كتاب: الصارم المسلول على شاتم الرسول
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

و لهذا ينتقض عهد الذمي بأشياء : مثل الزنا بالمسلمة و إن لم يكن محصنا و قتل أي مسلم كان و التجسس للكفار و قتال المسلمين و اللحاق بدار الحرب و إن كان المسلم لا يقتل بهذه الأشياء على الإطلاق فإذا و جب قتل الذمي بها عينا ثم أسلم كان كما لو وجب قتله بذمي ثم أسلم إذ لا فرق بين أن يجب عليه حد لا يجب على المسلم فيسلم أو يجب عليه قصاص لا يجب على المسلم فيسلم فإن القصاص في اندرائه بالإسلام كالحدود و هو يسقط بالشبهة فكما يمنع الإسلام ابتداءه دون دوامه فكذلك العقوبات الواجبة على المعاهد و هذا ينبني على قولنا : يتعين قتل الذمي إذا فعل هذه الأشياء و أن لخصوص هذه الجنايات أثرا في قتله وراء كونه كافرا غير ذي عهد و يقتضي أن قتله حد من الحدود التي تجب على أهل دار الإسلام من مسلم و معاهد ليس بمنزلة رجل من أهل دار الحرب أخذ أسيرا إذ ذاك المقصود بقتله تطهير دار الإسلام من فساد هذه الجنايات و حسم مادة جناية المعاهدين و إذا كان قد نص على أن لا تزول عنه عقوبة ما أدخله على المسلمين من الضرر في زناه بالمسلمة فأن لا تزول عنه عقوبة إضراره بسب رسول الله عليه الصلاة و السلام أولى لأن ما يلحق المسلمين من المضرة في دينهم بسب رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر مما يلحق بالزنا بمسلمة إذا أقيم على الزاني الحد
و نصه هذا يدل على أن الذمي إذا قذف رسول الله صلى الله عليه و سلم أو سبه ثم أسلم قتل بذلك و لم يقم عليه مجرد حد قذف واحد من الناس و هو ثمانون أو سب واحد من الناس و هو تعزيز كما أنه لم يوجب على من زنى بمسلمة إذا أسلم حد الزنا و إنما أوجب القتل الذي كان واجبا و على الرواية الأخرى التي خرجها القاضي في كتبه القديمة و من اتبعه فإن الذمي يستتاب من السب فإن تاب و إلا قتل
و كذلك يستتاب المسلم على الرواية التي ذكر أبو الخطاب و غيره كما يستتاب الزنديق و الساحر و لم أجد للاستتابة في كلام الإمام أحمد أصلا فأما استتابة المسلم فظاهرة كاستتابة من ارتد بكلام تكلم به و أما استتابة الذمي فأن يدعى إلى الإسلام فأما استتابته بالعود إلى الذمة فلا يكفي على المذهب لأن قتله متعين
فوما على الوجه المضطرب الذي يقال فيه [ إن الإمام يخير فيه ] فيشرع استتابته بالعود إلى الذمة لأن إقراره بها جائز بعد هذا لكن لا تجب هذه الاستتابة رواية واحدة و إن أوجبنا الاستتابة بالإسلام على إحدى الروايتين و أما على الرواية التي ذكرها الخطابي فإنه إذا أسلم الذمي سقط عنه القتل مع أنه لا يستتاب كالأسير الحربي و غيره من الكفار يقتلون قبل الاستتابة و لو أسلموا سقط عنهم القتل و هذا أوجه من قول من يقول بالاستتابة فإن الذمي إذا نقض العهد جاز قتله لكونه كافرا محاربا و هذا لا يجب استتابته بالاتفاق اللهم إلا أن يكون على قول من يوجب دعوة كل كافر قبل قتاله فإذا أسلم جاز أن يقال : عصم دمه كالحربي الأصلي بخلاف المسلم فإنه إذا قبلت توبته فإنه يستتاب و مع هذا فمن تقبل توبته فقد يجوز استتابته كما يجوز استتابة الأسير لأنه من جنس دعاء الكافر إلى الإسلام قبل قتله لكن لا يجب لكن المنصوص عن أصحاب هذا القول أنه لا يقال له : أسلم و لا لا تسلم لكن إذا أسلم سقط عنه القتل فتلخص من ذلك أنهما لا يستتابان في المنصوص المشهور فإن تابا لم تقبل توبتهما في المشهور أيضا
و حكى عنه في الذمي أنه إذا أسلم سقط عنه القتل و إن لم يستتب
و حكى عنه أن المسلم يستتاب و تقبل توبته و خرج عنه في الذمي أنه يستتاب وهو بعيد

واعلم أنه لا فرق بين سبه بالقذف و غيره كما نص عليه الإمام أحمد و عامة أصحابه و عامة العلماء
و فرق الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله بين القذف و السب فذكر الروايتين في المسلم و في الكافر في القذف ثم قال : و كذلك سبه بغير القذف إلا أن سبه بغير القذف يسقط بالإسلام لأن سب الله تعالى يسقط بالإسلام فسب النبي صلى الله عليه و سلم أولى و سيأتي إن شاء الله تعالى تحرير ذلك إذا ذكر بأنواع السب فهذا مذهب الإمام أحمد
و أما مذهب مالك رضي الله عنه فقال مالك في رواية ابن القاسم و مطرف : [ من سب النبي صلى الله عليه و سلم قتل و لم يستتب ] قال ابن القاسم : [ من سبه أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل كالزنديق ] وقال أبو مصعب وابن أبي أويس : [ سمعنا مالكا يقول : من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلما كان أو كافرا ولا يستتاب ] وكذلك قال محمد ابن عبد الحكم : أخبرنا أصحاب مالك أنه قال : من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو غيره من النبيين مسلما كان أو كافرا قتل و لم يستتب قال : و روى لنا مالك إلا أن يسلم الكافر قال أشهب عنه : من سب النبي صلى الله عليه و سلم من مسلم أو كافر قتل و لم يستتب فهذه نصوصه نحو من نصوص الإمام أحمد و المشهور من مذهبه أنه لا تقبل توبة المسلم إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم و حكمه حكم الزنديق عندهم و يقتل عندهم حدا لا كفرا إذا أظهر التوبة من السب
و روى الولبيد بن مسلم عن مالك أنه جعل سب النبي صلى الله عليه و سلم ردة قال أصحابه : فعلى هذا يستتاب فإن تاب نكل و إن أبى قتل و يحكم له بحكم المرتد
و أما الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم ثم أسلم فهل يدرأ عنه الإسلام القتل ؟ على روايتين ذكرهما القاضي عبد الوهاب و غيره
إحداهما : يسقط عنه قال مالك في رواية جماعة منهم ابن القاسم : [ من شتم نبينا من أهل الذمة أو أحدا من الأنبياء قتل إلا أن يسلم ] و في رواية : لا يقال له أسلم و لا لا تسلم و لكن إن أسلم فذلك له توبة و في رواية مطرف عنه : [ من سب النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين أو أحدا من الأنبياء أو انتقصه قتل و كذلك من فعل ذلك من اليهود و النصارى قتل و لا يستتاب إلا أن يسلم قبل القتل ] قال ابن حبيب : و سمعت ابن الماجشون يقوله و قال لي ابن عبد الحكم : و قال لي أصبغ عن ابن القاسم فعلى هذه الرواية قال ابن القاسم : قال مالك : إن شتم النصراني النبي صلى الله عليه و سلم شتما يعرف فإنه يقتل إلا أن يسلم قاله مالك غير مرة و لم يقل : يستتاب قال ابن القاسم و محمد : قوله عندي إن أسلم طائعا و على هذا فإذا أسلم بعد أن يؤخذ و ثبت عليه السب و يعلم أنهم يريدون قتله إن لم يسقط عنه القتل لأنه مكره في هذه الحال
و الرواية الثانية : لا يدرأ عنه إسلامه القتل قال محمد بن سحنون : [ وحد القذف و شبهه من حقوق العباد لا يسقط عن الذمي بإسلامه و إنما تسقط عنه بإسلامه حدود الله فأما حد القذف فحد للعباد كان ذلك من نبي أو غيره

و أما مذهب الشافعي رضي الله عنه فلهم في ساب النبي صلى الله عليه و سلم و جهان :
أحدهما : هو كالمرتد إذا تاب سقط عنه القتل و هذا قول جماعة منهم و هو الذي يحكيه أصحاب الخلاف عن مذهب الشافعي
و الثاني : أن حد من سبه القتل فكما لا يسقط حد القذف بالتوبة لا يسقط القتل الواجب بسب النبي صلى الله عليه و سلم بالتوبة قالوا : ذكر ذلك أبو بكر الفارسي و ادعى فيه الإجماع و وافقه الشيخ أبو بكر القفال و قال الصيدلاني قولا ثالثا و هو أن الساب بالقذف مثلا يستوجب القتل للردة لا للسب فإن تاب زال القتل الذي هو موجب الردة و جلد ثمانين للقذف و على هذا الوجه لو كان السب غير قذب عزر بحسبه ثم منهم من ذكر هذا الخلاف في المسلم إذا سب ثم أسلم و لم يتعرض للكلام في الذمي إذا سب ثم أسلم و منهم من ذكر الخلاف في الذمي كالخلاف في المسلم إذا جدد اإسلام بعد السب و منهم من ذكر في الذمي إذا سب ثم أسلم أنه يسقط عنه القتل و هو الذي حكاه أصحاب الخلاف عن مذهب الشافعي و عليه يدل عموم كلام الشافعي في موضع من الأم فإنه قال بعد أن ذكر نواقض العهد و ذكر فيها سب النبي صلى الله عليه و سلم : [ و أيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد و أسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا و كذلك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلم أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد و إن فعل مما وصفنا و شرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ] و لكنه قال [ أتوب و أعطى الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده ] عوقب و لم يقتل إلا أن يكون فعل فعلا يوجب القصاص أو القود فأما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول فيعاقب عليه و لا يقتل قال : [ فإن فعل أو قال مما وصفنا و شرط أنه يحلل دمه فظفرنا عليه فامتنع من أن يقول [ أسلم أو أعطى الجزية قتل و أخذ ماله فيئا ] فقد ذكر أن من نقض العهد فإنه تقبل توبته إما بأن يسلم أو بأن يعود إلى الذمة
و ذكر الخطابي قال : [ قال مالك بن أنس : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم من اليهود و النصارى قتل إلا أن يسلم ] و كذلك قال أحمد بن حنبل و قال الشافعي : [ يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم و تبرأ منه الذمة ] و احتج في ذلك بخبر كعب ابن الأشرف و ظاهر هذا القتل و الاستدلال يقتضي أن لا يكف عنه إذا أظهر التوبة لأنه لم يحك عنه شيئا و لأن ابن الأشرف كان مظهرا للذمة مجيبا إلى إظهار التوبة لو قبلت منه
و الكلام في فصلين :

أحدهما : في استتابة المسلم و قبول توبة من سب النبي صلى الله عليه و سلم و قد ذكرنا أن المشهور عن مالك و أحمد أنه لا يستتاب و لا تسقط القتل عنه توبته و هو قول الليث بن سعد و ذكر القاضي عياض أنه المشهور من قول السلف و جمهور العلماء و هو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي و حكى مالك و أحمد أنه تقبل توبته و هو قول الإمام أبي حنيفة و أصحابه و هو المشهور من مذهب الإمام الشافعي بناء على قبول توبة المرتد فنتكلم أولا في قبول توبته و الذي عليه عامة أهل العلم من الصحابة و التابعين أنه تقبل توبة المرتد في الجملة و روى عن الحسن البصري : أنه يقتل و إن أسلم جعله كالزاني و السارق و ذكر عن أهل الظاهر نحو ذلك أن توبته تنفعه عند الله و لكن لا يدرأ القتل عنه و روي عن أحمد أن من ولد في الإسلام قتل و من كان مشركا فأسلم استتيب و كذلك روي عن عطاء و هو قول إسحاق بن راهوية و المشهور عن عطاء و أحمد الاستتابة مطلقا و هو الصواب
و وجه عدم قبول التوبة قوله صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] رواه البخاري و لم يستثن ما إذا تاب و قال صلى الله عليه و سلم [ لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني و النفس بالنفس و التارك لدينه المفارق للجماعة ] متفق عليه فإذا كان القاتل و الزاني لا يسقط عنهما القتل بالتوبة فكذلك التارك لدينه المفارق للجماعة و عن حكيم بن معاوية عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ لا يقبل الله توبة عبد كفر بعد إسلامه ] رواه الإمام أحمد و لأنه لا يقتل لمجرد الكف و المحاربة لأنه لو كان كذلك لما قتل المترهب و الشيخ الكبير و الأعمى و المقعد و المرأة و نحوهم فلما قتل هؤلاء علم أن الردة حد من الحدود و الحدود لا تسقط بالتوبة
و الصواب ما عليه الجماعة لأن الله سبحانه و تعالى قال في كتابه : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أن الرسول حق و جاءهم البينات و الله لا يهدي القوم الظالمين } إلى قوله تعالى : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم } [ آل عمران : 86 ـ 89 ] فأخبر أنه غفور رحيم لمن تاب بعد الردة و ذلك يقتضي مغفرته له في الدنيا و الآخرة و من هذا حاله لم يعاقب بالقتل
يبين ذلك ما رواه الإمام أحمد قال : حدثنا علي بن عاصم عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا من الأنصار ارتد عن الإسلام و لحق بالمشركين فأنزل الله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا } إلى آخر الآية [ آل عمران : 86 ] فبعث بها قومه إليه فرجع تائبا فقبل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك منه و خلى عنه و رواه النسائي من حديث داود مثله
و قال الإمام أحمد : ثنا على عن خالد عن عكرمة بمعناه و قال : و الله ما كذبني قومي على رسول الله صلى الله عليه و سلم و ما كذب رسول الله صلى الله عليه و سلم و الله أصدق الثلاثة فرجع تائبا فقبل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك منه و خلى عنه
و قال : ثنا حجاج عن ابن جريج حديثا عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أن الرسول حق } [ آل عمران : 86 ] في أبي عامر بن النعمان و وحوح بن الأسلت و الحارث ابن سويد بن الصامت في أثنى عشر رجلا رجعوا عن الإسلام و لحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهليهم : هل لنا من توبة ؟ فنزلت { إلا الذين تابوا من بعد ذلك } [ آل عمران : 89 ] في الحارث بن سويد بن الصامت
و قال : ثنا عبد الرزاق أنا جعفر عن حميد عن مجاهد قال : جاء الحارث ابن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه القرآن { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ـ إلى قوله غفور رحيم } [ آل عمران : 86 ] قال : فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث : و الله إنك ما علمت لصادق و إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصدق منك و إن الله لأصدق الثلاثة قال : فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه
و كذلك ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في الحارث بن سويد و جماعة ارتدوا عن الإسلام و خرجوا من المدينة كهيئة البدء و لحقوا بمكة كفارا فأنزل الله فيهم هذه الآية فندم الحارث و أرسل إلى قومه : أن سلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل لي توبة ؟ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم } [ آل عمران : 89 ] فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث : إنك و الله ما علمت لصدوق و إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصدق منك و إن الله عز و جل لأصدق الثلاثة فرجع الحارث إلى المدينة و أسلم و حسن إسلامه
فهذا رجل قد ارتد و لم يقتله النبي عليه الصلاة و السلام بعد عوده إلى الإسلام و لأن الله تعالى قال في إخباره عن المنافقين { أبا لله و آياته و رسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } [ التوبة : 66 ] فدل على أن الكافر بعد إيمانه قد يعفى عنه و قد يعذب و إنما يعفى عنه إذا تاب فعلم أن توبته مقبولة
و ذكر أهل التفسير أنهم كانوا جماعة و أن الذي تاب منهم رجل واحد يقال له [ مخشى بن حمير ] و قال بعضهم : كان قد أنكر عليهم بعض ما سمع و لم يمالئهم عليه و جعل يسير مجانبا لهم فلما نزلت هذه الآيات برىء من نفاقه و قال : اللهم إني لا أزال أسمع آية تفر عيني تقشعر منها الجلود و تجب منها القلوب اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك و ذكروا القصة
و في الاستدلال بهذا نظر و لأنه قال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم ـ إلى قوله ـ يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم و هموا بما لم ينالوا و ما نقموا إلا أن أغناهم الله و رسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا و الآخرة و ما لهم في الأرض من ولي و لا نصير } [ التوبة : 74 ]
و ذلك دليل على قبول توبة من كفر بعد إسلامه و أنهم لا يعذبون في الدنيا و لا في الآخرة عذابا أليما : بمفهوم الشرط و من جهة التعليل و لسياق الكلام و القتل عذاب أليم فعلم أن من تاب منهم لم يعذب بالقتل و لأن الله سبحانه قال : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة و أن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم و أولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } [ النحل 106 ـ 110 ] فبين أن الذين هاجروا إلى دار الإسلام بعد أن فتنوا عن دينهم بالكفر بعد الإسلام و جاهدوا و صبروا فإن الله يغفر لهم و يرحمهم و من غفر له ذنبه مطلقا لم يعاقبه في الدنيا و لا في الآخرة
و قال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة : خرج ناس من المسلمين ـ يعني من المهاجرين ـ فأدركهم المشركون ففتنوهم فاعطوهم الفتنة فنزلت فيهم { و من الناس من يقول : آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } الآية [ العنكبوت : 10 ] و نزل فيهم { من كفر بالله من بعد إيمانه } الآية [ النحل : 106 ] ثم إنهم خرجوا مرة أخرى فانقلبوا حتى أتوا المدينة فأنزل الله فيهم : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } إلى آخر الآية [ النحل 110 ] و لأنه سبحانه قال : { و من يرتدد منكم عن دينه فيمت و هو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة } [ البقرة : 217 ] فعلم أن من لم يمت و هو كافر من المرتدين لا يكون خالدا في النار و ذلك دليل على قبول التوبة و صحة الإسلام فلا يكون تاركا لدينه فلا يقتل و لعموم قوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } إلى قوله : { فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ] فإن هذا الخطاب عام في قتال كل مشرك و تخلية سبيله إذا تاب من شركه و أقام الصلاة و آتى الزكاة سواء كان مشركا أصليا أو مشركا مرتدا
و أيضا فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرج كان قد ارتد على عهد النبي صلى الله عليه و سلم و لحق بمكة و افترى على الله و رسوله ثم إنه بعد ذلك بايعه النبي صلى الله عليه و سلم و حقن دمه و كذلك الحارث بن سويد و كذلك جماعة من أهل مكة أسلموا ثم ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام فحقنت دماؤهم و قصص هؤلاء و غيرهم مشهورة عند أهل العلم بالحديث و السيرة
و أيضا فالإجماع من الصحابة رضي الله عنهم على ذلك فإن النبي صلى الله عليه و سلم لما توفى ارتد أكثر العرب إلا أهل مكة و المدينة و الطائف و اتبع قوم من تنبأ لهم مثل مسيلمة و العنسي و طليحة الأسدي فقاتلهم الصديق و سائر الصحابة رضي الله عنهم حتى رجع أكثرهم إلى الإسلام فأقروهم على ذلك و لم يقتلوا واحدا ممن رجع إلى الإسلام و من رؤوس من كان قد ارتد و رجع طليحة الأسدي المتنبي و الأشعث بن قيس و خلق كثير لا يحصون و العلم بذلك ظاهر لا خفاء به على أحد و هذه الرواية عن الحسن فيها نظر فإن مثل هذا لا يخفى عليه و لعله أراد نوعا من الردة كظهور الزندقة و نحوها أو قال ذلك في المرتد الذي ولد مسلما و نحو ذلك مما قد شاع فيه الخلاف
و أما قوله صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] فنقول بموجبه فإنما يكون مبدلا إذا دام على ذلك و استمر عليه فأما إذا رجع إلى الدين الحق فليس بمبدل و كذلك إذا رجع إلى المسلمين فليس بتارك لدينه مفارق للجماعة بل هو متمسك بدينه ملازم للجماعة و هذا بخلاف القتل و الزنا فإنه فعل صدر عنه لا يمكن دوامه عليه بحيث إذا تركه يقال إنه ليس بزان و لا قاتل فمتى وجد منه ترتب حده عليه و إن عزم على أن لا يعود إليه لأن العزم على ترك العود لا يقطع مفسدة ما مضى من الفعل
على أن قوله : [ التارك لدينه المفارق للجماعة ] قد يفسر بالمحارب قاطع الطريق كذلك رواه أبو داود في سننه مفسرا عن عائشة رضي الله عنها قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : : رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم و رجل خرج محاربا لله و رسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نفسا فيقتل بها ] فهذا المستثنى هو المذكور في قوله [ التارك لدينه المفارق للجماعة ] و لهذا وصفه بفراق الجماعة و إنما يكون هذا بالمحاربة
و يؤيد ذلك أن الحديثين تضمنا أنه لا يحل دم من يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و المرتد لم يدخل في هذا العموم فلا حاجة إلى استثنائه و على هذا فيكون ترك دينه عبارة عن خروجه عن موجب الدين و يفرق بين ترك الدين و تبديله أو يكون المراد به من ارتد و حارب كالعرنيين و مقيس ابن صبابة ممن ارتد و قتل و أخذ المال فإن هذا يقتل بكل حال إن تاب بعد القدرة عليه و لهذا و الله أعلم استثنى هؤلاء الثلاثة الذي يقتلون بكل حال و إن أظهروا التوبة بعد القدرة و لو كان أريد المرتد المجرد لما احتيج إلى قوله [ المفارق للجماعة ] فإن مجرد الخروج من الدين يوجب القتل و إن لم يفارق جماعة الناس فهذا وجه يحتمله الحديث و هو ـ و الله أعلم ـ مقصود هذا الحديث
و أما قوله [ لا يقبل الله توبة عبد أشرك بعد إسلامه ] فقد رواه ابن ماجة من هذا الوجه و لفظه [ لا يقبل الله من مشرك أشرك بعد إسلامه عملا حتى يفارق المشركين إلى المسلمين ] و هذا دليل على قبول إسلامه إذا رجع إلى المسلمين و بيان أن معنى الحديث أن توبته لا تقبل ما دام مقيما بين ظهراني المشركين مكثرا لسوادهم كحال الذين قتلوا ببدر و معناه أن من أظهر الإسلام ثم فتن عن دينه حتى ارتد فإنه لا تقبل توبته و عمله حتى يهاجر إلى المسلمين و في مثل هؤلاء نزل قوله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الآية [ النساء : 97 ] و أيضا فإن ترك الدين و تبديله و فراق الجماعة يدوم و يستمر لأنه تابع للاعتقاد و الاعتقاد دائم فمتى قطعه و تركه عاد كما كان و لم يبق لما مضى حكم أصلا و لا فيه فساد و لا يجوز أن يطلق عليه القول بأنه مبدل للدين و لا أنه تارك لدينه كما يطلق على الزاني و القاتل بأن هذا زان و قاتل فإن الكافر بعد إسلامه لا يجوز أن يسمى كافرا عند الإطلاق و لأن تبديل الدين و تركه في كونه موجبا للقتل بمنزلة الكفر الأصلي و الحراب في كونهما كذلك فإذا كان زوال الكفر بالإسلام أو زوال المحاربة بالعهد يقطع حكم الكفر فكذلك زوال تبديل الدين و تركه بالعود إلى الدين و أخذه يقطع حكم ذلك التبديل و الترك

إذا تقرر ذلك فإن الذي عليه جماهير أهل العلم أن المرتد يستتاب و مذهب مالك و أحمد أنه يستتاب ويؤجل بعد الاستتابة ثلاثة أيام و هل ذلك واجب أو مستحب ؟ على روايتين عنهما أشهرهما عنهما : أن الاستتابة واجبة وهذا قول إسحاق بن راهويه و كذلك مذهب الشافعي هل الاستتابة واجبة أو مستحبة على قولين لكن عنده في أحد القولين يستتاب في الحال و إلا قتل و هو قول ابن المنذر و المزني و في القول الآخر يستتاب كمذهب مالك و أحمد
و قال الزهري و ابن القاسم في رواية [ يستتاب ثلاث مرات ]
و مذهب أبي حنيفة أنه يستتاب أيضا فإن لم يتب و إلا قتل و المشهور عندهم أن الاستتابة مستحبة و ذكر الطحاوي عنهم : [ لا يقتل المرتد حتى يستتاب ] و عندهم يعرض عليه الإسلام فإن أسلم و إلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإنه يؤجل ثلاثة أيام
و قال الثوري : [ يؤجل ما رجيت توبته ] و كذلك معنى قول النخعي
و ذهب عبيد بن عمير و طاوس إلى أنه يقتل و لا يستتاب لأنه صلى الله عليه و سلم أمر بقتل المبدل دينه و التارك لدينه المفارق للجماعة و لم يأمر باستتابته كما أمر الله سبحانه بقتال المشركين من غير استتابة مع أنهم لو تابوا لكففنا عنهم
يؤيد ذلك أن المرتد أغلظ كفرا من الكافر الأصلي فإذا جاز قتل الأسير الحربي من غير استتابة فقتل المرتد أولى
و سر ذلك أنا لا نجيز قتل كافر حتى نستتيبه بأن يكون قد بلغته دعوة محمد صلى الله عليه و سلم إلى الإسلام فإن قتل من لم تبلغه الدعوة غير جائز و المرتد قد بلغته الدعوة فجاز قتله كالكافر الأصلي الذي بلغته و هذا هو علة من رأى الاستتابة مستحبة فإن الكفار يستحب أن ندعوهم إلى الإسلام عند كل حرب و إن كانت الدعوة قد بلغتهم فكذلك المرتد و لا يجب ذلك فيهما
نعم لو فرض المرتد من يخفى عليه جواز الرجوع إلى الإسلام فإن الاستتابة هنا لابد منها
و يدل على ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم أهدر يوم فتح مكة دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح و دم مقيس بن صبابة و دم عبد الله بن خطل و كانوا مرتدين و لم يستتبهم بل قتل ذانك الرجلان و توقف صلى الله عليه و سلم عن مبايعه ابن أبي سرح لعل بعض المسلمين يقتله فعلم أن قتل المرتد جائز ما لم يسلم و أنه لا يستتاب
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم عاقب العرنييين الذين كانوا في اللقاح ثم ارتدوا عن الإسلام بما أوجب موتهم و لم يستتبهم و لأنه فعل شيئا من الأسباب المبيحة للدم فقتل قبل استتابته كالكافر الأصلي و كالزاني و كقاطع الطريق و نحوهم فإن كل هؤلاء ـ من قبلت توبته و من لم تقبل ـ يقتل قبل الاستتابة و لأن المرتد لو امتنع ـ بأن يلحق بدار الحرب أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام ـ فإنه يقتل قبل الاستتابة بلا تردد فكذلك إذا كان في أيدينا
و حجة من رأى الاستتابة إما واجبة أو مستحبة قوله سبحانه و تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأنفال : 38 ] أمر الله رسوله أن يخبر جميع الذين كفروا أنهم إن انتهوا غفر لهم ما سلف و هذا معنى الاستتابة و المرتد من الذين كفروا و الأمر للوجوب فعلم أن استتابة المرتد واجبة و لا يقال [ فقد بلغهم عموم الدعوة إلى الإسلام ] لأن هذا الكفر أخص من ذلك الكفر فإنه يوجب قتل كل من فعله و لا يجوز استبقاؤه و هو لم يستتب من هذا الكفر
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم بعث بالتوبة إلى الحارث بن سويد و من كان قد ارتد معه إلى مكة كما قدمناه بعد أن كانت قد نزلت فيهم آية التوبة فيكون استتابته مشروعة ثم إن هذا الفعل منه خرج امتثالا للأمر بالدعوة إلى الإسلام و الإبلاغ لدينه فيكون واجبا
و عن جابر رضي الله عنه أن امرأة يقال لها [ أم مروان ] ارتدت عن الإسلام فأمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت و إلا قتلت
و عن عائشة رضي الله عنها قالت : ارتدت امرأة يوم أحد فأمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يستتاب فإن تابت و إلا قتلت رواهما الدار قطني
و هذا ـ إن صح ـ أمر بالاستتابة و الأمر للوجوب و العمدة فيه إجماع الصحابة عن محمد بن عبد الله بن عبد القاري قال : قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال : هل من مغربة خبر ؟ قال : نعم رجل كفر بعد إسلامه قال : فما فعلتم به ؟ قال : قربناه فضربنا عنقه قال عمر : فهلا حبستموه ثلاثا و أطعمتوه كل يوم رغيفا و استتبتموه لعله يتوب و يرجع إلى أمر الله اللهم إني لم أحضر و لم آمر و لم أرض إذ بلغني رواه مالك و الشافعي و أحمد و قال : [ أذهب إلى حديث عمر ] و هذا يدل على أن الاستتابة واجبة و إلا لم يقل عمر : [ لم أرض إذ بلغني ] و عن أنس بن مالك قال : لما افتتحنا تستر بعثني الأشعري إلى عمر بن الخطاب فلما قدمت عليه قال : ما فعل البكريون ؟ قال : فلما رأيته لا يقلع قلت : يا أمير المؤمنين ما فعلوا ؟ أنهم قتلوا و لحقوا بالمشركين ارتدوا عن الإسلام قاتلوا مع المشركين حتى قتلوا قال : فقال : لأن أكون أخذتهم سلما كان أحب إلي مما على وجه الأرض من صفراء أو بيضاء و قال : فقلت : و ما كان سبيلهم لو أخذتم سلما ؟ قال : كنت أعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه فإن أبو استودعتهم الحبس
و عن عبد الله بن عتبة قال : أخذ ابن مسعود قوما ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق قال : فكتب فيهم إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فكتب إليه أن أعرض عليهم دين الحق و شهادة أن لا إله إلا الله فإن قبلوا فخل عنهم و إن لم يقبلوا فاقتلهم فقبلها بعضهم فتركه و لم يقبلها بعضهم فقتله رواهما الإمام أحمد بسند صحيح
و عن العلاء أبي محمد أن عليا رضي الله تعالى عنه أخذ رجلا من بني بكر ابن وائل قد تنصر فاستتابه شهرا فأبى فقدمه ليضرب عنقه فنادى : يا لبكر فقال علي : أما إنك واجده أمامك في النار رواه الخلال و صاحبه أبو بكر
و عن أبي موسى رضي الله عنه أنه أتى برجل قد ارتد عن الإسلام و دعاه عشرين ليلة أو قريبا منها فجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه رواه أبو داود
و روي من وجه آخر أن أبا موسى استتابه شهرا و ذكره الإمام أحمد
و عن رجل عن ابن عمر قال : يستتاب المرتد ثلاثا رواه الإمام أحمد
و عن أبي وائل عن معيز السعدي قال : مررت في السحر بمسجد بني حنيفة و هم يقولون : إن مسيلمة رسول الله فأتيت عبد الله فأخبرته فبعث الشرط فجاؤا بهم فاستتابهم فتابوا فخلى سبيلهم و ضرب عنق عبد الله بن النواحة فقالوا : أحدث قوم في أمر فقتلت بعضهم و تركت بعضهم فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم و قدم إليه هذا و ابن أثال فقال : أتشهد أني رسول الله ؟ فقالا : أتشهد أنت أن مسيلمة رسول الله ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ آمنت بالله و رسله و لو كنت قتلا وفدا لقتلتكما ] قال فلذلك قتلته رواه عبد الله بن أحمد بإسناد صحيح
فهذه أقوال الصحابة في قضايا متعددة لم ينكرها منكر فصارت إجماعا

و الفرق بين هذا و بين الكافر الأصلي من وجوه :
أحدها : أن توبة هذا أقرب لأن المطلوب منه إعادة الإسلام و المطلوب من ذاك ابتداؤه و الإعادة أسهل من الابتداء فإذا أسقط عنا استتابة الكافر لصعوبتها لم يلزم سقوط استتابة المرتد
الثاني : أن هذا يجب قتله عينا و إن لم يكن من أهل القتال و ذاك لا يجوز أن يقتل إلا أن يكون من أهل القتال و يجوز استبقاؤه بالأمان و الهدنة و الذمة و الإرقاق و المن و الفداء فإذا كان حده أغلظ فلم يقدم عليه إلا بعد الإعذار إليه بالاستتابة بخلاف من يكون جزاؤه دون هذا
الثالث : أن الأصلي قد بلغته الدعوة و هي استتابة عامة من كل كفر و أما هذا فإنما نستتيبه من التبديل و ترك الدين الذي كان عليه و نحن لم نصرح له بالاستتابة من هذا و لا بالدعوة إلى الرجوع
و أما ابن سرح و ابن خطل و مقيس بن صبابة فإنه كانت لهم جرائم زائدة على الردة و كذلك العرنيون فإن أكثر هؤلاء قتلوا مع الردة و أخذوا الأموال فصاروا قطاع الطريق محاربين لله و رسوله و فيهم من كان يؤذي بلسانه أذى صار به من جنس المحاربين فلذلك لم يسستتابوا على أن الممتنع لا يستتاب و إنما يستتاب المقدور عليه و لعل بعض هؤلاء قد استتيب فنكل

ذكرنا حكم المرتد استطرادا لأن الكلام في الساب متعلق به تعلقا شديدا فمن قال : [ إن ساب النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين يستتاب ] قال : إنه نوع من الكفر فإن من سب الرسول أو جحد نبوته أو كذب بآية من كتاب الله أو تهود أو تنصر و نحو ذلك كل هؤلاء قد بدلوا و فارقوا الجماعة فيستتابون و تقبل توبته كغيرهم
يؤيد ذلك أن في كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى المهاجر في المرأة السابة [ أن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر ]
و عن ابن عباس رضي الله عنه : [ أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه و سلم و هي ردة يستتاب منها فإن رجع و إلا قتل ]
و الأعمى الذي كانت له أم ولد تسب النبي صلى الله عليه و سلم كان ينهاها فلا تنتهي و يزجرها فلا تنزجر فقتلها بعد ذلك فإن كانت مسلمة فلم يقتلها حتى استتابها و إن كانت ذمية و قد استتابها فاستتابة المسلم أولى
و أيضا فإما أن يقتل الساب لكونه كفر بعد إسلامه أو لخصوص السب و الثاني لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله بإحدى ثلاث : كفر بعد إسلام أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس فيقتل بها ]
و قد صح ذلك عنه من وجوه متعددة و هذا الرجل لم يزن و لم يقتل فإن لم يكن قتله لأجل الكفر بعد الإسلام امتنع قتله فثبت أنه إنما يقتل لأنه كفر بعد إسلامه و كل من كفر بعد إسلامه فإن توبته تقبل لقوله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ـ إلى قوله ـ إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا } الآية [ آل عمران : 89 ] و لما تقدم من الأدلة الدالة على قبول توبة المرتد
و أيضا فعموم قوله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأنفال : 38 ] و قوله صلى الله عليه و سلم : [ الإسلام يجب ما قبله والإسلام يهدم ما كان قبله ] رواه مسلم يوجب أن من أسلم غفر له كل ما مضى
و أيضا فإن المنافقين الذين نزل فيهم قوله تعالى : { و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم ـ إلى قوله ـ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [ التوبة : 61 ـ 66 ] و قد قيل فيهم : { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } [ التوبة : 66 ] مع أن هؤلاء قد آذوه بألسنتهم و بأيديهم أيضا ثم العفو مرجو لهم و إنما يرجى العفو مع التوبة فعلم أن توبتهم مقبولة و من عفي عنه لم يعذب في الدنيا و لا في الآخرة
و أيضا فقوله سبحانه و تعالى : { جاهد الكفار و المنافقين ـ إلى قوله ـ فإن يتوبوا يك خيرا لهم و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما } الآية [ التوبة 73 ـ 74 ] فإنها تدل على أن المنافق إذا كفر بعد إسلامه ثم تاب لم يعذب عذابا أليما في الدنيا و لا في الآخرة و القتل عذاب أليم فعلم أنه لا يقتل
و قد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في رجال من المنافقين اطلع أحدهم على النبي عليه الصلاة و السلام فقال : علام تشتمني أنت و أصحابك ؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا شيئا فأنزل الله هذه الآية و عن الضحاك قال : خرج المنافقون مع النبي صلى الله عليه و سلم إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه و طعنوا في الدين فنقل ما قالوا حذيفة إلى النبي عليه الصلاة و السلام فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم ؟ ] فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ما قالوا شيئا من ذلك فأنزل الله هذه الآية إكذابا لهم

و أيضا فلا ريب أن توبتهم فيما بينهم و بين الله و إن تضمنت التوبة من حقوق الأدميين لأوجه :
أحدها : أنه قد قيل كفارة الغيبة الاستغفار لمن استغيبه و قد ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى مثل ذلك فجاز أن يكون [ ما ] قد أتى به من الإيمان برسول الله صلى الله عليه و سلم الموجب لأنواع الثناء عليه و التعظيم له موجبا لما ناله من عرضه
الثاني : أن حق الأنبياء تابع لحق الله و إنما عظمت الوقيعة في أعراضهم لما يتضمن ذلك من الكفر و الوقيعة في دين الله و كتابه و رسالته فإذا تبعت حق الله في الوجوب تبعته في السقوط لئلا ليكون أعظم منه و معلوم أن الكافر تصح توبته من حقوق الله فكذلك من حقوق الأنبياء المتعلقة بنبوتهم بخلاف التوبة من الحقوق التي تجب للناس بعضهم على بعض
الثالث : أن الرسول الله صلى الله عليه و سلم قد علم منه أنه يدعو للتأسي به و اتباعه و يخبرهم أن من فعل ذلك فقد غفر له كل ما أسلفه في كفره فيكون قد عفا لمن قد أسلم عما ناله من عرضه و بهذه الوجوه يظهر الفرق بين سب الرسول الله صلى الله عليه و سلم و بين سب واحد من الناس فإنه إذا سب واحدا من الناس لم يأت بعد سبه ما يناقض موجب السب و سبه حق آدمي مخص لم يعف عنه و المقتضى للسب هو موجود بعد التوبة و الإسلام كما كان موجدا قبلهما إن لم يزجر عنه بالحد و هنا كان الداعي إليه الكفر و قد زال بالإيمان و إذا ثبت أن توبته و إيمانه مقبول منه فيما بينه و بين الله فإذا أظهرها وجب أن يقبلها منه لما روى أبو سعيد في حديث ذي الخويصرة التميمي الذي اعترض على النبي صلى الله عليه و سلم في القسمة فقال خالد ابن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ فقال : [ لا لعله أن يكون يصلي ] قال خالد : و كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس و لا أشق بطونهم ] رواه مسلم
و قال لأسامة في الرجل الذي قتله بعد أن قال لا إله إلا الله [ كيف قتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ] قال : إنما تعوذا قال : [ فهلا شققت عن قلبه ]
و كذلك في حديث المقداد نحو هذا و في ذلك نزل قوله تعالى : { و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا } [ النساء : 94 ] و لا خلاف بين المسلمين أن الحربي إذا أسلم عند رؤية السيف و هو مطلق أو مقيد يصح إسلامه و تقبل توبته من الكفر و إن كانت دلالة الحال تقتضي أن باطنه خلاف ظاهره
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقبل من المنافقين علانيتهم و يكل سرائرهم إلى الله مع إخبار الله له أنهم اتخذوا أيمانهم جنة و أنهم { يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم و هموا بما لم ينالوا } [ التوبة : 74 ] فعلم أن من أظهر الإسلام و التوبة من الكفر قبل ذلك منه فهذا قول هؤلاء و سيأتي إن شاء الله تعالى الاستدلال على تعين قتله من غير استتابة و الجواب عن هذه الحجج

و قد ذكرنا فيه ثلاثة أقوال :
أحدهما : يقتل بكل حال و هو المشهور من مذهب الإمام أحمد و مذهب الإمام مالك إذا تاب بعد أخذه و هو وجه لأصحاب الشافعي
الثان
ي : يقتل إلا أن يتوب بالإسلام و هو ظاهر الرواية الأخرى عن مالك و أحمد
و الثالث : يقتل إلا أن يتوب بالإسلام أو العود إلى الذمة كما كان و عليه يدل ظاهر عموم كلام الشافعي إلا أن يتأول و على هذا فإنه يعاقب إذا عاد إلى الذمة و لا يقتل
فمن قال : [ إن القتل يسقط عنه بالإسلام ] فإنه يستدل بمثل ما ذكرنا في المسلم فإنه كله يدل على أن الكافر أيضا إذا أسلم سقط عنه موجب السب و يدل على ذلك أيضا أن الصحابة ذكروا أنه إذا فعل ذلك فهو فهو غادر محارب و أنه ناقض للعهد و معلوم أن من حارب و نقض العهد إذا أسلم عصم دمه و ماله و قد كان كثير من المشركين مثل ابن الزبعري و كعب بن زهير و أبي سفيان ابن الحارث و غيرهم يهجون النبي صلى الله عليه و سلم بأنواع الهجاء ثم أسلموا فعصم الإسلام دماءهم و أموالهم و هؤلاء و إن كانوا محاربين لم يكونوا من أهل العهد فهو دليل على أن حقوق الآدميين التي يستحلها الكافر إذا فعلها ثم أسلم سقطت عنه كما تسقط حقوق الله
و لهذا أجمع المسلمون إجماعا مستندة كتاب الله و سنة نبيه الظاهرة أن الكافر الحربي إذا أسلم لم يؤخذ بما كان أصابه من المسلمين من دم أو مال أو عرض و الذمي إذا سب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه معتقد حل ذلك و عقد الذمة لم يوجب عليه تحريم ذلك فإذا أسلم لم يؤخذ به بخلاف ما يصيبه من دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم فإن عقد الذمة يوجب تحريم ذلك عليه منا كما يوجب تحريم ذلك علينا منه و إن كان يوجب علينا الكف عن سب دينهم و الطعن فيه فهذا أقرب ما يتوجه به الاستدلال بقصص هؤلاء و إن كان الاستدلال به خطأ
و أيضا فإن الذمي إما أن يقتل إذا سب لكفره أو حرابه كما يقتل الحربي الساب أو يقتل حدا من الحدود كما يقتل لزناه بذمية و قطع الطريق على ذمي و الثاني باطل فتعين الأول و ذلك لأن السب من حيث هو سب ليس فيه أكثر من انتهاك العرض و هذا القدر لا يوجب إلا الجلد بل لا يوجب على الذمي شيئا لاعتقاده حل ذلك نعم إنما صولح على الكف و الإمساك فمتى أظهر السب زال العهد فصار حربيا و لأن كون السب موجبا للقتل حدا حكم شرعي فيفتقر إلى دليل على ذلك و لا دليل على ذلك إذ أكثر ما يذكر من الأدلة إنما يفيد أنه يقتل و ذلك متردد بين كون القتل لكفره و حرابه أو لخصوص السب و لا يجوز إثبات الأحكام بمجرد الاستحسان و الاستصلاح فإن ذلك شرع للدين بالرأي و ذلك حرام لقوله تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ]
و القياس في المسألة متعذر لوجهين
أحدهما : أن كثيرا من النظار يمنع جريان القياس في الأسباب و الشروط و الموانع لأن ذلك يفتقر إلى معرفة نوع الحكمة و قدرها و ذلك متعذر لأن ذلك يخرج السب عن أن يكون سبا و شرط القياس بقاء حكم الأصل و لأنه ليس في الجنايات الموجبة للقتل حدا ما يمكن إلحاق السب بها لاختلافهما نوعا و قدرا و اشتراكهما في عموم المفسدة لا يوجب الإلحاق بالاتفاق و كون هذه المفسدة مثل هذه المفسدة يفتقر إلى دليل و إلا شرعا بالرأي و وضعا للدين بالمعقول و ذلك انحلال عن معاقد الدين و انسلال عن روابط الشريعة و انخلاع من ربق الإسلام و سياسة للخلق بالآراء الملكية و الأنحاء العقلية و ذلك حرام بلا ريب فثبت أنه إنما يقتل لأجل كفره و حرابه و معلوم أن الإسلام يسقط القتل الثابت للكفر و الحراب بالاتفاق
و أيضا فالذمي لو كان يسب النبي صلى الله عليه و سلم فيما بينه و بين الله تعالى و يقول ما عسى أن يقول من القبائح ثم أسلم و اعتقد نبوته و رسالته لمحا ذلك عنه جميع تلك السيئات و لا يجوز أن يقال : [ إن النبي صلى الله عليه و سلم يطالبه بموجب سبه في الدنيا و لا في الآخرة ] و من قال ذلك علم أنه مبطل في مقالته للعلم بأن الكافرين يقولون في الرسول شر المقالات و أشنعها و قد أخبر الله تعالى عنهم في القرآن ببعضها مثل قولهم ساحر و كاهن و مجنون و مفتر و قول اليهود في مريم بهتانا عظيما و نسبتها إلى الفاحشة و أن المسيح لغير رشدة و هذا هو القذف الصريح ثم لو أسلم اليهودي و أقر بنبوة المسيح و أنه عبد الله و رسوله و أنه برئ مما رمته اليهود لم يبق للمسيح عليه تبعة

و نحن نعتقد أن من الكفار من يعتقد نبوة نبينا إلى الأميين و منهم من يعتقد نبوته مطلقا لكن إلف الدين و عادته و أغراض نبينا أخر تمنع الدخول في الإسلام و منهم المعرض عن ذلك الذي لا ينظر إليه و لا يتفكر فهؤلاء قد يسبونه و منهم من يعتقد فيه العقيدة الردية و يكف عن سبه و شتمه أو يسبه و يشتمه بما يعتقده فيه مما يكفر به و لا يظهر ذلك و منهم من يظهر ذلك عند المسلمين و منهم من يسبه بما لم يكفر به مما يكون سبا للنبي صلى الله عليه و سلم و غير النبي كالقذف و نحوه و إذا أسلم الكافر غفر له جميع ذلك و لم يجىء في كتاب و لا سنة أن الكافر إذا أسلم يبقى عليه تبعة من التبعات بل الكتاب و السنة دليلان على أن الإسلام يجب ما قبله مطلقا و إذا كان إثم السب مغفورا له لم يجز أن يعاقب عليه بعد الإسلام

و أيضا فلو سب الله سبحانه ثم أسلم لم يؤخذ بموجب ذلك و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما يروى عن ربه تبارك و تعالى : [ شتمني ابن آدم و ما ينبغي له ذلك و أما شتمه إياي فقوله : إني اتخذت ولدا و أنا الأحد الصمد ] ثم لو تاب النصراني و نحوه من شتم الله سبحانه لم يعاقب على ذلك في الدنيا و لا في الآخرة بالاتفاق قال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة و ما من إله إلا إله واحد و إن لم ينتهوا ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله و يستغفرونه و الله غفور رحيم } [ المائدة : 74 ] فسب النبي صلى الله عليه و سلم لا يكون أعظم من سب الله فإنه إنما عظم و صار موجبا للقتل لكون حقه تابعا لحق الله فإذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع أولى بهذا يظهر الفرق بين سب الأنبياء و سب غيرهم من المؤمنين فإن سب الواحد من الناس لا يختلف بين ما قبل الإسلام و ما بعده و الأذى و الغضاضة التي تحق المسبوب قبل إسلام الساب و بعده سواء بخلاف سب النبي صلى الله عليه و سلم فإنه قد زال موجبه بالإسلام و تبدل بالتعزير له و التوقير و الثناء عليه و المدحة له كما تبدل السب لله بالإيمان به و توحيد و تقديسه و تحميده و عبادته

يوضح ذلك أن الرسول له نعت البشرية و نعت الرسالة كما قال : { سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } [ الاسراء : 93 ] فمن حيث هو بشر له أحكام البشر و من حيث هو رسول قد ميزه الله سبحانه و فضله بما خصه به فسبه موجب للعقوبة من حيث هو بشر كغيره من المؤمنين و موجب العقوبة من حيث هو رسول بما خصه الله به لكن إنما أوجب القتل من حيث هو رسول فقط لأن السب المتعلق بالبشرية لا يوجب قتلا و سبه من حيث هو رسول حق الله فقط فإذا أسلم الساب انقطع حكم السب المتعلق برسالته كما انقطع حكم السب المتعلق بالمرسل فسقط القتل الذي هو موجب ذلك السب و يبقى حق بشريته من هذا السب و حق البشرية إنما موجب جلد ثمانين
فمن قال : [ أنه يجلد لقذفه بعد إسلامه و يعزر لسبه لغير القذف ] قال : أن الإسلام يسقط حق الله و حق و حق الرسالة و يبقى حق خصوص الآدمية كغيره من الآدميين فيؤدب ساب جميع المؤمنين بعد إسلامه
و من قال : [ إنه لا يعاقب بشيء ] قال : هذا الحق اندرج في حق النبوة و انغمر في حق الرسالة فإن الجريمة الواحدة إذا أوجب القتل لم توجب معه عقوبة أخرى عند أكثر الفقهاء و لهذا اندرج حق المتعلق بالقتل و القذف في حق الآدمي فإذا عفي للجاني عن القصاص وحد القذف لم يعاقب على ما انتهكه من الحرمة كذلك اندرج هنا حق البشرية في حق الرسالة و في هذين الأصلين المقيس خلاف بين الفقهاء فإن مذهب مالك أن القاتل يعزره الإمام إذا عفا عنه ولي الدم
و عند أبي حنيفة إن حد القذف لا يسقط بالعفو و كذا تردد من قال : [ إن القتل يسقط بالإسلام ] هل يؤدي حدا أو تعزيرا القذف والسب ؟ و من قال هذا القول : قال : لا يستدل علينا بأن الصحابة قتلوا سابه أو أمروا بقتل سابه أو أرادوا قتل سابه من غير استتابة فإن الذمي إذ سبه لا يستتاب بلاد بلا تردد فإنه يقتل لكفره الأصلي كما يقتل الأسير الحربي و مثل ذلك لا يستتاب كاستتابة المرتد إجماعا لكن لو عصم دمه
كذلك يقول فيمن شتمه من أهل الذمة فإنه يقتل و لا يستتاب كأنه حربي آذى المسلمين و قد أسرنا فإنا نقتله فإن أسلم سقط عنه القتل
و كذلك أكثر نصوص مالك و أحمد نما هي أنه يقتل و لا يستتاب و هذا لا تردد فيه إذا سبه الذمي
و من قال : [ إن الذمي يستتاب ] فقد يقول : إنه قد لا يعلم أنه إذا أسلم سقط عنه القتل فيستتاب كما يستتاب المرتد و أولى فإن قتل الكفار قبل الإعذار إليهم و تبليغهم رسالات الله غير جائز
و من لم يستتاب قال : هذا هو مقياس لما جاء في الكتب في قتل كل كافر أصلي أسير و قد ثبت ثبوتا لا يمكن دفعه أن النبي صلى الله عليه و سلم و خلفاءه الراشدين كانوا يقتلون كثيرا من الأسى من غير عرض الإسلام عليهم و إن كانوا ناقضين للعهد و ذلك في قصة قريظة و خيبر ظاهر لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم بالسيرة فإن النبي صلى الله عليه و سلم أخذهم أسرى بعد أن نقضوا العهد و ضرب رقابهم من غير أن يعرض عليهم الإسلام و قد أمر بقتل ابن الأشرف من غير عرض الإسلام عليه و إنما قتله لأنه كان يؤذي الله و رسوله و قد نقض العهد
و من قال : [ إذا تاب بالعود إلى الذمة قبلت توبته أو خير الإمام فيه ] قال : أنه في هذه الحال بمنزلة حربي قد بذل الجزية عن يد و هو صاغر فيجب الكف عنه

و اعلم أن هنا معنى لا بد من التنبيه عليه و هو أن الأسير الحربي الأصل لو أسلم فإن إسلامه لا يزيل عنه حكم الأسير بل إما يصير رقيقا للمسلمين بمنزلة النساء و الصبيان كأحد القولين في مذهب الشافعي و أحمد أو يخير الإمام فيه بين الثلاثة غير القتل على القول الآخر في المذهبين
و الدليل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين قال : كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا من بني عقيل و أصابوا معه العضباء فأتى عليه صلى الله عليه و سلم و هو في الوثاق فقال : يا محمد فأتاه فقال : ما شأنك ؟ فقال : بم أخذتني و أخذت سابقة الحاج ؟ يعني العضباء فقال : أخذتك جزية حلفائك [ من ] ثقيف ثم انصرف عنه فناداه : يا محمد يا محمد و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم رحيما رقيقا فرجع إليه فقال : ما شأنك ؟ قال : إني مسلم قال : لو قلتها و أنت تملك أمرك كل الفلاح ثم انصرف فناده : يا محمد يا محمد فأتاه فقال : ما شأنك ؟ فقال : إني جائع فاطعمني و ظمآن فاسقني قال : [ هذه حاجتك ففدي بالرجلين ]
فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه إذا أسلم بعد الأسر لم يفلح كل الفلاح كما إذا أسلم قبل الأسر و إن ذلك الإسلام لا يوجب إطلاقه
و كذلك العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أظهر الإسلام بعد الأسر بل أخبر أنه قد أسلم قبل ذلك فلم يطلقه النبي صلى الله عليه و سلم حتى فدى نفسه و القياس يقتضي ذلك فإنه لو أسلم رقيق للمسلمين لم يمنع ذلك دوام رقه فكذلك إسلام الأسير لا يمنع دوام أسره لأنه نوع رق و مجوز للاسترقاق كما أن إسلامه لا يوجب أن يرد عليه ما أخذ من ماله قبل الإسلام فإذا كان هذا حال من أسلم بعد أن أسر ممن هو حربي الأصل فهذا الناقض للعهد حاله أشد بلا ريب فإذا أسلم بعد أن نقض العهد و هو في أيدينا لم يجز أن يقال : إنه يطلق بل بحيث قلنا قد عصم دمه فإما أن يصير رقيقا و للإمام أن يبيعه بعد ذلك و ثمنه لبيت المال أو أنه يتخير فيه و هذا قياس قول من يجوز استرقاق ناقض العهد و من لم يجوز استرقاقهم فإنه يجعل هذا بمنزلة المرتد و يقول : إذا عاد إلى الإسلام لم يسترق و لم يقتل
و معنى قوله عليه الصلاة و السلام : [ لو أسلمت و أنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح ] دليل على أن من أسلم و لا يملك أمره لم يكن حاله كحال من أسلم و هو مالك أمره فلا تجوز التسوية بينهما بحال و في هذا أيضا دليل على أن إذا بذل لم يجب إطلاقه فإنه إذا لم يجب إطلاقه بالإسلام فببذل الجزية أولى لكن ليس في الحديث ما ينفي استرقاقه

و الدليل على أن المسلم يقتل من غير استتابة و إن أظهر التوبة بعد أخذه كما هو مذهب الجمهور قوله سبحانه : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا } [ الأحزاب : 57 ]
و قد تقدم أن هذا يقتضي قتله و يقتضي تحتم قتله و إن تاب بعد الأخذ لأنه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله و رسوله و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات فإذا كانت عقوبة أولئك لا تسقط إذا تابوا بعد الأخذ فعقوبة هؤلاء أولى و أحرى لأن عقوبة كليهما على الأذى الذي قاله بلسانه لا على مجرد كفر هو باق عليه
و أيضا فإنه قال { لئن لم ينته المنافقون } إلى قوله { ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا } [ الأحزاب : 60 ] وهو يقتضي أن من لم ينته فإنه يؤخذ و يقتل فعلم أن الانتهاء العاصم ما كان قبل الأخذ
و أيضا فإنه جعل ذلك تفسيرا للعن فعلم أن الملعون متى أخذ قتل إذا لم يكن انتهى الأخذ و هذا ملعون فدخل في الآية
يؤيد ذلك ما قدمناه عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم } [ النور : 23 ] قال : هذه في شأن عائشة و أزواج النبي صلى الله عليه و سلم خاصة ليس فيها توبة ثم قرأ { و الذين يرمون المحصنات ثم يأتوا بأربعة شهداء } إلى قوله { إن الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا } [ النور : 4 ، 5 ] فجعل لهؤلاء توبة لم يجعل لأولئك توبة قال : فهم رجل أن يقول فيقبل رأسه من حسن ما فسر فهذا ابن عباس قد بين أن من لعن هذه اللعنة لا توبة له و اللعنة الأخرى أبلغ منها
يقرره أن قازف أمهات المؤمنين إنما استحق هذه اللعنة على قوله لأجل النبي صلى الله عليه و سلم فعلم أن مؤذيه لا توبة له
و أيضا قوله سبحانه { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا } الآية [ المائدة : 33 ]
و هذا الساب محارب لله و رسوله كما تقدم تقريره من أنه محاد لله و رسوله و أن المحاد لله و رسوله مشاق لله و رسوله محارب لله و رسوله و لأن المحارب ضد المسالم و المسالم الذي تسلم منه و يسلم منك و من آذاه لم يسلم منه فليس بمسالم فهو محارب و قد تقدم من غير وجه أن النبي عليه الصلاة و السلام سماه عدوا له و من عاداه فقد حاربه و هو من أعظم الساعين في الأرض بالفساد قال الله تعالى في صفة المنافقين : { و إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون و ألا إنهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون } [ البقرة : 12 ]
و كل ما في القرآن من ذكر الفساد ـ كقوله : { و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } [ الاعراف : 56 ] و قوله : { و إذا تولى يسعى في الأرض ليفسد فيها ـ إلى قوله ـ و الله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] و غير ذلك ـ فإن السب داخل فيه فإنه أصل ـ كل فساد في الأرض إذا هو إفساد للنبوة التي هي عماد صلاح الدين و الدنيا و الآخرة
و إذا كان هذا الساب محاربا لله و رسوله ساعيا في الأرض بفساد وجب أن يعاقب بإحدى العقوبات المذكورة في الآية إلا أن يتوب قبل القدرة عليه و قد قدمناه الأذلة على أن عقوبته متعينة بالقتل كعقوبة من قتل قطع الطريق فيجب أن يقام ذلك عليه إلا أن يتوب قبل القدرة و هذا الساب الذي قامت عليه البينة ثم تاب بعد ذلك إنما تاب بعد القدرة فلا تسقط العقوبة عنه و لهذا كان الكافر الحربي إذا أسلم بعد الأخذ لم تسقط عنه العقوبة مطلقا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم للعقيلي [ لو قلتها و أنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ] بل يعاقب بالاسترقاق أو يجوز الاسترقاق و غيره لكن هذا مرتد محارب فلم يكن استرقاقه كالعرنيين إذ المحاربة باللسان كالمحاربة باليد فتعين عقوبته بالقتال
و أيضا فسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم دلت من غير وجه على قتل الساب من غير استتابة فإنه أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة و قد ذكرنا أن ذلك يقتضي قتل الساب سواء أجرينا الحديث على ظاهره أو حملناه على من كذب عليه كذبا يشينه و كذلك في حديث الشعبي أنه أمر بقتل الذي طعن عليه في قسم مال العزى من غير استتابة
و في حديث أبي بكر لما استأذنه أبو بزرة أن يقتل الرجل الذي شتمه من غير استتابة قال : إنها لم تكن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلم أنه كان له قتل من شتمه من غير استتابة و عمر رضي الله عنه قتل الذي لم يرض بحكمه صلى الله عليه و سلم من غير استتابة أصلا فنزل القرآن بإقراره على ذلك و هو من أدنى أنواع الاستخفاف به فكيف بأعلاها ؟
و أيضا فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما طعن عليه و افترى افتراء عابه به بعد أن أسلم أهدر دمه و امتنع عن مبايعته و قد تقدم تقرير الدلالة منه على أن الساب يقتل و إن أسلم و ذكرنا أنه كان قد جاءه مسلما تائبا قد أسلم قبل مجيء إليه كما رويناه عن غير واحد أو قد جاء يريد الإسلام و قد فيقتله
و هذا نص في أن مثل هذا المرتد الطاعن لا يجب قبول توبته بل يجوز قتله و إن جاء تائبا و إن تاب و قد قررنا هذا فيما مضى ـ و هنا ـ من وجوه أخرى أن الذي عصم دمه عفو رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه لا مجرد إسلامه و أن بالإسلام و التوبة انمحى الإثم و بعفو رسول الله صلى الله عليه و سلم احتقن الدم و العفو بطل بموته صلى الله عليه و سلم و ليس للأمة أن يعفوا عن حقه و امتناعه من بيعته حتى يقوم إليه بعض القوم فيقتله نص في جواز قتله و إن جاء تائبا
و أما عصمة دمه بعد ذلك فليس دليلا على أن نعصم دم من سب و تاب بعد أن قدرنا عليه لأنا قد بينا من غير وجه أن النبي صلى الله عليه و سلم قد كان يعفو عمن سبه ممن لا خلاف بين الأمة في وجوب قتله ذلك و تعذر عفو النبي صلى الله عليه و سلم عنه و قد ذكرنا أيضا حديث عبد الله بن خطل يدل على قتل الساب لأنه كان مسلما فارتد و كان يهجوه فقتل من غير استتابة
و أيضا فما تقدم من حديث المرفوع و أثر أبي بكر في قتل من آذاه في أزواجه و سراريه من غير استتابة و ما ذاك إلا لأجل أنه نوع الأذى و لذلك حرمه الله معلوم أن السب أشد أذى منه بدليل أن السب يحرم منه و من غيره و نكاح الأزواج لا يحرم إلا منه صلى الله عليه و سلم و إنما ذلك في تحريم ما يؤذيه و وجوب قتل من يؤذيه أي أذى كان من غير استتابة
و أيضا فإنه أمر بقتل النسوة اللاتي كن يؤذينه بألسنتهن بالهجاء مع أمانه لعامة أهل البلد و مع أن قتل المرأة لا يجوز إلا أن تفعل ما توجب القتل و لم يستتب واحدة منهن حين قتل من قتل و الكافرة الحربية من النساء لا تقتل أن لم يقاتل و المرتدة لا تقتل حتى تستتاب و هو هؤلاء النسوة قتلن من غير أن يقاتلن و لم يستتبن فعلم أن قتل من فعل مثل فعلهن جائز بدون استتابة فإن صدور ذلك عن مسلمة أو معاهدة أعظم من صدوره عن حربية
و قد بسطنا بعض هذه الدلالات فيما مضى بما أغنى عن إعادته هنا و ذكرنا أن السنة تدل على أن السب ذنب مقتطع عن عموم الكفر و هو من جنس المحاربة و التوبة التي تحقن دم المرتد إنما هي التربة عن الكفر فأما إن ارتد بمحاربة ـ مثل سفك الدم و أخذ المال كما فعل العرنيون و كما فعل مقيس ابن صبابة حيث قتل الأنصاري و استاق المال و رجع مرتدا ـ فهذا يتعين قتله كما قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم مقيس ابن صبابة و كما قيل له في مثل العرينيين إنما جزاؤهم أن يقتلوا الآية [ المائدة : 33 ] فلذلك من تكلم بكلام من جنس المحادة و المحاربة لم يكن بمنزلة من ارتد فقط
و أيضا ما اعتمده الإمام أحمد من أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فرقوا بين المرتد المجرد فقتلوا الأول من غير استتابة و استتابوا الثاني و أمروا باستتابته و ذلك أنه قد ثبت أنهم قتلوا سابه و قد تقدم ذكر بعض ذلك مع أنه قد تقدم عنهم أنهم كانوا يستتبون المرتد و يأمرون باستتابته فثبت بذلك أنهم كانوا لا يقتلون توبة من يسبه من المسلمين لأن توبته لو قبلت لشرعت استتابته كالمرتد فإنه على هذا القول نوع من المرتدين و من خص المسلم بذلك قال : لا يدل ذلك على أن الكافر الساب لا يسقط عنه إسلامه القتل فإن الحربي يقتل من غير استتابة مع أن إسلامه يسقط عنه القتل إجماعا و لم يبلغنا عن أحد من الصحابة أنه باستتابة الساب إلا ما روي عن ابن عباس و في إسناد الحديث عنه مقال و لفظه : [ أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه و سلم و هي ردة يستتاب فإن رجع و إلا قتل ]
و هذا ـ و الله أعلم ـ فيمن كذب بنبوة شخص من الأنباء و سبه بناء على أنه ليس بنبي ألا ترى إلى قوله [ فقد كذب برسول الله عليه الصلاة و السلام و لا ريب أن من كذب بنبوة بعض الأنبياء و سبه على ذلك ثم تاب قبلت توبته كمن كذب ببعض آيات القرآن فإن هذا أظهر أمره فهو كالمرتد أما من كان يظهر الإقرار بنبوة النبي ثم أظهر سبه فهذا هو مسألتنا
يؤيد هذا أنا قد روينا عنه أنه كان يقول : [ ليس لقاذف أزواج النبي عليه الصلاة و السلام توبة و قاذف غيرهن له توبة ] و معلوم أن ذلك رعاية لحق رسول الله عليه الصلاة و السلام فعلم أن مذهبه أن ساب النبي عليه الصلاة و السلام و قاذفه لا توبة له و أن وجه الرواية الأخرى عنه إن صحت ما ذكرناه أو نحوه
و أيضا فإن سبه أو شتمه ممن يظهر الإقرار بنبوته على فساد اعتقاده و كفره به بل هو دليل على الاستهانة به و الاستخفاف بحرمته فإن من وقر الإيمان به في قلبه موجب لإكرامه و إجلاله لم يتصور منه ذمه و سبه و التنقص به و قد كان من أقبح المنافقين نفاقا : من يستخف بشتم النبي عليه الصلاة و السلام كما روى عن ابن عباس قال : [ كان رسول الله عليه الصلاة و السلام جالسا في ظل حجرة من حجر نسائه في نفر من المسلمين قد كان تقلص عنهم الظل فقال : سيأتيكم إنسانا ينظر بعين شيطان فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه النبي عليه الصلاة و السلام فقال : علام تشتمني أنت و فلان و فلان ؟ دعاهم بأسمائهم فانطلق فجاء بهم ن فحلفوا له و اعتذروا إليه ] فأنزل الله تبارك و تعالى : { يحلفون لكم لترضوا عنهم } الآية [ التوبة : 96 ]
رواه أبو مسعود ابن الفرات و رواه الحاكم في صحيحه و قال : فأنزل الله تعالى { يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له } الآية [ المجادلة : 18 ] و إذا ثبت أنه كافر به فإظهار الإقرار برسالته بعد ذلك لا يدل على زوال ذلك الكفر و الاستهانة لأن الظاهر إنما يكون دليلا صحيحا معتمدا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى الظاهر قد علم أن الباطن بخلافه

و لهذا اتفق العلماء على أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف علمه و إن شهد عنده بذلك العدول و يجوز له أن يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها و ذلك أيضا لو أقر إقرارا علم أنه كاذب فيه ـ مثل أن يقول لمن هو أكبر منه [ هذا ابني ] ـ لم يثبت نسبة و لا ميراثه باتفاق العلماء و كذلك الأدلة الشرعية ـ مثل خبر العدل الواحد مثل الأمر و النهي و العموم و القياس ـ يجب اتباعها إلا أن يقوم دليل أقوى منها يدل على أن باطنها مخالف لظاهرها و نظائر هذا كثيرة
فإذا علمت هذا فنقول : هذا الرجل قد قام الدليل على فساد عقيدته و تكذيبه به و استهانته له فإظهاره الإقرار برسالته الآن ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا و هذا القدر بطلت دلالته فلا يجوز الاعتماد عليه و هذه نكتة من لا يقبل توبة الزنديق وهو مذهب أهل المدينة و مالك و أصحابه و الليث بن سعد و هو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة و هو إحدى الروايات عن أحمد نصرها كثير من أصحابه عنهما أنه يستتاب و هو المشهور عن الشافعي
و قال أبو يوسف آخرا : أقتله من غير استتابة لكن إن تاب قبل أن أقتله قبلت توبته و هذا أيضا الرواية الثالثة عن أحمد
و على هذا المأخذ فإذا كان الساب قد تكرر منه السب و نحوه مما يدل على الكفر اعتضد السب بدلالات أخر من الاستخفاف بحرمات الله و الاستهانة بفرائض الله و نحو ذلك من دلالات النفاق و الزنديق كان ذلك أبلغ في ثبوت زندقته و كفره و في أن لا يقبل منه مجرد ما يظهر من الإسلام مع ثبوت هذه الأمور و ما ينبغي أن يتوقف في قتل مثل هذا و في أن لا يسقط عنه القتل بما يظهر من الإسلام إذ توبة هذا بعد أخذه لم تجدد له حالا لم تكن قبل ذلك فكيف تعطل الحدود بغير موجب ؟ نعم لو أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال و الأعمال ما يدل على حسن الإسلام و كف عن ذلك لم يقتل في هذه الحال و فيه خلاف بين أهل القول سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره
و على مثل هذا من هو أخف منه ممن لم يظهر نفاقه قط تحمل آيات التوبة من النفاق و على الأول تحمل آيات إقامة الحد
ثم من أسقط القتل عن الذمي إذا أسلم قال : بهذا يظهر الفرق بينه و بين الكافر إذا أسلم فإنه كان يظهر لدين يبيح سبه أو لا يمنعه من سبه فأظهر دين الإسلام الذي يوجب تعزيره و توقيره فكان ذلك دليلا على صحة انتقاله و لم يعارضه ما يخالف فوجب العمل به و هذه الطريقة مبنية على عدم قبول توبة الزنديق كما قررناه من ظهور دليل الكفر مع عدم ظهور دليل الإسلام و هو من القياس الجلي

و يدل على جواز قتل الزنديق و المنافق من غير استتابة قوله تعالى : { و منهم من يقول ائذن لي و لا تفتني ـ إلى قوله ـ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين و نحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا } [ التوبة : 49 ـ 52 ]
قال أهل التفسير : أو بأيدينا بالقتل : إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلناكم و هو كما قالوا لأن العذاب على ما يبطنونه من النفاق بأيدينا لا يكون إلا القتل لكفرهم و لو كان المنافق يجب قبول ما يظهر من التوبة بعد ما ظهر نفاقه و زندقته لم يمكن أن يتربص بهم أن يصيبهم الله تعالى بعذاب من عنده أو بأيدينا لأنا كلما أردنا أن نعذبهم على ما أظهروه أظهروا التوبة
و قال قتادة و غيره : قوله : { و ممن حولكم من الأعراب منافقون ـ إلى قوله سنعذبهم مرتين } [ التوبة : 101 ] قالوا : في الدنيا القتل و في البرزخ عذاب القبر
و مما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم و الله و رسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة : 62 ] و قوله سبحانه : { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم ـ إلى قوله ـ يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } [ التوبة : 96 ] و كذلك قوله تعالى : { يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم } [ التوبة : 74 ] و قوله سبحانه : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله و الله يعلم إنك لرسوله و الله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون } [ المنافقون : 2 ] و قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم و لا منهم و يحلفون على الكذب و هم يعلمون ـ إلى قوله تعالى ـ اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين ـ إلى قوله تعالى ـ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم و يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون } [ المجادلة : 14 ـ 18 ]
دلت هذه الآيات كلها على أن المنافقين كانوا يرضون المؤمنين بالإيمان الكاذبة و ينكرون أنهم كفروا و يحلفون أنهم لم يتكلموا بكلمة الكفر
و ذلك دليل على أنهم يقتلون إذا ثبت ذلك عليهم بالبينة لوجوه :
أحدها : أنهم لو كانوا إذا أظهروا التوبة قبل ذلك منهم لم يحتاجوا إلى الحلف و الإنكار و لكانوا يقولون : قلنا و قد تبنا فعلم أنهم كانوا يخافون إذا ظهر ذلك عليهم أنهم يعاقبون من غير استتابة
الثاني : أنه قال تعالى : { اتخذوا أيمانهم جنة } [ المنافقون : 2 ] و اليمين إنما تكون جنة إذا لم نأت ببينة عادلة تكذبها فإذا كذبتها بينة عادلة انخرقت الجنة فجاز قتلهم ولا يمكنه أن يجتن بعد ذلك إلا بجنة من جنس الأولى و تلك جنة مخروقة
الثالث : أن الآيات دليل على أن المنافقين إنما عصم دماءهم الكذب و الإنكار و معلوم أن ذلك إنما يعصم إذا لم تقم بينة بخلافه و لذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه و سلم و يدل على ذلك قوله سبحانه : { يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم و مأواهم جهنم و بئس المصير يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر } الآية [ التوبة : 74 ] و قوله تعالى في موضع آخر : { جاهد الكفار و المنافقين } [ التحريم : 3 ] قال الحسن و قتادة : بإقامة الحدود عليهم و قال ابن مسعود : [ بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ] و عن ابن عباس و ابن جريح : [ باللسان و تغليظ الكلام و ترك الرفق ]
و وجه الدليل أن الله أمر رسول الله عليه الصلاة و السلام بجهاد المنافقين كما أمره بجهاد الكافرين و أن جهادهم إنما يمكن إذا ظهر منهم من القول أو الفعل ما يوجب العقوبة فإنه ما لم يظهر منه شيء البتة لم يكن لنا سبيل عليه فإذا ظهر منه كلمة الكفر فجهاده القتل و ذلك يقتضي أن لا يسقط عنه بتجديد الإسلام له ظاهرا لأنا لو أسقطنا عنهم القتل بما أظهره من الإسلام لكانوا بمنزلة الكفار و كان جهادهم من حيث هم كفار فقط لا من حيث هم منافقون و الآية جهادهم لأنهم صنف غير الكفار لا سيما قوله تعالى : { جاهد الكفار و المنافقين } [ التوبة : 73 ] و يقتضي جهادهم من حيث هم منافقون لأن تعليق الحكم باسم مشتق مناسب يدل على أن موضع الاشتقاق هو العلة فيجب أن يجاهد لأجل النفاق كما يجاهد الكافر لأجل الكفر و معلوم أن الكافر إذا أظهر التوبة من الكفر كان تركا له في الظاهر و لا يعلم ما يخالفه
أما المنافق فإذا أظهر الإسلام لم يكن تركا للنفاق لأن ظهور هذه الحال منه لا ينافي النفاق و لأن المنافق إذا كان جهاده بإقامة الحد عليه كجهاد الذي في قلبه مرض و هو الزاني إذا زنى لم يسقط عنه حده إذا أظهر التوبة بعد أخذه لإقامة الحد عليه كما قد عرف و لأنه لو قبلت علانيتهم دائما مع ثبوت ضدها لم يكن إلى الجهاد على النفاق سبيل فإن المنافق إذا ثبت عنه أنه أظهر الكفر فلو كان إظهار الإسلام حينئذ ينفعه لم يمكن جهاده
و يدل على ذلك قوله : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورنك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل } [ الأحزاب : 62 ]
دلت هذه الآية على المنافقين إذا لم ينتهوا فإن الله يغري نبيه بهم و أنهم لا يجاورنه بعد الإغراء بهم إلا قليلا و أن ذلك في حال كونهم ملعونين أينما وجدوا و أصيبوا أسروا و قتلوا و إنما يكون ذلك إذا أظهروا النفاق لأنه ما دام مكتوما لا يمكن قتلهم
و كذلك قال الحسن : [ أراد المنافقون أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموه و أسروه ] و قال قتادة : [ ذكرنا لنا أن المنافقين أرادوا أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموا ] و لو كان إظهار التوبة بعد اظهار النفاق مقبولا لم يكن أخذ المنافق و لا قتله لتمكنه من إظهار التوبة لا سيما إذا كان كلما شاء أظهر النفاق ثم أظهر التوبة و هي مقبولة منه
يؤيد ذلك أن الله تبارك و تعالى جعل جزائهم أن يقتلوا و لم يجعل جزاءهم أن يقاتلوا و لم يستثن حال التوبة كما استثناه من قتل المحاربين و قتل المشركين فإنه قال : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث و وجدتموهم و خذوهم و احصروهم و اقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ] و قال في المحاربين : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ـ إلى قوله تعالى ـ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 33 ] فعلم أنهم يقتلون من غير استتابة و أنه لا يقبل منهم ما يظهرونه من التوبة
و يوضح ذلك انه جعل انتهائهم النافع قبل الإغراء بهم و قبل الأخذ و التقتيل و هناك جعل التوبة بعد ذكر الحصر و الأخذ و القتل فعلم أن الانتهاء بعد الإغراء بهم لا ينفعهم كما لا تنفع المحارب التوبة بعد القدرة عليه و إن نفعت المشرك من مرتد وأصلي التوبة بعد القدرة عليه و قد أخبر سبحانه أن سنته فيمن لم يتب عن النفاق حتى قدر عليه أن يؤخذ و يقتل و أن هذه السنة لا تبديل لها و الانتهاء في الآية إما أن يعني به الانتهاء عن النفاق بالتوبة الصحيحة أو الانتهاء عن إظهاره عند شياطينه و عند بعض المؤمنين
و المعنى الثاني أظهر فإن من المنافقين من لم ينته عن إسرار النفاق حتى مات النبي صلى الله عليه و سلم و انتهوا عن إظهاره حتى كان في آخر الأمر لا يكاد أحمد يجترئ على إظهار شيء من النفاق نعم الانتهاء يعم القسمين فمن انتهى عن إظهاره فقط أو عن إسراره و إعلانه خرج من وعيد هذه الآية و من أظهر لحقه وعيدها
و مما يشبه ذلك قوله تعالى : { يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر ـ إلى قوله تعالى ـ فإن يتوبوا يك خيرا لهم و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما قي الدنيا و الآخرة } [ التوبة : 74 ] فإنه دليل على أن المنافق إذا لم يتب عذبه الله في الدنيا و الأخرة و كذلك قوله تعالى : { و ممن حولكم من الأعراب منافقون ـ إلى قوله ـ سنعذبهم مرتين } [ التوبة : 101 ]
و أما قوله : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة } [ الأحزاب : 60 ] فقد قال أبو رزين : [ هذا شيء واحد هم المنافقون ] و كذلك قال مجاهد : [ كل هؤلاء منافقون ] فيكون من باب عطف الخاص على العام كقوله تعالى : { و جبريل و ميكال } [ البقرة : 98 ] و قال سلمة بن كهيل و عكرمة : [ الذين في قلوبهم مرض أصحاب الفواحش و الزناة ] و معلوم أن من أظهر الفاحشة لم يكن بد من إقامة الحد عليه فكذلك من أظهر النفاق

و يدل على جواز قتل الزنديق المنافق من غير استتابة ما خرجاه في الصحيحين عن علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنه قد شهد بدرا و ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ] فدل على أن ضرب عنق المنافق من غير استتابة مشروع إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه و سلم على عمر استحلال ضرب عنق المنافق و لكن أجاب بأن هذا ليس بمنافق و لكنه من أهل بدر المغفور لهم فإذا أظهر النفاق الذي لا ريب أنه نفاق فهو مباح الدم
و عن عائشة رضي الله تعالى عنها في حديث الإفك قالت : فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم من نومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله عليه الصلاة و السلام و هو على المنبر [ من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ؟ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا و لقد ذكروا رجلا ما عملت عليه إلا خيرا و ما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل فقال : يا رسول الله أنا و الله أعذرك منه : إن كان من الأوس ضربنا عنقه و إن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة و هو سيد الخزرج و كانت أم حسان بنت عمه من فخذه و كان رجلا صالحا و لكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله لا تقتله و لا تقدر على ذلك فقام أسيد بن حضير و هو ابن عم سعد يعني ابن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان الأوس و الخزرج حتى هموا أن يقتتلوا و رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم على المنبر فلم يزل النبي صلى الله عليه و سلم يخفضهم حتى سكتوا و سكت ] متفق عليه
و في الصحيحين عن عمرو عن جابر بن عبد الله قال : غزونا مع رسول الله و قد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا و كان من المهاجرين رجل لعاب فكسع انصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا و قال الأنصاري : يا للأنصار و قال المهاجري : يا للمهاجرين فخرج النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ما بال دعوى الجاهلية ؟ ثم قال : ما شأنهم ؟ فأخبرهم بكسعة المهاجري الأنصاري قال : فقال النبي عليه الصلاة و السلام : دعوها فإنها خبيثة و قال عبد الله بن أبي ابن سلول : أقد تداعوا علينا ؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليحرجن الأعز منها الأذل قال عمر : ألا نقتل يا نبي الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي عليه الصلاة و السلام [ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ]
و ذكر أهل التفسير و أصحاب السير أن هذه القصة كانت في غزوة بني المصطلق : [ اختصم رجل من المهاجرين و رجل من الأنصار حتى غضب عبد الله ابن أبي و عنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حديث السن و قال عبد الله ابن أبي : أفعلوها ؟ قد نافرونا و كاثرونا في بلادنا و الله ما مثلنا و مثلهم إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك أما و الله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه و بالأذل رسول الله عليه الصلاة و السلام ثم أقبل على من حضره من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم و قاسمتموهم أمواكم أما و الله لئن أمسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم و لأوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم و يلحقوا بعشائرهم و مواليهم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن أرقم : أنت و الله الذليل القليل المبغض في قومك و محمد في عز من الرحمن و مودة من المسلمين و الله لا أحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب فمشى زيد بن أرقم بها إلى النبي عليه الصلاة و السلام و ذلك بعد فراغه من الغزوة و عنده عمر بن الخطاب فقال : دعني أضرب عنقه يا رسول الله فقال : [ إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب ] فقال عمر : فإن كرهت يا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين فمر سعد بن معاذ أو محمد بن مسلمة أو عباد بن بشر فليقتلوه فقال رسول الله عليه الصلاة و السلام [ فكيف يا عمر ؟ إذا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه لا و لكن أذن بالرحيل ] و ذلك في ساعة لم يكن رسول الله عليه الصلاة و السلام يرتحل فيها وأرسل النبي صلى الله عليه و سلم إلى عبد الله بن أبي فأتاه فقال : أنت صاحب هذا الكلام ؟ فقال عبد الله : و الذي أنزل عليك الكتاب بالحق ما قلت من هذا شيئا و إن زيدا لكاذب فقال من حضر من الأنصار : يا رسول الله شيخنا و كبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار عسى أن يكونون هذا الغلام و هم في حديثه و لم يحفظ ما قال فغدره رسول الله صلى الله عليه و سلم و فشت الملامة في الأنصار لزيد و كذبوه قالوا : و بلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي و كان من فضلاء الصحابة ـ ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني فأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني و إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال له النبي عليه الصلاة و السلام : [ بل نرفق به و نحسن صحبته ما بقي معنا ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه و لكن بر أباك و أحسن صحبته ] و ذكروا القصة قالوا : و في ذلك نزلت سورة المنافقين ]
و قد أخرجا في الصحيحين عن زيد بن أرقم قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله و قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت النبي عليه الصلاة و السلام بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا : كذب زيد يا رسول الله قال : فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أنزل الله تصديقي { إذا جاءك المنافقون } [ سورة المنافقون ] قال : ثم دعاهم النبي صلى الله عليه و سلم ليستغفر لهم فلووا رؤسهم

ففي هذه القصة

بيان أن قتل المنافق جائز
من غير استتابة و إن أظهر إنكار ذلك القول و تبرأ منه و أظهر الإسلام و إنما مع النبي صلى الله عليه و سلم من قتله ما ذكره من تحدث الناس أنه يقتل أصحابه لأن النفاق لم يثبت عليه بالبينة و قد حلف أنه ما قال و لإنما علم بالوحي و خبر زيد بن أرقم و أيضا لما خافه من ظهور فتنة بقتله و غضب أقوام يخاف افتتانهم بقتله
و ذكر بعض أهل التفسير أن النبي صلى الله عليه و سلم عد المنافقين الذين و قفوا له على العقبة في غزوة تبوك ليكتفوا به فقال حذيفة : ألا تبعث إليهم فتقتلهم فقال [ أكره أن يقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيناهم الله بالدبيلة ]
و ذكر بعضهم أن رجلا من المنافقين خاصم رجلا من اليهود إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقضى النبي عليه الصلاة و السلام لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق و قال : انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب فأقبل إلى عمر فقال اليهودي : اختصمت أنا و هذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه و زعم أنه مخاصم إليك و تعلق بي فجئت معه فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : نعم فقال لهما : رويدكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت فأخذ السيف و اشتمل عليه ثم خرج به إليهما فضرب به المنافق حتى برد فقال : هكذا أقضى بين من لم يرض بقضاء الله و قضاء رسوله فنزل قوله : { ألم تر إلى الذين يزعمون } الآية [ النساء : 6 ] و قال جبريل : إن عمر فرق بين الحق و لباطل فسمى الفاروق و قد تقدمت هذه القصة من وجهين
ففي هذه الأحاديث دلالة على أن قتل المنافق كان جائزا إذ لولا ذلك لأنكر النبي عليه الصلاة و السلام أن الدم معصوم بالإسلام و لم يعلل ذلك بكراهية غضب عشائر المنافقين لهم و أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه و أن يقول القائل : لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم لأن الدم إذا كان معصوما كان هذا الوصف عديم التأثير في عصمة دم المعصوم و لا يجوز تعليل الحكم بوصف لا أثر له ن و نزل تعليله بالوصف الذي هو مناط الحكم و كما أنه دليل على القتل من غير استتابة على ما لا يخفى

فإن قيل : فلم لم يقتلهم النبي عليه الصلاة و السلام مع علمه بنفاق بعضهم و قبل علانيتهم ؟
قلنا : إنما ذاك لوجهين :
أحدهما : أن عامتهم لم يكن ما يتكلمون به من الكفر مما يثبت عليهم بالبينة بل كانوا يظهرون الإسلام و نفاقهم يعرف تارة بالكلمة يسمعها الرجل المؤمن فينقلها إلى النبي صلى الله عليه و سلم فيحلفون بالله أنهم ما قالوها أو لا يحلفون و تارة بما يظهر من تأخرهم عن الصلاة و الجهاد و استثقالهم للزكاة و ظهور الكراهة منهم لكثير من أحكام الله و عامتهم يعرفون في لحن القول كما قال الله { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ؟ و لو نشاء لأريناكم فلعرفتهم بسيماهم و لتعرفنهم في لحن القول } [ محمد : 30 ]
فأخبر سبحانه أنه لو شاء لعرفهم رسوله بالسيماء في وجوههم ثم قال : { و لتعرفنهم في لحن القول } فأقسم أنه لابد أن يعرفهم في لحن القول و منهم من كان يقول القول أو يعمل العمل فينزل القرآن يخبر أن صاحب ذلك القول و العمل منهم كما في سورة براءة و بينهم من كان المسلمون أيضا يعلمون كثيرا منهم بالشواهد و الدلالات و القرائن و الأمارات و منهم من لم يكن يعرف كما قال تعالى : { و ممن حولكم من الأعراب منافقون و من أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } [ التوبة : 101 ] ثم جميع هؤلاء المنافقين يظهرون الإسلام و يحلفون أنهم مسلمون و قد اتخذوا أيمانهم جنة و إذا كانت هذه حالهم فالنبي عليه الصلاة و السلام لم يكن يقيم الحدود بعلمه و لا بخبر الواحد و لا بمجرد الوحي و لا بالدلائل و الشواهد حتى يثبت الموجب للحد ببينه أو لإقرار ألا ترى كيف أخبر عن المرأة الملاعنة أنها إن جاءت بالولد على نعت كذا و كذا فهو للذي رميت به و جاءت به على النعت المكروه فقال : [ لولا الأيمان لكان لي و لها شأن ] و كان بالمدينة امرأة تعلن الشر فقال : [ لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها ] و قال للذين اختصموا إليه : [ إنكم تختصمون إلي و لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ] فكان ترك قتلهم ـ مع كونهم كفارا ـ لعدم ظهور الكفر منهم بحجة شرعية
و يدل على هذا أنه لم يستتبهم على التعيين و من المعلوم أن أحسن حال من ثبت نفاقه و زندقته أن يستتاب كالمرتد فإن تاب و إلا قتل و لم يبلغنا أنه استتاب واحدا بعينه منهم فعلم أن الكفر و الردة لم تثبت على واحد بعينه ثبوتا يوجب أن يقتل كالمرتد و لهذا تقبل علانيتهم و نكل سرائهم إلى الله
فإذا كانت هذه حال من ظهر نفاقه بغير البينة الشرعية فكيف حال من لم يظهر نفاقه ؟ و لهذا قال عليه الصلاة و السلام : [ إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس و لا أشق بطونهم ] لما استؤذن في قتل ذي الخويصرة و لما استؤذن أيضا في قتل رجل من المنافقين قال : [ أليس يشهد أن لا إله إلا الله ؟ ] قيل : بلى قال [ أليس يصلي ؟ ] قيل : بلى قال : [ أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم ]
فاخبر عليه الصلاة و السلام أنه نهي عن قتل من أظهر الإسلام من الشهادتين و الصلاة ـ و إن ذكر بالنفاق و رمي به و ظهرت عليه دلالته ـ إذا لم يثبت بحجة شرعية أنه أظهر الكفر
و كذلك قوله في الحديث الآخر : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله و أني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهم على الله ] معناه أني أمرت أن أقبل منهم ظاهر الإسلام و أكل بواطنهم إلى الله و الزنديق و المنافق إنما يقتل إذا تكلم بكلمة الكفر و قامت عليه بذلك بينة و هذا حكم بالظاهر لا بالباطن و بهذا الجواب يظهر فقه المسألة
الوجه الثاني : أنه عليه الصلاة و السلام كان يخاف أن يتولد من قتلهم من الفساد أكثر مما في استبقائهم و قد بين ذلك حين قال : [ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ] و قال : [ إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب ] فإنه لو قتلهم بما يعلمه من كفرهم لأوشك أن يظن الظان أنه إنما قتلهم لأغراض و أحقاد و إنما قصده الاستعانة بهم على الملك كما قال : [ أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم ] و أن يخاف من يريد الدخول في الإسلام أن يقتل مع إظهاره الإسلام كما قتل غيره
و قد كان أيضا يغضب لقتل بعضهم قبيلته و أناس آخرون فيكون ذلك سببا للفتنة و اعتبر ذلك بما جرى في قصة عبد الله بن أبي لما عرض سعد بن معاذ بقتله خاصم له أناس صالحون و أخذتهم الحمية حتى سكتهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد بين ذلك رسول الله عليه الصلاة و السلام لما استأذنه عمر في قتل ابن أبي قال أصحابنا : و نحن الآن إذا خفنا مثل ذلك كففنا عن القتل
فحاصله أن الحد لم يقم على واحد بعينه لعدم ظهوره بالحجة الشرعية التي يعلمه بها الخاص و العام أو لعدم إمكان إقامته إلا مع تنفير أقوام عن الدخول في الإسلام و ارتداد آخرين عنه و إظهار قوم من الحرب و الفتنة ما يربي فساده على فساد ترك قتل منافق و هذان المعنيان حكمهما باق إلى يومنا هذا إلا في شيء واحد و هو أنه صلى الله عليه و سلم ربما خاف أن يظن الظان أنه يقتل أصحابه لغرض آخر مثل أغراض الملوك فهذا منتف اليوم
و الذي يبين حقيقة الجواب الثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم لما كان بمكة مستضعفا هو و أصحابه عاجزين عن الجهاد أمرهم الله بكف أيديهم و الصبر على أذى المشركين فلما هاجروا إلى المدينة و صار له دار عزة و منعة أمرهم بالجهاد و بالكف عمن سالمهم و كف يده عنهم لأنه لو أمرهم إذ ذاك بإقامة الحدود على كل منافق لنفر عن الإسلام أكثر العرب إذا رأوا أن بعض من دخل فيه يقتل و في مثل هذه الحال نزل قوله تعالى { و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم و توكل على الله و كفى بالله وكيلا } [ الأحزاب : 48 ]
و هذه السورة نزلت بالمدينة بعد الخندق فأمره الله في تلك الحال أن يترك أذى الكافرين و المنافقين له فلا يكافئهم عليه لما يتولد في مكافأتهم من الفتنة و لم يزل الأمر كذلك حتى فتحت مكة و دخلت العرب في دين الله قاطبة ثم أخذ النبي عليه الصلاة و السلام في غزوة الروم و أنزل الله تبارك و تعالى سورة براءة و كمل شرائع الدين من الجهاد و الحج و الأمر بالمعروف فكان كمال الدين حين نزل قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] قبل الوفاة بأقل من ثلاثة أشهر و لما نزلت براءة أمره الله بنبذ العهود التي كانت للمشركين و قال فيها : { يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] و هذه ناسخة لقوله تعالى : { و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم } [ الأحزاب : 48 ] و ذلك أنه لم يبق حينئذ للمنافق من يعينه لو أقيم عليه الحد و لم يبق حول المدينة من الكفار من يتحدث بأن محمدا يقتل أصحابه فأمره الله بجهادهم و الإغلاظ عليهم
و قد ذكر أهل العلم أن آية الأحزاب منسوخة بهذه الآية و نحوها و قال في الأحزاب : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا } الآية [ الآحزاب : 61 ] فعلم أنهم كانوا يفعلون أشياء إذ ذاك إن لم ينتهوا عنها أقبلوا عليها في المستقبل لما أعز الله دينه و نصر رسوله
فحيث ما كان للمنافق ظهور و تخاف من إقامة الحد عليه فتنة أكبر من بقائه علمنا بآية : { دع أذاهم } [ الأحزاب : 48 ] كما أنه حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم و الصفح و حيث ما حصل القوة و العز خوطبنا بقوله : { جاهد الكفار و المنافقين } [ التوبة : 73 ]
فهذا يبين أن الإمساك عن قتل من أظهر نفاقه بكتاب الله على عهد رسوله عليه الصلاة و السلام إذا لا نسخ بعده و لم ندع أن الحكم تغير بعده لتغير المصلحة من غير وحي نزل فإن هذا تصرف في الشريعة و تحويل لها بالرأي و دعوى أن الحكم المطلق كان لمعنى و قد زال و هو غير جائز كما قد نسبوا ذلك إلى من قال : [ إن حكم المؤلفة انقطع و لم يأت على انقطاعه بكتاب و لا سنة سوى ادعاء تغير المصلحة ]
و يدل على المسألة ما روى أبو إدريس قال : [ أتي علي رضي الله عنه بناس من الزنادقة ارتدوا عن الإسلام فسألهم فجحدوا فقامت عليهم البينة العدول قال : فقتلهم و لم يستتبهم قال و أتي برجل كان نصرانيا و أسلم ثم رجع عن الإسلام قال : فسأله فأقر بما كان منه فاستتابه فتركه فقيل له : كيف تستتيب هذا و لم تستتب أولئك ؟ قال : إن هذا أقر بما كان منه و إن أولئك لم يقروا و جحدوا حتى قامت عليهم البينة فلذلك لم أستتبهم ] رواه الإمام أحمد
و روي عن أبي إدريس قال : أتي علي برجل قد تنصر فاستتابة فأبى أن يتوب فقتله و أتي برهط يصلون القبلة و هم زنادقة و قد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا و قالوا : ليس لنا دين إلا الإسلام فقتلهم و لم يستتبهم ثم قال : أتدرون لم استتبت هذا النصراني ؟ استتبته لأنه أظهر دينه و أما الزنادقة الذي قامت عليهم البينة و جحدوني فإنما قتلهم لأنهم جحدوا و قامت عليهم البينة
فهذا من أمير المؤمنين علي بيان أن كل زنديق كتم زندقته و جحدها حتى قامت عليه البينة قتل و لم يستتب و أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقتل من جحد زندقته من المنافقين لعدم قيام البينة
و يدل على ذلك : قوله تعالى : { و ممن حولكم من الأعراب منافقون و من أهل المدينة ـ إلى قوله ـ و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا } [ التوبة : 102 ] فعلم أن من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين و لهذا الحديث قال الإمام أحمد في الرجل يشهد عليه بالبدعة فيجحد : [ ليست له توبة إنما التوبة لمن اعترف فأما من جحد فلا توبة له ] قال القاضي أبو يعلي و غيره : [ و إذا اعترف بالزندقة ثم تاب قبلت توبته ]
لأنه باعترافه يخرج عن حد الزندقة لأن الزنديق هو الذي يستبطن الكفر و لا يظهره فإذا اعترف به ثم تاب خرج عن حده فلهذا قبلنا توبته و لهذا لم يقبل علي رضي الله عنه توبة الزنادقة لما جحدوا
و قد يستدل على المسألة بقوله تعالى : { و ليست التوبة للذين يعملون السيئات } الآية [ النساء : 18 ] و روى الإمام أحمد بإسناده عن أبي العالية في قوله تعالى { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } [ النساء : 17 ] قال : هذه في أهل الإيمان { و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن } [ النساء : 18 ]
قال : هذه في أهل النفاق : { و لا الذين يموتون و هم كفار } [ النساء : 18 ] قال : هذه في أهل الشرك هذا مع أنه الراوي عن أصحاب محمد عليه الصلاة و السلام فيما أظن أنهم قالوا : كل من أصاب ذنبا فهو جاهل بالله و كل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب
و يدل على ما قال أن المنافق إذا أخذ ليقتل و رأى السيف فقد حضره الموت بدليل دخول مثل هذا في عموم قوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } [ البقرة : 180 ] و قوله تعالى : { بينكم إذا حضر أحدكم الموت } [ المائدة : 106 ] و قد قال حين حضره الموت : { إني تبت الآن } فليست له توبة كما ذكره الله سبحانه نعم إن تاب توبة صحيحة فيما بينه و بين الله لم يكن ممن قال : { إني تبت الآن } بل يكون ممن تاب عن قريب لأن الله سبحانه إنما نفى التوبة عمن حضره الموت و تاب بلسانه فقط و لهذا قال في الأول : { ثم يتوبون } و قال هنا : { إني تبت الآن } فمن قال : [ إني تبت ] قبل حضور الموت أو تاب توبة صحيحة بعد حضور أسباب الموت صحت توبته
و ربما استدل بعضهم بقوله تعالى : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده } الآيتين [ غافر : 84 ، 85 ] و بقوله تعالى : { حتى إذا أدركه الغرق } الآية [ يونس : 90 ] و قوله سبحانه : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها } الآية [ يونس : 98 ] فوجه الدلالة أن عقوبة الأمم الخالية بمنزلة السيف للمنافقين ثم أولئك إذا تابوا بعد معانيه العذاب لم ينفعهم فكذلك المنافق و من قال هذا فرق بينه و بين الحربي بأنا لا نقاتله عقوبة له على كفره بل نقاتله ليسلم فإذا أسلم فقد أتى بالمقصود و المنافق إنما يقاتل عقوبة لا ليسلم فإنه لم يزل مسلما و العقوبات لا تسقط بالتوبة بعد مجيء البأس و هذا كعقوبات سائر العصاة فهذه طريقة من يقتل الساب لكونه منافقا
و فيه طريقة أخرى و هي أن سب النبي صلى الله عليه و سلم بنفسه موجب للقتل مع قطع النظر عن كونه مجرد ردة فإنا قد بينا أن موجب القتل و بينا أنه جناية غير الكفر إذا لو كان ردة محضة و تبديلا للدين و تركا له لما جاز للنبي عليه الصلاة و السلام العفو عمن كان يؤذيه كما لا يجوز العفو عن المرتد و لما قتل الذين سبوه و قد عفا عمن قاتل و حارب
و قد سذكرنا أدلة أخرى على ذلك فيما تقدم و لأن التنقص و السب قد يصدر عن الرجل مع اعتقاد النبوة و الرسالة لكن لما وجب تعزير الرسول و توقيره بكل طريق غلظت عقوبة من انتهك عرضه بالقتل فصار قتله حدا من الحدود لأن سبه نوع من الفساد في الأرض كالمحاربة باليد لا لمجرد كونه بدل الدين و تركه و فارق الجماعة و إذا كان كذلك لم يسقط بالتوبة كسائر الحدود غير عقوبة الكفر و تبديل الدين قال الله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفقوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } [ المائدة : 34 ]
فثبت بهذه الآية أن من تاب بعد أن قدر عليه لم تسقط عنه العقوبة و كذلك قال سبحانه : { و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسب نكالا من الله و الله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } [ المائدة : 39 ]
فأمر بقطع أيديهم جزاء على ما مضى و نكالا عن السرقة في المستقبل منهم و من غيرهم و أخبر أن الله يتوب على من تاب و لم يدرأ القطع بذلك لأن القطع له حكمتان : الجزاء و النكال و التوبة تسقط الجزاء و لا تسقط النكال فإن الجاني متى علم أنه إذا تاب لم يعاقب لم يردع ذلك الفساق و لم يزجرهم عن ركوب العظائم فإن إظهار التوبة و الإصلاح لمقصود حفظ النفس و المال سهل
و لهذا لم نعلم خلافا نعتمده أن السارق أو الزاني لو أظهر التوبة بعد ثبوت الحد عليه عند السلطان لم يسقط الحد عنه و قد رجم النبي عليه الصلاة و السلام ماعزا و الغامدية و أخبر بحسن توبتهما و حسن مصيرهما و كذلك لو قيل : [ إن سب النبي صلى الله عليه و سلم يسقط التوبة و تجديد الإسلام ] لم يردع ذلك الألسن عن انتهاك عرضه و لم يزجر النفوس عن استحلال حرمته بل يؤذيه الإنسان بما يريد و يصيب من عرضه ما شاء من أنواع السب و الأذى ثم يجدد إسلامه و يظهر إيمانه و قد ينال المرء من عرضه و يقع منه تنقض له و استهزاء ببعض أقواله أو أعماله و إن لم يكن منتقلا من دين إلى دين فلأنه [ لا ] يصعب على من هذه سبيله كلما نال من عرضه و استخف بحرمته أن يجدد إسلامه بخلاف الردة المجردة عن الدين فإن سقوط القتل فيها بالعود إلى الإسلام لا يوجب اجتراء الناس على الردة أو الانتقال عن الدين [ لأن الانتقال عن الدين ] لا يقع إلا عن شبهة قادحة في القلب أو شهود قامعة للعقل فلا يكون قبول التوبة من المرتد محرضا للنفوس على الردة و يكون ما يتوقعه من خوف القتل زاجرا له عن الكفر فإنه إذا أظهر ذلك لا يتم مقصوده لعلمه بأنه يجبر على العود إلى الإسلام و هنا من فيه استخفاف أو اجتراء أو سفاهة تمكن من انتقاص النبي صلى الله عليه و سلم و عيبه و الطعن عليه كلما شتم يجدد الإسلام و يظهر التوبة
و بهذا يظهر أن السب و الشتم يظهر الفساد في الأرض الذي يوجب الحد اللازم من الزنا و قطع الطريق و السرقة و شرب الخمر فإن مريد هذه المعاصي إذا علم أنه تسقط عنه العقوبة إذا تاب فعلها كلما شاء كذلك من يدعوه ضعف عقله أو ضعف دينه إلى الانتقاص برسول الله صلى الله عليه و سلم إذا علم أن التوبة تقبل منه أتى ذلك متى شاء ثم تاب منه و قد حصل مقصوده بما قاله كما حصل مقصود أولئك بما فعلوه بخلاف مريد الردة فإن مقصوده لا يحصل إلا بالمقام عليها و ذلك لا يحصل له إذا قتل إن لم يرجع فيكون ذلك رادعا له و هذا الوجه لا يخرج السب عن أن يكون ردة و لكن حقيقته أنه نوع من الردة يغلظ بما فيه من انتهاك عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم كما قد تتغلظ ردة بعض الناس بأن ينضم إليها قتل و غيره فيتحتم القتل فيها دون الردة المجردة كما يتحتم القتل في قتل من قطع الطريق لغلظ الجرم و إن لم يتحتم قتل من قتل لغرض آخر فعوده إلى الإسلام يسقط موجب الردة المحضة و يبقى خصوص السب و لابد من إقامة حده كما أن توبة القاطع قبل القدرة عليه تسقط تحتم القتل و يبقى حق أولياء المقتول من القتل أو الدية أو العفو و هذه مناسبة ظاهرة و قد تقدم نص الشارع و تنبيهه على اعتبار هذا المعنى
فإن قيل : تلك المعاصي يدعو إلي الطيع مع صحة الاعتقاد فلو لم يشرع عنها زاجر لتسارعت النفوس إليها بخلاف سب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن الطبع لا يدعو إليها إلا بخلل في الإعتقاد أكثر ما يوجب الردة فعلم أن مصدره أكثر ما يكون الكفر فيلزمه عقوبة الكافر و عقوبة الكافر مشروطة بعدم التوبة و إذا لم يكن إليه مجرد باعث طبعي لم يشرع ما يزجر عنه و إن كان حراما كالاستخفاف في الكتاب و الدين و نحو ذلك
قلنا : بل قد يكون إليه باعث طبعي غير الخلل ففي الاعتقاد من الكبر الموجب للاستخفاف ببعض أحواله و أفعاله و الغضب الداعي إلى الوقيعة فيه إذا خالف الغرض بعض أحكامه و الشهوة الحاملة على ذم ما يخالف الغرض من أموره و غير ذلك
فهذه الأمور قد تدعو الإنسان إلى نوع من السب له و ضرب من الأذى و الانتقاص و إن لم يصدر إلا مع ضعف الإيمان به كما أن تلك المعاصي لا تصدر أيضا إلا مع ضعف الإيمان و إذا كان كذلك فقبول التوبة ممن هذه حاله يوجب اجتراء أمثاله على أمثال كلماته فلا يزال العرض منهوكا و الحرمة مخفورة بخلاف قبول التوبة ممن يريد انتقالا عن الدين إما إلى دين آخر أو إلى تعطيل فإنه إذا علم أنه يستتاب على ذلك فإن تاب و إلا قتل لم ينتقل بخلاف ما إذا صدر السب عن كافر به ثم آمن به فإن علمه بأنه إذا أظهر السب لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف يردعه عن هذا السب إلا أن يكون مريدا للإسلام و متى أراد الإسلام فلإسلام يجب ما كان قبله فليس في سقوط القتل بإسلام الكافر من الطريق إلى الوقيعة في عرضه ما في سقوطه بتجديد إ سلام من يظهر الإسلام
و أيضا فإن سب النبي صلى الله عليه و سلم حق آدمي فلا يسقط بالتوبة كحد القذف و كسب غيره من البشر ثم من فرق بين المسلم و الذمي قال : المسلم قد التزم أن لا يسب و لا يعتقد سبه فإذا أتى ذلك أقيم عليه حده كما يقام عليه حد الخمر و كما يعزر على أكل لحم الميت و الخنزير و الكافر لم يلتزم تحريم ذلك و لا يعتقده فلا تجب عليه إقامة حده كما لا تجب عليه إقامة حد الخمر و لا يعزر على الميت و الخنزير
نعم إذا أظهره نقض العهد الذي بيننا و بينه فصار بمنزلة الحربي فنقتله لذلك فقط لا لكونه أتى حدا يعتقد بحرمته فإذا أسلم سقط عنه العقوبة على الكفر و لا عقوبة عليه لخصوص السب فلا يجوز قتله
و حقيقة هذه الطريقة أن سب النبي عليه الصلاة و السلام لما فيه من الغضاضة عليه يوجب القتل تعظيما لحرمته و تعزيرا له و توفيرا و نكالا عن التعرض له و الحد إنما يقام على الكافر فيما يعتقد تحريمه خاصة لكنه إذا أظهر ما يعتقد حله من المحرمات عندنا زجر عن ذلك و عوقب عليه كما إذا أظهر الخمر و الخنزير فإظهار السب إما أن يكون كهذه الأشياء كما زعمه بعض الناس أو يكون نقضا للعهد كمقاتلة المسلمين و على التقديرين فلإسلام يسقط تلك العقوبة بخلاف ما يصيبه المسلم مما يوجب الحد عليه و أيضا فإن الردة على قسمين : ردة مغلظة شرع القتل على خصوصها و كل منهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها و الأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعم القسمين بل إنما تدل على القسم الأول كما يظهر ذلك لمن تأمل الأدلة على قبول توبة المرتد فيبقى القسم الثاني و قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه و لم يأت نص و لا إجماع لسقوط القتل عنه و القياس متعذر مع وجود الفرق الجلي فانقطع الإلحاق
و الذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في كتاب و لا سنة و لا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو أي فعل كان فإنه يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه بل الكتاب و السنة و الإجماع قد فرق بين أنواع المرتدين كما سنذكره و إنما بعض الناس يجعل برأيه الردة جنسا واحدا على تباين أنواعه و يقيس بعضها على بعض فإذا لم يكن معه عموم نطقي يعم أنواع المرتد لم يبق إلا القياس و هو فاسد إذا فارق الفرع الأصل بوصف له تأثير في الحكم و قد دل على تأثيره نص الشارع و تنبيهه و المناسبة المشتملة على المصلحة المعتبرة
و تقرير هذا من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن دلائل قبول توبة المرتد مثل قوله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ـ إلى قوله ـ إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا } [ آل عمران : 86 ] و قوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه } [ النحل : 106 ] و نحوها ليس فيها إلا توبة من كفر بعد الإيمان فقط دون من انضم إلى كفره مزيد أذى و إضرار و كذلك سنة رسول الله عليه الصلاة و السلام إنما فيها قبول توبة من جرد الردة فقط و كذلك سنة الخلفاء الراشدين إنما تضمنت قبول توبة من جرد الردة و حارب بعد ارتداده كمحاربة الكافر الأصلي على كفره فمن زعم أن في الأصول ما يعم توبة كل مرتد سواء جرد الردة أو غلظها بأي شيء كان فقد أخطأ و حينئذ فقد قامت الأدلة على وجوب قتل الساب و أنه مرتد و لم تدل الأصول على أن مثله يسقط عنه القتل فيجب قتله بالدليل السالم عن المعارض
الثاني : أن الله سبحانه قال : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أن الرسول حق و جاءهم البينات و الله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم و أولئك هم الضالون } [ آل عمران : 90 ] فأخبر سبحانه أن من ازداد كفرا بعد إيمانه لن تقبل توبته و فرق بين الكفر المزيد كفرا و الكفر المجرد في قبول التوبة من الثاني دون الأول فمن زعم أن كل كفر بعد الإيمان تقبل منه التوبة فقد خالف نص القرآن
و هذه الآية إن كان قد قيل فيها إن ازدياد الكفر المقام عليه إلى حين الموت و إن التوبة المنفية هي توبته عند الغرغرة أو يوم القيامة فلآية أعم من ذلك
و قد رأينا سنة رسول الله عليه الصلاة و السلام فرقت بين النوعين فقبل توبة جماعة من المرتدين ثم إنه أمر بقتل مقيس بن صبابة يوم الفتح من غير استتابة لما ضم إلى ردته قتل المسلم و أخذ المال و لم يتب قبل القدرة عليه و أمر بقتل العرنيين لما ضموا إلى ردتهم نحوا من ذلك و كذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السب و قتل المسلم و أمر بقتل ابن أبي سرح لما ضم إلى ردته الطعن عليه و الافتراء
و إذا كان الكتاب و السنة قد حكما في المرتدين بحكمين و رأينا أن من ضر و آذى بالردة أذى يوجب القتل لم يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه و إن تاب مطلقا دون من بدل دينه فقط لم يصح القول بقبول توبة المرتد مطلقا و كان الساب من القسم الذي لا يجب أن تقبل توبته كما دلت عليه السنة في قصة ابن أبي سرح و لأن السب إيذاء عظيم للمسلمين أعظم عليهم من المحاربة باليد كما تقدم تقريره فيجب أن يتحتم عقوبة فاعله و لأن المرتد المجرد إنما نقتله لمقامه على التبديل فإذا عاود الدين الحق زال المبيح لدمه كما يزول المبيح لدم الكافر الأصلي بإسلامه و هذا الساب أتى من الأذى لله و رسوله ـ بعد المعاهدة على ترك ذلك ـ بما أتى به و هو لا يقتل لمقامه عليه فإن ذلك ممتنع فصار قتله كقتل المحارب باليد
و بالجملة فمن كانت ردته محاربة لله و رسوله بيد أو لسان فقد دلت السنة المفسرة للكتاب أنه من كفر كفرا مزيدا لا تقبل توبته منه

الوجه الثالث : أن الردة قد تتجرد عن السب و الشتم فلا تتضمنه و لا تستلزمه كما تتجرد عن قتل المسلمين و أخذ أموالهم إذ السب و الشتم إفراط في العداوة و إبلاغ في المحادة مصدره شدة سفه الكافر و حرصه على فساد الدين و إضرار أهله و لربما صدر عمن يعتقد النبوة و الرسالة لكن لم يأت بموجب هذا الاعتقاد من التوقير و الانقياد فصار بمنزلة إبليس حيث اعتقد ربوبية الله سبحانه بقوله قوله سبحانه [ رب ] و قد أيقن أن الله أمره بالسجود ثم لم يأت بموجب هذا الاعتقاد من الاستلام و الانقياد بل استكبر و عاند معاندة معارض طاعن في حكمة الآمر
و لا فرق بين من يعتقد أن الله ربه و أن الله أمره بهذا الأمر ثم يقول : إنه لا يطيعه لأن أمره ليس بصواب و لا سداد و بين من يعتقد أن محمدا رسول الله و أنه صادق واجب الاتباع في خبره و أمره ثم يسبه أو يعيب آمره أو شيئا من أحواله أو تنقصه انتقاصا لا يجوز أن يستحقه الرسول و ذلك أن الإيمان قول و عمل فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله سبحانه و تعالى و الرسالة لعبده و رسوله ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبة من الإجلال و الإكرام ـ الذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح بل قارنه الاستخفاف و التسفيه و الازدراء بالقول أو بالفعل ـ كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه و كان ذلك موجبا لفساد ذلك الاعتقاد و مزيلا لما فيه من المنفعة و الصلاح إذ الاعتقادات الإيمانية تزكي النفوس و تصلحها فمتى لم توجب زكاة النفس و لا صلاحها فما ذاك إلا لأنها لم ترسخ في القلب و لم تصر صفة و نعتا للنفس و لا صلاحا و إذا لم يكن علم الإيمان المفروض صفة لقلب الإنسان لازمة له لم ينفعه فإنه يكون بمنزلة حديث النفس و خواطر القلب و النجاة لا تحصل إلا بيقين في القلب و لو أنه مثقال ذرة
هذا فيما بينه و بين الله و أما في الظاهر فيجري الأحكام على ما يظهره من القول و الفعل
و الغرض بهذا التنبيه على أن الاستهزاء بالقلب و الانتقاص ينافي الإيمان الذي في القلب منافاة الضد ضده و الاستهزاء باللسان ينافي الإيمان الظاهر باللسان كذلك
و الغرض بهذا التنبيه على أن السب الصادر عن القلب يوجب الكفر ظاهرا و باطنا
هذا مذهب الفقهاء و غيرهم من أهل السنة و الجماعة خلاف ما يقوله بعض الجهمية و المرجئة القائلين بأن الإيمان هو المعرفة و القول بلا عمل من أعمال القلب مع أنه إنما ينافيه في الظاهر و قد يجامعه في الباطن و ربما يكون لنا إن شاء الله تعالى عودة إلى هذا الموضع
و الغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب كذلك قد تتجرد عن قصد تبديل الدين و إرادة التكذيب بالرسالة كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية و إن كان عدم هذا القصد لا ينفعه كما لا ينفع من قال : الكفر أن لا يقصد أن يكفر
و إذا كذلك فالشارع إذا أمر بقبول توبة من قصد تبديل دينه الحق و غير اعتقاده و قوله فإنما ذاك لأن المقتضي للقتل الاعتقاد الطارئ و إعدام الاعتقاد الأول فإذا عاد ذلك الاعتقاد الإيماني و زال هذا الطارئ كان بمنزلة الماء و العصير : يتنجس بتغيره ثم يزول لتغير فيعود حلالا لأن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها و هذا الرجل لم يظهر مجرد تغير الاعتقاد حتى يعود معصوما بعوده إليه و ليس هذا القول من لوازم تغير الاعتقاد حتى يكون حكمه كحكمه إذ قد يتغير الاعتقاد كثيرا و لا يكون به أذى لله و رسوله

و إضرار المسلمين يزيد على تغير الاعتقاد و يفعله من يظن سلامة الاعتقاد و هو كاذب عند الله و رسوله و المؤمنين في هذه الدعوى و الظن و معلوم أن المفسدة في هذا أعظم من المفسدة في مجرد تغير الاعتقاد من هذين الوجهين :
من جهة كونه إضرارا زائدا و من جهة كونه قد يظن أو يقال إن الاعتقاد قد يكون سالما معه فيصدر عمن لا يريد الانتقال من دين إلى دين و يكون فساده أعظم من فساد الانتقال إذ الانتقال قد علم أنه كفر فنزع عنه ما نزع عن الكفر و هذا قد يظن أنه ليس بكفر إلا إذا صدر استحلالا بل هو معصية و هو من أعظم أنواع الكفر فإذا كان الداعي إليه غير الداعي إلى مجرد الردة و المفسدة فيه مخالفة لمفسدة الردة و هي أشد منها لم يجز أن يلحق التائب منه بالتاثب من الردة بالردة لأن من شرط القياس ـ قياس المعنى ـ استواء الفرع و الأصل في حكمة الحكم باستوائهما في دليل الحكمة إذا كانت خفية فإذا كان في الأصل معان مؤثرة يجوز أن تكون التوبة إنما قبلت لأجلها و هي معدومة في الفرع لم يجز إذ لا يلزم من قبول توبة من خففت مفسدة جنايته أو انتفت قبول توبة من تغلظت مفسدته أو بقيت
و حاصل هذا الوجه أن عصمة دم هذا بالتوبة قياسا على المرتد متعذر لوجود الفرق المؤثر فيكون المرتد المنتقل إلى دين آخر و من أتى من القول بما يضر المسلمين و يؤذي الله و رسوله و هو موجب للكفر على نوعين تحت جنس الكافر بعد إسلامه و قد شرعت التوبة في حق الأول فلا يلزم شرع التوبة في حق الثاني لوجود الفارق من حيث الإضرار و من حيث إن مفسدته لا تزول بقبول التوبة

قد تضمن هذه الدلالة على وجوب قتل الساب من المسلمين و إن تاب و أسلم و يوجبه قول من فرق بينه و بين الذمي إذا أسلم و قد تضمن الدلالة على أن الذمي إذا عاد إلى الذمة لم يسقط عنه القتل بطريق الأولى فإن عود المسلم إلى الإسلام أحقن لدمه من عود الذمي إلى ذمته و لهذا عامة العلماء الذين حقنوا دم هذا و أمثاله بالعود إلى الإسلام لم يقولوا مثل ذلك في الذمي إذا عاد إلى الذمة

و من تأمل سنة رسول الله عليه الصلاة و السلام في قتله لبني قريظة و بعض أهل خبير و بعض بني النضير و إجلائه لبني النضير و بني قينقاع بعد أن نقض هؤلاء الذمة و حرصوا على أن يجيبهم إلى عقد الذمة ثانيا فلم يفعل ثم سنة خلفائه و صحابته في مثل المؤذي و أمثاله مع العلم بأنه كان أحرص شيء على العود إلى الذمة لم يسترب في أن القول بوجوب إعادة مثل هذا إلى الذمة قول مخالف للسنة و لإجماع خير القرون و قد تقدم التنبيه على ذلك في حكم ناقض العهد مطلقا و لولا ظهوره لأشبعنا القول فيه و إنما أحلنا على سيرة رسول الله عليه الصلاة و السلام و سنته من له بها علم فإنهم لا يستريبون أنه لم يكن الذي بين النبي عليه الصلاة و السلام و هؤلاء اليهود هدنة مؤقتة و إنما كانت ذمة مؤبدة على أن الدار دار الإسلام و أنه يجري عليهم حكم الله و رسوله فيما يختلفون فيه إلا أنهم لم يضرب عليهم جزية و لم يلزموا بالصغار الذي ألزموه بعد نزول براءة لأن ذلك لم يكن شرع بعد وأما من قال [ إن الساب يقتل و إن تاب و أسلم و سواء كان كافرا أو مسلما ] فقد تقدم دليله على أن المسلم يقتل بعد التوبة و أن الذمي يقتل و إن طلب العود إلى الذمة
و أما قتل الذمي إذا وجب عليه القتل بالسب و إن أسلم بعد ذلك فلهم فيه طرق و هي دالة على تحتم قتل المسلم أيضا كما تدل على تحتم قتل الذمي :

الطريقة الأولى : قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم إلا من تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } [ المائدة : 34 ]
فوجه الدلالة أن هذا الساب المذكور من المحاربين لله و رسوله الساعين في الأرض فسادا الداخلين في هذه الآية سواء كان مسلما أو معاهدا و كل من كان من المحاربين الداخلين في هذه الآية فإنه يقام عليه الحد إذا قدر عليه قبل التوبة سواء تاب بعد ذلك أو لم يتب فهذا الذمي أو المسلم إذا سب ثم أسلم بعد أن كل واحد قد قدر عليه قبل التوبة فيجب إقامة الحد عليه و حده القتل فيجب قتله سواء تاب أو لم يتب
و الدليل مبني على مقدمتين : إحداهما : أنه داخل في هذه الآية
و الثانية : أن ذلك يوجب قتله إذا أخذ قبل التوبة
أما المقدمة الثانية فظاهرة فإنا لم نعلم مخالفا في أن المحاربين إذا أخذوا قبل التوبة وجب إقامة الحد عليهم و إن تابوا بعد الأخذ و ذلك بين في الآية فإن الله أخبر أن جزاءهم أحد هذه الحدود الأربعة إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فالتائب قبل القدرة ليس جزاؤه شيئا من ذلك و غيره أحد هذه جزاؤه و جزاء أصحاب الحدود تجب إقامته على الآية لأن جزاء العقوبة إذا لم يكن حقا لآدمي حي ـ بل كان حدا من حدود الله ـ وجب استيفاؤه باتفاق المسلمين و قد قال تعالى في آية السرقة : { فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا } [ المائدة : 38 ] فأمر بالقطع جزاء على ما كسباه فلو لم يكن الجزاء المشروع المحدود من العقوبات واجبا لم يعلل وجوب القطع به إذ العلة المطلوبة يجب أن تكون أبلغ من الحكم و أقوى منه و الجزاء اسم للفعل و اسم لما يجازى به و لهذا قرىء قوله تعالى { فجزاء مثل ما قتل } [ المائدة : 95 ] بالتنوين و بالإضافة و كذلك الثواب و العقاب و غيرهما و القطع قد يسمى جزاء و نكالا و قد يقال فعل هذه ليجزيه و للجزاء
و لهذا قال الأكثرون : إنه نصب على المفعول له و المعنى أن الله أمر بالقطع ليجزيهم و لينكل عن فعلهم
و قد قيل : إنه نصب على المصدر لأن معنى [ اقطعوا ] اجزوهم و نكلوا
و قيل إنه على الحال أي فاقطعوهم مجزين منكلين هم و غيرهم أو جازين منكلين
و بكل حال فالجزاء مأمور به أو مأمور لأجله فثبت أنه واجب الحصول شرعا و قد أخبر أحد الحدود الأربعة فيجب تحصيلها إذ الجزاء هنا يتحد فيه معنى الفعل و معنى المجزي به لأن القتل و القطع و الصلب هي أفعال و هي عين ما يجزي به و ليست أجساما بمنزلة المثل من النعم
يبين ذلك أن لفظ الآية خبر عن أحكام الله سبحانه التي يؤمر الإمام بفعلها ليست عن الحكم الذي يخير فيه بين فعله و تركه إذ ليس لله أحكام في أهل الذنوب يخير الإمام بين فعلها و ترك جميعها
و أيضا فإنه قال : { ذلك لهم خزي في الدنيا } و الخزي لا يحصل إلا بإقامة الحدود لا بتعطيلها و أيضا لو كان هذا الجزاء إلى الإمام له إقامته و تركه بحسب المصلحة لندب إلى العفو كما في قوله تعالى : { و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير للصابرين } [ النحل : 126 ] و قوله : { و الجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة } [ المائدة : 45 ] و قوله : { ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } [ النساء : 92 ]
و أيضا فالأدلة على وجوب إقامة الحدود على السلطان من السنة و الإجماع ظاهرة و لم نعلم مخالفا في وجوب إجراء المحاربين ببعض ما ذكره الله في كتابه و إنما اختلفوا في هذه الحدود : هل يخير الإمام بينها بحسب المصلحة أو لكل جرم جزاء محدود شرعا ؟ كما هو المشهور فلا حاجة إلى الإطناب في وجوب الجزاء لكن نقول : جزاء الساب القتل عينا بما تقدم من الدلائل الكثيرة و لا يخير الإمام فيه بين القطع و الإنفاء و إذا كان جزاؤه القتل من هذه الحدود ـ و قد أخذ قبل التوبة ـ وجب إقامة الحد عليه إذا كان من المحاربين بلا تردد
فلنبين المقدمة الأولى و هي أن هذا من المحاربين لله و رسوله الساعين في الأرض فسادا و ذلك من وجوه :

أحدها : ما رويناه من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث قال : ثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : و قوله : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا } [ المائدة : 33 ] قال : [ كان القوم من أهل الكتاب بينهم و بين النبي صلى الله عليه و سلم عهد و ميثاق فنقضوا العهد و أفسدوا في الأرض ] فخير الله رسوله صلى الله عليه و سلم : إن شاء أن يقتل و إن شاء أن يصلب و إن شاء أن يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف
و أما النفي فهو أن يهرب في الأرض و فإن جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه و لم يؤخذ بما سلف منه
ثم قال في موضع آخر و ذكر هذه الآية : من شهر السلاح في قبة الإسلام و أخاف السبيل ثم ظفر به و قدر عليه فأقام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله و إن شاء صلبه و إن شاء قطع يده و رجله ثم قال : { أو ينفوا من الأرض } يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب { فإن تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } [ المائدة : 34 ]
و كذلك روى محمد بن يزيد الواسطي عن جويبر عن الضحاك قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا } [ المائدة : 33 ] قال : [ كان ناس من أهل الكتاب بينهم و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد و ميثاق فقطعوا الكيثاق و أفسدوا في الأرض فخير الله و رسوله أن يقتل إن شاء أو يصلب أو يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف ] [ و أما النفي فهو أن يهرب في الأرض و لا يقدر عليه فإن جاء تائبا داخلا في الإسلام قبل منه و لم يؤاخذ بما عمل ]
و قال الضحاك : [ أيما رجل مسلم قتل أو أصاب حدا أو مالا لمسلم فلحق بالمشركين فلا توبة له حتى يرجع فيضع يده في يد المسلمين فيقر بما أصاب قبل أن يهرب من دم أو غيره أقيم عليه أو أخذ منه ]
ففي هذين الأثرين أنها نزلت في قزم معاهدين من أهل الكتاب لما نقضوا العهد و أفسدوا في الأرض
و كذلك في تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ـ و إن كان لا يعتمد عليه إذا انفرد ـ أنها نزلت في قوم موادعين و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وادع هلال بن عويمر ـ و هو أبو بردة الأسلمي ـ ألا يعينه و لا يعين عليه و من أتاه من المسلمين فهو آمن أن يهاج و من أتى المسلمين منهم فهو آمن أن يهاج و من مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو آمن أن يهاج
قال فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من [ أسلم ] من قوم هلال بن عويمر و لم يكن هلال يومئذ شاهدا فنهدوا إليهم فقتلوهم و أخذوا أموالهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ن فنزل عليه جبريل بالقصة فيهم فقد ذكر أنها نزلت في قوم نعاهدين ن و لكن من غير أهل الكتاب
و روى عكرمة عن ابن عباس ـ و هو قول الحسن ـ أنها نزلت في المشركين و لعله أراد الذين نقضوا العهد كما قال هؤلاء فإن الكافر الأصلي لا ينطبق عليه حكم الآية
و الذي يحقق أن ناقض العهد بما يضر المسلمين داخل في هذه الآية من الأثر ما قدمناه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتى برجل من أهل الذمة نخس بامرأة من المسلمين حتى وقعت فتجللها فأمر به عمر فقتل و صلب فكان أول مصلوب في الإسلام و قال : يا أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد عليه الصلاة و السلام و لا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له و قد رواه عنه عوف بن مالك الأشجعي و غيره كما تقدم و روى عبد الملك بن حبيب بإسناده عن عياض بن عبد الله الأشعري قال : مرت امرأة تسير على بغل فنخس علج فوقعت من البغل فبدا بعض عوراتها فكتب بذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر : أن أصلب العلج في ذلك المكان فإنا لم نعاهدهم على هذا إنما عاهدناهم على أن يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون
و قد قال أبو عبد الله بن حنبل في مجوسي فجر بمسلمة : [ يقتل هذا نقض العهد و كذلك إن كان من أهل الكتاب يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد قيل له : ترى عليه الصلب مع القتل ؟ قال : إن ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه
فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : عمر و أبو عبيدة و عوف بن مالك و من كان في عصرهم من السابقين الأولين قد استحلوا قتل هذا و صلبه و بين عمر أنا لم نعاهدهم على مثل هذا الفساد و أن العهد انتقض بذلك فعلم انهم تأولوا فيمن نقض العهد بمثل هذا أنه من محاربة الله و رسوله و السعي في الأرض فسادا فاستحلوا لذلك قتله و صلبه و إلا فصلب مثله لا يجوز إلا لمن ذكره الله في كتابة
و قد قال آخرون ـ منهم ابن عمر و أنس بن مالك و مجاهد و سعيد بن جبير و عبد الرحمن بن و مكحول و قتادة و غيرهم رضي الله عنهم ـ إنها نزلت في العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام فقتلوا راعي النبي عليه الصلاة و السلام و استاقوا إبل رسول الله صلى الله عليه و سلم و حديث العرنيين مشهور ولا منافاة بين الحديثين فإن سبب النزول قد يتعدد مع كون اللفظ عاما في مدلوله و كذلك كان عامة العلماء على أن الآية عامة في المسلم و المرتد و الناقض كما قال الوازعي في الآية : [ هذا حكم حكمه الله في هذه الأمة على من حارب مقيما على الإسلام أو مرتدا عنه و فيمن حارب من الذمة ]
و قد جاءت آثار صحيحة عن علي و أبي موسى و أبي هريرة و غيرهم رضي الله عنهم تقتضي أن حكم هذه الآية ثابت فيمن حارب المسلمين بقطع الطريق و نحوه مقيما على إسلامه و لهذا يستدل جمهور الفقهاء من الصحابة و التابعين و من بعدهم على حد قطاع الطريق بهذه الآية
و المقصود هنا أن هذا الاناقض للعهد و المرتد عن الإسلام بما فيه الضرر داخل فيها كما ذكرنا دلائله عن الصحابة و التبعين و إن كان يدخل فيها بعض من هو مقيم على الإسلام و هذا الساب ناقض للعهد بما فيه ضرر على المسلمين و مرتد بما فيه ضرر على المسلمين فيدخل في الآية
و مما يدل على أنه قد عني بها ناقضو العهد في الجملة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نفي بني قينقاع و النضير لما نقضوا العهد إلى أرض الحرب و قتل بني قريظة و بعض أهل خيبر لما نقضوا العهد و الصحابة قتلوا و صلبوا بعض من فعل ما ينقض العهد من الأمور المضرة فحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم و خلفائه في أصناف ناقضي العهد كحكم الله في الآية ـ مع صلاحه لأن يكون امتثالا لأمر الله فيها دليل على أنهم مزادون منها

الوجه الثاني : أن ناقض العهد و المرتد المؤذي لا ريب أنه محارب لله و رسوله فإن حقيقة نقض العهد محاربة المسلمين و محاربة المسلمين محاربة لله و رسوله و هو أولى بهذا الاسم من قاطع الطريق و نحوه لأن ذلك مسلم لكن لما حارب المسلمين على الدنيا كان محاربا لله و رسوله فالذي يحاربهم على الدين أولى أن يكون محاربا لله و رسوله ثم لا يخلو أما أن لا يكون محاربا لله و رسوله حتى يقاتلهم و يمتنع عنهم أو يكون محاربا إذا فعل ما يضرهم مما فيه نقض العهد و إن لم يقاتلهم و الأول لا يصح لما قدمناه من أن هذا قد نقض العهد و صار من المحاربين و لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال [ أيما معاهد تعاطى سب الأنبياء فهو محارب غادر ]
و عمر و سائر الصحابة قد جعلوا الذمي الذي تجلل المسلمة بعد أن نخس بها الدابة محاربا بمجرد ذلك حتى حكموا فيه بالقتل و الصلب فعلم أنه لا يشترط في المحاربة المقاتلة بل كل ما نقض العهد عندهم من الأقوال و الأفعال المضرة فهو محارب داخل في هذه الآية
فإن قيل : فيلزم من هذا أن يكون كل من نقض العهد بما فيه ضرر يقتل إذا أسلم بعد القدرة عليه
قيل : و كذلك نقول و عليه يدل ما ذكرناه في سبب نزولها فإنها إذا نزلت فيمن نقض العهد بالفساد و قد قيل فيها : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] علم أن التائب بعد القدرة مبقي على حكم الآية

الوجه الثالث : أن كل ناقض للعهد فقد حارب الله و رسوله لو لا ذلك لم يجز قتله ثم لا يخلو إما أن يقصر على ما نقض العهد ـ بأن يلحق بدار الحرب أو يضم إلى ذلك فسادا فإن كان الأول فقد حارب الله و رسوله فقط فهذا لم يدخل في الآية و إن كان الثاني فقد حارب و سعى في الأرض فسادا ـ مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين أو يغضب مسلمة على نفسها أو يظهر الطعن في كتاب الله و رسوله و دينه أو يفتن مسلما عن دينه ـ فإن هذا قد حارب الله و رسوله بنقضه العهد ن و سعى في الأرض فسادا بفعله ما يفسد على المسلمين إما دينهم أو دنياهم ن و هذا قد دخل في الآية فيجب أن يقتل و يصلب أو ينفى من الأرض حتى يلحق بأرض الحرب إن لم يقدر عليه أو تقطع يده و رجله إن كان قد قطع الطريق و أخذ المال و لا يسقط عنه ذلك إلا أن يتوب من قبل أن يقدر عليه و هو المطلوب

الوجه الرابع : أن هذا الساب محارب لله و رسوله ساع في الأرض فسادا فيدخل في الآية و ذلك لأنه عدو لله و لرسوله و من عادى الله و رسوله فقد حارب الله و رسوله و ذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال للذي سبه [ من يكفني عدوي ] ؟ و قد تقدم ذكر من غير وجه و إذا كان عدوا له فهو محارب
و روى البخاري في صحيحه عن [ أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقول الله تبارك و تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ]
و في الحديث عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول الله عليه الصلاة و السلام يقول : [ اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة ]
فإذا كان من عادى واحدا من الأولياء قد بارز الله بالمحاربة فكيف من عادى صفوة الله من أوليائه ؟ فإنه يكون أشد مبارزة له بالمحاربة و إذا كان محاربا لله لأجل عداوته للرسول فهو محارب للرسول بطريق الأولى فثبت أن الساب للرسول محارب لله و رسوله

فإن قيل : فلو سب واحدا من أولياء الله غير الأنبياء فقد بارز الله بالمحاربة فإنه إذا سبه فقد عاداه كما ذكرتم و إذا عاداه فقد بارز الله بالمحاربة كما نصه الحديث الصحيح و مع هذا لا يدخل في المحاربة
المذكورة في الآية فقد انتقض الدليل و ذلك يوجب صرف المحاربة إلى المحاربة باليد
قيل : هذا باطل من وجوه : أحدها أن ليس كل من سب غير الأنبياء يكون قد عاداهم إذ لا دليل يدل على ذلك و قد قال سبحانه و تعالى : { و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا } [ الأحزاب : 58 ] بعد أن أطلق أنه من أذى الله و رسوله فقد لعنه الله في الدنيا و الآخرة فعلم أن المؤمن قد يؤذي بما اكتسب ويكون أذاه بحق كإقامة الحدود و الانتصار في الشتمة و نحو ذلك مع كونه وليا لله و كذا كان واجبا في بعض الأحيان أو جائزا لم يكن مؤذيه في تلك الحال عدوا له لأن المؤمن يجب عليه أن يوالى المؤمن و لا يعاديه و إن عاقبه عقوبة شرعية كما قال تعالى : { إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا } [ المائدة : 55 ] و قال تعالى : { و من يتول الله و رسوله والذين آمنوا } [ المائدة : 56 ]
الثاني : أن من سب غير رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد يكون مع السب مواليه من وجه آخر فإن سب المسلم إذا لم يكن بحق كان فسوقا و الفاسق لا يعادي المؤمنين بل يواليهم و يعتقد مع السب للمؤمن أنه يجب موالاته من وجه آخر أما سب النبي صلى الله عليه و سلم فإنه ينافي اعتقاد نبوته و يستلزم البراءة منه و المعاداة له لأن اعتقاد عدم نبوته ـ وهو يقول [ إنه نبي ] يوجب أن يعامل معاملة النبيين ـ و ذلك يوجب أبلغ العدوات له
الثالث : لو فرض أن سب غير النبي عداوة له لكن ليس أحد بعينه يشهد له أنه ولي لله شهادة توجب أن ترتب عليها الأحكام المبيحة للدماء بخلاف الشهادة للنبي بالولاية فإنها بعينه نعم لما كان الصحابة قد يشهد لبعضهم بالولاية خرج في قتل سابهم خلاف مشهور ربما نبينه إن شاء الله تعالى عليه
الرابع : أنه لو فرض أنه عادى وليا علم أنه ولي فإنما يدل على أنه بارز الله بالمحاربة و ليس فيه ذكر محاربة الله و رسوله و الجزاء المذكور في الآية إنما هو لمن حارب الله و رسوله و من سب الرسول فقد عاداه و من عاداه فقد حاربه و قد حارب الله أيضا كما دل عليه الحديث فيكون محاربا لله و رسوله و محاربة الله و رسوله أخص من محاربة الله و الحكم المعلق بالأخص لا يدل على أنه معلق بالأعم و ذلك أن محاربة الرسول تقتضي مشاقته على ما جاء به من الرسالة و ليس في معاداة ولي بعينه مشاقة في الرسالة بخلاف الطعن في الرسول
الخامس : أن الجزاء في الآية لمن حارب الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا و الطاعن في الرسول قد حارب الله و رسوله كما تقدم و قد سعى في الأرض فسادا كما سيأتي و هذا الساب للولي و إن كان قد حارب الله فلم يسع في الأرض فسادا لأن السعي في الأرض فسادا إنما يكون بافساد عام لدين الناس أو دنياهم و هذا إنما يتحقق في الطعن في النبي صلى الله عليه و سلم و لهذا لا يجب على الناس الإيمان بولاية الولي و يجب عليهم الإيمان بنبوة النبي
السادس : أن ساب الولي فرض أنه محارب لله و رسوله فخروجه من اللفظ العام لدليل أوجبه لا يوجب أن يخرج هذا الساب للرسول لأن الفرق بين العداوتين ظاهر و القول العام إذا خصت منه صورة لم تخص منه صورة أخرى لا تساويها إلا بدليل آخر
السابع : أن حمله على المحاربة باليد متعذر أيضا في حق الولي لأن من عاداه بيده لم يوجب ذلك أن يدخل في حكم الآية على الإطلاق ـ مثل أن يضربه و نحو ذلك ـ فلا فرق إذا في حقه بين المعاداة باليد و اللسان بخلاف النبي عليه الصلاة و السلام فإنه لا فرق بين أن يعاديه بيد أو لسان فإنه يمكن دخوله في الآية و ذلك مقرر الاستدلال كما تقدم
و إذا ثبت أن هذا الساب محارب لله و رسوله فهو أيضا ساع في الأرض فسادا لأن الفساد نوعان : فساد الدنيا من الدماء و الأموال و الفروج و فساد الدين و الذي يسب رسول الله صلى الله عليه و سلم و يقع في عرضه يسعى ليفسد على الناس دينهم ثم بواسطة ذلك يفسد عليهم دنياهم سواء فرضنا أنه أفسد على أحد دينه أو لم يفسد لأنه سبحانه و تعالى إنما قال : { و يسعون في الأرض فسادا } [ المائدة : 33 ] قيل : إنه نصب على المفعول له أي و يسعون في الأرض للفساد و كما قال : { و إذا تولى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل و الله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] و السعي هو العمل و الفعل فمن سعى ليفسد أمر الدين فقد سعى في الأرض فسادا و إن خاب سعيه و قيل : إنه نصب على المصدر أو على الحال تقديره سعى في الأرض مفسدا كقوله :
{ و لا تعثوا في الأرض مفسدين } [ البقرة : 60 ] أو كما يقال : جلس قعودا و هذا يقال لكل من عمل عملا يوجب الفساد و إن لم يؤثر لعدم قبول الناس له و تمكينهم إياه بمنزلة قاطع الطريق إذا لم يقتل أحدا و لم يأخذ مالا على أن هذا العمل لا يخلو من فساد في النفوس قط إذا لم يقم عليه الحد
و أيضا فإنه لا ريب أن الطعن في الدين و تقبيح حال الرسول في أعين الناس و تنقيرهم عنه من أعظم الفساد كما أن الدعاء إلى تعزيره و توقيره من أعظم الصلاح و الفساد ضد الصلاح كما أن كل قول أو عمل يحبه الله فهو من الصلاح و كل قول أو عمل يبغضه الله فهو من الفساد قال سبحانه و تعالى : { و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } [ الأعراف : 56 ]
يعني الكفر و المعصية بعد الإيمان و الطاعة لكن الفساد نوعان : لازم و هو مصدر فسد يفسد فسادا و متعد و هو اسم مصدر أفسد يفسد إفسادا كما قال تعالى : { سعى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل و الله لا يحب الفساد }
و هذا هو المراد هنا لأنه قال : { و يسعون في الأرض فسادا } [ المائدة : 33 ]
و هذا إنما يقال لمن أفسد غيره لأنه لو كان الفساد في نفسه فقط لم يقل سعى في الأرض فسادا و هذا إنما يقال في الأرض لما انفصل عن الإنسان كما قال سبحانه و تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب } [ الحديد : 22 ] و قال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم } [ فصلت : 53 ] و قال تعالى : { و في الأرض آيات للموقنين و في أنفسكم } [ الذاريات : 21 ]
و أيضا فإن الساب و نحوه انتهك حرمة الرسول و نقص قدره و آذى الله و رسوله و عباده المؤمنين و أجرأ النفوس الكافرة و المنافقة على اصطلام أمر الإسلام و طلب إذلال النفوس المؤمنة و إزالة عز الدين و إسفال كلمة الله و هذا من أبلغ السعي فسادا
و يؤيد ذلك أن عامة ما ذكر في القرآن من السعي في الأرض فسادا و الإفساد في الأرض فإنه قد عني به إفساد الدين فثبت أن هذا الساب محارب لله و رسوله ساع في الأرض فسادا فيدخل في الآية

الوجه الخامس : أن المحاربة نوعان : محاربة باليد و محاربة باللسان و المحاربة باللسان في باب الدين قد تكون أنكى من المحاربة باليد كما تقدم في تقريره في المسألة الأولى و لذلك كان النبي عليه الصلاة و السلام يقتل من كان يحاربه باللسان مع استبقائه بعض من حاربه باليد خصوصا محاربة الرسول الله عليه الصلاة و السلام بعد موته فإنها إنما تكون باللسان و كذلك الإفساد قد يكون باليد و قد يكون باللسان و ما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد فثبت أن محاربة الله و رسوله باللسان أشد و السعي في الأرض لفساد الدين باللسان أوكد فهذا الساب لله و لرسوله أولى باسم المحارب المفسد من قاطع الطريق

الوجه السادس : أن المحاربة خلاف المسالمة و المسالمة : أن يسلم كل من المتسالمين من أذى الآخر فمن لم تسلم من يده أو لسانه فليس بمسالم لك بل هو محارب
و معلوم أن محاربة الله و رسوله هي المغالبة على خلاف ما أمر الله به و رسوله إذ المحاربة لذات الله و رسوله محال فمن سب الله و رسوله لم يسالم الله و رسوله لأن الرسول لم يسلم منه بل طعنه في رسول الله مغالبة لله و رسوله على خلاف ما أمر الله به على لسان رسوله و قد أفسد في الأرض كما تقدم فيدخل في الآية و قد تقدم في المسألة الأولى أن هذا الساب محاد لله و رسوله مشاق لله تعالى و رسوله و كل من شاق الله و رسوله فقد حارب الله و رسوله لأن المحاربة و المشاقة سواء فإن الحرب هو الشق و منه سمي المحراب محرابا و أما كونه مفسدا في الأرض فظاهر
و اعلم أن كل ما دل على أن السب نقض للعهد فقد دل على أنه محاربة لله و رسوله لأن حقيقة نقض العهد أن يعود الذمي محاربا فلو لم يكن بالسب يعود محاربا لما كان ناقضا للعهد و قد قدمنا في ذلك من الكلام ما لا يليق إعادته لما فيه من الإطالة فليراجع ما مضى في هذا الموضع فبقي أنه سعى في الأرض فسادا و هذا أوضح من أن يحتاج إلى دليل فإن إظهار كلمة الكفر و الطعن في المرسلين و القدح في كتاب الله و دينه و رسوله و كل سب بينه و بين خلقه لا يكون [ شيء ] أشد منه فسادا و عامة الآي في كتاب الله التي تنهى عن الإفساد في الأرض فإن من أكثر المراد بها الطعن في الأنبياء كقوله سبحانه عن المنافقين الذين يخادعون الله و الذين آمنوا : { و إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } قال تعالى : { ألا إنهم هم المفسدون } [ البقرة : 12 ] و إنما كان إفسادهم نفاقهم و كفرهم و قوله : { لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } [ الأعراف : 56 ] و قوله سبحانه : { و الله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] و قوله : { و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين } [ الأعراف : 142 ] و إذا كان هذا محاربا لله و رسوله ساعيا في الأرض فسادا تناولته الآية و شملته
و مما يقرر الدلالة من الآية أن الناس فيها قسمان : منهم من يجعلها مخصوصة بالكفار من مرتد و ناقص عهد و نحوهما و منهم من يجعلها عامة في المسلم المقيم على إسلامه و في غيره و لا أعلم أحدا خصها بالمسلم المقيم على إسلامه فتخصيصها به خلاف الإجماع ثم الذين قالوا إنها عامة قال كثير منهم قتادة و غيره : قوله : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] هذه لأهل الشرك خاصة فمن أصاب من المشركين شيئا من المسلمين و هو لهم حرب فأخذ مالا أو أصاب دما ثم مات من قبل أن يقدر عليه أهدر عنه ما مضى لكن المسلم المقيم على إسلامه محاربته إنما هي باليد لأن لسانه موافق مسالم للمسلمين غير محارب أما المرتد و الناقض للعهد فمحاربته تارة باليد و باللسان أخرى و من زعم أن اللسان لا تقع به محاربة فالأدلة المتقدمة في أول المسألة ـ مع ما ذكرناه هنا ـ تدل على أنه محاربة على أن الكلام في هذا المقام إنما هو بعد أن تقرر أن السب محاربة و نقض للعهد
و اعلم أن هذه الآية آية جامعة لأنواع من المفسدين و الدلالة منها هنا ظاهرة قوية لمن تأملها لا أعلم شيئا يدفعها
فإن قيل : مما يدل على أن المحاربة هنا باليد فقط أنه قال : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] و إنما يكون هذا فيمن كان ممتنعا و الشاتم ليس ممتنعا
قيل : الجواب من وجوه :
أحدها : أن المستثنى إذا كان ممتنعا لم يلزم أن يكون المستبقى ممتنعا لجوز أن تكون الآية تعم كل محارب بيد أو لسان ثم استثنى منهم الممتنع إذا تاب قبل القدرة فيبقى المقدور عليه مطلقا و الممتنع إذا تاب بعد القدرة

الثاني : أن كل من جاء تائبا قبل أخذه فقد تاب قبل القدرة عليه
سئل عطاء عن الرجل يجيىء بالسرقة تائبا قال : ليس عليه قطع و قرأ { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] و كل من لم يؤخذ فهو ممتنع و لا سيما إذا لم يوجد و لم تقم عليه حجة و ذلك لأن الرجل و إن كان مقيما فيمكنه الاستخفاء و الهرب كما يمكن المصحر فليس كل من فعل جرما كان مقدورا عليه بل قد يكون طلب المصحر أسهل من طلب المقيم إ ذا كان لا يواريه في الصحراء خمر و لا غابة بخلاف المقيم في المصر و قد يكون المقيم له من يمنعه من إقامة الحد عليه و كل من تاب قبل أن يؤخذ و يرفع إلى السلطان فقد تاب قبل القدرة عليه
و أيضا فإذا تاب قبل أن يعلم به و ثبت الحد عليه فإن جاء بنفسه فقد تاب قبل القدرة عليه لأن قيام البينة ـ و هو في أيدينا ـ قدرة عليه فإذا تاب قبل هذين فقد تاب قبل القدرة عليه قطعا
الثالث : ان المحارب باللسان كالمحارب باليد قد يكون ممتنعا و قد يكون المحارب باليد مستضعفا بين قوم كثيرين و كما أن الذي يخاطر بنفسه بقتال قوم كثيرين قليل فكذلك الذي يظهر الشتم و نحوه من الضرر بين قوم كثيرين قليل و إن الغالب ان القاطع بسيفه لإنما يخرج على من يستضعفه فكذلك الذي يظهر الشتم و نحوه من الساب و نحوه إنما يفعل ذلك في الغالب مستخفيا مع من لا يتمكن من أخذه و رفعه إلى السلطان و الشهادة عليه
و مما يقرر الاستدلال بالآية من وجهين آخرين :
أحدهما : أنها قد نزلت في قوم ممن كفر و حارب بعد سلمة باتفاق الناس فيما علمناه و إن كانت نزلت أيضا فيمن حارب و هو مقيم على إسلامه فالذمي إذا حارب ـ إما بأن يقطع الطريق على المسلمين أو يستكره مسلمة على نفسها و نحو ذلك ـ يصير به محاربا و على هذا إذا تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه القتل الواجب عليه و إن كان هذا قد اختلف فيه فإن العمدة على الحجة فالساب للرسول أولى و لا يجوز أن يخص بمن قاتل لأخذ المال فإن الصحابة جعلوه محاربا بدون ذلك و كذلك سبب النزول الذي ذكرناه ليس فيه أنهم قتلوا أحدا لأخذ مال و لو كانوا قتلوا أحدا لم يسقط القود عن قاتله إذا تاب قبل القدرة و كان قد قتله و له عهد كما لو قتله و هو مسلم
و أيضا فقطع الطريق إما أن يكون نقضا للعهد أو يقام عليه ما يقام على المسلم مع بقاء العهد فإن كان الأول فلا فرق بين قطع الطريق و غيره من الأمور التي تضر المسلمين و حينئذ فمن نقض العهد بها لم يسقط حده ـ و هو القتل ـ إذا تاب بعد القدرة و إن كان الثاني لم ينتقض عهد الذمي بقطع الطريق و قد تقدم الدليل على فساده ثم إن الكلام هنا إنما هو تفريع عليه فلا يصح المنع بعد التسليم

الثاني : أن الله سبحانه فرق بين التوبة قبل القدرة و بعدها لأن الحدود إذا رفعت إلى السلطان وجبت و لم يكن العفو عنها و لا الشفاعة بخلاف ما قبل الرفع و لأن التوبة قبل القدرة عليه توبة اختيار و التوبة بعد القدرة توبة إكراه و اضطرار بمنزلة توبة فرعون حين أدركه الغرق و توبة الأمم المكذبة لما جاءها البأس و توبة من حضره الموت فقال : إني تبت الآن فلم يعلم صحتها حتى يسقط الحد الواجب و لأن قبول التوبة بعد القدرة لو أسقط الحد لتعطلت الحدود و انبثق سد الفساد فإن كل مفسد يتمكن إذا أخذ أن يتوب بخلاف التوبة قبل القدرة فإنها تقطع دابر الشر من غير فساد فهذه معان مناسبة قد شهد لها الشارع باعتبار في غير هذا الأصل فتكون أوصافا مؤثرة أو ملائمة فيعلل الحكم بها و هي بعينها موجودة في الساب فيجب أن يسقط القتل عنه بالتوبة بعد الأخذ لأن إسلامه توبة منه و كذلك توبة كل كافر قال سبحانه و تعالى : { فإن تابوا و أقاموا الصلاة } [ التوبة : 5 ، 11 ] في موضعين و الحد قد وجب بالرفع و هذه توبة إكراه أو اضطرار و في قبولها تعطيل للحد و لا ينقض هذا علينا بتوبة الحربي الأصلي فإنه لم يدخل في هذه الآية و لأنه إذا تاب بعد الأسر لم يخل سبيله بل يسترق و يستعبد و هو إحدى العقوبتين اللتين كان يعاقب بإحداهما قبل الإسلام و الساب لم يكن عليه إلا عقوبة واحدة فلم يسقط كقاطع الطريق و المرتد المجرد لم يسع في الأرض فسادا فلم يدخل في الآية و لا يرد نقضا من جهة المعنى لأنا إنما نعرضه للسيف ليعود إلى الإسلام و إنما نقتله لمقامه على تبديل الدين فإذا أظهر الإعادة إليه حصل المقصود الذي يمكننا تحصيله و زال المحذور الذي يمكننا إزالته و إنما تعطيل هذا الحد أن يترك على ردته غير مرفوع إلى الإمام و لم يقدح كونه مكرها بحق في غرضنا لأنا إنما طلبنا منه أن يعود إلى الإسلام طوعا أو كرها كما لو قاتلناه على الصلاة أو الزكاة فبذلها طوعا أو كرها حصل مقصودنا و الساب و نحوه المؤذين إنما نقتلهم لما فعلوه من الأذى و الضرر لا لمجرد كفرهم فإنا قد أعطيناهم العهد على كفرهم فإذا أسلم بعد الأخذ زال الكفر الذي لم يعاقب عليه بمجرده
و أما الأذى و الضرر فهو إفساد في الأرض قد مضى منه كالإفساد بقطع الطريق لم يزل إلا بتوبة اضطرار لم تطلب منه و لم يقتل ليفعل بل قوتل أولا ليبذل واحدا من الإسلام أو إعطاء الجزية طوعا أو كرها على أنه لا يضر المسلمين فضرهم فاستحق أن يقتل فإذا تاب بعد القدرة عليه و أسلم كانت توبة محارب مفسد مقدور عليه

الطريقة الثانية : قوله سبحانه : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } الآيات [ التوبة : 12 ]
و قد قرأ ابن عامر و الحسن و عطاء و الضحاك و الأصمعي و غيرهم عن أبي عمرو : لا إيمان لهم بكسر الهمزة و هي قراءة مشهورة
و هذه الآية تدل على أنه لا يعصم دم الطاعن إيمان و لا يمين ثانية
أما على قراءة الأكثرين فإن قوله : { لا أيمان لهم } أي لا وفاء بالأيمان و معلوم أنه إنما أراد لا وفاء في المستقبل بيمين أخرى إذ عدم اليمين في الماضي قد تحقق بقوله : { و إن نكثوا أيمانهم } فأفاد هذا أن الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يعقد له عقد ثان أبدا
و أما على قراءة ابن عامر فقد علم أن الإمام في الكفر ليس له إيمان و لم يخرج هذا مخرج التعليل لقتالهم لأن قوله تعالى : { فقاتلوا أئمة الكفر } أبلغ في انتفاء الإيمان عنهم من قوله تعالى : { لا إيمان لهم } و أدل على علة الحكم و لكن يشبه ـ و الله أعلم ـ أن يكون المقصود أن الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يوثق بما يظهره من الإيمان كما لم يوثق بما كان عقده من الأيمان لأن قوله تعالى : { لا إيمان } نكرة منفية بلا التي تنفي الجنس فتقتضي نفي الإيمان عنهم مطلقا فثبت أن الناكث الطاعن في الدين إمام في الكفر لا إيمان له من هؤلاء و أنه يجب قتله و إن ظهر الإيمان
يؤيد ذلك أن كل كافر فإنه لا إيمان له في حال الكفر فكيف بأئمة الكفر ؟ فتخصيص هؤلاء بسلب الإيمان عنهم لا بد أن يكون له موجب و لا موجب له إلا نفيه مطلقا عنهم
و المعنى أن هؤلاء لا يرتجى إيمانهم فلا يستبقون و أنهم لو لم أظهروا إيمانا لم يكن صحيحا و هذا كما قال النبي عليه الصلاة و السلام : [ اقتلوا شيوخ المشركين و استبقوا شرخهم ] لأن الشيخ قد عسا في الكفر و كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصية لأمراء الأجناد شرحبيل بن حسنة و يزيد ابن أبي سفيان و عمرو بن العاص : ستلقون أقواما مجوفة رؤوسهم فاضربوا معاقد الشيطان منها بالسيوف فلأن أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم و ذلك بأن الله تعالى قال : { قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون } و الله أصدق القائلين فإنه لا يكاد يعلم أحدا من الناقضين للعهود الطاعنين في الدين أئمة الكفر حسن إسلامه بخلاف من لم ينقض العهد أو نقضه و لم يطعن في الدين أو طعن و لم ينقض عهدا فإن هؤلاء قد يكون لهم إيمان
يبين ذلك أنه قال : [ لعلهم ينتهون ] أي عن النقض و الطعن كما سنقرره و إنما يحصل الانتهاء إذا قوتلت الفئة الممتنعة حتى تغلب أو أخذ الواحد الذي ليس بممتنع فقتل لأنه متى استحيي بعد القدرة طمع أمثاله في الحياة فلا ينتهون
و مما يوضح ذلك أن ذلك أن هذه الآية قد قيل : إنها نزلت في اليهود الذين كانوا غدروا برسول الله صلى الله عليه و سلم و نكثوا ما كانوا أعطوا من العهود و الأيمان على أن لا يعينوا عليه أعداءه من المشركين و هموا بمعاونة الكفار و المنافقين على إخراج النبي عليه الصلاة و السلام من المدينة فأخبر أنهم بدأوا بالغدر و نكث العهد فأمر بقتالهم ذكر ذلك القاضي أبو يعلى فعلى هذا يكون سبب نزول الآية مثلا مسألتنا سواء
و قد قيل : إنها نزلت في مشركي قريش ذكره جماعة
و قالت طائفة من العلماء : و براءة إنما بعد تبوك و بعد فتح مكة و لم يكن حينئذ بقي بمكة مشرك يقاتل فيكون المراد من أظهر الإسلام من الطلقاء و لم يبق قلة من الكفر إذا أظهروا النفاق
و يؤيد هذا قراءة مجاهد و الضحاك : [ نكثوا إيمانهم ] بكسر الهمزة فتكون دالة على أن من نكث عهده الذي عاهد عليه من الإسلام و طعن في الدين فإنه يقاتل و إنه يقاتل له قال : من نص هذه الآية قال : { فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } ثم قال { و إن نكثوا إيمانهم } [ التوبة : 12 ] فعلم أن هذا نكث بعد هذه التوبة لأنه قد تقدم الإخبار عن نكثهم الأول بقوله تعالى : { لا يرقبون في مؤمن إلا و لا ذمة } [ اللتوبة : 10 ] و قوله تعالى : { كيف و إن يظهروا عليكم } الآية [ التوبة : 8 ] و قد تقدم أن الإيمان هي العهود فعلى هذا تعم الآية من نكث عهد الإيمان و من نكث عهد الأيمان أنه إذا طعن في الدين قوتل و انه لا إيمان له حينئذ فتكون دالة على أن الطاعن في الدين بسب الرسول و نحوه من المسلمين و أهل الذمة لا إيمان له و لا يمين له فلا يحقن دمه بشيء بعد ذلك :
فإن قيل : قد قيل قوله تعالى : { لا إيمان لهم } أي لا أمان لهم مصدر آمنت الرجل أو منه إيمانا ضد أخفته كما قال تعالى : { و آمنهم من خوف } [ قريش : 4 ]
قيل : إن كان هذا القول صحيحا فهو حجة أيضا لأنه لم يقصد لا أمان لهم في الحال فقط للعلم بأنهم قد نقضوا العهد و إنما يقصد لا أمان لهم بحال في الزمان الحاضر و المستقبل و حينئذ فلا يجوز أن يؤمن هذا بحال بل يقتل بكل حال
فإن قيل : إنما أمر في الآية بالمقاتلة لا بالقتل و قد قال بعدها : { و يتوب الله على من يشاء } [ التوبة : 15 ] فعلم أن اللتوبة منه مقبولة قبل لما تقدم ذكر طائفة ممتنعة أمر بالمقاتلة و أخبر سبحانه أنه يعذبهم بأيدي المؤمنين و ينصر عليهم ثم من بعد ذلك يتوب الله على من يشاء لأن ناقضي العهد إذا كانوا مممتنعين فمن تاب منهم قبل القدرة عليه سقطت عنه الحدود و لذلك قال : [ على من يشاء ] و إنما يكون هذا في عدد تتعلق المشيئة بتوبة بعضهم
يوضح ذلك أنه قال : { و يتوب الله } بالضم و هذا كلام مستأنف ليس داخلا في حيز جواب الأمر و ذلك يدل على أن التوبة ليست مقصودة من قتالهم و لا هي حاصلة بقتالهم و إنما المقصود بقتالهم انتهاؤهم عن النكث و الطعن و المضمون بقتالهم تعذيبهم و خزيهم و النصر عليهم و في ذلك ما يدل على أن الحد لا يسقط عن الطاعن الناكث بإظهار التوبة لأنه لم يقتل و يقاتل لأجلها
و يؤيد هذا أنه قال : { كيف يكون للمشركين عهد الله ـ إلى قوله ـ فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } ـ ثم قال ـ { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر } [ التوبة : 12 ] فذكر التوبة الموجبة للأخوة قبل أن يذكر نقض العهد و الطعن في الدين و جعل للمعاهد ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يستقيم لنا فنستقيم له كما استقام فيكون مخلى سبيله لكن ليس أخا في الدين
الحالة الثانية : أن يتوب من الكفر و يقيم الصلاة و يؤتي الزكاة فيصير أخا في الدين و لهذا لم يقل هنا فخلوا سبيلهم كما قال في الآية قبلها لأن الكلام هناك في توبة المحارب و توبته توجب تخليه سبيله و هنا الكلام في توبة المعاهد و قد كان سبيله مخلى و إنما توبته توجب أخوته في الدين قال سبحانه : { و نفصل الآيات لقوم يعلمون } [ التوبة : 11 ]
و ذلك أن المحارب إذا تاب وجب تخليه سبيله إذا حاجته إنما هي إلى ذلك و جاز أن يكون قد تاب خوف السيف فيكون مسلما لا مؤمنا فأخوته الإيمانية تتوقف على ظهور دلائل الإيمان كما قال تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا } [ الحجرات : 14 ] و المعاهد إذا تاب فلا ملجأ له إلا التوبة ظاهرا فإنا لم نكرهه على التوبة و لا يجوز إكراهه فتوبته دليل على أنه تاب طائعا فيكون مسلما مؤمنا و المؤمنون إخوة فيكون أخا
الحالة الثالثة : أن ينكث يمينه بعد عهده و يطعن في ديننا فأمره بقتاله و بين أنه ليس له أيمان و لا إيمان و المقصود من قتاله أن ينهى عن النقض و الطعن لا عن الكفر فقط لأنه قد كان معاهدا مع الكفر و لم يكن قتاله جائزا فعلم أن الانتهاء من مثل هذا عن الكفر ليس هو المقصود بقتاله و إنما المقصود بقتاله انتهاؤه عن ما أضر به المسلمين من نقض العهد و الطعن في الدين و ذلك لا يحصل إلا بقتل الواحد الممكن و قتال الطائفة الممتنعة قتالا يعذبون به و يخذون و ينصر المؤمنين عليهم إذ تخصيص التوبة بحال دليل على انتافائها في الحال الأخرى
و ذكره سبحانه التوبة بعد ذلك جملة مستقلة ـ بعد أن أمر بما يوجب تعذيبهم و خزيهم و شفاء الصدور منهم ـ دليل على أن توبة مثل هؤلاء لا بد معها من الانتقام منهم بما فعلوا بخلاف توبة الباقي على عهده فلو كان توبة المأخوذ بعد الأخذ تسقط القتل لكانت توبة خالية عن الانتقام و للزم أن مثل هؤلاء لا يعذبون و لا يخزون و لاتشفي الصدور منهم و هو خلاف ما أمر به في الآية و قد صار هؤلاء الذين نقضوا العهد و طعنوا في الدين كمن ارتد و سفك الدماء فإن كان واحدا فلا بد من قتله و إن عاد إلى الإسلام و إن كانوا ممتنعين قوتلوا فمن تاب بعد ذلك منهم لم يقتل و الله سبحانه أعلم
الطريقة الثالثة : قوله سبحانه : { و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن } [ النساء : 18 ] و قوله تعالى : { فلما رأوا بأسنا قالوا : آمنا بالله وحده و كفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } [ غافر : 85 ] و قوله تعالى : { حتى إذا أدركه الغرق قال : آمنت أنه لا إله إلا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل و أنا من المسلمين آلآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين ؟ } [ يونس : 91 ] قوله تعالى : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس } [ يونس : 98 ]
و قد تقدم تقرير الدلالة من هذه الآيات في قتل المنافق و ذكرنا الفرق بين توبة الحربي و المرتد المجرد و توبة المانفق و المفسد من المعاهدين و نحوهما و فرقنا بين التوبة التي تدرأ العذاب و التوبة التي تنفع في المآب
الطريقة الرابعة : قوله سبحانه : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة } الآيات [ الأحزاب : 57 ] و قد قررنا فيما مضى أن هذه الآية تدل على قتل المؤذي من المسلمين مطلقا و هي تدل على قتل من أظهر الأذى من أهل الذمة لأن اللعنة المذكورة موجبة للقتل كما في تمام الكلام و قد تقدم تقرير هذا و قد ذكرنا ان قوله تعالى : { أولئك لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ] نزلت في ابن الأشرف لما طعن في دين الإسلام و قد كان عاهد النبي صلى الله عليه و سلم فانتقض عهده بذلك و أخبر الله أنه ليس له نصير ليبين أن لا ذمة له إذ الذمي له نصر و النفاق له قسمان : نفاق المسلم استبطان الكفر و نفاق الذمي استبطان المحاربة و تكلم المسلم بالكفر كتكلم الذمي بالمحاربة فمن عاهدنا على أن لا يؤذي الله و رسوله ثم نافق بأذى الله و رسوله فهو من منافقي المعاهدين فمن لم ينته من هؤلاء المنافقين أغرى الله نبيه بهم فلا يجاورونه إلا قليلا { ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا } ففي الآية دلالتان
إحداهما : أن هذا ملعون و الملعون هو الذي يؤخذ أين وجد و يقتل فعلم أن قتله حتم لأنه لم يستثن حالا من الأحوال كما استثنى في سائر الصور و لأنه قال : { قتلوا } و هذا وعد من الله لنبيه يتضمن نصره و الله لا يخلف الميعاد فعلم أنه لا بد من تقتيلهم إذا أخذوا و لو سقط عنهم القتل بإظهار الإسلام لم يتحقق الوعد مطلقا
الثانية : أنه جعل انتهاءهم النافع قبل الأخذ و التقتيل كما جعل توبة المحاربين النافعة لهم قبل القدرة عليهم فعلم أنهم إن انتهوا عن إظهار النفاق من الأذى و نحوه النفاق في العهد و النفاق في العهد و النفاق في الدين و إلا أغراه الله بهم حتى لا يجارونه في البلد ملعونين يؤخذون و يقتلون و هذا الطاعن الساب لم ينته حتى أخذ فيجب قتله
و فيها دلالة ثالثة و هو أن الذي يؤذي المؤمنين من مسلم أو معاهد إذا أخذ أقيم عليه حد ذلك الأذى و لم تدرأه عنه التوبة الآن فالذي يؤذي الله و رسوله بطريق الأولى لأن الآية تدل على أن حالة أقبح في الدنيا و الآخرة

الطريقة الخامسة : أن ساب النبي عليه الصلاة و السلام يقتل حدا من الحدود لا مجرد الكفر و كل قتل وجب حدا لا لمجرد الكفر فإنه لا يسقط بالإسلام
و هذا دليل مبني على مقدمتين :
إحداهما : أنه يقتل لخصوص سب رسول الله عليه الصلاة و السلام المستلزم للردة و نقض العهد و إن كان ذلك متضما للقتل لعموم ما تضمنه من مجرد الردة و مجرد نقض العهد في بعض المواضع و الدليل على ذلك أنه قد تقدم أن النبي عليه الصلاة و السلام أهدر دم المرأة الذمية التي كانت تسبه عليه الصلاة و السلام عند الأعمى الذي كان يأوي إليها و لا يجوز ان يكون قتلها لمجرد نقض العهد لأن المرأة الذمية إذا انتقض عهدها فإنها تسترق و لا يجوز قتلها و لا يجوز قتل المرأة للكفر الأصلي إلا أن تقاتل و هذه المرأة لم تكن تقاتل و لم تكن معينة على قتال كما تقدم ثم إنها لو كانت تقاتل ثم أسرت صارت رقيقة و لم تقتل عند كثير من الفقهاء منهم الشافعي لا سيما إذا كانت رقيقة فإن قتلها يمتنع لكونها امرأة و لكونها رقيقة لمسلم فثبت أن قتلها كان لخصوص السب للنبي عليه الصلاة و السلام و أنه جناية من الجنايات الموجبة للقتل كما لو زنت المرأة الذمية أو قطعت الطريق على المسلمين أو قتلت مسلما أو كما لو بدلت دين الحق عند أكثر الفقهاء الذين يقتلون المرأة بل هذا أبلغ أنه ليس في قتل المرتدة من السنة المأثورة الخاصة في كتب السنن المشهورة مثل الحديث الذي في قتل السابة الذمية
يوضح ذلك أن بني قريظة نقضوا العهد و نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم بأن تقتل مقاتلتهم و تسبى الذرية من النساء و الصبيان فقال النبي عليه الصلاة و السلام : [ لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ]
ثم قتل النبي صلى الله عليه و سلم الرجال و استرق النساء و الذرية و لم يقتل من النساء إلا امرأة واحدة كانت قد ألقت رحى من فوق الحصن على رجل من المسلمين ففرق رسول الله عليه الصلاة و السلام بين الذرية التي لم يثبت في حقهم إلا مجرد انتقاض العهد و بين الذرية الذين نقضوا العهد بما يضر المسلمين
و هذه المرأة الذمية لم ينقض عهدها بأنها لحقت بدار الحرب و امتنعت عن المسلمين و إنما نقضت العهد بأن ضرت المسلمين و آذت الله و رسوله و سعت في الأرض فسادا بالصد عن سبيل الله و الطعن في دين الله كما فعلت المرأة الملقية للرحى فعلم أنها لم تقتل لمجرد انتقاض العهد و هي لم تكن مسلمة حتى يقال : إنها قتلت للردة و لا هي أيضا بمنزلة امرأة قاتلت ثم أسرت حتى يقال : تصير رقيقة بنفس السبى لا تقتل أو يقال : يجوز قتلها كما يجوز قتل الرجل فإذا أسلمت عصم الإسلام الدم و بقيت رقيقة لوجهين :
أحدهما : أن هذا السب الذي كانت تقوله لم تكن [ تقوله ] للمشركين و لا لعموم المسلمين حتى يقال : هو بمنزلة إعانة الكفار على القتال من كل وجه
الثاني : أنها لم تكن ممتنعة حين السب بل هي حين السب ممكنة مقدور عليها و حالها قبله و بعده سواء
فالسب و إن كان حرابا لكنه لم يصدر من ممتنعه أسرت بعد ذلك بل من امرأة ملتزمة للحكم بيننا و بينها العهد على الذمة و معلوم أن السب من الأمور المضرة بالمسلمين و أنه من أبلغ الفساد في الأرض لما فيه من ذل الإيمان و عز الكفر و إذا ثبت أنها لم يقتل للكفر و لا لنقض العهد و لا لحراب أصلي متقدم على القدرة عليها ثبت ان قتلها حد من الحدود و القتل الواجب حدا لا لمجرد الكفر لا يسقط بالإسلام كحد الزاني و القاطع و القاتل و غيرهم من المفسدين
و مما يقرر الأمر ان السب إما أن يكون حرابا أو جناية مفسدة ليست حرابا فإن كان حرابا فهو حراب من ذمي أو من مسلم و سعي في الأرض فسادا و الذمي إذا حارب و سعى في الأرض فسادا وجب قتله و إن أسلم بعد القدرة عليه حيث يكون حرابا موجبا للقتل و حراب هذه المرأة موجب للقتل كما جاءت به السنة و إن كانت جناية مفسدة ليست حرابا ـ و هي موجبة للقتل ـ قتلت أيضا بعد الأخذ بطريق الأولى كسائر الجنايات الموجبة للقتل و هذا كلام مقرر و مداره على حرف واحد و هو أن السب و إن كان من أعمال اللسان فقد دلت السنة بأنه بمنزلة الفساد و المحاربة بعمل الجوارح و أشد و لذلك قتلت هذه المرأة
و تمام ذلك ان قياس مذهب من يقول : [ إن الساب إذا قتل إنما يقتل لأنه نقض العهد ] أن لا يجوز قتل هذه بل لو كانت قد قاتلت باليد و اللسان ثم أخذت لم تقتل عنده فإذا دلت السنة على فساد هذا القول علم صحة القول الآخر إذ لا ثالث بينهما و لا ريب عند أحد أن من قتل لحدث أخذ به أوجب نقض عهده و لم يقتل لمجرد أن انتقض عهده فقط فإن قتله لا يسقط بالإسلام لأن فساد ذلك الحديث لا يزول بالإسلام
ألا ترى أن الجنايات الناقضة للعهد ـ مثل قطع الطريق و قتل المسلم و التجسس على المسلمين و الزنا بمسلمة و استكراهها على الفجور و نحو ذلك ـ إذا صدر من ذمي فمن قتله لنقض العهد قال : [ متى أسلم لم آخذه إلا بما يوجب القتل إذا فعله المسلم باقيا على إسلامه مثل أن يكون قد قتل في قطع الطريق فأقتله أو زنى فأحده أو قتل مسلما فأقيده لأنه بالإسلام صار بمنزلة المسلمين فلا يقتل كفرا ]
و من قال : [ أقتله لمحاربة الله و رسوله و سعيه في الأرض فسادا ] قال : أقتله و إن أسلم و تاب بعد أخذه كما أقتل المسلم إذا حارب ثم تاب بعد القدرة لأن الإسلام الطارئ لا يسقط الحدود الواجبة قبله لآدمي بحال و إن منع ابتداء وجوبها كما لو قتل ذمي ذميا أو قذفه ثم أسلم فإن حده لا يسقط و لو قتله أو قذفه ابتداء
لم يجب عليه قود و لا حد و لا يسقط ما كان منها لله إذا تاب بعد القدرة كما لو قتل في قطع الطريق فإنه لا يسقط عنه بالإسلام وفاقا فيما أعلم
و كذلك لو زنى ثم أسلم فإن حده القتل الذي كان يجب عليه قبل الإسلام عند أحمد و عند الشافعي حده حد المسلم فحد السب إن كان حقا لآدمي لم يسقط بالإسلام و إن كان حقا لله فليس هو حدا على الكفر الطارئ و المحاربة الأصلية كما دلت عليه السنة و لا على مجرد الكفر الأصلي بالاتفاق فيكون حد الله على محاربة موجبة كقتل المرأة و كل قتل وجب حدا على محاربة ذمية لم يسقط بالإسلام بعد القدرة بالاتفاق فإن الذمية إذا لم تقتل في المحاربة لم يقتلها من يقول : [ قتل الذمي المحارب إنما هو لنقض العهد ] و من قتلها كما دلت عليه السنة فلا فرق عنده في هذا الباب بين أن تسلم بعد القدرة أو لا تسلم
و اعلم أن من قال : [ إن هذه الذمية تقتل فإذا أسلمت سقط عنها القتل ] لم يجد هذا في الأصول نظير أن الذمية تقتل و هي في أيدينا و يسقط عنها القتل بالإسلام بعد الأخذ و لا أصلا يدل على المسألة و الحكم إذا لم يثبت بأصل و لا نظير كان تحكما من قال [ إنها تقتل بكل حال ] فله نظير نقيس به و هو المحاربة باليد و الزانية و نحوهما
الطريقة السادسة : الاستدلال من قتل بنت مروان و هو كالاستدلال من هذه القصة لأنا قد قدمنا أنها كانت من المهادنين الموادعين و إنما قتلت للسب خاصة و التقرير كما تقدم

الطريقة السابعة : أن رسول الله عليه الصلاة و السلام قال : [ من لكعب بن الأشراف فإنه قد آذى الله و رسوله ] و قد كان معاهدا قبل ذلك ثم هجا رسول الله عليه الصلاة و السلام و قتله الصحابة غلية بأمر رسول الله عليه الصلاة و السلام مع كونه قد أمنهم على دمه و ماله باعتقاده بقاء العهد و لأنهم جاءوه مجيء من قد آمنه و لو كان كعب بمنزلة كافر محارب فقط لم يجز قتله إذا آمنهم كما تقدم لأن الحربي إذا قلت له أو عملت معه ما يعتقد أنه أمان صار له أمانا و كذلك كل من يجوز أمانه فعلم أن هجاءه للنبي عليه الصلاة و السلام و أذاه لله تعالى و رسوله لا ينعقد معه أمان و لا عهد و ذلك دليل على أن قتله حد من الحدود كقتل قاطع الطريق إذ ذلك يقتل و إن أمن كما يقتل الزاني و المرتد و إن أومن و كل حد وجب على الذمي فإنه لا يسقط بالإسلام وفاقا

الطريقة الثامنة : أنه قد دل هذا الحديث على أن أذى الله و رسوله علة للانتداب إلى قتل كل أحد فيكون ذلك علة أخرى غير مجرد الكفر و الردة فإن ذكر الوصف بعد الحكم بحرف الفاء دليل على أنه علة و الأذى لله و رسوله يوجب القتل و يوجب نقض العهد و يوجب الردة
يوضح ذلك أن أذى الله و رسوله لو كان إنما أوجب قتله لكونه كافرا غير ذي عهد لوجب تعليل الحكم بالوصف الأعم إذا كان مستقلا بالحكم كان الأخص عديم التأثير فلما علل قتله بالوصف الأخص علم أنه مؤثر في الأمر بقتله لا سيما في كلام من أوتى جوامع الكلم و إذا كان المؤثر في قتله أذى الله و رسوله وجب قتله و إن تاب كما ذكرناه فيمن سب النبي عليه الصلاة و السلام من المسلمين فإن كليهما أوجب قتله أنه آذى الله و رسوله وهو مقر للمسلمين بأن لا يفعل ذلك فلو كان عقوبة هذا المؤذي تسقط بالتوبة سقطت عنهما و لأنه قال سبحانه : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا } [ الأحزاب : 57 ]
و قال في خصوص هذا المؤذي : { أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ] و قد أسلفنا أن هذه اللعنة توجب القتل إذا أخذ و لأنه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله و رسوله ثم قال : { و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا } [ الأحزاب : 58 ]
و لا خلاف علمناه أن الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات لا تسقط عقوبتهم بالتوبة فالذين يؤذون الله و رسوله أحق و أولى لأن القرآن قد بين أن هؤلاء أسوا حالا في الدنيا و الآخرة فلو اسقطنا عنهم العقوبة بالتوبة لكانوا أحسن حالا
و ليس للمنازع هنا إلا كلمة واحدة و هو أن يقول : [ هذا قد تغلظت عقوبته بالقتل لأنه نوع من المرتدين و ناقض العهد و الكافر تقبل توبته من الكفر و تسقط عنه العقوبة بخلاف المؤذي بالفسق ]
فيقال له : هذا لو كان الموجب لقتله إنما هو الكفر و قد دلت السنة على أن الموجب لقتله إنما هو أذى الله و رسوله و هذا أخص من عموم الكفر و كما أن الزنا و السرقة و الشرب و قطع الطريق أخص من عموم المعصية و الشارع رتب الأمر بالقتل على هذا الوصف الأخص الذي نسبته إلى سائر أنواع الكفر نسبه أذى المؤمنين إلى سائر أنواع المعاصي فإلحاق هذا النوع بسائر الأنواع جمع بين ما فرق الله و رسوله و هو من القياس الفاسد كقياس الذين قالوا : [ إنما البيع مثل الربا ] و إنما الواجب أن يوفر على كل نوع حظه من الحكم بحسب ما علقه به الشارع من الأسماء و الصفات المؤثرة الذي دل كلامه الحكيم على اعتبارها و تغليظ عقوبته ابتداء لا يوجب تخفيفها انتهاء بل يوجب تغلظ مطلقا إذا كان الجرم عظيما و سائر الكفار لم تغلظ عقوبتهم ابتداء و الانتهاء مثل هذا فإنه يجوز إقرارهم بجزية و استرقاقهم في الجملة و يجوز الكف عنهم مع القدرة لمصلحة ترتقب و هذا بخلاف ذلك
و أيضا فإن الموجب لقتله إذا كان هو أذى الله و رسوله كان محاربا لله و رسوله و ساعيا في الأرض فسادا و قد أومأ النبي عليه الصلاة و السلام إلى ذلك في حديث ابن الأشرف كما تقدم و هذا الوصف قد رتب عليه من العقوبة مالم يرتب على غيره من أنواع الكفر و حتمت عقوبة صاحبه إلا أن يتوب قبل القدرة

الطريقة التاسعة : أنا قد قدمنا عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه أهدر عام الفتح دماء نسوة لأجل أنهن كن يؤذينه بألسنتهن منهن القينتان لابن خطل اللتان كانتا تغنيان بهجائه و مولاة لبني عبد المطلب كانت تؤذيه و بينا بيانا واضحا أنهن لم يقتلن لأجل حراب و لا قتال و إنما قتلن لمجرد السب و بينا أن سبهن لم يجري مجرى قتالهن بل كان أغلظ لأن النبي عليه الصلاة و السلام آمن عام الفتح المقاتلة كلهم إلا من له جرم خاص يوجب قتله و لأن سبهن كان متقدما على الفتح و لا يجوز قتل المرأة في بعض الغزوات لأجل قتال متقدم منها قد كفت عنه و أمسكت في هذه الغزوة و بينا بيانا و اضحا أن قتل هؤلاء النسوة أدل شيء على قتل المرأة السابة من مسلمة و معاهدة و هو دليل قوي على جواز قتل السابة و إن تابت من وجوه :
أحدها : ان هذه المرأة الكافرة لم تقتل لأجل أنها مرتدة و لا لأجل أنها مقاتلة كما تقدم فلم يبقى ما يوجب قتلها إلا أنها مفسدة في الأرض محاربة لله و رسوله و هذه يجوز قتلها بعد التوبة إذا كان قتلها جائزا قبلها بالكتاب و السنة و الاجماع
الثاني : أن سب أولئك النسوة إما أن يكون حرابا او جناية موجبة للقتل غير الحراب إذ قتلهن لمجرد الكفر غير جائز كما تقدم فإن كان حرابا فالذمي إذا حارب الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا يجب قتله في كل حال كما دل عليه القرآن و إن كان جناية أخرى مبيحة للدم فهو أولى و أحرى و قد قدمنا فيما مضى ما يبين أن هؤلاء النسوة لم يقتلن لحراب كان موجودا منهن في غزوة الفتح و إنما قتلن جزاء على الجرم الماضي نكالا عن مثله و هذا يبين أن قتلهن بمنزلة قتل أصحاب الحدود من المسلمين و المعاهدين
الثالث : أن اثنتين منهن قتلتا و الثالثة أخفيت حتى استئمن لها النبي صلى الله عليه و سلم بعد ذلك فآمنها لأنه كان له أن يعفو عمن سبه كما تقدم و له أن يقتله و لم يعصم دم أحد ممن أهدر دمه عام الفتح إلا آمانه فعلم أن مجرد الإسلام لم يعصم دم هذه المرأة و إنما عصم دمها عفوه
و بالجملة فقصة قتله لأولئك النسوة من أقوى ما يدل على جواز قتل السابة بكل حال فإن المرأة الحربية لا يبيح قتلها إلا قتالها و إذا قاتلت ثم تركت القتال في غزوة أخرى و استسلمت و انقادت لم يجز قتلها في هذه المرة الثانية و مع هذا فالنبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتلهن
و للحديث و جهان :
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم قد كان عاهد أهل مكة و الظاهر أن عهده انتظم الكف عن الأذى باللسان فإن في كثير من الحديث ما يدل على ذلك و حينئذ فهؤلاء اللواتي هجونه نقضن العهد نقضا خاصا بهجائهن فكان للنبي عليه الصلاة و السلام قتلهن بذلك و إن تبن و هذه ترجمة المسألة
الثاني : أنه كان له أن يقتل من هجاه إذا لم يتب حتى قدر عليه و إن كان حربيا لكن سقط هذا كما يسقط بموته العفو عن المسلم و الذمي الساب و يكون قد كان أمر الساب هو مخير فيه مطلقا لكونه أعلم بالمصلحة فإذا مات تحتم قتل من التزم أن لا يسب و كان الحربي الساب كغيره من الحربيين إذا تاب
و هذا الوجه ضعيف فإنه إثبات حكم باحتمال و الأول جار على القياس و من تأمل قصة الذين أهدرت دماؤهم عام الفتح علم أنهم كلهم كانوا محاربين لله و رسوله ساعين في الأرض فسادا

الطريقة العاشرة : أنه صلى الله عليه و سلم أمر في حال و احدة بقتل جماعة مما كان يؤذيه بالسب و الهجاء مع عفوه عمن كان أشد منهم في الكفر و المحاربة بالنفس و المال فقتل عقبة بن أبي معيط صبرا بالصفراء و كذلك النضر بن الحارث لما كانا يؤذيانه و يفتريان عليه و يطعنان فيه مع استبقائه عامة الأسرى
و قد تقدم أنه قال : يا معشر قريش مالي أقتل من بينكم صبرا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ بكفرك و افترائك على رسول الله صلى الله عليه و سلم ] و معلوم أن مجرد الكفر يبيح القتل فعلم أن الافتراء على النبي صلى الله عليه و سلم سبب أخر أخص من عموم الكفر موجب للقتل فحيث ما وجد وجد معه وجوب القتل و أهدر عام الفتح دم الحويرث ابن نقيذ و دم أبي سفيان بن الحارث و دم ابن الزبعري و أهدر بعد ذلك دم كعب بن زهير و غيرهم لأنهم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم و دم من ارتد و حارب و آذى الله و رسوله مع أمانه لجميع الذين حاربوا و نقضوا عهده فعلم أن أذاه سبب منفرد بإباحة القتل وراء الكفر و الحراب بالأنفس و الأموال كقطع الطريق و قتل النفس
و قد تقدم ما كان يأمر به و يقر عليه إذا بلغه و ما كان يحرض عليه المسلمين من قتل الساب دون غيره من الكافرين حتى إنه لا يحقن دم الساب إلا عفوه بعد ذلك فعلم أنه كان يلحق الساب بذوي الأفعال الموجبة للقتل من قطع الطريق و نحوه و هذا ظاهر لمن تأمله فيما مضى من الأحاديث و ما لم نذكره هذا يوجب قتل فاعله من مسلم و معاهد و إن تاب بعد القدرة و إذا ضم هذا الوجه إلى الذي قبله و علم أن الأذى وحده سبب يوجب القتل لا لكونه من جنس القتال لأن النبي عليه الصلاة و السلام قد آمن الذين قاتلوه بالأنفس و الأموال من الرجال فأمان المرأة االتي أتت بما يشبه القتال أولى لو كان جرمها من جنس القتال و لأن المرأة إذا قاتلت في غزوة من الغزوات ثم غزا المسلمون غزوة و علموا أنها لم تقاتل فيها بيد و لا لسان لم يجز قتلها عند أحد من المسلمين علمناه و هؤلاء النسوة كان أذاهن متقدما على فتح مكة ن و لم يكن لهن في غزوة الفتح مكعرة بيد و لا لسان بل كن مستسلمات منقادات لو علمن أن إظهار الإسلام يعصم دماءهن لبادرن إلى إظهاره فهل يعتقد أحد أن هذه المرأة تقتل لكونها محاربة خصوصا عند الشافعي فإن منصوصه أن قتل المرأة و الصبي إذا قاتلا بمنزلة قتل الصائل من المسلمين يقصد به دفعهما و إن أفضصى إلى قتلهما فإذا انكفا بدون القتل كأسر أو ترك للقتال و نحو ذلك لم يجز قتلهما كما لا يجوز قتل الصائل
و إذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يأمر بقتل من كان يؤذيه و يهجوه من النساء و قد تركن ذلك و استسلمنا و ربما كن يوددن أن يظهرن الإسلام إن كان عاصما و قد آمن المقاتلين كلهم و علم أن السب سبب مستقل موجب يحل دم كل أحد و إن تركه ذلة و عجز
يؤيد ذلك أن النبي عليه الصلاة و السلام آمن أهل مكة إلا من قاتل إلا هؤلاء النفر فإنه أمر بقتلهم قاتلوا أو لم يقاتلوا فعلم أن هؤلاء النسوة قتلن لأجل السب لا لأجل أنهن يقاتلن

الطريقة الحادي عشرة : أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد و افترى على النبي صلى الله عليه و سلم أنه يلقنه الوحي و يكتب له ما يريد فأهدر النبي صلى الله عليه و سلم دمه و نذر رجل من المسلمين ليقتلنه ثم حبسه عثمان أياما حتى اطمأن أهل مكة ثم جاء تائبا ليبايع عليه الصلاة و السلام و يؤمنه فصمت رسول الله عليه الصلاة و السلام طويلا رجاء أن يقوم إليه الناذر أو غيره فيقتله و يوفي بنذره
ففي هذا دلالة على أن المفتري على النبي عليه الصلاة و السلام الطاعن عليه قد كان له أن يقتله و أن دمه مباح و إن جاء تائبا من كفره و فريته لأن قتله لو كان حراما لم يقل النبي عليه الصلاة و السلام ما قال و لا قال للرجل : [ هلا وفيت نذرك بقتله ]
و لا خلاف بين المسلمين علمناه أن الكافر إذا جاء تائبا مريدا للاسلام مظهرا لذلك لم يجز قتله لذلك و لا فرق في ذلك بين الأصلي و المرتد إلا ما ذكرناه من الخلاف الشاذ في المرتد مع أن هذا الحديث يبطل ذلك الخلاف بل لو جاء الكافر طالبا لأن يعرض عليه الإسلام و يقرأعليه القرآن لوجب أمانه لذلك
قال الله تعالى : { و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه } [ التوبة : 6 ]
و قال تعالى في المشركين : { فإن تابوا و أقاموا الصلاة و اتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ]
و عبد الله بن سعد إنما جاء تائبا ملتزما لإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة بل جاء بعد أن أسلم كما تقدم ذكر ذلك ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم بين أنه كان مريدا لقتله و قال للقوم : [ هلا قام بعضكم إليه ليقتله ] و [ و هلا وفيت بنذرك في قتله ] فعلم أنه قد كان جائزا له أن يقتل من يفتري عليه و يؤذيه من الكفار و إن جاء مظهرا للإسلام و التوبة بعد القدرة عليه و في ذلك دلالة ظاهرة على أن الافتراء عليه و أذاه يجوز له قتل فاعله و 'ن أظهر الإسلام و التوبة
و مما يشبه هذا إعراضه عن أبي سفيان بن الحارث و ابن أبي أمية و قد جاءا مهاجرين يريدان الإسلام أو قد أسلما و علل ذلك بأنهما كانا يؤذيانه و يقعان في عرضه مع أنه لا خلاف علمناه أن الحربي إذا جاء يريد الإسلام و جبت المسرعة إلى قبوله منه و كان الاستئناء به حراما و قد عده بعض الناس كفرا
و قد كانت سيرته صلى الله عليه و سلم في المسرعة إلى قبول الإسلام من كل من أظهره و تأليف الناس عليه بالأموال و غيرها أشهر من أن يوصف فلما أبطأ عن هذين و أراد أن لا يلتفت إليهما البتة علم أنه كان له أن يعاقب من كان يؤذيه و يسبه و إن أسلم و هاجر و أن لا يقبل منه من الإسلام و التوبة ما يقبل من الكفر الذي لم يكن يؤذيه و في هذا دلالة على أن السب وحده موجب للعقوبة
يوضح ذلك ما ذكره أهل المغازي أن علي بن أبي طالب قال لأبي سفيان ابن الحارث : ائت رسول الله صلى الله عليه و سلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف : { تالله لقد آثرك الله علينا و إن كنا لخاطئين } [ يوسف : 91 ] فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولا منه ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين } [ يوسف : 92 ]
ففي هذا دلالة على أن ماله من عرضه كان له أن يعاقب عليه و أن يعفو في الجب و بيعه للسيارة و لكن لكرمه عفا صلى الله عليه و سلم و لو كان الإسلام يسقط حقه بالكلية كما يسقط حقوق الله لم يتوجه شيء من هذا
و قد تقدم تقرير هذا الوجه في أول الكتاب و بينا أنه نص في جواز قتل المرتد الساب بعده إسلامه فلذلك قتل الساب المعاهد لأن المأخذ واحد
و مما يوضحه أن المسلمين قد كان استقر عندهم أن الكفر الحربي إذا أظهر الإسلام حرم عليهم قتله لا سيما عند السابقين الأولين مثل عثمان بن عفان و نحوه و قد علموا قوله تعالى : { و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا } [ النساء : 94 ] و قصة أسامة بن زيد و حديث المقداد فلما كان ألئك الذين أهدر النبي صلى الله عليه و سلم دمائهم : منهم من قتل و منهم من أخفى حتى اطمأن أهل مكة و طلب من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبايعه دل على أن عثمان رضي الله عنه و غيره من المسلمين علموا أن إظهار عبد الله بن سعد بن أبي سرح و نحوه الإسلام لا يحقن دماءهم دون أن يؤمنهم النبي صلى الله عليه و سلم و إلا فقد كان يمكنهم أن يأمروهم بإظهار الإسلام و الخروج من أول يوم
و الظاهر ـ و الله أعلم ـ أنهم قد كانوا أسلموا و إنما تأخرت بيعتهم للنبي عليه الصلاة و السلام و ذلك دليل على أنه قد كان للنبي عليه الصلاة و السلام قتلهم لأجل سبه مع إظهار التوبة
و قد روي عن عكرمة أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة و كذلك ذكر آخرون أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي عليه الصلاة و السلام بمر الظهران
و هذا الذي ذكروه نص في المسألة و هو أشبه بالحق فإن النبي عليه الصلاة و السلام لما نزل بمر الظهران شعرت به قريش حينئذ و ابن أبي سرح قد علم ذنبه فيكون قد أسلم حينئذ و لما بلغه أن النبي عليه الصلاة و السلام قد أهدر دمه تغيب حتى استؤمن له و الحديث لمن تأمله دليل على أن النبي عليه الصلاة و السلام كان له أن يقتله و أن يؤمنه و أن الإسلام وحده لم يعصم دمه حتى عفا عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم
فمن ذلك أن عثمان جاء ليشفع له إلى النبي صلى الله عليه و سلم فصمت عنه رسول الله عليه الصلاة و السلام طويلا و أعرض عنه مرة بعد مرة و كان عثمان يأتيه من كل وجهة و هو يعرض عنه رجاء أن يقوم بعضهم فيقتله و عثمان في ذلك يكب على النبي عليه الصلاة و السلام يقبل رأسه و يطلب منه أن يبايعه و يذكر أن لأمه عليه حقوقا حتى استحيى النبي عليه الصلاة و السلام من عثمان فقضى حاجته ببيعته مع أنه كان يود أن لا يفعل فعلم أن قتله كان حقا له أن يعفو عنه و يقبل فيه شفاعة شافع و له أن لا يفعل و لو كان ممن يعصم الإسلام دمه لم يحتج إلى شافع و لم يجز رد الشفاعة
و منها : أن عثمان لما قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إنه يفر منك قال : [ ألم أبايعه و أومنه ] قال : بلى و لكنه يتذكر عظيم جرمه فقال : [ الإسلام يجب ما قبله ] و في هذا بيان لأن خوفه من النبي عليه الصلاة و السلام أن يقتله إنما زال بأمانه و بيعته لا لمجرد الإسلام فعلم أن الإسلام يمحو إثم السب و أما سقوط القتل فلا يحصل بمجرد الإسلام لأن النبي عليه الصلاة و السلام أزال خوفه من القتل بالأمان و أزال خوفه من الذنب بالإسلام

و مما يدل على أن الأنبياء لهم أن يعاقبوا من آذاهم بالهلاك و أن أظهر التوبة و الندم ما رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل أن قارون كان يؤذي موسى ـ و كان ابن عمه ـ فبلغ من أذاه إياه أن قال لامرأة بغي : إذا اجتمع الناس عندي غدا فتعالي و قولي : 'ن موسى راودني عن نفسي فلما كان الغد و اجتمع الناس جاءت فسارت قارون ثم قالت للناس : إن قارون قال لي كذا و كذا و إن موسى لم يقل لي شيئا من هذا فبلغ موسى عليه الصلاة و السلام و هو قائم يصلي في المحراب فخر ساجدا فقال : أي رب إن قارون قد آذاني و فعل و فعل و بلغ من أذاه إياي أن قال ما قال فأوحى الله إلى موسى : أن يا موسى إني قد أمرت الأرض أن تعطيك و كان لقارون غرفة قد ضرب عليها صفائح الذهب فأتاه موسى و معه جلساؤه فقال لقارون : قد بلغ من أذاك أن قلت كذا و كذا يا أرض خذيهم فأخذتهم الأرض إلى أكعبهم فهتفوا : يا موسى ادع لنا ربك أن ينجينا مما نحن فيه فنؤمن بك و نتبعك و نطيعك فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أنصاف سوقهم فهتفوا و قالوا : يا موسى آدع لنا ربك أن ينجينا مما نحن فيه فنؤمن بك و نتبعك و نطيعك فقال : يا أرض خذيهم [ فأخذتهم ] إلى ركبهم فلم يقول : يا أرض خذيهم حتى تطابقت عليهم و هم يهتفون فأوحى الله يا موسى ما أفظك !
أما إنهم لو كانوا إياي دعوا لخصلتهم
و رواه عبد الرزاق قال : ثنا جعفر بن سليمان ثنا علي بن زيد بن جدعان فذكره أبسط من هذا و فيه أن المرأة قالت : إن قارون بعث إلي فقال : هل لك إلى أن أمولك و أعطيك و أخطبك بنسائي على أن تأتيني و املأ من بني إسرائيل عندي تقولين : يا قارون ألا تنهى موسى عن أذاي
و إني لم أحد اليوم توبة أفضل من أن أكذب عدو الله و أبرئ رسول الله قال : فنكس قارون رأسه و عرف أنه قد هلك و فشا الحديث في الناس حتى بلغ موسى صلى الله عليه و سلم و كان موسى صلى الله عليه و سلم شديد الغضب فلما بلغه ذلك توضأ فسجد و بكى و قال : يا رب عدوك قارون كان لي مؤذيا فذكر أشياء ثم لم يتناه حتى أراد فضيحتي يا رب فسلطني عليه فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت تطعك قال : فجاء موسى يمشي إلى قارون فلما رآه قارون عرف الغضب في وجهه فقال : يا موسى ارحمني فقال موسى : يا أرض خذيهم فاضطربت داره و خسف به و بأصحابه إلى ركبهم و ساخت داره على قدر ذلك و جعل يقول : يا موسى ارحمني و يقول موسى : يا أرض خذيهم و ذكر القصة
فهذه القصة مع أن النبي عليه الصلاة و السلام قال لابن مسعود لما بلغه قول القائل : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله : [ دعنا منك لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر ]
فهذا ـ مع ما ذكرناه من أحوال النبي عليه الصلاة و السلام ـ دليل على أن الأنبياء صلوات الله عليهم و سلامه لهم أن يعاقبوا من آذاهم و إن تاب و لهم أن يعفوا عنه كما ذلك لغيرهم من البشر لكن لهم أن يعاقبوا من يؤذيهم بالقتل و الإهلاك و ليس لغيرهم أن يعاقبه بمثل ذلك
و ذلك دليل على أن عقوبة مؤذيهم حد من الحدود لا لمجرد الكفر فإن عقوبة الكافر تسقط بالتوبة بلا ريب و قارون قد كان تاب في وقت تنفع فيه التوبة و لهذا في الحديث : [ أما إنهم لو كانوا إياي دعوا لخصلتهم ] و في لفظ [ لرحمتهم النبي عليه الصلاة و السلام و إنما كان يرحمهم سبحانه و الله أعلم بأن يستطيب نفس موسى من أذاهم كما يستوهب المظالم لمن رحمه من عباده ممن هي له و يعوضه منها
الطريق الثانية عشرة : ما تقدم من حديث أنسبن زنيم الديلي الذي ذكر عنه أنه هجا النبي عليه الصلاة و السلام ثم جاءه و أنشده قصيدة تتضمن إسلامه و براءته مما قيل عنه و كان معاهدا فتوقف النبي عليه الصلاة و السلام فيه و جعل يسأل العفو عنه حتى عفا عنه فلو لم تكن العقوبة بعد الإسلام على السب من المعاهد جائزة لما توقف النبي صلى الله عليه و سلم في حقن دمه و لا احتاج إلى العفو عنه و لولا أن للرسول الله صلى الله عليه و سلم حقا يملك استيفاءه بعد الإسلام لما عفا عنه كما لم يكن يعفو عمن أسلم و لا تبعة عليه و حديثه لمن تأمله دليل واضح على جواز قتل من هجا النبي صلى الله عليه و سلم من المعاهدين ثم أسلم
كما أن حديث ابن أبي سرح دليل واضح على جواز قتل من سبه مرتدا ثم أسلم و ذلك أنه لما بلغه أنه هجاه و قد كان مهادنا موادعا و كان العهد الذي بينهم يتضمن الكف عن إظهار أذاه و كان على ما قيل عنه قد هجاه قبل أن يقتل بنو بكر خزاعة قبل أن ينقضوا العهد فلذلك ندر النبي صلى الله عليه و سلم دمه ثم أنشد قصيدة يتضمن أنه مسلم يقول فيها : [ تعلم رسول الله ] و : [ هبني رسول الله ] و ينكر فيها أن يكون هجاه و يدعو على نفسه بذهاب اليد إن كان هجاه و ينسب الذين شهدوا عليه إلى الكذب وبلغت رسول الله صلى الله عليه و سلم قصيدته و اعتذاره قبل أن يجيء إليه و شفع له كبير قبيلته نوفل بن معاوية و كان نوفل هذا هو الذي نقض العهد و قال : يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو و من منا لم يعادك و يؤذك و نحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ و ما ندع حتى هدانا الله بك و أنقذنا بك عن الهلك و قد كذب عليه الركب و كثروا عندك فقال : [ دع الركب عنك فإنا لم تجد بتهامة أحدا من ذي رحم قريب و لا بعيد كان أبر من خزاعة ] فأسكت نوفل بن معاوية فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قد عفوت عنه ] قال نوفل : فداك أبي و أمي
فلو كان الإسلام المتقدم قد عصم دمه لم يحتج إلى العفو كما لم يحتج إليه من أسلم و لا حد عليه و لكان قال : الإسلام يجب ما قبله كما قاله لغيره من الحربيين كما يقول له من يقول : ألا نقتل هذا بعد إسلامه ؟ فيقول : [ الإسلام يجب ما قبله ] و صاحب الشريعة بين أن ما أسقط قتله عفوه و ذلك أن قوله [ عفوت عنه ] إما أن يكون أفاده سقوط ما كان أهدره من دمه أو لم يفده ذلك فإن لم يفده فلا معنى لقوله [ عفوت عنه ] و إن كان قد أفاده سقط ذلك الإهدار فقبل ذلك لو قتله بعض المسلمين بعد أن أسلم و قبل أن عفا عنه النبي صلى الله عليه و سلم لكان جائزا لأنه متبع لأمر رسول الله عليه الصلاة و السلام بقتله أمرا مطلقا إلى حين عفا عنه كما أن أمره بقتل ابن أبي سرح كان باقيا حكمه إلى أن عفا عنه و لذلك عتبهم إذ لم يقتلوه قبل عفوه و هذا بين من هذه الأحاديث بيانا واضحا و لو كان عند المسلمين أن من هجاه من معاهد ثم أسلم عصم دمه لكان نوفل و غيره من المسلمين علموا ذلك و قالوا له كما قالوا لكعب بن زهير و نحوه ممن هجاه و هو حربي : إنه لا يقتل من جاءه مسلما ألا ترى أنهم لم يظهروه لرسول الله صلى الله عليه و سلم حتى عفا عنه كما لم يظهروا ابن أبي سرح حتى عفا عنه بخلاف كعب بن زهير و ابن الزبعرى فإنهما جاءا بأنفسهما لثقتهما بأنه لا يمكن قتل الحربي إذا جاء مسلما و إمكان أن يقتل الذمي الساب و إن جاءا مسلمين و إن كانا قد أسلما ثم إنه في قصيدته قال :
( فإني لا عرضا خرقت و لا دما ... هرقت ففكر عالم الحق و اقصد )
فجمع بين خرق العرض و سفك الدم فعلم أنه مما يؤخذ به و إن أسلم و لولا أن قتله كان ممكنا بعد إسلامه لم يحتج إلى هذا الإنكار و الاعتذار
و يؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يندر دم واحد بعينه من بني بكر الناقضي العهد إلا هذا مع أنهم فعلوا تلك الأفاعيل فعلم أن خرق عرضه كان أعظم من نقض العهد بالمقاتلة و المحاربة باليد و قد تقدم الحديث بدلالته و إنما نبهنا عليه هنا إحالة على ما مضى

الطريقة الثالثة عشرة : أنه قد تقدم أنه كان له عليه الصلاة و السلام أن يقتل من اغلظ له و آذاه و كان له أن يعفو عنه فلو كان المؤذي له إنما يقتل للردة لم يجز العفو عنه قبل التوبة و إذا كان هذا حقا له فلا فرق فيه بين المسلم و الذمي فإنه قد أهدر دم من آذاه من أهل الذمة و قد تقدم أن ذلك لم يكن لمجرد نقض العهد فعلم أنه كان لأذاه و إذا كان له أن يقتل من آذاه و سبه من مسلم و معاهد و له أن يعفو عنه علم أنه بمنزلة القصاص وحد القذف و تعزير السب كغير الأنبياء من البشر و إذا كان كذلك لم يسقط عن مسلم و لا معاهد بالتوبة كما لا تسقط هذه الحدود بالتوبة و هذه طريقة قوية و ذلك أنه إذا كان صلى الله عليه و سلم قد أباح الله له أن يعفو عنه كان المغلب في هذا الحد حقه بمنزلة سب غيره من البشر إلا أن حد سابه القتل وحد ساب غيره الجلد و إذا كان المغلب حقه و كان الأمر في حياته مفوضا إلى اختياره لينال بالعفو علي الدرجات تارة و يقيم بالعقوبة من الحدود ما ينال به أيضا علي الدرجات فإنه صلى الله عليه و سلم نبي الرحمة و نبي الملحمة و هو الضحوك القتال و الذمي قد عاهده على أن لا يخرق عرضه و هو لو أصاب لواحد من المسلمين أو المعاهدين حقا من دم أو مال أو عرض ثم أسلم لم يسقط عنه فأولى أن لا يسقط عنه هذا
و إذ قد قدمنا أن قتله لم يكن لمجرد نقض العهد و إنما كان لخصوص السب و إذا كان يجوز له أن يقتل هذا الساب بعد مجيئه مسلما و له أن يعفو عنه فبعد موته تعذر العفو عنه و تمحضت العقوبة حقا لله سبحانه فوجب استيفاؤها على ما لا يخفى : إذ القول بجواز عفو أحد عن هذا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم يفضي إلى أن يكون الإمام مخيرا بين قتل هذا و استبقائه و هو قول لم نعلم له قائلا ثم إنه خلاف قواعد الشريعة و أصولها و قد تقدم فيما مضى الفرق بين حال حياته و حال مماته
الطريقة الرابعة عشرة : أنه قد تقدم الحديث المرفوع إن كان ثابتا [ من سب نبيا قتل و من سب أصحابه جلد ] فأمر بالقتل مطلقا كما أمر بالجلد مطلقا فعلم أن السب للنبي عليه الصلاة و السلام موجب بنفسه للقتل كما أن سب غيره موجب للجلد و أن ذلك عقوبة شرعية على السب و كما لا يسقط هذا الجلد بالتوبة بعد القدرة فكذلك لا يسقط هذا القتل

الطريقة الخامسة عشرة : أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أفعالهم
فمن ذلك : أن أبا بكر رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي ربيعة في المرأة التي غنت بهجاء النبي صلى الله عليه و سلم [ لو لا ما سبقتني فيها لأمرتك بقتلها لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر ] فأخبره أبو بكر أنه لولا الفوت لأمره بقتلها من غير استتابة و لا استيناء حال توبة مع أن غالب من تقدم ليقتل على مثل هذا يبادر إلى التوبة أو الإسلام إذا علم أنه يدرأعنه القتل و لم يستفصله الصديق عن السابة : هل هي مسلمة أو ذمية ؟ بل ذكر أن القتل حد من سب الأنبياء و أن حدهم ليس كحد غيرهم مع أنه فصل في المرأة التي غنت بهجاء المسلمين بين أن تكون مسلمة أو ذمية
و هذا ظاهر في أن عقوبة الساب حد للنبي واجب عليه له أن يعفو عنها في بعض الأحوال و أن يستوفيها في بعض الأحوال كما أن عقوبة ساب غيره حد له واجب على الساب
و قوله : [ فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد ] ليس فيه دلالة على قبول توبته لأن الردة جنس تحتها أنواع : منها ما تقبل فيه التوبة و منها ما لا تقبل كما تقدم التنبيه على هذا و لعله أن تكون لنا إليه عودة و إنما غرضه أن يبين الأصل الذي يبيح دم هذا و كذلك قوله : [ فهو محارب غادر ] فإن المحارب الغادر جنس يباح دمه ثم منهم من يقتل و إن أسلم كما لو حارب بقطع الطريق أو باستكراه مسلمة على الزنا و نحو ذلك
قال تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض كفسادا أن يقتلوا أو يصلبوا } الأية [ المائدة : 33 ] ثم إنه لم يرفع العقوبة إلا إذا تابوا قبل القدرة عليهم و قد قدمنا أن هذا محارب مفسد فيدخل في هذه الآية
و عن مجاهد قال : أتي عمر برجل يسب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتله ثم قال عمر : [ من سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه ]
هذا مع أن سيرته في المرتد أنه يستتاب ثلاثا و يطعم كل يوم رغيفا لعله يتوب فإذا أمر بقتل هذا من غير استتابة علم أن جرمه اغلظ عنده من جرم المرتد المجرد فيكون جرم سابه من أهل العهد أغلظ من جرم من اقتصر على نقض العهد لا سيما و قد أمر بقتله مطلقا من غير ثنيا
و كذلك المرأة التي سبت النبي صلى الله عليه و سلم فقتلها خالد بن الوليد و لم يستتبها دليل على أنها ليست كالمرتدة المجردة
و كذلك حديث محمد بن مسلمة لما حلف ليقتلن ابن يامين لما ذكر أن قتل ابن الأشرف كان غدرا و طلبه لقتله بعد ذلك مدة طويلة و لم ينكر المسلمون ذلك عليه مع أنه لو قتله لمجرد الردة لكان قد عاد إلى الإسلام بما أتى به بعد ذلك من الشهادتين و الصلوات و لم يقتل حتى يستتاب
و كذلك قول ابن عباس في الذمي يرمي أمهات المؤمنين [ إنه لا توبة له ] نص في هذا المعنى و هذه القضايا قد اشتهرت و لم يبلغنا أن أحدا أنكر شيئا من ذلك ـ كما أنكر عمر رضي الله عنه قتل المرتد الذي لم يستتب و كما أنكر ابن عباس رضي الله عنهما تحريق الزنادقة و أخبر أن حدهم القتل ـ فعلم أنه كان مستفيضا بينهم أن حد الساب أن يقتل إلا ما روي عن ابن عباس : [ من سب نبيا من الأنبياء فقد كذب رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي ردة يستتاب فإن تاب و إلا قتل ]
و هذا في سب يتضمن جحد نبوة نبي من الأنبياء فإنه يتضمن تكذيب رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا ريب أن من قال عن بعض الأنبياء إنه ليس بنبي و سبه بناء على أنه ليس بنبي فهذه ردة محضة و يتعين حمل حديث ابن عباس على هذا أو نحوه إن كان محفوظا عنه لأنه أخبر أن قاذف أمهات المؤمنين لا توبة له فكيف تكون حرمتهن لأجل سب رسول الله صلى الله عليه و سلم أعظم من حرمة نبي معروف مذكور في القرآن ؟

الطريقة السادسة عشرة : أن الله سبحانه و تعالى أوجب لنبينا صلى الله عليه و سلم على القلب و اللسان و الجوارح حقوقا زائدة على مجرد التصديق بنبوته كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب و اللسان و الجوارح أمورا زائدة على مجرد التصديق به سبحانه و حرم سبحانه لحرمة رسوله ـ مما يباح أن يفعل مع غيره ـ أمورا زائدة على مجرد التكذيب بنبوته فمن ذلك : أنه أمر بالصلاة عليه و التسليم بعد أن أخبر أن الله و ملائكته يصلون عليه و الصلاة تتضمن ثناء الله عليه و دعاء الخير له و قربته منه و رحمته له و السلام عليه يتضمن سلامته من كل آفة فقد جمعت الصلاة عليه و التسليم جميع الخيرات ثم إنه يصلي سبحانه عشرا على من يصلي عليه مرة واحدة حضا للناس على الصلاة عليه ليسعدوا بذلك و ليرحمهم الله بها و من ذلك : أنه أخبر أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن حقه أن يحب أن يؤثره العطشان بالماء و الجائع بالطعام و أنه يحب أن يوقى بالأنفس و الأموال كما قال سبحانه و تعالى : { ما كان لأهل المدينة و من حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله و لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } [ التوبة : 120 ]
فعلم أن رغبة الإنسان بنفسه أن يصيبه ما يصيب رسول الله صلى الله عليه و سلم من المشقة معه حرام
و قال تعالى مخاطبا للمؤمنين فيما أصابهم من مشقات الحصر و الجهاد : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر و ذكر الله كثيرا } [ الأحزاب : 21 ] و من حقه : أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه و ولده و جميع الخلق كما دل على ذلك قوله سبحانه : { قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم ـ إلى قوله ـ أحب إليكم من الله و رسوله } الآية [ التوبة : 24 ] مع الأحاديث الصحيحة المشهورة كما في الصحيح من قول عمر : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال : لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك قال فأنت و الله يا رسول الله أحب إلي من نفسي قال : الآن يا عمر و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده و والده و الناس أجمعين ] متفق عليه
و من ذلك : أن الله أمر بتعزيره فقال : { و تعزروه و توقروه } [ الفتح : 9 ] و التعزير : اسم جامع لنصره و تأييده و منعه من كل ما يؤذيه و التوقير : اسم جامع لكل ما فيه سكينة و طمأنينة من الإجلال و الإكرام و أن يعامل من التشريف و التكريم و التعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار
و من ذلك : أنه خصه في المخاطبة بما يليق به فقال : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } [ النور : 63 ] فنهى أن يقولوا : يا محمد أو يا أحمد أو يا أبا القاسم و لكن يقولوا : يل رسول الله يا نبي الله و كيف لا يخاطبونه بذلك و الله سبحانه و تعالى أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحدا من الأنبياء فلم يدعه باسمه في القرآن قط بل يقول : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها } [ الأحزاب : 28 ] { يا أيها النبي قل لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين } [ الأحزاب : 59 ] { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك } [ الأحزاب : 50 ] { يا أيها النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا } [ الأحزاب : 45 ] { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } [ الطلاق : 1 ] { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } [ التحريم : 1 ] { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] { يا أيها المزمل قم الليل } [ المزمل : 1 ] { يا أيها المدثر قم فأنذر } [ المدثر : 1 ] { يا أيها النبي حسبك الله } [ الأنفال : 64 ] مع أنه سبحانه قد قال : { و قلنا يا آدم اسكن أنت و زوجك } الآية [ البقرة : 25 ] { يا آدم أنبئهم بأسمائهم } [ البقرة : 33 ] { يا نوح إنه ليس من أهلك } [ هود : 46 ] { يا إبراهيم أعرض عن هذا } [ هود : 76 ] { يا موسى إني اصطفيتك على الناس } [ الأعراف : 144 ] { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض } [ ص : 26 ] { يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك و على والدتك } [ المائدة : 110 ]
و من ذلك : أنه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن و حرم رفع الصوت فوق صوته و أن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل و أخبر أن ذلك سبب حبوط العمل فهذا يدل على أنه يقتضي الكفر لأن العمل لا يحبط إلا به و أخبر أن الذين يغضون أصواتهم عنده هم الذين امتحنت قلوبهم للتقوى و أن الله يغفر لهم و يرحمهم و أخبر أن الذين ينادونه و هو في منزله لا يعقلون لكونهم رفعوا أصواتهم عليه و لكونهم لم يصبروا حتى يخرج و لكن أزعجوه إلى الخروج
و من ذلك : أنه حرم على الأمة أن يؤذوه بما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضا تمييزا له مثل نكاح أزواجه من بعده فقال تعالى : { و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما } [ الأحزاب : 53 ]
و أوجب على الأمة لأجله احترام أزواجه و جعلهن أمهات في التحريم و الأحترام فقال سبحانه و تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ]
و أما ما أوجبه من طاعته و الانقياد لأمره و التأسي بفعله فهذا باب واسع لكن ذاك قد يقال : هو من لوازم الرسالة و إنما الغرض هنا أن ننبه على بعض ما أوجبه الله له من الحقوق الواجبة و المحرمة مما يزيد على لوازم الرسالة بحيث يجوز أن يبعث الله رسولا و لا يوجب له هذه الحقوق
و من كرامته المتعلقة بالقول : أنه فرق بين أذاه و أذى المؤمنين فقال تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا } [ الأحزاب : 58 ]
و قد تقدم أن في هذه الآية ما يدل على أن حد من سبه القتل كما أن حد من سب غيره الجلد
و من ذلك : أن الله رفع له ذكره فلا يذكر الله سبحانه إلا ذكر معه و لا تصح للأمة خطبة و لا تشهد حتى يشهدوا أنه عبده و رسوله و أوجب ذكره في كل خطبة و في الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام و في الأذان الذي هو شعار الإسلام و في الصلاة التي هي عماد الدين إلى غير ذلك من المواضع
هذا إلى خصائص له أخر يطول تعدادها
و إذا كان كذلك فمعلوم أن سابه و منتقصه قد ناقض الإيمان به و ناقض تعزيزه و توقيره و ناقض رفع ذكره و ناقض الصلاة عليه و التسليم و ناقض تشريفه في الدعاء و الخطاب بل قابل أفضل الخلق بما لا يقابل به أشر الخلق
و يوضح ذلك أن مجرد إعراضه عن الإيمان به يبيح الدم مع عدم العهد و إعراضه عن هذه الحقوق الواجبة يبيح العقوبة فهذا بمجرد سكوته عن تشريفه و تكريمه و تعظيمه فإذا أتى بضد ذلك من الذم و السب و الانتقاص و الاستخفاف فلابد أن يوجب ذلك زيادة على الدم و العقاب فإن مقادير العقوبات على مقادير الجرائم ألا ترى أن الرجل لو قتل رجلا اعتباطا لكان عقوبته القود و هو التسليم إلى و لي المقتول فإن انضم إلى ذلك قتله لأخذ المال مجاهرة صارت العقوبة تحتم القتل فإن انضم إلى ذلك أخذ المال عوقب مع ذلك بالصلب و عوقب عند بعض العلماء أيضا بقطع اليد و الرجل حتما مع أن أخذ المال سرقة لا يوجب إلا قطع اليد فقط و كذلك لو قذف عبدا أو ذميا أو فاجرا لم يجب عليه إلا التعزيز فلو قذف حرا مسلما عفيفا لوجب عليه الحد التام فلو قيل : [ إنه لا يجب عليه مع ذلك إلا ما يجب على من ترك الإيمان به أو ترك العهد الذي بيننا و بينه ] لسوى بين الساكت عن ذمه و سبه و المبالغ في ذلك و هذا غير جائز كما أنه غير جائز التسوية بين الساكت عن مدحه و الصلاة عليه و المبالغ في ذلك و لزم في ذلك أن لا يكون لخصوص سبه و ذمه و أذاه عقوبة مع أنه من أعظم الجرائم و هذا باطل قطعا
و معلوم أن لا عقوبة فوق القتل ثم [ ليس ] سوى الزيادة على ذلك إلا تعين قتله و تحتمه تاب أو لم يتب كحد قاطع الطريق إذ لا يعلم أحد وجب أن يجلد لخصوص السب ثم يقتل للكفر إذا كانت العقوبة لخصوص السب كانت حدا من الحدود و هذه مناسبة ظاهرة قد دل على صحتها دلالات النصوص السالفة من كون السب موجبا للقتل و العلة إذا ثبتت بالنص أو بالإيماء لم يحتج إلى أصل يقاس عليه الفرع و بهذا يظهر أنا لم نجعل خصوص السب موجبا للقتل إلا بما دل عليه من الكتاب و السنة و الأثر لا بمجرد الاستحسان و الاستصلاح كما زعمه من لم يحظ بمآخذ الأحكام على أن الأصل الذي يقاس به هذا الفرع ثابت و هو :
الطريقة السابعة عشرة : و ذلك أنا وجدنا الأصول التي دل عليها الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة حكمت في المرتد و ناقض العهد حكمين فمن لم يصدر منه إلا مجرد الردة أو مجرد نقض العهد ثم عاد إلى الإسلام عصم دمه كما دل عليه كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد تقدم ذكر بعض ما يدل على ذلك في المرتد و هو ناقض العهد أيضا موجود بقوله في بعض من نقض العهد { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } [ التوبة : 27 ] و بأن النبي صلى الله عليه و سلم قبل إسلام من أسلم من بني بكر و كانوا قد نقضوا العهد و عدوا على خزاعة فقتلوهم و قبل إسلام قريش الذين أعانوهم على قتال المسلمين حتى انتقض عهدهم في حصره لقريظة و النضير مذكور أنهم لو أسلموا لكف عنهم و قد جاء نفر منهم مسلمين فعصموا دماءهم و أموالهم منهم ثعلبة بن سعية و أسد بن سعية و أسد بن عبيد أسلموا في الليلة التي نزل فيها بنو قريظة على حكم رسول الله عليه الصلاة و السلام و خبره مشهور و من تغلظت ردته أو نقضه بما يضر المسلمين إذا عاد إلى الإسلام لم تسقط عنه العقوبة مطلقا بل يقتل إذا كان جنس ما فعله موجبا للقتل أو يعاقب بما دونه إن لم يكن كذلك كما دل عليه قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا } الآية [ المائدة : 33 ] و كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم في قصة ابن أبي سرح و ابن زينم و في قصة ابن خطل و قصة مقيس بن صبابة و قصة العرنييين و غيرهم و كما دل عليه الأصول المقررة
فإن الرجل إذا اقترن بردته قطع طريق أو قتل مسلم أو زنا أو غير ذلك ثم رجع إلى الإسلام أخذت منه الحدود و كذلك لو اقترن بنقض عهده الإضرار بالمسلمين من قطع الطريق أو قتل مسلم أو زنا بمسلمة فإن الحدود تستوفى منه بعد الإسلام : إما الحد الذي يجب على المسلم لو فعل ذلك أو الحد الذي كان واجبا قبل الإسلام و هذا الرجل الساب قد وجد منه قدر زائد على مجرد نقض العهد كما قدمناه في الإضرار بالمسلم الذي صار به أغلظ جرما من مجرد ناقض العهد أو فعل ما هو أعظم من أكثر الأمور المضرة كما تقدم فصار بمنزلة من قرن بنقض عهده أذى المسلمين في دم أو مال أو عرض و أشد إذا كان كذلك فإسلامه لا يزيل عنه عقوبة هذا الإضرار كما دلت عليه الأصول في مثله و عقوبة هذا الإضرار قد قد ثبت أنه القتل بالنص و الإسلام الطارئ لا يمنع ابتداء هذه العقوبة فإن المسلم لو ابتدأ بمثل هذا قتل قتلا يسقط بالتوبة كما تقدم
و إذا لم يمنع الإسلام ابتداءها فأن لا يمنع بقاءها و دوامها أولى و أحرى لأن الدوام و البقاء أقوى من الأبتداء و الحدوث في الحسيات و العقليات و الحكميات
ألا ترى أن العدة الإحرام و الردة تمنع ابتداء النكاح و لا تمنع دوامه و الإسلام يمنع ابتداء وجوب القود وحد القذف على المسلم إذا قتل أو قذف ذميا و لا يمنع دوامه عليه إذا أسلم بعد القتل و القذف
و لو فرض أن الإسلام يمنع ابتداء قتل هذا فلا يجب أن يسقط القتل بإسلامه لأن الدوام أقوى من الابتداء و جاز أن يكون بمنزلة القود و حد القذف فإن الإسلام يمنع ابتداءه دون دوامه لا سيما و السب فيه حق لآدمي ميت و فيه جناية متعلقة بعموم المسلمين فهو مثل القتل في المحاربة ليس حقا لمعين و إذا كان كذلك وجب استيفاؤه كغيره من المحاربين المفسدين
يحقق ذلك أن الذمي إذا قطع الطريق و قتل مسلما فهو يعتقد في دينه جواز قتل المسلم و آخذ ماله و إنما حرمه عليه العهد الذي بيننا و بينه كما أنه يعتقد جواز السب في دينه و إنما حرمه عليه العهد و قطع الطريق قد يفعل استحلالا و قد يفعل استخفافا بالحرمة لغرض كما أن سب الرسول قد يفعل استخفافا بالحرمة لغرض فهو مثله من كل وجه إلا أن مفسدة ذلك في الدنيا و مفسدة هذا في الدين و هي أعظم من مفسدة الدنيا عند المؤمنين بالله العالمين به و بأمره فإذا أسلم قاطع الطريق فقد تجدد منه إظهار اعتقاد تحريم دم المسلم و ماله مع جواز أن لا يفي بموجب هذا الاعتقاد و كذلك إذا أسلم الساب فقد تجدد إظهار اعتقاد تحريم عرض الرسول مع جواز أن لا يفي بموجب هذا الاعتقاد فإذا كان هناك يجب قتله بعد إسلامه فكذلك يجب قتله هنا بعد إسلامه و يجب أن يقال : إذا كان ذلك لا يسقط حده بالتوبة بعد القدرة فكذلك هذا لا يسقط حده بالتوبة بعد القدرة
و من أمعن النظر لم يسترب في أن هذا محارب نفسد كما أن قاطع الطريق محارب مفسد
و لا يرد على هذا سب الله تعالى : لأن أحدا من البشر لا يسبه اعتقادا إلا بما يراه تعظيما و إجلالا كزعم أهل التثليث أن له صاحبه و ولدا فإنهم يعتقدون أن هذا من تعظيمه و التقرب إليه و من سبه لا على هذا الوجه فالقول فيه كالقول فيمن سب الرسول على أحد القولين ـ و هو المختار كما سنقرره ـ و من فرق قال : إنه تعالى لا تلحقه غضاضة و لا انتقاص بذلك و لا يكاد أحد يفعل ذلك أصلا إلا أنم يكون وقت غضب و نحو ذلك بخلاف سب الرسول فإنه يسبه ـ انتقاصا له و استخفافا به ـ سبا يصدر عن اعتقاد و قصد إهانة و هو من جنس تلحقه الغضاضة و يقصد بذلك و قد يسب تشفيا و غيظا و ربما حل منه في النفوس خبائل و نفر عنه بذلك خلائق و لا تزول نفرتهم عنه بإظهار التوبة كما لا تزول مفسدة الزنا و قطع الطريق و نحو ذلك بإظهار التوبة و كما لا يزول العار الذي يلحق بالمقذوف بإظهار القاذف التوبة فكانت عقوبة الكفر يندرج فيها ما يتبعه من سب الله سبحانه بخلاف سب الرسول
فإن قيل : قد تكون زيادة العقوبة على مجرد الناقض للعهد تحتم قتله ما دام كافرا بخلاف غيره من الكافرين فإن عقد الأمان و الهدنة و الذمة و استرقاقهم و المن عليهم و المفاداة بهم جائز في الجملة فإذا أتى مع حل دمه لنقض العهد أو لعدمه بالسب تعين قتله كما قررتموه و هكذا الجواب عن المواضع التي قتل النبي عليه الصلاة و السلام فيها من سبه أو أمر بقتله أو أمر أصحابه بذلك فإنها تدل على أن الساب يقتل و إن لم يقتل من هو مثله من الكافرين
و كذلك قال النبي عليه الصلاة و السلام ليهود في قصة ابن الأشرف : [ إنه لوقر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل و لكنه نال منا و هجانا بالشعر و لم يفعل هذا أحد منكم إلا كان السيف ]
و إذا كان كذلك فيكون القتل وجب لأمرين : للكفر و لتغلظه بالسب كما يجب قتل المرتد للكفر و لتغلظه بترك الدين الحق و الخروج منه فمتى زال الكفر زال الموجب للذم فلم يستقل بقاء أثر السب بإحلال الدم و تبع الكفر في الزوال كما تبعه في الحصول فإنه فرع للكفر و نوع منه فإذا زال الأصل زالت جميع فروعه و أنواعه
و هذا السؤال قد يمكن تقريره في سب من يدعي الإسلام بناء على أن السب فرع للردة و نوع منها و قد لا يمكن : لأنه يتجدد من هذا بعد السب ما لم يكن موجودا حال السب بخلاف الكافر
قلنا : و هذا أيضا دليل علىأن قتل الساب حد من الحدود فإنه قد تقدم أنه يجب قتله إن كان معاهدا و لا يجوز استبقاؤه بعد السب بأمان و لا استرقاق و لو كان إنما يقتل لكونه كافرا محاربا لجاز أمانه و استرقاقه و المفاداة به فلما كان جزاؤه القتل علم أن قتله حد من الحدود و ليس بمنزلة قتل سائر الكفار
و من تأمل الأدلة الشرعية نصوصها و مقاييسها ـ مما ذكرناه و مما لم نذكره ـ ثم ظن بعد هذا أن قتل الساب لمجرد كونه كافرا غير معاهد كقتل الأسير فليس على بصيرة من أمره و لا ثقة من رأيه
و ليس هذا من المسالك المحتملة بل من مسالك القطع فإن من تأمل دلالات الكتاب و السنه و ما كان عليه سلف الأمة و ما توجبه الأصول الشرعية علم قطعا أن للسب تأثيرا في سفح الدم زائدا على تأثير مجرد الكفر الخالي عن عهد
نعم قد يقال : هو مقتول بمجموع الأمرين بناء على أن كفر الساب نوع مغلظ لا يحتمل الاستبقاء ككفر المرتد فيكون مقتولا لكفره و سبه و يكون القتل حدا بمعنى أنه يجب إقامته ثم يزول موجبه بالتوبة كقتل المرتد فهذا ليس بمساغ لكن فيما تقدم ما يضعف هذا الوجه و مع هذا فإنه لا يقدح في كون قتل الساب حدا من الحدود وجب لما في خصوص ظهور سب الرسول من المفسدة
و إنما يبقى أن يقال : هذا الحد هل يسقط بالإسلام أم لا ؟
فنقول : جميع ما ذكرناه من الدلالات و إن دلت على وجوب قتله بعد إظهار التوبة فهي دالة على أن قتله حد من الحدود و ليس بمجرد الكفر و هي دالة على هذا بطريق القطع لما ذكرناه من تفريق الكتاب و السنة و الإجماع بين من اقتصر على الكفر الأصلي أو الطارئ أو نقض العهد و بين من سب الرسول من هؤلاء و إذا لم يكن القتل لمجرد الكفر لم يبق إلا أن يكون حدا و إذا ثبت أنه يقتل لخصوص السب لكونه حدا من الحدود ـ لا لعموم كونه كافرا غير ذي عهد أو لعموم كونه مرتدا ـ فيجب أن لا يسقط بالتوبة و الإسلام لأن الإسلام و التوبة لا يسقطان شيئا من الحدود الواجبة قبل ذلك إذا كانت التوبة بعد الثبوت و الرفع إلى الإمام بالاتفاق
و قد دل القرآن على أن حد قاطع الطريق و الزاني و السارق و القاذف لا يسقط بالتوبة بعد التمكن من إقامة الحد
و دلت السنة على مثل ذلك في الزاني و غيره و لم يختلف المسلمون فيما علمناه أن المسلم إذا زنى أو سرق أو قطع الطريق أو شرب الخمر فرفع إلى السلطان و ثبت عليه الحد ببينة ثم تاب من ذلك أنه تجب إقامة الحد عليه إلا أن يظن أحد في ذلك خلافا شاذا لا يعتد به فهذه حدود الله و كذلك لو وجب عليه قصاص أو حد أو قذف أو عقوبة سب لمسلم أو معاهد ثم تاب من ذلك لم تسقط عنه العقوبة و كذلك أيضا لم يختلفوا فيما علمناه أمن الذمي لو وجب عليه حد قطع الطريق أو حد السرقة أو قصاص أو حد قذف أو تعزير ثم أسلم و تاب من ذلك لم يسقط عنه ذلك و كذلك أيضا لو زنى فإنه إذا وجب عليه حد الزنا ثم أسلم لم يسقط عنه بل يقام عليه حد الزنا عند من يقول بوجوبه قبل الإسلام و يقتل حتما عند الإمام أحمد إن كان زنا نقض عهده
هذا مع [ أن ] الاسلام يجب ما قبله و التوبة تجب ما قبلها فيغفر للتائب ذنبه مع إقامة الحد عليه تطهيرا له و تنكيلا للناس عن مثل تلك الجريمة فتحصل بإقامة الحد المصلحة العامة ـ و هي زجر الملتزمين للاسلام أو الصغار عن مثل ذلك الفساد ـ فإنه لو لم يقم الحد عند إظهار التوبة لم يتأت إقامة حد في الغالب فإنه لا يشاء المفسد في الأرض إذا أخذ أن يظهر التوبة إلا أظهرها و أوشك كل من هم بعظيمة من العظائم من الأقوال أو الأفعال أن يرتكبها ثم إذ أحيط به قال : إني تائب
و معلوم أن ذلك لو درأ الحد الواجب لتعطلت الحدود و ظهر الفساد في البر و البحر و لم يكن في شرع العقوبات و الحدود كثير مصلحة و هذا ظاهر لا خفاء به
ثم الجاني لو تاب توبة نصوحا فتلك نافعة فيما بينه و بين الله يغفر له ما سلف و يكون الحد تطهيرا و تكفيرا لسيئته و هو من تمام التوبة كما قال ماعز ابن مالك للنبي صلى الله عليه و سلم : [ طهرني ] و قد جاء تائبا و قال تعالى لما ذكر كفارة قتل الخطأ : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله و كان الله عليما حكيما } [ النساء : 92 ] و قال تعالى في كفارة الظهار : { ذلكم توعظون به } [ المجادلة : 3 ]
فيشتمل الحد مع التوبة على مصلحتين عظيمتين :
مصلحة زجر النفوس عن مثل تلك الجريمة و هي أهم المصلحتين فإن الدنيا في الحقيقة ليست دار كمال الجزاء و إنما كمال الجزاء في الآخرة و إنما الغالب في العقوبات الشرعية الزجر و النكال و إن كان فيها مقاصد آخر كما أن غالب مقصود العدة براءة الرحم و إن كان فيها مقاصد أخر و لهذا كانت هذه المصلحة مقصودة في كل عقوبة مشروعة
و المصلحة الثانية : تطهير الجاني و تكفير خطيئته إن كان له عند الله خير أو عقوبة و الانتقام منه إن لم يكن كذلك و قد يكون زيادة في ثوابه و رفعة في درجاته
و نظير ذلك المصائب المقدرة في النفس و الأهل و المال فإنها تارة تكون كفارة و طهورا و تارة تكون زيادة في الثواب و علوا في الدرجات و تارة تكون عقابا و انتقاما
لكن إذا تاب الإنسان سرا فإن الله يقبل توبته سرا و يغفر له من غير إحواج له إلى أن يظهر ذنبه حتى يقام حده عليه أما إذا أعلن الفساد بحيث يراه الناس و يسمعونه حتى شهدوا به عند السلطان أو اعترف به هو عند السلطان فإنه لا يطهره ـ مع التوبة بعد القدرة ـ إلا إقامته منه عليه إلا أن في التوبة ـ إذا كان الحد لله و ثبت بإقراره ـ خلافا سنذكره إن شاء الله تعالى و لهذا قال عليه الصلاة و السلام : [ تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب ] و قال النبي عليه الصلاة و السلام لما شفع إليه في السارقة : [ تطهر خيرا لها ] و قال : [ من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ] و قال : [ من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإنه من يبدو لنا صفحته نقم عليه كتاب الله ]
إذا تبين ذلك فنقول : هذا الذي أظهر سب رسول الله عليه الصلاة و السلام من مسلم و معاهد قد أتى بهذه المفسدة التي تضمنت ـ مع الكفر ونقض العهد ـ أذى الله و رسوله و انتهاك تلك الحرمة التي هي أفضل حرمة المخلوقين و الوقيعة في عرض لا يساوي غيره من الأعراض و الطعن في صفات الله و أفعاله و في دين الله و كتابه و جميع أنبيائه و المؤمنين من عباده فإن الطعن في واحد من الأنبياء طعن في جميع الأنبياء كما قال سبحانه و تعالى : { أولئك هم الكافرون حقا } [ النساء : 151 ] و طعن في من آمن بنبينا من الأنبياء و المؤمنين المتقدمين و المتأخرين و قد تقدم تقرير هذا
ثم هذه العظيمة صدرت ممن التزم بعقد إيمانه أو أمانه أنه لا يفعل ذلك فإذا وجبت عقوبته على تلك الجريمة لخصوصها كما تقدم ـ امتنع أن يسقط بما يظهره من التوبة كما تقدم أيضا
ثم هنا مسلكان :
المسلك الأول ـ و هو مسلك طائفة من أصحابنا و غيرهم ـ أن يقتل حدا لله كما يقتل لقطع الطريق و للردة و للكفر لأن السب للرسول عليه الصلاة و السلام قد تعلق به حق الله و حق كل مؤمن فإن أذاه ليس مقصورا على رسول الله عليه الصلاة و السلام فقط كمن يسب واحدا من عرض الناس بل هو أذى لكل مؤمن كان و يكون بل هو عندهم من أبلغ أنواع الأذى و يود كل مؤمن منهم أن يفتدى هذا العرض بنفسه و أهله و عرضه و ماله كما تقدم ذكره عن الصحابة من أنهم كانوا يبذولون دماءهم في صون عرضه و كان رسول الله عليه الصلاة و السلام يمدح من فعل ذلك سواء قتل أو غلب و يسميه ناصرا لله و رسوله و لو لم يكن السب أعظم من قتل بعض المسلمين لما جاز بذل الدم في درئه كما لا يجوز بذل الدم في صون عرض واحد من الناس و قد قال حسان بن ثابت يخاطب أبا سفيان بن الحارث :
( هجوت محمدا فأجبت عنه ... و عند الله في ذاك الجزاء )
( فإن أبي و والدتي و عرضي ... لعرض محمد منكم وقاء )
و ذلك أنه انتهاك للحرمة التي نالوا بها سعادة الدنيا و الآخرة و بها ينالها كل واحد سواهم و بها يقام دين الله و يرضى الله عن عباده و يحصل ما يحبه و ينتفي ما يبغضه كما أن قاطع الطريق و إن قتل واحدا فإن مفسدة قطع الطريق تعم جميع الناس فلم يفوض الأمر فيه إلى ولي المقتول
نعم كان الأمر في حياة النبي عليه الصلاة و السلام مفوضا إليه فيمن سبه : إن أحب عفا عنه و إن أحب عاقبه و إن كان في سبه حق الله و لجميع المؤمنين لأن الله سبحانه يجعل حقه في العقوبة تبعا لحق العبد كما ذكرناه في القصاص و حقوق الآدميين تابعة لحق الرسول فإنه أولى بهم من أنفسهم و لأن في ذلك تمكينه صلى الله عليه و سلم من أخذ العفو و الأمر بالعرف و الإعراض عن الجاهلين الذي أمره الله تعالى به في كتابه و تمكينه من العفو و الإصلاح الذي يستحق به أن يكون أجره على الله و تمكينه من أن يدفع بالتي هي أحسن السيئة كما أمره الله و تمكينه من استعطاف النفوس و تأليف القلوب على الإيمان و إجتماع الخلق عليه و تمكينه من تركم التنفير عن الإيمان و ما يحصل بذلك من المصلحة يغمر ما يحصل باستبقاء الساب من المفسدة كما دل عليه قوله تعالى : { و لو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم و شاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ]

و قد بين رسول الله صلى الله عليه و سلم نفس هذه الحكمة حيث قال : [ أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ] و قال فيما عامل به ابن أبي من الكرامة : [ رجوت أن يؤمن بذلك ألف من قومه ] فحقق الله رجاءه و لو عاقب كل من آذاه بالقتل لخامر القلوب ـ عقدا أو وسوسة ـ أن ذلك لما في النفس من حب الشرف و أنه من باب غضب الملوك و قتلهم على ذلك و لو يبح له عقوبته لا تنهك العرض و استبيحت الحرمة و انحل رباط الدين و ضعفت العقيدة في حرمة النبوة فجعل الله له الأمرين
فلما انقلب إلى رضوان الله و كرامته و لم يبق واحد مخصوص من الخلق إليه استيفاء هذه العقوبة و العفو عنها و الحق فيها ثابت لله سبحانه و رسول الله عليه الصلاة و السلام و لعباده المؤمنين و علم كل ذي عقل أن المسلمين إنما يقتلونه لحفظ الدين و حفظ حمى الرسول و وقاية عرضه فقط ـ كما يقتلون قاطع الطريق لأمن الطرقات من المفسدين و كما يقطعون السارق لحفظ الأموال و كما يقتلون المرتد صونا للداخلين في الدين من الخروج عنه ـ و لم يبق هنا توهم مقصود جزوي كما قد كان في زمانه أن قتل الساب كذلك و تقرير ذلك بالساب له من المسلمين فإنه قد كان له أن يعفو عنه مع أنه لا يحل للأمة إلا إراقة دمه فحاصله أنه في حياته قد غلب في هذه الجناية حقه ليتمكن من الاستيفاء و العفو و بعد موته فهي جناية على الدين مطلقا ليس لها من يمكنه العفو عنها فوجب استيفاؤها و هذا مسلك خير لمن يدبر غوره
ثم هنا تقريران :

أحدهما : أن يقال : الساب من جنس المحارب المفسد و قد تقدم في ذلك زيادة بيان و مما يؤيده أنه سبحانه و تعالى قال : { من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } [ المائدة : 32 ] فعلم أن كل ما أوجب القتل حقا لله كان فسادا في الأرض و إلا لم يبح
و هذا السب قد أباح الدم فهو فساد في الأرض و هو أيضا محاربة لله و رسوله على ما لا يخفى لأن المحاربة هنا ـ و الله أعلم ـ إنما عني بها المحاربة بعد المسالمة لأن المحاربة الأصلية لم يدخل حكمها في هذه الآية و سبب نزولها إنما كان فعل مرتد وناقض عهد فعلم أنهما جميعا دخلا فيها و هذا قد حارب بعد المسالمة و أفسد في الأرض فتعين إقامة الحد عليه
الثاني : أن يكون السب جناية من الجنايات الموجبة للقتل كالزنا و إن لم يكن حرابا كحراب قاطع الطريق فإن من الفساد ما يوجب القتل و إن لم يكن حرابا و هذا فساد قد أوجب القتل فلا يسقط بالتوبة كغيره من أنواع الفساد إذ لا يستثنى من ذلك إلا القتل للكفر الأصلي أو الطارىء و قد قدمنا أن هذا القتل ليس هو كقتل سائر الكفار

فإن قيل : فإذا كان السب حدا لله فيجب أن يسقط بالإسلام كما يسقط حد المرتد بالإسلام و كما يسقط قتل الكافر بالإسلام و ذلك أن مجرد تسميته حدا لا يمنع سقوطه بالتوبة أو بالإسلام فإن قتل المرتد حد فإن الفقهاء يقولون : [ باب حد المرتد ] ثم إنه يسقط بالإسلام ثم إن هذا أمر لفظي لا تناط به الأحكام و إنما تناط بالمعاني و كل عقوبة لمجرم فهي حد من حيث تزجره و تمنعه من تلك الجريمة و إن لم تسم حدا لكن لا ريب أنه إنما يقتل للكفر و السب و السب لا يمكن تجريده عن الكفر و المحاربة حتى يفرض ساب قد وجب قتله و هو مؤمن أو معاهد باق على عهده كما يفرض مثل ذلك في الزاني و السارق و القاذف فإن أولئك وجبت عقوباتهم لتلك الجرائم و هي قبل الإسلام و بعده سواء و هذا إنما وجب عقوبته بجرم هو من فروع الكفر و أنواعه فإذا زال الأصل تبعته فروعه فيكون الموجب للقتل أنه كافر محارب و أنه مؤذ لله و لرسوله كما قال النبي عليه الصلاة و السلام لعقبة بن أبي معيط لما قال [ مالي أقتل من بينكم صبرا ] ؟ فقال له النبي صلى الله عليه و سلم [ بكفرك و افترائك على رسول الله ] و العلة إذا كانت ذات وصفين زال الحكم بزوال أحدهما
و نحن قد نسلم أنه يتحتم قتله إذا كان ذميا كما يتحتم قتل المرتد لتغلظ كفر بأذى الله و رسوله كتغلظ كفر المرتد بترك الدين لكن الإسلام يسقط كل حد تعلق بالكفر كما يسقط حد المرتد فلم ألحقتم هذا الحد بقاطع الطريق و الزاني و السارق و لم تلحقوه بالمرتد ؟ فهذا نكتة هذا الموضع
فنقول : لا يسقط شيء من الحدود بالإسلام و لا فرق بين المرتد و غيره في المعنى بل كل عقوبة وجبت لسبب ماض أو حاضر فإنها تجب لوجوب سبيها و تعدم لعدمه و الكافر الأصلي و المرتد لم يقتل لأجل ما مضى من كفره فقط و إنما يقتل للكفر الذي هو الآن موجود إذ الأصل بقاؤه على ما كان عليه فإذا تاب زال الكفر فزال المبيح للدم لأن الدم لا يباح بالكفر إلا حال وجود الكفر إذ المقصود بقتله أن تكون كلمة الله هي العليا و أن يكون الدين كله لله فإذا انقاد لكلمة الله و دان بدين الله حصل مقصود القتال و مطلوب الجهاد و كذلك المرتد إنما يقتل لأنه تارك للدين مبدل له فإذا هو عاد لم يبق مبدلا و لا تاركا و بذلك يحصل حفظ الدين فإنه لا يترك مبدلا له

أما الزاني و السارق و قاطع الطريق فإنه سواء كان مسلما أو معاهدا لم يقتل لدوامه على الزنا و السب و قطع الطريق فإن هذا غير ممكن و لم يقتل لمجرد اعتقاده حل ذلك أو إرادته له فإن الذمي لا يباح دمه بهذا الاعتقاد و لا يباح دم مسلم و لا ذمي بمجرد الإرادة فعلم أن ذلك وجب جزاء على ما مضى و زجرا عما يستقبل منه و من غيره فمن أظهر سب الرسول من أهل الذمة أو سبه من المسلمين ثم ترك بالسب و انتهى عنه فليس هو مستديما للسب كما يستديم الكافر المرتد و غيره على كفره بل أفسد في الأرض كما أفسد غيره من الزناة و قطاع الطريق و نحن نخاف أن يتكرر مثل هذا الفساد منه و من غيره كما نخاف مثل ذلك في الزاني و قاطع الطريق لأن الداعي له إلى ما فعله من السب ممكن منه و من غيره من الناس فوجب أن يعاقب جزاء بما كسب نكالا من الله له و لغيره و هذا فرق ظاهر بين قتل المرتد و الكافر الأصلي و بين قتل الساب و القاطع و الزاني و بيانه أن الساب من جنس الجريمة الماضية لا من جنس الجريمة الدائمة لكن مبناه على أن يوجب الحد لخصوصه لا لكونه كفرا و قد تقدم بيان كذلك
يوضح ذلك أن قتل المرتد و الكافر الأصلي ـ إلا أن يتوب ـ يزيل مفسدة الكفر لأن الهام بالردة متى علم أنه لا يترك حتى يقتل أو يتوب لم يأتها لأنه ليس غرض في أن يرتد ثم يعود إلى الإسلام و إنما غرضه في بقائه على الكفر و استدامته فأما الساب من المسلمين و المعاهدين فإن غرضه من السب يحصل بإظهاره و ينكأ المسلمين بأذاه كما يحصل غرض القاطع من القتل و الزاني من الزنا و تسقط حرمة الدين و الرسول بذلك كما تسقط حرمة النفوس و الأموال في قطع الطريق و السرقة و يؤذي عموم المسلمين أذى يخشى ضرره كما يؤذيهم مثل ذلك من فعل القاطع و السارق و نحوهما
ثم إنه إذا أخذ فقد يظهر الإسلام و التوقير مع استبطانه العود إلى مثل ذلك عند القدرة كما يظهر القاطع و السارق و الزاني العود إلى مثل هذه الجرائم عند إمكان الفرصة بل ربما يتمكن من هذا السب بعد إظهار الإسلام عند شياطينه ما لم يتمكنه قبل ذلك و يتنوع في أنواع التنقص و الطعن غيظا على ما فعل به من القهر و الضغط حتى أظهر الإسلام بخلاف من لم يظهر شيئا من ذلك حتى أسلم فإنه لا مفسدة ظهرت لنا منه و بخلاف المحارب الأصلي إذا قتل و فعل الأفاعيل فإنه لم يكن قد التزم الأمان على أنه لا يفعل شيئا من ذلك
و هذا قد كان التزم لنا بعقد الذمة أن لا يؤذينا بشيء من ذلك ثم لم يف بعهده فلا يؤمن إليه أن يلتزم بعقد الأيمان بذلك و لا يفي بعهده و ذلك لأنه واجب عليه في دينه أن يفي بالعهد فلا يظهر الطعن علينا في ديننا و هو عالم أن ذلك من التزام الأمور التي عاهدناه على أن لا يؤذينا بها و هو خلاف من سيف الإسلام إن خالف كما واجب عليه في دين الإسلام أن لا يتعرض للرسول بسوء و هو خائف من سيف الإسلام إن هو خالف فلم يتجدد له بإظهار الإسلام جنس العاصم الزاجر بخلاف الحربي في ذلك و إن كان في ضمن ذلك زجر لغيره من الناس عن الردة ألا ترى أنه لا يشرع الستر عليه و لا يستحب التعريض للشهود بترك الشهادة عليه و تجب إقامة الشهادة عليه عند الحاكم و لا يستحب العفو عنه قبل الرفع إلى الحاكم و إن كان قد ارتد سرا لأنه متى رفع إلى الحاكم استتابه فنجاه من النار و إن لم يتب قبله فقصر عليه مدة الكفر فكان رفعه مصلحة له محضة بخلاف من استسر لقاذورة من القاذورات فإنه لا ينبغي التعرض إليه لأنه إذا رفع يقتل حتما و قد يتوب إذا لم يرفع فلم يكن له مصلحة محضة و إنما المصلحة للناس فإذا لم تظهر الفاحشة لم تضرهم
و من سب الرسول فإنما يقتله لأذاه لله و لرسوله و للمؤمنين و لطعنه في دينهم فكان بمنزلة من أظهر قطع الطريق و الزنا و نحوه المغلب فيه جانب الردع و الزجر و إن تضمن مصلحة الجاني و كان قتله لأنه أظهر الفساد في الأرض و كذلك لو سب الذمي سرا لم يتعرض له و كذلك لا ينبغي الستر عليه لأن من أظهر الفساد لا يسنر عليه بحال

و قوله [ السب مستلزم للكفر و الحراب بخلاف تلك الجرائم ] قلنا : ليس لنا سب خال عن الكفر حتى تجرد العقوبة له بل العقوبة على مجموع الأمرين و هذه الملازمة لا توهن أمر السب فإن كونه مستلزما للكفر يوجب تغلظ عقوبته فإذا انفصل الكفر عنه فيما بعد لم يلزم أن لا يكون موجبا للعقوبة إذا كان هو نفسه يتضمن من المفسدة ما يوجب العقوبة و الزجر كما دل عليه الكتاب و السنة و الأثر و القياس
ثم نقول : أقصى ما يقال أنه حد على كفر مغلظ فيه ضرر على المسلمين صدر عن مسلم أو معاهد فمن أين لهم أن مثل هذا تقبل منه التوبة بعد القدرة ؟ فإنا قد قدمنا أن التوبة إنما شرعت في حق من تجردت ردته أو تجرد نقضه للعهد فإما من تغلظت ردته أو نقضه بكونه مضرا بالمسلمين فلا بد من عقوبته بعد التوبة

ولهم [ إن السب من فروع الكفر و أنواعه ] فإن غنوا أن الكفر يوجب ذلك فليس بصحيح و إن عنوا أن الكفر يبيح ذلك فنقول : لكن عقد الذمة حرم عليه في دينه إظهار ذلك كما حرم قتل المسلمين و سرقة أموالهم و قطع طريقهم و افتراش نسائهم و كما حرم قتالهم و إن كان دينهم يبيح له ذلك كله فإذا هو آذى المسلمين بما يقتضيه الكفر المجرد عن عهد فإنه يعاقب على ذلك و إن زال الكفر الموجب لذلك فيقتل و يقطع و يعاقب كذلك هنا على ما آذى به الله و رسوله و المؤمنين مما يخالف عهده و إن كان دينه يبيحه
و قولهم [ إن الزاني و السارق و قاطع الإسلام و بعده سواء ] قلنا : هو مثل الساب لأنه قبل الإسلام يعتقد استحلال دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم لولا العهد الذي بينهم و بينه و بعد الإسلام إنما يعتقد تحريمها لأجل الدين و كذلك انتهاكه لعرض رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتقد حله لولا العهد الذي بيننا و بينه و بعد الدين إنما يمنعه منه الدين و لا فرق بين أن يضر المسلمين في دينهم أو دنياهم
و أما قولهم [ إنما وجب قتله لأجل الأمرين فيسقط بزوال أحدهما ] فنقول : بل اجتمع فيه سببان كل منهما يوجب نوعا من القتل مخالفا للنوع الآخر و إن كان أحدهما يستلزم الآخر فالكفر يوجب القتل للكفر الأصلي أو للكفر الارتدادي و له أحكام معروفة و السب يوجب القتل لخصوصه حتى يندرج فيه قتل الكفر و قتل الردة و هذا القتل هو المغلب في حق مثل هذا حتى كان رسول الله صلى الله عليه و سلم له القتل و العفو و له القتل مع امتناع القتل بالكفر و الردة و له القتل بعد سقوط القتل بالكفر و الردة كما قدمنا من الدلائل على ذلك أثرا و نظرا و بينا أن في خصوص السب ما يقتضي القتل لو فرض تجرده عن الكفر و الردة فإذا انفصل عنه في أثناء الحال فسقط موجب الكفر و الردة لم يسقط موجب السب و قد قدمنا في المسألة الثانية دلائل على ذلك
ثم نقول : هب أنه وجب لأجل الأمرين فالقتل الواجب لكفر متغلظ بالإضرار إذا زال لا تسقط عقوبة فاعله فوجب أن لا تسقط عقوبة فاعل هذا و العقوبة التي استحقها هي القتل و أيضا فإن الإسلام الطارئ لا يمنع ما وجب من العقوبة و إن كان الإسلام يمنع وجوبها ابتداء كالقتل قودا و كحد القذف فإنه إنما يجب بشرط كون الفاعل ذميا و لا يسقط بإسلامه بعد ذلك إذا كان المقتول و المقذوف ذميا
و أيضا فإن الإسلام لا يمنع قتل الساب ابتداء فإنه لا يمنع قتله دواما بطريق الأولى فقوله : [ اجتمع سببان فزال أحدهما ] ممنوع بل الموجب لقتل هذا لم يزل

المسلك الثاني : أن يقتل حدا للنبي صلى الله عليه و سلم كما يقتل قودا و كما يجلد القاذف و الساب لغيره من المؤمنين و قد تقدمت الدلالة على أن عقوبة شاتم النبي عليه الصلاة و السلام القتل كما أن عقوبة شاتم غيره الجلد و هذا مسلك من أصحابنا و غيرهم
و من المعلوم الذي لا ريب فيه أن الرجل لو سب واحدا من المؤمنين أو سب واحدا من أعيان الأمة و هو ميت أو غائب لوجب على من حضره من المسلمين أن ينتصروا له و إذا بلغ الأمر إلى السلطان فإنه يعاقب هذا الجرئ بما يزعه عن أذى المؤمنين ثم إن كان حيا و علم فله أن يعفو عن سابه و أما إن تعذر علمه لموته أو غيبته لم يجز للمسلمين الإمساك عن عقوبة هذا و إذا رفع إلى السلطان عاقبه و إن أظهر التوبة لأن هذا من المعاصي و الذنوب المتعلقة بحق آدمي لا يمكن قيامه بطلب هذا الحد و كل ما كان كذلك لم تحتج العقوبة عليه إلى طلب أحد و لا تسقط بالتوبة إذا رفع إلى السلطان و لهذا قلنا : إن من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه يجب أن يعزر و يؤدب أو يقتل و إن لم يطالب بحقهم معين لأن نصر المسلمين واجب على كل مسلم بيده و لسانه فكيف على ولي الأمر ؟
و على هذا التقدير فنقول : إن سب النبي عليه الصلاة و السلام كان موجبا للقتل في حياته كما تقدم تقريره و كان إذا علم بذلك تولى هذا الحق فإن أحب استوفى و إن أحب عفا فإذا تعذر إعلامه لغيبته أو موته وجب على المسلمين القيام بطلب حقه و لم يجز العفو عنه من الخلق كما لا يجوز العفو عن من سب غيره من الأموات و الغياب
و قد قدمنا الدلائل على أن القتل لخصوص سبه و أن المغلب فيه حقه حتى كان له أن يقتل من سبه أو يعفو عنه كما للرجل أن يعاقب سابه و أن يعفو عنه
فإن قيل : هذا يبتني على مقدمتين :

إحداهما : أن قذف الميت موجب للحد و قد ذهب أبو بكر بن جعفر صاحب الخلال إلى أنه لا حد لقذف ميت لأن الحي وارثه لم يقذف و إنما قذف الميت و حد القذف لا يستوفي إلا بعد المطالبة و قد تعذرت منه و الحد لا يورث إلا بمطالبة الميت و هي منتفية و الأكثرون يثبتون الحد لقذف الميت لكن من الفقهاء من يقول : إنما يثبت إذا تضمن القدح في نسب الحي و هو قول الحنفية و بعض أصحابنا و قيل عن الحنفية : لا يأخذ به إلا الوالد و الولد و من الفقهاء من يقول : يثبت مطلقا ثم هل يرثه جميع الورثة أو من سوى الزوجين لبقاء سبب الإرث أو العصبة فقط لمشاركتهم له في عمود نسبه ؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب الشافعي و أحمد
الثانية : أن حد قذف الميت لا يستوفى إلا بطلب الورثة و ذلك أنهم لا يختلفون أنه لا يستوفي إلا بمطالبة الورثة أو بعضهم و متى عفوا سقط عند الأكثرين فعلى هذا ينبغي أن يسقط لقذف النبي عليه الصلاة و السلام لأنه لا يورث و يكون كقذف من لا وارث له و هذا ليس فيه حد قذف عند أكثر الفقهاء أو يقال : لا يستوفي حتى يطالب بعض الهاشمين و بعض القرشين
فنقول : الجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنا لم نجعل سب النبي عليه الصلاة و السلام و قذفه من حد القذف الذي لا يستوفى حتى يطلبه المستحق فإن ذاك إنما هو إذا علم به و إنما هو من باب السب و الشتم الذي يعلم أنه حرام باطل و قد تعذر علم المسبوب به كما لو رمى رجل بعض أعيان الأمة بالكفر أو كذب أو شهادة الزور أو سبه سبا صريحا فإنا لا نعلم مخالفا في أن هذا الرجل يعاقب على ذلك كما يعاقب على ما ينتهكه من المحارم انتصارا لذلك الرجل الكريم في الأمة و زجرا عن معصية الله كمن يسب الصحابة أو العلماء أو الصالحين
الوجه الثاني : أن سبه سب لجميع أمته و طعن في دينهم و هو سب تلحقهم به غضاضة و عار سب الجماعة الكثيرة بالزنا فإنه يعلم كذب فاعله و هذا يوقع في بعض النفوس ريبا و إذا كان آذى جميع المؤمنين أذى يوجب القتل وهو تجب عليهم المطالبة به من حيث وجب عليهم إقامة الدين فيكون شبيها بقذف الميت الذي فيه نسب الحي إذا طالب به و ذاك يعين إقامته
و بهذا يظهر الفرق بينه و بين غيره من الأموات على قول أبي بكر فإن ذلك الميت لا يتعدى ضرر قذفه في الأصل إلى غيره فإذا تعذرت مطالبته أمكن أن يقال : لا يستوفى حد قذفه و هنا ضرر السب في الحقيقة إنما يعود إلى الأمة بفساد دينها و ذل عصمتها و إهانة مستمسكها و إلا فالرسول صلوات الله عليه و سلامه في نفسه لا يتضرر بذلك
و بهذا يظهر الفرق بينه و بين غيره في أحد قذف الغير إنما ثبت لورثته أو لبعضهم و ذلك لأن العار هناك إنما يلحق الميت أو ورثته و هنا العار يلحق جميع الأمة لا فرق في ذلك بين الهاشميين و غيرهم ن بل أي الأمة كان أقوى حبا لله و رسوله و أشد اتباعا له و تعزيرا و توقيرا كان حظه من هذا الأذى و الضرر أعظم و هذا ظاهر لا خفاء به و إذا كان هذا ثابتا لجميع الأمة فإنه مما يجب عليهم القيام به و لا يجوز لهم العفو عنه بوجه من الوجوه لأنه وجب لحق دنياهم بخلاف حد قذف قريبهم فإنه وجب لحظ نفوسهم و دنياهم فلهم أن يتركوه و هذا يتعلق بدينهم فالعفو عنه عفو عن حدود الله و عن انتهاك حرماته فظهر الجواب عن المتقدمتين المذكورتين
الوجه الثالث : أن النبي صلى الله عليه و سلم لا يورث فلا يصح أن يقال : إن حق عرضه يختص به أهل بيته دون غيرهم كما أن ماله لا يختص به أهل بيته دون غيرهم بل أولى لأن تعلق حق الأمة بعرضه أعظم من تعلق حقهم بماله و حينئذ فيجب المطالبة باستيفاء حقه على كل مسلم لأن ذلك من تعزيره و نصره و ذلك فرض على كل مسلم
و نظير ذلك أن يقتل مسلم أو معاهد نبيا من الأنبياء فإن قتل ذلك الرجل متعين على الأمة و لا يجوز أن يجعل حق دمه إلى من يكون وارثا له لو كان يورث : أن أحب قتل و إن أحب عفا على الدية أو مجانا و لا يجوز تقاعد الأمة عن قتل قاتله فإن ذلك أعظم من جميع أنواع الفساد و لا يجوز أن يسقط حق دمه بتوبة القاتل أو إسلامه فإن المسلم أو المعاهد لو ارتد أو نقض العهد و قتل مسلما لوجب عليه القود و لا يكون ما ضمنه إلى القتل من الردة و نقض العهد مخففا لعقوبته و ما أظن أحدا يخالف في مثل هذا مع أن مجرد قتل النبي ردة و نقض للعهد باتفاق العلماء و عرضه كدمه فإن عقوبته القتل كما أن عقوبة ممنوع من المسلم بإسلامه و من المعاهد بعهده فإذا انتهكا حرمته وجبت عليهما العقوبة لذلك

الطريقة الثامنة عشرة ـ و هي طريقة القاضي أبي يعلى ـ أن سب النبي عليه الصلاة و السلام يتعلق به حقان : حق الله و حق لآدمي
فأما حق الله فهو ظاهر وهو القدح في رسالته و كتابه و دينه
و أما حق الآدمي فظاهر أيضا فإنه أدخل المعرة على النبي عليه الصلاة و السلام بهذا السب و أنالة بذلك عضاضة و عارا
و العقوبة إذا تعلق فيها حق لآدمي لم يسقط بالتوبة كالحد في المحاربة فإنه يتحتم قتله ثم لو تاب قبل القدرة عليه سقط حق الله من انحتام القتل و الصلب و لم يسقط حق الآدمي من القود كذلك هنا
فإن قيل : المغلب هنا حق الله و لهذا لو عفا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك لم يسقط بعفوه
قلنا : قد قال القاضي أبو يعلى : في ذلك نظر على أنه إنما لم يسقط بعفوه لتعلق حق الله به فهو كالعدة إذا أسقط الزوج حقه منها لم يسقط لتعلق حق الله بها و لم هذا على أنه لا حق لآدمي فيها كذلك هنا فقد تردد القاضي أبو يعلى في جواز عفو النبي صلى الله عليه و سلم في هذا الموضع و قطع في موضع آخر أنه كان له أن يسقط حق سبه لأنه حق له و ذكر في قوله الأنصاري للنبي عليه الصلاة و السلام [ أن كان ابن عمتك ] و قد عرض للنبي عليه الصلاة و السلام بما يستحق العقوبة و لم يعاقبه لأنه حمل قول النبي صلى الله عليه و سلم للزبير بأنه قضى له على الأنصاري للقرابة و في الرجل الذي أغلظ لأبي بكر و لم يعزره فقال القاضي : التعزير هنا وجب لحق آدمي و هو افتراؤه على النبي صلى الله عليه و سلم و على أبي بكر و له أن يعفو عنه و كذلك ذكر ابن عقيل عنه أن الحق كان النبي صلى الله عليه و سلم و له تركه و قال ابن عقيل : قد عرض هذا للنبي صلى الله عليه و سلم بما يقتضي العقوبة و التهجم على النبي صلى الله عليه و سلم فوجب التعزير لحق الشرع و دون أن يختصه في نفسه قال : و قد عزره النبي عليه الصلاة و السلام بحبس الماء عن زرعه و هو نوع ضرر و كسر لعرضه و تأخير لحقه و عندنا أن العقوبات بالمال باقية غير منسوجة و ليس يختص التعزير بالضرب في حق كل أحد
و قول ابن عقيل هذا تضمن ثلاثة أشياء : أحدها : أن القول إنما كان يوجب التعزير لا القتل
و الثاني : أن ذلك واجب لحق الشرع ليس له أن يعفو عنه
الثالث : أنه عزره بحبس الماء
و الثلاثة ضعيفة جدا و الصواب المقطوع به أنه كان له العفو كما دلت عليه الأحاديث السابقة لما ذكرناه من المعنى فيه و حينئذ فيكون ذلك مؤيدا لهذه الطريقة
و قد دل على ذلك ما ذكرناه من أن النبي صلى الله عليه و سلم عاقب من سبه و آذاه في الموضع الذي سقطت فيه حقوق الله نعم صار سب النبي عليه الصلاة و السلام سبا لميت و ذلك لا يسقط بالتوبة البتة
و على هذه الطريقة فالفرق بين سب الله و سب رسوله ظاهر فإن هناك الحق لله خاصة كالزنا و السرقة و شرب الخمر و هنا الحق لهما فلا يسقط لهما فلا يسقط حق الآدمي بالتوبة كالقتل في المحاربة

الطريقة التاسعة عشرة : أنا قد ذكرنا النبي صلى الله عليه و سلم أراد من المسلمين قتل ابن أبي سرح و قد جاء مسلما تائبا و نذر دم أنس بن زنيم إلى أن عفا عنه بعد الشفاعة و أعرض عن أبي سفيان بن الحارث
و عبد الله بن أبي أمية و قد جاءا مسلمين مهاجرين و أراق دماء من سبه من النساء من غير قتال و هن منقادات مستسلمات و قد كان هؤلاء حربين لم يلتزموا ترك سبه و لا عاقدونا على ذلك فالذي عقد الأيمان أو الأمان على ترك سبه إذا جاء تائبا يريد الإسلام و يرغب فيه إما أن يجب قبول الإسلام منه و الكف عنه أو لا يجب فإن قيل [ يجب فهو خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و إن قيل [ لا يجب ] فهو دليل على أنه إذا جاء ليتوب و يسلم جاز قتله و كل من جاز قتله و قد جاء مسلما تائبا مع علمنا بأنه قد جاء كذلك ـ جاز قتله و إن أظهر الإسلام و التوبة و لا نعلم بينهما فرقا عند أحد من الفقهاء في جواز القتل فإن إظهار إدارة الإسلام هي أول الدخول فيه كما أن التكلم بالشهادتين هو أول الالتزام له و

لا يعصم الإسلام إلا دم من يجب قبوله منه
فإذا أظهر أنه يريده فقد بذل ما يجب قبوله فيجب قبوله كما لو آذاه
و هنا نكتة حسنة و هي أن ابن أبي أمية و أبا سفيان لم يزالا كافرين و ليس في القصة بيان أنه أراد قتلهما بعد مجيئهما و إنما فيها الإعراض عنهما و ذلك عقوبة من النبي صلى الله عليه و سلم
و أما حديث ابن أبي سرح فهو نص في إباحة دمه مجيئه لطلب البيعة و ذلك لأن ابن أبي سرح كان مسلما فارتد و افترى على النبي عليه الصلاة و السلام و السلام و أنه كان يتمم له القرآن و يلقنه ما يكتبه من الوحي فهو ممن ارتد بسب النبي عليه الصلاة و السلام و من ارتد فقد كان له أن يقتله من غير استتابة و كان له أن يعفو عنه و بعد موته تعين قتله
و حديث ابن زنيم فإنه أسلم قبل أن يقدم على النبي عليه الصلاة و السلام مع بقاء دمه مندورا مباحا إلى أن عفا عنه النبي عليه الصلاة و السلام بعد أن روجع في ذلك
و كذلك النسوة اللاتي أمر بقتلهن إنما وجهه ـ و الله أعلم ـ و أنهن كن قد سببنه بعد المعاهدة فانتقض عهدهن فقتلت اثنتان و الثالثة لم يعصم دمها حتى استؤمن لها بعد أيام و لو كان دمها معصوما بالإسلام لم يحتج إلى الأمان و هذه الطريقة مبناها على أن من جاز قتله بعد أن أظهر انه جاء ليسلم جاز قتله بعد أن أسلم فإن من لم يعصم دمه إلا عفو و أمان لم يكن الإسلام هو العاصم لدمه و إن كان قد تقدم ذكر هذا لكن ذكرناه لخصوص هذا المأخذ

الطريقة الموفية عشرين : أن الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه مطلقة بقتل سابه لم يؤمر فيها بالاستتابة و لم يستثن فيها من أسلم كما هي مطلقة عنهم في قتل الزاني المحصن و لو كان يستثنى منها حال دون حال لوجب بيان ذلك فإن سب النبي عليه الصلاة و السلام قد وقع منه و هو الذي علق القتل عليه و لم يبلغنا حديث و لا أثر يعارض ذلك و هذا بخلاف قوله صلى الله عليه و سلم [ من بدل دينه فاقتلوه ] فإن المبدل للدين هو المستمر على التبديل دون من عاد و كذلك قوله [ التارك لدينه المفارق للجماعة ] فإن من عاد فيه لم يجز أن يقال : هو تارك لدينه و لا مفارق للجماعة و هذا المسلم أو المعاهد إذا سب الرسول ثم تاب لم يمكن أن يقال : ليس بساب للرسول أو لم يسب الرسول فإن هذا الوصف عليه تاب أو لم يتب كما يقع على الزاني و السارق و القازف و غيرهم

الطريقة الحادية و العشرون : أنا قد قررنا أن المسلم إذا سب الرسول يقتل و إن تاب بما ذكرناه من النص و النظر و الذمي كذلك فإن أكثر ما يفرق به إما كون المسلم تبين بذلك أنه منافق أو أنه مرتد و قد وجب عليه حد من الحدود يستوفى منه و نحو ذلك و هذا المعنى موجود في الذمي فإن إظهاره للإسلام بمنزلة إظهاره للذمة فإذا لم يكن صادقا في عهده و أمانه لم يعلم أنه صادق في إسلامه و إيمانه و هو معاهد قد وجب عليه حد من الحدود فيستوفى منه كسائر الحدود
و قول من يقول [ قتل المسلم أولى ] يعارضه قول من يقول [ قتل الذمي أولى ] و ذلك أن الذمي دمه أخف حرمة و القتل إذا وجب عليه في حال الذمة لسبب لم يسقط عنه بالإسلام
يبين ذلك أنه لا يبيح دمه إلا إظهار السب و صريحه بخلاف المسلم فإن دمه محقون و قد يجوز أنه غلظ بالسب فإذا حقق الإسلام و التوبة من السب ثبت العاصم مع ضعف المبيح و الذمي محقق و العاصم لا يرفع ما وجب فيكون أقوى من هذا الوجه
ألا ترى أن المسلم لو كان منافقا لم يقتصر على السب فقط بل لا بد أن تظهر منه كلمات مكفرة غير ذلك بخلاف الذمي فإنه لا يطلب على كفره دليل و إنما يطلب على محاربته و إفساده و السب من أظهر الأدلة على ذلك كما تقدم

الطريقة الثانية و العشرون : أنه سب لمخلوق لم يعلم عفوه فلا يسقط بالإسلام كسب سائر المؤمنين و أولى فإن الذمي لو سب مسلما أو معاهدا ثم أسلم لعوقب على ذلك بما كان يعاقب به قبل أن يسلم فكذلك إذا سب الرسول و أولى و كذلك يقال في المسلم إذا سبه
تحقيق ذلك أن القذف و الشاتم إذا قذف إنسانا فرفعه إلى السلطان فتاب كان له أن يستوفي منه الحد إنما وجب لما ألحق به من العار و الغضاضة فإن الزنا أمر يستخفى منه فقذف المرء به يوجب تصديق كثير من الناس به و هو من الكبائر التي لا يساويها غيرها في العار و المنقصة إذا تحقق و لا يشبهه غيره في لحوق العار إذا لم يتحقق فإنه إذا قذفه بقتل كان الحق لأولياء المقتول و لا يكاد يحلو غالبا من ظهور كذب الرامي به أو براءة المرمي به من الحق ـ بإبراء أهل الحق أو بالصلح أو بغير ذلك ـ على وجه لا يبقى عليه عار و كذلك الرمي بالكفر فإن ما يظهره من الإسلام يكذب هذا الرامي به فلا يضر إلا صاحبه و رمي الرسول صلى الله عليه و سلم بالعظائم يوجب إلحاق العار به العضاضة لأنه بأي شيء رماه من السب كان متضمنا للطعن في النبوة و هي وصف خفي فقد يؤثر كلامه أثرا في بعض النفوس فتوبته بعد أخذه قد يقال : إنما صدرت عن خوف و تقية فلا يرتفع العار و الغضاضة الذي لحقه كما لا يرتفع العار الذي يلحق بالمقذوف بإظهار القازف التوبة و لذلك كانت توبته توجب زوال الفسق عنه وفاقا و توجب قبول شهادته عند أكثر الفقهاء و لا يسقط الحد الذي للمقذوف فكذلك شاتم الرسول
فإن قيل : ما أظهره الله لنبيه من الآيات و البراهين المحققة لصدقه في نبوته تزيل عار هذا السب و تبين أنه مبرأ بخلاف المقذوف بالزنا
قيل : فيجب على هذا أن لو قذفه أحد بالزنا في حياته أن لا يجب عليه حد قذف و هذا ساقط و كان يجب على هذا أن لا يعبأ بمن يسبه و يهجوه بل يكون من يخرج عن الدين و العهد بهذا و بغيره على حد واحد و هو خلاف الكتاب و السنة و ما كان عليه السابقون و يجب إذا قذف رجل سفيه معروف بالسفه و الفرية من هو مشهور عند الخاصة و العامة بالعفة مشهود له بذلك أن لا يحد و هذا كله فاسد
و ذلك لأن مثل هذا السب و القذف لا يخاف من تأثيره في قلوب أولي الألباب و إنما يخاف من تأثيره في عقول ضعيفة و قلوب مريضة ثم سمع العلم بكذبه له من غير نكير يصغر الحرمة عنده و ربما طرق له شبهة و شك فإن القلوب سريعة التقلب
و كما أن حد القذف شرع صونا للعرض من التلطخ بهذه القاذورات و سترا للفاحشة و كتما لها فشرع ما يصون عرض الرسول من التلطخ بما قد ثبت أنه برئ منه أولى و ستر الكلمات التي أوذي بها في نيل منه فيها أولى لما في ذكرها من تسهيل الاجتراء عليه إلا أن حد هذا السب و القذف لا لقتل لعظم موقعه و قبح تأثيره فإنه لو لم يؤثر إلا تحقيرا لحرمته أو فساد قلب واحد أو إلقاء في قلب كان بعض ذلك يوجب القتل بخلاف عرض الواحد من الناس فإنه لا يخاف منه مثل هذا و سيجيء الجواب عما يتوهم فرقا بين سب النبي صلى الله عليه و سلم و سب غيره في سقوط حده بالتوبة دون حد غيره

الطريقة الثالثة و العشرون : أن قتل الذمي إذا سب إما يكون جائزا غير واجب أو يكون واجبا و الأول باطل بما قدمناه من الدلائل في المسألة الثانية و بينا أنه قتل واجب و إذا كان واجبا فكل قتل يجب على الذمي بل كل عقوبة وجبت على الذمي بقدر زائد على الكفر فإنها لا يسقط بالإسلام أصلا جامعا و قياسا جليا فإنه يجب قتله بالزنا و القتل في قطع الطريق و بقتل المسلم أو الذمي و لا يسقط الإسلام قتلا واجبا و بهذا الفرق يظهر بين قتله و قتل الحربي الأصلي أو الناقض المحض فإن القتل هناك ليس واجبا عينا و به يظهر الفرق بين هذا و بين سقوط الجزية عنه بالإسلام عند أكثر الفقهاء غير الشافعي فإن الجزية عند بعضهم عقوبة للمقام على الكفر و عند بعضهم عوض عن حقن الدماء و قد يقال : أجره سكنى الدار ممن لا يملك السكنى فليست عقوبة وجبت بقدر زائد على الكفر

الطريقة الرابعة و العشرون : أنه قتل لسبب ماض فلم يسقط بالتوبة و الإسلام كالقتل للزنا و قطع الطريق و عكسه القتل لسبب حاضر و هو القتل لكفر قديم باق أو محدث جديد باق أعني الكفر الأصلي و الطارىء و ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ] فأمر بقتله لأذى ماض و لم يقل : [ فإنه يؤذي الله و رسوله ]
و كذلك ما تقدم من الآثار فيها دلالة على أن السب أوجب القتل و السب كلام لا يدوم و يبقى بل هو كالأفعال المتصرمة من القتل و الزنا و ما كان هكذا فالحكم فيه عقوبة فاعله مطلقا بخلاف القتل للردة أو للكفر الأصلي فإنه إنما يقتل لأنه حاضر موجود حين القتل لأن الكفر اعتقاد و الاعتقاد يبقى في القلب و إنما يظهر أنه اعتقاد مما يظهر من قول و نحوه فإذا ظهر فالأصل بقاؤه فيكون هذا الاعتقاد حاصلا في القلب وقت القتل هذا وجه محقق و مبناه على أن قتل الساب ليس لمجرد الردة و نقض العهد فقط كغيره ممن جرد الردة و جرد نقض العهد بل بقدر زائد على ذلك و هو ما جاء به من الأذى و الإضرار و هذا أصل قد تمهد على وجه لا يستريب فيه لبيب

الطريقة الخامسة و العشرون : أن هذا قتل تعلق بالنبي صلى الله عليه و سلم فلم يسقط بإسلام الساب كما لو قتل نبيا و ذلك أن المسلم أو المعاهد إذا قتل نبيا ثم أسلم بعد ذلك لم يسقط عنه القتل فإنه لو قتل بعض الأمة لم يسقط عنه القتل بإسلامه فكيف يسقط عنه إذا قتل النبي ؟ و لا يجوز أن يتخير فيه خليفة بعد الإسلام بين القتل و العفو عن الدية أو أكثر منها كما يتخير في قتل قاتل من لا وارث له لأن قتل النبي أعظم أنواع المحاربة و السعي في الأرض فسادا فإن هذا حارب الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا بلا ريب
و إذا كان من قاتل على خلاف أمره محاربا له ساعيا في الأرض فسادا فمن قاتله أو قتله فهو أعظم محاربة و أشد سعيا في الأرض فسادا و هو من أكبر أنواع الكفر و نقض العهد و إن زعم أنه لم يقتله مستحلا كما ذكره إسحاق بن راهويه من أن هذا إجماع من المسلمين وهو ظاهر و إذا وجب قتله عينا و إن أسلم وجب قتل سابه أيضا و إن أسلم لأن كليهما أذى له يوجب القتل لا لمجرد كونه ردة أو نقض عهد و لا تمثيلا له بقتل غيره أو سبه فإن سب غيره لا يوجب القتل و قتل غيره إنما فيه القود الذي يتخير فيه الوارث أو السلطان بين القتل أو أخذ الدية و للوارث أن يعفو عنه مطلقا بل لكون هذا محاربة لله و رسوله و سعيا في الأرض فسادا و لا يعلم شيء أكثر منه فإن أعظم الذنوب الكفر و بعده قتل النفس و هذا أقبح الكفر و قتل أعظم النفوس قدرا
و من قال : [ إن حد سبه يسقط بالإسلام ] لزمه أن يقول : إن قاتله إذا أسلم يصير بمنزلة قاتل من لا وارث له من المسلمين لأن القتل بالردة و نقض العهد سقط و لم يبق إلا مجرد القود كما قال بعضهم : إن قاذفه إذا جلد ثمانين أو أن يقول : يسقط عنه القود بالكلية كما أسقط حد قذفه و سبه بالكلية و قال : انغمر حد السب في موجب الكفر لا سيما على رأيه إن كان السب من كافر ذمي يستحل قتله و عداوته ثم أسلم بعد ذلك و أقبح بهذا من قول ما أنكره و أبشعه ! و إنه ليقشعر منه الجلد أن يظل دماء الأنبياء في موضع تثأر [ فيه ] دماء غيرهم
و قد جعل الله عامة ما أصاب بني إسرائيل من الذلة و المسكنة و الغضب حتى سفك منهم من الدماء ما شاء الله و نهبت الأموال و زال الملك عنهم و سبيت الذرية و صاروا تحت أيدي غيرهم إلى يوم القيامة إنما هو بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله و يقتلون النبيين بغير الحق و كل من قتل نبيا فهذا حاله و إنما هذا بقوله : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم } [ التوبة : 12 ] عطف خاص على عام و إذا كان هذا باطلا فنظيره باطل مثله فإن أذى النبي إما أن يندرج في عموم الكفر و النقض أو يسوى بينه و بين أذى غيره فيما سوى ذلك أو يوجب القتل لخصوصه فإذا يطل القسمان الأولان تعين الثالث و متى أوجب لخصوصه فلا ريب أنه يوجبه مطلقا
و أعلم أن منشأ الشبهة في هذه المسألة القياس الفاسد وهو التسوية في الجنس بين المتباينين تباينا لا يكاد يجمعهما جامع و هو التسوية بين النبي و غيره في الدم أو في الغرض إذا فرض عود المنتهك إلى الإسلام هو مما يعلم بطلانه ضرورة و يقشعر الجلد من التفوه به فإن من قتله للردة أو للنقض فقط و لم يجعل لخصوص كونه أذى له أثرا و إنما المؤثر عنده عموم وصف الكفر إما أن يهدر خصوص الأذى أو يسوى فيه بينه و بين غيره زعما منه أن جعله كفرا و نقضا هو غاية التعظيم و هذا كلام من لم ير للرسول حقا يزيد على مجرد تصديقه في الرسالة و سوى بينه و بين سائر المؤمنين فيما سوى هذا الحق
و هذا كلام خبيث يصدر عن قلة فقه ثم يجر إلى شعبة نفاق ثم يخاف أن يخرج إلى النفاق الأكبر و إنه لخليق به و من قال هذا القول من الفقهاء لا يرتضي أن يلزم مثل هذا المحذور و لا يفوه به فإن الرسول أعظم في صدورهم من أن يقولوا فيه مثل هذا لكن هذا لازم قولهم لزوما لا محيد عنه و كفى بقول فسادا أن يكون هذا حقيقة بعد تحريره و إلا فمن تصور أن له حقوقا كثيرة عظيمة مضافة إلى الإيمان به ـ و هي زيادة في الإيمان به ـ كيف يجوز أن يهدر أذاه إذا فرض عريا عن الكفر أو يسوى بينه و بين غيره ؟
أرأيت لو أن رجلا سب أباه و أذاه كانتا عقوبته المشروعة مثل عقوبة من سب غير أبيه أم يكون أشد لما قابل الحقوق بالعقوق ؟ و قد قال سبحانه و تعالى : { فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما و قل لهما قولا كريما و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة } الآية [ الإسراء : 24 ]
و في مراسيل أبي داود عن [ ابن المسيب أن النبي عليه الصلاة و السلام قال : من ضرب أباه فاقتلوه ]
و بالجملة فلا يخفى على لبيب أن حقوق الوالدين لما كانت أعظم كان النكال أذاهما باللسان و غيره أشد مع أنه ليس كفرا فإذا كان قد أوجب له من الحقوق ما يزيد على التصديق و حرم من أنواع أذاه ما لا يستلزم التكذيب فلا بد لتلك الخصائص من عقوبات على الفعل و الترك و مما هو كالإجماع من المحققين امتناع أن يسوى بينه و بين غيره في العقوبة على خصوص أذاه و هو ظاهر لم يبق إلا أن يكون القتل جزاء ما قوبل به من حقوقه بالعقوق جزاء وفاقا و إنه لقليل له و لعذاب الآخرة أشد و قد لعن الله مؤذيه في الدنيا و الآخرة و أعد له عذابا مهينا

الطريقة السادسة و العشرون : أنا قد قدمنا من السنة و أقوال الصحابة ما دل على قتل من آذاه بالتزوج بنسائه و التعرض بهذا الباب لحرمته في حياته أو بعد موته و أن قتله لم يكن حد الزنا من وطء ذوات المحارم و غيرهن بل لما في ذلك من أذاه فإما أن يجعل هذا الفعل كفرا أو لا يجعل فإن لم يجعل كفرا فقد ثبت قتل من آذاه مع تجرده عن الكفر و هو المقصود فالأذى بالسب و نحوه أغلظ و إن جعل كفرا فلو فرض أنه تاب منه لم يجز أن يقال : يسقط القتل عنه لأنه يستلزم أن يكون من الأفعال ما يوجب القتل و يسقط بالتوبة بعد القدرة و ثبوته عند الإمام و هذا لا عهد لنا به في الشريعة و لا يجوز إثبات ما لا نظير له إلا بنص و هو لعمري سمج فإن إظهار التوبة باللسان من فعل تشتهيه النفوس سهل على ذي الغرض إذا أخذ فيسقط مثل هذا الحد بهذا و إذا لم يسقط القتل الذي أوجبه هذا أذى اللسان و أولى لأن القرآن قد غلظ هذا على ذاك و التقدير أن كليهما كفر فإذا لم يسقط قتل من أتى بالأدنى فأن لا يسقط قتل من أتى بالأعلى أولى

أقسام الكتاب
1 2 3 4