودا فهل هو جوهر أو عرض وإن كان جوهرا أو عرضا فهل هو في زمان أوليس في زمان فإن لم يكن في زمان فلتستغن الموجودات كلها عن زمان ويلزم عليه إثبات موجودات ليس بزمانية غير الباري تعالى وتقدس وذلك محال على ما تقرر وإن كان في زمان فهل ذلك الزمان في زمان ويتسلسل فلا بد لك من علم هذه المسائل إن أردت أت تلحق بالصنف العاقل ومن أراد أن يعلم فليرحل على الرأس والقدم
وأما قولك ولا يعد الأشياء بالأعداد فيفهم منه أن المعلومات لا تتعدد عنده وإذا لم تتعدد المعلومات عنده لا تتميز جزئياتها وإذا كان ذلك فإنما يعلم الأمور على وجه كلي وهو ما تقوله الفلاسفة وأهل الشرائع كلهم مطبقون على أن الله تعالى يعلم جزئيات الأمور وإن دقت على التفصيل ومن لم يقل هذا يحكم عليه في كل ملة بالتكفير والتضليل
فأنت يا هذا في أكثر كلامك بين أمرين إما أن تنكر الضروريات أو تكفر بالشرعيات فنسأل الله تعالى أن ينور بصائرنا ويسدد أحوالنا وأمورنا وأن لا يجعل وبالا علينا أعمالنا وأقوالنا أنه سميع الدعاء قريب مجيب

الفصل الثالث
الواسطة بين الله وبين موسى
من حكاية كلام السائل
قال
ثم نقول لمن ناظرني من باقية المسلمين إن كتابكم يقول إن موسى سمع الله وكلمه تكليما فكيف كان ذلك وأنتم قد أعجزتم جميع الحاسات من إدراكه في الدنيا والآخرة لأنه لا مفطور ولا مشبه بشيء مما يتصور في الأوهام
فإن قلتم إنه كلمه بذاته فقد أوجبتم له جارحة النطق ووقعتم فيما أنكرتموه من الجسم وإن قلتم إن الله خلق له كلاما فقد أثبتم كلاما مخلوقا قائما بخلقه جوهرا في نفسه إذ لم يكن عرضا في الله قال لموسى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأثبتم أن الكلام واسطة بين الله وبين موسى وأن موسى أقر بالربوبية لقوله رب أرني أنظر إليك وقول الصدى الذي هو المتكلم له لا إله إلا أنا فاعبدني
فإن قلت أن الصدى لم يقل له أنا الله ولكنه في مسامع موسى أنا الله قلت لك أن الصدى هو العامل في مسامع موسى وهو المحرك له وعليه رد وإياه أجاب
والدليل على أنه كان في غفلة فما كان يريد الله من إرساله إلى فرعون حتى خلق له نارا أبصرها فنزع إليها فلما أتاها أحجب الله له فيها صدى قال له أنا الله و لا إله إلا أنا فاعبدني إلا أن تقولوا إن موسى قد كان يعرف ما كان يريد الله من إرساله إلى فرعون دون النار والكلام فيكون خبر النار والكلام لا معنى لهما وخبرهما لم يفد شيئا

وهذا من القول تشنيع الكذب وإذا لم يكن بد من أن موسى لم يدرك المرسل له إلا بواسطة اتحد له يسمى بإسمه فالواسط هو العامل في موسى وعنه تحمل الرسالة حتى يأتي فرعون بمصر ويقول إن الله تراءى لي بطور سيناء وبعثني إليك لترسل معي بني إسرائيل ولا تعذبهم مجددا الموضع الذي أقبل منه من عندالله وكان الله بمصر وفي كل مكان ولا كان يعجز موسى عن معرفة الأمر والنهى إلا بكلام محدود من جسم مفطور خلق الله له نارا أبصرها فنزع إليها ثم أحجب فيها صدى سمعه منها قام عنده مقام خالق فسماه إلها

الجواب عنه
أما قولك ثم نقول لمن ناظرني من باقية المسلمين فلتعلم يا هذا أنك غلطت في نفسك وغفلت عن حسبك حيث ظننت أنك ممن يستحسن مناظرته أحد من المسلمين للذي أمروا به من الأعراض عن الجاهلين وكيف وأنت لا يمكنك النطق بكلام فصيح ولا تقدر على نظر صحيح وأنى لك بمناظرتهم ولم تسلك شيئا من طريقتهم وكيف يمكنك النظر معهم وأنت لم تعرف طريقه ولا التزمت شروطه
فوحق دين الإسلام الذي هو دين إبراهيم عليه السلام لقد وددت أن تكون من عقلاء الأنام لتعرف قدر ما يلقى من الأسئلة عليك وما يكتب به من الحكم إليك فلعل مقلب القلوب يستنقذك من عبادة إله مصلوب ويبدلك بها إخلاص العبادة لعلام الغيوب ولولا رجاء ذلك لما كان ينبغي لي أن أعطى الحكمة غير أهلها كما لا ينبغي أن أسمعها من هو من أهلها
وأما قولك إن كتابكم يقول إن موسى سمع الله وكلمه تكليما فكيف يسوغ لك أن تجنح بما أنت منكر لأصله ولا تعترف بأنه كلام الله وأنت منكر لتصديق من جاء به فلا يحل لك أن تحتج لنفسك ولا لغيرك بما تعتقد أنه كذب وأما نحن فيمكننا أن نحتج عليكم وعلى اليهود بالتوراة والإنجيل لأنا نعتقد أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى وهما هدى قبل أن يغيرا ويبدلا وينسخا بغيرهما

وأما اليوم بعد أن ثبت عندنا ما ذكرته فلا نحتج بشيء منهما على جهة انتزاع الأحكام فإن الله تعالى قد أخرجنا بالنور من الظلام وهدانا لما اختلفتم فيه من الحق بنبينا محمد عليه السلام وسنبين إن شاء الله ما يدل على صدقه من المعجزات وواضح الدلالات
ثم نقول إن الله تعالى كلم موسى بكلامه الذي هو صفته وسمعه موسى بالإدراك الذي خلقه الله له وقولك كيف ظلم وحيف إذ سؤالك بكيف في هذا المحل دليل على أنك جاهل بمطلبها فينبغي لك أن تعلم أن صيغ المطالب كثيرة وهي مع كثرتها لا يتوجه شيء منها على الله تعالى وعلى صفاته وذلك أن من صيغ المطالب ما وأي ولم وكيف ومتى وأين وغيرهما مما في معناها ولا يتوجه على الله تعالى بشيء منها لاستحالة معانيها على الله تعالى فلا تسأل عنه ب ما ولا ب أي إذ لا جنس له ولا فصل ولا ب لم إذ لاعلة له ولا أصل ولا ب متى إذ هو مقدر الزمان ولا ب أين إذ هو خالق المكان ولا ب هل إذ لانشك في وجوده وهو خالقنا ولا ب كيف إذ لايناسب جوده ولا صفاته شيئا من أحوالنا وأوصافنا
وجوده إثباته وإثباته ذاته وعلمه كل شيء صنعه ولا علة لصنعه لا يتوجه لمخلوق عليه حق ولا يعجزه خلق ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
ثم نقول ومما يبين لك أنه يصح السؤال بكيف هنا لأن المطب بكيف إنما هو سؤال عن حال موجود يناسب حال السائل بكيف فإذا قلت كيف زيد إنما معناه على أي حال هو من الأحوال التي تناسب أحوالنا في حال صحة 2 أو في حال مرض أو في حال علم أو في حال جهل إلى غير ذلك من أحواله المناسبة لأحوالنا فإذا قلت كيف سمع موسى كلام الله فكأنك قلت على أي حالة سمع موسى كلام الله من الأحوال التي نكون نحن عليها حين يسمع بعضنا من بعض ونحن والعقلاء الذي يعرفون ما يجب لله

وما يجوز وما يستحيل في حقه يعلمون بالبراهين القاطعة أنه يستحيل أن يسمع موسى كلام الله على شيء من الأحوال التي يسمع عليها بعضنا من بعض على ما نبينه إن شاء الله
فعلى هذا إذا سألنا سائل كما سألت أنت قلنا له السؤال عن الله تعالى وصفاته ب كيف ظلم وحيف فإن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وقد سألت ب كيف في موضع لا مدخل لها فيه فتأدب مع الله قبل حلول عقاب الله فإن من لم يستعمل مع الله الأدب فقد استحق التعب وحرم الرتب ومن لم يستنكر هذا الكلام لحق بالبهائم والهوام فإنه لو سألك عنين لم يذق قط لذة الجماع وقال لك كيف أدركت أنت لذة الجماع لكان الجواب يصعب عليك ولم يمكنك تفهيمه إذ لم يذق لذة الجماع وكذلك كل من لم يسمع كلام الله كما سمعه موسى عليه السلام فهو كالعنين بالإضافة إلى إدراك الكلام القديم إذ لم يسمعه ولا اتصف بالإدراك الذي اتصف به موسى عليه السلام وكما لا يقال كيف يسمع الله كلام الخلق كذلك لا يقال كيف يسمع كلامه أحد من الخلق وكما لا يقال كيف يرى الله الخلق كذلك لايقال كيف يراه الخلق فإن الكيفية محال على الله تعالى وعلى صفاته من جميع الوجوه
ولولا خوف الإكثار وأنا وضعنا هذا الكتاب على الإختصار لملأت صدرك من عظمة الله تعالى إن كنت عاقلا حتى يتبين لكم أنكم لم تعرفوا الله حق معرفته ولا قدرتموه حق قدره
وأما قولك فإن قلتم أنه كلمه بذاته فقد أوجبتم له جارحة النطق ووقعتم فيما أنكرتموه من الجسم فلا يلزم من هذا كله شيء وإنما كان يلزمنا هذا لو قلنا إن الله تعالى كلمه بصوت وحرف يخرج من لهوات ويقطعه لسان ونحن لا نقول بشيء من ذلك بل نقول إن الله تعالى متكلم بكلام هو وصف قائم بذات الله ليس بحرف ولا صوت وهذا معقول مفهوم فإنا نحس من أنفسنا كلاما قائما بذواتنا فنتحدث به مع أنفسنا ليس بحرف ولا صوت وهذا مما يجده الإنسان من نفسه بالضرورة ويكون الحرف والصوت دالين على ذلك المعنى الذي في النفس وهذا لاستحالته في كلام بناسبه

من بعض الوجوه لله تعالى لكن على القدر الذي يجوز في حقه تعالى وإنما ذكرنا لك أنفسنا مثالا لذلك على جهة التأنيس كما أنا نقول حقيقة العلم واحدة في القديم والحادث ونعنى بذلك إنكشاف المعلوم لأن العلم القديم يشبه الحادث فافهم وهذا كله يتبين في موضعه ويعرف بدليله
فعلى هذا الأصل الذي قررناه نقول الكلام الذي سمعه موسى عليه السلام هو كلام الله القديم القائم بذات الله الذي ليس بحرف ولا صوت فإن قلتم كيف يسمع ما ليس بحرف ولا صوت قلنا الجواب عنه قد تقدم إذ لا يصح السؤال عنه ب كيف لاستحالة شرط السؤال بها
ثم نقول سلمنا جدلا أنه يصح السؤال ثم يكون الجواب عنه أن تقول يسمع ما ليس بصوت ولا حرف كما يعلم موجود ليس بجوهر ولا عرض وكما يرى الله الخلق وليس بذي حدقة ولا عين وكما يسمع أصواتهم وليس بذي صماخ ولا أذن وكما يعلم وليس بذي قلب ولا دماغ وكما يراه المؤمنون في الدار الآخرة كرامة لهم وليس بذي جسم ولا لون فكما تصح هذه الأمور كلها وإن كانت مستبعدة بالإضافة إلى أوهامنا في حق الله تعالى فكذلك يصح أن يسمع موسى ما ليس بحرف ولا صوت
ثم نقول للذي لا تبقى معه حسيكة في النفس ولا استبعاد في الوهم إن الله تعالى خلق لموسى إدراكا لكلامه القديم وصل به إلى تحصيل مفهوم كلام الله تعالى ومراده منه فسمى ذلك الإدراك سماعا وعبر عنه بسمع كما أنا نجوز أن يكرم الله من شاء من أصفياء خلقه بأن يطلعهم على بعض ما في نفوس بعض الناس من غير تعبير عنه بصوت ولا حرف وذلك كما في بعض كتبكم أن عيسى عليه السلام أعلم بعض الحواريين عما في نفسه ولو عبر عن ذلك بأن يقال سمع عيسى كلام ذلك الرجل لكان صدقا وحقا وهذا كله جائز عقلا لا استحالة فيه
فإن قيل كيف ينبغي لك أن تقول إن الله تعالى متكلم بكلام ليس بصوت ولا حرف وقد جاء في التوراة أن الله تكلم بصوت

لآدم وحواء وذلك أنهما لما طفقا يلفقان ورق التين ليسترا بهما عورتهما فسمعا صوت الله الرب يتمشى في الفردوس إلى أن قال فدعا الرب آدم وقال أين أنت يا آدم وقال آدم سمعت صوتك في الفردوس فرأيت أنى عار فاستترت واستخفيت وهذا يدل على أن لله تعالى صوتا وهو خلاف ما ذكرت فيلزمك على هذا تكذيب التوراة أو تقول بمقتضاها فترجع عما قلته آنفا
فنقول ما أمرنا به نبينا عليه السلام عندما تحدثونا بشيء آمنا بالله وكتبه ورسله وبعد ذلك نقول في التوراة بمثل ما قلناه في الإنجيل أو قريبا منه فجدد به عهدا وفيه نظرا
ثم إن سلمنا صحتها فليس في هذا الذي ذكرته ما يدل على أن الله تعالى متكلم بحرف وصوت وإنما الظاهر منه أن آدم سمع حس مشى الله في الفردوس ألا ترى قوله فسمعا صوت الرب يتمشى في الفردوس هذا هو الظاهر من هذا اللفظ وأنتم لا تقولون به ولا نحن وإن كانت اليهود أو أكثرها قد قالت بمقتضى ظاهره فجسمت وأنتم إن قلتم بظاهره يلزمكم ما لزمهم فإذن هذا اللفظ مؤول عندكم وعندنا أعنى من المتشابهات التي يعلمها الراسخون في العلم فما لم يستقم جعله على ظاهره تأولتموه أنتم وصرفتموه عن ظاهره وقلتم أن هذا إنما يراد به كلام الله تعالى الذي هو حرف وصوت عندكم وهو فعل من أفعال الله تعالى عندكم
وإلى نحو من هذا صار أغشتين وإذا تأولتم أنتم هذا اللفظ وأخرجتموه عن ظاهره فنحن نخرجه عن ظاهره بتأويل آخر أحسن من تأويلكم لا يلزم عليه شيء من المحالات التي تلزمكم وسنبينها إن شاء الله
ولنا في ذلك تأويلان
أحدهما أن الله تعالى خلق صوتا في بعض طرق الفردوس

يشبه صوت الماشي وهو الذي يسمى بلسان العرب الهمس والخشخشة فلما سمع آدم ذلك الصوت تنبه لمخاطبة الله تعالى ولحضوره معه ثم أضاف الصوت إلى الله تعالى لأنه هو الذي تنبه آدم عنده لمحاضرة الله وكأن آدم كان في غفلة لشدة حزنه وعظيم ما حل به وهذا كما يعتري الواحد منا إذا كان ملهوفا بأمر هائل فإنه يشتغل بنفسه بل ويغفل عن حسه ثم قد يتنبه عند سماع صوت شيء وحس إنسان فيرجع عند ذلك لنفسه ويتنبه لمن معه وعلى هذا التأويل يكون في يتمشى ضمير يعود على الصوت فكأنه قال يتمشى الصوت في الفردوس لا على الله
إذ يستحيل على الله تعالى ظاهر المشى ومفهومه السابق منه وهذا تأويل حسن سائغ عند المنصف
والتأويل الثاني أن الصوت يراد به الكلام القائم بذاته وإن كان ليس بصوت فيجوز أن يسميه صوتا لأنه يمكن أن يدل عليه بالصوت كما نقول إن موسى عليه السلام سمع كلام الله القائم بذاته بمعنى أدركه وفهمه بإدراك خص به موسى ثم عبر موسى عنه لنا بصوت مقطع إذ ليس في قوتنا إدراك ما ليس بصوت وبقريب من ذلك نقول نحن في القرآن
وهذا النوع من التأويل نوع جائز جار في الكلام فإنه تسمية الشيء بما يدل عليه كما تقول سمعت علم فلان وإنما سمعت كلامه الذي دل على علمه والكلام ليس هو العلم وعلى هذا التأويل يكون في الفردوس معلقا ب سمعا لا ب يتمشى ويكون معنى يتمشى يبلغ والبلوغ عبارة عن الإدراك الذي به أدرك كلام الله تعالى يعني سمعه وكذلك قوله سمعت صوتك في الفردوس أي وأنا في الفردوس
ولو كنت تعرف لسان القوم الذين ترجمت التوراة والإنجيل بلغتهم لذكرت لك من هذا أمثلة كثيرة وفي القليل المبصر غنية عن الكثير فهكذا ينبغي لك ولكل عاقل أن يفهم تأويل الصوت الذي وقع في التوراة ولعمري لا يبعد أن يتأول تأويلات أخر جاريات على السنن القويم والمنهج المستقيم وفيما ذكرناه مقنع للعاقل فتدبر فهمك الله ما ذكرته ولا تعتقد في الله تعالى أنه متكلم بصوت محدث فإن ذلك محال

ونحن نبين استحالته مستعينين بالله ومتوكلين عليه فنقول
من المتقرر الثابت عند المشرعين كلهم أن الله تعالى متكلم ومن لم يعول في ذلك على ما أخبرت به الرسل ولا وافق على الشرائع أقيمت عليه القواطع التي لا يردها إلا معاند وليس هذا موضع ذكرها فإذا تقرر ذلك فنقول
إما أن يكون متكلما بصوت أو بغير صوت فإن كان متكلما بصوت فذلك الصوت إما أن يكون قائما به أو قائما بغيره أولاقائما به ولا قائما بغيره
محال أن يكون قائما به فإن الصوت لا يكون مفيدا حتى يتقطع بالحروف وتلك التقطيعات لا بد أن تكون حادثة فيلزم عليه أن يكون محلا للحوادث وإذا كان محلا للحوادث لم يخل عنها وإذا لم يخل عنها كان حادثا مثلها على ما تحقق في موضعه وذلك كله محال على الله تعالى وإن قام بغيره فذلك الغير يكون المتكلم به سواء كان ذلك المحل جمادا أو حيوانا فإن قلنا إنه يجوز قيامه بجسم جماد وإن جاز أن قوم الصوت بمحل ويكون الباري تبارك وتعالى متكلما به جاز أن تقوم صفة بمحل وتوجب حكمها لمحل آخر فيلزم على ذلك أن تقوم حركة بجسم يكون جسما آخر متحركا بها ويقوم بمحل لون ويكون محل آخر متصفا به وذلك كله محال بالضرورة ويلزم عليه أن يكون الباري تعالى متكلما بما يقوم بنا من كلامنا الى غير ذلك من المحالات وباطل أن يقال لايقوم به ولا بغيره لأنه يكون قائما بنفسه وخرج عن كونه صفة زائدة على النفس وإذا بطلت هذه الثلاثة الأقسام وهو ما قدمنا ذكره ومن أراد مزيدا فليرحل ويرتد للحق بعد أن يبحث ويسأل
وإذا ثبتت هذه القاعدة الوثيقة العظيمة الأنيقة التي لا يعرف قدرها ولا عظم خطرها إلا من نور الله بنور اليقين بصيرته وأصلح بجزيل التوفيق سريرته بطل ما أملتموه ولم يلزم شيء مما ألزمتموه ولا تم لكم شيء مما أردتموه
فإن جملة ما تريد أن تقوله في هذا الفصل أن الله تعالى متكلم

بصوت وأن موسى سمع بذلك الصوت وهو يقول أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وذلك الصوت غير الله
ومع ذلك خاطبه موسى بقوله رب أرني أنظر إليك وقد اعترف له موسى بالربوبية فكذلك المسيح في قوله أنا الله صادق إذ قد اتخذه واسطة بينه وبين خلقه كما اتخذ جسم النار والكلام واسطة بينه وبين موسى فينبغي لنا أن نعترف بربوبيته كما اعترف موسى بربوبيه الصوت وهذا الهذيان كله الذي ذكرته وليتك ما أنحلته الذي والله لا شرع يعضده ولا عقل يقبله ويريده مبنى على أن الله تعالى متكلم بصوت وقد أبطلناه فبطل كل ذلك
ومع ذلك فلنتكلم على أجزاء كلامك بعد أن بينا جملة مقصودك ومرامك حتى يتبين أنكم لستم على شيء مما ينتحله العقلاء بل يتبرأ منه الفضلاء فنقول
أما قولك وإن قلتم إن الله خلق له كلاما فقد أثبتم كلاما مخلوقا قائما بخلقه جوهرا في نفسه فنقول بعد أن أبطلنا الصوت الذي ترومون البناء عليه نسلمه لكم جدلا ونبين بعد ذلك أنه لا يلزم شيء مما ذكرته إذ لا يلزم من تقدير صوت الله تعالى عن ذلك مخلوق أن يكون الصوت قائما بنفسه جوهرا فإن الصوت إنما حقيقته أنه صفة لموصوف وعرض في محل والعرض لا ينقلب جوهرا فإن قلت فيلزمك أن يكون عرضا قال لك المجيب وما الذي يلزم منه إن كان عرضا فإن قلت يلزم منه أن يكون العرض هو الذي قال لموسى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني والصوت لا يتكلم وإنما يتكلم به قلنا لك جوابك أن الصوت لا يتكلم عن نفسه وإنما يتكلم به كما قلت أنت ثم يلزمك أنت إن جعلته جوهرا غير الله تعالى أن يكون هو الذي قال عن نفسه أنا الله لا إله إلا أنا وله اعترف موسى بالربوبية لا الله وله سجد لا الله وإذا انتهى إنسان إلى هذه المخازي فقد كفر بموسى وباإله موسى نعوذ بالله من أنظار تقود في الدنيا إلى الفضيحة والعار وفي الآخرة إلى الخلود في عذاب النار
وعلى هذا الكفر الصريح يدل قولك إن موسى أقر لها بالربوبية تريد للواسطة وإذا أقر لها بالربوبية ولم يعرف قط من موسى عليه

السلام أنه أقر بالربوبية لالهين فقد اعترف بربوبية الواسطة وأنكر ربوبية الله وكذلك يفعل الله بكل مسرف مرتاب أعاذنا الله من الإختلال المفضى بصاحبه إلى الضلال ثم هذه المخارق بلزم منها قلب الحقائق فإن الصوت لا يقوم بنفسه ولا بخلقه والقائل بذلك يشهد العقلاء بحمقه فإن حقيقته صفة لموصوف يستدعى وجودها محلا كما سائر الصفات إذ لايعقل قيام صفة بنفسها بل بغيرها وهذا ضروري
وأما قولك فإن قلت إن الصدى لم يقل له أنا الله ولكنه كان في مسامع موسى أنا اللة قلت لك ان الصدى هو العامل في مسامع موسى وهو المحرك له وعليه رد واياه أجاب فيلزمك على هذا الانفصال أن يكون موسى رسول الصدى لا رسول الله وعليه يدل كلامك وعنه تحمل الرسالة لا عن الله وإذا كان كذلك فقد كذبت موسى عليه السلام على ما يلزمكم حيث قال لفرعون أنا رسول الله فإن كان بزعمك رسول الصدى فإذا كان الصدى يقول أنا الله ويعترف له موسى بالربوبية ويأمر لموسى بتبليغ رسالته فقولوا أن الصدى إله وأضيفوه إلى آلهتكم المتقدمة فيكون عددهم خمسة وذلك أن الأقانيم الثلاثة عندكم آلهة وعيسى إله رابع والصدى إله خامس ومنكم طائقة تدعى أن مريم إله فتكون الآلهة عند هذه الطائفة ستة
وإذا انتهى عقل إنسان يقول هذه المخازي بلسانه ولا يشعر بها سقطت مكالمته ووجبت مجانبته
ولا معنى لتطويل الكلام مع من يرتكب ذلك الهذيات فقد تم للشيطان فيهم أمله وأنجح معهم سعيه وعمله ومع هذا ف إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون وينبغي أن يتعدى أكثر كلام هذا السائل مما هو ظاهر الفساد ولعلنا نصل إلى ما هو المهم والمراد من نقل مذاهب المتقدمين أعنى المطارق والقسيسين إذ كلامهم يمكن أن يعقل أعنى ينفهم ويتحصل ولا بد مع ذلك من نقل كلام هذا السائل ليعلم الناظر فيه أنه ليس تحته طائل وأن المتكلم به ليس بعاقل

الفصل الرابع
تجسد الواسطة
من حكاية كلامه
قال
فإذا لم يكن بد من الصدى فقد قال أنا الله فأسألك إن كنت تصدق الصدى أم تكذب فإذا لم يكن بد من تصديقه في قول الربوبية إذ قال أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني قلنا لكم وكذلك صدق المسيح في قوله أنا الله وانا لنرى كذا صدق الحواريون ومن اتبعه من غيرهم في قوله في الربوبية كتصديق موسى للكلام وألا يتمارى له برسالته إلى أهل مصر وقد أوجبتم أن جسم المسيح وكلامه لما خطب بالربوبية مثل جسم النار والكلام إذا خاطب موسى بالربوبية
فإن قلت إن موسى لم يعبد النار كما تعبد النصارى المسيح
قيل لك إن الكلام قال له اعبدني وسجد له موسى وقال تبت إليك وأنا أول المؤمنين فإن قال المسلم عند الإضطرار إن النار والصدى واسطة ولكنها خلاف المسيح وكلامه لأن النار ليس من طبعها الكلام وأما المسيح فإنه كان إنسانا معروفا بالكلام فلا آية فيه قلنا لك إذ قد أوجبتم أن الخليقة لا تدرك الخالق إلا بجسم مخلوق تتخذه وتجعله واسطة بينه وبين من خاطب من الأنبياء ويصير الواسطة لهم إلها فقد جامعتموه على الإقرار بواسطة مخلوق بالربوبية للمسيح ووقعتم فيما أنكرتم وليس ينفعكم ملجؤكم إلى القول بأن النار والمسيح ليس آية
وإنما أوجبتم علينا الشرك في قولنا بواسطة فإذن العقل والحق لا يعيب الواسط فكلا الواسطين بين الله والخلق

وإذا ذهبتم إلى أن النار صادقة لا يتخوف عليها الكذب وأن المسيح يتخوف عليه الكذب فإن موسى قد أوجز في النار والكلام وإنما قطع الشك باليقين بآية العصا واليد الذي أدخلها في جيبه وكذلك قطع المؤمنون بربوبية المسيح شكهم بإقرار الموتى عند إحيائه لهم بربوبيته وإن ذهبتم إلى أن خلق النار في ذاتها أشرف فإن كل مخلوق في الدنيا هو منافع لولد آدم مسخرة لهم وكفى بقولكم في قرآنكم إن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم وأن ابليس مسخوط عليه في الأبد لابائه السجود له وقوله أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين
فإن قلتم كذبتم على المسيح لأنه لم يدع مما قلتم شيئا قلنا إنما أنكرتم علينا القول بما وجدنا في كتابنا نحن لا نستدل بمثل هذا في الأبد فاضررناكم من كتابكم إلى القول بمثله فلما أبينا قلتم كذبتم على المسيح فلم تكذبونا وكتابنا على القول بمثل قولكم في واسطة موسى وعبادته لها وأنتم لما أوجبتم أن الأمة تحاسب بعملها يوم القيامة أن محاسبها يخاطبها يوم القيامة ويكافئها بأعمالها ثم يقول قرآنكم وجاء ربك والملك صفا صفا
فما تنكرون أن يكون المسيح الذي كان واسطة للوعظ أن يكون هذا المقبل مع الملائكة كما قدمه في الإنجيل حيث قال يقعد ابن الإنسان يعني الحجاب المتخذ من نسل آدم في مجلس عظمته وتقدم جميع الأمم بين يديه ويميزهم كما يميز الراعي الغنم من المعز فيحمل المؤمنين عن يمينه والمجرمين عن شماله ثم يعاتبهم ويأمن كل طائفة بمثل ما قدموا في دنياهم
وإذا أوجبتم أن الله لا مفطور ولا مدرك بحاسة فقد وجب أن المحاسب المسموع مدرك بالحواس مع إقراركم أن ربكم قال ترون

ربكم ولا تضامون في رؤية القمر ليلة البدر أو لم تنكرون أن يكون المسيح الذي كان واسطا للوعظ أن يكون هو المقبل مع الملائكة كما قال عنه قرآنكم هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضى الأمر وإلى الله ترجع الأمور
الجواب عما ذكره
اعلم يا هذا المتكلف في بغيته المتعسف في تأويل دينه أنك قلت في هذا الفصل من الباطل والكفر مالا حجة له ولا أصل خالفت فيه دين النصارى المتقدمين ولم تعرج على مذاهب القسيسين بل رغبت عن ملة أئمتك لل مطارين فوجب على أهل ملتك أن يعدوك في الخارجين ومن الجهال المبتدعين
وذلك أنك زعمت أن الذي قال لموسى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني إنما كان الصدى ولم يكن الله تعالى وزعمت أن موسى اعترف للصدى بالربوبية وأنه هو الذي كلم موسى وإياه حارب وعنه تحمل الرسالة حتى اتى فرعون وأن ذلك الصدى قام عند موسى مقام خالقه فسماه إلها وزعمت أن موسى سجد لذلك الصدى وأنه هو الذىسأل موسى رؤيته ولذلك زعمت أن موسى قال للصدى تبت إليك وأنا أول للمؤمنين فإذا كان للصدى فلا حاجة لموسى ولا لأحد إلى الله تعالى فإنه لم يقل لا إله إلا أنا وإنما قالها الصدى والصدى صادق بزعمك فقد بطلت إلهية الله تعالى وثبتت الهية الصدى
وإذا كان كذلك فلم لا تعبدون هذا الصدى الذي عبده موسى وسجد له وتاب له بعد أن اعترف بربوبيته وما بال حبقوق النبي لم يعبد هذا الصدى كما عبده موسى ولم يذكره ولم يعترف بربوبيته وكذلك ما بال حزقيال لم يعبد هذا الصدى كما عبده موسى ولم يذكره ولم يعترف بربوبيته
وكذلك أشعياء ويحيى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والحواريون ما بالهم لم يعبدوا ما عبد موسى وسجد له واعترف بربوبيته وأنه لا رب سواه فهؤلاء الأنبياء والأولياء أما أن يكونوا علموا أنه إله إلا الصدى كما قال الصدى بزعمك أو جهلوا ذلك فإن كانوا

علموا فلأي شيء لم يعترفوا بذلك وسكتوا عنه إذ لم يصح قط عن واحد منهم أنه قال لا إله لكم إلا الصدى فليزمكم أن يكون سكوتهم عن ذلك أما عن جحد أو تلبيس فإن كانوا علموا الحق فجحدوه فذلك كفر منهم وهم صلى الله عليهم أجمعين مبرأون عن ذلك منزهون ولو كان ذلك لاستحال أن يظهر عليهم من الآيات شيء مما ظهر وإن كان سكوتهم عن تلبيس فإن جاز عليهم التلبيس في مثل هذا جاز عليهم التلبيس في كل ما أخبروا به من الشرائع إذ كل الشرائع والأحكام تحتقره بالإضافة إلى معرفة الربوبية وإن كانوا جهلوا ذلك فكيف علمت أنت يا أحمق ما جهله الأنبياء والأولياء
فإن كانوا تكلموا بذلك وقالوا به ففي أي سفر من أسفار التوراة هو أن موسى أخبر أن الله لا إله له ولا لكم إلا الصدى وأن الصدى أرسله إلى فرعون وأنه إله فإن كان ما تدعيه حقا فائت بالتوراة فاتلها إن كنت من الصادقين وفي أي كتاب من كتب الأنبياء جاء مثل ذلك أفي كتاب حبقوق أو في كتاب حزقيال أو في كتاب أشعياء أو في كتاب دانيال أو في إنجيل لوقا أو في إنجيل متاؤوش أو في إنجيل ماركش أو في إنجيل يوحنا أو في مصحف الإعلان أو في أي كتاب من رسائل الحواريين وجد مثل ذلك
هل وقع شيء منه هنالك وهذه الكتب التي ترجعون إليها وتعولون عليها إذا لم يوجد فيها شيء مما ذكرت علم من حالك أنك على الله ورسله كذبت وافتريت ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين
بل قد تواردت الرسل على الأخبار بالقواطع التي لا تجهل بأن الله إله واحد وأنه ليس له في ألوهيته شبيه ولا مضاد وإذا تبين بهذا أنك كفرت وأن الله ربك سببت وعلى رسله كذبت وأنك من جميع الملل خرجت تعين على اليهود والنصارى أن يشتوروا في أمرك ويأتمروا في حرقك أو نحرك ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق

ثم نقول هذا الصدى الذي وصفت وهو إله عندك كما زعمت أهو الله تعالى رب العالمين وخالق السموات والأرضين أم إله غيره فإن كان هو الله تعالى فلم سميته الصدى ولم جعلته واسطا بين نفسه وبين خلقه وهل هذا إلا محال فإنه لا يتصور في العقل واسط لا بين إثنين ويكون الواسط ثالثا
ثم يلزمك على هذا أن تجعل ذات الباري الرب تعالى صوتا حادثا فإن ذلك الصدى عندكم حادث وهذا كله محال بضرورة العقل وإن قلت أنه غيره فيلزم أن يكون ذلك الصدى هو المتكلم عن نفسه والمخبر بحقيقته فإذا سمعه موسى يقول أنا الله لا إله إلا أنا فأما أن يخبر عن نفسه أو عن رب العالمين فإن أخبر عن نفسه فهو كاذب فإن الرب تعالى يكون إلها آخر وإن أخبر عن الرب فلأي شيء قلت أنه إله وأن موسى اعترف له بالربوبية وسجد له بل الإله الحق رب العالمين والصدى ليس بإله ولا رب
فقولك اعترف موسى بربوبيته وعبده باطل بالضرورة ثم نقول هب أن ذلك الصدى هو المتكلم عن الله وأنه إله فهل يقدر الله تعالى على ان يتكلم ويخبر عن إرادته بغير ذلك الصدى فإن قلتم لا فذلك تعجيز لله تعالى وهو القادر على كل شيء ويلزم عليه أيضا أن يكون محتاجا لذلك الصدى وكل من كان محتاجا فهو ناقص معيب وليس بغنى والله تعالى هو الغنى عن كل الموجودات وليس لشيء من الموجودات عنه غنى وإن كان قادرا على أن يسمع كلامه بغير واسطة فلعل موسى سمعه بغير واسطة وإذا جاز أن تسقط الواسطة أنهدم كل ما رمت بناءه على أنا قد كنا هدمناه أولا في أوحى لحظة بأيسر نفخة وإنما أردنا أن نبين لك ولكل من وقف على كلامك بعض ما يلزمك وأنت لم تشعر بشيء من ذلك ولولا خشية التطويل لأوردت عليك من النقوض واللوازم ما يتعجب منه كل حبر نبيل
ثم نقول هب أنا نسلم جدلا أن الله تعالى تكلم مع موسى بواسطة الصدى فلم قلت أن عيسى مثل الصدى أعنى أنه واسطة كما أن ذلك الصدى واسطة وما الذي دلك على ذلك ولأي شيء سويت بينهما والفرق بينهما ظاهر وذلك أن الصدى الذي زعمت أن موسى سمعه إنما سمعه موسى بعد أن احتجت له بالنار كما زعمت والنار جماد

وإذا قام بالجماد صوت يفهم منه أنا لله لا إله إلا أنا فيمكن أن يعقل هنا غالط مثلك أن المتكلم بذلك الصوت أما غير الجماد لاستحالة الإلهية عن الجماد وأما حيوان ممكن أن يتوهم فيه أنه إله كما توهمتم أنتم في ذلك ولا يصح ذلك في الله لأنه إذا قال لا إله إلا أنا فعن نفسه يخبر وإليه يرجع حكم خبره بخلاف الجماد فكيف قست أحد الواسطين على الآخر وليس في معناه ولو أردنا تطويل الكلام لذكرنا فروقا أخر تمنع مقايسة النار بالبشر
وأما قولك إن عيسى علي السلام قال أنا الله وأن الحواريين صدقوه في ذلك فكذب صراح وافك بواح فإنه لم يرووا عنه عليه السلام في ذلك أقوال بوجه صحيح ولا بنص صريح بل الذي صح منه ونقل بالتواتر عنه أنه كان يقول اعبدوا الله الذي لا إله إلا هو وأناجيلكم تشهد بذلك عليكم
ثم نقول لو ثبت أن عيسى قال ذلك اللفظ بعينه فمن الممكن سوغ حمله على محمل قويم في العقول غير مخالف للمنقول وهو أن عيسى عليه السلام كان محبا لله تعالى مشتهرا في محبته ومن عادة المشغوف بشيء المشتهر به أن يستحضر ذلك الشيء المشتهر فيه في قلب ويجعله نصب عينيه حتى لا يلاحظ شيئا سواه بل ربما ينتهى ذلك به إلى أن يذهل عن نفسه ويغيب عن حسه ففي مثل تلك الحالة يظن المشتهر أن الشيء الذي شغف به هو هو حتى يقول ... أنا من أهوى ... ومن أهوى أنا ...
وكذلك قال الآخر ... فكل شيء رآه ظنه قدحا ... وكل شخص رآه ظنه الساقي ...
وكذلك عيسى عليه السلام لما انكشف له من سلطان الحقيقة أمر ما غاب عن نفسه وفنى عن حسه لما شاهد من جمال الربوبية والحضرة الإلهية فذهل عن كل ما سوى الله فقال أنا الله وهذه أمور عجيبة وأذواق غريبة لا يدركها إلا من اختاره الله من خلقه واصطفاه بحضرته
ف ليس بعشك فادرج

وأما قولك لنا قد أوجبتم أن الخليقة لا تدرك الخالق إلا بجسم مخلوق تتخذه وتجعله واسطة بينه وبين من خاطب من الأنبياء فقول باطل علينا فاسد لدينا فأنا قد أحلنا تلك الواسطة فيما تقدم بوجوه متعددة وقد حكمنا بتكفير من أثبت واسطا على نحو ما زعمت ولا أعلم أن أحدا من المسلمين قال شيئا من ذلك بل ولا من أهل الملل غيرك
ثم نقول هذا الواسط الذي زعمت لا يخلو أن يدرك الله تعالى أعنى يعرفه ويسمع كلامه أو لا يدرك فإن قلتم لا يدرك فقد شهدتم على أنفسكم أن الواسط ليس بالله اذ الاله لا بد أن يكون دراكا ويلزمكم على ذلك أن يكون عيسى لا يعرف الله تعالى ولا يسمع كلامه وهو محال
وإن قلتم أنه يدرك الله تعالى فهل يدركه بواسطة أو بغير واسطة فإن أدركه بواسطة أخرى فالكلام في تلك الواسطة كالكلام في الأولى ويلزم التسلسل وإن أدركه بغير واسطة فيجوز لنا نحن أن ندركه بغير واسطة وفي هذا إبطال ما ذكرت من إثبات الواسطة الذي ذكرت أن المسلم قد اضطر إليه
وأما قولك إنما أوجبتم علينا الشرك في قولنا بواسطة فإذن الحق والعقل لا يعيب الواسط فلنعلم أنا لم نوجب عليك الشرك من حيث الواسط فقط بل من حيث أثبت واسطا إلهيا وذلك أنك زعمت أن الصدى قال لموسى مخبرا عن نفسه أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني واعترف له موسى بالربوبية وتحمل عنه الرسالة وعبده وسجده له فهذا إثبات إله غير الله وكذلك قلتم في المسيح أنه قال أنا الله واعترف الحواريون له بالربوبية فهذان الهان ثم إن الأقانيم ثلاثة آلهة فصارت آلهتكم خمسة فيا ليت شعري هذه الآلهة الخمسة هل اشتركوا في إيجاد الموجودات واختراع الكائنات أو انفرد بها أحدهم فإن كان قد انفرد بها أحدهم فهو الإله الحق الواحد الفرد وإن كانوا قد اشتركوا وتعاونوا على خلق المخلوقات فلا معنى للشرك إلا هذا ويلزم على تقدير إجتماعهم وتوافقهم على الخلق أن يكون كل واحد منهم مضطرا إلى مساعدة الآخر وكل مضطر ناقص والناقص ليس بااله وإن قدرنا اختلافهم في الخلق بحيث يريد أحدهم أن يخلق ويريد الآخر أن لا يخلق فيؤدي ذلك إلى أن لا يخلق أحدهم

شيئا فلا يوجد الخلق وقد وجد الخلق فدل ذلك على أن الإله واحد لا شريك له ولا إله غيره
ثم نقول عباد الأصنام والأوثان أشبه حالا منكم لأنهم في عباداتهم إنما كانوا يعبدون أصنامهم ليقربوهم إلى الله زلفى وأنتم إنما تعبدون هذه الآلهه لأنها أرباب من دون الله متقربون منها وهذه جهالات بينة وضلالات ظاهرة عميت عنها بصائركم فأفطرت عليها قلوبكم وأعجب من ذلك لكه قولك العقل والحق لا يعيب الواسط أما من قال هذا فقد خرج عن غريزة العقل وتارة وقع في مفازة الجهل فإن العقل الصريح يشهد بضرورته بإبطال الواسطة وأما الحق فهذه كتب الأنبياء بين أيدينا وأيديكم ففي أي كتاب منها أن الآلهة خمسة أنها تدل كلها على أن الإله واحد ولا ولد له ولا والد وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا أن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا وستقدم فتعلم وأنت قد اضطربت في هذا الفصل ولم يثبت لك فيه فرع ولا أصل والكثير مع من لا يعقل عمل من لا يحصل
وأما قولك وأنتم لما أوجبتم أن الأمة تحاسب بعملها يوم القيامة أن محاسبها يخاطبها يوم القيامة ويكافئها بأعمالها فقد كان ينبغي لك ألا تحتج بشيء لم يثبت عندك أصله ولا تصدق بنقله ثم لا حجة لك في شيء مما ذكرته وذلك أن محاسبة الله تعالى للعباد في الدار الآخرة مما يجب الإيمان بها ومما قد تواردت عليه الشرائع أما بالتصريح وإما بالإيماءات والتلويح
وذلك يكون ولابد ولأجل مجازاة العباد بأعمالهم في الدار الآخرة خلق الله الخلق وبسط الرزق وأرسل الرسل وأنزل الكتب أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ومحاسبة الله للخلق تكون على وجوه جائزة في العقل وإرادة في النقل لا تحتاج إلى شيء مما تخيلته
منها أن العبد يوقف في موضع الفصل والقضاء فيعطى كتابا أحصيت فيه أعماله ويقال له اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك

حسيبا فإذا وقف عليها علم أن المكتوب فيها هو أعماله فإن كان سعيدا قال هاؤم اقرأوا كتابيه أنى ظننت أنى ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية فعند ذلك يقال لهم كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية وإن كان شقيا فيقول يا ليتني لم أوت كتابية ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عنى ماليه هلك عنى سلطانيه
عند ذلك يقال للملائكة خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعا سبعون ذراعا فاسلكوه
فهذا وجه من وجوه المحاسبة لا تحتاج معه إلى إثبات واسط ويمكن أن يكون هنالك وجوه ممكنة في المحاسبة ليس هذا موضع ذكرها ولا أنت أهل لفهمها لا تحتاج في شيء منها إلى ما رمت من الواسطة فكأني والله بك إن مت على ما أنت عليه يؤخذ بناصيتك وقدمك وتحيط بك ملائكة ربك ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
فتنادى فتقول يا عيسى يا سيدي يا إلهى يا ولد الله
فيقول لك كذبت ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ولست باإله ولم أقل لك كذلك ولا أبلغتك ذلك وإنما بلغتك أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له فكيف ترى خجلتك بين يديه وحيرتك إذا طلبت في نفسك جوابا ترده عليه فذلك المقام لا ينفعك فيه ملك مقرب ولا نبى مرسل إلا ما قدمت يداك من حسن إيمان وصالح عمل وسعادة قضت لك بها سابقة الأزل
فإن الملائكة والنبيين لا يشفعون إلا لمن ارتضى رب العالمين
فالله الله انظر في خلاص نفسك لتجتني ثمار غرسك
وأما قولك يقول قرآنكم وجاء ربك والملك صفا صفا

فلست لها فما شأنك وإياها أنت لا تعرف لسان من خوطب بها ولا تعرف مضمونها فكيف يمكنك الإستدلال بها والتطواف حولها وأنت عرى عن الشرط الذي به يعرف معناها ويفهم فحواها وليس مفهومها عند من خوطب بها من العرب الفصحاء البلغاء على شيء مما ذكرت ولا يقرب مما توهمت بل معناها عندهم لا تخالفه العقول ولا يخرج عن أسلوب لسان العرب المنقول وإنما أكره أن أشافهك به لأنك فاقد شرطه فإن كنت ممن ينور الله بصيرته ويحسن سريرته شرعت في أن تتعلم ويجب علينا أن نفهمك حتى إن شاء الله تفهم
وأما قولك في الإنجيل يقعد ابن الإنسان في مجلس عظمته وتقدم جميع الأمم بين يديه ويميزهم كما يميز الراعي الغنم فنقول آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله ومع ذلك فنعلم على القطع والثباب أن كل أمة تدعى يوم القيامة بإمامها وتنادي بمعبودها وأنبيائها فيتبع كل من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع كل من كان يعبد الطواغيت الطواغيت
وإذا كان ذلك فلا بد لعيسى أن يجمع له كلا من لزمه اتباع شرعه فحينئذ يميزهم كما يميز الراعي الغنم فمن آمن به وانتبه على النحو الذي رسم له فهو من الفائزين ومن اعتقد فيه أنه إله أو ابن إله فالنار مأواه بعد أن يتبرأ عيسى من دعواه
وأما قولك وإذا أوجبتم أن الله لا مفطور ولا مدرك بحاسة فقد وجب أن المحاسب المسموع مدرك بالحواس فهذا لا يلزم منه شيء مما ذكرت فأنا إذا قلنا أن الله تعالى ليس مدركا بالحواس فإنما نريد به أن الله ليس مدركا بالحواس كما تدرك الأجسام والألوان فيكون محاطا به فيكون ذا حدود وأقطار وذلك محال
وإذا قلنا إن الله تعالى يرى في الدار الآخرة إنما نريد به أن الله تعالى يخلق لنا إدراكا آخر لا تناسب حاله حالة إدراك الأجسام ولا الألوان فإن الإدراكات مختلفة باختلاف متعلقاتها وذلك إدراك خاص له حكم نفسه لم يذق منه ذوقا في هذه الدار فإنه إنما يكرم الله به أولياءه وأصفياءه يوم القيامة

وإذا أنعم الله تعالى على وليه بذلك الإدراك المعبر عنه بالرؤية خلق له من اللذة مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فإن أنكرت أن يرى ما ليس بجسم ولا لون فلتنكر أن يعلم موجودا ليس بجسم ولا عرض وإن زعمت أن الرؤية غير جائزة عقلا فقد جهلت موسى حيث سأل الله ما يستحيل عليه فكيف جهل موسى من وصف الله ما علمه جاهل مثلك
وأما استشهادك بحديث نبينا عليه السلام على رؤية ذي الجلال والإكرام فأنت ممنوع منه لاعراضك عنه وهو من عمدنا على إثبات رؤية الله تعالى في الدار الآخرة لكوننا عالمين بحقه ودليل صدقه
ثم إنك نقلت ذلك الحديث فأجحفت وبالمعنى أخللت وإنما صوابه إنكم ترون ربكم ولا تضاهون في رؤيته إلا كما تضاهون في رؤي القمر ليلة البدر وهذا لا حجة لك فيه فأنا نقول إن الله تعالى هو المرئى لا غيره بالأبصار في الدار الآخرة على ما تقدم وأنتم تقولون إن المرئى الواسطة وهذا الحديث يعرف معانيه أهله وهم الذين يصدقون برسالة من هو قوله فلا تطمع في معرفته فإنك لست أهلا لداريته
وأما قولك لم تنكرون أن يكون المسيح الذي كان واسطا للوعظ أن يكون هو المقبل مع الملائكة كما قال عنه قرآنكم هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة فكيف لا ننكر ذلك ولم يدل على وقوعه دليل عقل ولا صحيح نقل وليس معنى الإتيان في هذه الآية إلا كالمجيء في الآية المتقدمة وكلاهما ليس المراد به المجيء الذي هو نقل الأقدام بل المجيء والإتيان لهما معان أخر يعرفها العرب المؤمنون
وهذه الآية فيها محذوف تفسره آية أخرى تقديره هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمر الله كما قال تعالى في آية أخرى هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك فقد ذكر في هذه الآية ما حذف هنالك وهذا على المعروف في لسان العرب من حذف المضاف

وإقامة المضاف إليه مقامه وكذلك الكلام على الآية الأولى وهذا لا خفاء به عند البصير بلسان العرب فإنها تستعمل الحذف والإضمار والمجاز والإختصار ثم مالك ولكتابنا ولأي شيء تنشد ضالتنا دعها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ... ألق السلاح فلست من أكفائنا ... واقعد مكانك بالحضيض الأسفل ...
ثم نقول من عجيب أمر هذا السائل أنه لا يصلح أن ينسب لمقلد ولا ناقل وذلك أن هذا المذهب الذي أبداه من اتخاذ الله واسطة صوت الصدى إنما حمله عليه تقليده لكتاب أغشتين
وذلك أنه أشار في مصحف العالم الكائن إلى نحو مما ذكره هذا السائل ولعله وقف عليه ولم يفهمه صحيحا ولا أورده فصيحا بل زاد عليه كلاما فاحشا قبيحا وأنا إن شاء الله تعالى أذكر كلام أغشتين في الفصل الذي بعد هذا وأبين فيه أنه ليس كما فهمه هذا السائل ثم أعطف على أغشتين بتبيين فساد مذهبه وأوضح أنه غير مصيب في مطلبه وأحقق فيه أن أغشتين مخالف لغيره من القسيسين

الفصل الخامس
في حكاية كلام المتقدمين
لتعلم أيها الناظر في هذا الباب أن النصارى قد كثر اختلافهم وعظم خبطهم وإرتباكهم فلا هم يستقرون فيه على قدم ولا يمشون منه على طريق أمم فقليل منهم من نفى الإتحاد والحلول ولم يقل بشيء من ذلك وهم طائفة متقدمة يعرفون ب الأرؤسية ولا يكاد مذهبهم يخالف مذهب المسلمين إلا في إنكارهم نبوة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم
وجمهورهم على القول به وإثباته
ثم المثبتون له منهم من قال لا يقال فيه ب كيف ولا يسأل عنه بحرف ومنهم من شرع في بيان كيفيته وتفسير ماهيته فصارت اليعقوبية والنسطورية إلى أن الكلمة خالطت جسد المسيح ومازجته كما يمازج الخمر اللبن والى نحو هذا ذهب الروم وزادو عليهم فقالوا اختلطت الكلمة بالمسيح فصارا شيئا واحدا
ولقد حكى من كلام اليعقوبية ما يدل على توقحهم وجرأتهم على الله تعالى وذلك أنهم قالوا إن الله نزل فدخل في بطن مريم فاتخذ من لحمها جسدا فصار الله مع الجسد نفسا واحدا
وربما أطلق بعضهم القول بأن الله اتخذ ذلك اللحم والدم فزاده في نفسه فصار ذلك اللحم الله وصار معظم اليعاقبة إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما
وأما النسطورية فقالوا ليست تلك النفس هي الله وإنما هي بعضه وهذا هو البهتان الذي يعلم بطلانه بالضرورة كل إنسان
وصارت طائفة من النصارى إلى أن الكلمة حلت جسد المسيح كما يحل العرض محله وصار أخلاط من النصارى إلى أن المراد

بالإتحاد ظهور اللاهوت على الناسوت وربما عبروا له عن ذلك بالفيض
ثم اختلفوا في تمثيل ذلك على ثلاثة أوجه فمنهم من قال مثاله ما ينطبع في الأجسام الصقلية من الأشياء التي تقابلها ومنهم من قال مثاله الطابع المنقوش إذا اتصل بشمع وما يضاهيه فيظهر نقش الطابع عليه وإن لم يحله شيء من الطابع ومنهم من قال معنى ظهور اللاهوت على المسيح كمعنى استواء الإله على العرش عند الإسلاميين مع مصيرهم إلى استحالة المماسة
وربما يعبرون عن الإتحاد بالتدرع كأنهم أخذوا ذلك من لفظ الدرع يشيرون إلى أنا اللاهوت اتخذ ناسوت المسيح درعا
هذه مذاهب المشتهرين من طوائفهم
وأما اختلاف آحادهم فمما لا يكاد ينضبط ولا يرتبط ومن أراد الوقوف على شيء من ذلك فليطالع كتاب المسائل لهم ففيه يرى تحيرهم وخبطهم
ونفرد بعد هذا إن شاء الله بابا نذكر فيه كلام أغشتين فإن مذهبه في الإتحاد مخالف لمذهب من تقدم ذكره من الفرق والقسيسين
الجواب عن كلامهم
أما من حكى عنه نفى الإتحاد فقد قال بالحق وأتى بالمراد
وأما من أثبته وقال إن الإتحاد لا يسأل عنه ولا يكيف فنقول معنى الإتحاد لا يخلو أن تعرفه أو لا تعرفه فإن لم يعرفه فقد اعترف بجهله وناقض متقدم قوله فإنه اعترف بالإتحاد وادعى ثبوته للمسيح وحده ثم لما طولب بتثبيته قال لا أعرفه وهذا تناقض وقول باطل وأما من قال أعرفه إلا أنني يقصر عن إدراك حقيقته عقلى ولا أقدر على العبارة عنه وهذا كما قلتم أنتم في جوابكم عن كيفية سماع موسى كلام الله تعالى حيث قلتم أنه لا يسأل عنه بكيف فإنه ظلم وحيف فنقول أما قولك أعرفه إلا أنه يقصر عقلى

عن إدراك حقيقته فمتناقض أيضا لأن كل معروف لا بد أن يرتسم في العقل ويحصل فيه على الوجه الذي يكون معروفا منه فأما على الجملة وأما على التفصيل وما لم يرتسم في العقل لا جملة ولا تفصيلا فليس بمعلوم وأنت إذا ادعيت أنك عالم بالإتحاد فلا بد أن تكون عالما به أما على الجملة أو على التفصيل وكيفما كان فلا بد لك من أن تعبر عن معلومك على أي وجه كان وإلا فأنت جاهل بالإتحاد ومن جهله كافر عندكم وأما تشبيهك هذا بكيفية سماع موسى فليس بصحيح لأنا مهما قيل لنا كيف سمع موسى كلام الله فإنما نسأل عن أمر لم نعلمه علم ذوق وعن تفصيل ما لم نعلمه تفصيلا بل علمناه على الجملة
ولذلك أجبنا بقولنا إن الله تعالى خلق له إدراكا سمع به كلام الله تعالى الذي هو وصفه الذي ليس بحرف ولا صوت ففهمنا الإدراك على الجملة ولم نفهمه على التفصيل وأنت لم تعرف الإتحاد جملة ولا تفصيلا بل جهلت وادعيت أنك علمت
ف هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
وأما من قال إن الكلمة خالطت جسم المسيح ومازجته ممازجة الخمر اللبن فكلام فاسد قائله للعقل فاقد وذلك أن المفهوم من المخالطة والممازجة لا يتصور إلا في الجواهر المتحدات وذلك ان المخالطة إنما يعبر بها عن تجاور الجواهر وإجتماعها بحيث يكون كل واحد من الجواهر المتمازجة يحفظ حيزه ويشغله ويمنع منه غيره
ولذلك إذا أفرغت إناء ماء على إناء لبن مثلا وتمازجا كثر اللبن وصار لا يسعه بعد الممازجة ما كان والعلم ليس بجوهر فاستحال عليه الإختلاط والإمتزاج بالضرورة
فإن أرادوا بالإمتزاج والإختلاط أمرا آخر فلا بد من بيانه وإفادة تصوره ولا يتكلم على الشيء ردا وقبولا إلا بعد كونه معقولا ولو سلمنا الممازجة جدلا للزم عليها أنواع من المحالات منها قيام الصفة بنفسها وانتقالها وبقاء جوهر الله تعالى عريا عنها على قولهم والعرى عن العلم جاهل والجهل على الله محال ويلزم على

ذلك أن لا يكون العلم أزليا بل حادثا مخلوقا وأن حاله تغيرت وبعد أن لم يكن مختلطا ممتزجا مختلطا
وهذان أمران حادثان ولا يخلو عن أحدها وما لا يخلو عن الحوادث حادث على ما يعرف في موضعه وهذه أمور باطلة فالمفضى إليها باطل وهو الإختلاط
وأما من قال بالحلول فليس له محصول ولا معقول لأن حقيقة الحلول إنما هي أن يحصل جسم أو متحيز في شيء أو على شيء فيسمى الحاصل حالا والمحصول فيه يسمى محلا وتسمى النسبة بينهما حلولا وهو الذي يسميه النحوي مصدرا هذا هو المفهوم من حقيقة الحلول
وقد يتوسع فيه فيقال حل العرضفي في محله ومعناه صار المحل متصفا به وصار العرض قائما به وموجودا فيه
فإن أردتم حقيقة الحلول كان محالا فإن العلم ليس بجسم ولا جوهر على مامر
وإن أردتم الثاني فهو محال أيضا لأنه يلزم عليه مفارقة العلم الجوهر وبقاؤه جاهلا ويقوم عرض واحد بمحلين في زمان واحد ويلزم عليه إنتقال الصفة من محل إلى محل وحدوثها إلى أنواع من المحالات لا يبوء بها عاقل ومنتحلها أحمق جاهل
وقد صرحوا بأنهم أرادوا بالحلول حلول الجوهر في العرض وقد صرحنا نحن بما يلزمهم من المحالات على ذلك وبيناه والحمدلله
ثم نقول لهم بعد ذلك في قولهم بالإختلاط وبأنهما صارا شيئا واحدا لا خلو أن حين اختلطا أما أن يبقى العلم موجودا بحاله والجوهر موجودا بحاله أم ينعدم أحدهما أو ينعدما معا
محال أن يبقيا موجودين بحاليهما مع فرض الإختلاط وكونهما شيئا واحدا فإن الواحد لا يعود إثنين إلا بإضافة غيره إليه وإذا أضيف غيره إليه ارتفعت الوحدة بالضرورة على ما تقدم في التثليث وكذلك الإثنان لا يعودان واحدا إلا إذا انعدم أحدهما فترتفع

الأنثينية بالضرورة ومحال أن ينعدما فإنه يؤدي إلى عدم القديم وإلى عدم ما هو موجود في حالة وجوده فلم يبق إلا أن ينعدم أحدهما دون الآخر وذلك محال فإن الموجود لا يخالط المعدوم ولا يمازجه بل يبقى الواحد واحدا
وإذا بطلت هذه الأقسام المنحصرة بطل الإمتزاج والإختلاط ومصير الإثنين واحدا على ما قالوه
وأما من قال إن الكلمة انقلبت لحما ودما فلقد ارتكب حماقة والتزم عمى يلزمه عليه جواز عكس مذهبه وهو أن ينقلب اللحم والدم علما والقديم حادثا والحادث قديما إلى غير ذلك من المحالات التي لا تصدر عن من شد أطرافا من المعقولات ولولا الحمق والتقليدات لما وجد مثل هذه الفواقح في كلام أحد من المخلوقات
وأما من قال إن الإتحاد هو ظهور وفيض ومثله بانطباع الصور في المرآة فهذا المثال إنما كان يصح لو كان العلم صورة محسوسة بالبصر ويكون جسد المسيح صقيلا تنطبع فيه صورة المقابلات وكل ذلك معدوم في مسألتنا بالضرورة فتخيله فاسد وباطل بالضرورة فكما لا تتمثل ذات الحياة والإدراكات في المرآة كذلك لا تتمثل الكلمة في جسد المسيح
ثم إن جاز انطباع علم الله في جسد البشري فلينطبع في كل ما يشبهه في الجسدية وسيأتي لهذا مزيد بيان وفيما تقدم ما يبين فساده وإستحالته
وأما التمثيل بنقش الخاتم يعود منحفرا في الشمع والمنحفر في الخاتم يعود ناتئا في الشمع فذلك لا يتصور إلا في الأجسام وإن جاز في غير الأجسام فيلزم أن يكون كل واحد منهما أعنى اللاهوت والناسوت يؤثر في الآخر ويحل فيه فيكون الناسوت حل في اللاهوت وذلك محال عند كل فريق والأمر الثاني أن النقش في الخاتم يوضع مقلوب الكلمات ثم تنطبع مستقيمة في الشمع ولو وضعت في الخاتم مستقيمة لانطبعت في الشمع منعكسة فيلزم على مساق هذا المثال أن تنطبع الكلمة في الناسوت أما الإستقامه

أو بالعكس فإن انطبعت فيه بالإستقامة فأقنوم الكلمة في الجوهر بالإنعكاس وإن انطبعت فيه بالإنعكاس فلم تبق الكلمة في الناسوت على حقيقتها في اللاهوت بل هي منعكسة فلا تبقى حقيقة العلم على ما كانت بل هي ليس بعلم وهذا كله مما يلزم على آرائهم الفاسدة وتحكماتهم الباردة
وأما من لبس منهم بأن مثل قولهم في الإتحاد بقولنا في إستوائه تعالى على العرش فذلك مما لا يقال عليه عندنا اتحاد ولا حلول ولا فيض ولا انطباع لأنا نريد بقولنا هو على العرش مستو واستوى على العرش أن العرش تحت قبضته ومسخر بقدرته والإستواء عليه إنما هو بمعنى الإستيلاء على ما يعرفه العرب من كلامها فإنها تقول ... قد استوى بشر على العراق ... بغير سيف ودم مهراق ...
فإن أرادوا هذا المعنى فهو حق وصحيح لكنه لا يصح في حق عيسى وحده فإن الله تعالى مستول على عيسى وعلى غيره وأما من أطلق منهم لفظ النزوع فيستحيل على الحقيقة والتوسع وذلك أن هذا اللفظ يشعر بأن اللاهوت اتخذ الناسوت درعا أو كالدرع وهذا كله مستحيل على الإله تبارك وتعالى وعلى علمه وكل ما تقدم من المحالات على هذا المذهب يلزم
وعلى الجملة فهؤلاء القوم أغبياء جاهلون وعن التوفيق معزولون فهم عن المعقولات معرضون وبها مستهزءون لا يستحيون من خالقهم ولا يتأدبون مع مالكهم ورازقهم فسبحان الله عما يقول الجاهلون وتعالى عما ينسبه إليه المبطلون بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
ولولا ضرورة الحال ورجاء قمع أهل الضلال لما استجزت حكاية مثل هذا المقال وأنا أستغفر الله ذا العظمة الجلال إنه ذو العفو والأفضال

ولا بد مع ما تقدم أن نطالبهم أجمعين بصحة الدليل الذي جعلهم على ذلك القول الغث الهجين حتى نتبين تحكماتهم وتظهر لكل أحد ترهاتهم
فأقول لجميعهم ما الذي حملكم على القول بالإتحاد والتورط في الضلال والإلحاد فلتعلم أنهم قد اختلفت مسالكهم في ذلك فمنهم من قال إنما قلنا بذلك تقليدا للإنجيل وحذرا من المخالفة والتبديل كما قال هذا السائل ومنهم من قال إنما قلنا بالإتحاد لأن عيسى ظهرت عليه أفعال لا تنبغي إلا لإله من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من الطين وهذه أفعال لا يقدر عليها إلا إله وهو قد قدر عليها فهو إذن إله ومنهم من قال إنما صرنا إلى ذلك لكون عيسى لم يخلق من الماء الدافق الكائن عن أبوة ولا خرج عن شهوة آدمية بل خلق الله ناسوته من غير أب ليكون واسطا بينه وبين خلقه وليتخذه لكلمته وربما قال بعضهم ألستم تقرأون في كتابكم إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وهذا عين ما أنكرتم علينا من الإتحاد فإن عيسى رسول الله وكلمته فناسوته رسول الله ولاهوته كلمة الله على ما أخبر به كتابكم
فنقول
لمن قال بذلك تقليدا للإنجيل جوابك قد تبين فيما تقدم إذ قد تقدم أن فهم الإتحاد منه بالمسيح باطل وأن الصائر إلى الإتحاد بعد الوقوف على ما تقدم معاند جاهل
وأما من استدل منهم على ذلك بما ظهر على يدي المسيح من خوارق العادات فنقول له لأي شيء قلت أنها تدل على ألوهيته ولم تقل إنها تدل على ما كان يستدل هو بها من رسالته فقال رب أعلم أنك تعطينى كل شيء ولكن أقول من أجل الجماعة الواقفة ليؤمنوا به وليصدقوا أنك أرسلتني فهو قد استدل بإحياء الموتى

على رسالته وأنتم تستدلون بذلك على ألوهيته فيلزم من هذا الإستدلال العدول عن شرع عيسى المنقول ومصادمة العقول
ثم نقول لهم كيف ينبغي لكم أن تقولوا هذه الأفعال العجيبة تدل على أنه لاهوت وأنتم تعزون في كتبكم أن عيسى كان إذا أراد أن يفعل شيئا مما ذكر تضرع إلى الله ورغب إليه بخضوع وتذلل حتى يقضى الله حاجته وهذا موجود في كتبكم كثيرا فيها
وكفى دليلا علىنفي ما تنسبونه إليه قوله حين صلبه بزعمكم إلهي إلهي لم أسلمتني وقوله قبل ذلك يا أبتاه إن كانت هذه الكأس لا تقدر تجاوزني حتى أشربها فلتكن إرادتك وهذا كله في سجوده
وفي هذا الموطن قال يا أبتاه إن كان ممكنا فلتذهب عني هذه الكأس
وفي إنجيل ماركوش أنه قال في هذا المقام سيلقى ابن الإنسان ما كتب له ثم قال بعد ذلك يا أبتاه إنك قادر على جميع الأشياء فرج عني هذه الكأس فهذا كله يدل دلالة لا شك فيها أنه كان يفعل ما يفعل بإذن الله إذا أراده وأقدره عليه
وأنه إنما كان يتفق له ذلك بعد أن يتضرع ويرغب لله تعالى وربما كان يسأل أمورا لا يعطيها الله له لما سبق في علم الله أنها لا تكون
منها
ما تقدم حيث سأل الله أن يدفع عنه أمر الصلب والقتل فلم يجب لذلك على زعمكم ومنها أن اليهود كانت تطالبه بمثل بعض

معجزات موسى بن عمران فلا يجيبهم بشيء وسيأتي لهذا مزيد ودليل ذلك من الإنجيل أن عيسى قال لليهود لست أفعل من ذاتي شيئا لكنني أحكم بما أسمع لأني لست أنفذ إرادتي بل إرادة الله الذي بعثني إلى ما في كتبكم من هذا الذي قد عميتم عنه ولم تسمعوا حرفا منه فتارة ينبهكم على وجه الإستدلال وأخرى يصرح بالمقال وتارة يسأل فيعطى ويجاب وأخرى يسأل فلا يرد عليه جواب وحينما يتبرأ من مشيئته ويعترف بزلته وعبوديته ثم هؤلاء القوم مع ذلك يقولون هو إلهنا ومحيينا وخالقنا فهؤلاء يكونون بكم كالأنعام وصم كالأصنام فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا
ثم نقول إن كان إحياء الأموات يدل على الألوهية فلأي شيء لا تقولون إن الياس واليسع كانا إلهين وأنه حل بناسوتهما اللاهوت وشأنهما في إحياء الموتى لا يقدر أحد على دفعه ولا يخفى
ولم لا تعتقدون ألوهية النبي حزقيال إذ فر قومه وهم ألوف حذر الوباء فأماتهم الله ثم جاءهم نبيهم فقال لهم لتحيوا بإذن الله فحيوا ورجعوا إلى قومهم سحنة الموت على وجوههم حتى ماتوا بآجالهم وهذا معروف عندهم ولا مدفع فيه
وإن أنكرتم وجود شيء من ذلك نزلنا معكم إلى ما في الكتب القديمة من قصص الأنبياء وكتبهم وهذا لازم لهؤلاء القوم لا ينفك عنه واحد منهم أبدا

ثم من عجيب أمر هؤلاء القوم أنهم يزعمون أن عيسى عليه السلام أيد نفرا من الحواريين بإحياء الموتى وجعلهم رسلا إلى الأجناس فأحيوا الموتى بزعمهم فما الذي أوجب أن يكون المسيح في حال ألوهيته قد أيد بذلك بشرا وجعله رسولا إلى الأجناس كما زعموا وما الذي منع أن يكون الله عز و جل يؤيد بذلك بشرا ويجعله رسولا إلى الناس فإن كان المسيح من أجل أنه أحيا ميتا هو الله فكل من أحيا ميتا من الحواريين وغيرهم هو الله ثم كل خارق للعادة يجعلونه دليلا على ألوهيته فإنهم يعارضون بمثل ذلك في حق غيره من الأنبياء عليه السلام ويدعى ألوهيته فلا يجدون فصلا بينهم وبين من يعارضهم
وأما من استدل على ذلك بأنه خلق من غير أب فيلزمه أن يعترف لآدم بألوهية فإنه لم يخلق من نطفة أب بل إنما خلق من تربة أرض ثم نفخ فيه من روحه كما فعل بعيسى خلقه من نفخة الملك فعلقت بلحمة مريم فنشأ منها وفيها فتربه بمنزلة لحمه ونفخه بمثابة نفخه وهذا مالا مخلص منه ولا خروج عنه ثم أكرمه الله تعالى بأنواع من الكرامات لم يكرم بها غيره منها أنه أسجد له ملائكته وأعلمه بما لم يعلمهم حتى جعله رسولا إليهم وكفى بهذا شرفا إلى ما هنالك من خصائصه ومن فضائله
بل لو أمكن لأحد أن يقول إن بشرا يتصور أن يكون إلها لكونه من غير أب لكان آدم أولى بذلك من حيث أنه لم تشتمل عليه أوضار الرحم فقد شارك المسيح في كونه من غير أب وزاد عليه أنه من غير أم لم يتكون في ظلمة الرحم ولم يتلطخ بدم الطمث ولا خرج

من مجرى البول هذا مع الإعتراف بأن ذلك كذلك ولم يختلف في ذلك أحد أعنى في أن آدم مكون مخلوق من غير أبوين
وقد خالفتكم اليهود لعنهم الله في كون الهكم المسيح من غير أب وأطلقت القول على مريم البتول المبرأة عند الله مما قالوا بما قد علمتم فلعنهم الله وغضب عليهم فلقد كذبوا
وإنما أسمعتكم هذا لتعلموا أنا نعرف ما قالت اليهود لعنهم الله في عيسى وأمه عليهما السلام وأنا ننزههما عما قال فيهما المبغضون لهما والمحبون القالون فيهما فما أجمل بكم لو شاء الله توفيقكم أن لو قلتم فيهما الحق الذي ينبغي لهما أن الله جعل عيسى وأمه آية للناس هو عبدا ورسولا وأمه صديقة مباركة
ثم نقول للمستدل بما تقدم يلزمك على استدلالك أن تكون حواء أم البشر إلها فإنها لم تخلق من أبوين ولا من نطفة وإنما خلقها الله من ضلع من أضلاع آدم لم تتكون في ظلمات الرحم ولا نشأت بين الأقذار والأوضار وخلقها من ضلع آدم كخلقه من تراب ولا فرق و إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
وأما استدلالهم بما في كتابنا من قوله تعالى إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فلا حجة لهم في ذلك لوجوه
أحدها أنهم لا يصدقون بكتابنا فلا يستدلون به على شيء
والثاني أنهم إن استدلوا على غرضهم بشطر هذه الآية فإن صدرها يرد عليهم استدلالهم وكذلك الآيات التي بعدها قال الله تعالى في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد مخاطبا لهم وردا عليه ياأهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق

إنما المسيح ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
ونور بعد ذلك إلزامات لهم
إلزام لهم
نقول لهم حين صار أقنوم العلم لعيسى كيفما صار هل بقى الرب تعالى كما كان قبل ذلك أو اختلفت حاله فإن كان كما كان قبل فلم يصر لعيسى منه شيء وأيضا فلو صار إليه بعض أقانيمه لبقى ناقص الأقانيم وتبطل ألوهيته فإن حقيقته عندهم واحد ثلاثة أقانيم وأما إن اختلفت حاله فيلزم عليه أن يصير من العلم إلى الجهل ومن القدم للحدوث وهذا كله على الله تعالى محال ومرتكبه في بحبوبة الضلال
إلزام آخر
نقول لهم حين صار أقنوم العلم لعيسى فهل بقى الباري تعالى عالما بذلك الأقنوم أم بغيره أو غير عالم باطل أن يقال غير عالم لاستحالة الجهل عليه وباطل أن يقال بقى عالما بذلك الأقنوم إذ لو كان ذلك للزم منه ألا يصير إلى عيسى ويلزم منه أيضا أن يكون علم واحد يقوم بمحلين ولو صح ذلك يصح أن يكون الواحد منا موصوفا بنصف علم وذلك محال فإن العلم الواحد لا يتبعض ولا ينقسم إذ العلم للواحد إنما يعقل في محل واحد بمعلوم واحد في زمان واحد فيما يقبل الزمان والتعدد وباطل أيضا أن يقال أنه يكون عالما بعلم آخر فإنه يؤدي إلى حدوث الأقانيم بل إلى حدوثه وذلك كله محال
إلزام آخر يظهر تناقضهم
وذلك أنه قد تقدم من مذهبهم أنهم قالوا في الأقانيم أنها غير متباينة ولا مفترقة ثم أنهم قد قالوا هنا

إن أقنوم الإبن اتحد بناسوت المسيح دون أقنوم الآب وروح القدس فمفهوم هذا أن الإبن اتحد بناسوته وبقى جوهر الآب وروح القدس لم يتحدا به وهذا تصريح بالمباينة والمفارقة فإن بعض هذه الثلاثة وجب له أمر دون صاحبيه فلو لم يباينهما ولم يكن غيرهما لما وجب له من الحكم ما لم يجب لهما ولا تناقض فظهر من هذا تناقضهم وقد كنا أظهرنا إضطرابهم في هذا في باب الأقانيم
ثم نقول تحقيقا لالزام الجميع
هذه الأقانيم إما أن تكون مباينة للجوهر مفارقة أو لا تكون كذلك
فإن كانت مباينة لزم أن تكون زائدة عليه وإن كانت زائدة عليه لزم أن يكون الإله متركبا من أمور كما مر وقد أبيتم ذلك وهو محال ويلزمكم أيضا إخراجها عن كونها أقانيم ويلزمكم رفع التوحيد إلى محالات كثيرة عندكم وإن كانت غير مباينة لم يصح إتحاد بعضها دون بعض بل لو اتحد بعضها لاتحد جميعها فيلزم على هذا اتحاد العلم والقدرة والإرادة والوجود وهذا بين لا خفاء به
إلزام آخر وطلبه
نقول لهم لأي شيء قلتم أن الذي اتحد بناسوت المسيح إنما هو الإبن فقط ولأي شيء لم تقولوا أنه اتحد به الآب وروح القدس ولو قلتم ذلك لكان أجرى على ما أصلتم من أن الأقانيم لا متباينة ولا مفترقة
فإن قالوا إنما قلنا بإتحاد الإبن لأن عيسى إنما أرسله الله ليعلم الناس شريعتهم ويخبرهم بالمغيبات عنهم ويعظهم وذلك كله إنما يصح بالعلم
فنقول لهم هذا الذي ذكرتم مسلم لكم جدلا لكن لم قلتم أنه إنما اتخذه الله لهذا فقط وإنما هو اتخذه لهذا ولأمور أخر
منها
ليعبده
ومنها
ليبرئ مرضى كانوا قد أعيوا الأطباء وأراد الله تعالى شفاءهم على يديه
ومنها
أنه أراد إحياء موتى على يديه
فتحصل من هذا أمران أحدهما أن هذه معجزات تدل على صدقه والثاني أن من أبرأه أفاق من مرضه وجذامه وجنونه

وبرصه فانتفع بذلك وكذلك يحصل للميت الذي حيى وزائدا على ذلك أن الميت آمن به فأدخله الله الجنة بإيمانه برسوله وهذه الأمور كلها لا لا يمكن إنكار أن يكون كل واحد منها مقصودا لله تعالى واذا أمكن أن يكون كل واحد من هذه الأمور مقصودا فلم اقتصرتم على مقصود واحد من هذه الأمور مقصودا فلم اقتصرتم على مقصود واحد مع إمكان هذه المقاصد وإذا تقرر ذلك حصل منه أن الله تعالى اتخذه لما لا يصح إلا بالعلم والقدرة والإرادة والحياة فقولوا إن هذه الأقانيم اتحدت به وهذا لازم لا محيص عنه ولا جواب عليه ثم يلزم على هذا أن يكون كل نبى أرسله الله تعالى يتحد به العلم فإن هذا الذي استدللتم به في حق عيسى موجود في حق غيره من الرسل إذ كل واحد منهم إنما أرسل معرفا بشرع الله ومبلغا رسالة الله ومخبرا بوعد الله ووعيده فيلزم على هذا أن يتحد العلم بكل رسول
إلزام آخر
قد تقرر أن عيسى عليه السلام كان يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طائرا فإذا قلنا هذا فأما أن يكون عيسى هو الذي يفعل ذلك أو غيره فإن كان غيره فليس ذلك إلا الله تعالى وغاية عيسى أن يكون عبدا يرغب لله تعالى في قضاء حاجته ثم إن الله تعالى يفعل ما يشاء عند تحديه بالنبوة تصديقا له في دعواه وعيسى ينظر إلى ذلك ويتعجب عند ذلك من فعل الله ولطيف صنعه وهكذا كان حال موسى عندما أيده الله بالعصا فقل له ألقها فألقاها فإذا هي حية تسعى فلما رآها على حال لم يعرفه منها هاله ذلك وولى مدبرا خائفا وذلك لما شاهد من قدرة الله تعالى فلما فرغ قال الله تعالى له خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى
وإذا قلنا إن عيسى هو الذي يفعل ذلك فأما أن يفعله بقدرة وعلم وإرادة أو لا يحتاج إلى شيء من ذلك باطل أن يقال أنه لا يحتاج إلى شيء من ذلك لأن الفعل الإختياري لا بد له من هذه الأمور بالضرورة على ما يعرف في موضعه فلم يبق إلا أن يفعل ذلك بقدرة وعلم وإرادة وهذه الصفات هي شروط الفعل ولا بد

وأن تكون منسوبة له ويكون هو موصوفا بها أو لا تكون منسوبة إليه ولا يكون هو موصوفا بها فإن لم يكن هو موصوفا بها ولا تنسب إليه فلا ينسب الفعل إليه وقد نسبتم الفعل إليه فدل ذلك على أنه موصوف بها وتنسب إليه كلها وإذا ثبت ذلك فليس من يسلب عنه القدرة والإرادة ويقول هما صفتان لله تعالى وليستا بصفتين لعيسى فتبرؤوا حالا ممن يسلب عنه العلم ويقول هو علم الله تعالى وليس علم عيسى مع أنه صفة عيسى فيلزم عن هذا البحث أن هذا الفعل المنسوب إلى عيسى موجود عن علم وقدرة وإرادة وأن هذه الثلاثة إنما تنسب لواحد فإما لله وإما لعيسى ولا يجوز عقلا أن ننسب بعضها لله وبعضها لعيسى فإن هذه الثلاثة مشروط بعضها ببعض فالمحل أو الجوهر الذي يجب لأحد هذه يجب للباقي وهذا مالا خفاء به عند العاقل الموفق
إلزام آخر
قد تقرر عند هؤلاء القوم أن علم الله اتحد بعيسى ولا خلاف بين جمهورهم في هذا المعنى وإن اختلفت عباراتهم عنه فعيسى عالم والله تعالى عالم بعلم واحد فقد اتحد أقنوم العلم وتعدد المحل فإذا ثبت ذلك لزم عليه أن يكون عيسى عالما بكل معلومات الله تعالى ويكون الله تعالى عالما بكل معلومات عيسى فإنهما عالمان بعلم واحد فإذا علم الله أنه هو نفسه خالق المخلوقات ينبغي لعيسى أن يعلم أنه هو نفسه خالق المخلوقات كذلك لأن علمهما واحد وكذلك إذا علم الله أنه هو نفسه قديما باقيا موصوفا بصفات الكمال ينبغي لعيسى أن يعلم أنه هو نفسه كذلك وإذا علم عيسى نفسه متغوطا بائلا ومصفوعا ومتوجا بالشوك ومصلوبا في حشبة ومسمرة يداه ورجلاه فيها فينبغي لله تعالى أن يعلم نفسه كذلك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهذا كله لازم على هذا المذهب السخيف الفاسد الضعيف
إلزام آخر
اتفق النصارى القائلون بالإتحاد على أن عيسى لا هوت وناسوت فبما هو لاهوت يحيى الموتى ويبرئ المرضى وغير ذلك وبما هو ناسوت يجوع يعطش ويبول ويتغوط ويفرح ويألم ويحزن ويلتذ ثم يعبدون ناسوته ويجعلونه إلها فهم بين أمرين إما أن يقولوا إن جسده المتغوط البائل إله أو هو شطر إله فإن قالوا إن جسده إله فكفى شناعة وهجانة إله بائل متغوط

مصلوب وإن قالوا إنه إله بما حل فيه من الإله فكان ينبغي لهم أن يقولوا إنه نصف إله ولا يعبدون جسمه ولا يسجدون لجسده وإذا قالوا إلهنا المسيح قالوا مكان يا إلهنا يا نصف إلهنا أو يا ثلث إلهنا فإنه اتحد به أحد الأقانيم الثلاثة والواحد من الثلاثة ثلث وهذا كله جهالات وتواقحات منهم
إلزام آخر
وذلك أنهم اتفقوا على أن المسيح صلب وقتل بالنخز ورفع فوق خشبة بعد أن أهين وصفع ووضع على رأسه الشوك وسمرت يداه ورجلاه في الخشبة وقد جاء كل هذا في أناجيلهم كما زعموا فنقول لهم ألوقت الذي أهين وصفع ورفع على الخشبة وسمرت يداه ونخز هل كان متحدا به اللاهوت أو زال عنه فإن كان متحدا به اللاهوت في تلك المواطن فلقد أدرك لا هوته من المذلة والإهانة والنخز والموت ما أدرك ناسوته لا سيما وقد ألتزمتم فيما تقدم أن أقنوم العلم حي فيلزمكم على هذا أن تعبدوا إلها ذليلا مهانا ينخز ويموت وكفى بهذا خزيا وفضيحة وإن قلتم إنه فارقه فإذا جاز أن يفارقه في موطن جاز أن يفارقه في كل موطن وهذا مما يأبونه ويلزم عليه إن فارقه أن يكون جاهلا وألا يكون إلها فتعبدون ما ليس با له
وقد خرجنا مع هؤلاء الجهال بخالقهم المستهزئين بأديانهم إلى حد الإكثار وفارقنا شرط الإختصار وقد أطنبنا في هذا الفصل وإن كان لا متمسك لصاحبه ولا أصل لكونهم متفقين عليه ومحتجين به ومتحومين نحوه
ولا يظن الظان أن هذا المذهب الذي ارتكبه هؤلاء القوم في الأقانيم والإتحاد محتاج في إبطاله إلى نظر وإجتهاد بل العقول بأوائلها تشهد بفساده كما أن الحس يدرك بياض الجسم من سواده وهؤلاء معاندون وللضروريات جاحدون
ومن كان حاله كذلك إنما يتكلم معه بضرب الأمثلة بأبين المدارك وتعديل الإلزامات وتكثير المسالك ليتبين الإفحام ويلقى يد الإستسلام وقد قدمنا العذر عن ذلك كله في أول الكتاب وإلى الله أرغب في الهداية للصواب وحسن المنقلب إليه والمآب

الفصل السادس
في حكاية مذهب أعشتين إذ هو زعيم القسيسين
نذكر إن شاء الله تعالى في هذا الفصل كلام هذا المذكور الواقع له في مصحف العالم الكائن ونحكي ألفاظه من غير زيادة ولا نقصان إلا أني اختصر من كلامه مالا تدعو ضرورة سياق الكلام إليه من غير إخلال بلفظه ولا تقصير في معناه وربما قدمت وأخرت وإنما خصصته بالكلام معه في فصل مفرد لغرضين
أحدهما أن هذا السائل على مذهبه عول وإياه قلد ومن كتابه نقل إلا أنه مع ذلك أخل بمفهوم كلامه وخالفه في سياقه ونظامه فربما ترك مذهبه بسوء نظره وهو يظن أنه يمشي على أثره وسيتبين ذلك
والثاني أن النصارى معولون على معرفته ومقلدون له في قومته وقعدته على أنه أعرف بمسالك النظر وأجرأهم على مناهج العبر لكن نعوذ بالله من عين عوراء وفطنة بتراء
قال أغشتين قد أجمعت الملة على أن الله تعالى قد كلم موسى تكليما واجتمعت على أن موسى سمع صوتا يقول له أنا ربك فأخبرونا أتؤمنون بأن الصوت الذي سمعه موسى هو ذات الرب وأن الرب في ذاته مسموع أم تقولون إن الرب أسمع موسى صوتا على ما يشاء من رفع وخفض وغلظة ورقة وأنه ابتدأ الصوت متى شاء وقطعه متى شاء وأنهى إلى موسى من إرادته ما شاء فإن قالوا إن الصوت نفسه هو الرب وأن الرب مدرك بالسمع فقد خرجوا عن مذهبهم في نفى التشبيه وإن قالوا إن الصوت من فعل الله وأن الله خلق الصوت على ما وافقه وأظهر فيه من إرادته ما شاء وأن الصوت قد كان له مبتدأ ومنتهى وأن الله الخالق له لا مبتدأ له ولا منتهى قيل لهم فقد ثبت أن الصوت الذي سمعه كان مخلوقا فكيف جاز لموسى أن يقول سمعت الله فإن قالوا مقام الصوت من الله مقام صوت الإنسان من الإنسان وأنا نسمع صوت إنسان فنقول

سمعنا فلانا وكذلك وجب على موسى لما سمع صوت الله أن يقول سمعت الله قيل لهم فقد أقررتم أن الصوت من فعل الله كما أن صوت الإنسان من فعل الإنسان ولستم تقدرون أن تقولوا إذا سمعتم صوت رجل سمعنا صوت المريد كذلك الصوت الذي ابتدأه وخاطب به ولكنكم تقولون سمعنا صوت فلان وسمعنا فلانا إذ سمعتم صوته وكذلك من سمع صوت الله وجب أن يقول سمعنا الله لإن الله خلق الصوت وجعله حجابا لإرادته التي أظهرها فيه فقد ثبت أن الناس لا يسمعون الرب إلا بصوت مخلوق على ما يشبهه تعارفهم يكون حجابا فيما بينه وبينهم
والواجب عليهم أن يخاطبوا الصوت باسم الذي الصوت له كما أن الصوت إنما خاطبهم عن الله ومثل ذلك يلزمهم في كل ما يشبه التحديد مما وقع في كتب الملل الثلاثة من التشبيه بالعالم ووصف نفسه بالعين والوجه والفم ولا يمكن جحده فقد رضى أن ينسب إلى نفسه مثل كلامهم وأن يخاطبهم في مثل لغتهم فقد ثبت أنه أتخذ التشبيه حجابا بينه وبين خلقه
ثم قال بعد ذلك كلاما معناه كما جاز أن يتخذ صوتا ويجعله حجابا لإرادته حتى أظهرها فيه كذلك يجوز أن يكون قادرا على إتخاذ أي صورة شاء وأن يظهر لعباده في أي حلية وافقته وتلك الصورة ملك له يبدلها كيف شاء لأنا إن قلنا أنه لا يقدر أن يسمع عباده صوتا ولا أن يظهر لهم بصورة فقد أزلنا عنه القدرة على كل شيء
ثم قال بعد ذلك فعلمنا أن الحجاب مخلوق وعلمنا أن الله خالق كل شيء ووجب علينا إنزاله من الإكرام بحيث أنزله الله المحتجب به لأنه متى لم ننزل كل شيء على ما أنزله عليه فقد عصينا لأنا لا نجد بدا من أن نكرم الملائكة مالا نكرم الشياطين ونكرم الصالحين مالا نكرم الفجار وهكذا فلا بد أن يكون شيء أعز من شيء وشيء أقرب إلى الله من شيء حتى يكاد شيء في العز أن يتصل بخالقه ويكون أعز الأشياء ويكاد شيء أيضا أن يكون في الهوان بحيث لا يكون شيء تحته

والواجب على العارف بالله أن ينزل كل شيء بحيث أنزله الله ويسميه بما سماه الله فإن أقر بأن الله خاطب بصوت مسموع أو ظهر في صورة مرئية فقد أقر بأن الله خص ذلك الصوت وتلك الصورة بما لم يخص به شيئا من المخلوقات وأن الواجب على من سمع ذلك الصوت أن يقول سمعت صوت الله ومن رأى تلك الصورة يقول رأيت صورة الله ولهذا وجب على موسى إذ سمع صوت القائل أنا ربك أن يجاوبه بإسم الرب ويقول بأنه ربه ووجب على آدم إذ قال يا آدم أن يستجيب فيقول هنأأنذا يا رب وكذلك في مخاطبته لجميع الأنبياء لأن الصوت لم يقل أنا صوت الله وأنا أخاطب عن الله وإنما الله خاطب به فقال أنا الله فالواجب أن نخاطب بمثل ما خاطب به
ومثل ذلك يجب في الصورة ومن ظهر له الله في صورته كما ظهر لأشعياء ولدانيال فقد وجب عليه أن يسجد للصورة وأن يخاطبها باسم الله لأن علمه بأن الله خص تلك الصورة بالإتخاذ لها والإحتجاب بها ضام له إلى عبادته فيها لأنه قد رضى أن يرى فيها ويعبد بها
وقد علمنا أن الله خالق الصوت الذي أسمعه لموسى كما علمنا أن الله خلق جميع الأصوات ولكن وجب علينا الإقرار لذلك الصوت بالربوبية ما لم يجب لغيره لعلمنا أن الله ولى المخاطبة بذلك وكذلك يجب في الصورة أن يخصها من الإكرام بما خصها الله به
ومن قال لا يجب أن يخاطب الصورة باسم الله ولا أن يجاوب الصوت بإسم الله فقد قال إنه لا يجوز أن يتخذ الله صورة ولا أن يسمع صوتا وإذا وجب إكرام الحجاب بإكرام المحتجب به لم يبق علينا من الكلام شيء إلا في الحجاب الذي اتخذه منا وهو المسيح والإستشهاد بالتوراة والإنجيل في أمره إلا أنا نقدم القول في ذلك بالقياس لئلا نستشهد بالكتاب إلا فيما كان داخلا تحت الإمكان
ثم قال هذا وإن لم يوجبه القياس إيجاب الإضطرار فإنه يجوزه تجويز الإمكان لأن القياس الذي فضل به الإنسان على جميع خلقه وخاطبهم بمثل لغتهم وتشبه بهم في مخاطبتهم وخلق كل

شيء لهم ومن أجلهم وأوجب لهم البقاء معه في رضوانه وألا يكون دونهم أبدا وأنه ظهر لهم بحجاب مخلوق فتشبه لهم بنعت محدد فغير ممتنع فيه ولا بعيد أن يكون حجابه فيما بينه وبلغهم منه ومما يشبههم ونزوله إلى مخاطبتهم في مثل لغتهم وهو نزوله إلى الظهور لهم في مثل صورتهم لأن اتخاذ الصورة مثل اتخاذ الصوت
ثم قال شواهده الواضحة كثيرة من ذلك قول أرمياء النبي حيث يقول مناجيا الله يا رجاء إسرائيل يا مخلصه من الغم لم ستكون في المستقبل كالغريب في الأرض أو كالمسافر يعدل إلى المبيت لم ستكون في المستقبل كرجل صالح لا يقوى أن يخلص وقول أشعياء النبي حيث يقول إن العذراء ستحمل وتلد ولدا ويدعى ولدها عجيبا مدبرا إلها قويا والدا مقبل الدهر العالم يكثر ملكه ولا يكون لسلطانه إنقطاعا ولا آخر وقوله أيضا من ذا يقبل خبرنا أمن ذا ظهر له ذراع الرب ثم وصف أنه ظهر ضعيفا محتقرا وأنه هدى بنفسه إلى القتل طوعا ووصف خبر المسيح ظاهرا كما كان وقول يعقول لبنيه حيث يقول لا ينقضى

الملك من سبط يهوذا ولا يزال منهم أمير حتى يأتي الذي هو مرسل وهو يكون رجاء الأجناس وتترجم كذلك بإختصار لا ينقطع الملك منهم حتى يأتي المسيح
هذا ملخص كلامه وزبدته في عدة أبواب من كتابه المتقدم الذكر من غير أن أخرج عن لفظه إلا ألفاظا يسيرة يتصل بها الكلام ولا تغير المعنى
وها نحن بعون الله نجاوبه مجاوزة على طريق البحث والمناظرة
وأما قوله اجتمعت الثلاث ملل على أن موسى سمع صوتا يقول أنا ربك فهذا قول كذب ينبئ عن غفلة أو جهل وذلك أن الذي اتفقت الملل عليه إنما هو أن الله كلم موسى وأن الله تعالى متكلم وأما أنه متكلم بصوت أو سمع موسى صوتا من الله فهذا شيء اختلفت فيه الملل وتباينت فيه النحل وأكثر أهل الملة الحنيفية يأبى ذلك ويخطئ من صار إلى ذلك أعنى من صار إلى أن يكون الباري تعالى متكلما بصوت وأن موسى عليه السلام لم يكلمه الله بصوت وإنما

كلمه بكلامه الذي هو وصفه الذي ليس بصوت ولا حرف على ما تقرر بيانه فيما تقدم فهذا الرجل الحاكي هذا القول إما أن يكون علم اختلاف الملل فيما ذكر فيه إجماعها أو لم يعلم فإن كان علم فقد كذب وإذا عرف من أحد من الناس الكذب فينبغي ألا يلتفت إليه ولا يعول عليه
فينبغي لكم ألا تعولوا على شيء من نقله لامكان أن يكون كذب فيه كما كذب في هذا وإن كان ذلك القول منه عن جهل فهذا كثير في حقه من جهتين
أحدهما أنه أقدم على الإخبار عما لم يتحقق من غير بصيرة وليس هذا فعل العلماء ولا الأكياس من الفضلاء وكفى بالمرء كذبا وإثما أن يحدث بما لم يعلم صحته
والجهة الثانية أنه جهل أمرا معلوما على القطع صار إليه وعمل على مقتضاه أمم لا يحصون كثرة منذ مضى السنين ولا محمل بمن تعاطى نصرة المذاهب والكلام مع أربابها أن يجهل مثل هذا وإذا جهل هذا فهو بما هو أخفى من هذا أجهل فهو بين أمرين إما أن يكذب متعمدا فلا يثقون بقوله أو يجهل أمرا جليا يدرك بأدنى بحث وأيسر أمر فلا ينبغي لكم أن تقلدوه في عمله ونظره
وإنما ذكرت هذا لتعلموا أن عمدة النصارى على هذا الرجل في مذاهبهم بقوله يحكون وبه يحتجون وله يقلدون وعليه يعولون فهو وهم كرجل أعمى ادعى أنه بصير فاستقاده عمى فقادهم فسقط في حفرة فسقطوا لسقوطه وأشد عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي وامام ضلالة وإنما كان كذلك لأن عليه وزرها ووزر من عمل بها فطوبى لمن مات وماتت معه ذنوبه
وأما قوله فإن قالوا إن الصوت نفسه هو الرب وأن الرب مدرك بالسمع فقد خرجوا عن مذهبهم في نفى التشبيه فهذا نص من كلام هذا الرجل أن الصدى ليس بالرب
وقد قال السائل الذي جاوبناه قبل هذا أنه أقر له بالربوبية وظاهر قوله مناقض لقول إمامه ثم نقول لهما قد أتفقتما على أن

الصوت مخلوق وأن الله تعالى ليس بمخلوق فهذا الصوت المخلوق إما أن يكون ربا غير الله أو ليس رب فإن كان ربا غير الله فيلزمكم أن تعبدوه بعبادة خاصة غير عبادة الله بل هو أولى بالعبادة من ناسوت المسيح إذ يتغوط ويبول ويصلب على قولكم إلى غير ذلك مما عددناه
وذلك أن الصوت لا يليق به شيء من ذلك وذلك كله جهل وقد ألزمناهم على ذلك مناقضات لا محيص عنها فيما تقدم وإن كان هذا الصدى ليس برب فيلزمكم على قولكم أن يكون موسى خاطب بالربوبية من ليس برب وذلك لا يليق به وهذا على قوله أن المخاطب هو الصدى لازم ضرورة ثم ما أعجب أمر هؤلاء القوم ينفون تشبيه الله تعالى بخلقه ويجعلون نفسه قاعدة يرجعون إليها بزعمهم ثم يلتزمون من التشبيه في حق الله تعالى ما لم يقل به من المشبهة أحد وذلك أنهم قالوا إن الله تعالى متكلم بصوت هو من قبيل أصواتنا وهو مخلوق مقطع بالحروف وهو مع ذلك مخاطب بالبربوية وهذا هو التشبيه الذي فروا منه وزيادة عليه
ولقد أوغل في التشبيه كبيرهم أغشتين وإن كان عن أصل التشبيه من المعرضين وذلك أنه جوز عقله بزعمه أن يتخذ الباري صورة يجهلها ويظهر فيها ويسجد لها ومن رأى تلك الصورة ويقول رأيت صورة الله فإنه قد رأى الله ولا تشبيه أعظم منها بل المشبهة أحسن حالا منه وذلك أنهم أعنى المشبهة بنوا أمرهم على ظواهر الشرائع فأثبتوا ما أثبتت الشرائع وما قالت الأنبياء وما جاء في كتب الله مصدقين لها غير منحرفين عن ظواهرها ثم عزلوا عقولهم فلم ينظروا بها فبقوا على جمود التقليد وثبتوا على صميم الإعتقاد والتوحيد ومع ذلك فإنهم يعظمون الله ويقولون بأن لا إله إلا الله
ومما صرح فيه بإلتزام التشبيه قوله صوت الله من فعل الله كما أن صوت الإنسان من فعل الإنسان ولا معنى للتشبيه الذي نفى إلا هذا فهذا تناقض ظاهر فإنه تارة نفى التشبيه وتارة أثبته ثم قوله يصرح بأن حقيقة المتكلم من فعل الكلام وهو خطأ بل حقيقة المتكلم من قام به الكلام والدليل على ذلك أن حقيقة المتكلم تفهم بكمالها مع فرض الغفلة والذهول عن كونه فاعلا للكلام ولو كانت حقيقة المتكلم من فعل الكلام لما فهمت حقيقة المتكلم حتى يفهم كونه

فاعلا للكلام على ما يعرف في موضعه ولو كانت حقيقة المتكلم من فعل الكلام لكان الباري تعالى متكلما بالكلام الذي يقوم بنا فإنه فاعل كلامنا وخالقه على ما يعرف في موضعه وذلك محال
ولتعلم أيها الناظر في هذا الكتاب أن كل ما ذكره هذا القس في هذا الفصل إنما هو مبنى على أنه تعالى متكلم بحرف وصوت وقد أبطلنا ذلك فيما تقدم حيث قلنا كلام الباري تبارك وتعالى ليس بصوت ولا حرف وإنما هو وصف له قائم به ليس بحرف ولا صوت كما نبهنا عليه
وإذا بكل ذلك بطل كل ما انتحله في هذا الفصل من الهذيان وإنما كلامنا معه بعد ذلك على طريقة المناظرة الجارية بيننا وذلك أن أرباب النظر ربما يسلمون ما هو معلوم الفساد ليتبين تناقض الخصم وتحكمه للعباد وكذلك نفعل نحن بهذا الرجل بحول الله فنقول له
لأي شيء قلت أن الله اتخذ الصوت حجابا لإظهار أرادته ولبست بلفظ الحجاب ولو قلت إن الله جعل الصوت دليلا على ما أراد لارتفع التلبيس ولزال الإبهام الذي أوهمت فإنك أوهمت بلفظ الحجاب أن الإرادة احتجبت به واتحدت معه حتى ظهرت بواسطته فجعجعت أنت بلفظ الحجاب والظهور وأوهمت وأنت ما حصلت على فائدة ولا وجدت
ومما يتبين أن هذا الذي ذكره إنما هو جعجعة لفظية ليس وراءها معنى أنا نبطل لفظ الحجاب بالدليل ولا نبقى مما توهمه شيء فإننا يمكننا أن نقول إن الصوت الذي خلقه الله تعالى وجعله دليلا على إرادته على قوله إنما هو بمثابة أن لو خلق خطوطا في حجر يستدل بها المستدل على إرادته إذا قرأها فلا يتمكن لعاقل أن يقول إن الإرادة انحجبت بخطوط ذلك الحجر ولا اتحدت به فإن الإرادة لا تقوم بجماد وهذا بين بنفسه
وكذلك لو كتبنا لفظ النار في ورقة لما تخيل عاقل بل غافل أن ذات النار حلت في الورقة إذ لو حلت النار في الورقة لاحترقت وكذلك

الصوت المقطع حروفا إنما هو دليل على ما في النفس من غير أن يحل ما في النفس ولا أن يتحد به وإذا فهم هذا ارتفع كل ما توهمه هذا المخدوع بالضرورة
ثم نقول له نسلم جدلا ما ذكرته من لفظ الحجاب والظهور لكن لم قلت أنه إذا صح أن تظهر إرادته بحجاب الصوت جاز أن تظهر ذاته بحجاب الصورة وما الدليل على ذلك وأي جامع بينهما
فإن قال الدليل على ذلك أن الله تعالى قادر على ذلك كما هو قادر على حجاب صوته فإنه إن لم يكن قادرا على إظهار ذاته بصورة فيكون عاجزا والعجز عليه محال فهذا هو الدليل وأما الجامع فإن الصوت مظهر للإرادة والصورة مظهرة للذات
فيقال له أما إستدلالك بأن الله قادر على كل شيء فإستدلال فاسد فإن الأشياء التي يقدر الباري تعالى عليها إنما هي الممكنات لا المستحيلات وهذا الذي ذكرت من ظهور الله في صورة مستحيل لا يكون به مقدورا فإن المستحيل لا يوصف الباري تعالى بالقدرة عليه ولا بالعجز عنه لإستحالة شرط تعلق القدرة وهذا إنما يعرفه من يعرف حقيقة حقيقة الواجب والممكن والمستحيل
ثم أنا نقلب عليهم دليلهم ونقول هل يقدر الله تعالى أن يظهر نفسه من غير صورة أم لا فإن قالوا يقدر قلنا لهم لا يحتاج إلى الصورة التي فرضتم وإن قالوا لا يقدر قلنا لهم فيلزمه العجز وبالذي ينفصلون عن هذا به بعينه ننفصل نحن عما ألزمونا
وقد بينا فيما تقدم أن إتخاذ الباري سبحانه وتعالى صورة ليظهر فيها مستحيل حيث أبطلنا الحلول والإتحاد وما في معناه
ونزيد الآن هنا نكته وهي أنا نقول هذه الصورة التي يظهر فيها لابد أن تكون متحيزة محدودة والظاهر فيها إما أن يكون داخلا فيها أو خارجا منها أولا خارجا ولا داخلا فإن كان داخلا فيها كان محدودا محاطا به وهذا هو التشبيه

فإنه يلزم منه أن يكون جسما وهو باطل على الله تعالى ومحال وإن كان خارجا عنها لزم تحديده أيضا لأنه لا يكون خارج لا محدود متحيز فيلزم أن يكون بجهة من الصورة وإذا كان بجهة كان جسما وهذا تشبيه
وأيضا فإذا كان بجهة من الصورة التي ظهر فيها كان مفارقا لها وإذا كان مفارقا لها لم يظهر فيها وإن ظهر فإنما يظهر بنفسه لا بالصورة وإذا كان لا داخلا فيها ولا خارجا عنها استحال عليه أن يظهر بها أو فيها لأن ما ليس بمتحيز ولا داخل ولا خارج لا يظهر في جسم متحيز لأنه من حيث كان ليس بداخل فيها فقد فارقها وإذا فارقها لم يكن فيها وإذا لم يكن فيها لم يظهر فيها
ولو جاز أن يظهر في كل ما ليس بداخل فيه ولا خارج عنه لجاز أن يظهر في كل موجود وإذا جاز ذلك فلعله قد اتخذ الأنبياء كلهم حجابا يظهر فيهم وهذا مما يأبونه وهو محال عندهم
وأيضا فإن الله تعالى عندهم لا يرى بإنفراد من غير صورة ولا يظهر دونها فكذلك يلزمهم أن يبقى على حاله لا يظهر وإذا وجد صورة إذ ليس بداخل فيها ولا خارج عنها
فإن الصورة لا تكسبه أمرا أوجب له ظهورا إلا لم يكن له وهذا بين الإستحالة إذ يلزم على ذلك تغيره عند العاقل المنصف
نكتة أخرى
وهي أنا نقول هل يجوز أن يرى الباري تعالى ويظهر من غير صورة أم لا يجوز فإن جاز ذلك فلم حتمتم اتخاذ الصورة عليه وقلتم أنه لا يظهر ولا يرى إلا بصورة وإن قلتم لا يرى ولا يظهر إلا بإتخاذ صورة فإذا وقع بصر الناظر فأما أن يقع على تلك الصورة أو على الله وعليهما
فإن قلتم وقعل البصر على الصورة لا عليه فالمرئى إذن هي الصورة المخلوقة لا الخالق وإن وقع البصر على الخالق وحده لا على الصورة فهو المرئى ولا ترى الصورة فإن الصورة ليست هي الخالق تعالى والرائي لم ير إلا الصوت فإذن لم ير الخالق وإن وقع البصر عليهما لزم عليه أن يرى الرائي شيئين الخالق والصورة

وهو إنما رأى شيئا واحدا بالضرورة وهو الصورة لقول من يقول إنه ظهر بالصورة
وأيضا فلو وقع بصر من رأى عيسى عليه السلام على ناسوته ولاهوته لما احتاجوا أن يستدلوا على ألوهيته بإحياء الموتى وغير ذلك ولما كان يحتاج هو أن يدل على لاهوت نفسه بشيء من المعجزات وخوارق العادات إذا كان يدرك منه بالحس والعيان ذلك والمعلوم بالعيان لا يطلب تحصيل علمه بالدليل والبرهان
فحصل من هذا أن الصورة المقدرة لا يظهر فيها الباري تعالى وإن ظهرت هي فإن الرائى إنما يراها وحدها وهي الظاهرة له وأما الباري سبحانه وتعالى فهو بعد إيجاد هذه الصورة على ما كان عليه قبل إيجادها لم تتبدل حاله أعنى أنه إن كان قبل إيجاده هذه الصورة قابلا لأن يظهر فهو بعدها قابل لأن يظهر وإن كان ممتنعا عليه أن يظهر قبلها امتنع عليه ذلك بعدها لاستحالة التغير عليه فإنه لو تغير لكان محدثا
وأما ما ادعاه من الجامع فلا نسلم أن الصوت مظهر للإرادة إلا بمعنى أنه يدل عليها لا بمعنى الإحتجاب والظهور كما زعم وإذا لم نسلم هذا في الصوت فلا يصح له قياس الصورة على الصوت ولو سلمنا قياس الصورة على الصوت من حيث الجامع فبأي دليل يحمل أحدهما على الآخر فإن وجود الجامع لا يدل على أن حكم أحدهما حكم الآخر إذ لا يبعد في المتماثلات في بعض الصفات اختلافها في بعض الأحكام على ما يعرفه أهله ولو سلمنا وجود دليل الإلحاق لكان قياس جزء على جزء وذلك غير مقبول في العقليات على ما يعرف في موضعه وعلى مايقال مع أهله فظهر من كلام هذا الرجل عند العقلاء أنه غير متمسك بدليل عقلي وسنبين أنه لم يستدل على صحة مذهبه بدليل نقلى فإذا بطل له المعقول والمنقول ثبت أنه بالتحكم والهوى يقول وذلك دأب كل غبي جهول
وأما قوله فالواجب عليهم أن يخاطبوا الصوت بإسم الذي الصوت له وكذلك الصورة يجب أن تخاطب بإسم الذي هي له

فنقول له قولك واجب عليهم هذا الوجوب الذي ادعيته أهو عقلي أو شرعي فإن قال هو عقلي وشرعي فلا بد من إقامة الدليل على ذلك
فإن قال الدليل على ذلك النقل والعقل أما النقل فهو أن العاقل إذا أقر بأن الله خاطب موسى بصوت مسموع أو ظهر في صورة مرئية فقد أقر بأن الله خص ذلك الصوت وتلك الصورة بما لم يخص به شيئا من المخلوقات إذ تجلى هو فيها وإذا ثبت ذلك فالعقل يشهد بأن ذلك الصوت وتلك الصورة شريف والصوت لابد أن يعترف لشرفه وينزل منزلته ولا أشرف من الله تعالى وما ظهر فيه الله تعالى فينبغي أن يعظم بأقصى رتب التعظيم ويعبد بأجل العبادات فخرج من هذا أنه يجب عقلا أن تعظم الصورة لتعظيم الحال فيها فتخاطب بإسم الرب ويعترف لها بالربوبية والألوهية
وأما الشرع فالذي دل عليه العقل جاءت به الشرائع ألا ترى أن موسى خاطب الصوت بإسم الربوبية وكذلك من رأى الصورة إنما يرى صورة الله والله تعالى معظم بالشرع والعقل فتلك الصورة ينبغي أن تكون معظمة بالشرع والعقل ألا ترى أن الشرائع قد أمرتنا بتعظيم الملائكة وإهانة الشياطين وليس يخفى أن العرش أعظم من السماء وأن المشرق أعظم من المغرب وأن الصالحين أعظم من الطالحين وهذا كله يشهد له العقل والنقل كما سبق
هذا إنهاء تقرير حجته وإليها أشار في كلامه ولا مزيد في التقرير عليها
فنقول قولك العقل دل عليه باطل فإن العقل لا يدل على التزام العبادات فإن معنى العبادات التي تفعل بحكم اللزوم إنها تفعل وإلا فيعاقب الله التارك وذلك لا يتوصل العقل إليه إذ العبادات لا تتعين عنده إلا بتعيين معين الذي هو الشارع الذي ينص على ما يرضيه من العبادات وعلى ما لا يرضيه وأما العقل فلا يستقل بشيء من ذلك فلعل العبادة التي يعينها العقل ويلتزمها لعل الله تعالى لا يرضى بها إذ يفعل الله ما يريد ولعل ما يظنه العقل عبادة هو معصية فإن هذا الله تعالى يفعل ما يشاء فكما يجعل من شاء نبيا ووليا

يجعل من يشاء فاسقا وخبيثا ويمد بأسباب ذلك ولا حجر عليه في ذلك ولا حكم كذلك يجعل ما يشاء من الأعمال طاعة وما يشاء معصية وإن لم تقل بذلك لزمك أن تجعل الله تعالى محكوما عليه مغلوبا وذلك كله على الله تعالى محال
وأما ما ادعيت من النقل من الأنبياء فذلك شيء لا يصح عنهم أنهم عظموا الصوت والصورة بما عظموا به الله حتى عبدوهما كما تزعمون أنتم
وقولكم إن موسى خاطب الصوت بالربوبية زعم وقاح وافك صراح وإنما المخاطب بالربوبية المتكلم بالصوت بزعمكم الذي قال عن نفسه بالصوت أنا الله والذي يعقله العقلاء الذين لا يلعبون بأديانهم ولا يجترؤون على ربهم والههم إن الصوت موجود يتكلم به ولا يتكلم هو عن نفسه فإذا سمع العاقل قائلا قال بصوت مقطع مشيت إلى بيت المقدس فرأيته مثلا لا يشك عاقل في أن المخبر عن نفسه إنما هو الذي قام به الصوت لا الصوت فإنه لو كان الصوت هو الذي أخبر بذلك عن نفسه لما صدق عليه ذلك ولما صح منه الخبر لأنه لا يتأتى منه المشى ولا الرؤية
وكذلك لو قال إنسان مخبرا عن نفسه بقوله أكلت الخبز وهذا بين بالضرورة وإذا تقرر هذا فالصوت الذي سلمناه جدلا الذي تكلم الله به على زعمهم لم يقل من نفسه شيئا مما ذكروه إنما الله هو الذي قاله مخبرا عن نفسه وأما ما قاله موسى فإنما قاله لله تعالى فله اعترف بالربوبية وإليه تاب وله سجد وإياه عبد لا للصوت وهذا معلوم على القطع والضرورة والمخالف في ذلك جاهل متسامح أو معاند متواقح
وقد كان تقدم من قول السائل الغبي الجاهل أن موسى أعترف للصدى بالربوبية وأنه الذي قال عن نفسه أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأنه هو الذي سجد له موسى وعن ذلك الصدى تحمل موسى الرسالة وأنه هو الذي كلم موسى وإياه جاوب وأنه قام عند موسى مقام خالق فسماه إلها وربما يظن ذلك الجاهل أن هذا

الذي قاله أغشتين هو الذي قاله هو وهيهات أن بينهما ما بين الثرى والثريا
وغاية كلام أغشتين وإن كان فيه من المخطئين أن يقول قد علمنا أن الله تعالى خلق الصوت الذي أسمعه لموسى كما علمنا أن الله خلق جميع الأصوات ولكن وجب علينا الإقرار لذلك الصوت بالربوبية مالم يجب لغيره لعلمنا أن الله تعالى ولى المخاطبة به
هذا نص ما في كتابه على هذا المعنى
ولا يفهم منه شيء مما انتحله ذلك السائل وقد وكلت الناظر العاقل المنصف للوقوف على كلامهما وتفهم معانيهما فإني قد نصصت على كلامهما في هذا الكتاب وحكيته كي يزول الإرتياب ويعلم الناظر المنصف أن السائل ليس على شيء من الصواب وإنما نبهت هذا التنبيه حذرا من المغالطة والتمويه فإني أخاف إن وبخ أحد أقسة النصارى هذا السائل على هذا المذهب الذي اخترعه والمحال الذي ابتدعه أن يحتج لنفسه بأن ينسبه إلى أغشتين ويكون في نسبته من الكاذبين
فمن أراد الإنصاف فليطرح عن نفسه التعصب والإعتساف ويقف على كلامهما متدبرا وفيه متفكرا ولقد كنت أتمنى أن يكون أولئك الأقسة بين يدي حتى يسمعوا مني وينظروا إلى فليس كل ما في النفس تبرزه المكاتبة ثم ليس الخبر كالمشافهة
وأما قوله وإذا وجب إكرام الحجاب بإكرام المحتجب به لم يبق علينا من الكلام شيء إلا في الحجاب الذي اتخذه منا وهو المسيح فنقول المفهوم من لفظ الحجاب إنما هو الساتر للشيء المانع له فإنك تقول احتجب عني فلان إذا استتر عنك وامتنع من لقائك والخروج إليك ولا يصح هنا على مفهوم كلام هذا الرجل أن يكون الحجاب هو الساتر بل هو الكاشف المظهر على قوله وذلك أن إرادة الله وذاته قبل إتخاذ الصوت والصورة لم يكن شيء منهما ظاهرا فلما اتخذهما ظهرت إرادته وذاته هذا مفهوم مساق كلامه فتدبره

وهذا يدلك على قلة التحصيل وقصد التخليط والتجهيل وإذا كان الناظر من قلة التحفظ بحيث يعبر عن المظهر بالساتر فعلمه جهل ونظره قاصر
وأما قوله في الشواهد على إتخاذ الله المسيح حجابا فتهويل ليس وراءه تحصيل وذلك انه قال إن لم يوجبه القياس إيجاب أضطرارا فإنه يجوزه تجويز الإمكان ثم إنه تكلم بأكثر وذكر القياس الفاسد الذي به كفر ثم رجع حاصل كلامه إلى أن قال لأن إتخاذ الصورة مثل إتخاذ الصوت وهذا كله قد بينا فساده فيما تقدم
وأما ما ذكره من شواهد الأنبياء عليهم السلام على ما إدعاه من الهذيان والهذر والبهتان على المتعالي عن النقصان فليس له في شيء من ذلك شاهد وحاشا أنبياء الله وكتبه من مذهبه الفاسد وغاية تلك الشواهد أن تدل على رسالة عيسى عليه السلام وليست دلالتها قاطعة على ذلك فتدبرها بفهمك وخذها بقياس عقلك
وسيأتي ذكر ذلك وأشباهه في باب النبوات بعد هذا إن شاء الله تعالى وقد أتينا على ما أردنا ذكره في هذا الباب والحمد لله على أنا أغفلنا كثيرا من ألفاظ أغشتين يمكن البحث فيها تركناها لئلا يطول الكتاب ويخرج عن الضبط هذا الباب
على أن هذا من كلامه هو اللب واللباب هذا مع أن الأمل إن وافق القدر أن أرد على القس أغشتين كلامه وأبطل من ذلك الكتاب قصده ومرامه
وحسبنا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله

كمل الباب الثاني وبكماله كمل الجزء الأول الحمدلله حق حمده وصلى الله
على سيدنا محمد وآله وسلم يتلوه الثاني
الإعلام
بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة و السلام
تأليف الإمام القرطبي
تقديم وتحقيق وتعليق الدكتور أحمد حجازي السقا
الجزء الثاني
الباب الثالث
في النبوات وذكر كلامهم
هذا الباب ينقسم قسمين
أحدهما نحكى فيه كلام السائل ونذكر الجواب عليه
والثاني نتكلم فيه على النبوات وعلى إثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة و السلام
القسم الأول
الفصل الأول
احتجاج أصحاب الملل
في حكاية كلامه
قال إبتداء احتجاج الثلاث ملل بعون الله
أعلم أن أهل الملل أجمعين متكافئون في إدعاء الإيمان حاكمون على كل قوم لأنفسهم بالإيمان ولغيرهم بالكفر قد غلبت عليهم في ذلك الغواية وتأديب الصبا ووصية الآباء والأجداد حتى صار ذلك طبعا فيهم لازما لهم فكلهم قد سهل عليهم انتقاص غيرهم وطاب عندهم دينهم بالتهنية في دنياهم عن معاد آخرتهم وصاروا في تدبير دنياهم ومعايشهم على خلاف ذلك لأنك تجد أهل كل ملة يزعمون أن غيرهم من الملل ألحف على كل طلب معايشهم وألطف في إستجلاب أرزاقهم
وأحسب أن العلة في ذلك رغبتهم في التكاثر من الدنيا وهي التي تدخلهم إلى التحاسد والمعايرة فيعجز كل قوم أنفسهم في طلب معاشهم وأن الآخرة عندهم مهملة لبعدها عن حواسهم
فلذلك يزعم أهل كله ملة أنهم أحق خيرا من غيرهم فلذلك قل تناصفهم فيها وإن طال عصرهم لأن كل قوم قد قلدوا سلفهم وطاب عندهم خبرهم في مدح دينهم وذم غيرهم فأسقط الرجل منهم كل حاسة وأمات خواطره وأذهب فهمه بقطع كشفه عن مصالح ما يستقبله من خبره وإستعماله إياه بما هو مدبر عنه من دنياه
ولتجدن الرجل من كل ملة يروم شراء خرقة يرقع بها ثوبه أو شركة لنعله فتراه يستجير ويستشير خوف السقطة والغلط
ثم إذا صار إلى كشف دينه ومعاده أكتفى فيه بتقليد سلفه ثم لا يبالى بدليل من خالف ملته وينتقص كل خارج عن دينه

فكل يقتحم المناظرة وإن لم يحسنها ويراها فريضة وهو لا يفهمها ولم يتخذ شيئا من العلوم والصناعات إلا الفضول معترف فيها للفضائل لا الجدال والمناظرة وأن الجميع يدعون أمرا لا يقدرون على التناصف فيه لبعد غايته وهو أنهم ليختلفون في معرفة الباري تعالى لأنه لا يدركونه بالحواس فيختلفون في معرفته وإنما يتعارف الناس فيما يدركونه بالحواس ويتصورونه في الأوهام فينقمع العقل السليم في إجابة الحق إذا أدركه وانكشف له فلذلك يجادل كل قوم عن دينهم ويفضلون أنفسهم على غيرهم ويدلك على ذلك أنك تجد الصقلبي العبد الحبشي يقع مرقوقا بيد رجل من أحد الثلاث ملل فيرده إلى ملته ويورد عليه أخبار سلفه فيتقبله منه كتقبل الأطفال المعذبين فيه وعلته في ذلك أنه يجد صدره خاليا من الأخبار المدونة في الكتب فيتعلق بما أورد عليه من أخبار من علمه ويتمكن ذلك في صدره حتى يصير واحدا من أهل الملة في إدعاء الفضل لها وإنتقاص أهل غيرها والطعن عليهم ولو أن مجوسيا دخل بلدنا طارئا أو تاجرا فكبرت عليه مجوسيته ووحش لوحدته على البقاء عليها عازما على رفضها ثم طلب الخروج إلى أفضل الثلاث الملل المفسدة عليه مجوسيته لتحير وعمى أية أفضل فيخرج إليها لأنه يجد كل قوم يدعون لأنفسهم الإيمان ولغيرهم الكفر ثم تجدهم متكافئين في إدعاء الآيات لأن أهل كل دين يزعموه أن بينة دينهم على آيات قامت وبراهين ظهرت وما تجد عند أحدهم آية من تلك الآيات التي زعموا أنها أضطرت عقل المجوسى إلى الدخول في أديانهم
ولكن الذي كان يضمه إليه حسن نظره أن يتوقف حتى يسمع حجتهم ويستعمل عقله في دعواهم ليفهم ما احتجاجهم من نبذ الحق فكان يجد في دعواهم أن النصراني والمسلم مقران لليهودي بأن دينه أول وأنبياؤه حق ثم يقول النصراني إن كتابي جاء من بعد فنسخ طاعة دين اليهودي ثم يقول المسلم وكذلك جاء كتابي بعد فنسخ طاعة دين النصراني كما نسخ اليهودي فإذا كاشف المجوسي اليهودي عما إدعياه أنكرهما وقال لم يأت بعد كتابي

من الله كتاب ثم إذا سأل النصراني عما إدعاه المسلم أنكر أيضا وقال لم يأت بعد كتابي من الله كتاب
فوجب على النصراني أن يأتى بالبينة على اليهودي من الكتب التي أقر له بها فإن لم يكن فيها مسيحا منتظرا فلا حجة له عليه ولا معلق له إليه وإن كان فيها مسيحا منتظرا يرجى صلاح الحال من سببه ووافقت علاماته علامات الذي قد جاء وظهر فإذا كان فقد اختار النصراني الرسالة الأولى والثانية لنفسه وخرج اليهودي عن رضا المعبود بجحده الرسالة الثانية ودفعه بسنته فيما أعقب به في عباده من الرسالة الثانية ثم يحمل المسلم البينة على النصراني من الكتب التي أقر له بها وجامعه عليها فإن لم يكن فيها محمد منتظرا فلا حجة له عليه ولا مطعن له إليه
وإن كان فيها محمد منتظرا ثم وافقت علاماته علامات الكتب فقد أصاب المسلم ولزم النصراني الخروج عن رضا معبوده
الجواب عن كلامه يا هذا أسهبت وأطنبت وبحبة خردل ما أتيت كثر كلامك فكثر غلطك وقلت فائدته فظهر قصورك وسقطك ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه كانت النار أولى به أعميت لجهلك بلحنه ولم تتفطن لتثبيجه ولحنه فلقد استسمنت ذا ورم ونفخت في غير ضرم
فأول خطابك قولك في ترجمتك هذا الفصل احتجاج الثلاث ملل ثم ضمنته ذكر ملة المجوس فكان ينبغي لك أن تقول احتجاج الأربع ملل فإن المجوس أمة تدعى أنها أرسل إليها رسول وأنزل عليه كتاب ثم إن مذهبهم في التثنية وإن كان باطلا فهو أقل شناعة وأبعد عن جحد الضرورة وأدخل في مسلك النظر وإن كان فاسدا من مذهبكم فإنهم يقولون إن الموجودات خير وشر ولا بد لكل واحد من موجد فموجد الخير خير والخير لا يفعل الشر لئلا يكون شريرا وموجد الشر شرير لا يفعل الخير إذ لو فعل الخير لما فعل الشر قالوا فلا بد من إلهين إثنين يفعل أحدهما الشر والآخر الخير
وهذا كلام يشبه النظر العقلي وبعد بحث شديد يتبين فساده فلهم شبهة في التمسك بمذهبهم ولو أورد المجوسي شبهته عليكم

لصعب عليكم ابطالها لكونه يلزمكم من مذهبكم إلتزامات لا تنفصلون عنها
وأنا الآن أذكر طرفا من ذلك حتى يتبين عجزكم وجهلكم هنالك
أما مذهبكم في الأقانيم فغير مقبول ولا معقول كما تقدم وكفى به فسادا قولكم آلهة ثلاثة إله واحد وكذلك مذهبكم في الإتحاد والحلول على ما مر ومن العجب أنكم تعتقدون مذهب المجوس ولا تشعرون فإنكم تنسبون الشرور والإضلال الى غير الله تعالى وتعيبون علينا إذا نحن فوضنا كل الأمور إلى الله تعالى وقلنا كل موجود في العالم فإنما هو موجود إيجاد موجد واحد وهو اللة تعالى وهذا والله هو التوحيد الحق الذي ارتضاه الله لخلقه وكلف به أنبياءه ورسله وأنزل به كتبه
فعين مذهبكم في هذه المسئلة هو مذهب المجوس فإنكم تنسبون الشرور كلها إلى الشيطان وهو عدو الله وهو لا يصدر عنه إلا الشر وليس الشر من إيجاد الرحمن عندكم فإنه ما يوجد إلا الخير فعلى مذهبكم هناك خالقان أحدهما خالق الخير وهو الله والآخر خالق الشر وهو الشيطان وهذا عين المجوسية فصرحوا بها ولا تنكروها وأجمعوا بينها وبين النصرانيةوتقلدو وتقلدوها ثم زعمت على مقتضى ترجمتك أنك تذكر حجاج الملل الثلاث ولم تف بشيء من ذلك ولا ذكرت في كلامك هذا حجة للمسلمين عليكم ولا لليهود بل ذكرت حجة النصارى الداحضة وسكت عن حجة خصومهم المسلمين الظاهرة وهذا أثر التقليد والجمود عليه حملك على الإعراض عن حجة خصمك لعلك لا تسمع ما يؤدي إلى تبكيتك ولطمك ولقد كان ينبغي لك لو كنت من النظار والعارفين بأديانهم أن تذكر حجج خصومك أحسن فتبحث عنها واحدة بعد واحدة حتى يتبين لك فيها الصحيح من الفاسد ولكن مع هذا نقبل عذرك ونعلم جهلك فإنك واحد من عوام المسيحيين الذين تشبهوا بالقسيسين وفي مثلك ينشد ... فسد الزمان فسدت غير مسود ... من الشقاء تفردى بالسؤدد ...
ولكن لا عليك فإنما هو جنا يديك فأنى لأرجو أن يقف على هذا

الكتاب جماعة المطارين ويعلموا بما فيه أنك مخالف لمذاهبهم أجمعين فيخرجوك من بين القسيسين ويلحقوك بالرياسين
ثم قلت اعلم أن أهل الملل أجمعين متكافئون في إدعاء الإيمان حاكمون على كل قوم لأنفسهم بالإيمان ولغيرهم بالكفر فنقول أما التكافؤ في الدعوى فنعم لكن الفصل يقع بينهما من جهة البينات ووقوف العقلاء على حكاية المذاهب والديانات فإن من الأديان ما يدرك فساده بغير نظر ولا برهان بل بالفطرة التي خص الله بها الإنسان وكذلك دين النصارى الضلال الحيارى
ولقد حكى أن بعض حكماء الهند وكان من الملوك الذين يحكمون بالسياسية الدينية الذين لم يتقلدوا إتباع ملة دينية ذكرت له الملل الثلاث فقال أما النصارى وإن كان مناصبوهم من أهل الملل يجاهدونهم بحكم شرعي فقد أدت آراؤهم إلى أن لا نرى بحكم عقولنا لهم عقولا فاستثنى هؤلاء القوم يريد النصارى من جميع العوالم فإنهم قصدوا مضادة العقل وناصبوه العداوة وتحلوا ببث الإستحالات مع أنهم حادوا عن المسلك الذي انتهجه غيرهم من أهل الشرائع وقد كان لهم فيه كفاية ولكنهم شذوا عن جميع مناهج العالم الشرعية الصالحة والعقلية الواضحة واعتقدوا كل شيء مستحيل ممكنا فلم يعزب عنهم شيء وبنوا من ذلك شرعا لا يؤدي البتة إلى صلاح نوع من أنواع العالم إلا أنه يصير العاقل إذا تشرع به أخرق والمرشد سفيها والمحسن مسيئا لأن من كان في أصل عقيدته التي جر نشوؤه عليها الإساءة إلى الخالق والنيل منه بوصفه بغير صفاته الحسنى فاخلق به أن يقصد الإساءة إلى مخلوق ولذلك ما بلغنا عنهم مما في خلقهم من الجهل وضعف العقل والطمع والبخل ومهانة النفس وخساسة الهمة والغدر وقلة الحياء إلا قليلا منهم فلو لم تجب مجاهدة هؤلاء القوم إلا لعموم أضرارهم التي لا تحصى وجوهها لكفى وكما يجب قتل الحيوان المؤذي بطبعه فكيف وقد ثم من الموجبات ما تقدم
فهذا ما بدا لهذا الحكيم في أول نظرة من مذهبكم على أول وهلة وليس بمخاصمكم ولا مناوئكم ولا بمتهم بإتباع الهوى فيكم لكن قد تبين الصبح لذي عينين بحيث لا يشك فيه أحد من النقلين وسترى ذلك واضحا إن كنت ذا بصر وبصيرة إن شاء الله تعالى

ثم قلت قد غلبت عليهم في ذلك الغواية وتأديب الصبا ووصية الآباء والأجداد حتى صار ذلك طبعا فيهم هذا الذي ذكرته لعمري حكم الرعاع الغبر والغثاء الغثر وأما من أمده الله بنور توفيقه وبين له سواء طريقه فقد تبين له الرشد من الغي والميت من الحي فقد أخطأت في إطلاقك هذا الحكم على جميع الملل ولم تشعر بما لزمك من الفساد والزلل كلا بل الذي ذكرته وصف أهل ملتك وحيلة عصبتك إذ هم أهل تقليد ونظرهم غير سديد ثم قلت فكلهم قد سهل عليهم انتقاص غيرهم وطاب عندهم دينهم بالتهنية في دنياهم عن معاد آخرتهم وعدلت في هذا الحكم عن العدل فحاق عليك اللوم والعذل بل في الملل من لا ينتقص أحدا إلا إذا ذمه الشرع وإذا رأى ذو فضيلة محقا أحبه وشكره بالطبع والطوع وذو الفضيلة يهجر في طلب الحق جميع لذاته ويزهد في جميع متملكاته يبغي بذلك رضا سيده ومرضاته يضرب في طلب الحق الأرض ضربا فيقطعها شرقا ويقطعها غربا ... يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدا ما فعدنان ...
يفارق الأهل والوطن ويلازم الفقر والعطن فإذا ظفر بالبغية ليا وفطن أما الدنيا فلا يلتفت إليها وأما الآخرة فهو مقبل بكليته عليها فهو في كل حال ينشد وأحواله تشهد ... وأبغضت فيك النخل والنخل يانع ... وأعجبني من حبك السدر والضال ... وأهوى لجوان السماوة والغضا ... ولو أن صنفيه وشاة وعذال ...
فأنت لم تحكم بالسوية ولا عدلت في القضية حيث حكمت بإعراض كل العقلاء عن الأديان وبالتكاثر من الدنيا على كل البرية كلا لو كان ذلك لما بقى منا أحد إلا هالك فراجع نفسك عن هذا الإطلاق وتب للواحد الخلاق واحكم على أهل ملتك بتلك الخصال والأخلاق فإن رب العالمين يبقى علينا ببركة الفضلاء والصالحين
ثم قلت وأحسب أن العلة في ذلك رغبتهم في التكاثر من الدنيا

وهي التي تدخلهم إلى التحاسد والمعايرة فيعجز كل قوم أنفسهم في طلب معاشهم وأن الأخرة عندهم مهملة
يا هذا لقد كثر غلطك حتى يعجز الناظر فيه عن إحصائه وعظم سقطك حتى لا أقدر على استقصائه ... تفرقت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد ...
فتارة يتثبج عليك الكلام وأخرى تبدل المدح بالملام فربما تريد أن تمدح فتذم وتظن أنك تحل ربطا وأنت تزم وأنت في هذا الكلام قد لحنت فيه في عدة مواضع وأردت أن تقول شيئا فعبرت عنه بعبارة يفهم منها بحكم وضعها خلاف ما أردت أن تقول وذلك يبن عند من تأمله من أهل العقول
وبالجملة فأنت في هذا الفصل أردت أن تنفصح وتغرب فإذا بك تبهم ولا تعرب على أن كلامك في هذا الفصل قليل الجدوى واهي الأصل فينبغي أن تتعدى أكثر كلامك وتنزه عقولا عن الأخذ في كثير من هذيانك فإن الأخذ في الخرافات والإشتغال بالترهات مخل بالعقول والمروآت
ثم قلت بعد ذكر كلام حاكيت به فعل السفلة الطغام المعدودين في رعاع الأعوام لأن كل قوم قلدوا سلفهم وطاب عندهم خبرهم في مدح دينهم وذم غيرهم يا هذا جهلت كل الأنام إذ زعمت أن التقليد دأب كل الأقوام ولو أنصفت في القضية وعدلت بالسوية لقلت أن الناس قسمان قسم إيمانهم برهاني وقسم اعتقادهم تقليدي هكذا ظهر من أمر أهل الأديان وأما من لم يتدين بدين فينبغي ألا يعد في الموحدين
وبعد هذا ينبغي أن تعلم أن أمور الإعتقاد والإيمان لم يقنع فيها قط أحد من الفضلاء بالتقيلد من غير برهان ولأجل هذا حرم الله علينا الركون إلى التقليد وذم من عول في إعتقاده على إتباع الآباء والجدود فقال تعالى حكاية عن المقلد وذاما له وموبخا له على جهله بل قالوا إنا وجدنا آبانا على أمة وأنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أو لو جئتكم بأهدى

مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون
فهذا ذم من الله للتقليد وأهله وقد أمر بالنظر الصحيح وحض على فعله فقال تعالى قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون وقال تعالى فلينظر الإنسان مما خلق وقال تعالى أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وقال تعالى أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنا لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
ومثل هذا كثير وكفى شرفا بهذا الدين ودليلا على صحته عند العقلاء العاقلين أنه حرم التقليد الذي يجر إلى الإلباس والتجهيل والتفنيد واستنهض العقول للنظر وأوضح لها مسالك العبر وأوجب عليها النظر الصحيح المفضى إلى العلم ومن لم يفعل ذلك من العقلاء فقد تعرض للعقاب وألزم ذلك كله ليتبين عن بصيرة الرشد من الغي ويعلم من هو على الحق ممن تحكم في دينه بظلمات التقليد والرأي وبعد هذا فإنى لا أشك في أنك لا تعرف حقيقة التقليد ولا أقسامه ولا أحكامه ولا في أي محل يجوز ولا في أي محل يحرم ولا من الذي يقلد ولا من المقلد
فإن ادعيت أنك تعرف شيئا مما هنالك فعجل بالجواب على ذلك
ثم قلت بعد ترديد وتطويل من غير إفادة علم ولا شفاء غليل فكل يقتحم المناظرة وإن لم يحسنها ويراها فريضة عليه وهو لا يفهمها ولم يتخذ شيئا من العلوم والصناعات إلا الفضول
اعلم يا هذا أن الله تعالى أنطقك بشرح حالك فإنك عبرت عن سوء مناظرتك ونظرت بركيك مقالك فجهلت حتى توهمت أنك من أهل النظر وأوهمت عند الرعاع أنك من أهل المناظرة والفطر كلا فلقد ارتقيت مرتقا صعبا وسلكت مسلكا وعرا وادعيت دعوى

عريضة لتخدع بها قلبا ضعيفا ونفسا مريضة ولا بد من سؤالك حتى يتبين حقك من محالك فأقول لك ما حد النظر وحقيقته وما أصوله وكم أقسامه وما أحكامه وما حقيقة المناظرة وما شروطها وكم هي وما الشيء الذي يطلب بالمناظرة وما حقيقة الدليل وكم أقسامه وكم شروطه وما وجه الدليل وما المدلول وكم أقسامه فإن كنت تدعى المناظرة فأجبنا عن هذه الأسئلة محاورة
ثم قلت وإن الجميع يدعون أمرا لا يقدرون على التناصف فيه لبعد غايته لتعلم يا هذا أن حكمك على الجميع بأنهم لا يقدرون على التناصف حكم خطأ فإن العاقل المشتغل بما يعنيه إنما يطلب الحق ليصل إليه ويعرف الباطل ليتجنبه ومن كانت هذه حاله أنصف وتناصف وإنما يمتنع التناصف على من غلب عليه التقليد وجمد على ما ورثه من الآباء والجدود وهو يصمم على أنه على الحق فيمنعه ذلك التصميم عن البحث والنظر ثم إن تنبه لنوع نظر كان كما قال ... إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ولن تلين إذا قومتها الخشب ...
فهذا الذي يتعذر عليه التناصف وتبعد عليه الغاية المطلوبة وما من نور الله قلبه وأجزل من المعقولات حظه فالتناصف مرغوبه إذ الحق مطلوبه وفي مثل هذا ينشد ... بعيد على الكسلان أو ذي ملالة ... وأما على المشتاق فهو قريب ...
فإن قلت ما ذكرته أنت قليل وما ذكرته أنا كثير قلت لك ... وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز ... وحار الأكثرين ذليل ... تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل ...
ثم إن وجد في جميع الخلق واحد بهذه الصفة فقولك فاسد فإنك حكمت على الجميع بحكم قبيح شنيع وأطلقت القول ولم تخف فيه الزلل ولا العول

ثم قلت ليختلفون في معرفة الباري تعالى لأنه لا يدركونه بالحواس وإنما يتعارف الناس فيما يدركونه بالحواس إعلم أن هذا الذي ذكرت لا يصح أن يقال على كل العقلاء وإنما يصح ذلك على الجهلة الأغبياء بل نقول أن الأغبياء أهل الجهالات يختلفون في الضروريات وقد بينا عليكم مواضع كثيرة من إعتقادكم خالفتم فيها الضروريات وناكرتم المعقولات وأما أهل العقول السليمة والفطر المستقيمة فلم يختلف منهم إثنان في معرفة وجود الله تعالى وإنما تخالفوا في أي وجود وجوده وهذا يعرف في موضعه فلست من أهله
وأما تمثيلك بالعبد الحبشي فتمثيل ليس وراءه تحصيل وذلك أن العبد الحبشي إذا كان عاقلا سليم الفطرة إذا سمع كلاما لا يقبله عقله يرده وأما إذا كان ناقص الفطرة مختل العقل فيقبل كل محال ولا يثبت على حال
ثم قلت ولو أن مجوسيا دخل بلدنا فكبرت عليه مجوسيته ثم طلب الخروج إلى أفضل الثلاث الملل أنت توهم بهذا القول البراءة عن المجوسية والدعاء إلى الملة النصرانية عساك يظن بك أنك تفحم الخصوم أو أنك حصلت من دينك على أمر معلوم كلا بل لو ناظرك مجوسى لأفحمك ولو وزن دينه بدينك في معيار العقل لرجحك وقد تبين ذلك فيما تقدم
ثم قلت فكان يجد المجوسي في دعواهم أن النصراني والمسلم مقران لليهودي بأن دينه أول وأنبياؤه حق ثم يقول النصراني إن كتابي جاء من بعد فنسخ طاعة دين اليهودي ثم يقول المسلم وكذلك جاء كتابي فنسخ طاعة دين النصراني
يا هذا البليد أخطأت على المسلم حيث ظننت أن المسلم يسلم لليهودي دينه الذي بيده الآن ويعترف بأنه أول وليس الأمر كذلك بل الذي يقول به المسلم إن الدين الذي جاء به موسى عليه السلام هو حق وأنه الأول بالزمان بالإضافة إلينا وإليكم وأما اليهود اليوم فليسوا على دين عندنا وعندكم

فعندنا من جهتين وعندكم من جهة واحدة إحدى الجهتين عندنا أنهم كفروا بمحمد نبينا صلى الله عليه و سلم وقد كان الله تعالى أخذ عليهم العهد بالإيمان به وبلغهم ذلك على لسان موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم عليهم السلام على ما ننقله إن شاء الله تعالى وكذلك نقول في المسيح عليه السلام إنهم كفروا به بعد أن أنكروه وهذه هي الجهة الأخرى فهاتان جهتان وأنتم إنما تكفرونهم من جهة واحدة وهي كفرهم بالمسيح فقد اتفقنا نحن وإياكم على أن اليهود في هذا الوقت ليسوا على دين وليسوا بمنتسبين إلى شيء من دين موسى عليه السلام وإذا كان الأمر كذلك فكيف جازفت في لفظك وقلت على المسلمين والنصارى ما لا يرضون به ولا يعولون عليه وهل إطلاقك هذا إلا نتيجة جهلك ومما يدل على نقص عقلك
ثم إنك إدعيت أن النصارى يقولون إن كتابهم نسخ شرع اليهود وكيف يصح لك يا جاهل بدينه أن تقول هذا وعيسى عليه السلام يقول في الإنجيل الذي بأيديكم لم آت لأنقض شريعة من قبلي إنما جئت لأتممها
فأما أنت هو الكاذب أو كتابك هو المحرف الباطل وسنبين إن شاء الله تعالى ما أحدث في الإنجيل والتوراة من المناقضة والتحريف ما يدل على أنها ليست هي التي أنزل الله
ومن عجيب أمرك وأدل دليل على جهلك أنك تدعي أن كتابك نسخ شرع اليهود وأنت بجهلك ترجع إليه في أحكامك وهل هذا إلا تناقض ظاهر وجهل فاحش
ثم قلت فإذا كاشف المجوسي اليهودي عما أدعياه أنكرهما وقال لم بأت بعد كتابي من الله كتاب يا هذا لقد قولت اليهود ما لا يمكنهم قوله ولا يسعهم جهله فإن اليهود يعترفون بأنه قد كان بعد موسى أنبياء كثيرون جاءوا بصحف وقرأوا على الناس كتبا كثيرة هي بين أيديهم وأيديكم اليوم تقرأونها وتحكمون بها وها أنت قد استدللت بكثير منها في كتابك هذا على إثبات بنوة المسيح فتلك الكتب التي نقلت منها إما أن تكون من الله أو لا تكون فإن كانت

من الله فقد أفحمت نفسك وأكذبتها وصار كلامك ينقض أوله آخره مع أن اليهود توافقك على أن تلك الكتب والصحف من الله وعلى ألسنة رسل الله
على هذا جمهورهم وأكثرهم وإن كانت تلك الكتب ليست من الله ولا يساعدونك عليها فكيف يسوغ لك الإحتجاج عليهم بشيء ليس من كلام الله ولا يسلمونه فلقد مكنت من نفسك يا هذا اليهود والمسلمين وصاروا على كذبك وخطئك من الشاهدين
فمثلك مثل الباحث بظلفه على حتفه والجادع مارن أنفه بكفه فلقد لحقت بالأخسرين أعمالا الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
وبعد هذا فلتعلم أن الذي تنكره اليهود لعنهم الله من الكتب المنسوبة إلى الله تعالى كتابك وكتابنا لا غير وسنقيم واضح الأدلة إن شاء الله على من خالفنا
ثم قلت ثم يحمل المسلم البينة على النصراني من الكتب التي أقر له بها وجامعه عليها فإن لم يكن فيها محمد منتظرا فلا حجة له عليه ولا مطعن له إليه وإن كان فيها محمد منتظرا ثم وافقت علاماته علامات الكتب فقد أصاب المسلم ولزم النصراني الخروج عن رضا معبوده
ظاهر كلامك أنك أنصفت وأنت في إعتقادك عليه ما عولت ولقد أعلم أنك إذا أتيت ذلك عليك من كتب عدلت وغدرت شنشنة أعرفها من أخزم وإذا كان الغدر في النفوس الخبيثة طباعا فالثقة بكل أحد عجز وما هي أول بركتكم
وأنا أسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وبحق آدم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وممن بينهم من النبيين والمرسلين وبالملائكة المقربين وأهل طاعته أجمعين أن يلعن من لا يرجع إلى الحق إذا تبين له وأن يعجل عليه بنقمته في الدنيا تكون علامة على غضب الله عليه وعلى عذابه في

الآخرة العذاب الدائم نسأل الله العظيم أن يفعل ذلك بعزته وكرمه آمين آمين والصلاة على خيرته من خلقه
ثم ينبغي لك أن تعلم أن نبوة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم لم تثبت لنا بطريق واحدة بل بطرق كثيرة فلو فرضنا أن الأنبياء صلوات الله عليهم لم يبشروا به لكانت نبوته ثابتة ببراهين قاطعة كثيرة بها عرف نبوته العقلاء الذين لم يقرأوا قط كتابا ولا انتسبوا إلى شريعة
وسنوضح هذه الطرق إن شاء الله تعالى ونبينها على ما لا يبقى معه ريب لعاقل بحول الله وقوته

الفصل الثاني
المسيح المنتظر
في حكاية كلامه أيضا
قال
ومن بينة النصراني على اليهودي أن في الكتب التي أقر له بها وجامعه عليها مسيح منتظر لا يقدرون على جحده لأن إنتظاره معروف فيهم وظاهر عليهم ودل على زمان مجيئه أنهم منتظرون له منذ سبيت اليهود وبددت إلى اليوم فإذ قد لزم اليهود بإنتظاره من وقت تفريقهم في الدنيا فقد وجب للنصارى أن يقولوا أنه قد جاء والدليل على أنه هو أن اليهود اختلفت من سببه فصارت فرقتين على الكفر والإيمان به فالفرقة الكافرة هم اليهود والفرقة المؤمنة هم النصارى فآمنت طائفة وكفرت طائفة والكتب أجمع مع كلامهم يحتجون بها بعضهم على بعض يجتمعون على ألفاظها وقراءاتها ويختلفون في تأويلها كفعلهم إلى هذه المدة والذي يستدل به للفرقتين على كفر أحدهما أن ننظر في الكتب ونستدل بها على حالة بني إسرائل منذ كانت على الإيمان والكفر فإنهم إن كانوا على الكفر فإنه يلزمهم الذلة إذ الذلة والأسرة والفرقة علامة الكافرين وموجود في الكتب أن الله لم يوعد بالثواب في الآخرة لبني إسرائل على الطاعة والإيمان وإنما وعدهم في الدنيا فوعدهم عند الطاعة والإيمان بالملك والنعمة والنقمة من عدوهم والتثمير لزرعهم وفواكههم وأوعدهم عند الكفر والعصيان بالتغلب عليهم والملك والقهرة لهم من عدوهم فلم يزالوا مؤيدين عند الطاعة والإيمان ومستعبدين عند الكفر والعصيان
فافهم الجواب عنه
أعلم يا هذا أنه لولا أننا نخاف أن نساعد اليهود على كفرهم وأن يحملهم ذلك على دوام الإصرار وزيادة العناد لنبهناهم على مواضع في هذه الأدلة التي ذكرت يفسد عليك لأجل ذلك أكثرها ويبطل عليكم الإحتجاج بها ولو فعلنا ذلك لما كان مما يقدح في صحة نبوة المسيح فإنها تثبت بطرق أخر
وإنما يكون ذلك دليلا على أنك لا تحسن الإستدلال ولا تعرف طرق المناظرة والجدال ولكن حاشى لله أن أعين اليهود أولى اللعنة والعداوة والبغضاء والأحنة على من التزم شرعة المسيح وركب منها المنهج الصحيح وكيف أفعل ذلك وقد أخبرنا الله على لسان نبيه ورسوله بأنه كان منهم عالمون بالله ومصدقون بما جاءهم على لسان محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين
فهؤلاء الذين عرفوا شرعة المسيح عليه السلام وعلموا ما عهد إليه من نعت محمد خير الأنام فبادروا لتصديقه ولم يمكنهم العدول عن طريقه ولولا حرمة هؤلاء الأولياء الذين كانوا منكم لما بقى ستر الله عليكم لكن كما قال تعالى إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء
ومع هذا فلا نخلي هذا الباب من التنبيه على نكت تدل على سوء استدلال هذا السائل خاصة بعون الله
قلت يا هذا والدليل على أنه هو أن اليهود اختلفت من سببه فصارت فرقتين على الكفر والإيمان به فالفرقة الكافرة هم اليهود والفرقة المؤمنة هم النصارى فآمنت طائفة وكفرت طائفة

هذا دليل ليس له للدلالة على مجيء المسيح من سبيل بل هو عين المذهب الذي تدعونه ويبقى عليك الإستدلال عليه وإن جاز أن يكون مثل هذا دليلا صحيحا على مجيئه جاز أن يكن نقيضه دليلا على إنتفاء مجيئه ولا فرق بين ما قلت وبين ما يقوله اليهودي إذ كل واحد منكم تكلم بدعوى ولم يثبتها ولا بد لك من إقامة دليل فاذكره فإن كلامك الأول ليس بدليل فإن أخذت تستدل بدليل آخر خلاف ما ذكرت فقد اعترفت بأن كلامك الأول ليس بدليل وانقطعت وإن رجعت تستدل بذلك تبين جهلك هنالك
فأنظر ما أحسن هذا الدليل فلعمري ما للمستدل به من النظر العقلي كثير ولا قليل
ثم قلت والكتب أجمع مع كلامهم يحتجون بها بعضهم على بعض يجتمعون على ألفاظها وقراءاتها ويختلفون في تأويلها كفعلهم إلى هذا المدة
تناقضت يا مخدوع ولم تشعر وظننت أنك تنتصر فإذا بك تستأسر افصحت هنا بأنكم يحتج بعضكم على بعض ويتضمن ذلك أنكم تحتجون بالتوراة عليهم وكيف يصح لك هذا مع أنك قد ادعيت أنها منسوخة بكتابكم فإن قلت إن هذا عليهم في معرض الإلزام قيل لك فلا تأخذ من التوراة شيئا من الأحكام ولا تحكم منها على شيء بحلال ولا حرام
ثم إن كلامك هذا يفهم منه أنهم يحتجون عليكم بكتبهم على أن المسيح لم يجيء وإذا اتفق أن يحتجوا عليكم بمثل هذا من كتبكم فقد أفحموكم
هذا كله على ظاهر كلامك ولم ترو هذا المعنى وإنما أردت أن تقول إن الجميع قد اتفقوا على ألفاظ الكتب وإختلفوا في تأويلها ولم تساعدك العبارة وهذا أكثر كلامك تريد أن تقول شيئا ثم تعبر عنه بعبارة تدل على خلاف ما أردت وسبب ذلك أنك أدخلت نفسك في شيء لم تعرفه وتعاطيت ما لم تحسنه فكنت بمثابة من أدخل نفسه في شفط ثم جاء آخر فشد عليه وربط

ثم قلت والذي يستدل به للفرقتين على كفر أحدهما أن ننظر في الكتب إلى أن قلت إذ الذلة والأسرة والفرقة علامة الكافرين
وهذاالإطلاق لو علمت ما يلزمك عليه لاستغفرت إلهك منه لكنك جهلت فأطلقت وحيث وجب أن تمسك أرسلت وذلك أنه إن صح ما ذكرت فلا ذلة ولا أسرة ولا تفرقة أبلغ من ذلة من يصفع في قفاه ويجعل على رأسه شوك وفي يده قصبة ويساق للقتل وعلى عنقه خشبة ويصلب وتسمر يداه ورجلاه وينخز وهو يطلب ما ء فيرفع إليه إناء خل وهذا كله بزعمكم ولا رتبة في المذلة أبلغ من هذه فعلى قولك وسياق دليلك يلزمك تكفير المصلوب ويحصل لليهودي منكم الغرض المطلوب فإن كنت عاقلا فثقل كلامك ولا يكن عارا عليك لسانك وقد نصحتك يا فشكل وما أظنك تقبل
وإنما أردت أن تقول فلم تطاوعك العبارة يا جهول الدليل على مجيء المسيح المنتظر أنه قد ثبت في كتب الأنبياء عليهم السلام أن الله قال لليهود لا يزال ملككم قائما وخيركم دائما ما دمتم مؤمنين حتى تكفروا فإذا كفرتم أزلت ملككم وأبدلتكم منه ذلا وصغارا وغضبا ونقمة وعند ذلك أرسل إليكم المسيح ولا يشك أحد في زوال ملك اليهود وإنقطاعه وفي نزول الذلة والمسكنة عليهم فلا يشك في كفرهم ولا يشك في مجيء المسيح وأنهم كفروا به ولو هكذا قلت لما لزمك شيء مما ألزمت وهذا الدليل الذي استدللت به على اليهود إذا سيق على الطريقة التي ذكرناها وصح نقله عن الأنبياء بطريق القطع هو حجة على اليهود لا مخرج لهم منها ولا محيص عنها على أنه بقى فيه مواضع للبحث إذا انفصلت تم الدليل ووضح السبيل

الفصل الثالث
المسيح عيسى ابن مريم
من حكاية كلامه أيضا
قال
وأنا أثبت لك أن المسيح قد جاء من كلام الأنبياء قال النبي هوشع بن بئيرى عليه السلام هكذا بكلام عبراني كي يا ميم ربيم يا شابوا بأنا إسرائل أن ملخ وإن صار تفسيره إن أياما كثيرة يقيموا بنى إسرائيل دون ملك ودون مقدم فإذا سئل اليهودي الجاحد إن كان لهم ملك أو مقدم فلا يكون جوابه إلا أن يقول ليس عندنا ملك ولا مقدم فيقال لهم إذ ليس عندكم ملك ولا مقدم فاسمع ما قال يعقوب الذي كان له اثنى عشر ولدا الذي منهم يوسف الصديق رضي الله عنهم أجمعين إلى يوم الدين قال الفاضل يعقوب بكلام عبراني لو يا صور شابات مى يهودا ومحو كيك مبين رعلاف عاد كى يا بوشيلو ولوا اقاهث عميم وهذا تفسيره لا ينتقض الملك من يهودا وراسم من بين رجليه حتى يأتى المسيح وله تطوع الأمم
فيقال لهم إذ ليس لكم ملك ولا مقدم فقد جاء المسيح كقول يعقوب النبي إذ ليس لهم ملك
وقال أرمياء النبي عليه السلام في الطائفة الكافرة به بكلام عبراني هكذا أم يا عمود موشا وشموال لقاناى أن نقسى الها عم

هذا شلاح معال فاناى ويا ساوها ياكى يمروا أناه ناسا وامرتا لاهيم هي لما باث لما باث امى تشانى أمى لا راعاب لا راعاب وخلاقى جاماتي بام
اسمع كلام الله على لسان أرمياء النبي تفسيره إن وقف إلى موسى وشموال لا نرضى عن هذه الأمة أرميهم من قدامى يخرجوا فإن قالوا أين يخرجوا فتقل لهم من الموت إلى الموت ومن الغنى إلى الغنى ومن الجوع إلى الجوع ويكمل غضبي فيهم
فيهم في غضب الله بكفرهم بالمسيح الذي قد جاء
ثم قال الله تعالى على لسان يعقوب النبي الفاضل بلسان سرياني هكذا ألا يا عصا عاث غلطان مد أفاث يهودا وصفوا متانا بانوهي عاض على ما عاث ذا ياتا ماشيحا داث لاه ملخوثا ولاه اشتماعون عاما مايا وهذا تفسيره كما قاله الله على لسان نبيه يعقوب لا ينتقض قضيب الملك من يهودا وراسم من أبنائه حتى أن يأتي ما شيحا الذي هو المسيح الذي له الملك وله تطوع الأمم
وقال الله تعالى على لسان أرمياء النبي في إنقطاع ملكهم بكلام عبراني هكذا فأضاع أدوناى ياحور أف كل مكان إن إسرائيل وهذا تفسيره قطع الله بشدة غضبه جميع دولة إسرائيل فافهم فقد جاء المسيح وانقطع ملكهم
وقد قال الله على لسان أرمياء النبي في إثبات شريعة المسيح وإيمان الحواريين قائلا بلسان عبراني هنا يا ميم بايم نوم يهوه واخارتى ات بت إسرائيل وايت بت يهودا بريت حارشاه لو اخبريت اشير بريت ات ابو ثام بيوم هو تزيكى بيرم لهو عاييم مى ارس

مصريم امير همه هفرو ات بريت وانبى بعلتى بم نام يهوه تفسيره يقول الله وأثبت لبيت إسرائيل ويهودا عهدا جديدا ليس كالعهد الذي قلت لآبائهم في اليوم الذي أخرجتهم من أرض مصر من بيت العبودية
فبين الله بهذا الكلام إيمان الحواريين والتابعين لهم كما قال الله في موضع آخر على لسان أرمياء النبي بلسان عبراني عن إيمان الحواريين قال شوبوا بانيم شوبابيم نوم ادوناى كى انوخى با علتى باخيم وإلا كحتى اتخيم أحاد معير وشنايم مشتبان وهاباتى أتخيم سيون
تفسيره إرجعوا يا أولاد اللجاجة فإني سدت عليكم وآخذكم واحدا من مدينة واثنين من عشيرة وأدخلكم إلى صهيون وكذلك آخذ الحواريين واحدا من مدينة وإثنان من عشيرة ثم قال لضيق الآية وناتى لا خيم روعيم كلبى تفسيره ونعطيكم رعاة كقلبي
ثم قال وأراع أتخيم رعاه واهسكال تفسيره ويرعوكم بالمعرفة والفهم وكذلك جعل من الحواريين أئمة ورعاة يعلموا الناس المعرفة والفهم ثم قال لضيق الآية في ألا يعمل بالعهد البالي واها ياكى تربوا افريتم بأريش بالبوميم هاهما نوم ادوناى لو يمروا غر دارون بريث ادوناى ولو يا عالا على لاب ولديز كا وابوا ولوا

يفقوا ذوا ولو ياعا ساعود تفسيره ويكون إذا كثرتم وتنمو في الأرض في تلك الأيام يقول الله لا تقولوا أبدا بتابوت عهد الله ولا يصعد على قلب ولا يذكر به ولا يعتقده ولا يعمل به أبدا
فاعلم أنه أمن الحواريين والتابعين لهم من الأمم
ثم قال سليمان الفاضل لم أتعلم علما وعرفت معرفة المقدسين
فأفهم أيها الإنسان ما هي معرفة المقدسين الذي لا يمكن لأحد أن يكون مقدسا إلا أن عرفها وآمن بها
وفي حقيقة الإيمان قال من صعد إلى السماء وهبط من قبض الأرواح في كفيه من جمع الماء في ثوب ثم قال بكلام عبراني مى هاكيم كل افس أريس ماشموا وماشم بنوا
فأفهم فسره وكن عاقلا مدبرا ترشد
قال سليمان مى هاكيم كل افس أريس ماشموا وما شم بنوا تفسيره من أقام جميع أقطار الأرض ما إسمه وإسم إبنه ثم قال لضيق الآية بالعبراني كل أمراث ألواه صروفا ماغين هو لات سيم بو تفسيره جميع كلام الله ترس منير هو لجميع الواثقين به فأفهم
ثم قال الله على لسان أرمياء النبي بكلام عبراني هنا ياميم بايم نوم أدوناى واكراتى ات بت إسرائيل وات بت يهودا بريت هارشاه زيرع آدام وزيرع مهيما تفسيره هذا يوم يأتى

يقول الله ونزرع في بيت إسرائيل وبيت يهوذا نسل آدمى ونسل بهيمي
فكان النسل الآدمي الحواريون المؤمنون بالمسيح عند إقباله والتابعين لهم وكان النسل البهيمي اليهود الجاحدين للمسيح وكذلك الحواري يوحنا الذي اسمه جوانش قال من لم يؤمن ولم يتمادى في تعليم المسيح فلا إله له فأفهم ترشد
اعلم أني كتبت لك بالعبراني والسرياني من شهادات الأنبياء عن الله من الكتب التي بأيديهم وأن اليهود لا يقدرون على إنكار حرف منها إذا احتج معهم بها بالعبراني والسرياني كما نطقت به الأنبياء رضي الله عنهم في إثبات إقبال المسيح وإيمان الحواريين والتابعين لهم وفي إطراح اليهود الملاعين الجاحدين للمسيح سيدنا فأفهم
الجواب عما ذكر
يا هذا المخدوع ظننت السراب ماء والأرض سماء فاستسمنت ذا ورم ونفخت في غير ضرم اعلم يا هذا أنه لا يقبل منك في هذا المقام الإستدلال بالظنون والأوهام إذ المطلوب فيه تحصيل العلم القطعي واليقين البرهاني فلا يحصل لك شيء من ذلك حتى تعلم صحة ما استدللت به هنالك ولا تعلم صحة شيء مما ادعيته دليلا قاطعا مفيدا للعلم إلا بعد معرفتك أن هذه الكتب التي استدللت بها أهي من عند الله وأنها بلغتك عن الله على ألسنة الصادقين ولا يتوصل إلى معرفة شيء من ذلك إلا بعد معرفتك بالنبوات وحقيقتها ودلائل صحتها العقلية
ولا تتوصل إلى ذلك حتى تعلم حدوث العالم وأنه موجود بعد عدم وتعلم أن له محدثا وأن محدثه موجود حي عالم قادر مريد موصوف بصفات الكمال حتى يصح منه إرسال الرسل وتأييدهم بالأدلة وكل ذلك إنما يعرف بأدلة قطعية ولا يصح أن تعرف بأدلة سمعية

فإن السمع لا يثبت إلا بعد ثبوت هذه الأصول فإذا وصلت إلى هذا المحل وسلمت من التعثر بأذيان الزلل ... وكم دونها من مهمه ومفازة ... وكم أرض جدب دونها ولصوص ...
فحينئذ بجب عليك أن تنظر فيما ألقى الصادقون إليك فإن كنت ممن تسمع منهم كلامهم وتشافه بنفسك خطابهم فقد سقطت عنك معرفة طرق النقل وشروط التحمل والحمل ولزمتك معرفة اللغة التي يتكلم بها الصادقون فتعرف مقاطع الكلمات وكيفية النطق من إختلاف بسكون أو حركات وتعرف فرق ما بين الحقيقة والمجاز والنص والظاهر والمجمل والمؤول والعام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ إلى أمور كثيرة تعرف في علم الأصول وإن كنت ممن لم يسمع من الصادقين فلا بد لك من أن تنظر في الذي بلغك ذلك الدليل على يديه إن كان يجوز عادة عليه الغلط والسهو أو لا فإن كان ممن يجوز عليه الغلط والسهو عادة فلا يلتفت إلى خبره في هذا المقام وهذا النوع هو الذي يسمى عندنا أخبار الآحاد ولها محل تقبل فيه بعد مراعاة شروط ويعرف كل ذلك في موضعه
وأما مثل هذا الذي تصديت له فلا يتوصل إليه بهذا الطرق فإن المطلوب هنا حصول العلم ولا يحصل العلم بقول من يتجوز الخطأ والسهو عليه في خبره وإن كان مما لا يجوز عليه شيء مما ذكرناه عادة فهو الذي يحصل العلم بقوله وهو العدد الكثير الذين تحيل العادة عليهم الكذب وهذا الخبر هو الذي يسمى المتواتر والتواتر له شروط وأحكام تعرف في موضعه
فإذا تقررت هذه المقدمة فأنا أسألك سؤال منصف لا مصنف وأقسم عليك بدينك قسم متلطف لا متعجرف هل توفرت لديك هذه الشروط أم هل أكثرها عندك مطرح مسقوط فإن أنصفت وإعترفت علمت أنك على العلم بها ما حصلت فينبغي لك أن تطلب حصول العلم من بابه وأن تجتهد في تحصيل أسبابه وإن إدعيت علم ذلك علم أنك مغالط معاند جائر عن الحق وحائد
وكفى بكلامك في كتابك هذا على كذبك شاهد ثم على قرب تفتضح إذا خرست عن جواب ما عنه سئلت تعجل بالجواب ولا تتأن في الكتاب وإن أبيت إلا تماديا في غيك وإستمرار على جهلك وبغيك

أريناك إختلال هذه الشروط عندكم عيانا وأقمنا على فساد كتبك حجة وبرهانا
وذلك أنا نقول إن من أعظم كتبكم التي ترجعون إليها وتعولون في أحكامكم عليها التوراة والإنجيل وكفى بهما شرفا وشهرة أنهما عندكم كلام الملك الجليل وأنتم تدعون أنكم تناقلتموهما جيلا بعد جيل وأنا أبين إن شاء الله أن نقلهما إنما كان بطريق الآحاد وأن الغلط والسهو يجوز على ناقليهما وسآتي منهما ببطلان المراد
أذكر إن شاء الله بعض ما وقع فيهما من التناقض والتحريف والقلب والتصحيف وأنبه على قبيح ما تنسبونه فيهما إلى الله من القول السفساف السخيف وما تنتقصون به الأنبياء أولى الفضل والتشريف بحول الله تعالى وحسن عونه
وأبدأ بالتوراة لكونها مقدمة في الرتبة والزمان ومعترفا بها عند أولى الأديان وبالله المستعان

فصل
في بيان بعض ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأجله من الخطأ والزلل
فأول دليل
أنها لم تترك على ما كانت في الألواح التي كتبها الله تعالى لموسى ولا على ما انتسخها لهم موسى بل زيد فيها ولا بد ما ليس منها ولا كان في الألواح التي كتبها الله لموسى ويدل على ذلك أن في آخر السفر الخامس أن موسى توفى في أرض موآب بإزاء بيت فغور ولم يعرف إنسان موضع قبره إلى اليوم وكان قد أتى على موسى إذ توفى مائة وعشرون سنة ولم يضعف بصره ولم يتشيخ وجهه وبكى بنو إسرائيل على موسى ثلاثون يوما في عريب موآب فلما تمت أيام حزنهم على موسى امتلأ يشوع بن نون من روح الحكمة لأن موسى كان وضع يده على رأسه في حياته وكان بنو إسرائيل يطيعونه ويعملون كما أمر الرب موسى
ولا يشك الواقف على هذا التاريخ وهذه الوفاة أنها ليست مما أنزل الله على موسى ولا مما كتبها موسى عن نفسه وإنما هي من إثبات من أراد أن يثبتها بعد وفاة موسى بزمان ويدلك على ذلك قوله ولم يعرف إنسان موضع قبره إلى اليوم يريد به اليوم الذي كتب فيه هذا وهذا بين عند المنصف ومع بيانه فليس أحد من اليهود والنصارى فيما أعلم يقول إن التوراة زيد فيها شيء بعد موسى ولا يفرق بين هذا الكلام وغيره بل هي كلها عندهم كلام الله وهذا جهل عظيم وخطب جسيم فهم بين أمرين إما أن يقولوا ان هذا الكلام هو مما كتبه الله لموسى وأخبر به موسى أو يقولوا إنه ليس مما أخبر الله به موسى ولم يخبر به موسى فإن قالوا الأول كذبه مساق الكلام فإن المفهوم منه على القطع أنه كتب بعد وفاة موسى بزمان وإن قالوا بالقول الآخر قيل لهم فلأي شيء خلطتم

كلام الله بكلام غيره وأجريتموها في نسق واحد وزدتم على كلام الله ولم تشعروا بذلك بل نسبتم كل ذلك إلى أن الله أنزله
وإذا جاز زيادة مثل هذا ولم يتحرز منه جاز أن يكون كل حكاية فيها لا يصح نسبتها إلى الله زائدة ولا سيما الحكايات الركيكة التي تحكى فيها عن الأنبياء التي لا يليق ذكرها بسفلة الناس وغالب الظن ولا يعلم الغيب إلى الله تعالى أن السفر الأول الذي هو سفر البدء والأنساب مما زيد على كلام الله تعالى ولم يشعروا بزيادته
ومما يدل أيضا على هذا المعنى أن كثيرا مما يجيء فيها وكلم الرب موسى وقال له اقبض حساب بني جرشون وكلم الرب موسى وقال له كلم بني إسرائيل ومثل هذا كثير
وهذا يدلك أنه ليس مما قاله الرب جل ذكره لموسى ولا مما قاله موسى لهم أعني لفظ وكلم الرب موسى وقال له وما أشبهه من لفظ الحكايه عنه وانما هو شيء حكى عنه بعد انقراضه وأضيف الى كلام الله ثم لا يعرفون من الحاكي وإذا جاز مثل هذا ولا يشعرون به جاز أن يكون أكثرها مغيرا ومبدلا وليس من كلام الله ولا من كلام موسى ولا يشعرون به ومن وقف عليها متتبعا لهذا المعنى قطع بأنها زيد فيها ما ليس منها
وعند إنكشاف الغبار تتبين أفرس تحتك أم حمار ماء ولا كصدى ومرعى ولا كالسعدان
ولقد حفظ الله القرآن العظيم فقال تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ولذلك كره علماؤنا رضي الله عنهم كتب التفاسير وأسماء السور في المصحف وإن كانت بخط آخر ولون آخر وقد اتفقوا فيما أحسب على أنه لا يجوز كتب فواتح السور يعنى أسماءها بخط المصحف وبلون مداه لئلا يختلط به ما ليس منه فالحمدلله الذي هدانا لهذا الدين القويم والمنهج المستقيم

وأما بيان أنها ليست متواترة فهو أن اليهود على بكرة أبيهم يعرفون ولا ينكرون أن التوراة إنما كانت طور مدة ملك بني إسرائيل عند الكوهان الأكبر الهاروني وحده وعنه تلقيت ولا ينكر ذلك منهم ولا منكم إلا مجاهر بالباطل
وكذلك ما يحكى من قتل بخت نصر جميع بني إسرائيل وإحراقه كتب التوراة حيث وجدت وإتلاف ما كان بأيديهم حتى لم يترك منهم إلا عددا يسيرا لا يحصل بخبرهم العلم وكان قد أجلاهم إلى بابل وهدم البيت أو لعله كان الباقي منهم عددا كثيرا إلا أنهم لم يكونوا كلهم يحفظونها بل كانوا عددا يسيرا لا يحصل العلم بقولهم وكان هذا كله قبل المسيح بخمس مائة سنة تقريبا
وكذلك واقعة طيطش بن شبشان التي كانت بعد المسيح إلى أربعين سنة إذ فرقوا التفرقة التي هي اليوم عليها وهذا أيضا من المعروف عند الجميع بحيث لا ينكره إلا مكابر مجاهر وهذه الأمور كلها مما تقدح في النقل الذي يدعونه متواترا
ثم نقول هذه الأمور المذكورة إن وافقوا على وقوعها فقد اعترفوا بعدم التواتر فإن من شرط خبر التواتر أن ينقله العدد الكثير الذي تحيل العادة عليهم التواطؤ على الكذب والغلط عن عدد مثله هكذا ولا ينقطع
فإن رجع الخبر إلى عدد لا تحيل العادة عليهم الكذب لم يحصل بذلك الخبر العلم إذ لا يكون متواترا وإن لم يوافقوا على وقوع هذه الوقائع هكذا لم يقدروا على جحد أصلها وإذا اعترفوا بأصلها لم يقدروا أن ينكروا إمكان وقوع ما يعترفون بأصله وتجويز وقوع ذلك كتحقيق وقوع ذلك في عدم حصول العلم بالخبر الذي يدعون أنه متواتر
وأما بيان التحريف فيها فهو أن اليهود تعترف بأن السبعين كوهانا اجتمعوا على تبديل ثلاثة عشر حرفا من التوراة وذلك قبل المسيح في زمان القياصرة ومن إجترأ على تبديل حرف من كتاب

الله وتحريفه فلا يوثق بالذي في يده مما يدعى أنه كتاب الله لعدم الثقة به ولقلة مبالاته بالدين
وأيضا فلعله قد حرفه كله أو أكثره
وكذلك يقرون ولا ينكرون أن طائفة منهم يقال لهم السامرية حرفوا التوراة تحريفا بينا كثيرا والسامرية يدعون عليهم مثل ذلك التحريف
وكذلك النصارى أيضا يدعو على اليهود أنهم حرفوا في التوراة التاريخ ويزعمون أنهم نقصوا من تاريخ آدم صلى الله عليه و سلم ألف سنة ونحو المائتين
وهذه إحتمالات توجب على العاقل التوقف فلا يدعي حصول العلم بنقل التوراة مع انقداح هذه الممكنات إلا مجاهر متعسف
فإن قيل كيف يصح أن يقال هذا وقد كان الأنبياء بعد موسى عليه السلام يحكمون بالتوراة ويرجعون إليها واحدا بعد واحد إلى زمن يحيى وعيسى
ثم بعد ذلك تناقلها النصارى كما تناقلها اليهود خلفا عن سلف إلى اليوم وإن جاز تطرق التحريف إلى ما هذا سبيله فيلزم عليه أن يحكم الأنبياء بالباطل
ويلزم عليه أيضا أن يقروا على الباطل غيرهم وهذا كله باطل على الأنبياء ويلزم عليه أيضا أن لا يحصل العلم بخبر متواتر ولا يوثق بكتاب يدعى أنه جاء عن نبي
فنقول وبالله التوفيق
إنا لم نعين لوقوع التحريف فيها زمانا ولا عينا من حرف منها شيئا ولا من ألحق بها شيئا فيحتمل أن يقع التحريف فيها قبلهم أو بعدهم وإنما أبدينا تلك الإحتمالات ليعلم أن الذي في نفوسكم من الثقة بها إنما هو إعتقاد جزم وليس بعلم
ومما يدل على قبول تلك الإحتمالات وأنها قادحة في دعوى العلم

بسلامتها أنها لم تقر على ما تلقيت من موسى بل زيد فيها مالم يتلق عن موسى مثل الذي حكيناه من ذكر وفاته وحزن بني إسرائيل وحكاية قول كلم الله موسى وهذا يعلم منه على القطع أن الله لم يقله لموسى ولا موسى قاله عن نفسه يعلم ذلك من وقف عليه وتتبعه بضرورة مساق الكلام ولا بد
فالذي زاد ذلك لعله الذي وقع الخلل من جهته
وأما ما ذكرتم من حكم الأنبياء بها فليس فيه حجة لإمكان أن تنازعوا في قولكم كانوا يحكمون بها بل لعلهم كانوا يحكمون بما كان الله يعلمهم بما يوافق شريعة موسى ولا يخالفها
ولو سلمنا أنهم كانوا يحكمون بها فنقول كل شيء حكم به الأنبياء من التوراة فليس بمحرف وأما ما لم يحكموا به منها فلعله الذي حرف مثل الأخبار التي حكيناها ونحكيها إن شاء الله تعالى
فإن قيل فيلزم منه أن يقر الأنبياء على الخطأ ويتحدثوا بالكذب فإنهم كانوا يتحدثون بها قلنا ليس بكاذب من حكى شيئا يعتقد صحته لا يتعلق به حكم الله تعالى وإن كان ذلك الخبر في نفسه مخالفا لما في الوجود فإنه إنما يحكى عن إعتقاده وهو حق وإنما الكاذب الذي يخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه من العلم بذلك وهو حد الكذب عندنا وحقيقته
وهذا إنما يجوز في حكاية الأخبار التي لا يتعلق بها حكم وأما ما تعلق به حكم منها فلا يجوز ذلك إذ الأنبياء معصومون فيما يبلغونه من الأحكام عن الله تعالى وإنما قلنا هذا حذرا من أن ننسب إلى الله تعالى ما لا يليق بجلاله أن ينزله في كتابه ولا أن يناجي به صفوة أحبابه من الفواحش والفجور التي حكوها في التوراة وادعوا أنه فيها مسطور مع أنه ليس في ذكرها فائدة بل هي بكل ضلالة عائدة
وكذلك تنزه موسى والأنبياء بعده صلوات الله عليهم عن ذلك الكلام الغث الركيك الذي لو حكى مثله عن بعض السفلة لأنف منه واستحى منه ولما كان ينبغي لعاقل أن يلتفت ويصغى إليه ولكان يجب عليه أن يعرض عنه وينكره إذا سمعه هذا إذا كان محكيا عن

السفلة فكيف إذا حكاه الله عن نفسه أو عن خيرته من خلقه الذين برأهم الله عن الكبائر والنقائص التي تناقض نبوتهم فهم أكرم الخلق عليه وأحظاهم لديه
وأيضا فإن الله تعالى حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والغيبة والبهتان والإحن ثم يتعامل بها مع أكرم الخلق عليه في نفوسهم وذراريهم وبناتهم وينسبها إليهم ويشيعها أبد الآبدين عليهم
هذا مما لا يليق بجلال الله تعالى والقائل بوقوع هذا مستهزئ مفتر على الله
وسننقل عن بعض ما حكوا في التوراة من هذه القبائح إثر هذا إن شاء الله تعالى
ثم نقول لو سلمنا أنها لم تحرف في زمان الأنبياء لأمكن أن نقول فلعله حرف بعدهم وذلك بعد وقعة طيطش حيث أفناهم والذين تنصروا منهم عدد يسير لا تقوم الحجة بقولهم
وإن قلنا إنهم كانوا عددا كثيرا فلم يكن كل واحد منهم ممن يحفظها ولا يضبطها
ثم نقول للنصارى إن أنكرتم أن يكون شيء من التوراة حرف فلأي شيء تقولون إن اليهود حرفوا في التوراة في نسب آدم ونقصوا منه وإذا جاز ذلك في نسب آدم جاز في غيره وهذا بين وأما قولهم يلزم أن لا نقبل خبر متواتر ولا يوثق بكتاب نبي فلا يلزم شيء من ذلك فإن الخبر إذا تطرقت إليه أمثال تلك الإحتمالات فلا يوثق بنقله ولا يعول عليه لا مكان تلك الآفات
أو لعل أشرافكم تتخلب نحو كتابنا فيقولون فكتابكم لا يلتفت إليه ولا يعول عليه فنقول هيهات إنما قلنا كل كتاب تطرق إليه شيء من تلك الإحتمالات وكتابنا منزه عن أمثال تلك الآفات فإن الله تعالى تولى حفظه وأجزل من كل صيانة حظه فصانه بنظمه الذي لا يقدر الجن والإنس على آية منه فلا يختلط به كلام متكلم ولا يقبل وهم متوهم إذ ليس من جنس كلام البشر وهو معدود الآي والسور ثم صانه بأن يسره للحفظ والإستظهار فيستوى في نقله

الكبار والصغار لا يختص بحفظه أحد والوالد إذ نقص منه حرفا واحدا أو غير حركة منه رده وأصلحها عليه الولد
ومع هذا فحروفه وكلماته وآياته وسوره في الدواوين معددة وأشكال كتبه حروفه فيها مقيدة ومع هذا فنقل الأمم التي لا تحصى عن الامم التي لا تحصى حتى يصل ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم المصطفى مع قرب العهد والتشمير في صيانته والجد وإستعمال القانون النحوي وتثقيف اللسان العربي فيهما كمل الله له الصون وحصل له بهما على فهمه أكبر العون فلله الحمد على ما أولى والشكر له على نعمه التي لا تحصى فأين اللؤلؤ من الخزف والياقوت من الصدف
وبعد هذا فالآن حان أن نذكر بعض ما وقع في التوراة مما تطرق إليها التهم
ومن ذلك ما ذكروه فيها في المصحف الأول منها
ورأى الله أن قد كثر فساد الآدميين في الأرض فندم على خلقهم وقال سأذهب الآدمي الذي خلقت على الأرض والخشاش وطيور السماء لأني نادم على خلقتها جدا
وهذا في حق الله تعالى محال إذ الندم إنما يلحق من لا يعلم مصير المندوم عليه ومآله وإعتقاد هذا في حق الله كفر إذ ينبئ عن أن الله تعالى جاهل وأنه متغير تعالى عن ذلك علوا كبيرا ولفظ الندم هنا نص لا يقبل التأويل فهو كذب وباطل قطعا
ومن ذلك ما ظهر في الوجود خلافه وذلك أنهم حكوا فيها أن بني إسرائيل يسكنون تلك الأرض إلى الإنقراض ثم لم يلبثوا أن رأيناهم أخرجوا منها رأي العين
فقد ظهر أن ذلك باطل وكذب
ومن ذلك أيضا أنه حكى فيها أن الله تعالى كالإنسان شخص

ذو جوارح وهذا على الله بالضرورة محال ولا للتأويل في هذا اللفظ مجال ثم أنى هذا من قوله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
ومن ذلك أيضا أن الله تعالى حين أمر بني إسرائيل إلى التوجه إلى الشام وعدهم أن يتوجه معهم وأمره أن يعملوا قبة على صفة كذا ينزل فيها في سيره معهم
ثم إن موسى قال له يارب إن هذه الأمة القاسية رقابها لا تمضي إليك إلى الشام حتى تمضي معها كما وعدتها فقال الله نعم اعملوا لي القبة فعلم موسى القبة وسماها قبة العهد ونزل الله من عرشه وسار معهم في داخل القبة ينزل بنزولهم ويرحل برحيلهم هذا نص التوراة
ومما يذكرونه من بقية هذا وليس في التوراة أنهم حين جمعوا المال لعمل هذه القبة أجروا الإتفاق على يد موسى عليه السلام فلما كمل عملها ادعوا عليه أنه قد نقصهم من المال ألف رطل وسبع مائة رطل وخمسة وسبعون رطلا وقالوا لموسى تهكما به أين نقص هذا المال وإنما جرى الإتفاق على يديك فسمعوا صوتا من السماء يقول لهم إن هذا العدد دخل في رؤوس الأعمدة وفي التغشية فحينئذ كفوا عنه فهؤلاء لم يعرفوا الله حق معرفته ولا قدروه حق قدره فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون
ومن ذلك أيضا أنهم ذكروا فيها أن الله قال لهم أن يضربوا القرن في عسكرهم قليلا قليلا حتى يلقوا عدوهم فحينئذ يضربونه بأشد ما يقدرون عليه ليسمعهم الله فيؤيدهم على عدوهم فكأنه سبحانه وتعالى لا يسمع إلا الأصوات العالية فأين هذا من وصف الله تعالى نفسه في كتابه على لسان نبيه ورسوله حيث قال وإن تجهر

بالقول فإنه يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى
وفيها من هذا النوع كثير لو ذهبت أنقله لطال الكتاب ولخرجنا من مقصود الباب
وينبغي أن نذكر الآن ما جاء فيها مما ينزه عنه الأنبياء عليهم السلام
من ذلك ما حكوا في السفر الأول عن لوط أنه طلع من صاغار فسكن الجبل هو وابنتاه معه فجلس في مغار هو وإبنتاه فقالت الكبرى للصغرى قد شاخ أبونا وليس على الأرض رجل يدخل علينا نسقى أبانا الخمر ونضطجع معه في مضطجعه ففعلنا وحملتا منه بولدين موآب وعمون
هذا لوط من رسل الله الأكرمين أوقعه الله في فاحشة كما يوقع الأرذلين ثم خلد ذكرها في الآخرين وهل هذا إلا عين الإهانة وأي نسبة بين هذا وبين النبوة والكرامة
وكذلك أيضا حكوا فيها أن اسحق لما شاخ وعمى بصره دعا بعيسو إبنه الأكبر ليبارك عليه وليدعوا له بالنبوة فتحيل يعقوب عليه فقال له إسحق أبوه من أنت فقال له بكرك عيسو فقال له إدن مني حتى أجسك فدنا منه وقد كان وضع على رأسه شعرا بمكيدة أمه فقال له الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو فبارك عليه ودعا له بالنبوة وبشره بها وهو على غلط فيه ثم بعد ذلك جاء عيسو وقال له باركني أيضا يا أبي فقال له دخل أخوك بمكر فقبل بركاتك فقال عيسو بعد بكاء وحزن أما تركت من البركات شيئا أبركة واحدة لك يا أبتي
فما أعظم هذه الآية التي تشبه حديث خرافة
ومن ذلك ما ذكروه فيها أيضا أن يعقوب بينما هو يصلح خيمته

ويبسطها مشى إبنه رأوبين وهو أكبر أولاده فضاجع سرية أبيه بلهة ولما علم بذلك يعقوب قال لإبنه رأوبين فضل العز فائرا كالماء فلذلك لم أفضلك بالسهم الزائد حيث أمتهنت فراشي
وتفسير هذا أن سنة الميراث كانت عندهم أن يرث الولد الأكبر سهمين وسائر الولد سهما واحدا فعاتب يعقوب إبنه رأوبين على فعله بسريته بأن لم يفضله بالميراث على أنه كان أكبر ولده
وفي بعض التراجم أن يعقوب قال يا رأوبين أنت بكري وقوتي ورأس حراتي وعوني طائقة الحمولة وطائقة العز والمنعة عديت مثل الماء فلا تمكث إذ صعدت إلى مضطجع أبيك حقا لقد نجست مضطجعي وتناولته
ومن ذلك ما ذكروه فيها أيضا أن يهوذا بن يعقوب زنى بكنته ثامار إمرأة ولديه ولقد كانا هلكا عنها واحدا بعد واحد فردها يهوذا إلى بيت أبيها ووعدها بتزويج ولده الثالث المسمى بشيلا إذا كبر ثم أنها قعدت ليهوذا في طريق غمنه وتسترت جهدها فظنها بغيا فعدل إليها ودعاها إلى نفسه فسألته أجرا فوعدها بجدى من غنمه فطلبت منه رهنا فأعطاها خاتمه ومنديله وعصاه وواقعها بزعمهم فحملت منه ثم إن يهوذا أرسل بالجدي ليطلب رهنه فلم توجد المرأة فجاء بنفسه إلى أهل القرية وقال لهم أين قحباكم المتبلطة على الطريق فقالوا ما كان منا على الطريق قحبا ثم قيل له بعد حين إن كنتك ثامار حبلى فقال تحرق بالنار فأخرجت لتحرق بالنار فقالت إنما أنا حامل منه وهذه رهنه بيدي حين زنى بي ليفكها بجدي من غنمه فعرف ذلك يهوذا وقال هي أصدق مني
وفي بقية هذا الخبر خرافة وذلك أن ثامار لما جاءها المخاض كان في بطنها توأمان فتناولت القابلة خيط عهن فربطته على يده وقالت هذا يخرج بديا فلما مد يده خرج أخوه فقال لقد انحزمت فيك ثلمة عظيمة

وحكى فيها أيضا أن دينة بنت يعقوب خرجت لبعض شأنها فنظر إليها شخيم بن حمورا الزناتي فعشقها واحتملها فواقعها وافتضها ثم أن شخيم قال لأبيه حمورا اخطب لي هذه الجارية لتكون لي إمرأة فبلغ ذلك يعقوب وأنهم قد نجسوا دينة إبنته فصمت يعقوب وأطرق حتى أتاه بنوه فلما بلغهم ذلك اغتموا وساءهم ذلك واشتد عليهم ذلك جدا لأنهم ارتكبوا النجاسة في إسرائيل ثم إن بني يعقوب عاقدوا شخيم وحمور أباه وقومه أنهم إذا اختتنوا أنكحوه أختهم دينة فإنهم قالوا لشخيم لا نقدر أن نزوج أختنا من رجل له غرلة ولكن إذا اختتنتم زوجناكم أختنا وبناتنا ونتزوج بناتكم
ففعل القوم ذلك فلما اشتدت بهم أوجاعهم تناول شمعون ولاوى كل واحد منهما حربة ودخلا على القرية بغتة فقتلا كل ذكر فيها
ومثل هذا كثير مما يخرج استقصاؤه إلى التطويل
وكذلك حكوا فيها أيضا من وعيد الله لبني إسرائيل بالفاحشة والقبيح مالا يقبله ذو عقل صحيح
مثل ما حكوا أن موسى قال لبني إسرائيل في الوصية التي وصاهم بها حيث قال لهم إن كفرت بربك وحدت عن سبيله وعبدت الآلهة الأجنبية يضربك الرب بقرحة مصر وبالبواسير والجرب والحكة حتى لا تستطيع الشفاء تخطب إمرأة ورجل آخر يضطجع معها
وهذا الكلام تضمن أن الله تعالى توعد بني إسرائيل من عبد غير الله منهم بثلاثة أنواع من الفواحش لا ينبغي لذوى المروءات أن يتلفظوا بها ولو أسقطوا مروءتهم فتلفظوا بها لما كان ينبغي لهم أن يتوعدوا بها ولا أن ينفذوا ذلك الوعيد لفحشه ثم إنهم يلزمهم على هذا أحد ثلاث أمور أحدها أن يكون هذا الكلام باطلا أو كذبا على الله تعالى عن ذلك أو يكون بني إسرائيل كل من أشرك منهم

وعبد غير الله أن يبتلى بهذه الأدواء الثلاثة وأن يكونوا بني زنى ولا يقدرون على أن ينكروا أنهم قد أشركوا بالله وأنهم عبدوا الأوثان بعد موسى فيلزم من ذلك إن لم يكن ذلك الكلام محرفا أن يكونوا كلهم بني زنى وقرحانين وموصوفين بالفاحشة الكبرى
وحكوا في سفر صموئيل الثاني أن داوود عليه السلام اطلع من قصره فرأى إمرأة من نساء المؤمنين تغتسل في دارها فعشقها وبعث فيها فحبسها أياما حتى حبلت تعالى الله أن يجرى ذلك على رسله ثم ردها وكان زوجها يسمى أوريا غائبا في العسكر ولما علمت المرأة بالحمل أرسلت به إلى داوود فبعث داوود إلى يوآب بن صوريا قائده على العسكر يأمره أن يبعث إليه بأوريا زوج المرأة فجاء فصنع له طعاما وخمرا حتى سكر وأمره بالإنصراف إلى أهله ليوقعها فينسب الحمل إليه ففهم الأمر أوريا وتخابث فلم يمش إلى أهله وقال حاشى لله أن يكون الملك هنا دون أهله وأمشى أنا إلى أهلي فلما يئس داوود منه رده إلى العسكر وكتب إلى القائد أن يصدر به في القتال مستقتلا له فقفل أوريا وقتل معه من المؤمنين سبعة آلاف وفزع القائد من داوود لقتل العدد العظيم من المؤمنين وقال للرسول إذا أنت أخبرت الملك داوود بقتل الناس ورأيته قد غضب قل له سريعا إن أوريا قتل فيهم ففعل الرسول وسكن داوود من بعد الغضب وسر بموت أوريا وهانت عليه من أجل موته دماء المؤمنين
فأعتبر هذه الفواحش المنكرة وهذه الصفات المذمومة المستقذرة هل تليق بأولى الديانات فكيف بمعدن النبوات وهل يحمد ذكرها عند ذوي المروءات فكيف عند الحي الكريم إله المخلوقات تبا لهم ولمصدقهم وخسرا براحنة وجذعا وعقرا فوالله لقد افتروا على رسل الله وكذبوا على كتب الله إفتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين

وكتبوا في هذا المصحف أن أمنون بن داوود عشق أخته تامار بنت داوود وتمارض فعاده أبوه فتمنى عليه طعاما تطعمه تامار أخته فبعث بها داوود إليه فلما قربت إليه الطعام وضع يده فيها وافتضها فخرجت باكية فلقيها أخوها الآخر سقيقها أبشالوم فأخبرته فهون عليها ثم بعد أيام وثب على أمنون فقتله من أجل ذلك
وكتبوا في هذا المصحف أن أبشالوم بن داوود نافق على أبيه وأخرجه عن قصره ودخل على نسائه فوطئهن كلهن على أعين بني إسرائيل استبلاغا في الإنتقام من أبيه
ومن أفضح ما كتبوا في هذا المصحف عن سليمان بن داوود أنه ختم عمره بعبادة الأصنام والسحر وسيبت نساؤه دينه كذبوا قاتلهم الله أنى يؤفكون إذ بالأباطل والفواحش يتقولون ويتخرصون فلقد صدق الله العظيم ورسوله الكريم حيث قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه الحكيم واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا فغضب الله عليهم وعلى من يصدقهم إلى يوم الدين ولعنة الله والملائكة والناس أجمعين
فهذه الحكايات الوخيمة والأقوال غير المستقيمة تضمنت الأخبار عن لوط بأنه زنى بإبنتيه وأنهما حملتا منه من الزنى وأن نبوة يعقوب إنما حصلت له بأن خدع إسحق ومكر به وإنما كانت لعيسو وأن داوود زنى بإمرأة مؤمنة زوجة مؤمن وأن داوود تحيل على زوجها حتى قتل وقتل لقتله جماعة من المؤمنين فسر بذلك وأن رأوبين زنى بسرية أبيه يعقوب وكذلك يهوذا زمى بكنته ثامار وولدت له من الزنى توأمين وأن إبنة يعقوب زنى بها شخيم بن حمورا وأن

أولاد يعقوب بعد أن أمنوه وعقدوا معه غدروا به وقتلوه وأباه وأهل القرية وأن أمنون بن داوود زنى بأخته تامار بنت داوود وأن أخاها أبشالوم قتله غيلة وغدرا وأن أبشالوم زنى بنساء داوود أبيه وأن سليمان ارتد عن نبوته وعبد الأصنام
فإن ثبت هذا الذي ذكروه في كتبهم تعالى الله والأنبياء عن قولهم فهذا الشعب الذي ذكروه فيه هذه الفواحش ليس هو شعب النبي إسحق بل هو شعب غدر ونفاق وزنى وكفر وكيف يصح أن تكون هذه الأفعال القبيحة أفعال أهل نبوة صحيحة بل كل ذلك ناقض للنبوات لا سيما مع دعاء إبراهيم وإسحق لذريتهما بالبر والبركات فإن كان هذا شعبهما الذي دعوا له بالبر والبركة فدعاؤهما غير مسموع وقولهما مردود مدفوع
ثم هذه الحكايات الوخيمة الفاحشة غير المستقيمة في التوراة لها أمور أخر تعارضها بل وأدلة العقل تناقضها
من ذلك ما حكى فيها من مدح لوط على لسان إبراهيم وشهادته له بالبر وذلك أن الله تعالى لما أعلم إبراهيم بأنه يريد أن يهلك سدوم وعمورا وهما مسكن قوم لوط قال يا رب أتهلك الأبرار مع الفجار يعنى بالأبرار لوطا وبنتيه فسماهم أبرارا وشهد له بذلك بين يدي الله تعالى وكيف يصح أن يكون ابنتا لوط من الأبرار ويوقعان أنفسهما في أن يزنى بها أبوهما نبي الله ثم لم يعصمه الله تعالى من مثل هذه الرذيلة ثم إن الله شهد عنه هذه الفضيحة التي يتحدث بها على مد الدهر مع أنه لم يسمع قط من المتشرعين من أجاز نكاح البنات وهل هذا من ناقله وناسبه إلى الله إلا جرأة وتواقح على الله
وكذلك ما كتبوه فيها من الحكايات التي ذكرناها في ذرية إسحق يعارضه ما حكوا فيها عن الله أنه قال لإبراهيم في غير موضع ما منها لأباركك بركة تامة ولأكثر نسلك ويتبارك بنسلك جميع الشعوب لأنك أطعتني

وكذلك قال الله لاسحق بعد موت إبراهيم أنا معك أكون وأباركك لأني أعطيك ونسلك جميع هذه المتملكات ويتبارك بنسلك جميع الشعوب
وكذلك قال إسحق ليعقوب حيث مكر به يعقوب بزعمهم قاتلهم الله قال به يؤتيك الله من ظل السماء وخصب الأرض تعبدك الأمم وتسجد لك الشعوب كن رئيسا لاخوتك تسجد لك بنو أمك مباركوك مباركوك ولا عنوك ملعونون
تأمل بعقلك هذه المخازي البادية وما نسبوا في كتبهم إلى أكرم الخلق من المناكر الفاشية
فإذا أنت أمعنت النظر وأشتدت منك العبر علمت أن هذه الحكايات بواطل وأن ملحقها في التوراة وناسبها إلى الله متزندق جاهل وإنما ألحقها عدو للأديان أراد أن يقول في صفوة الله البهتان فحصل له مراده حيث أفسد على المتشرعين الإيمان
ثم نقول للنصارى بعد ذلك العجب منكم ومن جهلكم حيث صدقتم بوقوع هذه الفواحش من الأنبياء واعترفتم مع ذلك بنبوتهم ثم لم تجوزوا على الحواريين وقوع الغلط منهم فيما حكوا لكم إن صحت الحكايات عنهم من إتحاد العلم باللحمة فإن العقل يدل بضرورته على أن ظاهر ذلك فاسد محال فهلا عليكم تأولتم ذلك أو قلتم أنه يجوز عليهم الغلط ولا يدل ذلك على نقضهم كما قلتم في الأنبياء الذين حكيت عنهم تلك الفواحش ولو فعلتم ذلك لكان الأولى عند العقلاء

فصل في بيان أن الإنجيل ليس بمتواتر وبيان بعض ما وقع فيه من الخلل
فنقول وبالله التوفيق
إن هذا الكتاب الذي بيد النصارى اليوم الذي يسمونه بالإنجيل ليس هو الإنجيل الذي قال الله فيه على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس
وإنما قلنا هذا في الإنجيل دون التوراة لأن التوراة قد ثبت عندنا وعندهم أن الله تعالى كتبها في الألواح لموسى عليه السلام وتدعى اليهود أن موسى عليه السلام نسخ لهم التوراة من تلك الألواح فحصل من هذا أن التوارة بلغت بجملتها عن موسى عليه السلام ثم أنه حدث فيها من التغيير بعده ما قدمنا ذكره
وأما هذا الكتاب الذي يدعى النصارى أنه الإنجيل فقد توافق هؤلاء النصارى على أنه إنما تلقى عن إثنين من الحواريين وهما متاؤوش ويوحنا وعن اثنين من تلاميذ الحواريين وهما ماركش ولوقا وأن عيسى عليه السلام لم يشافههم بكتاب مكتوب عن الله كما فعل موسى ولكن لما رفع الله عيسى عليه السلام إليه تفرق الحواريون في البلاد والأقاليم كما أمرهم عيسى فكان منهم من كتب بعض سيرة عيسى وبعض معجزاته وبعض أحواله حسب ما تذكر وما يسر الله عليه فيه فربما توارد الأربعة على شيء واحد فحدثوا به وربما انفرد بعضهم بزيادة معنى وكذلك كثيرا ما يوجد بينهم من اختلاف مساق وتناقض بين قولين وزيادة ونقصان وسترى بعض ذلك إن شاء الله تعالى فعلى هذا لايسمى الإنجيل كتاب الله المنزل حقيقة فإن حقيقة الكتاب المنزل بحكم العرف إنما هو عبارة عن جملة من كلام الله المبلغة على لسان رسول من رسله يحكيها ذلك الرسول عن الله تعالى

وليس شيء من هذا موجودا في الإنجيل في فإن سماه مسم كتابا منزلا ولم يرد هذا المعنى فلا بد من أن نسأله عن المعنى الذي يريده بذلك الإطلاق فلا شك أنه يقول إنما سميته كتابا منزلا لأن عيسى جاء من عند الله وبلغنا شرع الله وفي ذلك الكتاب وصف سيرته وحكايات وأخبار عن الله فكيف لا يقال عليه هو كتاب الله ومنزل من الله فنقول له نسميه هذا كتاب الله بالمجاز أو بالحقيقة فإن قال بالحقيقة فكلامه باطل فإن حقيقة كتاب الله المنزل هو ما قدمناه وإن قال بالمجاز قنعنا بهذا ثم ألزمناه عليه أن يكون كل كتاب يحكى عن نبي من أنبياء الله فإن ألفه أي مؤلف كان كتاب الله ولا فرق
وإذا انتهينا إلى هذا فقد حصل غرضنا وهو أن هذا الإنجيل الذي بأيديهم ليس منزلا ولا يقال عليه كتاب الله المنزل كما يقال على التوراة والإنجيل والقرآن وذلك ما كنا نبغي
فقد حصل من هذا الكلام أنه ليس منزلا من الله حقيقة وأن نقله ليس متواترا فإنه راجع إلى الأربعة الذين ذكرناهم والعادة تجوز عليهم الغلط والسهو والكذب فإن قالوا هم معصومون فيما نقلوه عن عيسى عليه السلام قلنا ما دليل عصمتهم فإن قالوا دليل عصمتهم أنهم كانوا أنبياء ودليل نبوتهم ما ظهر على أيديهم من خوارق العادات وشهادة عيسى عليه السلام لهم حيث قال لهم كل ما سألتموه إذا حسن إيمانكم ستجابون وقال لهم ستوقفون على الملوك ويسألونكم فلا تفكروا فيما تقولون فإنكم ستهدون ذلك الوقت لما تقولونه ولستم تنطقون أنتم لكن روح القدس ينطق على ألسنتكم وقد جاء عن عيسى عليه السلام أنه دعا الإثني عشر حواريا وأعطاهم من القدرة والسلطان ما يتقون به جميع الجن ويبرءون به الأسقام وكذلك قال لبطرس ما عقدته أنت في الأرض فمعقود في السماء وما حللته في الأرض

فمحلول في السماء وأما خوارق العادات فقد كانوا يحيون الموتى ويبرءون المرضى كما كان يفعله عيسى عليه السلام وذلك معروف من حالهم
قلنا ما ذكرتموه عن عيسى عليه السلام من الشهادة فلا يصح لكم الإستدلال بشيء مما ذكرتموه لوجوه
أحدها أنكم أسندتم ذلك إلى الإنجيل واستدللتم على صدقهم بما جاء عنهم فيه وما جاء عنهم فيه لا يثبت حتى تثبت عصمتهم فلا يثبت بما ذكرتموه لا الإنجيل ولا عصمتهم
الوجه الثاني أنا لو سلمنا ذلك لكم لما كان فيما ذكرتموه حجة لأنه ليس شيء منها ينص على أنهم معصومون فيما أخبروا به على الإطلاق وغاية ما ذكرتموه أن يدل على أنهم يعانون ويؤيدون مما يبلغون عن عيسى في بعض الأوقات أو في بعض الأخبار والأحوال
والوجه الثالث أن ما ذكروه معارض بما نقلوه أيضا وذلك أنهم نقلوا في الإنجيل أنه قال للحواريين يا نسل التشكيك والكفر إلى متى أكون معكم وإلى متى أحتملكم وأما ما قال لبطرس فهو أيضا معارض بما حكيتم عنه أنه قال له تأخر يا شيطان فإنك جاهل بمرضات الله
وأما ما ادعوه من معجزاتهم فلم ينقل منها شيء على التواتر وإنما هي أخبار آحاد غير صحيحة ولو سلمنا أنها صحت لما دلت على صدقهم في كل الأحوال وعلى أنهم أنبياء فإن القوم لم يدعوا النبوة لأنفسهم وإنما ادعوا التبليغ عن عيسى عليه السلام فظهر من هذا البحث أن الإنجيل المدعى لم ينقل تواترا ولم يقم دليل على عصمة ناقليه فإذن يجوز الغلط والسهو على ناقليه فلا يحصل العلم بشيء منه بل ولا غلبة الظن فلا يلتفت إليه ولا يعول في الإحتجاج عليهم

وهذا كاف في رده وبيان قبول تحريفه وعدم الثقة بمضمنه ولكنا مع ذلك نعمد منه إلى مواضع يتبين فيها تهافت نقلته ووقوع الغلط في نقله بحول الله تعالى
فأول ذلك أنهم ذكروا في أول ورقة من إنجيل يوحنا حيث ذكر المسيح فقال ولد المسيح الذي هو بادئ الأشياء وعلتها الأولى علة جميع الأشياء وكل زمان ورأس كل نظام وأولية جميع المراتب ثم قال بعد ذلك في معرض مدحه المكلوم في لحمه المعلق في الخشبة
كيف يجترئ عاقل أن يتحدث بمثل هذا العار أو كيف تصح نسبة هذا التناقض البين إلى أحد من الأخيار
وذكروا فيه أيضا أن عيسى عليه السلام قال أنا الباب فمن دخل علي يسلم ويجد مرعى أيدا ثم عرض بمن قبله من الأنبياء فجعلهم لصوصا وسراقا فقال آمين آمين أقول لكم إني باب الضأن والقادمون عليكم كانوا لصوصا وسراقا ولا يقبل اللص إلا ليسرق شيئا ويقتل وأنا قدمت لتحيوا وتزدادوا خيرا
وفي الإنجيل أيضا أنه قال إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي غير مقبولة ولكن غيري يشهد ثم في موضع آخر من الإنجيل أنه قال إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق لأني أعلم من حيث جئت وإلى أين أذهب
فكيف تكون شهادته حقا وباطلا ومقبولة وغير مقبولة وكيف يجمع بين هذين في كتاب ينسب إلى الله
وفي الإنجيل ايضا أنه حين استشعر بوثوب يهوذا عليه قال قد جزعت نفسي الآن فماذا أقول يا أبتاه فسلمني في هذا الوقت وأنه حين رفع في الخشبة صاح صياحا عظيما وقال

آلى آلى لم عد بتاى وترجمته إلهي إلهي لم أسلمتني
ثم في أول ورقة منه إنما أسلم نفسه لتظهر قدرته بسلطانه على الموت وظفرته على جميع الآلام والمهن التي تستقبحها أوهام الآدميين
فكيف يصيح ويجزع مما تظهر به قدرته وقهرته وهل سمع قط أسخف من هذا القول أو أظهر تناقضا منه
ثم في موضع آخر منه أنه قال قبل ذلك من أحب أن يقفوا أثري فليذهب نفسه فحرض على إتلاف النفوس فكيف يجزع مما يحرض عليه قبل أم كيف يكون إلها أم كيف يكون ابن الله ثم يدعوه أن يخلصه في ذلك الوقت فلم يستجب له
ومن أظهر دليل على وقوع الغلط فيه أن في إنجيل متاؤوش الحواري حين ذكر نسب عيسى عليه السلام حيث نزل خطيب مريم أبا لعيسى فقال ابن يوسف بن يعقوب بن مثان بن أليعازر بن أليود ابن أخيم وعد إلى إبراهيم الخليل تسعة وثلاثين أبا ثم في إنجيل لوقا يقول يوسف بن هالى بن متثات بن لاوى بن ملكي بن ينا وعد إلى إبراهيم نيفا وخمسين أبا
فياليت شعرى كيف يجوز مثل هذا على الله أو كيف ينقل هذا في كتاب معلوم عن الله وقد أراد بعض أساقفتهم أن يرقع هذا الخرق المتسع بأن قال أحد النسبين طبيعي نسب التوليد والآخر نسب شرعي نسب الولاء والكفالة والتناقض باق عليه بعد اختراع هذا الهذيان

ثم انظر هذه الشناعة التي ارتكبوها حيث نسبوا عيسى عليه السلام إلى رجل زعموا أنه خطب أمه مريم وأي نسبة تثبت بينهما بأن أراد أن يتزوج إنسان أمه ثم إنهم يبلغون نسب يوسف إلى آدم ثم يقولون إلى الله
فهلا عليهم يستغنون عن ذكر نسب من لا ينتسب في عيسى ويقولون في عيسى ما يقولون آدم لولا الجهل والتحكم وفي الانجيل عنه أنه كان يوما قد نهاهم عن التجارة في بيت المقدس وأن اليهود قالت له حينئذ أي علامة تظهر لنا قال تهدمون هذا البيت وأبنيه لكم في ثلاثة أيام فقالت اليهود بيت بنى في ستة وأربعين سنة تبنيه أنت في ثلاثة أيام
ثم في موضع آخر منه أنه لما ظفرت به اليهود بظنكم وحمل إلى بلاط قيصر واستوعيت عليه بينة أن شاهدي زور جاءا إليه وقالا سمعنا هذا يقول أنا قادر على بنيان البيت في ثلاثة
وهذه شهادة موافقة لما قال عيسى لليهود فهذا الشاهد قال عليه الحق لما يقتضيه كلامه ومن شهد بما سمع كيف يقال عليه شاهد الزور أو كيف يسميه الله شاهد زور ومن أعجب الأشياء أن اليهود لا تعرف شيئا من هذا ولا سمعت أن أسلافها جرى بينهم وبين عيسى هذا المجلس ولا سوى ذلك مما تصفون من خرافات كتبكم
وفي الإنجيل أيضا للوقا أن عيسى قال لرجلين من تلاميذه اذهبا إلى الحصن الذي يقابلكما فإذا دخلتماه فستجدان فلوا مربوطا لم يركبه أحد فحلاه واقبلا به إلى وفي الإنجيل لمتاؤوش يصف هذا الخبر بعينه ويذكر أنها كانت حمارة فحسبك بهذا خللا وتناقضا

وفي الإنجيل أيضا للوقا يخبر عن المرأة التي صبت الطيب على رجلي المسيح وشق ذلك على التلاميذ وقالوا لها هلا تصدقت به وفي الإنجيل لمتاؤوش أنها إنما صبت الطيب على رأس المسيح فما أبعد اليقين عن خبر فيه مثل هذا الإختلاف المبين
وفي الإنجيل أيضا أن أم ابني زبدى جاءت إلى عيسى ومعها إبناها فقال ما تريدين فقال أريد أن تجلس ولداي أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك إذا جلست في ملكك فقال تجهلين السؤال أيصبران على الكأس التي أشرب بها فقالا نصبر فقال ستشربان بكأسي وليس إلى تجليسكما عن يميني ولا عن شمالي إلا لمن وهب ذلك
فقد أخبر هنا أنه لا يقدر على تجليسهما عن يمينه ولا عن شماله
وفي أول ورقة منه أنه بادئ الأشياء وعلتها وعلة كل زمان فكيف يصح أن يكون بادئ الأشياء كلها وعلتها ولا يقدر أن يجلسهما عن يمينه ولا عن يساره ثم يتبرأ عن ذلك بقوله إلا لمن وهب ذلك لي ولا مزيد في التناقض الفساد على هذا
وفي الإنجيل أيضا أنه قال لا تحسبوا أني قدمت لأصلح بين أهل الأرض لم آت لصلاحهم لكن لألقى المحاربة بينهم إنما قدمت لأفرق بين المرء وإبنه والمرأة وإبنتها حتى يصيروا أعداء المرء أهل بيته
وفيه أيضا عنه إنما قدمت لتحيوا وتزدادوا خيرا وأصلح بين الناس وأنه قال من لطم خدك اليمنى فانصب اليسرى ولا مزيد في التناقض والفساد على هذا

وفي الإنجيل أيضا أنه قال لم آت لأنقض شريعة من قبلي إنما جئت لأتمم وكلاما من معناه ثم فيه بعد أحرف قليلة كلام آخر ينقض فيه شريعة من قبله وذلك أنه قال إنما علمتم أنه قيل للقدماء لا تقتلوا ومن قتل فقد استوجب النفى من الجماعة ثم قال بعد ذلك أما علمتم أنه قيل للقدماء من فارق إمرأته فليكتب لها كتاب طلاق وأنا أقول لكم من فارق إمرأته منكم فقد جعل لها سبيلا إلى الزنى ومن زوج مطلقة فهو فاسق ثم قال أما بلغكم أنه قيل للقدماء العين بالعين والسن بالسن وأنا أقول لكم لا تكافئوا أحدا بسيئة ولكن من لطم خدك اليمنى فانصب له اليسرى ومن أراد مغالبتك وإنتزاعك قميصك فزده أيضا رداءك
كيف يصح أن يقول لم آت لأنقض شريعة من قبلي ثم ينقضها حكما حكما ثم قوله جئت متمما لا يصح أيضا فإن شريعة موسى كانت تامة كاملة والتام لا يتمم والكامل لا يكمل فهذا تناقض وفساد
وعيسى عليه السلام منزه مبرأ عن كل تناقض وفساد وليس هذا ولا شيء منه من قبله بل هو منزه عن ذلك كله
وفي الإنجيل أيضا لمتاؤوش أن المسيح قال لبطرس طوبى لك يا شمعون بن الحمامة وأنا أقول أنك الحجر وعلى هذا الحجر أبتنى بيتي فكل ما حللته على الأرض يكون محلولا في السماء وما عقدته على الأرض يكون معقودا في السماء ثم بعد أحرف يسيرة قال بعينه اذهب يا شيطان ولا تعارض فإنك جاهل بكوني
فكيف يكون شيطان جاهل يطيعه صاحب السماء وهذا غاية التناقض
وفي الإنجيل أيضا لمتاؤوش أن عيسى قال لم تلد النساء

مثل يحيى ثم في إنجيل يوحنا أن يحيى بعثت إليه اليهود من يكشف لهم أمره فسألوه من هو أهو المسيح قال لا قالوا أتراك الياس قال لا قالوا أنت نبي قال لا قالوا أخبرنا من أنت قال أنا صوت مناد في المفاز
فنفى عن نفسه كونه نبيا ولا يجوز لنبي أن ينكر نبوته فإنه يكون كاذبا والنبي الصادق لا يكذب
فيلزمهم أحد أمرين إما أن يكون يحيى ليس بنبي وهو باطل أو يكن إنجيلهم محرفا وهو حق
ولو تتبع ما فيه من هذا القبيل لاحتاج ذلك إلى التكثير والتطويل وبموضع واحد من هذه المواضع يحصل أن كتابهم قابل للتحريف والتغيير فكيف بالتزيد والتكثير
فقد حصل من هذا البحث الصحيح
أن التوراة والإنجيل لا تحصل الثقة بهما فلا يصح الإستدلال بهما لكونهما غير متواترين وقابلين للتغيير
وقد دللنا على بعض ما وقع فيهما من ذلك وإذا جاز مثل ذلك في هذين الكتابين مع كونهما أشهر ما عندهم وأعظم عمدهم ومستند ديانتهم فما ظنك بغير ذينك من سائر كتبهم التي يستدلون بها مما ليس مشهورا مثلهما ولا منسوبا إلى الله نسبتهما

فعلى هذا هما أولى بعدم التواتر وبقبول التحريف فيهما فإذا ادعوا تواتر شيء من ذلك فلينظر هل كملت فيه شروط التواتر أم لا فإن كملت قبلنا وآمنا وإن لم تكمل توقفنا وطالبناهم بالطريق الموصل إلى العلم
فإذا ثبتت هذه المقدمة قلنا بعدها للمستدل على إثبات نبوة عيسى بالأدلة المتقدمة لا تظن أننا نرد نبوة عيسى أو أنا نشك فيها حاشى لله بل نحن أحق وأولى بعيسى ابن مريم منكم فإنكم قلتم فيه ما لا ينبغي له ونسبتموه إلى ما يتبرأ هو منه بل أنتم لعمرى والله أبعد منه وأبغض إليه ممن أنكر نبوته وكفر به فإن من أنكر نبوته وكفر به لم يشرك بالله كما فعلتم أنتم حيث جعلتموه إلها آخر ولم يعرض بعيسى عليه السلام للموقف المخجل الذي يسأله الله فيه عن غلوكم فيه وعبادتكم له حيث يقول الله له
يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله فيقول خجلا فزعا متبرأ من قبيح ما نسبتموه إليه سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته
وأما نحن فإنما نقول فيه ما قاله الله على لسان رسوله المصطفى ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام وما قاله الله أيضا فيه على لسان أشعياء حيث بشر به وأخبر بقدومه هذا غلامي المصطفى وحبيبي الذي ارتضت به نفسي
وما قاله هو عن نفسه حين تكلم في مهده إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا
فنحن نعرفه حق معرفته ونؤمن بنبوته وشريعته ونحيل عليه الإلهية إذ ليست من صفته ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم

والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون
ثم إنا نعرف ما ذكرناه من وصفه بأدلة كثيرة قاطعة وبراهين صادقة تخضع لها رقاب الجاحدين وتستضئ بنورها بصائر المبصرين
وإذا كان كذلك فما استدللت به أنت على نبوة عيسى من كلام النبيين إن صح فهو زيادة في أنواع الأدلة لا في نفس اليقين فلذلك لا نباحثك فيها ولا نبالي بك أتجهلها أم تدريها على أنا لو ناقشناك في تلك الأدلة لأظهرنا لك فيها الفساد والعلة ولكن ما لا يخالف غرضنا لا يقتضيه فيما بالنا نطول أنفاسنا فيه

الفصل السابع
هاجر أم إسماعيل الذبيح
من حكاية كلامه أيضا
قال
وأنت أنها الإنسان تجدوا في كتابكم في آل عمران وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس
فأنت مقر بالتوراة والإنجيل فاثبتوا دينكم من التوراة كما أثبتنا نحن ديننا من كتب الأنبياء واعلم أنه لا نقبل لكم من كتبكم شيئا فإن قلت من كتابك شيئا قلت لك كما قال رسولك البينة لمن ادعى واليمين على من أنكر فوجب عليك أن تثبت دينك من التوراة والإنجيل التي أنت مقر بهم وأنت مدعى أن كتابكم من الله فاثبتوه من التوراة بالعبراني ومن الإنجيل بالعجمي كما أنتم مقرون
وقولكم وما محمد إلا رسول الله قد خلت من قبله الرسل فإني أطلبك من الكتب التي جاءت به الرسل كما قلتم فائت بما ادعيت وإلا يميني لأني أنكر لك ولا نقبل لك من النبوات والروايات المرويات عن مسلم في كتابه الذي قال حدثنا سفيان عن الزهري عن قتادة عن عائشة قالت جاءت امرأة رفاعة إلى الرسول فقالت له كنت لرفاعة فطلقني فتزوجت عبدالرحمن بن الزبير فتبسم الرسول ضاحكا وقال أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عبدالرحمن بن الزبير عسيلتك وفي رواية أخرى عن عائشة قالت طلق رجل إمرأة ثلاثة فتزوجها رجل ثم طلقها قبل أن يدخل بها وأراد زوجها الأول أن يتزوجها فسئل الرسول عن ذلك قال لا حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول

فافهم فمثل هذه النبوات لا نقبلها منكم لأن المسيح يقول لا ينبغي لرجل طلاق زوجته إلا أن تزنى وإن زنت فلا يحل له مراجعتها ومن طلق إمرأته فقد جعل لها سبيلا إلى الزنى أعنى من طلقها دون سبب ومن زوج مطلقة فهو فاسق بها
وأنتم تقولوا لا يحل لزوجها مراجعتها إلا أن تزنى بدل أن تنهو عن الزنى تأمروا بالزنى وهو عندكم فريضة التياس
وأنا أريد قطع ذنب التيس وأن نجعله في ذقنه ليلوح لسته لمعرة صرصر الشمال وحمارة قيظ هجير الجنوب
وهذا جواب كلامك إنتصافا منك كما يقول قرآنك ومن انتصف من بعد ظلمه فلا جناح عليه فأفهم
ثم قلت في شعرك
أراد النصارى ينصرون محالهم
فانصر أنت محالك لأنك قلت بالسفه والطعن في ديننا وقلت الكذب على مسيحنا كيف قلت ما لم تعلم وكيف تجرأت أن تتكلم واعلم أنك إن أرسلت بعد هذا بالشتم فإني أبعث إلى كل بلد كتابا بنص شريعتكم وبكل ما نعرف فيها من الأقاويل التي لاتقدرون على إنكارها
فافهم لأنك قلت في المسيح غث وأوطار وأنك سبيت الحاكم عليك وعلى جميع الأمم يوم القيامة لكن سوف تلقاه حاكما ليس يطلب عليك بينة فإن أرسلت بعد هذا بالشتم فإني أعرفك بشجرتك ما هي حتى تعلم من أنت وأعلم أني لم أريد في الأول شتم أحد لكن لما بعث إلى أول كتاب بالسفه والسب رددت له الجواب بأمه هاجر ولم نقل فيها عشر ما قال الله فيها في التوراة وعن إبنها فاسمع قول الله عنها وعن ابنها

رأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدت لإبراهيم وهو يلعب فقالت لإبراهيم ارمي هذه الأمة وابنها إذ ليس يرث هذه الأمة وابنها مع ابني إسحق فصعب على إبراهيم ما قالت له عن ابنه فقال الله لإبراهيم لا يصعب عليك بكلام سارة عن الصبي وعن أمتك وجميع ما تقول لك سارة اسمع من قولها فقال إبراهيم هذا كلام الله إلى قائلا لا يرثك هذا
إن الذي يخرج من صلبك هو يرثك
ثم قال الله لإبراهيم باسحق يتسمى نسلك
فافهم ترشد واعلم كيف قطع الله ورث إسماعيل وأمه في قوله لا يرثك هذا ثم قال عن إسحق الذي يخرج من صلبك وكيف قال الله لإبراهيم باسحق يتسمى نسلك ولم يقل بإسماعيل يتسمى نسلك
فأخذ إبراهيم خبزا وجرة ماء وجعل على أكتاف الأمة وجعل إسماعيل على عنقها بالليل وأخرجها بولدها عن العمران فتناسلت منه الأمة الذي قال فيها قرآنكم أشد كفرا ونفاقا
فافهم والسلام على من اتبع الهدى وآمن بشريعة المسيح حقيقة الإيمان ورحمة الله وبركاته كمل كلامه

الجواب عما ذكر
اعلم يا هذا المخدوع المصروف عن المعارف الممنوع الشاهد عليه جهله بأنه ليس بتابع ولا متبوع أنا نؤمن بالله وكتبه ولا نفرق بين أحد من رسله فنؤمن بالتوراة والإنجيل اللذين أنزلهما على رسوليه الملك الجليل ولكن قبل أن يعتريهما التغيير والتبديل وقد نبهنا على أن الكتاب الذي بأيديكم المسمى بالإنجيل عندكم لا يقال عليه منزل بالحقيقة كما تقدم من تلك الطريقة ثم إنا نسلم جدلا صحة ما تدعونه من تلك النبوة ونبين صحة نبوة نبينا منها عن كثب

فأما قولك واعلم أنا لا نقبل من كتبكم شيئا فليس ذلك بأول عنادكم فكم لكم منها وكم شنشنة أعرفها في أخزم
لكنكم لستم عند العقلاء أهلا لقبول حق ولا لرد باطل فليس ردكم بأولى من قبولكم وهكذا فعل الرعاع الغثر الغثاء الغبر يقبلون بغير دليل ويردون بغير حجة ولا سبيل
وإلا فما الدليل الذي أوجب عندكم إلا تقبلوا نبوة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم مع وضوح معجزاته وعدالة بيناته على ما نبينه إن شاء الله تعالى
فظهر من هذا أن ردكم لديننا ليس بدليل وإنما هو لأجل إتباع قول كل جهول دخيل يحكم على عقله هواه ويطيح معه حيثما رماه
ولأجل ذلك صار دينكم ضحكة العقلاء مشتملا على كل مقالة شنعاء ومن كان هذا منهج سبيله فرده لغير معنى بمثابة قبوله
ولقد كان ينبغي لك لو كنت على سنن النظار أهل البحث عن الحق والإعتبار أن تحكى ديننا وتستدل بزعمك على فساده كما قد فعلنا نحن بدينكم إذ بينا تناقضه وعدم سداده على أنه قد تبين الصبح لذي عينين ووضحت الشمس لسليم الحاستين ... ما ضر شمس الضحى في الجو مشرقة ... ألا يرى ضوءها من ليس ذا بصر ...
ثم قلت متواقحا في قولك مستهزئا برسول ربك فإن قلت من كتابك شيئا قلت لك كما قال رسولك البينة على من ادعى واليمين على من أنكر أما قولك رسولك فنعم هو رسول إلينا وإليك فآمنا وكفرت وصدقنا وكذبت وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون فنحن نقول رضينا بالله ربا وبمحمد رسول الله رسولا وبالإسلام دينا وأما أنت فإن مت مصرا على تكذيبك فليدخلنك الله النار وليدخلنك في دار البوار فلا تنتفع بشفاعة ملك مقرب ولا بنبي مختار وأما طلبك البينة على صدقه فكفاك شهادة

الأنبياء العارفين بحقه المخبر عنه بلزوم تصديقه وصدقه وسنبين ذلك بأبلغ بيان وأوضحه بأوضح برهان
وعلى سبيل الإستعجال يكفيك بينة عدله ما وقع في صحف النبي دانيال حيث وصف الكذابين وقال لا تمتد دعوتهم ولا يتم قربانهم وأقسم الرب بساعده أن لا يظهر الباطل ولا تقوم لمدع كاذب دعوة أكثر من ثلاثين سنة
وهذا دين محمد رسولنا صلى الله عليه و سلم قائم منذ ستمائة سنة ونيف فكيف ترى هذه البينة المصححة أمعدلة عندك أم مجرحة
وكذلك في صحف النبي حبقوق وهو الشاهد المعظم الموثوق قال جاء الله من التيمن وتقدس من جبال فاران وامتلأت الأرض من تحميد أحمد وتقديسه وملك الأرض بهيبته وقال أيضا تضئ له الأرض وستنزع في قسيك إغراقا وترتوي السهام بأمرك يا محمد
فهذا النبي الصادق المصدق قد أفصح بنعته وصرح بإسم بلده وشهد بصدقه ومن كان الأنبياء شهوده فقد استحق مكذبه عذاب النار وخلوده فلعنة الله والملائكة والناس أجمعين على من تبين له الحق ثم صار عنه من المعرضين وسنعقد في النبوات فصلا مفردا ونأتي فيه بالعجائب حتى يتبين فيه تواقح كل طاعن عائب
وأما قولك وأنت تدعى أن كتابكم من الله فإن كنت تنكر ذلك فادع عصابتك البلغاء من نصارى نجران المتكلمين بلغة القرآن ليعارض بسورة من مثله فإن فعلوا ذلك دحضت حجته وانقطع عظيم قوله لكنهم لما سمعوا منه القرآن تحققوا على القطع أنه ليس يقدر عليه أحد من الإنس والجان وعلموا أنه كلام الملك الديان فآمنوا وصدقوا لما عرفوا وحققوا فحصلوا على فضل الملتين وآتاهم الله أجرهم مرتين

وأما قولك فأثبتوه من التوراة بالعبراني ومن الإنجيل بالعجمي فلتعلم أنا لولا كره منا أن نتكلم برضانة العجم لكان ذلك علينا أيسر شيء يلتزم ولكنا إن شاء الله تعالى نذكر كلام الأنبياء من كتبكم كما قد ترجمها المترجمون من أهل ملتكم مثل يرونم وحفص ابن البر وغيرهما من المترجمين الذين تثقون بقولهم وتعولون على نقلهم ولست أفعل مثل ما أنت فعلت ولا أصنع شيئا مما صنعت حيث نقلت كلام الأنبياء بالعبراني والعجمي ثم إنك شرعت في ترجمته وفي تفسيره من غير أن تنسب التفسير إلى أحد المترجمين العالمين بالمعاني وباللغات ومواقع الألفاظ وأما أنت فلست بموثوق بنقلك ولا مصدق في قولك لجهلك بالشروط التي يحتاج إليها المترجمون وإذا ادعيت أنك لست جاهلا فما حد الترجمة وحقيقتها وما شروطها وكم أقسامها وما المحل الذي تجوز فيه من الذي لا تجوز وبهذا السؤال يظهر جهلك وتبلدك وحصرك وتوددك
ثم قلت فائت بما ادعيت وإلا يميني لأني أنكر ها أنا قد أقمت البينات العدول الذين ليس لقائل في عدالتهم ما يقول ولقد أعلم مع ذلك أنك تبادر باليمين وتباهت المسلمين إذ قد تقولت بالكذب والزور على رب العالمين ثم ذكرت على جهة الإستهزاء والتنقيص والإزدراء والتخريص حديث إمرأة رفاعة لتقبح بذلك ديننا وتنسب إليه شناعة وأنت مع ذلك لم تعرف معناه ولا فهمت فحواه
ثم قلت بعد أن أخللت بمساقه ولم تقمه على ساقه فمثل هذه النبوات لا نقبلها منكم لأن المسيح يقول لا ينبغي لرجل طلاق زوجته إلا أن تزنى فلتعلم أن هذا كلام جاهل بأحكام الأنبياء ظان أن أحكام الشرع صفات لأعيان الأشياء ثم تستمد من إنكار الناسخ والمنسوخ وكلام كل جاهل مردود مفسوخ
فنقول لهذا المنكر الجاهل الذي ليس بمتشرع ولا عاقل منعك طلاق الرجل زوجته ورده إياها بعد طلاقها لا يخلو إما أن يكون منعا من جهة العقل أو من جهة الشرع فإذا ادعيت أنه من جهة العقل كانت دعواك باطلة بالضرورة فإن صور هذه المسائل ووجودها معلوم بالضرورة فإذا بطل أن يكون إمتناعها من جهة العقل فيجوز أن توجد وإذا جاز أن توجد فكيف ينبغي لمن ينتسب إلى العقل أن ينكر

أقسام الكتاب

1 2 3