كتاب : كتاب المواقف
المؤلف : عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي

المقصد السابع
المتن
الأبعاد متناهية سواء كانت في ملاء أو خلاء إن جاز خلافا للهند لوجوده
الأول لو وجد بعد غير متناه فلنا أن نفرض خطا غير متناه وخطا آخر متناهيا يوازيه ثم يميل من الموازاة مائلا إلى جهته فيسامته ضرورة والمسامتة حادثة فلها أول وهي بنقطة فيكون في الخط الغير المتناهي نقطة هي أول نقط المسامتة وأنه محال إذ ما من نقطة تفرض إلا والمسامتة مع ما قبلها قبل المسامتة معها لأن المسامتة إنما تحصل بزاوية مستقيمة الخطين وأنها تقبل القسمة إلى غير النهاية وكلما كانت الزاوية أصغر كانت المسامتة مع النقطة الفوقانية
تلخيصه لو وجد بعد غير متناه لأمكن الفرض المذكور واللازم باطل لأنه مستلزم إما لامتناع المسامتة أو لوجود نقطة هي أول نقط المسامتة والقسمان باطلان واعترض عليه بمنع إمكان الفرض وجوابه دعوى الضرورة
واعلم أن من الفروض ما يحكم العقل بجوازه كالفروض الهندسية مثل تطبيق خط على خط وفصل خط من خط وإدارة دائرة وليس لأحد أن يمنعه إلا مكابرة وقد يقال عليه لا نسلم لزوم نقطة هي أول نقط المسامتة لعين ما ذكرتم في بطلان التالي
والجواب أنا بينا لزوم ذلك بأن المسامتة لها أول وهو يكون بنقطة ضرورة ودليل امتناع اللازم لا يدل على عدم ملازمته وإلا جاء في كل قياس استثنائي يستثنى فيه نقيض التالي

وقال بعض فضلاء المتأخرين إن أطول خط يفرض هو محور العالم والمسامتة مع النقطة التي فوقه قبل المسامتة معه وهذا مما لا ورود له كيف والمسامتة مع نقطة لا وجود لها لا تعقل والوهم البحت لا عبرة به
الثاني وهو عكس الأول ولزيادة تقرير له أن نفرض خطين غير متناهيين متقاطعين ثم ينفرجان كأنهما مائلان إلى الموازاة فلا بد في الموازاة أن يتخلص أحدهما عن الآخر ولا يتصور ذلك إلا بنقطة هي نهايتهما ويلزم الخلف
الثالث أنا نفرض من نقطة ما خطين ينفرجان كساقي مثلث متساوي الأضلاع بحيث يكون البعد بينهما بعد ذهابهما ذراعا ذراعا وبعد ذهابهم ذراعين ذراعين وعلى هذا فإذا ذهبا إلى غير النهاية كان البعد بينهما غير متناه بالضرورة واللازم محال لأنه محصور بين حاصرين والمحصور بين حاصرين يمتنع أن لا يكون له نهاية ضرورة وهذا هو الذي يسميه ابن سينا البرهان السلمي مع زيادة تلخيص عجز عنه الفحول البزل
واعلم أن هذا يدل على بطلان عدم تناهي الأبعاد من جميع الجهات ولو جوز مجوز إسطوانة غير متناهية لم يتم ذلك

الرابع نفرض ساقي مثلث كيف اتفق فللانفراج إليهما نسبة محفوظة بالغا ما بلغ فلو ذهبنا إلى غير النهاية لكان ثمة بعد متناه نسبته إلى غير المتناهي كنسبة المتناهي إلى المتناهي هذا خلف
الخامس أنا نقسم ترسا بستة أقسام يحيط بكل قسم ضلعان ثم نخرج الأضلاع إلى غير النهاية ثم نردد في كل قسم فنقول هو إما غير متناه فينحصر ما لا يتناهى بين حاصرين وإما متناه فكذا الكل لأنه ضعف المتناهي بمرات متناهية وهذا كالتتمة والتوضيح للبرهان السلمي لأن كل قسم من الستة كمثلث متساوي الأضلاع
السادس التطبيق وطريقه أن نفرض من نقطة ما إلى غير النهاية خطا ومن نقطة قبلها بمتناه خطا آخر ثم نطبق الخطين فالناقصة إما مثل الزائدة أو تنقطع فينقطعان كما تقدم مرتين
السابع أنا نفرض خطا غير متناه من الجانبين ثم نعين عليه نقطتين بينهما بعد متناه ونشير إلى نقطة فنقول هي إما المنتصف أو لا فإن كانت المنتصف كان منها في الجانب الآخر مثله فيكون من النقطة الأخرى في ذلك الجانب أقل منه فنطبق أحدهما بالآخر ويتم الدليل وإن لم تكن المنتصف كان أحدهما أقل من الآخر ونمضي
احتج الخصم بوجوه
الأول ما وراء العالم متميز فإن ما يلي يمينه غير ما يلي يساره ضرورة والمتميز لا يكون عدما محضا فهو إذا بعد والجواب منع التميز وإنما ذلك وهم
الثاني أنه متقدر فإن ما يوازي ربع العالم أقل مما يوازي نصفه وكل متقدر فهو كم والجواب أن التقدر وهم
الثالث أنا لو فرضنا واقفا على طرف العالم فإن أمكنه مد يده فيما وراءه فثمة فضاء متقدر إذ ما يسع إصبعا أقل مما يسع اليد كلها وإن لم يمكنه فثمة جسم مانع وعلى التقديرين فثمة بعد والجواب لا نسلم أنه لو

لم يمكنه مد يده فيه فثمة جسم مانع لجواز أن يكون ذلك لا لوجود المانع بل لعدم الشرط وهو الفضاء الذي يمكن مد اليد فيه
الرابع الجسم ماهية كلية فيمكن لها أفراد غير متناهية عقلا والجواب أن الكلية لا تقتضي الوجود ولا التعدد ولا عدم التناهي
الشرح
المقصد السابع الأبعاد الموجودة متناهية من جميع الجهات سواء كانت تلك الأبعاد في ملاء كالأبعاد المقارنة المادة الجسمية أو خلاء كالأبعاد المجردة عنها إن جاز الخلاء والمراد أن تناهي الأبعاد لا يتوقف على امتناع الخلاء خلافا للهند فإنهم ذهبوا إلى أنها غير متناهية وإنما قلنا بتناهيها لوجوه
الأول لو وجد بعد غير متناه ولو من جهة واحدة فلنا أن نفرض من مبدأ معين خطا غير متناه وخطا آخر متناهيا بحيث يوازيه في وضعه الأول أي يكون بحيث لا يلاقيه أصلا وإن خرج إلى غير النهاية ثم يميل الخط المتناهي بحركته مع ثبات أحد طرفيه الذي في جانب المبدأ من الموازاة مائلا إلى جهته أي جهة الخط الغير المتناهي فيسامته أي يصير بحيث يلاقيه بالإخراج وذلك أعني حصول المسامتة بتلك الحركة معلوم ضرورة والمسامتة المذكورة حادثة لكونها معدومة حال الموازاة المتقدمة عليها فلها أول إذ كل حادث كذلك وهي أي مسامتته إياه بنقطة لأن تقاطع الخطين لا يتصور إلا عليها فيكون في الخط الغير المتناهي نقطة هي

أول نقطة المسامتة وأنه محال إذ ما من نقطة تفرض على الخط الذي فرض غير متناه إلا والمسامتة مع ما قبلها أي فوقها من جانب لا تناهي الخط قبل المسامتة معها وذلك لأن المسامتة مع أية نقطة تفرض إنما تحصل بزاوية مستقيمة الخطين عند الطرف الثابت من الخط المتناهي فأحد الخطين هو هذا المتناهي مفروضا على وضع الموازاة والآخر هو بعينه أيضا لكن حال كونه على وضع المسامتة فكأن هناك خطا آخر كان منطبقا عليه فزال بحركته انطباقه مع بقاء أحد طرفيه على حاله ويزداد اتضاحه بأن نفرض الخط المتناهي خارجا من مركز كرة موازيا لغير المتناهي ثم نفرض حركتها حتى يصير مسامتا فيحدث عند مركز الكرة زاوية مستقيمة الخطين وأنها تقبل القسمة إلى غير النهاية إذ قد بين إقليدس في الشكل التاسع من المقالة الأولى من كتابه أن كل زاوية مستقيمة الخطين يمكن تنصيفها بخط مستقيم ولا شك أن كل واحد من النصفين زاوية مستقيمة الخطين فيقبل التنصيف أيضا وهكذا إلى ما لا نهاية له على أن الزاوية المسطحة إما كم أو كيفية حالة فيه سارية في جهة واحدة منه فتكون قابلة للانقسام أبدا كالمقادير وكلما كانت الزاوية أصغر كانت المسامتة مع النقطة الفوقانية يعني إذا فرض أن نقطة ما هي أول نقط المسامتة لم تكن تلك النقطة كذلك لأن المسامتة معها إنما تكون بحدوث زاوية منقسمة إلى نصفين ولا شك أن حدوث نصفها قبل حدوث كلها وفي حال حدوث النصف توجد المسامتة لزوال الموازاة حينئذ قطعا وتلك المسامتة مع نقطة فوقانية بلا شبهة فلا تكون النقطة الأولى أول نقط المسامتة وهكذا فلا يمكن أن يوجد هناك ما هو أول تلك النقط وقد تبين ذلك بأن المسامتة إنما تكون بالحركة وكل حركة منقسمة إلى جزء سابق وجزء لاحق فحال ما يوجد الجزء السابق تكون المسامتة مع نقطة أخرى وهكذا
قال المصنف تلخيصه أي تلخيص هذا الوجه أنه لو وجد بعد غير متناه لأمكن الفرض أي المفروض المذكور واللازم باطل لأنه مستلزم إما لامتناع المسامتة أو لوجود نقطة هي أول نقط المسامتة إذ مع ذلك الفرض

إما أن تمتنع المسامتة وهو أحد الأمرين أو لا تمتنع فيجب أن يوجد أول نقط المسامتة وهو الأمر الآخر والقسمان باطلان أما وجود تلك النقطة فلما مر من استحالته واستلزام وجودها فلا يتصور امتناعها على ذلك الفرض كما لا يخفى ومنهم من فرض الخط المتناهي أولا مسامتا ثم تحرك إلى أن صار موازيا قال فلا بد من نقطة هي آخر نقط المسامتة لأنها كانت ثم زالت فيكون لها نهاية لكنه باطل لمثل ما مر وسماه برهان الموازاة
واعترض عليه بمنع إمكان الفرض أي لا نسلم أنه لو وجد بعد غير متناه لأمكن وجود خط غير متناه مع وجود خط آخر متناه فيكون موازيا للأول أولا مسامتا له بسبب حركته ثانيا إذ يجوز أن يكون بعض هذه الأمور محالا في نفسه أو يكون كل واحد منها ممكنا واجتماعها محالا كاجتماع قيام زيد مع عدمه وحينئذ جاز أن يكون البعد الغير المتناهي ممكنا والفرض ممتنعا على أحد الوجهين ويكون المحال ناشئا منه لا من البعد الذي لا يتناهى أو يكون كلاهما ممكنا ويلزم المحال من اجتماعهما
وجوابه دعوى الضرورة أي نحن نعلم ببديهة العقل أن كل واحد من الأمور المفروضة ومجموعها أيضا ممكن على تقدير لاتناهي الأبعاد فلو كان لا تناهيها ممكنا في نفس الأمر لم يكن هناك ممتنع لا بسيط ولا مركب فلا يتصور لزوم محال ولما لزم علم أن المحال هو اللاتناهي وحده
واعلم أن من المفروض ما يحكم العقل بجوازه بديهة كالفروض الهندسية مثل تطبيق خط على خط وفصل خط من خط وإدارة دائرة بتحريك خط مستقيم مع ثبات أحد طرفيه إلى أن يعود إلى وضعه الأول

وليس لأحد أن يمنعه إلا مكابرة وما نحن فيه من قبيل هذه الفروض كما نبهنا عليه فلا يتجه عليه منع إمكانه على ذلك التقدير وقد يقال عليه أيضا لا نسلم لزوم نقطة هي أول نقط المسامتة لعين ما ذكرتم في بطلان التالي أي نستدل به على بطلان الملازمة فنقول إذا تحرك نصف قطر الكرة كما ذكرتم وجب أن لا يوجد في الخط الذي لا يتناهى نقط هي أول نقط المسامتة لأن المسامتة إنما تكون بزاوية وحركة مقسمتين فلا يوجد هناك ما هي أول نقطها لأن كل نقطة تفرض كذلك كانت المسامتة مع ما فوقها قبلها
والجواب عن هذا أنا بينا لزوم ذلك بأن المسامتة لها أول لكونها حادثة وهو يكون بنقطة ضرورة فالنقطة التي حدثت المسامتة معها في ذلك الأول هي أول نقطها ودليل امتناع اللازم في نفسه لا يدل على عدم ملازمته لجواز أن يكون الملزوم أيضا ممتنعا كيف ولو دل على ذلك لما تم الأقيسة الاستثنائية التي استثنى فيها نقيض التالي واستدل عليه وإليه أشار بقوله وإلا جاء في كل قياس استثنائي يستثنى فيه نقيض التالي وقد يجاب أيضا بأنا نستدل هكذا لو كانت الأبعاد غير متناهية وتحرك الخط المتناهي من الموازاة إلى المسامتة فإما أن يوجد أول نقط المسامتة أو لا يوجد وكلاهما محال بدليلكم ودليلنا وعلى هذا بطل اعتراضكم بالكلية لكن بقي ههنا بحث وهو أنا لا نسلم أن المسامتة ببعض الزاوية أو الحركة قبل المسامتة الحاصلة بكلها وإنما يلزم ذلك إذا كان بعضهما موجودا بالفعل حتى يمكن أن يوجد به مسامتة لكنهما ينقسمان بالقوة لا بالفعل ولو صح ما ذكرتموه لامتنع حركة نصف قطر الدائرة على قوس منها لأن الحركة إلى نصف القوس قبل الحركة إلى كلها والحركة إلى نصف الزاوية قبل الحركة إلى كلها وهكذا بل تمتنع الحركة مطلقا فالشبهة إنما وقعت من موضع ما بالقوة مكان ما بالفعل ودفعه بعض الأفاضل بأن ما ذكرناه أحكام وهمية إلا أنها

صحيحة إذ الوهم إنما يحكم بها على طاعة من العقل كسائر الهندسيات فليس المدعي إلا أنه لا بد للمسامتة الحادثة من أول نقطة في الوهم لكن الخط الغير المتناهي لا يتعين فيه نقطة للأولية بخلاف الخط المتناهي وفيه نظر إذ ليس يلزم من حدوث المسامتة إلا أن يكون لها زمان هو أول أزمنة وجودها فلا تكون المسامتة الحادثة فيه مسبوقة بمسامتة في زمان سابق عليه وهذا اللازم لا يستلزم أن يوجد هناك نقطة هي أول نقط المسامتة في الوهم بيانه أن نقول لا مسامتة حال الموازاة بل لا بد لحدوثها من حركة واقعة في زمان فإذا وجدت كانت المسامتة حاصلة في كل آن يفرض في ذلك الزمان وتلك الآنات المفروضة فيه غير متناهية أي لا تقف عند حد فكذا المسامتات المتوهمة فيها وكل واحدة منها إنما هي مع نقطة أخرى فلا تتعين نقطة أولى يقف الوهم عندها وهل هذا إلا مثل أن يقال لو حدثت الحركة لكان لها أول زمان توجد فيه وحينئذ فلا بد أن يتعين لها ولمسافتها جزء أول في الوهم لكنه محال لا يقال المسامتة آنية فلا بد لها من نقطة غير مسبوقة بأخرى في الوهم لأنا نقول مسامتة الخط للنقطة آنية وأما المسامتة المذكورة أعني مسامتة الخط للخط فلا يتصور حدوثها إلا بوجود حركة في زمان كما ذكرناه فليس هناك مسامتة إلا وهي مسبوقة في الوهم بأخرى إلى غير النهاية فلا يتعين فيه نقطة غير مسبوقة ويمكن أن يقال نحن ندعي أنه إذا وقع ذلك المفروض في الخارج فلا بد أن يتعين فيه نقطة هي أول نقط المسامتة إذ لا بد هناك من مسامتة غير مسبوقة فيه بأخرى إلا لزم وجود مسامتات غير متناهية العدد بالفعل في زمان متناه وهو محال فتلك المسامتة إنما هي بأولى النقط ولك أن تحمل ذلك الدفع على هذا المعنى بأن تجعل تعين النقطة في الوهم عبارة عن تعينها في الخارج على تقدير وقوع المفروض فيه فيندفع النظر عنه

وقال بعض فضلاء المتأخرين وهو صاحب لباب الأربعين هذا الدليل مقلوب عليكم لدلالته على عدم تناهي الأبعاد بأن يقال إن أطول خط يفرض في البعد المتناهي الموجود هو محور العالم فإذا فرضنا خطا يوازيه ثم يتحرك حتى يسامته على طرفه والمسامتة مع النقطة التي فوقه خارج العالم قبل المسامتة معه لما ذكرتم بعينه فيلزم أن يكون على سمته نقط لا تتناهى وبعد غير متناه ينفرض فيه تلك النقط وهذا الذي ذكره مما لا ورود له كيف والمسامتة مع نقطة لا وجود لها لا تعقل لأنه لا يمكن إخراج خط إلى خارج العالم إذ لا خلاء موجودا هناك ولا ملأ فكيف يتصور ملاقاته لنقطة معدومة فيه والوهم البحت الذي لا يساعده العقل لا عبرة به وتحقيقه أن اللازم مما ذكره نقط موهومة غير متناهية في خط موهوم غير متناه والكلام في تناهي الأبعاد الموجودة في الخارج دون الموهومة الصرفة
الوجه الثاني وهو عكس الأول في أنه فرض فيه أولا المسامتة والتقاطع بين الخطين وثانيا الموازاة وعدم الملاقاة واعتبر فيه آخر نقط التقاطع وهو لزيادة تقرير وتحقيق له أي للوجه الأول أن نفرض خطين غير متناهيين متقاطعين ثم ينفرجان كأنهما مائلان إلى الموازاة فلا بد في الموازاة من أن يتخلص أحدهما عن الآخر ولا يتصور ذلك إلا بنقطة هي نهايتهما ويلزم الخلف وهو تناهيها على تقدير اللاتناهي وقد ذكره صاحب التلويحات واشتهر ببرهان التخلص وإنما يتضح إذا فرض كرة خرج من مركزها خط غير متناه قاطع لآخر غير متناه أيضا فإذا تحركت الكرة فقبل

تمام الدورة لا بد أن يصير الخط الخارج من مركزها موازيا للآخر فيلزم تناهيهما وبرهان الموازاة على ما مر مأخوذ منه بفرض أحد الخطين متناهيا ومسامتا أو لا فظهر أن براهين المسامتة والموازاة والتخلص راجعة إلى أصل واحد
الوجه الثالث أنا نفرض من نقطة ما خطين ينفرجان كساقي مثلث متساوي الأضلاع بحيث يكون البعد بينهما بعد ذهابهما ذراعا ذراعا وبعد ذهابهما ذراعين ذراعين وعلى هذا يتزايد البعد بينهما بقدر ازديادهما ولو ترك ذكر تساوي الأضلاع واكتفى بالحيثية المفسرة له لكان الكلام أخصر وأظهر ومحصوله أن يكون الانفراج بينهما بقدر امتدادهما فإذا ذهبا إلى غير النهاية كان البعد بينهما غير متناه أيضا بالضرورة واللازم محال لأنه محصور بين حاصرين والمحصور بين حاصرين يمتنع أن لا يكون له نهاية ضرورة وهذا البرهان في الحقيقة هو الذي يسميه ابن سينا البرهان السلمي مع زيادة تلخيص عجز عنه الفحول البزل واهتدى إليه صاحب المطارحات وذلك التلخيص هو فرض الانفراج بين الخطين بقدر الامتداد إذ قد سقط به مؤنات كثيرة يحتاج إليها في السلمي الذي أورده في إشاراته كما تطلع عليها في شروحها
واعلم أن هذا الوجه الثالث يدل على بطلان عدم تناهي الأبعاد من جميع الجهات كما هو مذهب الخصم ومن جهتين أيضا لا من جهة واحدة إذ لا يمكن حينئذ فرض الانفراج بقدر الامتداد وإليه الإشارة بقوله

ولو جوز مجوز اسطوانة غير متناهية في طولها لم يتم ذلك في إبطالها بخلاف الأولين فإنهما يبطلان لاتناهي الأبعاد على الإطلاق
الوجه الرابع وهو البرهان السلمي على الإطلاق وقد لخصه المصنف تلخيصا شافيا نفرض ساقي مثلث خرج من نقطة واحدة كيف اتفق أي سواء كان الانفراج بقدر الامتداد كما مر تصويره أو أزيد بأن يكون الانفراج ذراعين إذا كان الامتداد ذراعا أو أنقص كما إذا انعكس الحال بينهما فللانفراج إليهما أي إلى الساقين نسبة محفوظة بالغا ما بلغ وذلك لأن الخطين مستقيمان فلا يتباعدان إلى على نسق واحد فإذا امتدا عشرة أذرع مثلا وكان الانفراج حينئذ ذراعا فإذا امتد عشرين ذراعا كان الانفراج ذراعين قطعا وإذا امتدا ثلاثين كان ثلاثة أذرع وعليه فقس وهذا معنى حفظ نسبة الانفراج إليهما وحينئذ تكون نسبة الامتداد الأول أعني العشرة إلى الثاني أعني العشرين كنسبة الانفراج الأول أعني الذراع إلى الثاني أعني الذراعين وكذا الحال في نسبة الثالث إلى الثالث والرابع إلى الرابع وما بعدهما فلو ذهبنا أي الساقان إلى غير النهاية لكان ثمة بعد متناه هو الامتداد الأول نسبته إلى غير المتناهي وهو الامتداد الذاهب إلى غير النهاية كنسبة المتناهي وهو الانفراج الأول إلى المتناهي وهو الانفراج بينهما حال ذهابهما إلى غير النهاية لما عرفت من أن نسبة الامتداد إلى الامتداد وكنسبة الانفراج إلى الانفراج هذا خلف لأن نسبة المتناهي إلى المتناهي المذكورين بجزئية معينة ويستحيل ذلك بين المتناهي وغير المتناهي لا يقال جاز أن يكون الانفراج الحاصل حال الذهاب غير متناه أيضا لأنا نقول فيلزم انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين
الوجه الخامس أنا نقسم جسما على هيئة الدائرة وليكن ترسا بستة أقسام متساوية بأن نقسم أولا محيط دائرته إلى ست قطع متساوية ثم

نصل بين النقط المتقابلة بخطوط متقاطعة على مركزه فينقسم حينئذ إلى أقسام ستة متساوية يحيط بكل قسم منها ضلعان ثم نخرج الأضلاع بأسرها إلى غير النهاية حتى تنقسم الأبعاد كلها في طولها وعرضها أعني سعة العالم بهذه الأقسام ثم نردد في كل قسم فنقول هو في عرضه إما غير متناه فينحصر ما لا يتناهى بين حاصرين هما الضلعان المحيطان به وإما متناه فكذا الكل متناه أيضا لأنه ضعف المتناهي الذي هو أحد الأقسام بمرات متناهية هي الستة وهذا البرهان المسمى بالترسي كالتتمة والتوضيح للبرهان الذي هو تلخيص السلمي لأن كل قسم من الستة كمثلث متساوي الأضلاع لأنك إذا فرضت على ضلعي كل قسم نقطتين متساويتي البعد عن المركز ووصلت بينهما بخط كان ذلك الخط مساويا لكل واحد من الضلعين وذلك لأن الزاوية التي عند المركز ثلثا قائمة إذ المحيط بكل نقطة أربع قوائم وقد قسمت ههنا بست زوايا متساوية وكذا كل واحدة من الزاويتين الباقيتين ثلثا قائمة لأنهما متساويتان لتساوي وتريهما وإذا كانت زوايا المثلث متساوية كانت الأضلاع كذلك فظهر أن الانفراج بين كل ضلعين بقدر امتدادهما كما في ذلك البرهان إلا أن ههنا تصويرا ومزيد توضيح لإمكان خروج خطين من نقطة بحيث ينفرجان على قدر امتدادهما وكان يكفيه ههنا أن يخرج من نقطة واحدة خطوطا ستة على أن تكون جميع الزوايا متساوية إلا أن في إمكان ذلك نوع خفاء ففرض دائرة لا شبهة في إمكان تقسيم محيطها إلى أقسام ستة متساوية وحينئذ يلزم تساوي الزوايا المركزية وكون كل واحدة ثلثي قائمة فينكشف مساواة البعد فيما بين الخطين لامتدادهما انكشافا تاما وهذه الوجوه أعني الثالث والرابع والخامس كما لا يخفى راجعة إلى برهان واحد

الوجه السادس التطبيق الدال على تناهي الأبعاد من جميع الجهات وطريقه ههنا أن نفرض من نقطة ما إلى غير النهاية خطا ونفرض من نقطة قبلها بمتناه خطا آخر إلى غير النهاية أيضا ثم نطبق الخطين فالناقصة إما مثل الزائدة واستحالته ظاهرة أو تنقطع فينقطعان فلا يكونان غير متناهيين كما تقدم مرتين مرة في بطلان التسلسل ومرة في تناهي القوى الجسمانية
الوجه السابع أنا نفرض خطا غير متناه من الجانبين ثم نعين عليه نقطتين بينهما بعد متناه ونشير إلى نقطة ما من هاتين النقطتين فنقول هي إما المنتصف أو لا فإن كانت المنتصف كان منها في الجانب الآخر مثله فيكون من النقطة الأخرى في ذلك الجانب أقل منه فنطبق أحدهما بالآخر ونتم الدليل وإن لم تكن المنتصف كان أحدهما أقل من الآخر ونمضي في إتمام الدليل ولا يذهب عليك أن هذا تقرير آخر للتطبيق فقد عادت الوجوه السبعة إلى أدلة ثلاثة اثنان منها يدلان على امتناع الاتناهي مطلقا وواحد على امتناعه في جهتين أو أكثر
احتج الخصم على عدم التناهي بوجوه
الأول أن ما وراء العالم متميز فإن ما يبلي يمينه أي يمين العالم غير ما يبلي يساره ضرورة ألا ترى أن بديهة العقل شاهدة بأن ما يبلي القطب الشمالي غير ما يبلي القطب الجنوبي وما يبلي المشرق غير ما يبلي المغرب إلى غير ذلك والمتميز لا يكون عدما محضا فهو إذن موجود وبعد لقبوله التقدير سواء كان ماديا أو مجردا

والجواب منع ثبوت التميز فيما وراء العالم بحسب نفس الأمر وإنما ذلك التميز الذي ذكرتموه وهم محض لا عبرة به أصلا
الثاني أنه أي ما وراء العالم متقدر فإن ما يوازي ربع العالم أقل مما يوازي نصفه وكل متقدر فهو موجود و كم
والجواب أن التقدر الذي صورتموه وهم باطل لا يلتفت إليه قطعا
الثالث أنا لو فرضنا واقفا على طرف العالم فإن أمكنه مد يده فيما وراءه فثمة فضاء موجود لاستحالة مد اليد في العدم الصرف متقدر إذ ما يسع منه إصبعا أقل مما يسع اليد كلها وإن لم يمكنه مد يده فيه فثمة جسم مانع لليد من النفوذ وعلى التقديرين فثمة بعد إما مجرد أو مادي
والجواب لا نسلم أنه لو لم يمكنه مد يده فيه فثمة جسم مانع لجواز أن يكون ذلك لا لوجود المانع بل لعدم الشرط وهو الفضاء الذي يمكن مد اليد فيه
الرابع الجسم ماهية كلية فيمكن لها أفراد غير متناهية عقلا فإذا وجدت تلك الأفراد كانت الأبعاد غير متناهية
والجواب أن الكلية وإن لم تمنع من وقوع جزئيات لا تتناهى إلا أنها لا تقتضي الوجود أي وجود شيء من الجزئيات ولا التعدد في الجزئيات ولا عدم التناهي فيها بل يجوز أن يكون الكلي ممتنع الوجود فلا يوجد شيء من أفراده أو ممتنع التعدد فلا تتعدد أفراده أو ممتنع اللاتناهي في أفراده فلا يوجد له أفراد غير متناهية كل ذلك لأمور خارجة عن مفهوم الكلية وعدم تناهي أفراد الجسم ممتنع للأدلة السابقة

المقصد الثامن
المتن
قال الحكماء لا عالم غير هذا العالم أعني ما يحيط به سطح محدود الجهات لثلاثة أوجه

الأول لو وجد خارجه عالم آخر لكان في جانب من المحدد والمحدد في جهة منه فتكون الجهة قد تحددت قبله لا به هذا خلف
والجواب إن الذي ثبت بالبرهان تحدد جهتي العلو والسفل بالمحدد وأما تحدد جميع الجهات به فلا ولم لا يجوز أن يكون ههنا جهات غير هاتين الجهتين تتحدد لا بهذا المحدد فإن حصر الجهات في هاتين لم يقم عليه دليل
الثاني لو وجد عالم آخر لكان بينهما خلاء سواء كانا كرتين أو لا
والجواب لا نسلم ذلك لجواز أن يملأهما مالئ ولو أردنا ذكر مستند للمنع تبرعا قلنا قد يكونان تدويرين في ثخن كرة وربما تتضمن ألوفا من الكرات كل واحدة أعظم من المحدد بما فيها ولا استبعاد فإنهم قالوا تدوير المريخ أعظم من ممثل الشمس بما فيها وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز فيما هو أعظم منه ومن أين لكم أنه ليس في جوف تدوير المريخ عناصر ومركبات مماثلة لما عندنا أو مخالفة له
الثالث لو وجد عالم آخر لكان فيه عناصر لها فيه أحياز طبيعية فيكون لعنصر واحد حيزان طبيعيان
والجواب منع تساوي عناصرها وكائناتهما صورة ولئن سلمنا فلا نسلم تماثلهما حقيقة وإن سلمنا فلم لا يجوز أن يكون وجوده في أحدهما غير طبيعي
الشرح
المقصد الثامن جوز المتكلمون وجود عالم آخر مماثل لهذا العالم

لأن الأمور المتماثلة في الأحكام وإليه الإشارة في الكلام المجيد أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم
وقال الحكماء لا عالم غير هذا العالم أعني ما يحيط به سطح محدد الجهات لثلاثة أوجه
الأول لو وجد خارجه عالم آخر لكان في جانب من المحدد وكان المحدد في جهة منه فتكون الجهة قد تحددت قبله ليتصور وقوعه فيها لابه كما هو الواقع هذا خلف
والجواب إن الذي ثبت بالبرهان تحدد جهتي العلو والسفل بالمحدد كما مر وأما تحدد جميع الجهات به فلا ولم لا يجوز أن يكون ههنا جهات غير هاتين الجهتين تتحدد لا بهذا المحدد بل بمحدد آخر فيجوز وقوع هذا في جهة منها فإن حصر الجهات المتحددة في هاتين لم يقم عليه دليل
الثاني لو وجد عالم آخر لكان بينهما خلاء سواء كانا معا كرتين أو لا وذلك لأن هذا العالم كروي فإن كان الآخر كرويا أيضا لم يتصور الملاقاة بينهما إلا بنقطة فلا بد أن يقع بينهما خلاء سواء تلاقيا أو لا وإن لم يكن كرويا وقع الخلاء أيضا لأن ملاقاة الكرة لما ليس بكرة لا تكون إلا مع فرجة
والجواب بعد تسليم امتناع الخلاء أن نقول لا نسلم ذلك لجواز أن يملأهما أي يملأ ما بينهما مالئ ولو أردنا ذكر مستند للمنع تبرعا قلنا قد يكونان أي العالمان تدويرين مركوزين في ثخن كرة عظيمة يساوي ثخنها قطريهما أو يزيد عليهما وربما تتضمن تلك الكرة ألوفا من الكرات

كل واحدة منها أعظم من المحدد بما فيها من الأفلاك والعناصر ولا استبعاد في ذلك فإنهم قالوا تدوير المريخ أعظم من ممثل الشمس بما فيها من الأفلاك الثلاثة والعناصر الأربعة ثلاث مرات وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز فيما هو أعظم منه ومن أين لكم أنه ليس في جوف تدوير المريخ عناصر ومركبات مماثلة لما عندنا في الحقيقة أو مخالفة له فيها
الثالث لو وجد عالم آخر لكان فيه عناصر لها فيه أحياز طبيعية فيكون لعنصر واحد كالماء مثلا حيزان طبيعيان وقد عرفت بطلانه
والجواب منع تساوي عناصرهما وكائناتهما المركبة منهما صورة أي لا نسلم تساويهما في الصورة النوعية وإن كانت متشاركة في الآثار والصفات كاشتراك ناريهما في الإحراق والإشراق ولئن سلمنا الإشتراك في الصورة النوعية فلا نسلم تماثلهما حقيقة لجواز الاختلاف في الهيولى الداخلة في حقيقتهما وإن سلمنا التماثل أيضا فلم لا يجوز أن يكون وجوده في أحدهما أي حصوله في أحد الحيزين غير طبيعي ولا نسلم أن القمر لا يكون دائما

المرصد الثالث في النفس
وفيه مقاصد
المقصد الأول في النفوس الفلكية
المتن
وهي مجردة لأن حركات الأفلاك إرادية فلها نفوس مجردة
أما الأول فلأنها إما طبيعية أو قسرية أو إرادية والأولان باطلان أما كونها طبيعية فلأن الحركة الدورية كل وضع فيها فهو مطلوب ومتروك فلو كان ذلك مقتضى الطبيعية لكان الشيء الواحد مطلوبا بالطبع ومتروكا بالطبع وأنه محال وأما كونها قسرية فلما تقدم أن القسر إنما يكون على خلاف الطبع وذلك أن عديم الميل الطبيعي لا يتحرك وههنا لا طبع فلا قسر وأيضا فلو كان بالقسر لكان على موافقة القاسر فوجب تشابه حركاتها وأما الثاني فلأن إرادتها ليست عن تخيل محض وإلا امتنع دوامها

على نظام واحد دهر الداهرين لا يختلف ولا يتغير فهي إذا ناشئة عن تعقل كلي ومحل التعقل الكلي مجرد لما سيأتي في النفوس الإنسانية برهانه والاعتراض لا نسلم أنها ليست طبيعية وأنه يلزم كون المطلوب بالطبع مهروبا عنه بالطبع لجواز أن يكون المطلوب نفس الحركة سلمناه لكن لا نسلم أنها ليست قسرية قولك القسر على خلاف الطبع ممنوع وقد مر ما في دليله سلمناه لكن لا نسلم أن التخيل لا ينتظم ولم لا يجوز أن يكون تخليه خلاف تخيلنا سلمناه لكن لا نسلم أن محل التعقل مجرد وسنتكلم عليه
تفريعات
الأول لها مع القوة العقلية قوى جسمانية هي مبدأ للحركات الجزئية فإن التعقل الكلي لا يصلح لذلك فإن نسبته إلى جميع الجزئيات سواء فلا يصلح مبدأ لتخصيص البعض دون البعض
الثاني ليس للأفلاك حس ولا شهوة ولا غضب لأن الاحتياج إليها لجلب النفع ودفع الضر المقصود بهما حفظ الصورة عن الفساد وصورها لا تقبل ذلك والمقدمات كلها ممنوعة
الشرح
المرصد الثالث في مباحث النفوس المجردة وأحكامها
شرع في بيانها بعد الفراغ من مباحث الأجسام وعوارضها وفيه مقاصد أربعة
المقصد الأول في النفوس الفلكية وهي مجردة عن المادة وتوابعها

لأن حركات الأفلاك إرادية فلها نفوس مجردة أما الأول وهو كون حركاتها إرادية فلأنها إما طبيعية أو قسرية أو إرادية لما مر من أن أقسام الحركة الذاتية منحصرة فيها والأولان باطلان فتعين الثالث أما كونها طبيعية فلأن الحركة الدورية كل ما وضع فيها فهو مطلوب ومتروك فلو كان ذلك التحرك الدوري مقتضى الطبيعة ومستندا إليها لكان الشيء الواحد وهو الوضع المخصوص مطلوبا بالطبع ومتروكا بالطبع وأنه محال وقد وجه هذا الدليل بأن كل وضع يتوجه إليه المتحرك بالاستدارة يكون ترك ذلك الوضع هو عين التوجه إليه فيكون المهروب عنه بالطبع بعينه مطلوبا بالطبع في حالة واحدة بل يكون الهرب عن الشيء عين طلبه وأنه محال بديهة ورد عليه بأنه ترك وضع ليس توجها إليه بعينه لانعدامه بتركه بل غايته أنه توجه إلى مثله فلا يكون المتروك نفس المطلوب فالأولى أن يوجه بأن المتحرك بحركته المستديرة يطلب وضعا ثم يتركه ومثله لا يتصور من فاقد الإرادة لأن طلب الشيء المعين وتركه لا يكون إلا باختلاف الأغراض الموقوفة على الشعور والإرادة وأما كونها قسرية فلما تقدم أن القسر إنما يكون على خلاف الطبع وذلك لأنه تقدم في مباحث الاعتمادات ما هو بمعناه أعني أن عديم الميل الطبيعي لا يتحرك قسرا وههنا لا طبع فلا قسر وأيضا فلو كان تحرك الأفلاك على الاستدارة بالقسر لكان على موافقة القاسر فوجب تشابه حركاتها في الجهة والسرعة والبطء وتوافقها في المناطق والأقطاب إذ لا يتصور هناك قسر إلا من بعضها لبعض لكن حركاتها كما شهدت به الأرصاد ليست متشابهة ولا متوافقة
وأما الثاني وهو أنه إذا كانت حركاتها إرادية كانت لها نفوس مجردة فلأن إرادتها المتعلقة بحركاتها ليست ناشئة عن تخيل محض من قوة جسمانية تدرك أمورا جزئية وإلا امتنع دوامها أي دوام الحركات

الفلكية على نظام واحد دهر الداهرين أي أزلا وأبدا لا يختلف ولا يتغير لا في الجهة ولا في السرعة ألا ترى أن الحركات الحيوانية المستندة إلى الإدراكات الجزئية تختلف وتنقطع فهي أي إرادتها التي تترتب عليها الحركات السرمدية على وتيرة واحدة إذن ناشئة عن تعقل كلي يندرج فيه أمور غير متناهية ومحل التعقل الكلي مجرد لما سيأتي في النفوس الإنسانية برهانه والاعتراض على هذا الدليل أن يقال لا نسلم أنها ليست طبيعية وأنه يلزم مع ذلك كون المطلوب بالطبع مهروبا عنه بالطبع لجواز أن يكون المطلوب في الحركة الطبيعية نفس الحركة لا حصول وضع معين فإن قيل حقيقة الحركة هي التأدي إلى شيء آخر فلا تطلب لذاتها بل لغيرها قلنا الحركة عندنا عبارة عن كون الجوهر في آنين في مكانين فجاز كونها مطلوبة لذاتها سلمناه أي سلمنا أن الحركات الفلكية ليست طبيعية لكن لا نسلم أنها ليست قسرية قولكم القسر على خلاف الطبع أي ما ليس فيه ميل طبيعي لا يقبل حركة قسرية ممنوع وقد مر ما في دليله من الخلل على أنه ليس يلزم من عدم كون حركاتها المستديرة طبيعية أن لا يكون لها ميل طبيعي مخالف لهذه الحركة ولا نسلم أيضا أن القاسر هناك منحصر في الأفلاك حتى يلزم التشابه بل نقول الحركة الحاصلة من بعضها في بعض تكون حركة عرضية لا قسرية سلمناه لكن لا نسلم أن التخيل لا ينتظم على حالة واحدة ولا يدوم سرمدا ولم لا يجوز أن يكون تخيله أي تخيل الفلك خلاف تخيلنا فلا يختلف ولا ينقطع بل يستمر أزلا وأبدا بتعاقب أفراد غير متناهية متعلقة بحركات متوافقة متماثلة فإن قيل القوى الجسمانية كما مر متناهية مدة وعدة وشدة فلا

تستند إليها الحركات التي لا تتناهى
قلنا قد مر أيضا ما فيه ولو صح ذلك تعذر عليكم إثبات النفوس المنطبعة في الأجسام الفلكية سلمناه لكن لا نسلم أن محل العقل مجرد وما سيأتي من برهانه سنتكلم عليه هناك
تفريعان على القول بأن للأفلاك نفوسا مجردة وأنها أحياء ناطقة
الأول لها مع القوة العقلية التي نسبتها إليها كنسبة النفس الناطقة إلينا قوى جسمانية هي بتخيلاتها مبدأ للحركات الجزئية الصادرة عنها فإن التعقل الكلي لا يصلح لذلك أي لكونه مبدأ لوقوع الحركة الجزئية فإن نسبته إلى جميع الجزئيات سواء فلا يصلح مبدأ لتخصيص البعض بالوقوع دون البعض بل لا بد في وقوعه من إرادة جزئية متفرعة من إدراك جزئي لا يتصور إلا من قوة جسمانية وهذه القوى في الأفلاك كالخيال فينا إلا أنها سارية في جميع أجزائها بسيطة وتسمى نفوسا منطبعة
الثاني ليس للأفلاك حس من الحواس الظاهرة ولا شهوة ولا غضب لأن الاحتياج إليهما لجلب النفع ودفع الضر المقصود بهما حفظ الصورة عن الفساد وصورها الجسمية والنوعية لا تقبل ذلك لامتناع الخرق والالتئام والكون والفساد عليها والمقدمات المذكورة كلها ممنوعة إذ لا نسلم أن هذه القوى إنما خلقت لما ذكر فإنه يجوز أن يكون خلقها لكونها كمالا للجسم ولا نسلم أيضا انحصار النفع والدفع في حفظ الصورة عن الفساد ولئن سلم فلا نسلم أن صورة الفلك لا تقبل الفساد وما استدل به عليه مدخول وفي الملخص أن كلام ابن سينا اضطرب في الحواس الباطنة فحيث

نفاها استدل عليه بأنها متعلقة بالحواس الظاهرة لأن التخيل لحفظ صور المحسوسات والتوهم لدرك أحوالها الجزئية والتفكر للتصرف فيها فإذا لم يوجد الأصل وجب أن لا يوجد التبع ويرد على هذا الاستدلال أنا لا نسلم انحصار فائدتها في حفظ صور المحسوسات وأحوالها الجزئية والتصرف فيها إذ يجوز أن يكون فيها فوائد أخرى وإن سلم فلا نسلم أنه لا معطل في الوجود

المقصد الثاني
المتن
المقصد الثاني في أن النفوس الإنسانية مجردة ليست مجردة جسمانية ولا جسما وإنما تعلقها بالبدن تعلق التدبير والتصرف هذا مذهب الفلاسفة ووافقهم على ذلك من المسلمين الغزالي والراغب وخالفهم فيه الجمهور بناء على ما مر من نفي المجردات على الإطلاق احتجوا بوجوه
الأول أنها تعقل البسيط فتكون مجردة أما الأول فلأنها تعقل حقيقة ما فإن كانت بسيطة فذاك وإلا كانت مركبة من البسائط وتعقل الكل بعد تعقل أجزائه
وأما الثاني فلأن محل البسيط لو كان جسما أو جسمانيا لكان منقسما وانقسام المحل يوجب انقسام الحال فيه لأن الحال في أحد جزئيه غير الحال في الآخر وأنه ينافي البساطة أجيب عنه بأنه مبني على أن النفس محل المعقول وهو ممنوع فإن العلم مجرد تعلق وإن سلم فمحل لصورة البسيط ولا يلزم المطابقة من جميع الوجوه فقد لا تكون بسيطة وإن سلم

فلا نسلم أن كل ذي وضع منقسم فإنه بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزأ وإن سلم فلا نسلم أن الحال في المنقسم منقسم كالسطح وإن سلم أنه منقسم فالبقوة كالجسم لا بالفعل وأنه لا ينافي البساطة لجواز أن تكون جهة انقسامه غير جهة بساطته
الثاني أنها تعقل الوجود وأنه بسيط لما مر والجواب ما تقدم
الثالث أنها تعقل المفهوم الكلي فتكون مجردة أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن الحال في ذي الوضع يختص بمقدار ووضع فلا يكون مطابقا لكثيرين مختلفين بالمقدار والوضع بل لا يكون مطابقا إلا لما له ذلك المقدار والوضع والجواب يعرف مما مر ويرد ههنا منع عدم مطابقته لكثيرين إذ قد يخالف الشبح لما له الشبح في الصغر والكبر
الرابع أنها تعقل الضدين فلو كان جسما أو جسمانيا لزم اجتماع السواد والبياض مثلا في جسم واحد وأنه محال والجواب أن صورتي الضدين لا تضاد بينهما لأنهما يخالفان الحقيقة الخارجية ولولا ذلك لما جاز قيامهما بالمجرد وإن سلمنا فلم لا يجوز أن يقوم كل بجزء من الجسم
الخامس لو كان العاقل منها جسمانيا لعقل محله دائما أو لم يعقله دائما والتالي باطل أما الملازمة فلأن تعقله لمحله إن كفى فيه حضوره لذاته كان حاصلا دائما وإلا احتاج إلى حصول صورة أخرى منه وأنه محال لأن يقتضي اجتماع المثلين فلا يحصل وأما بطلان التالي فبالوجدان إذ ما من جسم فينا يتصور أنه محل للعلم كالقلب والدماغ وغيرهما إلا ونعقله تارة ونغفل عنه أخرى والجواب منع الملازمة لجواز أن لا يكفي حضوره ولا يحتاج إلى حصول صورة أخرى بل يتوقف على شرط غير

ذلك سلمناه لكن لا نسلم أن حصول صورة أخرى فيه اجتماع للمثلين وإنما يلزم ذلك أن لو تماثل الصورة الخارجية والصورة الذهنية وهو ممنوع
خاتمة في رواية مذاهب المنكرين لتجرد النفس الناطقة وهي تسعة
الأول لابن الراوندي أنه جزء لا يتجزأ في القلب لدليل عدم الانقسام مع نفي المجردات
الثاني للنظام أنه أجزاء لطيفة سارية في البدن باقية من أول العمر إلى آخره لا يتطرق إليها تخلل وتبدل إنما المتخلل والمتبدل فضل ينضم إليه وينفصل عنه إذ كل أحد يعلم أنه باق
الثالث أنه قوة في الدماغ وقيل في القلب
الرابع أنه ثلاث قوى إحداها في القلب وهي الحيوانية والثانية في الكبد وهي النباتية والثالثة في الدماغ وهي النفسانية
الخامس أنه الهيكل المخصوص
السادس أنه الأخلاط المعتدلة كما وكيفا
السابع أنه اعتدال المزاج النوعي
الثامن أنه الدم المعتدل إذ بكثرته واعتداله تقوى الحياة وبالعكس
التاسع أنه الهواء إذ بانقطاعه طرفة عين تنقطع الحياة
واعلم أن شيئا من ذلك لم يقم عليه دليل وما ذكروه لا يصلح للتعويل
الشرح
المقصد الثاني في أن النفوس الإنسانية مجردة أي ليست قوة جسمانية حالة في المادة ولا جسما بل هي لا مكانية لا تقبل إشارة حسية وإنما تعلقها بالبدن تعلق التدبير والتصرف من غير أن تكون داخلة

فيه بالجزئية أو الحلول هذا مذهب الفلاسفة المشهورين من المقتدمين والمتأخرين ووافقهم على ذلك من المسلمين الغزالي والراغب وجمع من الصوفية المكاشفين وخالفهم فيه الجمهور بناء على ما مر من نفي المجردات على الإطلاق عقولا كانت أونفوسا
احتجوا أي المثبتون بتجريدها بوجوه خمسة
الأول أنها تعقل البسيط الذي لا جزء له بالفعل فتكون مجردة أما الأول فلأنها تعقل حقيقة ما من الحقائق أي معنى ما من المعاني فإن كانت تلك الحقيقة بسيطة فذاك أي ثبت المطلوب أعني تعقلها للبسيط وإلا كانت تلك الحقيقة مركبة من البسائط بالفعل لأن الكثرة متناهية كانت أو غير متناهية يجب فيها الواحد بالفعل لأنه مبدؤها وتعقل الكل بعد تعقل أجزائه بالضرورة لا يقال هذا إذا كان الكل معقولا بالكنه فإن تعقله بوجه ما لا يستلزم تعقل شيء من أجزائه لأنا نقول كلامنا في ذلك الوجه المعقول فإن كان بسيطا فذاك وإن كان مركبا كان له بسائط كل واحد بالفعل وأما الثاني وهو أنها إذا تعلقت بالبسيط كانت مجردة فلأن محل البسيط لو كان جسما أو جسمانيا أي لو كان ذا وضع أصالة أو تبعا لكان منقسما وانقسام المحل يوجب انقسام الحال فيه لأن الحال في أحد جزئيه غير الحال في الجزء الآخر وأنه أي انقسام الحال الذي هو العلم ينافي البساطة في المعلوم إذ يجب أن يكون العلم مطابقا لمعلومه أجيب عنه بأنه مبني على أن النفس محل للمعقول لأن التعقل عبارة عن حصول

الصورة في القوة العاقلة وهو ممنوع فإن العلم عندنا مجرد تعلق بين العالم والمعلوم يمتاز به المعلوم عند العالم وذلك التعلق أمر اعتباري اتصف به العالم لأمر موجود حال فيه وإن سلم أن العلم بحصول صورة المعلوم فمحل أي فالنفس حينئذ محل لصورة البسيط الذي تعلقه لا لذات البسيط ولا يلزم المطابقة بين الصورة وذي الصورة من جميع الوجوه فقد لا تكون صورة البسيط بسيطة ألا ترى إلى ما قالوه من أنه يجوز أن يكون للبسيط الخارجي صورتان عقليتان أو أكثر كما مر في مباحث الحال و إن سلم أن صورة البسيط يجب أن تكون بسيطة فلا نسلم أن كل ذي وضع منقسم فإنه بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزأ وهو ممنوع وحينئذ جاز أن تكون النفس جوهرا فردا كما قال به بعض وإن سلم أن كل ذي وضع منقسم فلا نسلم أن الحال في المنقسم منقسم كالسطح الحال عندكم في الجسم المنقسم في جميع الجهات مع أنه لا ينقسم في العمق وكالخط الحال في السطح مع عدم انقسامه في العرض وكالنقطة الحالة في الخط مع أنها لا تنقسم أصلا
وبالجملة إنما يلزم انقسام الحال إذا كان الحلول سريانيا وهو فيما نحن بصدده غير مسلم وإن سلم أنه أي الحال في المنقسم منقسم فبالقوة كالجسم لا بالفعل وأنه لا ينافي البساطة لجواز أن تكون جهة انقسامه غير جهة بساطته فإن الجسم البسيط عندكم منقسم بالقوة إلى ما لا يتناهى مع كونه بسيطا بالفعل إذ ليس فيه مفاصل متحققة فليس فيه انقسام فعلي ولا منافاة بين الانقسام وعدمه من جهتي القوة والفعل لأنهما جهتان متغايرتان

الثاني من الوجوه الخمسة أنها أي النفس الإنسانية تعقل الوجود وأنه بسيط لما مر في مباحثه من أن أجزاءه وجودات أو عدمات إلى آخر الكلام والجواب ما تقدم من المنوع الواردة على مقدمات أدلة بساطته والمنوع المذكورة في الوجه الأول الذي هو أعم منه
الثالث من تلك الوجوه أنها تعقل المفهوم الكلي فتكون مجردة أما الأول فظاهر لأنها تحكم بين الكليات أحكاما إيجابية وسلبية فلا بد لها من تعقلها وأما الثاني فلأن النفس إذا كانت ذات وضع كان المعنى الكلي حالا في ذي وضع ولا شك أن الحال في ذي الوضع يختص بمقدار مخصوص ووضع معين ثابتين لمحله فلا يكون ذلك الحال مطابقا لكثيرين مختلفين بالمقدار والوضع بل لا يكون مطابقا إلا لما له ذلك المقدار والوضع فلا يكون حينئذ كليا هذا خلف لأن المقدر خلافه والجواب يعرف مما مر إذ لا نسلم أن عاقل الكلي محل له لابتنائه على الوجود الذهني وأيضاف الحال فيما له مقدار وشكل ووضع معين لا يلزم أن يكون متصفا بها لجواز أن لا يكون الحلول سريانيا ويرد ههنا منع عدم مطابقته لكثيرين إذ قد يخالف الشيخ لما له الشيخ في الصغر والكبر كالصور المنقوشة على الجدار وكصورة السماء في الحس المشترك مع وجود المطابقة بينهما وتحقيقه أن معنى المطابقة هو أن الصورة إذا جردت عما عرض لها بتبعية المحل كانت مطابقة لكثيرين ألا ترى أنه يجب تجريدها عن التشخص العارض لها بسبب المحل

الرابع منها أنها تعقل الضدين إذ نحكم بينهما بالتضاد فلو كان مدركها جسما أو جسمانيا لزم اجتماع السواد والبياض مثلا في جسم واحد وأنه محال بديهة والجواب أن صورتي الضدين لا تضاد بينهما لأنهما يخالفان الحقيقة الخارجية فليس يلزم من ثبوت التضاد بين الحقيقتين ثبوته بين الصورتين ولولا ذلك لما جاز قيامهما بالمجرد أيضا لأن الضدين لا يجتمعان في محل واحد ماديا كان أو مجردا وإن سلمنا تضاد صورتي الضدين فلم لا يجوز أن يقوم كل منهما بجزء من الجسم الذي يعقلهما معا غير الجزء الذي قام به الأخرى فلا يلزم اجتماع المتضادين في محل واحد
الخامس منها أن نبطل كونها جسما بما مر ثم نقول لو كان العاقل منها جسمانيا حالا في جميع البدن أو في بعضه لعقل محله دائما أو لم يعقله دائما والتالي باطل أما الملازمة فلأن تعقله لمحله إن كفى فيه حضوره لذاته كان حاصلا دائما يعني أن الصورة الخارجية التي للمحل حاضرة بذاتها عند العاقل دائما فلو كفى ذلك في تعقله إياه كان تعقله مستمرا دائما وإلا احتاج تعقله له إلى حصول صورة أخرى منتزعة منه حاصلة فيه وأنه محال لأنه يقتضي اجتماع المثلين لأن الصورتين متماثلتان في الماهية فلا يحصل ذلك التعقل دائما وأما بطلان التالي فبالوجدان إذ ما من جسم فينا يتصور أنه محل للعلم والقوة العاقلة كالقلب والدماغ وغيرهما من أجزاء البدن إلا ونعقله تارة ونغفل عنه أخرى والجواب منع الملازمة بمنع ما ذكر في بيانها لجواز أن لا يكفي في تعقله حضوره بصورته الخارجية ولا يحتاج أيضا إلى حصول صورة أخرى بل يتوقف على شرط غير ذلك لأن كون التعقل بحصول

الصورة ممنوع عندنا سلمناه لكن لا نسلم أن حصول صورة أخرى فيه اجتماع للمثلين وإنما يلزم ذلك أن لو تماثل الصورة الخارجية والصورة الذهنية وهو ممنوع سلمنا تمثلهما لكن لا اجتماع بينهما في محل واحد لأن إحداهما محل للعاقلة والأخرى حالة فيها
خاتمة في رواية مذاهب المنكرين لتجرد النفس الناطقة التي يشير إليها كل أحد بقوله أنا وهي كثيرة لكن المشهور منها تسعة
الأول لابن الراوندي أنه جزء لا يتجزأ في القلب لدليل عدم الانقسام مع نفي المجردات يعني أنها جوهر لظهور قيامها بذاتها وغير منقسمة لما مر من تعقلها للبسائط وليست مجردة لامتناع وجود المجردات الممكنة فتكون جوهرا فردا هو في القلب لأنه الذي ينسب إليه العلم
الثاني للنظام أنه أجزاء هي أجسام لطيفة سارية في البدن سريان ماء الورد في الورد باقية من أول العمر إلى آخره لا يتطرق إليها تخلل وتبدل حتى إذا قطع عضو من البدن انقبض ما فيه من تلك الأجزاء إلى سائر الأعضاء إنما المتخلل والمتبدل من البدن فضل ينضم إليه وينفصل عنه إذ كل أحد يعلم أنه باق من أول عمره إلى آخره ولا شك أن المتبدل ليس كذلك
الثالث أنه قوة في الدماغ وقيل في القلب
الرابع أنه ثلاث قوى إحداها في القلب وهي الحيوانية والثانية في الكبد وهي النباتية والثالثة في الدماغ وهي النفسانية
الخامس أنه الهيكل المخصوص وهو المختار عند جمهور المتكلمين
السادس أنه الأخلاط الأربعة المعتدلة كما وكيفا

السابع أنه اعتدال المزاج النوعي
الثامن أنه الدم المعتدل إذ بكثرته واعتداله تقوى الحياة وبالعكس
التاسع أنه الهواء إذ بانقطاعه طرفة عين تنقطع الحياة فالبدن بمنزلة الزق المنفوخ فيه واعلم أن شيئا من ذلك الذي رويناه لم يقم عليه دليل وما ذكروه لا يصلح للتعويل عليه

المقصد الثالث
المتن
في أن النفوس الناطقة حادثة اتفق عليه المليون إذ لا قديم عندهم إلا الله وصفاته لكنهم اختلفوا في أنها هل تحدث مع البدن أو قبله فقال بعضهم تحدث معه لقوله تعالى بعد تعداد أطوار البدن ثم أنشأناه خلقا آخر
والمراد إفاضة النفس
وقال بعضهم بل قبله لقوله خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام وغاية هذه الأدلة الظن أما الآية فلجواز أن يريد بقوله ثم أنشأناه جعل النفس متعلقة به وإنما يلزم حدوث تعلقها لا حدوث ذاتها وأما الحديث فلأنه خبر واحد فتعارضه الآية وهي مقطوعة المتن مظنونة الدلالة والحديث بالعكس هذا والحكماء قد اختلفوا في حدوثها فقال به أرسطو ومن تبعه ومنعه من قبله وقالوا بقدمها
احتج أرسطو بأنها لو قدمت فإما أن تكون قبل التعلق بالبدن متمايزة

أو لا فإن كانت متمايزة فتمايزها إما بذواتها أو لا بذواتها فإن كان بذواتها فتكون كل نفس نوعا منحصرا في الشخص فيلزم اختلاف كل نفسين بالحقيقة وأنه باطل إذ لو لم نقل بأن كلها متماثلة فلا أقل من أن يوجد نفسان متماثلان وإن كان لا بذواتها كان بالقابل وما يكتنفه كما تقدم ومادتها البدن فتكون متعلقة قبل هذا البدن ببدن آخر ويلزم التناسخ وسنبطله وإن لم تكن متمايزة فبعد التعلق إن بقيت كما كانت كانت نفس زيد هي بعينها نفس عمرو فيلزم أن يشتركا في صفات النفس من العلم والقدرة واللذة والألم وإن لم تبق كما كانت لزم التجزي والانقسام ولا يتصور هذا إلا فيما له مقدار وأيضا فقد عدمت تلك الهوية وحصلت هويتان أخريان حادثتان ويلزم المطلوب احتج الخصم بوجوه
الأول أن كل حادث له مادة قلنا أعم من مادة يحل فيها أو يتعلق بها
الثاني لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية والجواب المنع
الثالث يلزم عدم تناهي الأبدان والجواب شرط امتناعه الترتب كما مر
تنبيه قال أرسطو كل حادث لا بد له من شرط حادث دفعا للدور والتسلسل فلحدوث النفس شرط وهو حدوث البدن فإذا حدث البدن فاض عليه نفس من المبدأ الفياض ضرورة عموم الفيض ووجود القابل المستعد وبه أبطل التناسخ فإذا حدث بدن تعلق به نفس متناسخ وفاض عليه نفس أخرى لما ذكرنا من حصول العلة بشرطها كملا فتكون للبدن الواحد نفسان وهو باطل بالضرورة فإن كل أحد يجد أن نفسه واحدة

واعلم أن هذا دور صريح فإنه بين حدوث النفس بلزوم التناسخ وإبطاله ثم بين بطلان التناسخ بحدوث النفس وإنما يصح له ذلك لو بين أحدهما بطريق آخر مثل ما يقال في إبطال التناسخ أنه يلزم تذكرها لأحوالها في البدن الآخر أو أن استعداد الأبدان للنفوس وتكونها على وتيرة بخلاف مفارقة النفوس إذ قد يتفق وباء أو جائحة أو قتل عام يهلك فيها من النفوس ما يعلم بالضرورة أنه لم يحدث في ذلك الزمان بخلاف العادة ذلك المبلغ من الأبدان وليس شيء منها يصلح للتعويل وعلى أصل الدليل اعتراضات تعرفها إن كان ما مهدنا لك من الأصول على ذكر منك فلا نعيدها حذرا من الإطناب
الشرح
المقصد الثالث في أن النفس الناطقة حادثة اتفق عليه المليون إذ لا قديم عندهم إلا الله وصفاته عند من أثبتها زائدة على ذاته لكنهم اختلفوا في أنها هل تحدث مع حدوث البدن أو قبله فقال بعضهم تحدث معه لقولهم تعالى بعد تعداد أطوار البدن ثم أنشأناه خلقا آخر والمراد بهذا الإنشاء إفاضة النفس على البدن
وقال بعضهم بل قبله لقوله خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام وغاية هذه الأدلة الظن دون اليقين الذي هو المطلوب أما الآية فلجواز أن يريد بقوله ثم أنشأناه جعل النفس متعلقة به وإنما يلزم من ذلك حدوث تعلقها لا حدوث ذاتها وأما الحديث فلأنه خبر واحد فتعارضه الآية وهي مقطوعة المتن مظنونة الدلالة والحديث بالعكس فلكل رجحان من وجه فيتقاومان هذا كما ذكرناه وأما الحكماء فإنهم قد اختلفوا في حدوثها فقال به أرسطو ومن تبعه ومنعه من قبله وقالوا بقدمها احتج أرسطو بأنها لو قدمت فإما أن تكون قبل التعلق

بالبدن متعددة متمايزة أو لا فإن كانت متمايزة فتمايزها وتعينها إما بذواتها أو لا بذواتها فإن كان بذواتها أو بلوازمها فتكون كل نفس من النفوس البشرية نوعا منحصرا في الشخص الواحد فيلزم اختلاف كل نفسين بالحقيقة وأنه باطل إذ لو لم نقل بأن كلها متماثلة فلا أقل من أن يوجد فيما بين الجميع نفسان متماثلان وإن كان تمايزها لا بذواتها كان بالقابل وما يكتنفه كما تقدم من أن تعدد أفراد النوع الواحد معلل بقابله والأعراض المكتنفة به ومادتها البدن فتكون متعلقة قبل هذا البدن ببدن آخر ويلزم التناسخ أي انتقالها من بدن إلى آخر وسنبطله وإن لم تكن قبل التعلق متمايزة بل كانت واحدة فبعد التعلق إن بقيت على وحدتها كما كانت كانت نفس زيد هي بعينها نفس عمرو فيلزم أن يشتركا في صفات النفس من العلم والقدرة واللذة والألم وسائر الصفات وأنه باطل بالضرورة وإن لم تبق كما كانت بل تكثرت لزم التجزي والانقسام ولا يتصور هذا إلا فيما له مقدار وحجم فلا تكون مجردة بل مادية وأيضا فقد عدمت بذلك التجزي والانقسام تلك الهوية الواحدة القديمة وحصلت هويتان أخريان حادثتان ويلزم المطلوب وهو أن النفوس المتعلقة بالأبدان حادثة
احتج الخصم على قدمها بوجوه ثلاثة
الأول أن كل حادث له مادة فلو كانت النفس حادثة كانت مادية لا مجردة قلنا بعد تسليم الملازمة تلك المادة التي يستلزمها الحدوث أعم من مادة يحل الحادث فيها أو يتعلق بها والمعتق بالمادة يجوز أن يكون مجردا بحسب ذاته

الثاني لو لم تكن الناطقة أزلية لم تكن أبدية أيضا والتالي باطل إتفاقا وأما الملازمة فلأنها إذا كانت حادثة يزول وجودها لأن كل كائن فاسد والجواب المنع ومعنى القضية المذكورة أن كل حادث فهو في حد ذاته قابل للعدم وليس يلزم منه طريانه عليه لجواز أن يمتنع عدمه لغيره أبدا
الثالث يلزم عدم تناهي الأبدان والصواب عدم تناهي النفوس وذلك لأنها إذا كانت حادثة كان حدوثها بحدوث الأبدان التي هي شرط فيضانها من المبدأ القديم والأبدان غير متناهية لاستنادها إلى اقتضاء الأدوار الفلكية التي لا تتناهى فتكون النفوس البشرية غير متناهية أيضا لكن لا استحالة في لا تناهي الأبدان والأدوار لأنها متعاقبة بخلاف النفوس فإنها باقية بعد المفارقة فيلزم اجتماع أمور موجودة غير متناهية وهو محال بالتطبيق والجواب شرط امتناعه الترتب الطبيعي أو الوضع كما مر والنفوس الناطقة وإن كانت موجودة مجتمعة إلا أنها غير مترتبة فيجوز لا تناهيها
تنبيه قال أرسطو كل حادث لا بد له من استناده إلى المبدأ القديم الواجب من شرط حادث فقوله دفعا للدور والتسلسل تعليل لما هو المقدر في الكلام وأما الاحتياج إلى الشرط فلئلا يلزم تخلف المعلول عن علته التامة فلحدوث النفس من المبدأ المفيض شرط وهو حدوث البدن لأنه القابل المستعد لتدبيرها وتصرفها فإذا حدث البدن فاضت عليه نفس من المبدأ الفياض ضرورة عموم الفيض ووجود القابل المستعد وبه أبطل التناسخ حيث قال إن صح التناسخ فإذا حدث بدن تعلق به نفس متناسخ وفاض عليه نفس أخرى حدثت الآن لما ذكرنا من حصول العلة المؤثرة

بشرطها كملا فتكون للبدن الواحد نفسان وهو باطل بالضرورة فإن كل أحد يجد أن نفسه واحدة واعلم أن هذا الذي ذكره أرسطو في حدوث النفس وبطلان التناسخ دور صريح فإنه بين حدوث النفس بلزوم التناسخ على تقدير قدمها وإبطاله ثم بين بطلان التناسخ بحدوث النفس وإنما يصح له ذلك لو بين أحدهما بطريق آخر مثل ما يقال في إبطال التناسخ أنه يلزم تذكرها لأحوالها في البدن الآخر أو أن استعداد الأبدان للنفوس وتكونها أي حدوث النفوس على وتيرة واحدة فإنه كلما استعد بدن حدث نفس بخلاف مفارقة النفوس مع حدوث الأبدان إذ قد يتفق وباء أي فساد هواء أو جايحة أي حادثة مستأصلة كالطوفان أو قتل عام يهلك فيها من النفوس دفعة ما يعلم بالضرورة أنه لم يحدث في ذلك الزمان بخلاف العادة ذلك المبلغ من الأبدان كما نقل من أنه وقع حرب في أرض يونان فقتل في يوم واحد مائتا ألف من الجانبين ومن المعلوم أنه لم يحدث في ذلك اليوم أبدان بهذا العدد في جوانب العالم لتتعلق بها تلك النفوس المفارقة عن أبدانها فلو كان تعلق النفوس على طريقة التناسخ لزم تعطل بعضها إلى أن يحدث بدن تتعلق به وليس شيء منها والأظهر منهما أي من هذين الطريقين الآخرين يصلح للتعويل إذ لا نسلم لزوم التذكر لأحوالها في البدن السابق لجواز كونه مشروطا بالتعلق به على أنه قد نقل عن بعضهم أنه قال إني لأتذكر كوني في صورة الجمل ولا نسلم أن عدد أبدان الحيوانات الصغيرة والكبيرة في البحور والبراري لا يساوي عدد تلك النفوس المفارقة

وعلى أصل الدليل الذي أبطل به التناسخ اعتراضات تعرفها إن كان ما مهدنا لك من الأصول على ذكر منك فلا نعيدها حذرا من الإطناب مثل أن يقال لا نسلم أن كل حادث لا بد له من شرط حادث فإن الفاعل المختار له أن يخصص الحوادث بأوقاتها من غير أن يكون هناك داع وليس هذا مستلزما للتخلف عن العلة المستلزمة سلمناه لكن لا نسلم أن شرط حدوث النفس هو البدن ولم لا يجوز أن يكون له شرط غيره سلمناه لكن لا نسلم أنه إذا حدث بدن وجب أن يفيض عليه نفس إنما يجب ذلك إذا لم يتعلق به نفس مستنسخة وقد يقال أراد بأصل الدليل ما ذكره أرسطو على حدوث النفس فإنه أصل لدليله على إبطال التناسخ فيعترض عليه بأنا لا نسلم أن علة التمايز إما الذات أو غيرها لأن التمايز أمر عدمي فلا يحتاج إلى علة ولا نسلم تماثل النفوس كلها ولا تماثل نفسين منها والاستعداد لا يجدي نفعا ولا نسلم أن تمايز أفراد نوع واحد إنما يكون بالقابل وما تقدم في بيانه قد ظهر لك هناك فساده إلى غير ذلك مما لا يخفى على الفطن
تعليق
ومن المعلوم أنه لم يحدث في ذلك اليوم أبدان بهذا العدد في جوانب العالم لتتعلق بها تلك النفوس المفارقة عن أبدانها
لا نقول بأي رأي ولكن تعليقنا على أنه قال في ذلك اليوم ونسي أنه إن كان تعلق النفس بالتناسخ فالنفس تتعلق بالأجسام في الرحم وليس بعد الولادة والدليل قول الله ثم أنشأناه خلقا آخر في ذكر مراحل تطور الجنين فيكون التعلق في الرحم ثم الميلاد بعد فترة الحمل وهو لم يحص المواليد في العالم كله بعد إتمام تلك الفترة

المقصد الرابع
المتن
تعلق النفس بالبدن تعلق العاشق بالمعشوق لتوقف كمالاتها ولذاتها عليه وأولا بالروح القلبي المتكون في جوفه الأيسر من بخار الغذاء ولطيفه

وتفيده قوة بها تسري إلى جميع البدن فتفيد كل عضو قوة بها يتم نفعه من القوى التي فصلناها فيما قبل
وهذا كله عندنا للقادر المختار ابتداء ولا حاجة إلى إثبات القوى
الشرح
المقصد الرابع تعلق النفس بالبدن ليس تعلقا ضعيفا يسهل زواله بأدنى سبب مع بقاء المتعلق بحاله كتعلق الجسم بمكانه وإلا تمكنت النفس من مفارقة البدن بمجرد المشيئة من غير حاجة إلى أمر آخر وليس أيضا تعلقا في غاية القوة بحيث إذا زال التعلق بطل المتعلق مثل تعلق الأعراض والصور المادية بمحالها لما عرفت من أنها متجردة بذاتها غنية عما تحل فيه بل هو تعلق متوسط بين بين كتعلق الصانع بالآلات التي يحتاج إليها في أفعاله المختلفة ومن ثمة قيل هو تعلق العاشق بالمعشوق عشقا جبليا إلهاميا فلا ينقطع ما دام البدن صالحا لأن تتعلق به النفس ألا يرى أنه تحبه ولا تمله مع طول الصحة ولا تكره مفارقته وذلك لتوقف كمالاتها ولذاتها العقلية والحسية عليه فإنها في مبدأ خلقتها خالية عن الصفات الفاضلة كلها فاحتاجت إلى آلات تعينها على اكتساب تلك الكمالات وإلى أن تكون تلك الآلات مختلفة فيكون لها بحسب كل آلة فعل خاص حتى إذا حاولت فعلا خاصا كالإبصار مثلا التفت إلى العين فتقوى على الإبصار التام وكذا الحال في سائر الأفعال ولو اتحدت الآلة لاختلطت الأفعال ولم يحصل لها شيء منها على الكمال وإذا حصلت لها الإحساسات توصلت منها إلى الإدراكات الكلية ونالت حظها من العلوم والأخلاق المرضية وترقت إلى لذاتها العقلية بعد إحتظائها باللذات الحسية

فتعلقها بالبدن على وجه التصرف والتدبير كتعلق العاشق في القوة بل أقوى منه بكثير وإنما تتعلق من البدن أو لا بالروح القلبي المتكون في جوفه الأيسر من بخار الغداء الغذاء ولطيفه فإن القلب له تجويف في جانبه الأيسر ينحذب إليه لطيف الدم فيبخره بحرارته المفرطة فذلك البخار هو المسمى بالروح عند الأطباء وعرف كونه أول متعلق للنفس بأن شد الأعصاب يبطل قوى الحس والحركة مما وراء موضع الشد ولا يبطلها مما يلي جهة الدماغ وأيضا التجارب الطبية تشهد بذلك وتفيده أي تفيد النفس الروح بواسطة التعلق قوة بها تسري الروح إلى جميع البدن فتفيد الروح الحامل لتلك القوة كل عضو قوة بها يتم نفعه من القوى التي فصلناها فيما قبل
وهذا كله عند للقادر المختار ابتداء ولا حاجة إلى إثبات القوى كما مر مرارا

المرصد الرابع في العقل
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
في إثباته قال الحكماء أول ما خلق الله تعالى العقل كما ورد نص الحديث واحتجوا بوجهين
الأول الله تعالى واحد فلا يصدر عنه ابتداء إلا واحد ويمتنع أن يكون ذلك جسما لتركبه ولتقدم الهيولى والصورة عليه ضرورة ولا أحد جزئيه إذ لا يستقل بالوجود دون الآخر ولا عرضا إذ لا يستقل بالوجود دون الجوهر ولا نفسا إذ لا تستقل بالتأثير دون الجسم فيمتنع أن يكون سببا لما بعده فتعين أن يكون هو العقل
تلخيصه أول صادر عنه تعالى واحد مستقل بالوجود والتأثير وغير العقل ليس كذلك لانتفاء القيد الأول في الجسم

والثاني في الهيولى والصورة والعرض والثالث في النفس الثاني الموجد للجسم لا يجوز أن يكون هو الواجب لذاته وإلا لأوجدد جزئيه فيكون مصدر الأثرين ولا جسما آخر إذ الجسم إنما يؤثر فيما له وضع بالقياس إليه بالتجربة فلو أفاض الصورة على الهيولى لكان للهيولى إليه وضع قبل الصورة وأنه محال ولا نفسا لتوقف تأثيرها عليه ولا أحد جزئيه وإلا لكان علة للآخر وقد أبطلناه لعدم استقلاله بالوجود ولا عرضا لتأخره عنه فهو العقل
الاعتراض بناء على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد أما على الأول فلم لا يجوز أن يكون أول صادر هو الجسم بأن يصدر أحد جزئيه وبواسطته يصدر الآخر وإن سلم فلم لا يجوز أن يكون نفسا ولا يلزم من توقف تصرفها في البدن على تعلقها به توقف إيجاده مطلقا وإن سلم فلم لا يجوز أن يكون صفة قائمة بذات الله تعالى ودليلهم على عدم زيادة الصفات سنبطله وأما على الثاني فلم لا يجوز أن يكون الموجد للجسم جسما قوله إنما يؤثر فيما له وضع بالنسبة إليه ممنوع والاستقراء لا يفيد العموم سلمناه لكن قد يكون الموجد نفسا توجده أولا ثم تتعلق به سلمناه لكن قد يكون هو الواجب كما مر

الشرح
المرصد الرابع في العقل والمراد به كما مر موجود ممكن ليس جسما ولا حالا فيه ولا جزءا منه بل هو جوهر مجرد في ذاته مستغن في فاعليته عن الآلات الجسمانية وفيه مقاصد ثلاثة
المقصد الأول في إثباته قال الحكماء أول ما خلق الله تعالى العقل كما ورد نص الحديث
قال بعضهم وجه الجمع بينه وبين الحديثين الآخرين أول ما خلق الله القلم وأول ما خلق الله نوري أن المعلول الأول من حيث أنه مجرد يعقل ذاته ومبدؤه يسمى عقلا ومن حيث أنه واسطة في صدور سائر الموجودات ونفوس العلوم يسمى قلما ومن حيث توسطه في إفاضة أنوار النبوة كان نورا لسيد الأنبياء واحتجوا عليه أي على إثبات العقل بوجهين
الأول الله تعالى واحد حقيقي لا تكثر فيه أصلا بوجه من الوجوه فلا يصدر عنه ابتداء إلا الواحد ويمتنع أن يكون ذلك الصادر عنه جسما لتركبه فلو صدر أولا لزم تعدد الصادر في المرتبة الأولى ولتقدم الهيولى

والصورة عليه ضرورة لأن الجزء متقدم على الكل فلو كان هو الصادر الأول لتقدم على أجزائه ولا يجوز أيضا أن يكون الصادر الأول أحد جزئيه إذ لا يستقل بالوجود دون الآخر فلا يستقل بالتأثير أيضا والصادر الأول مستقل بالوجود والتأخير معا ولا عرضا إذا لا يستقل بالوجود دون الجوهر الذي هو محله فكيف يوجد قبله ولا نفسا إذ لا تستقل بالتأثير دون الجسم الذي هو آلتها فيمتنع أن يكون سببا لما بعده ويجب ذلك فيما صدر أولا فتعين أن يكون الصادر الأول هو العقل
تلخيصه أول صادر عنه تعالى واحد مستقل بالوجود والتأثير وغير العقل ليس كذلك لانتفاء القيد الأول في الجسم والثاني في الهيولى والصورة والعرض والثالث في النفس الثاني الموجد للجسم كالفلك مثلا لا يجوز أن يكون هو الواجب لذاته وإلا لأوجد جزئيه لأن موجد الكل حقيقة يجب أن يكون موجدا لكل واحد من أجزائه فيكون الواجب تعالى مصدر الأثرين في مرتبة واحدة ولا جسما للآخر إذ الجسم إنما يؤثر فيما له وضع مخصوص بالقياس إليه أما بالمجاورة والقرب أو المحاذاة والمقابلة علم ذلك بالتجربة فإن النار لا تسخن أي جسم كان بل ما يقاربها والشمس لا تضيء إلا ما يقابلها فلو أوجد جسم جسما آخر لوجب أن يفيض صورته على هيولاه ولو أفاض الصورة على الهيولى لكان للهيولى وضع قبل الصور وأنه محال لأن وضع الهيولى مستفاد من الصورة التي هي ذات وضع بالذات لكونها في حد نفسها ممتدة في الجهات ولا نفسا لتوقف تأثيرها عليه فإن النفس لا تؤثر إلا بآلات جسمانية فيكون تأثيرها متأخرا على الجسم فكيف يتصور إيجادها إياه ولا أحد جزئيه وإلا لكان ذلك الجزء الموجد للجسم علة للآخر وقد أبطلناه لعدم استقلاله

بالوجود دون الآخر فلا يتصور كونه علة موجدة للآخر ولا عرضا لتأخره عنه في الوجود فهو أي الموجد للجسم العقل
الاعتراض بناء على تسليم أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد أما على الوجه الأول فلم لا يجوز أن يكون أول صادر هو الجسم بأن يصدر أحد جزئيه عن الواجب تعالى ابتداء وبواسطته يصدر الآخر وقد صرحوا بأن الصورة جزء لعلة الهيولى وليس يلزم من كونها غنية في مدخلية التأثير عن الهيولى كونها غنية في وجودها متشخصة عنها وإن سلم ذلك فلم لا يجوز أن يكون الصادر الأول نفسا ولا يلزم من توقف تصرفها في البدن على تعلقها به توقف إيجاده مطلقا على ذلك التعلق فيجوز أن يوجد الجسم بلا تعلق هو منشأ للتصرف والتدبير وإن سلم فلم لا يجوز أن يكون الصادر الأول صفة قائمة بذات الله تعالى ودليلهم على عدم زيادة الصفات سنبطله
وأما على الوجه الثاني فلم لا يجوز أن يكون الموجد للجسم جسما قوله إنما يؤثر الجسم فيما له وضع بالنسبة إليه ممنوع والاستقراء على سبيل التجربة كما ذكرتم لا يفيد العموم لأنه استقراء ناقص سلمناه لكن قد يكون الموجد نفسا توجده أولا ثم تتعلق به سلمناه لكن قد يكون هو الواجب بأن يوجد أحد جزئيه ابتداء وبتوسطه الجزء الآخر لما مر في الاعتراض على الوجه الأول

المقصد الثاني
المتن
في ترتيب الموجودات على رأيهم قالوا إذا ثبت أن الصادر الأول عقل فله اعتبارات ثلاثة وجوده في نفسه ووجوبه بالغير وإمكانه لذاته

فيصدر عنه بكل اعتبار أمر فباعتبار وجوده عقل وباعتبار وجوبه بالغير نفس وباعتبار إمكانه جسم إسنادا للأشرف إلى الجهة الأشرف والأخس إلى الأخس فإنه أحرى وأخلق وكذلك من الثاني عقل ونفس وفلك إلى العاشر ويسمى العقل الفعال المفيض للصور والأعراض على العناصر والمركبات يسبب ما يحصل لها من الاستعدادات المسببة عن الحركات الفلكية وأوضاعها
الاعتراض هذه الاعتبارات إن كانت وجودية فلا بد لها من مصادر وإلا بطل قولكم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد فيبطل أصل دليلكم وإن كانت اعتبارية امتنع إن تصير جزء مصدر الأمور الوجودية وحديث إسناد الأشرف إلى الأشرف خطابي وإسناد الفلك الثامن مع ما فية من الكواكب المختلفة إلى جهة واحدة مشكل وكذلك إسناد الصور والأعراض التي في عالمنا هذا مع كثرتها إلى العقل الفعال
وبالجملة فلا يخفى ضعف ما اعتمدوا عليه في هذا المطلب العالي
الشرح
المقصد الثاني في ترتيب الموجودات على رأيهم قالوا إذا ثبت أن الصادر الأول عقل فله اعتبارات ثلاثة وجوده في نفسه ووجوبه بالغير وإمكانه لذاته فيصدر عنه بكل اعتبار أمر فباعتبار وجوده يصدر عقل وباعتبار وجوبه بالغير يصدر نفس وباعتبار إمكانه يصدر جسم هو الفلك الأول وإنما قلنا إن صدورها عنه على هذا الوجه إسناد للأشرف إلى الجهة

الأشرف والأخس إلى الأخس فإنه أحرى وأخلق وكذلك يصدر من العقل الثاني عقل ثالث ونفس ثانية وفلك ثان وهكذا إلى العقل العاشر الذي هو في مرتبة التاسع من الأفلاك أعني فلك القمر ويسمى العقل الفعال المؤثر في هيولى العالم السفلي المفيض للصور والنفوس والأعراض على العناصر البسيطة وعلى المركبات منها بسبب ما يحصل لها من الاستعدادات المسببة عن الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية وأوضاعها
الاعتراض أن يقال هذه الاعتبارات إن كانت وجودية فلا بد لها من مصادر متعددة وإلا بطل قولكم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد فيبطل حينئذ أصل دليلكم وإن كانت اعتبارية امتنع أن تصير جزء مصدر الأمور الوجودية وقد يجاب عنه بأنها ليست جزءا من المؤثر بل هي شرط للتأثير والشرط قد يكون أمرا اعتباريا لكن مثل هذه الاعتبارات من السلوب والإضافات عارضة للمبدأ الأول فيجوز أن تكون بحسبها مصدرا لأمور متعددة كالمعلول الأول وذلك مناف لمذهبهم الذي بنوا عليه كلامهم في ترتيب الموجودات وحديث إسناد الأشرف إلى الأشرف خطابي لا يلتفت إليه في المطالب العلمية وإسناد الفلك الثامن مع ما فيه من الكواكب المختلفة المقادير المتكثرة كثرة لا تحصى إلى جهة واحدة في العقل الثاني كما زعموه مشكل جدا وكذلك إسناد الصور والأعراض التي في عالمنا هذا مع كثرتها الفائتة عن الحصر إلى العقل الفعال مشكل أيضا
وبالجملة فلا يخفى عن الفطن المنصف ضعف ما اعتمدوا عليه في هذا المطلب العالي
وفي الملخص أنهم خبطوا فتارة اعتبروا في العقل الأول جهتين وجوده وجعلوه علة العقل وإمكانه وجعلوه علة الفلك ومنهم من اعتبر

بدلهما تعقله لوجوده وإمكانه علة لعقل وفلك وتارة اعتبروا فيه كثرة من ثلاثة أوجه كما ذكر في متن الكتاب وتارة من أربعة أوجه فزادوا علمه بذلك الغير وجعلوا إمكانه علة لهيولى الفلك وعلمه علة لصورته فظهر أن العقول عاجزة عن إدراك نظام الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر

المقصد الثالث
المتن
في أحكام العقول وهي سبعة
الأول أنها ليست حادثة لما تقدم أن الحدوث يستدعي مادة
الثاني ليست كائنة ولا فاسدة إذ ذاك عبارة عن ترك المادة صورة ولبسها صورة أخرى وأما البسيط فلا يكون فيه جهتا قبول وفعل
الثالث نوع كل عقل منحصر في شخصه إذ تشخصه بماهيته وإلا لكان بالمادة وما يكتنفها كما تقدم
الرابع ذاتها جامعة لكمالاتها أي ما يمكن لها فهو حاصل وما ليس حاصلا لها فهو غير ممكن لما علمت أن الحدوث يستدعي مادة يتجدد استعدادها بحركة دورية سرمدية فلا يتصور إلا في مادي هو تحت الزمان
الخامس أنها عاقلة لذواتها إذا التعقل حضور الماهية المجردة عند الشيء ولا شك أن ماهيتها حاضرة لذواتها فإن حضور الماهية أعم من حضور الماهية المغايرة وغير المغايرة وفيه نظر لجواز أن يكون شرط التعقل حضور الماهية المغايرة كما في الحواس
السادس أنها تعقل الكليات وكذا كل مجرد إذ كل مجرد يمكن

أن يعقل وكل ما يمكن أن يعقل فيمكن أن يعقل مع غيره إذ لا تضاد في التعقلات فيمكن أن يقارنه الماهية المجردة للغير في العقل فيمكن أيضا أن يقارنها مطلقا إذ كونها في العقل ليس شرطا للمقارنة لأنه لو كان شرطا لكان مقارنته للعقل مشروطة بكونها في العقل ويلزم الدور وإذا جاز مقارنة المجردة إياها أمكن تعقلها له وكل ما هو ممكن له فهو حاصل له بالفعل فإذا هو عاقل لكل ما يغايره بالفعل وهو المطلوب
الجواب لا نسلم أن كل مجرد يمكن تعقله كالباري وحقيقة العقول والنفوس وإن سلمنا فلا نسلم أن كل ما يمكن تعقله يمكن تعقله مع الغير وما الدليل عليه والوجدان لا يعمم كيف والغير قد يكون مما لا يجوز تعقله وإن سلم فلا نسلم أنه يقتضي مقارنة الماهية المجردة للعقل وإنما يصح لو كان العلم حصول الماهية المجردة في العقل وقد تكلمنا فيه وإن سلمنا فلا نسلم أنه يلزم من جواز المقارنة جواز مقارنته للغير مطلقا قوله وإلا لكان مقارنته للعقل مشروطة بكونها في العقل قلنا إنما يلزم ذلك أن لو كانت المقارنتان مثلين وهو ممنوع فإن حصول الشيئين في ثالث مخالف لحصول أحدهما في الآخر وإن سلم فلا يلزم إمكان تعقله وإنما يلزم هذا لو كان هو قابلا للتعقل لا يقال التعقل نفس هذه المقارنة لأنا نمنعه لجواز أن يكون أمرا مغايرا مشروطا بها
السابع أنها لا تعقل الجزئيات لأنها تحتاج إلى آلات جسمانية ولأنها تتغير والاعتراض عليه ستعرفه في بحث صفات الباري في مسألة العلم

خاتمة في الجن والشياطين وهي عند المليين أجسام تتشكل بأي شكل شاءت ومنعه الفلاسفة لأنها إما أن تكون لطيفة أو لا وكلاهما باطل أما الأول فلأنه يلزم أن لا تقدر على الأفعال الشاقة وتتلاشى بأدنى قوة وهو خلاف ما تعتقدونه وأما الثاني فلأنه يوجب أن ترى لو جوزنا أجساما كثيفة لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال وبلاد لا نراها وبوقات وطبول لا نسمعها وهو سفسطة
والجواب أن لطفها بمعنى الشفافية فلا يلزم أحد الأمرين لجواز أن يقوى الشفاف على الأفعال الشاقة ولا ينفعل بسرعة ومع ذلك فلا نراها
وبالجملة فإن أردتم باللطافة الشفافية فنختار أنها لطيفة ولا يلزم عدم قوتها وإن أردتم سرعة الانفعال والانقسام إلى أجزاء ورقة القوام فنختار أنها غير لطيفة ولا يلزم رؤيتها كالسماء كيف وقد يفيض عليها القادر المختار مع لطافتها قوة عظيمة فإن القوة لا تتعلق بالقوام ألا ترى أن قوام الإنسان دون قوام الحديد والحجر وترى بعضهم يفتل الحديد ويكسر الحجر ويصدر منه ما لا يمكن أن يسند إلى غلظ القوام وترى الحيوانات مختلفة في القوة اختلافا ليس بحسب اختلاف القوام كما في الأسد مع الحمار قال قوم هي النفوس الأرضية وهي مختلفة فمنها الملائكة الأرضية ومنها الجن ومنها الشياطين وغير ذلك فهذه جنود لربك لا يعلمها إلا هو وقال قوم هي النفوس الناطقة المفارقة فالخيرة تتعلق بالخيرة وتعاونها على الخير

وهي الجن والشريرة تتعلق بالشريرة وتعاونها على الشر وهي الشياطين والله أعلم بحقائق الأمور
الشرح
المقصد الثالث في أحكام العقول وهي سبعة
الأول أنها ليست حادثة لما تقدم أن الحدوث يستدعي مادة
الثاني ليست كائنة ولا فاسدة إذ ذاك عبارة عن ترك المادة صورة ولبسها صورة أخرى فلا يتصور إلا في المركب المشتمل على جهتي قبول وفعل وأما البسيط فلا يكون فيه جهتا قبول وفعل فلا تكون العقول لبساطتها فاسدة بل أبدية
الثالث نوع كل عقل منحصر في شخصه إذ تشخصه بماهيته وإلا لكان بالمادة وما يكتنفها كما تقدم
الرابع ذاتها جامعة لكمالاتها أي ما يمكن لها فهو حاصل بالفعل دائما وما ليس حاصلا لها فهو غير ممكن لما علمت أن الحدوث يستدعي مادة يتجدد استعدادها بحركة دورية سرمدية فلا يتصور إلا في مادي هو تحت الزمان والعقول مجردة غير زمنية

الخامس أنها عاقلة لذواتها إذ التعقل حضور الماهية المجردة عن الغواشي الغريبة عند الشيء المجرد القائم بذاته ولا شك أن ماهيتها حاضرة لذواتها فإن حضور الماهية أعم من حضور الماهية المغايرة وغير المغايرة والتغاير الاعتباري كاف في تحقق الحضور وفيه نظر لجواز أن يكون شرط التعقل حضور الماهية المغايرة كما في الحواس فإن الإحساس إنما يكون بحصول صورة مغايرة عند الحاسة لا بحصول صورة مطلقا وإلا كانت الحواس مدركة لصورها الخارجية وهو باطل
السادس أنها تعقل الكليات وكذا كل مجرد من المجردات القائمة بذواتها فإنه يعقل الكليات إذ كل مجرد كذلك يمكن أن يعقل لأن ذاته منزه عن العلائق الغريبة عن ماهيته والشوائب المادية المانعة عن التعقل فماهيته لا تحتاج إلى عمل يعمل بها حتى تصير معقولة فإن لم تعقل كان ذلك من جهة العاقل فكل مجرد فهو في حد نفسه يمكن أن يعقل وكل ما يمكن أن يعقل فيمكن أن يعقل مع غيره إذ نعلم بالضرورة أنه لا تضاد في التعقلات فكل معقول يمكن أن يعقل مع كل واحد من سائر المعقولات وأيضا كل ما يعقل فإنه لا ينفك عن صحة الحكم عليه بالأمور العامة كالواحدية والإمكان وغيرهما والحكم بين شيئين يستدعي تعقلهما معا فكل معقول يمكن أن يعقل مع غيره في الجملة وحينئذ فيمكن أن يقارنه أي المجرد الماهية المجردة أي الماهية الكائنة التي للغير في العقل لأن التعقل عبارة عن حصول ماهية المعقول في العاقل فإذا تعقل

المجرد مع ماهية غيره كانا معا حاصلين في العقل فيكون كل منهما مقارنا للآخر فيه فإذا أمكن أن يقارن ماهية الغير المجرد في العقل فيمكن أيضا أن يقارنها أي يقارن ماهية الغير ماهية المجرد مطلقا أي سواء كان المجرد موجودا في العقل أو في الخارج إذ كونها أي حصول ماهية المجرد في العقل ليس شرطا للمقارنة المطلقة وصحتها لأنه لو كان شرطا للمقارنة على الإطلاق وصحتها لكان مقارنته أي مقارنة المجرد للعقل التي هي أخص من مطلق المقارنة مشروطة أيضا بكونها أي بكون ماهية المجرد في العقل لأن الأخص لا بد أن يكون مشروطا بما شرط به الأعم وحينئذ يلزم الدور لأن كون ماهية المجرد في العقل هو عين مقارنته له المشروط به وإذا لم يكن كون المجرد في العقل شرطا للمقارنة بينه وبين ماهية الغير جازت المقارنة بينهما إذا كان المجرد موجودا في الخارج وإذا جاز مقارنة الماهية الكلية المجردة التي للغير إياها يعني ماهية المجرد حال كونها موجودة في الخارج أمكن تعقلها أي تعقل الماهية الكلية له أي للمجرد أذ لا معنى لتعقله للماهية الكلية إلا مقارنة تلك الماهية له في وجوده الخارجي وكل ما هو ممكن له فهو حاصل له بالفعل دائما لم عرفت فإذن هو عاقل لكل ما يغايره من الكليات بالفعل وهو المطلوب ومحصول الكلام أن المجرد يصح أن يكون معقولا إذ لا مانع فيه من تعقله وكل ما يصح أن يكون معقولا يصح أن يعقل مع كل واحد مما يغايره من المفهومات وكل ما أمكن أن يعقل مع غيره أمكن أن يقارن ماهيته ماهية غيره لأن تعقل الشيء عبارة عن حصول ماهيته في العقل ثم إن إمكان مقارنة المعقول المجرد الماهية معقول آخر ليس متوقفا على

حصول المجرد في العقل لأن حصوله فيه نفس المقارنة فلو توقف إمكان المقارنة عليه كان إمكان الشيء متوقفا على وجوده ومتأخرا عنه وأنه محال وإذا لم يتوقف إمكان المقارنة على وجود المجرد في العقل أمكن المقارنة حال كون المجرد موجودا في الخارج ولا يتصور ذلك إلا بحصول الغير في المجرد وحلوله فيه وهو عين تعقله إياه وإذا أمكن تعقله له كان حاصلا بالفعل لأن التغير والحدوث من توابع المادة
الجواب لا نسلم أن كل مجرد يمكن تعقله كالباري تعالى فإن حقيقته مجردة مع أنه لا يمكن تعقلها للبشر عندكم وحقيقة العقول والنفوس فإنها غير معقولة لنا أين الجزم بإمكان تعقلها ولا نسلم أن المجرد في صيرورته معقولا لا يحتاج إلى عمل يعمل به إنما يصح ذلك إذا انحصر المانع من التعقل في المادة وتوابعها هو ممنوع وإن سلمنا فلا نسلم أن كل ما يمكن تعقله مع الغير وما الدليل عليه والوجدان الشاهد بعدم التضاد والتنافي بين التعقلات لا يعمم شهادته لعدم تعلقه بجميع المفهومات كيف والغير قد يكون مما لا يجوز تعقله كما أشرنا إليه وإن سلم فلا نسلم أنه أي تعقله مع الغير يقتضي مقارنة الماهية المجردة التي لذلك الغير للعقل أي للمجرد المعقول وإنما يصح ذلك لو كان العلم حصول الماهية المجردة في العقل حتى إذا تعقلا معا كانا موجودين متقارنين فيه وقد تكلمنا فيه حيث بينا أن للعلم تعلقا خاصا بين العالم والمعلوم وإن سلمنا أن تعقلهما يستلزم تقارنهما في الوجود الذهني فلا نسلم أنه يلزم من جواز المقارنة بينهما في العقل جواز مقارنته أي مقارنة المجرد للغير مطلقا
قوله وإلا لكان مقارنته للعقل مشروطة بكونها في العقل ويلزم الدور قلنا إنما يلزم ذلك أن لو كانت المقارنتان أي مقارنة أحد

المعقولين للآخر في العقل ومقارنة أحدهما للعقل مثلين حتى يلزم من اشتراط المقارنة الأولى بكون المجرد في العقل اشتراط الثانية به أيضا فيدور وهو أي كونهما مثلين ممنوع فإن حصول الشيئين كالمجرد وماهية الغير في ثالث هو العقل مخالف لحصول أحدهما أي أحد الشيئين كالمجرد في الآخر كالعقل فإن الأول مقارنة أحد الحالين في محل للحال الآخر والثاني مقارنة الحال لمحله فأين أحدهما من الآخر فلا يلزم من كون المقارنة بين المجرد وماهية الغير مشروطة بكون المجرد في العقل كون المقارنة بين المجرد والعقل مشروطة به ليكون من قبيل الاشتراط الشيء بنفسه لا يقال قد لزم من تعقلهما معا المقارنة بينهما في العقل فقلنا ليست المقارنة مطلقا مشروطة بكون المجرد في العقل وإلا دار كما عرفت لأنا نقول ليس يزعم الخصم أن كل ما يطلق عليه المقارنة بالنسبة إلى المجرد مشروط بكونه في العقل حتى يتم ما ذكرتم بل يزعم أن المقارنة بين المجرد وغيره من المعقولات مشروطة بكونها في العقل حتى إذا وجد المجرد في الخارج فإن شرط المقارنة بينهما فلم يمكن أن يقارنه غيره فلا يصح تعقله إياه وإن سلم تماثل المقارنتين وأنه يمكن مقارنة كل واحد من المعقولات للمجرد في الوجود الخارجي فلا يلزم من ذلك إمكان تعقله للمعقولات المقارنة له وإنما يلزم هذا لو كان هو أي المجرد قابلا للتعقل أي لكونه عاقلا وهو ممنوع لا يقال التعقل نفس هذه المقارنة فإذا أمكنت المقارنة فقد أمكن التعقل قطعا لأنا نمنعه أي نمنع اتحادهما لجواز أن يكون التعقل أمرا مغايرا للمقارنة مشروطا بها وليس يلزم من إمكان الشرط في موضع إمكان المشروط فيه

السابع أنها لا تعقل الجزئيات من حيث هي جزئية لأنها تحتاج إلى آلات جسمانية لتدرك بها ولأنها أي الجزئيات تتغير فالعلم بها يكون متغيرا فلا يثبت لما لا يجوز عليه التغير والاعتراض عليه ستعرفه في بحث صفات الباري سبحانه في مسألة العلم فإن علمه تعالى محيط بها من غير أن يكون هناك آلة جسمانية أو تغير في ذاته أو صفاته الحقيقية
خاتمة لمباحث العقول في الجن والشياطين فإنها أيضا من الجواهر الغائبة عن حواسنا وهي عند المليين أجسام تتشكل بأي شكل شاءت وتقدر على أن تتولج في بواطن الحيوانات وتنفذ في منافذها الضيقة نفوذ الهواء المستنشق واختلفوا في اختلافهما بالنوع مع الاتفاق على أنهما من أصناف المكلفين كالملك والإنس ومنعه الفلاسفة لأنها إما أن تكون الأجسام لطيفة أو لا وكلاهما باطل أما الأول فلأنه يلزم أن لا تقدر هي على الأفعال الشاقة وتتلاشى بأدنى قوة وسبب من خارج يصل إليها وهو خلاف ما يعتقدونه وأما الثاني فلأنه يوجب أن ترى ولو جوزنا أجساما كثيفة لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال وبلاد لا نراها وبوقات وطبول لا نسمعها وهو سفسطة محضة
والجواب أن لطفها بمعنى الشفافية أي عدم اللون فلا يلزم أحد الأمرين لجواز أن يقوى الشفاف الذي لا لون له على الأفعال الشاقة ولا

ينفعل بسرعة ومع ذلك فلا نراها وبالجملة فإن أردتم باللطافة الشفافية فنختار أنها لطيفة ولا يلزم عدم قوتها على تلك الأفعال وإن أردتم بها سرعة الانفعال والانقسام إلى أجزاء متصغرة ورقة القوام فإن اللطافة تطلق على هذه المعاني فنختار أنها غير لطيفة ولا يلزم رؤيتها كالسماء إلا أنه يشكل سهولة تشكلها بأي شكل شاءت فلذلك قال كيف وقد يفيض عليها القادر المختار مع لطافتها ورقتها قوة عظيمة فإن القوة لا تتعلق بالقوام في الرقة والغلظ ولا بالجثة في الصغر والكبر ألا ترى أن قوام الإنسان دون قوام الحديد والحجر وترى بعضهم يفتل الحديد ويكسر الحجر ويصدر منه ما لا يمكن أن يسند إلى غلظ القوام وترى الحيوانات مختلفة في القوة اختلافا ليس بحسب اختلاف القوام والجثة كما في الأسد مع الحمار
قال قوم هي النفوس الأرضية فإن النفس إن كانت مدبرة للأجرام العلوية فهي النفس الفلكية وإن كانت مدبرة للعناصر فهي النفس الأرضية أي السفلية وهي مختلفة فمنها الملائكة الأرضية وإليها أشار بقوله أتاني ملك الجبال وملك الأمطار وملك البحار وقد وقع في بعض النسخ بدل الأرضية الكروبية بتخفيف الراء أي الملائكة المقربون ورد بأنه غير مناسب لأن الكروبية من الملائكة هم المهيمون المستغرقون في أنوار جلال الله سبحانه وتعالى بحيث لا يتفرغون معه لشيء أصلا لا لتدبير الأجسام ولا للتأثير فيها ومنها الجن ومنها الشياطين وغير ذلك فهذه جنود لربك لا يعلمها إلا هو

وقال قوم هي النفوس الناطقة المفارقة فالخيرة من المفارقة عن الأبدان تتعلق بالخيرة من المقارنة لها نوعا من التعلق وتعاونها على الخير والسداد وهي الجن والشريرة منها تتعلق بالشريرة وتعاونها على الشر والفساد وهي الشياطين والله أعلم بحقائق الأمور

محرمتابع تدقيق الكتاب خالد الزبن سكينة تيسير يوسف كتاب المواقف ج3

الموقف الخامس في الإلهيات وفيه سبعة مراصد
المرصد الأول في الذات
وفيه مقاصد
المقصد الأول في إثبات الصانع
وفيه مسالك
المتن
المسلك الأول للمتكلمين قد علمت أن العالم إما جوهر أو عرض
وقد يستدل بكل واحد منهما إما بإمكانه أو بحدوثه
فهذه وجوه أربعة
الأول الاستدلال بحدوث الجواهر
وهو أن العالم حادث وكل حادث فله محدث
الثاني بإمكانها
وهو أن العالم ممكن لأنه مركب وكثير
وكل ممكن فله علة مؤثرة

الثالث بحدوث الأعراض
مثل ما نشاهد من انقلاب النطفة علقة ثم مضغة ثم لحما ودما
إذ لا بد من مؤثر صانع حكيم
الرابع بإمكان الأعراض
وهو أن الأجسام متماثلة
فاختصاص كل بما له من الصفات جائر
فلا بد في التخصيص من مخصص له
ثم بعد هذه الوجوه نقول مدبر العالم إن كان واجب الوجود فهو المطلوب
وإلا كان ممكنا فله مؤثر
ويعود الكلام فيه
ويلزم إما الدور أو التسلسل
وإما الانتهاء إلى مؤثر واجب الوجود لذاته
والأول بقسميه باطل لما مر
فتعين الثاني
وهو المطلوب
المسلك الثاني للحكماء وهو أن موجودا فإن كان واجبا فذاك
وإن كان ممكنا احتاج إلى مؤثر ولا بد من الانتهاء إلى الواجب
وإلا لزم الدور أو التسلسل
وفي هذا طرح لمؤنات كثيرة كما ترى
المسلك الثالث لبعض المتأخرين جميع الممكنات من حيث هو جميع ممكن لاحتياجه إلى أجزائه التي هي غيره
فله علة
وهي لا تكون نفس ذلك المجموع إذ العلة متقدمة على المعلول ويمتنع تقدم الشيء على نفسه ولا تكون جزءه إذ علة الكل علة لكل جزء فيلزم أن يكون علة المجموع علة لنفسه ولعلله
فإذا هو أمر خارج عنه
والخارج عن جميع الممكنات واجب لذاته
وهو المطلوب
واعترض عليه بوجوه
الأول المجموع يشعر بالتناهي
فإثباته به مصادرة على المطلوب
والجواب أن المراد به هو الممكنات بحيث لا يخرج عنها شيء منها
وذلك متصور في غير المتناهي
الثاني إن أردت بالمجموع كل واحد فعلته ممكن آخر متسلسلا إلى غير النهاية
وإن أردت به الكل المجموعي فلا نسلم أنه موجود إذ ليس ثمة هيئة اجتماعية

والجواب أنا نريد الكل من حيث هو كل
ولا حاجة إلى اعتبار الهيئة الاجتماعية كما في مجموع العشرة
الثالث إن أردت بالعلة التامة فلم لا يجوز أن تكون نفسه قولك العلة متقدمة
قلنا لا نسلم ذلك في التامة
فإنها مجموع أمور كل واحد منها مفتقر إليه
ولا يلزم من تقدم كل واحد تقدم الكل كما أن كل واحد من الأجزاء متقدم على الماهية
ومجموعها هو نفس الماهية
وإن أردت بها الفاعل فلم لا يجوز أن يكون جزءه قولك لأنه علة لكل جزء
قلنا ممنوع ولم لا يجوز أن يكون بعض الأجزاء بلا علة أو بعلة أخرى
والجواب أن المراد الفاعل المستقل بالفاعلية
وهو في مجموع كل جزء منه ممكن لا بد أن يكون فاعلا لكل
وإلا وقع بعض أجزائه بفاعل آخر
فإذا قطع النظر عنه لم تحصل الماهية فلم يكن فاعلا مستقلا
فإن قيل هذا منقوض بالمركب من الواجب والممكن وأيضا لو كان فاعل الكل فاعلا لكل جزء للزم في مركب في أجزائه ترتب زماني إما تقدم المعلول على علته أو تخلف المعلول عن علته
قلت الجواب عن الأول أنا قيدناه بما كل جزء منه ممكن فاندفع النقض
وعن الثاني الثاني أن التخلف عن العلة الفاعلية لا يمتنع
كيف والمراد أن علته لا تكون خارجة عن علة الكل وبذلك يتم مقصودنا
ولا

يلزم ما ذكرتم إذ قد تكون علة كل جزء جزء علة الكل بحيث يكون الكل علة الكل
المسلك الرابع وهو مما وفقنا لاستخراجه أن الموجودات لو كانت بأسرها ممكنة لاحتاج الكل إلى موجد مستقل يكون ارتفاع الكل مرة
بألا يوجد الكل ولا واحد من أجزائه أصلا
ممتنعا بالنظر إلى وجوده
إذ ما لا يمنع جميع أنحاء العدم لا يكون موجبا للوجود
والذي إذا فرض عدم جميع الأجزاء كان ممتنعا نظرا إلى وجوده يكون خارجا عن المجموع فيكون واجبا
وهو المطلوب
المسلك الخامس وهو قريب مما قبله لو لم يوجد واجب لذاته لم يوجد واجب لغيره
فيلزم ألا يوجد موجود
أما الأول فلأن ارتفاع الجميع مرة لا يكون ممتنعا لا بالذات ولا بالغير
وأما الثاني فلأن ما لم يجب إما بالذات وإما بالغير لا يوجد كما تقدم
وقد ذكر ههنا شبهات كثيرة حاصلها عائد إلى أمر واحد
وهو أن يوجد ههنا وفي كل مسألة تراد مذهبان متقابلان فيردد بينهما ترديدا مانعا من الخلو
ثم يبطل كل واحد منهما بدليل الآخر ليلزم نفي القدر المشترك
وحلها إجمالا هو القدح في دليل الطرف الضعيف من المذهبين أو في دليلهما إن أمكن
إذ قد يكون دليل الطرفين ضعيفا
ولا يلزم من بطلان دليلهما بطلانهما
ولنذكر منها عدة
الأولى لو كان الواجب موجودا لكان وجوده إما نفس ماهيته أو زائدا عليها
والأول باطل
لأن الوجود مشترك كما مر
والماهية غير مشتركة
والثاني باطل
وإلا كان وجوده معلول ماهيته فتتقدم عليه بالوجود
والجواب وجوده نفسه
ونمنع الاشتراك
بل المشترك الوجود بمعنى

الكون في الأعيان وأملنا صدق عليه الوجود فلا كالماهية والتشخص
أو وجوده غيره
وتقدم الماهية عليه ليس بالوجود كما تقدم
الثانية لو كان موجودا لكان إما مختارا أو موجبا
والأول باطل
لأن العالم قديم بدليله
والقديم لا يستند إلى المختار
والثاني باطل
وإلا لزم قدم الحادث اليومي أو التسلسل
والجواب لا نسلم أن العالم قديم
وقد مر ضعف دلائله
الثالثة لو كان موجودا لكان إما عالما بالجزئيات أو لا
والأول باطل
وإلا لزم التغير فيه لتغير المعلوم فلا يكون واجبا
والثاني باطل لأنا نعلم أن هذه الأفعال المتقنة لا تستند إلى عديم العلم
والجواب نختار أنه عالم بالجزئيات والتغير في الإضافات لا في الذات
وأنه جائز كما سيأتي
ولنقتصر على هذا القدر
فإن هذا منشأ للشبهات التي طول بها الكتب وعد ذلك تبحرا في العلوم
وعليك بعد الاهتداء إليه أن توقر من أمثاله الأباعر
خاتمة لما ثبت أن الصانع تعالى واجب فقد ثبت أنه أزلي أبدي
ولا حاجة إلى جعله مسألة برأسها
والمتكلمون إنما احتجوا عليه قبل إثبات ذلك
وعنه غنى
فلا نطول به الكتاب
الشرح
الموقف الخامس في الإلهيات التي هي المقصد الأعلى في هذا العلم وفيه سبعة مراصد لا خمسة كما وقع في بعض النسخ

المرصد الأول في الذات
وفيه مقاصد ثلاثة
المقصد الأول في إثبات الصانع
وللقوم فيه مسالك خمسة
المسلك الأول للمتكلمين قد علمت أن العالم إما جوهر أو عرض
وقد يستدل على إثبات الصانع بكل واحد منهما إما بإمكانه أو بحدوثه بناء على أن علة الحاجة عندهم إما الحدوث وحده
أو الإمكان مع الحدوث شرطا أو شطرا فهذه وجوه أربعة
الأول الاستدلال بحدوث الجواهر
قيل هذه طريقة الخليل صلوات الرحمن وسلامه عليه حيث قال لا أحب الآفلين
وهو أن العالم الجوهري
أي المتحيز بالذات حادث كما مر وكل حادث فله محدث كما تشهد به بديهة العقل
فإن من رأى بناء رفيعا حادثا جزم بأن له بانيا
وذهب أكثر مشايخ المعتزلة إلى أن هذه المقدمة استدلالية
واستدلوا عليها تارة بأن أفعالنا محدثة ومحتاجة إلى الفاعل لحدوثها
فكذا الجواهر المحدثة لأن علة الاحتياج مشتركة وأخرى بأن الحادث قد اتصف بالوجود بعد العدم
فهو قابل لهما فيكون ممكنا
وكل ممكن يحتاج في ترجيح وجوده على عدمه إلى مؤثر كما سلف في الأمور العامة
الثاني الاستدلال بإمكانها
وهو أن العالم الجوهري ممكن لأنه مركب من الجواهر الفردة إن كان جسما
وكثير إن كان جسما أو جوهرا فردا
والواجب لا تركيب فيه
ولا كثرة بل هو واحد حقيقي
وكل ممكن فله علة مؤثرة
الثالث الاستدلال بحدوث الأعراض أما في الأنفس مثل ما نشاهد

من انقلاب النطفة علقة ثم مضغة ثم لحما ودما
إذ لا بد لهذه الأحوال الطارئة على النطفة من مؤثر صانع حكيم لأن حدوث هذه الأصوار لا من فاعل محال
وكذا صدورها عن مؤثر لا شعور له
لأنها أفعال عجز العقلاء عن إدراك الحكم المودعة فيها
وأما في الآفاق كما نشاهد من أحوال الأفلاك والعناصر والحيوان والنبات والمعادن
والاستقصاء مذكور في الكتاب المجيد ومشروح في التفاسير
الرابع الاستدلال بإمكان الأعراض مقيسة إلى محالها كما استدل به موسى عليه السلام حيث قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
أي أعطى صورته الخاصة وشكله المعين المطابقين للحكمة والمنفعة المنوطة به وهو أن الأجسام متماثلة متفقة الحقيقة لتركبها من الجواهر المتجانسة على ما عرفت فاختصاص كل من الأجسام بما له من الصفات جائز فلا بد في التخصيص من مخصص له ثم بعد هذه الوجوه الأربعة نقول مدبر العالم إن كان واجب الوجود فهو المطلوب
وإلا كان ممكنا فله مؤثر ويعود الكلام فيه
ويلزم إما الدور أو التسلسل
وأما الانتهاء إلى مؤثر واجب الوجود لذاته
والأول بقسميه باطل لما مر في مرصد العلة والمعلول من الأمور العامة فتعين الثاني
وهو المطلوب
ولا يذهب عليك أن ما ذكره تطويل ورجوع بالآخرة إلى اعتبار الإمكان وحده والاستدلال به
والمشهور أن المتكلمين استدلوا بأحوال خصوصيات الآثار على وجود المؤثر
فقالوا إن الأجسام محدثة لما مر فكذا الأعراض
فلا بد لها من صانع
ولا

يكون حادثا
وإلا احتاج إلى مؤثر آخر فيلزم الدور أو التسلسل أو الانتهاء إلى قديم
والأولان باطلان والثالث هو المطلوب
المسلك الثاني للحكماء وهو أن في الواقع موجودا مع قطع النظر عن خصوصيات الموجودات وأحوالها
وهذه مقدمة يشهد بها كل فطرة فإن كان ذلك الموجود واجبا فذاك هو المطلوب
وإن كان ممكنا احتاج إلى مؤثر
ولا بد من الانتهاء إلى الواجب
وإلا لزم الدور أو التسلسل
وفي هذا المسلك طرح لمؤنات كثيرة كانت في المسلك الأول من بيان حدوث العالم وإمكانه
وما يتوجه عليه من الأسئلة والأجوبة عنها فإنها سقطت ههنا كما ترى
المسلك الثالث لبعض المتأخرين يعني صاحب التلويحات
وهو أنه لا شك في وجود ممكن كالمركبات
فإن استند إلى الواجب ابتداء أو انتهى إليه فذاك
وإن تسلسلت الممكنات
قلنا جميع الممكنات المتسلسلة إلى غير النهاية من حيث هو جميع ممكن لاحتياجه إلى أجزائه التي هي غيره
فله علة موجدة ترجح وجوده على عدمه لما عرفت من أن الإمكان محوج
وهي لا تكون نفس ذلك المجموع إذ العلة متقدمة على المعلول
ويمتنع تقدم الشيء على نفسه ولا جميع أجزائه لأنه عينه
ولا تكون أيضا جزءه أي بعض أجزائه إذ علة الكل علة لكل جزء وذلك لأن كل جزء ممكن محتاج إلى علة
فلو لم تكن علة المجموع علة لكل واحد من الأجزاء لكان بعضها معللا بعلة أخرى فلا تكون تلك الأولى علة للمجموع
بل لبعضه فقط
وحينئذ فيلزم أن يكون الجزء الذي هو علة المجموع علة لنفسه ولعلله أيضا
وإذا لم تكن علة المجموع نفسه ولا أمرا

داخلا فيه فإذن هو أمر خارج عنه
والخارج عن جميع الممكنات واجب لذاته
وهو المطلوب ولا بد أن يستند إليه شيء من تلك الممكنات ابتداء فتنتهي به السلسلة
واعترض عليه بوجوه
الأول المجموع يشعر بالتناهي لأن ما لا يتناهى ليس له كل ولا مجموع ولا جملة
بل ذلك إنما يتصور في المتناهي
وتناهي الممكنات يتوقف على ثبوت الواجب فإثباته به أي إثبات الواجب بما يدل على تناهي الممكنات مصادرة على المطلوب
والجواب أن المراد به أي بالمجموع وما يرادفه في هذا المقام هو الممكنات بأسرها بحيث لا يخرج عنها شيء منها
وذلك متصور في غير المتناهي إذ يكفيه ملاحظة واحدة إجمالية شاملة لجميع آحاده
إنما الممتنع أن يتصور كل واحد مما لا يتناهى مفصلا ويطلق عليه المجموع بهذا الاعتبار
الثاني إن أردت بالمجموع كل واحد من آحاد السلسلة فعلته ممكن آخر متسلسلا إلى غير النهاية بأن يكون كل واحد منها علة لما بعده ومعلولا لما قبله من غير أن ينتهي إلى حد يقف عنده
وإن أردت به الكل المجموعي فلا نسلم أنه موجود إذ ليس ثمة هيئة اجتماعية إلا بحسب الاعتبار وما جزؤه اعتباري لا يكون موجودا خارجيا
والجواب أنا نريد بالمجموع الكل من حيث هو كل
ولا حاجة إلى اعتبار الهيئة الاجتماعية إذ الكل ههنا عين الآحاد كما في مجموع العشرة
ولا شك أن الكل بهذا المعنى موجود ههنا
الثالث إن أردت بالعلة العلة التامة فلم لا يجوز أن تكون نفسه
قولك العلة متقدمة
قلنا لا نسلم ذلك في العلة التامة
فإنها مجموع أمور كل واحد منها مفتقر إليه فيكون كل واحد من تلك الأمور متقدما على

المعلول
ولا يلزم من تقدم كل واحد تقدم الكل
كما أن كل واحد من الأجزاء متقدم على الماهية ومجموعها ليس متقدما بل هو نفس الماهية
وإن أردت بها أي بالعلة الفاعل وحده فلم لا يجوز أن يكون جزءه
قولك لأنه علة لكل جزء فيكون علة لنفسه ولعلله قلنا ذلك ممنوع
ولم لا يجوز أن يحصل بعض الأجزاء بلا علة أو بعلة أخرى
والجواب أن المراد بالعلة هو الفاعل المستقل بالفاعلية
وهو في مجموع كل جزء منه ممكن لا بد أن يكون فاعلا لكل من الأجزاء على معنى أنه لا يستند شيء منها بالمفعولية إلا إليه أو إلى ما صدر عنه
وإلا وقع بعض أجزائه بفاعل آخر لم يصدر عنه
فإذا قطع النظر عنه أي عن الآخر لم تحصل الماهية المعلولة التي هي المجموع
فلم يكن ذلك الفاعل فاعلا مستقلا بالمعنى المذكور
وهو خلاف المقدر
فإن قيل هذا الذي ذكرتموه منقوض بالمركب من الواجب والممكن فإن مجموعهما من حيث هو مجموع لا شك أنه ممكن لاحتياجه إلى جزئه الذي هو غيره مع أن فاعله ليس فاعلا لكل واحد من أجزائه
وأيضا لو كان فاعل الكل بالاستقلال فاعلا لكل جزء منه كذلك للزم في مركب في أجزائه ترتب زماني كالسرير مثلا إما تقدم المعلول على علته أو تخلف المعلول عن علته المستقلة
إذ عند وجود الجزء المتقدم كالخشب إن وجدت العلة المستقلة للكل لزم الأمر الثاني
وإن لم توجد لزم الأمر الأول
وكلاهما محال
قلت الجواب عن الأول وهو النقض أنا قيدناه أي الكل بما كل جزء منه ممكن كما مر آنفا فاندفع النقض

فإن قيل نحن نمنع كون فاعل الكل فاعلا لكل جزء منه ونسنده بالمركب من الواجب والممكن فلا يجديكم إخراجه بقيد الإمكان
قلنا هذا المنع مندفع بما قررناه من الدليل على أن الفاعل المستقل للكل يجب أن يكون فاعلا لكل جزء منه إذا كانت آحادة بأسرها ممكنة
وعن الثاني وهو المعارضة أن التخلف عن العلة الفاعلية المستقلة بالمعنى الذي صورناه لا يمتنع
إنما الممتنع هو التخلف عن العلة الفاعلية المستجمعة لجميع ما يتوقف عليه التأثير
أعني العلة التامة
على أنا نقول كيف يتجه علينا ما ذكرتم
والمراد بقولنا علة الكل يجب أن تكون علة لكل جزء منه أن علته أي علة الجزء لا تكون خارجة عن علة الكل
وبذلك الذي ذكرناه من المراد يتم مقصودنا وهو أن علة المجموع المركب من الممكنات كلها لا يجوز أن تكون جزءه
إذ يلزم حينئذ أن لا تكون علة ذلك الجزء خارجة عنه
فهي إما نفسه وهو محال
أو ما هو داخل فيه فينقل الكلام إليه حتى ينتهي إلى ما يكون علة لنفسه
وعلى تقدير التسلسل نقول كل جزء فرض علة في تلك السلسلة فإن علته أولى منه بأن تكون علة لها فيلزم ترجيح المرجوح
هذا خلف
ولك أن تتمسك في إبطال علية الجزء بهذا ابتداء
ولا يلزم ما ذكرتم من أحد الأمرين إذ قد تكون علة كل جزء من الأجزاء جزء علة الكل بحيث يكون الكل علة الكل فعند وجود الجزء المتقدم توجد علته التامة وعند وجود الجزء المتأخر توجد علته التامة ويكون مجموع هاتين العلتين علة تامة للكل
ولا محذور فيه
نعم لو كانت العلة المستقلة للكل عين العلة المستقلة لكل واحد من أجزائه لزم ما ذكرتموه

المسلك الرابع وهو مما وفقنا لاستخراجه أن الموجودات لو كانت بأسرها ممكنة أي لو لم يوجد الواجب لانحصرت الموجودات في الممكن
ولو انحصرت فيه لاحتاج الكل أي المجموع بحيث لا يشذ عنه شيء من أجزائه الممكنة إلى موجد لكونه ممكنا مركبا من ممكنات مستقل في الإيجاد بأن لا يستند وجرد شيء من أجزائه إلا إليه أو إلى ما هو صادر عنه فيكون هو الموجد لكل واحد منها إما ابتداء أو بواسطة هي منه أيضا يكون ارتفاع الكل مرة أي بالكلية وذلك بأن لا يوجد الكل ولا واحد من أجزائه أصلا ممتنعا بالنظر إلى وجوده أي وجود ذلك الموجد المستقل إذ ما لا يمنع جميع أنحاء العدم لا يكون موجبا للوجود لما عرفت من أن الممكن ما لم يجب وجوده من علته لم يوجد ويلزم من ذلك امتناع عدمه من أجلها بحيث لا يتطرق إليه العدم أصلا بوجه من الوجوه
ولا شك أن عدم المجموع يكون على أنحاء شتى
فإنه قد يعدم بعدم هذا الجزء وبعدم جزء آخر
وهكذا فالموجد المستقل للكل يجب أن يكون بحيث يمتنع بسببه جميع هذه العدمات المنسوبة إلى أجزائه
والشيء الذي إذا فرض عدم جميع الأجزاء أي عدم واحد منها كان ذلك العدم ممتنعا نظرا إلى وجوده يكون خارجا عن المجموع لا نفسه ولا داخلا فيه لأن عدم شيء منهما ليس ممتنعا نظرا إلى ذاته وإلا كان واجبا لذاته فيكون ذلك الخارج عن جميع الممكنات واجبا وجوده في حد ذاته إذ لا موجود في الخارج سوى الممكن والواجب وهو المطلوب
فإن قلت ثبوت الواجب على تقدير انحصار الموجودات في الممكن

يكون خلفا لازما على تقدير نقيض المطلوب لا مطلوبا كأنه قيل إن لم يكن الواجب موجودا لزم انحصار الموجود في الممكنات
ويلزم من وجود هذا الانحصار عدمه
فيكون محالا فيبطل نقيض المطلوب فتظهر حقيته
قلت نعم
لكن الخلف اللازم قد يكون عين المطلوب
ولذلك يقال هذا خلف
ومع ذلك هو مطلوبنا
وهذا المسلك غير محتاج إلى إبطال الدور والتسلسل ومستخرج من ملاحظة حال عدم المعلول بالقياس إلى علته
كما أن المسلك السابق لوحظ فيه حال وجوده مقيسا إليها
المسلك الخامس وهو قريب مما قبله لو لم يوجد واجب لذاته لم يوجد واجب لغيره أي ممكن وحينئذ فيلزم أن لا يوجد موجود أصلا ضرورة انحصار الموجود في الواجب والممكن
أما الأول وهو أنه إذا لم يوجد واجب لم يوجد ممكن فلأن الواجب إذا لم يوجد كانت الموجودات بأسرها ممكنة
ولا شك أن ارتفاع الجميع المركب من الممكنات فقط مرة أي بالكلية لا يكون على ذلك التقدير ممتنعا لا بالذات وهو ظاهر لأنه وآحاده برمتها ممكنة
ولا بالغير لما عرفت من أن الغير الذي يمتنع به رفع الجميع بالمرة لا بد أن يكون موجودا خارجا عنه واجبا لذاته
والمفروض عدمه
وأما الثاني وهو أنه إذا لم يوجد واجب بذاته ولا بغيره لم يوجد موجود أصلا
فلأن ما لم يجب إما بالذات وإما بالغير لا يوجد كما تقدم من أن الموجود إما واجب مسبوق وجوده بموجوبه الذاتي وإما ممكن مسبوق وجوده بموجوبه من علته
وهذا المسلك كالرابع في الاستغناء عن حديث الدور والتسلسل
وقربه منه مكشوف لا سترة به

المسلك السادس ما أشار إليه بعض الفضلاء وتحريره أن الممكن لا يستقل بنفسه في وجوده
وهو ظاهر
ولا في إيجاده لغيره
لأن مرتبة الإيجاد بعد مرتبة الوجود
فإن الشيء ما لم يوجد لم يوجد
فلو انحصر الموجود في الممكن لزم أن لا يوجد شيء أصلا لأن الممكن وإن كان متعددا لا يستقل بوجود ولا إيجاد
وإذ لا وجود ولا إيجاد فلا موجود لا بذاته ولا بغيره
وهذا المسلك أخصر المسالك وأظهرها وقد ذكر ههنا أي في مقام إثبات الصانع شبهات كثيرة أوردها الإمام الرازي في كتبه وأجاب عنها لكن حاصلها عائد إلى أمر واحد
وهو أن يوجد ههنا وفي كل مسألة تراد مذهبان متقابلان فيردد بينهما ترديدا مانعا من الخلو ثم يبطل كل واحد منهما بدليل الآخر لئلا يلزم نفي القدر المشترك
وحلها إجمالا هو القدح في دليل الطرف الضعيف من المذهبين أو في دليلهما إن أمكن ولا استبعاد في إمكان القدح في دليلهما معا إذ قد يكون دليل الطرفين ضعيفا ولا يلزم من بطلان دليلهما بطلانهما حتى يلزم ارتفاع المتقابلين
وذلك لأن الدليل ملزوم للمدلول
وانتقاء الملزوم لا يستلزم انتفاء لازمه
ولنذكر منها أي من تلك الشبه مع أجوبتها عدة لتطلع بها على أحوال نظائرها
الأولى لو كان الواجب موجودا لكان وجوده إما نفس ماهيته أو زائدا عليها إذ لا محال لكونه جزءا منها
والأول باطل لأن الوجود مشترك كما مر
والماهية غير مشتركة
والثاني باطل
وإلا كان وجوده معلول ماهيته

لامتناع كونه معلولا لغيرها فتتقدم ماهيته عليه أي على وجوده بالوجود وهو محال كما سلف والواجب وجوده نفسه
ونمنع الاشتراك في الوجود الذي هو عينه بل المشترك هو الوجود بمعنى الكون في الأعيان أعني مفهوم الوجود العارض للموجودات الخارجية
وأما ما صدق عليه الوجود فلا اشتراك فيه
وذلك كالماهية والتشخص أو وجوه غيره أي زائد عليه ومعلول لماهيته وتقدم الماهية عليه ليس بالوجود كما تقدم
الثانية من تلك الشبه لو كان الواجب موجودا لكان إما مختارا أو موجوبا
والأول باطل
لأن العالم قديم بدليله
والقديم لا يستند إلى المختار
والثاني باطل وإلا لزم قدم الحادث اليومي أو التسلسل وكلاهما محال
والجواب لا نسلم أن العالم قديم وقد مر ضعف دلائله
الثالثة منها لو كان الواجب موجودا لكان إما عالما بالجزئيات أو لا والأول باطل وإلا لزم التغير فيه أي في ذات الواجب تعالى لتغير المعلوم الجزئي من حال إلى حال
فإن زيدا مثلا يتصف تارة بالقيام وأخرى بعدمه
والعلم لا بد فيه من أن يطابق معلومه فيتغير أيضا بحسبه فلا يكون الواجب على هذا التقدير واجبا بل حادثا لأن محل الحوادث حادث
والثاني باطل لأنا نعلم بالبديهة أن هذه الأفعال المتقنة المشاهدة في الجزئيات لا تستند إلى عديم العلم
والجواب نختار أنه عالم بالجزئيات والتغير اللازم في العلم إنما هو في الإضافات لا في الذات أي لا في صفاته الحقيقية
فإن علمه تعالى صفة واحدة حقيقية قائمة بذاته ومتعلقة بالمعلومات كلها
فإذا تغيرت لم تتغير تلك الصفة بل تغيرت تعلقاته بها وإضافاته إليها فيكون تغيرا في أمور اعتبارية لا في صفات حقيقية
وأنه جائز في الواجب كما سيأتي
ولنقتصر على هذا القدر
فإن هذا منشأ للشبهات التي طول بها الكتب وعد ذلك التطويل تبحرا في العلوم وتوسعا في التحقيق والتدقيق
وعليك بعد الاهتداء إليه بما نبهناك به من الضابطة والأمثلة أن توقر من أمثاله الأباعر جمع بعير

خاتمة للمقصد الأول لما ثبت أن الصانع تعالى واجب وجوده وممتنع عدمه فقد ثبت أنه أزلي أبدي
ولا حاجة إلى جعله مسألة برأسها
قال الإمام الرازي في الأربعين كلاما محصله أنه لما ثبت انتهاء الموجودات إلى واجب الوجود لذاته والعدم على الواجب ممتنع لزم كونه تعالى أزليا أبديا
فلا حاجة إلى جعله مسألة على حدة
لكن المتكلمين لما لم يسلكوا تلك الطريقة بل أثبتوا أن هذه الممكنات المحسوسة محتاجة إلى موجود سواها احتاجوا في ذلك إلى وجود آخر فقالوا مثلا لو لم يكن أزليا لكان محدثا محتاجا إلى محدث آخر وتسلسل
ولو لم يكن باقيا دائما لكان عدمه بعد وجوده إما لذاته وهو باطل
وإما بفاعل وهو أيضا محال لأن العدم نفي محض فيمتنع كونه بالفاعل
وإما بطريان ضد
وأنه مستحيل
لأن القديم أقوى
فاندفاع الضد به أولى من انعدامه بالضد
وإما بزوال شرط وهو ممتنع لأن المحدث لا يكون شرطا للقديم
وإن فرض له شرط قديم نقلنا الكلام إليه ولزم التسلسل
ولما بطلت الأقسام كلها امتنع طريان العدم على الصانع
والمصنف صرح بأول كلامه ثم أشار إلى آخره بقوله والمتكلمون إنما احتجوا بوجوه أخر عليه أي على كون الصانع أزليا أبديا قبل إثبات ذلك أي قبل إثبات كونه واجبا وعنه أي عن الاحتجاج بتلك الوجوه على هذا المطلوب بعد بيان كونه واجبا غنى
فلا نطول به الكتاب كما طول به الإمام كتابه على ما أشرنا إليه

المقصد الثاني
المتن

في أن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات
فهو منزه عن المثل والند تعالى عن ذلك علوا كبيرا
وقال قدماء المتكلمين ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات
وإنما تمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة الوجوب والحياة والعلم التام والقدرة التامة
وعند أبي هاشم يمتاز بحالة خامسة هي الموجبة لهذه الأربعة نسميها بالإلهية
قلنا لو شاركه غيره في الذات لخالفه بالتعين ضرورة الإثنينية
وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم التركيب
وهو ينافي الوجوب الذاتي كما تقدم
احتجوا على كون الذات مشتركة بما مر في الوجود من الوجوه
وتقريرها هنا أن الذات تنقسم إلى الواجب والممكن
ومورد القسمة مشترك بين أقسامه وأيضا فنحن نجزم به مع التردد في الخصوصيات
والجواب أن المشترك مفهوم للذات
وأنه عارض للذوات المخصوصة
وهذا الغلط منشأه عدم الفرق بين مفهوم الموضوع الذي يسمى عنوان الموضوع وبين ما صدق عليه المفهوم الذي يسمى ذات الموضوع
وهذا منشأ لكثير من الشبه
فإذا انتبهت له وكنت ذا قلب شيحان انجلت عليك وقدرت أن تغالط
وأمنت أن تغالط
منها قولهم الوجود مشترك
إذ نجزم به ونتردد في الخصوصيات
فنقول المجزوم به مفهوم الوجود لا ما صدق عليه الوجود والنزاع فيه

ومنها قولهم الوجود زائد إذ نعقل الوجود دون الماهية
وبالعكس قلنا فيه ما تقدم
ومنها الوحدة عدمية
وإلا تسلسل
قلنا مفهوم الوحدة
ولا يلزم فيما صدق عليه
فإنه مختلف
ومنها الصفات زائدة على الذات
وإلا لكان المفهوم من العلم ومن القدرة واحدا
قلنا يكون ما صدق عليه واحدا
وأما المفهوم فلا
وأمثال ذلك أكثر من أن تحصى
تنبيه نقل عن الحكماء أنهم قالوا ذاته وجوده المشترك بين جميع الموجودات ويمتاز عن غيره بقيد سلبي
وهو عدم عروضه للغير
فإن وجود الممكنات مقارن لماهية مغايرة له
ووجوده ليس كذلك
وهذا بطلانه ظاهر
ولم يتحقق عندي هذا النقل عنهم
بل قد صرح الفارابي وابن سينا بخلافه
فإنهما قالا الوجود المشترك
الذي هو الكون في الأعيان
زائد على ماهيته تعالى بالضرورة وإنما هو مقارن لوجود خاص هو المبحث
الشرح
المقصد الثاني في أن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات إليه ذهب نفاة الأحوال
قالوا والمخالفة بينه وبينها لذاته المخصوصة لا لأمر زائد عليه
وهو مذهب الشيخ الأشعري وأبي الحسين البصري
فإنهما قالا

المخالفة بين كل موجودين من الموجودات إنما هي بالذات وليس بين الحقائق اشتراك إلا في الأسماء والأحكام دون الأجزاء المقومة
وعلى هذا فهو منزه عن المثل المشارك في تمام الماهية والند الذي هو المثل المنادى
تعالى عن ذلك علوا كبيرا
وقال قدماء المتكلمين ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات في الذاتية والحقيقة
وإنما تمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة الوجوب والحياة والعلم التام والقدرة التامة أي الواجبية والحيية والعالمية والقادرية التامتين
هذا عند أبي علي الجبائي
وأما عند أبي هاشم فإنه يمتاز عما عداه من الذوات بحالة خامسة هي موجبة لهذه الأربعة نسميها بالإلهية
قالوا ولا يرد علينا قوله تعالى ليس كمثله شيء لأن المماثلة المنفية ههنا هي المشاركة في أخص صفات النفس دون المشاركة في الذات والحقيقة
فإن قيل المذكور في الموقف الثاني الموجودية بدل الوجوب
وهو الموافق لما في المحصل والأربعين
أجيب بأن الوجود عند مثبتي الأحوال مشترك بين الموجودات كلها
فلا يتصور كونه مميزا
فالمراد بالموجودية المميزة هو الموجودية المقيدة بالواجبة فيرجع التمييز بالحقيقة إلى القيد
وتندفع المنافاة بين الكلامين
قلنا في إثبات المذهب الحق أنه تعالى لو شاركه غيره في الذات

والحقيقة لخالفه بالتعين ضرورة الإثنينية فإن المتشاركين في تمام الماهية لا بد أن يتخالفا بتعين وتشخص حتى تمتاز به هويتهما ويتعددا ولا شك أن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم التركيب في هوية كل منهما وهو ينافي الوجوب الذاتي كما تقدم
احتجوا على كون الذات مشتركة بين الواجب وغيره بما مر في اشتراك الوجود من الوجوه
وتقريرها هنا أن الذات تنقسم إلى الواجب والممكن ومورد القسمة مشترك بين أقسامه
وأيضا فنحن نجزم به أي بالذات مع التردد في الخصوصيات من الواجب والجواهر والأعراض على قياس ما مر في الوجود
وأيضا فقولنا المعلوم إما ذات وإما صفة حصر عقلي
فلولا أن المفهوم من الذات شيء واحد لم يكن كذلك
والجواب أن المشترك مفهوم الذات أعني ما يصح أن يعلم ويخبر عنه أو ما يقوم بنفسه وأنه أي مفهوم الذات على الوجهين أمر عارض للذوات المخصوصة المتخالفة الحقائق على مآل قولهم إلى أن الأشياء متساوية في تمام الماهية مع اختلافها في اللوازم
وهو غير معقول
ومآل قولنا إلى عكس ذلك وهو ممكن وهذا الغلط منشأه عدم الفرق بين مفهوم الموضوع الذي يسمى عنوان الموضوع وبين ما صدق عليه هذا المفهوم أعني الذي يسمى ذات الموضوع
وقد ثبت في غير هذا الفن أن العنوان قد يكون عين حقيقة الذات وقد يكون جزءها
وقد يكون عارضا لها
فمن أين يثبت التماثل والاتحاد في الحقيقة بمجرد اشتراك العنوان وهذه المغالطة
أعني اشتباه العارض بالمعروض منشأ لكثير من الشبه في مواضع عديدة
فإذا انتبهت له أي لهذا المنشأ ووقفت على حاله وكنت ذا قلب شيحان أي يقظان غيور على حرمه التي هي بنات فكره إنجلت عليك تلك الشبه وقدرت على أن تغالط غيرك وأمنت من أن تغالط أنت
منها أي من تلك الشبه قولهم الوجود مشترك إذ نجزم به ونتردد في الخصوصيات

فنقول المجزوم به مفهوم الوجود لا ما صدق عليه الوجود لجواز أن يكون ذلك المفهوم خارجا عن حقائق أفراده المتخالفة فلا تكون حقيقة الوجود أمرا واحدا مشتركا مجزوما به
والنزاع إنما وقع فيه لا في مفهوم عارض لحقيقته
ومنها قولهم الوجود زائد إذ نعقل الوجود دون الماهية كما في الواجب مثلا
وبالعكس أي نعقل الماهية دون الوجود كما في المثلث فلا يكون الوجود عينا ولا داخلا
قلنا فيه ما تقدم من أن الزائد مفهومه لا حقيقته ومنها الوحدة عدمية
وإلا تسلسل
قلنا اللازم من دليلكم على تقدير صحته أن يكون مفهوم الوحدة عدميا لا وجوديا
إذ حينئذ يلزم تسلسل الوحدات الوجودية إلى ما لا نهاية له
ولا يلزم هذا التسلسل فيما صدق عليه فإنه مختلف فبعضه وجودي وبعضه عدمي وبعضه زائد وبعضه نفس الماهية كما مرت إليه الإشارة في مباحث الوحدة
ومنها الصفات زائدة على الذات
وإلا لكان المفهوم من العلم ومن القدرة ومن الصفات الأخر شيئا واحدا هو عين الذات
ولا شبهة في استحالته
قلنا يكون ما صدق أي ما صدق عليه العلم والقدرة مثلا واحدا
وأما المفهوم فلا يكون واحدا بل لكل منهما مفهوم على حدة
وأمثال ذلك أكثر من أن تحصى فلنكتف بما ذكرنا إذ لا يخفى عليك حالها
تنبيه نقل عن الحكماء أنهم قالوا ذاته تعالى وجوده المشترك بين جميع الموجودات
ويمتاز عن غيره بقيد سلبي وهو عدم عروضه للغير
فإن وجود الممكنات مقارن لماهية مغايرة له
ووجوده ليس كذلك
وفي هذه العبارة نوع قصور
والأظهر أن يقال ذاته الوجود المشترك بين الجميع
ويمتاز عن غيره بقيد سلبي هو أن وجوده ليس زائدا عليه بل هو عينه بخلاف سائر

الموجودات
فإن وجودها زائد على ماهياتها
أو يقال ذاته وجوده المساوي لسائر الموجودات بناء على اشتراك الموجود
ويمتاز عنها بعدم عروضه لماهيته بخلاف وجودات الممكنات
فإنها عارضة لماهياتها
وهذا باطل بطلانه ظاهر
أما على المعنى الأول فلأنه يلزم منه أن تكون حقيقة الواجب أمرا مخالطا لجميع الممكنات حتى القاذورات
ولا يخفى استحالته
وأما على المعنى الثاني فلأنه يلزم منه التساوي في الصفات اللازمة
قال المصنف ولم يتحقق عندي هذا النقل عنهم بل قد صرح الفارابي وابن سينا بخلافه
فإنهما قالا الوجود المشترك الذي هو الكون في الأعيان زائد على ماهيته تعالى بالضرورة
وإنما هو مقارن لوجود خاص هو المبحث هل هو زائد عارض لماهيته أو ليس بزائد

المقصد الثالث
المتن في أن وجوده نفس ماهيته أو زائد
وأنه مساو لوجود الممكنات أو مخالف
وقد تقدم في الأمور العامة ما فيه كفاية
الشرح
المقصد الثالث في أن وجوده نفس ماهيته كما هو مذهب الشيخ وأبي الحسين والحكماء
أم زائد عليها كما هو مذهب جمهور المتكلمين
وأنه مساو لوجود الممكنات أم مخالف
وقد تقدم في الأمور العامة ما فيه كفاية فلا معنى للإعادة
المرصد الثاني في تنزيهه وهي الصفات السلبية
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن أنه تعالى ليس في جهة ولا في مكان
وخالف فيه المشبهة
وخصصوه بجهة الفوق
ثم اختلفوا فذهب محمد بن كرام إلى أن كونه في الجهة ككون الأجسام فيها
وهو مماس للصفحة العليا من العرش ويجوز عليه الحركة والانتقال وتبدل الجهات
وعليه اليهود حتى قالوا العرش يئط من تحته أطيط الرحل الجديد
وأنه يفضل على العرش من كل جهة أربعة أصابع
وزاد بعض المشبهة كمضر وكهمس وأحمد الهجيمي أن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة
ومنهم من قال محاذ للعرش غير

مماس له
فقيل بمسافة متناهية
وقيل غير متناهية
ومنهم من قال ليس ككون الأجسام في الجهة
لنا وجوه
الأول لو كان في مكان لزم قدم المكان
وقد برهنا أن لا قديم سوى الله تعالى
وعليه الاتفاق
الثاني المتمكن محتاج إلى مكانه
والمكان مستغن عن المتمكن
الثالث لو كان في مكان فإما في بعض الأحياز أو في جميعها
وكلاهما باطل
أما الأول فلتساوي الأحياز ونسبته إليها فيكون اختصاصه ببعضها ترجيحا بلا مرجح
أو يلزم الاحتياج في تحيزه الذي لا تنفك ذاته عنه إلى الغير
وأما الثاني فلأنه يلزم تداخل المتحيزين وأنه محال بالضرورة
وأيضا فيلزم مخالطته لقاذورات العالم
تعالى عن ذلك علوا كبيرا
الرابع لو كان جوهرا فإما ألا ينقسم أو ينقسم
وكلاهما باطل
أما الأول فلأنه يكون جزء لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء
تعالى عن ذلك
وأما الثاني
فلأنه يكون جسما
وكل جسم مركب
وقد مر أنه ينافي الوجوب الذاتي
وأيضا فقد بينا أن كل جسم محدث فيلزم حدوث الواجب
وربما يقال له كان جسما لقام بكل جزء علم وقدرة
فيلزم تعدد الآلهة
وهذا المستدل يلتزم أن الإنسان الواحد علماء قادرون أحياء
وربما يقال لو كان متحيزا لكان مساويا لسائر المتحيزات فيلزم إما قدم الأجسام أو حدوثه
وهو بناء على تماثل الأجسام
وربما يقال لو كان متحيزا لساوى الأجسام في التحيز
ولا بد من أن يخالفها بغيره فيلزم التركيب
وقد علمت ما فيه
احتج الخصم بوجوه

الأول ضرورة العقل تجزم بأن كل موجود فهو متحيز أو حال فيه
والجواب منع الضرورة
وإنما ذلك حكم الوهم
وأنه غير مقبول
وربما يستعان في تصوره بالإنسان الكلي وعلمنا به
الثاني كل موجودين فإما أن يتصلا أو ينفصلا
فهو إن كان متصلا بالعالم فمتحيز
وإن كان منفصلا عنه فكذلك
والجواب منع الحصر
وهو من الطراز الأول
الثالث إنه إما داخل العالم أو خارج العالم
أو لا داخله ولا خارجه
والثالث خروج عن المعقول
والأولان فيهما المطلوب
والجواب أنه لا داخل ولا خارج
الرابع الموجود ينقسم إلى قائم بنفسه وقائم بغيره
والقائم بنفسه هو المتحيز بالذات
والقائم بغيره هو المتحيز تبعا
وهو قائم بنفسه فيكون متحيزا بذاته
والجواب منع التفسيرين
وقد يقال في تقريره أجمعنا أن له تعالى صفات قائمة بذاته
ومعنى القيام التحيز تبعا
الخامس الاستدلال بالظواهر الموهمة بالتجسم من الآيات والأحاديث نحو قوله تعالى الرحمن على العرش استوى وجاء ربك والملك صفا صفا فإن استكبروا فالذين عند ربك إليه يصعد الكلم الطيب تعرج الملائكة والروح إليه هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى
وحديث

النزول
وقوله الخرساء أين الله فأشارت إلى السماء فقرر
فالسؤال والتقرير يشعران بالجهة
والجواب أنها ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات
ومهما تعارض دليلان وجب العمل بهما ما أمكن فتؤول الظواهر إما إجمالا ويفوض تفصيلها إلى الله كما هو رأي من يقف على إلا الله
وعليه أكثر السلف كما روي عن أحمد الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والبحث عنها بدعة
وأما تفصيلا كما هو رأي طائفة فنقول الاستواء الاستيلاء نحو قد استوى عمرو على العراق
والعندية بمعنى الاصطفاء والإكرام كما يقال فلان قريب من الملك
وجاء ربك أي أمره
وإليه يصعد الكلم الطيب أي يرتضيه
فإن الكلم عرض يمتنع عليه الانتقال
و من في السماء أي حكمه أو سلطانه أو ملك موكل بالعذاب
وعليه فقس
الشرح
المرصد الثاني في تنزيهه
وهي الصفات السلبية
وفيه مقاصد سبعة
المقصد الأول أنه تعالى ليس في جهة من الجهات ولا في مكان من الأمكنة وخالف فيه المشبهة وخصصوه بجهة الفوق اتفاقا ثم اختلفوا فيما بينهما فذهب أبو عبد الله محمد بن كرام إلى أن كونه في الجهة ككون الأجسام فيها وهو أن يكون بحيث يشار إليه أنه ههنا أو هناك
قال وهو مماس للصفحة العليا من العرش ويجوز عليه الحركة والانتقال وتبدل

الجهات
وعليه اليهود
حتى قالوا العرش يئط من تحته أطيط الرحل الجديد تحت الركب الثقيل وقالوا أنه يفضل على العرش من كل جهة أربعة أصابع
وزاد بعض المشبهة كمضر وكهمس وأحمد الهجيمي أن المخلصين من المؤمنين يعانقونه في الدنيا والآخرة
ومنهم من قال هو محاذ للعرش غير مماس له
فقيل بعده عنه بمسافة متناهية
وقيل بمسافة غير متناهية
ومنهم من قال ليس كونه في الجهة ككون الأجسام في الجهة والمنازعة مع هذا القائل راجعة إلى اللفظ دون المعنى
والإطلاق اللفظي متوقف على ورود الشرع به
لنا في إثبات هذا المطلوب وجوه
الأول لو كان الرب تعالى في مكان أو جهة لزم قدم المكان أو الجهة
وقد برهنا أن لا قديم سوى الله تعالى
وعليه الاتفاق من المتخاصمين
الثاني المتمكن محتاج إلى مكانه بحيث يستحيل وجوده بدونه
والمكان مستغن عن المتمكن لجواز الخلاء فيلزم إمكان الواجب ووجوب المكان وكلاهما باطل
الثالث لو كان في مكان فإما أن يكون في بعض الأحياز أو في جميعها وكلاهما باطل
أما الأول فلتساوي الأحياز في أنفسها لأن المكان عند المتكلمين هو الخلاء المتشابه وتساوي نسبته أي نسبة ذات الواجب إليها وحينئذ فيكون اختصاصه ببعضها دون بعض آخر منها ترجيحا بلا مرجح إن لم يكن هناك مخصص من خارج أو يلزم الاحتياج أي احتياج الواجب في تحيزه الذي لا تنفك ذاته عنه إلى الغير إن كان

هناك مخصص خارجي
وأما الثاني وهو أن يكون في جميع الأحياز فلأنه يلزم تداخل المتحيزين لأن بعض الأحياز مشغول بالأجسام وأنه أي تداخل المتحيزين مطلقا محال بالضرورة
وأيضا فيلزم على التقدير الثاني مخالطته لقاذورات العالم
تعالى عن ذلك علوا كبيرا
الرابع لو كان متحيزا لكان جوهرا لاستحالة كون الواجب تعالى عرضا
وإذا كان جوهرا فإما أن لا ينقسم أصلا أو ينقسم
وكلاهما باطل
أما الأول فلأنه يكون جزءا لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء
تعالى الله عن ذلك
وأما الثاني فلأنه يكون جسما
وكل جسم مركب
وقد مر أنه أي التركيب الخارجي ينافي الوجوب الذاتي
وأيضا فقد بينا أن كل جسم محدث فيلزم حدوث الواجب
وربما يقال في إبطال الثاني لو كان الواجب جسما لقام بكل جزء منه علم وقدرة وحياة مغايرة لما قام بالجزء الآخر ضرورة امتناع قيام العرض الواحد بمحلين فيكون كل واحد من أجزائه مستقلا بكل واحد من صفات الكمال
فيلزم تعدد الآلهة
وهذا المستدل يلتزم أن الإنسان الواحد علماء قادرون أحياء
كيلا ينقض دليله بالإنسان الواحد لجريانه فيه
وهذا الاستدلال ضعيف جدا لجواز قيام الصفة الواحدة بالمجموع من حيث هو مجموع
فلا يلزم ما ذكر من المحذور
وربما يقال في نفي المكان عنه تعالى لو كان متحيزا لكان مساويا لسائر المتحيزات في الماهية فيلزم حينئذ إما قدم الأجسام أو حدوثه لأن المتماثلات تتوافق في الأحكام وهو أي هذا الاستدلال بناء على تماثل الأجسام بل على تماثل المتحيزات بالذات
وربما يقال لو كان متحيزا لساوى الأجسام في التحيز
ولا بد من أن يخالفها بغيره فيلزم التركيب في ذاته
وقد علمت في صدر الكتاب ما فيه وهو أن الاشتراك والتساوي في

العوارض لا يستلزم التركيب
احتج الخصم على إثبات الجهة والمكان بوجوه خمسة
الأول ضرورة العقل أي بديهته تجزم بأن كل موجود فهو متحيز أو حال فيه ليكون مختصا بجهة ومكان إما أصالة أو تبعا
والجواب منع الضرورة العقلية
وإنما ذلك حكم الوهم بضرورته وأنه غير مقبول فيما ليس بمحسوس وربما يستعان في تصوره أي تصور موجود لا حيز له أصلا بالإنسان الكلي المشترك بين أفراده وعلمنا به فإنهما موجودان وليسا متحيزين قطعا
أما الأول فلأنه لو كان متحيزا أو حالا فيه لاختص بمقدار معين ووضع مخصوص
فلا يطابق أفرادا متباينة المقادير والأوضاع
فلا يكون مشتركا بينها
وأما الثاني فلأن العلم بالماهية الكلية لا يختص بمقدار ووضع مخصوصين
وإلا لم يكن علما بتلك الماهية
فإن قلت الإنسان المشترك لا بد أن يكون له أعضاء مخصوصة من عين ويد وظهر وبطن وغيرها على أوضاع مختلفة ومقادير متناسبة وأبعاد متفاوتة
ولا شك في أنه من حيث هو كذلك يكون متحيزا
قلت هذا إنما يلزم إذا لم توجد تلك الأعضاء من حيث أنها كلية مشتركة
ولا شبهة أنها في الإنسان الكلي مأخوذة كذلك
وإنما قال وربما يستعان في تصوره ولم يقل وربما يستدل عليه لأن الاستدلال به موقوف على وجود الكلي الطبيعي ووجود العلم به في الخارج مع أنه مختلف فيه بخلاف الاستعانة المذكورة فإنها تتم مع ذلك الاختلاف الثاني
الثاني كل موجودين فإما أن يتصلا أو ينفصلا فهو أي الواجب

تعالى إن كان متصلا بالعالم فمتحيز
وإن كان منفصلا عنه فكذلك
والجواب منع الحصر
وهو من الطراز الأول أي من الأحكام الوهمية
وقد عرفت أن أحكامه لا تقبل في غير المحسوسات لكنها قد تشتبه بالأوليات فتحسب أنها منها
الثالث أنه إما داخل العالم أو خارج العالم أو لا داخله ولا خارجه
والثالث خروج عن المعقول وعما تقتضيه بداهة العقل
وإلا ولأن فيهما المطلوب وهو أنه متحيزة وفي جهة
والجواب أنه لا داخل ولا خارج وهذا خروج عن الموهوم دون المعقول
الرابع الموجود ينقسم إلى قائم بنفسه وقائم بغيره
والقائم بنفسه هو المتحيز بالذات
والقائم بغيره هو المتحيز تبعا وهو أي الواجب تعالى قائم بنفسه فيكون متحيزا بذاته
والجواب منع التفسيرين فإن القائم بنفسه هو المستغني عن محل يقومه
وليس يلزم من هذا كونه متحيز بذاته والقائم بغيره هو المحتاج إلى ذلك المحل
ولا يلزم منه كونه متحيزا تبعا
وقد يقال في تقريره أي تقرير الوجه الرابع أجمعنا على أن له تعالى صفات قائمة بذاته
ومعنى القيام هو التحيز تبعا فيكون هو متحيزا أصالة
ويجاب بأن القيام هو الاختصاص الناعت كما مر
الخامس الاستدلال بالظواهر الموهمة بالتجسم من الآيات والأحاديث نحو قوله تعالى الرحمن على العرش استوى وجاء ربك والملك صفا صفا فإن استكبروا فالذين عند ربك إليه يصعد الكلم الطيب تعرج الملائكة والروح إليه هل

ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى وحديث النزول وهو أنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة
وفي رواية في كل ليلة جمعة فيقول هل من تائب فأتوب عليه
هل من مستغفر فأغفر له
وقوله الخرساء أين الله فأشارت إلى السماء فقرر ولم ينكر
وقال إنها مؤمنة
فالسؤال والتقرير المذكوران يشعران بالجهة والمكان
والجواب أنها ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات الدالة على نفي المكان والجهة
كيف ومهما تعارض دليلان وجب العمل بهما ما أمكن فتؤول الظواهر إما إجمالا ويفوض تفصيله إلى الله كما هو رأي من يقف على الله
وعليه أكثر السلف كما روي عن أحمد الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والبحث عنها بدعة
وأما تفصيلا كما هو رأي طائفة فنقول الاستواء الاستيلاء
نحو قوله قد استوى عمرو على العراق من غير سيف ودم مهراق
والعندية بمعنى الاصطفاء

والإكرام كما يقال فلان قريب من الملك
وجاء ربك أي أمره وإليه يصعد الكلم الطيب أي يرتضيه
فإن الكل عرض يمتنع عليه الانتفال
ومن في السماء أي حكمه أو سلطانه
أو ملك من ملائكته موكل بالعذاب للمستحقين وعليه فقس سائر الآيات والأحاديث
فالعروج إليه هو العروج إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات فيه
وإتيانه في ظل إتيان عذابه والدنو هو قرب الرسول إليه بالطاعة والتقدير بقاب قوسين تصوير للمعقول بالمحسوس والنزول محمول على اللطف والرحمة وترك ما يستدعيه عظم الشأن وعلو الرتبة على سبيل التمثيل
وخص بالليل لأنه مظنة الخلوات وأنواع الخضوع والعبادات
والسؤال بأين استكشاف عما ظن أنها معتقدة له من الأينية في الإلهية
فلما أشارت إلى السماء علم أنها ليست وثنية وحمل إشارتها على أنها أرادت كونه تعالى خالق السماء فحكم بإيمانها إلى غير ذلك من التأويلات التي ذكرها العلماء لهذه الآيات والأحاديث ونظائرها
فارجع إلى الكتب المبسوطة تظفر بها

المقصد الثاني
المتن في أنه تعالى ليس بجسم
وذهب بعض الجهال إلى أنه جسم
فالكرامية قالوا هو جسم
أي موجود
وقوم قالوا هو جسم
أي قائم بنفسه
فلا نزاع معهم إلا في التسمية
ومأخذها التوقيف
ولا توقيف
والمجسمة قالوا هو جسم حقيقة
فقيل من لحم ودم كمقاتل بن سليمان
وقيل نور يتلألأ كالسبيكة البيضاء
وطوله سبعة أشبار من شبر نفسه

ومنهم من يقول إنه على صورة إنسان
فقيل شاب أمرد جعد قطط
وقيل شيخ أشمط الرأس واللحية
تعالى الله عن قول المبطلين
والمعتمد في بطلانه أنه لو كان جسما لكان متحيزا
واللازم قد أبطلناه
وأيضا يلزم تركبه وحدوثه
وأيضا فإن كان جسما لاتصف بصفات الأجسام
إما كلها فيجتمع الضدان أو بعضها فيلزم الترجيح بلا مرجح أو الاحتياج
وأيضا فيكون متناهيا فيتخصص بمقدار وشكل
واختصاصه بهما دون سائر الأجسام يكون لمخصص
ويلزم الحاجة
وحجتهم ما تقدم والجواب الجواب
الشرح
المقصد الثاني في أنه تعالى ليس بجسم وهو مذهب أهل الحق
وذهب بعض الجهال إلى أنه جسم ثم اختلفوا فالكرامية أي بعضهم قالوا هو جسم
أي موجود
وقوم آخرون منهم قالوا هو جسم
أي قائم بنفسه
فلا نزاع معهم على التفسيرين إلا في التسمية أي إطلاق لفظ الجسم عليه ومأخذها التوقيف
ولا توقيف ههنا
والمجسمة قالوا هو جسم حقيقة
فقيل مركب من لحم ودم كمقاتل بن سليمان وغيره
وقيل هو نور يتلألأ كالسبيكة البيضاء
وطوله سبعة أشبار من شبر نفسه
ومنهم أي من المجسمة من يبالغ ويقول إنه على صورة إنسان
فقيل شاب أمرد جعد قطط أي شديد الجعودة
وقيل هو شيخ أشمط الرأس واللحية
تعالى الله عن قول المبطلين
والمعتمد في بطلانه أنه لو كان جسما لكان متحيزا
واللازم قد أبطلناه في المقصد الأول
وأيضا يلزم

تركبه وحدوثه لأن كل جسم كذلك
وأيضا فإن كان جسما لاتصف بصفات الأجسام
إما كلها فيجتمع الضدان أو بعضها فيلزم الترجيح بلا مرجح إذا لم يكن هنالك مرجح من خارج
وذلك الاستواء نسبة ذاته تعالى إلى تلك الصفات كلها أو الاحتياج أي احتياج ذاته في الاتصاف بذلك البعض إلى غيره
وأيضا فيكون متناهيا على تقدير كونه جسما فيتخصص لا محالة بمقدار معين وشكل مخصوص
واختصاصه بهما دون سائر الأجسام يكون بمخصص خارج عن ذاته لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح
ويلزم حينئذ الحاجة إلى الغير في الاتصاف بذلك الشكل والمقدار وحجتهم ما تقدم من أن كل موجود فهو إما متحيز أو حال في المتحيز كما تشهد به البديهة
والثاني مما لا يتصور في حقه تعالى
والأول هو الجسم
وأيضا كل قائم بنفسه جسم
وأيضا الآيات والأحاديث دالة على كونه جسما والجواب الجواب

المقصد الثالث
المتن
أنه تعالى ليس جوهرا ولا عرضا أما الجوهر أما عند المتكلم فلأنه المتحيز
وقد أبطلناه
وأما عند الحكيم فلأنه ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع
وذلك إنما يتصور فيما وجوده غير ماهيته
ووجود الواجب نفس ماهيته
وأما العرض فلاحتياجه إلى محله
الشرح
المقصد الثالث أنه تعالى ليس جوهرا ولا عرضا
أما الجوهر فنقول إنه مسلوب عنه تعالى فأما عند المتكلم فلأنه المتحيز بالذات وقد

أبطلناه
وأما عند الحكيم فلأنه ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع
وذلك إنما يتصور فيما وجوده غير ماهيته ووجود الواجب نفس ماهيته فلا يكون جوهرا عندهم أيضا
وأما العرض فلاحتياجه في وجوده إلى محله
والواجب تعالى مستغن عن جميع ما عداه

المقصد الرابع
المتن
أنه تعالى ليس في زمان
هذا ما اتفق عليه أرباب الملل
ولا نعرف فيه للعقلاء خلافا
أما عند الحكماء فلأن الزمان مقدار حركة المحدد فلا يتصور فيما لا تعلق له بالحركة والجهة وأما عندنا فلأنه متجدد يقدر به متجدد فلا يتصور في القديم
فأي تفسير فسر به امتنع ثبوته لله تعالى
تنبيه يعلم مما ذكرنا أنا سواء قلنا العالم حادث بالحدوث الزماني أو الذاتي فتقدم الباري سبحانه عليه ليس تقدما زمانيا
وأن بقاءه ليس عبارة عن وجوده في زمانين ولا القدم عبارة عن أن يكون قبل كل زمان زمان
وأنه يبسط العذر في ورود ما ورد من الكلام الأزلي بصيغة الماضي ولو في الأمور المستقبلة
وههنا أسرار أخر لا أبوح بها ثقة بفطنتك
الشرح
المقصد الرابع إنه تعالى ليس في زمان أي ليس وجوده وجودا زمانيا
ومعنى كون الوجود زمانيا أنه لا يمكن حصوله إلا في زمان
كما أن معنى كونه مكانيا أنه لا يمكن حصوله إلا في مكان هذا مما اتفق عليه أرباب الملل
ولا نعرف فيه للعقلاء خلافا
وإن كان مذهب المجسمة يجر إليه كما يجر إلى الجهة والمكان
أما عند الحكماء فلأن الزمان

عندهم مقدار حركة المحدد للجهات فلا يتصور فيما لا تعلق له بالحركة والجهة وتوضيحه أن التعين التدريجي زماني بمعنى أنه يتقدر بالزمان وينطبق عليه
ولا يتصور وجوده إلا فيه والتغير الدفعي متعلق بالآن الذي هو طرف الزمان
فما لا تغير فيه أصلا لا تعلق له بالزمان قطعا
نعم وجوده تعالى مقارن للزمان وحاصل مع حصوله
وأما أنه زماني أو آني أي واقع في أحدهما
فكلا
وأما عندنا فلأنه أي الزمان متجدد يقدر به متجدد
فلا يتصور في القديم
فأي تفسير فسر الزمان به امتنع ثبوته لله تعالى
تنبيه على ما يتضمنه هذا الأصل الذي مهدناه آنفا يعلم مما ذكرنا أنا سواء قلنا العالم حدثنا بالحدوث الزماني كما هو رأينا أو الذاتي كما هو رأي الحكيم فتقدم الباري سبحانه عليه لكونه موجدا إياه ليس تقدما زمانيا وإلا لزم كونه تعالى واقعا في الزمان
بل هو تقدم ذاتي عندهم
وقسم سادس عندنا كتقدم بعض أجزاء الزمان على بعضها ويعلم أيضا أن بقاءه ليس عبارة عن وجوده في زمانين وإلا كان تعالى زمانيا بل هو عبارة امتناع عدمه ومقارنته مع الأزمنة ولا القدم عبارة عن أن يكون قبل كل زمان زمان وإلا لم يتصف به الباري تعالى وأنه أي ما ذكرناه من أنه تعالى ليس زمانيا يبسط العذر في ورود ما ورد من الكلام الأزلي بصيغة الماضي
ولو في الأمور المستقبلة الواقعة فيما لا يزال كقوله تعالى إنا أرسلنا نوحا وذلك لأنه إذا لم يكن زمانيا لا بحسب ذاته ولا بحسب صفاته كان نسبة كلامه الأزلي إلى جميع الأزمنة على السوية
إلا أن حكمته

تعالى اقتضت التعبير عن بعض الأمور بصيغة الماضي وعن بعضها بصيغة المستقبل فسقط ما تمسك به المعتزلة في حدوث القرآن من أنه لو كان قديما لزم الكذب في أمثال ما ذكر
فإن الإرسال لم يكن واقعا قبل الأزل
وههنا أسرار أخر لا أبوح بها ثقة بفطنتك
منها إذا قلنا كان الله موجودا في الأزل وسيكون موجودا في الأبد
وهو موجود الآن لم نرد به أن وجوده واقع في تلك الأزمنة بل أردنا أنه مقارن معها من غير أن يتعلق بها كتعلق الزمانيات
ومنها أنه لو ثبت وجود مجردات عقلية لم تكن أيضا زمانية
ومنها أنه إذا لم يكن زمانيا لم يكن بالقياس إليه ماض وحال ومستقبل
فلا يلزم من علمه بالتغيرات تغير في علمه
إنما يلزم ذلك إذا دخل فيه الزمان

المقصد الخامس
المتن في أنه تعالى لا يتحد بغيره لما علمت فيما تقدم من امتناع اتحاد الإثنين مطلقا
وأنه تعالى لا يجوز أن يحل في غيره لأن الحلول هو الحصول على سبيل التبعية
وأنه ينفي الوجوب
وأيضا لو استغنى على المحل لذاته لم يحل فيه
وإلا احتاج إليه لذاته ولزم قدم المحل
وأيضا فإن المحل إن قبل الانقسام لزم انقسامه وتركبه واحتياجه إلى أجزائه
وإلا كان أحقر الأشياء
وأيضا فلو حل في جسم فذاته قابلة للحلول
والأجسام متساوية في القبول
وإنما التخصيص للفاعل المختار
فلا يمكن الجزم بعدم حلوله في البقة والنواة
وأنه ضروري البطلان
والخصم معترف به
وربما يحتج عليه بأن معنى حلوله في الغير كون تحيزه تبعا لتحيز المحل فيلزم كونه متحيزا وفي جهة
وقد أبطلناه
وقد عرفت ضعفه
كيف وأنه ينتقض بصفاته تعالى

تنبيه كما لا تحل ذاته في غيره لا تحل صفته في غيره لأن الانتقال لا يتصور على الصفات
وإنما هو من خواص الذوات لا مطلقا بل الأجسام
واعلم أن المخالف في هذين الأصلين طوائف
الأولى النصارى
وضبط مذهبهم
أنهم إما أن يقولوا باتحاد ذات الله بالمسيح أو حلول ذاته فيه أو حلول صفته فيه كل ذلك إما ببدنه أو بنفسه
وإما ألا يقولوا بشيء من ذلك
وحينئذ فإما أن يقولوا أعطاه الله قدرة على الخلق أو لا ولكن خصه الله تعالى بالمعجزات وسماه ابنا تشريفا كما سمى إبراهيم خليلا
فهذه ثمانية احتمالات كلها باطلة إلا الأخير
فالستة الأولى باطلة لما بينا والسابع لما سنبينه أن لا مؤثر إلا الله
وأما تفصيل مذهبهم فسنذكره في خاتمة الكتاب
الثانية النصيرية والإسحاقية من الشيعة
قالوا ظهور الروحاني

بالجسماني لا ينكر ففي طرف الشر كالشياطين
وفي طرف الخير كالملائكة
فلا يمتنع أن يظهر الله تعالى في صورة بعض الكاملين وأولى الخلق بذلك أشرفهم وأكملهم وهو العترة الطاهرة
وهو من يظهر فيه العلم التام والقدرة التامة من الأئمة
ولم يتحاشوا عن إطلاق الآلهة على أئمتهم
الثالثة بعض المتصوفة
وكلامهم مخبط بين الحلول والاتحاد
والضبط ما ذكرناه في قول النصارى
ورأيت من ينكره ويقول إذ كل ذلك يشعر بالغيرية
ونحن لا نقول بها
وهذا العذر أشد من الجزم
الشرح
المقصد الخامس في أنه تعالى لا يتحد بغيره لما علمت فيما تقدم أي في الموقف الثاني من امتناع اتحاد الإثنين مطلقا
وفي أنه تعالى لا يجوز أن يحل في غيره وذلك لأن الحلول هو الحصول على سبيل التبعية
وأنه ينفي الوجوب الذاتي وأيضا لو استغنى عن المحل لذاته لم يحل فيه إذ لا بد في الحلول من حاجة
ويستحيل أن يعرض للغني بالذات ما يحوجه إلى المحل
لأن ما بالذات ما يحوجه إلى المحل لأن ما بالذات لا يزول بالغير وإلا احتياج إليه أي إلى المحل لذاته فإن الاستغناء عدم الاحتياج
فلا واسطة بينهما
ولزم حينئذ مع حاجة الواجب قدم المحل فيلزم محالان معا
وأيضا إذا حل في شيء فإن المحل إن قبل الانقسام لزم انقسامه وتركبه واحتياجه إلى أجزائه وهو باطل
وإلا أي إن

لم يقبل الانقسام كالجوهر الفرد كان الواجب أحقر الأشياء لحلوله فيه
وأيضا فلو حل في جسم فذاته قابلة للحلول في الجسم والأجسام متساوية في القبول لتركبها من الجواهر الأفراد المتماثلة
وإنما التخصيص ببعض الأجسام دون بعض للفاعل المختار
فلا يمكن الجزم بعدم حلوله في البقة والنواة وأنه ضروري البطلان
والخصم معترف به
وربما يحتج عليه بأن معنى حلوله في الغير كون تحيزه تبعا لتحيز المحل فيلزم كونه متحيزا في جهة
وقد أبطلناه
وقد عرفت ضعفه لأن الحلول مفسر بالاختصاص الناعت دون التبعية في التحيز كيف وأنه ينتقض بصفاته تعالى فإنها قائمة بذاته ولا تحيز هناك
تنبيه كما لا تحل ذاته في غيره لا تحل صفته في غيره لأن الانتقال لا يتصور على الصفات
وإنما هو من خواص الذوات لا مطلقا بل الأجسام
واعلم أن المخالف في هذين الأصلين يعني عدم الاتحاد وعدم الحلول طوائف ثلاث
الأولى النصارى ولما كان كلامهم مخبطا
ولذلك اختلف في نقله أشار إلى ما يفي بالمقصود فقال وضبط مذهبهم أنهم إما أن يقولوا باتحاد ذات الله بالمسيح أو حلول ذاته فيه أو حلول صفته فيه
كل ذلك إما ببدنه أي بدن عيسى أو بنفسه
فهذه ستة
وإما أن لا يقولوا بشيء من ذلك
وحينئذ فإما أن يقولوا أعطاه الله قدرة على الخلق والإيجاد أو لا
ولكن خصه الله تعالى بالمعجزات
وسماه ابنا تشريفا وإكراما كما سمى إبراهيم خليلا
فهذه ثمانية احتمالات باطلة إلا الأخير
فالستة الأولى باطلة لما بينا من امتناع الاتحاد والحلول
والسابع باطل لما سنبينه أن لا مؤثر في الوجود إلا الله
وهذا كلام إجمالي
وأما تفصيل مذهبهم

فسنذكره في خاتمة الكتاب
كان في عزيمته أن يشير هناك إلى جميع الملل والنحل إشارة خفيفة لكنه بعد إتمام الكتاب رأى الاقتصاد على بيان الفرق الإسلامية أولى خوفا من الإملال
الطائفة الثانية النصيرية والإسحاقية من غلاة الشيعة قالوا ظهور الروحاني بالجسماني لا ينكر
ففي طرف الشر كالشياطين فإنه كثيرا ما يتصور الشيطان بصورة إنسان ليعلمه الشر ويكلمه بلسانه
وفي طرف الخير كالملائكة فإن جبريل كان يظهر بصورة دحية الكلبي والأعرابي فلا يمتنع حينئذ أن يظهره الله تعالى في صورة بعض الكاملين وأولى الخلق بذلك أشرفهم وأكملهم وهو العترة الطاهرة
وهو من يظهر فيه العلم التام والقدرة التامة من الأئمة من تلك العترة ولم يتحاشوا عن إطلاق الآلهة على أئمتهم وهذه ضلالة بينة
الطائفة الثالثة بعض المتصوفة
وكلامهم مخبط بين الحلول

والاتحاد والضبط ما ذكرناه في قول النصارى والكل باطل سوى أنه تعالى خص أولياءه بخوارق عادات كرامة لهم
ورأيت من الصوفية الوجودية من ينكره ويقول لا حلول ولا اتحاد إذ كل ذلك يشعر بالغيرية
ونحن لا نقول بها بل نقول ليس في دار الوجود غيره ديار
وهذا العذر أشد قبحا وبطلانا من ذلك الجزم إذ يلزم تلك المخالطة التي لا يجترىء على القول بها عاقل ولا مميز أدنى تمييز

المقصد السادس
المتن في أنه تعالى يمتنع أن يقوم بذاته حادث
ولا بد أولا من تحرير محل النزاع ليكون التوارد بالنفي والإثبات على شيء واحد فنقول الحادث الموجود بعد العدم
وأما ما لا وجود له وتجدد
ويقال له متجدد
ولا يقال له حادث فثلاثة
الأول الأحوال
ولم يجوز تجددها إلا أبو الحسين فإنه قال تتجدد العالمية فيه بتجدد المعلومات
الثاني الإضافات
ويجوز تجددها اتفاقا
الثالث السلوب
فما نسب إلى ما يستحيل اتصاف الباري تعالى به
امتنع تجدده
وإلا جاز
إذا عرفت هذا فقد اختلف في كونه تعالى محل الحوادث فمنعه الجمهور
وقال المجوس كل حادث قائم به
والكرامية بل كل حادث

يحتاج إليه في الإيجاد
فقيل هو الإرادة
وقيل كن واتفقوا أنه يسمى حادثا وما لا يقوم بذاته محدثا فرقا بينهما
لنا وجوه ثلاثة
الأول لو جاز قيام الحادث لجاز أزلا
واللازم باطل
أما الملازمة فلأن القابلية من لوازم الذات
وإلا لزم الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي وأيضا فتكون القابلية طارئة على الذات فتكون صفة زائدة
ويلزم التسلسل وإذا كانت من لوازم الذات امتنع انفكاكها عنها فتدوم بدوامها والذات أزلية
فكذا القابلية
وهي تقتضي جواز اتصاف الذات به أزلا إذ لا معنى للقابلية إلا جواز الاتصاف به
وأما بطلان اللازم فلأن القابلية نسبة تقتضي قابلا ومقبولا
وصحتها أزلا تستلزم صحة الطرفين أزلا
فيلزم صحة وجود الحادث أزلا
هذا خلف
الثاني صفاته تعالى صفات كمال فخلوه عنها نقص
الثالث أنه تعالى لا يتأثر عن غيره
ويمكن الجواب عن الأول بأن اللازم أزلية الصحة
والمحال صحة الأزلية
فأين أحدهما من الآخر إذ لو لزم لزم في وجود العالم وإيجاده
لا يقال القابلية ذاتية دون الفاعلية لأنا نقول الكلام في قابلية الفعل
وعن الثاني لم لا يجوز أن يكون ثمة صفات كمال متلاحقة لا يمكن بقاؤها
وكل لاحق منها مشروط بالسابق
فلا ينتقل عن الكمال الممكن له إلا إلى كمال آخر
ولا يلزم الخلو وأما الخلو عن كل واحد منها
فإما لامتناع بقائه
ولا نسلم امتناع الخلو عن مثله
وإما لأنه لو لم يخل عنه لم

يمكن حصول غيره
فيلزم فقد كمالات غير متناهية
فكان فقده لتحصيل كمالات غير متناهية هو الكمال بالحقيقة
وعن الثالث وهو أنك إن أردت بتأثره عن غيره حصول الصفة له بعد أن لم يكن فهو أول المسألة
وإن أردت أن هذه الصفة تحصل في ذاته من فاعل غيره فممنوع لجواز أن يكون مقتضى لذاته
إما على سبيل الإيجاب لما ذكرنا من الترتب
وإما على سبيل الاختيار فكما أوجد سائر المحدثات يوجد الحادث في ذاته
وربما يقال لو قام الحادث بذاته لم يخل عنه وعن ضده وضد الحادث حادث
وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
وهذا يبتني على أربع مقدمات
الأولى أن لكل صفة حادثة ضدا
الثانية ضد الحادث حادث
الثالثة الذات لا تخلو عن الشيء وضده
الرابعة ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
والثلاث الأول مشكلة
والرابعة إذا تمت تم الدليل الثاني
احتج الخصم بوجوه
الأول الاتفاق على أنه متكلم سميع بصير
ولا تتصور إلا بوجود المخاطب والمسموع والمبصر
وهي حادثة
قلنا تعلقه
وإنه إضافة
الثاني المصحح للقيام به إما كونه صفة فيعم أو مع وصف القدم وهو كونه غير مسبوق بالعدم
وأنه سلب لا يصلح جزءا للمؤثر

قلنا المصحح هو حقيقة الصفة القديمة
وهي مخالفة لحقيقة الصفة الحادثة بذاتها
الثالث أنه تعالى صار خالقا للعالم بعد ما لم يكن وعالما بأنه وجد بعد أن كان عالما بأنه سيوجد
قلنا التغير في الإضافات
قالت الكرامية أكثر العقلاء يوافقوننا فيه
وإن أنكروه باللسان
فإن الجبائية قالوا بإرادة وكراهة حادثتين لا في محل
لكن المريدية والكارهية حادثتان في ذاته
وكذا السامعية والمبصرية تحدث بحدوث المسموع والمبصر
وأبو الحسين يثبت علوما متجددة
والأشعرية يثبتون النسخ وهو إما رفع الحكم أو انتهاؤه
وهما عدم بعد الوجود
والفلاسفة أثبتوا الإضافات مع عروض المعية والقبلية
والجواب أن التغير في الإضافات كما تقدم في تحرير محل النزاع
والحكماء لا يثبتون كل إضافة فلا يرد عليهم الإلزام
تنبيه الصفات حقيقية محضة كالسواد والبياض وذات إضافة كالعلم والقدرة
وإضافية محضة كالمعية والقبلية
ولا يجوز التغير في الأول مطلقا
ويجوز في الثالث مطلقا
والثاني لا يجوز التغير فيه ويجوز في تعلقه

الشرح
المقصد السادس في أنه تعالى يمتنع أن يقوم بذاته حادث
ولا بد أولا أي قبل الشروع في الاحتجاج من تحرير محل النزاع ليكون التوارد بالنفي والإثبات من الجانبين على شيء واحد فنقول الحادث هو الموجود بعد العدم
وأما ما لا وجود له وتجدد
ويقال له متجدد ولا يقال له حادث وهو فثلاثة أقسام
الأول الأحوال
ولم يجوز تجددها في ذاته تعالى إلا أبو الحسين من المعتزلة فإنه قال تتجدد العالمية فيه بتجدد المعلومات هكذا ذكره الآمدي في أبكار الأفكار
وقال الإمام الرازي في نهاية العقول اختلفت المعتزلة في تجويز تجدد الأحوال مثل المدركية والسامعية المبصرية والمريدية والكارهية
وأما أبو الحسين فإنه أثبت تجدد العالميات في ذاته تعالى
الثاني الإضافات أي النسب ويجوز تجددها اتفاقا من العقلاء حتى يقال إنه تعالى موجود مع العالم بعد أن لم يكن معه
الثالث السلوب
فما نسب إلى ما يستحيل اتصاف الباري تعالى به امتنع تجدده كما في قولنا إنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض
فإن هذه سلوب يمتنع تجددها
وإلا جاز فإنه تعالى موجود مع كل حادث

ويزول عنه هذه المعية إذا عدم الحادث فقد تجدد له صفة سلب بعد أن لم تكن
إذا عرفت هذا الذي ذكرناه فقد اختلف في كونه تعالى محل الحوادث أي الأمور الموجودة بعد عدمها
فمنعه الجمهور من العقلاء من أرباب الملل وغيرهم
وقال المجوس كل حادث هو من صفات الكمال قائم به أي يجوز أن يقوم به الصفات الكمالية الحادثة مطلقا وقال الكرامية يجوز أن يقوم به الحادث لا مطلقا بل كل حادث يحتاج الباري تعالى إليه في الإيجاد أي في إيجاده للخلق ثم اختلفوا في ذلك الحادث فقيل هي الإرادة وقيل هو قوله كن فخلق هذا القول أو الإرادة في ذاته تعالى مستند إلى القدرة القديمة
وأما خلق باقي المخلوقات فمستند إلى الإرادة أو القول على اختلاف المذهبين
واتفقوا على أنه أي الحادث القائم بذاته يسمى حادثا
وما لا يقوم بذاته من الحوادث يسمى محدثا لا حادثا فرقا بينهما
لنا في إثبات هذا المدعى وجوه ثلاثة
الأول لو جاز قيام الحادث بذاته لجاز أزلا
واللازم باطل
الملازمة فلأن القابلية من لوازم الذات
وإلا لزم الإنقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي فإن القابلية إذا لم تكن لازمة بل عارضة كان الذات في حد نفسها قبل عروض القابلية لها ممتنعة القبول للحادث المقبول
وبعد عروضها ممكنة القبول له
فيلزم ذلك الانقلاب
ولو فرض زوال القابلية بعد ثبوتها لزم الانقلاب من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي
ولما لم يكن لنا

حاجة إلى هذا لم نتعرض له وأيضا فتكون القابلية على تقدير عدم لزومها
وثبوتها للذات أزلا طارئة على الذات فتكون صفة زائدة عليها عارضة لها
وحينئذ فلا بد للذات من قابلية لهذه القابلية
فإن كانت قابلية القابلية لازمة للذات فذاك
وإلا فهناك قابلية ثالثة
ويلزم التسلسل في القابليات المحصورة بين حاصرين
وهو محال
وإذا كانت القابلية من لوازم الذات امتنع انفكاكها عنها فتدوم القابلية بدوامها
والذات أزلية
فكذا القابلية
وهي أي أزلية القابلية تقتضي جواز اتصاف الذات به أي بالحادث أزلا
إذ لا معنى للقابلية إلا جواز الاتصاف به أي بالمقبول
وأما بطلان اللازم فلأن القابلية نسبة تقتضي قابلا ومقبولا
وصحتها أزلا تستلزم صحة الطرفين أزلا فيلزم صحة وجود الحادث أزلا
هذا خلف
الثاني من تلك الوجوه صفاته تعالى صفات الكمال
فخلوه عنها نقص
والنقص عليه محال إجماعا
فلا يكون شيء من صفاته حادثا
وإلا كان خاليا عنه قبل حدوثه
الثالث منها أنه
تعالى لا يتأثر عن غيره
ولو قام به حادث لكانت ذاته متأثرة عن الغير متغيرة به
ويمكن الجواب عن الوجه الأول بأن اللازم مما ذكرتموه من لزوم القابلية للذات هو أزلية الصحة أي أزلية صحة وجود الحادث
وهذا اللازم ليس بمحال
فإن صحة وجود الحادث أزلية بلا شبهة والمحال هو صحة الأزلية أي صحة أزلية وجود الحادث
وهذا ليس بلازم
لأن أزلية الإمكان تغاير إمكان الأزلية ولا تستلزمه كما في الحوادث اليومية على ما مر تحقيقه
فأين أحدهما من الآخر وأيضا ما ذكرتموه منقوض إذ لو لزم وصح لزم مثله في وجود العالم وإيجاده
فإنه تعالى موصوف في الأزل بصحة إيجاد العالم
فيصح في الأزل وجوده قطعا

فيصح أن يكون العالم أزليا وهو محال
فلو لزم من القابلية الأزلية إمكان أزلية الحادث للزم من الفاعلية الأزلية إمكان أزلية العالم
لا يقال القابلية صفة ذاتية لازمة للذات فيلزم إمكان أزلية المقبول دون الفاعلية فإنها صفة غير لازمة
فلا يلزم إمكان أزلية المفعول لأنا نقول الكلام في قابلية الفعل والتأثير
فإنها أزلية كما أشرنا إليه
فيلزم إمكان أزلية المفعول لا في الفاعلية الحاصلة بالفعل
ويمكن الجواب عن الوجه الثاني بأن يقال لم لا يجوز أن يكون ثمة صفات كمال متلاحقة غير متناهية لا يمكن بقاؤها واجتماعها
وكل لاحق منها مشروط بالسابق على قياس الحركات الفلكية عند الحكماء
فلا ينتقل حينئذ عن الكمال الممكن له إلا إلى كمال آخر يعاقبه ولا يلزم الخلو عن الكمال المشترك بين تلك الأمور المتلاحقة
وأما الخلو عن كل واحد منها فإما لامتناع بقائه
ولا نسلم امتناع الخلو عن مثله مما يمتنع بقاؤه
إنما الممتنع هو الخلو عن كمال يمكن بقاؤه
وأما لأنه لو لم يخل عنه لم يمكن حصول غيره فيلزم حينئذ فقد كمالات غير متناهية
فكان فقده أي فقد كل واحد منها لتحصيل كمالات غير متناهية هو الكمال بالحقيقة لا وجد أنه مع فقدان تلك الكمالات
إلا أن هذا التصوير ينافيه برهان التطبيق على رأي المتكلم كما سيشير إليه المصنف
ويمكن الجواب عن الوجه الثالث وهو أنك إن أردت بتأثره عن غيره حصول الصفة له بعد أن لم يكن فهو أول المسألة إذ لا معنى لقيام الحادث بذاته تعالى سوى هذا فيكون قولك إنه لا يتأثر عن غيره

عين مدعاك فيكون مصادرة على المطلوب
وإن أردت أن هذه الصفة الحادثة تحصيل في ذاته من فاعل غيره فممنوع إن ذلك لازم من قيام الصفة الحادثة به لجواز أن يكون حصوله في ذاته مقتضى لذاته
إما على سبيل الإيجاب لما ذكرنا من الترتب والتلاحق وإما على سبيل الاختيار
فكما أوجد سائر المحدثات في أوقات مخصوصة يوجد الحادث في ذاته
وربما يقال لو قام الحادث بذاته لم يخل عنه وعن ضده وضد الحادث حادث
وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث
وهذا الاستدلال يبتني على أربع مقدمات
الأولى أن لكل صفة حادثة ضدا
الثانية ضد الحادث حادث
الثالثة الذات لا تخلو عن الشيء ضده
الرابعة ما لا يخلو عن الحادث فهو حادث
والثلاث الأول من هذه المقدمات مشكلة
إذ لا دليل على صحتها
فلا يصح الاستدلال بها
والرابعة إذا تمت تم الدليل الثاني واندفع عنه حديث تلاحق الصفات
احتج الخصم بوجوه ثلاثة
الأول الاتفاق على أنه متكلم سميع بصير
ولا تتصور هذه الأمور إلا بوجود المخاطب والمسموع والمبصر
وهي حادثة
فوجب حدوث هذه الصفات القائمة بذاته تعالى
قلنا الحادث تعلقه أي تعلق ما ذكر من الصفات
وأنه أي ذلك التعلق إضافة من الإضافات فيجوز تجددها

وتغيرها
إذا الكلام عندنا معنى نفسي قديم قائم بذاته لا يتوقف على وجود المخاطب بل يتوقف عليه تعلقه
وكذا السمع والبصر والإرادة والكراهة
الثاني المصحح للقيام به إما كونه صفة فيعم هذا المصحح الحادث أو كونه صفة مع وصف القدم
وكونه غير مسبوق بالعدم وأنه سلب لا يصلح جزءا للمؤثر في الصحة فتعين الأول فيصح قيام الصفة الحادثة به
قلنا المصحح للقيام به هو حقيقة الصفة القديمة
وهي مخالفة لحقيقة الصفة الحادثة بذاتها
فلا يلزم اشتراك الصحة
الثالث أنه تعالى صار مخالفا للعالم بعد ما لم يكن
وصار عالما بأنه وجد بعد أن كان عالما بأنه سيوجد فقد حدث فيه صفة الخالقية وصفة العلم
قلنا التغير في الإضافات فإن العلم صفة حقيقة لها تعلق بالمعلوم يتغير ذلك التعلق بحسب تغيره
والخالقية من الصفات الإضافية أو من الحقيقية
والمتغير تعلقها بالمخلوق لا نفسها
وقالت الكرامية أكثر العقلاء يوافقوننا فيه أي في قيام الصفة الحادثة بذاته تعالى وإن أنكروه باللسان
فإن الجبائية قالوا بإرادة وكراهة حادثتين لا في محل
لكن المريدية والكارهية حادثتان في ذاته
وكذا السامعية والمبصرية تحدث بحدوث المسموع والمبصر
وأبو الحسين يثبت علوما متجددة
والأشعرية يثبتون النسخ
وهو إما رفع الحكم القائم بذاته أو انتهاؤه
وهما عدم بعد الوجود فيكونان حادثين
والفلاسفة أثبتوا الإضافات أي قالوا بوجودها في الخارج مع عروض المعية والقبلية المتجددتين لذاته تعالى كما مر
فقد ذهبوا أيضا إلى قيام الحوادث به
والجواب أن التغير في الإضافات وهو جائز كما تقدم في تحرير محل النزاع فمراد الأشعرية أن تعلق الحكم به ينتهي أو يرتفع
وكذا مراد

أبي الحسين والجبائية هو أن تعلق العلم والمريدية والكارهية يتجدد
أو نقول هؤلاء ذهبوا إلى تجدد الأحوال في ذاته كما نبهت عليه
والحكماء لا يثبتون كل إضافة
فلا يرد عليهم الإلزام بالمعية والقبلية ونظائرهما
فإنها إضافات لا وجود لها
تنبيه على ضابط ينتفع به في دفع ما تمسك به الخصم الصفات على ثلاثة أقسام حقيقية محضة كالسواد والبياض والوجود والحياة
وحقيقة ذات إضافة كالعلم والقدرة
وإضافية محضة كالمعية والقبلية وفي عددها الصفات السلبية
ولا يجوز بالنسبة إلى ذاته تعالى التغير في القسم الأول مطلقا
ويجوز في القسم الثالث مطلقا
وأما القسم الثاني فإنه لا يجوز التغير فيه نفسه ويجوز في تعلقه

المقصد السابع
المتن اتفق العقلاء على أنه تعالى لا يتصف بشيء من الأعراض المحسوسة كالطعم واللون والرائحة والألم
وكذا اللذة الحسية
وأما اللذة العقلية فنفاها المليون
وأثبتها الفلاسفة
قالوا اللذة إدراك الملائم
فمن أدرك كمالا في ذاته التذ به
وذلك ضروري
ثم إن كماله تعالى أجل الكمالات
وإدراكه أقوى الإدراكات فوجب أن تكون لذته أقوى اللذات
والجواب لا نسلم أن اللذة نفس الإدراك كما مر
وإذا كان سببا

للذة فقد لا تكون ذاته قابلة للذة
ووجود السبب لا يكفي دون وجود القابل
وإن سلم فلم قلت إن إدراكنا مماثل لإدراكه بالحقيقة
الشرح
المقصد السابع اتفق العقلاء على أنه تعالى لا يتصف بشيء من الأعراض المحسوسة بالحس الظاهر أو الباطن كالطعم واللون والرائحة والألم مطلقا
وكذا اللذة الحسية وسائر الكيفيات النفسانية من الحقد والحزن والخوف ونظائرها
فإنها كلها تابعة للمزاج المستلزم للتركيب المنافي للوجوب الذاتي
وأما اللذة العقلية فنفاها المليون وأثبتها الفلاسفة
قالوا اللذة إدراك الملائم
فمن أدرك كمالا في ذاته التذ به
وذلك ضروري يشهد به الوجدان ثم إن كماله تعالى أجل الكمالات وإدراكه أقوى الإدراكات فوجب أن تكون لذاته أقوى اللذات
ولذلك قالوا أجل مبتهج هو المبدأ الأول بذاته تعالى
والجواب لا نسلم أن اللذة نفس الإدراك كما مر
وإذا كان سببا للذة فقد لا تكون ذاته قابلة للذة
ووجود السبب لا يكفي لوجود المسبب دون وجود القابل
وإن سلم قبول ذاته لها فلم قلت إن إدراكنا مماثل لإدراكه في الحقيقة حتى يكون هو أيضا سببا للذة كإدراكنا
ولو قدم هذا السؤال الثالث على الثاني لكان له وجه وجيه كما لا يخفى على ذي فطرة سليمة

المرصد الثالث في توحيده تعالى
المتن وهو مقصد واحد
وهو أنه يمتنع وجود إلهين
أما الحكماء فقالوا يمتنع وجود موجودين كل واحد منهما واجب لذاته لوجهين
الأول لو وجد واجبان
وقد تقدم أن الوجوب نفس الماهية
لتمايزا بتعين لامتناع الإثنينية بدون الامتياز بالتعين
فيلزم تركبهما
وأنه محال وهو مبني على أن الوجوب وجودي
فإن صح لهم ذلك تم الدست ولم يمكن منع كون الوجوب على تقدير ثبوته نفس الماهية وكون التعين أمرا ثبوتيا إذ قد فرغنا عنهما
الثاني الوجوب هو المقتضي للتعين فيمتنع التعدد
أما الأول فإذ لولاه فإما أن يستلزم التعين لوجوب فيلزم تأخره ويلزم الدور
أو لا يستلزم فيجوز الانفكاك بينهما فيجوز الوجوب بلا تعين وأنه محال
والتعين بلا وجوب فلا يكون واجبا لذاته
وهو أيضا بناء على كون الوجوب ثبوتيا
وأما الثاني فلما علمت أن الماهية المقتضية لتعينها ينحصر نوعها في شخص
وأما المتكلمون فقالوا يمتنع وجود إلهين مستجمعين لشرائط الإلهية لوجهين

الأول لو وجد إلهان قادران لكان نسبة المقدورات إليهما سواء إذ المقتضي للقدرة ذاتهما وللمقدورية الإمكان فتستوي النسبة
فإذا يلزم وقوع هذا المقدور المعين إما بهما وأنه باطل لما بينا من امتناع مقدور بين قادرين وإما بأحدهما ويلزم الترجيح بلا مرجح
الثاني إذا أراد أحدهما شيئا فإما أن يمكن من الآخر إرادة ضده أو يمتنع
وكلاهما محال
أما الأول فلأنا نفرض وقوع إرادته له لأن الممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال فيلزم إما وقوعهما معا فيلزم اجتماع الضدين
وإما لا وقوعهما فيلزم ارتفاعهما فيلزم عجزهما
وأيضا فإذا فرض في ضدين لا يرتفعان كحركة جسم وسكونه لزم المحال
وأما وقوع أحدهما دون الآخر فالذي لا يقع مراده لا يكون قادرا
وأما الثاني فلأن ذلك الشيء لذاته يمكن تعلق قدرة كل من الإلهين وإرادته به
فالذي امتنع تعلق قدرته به فالمانع عنه هو تعلق قدرة الآخر فيكون هذا عاجزا
هذا خلف
واعلم أنه لا مخالف في هذه المسألة إلا الثنوية فإنهم قالوا نجد في العالم خيرا كثيرا وشرا كثيرا
وأن الواحد لا يكون خيرا شريرا بالضرورة
فلكل فاعل
والجواب منع قولهم الواحد لا يكون خيرا شريرا
اللهم إلا أن يراد بالخير من يغلب خيره وبالشرير من يغلب شره كما ينبىء عنه ظاهر اللغة

لكنه غير ما لزم فلا يفيد إبطاله
ثم بعد يقال لهم الخير إن قدر على دفع شر الشرير ولم يفعله فهو شرير
وإن لم يقدر عليه فهو عاجز
فتعارض خطابتهم بخطابة أحسن من ذلك مآلا وأكثر إقناعا
الشرح
المرصد الثالث في توحيده تعالى
أفرده عن سائر التنزيهات اهتماما بشأنه وهو مقصد واحد
وهو أنه يمتنع وجود إلهين
أما الحكماء فقالوا يمتنع وجود موجودين كل واحد منهما واجب لذاته وذلك لوجهين
الأول لو وجد واجبان
وقد تقدم أن الوجوب نفس الماهية لتمايزا بتعين لامتناع الإثنينية مع التشارك في تمام الماهية بدون الامتياز بالتعين الداخل في هوية كل من ذينك المتشاركين فيلزم تركبهما أي تركب هوية كل منهما من الماهية المشتركة والتعين المميز
وأنه محال إذ يلزم أن لا يكون شيء منهما واجبا والمقدر خلافه
وهو أي هذا الوجه مبني على أن الوجوب وجودي إذ حينئذ يكون نفس الماهية
فإن صح لهم ذلك تم الدست وهو فارسي معرب بمعنى اليد
يطلق على التمكن في المناصب والصدارة
أي تم استدلالهم على هذا المطلب الجليل وحصل لهم مقصودهم الذي راموه
ولم يمكن منع كون الوجوب على تقدير ثبوته نفس الماهية
ولا منع كون التعين أمرا ثبوتيا كيلا يلزم التركيب حينئذ
وإنما لم يمكن منعهما إذ قد فرغنا عنهما أي عن هاتين المقدمتين وإثباتهما فيما تقدم
الثاني من الوجهين الوجوب الذي هو نفس ماهية الواجب هو المقتضي للتعين الذي ينضم إليه فيمتنع التعدد حينئذ في الواجب

أما الأول وهو أن الوجوب هو المقتضي للتعين فإذ لولاه فإما أن يستلزم ويقتضي التعين الوجوب فيلزم تأخره أي تأخر الوجوب عن التعين ضرورة تأخر المعلول عن علته ويلزم الدور لأن الوجوب الذاتي الذي هو عين الذات يجب أن يكون متقدما على ما عداه علة له أو لا يستلزم ولا يقتضي شيء منهما الآخر فيجوز حينئذ الانفكاك بينهما لاستحالة أن يكون هناك أمر ثالث مقتضيا لهما معا حتى يتلازما لأجله فيجوز الوجوب بلا تعين
وأنه محال إذ يستحيل أن يوجد شيء بلا تعين ويجوز التعين بلا وجوب
فلا يكون ذلك التعين الموجود واجبا لذاته لامتناع الواجب بدون الوجوب
وهذا أيضا بناء على كون الوجوب ثبوتيا ليتحقق كونه نفس الماهية
وأما الثاني وهو أن الوجوب إذا كان هو المقتضي للتعين امتنع التعدد فلما علمت أن الماهية المقتضية لتعينها ينحصر نوعها في شخص واحد
ولذلك لم يتعرض له
وأما المتكلمون فقالوا يمتنع وجود إلهين مستجمعين لشرائط الألوهية لوجهين
الأول لو وجد إلهان قادران على الكمال لكان نسبة المقدورات إليهما سواء
إذ المقتضي للقدرة ذاتهما
وللمقدورية الإمكان لأن الوجوب والامتناع يحيلان المقدورية فتستوي النسبة بين كل مقدور وبينهما فإذا يلزم وقوع هذا المقدور المعين إما بهما وأنه باطل لما بينا من امتناع مقدور بين قادرين
وإما بأحدهما
ويلزم الترجيح بلا مرجح
فلو تعددت الآلهة لم يوجد شيء من الممكنات لاستلزامه أحد المحالين إما وقوع مقدور بين قادرين وإما الترجيح بلا مرجح

الثاني من الوجهين إذا أراد أحدهما شيئا فإما أن يمكن من الآخر إرادة ضده أو يمتنع وكلاهما محال
أما الأول فلأنا نفرض وقوع إرادته له لأن الممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال
فيلزم إما وقوعهما معا فيلزم اجتماع الضدين
وإما لا وقوعهما فيلزم ارتفاعهما فيلزم عجزهما لعدم حصول مرادهما
وأيضا يلزم اجتماعهما لأن المانع من وقوع مراد كل منهما هو حصول مراد الآخر لا قادريته عليه
فإذا امتنع مراد كل منهما فقد حصل مرادهما معا
هذا خلف وأيضا فإذا فرض ما ذكرناه في ضدين لا يرتفعان كحركة جسم وسكونه لزم المحال وهو ارتفاعهما معا
وأما وقوع أحدهما دون الآخر فالذي لا يقع مراده لا يكون قادرا كاملا فلا يكون إلها
وأما الثاني وهو أن يمتنع إرادة الآخر ضده فلأن ذلك الشيء الذي امتنع تعلق إرادة الآخر به هو لذاته يمكن تعلق قدرة كل من الإلهين وإرادته به
فالذي امتنع تعلق قدرته وإرادته به فالمانع عنه هو تعلق قدرة الآخر وإرادته فيكون هذا عاجزا
فلا يكون إلها
هذا خلف
لأنه خلاف المقدر
وقد مر أنه يمكن إثبات الوحدانية بالدلائل النقلية لعدم توقف صحتها على التوحيد
واعلم أنه لا مخالف في هذه المسألة إلا الثنوية دون الوثنية
فإنهم لا يقولون بوجود إلهين واجبي الوجود
ولا يصفون الأوثان بصفات الإلهية وإن أطلقوا عليها اسم الآلهة بل اتخذوها على أنها تماثيل الأنبياء أو الزهاد أو الملائكة أو الكواكب
واشتغلوا بتعظيمها على وجه العبادة توصلا بها إلى ما هو إله حقيقة
وأما الثنوية فإنهم قالوا نجد في العالم خيرا كثيرا وشرا كثيرا
وأن الواحد لا يكون خيرا شريرا بالضرورة
فلكل منهما فاعل على

حدة
فالمانوية والديصانية من الثنوية قالوا فاعل الخير هو النور
وفاعل الشر هو الظلمة
وفساده ظاهر لأنهما عرضان فيلزم قدم الجسم وكون الإله محتاجا إليه
وكأنهم أرادوا معنى آخر سوى المتعارف فإنهم قالوا النور حي عالم قادر سميع بصير
والمجوس منهم ذهبوا إلى أن فاعل الخير هو يزدان وفاعل الشر هو اهرمن
ويعنون به الشيطان
والجواب منع قولهم الواحد لا يكون خيرا شريرا بمعنى أنه يوجد خير كثير وشر كثير
اللهم إلا أن يراد بالخير من يغلب خيره على شره وبالشرير من يغلب شره على خيره كما ينبىء عنه ظاهر اللغة فلا يجتمعان حينئذ في واحد لكنه غير ما لزم مما ذكر بل اللازم منه هو المعنى الذي أشرنا إليه
فلا يفيد إبطاله أي إبطال ما ليس بلازم ثم بعد هذا المنع والتنزل عنه يقال لهم الخير إن قدر على دفع شر الشرير ولم يفعله فهو شرير
وإن لم يقدر عليه فهو عاجز عن بعض الممكنات فلا يصلح إلها
فلا يوجد إلهان كما ذكرتم فنعارض خطابتهم بخطابة أحسن من ذلك مآلا وأكثر إقناعا

المرصد الرابع في الصفات الوجودية
وفيه مقاصد
المقصد الأول في إثبات الصفات على وجه عام
المتن ذهب الأشاعرة إلى أن له صفات زائدة
فهو عالم بعلم قادر بقدرة مريد بإرادة
وعلى هذا
وذهب الفلاسفة والشيعة إلى نفيها مع خلاف للشيعة في إطلاق الأسماء الحسنى عليه
والمعتزلة لهم تفصيل يأتي في كل مسألة

احتج الأشاعرة بوجوه
الأول ما اعتمد عليه القدماء
وهو قياس الغائب على الشاهد
فإن العلة والحد والشرط لا يختلف غائبا وشاهدا
وقد عرفت ضعفه
كيف والخصم قائل باختلاف مقتضى الصفات شاهدا وغائبا وقد يمتنع ثبوتها في الشاهد بل الثابت فيه العالمية والقادرية والمريدية
الثاني لو كان مفهوم كونه عالما حيا قادرا نفس ذاته لم يفد حملها على ذاته وكان قولنا الله الواجب بمثابة حمل الشيء على نفسه
واللازم باطل
وفيه نظر
فإنه لا يفيد إلا زيادة هذا المفهوم على مفهوم الذات
وأما زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا
نعم لو تصورا بحقيقتهما وأمكن حمل أحدهما دون الآخر حصل المطلوب
ولكن أنى ذلك
الثالث لو كان العلم نفس الذات والقدرة نفس الذات لكان العلم نفس القدرة فكان المفهوم من العلم والقدرة واحدا وأنه ضروري البطلان
وهذا من النمط الأول
والإيراد هو الإيراد
احتج الحكماء بأنه لو كان له صفة زائدة لكان فاعلا لاستناد جميع الممكنات إليه وقابلا لها
وقد تقدم بطلانه
والجواب لا نسلم بطلانه
وقد تقدم الكلام عليه
واحتج المعتزلة بوجوه
الأول ما مر أن إثبات القدماء كفر
وبه كفرت النصارى
والجواب ما مر من أن الكفر إثبات ذوات قديمة لا ذات وصفات
الثاني عالميته وقادريته واجبة فلا تحتاج إلى الغير
والجواب أن العالمية عندنا ليست أمرا وراء قيام العلم به
فيحكم عليها بأنها واجبة
وإن سلم فالمراد لوجوبها إن كان امتناع خلو الذات عنها

فذلك لا يمنع استنادها إلى صفة أخرى واجبة
فإنه نفس المتنازع فيه
وإن أردتم أنها واجبة لذاتها فبطلانه ظاهر
الثالث صفته صفة كمال
فيلزم أن يكون ناقصا لذاته مستكملا بغيره
وهو باطل اتفاقا
والجواب إن أردتم باستكماله بالغير ثبوت صفة الكمال فهو جائز عندنا
وهو المتنازع فيه
وإن أردتم غيره فصوروه ثم بينوا لزومه
الشرح
المرصد الرابع في الصفات الوجودية
وفيه مقاصد ثمانية
المقصد الأول في إثبات الصفات لله تعالى
على وجه عام لا يختص بصفة دون أخرى
ذهبت الأشاعرة ومن تأسى بهم إلى أن له تعالى صفات موجودة قديمة زائدة على ذاته فهو عالم بعلم قادر بقدرة مريد بإرادة
وعلى هذا القياس فهو سميع يسمع بصير يبصر
حي بحياة وذهبت الفلاسفة والشيعة إلى نفيها أي نفي الصفات الزائدة على الذات فقالوا هو عالم بالذات وقادر بالذات
وكذا سائر الصفات
مع خلاف للشيعة في إطلاق الأسماء الحسنى عليه فمنهم من لم يطلق شيئا منها عليه
ومنهم من لم يجوز خلوه عنها
والمعتزلة لهم في الصفات تفصيل يأتي في كل مسألة مسألة من مباحثها احتجت الأشاعرة على ما ذهبوا إليه بوجوه ثلاثة

الأول ما اعتمد عليه القدماء من الأشاعرة وهو قياس الغائب على الشاهد فإن العلة واحدة والشرط لا يختلف غائبا وشاهدا
ولا شك أن علة كون الشيء عالما في الشاهد هو العلم فكذا في الغائب
وحد العالم ههنا من قام به العلم
فكذا حده هناك وشرط صدق المشتق على واحد منا ثبوت أصله له
فكذا شرطه فيمن غاب عنا وقس على ذلك سائر الصفات
وقد عرفت ضعفه في المرصد الأخير من الموقف الأول
كيف والخصم أي القائس كما وقع في كلام الآمدي قائل ومعترف باختلاف مقتضى الصفات شاهدا وغائبا فإن القدرة في الشاهد لا يتصور فيها الإيجاد بخلافها في الغائب
والإرادة فيه لا تخصص بخلاف إرادة الغائب
وكذا الحال في باقي الصفات
فإذا وجد في أحدهما لم يوجد في الآخر فلا يصح القياس أصلا
كيف وقد يمنع ثبوتها أي ثبوت العلم والقدرة والإرادة ونظائرها في الشاهد بل الثابت فيه بيقين هو العالمية والقادرية والمريدية لا ما هي مشتقة منها فيضمحل القياس بالكلية
الوجه الثاني لو كان مفهوم كونه عالما حيا قادرا نفس ذاته لم يفد حملها على ذاته وكان قولنا على طريقة الإخبار الله الواجب أو العالم أو القادر أو الحي إلى سائر الصفات بمثابة حمل الشيء على نفسه
واللازم باطل لأن حمل هذه الصفات يفيد فائدة صحيحة بخلاف قولنا ذاته ذاته
وإذا بطل كونها نفسه
ولا مجال للجزئية قطعا تعينت الزيادة على الذات
وفيه نظر
فإنه لا يفيد إلا زيادة هذا المفهوم أعني مفهوم العالم والقادر ونظائرهما على مفهوم الذات ولا نزاع في ذلك
وأما زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا يفيده هذا الدليل
نعم

لو تصورا أي مفهوما الوصف والذات معا بحقيقتهما وأمكن حمل أحدهما أي الوصف على الذات دون حمل الآخر أي الذات عليها حصل المطلوب وهو زيادة الوصف على الذات
ولكن أنى ذلك التصور الواصل إلى كنه حقيقتهما
الوجه الثالث لو كان العلم نفس الذات والقدرة أيضا نفس الذات كما زعموه لكان العلم نفس القدرة فكان المفهوم من العلم والقدرة أمرا واحدا
وأنه ضروري البطلان وكذا الحال في باقي الصفات التي ادعى أنها عين الذات
وهذا الوجه من النمط الأول أي الوجه السابق عليه
والإيراد هو الإيراد يعني أنه يدل على تغاير مفهومي العلم والقدرة ومغايرتهما للذات لا على تغاير حقيقتهما ومغايرتهما لها
والمتنازع فيه هو الثاني دون الأول
فمنشأ هذين الوجهين عدم الفرق بين مفهوم الشيء وحقيقته
فإن قلت كيف يتصور كون صفة الشيء عين حقيقته مع أن كل واحد من الموصوف والصفة يشهد بمغايرته لصاحبه وهل هذا إلا كلام مخيل لا يمكن أن يصدق به كما في سائر القضايا المخيلة التي يمتنع التصديق بها فلا حاجة بنا إلى الاستدلال على بطلانه
قلت ليس معنى ما ذكروه أن هناك ذاتا وله صفة
وهما متحدان حقيقة كما تخيلته بل معناه أن ذاته تعالى يترتب عليه ما يترتب على ذات وصفه معا
مثلا ذاتك ليست كافية في انكشاف الأشياء عليك بل تحتاج في ذلك إلى صفة العلم التي تقوم بك بخلاف ذاته تعالى فإنه لا يحتاج في انكشاف الأشياء وظهورها عليه إلى صفة تقوم به بل المفهومات

بأسرها منكشفة عليه لأجل ذاته تعالى
فذاته بهذا الاعتبار حقيقة العلم وكذا الحال في القدرة
فإن ذاته تعالى مؤثرة بذاتها لا بصفة زائدة عليها كما في ذواتنا فهي بهذا الاعتبار حقيقة القدرة وعلى هذا تكون الذات والصفات متحدة في الحقيقة متغايرة بالاعتبار والمفهوم ومرجعه إذا حقق إلى نفي الصفات مع حصول نتائجها وثمراتها من الذات وحدها
احتج الحكماء بأنه لو كان له صفة زائدة على ذاته لكان هو فاعلا لتلك الصفة لاستناد جميع الممكنات إليه وقابلا لها أيضا لقيامها بذاته وقد تقدم بطلانه
والجواب لا نسلم بطلانه
وقد تقدم الكلام عليه واحتجت المعتزلة والشيعة بوجوه ثلاثة
الأول ما مر من أن إثبات القدماء كفروا به كفرت النصارى
والجواب ما مر أيضا من أن الكفر إثبات ذوات قديمة لا إثبات ذات واحدة وصفات قدماء
الثاني عالميته وقادريته واجبة فلا تحتاج إلى الغير
والجواب أن العالمية عندنا يعني نفاة الأحوال ليست أمرا وراء قيام العلم به فيحكم بالنصب على جواب النفي عليها بأنها واجبة والحاصل أن العلم صفة قائمة بذاته تعالى وليس هناك صفة أخرى تسمى عالمية حتى يصح الحكم عليها بأنها واجبة فلا تكون محتاجة معللة بالعلم
وإن سلم ثبوت العالمية فالمراد بوجوبها إن كان امتناع خلو الذات عنها فلذلك لا يمنع استنادها إلى صفة أخرى واجبة أيضا بهذا المعنى أعني صفة العلم
فإنه نفس المتنازع فيه بيننا إذ نحن نجوزه
وأنتم لا تجوزونه
وإن

أردتم أنها أي العالمية واجبة لذاتها فبطلانه ظاهر فإن الصفة في حد ذاتها محتاجة إلى موصوفها فيمتنع اتصافها بالوجوب الذاتي
الثالث صفته تعالى صفة كمال فيلزم على تقدير قيام صفة زائدة به أن يكون هو ناقصا لذاته مستكملا بغيره الذي هو تلك الصفة
وهو باطل اتفاقا
والجواب إن أردتم استكماله بالغير ثبوت صفة الكمال الزائدة على ذاته لذاته فهو جائز عندنا
وهو المتنازع فيه وإن أردتم به غيره أي غير المعنى الذي ذكرناه فصوروه أولا حتى نفهمه ثم بينوا لزومه لما ادعيناه
وملخصه أن المحال هو استفادته صفة كمال من غيره لا إتصافه لذاته بصفة كمال هي غيره
واللازم من مذهبنا هو الثاني دون الأول
لكن يتجه أن يقال تأثيره تعالى في صفة القدرة مثلا إن كان بقدرة واختيار لزم محذور أن التسلسل في صفاته وحدوثها
وإن كان بإيجاب لزم كونه تعالى موجبا بالذات فلا يكون الإيجاب نقصانا فجاز أن يتصف به بالقياس إلى بعض مصنوعاته
ودعوى أن إيجاب الصفات كمال وإيجاب غيرها نقصان مشكلة

المقصد الثاني في قدرته
المتن وفيه بحثان
البحث الأول في أنه تعالى قادر
وإلا لزم أحد الأمور الأربعة
إما نفي الحادث أو عدم استناده إلى المؤثر أو التسلسل أو تخلف الأثر عن المؤثر

وبطلان اللوازم دليل بطلان الملزوم
بيان الملازمة أنه إما أن لا يوجد حادث أو يوجد
فإن لم يوجد فهو الأمر الأول وإن وجد فإما ألا يستند إلى مؤثر أو يستند
فإن لم يستند فهو الثاني وإن استند فإما ألا ينتهي إلى قديم أو ينتهي
فإن لم ينته فهو الثالث
وإن انتهى فلا بد من قديم يوجب حادثا بلا واسطة دفعا للتسلسل فيلزم الرابع
وإن شئت قلت لو كان الباري تعالى موجبا بالذات لزم قدم الحادث والتالي باطل وبيان الملازمة لو حدث لتوقف على شرط حادث وتسلسل واعلم أن هذا الاستدلال إنما يتم بأحد طريقين
الأول أن يبين حدوث ما سوى الله تعالى وأنه لا يجوز قيام حوادث متعاقبة لا نهاية لها بذاته
الثاني أن يبين في الحادث اليومي أنه لا يستند إلى حادث مسبوق بآخر لا إلى نهاية محفوظا بحركة دائمة
وأنت بعد إحاطتك بما تقدم خليق بأن يسهل عليك ذلك
احتج الحكماء بوجوه
الأول تعلق القدرة بأحد الضدين إما لذاتها فيستغني الممكن عن المرجح وأنه يسد باب إثبات الصانع وأيضا يلزم قدم الأثر
وإما لا لذاتها فيحتاج إلى مرجح
ويلزم التسلسل
والجواب أن تعلقها إنما هو بذاتها كما بينا في طريقي الهارب وقدحي العطشان قولكم فيستغني الممكن عن المرجح
قلنا لا يلزم من

ترجيح القادر لأحد مقدوريه بلا مرجح ترجح أحد طرفي الممكن في حد ذاته من غير المرجح
وبالجملة فالترجيح بلا مرجح
أي بلا داعية
غير الترجيح بلا مرجح
أي بلا مؤثر أصلا
مغايرة ظاهرة ولا يلزم من صحته صحته
وربما يقال الفعل مع الداعي أولى بالوقوع
ولا ينتهي إلى الوجوب وقد عرفت ضعفه
قولكم يلزم قدم الأثر
قلنا ممنوع
وإنما يلزم في الموجب الذي إذا اقتضى شيئا لذاته اقتضاه دائما إذ نسبته إلى الأزمنة سواء
وأما القادر فيجوز أن تتعلق قدرته بالإيجاد في ذلك الوقت دون غيره
فإن قيل إذا كانت قدرته متعلقة بهذا الطرف في الأزل فأي فرق بين الموجب والمختار
قلت أنه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلق قدرته يستوي إليه الطرفان
ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلق القدرة والإرادة به لا وجوب ذاتي
ولا يمتنع عقلا تعلق قدرته بالفعل بدلا من الترك
وبالعكس فإن قيل القدرة نسبتها إلى الوجود والعدم سواء والعدم غير مقدور لأنه لا يصلح أثرا
قلنا لا نسلم أن العدم غير مقدور وأنه لا يصلح أثرا
وإن سلمناه فالقادر من إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل لا إن شاء فعل العدم
فروع على إثبات القدرة عندنا
الأول القدرة قديمة
وإلا كانت واقعة بالقدرة لما مر ولزم التسلسل
الثاني إنها صفة واحدة
وإلا لاستندت إلى الذات إما بالقدرة أو بالإيجاب
وكلاهما باطل
أما الأول فلأن القديم لا يستند إلى القدرة
وأما الثاني فلأن نسبة الموجب إلى جميع الأعداء سواء
فليس صدور البعض عنه أولى من صدور البعض
فلو تعددت لزم ثبوت قدر غير متناهية
وهذا مصير إلى أن الواحد الموجب لا يصدر عنه إلا الواحد

الثالث قدرته تعالى غير متناهية
أما ذاتا فلأن التناهي من خواص الكم
ولا كم ثمة
وأما تعلقا فمعناه أن تعلقها لا يقف عند حد لا يمكن تعلقها بغيره
وإن كان كل ما تتعلق به بالفعل متناهيا فتعلقاتها متناهية بالفعل غير متناهية بالقوة
وهذه الأحكام مطردة في الصفات كلها فلا نكررها
تنبيه القدرة صفة زائدة لما بينا
وقد يحتج المعتزلة على نفيه بوجهين
الأول القدرة في الشاهد مشتركة في عدم صلاحيتها لخلق الأجسام والحكم المشترك يجب تعليله بالعلة المشتركة
ولا مشترك سوى كونها قدرة
فلو كان لله تعالى قدرة لم تصلح لخلق الأجسام
والجواب أن التعليل بالعلل المختلفة جائز عندكم وهو الحق لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد ثم لم لا يجوز اشتراك القدر الحادثة في صفة غير موجودة في القدرة القديمة وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود
الثاني القدر في الشاهد مختلفة
ففي الغائب إن كانت مثلها لم تصلح لخلق الأجسام
وإلا لم يكن مخالفتها لها أشد من مخالفة بعضها لبعض فلم تصلح لذلك

والجواب منع أن مخالفتها للقدرة الحادثة ليست أشد من مخالفة بعضها لبعض
البحث الثاني في أن قدرته تعالى تعم سائر الممكنات
والدليل عليه أن المقتضي للقدرة الذات والمصحح للمقدورية الإمكان
ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء
وهذا بناء على ما ذهب إليه أهل الحق من أن المعدوم ليس بشيء وإنما هو نفي محض لا امتياز فيه ولا تخصيص خلافا للمعتزلة ولا مادة له ولا صورة خلافا للحكماء
وإلا لم يمتنع اختصاص البعض بمقدوريته دون بعض كما يقوله الخصم
واعلم أن المخالفين في هذا الأصل
وهو أعظم الأصول
فرق
الأولى الفلاسفة
قالوا إنه واحد حقيقي فلا يصدر عنه أثران والصادر عنه العقل الأول
والبواقي صادرة عنه بالوسائط كما شرحناه
والجواب منع قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد
الثانية المنجمون
ومنهم الصابئية
قالوا الكواكب هي المدبرات أمرا لدوران الحوادث السفلية مع مواضعها في البروج وأوضاعها بعضها

إلى البعض وإلى السفليات
وأظهرها ما نشاهده من اختلاف الفصول وتأثير الطوالع
والجواب أن الدوران لا يفيد العلية سيما إذا تحقق التخلف
وإذا قام البرهان على نقيضه
كيف ونقول لهم قد ادعيتم أن الأفلاك بسيطة فأجزاؤها متساوية فلا يمكن جعل درجة حارة أو نيرة أو نهارية وأخرى باردة أو مظلمة أو ليلية إلا تحكما بحتا ثم نردد ونقول الفلك إن كان بسيطا فقد بطل الإحكام لما ذكرناه وإلا بطل علم الهيئة إذ مبناه أن الفلك بسيط فحركاته بسيطة والحركات المختلفة تقتضي محركات مختلفة كما عرفت
وإذا بطلت الهيئة بطلت الأحكام لأنها مبنية على الهيئات المتخيلة لهم
وإلا فلا أوج ولا حضيض ولا وقوف ولا رجوع
فكيف يثبت لها أحكام لا يقال الأفلاك وإن كانت بسيطة فالبروج مكوكبة والعبرة بقرب كواكبها الثابتة وبعدها ومسامتتها وعدمها لأنا نقول البروج كما علمت تعتبر من الفلك الأطلس الذي لا كوكب فيه على رأيهم ثم اختصاص كل كوكب بجزء يبطل بساطة الأفلاك فيعود الإشكال
الثالثة الثنوية
ومنهم المجوس
قالوا إنه تعالى لا يقدر على الشر وإلا لكان خيرا شريرا معا
والجواب أنا نلتزم التالي
وإنما لا يطلق لفظ الشرير عليه كما لا يطلق عليه لفظ خالق القردة والخنازير لأحد أمرين إما لأنه يوهم أن يكون الشر غالبا في فعله كما يقال فلان شرير أي ذلك مقتضى نحيزته
والغالب على هجيراه
وإما لعدم التوقيف
وأسماء الله تعالى توقيفية

الرابعة النظام ومتبعوه قالوا لا يقدر على القبيح لأنه مع العلم بقبحه سفه ودونه جهل
وكلاهما نقص
والجواب أنه لا قبيح بالنسبة إليه
فإن الكل ملكه
وإن سلم فغايته عدم الفعل لوجود الصارف وذلك لا ينفي القدرة
الخامسة البلخي ومتابعوه قالوا لا يقدر على مثل فعل العبد لأنه إما طاعة أو معصية أو سفه
والجواب أنها اعتبارات تعرض للفعل بالنسبة إلينا
وأما فعله تعالى فمنزه عن هذه الاعتبارات
وهو خال عن الغرض كسائر أفعاله
ولا يلزم العبث
السادسة الجبائية قالوا لا يقدر على عين فعل العبد بدليل التمانع
وهو أنه لو أراد الله تعالى فعلا وأراد العبد عدمه لزم إما وقوعهما فيجتمع النقيضان أو لا وقوعهما فيرتفع النقيضان أو وقوع أحدهما فلا قدرة للآخر
لا يقال يقع مقدور الله لأن قدرته أعم لأنا نقول معنى كون قدرته أعم تعلقها بغير هذا المقدور
ولا أثر له في هذا المقدور
فهما في هذا المقدور سواء
والجواب أنه مبني على تأثير القدرة الحادثة
وقد بينا بطلانه
فراجع ما تقدم
الشرح
المقصد الثاني في قدرته
وفيه بحثان

الأول في أنه تعالى قادر أي يصح منه إيجاد العالم وتركه
فليس شيء منهما لازما لذاته بحيث يستحيل انفكاكه عنه
وإلى هذا ذهب المليون كلهم
وأما الفلاسفة فإنهم قالوا إيجاده للعالم على النظام الواقع من لوازم ذاته فيمتنع خلوه عنه فأنكروا القدرة بالمعنى المذكور لاعتقادهم أنه نقصان وأثبتوا له الإيجاب زعما منهم أنه الكمال التام
وأما كونه تعالى قادرا بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل فهو متفق عليه بين الفريقين إلا أن الحكماء ذهبوا إلى أن مشيئة الفعل الذي هو الفيض والجود لازمة لذاته كلزوم العلم وسائر الصفات الكمالية له فيستحيل الانفكاك بينهما
فمقدم الشرطية الأولى واجب صدقه
ومقدم الثانية ممتنع الصدق
وكلتا الشرطيتين صادقتان في حق الباري سبحانه وتعالى
وأشار المصنف إلى الاحتجاج على كونه قادرا بقوله وإلا أي وإن لم يكن قادرا بل موجبا بالذات لزم أحد الأمور الأربعة إما نفي الحادث بالكلية أو عدم استناده إلى المؤثر أو التسلسل أو تخلف الأثر عن المؤثر الموجب التام
وبطلان هذه اللوازم كلها دليل بطلان الملزوم
أما بيان الملازمة فهو أنه على تقدير كونه تعالى موجبا إما أن لا يوجد حادث أو يوجد
فإن لم يوجد فهو الأمر الأول
وإن وجد فإما أن لا يستند ذلك الحادث الموجود إلى مؤثر موجد أو يستند فإن لم يستند فهو الثاني من تلك الأمور
وإن استند فإما أن لا ينتهي إلى القديم أو ينتهي
فإن لم ينته فهو الثالث منها لأنه إذا استند إلى مؤثر لا يكون قديما ولا منتهيا إليه فلا بد هناك من مؤثرات حادثة غير متناهية مع كونها مترتبة مجتمعة
وهو تسلسل محال اتفاقا
وإن انتهى فلا بد هناك من قديم يوجد حادثا بلا واسطة من الحوادث دفعا للتسلسل

في الحوادث سواء كانت مجتمعة أو متعاقبة
فيلزم الرابع وهو التخلف عن المؤثر الموجب التام ضرورة تخلف ذلك الحادث الصادر بلا واسطة عن القديم الذي يوجبه بذاته
وأما بطلان اللوازم فالأول بالضرورة والثاني بما علمت من أن الممكن الحادث محتاج إلى مؤثر
والثالث بما مر في مباحث التسلسل
والرابع بأن الموجب التام ما يلزمه أثره وتخلف اللازم عن الملزوم محال
وبأنه يلزم الترجيح بلا مرجح من فاعل موجب
فإن وجود ذلك الحادث منه في وقته ليس أولى من وجوده فيما قبله
قيل هذا الدليل برهان بديع لا يحتاج إلى إثبات حدوث العالم
وقد تفرد به المصنف رحمه الله تعالى
وإن شئت قلت في إثبات كونه قادرا لو كان الباري تعالى موجبا بالذات لزم قدم الحادث
والتالي باطل بطلانا ظاهرا وأما بيان الملازمة فهو أن أثر الموجب القديم يجب أن يكون قديما إذ لو حدث لتوقف على شرط حادث كيلا يلزم التخلف عن الموجب التام وذلك الشرط الحادث يتوقف أيضا على شرط آخر حادث وحينئذ تسلسل أي لزم التسلسل في الشروط الحادثة متعاقبة أو مجتمعة
وكلاهما محال
واعلم أن هذا الاستدلال الذي أشار إليه بقوله وإن شئت قلت إنما يتم بأحد طريقين
الأول أن يبين حدوث ما سوى ذات الله تعالى وصفاته إذ لولا ذلك لجاز أن يصدر عن الباري على تقدير كونه موجبا قديم مختار ليس بجسم ولا جسماني يصدر عنه الحوادث بحسب إرادته المختلفة فلا يلزم من إيجاب الباري قدم الحادث وأن نبين مع ذلك أيضا أنه لا يجوز قيام حوادث متعاقبة لا نهاية لها بذاته إذ لو جاز ذلك لأمكن أن يصدر عنه مع

كونه موجبا حادث مشروط بصفة حادثة قائمة بذاته مشروطة بصفة أخرى
وهكذا إلى غير النهاية
وإذا ثبت حدوث ما سوى ذاته وصفاته وثبت أيضا استحالة قيام الصفات المتعاقبة إلى ما لا نهاية له بذاته تم الاستدلال المذكور بهذا الطريق لأن أثر الموجب القديم لا يكون حادثا بلا تسلسل الحوادث
فإن الصادر عنه بلا شرط أو بشرط قديم قديم قطعا لامتناع التخلف عن الموجب التام كما عرفت
الثاني من الطريقين أن نبين في الحادث اليومي أنه لا يستند إلى حادث مسبوق بآخر لا إلى نهاية محفوظا استناده كذلك بحركة دائمة إذ على تقدير هذا الاستناد جاز أن يكون المبدأ الأول موجبا مفيضا لوجود الحادث اليومي على مادة قديمة بواسطة استعدادات متعاقبة مستندة إلى تلك الحركة السرمدية كما ذهبت إليه الفلاسفة حيث جوزوا التسلسل في الأمور المترتبة إذا لم تكن مجتمعة
وزعموا أن الحركة الدائمة هي الواسطة بين عالمي القدم والحدوث
فإنها ذات جهتين استمرار وتجدد
فباعتبار استمرارها جاز استنادها إلى القديم
وباعتبار تجددها صارت واسطة في صدور الحوادث عن المبدأ القديم
وإذا لم يجز هذا الاستناد فلو كان الباري تعالى موجبا لكان الحادث اليومي المستند إليه بواسطة أو بغير واسطة قديما
هذا خلف فقد تم هذا الاستدلال بهذا الطريق أيضا
ولقائل أن يقول ذلك البرهان البديع لا يتم أيضا إلا بالطريق الأول
إذ لو جاز قدم ما سوى ذاته تعالى وصفاته أو جاز تعاقب صفاته التي لا تتناهى لم يلزم الأمر الرابع
أعني التخلف
عن المؤثر التام
أما على الأول فلأنه جاز أن يكون ذلك

القديم مختارا كما مر
وأما على الثاني فلجواز استناد الحادث إلى الموجب بتعاقب حوادث لا تتناهى
وليس يلزم على شيء من هذين تخلف الأثر عن مؤثره الموجب التام لأن مؤثره إما مختار مع كون الباري تعالى موجبا
وإما غير تام في المؤثرية لتوقف تأثيره فيه على شرائط حادثة غير متناهية قائمة بذاته تعالى
وأنت بعد إحاطتك بما تقدم من المباحث خليق بأن يسهل عليك ذلك أي بيان الأمور المذكورة
أما بيان حدوث ما سوى الله سبحانه وتعالى فيما مر من المسلك العام في حدوث العالم مطلقا
أعني مسلك الإمكان أو المسلك الخاص بالأجسام مع نفي المجردات
وأما بيان امتناع تعاقب الصفات والحركات إلى غير النهاية فبالبرهان التطبيقي
إحتج الحكماء على إيجابه تعالى بوجوه كثيرة أقواها ما صرح به المصنف وعبر عنه بقوله
الأول لأنه الذي عليه يعولون وبه يصولون
وتقريره أن يقال لا يجوز أن يكون قادرا إذ تعلق القدرة منه بأحد الضدين المقدورين له كتخصيص الجسم بشكل معين ولون مخصوص مثلا دون ما عداه من الأشكال والألوان إما لذاتها بلا مرجح وداع فيستغني الممكن عن المرجح لأن نسبة ذات القدرة إلى الضدين على السوية كما اعترف به القائل بقادريته وأنه يسد باب إثبات الصانع إذ يجوز حينئذ أن يترجح وجود الممكن على عدمه من غير مرجح
وأيضا يلزم قدم الأثر لأن المؤثر حينئذ مستجمع لشرائط التأثير لأن الواجب أزلي
وكذا قدرته وتعلقها
فلا يجوز

تخلف الأثر عنه
وهو باطل لأن أثر القادر حادث اتفاقا وخصوصا على رأيكم
وإما لا لذاتها فيحتاج تعلقها به إلى مرجح من خارج
ومع ذلك المرجح لا يجب الفعل
وإلا لزم الإيجاب بل كان جائزا هو وضده أيضا فيحتاج إلى مرجح آخر
ويلزم التسلسل في المرجحات
والجواب نختار أن تعلقها بأحد المقدورين إنما هو بذاتها لا بأمر خارجي
وليس يحتاج تعلق إرادة المختار بأحد مقدوريه إلى داع كما بينا في طريقي الهارب وقدحى العطشان
قولكم أولا فيستغني الممكن عن المرجح
قلنا لا يلزم من ترجح القادر لأحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وداع ترجح أحد طرفي الممكن في حد ذاته من غير المرجح المؤثر فيه إذ بينهما بون بعيد كما أشار إليه بقوله وبالجملة فالترجيح الصادر عن مؤثر قادر بلا مرجح
أي بلا داعية غير الترجيح بلا مرجح
أي بلا مؤثر أصلا مغايرة ظاهرة
ولا يلزم من صحته صحته أي من صحة الأول صحة الثاني
ألا يرى أن بديهة العقل شاهدة بامتناع الثاني بلا توقف
ولذلك لم يذهب إلى صحته أحد من العقلاء
ولا يشهد كذلك بامتناع الأول
ومن ثمة ترى جمعا يجوزونه وربما يختار أن تعلقها لا لذاتها ويقال الفعل مع الداعي أولى بالوقوع ولا ينتهي إلى الوجوب فلا يلزم الإيجاب ولا يحتاج أيضا إلى مرجح آخر ليتسلسل وقد عرفت ضعفه بما مر من أن الأولوية التي لم تنته إلى حد الوجوب غير كافية في صدور الممكن عن المؤثر قولكم ثانيا يلزم قدم الأثر
قلنا ممنوع
وإنما يلزم ذلك في الموجب الذي إذا اقتضى شيئا لذاته اقتضاء دائما إذ نسبته إلى

الأزمنة سواء
وأما القادر الذي هو مؤثر تام فيجوز أن تتعلق قدرته بالإيجاد في ذلك الوقت الذي أوجد الحادث فيه دون غيره بلا سبب يخص ذلك الوقت
فإن ضرورة العقل تدل على الفرق بين القادر المختار والعلة الموجبة
ألا يرى أن كل أحد يفرق بين كون الإنسان مختارا في قيامه وقعوده
وكون الحجر هابطا بطبيعته
فلو توقف فعل المختار على مرجح لم يبق بينه وبين الموجب فرق
فإن قيل هذا وجه ثان لهم في إثبات الإيجاب وتقريره أن يقال عندكم إرادة الله وقدرته متعلقتان من الأزل إلى الأبد بترجح الحادث المعين وإيجاده في وقت معين
وأن التغير في صفاته محال فوجود ذلك الحادث في ذلك الوقت واجب فهو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار
إلا أن المصنف أورده في صورة السؤال فقال إذ كانت قدرته متعلقة بهذا الطرف في الأزل على هذا الوجه وهو أن يوجد في وقت معين
فإنه يجب وجوده في ذلك الوقت
وحينئذ فأي فرق يكون بين الموجب والمختار قلت الفرق بينهما على تقدير وجوب الفعل من القادر أنه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلق قدرته يستوي إليه الطرفان
ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلق القدرة والإرادة به لا وجوب ذاتي كما في الموجب بالذات ولا يمتنع عقلا تعلق قدرته بالفعل بدلا من الترك
وبالعكس
وأما الموجب فإنه يتعين تأثيره في أحدهما ويمتنع في الآخر عقلا
ويقرب من هذا ما قد قيل عند تمام المرجحات من القدرة التامة والإرادة الجازمة والوقت والآلة والمصلحة وزوال الموانع كلها توجب الفعل
وإلا أمكن أن يوجد معها تارة ولا يوجد أخرى
وأنه ترجيح بلا مرجح
وإذا وجب الفعل فلا فرق بين الموجب والقادر في ذلك بل في أن شرائط التأثير في القادر سريعة التغير لكنهم قالوا ذلك التغير إنما يتصور إذا كانت شرائط تأثير المؤثر منفصلة عنه

وأما الذي يكون مبدأ لكل ما سواه فإن ذاته تمتنع عليه التغير
فكذا تأثيره في غيره لا يتغير أصلا
وأجيب عنه بمنع امتناع التغير في تعلق قدرته وإرادته وتأثيره المتفرع على ذلك التعلق
فإن قيل هذا وجه ثالث لهم
وهو أن يقال القدرة نسبتها إلى الوجود والعدم سواء فإنها لو تعلقت بأحدهما كانت إيجابا لا قدرة والعدم غير مقدور لأنه لا يصلح أثرا لكونه نفيا صرفا فلا يستند إلى شيء
وحينئذ لا يكون الوجود أيضا مقدورا فلا قدرة أصلا
قلنا لا نسلم أن العدم غير مقدور وأنه لا يصلح أثرا فإن عدم المعلول مستند إلى عدم علته كما أن وجوده مستند إلى وجودها
وإن سلمناه أي كون العدم لا يصلح أثرا فالقادر من إن شاء فعل
وإن لم يشأ لم يفعل
لا إن شاء فعل العدم فإن العدم ليس أثرا مفعولا للقادر كالوجود بل معنى استناده إليه أنه لم تتعلق مشيئته بالفعل
فلم يوجد الفعل
وهذا أولى مما قيل هو الذي إن شاء أن يفعل فعل
وإن شاء أن لا يفعل لم يفعل لأن استناد العدم إلى مشيئة القادر يقتضي حدوثه كما في الوجود فيلزم أن لا يكون عدم العالم أزليا
فروع على إثبات القدرة كما هي عندنا أعني أن تكون صفة زائدة على الذات قائمة بها
الأول القدرة القائمة بذاته تعالى قديمة
وإلا كانت حادثة فيلزم قيام الحادث بذاته تعالى
وقد مر بطلانه
وكانت أيضا واقعة أي صادرة عن الذات بالقدرة لما مر في هذا المقصد من أن الحادث لا يستند إلى الموجب القديم إلا بتسلسل الحوادث
وهو باطل وإذا كانت واقعة بالقدرة

لزم التسلسل لأن القدرة الأخرى حادثة أيضا إذ المقدر حدوث القدرة القائمة به تعالى
فتستند إلى قدرة أخرى فيلزم تسلسل القدرة إلى ما لا يتناهى
وهو أيضا محال
الثاني أنها صفة واحدة
وإلا لاستندت تلك القدر المتعددة القديمة بناء على الفرع الأول إلى الذات إما بالقدرة أو بالإيجاب
وكلاهما باطل
أما الأول فلأن القديم لا يستند إلى القدرة كما عرفت في مباحث القدم
وأما الثاني فلأن نسبة الموجب إلى جميع الأعداد سواء
فليس صدور البعض عنه أولى من صدور البعض
فلو تعددت القدر الصادرة عن الموجب لزم ثبوت قدرة غير متناهية لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح كما ذهب إليه أبو سهل الصعلوكي
وهو باطل
لأن وجود ما لا يتناهى محال مطلقا
وقد تبين لك ضعف تساوي نسبة الأعداد بما تقدم من أن عدم الأولوية في نفس الأمر ممنوع وعندك لا يفيد ويزداد ضعفه ههنا بأن هذا مصير إلى أن الواحد الموجب لا يصدر عنه إلا الواحد ويلزم منه نفي ما عدا القدرة من سائر الصفات إذ تأثير الذات فيها لا يمكن أن يكون بالقدرة والاختيار كما نبهت عليه بل يجب أن يكون بالإيجاب
فإذا صدرت عنه القدرة الواحدة بالإيجاب لم يصدر عنه صفة أخرى كذلك
وهو خلاف ما ذهب إليه مثبتو الصفات
الثالث قدرته تعالى غير متناهية أي ليست موصوفة بالتناهي لا

ذاتا
ولا تعلقا
أما ذاتا فلأن التناهي من خواص الكم ولا كم ثمة إذ القدرة بحسب ذاتها من الكيف فيسلب عنها التناهي
وأما تعلقا فمعناه أي معنى سلب التناهي عنه هو إثبات اللاتناهي له
ومعنى لا تناهيه أن تعلقها لا يقف عند حد لا يمكن تعلقها بغيره أي بما وراء ذلك الحد وإن كان كل ما تتعلق به بالفعل متناهيا فتعلقاتها متناهية بالفعل دائما غير متناهية بالقوة دائما وهذه الأحكام الثلاثة التفريعية مطردة في الصفات كلها فلا نكررها
يعني أن كل واحدة من سائر الصفات قديمة وغير متعددة وغير متناهية
فصفة العلم قديمة وواحدة وغير متناهية ذاتا بمعنى سلب التناهي
وغير متناهية تعلقا بمعنى إثبات اللاتناهي في تعلقها بالفعل والإرادة أيضا كذلك لكن تعلقها غير متناه بالقوة كما في القدرة
وعلى هذا فقس
واعتبر في كل صفة ما يناسبها من الأحكام المتفرعة فلا حاجة إلى التكرار
تنبيه القدرة صفة زائدة على الذات لما بيناه من إثبات زيادة الصفات على وجه عام
وقد تحتج المعتزلة على نفيه بوجهين
الأول القدرة في الشاهد مشتركة في عدم صلاحيتها لخلق الأجسام والحكم المشترك يجب تعليله بالعلة المشتركة
ولا مشترك بينها سوى كونها قدرة فلو كان لله تعالى قدرة لم تصلح لخلق الأجسام لأن علة عدم الصلاحية موجودة فيها أيضا
والجواب أن التعليل بالعلل المختلفة جائز عندكم فإن القبح حكم واحد وقد عللتموه تارة بكون الشيء ظلما وأخرى بكونه جهلا إلى غير ذلك
وكذا صحة الرؤية معللة عندكم بخصوصيات المرئيات وهو الحق لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد ثم نقول لم لا يجوز اشتراك

القدرة الحادثة في صفة غير موجودة في القدرة القديمة تكون تلك الصفة علة لعدم صلاحيتها فلا يتعدى الحكم إلى القديمة وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود
أي عدم وجداننا لتلك الصفة لا يدل على عدم وجودها في نفسها
الثاني القدرة في الشاهد مختلفة اختلافا ظاهرا ففي الغائب إن كانت القدرة مثلها أي مثل إحدى القدرة التي في الشاهد لم تصلح قدرة الغائب لخلق الأجسام كنظيرتها
وإلا لم تكن مخالفتها لها أشد من مخالفة بعضها لبعض فلم تصلح لذلك أيضا
والجواب منع أن مخالفتها للقدرة الحادثة ليست أشد من مخالفة بعضها لبعض فلا يلزم عدم صلاحيتها لما ذكر
البحث الثاني في أن قدرته تعالى تعم سائر الممكنات أي جميعها والدليل عليه أن المقتضي للقدرة هو الذات لوجوب استناد صفاته إلى ذاته والمصحح للمقدورية هو الإمكان لأن الوجوب والامتناع الذاتيين يحيلان المقدورية ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السوية وإذا ثبتت قدرته على بعضها تثبت على كلها
وهذا الاستدلال بناء على ما ذهب إليه أهل الحق من أن المعدوم ليس بشيء
وإنما هو نفي محض ولا امتياز فيه أصلا ولا تخصيص قطعا
فلا يتصور اختلاف في نسبة الذات إلى المعدومات بوجه من الوجوه خلافا للمعتزلة
ومن أن المعدوم لا مادة له ولا صورة خلافا للحكماء
وإلا لم يمتنع اختصاص البعض بمقدوريته تعالى دون بعض كما يقوله الخصم فعلى قاعدة الاعتزال جاز أن تكون خصوصية

بعض المعدومات الثابتة المتميزة مانعة من تعلق القدرة به
وعلى قانون الحكمة جاز أن تستعد المادة لحدوث ممكن دون آخر
وعلى التقديرين لا تكون نسبة الذات إلى جميع الممكنات على سواء
قيل ولا بد أيضا من تجانس الأجسام لتركبها من الجواهر الفردة المتماثلة الحقيقة ليكون اختصاص بعضها ببعض الأعراض لإرادة الفاعل المختار إذ مع تخالفها جاز أن يكون ذلك الاختصاص لذواتها فلا قدرة على إيجاد بعض آخر منها
واعلم أن المخالفين في هذا الأصل أعني عموم قدرته تعالى الممكنات كلها وهو أعظم الأصول فرق متعددة كما سيتلى عليك
الأولى الفلاسفة الإلهيون فإنهم قالوا إنه تعالى واحد حقيقي فلا يصدر عنه أثران
والصادر عنه ابتداء هو العقل الأول
والبواقي صادرة عنه بالوسائط كما شرحناه من قبل
والجواب منع قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد وما تمسكوا به في إثباته فقد زيفناه
الفرقة الثانية المنجمون
ومنهم الصابئية
قالوا الكواكب المتحركة بحركات الأفلاك هي المدبرات أمرا في عالمنا هذا لدوران الحوادث السفلية والتغيرات الواقعة في جوف فلك القمر وجودا وعدما مع مواضعها أي مواضع الكواكب في البروج وأوضاعها بعضها إلى بعض
وإلى السفليات وأظهرها ما نشاهده من اختلاف الفصول الأربعة
وما يتجدد فيها من الحر والبرد والاعتدال بواسطة قرب الشمس من سمت الرأس وبعدها عنه وتواسطها فيما بينهما وتأثير الطوالع في المواليد بالسعادة والنحوسة
والجواب أن الدوران لا يفيد العلية سيما إذا تحقق التخلف كما في

توأمين أحدهما في غاية السعادة والآخر في غاية الشقاوة
ولا يمكن أن يحال بذلك على ما بينهما من التفاوت في وقت الولادة لأن التفاوت بقدر درجة واحدة لا يوجب تغير الأحكام عندهم باتفاق فيما بينهم وسيما إذ قام البرهان على نقيضه فإن البراهين العقلية والنقلية شاهدة بأن لا مؤثر في الوجود إلا الله كيف ونقول لهم ما أثبتموه من الأحكام لا يستتب لكم على قواعدكم لأنكم قد ادعيتم أن الأفلاك بسيطة فأجزاؤها متساوية في الماهية فلا يمكن حينئذ جعل درجة حارة أو نيرة أو نهارية
وجعل درجة أخرى باردة أو مظلمة أو ليلية إلا تحكما بحتا وكذا الحال في جعل بعض البروج بيتا لكواكب وبعضها بيتا لكواكب أخر
وفي جعل بعض الدرج شرفا وبعضها وبالا إلى غير ذلك من الأمور التي تدعونها فإنها كلها على تقدير البساطة تحكمات محضة ثم نردد ونقول إن الفلك إن كان بسيطا فقد بطلت الأحكام التي تزعمونها لما ذكرناه
وإلا بطل علم الهيئة
إذ مبناه أن الفلك بسيط فحركاته بسيطة متشابهة في أنفسها فالحركات المختلفة والمشاهدة والمرصودة منها تقتضي محركات مختلفة على أوضاع متفاوتة تكون حركة كل منها وحدها متشابهة غير مختلفة ويلزم منها حركات متخالفة كما عرفت
وإذا بطلت الهيئة بطلت الأحكام النجومية لأنها مبنية عليها على الهيئات المتخيلة لهم
وإلا فلا أوج ولا حضيض ولا وقوف ولا رجوع
فكيف يثبت لها أحكام مترتبة عليها لا يقال الأفلاك وإن كانت بسيطة متساوية الأجزاء في الماهية فالبروج مكوكبة بالثوابت المتخالفة في الطبائع
والعبرة في تلك الأحكام ليست بنفس البروج المتوافقة الطبيعة بل بقرب كواكبها الثابتة من السيارات وبعدها عنها ومسامتتها وعدمها
فمدار الأحكام المختلفة على اختلاف أوضاع الكواكب السيارة بحركاتها من الثوابت المركوزة في البروج
لأنا نقول البروج
كما علمت
تعتبر من الفلك الأطلس الذي لا كوكب فيه على

رأيهم وإن أمكن أن يقال فيه كواكب صغار غير مرئية فتختلف آثار السيارة بحلولها في البروج المختلفة الكواكب لكن لم يقل به أحد منهم
قلت البروج المعتبرة فيه وإن كانت خالية عن الكواكب إلا أنها تسامتها كواكب متخالفة الطبائع وهذا القدر كاف لاختلاف الأحكام والآثار
قلت تلك الكواكب تزول عن المسامتة بالحركة البطيئة فيلزم أن تنتقل الأحوال من برج إلى آخر وهو باطل عندكم ثم أنا نقول اختصاص كل كوكب بجزء معين من أجزاء الفلك يبطل بساطة الأفلاك إذ لو كانت بسيطة لزم الترجيح بلا مرجح
وعلى هذا فيعود الإشكال أعني بطلان الهيئة المتخيلة وما يترتب عليه من بطلان الأحكام
الفرقة الثالثة الثنوية
ومنهم المجوس فإنهم قالوا إنه تعالى لا يقدر على الشر
وإلا لكان خيرا شريرا معا فلذلك أثبتوا إلهين كما مر تفصيله
والجواب أنا نلتزم التالي فإنه تعالى خالق للخيرات والشرور كلها
وإنما لا يطلق لفظ الشرير عليه كما لا يطلق عليه لفظ خالق القردة والخنازير مع كونه خالقا لهما لأحد الأمرين إما لأنه يوهم أن يكون الشر غالبا في فعله كما يقال فلان شرير
أي ذلك مقتضى نحيزته أي طبيعته
والغالب على هجيراه أي دأبه وعادته
وإما لعدم التوقيف من الشرع وأسماء الله تعالى توقيفية

الفرقة الرابعة النظام ومتبعوه
قالوا لا يقدر على الفعل القبيح لأنه مع العلم بقبحه سفه ودونه جهل وكلاهما نقص يجب تنزيهه تعالى عنه
والجواب أنه لا قبيح بالنسبة إليه
فإن الكل ملكه فله أن يتصرف فيه على أي وجه أراد
وإن سلم قبح الفعل بالقياس إليه فغايته عدم الفعل لوجود الصارف عنه وهو القبح
وذلك لا ينفي القدرة عليه
الفرقة الخامسة أبو القاسم البلخي ومتابعوه
قالوا لا يقدر على مثل فعل العبد لأنه إما طاعة مشتملة على مصلحة أو معصية مشتملة على مفسدة
أو سفه خال عنهما أو مشتمل على متساويين منهما
والكل محال منه تعالى
والجواب إنها أي ما ذكرتموه من صفات الأفعال اعتبارات تعرض للفعل بالنسبة إلينا وصدوره بحسب قصدنا ودواعينا
وأما فعله تعالى فمنزه عن هذه الاعتبارات فجاز أن يصدر عنه تعالى مثل فعل العبد مجردا عنها
فإن الاختلاف بالعوارض لا ينافي التماثل في الماهية
ولما كان لقائل أن يقول ما صدر عنه من أمثال أفعالنا إما أن يشتمل على مصلحة أو مفسدة أو يخلو عنهما وعلى التقادير يكون متصفا بشيء من الاعتبارات المذكورة أجاب عنه بقوله وهو أي ذلك المثل الصادر عنه خال عن الغرض كسائر أفعاله المنزهة عن الأغراض فلا يتجه أن يقال هناك مصلحة أو مفسدة
ولا يلزم من عدم ثبوت الغرض العبث إنما يلزم ذلك إذا كان الفعل ممن شأنه أن يتبع فعله الغرض لا ممن تعالى عن ذلك

الفرقة السادسة الجبائية قالوا لا يقدر على عين فعل العبد بدليل التمانع
وهو أنه لو أراد الله تعالى فعلا من أفعال العبد يوجد فيه وأراد العبد عدمه منه لزم إما وقوعهما فيجتمع النقيضان أو لا وقوعهما فيرتفع النقيضان
أو وقوع أحدهما فلا قدرة للآخر على مراده
والمقدر خلافه
لا يقال يقع مقدور الله لأن قدرته أعم من قدرة العبد فلا يتصور بينهما مقاومة كما يتصور في قدرتي إلهين لأنا نقول معنى كون قدرته أعم تعلقها بغير هذا المقدور ولا أثر له في هذا المقدور
فهما في هذا المقدور سواء فيتقاومان فيه
والجواب إنه مبني على تأثير القدرة الحادثة
وقد بينا بطلانه فراجع ما تقدم
وعلى تقدير تأثيرها فتساويهما في هذا المقدور ممنوع بل الله تعالى أقدر عليه من العبد فتأثير قدرته فيه يمنع من تأثير قدرة العبد فيه
ولا يلزم من ذلك انتفاء قدرته بالكلية
نعم يثبت فيه نوع عجز وذلك ينافي الألوهية دون العبدية

المقصد الثالث
المتن في علمه تعالى وفيه بحثان
البحث الأول في إثباته
وهو متفق عليه بيننا وبين الحكماء
وإنما نفاه شرذمة لا يعبأ بهم وسنذكره
لكن المسلك مختلف
أما المتكلمون فلهم مسلكان
الأول أن فعله تعالى متقن
وكل من فعله متقن فهو عالم
أما الأول فظاهر لمن نظر في الآفاق والأنفس وتأمل ارتباط العلويات بالسفليات سيما في الحيوانات وما هديت إليه من مصالحها وأعطيت من الآلات المناسبة

لها
ويعين على ذلك علم التشريح ومنافع خلقة الإنسان وأعضائه التي قد كسرت عليها المجلدات
وأما الثاني فضروري
وينبه عليه أن من رأى خطا حسنا يتضمن ألفاظا عذبة رشيقة تدل على معان دقيقة مؤنقة علم بالضرورة أن كاتبه عالم
وكذلك من سمع خطابا منتظما مناسبا للمقام من شخص يضطر إلى أن يجزم بأنه عالم
فإن قيل المتقن إن أردت به الموافق للمصلحة من جميع الوجوه فممنوع
إذ لا شيء من مفردات العالم ومركباته إلا ويشتمل على مفسدة ما
ويمكن تصوره على وجه أكمل أو الموافق من بعض الوجوه فلا يدل على العلم أو أمرا ثالثا فبينه لنا
وكيف وأنه منقوض بفعل النحل لتلك البيوت المسدسة بلا فرجار ومسطر واختيارها للمسدس لأنه أوسع من المربع
ولا يقع بينها فرج كما بين المدورات وما سواها
وهذا لا يعرفه إلا الحذاق من أهل الهندسة وكذلك العنكبوت تنسج تلك البيوت بلا آلة مع أنه لا علم لهما
والجواب عن الأول أن المراد ما نشاهده من الصنيع الغريب والترتيب العجيب
وتوضيحه ما ذكرنا في مثال الكتابة والخطاب
إذ لا

يشترط في الدلالة على العلم خلوه عن كل خلل حتى لو أمكن أن يكتب أحسن منه
أو يتكلم بأفصح منه لم يدل على علم
وعن الثاني أنا لا نسلم عدم علم النحل والعنكبوت بما يفعله لجواز أن يخلق الله تعالى فيهما علما بذلك الفعل الصادر عنهما أو يلهمهما حالا فحالا مما هو مبدأ لذلك
الثاني أنه تعالى قادر لما مر
وكل قادر فهو عالم
لا يقال قد يصدر عن النائم والغافل فعل قليل اتفاقا
وإذا جاز ذلك جاز صدور الكثير عنه لأن حكم الشيء حكم مثله
لأنا نقول لا نسلم الملازمة إذ الضرورة فارقة
وأما الحكماء فلهم أيضا مسلكان
الأول إنه مجرد
وكل مجرد فهو عاقل لجميع الكليات
وقد برهنا على المقدمتين
الثاني إنه تعالى يعقل ذاته
وإذا عقل ذاته عقل ما عداه
أما الأول فلأن التعقل حضور الماهية المجردة للشيء المجرد
وهو حاصل في شأنه
وأما الثاني فلأنه مبدأ لما سواه
والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول
ويرد على الأول منع الكبرى
وبرهانه قد مر ضعفه
وعلى الثاني أنا لا نسلم أن التعقل ما ذكرتم
وتعريفه بذلك لا يوجب الجزم بأن حقيقته ذلك ما لم يقم عليه برهان إذ غايته أنهم يعنون بالتعقل ذلك
ولكن من أين لهم أن الحالة التي نجدها من أنفسنا ونسميه العلم حقيقته ذلك لا بد له من دليل سلمناه
لكن لم لا يجوز أن يشترط فيه التغاير سلمنا لكن لا نسلم ان العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول
وإلا لزم من العلم بالشيء العلم بجميع لوازمه القريبة والبعيدة
نعم يلزم ذلك إذا علم الشيء وعلم أنه علة له وأنه موجود
وأنه يلزم من وجود العلة وجود المعلول
فلم قلتم إن ذلك حاصل له تنبيه مسلكا المتكلمين يفيدان العلم بالجزئيات
لأن الجزئيات

صادرة عنه على صفة الاتقان ومقدورة له
وأما مسلكا الحكماء فلا يوجبان إلا علما كليا
لأن ما علم بماهيته أو بعلته يعلم كليا
فإن المعلوم ماهيته كذا إما وحدها أو مع كونها معللة بكذا
والماهية كلية
وكونها معللة بكذا كلي وتقييد الكلي بالكلي لا يفيد الجزئية
البحث الثاني أن علمه تعالى يعم المفهومات كلها الممكنة والواجبة والممتنعة
فهو أعم من القدرة لأنها تختص بالممكنات دون الواجبات والممتنعات لمثل ما مر في القدرة
وهو أن الموجب للعلم ذاته
والمقتضي للمعلومية ذوات المعلومات ومفهوماتها
ونسبة الذات إلى الكل سواء
والمخالف في هذا الأصل فرق
الأولى من قال إنه لا يعلم نفسه لأن العلم نسبة والنسبة لا تكون إلا بين شيئين
ونسبة الشيء إلى نفسه محال
والجواب منع كون العلم نسبة بل هو صفة ذات نسبة
ونسبة الصفة إلى الذات ممكنة
سلمناه لكن لا نسلم أن الشيء لا ينسب إلى ذاته نسبة علمية
وكيف لا وأحدنا يعلم نفسه لا يقال ذلك لتركيب في أنفسنا بوجه من الوجوه
وكلامنا في الواحد الحقيقي لأنا نقول أحدنا لو كان له نسبة إلى كل جزء منه فقد حصل المطلوب
وإلا فلا يعلم إلا أحد جزئيه فيكون العالم غير المعلوم فلا يعلم نفسه
الثانية من قال إنه لا يعلم شيئا أصلا
وإلا علم نفسه إذ يعلم على تقدير كونه عالما بشيء أنه يعلمه وذلك يتضمن علمه بنفسه
وقد بينا امتناعه
لا يقال لا نسلم أن من علم شيئا علم أنه عالم به
وإلا لزم من العلم بشيء واحد العلم بأمور غير متناهية
لأنا نقول المدعي لزوم إمكان علمه به
فإن من علم شيئا أمكنه أن يعلم أنه عالم به بالضرورة
وإلا جاز أن يكون أحدنا عالما بالمجسطي والمخروطات ولكن لا يمكنه أن يعلم أنه عالم به
وإن التفت إلى ذلك وبالغ في الاجتهاد وذلك سفسطة

والجواب أنه إن امتنع منه تعالى علمه بنفسه منعنا الملازمة وقلنا الضرورة فيمن يمكنه العلم بنفسه وإن أمكن له منعنا بطلان التالي
وأيضا فقد مر بطلان ما ذكروه في أنه لا يعلم نفسه
الثالثة من قال أنه لا يعلم غيره
لأن العلم بالشيء غير العلم بغيره
وإلا فمن علم شيئا
علم جميع الأشياء
فيكون له تعالى بحسب كل معلوم علم فيكون في ذاته كثرة غير متناهية
والجواب إنه كثرة في الإضافات
والعلم واحد
وذلك لا يمتنع
الرابعة من قال إنه لا يعقل غير المتناهي إذا المعقول متميز عن غيره
وغير المتناهي غير متميز عن غيره
وإلا لكان له حد به يتميز عن الغير
فليس غير متناه
هذا خلف
والجواب من وجهين
الأول إنه معقول من حيث أنه غير متناه
وفيه نظر لأن ذلك أمر واحد عارض لغير المتناهي
وهو غير ما صدق عليه أنه غير متناه
والنزاع إنما وقع فيه
وبالجملة فالنزاع في غير المتناهي تفصيلا لا إجمالا
الثاني المعقول كل واحد واحد
وأنه متميز عن غيره
ولا يضر عدم تميز الكل
والحق أنا نقول لا نسلم أن المتميز له حد ونهاية
وإنما يكون كذلك أن لو كان تعقله بتميزه بالحد والنهاية
وأنه ممنوع

الخامسة من قال لا يعلم الجزئيات المتغيرة
وإلا فإذا علم أن زيدا في الدار الآن ثم خرج زيد فإما أن يزول ذلك العلم ويعلم أنه ليس في الدار أو يبقى ذلك العلم بحاله
والأول يوجب التغير والثاني الجهل
والجواب منع لزوم التغير فيه بل في الإضافات
وقد أجاب عنه مشايخ المعتزلة بأن العلم بأنه وجد وسيوجد واحد
فإن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا فعند حصول الغد يعلم بهذا العلم أنه دخل البلد الآن
وإنما يحتاج أحدنا إلى علم آخر لطريان الغفلة عن الأول
والباري تعالى يمتنع عليه الغفلة فكان علمه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد
وهذا مأخوذ من قول الحكماء علمه تعالى ليس زمانيا فلا يكون ثمة حال وماض ومستقبل
إذ الحال معناه زمان حكمي هذا
والماضي زمان قبل زمان حكمي هذا
والمستقبل زمان بعد زمان حكمي هذا
فمن كان علمه أزليا محيطا بالزمان لا يتصور في حقه حال
ولا ماض ولا مستقبل
وقد أنكر أبو الحسين البصري ذلك
واحتج عليه بوجوه
الأول حقيقة أنه سيقع غير حقيقة أنه وقع
فالعلم به غير العلم به
لأن اختلاف المتعلقين يستدعي اختلاف العلم بهما
الثاني أن شرط العلم بأنه وقع الوقوع وشرط العلم بأنه سيقع عدم الوقوع
فلو كانا واحدا لم يختلف شرطهما
وقد يعبر عنه بأن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا وجلس إلى مجيء الغد في بيت مظلم فلم يعلم دخول غد لم يعلم أنه دخل البلد
نعم لو انضم إليه العلم بدخول غد علم ذلك

الثالث يمكن العلم بأنه وقع مع الجهل بأنه سيقع وبالعكس
وغير المعلوم غير المعلوم
وقد يعبر عن هذا بأن قبل الوقوع اعتقاد أنه سيقع علم واعتقاد أنه وقع جهل
وبعد الوقوع بالعكس فتغايرا
السادسة من قال لا يعلم الجميع بمعنى سلب الكل لا السلب الكلي إذ لو علم كل شيء فإذا علم شيئا علم علمه به وكذا علم علمه بعلمه ويلزم التسلسل
والجواب إنه تسلسل في الإضافات وأنه غير ممتنع
كيف وأنه قد يكون بعلمه نفس علمه كما ذهب إليه الإمام والقاضي
تنبيه العلم صفة زائدة لما مر
وأنكره المعتزلة لوجوه
الأول لو كان له تعالى علم فإذا تعلق بشيء وتعلق علمنا به فقد تعلقا به من وجه واحد
فيلزم تماثلهما ويلزم قدمهما أو حدوثهما
فإن قيل هذا لازم عليكم في العالمية فما هو جوابكم فهو جوابنا
قلنا عالميته تعالى تعلق الذات وعالميتنا تعلق العلم فليسا من وجه واحد
والجواب أنه لا يلزم من الاشتراك في وجه التعلق التماثل إذ المختلفات تشترك في لازم واحد
فإن قيل فبم يعرف تماثل العلوم قلنا إن كان طريق آخر فذلك
وإلا توقف سلمنا التماثل
لكن لا يجب الاشتراك في القدم والحدوث كما في الوجود
الثاني إنه تعالى عالم بما لا نهاية له فيلزم علوم غير متناهية
والجواب أن التعدد في التعلقات وهي إضافية
الثالث يلزم علمه بعلمه
وتتسلسل
والجواب أنه في الإضافات

الرابع لو كان ذا علم لكان فوقه عليم
واللازم باطل اتفاقا
بيان الملازمة قوله تعالى وفوق كل ذي علم عليم
والجواب المعارضة بقوله وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ولا يحيطون بشيء من علمه إن الله عنده علم الساعة كيف وأنه لفظي يقبل التخصيص
الشرح
المقصد الثالث في علمه تعالى
وفيه بحثان
البحث الأول في إثباته
وهو متفق عليه بيننا وبين الحكماء
وإنما نفاه شرذمة من قدماء الفلاسفة لا يعبأ بهم وسنذكره
لكن المسلك في إثبات كونه تعالى عالما مختلف
أما المتكلمون فلهم مسلكان
الأول أن فعله تعالى متقن أي محكم خال عن وجوه الخلل ومشتمل على حكم ومصالح متكثرة وكل من فعله متقن فهو عالم
أما الأول أعني اتقان فعله فظاهر لمن نظر في الآفاق والأنفس وتأمل ارتباط العلويات بالسفليات سيما إذا تأمل في الحيوانات وما هديت إليه من مصالحها وأعطيت من الآلات المناسبة لها ويعين على ذلك علم التشريح ومنافع خلقة الإنسان وأعضائه التي قد كسرت عليها المجلدات
وأما الثاني وهو أن من كان فعله متقنا كان عالما فضروري
وينبه عليه أن من رأى خطا حسنا يتضمن ألفاظا عذبة رشيقة تدل على معان دقيقة مؤنقة علم بالضرورة أن كاتبه عالم
وكذلك من سمع خطابا منتظما مناسبا للمقام من شخص يضطر إلى أن يجزم بأنه عالم

فإن قيل المتقن إن أردت به الموافق للمصلحة من جميع الوجوه فممنوع إن فعله تعالى متقن إذ لا شيء من مفردات العالم ومركباته إلا ويشتمل على مفسدة ما ويتضمن خللا ويمكن تصوره على وجه أكمل مما هو عليه أو الموافق للمصلحة من بعض الوجوه فلا يدل على العلم إذ ما من أثر إلا ويمكن أن ينتفع به منتفع سواء كان مؤثرا عالما أو لا كإحراق النار وتبريد الماء أو أمرا ثالثا فبينه لنا ما هو وكيف يدل على علم الفاعل ونقول أيضا أنه أي دليلك على إثبات علمه منقوض بفعل النحل لتلك البيوت المسدسة المتساوية بلا فرجار ومسطر
واختيارها للمسدس لأنه أوسع من المثلث
والمربع والمخمس ولا يقع بينها أي بين المسدسات فرج كما يقع بين المدورات وما سواها من المضلعات وهذا الذي ذكرناه لا يعرفه إلا الحذاق من أهل الهندسة
وكذلك العنكبوت تنسج تلك البيوت وتجعل لها سدى ولحمة على تناسب هندسي بلا آلة مع أنه لا علم لهما بما يصدر عنهما
وما يتضمنه من الحكم
والجواب عن الأول أن المراد بالمتقن ما نشاهده من الصنيع الغريب والترتيب العجيب الذي تتحير فيه العقول
ولا تهتدي إلى كمال ما فيه من المصالح والمنافع
ولا شك في دلالته على علم الصانع وتوضيحه ما ذكرنا في مثال الكتابة والخطاب
إذ لا يشترط في الدلالة على العلم خلوه عن كل خلل واشتماله على كل كمال حتى لو أمكن أن يكتب أحسن منه أو يتكلم بأفصح منه لم يدل على علم
والجواب عن الثاني أنا لا نسلم عدم علم النحل والعنكبوت بما يفعله لجواز أن يخلق الله تعالى فيهما علما بذلك الفعل الصادر عنهما أو يلهمهما حالا فحالا ما هو مبدأ لذلك الفعل الصادر منهما
المسلك الثاني إنه تعالى قادر لما مر
وكل قادر فهو عالم لأن

القادر هو الذي يفعل بالقصد والاختيار
ولا يتصور ذلك إلا مع العلم
لا يقال كون كل قادر عالما ممنوع إذ قد يصدر عن النائم والغافل مع كونهما قادرين عند المعتزلة وكثير من الأشاعرة فعل قليل متقن اتفاقا
وإذا جاز ذلك جاز صدور الكثير عنه لأن حكم الشيء حكم مثله ولا عبرة بالقلة والكثرة لأنا نقول لا نسلم الملازمة
إذا الضرورة فارقة فإنها تجوز صدور قليل من المتقن عن قادر غير عالم
ولا تجوز صدور كثير عنه
وأما من جعل النوم ضدا للقدرة فالسؤال ساقط عنه وأما الحكماء فلهم في إثبات علمه تعالى أيضا مسلكان
المسلك الأول إنه مجرد أي ليس جسما ولا جسمانيا كما مر في التنزيهات وكل مجرد فهو عاقل لجميع الكليات
وقد برهنا فيما سلف على المقدمتين
المسلك الثاني إنه تعالى يعقل ذاته وإذا عقل ذاته عقل ما عداه
أما الأول فلأن التعقل حضور الماهية المجردة عن العلائق المادية للشيء المجرد القائم بذاته وهو حاصل في شأنه لأن ذاته مجردة غير غائبة عن ذاته فيكون عالما بذاته
وأما الثاني فلأنه مبدأ لما سواه أي لجميعه إما بواسطة أو بدونها والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فيكون عالما بذاته وبجميع معلولاته
ويرد على المسلك الأول منع الكبرى القائلة بأن كل مجرد عاقل للمفهومات الكلية
وبرهانه الذي تمسكوا به قد مر ضعفه
ويرد على المسلك الثاني أنا لا نسلم أن التعقل ما ذكرتم
وتعريفه بذلك

لا يوجب الجزم بأن حقيقته ذلك ما لم يقم عليه برهان
إذ غايته أنهم يعنون بالتعقل ذلك المعنى الذي عرفوه به ولكن من أين لهم أن الحالة التي نجدها من أنفسنا ونسميها العلم حقيقته ذلك الذي ذكروه لا بد له من دليل سلمناه أي سلمنا أن حقيقة العلم ما ذكرتموه لكن لم لا يجوز أن يشترط فيه التغاير بين الحاضر
وما حضر هو عنده فلا يكون الشيء عالما بنفسه كما اشترط ذلك في الحواس فإنها لا تدرك أنفسها مع كونها حاضرة عندها غير غائبة عنها
سلمناه أي عدم اشتراط التغاير لكن لا نسلم أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول
وإلا لزم من العلم بالشيء العلم بجميع لوازمه القريبة والبعيدة لأنه إذا علم الشيء علم لازمه القريب الذي هو معلوله
وإذا علما معا علم البعيد أيضا لأنه معلولهما
نعم يلزم ذلك إذا علم الشيء الذي هو علة وعلم أنه علة له أي للشيء الأخر الذي هو معلول
وعلم أنه موجود
وعلم أنه يلزم من وجود العلة وجود المعلول فحينئذ يعلم وجود المعلول قطعا
لكن ما ذكرتم يدل على أنه عالم بذات العلة التي هي ذاته الحاضرة عنده
ولا يدل على ثبوت العلم الآخر فلم قلتم إن ذلك كله حاصل له حتى يتم مطلوبكم
تنبيه مسلكا المتكلمين يفيدان العلم بالجزئيات كما يفيدان العلم بالكليات
وذلك لأن الجزئيات معلولة بالكليات صادرة عنه على صفة الاتقان ومقدورة له فيكون عالما بهما معا
وأما مسلكا الحكماء فلا يوجبان إلا علما كليا لأن ما علم بماهيته المجردة كما استفيد من الأول أو علم بعلته كما استفيد من الثاني يعلم علما كليا
فإن المعلول ماهيته كذا أما وحدها كما في المسلك الأول أو مع كونها معللة بكذا كما في المسلك الثاني والماهية كلية وكونها معللة بكذا كلي أيضا

وتقييد الكلي بالكلي مرات كثيرة لا يفيد الجزئية فضلا عن تقييده به مرة واحدة
وههنا محل تأمل
فإنهم زعموا أن العلم التام بخصوصية العلة يستلزم العلم التام بخصوصيات معلولاتها الصادرة عنها بوسط أو بغير وسط
وادعوا أيضا انتفاء علمه تعالى بالجزئيات من حيث هي جزئية لاستلزامه التغير في صفاته الحقيقية
فاعترض عليهم بعض المحققين وقال إنهم مع ادعائهم الذكاء قد تناقض كلامهم ههنا
فإن الجزئيات معلولة له كالكليات
فيلزم من قاعدتهم المذكورة علمه بها أيضا
لكنهم التجأوا في دفعه إلى تخصيص القاعدة العقلية بسبب مانع هو التغير كما هو دأب أرباب العلوم الظنية فإنهم يخصصون قواعدهم بموانع تمنع إطرادها وذلك مما لا يستقيم في العلوم اليقينية
البحث الثاني إن علمه تعالى يعم المفهومات كلها الممكنة والواجبة والممتنعة
فهو أعم من القدرة لأنها تختص بالممكنات دون الواجبات والممتنعات وإنما قلنا عمومه للمفهومات لمثل ما مر في القدرة
وهو أن الموجب للعلم ذاته والمقتضي للمعلومية ذوات المعلومات ومفهوماتها ونسبة الذات إلى الكل سواء فإذا كان عالما ببعضها كان عالما بكلها
والمخالف في هذا الأصل أيضا فرق ست
الأولى من قال من الدهرية إنه لا يعلم نفسه لأن العلم نسبة

والنسبة لا تكون إلا بين شيئين متغايرين هما طرفاها بالضرورة ونسبة الشيء إلى نفسه محال إذ لا تغاير هناك
والجواب منع كون العلم نسبة محضة بل هو صفة حقيقة ذات نسبة إلى المعلوم ونسبة الصفة إلى الذات ممكنة فإن قيل تلك الصفة تقتضي نسبة بين العالم والمعلوم فلا يجوز أن يكونا متحدين
قلنا هي تقتضي نسبة بينها وبين المعلوم ونسبة أخرى بينها وبين العالم
وهما ممكنتان كما عرفت
وأما النسبة بين العالم والمعلوم فهي بعينها النسبة الأولى من هاتين المذكورتين اعتبرت بالعرض فيما بينهما فلا إشكال سلمناه أي كون العلم نسبة محضة بين محله ومتعلقه لكن لا نسلم أن الشيء لا ينسب إلى ذاته نسبة علمية فإن التغاير الاعتباري كاف لتحقق هذه النسبة
وكيف لا يكون كذلك وأحدنا يعلم نفسه مع عدم التغاير بالذات
لا يقال ذلك أي علمنا بذواتنا جائز لتركيب في أنفسنا بوجه من الوجوه أي سواء كان تركيبا خارجيا أو ذهنيا
وكلامنا في الواحد الحقيقي الذي لا تكثر فيه أصلا فلو كان عالما بذاته لزم تحقق النسبة بين الشيء ونفسه قطعا بخلاف المركب إذ فيه كثرة يمكن أن يتصور بينها نسبة فلا يتجه النقض به لأنا نقول أحدنا على تقدير علمه بنفسه لو كان له نسبة إلى كل جزئية فقد حصل المطلوب إذ قد تحقق النسبة بينه وبين جميع أجزائه وهو عينه وإلا فلا يعلم إلا أحد جزئيه
فيكون العالم غير المعلوم لأن الجزء غير الكل فلا يعلم نفسه والمفروض خلافه
فإن قلت من أين ثبت التغاير الاعتباري المصحح للنسبة قلت من حيث أن ذات الشيء باعتبار صلاحيتها للمعلومية في الجملة مغايرة لها باعتبار صلاحيتها للعالمية في الجملة
وهذا القدر من التغاير يكفينا
الثانية من تلك الفرق من قال من قدماء الفلاسفة إنه لا يعلم شيئا أصلا
وإلا علم نفسه
إذ يعلم على تقدير كونه عالما بشيء أنه يعلمه
وذلك يتضمن علمه بنفسه
وقد بينا امتناعه في مذهب الفرقة الأولى
لا يقال لا نسلم أن من علم شيئا علم أنه عالم به
وإلا لزم من العلم بشيء العلم

بالعلم بذلك الشيء
وهكذا فيلزم من العلم بشيء واحد العلم بأمور غير متناهية وهو محال لأنا نقول المدعي لزوم إمكان علمه به أي بأنه عالم
وذلك مما لا خفاء فيه فإن من علم شيئا أمكنه أن يعلم أنه عالم به بالضرورة
وإلا جاز أن يكون أحدنا عالما بالمجسطي والمخروطات وسائر العلوم الدقيقة الكثيرة المباحث المثبتة بالدلائل القطعية ولكن لا يمكنه أن يعلم أنه عالم به
وإن التفت إلى ذلك وبالغ في الاجتهاد
وذلك سفسطة ظاهرة وإذا لزم الإمكان
ثبت المدعي لأن إمكان المحال محال
والجواب إنه إن امتنع منه تعالى علمه بنفسه منعنا الملازمة وقلنا الضرورة التي ذكرتموها إنما هي فيمن يمكنه العلم بنفسه
وإن أمكن له علمه بنفسه منعنا بطلان التالي المتضمن لهذا العلم الممكن بالفرض
وأيضا قد مر بطلان ما ذكروه في إثبات أنه لا يعلم نفسه
الثالثة من الفرق المخالفة من قال إنه لا يعلم غيره مع كونه عالما بذاته
وذلك لأن العلم بالشيء غير العلم بغيره أي بغير ذلك الشيء من الأشياء الأخر وإلا فمن علم شيئا علم جميع الأشياء لأن العلم به حينئذ عن العلم بها
وهو باطل
وإذا كان العلم بشيء مغايرا للعلم بشيء آخر فيكون له تعالى بحسب كل معلوم علم على حدة فيكون في ذاته كثرة متحققة غير متناهية هي العلوم بالمعلومات التي لا تتناهى
وذلك محال بالتطبيق
والجواب أنه أي ما ذكرتموه من كثرة العلم كثرة في الإضافات والتعلقات وذلك لأنه لا نسلم تعدد ذات العلم بتعدد المعلومات بل العلم واحد تتعدد تعلقاته بحسب معلوماته
وذلك أي تكثر الإضافات والتعلقات لا تمتنع لأنها أمور اعتبارية لا موجودة
الرابعة من تلك الفرق من قال إنه لا يعقل غير المتناهي
إذ المعقول متميز عن غيره لأن العلم إما نفس التميز أو صفة توجبه
ولأنه لو لم يتميز

عن غيره لم يكن هو بالمعقولية أولى منه وغير المتناهي غير متميز عن غيره بوجه من الوجوه
وإلا لكان له حد وطرف به يتميز وينفصل عن الغير وإذا كان له طرف فليس غير متناه
هذا خلف
والجواب من وجهين
الأول إنه معقول من حيث أنه غير متناه يعني أن المجموع من حيث هو مجموع متميز عن غيره بوصف اللاتناهي ومعقول بحسبه
وإن كانت آحاده غير متميزة كما ذكرتم
وفيه نظر لأن ذلك الوصف
أعني اللاتناهي
أمر واحد عارض لغير المتناهي
وهو غير ما صدق عليه أنه غير متناه
والنزاع إنما وقع فيه لأنه الموصوف باللاتناهي لا في ذلك المفهوم العارض لأنه موصوف بالوحدة
ولما اتجه أن يقال المراد أن مجموع ما صدق عليه معقول باعتبار عارضه
لا أن عارضه معقول في نفسه
أشار إلى دفعه فقال وبالجملة فالنزاع في غير المتناهي تفصيلا لا إجمالا
وما ذكرتم علم إجمالي لا منازعة فيه لأحد
كيف ولا بد منه في الحكم بعد تميزه
الثاني المعقول كل واحد واحد ومن غير المتناهي وأنه متميز عن غيره من تلك الآحاد ومن غيرها ولا يضر في تميز كل واحد واحد عدم تميز الكل من حيث هو كل
ولم لزم من هذا الجواب كون غير المتناهي معلوما له تعالى تفصيلا لا إجمالا على عكس الجواب الأول أعرض عنه أيضا فقال والحق أن نقول لا نسلم أن المعقول المتميز يجب أن يكون له حد ونهاية يمتاز به عن غيره
وإنما يكون كذلك أن لو كان تعقله بتميزه وانفصاله عن غيره بالحد والنهاية
وأنه ممنوع لأن وجوه التميز لا تنحصر في الحد

الخامسة منها من قال وهم جمهور الفلاسفة لا يعلم الجزئيات المتغيرة
وإلا فإذا علم مثلا أن زيدا في الدار الآن ثم خرج زيد عنها فإما أن يزول ذلك العلم ويعلم أنه ليس في الدار ويبقى ذلك العلم بحاله
والأول يوجب التغير في ذاته من صفة إلى أخرى
والثاني يوجب الجهل وكلاهما نقص يجب تنزيهه تعالى
قالوا وكذا لا يعلم الجزئيات المتشكلة وإن لم تكن متغيرة كأجرام الأفلاك الثابتة على أشكالها لأن إدراكها إنما يكون بآلات جسمانية
وكذا الحال في الجزئيات المتشكلة المتغيرة إذ قد اجتمع فيها المانعان بخلاف الجزئيات التي ليست متشكلة ولا متغيرة فإنه يعلمها بلا محذور كذاته تعالى وذوات العقول
والجواب منع لزوم التغير فيه بل التغير إنما هو في الإضافات لأن العلم عندنا إضافة محضة أو صفة حقيقية ذات إضافة
فعلى الأول يتغير نفس العلم
وعلى الثاني يتغير إضافاته فقط
وعلى التقديرين لا يلزم تغير في صفة موجودة بل في مفهوم اعتباري وهو جائز
وإدراك المتشكل إنما يحتاج إلى آلة جسمانية إذا كان العلم حصول الصورة
وأما إذا كان إضافة محضة أو صفة حقيقة ذات إضافة بدون الصورة فلا حاجة إليها
وقد أجاب عنه مشايخ المعتزلة وكثير من الأشاعرة بأن العلم بأنه وجد الشيء و العلم بأنه سيوجد واحد
فإن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا فعند حصول الغد يعلم بهذا العلم أنه دخل البلد الآن إذا كان علمه هذا مستمرا بلا غفلة مزيلة له
وإنما يحتاج أحدنا إلى علم آخر متجدد يعلم به أنه دخل الآن لطريان الغفلة عن الأول
والباري تعالى يمتنع عليه الغفلة
فكان علمه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد فلا يلزم من تغير المعلوم من عدم إلى وجود تغير في علمه
وهذا الذي ذكروه مأخوذ من قول الحكماء علمه تعالى ليس

علما زمانيا أي واقعا في زمان كعلم أحدنا بالحوادث المختصة بأزمنة متعينة فإنه واقع في زمان مخصوص
فما حدث منها في ذلك الزمان كان حاضرا عنده
وما حدث قبله أو بعده كان ماضيا أو مستقبلا
وأماعلمه تعالى فلا اختصاص له بزمان أصلا فلا يكون ثمة حال وماض ومستقبل فإن هذه صفات عارضة للزمان بالقياس إلى ما يختص بجزء منه إذ الحال معناه زمان حكمي هذا
الماضي زمان هو قبل زمان حكمي هذا
والمستقبل زمان هو بعد زمان حكمي هذا
فمن كان علمه أزليا محيطا بالزمان وغير محتاج في وجوده إليه وغير مختص بجزء معين من أجزائه لا يتصور في حقه حال ولا ماض ولا مستقبل فالله سبحانه وتعالى عالم عندهم بجميع الحوادث الجزئية وأزمنتها الواقعة هي فيها لا من حيث أن بعضها واقع الآن وبعضها في الماضي وبعضها في المستقبل
فإن العلم بها من هذه الحيثية يتغير بل يعلمها علما متعاليا عن الدخول تحت الأزمنة ثابتا أبد الدهر
وتوضيحه أنه تعالى لما لم يكن مكانيا كانت نسبته إلى جميع الأمكنة على سواء فليس فيها بالقياس إليه قريب وبعيد ومتوسط
كذلك لما لم يكن هو وصفاته الحقيقية زمانية لم يتصف الزمان مقيسا إليه بالمضي والاستقبال والحضور بل كان نسبته إلى جميع الأزمنة سواء
فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له كل في وقته وليس في علمه كان وكائن وسيكون بل هي حاضرة عنده في أوقاتها فهو عالم بخصوصيات الجزئيات وأحكامها
لكن لا من حيث دخول الزمان فيها بحسب أوصافها الثلاثة إذ لا تحقق لها بالنسبة إليه
ومثل هذا العلم يكون ثابتا مستمرا لا يتغير أصلا كالعلم بالكليات
قال بعض الفضلاء وهذا معنى قولهم أنه يعلم الجزئيات على وجه كلي لا ما توهمه بعضهم من أن علمه محيط بطبائع الجزئيات وأحكامها دون خصوصياتها
وما يتعلق بها من الأحوال
كيف وما ذهبوا إليه من أن

العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول ينافي ما توهموه كما سبقت إليه الإشارة
وقد أنكر أبو الحسين البصري ذلك الذي ذكره هؤلاء المشايخ من أن علمه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد
واحتج عليه بوجوه
الأول حقيقة أنه سيقع غير حقيقة أنه وقع بالضرورة فالعلم به غير العلم به
لأن اختلاف المتعلقين أي المعلومين يستدعي اختلاف العلم بهما
الثاني أن شرط العلم بأنه وقع هو الوقوع
وشرط العلم بأنه سيقع هو عدم الوقوع
فلو كانا واحدا لم يختلف شرطهما أصلا فضلا عن التنافي بين شرطيهما
وقد يعبر عنه أي عن الوجه الثاني بأن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا وجلس إلى مجيء الغد في بيت مظلم مستديما لذلك العلم فلم يعلم لأجل الظلمة دخول غد لم يعلم أنه دخل البلد بذلك العلم المستمر فكيف يكون أحدهما عين الآخر نعم لو انضم إليه أي إلى العلم بأنه سيدخل العلم بدخول غد علم من هذين العلمين ذلك أي أنه دخل فيكون حينئذ هذا العلم متفرعا على العلمين السابقين لا عين أحدهما
وإنما لم يجعله وجها ثالثا كما فعله الإمام الرازي في الأربعين لأن محصوله هو أن العلم بأنه سيدخل البلد غدا ليس مشروطا بالعلم بمجيء الغد والعلم بأنه دخل في مثالنا هذا مشروط به فيكون راجعا إلى الوجه الثاني لا وجها على حدة
الثالث يمكن العلم بأنه وقع مع الجهل بأنه سيقع كما إذا علم الحادث حال حدوثه ولم يشعر به قبله أصلا وبالعكس كما إذا علم حاله قبل حدوثه ولم يشعر به في أوانه وغير المعلوم أي ما ليس معلوما في زمان غير المعلوم أي مغاير لما هو معلوم في ذلك الزمان
وإذا تغاير المعلومان تغاير العلمان
وعلى هذا فقد رجع الثالث إلى الأول
والصواب كما هو في الأربعين أنه يمكن العلم بأنه سيقع مع الجهل بأنه عالم

بأنه وقع وبالعكس
وغير المعلوم غير المعلوم فيثبت حينئذ تغاير العلمين ابتداء
ويشهد لما قلناه قوله وقد يعبر عن هذا الثالث بأن قبل الوقوع اعتقاد أنه سيقع علم واعتقاد أنه وقع جهل
وبعد الوقوع وبالعكس فتغايرا لتنافي وصفيهما
أعني العلمية والجهلية كتنافي وصف المعلومية والمجهولية المعتبرتين في الوجه الثالث
وقد عده الإمام الرازي وجها برأسه ثم إن أبا الحسين بعد إبطاله جواب مشايخه التزم وقوع التغير في علم الباري سبحانه وتعالى بالمتغيرات
وزعم أن ذاته تعالى تقتضي كونه عالما بالمعلومات بشرط وقوعها فيحدث العلم بها عند وجودها ويزول عند زوالها ويحصل علم آخر
ورد عليه بأنه يلزم منه أن لا يكون الباري سبحانه وتعالى في الأزل عالما بأحوال وجودات الحوادث وهو تجهيله له تعالى عنه
السادسة من الفرق المخالفين من قال لا يعلم الجميع بمعنى سلب الكل أي رفع الإيجاب الكلي لا بمعنى السلب الكلي كما زعمته الفرقة الثانية إذ لو علم كل شيء
فإذا علم شيئا علم أيضا علمه به لأن هذا العلم شيء من الأشياء ومفهوم من المفهومات
وكذا علم علمه بعلمه لأنه شيء آخر ويلزم التسلسل في العلوم
والجواب أنه تسلسل في الإضافات لا في أمور موجودة لأن العلم من قبيل الإضافة والتعلق عندنا وأنه أي تسلسل الإضافات غير ممتنع كما مر غير مرة قبل
نقول كيف يلزم التسلسل في الأمور الموجودة على تقدير كون العلم صفة حقيقية والحال أنه قد يكون علمه بعلمه

نفس علمه كما ذهب إليه الإمام والقاضي فإنهما قالا كل شيئين لا يجوز انفكاك العلم بهما كالعلم بالشيء والعلم بالعلم به وكالعلم بالتضاد والاختلاف
فقد يتعلق بهما علم واحد كما سلف في مباحث العلم من الموقف الثالث
تنبيه العلم صفة زائدة على ذاته تعالى قائمة به لما مر من بيان زيادة الصفات على الإجمال وأنكره المعتزلة لوجوه
الأول لو كان له تعالى علم فإذا تعلق بشيء وتعلق علمنا به فقد تعلقا به من وجه واحد وهو تعلق العلوم بمعلوماتها إما إجمالا أو تفصيلا فيلزم حينئذ تماثلهما لأن كل علمين تعلقا بمعلوم واحد من جهة واحدة فهما متماثلان ويلزم إما قدمهما معا أو حدوثهما معا لأن التماثلات يجب اشتراكها في اللوازم
فإن قيل في جوابهم هذا لازم عليكم في العالمية فإنه إذا تعلق عالميته تعالى بشيء وتعلق به عالميتنا من وجه واحد لزم تماثلهما واشتراكهما في القدم والحدوث فما هو جوابكم في العالمية فهو جوابنا في العلم
قلنا لهم أن يقولوا في دفع هذا النقض عالميته تعلق الذات بالمعلوم وعالميتنا تعلق العلم بالمعلوم
فليسا أي هذان التعلقان من وجه واحد فلا يكونان متماثلين
والجواب أنه لا يلزم من الاشتراك من وجه التعلق وطريقه التماثل إذ المختلفات بل المتضادات تشترك في لازم واحد

فإن قيل إذا لم يدل ما ذكرناه على تماثل العلمين فبم يعرف تماثل العلوم
قلنا إن كان هناك طريق آخر إلى معرفة تماثلها فذلك يتوصل به إليها وإلا توقف كما في سائر الأشياء التي لا سبيل لنا إلى معرفتها سلمنا التماثل
لكن لا يجب الاشتراك في القدم والحدوث لأن المتماثلات قد تختلف فبهما كما في الوجود فإن وجوده تعالى قديم ووجود الممكنات حادث مع تماثلهما
وسره أن المتماثلين لا بد أن يتمايزا بشيء فربما كان ذلك الشيء مبدأ لحكم مختص
الثاني من الوجوه أنه تعالى عالم بما لا نهاية له فإذا فرض أن علمه زائد على ذاته فيلزم أن يكون له علوم موجودة غير متناهية ضرورة أن العلم بشيء غير العلم بشيء آخر
والجواب أن التعدد في التعلقات العلمية وهي إضافية فيجوز لا تناهيها
وأما ذات العلم فواحدة
الثالث منها يلزم على تقدير كونه عالما بعلم أن يكون علمه بعلمه أيضا زائدا على علمه وتتسلسل العلوم الموجودة إلى ما لا نهاية له
والجواب أنه في الإضافات لأن علمه واحد
وله تعلقات بمعلومات لا تتناهى
من جملتها علمه الذي يخالفه بالاعتبار دون الذات
الرابع لو كان تعالى ذا علم لكان فوقه عليم
واللازم باطل اتفاقا
بيان الملازمة قوله تعالى وفوق كل ذي علم عليم
والجواب المعارضة بقوله وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه

ولا يحيطون بشيء من علمه
وتأويله بالمعلوم خلاف الظاهر إن الله عنده علم الساعة
كيف وأنه أي قوله وفوق كل ذي علم عليم دليل لفظي عام يقبل التخصيص فيجب تخصيصه بما عدا الباري سبحانه وتعالى ليوافق ما ذكرناه من الدليل القطعي على ثبوت علمه تعالى

المقصد الرابع في أنه تعالى حي
المتن هذا مما اتفق عليه الكل لأنه عالم قادر
وقد أطبقوا أيضا عليه
وكل عالم قادر فهو حي بالضرورة
لكن اختلفوا في معنى حياته لأنها في حقنا إما اعتدال المزاج النوعي وإما قوة تتبع ذلك الاعتدال ولا تتصور في حقه تعالى فقالوا إنما هي كونه يصح أن يعلم ويقدر
وهو مذهب الحكماء وأبى الحسين البصري من المعتزلة
وقال الجمهور إنها صفة توجب صحة العلم إذ لولا اختصاصه بصفة توجب صحة العلم لكان اختصاصه بصحة العلم ترجيحا بلا مرجح
وأجابوا عنه بأنه منقوض باختصاصه بتلك الصفة
فإنه لو كان بصفة أخرى لزم التسلسل
فلا بد من الانتهاء إلى ما لا يكون بصفة أخرى
والحق أن ذاته تعالى مخالفة بالحقيقة لسائر الذوات فقد يقتضي الاختصاص بأمر
وليس جعل ذلك علة صحة العلم أولى من جعلها نفس صحة العلم
فمن أراد إثبات زيادة فعليه بالدليل

الشرح
المقصد الرابع في أنه تعالى حي
هذا ما اتفق عليه الكل من أهل الملل وغيرهم لأنه عالم قادر لما مر من الدلائل وقد أطبقوا أيضا عليه أي على أنه عالم إلا شرذمة لا يعبأ بهم كما عرفته
وكل عالم قادر فهو حي بالضرورة
لكن اختلفوا في معنى حياته لأنها في حقنا إما اعتدال المزاج النوعي كما يشعر به كلام المحصل حيث قالوا المراد من الحياة إن كان اعتدال المزاج أو قوة الحس والحركة فهو معقول
وإن كان أمرا ثالثا فلا بد من تصويره وإقامة الدليل عليه وإما قوة تتبع ذلك الاعتدال سواء كانت نفس قوة الحس والحركة أو مغايرة لها على ما اختاره ابن سينا كما مر ولا تتصور الحياة بشيء من هذه المعاني في حقه تعالى فقالوا إنما هي كونه يصح أن يعلم ويقدر
وهو مذهب الحكماء وأبي الحسين البصري من المعتزلة
وقال الجمهور من أصحابنا ومن المعتزلة إنها صفة توجب صحة العلم والقدرة إذ لولا اختصاصه بصفة توجب صحة العلم الكامل والقدرة الشاملة لكان اختصاصه بصحة العلم والقدرة المذكورين ترجيحا بلا مرجح
وأجابوا عنه بأنه منقوض باختصاصه بتلك الصفة الموجبة للصحة فإنه لو كان بصفة أخرى لزم التسلسل في الصفات الوجودية
هذا خلف
فلا بد من الانتهاء إلى ما يكون اختصاصه به بصفة أخرى فيكون ترجيحا بلا مرجح
ولما كان استدلالهم هذا مبنيا على تماثل الذوات أشار إلى بطلانه بقوله والحق أن ذاته تعالى مخالفة بالحقيقة لسائر الذوات فقد

يقتضي هو لذاته الاختصاص بآخر فلا يلزم ترجيح من غير مرجح
ومن العلوم أن ليس جهل ذلك الأمر الذي يقتضيه ذاته لذاته علة صحة العلم أولى من جعلها أي جعل ذلك الأمر أشبه نظر إلى قوله نفس صحة العلم
فمن أراد إثبات زيادة على نفس الصحة فعليه بالدليل

المقصد الخامس
المتن في أنه تعالى مريد
وفيه بحثان
البحث الأول في إثبات الإرادة
ولا بد ههنا من تصويرها أولا ثم تقريرها
فقال الحكماء إرادته نفس علمه بوجه النظام الأكمل ويسمونه عناية
وقال أبو الحسين هو علمه ينفع في الفعل
وذلك كما يجده كل عاقل من نفسه إن ظنه أو اعتقاده بنفع الفعل يوجب الفعل
ويسميه بالداعية
وقال النجار إنه أمر عدمي
وهو عدم كونه مكرها
وقال الكعبي هي في فعله العلم
وفي فعل غيره الأمر به
وقال

أصحابنا إنها صفة ثالثة مغايرة للعلم والقدرة توجب تخصيص أحد المقدورين بالوقوع
واحتجوا عليه بأن الضدين نسبتهما إلى القدرة سواء إذ كما يمكن أن يقع بها هذا يمكن أن يقع بها ذاك من غير فرق
وكل واحد منهما فرض
فإن نسبته إلى الأوقات سواء
فكما يمكن أن يقع في وقته الذي وقع فيه يمكن أن يقع قبله وبعده
فلا بد من مخصص
وإلا لزم ترجيح أحد المتساويين لا بمرجح
وليس القدرة لاستواء نسبتها إليهما
ولا العلم لأنه تبع الوقوع
فلا يكون الوقوع تبعا له
وإلا لزم الدور
فإذا هو أمر ثالث
وهو المطلوب
فإن قيل الإرادة من حيث هي إرادة نسبتها إلى الضدين سواء فيعود الكلام فيها ويلزم التسلسل
قلنا لا نسلم ذلك بل تعلقها بأحدهما لذاتها لا يقال فيجب ذلك الجانب ويمتنع الآخر فيلزم سلب الاختيار
قلنا وجوب الشيء بالاختيار لا ينافي الاختيار
وربما قال الحكماء لا نسلم أن كل علم فهو تبع للوقوع
وإنما ذلك في العلم الانفعالي
والأصحاب يدعون الضرورة في استواء نسبة العلم والقدرة إلى الطرفين
البحث الثاني إرادته تعالى قديمة
إذ لو كانت حادثة لاحتاجت إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل
وقالت المعتزلة إنها حادثة قائمة بذاتها
فكأنه مأخوذ من قول الحكماء إنه عند وجود المستعد للفيض يحصل الفيض
وقالت الكرامية إنها حادثة قائمة بذاته تعالى
ويعرف بطلانهما بما ذكرنا
خاتمة قال الإمام الرازي كونه تعالى مريدا إما أن يكون نفس ذاته وهو قول ضرار
وإما أمرا سلبيا وهو أحد قولي النجار
وإما ثبوتيا معللا

بذاته وهو القول الآخر له
وإما معللا بمعنى قديم وهو قول أصحابنا
وإما بمعنى حادث إما قائم بذاته تعالى
وهو قول الكرامية
أو موجود لا في محل
وهو قول الجبائية من المعتزلة
أو قائم بذات غير ذات الله تعالى
ولم نر أحدا ذهب إليه
ويبطل الأول أنا نعلمه ونشك في كونه مريدا
والثاني لزوم كون الجماد مريدا
والخامس والسادس لزوم التسلسل
والخامس خاصة أنه لا يقوم الحادث بذاته تعالى
والسادس أنه يلزم عرض لا في محل
وأن نسبة ما لا محل له إلى جميع الذوات سواء
وكونه ذاته تعالى لا في محل لا يوجب اختصاصه به
الشرح
المقصد الخامس في أنه تعالى مريد
وفيه بحثان
البحث الأول في إثبات الإرادة
ولا بد ههنا من تصويرها أولا ثم تقريرها وتحقيقها بالبرهان ثانيا فقال الحكماء إرادته تعالى هي نفس علمه بوجه النظام الأكمل ويسمونه عناية
قال ابن سينا العناية هي إحاطة علم الأول تعالى بالكل وبما يجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن النظام
فعلم الأول بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل منبع لفيضان الخير في الكل من غير انبعاث قصد وطلب من الأول الحق

وقال أبو الحسين وجماعة من رؤساء المعتزلة كالنظام والجاحظ والعلاف وأبي القاسم البلخي ومحمود الخوارزمي إرادته تعالى هو علمه ينفع في الفعل
وذلك كما يجده كل عاقل من نفسه إن ظنه أو اعتقاده ينفع في الفعل أو علمه به يوجب الفعل ويسميه أبو الحسين بالداعية
ولما استحال الظن والاعتقاد في حقه تعالى انحصر داعيته في العلم بالنفع ونقل عن أبي الحسين وحده أنه قال الإرادة في الشاهد زائدة على الداعي
وقال الحسين النجار أنه أي كونه مريدا أمر عدمي
وهو عدم كونه مكرها ومغلوبا
وقال الكعبي هي في فعله العلم بما فيه من المصلحة وفي فعل غيره الأمر به
وقال أصحابنا ووافقهم جمهور معتزلة البصرة أنها صفة ثالثة مغايرة للعلم والقدرة توجب تلك الصفة تخصيص أحد المقدورين بالوقوع
واحتجوا عليه أي على ثبوت تلك الصفة بأن الضدين نسبتهما إلى القدرة سواء إذ كما يمكن أن يقع بها هذا الضد يمكن أن يقع بها ذاك الضد من غير فرق بينهما في إمكان الوقوع بها وكل واحد منهما فرض وقوعه بها فإن نسبته إلى الأوقات المعينة كلها سواء
فكما يمكن أن يقع في وقته الذي وقع فيه يمكن أن يقع قبله وبعده
فلا بد لتخصيصه بالوقوع دون ضده
ولتخصيص وقوعه بوقته المعين دون سائر الأوقات من ثبوت

مخصص يقتضيه وإلا لزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر لا بمرجح هذا خلف
وليس ذلك المخصص القدرة لاستواء نسبتها إليهما وإلى الأوقات كلها كما عرفت ولا العلم لأنه تبع الوقوع أي العلم بوقوع شيء في وقت معين تابع لكونه بحيث يقع فيه لأنه ظله وحكاية عنه
فلا يكون الوقوع تبعا له
وإلا لزم الدور
فإذن هو أي المخصص أمر ثالث يكون مغايرا للحياة والسمع والبصر والكلام أيضا
إذ لا يصلح شيء منها للتخصيص قطعا
وهو المطلوب
فإن قيل الإرادة من حيث هي إرادة نسبتها إلى الضدين وإلى الأوقات سواء إذ كما يجوز تعلقها بهذا الضد يجوز تعلقها بالضد الآخر
وكما يجوز إرادة وقوع واحد منهما في وقت يجوز إرادة وقوعه في وقت آخر فيعود الكلام فيها فيقال لا بد للتخصيص من مخصص مغاير للعلم والقدرة والإرادة فنثبت صفة رابعة ويلزم التسلسل
قلنا لا نسلم ذلك أي تساوي نسبة الإرادة إلى الضدين والأوقات حتى يلزم التسلسل بل هي صفة تعلقها بأحدهما ووقوعه في وقت معين لذاتها المخصوصة فلا حاجة إلى صفة أخرى
فإن قيل إذا تعلقت الإرادة لذاتها بأحد جانبي الفعل في وقت معين وعلى وجه مخصوص فيجب ذلك الجانب في ذلك الوقت على ذلك الوجه ويمتنع الجانب الآخر وحينئذ فيلزم الإيجاب وسلب الاختيار

قلنا أي لأنا نقول وقد مر مثله وجوب الشيء بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يحققه لأنه فرعه
وههنا بحث
وهو أن إرادة أحد الضدين إن كانت مغايرة لإرادة الآخر وكانت كل واحدة منهما لذاتها متعلقة بأحدهما على التعيين
اتجه أن يقال إذا لزم أحد الإرادتين ذات المريد لم يمكن له الإرادة المتعلقة بالجانب الآخر بدلا عن الإرادة الأولى
فلا قدرة بمعنى صحة الفعل والترك
وإذا لم يلزم جاز تجدد الإرادة وحدوثها
وإن لم تكن مغايرة لها بل تتعلق إرادة واحدة تارة بهذا وتارة بذاك
فإذا كان تعلقها بأحدهما لذاتها لم يتصور تعلقها بالآخر ويلزم الإيجاب
وما ذكره من أن الوجوب المترتب الاختيار لا ينافيه
إنما يصحح في القدرة
بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل كما سبق تصويره فتذكر وربما قال الحكماء لا نسلم أن كل علم فهو تبع للوقوع
وإنما ذلك في العلم الانفعالي التابع لوجود المعلوم
وأما العلم الفعلي الذي كلامنا فيه فإنه متبوع وسبب لوقوع المعلوم فيصلح أن يكون مخصصا كما اخترناه في الباري سبحانه وتعالى
والأصحاب في جواب الحكماء يدعون الضرورة في استواء نسبة العلم والقدرة إلى الطرفين فلا يكون شيء منهما مخصصا وإن كان العلم فعليا
البحث الثاني إرادته تعالى قديمة
إذ لو كانت حادثة ولا شك أنها مستندة إلى المختار الذي هو ذاته تعالى لاحتاجت إلى إرادة أخرى مستندة إلى إرادة ثالثة وهكذا ولزم التسلسل في الإرادات الموجودة
وقالت المعتزلة أي الجبائيان وعبد الجبار ومن تابعهم من

المعتزلة إنها حادثة قائمة بذاتها لا بذاته تعالى فكأنه مأخوذ من قول الحكماء إنه عند وجود المستعد للفيض يحصل الفيض وتوجيه الأخذ على ما نقل عن المصنف أن قيام الصفة بذاتها يستلزم أن لا تكون صفة وهو ضروري البطلان
فكأنهم أرادوا بالإرادة المعدات المكتشفة بالممكن الذي يحدث في المادة
وذلك لأن المعد يخصص وقوع المقدور على صفة معينة بوقت معين يتم فيه الاستعداد المستفاد منه
ولا معنى للإرادة إلا الأمر المخصص كذلك والمعدات قائمة بذواتها
فالإرادة بهذا المعنى قائمة بذاتها
وفيه بعد لأنه خروج عن قانون الملة إلى القول بوجود المادة القديمة واختصاص الحوادث بأوقاتها على حسب استعداداتها المتعاقبة إلى غير النهاية
والأظهر أن يقال وجه الأخذ أنهم لما سمعوا مقالتهم هذه فهموا أن مخصص الحادث بوقته يجب أن يكون حادثا فيه
إذ لو كان موجودا قبله لزم الترجيح بلا مرجح
ولما اعتقدوا أن مخصص الحوادث إرادته تعالى حكموا بحدوثها
ولما لم يجوزوا قيام الحادث بذاته تعالى التجأوا إلى أنها قائمة بذاتها
وقالت الكرامية إنها حادثة قائمة بذاته تعالى
ويعرف بطلانهما بما ذكرنا من لزوم التسلسل في الإرادات على أن قيام الصفة بذاتها غير معقول وقيام الحادث بذاته تعالى قد مر بطلانه
خاتمة في ضبط مذاهب المتكلمين في كونه تعالى مريدا
قال

الإمام الرازي في الأربعين كونه تعالى مريدا إما أن يكون نفس ذاته
وهو قول ضرار وإما أن لا يكون نفس ذاته وحينئذ إما أن يكون أمرا سلبيا
وهو أحد قولي النجار كما مر من كونه غير مغلوب ولا مكره
وإما أمرا ثبوتيا ولا بد له من علة لإمكانه فيكون إما معللا بذاته تعالى وهو القول الآخر له
وإما معللا بغير ذاته
وحينئذ إما أن يعلل بمعنى قديم قائم بذاته تعالى وهو قول أصحابنا
وإما بمعنى حادث إما قائم بذاته تعالى
وهو قول الكرامية أو موجود لا في محل وهو قول الجبائية وعبد الجبار من المعتزلة أو قائم بذات غير ذات الله تعالى
ولم نر أحد ذهب إليه ويبطل الأول أنا نعلمه ونشك في كونه مريدا
ويبطل الثاني لزوم كون الجماد مريدا لأنه غير مغلوب ويبطل الخامس والسادس لزوم التسلسل في الإرادات ويبطل الخامس خاصة أنه لا يقوم الحادث بذاته تعالى والسادس خاصة أنه يلزم عرض لا في محل
وأن نسبة ما لا محل له إلى جميع الذوات سواء فإذا كانت الإرادة قائمة بذاتها فليس كونه تعالى مريدا بها أولى من كون غيره مريدا بها وكون ذاته تعالى لا في محل كتلك الإرادة لا يوجب اختصاصه به
لأن كونه لا في محل أمر سلبي
فلا يكون علة للثبوت

المقصد السادس
المتن في أنه تعالى سميع بصير
السمع دل عليه
وهو مما علم بالضرورة من دين محمد والحديث مملوء به لا يمكن إنكاره ولا تأويله
وقد احتج عليه بعض الأصحاب بأنه تعالى حي
وكل حي يصح

اتصافه بالسمع والبصر
ومن صح اتصافه بصفة اتصف بها أو بضدها
وضد السمع والبصر هو الصمم والعمى
وأنهما من صفات النقص
فامتنع اتصافه تعالى بهما فوجب بالسمع والبصر
ويتوقف على مقدمات
الأول إنه حي بحياة مثل حياتنا
وأنه ممنوع
إذ حياته مخالفة لحياة غيره
ولهذا لا يصح عليه الجهل والظن والشهوة والنفرة
الثانية إن الصمم والعمى ضدان لهما
وهو ممنوع
بل عدم ملكه لهما واتصافه بعدمهما ليس نقصا
وهو أول المسألة
الثالثة إن المحل لا يخلو عن الشيء وضده
وهو دعوى بلا دليل
وقد تقدم ضعفه
الرابعة إنه تعالى منزه عن النقائص
والعمدة في إثباته الإجماع فليعول عليه في هذه المسألة ابتداء ويكفون مؤنة سائر المقدمات
كيف وحجية الإجماع إن أثبتناها بالظواهر فالظواهر الدالة على السمع والبصر أقوى منها
وإن أثبتناها بالعلم الضروري من الدين فذلك العلم ثابت في المسألة سواء بسواء
تنبيه قد تقدم أن طائفة يزعمون أن الإدراك نفس العلم
فهؤلاء زعموا أن السمع والبصر نفس العلم بالمسموع والمبصر عند حدوثهما فيكونان حادثين
احتج بوجهين
الأول إنهما تأثر الحاسة أو مشروطان به
وأنه محال في حقه
والجواب منع ذلك
ولا يلزم من حصولهما مقارنا للتأثر فينا كونهما نفس التأثر أو مشروطين به
وإن سلمنا أنه كذلك في الشاهد فلم قلتم إنه في الغائب كذلك
فإن صفاته تعالى مخالفة بالحقيقة لصفاتنا
فجاز ألا يكون سمعه وبصره نفس التأثر ولا مشروطا به
الثانية إثبات السمع والبصر في الأزل
ولا مسموع ولا مبصر خروج عن المعقول

والجواب إن انتفاء التعلق لا يستلزم انتفاء الصفة كما في سمعنا وبصرنا
فإن خلوهما عن الإدراك لا يوجب انتفائهما أصلا
الشرح
المقصد السادس في أنه تعالى سميع بصير
السمع دل عليه وهو مما علم بالضرورة من دين محمد حاجة إلى الاستدلال عليه كما هو حق سائر الضروريات الدينية والقرآن
وكذا الحديث مملوء به بحيث لا يمكن إنكاره ولا تأويله لأنه معلوم ضروري بلا اشتباه فيه
وقد احتج عليه بعض الأصحاب بأنه تعالى حي
وكل حي يصح اتصافه بالسمع والبصر
ومن صح اتصافه بصفة اتصف بها أو بضدها
وضد السمع والبصر هو الصمم والعمى
وأنهما من صفات النقص فامتنع اتصافه تعالى بهما فوجب اتصافه بالسمع ويتوقف هذا الاحتجاج على مقدمات لا صحة لها
الأول إنه حي بحياة مثل حياتنا المصححة للاتصاف بالسمع والبصر
وأنه ممنوع إذ حياته مخالفة لحياة غيره فلا يجب كونها مصححة لذلك الاتصاف
ولهذا لا يصح عليه بسبب حياته الجهل والظن والشهوة والنفرة مع صحتها علينا بسبب حياتنا
المقدمة الثانية إن الصمم والعمى ضدان لهما
وهو أيضا ممنوع بل هما عدم ملكه لهما فلا يلزم من خلوه عن السمع والبصر اتصافه بهما لجواز انتفاء القابلية رأسا وإما اتصافه بعدمهما مع انتفاء القابلية فإنه ليس نقصا عندنا
كيف وهو أول المسألة المتنازع فيها بيننا
المقدمة الثالثة إن المحل لا يخلو عن الشيء وضده
وهو دعوى بلا

دليل عليها
وقد تقدم ضعفه بأن الهواء خال عن الألوان والطعوم المتضادة كلها
المقدمة الرابعة إنه تعالى منزه عن النقائص كلها
والعمدة في إثباته الإجماع على أن ساحة عزته مبرأة عن شوائب النقص
وحينئذ فليعول عليه أي على الإجماع في هذه المسألة ابتداء إذ قد أطبقوا على أنه تعالى سميع بصير وإذا اكتفوا بالإجماع يكفون مؤنة سائر المقدمات
كيف وحجية الإجماع الدال على التنزه إن أثبتناها بالظواهر من الآيات والأحاديث التي تدل على حجية الإجماع فالظواهر الدالة على السمع والبصر أقوى منها أي من الظواهر الدالة على حجية الإجماع إذ يتجه على هذه اعتراضات كثيرة يحتاج إلى دفعها
فلا معنى للعدول عما هو أقوى في إثبات المدعي إلى التمسك بشيء يحتاج في إثباته إلى ما هو أضعف لأنه تطويل للمسافة مع التشبث بالأضعف
وإن أثبتناها أي حجية الإجماع بالعلم الضروري من الدين فذلك العلم الضروري ثابت في المسألة التي نحن فيها سواء بسواء فلا حاجة بنا في إثبات السمع والبصر إلى التمسك بالإجماع ثم التمسك في حجيته بالعلم الضروري
فإنه تطويل بلا طائل بل نقول ابتداء هو مما علم من الدين بالضرورة كما ذكرناه
تنبيه قد تقدم في مباحث العلم أن طائفة يزعمون أن الإدراك أعني السمع والبصر وسائر إخوانهما نفس العلم بمتعلقه الذي هو المدرك وقد أبطلناه بأنا إذا علمنا شيئا علما تاما جليا ثم أبصرناه فإنا نجد بالبديهة بين الحالتين فرقا
ونعلم بالضرورة أن الحالة الثانية تشتمل على أمر زائد مع حصول العلم فيهما فذلك الزائد هو الإبصار
وللمصنف في هذا الإبطال

مناقشة قد مرت هناك فهؤلاء زعموا أن السمع والبصر نفس العلم بالمسموع والمبصر عند حدوثهما فيكونان حادثين وراجعين إلى العلم لا صفتين زائدتين عليه
وفي المحصل اتفق المسلمون على أنه تعالى سميع بصير لكنهم اختلفوا في معناه فقالت الفلاسفة والكعبي وأبو الحسين البصري ذلك عبارة عن علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات
وقال الجمهور منا ومن المعتزلة والكرامية أنهما صفتان زائدتان على العلم
وقال ناقده أراد فلاسفة الإسلام من وصفه تعالى بالسمع والبصر مستفاد من النقل
وإنما لم يوصف بالذوق والشم واللمس لعدم ورود النقل بها
وإذا نظر في ذلك حيث العقل لم يوجد له وجه سوى ما ذكره هؤلاء
فإن إثبات صفتين شبيهتين بسمع الحيوانات وبصرها مما لا يمكن بالعقل
والأولى أن يقال ألما ورد النقل بهما آمنا بذلك وعرفنا أنهما لا يكونان بالآلتين المعروفتين واعترفنا بعدم الوقوف على حقيقتهما
احتج الباقي على نفيهما عنه تعالى بوجهين
الأول إنهما تأثر الحاسة عن المسموع والمبصر أو مشروطان به كسائر الإحساسات وأنه أي التأثر المذكور محال في حقه تعالى
والجواب منع ذلك إذ المعلوم أنهما لا يحصلان لنا إلا مع التأثر ولا يلزم من حصولهما مقارنا للتأثر فينا كونهما نفس ذلك التأثر أو مشروطين به
وإن سلمنا أنه كذلك في الشاهد فلم قلتم إنه في الغائب كذلك فإن صفاته تعالى مخالفة بالحقيقة لصفاتنا فجاز أن لا يكون سمعه وبصره نفس التأثر ولا مشروطا به

الثاني إثبات السمع والبصر في الأزل
ولا مسموع ولا مبصر فيه خروج عن المعقول
والجواب إن انتفاء التعلق في الأزل لا يستلزم انتفاء الصفة فيه كما في سمعنا وبصرنا
فإن خلوهما عن الإدراك بالفعل في وقت لا يوجب انتفائهما أصلا في ذلك الوقت

المقصد السابع في أنه تعالى متكلم
المتن والدليل عليه إجماع الأنبياء عليهم السلام تواتر أنهم كانوا يثبتون له الكلام
فإن قيل صدق الرسول موقوف على تصديق الله إياه وأنه إخباره عن كونه صادقا
وهو كلام خاص له تعالى
فإثبات الكلام به دور
قلنا لا نسلم أن تصديقه له كلام بل هو إظهار المعجزة على وفق دعواه
فإنه يدل على صدقه ثبت الكلام أم لم يثبت
ثم قالت الحنابلة كلامه حرف وصوت يقومان بذاته
وأنه قديم
وقد بالغوا فيه حتى قال بعضهم جهلا الجلد والغلاف قديمان
وهذا باطل

بالضرورة
فإن حصول كل حرف مشروط بانقضاء الآخر فيكون له أول فلا يكون قديما
فكذا المجموع المركب منها
وقالت المعتزلة أصوات وحروف يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي وهو حادث
وهذا لا ننكره لكنا نثبت أمرا وراء ذلك
وهو المعنى القائم بالنفس ونزعم أنه غير العبارات إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام بل قد يدل عليه بالإشارة والكتابة كما يدل عليه بالعبارة والطلب واحد لا يتغير وغير المتغير غير المتغير
وأنه غير العلم إذ قد يخبر الرجل عما لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشك فيه
وغير الإرادة لأنه قد يأمر بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه فإنه قد يأمره وهو يريد ألا يفعل المأمور به
فإذا هو صفة ثالثة قائمة بالنفس ثم نزعم أنه قديم لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى
ولو قالت المعتزلة إنه هو إرادة فعل يصير سببا لاعتقاد المخاطب علم المتكلم بما أخبر به أو إرادته لما أمر به لم يكن بعيدا لكني لم أجده في كلامهم
إذا عرفت هذا فاعلم أن ما يقوله المعتزلة وهو خلق الأصوات والحروف وكونها حادثة قائمة فنحن نقول به ولا نزاع بيننا وبينهم في ذلك
وما نقوله من كلام النفس فهم ينكرون ثبوته
ولو سلموه لم ينفوا قدمه فصار محل النزاع نفي المعنى وإثباته
فإذا الأدلة الدالة على حدوث الألفاظ إنما تفيدهم بالنسبة إلى الحنابلة
وأما بالنسبة إلينا فيكون نصبا للدليل في غير محل النزاع
وأما ما دل على حدوث القرآن مطلقا فحيث يمكن حمله على حدوث الألفاظ لا يكون لهم فيه حجة علينا ولا يجدي عليهم إلا أن يبرهنوا على عدم المعنى الزائد على العلم والإرادة
لكنا نذكر بعض أدلتهم تكميلا للصناعة
وهو من المعقول والمنقول

أما المعقول فوجهان
الأول الأمر والخبر
ولا مأمور ولا سامع سفه
الثاني لو كان قديما لاستوى نسبته إلى المتعلقات كالعلم
والجواب عن الأول أن ذلك في اللفظ
وأما الكلام النفسي فلا سفه فيه كطلب التعلم من ابن سيولد
وعن الثاني إن الشيء القديم الصالح للأمور قد يتعلق ببعض دون بعض كالقدرة القديمة
وأما المنقول فوجوه
الأول القرآن ذكر لقوله تعالى وهذا ذكر مبارك وإنه لذكر لك ولقومك مع قوله ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث
الثاني إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فيكون كن متأخرا عن الإرادة وحاصلا قبيل كون الشيء
وكلاهما يوجب الحدوث
الثالث وإذ قال ربك للملائكة وإذ ظرف زمان
والمختص بزمان معين محدث
الرابع كتاب أحكمت آياته ثم فصلت إنا أنزلناه قرآنا عربيا
الخامس حتى يسمع كلام الله

السادس إنه معجز ويجب مقارنته للدعوى
وإلا فلا اختصاص له به
السابع إنه منزل و تنزيل
الثامن يا رب القرآن العظيم ويا رب طه ويس
والمربوب محدث
التاسع إنه تعالى اخبر بلفظ الماضي نحو إنا أنزلناه إنا أرسلنا
العاشر النسخ رفع وما ثبت قدمه امتنع عدمه
والجواب أنها تدل على حدوث اللفظ وهو غير المتنازع فيه
تنبيه كلامه واحد عندنا لما مر في القدرة وانقسامه إلى الأمر والنهي والاستفهام والخبر والنداء بحسب التعلق
وقيل خمسة
وقال ابن سعيد وإنما يصير أحدها فيما لا يزال
وأورد عليه أنها أنواعه فلا يوجد دونها
والجواب منع ذلك في أنواع تحصل بحسب التعلق
تفريع على الكلام يمتنع عليه الكذب اتفاقا أما عند المعتزلة فلوجهين
الأول إنه قبيح وهو لا يفعل القبيح
وهو بناء على أصلهم في إثبات حكم العقل
الثاني إنه مناف لمصلحة العالم
والأصلح واجب عليه
والجواب منع وجوب الأصلح
وأما عندنا فلثلاثة أوجه
الأول إنه نقص
والنقص على الله تعالى محال
وأيضا فيلزم أن نكون أكمل منه في بعض الأوقات
واعلم أنه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي
فإن النقص في الأفعال هو القبح العقلي بعينه
وإنما تختلف العبارة

الثاني إنه لو اتصف بالكذب لكان كذبه قديما إذ لا يقوم الحادث بذاته تعالى فيلزم أن يمتنع عليه الصدق
فإن ما ثبت قدمه امتنع عدمه
واللازم باطل
فإنا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا أمكن أن يخبر عنه على ما هو عليه
وهذا إنما يدل على كون الكلام النفسي صدقا
وأما هذه العبارات فلا
الثالث وعليه الاعتماد خبر النبي عليه السلام
وذلك يعلم بالضرورة من الدين
فإن قيل إنما يدل تصديقه على الصدق إذا امتنع عليه الكذب فيلزم الدور
قلنا التصديق بالمعجزة
الشرح
المقصد السابع في أنه تعالى متكلم
والدليل عليه إجماع الأنبياء عليهم السلام فإنه تواتر أنهم كانوا يثبتون له الكلام ويقولون إنه تعالى أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا
وكل ذلك من أقسام الكلام فثبت المدعي
فإن قيل صدق الرسول موقوف على تصديق الله إياه إذ لا طريق إلى معرفته سواه وأنه أي تصديق الله إياه إخباره عن كونه صادقا
وهو أي هذا الأخبار كلام خاص له تعالى فإذا قد توقف صدق الرسول على كلامه تعالى فإثبات الكلام لله سبحانه به أي بصدق الرسول دور
قلنا لا نسلم أن تصديقه له كلام بل هو إظهار المعجزة على وفق دعواه فإنه يدل على صدقه ثبت الكلام بأن تكون المعجزة من جنسه

كالقرآن الذي يعلم أولا أنه معجزة خارجة عن قوة البشر ثم يعلم به صدق الدعوى أم لم يثبت كما إذا كانت المعجزة شيئا آخر ثم إن ههنا قياسين متعارضين
أحدهما إن كلام الله تعالى صفة له
وكل ما هو صفة له فهو قديم
فكلامه تعالى قديم
وثانيهما إن كلامه مؤلف من أجزاء مترتبة متعاقبة في الوجود
وكل ما هو كذلك فهو حادث
فكلامه تعالى حادث
فافترق المسلمون إلى فرق أربع ففرقتان منهم ذهبوا إلى صحة القياس الأول
وقدحت واحدة منهما في صغرى القياس الثاني
وقدحت الأخرى في كبراه
وفرقتان أخريان ذهبوا إلى صحة الثاني وقدحوا في إحدى مقدمتي الأول على التفصيل المذكور
وإلى ما ذكرناه أشار المصنف رحمه الله بقوله ثم قال الحنابلة كلامه حرف وصوت يقومان بذاته
وأنه قديم
وقد بالغوا فيه حتى قال بعضهم جهلا الجلد والغلاف قديمان فضلا عن المصحف
فهؤلاء صححوا القياس الأول ومنعوا كبرى القياس الثاني
وهذا باطل بالضرورة
فإن حصول كل حرف من الحروف التي تركب منها كلامه على زعمهم مشروط بانقضاء الآخر منها فيكون له أي للحرف المشروط أول فلا يكون قديما وكذا يكون للحرف الآخر انقضاء فلا يكون هو أيضا قديما بل حادثا فكذا المجموع المركب منها أي من الحروف التي لها أول زمان وجود وآخره أو اجتمعا معا فيها فيكون حادثا لا قديما
والكرامية وافقوا الحنابلة في أن كلامه حروف وأصوات
وسلموا أنها حادثة لكنهم زعموا أنها قائمة بذاته تعالى لتجويزهم قيام الحوادث به فقد قالوا بصحة القياس الثاني وقدحوا في كبرى القياس الأول
وقالت المعتزلة كلامه تعالى أصوات وحروف كما ذهبت إليه الفرقتان المذكورتان
لكنها ليست قائمة بذاته تعالى بل يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي
وهو حادث كما ذهبت إليه الكرامية خلافا للحنابلة
فهم أيضا صححوا القياس الثاني لكنهم قدحوا في صغرى

القياس الأول
وهي أن كلامه تعالى صفة له
وهذا الذي قاله المعتزلة لا ننكره نحن بل نقول به ونسميه كلاما لفظيا ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى لكنا نثبت أمرا وراء ذلك وهو المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ
ونقول هو الكلام حقيقة
وهو قديم قائم بذاته تعالى فنمنع صغرى القياس الثاني ونزعم أنه غير العبارات إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام ولا يختلف ذلك المعنى النفسي بل نقول ليس تنحصر الدلالة عليه في الألفاظ إذ قد يدل عليه بالإشارة والكتابة كما يدل عليه بالعبارة والطلب الذي هو معنى قائم بالنفس واحد لا يتغير مع تغير العبارات
ولا يختلف باختلاف الدلالات وغير المتغير غير المتغير أي ما ليس متغيرا وهو المعنى النفسي مغاير للمتغير الذي هو العبارات ونزعم أنه أي المعنى النفسي الذي هو الخير غير العلم إذ قد يخبر الرجل عما لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشك فيه
وإن المعنى النفسي الذي هو الأمر غير الإرادة لأنه قد يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا فإن مقصوده مجرد الاختبار دون الإتيان بالمأمور به وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه
فإنه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ليظهر عذره عند من يلومه
واعترض عليه بأن الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا حقيقته إذ لا طلب فيهما أصلا كما لا إرادة قطعا فإذا هو أي المعنى النفسي الذي يعبر عنه بصيغة الخبر والأمر صفة ثالثة مغايرة للعلم والإرادة قائمة بالنفس ثم نزعم أنه قديم بامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى
قال المصنف ولو قالت المعتزلة إنه أي المعنى النفسي الذي يغاير العبارات في الخبر والأمر هو إرادة فعل يصير سببا لاعتقاد المخاطب علم

المتكلم بما أخبر به أو يصير سببا لاعتقاده إرادته أي إرادة المتكلم لما مر به لم يكن بعيدا لأن إرادة الفعل كذلك موجودة في الخبر والأمر ومغايرة لما يدل عليها من الأمور المتغيرة والمختلفة
وليس يتجه عليه أن الرجل قد يخبر بما لا يعلم أو يأمر بما لا يريد
وحينئذ لا يثبت معنى نفسي يدل عليه بالعبارات مغايرة للإرادة كما تدعيه الأشاعرة لكني لم أجده في كلامهم بل الموجود فيه أن مدلول العبارات في الخبر راجع إلى العلم القائم بالمتكلم وفي الأمر راجع إلى إرادة المأمور به وفي النهي إلى كراهة المنهي عنه فلا يثبت كلام نفسي مغاير لباقي الصفات
وقد مر ما فيه
إذا عرفت هذا الذي قررناه لك فاعلم أن ما تقوله المعتزلة في كلام الله تعالى وهو خلق الأصوات والحروف الدالة على المعاني المقصودة وكونها حادثة قائمة بغير ذاته تعالى فنحن نقول به
ولا نزاع بيننا وبينهم في ذلك كما مر آنفا وما نقوله نحن ونثبته من كلام النفس المغاير لسائر الصفات فهم ينكرون ثبوته
ولو سلموه لم ينفوا قدمه الذي ندعيه في كلامه تعالى فصار محل النزاع بيننا وبينهم نفي المعنى النفسي وإثباته فإذن الأدلة الدالة على حدوث الألفاظ
إنما تقيدهم بالنسبة إلى الحنابلة القائلين بقدم الألفاظ وأما بالنسبة إلينا فيكون نصبا للدليل في غير محل النزاع
وأما ما دل على حدوث القرآن مطلقا أي بلا تقييد بالنفسي واللفظي فحيث يمكن حمله على حدوث الألفاظ لا يكون لهم فيه حجة علينا ولا يجدي عليهم أي لا يعطيهم فائدة وجدوى بالقياس إلينا إلا أن يبرهنوا على عدم المعنى الزائد على العلم والإرادة حينئذ تنفعهم
إذ على هذا التقدير ينحصر القرآن في هذه الألفاظ والعبارات
ولا سبيل لهم إلى هذا البرهان
فلا حجة لهم أيضا في تلك الأدلة المطلقة لكنا نذكر بعض أدلتهم التي من هذا القبيل ونجيب عنها تكميلا للصناعة الكلامية وتثبيتا لطلاب الحق في مزالق الأقدام وهو من المعقول والمنقول

أما المعقول فوجهان
الأول الأمر والخبر في الأزل ولا مأمور ولا سامع فيه سفه فكيف يتصور ثبوته لله سبحانه وتعالى
الثاني لو كان كلامه تعالى قديما لاستوى نسبته إلى جميع المتعلقات لأنه حينئذ يكون كالعلم في أن تعلقه بمتعلقاته يكون لذاته
فكما أن علمه يتعلق بجميع ما يصح تعلقه به كذلك كلامه يتعلق بكل ما يصح تعلقه به
ولما كان الحسن والقبح بالشرع صح في كل فعل أن يؤمر به وأن ينهى عنه
فيلزم تعلق أمره ونهيه بالأفعال كلها فيكون كل فعل مأمورا به ومنهيا عنه معا
هذا خلف
وقد وقع في بعض النسخ كالعلم والقدرة
وهو سهو من القلم كما صرح به فيما بعد لا يجب تعلقها بكل ما يصح أن يتعلق به بخلاف العلم
والجواب عن الأول أن ذلك السفه الذي ادعيتموه إنما هو في اللفظ
وأما الكلام النفسي فلا سفه فيه كطلب التعلم من ابن سيولد
ويرد عليه أن ما يجده أحدنا في باطنه هو العزم على الطلب وتخيله
وهو ممكن
وليس بسفه
وأما نفس الطلب فلا شك في كونه سفها بل قيل هو غير ممكن لأن وجود الطلب بدون من يطلب منه شيء محال
والجواب عن الثاني أن الشيء القديم الصالح للأمور المتعددة قد يتعلق ببعض من تلك الأمور دون بعض كالقدرة القديمة فإنها تتعلق ببعض المقدورات وهو ما تعلقت الإرادة به منها دون بعض
فإن قيل مخصص القدرة هو الإرادة فلا بد في الكلام أيضا مخصص
ويعود الكلام إليه ويلزم التسلسل

قلنا تعلق الكلام ببعض دون آخر كتعلق الإرادة لذاتها ببعض ما يصح تعلقها به دون بعض فلا تسلسل على ما مر
وأما المنقول فوجوه
الأول القرآن ذكر لقوله تعالى وهذا ذكر مبارك وقوله وإنه لذكر لك ولقومك مع قوله تعالى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وقوله تعالى وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث فإنهما يدلان على أن الذكر محدث فيكون القرآن محدثا
الثاني قوله تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون إذ معناه إذا أردنا شيئا قلنا له كن فيكون
قوله كن وهو قسم من كلامه متأخرا عن الإرادة الواقعة في الاستقبال لكونه جزاء له ويكون حاصلا قبيل كون الشيء أي وجوده بقرينة الفاء الدالة على الترتيب بلا مهالة
وكلاهما يوجب الحدوث
أما التأخر عن الإرادة الحادثة في المستقبل فلأن التأخر عن الشيء يوجب الحدوث خصوصا إذا كان ذلك الشيء حادثا واقعا في الاستقبال
وأما التقدم على الكائن الحادث بمدة يسيرة فظاهر أيضا دلالته على الحدوث
الثالث قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة وإذ ظرف زمان ماض فيكون قوله واقع في هذا الظرف مختصا بزمان معين والمختص بزمان معين محدث
الرابع كتاب أحكمت آياته ثم فصلت فإنه يدل على أن القرآن مركب من الآيات التي هي أجزاء متعاقبة فيكون حادثا
وكذا قوله تعالى إنا أنزلناه قرآنا عربيا

يدل على أن كلام الله تعالى قد يكون عربيا تارة وعبريا أخرى فيكون متغيرا وذلك دليل حدوثه
الخامس حتى يسمع كلام الله فإنه يدل على أن كلامه مسموع فيكون حادثا لأن المسموع لا يكون إلا حرفا وصوتا
السادس إنه أي القرآن معجز إجماعا ويجب مقارنته أي مقارنة المعجز للدعوى حتى يكون تصديقا للمدعي في دعواه فيكون حادث مع حدوثها
وإلا أي وإن لم يكن مقارنا لها حادثا معها بل يكون قديما سابقا عليها فلا اختصاص له به أي بذلك المدعي وتصديقه
السابع إنه أعني القرآن موصوف بأنه منزل وتنزيل
وذلك يوجب حدوثه لاستحالة الانتقال بالإنزال والتنزيل على صفاته القديمة القائمة بذاته تعالى
الثامن قوله دعائه يا رب القرآن العظيم ويا رب طه ويس
فالقرآن مربوب كلا وبعضا
والمربوب محدث اتفاقا
التاسع إنه تعالى أخبر بلفظ الماضي نحو إنا أنزلناه إنا أرسلنا ولا شك أنه لا إنزال ولا إرسال في الأزل
فلو كان كلامه قديما لكان كذبا لأنه إخبار بالوقوع في الماضي
ولا يتصور ما هو ماض بالقياس إلى الأزل
العاشر النسخ حق بإجماع الأمة
ووقع في القرآن وهو رفع أو

انتهاء ولا شيء منهما يتصور في القديم لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه
والإمام الرازي جعل هذين الوجهين في الأربعين من الأدلة المعقولة والحق ما اختاره المصنف
والجواب عن الوجوه العشرة أنها تدل على حدوث اللفظ كما لا يخفى على المتأمل
وهو غير المتنازع فيه كما تحققته
تنبيه كلامه تعالى واحد عندنا لما مر في القدرة من أنها لو تعددت لاستندت إلى الذات إما بالاختيار أو بالإيجاب
وهما باطلان
أما الأول فلأن القديم لا يستند إلى المختار
وأما الثاني فلأن نسبة الموجب إلى جميع الأعداد سواء فيلزم وجود قدر لا تتناهى وإما انقسامه إلى الأمر والنهي والاستفهام والخبر والنداء فإنما هو بحسب التعلق فذلك الكلام الواحد باعتبار تعلقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبرا باعتبار تعلقه بشيء آخر أو على وجه آخر يكون أمرا
وكذا الحال في البواقي
وقيل كلامه خمسة هي الأقسام المذكورة
وقال ابن سعيد من الأشاعرة هو في الأزل واحد وليس متصفا بشيء من تلك الخمسة وإنما يصير أحدها فيما لا يزال
وأورد عليه أنها أنواعه فلا يوجد دونها إذ الجنس لا يوجد إلا في ضمن شيء من أنواعه
والجواب منع ذلك في أنواع تحصل بحسب التعلق يعني أنها ليست أنواعا حقيقية له حتى يلزم ما ذكرتم بل هي أنواع اعتبارية تحصل له بحسب تعلقه بالأشياء فجاز أن يوجد جنسها بدونها ومعها أيضا
فليس كلام ابن سعيد ببعيد جدا كما توهموه
تفريع على ثبوت الكلام لله تعالى وهو أنه يمتنع عليه الكذب اتفاقا
أما عند المعتزلة فلوجهين

الأول أنه أي الكذب في الكلام الذي هو عندهم من قبيل الأفعال دون الصفات قبيح
وهو سبحانه لا يفعل القبيح وهو بناء على أصلهم في إثبات حكم العقل بحسن الأفعال وقبحها مقيسة إلى الله تعالى
وستعرف بطلانه
الثاني أنه مناف لمصلحة العالم لأنه إذا جاز وقوع الكذب في كلامه ارتفع الوثوق عن إخباره بالثواب والعقاب وسائر ما أخبر به من أحوال الآخرة والأولى
وفي ذلك فوات مصالح لا تحصى والأصلح واجب عليه تعالى عندهم فلا يجوز إخلاله به
والجواب منع وجوب الأصلح إذ لا يجب عليه شيء أصلا بل هو متعال عن ذلك قطعا
وأما امتناع الكذب عليه عندنا فلثلاثة أوجه
الأول إنه نقص
والنقص على الله تعالى محال إجماعا
وأيضا فيلزم على تقدير أن يقع الكذب في كلامه أن نكون نحن أكمل منه في بعض الأوقات أعني وقت صدقنا في كلامنا
وهذا الوجه إنما يدل على أن الكلام النفسي الذي هو صفة قائمة بذاته يكون صادقا
وإلا لزم النقصان في صفته تعالى مع كمال صفتنا
ولا يدل على صدقه في الحروف والكلمات التي يخلقها في جسم دالة على معان مقصودة
ولما كان لقائل أن يقول خلق الكاذب أيضا نقص في فعله فيعود المحذور بعينه أشار إلى دفعه بقوله واعلم أنه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي فيه فإن النقص في الإفعال هو القبح العقلي بعينه فيها وإنما تختلف العبارة دون المعنى
فأصحابنا المنكرون للقبح العقلي كيف يتمسكون في دفع الكذب عن الكلام اللفظي بلزوم النقص في أفعاله تعالى
الثاني أنه لو اتصف بالكذب لكان كذبه قديما إذ لا يقوم

الحادث بذاته تعالى فيلزم أن يمتنع عليه الصدق المقابل لذلك الكذب
وإلا جاز زوال ذلك الكذب
وهو محال فإن ما ثبت قدمه امتنع عدمه واللازم وهو امتناع الصدق عليه
واللازم باطل
فإنا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا أمكن له أن يخبر عنه على ما هو عليه
وهذا الوجه الثاني أيضا إنما يدل على كون الكلام النفسي صدقا لأنه القديم
وأما هذه العبارات الدالة على الكلام النفسي فلا دلالة على صدقها لأنها حادثة فيجوز زوالها بحدوث الصدق الذي يقابلها مع أن الأهم عندنا هو بيان صدقها
الثالث وعليه الاعتماد لصحته ودلالته على الصدق في الكلام النفسي واللفظي معا خبر النبي صادقا في كلامه كله وذلك أي خبره مما يعلم بالضرورة من الدين فلا حاجة إلى بيان إسناده وصحته
ولا إلى تعيين ذلك الخبر
بل نقول تواتر عن الأنبياء عليهم السلام كونه تعالى صادقا كما تواتر عنهم كونه تعالى متكلما
فإن قيل صدق النبي إنما يعلم بتصديقه تعالى إياه
وإنما يدل تصديقه إياه على الصدق أي صدق النبي إذا امتنع عليه تعالى الكذب ووجب أن يكون كلامه صدقا
فصدق النبي إنما يعرف بصدق الله تعالى فيلزم الدور إذا ثبت صدقه تعالى بصدق النبي كما فعلتم
قلنا التصديق بالمعجزة كما مر فهو تصديق فعلي لا قولي
ودلالتها على التصديق دلالة عادية لا يتطرق إليها شبهة كما ستقف عليه
واعلم أن للمصنف مقالة مفردة في تحقيق كلام الله تعالى على وفق ما أشار إليه في خطبة الكتاب ومحصولها أن لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ وأخرى على الأمر القائم بالغير
فالشيخ الأشعري لما قال الكلام هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده مدلول اللفظ وحده

وهو القديم عنده
وأما العبارات فإنما تسمى كلاما مجازا لدلالتها على ما هو كلام حقيقي حتى صرحوا بأن الألفاظ حادثة على مذهبه أيضا لكنها ليست كلامه حقيقة
وهذا الذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتي المصحف مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة وكعدم المعارضة والتحدي بكلام الله تعالى الحقيقي
وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية
فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني
فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذات الله تعالى وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة
وما يقال من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة
فجوابه أن ذلك الترتب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة فالتلفظ حادث
والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا بين الأدلة
وهذا الذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخرو أصحابنا إلا أنه بعد التأمل تعرف حقيقته ثم كلامه
وهذا المحمل لكلام الشيخ مما اختاره الشيخ محمد الشهرستاني في كتابه المسمى بنهاية الإقدام
ولا شبهة في أنه أقرب إلى الأحكام الظاهرية المنسوبة إلى قواعد الملة

المقصد الثامن في صفات اختلف فيها
وفيه مقدمة ومسائل
المتن فالمقدمة هل لله تعالى صفة غير ما ذكرناه فمنعه بعض أصحابنا مقتصرا على أنه لا دليل عليه فيجب نفيه
ولا يخفى ضعفه
ومنهم من قال نحن مكلفون بكمال المعرفة
فلو كان له صفة غيرها لعرفناها
والجواب منع التكليف بكمال معرفته إذ هو بقدر وسعنا أو يعرفه بعض دون بعض
ولا يمتنع كثرة الهالكين
وأثبت بعض صفات أخر
الأولى البقاء
أثبته الشيخ صفة زائدة على الوجود إذ الوجود متحقق دونه كما في أول الحدوث
وأجيب عنه بأنه منقوض بالحدوث
فإنه غير الوجود لتحقق الوجود بعد الحدوث
فلو دل ذلك على كونه زائدا لكان الحدوث زائدا ولزم التسلسل ونفاه القاضي أبو بكر والإمامان
إمام الحرمين والإمام الرازي
وقالوا البقاء هو نفس الوجود في الزمان الثاني لوجهين
الأول لو كان زائدا لكان له بقاء ويتسلسل
والجواب إن بقاء البقاء نفس البقاء
والثاني لو احتاج إلى الذات لزم الدور
وإلا لكان الذات محتاجا إليه وكان هو مستغنيا عن الذات فكان هو الواجب دون الذات
والجواب منع احتياج الذات إليه وإن اتفق تحققهما معا
تنبيه إثبات البقاء قد يفسر بأن الوجود في الزمان الثاني أمر زائد على الذات وبأنه معنى يعلل به الوجود في الزمان الثاني
وأول الوجهين ينفي الأول والثاني الثاني
الثانية القدم
وأحاله الجمهور متفقين على أنه قديم بنفسه لا بقدم زائد وأثبته ابن سعيد
ودليله ما مر في البقاء بإبطاله
ويخصه أنه إن أراد به أنه لا أول له فسلبي
أو أنه صفة لأجلها لا يختص بحير كما فسره الشيخ

أبو إسحاق الإسفرايني فكذلك أو غيرهما فالتصوير ثم التقرير هذا منضم إلى ما سبق من أنه اعتباري
الثالثة الاستواء
لما وصف تعالى بالاستواء في قوله الرحمن على العرش استوى اختلف الأصحاب فيه فقال الأكثرون هو الاستيلاء ويعود إلى القدرة
قال الشاعر
قد استوى عمرو على العراق ... من غير سيف ودم مهراق أي استوى
وقال الآخر
فلما علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وطائر أي استولينا
لا يقال الاستواء يشعر بالاضطراب والمقاومة والمغالبة
وأيضا لا فائدة لتخصيص العرش لأنا نجيب عن الأول بمنع الإشعار وعن الثاني بأن الفائدة الإشعار بالأعلى على الأدنى
إذ مقرر في الأوهام أن العرش أعظم الخلق
وقيل هو القصد نحو ثم استوى إلى السماء
وهو بعيد
إذ ذلك يعدى ب إلى دون على
وذهب الشيخ
في أحد قوليه
إلى أنه صفة زائدة ولم يقم دليلا عليه
ولا يجوز التعويل على الظواهر مع قيام الاحتمال
الرابعة الوجه
قال تعالى ويبقى وجه ربك كل شيء هالك إلا وجهه

أثبته الشيخ
في أحد قوليه
وأبو إسحاق الإسفرايني
والسلف صفة زائدة
وقال في قول آخر ووافقه القاضي إنه الوجود وهو كما قبله في عدم القاطع
تنبيه الوجه وضع للجارجة ولم يوضع لصفة أخرى بل لا يجوز وضعه لما لا يعقله المخاطب فتعين المجاز والتجوز به عما يعقل وثبت بالدليل متعين
الخامسة اليد
قال تعالى يد الله فوق أيديهم ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فأثبت الشيخ صفتين ثبوتيتين زائدتين وعليه السلف وإليه ميل القاضي في بعض كتبه
وقال الأكثر إنها مجاز عن القدرة فإنه شائع وخلقته بيدي أي بقدرة كاملة
وتخصيص خلق آدم بذلك تشريف
كما أضاف الكعبة إلى نفسه
وخصص المؤمنين بالعبودية
وقالت المعتزلة بل عن القادرية بناء على أصلهم وبعضم عن النعمة
وقيل صفة زائدة
وتحقيقه كما في الأول
السادسة العينان
قال تعالى تجري بأعيننا ولتصنع على عيني
وقال الشيخ تارة إنه صفة زائدة
وتارة إنه البصر
والكلام فيه ما مر آنفا
السابعة الجنب قال تعالى يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله
وقيل صفة زائدة

وقيل المراد في أمر الله
كما قال الشاعر
أما تتقين الله في جنب عاشق ... له كبد حرى وعين ترقرق أو أراد الجناب
يقال لاذ بجنبه أي بجنابه
الثامنة القدم
قال فيضع الجبار قدمه في النار
التاسعة الإصبع
قال إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن
العاشرة اليمين
قال تعالى والسموات مطويات بيمينه
الحادية عشرة التكوين أثبته الحنفية
قالوا وإنه غير القدرة لأن القدرة أثرها الصحة والصحة لا تستلزم الكون
الجواب إن الصحة هي الإمكان وأنه للمكن ذاتي فلا يصلح أثرا للقدرة بل به تعلل المقدورية فيقال هذا مقدور لأنه للممكن
وذلك غير مقدور لأنه واجب أو ممتنع
فإذا أثر القدرة هو الكون فاستغنى عن صفة ذلك
فإن قيل المراد صحة الفعل لا صحة المفعول في نفسه
فإن القدرة هي الصفة التي باعتبارها يصح من الفاعل طرفا الفعل والترك فلا يحصل بها أحدهما بعينه
قلنا كل منهما يصلح أثر لها
وإنما يحتاج صدور أحدهما إلى مخصص وهو الإرادة
ولا حاجة إلى مبدأ للكون غير القدرة
الشرح
المقصد الثامن في صفات اختلف فيها
وفيه مقدمة ومسائل إحدى

عشرة
فالمقدمة هي أنه هل لله تعالى صفة وجودية زائدة على ذاته غير ما ذكرناه من الصفات السبع التي هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام فمنعه بعض أصحابنا مقتصرا في نفيها على أنه لا دليل عليه أي على ثبوت صفة أخرى فيجب نفيه
ولا يخفى ضعفه لما مر من أن عدم الدليل عندك لا يفيد
وعدمه في نفس الأمر ممنوع
وإن سلم لم يفد أيضا لأن انتفاء الملزوم لا يستلزم انتفاء لازمه ومنهم من زاد على ذلك فاستدل على نفيها بأن قال نحن مكلفون بكمال المعرفة وإنما يحصل بمعرفة جميع صفاته
فلو كان له صفة غيرها لعرفناها لكنا لا نعرفها
بل لا طريق لنا إلى معرفة الصفات سوى الاستدلال بالأفعال والتنزيه عن النقائص
ولا يدل شيء منهما على صفة زائدة على ما ذكر
والجواب منع التكليف بكمال معرفته
إذ هو أي التكليف بقدر وسعنا فنحن مكلفون بأن نعرف من صفاته ما يتوقف تصديق النبي العلم به لا بمعرفة صفات أخرى أو بأن نقول سلمنا تكليفنا بكمال معرفته
لكن لا يلزم من التكليف به حصوله من جميع المكلفين بل ربما يعرفه معرفة كاملة بعض منهم كالأنبياء والكاملين من أتباعهم دون بعض وهو من عداهم
وهؤلاء وإن كانوا هم الأكثرين ولكن لا يمتنع كثرة الهالكين بسبب ترك ما كلفوا به من كمال معرفته وأثبت بعض من المتكلمين صفات أخر بيانها تلك المسائل الإحدى عشرة
الأولى البقاء اتفقوا على أنه تعالى باق لكن اختلفوا في كونه صفة ثبوتية زائدة كما أشار إليه بقوله أثبته الشيخ أبو الحسن وأتباعه وجمهور معتزلة بغداد صفة وجودية زائدة على الوجود إذ الوجود متحقق دونه أي دون البقاء كما في أول الحدوث بل يتجدد بعده صفة هي البقاء

وأجيب عنه بأنه منقوض بالحدوث
فإنه غير الوجود لتحقق الوجود بعد الحدوث يعني أن البقاء حصل بعد ما لم يكن والحدوث زال بعد أن كان لأنه الخروج من العدم إلى الوجود عند الشيخ لا مسبوقية الوجود به فلو دل ذلك الذي ذكرتموه في البقاء على كونه وجوديا زائدا لكان الحدوث أيضا وجوديا زائد لما ذكرناه لأن العدم بعد الحصول كالحصول بعد العدم في الدلالة على الوجود في الجملة إذ حاصلهما الانتقال الواقع بين العدم وما يقابله
أعني الوجود ولزم التسلسل في الحدوثات الوجودية ضرورة أن الحدوث لا بد أن يكون حادثا
مع أن الشيخ معترف بأن الحدوث ليس أمرا زائدا وحله بعد نقضه أن تجدد الاتصاف بصفة لا تقتضي كونها وجودية كتجدد معية الباري تعالى مع الحادث وكذا زواله أيضا لا يقتضيه
وذلك كله لجواز اتصافه بالعدميات وزوال ذلك الاتصاف ونفاه أي نفى كون البقاء صفة موجودة زائدة القاضي أبو بكر والإمامان إمام الحرمين والإمام الرازي وجمهور معتزلة البصرة وقالوا البقاء هو نفس الوجود في الزمان الثاني لا أمر زائد عليه لوجهين
الأول لو كان البقاء زائدا لكان له بقاء إذ لو لم يكن البقاء باقيا لم يكن الوجود باقيا لأن كونه باقيا إنما هو بواسطة البقاء المفروض زواله وحينئذ تتسلسل البقاءات المترتبة الموجودة معا
والجواب إن بقاء البقاء نفس البقاء كما قيل في وجود الوجود ووجوب الوجوب وإمكان الإمكان فلا تسلسل أصلا
ويرد على هذا الجواب أن ما تكرر نوعه اعتباريا كما مر
الثاني لو احتاج البقاء على تقدير كونه وجوديا إلى الذات لزم الدور لأن الذات محتاج إلى البقاء أيضا
فإن وجوده في الزمان الثاني معلل به
وإلا أي وإن لم يحتج البقاء إلى الذات لكان الذات محتاجا إليه

وكان مستغنيا عن الذات مع استغنائه عن غيره أيضا فكان البقاء هو الواجب الوجود لأنه الغني المطلق دون الذات
والجواب منع احتياج الذات إليه وما قيل من أن وجوده في الزمن الثاني معلل به ممنوع
غاية ما في الباب أن وجوده فيه لا يكون إلا مع البقاء
وذلك لا يوجب أن يكون البقاء علة لوجوده فيه إذ يجوز أن يكون تحققهما على سبيل الاتفاق
وإليه الإشارة بقوله وإن اتفق تحققهما معا
تنبيه إثبات البقاء قد يفسر بأن الوجود في الزمان الثاني أمر زائد على الذات يريد أن المثبتين للبقاء يفسرونه تارة باستمرار الوجود ويدعون أن الوجود في الزمان الثاني زائد على الذات وأخرى بأنه معنى يعلل به الوجود في الزمان الثاني
وأول الوجهين للنافين ينفي المعنى الأول من معنى البقاء لأن الاستمرار إذا لم يكن باقيا لم يكن الوجود مستمرا
ولا ينفي الثاني لأن البقاء إذا كان أمرا يعلل به الوجود في الزمان الثاني لا يلزم أن يكون له بقاء آخر والوجه الثاني ينفي المعنى الثاني دون الأول إذ لا يلزم من استمرار الوجود وكونه زائدا على الذات احتياج الذات في وجوده إلى البقاء الذي هو الاستمرار
فلا يلزم الدور
الصفة الثانية القدم
وأحاله الجمهور متفقين على أنه قديم بنفسه لا بقدم وجودي زائد على ذاته وأثبته ابن سعيد من الأشاعرة ودليله على كونه صفة موجودة زائدة ما مر في البقاء وتصويره ههنا أن يقال القديم قد يطلق على المتقدم بالوجود إذا تطاول عليه الأمد
ومنه قوله تعالى كالعرجون القديم
والجسم لا يوصف بهذا القدم في أول زمان حدوثه بل بعده فقد

تجدد له القدم بعد ما لم يكن فيكون موجودا زائدا على الذات
فكذا القدم الذي هو التقدم بلا نهاية لا بمجرد مدة متطاولة بإبطاله أي ما مر مع إبطاله
فلا حاجة إلى إعادة شيء منهما وحمل ما مر على الوجهين السابقين مما لا وجه لصحته والذي يخصصه أي يختص بإبطاله أنه إن أراد به أي بالقدم أنه لا أول له فسلبي فلا يتصور كونه وجوديا أو أنه صفة لأجلها لا يختص الباري سبحانه وتعالى بحيز كما فسره أي كما فسر كلام ابن سعيد بذلك الشيخ أبو إسحاق الإسفرايني فإنه قال معنى كلامه أنه تعالى مختص بمعنى لأجله ثبت وجوده لا في حيز كما أن المتحيز يختص بمعنى لأجله كان متحيزا
ولا يخفى عليك أن هذا التفسير بعيد جدا عن دلالة زيادة القدم عليه فكذلك يكون القدم أمرا سلبيا إذ مرجعه حينئذ إلى وجوده لا في حيز
فإن قلت هذا السلبي معلل بالقدم لا نفسه
قلت إن الصفات السلبية لا تعلل بخلاف الثبوتية أو غيرهما من المعاني فالتصوير أي فعليه تصوير ذلك المعنى المراد أولا ثم التقرير والتحقيق بإقامة الدليل عليه ثانيا
هذا الذي أوردناه ههنا في إبطاله منضم إلى ما سبق في مباحث الأمور العامة من أنه أي القدم أمر اعتباري لا وجود له في الخارج
فإنه يدل على بطلان مذهبه ودليله أيضا
الصفة الثالثة الاستواء
لما وصف تعالى بالاستواء في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى اختلف الأصحاب فيه
فقال الأكثرون هو الاستيلاء
ويعود الاستواء حينئذ إلى صفة القدرة
قال الشاعر
قد استوى عمرو على العراق ... من غير سيف ودم مهراق أي استوى
وقال الآخر

فلما علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وطائر أي استولينا
لا يقال الاستواء بمعنى الاستيلاء يشعر بالاضطراب والمقاومة والمغالبة أي يشعر بسبق هذه الأمور التي تستحيل في حقه تعالى
وأيضا لا فائدة لتخصيص العرش لأن استيلاءه يعم الكل لأنا نجيب عن الأول بمنع الإشعار ألا ترى أن الغالب لا يشعر به كما في قوله تعالى والله غالب على أمره
نعم ربما يفهم سبق تلك الأمور من خصوصية من أسند إليه الاستيلاء في أمر مخصوص
وعن الثاني بأن الفائدة هي الإشعار بالأعلى على الأدنى
إذ مقرر في الأوهام أن العرش أعظم الخلق
فإن استولى عليه كان مستوليا على غيره قطعا
وهذا عكس ما هو المشهور من التنبيه بالأدنى على الأعلى
وكلاهما صواب
فإنه كما يفهم من حكم الأدنى حكم الأعلى إذا كان به أولى كذلك يفهم عكسه إذا كان الأدنى بالحكم أولى
وقيل هو أي الاستواء ههنا القصد فيعود إلى صفة الإرادة نحو قوله تعالى ثم استوى إلى السماء
أي قصد إليها وهو بعيد
إذ ذلك تعدى ب إلى كالقصد دون على كاستيلاء
وذهب الشيخ في أحد قوليه إلى أنه أي الاستواء صفة زائدة ليست عائدة إلى الصفات السابقة وإن لم نعلمها بعينها ولم يقم دليل عليه
ولا يجوز التعويل في إثباته على الظواهر من الآيات والأحاديث مع قيام الاحتمال المذكور
وهو أن يراد به الاستيلاء أو القصد على ضعف
فالحق التوقف مع القطع بأنه ليس كاستواء الأجسام
الصفة الرابعة الوجه
قال تعالى ويبقى وجه ربك
كل

شيء هالك إلا وجهه أثبته الشيخ في أحد قوليه وأبو إسحاق الإسفرايني والسلف صفة ثبوتية زائدة على ما مر من الصفات
وقال في قول آخر ووافقه القاضي إنه الوجود وهو كما قبله أعني الاستواء في عدم القاطع وعدم جواز التعويل على الظواهر مع قيام الاحتمال
تنبيه الوجه وضع في اللغة للجارحة المخصوصة حقيقة
ولا يجوز إرادتها في حقه تعالى ولم يوضع لصفة أخرى مجهولة لنا بل لا يجوز وضعه لما لا يعقله المخاطب إذ المقصود من الأوضاع تفهيم المعاني فتعين المجاز والتجور به عما يعقل وثبت بالدليل متعين وهو أن يتجوز به عن الذات وجميع الصفات
فإن الباقي هو ذاته تعالى مع مجموع صفاته وما سواه هالك غير باق
الصفة الخامسة اليد قال الله تعالى يد الله فوق أيديهم ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فأثبت الشيخ صفتين ثبوتيتين زائدتين على الذات وسائر الصفات
لكن لا بمعنى الجارحتين وعليه السلف
وإليه ميل القاضي في بعض كتبه
وقال الأكثر إنهما مجاز عن القدرة فإنه شائع وخلقته بيدي أي بقدرة كاملة ولم يرد بقدرتين وتخصيص خلق آدم بذلك مع أن الكل مخلوق بقدرته تعالى تشريف وتكريم له كما أضاف الكعبة إلى نفسه في قوله أن طهرا بيتي للتشريف مع أنه مالك للمخلوقات كلها
وكما خصص المؤمنين بالعبودية لذلك في قوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
وقالت المعتزلة بأن اليد مجاز عن القادرية بناء على أصلهم الذي

هو نفي الصفات وإثبات الأحوال
وقال بعضهم مجاز عن النعمة وهو في غاية الضعف إذ لا يلائم نسبة الخلق إلى اليد
وقيل صفة زائدة وهذا تكرار لما تقدم من مذهب الشيخ والسلف
وقد يوجد في بعض النسخ يد له
وقيل صلة
أي لفظة بيدي زائدة كما في قوله
دعوت لما نابني مسورا ... فلبا فلبى يدي مسور وهو في غاية الركاكة
وتحقيقه كما في الأول أي كالتحقيق الذي ذكرناه في الوجه من أنه موضوع للجارحة
وقد تعذرت فيجب الحمل على التجوز عن معنى معقول هو القدرة
الصفة السادسة العينان
قال تعالى تجري بأعيننا ولتصنع على عيني وقال الشيخ تارة إنه صفة زائدة على سائر الصفات وتارة إنه البصر والكلام فيه ما مر آنفا فإن إثبات الجارحة ممتنع
والحمل على التجوز عن صفة لا نعرفها يوجب الإجمال فوجب أن يجعل مجازا عن البصر أو عن الحفظ والكلاءة وصيغة الجمع للتعظيم
الصفة السابعة الجنب
قال تعالى أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله
وقيل صفة زائدة
وقيل المراد في أمر الله
كما قال الشاعر

أما تتقين الله في جنب عاشق ... له كبد حرى وعين ترقرق أي تلمع وتتحرك
ورقراق الشراب ما تلألأ منه
أي جاء وذهب
وكذلك الدمع إذا دار في الحملاق أو أراد الجانب
يقال لاذ بجنبه أي بجنابه وحرمه
الصفة الثامنة القدم
قال أثناء حديث مطول فيضع الجبار قدمه في النار فتقول قط قط
أي حسبي حسبي
وفي رواية أخرى حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك وكرمك
وفي أخرى يقال لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد حتى يضع الرب قدمه عليها فتقول قط قط
وتأويل الجبار بمالك خازن النار أو بمن يرفع نفسه عن امتثال التكاليف مما لا يلتفت إليه كيف وقد ورد في رواية أنس في أثناء حديث وأما النار فلا تمتلى حتى يضع الله رجله فيها
الصفة التاسعة الإصبع
قال إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن
وفي رواية إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء
ولا يمكن إثبات الجارحة
وأما وجه التأويل فكما في اليدين

الصفة العاشرة اليمين
قال تعالى والسموات مطويات بيمينه
وتأويلها بالقدرة التامة ظاهرة
الصفة الحادية عشرة التكوين
أثبته الحنفية صفة زائدة على السبع المشهورة أخذا من قوله تعالى كن فيكون فقد جعل قوله كن متقدما على كون الحادثات
أعني وجودها
والمراد به التكوين والإيجاد والتخليق
قالوا وإنه غير القدرة لأن القدرة أثرها الصحة
والصحة لا تستلزم الكون فلا يكون الكون أثرا للقدرة
وأثر التكوين هو الكون
الجواب إن الصحة هي الإمكان
وإنه للممكن ذاتي فلا يصلح أثرا للقدرة لأن ما بالذات لا يعلل بالغير بل به أي بإمكان الشيء في نفسه تعلل المقدورية فيقال هذا مقدور لأنه ممكن
وذلك غير مقدور لأنه واجب أو ممتنع
فإذن أثر القدرة هو الكون أي كون المقدور وجوده لا صحته وإمكانه
فاستغنى عن إثبات صفة أخرى كذلك أي يكون أثرها الكون
فإن قيل المراد بالصحة التي جعلناها أثرا للقدرة هو صحة الفعل بمعنى التأثير والإيجاد من الفاعل لا صحة المفعول في نفسه وهذه الصحة هي إمكانه الذاتي الذي لا يمكن تعليله بغيره
وأما الصحة الأولى فهي بالقياس إلى الفاعل ومعللة بالقدرة فإن القدرة هي الصفة التي باعتبارها يصح من الفاعل طرفا الفعل والترك على سواء من الشيء المقدور له فلا يحصل بها منه أحدهما بعينه بل لا بد في حصوله من صفة أخرى متعلقة به
أي بذلك الطرف وحده
فتلك الصفة هي التكوين
قلنا كل منهما أي من ذينك الطرفين يصلح أثرا لها أي للقدرة

وإنما يحتاج صدور أحدهما بعينه عنها إلى مخصص بعينه وهو الإرادة المتعلقة بذلك الطرف وحينئذ لا حاجة إلى مبدأ للكون غير القدرة المؤثرة فيه بواسطة الإرادة المتعلقة به
وقد ورد في حديث ليلة المعراج وضع كفه بين كتفي فوجدت بردها في كبدي
ولا يجوز إثبات الجارحة كما ذهبت إليه المشبهة
فقيل هو موصوف بكف لا كالكفوف
وقيل مؤول بالتدبير
يقال فلان في كف فلان
أي في تدبيره
فالمقصود من الحديث بيان ألطافه في تدبيره له وبيان أنه وجد روح ألطافه
لأن البرد يطلق على كل روح وراحة وطمأنينة
وقد ورد في الأحاديث أنه تعالى ضحك حتى بدت نواجذه
ويمتنع حمله على حقيقته
فقيل هو ضحك لا كضحكنا
وقيل مؤول بظهور تباشير الخير والنجح في كل أمر
ومنه ضحكت الرياض إذا بدت أزهارها
فمعنى ضحك ظهر تباشير الصبح
والنجح منه
وبدو النواجذ عبارةعن ظهور كنه ما كان متوقعا منه
ومن كان له رسوخ قدم في علم البيان حمل أكثر ما ذكر من الآيات والأحاديث المتشابهة على التمثيل والتصوير وبعضها على الكناية
وبعضها على المجاز مراعيا لجزالة المعنى وفخامته ومجانبا عما يوجب ركاكته
فعليك بالتأمل فيها وحملها على ما يليق بها
والله المستعان
وعليه التكلان

المرصد الخامس فيما يجوز عليه تعالى
وفيه مقصدان
المقصد الأول
المتن في الرؤية
والكلام في الصحة
وفي الوقوع
وفي شبه المنكرين
فههنا ثلاثة مقامات
المقام الأول في صحة الرؤية
وقد طال نزاع المنتمين إلى الملة فيها
فذهب الأشاعرة إلى أنه تعالى يصح أن يرى
ومنعه الأكثرون
ولا بد أولا من تحرير محل النزاع فنقول إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ثم غمضنا العين فعند التغميض نعلم الشمس علما جليا
وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة
قالت الفلاسفة هي عائدة إلى تأثر الحدقة لوجوه
الأول إن من نظر إلى الشمس بالاستقصاء ثم غمض فإنه يتخيل أن الشمس حاضرة عنده لا يتأتى له أن يدفعه عن نفسه أصلا
الثاني إن من نظر إلى روضة خضراء زمانا ثم حول عينيه إلى شيء أبيض يرى لونه ممتزجا من البياض والخضرة
الثالث إن الضوء القوي يقهر الباصرة
فلولا تأثرها منه لما كان ذلك

قلنا كل ذلك يدل على تأثر الحدقة
وأما عود الإبصار إليه فلا
فلا هي هو
ولا مشروطة به عندنا
وقد سبق ما فيه كفاية
ثم علمت أن الله تعالى ليس جسما ولا في جهة ويستحيل عليه مقابلة ومواجهة وتقليب حدقة نحوه
ومع ذلك يصح أن ينكشف لعباده انكشاف القمر ليلة البدر
ويحصل لهوية العبد بالنسبة إليه هذه الحالة المعبر عنها بالرؤية
وقد استدل عليه بالنقل والعقل
فلنجعله مسلكين
المسلك الأول النقل
والعمدة قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني والاحتجاج به من وجهين
الأول أن موسى سأل الرؤية
ولو امتنع لما سأل
لأنه حينئذ إما أن يعلم امتناعه أو يجهله
فإن علمه فالعاقل لا يطلب المحال
فإنه عبث
وإن جهله فالجاهل بما لا يجوز على الله ويمتنع لا يكون نبيا كليما
الثاني أنه علق الرؤية على استقرار الجبل
واستقرار الجبل أمر ممكن في نفسه
وما علق على الممكن فهو ممكن
الإعتراض أما على الأول فمن وجوه
الأول أن موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية بل تجوز بها عن العلم الضروري لأنه لازمها وإطلاق اسم الملزوم على اللازم شائع
وهذا تأويل العلاف
وتبعه الجبائي وأكثر البصريين

والجواب أن الرؤية وإن استعملت للعلم لكنها إذا وصلت بإلى فبعيد جدا ومخالفة الظاهر لا تجوز إلا لدليل ثم يمتنع حملها عليه ههنا
أما أولا فلأنه يلزم ألا يكون موسى عالما بربه ضرورة مع أنه يخاطبه
وذلك لا يعقل
وأما ثانيا فلأن الجواب ينبغي أن يطابق السؤال
وقوله لن تراني نفي للرؤية بإجماع المعتزلة
الثاني إنه سأله أن يريه علما من أعلامه الدالة على الساعة فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه نحو واسأل القرية وهذا تأويل الكعبي والبغداديين
والجواب إنه خلاف الظاهر
ولا يستقيم
أما أولا فلقوله لن تراني وأما ثانيا فلأن تدكدك الجبل من أعظم الأعلام
فلا يناسب قوله ولكن انظر إلى الجبل المنع من رؤية الآية
الثالثة إنما سألها بسبب قومه ليمنع فيعلم قومه امتناعها بالنسبة إليهم بالطريق الأولى
وهذا تأويل الجاحظ ومتبعيه
والجواب إنه خلاف الظاهر
ولا يستقيم
أما أولا فلأنه لو كان مصدقا بينهم لكفاه أن يقول هذا ممتنع بل كان يجب عليه أن يردعهم عن طلب ما لا يليق بجلال الله كما قال إنكم قوم تجهلون عند

قولهم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وإلا لم يصدقوه في الجواب
وأما ثانيا فلأنهم لم يروا إلا أن أخذتهم الصاعقة
وليس في ذلك ما يدل على امتناع ما طلبوه
بل ذلك لقصدهم إعجاز موسى تعنتا
فأظهر الله ما يدل على صدقه معجزا
الرابع إنه سألها وإن علم استحالتها ليتأكد دليل العقل بدليل السمع فعل إبراهيم حين قال أرني كيف تحيي الموتى
قال أولم تؤمن
قال بلى ولكن ليطمئن قلبي
والجواب إن العلم لا يقبل التفاوت
ولذلك يؤول قول الخليل بما يضعف وبما يقوى مع أنه كان يمكنه ذلك من غير ارتكاب سؤال ما لا يمكن
الخامس إنه قد لا يعلم امتناع الرؤية
ولا يضر مع العلم بالوحدانية أو السؤال صغيره لا يمتنع على الأنبياء
والجواب التزام أن النبي المصطفى بالتكليم في معرفة الله تعالى وما يحوز عليه ويمتنع دون آحاد المعتزلة
ومن حصل طرفا من علم الكلام هي البدعة الشنعاء
واحتجاجنا بلزوم العبث
وهو مما ننزه عنه من له أدنى تمييز فضلا عن الأنبياء
كيف ومثل هذا التجاسر على الله تعالى لا يعد من الصغائر
وفي جوازها من الأنبياء ما سيأتي
وأما على الثاني فمن وجهين
الأول إنه علق الرؤية على استقرار الجبل
إما حال سكونه أو حركته
الأول ممنوع
والثاني مسلم
بيانه أنه لو علقه عليه حال سكونه لزم وجود الرؤية
فإذا قد علقه عليه حال حركته
ولا خفاء أن الاستقرار حال الحركة محال
والجواب إنه علقه على استقرار الجبل من حيث هو من غير قيد

وأنه ممكن قطعا إذ لو فرض لم يلزم منه محال لذاته
وأيضا فاستقرار الجبل عند حركته ليس بمحال إذ في ذلك الوقت قد يحصل الاستقرار بدل الحركة
إنما المحال الاستقرار مع الحركة
الثاني أنه لم يقصد بيان إمكان الرؤية أو امتناعها بل بيان عدم وقوعها لعدم المعلق به
والجواب إنه قد لا يقصد الشيء ويلزم
وههنا كذلك
فإنه إذا فرض وقوع الشرط فإما أن يقع المشروط فيكون ممكنا
وإلا فلا معنى للتعليق به
والشرط والمشروط
تذنيب كل ما سنتلوه عليك مما يدل على وقوع الرؤية فهو دليل على جوازها
فلا نطول بذكرها الكتاب
المسلك الثاني هو العقل
والعمدة مسلك الوجود
وهو طريقة الشيخ والقاضي وأكثر أئمتنا
وتحريره أنا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها
وهذا ظاهر
ونرى الجوهر لأنا نرى الطول والعرض
فقد ثبت أن صحة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض
وهذه الصحة لها علة لتحققها عند الوجود وانتفائها عند العدم
ولولا تحقق أمر حال الوجود غير متحقق حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجح
وهذه العلة لا بد أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض
وإلا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة
وهو غير جائز

لما مر
ثم نقول هذه العلة المشتركة إما الوجود أو الحدوث إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما
لكن الحدوث لا يصلح علة لأنه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق
والعدم لا يصلح أن يكون جزء العلة
وإذا سقط العدم عن درجة الاعتبار لم يبق إلا الوجود
فإذا هي الوجود
وأنه مشترك بينهما وبين الواجب لما تقدم
فعليه صحة الرؤية متحققة في حق الله تعالى فيتحقق صحة الرؤية
وهو المطلوب
واعلم أن هذا يوجب أن يصح رؤية كل موجود كالأصوات والروائح والملموسات والطعوم
والشيخ يلتزمه ويقول لا يلزم من صحة الرؤية تحقق الرؤية له
وإنما لا نرى لجريان العادة من الله بذلك
ولا يمتنع أن يخلق فينا رؤيتها
والخصم يشدد عليه النكير
وما هو إلا استبعاد
والحقائق لا تؤخذ من العادات
ثم الإعتراض عليه من وجوه
الأول لا نسلم أنا نرى العرض والجوهر
بل المرئي الأعراض فقط
قولك نرى الطول والعرض
قلنا والمرجع بهما إلى المقدار
وأنه عرض قائم بالجسم
والجواب أنا قد أبطلنا ذلك بما فيه كفاية
ونزيد ههنا أنا لو فرضنا تألف الأجزاء من السماء إلى الأرض
فإنا نعلم بالضرورة كونها طويلة
وإن لم يخطر ببالنا شيء من الأعراض
وأيضا فالإمتداد شرط لقيام العرض بها
وإلا لقام بها
وإن كانت متناثرة فلا يكون عرضا
الثاني لا نسلم احتياج الصحة إلى علة لأنها الإمكان
والإمكان عدمي لما تقدم في باب الإمكان
والجواب جدلا المعارضة بما سبق فيه وتحقيقا أن المراد بعلة صحة الرؤية ما يمكن أن يتعلق به الرؤية ونعلم بالضرورة أنه أمر موجود
الثالث لا نسلم أن علة صحة الرؤية يجب أن تكون مشتركة
أما أولا فلأن صحة الرؤية ليست أمرا واحدا بل صحة رؤية الأعراض لا تماثل

صحة رؤية الجواهر إذ المتماثلان ما يسد كل مسد الآخر
ورؤية الجسم لا تقوم مقام رؤية العرض ولا بالعكس
وأما ثانيا فلجواز تعليل الواحد بالنوع بالعلل المختلفة لما مر
والجواب قد ذكرنا أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها
والمدعي أن متعلقها ليس خصوصية واحد منهما
فإنا نرى الشبح من بعيد ولا ندرك منه إلا أنه هوية ما
وأما خصوصية تلك الهوية وجوهريتها وعرضيتها فلا فضلا عن أنها أي جوهر أو عرض هي وإذا رأينا زيدا فإنا نراه رؤية واحدة متعلقة بهويته ولسنا نرى أعراضه من اللون والضوء كما يقوله الفلاسفة بل نرى هويته ثم ربما نفصله إلى جواهر وأعراض تقوم بها
وربما نغفل عن ذلك حتى لو سئلنا عن كثير منها لم نعلمها ولم نكن قد أبصرناها إذ كنا أبصرنا الهوية
ولو لم يكن متعلق الرؤية هو الهوية التي بها الاشتراك بل الأمر الذي به الافتراق لما كان كذلك
الرابع لا نسلم أن المشترك بينهما ليس إلا الوجود أو الحدوث
فإن الإمكان مشترك بينهما
والجواب أنا قد بينا أن متعلق الرؤية هو ما يختص بالموجود
وإلا لصح رؤية المعدوم
والإمكان ليس كذلك
وما لا يعلم لا يكون متعلق الرؤية
والذي نعلمه فيهما خصوصية كل
وقد أبطلنا تعلق الرؤية بها ولم يبق إلا المشترك بينهما وهو الوجود إما مع خصوصية بها يمتاز عن القديم
وإنما هو مطلق الحدوث وإما بدون ذلك وهو مطلق الوجود

الخامس لا نسلم أن الحدوث لا يصلح سببا لصحة الرؤية
فإن صحة الرؤية عدمية فجاز كون سببها كذلك
والجواب ما سبق من أن المراد متعلق الرؤية
ولا يصلح العدم لذلك
فإن قيل ليس الحدوث هو العدم السابق بل مسبوقية الوجود بالعدم
قلنا وذلك أمر اعتباري لا يرى ضرورة
وإلا لم يحتج حدوث الأجسام إلى دليل
السادس لا نسلم أن الوجود مشترك بين الواجب والممكن
كيف وقد جزمتم القول بأن وجود كل شيء نفس حقيقته وكيف تكون حقائق الأشياء مشتركة حتى تكون حقيقة القديم مثل حقيقة الحادث وحقيقة الفرس مثل حقيقة الإنسان والجواب إن لا معنى للوجود إلا كون الشيء له هوية
وذلك أمر مشترك بالضرورة
وما ذكرتم مما به الافتراق وألزمتم الاشتراك فيه فشيات الأشياء
وهي هيئات للهويات
وإن عاقلا لا يقول بالاشتراك فيها
واعلم أن هذا المقام مزلة للأقدام مضلة للأفهام
وهذا غاية ما يمكن فيه من التقرير والتحرير
لم نأل فيه جهدا ولم ندخر نصحا
وعليك بإعادة التفكر وإمعان التدبر والثبات عند البوارق وعدم الركون إلى أول عارض
ولله العون والمنة
السابع لا نسلم أن علة صحة الرؤية إذا كانت موجودة في القديم كانت صحة الرؤية ثابتة فيه لجواز أن تكون خصوصية الأصل شرطا أو خصوصية الفرع مانعا
والجواب تعلمه مما قدمناه إليك
المقام الثاني في وقوع الرؤية
إن المؤمنين سيرون ربهم يوم القيامة

قال الإمام الرازي الأمة في هذه المسألة على قولين يصح ويرى
ولا يرى ولا يصح
وقد أثبتنا أنه يصح
فلو قلنا لا يرى لكان قولا ثالثا خارقا للإجماع
وهو غير صحيح لأن خرق الإجماع إثبات ما نفاه أو نفي ما أثبته وهذا القول الثالث إنما هو التفصيل
وهو القول بالجواز والقول بعدم الوقوع وشيء منهما لا يخالف الإجماع
بل كل واحد مما قال به طائفة
وذلك كما في مسألة قتل المسلم بالذمي والحر بالعبد
فإن القائل قائلان مثبت لهما
وناف لهما
والتفصيل لا يكون خارقا للإجماع ولا ممنوعا عنه بالإجماع
والمعتمد فيه مسلكان
المسلك الأول قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة
وجه الاحتجاج إن النظر في اللغة جاء بمعنى الانتظار
ويستعمل بغير صلة
قال تعالى انظرونا نقتبس من نوركم
وبمعنى التفكر ويستعمل بفي يقال نظرت في الأمر الفلاني
وبمعنى الرأفة ويستعمل باللام
يقال نظر الأمير لفلان
وبمعنى الرؤية ويستعمل بإلى
قال الشاعر
نظرت إلى من حسن الله وجهه ... فيا نظرة كادت على وامق تقضي والنظر في الآية موصول بإلى فوجب حمله على الرؤية
واعترض عليه بوجوه

الأول لا نسلم أن إلى صلة بل واحد الآلاء
فمعنى الآية نعمة ربها منتظرة
ومنه قول الشاعر
أبيض لا يرهب النزال ولا ... يقطع رحما ولا يخون إلى والجواب أن انتظار النعمة غم
ومن ثمة قيل الانتظار الموت الأحمر
فلا يصح الإخبار به بشارة
الثاني أن النظر الموصول بإلى قد جاء للانتظار
قال الشاعر
وشعث ينظرون إلى بلال ... كما نظر الظماء حيا الغمام وقال
وجوه ناظرات يوم بدر ... إلى الرحمن يأتي بالفلاح وقال
كل الخلائق ينظرون سجاله ... نظر الحجيج إلى طلوع هلال والجواب لا نسلم أن النظر ههنا للانتظار
ففي الأول أي يرون بلالا كما يرى الظماء ماء
ولا يمتنع حمل النظر المطلق على الرؤية
إنما الممتنع حمل الموصول بإلى على غيرها
وفي الثاني أي ناظرات إلى جهة الله وهي العلو في العرف
ولذلك ترفع إليه الأيدي في الدعاء أو إلى آثاره من الضرب والطعن
وفي الثالث أي يرون سجاله ويجوز المجرد للرؤية آنفا
وإن سلم مجيئه مع إلى للانتظار فلا
إذ لا يصلح بشارة لما مر
الثالث إن النظر مع إلى لتقليب الحدقة
يقال نظرت إلى الهلال فما رأيته
ولم أزل أنظر إلى الهلال حتى رأيته
وانظر كيف ينظر فلان إلي

والرؤية لا ينظر إليها
وقال تعالى وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون
ولأنه يوصف بالشدة والشزر والازورار والرضا والتجبر والذل والخشوع وشيء منها لا يصلح صفة للرؤية بل هي أحوال يكون عليها عين الناظر عند تقليب الحدقة
هذا وتقليب الحدقة ليس هو الرؤية ولا ملزومها
ثم إنه للرؤية مجاز
ولا يتعين لجواز أن يراد ناظرة إلى نعم الله
ولم يترك هذا الإضمار إلى ذلك المجاز
والجواب إن النظر مع إلى للرؤية بالنقل
وقوله نظرت إلى الهلال فما رأيته لم يصح من العرب بل يقال نظرت إلى مطلع الهلال فلم أر الهلال وربما يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه
وهو الجواب عن قولهم لم أزل أنظر إلى الهلال حتى رأيته
والبواقي كلها مجازات مع أن الأشياء التي يمكن إضمارها كثيرة
ولا قرينة معينة
فالتعيين تحكم لا يجوز لغة
ثم تقليب الحدقة طلبا للرؤية بدون الرؤية لا يكون نعمة
ومع الرؤية يكفيه التجوز
فلا يضم إليه الإضمار تقليلا لما هو خلاف الأصل
فإن تقليب الحدقة يكون سببا للرؤية
وإطلاق اسم السبب للمسبب مجاز مشهور
وأنت لا يخفى عليك أن أمثال هذه الظواهر لا تفيد إلا ظنونا ضعيفة لا تصلح للتعويل عليها في المسائل العلمية
المسلك الثاني قوله تعالى في الكفار كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
ذكر ذلك تحقيرا لشأنهم فلزم كون المؤمنين مبرأين عنه
والمعتمد فيه إجماع الأمة قبل حدوث المخالفين على وقوع الرؤية وعلى كون هاتين الآيتين محمولتين على الظاهر

المقام الثالث في شبه المنكرين وردها
وتنقسم إلى عقلية ونقلية
أما العقلية فثلاث
الأولى شبهة الموانع
لو جازت رؤيته تعالى لرأيناه الآن والتالي باطل
بيان الشرطية لو جازت رؤيته تعالى لجازت في الحالات كلها لأنه حكم ثابت له
إما لذاته أو لصفة لازمة لذاته
فجازت رؤيته الآن
ولو جازت رؤيته لزم أن نراه لأنه إذا اجتمعت شرائط الرؤية وجب حصول الرؤية
وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة
ونحن لا نراها وأنه سفسطة
وشرائط الرؤية سلامة الحاسة وكون الشيء جائز الرؤية مع حضوره للحاسة ومقابلته وعدم غاية الصغر وعدم غاية اللطافة وعدم غاية البعد والقرب وعدم الحجاب الحائل
ثم لا يعقل من هذه الشرائط في حق رؤية الله تعالى إلا سلامة الحاسة وصحة الرؤية لكون البواقي مختصة بالأجسام
وهما حاصلان الآن
والجواب أنا لا نسلم وجوب الرؤية عند اجتماع الشروط الثمانية لأنا نرى الجسم الكبير من البعيد صغيرا
وما ذلك إلا لأنا نرى بعض أجزائه دون البعض مع تساوي الكل في حصول الشرائط
لا يقال يتصل بطرفي المرئي من العين خطان شعاعيان كساقي مثلث قاعدته سطح المرئي
ويخرج منها إلى وسطه خط قائم عليه يقسم المثلث إلى مثلثين قائمي الزاوية
فيكون وترا لكل واحدة من الزاويتين الحادتين
وكل من الطرفين وترا لزاوية قائمة
ووتر القائمة أطول من وتر الحادة
فلا تكن أجزاء المرئي متساوية في القرب والبعد
لأنا نقول نفرض هذا التفاوت ذراعا
فلو بعد المرئي بقدر ذلك وجب ألا يرى أصلا
وإذا يرى فهذا البعد لا أثر له في عدم الرؤية

قال بعض الفضلاء لا يلزم من رؤيتنا جميع أجزائه أن نراه كبيرا
فلعل رؤيته صغيرا وكبيرا تختلف بضيق الزاوية الحاصلة في الناظر من الخطين المتصلين منه لطرفي المرئي وسعتها
ولهذا إذا قرب المرئي في الغاية أو بعد صارت لسعتها في الغاية أو لضيقها في الغاية كالمعدومة فانعدمت الرؤية
وضعفه ظاهر بناء على تركب الأجزاء التي لا تتجزأ لأن رؤية كل أصغر مما هو عليه توجب الانقسام
ورؤيته أكبر مما هو عليه بمثل توجب ألا يرى إلا ضعفا ضعفا وبأقل من مثل توجب الانقسام
قوله يلزم تجويز جبال شاهقة لا نراها
قلنا هذا معارض بجملة العاليات
ثم إمكان مأخذ الجزم بعدم الجبل ما ذكرتم لوجب ألا نجزم به إلا بعد العلم بهذا
واللازم باطل لأنه يجزم به من لا يخطر بباله هذه المسألة
ولأنه ينجر إلى أن يكون نظريا
سلمنا الوجوب في الشاهد ولم يجب في الغائب
إذ ماهية الرؤية في الغائب غير ماهية الرؤية في الشاهد فجاز اختلافهما في اللوازم كما يشترط في الشاهد الشروط الستة دون الغائب
الثانية شبهة المقابلة
وهي أن شرط الرؤية المقابلة أو ما في حكمها نحو المرئي في المرآة
وأنها مستحيلة في حق الله تعالى لتنزهه عن المكان والجهة
والجواب منع الاشتراط مطلقا كما مر أو في الغائب
الثالثة شبهة الانطباع
وهي أن الرؤية انطباع صورة المرئي في الحاسة
وهو على الله تعالى محال
والجواب مثل ما مر
وأما السمعية فأربع
الأول قوله تعالى لا تدركه الأبصار
والإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية أو هما متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر
فالآية نفت أن تراه الأبصار
وذلك يتناول جميع الأبصار في جميع الأوقات
ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى
وما كان عدمه مدحا كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله عنه

والجواب أما عن الوجه الأول في الاستدلال بالآية فمن وجوه
الأول إن الإدراك هو الرؤية على نعت الإحاطة بجوانب المرئي إذ حقيقته النيل والوصول
إنا لمدركون أي ملحقون
ثم نقل إلى المحيطة والرؤية المكيفة أخص من المطلقة
فلا يلزم من نفيها نفيها
قوله لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر
قلنا ممنوع
بل يصح أن يقال رأيته وما أدركه بصري
أي لم يحط به
الثاني إن تدركه الأبصار موجبة كلية
وقد دخل عليها النفي فرفعها
ورفع الموجبة كلية سالبة جزئية
وبالجملة فيحتمل إسناد النفي إلى الكل ونفي الإسناد إلى الكل
ومع احتمال الثاني لم يبق فيه حجة لكم
هذا لو ثبت أن اللام في الجمع للعموم
وإلا عكسنا القضية
الثالث إنها وإن عمت في الأشخاص فإنها لا تعم في الأزمان
ونحن نقول بموجبه حيث لا يرى في الدنيا
الرابع إن الآية تدل على أن الأبصار لا تراه ولا يلزم منه أن المبصرين لا يرونه لجواز أن يكون ذلك نفيا للرؤية بالجارحة مواجهة وانطباعا
وأما عن الوجه الثاني وهو قوله تمدح بأنه لا يرى فنقول هذا مدعاكم فأين الدليل عليه بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية لأنه لو امتنعت رؤيته لما حصل المدح
إذ لا مدح للمعدوم بأنه لا يرى حيث لم يكن له ذلك
وإنما المدح فيه للممتنع المتعزز بحجاب الكبرياء كما في الشاهد

الثانية أنه تعالى ما ذكر سؤال الرؤية إلا وقد استعظمه وذلك في ثلاث آيات
الأولى وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا
ولو كانت الرؤية ممكنة لما كان طالبها عاتيا مستكبرا بل كان ذلك نازلا منزلة طلب سائر المعجزات
الثانية وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون
الثالثة يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم سمى ذلك ظلما وجازاهم به في الحال
ولو جاز لكان سؤالهم سؤالا لمعجزة زائدة
والجواب إن الاستعظام إنما كان لطلبهم الرؤية تعنتا وعنادا
ولهذا استعظم إنزال الملائكة واستكبر إنزال الكتاب مع إمكانهما
ولو كان لأجل الامتناع لمنعهم موسى عن ذلك فعله حين طلبوا وهو أن يجعل لهم إلها
إذ قال إنكم قوم تجهلون ولم يقدم على طلب الرؤية الممتنعة بقولهم وقد مر
الثالث قوله تعالى لموسى لن تراني ولن للتأبيد وإذا لم يره موسى لم يره غيره إجماعا

والجواب منع كون لن للتأبيد بل هو للنفي في المستقبل فقط كقوله تعالى ولن يتمنوه أبدا ويتمنونه في الآخرة
الرابعة قوله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب وإذا لم يره من يكلمه في وقت الكلام لم يره في غيره إجماعا
والجواب إن التكليم وحيا قد يكون حاله الرؤية
وماذا فيه من الدليل على نفي الرؤية
تذنيب الكرامية وافقونا في الرؤية وخالفونا في الكيفية
فعندنا أن الرؤية تكون من غير مواجهة
إذ يمتنع ذلك في الموجود المنزه عن الجهة والمكان
وهم يدعون الضرورة في أن ما لا يكون في جهة قدام الرائي ولا مقابلا له أو في حكم المقابل لا يرى موافقين في ذلك للمعتزلة
والجواب إنا نمنع الضرورة
وما ذلك منهم إلا كدعوى الضرورة في أن كل موجود فإنه في جهة وحيز
وما ليس في حيز وجهة فإنه ليس بموجود
ولعل هذا فرعه
الشرح
المرصد الخامس فيما يجوز عليه تعالى أي يجوز أن يتعلق به كالرؤية والعلم بالكنه وفيه مقصدان

المقصد الأول في الرؤية والكلام في الصحة وفي الوقوع وفي شبه المنكرين
فههنا ثلاثة مقامات
المقام الأول في صحة الرؤية
وقد طال نزاع المنتمين إلى الملة فيها فذهب الأشاعرة إلى أنه تعالى يصح أن يرى
ومنعه الأكثرون
قال الآمدي اجتمعت الأئمة من أصحابنا على أن رؤيته تعالى في الدنيا والآخرة جائزة عقلا
واختلفوا في جوازها سمعا في الدنيا فأثبته بعضهم ونفاه آخرون
وهل يجوز أن يرى في المنام فقيل لا
وقيل نعم
والحق أنه لا مانع من هذه الرؤيا وإن لم تكن رؤيا حقيقة
ولا خلاف بيننا في أنه تعالى يرى ذاته
والمعتزلة حكموا بامتناع رؤيته عقلا لذي الحواس
واختلفوا في رؤيته لذاته
ولا بد أولا من تحرير محل النزاع فنقول إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ثم غمضنا العين فعند التغميض نعلم الشمس علما جليا
وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة فإن الحالتين وإن اشتركتا في حصول العلم فيها إلا أن الحالة الأولى فيها أمر زائد هو الرؤية
وكذا إذا علمنا شيئا علما تاما جليا ثم رأيناه فإنا نعلم بالبديهة تفرقة بين الحالتين
وإن في الثانية زيادة ليست في الأولى
قالت الفلاسفة هي أي تلك المغايرة والزيادة عائدة إلى تأثر الحدقة لا إلى زيادة في الانكشاف هي الرؤية والإبصار لوجوه

الأول إن من نظر إلى الشمس بالاستقصاء ثم غمض فإنه يتخيل أن الشمس حاضرة عنده لا يتأتى له أن يدفعه أي هذا التخيل عن نفسه أصلا وما ذلك إلا لأن الحدقة تأثرت عن صورة الشمس وبقيت صورتها في الحدقة بعد أن زالت الرؤية
الثاني إن من نظر بالاستقصاء إلى روضة خضراء زمانا طويلا ثم حول عينيه إلى شيء أبيض فإنه يرى لونه ممتزجا من البياض والخضرة فقد تحقق أن حدقته تأثرت عن الخضرة وبقي صورتها فيها بعد التحول
الثالث إن الضوء القوي يقهر الباصرة وكذلك البياض الشديد يقهرها بحيث لو نظر الرائي بعد رؤيتهما إلى ضوء ضعيف أو بياض ضعيف لم يرهما
فلولا تأثرها أي تأثر الحاسة منه بل منهما لما كان الأمر كذلك
قلنا كل ذلك الذي ذكرتموه يدل على تأثر الحدقة عند الإبصار
وأما عود تلك الزيادة التي هي الإبصار إليه أي إلى التأثر فلا دلالة عليه فلا هي أي فلا الإبصار بتأويل الرؤية هو أي تأثر الحاسة ولا هي مشروطة به عندنا فجاز أن يرى الله سبحانه وتعالى من غير أن تتأثر عنه الحاسة
وقد سبق ما فيه كفاية وهو أن الرؤية أمر يخلقه الله في الحي
ولا يشترط بضوء ولا مقابلة ولا غيرهما من الشرائط التي اعتبرها الحكماء ثم علمت أن الله تعالى ليس جسما ولا في جهة
ويستحيل عليه مقابلة ومواجهة وتقليب حدقة نحوه
ومع ذلك يصح أن ينكشف لعباده انكشاف القمر ليلة البدر كما ورد في الأحاديث الصحيحة
وأن يحصل لهوية العبد بالنسبة إليه هذه الحالة المعبر عنها بالرؤية هذا ما تفرد به أهل السنة

وخالفهم في ذلك سائر الفرق
فإن الكرامية والمجسمة وإن جوزوا رؤيته لكن بناء على اعتقادهم كونه جسما
وفي جهة
وأما الذي لا إمكان له ولا جهة فهو عندهم مما يمتنع وجوده فضلا عن رؤيته
وسيرد عليك زيادة تقرير لمذهبهم
وقد استدل عليه أي على جواز رؤيته تعالى بالنقل والعقل
فلنجعله مسلكين
المسلك الأول النقل وإنما قدمه لأنه الأصل في هذا الباب
والعمدة من المنقولات في ذلك قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام
رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني
والاحتجاج به من وجهين
الأول إن موسى عليه السلام سأل الرؤية
ولو امتنع كونه تعالى مرئيا لما سأل لأنه حينئذ إما أن يعلم امتناعه أو يجهله
فإن علمه فالعاقل لا يطلب المحال
فإنه عبث
وإن جهله فالجاهل بما لا يجوز على الله ويمتنع لا يكون نبيا كليما
وقد وصفه الله تعالى بذلك في كتابه بل ينبغي أن لا يصلح للنبوة
إذا المقصود من البعثة هو الدعوة إلى العقائد الحقة والأعمال الصالحة
الثاني إنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل
واستقرار الجبل أمر ممكن في نفسه
وما علق على الممكن فهو ممكن إذ لو كان ممتنعا لأمكن صدق الملزوم بدون صدق اللازم
الاعتراض أما على الوجه الأول فمن وجوه
الأول إن موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية بل تجوز بها عن العلم الضروري لأنه لازمها
وإطلاق اسم الملزوم على اللازم شائع سيما استعمال رأى بمعنى علم
وأرى بمعنى أعلم
فكأنه قال اجعلني عالما بك

علما ضروريا
وهذا تأويل أبي الهذيل العلاف وتبعه فيه الجبائي
وأكثر البصريين
والجواب إن الرؤية وإن استعملت للعلم لكنها إذا وصلت ب إلى فبعيد جدا
والصواب أن يقال لو كانت الرؤية المطلوبة في أرني بمعنى العلم لكان النظر المترتب عليه بمعناه أيضا
والنظر وإن استعمل بمعنى العلم إلا أن استعماله فيه موصولا بإلى مستبعد مخالف للظاهر قطعا ومخالفة الظاهر لا تجوز إلا لدليل ولا دليل ههنا
فوجب حمله على الرؤية بل على تقليب الحدقة نحو المرئي المؤدي إلى رؤيته فيكون الطلب للرؤية أيضا ثم نقول يمتنع حملها المؤدي إلى رؤيته فيكون الطلب للرؤية أيضا ثم نقول يمتنع حملها أي حمل الرؤية المطلوبة عليه أي على العلم الضروري ههنا
أما أولا فلأنه يلزم أن لا يكون موسى عالما بربه ضرورة
مع أنه يخاطبه
وذلك لا يعقل لأن المخاطب في حكم الحاضر المشاهد
وما هو معلوم بالنظر ليس كذلك
وأما ثانيا فلأن الجواب الحاضر المشاهد
وما هو معلوم بالنظر ليس كذلك
وأما ثانيا فلأن الجواب ينبغي أن يطابق السؤال
وقوله لن تراني نفي للرؤية لا للعلم الضروري بإجماع المعتزلة
فلو حمل السؤال على طلب العلم لم يطابقا أصلا
الثاني من وجوه الاعتراض على الأول أنه لم يسأله إراءة ذاته بل سأل أن يريه علما وأمارة من أعلامه وأماراته الدالة على الساعة وتقدير الكلام أنظر إلى علمك فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فقال انظر إليك نحو واسأل القرية أي أهلها
فتكون الرؤية المطلوبة

متعلقة بالعلم أيضا
والمعنى أرني علما من أعلامك انظر إلى علمك وهذا تأويل الكعبي والبغداديين
والجواب إنه خلاف الظاهر فلا يرتكب إلا لدليل ومع ذلك لا يستقيم
أما أولا فلقوله لن تراني فإنه نفي لرؤيته تعالى لا لرؤية علم من أعلام الساعة بإجماعهم
فلا يطابق الجواب السؤال حينئذ
وأما ثانيا فلأن تدكدك الجبل الذي شاهده موسى عليه السلام من أعظم الأعلام الدالة عليها فلا يناسب قوله ولكن انظر إلى الجبل المنع من رؤية الآية
أي العلامة الدالة على الساعة المستفاد من قوله لن تراني على هذا التأويل بل يناسب رؤيتها
وأيضا قوله فإن استقر مكانه لا يلائم رؤيتها لأن الآية في تدكدك الجبل لا في استقراره
الثالث من تلك الوجوه إنما سألها بسبب قومه لا لنفسه لأنه كان عالما بامتناعها
لكن قومه اقترحوا عليه وقالوا أرنا الله جهرة وإنما نسبها إلى نفسه في قوله أرني ليمنع عن الرؤية فيعلم قومه امتناعها بالنسبة إليهم بالطريق الأولى وفيه مبالغة لقطع دابر اقتراحهم
وفي أخذ الصاعقة لهم دلالة على استحالة المسئول
وهذا تأويل الجاحظ ومتبعيه
والجواب إنه خلاف الظاهر فلا بد له من دليل ومع ذلك لا يستقيم
أما أولا فلأنه لو كان موسى مصدقا بينهم لكفاه في دفعهم أن

يقول هذا ممتنع بل كان يجب عليه أن يردعهم عن طلب ما لا يليق بجلال الله كما زجرهم
وقال إنكم قوم تجهلون عند قولهم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وإلا أي وإن لم يكن مصدقا بينهم بل كان القوم كافرين منكرين لصدقه لم يصدقوه أيضا في الجواب ب لن تراني إخبارا عن الله تعالى لأن الكفار لم يحضروا وقت السؤال ولم يسمعوا الجواب
بل الحاضرون هم السبعون المختارون
فكيف يقبلون مجرد إخباره مع إنكارهم لمعجزاته الباهرة
وأما ثانيا فلأنهم لما سألوا وقالوا أرنا الله جهرة زجرهم الله تعالى وردعهم عن السؤال بأخذ الصاعقة فلم يحتج موسى في زجرهم إلى سؤال الرؤية وإضافتها إلى نفسه
وليس في أخذ الصاعقة دلالة على امتناع المسؤول لأنهم لم يروا إلا أن أخذتهم الصاعقة عقب سؤالهم
وليس في ذلك ما يدل على امتناع ما طلبوه بل جاز أن يكون ذلك الأخذ لقصدهم إعجاز موسى عن الإتيان بما طلبوه تعنتا مع كونه ممكنا فأنكر الله ذلك عليهم وعاقبهم
كما أنكر قولهم لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا وقولهم أنزل علينا كتابا من السماء بسبب التعنت
وإن كان المسؤول أمرا ممكنا في نفسه فأظهر الله عليهم ما يدل على صدقه معجزا ورادعا لهم عن تعنتهم
الرابع من وجوه الاعتراض على الأول أنه سألها لنفسه وإن علم استحالتها بالعقل ليتأكد دليل العقل بدليل السمع فيتقوى علمه بتلك الاستحالة
فإن تعدد الأدلة وإن كانت من جنس واحد تفيد زيادة قوة في العلم بالمدلول
فكيف إذا كانت من جنسين
وإنما سأل هذا السؤال وفعله فعل إبراهيم وسؤاله حين قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو

لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي فقد طلب الطمأنينة فيما يعتقده ويعلمه بانضمام المشاهدة إلى الدليل
والجواب أن العلم لا يقبل التفاوت فإنه كما مر صفة توجب تمييزا لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه من الوجوه
ولذلك يؤول قول الخليل تارة بما يضعف وهو أنه مخاطبة منه لجبريل عند نزوله إليه بالوحي ليعلم أنه منه عند الله وضعفه أنه خاطب الرب وجبرائيل ليس برب
وأيضا إحياء الموتى ليس مقدورا لجبرائيل فكيف يطلب منه وتارة بما يقوى وهو ما روي من أنه أوحى الله تعالى إليه أني اتخذت إنسانا خليلا وعلامته أني أحيي الموتى بدعائه
فظن إبراهيم أنه ذلك الإنسان فطلب الإحياء ليطمئن به قلبه مع أنه كان يمكنه أي يمكن موسى ذلك أي طلب التأكد من غير ارتكاب سؤال ما لا يمكن
من الرؤية بأن يطلب إظهار الدليل السمعي على استحالتها بلا طلب
فيكون حينئذ طلبها خارجا عما يليق بالعقلاء خصوصا الأنبياء
الخامس من تلك الوجوه أنه قد لا يعلم امتناع الرؤية ولا يضر ذلك في نبوته مع العلم بالوحدانية لأن المقصود من وجوب معرفته عندنا هو التوصل إلى العلم بحكمته
وأنه لا يفعل قبيحا والغرض من البعثة هو الدعوة إلى أنه تعالى واحدا
وأنه كلف عباده بأوامر ونواه تعريضا لهم إلى النعيم المقيم
وذلك لا يتوقف على العلم باستحالة رؤيته
وأما من جعل الوجوب شرعيا فعنده يجوز أن لا تكون شريعة موسى آمرة بمعرفة أنه تعالى يستحيل رؤيته أو يعلم موسى امتناع الرؤية
والسؤال بطلبها صغيرة لا تمتنع على الأنبياء

والجواب إلتزام أن النبي المصطفى المختار بالتكليم في معرفة الله تعالى وما يجوز عليه ويمتنع دون آحاد المعتزلة ودون من حصل طرفا من علم الكلام هي البدعة الشنعاء والطريقة العوجاء التي لا يسلكها واحد من العقلاء
واحتجاجنا بلزوم العبث على تقدير العلم بالاستحالة وهو ما تنزه عنه من له أدنى تمييز فضلا عن الأنبياء
كيف ومثل هذا التجاسر على الله تعالى بطلب ما لا يجوز عليه ويشعر بالتجسم على رأيكم لا يعد من الصغائر بل من الكبائر التي يمتنع صدورها عنهم وعلى تقدير كون السؤال من الصغائر نقول في جوازها من الأنبياء ما سيأتي من المنع والتفصيل
وأما على الوجه الثاني أي الاعتراض عليه فمن وجهين
الأول إنه علق الرؤية على استقرار الجبل
إما حال سكونه أو حال حركته
الأول ممنوع
والثاني مسلم
بيانه أنه لو علقه أي وجود الرؤية عليه حال سكونه لزم وجود الرؤية لحصول الشرط الذي هو الاستقرار
وهو باطل فإذن قد تعين أنه علقه عليه حال حركته
ولا خفاء في أن الاستقرار حال الحركة محال فيكون تعليق الرؤية عليها تعليقا بالمحال
فلا يدل على إمكان المعلق بل على استحالته
والجواب إنه علقه على استقرار الجبل من حيث هو من غير قيد بحال السكون أو الحركة
وإلا لزم الإضمار في الكلام وأنه أي استقرار الجبل من حيث هو ممكن قطعا
إذ لو فرض وقوعه لم يلزم منه محال لذاته
وأيضا فاستقرار الجبل عند حركته أي في زمانها ليس بمحال
إذ في ذلك الوقت قد يحصل الاستقرار بدل الحركة ولا محذور فيه إنما المحال هو الاستقرار مع الحركة أي كونهما مجتمعين لا وقوع شيء منهما في وقت آخر بدل صاحبه
الثاني من الوجهين أنه لم يقصد من التعليق المذكور بيان إمكان

الرؤية أو امتناعها بل بيان عدم وقوعها لعدم المعلق به وهو الاستقرار سواء كان ممكنا أو ممتنعا
فلا يلزم إمكان المعلق
والجواب إنه قد لا يقصد الشيء في الكلام قصدا بالذات ويلزم منه لزوما قطعيا والحال ههنا كذلك
فإنه إذا فرض وقوع الشرط الذي هو ممكن في نفسه فإما أن يقع المشروط فيكون هو أيضا ممكنا
وإلا فلا معنى للتعليق به
وإيراد الشرط والمشروط لأنه حينئذ منتف على تقديري وجود الشرط وعدمه
لا يقال فائدة التعليق ربط العدم بالعدم مع السكوت عن ربط الوجود بالوجود لأنا نقول إن المتبادر في اللغة من مثل قولنا إن ضربتني ضربتك
هو الربط في جانبي الوجود والعدم معا لا في جانب العدم فقط كما هو المعتبر في الشرط المصطلح
تذنيب كل ما سنتلوه عليك في المقام الثاني مما يدل على وقوع الرؤية فهو دليل على جوازها وصحتها بلا شبهة فلا نطول بذكرها في هذا الكتاب كما فعله جمع من الأصحاب
والله الموفق للصواب
المسلك الثاني من مسلكي صحة الرؤية هو العقل
والعمدة في المسلك العقلي مسلك الوجود
وهو طريقة الشيخ أبي الحسن والقاضي أبي بكر وأكثر أئمتنا
وتحريره أنا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرهما من الحركة والسكون والاجتماع والافتراق
وهذا ظاهر
ونرى الجوهر أيضا
وذلك لأنا نرى الطول والعرض في الجسم
ولهذا نميز

الطويل من العريض
ونميز الطويل من الأطول
وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم لما تقرر من أنه مركب من الجواهر الفردة
فالطول مثلا إن قام بجزء واحد منها فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر فيقبل القسمة
هذا خلف
وإن قام بأكثر من جزء واحد لزم قيام العرض الواحد بمحلين
وهو محال
فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركب منها الجسم فقد ثبت أن صحة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض
وهذه الصحة لها علة مختصة بحال وجودهما
وذلك لتحققها عند الوجود كما عرفت وانتفائها عند العدم فإن الأجسام والأعراض لو كانت معدومة لاستحال كونها مرتبة بالضرورة والاتفاق ولولا تحقق أمر مصحح حال الوجود غير متحقق حال العدم لكان ذلك أي اختصاص الصحة بحال الوجود ترجيحا بلا مرجح لأن نسبة الصحة على تقدير استغنائها عن العلة إلى طرفي الوجود والعدم على سواء وهذه العلة المصححة للرؤية لا بد من أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض
وإلا لزم تعليل الأمر الواحد وهو صحة كون الشيء مرئيا بالعلل المختلفة وهي الأمور المختصة إما بالجواهر وإما بالأعراض
وهو غير جائز لما مر في مباحث العلل ثم نقول هذه العلة المشتركة إما الوجود أو الحدوث
إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما
فإن الأجسام لا توافق الألوان في صفة عامة بتوهم كونها مصححة سوى هذين لكن الحدوث لا يصلح أن يكون علة للصحة لأنه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق
والعدم لا يصلح أن يكون جزءا للعلة لأن التأثير صفة إثبات فلا يتصف به العدم
ولا ما هو مركب منه
وإذا أسقط

العدم عن درجة الاعتبار لم يبق إلا الوجود
فإذن هي أي العلة المشتركة الوجود
وأنه مشترك بينهما وبين الواجب لما تقدم من اشتراك الوجود بين الموجودات كلها
فعلة صحة الرؤية متحققة في حق الله تعالى فيتحقق صحة الرؤية
وهو المطلوب
واعلم أن هذا الدليل يوجب أن يصح رؤية كل موجود كالأصوات والروائح والملموسات والطعوم
والشيخ الأشعري يلتزمه
ويقول لا يلزم من صحة الرؤية لشيء تحقق الرؤية له
وإنما لا نرى هذه الأشياء التي ذكرتموها لجريان العادة من الله بذلك أي بعدم رؤيتها
فإنه تعالى أجرى عادته بعدم خلق رؤيتها فينا
ولا يمتنع أن يخلق فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها
والخصم يشدد عليه النكير أي الإنكار
ويقول هذه مكابرة محضة وخروج عن حيز العقل بالكلية ونحن نقول ما هو أي إنكاره إلا استبعاد ناشىء عما هو معتاد في الرؤية
والحقائق أي الأحكام الثابتة المطابقة للواقع لا تؤخذ من العادات بل مما تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات
ولا شبهة في أن الرؤية بالمعنى الذي حققناه فيما سلف ليست ممتنعة في سائر المحسوسات
ثم الاعتراض عليه بعد النقض المذكور من وجوه
الأول لا نسلم أنا نرى العرض والجوهر معا بل المرئي هو الأعراض فقط
قولك نرى الطول والعرض وهما جوهران
قلنا الحكم برؤيتهما صحيح ولكن المرجع بهما إلى المقدار
فإنه عرض قائم بالجسم
والجواب إنا قد أبطلنا ذلك أي كونهما مقدارا قائما بالجسم بما فيه كفاية فإن وجود المقدار الذي هو عرض مبني على نفي الجزء وتركب الجسم من الهيولى والصورة
وقد مر بطلانه بما لا حاجة إلى إعادته
ونزيد ههنا لإبطال وجود المقدار العرضي أنا لو فرضنا تألف الأجزاء من السماء

إلى الأرض فإنا نعلم بالضرورة كونها طويلة جدا وإن لم يخطر ببالنا شيء من الأعراض فعلم أنه لا حاجة في الطول إلى شيء سوى الأجزاء
فالمرئي هو تلك الأجزاء لا عرض قائم بها
وأيضا فالامتداد الحاصل فيما بين الأجزاء شرط لقيام العرض الواحد الذي هو المقدار بها
وإلا لقام المقدار الواحد بها أي بتلك الأجزاء وإن كانت متناثرة متفاصلة
وهو ضروري البطلان
وإذا كان الامتداد شرطا لقيام المقدار العرضي بالأجزاء فلا يكون الامتداد عرضا قائما بها
وإلا لزم اشتراط الشيء بنفسه
فمرجع الطول إلى الأجزاء المتألفة في سمت مخصوص فرأيته رؤية تلك الأجزاء المتحيزة
وهو المطلوب
الثاني من وجوه الاعتراض لا نسلم احتياج الصحة إلى علة لأنها الإمكان
والإمكان عدمي لما تقدم في باب الإمكان والعدمي لا حاجة به إلى علة
والجواب جدلا المعارضة بما سبق فيه
أي في باب الإمكان من الأدلة الدالة على كونه وجوديا والجواب تحقيقا أن المراد بعلة صحة الرؤية كما صرح به الآمدي ما يمكن أن يتعلق به الرؤية لا ما يؤثر في الصحة
واحتياج الصحة سواء كانت وجودية أو عدمية إلى العلة بمعنى متعلق الرؤية ضروري
ونعلم أيضا بالضرورة أنه أي متعلق الرؤية أمر موجود لأن المعدوم لا تصح رؤيته قطعا
الثالث من تلك الوجوه لا نسلم أن علة صحة الرؤية يجب أن تكون مشتركة
أما أولا فلأن صحة الرؤية ليست أمرا واحدا بالشخص
وهو ظاهر
بل نقول صحة رؤية الأعراض لا تماثل صحة رؤية الجواهر إذ المتماثلان ما يسد كل منهما مسد الآخر
ورؤية الجسم لا تقوم مقام رؤية العرض ولا بالعكس إذ يستحيل أن يرى الجسم عرضا أو العرض

جسما
وأما ثانيا فلجواز تعليل الواحد بالنوع بالعلل المختلفة لما مر في مباحث العلل والمعلولات
فعلى تقدير تماثل الصحتين جاز تعليلهما بعلتين مختلفتين
والجواب قد ذكرنا أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها
والمدعي أن متعلقها ليس خصوصية واحد منهما أي من الجوهر والعرض فإنا نرى الشبح من بعيد ولا ندرك منه إلا أنه هوية ما من الهويات
وأما خصوصية تلك الهوية وجوهريتها وعرضيتها فلا ندركها فضلا عن إدراك أنها أي جوهر أو عرض هي
وإذا رأينا زيدا فإنا نراه رؤية واحدة متعلقة بهويته
ولسنا نرى أعراضه من اللون والضوء كما تقوله الفلاسفة حيث يزعمون أن المرئي بالذات هو الألوان والأضواء
وأما الأجسام فهي مرئية بالعرض والتبعية بل نرى هويته ثم ربما نفصله إلى جواهر هي أعضاؤه وإلى أعراض تقوم بها أي بتلك الجواهر
وربما نغفل عن ذلك التفصيل حتى لو سئلنا عن كثير منها أي من تلك الجواهر والأعراض لم نعلمها ولم نكن قد أبصرناها
إذ كنا أي زمان كنا أبصرنا الهوية
ولو لم يكن متعلق الرؤية هو الهوية التي بها الاشتراك بين خصوصيات الهويات بل كان متعلق الرؤية الأمر الذي به الافتراق بينها
أعني خصوصية هوية زيد مثلا لما كان الحال كذلك لأن رؤية الهوية المخصوصة الممتازة تستلزم الاطلاع على خصوصيات جواهرها وأعراضها
فلا تكون مجهولة لنا
فقد تحقق أن متعلق الرؤية هو الهوية العامة المشتركة بين الجواهر والأعراض وبين الباري سبحانه وتعالى
فتصح رؤيته
الرابع من وجوه الاعتراض لا نسلم أن المشترك بينهما أي الجوهر والعرض ليس إلا الوجود والحدوث
فإن الإمكان أيضا مشترك بينهما وكذا المذكورية والمعلومية وسائر المفهومات العامة
والجواب أنا قد بينا أن متعلق الرؤية الذي فسرنا به علة الصحة هو

ما يختص بالموجود
وإلا لصح رؤية المعدوم والإمكان ليس كذلك لشموله الموجود والمعدوم
وكذا سائر المفهومات الشاملة لهما
فلا يصح شيء منهما متعلقا للرؤية وما لا يعلم لا يكون متعلق الرؤية لأن متعلقها يجب أن يكون معلوما لكونه مدركا بالبصر والذي نعلمه فيهما
أي في الجوهر والعرض الموجودين خصوصية كل منهما
وقد أبطلنا تعلق الرؤية بها ولم يبق لتعلقها إلا المشترك بينهما
وهو الوجود إما مع خصوصية بها يمتاز كل منهما عن القديم
وإنما هو مطلق الحدوث وقد أبطلناه أيضا
وإما بدون ذلك وهو مطلق الوجود وبذلك يتم المطلوب
الخامس لا نسلم أن الحدوث لا يصلح سببا لصحة الرؤية
فإن صحة الرؤية عدمية فجاز كون سببها كذلك أي عدميا
والجواب ما سبق من أن المراد بسبب الصحة متعلق الرؤية لا ما يؤثر فيها ولا شك في أنه لا يصلح العدم لذلك أي لكونه متعلق الرؤية
فإن قيل ليس الحدوث هو العدم السابق كما ذكرتم بل مسبوقية الوجود بالعدم فلا يكون عدميا
قلنا وذلك أي كون الوجود مسبوقا بالعدم أمر اعتباري لا يرى ضرورة
وإلا لم يحتج حدوث الأجسام إلى دليل لكونه مدركا محسوسا
السادس لا نسلم أن الوجود مشترك بين الواجب والممكن
كيف وقد جزمتم القول بأن وجود كل شيء نفس حقيقته
وكيف تكون حقائق الأشياء مشتركة حتى تكون حقيقة القديم مثل حقيقة الحادث
وحقيقة

الفرس مثل حقيقة الإنسان بل تكون جميع الموجودات مشتركة في حقيقة واحدة هي تمام ماهية كل واحد منها
وذلك مما لا يقول به عاقل
فوجب أن يكون الاشتراك في الوجود عندكم لفظيا لا معنويا كما علم في صدر الكتاب
وقد أجاب الآمدي عن هذا السؤال بأن المتمسك بهذا الدليل إن كان ممن يعتقد كون الوجود مشتركا كالقاضي وجمهور الأصحاب لم يرد عليه ما ذكرتموه
وإن كان ممن لا يعتقده كالشيخ فهو بطريق الإلزام
ولا يجب كون الملزوم معتقدا لما تمسك به
ولما لم يكن هذا مرضيا عند المصنف قال والجواب أنه لا معنى للوجود إلا كون الشيء له هوية لما عرفت من أن الوجود الخارجي ليس إلا كون الماهية ممتازة بحسب الهوية الشخصية وذلك أي كون الشيء ذا هوية يمتاز بها أمر مشترك بين الموجودات بأسرها بالضرورة
وما ذكرتم مما به الافتراق كالإنسانية والفرسية وغيرهما وألزمتم الاشتراك فيه على تقدير اشتراك الموجود على مذهبنا فشيات الأشياء أي خصوصياتها التي يمتاز بها بعضها عن بعض وهي هيئات وخصوصيات للهويات المتمايزة بذواتها
وإن عاقلا لا يقول بالاشتراك فيها ولا بما يستلزم هذا الاشتراك استلزاما مكشوفا لا سترة به
فما ذكره الشيخ من أن وجود كل شيء عين حقيقته لم يرد به أن مفهوم كون الشيء ذا هوية هو بعينه مفهوم ذلك الشيء حتى يلزم من الاشتراك في الأول الاشتراك في الثاني بل أراد أن الوجود ومعروضه ليس لهما هويتان متمايزتان تقوم إحداهما بالأخرى كالسواد بالجسم
وقد عرفت أن هذا هو الحق الصريح
فالاتحاد الذي ادعاه الشيخ على ما مر في الأمور العامة إنما هو باعتبار ما صدقا عليه
وذلك لا ينافي اشتراك مفهوم الوجود
فلا منافاة بين كون الوجود عين الماهية بالمعنى الذي صورناه وبين اشتراكه بين الخصوصيات المتمايزة بذواتها
والأكثرون توهموا أن ما نقل عنه من أن الوجود عين الماهية ينافي دعوى اشتراكه بين الموجودات
إذ يلزم منهما معا

كون الأشياء كلها متماثلة متفقة الحقيقة
وهو باطل
فلذلك قال واعلم أن هذا المقام مزلة للأقدام مضلة للأفهام
وهذا الذي حققناه لك هو غاية ما يمكن فيه من التقرير والتحرير لم نأل فيه جهدا ولم ندخر نصحا
وعليك بإعادة التفكر وإمعان التدبر والثبات عند البوارق اللامعة من الأفكار وعدم الركون إلى أول عارض يظهر ببادىء الرأي كما ركن إليه من حكم بأن كلام الشيخ في مباحث الرؤية حيث ادعى اشتراك الوجود ينافي ما تقدم حيث قال وجود كل شيء عينه ولله العون والمنة في إدراك الحقائق والاهتداء إلى الدقائق
السابع من الاعتراضات لا نسلم أن علة صحة الرؤية إذا كانت موجودة في القديم كانت صحة الرؤية ثابتة فيه كما في الحوادث لجواز أن تكون خصوصية الأصل شرطا أو خصوصية الفرع مانعا
والجواب تعلمه مما قدمناه إليك وهو بيان أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها
وأن متعلقها هو الوجود مطلقا
أعني كون الشيء ذا هوية ما لا خصوصيات الهويات والوجودات كما في الشبح المرئي من بعيد بلا إدراك لخصوصيته
وإذا كان متعلقها مطلق الهوية المشتركة لم يتصور هناك اشتراط بشرط معين ولا تقييد بارتفاع مانع
ولقد بالغ المصنف في ترويج المسلك العقلي لإثبات صحة رؤيته تعالى
لكن لا يلتبس على الفطن المنصف أن مفهوم الهوية المطلقة المشتركة بين خصوصيات الهويات أمر اعتباري كمفهوم الماهية والحقيقية فلا تتعلق بها الرؤية أصلا
وأن المدرك من الشبح البعيد هو خصوصيته الموجودة
إلا أن إدراكها إجمالي لا يتمكن

به على تفصيلها
فإن مراتب الإجمالي متفاوتة قوة وضعفا كما لا يخفى على ذي بصيرة
فليس يجب أن يكون كل إجمال وسيلة إلى تفصيل أجزاء المدرك وما يتعلق به من الأحوال
ألا ترى إلى قولك كل شيء فهو كذا
وفي هذا الترويج تكلفات اخر يطلعك عليها أدنى تأمل
فإذن الأولى ما قد قيل من أن التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذر فلنذهب إلى ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي من التمسك بالظواهر النقلية وقد مر عمدتها
المقام الثاني في وقوع الرؤية
أن المؤمنين سيرون ربهم يوم القيامة أي في الدار الآخرة
قال الإمام الرازي مستدلا على وقوع الرؤية
الأمة في هذه المسألة على قولين فقط
الأول يصح ويرى
والثاني لا يرى ولا يصح
وقد أثبتنا أنه يصح
فلو قلنا مع القول بالصحة أنه لا يرى
لكان قولا ثالثا خارقا للإجماع على عدم الافتراق بين الصحة والوقوع في النفي والإثبات
بل كلاهما مثبتان معا أو منفيان معا
وهو أي هذا الاستدلال غير صحيح كما ذكره الآمدي لأن خرق الإجماع إثبات ما نفاه كما إذا ذهب بعض المجمعين إلى السالبة الكلية وآخرون إلى السالبة الجزئية

فأحدث القول بالموجبة الكلية أو نفى ما أثبته كما إذا ذهب بعضهم إلى الموجبة الكلية وبعضهم إلى الجزئية
فأحدث القول بالسالبة الكلية
وأما إذا ذهب بعضهم إلى الموجبة الكلية وآخرون إلى السالبة الكلية
فإحداث القول بالموجبة الجزئية والسالبة الجزئية معا ليس خارقا للإجماع
إذ ليس بين القولين قدر مشترك
بل هو تفصيل وموافقة لطائفة في إحدى المسألتين
والأخرى في أخرى كما فيما نحن بصدده
وإليه أشار بقوله وهذا القول الثالث إنما هو التفصيل
وهو القول بالجواز والقول بعدم الوقوع
وشيء منهما لا يخالف الإجماع ولا يخرقه بل كل واحد من قولي التفصيل مما قال به طائفة من طائفتي المجمعين وإن كان خارقا لما قال به الطائفة الأخرى وذلك الذي ذكرناه في مسألتنا هذه كما في مسألة قتل المسلم بالذمي والحر بالعبد
فإن القائل قائلان مثبت لهما معا كالحنفية وناف لهما معا كالشافعية والتفصيل بينهما مما لم يقل به أحد من الأمة
ولكن لو قيل به لا يكون خارقا للإجماع بل موافقة للمثبت في مسألة
وللنافي في مسألة أخرى ولا يكون هذا التفصيل ممنوعا عنه بل يكون جائزا بالإجماع فهذا المسلك في إثبات الوقوع مردود
والمعتمد فيه مسلكان
المسلك الأول قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة
وجه الاحتجاج بالآية الكريمة إن النظر في اللغة جاء بمعنى الانتظار ويستعمل بغير صلة بل يتعدى بنفسه قال تعالى انظرونا نقتبس من نوركم أي انتظرونا
وقال ما ينظرون إلا صيحة واحدة

أي ما ينتظرون
ومنه قوله تعالى فناظرة بم يرجع المرسلون
أي منتظرة
وقول الشاعر
وإن يك صدر هذا اليوم ولى ... فإن غدا لناظره قريب أي لمنتظره
وجاء بمعنى التفكر والاعتبار ويستعمل حينئذ بفي
يقال نظرت في الأمر الفلاني أي تفكرت واعتبرت وجاء بمعنى الرأفة والتعطف ويستعمل حينئذ باللام
يقال نظر الأمير لفلان أي رأف به وتعطف وجاء بمعنى الرؤية ويستعمل بإلى
قال الشاعر
نظرت إلى من أحسن الله وجهه ... فيا نظرة كادت على وامق يقضي والنظر في الآية موصول بإلى فوجب حمله على الرؤية فتكون واقعة في ذلك اليوم
وهو المطلوب
واعترض عليه بوجوه
الأول لا نسلم أن لفظ إلى صلة للنظر بل هو واحد الآلاء ومفعول به للنظر بمعنى الانتظار
فمعنى الآية نعمة ربها منتظرة
ومنه قول الشاعر
أبيض لا يرهب النزال ولا ... يقطع رحما ولا يخون إلى أي نعمة
ويقرب منه ما قد قيل إن إلى بمعنى عند كما في قوله
فهل لكم فيما إلي فإنني ... طبيب بما أعيى النطاسي حذيما

أي فيما عندي ومعنى الآية حينئذ عند ربها منتظرة نعمته
والجواب أن انتظار النعمة غم
ومن ثمة قيل الانتظار الموت الأحمر
فلا يصح الإخبار به بشارة مع أن الآية وردت مبشرة للمؤمنين بالإنعام والإكرام وحسن الحال وفراغ البال
وذلك في رؤيته تعالى فإنها أجل النعم والكرامات المستتبعة لنضارة الوجه لا في الانتظار المؤدي إلى عبوسه
الثاني إن النظر الموصول بإلى قد جاء للانتظار
قال الشاعر
وشعث ينظرون إلى بلال ... كما نظر الظماء حيا الغمام ومن المعلوم أن العطاش ينتظرون مطر الغمام
فوجب حمل النظر المشبه على الانتظار ليصح التشبيه
وقال
وجوه ناظرات يوم بدر ... إلى الرحمن يأتي بالفلاح أي منتظرات إتيانه بالنصر والفلاح
وقال
كل الخلائق ينظرون سجاله ... نظر الحجيج إلى طلوع هلال أي ينتظرون عطاياه انتظار الحجاج ظهور الهلال
والجواب لا نسلم أن النظر ههنا أي فيما ذكر من الأمثلة للانتظار
ففي الأول أي يرون بلالا كما يرى الظماء ماء يطلبونه ويشتاقون إليه ولا يمتنع حمل النظر المطلق عن الصلة كالمذكور في المشبه به على الرؤية بطريق الحذف والإيصال
إنما الممتنع حمل الموصول ب إلى على غيرها أي غير الرؤية كالانتظار

وفي الثاني أي ناظرات إلى آثاره أي آثار الله من الضرب والطعن الصادرين من الملائكة التي أرسلها الله تعالى لنصرة المؤمنين يوم بدر
وذكر بعض الرواة أن الرواية هكذا وجوه ناظرات يوم بكر
وأن قائله شاعر من أتباع مسيلمة الكذاب
والمراد بيوم بكر يوم القتال مع بني حنيفة لأنهم بطن من بكر بن وائل
وأراد بالرحمن مسيلمة
وعلى هذا فالجواب ظاهر
وفي الثالث أي يرون سجاله
ويجوز النظر المجرد عن الصلة للرؤية كما مر آنفا
وإن سلم مجيئه مع إلى للانتظار فلا يصح حمله عليه في الآية إذ لا يصح بشارة لما مر من أن انتظار النعمة غم ووصولها سرور
الثالث من وجوه الاعتراض أن النظر مع إلى حقيقة لتقليب الحدقة لا للرؤية
يقال نظرت إلى الهلال فما رأيته ولو كان بمعنى الرؤية لكان متناقضا
ولم أزل انظر إلى الهلال حتى رأيته ولو حمل على الرؤية لكان الشيء غاية لنفسه
وانظر كيف ينظر فلان إلي
والرؤية لا ينظر إليها وإنما ينظر إلى تقليب الحدقة
وقال تعالى وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون فالنظر الموصول ب إلى محمول على تقليب الحدقة لما ذكرنا ولأنه يوصف بالشدة والشزر والازورار والرضى والتجبر والذل والخشوع
وشيء منها لا يصلح صفة للرؤية بل هي أحوال يكون عليها عين الناظر عند تقليب الحدقة نحو المرئي هذا كما ذكرناه

وتقليب الحدقة ليس هو الرؤية وهو ظاهر
فلا يكون النظر الموصول ب إلى حقيقة فيها
وإلا لزم الاشتراك ولا ملزومها لزوما عقليا حتى يجب من تحققه تحققها بل لزوما عاديا مصححا للتجوز ثم نقول إنه للرؤية مجاز
ولكنه مجاز لا يتعين كونه مرادا في الآية لجواز أن يراد ناظرة إلى نعم الله
ولم أي ولأي شيء يترك هذا الإضمار إلى ذلك المجاز
والجواب أن النظر مع إلى حقيقة للرؤية بالنقل الذي مر ذكره فلا يكون حقيقة وما استشهدتم به على كونه حقيقة لتقليب الحدقة لا يجدي نفعا إذ قوله نظرت إلى الهلال فما رأيته لم يصح نقله من العرب
بل يقال نظرت إلى مطلع الهلال فلم أر الهلال
وإن سلمناه قلنا ربما يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه وهو الجواب عن قولهم لم أزل أنظر إلى الهلال حتى رأيته أي إلى مطلع الهلال والبواقي من الأمثلة كلها مجازات أي النظر فيها وقع مجازا عن تقليب الحدقة من باب إطلاق اسم المسبب الذي هو الرؤية على سببها الذي هو التقليب وعلى تقدير كون النظر حقيقة في التقليب الذي ليس بمراد يجب حمله في الآية على الرؤية مجازا لرجحانه على الإضمار الذي يحتمل وجوها كثيرة وإليه الإشارة بقوله مع أن الأشياء التي يمكن إضمارها كثيرة كنعمة الله وجهة الله وآثار الله ولا قرينة ههنا معينة لبعضها فالتعيين تحكم لا يجوز لغة فوجب المصير إلى المجاز المتعين ثم نقول أيضا تقليب الحدقة طلبا للرؤية بدون الرؤية لا يكون نعمة بل فيه نوع عقوبة فلا يكون مرادا في الآية وتقليب الحدقة مع الرؤية يكفيه التجوز وحده فلا يضم إليه الإضمار تقليلا لما هو خلاف الأصل
فإن تقليب الحدقة يكون سببا عاديا للرؤية وإطلاق اسم السبب للمسبب مجاز مشهور فلنحمل الآية على التجوز عن الرؤية بلا إضمار شيء
وهو المطلوب
وأنت لا يخفى عليك أن أمثال هذه

الظواهر لا تفيد إلا ظنونا ضعيفة جدا
وحينئذ لا تصلح هذه الظواهر للتعويل عليها في المسائل العلمية التي يطلب فيها اليقين
المسلك الثاني في إثبات الوقوع قوله تعالى في الكفار كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ذكر ذلك تحقيرا لشأنهم
فلزم منه كون المؤمنين مبرأين عنه فوجب أن لا يكونوا محجوبين عنه بل رائين له
وهذا المسلك أيضا من الظواهر المفيدة للظن
والمعتمد فيه أي في إثبات الوقوع
بل وفي صحته أيضا إجماع الأمة قبل حدوث المخالفين على وقوع الرؤية المستلزم لصحتها وعلى كون هاتين الآيتين محمولتين على الظاهر المتبادر منهما
ومثل هذا الإجمال مفيد لليقين
المقام الثالث في شبه المنكرين وردها
وتنقسم تلك الشبه إلى عقلية ونقلية
أما العقلية فثلاث
الأولى شبهة الموانع وهي أن يقال لو جازت رؤيته تعالى لرأيناه الآن
والتالي باطل بطلانا ظاهرا
وأما بيان الشرطية فهو أنه لو جازت رؤيته تعالى لجازت في الحالات كلها لأنه أي جواز الرؤية حكم ثابت له
إما لذاته أو لصفة لازمة لذاته فلا يتصور انفكاكه عنه في شيء من الأزمنة فجازت رؤيته الآن قطعا
ولو جازت رؤيته الآن لزم أن نراه الآن لأنه إذا اجتمعت شرائط الرؤية في زمان وجب حصول الرؤية في ذلك الزمان وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة ونحن لا نراها
وأنه سفسطة رافعة للثقة عن القطعيات وشرائط الرؤية ثمانية أمور
الأول سلامة الحاسة ولذلك تختلف مراتب الإبصار بحسب اختلاف سلامة الإبصار
وتنتفي بانتفائها

والثاني كون الشيء جائز الرؤية مع حضوره للحاسة بأن تكون الحاسة متلفتة إليه
ولم يعرض هناك ما يضاد الإدراك كالنوم والغفلة والتوجه إلى شيء آخر
والثالث مقابلته للباصرة في جهة من الجهات أو كونه في حكم المقابلة كما في المرئي بالمرآة
والرابع عدم غاية الصغر فإن الصغير جدا لا يدركه البصر قطعا
والخامس عدم غاية اللطافة بأن يكون كثيفا
أي ذا لون في الجملة وإن كان ضعيفا
والسادس عدم غاية البعد وهو مختلف بحسب قوة الباصرة وضعفها
والسابع عدم غاية القرب
فإن المبصر إذا التصق بسطح البصر
بطل إدراكه بالكلية
والثامن عدم الحجاب الحائل وهو الجسم الملون المتوسط بينهما
وهناك شرط تاسع هو أن يكون مضيئا بذاته أو بغيره
ولم يذكره ههنا لكونه مذكورا في بحث الكيفيات المبصرة مع أنه يمكن إدراجه في حضوره للحاسة المعتبرة في الشرط الثاني
ثم لا نعقل من هذه الشرائط في حق رؤية الله تعالى إلا سلامة الحاسة وصحة الرؤية لكون الست البواقي منها مختصة بالأجسام
وهما أي الشرطان المعقولان في رؤيته حاصلان الآن فوجب حصول رؤيته
والجواب عن هذه الشبهة
أما أولا فهو أنا لا نسلم وجوب الرؤية عند اجتماع الشروط الثمانية وذلك لأن دليلكم وإن دل عليه لكن عندنا ما ينفيه لأنا نرى الجسم الكبير من البعيد صغيرا
وما ذلك إلا لأنا نرى بعض

أجزائه دون البعض مع تساوي الكل في حصول الشرائط فظهر أنه لا تجب الرؤية عند اجتماعها
لا يقال يتصل بطرفي المرئي من العين خطان شعاعيان كساقي مثلث قاعدته سطح المرئي ويخرج منها أي من العين إلى وسطه خط قائم عليه أي على سطحه يقسم ذلك الخط المثلث المذكور إلى مثلثين قائمي الزاوية الواقعة على جنبتي الخط القائم فيكون الخط الوسط وترا لكل واحدة من الزاويتين الحادتين
وكل من الطرفين وترا لزاوية قائمة
ووتر القائمة في المثلث أطول من وتر الحادة
فلم تكن أجزاء المرئي متساوية في القرب والبعد بالنسبة إلى الرائي بل يكون وسط المرئي أقرب إليه من طرفيه
فجاز أن يرى الوسط وحده بدون الطرفين لأنا نقول نفرض هذا التفاوت الذي ذكرتموه في هذه الخطوط ذراعا
فلو كان عدم رؤية الطرفين لأجل البعد
فإذا فرض أنه بعد المرئي يقدر ذلك البعد الذي لطرفيه وجب أن لا يرى أصلا
وإذا يرى
فهذا البعد لا أثر له في عدم الرؤية فتكون الأجزاء كلها مع ذلك التفاوت متساوية في حصول شرائط الرؤية وبعضها غير مرئي فلا تجب الرؤية مع حصولها
قال بعض الفضلاء أي صاحب اللباب معترضا على هذه المعارضة لا يلزم من رؤيتنا جميع أجزائه أن نراه كبيرا
وإنما يلزم ذلك أن لو كانت رؤيته صغيرا وكبيرا بحسب رؤية الأجزاء وعدمها
وهو ممنوع
فلعل رؤيته صغيرا وكبيرا تختلف بضيق الزاوية الحاصلة في الناظر من الخطين المتصلين منه بطرفي المرئي وسعتها فإن القائلين بالانطباع ذهبوا إلى أن صورة المرئي

إنما ترتسم من الرطوبة الجليدية في زاوية رأس مخروط متوهم قاعدته عند المرئي
وأن اختلافه بالصغر والكبر في الرؤية إنما هو بحسب ضيق تلك الزاوية وسعتها
ولهذا إذا قرب المرئي في الغاية أو بعد في الغاية صارت الزاوية لسعتها في الغاية حال القرب أو لضيقها في الغاية حال البعد كالمعدوم فانعدمت الرؤية حينئذ لعدم انطباع الصورة
قال المصنف وضعفه ظاهر بناء على تركب الأجزاء التي لا تتجزأ إذ على هذا التقدير إن رأى الأجزاء كلها وجب أن يرى الجسم كما هو في الواقع سواء كان قريبا أو بعيدا
وذلك لأن الرؤية كل منها أو بعضها أصغر مما هو عليه توجب الانقسام فيما لا يتجزأ لثبوت ما هو أصغر منه ورؤيته أي رؤية كل من الأجزاء أكبر مما هو عليه بمثل أو بأزيد منه توجب أن لا يرى إلا ضعفا أو أكبر من ذلك
وهو باطل قطعا ورؤيته أكبر بأقل من مثل توجب الانقسام ورؤية بعضها على ما هو عليه بعضها أكبر بمثل توجب ترجيحا بلا مرجح
فوجب أن يرى الكل على حاله فلا تفاوت حينئذ بالصغر والكبر
فتعين أن يكون التفاوت بحسب رؤية بعض دون بعض
فتمت معارضتنا لدليلهم على وجوب الرؤية عند اجتماع شرائطها ثم نقول قوله إن لم يجد حصول الرؤية عند اجتماعها يلزم تجويز جبال شاهقة بحضرتنا لا نراها وهو سفسطة
قلنا هذا معارض أي منقوض بجملة العاديات فإن الأمور العادية تجوز نقائضها مع جزمنا بعدم وقوعها
ولا سفسطة ههنا
فكذا الحال في الجبال الشاهقة التي لا نراها
فإنا نجوز وجودها ونجزم بعدمها
وذلك لأن الجواز لا يستلزم الوقوع ولا ينافي الجزم بعدمه فمجرد تجويزها لا يكون سفسطة
ثم نقول إن كان مأخذ الجزم بعدم الجبل المذكور ما ذكرتم من وجوب الرؤية عند اجتماع شرائطها لوجب أن لا نجزم به إلا بعد العلم بهذا
واللازم باطل لأنه يجزم به من

لا يخطر بباله هذه المسألة
ولأنه ينجر إلى أن يكون ذلك الجزم نظريا مع اتفاق الكل على كونه ضروريا
وأما ثانيا فهو أنا سلمنا الوجوب أي وجوب الرؤية في الشاهد عند حصول تلك الشرائط ولكنا نقول لم يجب أي لماذا يجب وجوب الرؤية في الغائب عند حصولها إذ ماهية الرؤية في الغائب غير ماهية الرؤية في الشاهد فجاز اختلافهما في اللوازم والشرائط كما يشترط في الشاهد الشروط الستة دون الغائب
وحينئذ جاز أن تجب رؤية الشاهد عند اجتماعها دون رؤية الغائب
الثانية من تلك الشبه شبهة المقابلة
وهي أن شرط الرؤية كما علم بالضرورة من التجربة المقابلة أو ما في حكمها نحو المرئي في المرآة
وأنها أي المقابلة مستحيلة في حق الله تعالى لتنزهه عن المكان والجهة
والجواب منع الاشتراط إما مطلقا كما مر من أن الأشاعرة جوزوا رؤية ما لا يكون مقابلا ولا في حكمه بل جوزوا رؤية أعمى الصين بقة أندلس
أو في الغائب لاختلاف الرؤيتين في الحقيقة فجاز أن لا يشترط في رؤيته المقابلة المشروطة في رؤية الشاهد
وتحقيقه على ما في اللباب أن المراد من الرؤية انكشاف نسبته إلى ذاته المخصوصة كنسبة الانكشاف المسمى بالإبصار إلى سائر المبصرات
والانكشاف على وفق المكشوف في الاختصاص بجهة وحيز وفي عدمه
الثالثة منها شبهة الانطباع
وهي أن الرؤية انطباع صورة المرئي في الحاسة
وهو على الله تعالى محال إذ لا يتصور له صورة تنطبع في حاسة
والجواب مثل ما مر وهو أن نمنع كون الرؤية بالانطباع إما مطلقا أو في الغائب لاختلاف الرؤيتين
وأما الشبه السمعية فأربع لا ست كما وقع في بعض النسخ
الأولى قوله تعالى لا تدركه الأبصار والإدراك المضاف إلى

الأبصار إنما هو الرؤية
فمعنى قولك أدركته ببصري معنى رأيته لا فرق إلا في اللفظ أو هما أمران متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر فلا يجوز رؤيته وما أدركته ببصري ولا عكسه
فالآية نفت أن تراه الأبصار
وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة في جميع الأوقات لأن قولك فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده ما يقابله فلا يراه شيء من الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة لما ذكرنا
ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى فإنه ذكره في أثناء المدائح وما كان من الصفات عدمه مدحا كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله عنه فظهر أنه يمتنع رؤيته
وإنما قلنا من الصفات احترازا عن الأفعال كالعفو والانتقام
فإن الأول فضل والثاني عدل
وكلاهما كمال
والجواب أما عن الوجه الأول في الاستدلال بالآية فمن وجوه
الأول أن الإدراك هو الرؤية على نعت الإحاطة بجوانب المرئي إذ حقيقته النيل والوصول
و إنا لمدركون أي ملحقون
وأدركت الثمرة
أي وصلت إلى حد النضج
وأدرك الغلام
أي بلغ ثم نقل إلى الرؤية المحيطة لكونها أقرب إلى تلك الحقيقة
والرؤية المتكيفة بكيفية الإحاطة أخص مطلقا من الرؤية المطلقة
فلا يلزم من نفيها أي نفي المحيطة عن الباري سبحانه وتعالى لامتناع الإحاطة نفيها أي نفي المطلقة عنه
قوله لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر
قلنا ممنوع بل يصح أن يقال رأيته وما أدركه بصري
أي لم يحط به من جوانبه
وإن لم يصح عكسه
الثاني من وجوه الجواب أن تدركه الأبصار موجبة كلية لأن موضوعها جمع محلي باللام الاستغراقية وقد دخل عليها النفي فرفعها ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية
وبالجملة فيحتمل قوله لا تدركه

الأبصار إسناد النفي إلى الكل بأن يلاحظ أولا دخول النفي ثم ورود العموم عليه فيكون سالبة كلية
ونفي الإسناد إلى الكل بأن يعتبر العموم أولا ثم ورود النفي عليه فيكون سالبة جزئية
ومع احتمال المعنى الثاني لم يبق فيه حجة لكم علينا لأن أبصار الكفار لا تدركه إجماعا
هذا ما نقوله لو ثبت أن اللام في الجمع للعموم والاستغراق وإلا عكسنا القضية وقلنا لا تدركه الأبصار سالبة مهملة في قوة الجزئية
فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار
وتخصيص البعض بالنفي يدل بالمفهوم على الإثبات للبعض
فالآية حجة لنا لا علينا
الثالث من تلك الوجوه أنها أي الآية وإن عمت في الأشخاص باستغراق اللام فإنها لا تعم في الأزمان فإنها سالبة مطلقة لا دائمة ونحن نقول بموجبة حيث لا يرى في الدنيا
الرابع منها أن الآية تدل على أن الأبصار لا تراه ولا يلزم منه أن المبصرين لا يرونه لجواز أن يكون ذلك النفي المذكور في الآية نفيا للرؤية بالجارحة مواجهة وانطباعا كما هو العادة فلا يلزم نفي الرؤية بالجارحة مطلقا
وأما عن الوجه الثاني أي وأما الجواب عن الوجه الثاني من وجهي الاستدلال بالآية وهو قوله تمدح الباري بأنه لا يرى فنقول هذا مدعاكم فأين الدليل عليه
وإذا ثبت أن سياق الكلام يقتضي أنه تمدح لم يكن لكم فيه دليل على امتناع رؤيته بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية لأنه لو امتنعت رؤيته لما حصل المدح بنفيها عنه إذ لا مدح للمعدوم بأنه لا يرى

حيث لم يكن له ذلك
وإنما المدح فيه أي في عدم الرؤية للممتنع المتعزز بحجاب الكبرياء كما في الشاهد
الثانية من الشبه السمعية أنه تعالى ما ذكر سؤال الرؤية في موضع من كتابه إلا وقد استعظمه
وذلك في ثلاث آيات
الأولى وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا
ولو كانت الرؤية ممكنة لما كان طالبها عاتيا أي مجاوزا للحد مستكبرا رافعا نفسه إلى مرتبة لا يليق بها بل كان ذلك نازلا منزلة طلب سائر المعجزات
الآية الثانية وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة أي عيانا فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون
ولو أمكنت الرؤية لما عاقبهم بسؤالها في الحال
الآية الثالثة يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم سمى الله ذلك السؤال ظلما وجازاهم به في الحال بأخذ الصاعقة ولو جاز كونه مرئيا لكان سؤالهم هذا سؤالا لمعجزة زائدة ولم يكن ظلما ولا سببا للعقاب
والجواب أن الاستعظام إنما كان لطلبهم الرؤية تعنتا وعنادا
ولهذا استعظم إنزال الملائكة في الآية الأولى واستكبروا إنزال الكتاب في الآية الثالثة مع إمكانهما بلا خلاف
ولو كان لأجل الامتناع لمنعهم موسى عن ذلك فعله أي منعه حين طلبوا أمرا ممتنعا وهو أن يجعل لهم إلها إذ قال

إنكم قوم تجهلون ولم يقدم موسى على طلب الرؤية الممتنعة بقولهم وطلبهم وقد مر هذا في المسلك النقلي من مسلكي صحة الرؤية
الثالثة من تلك الشبه قوله تعالى لموسى لن تراني
ولن للتأبيد
وإذا لم يره موسى أبدا لم يره غيره إجماعا
والجواب منع كون لن للتأبيد
بل هو للنفي المؤكد في المستقبل فقط كقوله تعالى ولن يتمنوه أي الموت أبدا
ولا شك أنهم يتمنوه في الآخرة للتخلص من العقوبة
الرابعة منها قوله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء حصر تكليمه للبشر في الوحي إلى الرسل وتكليمه لهم من وراء حجاب وإرساله إياهم إلى الأمم ليكلمهم على ألسنتهم
وإذ لم يره من يكلمه في وقت الكلام لم يره في غيره إجماعا وإذا لم يره هو أصلا لم يره غيره أيضا
إذ لا قائل بالفرق
والجواب إن التكليم وحيا قد يكون حال الرؤية فإن الوحي كلام يسمع بسرعة
وماذا فيه من الدليل على نفي الرؤية
تذنيب الكرامية والمجسمة وافقونا في الرؤية وخالفونا في الكيفية
فعندنا أن الرؤية تكون من غير مواجهة ولا مقابلة ولا ما في حكمها إذ يمتنع ذلك في الموجود المنزه عن الجهة والمكان
وهم يدعون الضرورة في أن ما لا يكون في جهة قدام الرائي ولا مقابلا له أو في حكم المقابل لا يرى موافقين في ذلك للمعتزلة ومخالفين لهم في أصل الرؤية
والجواب أنا نمنع الضرورة
وما ذلك أي ادعاء الضرورة منهم

ههنا إلا كدعوى الضرورة في أن كل موجود فإنه في جهة وحيز
وما ليس في حيز وجهة فإنه ليس بموجود
ولعل هذا الادعاء فرعه
أي فرع ذلك الادعاء
وقد وافقنا الحكماء والمعتزلة على أن حصر الموجود فيما ذكر حكم وهمي مما ليس بمحسوس فيكون باطلا
فكذا الضرورة التي ادعاها الكرامية والمجسمة في الرؤية

المقصد الثاني
المتن في العلم بحقيقة الله
والكلام في الوقوع والجواز
وفيه مقامان
المقام الأول إن حقيقة الله تعالى غير معلومة للبشر
وعليه جمهور المحققين
وقد خالف فيه كثير من المتكلمين
لنا وجهان
الأول المعلوم منه أعراض عامة كالوجود
أو سلوب ككونه واجبا أزليا أبديا ليس بجوهر
ولا في مكان أو إضافات ككونه خالقا قادرا عالما
ولا شك أن العلم بهذه الصفات لا يوجب العلم بالحقيقة المخصوصة
بل على أن ثمة حقيقة مخصوصة متميزة في نفسها عن سائر الحقائق
وأما عين تلك الحقيقة فلا
كما لا يلزم من علمنا بصدور الأثر الخاص عن المغناطيس العلم بحقيقته المعينة
بل بأن حقيقته مغايرة لسائر الحقائق
الثاني أن كل ما يعلم منه لا يمنع تصوره الشركة فيه
ولذلك يحتاج في نفيه عن الغير
وهو التوحيد
إلى الدليل
وذاته المخصوصة يمنع تصوره من الشركة
فليس المعلوم ذاته المخصوصة
وعكسه هو المطلوب

احتج الخصم بأنه لو لم يكن متصورا لامتنع الحكم عليها بأنها غير متصورة
وبالصفات
والجواب ظاهر
المقام الثاني الجواز
وفي جواز العلم بحقيقة الله تعالى خلاف منعه الفلاسفة لأن المعقول إما بالبديهة وإما بالنظر
والنظر إما في الرسم ولا يفيد الحقيقة وإما في الحد
ولا يمكن تحديدها لعدم التركب فيها لما مر
فلا يمكن العلم بها
والجواب منع حصر المدرك في البديهة والحد لجواز خلق الله تعالى علما متعلقا بما ليس ضروريا في شخص بلا سابقة نظر كما سبق أن النظري قد ينقلب ضروريا
وأيضا فالرسم وإن لم يجب أن يفيد الحقيقة فلا يمتنع أن يفيدها
الشرح
المقصد الثاني في العلم بحقيقة الله
والكلام في الوقوع والجواز
وفيه مقامان
المقام الأول الوقوع
إن حقيقة الله تعالى غير معلومة للبشر وعليه جمهور المحققين من الفرق الإسلامية وغيرهم
وقد خالف فيه كثير من المتكلمين من أصحابنا والمعتزلة لنا وجهان
الأول إن المعلوم منه أعراض عامة كالوجود أو سلوب ككونه واجبا لا يقبل العدم أزليا لا يسبقه عدم أبديا لا يلحقه عدم ليس

بجوهر
ولا في مكان أو إضافات ككونه خالقا قادرا عالما فإن هذه الصفات كلها إضافات لأن الإضافة تطلق على النسبة المتكررة وعلى معروضها
قال الآمدي كل ما ندركه منه صفات خارجة عن ذاته كصفات النفس من العلم والقدرة وغيرهما
والصفات الإضافية ككونه خالقا ومبدأ والصفات السلبية
ولا شك أن العلم بهذه الصفات لا يوجب العلم بالحقيقة المخصوصة ما هي في حد ذاتها بل تدل هذه الصفات على أن ثمة حقيقة مخصوصة متميزة في نفسها عن سائر الحقائق
وأما عين تلك الحقيقة الموصوفة المتميزة فلا تدل هي عليها ولا يوجب العلم بخصوصيتها كما لا يلزم من علمنا بصدور الأثر الخاص أعني جذب الحديد عن المغناطيس العلم بحقيقته المعينة بل بأن حقيقته حقيقة مخصوصة مغايرة لسائر الحقائق ممتازة عنها في حد نفسها
الثاني أن كل ما يعلم منه من كونه موجودا وعالما وقادرا ومريدا وخالقا إلى غير ذلك لا يمنع تصوره الشركة فيه
ولذلك يحتاج في نفيه أي نفي ما يعلم منه من صفات الألوهية عن الغير وهو التوحيد إلى الدليل وذاته المخصوصة بمنع تصوره من الشركة لأن الموجودات الشخصية كذلك فليس المعلوم ذاته المخصوصة
وعكسه أعني قولنا ليس ذاته المخصوصة بالمعلوم هو المطلوب
احتج الخصم بأنه لو لم يكن ذاته متصور معلوما لامتنع الحكم عليها بأنها غير متصورة
وامتنع الحكم عليها بالصفات الأخر
والجواب ظاهر وهو أن التصديق لا يتوقف على التصور بالكنه بل بوجه ما
المقام الثاني الجواز
وفي جواز العلم بحقيقة الله تعالى خلاف منعه الفلاسفة وبعض أصحابنا كالغزالي وإمام الحرمين
ومنهم من توقف كالقاضي أبي بكر وضرار بن عمرو
وكلام الصوفية في الأكثر مشعر

بالامتناع
وإنما منعه الفلاسفة لأن المعقول إما بالبديهة
وحقيقته ليست بديهية
وإما بالنظر
والنظر إما في الرسم
وهو لا يفيد الحقيقة
وإما في الحد فإذن لا نعلم الحقيقة إلا بالبديهة أو بالحد
وحقيقته تعالى ليست بديهية ولا يمكن تحديدها لعدم التركيب فيها لما مر فلا يمكن العلم بها
والجواب منع حصر المدرك بالكنه في البديهية والحد والرسم لجواز خلق الله تعالى علما متعلقا بما ليس ضروريا بالقياس إلى عموم الناس في شخص بلا سابقة نظر كما سبق من أن النظري قد ينقلب ضروريا لبعض الأشخاص
وأيضا فالرسم وإن لم يجب أن يفيد الحقيقة فلا يمتنع أن يفيدها

المرصد السادس في أفعاله تعالى
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن في أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها
وقالت المعتزلة بقدرة العبد وحدها
وقالت طائفة بالقدرتين فقال الأستاذ بمجموع القدرتين على أن يتعلقا جميعا بالفعل
وقال القاضي على أن تتعلق قدرة الله بأصل الفعل وقدرة العبد بكونه طاعة ومعصية كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاء
وقالت الحكماء وإمام الحرمين بقدرة يخلقها الله تعالى في العبد

والضابط أن المؤثر إما قدرة الله أو قدرة العبد أو هما مع اتحاد المتعلقين أو دونه
وحينئذ فإما مع كون إحداهما متعلقة للأخرى
وليس قدرة الله متعلقة لقدرة العبد وإما بدون ذلك
لنا وجوه
الأول إن فعل العبد ممكن
وكل ممكن مقدور الله تعالى لما مر من شمول قدرته
ولا شيء مما هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد لامتناع اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد لما مر
الثاني لو كان العبد موجدا لأفعاله لوجب أن يعلم تفاصيلها
واللازم باطل
أما الشرطية فلأن الأزيد والأنقص مما أتى به ممكن
فوقوع المعين منه دونهما لأجل القصد والاختيار مشروط بالعلم به
وأما الاستثنائية فلأن النائم قد يفعل ولا يشعر بكمية ذلك الفعل وكيفيته
ولأن أكثر المتكلمين يثبتون الجوهر الفرد
فيكون البطء لتخلل السكنات
والمتحرك منا لا يشعر بالسكنات المتخللة بين حركاته البطيئة بالضرورة
ولأن الواقع بقدرة العبد عند الجبائي الحركة
وهي صفة توجب المتحركية مع أن أكثر العقلاء لا يتصورون تلك الصفة
وهذان لا يلزمان أبا الحسين حيث يتوقف في الجوهر الفرد وينفي تلك الصفة
ولأن المحرك منا لإصبعه محرك لأجزائها
ولا شعور له بها فكيف يعرف حركتها
الثالث إن العبد لو كان موجدا لفعله فلا بد أن يتمكن من فعله وتركه
ويتوقف ترجيح فعله على تركه على مرجح
وذلك المرجح لا يكون منه
وإلا لزم التسلسل ويكون الفعل عنده واجبا وإلا لم يكن الموجود تمام المرجح فيكون اضطراريا
وأورد عليه أن هذا ينفي كون الله تعالى مختارا لإمكان إقامة الدلالة بعينها فيه
وأجيب بالفرق بأن إرادة العبد محدثة فافتقرت إلى إرادة يخلقها الله فيه دفعا للتسلسل وإرادة الله تعالى قديمة فلا

تفتقر إلى إرادة أخرى
ورد هذا الجواب بأنه لا يدفع التقسيم المذكور والفرق في المدلول مع الاشتراك في الدليل على بطلان الدليل
وفيه نظر فإن مآله إلى تخصيص المرجح في قولنا ترجيح فعله يحتاج إلى مرجح بالمرجح الحادث
ويتم الجواب
وأما استلزام ذلك لوجوب الفعل منه فقد عرفت جوابه
واعلم أن هذا الاستدلال إنما يصلح إلزاما للمعتزلة القائلين بوجوب المرجح في الفعل الاختياري
وإلا فعلى رأينا يجوز الترجيح بمجرد تعلق الاختيار بأحد طرفي المقدور
فلا يلزم من كون الفعل بلا مرجح كونه اتفاقيا
وحديث الترجيح بلا مرجح قد تكرر مرارا بما أغنانا عن إعادته
والمعتزلة صاروا فريقين
فأبو الحسين ومن تبعه يدعي في إيجاد العبد لفعله الضرورة
وذلك أن كل أحد يجد من نفسه التفرقة بين حركتي المختار والمرتعش والصاعد إلى المنارة والهاوي منها
ويجعل إنكاره سفسطة
والجواب إن الفرق عائد إلى وجود القدرة وعدمها لا إلى تأثيرها وعدمه
وذلك أنه لا يلزم من دوران الشيء مع غيره وجوب الدوران
ولا يلزم من وجوب الدوران العلية ولا من العلية الاستقلال بالعلية ثم يبطل ما قاله أمران
الأول إن من كان قبله بين منكرين لإيجاد العبد فعله ومعترفين به مثبتين له بالدليل
فالموافق والمخالف له اتفقوا على نفي الضرورة
فكيف يسمع منه نسبة كل العقلاء إلى إنكار الضرورة
الثاني إن كل سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه علم أن إرادته للشيء لا تتوقف على إرادته لتلك الإرادة
وأنه مع الإرادة الجازمة يحصل المراد

وبدونها لا يحصل
ويلزم منها أنه لا إرادة منه ولا حصول الفعل عقيبها منه فكيف يدعي الضرورة في خلافه
قال الإمام في نهاية العقول والعجب من أبي الحسين أنه خالف أصحابه في قولهم القادر على الضدين لا يتوقف فعله لأحدهما دون الآخر على مرجح
وزعم أن العلم بتوقف ذلك على الداعي ضروري وزعم أن حصول الفعل عقيب الداعي واجب
ولزمه للاعتراف بهاتين المقدمتين عدم كون العبد موجدا لفعله
ثم بالغ في كون العبد موجدا وزاد على كل من تقدمه حتى ادعى العلم الضروري بذلك
قال وعندي أن أبا الحسين ما كان ممن لا يعلم أن القول بتينك المقدمتين يبطل مذهب الاعتزال لكنه لما أبطل الأصول التي عليه مدار الاعتزال خاف من تنبه أصحابه لرجوعه عن مذهبهم
فليس الأمر عليهم في ادعاء العلم الضروري بذلك
وإلا فهذا التناقض أظهر من أي يخفى على المبتدي فضلا عمن بلغ درجة أبي الحسين في التحقيق والتدقيق
لا يقال الاعتراف بتوقف صدور الفعل عن القادر الداعي ووجوب حصوله عند حصوله لا ينافي القول بأن القدرة الحادثة مؤثرة في حدوث الفعل وإنما ينافي استقلاله بالفاعلية
وهو إنما ادعى العلم الضروري في الأول لا في الثاني لأنا نقول غرضنا سلب الاستقلال كما هو مذهب الأستاذ وإمام الحرمين
فإن كان أبو الحسين ساعدنا عليه فمرحبا بالوفاق
ولكن يلزم بطلان مذهب الاعتزال بالكلية
إذ لا فرق في العقل بين أن يأمر الله بأن يفعله وبما يجب عند فعله ويمتنع عند عدمه
فإن المأمور على كلا التقديرين غير متمكن من الفعل

وأما غيره فيستدل عليه بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد وهو أنه لولا استقلال العبد بالفعل لبطل التكليف والتأديب وارتفع المدح والذم والثواب والعقاب ولم يبق للبعثة فائدة
والجواب إن المدح والذم باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية كما يمدح الشيء ويذم بحسنه وقبحه وسلامته وعاهته
وأما الثواب والعقاب فكسائر العاديات
وكما لا يصح عندنا أن يقال لم خلق الله الاحتراق عقيب مسيس النار ولم لم يحصل ابتداء فكذا ههنا
وأما التكليف والتأديب والبعثة والدعوة فإنها قد تكون دواعي إلى الفعل فيخلق الله الفعل عقيبها عادة
وباعتبار ذلك يصير الفعل طاعة ومعصية
وعلامة للثواب والعقاب
ثم إن هذا إن لزم فهو لازم لهم أيضا لوجوه
الأول إن ما علم الله عدمه فهو ممتنع الصدور عن العبد
وما علم الله وجوده فهو واجب الصدور عن العبد ولا مخرج عنهما
وأنه يبطل الاختيار
الثاني ما أراد الله وجوده وقع قطعا
وما أراد عدمه لم يقع قطعا
الثالث الفعل عند استواء الداعي إلى الفعل والترك يمتنع
وعند رجحان أحدهما يجب الراجح ويمتنع الآخر
الرابع إيمان أبي لهب مأمور به وهو ممتنع لأنه تعالى أخبرنا بأنه لا يؤمن
والإيمان تصديق الرسول فيما علم مجيئه به فيكون مأمورا بأن

يؤمن بأنه لا يؤمن
ويصدق بأنه لا يصدق
وهو تصديق بما علم من نفسه خلافه ضرورة
وأنه محال
الخامس التكليف واقع بمعرفة الله
فإن كان ذلك في حال حصول المعرفة فهو تكليف بتحصيل الحاصل وأنه محال
وإن كان في حال عدمها فغير العارف بالمكلف وصفاته المحتاج إليها في صحة التكليف منه غافل عن التكليف
وتكليف الغافل تكليف بالمحال
وربما احتج الخصم بظواهر آيات تشعر بمقصوده
وهي أنواع
الأول ما فيه إضافة الفعل إلى العبد نحو فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
الثاني ما فيه مدح وذم ووعد ووعيد وهو أكثر من أن يحصى
الثالث الآيات الدالة على أن أفعال الله تعالى منزهة عما يتصف به فعل العبد من تفاوت واختلاف وقبح وظلم
الرابع تعليق أفعال العباد بمشيئتهم نحو فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
الخامس الأمر بالاستعانة نحو وإياك نستعين استعينوا
السادس اعتراف الأنبياء بذنبهم
السابع ما يوجد من الكفار والفسقة من التحسر وطلب الرجعة نحو

أرجعوني لعلي أعمل صالحا لو أن لي كرة فأكون من المحسنين
الجواب أن هذه الآيات معارضة بالآيات الدالة على أن جميع الأفعال بقضاء الله وقدره نحو والله خلقكم وما تعملون خالق كل شيء فعال لما يريد وهو يريد الإيمان فكون فعالا له
وكذا الكفر إذ لا قائل بالفصل
وبالآيات المصرحة بالهداية والإضلال والختم
وأنت تعلم أن الظواهر إذا تعارضت لم تقبل شهادتها ووجب الرجوع إلى غيرها
الشرح
المرصد السادس في أفعاله تعالى
وفيه مقاصد
المقصد الأول في أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وتعالى وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا
فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما فيكون فعل العبد مخلوقا لله إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد
والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له
وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري
وقالت المعتزلة أي أكثرهم هي واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار

وقالت طائفة هو واقعة بالقدرتين معا
ثم اختلفوا فقال الأستاذ بمجموع القدرتين على أن يتعلقا جميعا بالفعل نفسه
وجوز اجتماع المؤثرين على أثر واحد
وقال القاضي على أن تتعلق قدرة الله بأصل الفعل وقدرة العبد بصفته
أعني بكونه طاعة ومعصية إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا توصف بها أفعاله تعالى كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاء فإن ذات اللطم واقعة بقدرة الله وتأثيره وكونه طاعة على الأول ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره
وقالت الحكماء وإمام الحرمين هي واقعة على سبيل الوجوب وامتناع التخلف بقدرة يخلقها الله تعالى في العبد إذا قارنت حصول الشرائط وارتفاع الموانع
والضابط في هذا المقام أن المؤثر إما قدرة الله أو قدرة العبد على الانفراد كمذهبي الشيخ وجمهور المعتزلة
أو هما معا
ذلك إما مع اتحاد المتعلقين كمذهب الأستاذ منا والنجار من المعتزلة أو دونه أي دون الاتحاد
وحينئذ فإما مع كون إحديهما أي إحدى القدرتين متعلقة للأخرى
ولا شبهة في أنه ليس قدرة الله متعلقة لقدرة العبد إذ يستحيل تأثير الحادث في القديم فتعين العكس وهو أن تكون قدرة العبد صادرة عن قدرة الله تعالى وموجبة للفعل
وهو قول الإمام والفلاسفة
وإما بدون ذلك أي بدون أن تكون إحداهما متعلقة للأخرى
وهو مذهب القاضي لأن المفروض عدم اتحاد المتعلقتين
فإن قيل جاز أن يكون عكس مذهبه وهو أن أصل الفعل بقدرة العبد وصفته بقدرة الله
قلنا لم يقل به أحد
والمقصود ضبط المذاهب دون الاحتمالات العقلية
لنا على أن الفعل الاختياري للعبد واقع بقدرة الله تعالى لا بقدرته وجوه

الأول إن فعل العبد ممكن في نفسه
وكل ممكن مقدور لله تعالى لما مر من شمول قدرته للممكنات بأسرها
وقد مر مخالفة الناس من المعتزلة والفرق الخارجة عن الإسلام في أن كل ممكن مقدور لله تعالى على تفاصيل مذاهبهم وإبطالها في بحث قادرية الله تعالى
ولا شيء مما هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد لامتناع اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد لما مر
الوجه الثاني لو كان العبد موجدا لأفعاله بالاختيار والاستقلال لوجب أن يعلم تفاصيلها
واللازم باطل
أما الشرطية أي الملازمة فلأن الأزيد والأنقص مما أتى به ممكن منه إذ كل فعل من أفعاله يمكن وقوعه منه على وجوه متفاوتة بالزيادة والنقصان فوقوع ذلك المعين منه دونهما لأجل القصد إليه بخصوصه
والاختيار المتعلق به وحده مشروط بالعلم به كما تشهد به البديهة
فتفاصيل الأفعال الصادرة عنه باختياره لا بد أن تكون مقصودة معلومة له
وأما الاستثنائية أي بطلان اللازم فلأن النائم وكذا الساهي قد يفعل باختياره كانقلابه من جنب إلى جنب ولا يشعر بكمية ذلك الفعل وكيفيته
واعترض عليه بأنه يجوز أن يشعر بالتفاصيل ولا يشعر بذلك الشعور أو لا يدوم له الشعور الثاني
ولأن أكثر المتكلمين يثبتون الجوهر الفرد وتركب الجسم منه فيكون البطء في الحركات لتخلل السكنات والمتحرك منا باختياره لا يشعر بالسكنات المتخللة بين حركاته البطيئة بالضرورة
ولأن الواقع بقدرة العبد عند الجبائي وابنه

الحركة
وهي صفة توجب المتحركية مع أن أكثر العقلاء لا يتصورون تلك الصفة
وهذان الوجهان أي الثاني والثالث المذكوران في إبطال اللازم لا يلزمان أبا الحسين حيث يتوقف في الجوهر الفرد وينفي تلك الصفة
ولأن المحرك منا لإصبعه محرك لأجزائها لا محالة ولا شعور له بها
فكيف يتوهم أنه يعرف حركتها ويقصدها
الوجه الثالث إن العبد لو كان موجدا لفعله بقدرته واختياره استقلالا فلا بد أن يتمكن من فعله وتركه
وإلا لم يكن قادرا عليه مستقلا فيه
وأن يتوقف ترجيح فعله على تركه على مرجح إذ لو لم يتوقف عليه كان صدور الفعل عنه مع جواز طرفيه وتساويهما اتفاقيا لا اختياريا
ويلزم أيضا أن لا يحتاج وقوع أحد الجائزين إلى سبب فينسد باب إثبات الصانع وذلك المرجح لا يكون منه أي من العبد باختياره وإلا لزم التسلسل لأنا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجح عنه
ويكون الفعل عنده أي عند ذلك المرجح واجبا أي واجب الصدور عنه بحيث يمتنع تخلفه عنه
وإلا لم يكن الموجود أي ذلك المرجح المفروض تمام المرجح لأنه إذا لم يجب منه الفعل حينئذ جاز أن يوجد معه الفعل تارة ويعدم أخرى مع وجود ذلك المرجح فيهما فتخصيص أحد الوقتين بوجوده يحتاج إلى مرجح لما عرفت
فلا يكون ما فرضناه مرجحا مرجحا تاما
هذا خلف
وإذا كان الفعل مع المرجح الذي ليس منه واجب الصدور عنه فيكون ذلك الفعل اضطراريا لازما لا اختياريا بطريق الاستقلال كما زعموه
وأورد عليه أن هذا ينفي كون الله تعالى قادرا مختارا لإمكان إقامة الدلالة بعينها فيه
ويقال لو كان موجدا لفعله بالقدرة استقلالا فلا بد أن يتمكن من فعله وتركه وأن يتوقف فعله على مرجح إلى آخر ما مر تقريره
فالدليل منقوض بالواجب تعالى

وأجيب عن ذلك بالفرق بأن إرادة العبد محدثة أي الفعل يتوقف على مرجح هي الإرادة الجازمة
لكن إرادة العبد محدثة فافتقرت أن تنتهي إلى إرادة يخلقها الله فيه بلا إرادة واختيار منه دفعا للتسلسل في الإرادة التي تفرض صدورها عنه
وإرادة الله تعالى قديمة فلا تفتقر إلى إرادة أخرى
ورد في اللباب هذا الجواب الذي ذكر في الأربعين بأنه لا يدفع التقسيم المذكور إذ يقال إن لم يمكن الترك مع الإرادة القديمة كان موجبا لا قادرا مختارا
وإن أمكن فإن لم يتوقف فعله على مرجح كان اتفاقيا واقعا بلا سبب واستغنى أيضا الجائز عن المرجح
وإن توقف عليه
كان الفعل معه واجبا فيكون اضطراريا
والفرق الذي ذكرتموه في المدلول مع الاشتراك في الدليل دليل على بطلان الدليل وإنما يندفع النقض إذا بين عدم جريان الدليل في صورة التخلف وفيه أي في هذا الرد نظر
فإن مآله أي مآل ما ذكر من الفرق بين إرادة العبد وإرادة الباري إلى تخصيص المرجح في قولنا ترجح فعله يحتاج إلى مرجح بالمرجح الحادث فإن المرجح القديم المتعلق بالفعل الحادث في وقت لا يحتاج إلى مرجح آخر فيصير الاستدلال هكذا إن تمكن العبد من الفعل والترك وتوقف الترجيح على مرجح وجب أن لا يكون ذلك المرجح منه
وإلا كان حادثا محتاجا إلى مرجح آخر
ولا يتسلسل بل ينتهي إلى مرجح قديم لا يكون من العبد ويجب الفعل معه فلا يكون العبد مستقلا فيه
وأما فعل الباري فهو محتاج إلى مرجح قديم يتعلق في الأزل بالفعل الحادث في وقت معين
وذلك المرجح القديم لا يحتاج إلى مرجح آخر فيكون تعالى مستقلا في الفعل
وحينئذ لا يتجه النقض
ويتم الجواب
ولما كان لقائل أن يقول إذ وجب الفعل مع ذلك المرجح القديم كان موجبا لا مختارا أشار إلى دفعه بقوله وأما استلزام ذلك لوجوب الفعل منه فقد عرفت جوابه وهو أن الوجوب المترتب على

الاختيار لا ينافيه بل يحققه
فإن قلت نحن نقول اختيار العبد أيضا يوجب فعله
وهذا الوجوب لا ينافي كونه قادرا مختارا
قلت لا شك أن اختياره حادث
ولس صادرا عنه باختياره وإلا نقلنا الكلام إلى ذلك الاختيار وتسلسل بل عن غيره فلا يكون هو مستقلا في فعله باختياره بخلاف إرادة الباري تعالى فإنها مستندة إلى ذاته
فوجوب الفعل بها لا ينافي استقلاله في القدرة عليه لكن يتجه أن يقال استناد إرادته القديمة إلى ذاته بطريق الإيجاب دون القدرة
فإذ وجب الفعل بما ليس اختياريا له تطرق إليه شائبة الإيجاب
واعلم أن هذا الاستدلال أي الوجه الثالث إنما يصلح إلزاما للمعتزلة القائلين بوجوب المرجح في الفعل الاختياري وكون الفعل معه واجبا كأبي الحسين وأتباعه
وإلا فعلى رأينا يجوز الترجيح بمجرد تعلق الاختيار بأحد طرفي المقدور من غير داع إلى ذلك الطرف كما مر
فلا يلزم من كون الفعل بلا مرجح وداع كونه اتفاقيا واقعا بلا مؤثر
وحديث الترجيح بلا مرجح قد تكرر مرارا بما أغنانا عن إعادته
والمعتزلة القائلون بأن العبد موجد لأفعاله الاختيارية صاروا فريقين
فأبو الحسين ومن تبعه يدعي في إيجاد العبد لفعله الضرورة أي يزعم أن العلم بذلك ضروري لا حاجة به إلى استدلال
وبيان ذلك أن كل أحد يجد من نفسه التفرقة بين حركتي المختار والمرتعش والصاعد باختياره إلى المنارة
والهاوي أي الساقط منها
ويعلم أن الأولين من هذين القسمين يستندان إلى دواعيه واختياره
وأنه لولا تلك الدواعي والاختيار لم يصدر عنه شيء منهما بخلاف الأخيرين إذ لا مدخل في شيء منهما لإرادته ودواعيه
ويجعل أبو الحسين إنكاره أي إنكار كون العبد موجدا لأفعاله الاختيارية سفسطة مصادمة للضرورة
والجواب أن الفرق بين الأفعال الاختيارية وغير الاختيار ضروري

لكنه عائد إلى وجود القدرة منضمة إلى الاختيار في الأولى
وعدمها في الثانية لا إلى تأثيرها في الاختيارية وعدمه أي عدم تأثيرها في غيرها
وذلك أنه لا يلزم من دوران الشيء كالفعل الاختياري مع غيره كالقدرة والدواعي وجودا وعدما وجوب الدوران لجواز أن يكون الدوران اتفاقيا ولا يلزم أيضا من وجوب الدوران على تقدير ثبوته العلية أي كون المدار علة للدائر ولا من العلية إن سلم ثبوتها الاستقلال بالعلية لجواز أن يكون المدار جزءا أخيرا من العلة المستقلة ثم يبطل ما قاله أبو الحسين أمران
الأول إن من كان قبله من الأمة كانوا بين منكرين لإيجاد العبد فعله ومعترفين به مثبتين له بالدليل
فالموافق والمخالف له اتفقوا على نفي الضرورة عن هذا المتنازع فيه
أما نفي المخالف فظاهر
وأما نفي الموافق فلاستدلاله عليه فكيف يسمع منه نسبة كل العقلاء إلى إنكار الضرورة فيه
الأمر الثاني إن كل سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه علم أن إرادته للشيء لا تتوقف على إرادته تلك الإرادة بل تحصل له تلك الإرادة سواء أرادها أو لم يردها
وعلم أيضا أنه مع الإرادة الجازمة الجامعة للشرائط وارتفاع الموانع يحصل المراد وبدونها لا يحصل
ويلزم منها أي من المقدمات التي علمها بوجدانه أنه لا إرادة منه ولا حصول الفعل عقيبها منها
فكيف يدعى الضرورة في خلافه
قال الإمام في نهاية العقول والعجب من أبي الحسين أنه خالف أصحابه في قولهم القادر على الضدين لا يتوقف فعله لأحدهما دون الآخر على مرجح
وزعم أن العلم بتوقف ذلك أي فعله لأحدهما دون الآخر على الداعي إلى أحدهما ضروري
وزعم أن حصول الفعل عقيب الداعي

واجب
ولزمه للاعتراف بهاتين المقدمتين عدم كون العبد موجدا لفعله كما هو مذهبنا ثم بالغ في كون العبد موجدا
وزاد على كل من تقدمه حتى ادعى العلم الضروري بذلك
قال الإمام وعندي أن أبا الحسين ما كان ممن لا يعلم أن القول بتينك المقدمتين يبطل مذهب الاعتزال يعني في مسألة خلق الأعمال وما يبتنى عليها
لكنه لما أبطل الأصول التي عليها مدار الاعتزال خاف من تنبه أصحابه لرجوعه عن مذهبهم فليس الأمر عليهم بمبالغته في ادعاء العلم الضروري بذلك
وإلا فهذا التناقض أظهر من أن يخفى على المبتدىء فضلا عمن بلغ درجة أبي الحسين في التحقيق والتدقيق فظهر أنه في هذه المسألة جرى على مذهبنا
لا يقال الاعتراف بتوقف صدور الفعل عن القادر على الداعي ووجوب حصوله عند حصوله لا ينافي القول بأن القدرة الحادثة مؤثرة في وجود الفعل
وإنما ينافي استقلاله بالفاعلية على سبيل التفويض إليه بالكلية
وهو إنما ادعى العلم الضروري في الأول أي التأثير لا في الثاني أي الاستقلال حتى يتجه ما وردتموه عليه لأنا نقول غرضنا في هذا المقام سلب الاستقلال الذي يدعيه أهل الاعتزال كما هو مذهب الأستاذ وإمام الحرمين فإن كان أبو الحسين ساعدنا عليه فمرحبا بالوفاق
ولكن يلزم بطلان مذهب الاعتزال بالكلية إذ لا فرق في العقل بين أن يأمر الله عبده بما يفعله هو بنفسه وبين أن يأمره بما يجب عند فعله ويمتنع عند عدمه
فإن المأمور على كلا التقديرين غير متمكن من الفعل والترك
وأيضا لا فرق بين أن يعذب الله العبد على ما أوجده فيه وبين أن يعذبه على فعل يجب حصوله عند ما وجده فيه لأنه لا فرق في العقول بين فاعل القبيح والظلم وبين فاعل ما يوجب القبيح والظلم
فمن اعترف بوجوب حصول الفعل عند حصوله الإرادة الجازمة انسد عليه

باب القول بالاعتزال فظهر أن أبا الحسين أنكر الاعتزال في هذه المسألة
وأن تلك المبالغة منه تمويه وتلبيس
انتهى كلامه
وأما غيره أي غير أبي الحسين فيستدل عليه أي على أن العبد موجد لأفعاله بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد وهو أنه لولا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار لبطل التكليف بالأوامر والنواهي لأن العبد إذا لم يكن موجدا لفعله مستقلا في إيجاده لم يصح عقلا أن يقال له إفعل كذا ولا تفعل كذا
وبطل التأديب الذي ورد به الشرع إذ لا معنى لتأديب من لا يستقل بإيجاد فعله
وارتفع المدح والذم إذ ليس الفعل مستند إليه مطلقا حتى يمدح به أو يذم وارتفع الثواب والعقاب الوارد بهما الوعد والوعيد
ولم يبق للبعثة فائدة لأن العباد ليسوا موجودين لأفعالهم فمن أين لهم استحقاق الثواب والعقاب عليها بل هي مخلوقة لله تعالى فيجوز حينئذ أن يعكس فيعاقب الأنبياء وأتباعهم ويثبت الفراعنة وأشياعهم
فلا يتصور منفعة للبعثة أصلا
والجواب منع الملازمات المذكورة
وهو المدح والذم باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية حتى يشترط فيهما الاستقلال بالفعل وذلك كما يمدح الشيء ويذم بحسنه وقبحه وسلامته من الآفة وعاهته فإن ذلك باعتبار أنه محل لها لا مؤثر فيها
وأما الثواب والعقاب المترتبان على الأفعال الاختيارية فكسائر العاديات المترتبة على أسبابها بطريق العادة من غير لزوم عقلي واتجاه سؤال
وكما لا يصح عندنا أن يقال لم خلق الله الاحتراق عقيب مسيس النار ولم لم يحصل ابتداء أو عقيب مماسة الماء فكذا ههنا لا يصح أن يقال لم أثاب عقيب أفعال مخصوصة وعاقب عقيب أفعال أخرى ولم لم يفعلها ابتداء أو لم يعكس فيهما
وأما التكليف والتأديب والبعثة والدعوة فإنها قد تكون دواعي للعبد إلى الفعل واختياره فيخلق الله الفعل عقيبها عادة
وباعتبار ذلك الاختيار المترتب على الدواعي

يصير الفعل طاعة وذلك إذا وافق ما دعاه الشرع إليه ومعصية إذا خالفه
ويصير علامة للثواب والعقاب لا سببا موجبا لاستحقاقهما ثم إن هذا الذي ذكروه إن لزم القائل بعدم استقلاله العبد في أفعاله فهو لازم لهم أيضا لوجوه
الأول إن ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد وإلا جاز انقلاب العلم جهلا
وما علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد وإلا جاز ذلك الانقلاب
ولا مخرج عنهما لفعل العبد وأنه يبطل الاختيار إذ لا قدرة على الواجب والممتنع فيبطل حينئذ التكليف واخواته لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم
فما لزمنا في مسألة خلق الأفعال فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء
قال الإمام الرازي ولو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفا إلا بالتزام مذهب هشام وهو أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها
واعترض عليه بأن العلم تابع للمعلوم على معنى أنهما يتطابقان والأصل في هذه المطابقة هو العلوم ألا يرى أن صورة الفرس مثلا على الجدار إنما كانت على هذه الهيئة المخصوصة لأن الفرس في حد نفسه هكذا
ولا يتصور أن ينعكس الحال بينهما
فالعلم بأن زيدا سيقوم غدا مثلا إنما يتحقق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه دون العكس
فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وامتناعه وسلب القدرة والاختيار
وإلا لزم أن لا يكون تعالى فاعلا مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا وعدما
الوجه الثاني ما أراد الله وجوده من أفعال العبد وقع قطعا
وما

أراد الله عدمه منها لم يقع قطعا فلا قدرة له على شيء منهما أصلا
ويرد عليه أيضا النقض بالباري سبحانه وتعالى
على أن المعتزلة ذاهبون على أن ما أراده الله أو لم يرده من أفعال نفسه كان كذلك بخلاف أفعال غيره
الثالث إن الفعل عند استواء الداعي إلى الفعل والترك يمتنع لأن الرجحان يناقض الاستواء
وعند رجحان أحدهما يجب الراجح ويمتنع الآخر المرجوح
فلا قدرة للعبد على فعله فبطل تكليفه به
ويرد عليه ذلك النقض
وحله أن وجوب الفعل بمجموع القدرة والداعية لا يخرجه عن المقدورية بل يحققها
وكذا امتناعه لعدم الداعي
فإن معنى كونه قادرا أنه إذا حصل له الإرادة الجازمة بواسطة الداعية مع ارتفاع المانع أثر فيه
الرابع إيمان أبي لهب مأمور به أي أمر بأن يؤمن دائما وهو ممتنع لأنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن
والإيمان تصديق الرسول فيما علم مجيئه به ومما جاء به أنه لا يؤمن فيكون هو في حال إيمانه على الاستقرار مأمورا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن ويصدق بأنه لا يصدق
وهو أي تصديقه بعد تصديقه مع كونه مصدقا مستمرا تصديق بما علم من نفسه خلافه ضرورة أي إذا كان مصدقا كان عالما بتصديقه علما ضروريا وجدانيا
فلا يمكنه حينئذ التصديق بعدم التصديق لأنه يجد في باطنه خلافه وهو التصديق بل يكون علمه بتصديقه موجبا لتكذيبه في الإخبار بأنه لا يصدق
وأنه أي إيمانه المشتمل على ما ذكر محال لاستلزامه الجمع بل التصديق والتكذيب في حالة واحدة
وإذا كان المكلف به محالا لم يكن للتكليف بإتيانه فائدة
واعترض عليه بأن الإيمان واجب بما علم مجيئه به لا بما جاء به مطلقا سواء علمه المكلف أو لم يعلمه
ولا نسلم أن هذا الخبر مما علم أبو لهب مجيئه به حتى يلزم تصديقه فيه وتلخيصه أن الإيمان هو التصديق

الإجمالي
أي كل ما جاء به فهو حق
وليس في هذا التصديق الإجمالي من أبي لهب استحالة
وأما التصديق التفصيلي منه فهو مشروط بعلمه بوجود هذا الخبر ومستلزم للجمع بين النقيضين فهو المحال دون الأول فليتأمل
الخامس التكليف واقع بمعرفة الله تعالى إجماعا فإن كان ذلك التكليف في حال حصول المعرفة فهو تكليف بتحصيل الحاصل وأنه أي تحصيل الحاصل محال فيكون التكليف به ضائعا لا طائل تحته وإن كان في حال عدمها فغير العارف بالمكلف وصفاته المحتاج إليها في صحة التكليف منه وصدوره عنه كالعدم والقدرة والإرادة وغيرها غافل عن التكليف
وتكليف الغافل تكليف بالمحال وعار عن الفائدة
ورد عليه بما مر من أن الغافل من لا يتصور لا من لا يصدق
وبأن التكليف إنما هو للعارف به وبصفاته المذكورة ليعرفه من جهات أخرى كالواحدانية وغيرها من الصفات التي لا تتوقف معرفة التكليف على معرفتها
وربما احتج الخصم على كون العبد موجدا لأفعاله بالظواهر آيات تشعر بمقصوده
وهي أنواع
الأول فيه إضافة الفعل إلى العبد نحو فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
الثاني ما فيه مدح وذم نحو وإبراهيم الذي وفى كيف تكفرون بالله وما فيه وعد ووعيد كقوله من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم وهو أكثر من أن يحصى
الثالث الآيات الدالة على أن أفعال الله تعالى منزهة عما يتصف به

فعل العبد من تفاوت واختلاف وقبح وظلم كقوله تعالى ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا الذي أحسن كل شيء خلقه وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
الرابع تعليق أفعال العباد بمشيئتهم أي الآيات الدالة عليه نحو فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
الخامس الأمر بالاستعانة نحو وإياك نستعين استعينوا بالله ولا معنى للاستعانة فيما يوجده الله في العبد فيما يوجده العبد بإعانة من ربه
السادس اعتراف الأنبياء بذنوبهم كقول آدم عليه السلام ربنا ظلمنا أنفسنا
وقول يونس عليه السلام سبحانك إني كنت من الظالمين
السابع ما يوجد في الآخرة من الكفار والفسقة من التحسر وطلب الرجعة نحو ارجعون لعلي أعمل صالحا لو أن لي كرة فأكون من المحسنين
الجواب أن هذه الآيات معارضة بالآيات الدالة على أن جميع الأفعال بقضاء الله وقدره وإيجاده وخلقه نحو والله خلقكم وما تعملون أي عملكم خالق كل شيء وعمل العبد شيء فعال لما يريد

وهو يريد الإيمان إجماعا فيكون فعالا له
وكذا الكفر إذ لا قائل بالفصل
ومعارضة بالآيات المصرحة بالهداية والإضلال والختم نحو يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا و ختم الله على قلوبهم وهي محمولة على حقائقها كما هو الظاهر منها
وأنت تعلم أن الظواهر إذا تعارضت لم تقبل شهادتها خصوصا في المسائل اليقينية ووجب الرجوع إلى غيرها من الدلائل العقلية القطعية
وقد مر منها ما فيه كفاية لإثبات مذهبنا

المقصد الثاني
المتن في التوليد وفروعه
اعلم أن المعتزلة لما أسندوا أفعال العباد إليهم ورأوا فيها ترتبا قالوا بالتوليد
وهو أن يوجب فعل لفاعله فعلا آخر نحو حركة اليد والمفتاح
والمعتمد في إبطاله ما بينا من استناد جميع الممكنات إلى الله تعالى ابتداء
وقد يحتج عليه بأنه إذا التصق جسم بكف قادرين وجذبه أحدهما ودفعه الآخر إلى جهته فإن قلنا حركته تولدت من حركة اليد فإما بهما فيلزم مقدورين قادرين
وإما بأحدهما وهو تحكم محض معلوم بطلانه
وهذا لا يلزم ضرارا وحفصا القائلين بعدم التوليد فيما قام بغير محل القدرة

والمعتزلة ادعوا الضرورة تارة وجنحوا إلى الاستدلال أخرى
أما الضرورة فقالوا من رام دفع حجر في جهة اندفع إليها بحسب قصده وإرادته
وليس الاندفاع مباشرا بالاتفاق
فهو بواسطة ما باشره من الدفع ويؤيده اختلاف الأفعال باختلاف القدر
فالأيد يقوى على حمل ما لا يقوى على حمله الضعيف
ولو كان واقعا بقدرة الله لجاز تحرك الجبل باعتماد الضعيف النحيف وعدم تحرك الخردلة باعتماد الأيد القوي
وأنه مكابرة
وأما الاحتجاج فلهم فيه وجوه
الأول ورود الأمر والنهي بها كما بالأفعال المباشرة
وذلك كحمل الأثقال في الحروب والمعارف والإيلام
الثاني المدح والذم
الثالث نسبة الفعل إلى العبد دون الله
والجواب بعد ما تقدم في الأفعال المباشرة أنه لم لا يكفي إجراء العادة بخلق هذه الأفعال المتولدة بعد الفعل المباشر في ذلك
ولما أبطلنا أصل التوليد بطل ما هو متفرع عليه لكنا نذكرها تنبيها على ما وقع في آرائهم من الاضطراب
الأول إن المتولد من السبب المقدور بالقدرة الحادثة يمتنع أن يقع مباشرا بالقدرة الحادثة من غير توسط السبب
وإلا لجاز اجتماع مباشر ومتولد في محل واحد وهما مثلان
واجتماع المثلين محال مع أنه يفضي إلى جواز حمل الذرة للجبل العظيم بأن يحصل فيه أعداد من الحمل موازية لأعداد أجزائه فيرتفع بها
وذلك محال ضرورة
والجواب إنه يناقض أصلكم في جواز اجتماع المثلين
ثم إذ قد يكون تأثيره في عين ما وقع بالتوليد بشرط عدم السبب فلا يلزم اجتماع المثلين
الثاني قد منع بعض المعتزلة من ثبوت الفعل المتولد لله تعالى بل

جميع أفعاله بالمباشرة
ووافقهم عليه أبو هاشم في أحد قوليه
وإلا احتاج في فعله إلى سبب
والجواب إن ذلك بناء على امتناع وقوع الفعل بدون السبب مع أنه لا يزيد على امتناع وجود الأعراض بدون محالها
وجوزه بعضهم
ووافقهم أبو هاشم في القول الآخر لما يحكم به الحس من حركة الأغصان والأوراق على الأشجار بحركة الرياح العاصفة
ولا شك أن حركة الرياح من فعل الله تعالى بالمباشرة
والجواب ما سبق في فعل العبد
الثالث قالوا العلم النظري يتولد من النظر ابتداء ولا يتولد من تذكر النظر بل هو ضروري من فعل الله
فلو وقعت المعرفة بالله به متذكرا لكانت ضرورية فامتنع التكليف بها
ولأنه حينئذ يولد العلم
ولو عارضه الشبهة
وجواب الأول ما مر
والثاني لا نسلم إمكان عروض الشبهة مع تذكر النظر الصحيح
ولا يمتنع التوليد عند عدمها كما في ابتداء النظر
فإن قيل الشبهة من فعل العبد
والتذكر من فعل الله
فيلزم دفع فعل العبد لفعل الله
قلنا يلزمكم مثله في إمساك الأيد القوي الشيء من أن تحركه الرياح سواء كان مباشرا للرب أو متولدا من فعله
الرابع الأصوات والآلام الحاصلة بفعل الآدميين لا تحصل إلا بالتوليد
وزاد أبو هاشم التأليفات
ومنعه أبو علي في التأليف القائم بجسمين هما أو

أحدهما محل القدرة كمن ضم أصبعه إلى أصبعه أو إلى جسم آخر بخلاف التأليف القائم بمحلين غير محل القدرة
الخامس قسموا المولد إلى ما توليده في ابتداء حدوثه دون حال دوامه
وإلى ما توليده حال حدوثه ودوامه
فالأول كالمجاورة المولدة للتأليف والوهي المولد للألم
والثاني كالاعتماد اللازم السفلي
السادس اختلفوا في الموت المتولد من الجرح
والنافي له مراغم لأصله
والمثبت له مراغم للإجماع وللكتاب
قال تعالى هو يحيي ويميت ربي الذي يحيي ويميت
السابع قد اختلفوا في الطعوم والألوان التي تحصل بالضرب كلون الدبس وطعمه الحاصلين بضربه بالمسواط فأثبته قوم لحصوله بفعله ومنعه آخرون
وإلا لحصل ذلك بالضرب في كل جسم لأن الأجسام متماثلة فيقال لهم لم لا يستند إلى اختلاف أعراض فيها هي شرط لحدوث ذلك اللون والطعم فيه
الثامن قد اختلفوا في الألم الحاصل من الاعتماد على الغير بضرب أو قطع
فقيل إنه يتولد من الاعتماد
وقال أبو هاشم في المعتمد من قوليه إنه يتولد من الوهي
والوهي من الاعتماد لأن الألم بقدر الوهي قلة وكثرة لا بقدر الاعتماد
ولذلك يؤلم الاعتماد الواحد العضو الرقيق الرخو أضعاف ما يؤلم القوي المكتنز
وما هو إلا لاختلاف ما يوجب فيهما من الوهي
والجواب إن اختلاف الألم المتفاوت من الاعتماد الواحد كاختلاف الوهي المتفاوت من الاعتماد الواحد فلم لا يستند هو إلى اختلاف القابل كما استند إليه اختلاف الوهي
وأيضا فيبطله تفاوت الألم تفاوتا لا يوجد في

الوهي كما يحصل برأس الإبرة وما يحصل بذنابة العقرب
بل ربما كان ما يحصل بذنابة العقرب أقل مما يحصل برأس الإبرة بكثير
التاسع هل يمكن إحداث الألم بلا وهي من الله تعالى أم لا هذا مبني على ما تقدم في الفرع الثاني
الشرح
المقصد الثاني في التوليد وفروعه
إعلم أن المعتزلة لما أسندوا أفعال العباد إليهم ورأوا فيها ترتبا ورأوا فيها أيضا أن الفعل المترتب على آخر يصدر عنهم وإن لم يقصدوا إليه أصلا فلم يمكنهم لهذا إسناد الفعل المترتب إلى تأثير قدرتهم فيه ابتداء لتوقفه على القصد
قالوا بالتوليد
وهو أن يوجب فعل لفاعله فعلا آخر نحو حركة اليد
وحركة المفتاح فإن الأولى منهما أوجبت لفاعلها الثانية سواء قصدها أو لم يقصدها
والمعتمد في إبطاله أي إبطال التوليد ما بينا من إسناد جميع الممكنات إلى الله تعالى ابتداء
وقد يحتج عليه أي على إبطاله بأنه يلزم من التوليد إما اجتماع قادرين مستقلين على مقدور واحد
وإما الترجيح بلا مرجح وذلك لأنه إذا التصق جسم بكف قادرين وجذبه أحدهما ودفعه الآخر في زمان جذبه إلى جهته فإن قلنا حركته أي حركة ذلك الجسم وهي واحدة بالشخص تولدت من حركة اليد
فإما بها أي بالجذب والدفع معا فيلزم مقدور بين قادرين مستقلين بالتأثير
وقد مر استحالته
وإما بأحدهما فقط وهو تحكم محض معلوم بطلانه
وهذا الاحتجاج الدال على لزوم المحال للتوليد في

المثال المذكور لا يلزم ضرارا وحفصا القائلين بعدم التوليد فيما قام بغير محل القدرة
وبيانه على ما في الأبكار أن المتولدات منها ما هي قائمة بمحل القدرة كالعلم النظري المتولد من النظر ومنها ما هي قائمة بغير محل القدرة
فاختلفت المعتزلة فذهب بعضهم إلى أنها بأسرها فعل لفاعل السبب وإن كان معدوما حال وجود المتولد كمن رمى سهما ومات قبل بلوغ السهم الرمية فإن الإصابة والآلام الحادثة منها من فعل الميت
وذهب ثمامة بن أشرس إلى أنها كلها حوادث لا محدث لها
والنظام إلى أن المتولدات برمتها من فعل الله تعالى لا من فعل العبد الفاعل للسبب
وذهب ضرار بن عمرو وحفص الفرد إلى أن ما كان منها في محل قدرة الفاعل فهو من فعله وما كان في محل مباين لمحلها فما وقع منه على وفق اختياره فهو أيضا من فعله كالقطع والذبح وما لا يقع على وفقه
فليس من فعله كالآلام في المضروب والاندفاع والثقيل المدفوع وحركة الجسم المفروض من القسم الأخير
فالإلزام بها لا يقوم بها حجة عليهما
والمعتزلة القائلون بإسناد المتولدات إلى العباد ادعوا الضرورة تارة كأبي الحسين وأتباعه وجنحوا إلى الاستدلال أخرى كالجمهور منهم
أما الضرورة فقالوا من رام دفع حجر في جهة اندفع إليها بحسب قصده وإرادته فيكون اندفاعه صادرا عن الدافع وفعلا له
وليس هذا الاندفاع فعلا له مباشرا بالاتفاق

منا ومنكم فهو بواسطة ما باشره من الدفع ومتولد منه
وكذا الكلام في حصول العلم النظري من النظر وحصول أمثاله من أسبابها
واعلم أن الآمدي جعل اندفاع الحجر على حسب قصده وإرادته وجها أول من وجوه استدلالاتهم وليس في كلامه ما يدل على أن أبا الحسين ادعى الضرورة ههنا
ويؤيده اختلاف الأفعال التي سميت متولدة باختلاف القدر الثابتة للعباد فالأيد القوي يقوى على حمل ما لا يقوى على حمله الضعيف
ولو كان الفعل المتولد واقعا بقدرة الله لجاز تحرك الجبل باعتماد الضعيف النحيف وعدم تحرك الخردلة باعتماد الأيد القوي بأن يخلق الله الحركة في الجبل دون الخردلة
وأنه مكابرة صرفة
فاتضح أن المتولدات مستندة إلى القدرة الحادثة لا مباشرة بل يتوسط أفعال أخر
والآمدي جعل هذا التأييد وجها ثانيا من دلائلهم
وأما الاحتجاج فلهم فيه وجوه
الأول ورود الأمر والنهي بها أي بالأفعال المتولدة كما ورد بالأفعال المباشرة
وذلك كحمل الأثقال في الحروب والحدود وبناء المساجد والقناطر والمعارف النظرية كمعرفة الله تعالى وصفاته ومعرفة أحكام الشرع والإيلام بالضرب والطعن والقتل في الجهاد مع الكفار فإنها كلها مأمور بها وجوبا أو ندبا وإيلام ما لا ينبغي إيلامه منهي عنه
فلولا أن هذه الأفعال متعلقة بالقدرة الحادثة لما حسن التكليف بها والحث عليها كما لا يحسن التكليف بإيجاد الجواهر والألوان
ولا شبهة في أنها ليست مباشرة بالقدرة
فهي بواسطة
الثاني المدح والذم فإن العقلاء يستحسنون المدح والذم في أمثال هذه الأفعال ويحكمون باستحقاق الثواب والعقاب
وذلك يدل على أنها من فعل العبد

الثالث نسبة الفعل إلى العبد دون الله كما في قولهم حمل فلان الثقيل وآلم زيدا بالضرب
وليس هذا من قبيل المجاز عندهم بل من الإسناد الحقيقي
فدل على أن الفعل منه
والجواب بعدما تقدم في الأفعال المباشرة من أن الأمر والنهي والتكليف بالأفعال باعتبار أنها دواع فيخلق الله الفعل عقيبها
وإن استحقاق المدح والذم باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية وترتب الثواب والعقاب كترتب سائر العاديات
وأما حديث النسبة فمبني على الظاهر بحسب العرف
وكلامنا في الواقع بحسب الحقيقة أنه أي الجواب بعدما تقدم أنه لم لا يكفي إجراء العادة بخلق هذه الأفعال المتولدة بعد الفعل المباشر في ذلك هذا الجار متعلق بقوله لا يكفي
أي لم لا يكفي الأجزاء في جميع ما ذكر
فإنه تعالى لما أجرى عادته بإيجاد هذه الأفعال التي يحكم عليها بالتوليد عقيب الفعل المباشر المقدور للعبد كفى ذلك في حسن الأمر والنهي والمدح والذم في النسبة
وإن لم تكن هذه الأفعال مقدورة لهم متولدة من أفعالهم
وأجاب الآمدي عما جعله وجها أول بما أسلفه في الأفعال المباشرة من أن كل عاقل يجد في نفسه أن فعله الاختياري مقارن لقدرته وقصده لا أن قدرته مؤثرة في فعله
وكذا الحال في المتولدات
قال والذي نخصه ههنا أنا وإن سلمنا وقوع الأفعال المباشرة بالقدرة على حسب القصد والداعية فهو غير متصور في المتولدات إذ المتولد عندهم قد يقع بعد عجز فاعل السبب وبعد موته بدهر طويل فكيف يكون على حسب قصده وداعيته
وإن سلم كونها على حسبهما لم يلزم منه أن يكون من أفعاله لأن المباشر إنما كان فعلا له لا لمجرد ذلك بل ومع استقلال قدرته بالإيجاد بلا احتياج إلى سبب
والمتولد محتاج إلى السبب قطعا
وأجاب عما جعل وجها ثانيا بما سبق في خلق الأعمال
وهو أن

الاختلاف أي التفاوت إنما هو في كثرة المقدورات لكثرة القدر وليس في ذلك ما يدل على وقوع الغفل بالقدرة
وأجاب عن الوجوه الثلاثة المذكورة في الكتاب بكفاية إجراء العادة
ولك أن تقول جاز أن يكون وجود الاندفاع على حسب القصد والإرادة بطريق الخلق على سبيل العادة
وكذا الحال في تفاوت الحمل بحسب اختلاف القدر
فلا يصح دعوى الضرورة وتأييدها
ولما أبطلنا أصل التوليد بطل ما هو متفرع عليه فلا حاجة إلى ذكر فروعه والجواب عنها لكنا نذكرها تنبيها على ما وقع في آرائهم من الاضطراب والتنافي
الفرع الأول من تلك الفروع أن المتولد من السبب المقدور بالقدرة الحادثة يمتنع باتفاق المعتزلة أن يقع مباشرا بالقدرة الحادثة من غير توسط السبب
وإلا لجاز اجتماع مباشر ومتولد في محل واحد
وذلك لأن وجوده فيه لوجود سببه ممكن بلا ريبة
والمفروض أنه يمكن وقوعه فيه مباشرا فقد جاز وجودهما فيه مع اتحاد القدرة المؤثرة فيهما
وهما مثلان
وإجماع المثلين محال مع أنه يفضي إلى جوز حمل الذرة للجبل العظيم بأن يحصل فيه أي في الجبل من قدرة الذرة أعدادا من الحمل موازية لأعداد أجزائه فيرتفع الجبل بها أي بتلك الأعداد من الحمل
وذلك محال ضرورة
والجواب أنه أي القول بامتناع اجتماعهما يناقض أصلكم في جواز اجتماع المثلين في محل واحد
فإن المعتزلة جوزوا اجتماعهما مطلقا إلا شرذمة منهم فإنهم فصلوا
وقالوا لا يجوز الاجتماع بين حركتين متماثلتين ويجوز في غيرهما كما مر في المرصد الرابع من الموقف الثاني
ثم نقول ليس يلزم من تجويز المباشرة فيما يقع توليدا اجتماع المثلين إذ قد يكون

تأثيره بالمباشرة في غير ما وقع بالتوليد مشروطا بشرط عدم السبب كما أن وقوعه تولدا مشروط بوجوده
فلا يلزم اجتماع المثلين لامتناع اجتماع شرطهما بل يكون وقوع كل من المباشرة والتوليد بدلا عن الآخر ويحتمل الكلام وجها آخر وهو أن تأثيره بالمباشرة في عين ما وقع بالتولد لا في غيره
وذلك التأثير على سبيل البدل لما ذكر لئلا يلزم اجتماع تأثيرين على شيء واحد بعينه
وهذا الوجه هو المفهوم من أبكار الأفكار والموافق لذكر لفظة العين
الثاني من الفروع قد منع بعض المعتزلة من ثبوت الفعل المتولد لله تعالى بل جميع أفعاله عندهم بالمباشرة ومقدور بالقادرية من غير توسط سبب
ووافقهم عليه أبو هاشم في أحد قوليه وإلا احتاج في فعله إلى سبب وهو المولد لذلك الفعل كاحتياج العباد إلى أسباب المتولدات وهو على الله محال
والجواب إن ذلك أي لزوم احتياج الباري بناء على امتناع وقوع الفعل المتولد بدون سبب وقد عرفت بطلانه بما أوردناه على الفرع الأول من جواز وقوع المتولد من فعل العبد مباشرا له
وقد قال به أبو هاشم أيضا في الغائب في أحد قوليه وإن منعه في الشاهد مطلقا مع أنه أي الاحتياج إلى السبب المولد لا يزيد على امتناع وجود الأعراض بدون محالها إذ ههنا أيضا يلزم احتياجه في إيجاد الأعراض إلى إيجاد الجواهر
فما هو العذر هناك هو العذر ههنا
والتحقيق أنه لا محذور لأن الاحتياج في الحقيقة راجع إلى الفعل

المتولد والعرض
وجوزه بعضهم ووافقهم أبو هاشم في القول الآخر لما يحكم ويشهد به الحس من حركة الأغصان والأوراق على الأشجار بحركة الرياح العاصفة واعتمادها عليها
ولا شك أن حركة الرياح واعتمادها من فعل الله تعالى بالمباشرة فتكون حركة الأغصان والأوراق من فعله توليدا
والجواب ما سبق في فعل العبد من أن ترتب فعل على آخر لا يستلزم أن يكون مسببا له لجواز أن يكون الجميع بقدرة الله تعالى ابتداء ويكون الترتب بمجرد إجراء العادة
الثالث من الفروع قالوا العلم النظري يتولد من النظر ابتداء ولا يتولد من تذكر النظر يعني أنه إذا أغفل عن النظر والعلم بالمنظور فيه ثم تذكر النظر فالعلم الحاصل عند التذكر لا يكون متولدا منه بل مقدورا مباشرا بالقدرة
وذلك لوجهين أشار إلى أولهما بقوله لأنه أي تذكر النظر ضروري من فعل الله تعالى وليس مقدور للبشر
فلو وقعت المعرفة بالله به أي بالنظر حال كونه متذكرا لكانت المعرفة ضرورية من فعل الله أيضا فامتنع التكليف بها وخرجت عن أن تكون مأمورا بها وهو باطل إجماعا وأشار إلى ثانيهما بقوله ولأن أي تذكر النظر حينئذ أي حين كونه مولدا يولد العلم ولو عارضته الشبهة أي لو كان التذكر مولدا للعلم لولده وإن عارضته شبهة لأنه قبل معارضتها كهو بعدها
وجواب الأول ما مر من أنه مبني على أن التكليف لا يكون إلا بما هو مقدور للعبد ومخلوق له
وقد بينا بطلانه في مسألة خلق الأعمال
وجواب الثاني لا نسلم إمكان عروض الشبهة مع تذكر النظر الصحيح وكلامنا فيه
ولا يمتنع التوليد عند عدمها كما في ابتداء النظر
أي وإن سلمنا إمكان عروض الشبهة عند تذكر النظر الصحيح فذلك يمنع توليد

التذكر عند عروض الشبهة ولا يمنع توليده عند عدمها كما في ابتداء النظر فإن عروض الشبهة يمنع توليده ولا يمنع ذلك توليده حال عدمها
فإن قيل الشبهة من فعل العبد والتذكر من فعل الله فيلزم من منع الشبهة توليده دفع فعل العبد لفعل الله وذلك باطل بخلاف دفع الشبهة توليد ابتداء النظر الذي هو فعل العبد أيضا
قلنا يلزمكم مثله في إمساك الأيد القوي الشيء الذي يتحرك عند اعتماد الرياح العاصفة عليه من أن تحركه تلك الرياح سواء كانت تحرك ذلك الشيء فعلا مباشرا للرب أو متولدا من فعله الذي هو حركة الرياح فما هو جوابكم فهو جوابنا
الرابع من تلك الفروع الأصوات والآلام الحاصلة بفعل الآدميين لا تحصل إلا بالتوليد إذ لا يعقل وجود صوت إلا باعتمادات لبعض الأجرام على بعض واصطكاك بينها وكذا الحال في الألم الحاصل من الآدمي
فلو كانت هذه الأمور واقعة بطريق المباشرة لما توقفت على هذه الأسباب
والجواب لا نسلم أنها أسباب بل جاز أن تكون شروطا لوقوعها من القدرة مباشرة
وزاد أبو هاشم التأليفات على الإطلاق بتوقفها على المجاورة فتكون متولدة منها
وجوابه ما عرفت آنفا ومنعه أبو علي في التأليف القائم بجسمين هما أو أحدهما محل القدرة كمن ضم أصبعه إلى أصبعه أو ضم اصبعه إلى جسم آخر
وقال هذا التأليف يقع بغير توليد بخلاف التأليف القائم بمحلين غير محل القدرة كجسمين مباينين لمحلها فإنه لا يقع بغير التوليد لأن الفعل الصادر عن العباد في محل خارج بتمامه عن محل قدرتهم لا يكون مباشرا بالاتفاق بين القائلين بالتوليد

الخامس منها القائلون بالتوليد قسموا السبب المولد إلى ما توليده في ابتداء حدوثه دون حال دوامه وإلى ما توليده حال حدوثه ودوامه إذا لم يمنعه مانع فالأول كالمجاورة المولدة للتأليف
والوهي أي تفرق الأجزاء المبنية بنية الصحة المولد للألم فإنهما يولدانهما حال الحدوث لا حال البقاء
والثاني كالاعتماد اللازم للسفلي فإنه عند انتفاء الموانع يولد الحركة الهابطة حال حدوثه ودوامه
قال الآمدي ذهبوا إلى ذلك ولم يعلموا أن كلا من المجاورة والوهي في ابتدائه كهو في دوامه
فإذا لم يكن هناك مانع من التوليد لزم من عدم توليدهما في الدوام عدم توليدهما في الحدوث ومن توليدهما في الحدوث توليدهما في البقاء
ولو أخذوا خصوص الابتداء أو ملازمه شرطا في التوليد لزمهم ذلك في جميع الأسباب المولدة ولم يقولوا به
السادس اختلفوا في الموت المتولد من الجرح أي الحاصل عقيبه هل هو متولد من الآلام المتولدة من الجرح فنفاه قوم وأثبته آخرون
والنافي له مراغم لأصله في التوليد لأن ترتب الموت على الآلام يقتضي تولده منها كما في سائر المتولدات
والمثبت له مراغم للإجماع فإن الأمة أجمعوا على أن المستقبل بالإماتة والإحياء هو الله سبحانه وتعالى
وللكتاب
فإن نصوصه دالة عليه
قال تعالى هو يحيي ويميت ربي الذي يحيي ويميت
السابع قد اختلفوا في الطعوم والألوان التي تحصل بالضرب وغيره في أفعال العبد هل هي متولدة من فعله أو لا وذلك كلون الدبس وطعمه الحاصلين بضربه بالمسواط عند طبخه
فأثبته قوم وقالوا مثل هذا الطعم

واللون متولد من فعله لحصوله بفعله وعلى حسبه ومنعه آخرون وقالوا لا يقع شيء من الألوان والطعوم من العباد لا مباشرة بقدرتهم وهو ظاهر ولا متولدا من أفعالهم
وإلا لحصل ذلك الطعم أو اللون بالضرب أو نحوه من أفعال العبد في كل جسم لأن الأجسام متماثلة لتركبها من الجواهر الأفراد المتجانسة
فيقال لهم بعد تسليم تماثل الجواهر لم لا يستند حدوث الطعم واللون المتولد من فعل العبد في بعض الأجسام دون بعض إلى اختلاف أعراض فيها هي شرط لحدوث ذلك اللون والطعم فيه فلا يحدث شيء منهما في جسم آخر لم يوجد فيه شرطه وإن تعلق به ذلك الفعل
الثامن قد اختلفوا في الألم الحاصل من الاعتماد على الغير بضرب أو قطع فقيل إنه يتولد من الاعتماد
وهو مذهب جمهور المعتزلة
وقال أبو هاشم في المعتمد من قوليه إنه يتولد من الوهي وكأنه أخذه من قول الحكماء سبب الألم تفرق الاتصال والوهي يتولد من الاعتماد وذلك لأن الألم بقدر الوهي قلة وكثرة لا بقدر الاعتماد
ولذلك يؤلم الاعتماد الواحد العضو الرقيق الرخو أضعاف ما يؤلم العضو القوي المكتنز وما هو إلا لاختلاف ما يوجب ذلك الاعتماد فيهما من الوهي
فإن التفرق الحاصل منه في الرخو أكثر وأقوى من الحاصل في المكتنز فلا يكون الألم متولدا من الاعتماد بل من الوهي لأن خاصة التوليد اختلاف المتولدات بحسب اختلاف أسبابها
والجواب إن اختلاف الوهي المتفاوت في القلة والكثرة والقوة والضعف من الاعتماد الواحد كاختلاف الألم المتفاوت من الوهي الواحد
والصحيح كما في الأبكار من الاعتماد الواحد
أي في أن كلا منهما اختلاف في أمر متولد من شيء واحد بلا اختلاف فيه فلم يستند هو أي اختلاف الألم على تقدير تولده من الاعتماد إلى اختلاف القابل كما

استند إليه اختلاف الوهي على ما اعترفتم به
والحاصل أنكم جوزتم استناد الوهي المختلف إلى الاعتماد الواحد وعللتم ذلك باختلاف العضوين في قبول الوهي
فإن الرقيق الضعيف بذلك أولى فلم لا يجوزون استناد الألم المختلف إلى الاعتماد الواحد بواسطة اختلاف القابل فلاحاجة إلى توسط الوهي بين الألم والاعتماد كما لا يخفى وأيضا فيبطله أي يبطل تولد الألم من الوهي تفاوت الألم تفاوتا لا يوجد في الوهي كما لا يحصل برأس الإبرة
وما يحصل بذنابة العقرب فإن هذين الألمين يتفاوتان جدا
وليس يوجد هذا التفاوت في الوهي الحاصل في الموضعين
بل ربما كان يحصل من الوهي بذنابة العقرب أقل مما يحصل برأس الإبرة بكثير مع أن حال الألم على عكس ذلك
فلا يكون متولدا منه
التاسع وهو آخر الفروع المذكورة في الكتاب هل يمكن إحداث الألم بلا وهي من الله تعالى أم لا هذا مبني على ما تقدم في الفرع الثاني
فمن لم يجوز أن يكون فعله تعالى متولدا حكم بأن الألم الصادر عنه تعالى لا يكون بسبب الوهي وتوليده إياه
ومن جوز التوليد في أفعاله جوز كون الألم الصادر عنه متولدا من الوهي
ويعلم من كونه مبنيا على الفرع الثاني أن العبارة الظاهرة ههنا أن يقال هل يمكن من الله تعالى إحداث الألم بالوهي أو لا وحينئذ يكون جزئيا من جزئيات الفرع الثاني
فلا حاجة إلى أفراده ولذلك لم يذكره الآمدي

المقصد الثالث
المتن في البحث عن أمور صرح بها القرآن وانعقد عليها الإجماع
وهم يؤولونها

الأول الطبع والختم
والأكنة ونحوها
أولوها بوجوه
الأول ختم الله على قلوبهم أي سماهما مختوما عليها كما قال وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا
الثاني وسمها بسمات تعرفها الملائكة فتميز بها الكافر من المؤمن
الثالث منع الله منهم اللطف المقرب إلى الطاعة لعلمه أنه لا ينفعهم
فلما لم يوفقوا لذلك فكأنهم ختم على قلوبهم
الرابع منعهم الله الإخلاص الموجب لقبول العمل فكانوا كمن يمنع دخول الإيمان قلبه بالختم عليه
لأن الفعل بلا إخلاص كلا فعل
وهو مع الابتناء على أصلهم الفاسد يبطله ذكر الله تعالى هذه الأشياء في معرض امتناع الإيمان منهم لأجل ذلك وشيء مما ذكرتم لا يصلح لذلك
الثاني التوفيق والهداية
أولوهما بالدعوة إلى الإيمان والطاعة
والذي يبطله أمور
الأول إجماع الأمة على اختلاف الناس فيهما
والدعوة عامة لا اختلاف فيها
الثاني الدعاء بهما نحو اللهم إهدنا الصراط المستقيم
والدعوة حاصلة
واختلاف الناس في الانتفاع بها وعدمه
الثالث كونه مهديا وموفقا من صفات المدح دون كونه مدعوا
الثالث الأجل وهو الزمان الذي علم أنه يموت فيه
فالمقتول عند أهل الحق ميت بأجله
وموته بفعله تعالى
والمعتزلة قالوا بل تولد موته من

فعل القاتل
وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله
وادعوا فيه الضرورة
واستشهدوا عليه بذم القاتل
ولو كان ميتا بأجله لمات وإن لم يقتله
فهو لم يجلب بفعله أمرا لا مباشرة ولا توليدا
فكان لا يستحق الذم
وبأنه ربما قتل في الملحمة الواحدة ألوف
ونحن نعلم بالضرورة أن موت الجم الغفير في الزمان القليل بلا قتل مما تحكم العادة بامتناعه
ولذلك ذهب جماعة منهم إلى أن ما لا يخالف العادة واقع بالأجل منسوب إلى القاتل
والفرق غير بين في العقل
ولولا روم الهرب من الإلزام الشنيع لما قالوا به
الرابع الرزق
وهو عندنا كل ما ساقه الله إلى العبد فأكله فهو رزق له من الله حلالا كان أو حراما
إذ لا يقبح من الله شيء
وأما هم ففسروه بالحلال تارة فأورد عليهم وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها
وبما لا يمنع من الانتفاع به فيلزمهم أن من أكل الحرام طول عمره فالله لم يرزقه
وهو خلاف الإجماع
كل ذلك ناع عليهم فساد أصلهم في الحكم على الله بيجوز ولا يجوز
الخامس في الأسعار
المسعر هو الله على أصلنا كما ورد في الحديث
وأما عندهم فمختلف فيه
فقال بعضهم هو فعل مباشر من العبد إذ ليس ذلك إلا مواضعة منهم على البيع والشراء بثمن مخصوص
وقال آخرون هو متولد من فعل الله وهو تقليل الأجناس وتكثير الرغبات بأسباب هي من فعله تعالى
الشرح
المقصد الثالث في البحث عن أمور صرح بها القرآن وانعقد عليها الإجماع
وهم يؤولونها

الأول الطبع قال الله تعالى بل طبع الله عليها بكفرهم والختم ختم الله على قلوبهم والأكنة وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ونحوها كالإقفال في قوله تعالى أم على قلوب أقفالها
فذهب أهل الحق إلى أنها عبارة عن خلق الضلال في القلوب
وذلك لأن هذه الأمور في اللغة موانع في الحقيقة
وإنما سميت بذلك لكونها مانعة
وخلق الضلال في القلوب مانع من الهدى فصح تسميته بهذه الأسماء لأن الأصل هو الإطراد إلا أن يمنع مانع
والأصل عدمه
فمن ادعاه يحتاج إلى البيان
والمعتزلة أولوها بوجوه
الأول وهو لأوائل المعتزلة ختم الله على قلوبهم إلى آخر الآيات
أي سماها مختوما عليها ومطبوعا عليها ومجعولا عليها أكنة وأقفالا ووصفها بذلك كما قال وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا
أي سموهم بذلك ووصفوهم بالأنوثة إذ لا قدرة لهم على الجعل الحقيقي
الثاني وهو للجبائي وابنه ومن تابعهما وسمها أي وسم الله على قلوب الكافر بسمات وعلامات تعرفها الملائكة فيتميز بها الكافر عن المؤمن
وذلك لأن الختم والطبع في اللغة هو الوسم
ولايمتنع أن يخلق الله في قلوب الفجار سمة تتميز بها عن قلوب الأبرار وتتبين تلك

السمة للملائكة فيذمون من اتسم بها وذلك في مصلحة دينية لأنه إذا علم العبد أنه إذا كفر وسم بسمة يتحقق بها ذمه ولعنه من الملائكة كان ذلك سببا لانزجاره عنه
الثالث وهو للكعبي
منع الله منهم اللطف المقرب إلى الطاعة المبعد عن المعصية لعلمه انه لا ينفعهم ولا يؤثر فيهم
فلما لم يوفقوا لذلك اللطف فكأنهم ختم على قلوبهم
لأن قطع اللطف مانع من دخول الإيمان كما أن الختم والطبع والأكنة والأقفال موانع من الدخول
الرابع وهو لبعض أصحاب عبد الواحد من المعتزلة منعهم الله الإخلاص الموجب لقبول العمل فكانوا لذلك كمن يمنع دخول الإيمان قلبه بالختم عليه لأن الفعل بلا إخلاص كلا فعل
وهو أي ما ذكروه من التأويل مع الابتناء على أصلهم الفاسد وهو أن منع الإيمان وخلق الضلال قبيح فلا يجوز إسناده إلى الله سبحانه وتعالى
وسيأتيك بيان فساده يبطله ذكر الله تعالى هذه الأشياء في معرض امتناع الإيمان منهم لأجل ذلك حيث قال سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم
أي لا يؤمنون لأجل الختم
وذلك لأن قوله ختم استئناف لبيان السبب
وشيء مما ذكرتم لا يصلح لذلك أي لكونه سببا لامتناع الإيمان
فإن مجرد الوصف بالختم والطبع وجعل الأكنة والأقفال على

قلوبهم لا يمنع من الإيمان
وكذا الوسم بعلامة مميزة ومنع اللطف والإخلاص لا يقتضي امتناع الإيمان فلا يصح الحمل عليها
الثاني من تلك الأمور التي يؤولونها التوفيق والهداية فإن الشارح الأشعري وأكثر الأئمة من أصحابه حملوا التوفيق على خلق القدرة على الطاعة وهو مناسب للوضع اللغوي لأن الموافقة إنما هي بالطاعة وبخلق القدرة الحادثة على الطاعة يحصل تهيؤ الموافقة
وقال إمام الحرمين التوفيق خلق الطاعة لا خلق القدرة إذ لا تأثير لها
وحملوا الهداية على معناها الحقيقي
أعني خلق الاهتداء وهو الإيمان
والمعتزلة أولوهما بالدعوة إلى الإيمان والطاعة وإيضاح سبل المراشد وتيسير مقاصدها والزجر عن طريق الغواية كما في قوله تعالى وأما ثمود فهديناهم إذ لا شبهة في امتناع حمله على خلق الهدى فيهم والذي يبطله أي هذا التأويل أمور
الأول إجماع الأمة على اختلاف الناس فيهما أي في التوفيق والهداية فبعضهم موفق مهدي وبعضهم ليس كذلك
والدعوة عامة لجميع الأمة لا اختلاف فيها فلا يصح تأوليهما بها
الثاني الدعاء بهما نحو اللهم اهدنا الصراط المستقيم اللهم وفقنا لما تحب وترضى
والطلب إنما يكون لما ليس بحاصل
والدعوة المذكورة حاصلة فلا يتصور طلبها
واختلاف الناس ليس في الدعوة نفسها بل في وجود الانتفاع بها وعدمه
الثالث كونه مهديا وموفقا من صفات المدح يمدح بهما في المتعارف دون كونه مدعوا
إذ لا يمدح به أصلا فلا يصح حملهما على الدعوة
الثالث من تلك الأمور الأجل
وهو في الحيوان الزمان الذي

علم الله أنه يموت فيه
فالمقتول عند أهل الحق ميت بأجله الذي قدره الله له وعلم أنه يموت فيه
وموته بفعله تعالى ولا يتصور تغير هذا المقدر بتقديم ولا تأخير
قال تعالى ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
والمعتزلة قالوا بل تولد موته من فعل القاتل فهو من أفعاله لا من فعل الله تعالى
وقالوا إنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي قدره الله تعالى له
فالقاتل عندهم غير بالتقديم الأجل الذي قدره الله تعالى له
وادعوا فيه أي في تولده من فعل القاتل وبقائه لولا القتل الضرورة كما ادعوها في تولد سائر المتولدات وانتفائها عند انتفاء أسبابها
واستشهدوا عليه بذم القاتل والحكم بكونه جانيا
ولو كان المقتول ميتا بأجله الذي قدره الله له لمات وإن لم يقتله فهو أي القاتل لم يجلب حينئذ بفعله أمرا لا مباشرة ولا توليدا فكان لا يستحق الذم عقلا ولا شرعا لكنه مذموم فيهما قطعا إذا كان القتل بغير حق
واستشهدوا أيضا بأنه ربما قتل في الملحمة الواحدة ألوف
ونحن نعلم بالضرورة أن موت الجم الغفير في الزمان القليل بلا قتل مما تحكم العادة بامتناعه
ولذلك أي ولحكم العادة بالامتناع في الخلق الكثير دون غيره ذهبت جماعة منهم إلى أن ما لا يخالف العادة كما في قتل واحد وما يقرب منه واقع بالأجل منسوب إلى القاتل
والفرق غير بين في العقل لأن الموت في كلتا الصورتين متولد من فعل القاتل عندهم
فلما إذا كان أحدهم بأجله دون الآخر
ولولا روم الهرب من الإلزام الشنيع وهو القدح في المعجزات لما قالوا به
وبيان ذلك أنه لما حكمت العادة بامتناع موت خلق كثير دفعة امتنع أن ينسب موتهم بقتلهم في ساعة إلى الله تعالى
وإلا كان فعلا منه خارقا للعادة لا لإظهار المعجزة
وذلك قدح فيها
وأما نسبة موت جماعة قليلة في لحظة واحدة إليه تعالى فلا

امتناع فيها
فحكم العادة بالامتناع في الكثير دون القليل هو الذي حملهم على الفرق كيلا يلزمهم إبطال المعجزات إذا نسبوا الجميع إليه
والجواب أن دعوى الضرورة غير مسموعة
والذم لا يستلزم كونه فاعلا
وحكم العادة ممنوع لأن مثله يقع في الوباء
الرابع الرزق
وهو عندنا كل ما ساقه الله إلى العبد فأكله فهو رزق له من الله حلالا كان أو حراما
إذ لا يقبح من الله شيء ليس ما ذكره تحديدا للرزق بل هو نفي لما ادعى عن تخصيصه بالحلال
وذلك لأن مذهب الأشاعرة هو أن الرزق كل ما انتفع به حي سواء كان بالتغذي أو بغيره مباحا كان أو حراما
وربما قال بعضهم هو كل ما يتربى به الحيوانات من الأغذية والأشربة لا غير
قال الآمدي والتعويل على الأول
فإن قيل كيف يتصور الإنفاق من الرزق بالمعنى الثاني الذي ذهب إليه بعضهم
وقد قال تعالى ومما رزقناهم ينفقون أجيب بأن إطلاق الرزق على المنفق مجاز عندهم لأنه بصدده
وأما هم أي المعتزلة ففسروه بالحلال تارة فأورد عليهم وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها فللبهائم رزق
ولا يتصور في حقها حل ولا حرمة
وفسروه أخرى بما لا يمنع من الانتفاع به أخرى فيلزمهم أن من أكل الحرام طول عمره فالله لم يرزقه
وهو خلاف الإجماع من الأمة قبل ظهور المعتزلة كل ذلك الذي يرد عليهم ويلزمهم ناع عليهم فساد أصلهم في الحكم على الله بيجوز ولا يجوز
وذلك الأصل هو قاعدة الحسن والقبح العقليين فإنهما منشأ لأباطيل كثيرة متفرعة عليها
وبطلان الفروع اللازمة شاهد صدق على بطلان أصلها
الخامس في الأسعار وهو الرخص والغلاء
المسعر هو الله على

أصلنا كما ورد في الحديث حين وقع غلاء في المدينة فاجتمع أهلها إليه سعر لنا يا رسول الله
فقال المسعر هو الله
وأما عندهم فمختلف فيه فقال بعضهم هو أي السعر فعل مباشر من العبد إذا ليس ذلك إلا مواضعة منهم على البيع والشراء بثمن مخصوص
وقال آخرون هو متولد من فعل الله تعالى وهو تقليل الأجناس وتكثير الرغبات بأسباب هي فعله تعالى

المقصد الرابع
المتن إنه تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون
هذا مذهب أهل الحق لكن منهم من لا يجوز إسناد الكائنات إليه مفصلا لايهامه الكفر
وعند الإلباس يجب التوقف إلى التوقيف
ولا توقيف ثمة
وذلك كما يصح أن يقال الله خالق كل شيء
ولا يصح أن يقال إنه خالق القاذورات وخالق القردة والخنازير
وكما يقال له كل ما في السموات والأرض
ولا يقال له الزوجات والأولاد لا يهامه إضافة غير الملك إليه
وقالت المعتزلة هو مريد للمأمور به كاره للمعاصي والكفر
لنا إما أنه مريد للكائنات فلأنه خالق الأشياء كلها لما مر
وخالق الشيء بلا إكراه مريد له
وأيضا فالصفة المرجحة لأحد المقدورين هو الإرادة
ولا بد منها
وإما أنه غير مريد لما لا يكون
فلأنه تعالى علم من الكافر أنه لا

يؤمن فكان الإيمان منه محالا
والله تعالى عالم باستحالته
والعالم باستحالة الشيء لا يريده
ولأنه لا يتصور منه صفة مرجحة لأحد طرفيه
ويعضد هذا إجماع السلف والخلف في جميع الأعصار والأمصار على إطلاق قولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
والأول دليل الثاني
والثاني دليل الأول
احتجوا بوجوه
الأول لو كان تعالى مريدا لكفر الكافر وقد أمره بالإيمان فالآمر بخلاف ما يريده يعد سفيها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
قلنا لا نسلم أن الآمر بخلاف ما يريده يعد سفيها
وإنما يكون كذلك لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به
يوضحه أمور ثلاثة
الأول إن الممتحن لعبده هل يطيعه أم لا قد يأمره ولا يريد منه الفعل ويحصل مقصوده أطاع أو عصى
الثاني إنه إذا عاتب الملك ضارب عبده فاعتذر بعصيانه والملك يتوعده بالقتل إن لم يظهر عصيانه فإنه يأمره بفعل ويريد عصيانه فيه
فإن أحدا لا يريد ما يفضي إلى قتله
الثالث إن الملجأ إلى الأمر قد يأمر ولا يريد فعل المأمور به
الثاني لو كان الكفر مرادا لله لكان فعله موافقة لمراد الله تعالى فيكون طاعة مثابا به
وأنه باطل ضرورة
قلنا الطاعة موافقة الأمر
والأمر غير الإرادة وغير مستلزم لها
وقد

ضايق بعض أصحابنا في العبارة فقال الكفر مراد بالكافر غير مراد من الكافر
وهو لفظي
الثالث لو كان الكفر مرادا لله تعالى لكان واقعا بقضائه
والرضاء بالقضاء واجب فكان الرضاء بالكفر واجبا
واللازم باطل لأن الرضاء بالكفر كفر
قلنا الواجب هو الرضاء بالقضاء لا بالمقضي
والكفر مقضي لا قضاء
والحاصل أن الإنكار بالنظر إلى المحلية لا إلى الفاعلية
والرضاء بالعكس
والفرق بينهما ظاهر
إذ لو صح ذلك لوجب الرضاء بموت الأنبياء
الرابع لو أراد الله الكفر وخلاف مراد الله ممتنع كان الأمر بالإيمان تكليفا بما لا يطاق
قلنا الذي يمتنع التكليف به ما لا يكون متعلقا للقدرة عادة لا ما يكون مقدورا للمكلف به
والإيمان في نفسه مقدور وإن لم يكن مقدورا للكافر
لأن القدرة عندنا مع الفعل
فهذه دلائل العقل
وربما احتجوا بآيات
الأولى سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم
قلنا قالوا ذلك سخرية
ولذلك ذمهم الله بالتكذيب دون الكذب
وقال آخر قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين
الثانية كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها
قلنا مكروها

للعقلاء منكرا لهم في مجاري عاداتهم لمخالفته المصلحة أو منهيا عنه مجازا توفيقا للأدلة
الثالثة وما الله يريد ظلما للعباد مع أن الظلم كائن
قلنا أي ظلمه وتصرفه تعالى فيما هو ملكه كيف كان لا يكون ظلما
الرابعة والله لا يحب الفساد والفساد كائن
والمحبة الإرادة
قلنا بل إرادة خاصة
وهي ما لا يتبعها تبعة
ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام
الخامسة ولا يرضى لعباده الكفر
قلنا الرضاء ترك الاعتراض
والله يريد الكفر للكافر ويعترض عليه
ويؤيده أن العبد لا يريد الآلام والأمراض
وهو مأمور بترك الاعتراض
ثم هذه الآيات معارضة بآيات هي أدل على المقصود منها
الأولى ولو شاء الله لجمعهم على الهدى
الثانية أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا
الثالثة فلو شاء لهداكم أجمعين
الرابعة أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم
الخامسة إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون
السادسة ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس

السابعة إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وذلك في القرآن كثير
خاتمة في نقل رأي الفلاسفة في القضاء والقدر
قالوا الموجود إما خير محض كالعقول والأفلاك
وإما الخير غالب عليه كما في هذا العالم
فإن المرض مثلا وإن كان كثيرا فالصحة أكثر منه
ثم لا يمكن تنزيه هذا العالم من الشرور بالكلية فكان الخير واقعا بالقصد الأول والشر واقعا بالضرورة والعرض
والتزم فعله لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير
فليس من الحكمة ترك المطر الذي به حياة العالم لئلا ينهدم به دور معدودة أو لا يتألم سابح في البر أو البحر
الشرح
المقصد الرابع إنه تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون فكل كائن مراد له
وما ليس بكائن ليس بمراد له
هذا مذهب أهل الحق
واتفقوا على جواز إسناد الكل إليه جملة
فيقال جميع الكائنات مرادة لله تعالى
لكن اختلفوا في التفصيل
منهم من لا يجوز إسناد الكائنات إليه مفصلا فلا يقال الكفر أو الفسق مراد لله تعالى لايهامه الكفر وهو أن الكفر أو الفسق مأمور به لما ذهب إليه بعض العلماء من أن الأمر هو نفس الإرادة
وعند الإلباس يجب التوقف عن الإطلاق إلى التوقيف والإعلام من الشارع ولا توقيف ثمة أي في الإسناد تفصيلا
وذلك الذي ذكرناه من صحة الإطلاق إجمالا لا تفصيلا كما يصح بالإجماع والنص أن يقال الله خالق كل شيء
ولا يصح أن يقال إنه خالق القاذورات وخالق القردة والخنازير مع كونها مخلوقة له اتفاقا
وكما يقال له كل ما في السموات والأرض
أي هو مالكها ولا يقال له الزوجات والأولاد لايهامه إضافة غير الملك إليه
ومنهم من جوز أن يقال الله مريد للكفر والفسق والمعصية معاقبا عليها

وقالت المعتزلة هو مريد لجميع أفعاله غير إرادته الحادثة عند من أثبتها
وأما أفعال العباد فهو مريد
للمأمور به منها كاره للمعاصي والكفر
وتفصيله أن فعل العبد إن كان واجبا يريد الله وقوعه ويكره تركه
وإن كان حراما فبعكسه
والمندوب يريد وقوعه ولا يكره تركه
والمكروه عكسه
وأما المباح وأفعال غير المكلف فلا يتعلق بها إرادة ولا كراهة
لنا إما أنه مريد للكائنات بأسرها فلأنه خالق الأشياء كلها لما مر من استناد جميع الحوادث إلى قدرته تعالى ابتداء وخالق الشيء بلا إكراه مريدا له بالضرورة وأيضا قد ثبت أن جميع الممكنات مقدورة لله تعالى
فلا بد في اختصاص بعضها بالوقوع وبأوقاتها المخصوصة من مخصص وهو الإرادة
وهذا معنى قوله فالصفة المرجحة لأحد المقدورين هو الإرادة كما مر
ولا بد منها أي من الصفة المرجحة في إيجاد بعض المقدورات دون بعض
وفي تخصيص الموجودات بأوقاتها
وإما أنه غير مريد لما لا يكون فلأنه تعالى علم من الكافر مثلا أنه لا يؤمن فكان الإيمان منه محالا لامتناع أن ينقلب العلم جهلا والله تعالى عالم باستحالته
والعالم باستحالة الشيء لا يراه بالضرورة
وأيضا لو أراده فإما أن يقع فيلزم الانقلاب أو لا فيلزم عجزه وقصوره عن تحقيق مراده
ولأنه لا يتصور منه أي من العالم باستحالة الشيء صفة مرجحة لأحد طرفيه لأن أحدهما مستحيل والآخر واجب
فلا معنى لترجيح الصفة
وفيه بحث لأن عدم إيمان الكافر مراد الله مع كونه واجبا
وأيضا هو منقوض بما علم الله وجوده كإيمان المؤمن
فإن أحد طرفيه واجب والآخر ممتنع
فلا وجه لترجيح الصفة
ويعضد هذا الذي هو مذهبنا إجماع السلف والخلف في جميع الأعصار والأمصار على إطلاق قولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فإن هذا مروي عن

النبي
وقد تلقته الأمة بالقبول فيصح أن يكون مؤيدا بل ربما يحتج به أيضا
وإنما صرح بالإطلاق دفعا لتوهم التقييد بأفعاله تعالى أو بما ليس من أفعال العباد الاختيارية كما تأوله به المعتزلة
ويدفع هذا التوهم أنهم كانوا يوردون كلامهم في معرض تعظيم الله وإعلاء شأنه
والأول وهو ما شاء الله كان دليل الثاني
وهو أنه تعالى غير مريد لما لا يكون
وذلك لأنه ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كل ما لم يكن لم يشأ الله
والثاني أعني ما يشأ لم يكن دليل الأول لانعكاسه بذلك الطريق إلى قولنا كل ما كان فقد شاء الله
احتجوا أي المعتزلة على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي بوجوه عقلية
الأول لو كان تعالى مريدا لكفر الكافر
وقد أمره بالإيمان فالآمر بخلاف ما يريده يعد عند العقلاء سفيها فيلزم السفه في أحكام الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا
قلنا لا نسلم أن الآمر بخلاف ما يريده يعد سفيها
وإنما يكون كذلك لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به
يوضحه وجوه ثلاثة
الأول أن الممتحن لعبده هل يطيعه أم لا قد يأمره ولا يريد منه الفعل
أما الأول
وهو أن الصادر منه أمر حقيقة فلأنه إذا أتى العبد بالفعل يقال امتثل أمر سيده
وأما الثاني
وهو أنه لا يريه الفعل منه يحصل مقصوده وهو الامتحان أطاع أو عصى فلا سفه في الأمر بما لا يريده الآمر
الثاني إذا عاتب الملك ضارب عبده فاعتذر بعصيانه والملك

يتوعده بالقتل إن لم يظهر عصيانه فإنه يأمره بفعل تمهيدا لعذره ويريد عصيانه فيه
فإن أحدا لا يريد ما يفضي إلى قتله بل ما يخلصه عنه فقد أمر بخلاف ما يريده ولا سفه
فإن قيل الموجود ههنا صورة الأمر لا حقيقته فإن العاقل لا يأمر بما يؤدي حصوله إلى هلاكه
أجيب بأنه قد يأمر به إذا علم أنه لا يحصل وكان في الأمر به فائدة بخلاف الإرادة
فإنها لا تتعلق به أصلا
الثالث إن الملجأ إلى الأمر قد يأمر ولا يريد فعل المأمور به بل يريد خلافه ولا يعد سفيها
الثاني من وجوه استدلالاتهم لو كان الكفر مراد الله تعالى لكان فعله والإتيان به موافقة لمراد الله تعالى فيكون طاعة مثابا به وأنه باطل ضرورة من الدين
قلنا الطاعة موافقة الأمر
والأمر غير الإرادة وغير مستلزم لها لإنفكاكها عنه في الصور المذكورة
قال الآمدي ويدل على أن موافقة الإرادة ليست طاعة أنه لو أراد شخص شيئا من آخر فوقع المراد من الآخر على وفق إرادة المريد ولا شعور للفاعل بإرادته فإنه لا يعد منه طاعة له
كيف والإرادة كامنة والأمر ظاهر ولهذا يقال في العرف فلان مطاع الأمر
ولا يقال مطاع الإرادة
وقد ضايق بعض أصحابنا في العبارة فقال الكفر مراد بالكافر غير مراد من الكافر لأن القول الثاني ينبىء عن الرضاء بالكفر دون الأول
وهو لفظي لا طائل تحته
الثالث لو كان الكفر مراد الله تعالى لكان واقعا بقضائه
والرضاء بالقضاء واجب إجماعا فكان الرضاء بالكفر واجبا
واللازم باطل لأن الرضاء بالكفر كفر اتفاقا
قلنا الواجب هو الرضاء بالقضاء لا بالمقضي
والكفر

مقضي لا قضاء
والحاصل أن الإنكار المتوجه نحو الكفر إنما هو بالنظر إلى المحلية لا إلى الفاعلية
يعني أن للكفر نسبة إلى الله سبحانه باعتبار فاعليته له وإيجاده إياه ونسبة أخرى إلى العبد باعتبار محليته له واتصافه به وإنكاره باعتبار النسبة الثانية دون الأول
والرضاء بالعكس
أي الرضاء به إنما هو باعتبار النسبة الأولى دون الثانية والفرق بينهما ظاهر
وذلك لأنه ليس يلزم من وجوب الرضاء بشيء باعتبار صدوره عن فاعله وجوب الرضاء به باعتبار وقوعه صفة لشيء آخر إذ لو صح ذلك لوجب الرضاء بموت الأنبياء وهو باطل إجماعا
الرابع لو أراد الله الكفر وخلاف مراد الله ممتنع عندكم كان الأمر بالإيمان تكليفا بما لا يطاق لأن الإيمان ممتنع الصدور عنه حينئذ
قلنا الذي يمتنع التكليف به عندنا ما لا يكون متعلقا للقدرة الكاسبة عادة إما لاستحالته في نفسه كالجمع بين النقيضين وإما لاستحالة صدوره عن الإنسان في مجاري العادة كالطيران في الجو لا ما يكون مقدورا بالفعل للمكلف به والإيمان في نفسه أمر مقدور يصح أن تتعلق به القدرة الكاسبة عادة وإن لم يكن مقدورا بالفعل للكافر لأن القدرة عندنا مع الفعل لا قبله
وعدم المقدورية بهذا المعنى لا يمنع التكليف فإن المحدث مكلف بالصلاة إجماعا
فهذه دلائل العقل لهم
وربما احتجوا بآيات تدل على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي
الأولى سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء
حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا أشركنا بإرادة الله

تعالى
ولو أراد عدم إشراكنا لما أشركنا ولما صدر عنا تحريم المحللات
فقد أسندوا كفرهم وعصيانهم إلى إرادته تعالى كما تزعمون أنتم
ثم أنه تعالى رد عليهم مقالتهم وبين بطلانها وذمهم عليها بقوله كذلك كذب الذين من قبلهم قلنا قالوا ذلك الكلام سخرية من النبي ودفعا لدعوته وتعللا لعدم إجابته وانقياده لا تفويضا للكائنات إلى مشيئة الله تعالى
فما صدر عنهم كلمة حق وأريد بها باطل
ولذلك ذمهم الله بالتكذيب لأنهم قصدوا به تكذيب النبي في وجوب اتباعه
والمتابعة دون الكذب لأن ذلك الكلام في نفسه صدق وحق
وقال آخر قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين فأشار إلى صدق مقالتهم وفساد غرضهم
الثانية كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها فإنها تدل على أن ما كان سيئه أي معصية فإنه مكروه عند الله
والمكروه لا يكون مرادا
قلنا أراد كونه مكروها للعقلاء منكرا لهم في مجاري عاداتهم لمخالفته المصلحة فليس قوله عند ربك ظرفا لقوله مكروها أو أراد بقوله مكروها كونه منهيا عنه مجازا
وإنما يرتكب هذا التجوز توفيقا للأدلة أي جمعا بين هذه الآية وبين ما ذكرناه من الدلائل
الثالثة وما الله يريد ظلما للعباد مع أن الظلم من العباد كائن بلا شبهة
فبعض الكائنات ليس مراد الله
قلنا أي لا يريد ظلمه لعباده لا ظلم بعضهم على بعض فإنه كائن ومراد بخلاف ظلمه عليهم فإنه ليس بمراد
ولا كائنا بل تصرفه تعالى فيما هو ملكه كيف كان ذلك التصرف لا يكون ظلما بل عدلا وحقا

الرابعة والله لا يحب الفساد والفساد كائن
والمحبة هي الإرادة
فالفساد ليس بمراد
قلنا بل المحبة إرادة خاصة
وهي ما لا يتبعها تبعة
ومؤاخذة ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام
الخامسة ولا يرضى لعباده الكفر والرضاء هو الإرادة
قلنا الرضاء ترك الاعتراض
والله يريد الكفر للكافر ويعترض عليه ويؤاخذه به
ويؤيده أن العبد لا يريد الآلام والأمراض
وليس مأمورا بإرادتها وهو مأمور بترك الاعتراض عليها فالرضاء
أعني ترك الاعتراض
يغاير الإرادة
ثم هذه الآيات معارضة بآيات أخرى هي أدل على المقصود منها
الأولى ولو شاء الله لجمعهم على الهدى
الثانية أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا
الثالثة فلو شاء لهداكم أجمعين
والمعتزلة حملوا المشيئة في هذه الآيات ونظائرها على مشيئة القسر والإلجاء
وليس بشيء لأنه خلاف الظاهر وتقييد للمطلق من غير دلالة عليه
الرابعة أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم وتطهير القلوب بالإيمان فلم يرد الله إيمانهم

الخامسة إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون فموتهم على الكفر مراد الله
السادسة ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس والمخلوق لها لا يراد إيمانه ولا طاعته بل كفره ومعصيته
السابعة إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون
والاستدلال بهذه الآية بعيد جدا إذ ليست عامة للكائنات ولا دالة على إرادة المعاصي بل على أنه إذا أراد الله شيئا كونه على أيسر وجه
ويمكن أن يستدل بها على أن إيمان الكافر ليس بمراد الله تعالى
إذ لو كان مرادا له لكان مكونا واقعا لكنه مدفوع بأن المعنى إذا أردنا تكوينه فيختص بأفعاله ولا يتناول المعاصي على رأيهم
وذلك أي ما يدل على صحة مذهبنا وفساد مذهبهم في القرآن كثير
خاتمة للمقصد الرابع في نقل رأي الفلاسفة في القضاء والقدر
قالوا الموجود إما خير محض لا شر فيه أصلا كالعقول والأفلاك
وإما الخير غالب عليه كما في هذا العالم الواقع تحت كرة القمر
فإن المرض مثلا وإن كان كثيرا فالصحة أكثر منه وكذلك الألم كثير واللذة أكثر منه
فالموجود عندهم منحصر في هذين القسمين
وأما ما يكون شرا محضا أو كان الشر فيه غالبا أو مساويا فليس شيء منها موجودا
ولما كان لقائل أن يقول لماذا لم يجرد هذا العالم عن الشرور أشار إلى جوابه بقوله ثم لا يمكن تنزيه هذا العالم من الشرور بالكلية لأن ما يمكن براءته عن الشرور كلها فهو القسم الأول
وكلامنا في خيرات كثيرة تلزمها شرور قليلة بالقياس إليها
وقطع الشيء عما هو لازم له محال
وحينئذ فكان الخير واقعا بالقصد

الأول داخلا في القضاء دخولا أصليا ذاتيا
وكان الشر واقعا بالضرورة وداخلا في القضاء دخولا بالتبع والعرض
وإنما التزم فعله أي فعل ما غلب خيره لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير
فليس من الحكمة ترك المطر الذي به حياة العالم لئلا ينهدم به دور معدودة أو لا يتألم به سابح في البر أو البحر يرشدك إلى ذلك أنه إذا لدغ أصبع إنسان وعلم أنها إذا قطعت سلم باقي البدن وإلا سرى الفساد إليه فإنه يأمر بقطعها ويريده تبعا لإرادة سلامته من الهلاك
فسلامة البدن خير كثير يستلزم شرا قليلا
فلا بد للعاقل أن يختاره وإن احترز عنه حتى هلك لم يعد عاقلا فضلا عن أن يعد حكيما فاعلا لما يفعله على ما ينبغي
واعلم أن قضاء الله عند الأشاعرة هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال وقدره إيجاده إياها على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها
وأما عند الفلاسفة فالقضاء عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود حتى يكون على أحسن النظام وأكمل الانتظام
وهو المسمى عندهم بالعناية التي هي مبدأ لفيضان الموجودات من حيث جملتها على أحسن الوجوه وأكملها
والقدر عبارة عن خروجها إلى الوجود العيني بأسبابها على الوجه الذي تقرر في القضاء
والمعتزلة ينكرون القضاء والقدر في الأفعال الاختيارية الصادرة عن العباد ويثبتون علمه تعالى بهذه الأفعال ولا يسندون وجودها إلى ذلك العلم بل إلى اختيار العباد وقدرتهم

المقصد الخامس
المتن في الحسن والقبح
القبيح ما نهي عنه شرعا
والحسن بخلافه
ولا

حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها
وليس ذلك عائدا إلى أمر حقيقي في الفعل يكشف عنه الشرع
بل الشرع هو المثبت له والمبين
ولو عكس القضية فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر
وقالت المعتزلة بل الحاكم بهما العقل والفعل حسن أو قبيح في نفسه
والشرع كاشف ومبين
وليس له أن يعكس القضية
ولا بد أولا من تحرير محل النزاع فنقول الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة
الأول صفة الكمال والنقص
يقال العلم حسن والجهل قبيح
ولا نزاع أن مدركه العقل
الثاني ملاءمة الغرض ومنافرته
وقد يعبر عنهما بالمصلحة والمفسدة
وذلك أيضا عقلي ويختلف بالاعتبار
فإن قتل زيد مصلحة لأعدائه ومفسدة لأوليائه
الثالث تعلق المدح والثواب أو الذم والعقاب
وهذا هو محل النزاع فهو عندنا شرعي
وعند المعتزلة عقلي
قالوا للفعل جهة محسنة أو مقبحة
ثم أنها قد تدرك بالضرورة كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار
وقد تدرك بالنظر كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع مثلا
وقد لا تدرك بالعقل
ولكن إذا ورد به الشرع علم أن ثمة جهة محسنة كما في صوم آخر يوم من رمضان أو مقبحة كصوم

أول يوم من شوال
ثم أنهم اختلفوا فذهب الأوائل منهم إلى إثبات صفة توجب ذلك مطلقا وأبو الحسين من متأخريهم إلى إثبات صفة في القبيح دون الحسن
والجبائي إلى نفيه فيهما مطلقا
وأحسن ما نقل عنهم في العبارات الحدية قول أبي الحسين القبيح ما ليس للمتمكن منه ومن العلم بحاله أن يفعله
ويتبعه أنه يستحق الذم فاعله
وأنه على صفة تؤثر في استحقاق الذم
والذم قول أو فعل أو ترك قول أو فعل ينبىء على اتضاع حال الغير
لنا وجهان
الأول أن العبد مجبور في أفعاله
وإذا كان كذلك لم يحكم العقل فيها بحسن ولا قبح اتفاقا
بيانه أن العبد إن لم يتمكن من الترك فذاك هو الجبر
وإن تمكن ولم يتوقف على مرجح بل صدر عنه تارة ولم يصدر عنه أخرى من غير سبب كان ذلك اتفاقيا
وإن توقف على مرجح لم يكن ذلك من العبد وإلا تسلسل ووجب الفعل عنده وإلا جاز معه الفعل والترك فاحتاج إلى مرجح آخر وتسلسل فيكون اضطراريا
وعلى التقادير فلا اختيار للعبد فيكون مجبورا
فإن قيل هذا نصب للدليل في مقابلة الضرورة فلا يسمع
وأيضا فإنه ينفي قدرة الله تعالى لاطراد الدليل في أفعاله
والمقدمات المقدمات والتقرير التقرير
وأيضا فإنه ينفي الحسن والقبح الشرعيين لأنه تكليف ما لا يطاق
وأنتم وإن جوزتموه فلا تقولون بوقوعه
ولا يكون كل التكاليف كذلك
وأيضا فالمرجح داع له يقتضي اختياره للفعل
وذلك لا ينفي الاختيار
قلنا أما الأول فإن الضروري وجود القدرة لا وقوع الفعل بقدرته
وأما الثاني فالمقدمة القائلة بأن الفعل الواقع لا لمرجح اتفاقي إنما هي مقدمة إلزامية بالنسبة إلى المعتزلة
ونحن لا نقول بها فإن الترجيح بمجرد

الاختيار عندنا جائز
ولا يخرج ذلك الفعل عن كونه اختياريا كما تقدم في مسألة الهارب من السبع والعطشان الواجد للقدحين المتساويين
وأيضا فمرجح فاعليته تعالى قديم
ولا يحتاج إلى مرجح
إذ المحوج إلى المؤثر عندنا الحدوث دون الإمكان
وأما الثالث فلا يجب عندنا في الواجب الشرعي تأثير قدرة الفاعل فيه بل يجب أن يكون الفعل مما هو مقدور عادة
وأما الرابع فمقصودنا أن العبد غير مستقل بإيجاد فعله من غير داع يحصل له بخلق الله تعالى إياه وقد بيناه
وذلك كاف في عدم الحكم عقلا إذ لا فرق بين أن يوجد الله الفعل كما قاله الشيخ وبين أن يوجد ما يجب الفعل عنده كما قاله بعض أصحابه
وفي كونه مانعا من حكم العقل عند الخصم
الثاني لو كان قبح الكذب ذاتيا لما تخلف عنه
لأن ما بالذات لا يزول
واللازم باطل
فإنه قد يحسن إذا كان فيه عصمة دم نبي بل يجب ويذم تاركه قطعا
وكذا إذا كان فيه إنجاء متوعد بالقتل
وللأصحاب مسالك ضعيفة نذكرها ونشير إلى وجه ضعفها
أحدها من قال لأكذبن غدا
فإذا جاز الغد فكذبه إما حسن فليس الكذب قبيحا لذاته
وإما قبيح فتركه حسن مع أنه يستلزم كذبه فيما قاله أمس ومستلزم القبيح قبيح
قلنا لا نسلم أن مستلزم القبيح قبيح لأن الحسن لذاته قد يستلزم القبيح فتتعدد جهة الحسن والقبح فيه وأنه غير ممتنع أو نلتزم قبحه مطلقا لأنه قبيح إما لذاته وإما لاستلزامه القبيح
ونقول الحسن إنما يحسن إذا لم يستلزم القبيح
الثاني من قال زيد في الدار
ولم يكن فقبح هذا القول إما لذاته أو مع عدم كون زيد في الدار
والقسمان باطلان
فالأول لاستلزامه قبحه وإن كان زيد في الدار
والثاني لأنه يستلزم كون العدم جزء علة الوجود

قلنا قد يكون قبحه مشروطا بعدم كون زيد في الدار والشرط لا يمتنع أن يكون عدميا
الثالث قبحه لكونه كذبا إن قام بكل حرف فكل حرف كذب فهو خبر
وبطلانه ظاهر
وإن قام بالمجموع فلا وجود له لترتبها وتقضي المتقدم عند حصول المتأخر
قلنا هو من صفاته النفسية فلا يستدعي صفة كما هو مذهب بعضهم أو يقوم بكل حرف بشرط انضمام الآخر إليه
فقبحه لكونه جزء خبر كاذب أو بالمجموع لكونه كاذبا فما هو جوابكم فيه فهو جوابنا
الرابع كونه قبيحا ليس نفس ذاته لتعلقها دونه بل زائد وأنه موجود لأنه نقيض اللاقبيح القائم بالمعدوم فيلزم قيام المعنى بالمعنى
قلنا قد سبق الكلام على مقدماته مع انتقاضه بالإمكان والحدوث
الخامس علة القبح حاصلة قبل الفعل
ولذلك ليس له أن يفعله ويلزم قيام الصفة الحقيقية بالمعدوم
قلنا يحكم العقل باتصافه بالقبح إذا حصل
وهذا هو المانع من فعله
ثم للمعتزلة في المسألة طريقان حقيقيان وطريقان إلزاميان
أما الحقيقيان فأحدهما أن الناس طرا يجزمون بقبح الظلم والكذب الضار والتثليث وقتل الأنبياء بغير حق
وليس ذلك بالشرع إذ يقول به غير المتشرع
ومن لا يتدين بدين أصلا ولا العرف إذ العرف يختلف بالأمم
وهذا لا يختلف

والجواب أن ذلك بمعنى الملاءمة والمنافرة أو صفة الكمال والنقص مسلم وبالمعنى المتنازع فيه ممنوع
وثانيهما أن من عن له تحصيل غرض من الأغراض واستوى فيه الصدق والكذب فإنه يؤثر الصدق قطعا وكذا من رأى شخصا قد أشرف على الهلاك وهو قادر على إنقاذه مال إلى إنقاذه قطعا
وإن لم يرج منه ثوابا ولا شكورا
كما إن كان المنقذ طفلا أو مجنونا
وليس ثمة من يراه ولا يتصور فيه غرضا من جذب نفع أو دفع ضر
والجواب أما حديث اختيار الصدق فلأنه قد تقرر في النفوس كونه ملائما لمصلحة العالم
والكذب منافرا
ولا يلزم من فرض الاستواء تحققه
وأما حديث الإنقاذ فذلك لرقة الجنسية
وذلك مجبول في الطبيعة وسببه أنه يتصور مثله في حق نفسه فيستحسن فعل المنقذ له إذا قدره فيجره ذلك إلى استحسانه من نفسه في حق الغير
وأما الإلزاميان فأحدهما لو حسن من الله كل شيء لحسن منه الكذب
وفي ذلك إبطال للشرائع وبعثة الرسل بالكلية لأنه قد يكون في تصديقه للنبي كاذبا فلا يمكن تمييز النبي عن المتنبىء
وأنه باطل إجماعا
ولحسن منه خلق المعجزة على يد الكاذب وعاد المحذور
الجواب أن مدرك امتناع الكذب عندنا ليس هو قبحه إذ يجوز أن يكون له مدرك آخر
وقد تقدم هذا
ودلالة المعجزة عادية وسيأتي
وثانيهما الإجماع على تعليل الأحكام بالمصالح والمفاسد
وفي منعه سد باب القياس وتعطل أكثر الوقائع من الأحكام
وأنتم لا تقولون به

قلنا اهتداء العقل إلى المصالح والمفاسد ليس من المقصود في شيء كما مر
وقد يحتج بلزوم إفحام الأنبياء وقد مر في باب النظر
تفريع إذا ثبت أن الحاكم بالحسن والقبح هو الشرع ثبت أن لا حكم للأفعال قبل الشرع
وأما المعتزلة فقالوا ما يدرك جهة حسنه أو قبحه بالعقل ينقسم إلى الأقسام الخمسة لأنه إن اشتمل تركه على مفسدة فواجب أو فعله فحرام
وإلا فإن اشتمل فعله على مصلحة فمندوب أو تركه فمكروه
وإلا فمباح
وأما ما لا يدرك جهته بالعقل فلا يحكم فيه بحكم خاص تفصيلي في فعل فعل وأما على سبيل الإجمال فقيل بالحذر والإباحة والتوقف
دليل الحذر أنه تصرف في ملك الغير بلا إذنه فيحرم كما في الشاهد
الجواب الفرق بتضرر الشاهد
دليل الإباحة وجهان
أحدهما أنه تصرف لا يضر المالك فيباح كالاستظلال بجدار الغير والاقتباس من ناره والنظر في مرآته
الجواب أن الأصل ثبت بالشرع وحكم العقل فيه بالمعنى المتنازع فيه ممنوع
ثانيهما أنه تعالى خلق العبد وخلق الشهوة فيه وخلق المنتفع به
فالحكمة تقتضي إباحته
وكيف يدرك تحريمه بالعقل
وما هو إلا كمن يغترف غرفة من بحر لا ينزف ليدفع به عطشه المهلك
أترى العقل يحكم بمنع أكرم الأكرمين منه وتكليفه التعرض للهلاك كلا
والجواب ربما خلقه ليصبر عنه فيثاب أو لغرض آخر لا نعلمه
وأما التوقف فيفسر تارة بعدم الحكم ومرجعه الإباحة
إذ ما لا منع منه فمباح إلا أن يشترط الإذن فيرجع إلى كونه شرعيا
وتارة بعدم العلم
وهذا أمثل لا لتعارض الأدلة بل لعدم الدليل

الشرح
المقصد الخامس في الحسن والقبح
القبيح عندنا ما نهي عنه شرعا نهي تحريم أو تنزيه
والحسن بخلافه أي ما لم ينه عنه شرعا كالواجب والمندوب والمباح
فإن المباح عند أكثر أصحابنا من قبيل الحسن وكفعل الله سبحانه وتعالى فإنه حسن أبدا بالاتفاق
وأما فعل البهائم فقد قيل إنه لا يوصف بحسن ولا قبح باتفاق الخصوم
وفعل الصبي مختلف فيه
ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها
وليس ذلك أي حسن الأشياء وقبحها عائد إلى أمر حقيقي حاصل في الفعل قبل الشرع يكشف عنه الشرع كما تزعمه المعتزلة
بل الشرع هو المثبت له والمبين فلا حسن ولا قبح للأفعال قبل ورود الشرع
ولو عكس الشارع القضية فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر فصار القبيح حسنا والحسن قبيحا كما في النسخ من الحرمة إلى الوجوب ومن الوجوب إلى الحرمة
وقالت المعتزلة بل الحاكم بهما هو العقل والفعل حسن أو قبيح في نفسه إما لذاته وإما لصفة لازمة له
وإما لوجوه واعتبارات على اختلاف مذاهبهم
والشرع كاشف ومبين للحسن والقبح الثابتين له على أحد الأنحاء الثلاثة
وليس له أن يعكس القضية من عند نفسه
نعم إذا اختلف حال الفعل في الحسن والقبح بالقياس إلى الأزمان أو الأشخاص والأحوال كان له أن يكشف عما تغير الفعل إليه من حسنه أو قبحه في نفسه
ولا بد أولا أي قبل الشروع في الاحتجاج من تحرير محل النزاع ليتضح المتنازع فيه

ويرد النفي والإثبات على شيء واحد فنقول وبالله التوفيق الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة
الأول صفة الكمال والنقص فالحسن كون الصفة صفة كمال
والقبح كون الصفة صفة نقصان
يقال العلم حسن أي لمن اتصف به كمال وارتفاع شأن
والجهل قبيح أي لمن اتصف به نقصان واتضاع حال ولا نزاع في أن هذا المعنى أمر ثابت للصفات في أنفسها
وأن مدركه العقل
ولا تعلق له بالشرع
الثاني ملاءمة الغرض ومنافرته فما وافق الغرض كان حسنا وما خالفه كان قبيحا
وما ليس كذلك لم يكن حسنا ولا قبيحا
وقد يعبر عنهما أي عن الحسن والقبح بهذا المعنى بالمصلحة والمفسدة فيقال الحسن ما فيه مصلحة والقبيح ما فيه مفسدة
وما خلا عنهما لا يكون شيء منهما
وذلك أيضا عقلي أي مدركه العقل كالمعنى الأول
ويختلف بالاعتبار
فإن قتل زيد مصلحة لأعدائه وموافق لغرضهم ومفسدة لأوليائه ومخالف لغرضهم
فدل هذا الاختلاف على أنه أمر إضافي لا صفة حقيقة
وإلا لم يختلف كما لا يتصور كون الجسم الواحد أسود وأبيض بالقياس إلى شخصيتين
الثالث تعلق المدح والثواب بالفعل عاجلا وآجلا أو الذم والعقاب كذلك فما تعلق به المدح في العاجل والثواب في الآجل يسمى حسنا
وما تعلق به الذم في العاجل والعقاب في الآجل يسمى قبيحا
وما لا يتعلق به شيء منهما فهو خارج عنهما
هذا في أفعال العباد
وإن أريد به ما يشمل أفعال الله تعالى اكتفى بتعلق المدح والذم وترك الثواب والعقاب

وهذا المعنى الثالث هو محل النزاع فهو عندنا شرعي
وذلك لأن الأفعال كلها سواسية ليس شيء منها في نفسه بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه ولا ذم فاعله وعقابه
وإنما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها
وعند المعتزلة عقلي فإنهم قالوا للفعل في نفسه مع قطع النظر عن الشرع جهة محسنة مقتضية لاستحقاق فاعله مدحا وثوابا أو مقبحة مقتضية لاستحقاق فاعله ذما وعقابا
ثم إنها أي تلك الجهة المحسنة أو المقبحة قد تدرك بالضرورة من غير تأمل وفكر كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار فإن كل عاقل يحكم بهما بلا توقف
وقد تدرك بالنظر كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع مثلا
وقد لا تدرك بالعقل لا بالضرورة ولا بالنظر
ولكن إذا ورد به الشرع علم أنه ثمة جهة محسنة كما في صوم آخر يوم من رمضان حيث أوجبه الشارع أو جهة مقبحة كصوم أول يوم من شوال حيث حرمه الشارع
فإدراك الحسن والقبح في هذا القسم موقوف على كشف الشرع عنهما بأمره ونهيه
وأما كشفه عنهما في القسمين الأولين
فهو مؤيد لحكم العقل بهما إما بضرورته أو بنظره
ثم أنهم اختلفوا فذهب الأوائل منهم إلى أن حسن الأفعال وقبحها لذواتها لا لصفات فيها تقتضيهما
وذهب بعض من يعدم من المتقدمين إلى إثبات صفة حقيقة توجب ذلك مطلقا أي في الحسن والقبح جميعا فقالوا ليس حسن الفعل أو قبحه لذاته كما ذهب إليه من تقدمنا من أصحابنا
بل لما فيه من صفة موجبة لأحدهما
وذهب أبو الحسين من متأخريهم إلى إثبات صفة في القبيح مقتضية لقبحه دون الحسن إذ لا حاجة به إلى صفة محسنة له بل يكفيه لحسنه انتفاء الصفة المقبحة
وذهب الجبائي إلى نفيه أي نفي الوصف الحقيقي فيهما مطلقا فقال ليس حسن الأفعال وقبحها لصفات حقيقية فيها بل لوجوه اعتبارية وأوصاف إضافية تختلف بحسب الاعتبار كما في لطمة اليتيم تأديبا وظلما
وأحسن ما نقل عنهم في العبارات الحدية قول أبي الحسين القبيح ما ليس للمتمكن منه ومن العلم بحاله أن يفعله
اعتبر

قيد التمكن احترازا عن فعل العاجز والملجأ فإنه لا يوصف بقبح ولا حسن
وقيد العلم ليخرج عنه المحرمات الصادرة عمن لم تبلغه دعوة نبي أو عمن هو قريب العهد بالإسلام
واكتفى بالتمكن من العلم ليدخل فيه الكفر ممن في شاهق الجبل فإنه متمكن من العلم بالله تعالى بالدلائل العقلية
وأراد بقوله ليس له أن يفعله أن الإقدام عليه لا يلائم عقل العقلاء
ويتبعه أو يتبع هذا التعريف المذكور للقبيح تعريفان آخران له
أحدهما أنه فعل يستحق الذم فاعله المتمكن منه ومن العلم بحاله
وذلك أنه لم يكن له أن يفعله
وثانيهما أنه فعل هو على صفة تؤثر في استحقاق الذم إذ لو لم يكن كذلك لكان للقادر العالم به أن يفعله
والذم قول أو فعل أو ترك قول أو فعل ينبىء عن اتضاع حال الغير وانحطاط شأنه
وإذا تصورت هذا التحرير تقول لنا على أن الحسن والقبح ليسا عقليين وجهان
الأول أن العبد مجبور في أفعاله
وإذا كان كذلك لم يحكم العقل فيها بحسن ولا قبح لأن ما ليس فعلا اختياريا لا يتصف بهذه الصفات اتفاقا منا ومن الخصوم
بيانه أي بيان كونه مجبورا أن العبد إن لم يتمكن من الترك فذاك هو الجبر لأن الفعل حينئذ واجب والترك ممتنع
وإن تمكن من الترك ولم يتوقف وجود الفعل منه على مرجح بل صدر عنه تارة ولم يصدر عنه أخرى من غير سبب يرجح وجوده على عدمه كان ذلك الفعل حينئذ اتفاقيا صادرا بلا سبب يقتضيه
فلا لا يكون اختياريا لأن الفعل الاختياري لا بد له من إرادة جازمة ترجحه
وإن توقف وجود الفعل منه على مرجح لم يكن ذلك المرجح من العبد
وإلا نقلنا الكلام إلى صدور ذلك المرجح عنه
وتسلسل
وهو محال
ووجب الفعل عنده أي عند المرجح الذي يتوقف عليه
وإلا جاز معه الفعل والترك واحتاج حينئذ إلى مرجح آخر
إذ لو لم يحتج إليه وصدر عنه تارة ولم يصدر عنه أخرى كان اتفاقيا كما

مر
وإذا احتاج إلى مرجح آخر نقلنا الكلام إليه وتسلسل فيكون الفعل على تقدير وجوبه مع ذلك المرجح اضطراريا
وعلى التقادير أعني امتناع الترك وكون الفعل اتفاقيا أو اضطراريا فلا اختيار للعبد في أفعاله فيكون مجبورا فيها فلا يتصف شيء منها بالحسن والقبح العقليين بالإجماع المركب
أما عندنا فلأنه لا مدخل للعقل فيهما
وأما عندهم فلأنهما من صفات الأفعال الاختيارية
فإن قيل هذا أي استدلالكم على كون العبد مجبورا نصب للدليل في مقابلة الضرورة إذ كل واحد من العقلاء يعلم أن له اختيارا في أفعاله يفرق بين الاختياري والاضطراري منها فلا يسمع لأنه سفسطة باطلة ومكابرة ظاهرة
وأيضا فأنه أي دليلكم ينفي قدرة الله تعالى لاطراد الدليل في أفعاله والمقدمات المقدمات والتقرير التقرير
فيقال إن لم يتمكن من الترك فذاك
وإن تمكن منه لم يتوقف الفعل على مرجح إلى آخر ما مر
فقد انتقض الدليل المذكور بأفعاله تعالى
وأيضا فإنه أي هذا الدليل كما ينفي الحسن والقبح العقليين ينفي أيضا الحسن والقبح الشرعيين المتفرعين على ثبوت التكليف
وإذا كان العبد مجبورا لم يثبت عليه تكليف لأنه تكليف ما لا يطاق
ونحن لا نجوزه وأنتم وإن جوزتموه فلا تقولون بوقوعه
ولا يكون كل التكاليف كذلك أي تكليفا بما لا يطاق كما لزم من دليلكم
والحاصل أن كون العبد مجبورا ينافي كونه مكلفا فلا يوصف فعله بحسن ولا قبح شرعي مع أنهما ثابتان عندكم فانتقض دليلكم بهما فما هو جوابكم فهو جوابنا
والأظهر أن يقال أنه ينفي الشرعيين أيضا لأنهما من صفات الأفعال الاختيارية
فإن حركة المرتعش والنائم والمغمى عليه لا

توصف في الشرع بحسن ولا قبح
ويستلزم أيضا كون التكاليف بأسرها تكليفا بما لا يطاق
ولا قائل به
وأيضا فالمرجح الذي يتوقف عليه فعل العبد داع له يقتضي اختياره الموجب للفعل
وذلك لا ينفي الاختيار بل يثبته
وهذا السؤال هو الحل وما قبله إما نقض أو في حكمه
قلنا أما الأول فلأن الضروري وجود القدرة والاختيار لا وقوع الفعل بقدرته واختياره
واستدلالنا إنما هو على نفي الثاني دون الأول فلا يكون مصادما للضرورة
وأما الثاني وهو النقض بأفعال الباري فالمقدمة القائلة بأن الفعل الواقع لا لمرجح اتفاقي لا اختياري إنما هي مقدمة إلزامية بالنسبة إلى المعتزلة القائلين بأن قدرة العبد لا تؤثر في فعل إلا إذا انضم إليها مرجح يسمونه الداعي
ونحن لا نقول بها
فإن الترجيح بمجرد الاختيار المتعلق بأحد طرفي الفعل لا لداع عندنا جائز
ولا يخرج ذلك الفعل عن كونه اختياريا كما تقدم في مسألة الهارب من السبع والعطشان الواجد للقدحين المتساويين
وإذا لم نقل بهذه المقدمة لم يرد علينا النقض بفعل الله تعالى
وأيضا على تقدير صحة هذه المقدمة عندنا ليس هذا الدليل بعينه جاريا في فعله تعالى لأنا نختار أنه متمكن من الترك
وأن فعله يتوقف على مرجح لكن ذلك المرجح قديم فلا يحتاج إلى مرجح آخر حتى يلزم التسلسل في المرجحات كما في فعل العبد إذا كان مرجحه صادرا عنه إذ لا بد أن يكون ذلك الصادر عنه حادثا محتاجا إلى آخر
فالمقدمة القائلة بأن مرجح الفعل إذا كان صادرا عن فاعله لزم التسلسل غير صادقة في حقه تعالى بل في حق العبد
وإلى ما قررناه أشار بقوله فمرجح فاعليته تعالى قديم هو إرادته وقدرته المستندتان إلى ذاته إيجابا والمتعلقتان بالفعل في وقت مخصوص

فإن قلت مع ذلك المرجح القديم إن وجب الفعل انتفى الاختيار وإلا جاز أن يصدر معه الفعل تارة ولا يصدر أخرى فيكون اتفاقيا كما مر في العبد
قلت لنا أن نختار الوجوب ولا محذور
لأن المرجح الموجب إرادته المستند إلى ذاته بخلاف إرادة العبد فإنها مستندة إلى غير ذلك
فإذا كانت موجبة لزم الجبر فيه قطعا
وقد مر هذا مرة مع الإشارة إلى ما فيه من شائبة الإيجاب فلا يحتاج ذلك المرجح القديم إلى مرجح آخر حتى يتسلسل إذ المحوج إلى المؤثر عندنا الحدوث دون الإمكان بخلاف مرجح فاعلية العبد فإنه حادث محتاج إلى مؤثر
فإن كان مؤثره العبد تسلسل وإن كان غيره كان هو مجبورا في فعله
وأما الثالث وهو النقض بالحسن والقبح الشرعيين فلا يجب عندنا في الواجب الشرعي تأثير قدرة الفاعل فيه بل يجب أن يكون الفعل مما هو مقدور عادة أي يكون مما يقارنه القدرة والاختيار في الجملة
ولا يكفي ذلك في الواجب العقلي عندكم إذ لا بد فيه من تأثير القدرة فلا يتجه علينا النقض الشرعي
وأما الرابع وهو الحل فمقصودنا من دليلنا على كون العبد مجبورا ومضطرا أن العبد غير مستقل بإيجاد فعله من غير داع واختيار يترتب على ذلك الداعي ويوجب الفعل يحصل أي ذلك الداعي مع ما يترتب عليه له بخلق الله تعالى إياه
وقد بيناه أي عدم استقلاله بهذا المعنى وذلك كاف في عدم الحكم بالحسن والقبح عقلا
إذ لا فرق بين أن يوجد الله الفعل في العبد كما قاله الشيخ وبين أن يوجد ما يجب الفعل

عنده كما قال بعض أصحابه كإمام الحرمين
وفي كونه مانعا من حكم العقل الحسن والقبح عند الخصم فإذا كان داعية إلى الاختيار الموجب للفعل من فعل الله فقد تم مطلوبنا
الثاني من الوجهين وإنما ينتهض حجة على غير الجبائي لو كان قبح الكذب ذاتيا أي لذاته أو لصفة لازمة لذاته لما تخلف القبح عنه لأن ما بالذات وكذا ما هو بواسطة لازم الذات لا يزول عن الذات وهو ظاهر
واللازم باطل فإنه أي الكذب قد يحسن إذا كان فيه عصمة دم نبي من ظالم بل يجب الكذب حينئذ لأنه دفع للظالم على المظلوم ويذم تاركه فيه قطعا فقد اتصف الكذب بغاية الحسن
وكذا يحسن بل يجب إذا كان فيه إنجاء متوعد بالقتل ظلما
لا يقال الحسن والواجب هو العصمة والإنجاء وقد يحصلان بدون الكذب إذ يمكن أن يأتي بصورة الخبر بلا قصد إلى الإخبار أو يقصد بكلامه معنى آخر بطريق التعريض والتورية فلا يكون كاذبا في نفس الأمر
ومن ثمة قيل إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب
وإذا لم يتعين الكذب للدفع كان الإتيان به قبيحا لا حسنا لأنا نقول قد يضيق السائل عليه في السؤال بحيث لا يمكنه عدم القصد والتعريض
ولو جوز حمل كلامه في مثل هذا المقام على عدم القصد بالكلية أو على قصد أي معنى كان لم يحصل الجزم بالقصد في شيء من الإخبار ولا يكون شيء منها كذبا إذ لا كلام إلا ويمكن أن يقدر فيه من الحذف والزيادة ما يصير معه
وإذا حسن الكذب ههنا قبح الصدق لأنه إعانة للظالم على ظلمه فلا يكون حسن الصدق أيضا ذاتيا
وكذا الحال في سائر الأفعال
وللأصحاب في إبطال التحسين والتقبيح العقليين مسالك ضعيفة نذكرها ونشير إلى وجه ضعفها
أحدها من قال لأكذبن غدا
فإذا جاء الغد فكذبه إما حسن فليس

الكذب قبيحا لذاته
وإما قبيح فتركه حسن
مع أنه أي تركه يستلزم كذبه فيما قاله أمس ومستلزم القبيح قبيح فيلزم أن يكون هذا الترك حسنا وقبيحا معا
وهو باطل فتعين الأول وهو أن لا يكون قبح الكذب ذاتيا لانقلابه حسنا
وهو المطلوب
قلنا لا نسلم أن مستلزم القبيح قبيح لأن الحسن لذاته قد يستلزم القبيح فتتعدد جهة الحسن والقبح فيه وأنه غير ممتنع فيكون مثلا الكلام الواحد من حيث تعلقه بالمخبر عنه على ما هو به حسنا
ومن حيث استلزامه للقبيح الذي هو الكذب فيما قاله أمس قبيحا
ومثل ذلك جائز عند الجبائية القائلين بالوجوه والاعتبارات فلا ينتهض هذا المسلك حجة عليهم كما أن الوجه الثاني كذلك إذ يتجه هناك أن يقال لم يتخلف القبح عن الكذب بل هو قبيح باعتبار تعلقه بالمخبر عنه لا على ما هو به وحسن باعتبار استلزامه للعصمة والإنجاء
وقد نبهناك على ذلك أو نلتزم قبحه أي قبح كلامه في الغد مطلقا لأنه قبيح إما لذاته إن كان كاذبا وإما لاستلزامه القبيح إن كان صادقا
ونقول الحسن كالكلام الصادق فيما نحن فيه إنما يحسن إذا لم يستلزم القبيح
وأنت خبير بأن انقلاب الحسن إلى القبيح إنما يتأتى على القول بالوجوه الاعتبارية فضعف هذا المسلك إنما يظهر إذا جعل دليلا على بطلان مذاهب المعتزلة كلها
الثاني من المسالك الضعيفة من قال زيد في الدار ولم يكن زيد فيها فقبح هذا القول إما لذاته وحده أو مع عدم كون زيد في الدار إذ لا قائل بقسم ثالث
والقسمان باطلان
فالأول لاستلزامه قبحه وإن كان زيدا في الدار
والثاني لأنه يستلزم كون العدم جزء علة الوجود

قلنا قد يكون قبحه مشروطا بعدم كون زيد في الدار والشرط لا يمنع أن يكون عدميا
الثالث قبحه أي قبح الكلام الكاذب لكونه كذبا إن قام بكل حرف منه فكل حرف كذب
إذ المفروض أنه متصف بالقبح المعلل بالكذب فهو خبر لأن الكذب من صفات الخبر
وبطلانه ظاهر
وإن قام بالمجموع فلا وجود له لترتبها أي ترتب الحروف وتقضي المتقدم منها عند حصول المتأخر
وإذ لم يكن للمجموع وجود فكيف يتصور اتصافه بالقبح الذي هو صفة ثبوتية
فالمصنف ردد في نفس القبح هل هو قائم بكل حرف أو بمجموعها
وأما الآمدي فإنه قال لو كان الخبر الكاذب قبيحا عقلا
فالمقتضي لقبحه إما أن يكون صفة لمجموع حروفه أو لآحادها
والأول باطل لأن ما لا وجود له لا يتصف بصفة مقتضية لأمر ثبوتي لأن المقتضي له لا بد أن يكون ثبوتيا فلا يكون صفة للعدم
والثاني باطل أيضا لأن مقتضى القبح في الخبر الكاذب إنما هو الكذب
ولا يمكن قيامه بكل حرف
وإلا كان كل حرف خبرا وهو محال
قلنا هو أي القبح من صفاته النفسية لا من صفاته المعنوية فلا يستدعي صفة يكون هو معللا بها كما هو مذهب بعضهم القائلين بأن حسن الأفعال وقبحها لذواتها لا لصفات حقيقة قائمة بها
وهذا الجواب إنما يتجه على تقرير الآمدي
وأما على تقرير الكتاب فينبغي أن يقال ليس يلزم من كون القبح ذاتيا أي مستندا إلى ذات الشيء أن يكون موجودا خارجيا حتى يمتنع وقوعه صفة لأمر عدمي لجواز أن يقتضي ذات الشيء اتصافه بصفة اعتبارية ويستحيل انفكاكها عنه أو يقوم القبيح بكل حرف بشرط

انضمام الآخر إليه فقبحه لكونه جزء خبر كاذب أو يقوم القبيح بالمجموع لكونه كاذبا
وما هو جوابكم فيه فهو جوابنا في قيام القبح به
الرابع كونه أي كون الفعل قبيحا ليس نفس ذاته ولا جزء منها لتعلقها دونه بل زائد عليها وأنه موجود لأنه نقيض اللاقبيح القائم بالمعدوم فيلزم حينئذ قيام المعنى الذي هو القبح بالمعنى الذي هو الفعل
قلنا قد سبق الكلام على مقدماته
فإن نقيض العدمي لا يجب أن يكون موجودا
وارتفاع النقيضين إنما يستحيل في الصدق دون الوجود
وأيضا لا نسلم امتناع قيام العرض بالعرض إذ لم يقم عليه دليل كما عرفت مع انتقاضه بالإمكان والحدوث فإن هذا الدليل الذي أوردتموه على كون القبح أمرا موجودا جاز فيهما مع كونهما اعتباريين
الخامس علة القبح حاصلة قبل الفعل
ولذلك ليس له أن يفعله فلولا أن ما يقتضي قبحه حاصل قبل وجوده لم يكن كذلك
ويلزم حينئذ قيام الصفة الحقيقية بالمعدوم لأن مقتضى القبح صفة وجودية
وقد يقال لو كان القبح ذاتيا لزم تقدم المعلول على علته لأن قبيح الفعل حاصل قبله لما عرفت وعلته إما ذات الفعل وصفته وليس شيء منهما حاصلا قبله
قلنا لا نسلم أن القبح أو علته حاصل قبل الفعل بل يحكم العقل باتصافه بالقبح وبما يقتضيه إذا حصل
وهذا الحكم هو المانع من فعله والإقدام عليه لاتصافه بالقبح أو بما يقتضيه
على أن القدماء منهم زعموا أن الذوات ثابتة متقررة في الأزل فيصح عندهم اتصافها بالصفات الثبوتية
ثم للمعتزلة في المسألة طريقان حقيقيان وطريقان إلزاميان
أما الحقيقيان فأحدهما أن الناس طرا يجزمون بقبح الظلم والكذب الضار والتثليث وقتل

الأنبياء بغير حق
وكذا يجزمون بحسن العدل والصدق النافع والإيمان وعصمة الأنبياء من أنواع الإيذاء
وليس ذلك الجزم منهم بالقبح أو الحسن بالشرع
إذ يقول به غير المتشرع ومن لا يتدين بدين أصلا كالبراهمة ولا بالعرف إذ العرف يختلف بالأمم على حسب اختلافهم
وهذا الذي ذكرناه لا يختلف بل الأمم قاطبة مطبقون عليه
والجواب أن ذلك أي جزم العقلاء كلهم بالحسن والقبح في الأمور المذكورة بمعنى الملاءمة والمنافرة أو صفة الكمال والنقص مسلم إذ لا نزاع لنا في أنهما بهذين المعنيين عقليان
وبالمعنى المتنازع فيه ممنوع على أنه قد يقال جاز أن يكون هناك عرف عام هو مبدأ لذلك الجزم المشترك
وثانيهما أن من عن له تحصيل غرض من الأغراض واستوفى فيه الصدق والكذب فإنه يؤثر الصدق قطعا بلا تردد وتوقف
فلولا أن حسنه مركوز في عقله لما اختاره كذلك
وكذا من رأى شخصا قد أشرف على الهلاك وهو قادر على إنقاذه مال إلى إنقاذه قطعا واستغرق في ذلك طوقه
وإن لم يرج منه ثوابا ولا شكورا كما إن كان المنقذ طفلا أو مجنونا
وليس ثمة من يراه ولا يتصور فيه غرضا من جذب نفع أو دفع ضر
بل ربما يتضرر فيه بتعب شاق فلم يبق هناك حامل سوى كون الإنقاذ حسنا في نفسه
والجواب أما حديث اختيار الصدق فلأنه قد تقرر في النفوس كونه

ملائما لمصلحة العالم
وكون الكذب منافرا لها ولا يلزم من فرض الاستواء تحققه
فاختياره الصدق لملائمة تلك المصلحة لا لكونه حسنا في نفسه
وأما حديث الإنقاذ فذلك لرقة الجنسية وذلك مجبول في الطبيعة
وسببه أنه يتصور مثله في حق نفسه أي يتصور إشرافه على الهلاك فيستحسن فعل المنقذ له إذا قدره فيجره ذلك إلى استحسانه من نفسه حق الغير
وأما الطريقان الإلزاميان
فأحدهما لو حسن من الله كل شيء كما اقتضاه مذهبكم من القبح إنما هو لأجل النهي الذي لا يتصور في أفعاله تعالى الحسن أي لا يمتنع منه الكذب
وفي ذلك إبطال للشرائع وبعثة الرسل بالكلية
لأنه قد يكون في تصديقه للنبي بالمعجزة كاذبا
ولا يمكن حينئذ تمييز النبي عن المتنبىء فلا تثبت الأحكام الشرعية وتنتفي فائدة البعثة وأنه باطل إجماعا ولحسن منه أيضا خلق المعجزة على يد الكاذب وعاد المحذور الذي هو سد باب النبوة
والجواب أن مدرك امتناع الكذب منه تعالى عندنا ليس هو قبحه العقلي حتى يلزم من انتفاء قبحه أن لا يعلم امتناعه منه إذ يجوز أن يكون له مدرك آخر
وقد تقدم هذا في مباحث كونه تعالى متكلما
ودلالة المعجزة على صدق المدعي عادية فلا تتوقف على امتناع الكذب كما في سائر العلوم العادية التي ليست نقائضها ممتنعة
فنحن نجزم بصدق من ظهرت المعجزة على يده مع أن كذبه ممكن في نفسه فلا يلزم التباس وسيأتي
وثانيهما الإجماع على تعليل الأحكام الشرعية بالمصالح والمفاسد
ولو توقف الحسن والقبح على ورود الشرع كما زعمتم لامتنع

تعليل الأحكام بها
وفي منعه سد باب القياس وتعطل أكثر الوقائع من الأحكام
وأنتم لا تقولون به
قلنا اهتداء العقل إلى المصالح والمفاسد ليس من المقصود في شيء كما مر من أن المصلحة والمفسدة راجعة إلى ملاءمة الغرض ومنافرته
ولا نزاع في أنه عقلي
نعم رعايته تعالى في أحكامه مصالح العباد ودفع مفاسدهم تفضل منه عندنا وواجب عليه عندكم بناء على أصلنا وأصلكم
وقد يحتج بلزوم إفحام الأنبياء وعجزهم عن إثبات نبوءتهم على تقدير كون الحسن والقبح شرعيين
وقد مر في باب النظر من الموقف الأول
تفريع إذا ثبت أن الحاكم بالحسن والقبح هو الشرع دون العقل ثبت أن لا حكم من الأحكام الخمسة وما ينتمي إليها للأفعال قبل الشرع
وأما المعتزلة فقالوا ما يدرك جهة حسنه أو قبحه بالعقل من الأفعال التي ليست اضطرارية ينقسم إلى الأقسام الخمسة لأنه إن اشتمل تركه على مفسدة فواجب
أو فعله فحرام
وإلا فإن اشتمل فعله على مصلحة فمندوب
أو تركه فمكروه
وإلا أي وإن لم يشتمل شيء من طرفيه على مفسدة ولا مصلحة فمباح
وأما ما لا يدرك جهته بالعقل لا في حسنه ولا في قبحه فلا يحكم فيه قبل الشرع بحكم خاص تفصيلي في فعل فعل إذ لم يعرف فيه جهة تقتضيه
وأما على سبيل الإجمال في جميع تلك الأفعال فقيل بالحظر والإباحة والتوقف
دليل الحظر أنه تصرف في ملك الغير بلا إذنه لأن الكلام فيما قبل الشرع فيحرم كما في الشاهد

والجواب الفرق بتضرر الشاهد دون الغائب
وأيضا حرمة التصرف في ملك الشاهد مستفادة من الشرع
دليل الإباحة وجهان
أحدهما أنه تصرف لا يضر المالك فيباح كالاستظلال بجدار الغير والاقتباس من ناره والنظر في مرآته
والجواب أن الأصل ثبت بالشرع وحكم العقل فيه أي في الأصل بالمعنى المتنازع فيه ممنوع بل إنما يحكم فيه بمعنى الملاءمة وموافقة الغرض والمصلحة
وثانيهما أنه تعالى خلق العبد وخلق الشهوة فيه وخلق المنتفع به من الثمار المطعومة وغيرها
فالحكمة تقتضي إباحته أي إباحة الانتفاع وإلا كان حقه عبثا
وكيف يدرك تحريمه بالعقل وما هو إلا كمن يغترف غرفة من بحر لا ينزف ليدفع به عطشه المهلك
أترى العقل يحكم بمنع أكرم الأكرمين منه وتكليفه التعرض للهلاك كلا
والجواب ربما خلقه ليصبر عنه ويمنع هواه وشهوته فيثاب على ذلك
وهذه منفعة جليلة أو خلقه لغرض آخر لا نعلمه
وأما التوقف فيفسر تارة بعدم الحكم ومرجعه الإباحة إذ ما لا منع فمباح إلا أن يشترط في الإباحة الإذن
فيرجع إلى كونه حكما شرعيا لا عقليا
وكلامنا فيه
وإنما يتجه هذا اشترط إذن الشارع لا إذن العقل
وربما يقال هذا التفسير جزم بعدم الحكم لا توقف إلا أن يراد توقف العقل عن الحكم ويفسر تارة بعدم العلم أي هناك حظر أو إباحة لكنا لا نعلمه
وهذا أمثل من التفسير الأول المشتمل على نوع تكلف في معنى التوقف كما عرفت لكن عدم العلم لا لتعارض الأدلة إذ قد تبين بطلانها بل لعدم الدليل على أحد هذين الحكمين بعينه

المقصد السادس
المتن إعلم أن الأمة قد أجمعت على أن الله لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب
فالأشاعرة من جهة أنه لا قبيح منه ولا واجب عليه
وأما المعتزلة
فمن جهة أن ما هو قبيح منه يتركه وما يجب عليه يفعله
وهذا فرع المسألة المتقدمة إذ لا حاكم بقبح القبيح منه ووجوب الواجب عليه إلا العقل وقد أبطلنا حكمه وبينا أنه تعالى الحاكم فيحكم ما يريد
والمعتزلة أوجبوا عليه على أصلهم أمورا
الأول اللطف
وفسروه بأنه الذي يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية كبعثة الأنبياء
فإنا نعلم أن الناس معها أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية
فيقال لهم هذا ينتقض بأمور لا تحصى
فإنا نعلم أنه لو كان في كل عصر نبي وفي كل بلد معصوم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكان حكام الأطراف مجتهدين متقين لكان لطفا
وأنتم لا توجبونه بل نجزم بعدمه
الثاني الثواب على الطاعة لأنه مستحق للعبد
ولأن التكليف إما لا لغرض وهو عبث وأنه لجد قبيح
وإما لغرض إما عائد إلى الله تعالى وهو منزه عنه أو إلى العبد إما في الدنيا وأنه مشقة بلا حظ وإما في الآخرة وهو إما إضراره
وهو باطل إجماعا وإما نفعه وهو المطلوب
فيقال لهم الطاعة لا تكافىء النعم السابقة لكثرتها وعظمها وحقارة أفعال العبد

وقلتها بالنسبة إليها
وما ذلك إلا كمن يقابل نعمة الملك عليه مما لا يحصره بتحريك أنملته فكيف يحكم العقل بإيجابه الثواب عليه
وأما التكليف فنختار أنه لا لغرض أو لضر قوم ونفع آخرين كما هو الواقع أو ليس ذلك على سبيل الوجوب
الثالث العقاب على المعصية زجرا عنها
فإن في تركه التسوية بين المطيع والعاصي وفيه إذن للعصاة في المعصية وإغراء لهم بها
فيقال لهم العقاب حقه والإسقاط فضل
فكيف يدرك امتناعه بالعقل
وحديث الإذن والإغراء مع رجحان ظن العقاب بمجرد تجويز مرجوح ضعيف جدا
الرابع الأصلح للعبد في الدنيا
فيقال الأصلح للكافر الفقير المعذب في الدنيا والآخرة ألا يخلق
حكاية تنحى بالقلع على هذه القاعدة قال الأشعري لأستاذه أبي علي الجبائي ما تقول في ثلاثة أخوة عاش أحدهم في الطاعة وأحدهم في المعصية ومات أحدهم صغيرا فقال يثاب الأول بالجنة ويعاقب الثاني بالنار والثالث لا يثاب ولا يعاقب
قال فإن قال الثالث يا رب لو عمرتني فأصلح فأدخل الجنة قال يقول الرب كنت أعلم أنك لو عمرت لفسقت وأفسدت فدخلت النار
قال فيقول الثاني يا رب لم لم تمتني صغيرا لئلا أذنب فلا أدخل النار كما أمت أخي فبهت
فترك الأشعري مذهبه إلى المذهب الحق
وكان أول ما خالف فيه المعتزلة
الخامس العوض على الآلام
قالوا الألم إن وقع جزاء لما صدر عن العبد من سيئة لم يجب على الله عوضه
وإلا فإن كان الإيلام من الله وجب العوض
وإن كان من مكلف آخر فإن كان له حسنات أخذ من حسناته

وأعطي المجني عليه عوضا لإيلامه له
وإن لم يكن له حسنات وجب على الله إما صرف المؤلم عن إيلامه أو تعويضه من عنده بما يوازي إيلامه
ولهم بناء على هذا الأصل اختلافات شاهدة بفساده
الأول قال طائفة جاز أن يكون العوض في الدنيا
وقال آخرون بل يجب أن يكون في الآخرة كالثواب
الثاني هل تدوم اللذة المبذولة عوضا كما يدوم الثواب أو تنقطع
الثالث هل يحبط العوض بالذنوب كما يحبط الثواب
الرابع هل يجوز إيصال ما يوصل عوضا للآلام ابتداء بلا سبق ألم أم لا
الخامس على الجواز هل يؤلم ليعوض أو يكون ذلك مع إمكان الابتداء به مخالفا للحكمة
السادس على المنع هل يؤلم ليعوض عوضا زائدا ليكون لطفا له ولغيره إذ يصير ذلك عبرة له تزجره عن القبيح
السابع البهائم هل تعوض بما يلحقها من الآلام والمشاق مدة حياتها وتمتاز بها عن أمثالها التي لا تقاسي مثلها أو لا تعوض وإن عوضت فهل ذلك في الجنة وإن كان في الجنة فهل يخلق فيها عقل تعقل به أنه جزاء على أن منهم من أنكر لحوق الألم البهائم والصبيان مكابرة وهربا من إلزام دخولها الجنة وخلق العقل فيها
الشرح
المقصد السادس اعلم ان الأمة قد اجتمعت إجماعا مركبا على أن الله لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب
فالأشاعرة من جهة أنه لا قبيح

منه ولا واجب عليه فلا يتصور منه فعل قبيح ولا ترك واجب
وأما المعتزلة فمن جهة أن ما هو قبيح منه يتركه وما يجب عليه يفعله
وهذا الخلاف في مبنى الحكم المتفق عليه فرع المسألة المتقدمة أعني قاعدة التحسين والتقبيح
إذ لا حاكم بقبح القبيح منه ووجوب الواجب عليه إلا العقل فمن جعله حاكما بالحسن والقبح قال بقبح بعض الأفعال منه ووجوب بعضها عليه
ونحن قد أبطلنا حكمه وبينا فيما تقدم أنه تعالى الحاكم فيحكم ما يريد ويفعل ما يشاء لا وجوب عليه كما لا وجوب عنه ولا استقباح منه
وأما المعتزلة فإنهم أوجبوا عليه تعالى بناء على أصلهم أمورا فنذكرها هنا ونبطلها بوجوه مخصوصة بها
وإن كان إبطال أصلها كافيا في إبطالها
الأول اللطف
وفسروه بأنه الفعل الذي يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية ولا ينتهي إلى حد الإلجاء كبعثة الأنبياء فإنا نعلم بالضرورة أن الناس معها أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية فيقال لهم هذا الدليل الذي تمسكتم به في وجوب اللطف ينتقض بأمور لا تحصى
فإنا نعلم أنه لو كان في كل عصر نبي وفي كل بلد معصوم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكان حكام الأطراف مجتهدين متفقين لكان لطفا وأنتم لا توجبونه على الله تعالى بل نجزم بعدمه فلا يكون واجبا عليه
الثاني من الأمور التي أوجبوها الثواب على الطاعة لأنه مستحق للعبد على الله بالطاعة
فالإخلال به قبيح
وهو ممتنع عليه تعالى
وإذا كان تركه ممتنعا كان الإتيان به واجبا
ولأن التكليف إما لا لغرض وهو عبث وإنه لجد قبيح خصوصا بالنسبة إلى الحكيم تعالى
وإما لغرض إما عائد إلى الله تعالى وهو منزه عنه أو إلى العبد إما في الدنيا وأنه مشقة بلا حظ وإما في الآخرة وهو إما إضراره وهو باطل إجماعا وقبيح من

الجواد الكريم
وأما نفعه وهو المطلوب لأن إيصال ذلك النفع واجب لئلا يلزم نقض الغرض فيقال لهم الطاعة التي كلف بها لا تكافىء النعم السابقة لكثرتها وعظمها وحقارة أفعال العبد وقلتها بالنسبة إليها
وما ذلك إلا كمن يقابل نعمة الملك عليه مما لا يحصره بتحريك أنملته فكيف يحكم العقل بإيجابه الثواب عليه واستحقاقه إياه وأما التكليف فنختار أنه لا لغرض ولا استحالة فيه كما سيجيء عن قريب
أو هو لضر قوم كالكافرين ونفع آخرين كالمؤمنين كما هو الواقع
أو ليس ذلك على سبيل الوجوب بل هو تفضل على الأبرار وعدل بالنسبة إلى الفجار
الثالث من تلك الأمور العقاب على المعصية زجرا عنها
فإن في تركه التسوية بين المطيع والعاصي وهو قبيح كما في الشاهد إذا كان له عبدان مطيع وعاص
وفيه أي في تركه أيضا إذن للعصاة في المعصية وإغراء لهم بها
وذلك لأنه تعالى ركب فيهم شهوة القبائح فلو لم يجزم المكلف بأنه يستحق على ارتكاب القبيح عقابا لا يجوز الإخلال به بل جوز ترك العقاب لكان ذلك إذنا من الله سبحانه وتعالى للعصاة في ارتكاب الشهوات بل إغراء بها
وهو قبيح يستحيل صدوره من الله تعالى
فيقال لهم العقاب حقه والإسقاط فضل فكيف يدرك امتناعه بالعقل
وترك العقاب لا يستلزم التسوية
فإن المطيع مثاب دون العاصي
وحديث الإذن والإغراء مع رجحان ظن العقاب بمجرد تجويز مرجوح ضعيف جدا يعني أنه ليس يلزم من جواز ترك العقاب على المعصية إذن وإغراء
وإنما يلزم ذلك إذا لم يكن ظن العقاب رجحان على تركه إذ مع رجحانه لا يلزم من مجرد تجويز تركه تجويزا مرجوحا الإذن والإغراء كما أن جواز تركه بل وجوبه على تقدير إثابته التي يمكن صدورها عنه لا يستلزمهما
الرابع من الأمور الواجبة عندهم الأصلح للعبد في الدنيا فيقال لهم الأصلح للكافر الفقير المعذب في الدنيا والآخرة أن لا يخلق مع أنه مخلوق فلم يراع في حقه ما كان أصلح له فلا يكون الأصلح واجبا عليه تعالى

حكاية شريفة تنحي بالقلع على هذه القاعدة لقائله بوجوب الأصلح على الله سبحانه وتعالى
قال الأشعري لأستاذه أبي علي الجبائي
ما تقول في ثلاثة إخوة عاش أحدهم في الطاعة وأحدهم في المعصية ومات أحدهم صغيرا فقال يثاب الأول بالجنة ويعاقب الثاني بالنار والثالث لا يثاب ولا يعاقب
قال الأشعري
فإن قال الثالث يا رب لو عمرتني فأصلح فأدخل الجنة كما دخلها أخي المؤمن
قال الجبائي يقول الرب كنت أعلم أنك لو عمرت لفسقت وأفسدت فدخلت النار
قال فيقول الثاني يا رب لم لم تمتني صغيرا لئلا أذنب فلا أدخل النار كما أمت أخي
فبهت الجبائي فترك الأشعري مذهبه إلى مذهب الحق الذي كان عليه السلف الصالح
وكان هذا أول ما خالف فيه الأشعري المعتزلة ثم اشتعل بهدم قواعدهم وتشييد مباني الحق بعون الله وحسن توفيقه
الخامس من تلك الأمور العوض عن الآلام فإنهم قالوا الألم إن وقع جزاء لما صدر عن العبد من سيئة كألم الحد لم يجب على الله عوضه
وإلا أي وإن لم يقع جزاء فإن كان الإيلام من الله وجب العوض عليه فإن كان من مكلف آخر فإن كان له حسنات أخذ من حسناته وأعطي المجنى عليه عوضا لإيلامه له
وإن لم يكن له حسنات وجب على الله إما صرف المؤلم عن إيلامه أو تعويضه من عنده بما يوازي إيلامه أي لا ينقص عن إيلامه فهو احتراز عما دونه لا عما فوقه
ولهم بناء على هذا الأصل الذي هو وجوب العوض المعرف عندهم أنه نفع مستحق خال عن التعظيم والإجلال اختلافات ركيكة شاهدة بفساده أي بفساد الأصل
الأول قال طائفة كأبي هاشم وأتباعه جاز أن يكون العوض في

الدنيا إذ لا يجب دوامه
وقال آخرون كالعلاف والجبائي وكثير من متقدميهم بل يجب أن يكون في الآخرة الوجوب دوامه كالثواب
وذلك لأن انقطاعه يوجب ألما فيستحق بهذا الألم عوضا آخر ويتسلسل
ورد بجواز عدم شعوره بالانقطاع
الثاني هل تدوم اللذة المبذولة عوضا كما يدوم الثواب أو تنقطع أي هل يجب دوامه أو يجوز انقطاعه وهو أصل الاختلاف الأول
وقد عرفت توجيهه هناك
الثالث هل يحبط العوض بالذنوب كما يحبط الثواب أو لا فمن قال بالإحباط تمسك بأنه لولاه لكان الفاسق والكافر في كل وقت من أوقات الآخرة في نعيم العوض وعقاب الفسق أو الكفر والجمع بينهما محال
ومن لم يقل به ذهب إلى أن عوض أهل النار بإسقاط جزء من عقابهم بحيث لا يظهر لهم التخفيف
وذلك بتفريق الجزء الساقط على الأوقات كيلا يتألم بانقطاع التخفيف
الرابع هل يجوز إيصال ما يوصل عوضا للآلام ابتداء بلا سبق ألم أم لا يجوز
الخامس على الجواز هل يؤلم ليعوض أو يكون ذلك مع إمكان الابتداء به على طريق التفضل مخالفا للحكمة
السادس على المنع هل يؤلم ليعوض عوضا زائدا ليكون لطفا له ولغيره إذ يصير ذلك الإيلام عبرة له تزجره عن القبيح يعني أن المانعين من جواز التفضل بمثل ما يوصل عوضا اختلفوا فجوز بعضهم الإيلام المجرد عن التعويض واعتبر آخرون أن يكون مع التعويض شيء آخر وهو أن يكون لطفا زاجرا له ولغيره
وقيد العوض بالزائد لأنهم صرحوا بأن العوض من الله

يجب أن يكون زائدا بحيث يرضي كل عاقل يتحمل ذلك الألم لأجل ذلك العوض
هذا والمذكور في كلام الآمدي هو أن المانعين من جواز التفضل جوزوا الآلام لمجرد التعويض كالجبائي وأبي الهذيل وقدماء المعتزلة والمجوزين له لم يجوزوا الآلام إلا بشرط التعويض واعتبار الغير بتلك الآلام وكونها ألطافا في زجر غاو عن غوايته
وذهب عباد الضميري إلى جواز الآلام لمحض الاعتبار من غير تعويض
وذهب أبو هاشم إلى أن الآلام لا تحسن لمجرد التعويض مع القدرة على التفضل بمثل العوض إلا إذا علم الله أنه لا ينفعه إلا بجهة التعويض
فعليك بالتأمل في مطابقته لما في الكتاب
السابع البهائم هل تعوض بما يلحقها من الآلام والمشاق مدة حياتها وتمتاز بها عن أمثالها التي لا تقاسي مثلها أو لا تعوض وإن عوضت فهل ذلك التعويض في الدنيا أو في الآخرة وإذا كان في الآخرة فهل هو في الجنة أو في غيرها وإن كان في الجنة فهل يخلق فيها عقل تعقل به أنه جزاء وأنه دائم غير منقطع
هذه اختلافاتهم على أن منهم من أنكر لحوق الألم البهائم والصبيان مكابرة وهربا من إلزام دخولها الجنة وخلق العقل فيها

المقصد السابع
المتن تكليف ما لا يطاق جائز عندنا لما قدمنا آنفا من أنه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء إذ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب

لحكمه
ومنعه المعتزلة لقبحه عقلا
فإن من كلف الأعمى نقط المصاحف والزمن المشي إلى أقاصي البلاد وعبده الطيران إلى السماء عد سفيها وقبح ذلك في بداية العقول وكان كأمر الجماد
واعلم أن ما لا يطاق على مراتب
أدناها أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه أو إرادته أو إخباره
فإن مثله لا تتعلق به القدرة الحادثة لأن القدرة مع الفعل ولا تتعلق بالضدين
والتكليف بهذا جائز بل واقع إجماعا
وإلا لم يكن العاصي بكفره وفسقه مكلفا
وأقصاها أن يمتنع لنفس مفهومه كجمع الضدين وقلب الحقائق وجواز التكليف به فرع تصوره
فمنا من قال لو لم يتصور لامتنع الحكم بامتناع تصوره وطلبه
ومنهم من قال طلبه يتوقف على تصوره واقعا
وهو منتف ههنا
فإنه إنما يتصور إما منفيا بمعنى أنه ليس لنا شيء موهوم أو محقق هو اجتماع الضدين أو بالتشبيه بمعنى أن يتصور إجتماع المتخالفين كالسواد والحلاوة ثم يحكم بأن مثله لا يكون بين الضدين
وذلك غير تصور وقوعه ولا مستلزم له
صرح ابن سينا به
ولعله معنى قول أبي هاشم العلم بالمستحيل علم لا معلوم له ومراد من قال المستحيل لا يعلم
المرتبة الوسطى أن لا يتعلق به القدرة الحادثة عادة سواء امتنع تعلقها به لا لنفس مفهومه كخلق الأجسام أم لا كحمل الجبل والطيران إلى السماء
فهذا نجوزه
وإن لم يقع بالاستقراء
ولقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وتمنعه المعتزلة وبه يعلم أن كثيرا من أدلة أصحابنا مثل ما قالوه في إيمان أبي لهب نصب للدليل في غير محل النزاع

الشرح
المقصد السابع تكليف ما لا يطاق جائز عندنا لما قدمنا آنفا في المقصد السادس من أنه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء إذ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه
ومنعه المعتزلة لقبحه عقلا كما في الشاهد
فإن من كلف الأعمى نقط المصاحف والزمن المشي إلى أقاصي البلاد وكلف عبده الطيران إلى السماء عد سفيها وقبح ذلك في بداية العقول
وكان كأمر الجماد الذي لا شكل في كونه سفها
واعلم أن ما لا يطاق على مراتب
أدناها أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه
أو تعلق إرادته أو إخباره بعدمه فإن مثله لا تتعلق به القدرة الحادثة لأن القدرة الحادثة مع الفعل لا قبله ولا تتعلق بالضدين بل لكل واحد منهما قدرة على حدة تتعلق به حال وجوده عندنا
والتكليف بهذا جائز بل واقع إجماعا
وإلا لم يكن العاصي بكفره وفسقه مكلفا بالإيمان وترك الكبائر بل لا يكون تارك المأمور به عاصيا أصلا
وذلك معلوم بطلانه من الدين ضرورة
وأقصاها أن يمتنع لنفس مفهومه كجمع الضدين وقلب الحقائق وإعدام القديم
وجواز التكليف به فرع تصوره وهو مختلف فيه
فمنا من قال لو لم يتصور الممتنع لذاته لامتنع الحكم عليه بامتناع تصوره
و

امتناع طلبه إلى غير ذلك من الأحكام الجارية عليه
ومنهم من قال طلبه يتوقف على تصوره واقعا أي ثابتا لأن الطالب لثبوت شيء لا بد أن يتصور أولا مطلوبه على الوجه الذي يتعلق به طلبه ثم يطلبه
وهو أي التصور على وجه الوقوع والثبوت منتف ههنا أي في الممتنع لنفس مفهومه فإنه يستحيل تصوره ثابتا
وذلك لأن ماهيته من حيث هي هي تقتضي انتفاءه وتصور الشيء على خلاف ما تقتضيه ذاته لذاته لا يكون تصورا له بل لشيء آخر كمن يتصور أربعة ليست بزوج فإنه لا يكون متصورا للأربعة قطعا بل الممتنع لذاته إنما يتصور على أحد وجهين
إما منفيا بمعنى أنه ليس لنا شيء موهوم أو محقق هو اجتماع الضدين أو بالتشبيه بمعنى أن يتصور اجتماع المتخالفين كالسواد والحلاوة ثم يحكم بأن مثله لا يكون بين الضدين وذلك أي تصوره على أحد هذين الوجهين كاف في الحكم عليه دون طلبه لأنه غير تصور وقوعه وثبوته ولا مستلزم له
صرح ابن سينا به أي بأن تصوره كذلك كما نقلناه عنه في باب العلم
ولعله معنى قول أبي هاشم العلم بالمستحيل علم لا معلوم له
كما أشرنا إليه هناك أيضا
ولعله مراد من قال المستحيل لا يعلم أي لا يعلم من حيث ذاته وماهيته
المرتبة الوسطى من مراتب ما لا يطاق أن لا يتعلق به القدرة الحادثة عادة سواء امتنع تعلقها به لا لنفس مفهومه بأن لا يكون من جنس ما تتعلق به كخلق الأجسام فإن القدرة الحادثة لا تتعلق بإيجاد الجوهر أصلا
أم لا بأن يكون من جنس ما تتعلق به لكن يكون من نوع أو صنف لا تتعلق به كحمل الجبل والطيران إلى السماء
فهذا أي التكليف بما لا يطاق عادة نجوزه نحن وإن لم يقع بالاستقراء
ولقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وتمنعه المعتزلة لكونه قبيحا عندهم
وبه

أي بما ذكرناه من التفصيل وتحرير المتنازع فيه يعلم أن كثيرا من أدلة أصحابنا مثل ما قالوه في إيمان أبي لهب وكونه مأمورا بالجمع بين المتناقضين نصب للدليل في غير النزاع إذ لم يجوزه أحد
ولقائل أن يقول ما ذكره من أن جواز التكليف بالممتنع لذاته فرع تصورة وإن بعضا منا قالوا تصوره يشعر بأن هؤلاء يجوزونه

المقصد الثامن
المتن في أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض إليه
ذهب الأشاعرة وخالفهم فيه المعتزلة
لنا بعدما بينا من أنه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء وجهان
أحدهما لو كان فعله تعالى لغرض لكان ناقصا لذاته مستكملا بتحصيل ذلك الغرض لأنه يصلح غرضا للفاعل إلا ما هو أصلح له من عدمه
وهو معنى الكمال
فإن قيل لا نسلم الملازمة لأن الغرض لا يكون عائدا إلى غيره فليس كل من يفعل لغرض يفعل لغرض نفسه
قلنا نفع غيره إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه جاء الإلزام
وإلا لم يصلح أن يكون غرضا له كيف وأنا نعلم أن خلود أهل النار في النار من فعل الله ولا نفع فيه لهم ولا لغيرهم ضرورة
وثانيهما أن غرض الفعل خارج عنه يحصل تبعا للفعل وبتوسطه إذ هو تعالى فاعل لجميع الأشياء ابتداء كما بيناه فلا يكون شيء من

الكائنات إلا فعلا له لا غرضا لفعل آخر لا يحصل إلا به ليصلح غرضا لذلك الفعل وليس جعل البعض غرضا أولى من البعض
وأيضا فلا بد من الانتهاء إلى ما هو الغرض
ولا يكون ذلك لغرض آخر
وإذا جاز ذلك بطل القول بوجوب الغرض
احتجوا بأن الفعل الخالي عن الغرض عبث وأنه قبيح يجب تنزيه الله عنه
قلنا إن أردتم بالعبث ما لا غرض فيه فهو أول المسألة
وإن أردتم أمرا آخر فلا بد من تصويره ثم من تقريره ثم من الدلالة على امتناعه على الله سبحانه وتعالى
تذنيب إذا قيل لهم فما الغرض من هذه التكاليف الشاقة التي لا نفع فيها لله لتعاليه عنه ولا للعبد لأنها مشقة بلا حظ قالوا الغرض فيها تعريض العبد للثواب
فإن الثواب تعظيم وهو بدون استحقاق سابق قبيح فيقال لهم لا نسلم أن التفضل بالثواب قبيح كما تفضل بما لا يحصى من النعم في الدنيا
وإن سلم قبحه فيمكن التعريض له بدون هذه المشاق إذ ليس الثواب على قدر المشقة وعوضا
ألا يرى أن في التلفظ بكلمة الشهادة من الثواب ما ليس في كثير من العبادات الشاقة وكذا الكلمة المتضمنة لإنجاء نبي أو تمهيد قاعدة خير أو دفع شر عام
وما يروى أن أفضل العبادات أحمزها
فذلك عند التساوي في المصالح
ثم أنه معارض بما فيه من تعريض الكافر والفاسق للعذاب
ومن أين لكم أن ذلك أكثر من هذا
الشرح
المقصد الثامن في أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض إليه
ذهبت الأشاعرة وقالوا لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من

الأغراض والعلل الغائية ووافقهم على ذلك جهابذة الحكماء وطوائف الإلهيين
وخالفهم فيه المعتزلة وذهبوا إلى وجوب تعليلها
وقالت الفقهاء لا يجب ذلك
لكن أفعاله تابعة لمصالح العباد تفضلا وإحسانا
لنا في إثبات مذهبنا بعدما بينا من أنه لا يجب عليه تعالى شيء فلا يجب حينئذ أن يكون فعله معلالا بغرض
ولا يقبح منه شيء فلا يقبح أن تخلو أفعاله عن الأغراض بالكلية وذلك يبطل مذهب المعتزلة وجهان يبطلان المذهبين معا
أعني وجوب التعليل ووقوعه تفضلا
أحدهما لو كان فعله تعالى لغرض من تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة لكان هو ناقصا لذاته مستكملا بتحصيل ذلك الغرض لأنه لا يصلح غرضا للفاعل إلا ما هو أصلح له من عدمه وذلك لأن ما استوى وجوده وعدمه بالنظر إلى الفاعل أو كان وجوده مرجوحا بالقياس إليه لا يكون باعثا له على الفعل وسببا لإقدامه عليه بالضرورة
فكل ما كان غرضا وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل وأليق به من عدمه وهو معنى الكمال فإذن يكون الفاعل مستكملا بوجوده وناقصا بدونه
فإن قيل لا نسلم الملازمة لأن الغرض قد يكون عائدا إلى الفاعل فيلزم ما ذكرتم من النقصان والاستكمال
وقد يكون عائدا إلى غيره فلا يلزم فليس يلزم من كونه تعالى فاعلا لغرض أن يكون من قبيل الأول
إذ ليس كل من يفعل لغرض يفعل لغرض نفسه بل ذلك في حقه تعالى محال لتعاليه عن التضرر والانتفاع فتعين أن يكون غرضه راجعا إلى عباده وهو الإحسان إليهم بتحصيل مصالحهم ودفع مفاسدهم
ولا محذور في ذلك
قلنا نفع غيره والإحسان إليه إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه جاء الإلزام لأنه تعالى يستفيد حينئذ بذلك النفع والإحسان ما هو أولى به وأصلح له
وإلا أي وإن لم يكن أولى بل كان مساويا أو مرجوحا لم يصلح أن يكون غرضا له لما مر من العلم الضروري بذلك بل نقول كيف ندعي وجوب تعليل أفعاله

تعالى بمنافع العباد
وإنا نعلم أن خلود أهل النار في النار من فعل الله ولا نفع فيه لهم ولا لغيرهم ضرورة
وثانيهما أي ثاني الوجهين أن غرض الفعل أمر خارج عنه يحصل تبعا للفعل وبتوسطه أي يكون للفعل مدخل في وجوده
وهذا مما لا يتصور في أفعاله إذ هو تعالى فاعل لجميع الأشياء ابتداء كما بيناه فيما سلف
فلا يكون شيء من الكائنات والحوادث وإلا فعلا له صادرا عنه بتأثير قدرته ابتداء بلا واسطة لا غرضا لفعل آخر له مدخل في وجوده بحيث لا يحصل ذلك الشيء إلا به ليصلح أن يكون غرضا لذلك الفعل حاصلا بتوسطه
وليس جعل البعض من أفعاله وآثاره غرضا أولى من البعض الآخر إذ لا مدخل لشيء منها في وجود الآخر على تقدير استنادها بأسرها إليه على سواء فجعل بعضها غرضا من بعض آخر دون عكسه تحكم بحت
فلا يتصور تعليل في أفعاله أصلا
وأيضا إذا عللت أفعاله بالأغراض فلا بد من الانتهاء إلى ما هو الغرض والمقصود في نفسه
وإلا تسلسلت الأغراض إلى ما لا نهاية لها
ولا يكون ذلك الذي هو غرض ومقصود في نفسه لغرض آخر لأنه خلاف ما فرض
وإذا جاز ذلك بطل القول بوجوب الغرض إذ قد انتهى أفعاله إلى فعل لا غرض له وهو الذي كان مقصودا في نفسه
وقد يقال لا يجب في الغرض كونه مغايرا بالذات بل يكفيه التغاير الاعتباري
احتجوا أي المعتزلة على وجوب الغرض في أفعاله تعالى بأن الفعل الخالي عن الغرض عبث وأنه قبيح بالضرورة يجب تنزيه الله عنه لكونه عالما

بقبحه واستغنائه عنه فلا بد إذن في فعله من غرض يعود إلى غيره نفيا للعبث والنقض
قلنا في جوابهم إن أردتم بالعبث ما لا غرض فيه من الأفعال فهو أول المسألة المتنازع فيها إذ نحن نجوز أن يصدر عنه تعالى فعل لا غرض فيه أصلا
وأنتم تمنعونه وتعبرون عنه بالعبث
فلا يجديكم نفعا
وإن أردتم بالعبث أمرا آخر فلا بد لكم أولا من تصويره أي تصوير ذلك الأمر الآخر حتى نفهمه ونتصوره
ثم لا بد ثانيا من تقريره أي بيانه ثبوت ذلك المفهوم للفعل على تقدير خلوه من الغرض ثم لا بد ثالثا من الدلالة على امتناعه أي استحالة الفعل المتصف بذلك المفهوم الآخر على الله سبحانه وتعالى حتى يتم لكم مطلوبكم
وقد يقال في الجواب إن العبث ما كان خاليا عن الفوائد والمنافع وأفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى راجعة إلى مخلوقاته تعالى
لكنها ليست أسبابا باعثة على إقدامه وعللا مقتضية لفاعليته فلا تكون أغراضا له ولا عللا غائية لأفعاله حتى يلزم استكماله بها بل تكون غايات ومنافع لأفعاله وآثارا مترتبة عليها
فلا يلزم أن يكون شيء من أفعاله عبثا خاليا عن الفوائد
وما ورد من الظواهر الدالة على تعليل أفعاله تعالى فهو محمول على الغاية والمنفعة دون الغرض والعلة الغائية
تذنيب إذ قيل لهم أنتم قد أوجبتم الغرض في أفعاله تعالى فما الغرض من هذه التكاليف الشاقة التي لا نفع فيها لله لتعاليه عنه ولا للعبد لأنها مشقة بلا حظ
قالوا الغرض فيها عائد إلى العباد وهو تعريض العبد للثواب في الدار الآخرة وتمكينه منه
فإن الثواب تعظيم أي منفعة دائمة مقرونة بتعظيم وإكرام
وهو أي التعظيم المذكور بدون استحقاق سابق قبيح عقلا
ألا يرى أن السلطان إذا أمر بزبال وأعطاه من المال ما لا

يدخل تحت الحصر لم يستقبح منه أصلا بل عد جودا وفضلا وإغناء للفقير وتبعيدا له عن ساحة الهوان بالكلية
لكنه مع ذلك إذا نزل له وقام بين يديه معظما له ومكرما إياه وأمر خدمه بتقبيل أنامله استقبح منه ذلك وذمه العقلاء ونسبوه إلى ركاكة العقل وقلة الدراية
فالله سبحانه لما أراد أن يعطي عباده منافع دائمة مقرونة بإجلال وإكرام منه ومن ملائكته المقربين ولم يحسن أن يتفضل بذلك عليهم ابتداء بلا استحقاق كلفهم ما يستحقونه به
فيقال لهم لا نسلم أن التفضل بالثواب قبيح بل لا قبح هناك أصلا
ولو سلم قبحه فإنما يقبح ممن يجوز عليه الانتفاع والتضرر لا من الله تعالى
فإنه يجوز أن يتفضل به كما تفضل على عباده بما لا يحصى من النعم في الدنيا
وأنت خبير بأن المستقبح عندهم هو التفضل بالتعظيم الموعود دون النعم كما صورناه لكنه سند للمنع فلا يجدي دفعه
وإن سلم قبحه من الله تعالى أيضا فيمكن التعريض له أي للثواب بدون هذه المشاق العظيمة
إذ ليس الثواب على قدر المشقة وعوضا مساويا لها
ألا ترى أن في التلفظ بكلمة الشهادة من الثواب ما ليس في كثير من العبادات الشاقة كالصلاة والصيام وكذا الكلمة المتضمنة لإنجاء نبي من ظالم يريد إهلاكه أو تمهيد قاعدة خير أو دفع شر عام إذ يستحق بهذه الكلمة من الثواب ما يزيد على ثواب كثير من العبادات
وإن كانت أشق منها
وما يروى من أن فضل العبادات أحمزها أي أشقها فذلك عند التساوي في المصالح فلا ينافي أن يكون الأخف الأسهل أكثر ثوابا إذا كان أكثر مصلحة وأعظم فائدة
وإذا أمكن التعريض المذكور بدون تلك المشاق كان التكليف بها عاريا عن الغرض ثم إنهم أي ما ذكرتم من أن التكليف تعريض للثواب

معارض بما فيه من تعريض الكافر والفاسق للعذاب إذ لولا التكليف لم يستحقا عقابا
ومن أين لكم أن ذلك التعريض للثواب أكثر من هذا أي التعريض للعذاب بل نقول إن الثاني أكثر من الأول لأن الغلبة للكفرة والفسقة
وإذا لم تكن المنفعة أكثر من المضرة لم تصلح تلك المنفعة لأن تكون غرضا للحكيم العالم بأحوال الأشياء كلها الآتي بالأفعال على وجهها
فبطل ما ذكرتموه من غرض التكليف

المرصد السابع في أسماء الله تعالى
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن الاسم غير التسمية
لأنها تخصيص الاسم ووضعه للشيء
ولا شك أنه مغاير له والتسمية فعل الواضع
وأنه منقض
وليس الاسم كذلك
وقد اشتهر الخلاف في أن الاسم هل هو نفس المسمى أو غيره ولا يشك عاقل في أنه ليس النزاع في لفظة ف ر س أنه هل هو نفس الحيوان المخصوص أو غيره بل في مدلول الاسم أهو الذات من حيث هي هي أم باعتبار أمر صادق عليه عارض له ينبىء عنه فلذلك قال الشيخ قد يكون الاسم عين المسمى نحو الله
فإنه اسم علم للذات من غير اعتبار معنى فيه
وقد يكون غيره نحو الخالق والرازق
مما يدل على نسبته إلى غيره
ولا شك أنه غيره
وقد يكون لا هو ولا غيره كالعليم والقدير مما يدل على صفة حقيقية
ومن مذهبه أنها لا هو ولا غيره كما مر

الشرح
المرصد السابع في أسماء الله تعالى وبه تنتهي مباحث الإلهيات
وفيه مقاصد
المقصد الأول الاسم غير التسمية لأنها تخصيص الاسم ووضعه للشيء
ولا شك أنه أي تخصيص الاسم بشيء مغاير له
أي للاسم كما تشهد به البديهة
وأيضا التسمية فعل الوضع وأنه منقض فيما مضى من الزمان
وليس الاسم كذلك
وذهب بعضهم إلى أن التسمية هي عين الأقوال الدالة التي هي الأسماء كما سيرد عليك
ولم يلتفت إليه المصنف
وقد اشتهر الخلاف في أن الاسم هل هو نفس المسمى أو غيره ولا يشك عاقل في أنه ليس النزاع في لفظة ف ر س أنه هل هو نفس الحيوان المخصوص أو غيره فإن هذا مما لا يشتبه على أحد بل النزاع في مدلول الاسم هو الذات من حيث هي هي أم هو الذات باعتبار أمر صادق عليه عارض له ينبىء عنه
فلذلك قال الشيخ أبو الحسن الأشعري قد يكون الاسم أي مدلوله عين المسمى أي ذاته من حيث هي نحو الله
فإنه اسم علم للذات من غير اعتبار معنى فيه
وقد يكون غيره نحو الخالق والرازق
مما يدل على نسبته إلى غيره
ولا شك أنها أي تلك النسبة غيره
وقد يكون لا هو ولا غيره كالعليم والقدير مما يدل على صفة حقيقية قائمة بذاته ومن مذهبه أنها أي الصفة الحقيقية القائمة بذاته لا هو ولا غيره كما مر
فكذا الحال في الذات المأخوذة مع تلك الصفة
قال الآمدي اتفق العقلاء على المغايرة بين التسمية والمسمى
وذهب أكثر أصحابنا إلى أن التسمية هي نفس الأقوال الدالة وإن الاسم هو نفس المدلول ثم اختلف هؤلاء فذهب ابن فورك وغيره إلى أن كل اسم هو

المسمى بعينه
فقولك الله قول دال على اسم هو المسمى وكذا قولك عالم وخالق فإنه يدل على الرب الموصوف بكونه عالما وخالقا
وقال بعضهم من الاسماء ما هو عين كالموجود والذات
ومنها ما هو غير كالخالق
فإن المسمى ذاته والاسم هو نفس الخالق وخلقه غير ذاته
ومنها ما ليس عينا ولا غيرا كالعالم
فإن المسمى ذاته والاسم علمه الذي ليس عين ذاته ولا غيرها
وذهبت المعتزلة إلى أن الاسم هو التسمية
ووافقهم على ذلك بعض المتأخرين من أصحابنا
وذهب الأستاذ أبو نصر بن أيوب إلى أن لفظ الاسم مشترك بين التسمية والمسمى
فيطلق على كل منهما ويفهم المقصود بحسب القرائن
ولا يخفى عليك أن النزاع على قول أبي نصر إنما هو في لفظة أ س م وأنها تطلق على الألفاظ فيكون الاسم عين التسمية بالمعنى المذكور لا بمعنى فعل الواضع أو تطلق على مدلولاتها فيكون عين المسمى
وكلا الاستعمالين ثابت كما في قولك الأسماء والأفعال والحروف
وقوله تعالى سبح اسم ربك و تبارك اسم ربك أي مسماه
وقول لبيد ثم اسم السلام عليكما
لكن هذا بحث لغوي لا فائدة فيه ههنا

وقال الإمام الرازي المشهور عن أصحابنا أن الاسم هو اسم المسمى وعن المعتزلة أنه التسمية
وعن الغزالي أنه مغاير لهما لأن النسبة وطرفيها متغايرة قطعا
والناس قد طولوا في هذه المسألة
وهو عندي فضول لأن الاسم هو اللفظ المخصوص والمسمى ما وضع ذلك اللفظ بإزائه فنقول الاسم قد يكون غير المسمى
فإن لفظة الجدار مغايرة لحقيقة الجدار
وقد يكون عينه
فإن لفظ الاسم اسم للفظ الدال على المعنى المجرد عن الزمان
ومن جملة الألفاظ لفظ الاسم فيكون لفظ الاسم اسما لنفسه فاتحد ههنا الاسم والمسمى
قال فهذا ما عندي في هذه المسألة

المقصد الثاني في أقسام الاسم
المتن اعلم أن الاسم إما أن يؤخذ من الذات أو من جزئها أو من وصفها الخارجي أو من الفعل ثم ننظر أيها يمكن في حق الله تعالى
أما المأخوذ من الذات ففرع تعلقها
وقد تكلمنا فيه
وأما المأخوذ من الجزء فمحال عليه لما بينا أن الوجوب الذاتي ينافي التركيب
وأما المأخوذ من الوصف الخارجي فجائز
ثم هذا الوصف قد يكون حقيقيا
وقد يكون إضافيا وقد يكون سلبيا
وأما المأخوذ من الفعل فجائز
فهذه أقسامه البسيطة
وقد تتركب ثنائيا وأكثر وستعلم أمثلتها فيما يتبعه من المقصد
الشرح
المقصد الثاني في أقسام الاسم
إعلم أن الاسم الذي يطلق على

الشيء إما أن يؤخذ من الذات بأن يكون المسى به ذات الشيء من حيث هو أو من جزئها أو من وصفها الخارجي أو من الفعل الصادر عنه
فهذه هي أقسام الاسم على الإطلاق
ثم ننظر أيها يمكن في حق الله تعالى
أما المأخوذ من الذات ففرع تعقلها
وقد تكلمنا فيه
فمن ذهب إلى جواز تعقل ذاته جوز أن يكون له اسم بإزاء حقيقته المخصوصة
ومن ذهب إلى امتناع تعقلها لم يجوز له اسما مأخوذا من ذاته لأن وضع الاسم لمعنى فرع تعقله ووسيلة إلى تفهيمه
فإذا لم يمكن أن يعقل ويفهم فلا يتصور بإزائه
وفيه بحث
لأن الخلاف في تعقل كنه ذاته ووضع الاسم لا يتوقف عليه إذ يجوز أن يعقل ذات ما بوجه من وجوهه ويوضع الاسم لخصوصيته ويقصد تفهيمها باعتبار ما لا بكنهها ويكون ذلك الوجه مصححا للوضع وخارجا عن مفهوم الاسم على ما مر من أن لفظ الله اسم علم له موضوع لذاته من غير اعتبار معنى فيه
وأما المأخوذ من الجزء كالجسم للإنسان مثلا فمحال عليه تعالى لما بينا من أن الوجوب الذاتي ينافي التركيب فلا يتصور لذاته تعالى جزء حتى يطلق اسمه عليه
وأما المأخوذ من الوصف الخارجي الداخل في مفهوم الاسم فجائز في حقه تعالى ثم هذا الوصف قد يكون حقيقيا كالعليم
وقد يكون إضافيا كالماجد بمعنى المعالي وقد يكون سلبيا كالقدوس
وأما المأخوذ من الفعل فجائز في حقه تعالى أيضا
فهذه الأقسام المذكورة للاسم هي أقسامه البسيطة وقد تتركب ثنائيا وأكثر
وستعلم أمثلتها فيما يتبعه من المقصد

المقصد الثالث
المتن تسميته تعالى بالأسماء توقيفية
أي يتوقف إطلاقها على الإذن فيه
وذلك للاحتياط احترازا عما يوهم باطلا لعظم الخطر في ذلك
والذي ورد به التوقيف في المشهور تسعة وتسعون اسما فلنحصها إحصاء
الله اسم خاص بذاته لا يوصف به غيره
فقيل علم جامد
وقيل مشتق وأصله الإله
حذفت الهمزة لثقلها وأدغم اللام
وهو من إله إذا تعبد
وقيل من الوله وهو الحيرة
ومرجعهما صفة إضافية
وقيل هو القادر على الخلق
وقيل من لا يصح التكليف إلا منه
فمرجعه صفة سلبية
الرحمن
الرحيم أي مريد الإنعام على الخلق
فمرجعهما صفة الإرادة
الملك أي يعز ويذل
ولا يذل
فمرجعه صفة فعلية وسلبية
وقيل التام القدرة
فصفة القدرة
القدوس المبرأ على المعايب
وقيل الذي لا يدركه الأوهام والأبصار
فصفة سلبية
السلام ذو السلامة عن النقائص
فصفة سلبية
وقيل منه وبه السلامة

ففعلية
وقيل يسلم على خلقه
قال تعالى سلام قولا من رب رحيم
فصفة كلامية
المؤمن المصدق لنفسه ورسله
إما بالقول فصفة كلامية أو بخلق المعجز ففعلية
وقيل المؤمن لعباده من الفزع الأكبر إما بفعله الأمن أو بأخباره
المهيمن الشاهد
وفسر بالعلم وبالتصديق بالقول
وقيل الأمين أي الصادق في قوله
العزيز قيل لا أب له ولا أم
وقيل لا يحط عن منزلته
وقيل لا مثل له
وقيل يعذب من أراد
وقيل عليه ثواب العاملين
وقيل القادر والعزة القدرة
ومنه المثل من عزيز
الجبار قيل من الجبر بمعنى الإصلاح
ومنه جبر العظم
وقيل بمعنى الإكراه
أي يجبر خلقه على ما يريده
وقيل منيع لا ينال
ومنه نخلة جبارة
وقيل لا يبالي بما كان وبما لم يكن
وقيل العظيم
أي انتفت عنه صفات النقص
وقيل وحصل له جميع الكمال
المتكبر قيل في معناه ما قيل في العظيم
الخالق البارىء معناهما واحد
المختص باختراع الأشياء
المصور المختص بإحداث الصور والتراكيب
الغفار المريد لإزالة العقوبة عن مستحقها

القهار غالب لا يغلب
الوهاب كثير العطاء
الرزاق يرزق من يشاء
الفتاح ميسر العسير
وقيل خالق الفتح
أي النصر
وقيل الحاكم
وهو إما بالإخبار أو بالقضاء
ومنه قوله تعالى ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق أي احكم
وقيل الحاكم المانع
ومنه حكمة اللجام
العليم العالم بجميع المعلومات
القابض المختص بالسلب
الباسط المختص بالتوسعة
الخافض من الخفض
وهو الحط والوضع
الرافع المعطي للنازل
المعز معطي العزة
المذل الموجب لحط المنزلة
السميع
البصير ظاهر
الحكم الحاكم وقيل هو الصحيح علمه وقوله وفعله
العدل لا يقبح منه ما يفعل
اللطيف خالق اللطف
وقيل العالم بالخفيات

الخبير العليم
وقيل المخبر
الحليم لا يعجل العقاب
العظيم قد مر
الغفور كالغفار
الشكور المجازي على الشكر
وقيل يثيب على القليل الكثير
وقيل المثني على من أطاعه
العلي
الكبير كالمتكبر
الحفيظ العليم
وقيل لا يشغله شيء عن شيء
وقيل يبقي صور الأشياء
المقيت خالق الأقوات
وقيل المقدر
وقيل الشهيد وهو العالم بالغائب والحاضر
الحسيب الكافي يخلق ما يكفي العباد
وقيل المحاسب بإخباره المكلفين بما فعلوا
الجليل كالمتكبر
الكريم ذو الجود
وقيل المقتدر على الجود
وقيل العلي الرتبة
ومنه كرائم المواشي
وقيل يغفر الذنوب
الرقيب كالحفيظ
المجيب يجيب الأدعية

الواسع
الحكيم
الودود المودود كالحلوب والركوب
وقيل الواد
أي يود ثناءه على المطيع وثوابه له
المجيد الجميل أفعاله
وقيل الكثير أفضاله
وقيل لا يشارك فيما له من أوصاف المدح
الباعث المعيد للخلائق
الشهيد العالم بالغائب والحاضر
الحق العدل
وقيل الواجب لذاته
وقيل المحق أي الصادق
وقيل مظهر الحق
الوكيل المتكفل بأمور الخلق
وقيل الموكول إليه ذلك
القوي القادر على كل أمر
المتين هي النهاية في القدرة
الولي الحافظ للولاية
الحميد المحمود
المحصي العالم
وقيل المنبىء عن عدد كل معدود
وقيل القادر
ومنه علم أن لن تحصوه أي لن تطيقوه
المبدىء المتفضل بابتداء النعم
المعيد يعيد الخلق
المحيي خالق الحياة

المميت خالق الموت
الحي ظاهر
القيوم الباقي الدائم
وقيل المدبر
الواجد الغني
وقيل العالم
الماجد العالي
وقيل من له من الولاية والتولية
الأحد قد مر تفسيره
الصمد السيد
وقيل الحليم
وقيل العالي الدرجة
وقيل المدعو المسؤول
وقيل الصمد ما لا جوف له
القادر المقتدر ظاهر
المقدم
المؤخر يقدم من يشاء ويؤخر من يشاء
الأول
الآخر لم يزل ولا يزال
الظاهر المعلوم بالأدلة القاطعة
وقيل الغالب
الباطن المحتجب عن الحواس
وقيل العالم بالخفيات
الوالي المالك
المتعالي كالعلي
البر فاعل البر
التواب يرجع لفضله على عباده إذا تابوا إليه
المنتقم المعاقب لمن عصاه

العفو الماحي
الرؤوف المريد للتخفيف
مالك الملك يتصرف فيه
ذو الجلال والإكرام كالجليل
المقسط العادل
الجامع أي للخصوم يوم القضاء
الغني لا يفتقر إلى شيء
المغني المحسن لأحوال الخلق
المانع لما يشاء من المنافع
الضار
النافع منه الضرر والنفع
النور
الهادي يخلق الهدى
البديع أي المبدع
الباقي لا آخر له
الوارث الباقي بعد فناء الخلق
الرشيد العدل
وقيل المرشد
الصبور الحليم
وقد مر
فهذه هي الأسماء الحسنى نسأل الله ببركتها أن يفتح علينا أبواب الخير ويغفر لنا ويرحمنا إنه هو الغفور الرحيم
الشرح
المقصد الثالث تسميته تعالى بالأسماء توقيفية
أي يتوقف إطلاقها

على الإذن فيه
وليس الكلام في أسمائه الأعلام الموضوعة في اللغات إنما النزاع في الأسماء المأخوذة من الصفات والأفعال
فذهبت المعتزلة والكرامية إلى أنه إذا دل العقل على اتصافه تعالى بصفة وجودية أو سلبية جاز أن يطلق عليه اسم يدل على اتصافه بها سواء ورد بذلك الإطلاق إذن شرعي أو لم يرد
وكذا الحال في الأفعال
وقال القاضي أبو بكر من أصحابنا كل لفظ دل على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه بلا توقيف إذ لم يكن إطلاقه موهما لما لا يليق بكبريائه
فمن ثمة لم يجز أن يطلق عليه لفظ العارف لأن المعرفة قد يراد بها علم يسبقه غفلة ولا لفظ الفقيه لأن الفقه فهم غرض التكلم من كلامه
وذلك مشعر بسابقة الجهل ولا لفظ العاقل لأن العقل علم مانع عن الإقدام على ما لا ينبغي مأخوذ من العقال
وإنما يتصور هذا المعنى فيمن يدعوه الداعي إلى ما لا ينبغي ولا لفظ الفطن لأن الفطانة سرعة إدراك ما يراد تعريضه على السامع فتكون مسبوقة بالجهل ولا لفظ الطبيب لأن الطب يراد به علم مأخوذ من التجارب إلى غير ذلك من الأسماء التي فيها نوع إيهام بما لا يصح في حقه تعالى
وقد يقال لا بد من نفي ذلك الإيهام من الإشعار بالتعظيم حتى يصح الإطلاق بلا توقيف
وذهب الشيخ ومتابعوه إلى أنه لا بد من التوقيف
وهو المختار وذلك للاحتياط احترازا عما يوهم باطلا لعظم الخطر في ذلك فلا يجوز الاكتفاء في عدم إيهام الباطل بمبلغ إدراكنا بل لا بد من الاستناد إلى إذن الشرع
والذي ورد به التوقيف في المشهور تسعة وتسعون اسما
فقد ورد في الصحيحين أن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة ليس فيهما تعيين تلك الأسماء
لكن الترمذي والبيهقي عيناها كما في الكتاب
وإنما قال في المشهور إذ قد ورد التوقيف بغيرها
أما في القرآن فكالمولى والنصير

والغالب والقاهر والقريب والرب والناصر والأعلى والأكرم وأحسن الخالقين وأرحم الراحمين وذي الطول وذي القوة وذي المعراج إلى غير ذلك
وأما في الحديث فكالحنان والمنان
وقد ورد في رواية ابن ماجة أسماء ليست في الرواية المشهورة كالتام والقديم والوتر والشديد والكافي وغيرها
وإحصاؤها إما حفظها لأنه إنما يحصل بتكرار مجموعنا وتعدادها مرارا
وإما ضبطها حصرا وتعدادا وعلما وإيمانا وقياما بحقوقها
وبالجملة فلنحصها إحصاء طمعا في دخول الجنة فنقول
الله وهو اسم خاص بذاته لا يوصف به غيره أي لا يطلق على غيره أصلا
فقيل هو علم جامد لا اشتقاق له
وهو أحد قولي الخليل وسيبويه
والمروي عن أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان الخطابي والغزالي رحمهم الله تعالى وقيل مشتق وأصله الإله
حذفت الهمزة لثقلها وأدغم اللام
وهو من أله بفتح اللام
أي عبد
وهو المراد بقوله إذا تعبد
وقيل الإله مأخوذ من الوله
وهو الحيرة
ومرجعهما صفة إضافية هي كونه معبودا للخلائق ومختارا للعقول
وقيل معنى الإله هو القادر على الخلق فيرجع إلى صفة القدرة
وقيل هو الذي لا يكون إلا ما يريد
وقيل من لا يصح التكليف إلا منه
فمرجعه على هذين الوجهين

صفة سلبية فعلية
والصحيح أن لفظة الله على تقدير كونها في الأصل صفة فقد انقلبت علما مشعرا بصفات الكمال للاشتهار
الرحمن
الرحيم هما بمنزلة الندمان والنديم أي مريد الإنعام على الخلق
فمرجعهما صفة الإرادة
وقيل معطي جلائل النعم ودقائقها
فالمرجع حينئذ صفة فعلية
الملك أي يعز من يشاء ويذل من يشاء
ولا يذل أي يمتنع إذلاله
فمرجعه صفة فعلية وسلبية
وقيل معناه التام القدرة
فصفة القدرة مرجعه
القدوس أي المبرأ عن المعايب
وقيل هو الذي لا يدركه الأوهام والأبصار فصفة سلبية على الوجهين
السلام أي ذو السلامة عن النقائص مطلقا في ذاته وصفاته وأفعاله فصفة سلبية
وقيل معناه منه وبه السلامة أي هو المعطي للسلامة في المبدأ والمعاد ففعلية
وقيل يسلم على خلقه
قال تعالى سلام قولا من رب رحيم
فصفة كلامية
المؤمن هو المصدق لنفسه فيما أخبر به كالوحدانية مثلا في قوله شهد الله أنه لا إله إلا هو ورسوله فيما أخبروا به في تبليغهم عنه إما بالقول نحو قوله تعالى محمد رسول الله فصفة كلامية أو بخلق المعجز الدال على صدق الرسل وخلق العالم على النظام المشاهد الدال على الوحدانية ففعلية
وقيل معناه المؤمن لعباده المؤمنين من

الفزع الأكبر إما بفعله وإيجاده الأمن والطمأنينة فيهم فيرجع إلى صفة فعليه
أو إخباره إياهم بالأمن من ذلك فيكون صفة كلامية
المهيمن أي الشاهد
وفسر كونه شاهدا تارة بالعلم فيرجع إلى صفة العلم وأخرى بالتصديق بالقول فيرجع إلى صفة كلامية
وقيل معنى المهيمن الأمين
أي الصادق في قوله فيكون صفة كلامية
وقيل هو بمعنى الحفيظ
وسيأتي معناه
العزيز قيل معناه لا أب له ولا أم
وقيل لا يحط عن منزلته ويقرب من هذا تفسيره بالذي لا يرام أو الذي لا يخالف أو الذي لا يخوف بالتهديد
وقيل لا مثل له وهو بهذا المعنى وبالمعنى الأول مشتق عن عز الشيء
يعز بالكسر في المستقبل إذا لم يكن له نظير
ومنه عز الطعام في البلد إذا تعذر
وحاصل الكل يرجع إلى صفة سلبية
وقيل يعذب من أراد
وقيل عليه ثواب العاملين فيرجع إلى صفة فعلية هي التعذيب أو الإثابة
وقيل القادر
والعزة والقدرة والغلبة ومنه المثل من عزيز أي من قدر وغلب سلب
الجبار قيل من الجبر بمعنى الإصلاح أي المصلح لأمور الخلائق فإنه جابر كل كسير
ومنه جبر العظم أي أصلحه
وقيل من الجبر بمعنى الإكراه
يقال جبره السلطان على كذا
وأجبره إذا أكرهه أي يجبر خلقه ويحملهم على ما يريده فمرجعه على المعنيين صفة فعليه
وقيل معناه منيع لا ينال فإن سبحانه وتعالى متعال عن أن تناله يد الأفكار أو يحيط به إدراك الأبصار
ومنه نخلة جبارة إذا طالت وقصرت الأيدي عن أن تنال أعلاها
فمرجعه إلى صفة إضافية مع سلبية
وقيل لا يبالي بما كان وبما لم يكن وقد يعبر عن هذا المعنى بأنه إذ لا يتمنى ما لا يكون ولا يلتهف على ما لم يكن
فمرجعه إلى الصفات السلبية
وقيل هو العظيم هكذا

نقل عن ابن عباس ثم فسر المصنف العظيم بقوله أي انتفت عنه صفات النقص فمرجعه صفة سلبية
وقيل أي انتفى عنه تلك الصفات وحصل له جميع صفات الكمال فيرجع إلى الصفات السلبية والثبوتية معا
المتكبر قيل في معناه ما قيل في معنى العظيم وقال الغزالي رحمه الله المتكبر المطلق هو الذي الكل يرى حقيرا بالإضافة إلى ذاته
فإن كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبر حقا وصاحبه محقا
ولا يتصور ذلك على الإطلاق إلا الله
وإن كانت كاذبة كان التكبر باطلا والمتكبر مبطلا
الخالق
البارىء معناهما واحد أي المختص باختراع الأشياء
المصور المختص بإحداث الصور المختلفة والتراكيب المتفاوتة
فهذه الأسماء الثلاثة من صفات الفعل
قال الغزالي رحمه الله قد يظن أن هذه الثلاثة مترادفة وأنها راجعة إلى الخلق والاختراع
والأولى أن يقال ما يخرج من العدم إلى الوجود يحتاج أولا إلى التقدير وثانيا إلى الإيجاد على وفق ذلك التقدير وثالثا التصوير والتزيين كالبناء بقدرة المهندس ثم يبنيه الباني ثم يزينه النقاش
فالله سبحانه خالق من حيث أنه مقدر وبارىء من حيث أنه موجد ومصور من حيث أنه يرتب صور المخترعات أحسن ترتيب ويزينها أكمل تزيين
الغفار أي المريد لإزالة العقوبة عن مستحقها فهو راجع إلى صفة الإرادة
واشتقاقه من الغفر بمعنى الستر
القهار غالب لا يغلب فهو صفة فعلية سلبية

الوهاب كثير العطاء بلا عوض
فيكون صفة فعلية
الرزاق يرزق من يشاء من الحيوان ما ينتفع به من مأكول ومشروب وملبوس
فهو من صفات الفعل
الفتاح ميسر العسير
وقيل خالق الفتح أي النصر وهو على التقديرين راجع إلى الصفات الفعلية
وقيل الحاكم
وهو أي الحكم إما بالإخبار والقول فيكون صفة كلامية أو بالقضاء والقدر فيرجع إلى صفة القدرة والإرادة
والفتاح بمعنى الحاكم مشتق من الفتاحة
وهي الحكم
ومنه قوله تعالى ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق أي أحكم
وقيل الحاكم معناه المانع
ومنه حكمه اللجام وهي الحديدة المانعة من جماح الدابة
فهو صفة فعلية
العليم العالم بجميع المعلومات فهو صفة حقيقية
القابض المختص بالسلب
الباسط المختص بالتوسعة في العطية
الخافض دافع البلية من الخفض
وهو الحط والوضع
الرافع المعطي للمنازل
المعز معطي العزة وفي أكثر نسخ الكتاب معطي القوة
وكلاهما ظاهر
المذل الموجب لحط المنزلة
فهذه كلها صفة فعلية

السميع البصير ظاهر معناهما مما سبق
الحكم الحاكم وقد عرفت معناه ومرجعه وقيل الحكم هو الصحيح علمه وقوله وفعله فيرجع إلى هذه الصفات
العدل لا يقبح منه ما يفعل فهو صفة سلبية
اللطيف خالق اللطف يلطف بعباده من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون
وقيل العالم بالخفيات فعلى الأول يرجع إلى الفعل وعلى الثاني إلى العلم
الخبير معناه العليم فصفة علمية
وقيل المخبر فصفة كلامية
الحليم لا يعجل العقاب للعصاة قبل وقته المقدر
فيرجع إلى السلب
العظيم قد مر معناه في تفسير الجبار
الغفور كالغفار بلا فرق على قياس الرحمن الرحيم
الشكور المجازي على الشكر فإن جزاء الشيء يسمى باسمه
وقيل معناه أنه يثيب على القليل من الطاعة الكثير من النعمة
وعلى التقديرين هو صفة فعلية
وقيل معناه المثني على من أطاعه فيكون صفة كلامية
العلي
الكبير هما كالمتكبر في المعنى
الحفيظ معناه العليم من الحفظ الذي هو ضد السهو النسيان

ومرجعه العلم
وقيل من لا يشغله شيء عن شيء فمرجعه صفة سلبية
وقيل يبقي صور الأشياء فصفة فعلية من الحفظ الذي يضاد التضييع
المقيت خالق الأقوات
وقيل المقدر فيرجع على التقديرين إلى الفعل
وقيل معناه الشهيد هو العالم بالغائب والحاضر كما سيأتي في تفسيره فيرجع إلى العلم
وقيل المقتدر فيرجع إلى القدرة
الحسيب الكافي
يخلق ما يكفي العباد في مصالحهم ومهماتهم فهو صفة فعلية من قولهم أكرمني فلان وأحسبني
أي أعطاني حتى قلت حسبي
وقيل المحاسب بإخباره المكلفين بما فعلوا من خير وشر فيرجع إلى صفة كلامية
الجليل كالمتكبر
وقيل هو المتصف بصفة الجلال والجمال
الكريم ذو الجود
وقيل المقتدر على الجود ومرجعهما الفعل والقدرة
وقيل معناه العلي الرتبة
ومنه كرائم المواشي لنفائسها فيرجع إلى صفة إضافية
وقيل يغفر الذنوب
الرقيب كالحفيظ
وقال الغزالي هو أخص من الحفيظ
لأن الرقيب هو الذي يراعي الشيء بحيث لا يغفل عنه أصلا ويلاحظه ملاحظة دائمة لازمة لزوما لو عرفه الممنوع عن ذلك الشيء لما أقدم عليه
فكأنه يرجع إلى العلم والحفظ ولكن باعتبار اللزوم وبالإضافة إلى ممنوع عنه محروس عن التناول

المجيب يجيب الأدعية
الواسع هو الذي وسع جوده جميع الكائنات وعلمه جميع المعلومات وقدرته جميع المقدورات فلا يشغله شأن عن شأن
الحكيم العليم ذو الحكمة
وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي
وقيل الحكيم بمعنى المحكم من الإحكام وهو إتقان التدبير وإحسان التقدير
الودود المودود من الود
وهو المحبة كالحلوب والركوب بمعنى المحلوب والمركوب
وقيل معناه الواد كالصبور بمعنى الصابر أي يود ثناءه على المطيع وثوابه له
المجيد الجميل أفعاله
وقيل الكثير أفضاله
وقيل لا يشارك فيما له من أوصاف المدح
الباعث المعيد للخلائق يوم القيامة
الشهيد العالم بالغائب والحاضر
الحق معناه العدل
وقيل الواجب لذاته أي لا يفتقر في وجوده إلى غيره
وقيل معناه المحق
أي الصادق في القول
وقيل مظهر الحق

الوكيل المتكفل بأمور الخلق وحاجاتهم
وقيل الموكول إليه ذلك فإن عباده وكلوا إليه مصالحهم اعتمادا على إحسانه
القوي القادر على كل أمر
المتين قال الآمدي معناه نفي النهاية في القدرة
يعني أن قدرته لا تتناهى
وفي عبارة الكتاب هي النهاية في القدرة
ولا يبعد أن يكون تصحيفا
والأظهر أن يراد أن المتانة هي بلوغ القدرة إلى النهاية والغاية
وذلك إذا كانت غير متناهية
الولي الحافظ للولاية أي النصر
فمعناه الناصر
وقيل هو بمعنى المتولي للأمر والقائم به
الحميد المحمود فهو صفة إضافية
المحصي العالم
وقيل المنبىء عن عدد كل معدود فيرجع إلى صفة الكلام
وقيل القادر
ومنه علم أن لن تحصوه
أي لن تطيقوه
المبدىء المتفضل بابتداء النعم
المعيد يعيد الخلق بعد هلاكه
المحيي خالق الحياة
المميت خالق الموت
الحي ظاهر مما مر
القيوم الباقي الدائم فهو صفة نفسية
وقيل المدبر للمخلوقات بأسرها
فهو صفة فعلية

الواجد الغني أي الذي لا يفتقر فهو صفة سلبية
وقيل معناه العالم
الماجد العالي المرتفع فهو صفة إضافية
وقيل من له الولاية والتولية فيكون صفة فعلية
الأحد قد مر تفسيره أي علم ذلك مما سبق في وحدانيته من أنه يمتنع أن يشاركه شيء في ماهيته وصفات كماله
وقد يروى الواحد بدل الأحد
ويفرق بينهما فيقال هو أحدي الذات
أي لا تركيب فيه
وأوحد في الصفات لا مشارك له فيها
الصمد معناه السيد وهو المالك فيكون صفة إضافية
وقيل معناه الحليم أي الذي لا يستفزه ولا تقلقه أفعال العصاة فتكون صفة سلبية
وقيل العالي الدرجة
وقيل المدعو المسؤول الذي يصمد لقضاء الحوائج
وعلى التقديرين هو صفة إضافية
وقيل الصمد ما لا جوف له أي المصمت
فداله مبدلة من التاء
وحاصله نفي التركيب وقبول الانقسام
القادر
المقتدر كلاهما ظاهر والثاني أبلغ من الأول
المقدم
المؤخر يقدم من يشاء ويؤخر من يشاء
الأول
الآخر لم يزل ولا يزال أي أنه قبل كل شيء وليس قبله شيء وبعد كل شيء
وليس بعده شيء
فهما صفتان سلبيتان
الظاهر المعلوم بالأدلة القاطعة فهو صفة إضافية
وقيل الغالب فصفة فعلية من ظهر فلان على فلان
أي قهره

الباطن المحتجب عن الحواس بحيث لا تدركه أصلا فيكون صفة سلبية
وقيل العالم بالخفيات
الوالي المالك
المتعالي كالعالي مع نوع من المبالغة
البر فاعل البر والإحسان
التواب يرجع بفضله على عباده إذا تابوا إليه من المعاصي
المنتقم المعاقب لمن عصاه
العفو الماحي للسيئات والمزيل لآثارها من صحائف الأعمال
الرؤوف المريد للتخفيف على العبيد
مالك الملك يتصرف فيه وفي مخلوقاته كما يشاء
ذو الجلال والإكرام كالجليل
قال الآمدي هو قريب من معنى الجليل
المقسط العادل من أقسط أي عدل
وقسط أي جار
الجامع أي للخصوم يوم القضاء
الغني لا يفتقر إلى شيء
المانع لما يشاء من المنافع
المغني المحسن لأحوال الخلق

الضار
النافع منه الضرر والنفع
النور الظاهر بنفسه المظهر لغيره بالوجود من العدم
الهادي يخلق الهدى في قلوب المؤمنين
البديع أي المبدع فإنه الذي فطر الخلائق بلا احتذاء مثال
وقيل بديع في نفسه لا مثل له
الباقي لا آخر له
الوارث الباقي بعد فناء الخلق
الرشيد العدل
وقيل المرشد إلى سبيل الخيرات
الصبور الحليم
وقد مر
فهذه هي الأسماء الحسنى الواردة في الرواية المشهورة
نسأل الله ببركتها أن يفتح علينا أبواب الخير ويغفر لنا ذنوبنا ويرحمنا بمنه وكرمه إنه هو الغفور الرحيم الجواد الكريم
ثم إن المصنف تابع الآمدي في تفسير هذه الأسماء على وجه الاختصار تقريبا لفهمها على طلابها فتبعناهما فيه
ومن أراد الاستقصاء في ذلك فعليه بالرسائل المؤلفة في تفسيراتها واشتقاقاتها وما ذكر فيها من المعاني المختلفة والأقوال المتفاوتة

الموقف السادس في السمعيات
وفيه مراصد
المرصد الأول في النبوات
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن في معنى النبي
وهو لفظ منقول في العرف عن مسماه اللغوي
فقيل هو المنبىء من النبأ لإنبائه عن الله تعالى
وقيل من النبوة وهو الارتفاع لعلو شأنه
وقيل من النبي وهو الطريق لأنه وسيلة إلى الله تعالى
وأما في العرف فهو عند أهل الحق من قال له الله أرسلتك
أو بلغهم عني ونحوه من الألفاظ
ولا يشترط فيه شرط ولا استعداد بل الله يختص برحمته من يشاء من عباده
وهو أعلم حيث يجعل رسالاته
وهذا بناء على القول بالقادر المختار
وأما الفلاسفة فقالوا هو من اجتمع فيه خواص ثلاث
أحدها أن يكون له اطلاع على المغيبات ولا يستنكر
لأن النفوس الإنسانية مجردة ولها نسبة إلى المجردات المنتقشة بصور ما يحدث في هذا العالم لكونها مبادىء له فقد تتصل بها وتشاهد ما فيها فتحكيها
ويؤيده ما ترى النفوس وما عليها من التفاوت في طرفي الزيادة والنقصان متصاعدا إلى النفوس القدسية ومتنازلا إلى البلد الذي لا يكاد يفقه قولا
وكيف وقد يوجد فيمن قلت شواغله لرياضة أو مرض أو نوم قلنا مردود
إذ الاطلاع على

جميع المغيبات لا يجب للنبي اتفاقا
والبعض لا يختص به كما أقررتم به
ثم إحالة ذلك على اختلاف النفوس وضعفها مع اتحادها بالنوع مشكل
وباقي المقدمات خطابية
وثانيها أن يظهر منه الأفعال الخارقة للعادة لكون هيولى عالم العناصر مطيعة له منقادة لتصرفاته انقياد بدنه لنفسه
ولا يستنكر
فإن النفوس الإنسانية وهي بتصوراتها مؤثرة في المواد كما نشاهد من الاحمرار والاصفرار والتسخن عند الخجل والوجل والغضب
ومن السقوط من المواضع العالية القليلة العرض بتصور السقوط وإن كان ممشاه في غيرها أقل عرضا
فلا يبعد أن تقوى نفس النبي حتى تحدث بإرادته في الأرض رياح وزلازل وحرق
وغرق وهلاك أشخاص ظالمة وخراب مدن فاسدة
وكيف ونشاهد مثلها من أهل الرياضة والإخلاص
قلنا هذا بناء على تأثير النفوس في الأجسام
والمقارنة لا تعطيه مع أنه لا يختص بالنبي
وثالثها أن يرى الملائكة مصورة ويسمع كلامهم وحيا ولا يستنكر أن يحصل له في يقظته مثل ما يحصل للنائم في نومه لتجرد نفسه عن الشواغل البدنية وسهولة انجذابه إلى عالم القدس
وربما صار ملكه ويحصل بأدنى توجه
قلنا هذا تلبيس وتستر بعبارة لا يقولون بمعناها لأنهم لا يقولون بملائكة يرون بل الملائكة عندهم نفوس مجردة
ولا كلام لهم يسمع لأنه من خواص الأجسام
ومآله إلى تخيل ما لا وجود له في الحقيقة كما

للمرضى والمجانين على ما صرحوا به
ولو كان أحدنا آمرا وناهيا من قبل نفسه بما يوافق المصلحة ويلائم العقل لم يكن نبيا باتفاق
فكيف من قبل ما يرجع إلى تخيلات لا أصل لها
وربما خالف المعقول هذا ثم أنهم قالوا من اجتمعت فيه هذه الخواص انقادت له النفوس المختلفة مع ما جبلت عليه من الإباء وذلت لهم الهمم المتفاوتة على ما هي عليه من اختلاف الآراء فيصير سببا لقرار الشريعة التي بها يتم التعاون الضروري لنوع الإنسان من حيث أنه لا يستقل بما يحتاج إليه في معاشه دون مشاركة من أبناء جنسه في المعاملات والمعاوضات ولولا شريعة ينقاد لها الخاص والعام لاشرأبت كل نفس إلى ما يريده غيره وطمح عين كل إلى ما عند الآخر فحصل التنازع وأدى إلى التواثب والتشاجر والتقاتل والتناحر وشمل الهرج والمرج واختل أمور المعاش والمعاد فوجب في الطبيعة لما علم من شمول العناية فيما أعطي كل حيوان من الآلات وهدي إلى ما فيه بقاؤه
وبه قوامه
سيما الإنسان وهو أشرف الأنواع سخر له ما عداه وهذا من أعظم مصالحه
افترى الطبيعة تهمل ذلك كلا

الموقف السادس في السمعيات
الشرح أي في الأمور التي يتوقف عليها السمع كالنبوة أو تتوقف هي على السمع كالمعاد
وأسباب السعادة والشقاوة من الإيمان والطاعة والكفر والمعصية
وفيه مراصد أربعة
ثلاثة منها في الأمور التي ذكرناها وواحد منها في الإمامة
وليست من العقائد الأصلية كما مر
وسيأتي أيضا
المرصد الأول في النبوات
وفيه مقاصد تسعة المقصد الأول في معنى النبي
وهو لفظ

منقول في العرف عن مسماه اللغوي إلى معنى عرفي
أما المعنى اللغوي فقيل هو المنبىء وإشتقاقه من النبأ فهو حينئذ مهموز لكنه يخفف ويدغم
وهذا المعنى حاصل لمن اشتهر بهذا الاسم
لإنبائه عن الله تعالى
وقيل النبي مشتق من النبوة
وهو الارتفاع يقال تنبى فلان إذ ارتفع وعلا
والرسول عن الله موصوف بذلك لعلو شأنه وسطوع برهانه
وقيل من النبي
وهو الطريق
لأنه وسيلة إلى الله تعالى
وأما مسماه في العرف فهو عند أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم من المليين من قال له الله تعالى
من اصطفاه من عباده أرسلتك إلى قوم كذا وإلى الناس جميعا أو بلغهم عني
ونحوه من الألفاظ المفيدة لهذا المعنى كبعثتك ونبئهم
ولا يشترط فيه أي في الإرسال شرط من الأعراض والأحوال المكتسبة بالرياضات والمجاهدات في الخلوات والانقطاعات والاستعداد ذاتي من صفاء الجوهر وذكاء الفطرة كما يزعمه الحكماء بل الله سبحانه وتعالى يختص برحمته من يشاء من عباده
فالنبوة رحمة وموهبة متعلقة بمشيئة فقط
وهو أعلم حيث يجعل رسالاته
وفي دلالة هذه الآية على المطلوب نوع خفاء كما لا يخفى
وهذا الذي ذهب إليه أهل الحق بناء على القول بالقادر المختار الذي يفعل ما يشاء ويختار ما يريد
وأما الفلاسفة فقالوا هو أي النبي من اجتمع فيه خواص ثلاث يمتاز بها عن غيره

إحداها أي إحدى الأمور المختصة به أن يكون له اطلاع على المغيبات الكائنة والماضية والآتية
ولا يستنكر هذا الاطلاع لأن النفوس الإنسانية مجردة في ذاتها عن المادة غير حالة فيها بل هي لا مكانية ولها نسبة في التجرد إلى المجردات العالية والنفوس السماوية المنتقشة بصور ما يحدث في هذا العالم العنصري الكائن الفاسد لكونها مبادي له
فقد تتصل النفس الناطقة بها أي بتلك المجردات اتصالا معنويا وتنجذب إليها بواسطة الجنسية
وتشاهد ما فيها من صور الحوادث فتحكيها أي يرتسم فيها من تلك الصور ما لا تستعد هي لارتسامه فيها كمرآة يحاذى بها مرآة أخرى فيها نقوش فينعكس منها إلى الأول ما يقابلها
ويؤيده أي يدل على جواز ما قلنا من أن تكون للنبي نفس قوية بهذه المرتبة ما ترى النفوس أي رؤية النفوس البشرية وما هي عليها من التفاوت في إدراك المعاني العقلية في طرفي الزيادة والنقصان تفاوتا متصاعدا إلى النفوس القدسية التي تدرك النظريات الكثيرة بالحدس في أقرب زمان غير أن يعرض لها غلط
ومتنازلا إلى البليد الذي لا يكاد يفقه قولا
وكيف يستنكر ذلك الاطلاع في حق النبي وقد يوجد ذلك فيمن قلت شواغله لرياضة بأنواع المجاهدات أو مرض صارف للنفس عن الاشتغال بالبدن واستعمال الآلة
أو نوم ينقطع به إحساساته الظاهرة
فإن هؤلاء قد يطلعون على مغيبات ويخبرون عنها كما يشهد به التسامع والتجارب بحيث لا يبقى فيه شبهة للمنصفين
قلنا ما ذكرتم مردود بوجوه إذ الاطلاع على جميع المغيبات لا يجب للنبي اتفاقا منا ومنكم
ولهذا قال سيد الأنبياء ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء
والبعض أي الاطلاع على البعض لا يختص به أي بالنبي كما أقررتم به حيث جوزتموه للمرتاضين والمرضى والنائمين
فلا يتميز به النبي

عن غيره
ثم نقول إحالة ذلك أي الاطلاع المختص بالنبي على اختلاف النفوس في صفاء جوهرها وكدره وشدة قوتها على قطع التعلق والتوجه إلى جانب القدس والملأ الأعلى
وتجردها مع اتحادها بالنوع كما هو مذهبهم مشكل لأن المساواة في الماهية توجب الاشتراك في الأحكام والصفات وإسناد الاختلاف إلى أحوال البدن مبني على القول بالموجب بالذات ونقول أيضا باقي المقدمات من الاتصال بالمبادي العالية بعلة الجنسية وانتقاشها بما فيها من صور الحوادث كما في المرايا المتقابلة خطابية لا تفيد إلا ظنا ضعيفا
وثانيها أي ثاني الأمور المختصة بالنبي أن يظهر منه الأفعال الخارقة للعادة لكون هيولى عالم العناصر مطيعة له منقادة لتصرفاته انقياد بدنه لنفسه في حركاته وسكناته على وجوه شتى وأنحاء مختلفة بحسب إرادته
ولا يستنكر ذلك الانقياد لأن النفوس الإنسانية ليست منطبعة في الأبدان
وهي بتصوراتها مؤثرة في المواد البدنية كما تشاهد من الاحمرار والاصفرار والتسخن عند الخجل والوجل والغضب هذا نشر على ترتيب اللف وكما نشاهد من السقوط من المواضع العالية القليلة العرض يتصور السقوط وإن كان ممشاه في غيرها أي في المواضع السافلة أقل عرضا
وإذا كانت إرادات النفس وتصوراتها مؤثرة في البدن مع عدم الانطباع فيه فلا يبعد أن تقوى نفس النبي بحيث تنقاد له الهيولى العنصرية فتؤثر فيها إرادته وتصوراته حتى تحدث بإرادته في الأرض رياح وزلازل وحرق وغرق وهلاك أشخاص ظالمة وخراب مدن فاسدة
وبالجملة تتصرف نفسه

في العنصريات خصوصا في العنصر الذي تكون مناسبته لمزاجه أشد وأقوى بمجرد الإرادة والتصور من غير أن يستعمل آلة
وكيف يستنكر حدوث هذه الأمور الخارقة العجيبة من النبي ونشاهد مثلها من أهل الرياضة والإخلاص على ما هو مشهور في كل عصر من الصلحاء
قلنا هذا الذي ذكرتم من كون تصورات النفس وإرادتها مؤثرة في الأبدان بناء على تأثير النفوس في الأجسام وأحوالها
وقد بينا بطلانه بما سلف من أن لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى
والمقارنة بين التغيرات البدنية وبين التصورات والإرادات النفسية لا تعطيه أي لا تدل على كونها مؤثرة فيه لجواز أن يكون الدوران بطريق العادة مع أنه أي ظهور الأمور العجيبة الخارقة للعادة لا يختص بالنبي كما اعترفتم به فكيف تميزه عن غيره
وثالثها أن يرى الملائكة مصورة بصور محسوسة ويسمع كلامهم وحيا من الله إليه
ولا يستنكر أن يحصل له في يقظته مثل ما يحصل للنائم في نومه من مشاهدة أشخاص يكلمونه بكلام منظوم دال على معان مطابقة للواقع
وذلك لتجرد نفسه عن الشواغل البدنية وسهولة انجذابه إلى عالم القدس فإذا انجذبت إليه واتصلت به في يقظته شاهد المعقولات كمشاهدة المحسوسات
فإن القوة المتخيلة تكسو المعقول المرتسم في النفس لباس المحسوس وتنقشه في الحس المشترك على نحو انتقاش المحسوسات فيه من خارج
وربما صار الانجذاب والاتصال بعالم القدس ملكه أي صفة راسخة للنبي وحينئذ يحصل له ذلك الانجذاب وما يترتب عليه من

المشاهدة بأدنى توجه منه
قلنا هذا الذي ذكروه لا يوافق مذهبهم واعتقادهم بل هو تلبيس على الناس في معتقدهم وتستر عن شناعته بعبارة لا يقولون بمعناها
وذلك لأنهم لا يقولون بملائكة يرون بل الملائكة عندهم إما نفوس مجردة في ذواتها متعلقة بأجرام الأفلاك وتسمى ملائكة سماوية أو عقول مجردة ذاتا وفعلا وتسمى بالملأ الأعلى
ولا كلام لهم يسمع لأنه من خواص الأجسام إذ الحرف والصوت عندهم من الأمور العارضة للهواء المتموج كما سلف
فلا يتصور كلام حقيقي للمجردات ومآله أي مآل ما ذكروه في الخاصة الثالثة إلى تخيل ما لا وجود له في الحقيقة كما للمرضى والمجانين فإنهم يشاهدون ما لا وجود له في الخارج على ما صرحوا به وقرروا ماهو السبب فيه
ولا شك أن ذلك إنما يكون على سبيل التخيل دون المشاهدة الحقيقية ولو كان أحدنا آمرا وناهيا من قبل نفسه بما يوافق المصلحة ويلائم العقل لم يكن نبيا باتفاق من العقلاء فكيف يكون نبيا من كان أمره ونهيه من قبيل ما يرجع إلى تخيلات لا أصل لها قطعا أو ربما خالف ما دعا إليه المعقول أيضا هذا كما مضى ثم أنهم قالوا من اجتمعت فيه هذه الخواص الثلاث انقادت له النفوس البشرية المختلفة بطوعها مع ما جبلت عليه من الإباء عن الانقياد لبني نوعها وذلت له الهمم المتفاوتة على ما هي عليه من اختلاف الآراء فيصير ذلك الانقياد التام ظاهرا وباطنا سببا لقرار أي ثبات الشريعة التي بها يتم التعاون الضروري لنوع الإنسان
وإنما كان التعاون ضروريا لهذا النوع من حيث أنه لا يستقل واحد منهم بما يحتاج إليه في معاشه من مأكله ومشربه وملبسه دون مشاركة من أبناء جنسه في المعاملات
وهو أن يعمل كل واحد لآخر مثل ما يعمله الآخر له

والمعاوضات
وهي أن يعطي كل واحد صاحبه من عمله بإزاء ما يؤخذ منه من عمله
ألا ترى أنه لو انفرد إنسان وحده لم يتيسر أو لم تحسن معيشته بل لا بد له من أن يكون معه آخرون من بني نوعه حتى يخبز هذا لذلك ويطحن ذاك لهذا ويزرع لهما ثالث . . . وهكذا
فإذا اجتمعوا على هذا الوجه صار أمرهم مكفيا
ولذلك قيل الإنسان مدني بالطبع
فإن التمدن هو هذا الاجتماع
ولا بد لهم في التعاون من معاملة ومعاوضة يجريان بينهم ولا بد فيهما من قانون عدل يحافظ عليه دفعا للظلم
وإليه أشار بقوله ولولا شريعة ينقاد لها الخاص والعام لاشرأبت كل نفس أي مدت عنقها إلى ما يريده غيره وطمح أي ارتفع عين كل إلى ما عند الآخر فحصل بينهم التنازع وأدى ذلك التنازع إلى التواثب والتشاجر أي الاختلاف والتقاتل والتناحر وشمل الناس الهرج أي القتل والمرج أي الاختلاط واختل أمور المعاش والمعاد
فوجب في الطبيعة وجود الموصوف بتلك الخواص لما علم من شمول العناية فيما أعطي كل حيوان من الآلات اللائقة به وهدي أي كل واحد منه إلى ما فيه بقاؤه وبه قوامه سيما نوع الإنسان
فإن العناية به في الإعطاء والهداية أكثر
وهو أشرف الأنواع الحيوانية سخر له ما عداه من تلك الأنواع
وهذا أي وجود من اجتمعت فيه الخواص المذكورة من أعظم مصالحه لما ظهر فيه من جلب المنافع الجليلة والدفع لمضاره الشديدة
افترى الطبيعة تهمل ذلك كلا والحاصل أن وجود النبي سبب للنظام في المعاش والمعاد فيجب ذلك في العناية الإلهية المقتضية لأبلغ وجوه الانتظام في مخلوقاته
فهذه طريقة إثبات النبوة على مذهب الحكماء

المقصد الثاني في حقيقة المعجزة
المتن وهي عندنا ما قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله
والبحث عن شرائطها
وكيفية حصولها
ووجه دلالتها
البحث الأول في شرائطها
وهي سبع
الأول أن يكون فعل الله أو ما يقوم مقامه
لأن التصديق منه لا يحصل بما ليس من قبله
وقولنا أو ما يقوم مقامه ليتناول مثل ما إذا قال معجزتي أن أضع يدي على رأسي
وأنتم لا تقدرون عليه
ففعل وعجزوا فإنه معجز ولا فعل لله ثمة
فإن عدم خلق القدرة ليس فعلا
ومن جعل الترك وجوديا حذفه
الثاني أن يكون خارقا للعادة إذ لا إعجاز دونه
وشرط قوم ألا يكون مقدورا للنبي وليس بشيء لأن قدرته مع عدم قدرة غيره عادة معجز
الثالث أن يتعذر معارضته
فإن ذلك حقيقة الإعجاز
الرابع أن يكون ظاهرا على يد مدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له
وهل يشترط التصريح بالتحدي الحق أنه لا
بل يكفي قرائن الأحوال مثل أن يقال له إن كنت نبيا فأظهر معجزا ففعل
الخامس أن يكون موافقا للدعوى
فلو قال معجزتي أن أحيي ميتا ففعل خارقا آخر لم يدل على صدقه
السادس ألا يكون ما ادعاه وأظهره مكذبا له
فلو قال معجزتي أن ينطق هذا الضب
فقال إنه كاذب لم يعلم به صدقه بل ازداد اعتقاد

كذبه
نعم لو قال معجزتي أن أحيي هذا الميت فأحياه فكذبه ففيه احتمال
والصحيح أنه لا يخرج بذلك عن كونه معجزا لأن المعجز إحياؤه
وهو بعد ذلك مختار في تصديقه وتكذيبه
ولم يتعلق به دعوى
وقيل هذا إذا عاش مدة زمانا
ولو خر ميتا في الحال بطل الإعجاز
لأنه كان أحيى للتكذيب
والحق أنه لا فرق لوجود الاختيار في الصورتين
والظاهر أنه لا يجب تعيين المعجز
السابع أن لا يكون متقدما على الدعوى بل مقارنا لها لأن التصديق قبل الدعوى لا يعقل
فلو قال معجزتي ما قد ظهر على يدي قبل لم يدل على صدقه ويطالب به بعد
فلو عجز كان كاذبا قطعا
فإن قال هذا الصندوق فيه كذا وكذا وقد علمنا خلوه واستمر بين أيدينا من غلقه إلى فتحه
فإن ظهر كما قال كان معجزا
وإن جاز خلقه فيه قبل التحدي
لأن المعجز إخباره عن الغيب
واحتمال أن العلم بالغيب خلق فيه قبل التحدي بناء على جواز إظهار المعجز على يد الكاذب
وسنبطله
فإن قيل فما تقولون في كلام عيسى في المهد وتساقط الرطب الجني عليه من النخلة اليابسة وفي معجزات رسولكم من شق بطنه وغسل قلبه وإظلال الغمامة وتسليم الحجر والمدر عليه
قلنا إنما هي كرامات
وظهورها على الأولياء جائز
والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء
وقد قال القاضي إن عيسى كان نبيا في صباه لقوله وجعلني نبيا ولا يمتنع من القادر المختار أن يخلق في الطفل ما هو شرط النبوة من كمال العقل وغيره
ولا يخفى بعده مع أنه لم يتكلم بعد هذه الكلمة ببنت شفة إلى أوانه ولم يظهر الدعوة بعد أن

تكلم بها إلى أن تكامل فيه شرائطها
وقوله وجعلني نبيا كقول النبي كنت نبيا وآدم بين الماء والطين
فهذا في المتقدم
وأما المتأخر
فإما بزمان يسير يعتاد مثله فظاهر
وإما بزمان متطاول مثل أن يقول معجزتي أن يحصل كذا بعد شهر فحصل
فاتفقوا على أنه معجز
فقيل إخباره عن الغيب فيكون مقارنا
وإنما انتفى التكليف بمتابعته حينئذ لأن شرطه العلم بكونه معجزا وقبل حصوله فيكون متأخرا
وقيل يصير قوله معجزا عند حصوله فيكون متأخرا
والحق أن المتأخر علمنا بكونه معجزا
البحث الثاني في كيفية حصولها
عندنا أنه فعل الفاعل المختار يظهرها على يد من يريد تصديقه بمشيئته لما تعلق به مشيئته
وقال الفلاسفة تنقسم إلى ترك وقول وفعل
أما الترك فمثل أن يمسك عن القوت المعتاد برهة من الزمان بخلاف العادة
وسببه انجذاب النفس إلى عالم القدس واشتغالها عن تحليل مادة البدن فلا تحتاج إلى البدن كما نشاهده في المرضى أن النفس لاشتغالها بمقاومتها لمرض تنكف عن التحليل فتمسك عن القوت ما لو أمسك في صحته شطره هلك
وأما القول فكالإخبار بالغيب
وسببه ما مر
وأما الفعل فبأن يفعل فعلا لا تفي به منة غيره من نتق جبل أو شق بحر
وقد تقدم
البحث الثالث في كيفية دلالتها
وهي عندنا إجراء الله عادته بخلق

العلم بالصدق عقيبه
فإن إظهار المعجز على يد الكاذب وإن كان ممكنا عقلا فمعلوم انتفاؤه عادة كسائر العاديات
لأن من قال أنا نبي ثم نتق الجبل وأوقفه على رؤوسهم وقال إن كذبتموني وقع عليكم وإن صدقتموني انصرف عنكم
فكلما هموا بتصديقه بعد عنهم
وإذا هموا بتكذيبه قرب منهم علم بالضرورة أنه صادق في دعواه
والعادة قاضية بامتناع ذلك من الكاذب
وقد ضربوا لهذا مثلا
قالوا إذا ادعى الرجل بمشهد الجم الغفير أني رسول هذا الملك إليكم ثم قال للملك إن كنت صادقا فخالف عادتك وقم من الموضع المعتاد لك من السرير واقعد بمكان لا تعتاده ففعل كان ذلك نازلا منزلة التصديق بصريح مقاله ولم يشك أحد في صدقه بقرينة الحال
وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد
بل ندعي في إفادته العلم الضرورة العادية
ونذكر هذا للتفهيم وزيادة التقرير
وقالت المعتزلة خلق المعجز على يد الكاذب ممتنع لأن فيه إيهام صدقه وهو إضلال قبيح من الله
قال الشيخ وبعض أصحابنا إنه غير مقدور لأن لها دلالة على الصدق قطعا
فلا بد لها من وجه دلالة وإن لم نعلمه بعينه
فإن دل على الصدق كان الكاذب صادقا
وإلا انفك عما يلزمه
وقال القاضي اقتران ظهور المعجزة بالصدق هو أحد العاديات
فإذا جوزنا انخراقها عن مجراها جاز إخلاء المعجز عن اعتقاد الصدق
وحينئذ يجوز إظهاره على يد الكاذب
وأما بدون ذلك فلا
لأن العلم بصدق الكاذب محال

تذنيب من الناس من أنكر إمكان المعجزة
ومنهم من أنكر دلالتها
ومنهم من أنكر العلم بها
وستأتيك شبههم بأجوبتها
الشرح
المقصد الثاني في حقيقة المعجزة
وهي بحسب الاصطلاح عندنا عبارة عن ما قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله والبحث فيها عن أمور ثلاثة عن شرائطها
وكيفية حصولها
ووجه دلالتها على صدق مدعي الرسالة
البحث الأول في شرائطها
وهي سبع
الشرط الأول أن يكون فعل الله أو ما يقوم مقامه من التروك
وإنما اشترط ذلك لأن التصديق منه أي من الله تعالى لا يحصل بما ليس من قبله
وقولنا أو ما يقوم مقامه ليتناول التعريف مثل ما إذا قال معجزتي أن أضع يدي على رأسي وأنتم لا تقدرون عليه أي على وضع أيديكم عل رؤوسكم ففعل وعجزوا فإنه معجز دال على صدقه ولا فعل لله ثمة
فإن عدم خلق القدرة فيهم على ذلك الوضع ليس فعلا صادرا عنه تعالى بل هو عدم صرف
ومن جعل الترك وجوديا بناء على أنه الكف حذفه لعدم الحاجة إليه
فالشرط عنده كون المعجزة من فعل الله
وفي كلام الآمدي أن المعجز إن كان عدميا كما هو أصل شيخنا فالمعجز ههنا عدم خلق القدرة فلا يكون فعلا
وإن كان وجوديا كما ذهب إليه بعض أصحابنا فالمعجز هو خلق العجز فيهم فيكون فعلا فلا حاجة إلى قولنا أو ما يقوم مقامه
الشرط الثاني أن يكون المعجز خارقا للعادة
إذ لا إعجاز دونه فإن المعجز ينزل من الله منزلة التصديق بالقول كما سيأتي
وما لا يكون خارقا للعادة بل معتادا كطلوع الشمس في كل يوم وبدو الأزهار في كل ربيع

فإنه لا يدل علىالصدق لمساواةغيره إياه في ذلك حتى الكذاب في دعوى النبوة
وشرط قوم في المعجز أن لا يكون مقدورا للنبي إذ لو كان مقدورا له كصعوده إلى الهواء ومشيه على الماء لم يكن نازلا منزلة التصديق من الله تعالى
وليس بشيء لأن قدرته مع عدم قدرة غيره عادة معجز
قال الآمدي هل يتصور كون المعجزة مقدورة للرسول أم لا اختلفت الأئمة فيه فذهب بعضهم إلى أن المعجز فيما ذكر من المثال ليس هو الحركة بالصعود أو المشي لكونها مقدورة له بخلق الله فيه القدرة عليها
إنما المعجز هناك هو نفس القدرة عليها
وهذه القدرة ليست مقدورة له
وذهب آخرون إلى أن نفس هذه الحركة معجزة من جهة كونها خارقة للعادة ومخلوقة لله تعالى
وإن كانت مقدورة للنبي وهو الأصح
وإذا عرفت هذا فلا يخفى عليك ما في عبارة الكتاب من الاختلال
الثالث أن يتعذر معارضته
فإن ذلك حقيقة الإعجاز
الرابع أن يكون ظاهرا على يد مدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له
وهل يشترط التصريح بالتحدي وطلب المعارضة كما ذهب إليه بعضهم الحق أنه لا يشترط بل يكفي قرائن الأحوال مثل أن يقال له أي لمدعي النبوة إن كنت نبيا فأظهر معجزا ففعل بأن دعا الله فأظهره
فيكون ظهوره دليلا على صدقه ونازلا منزلة التصريح بالتحدي
الخامس أن يكون موافقا للدعوى
فلو قال معجزتي أن أحيي ميتا ففعل خارقا آخر كنتق الجبل مثلا لم يدل على صدقه لعدم تنزله منزلة تصديق الله إياه
السادس أن لا يكون ما ادعاه وأظهره من المعجزة مكذبا له
فلو

قال معجزتي أن ينطق هذا الضب
فقال إنه كاذب لم يعلم به صدقه بل ازداد اعتقاد كذبه لأن المكذب هو نفس الخارق
نعم لو قال معجزتي أن أحيي هذا الميت فأحياه فكذبه ففيه احتمال
والصحيح أنه لا يخرج بذلك عن كونه معجزا لأن المعجز إحياؤه وهو غير مكذب له
إنما المكذب هو ذلك الشخص بكلامه وهو بعد ذلك الإحياء مختار في تصديقه وتكذيبه
ولم يتعلق به دعوى فلا يقدح تكذيبه في دلالة الإحياء على صدقه
وقيل هذا الذي ذكرنا من عدم خروجه عن كونه معجزا إنما هو إذا عاش بعده أي بعد الإحياء زمانا واستمر على التكذيب
قال الآمدي لا أعرف في هذه الصورة خلافا بين الأصحاب
ولو خر ميتا في الحال
قال القاضي بطل الإعجاز لأنه كأنه أحيى للتكذيب فصار مثل تكذيب الضب
والحق أنه لا فرق بين استمرار الحياة مع التكذيب وبين عدمه لوجود الاختيار في الصورتين بخلاف الضب
والظاهر أنه لا يجب تعيين المعجز بل يكفي أن يقول أنا آتي بخارق من الخوارق ولا يقدر أحد على أن يأتي بواحد منها
وفي كلام الآمدي أن هذا متفق عليه
قال فإذا كان المعجز معينا فلا بد في معارضته من المماثلة
وإذا لم يكن معينا فأكثر الأصحاب على أنه لا بد فيها من المماثلة
وقال القاضي لا حاجة إليها
وهو الحق لظهور المخالفة فيما ادعاه
السابع أن لا يكون المعجز متقدما على الدعوى بل مقارنا لها بلا اختلاف أو متأخرا عنها على تفصيل سيأتي
وذلك لأنه التصديق قبل الدعوى لا يعقل
فلو قال معجزتي ما قد ظهر على يدي قيل لم يدل

على صدقه ويطالب به أي بالإتيان بذلك الخارق أو بغيره أي بعد الدعوى
فلو عجز كان كاذبا قطعا
فإن قال في إظهار المعجزة هذا الصندوق فيه كذا وكذا
وقد علمنا خلوه واستمر بين أيدينا من غلقه إلى فتحه
فإن ظهر كما قال كان معجزا وإن جاز خلقه فيه قبل التحدي لأن المعجز إخباره عن الغيب وهو واقع مع التحدي موافق للدعوى لا خلق ذلك الشيء في الصندوق
و إما احتمال أن العلم بالغيب خلق فيه قبل التحدي فيكون متقدما على الدعوى مع كونه معجزا فإنه بناء أي مبني على جواز إظهار المعجز على يد الكاذب وسنبطله
وإنما كان مبنيا على ذلك لأن العلم بالغيب لو كان مخلوقا قبل التحدي لم يكن إخباره به منزلا منزلة التصديق له فيكون هو كاذبا في دعواه أنه آية صدقه ودليل عليه وسيأتيك أنه لا يتصور عندنا ظهور الخارق على يد الكاذب
فإن قيل ما ذكرتموه من امتناع تقدم المعجز على الدعوى يفضي إلى إبطال كثير من المعجزات المنقولة عن الأنبياء
وإليه الإشارة بقوله فما تقولون في كلام عيسى في المهد وتساقط الرطب الجني عليه من النخلة اليابسة فإنهما معجزتان له مع تقدمهما على الدعوى
وما تقولون أيضا في معجزات رسولكم من شق بطنه وغسل قلبه وإظلال الغمامة وتسليم الحجر والمدر عليه فإنها كلها متقدمة على دعوى الرسالة قلنا تلك الخوارق المتقدمة على الدعوى ليست معجزات إنما هي كرامات وظهورها على الأولياء جائز والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء فيجوز ظهورها عليهم أيضا
وحينئذ تسمى إرهاصا
أي تأسيسا للنبوة
من أرهصت للحائط أسسته
والمنكرون للكرامات جعلوها معجزات لنبي آخر في ذلك العصر
وهو مردود لوجودها في عصر لا نبي فيه
هذا وقد قال القاضي إن

عيسى كان نبيا في صباه لقوله وجعلني نبيا ولا يمتنع من القادر المختار أن يخلق في الطفل ما هو شرط النبوة من كمال العقل وغيره فلا تكون معجزاته في حال صغره متقدمة على نبوته ودعواه إياها
ولا يخفى بعده مع أنه لم يتكلم بعد هذه الكلمة المنقولة عنه ببنت شفة إلى أوانه ولم يظهر الدعوة بعد أن تكلم بها إلى أن تكامل فيه شرائطها وبلغ أربعين سنة
ومن البين أن ثبوت النبوة في مدة طويلة بلا دعوة وكلام مما لا يقول به عاقل
وأما قوله وجعلني نبيا فهو كقول النبي كنت نبيا وآدم بين الماء والطين في أنه تعبير عن المتحقق فيما يستقبل بلفظ الماضي
فهذا الذي قررناه إنما هو في المعجز المتقدم على الدعوى
وأما المتأخر عنها فإما أن يكون تأخره بزمان يسير يعتاد مثله فظاهر أنه دل على الصدق بخلاف المتقدم بزمان يسير
فإنه لا يدل عليه أصلا
وأما أن يكون تأخره بزمان متطاول مثل أن يقول معجزتي أن يحصل كذا بعد شهر فحصل فاتفقوا على أنه معجز دال على ثبوت النبوة لكن اختلفوا في وجه دلالته فقيل إخباره عن الغيب
فيكون المعجز على هذا القول مقارنا للدعوى
لكن تخلف عنها علمنا بكونه معجزا
وإنما انتفى التكليف بمتابعته حينئذ أي لم يجب على الناس التصديق بنبوته ومتابعته في الزمان الواقع بين الإخبار وحصول الموعود به
لأن شرطه أي شرط التكليف بالتصديق والمتابعة العلم بكونه معجزا
وذلك إنما يحصل بعد وجود ما وعد به
وقيل حصوله أي حصول الموعود به فيكون المعجز على هذا القول متأخرا عن الدعوى
وقيل يصير قوله أي إخباره معجزا عند حصوله أي حصول الموعود به
فيكون المعجز على هذا القول متأخرا باعتبار صفته أعني كونه معجزا
والحق أن المتأخر هو علمنا بكونه معجزا يعني أن المختار هو القول الأول لأن إخباره كان إخبارا بالغيب في نفس الأمر فيكون معجزا

مقارنا للدعوى
والمتخلف عنها هو علمنا بكونه معجزا لا كونه معجزا
فبطل بذلك القول الثالث
وأما القول الثاني فلا طائل تحته لأن ذلك الحصول لا يمكن جعله معجزا إلا إذا كان خارقا للعادة
وربما لم يكن كذلك وإن جعل شرطا لاتصاف الإخبار بالإعجاز فقد رجع إلى الثالث وبطل ببطلانه
ولهذا لم يوجد هذا القول في أبكار الأفكار
البحث الثاني في كيفية حصولها المذهب عندنا أنه فعل الفاعل المختار يظهرها على يد من يريد تصديقه بمشيئته لما تعلق به مشيئته من دعوى النبوة ممن أرسله إلى الناس ليدعوهم إلى ما ينجيهم ويسعدهم في الدارين
ولا يشترط لإظهارها استعدادا كما لا يشترط في النبوة على ما مر خلافا للحكماء
وقال الفلاسفة إنها تنقسم إلى ترك وقول وفعل
أما الترك فمثل أن يمسك عن القوت المعتاد برهة من الزمان بخلاف العادة
وسببه إنجذاب النفس الزكية عن الكدورات البشرية إما لصفاء جوهرها في أصل فطرتها وإما لتصفيته بضرب من المجاهدة وقطع العلائق إلى عالم القدس واشتغالها بذلك عن تحليل مادة البدن فلا تحتاج إلى البدل كما نشاهده في المرضى من أن النفس لاشتغالها بمقاومتها لمرض من الأمراض الحادة وتحليلها للمواد الردية تنكف وتمتنع عن التحليل للمواد المحمودة فتمسك عن القوت الذي يحتاج إليه بدلا عما تحلل من هذه المواد ما لو أمسك أي زمانا لو أمسك عنه في أيام صحته شطره أي نصفه بل عشرة هلك بلا شبهة وإذا جاز ذلك في المريض كان جوازه في المتوجه المنخرط في سلك الملأ الأعلى أولى وكيف لا والمرض مضاد للطبيعة

ومضعف للقوى فتكون الحاجة إلى الرطوبات المطلوبة لحفظها المبني على تعادل الأركان أشد وأقوى
وأما المتوجه فيوجد فيه من اللذات الروحانية بالأنوار القدسية ما يقوم مقام الغذاء كما أشير إليه بقوله أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني
وأما القول فكالإخبار بالغيب
وسببه ما مر في المقصد الأول من انجذاب نفسه النقية عن الشواغل البدنية إلى الملائكة السماوية وانتقاشها بما فيها من الصور وانتقال الصورة إلى المتخيلة والحس المشترك
وأما الفعل فبأن يفعل فعلا لا تفي به منة غيره من نتق جبل أو شق بحر وقد تقدم بيانه بأن نفسه لقوتها تتصرف في مادة العناصر كما تتصرف في أجزاء بدنه
البحث الثالث في كيفية دلالته على صدق مدعي النبوة
وهذه الدلالة ليست دلالة عقلية محضة كدلالة الفعل على وجود الفاعل ودلالة أحكامه واتقانه على كونه عالما بما صدر عنه
فإن الأدلة العقلية ترتبط لنفسها بمدلولاتها
ولا يجوز تقديرها غير دالة عليها
وليست المعجزة كذلك
فإن خوارق العادات كانقطاع السموات وانتثار الكواكب وتدكدك الجبال يقع عند تصرم الدنيا وقيام الساعة
ولا إرسال في ذلك الوقت
وكذلك تظهر الكرامات على أيدي الأولياء من غير دلالة على صدق مدعي النبوة ولا دلالة سمعية لتوقفها على صدق النبي فيدور بل هي دلالة عادية كما أشار إليه بقوله وهي عندنا أي الأشاعرة إجراء الله عادته بخلق العلم بالصدق عقيبه أي عقيب ظهور المعجزة
فإن إظهار المعجز على يد الكاذب وإن كان ممكنا عقلا فمعلوم انتفاؤه عادة
فلا تكون دلالته عقلية

لتخلف الصدق عنه في الكاذب بل عادية كسائر العاديات لأن من قال أنا نبي ثم نتق الجبل وأوقفه على رؤوسهم وقال إن كذبتموني وقع عليكم
وإن صدقتموني انصرف عنكم
فكلما هموا بتصديقه بعد عنهم
وإذا هموا بتكذيبه قرب منهم علم بالضرورة أنه صادق في دعواه والعادة قاضية بامتناع ذلك من الكاذب مع كونه ممكنا عنه إمكانا عقليا لشمول قدرته تعالى للممسكات بأسرها
وقد ضربوا لهذا مثلا قالوا إذا ادعى الرجل بمشهد الجم الغفير أني رسول هذا الملك إليكم
ثم قال للملك إن كنت صادقا فخالف عادتك وقم من الموضع المعتاد لك من السرير واقعد بمكان لا تعتاده ففعل كان ذلك نازلا منزلة التصديق بصريح مقاله
ولم يشك أحد في صدقه بقرينة الحال
وليس هذا الذي ذكرناه من باب قياس الغائب على الشاهد حتى يتجه عليه أن الشاهد تعلل أفعاله بالأغراض لأنه يراعي المصالح ويدرأ المفاسد بخلاف الغائب إذ لا يبالي بالمصلحة والمفسدة
فلا يصح القياس بل ندعي في إفادته العلم بالضرورة العادية أي ندعي أن ظهور المعجز يفيد علما بالصدق
وإن كونه مفيدا له معلوم لنا بالضرورة العادية
ونذكر هذا المثال للتفهيم وزيادة التقرير
وقالت المعتزلة خلق المعجز على يد الكاذب مقدور لله تعالى لعموم قدرته لكنه ممتنع وقوعه في حكمته لأن فيه إيهام صدقه
وهو إضلال قبيح من الله فيمتنع صدوره عنه كسائر القبائح
قال الشيخ وبعض أصحابنا إنه أي خلق المعجزة على يد الكاذب غير مقدور في نفسه لأن لها أي للمعجزة دلالة على الصدق قطعا أي

دلالة قطعية يمتنع التخلف فيها
فلا بد لها من وجه دلالة إذ به يتميز الدليل الصحيح عن غيره وإن لم نعلمه أي ذلك الوجه بعينه
فإن دل المعجز المخلوق على يد الكاذب على الصدق كان الكاذب صادقا وهو محال وإلا انفك المعجز عما يلزمه من دلالته القطعية على مدلوله
وهو أيضا محال
وقال القاضي اقتران ظهور المعجزة بالصدق ليس أمرا لازما لزوما عقليا كاقتران وجود الفعل بوجود فاعله بل هو أحد العاديات كما عرفت
فإذا جوزنا انخراقها أي انخراق العاديات عن مجراها العادي جاز إخلاء المعجز عن اعتقاد الصدق
وحينئذ يجوز إظهاره على يد الكاذب إذ لا محذور فيه سوى خرق العادة في المعجزة
والمفروض أنه جائز
وأما بدون ذلك التجويز فلا يجوز إظهاره على يده لأن العلم بصدق الكاذب محال
تذنيب من الناس من أنكر إمكان المعجزة في نفسها
ومنهم من أنكر دلالتها على صدق مدعي النبوة
ومنهم من أنكر العلم بها وستأتيك في المقصد التالي لهذا المقصد شبههم بأجوبتها

المقصد الثالث في إمكان البعثة
المتن وحجتنا فيه إثبات نبوة محمد
فإن الدال على الوقوع دال على الإمكان

وقالت الفلاسفة إنها واجبة عقلا لما مر
وقال بعض المعتزلة يجب على الله
وبعضهم إذا علم الله من أمة أنهم يؤمنون
وإلا حسن
وقال أبو هاشم يمتنع خلوه عن تعريف شرعيات لا يستقل العقل بها وجوزه الجبائي لتقرير الواجبات العقلية ولتقرير الشريعة المتقدمة
وقيل إذا اندرست
وهو بناء على أصلهم
ولا يضرنا
فإن ادعينا الإمكان العام
وغرضنا هنا رد شبه المنكرين
وهم طوائف
الأولى من أحالها
الثانية من قال لا تخلو عن التكليف
وأنه ممتنع
الثالثة من قال في العقل كفاية
الرابعة من قال بامتناع المعجزة
ولا تتصور دونها
الخامسة من منع دلالتها
السادسة من سلم ومنع إمكان العلم بها بالتواتر
السابعة من منع وقوعها
الأولى من قال باستحالة البعثة احتج بوجوه
الأول المبعوث لا بد أن يعلم أن القائل له أرسلتك هو الله
ولا طريق إلى العلم به إذ لعله من إلقاء الجن فإنكم أجمعتم على وجوده
الثاني أن من يلقى إليه الوحي إن كان جسمانيا وجب أن يكون مرئيا
وإلا كان ذلك منه مستحيلا
الثالث التصديق بها يتوقف على العلم بوجود المرسل
وما يجوز عليه وما لا يجوز
وأنه لا يحصل إلا بغامض النظر
وهو غير مقدر بزمان
فللمكلف الاستمهال ودعوى عدم العلم ويلزم إفحام النبي وتبقى البعثة عبثا
وإلا لزم التكليف بما لا يطاق
وأنه قبيح عقلا

وجواب الأول والثاني أن المرسل ينصب دليلا أو يخلق علما ضروريا فيه
والثالث أما على أصلنا فلا يجب الإمهال مع العلم العادي الحاصل عن المعجز
وأما عند المعتزلة فاللائق بأصلهم
وإن صرحوا بخلافه
منع الإمهال لأن فيه تفويت مصلحتهم
وما هو إلا كمن يقول لولده بين يديك سبع ضار أو مهلك آخر
فلا تسلك هذا الطريق
فقال دعني أسلكه إلى أن أشاهد السبع أو المهلك
أليس ذلك مستقبحا في نظر العقلاء ولو هلك ألم يكن ملوما مذموما ومن منعه ذلك أليس منسوبا إلى فعل ما توجبه الشفقة والحنو
الثانية من قال البعثة لا تخلو عن التكليف لأنه فائدتها باتفاق
ثم أن التكليف ممتنع لوجوه
الأول ثبت الجبر وأن فعل العبد واقع بقدرة الله
وأن الفعل إما معلوم الوقوع أو معلوم اللاوقوع والتكليف حينئذ قبيح
الثاني التكليف إضرار لما يلزمه من التعب بالفعل أو العقاب بالترك وهو قبيح
الثالث التكليف إما لا لغرض وهو عبث أو لغرض يعود إلى الله وهو منزه أو إلى العبد وهو إما إضرار وهو منتف بالإجماع أو نفع وتكليف جلب النفع والتعذيب بعدمه بخلاف المعقول
ثم إنه معارض بما فيه من المضرة العظيمة بالكفار والعصاة
الرابع التكليف إما مع الفعل
ولا فائدة فيه لوجوبه وإما قبل الفعل وأنه تكليف بما لا يطاق لأن الفعل قبل الفعل محال
ومن جوزه لا يقول بوقوعه ولا أن كل تكليف كذلك

الخامس وهو لبعض الصوفية أن التكليف بالأفعال الشاقة يشغل عن التفكر في معرفة الله تعالى
وما يجب له ويجوز ويمتنع عليه
ولا شك أن المصلحة المتوقعة من هذا الفائت تربي على ما يتوقع مما كلف به فكان ممتنعا عقلا
وجواب الأول ما مر في مسألة خلق الأعمال
والثاني ما في التكليف من المصالح الدنيوية والأخروية يربي كثيرا على المضرة فيها
والثالث أنه فرع حكم العقل ووجوب الغرض في أفعاله تعالى مع ما أجبنا به الثاني
والرابع عندنا أن القدرة مع الفعل
وعند المعتزلة أن التكليف قبل الفعل في الحال بالإيقاع في ثاني الحال
وذلك كالإحداث
وهو مما لا شك فيه
فما هو جوابكم فهو جوابنا
والخامس أن ذلك أحد أغراض التكليف وسائر التكاليف معينة عليه ووسيلة إلى صلاح المعاش المعين على صفاء الأوقات عن المشوشات التي يربي شغلها على شغل التكاليف
الثالثة من قال في العقل مندوحة عن البعثة
وهم البراهمة والصابئة والتناسخية غير أن من البراهمة من قال بنبوة آدم فقط
ومنهم من قال بنبوة إبراهيم فقط
ومن الصابئة من قال بنبوة شيت وإدريس فقط
واحتجوا بأن ما حكم العقل بحسنه يفعل
وما حكم بقبحه يترك
وما لم يحكم فيه بحسن ولا قبح يفعل عند الحاجة لأن الحاجة ناجزة
ولا يعارضها مجرد الاحتمال
ويترك عند عدمها للاحتياط

والجواب بعد تسليم حكم العقل أن الشرع فائدته تفصيل ما أعطاه العقل إجمالا وبيان ما يقصر عنه العقل
فإن القائلين بحكم العقل لا ينكرون أن من الأفعال ما لا يحكم فيه كوظائف العبادات وتعيين الحدود وتعليم ما ينفع وما يضر من الأفعال
وذلك كالطبيب يعرف الأدوية وطبائعها وخواصها مما لو أمكن معرفتها للعامة بالتجربة ففي دهر طويل يحرمون فيه من فوائدها ويقعون في المهالك قبل استكمالها
مع أن اشتغالهم بذلك يوجب إتعاب النفس وتعطل الصناعات والشغل عن مصالح المعاش
فإذا تسلموه من الطبيب خفت المؤنة وانتفعوا به وسلموا من تلك المضار
ولا يقال في إمكان معرفته غنى عن الطبيب
كيف والنبي لا يعلم ما يعلم إلا من جهة الله
وفيما تقدم من تقرير مذهب الحكماء تتمة لهذا الكلام
الرابعة من قال بامتناع المعجزة لأن تجويز خرق العادة سفسطة ولو جوزناه لجاز انقلاب الجبل ذهبا وماء البحر دما ودهنا
وأواني البيت رجالا
وتولد هذا الشيخ دفعة بلا أب وأم
وكون من ظهرت المعجزة على يده غير من ادعى النبوة بأن يعدم المدعي ويوجد مثله
ولا يخفى ما فيه من الخبط والإخلال بالقواعد
والجواب إن خرق العادات ليس أعجب من أول خلق السموات والأرض وما بينهما ومن انعدامها الذي نقول به والجزم بعدم وقوع بعضها لا ينافي إمكانها
وذلك كما في المحسوسات
فإنا نجزم بأن حصول الجسم المعين في الحيز المعين لا يمتنع فرض عدمه بدله مع الجزم به للحس
والعادة أحد طرق العلم كالحس
ثم إن خرق العادة إعجازا وكرامة عادة مستمرة
الخامسة من قال ظهور المعجزة لا يدل على الصدق لاحتمالات
الأول كونه من فعله لا من فعل الله إما لمخالفة نفسه لسائر النفوس أو لمزاج خاص في بدنه أو لكونه ساحرا
وقد أجمعتم على

حقيته
أو لطلسم اختص بمعرفته أو لخاصية بعض المركبات كالمغناطيس والكهرباء
الثاني استناده إلى بعض الملائكة أو الشياطين أو إلى الاتصالات الكوكبية
وهو قد أحاط من صناعة النجامة بما لم يحط به غيره فاتخذ ما علم وقوعه من الغرائب معجزا لنفسه
الثالث أن يكون كرامة لا معجزة
الرابع أن لا يقصد به التصديق إذ لا غرض واجبا ولا يتعين إذ لعله غير التصديق كإيهامه ليحترز عنه بالاجتهاد فيثاب كإنزال المتشابهات أو لتصديق نبي آخر
الخامس أنه لا يلزم من تصديق الله صدقه إلا إذا علم استحالة الكذب على الله ولم يعلم إذ لا يقبح عندكم منه شيء
السادس لعل التحدي لم يبلغ من هو قادر على المعارضة أو لعله تركها مواضعة في إعلاء كلمته لينال من دولته حظا
السابع لعلهم استهانوا به أولا وخافوا آخرا لشدة شوكته أو شغلهم ما يحتاجون إليه في تقويم معيشتهم عنه
الثامن لعله عورض ولم يظهر لمانع أو ظهر ثم أخفاه أصحابه عند استيلائهم وطمسوا آثاره
ومع قيام هذه الاحتمالات لا يبقى لها دلالة على الصدق

الجواب الإجمالي ما قررناه غير مرة من أن التجويزات العقلية لا تنافي العلم العادي والتفصيلي عن الأول أنا بينا أن لا مؤثر في الوجود إلا الله والسحر ونحوه إلا إن لم يبلغ حد الإعجاز كفلق البحر وإحياء الموتى كما هو مذهب جميع العقلاء فظاهر
وإن بلغ فإما دون دعوى النبوة والتحدي فظاهر أيضا أو معه فلا بد من ألا يخلقه الله على يده أو أن يقدر غيره على معارضته
وإلا كان تصديقا للكاذب وأنه محال
وعن الثاني أن لا خالق إلا الله
وعن الثالث أن من جوزها فقال بعضهم
منهم الأستاذ أبو إسحق لا تبلغ درجة المعجزة
وقيل لا تقع على القصد
وقال القاضي تجوز إذا لم تقع على طريق التعظيم والخيلاء لأن ذلك ليس من شعار الصالحين
ومع ذلك تمتاز بأنها مع دعوى الولاية دون النبوة
وعلى التقادير فالفرق بينها وبين المعجزة ظاهر
وعن الرابع أنا لا نقول بالغرض بل نقول إن خلقها يدل على تصديق له قائم بذاته
وعن الخامس قد مر امتناع الكذب عليه
وعن السادس إذا أتى بما يعلم بالضرورة أنه خارق للعادة وعجز من في قطره عن المعارضة علم ضرورة صدقه
وعن السابع يعلم عادة المبادرة إلى معارضة من يدعي الانفراد بأمر جليل فيه التفوق على أهل زمانه واستتباعهم والحكم عليهم في أنفسهم ومالهم وعدم الإعراض عنها بحيث لا ينتدب له أحد والقدح فيه سفسطة
وحينئذ فدلالته من جهة الصرفة واضحة
وعن الثامن كما علم بالعادة وجوه معارضته علم وجوب إظهارها إذ به يتم المقصود
واحتمال المانع للبعض في بعض الأوقات والأماكن لا يوجب احتماله في الجميع
فلو وقعت معارضة لاستحال عادة إخفاؤها مطلقا

السادسة من قال العلم بحصول المعجز لا يمكن لمن لم يشاهده إلا بالتواتر
ولكنه لا يفيد العلم لوجوه
الأول أهل التواتر يجوز الكذب على كل واحد منهم
فكذا الكل إذ ليس كذب الكل إلا كذب كل واحد
الثاني أن حكم كل طبقة حكم ما قبلها بواحد
فإن من جوز إفادة المائة للعلم أجاز إفادة التسعة والتسعين له قطعا ولم يحصره في عدد وادعاء الفرق تحكم
فلنفرض طبقة لا تفيده ثم نزيد عليه واحدا واحدا فلا يفيده بالغا ما بلغ
الثالث لو أوجب التواتر العلم لأوجبه خبر الواحد
واللازم منتف
بيان الملازمة أن التواتر لا يشترط فيه اجتماع أهل اتفاقا بل يحصل بخبر واحد بعد واحد
فالموجب له هو الخبر الأخير
الرابع شرطه استواء الطرفين والواسطة ولا سبيل إلى العلم به
الخامس أن التواتر غير مضبوط بعدد بل ضابطه عندكم حصول العلم به
فإثبات العلم به مصادرة
وجواب الأول منع مساواة حكم الكل لحكم كل واحد لما يرى من قوة العشرة على تحريك ما لا يقوى عليه كل واحد
والثاني أن حصول العلم عنده عندنا بخلق الله تعالى إياه
وقد يخلقه بعدد دون عدد
كيف وأنه يختلف بالوقائع والمخبرين والسامعين
والثالث أما عندنا فلأنه بخلق الله
وأما عند الحكماء والمعتزلة فلأن الإخبار أسباب معدة وهي قد لا تجامع المسبب كالحركة للحصول في المنتهى ثم إنا نجد من أنفسنا أن الخبر الأول يفيد ظنا ويقوى بالثاني والثالث إلى ما لا أقوى منه
فيلزم أن الموجب

له هو الخبر الأخير بشرط سبق أمثاله وعن الرابع والخامس أنا ندعي العلم الضروري الحاصل من التواتر الواقع على شرطه لا أنا نستدل بالتواتر على ما ادعيناه
والفرق بين الأمرين ظاهر
السابعة من اعترف بإمكان البعثة ومنع وقوعها قالوا تتبعنا الشرائع فوجدناها مشتملة على ما لا يوافق العقل والحكمة فعلمنا أنها ليست من عند الله
وذلك كإباحة ذبح الحيوان وإيلامه وتحمل الجوع والعطش في أيام معينة
والمنع من الملاذ التي بها صلاح البدن وتكليف الأفعال الشاقة كطي الفيافي وكزيارة بعض المواضع والوقوف ببعض والسعي في بعض والطواف ببعض مع تماثلها ومضاهاة المجانين والصبيان في التعري وكشف الرأس والرمي لا إلى مرمى
وتقبيل حجر لا مزية له على سائر الأحجار وكتحريم النظر إلى الحرة الشوهاء دون الأمة الحسناء وكحرمة أخذ الفضل في صفقة وجواز في صفقتين مع استوائهما في المصالح والمفاسد
الجواب بعد تسليم حكم العقل فغايته عدم الوقوف على الحكمة ولا يلزم منه عدمها
ولعل مصلحة استأثر الله بالعلم بها على أن في التعبد بما لا تعلم حكمته تطويعا للنفس الأبية وملكة قهرها فيما فيه الحكمة وزيادة ابتلاء في التعرض للثواب أو العقاب
الشرح
المقصد الثالث في إمكان البعثة وحجتنا فيه إثبات نبوة محمد الدال على الوقوع دال على الإمكان بلا اشتباه

وقالت الفلاسفة إنها واجبة عقلا لما مر من أن النظام الأكمل الذي تقتضيه العناية الأزلية لا يتم بدون وجود النبي الواضع لقوانين العدل
وقال بعض المعتزلة يجب على الله وفصل بعضهم فقال إذا علم الله من أمة أنهم يؤمنون وجب عليه إرسال النبي إليهم لما فيه من استصلاحهم
وإلا أي وإن لم يعلم ذلك بل علم أنهم لا يؤمنون لم يجب الإرسال بل حسن قطعا لأعذارهم
وقال أبو هاشم يمتنع خلوه أي خلو البعث عن تعريف شرعيات لا يستقل العقل بها لأن البعثة الخالية عنه لا فائدة فيها
وجوزه الجبائي لتقرير الواجبات العقلية فإنه فائدة جليلة
وجوزه أيضا لتقرير الشريعة المتقدمة سواء كانت مندرسة أو لا
وقيل إنما يجوز البعث لتقريرها إذا اندرست وهو أي هذا الذي نقلناه من المعتزلة على الوجوه المختلفة بناء أي مبني على أصلهم الفاسد
أعني قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وما يتفرع عليها من اعتبار الغرض ووجوب الألطاف ورعاية الأصلح فيكون فاسدا أيضا وعلى تقدير صحته لا يضرنا في مدعانا فإنا إنما ادعينا الإمكان العام الذي يجامع الوجوب لا الإمكان الخاص الذي ينافيه
وغرضنا هنا رد شبه المنكرين للبعثة وهم طوائف
الأولى من أحالها أي حكم باستحالتها لذاتها
الثانية من جوزها ولكن قال لا تخلو البعثة عن التكليف بأوامر ونواه وأنه أي التكليف ممتنع فتنتفي البعثة لانتفاء لازمها

الثالثة من جوز التكليف وقال في العقل كفاية في معرفة التكاليف فلا حاجة إلى البعثة بل لا فائدة فيها
الرابعة من قال بامتناع المعجزة لأن خرق العادة محال عقلا
ولا تتصور النبوة دونها أي دون المعجزة
الخامسة من جوز وجود المعجزة لكن منع دلالتها على صدق مدعي النبوة
السادسة من سلم دلالتها على صدقه بالنسبة إلى من شاهدها فتفيده العلم بصدقه ومنع إمكان العالم بها للغائبين عنها
فإن العلم بحصول المعجزة لمن غاب عنها إنما يكون بالتواتر
وهو لا يفيد العلم أصلا بل الظن وأنه لا يجدي في المسائل اليقينية
السابعة من اعترف بإمكان البعثة وانتفاء الموانع السابقة لكن منع وقوعها فهذه هي الطوائف المنكرة لها
الأولى منها
وهو من قال باستحالة البعثة في نفسها احتج على استحالتها بوجوه
الأول المبعوث لا بد أن يعلم أن القائل له أرسلتك فبلغ عني هو الله ولا طريق إلى العلم به إذ لعله من إلقاء الجن
فإنكم أجمعتم على وجوده وعلى جواز إلقائه الكلام إلى النبي

الثاني أن من يلقى إليه أي إلى النبي الوحي إن كان جسمانيا وجب أن يكون مرئيا لكل من حضر حال الإلقاء
وليس الأمر كذلك كما اعترفتم به
وإلا أي وإن لم يكن جسمانيا بل روحانيا كان كذلك أي إلقاء الوحي بطريق التكليم منه مستحيلا إذ لا يتصور للروحانيات كلام
الثالث التصديق بها أي بالرسالة يتوقف على العلم بوجود المرسل وما يجوز عليه وما لا يجوز
وأنه أي العلم بما ذكر لا يحصل إلا بغامض النظر لأن هذا العلم ليس ضروريا ولا من النظريات السهلة الحصول كما لا يخفى
وهو أي ذلك النظر الموصل إلى هذا العلم غير مقدر بزمان معين كيوم أو سنة بل هو مختلف بحسب الأشخاص وأحوالهم في قوة الفهم وضعفه على مراتب غير منحصرة
فللمكلف الاستمهال أي يجوز له أن يستمهل لتحصيل النظر وله دعوى عدم العلم في أي زمان كان وحينئذ يلزم إفحام النبي وتبقى البعثة عبثا
وإلا أي وإن لم يجز له الاستمهال بل وجب عليه التصديق بلا مهملة لزم التكليف بما لا يطاق لأن التصديق بالرسالة بدون العلم المذكور مما لا يتصور وجوده وأنه قبيح عقلا فيمتنع صدوره عن الحكيم سبحانه وتعالى
وجواب الوجه الأول والثاني أن المرسل ينصب دليلا يعلم به الرسول أن القائل له أرسلتك هو الله تعالى دون الجن بأن يظهر له آيات ومعجزات يتقاصر عنها جميع المخلوقات وتكون مفيده له ذلك العلم
أو يخلق علما ضروريا فيه بأنه المرسل والقائل
وبهذا يعلم الجواب عن الثاني وهو أن يقال جاز أن يكون الملقي جسمانيا
ولا يخلق الله رؤيته في الحاضرين
فإن قدرته لا تقصر عن شيء وجواب الثالث أما على أصلنا في التعديل والتجوير فلا يجب الإمهال لأنا بينا فيما سبق أنه إذا

ادعى النبي الرسالة واقترنت بدعواه المعجزة الخارقة للعادة وكان المبعوث إليه عاقلا متمكنا من النظر فقد ثبت الشرع واستقر وجوب المتابعة سواء نظر أو لم ينظر فلا يجوز للمكلف الاستمهال
ولو استمهل لم يجب الإمهال لجريان العادة بإيجاد العلم عقيب النظر الذي هو متمكن منه
وإليه الإشارة بقوله مع العلم العادي الحاصل عن المعجز
وأما عند المعتزلة فاللائق بأصلهم في التحسين والتقبيح وإن صرحوا بخلافه منع الإمهال يعني أن المعتزلة اعترفوا بوجوب الإمهال عند الاستمهال فلا محيص لهم عن ذلك الإلزام إلا أن اللائق بقاعدتهم المذكورة منع وجوب الإمهال لأن فيه تفويت مصلحتهم وذلك لأنه يرشدهم إلى المصالح ويحذرهم عن المهالك ويقربهم من السعادة ويبعدهم عن الشقاوة
وما هو إلا كمن يقول لولده بين يديك سبع ضار أو مهلك آخر
فلا تسلك هذا الطريق
فقال الولد دعني أسلكه إلى أن أشاهد السبع أو المهلك
أليس ذلك القول من الولد مستقبحا في نظر العقلاء
ولو هلك
ألم يكن ملوما مذموما
ومن منعه ذلك أليس منسوبا إلى فعل ما توجبه الشفقة والحنو وبما قررناه يندفع الإلزام عن أصلهم أيضا
الطائفة الثانية من قال البعثة لا تخلو عن التكليف لأنه فائدتها التي لا تخلو هي عنها
وأيضا هي لا تخلو عن التكليف باتفاق وإجماع من القائلين بها
ثم إن التكليف الذي هو لازمها ممتنع لوجوه
الأول ثبت الجبر وعدم الاختيار في الأفعال وذلك لما تبين

من أن فعل العبد واقع بقدرة الله إذ لا تأثير لقدرة العبد عندكم أصلا
والتكليف بفعل الغير تكليف بما لا يطاق
ومن أن الفعل إما معلوم الوقوع من العبد أو معلوم اللاوقوع منه
فعلى الأول يكون ضروريا وعلى الثاني ممتنعا
ولا قدرة على شيء منهما والتكليف حينئذ أي حين إذ ثبت الجبر قبيح فيكون ممتنعا
الثاني التكليف إضرار بالعبد لما يلزمه من التعب بالفعل إذا أقدم عليه أو العقاب بالترك إذا أحجم عنه
وهو أي الإضرار قبيح والله تعالى منزه عنه
الثالث التكليف إما لا لغرض وهو عبث قبيح أو لغرض يعود إلى الله
وهو محال لأنه تعالى منزه عن الأغراض كلها من جلب المنافع ودفع المضار أو إلى العبد وهو إما اضرار وهو منتف بالإجماع أو نفع
وتكليف جلب النفع والتعذيب بعدمه بخلاف المعقول فإنه منزلة أن يقال له حصل المنفعة لنفسك
وإلا عذبتك أبد الآباد
ولا شك أن أهم مصالحه ترك التعذيب ثم إنه أي النفع الذي يتضمنه التكليف للمؤمنين المطيعين معارض بما فيه من المضرة العظيمة بالكفار والعصاة
ولا شك أن إضرار جماعة لمنفعة آخرين ظلم قبيح
الرابع التكليف بإيقاع الفعل إما مع وجود الفعل ولا فائدة فيه أصلا لوجوبه وتعين صدوره حينئذ فيكون عبثا قبيحا
وكذا الحال إذا كان التكليف بعد الفعل مع أنه تكليف بتحصيل الحاصل
وإما قبل وجود الفعل وأنه تكليف بما لا يطاق لأن الفعل قبل الفعل محال إذ لا يمكن وجود الشيء حال عدمه
والتكليف بما لا يطاق باطل عند من لا يجوزه
وهو ظاهر
وأما من جوزه فإنه لا يقول بوقوعه ولا أن أي ولا يقول بأن كل تكليف كذلك أي تكليف بما لا يطاق
والتكليف بالفعل قبله يستلزم وقوع التكليف بما لا يطاق
ويستلزم أن كل تكليف من هذا القبيل
فيكون هذا القسم باطلا عنده أيضا
وإذا بطلت الأقسام الحاضرة امتنع التكليف مطلقا

الخامس وهو لبعض الصوفية من أهل الإباحة أن التكليف بالأفعال الشاقة البدنية يشغل الباطن عن التفكر في معرفة الله تعالى وما يجب له من الصفات ويجوز ويمتنع عليه من الأفعال
ولا شك أن المصلحة المتوقعة من هذا الفائت وهو النظر فيما ذكر تربى أي تزيد وتفضل على ما يتوقع مما كلف به فكان ممتنعا عقلا
وجواب الأول ما مر في مسألة خلق الأعمال من أن قدرة العبد وإن كانت غير مؤثرة إلا أن لها تعلقا بالفعل يسمى كسبا وباعتباره جاز التكليف به فلا يكون تكليفا بما لا يطاق بالكلية
وجواب الثاني أن يقال ما في التكاليف من المصالح الدنيوية والأخروية يربى كثيرا على المضرة التي هي فيها وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل مما لا يجوز
وجواب الثالث أنه فرع حكم العقل بالحسن والقبح ووجوب الغرض في أفعاله تعالى مع ما أجبنا به الثاني وهو أن نقول إن التكليف لغرض يعود إلى العبد وهو المنافع الدنيوية والأخروية التي تربى على مضرة التعب بمشاق الأفعال
وأما عقابه أبدا فليس لأنه لم يحصل منفعته بل لأنه يمثل أمر مولاه وسيده
وفي ذلك إهانة له وإن لم يستجلب بذلك الأمر فائدة لنفسه
والمعارضة بمضرة الكفار والعصاة مدفوعة بأن تلك المضرة مستندة إلى سوء اختيارهم
وجواب الرابع عندنا أن القدرة مع الفعل كما مر
والتكليف به في هذه الحالة ليس تكليفا بالمحال الذي هو تحصيل الحاصل
وإنما يكون كذلك أن لو كان الفعل حاصلا بتحصيل سابق على التحصيل الذي هو ملتبس به وما ذكر من أنه لا فائدة فيه حينئذ لوجوبه فإنما يتم إذا وجب الغرض في أفعاله تعالى
وهو باطل
وجواب الرابع عند المعتزلة أن التكليف قبل الفعل
وليس ذلك تكليفا بما لا يطاق لأن التكليف في الحال إنما هو بالإيقاع في ثاني الحال لا بالإيقاع في

الحال ليكون جمعا بين الوجود والعدم
وذلك أي التكليف كالإحداث يعني أن ما أوردتموه علينا في التكليف يلزمكم في إحداث الفعل فيقال إحداثه إما حال وجوده فيكون تحصيلا للحاصل وإما حال عدمه فيكون جمعا بين النقيضين
وهو أي الإحداث مما لا شك فيه
فما هو جوابكم في الإحداث فهو جوابنا في التكليف
وجواب الخامس أن ذلك أي التفكر في معرفة الله وصفاته وأفعاله أحد أغراض التكليف بل هو العمدة الكبرى منها وسائر التكاليف معينة عليه داعية إليه ووسيلة إلى صلاح المعاش المعين على صفاء الأوقات عن المشوشات التي يربى شغلها على شغل التكاليف
الطائفة الثالثة من قال في العقل مندوحة عن البعثة إذ هو كاف في معرفة التكاليف فلا فائدة فيها وهم البراهمة والصابئة والتناسخية
غير أن من البراهمة من قال بنبوة آدم فقط
ومنهم من قال بنبوة إبراهيم فقط
ومن الصابئة من قال بنبوة شيث وإدريس فقط
وهؤلاء كلهم احتجوا بأن ما حكم العقل بحسنه من الأفعال يفعل
وما حكم بقبحه يترك
وما لم يحكم فيه بحسن ولا قبح يفعل عند الحاجة إليه لأن الحاجة ناجزة حاضرة فيجب اعتبارها دفعا لمضرة فواتها
ولا يعارضها مجرد الاحتمال أي احتمال المضرة بتقدير قبحه
ويترك عند عدمها للاحتياط في دفع المضرة المتوهمة
والجواب بعد تسليم حكم العقل بالحسن والقبح أن الشرع المستفاد من البعثة فائدته تفصيل ما أعطاه العقل إجمالا من مراتب الحسن والقبح والمنفعة والمضرة
وبيان ما يقصر عنه العقل ابتداء فإن القائلين بحكم العقل لا ينكرون أن من الأفعال ما لا يحكم العقل فيه بشيء
وذلك

كوظائف العبادات وتعيين الحدود ومقاديرها
وتعليم ما ينفع وما يضر من الأفعال
وذلك أي النبي الشارع كالطبيب الحاذق يعرق الأدوية وطبائعها وخواصها مما لو أمكن معرفتها للعامة بالتجربة ففي دهر طويل يجربون فيه أي في ذلك الدهر الطويل من فوائدها لعدم حصول العلم بها بعد ويقعون في المهالك قبل استكمالها أي قبل استكمال مدة التجربة إذ ربما يستعملون من الأدوية في تلك المدة ما يكون مهلكا ولا يعلمون ذلك فيهلكهم مع أن اشتغالهم بذلك أي بتحصيل العلم بأحوال الأدوية بطريق التجربة يوجب اتعاب النفس وتعطل الصناعات الضرورية والشغل عن المصالح والمعاش
فإذا تسلموه من الطبيب خفت المؤنة وانتفعوا به وسلموا من تلك المضار
ولا يقال في إمكان معرفته أي معرفة ما ذكر غنى عن الطبيب فكذا لا يقال في إمكان معرفة التكاليف وأحوال الأفعال بتأمل العطل فيها غنى عن المبعوث
كيف والنبي لا يعلم ما لا يعلم إلا من جهة الله بخلاف الطبيب إذ يمكن التوصل إلى جميع ما يعلمه بمجرد الفكر والتجربة
فإذا لم يكن هو مستغنيا عنه كان النبي بذلك أولى
وفيما تقدم من تقرير مذهب الحكماء وهو أن الإنسان مدني بالطبع فلا بد له من قانون عدل محتاج إلى واضع يمتاز عن بني نوعه بما يدل على أن ما أتى به من عند ربه تتمة لهذا الكلام فإنه يدل على وجوب وجود النبي في العناية الأزلية المقتضية للنظام الأبلغ
الطائفة الرابعة من قال بامتناع المعجزة فلا يثبت النبوة أصلا لأن تجويز خرق العادة سفسطة
ولو جوزناه لجاز إنقلاب الجبل ذهبا وماء

البحر دما ودهنا وأواني البيت رجالا كملا وتولد هذا الشيخ دفعة بلا أب وأم
وكون من ظهرت المعجزة على يد غير من ادعى النبوة بأن يعدم المدعي عقيب دعواه بلا مهلة ويوجد مثله في آن إعدامه فيكون ظهور المعجزة على يد المثل
ولا يخفى ما فيه أي في تجويز خرق العادة من الخبط والإخلال بالقواعد المتعلقة بالنبوة وغيرها
إذ يجوز حينئذ أن يكون الآتي بالأحكام الشرعية في الأوقات المتفرقة أشخاصا مماثلة للذي ثبتت نبوته بالمعجزة وأن يكون الشخص الذي تتقاضاه غير الذي كان عليه دينك إلى غير ذلك من المفاسد التي تنافي نظام المعاش والمعاد
والجواب أن خرق العادات ليس أعجب من أول خلق السموات والأرض وما بينهما
ومن إنعدامها الذي نقول نحن به والجزم بعدم وقوع بعضها كما في الأمثلة المذكورة لا ينافي إمكانها في أنفسها وذلك كما في المحسوسات فإنا نجزم بأن حصول الجسم المعين في الحيز المعين لا يمتنع فرض عدمه بدله مع الجزم به جزما مطابقا للواقع ثابتا لا تتطرق إليه شبهة للحس الشاهد به شهادة موثوقا بها
والعادة أحد طرق العلم كالحس فجاز أن نجزم ذلك الجزم بشيء من جهة العادة مع إمكان نقيضه في نفسه
ثم إن خرق العادة إعجازا لنبي وكرامة لولي عادة مستمرة توجد في كل عصر وأوان
فلا يمكن للعاقل المنصف إنكاره أو فلا يكون حينئذ خرقا للعادة بل أمرا عاديا
والمعجزة عندنا ما يقصد به تصديق مدعي الرسالة وإن لم يكن خارقا للعادة
الطائفة الخامسة من قال ظهور المعجز لا يدل على الصدق في دعوى النبوة لاحتمالات

الأول كونه من فعله لا من فعل الله فلا يكون نازلا منزلة التصديق له من الله
وإنما جاز كون المعجز فعلا له مع كون غيره عاجزا عنه
إما لمخالفة نفسه لسائر النفوس البشرية في الماهية كما ذهب إليه جماعة فيجوز حينئذ أن يصدر عن بعضها ما لا يقدر عليه بعض آخر منها أو لمزاج خاص في بدنه هو أقوى من أمزجة أقرانه فيقوى به على فعل يعجز عنه غيره
وإن توافقا في الماهية أو لكونه ساحرا ماهرا في السحر وقد أجمعتم على حقيقته أي على كون السحر مؤثرا في أمور غريبة كما دل عليه الكتاب كقوله تعالى فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه والسنة كقصة لبيد بن الأعصم مع النبي أنكره من القدرية فقد خالف كتاب الله وسنة نبيه وإجماع الأمة أيضا إذ ما من عصر من عهد الصحابة إلى ظهور المخالفين إلا وكان الناس يتفاوضون فيه في أمر السحر وتأثيراته حتى اختلفت الفقهاء في حكم الساحر فقال بعضهم يجب قتله
وقال آخرون هو كافر
وقال الشافعي إذا اعترف الساحر بأن قتله شخصا بسحره وبأن سحره مما يقتل غالبا وجب عليه القود ولم ينكره أحد فكان إجماعا
هكذا ذكره الآمدي أو لطلسم اختص هو بمعرفته يعني أن سلم امتناع السحر في نفسه فلا مجال لإنكار الطلسمات الغريبة التي تؤثر تأثيرات عجيبة فجاز أن يمتاز ذلك الشخص بمعرفة نوع منها لا يعرفه غيره
فإذا أتى به ترتب عليه أمر غريب يعجز عن مثله من هو في عصره
وقالوا الطلسم عبارة عن تمزيج القوى السماوية الفعالة بالقوى الأرضية المنفعلة
وذلك أن القوى السماوية أسباب لحدوث الكائنات العنصرية

ولحدوثها شرائط مخصوصة بها يتم استعداد القابل
فمن عرف أحوال الفاعل والقابل وقدر على الجمع بينهما عرف ظهور آثار مخصوصة غريبة
أو لخاصية بعض المركبات إذ لا شك أن المركبات العنصرية لها خواص تستتبع آثارا عجيبة كالمغناطيس الجاذب للحديد والكهرباء التي تجذب التبن وكالحجر الباغض للخل فإنه إذا أرسل على إناء فيه خل لم ينزل بل ينحرف عنه حتى يسقط خارجا عن الإناء
وكالحجر الجالب للمطر وهو مشهور فيما بين الأتراك فجاز أن يكون ذلك الخارق الذي ظهر على يد المدعي تابعا لخاصية بعض المركبات ويكون هو عالما بذلك النوع من التركيب دون غيره
الثاني من تلك الاحتمالات استناده أي استناد المعجز إلى بعض الملائكة فإنها قادرة على أفعال غريبة فلعل ملكا أظهر ما يعجز عنه البشر على يد المتنبىء ليغوي الناس
وأما عصمة الملائكة فإنما تعلم بقول النبي فلا يمكن أن يتمسك بها ههنا
أو الشياطين فإنها موجودة عندكم قادرة على أفعال خارقة أو استناده إلى الاتصالات الكوكبية وأنظارها الحادثة من الحركات الفلكية وهو أي مدعي النبوة قد أحاط من صناعة النجامة بما لم يحط به غيره فاطلع على اتصال نادر لا يقع مثله إلا في ألوف من السنين ويستتبع أمرا غريبا فاتخذ ما علم وقوعه من الغرائب معجزا لنفسه فلا يكون حينئذ دالا على صدقه
الثالث منها أن يكون الخارق الظاهر كرامة لا معجزة فلا يكون له دلالة على الصدق

الرابع إن لا يقصد به التصديق أي سلمنا أن المعجز من فعله تعالى لكنه ليس تصديقا منه للمدعي
إذ لا غرض واجبا في أفعاله تعالى
وعلى تقدير وجوبه لا يتعين التصديق له لكونه غرضا من ذلك الخارق إذ لعله أي الغرض منه غير التصديق له كإيهامه أي إيهام تصديقه ليحترز عنه بالاجتهاد فيثاب بذلك كإنزال المتشابهات
فإنها بظواهرها توهم الخطأ
ولا يمكن للمكلف الاحتراز عن ذلك الخطأ إلا بتحمل المشقة من التأمل الدقيق فيها فيستحق به الثواب
أو يكون ذلك الخارق لتصديق نبي آخر موجود في جانب آخر أو يكون إرهاصا لنبي سيأتي فيما بعد كالأحوال الظاهرة على النبي قبل مبعثه وكالنور الذي كان في جبين آبائه
الخامس إنه لا يلزم من تصديق الله إياه صدقه إلا إذا علم استحالة الكذب على الله ولم يعلم ذلك عقلا إذ لا يقبح عندكم منه شيء ولا سمعا للزوم الدور
السادس لعل التحدي الصادر عن المدعي لم يبلغ من هو قادر على المعارضة من الذين هم في بعض الأقطار أو لعله أي القادر على المعارضة تركها مواضعة مع المدعي ومواطأة معه في إعلاء كلمته لينال من دولته حظا وافرا
السابع لعلهم استهانوا به أولا وظنوا أن دعوته مما لا يتم ولا يلتفت إليه فلم يشتغلوا بمعارضته في ابتداء أمره وخافوه آخرا لشدة شوكته وكثرة أتباعه
أو شغلهم ما يحتاجون إليه في تقويم معيشتهم عنه أي عن المدعي ومعارضته
الثامن لعله عورض ولم يظهر لمانع منع المعارض عن إظهار ما عارض به أو أظهر ثم أخفاه أصحابه أي أتباع المدعي عند استيلائهم وغلبتهم على الناس المخالفين لهم وطمسوا آثاره حتى انمحى بالكلية
ومع قيام هذه الاحتمالات الثمانية لا يبقى لها أي للخارق الذي سمى معجزة دلالة على الصدق

الجواب الإجمالي ما قررناه غير مرة أي قررناه مرارا
ومن جملتها جواب الطائفة الرابعة من أن التجويزات العقلية لا تنافي العلم العادي كما في المحسوسات
والجواب التفصيلي عن الأول أنا بينا أن لا مؤثر في الوجود إلا الله
فالمعجز لا يكون إلا فعلا له لا للمدعي
والسحر ونحوه إن لم يبلغ حد الإعجاز الذي هو كفلق البحر وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص كما هو مذهب جميع العقلاء فظاهر أنه لا يلتبس السحرة بالمعجزة فلا إشكال
وإن بلغ السحر حد الإعجاز فأما أن يكون دون دعوى النبوة والتحدي فظاهر أيضا أنه لا التباس أو يكون معه أي مع ادعاء النبوة والتحدي
وحينئذ فلا بد من أحد أمرين إما أن لا يخلقه الله على يده أو أن يقدر غيره على معارضته
وإلا كان تصديقا للكاذب
وأنه محال على الله سبحانه لكونه كاذبا والجواب عن الثاني أن لا خالق إلا الله فلا يكون المعجز مستندا إلى غير
وعن الثالث أن لم يجوز الكرامة فلا إشكال عليه
ومن جوزها فقال بعضهم منهم الأستاذ أبو إسحق لا تبلغ الكرامة الظاهرة على يد الأولياء درجة المعجز
وقيل لا تقع الكرامة على القصد والاختيار حتى إذا أراد الولي إيقاعها
لم تقع بل وقوعها اتفاقي فقط
وقال القاضي تجوز الكرامة إذا لم تقع على طريق التعظيم والجلال لأن ذلك ليس من شعار الصالحين
ومع ذلك تمتاز الكرامة عن المعجز بأنها مع دعوى الولاية دون النبوة وعلى التقادير كلها فالفرق بينها وبين المعجزة ظاهر فلا تشتبه إحداهما بالأخرى
وعن الرابع أنا لا نقول بالغرض أي لا نقول بأن خلق المعجزة لغرض التصديق لأن أفعاله تعالى عندنا غير معللة بالأغراض
بل نقول إن خلقها على يد المدعي يدل على تصديق له قائم بذاته تعالى كما أن حمرة الخجل تفيد العلم الضروري

بحصول الخجلة
مع جواز حصولها بدونها
أما على القول باستناد الحوادث إلى القادر المختار فظاهر
وأما على القول بالموجب فلأنه يجوز أن يحدث شكل غريب سماوي يقتضي تلك الحمرة في ذلك الشخص من غير أن يحصل فيه الخجالة
وعن الخامس فقد مر في مسألة الكلام من موقف الإلهيات امتناع الكذب عليه سبحانه وتعالى
وعن السادس إذا أتى مدعي النبوة بما يعلم بالضرورة أنه خارق للعادة
وعجز من في قطره عن المعارضة علم ضرورة صدقه في دعواه
وعن السابع يعلم عادة أي يعلم بالضرورة العادية الوجدانية المبادرة بلا توان إلى معارضة من يدعي الانفراد بأمر جليل فيه التقوى على أهل زمانه واستتباعهم والحكم عليهم في أنفسهم ومالهم
ويعلم بالضرورة أيضا عدم الإعراض عنها أي عن المعارضة في مثل هذا الأمر بحيث لا ينتدب له أحد ولا يتوجه نحو الإتيان بالمعارض أصلا
والقدح فيه سفسطة ظاهرة
وحينئذ أي وحين إذ كان الأمر كما ذكرنا فدلالته من جهة الصرفة واضحة
فإن النفوس إذا كانت مجبولة على ذلك كان صرفها عنه أمرا خارقا للعادة دالا على صدق المدعي وإن كان ما أتى به مقدورا لغيره
وعن الثامن كما علم بالعادة وجوب معارضته على تقدير القدرة علم بالعادة أيضا وجوب إظهارها إذ به يتم المقصود
واحتمال المانع للبعض في بعض الأوقات والأماكن لا يوجب احتماله في الجميع أي في جميع الأوقات والأماكن بل هذا معلوم الانتفاء بالضرورة العادية
فلو وقعت معارضة لاستحال عادة إخفاؤها مطلقا من أصحاب المدعي عند استيلائهم
ومن غيرهم أيضا فاندفعت الاحتمالات كلها وثبتت الدلالة القطعية
الطائفة السادسة من منكري البعثة من قال العلم بحصول المعجز لا يمكن لمن لم يشاهده إلا بالتواتر
ولكنه لا يفيد العلم فلا يحصل العلم بنبوة أحد لمن لم يشاهد معجزة
وإنما قلنا إن التواتر لا يفيد العلم لوجوه

الأول أهل التواتر يجوز الكذب على كل واحد منهم فكذا الكل يجوز عليه الكذب إذ ليس كذب الكل إلا كذب كل واحد
الثاني إن حكم كل طبقة من طبقات أعداد الرواة حكم ما قبلها بواحد
فإن من جوز إفادة المائة للعلم جواز إفادة التسعة والتسعين له قطعا
ولم يحصره أي العلم في عدد معين وأيضا إدعاء الفرق بين العددين المذكورين في إفادة العلم تحكم محض
وإذا كان كذلك فلنفرض طبقة لا تفيده أي لا تفيد العلم قطعا كاثنين مثلا ثم نزيد عليه واحدا واحدا فلا يفيده شيء من هذه المراتب بالغا ما بلغ لمساواة كل منها لما قيل في عدم الإفادة
الثالث لو أوجب التواتر العلم لأوجبه خبر الواحد واللازم منتف اتفاقا بيان الملازمة أن التواتر لا يشترط فيه إجماع أهله اتفاقا منا ومنكم بل يحصل التواتر بخبر واحد بعد واحد فالموجب له أي للعلم على تقدير حصوله إنما هو الخبر الأخير وحده لا هو مع ما سبق لأنه قد انقضى فقد أفاد خبر الواحد العلم حينئذ
الرابع شرطه استواء الطرفين والواسطة بالغة ما بلغت ولا سبيل إلى العلم به أي بالشرط المذكور
وإذا لم يعلم شرط إفادته للعلم لم يحصل العلم منه
الخامس إن التواتر غير مضبوط بعدد معين بل ضابطه عندكم

حصول العلم به حتى إذا حصل العلم به علم أنه متواتر
فلا يعلم كونه متواترا إلا بعد حصول العلم به
فإثبات العلم به أي بالتواتر مصادرة على المطلوب ودور صريح
وجواب الأول منع مساواة حكم الكل من حيث هو كل لحكم كل واحد لما نرى من قوة العشرة على تحريك ما لا يقوى عليه كل واحد
وجواب الثاني أن حصول العلم عنده أي عند التواتر عندنا معاشر الأشاعرة إنما هو بخلق الله تعالى إياه
وقد يخلقه بعدد دون عدد فلا نسلم تساوي طبقات الأعداد في احتمال الكذب وعدم إفادة العلم
كيف وأنه أي حصول العلم بطريق تواتر الأخبار يختلف بالوقائع والمخبرين والسامعين فقد يحصل العلم في واقعة بعدد مخصوص ولا يحصل به في واقعة أخرى
وقد يحصل بإخبار جماعة مخصوصين ولا يحصل بإخبار جماعة أخرى تساويهم في العدد
وكذا يحصل العلم لسامع من عدد ولا يحصل لسامع آخر من ذلك العدد والجواب عن الثالث أما عندنا فلأنه أي العلم عقيب التواتر بخلق الله فقد يخلقه بعد إخبار عدد دون خبر واحد منفرد فلا يكون الخبر الأخير موجبا له
وأما عند الحكماء والمعتزلة فلأن الأخبار الصادرة عن أهل التواتر أسباب معدة لحصول العلم لا موجبه له
وهي أي الأسباب قد لا تجامع المسبب بل تكون متقدمة عليه كالحركة للحصول في المنتهى فللأخبار السابقة مدخل في حصول العلم كالخبر الأخير وفاعله شيء آخر وهذا الوجه يناسب أصول الحكماء
والمناسب لأصول المعتزلة ما ذكره بقوله
ثم أنا نجد في أنفسنا أن الخبر الأول يفيد ظنا ويقوي ذلك الظن بالثاني والثالث
وهكذا إلى أن ينتهي إلى ما لا أقوى منه فيلزم أن الموجب له هو الخبر الأخير بشرط سبق أمثاله وهو المراد بكون التواتر مفيدا للعلم فلا يلزم أن يكون خبر الواحد المنفرد موجبا له
والجواب عن الرابع والخامس أنا ندعي العلم الضروري الحاصل من التواتر الواقع في نفس الأمر على شرطه وضابطه لأنا نستدل بالتواتر والعلم بحصول شرطه وضابطه على ما ادعيناه
والفرق بين الأمرين ظاهر فإن

حصول التواتر في نفس الأمر مشتملا على ما يعتبر فيه من الشرائط وإفادته للعلم الضروري بما تواتر الأخبار عنه أمر لا شبهة فيه إذ لا سبيل إلى العلم الضروري بالبلاد النائية والأشخاص الماضية سوى التواتر وليس يعتبر في ذلك العلم بالشرط الذي هو الاستواء حتى يقال إنه غير معلوم ولا العلم بضابطه حتى يلزم منه الدور
نعم إذ استدل على شيء يكون أخباره متواترة مشتملة على شرائط مجتمعة مع ضابطه توجه ما ذكرتم من عدم العلم بحصول الشرط ومن لزوم الدور لكن العلم المستفاد من التواتر ضروري عندنا لا نظري فتدبر
الطائفة السابعة من اعترف بإمكان البعثة ومنع وقوعها
قالوا تتبعنا الشرائع التي أتى بها مدعو الرسالة فوجدناها مشتملة على ما لا يوافق العقل والحكمة
فعلمنا أنها ليست من عند الله فلا يكون هناك بعثة
وذلك الذي لا يوافق العقل والحكمة كإباحة ذبح الحيوان وإيلامه لمنفعة الأكل وغيره
وإيجاب تحمل الجوع والعطش في صوم أيام معينة والمنع من الملاذ التي بها صلاح البدن مع أنه لا منفعة في هذا المنع لله سبحانه وفيه مضار لعباده فيكون مخالفا للحكمة وتكليف الأفعال الشاقة كطي الفيافي وكزيارة بعض المواضع والوقوف ببعض والسعي في بعض والطواف ببعض مع تماثلها ومضاهاة المجانين والصبيان في التعري وكشف الرأس والرمي لا إلى مرمى وتقبيل حجر لا مزية له على سائر الأحجار وكتحريم النظر إلى الحرة الشوهاء دون الأمة الحسناء وكحرمة أخذ الفضل في صفقة وجوازه في صفقتين كأن يبيع مد عجوة جيدة بمدين من عجوة رديئة فإنه

ربا حرام وإن باعها بدرهم ثم اشترى به مدين من الرديئة كان حلالا بلا شبهة مع استوائهما أي الصفقة والصفقتين في المصالح والمفاسد من جميع الوجوه والجواب بعد تسليم حكم العقل فيه بالحسن والقبح ووجوب الغرض في أفعاله تعالى فغايته أي غاية ما ذكرتموه عدم الوقوف على الحكمة في تلك الصور المذكورة ولا يلزم منه عدمها في نفس الأمر
ولعل هناك مصلحة استأثر الله بالعلم بها على أن في التعبد بما لا تعلم حكمته تطويعا للنفس الأبية وملكة قهرها أي تصرف غلبتها الثابتة فيما فيه الحكمة وزيادة ابتلاء في التعرض للثواب والعقاب يعني أن النفس إذا علمت الحكمة والمصلحة في حكم انقادت له لأجل تلك المصلحة لا لمجرد امتثال حكم مولاها سيدها وكان عندها أنها ذات قوة ورسوخ في العلم
فربما صارت بسبب ذلك معجبة بنفسها
فإذا تعبدت بما لا تعلم حكمته كان انقيادها امتثالا مجردا وانكسرت سورتها وإعجابها الثابت لها فيما علمت حكمته
وأيضا في التعبد زيادة ابتلاء في التكليف فإن النفس تأبى عما لا تعلم مصلحته وكل ذلك حكمة ومصلحة حاصلة في الأحكام التعبدية ومعلومة لنا فلا يلزم خلو تلك الصور عن الحكمة والمصلحة المعتد بها المعلومة

أقسام الكتاب

1 2 3 4