كتاب : إعلام الموقعين عن رب العالمين
المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزي

محل الطلاق الزوجة ومحل العتاق العبد
قيل هذا غلط بل محل الطلاق والعتاق نفس الزوجة والعبد وإنما الذمة محل وجوب ذلك وهو التطليق والاعتاق وحيئذ فيعود الالتزام الى التطليق والإعتاق وذلك لا يوجب الوقوع والذي يوضح هذا أنه لو قال أنا منك طالق لم تطلق بذلك لإضافة الطلاق الى غير محله وقيل تطلق إذا نوى طلاقها هي بذلك تنزيلا لهذا اللفظ منزلة الكنايات فهذا كشف سر هذه المسألة وممن ذكر هذه الاوجه الثلاثة ابو القاسم بن يونس في شرح التنبيه وأكثر أيمان الطلاق بهذه الصيغة فكيف يحل لمن يؤمن بأنه موقوف بين يدى الله ومسئول ان يكفر أو يجهل من يفتى بهذه المسألة ويسعى في قتله وحبسه ويلبس على الملوك والأمراء والعامة أن المسألة مسألة إجماع ولم يخالف فيها أحد من المسلمين وهذه أقوال أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وقد علم الله ورسوله وملائكته وعباده ان هذه المسألة لم ترد بغير الشكاوي الى الملوك ودعوى الاجماع الكاذب والله المستعان وهو عند كل لسان قائل وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون
فصل اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ
وهذا الذي قلناه من اعتبار النيات والمقاصد في الالفاظ وانها لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصدا لها مريدا لموجباتها كما أنه لا بد أن يكون قاصدا للتكلم باللفظ مريدا له فلا بد من إرادتين إرادة التكلم باللفظ اختيارا وإرادة موجبه ومقتضاه بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ فإنه المقصود واللفظ وسيلة هو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام وقال مالك واحمد فيمن

قال أنت طالق البتة وهو يريد ان يحلف على شيء ثم بدا له فترك اليمين لا يلزمه شيء لأنه لم يرد ان يطلقها وكذلك قال اصحاب احمد وقال ابو حنيفة من اراد ان يقول كلاما فسبق لسانه فقال انت حرة لم تكن بذلك حرة وقال اصحاب احمد لو قال الأعجمي لامرأته أنت طالق وهو لا يفهم معنى هذه اللفظة لم تطلق لأنه ليس مختارا للطلاق فلم يقع طلاقه كالمكره قالوا فلو نوى موجبه عند أهل العربية لم يقع ايضا لانه لا يصح منه اختيار مالا يعلمه وكذلك لو نطق بكلمة الكفر من لا يعلم معناها لم يكفر وفي مصنف وكيع ان عمر بن الخطاب قضى في امرأة قالت لزوجها سمني فسماها الطيبة فقالت لا فقال لها ما تريدين ان اسميك قالت سمني خلية طالق فقال لها فأنت خلية طالق فأتت عمر بن الخطاب فقالت إن زوجي طلقني فجاء زوجها فقص عليه القصة فأوجع عمر رأسها وقال لزوجها خذ بيدها وأوجع رأسها وهذا هو الفقه الحي الذي يدخل على القلوب بغير استئذان وإن تلفظ بصريح الطلاق وقد تقدم ان الذي قال لما وجد راحلته اللهم انت عبدي وانا ربك أخطأ من شدة الفرح لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر لكونه لم يرده والمكره على كلمة الكفر أتى بصريح كلمته ولم يكفر لعدم إرادته بخلاف المستهزئ والهازل فإنه يلزمه الطلاق والكفر وإن كان هازلا لانه قاصد للتكلم باللفظ وهزله لا يكون عذرا له بخلاف المكره والمخطئ والناسي فإنه معذور مأمور بما يقوله أو مأذون له فيه والهازل غير مأذون له في الهزل بكلمة الكفر والعقود فهو متكلم باللفظ مريد له ولم يصرفه عن معناه إكراه ولا خطأ ولا نسيان ولا جهل والهزل لم يجعله الله ورسوله عذرا صارفا بل صاحبه احق بالعقوبة ألا ترى ان الله تعالى عذر المكره في تكلمه بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئنا بالايمان ولم يعذر الهازل بل قال ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم وكذلك رفع المؤاخذة على المخطئ والناسى

فصل تعليق الطلاق بالشرط المنوى
ومن ذلك أنه لو قال أنت طالق وقال أردت إن كلمت رجلا او خرجت من داري لم يقع به الطلاق في احد الوجهين لاصحاب احمد والشافعي وكذلك لو قال أردت إن شاء الله ففيه وجهان لهم ونص الشافعي فيما لو قال إن كلمت زيدا فأنت طالق ثم قال أردت به الى شهر فكلمة بعد شهر لم تطلق باطنا وفرق بين هذه الصورة والصورتين اللتين قبلها فإن التقييد بالغاية المنوية كالتقييد بالمشيئة المنوية وهو أولى بالجواز من تخصيص العام بالنية كما إذا قال نسائي طوالق واستثنى بقلبه واحدة منهن فإنه إذا صح الاستثناء بالنية في إخراج ما يتناوله اللفظ صح التقييد بالنية بطريق الاولى فإن اللفظ لا دلالة له بوضعه على عموم الاحوال والازمان ولو دل عليها بعمومه فإخراج بعضها تخصيص للعام وهذا ظاهر جدا وغايته استعمال العام في الخاص او المطلق في المقيد وذلك غير بدع لغة وشرعا وعرفا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه فالصواب قبول مثل هذا فيما بينه وبين الله وفي الحكم ايضا
فصل الحلف بالطلاق وبالحرام له صيغتان
قد عرف ان الحلف بالطلاق له صيغتان إحداهما إن فعلت كذا وكذا فأنت طالق والثانية الطلاق يلزمني لا أفعل كذا وأن الخلاف في الصيغتين قديما وحديثا وهكذا الحلف بالحرام له صيغتان إحداهما إن فعلت كذا فأنت

على حرام أو ما أحل الله على حرام والثانية الحرام يلزمني لا أفعل كذا فمن قال في الطلاق يلزمني إنه ليس بصريح ولا كناية ولا يقع به شيء ففي قوله الحرام يلزمني أولى ومن قال إنه كناية إن نوى به الطلاق كان طلاقا وإلا فلا فهكذا يقول في الحرام يلزمني ان نوى به التحريم كان كما لو نوى بالطلاق التطليق فكأنه التزم ان يحرم كما التزم ذلك أن يطلق فهذا التزام للتحريم وذاك التزام للتطليق وان نوى به ما حرم الله على يلزمني تحريمه لم يكن يمينا ولا تحريما ولا طلاقا ولا ظهارا ولا يجوز ان يفرق بين المسلم وبين امرأته بغير لفظ لم يوضع للطلاق ولا نواه وتلزمه كفارة يمين حرمة لشدة اليمين إذ ليست كالحلف بالمخلوق التي لا تنعقد ولا هي من لغو اليمين وهي يمين منعقدة ففيها كفارة يمين
وبهذا افتى ابن عباس ورفعه الى النبي صلى الله عليه وسلم - فصح عنه بأصح إسناد الحرام يمين يكفرها ثم قال لقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم - اسوة حسنة
وهكذا حكم قوله إن فعلت كذا فأنت على حرام وهذا اولى بكفارة يمين من قوله أنت علي حرام وفي قوله انت على حرام او ما احل الله على حرام او انت على حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير مذاهب

المذهب الأول فيمن قال لزوجته أنت علي حرام
أحدها أنه لغو وباطل ولا يترتب عليه شيء وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس وبه قال مسروق وأبو سلمة بن عبدالرحمن وعطاء والشعبي وداود وجميع أهل الظاهر وأكثر أصحاب الحديث وهو أحد قولى المالكية اختاره اصبغ ابن الفرج

وفي الصحيح عن سعيد بن جبير انه سمع ابن عباس يقول إذا حرم امرأته فليس بشيء لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وصح عن مسروق أنه قال ما أبالي أحرمت امرأتي أو قصعة من ثريد وصح عن الشعبي في تحريم المرأة لهو أهون على من نعلى وقال أبو سلمة ما أبالي أحرمت امرأتي أو حرمت ماء النهر
وقال الحجاج بن منهال إن رجلا جعل امرأته عليه حراما فسأل عن ذلك حميد بن عبدالرحمن فقال له حميد قال الله تعالى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب وانت رجل تلعب فاذهب فالعب

فصل المذهب الثاني
المذهب الثاني أنها ثلاث تطليقات وهو قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزيد بن ثابت وابن عمر والحسن البصري ومحمد بن عبدالرحمن ابن ابي ليلى وقضى فيها أمير المؤمنين على بالثلاث في عدي بن قيس الكلابي وقال له والذي نفسي بيده لئن مسستها قبل ان تتزوج غيرك لارجمنك وحجة هذا القول انها لا تحرم عليها إلا بالثلاث فكان وقوع الثلاث من ضرورة كونها حراما عليه
المذهب الثالث
المذهب الثالث أنها بهذا القول حرام عليه صح ايضا عن ابي هريرة والحسن وخلاس بن عمرو وجابر بن زيد وقتادة ولم يذكر هؤلاء طلاقا بل أمروه باجتنابها فقط وصح ذلك ايضا عن علي عليه السلام فإما أن يكون عنه روايتان أو يكون أراد تحريم الثلاث وحجة هذا القول أن لفظه إنما اقتضى التحريم ولم يتعرض لعدد الطلاق فحرمت عليه بمقتضى تحريمه

المذهب الرابع
المذهب الرابع الوقف فيها صح ذلك عن امير المؤمنين على ايضا وهو قول الشعبي قال يقول رجال في الحلال حرام إنها حرام حتى تنكح زوجا غيره وينسبونه الى علي والله ما قال ذلك علي إنما قال ما أنا بمحلها ولا بمحرمها عليك إن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر وحجة هؤلاء أن التحريم ليس بطلاق وهو لا يملك تحريم الحلال وإنما يملك إنشاء السبب الذي يحرم به وهو الطلاق وهذا ليس بصريح في الطلاق ولا هو مما ثبت له عرف الشرع في تحريم الزوجة فاشتبه الامر فيه
المذهب الخامس
المذهب الخامس إن نوى به الطلاق فهو طلاق وإلا فهو يمين وهذا قول طاوس والزهري والشافعي ورواية عن الحسن وحجة هذا القول أنه كناية في الطلاق فإن نواه به كان طلاقا وإن لم ينوه كان يمينا لقوله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك الى قوله تحلة أيمانكم
المذهب السادس
المذهب السادس أنه إن نوى بها الثلاث فثلاث وإن نوى واحدة فواحدة بائنة وإن نوى يمينا فهو يمين وإن لم ينو شيئا فهي كذبة لا شيء فيها قاله سفيان وحكاه النخعي عن أصحابه وحجة هذا القول ان اللفظ يحتمل لما نواه من ذلك فيتبع نيته

المذهب السابع
المذهب السابع مثل هذا إلا أنه إن لم ينو شيئا فهو يمين يكفرها وهو قول الأوزاعي وحجة هذا القول ظاهر قوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فإذا نوى به الطلاق لم يكن يمينا فإذا طلق ولم ينو الطلاق كان يمينا
المذهب الثامن
المذهب الثامن مثل هذا أيضا إلا أنه إن لم ينو شيئا فواحدة بائنة إعمالا للفظ التحريم
المذهب التاسع
المذهب التاسع أن فيه كفارة الظهار وصح ذلك عن ابن عباس أيضا وأبي قلابة وسعيد بن جبير ووهب بن منبة وعثمان التيمي وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد وحجة هذا القول إن الله تعالى جعل تشبيه المرأة بأمه المحرمة عليه ظهارا وجعله منكرا من القول وزورا فإن كان التشبيه بالمحرمة يجعله مظاهرا فإذا صرح بتحريمها كان أولى بالظهار
وهذا أقيس الاقوال وافقهها ويؤيده ان الله لم يجعل للمكلف التحريم والتحليل وإنما ذلك اليه تعالى وإنما جعل له مباشرة الافعال والاقوال التي يترتب عليها التحريم والتحليل فالسبب الى العبد وحكمه الى الله تعالى فإذا قال أنت على كظهر أمي أو قال أنت على حرام فقد قال المنكر من القول والزور وكذب فإن الله لم يجعلها كظهر أمه ولا جعلها عليه حراما فأوجب عليه بهذا القول من المنكر والزور أغلظ الكفارتين وهي كفارة الظهار
المذهب العاشر
المذهب العاشر أنها تطليقة واحدة وهي أحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب

وقول حماد بن ابي سليمان شيخ ابي حنيفة وحجة هذا القول ان تطليق التحريم لا يقتضى التحريم بالثلاث بل يصدق بأقله والواحدة متيقنة فحمل اللفظ عليها لانها اليقين فهو نظير التحريم بانقضاء العدة

المذهب الحادي عشر
المذهب الحادي عشر أنه ينوي ما أراده من ذلك في إرادة أصل الطلاق وعدده وإن نوى تحريما بغير طلاق فيمين مكفرة وهو قول الشافعي وحجة هذا القول ان اللفظ صالح لذلك كله فلا يتعين واحد منها إلا بالنية فإن نوى تحريما مجردا كان امتناعا منها بالتحريم كامتناعه باليمين ولا تحرم عليه في الموضعين
المذهب الثاني عشر
المذهب الثاني عشر انه ينوي أيضا في اصل الطلاق وعدده إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة وإن لم ينو طلاقا فهو مول وإن نوى الكذب فليس بشيء وهو قول ابي حنيفة واصحابه وحجة هذا القول احتمال اللفظ لما ذكره إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة لاقتضاء التحريم للبينونة وهي صغرى وكبرى والصغرى هي المتحققة فأعتبرت دون الكبرى وعنه رواية أخرى إن نوى الكذب دين ولم يقبل في الحكم بل يكون موليا ولا يكون مظاهرا عنده نواه او لم ينوه ولو صرح به فقال أعنى به الظهار لم يكن مظاهرا
المذهب الثالث عشر
المذهب الثالث عشر أنه يمين يكفره ما يكفر اليمين على كل حال صح

ذلك ايضا عن ابي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابث وابن مسعود وعبد الله بن عمر وعكرمة وعطاء ومكحول وقتادة والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وجابر بن زيد وسعيد بن جبير ونافع والأوزاعي وأبي ثور وخلق سواهم وحجة هذا القول ظاهر القرآن فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الايمان عقب تحريم الحلال فلا بد ان يتناوله يقينا فلا يجوز جعل تحلة الايمان لغير المذكور قبلها ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله

المذهب الرابع عشر
المذهب الرابع عشر أنه يمين مغلظة يتعين فيها عتق رقبة صح ذلك أيضا عن ابن عباس وأبي بكر وعمر وابن مسعود وجماعة من التابعين وحجة هذا القول أنه لما كان يمينا مغلظة غلظت كفارتها بتحتم العتق ووجه تغليظها تضمنها تحريم ما احل الله وليس الى العبد وقول المنكر والزور ان اراد الخبر فهو كاذب في إخباره معتد في إقسامه فغلظت كفارته بتحتم العتق كما غلظت كفارة الظهار به أو بصيام شهرين أو باطعام ستين مسكينا
المذهب الخامس عشر
المذهب الخامس عشر أنه طلاق ثم إنها إن كانت غير مدخول بها فهو مانواه من الواحدة وما فوقها وان كانت مدخولا بها فهو ثلاث وان نوى اقل منها وهو إحدى الروايتين عن مالك وحجة هذا القول ان اللفظ لما اقتضى التحريم وجب ان يترتب عليه حكمه وغير المدخول بها تحرم بواحدة والمدخول بها لا تحرم إلا بالثلاث
خمسة أقوال للمالكية في هذه المسألة
وبعد ففي مذهب مالك خمسة أقوال هذا أحدها وهو مشهورها

والثاني أنه ثلاث بكل حال نوى الثلاث أو لم ينوها اختارها عبد الملك في مبسوطه والثالث أنه واحدة بائنة مطلقا حكاه ابن خويز منداذ رواية عن مالك الرابع انه واحدة رجعية وهو قول عبد العزيز بن ابي سلمة الخامس أنه ما نواه من ذلك مطلقا سواء قبل الدخول وبعده وقد عرفت توجيه هذه الاقوال

فصل مذهب الشافعية
وأما تحرير مذهب الشافعي فإنه إن نوى به الظهار كان ظهارا وإن نوى به التحريم كان تحريما لا يترتب عليه إلا تقدم الكفارة وإن نوى الطلاق كان طلاقا وكان ما نواه وإن أطلق فلأصحابه فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه صريح في إيجاب الكفارة والثاني لا يتعلق به شيء والثالث أنه في حق الأمة صريح في التحريم الموجب للكفارة وفي حق الحرة كناية قالوا لان أصل الآية إنما وردت في الأمة قالوا فلو قال أنت علي حرام وقال أردت بها الظهار والطلاق فقال ابن الحداد يقال له عين أحد الأمرين لأن اللفظة الواحدة لا تصلح للظهار والطلاق معا وقيل يلزمه ما بدأ به منهما قالوا ولو ادعى رجل على رجل حقا فأنكره فقال الحل عليك حرام والنية نيتي لا نيتك مالي عليك شيء فقال الحل على حرام والنية في ذلك نيتك مالك عندي شيء كانت النية نية الحالف لا المحلف لأن النية إنما تكون ممن إليه الإيقاع
فصل مذهب الحنابلة
وأما تحرير مذهب الإمام احمد فهو أنه ظهار بمطلقه وإن لم ينوه إلا أن

ينوي به الطلاق او اليمين فيلزمه ما نواه وعنه رواية ثانية أنه يمين بمطلقه إلا ان ينوي به الطلاق أو الظهار فيلزمه ما نواه وعنه رواية ثالثه أنه ظهار بكل حال ولو نوى به الطلاق أو اليمين لم يكن يمينا ولا طلاقا كما لو نوى الطلاق او اليمين بقوله انت علي كظهر امي فإن اللفظين صريحان في الظهار فعلى هذه الرواية لو وصله بقوله أعنى به الطلاق فهل يكون طلاقا او ظهارا على روايتين إحداهما يكون ظهارا كما لو قال أنت على كظهر امي أعني به الطلاق او التحريم إذ التحريم صريح في الظهار والثانيه انه طلاق لانه قد صرح بإرادته بلفظ يحتمله وغايته انه كناية فيه فعلى هذه الرواية ان قال أعني به طلاقا طلقت واحدة وان قال أعني به الطلاق فهل تطلق ثلاثا او واحدة على روايتين مأخذهما حمل اللام على الجنس او العموم هذا تحرير مذهبه وتقريره

مذهب ابن تيمية
وفي المسألة مذهب آخر وراء هذا كله وهو انه ان اوقع التحريم كان ظهارا ولو نوى به الطلاق وان حلف به كان يمينا مكفرة وهذا اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية وعليه يدل النص والقياس فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكرا من القول وزورا وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة وإذا حلف به كان يمينا من الايمان كما لو حلف بالتزام العتق والحج والصدقة وهذا محض القياس والفقه ألا ترى أنه إذا قال لله على أن أعتق أو أحج أو اصوم لزمه ولو قال إن كلمت فلانا فالله على ذلك على وجه اليمين فهو يمين وكذلك لو قال هو يهودي او نصراني كفر بذلك ولو قال إن فعلت كذلك فهو يهودي او نصراني كان يمينا وطرد هذا بل نظيره من كل وجه أنه إذا قال أنت على كظهر امي كان ظهارا فلو قال ان فعلت كذا فأنت على كظهر امي كان يمينا وطرد هذا ايضا اذا قال انت طالق كان طلاقا وان قال ان فعلت كذا فانت طالق كان يمينا

فهذه هي الأصول الصحيحة المطردة المأخوذة من الكتاب والسنة والميزان وبالله التوقيق

فصل أيمان البيعة
ومن هذه الالتزامات التي لم يلزم بها الله ولا رسوله لمن حلف بها الايمان التي رتبها الفاجر الظالم الحجاج بن يوسف وهي أيمان البيعة
بيعة النبي ص
- للناس
وكانت البيعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالمصافحة وبيعة النساء بالكلام وما مست يده الكريمة صلى الله عليه وسلم - يد امرأة لا يملكها فيقول لمن يبايعه بايعتك أو أبايعك على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره كما في الصحيحين عن ابن عمر كنا نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فيقول فيما استطعت وفي صحيح مسلم عن جابر كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة بايعناه على ان لا نفر ولم نبايعه على الموت
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا تأخذنا في الله لومة لائم
وفي الصحيحين ايضا عن جنادة بن ابي أمية قال دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض فقلنا حدثنا أصلحك الله بحديث ننتفع به سمعته من رسول الله

صلى الله عليه وسلم - قال دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فبايعناه وكان فيما اخذ علينا ان بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان
وفي الصحيحين عن عائشة قالت كان المؤمنات إذا هاجرن الى رسول الله صلى الله عليه وسلم - يمتحنهن بقول الله تعالى يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ان لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن إلى آخر الآية قالت عائشة فمن أقرت بهذا من المؤمنات فقد أقرت بالمحنة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم - انطلقن فقد بايعتكن ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم - يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام
قالت عائشة والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم - على النساء قط إلا بما امره الله وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم - كف امرأة قط وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن قد بايعتكن كلاما
فهذه هي البيعة النبوية التي قال الله عز و جل فيها إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد الله فسيؤتيه أجرا عظيما وقال فيها لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة

الحجاج الثقفي وأيمان البيعة
فأحدث الحجاج في الإسلام بيعة غير هذه تتضمن اليمين بالله تعالى والطلاق والعتاق وصدقة المال والحج فاختلف علماء الاسلام في ذلك على عدة أقوال ونحن نذكر تحرير هذه المسألة وكشفها فإن كان مراد الحالف بقوله أيمان

البيعة تلزمني البيعة النبوية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يبايع عليها أصحابه لم يلزمه الطلاق والإعتاق ولا شيء مما رتبه الحجاج وإن لم ينو تلك البيعة ونوى البيعة الحجاجية فلا يخلو إما ان يذكر في لفظه طلاقا او عتاقا او حجا أو صدقة أو يمينا بالله أو لا يذكر شيئا من ذلك فإن لم يذكر في لفظه شيئا فلا يخلو إما أن يكون عارفا بمضمونها أولا وعلى التقديرين فإما ان ينوي مضمونها كله أو بعض ما فيها أو لا ينوى شيئا من ذلك تقاسيم هذه المسألة

مذهب الشافعية
فقال الشافعي واصحابه ان لم يذكر في لفظه طلاقها او عتاقها او حجها او صدقتها لم يلزمه شيء نواه أو لم ينوه إلا ان ينوى طلاقها أو عتاقها فاختلف اصحابه فقال العراقيون يلزمه الطلاق والعتاق فإن اليمين بهما تنعقد بالكناية مع النية وقال صاحب التتمة لا يلزمه ذلك وإن نواه مالم يتلفظ به لأن الصريح لم يوجد والكناية إنما يترتب عليها الحكم فيما يتضمن الإيقاع فأما الالتزام فلا ولهذا لم يجعل الشافعي الإقرار بالكناية مع النية إقرارا لأنه التزام ومن ههنا قال من قال من الفقهاء كالقفال وغيره اذا قال الطلاق يلزمني لا أفعل لم يقع به الطلاق وان نواه لأنه كناية والكناية إنما يترتب عليها الحكم في غير الالتزامات ولهذا لا تنعقد اليمين بالله بالكناية مع النية
مذهب الحنابلة
وأما أصحاب أحمد فقد قال ابو عبدالله بن بطة كنت عند ابي القاسم الخرقي وقد سأله رجل عن ايمان البيعة فقال لست أفتي فيها بشيء ولا رأيت أحدا من شيوخنا يفتي فيها بشيء قال وكان أبي رحمه الله يعني أبا على يهاب الكلام فيها ثم قال أبو القاسم إلا ان يلتزم الحالف بها جميع ما فيها من الايمان فقال له السائل عرفها ام لم يعرفها قال نعم ووجه هذا القول أنه بالتزامه لموجبها صار ناويا له مع التلفظ وذلك مقتضى اللزوم ومتى وجد سبب اللزوم

والوجوب ثبت موجبه وان لم يعرفه كما لو قال ان شفى الله مريضى فثلث مالى صدقة او أوصى به ولم يعرفه او قال انا مقر بما في هذا الكتاب وإن لم يعرفه او قال ما أعطيت فلانا فأنا ضامن له أو مالك عليه فأنا ضامنه صح ولزمه وان لم يعرفه او قال ضمان عهدة هذا المبيع على صح ولزمه وان لم يعرفه
وقال أكثر أصحابنا منهم صاحب المغني وغيره إن لم يعرفها لم تنعقد يمينه بشيء مما فيها لأنها لسيت بصريحة في القسم والكناية لا يترتب عليها مقتضاها إلا بالنية فمن لم يعرف شيئا لم يصح ان ينويه قالوا وإن عرفها ولم ينو عقد اليمين بما فيها لم تصح ايضا لانها كناية فلا يلزم حكمها إلا بالنية وان عرفها ونوى اليمين بما فيها صح في الطلاق والعتاق لأن اليمين بهما تنعقد بالكناية دون غيرهما لأنها لا تنعقد بالكناية
وقال طائفة من أصحابنا تنعقد في الطلاق والعتاق وصدقة المال دون اليمين بالله تعالى فإن الكفارة إنما وجبت فيها لما اشتملت عليه من حرمة الاسم المعظم الذي تعظيمه من لوازم الايمان وهذا لا يوجد فيما عداه من الايمان

فصل مذهب المالكية
وأما أصحاب مالك فليس عن مالك ولا عن أحد من قدماء أصحابه فيها قول واختلف المتأخرون فقال ابو بكر بن العربي أجمع هؤلاء المتأخرون على أنه يحنث فيها بالطلاق في جميع نسائه والعتق في جميع عبيده وإن لم يكن له رقيق فعليه عتق رقبة واحدة والمشي الى مكة والحج ولو من أقصى المغرب والتصدق بثلث جميع أمواله وصيام شهرين متتابعين ثم قال جل الاندلسيين إن كل امرأة له تطلق ثلاثا ثلاثا وقال القرويون إنما تطلق واحدة واحدة وألزمه بعضهم

صوم سنة إذا كان معتادا للحلف بذلك فتأمل هذا التفاوت العظيم بين هذا القول وقول اصحاب الشافعي

فصل الحلف بأيمان المسلمين والأيمان اللازمة
وهكذا اختلافهم فيما لو حلف بأيمان المسلمين أو بالايمان اللازمة أو قال جميع الايمان تلزمني او حلف بأشد ما اخذ احد على احد قالت المالكية أنما ألزمناه بهذه المذكورات دون غيرها من كسوة العريان واطعام الجياع والاعتكاف وبناء الثغور ونحوها ملاحظة لما غلب الحلف به عرفا فألزمناه به لانه المسمى العرفي فيقدم على المسمى اللغوي واختص حلفه بهذه المذكورات دون غيرها لانها هي المشتهرة ولفظ الحلف واليمين إنما يستعمل فيها دون غيرها وليس المدرك ان عادتهم انهم يفعلون مسمياتها وانهم يصومون شهرين متتابعين او يحجون بل غلبة استعمال الألفاظ في هذه المعاني دون غيرها قالوا وقد صرح الأصحاب بأنه من كثرت عادته بالحلف بصوم سنة لزمه صوم سنة فجعلوا المدرك الحلف اللفظي دون العرفي النقلى قالوا وعلى هذا لو اتفق في وقت آخر انه اشتهر حلفهم ونذرهم بالاعتكاف والرباط واطعام الجائع وكسوة العريان وبناء المساجد دون هذه الحقائق المتقدم ذكرها لكان اللازم لهذا الحالف إذا حنث الاعتكاف وما ذكر معه دون ما هو مذكور قبلها لأن الاحكام المترتبة على القرائن تدور معها كيفما دارت وتبطل معها اذا بطلت كالعقود في المعاملات والعيوب في الاعواض في المبايعات ونحو ذلك فلو تغيرت العادة في النقد والسكة الى سكة اخرى لحمل الثمن في المبيع عند الاطلاق على السكة والنقد المتجدد دون ما قبله كذلك إذا كان الشيء عيبا في العادة رد به المبيع فإن تغيرت العادة بحيث لم يعد عيبا لم يرد به المبيع قالوا وبهذا تعتبر جميع الاحكام المترتبة على

العوائد وهذا مجمع عليه بين العلماء لاخلاف فيه وان وقع الخلاف في تحقيقه هل وجد ام لا قالوا وعلى هذا فليس في عرفنا اليوم الحلف بصوم شهرين متتابعين فلا تكاد تجد أحدا يحلف به فلا تسوغ الفتيا بإلزامه قالوا وعلى هذا أبدا تجيء الفتاوي في طول الايام فمهما تجدد في العرف فاعتبره ومهما سقط فألغه ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك قالوا فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين قالوا وعلى هذه القاعدة تخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات فقد يصير الصريح كناية يفتقر الى النية وقد تصير الكناية صريحا تستغنى عن النية قالوا وعلى هذه القاعدة فاذا قال ايمان البيعة تلزمني خرج ما يلزمه على ذلك وما جرت به العادة في الحلف عند الملوك المعاصرة إذا لم يكن له نية فأي شيء جرت به عادة ملوك الوقت في التحليف به في بيعتهم واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عرفا متبادرا الى الذهن من غير قرينة حملت يمينه عليه فإن لم يكن شيء من ذلك اعتبرت نيته أو بساط يمينه فإن لم يكن شيء من ذلك فلا شيء عليه انتهى
وهذا محض الفقه ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم واحوالهم وقرائن احوالهم فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل اضر ما على اديان الناس وابدانهم والله المستعان

آراء أخر في الحلف بالأيمان اللازمة
ولم يكن الحلف بالايمان معتادا على عهد السلف الطيب بل هي

من الايمان الحادثة المبتدعة التي أحدثها الجهلة الاول ولهذا قال جماعة من اهل العلم إنها من الايمان اللاغية التي لا يلزم بها شيء البتة أفتى بذلك جماعة من العلماء ومن متأخري من أفتى بها تاج الدين أبو عبد الله الارموي صاحب كتاب الحاصل قال ابن بزيزة في شرح الاحكام سأله عنها بعض اصحابنا فكتب له بخطه تحت الاستفتاء هذه يمين لاغية لا يلزم فيها شيء البتة وكتب محمد الارموي قال ابن بزيزة وقفت على ذلك بخطه وثبت عندي انه خطه ثم قال وقال جماعة من العلماء لا يلزم فيها شيء سوى كفارة اليمين بالله تعالى بناء على ان لفظ اليمين لا ينطلق إلا على اليمين بالله تعالى وما عداه التزامات لا أيمان قال والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم - من كان حالفا فليحلف بالله او ليصمت والقائلون بأن فيها كفارة يمين اختلفوا هل تتعدد فيها كفارة اليمين بناء على أقل الجمع او ليس عليه إلا كفارة واحدة لانها إنما خرجت مخرج اليمين الواحدة كما أفتى به أبو عمر ابن عبدالبر وابو محمد بن حزم وقد كان ابو عمر يفتى بأنه لا شيء فيها البتة حكاه عنه القاضي ابو الوليد الباجي وعاب عليه ذلك قال ومن العلماء من رأى أنه يختلف بحسب اختلاف الاحوال والمقاصد والبلاد فمن حلف بها قاصدا للطلاق اوالعتاق لزمه ما ألزمه نفسه ومن لم يعلم بمقتضى ذلك ولم يقصده ولم يقيده العرف الغالب الجاري لزمه فيها كفارة ثلاثة أيمان بالله بناء على ان اقل الجمع ثلاثة وبه كان يفتى ابو بكر الطرطوشي ومن بعده من شيوخنا الذين حملنا عنهم ومن شيوخ عصرنا من كان يفتى بها بالطلاق الثلاث بناء على انه العرف المستمر الجاري الذي حصل علمه والقصد إليه عند كل حالف بها ثم ذكر اختلاف المغاربة هل يلزم فيها الطلاق الثلاث أو الواحدة ثم قال والمعتمد عليه فيها الرجوع الى عرف الناس وما هو المعلوم عندهم في هذه الايمان فإذا ثبت فيها عندهم شيء وقصدوه وعرفوه واشتهر بينهم وجب ان يحملوه عليه ومع الاحتمال يرجع الى الاصل الذي هو اليمين بالله إذ لا يسمى غير ذلك يمينا فيلزم الحالف بها كفارة ثلاثة أيمان قال وعلى هذا كان يقول أهل التحقيق والإنصاف من شيوخنا

قلت ولإجزاء الكفارة الواحدة فيها مدرك آخر أفقه من هذا وعليه تدل فتاوي الصحابة رضي الله عنهم صريحا في حديث ليلى بنت العجماء المتقدم وهذه الالتزامات الخارجة مخرج اليمين إنما فيها كفارة يمين بالنص والقياس واتفاق الصحابة كما تقدم فموجبها كلها شيء واحد ولو تعدد المحلوف به وصار هذا نظير ما لو حلف بكل سورة من القرآن على شيء واحد فعليه كفارة يمين لاتحاد الموجب وإن تعدد السبب ونظيره ما لو حلف بأسماء الرب تعالى وصفاته فكفارة واحدة فإذا حلف بأيمان المسلمين أو الايمان كلها او الأيمان اللازمة او أيمان البيعة او بما يحلف به المسلمون لم يكن ذلك بأعظم مما لو حلف بكل كتاب أنزله الله أو بكل اسم من أسماء الله أو صفة من صفات الله فإذا أجزأ في هذه كفارة يمين مع حرمة هذه اليمين وتأكدها فلان تجزيء الكفارة في هذه الايمان بطريق الأولى والأحرى ولا يليق بهذة الشريعة الكاملة الحكيمة التي لم يطرق العالم شريعة اكمل منها غير ذلك وكذلك افتى به افقه الامة وأعلمهم بمقاصد الرسول ودينه وهم الصحابة واختلف الفقهاء بعدهم فمنهم من يلزم الحالف بما التزمه من جميع الالتزامات كائنا ما كان ومنهم من لا يلزمه بشئ منها البتة لانها أيمان غير شرعية ومنهم من يلزمه الطلاق والعتاق ويخيره في الباقي بين التكفير والالتزام ومنهم من يحتم عليه التكفير ومنهم من يلزمه بالطلاق وحده دون ما عداه ومنهم من يلزمه بشرط كون الصيغة شرطا فإن كانت صيغة التزام فيمين كقوله الطلاق يلزمني لم يلزمه بذلك ومنهم من يتوقف في ذلك ولا يفتى فيه بشيء فالأول قول مالك وإحدى الروايتين عن ابي حنيفة والثاني قول اهل الظاهر وجماعة من السلف والثالث قول احمد بن حنبل والشافعي في ظاهر مذهبه وابي حنيفة في إحدى الروايتين عنه ومحمد بن الحسن والرابع قول بعض اصحاب الشافعي ويذكر قولا له ورواية عن احمد والخامس قول ابي ثور وابراهيم بن خالد والسادس قول القفال من الشافعية وبعض أصحاب أبي حنيفة ويحكى عنه نفسه والسابع قول جماعة من أهل الحديث وقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أصح وافقه واقرب هذه الاقوال الى الكتاب والسنة وبالله التوفيق

فصل تأجيل جزء من المهر وحكم المؤجل
المثال التاسع الالزام بالصداق الذي اتفق الزوجان على تأخير المطالبة به وان لم يسميا أجلا بل قال الزوج مائة مقدمة ومائة مؤخرة فان المؤخر لا يستحق المطالبة به إلا بموت او فرقة هذا هو الصحيح وهو منصوص أحمد فإنه قال في رواية جماعة من أصحابه إذا تزوجها على العاجل والآجل لا يحل الآجل إلا بموت أو فرقة واختاره قدماء شيوخ المذهب والقاضي ابو يعلى وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية وهو قول النخعي والشعبي والليث بن سعد وله فيه رسالة كتبها الى مالك ينكر عليه خلاف هذا القول سنذكرها بإسنادها ولفظها وقال الحسن وحماد ابن ابي سليمان وابو حنيفة وسفيان الثوري وابو عبيدة يبطل الآجل لجهالة محله ويكون حالا وقال إياس بن معاوية يصح الأجل ولا يحل الصداق إلا ان يفارقها او يتزوج عليها او يخرجها من بلدها فلها حينئذ المطالبة به وقال مكحول والاوزاعي يحل بعد سنة من وقت الدخول وقال الشافعي وابو الخطاب تفسد التسمية ويجب مهر المثل لجهالة العوض بجهالة اجله فترجع الى مهر المثل وأما مذهب مالك فقال عبد الملك كان مالك واصحابه يكرهون ان يكون شيء من المهر مؤخرا وكان مالك يقول انما الصداق فيما مضى ناجز كله فإن وقع منه شيء مؤخرا فلا أحب أن يطول الأجل في ذلك وحكى عن ابن القاسم تأخيره الى السنتين والاربع وعن ابن وهب الى السنة وعنه ان زاد الأجل على اكثر من عشرين سنة فسخ وعن ابن القاسم إذا جاوز الاربعين فسخ وعنه الى الخمسين والستين حكى ذلك كله فضل بن سلمة عن ابن المواز ثم قال لأن الأجل الطويل مثل ما لو تزوجها الى موت او فراق قال عبدالملك وقد اخبرني اصبغ انه شهد ابن وهب وابن القاسم تذاكرا الأجل في ذلك فقال ابن وهب أرى فيه العشرين فدون فما جاوز ذلك فمفسوخ فقال له ابن القاسم وأنا معك على هذا فأقام ابن وهب على رأيه ورجع ابن القاسم فقال لا افسخه

إلى اربعين وأفسخه فيما فوق ذلك فقال أصبغ وبه آخذ ولا أحب ذلك ندبا إلى العشر ونحوها وقد شهدت أشهب زوج ابنته وجعل مؤخر مهرها إلى اثنتي عشرة سنة قال عبدالملك وما قصر من الأجل فهو افضل وان بعد لم أفسخه إلا ان يجاوز ما قال ابن القاسم وان كانت الأربعون في ذلك كثيرة جدا قال عبد الملك وان كان بعض الصداق مؤخرا الى غير أجل فإن مالكا كان يفسخه قبل البناء ويمضيه بعده ويرد المرأة الى صداق مثلها معجلا كله إلا ان يكون صداق مثلها اقل من المعجل فلا ينقص منه او اكثر من المعجل والمؤجل فيوفى تمام ذلك إلا ان يرضى الناكح بأن يجعل المؤخر معجلا كله مع النقد فيمضى النكاح ولا يفسخ لا قبل البناء ولا بعده ولا ترد المرأة الى صداق مثلها ثم أطالوا بذكر فروع تتعلق بذلك

بعض فتاوي الصحابة في هذه المسألة
والصحيح ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - من صحة التسمية وعدم تمكين المرأة من المطالبة به إلا بموت او فوقة حكاه الليث إجماعا منهم وهو محض القياس والفقه فإن المطلق من العقود ينصرف الى العرف والعادة عند المتعاقدين كما في النقد والسكة والصفة والوزن والعادة جارية بين الازواج بترك المطالبة بالصداق إلا بالموت او الفراق فجرت العادة مجرى الشرط كما تقدم ذكر الأمثلة بذلك وأيضا فإن عقد النكاح يخالف سائر العقود ولهذا نافاه التوقيت المشترط في غيره من العقود على المنافع بل كانت جهالة مدة بقائه غير مؤثرة في صحته والصداق عوضه ومقابله فكانت جهالة مدته غير مؤثرة في صحته فهذا محض القياس ونظير هذا لو اجره كل شهر بدرهم فإنه يصح وان كانت جملة الأجرة غير معلومة تبعا لمدة الإجارة فقد صح عن امير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه في الجنه انه اجر نفسه كل دلو بتمرة واكل النبي صلى الله عليه وسلم - من ذلك التمر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما او حرم حلالا وهذا لا يتضمن واحدا من الامرين فإن ما احل الحرام وحرم الحلال لو فعلاه بدون الشرط لما جاز وقال

النبي صلى الله عليه وسلم - إن أحق الشرط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج وأما تلك التقديرات ألمذكورة فيكفي في عدم أعتبارها عدم دليل واحد يدل عليها ثم ليس تقدير منها بأولى من تقدير أزيد عليه أو أنقص منه وما كان هذا سبيله فهو غير معتبر
وقال الحافظ أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي في كتاب التاريخ والمعرفة له وهو كتاب جليل غزير العلم جم الفوائد حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي قال هذه رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس

رسالة الليث الى مالك
سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد عافانا الله وإياك وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني فأدام الله ذلك لكم وأتمه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه وذكرت نظرك في الكتب التي بعثت بها إليك وإقامتك وإياها وختمك عليها بخاتمك وقد أتتنا فجزاك الله عما قدمت منها خيرا فإنها كتب انتهت إلينا عنك فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها وذكرت أنه قد أنشطك ما كتبت إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة ورجوت أن يكون لها عندي موضع وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيك فينا جميلا إلا لاني لم أذاكرك مثل هذا وأنه بلغك أني أفتى بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم وأني يحق على الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به وأن الناس تبع لاهل المدينة التي إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن وقد أصبت بالذى كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى ووقع منى بالموقع الذي تحب وما أجد أحدا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني والحمد لله رب العالمين لا شريك له وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه وما علمهم الله منه وأن الناس صاروا به تبعا لهم فيه فكما ذكرت وأما ما ذكرت من قول الله تعالى

والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه واعد لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيا أبدا ذلك الفوز العظيم فإن كثيرا من اولئك السابقين الاولين خرجوا الى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله فجندوا الاجناد واجتمع اليهم الناس فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه ولم يكتموهم شيئا علموه وكان في كل جند منهم طائفة يعلمون كتاب الله وسنة نبيه ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة وتقدمهم عليه ابو بكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لانفسهم ولم يكن اولئك الثلاثة مضيعين لاجناد المسلمين ولا غافلين عنهم بل كانوا يكتبون في الامر اليسير لاقامة الدين والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه فلم يتركوا امرا فسره القرآن أو عمل به النبي صلى الله عليه وسلم - أو ائتمروا فيه بعده إلا علمو هموه فإذا جاء أمر عمل فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - بمصر والشام والعراق على عهد ابي بكر وعمر وعثمان ولم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره فلا نراه يجوز لاجناد المسلمين ان يحدثوا اليوم امرا لم يعمل به سلفهم من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم مع ان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قد اختلفوا بعد في الفتيا في أشياء كثيرة ولولا أني قد عرفت ان قد علمتها كتبت بها إليك ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - سعيد بن المسيب ونظراؤه اشد الاختلاف ثم اختلف الذين كانوا بعدهم فحضرتهم بالمدينة وغيرها ورأسهم يومئذ ابن شهاب وربيعة بن ابي عبد الرحمن وكان من خلاف ربيعة لبعض ما قد مضى ما قد عرفت وحضرت وسمعت قولك فيه وقول ذوي الرأي من أهل المدينة يحيى بن سعيد وعبيدالله ابن عمر وكثير بن فرقد وغير كثير ممن هو أسن منه حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك فكنتما من الموافقين فيما أنكرت تكرهان منه ما أكرهه ومع ذلك بحمد الله عند ربيعه خير كثير وعقل أصيل ولسان بليغ وفضل مستبين وطريقة حسنة في الاسلام ومودة لإخوانه عامة ولنا

خاصة رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن من عمله وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير اذا لقيناه واذا كاتبه بعضنا فربما كتب اليه في الشيء الواحد على فضل رأيه وعلمه بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضا ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك فهذا الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه
وقد عرفت ايضا عيب إنكاري إياه أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر ومطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا يعلمه الا الله لم يجمع منهم إمام قط في ليلة مطر وفيهم ابو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد ويزيد ابن ابي سفيان وعمرو بن العاص ومعاذ بن جبل وقد بلغنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وقال يأتى معاذ يوم القيامة بين يدى العلماء برتوة وشرحبيل بن حسنة وابو الدرداء وبلال بن رباح وكان ابو ذر بمصر والزبير بن العوام وسعد بن ابي وقاص وبحمص سبعون من أهل بدر وبأجناد المسلمين كلها وبالعراق ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعمران بن حصين ونزلها امير المؤمنين على بن ابي طالب كرم الله وجهه في الجنة سنين وكان معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط
ومن ذلك القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق وقد عرفت انه لم يزل يقضي بالمدينة به ولم يقض به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالشام وبحمص ولا بمصر ولا بالعراق ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون ابو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم ولي عمر بن عبد العزيز وكان كما قد علمت في إحياء السنن والجد في إقامة الدين والاصابة في الرأي والعلم بما مضى من امر الناس فكتب إليه رزيق بن الحكم إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمين صاحب الحق فكتب اليه عمر بن عبد العزيز إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة فوجدنا اهل الشام على غير ذلك فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين او رجل

وامرأتين ولم يجمع بين العشاء والمغرب قط ليلة المطر والمطر يسكب عليه في منزله الذي كان فيه بخناصرة ساكنا
ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صدقات النساء انها متى شاءت ان تتكلم في مؤخر صداقها تكلمت فدفع إليها وقد وافق اهل العراق اهل المدينة على ذلك واهل الشام واهل مصر ولم يقض احد من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولا من بعدهم لامرأة بصداقها المؤخر إلا أن يفرق بينهما موت او طلاق فتقوم على حقها
ومن ذلك قولهم في الايلاء إنه لا يكون عليه طلاق حتى يوقف وان مرت اربعة الاشهر وقد حدثني نافع عن عبدالله بن عمر وهو الذي كان يروي عنه ذلك التوقيف بعد الاشهر انه كان يقول في الايلاء الذي ذكر الله في كتابه لا يحل للمولي اذا بلغ الاجل الا ان يفئ كما امر الله او يعزم الطلاق وانتم تقولون إن لبث بعد أربعة الاشهر التي سمى الله في كتابه ولم يوقف لم يكن عليه طلاق وقد بلغنا ان عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وقبيصة بن ذؤيب وابا سلمة بن عبدالرحمن بن عوف قالوا في الايلاء إذا مضت اربعة الاشهر فهى تطليقة بائنة وقال سعيد بن المسيب وابو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابن شهاب اذا مضت اربعة الاشهر فهي تطليقة وله الرجعة في العدة
ومن ذلك ان زيد بن ثابت كان يقول اذا ملك الرجل امرأته فأختارت زوجها فهي تطليقة وان طلقت نفسها ثلاث فهي تطليقة وقضى بذلك عبد الملك بن مروان وكان ربيعه بن عبدالرحمن يقوله وقد كاد الناس يجتمون على انها ان اختارت زوجها لم يكن فيه طلاق وان اختارت نفسها واحدة او اثنتين كانت له عليها الرجعة وان طلقت نفسها ثلاثا بانت منه ولم تحل له حتى تنكح زوجا غيره فيدخل بها ثم يموت او يطلقها إلا ان يرد عليها في مجلسه فيقول انما ملكتك واحدة فيستحلف ويخلى بينه وبين امرأته

ومن ذلك ان عبدالله بن مسعود كان يقول ايما رجل تزوج أمة ثم اشتراها زوجها فاشتراؤه إياها ثلاث تطليقات وكان ربيعة يقول ذلك وان تزوجت المرأة الحرة عبدا فاشترته فمثل ذلك
وقد بلغنا عنكم شيئا من الفتيا مستكرها وقد كنت كتبت اليك في بعضها فلم تجبني في كتابي فتخوفت ان تكون استثقلت ذلك فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكره وفيما أوردت فيه على رأيك وذلك انه بلغني انك امرت زفر بن عاصم الهلالي حين اراد ان يستسقي ان يقدم الصلاة قبل الخطبة فأعظمت ذلك لأن الخطبة والاستسقاء كهيئة يوم الجمعة إلا ان الامام اذا دنا من فراغه من الخطبة فدعا حول رداءه ثم نزل فصلى وقد استسقى عمر بن عبد العزيز وابو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهما فكلهم يقدم الخطبة والدعاء قبل الصلاة فاستهتر الناس كلهم فعل زفر بن عاصم من ذلك واستنكروه
ومن ذلك انه بلغني انك تقول في الخليطين في المال إنه لا تجب عليهما الصدقة حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة وفي كتاب عمر بن الخطاب انه يجب عليهما الصدقة ويترادان بالسوية وقد كان ذلك يعمل به في ولاية عمر بن عبدالعزيز قبلكم وغيره والذي حدثنا به يحيى بن سعيد ولم يكن بدون افاضل العلماء في زمانه فC وغفر له وجعل الجنة مصيره
ومن ذلك انه بلغني انك تقول اذا افلس الرجل وقد باعه الرجل سلعة فتقاضى طائفة من ثمنها او انفق المشتري طائفة منها أنه يأخذ ما وجد من متاعه وكان الناس على ان البائع اذا تقاضى من ثمنها شيئا او انفق المشتري منها شيئا فليست بعينها
ومن ذلك انك تذكر ان النبي صلى الله عليه وسلم - لم يعط الزبير بن العوام إلا لفرس واحد والناس كلهم يحدثون انه أعطاه اربعة أسهم لفرسين ومنعه الفرس الثالث والأمة كلهم على هذا الحديث أهل الشام وأهل مصر وأهل

العراق واهل إفريقية لا يختلف فيه اثنان فلم يكن ينبغي لك وان كنت سمعته من رجل مرضي ان تخالف الامة أجمعين
وقد تركت أشياء كثيرة من اشباه هذا وانا احب توفيق الله اياك وطول بقائك لما ارجو للناس في ذلك من المنفعة وما اخاف من الضيعة اذا ذهب مثلك مع استئناسي بمكانك وإن نأت الدار فهذه منزلتك عندي ورأيى فيك فاستيقنه ولا تترك الكتاب إلي بخبرك وحالك وحال ولدك واهلك وحاجة ان كانت لك او لاحد يوصل بك فإني اسر بذلك كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله نسأل الله ان يرزقنا واياكم شكر ما أولانا وتمام ما انعم به علينا والسلام عليك ورحمة الله

مهر السر ومهر العلانية
فإن قيل فما تقولون فيما لو تجملوا وجعلوه حالا وقد اتفقوا في الباطن على تآخيره كصدقات النساء في هذه الأزمنة في الغالب هل للمرأة أن تطالب به قبل الفرقة أو الموت
قيل هذا ينبني على أصل وهو اذا اتفقا في السر على مهر وسموا في العلانية اكثر منه هل يؤخذ بالسر او بالعلانية فهذه المسألة مما اضطربت فيها اقوال المتأخرين لعدم احاطتهم بمقاصد الائمة ولا بد من كشف غطائها ولها في الاصل صورتان
إحداهما ان يعقدوه في العلانية بألفين مثلا وقد اتفقوا قبل ذلك ان المهر الف وان الزيادة سمعة من غير ان يعقدوه في العلانية بالأقل فالذي عليه القاضي ومن بعده من اصحاب أحمد ان المهر هو المسمى في العقد ولا اعتبار بما اتفقوا عليه ذلك وان قامت به البينة أو تصادقوا عليه وسواء كان مهر العلانية من جنس مهر السر او من جنس غيره او اقل منه او اكثر قالوا وهو ظاهر كلام احمد في مواضع قال في رواية ابن بدينا في الرجل يصدق صداقا في السر وفي العلانيه شيئا آخر يؤخذ بالعلانية وقال في رواية ابن الحرث

اذا تزوجها في العلانية على شيء واسر غير ذلك اخذنا بالعلانية وان كان قد اشهد في السر بغير ذلك وقال في رواية الاثرم في رجل اصدق صداقا سرا وصداقا علانيه يؤخذ بالعلانية اذا كان قد اقر به قيل له فقد اشهد شهودا في السر بغيره قال وان اليس قد اقر بهذا عند شهود يؤخذ بالعلانية
قال شيخنا ومعنى قوله اقر به أي رضى به والتزمه لقوله تعالى أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري وهذا يعمم التسمية في العقد والاعتراف بعده ويقال اقر بالجزية واقر للسلطان بالطاعة وهذا كثير في كلامهم وقال في رواية صالح في الرجل يعلن مهرا ويخفي آخر آخذ بما يعلن لان العلانية قد أشهد على نفسه بها وينبغي لهم ان يفوا له بما كان اسره وقال في رواية ابن منصور اذا تزوج امرأة في السر بمهر وأعلنوا مهرا آخر ينبغي لهم ان يفوا واما هو فيؤخذ بالعلانية قال القاضي وغيره فقد اطلق القول بمهر العلانية وإنما قال ينبغي لكم ان يفوا بما اسروا على طريق الاختيار لئلا يحصل منهم غرور له في ذلك وهذا القول هو قول الشعبي وأبي قلابة وابن ابي ليلى وابن شبرمة والاوزاعي وهو قول الشافعي المشهور عنه وقد نص في موضع آخر انه يؤخذ بمهر السر فقيل في هذه المسألة قولان وقيل بل ذلك في الصورة الثانية كما سيأتي وقال كثير من أهل العلم او اكثرهم اذا علم الشهود ان المهر الذي يظهره سمعة وان اصل المهر كذا وكذا ثم تزوج واعلن الذي قال فالمهر هو السر والسمعة باطلة وهذا هو قول الزهري والحكم بن عتيبة ومالك والثوري والليث وابي حنيفة واصحابه واسحاق وعن شريح والحسن كالقولين وذكر القاضي عن ابي حنيفة انه يبطل المهر ويجب مهر المثل وهو خلاف ما حكاه عنه اصحابه وغيرهم وقد نقل عن احمد ما يقتضي ان الاعتبار بالسر اذا ثبت ان العلانية تلجئة فقال اذا كان رجل قد اظهر صداقا واسر غير ذلك نظر في البينات والشهود وكان الظاهر أوكد إلا ان تقوم بينة تدفع العلانيه قال القاضي وقد تأول ابو حفص العكبري هذا على ان بينة السر عدول وبينة العلانية غير عدول فحكم بالعدول قال القاضي وظاهر هذا انه يحكم بمهر السر اذا لم تقم بينة عادلة بمهر العلانية

وقال ابو حفص اذا تكافأت البينات وقد شرطوا في السر ان الذي يظهر في العلانية الرياء والسمعة فينبغي لهم ان يفوا له بهذا الشرط ولا يطالبوه بالظاهر لقول النبي صلى الله عليه وسلم - المؤمنون على شروطهم قال القاضي وظاهر هذا الكلام من ابي حفص انه قد جعل السر حكما قال والمذهب على ما ذكرناه قال شيخنا كلام ابي حفص الاول فيما اذا قامت البينة بأن النكاح عقد في السر بالمهر القليل ولم يثبت نكاح العلانية وكلامه الثاني فيما اذا ثبت نكاح العلانية ولكن تشارطوا ان ما يظهرون من الزيادة على ما اتفقوا عليه للرياء والسمعة قال شيخنا وهذا الذي ذكره ابو حفص اشبه بكلام الامام احمد واصوله فأن عامة كلامه في هذه المسألة انما هو اذا اختلف الزوج والمرأة ولم تثبت بينة ولا اعتراف ان مهر العلانية سمعة بل شهدت البينة انه تزوجها بالا كثر وادعى عليه ذلك فانه يجب ان يؤخذ بما اقر به إنشاء او إخبارا فإذا اقام شهودا يشهدون انهم تراضوا بدون ذلك عمل على البينة الاولى لان التراضي بالاقل في وقت لا يمنع التراضي بما زاد عليه في وقت آخر ألا ترى انه قال آخذ بالعلانية لانه قد اشهد على نفسه وينبغي لهم ان يفوا بما كان اسره فقوله لانه قد اشهد على نفسه دليل على انه انما يلزمه في الحكم فقط والا فما يجب بينه وبين الله لا يعلل بالإشهاد وكذلك قوله ينبغي لهم ان يفوا له واما هو فيؤخذ بالعلانية دليل على انه يحكم عليه به وان اولئك يجب عليهم الوفاء وقوله ينبغي يستعمل في الواجب اكثر مما يستعمل في المستحب ويدل على ذلك انه قد قال ايضا في امرأة تزوجت في العلانية على الف وفي السر على خمسمائة فاختلفوا في ذلك فان كانت البينة في السر والعلانية سواء اخذ بالعلانية لانه احوط وهو فرج يؤخذ بالاكثر وقيدت المسألة بانهم اختلفوا وان كليهما قامت به بينة عادلة

وإنما يظهر ذلك بالكلام في الصورة الثانية وهو ما اذا تزوجها في السر بألف ثم تزوجها في العلانية بألفين مع بقاء النكاح الأول فهنا قال القاضي في المجرد والجامع إن تصادقا على نكاح السر لزم نكاح السر بمهر السر لان النكاح المتقدم قد صح ولزم والنكاح المتأخر عنه لا يتعلق به حكم ويحمل مطلق كلام احمد والخرقي على مثل هذه الصورة وهذا مذهب الشافعي وقال الخرقي إذا تزوجها على صداقين سر وعلانية اخذ بالعلانية وإن كان السر قد انعقد النكاح به وهذا منصوص كلام احمد في قوله ان تزوجت في العلانية على ألف وفي السر على خمسمائة وعموم كلامه المتقدم يشمل هذه الصورة والتي قبلها وهذا هو الذي ذكره القاضي في خلافه وعليه اكثر الأصحاب ثم طريقته وطريقة جماعة في ذلك أن ما أظهراه زيادة في المهر والزيادة فيه بعد لزومه لازمة وعلى هذا فلو كان السر هو الاكثر اخذ به ايضا وهو معنى قول الإمام أحمد آخذ بالعلانية أي يؤخذ بالأكثر ولهذا القول طريقة ثانية وهو ان نكاح السر إنما يصح اذا لم يكتموه على احدى الروايتين بل انصهما فاذا تواصوا بكتمان النكاح الاول كانت العبرة انما هي بالنكاح الثاني
فقد تحرر أن الاصحاب مختلفون هل يؤخذ بصداق العلانية ظاهرا وباطنا او ظاهرا فقط فيما اذا كان السر تواطؤا من غير عقد وإن كان السر عقدا فهل هي كالتي قبلها او يؤخذ هنا بالسر في الباطن بلا تردد على وجهين فمن قال إنه يؤخذ به ظاهرا فقط وإنهم في الباطن لا ينبغي لهم ان يأخذوا إلا بما اتفقوا عليه لم يرد نقضا وهذا قول له شواهد كثيرة ومن قال إنه يؤخذ به ظاهرا وباطنا بنى ذلك على ان المهر من توابع النكاح وصفاته فيكون ذكره سمعة كذكره هزلا والنكاح جده وهزله سواء فكذلك ذكر ما هو فيه يحقق ذلك ان حل البضع مشروط بالشهادة على العقد والشهادة وقعت على ما أظهره فيكون وجوب المشهود به شرطا في الحل

هذا كلام شيخ الاسلام في مسألة مهر السر والعلانية في كتاب ابطال التحليل نقلته بلفظه
ولهذه المسألة عدة صور هذه إحداها
الثانية أن يتفقا في السر على ان ثمن المبيع الف ويظهرا في العلانية ان ثمنه الفان فقال القاضي في التعليق القديم والشريف ابو جعفر وغيرهما الثمن ما أظهراه على قياس المشهور عنه في المهر ان العبرة بما أظهراه وهو الاكثر وقال القاضي في التعليق الجديد وابو الخطاب وابو الحسين وغيرهم من اصحاب القاضي الثمن ما أسراه والزيادة سمعة ورياء بخلاف المهر وإلحاقا للعوض في البيع بنفس البيع وإلحاقا للمهر بالنكاح وجعلا الزيادة فيه بمنزلة الزيادة بعد العقد وهي غير لاحقة وقال ابو حنيفة عكس هذا بناء على ان تسمية العوض شرط في صحة البيع دون النكاح وقال صاحباه العبرة في الجميع بما أسراه
الصورة الثالثة ان يتفقا في عقد البيع على ان يتبايعا شيئا بثمن ذكراه على نه بيع تلجئه لا حقيقة له تخلصا من ظالم يريد أخذه فهذا عقد باطل وإن لم يقولا في صلب العقد قد تبايعناه تلجئه قال القاضي هذا قياس قول احمد لانه قال فيمن تزوج امرأة واعتقد انه يحلها للاول لم يصح هذا النكاح وكذلك اذا باع عنبا ممن يعتقد انه يعصره خمرا قال وقد قال احمد في رواية ابن منصور إنه إذا أقر لامرأة بدين في مرضه ثم تزوجها ومات وهي وارثة فهذه قد أقر لها وليست بزوجة يجوز ذلك إلا ان يكون أراد تلجئة فيرد ونحو هذا نقل إسحاق بن ابراهيم والمروزي وهذا قول أبي يوسف ومحمد وهو قياس قول مالك
وقال ابو حنيفة والشافعي لا يكون تلجئه حتى يقولا في العقد قد تبايعنا هذا العقد تلجئة ومأخذ من أبطله انهما لم يقصدا العقد حقيقه والقصد معتبر

في صحته ومأخذ من يصححه ان هذا شرط مقدم على العقد والمؤثر في العقد انما هو الشرط المقارن والاولون منهم من يمنع المقدمة الاولى ويقول لا فرق بين الشرط المتقدم والمقارن ومنهم من يقول انما ذلك في الشرط الزائد على العقد بخلاف الرافع له فان الشارط هنا يجعل العقد غير مقصود وهناك هو مقصود وقد اطلق عن شرط مقارن
الصورة الرابعة ان يظهرا نكاحا تلجئة لا حقيقة له فاختلف الفقهاء في ذلك فقال القاضي وغيره من الاصحاب إنه صحيح كنكاح الهازل لان اكثر ما فيه انه غير قاصد للعقد بل هازل به ونكاح الهازل صحيح قال شيخنا ويؤيد هذا المشهور عندنا انه لو شرط في العقد رفع موجبه مثل ان يشترط أنه لا يطأها أو أنها لا تحل له أو أنه لا ينفق عليها ونحو ذلك صح العقد دون الشرط فالاتفاق على التلجئة حقيقته أنهما اتفقا على ان يعقدا عقدا لا يقتضى موجبه وهذا لا يبطله قال شيخنا ويتخرج في نكاح التلجئة انه باطل لان الاتفاق الموجود قبل العقد بمنزلة المشروط في العقد في أظهر الطريقين لأصحابنا ولو شرطا في العقد انه نكاح تلجئة لا حقيقة لكان نكاحا باطلا وان قيل ان فيه خلافا فإن أسوأ الاحوال ان يكون كما لو شرطا انها لا تحل له وهذا الشرط يفسد العقد على الخلاف المشهور
الصورة الخامسة ان يتفقا على ان العقد عقد تحليل لانكاح رغبة وانه متى دخل بها طلقها او فهى طالق او انها متى اعترفت بانه وصل اليها فهى طالق ثم يعقداه مطلقا وهو في الباطن نكاح تحليل لانكاح رغبة فهذا محرم باطل لا تحل به الزوجة للمطلق وهو داخل تحت اللعنة مع تضمن زيادة الخداع كما سماه السلف بذلك وجعلوا فاعله مخادعا الله وقالوا من يخادع الله يخدعه وعلى بطلان هذا النكاح نحو ستين دليلا

والمقصود أن المتعاقدين وان أظهرا خلاف ما اتفقا عليه في الباطن فالعبرة لما أضمراه واتفقا عليه وقصداه بالعقد وقد أشهد الله على ما في قلوبهما فلا ينفعهما ترك التكلم به حالة العقد وهو مطلوبهما ومقصودهما
الصورة السادسة ان يحلف الرجل في شيء في الظاهر وقصده ونيته خلاف ما حلف عليه وهو غير مظلوم فهذا لا ينفعه ظاهر لفظه ويكون يمينه على ما يصدقه عليه صاحبه اعتبارا بمقصده ونيته
الصورة السابعة إذا اشترى أو استأجر مكرها لم يصح وان كان في الظاهر قد حصل صورة العقد لعدم قصده وارادته فدل على ان القصد روح العقد ومصححه ومبطله فاعتبار القصود في العقود اولى من اعتبار الالفاظ فإن الالفاظ مقصودة لغيرها ومقاصد العقود هي التي تراد لاجلها فإذا ألغيت واعتبرت الألفاظ التي لا تراد لنفسها كان هذا إلغاء لما يجب اعتباره واعتبارا لما قد يسوغ إلغاؤه وكيف يقدم اعتبار اللفظ الذي قد ظهر كل الظهور ان المراد خلافه بل قد يقطع بذلك على المعنى الذي قد ظهر بل قد يتيقن انه المراد وكيف ينكر على أهل الظاهر من يسلك هذا وهل ذلك إلا من ايراد الظاهرية فإن أهل الظاهر تمسكوا بألفاظ النصوص وأجروها على ظواهرها حيث لا يحصل القطع بأن المراد خلافها وأنتم تمسكتم بظواهر ألفاظ غير المعصومين حيث يقع القطع بأن المراد خلافها فأهل الظاهر أعذر منكم بكثير وكل شبهة تمسكتم بها في تسويغ ذلك فأدلة الظاهرية في تمسكهم بظواهر النصوص أقوى واصح والله تعالى يحب الانصاف بل هو افضل حلية تحلى بها الرجل خصوصا من نصب نفسه حكما بين الاقوال والمذاهب وقد قال الله تعالى لرسوله وأمرت لأعدل بينكم فورثة الرسول منصبهم العدل بين الطوائف وألا يميل احدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه بل يكون الحق مطلوبه يسير بسيره وينزل ينزوله يدين بدين العدل والإنصاف ويحكم الحجة وما كان عليه رسول الله

صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فهو العلم الذي قد شمر إليه ومطلوبه الذي يحوم بطلبه عليه لا يثنى عنانه عنه عذل عاذل ولا تأخذه فيه لومة لائم ولا يصده عنه قول قائل
ومن تدبر مصادر الشرع وموارده تبين له ان الشارع ألغى الالفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها بل جرت على غير قصد منه كالنائم والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطيء من شدة الفرح او الغضب او المرض ونحوهم ولم يكفر من قال من شدة فرحه براحلته بعد يأسه منها اللهم أنت عبدي وأنا ربك فكيف يعتبر الالفاظ التي يقطع بأن مراد قائلها خلافها ولهذا المعنى رد شهادة المنافقين ووصفهم بالخداع والكذب والاستهزاء وذمهم على انهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم وان بواطنهم تخالف ظواهرهم وذم تعالى من يقول مالا يفعل وأخبر ان ذلك من أكبر المقت عنده ولعن اليهود إذ توسلوا بصورة عقد البيع على ما حرمه عليهم الى أكل ثمنه وجعل أكل ثمنه لما كان هو المقصود بمنزلة أكله في نفسه وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في الخمر عاصرها ومعتصرها ومن المعلوم ان العاصر إنما عصر عنبا ولكن لما كانت إنما نيته هي تحصيل الخمر لم ينفعه ظاهر عصره ولم يعصمه من اللعنة لباطن قصده ومراده
فعلم أن الاعتبار في العقود والافعال بحقائقها ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها ومن لم يراع القصود في العقود وجرى مع ظواهرها يلزمه ان لا يلعن العاصر وان يجوز له عصر العنب لكل أحد وإن ظهر له ان قصده الخمر وان يقضى له بالاجرة لعدم تأثير القصد في العقد عنده ولقد صرحوا بذلك وجوزوا له العصر وقضوا له بالاجرة وقد روى في اثر مرفوع من حديث ابن بريده عن أبيه من حبس العنب ايام القطاف حتى يبيعه من يهودي او نصراني او من يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة ذكره عبدالله بن بطة ومن لم يراع القصد في العقد لم ير بذلك بأسا وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها ان المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات كما هي معتبره في

التقربات والعبادات فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالا او حراما وصحيحا او فاسدا وطاعة او معصية كما ان القصد في العبادة يجعلها واجبة او مستحبة او محرمة او صحيحة او فاسدة
ودلائل هذه القاعدة تفوت الحصر فمنها قوله تعالى في حق الازواج إذا طلقوا أزواجهم طلاقا رجعيا وبعولتهن احق بردهن في ذلك ان أرادوا إصلاحا وقوله ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا وذلك نص في ان الرجعة انما ملكها الله تعالى لمن قصد الصلاح دون من قصد الضرار وقوله في الخلع فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به وقوله فإن طلقها فلا جناح عليهما ان يتراجعا ان ظنا ان يقيما حدود الله فبين تعالى ان الخلع المأذون فيه والنكاح المأذون فيه إنما يباح اذا ظنا ان يقيما حدود الله وقال تعالى من بعد وصية يوصى بها او دين غير مضار فإنما قدم الله الوصية على الميراث اذا لم يقصد بها الموصي الضرار فإن قصده فللورثة إبطالها وعدم تنفيذها وكذلك قوله فمن خاف من موص جنفا او إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه فرفع الاثم عليه فرفع الإثم عمن أبطل الجنف الاثم من وصية الموصي ولم يجعلها بمنزلة نص الشارع الذي تحرم مخالفته

شرط الواقف ليس بمنزلة نص الشارع
وكذلك الإثم مرفوع عمن أبطل من شروط الواقفين ما لم يكن اصلاحا وما كان فيه جنف او إثم ولا يحل لاحد ان يجعل هذا الشرط الباطل المخالف لكتاب الله بمنزلة نص الشارع ولم يقل هذا احد من ائمة الاسلام بل قد قال امام الانبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله احق وشرط الله أوثق فإنما ينفذ من شروط الواقفين ما كان لله طاعة وللمكلف مصلحة وأما ما كان بضد ذلك فلا حرمة له كشرط التعزب والترهب المضاد لشرع الله ودينه فإنه تعالى فتح للامة باب النكاح بكل طريق وسد عنهم باب السفاح

بكل طريق وهذا الشرط باطل مضاد لذلك فإنه يسد على من التزمه باب النكاح ويفتح له باب الفجور فإن لوازم البشرية تتقضاها الطباع أتم تقاض فإذا سد عنها مشروعها فتحت له ممنوعها ولا بد
والمقصود أن الله تعالى رفع الاثم عمن ابطل الوصية الجانفة الاثمة وكذلك هو مرفوع عمن أبطل شروط الواقفين التي هي كذلك فإذا شرط الواقف القراءة على القبر كانت القراءة في المسجد أولى وأحب إلى الله ورسوله وأنفع للميت فلا يجوز تعطيل الاحب الى الله الانفع لعبده واعتبار ضده وقد رام بعضهم الانفصال عن هذا بأنه قد يكون قصد الواقف حصول الاجر له باستماعه للقرآن في قبره وهذا غلط فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة فإنه عمل اختياري وقد انقطع بموته ومن ذلك اشتراطه ان يصلى الصلوات الخمس في المسجد الذي بناه على قبره فإنه شرط باطل لا يجب بل لا يحل الوفاء به وصلاته في المسجد الذي لم يوضع على قبره احب الى الله ورسوله فكيف يفتى او يقضى بتعطيل الاحب الى الله والقيام بالاكراه اليه اتباعا لشرط الواقف الجانف الاثم ومن ذلك ان يشرط عليه ايقاد قنديل على قبره او بناء مسجد عليه فإنه لا يحل تنفيذ هذا الشرط ولا العمل به فكيف ينقله شرط لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فاعله

اقسام شروط الواقفين وحكمها
وبالجملة فشروط الواقفين اربعة أقسام شروط محرمة في الشرع وشروط مكروهة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم - وشروط تتضمن ترك ما هو أحب الى الله ورسوله وشروط تتضمن فعل ما هو أحب الى الله ورسوله فالأقسام الثلاثة الاول لا حرمة لها ولا اعتبار والقسم الرابع هو الشرط المتبع الواجب الاعتبار وبالله التوفيق
وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم - هذه الشروط كلها بقوله من عمل

عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وما رده رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم يجز لأحد اعتباره ولا الإلزام به وتنفيذه ومن تفطن لتفاصيل هذه الجملة التي هي من لوازم الايمان تخلص بها من آصار وأغلال في الدنيا وإثم وعقوبة ونقص ثواب في الآخرة وبالله التوفيق

فصل المقاصد تغير أحكام التصرفات
وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم - صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم كيف حرم على المحرم الأكل مما صاده الحلال إذا كان قد صاده لأجله فانظر كيف أثر القصد في التحريم ولم يرفعه ظاهر الفعل ومن ذلك الأثر المرفوع من حديث أبي هريرة من تزوج امرأة بصداق ينوي ان لا يؤديه اليها فهو زان ومن أدان دينا ينوى ان لا يقضيه فهو سارق ذكره أبو حفص بإسناده فجعل المشتري والناكح إذا قصد ان لا يؤديا العوض بمنزلة من استحل الفرج والمال بغير عوض فيكون كالزاني والسارق في المعنى وإن خالفهما في الصورة ويؤيد ذلك ما في صحيح البخاري مرفوعا من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله
فهذه النصوص وأضعافها تدل على ان المقاصد تغير احكام التصرفات من العقود وغيرها واحكام الشريعة تقتضي ذلك أيضا فإن الرجل إذا اشترى او استأجر أو اقترض او نكح ونوى ان ذلك لموكله او لموليه كان له وان لم يتكلم به في العقد وان لم ينوه له وقع الملك للعاقد وكذلك لو تملك المباحات من الصيد والحشيش وغيرها ونواه لموكله وقع الملك له عند جمهور الفقهاء نعم لا بد في النكاح من تسمية الموكل لانه مقعود عليه فهو بمنزلة السلعة في البيع فافتقر العقد الى تعيينه لذلك لا انه معقود له وإذا كان القول والفعل الواحد

يوجب الملك لمالكين مختلفين عند تغير النية ثبت ان للنية تأثيرا في العقود والتصرفات ومن ذلك أنه لو قضى عن غيره دينا أو أنفق عليه نفقة واجبة أو نحو ذلك ينوي التبرع والهبة لم يملك الرجوع بالبدل وإن لم ينو فله الرجوع ان كان بإذنه اتفاقا وإن كان بغير إذنه ففيه النزاع المعروف فصورة العقد واحدة وانما اختلف الحكم بالنية والقصد ومن ذلك ان الله تعالى حرم ان يدفع الرجل إلى غيره مالا ربويا بمثله على وجه البيع إلا أن يتقابضا وجوز دفعه بمثله على وجه القرض وقد اشتركا في ان كلا منهما يدفع ربويا ويأخذ نظيره وإنما فرق بينهما القصد فإن مقصود المقرض إرفاق المقترض ونفعه وليس مقصوده المعارضة والربح ولهذا كان القرض شقيق العارية كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم - منيحة الورق فكأنه أعاره الدراهم ثم استرجعها منه لكن لم يمكن استرجاع العين فاسترجع المثل وكذلك لو باعه درهما بدرهمين كان ربا صريحا ولو باعه إياه بدرهم ثم وهبه درهما آخر جاز والصورة واحدة وإنما فرق بينهما القصد فكيف يمكن أحدا أن يلغي القصود في العقود ولا يجعل لها اعتبارا

فصل الأحكام لا تجري على الظواهر
فإن قيل قد أطلتم الكلام في مسأله القصود في العقود ونحن نحاكمكم الى القرآن والسنة واقوال الائمة قال الله تعالى حكاية عن نبيه نوح ولا أقول الذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين فرتب الحكم على ظاهر إيمانهم ورد علم ما في أنفسهم الى العالم بالسرائر تعالى المنفرد بعلم ذات الصدور وعلم مافي النفوس من علم الغيب وقد قال تعالى لرسوله ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب وقد قال صلى الله عليه وسلم - إني لم أومر ان انقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم وقد قال أمرت ان اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الاسلام وحسابهم على الله فأكتفى منهم بالظاهر ووكل

سرائرهم إلى الله وكذلك فعل بالذين فعل بالذين تخلفوا عنه واعتذروا اليه فيل منهم علانيتهم ووكل سرائرهم الى الله عز و جل وكذلك كانت سيرته في المنافقين قبول ظاهر إسلامهم ويكل سرائرهم الى الله عزوجل وقال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم ولم يجعل لنا علما بالنيات والمقاصد تتعلق الاحكام الدنيوية بها فقولنا لا علم لنا به قال الشافعي فرض الله تعالى على خلقه طاعة نبيه ولم يجعل لهم من الامر شيئا فأولى ألا يتعاطوا حكما على غيب أحد بدلالة ولا ظن لقصور علمهم عن علوم أنبيائه الذين فرض عليهم الوقوف عما ورد عليهم حتى يأتيهم أمره فإنه تعالى ظاهر عليهم الحجج فما جعل إليهم الحكم في الدنيا إلا بما ظهر من المحكوم عليه ففرض على نبيه ان يقاتل اهل الاوثان حتى يسلموا فتحقن دماؤهم إذا أظهروا الاسلام واعلم انه لا يعلم صدقهم بالاسلام إلا الله ثم اطلع الله رسوله على قوم يظهرون الاسلام ويسرون غيره فلم يجعل له ان يحكم عليهم بخلاف حكم الاسلام ولم يجعل له ان يقضى عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا فقال لنبيه قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا يعني أسلمنا بالقول مخافة القتل والسبي ثم اخبرهم انه يجزيهم إن أطاعوا الله ورسوله يعني إن أحدثوا طاعة الله ورسوله وقال في المنافقين وهم صنف ثان أذا جاءك المنافقون الى قوله اتخذوا أيمانهم جنة يعني جنة من القتل وقال سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم فأمر بقبول ما أظهروا ولم يجعل لنبيه ان يحكم عليهم بخلاف حكم الايمان وقد اعلم الله نبيه أنهم في الدرك الاسفل من النار فجعل حكمه تعالى عليهم على سرائرهم وحكم نبيه عليهم في الدنيا على علانيتهم باظهار التوبة وما قامت عليه بينة من المسلمين وبما أقروا بقوله وما جحدوا من قول الكفر ما لم يقروا به ولم يقم به بينة عليهم وقد

كذبهم في قولهم في كل ذلك وكذلك أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم - عن الله اخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد عن عبيد الله بن يزيد عن عدي ابن الخيار ان رجلا سار النبي صلى الله عليه وسلم - فلم يدر ما ساره حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يشاوره في قتل رجل من المنافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم - أليس يشهد أن لا إله إلا الله قال بلى ولا شهادة له فقال أليس يصلى قال بلى ولا صلاة له فقال النبي صلى الله عليه وسلم - أولئك الذين نهانى الله عن قتلهم ثم ذكر حديث أمرت أن أقاتل الناس ثم قال فحسابهم على الله بصدقهم وكذبهم وسرائرهم إلى الله العالم بسرائرهم المتولى الحكم عليهم دون أنبيائه وحكام خلقه
وبذلك مضت أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق أعلمهم أن جميع أحكامه على ما يظهرون والله يدين بالسرائر ثم ذكر حديث عويمر العجلاني في لعانه امرأته ثم قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا لولا ما قضى الله لكان لي فيها قضاء غيره يعنى لولا ما قضى الله من ألا يحكم على أحد إلا باعتراف على نفسه أو بينة ولم يعرض لشريك ولا للمرأة وأنفذ الحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب ثم علم بعد ان الزوج هو الصادق
ثم ذكر حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة وان النبي صلى الله عليه وسلم - استحلفه ما اردت إلا واحدة فحلف له فردها اليه قال وفي ذلك وغيره دليل على ان حراما على الحاكم ان يقضي ابدا على احد من عباد الله إلا بأحسن ما يظهر وإن احتمل ما يظهر غير أحسنه وكانت عليه دلالة على ما يخالف احسنه ومن قوله بلى لما حكم الله الاعراب الذين قالوا آمنا وعلم الله ان الايمان لم يدخل في قلوبهم لما أظهروا من الاسلام ولما حكم في المنافقين الذين علم أنهم آمنوا ثم كفروا وانهم كاذبون بما أظهروا من الايمان بحكم الاسلام وقال في المتلاعنين أبصروها

فإن جاءت به كذا وكذا فلا أراه إلا وقد صدق عليها فجاءت به كذلك ولم يجعل له اليها سبيلا إذ لم تقر ولم تقم عليها بينة وابطل في حكم الدنيا عنهما استعمال الدلالة التي لا توجد في الدنيا بعد دلالة الله على المنافقين والاعراب اقوى مما اخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم - في قوله في امرأة العجلاني على ان يكون ثم كان كما اخبر به النبي صلى الله عليه وسلم - والاغلب على من سمع الفزازي يقول للنبي صلى الله عليه وسلم - ان امرأتي ولدت غلاما اسود وعرض بالقذف انه يريد القذف ثم لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم - اذ لم يكن التعريض ظاهرا قذف فلم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم - بحكم القذف والاغلب على من سمع قول ركانة لامرأته انت طالق البتة انه قد اوقع الطلاق بقوله انت طالق وان البتة ارادة شيء غير الاول انه اراد الابتات بثلاث ولكنه لما كان ظاهرا في قوله واحتمل غيره لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم - الا بظاهر الطلاق واحدة
فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم استدلالا على ان ما اظهروا خلاف ما ابطنوا بدلالة منهم او غير دلالة لم يسلم عندي من خلاف التنزيل والسنة وذلك مثل أن يقول قائل من رجع عن الإسلام ممن ولد عليه قتلته ولم استتبه ومن رجع عنه ممن لم يولد عليه استتبه ولم يحكم الله على عباده الا حكما واحدا ومثله ان يقول من رجع عن الاسلام ممن اظهر نصرانية او يهودية أو دينا يظهره كالمجوسية أستتبه فإن أظهر التوبة قبلت منه ومن رجع الى دين خفية لم أستتبه وكل قد بدل دين الحق ورجع الى الكفر فكيف يستتاب بعضهم ولا يستتاب بعض فإن قال لا أعرف توبة الذي يسر دينه قيل ولا يعرفها إلا الله وهذا مع خلافه حكم الله ثم رسوله كلام محال يسأل من قال هذا هل تدري لعل الذي كان أخفى الشرك يصدق بالتوبة والذي كان أظهر الشرك يكذب بالتوبة فإن قال نعم قيل فتدرى لعلك قتلت المؤمن

الصادق الإيمان واستحييت الكاذب بإظهار الايمان فإن قال ليس علي إلا الظاهر قيل فالظاهر فيهما واحد وقد جعلته اثنين بعلة محالة والمنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم يظهروا يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية بل كانوا يستسرون بدينهم فيقبل منهم ما يظهرون من الايمان فلو كان قائل هذا القول حين خالف السنة أحسن أن يقول شيئا له وجه ولكنه يخالفها ويعتل بما لا وجه له كأنه يرى أن اليهودية والنصرانية لا تكون إلا بإتيان الكنائس أرأيت إن كانوا ببلاد لا كنائس فيها أما يصلون في بيوتهم فتخفى صلاتهم على غيرهم قال وما وصفت من حكم الله ثم حكم رسوله في المتلاعنين يبطل حكم الدلالة التي هي اقوى من الذرائع واذا بطل الاقوى من الدلائل بطل الأضعف من الذارئع كلها وبطل الحد في التعريض بالقذف فإن من الناس من يقول إذا تشاتم الرجلان فقال أحدهما ما أنا بزان ولا أمي بزانية حد لانه إذا قاله على المشاتمة فالأغلب أنه إنما يريد به قذف الذي يشاتم وأمه وإن قاله على غير المشاتمة لم أحده إذا قال لم أرد القذف مع إبطال رسول الله صلى الله عليه وسلم - حكم التعريض في حديث الفزاري الذي ولدت امرأته غلاما أسود فإن قال قائل فإن عمر حد في التعريض في مثل هذا قيل استشار أصحابه فخالفه بعضهم ومع من خالفه ما وصفنا من الدلالة ويبطل مثله قول الرجل لامرأته أنت طالق البتة لأن الطلاق إيقاع طلاق ظاهر والبتة تحتمل زيادة في عدد الطلاق وغير زيادة والقول قوله في الذي يحتمل غير الظاهر حتى لا يحكم عليه أبدا إلا بظاهر ويجعل القول قوله في الذي يحتمل غير الظاهر فهذا يدل على أنه لا يفسد عقد إلا بالعقد نفسه ولا يفسد بشيء تقدمه ولا تأخره ولا بتوهم ولا بالأغلب وكذلك كل شيء لا يفسد إلا بعقده ولا يفسد البيوع بأن يقول هذه ذربعة وهذه نية سوء ولو كان أن يبطل البيوع بأن تكون ذريعة الى الربا كان اليقين في البيوع بعقد مالا يحل أولى

أن يريد به من الظن ألا ترى أن رجلا لو اشترى سيفا ونوى بشرائه أن يقتل به مسلما كان الشراء حلالا وكانت النية بالقتل غير جائزة ولم يبطل بها البيع وكذلك لو باع سيفا من رجل يريد أن يقتل به رجلا كان هذا هكذا ولو أن رجلا شريفا نكح دنية أعجمية أو شريفة نكحت دنيا أعجميا فتصادقا في الوجهين على أن لم ينو واحد منهما أن يثبت على النكاح أكثر من ليلة لم يحرم النكاح بهذه النية لأن ظاهر عقده كان صحيحا إن شاء الزوج حبسها وإن شاء طلقها فإذا دل الكتاب ثم السنة ثم عامة حكم الإسلام على أن العقود إنما تثبت بظاهر عقدها لا تفسدها نية العاقدين كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة ولا تفسد بتوهم غير عاقدها على عاقدها ولا سيما إذا كان توهما ضعيفا انتهى كلام الشافعي
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم - الهازل بالنكاح والطلاق والرجعة كالجاد بها مع انه لم يقصد حقائق هذه العقود وابلغ من هذا قوله صلى الله عليه وسلم - إنما أقضى بنحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أنه يحكم بالظاهر وإن كان في نفس الأمر لا يحل للمحكوم له ما حكم له به وفي هذا كله دلالة على إلغاء المقاصد والنيات في العقود وإبطال سد الذرائع واتباع ظواهر عقود الناس وألفاظهم وبالله التوفيق
فانظر ملتقى البحرين ومعترك الفريقين فقد أبرز كل منهما حجته وخاض بحر العلم فبلغ منه لجته وأدلى من الحجج والبراهين بما لا يدفع وقال ما هو حقيق بأن يقول له اهل العلم قل يسمع وحجج الله لا تتعارض وأدلة الشرع لا تتناقض والحق يصدق بعضه بعضا ولا يقبل معارضة ولا نقضا وحرام على المقلد المتعصب أن يكون من أهل هذا الطراز الاول او يكون على قوله وبحثه إذا حقت الحقائق المعول فليجرب المدعى ما ليس له والمدعى

في قوم ليس منهم نفسه وعلمه وما حصله في الحكم بين الفريقين والقضاء للفصل بين المتغالبين وليبطل الحجج والادلة من أحد الجانبين ليسلم له قول إحدى الطائفتين وإلا فيلزم حده ولا يتعدى طوره ولا يمد إلى العلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - باعا يقصر عن الوصول إليه ولا يتجر بنقد زائف لا يروج عليه ولا يتمكن من الفصل بين المقالين إلا من تجرد لله مسافرا بعزمه وهمته الى مطلع الوحي منزلا نفسه منزلة من يتلقاه غضا طريا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعرض عليه آراء الرجال ولا يعرضه عليها ويحاكمها إليه ولا يحاكمه إليها فنقول وبالله التوفيق

الألفاظ موضوعة للدلالة على ما في النفس
إن الله تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفا ودلالة على ما في نفوسهم فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئا عرفه بمراده وما في نفسه بلفظه ورتب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الالفاظ ولم يرتب تلك الاحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول ولا على مجرد ألفاظ مع العلم بأن المتكلم بها لم يرد معانيها ولم يحط بها علما بل تجاوز للأمة عما حدثت به انفسها ما لم تعمل به او تكلم به وتجاوز لها عما تكلمت به مخطئة أو ناسية او مكرهة أو غير عالمة به إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلمت به أو قاصدة اليه فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية او الفعلية ترتب الحكم هذه قاعدة الشريعة وهي من مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته فإن خواطر القلوب وإرادة النفوس لا تدخل تحت الاختيار فلو ترتبت عليها الاحكام لكان في ذلك اعظم حرج ومشقة على الامة ورحمة الله تعالى وحمكته تأبى ذلك والغلط والنسيان والسهو وسبق اللسان بما لا يريده العبد بل يريد خلافه والتكلم به مكرها وغير عارف لمقتضاه من لوازم البشرية لا يكاد ينفك الانسان من شيء منه فلو رتب عليه الحكم لحرجت الامة واصابها غاية التعب والمشقة فرفع عنها المؤاخذة بذلك كله حتى

الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب والسكر كما تقدمت شواهده وكذلك الخطأ والنسيان والإكراه والجهل بالمعنى وسبق اللسان بما لم يرده والتكلم في الإغلاق ولغو اليمين فهذه عشرة اشياء لا يؤاخذ الله بها عبده بالتكلم في حال منها لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخذه به
أما الخطأ من شدة الفرح فكما في الحديث الصحيح حديث فرح الرب بتوبة عبده وقول الرجل أنت عبدى وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح
وأما الخطأ من شدة الغضب فكما في قوله تعالى ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم قال السلف هو دعاء الانسان على نفسه وولده وأهله حال الغضب لو أجابه الله تعالى لأهلك الداعي ومن دعى عليه فقضى إليهم أجلهم وقد قال جماعة من الآئمة الإغلاق الذي منع النبي صلى الله عليه وسلم - من وقوع الطلاق والعتاق فيه هو الغضب وهذا كما قالوه فإن للغضب سكرا كسكر الخمر أو أشد
وأما السكران فقد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فلم يرتب على كلام السكران حكما حتى يكون عالما بما يقول ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم - رجلا يشكك المقر بالزنا ليعلم هل هو عالم بما يقول او غير عالم بما يقول ولم يؤاخذ حمزة بقوله في حال السكر هل أنتم إلا لأبي ولم يكفر من قرأ في حال سكره في الصلاة أعد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون
وأما الخطأ والنيسان فقد قال تعالى حكاية عن المؤمنين ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وقال الله تعالى قد فعلت وقال النبي صلى الله عليه وسلم - إن الله قد تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه

وأما المكره فقد قال الله تعالى ومن كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان والاكراه داخل في حكم الاغلاق
واما اللغو فقد رفع الله تعالى المؤاخذة به حتى يحصل عقد القلب
وأما سبق اللسان بما لم يرده المتكلم فهو دائر بين الخطأ في اللفظ والخطأ في القصد فهو أولى أن لا يؤاخذ به من لغو اليمين وقد نص الأئمة على مسائل من ذلك تقدم ذكر بعضها
وأما الاغلاق فقد نص عليه صاحب الشرع والواجب حمل كلامه فيه على عمومه اللفظي والمعنوي فكل من أغلق عليه باب قصده وعلمه كالمجنون والسكران والمكره والغضبان فقد تكلم في الاغلاق ومن فسره بالجنون او بالسكر او بالغصب أو بالاكراه فإنما قصد التمثيل لا التخصيص ولو قدر ان اللفظ يختص بنوع من هذه الانواع لوجب تعميم الحكم بعموم العلة فإن الحكم إذا ثبت لعلة تعدى بتعديها وانتفى بانتفائها

فصل أقسام الألفاظ الثلاثة
فإذا تمهدت هذه القاعدة فنقول الالفاظ بالنسبة الى مقاصد المتكلمين ونياتهم وإراداتهم لمعانيها ثلاثة أقسام
القسم الاول من أقسام الالفاظ
أحدها ان تظهر مطابقة القصد للفظ وللظهور مراتب تنتهي الى اليقين والقطع بمراد المتكلم بحسب الكلام في نفسه وما يقترن به من القرائن الحالية واللفظية وحال المتكلم به وغير ذلك كما إذا سمع العاقل والعارف باللغة قوله صلى الله عليه وسلم - إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب لا تضارون في رؤيته إلا كما تضارون في رؤيتها فإنه لا يستريب ولا يشك في مراد المتكلم

وأنه رؤية البصر حقيقة وليس في الممكن عبارة أوضح ولا أنص من هذه ولو اقترح على أبلغ الناس ان يعبر عن هذا المعنى بعبارة لا تحتمل غيره لم يقدر على عبارة أوضح ولا أنص من هذه وعامة كلام الله ورسوله من هذا القبيل فإنه مستول على الامد الاقصى من البيان

فصل القسم الثاني من اقسام الالفاظ
القسم الثاني ما يظهر بأن المتكلم لم يرد معناه وقد ينتهي هذا الظهور إلى حد اليقين بحيث لا يشك السامع فيه وهذا القسم نوعان أحدهما أن لا يكون مريدا لمقتضاه ولا لغيره والثاني أن يكون مريدا لمعنى يخالفه فالأول كالمكره والنائم والمجنون ومن اشتد به الغضب والسكران والثاني كالمعرض والمورى والملغز والمتأول
فصل القسم الثالث من أقسام الالفاظ
القسم الثالث ما هو ظاهر في معناه ويحتمل إرادة المتكلم له ويحتمل إرادته غيره ولا دلالة على واحد من الامرين واللفظ دال على المعنى الموضوع له وقد أتى به اختيارا
متى يحمل الكلام على ظاهره
فهدة اقسام الالفاظ بالنسبة إلى إرادة معانيها ومقاصد المتكلم بها وعند هذا يقال إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام أو لم يظهر قصد يخالف كلامه وجب حمل كلامه على ظاهره والادلة التي ذكرها الشافعي رضي الله عنه وأضعافها كلها إنما تدل على ذلك وهذا حق لا ينازع فيه عالم والنزاع إنما هو في غيره
إذا عرف هذا فالواجب حمل كلام الله تعالى ورسوله وحمل كلام المكلف

على ظاهره الذي هو ظاهره وهو الذي يقصد من اللفظ عند التخاظب ولا يتم التفهيم والفهم إلا بذلك ومدعي غير ذلك على المتكلم القاصد للبيان والتفهيم كاذب عليه
قال الشافعي وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - على ظاهره بت ومن ادعى أنه لا طريق لنا إلى اليقين بمراد المتكلم لان العلم بمراده موقوف على العلم بانتفاء عشرة أشياء فهو ملبوس عليه ملبس على الناس فإن هذا لو صح لم يحصل لأحد العلم بكلام المتكلم قط وبطلت فائدة التخاطب وانتفت خاصية الإنسان وصار الناس كالبهائم بل أسوأ حالا ولما علم غرض هذا المصنف من تصنيفه وهذا باطل بضرورة الحس والعقل وبطلانه من أكثر من ثلاثين وجها مذكورة في غير هذا الموضع ولكن حمل كلام المتكلمين على ظاهره لا ينبغي صرفه عن ذلك لدلالة تدل عليه كالتعريض ولحن الخطاب والتورية وغير ذلك وهذا أيضا مما لا ينازع في العقلاء

متى يحمل الكلام على غير ظاهره
وإنما النزاع في الحمل على الظاهر حكما بعد ظهور مراد المتكلم والفاعل بخلاف ما أظهره فهذا هو الذي وقع فيه النزاع وهو هل الاعتبار بظواهر الألفاظ والعقود وإن ظهرت المقاصد والنيات بخلافها ام للقصود والنيات تأثير يوجب الالتفات إليها ومراعاة جانبها وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة وانها تؤثر في صحة العقد وفساده وفي حله وحرمته بل أبلغ من ذلك وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقد تحليلا وتحريما فيصير حلالا تارة وحراما تارة أخرى باختلاف النية والقصد كما يصير صحيحا تارة وفاسدا تارة باختلافها وهذا كالذبح فإن الحيوان يحل إذا ذبح لأجل الأكل ويحرم إذ ذبح لغير الله وكذلك الحلال يصيد الصيد للمحرم فيحرم عليه ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم وكذلك الرجل يشتري الجارية ينوى ان تكون لموكله فتحرم على المشتري وينوى أنها له فتحل له وصورة

العقد واحدة وإنما اختلفت النية والقصد وكذلك صورة القرض وبيع الدرهم بالدرهم الى اجل صورتهما واحدة وهذا قربة صحيحة وهذا معصية باطلة بالقصد وكذلك عصر العنب بنية ان يكون خمرا معصية ملعون فاعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعصره بنية ان يكون خلا او دبسا جائز وصورة الفعل واحدة وكذلك السلاح يبيعه الرجل لمن يعرف انه يقتل به مسلما حرام باطل لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان وإذا باعه لمن يعرف انه يجاهد به في سبيل الله فهو طاعة وقربة وكذلك عقد النذر المعلق على شرط ينوي به التقرب والطاعة فيلزمه الوفاء بما نذره وينوي به الحلف والامتناع فيكون يمينا مكفرة وكذلك تعليق الكفر بالشرط ينوي به اليمين والامتناع فلا يكفر بذلك وينوي به وقوع الشرط فيكفر عند وجود الشرط ولا يكفر إن نوى به اليمين وصورة اللفظ واحدة وكذلك الفاظ الطلاق صريحها وكنايتها ينوى بها الطلاق فيكون ما نواه وينوى به غيره فلا تطلق وكذلك قوله انت عندي مثل أمي ينوي بها الظهار فتحرم عليه وينوي به انها مثلها في الكرامة فلا تحرم عليه وكذلك من أدى عن غيره واجبا ينوي به الرجوع ملكه وإن نوى به التبرع لم يرجع
وهذه كما انها احكام الرب تعالى في العقود فهى أحكامه تعالى في العبادات والمثوبات والعقوبات فقد اطردت سنته بذلك في شرعه وقدره أما العبادات فتأثير النيات في صحتها وفسادها أظهر من ان يحتاج الى ذكره فإن القربات كلها مبناها على النيات ولا يكون الفعل عبادة إلا بالنية والقصد ولهذا لو وقع في الماء ولم ينو الغسل أو دخل الحمام للتنظيف او سبح للتبرد لم يكن غسله قربة ولا عبادة بالاتفاق فإنه لم ينو العبادة فلم تحصل له وإنما لامرئ ما نوى ولو امسك عن المفطرات عادة واشتغالا ولم ينو القربة لم يكن صائما ولو دار حول البيت يلتمس شيئا سقط منه لم يكن طائفا ولو أعطى الفقير هبة أو هدية ولم

ينو الزكاة لم يحسب زكاة ولو جلس في المسجد ولم ينو الاعتكاف لم يحصل له
وهذا كما أنه ثابت في الإجزاء والامتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب ولهذا لو جامع أجنبية يظنها زوجته او أمته لم يأثم بذلك وقد يثاب بنيته ولو جامع في ظلمة من يظنها أجنبية فبانت زوجته أو أمته أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام ولو أكل طعاما حراما يظنه حلالا لم يأثم به ولو أكله وهو حلال يظنه حراما وقد أقدم عليه أثم بنيته وكذلك لو قتل من يظنه مسلما معصوما فبان كافرا حربيا أثم بنيته ولو رمى صيدا فأصاب معصوما لم يأثم ولو رمى معصوما فأخطأه وأصاب صيدا أثم ولهذا كان القاتل والمقتول من المسلمين في النار لنية كل واحد منهما قتل صاحبه

العمل تابع للنية
فالنية روح العمل ولبه وقوامه وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها والنبي صلى الله عليه وسلم - قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم وهما قوله إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فبين في الجملة الاولى ان العمل لايقع إلا بالنية ولهذا لا يكون عمل إلا بنية ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا ولا يعصمه من ذلك صورة البيع وأن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محللا ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح لأنه قد نوى ذلك وإنما لامريء ما نوى فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان والثانية معلومة بالنص وعلى هذا فإذا نوى بالعصر حصول الخمر كان له ما نواه ولذلك استحق اللعنة وإذا نوى بالفعل التحيل على ما حرمه الله ورسوله كان له ما نواه فإنه قصد المحرم وفعل مقدوره في تحصيله ولا فرق في التحيل على المحرم بين الفعل الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له لا في عقل ولا في شرع ولهذا لو نهى الطبيب المريض عما يؤذيه وحماه منه فتحيل على تناوله عد متناولا لنفس ما نهى عنه ولهذا مسخ الله اليهود قردة

لما تحيلوا على فعل ما حرمه الله ولم يعصمهم من عقوبته إظهار الفعل المباح لما توسلوا به الى ارتكاب محارمه ولهذا عاقب أصحاب الجنة بأن حرمهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين ولهذا لعن اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله ولم يعصمهم التوصل إلى ذلك بصورة البيع وأيضا فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم وتنتقل الى اسم الودك فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك

بطلان الحيل والدلالةعلى تحريمها
قال الخطابي في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوسل الى المحرم فإنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه
قال شيخنا رضي الله عنه ووجه الدلالة ما أشار إليه أحمد ان اليهود لما حرم الله عليهم الشحوم أرادوا الاحتيال على الانتفاع بها على وجه لا يقال في الطاهر إنهم انتفعوا بالشحم فجملوه وقصدوا بذلك ان يزول عنه اسم الشحم ثم انتفعو بثمنه بعد ذلك لئلا يكون الانتفاع في الظاهر بعين المحرم ثم مع كونهم احتالوا بحيلة خرجوا بها في زعمهم من ظاهر التحريم من هذين الوجهين لعنهم الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم - على هذا الاستحلال نظرا إلى المقصود وان حكمة التحريم لا تختلف سواء كان جامدا او مائعا وبذل الشيء يقوم مقامه ويسد مسده فإذا حرم الله الانتفاع بشيء حرم الاعتياض عن تلك المنفعة واما ما ابيح الانتفاع به من وجه دون وجه كالخمر مثلا فإنه يجوز بيعها لمنفعة الظهر المباحة لا لمنفعة اللحم المحرمة وهذا معنى حديث ابن عباس الذي رواه ابو داود وصححه الحاكم وغيره لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه يعنى ثمنه المقابل لمنفعة الأكل فإذا كان فيه منفعة أخرى وكان الثمن في مقابلتها لم يدخل في هذا

إذا تبين هذا فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقا بمجرد اللفظ وبظاهر من القول دون مراعاة المقصود للشيء المحرم ومعناه وكيفيته لم يستحقوا اللعنة لوجهين
أحدهما ان الشحم خرج بجملة عن ان يكون شحما وصار ودكا كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى ان يصير بيعا عند من يستحل ذلك فإن من أراد ان يبيع مائة بمائة وعشرين الى اجل فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم اشتراها بالثمن الحال ولا غرض لواحد منهما في السلعة بوجه ما وانما هي كما قال فقيه الامة دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة فلا فرق بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين درهما بلا حيلة البتة لا في شرع ولا في عقل ولا عرف بل المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال او ازيد منها فإنها تضاعفت بالاحتيال لم تذهب ولم تنقص فمن المستحيل على شريعة أحكم الحاكمين أن يحرم ما فيه مفسدة ويلعن فاعله ويؤذنه بحرب منه ورسوله ويوعده أشد الوعيد ثم يبيح التحيل على حصول ذلك بعينه سواء مع قيام تلك المفسدة وزيادتها بتعب الاحتيال في معصية ومخادعة الله ورسوله هذا لا يأتي به شرع فإن الربا على الارض أسهل وأقل مفسدة من الربا بسلم طويل صعب التراقي يترابى المترابيان على رأسه
فيالله العجب أي مفسدة من مفاسد الربا زالت بهذا الاحتيال والخداع فهل صار هذا الذنب العظيم عند الله الذي هو من اكبر الكبائر حسنة وطاعة بالخداع والاحتيال ويالله كيف قلب الخداع والاحتيال حقيقته من الخبيث الى الطيب ومن المفسدة إلى المصلحة وجعله محبوبا للرب تعالى بعد ان كان مسخوطا له ولئن كان هذا الاحتيال يبلغ هذا المبلغ فإنه عند الله ورسوله بمكان ومنزلة عظيمة وإنه من أقوى دعائم الدين وأوثق عراه وأجل أصوله

ويالله العجب كيف تزول مفسدة التحليل الذي اشار رسول الله صلى الله عليه وسلم - بلعن فاعله مرة بعد اخرى بتسبيق شرطه وتقديمه على صلب العقد وخلاء صلب العقد من لفظه وقد وقع التواطؤ والتوافق عليه واي غرض للشارع وأي حكمة في تقديم الشرط وتسبيقه حتى تزول به اللعنة وتنقلب به خمرة هذا العقد خلا وهل كان عقد التحليل مسخوطا لله ورسوله لحقيقته ومعناه أم لعدم مقارنة الشرط له وحصول صورة نكاح الرغبة مع القطع بانتفاء حقيقته وحصول حقيقة نكاح التحليل وهكذا الحيل الربوية فإن الربا لم يكن حراما لصورته ولفظة وإنما كان حراما لحقيقته التي أمتاز بها عن حقيقة البيع فتلك الحقيقة حيث وجدت وجد التحريم في أي صورة ركبت وبأي لفظ عبر عنها فليس الشأن في الاسماء وصور العقود وإنما الشأن في حقائقها ومقاصدها وما عقدت له
الوجه الثاني أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم وإنما انتفعوا بثمنه ويلزم من راعى الصور والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن يحرم ذلك فلما لعنوا على استحلال الثمن وإن لم ينص لهم على تحريمه علم ان الواجب النظر الى الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة ونظير هذا ان يقال لرجل لا تقرب مال اليتيم فيبيعه ويأخذ عوضه ويقول لم أقرب ماله وكمن يقول لرجل لا تشرب من هذا النهر فيأخذ بيديه ويشرب بكفيه ويقول لم أشرب منه وبمنزلة من يقول لا تضرب زيدا فيضربه فوق ثيابه ويقول إنما ضربت ثيابه وبمنزلة من يقول لا تأكل مال هذا الرجل فإنه حرام فيشتري به سلعة ولا يعينه ثم ينقده للبائع ويقول لم آكل ماله إنما أكلت ما اشتريته وقد ملكت ظاهرا وباطنا وأمثال هذه الأمور التي لو استعملها الطبيب في معالجة المرضى لزاد مرضهم ولو استعملها المريض لكان مرتكبا لنفس ما نهاه عنه الطبيب كمن يقول له الطبيب لا تأكل اللحم

فإنه يزيد في مواد المرض فيدقه ويعمل منه هريسة ويقول لم آكل اللحم وهذا المثال مطابق لعامة الحيل الباطلة في الدين
ويالله العجب أي فرق بين بيع مائة بمائة وعشرين درهما صريحا وبين إدخال سلعة لم تقصد أصلا بل دخولها كخروجها ولهذا لا يسأل العاقد عن جنسها ولا صفتها ولا قيمتها ولا عيب فيها ولا يبالي بذلك البتة حتى لو كانت خرقة مقطعة او أذن شاة أو عودا من حطب ادخلوه محللا للربا ولما تفطن المحتالون أن هذه السلعة لا اعتبار بها في نفس الامر وانها ليست مقصودة بوجه وأن دخولها كخروجها تهاونوا بها ولم يبالوا بكونها مما يتمول عادة أولا يتمول ولم يبال بعضهم بكونها مملوكة للبائع او غير مملوكة بل لم يبال بعضهم بكونها مما يباع او مما لا يباع كالمسجد والمنارة والقلعة وكل هذا وقع من أرباب الحيل وهذا لما علموا أن المشتري لاغرض له في السلعة فقالوا أي سلعة اتفق حضورها حصل بها التحليل كأي تيس اتفق في باب محلل النكاح

مثل من وقف مع الظواهر ولم يراع الحقائق
وما مثل من وقف مع الظواهر والألفاظ ولم يراع المقاصد والمعاني إلا كمثل رجل قيل له لا تسلم على صاحب بدعة فقبل يده ورجله ولم يسلم عليه أو قيل له اذهب فاملأ هذه الجرة فذهب فملأها ثم تركها على الحوض وقال لم تقل ايتني بها وكمن قال لوكيله بع هذه السلعة فباعها بدرهم وهي تساوي مائة ويلزم من وقف مع الظواهر ان يصحح هذا البيع ويلزم به الموكل وإن نظر الى المقاصد تناقض حيث ألقاها في غير موضع وكمن أعطاه رجل ثوبا فقال والله لا ألبسه لما له فيه من المئة فباعه وأعطاه ثمنه فقبله وكمن قال والله لا أشرب هذا الشراب فجعله عقيدا أو ثرد فيه خبزا وأكله ويلزم من وقف مع الظواهر والالفاظ ان لا يحد من فعل ذلك بالخمر وقد اشار النبي صلى الله عليه وسلم - إلى ان من الامة من يتناول المحرم ويسميه بغير اسمه

فقال ليشربن ناس من امتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الارض ويجعل منهم القردة والخنازير رواه احمد وابو داود وفي مسند الإمام احمد مرفوعا يشرب ناس من امتي الخمر يسمونها بغير اسمها وفيه عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم - يشرب ناس من امتي الخمر باسم يسمونها إياه وفي سنن ابن ماجه من حديث ابي امامة يرفعه لا تذهب الليالي والايام حتى بشرب طائفة من امتي الخمر يسمونها بغير اسمها قال شيخنا رضي الله عنه وقد جاء حديث آخر يوافق هذا مرفوعا وموقوفا من حديث ابن عباس يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء يستحلون الخمر باسم يسمونها إياه والسحت بالهدية والقتل بالرهبة والزنا بالنكاح والربا بالبيع وهذا حق فان استحلال الربا باسم البيع ظاهر كالحيل الربوية التي صورتها صورة البيع وحقيقتها حقيقة الربا ومعلوم ان الربا إنما حرم لحقيقته ومفسدته لا لصورته واسمه فهب ان المرابي لم يسمه ربا وسماه بيعا فذلك لا يخرج حقيقته وماهيته عن نفسها وأما استحلال الخمر باسم آخر فكما استحل المسكر من غير عصير العنب وقال لا أسميه خمرا وإنما هو نبيذ وكما يستحلها طائفة من المجان إذا مزجت ويقولون خرجت عن اسم الخمر كما يخرج الماء بمخالطة غيره له عن اسم الماء المطلق وكما يستحلها من يستحلها اذا اتخذت عقيدا ويقول هذه عقيد لا خمر ومعلوم ان التحريم تابع للحقيقة والمفسدة لا للاسم والصورة فإن إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة لا تزول بتبديل الاسماء والصور عن ذلك وهل هذا إلا من سوء الفهم وعدم الفقه عن الله ورسوله وأما استحلال السحت باسم الهدية وهو أظهر من ان يذكر كرشوة الحاكم والوالي وغيرهما فإن المرتشي ملعون هو والراشي لما في ذلك من المفسدة ومعلوم قطعا انهما لا يخرجان عن الحقيقة وحقيقة الرشوة بمجرد اسم الهدية وقد علمنا وعلم

الله وملائكته ومن له اطلاع على الحيل انها رشوة واما استحلال القتل باسم الارهاب الذي تسميه ولاة الجور سياسة وهيبة وناموسا وحرمة للملك فهو اظهر من ان يذكر واما استحلال الزنا باسم النكاح فهو الزنا بالمرأة التي لا غرض له ان يقم معها ولا ان تكون زوجته وانما غرضه ان يقضي منها وطره او بأخذ جعلا على الفساد بها ويتوصل الى ذلك باسم النكاح واظهار صورته وقد علم الله ورسوله والملائكة والزوج والمرأة انه محلل لا ناكح وانه ليس بزوج وانما هو تيس مستعار للضراب بمنزلة حمار العشريين

اسماء ما أنزل الله بها من سلطان
فيالله العجب اى فرق في نفس الامر بين الزنا وبين هذا نعم هذا زنا بشهود من البشر وذلك زنا بشهود من الكرام الكاتبن كما صرح به اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقالوا لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة اذا علم الله انه انما يريد ان يحللها والمقصود ان هذا المحلل اذا قيل له هذا زنا قال ليس بزنا بل نكاح كما ان المرابي اذا قيل له هذا ربا قال بل هو بيع وكذلك كل من استحل محرما بتغيير اسمه وصورته كمن يستحل الحشيشة باسم لقيمة الراحة ويستحل المعازف كالطنبور والعود والبربط باسم يسميها به وكما يسمى بعضهم المغني بالحادي والمطرب والقوال وكما يسمي الديوث بالمصلح والموفق والمحسن ورأيت من يسجد لغير الله من الاحياء والاموات ويسمى ذلك وضع الرأس للشيخ قال ولا اقوال هذا سجود وهكذا الحيل سواء فإن اصحابها يعمدون الى الاحكام فيعقلونها بمجرد اللفظ ويزعمون ان الذي يستحلونه ليس بداخل في لفظ الشيء المحرم مع القطع بأن معناها معنى الشيء المحرم فإن الرجل إذا قال لمن له عليه الف اجعلها الفا ومائة الى سنة بإدخال هذه الخرقة واخراجها صورة لا معنى لم يكن فرق بين توسطها وعدمه وكذلك اذا قال مكنيني من نفسك اقض منك وطرا يوما او ساعة بكذا وكذا لم يكن فرق

بين إدخال شاهدين في هذا أو عدم إدخالهما وقد تواطئا على قضاء وطر ساعة من زمان
ولو أوجب تبديل الاسماء والصور تبدل الاحكام والحقائق لفسدت الديانات وبدلت الشرائع واضمحل الإسلام وأي شيء نفع المشركين تسميتهم أصنامهم آلهة وليس فيها شيء من صفات الإلهية وحقيقتها وأي شيء نفعهم تسمية الإشراك بالله تقربا إلى الله وأي شيء نفع المعطلين لحقائق أسماء الله وصفاته تسميه ذلك تنزيها وأي شيء نفع الغلاة من البشر واتخاذهم طواغيت يعبدونها من دون الله تسمية ذلك تعظيما واحتراما وأي شيء نفع نفاة القدر المخرجين لأشرف ما في مملكة الرب تعالى من طاعات أنبيائه ورسله وملائكته وعباده عن قدرته تسمية ذلك عدلا وأي شيء نفعهم نفيهم لصفات كما له تسمية ذلك توحيدا وأي شيء نفع أعداء الرسل من الفلاسفة القائلين بأن الله لم يخلق السموات والارض في ستة ايام ولا يحيي الموتى ولا يبعث من في القبور ولا يعلم شيئا من الموجودات ولا أرسل إلى الناس رسلا يأمرونهم بطاعته تسمية ذلك حكمة وأي شيء نفع أهل النفاق تسمية نفاقهم عقلا معيشيا وقدحهم في عقل من لم ينافق نفاقهم ويداهن في دين الله واي شيء نفع المكسة تسمية ما يأخذونه ظلما وعدوانا حقوقا سلطانية وتسمية أوضاعهم الجائرة الظالمة المناقضة لشرع الله ودينه شرع الديوان واي شيء نفع أهل البدع والضلال تسمية شبههم الداحضة عند ربهم وعند اهل العلم والدين والايمان عقليات وبراهين وتسمية كثير من المتصوفة الخيالات الفاسدة والشطحات حقائق فهؤلاء كلهم حقيق ان يتلى عليهم إن هي إلا اسماء سميتوها أنتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان

فصل العبرة في العقود القصد دون اللفظ المجرد
ومما يوضح ما ذكرناه من ان القصود في العقود معتبرة دون الألفاظ المجردة التي لم تقصد بها معانيها وحقائقها او قصد غيرها ان صيغ العقود كبعت واشتريت وتزوجت واجرت إما إخبارات وإما إنشاءات وإما أنها متضمنة للأمرين فهي إخبارات عما في النفس من المعاني التي تدل على العقود وإنشاءات لحصول العقود في الخارج فلفظها موجب لمعناها في الخارج وهي أخبار عما في النفس من تلك المعاني ولا بد في صحتها من مطابقة خبرها لمخبرها فإذا لم تكن تلك المعاني في النفس كانت خبرا كاذبا وكانت بمنزلة قول المنافق أشهد أن محمدأ رسول الله وبمنزلة قوله آمنت بالله وباليوم الاخر وكذلك المحلل إذا قال تزوجت وهو لا يقصد التزوج المعني الذي جعله الله في الشرع كان إخبارا كاذبا وإنشاء باطلا فإنا نعلم ان هذه اللفظة لم توضح في الشرع ولا في العرف ولا في اللغة لمن قصد رد المطلقة الى زوجها وليس له قصد في النكاح الذي وضعه الله بين عباده وجعله سببا للمودة والرحمة بين الزوجين وليس له قصد في توابعه حقيقة ولا حكما فمن ليس له قصد في الصحبة ولا في العشرة ولا في المصاهرة ولا في الولد ولا المواصلة ولا المعاشرة ولا الإيواء بل قصده ان يفارق لتعود الى غيره فالله جعل النكاح سببا للمواصلة والمصاحبة والمحلل جعله سببا للمفارقة فإنه تزوج ليطلق فهو مناقض لشرع الله ودينه وحكمته فهو كاذب في قوله تزوجت بإظهاره خلاف ما في قلبه وبمنزلة من قال لغيره وكلتك أو شاركتك أو ضاربتك او ساقيتك وهو يقصد رفع هذه العقود وفسخها
وقد تقدم ان صيغ العقود اخبارات عما في نفس من المعاني التي هي

أصل العقود ومبدأ الحقيقة التي بها يصير اللفظ كلاما معتبرا فإنها لا تصير كلاما معتبرا إلا إذا قرنت بمعانيها فتصير انشاء للعقود والتصرفات من حيث إنها هي التي اثبتت الحكم وبها وجد وإخبارات من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس فهى تشبه في اللفظ احببت او ابغضت وكرهت وتشبه في المعنى قم واقعد وهذه الاقوال انما تفيد الاحكام اذا قصد المتكلم بها حقيقة او حكما ما جعلت له وإذا لم يقصد بها ما يناقض معناها وهذا فيما بينه وبين الله تعالى فأما في الظاهر فالأمر محمول على الصحة وإلا لما تم عقد ولا تصرف فاذا قال بعت او تزوجت كان هذا اللفظ دليلا على انه قصد معناه المقصود به وجعله الشارع بمنزلة القاصد إن كان هازلا وباللفظ والمعنى جميعا يتم الحكم فكل منهما جزء السبب وهما مجموعه وإن كانت العبرة في الحقيقة بالمعنى واللفظ دليل ولهذا يصار إلى غيره عند تعذره وهذا شأن عامة أنواع الكلام فإنه محمول على معناه المفهوم منه عند الإطلاق لا سيما الأحكام الشرعية التي علق الشارع بها احكامها فإن المتكلم عليه ان يقصد بتلك الالفاظ معانيها والمستمع عليه ان يحملها على تلك المعاني فإن لم يقصد المتكلم بها معانيها بل تكلم بها غير قاصد لمعانيها او قاصدا لغيرها أبطل الشارع عليه قصده فإن كان هازلا أولاعبا لم يقصد المعنى ألزمه الشارع المعنى كمن هزل بالكفر والطلاق والنكاح والرجعة بل لو تكلم الكافر بكلمة الاسلام هازلا ألزم به وجرت عليه أحكامه ظاهرا وإن تكلم بها مخادعا ماكرا محتالا مظهرا خلاف ما أبطن لم يعطه الشارع مقصوده كالمحلل والمرابي بعقد العينة وكل من احتال على إسقاط واجب او فعل محرم بعقد او قول أظهره وأبطن الامر الباطل وبهذا يخرج الجواب عن الالزام بنكاح الهازل وطلاقه ورجعته وان لم يقصد حقائق هذه الصيغ ومعانيها

تقسيمات لصيغ العقود
ونحن نذكر تقسيما جامعا نافعا في هذا الباب نبين به حقيقة الامر فنقول المتكلم بصيغ العقود إما أن يكون قاصدا للتكلم بها او لا يكون قاصدا فإن لم يقصد التكلم بها كالمكره والنائم والمجنون والسكران والمغلوب على عقله لم يترتب عليها شيء وإن كان في بعض ذلك نزاع وتفصيل فالصواب ان اقول هؤلاء كلها هدر كما دل عليه الكتاب والسنة والميزان واقوال الصحابة وإن كان قاصدا للتكلم بها فإما ان يكون عالما بغاياتها متصورا لها أو لا يدري معانيها البتة بل هي عنده كأصوات ينعق بها فإن لم يكن عالما بمعناها ولا متصورا له لم يترتب عليه أحكامها أيضا ولا نزاع بين أئمة الإسلام في ذلك وإن كان متصورا لمعانيها عالما بمدلولها فإما أن يكون قاصدا لها أو لا فإن كان قاصدا لها ترتبت أحكامها في حقه ولزمته وإن لم يكن قاصدا لها فإما ان يقصد خلافها او لا يقصد لا معناها ولا غير معناها فإن لم يقصد غير التكلم بها فهو الهازل ونذكر حكمه وإن قصد غير معناها فإما أن يقصد ما يجوز له قصده او لا فإن قصد ما يجوز له قصده نحو أن يقصد بقوله أنت طالق من زوج كان قبلي او يقصد بقوله أمتي او عبدي حر أنه عفيف عن الفاحشة او يقصد بقوله امرأتي عندي مثل أمي في الكرامة والمنزلة ونحو ذلك لم تلزمه احكام هذه الصيغ فيما بينه وبين الله تعالى واما في الحكم فإن اقترن بكلامه قرينة تدل على ذلك لم يلزمه أيضا لان السياق والقرينة بينة تدل على صدقه وإن لم يقترن بكلامه قرينه أصلا وادعى ذلك دعوى مجردة لم تقبل منه وإن قصد بها ما لا يجوز قصده كالتكلم بنكحت وتزوجت بقصد التحليل وبعت واشتريت بقصد الربا وبخالعتها بقصد الحيلة على فعل المحلوف عليه وبملكت بقصد الحيلة على إسقاط الزكاة او الشفعة وما أشبه ذلك فهذا لا يحصل له مقصوده الذي قصده وجل ظاهر اللفظ والفعل وسيلة اليه فإن في تحصيل مقصوده تنفيذا للمحرم واسقاطا للواجب وإعانة على معصية الله ومناقضة لدينه وشرعه

فإعانته على ذلك إعانة على الاثم والعدوان ولا فرق بين اعانته على ذلك بالطريق التي وضعت مفضية اليه وبين إعانته على ذلك بالطريق التي وضعت مفضية إلى غيره فالمقصود إذا كان واحدا لم يكن اختلاف الطرق الموصلة اليه بموجب لاختلاف حكمه فيحرم من طريق ويحل بعينه من طريق اخرى والطرق وسائل وهي مقصودة لغيرها فأي فرق بين التوسل الى الحرام بطريق الاحتيال والمكر والخداع والتوسل إليه بطريق المجاهرة التي يوافق فيها السر الإعلان والظاهر الباطن والقصد اللفظ بل سالك هذه الطريقة قد تكون عاقبته أسلم وخطره أقل من سالك تلك من وجوه كثيرة كما ان سالك طريق الخداع والمكر عند الناس امقت وفي قلوبهم اوضع وهم عنه اشد نفرة ممن أتى الامر على وجهه ودخله من بابه ولهذا قال ايوب السختياني وهو من كبار التابعين وساداتهم وأئمتهم في هؤلاء يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أتوا الامر على وجهه كان اسهل عليهم

فصل الفرق بين عقود المكره والمحتال
إذا عرف هذا فنقول المكره قد أتى باللفظ المقتضي للحكم ولم يثبت عليه حكمه لكونه غير قاصد له وإنما قصد دفع الاذى عن نفسه فانتفي الحكم لانتفاء قصده وإرادته لموجب اللفظ فعلم ان نفس اللفظ ليس مقتضيا للحكم اقتضاه الفعل لاثره فإنه لو قتل او غصب او أتلف او نجس المائع مكرها لم يمكن ان يقال إن ذلك القتل او الإتلاف او التنجيس فاسد وباطل كما لو أكل أو شرب او سكر لم يقل إن ذلك فاسد بخلاف ما لو حلف او نذر او طلق او عقد عقدا حكميا وهكذا المحتال الماكر المخادع فإنه لم يقصد الحكم المقصود بذلك اللفظ الذي احتال به وانما قصد معنى آخر فقصد الربا بالبيع والتحليل بالنكاح والحنث بالخلع بل المكره قد قصد دفع الظلم عن نفسه وهذا قصده التوسل إلى غرض رديء فالمحتال والمكره يشتركان في

أنهما لم يقصدا بالسبب حكمه ولا باللفظ معناه وانما قصدا التوسل بذلك اللفظ وبظاهر ذلك السبب الى شيء آخر غير حكم السبب لكن احدهما راهب قصده دفع الضرر عن نفسه ولهذا يحمد او يعذر على ذلك والآخر راغب قصده إبطال حق وإيثار باطل ولهذا يذم على ذلك فالمكره يبطل حكم السبب فيما عليه وفيما له لانه لم يقصد واحدا منهما والمحتال يبطل حكم السبب فيما احتال عليه وأما فيما سواه فيجب فيه التفصيل
وههنا امر لا بد منه وهو ان من ظهر لنا انه محتال فكمن ظهر لنا انه مكره ومن ادعى انه انما قصد الاحتيال فكمن ادعى انه مكره وان كان ظهور امر المكره ابين من ظهور امر المحتال

فصل حكم عقود الهازل
وأما الهازل فهو الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه وحقيقته بل على وجه اللعب ونقيضه الجاد فاعل من الجد بكسر الجيم وهو نقيض الهزل وهو مأخوذ من جد فلان إذا عظم واستغنى وصار ذا حظ والهزل من هزل إذا ضعف وضؤل نزل الكلام الذي يراد معناه وحقيقته بمنزلة صاحب الحظ والبخت والغنى والذي لم يرد معناه وحقيقته بمنزلة الخالي من ذلك إذ قوام الكلام بمعناه وقوام الرجل بحظه وماله وقد جاء فيه حديث ابي هريرة المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم - ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة رواه أهل السنن وحسنه الترمذي وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم - من نكح لاعبا او طلق لاعبا او اعتق لاعبا فقد جاز وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه أربع جائزات اذا تكلم بهن الطلاق والعتاق والنكاح والنذر وقال امير المؤمنين علي كرم الله وجهه ثلاثة لا لعب فيهن الطلاق والعتاق والنكاح وقال ابو الدرداء

ثلاث اللعب فيهن كالجد الطلاق والعتاق والنكاح وقال ابن مسعود النكاح جده ولعبه سواء ذكر ذلك ابو حفص العكبري

فصل عقود الهازل واختلاف الفقهاء في نفاذها
فأما طلاق الهازل فيقع عند الجمهور وكذلك نكاحه صحيح كما صرح به النص وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين وهو قول الجمهور وحكاه ابو حفص ايضا عن احمد وهو قول اصحابه وقول طائفة من اصحاب الشافعي وذكر بعضهم ان الشافعي نص على ان نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه ومذهب مالك الذي رواه ابن القاسم عنه وعليه العمل عند اصحابه ان هزل النكاح والطلاق لازم بخلاف البيع وروى عنه علي بن زياد ان نكاح الهازل لا يجوز قال بعض اصحابه فان قام دليل على الهزل لم يلزمه عتق ولانكاح ولاطلاق ولا شيء عليه من الصداق واما بيع الهازل وتصرفاته المالية فإنه لا يصح عند القاضي ابي يعلى واكثر اصحابه وهو قول الحنفية والمالكية وقال ابو الخطاب في انتصاره يصح بيعه كطلاقه وخرجها بعض الشافعية على وجهين ومن قال بالصحة قاس سائر التصرفات على النكاح والطلاق والرجعة
والفقه فيه ان الهازل اتى بالقول غير ملتزم لحكمه وترتيب الاحكام على الاسباب للشارع لا للعاقد فاذا اتى بالسبب لزمه حكمه شاء ام ابى لان ذلك لا يقف على اختياره وذلك ان الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه وقصد اللفظ المتضمن للمعنى قصد لذلك المعنى لتلازمهما إلا ان يعارضه قصد آخر كالمكره والمخادع المحتال فإنهما قصدا شيئا آخر غير معني القول وموجبه ألا ترى ان المكره قصد دفع العذاب عن نفسه ولم يقصد السبب ابتداء والمحلل قصد إعادتها الى المطلق وذلك مناف لقصده موجب السبب وأما الهازل فقصد السبب ولم يقصد حكمه ولا ما ينافى حكمه فترتب عليه أثره

فإن قيل هذا ينتقض عليكم بلغو اليمين فإنه لا يترتب عليه حكمه
قيل اللاغي لم يقصد السبب وانما جرى على لسانه من غير قصده فهو بمنزلة كلام النائم والمغلوب على عقله وأيضا فالهزل امر باطن لا يعرف إلا من جهة الهازل فلا يقبل قوله في ابطال حق العاقد الآخر ومن فرق بين البيع وبابه والنكاح وبابه قال الحديث والآثار تدل على ان العقود ما يكون جده وهزله سواء ومنها ما لا يكون كذلك وإلا لقال العقود كلها او الكلام كله جده وهزله سواء واما من جهة المعنى فان النكاح والطلاق والرجعة والعتق فيها حق لله تعالى اما العتق فظاهر واما الطلاق فإنه يوجب تحريم البضع ولهذا تجب إقامة الشهادة فيه وان لم تطلبها الزوجة وكذلك في النكاح فإنه يفيد حل ما كان حراما وحرمة ما كان حلالا وهو التحريم الثابت بالمصاهرة ولهذا لا يستباح إلا بالمهر وإذا كان كذلك لم يكن للعبد مع تعاطي السبب الموجب لهذه الاحكام ان لايرتب عليها موجباتها كما ليس له ذلك في كلمات الكفر إذا هزل بها كما صرح به القرآن فإن الكلام المتضمن لحق الله لا يمكن قوله مع رفع ذلك الحق إذ ليس للعبد ان يهزل مع ربه ولا يستهزيء بآياته ولا يتلاعب بحدوده وفي حديث ابي موسى ما بال اقوام يلعبون بحدود الله ويستهزوءن بآياته وذلك في الهازلين يعني والله اعلم يقولونها لعبا غير ملتزمين لاحكامها وحكمها لازم لهم وهذا بخلاف البيع وبابه فإنه تصرف في المال الذي هو محض حق الآدمي ولهذا يملك بذله بعوض وغير عوض والانسان قد يلعب مع الانسان وينبسط معه فإذا تكلم على هذا الوجه لم يلزمه حكم الجاد لان المزاح معه جائز
وحاصل الامر ان اللعب والهزل والمزاح في حقوق الله تعالى غير جائز فيكون جد القول وهزله سواء بخلاف جانب العباد ألا ترى ان النبي صلى الله عليه وسلم - كان يمزح مع الصحابة ويباسطهم وأما مع ربه تعالى فيجد

كل الجد ولهذا قال للاعرابي يمازحه من يشتري مني العبد فقال تجدني رخيصا يا رسول الله فقال بل انت عند الله غال وقصد صلى الله عليه وسلم - انه عبد الله والصيغة صيغة استفهام وهو صلى الله عليه وسلم - كان يمزح ولايقول إلا حقا ولو ان رجلا قال من يتزوج امي او اختي لكان من أقبح الكلام وقد كان عمر رضي الله عنه يضرب من يدعو امرأته اخته وقد جاء في ذلك حديث مرفوع رواه ابو داود ان رجلا قال لامرأته يا أخته فقال النبي صلى الله عليه وسلم - أختك هي إنما جعل ابراهيم ذلك حاجة لا مزاحا
ومما يوضحه ان عقد النكاح يشبه العبادات في نفسه بل هو مقدم على نفلها ولهذا يستحب عقده في المساجد وينهى عن البيع فيها ومن يشترط له لفظ بالعربية راعى فيه ذلك الحاقا له بالاذكار المشروعة ومثل هذا لا يجوز الهزل به فاذا تكلم به رتب الشارع عليه حكمه وإن لم يقصده بحكم ولاية الشارع على العبد فالمكلف قصد السبب والشارع قصد الحكم فصار مقصودين كلاهما

فصل شريعة الاسلام خير الشرائع
وقد ظهر بهذا ان ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة فإنه صلى الله عليه وسلم - أمر ان يقاتل الناس حتى يدخلوا في الاسلام ويلتزموا طاعة لله ورسوله ولم يؤمر ان ينقب عن قلوبهم ولا أن يشق بطونهم بل يجرى عليهم احكام الله في الدنيا إذا دخلوا في دينه ويجرى أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونياتهم فأحكام الدنيا على الاسلام وأحكام الآخرة على الإيمان ولهذا قبل إسلام الأعراب ونفى عنهم ان يكونوا مؤمنين وأخبر أنه لا ينقصهم مع ذلك من ثواب طاعتهم لله ورسوله شيئا وقبل إسلام المنافقين ظاهرا وأخبر أنه لا ينفعهم يوم القيامة شيئا وأنهم في الدرك الأسفل من النار

فأحكام الرب تعالى جارية على ما يظهر للعباد ما لم يقم دليل على ان ما أظهروه خلاف ما أبطنوه كما تقدم تفصيله وأما قصة الملاعن فالنبي صلى الله عليه وسلم - إنما قال بعد ان ولدت الغلام على شبه الذي رميت به لولا ماضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن فهذا والله أعلم إنما أراد به لولا حكم الله بينهما باللعان لكان شبه الولد بمن رميت به يقتضى حكما آخر غيره ولكن حكم الله باللعان ألغي حكم الشبه فإنهما دليلان وأحدهما أقوى من الآخر فكان العمل به واجبا وهذا كما لو تعارض دليل الفراش ودليل الشبه فإنا نعمل دليل الفراش ولا نلتفت الى الشبه بالنص والاجماع فأين في هذا ما يبطل المقاصد والنيات والقرائن التي لا معارض لها وهل يلزم من بطلان الحكم بقرينة قد عارضها ما هو أقوى منها بطلان الحكم بجميع القرائن وسيأتي دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وجمهور الأئمة على العمل بالقرائن واعتبارها في الأحكام
وأما إنفاذه للحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب فليس في الممكن شرعا غير هذا وهذا شأن عامة المتداعيين لا بد أن يكون أحدهما محقا والآخر مبطلا وينفذ حكم الله عليهما تارة بإثبات حق المحق وإبطال باطل المبطل وتارة بغير ذلك إذا لم يكن مع المحق دليل
وأما حديث ركانة لما طلق امرأته البتة وأحلفه النبي صلى الله عليه وسلم - أنه إنما أراد واحدة فمن أعظم الادلة على صحة هذه القاعدة وان الاعتبار في العقود بنيات أصحابها ومقاصدهم وإن خالفت ظواهر ألفاظهم فإن لفظ ألبتة يقتضى أنها قد بانت منه وانقطع التواصل الذي كان بينهما بالنكاح وأنه لم يبق له عليها رجعة بل بانت منه ألبتة كما يدل عليه لفظ ألبتة لغة وعرفا ومع هذا فردها عليه وقبل قوله أنها واحدة مع مخالفة الظواهر اعتمادا على قصده ونيته فلولا اعتبار القصود في العقود لما نفعه قصده الذي يخالف ظاهر لفظه مخالفة ظاهرة بينة فهذا الحديث أصل لهذه القاعدة وقد قيل منه في الحكم ودينه

فيما بينه وبين الله فلم يقض عليه بما أظهر من لفظه لما أخبره بأن نيته وقصده كان خلاف ذلك
وأما قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم - أبطل في حكم الدنيا استعمال الدلالة التي لا يوجد أقوى منها يعني دلالة الشبه فإنما أبطلها بدلالة أقوى منها وهي اللعان كما أبطلها مع قيام دلالة الفراش واعتبرها حيث لم يعارضها مثلها ولا أقوى منها في إلحاق الولد بالقافة وهي دلالة الشبه فأين في هذا إلغاء الدلالات والقرائن مطلقا

أحكام الدنيا تجري على الاسباب
وأما قوله إنه لم يحكم في المنافقين بحكم الكفر مع الدلالة التي لا أقوى منها وهي خبر الله تعالى عنهم وشهادته عليهم
فجوابه ان الله تعالى لم يجر أحكام الدنيا على علمه في عباده وإنما أجراها على الاسباب التي نصبها أدلة عليها وإن علم سبحانه ونعالى أنهم مبطلون فيها مظهرون لخلاف ما يبطنون وإذا أطلع الله رسوله على ذلك لم يكن ذلك مناقضا لحكمه الذي شرعه ورتبه على تلك الاسباب كما رتب على المتكلم بالشهادتين حكمه وأطلع رسوله وعباده المؤمنين على أحوال كثير من المنافقين وأنهم لم يطابق قولهم اعتقادهم وهذا كما اجرى حكمه على المتلاعنين ظاهرا ثم أطلع رسوله والمؤمنين على حال المرأة بشبه الولد لمن رميت به وكما قال إنما أقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار وقد يطلعه الله على حال آخذ ما لا يحل له أخذه ولا يمنعه ذلك من إنفاذ الحكم وأما الذي قال يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود فليس فيه ما يدل على القذف لا صريحا ولا كناية وإنما أخبره بالواقع مستفتيا عن حكم هذا الولد أيستلحقه مع مخالفة لونه للونه ام ينفيه فأفتاه النبي

صلى الله عليه وسلم - وقرب له الحكم بالشبه الذي ذكره ليكون أذعن لقبوله وانشراح الصدر له ولا يقبله على إغماض فأين في هذا ما يبطل حد القذف بقول من يشاتم غيره أما أنا فلست بزان وليست امي بزانية ونحو هذا من التعريض الذي هو أوجع وانكى من التصريح وأبلغ في الأذى وظهوره عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح فهذا لون وذلك لون وقد حد عمر بالتعريض في القذف ووافقه الصحابة رضى الله عنهم أجعين وأما قوله رحمه الله إنه استشار الصحابة فخالفه بعضهم فإنه يريد ما رواه عن مالك عن ابي الرجال عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب فقال أحدهما للآخر والله ما أنا بزان ولا أمي بزانية فاستشار في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال قائل مدح أباه وأمه وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن تجلده الحد فجلده عمر الحد ثمانين وهذا لا يدل على أن القائل الاول خالف عمر فإنه لما قيل له إنه قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا فهم أنه أراد القذف فسكت وهذا إلى الموافقة أقرب منه الى المخالفة وقد صح عن عمر من وجوه أنه حد في التعريض فروى معمر عن الزهري عن سالم عن ابيه أن عمر كان يحد في التعريض بالفاحشة وروى ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن صفوان وأيوب عن عمر أنه حد في التعريض وذكر أبو عمر ان عثمان كان يحد في التعريض وذكره ابن ابي شيبة وكان عمر بن عبد العزيز يرى الحد في التعريض وهو قول أهل المدينة والاوزاعي وهو محض القياس كما يقع الطلاق والعتق والوقف والظهار بالصريح والكتابة واللفظ إنما وضع لدلالته على المعنى فإذا ظهر المعنى غاية الظهور لم يكن في تغيير اللفظ كثير فائدة
وأما قوله من حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم لم يسلم من خلاف التنزيل والسنة فإنه يشير بذلك إلى قبول توبة الزنديق وحقن دمه بإسلامه

وقبول توبة المرتد وإن ولد على الاسلام وهاتان مسألتان فيهما نزاع بين الامة مشهور وقد ذكر الشافعي الحجة على قبول توبتهما ومن لم يقبل توبتهما يقول إنه لا سبيل إلى العلم بها فإن الزنديق قد علم أنه لم يزل مظهرا للإسلام فلم يتجدد له بإسلامه الثاني حال مخالفة لما كان عليه بخلاف الكافر الاصلي فإنه إذا أسلم تجدد له بالإسلام حال لم يكن عليها والزنديق إنما رجع الى إظهار الإسلام وأيضا فالكافر كان معلنا لكفره غير مستتر به ولا مخف له فإذا أسلم تيقنا أنه أتى بالاسلام رغبة فيه لا خوفا من القتل والزنديق بالعكس فإنه كان مخفيا لكفره مستترا به فلم تؤاخذه بما في قلبه إذا لم يظهر عليه فاذا ظهر على لسانه وآخذناه به فإذا رجع عنه لم يرجع عن أمر كان مظهرا له غير خائف من إظهاره وإنما رجع خوفا من القتل وأيضا فإن الله تعالى سن في عباده انهم اذا رأوا بأسه لم ينفعهم الاسلام وهذا إنما أسلم عند معاينة البأس ولهذا لو جاء من تلقاء نفسه وأقر بأنه قال كذا وكذا وهو تائب منه قبلنا توبته ولم نقتله وأيضا فإن الله تعالى سن في المحاربين أنهم إن تابوا من قبل القدرة عليهم قبلت توبتهم ولا تنفعهم التوبة بعد القدرة عليهم ومحاربة الزنديق للإسلام بلسانه أعظم من محاربة قاطع الطريق بيده وسنانه فإن فتنة هذا في الاموال والابدان وفتنة الزنديق في القلوب والايمان فهو اولى ألا تقبل توبته بعد القدرة عليه وهذا بخلاف الكافر الاصلي فإن أمره كان معلوما وكان مظهرا لكفره غير كاتم له والمسلمون قد أخذوا حذرهم منه وجاهروه بالعداوة والمحاربة وأيضا فإن الزنديق هذا دأبه دائما فلو قبلت توبته لكان تسليطا له على بقاء نفسه بالزندقة والالحاد وكلما قدر عليه أظهر الاسلام وعاد الى ما كان عليه ولا سيما وقد علم انه امن بإظهار الاسلام من القتل فلا يزعه خوفه من المجاهرة بالزندقة والطعن في الدين ومسبة الله ورسوله فلا ينكف عدوانه عن الاسلام إلا بقتله وأيضا فإن من سب الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا

فجزاؤه القتل حدا والحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة اتفاقا ولا ريب ان محاربة هذا الزنديق لله ورسوله وإفساده في الارض أعظم محاربة وإفسادا فكيف تأتي الشريعة بقتل من صال عل عشرة دراهم لذمي او على بدنه ولا تقبل توبته ولا تأتى بقتل من دأبه الصول على كتاب الله وسنة رسوله والطعن في دينه وتقبل توبته بعد القدرة عليه وأيضا فالحدود بحسب الجرائم والمفاسد وجريمة هذا أغلظ الجرائم ومفسدة بقائه بين أظهر المسلمين من أعظم المفاسد

السر في قبول توبة الكافر دون الزنديق
وههنا قاعدة يجب التنبيه عليها لعموم الحاجة إليها وهي ان الشارع انما قبل توبة الكافر الاصلي من كفره بالاسلام لانه ظاهر لم يعارضه ما هو أقوى منه فيجب العمل به لانه مقتض لحقن الدم والمعارض منتف فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه فإظهاره بعد القدرة عليه للتوبة والاسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية ولاظنية أما انتفاء القطع فظاهر وأما انتفاء الظن فلأن الظاهر انما يكون دليلا صحيحا إذا لم يثبت ان الباطن بخلافه فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت الى ظاهر قد علم ان الباطن بخلافه ولهذا اتفق الناس على انه لا يجوز للحاكم ان يحكم بخلاف علمه وان شهد عنده بذلك العدول وإنما يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها وكذلك لو أقر إقرارا علم أنه كاذب فيه مثل ان يقول لمن هو أسن منه وهذا ابني لم يثبت نسبه ولا ميراثه اتفاقا وكذلك الأدلة الشرعية مثل خبر الواحد العدل والأمر والنهى والعموم والقياس إنما يجب إتباعها إذا لم يقم دليل أقوى منها يخالف ظاهرها
وإذا عرف هذا فهذا الزنديق قد قام الدليل على فساد عقيدته وتكذيبه واستهانته بالدين وقدحه فيه فإظهاره الإقرار والتوبة بعد القدرة عليه ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا وهذا القدر قد بطلت دلالته بما أظهره من الزندقة فلا يجوز الاعتماد عليه لتضمنه إلغاء الدليل القوي وإعمال الدليل الضعيف الذي قد أظهر بطلان دلالته ولا يخفى على المنصف قوة هذا النظر وصحة هذا

المأخذ وهذا مذهب أهل المدينة ومالك واصحابه والليث بن سعد وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة وهو إحدى الروايات عن أحمد نصرها كثير من اصحابه بل هي أنص الروايات عنه وعن ابي حنيفة واحمد انه يستتاب وهو قول الشافعي وعن ابي يوسف روايتان إحداهما انه يستتاب وهي الرواية الاولى عنه ثم قال آخرا أقتله من غير استتابه لكن إن تاب قبل ان يقدر عليه قبلت توبته وهذا هو الرواية الثالثة عن احمد
ويالله العجب كيف يقاوم دليل إظهاره للاسلام بلسانه بعد القدرة عليه أدلة زندقته وتكررها منه مرة بعد مرة وإظهاره كل وقت للاستهانة بالاسلام والقدح في الدين والطعن فيه في كل مجمع مع استهانته بحرمات الله واستخفافه بالفرائض وغير ذلك من الادلة ولا ينبغي لعالم قط ان يتوقف في قتل مثل هذا ولا تترك الادلة القطعية لظاهر قد تبين عدم دلالته وبطلانها ولا تسقط الحدود عن أرباب الجرائم بغير موجب
نعم لو أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الاقوال والاعمال ما يدل على حسن الاسلام وعلى التوبة النصوحة وتكرر ذلك منه لم يقتل كما قاله ابو يوسف واحمد في إحدى الروايات وهذا التفصيل أحسن الاقوال في المسألة
ومما يدل على ان توبة الزنديق بعد القدرة لا تعصم دمه قوله تعالى قل هل يربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده او بأيدينا قال السلف في هذه الآية أو بأيدينا بالقتل إن أظهرتم ما في قلوبكم وهو كما قالوا لان العذاب على ما يبطنونه من الكفر بأيدي المؤمنين لا يكون إلا بالقتل فلو قبلت توبتهم بعد ما ظهرت زنذقتهم لم يمكن المؤمنين ان يتربصوا بالزنادقة ان يصيبهم الله بأيديهم لانهم كلما أرادوا ان يعذبوهم على ذلك أظهروا الاسلام فلم يصابوا بأيديهم قط والادلة على ذلك كثيرة جدا

وعند هذا فأصحاب هذا القول يقولون نحن أسعد بالتنزيل والسنة من مخالفينا في هذه المسألة المشنعين علينا بخلافها وبالله التوفيق
واما قوله ولا يفسد عقد إلا بالعقد نفسه ولا يفسد بشيء تقدمه ولا تأخره ولا بتوهم ولا أمارة عليه يريد ان الشرط المتقدم لا يفسد العقد إذا عرى صلب العقد عن مقارنته وهذا اصل قد خالفه فيه جمهور اهل العلم وقالوا لا فرق بين الشرط المتقدم والمقارن إذ مفسدة الشرط المتقدم لم تزل بتقدمه وإسلافه بل مفسدته مقارنا كمفسدته متقدما وأي مفسدة زالت بتقدم الشرط إذا كانا قد علما وعلم الله تعالى والحاضرون أنهما إنما عقدا على ذلك الشرط الباطل المحرم وأظهرا صورة العقد مطلقا وهو مقيد في الامر بذلك الشرط المحرم فإذا اشترطا قبل العقد ان النكاح نكاح تحليل أو متعة أو شغار وتعاهدا على ذلك وتواطئا عليه ثم عقدا على ما اتفقا عليه وسكتا عن إعادة الشرط في صلب العقد اعتمادا على تقدم ذكره والتزامه لم يخرج العقد بذلك عن كونه عقد تحليل ومتعة وشغار حقيقة وكيف يعجز المتعاقدان اللذان يريدان عقدا قد حرمه الله ورسوله لوصف أن يشترطا قبل العقد إرادة ذلك الوصف وأنه هو المقصود ثم يسكتا عن ذكره في صلب العقد ليتم غرضهما وهل إتمام غرضهما إلا عين تفويت مقصود الشارع وهل هذه القاعدة وهى أن الشرط المتقدم لا يؤثر إلا فتح لباب الحيل بل هي أصل الحيل وأساسها وكيف تفرق الشريعة بين متماثلين من كل وجه لافتراقهما في تقدم لفظ وتأخره مع استواء العقدين في الحقيقة والمعنى والقصد وهل هذا الا من اقرب الوسائل والذرائع الى حصول ما قصد الشارع عدمه وإبطاله واين هذه القاعدة من قاعدة سد الذرائع الى المحرمات ولهذا صرح اصحابها ببطلان سد الذارئع لما علموا انها مناقضة لتلك فالشارع سد الذرائع الى المحرمات بكل طريق وهذه القاعدة توسع الطرق اليها وتنهجها واذا تأمل اللبيب هذه القاعدة وجدها ترفع التحريم

او الوجوب مع قيام المعنى المقتضى لهما حقيقة وفي ذلك تأكيد للتحريم من وجهين من جهة ان فيها فعل المحرم وترك الواجب ومن جهة اشتمالها على التدليس والمكر والخداع والتوسل بشرع الله الذي أحبه ورضيه لعباده الى نفس ما حرمه ونهى عنه ومعلوم انه لا بد ان يكون بين الحلال والحرام فرق بين في الحقيقة بحيث يظهر للعقول مضادة احدهما للآخر والفرق في الصورة غير معتبر ولا مؤثر إذ الاعتبار بالمعاني والمقاصد في الاقوال والافعال فان الالفاظ اذا اختلفت عباراتها او مواضعها بالتقدم والتأخر والمعنى واحد كان حكمها واحدا ولو اتفقت ألفاظها واختلفت معانيها كان حكمها مختلفا وكذلك الاعمال ومن تأمل الشريعة حق التأمل علم صحة هذا بالاضطرار فالامر المحتال عليه بتقدم الشرط دون مقارنة صورته صورة الحلال المشروع ومقصوده الحرام الباطل فلا تراعى الصورة وتلغى الحقيقة والمقصود بل مشاركة هذا للحرام صورة ومعنى وإلحاقه به لاشتراكهما في القصد والحقيقة اولى من إلحاقه بالحلال المأذون فيه بمشاركته له في مجرد الصورة

فصل فيمن لا يعتبر سد الذرائع والقصد في العقود
وقوله ولا تفسد العقود بأن يقال هذه ذريعة وهذه نية سوء إلى آخره فإشارة منه الى قاعدتين إحداهما ان لا اعتبار بالذرائع ولا يراعى سدها والثانية أن القصود غير معتبرة في العقود والقاعدة المتقدمة ان الشرط المتقدم لا يؤثر وإنما التأثير للشرط الواقع في صلب العقد وهذه القواعد متلازمة فمن سد الذرائع اعتبر المقاصد وقال يؤثر الشرط متقدما ومقارنا ومن لم يسد الذرائع لم يعتبر المقاصد ولا الشروط المتقدمة ولا يمكن ابطال واحدة منها إلا بإبطال جميعها ونحن نذكر قاعدة سد الذرائع ودلالة الكتاب والسنة واقوال الصحابة والميزان الصحيح عليها

فصل في سد الذرائع
لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضى إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منا بحسب إفضائها الى غاياتها وارتباطاتها بها ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي اليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له ومنعا أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية اليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به وحكمته تعالى وعلمه يأبي ذلك كل الإباء بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح له الطرق والاسباب والذرائع الموصلة اليه لعد متناقضا ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده وكذلك الاطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه والا فسد عليهم ما يرومون اصلاحه فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية الى المحارم بأن حرمها ونهى عنها والذريعة ما كان وسيلة وطريقا الى الشيء
ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره ليزول الالتباس فيه فنقول

حكم الوسائل المؤدية الى المقاصد
الفعل أو القول المفضي الى المفسدة قسمان أحدهما أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشرب المسكر المفضى الى مفسدة السكر وكالقذف المفضى الى مفسدة الفرية والزنا المفضى الى اختلاط المياه وفساد الفراش ونحو ذلك فهذه افعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهرا غيرها والثاني ان تكون موضوعة للإفضاء الى امر جائز او مستحب فيتخذ وسيلة الى المحرم إما بقصده او بغير قصد منه فالاول كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل او يعقد البيع قاصدا به الربا او يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك والثاني كمن يصلى تطوعا بغير سبب في اوقات النهي او يسب ارباب المشركين بين اظهرهم او يصلى بين يدى القبر لله ونحو ذلك ثم هذا القسم من الذرائع نوعان أحدهما ان تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته والثاني ان تكون مفسدته راجحة على مصلحته فههنا أربعة أقسام الاول وسيلة موضوعة للافضاء الى المفسدة الثاني وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل الى المفسدة الثالث وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل الى المفسدة لكنها مفضية اليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها الرابع وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضى الى المفسدة ومصلحتها ارجح من مفسدتها فمثال القسم الاول والثاني قد تقدم ومثال الثالث الصلاة في اوقات النهى ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم وتزين المتوفي عنها في زمن عدتها وامثال ذلك ومثال الرابع النظر الى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها ويعاملها وفعل ذوات الاسباب في اوقات النهي وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر ونحو ذلك فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم او استحبابه او إيجابه بحسب درجات في المصلحة وجاءت بالمنع من القسم الاول كراهة او تحريما بحسب درجاته في المفسدة بقى النظر في القسمين الوسط هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما او المنع منهما فنقول الدلالة على المنع من وجوه

منع ما يؤدي الى الحرام
الوجه الاول قوله تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم لكونه ذريعة الى سبهم لله تعالى وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز
الوجه الثاني قوله تعالى ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن
الوجه الثالث قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات الاية أمر تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة ولم يأمرهم بالإستئذان في غيرها وإن أمكن في تركه هذه المفسدة لندورها وقلة الإفضاء إليها فجعلت كالمقدمة
الوجه الرابع قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لاتقولوا راعنا وقولوا انظرنا نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم - ويقصدون بها السب يقصدون فاعلا من الرعونة فنهى المسلمون عن قولها سدا لذريعة المشابهة ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم - تشبها بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون

الوجه الخامس قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفرا وأعتاهم عليه لئلا يكون إغلاظ القول له مع أنه حقيقي به ذريعة الى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة فنهاهما عن الجائز لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى
الوجه السادس أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد وأمرهم بالعفو والصفح لئلا يكون انتصارهم ذريعة الى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإغضاء واحتمال الضيم ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة
الوجه السابع أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة الى التشاغل بالتجارة عن حضورها
الوجه الثامن ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه متفق عليه ولفظ البخاري إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم - الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه الى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده
الوجه التاسع أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة الى تنفير الناس عنه وقولهم إن محمدا يقتل أصحابه فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ومن لم يدخل فيه ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم ومصلحة التأليف أعطم من مصلحة القتل

الوجه العاشر أن الله حرم الخمر لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل وهذا ليس مما نحن فيه لكن حرم القطرة الواحدة منها وحرم إمساكها للتخليل ونجسها لئلا تتخذ القطرة ذريعة الى الحسوة ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة الى إمساكها للشرب ثم بالغ في سد الذريعة فنهى عن الخليطين وعن شرب العصير بعد ثلاث وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به حسما لمادة قربان المسكر وقد صرح صلى الله عليه وسلم - بالعلة في تحريم القليل فقال لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه
الوجه الحادي عشر أنه صلى الله عليه وسلم - حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع
الوجه الثاني عشر أن الله تعالى أمر بغض البصر وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية الى المحظور
الوجه الثالث عشر أن النبي صلى الله عليه وسلم - نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد وعن الصلاة إليها وعندها وعن إبقاد المصابيح عليها وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيدا وعن شد الرحال اليها لئلا يكون ذلك ذريعة الى اتخاذها أوثانا والإشراك بها وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدا للذريعة
الوجه الرابع عشر أنه صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود المشركين

للشمس وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سدا لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة الى المشابهة في القصد مع بعد هذه الذريعة فكيف بالذرائع القريبة
الوجه الخامس عشر أنه صلى الله عليه وسلم - نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة كقوله إن اليهود والنصارى لايصبغون فخالفوهم وقوله إن اليهود لا يصلون فى نعالهم فخالفوهم وقوله في عاشوراء خالفوا اليهود صوموا يوما قبله ويوما بعده وقوله لا تشبهوا بالأعاجم وروىالترميذي عنه ليس منا من تشبه بغيرنا وروى الإمام أحمد عنه من تشبه بقوم فهو منهم وسر ذلك أن المشابهة في الهدى الظاهر ذريعة الى الموافقة في القصد والعمل
الوجه السادس عشر أنه صلى الله عليه وسلم - حرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وقال إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم حتى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز لأن ذلك ذريعة الى القطيعة المحرمة كما علل به النبي صلى الله عليه وسلم -
الوجه السابع عشر أنه حرم نكاح أكثر من أربع لأن ذلك ذريعة الى الجور وقيل العلة فيه أنه ذريعة الى كثرة المؤنة المفضية الى أكل الحرام وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع وأباح الأربع وإن كان لا يؤمن الجور في اجتماعهن لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن فكانت مصلحة الإباحة أرجح من مفسدة الجور المتوقعة
الوجه الثامن عشر أن الله تعالى حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة وإن كان المرجع في انقضائها ليس الى المرأة فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة الى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها

الوجه التاسع عشر أن الله حرم عقد النكاح في حال العدة وفي الإحرام وإن تأخر الوطء الى وقت الحل لئلا يتخذ العقد ذريعة إلى الوطء ولا ينتقض هذا بالصيام فإن زمنه قريب جدا فليس عليه كلفة في صبره بعض يوم إلى الليل
الوجه العشرون أن الشارع حرم الطيب على المحرم لكونه من أسباب دواعي الوطء فتحريمه من سد باب الذريعة
الوجه الحادي والعشرون أن الشارع اشترط للنكاح شروطا زائدة على العقد تقطع عنه شبه السفاح كالاعلام والولي ومنع المرأة أن تليه بنفسها وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من جحد الفراش ثم أكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة تزيد على مقدار الاستبراء وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة زائدة على مجرد الاستمتاع فعلم أن الشارع جعله سببا ووصله بين الناس بمنزلة الرحم كما جمع بينهما في قوله وجعله نسبا وصهرا وهذه المقاصد تمنع شبهة بالسفاح وتبين أن نكاح المحلل بالسفاح أشبه منه بالنكاح
الوجه الثاني والعشرون أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين وهذا هو معنى الربا فانظر إلى حمايته الذريعة إلى ذلك بكل طريق وقد احتج بعض المانعين لمسألة مد عجوة بأن قال إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار في منديل بألف وخمسمائة مفردة قال وهذا ذريعة إلى الربا

ثم قال يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة وهذا هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو من أقرب الذرائع إلى الربا ويلزم من لم يسد الذرائع أن يخالف النصوص ويجيز ذلك فكيف يترك أمرا ويرتكب نظيره من كل وجه
الوجه الثالث والعشرون أن الآثار المتظاهرة في تحريم العينة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة تدل على المنع من عود السلعة إلى البائع وإن لم يتواطئا على الربا وما ذاك إلا شدا للذريعة
الوجه الرابع والعشرون أن النبي صلى الله عليه وسلم - منع المقرض من قبول الهدية وكذلك أصحابه حتى يحسبها من دينه وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا فإنه يعود إليه ماله وأخذ الفضل الذي استفاده بسبب القرض
الوجه الخامس والعشرون أن الوالي والقاضي والشافع ممنوع من قبول الهدية وهو أصل فساد العالم وإسناد الأمر إلى غير أهله وتولية الخونة والضعفاء والعاجزين وقد دخل بذلك من الفساد مالا يحصيه إلا الله وما ذاك إلا لأن قبول الهدية ممن لم تجر عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته وحبك الشيء يعمى ويصم فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته مكافأة له مقرونة بشره وإغماض عن كونه لا يصلح
الوجه السادس والعشرون أن السنة مضت بأنه ليس للقاتل من الميراث شيء إما عمدا كما قال مالك وإما مباشرة كما قال ابو حنيفة وإما قتلا مضمونا بقصاص أودية أو كفارة وإما قتلا بغير حق وإما قتلا مطلقا كما هي أقوال في مذهب الشافعي وأحمد والمذهب الأول وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا وما ذاك

لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسد الشارع الذريعة بالمنع
الوجه السابع والعشرون أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد إن لم يقصد الحرمان لأن الطلاق ذريعة وأما إذا لم يتهم ففيه خلاف معروف مأخذه أن المرض أوجب تعلق حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سدا للذريعة بالكلية وإن كان في اصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين
الوجه الثامن والعشرون أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجميع بالواحد وإن كان أصل القصاص يمنع ذلك لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء
الوجه التاسع والعشرون أن النبي صلى الله عليه وسلم - نهى أن تقطع الأيدي في الغزو لئلا يكون ذريعة إلى إلحاق المحدود بالكفار ولهذا لاتقام الحدود في الغزو كما تقدم
الوجه الثلاثون أن النبي صلى الله عليه وسلم - نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن تكون له عادة توافق ذلك اليوم ونهى عن صوم يوم الشك وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه وكذلك حرم صوم يوم العيد تمييزا لوقت العبادة عن غيره لئلا يكون ذريعة إلى الزيادة في الواجب كما فعلت النصارى ثم أكد هذا الغرض باستحباب تعجيل الفطر وتأخير السحور واستحباب تعجيل الفطر في يوم العيد قبل الصلاة وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها فكره للإمام أن يتطوع في مكانه وأن يستديم جلوسه مستقبل القبلة كل هذا سدا للباب المفضى إلى أن يزاد في الفرض ماليس منه
الوجه الحادي والثلاثون أنه صلى الله عليه و سلم كره الصلاة إلى ما قد عبد

من دون الله تعالى وأحب لمن صلى إلى عود أو عمود أو شجرة أو نحو ذلك أن يجعله على أحد جانبيه ولا يصمد إليه صمدا قطعا لذريعة التشبه بالسجود إلى غير الله تعالى
الوجه الثاني والثلاثون انه شرع الشفعة و سلط الشريك على انتزاع الشقص من يد المشترى سد لذريعة المفسدة المتعلقة بالشركة والقسمة
الوجه الثالث والثلاثون ان الحاكم منهى عن رفع احد الخصمين على الآخر وعن الاقبال عليه دونه وعن مشاورته والقيام له دون خصمه لئلا يكون ذريعة الى انكسار قلب الآخر وضعفه عن القيام بحجته وثقل لسانه بها
الوجه الرابع والثلاثون أنه ممنوع من الحكم بعلمه لئلا يكون ذلك ذريعة الى حكمه بالباطل ويقول حكمت بعلمي
الوجه الخامس والثلاثون ان الشريعة منعت من قبول شهادة العدو على عدوه لئلا يتخذ ذلك ذريعة الى بلوغ غرضه من عدوه بالشهادة الباطلة
الوجه السادس والثلاثون ان الله تعالى منع رسوله حيث كان بمكة من الجهر بالقرآن حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن انزله ومن جاء به ومن انزل عليه
الوجه السابع والثلاثون ان الله تعالى اوجب الحدود على مرتكبي الجرائم التي تتقضاها الطباع وليس عليها وازع طبعى والحدود عقوبات لارباب الجرائم في الدنيا كما جعلت عقوبتهم في الآخرة بالنار إذا لم يتوبوا ثم إنه تعالى جعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له فمن لقيه تائبا توبة نصوحا لم يعذبه مما تاب منه وهكذا في أحكام الدنيا إذا تاب توبة نصوحا قبل رفعه الى الإمام سقط عنه في أصح قولى العلماء فإذا رفع الى الامام لم تسقط توبته عنه الحد لئلا يتخذ ذلك ذريعة الى تعطيل حدود الله إذ لا يعجز كل من وجب عليه الحد ان يظهر التوبة ليتخلص من العقوبة وإن تاب توبة نصوحا سدا لذريعة السكوت بالكلية

الوجه الثامن والثلاثون ان الشارع امر بالاجتماع على إمام واحد في الامامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الخوف مع كون صلاة الخوف بإمامين أقرب الى حصول صلاة الامن وذلك سدا لذريعة التفريق والاختلاف والتنازع وطلبا لاجتماع القلوب وتألف الكلمة وهذا من اعظم مقاصد الشرع وقد سد الذريعة الى ما يناقضه بكل طريق حتى في تسوية الصف في الصلاة لئلا تختلف القلوب وشواهد ذلك أكثر من أن تذكر
الوجه التاسع والثلاثون أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم وكراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم وليلتها بالقيام سدا لذريعة اتخاذ شرع لم يأذن به الله من تخصيص زمان او مكان بما لم يخصه به ففي ذلك وقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب
الوجه الاربعون أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا تفضى مشابهتهم الى ان يعامل الكافر معاملة المسلم فسدت هذه الذريعة بإلزامهم التميز عن المسلمين
الوجه الحادى والاربعون أن النبي صلى الله عليه وسلم - أمر ناجية بن كعب الاسلمى وقد أرسل معه هدية إذا عطب منه شيء دون المحل ان ينحره ويصبغ نعله التي قلده بها في دمه ويخلى بينه وبين الناس ونهاه ان ياكل منه هو أو أحد من اهل رفقته قالوا وما ذاك إلا لأنه لو جاز ان يأكل منه او يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعاه ذلك الى ان يقصر في علفها وحفظها لحصول غرضه من عطبها دون المحل كحصوله بعد بلوغ المحل من أكله هو ورفقته وإهدائهم إلى أصحابهم فإذا أيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك

أدعى الى حفظها حتى تبلغ محلها وأحسم لمادة هذا الفساد وهذا من ألطف أنواع سد الذرائع
الوجه الثاني والاربعون ان النبي صلى الله عليه وسلم - امر الملتقط ان يشهد على اللقطة وقد علم انه امين وما ذاك إلا لسد الذريعة الطمع والكتمان فإذا بادر وأشهد كان احسم لمادة الطمع والكتمان وهذا ايضا من ألطف أنواعها
الوجه الثالث والاربعون انه صلى الله عليه وسلم - قال لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد وذم الخطيب الذي قال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن عصاهما فقد غوى سدا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ وحسما لمادة الشرك حتى في اللفظ ولهذا قال للذي قال له ما شاء الله وشئت أجعلتني لله ندا فحسم مادة الشرك وسد الذريعة اليه في اللفظ كما سدها في الفعل والقصد فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله أكمل صلاة وأتمها وأزكاها وأعمها
الوجه الرابع والاربعون انه صلى الله عليه وسلم - وآله وسلم امر المأمومين ان يصلوا قعودا اذا صلى إمامهم قاعدا وقد تواتر عنه ذلك ولم يجيء عنه ما ينسخه وما ذاك إلا سدا لذريعة مشابهة الكفار حيث يقومون على ملوكهم وهم قعود كما علله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وهذا التعليل منه يبطل قول من قال إنه منسوخ مع ان ذلك دعوى لادليل عليها
الوجه الخامس والأربعون انه صلى الله عليه وسلم - أمر المصلي بالليل اذا نعس ان يذهب فليرقد وقال لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه فأمره بالنوم لئلا تكون صلاته في تلك الحال ذريعة الى سبه لنفسه وهو لا يشعر لغلبه النوم
الوجه السادس والأربعون ان الشارع صلوات الله عليه نهى ان يخطب الرجل

على خطبة اخيه أو يستام على سوم أخيه أو يبيع أخيه وما ذاك إلا أنه ذريعة الى التباغض والتعادي فقياس هذا انه لايستأجر على إجارته ولا يخطب ولاية ولا منصبا على خطبته وما ذاك إلا لأنه ذريعة الى وقوع العداوة والبغضاء بينه وبين اخيه
الوجه السابع والأربعون انه نهى عن البول في الجحر وما ذاك إلا لأنه قد يكون ذريعة الى خروج حيوان يؤذيه وقد يكون من مساكن الجن فيؤذيهم بالبول فربما اذوه
الوجه الثامن والأربعون انه نهى عن البراز في قارعة الطريق والظل والموارد لأنه ذريعة لاستجلاب اللعن كما علل به صلى الله عليه وسلم - بقوله اتقوا الملاعن الثلاث وفي لفظ اتقوا اللاعنين قالوا وما اللاعنان يا رسول الله قال الذي يتخلى في طريق الناس وفي ظلهم
الوجه التاسع والأربعون انه نهاهم اذا أقيمت الصلاة ان يقوموا حتى يروه قد خرج لئلا يكون ذلك ذريعة الى قيامهم لغير الله ولو كانوا إنما يقصدون القيام للصلاة لكن قيامهم قبل خروج الإمام ذريعة ولا مصلحة فيها فنهوا عنه
الوجه الخمسون انه نهى ان توصل صلاة بصلاة الجمعة حتى يتكلم او يخرج لئلا يتخذ ذريعة الى تغيير الفرض وان يزاد فيه ما ليس منه قال السائب بن يزيد صليت الجمعة في المقصورة فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت فلما دخل معاوية ارسل إلي فقال لاتعد لما فعلت اذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم او تخرج فإن النبي صلى الله عليه وسلم - امر بذلك ألا توصل الصلاة حتى يتكلم او يخرج
الوجه الحادي والخمسون انه امر من صلى في رحله ثم جاء الى المسجد ان

يصلي مع الامام وتكون له نافلة لئلا يتخذ قعوده والناس يصلون ذريعة الى إساءة الظن به وانه من المصلين
الوجه الثاني والخمسون انه نهى ان يسمر بعد العشاء الآخرة الى المصل او مسافر وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وما ذاك إلا لأن النوم قبلها ذريعة الى تفويتها والسمر بعدها ذريعة الى تفويت قيام الليل فإن عارضه مصلحة راجحة كالسمر في العلم ومصالح المسلمين لم يكره
الوجه الثالث والخمسون انه نهى النساء اذا صلين مع الرجال ان يرفعن رءوسهن قبل الرجال لئلا يكون ذريعة منهن الى رؤية عورات الرجال من وراء الأزر كما جاء التعليل بذلك في الحديث
الوجه الرابع والخمسون انه نهى الرجل ان يتخطى المسجد الذي يليه الى غيره كما رواه بقية عن المجاشع بن عمرو عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - ليصل احدكم في المسجد الذي يليه ولا يتخطاه الى غيره وما ذاك إلا لأنه ذريعة الى هجر المسجد الذي يليه وإيحاش صدر الإمام وإن كان الإمام لايتم الصلاة أو يرمي ببدعة او يعلن بفجور فلا بأس بتخطيه الى غيره
الوجه الخامس والخمسون انه نهى الرجل بعد الاذان ان يخرج من المسجد حتى يصلي لئلا يكون خروجه ذريعةالى اشتغاله عن الصلاة جماعة كما قال عمار لرجل رآه قد خرج بعد الاذان اما هذا فقد عصى ابا القاسم
الوجه السادس والخمسون انه نهى عن الاحتباء يوم الجمعة كما رواه احمد في مسنده من حديث سهل بن معاذ عن ابيه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن الاحتباء يوم الجمعة وما ذاك إلا انه ذريعة الى النوم

الوجه السابع والخمسون انه نهى المرأة اذا خرجت الى المسجد ان تتطيب او تصيب بخورا وذلك لانه ذريعة الى ميل الرجال وتشوفهم اليها فإن رائحتها وزينتها وصورتها وابداء محاسنها تدعو اليها فأمرها ان تخرج تفلة وان لا تتطيب وان تقف خلف الرجال وان لا تسبح في الصلاة اذا بابها شيء بل تصفق ببطن كفها على ظهر الاخرى كل ذلك سدا للذريعة وحماية عن المفسدة
الوجه الثامن والخمسون انه نهى ان تنعت المرأء المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها ولا يخفى أن ذلك سد للذريعة وحماية عن مفسدة وقوعها في قلبه وميله إليها بحضور صورتها في نفسه وكم ممن أحب غيره بالوصف قبل الرؤية
الوجه التاسع والخمسون أنه نهى عن الجلوس بالطرقات وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى النظر إلى المحرم فلما أخبروه أنه لا بد لهم من ذلك قال أعطوا الطريق حقه قالوا وما حقه قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام
الوجه الستون أنه نهى أن يبيت الرجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحا أو ذا رحم محرم وما ذاك إلا لأن المبيت عند الأجنبية ذريعة إلى المحرم
الوجه الحادي والستون أنه نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى تنقل عن مكانها وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى جحد البائع البيع وعدم إتمامه إذا رأى المشتري قد ربح فيها فيغره الطمع وتشح نفسه بالتسليم كما هو الواقع وأكد هذا المعنى بالنهي عن الربح مالم يضمن وهذا من محاسن الشريعة وألطف باب لسد الذرائع
الوجه الثاني والستون أنه نهى عن بيعتين في بيعة وهو الشرطان في البيع في الحديث الآخر وهو الذي لعاقده أوكس البيعتين أو الربا في الحديث الثالث

وذلك سد لذريعة الربا فإنه إذا باعه السلعة بمائة مؤجلة ثم اشتراها منه بمائتين حالة فقد باع بيعتين في بيعة فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما وهذا من اعظم الذرائع إلى الربا وأبعد كل البعد من حمل الحديث على البيع بمائة مؤجلة أو خمسين حالة وليس ههنا ربا ولا جهالة ولا غرر ولا قمار ولا شيء من المفاسد فإنه خيره بين أي الثمنين شاء وليس هذا بأبعد من تخييره بعد البيع بين الأخذ والإمضاء ثلاثة ايام وأيضا فإنه فرق بين عقدين كل منهما ذريعة ظاهرة جدا إلى الربا وهما السلف والبيع والشرطان في البيع وهذان العقدان بينهما من النسب والإخاء والتوسل بهما إلى أكل الربا ما يقتضى الجمع بينهما في التحريم فصلوات الله وسلامه على من كلامه الشفاء والعصمة والهدى والنور
الوجه الثالث والستون أنه أمر أن يفرق بين الأولاد في المضاجع وأن لا يترك الذكر ينام مع الأنثى في فراش واحد لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى نسج الشيطان بينهما المواصلة المحرمة بواسطة اتحاد الفراش ولا سيما مع الطول والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه وهو لايشعر وهذا أيضا من ألطف سد الذرائع
الوجه الرابع والستون أنه نهى أن يقول الرجل خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي سدا لذريعة اعتياد اللسان للكلام الفاحش وسدا لذريعة اتصاف النفس بمعنى هذا اللفظ فإن الألفاظ تتقاضى معانيها وتطلبها بالمشاكلة والمناسبة التي بين اللفظ والمعنى ولهذا قل من تجده يعتاد لفظا إلا ومعناه غالب عليه فسد رسول الله صلى الله عليه و سلم ذريعة الخبث لفظا ومعنى وهذا أيضا من ألطف الباب
الوجه الخامس والستون أنه نهى الرجل أن يقول لغلامه وجاريته عبدي

وأمتي ولكن يقول فتاى وفتاتي ونهى أن يقول لغلامه وضىء ربك أطعم ربك سدا لذريعة الشرك في اللفظ والمعنى وإن كان الرب ههنا هو المالك كرب الدار ورب الإبل فعدل عن لفظ العبد والأمة إلى لفظ الفتى والفتاة ومنع من إطلاق لفظ الرب على السيد حماية لجانب التوحيد وسدا لذريعة الشرك
الوجه السادس والستون أنه نهى المرأة أن تسافر بغير محرم وما ذاك إلا أن سفرها بغير محرم قد يكون ذريعة إلى الطمع فيها والفجور بها
الوجه السابع والستون أنه نهى عن تصديق أهل الكتاب وتكذيبهم فيما يحدثون به لأن تصديقهم قد يكون ذريعة إلى التصديق بالباطل وتكذيبهم قد يكون ذريعة إلى التكذيب بالحق كما علل به في نفس الحديث
الوجه الثامن والستون أنه نهى أن يسمى عبده بأفلح ونافع ورباح ويسار لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى ما يكره من الطيرة بأن يقال ليس ههنا يسار ولا رباح ولا أفلح وإن كان إنما قصد اسم الغلام ولكن سدا لذريعة اللفظ المكروه الذي يستوحش منه السامع
الوجه التاسع والستون أنه نهى الرجل عن الدخول على النساء لأنه ذريعة ظاهرة
الوجه السبعون أنه نهى أن يسمى باسم برة لأنه ذريعة إلى تزكية النفس بهذا الاسم وإن كان إنما قصد العلمية
الوجه الحادي والسبعون أنه نهى عن التداوي بالخمر وإن كانت مصلحة التداوي راجحة على مفسدة ملابستها سدا لذريعة قربانها واقتنائها ومحبة النفوس لها فحسم عليها المادة حتى في تناولها على وجه التداوي وهذا من أبلغ سد الذرائع
الوجه الثاني والسبعون أنه نهى أن يتناجى اثنان دون الثالث لأن ذلك ذريعة إلى حزنه وكسر قلبه وظنه السوء

الوجه الثالث والسبعون ان الله حرم نكاح الأمة على القادر على نكاح الحرة اذا لم يخش العنت لأن ذلك ذريعة الى إرقاق ولده حتى لو كانت الامة من الآيسات من الحبل والولادة لم تحل له سد الذريعة ولهذا منع الامام احمد الاسير والتاجر ان يتزوج في دار الحرب خشية تعريض ولده للرق وعلله بعلة اخرى وهي انه قد يمكنه منع العدو من مشاركته في زوجته
الوجه الرابع والسبعون انه نهى ان يورد ممرض على مصح لان ذلك قد يكون ذريعة اما الى اعدائه واما الى تأذيه بالتوهم والخوف وذلك سبب الى اصابة المكروه له
الوجه الخامس والسبعون انه نهى اصحابه عن دخول ديار ثمود إلا ان يكونوا باكين خشية ان يصيبهم مثل ما اصابهم فجعل الدخول من غير بكاء ذريعة الىاصابة المكروه
الوجه السادس والسبعون انه نهى الرجل ان ينظر الى من فضل عليه في المال واللباس فإنه ذريعةالى ازدرائه نعمة الله عليه واحتقاره بها وذلك سبب الهلاك
الوجه السابع والسبعون انه نهى عن إنزاء الحمر على الخيل لأن ذلك ذريعة الى قطع نسل الخيل او تقليلها ومن هذا نهيه عن اكل لحومها ان صح الحديث فيه انما كان لأنه ذريعة الى تقليلها كما نهاهم في بعض الغزوات عن نحر ظهورهم لما كان ذريعة الى لحوق الضرر بهم بفقد الظهر
الوجه الثامن والسبعون انه نهى من رأى رؤيا يكرهها يتحدث بها فإنه ذريعة الى انتقالها من مرتبة الوجود اللفظي الى مرتبة الوجود الخارجي كما انتقلت من الوجود الذهني الىاللفظي وهكذا عامة الامور تكون في الذهن ثم تنتقل الى الحس وهذا من ألطف سد الذرائع

وانفعها ومن تأمل عامة الشر رآه متنقلا في درجات الظهور طبقا بعد طبق من الذهن الى اللفظ الى الخارج
الوجه التاسع والسبعون انه سئل عن الخمر تتخذ خلا فقال لا مع إذنه في خل الخمر الذي حصل بغير التخليل وما ذلك إلا سدا لذريعة امساكها بكل طريق اذ لو اذن فى تخليلها لحبسها اصحابها لذلك و كان ذريعة الى المحذور
الوجه الثمانون انه نهى ان يتعاطى السيف مسلولا و ما ذاك الا انه ذريعة الى الاصابة بمكروه و لعل الشيطان يعينه و ينزع فى يده فيقع المحذور و يقرب منه
الوجه الحادى والثمانون انه امر المار فى المسجد بنبال ان يمسك عن نصلها بيده لئلا يكون ذريعة الى تأذى رجل مسلم بالنصال
الوجه الثاني والثمانون انه حرم الشياع وهو المفاخرة بالجماع لأنه ذريعة الى تحريك النفوس والتشبه وقد لا يكون عند الرجل من يغنيه من الحلال فيتخطى الى الحرام ومن هذا كان المجاهرون خارجين من عافية الله وهم المتحدثون بما فعلوه من المعاصي فإن السامع تتحرك نفسه الى التشبه وفي ذلك من الفساد المنتشر مالا يعلمه إلا الله
الوجه الثالث والثمانون أنه نهى عن البول في الماء الدائم وما ذاك إلا ان تواتر البول فيه ذريعة الى تنجيسه وعلى هذا فلا فرق بين القليل والكثير وبول الواحد والعدد وهذا أولى من تفسيره بما دون القلتين او بما يمكن نزحه فإن الشارع الحكيم لا يأذن للناس ان يبولوا في المياه الدائمة اذا جاوزت القلتين أو لم يمكن نزحها فإن في ذلك من إفساد مياه الناس ومواردهم مالا تأتي به شريعة فحكمة شريعته اقتضت المنع من البول فيه قل او كثر سدا لذريعة إفساده
الوجه الرابع والثمانون أنه نهى ان يسافر بالقرآن الى ارض العدو فإنه ذريعة الى ان تناله ايديهم كما علل به في نفس الحديث

الوجه الخامس والثمانون انه نهى عن الاحتكار وقال لا يحتكر إلا خاطيء فإنه ذريعة إلى أن يضيق على الناس أقواتهم ولهذا لا يمنع من احتكار ما لا يضر الناس
الوجه السادس والثمانون أنه نهى عن منع فضل الماء لئلا يكون ذريعة الى منع فضل الكلأ كما علل به في نفس الحديث فجعله بمنعه من الماء مانعا من الكلأ لان صاحب المواشي اذا لم يمكنه الشرب من ذلك الماء لم يتمكن من المرعى الذي حوله
الوجه السابع والثمانون انه نهى عن اقامة حد الزنا على الحامل حتى تضع لئلا يكون ذلك ذريعة الى قتل ما في بطنها كما قال في الحديث الآخر لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأمرت فتياني ان يحملوا معهم حزما من حطب فأخالف الى قوم لا يشهدون الصلاة في الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار فمنعه من تحريق بيوتهم التي عصوا الله فيها بتخلفهم عن الجماعة كون ذلك ذريعة الى عقوبة من لم يجب عليه حضور الجماعة من النساء والاطفال
الوجه الثامن والثمانون أنه نهى عن إدامة النظر الى المجذومين وهذا والله أعلم لانه ذريعة الى ان يصابوا بإيذائهم وهي من ألطف الذرائع وأهل الطبيعة يعترفون به وهو جار على قاعدة الاسباب واخبرني رجل من علمائهم انه جلس قرابة له يكحل الناس فرمد ثم بريء فجلس يكحلهم فرمد مرارا قال فعلمت ان الطبيعة تنتقل وأنه من كثرة ما يفتح عينيه في اعين الرمد نقلت الطبيعة الرمد الى عينيه وهذا لا بد معه من نوع استعداد وقد جبلت الطبيعة والنفس على التشبه والمحاكاة
الوجه التاسع والثمانون ان النبي صلى الله عليه وسلم - نهى الرجل ان ينحنى للرجل اذا لقيه كما يفعله كثير من المنتسبين الى العلم ممن لا علم له بالسنة

بل يبالغون إلى أقصى حد الانحناء مبالغة في خلاف السنة جهلا حتى يصير أحدهم بصورة الراكع لأخيه ثم يرفع رأسه من الركوع كما يفعل إخوانهم من السجود بين يدى شيوخهم الأحياء والأموات اخذوا من الصلاة سجودها وأولئك ركوعها وطائفة ثالثة قيامها يقوم عليهم الناس وهم قعود كما يقومون في الصلاة فقاسمت الفرق الثلاث أجزاء الصلاة والمقصود ان النبي صلى الله عليه وسلم - نهى عن انحناء الرجل لأخيه سدا لذريعة الشرك كما نهى عن السجود لغير الله وكما نهاهم أن يقوموا في الصلاة على رأس الامام وهو جالس مع ان قيامهم عبادة لله تعالى فما الظن إذا كان القيام تعظيما للمخلوق وعبودية له فالله المستعان
الوجه التسعون أنه حرم التفريق في الصرف وبيع الربوي بمثله قبل القبض لئلا يتخذ ذريعة إلى التأجيل الذي هو أصل باب الربا فحماهم من قربانه باشتراط التقابض في الحال ثم أوجب عليهم فيه التماثل وأن لايزيد أحد العوضين على الآخر إذا كانا من جنس واحد حتى لايباع مد جيد بمدين رديئين وإن كانا يساويانه سدا لذريعة ربا النساء الذي هو حقيقة الربا وأنه إذا منعهم من الزيادة مع الحلول حيث تكون الزيادة في مقابلة جودة أو صفة أو سكة أو نحوهما فمنعهم منها حيث لا مقابل لها إلا مجرد الأجل أولى فهذه هى حكمة تحريم ربا الفضل التي خفيت على كثير من الناس حتى قال بعض المتأخرين لا يتبين لي حكمة تحريم ربا الفضل وقد ذكر الشارع هذة الحكمة بعينها فإنه حرمه سدا لذريعة ربا النساء فقال في حديث تحريم ربا الفضل فإنى أخاف عليكم الرما والرما هو الربا فتحريم الربا نوعان نوع حرم لما فيه من المفسدة وهو ربا النسيئة ونوع حرم تحريم الوسائل وسدا للذرائع فظهرت حكمة الشارع الحكيم وكمال شريعته الباهرة في تحريم النوعين ويلزم

من لم يعتبر الذرائع ولم يأمر بسدها أن يجعل تحريم ربا الفضل تعبدا محضا لا يعقل معناه كما صرح بذلك صرح كثير منهم
الوجه الحادي والتسعون انه ابطل أنواعا من النكاح الذي يتراضى به الزوجان سدا لذريعة الزنا فمنها النكاح بلا ولى فإنه أبطله سدا لذريعة الزنا فإن الزاني لا يعجز أن يقول للمرأة أنكحيني نفسك بعشرة دراهم ويشهد عليها رجلين من اصحابه أو غيرهم فمنعها من ذلك سدا لذريعة الزنا ومن هذا تحريم نكاح التحليل الذي لا رغبة للنفس فيه في إمساك المرأة واتخاذها زوجة بل له وطر فيما يقضيه بمنزلة الزاني في الحقيقة وإن اختلفت الصورة ومن ذلك تحريم نكاح المتعة الذي يعقد فيه المتمتع على المرأة مدة يقضي وطره منها فيها فحرم هذة الأنواع كلها سدا لذريعة السفاح ولم يبح إلا عقدا مؤبدا يقصد فيه كل من الزوجين المقام مع صاحبه ويكون بإذن الولى وحضور الشاهدين أو ما يقوم مقامهما من الاعلان فإذا تدبرت حكمة الشريعة وتأملتها حق التأمل رأيت تحريم هذه الأنواع من باب سد الذرائع وهي من محاسن الشريعة وكمالها
الوجه الثاني والتسعون أنه المتصدق من شراء صدقته ولو وجدها تباع في السوق سدا لذريعة العود فيما خرج عنه ولو بعوضه فإن المتصدق إذا منع من تملك صدقته بعوضها فتملكه إياها بغيرعوض أشد منعا وأفطم للنفوس عن تعلقها بما خرجت عنه لله والصواب ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم - من المنع من شرائها مطلقا ولا ريب أن في تجويز ذلك ذريعة إلى التحليل علىالفقير بأن يدفع إليه صدقة ماله ثم يشتريها منه بأقل من قيمتها ويرى المسكين أنه قد حصل له شيء مع حاجته فتسمح نفسه بالبيع والله عالم بالأسرار فمن محاسن هذه الشريعة الكاملة سد الذريعة ومنع التصدق من شراء صدقته وبالله التوفيق

الوجه الثالث والتسعون أنه نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها لئلا يكون ذريعة الى اكل مال المشتري بغير حق اذا كانت معرضة للتلف وقد يمنعها الله وأكد هذا الغرض بأن حكم للمشتري بالجائحة اذا تلفت بعد الشراء الجائز وكل هذا لئلا يظلم المشتري ويؤكل ماله بغير حق
الوجه الرابع والتسعون أنه نهى الرجل بعد إصابة ما قدر له أن يقول لو أنى فعلت كذا لكان كذا وكذا واخبر ان ذلك ذريعة الى عمل الشيطان فإنه لا يجدي عليه إلا الحزن والندم وضيقة الصدر والسخط على المقدور واعتقاد أنه كان يمكنه دفع المقدور لو فعل ذلك وذلك يضعف رضاه وتسليمه وتفويضه وتصديقه بالمقدور وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وإذا أعرض القلب عن هذا انفتح له عمل الشيطان وما ذاك لمجرد لفظ لو بل لما قارنها من الامور القائمة بقلبه المنافية لكمال الايمان الفاتحة لعمل الشيطان بل أرشد العبد في هذه الحال إلى ما هو أنفع له وهو الايمان بالقدر والتفويض والتسليم للمشيئة الإلهية وأنه ما شاء الله كان ولا بد فمن رضى فله الرضى ومن سخط فله السخط فصلوات الله وسلامه على من كلامه شفاء للصدور ونور للبصائر وحياة للقلوب وغذاء للأرواح وعلى آله فلقد أنعم به على عباده أتم نعمة ومن عليهم به أعظم منه فلله النعمة وله المنة وله الفضل وله الثناء الحسن
الوجه الخامس والتسعون أنه صلى الله عليه وسلم - نهى عن طعام المتباريين وهما الرجلان يقصد كل منهما مباراة الآخر ومباهاته إما في التبرعات كالرجلين يصنع كل منهما دعوة يفتخر بها على الآخر ويباريه بها وإما في المعاوضات كالبائعين يرخص كل منهما سلعته لمنع الناس من الشراء من صاحبه ونص الإمام احمد على كراهية الشراء من هؤلاء وهذا النهي يتضمن سد الذريعة من وجهين احدهما ان تسليط النفوس على الشراء منهما وأكل طعامهما تفريح لهما وتقوية لقلوبهما وإغراء لهما على فعل ما كرهه الله ورسوله والثاني ان ترك الاكل من طعامهما ذريعة الى امتناعهما وكفهما عن ذلك

الوجه السادس والتسعون أنه تعالى عاقب الذين حفروا الحفائر يوم الجمعة فوقع فيها السمك يوم السبت فأخذوه يوم الاحد ومسخهم الله قردة وخنازير وقيل إنهم نصبوا الشباك يوم الجمعة وأخذوا الصيد يوم الاحد وصورة الفعل الذي فعلوه مخالف لما نهوا عنه ولكنهم لما جعلوا الشباك والحفائر ذريعة الى أخذ ما يقع فيها من الصيد يوم السبت نزلوا منزلة من اصطاد فيه إذ صورة الفعل لا اعتبارا بها بل بحقيقته وقصد فاعله ويلزم من يسد الذرائع ان لا يحرم مثل هذا كما صرحوا به في نظيره سواء وهو لو نصب قبل الاحرام شبكة فوقع فيها صيد وهو محرم جاز له أخذه بعد الحل وهذا جار على قواعد من لم يعتبر المقاصد ولم يسد الذرائع
الوجه السابع والتسعون قال الامام احمد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن بيع السلاح في الفتنة ولا ريب ان هذا سد لذريعة الاعانة على المعصية ويلزم من لم يسد الذرائع ان يجوز هذا البيع كما صرحوا به ومن المعلوم ان هذا البيع يتضمن الاعانة على الاثم والعدوان وفي معنى هذا كل بيع او إجاره او معاوضة تعين على معصية الله كبيع السلاح للكفار والبغاة وقطاع الطريق وبيع الرقيق لمن يفسق به أو يؤاجره لذلك أو إجارة داره او حانوته او خانه لمن يقيم فيها سوق المعصية وبيع الشمع او إجارته لمن يعصي الله عليه ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يبغضه الله ويسخطه ومن هذا عصر العنب لمن يتخذه خمرا وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم - هو والمعتصر معا ويلزم من لم يسد الذرائع أن لا يلعن العاصر وأن يجوز له ان يعصر العنب لكل أحد ويقول القصد غير معتبر في العقد والذرائع غير معتبرة ونحن مطالبون في الظواهر والله يتولى السرائر وقد صرحوا بهذا ولا ريب في التنافى بين هذا وبين سنة رسول الله ص

الوجه الثامن والتسعون نهيه عن قتال الأمراء والخروج على الائمة وإن ظلموا أو جاروا ما أقاموا الصلاة سدا لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير بقتالهم كما هو الواقع فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف اضعاف ما هم عليه والامة في بقايا تلك الشرور الى الآن وقال إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما سدا لذريعة الفتنة
الوجه التاسع والتسعون جمع عثمان المصحف على حرف واحد من الاحرف السبعة لئلا يكون ذريعة الى اختلافهم في القرآن ووافقه على ذلك الصحابة رضى الله عنهم
ولنقتصر على هذا العدد من الامثلة الموافق لاسماء الله الحسنى التي من احصاها دخل الجنة تفاؤلا بأنه من أحصى هذه الوجوه وعلم انها من الدين وعمل بها دخل الجنة إذ قد يكون قد اجتمع له معرفة اسماء الرب تعالى ومعرفة احكامه ولله وراء ذلك اسماء واحكام
وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف فإنه أمر ونهى والامر نوعان أحدهما مقصود لنفسه والثاني وسيلة الى المقصود والنهي نوعان احدهما ما يكون المنهى عنه مفسدة في نفسه والثاني ما يكون وسيلة الى المفسدة فصار سد الذرائع المفضية الى الحرام أحد أرباع الدين

فصل في تحريم الحيل
وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة فأن الشارع يسد الطريق الى المفاسد بكل ممكن والمحتال يفتح الطريق اليها بحيلة فأين من يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرم الى من يعمل الحيلة في التوصل اليه
فهذه الوجوده التي ذكرناها وأضعافها تدل على تحريم الحيل والعمل بها والافتاء بها في دين الله ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحل محارم الله وأسقط

فرائضه بالحيل كقوله لعن الله المحلل والمحلل له لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها لعن الله الراشي والمرتشي لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده ومعلوم ان الكاتب والشاهد انما يكتب ويشهد على الربا المحتال عليه ليتمكن من الكتابة والشهادة بخلاف ربا المجاهرة الظاهر ولعن في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها ومعلوم انه انما عصر عنبا ولعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وقرن بينهما وبين آكل الربا وموكله والمحلل والمحلل له في حديث ابن مسعود وذلك للقدر المشترك بين هؤلاء الاصناف وهو التدليس والتلبيس فإن هذه تظهر من الخلقة ما ليس فيها والمحلل يظهر من الرغبة ما ليس عنده وآكل الربا يستحله بالدليس والمخادعة فيظهر من عقد التبايع ما ليس له حقيقة فهذا يستحل الربا بالبيع وذلك يستحل الزنا باسم النكاح فهذا يفسد الأموال وذاك يفسد الأنساب وابن مسعود هو راوي هذا الحديث وهو راوي حديث ما ظهر الزنا والربا في قوم إلا أحلوا بأنفسهم العقاب والله تعالى مسخ الذين استحلوا محارمه بالحيل قردة وخنازير جزاء من جنس عملهم فإنهم لما مسخوا شرعه وغيروه عن وجهه مسخ وجوههم وغيرها عن خلقتها والله تعالى ذم اهل الخداع والمكر ومن يقول بلسانه ما ليس في قلبه وأخبر ان المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وأخبر عنهم بمخالفة ظواهرهم لبواطنهم وسرائرهم لعلانيتهم واقوالهم لأفعالهم وهذا شأن أرباب الحيل المحرمة وهذه الأوصاف منطبقة عليهم فإن المخادعة هي الاحتيال والمراوغة بإظهار أمر جائز ليتوصل به الى امر محرم يبطنه ولهذا يقال طريق خيدع اذا كان مخالفا للقصد لا يفطن له ويقال للسراب الخيدع لأنه يخدع من يراه ويغره وظاهره خلاف باطنه ويقال للضب خادع وفي المثل أخدع من ضب لمراوغته ويقال سوق خادعة أي متلونة وأصله الاختفاء والستر ومنه

المخدع في البيت فوازن بين قول القائل آمنا بالله وباليوم الآخر وأشهد ان محمدا رسول الله إنشاء للإيمان وإخبارا به وهو غير مبطن لحقيقة هذه الكلمة ولا قاصدا له ولا مطمئن به وإنما قاله متوسلا به الى امنه وحقن دمه أو نيل غرض دنيوي وبين قول المرابي بعتك هذه السلعة بمائة وليس لواحد منهما غرض فيها بوجه من الوجوه وليس مبطنا لحقيقة هذه اللفظة ولا قاصدا له ولا مطمئنا به وإنما تكلم بها متوسلا الى الربا وكذلك قول المحلل تزوجت هذه المرأة أو قبلت هذا النكاح وهو غير مبطن لحقيقة النكاح ولا قاصد له ولا مريد ان تكون زوجته بوجه ولا هي مريدة لذلك ولا الولى هل تجد بينهما فرقا في الحقيقة أو العرف فكيف يسمى أحدهما مخادعا دون الآخر مع أن قوله بعت واشتريت واقترضت وأنكحت وتزوجت غير قاصد به انتقال الملك الذي وضعت له هذه الصيغة ولا ينوي النكاح الذي جعلت له هذه الكلمة بل قصده ما ينافى مقصود العقد أو امر آخر خارج عن أحكام العقد وهو عود المرأة الى زوجها المطلق وعود السلعة الى البائع بأكثر من ذلك الثمن بمباشرته لهذه الكلمات التي جعلت لها تمائق ! ومقاصد مظهر لإرداة حقائقها ومقاصدها ومبطنا لخلافه فالأول لفاق في أصل الدين وهذا نفاق في فروعه
يوضح ذلك ما ثبت عن ابن عباس انه جاءه رجل فقال إن عمي طلق امرأته ثلاثا أيحلها له رجل فقال من يخادع الله يخدعه وصح عن أنس وعن ابن عباس أنهما سئلا عن العينة فقالا إن الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله فسميا ذلك خداعا كما سمى عثمان وابن عمر نكاح المحلل نكاح دلسة وقال أيوب السختياني في أهل الحيل يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان فلو أتوا الامر عيانا كان أهون على وقال شريك بن عبدالله القاضي في كتاب الحيل هوكتاب المخادعة

الأدلة على تحريم الحيل
وتلخيص هذا أن الحيل المحرمة مخادعة لله ومخادعة الله حرام أما المقدمة

الأولى فإن الصحابة والتابعين وهم أعلم الامة بكلام الله ورسوله ومعانيه سموا ذلك خداعا وأما الثانية فإن الله ذم أهل الخداع وأخبر ان خداعهم انما هو لانفسهم وان في قلوبهم مرضا وانه تعالى خادعهم فكل هذا عقوبة لهم ومدار الخداع على أصلين أحدهما إظهار فعل لغير مقصوده الذي جعل له الثاني إظهار قول الغير مقصوده الذي وضع له وهذا منطبق على الحيل المحرمة وقد عاقب الله تعالى المتحيلين على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بجد جنتهم عليهم وإهلاك ثمارهم فكيف بالمتحيل على إسقاط فرائض الله وحقوق خلقه ولعن أصحاب السبت ومسخهم قردة وخنازير على احتيالهم على فعل ما حرمه عليهم
قال الحسن البصري في قوله تعالى ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت قال رموا الحيتان في السبت ثم أرجؤها في الماء فاستخرجوها بعد ذلك فطبخوها فأكلوها والله أوخم أكلة أكلة أسرعت في الدنيا عقوبة وأسرعت عذابا في الآخرة والله ما كانت لحوم الحيتان تلك بأعظم عند الله من دماء قوم مسلمين إلا أنه عجل لهؤلاء وأخر لهؤلاء
وقوله رموها في السبت يعنى احتالوا على وقوعها في الماء يوم السبت كما بين غيره أنهم حفروا لها حياضا ثم فتحوها عشية الجمعة ولم يرد انهم باشروا رميها يوم السبت إذ لو اجترءوا على ذلك لاستخرجوها قال شيخنا وهؤلاء لم يكفروا بالتوراة وبموسى وإنما فعلوا ذلك تأويلا واحتيالا ظاهره ظاهر الاتقاء وحقيقته حقيقة الاعتداء ولهذا والله أعلم مسخوا قردة لان صورة القرد فيها شبه من صورة الانسان وفي بعض ما يذكر من اوصافه شبه منه وهو مخالف له في الحد والحقيقة فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته مسخهم الله قردة تشبه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة جزاء وفاقا

ويقوى ذلك ان بني اسرائيل أكلوا الربا واموال الناس بالباطل وهو أعظم من أكل الصيد في يوم بعينه ولم يعاقب أولئك بالمسخ كما عوقب به من استحل الحرام بالحيلة لان هؤلاء لما كانوا اعظم جرما كانت عقوبتهم أعظم فإنهم بمنزلة المنافقين يفعلون ما يفعلون ولا يعترفون بالذنب بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم بخلاف من أكل الربا وأموال الناس بالباطل والصيد المحرم عالما بتحريمه فإنه يقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم وخشيته لله واستغفاره وتوبته يوما ما واعترافه بأنه مذنب عاص وانكسار قلبه من ذل المعصية وازدراؤه على نفسه ورجاؤه لمغفرة ربه له وعد نفسه من المذنبين الخاطئين وهذا كله إيمان يفضى بصاحبه الى خير بخلاف الماكر المخادع المحتال على قلب دين الله ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم - امته من ارتكاب الحيل فقال لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل وقد اخبر الله تعالى انه جعل هذه القرية او هذه الفعلة التي فعلها بأهلها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين
فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكاله ان يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال وان يعلم انه لا يخلصه من الله ما أظهره مكرا وخديعة من الاقوال والافعال وان يعلم ان لله يوما تكع فيه الرجال وتنسف فيه الجبال وتترادف فيه الاهوال وتشهد فيه الجوارح والاوصال وتبلى فيه السرائر وتظهر فيه الضمائر ويصير الباطل فيه ظاهرا والسر علانية والمستور مكشوفا والمجهول معروفا ويحصل ويبدو ما في الصدور كما يبعثر ويخرج ما في القبور وتجري أحكام الرب تعالى هنالك على القصود والنيات كما جرت أحكامه في هذه الدار على ظواهر الاقوال والحركات يوم تبيض وجوه بما في قلوب أصحابها من النصيحة لله ورسوله وكتابه وما فيها من البر والصدق والاخلاص للكبير المتعال وتسود وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والغش والكذب والمكر

والاحتيال هنالك يعلم المخادعون أنهم لانفسهم كانوا يخدعون وبدينهم كانوا يلعبون وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون

ليس للعبد إلا ما نواه
وقد فصل قوله صلى الله عليه وسلم - إنما الاعمال بالنيات وانما لامريء ما نوى الامر في هذه الحيل وانواعها فأخبر ان الاعمال تابعة لمقاصدها ونياتها وأنه ليس للعبد من ظاهر قوله وعمله إلا ما نواه وأبطنه لا ما أعلنه وأظهره وهذا نص في أن من نوى التحليل كان محللا ومن نوى الربا بعقد التبايع كان مرابيا ومن نوى المكر والخداع كان ماكرا مخادعا ويكفى هذا الحديث وحده في إبطال الحيل ولهذا صدر به حافظ الامة محمد بن إسماعيل البخاري إبطال الحيل والنبي صلى الله عليه وسلم - ابطل ظاهر هجرة مهاجر أم قيس بما أبطنه ونواه من إرادة أم قيس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - البيعان بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله فاستدل به الامام احمد وقال فيه ابطال الحيل وقد اشكل هذا على كثير من الفقهاء بفعل ابن عمر فإنه كان إذا أراد أن يلزم البيع مشى خطوات ولا إشكال بحمد الله في الحديث وهو من أظهر الادلة على بطلان التحيل لإسقاط حق من له حق فإن الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أثبت خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين وليحصل تمام الرضي الذي شرطه تعالى فيه فإن العقد قد يقع بغته من غير ترو ولا نظر في القيمة فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حريما يتروى فيه المتبايعان ويعيدان النظر ويستدرك كل واحد منهما عيبا كان خفيا فلا أحسن من هذا الحكم ولا أرفق لمصلحة الخلق فلو مكن احد المتعاقدين الغابن للآخر من النهوض في الحال والمبادرة الى التفرق لفاتت مصلحة الآخر ومقصود الخيار بالنسبة اليه وهب انك انت اخترت إمضاء البيع فصاحبك لم يتسع له وقت ينظر فيه ويتروى فنهوضك حيلة على إسقاط حقه من الخيار فلا يجوز حتى يخيره فلو فارق المجلس

لغير هذه الحاجة او صلاة او غير ذلك ولم يقصد ابطال حق الآخر من الخيار لم يدخل في هذا التحريم ولا يقال هو ذريعة الى إسقاط حق الآخر من الخيار لأن باب سد الذرائع متى فاتت به مصلحة راجحة او تضمن مفسدة راجحة لم يلتفت إليه فلو منع العاقد من التفرق حتى يقوم الآخر لكان في ذلك إضرار به ومفسدة راجحة فالذي جاءت به الشريعة في ذلك أكمل شيء واوفقه للمصلحة والحكمة ولله الحمد
وتأمل قوله لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل أي أسهلها وأقربها وإنما ذكر أدنى الحيل لان المطلق ثلاثا مثلا من أسهل الحيل عليه ان يعطى بعض التيوس المستعارة عشرة دراهم ويستعيره لينزو على امرأته نزوة وقد طيبها له بخلاف الطريق الشرعي التي هي نكاح الرغبة فإنها يصعب معها عودها الى الاول جدا وكذلك من اراد ان يقرض الفا بالف وخمسمائة فمن ادنى الحيل ان يعطيه الفا إلا درهما باسم القرض ويبيعه خرقة تساوي درهما بخمسمائة ولو اراد ذلك بالطريق الشرعي لتعذر عليه وكذلك حيلة اليهود بنصب الشباك يوم الجمعة واخذ ما وقع فيها يوم السبت من أسهل الحيل وكذلك إذابتهم الشحم وبيعه وأكل ثمنه
وقال الامام احمد في مسنده ثنا اسود بن عامر ثنا ابو بكر بن الأعمش عن عطاء بن ابي رباح عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول اذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا اذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله عليهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم ورواه ابو داود بإسناد صحيح الى حيوة بن شريح المصري عن اسحاق بن عبد الرحمن الخراساني ان عطاء الخراساني حدثه ان نافعا حدثه عن ابن عمر قال شيخنا رضي الله عنه وهذان اسنادان حسنان احدهما يشد الآخر ويقويه فأما رجال

الاول فأئمة مشاهير ولكن يخاف ان لا يكون الاعمش سمعه من عطاء او ان عطاء لم يسمعه من ابن عمر فالإسناد الثاني يبين ان للحديث اصلا محفوظا عن ابن عمر فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور وحيوة بن شريح كذلك وافضل واما اسحاق بن عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثل حيوة بن شريح والليث بن سعد ويحيى بن ايوب وغيرهم قال فقد روينا من طريق ثالث من حديث السري بن سهل الجنديسابوري بإسناد مشهور إليه ثنا عبد الله بن رشيد ثنا عبد الرحمن عن ليث عن عطاء عن ابن عمر قال لقد اتى علينا زمان ومامنا رجل يرى انه احق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتركوا الجهاد واتبعوا أذناب البقر أدخل الله عليهم ذلا لا ينزعه عنهم حتى يتوبوا ويراجعوا دينهم وهذا يبين أن للحديث اصلا عن عطاء وروى محمد ابن عبد الله الحافظ المعروف بمطين في كتاب البيوع له عن انس انه سئل عن العينة فقال ان الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله وروى ايضا في كتابه عن ابن عباس قال اتقوا هذه العينة لا تبع دراهم بدراهم وبينهما حريرة وفي رواية ان رجلا باع من رجل حريرة بمائة ثم اشتراها بخمسين فسأل ابن عباس عن ذلك فقال دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة وسئل ابن عباس عن العينة يعني بيع الحريرة فقال ان الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله وروى ابن بطة بإسناده الى الاوزاعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع يعنى العينة وهذا المرسل صالح للاعتضاد به والاستشهاد وان لم يكن عليه وحده الاعتماد
قال الامام احمد حدثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن ابي اسحاق السبيعي عن امرأته انها دخلت على عائشة هي وام ولد زيد بن ارقم وامرأة اخرى فقالت

لها ام ولد زيد إني بعت من زيد غلاما بثمان مائة نسيئة واشتريته بست مائة نقدا فقالت أبلغي زيدا أن قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب بئسما شريت وبئسما اشتريت رواه الإمام أحمد وعمل به وهذا حديث فيه شعبة وإذا كان شعبة في حديث فاشدد يديك به فمن جعل شعبة بينه وبين الله فقد استوثق لدينه
وايضا فهذه امرأة أبي إسحاق وهو أحد أئمة الإسلام الكبار وهو أعلم بامرأته وبعدالتها فلم يكن ليروي عنها سنة يحرم بها على الأمه وهي عنده غير ثقة ولا يتكلم فيها بكلمة بل يحابيها في دين الله هذا لا يظن بمن هو دون أبي إسحاق
وأيضا فإن هذه امرأة من التابعين قد دخلت على عائشة وسمعت منها وروت عنها ولا يعرف أحد قدح فيها بكلمة وأيضا فإن الكذب والفسق لم يكن ظاهرا في التابعين بحيث ترد به روايتهم
وأيضا فأن هذه المرأة معروفة واسمها العالية وهي جدة إسرائيل كما رواه حرب من حديث إسرئيل حدثني أبو إسحاق عن جدته العالية يعني جدة إسرائيل فإنه إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق والعالية امرأة أبي إسحاق وجدة يونس وقد حملا عنها هذه السنة وإسرائيل أعلم بجدته وأبو اسحاق اعلم بامرأته
وأيضا فلم يعرف أحد قط من التابعين أنكر على العالية هذا الحديث ولا قدح فيها من أجله ويستحيل في العادة ان تروى حديثا باطلا ويشتهر في الامة ولا ينكره عليها منكر
وأيضا فلو لم يأت في هذه المسألة أثر لكان محض القياس ومصالح العباد وحكمة الشريعة تحريمها أعظم من تحريم الربا فإنها ربا مستحل بأدنى الحيل

وأيضا فإن في الحديث قصة وعند الحفاظ إذا كان فيه قصة دلهم على أنه محفوظ قال ابو اسحاق حدثتني امرأتي العالية قالت دخلت على عائشة في نسوة فقالت ما حاجتكن فكان أول من سألها أم محبة فقالت يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم قالت نعم قالت فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم الى العطاء وإنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقدا فأقبلت عليها وهي غضبي فقالت بئسما شريت وبئسما اشتريت أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده إلا ان يتوب وأفحمت صاحبتنا فلم تكلم طويلا ثم إنها سهل عليها فقالت يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالى فتلت عليها فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف
وأيضا فهذا الحديث إذا انضم الى تلك الاحاديث والآثار افادت بمجموعها الظن الغالب إن لم تفد اليقين
وأيضا فإن آثار الصحابة كما تقدم موافقة لهذا الحديث مشتقة منه مفسرة له
وأيضا فكيف يليق بالشريعة الكاملة التي لعنت آكل الربا وموكله وبالغت في تحريمه وآذنت صاحبه بحرب من الله ورسوله أن تبيحه بأدنى الحيل مع استواء المفسدة ولولا أن عند أم المؤمنين رضى الله عنها علما من رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تستريب فيه ولا تشك بتحريم مسألة العينة لما أقدمت على الحكم بإبطال جهاد رجل من الصحابة باجتهادها لا سيما إن كانت قصدت أن العمل يبطل بالردة واستحلال الربا ردة ولكن عذر زيد أنه لم يعلم ان هذا محرم كما عذر ابن عباس بإباحته بيع الدرهم بالدرهمين وإن لم يكن قصدها هذا بل قصدت ان هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد ويصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئا ولو كان هذا

اجتهادا منها لم تمنع زيدا منه ولم تحكم ببطلان جهاده ولم تدعه الى التوبة فإن الاجتهاد لا يحرم الاجتهاد ولا يحكم ببطلان عمل المسلم المجتهد بمخالفته لاجتهاد نظيره والصحابة ولا سيما ام المؤمنين أعلم بالله ورسوله وافقه في دينه من ذلك
وأيضا فإن الصحابة كعائشة وابن عباس وانس أفتوا بتحريم مسألة العينة وغلظوا فيها هذا التغليظ في اوقات ووقائع مختلفة فلم يجيء عن واحد من الصحابة ولا التابعين الرخصة في ذلك فيكون إجماعا
فإن قيل فزيد بن أرقم قد خالف عائشة ومن ذكرتم فغاية الامر انها مسألة ذات قولين للصحابة وهي مما يسوغ فيها الاجتهاد
قيل لم يقل زيد قط ان هذا حلال ولا افتى بها يوما ما ومذهب الرجل لا يؤخذ من فعله إذ لعله فعله ناسيا أو ذاهلا أو غير متأمل ولا ناظر او متأولا أو ذنبا يستغفر الله منه ويتوب او يصر عليه وله حسنات تقاومه فلا يؤثر شيئا قال بعض السلف العلم علم الرواية يعنى ان يقول رأيت فلانا يفعل كذا وكذا إذ لعله قد فعله ساهيا وقال إياس بن معاوية لا تنظر الى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك ولم يذكر عن زيد انه أقام على هذه المسألة بعد إنكار عائشة وكثيرا ما يفعل الرجل الكبير الشيء مع ذهوله عما في ضمنه من مفسدة فإذا نبه انتبه وإذا كان الفعل محتملا لهذه الوجوه وغيرها لم يجز أن يقدم على الحكم ولم يجز ان يقال مذهب زيد بن أرقم جواز العينة لا سيما وام ولده قد دخلت على عائشة تستفتيها فأفتتها بأخذ رأس مالها وهذا كله يدل على أنهما لم يكونا جازمين بصحة العقد وجوازه وأنه مما أباحه الله ورسوله
وأيضا فبيع العينة إنما يقع غالبا من مضطر إليها وإلا فالمستغنى عنها لا يشغل ذمته بألف وخمسمائة في مقابلة الف بلا ضرورة وحاجة تدعو الى ذلك

وقد روى أبو داود من حديث على نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن بيع المصطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل ان تدرك
وفي مسند الامام احمد عنه قال سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤثر بذلك قال الله تعالى ولا تنسوا الفضل بينكم وينهر الاشرار ويستذل الاخيار ويبايع المضطرون وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر وعن بيع الغرر وبيع الثمر قبل ان يطعم وله شاهد من حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم - رواه سعيد عن هشيم عن كوثر بن حكيم عن مكحول بلغني عن حذيفة انه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن بعد زمانكم هذا زمانا عضوضا يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤثر بذلك قال الله تعالى وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين وينهر شرار خلق الله يبايعون كل مضطر ألا ان بيع المضطر حرام المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه إن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكا إلى هلاكه وهذا من دلائل النبوة فإن عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن بها عليه الموسر بالقرض حتى يربح عليه في المائة ما احب وهذا المضطر إن أعاد السلعة الى بائعها فهى العينة وإن باعها لغيره فهو التورق وإن رجعت الى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا والاقسام الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق وقد كرهه عمر بن عبد العزيز وقال هو أخيه الربا وعن احمد فيه روايتان وأشار في رواية الكراهة الى انه مضطر وهذا من فقهه رضى الله عنه قال فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر وكان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مرارا وأنا حاضر فلم يرخص فيها وقال المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها فالشريعة لا تحرم الضرر الادنى وتبيح ما هو أعلى منه

وقد تقدم الاستدلال على تحريم العينة بقوله صلى الله عليه وسلم - لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع وبقوله من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما او الربا وان ذلك لا يمكن وقوعه الا على العينة
ومما يدل على تحريم الحيل قوله صلى الله عليه وسلم - صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه او يصد لكم رواه أهل السنن ومما يدل على تحريمها ما رواه ابن ماجه في سننه عن يحيى بن ابي اسحاق قال سألت أنس بن مالك الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدى اليه فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أقرض احدكم قرضا فأهدى اليه او حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا ان يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك رواه من حديث إسماعيل بن عياش عن عتبة ابن حميد الضبي عن يحيى
قال شيخنا رضى الله عنه وهذا يحيى بن يزيد الهنائى من رجال مسلم وعتبة ابن حميد معروف بالرواية عن الهنائي قال أبو حاتم مع تشدده هو صالح الحديث وقال أحمد ليس بالقوى وإسماعيل بن عياش ثقة في حديثه عن الشاميين ورواه سعيد في سننه عن اسماعيل بن عياش لكن قال عن يزيد ابن ابي اسحاق الهنائي عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم - وكذلك رواه البخاري في تاريخه عن يزيد بن أبي يحيى الهنائي عن أنس يرفعه إذا اقرض احدكم فلا يأخذ هدية قال شيخنا وأظنه هو ذاك انقلب اسمه
وفي صحيح البخاري عن ابي بردة بن ابي موسى قال قدمت المدينة فلقيت عبدالله بن سلام فقال لي إنك بارض الربا فيها فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن او حمل شعير او حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا وفي سنن سعيد هذا المعنى عن ابي بن كعب وجاء عن ابن مسعود ايضا وأتى رجل عبد الله بن عمر فقال إنى أقرضت رجلا بغير معرفة فأهدى الى هدية

جزلة فقال رد إليه هديته او احسبها له وقال سالم بن ابي الجعد جاء رجل الى ابن عباس فقال إنى أقرضت رجلا يبيع السمك عشرين درهما فأهدى الى سمكة قومتها بثلاثة عشر درهما فقال خذ منه سبعة دراهم ذكرهما سعيد وذكر حرب عن ابن عباس اذا اسلفت رجلا سلفا فلا تأخذ منه هدية ولا عارية ركوب دابة فنهى النبي صلى الله عليه وسلم - هو واصحابه المقرض عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء فإن المقصود بالهدية ان يؤخر الاقتضاء وإن كان لم يشترط ذلك سدا لذريعة الربا فكيف تجوز الحيلة على الربا ومن لم يسد الذرائع ولم يراع المقاصد ولم يحرم الحيل يبيح ذلك كله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهدى اصحابه أحق ان يتبع وقد تقدم تحريم السلف والبيع لانه يتخذ حيلة الى الربا
ويدل على تحريم الحيل الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم - لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وهذا نص في تحريم الحيلة المفضية الى اسقاط الزكاة او تنقيصها بسبب الجمع والتفريق فإذا باع بعض النصاب قبل تمام الحول تحيلا على اسقاط الزكاة فقد فرق بين المجتمع فلا تسقط الزكاة عنه بالفرار منها ومما يدل على تحريمها قوله تعالى ولا تمنن تستكثر قال المفسرون من السلف ومن بعدهم لا تعط عطاء تطلب اكثر منه وهو ان تهدى ليهدى إليك اكثر من هديتك
وهذا كله يدل على ان صور العقود غير كافة في حلها وحصول أحكامها إلا اذا لم يقصد بها قصدا فاسدا وكل ما لو شرطه في العقد كان حراما فاسدا فقصده حرام فاسد واشتراطه إعلان وإظهار للفساد وقصده ونيته غش وخداع ومكر فقد يكون اشد فسادا من الاشتراط ظاهرا

من هذه الجهة والاشتراط الظاهر اشد فسادا منه من جهة اعلان المحرم واظهاره
ومما يدل على التحريم ان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - اجمعوا على تحريم هذه الحيل وإبطالها واجماعهم حجة قاطعة بل هي من أقوى الحجج وآكدها ومن جعلهم بينه وبين الله فقد استوثق لدينه
بيان المقدمة الاولى أن عمر بن الخطاب خطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما واقره سائر الصحابة على ذلك وافتى عثمان وعلي وابن عباس وابن عمر ان المرأة لا تحل بنكاح التحليل وقد تقدم عن غير واحد من أعيانهم كأبي وابن مسعود وعبدالله ابن سلام وابن عمر وابن عباس انهم نهوا المقرض عن قبول هدية المقترض وجعلوا قبولها ربا وقد تقدم عن عائشة وابن عباس وانس تحريم مسألة العينة والتغليظ فيها وأفتى عمر وعثمان وعلي وابي بن كعب وغيرهم من الصحابة ان المبتوتة في مرض الموت ترث ووافقهم سائر المهاجرين والانصار من اهل بدر وبيعة الرضوان ومن عداهم
وهذه وقائع متعددة لاشخاص متعددة في أزمان متعددة والعادة توجب اشتهارها وظهورها بينهم لا سيما وهؤلاء اعيان المفتين من الصحابة الذين كانت تضبط اقوالهم وتنهي إليهم فتاويهم والناس عنق واحد إليهم متلقون لفتاويهم ومع هذا فلم يحفظ عن احد منهم الانكار ولا إباحة الحيل مع تباعد الاوقات وزوال اسباب السكوت واذا كان هذا قولهم في التحليل والعينة وهدية المقترض الى المقرض فماذا يقولون في التحيل لاسقاط حقوق المسلمين بل لاسقاط حقوق رب العالمين واخراج الابضاع والاموال عن ملك اربابها وتصحيح العقود الفاسدة والتلاعب بالدين وقد صانهم الله تعالى ان يروا في وقتهم من يفعل ذلك أو يفتى به كما صانهم عن رؤية الجهمية والمعتزلة والحلولية والاتحادية

وأضرابهم وإذا ثبت هذا عنهم فيما ذكرنا من الحيل فهو دليل على قولهم فيما هو أعظم منها
وأما المقدمة الثانية فكل من له معرفة بالآثار واصول الفقه ومسائله ثم انصف لم يشك ان تقرير هذا الاجماع منهم على تحريم الحيل وإبطالها ومنافاتها للدين اقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغير ذلك مما يدعى فيه إجماعهم كدعوى إجماعهم على عدم وجوب غسل الجمعة وعلى المنع من بيع أمهات الاولاد وعلى الالزام بالطلاق الثلاث بكلمة واحدة وامثال ذلك
فإذا وازنت بين هذا الاجماع وتلك الاجماعات ظهر لك التفاوت وانضم الى هذا ان التابعين موافقون لهم على ذلك فإن الفقهاء السبعة وغيرهم من فقهاء المدينة الذين أخذوا عن زيد بن ثابت وغيره متفقون على إبطال الحيل وكذلك أصحاب عبدالله بن مسعود من أهل الكوفة وكذلك اصحاب فقهاء البصرة كأيوب وأبي الشعثاء والحسن وابن سيرين وكذلك اصحاب ابن عباس
وهذا في غاية القوة من الاستدلال فإنه انضم الى كثرة فتاويهم بالتحريم في أفراد هذا الاصل وانتشارها ان عصرهم انصرم وبقع الاسلام متسعة وقد دخل الناس في دين الله افواجا وقد اتسعت الدنيا على المسلمين أعظم اتساع وكثر من كان يتعدى الحدود وكان المقتضى لوجود هذه الحيل موجودا فلم يحفظ عن رجل واحد منهم أنه أفتى بحيلة واحدة منها أو أمر بها أو دل عليها بل المحفوظ عنهم النهى والزجر عنها فلو كانت هذه الحيل مما يسوغ فيها الاجتهاد لأفتى بجوازها رجل منهم ولكانت مسألة نزاع كغيرها بل اقوالهم وأعمالهم وأحوالهم متفقة على تحريمها والمنع منها ومضى على اثرهم ائمة الحديث والسنة في الانكار قال الامام احمد في رواية موسى بن سعيد الديداني لا يجوز شيء من الحيل وقال في رواية الميموني وقد سأله عمن حلف على يمين ثم احتال لإبطالها فقال نحن لا نرى الحيلة وقال في رواية بكر بن محمد

إذا حلف على شيء ثم احتال بحيلة فصار اليها فقد صار الى ذلك الذي حلف عليه بعينه وقال من احتال بحيلة فهو حانث وقال في رواية صالح وأبي الحارث وقد ذكر له قول اصحاب الحيل فأنكره وقال في رواية إسماعيل بن سعيد وقد سئل عمن احتال في إبطال الشفعة فقال لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق امريء مسلم وقال في رواية ابي طالب وغيره في الرجل يحلف وينوي غير ذلك فاليمين على نية ما يحلفه عليه صاحبه إذا لم يكن مظلوما فإذا كان مظلوما حلف على نيته ولم يكن عليه من نية الذي حلفه شئ وقال في رواية عبد الخالق بن منصور من كان عنده كتاب الحيل في بيته يفتى به فهو كافر بما انزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم -

الذين يذكرون الحيل لم يعترفوا بجوازها كلها
قلت والذين ذكروا الحيل لم يقولوا إنها كلها جائزة وإنما اخبروا ان كذا حيلة وطريق الى كذا ثم قد تكون الطريق محرمة وقد تكون مكروهة وقد يختلف فيها فإذا قالوا الحيلة في فسخ المرأة النكاح أن ترتد ثم تسلم والحيلة في سقوط القصاص عمن قتل ام امرأته ان يقتل امرأته إذا كان لها ولد منه والحيلة في سقوط الكفارة عمن اراد الوطء في رمضان ان يتغدى ثم يطأ بعد الغداء والحيلة لمن أرادت ان تفسخ نكاح زوجها ان تمكن ابنه من الوقوع عليها والحيلة لمن أراد أن يفسخ نكاح امرأته ويحرمها عليه على التأبيد ان يطأ حماته أو يقبلها والحيلة لمن أراد سقوط حد الزنا عنه ان يسكر ثم يزنى والحيلة لمن أراد سقوط الحج عنه مع قدرته عليه أن يملك ماله لابنه او زوجته عند خروج الركب فإذا بعد استرد ماله والحيلة لمن أراد حرمان وارثه ميراثه أن يقر بماله كله لغيره عند الموت والحيلة لمن اراد إبطال الزكاة واسقاط فرضها عنه بالكلية ان يملك ماله عند الحول لابنه او امرأته أو أجنبي ساعة من زمان ثم يسترده منه ويفعل هكذا كل عام فيبطل فرض الزكاة عنه أبدا والحيلة

لمن أراد ان يملك مال غيره بغير رضاه أن يفسده عليه او يغير صورته فيملكه فيذبح شاته ويشق قميصه ويطحن حبه ويخبزه ونحو ذلك والحيلة لمن أراد قتل غيره ولا يقتل به ان يضربه بدبوس او مرزبة حديد ينثر دغامه فلا يجب عليه قصاص والحيلة لمن اراد أن يزنى بامرأة ولا يجب عليه الحد ان يستأجرها لكنس بينه او لطى ثيابه او لغسلها او لنقل متاع من مكان الى مكان ثم يزنى بها ما شاء مجانا بلا حد ولا غرامة أو يستأجرها لنفس الزنا والحيلة لمن أراد ان يسقط عنه حد السرقة ان يدعى ان المال له وان له فيه شركة فيسقط عنه القطع بمجرد دعواه او ينقب الدار ثم يدع غلامه او ابنه او شريكه يدخل ويخرج متاعه او يدعه على ظهر دابة تخرج به ونحو ذلك والحيلة لمن اراد سقوط حد الزنا عنه بعد ان يشهد به عليه اربعة عدول غير متهمين ان يصدقهم فيسقط عنه الحد بمجرد تصديقهم والحيلة لمن اراد قطع يد غيره ولا يقطع بها ان يمسك هو وآخرالسكين او السيف ويقطعانها معا والحيلة لمن أرادت التخلف عن زوجها في السفر ان تقر لغيره بدين والحيلة لمن أراد الصيد في الاحرام ان ينصب الشباك قبل ان يحرم ثم يأخذ ما وقع فيها حال إحرامه بعد ان يحل
فهذه الحيل وأمثالها لا يحل لمسلم ان يفتى بها في دين الله تعالى ومن استحل الفتوى بهذه فهو الذي كفره الامام احمد وغيره من الائمة حتى قالوا إن من أفتى بهذه الحيل فقد قلب الاسلام ظهرا لبطن ونقض عرى الاسلام عروة عروة وقال بعض اهل الحيل ما نقموا علينا من أنا عمدنا الى اشياء كانت حراما عليهم فاحتلنا فيها حتى صارت حلالا وقال آخر منهم إنا نحتال للناس منذ كذا وكذا سنة في تحليل ما حرم الله عليهم قال احمد بن زهير بن مروان كانت امراة ههنا بمرو أرادت ان تختلع من زوجها فأبى زوجها عليها فقيل لها لو ارتددت عن الاسلام لبنت منه ففعلت فذكرت ذلك لعبد الله بن المبارك فقال

من وضع هذا الكتاب فهو كافر ومن سمع به ورضى به فهو كافر ومن حمله من كورة الى كورة فهو كافر ومن كان عنده فرضى به فهو كافر وقال إسحاق بن راهويه عن شقيق بن عبد الملك إن ابن المبارك قال في قصة بنت ابي روح حيث امرت بالارتداد وذلك في أيام ابي غسان فذكر شيئا ثم قال ابن المبارك وهو مغضب احدثوا في الاسلام ومن كان امر بهذا فهو كافر ومن كان هذا الكتاب عنده او في بيته ليأمر به أو هويه ولم يأمر به فهو كافر ثم قال ابن المبارك ما أرى الشيطان كان يحسن مثل هذا حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم فأشاعها حينئذ أو كان يحسنها ولم يجد من يمضيها فيهم حتى جاء هؤلاء وقال اسحاق الطالقاني قيل يا أبا عبدالرحمن إن هذا الكتاب وضعه إبليس قال إبليس من الابالسة وقال النضر بن شميل في كتاب الحيل ثلاثمائة وعشرون أو ثلاثون مسألة كلها كفر وقال ابو حاتم الرازي قال شريك يعنى ابن عبد الله قاضي الكوفة وذكر له كتاب الحيل فقال من يخادع الله يخدعه وقال حفص بن غياث ينبغى أن يكتب عليه كتاب الفجور وقال اسماعيل بن حماد قال القاسم بن معن يعنى ابن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود قاضي الكوفة كتابكم هذا الذي كتبتموه في الحيل كتاب الفجور وقال حماد بن زيد سمعت ايوب يقول ويلهم من يخدعون يعنى اصحاب الحيل وقال عبد الرحمن الدارمي سمعت يزيد بن هارون يقول لقد أفتى اصحاب الحيل شيء لو افتى به اليهودي والنصراني كان قبيحا فقال إنى حلفت انى لا اطلق أمرأتي بوجه من الوجوه وإنهم قد بذلوا لى مالا كثيرا فقال له قبل أمها فقال يزيد بن هارون ويله يأمره ان يقبل امرأة اجنبية وقال حبيش بن مبشر سئل ابو عبدالله يعنى الامام احمد عن الرجل يشتري جارية ثم يعتقها من يومه ويتزوجها أيطؤها من يومه فقال كيف يطؤها من يومه وقد وطئها ذلك بالامس هذا من طريق الحيلة وغضب وقال هذا اخبث قول وقال رجل للفضيل بن عياض يا أبا علي استفتيت رجلا في يمين حلفت بها فقال لي إن فعلت كذا حنثت وأنا احتال لك حتى تفعل ولا تحنث فقال له

الفضيل تعرف الرجل قال نعم قال ارجع اليه فاستثبته فإنى احسبه شيطانا شبه لك في صورة إنسان
وإنما قال هؤلاء الائمة وأمثالهم هذا الكلام في هذه الحيل لان فيها الاحتيال على تأخير صوم رمضان وإسقاط فرائض الله تعالى من الحج والزكاة واسقاط حقوق المسلمين واستحلال ما حرم الله من الربا والزنا واخذ اموال الناس وسفك دمائهم وفسخ العقود اللازمة والكذب وشهادة الزور واباحة الكفر وهذه الحيل دائرة بين الكفر والفسوق ولا يجوز ان تنسب هذه الحيل الى احد من الائمة ومن نسبها الى احد منهم فهو جاهل بأصولهم ومقاديرهم ومنزلتهم من الاسلام وإن كان بعض هذه الحيل قد تنفذ على أصول إمام بحيث إذا فعلها المتحيل نفذ حكمها عنده ولكن هذا امر غير الاذن فيها واباحتها وتعليمها فإن إباحتها شيء ونفوذها إذا فعلت شيء ولا يلزم من كون الفقيه والمفتي لا يبطلها ان يبيحها وبأذن فيها وكثير من العقود يحرمها الفقيه ثم ينفذها ولا يبطلها ولكن الذي ندين الله به تحريمها وإبطالها وعدم تنفيذها ومقابلة اربابها بنقيض مقصودهم موافقة لشرع الله تعالى وحكمته وقدرته
والمقصود ان هذه الحيل لا تجوز ان تسب الى امام فإن ذلك قدح في إمامته وذلك يتضمن القدح في الامة حيث ائتمنت بمن لا يصلح للإمامة وهذا غير جائز ولو فرض انه حكى عن واحد من الائمة بعض هذه الحيل المجمع على تحريمها فإما ان تكون الحكاية باطلة او يكون الحاكي لم يضبط لفظه فاشتبه عليه فتواه بنفوذها بفتواه بإباحتها مع بعد ما بينهما ولو فرض وقوعها منه في وقت ما فلا بد ان يكون قد رجع عن ذلك وان لم يحمل الامر على ذلك لزم القدح في الامام وفي جماعة المسلمين المؤتمين به وكلاهما غير جائز ولا خلاف بين الامة أنه لا يجوز الاذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الاغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالايمان

ثم إن هذا على مذهب ابي حنيفة واصحابه اشد فإنهم لا يأذنون في كلمات وأفعال دون ذلك بكثير ويقولون إنها كفر حتى قالوا لو قال الكافر لرجل إنى اريد ان أسلم فقال له اصبر ساعة فقد كفر فكيف بالامر بإنشاء الكفر وقالوا لو قال مسيجد او صغر لفظ المصحف كفر
فعملت ان هؤلاء المحتالين الذين يفتون بالحيل التي هي كفر او حرام ليسوا مقتدين بمذهب احد من الائمة وان الائمة أعلم بالله ورسوله ودينه واتقى له من ان يفتوا بهذه الحيل وقد قال ابو داود في مسائله سمعت احمد وذكر اصحاب الحيل يحتالون لنقض سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال في رواية ابي الحارث الصانع هذه الحيل التي وضعوها عمدوا الى السنن واحتالوا لنقضها والشيء الذي قيل لهم إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلوه قالوا الرهن لا يحل ان يستعمل ثم قالوا يحتال له حتى يستعمل فكيف يحل بحيلة ما حرم الله ورسوله وقال صلى الله عليه وسلم - لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فأذابوها فباعوها وأكلوا أثمانها أذابوها حتى ازالوا عنها اسم الشحم وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له وقال في رواية ابنه صالح عجبت مما يقول ارباب الحيل في الايمان يبطلون الايمان بالحيل وقد قال الله تعالى ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقال يوفون بالنذر وكان ابن عيينة يشتد عليه أمر هذه الحيل وقال في رواية الميموني وقد سأله إنهم يقولون في رجل حلف على امرأته وهي على درجة إن صعدت او نزلت فأنت طالق فقالوا تحمل حملا فقال هذا هو الحنث بعينه ليست هذه حيلة هذا هو الحنث وقالوا إذا حلف لا يطأ بساطا يطأ بساطين وإذا حلف لا يدخل دارا يحمل فأقبل أبو عبد الله يعجب
وقال ابو طالب سمعت أبا عبدالله قال له رجل في كتاب الحيل إذا اشترى الرجل الامة فأراد ان يقع بها يعتقها ثم يتزوجها فقال ابو عبد الله

سبحان الله ما أعجب هذا أبطلوا كتاب الله والسنة جعل الله على الحرائر العدة من أجل الحمل فليس من امرأة تطلق أو يموت زوجها إلا تعتد من أجل الحمل ففرج يوطأ يشتريه ثم يعتقه على المكان فيتزوجها فيطؤها فإن كانت حاملا كيف يصنع يطؤها رجل اليوم ويطؤها الآخر غدا هذا نقض للكتاب والسنة قال النبي صلى الله عليه وسلم - لا توطأ الحامل حتى تضع ولا غير الحامل حتى تحيض ولا يدري هل هي حامل أم لا سبحان الله ما أسمج هذا
وقال محمد بن الهيثم سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يحكي عن مقاتل بن محمد قال شهدت هشاما وهو يقرىء كتابا فانتهى بيده إلى مسألة فجازها فقيل له في ذلك فقال دعوه وكره مكاني فتطلعت في الكتاب فإذا فيه لو أن رجلا لف على ذكره حريرة في شهر رمضان ثم جامع امرأته نهارا فلا قضاء عليه ولا كفارة

فصل الأدلة على بطلان الحيل
ومما يدل على بطلان الحيل وتحريمها أن الله تعالى إنما أوجب الواجبات وحرم المحرمات لما تتضمن من مصالح عباده في معاشهم ومعادهم فالشريعة لقلوبهم بمنزلة الغذاء الذي لا بد لهم منه والدواء الذي لا يندفع الداء إلا به فإذا احتال العبد على تحليل ما حرم الله وإسقاط ما فرض الله وتعطيل ما شرع الله كان ساعيا في دين الله بالفساد من وجوه

أحدها إبطالها ما في الأمر المحتال عليه من حكمة ونقض حكمته فيه ومناقضته له
والثاني ان الامر المحتال به ليس له عنده حقيقة ولا هو مقصود بل هو ظاهر المشروع فالمشروع ليس مقصودا له والمقصود له هو المحرم نفسه وهذا ظاهر كل الظهور فيما يقصد الشارع فإن المرابي مثلا مقصوده الربا المحرم وصورة البيع الجائز غير مقصودة له وكذلك المتحيل على إسقاط الفرائض بتمليك ماله لمن لا يهبه درهما واحدا حقيقة مقصودة إسقاط الفرض وظاهر الهبة المشروعة غير مقصودة له
الثالث نسبته ذلك الى الشارع الحكيم والى شريعته التي هي غذاء القلوب ودواؤها وشفاؤها ولو ان رجلا تحيل حتى قلب الغذاء والدواء الى ضده فجعل الغذاء دواء والدواء غذاء إما بتغير اسمه او صورته مع بقاء حقيقته لاهلك الناس فمن عمد الى الادوية المسهلة فغير صورتها او اسماءها وجعلها غذاء للناس او عمد الى السموم القاتلة فغير أسماءها وصورتها وجعلها أدوية او الى الاغذية الصالحة فغير اسماءها وصورها كان ساعيا بالفساد في الطبيعة كما ان هذا ساع بالفساد في الشريعة فإن الشريعة للقلوب بمنزلة الغذاء والدواء للأبدان وإنما ذلك بحقائقها لا بأسمائها وصورها
وبيان ذلك على وجه الاشارة ان الله سبحانه وتعالى حرم الربا والزنا وتوابعهما ووسائلهما لما في ذلك من الفساد واباح البيع والنكاح وتوابعهما لأن ذلك مصلحة محضة ولا بد ان يكون بين الحلال والحرام فرق في الحقيقة وإلا لكان البيع مثل الربا والنكاح مثل الزنا ومعلوم ان الفرق في الصورة دون الحقيقة ملغى عند الله ورسوله وفي فطر عباده فإن الاعتبار بالمقاصد والمعاني في الاقوال والافعال فإن الالفاظ إذا اختلفت ومعناها واحد كان حكمها واحدا فإذا اتفقت الالفاظ واختلفت المعاني كان حكمها مختلفا وكذلك الاعمال إذا

اختلفت صورها واتفقت مقاصدها وعلى هذه القاعدة يبنى الامر والنهي والثواب والعقاب ومن تأمل الشريعة علم بالاضطرار صحة هذا فالأمر المحتال به على المحرم صورته صورة الحلال وحقيقته ومقصوده حقيقة الحرام فلا يكون حلالا فلا يترتب عليه أحكام الحلال فيقع باطلا والامر المحتال عليه حقيقته حقيقة الامر الحرام وإن لم تكن صورته صورته فيجب ان يكون حراما لمشاركته للحرام في الحقيقة
ويالله العجب اين القياس والنظر في المعاني المؤثرة وغير المؤثرة فرقا وجمعا والكلام في المناسبات ورعاية المصالح وتحقيق المناط وتنقيحه وتخريجه وإبطال قول من علق الاحكام بالاوصاف الطردية التي لا مناسبة بينها وبين الحكم فكيف يعلقه بالاوصاف المناسبة لضد الحكم وكيف يعلق الاحكام على مجرد الالفاظ والصور الظاهرة التي لا مناسبة بينها وبينها ويدع المعاني المناسبة المفضية لها التي ارتباطها بها كارتباط العلل العقلية بمعلولاتها والعجب منه كيف ينكر مع ذلك على أهل الظاهر المتمسكين بظواهر كتاب ربهم وسنة نبيهم حيث لا يقوم دليل يخالف الظاهر ثم يتمسك بظواهر أفعال المكلفين وأقوالهم حيث يعلم ان الباطن والقصد بخلاف ذلك ويعلم لو تأمل حق التأمل ان مقصود الشارع غير ذلك كما يقطع بأن مقصوده من إيجاب الزكاة سد خلة المساكين وذوي الحاجات وحصول المصالح التي ارادها بتخصيص هذه الاوصاف من حماية المسلمين والذب عن حوزة الاسلام فإذا اسقطها بالتحيل فقد خالف مقصود الشارع وحصل مقصود المتحيل والواجب الذي لا يجوز غيره ان يحصل مقصود الله ورسوله ويبطل مقاصد المتحيلين المخادعين وكذلك يعلم قطعا انه إنما حرم الربا لما فيه من الضرر بالمحاويج وان مقصوده إزالة هذه المفسدة فإذا ابيح التحيل على ذلك كان سعيا في إبطال مقصود الشارع وتحصيلا المقصود المرابى وهذه سبيل جميع الحيل المتوسل بها الى تحليل الحرام وإسقاط الواجب وبهذه الطريق تبطل

جميعا الا ترى ان المتحيل لإسقاط الاستبراء مبطل لمقصود الشارع من حكمة الاستيراء ومصلحته فالمعين له على ذلك مفوت لمقصود الشارع محصل لمقصود المتحيل وكذلك التحيل على إبطال حقوق المسلمين التي ملكهم إياها الشارع وجعلهم أحق بها من غيرهم إزالة لضررهم وتحصيلا لمصالحهم فلوا أباح التحيل لإسقاطها لكان عدم إثباتها للمستحقين اولى واقل ضررا من ان يثبتها ويوصى بها ويبالغ في تحصيلها ثم يشرع التحيل لإبطالها وإسقاطها وهل ذلك إلا بمنزلة من بنى بناء مشيدا وبالغ في إحكامه واتقانه ثم عاد فنقضه وبمنزلة من امر بإكرام رجل والمبالغة في بره والاحسان اليه واداء حقوقه ثم اباح لمن امره ان يتحيل بأنواع الحيل لإهانته وترك حقوقه ولهذا يسيء الكفار والمنافقون ومن في قلوبهم المرض الظن بالاسلام والشرع الذي بعث الله به رسوله حيث ظنوا ان هذه الحيل مما جاء به الرسول وعلموا مناقضتها للمصالح مناقضة ظاهرة ومنافاتها لحكمة الرب وعدله ورحمته وحمايته وصيانته لعباده فإنه نهاهم عما نهاهم عنه حمية وصيانة فكيف يبيح له الحيل على ما حماهم عنه وكيف يبيح لهم التحيل على إسقاط ما فرضه عليهم وعلى إضاعة الحقوق التي احقها عليهم لبعضهم بعضا لقيام مصالح النوع الإنساني التي لا تتم إلا بما شرعه
فهذه الشريعة شرعها الذي علم ما في ضمنها من المصالح والحكم والغايات المحمودة وما في خلافها من ضد ذلك وهذا امر ثابت لها لذاتها وبائن من امر الرب تبارك وتعالى بها ونهيه عنها فالمأمور به مصلحة وحسن في نفسه واكتسى بأمر الرب تعالى مصلحة وحسنا اخر فازداد حسنا بالامر ومحبة الرب وطلبه له الى حسنه في نفسه وكذلك المنهى عنه مفسدة وقبيح في نفسه وازداد بنهى الرب تعالى عنه وبغضه له وكراهيته له قبحا الى قبحه وما كان هكذا لم يجز أن ينقلب حسنه قبحا بتغير الاسم والصورة مع بقاء الماهية والحقيقة

ألا ترى ان الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله حرم بيع الثمار قبل بدو صلاحها لما فيه من مفسدة التشاحن والتشاجر ولما يؤدي اليه ان منع الله الثمرة من اكل مال اخيه بغير حق ظلما وعدوانا ومعلوم قطعا ان هذه المفسدة لا تزول بالتحيل على البيع قبل بدو الصلاح فإن الحيلة لا تؤثر في زوال هذه المفسدة ولا في تخفيفها ولا في زوال ذرة منها فمفسدة هذا العقد امر ثابت له لنفسه فالحيلة إن لم تزده فسادا لم تزل فسادا وكذلك شرع الله تعالى الاستبراء لإزالة مفسدة اختلاط المياه وفساد الانساب وسقى الانسان بمائه زرع غيره وفي ذلك من المفاسد ما توجب العقول تحريمه لو لم تأت به شريعة ولهذا فطر الله الناس على استهجانه واستقباحه ويرون من أعظم الهجن ان يقوم هذا عن المرأة ويخلفه الآخر عليها ولهذا حرم نكاح الزانية واوجب العدد والاستبراء ومن المعلوم قطعا ان هذه المفسدة لا تزول بالحيلة على إسقاط الاستبراء ولا تخف وكذلك شرع الحج الى بيته لانه قوام للناس في معاشهم ومعادهم ولو عطل البيت الحرام عاما واحدا عن الحج لما أمهل الناس ولعوجلوا بالعقوبة وتوعد من ملك الزاد والراحلة ولم يحج بالموت على غير الاسلام ومعلوم ان التحيل لإسقاطه لا يزيل مفسدة الترك ولو ان الناس كلهم تحيلوا لترك الحج والزكاة لبطلت فائدة هذين الفرضين العظيمين وارتفع من الارض حكمهما بالكلية وقيل للناس إن شئتم كلكم ان تتحلوا لاسقاطهما فافعلوا فليتصور العبد ما في إسقاطهما من الفساد المضاد لشرع الله واحسانه وحكمته وكذلك الحدود جعلها الله تعالى زواجر للنفوس وعقوبة ونكالا وتطهيرا فشرعها من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد بل لا تتم سياسة ملك من ملوك الارض إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم ومعلوم ما في التحيل لإسقاطها من منافاة هذا الغرض وإبطاله وتسليط النفوس الشريرة على تلك

الجنايات إذا علمت ان لها طريقا الى ابطال عقوباتها فيها وانها تسقط تلك العقوبات بأدنى الحيل فإنه لا فرق عندها البتة بين ان تعلم انه لا عقوبة عليها فيها وبين ان تعلم ان لها عقوبة وان لها إسقاطها بأدنى الحيل ولهذا احتاج البلد الذي تظهر فيه هذه الحيل الى سياسة وال أو امير يأخذ على يد الجناة ويكف شرهم عن الناس اذا لم يمكن ارباب الحيل ان يقوموا بذلك وهذا بخلاف الازمنة والامكنة التي قام الناس فيها بحقائق ما بعث الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإنهم لم يحتاجوا معها الى سياسة امير ولا وال كما كان أهل المدينة في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم فإنهم كانوا يحدون بالرائحة وبالقيء وبالحبل وبظهور المسروق عند السارق ويقتلون في القسامة ويعاقبون أهل التهم ولا يقبلون الدعوى التي تكذبها العادة والعرف ولا يرون الحيل في شيء من الدين ويعاقبون أربابها ويحبسون في التهم حتى يتبين حال المتهم فإن ظهرت براءته خلوا سبيله وإن ظهر فجوره قرروه بالعقوبة اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - في عقوبة المتهمين وحبسهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم - حبس في تهمة وعاقب في تهمه كما سيأتي إن شاء الله من ذكر ذلك عنه وعن اصحابه ما فيه شفاء وكفاية وبيان لإغناء ما جاء به عن كل وال وسائس وأن شريعته التي هي شريعته لا يحتاج معها الى غيرها وإنما يحتاج الى غيرها من لم يحط بها علما او لم يقم بها عملا
والمقصود ان ما في ضمن المحرمات من المفاسد والمأمورات من المصالح يمنع ان يشرع اليها التحيل بما يبيحها ويسقطها وأن ذلك مناقضة ظاهرة ألا ترى انه بالغ في لعن المحلل للمفاسد الظاهرة والباطنة التي في التحليل التي يعجز البشر عن الاحاطة بتفاصيلها فالتحليل على صحة هذه النكاح بتقديم اشتراط التحليل عليه وإخلاء صلبه عنه إن لم يزد مفسدته فإنه لا يزيلها ولا يخففها وليس تحريمه

والمبالغة في لعن فاعله تعبدا لا يعقل معناه بل هو معقول المعنى من محاسن الشريعة بل لا يمكن شريعة الاسلام ولا غيرها من شرائع الانبياء ان تأتي بحيلة فالتحيل على وقوعه وصحته إبطاله لغرض الشارع وتصحيح لغرض المتحيل المخادع
وكذلك الشارع حرم الصيد في الاحرام وتوعد بالانتقام على من عاد اليه بعد التحريم لما فيه من المفسدة الموجبة لتحريمه وانتقام الرب من فاعله ومعلوم قطعا ان هذه المفسدة لا تزول بنصب الشباك له قبل الاحرام بلحظة فإذا وقع فيها حال الاحرام اخذه بعد الحل بلحظة فإباحته لمن فعل هذا ابطال لغرض الشارع الحكيم وتصحيح لغرض المخادع
وكذلك ايجاب الشارع الكفارة على من وطيء في نهار رمضان فيه من المصلحة جبر وهن الصوم وزجر الواطيء وتكفير جرمه واستدراك فرطه وغير ذلك من المصالح التي علمها من شرع الكفارة واحبها ورضيها فإباحة التحليل لإسقاطها بأن يتغذى قبل الجماع ثم يجامع نقض لغرض الشارع وابطال له واعمال لغرض الجاني المتحيل وتصحيح له ثم ان ذلك جنابة على حق الله وحق العبيد فهو اضاعة للحقين وتفويت لهما
وكذلك الشارع شرع حدود الجرائم التي تتقاضاها الطباع اشد تقاض في اهمال عقوباتها من مفاسد الدنيا والاخرة بحيث لا يمكن سياسة ملك ما من الملوك ان يخلو عن عقوباتها البتة ولا يقوم ملكه بذلك فالاذن في التحيل لاسقاطها بصورة العقد وغيره مع وجود تلك المفاسد بعينها او اعظم منها نقض وابطال لمقصود الشارع وتصحيح لمقصود الجاني واغراء بالمفاسد وتسليط للنفوس على الشر
و يالله العجب كيف يجتمع في الشريعة تحريم الزنا والمبالغة في المنع منه وقتل فاعله شر القتلات وأقبحها وأشنعها وأشهرها ثم يسقط بالتحيل عليه بأن يستأجرها

لذلك أو لغيره ثم يقضي غرضه منها وهل يعجز عن ذلك زان أبدا وهل في طباع ولاة الأمر ان يقبلوا قول الزاني أنا استأجرتها للزنا أو استأجرتها لتطوي ثيابي ثم قضيت غرضي منها فلا يحل لك ان تقيم علي الحد وهل ركب الله في فطر الناس سقوط الحد عن هذه الجريمة التي هي من أعظم الجرائم إفسادا للفراش والأنساب بمثل هذا وهل يسقط الشارع الحكيم الحد عمن أراد ان ينكح أمه أو بنته أو أخته بأن يعقد عليها العقد ثم يطأها بعد ذلك وهل زاده صورة العقد المحرم إلا فجورا واثما واستهزاء بدين الله وشرعه ولعبا بآياته فهل يليق به مع ذلك رفع هذه العقوبة عنه واسقاطها بالحيلة التي فعلها مضمومة الى فعل الفاحشة بأمه وابنته فأين القياس وذكر المناسبات والعلل المؤثرة والانكار على الظاهرية فهل بلغوا بالتمسك بالظاهر عشر معشار هذا والذي يقضى منه العجب ان يقال لا يعتد بخلاف المتمسكين بظاهر القرآن والسنة ويعتد بخلاف هؤلاء والله ورسوله منزه عن هذا الحكم
ويالله العجب كيف يسقط القطع عمن اعتاد سرقة أموال الناس وكلما امسك معه المال المسروق قال هذا ملكي والدار التي دخلتها داري والرجل الذي دخلت داره عبدي قال أرباب الحيل فيسقط عنه الحد بدعوى ذلك فهل تأتي بهذا سياسة قط جائرة او عادلة فضلا عن شريعة نبي من الانبياء فضلا عن الشريعة التي هي اكمل شريعة طرقت العالم
وكذلك الشارع أوجب الانفاق على الاقارب لما في ذلك من قيام مصالحهم ومصالح المنفق ولما في تركهم من إضاعتهم فالتحيل لإسقاط الواجب بالتمليك في الصورة مناقضة لغرض الشارع وتتميم لغرض الماكر المحتال وعود الى نفس الفساد الذي قصد الشارع اعدامه بأقرب الطرق ولو تحيل هذا المخادع على اسقاط نفقة دوابه لهلكوا وكذلك ما فرضه الله تعالى للوارث من الميراث هو حق له

جعله أولى من سائر الناس به فإباحة التحيل لإسقاطه بالاقرار بماله كله للأجنبي واخراج الوارث مضادة لشرع الله ودينه ونقض لغرضه واتمام لغرض المحتال وكذلك تعليم المرأة ان تقر بدين لأجنبي إذا اراد زوجها السفر بها

فصل مناقضة الحيل لاصول الائمة
واكثر هذه الحيل لا تمشى على اصول الائمة بل تناقضها اعظم مناقضة وبيانه ان الشافعي رضي الله عنه يحرم مسألة مد عجوة ودرهم بمد ودرهم ويبالغ في تحريمها بكل طريق خوفا ان يتخذ حيلة على نوع ما من ربا الفضل فتحريمه للحيل الصريحة التي يتوصل بها الى ربا النساء اولى من تحريم مد عجوة بكثير فإن التحيل بمد ودرهم من الطرفين على ربا الفضل اخف من التحيل بالعينة على ربا النساء واين مفسدة هذه من مفسدة تلك واين حقيقة الربا في هذه من حقيقته في تلك وابو حنيفة يحرم مسألة العينه وتحريمه لها يوجب تحريمه للحيلة في مسألة مد عجوه بأن يبيعه خمسة عشر درهما بعشرة في خرقة فالشافعي يبالغ في تحريم مسألة مد عجوة ويبيح العينة وابو حنيفة يبالغ في تحريم العينة ويبيح مسائل مد عجوة ويتوسع فيها واصل كل من الامامين رضى الله عنهما في احد البابين يستلزم ابطال الحيلة في الباب الآخر وهذا من اقوى التخريج على اصولهم ونصوصهم وكثير من الاقوال المخرجة دون هذا فقد ظهر ان الحيل المحرمة في الدين تقتضي رفع التحريم مع قيام موجبه ومقتضيه وإسقاط الوجوب مع قيام سببه وذلك حرام من وجوه
احدها استلزامها فعل المحرم وترك الواجب
والثاني ما يتضمن من المكر والخداع والتلبيس
والثالث الاغراء بها والدلالة عليها وتعليمها من لا يحسنها
والرابع إضافتها الى الشارع وان اصول شرعه ودينه تقتضيها
والخامس ان صاحبها لا يتوب منها ولا يعدها ذنبا
والسادس انه يخادع الله كما يخادع

المخلوق
والسابع انه يسلط اعداء الدين على القدح فيه وسوء الظن به وبمن شرعه
والثامن انه يعمل فكره واجتهاده في نقض ما ابرمه الرسول وإبطال ما اوجبه و تحليل ما حرمه
والتاسع أنه اعانة ظاهرة على الاثم والعدوان وانما اختلفت الطريق فهذا يعين عليه بحيلة ظاهرها صحيح مشروع يتوصل بها اليه وذاك يعين عليه بطريقه المفضية اليه بنفسها فكيف كان هذا معينا على الاثم والعدوان والمتحيل المخادع يعين على البر والتقوى
العاشر ان هذا ظلم في حق الله وحق رسوله وحق دينه وحق نفسه وحق العبد المعين وحقوق عموم المؤمنين فإنه يغرى به ويعلمه ويدل عليه والمتوصل اليه بطريق المعصية لا يظلم إلا نفسه ومن تعلق به ظلمه من المعينين فإنه لا يزعم ان ذلك دين وشرع ولا يقتدى به الناس فأين فساد أحدهما من الآخر وضرره من ضرره وبالله التوفيق

فصل حجج من جوزوا الحيل
قال أرباب الحيل قد أكثرتم من ذمم الحيل وأجلبتم بخيل الأدلة ورجلها وسمينها ومهزولها فاستمعوا الآن تقريرها واشتقاقها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأئمة الإسلام وأنه لا يمكن أحدا إنكارها
قال الله تعالى لنبيه أيوب وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث فأذن لنبيه أيوب ان يتحلل من يمينه بالضرب بالضغث وقد كان نذر أن يضربها ضربات معدودة وهي في التعارف الظاهر إنما تكون متفرقة فأرشده تعالى إلى الحيلة في خروجه من اليمين فنقيس عليه سائر الباب ونسميه وجوه المخارج من المضائق ولا نسميه بالحيل التي ينفر الناس من اسمها
وأخبر تعالى عن نبيه يوسف عليه السلام أنه جعل صواعه في رحل أخيه

ليتوصل بذلك الى أخذه من إخوته ومدحه بذلك وأخبر أنه برضاه وإذنه كما قال كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم فأخبر ان هذا كيده لنبيه وأنه بمشيئته وأنه يرفع درجة عبده بلطيف العلم ودقيقه الذي لا يهتدي إليه سواه وأن ذلك من علمه وحكمته
وقال تعالى ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فأخبر تعالى أنه مكر بمن مكر بأنبيائه ورسله وكثير من الحيل هذا شأنها يمكر بها على الظالم والفاجر ومن يعسر تخليص الحق منه فتكون وسيلة إلى نصر مظلوم وقهر ظالم ونصر حق وإبطال باطل
والله تعالى قادر على أخذهم بغير وجه المكر الحسن ولكن جازاهم بجنس عملهم وليعلم عباده أن المكر الذي يتوصل به إلى إظهار الحق ويكون عقوبة للماكر ليس قبيحا
وكذلك قوله إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وخداعه لهم أن يظهر لهم أمرا ويبطن لهم خلافه فما تنكرون على أرباب الحيل الذين يظهرون أمرا يتوصلون به إلى باطن غيره اقتداء بفعل الله تعالى
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا على خيبر فجاءهم بتمر جنيب فقال أكل تمر خيبر هكذا قال إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاث فقال لا تفعل بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا وقال في الميزان مثل ذلك فأرشده إلى الحيلة على التخلص من الربا بتوسط العقد الآخر وهذا أصل في جواز العينة
وهل الحيل إلا معاريض في الفعل على وزان المعاريض في القول وإذا

كان في المعاريض مندوحة عن الكذب ففي معاريض الفعل مندوحة عن المحرمات وتخلص من المضايق
وقد لقى النبي صلى الله عليه وسلم - طائفة من المشركين وهو في نفر من أصحابه فقال المشركون ممن أنتم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - نحن من ماء فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا أحياء اليمن كثير فلعلهم منهم وانصرفوا
وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال احملني فقال ما عندي إلا ولد ناقة فقال ما أصنع بولد الناقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم - وهل يلد الإبل إلا النوق
وقد رأت امرأة عبد الله بن رواحة عبد الله على جارية له فذهبت وجاءت بسكين فصادفته وقد قضى حاجته فقالت لو وجدتك على الحال التي كنت عليها لوجأتك فأنكر فقالت فاقرأ إن كنت صادقا فقال ... شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا ... وان العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا ... وتحمله ملائكة كرام ... ملائكة الإله مسومينا ...
فقالت آمنت بكتاب الله وكذبت بصرى فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم - فضحك ولم ينكر عليه وهذا تحيل منه بإظهار القراءة لما أوهم أنه قرآن ليتخلص به من مكروه الغيرة
وكان بعض السلف إذا أراد ان لا يطعم طعاما لرجل قال أصبحت صائما يريد أنه اصبح فيما سلف صائما قبل ذلك اليوم وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه بعض غرمائه وليس عنده ما يعطيه قال أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله يريد بذلك يومي الدنيا والآخرة وسأل رجل عن المروزي وهو في دار احمد بن حنبل

فكره الخروج اليه فوضع احمد أصبعه في كفه فقال ليس المروزي ههنا وما يصنع المروزي ههنا وحضر سفيان الثوري مجلسا فلما أراد النهوض منعوه فحلف أنه يعود ثم خرج وترك نعله كالناسي لها فلما خرج عاد وأخذها وانصرف وقد كان لشريح في هذا الباب فقه دقيق كما أعجب رجل فرسه وأراد أخذها منه فقال له شريح إنها إذا أربضت لم تقم حتى تقام فقال الرجل أف أف وإنما أراد شريح أن الله هو الذي يقيمها وباع من رجل ناقة فقال له المشتري كم تحمل فقال احمل على الحائط ما شئت فقال كم تحلب قال احلب في أى إناء شئت فقال كيف سيرها قال الريح لا تلحق فلما قبضها المشتري لم يجد شيئا من ذلك فجاء إليه وقال ما وجدت شيئا من ذلك فقال ما كذبتك
قالوا ومن المعلوم أن الشارع جعل العقود وسائل وطرقا إلى إسقاط الحدود والمأثم ولهذا لو وطيء الإنسان امرأة أجنبية من غير عقد ولا شبهة لزمه الحد فإذا عقد عليها عقد النكاح ثم وطئها لم يلزمه الحد وكان العقد حيلة على إسقاط الحد بل قد جعل الله تعالى الأكل والشرب واللباس حيلة على دفع أذى الجوع والعطش والبرد والاكتفاء حيلة إلى دفع الصائل من الحيوان وغيره وعقد التبايع حيلة على حصول الانتفاع بملك الغير وسائر العقود حيلة على التوصل إلى مالا يباح إلا بها وشرع الرهن حيلة على رجوع صاحب الدين في ماله من عين الرهن إذا أفلس الراهن أو تعذر الاستيفاء منه
وقد روى سلمة بن صالح عن يزيد الواسطي عن عبد الكريم عن عبد الله ابن بريدة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن أعظم آية في كتاب الله فقال لا أخرج من المسجد حتى اخبرك فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم - من مجلسه فلما أخرج إحدى رجليه أخبره بالآية قبل أن يخرج رجله الأخرى

وقد بنى الخصاف كتابه في الحيل على هذا الحديث ووجه الاستدلال به أن من حلف أن لا يفعل شيئا فأراد التخلص من الحنث بفعل بعضه لم يكن حانثا فإذا حلف لا يأكل هذا الرغيف ولا يأخذ هذا المتاع فليدع بعضه ويأخذ الباقي ولا يحنث وهذا أصل في بابه في التخلص من الأيمان
وهذا السلف الطيب قد فتحوا لنا هذا الباب ونهجوا لنا هذا الطريق فروى قيس بن الربيع عن الأعمش عن إبراهيم في رجل أخذه رجل فقال إن لي معك حقا فقال لا فقال احلف لي بالمشي إلى بيت الله فقال يحلف له بالمشي إلى بيت الله ويعني به مسجد حيه وبهذا الإسناد أنه قال له رجل إن فلانا امرني أن آتي مكان كذا وكذا وأنا لا أقدر على ذلك المكان فكيف الحيلة قال يقول والله ما أبصر إلا ما سددني غيري
وذكر عبد الملك بن ميسرة عن النزالي بن سبرة قال جعل حذيفة لعثمان ابن عفان على أشياء بالله ما قالها وقد سمعناه يقولها فقلنا يا أبا عبد الله سمعناك تحلف لعثمان على أشياء ما قلتها وقد سمعناك قلتها فقال إني أشترى ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله وذكر قيس بن الربيع عن الأعمش عن إبراهيم أن رجلا قال له إني أنال من رجل شيئا فيبلغه عني فكيف أعتذر إليه فقال له إبراهيم قل والله إن الله ليعلم ما قلت من ذلك من شيء وكان إبراهيم يقول لأصحابه إذا خرجوا من عنده وهو مستخف من الحجاج إن سئلتم عني فاحلفوا بالله لا تدرون أين أنا ولا في أي موضع أنا وأعنوا لا تدرون اين انا من البيت وفى أي موضع منه وأنتم صادقون وقال مجاهد عن ابن عباس ما يسرني بمعارض الكلام حمر النعم
وقد ثبت في الصحيح من حديث حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن امه

أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت من المهاجرات الأول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - رخص في الكذب في ثلاث في الرجل يصلح بين الناس والرجل يكذب لامرأته والكذب في الحرب
وقال معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه حدثني نعيم بن أبي هند عن سويد ابن غفلة أن عليا كرم الله وجهه في الجنة لما قتل الزنادقة نظر في الارض ثم رفع رأسه إلى السماء ثم قال صدق الله ورسوله ثم قام فدخل بيته فأكثر الناس في ذلك فدخلت عليه فقلت يا أمير المؤمنين أشيء عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم - أم شيء رأيته فقال هل على من بأس أن أنظر إلى السماء قلت لا قال فهل على من بأس أن أنظر إلى الأرض قلت لا قال فهل على من بأس أن أقول صدق الله ورسوله قلت لا قال فإني رجل مكائد
وقال حجاج بن منهال ثنا أبو عوانة عن أبي مسكين قال كنت عند إبراهيم وامرأته تعاتبه في جاريته وبيدها مروحة فقال أشهدكم بأنها لها فلما خرجنا قال علام شهدتم قلنا أشهدتنا أنك جعلت الجارية لها قال أما رأيتموني أشير الى المروحة
وقال محمد بن الحسن عن عمرو بن دينار عن الشعبي لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام ويخرج به إلى الحلال فما كان من هذا ونحوه فلا بأس به وإنما يكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق الرجل حتى يبطله او يحتال في باطل حتى يوهم انه حق او يحتال في شئ حتى يدخل فيه شبهة وأما ما كان على السبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك
قالوا وقد قال الله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا قال غير ذلك

من المفسرين مخرجا مما ضاق على الناس ولا ريب أن هذه الحيل مخارج مما ضاق على الناس ألا ترى أن الحالف يضيق عليه إلزام ما حلف عليه فيكون له بالحيلة مخرج منه وكذلك الرجل تشتد به الضرورة إلى نفقة ولا يجد من يقرضه فيكون له من هذا الضيق مخرج بالعينة والتورق ونحوهما فلو لم يفعل ذلك لهلك ولهلكت عياله والله تعالى لا يشرع ذلك ولا يضيق عليه شرعه الذي وسع جميع خلقه فقد دار أمره بين ثلاثة لا بد له من واحد منها إما إضاعة نفسه وعياله وإما الربا صريحا وإما المخرج من هذا الضيق بهذه الحيلة فأوجدونا أمرا رابعا نصير إليه وكذلك الرجل ينزعه الشيطان فيقع به الطلاق فيضيق عليه جدا مفارقة امرأته وأولاده وخراب بيته فكيف ينكر في حكمة الله ورحمته أن نتحيل له بحيلة تخرجه من هذا الاصر والغل وهل الساعي في ذلك إلا مأجور غير مأزور كما قاله إمام الظاهرية في وقته أبو محمد بن حزم وأبو ثور وبعض أصحاب أبي حنيفة وحملوا أحاديث التحريم على ما إذا شرط في صلب العقد انه نكاح تحليل
قالوا وقد روى عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال أرسلت امرأة الى رجل فزوجته نفسها ليحلها لزوجها فأمره عمر بن الخطاب رضى الله عنه ان يقيم معها ولا يطلقها وأوعده ان يعاقبه ان طلقها فهذا امير المؤمنين قد صحح نكاحه ولم يأمره باستئنافه وهو حجة في صحة نكاح المحلل والنكاح بلا ولى
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان لا يرى بأسا بالتحليل إذا لم يعلم أحد الزوجين قال ابن حزم وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد
وصح عن عطاء فيمن نكح امرأة محللا ثم رغب فيها فأمكسها ! فقال لا بأس بذلك

وقال الشعبي لا بأس بالتحليل إذا لم يأمر به الزوج
وقال الليث بن سعد إن تزوجها ثم فارقها لترجع الى زوجها ولم يعلم المطلق ولا هي بذلك وإنما كان ذلك إحسانا منه فلا بأس ان ترجع الى الأول فإن بين الثاني ذلك للأول بعد دخوله بها لم يضره
وقال الشافعي وأبو ثور المحلل الذي يفسد نكاحه هو الذي يعقد عليه في نفس عقد النكاح انه إنما يتزوجها ليحلها ثم يطلقها فأما من لم يشترط ذلك في عقد النكاح فعقده صحيح لا داخلة فيه سواء شرط ذلك عليه قبل العقد او لم يشرط نوى ذلك او لم ينوه قال ابو ثور وهو مأجور
وروى بشر بن الوليد عن ابي يوسف وعن ابي حنيفة مثل هذا سواء وروى ايضا محمد وابو يوسف عن ابي حنيفة إذا نوى الثاني وهي تحليلها للأول لم تحل له بذلك
وروى الحسن بن زياد عن زفر وأبي حنيفة انه إن اشترط عليه في نفس العقد أنه إنما تزوجها ليحلها للأول فإنه نكاح صحيح ويبطل الشرط وله ان يقيم معها فهذه ثلاث روايات عن ابي حنيفة
قالوا وقد قال الله تعالى فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره وهذا زوج وقد عقد بمهر وولى ورضاها وخلوها من الموانع الشرعية وهو راغب في ردها الى الاول فيدخل في حديث ابن عباس ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لا نكاح إلا نكاح رغبة وهذا نكاح رغبة في تحليلها للمسلم كما امر الله تعالى بقوله حتى تنكح زوجا غيره والنبي صلى الله عليه وسلم - إنما شرط في عودها إلى الأول مجرد ذوق العسيلة بينهما وغيا الحل بذلك فقال لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها فإذا تذاوقا العسيلة حلت له بالنص

قالوا وأما نكاح الدلسة فنعم هو باطل ولكن ما هو نكاح الدلسة فلعله أراد به أن تدلس له المرأة بغيرها أو تدلس له انها انقضت عدتها ولم تنقض لتستعجل عودها الى الأول
وأما لعنه للمحلل فلا ريب انه صلى الله عليه وسلم - لم يرد كل محلل ومحلل له فإن الولى محلل لما كان حراما قبل العقد والحاكم المزوج محلل بهذا الاعتبار والبائع لأمته محلل للمشتري وطأها فإن قلنا العام إذ خص صار مجملا بطل الاحتجاج بالحديث وإن قلنا هو حجة فيما عدا محل التخصيص فذلك مشروط ببيان المراد منه ولسنا ندري المحلل المراد من هذا النص أهو الذي نوى التحليل أو شرطه قبل العقد او شرطه في صلب العقد أو الذي احل ما حرمه الله ورسوله ووجدنا كل من تزوج مطلقة ثلاثا فإنه محلل ولو لم يشترط التحليل ولم ينوه فإن الحل حصل بوطئه وعقده ومعلوم قطعا أنه لم يدخل في النص فعلم ان النص إنما أراد به من أحل الحرام بفعله او عقده ونحن وكل مسلم لا نشك في أنه أهل للعنه الله وأما من قصد الاحسان الى أخيه المسلم ورغب في جمع شمله بزوجته ولم شعثه وشعث أولاده وعياله فهو محسن وما على المحسنين من سبيل فضلا عن ان تلحقهم لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ثم قواعد الفقه وأدلته لا تحرم مثل ذلك فإن هذه العقود التي لم يشترط المحرم في صلبها عقود صدرت من أهلها في محلها مقرونة بشروطها فيجب الحكم بصحتها لأن السبب هو الايجاب والقبول وهما تامان وأهلية العاقد لا نزاع فيها ومحلية العقد قابلة فلم يبق إلا القصد المقرون بالعقد ولا تأثير له في بطلان الاسباب الظاهرة لوجوه أحدها أن المحتال مثلا إنما قصد الربح الذي وضعت له التجارة وإنما لكل امرئ ما نوى فإذا حصل له

الربح حصل له مقصوده وقد سلك للطريق المفضية اليه في ظاهر الشرع والمحلل غايته انه قصد الطلاق ونواه اذا وطيء المرأة وهو مما ملكه الشارع إياه فهو كما لو نوى المشتري إخراج المبيع عن ملكه إذا اشتراه وسر ذلك أن السبب مقتض لتأبد الملك والنية لا تغير موجب السبب حتى يقال إن النية توجب تأقيت العقد وليست هي منافية لموجب العقد فإن له أن يطلق ولو نوى بعقد الشراء إتلاف المبيع وإحراقه أو إغراقه لم يقدح في صحة البيع فنية الطلاق اولى
وايضا فالقصد لا يقدح في اقتضاء السبب لحكمه لأنه خارج عما يتم به العقد ولهذا لو اشترى عصيرا ومن نيته ان يتخذه خمرا او جارية ومن نيته ان يكرهها على البغاء او يجعلها مغنية او سلاحا ومن نيته ان يقتل به معصوما فكل ذلك لا أثر له في صحة البيع من جهة انه منقطع عن السبب فلا يخرج السبب عن اقتضاء حكمه
وقد ظهر بهذا الفرق بين هذا العقد وبين الاكراه فإن الرضا شرط في صحة العقد والإكراه ينافى الرضا وظهر أيضا الفرق بينه وبين الشرط المقارن فإن الشرط المقارن يقدح في مقصود العقد فغاية الأمر ان العاقد قصد محرما لكن ذلك لا يمنع ثبوت الملك كما لو تزوجها ليضار بها امرأة له أخرى ومما يؤيد ما ذكرناه ان النية إنما تعمل في اللفظ المحتمل للمنوى وغيره مثل الكنايات ومثل ان يقول اشتريت كذا فإنه يحتمل ان يشتريه لنفسه ولموكله فإذا نوى احدهما صح فاذا كان السبب ظاهرا متعينا لمسببه لم يكن للنية الباطنة أثر في تغيير حكمه
يوضحه ان النية لا تؤثر في اقتضاء الاسباب الحسية والعقلية المستلزمة لمسبباتها ولا تؤثر النية في تغييرها
يوضحه ان النية إما ان تكون بمنزلة الشرط او لا تكون فإن كانت بمنزلة الشرط لزم انه اذا نوى ان لا يبيع ما اشتراه ولا يهبه ولا يتصرف فيه

أو نوى ان يخرجه عن ملكه او نوى ان لا يطلق الزوجة او يبيت عندها كل ليلة أو لا يسافر عنها بمنزلة ان يشترط ذلك في العقد وهو خلاف الإجماع وان لم تكن بمنزلة الشرط فلا تأثير له حينئذ
وأيضا فنحن لنا ظواهر الامور والى الله سرائرها وبواطنها ولهذا يقول الرسل لربهم تعالى يوم القيامة إذ سألهم ماذا أجبتم فيقولون لا علم لنا إنك انت علام الغيوب كان لنا ظواهرهم وأما ما انطوت عليه ضمائرهم وقلوبهم فأنت العالم به
قالوا فقد ظهر عذرنا وقامت حجتنا فتبين أنا لم نخرج فيما أصلناه من اعتبار الظاهر وعدم الالتفات الى القصود في العقود وإلغاء الشروط المتقدمة الخالي عنها العقد والتحيل على التخلص من مضايق الايمان وما حرمه الله ورسوله من الربا وغيره عن كتاب ربنا وسنة نبينا وأقوال السلف الطيب

ادعاء ان في مذاهب الائمة تحويزا للحيل
ولنا بهذه الاصول رهن عند كل طائفة من الطوائف المنكرة علينا
فلنا عند الشافعية رهون كثيرة في عدة مواضيع وقد سلموا لنا ان الشرط المتقدم على العقد ملغى وسلموا لنا ان القصود غير معبرة في العقود وسلموا لنا جواز التحيل على إسقاط الشفعة وقالوا يجوز التحيل على بيع المعدوم من الثمار فضلا عما لم يبد صلاحه بأن يؤجره الارض ويساقيه على الثمر من كل الف جزء على جزء وهذا نفس الحيلة على بيع الثمار قبل وجودها فكيف تنكرون علينا التحيل على بيعها قبل بدو صلاحها وهل مسألة العينة إلا ملك باب الحيل وهم يبطلون الشركة بالعروض ثم يقولون الحيلة في جوازها ان يبيع كل منهما نصف عرضه لصاحبه فيصيران شريكين حينئذ بالفعل ويقولون لا يصح تعليق الوكالة بالشرط والحيلة على جوازها ان يوكله الآن ويعلق تصرفه بالشرط

وقولهم في الحيل على عدم الحنث بالمسألة السريجية معروف وكل حيلة سواه محلل بالنسبة اليه فإن هذه المسألة حيلة على ان يحلف دائما بالطلاق ويحنث ولا يقع عليه الطلاق ابدا
وأما المالكية فهم من أشد الناس إنكارا علينا للحيل وأصولهم تخالف أصولنا في ذلك إذ عندهم أن الشرط المتقدم كالمقارن والشرط العرفي كاللفظي والقصود في العقود معتبرة والذرائع يجب سدها والتغرير الفعلي كالتغرير القولى وهذه الاصول تسد باب الحيل سدا محكما ولكن قد علقنا لهم برهون نطالبهم بفكاكها او بموافقتهم لنا على ما أنكروه علينا فجوزوا التحيل على إسقاط الشفعة وقالوا لو تزوجها ومن نيته ان يقيم معها سنة صح النكاح ولم تعمل هذه النية في فساده
وأما الحنابلة فبيننا وبينهم معترك النزال في هذه المسائل فإنهم هم الذين شنوا علينا الغارات ورمونا بكل سلاح من الاثر والنظر ولم يراعوا لنا حرمة ولم يرقبوا فينا إلا ذمة وقالوا لو نصب شباكا للصيد قبل الاحرام ثم اخذ ما وقع فيها حال الاحرام بعد الحل جاز ويالله العجب أي فرق بين هذه الحيلة وحيلة اصحاب السبت على الحيتان وقالوا لو نوى الزوج الثاني ان يحلها للأول ولم يشترط ذلك جاز وحلت له لأنه لم يشترط ذلك في العقد وهذا تصريح بأن النية لا تؤثر في العقد وقالوا لو تزوجها ومن نيته ان يقيم معها شهرا ثم يطلقها صح العقد ولم تكن نية التوقيت مؤثرة فيه وكلامهم في باب المخارج من الايمان بأنواع الحيل معروف وعنا تلقوه ومنا أخذوه وقالوا لو حلف ان لا يشتري منه ثوبا فاتهبه منه وشرط له العوض لا يحنث وقالوا بجواز مسألة التورق وهي شقيقة مسألة العينة فأي فرق بين مصير السلعة الى البائع وبين مصيرها الى غيره بل قد يكون عودها الى البائع أرفق بالمشتري وأقل كلفة عليه وأرفع

لخسارته وتعنيه فكيف تحرمون الضرر اليسير وتبيحون ما هو أعظم منه والحقيقة في الموضوعين واحدة وهي عشر وبينهما حريرة رجعت في إحدى الصورتين الى مالكها وفي الثانية إلى غيره
وقالوا لو حلف بالطلاق لا يتزوج عبده بأمته أبدا ثم أراد تزويجه بها ولا يحنث فإنه يبيع العبد والجارية من رجل ثم يزوجهما المشتري ثم يستردهما منه قال القاضي وهذا غير ممتنع على اصلنا لان عقد النكاح قد وجد في حال زوال ملكه عنهما ولا يتعلق الحنث باستدامة العقد بعد ان ملكهما لان التزويج عبارة عن العقد وقد انقضى وإنما بقى حكمه فلم يحنث باستدامة حكمه
وقالو لو كان له عليه مال وهو محتاج فأحب أن يدعه له من زكاته فالحيلة ان يتصدق عليه بذلك القدر ثم يقبضه منه ثم قالوا فإن كان له شريك فيه فخاف ان يخاصمه فيه فالحيلة ان يهب المطلوب للطالب مالا بقدر حصة الطالب مما له عليه ويقبضه منه للطالب ثم يتصدق الطالب على المطلوب بما وهبه له ويحتسب بذلك من زكاته ثم يهب المطلوب ماله عليه من الدين ولا يضمن الطالب لشريكه شيئا لأن هبة الدين لمن في ذمته براءة واذا أبرأ احد الشريكين الغريم من نصيبه لم يضمن لشريكه شيئا وإنما يضمن إذا حصل الدين في ضمانه
وقالوا لو أجره الارض بأجرة معلومة وشرط عليه ان يؤدي خراجها لم يجز لان الخراج على المالك لا على المستأجر والحيلة في جوازه ان يؤجره إياها بمبلغ يكون زيادته بقدر الخراج ثم يأذن له أن يدفع في خراجها ذلك القدر الزائد على اجرتها قالوا لانه متى زاد مقدار الخراج على الاجرة حصل ذلك دينا على المستأجر وقد أمره ان يدفعه الى مستحق الخراج وهو جائز
وقالوا ونظير هذا أن يؤجره دابة ويشترط علفها على المستأجر لم يجز والحيلة في جوازه هكذا سواء يزيد الأجرة ويوكله ان يعلف الدابة بذلك القدر الزائد

وقالوا لا يصح استئجار الشجرة للثمرة والحيلة في ذلك ان يؤجره الارض ويساقيه على الثمرة من كل الف جزء جزء مثلا
وقالوا لو وكله ان يشتري له جارية معينة بثمن معين دفعه اليه فلما رآها أراد شراءها لنفسه وخاف ان يحلفه انه انما اشتراها بمال الموكل له وهو وكيله فالوجه ان يعزل نفسه عن الوكالة ثم يشتريها بثمن في ذمته ثم ينقد ما معه من الثمن ويصير لموكله في ذمته نظيره
قالوا واما نحن فلا تأتي هذه الحيلة على أصولنا لأن الوكيل لا يملك عزل نفسه إلا بحضرة موكله
قالوا وقد قالت الحنابلة أيضا لو أراد إجارة أرض له فيها زرع لم يجز والحيلة في جوازه ان يبيعه الزرع ثم يؤجره الارض فإن أراد بعد ذلك ان يشتري منه الزرع جاز
وقالوا لو شرط رب المال على المضارب ضمان مال المضاربة لم يصح والحيلة في صحته ان يقرضه المال في ذمته ثم يقبضه المضارب منه فإذا قبضه دفعه الى مالكه الأول مضاربة ثم يدفعه رب المال إلى المضارب بضاعة فإن نوى فهو من ضمان المضارب لأنه قد صار مضمونا عليه بالقرض فتسليمه الى رب المال مضاربة كتسليم مال له آخر وحيلة أخرى وهي ان يقرض رب المال المضارب ما يريد دفعه اليه ثم يخرج من عنده درهما واحدا فيشاركه على ان يعملا بالمالين جميعا على ان ما رزقه الله فهو بينهما نصفين فإن عمل أحدهما بالمال بإذن صاحبه فربح كان الربح بينهما على ما شرطاه وان خسر كان الخسران على قدر المالين وعلى رب المال بقدر الدرهم وعلى المضارب بقدر رأس المال وإنما جاز ذلك لان المضارب هو الملزم نفسه الضمان بدخوله في القرض

وقالوا لاتجوز المضاربة على العرض فإن كان عنده عرض فأراد ان يضارب عليه فالحيلة في جوازه ان يبيعه العرض ويقبض ثمنه فيدفعه اليه مضاربة ثم يشتري المضارب ذلك المتاع بالمال
وقالوا لو حلفته امرأته ان كل جارية يشتريها فهى حرة فالحيلة في جواز الشراء ولا تعتق ان يعنى بالجارية السفينة ولا تعتق وان لم تحضره هذه النية وقت اليمين فالحيلة ان يشتريها صاحبه ويهبه اياها ثم يهبه نظير الثمن
وقالوا لو حلفته ان كل امرأة يتزوجها عليها فهى طالق وخاف من هذه اليمين عند من يصحح هذا التعليق فالحيلة ان ينوي كل امرأة أتزوجها على طلاقك أي يكون طلاقك صداقها أو كل امرأة أتزوجها على رقبتك أي تكون رقبتك صداقها فهى طالق فلا يحنث بالتزويج على غير هذه الصفة
وقالوا لو أراد ان يصرف دنانير بدارهم ولم يكن عند الصيرفي مبلغ الدراهم وأراد ان يصبر عليها بالباقي لم يجز والحيلة فيه ان يأخذ ما عنده من الدراهم بقدر صرفه ثم يقرضه إياها فيصرف بها الباقي فإن لم يوف فعل ذلك مرارا حتى يستوفى صرفه ويصير ما أقرضه دينا عليه لا انه عوض الصرف
وقالوا لو أراد ان يبيعه دراهم بدنانير الى اجل لم يجز والحيلة في ذلك ان يشتري منه متاعا وينقده ثمنه ويقبض المتاع ثم يشتري البائع منه ذلك المتاع بدنانيرالى أجل والتأجيل جائز في ثمن المتاع
وقالوا لو مات رب المال بعد ان قبض المضارب المال انتقل الى ورثته فلو اشترى المضارب به بعد ذلك متاعا ضمن لانه تصرف بعد بطلان الشركة والحيلة في تخلص المضارب من ذلك ان يشهد رب المال ان حصته من المال الذي دفعه اليه مضاربة لولده وانه مقارض الى هذا الشريك بجميع ما تركه وأمره ان يشتري لولده ما أحب في حياته وبعد وفاته فيجوز ذلك لان المانع منه كونه متصرفا في ملك الغير بغير وكالة ولا ولاية فإذا أذن له في

التصرف برئ من الضمان وان كانت هذه الحيلة انما تتم اذا كان الورثة اولادا صغارا
وقالوا لو صالح عن المؤجل ببعضه حالا لم يصح والحيلة في تصحيحه ان يفسخا العقد الذي وقع على المؤجل ويجعلاه بذلك القدر الحال
وقالوا لو لبس المتوضيء أحد الخفين قبل غسل الرجل الاخرى ثم غسل الاخرى ولبس عليها لم يجز المسح لأنه لم يلبس على كمال الطهارة والحيلة في جواز المسح ان يخلع هذه الفردة الثانية ثم يلبسها
قالوا ولو أوصى لرجل بخدمة عبده أو بما في بطن أمته جاز فلو أراد الورثة شراء خدمة العبد او ما في بطن الامة من الموصى له لم يجز والحيلة في جوازه ان يصالحوه عن الموصى به على ما يبذلونه له فيجوز وإن لم يجز البيع فإن الصلح يجوز فيه ما لا يجوز في البيع
قالوا ولا يجوز الشركة بالعروض فإن كان لاحدهما عرض يساوي خمسة آلاف درهم وللآخر عرض يساوي الفا فأحبا ان يشتركا في العرضين فالحيلة ان يشتري صاحب العرض الذي قيمته خمسة آلاف من الآخر خمسة أسداس عرضه بسدس عرضه هو فيصير للذي يساوي عرضه ألفا سدس جميع المال وللآخر خمسة أسداسه لأن جميع ماليهما ستة آلاف وقد حصل كل واحد من العرضين بهذه الشركة بينهما أسداسا خمسة أسداسه لاحدهما وسدسه للآخر فإذا هلك احدهما هلك على الشركة
قالوا ولا تقبل شهادة الموكل لموكله فيما هو وكيله فيه فلو لم يكن له شاهد غيره وخاف ضياع حقه فالحيلة ان يعزله حتى يشهد له ثم يوكله بعد ذلك إن أراد
قالوا ولو أعتق عبده في مرضه وثلثه يحتمله وخاف عليه من الورثة

ان يجحدوا المال ويرثوا ثلثيه فالحيلة ان يدفع اليه مالا يشتري نفسه منه بحضرة شهود ويشهدون انه قد اقبضه المال وصار العبد حرا
قالوا وكذلك الحيلة لو كان لاحد الورثة دين على الموروث وليست له به بينة فأراد بيعه العبد بدينه الذي له عليه فعل مثل ذلك سواء
قالو ولو قال أوصيت الى فلان وان لم يقبل فإلى فلان وخاف ان تبطل الوصية على مذهب من لا يرى جواز تعليق الولاية بالشرط فالحيلة أن يقول فلان وفلان وصيان فإن لم يقبل أحدهما وقبل الآخر فالذي قبل هو الوصي فيجوز على قول الجميع لانه لم يعلق الولاية بالشرط
قالوا ولو أراد ذمى ان يسلم وعنده حمر كثير فخاف ان يذهب عليه بالاسلام فالحيلة ان يبادر ببيعها من ذمى آخر ثم يسلم فإنه يملك تقاضيه بعد الاسلام فإن بادر الآخر وأسلم لم يسقط عنه ذلك وقد نص عليه الامام احمد في مجوسي باع مجوسيا خمرا ثم أسلما يأخذ الثمن قد وجب له يوم باعه
قال أرباب الحيل فهذا رهن الفرق عندنا بأنهم قالوا بالحيل وأوصوا بها فماذا تنكرون علينا بعد ذلك وتشنعون ومثالنا ومثالهم في ذلك كقوم وجدوا كنزا فأصاب كل منهم طائفة منه في يديه فمستقل ومستكثر ثم أقبل بعض الآخذين ينقم على بقيتهم وما أخذه من الكنز في يديه فليرم بما أخذ منه ثم لينكر على الباقين

الرد المجمل لمبطلي الحيل
قال المبطلون للحيل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فسبحان الله الذي فرض الفرائض

وحرم المحارم واوجب الحقوق رعاية لمصالح العباد في المعاش والمعاد وجعل شريعته الكاملة قياما للناس وغذاء لحفظ حياتهم ودواء لدفع أدوائهم وظله الظليل الذي من استظل به امن من الحرور وحصنه الحصين الذي من دخله نجا من الشرور فتعالى شارع هذه الشريعة الفائقة لكل شريعة ان يشرع فيها الحيل التي تسقط فرائضه وتحل محارمه وتبطل حقوق عباده ويفتح للناس ابواب الاحتيال وانواع المكر والخداع وان يبيح التوصل بالاسباب المشروعة الى الامور المحرمة الممنوعة وان يجعلها مضغة لافواه المحتالين عرضة لاغراض المخادعين الذين يقولون مالا يفعلون ويظهرون خلاف ما يبطنون ويرتكبون العبث الذي لا فائدة فيه سوى ضحكة الضاحكين وسخرية الساخرين فيخادعون الله كما يخادعون الصبيان ويتلاعبون بحدوده كتلاعب المجان فيحرمون الشيء ثم يستحلونه إياه بعينه بأدنى الحيل ويسلكون إليه نفسه طريقا توهم أن المراد غيره وقد علموا أنه هو المراد لا غيره ويسقطون الحقوق التي وصى الله بحفظها وأدائها بأدنى شيء ويفرقون بين متماثلين من كل وجه لاختلافهما في الصورة او الاسم او الطريق الموصل اليهما ويستحلون بالحيل ما هو أعظم فسادا مما يحرمونه ويسقطون بها ما هو أعظم وجوبا مما يوجبونه
والحمد لله الذي نزه شريعته عن هذا التناقض والفساد وجعلها كفيلة وافية بمصالح خلقه في المعاش والمعاد وجعلها من أعظم آياته الدالة عليه ونصبها طريقا مرشدا لمن سلكه اليه فهو نوره المبين وحصنه الحصين وظله الظليل وميزانه الذي لا يعول لقد تعرف بها الى الباء عباده غاية التعرف وتحبب بها اليهم غاية الحبب فأنسوا بها منه حكمته البالغة وتمت بها عليهم منه نعمه السابغة ولا إله إلا الله الذي في شرعه أعظم آية تدل على تفرده بالإلهية وتوحده بالربوبية وانه الموصوف بصفات الكمال المستحق لنعوت الجلال الذي له الاسماء الحسنى والصفات العلى وله المثل الاعلى فلا يدخل السوء في أسمائه ولا النقص والعيب في صفاته ولا العبث ولا الجور في أفعاله بل هو منزه في

ذاته واوصافه وافعاله وأسمائه عما يضاد كماله بوجه من الوجوه وتبارك اسمه وتعالى جده وبهرت حكمته وتمت نعمته وقامت على عباده حجته والله أكبر كبيرا أن يكون في شرعه تناقض واختلاف فلو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا بل هي شريعة مؤتلمة ! النظام متعادلة الاقسام مبرأة من كل نقص مطهرة من كل دنس مسلمة لا شية فيها مؤسسة على العدل والحكمة والمصلحة والرحمة قواعدها ومبانيها إذا حرمت فسادا حرمت ما هو أولى منه أو نظيره وإذا رعت صلاحا رعت ما هو فوقه أو شبهه فهى صراطه المستقيم الذي لا أمت فيه ولا عوج وملته الحنيفية السمحة التي لا ضيق فيها ولا حرج بل هي حنيفية التوحيد سمحة العمل لم تأمر بشيء فيقول العقل لو نهت عنه لكان أوفق ولم تنه عن شيء فيقول الحجى لو أباحته لكان أرفق بل أمرت بكل صلاح ونهت عن كل فساد وأباحت كل طيب وحرمت كل خبيث فأوامرها غذاء ودواء ونواهيها حمية وصيانة وظاهرها زينة لباطنها وباطنها أجمل من ظاهرها شعارها الصدق وقوامها الحق وميزانها العدل وحكمها الفضل لا حاجة بها البتة الى ان تكمل بسياسة ملك أو رأي ذي رأي أو قياس فقيه او ذوق ذي رياضة او منام ذي دين وصلاح بل لهؤلاء كلهم أعظم الحاجة إليها ومن وفق منهم للصواب فلاعتماده وتعويله عليها فقد أكملها الذي أتم نعمته علينا بشرعها قبل سياسات الملوك وحيل المتحيلين وأقيسة القياسيين وطرائق الخلافيين وأين كانت هذه الحيل والاقيسة والقواعد المتناقضة والطرائق القدد وقت نزول قوله اليوم كملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا واين كانت يوم قوله صلى الله عليه وسلم - لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك ويم قوله صلى الله عليه وسلم - ما تركت من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أعلمتكموه وأين كانت

عند قول أبي ذر لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما وعند قول القائل لسلمان لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة فقال أجل فأين علمهم الحيل والمخادعة والمكر وأرشدهم إليه ودلهم عليه كلا والله بل حذرهم أشد التحذير واوعدهم عليه أشد الوعيد وجعله منافيا للإيمان وأخبر عن لعنة اليهود لما أربتكبوه وقال لأمته لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل وأغلق أبواب المكر والاحتيال وسد الذرائع وفصل الحلال من الحرام وبين الحدود وقسم شريعته الى حلال بين وحرام بين وبرزخ بينهما فأباح الاول وحرم الثاني وحض الامة على اتقاء الثالث خشية الوقوع في الحرام وقد اخبر الله تعالى عن عقوبة المحتالين على حل ما حرمه عليهم وإسقاط ما فرضه عليهم في غير موضع من كتابه
قال ابو بكر الآجرى وقد ذكر بعض الحيل الربوية التي يفعلها الناس لقد مسخ اليهود قردة بدون هذا وصدق والله لآكل حوت صيد يوم السبت أهون عند الله واقل جرما من آكل الربا الذي حرمه الله بالحيل والمخادعة ولكن كما قال الحسن عجل لأولئك عقوبة تلك الاكلة الوخيمة وأرجئت عقوبة هؤلاء
وقال الامام ابو يعقوب الجوزجاني وهل اصاب الطائفة من بني إسرائيل المسخ إلا باحتيالهم على أمر الله بأن حفروا الحفائر على الحيتان في يوم سبتهم فمنعوها الانتشار يومها الى الاحد فأخذوها وكذلك السلسلة التي كانت تأخذ بعنق الظالم فاحتال لها صاحب الدرة إذ صيرها في قصبة ثم دفع القصبة الى خصمه وتقدم الى السلسلة ليأخذها فرفعت

وقال بعض الائمة في هذه القصة مزجرة عظيمة للمتعاطين الحيل على المناهى الشرعية ممن تلبس بعلم الفقه وليس بفقيه إذ الفقيه من يخشى الله عزوجل في الربويات واستعارة التيس الملعون لتحليل المطلقات وغير ذلك من العظائم والمصائب التي لو اعتمدها مخلوق مع مخلوق لكان في نهاية القبح فكيف بمن يعلم السر وأخفى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
وقال وإذا وازن اللبيب بين حيلة اصحاب السبت والحيل التي يتعاطاها أرباب الحيل في كثير من الابواب ظهر له التفاوت ومراتب المفسدة التي بينها وبين هذه الحيل فإذا عرف قدر الشرع وعظمة الشارع وحكمته وما اشتمل عليه شرعه من رعاية مصالح العباد تبين له حقيقة الحال وقطع بأن الله تعالى يتنزه ويتعالى ان يشرع لعباده نقض شرعه وحكمته بأنواع الخداع والاحتيال

فصل الرد على مبطلى الحيل تفصيلا
قالوا ونحن نذكر ما تمسكتم به في تقرير الحيل والعمل بها ونبين ما فيه متحرين للعدل والانصاف منزهين لشريعة الله وكتابه وسنة رسوله عن المنكر والخداع والاحتيال المحرم ونبين انقسام الحيل والطرق الى ما هو كفر محض وفسق ظاهر ومكروه وجائز ومستحب وواجب عقلا أو شرعا ثم نذكر فصلا نبين فيه التعويض بالطرق الشرعية عن الحيل الباطلة فنقول وبالله التوفيق وهو المستعان وعليه التكلان
قصة أيوب
أما قوله تعالى لنبيه ايوب عليه السلام وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث فقال شيخنا الجواب ان هذا ليس مما نحن فيه فإن للفقهاء في موجب هذه اليمين في شرعنا قولين يعنى إذا حلف ليضربن عبده أو امرأته مائة ضربة احدهما قول من يقول موجبها الضرب مجموعا او مفرقا ثم منهم

من يشترط مع الجمع الوصول الى المضروب فعلى هذا تكون هذه الفتيا موجب هذا اللفظ عند الإطلاق وليس هذا بحيلة إنما الحيلة ان يصرف اللفظ عن موجبه عند الاطلاق والقول الثاني أن موجبه الضرب المعروف وإذا كان هذا موجبه في شرعنا لم يصح الاحتجاج علينا بما يخالف شرعنا من شرائع من قبلنا لأنا إن قلنا ليس شرعا لنا مطلقا فظاهر وإن قلنا هو شرع لنا فهو مشروط بعدم مخالفته لشرعنا وقد انتفى الشرط
وأيضا فمن تأمل الآية علم أن هذه الفتيا خاصة الحكم فإنها لو كانت عامة الحكم في حق كل أحد لم يخف على نبي كريم موجب يمينه ولم يكن في اقتصاصها علينا كبير عبرة فإنما يقص ما خرج عن نظائره لنعتبر به ونستدل به على حكمة الله فيما قصه علينا أما ما كان هو مقتضى العادة والقياس فلا يقص ويدل على الاختصاص قوله تعالى إنا وجدناه صابرا وهذه الجملة خرجب مخرج التعليل كما في نظائرها فعلم أن الله سبحانه وتعالى إنما أفتاه بهذا جزاء له على صبره وتخفيفا عن امرأته ورحمة بها لا ان هذا موجب هذه اليمين وايضا فإن الله سبحانه وتعالى إنما أفتاه بهذه الفتيا لئلا يحنث كما أخبر تعالى
وهذا يدل على ان كفارة الايمان لم تكن مشروعة بتلك الشريعة بل ليس في اليمين إلا البر والحنث كما هو ثابت في نذر التبرر في شريعتنا وكما كان في اول الاسلام قالت عائشة رضى الله عنه لم يكن ابو بكر يحنث في يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين فدل على انها لم تكن مشروعة في اول الاسلام وإذا كان كذلك صار كأنه قد نذر ضربها وهو نذر لا يجب الوفاء به لما فيه من الضرر عليها ولا يغنى عنه كفارة يمين لان تكفير النذر فرع عن تكفير اليمين فإذا لم تكن كفارة النذر إذ ذاك مشروعة فكفارة اليمين أولى وقد علم ان الواجب بالنذر يحتذى به حذو الواجب بالشرع وإذا كان الضرب

الواجب بالشرع يجب تفريقه إذا كان المضروب صحيحا ويجوز جمعه إذا كان المضروب مريضا مأيوسا منه عند الكل أو مريضا على الاطلاق عند بعضهم كما ثبتت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - جاز أن يقام الواجب بالنذر مقام ذلك عند العذر
وقد كانت امرأة ايوب عليه السلام ضعيفة عن احتمال مائة الضربة التي حلف ان يضربها إياها وكانت كريمة على ربها فخفف عنها برحمته الواجب باليمين بأن أفتاه بجمع الضربات بالضغث كما خفف عن المريض الا ترى ان السنة قد جاءت فيمن نذر الصدقة بجميع ماله أنه يجزيه الثلث فأقام الثلث في النذر مقام الجميع رحمة بالناذر وتخفيفا عنه كما اقيم مقامه في الوصية رحمة بالوارث ونظرا له وجاءت السنة فيمن نذرت الحج ماشية ان تركب وتهدى إقامة لترك بعض الواجب بالنذر مقام ترك الواجب بالشرع في المناسك عند العجز عنه كطواف الوداع عن الحائض وأفتى ابن عباس وغيره من نذر ذبح ابنه بشاة إقامة لذبح الشاة مقام ذبح الابن كما شرع ذلك للخليل وأفتى ايضا من نذر أن يطوف على أربع بأن يطوف أسبوعين إقامة لإحد الاسبوعين مقام طواف اليدين وأفتى أيضا هو وغيره من الصحابة رضى الله عنهم المريض الميئوس منه والشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم بأن يفطرا ويطعما كل يوم مسكينا إقامة للإطعام مقام الصيام وأفتى أيضا هو وغيره من الصحابة الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أن تفطرا وتطعما كل يوم مسكينا إقامة للإطعام مقام الصيام وهذا كثير جدا وغير مستنكر في واجبات الشريعة ان يخفف الله تعالى الشيء منها عند المشقة بفعل ما يشبهه من بعض الوجوه كما في الأبدال وغيرها
لكن مثل قصة أيوب لا يحتاج إليها في شرعنا لأن الرجل لو حلف ليضربن أمته أو أمرأته مائة ضربة أمكنه أن يكفر عن يمينه من غير احتياج الى حيلة وتخفيف الضرب بحمعه ولو نذر ذلك فهو نذر معصية فلا شيء عليه عند طائفة وعند طائفة عليه كفارة يمين وايضا فإن المطلق من كلام الآدميين

محمول على ما فسر به المطلق من كلام الشارع خصوصا في الايمان فإن الرجوع فيها إلى عرف الخطاب شرعا أو عادة أولى من الرجوع الى موجب اللفظ في اصل اللغة والله سبحانه وتعالى قد قال الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وقال والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة وفهم الصحابة والتابعون ومن بعدهم من ذلك أنه ضربات متعددة متفرقة لا مجموعة إلا أن يكون المضروب معذورا عذرا لا يرجى زواله فإنه يضرب ضربا مجموعا وإن كان يرجى زواله فهل يؤخر الى الزوال او يقام عليه مجموعا فيه خلاف بين الفقهاء فكيف يقال إن الحالف ليضربن موجب يمينه هو الضرب المجموع مع صحة المضروب وقوته فهذه الآية هي أقوى ما يعتمد عليه أرباب الحيل وعليها بنوا حيله وقد ظهر بحمد الله أنه لا متمسك لهم فيها البتة

فصل قصة يوسف
وأما إخباره سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام أنه جعل صواعه في رحل أخيه ليتوصل بذلك إلى أخذه وكيد إخوته فنقول لأرباب الحيل
أولا هل تجوزون أنتم مثل هذا حتى يكون حجة لكم وإلا فكيف تحتجون بما لا تجوزون فعله فإن قلتم فقد كان جائزا في شريعته قلنا وما ينفعكم إذا لم يكن جائزا في شرعنا
قال شيخنا رضي الله عنه ومما قد يظن أنه من جنس الحيل التي بينا تحريمها وليس من جنسها قصة يوسف حين كاد الله له في أخذ اخيه كما قص ذلك تعالى في كتابه فإن فيه ضروبا من الحيل الحسنة

أحدها قوله لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا أنقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون فإنه تسبب بذلك الى رجوعهم وقد ذكروا في ذلك معاني منها أنه تخوف ان لا يكون عندهم ورق يرجعون بها ومنها أنه خشى ان يضر اخذ الثمن بهم ومنها انه رأى لوما أخذ الثمن منهم ومنها انه اراهم كرمه في رد البضاعة ليكون ادعى لهم الى العود ومنها انه علم ان أمانتهم تحوجهم إلى العود ليردوها إليه فهذا المحتال به عمل صالح والمقصود رجوعهم ومجيء اخيه وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله وهو مقصود صالح وإنما لم يعرفهم نفسه لأسباب أخر فيها ايضا منفعة لهم وله ولأبيهم وتمام لما أراده الله بهم من الخير في البلاء
الضرب الثاني انه في المرة الثانية لما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه وهذا القدر تضمن إيهام أن أخاه سارق وقد ذكروا ان هذا كان بمواطأة من أخيه ورضا منه بذلك والحق له في ذلك وقد دل على ذلك قوله تعالى فلما دخلوا على يوسف آوى اليه أخاه قال إنى أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون وفيه قولان احدهما أنه عرفه أنه يوسف ووطنه على عدم الابتئاس بالحيلة التي فعلها في أخذه منهم والثاني أنه لم يصرح له بأنه يوسف وانما أراد انى مكان اخيك المفقود فلا تبتئس بما يعاملك به إخوتك من الجفاء
ومن قال هذا قال إنه وضع السقاية في رحل أخيه والاخ لا يشعر ولكن هذا خلاف المفهوم من القرآن وخلاف ما عيله الاكثرون وفيه ترويع لمن لم يستوجب الترويع وأما على القول الأول فقد قال كعب وغيره لما قال له إنى أنا اخوك قال فأنا لا أفارقك قال يوسف فقد علمت اغتمام والدي بي فإذا حبستك ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلا بعد أن اشهرك بأمر فظيع وأنسبك الى ما لا يحتمل قال لا أبالي فافعل ما بدا لك فإني لا أفارقك قال فإنى أدس

صواعى هذا في رحلك ثم أنادى عليك بالسرقة ليتهيأ لي ردك قال فافعل وعلى هذا فهذا التصرف إنما كان بإذن الاخ ورضاه
ومثل هذا النوع ما ذكر أهل السير عن عدى بن حاتم أنه لما هم قومه بالردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - كفهم عن ذلك وأمرهم بالتربص وكان يأمر ابنه إذا رعى إبل الصدقة ان يبعد فإذ جاء خاصمه بين يدي قومه وهم بضربه فيقومون فيشفعون إليه فيه ويأمره كل ليلة أن يزداد بعدا فلما كان ذات ليلة أمره ان يبعد بها جدا وجعل ينتظره بعد ما دخل الليل وهو يلوم قومه على شفاعتهم ومنعهم إياه من ضربه وهم يعتذرون عن ابنه ولا ينكرون إبطاءه حتى اذا انهار الليل ركب في طلبه فلحقه واستاق الابل حتى قدم بها على ابي بكر رضى الله عنهما فكانت صدقات طئ مما استعان بها ابو بكر في قتال أهل الردة وكذلك في الحديث الصحيح ان عديا قال لعمر رضي الله عنه أما تعرفني يا أمير المؤمنين قال بلى اعرفك أسلمت إذ كفروا ووفيت إذ غدروا واقبلت إذ أدبروا وعرفت إذ أنكروا
ومثل هذا ما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم - للوفد الذين ارادوا قتل كعب ابن الاشرف ان يقولوا وأذن للحجاج بن علاط عام خيبر ان يقول وهذا كله من الاحتيال المباح لكون صاحب الحق قد أذن فيه ورضى به والامر المحتال عليه طاعة لله وامر مباح
الضرب الثالث أنه أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم الى قوله فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء اخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله وقد ذكروا في تسميتهم سارقين وجهين أحدهما أنه

من باب المعاريض وان يوسف نوى بذلك انهم سرقوه من أبيه حيث غيبوه عنه بالحيلة التي احتالوا عليه وخانوه فيه والخائن يسمى سارقا وهو من الكلام المرموز ولهذا يسمى خونه الدواوين لصوصا والثاني أن المنادى هو الذي قال ذلك من غير أمر يوسف قال القاضي ابو يعلى وغيره أمر يوسف بعض أصحابه أن يجعل الصواع في رحل أخيه ثم قال بعض الموكلين وقد فقدوه ولم يدر من أخذه أيتها الغير إنكم لسارقون على ظن منهم انهم كذلك من غير امر يوسف لهم بذلك او لعل يوسف قد قال للمنادى هؤلاء سرقوا وعنى أنهم سرقوه من أبيه والمنادى فهم سرقة الصواع فصدق يوسف في قوله وصدق المنادى وتأمل حذف المفعول في قوله إنكم لسارقون ليصح ان يضمن سرقتهم ليوسف فيتم التعريض ويكون الكلام صدقا وذكر المفعول في قوله نفقد صواع الملك وهو صادق في ذلك فصدق في الجملتين معا تعريضا وتصريحا وتأمل قول يوسف معاذ الله ان نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ولم يقل إلا من سرق وهو أخصر لفظا تحريا للصدق فإن الاخ لم يكن سارقا بوجه وكان المتاع عنده حقا فالكلام من احسن المعاريض واصدقها
ومثل هذا قول الملكين لداود عليه السلام خصمان بغى بعضنا على بعض الى قوله وعزني في الخطاب أي غلبني في الخطاب ولكن تخريج هذا الكلام على المعاريض لا يكاد يتأتى وإنما وجهه أنه كلام خرج على ضرب المثال أي إذا كان كذلك فكيف الحكم بيننا
ونظير هذا قول الملك للثلاثة الذين أراد الله ان يبليهم مسكين وغريب وعابر سبيل وقد تقطعت بي الحبال ولا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك فأسألك بالذي أعطاك هذا المال بعيرا أتبلغ به في سفري هذا وهذا ليس بتعريض

وإنما هو تصريح على وجه ضرب المثال وإيهام أنى أنا صاحب هذه القضية كما أوهم الملكان داود أنهما صاحبا القصة ليتم الامتحان
ولهذا قال نصر بن حاجب سئل ابن عيينة عن الرجل يعتذر الى اخيه من الشيء الذي قد فعله ويحرف القول فيه ليرضيه لم يأثم في ذلك فقال ألم تسمع قوله ليس بكاذب من أصلح بين الناس يكذب فيه فإذا اصلح بينه وبين اخيه المسلم خير من أن يصلح بين الناس بعضهم من بعض وذلك إذا أراد به مرضاة الله وكره أذى المؤمن ويندم على ما كان منه ويدفع شره عن نفسه ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم ولا طمعا في شيء يصيب منهم فإنه لم يرخص في ذلك ورخص له إذا كره موجدتهم وخاف عدواتهم
قال حذيفة إنى أشتري ديني بعضه ببعض مخافة ان أقدم على ما هو أعظم منه قال سفيان وقال الملكان خصمان بغى بعضنا على بعض أرادا معنى شيء ولم يكونا خصمين فلم يصيرا بذلك كاذبين وقال ابراهيم إنى سقيم وقال بل فعله كبيرهم هذا وقال يوسف إنكم لسارقون فبين سفيان ان هذا من المعاريض المباحة

فصل استنباط خاطيء من قصة يوسف
وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على انه جائز للانسان التوصل الى اخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول اليه بغير رضا من عليه الحق
قال شيخنا رضى الله عنه وهذ الحجة ضعيفة فإن يوسف لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه ولم يكن هذا الاخ ممن ظلم يوسف حتى يقال إنه قد اقتص منه وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك نعم تخلفه عنده كان يؤذيهم من أجل تأذى أبيهم والميثاق الذي أخذه عليهم وقد استثنى

في الميثاق بقوله إلا أن يحاط بكم وقد أحيط بهم ولم يكن قصد يوسف باحتباس أخيه الانتقام من إخوته فإنه كان أكرم من هذا وكان في ذلك من الإيذاء لأبيه أعظم مما فيه من إيذاء إخوته وإنما هو امر امره الله به ليبلغ الكتاب أجله ويتم البلاء الذي استحق به يعقوب ويوسف قصد القصاص منهم بذلك فليس هذا موضع الخلاف بين العلماء فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به وإنما موضع الخلاف هل يجوز له أن يسرق أو يخون من سرقه أو خانه مثل ما سرق منه او خانه إياه
وقصة يوسف لم تكن من هذا الضرب نعم لو كان يوسف أخذ اخاه بغير امره لكان لهذا المحتج شبهة مع أنه لا دلالة في ذلك على هذا التقدير أيضا فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق وهو ان يحبس رجل برئ ويعتقل للانتقام من غيره من غير ان يكون له جرم ولو قدر ان ذلك وقع من يوسف فلا بد ان يكون بوحي من الله ابتلاء منه لذلك المعتقل كما ابتلى ابراهيم بذبح ابنه فيكون المبيع له على هذا التقدير وحيا خاصا كالوحي الذي جاء ابراهيم بذبح ابنه وتكون حكمته في حق المبتلى امتحانه وابتلاؤه لينال درجة الصبر على حكم الله والرضا بقضائه وتكون حاله في هذا كحال أبيه يعقوب في احتباس يوسف عنه وهذا معلوم من فقه القصة وسياقها ومن حال يوسف ولهذا قال تعالى كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلاان يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم فنسب الله تعالى هذا الكيد الى نفسه كما نسبه الى نفسه في قوله إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا وفي قوله ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وفي قوله ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين
وقد قيل إن تسمية ذلك مكرا وكيدا واستهزاء وخداعا من باب الاستعارة

ومجاز المقابلة نحو وجزاء سيئة سيئة مثلها ونحو قوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقيل وهو اصوب بل تسميته ذلك حقيقة على بابه فإن المكر إيصال الشيء الى الغير بطريق خفي وكذلك الكيد والمخادعة ولكنه نوعان قبيح وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه وحسن وهو إيصاله الى مستحقه عقوبة له فالاول مذموم والثاني ممدوح والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلا منه وحكمة وهو تعالى ياخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب لا كما يفعل الظلمة بعباده واما السيئة فهى فيعلة مما يسوء ولا ريب ان العقوبة تسوء صاحبها فهى سيئة له حسنة من الحكم العدل
وإذا عرفت ذلك فيوسف الصديق كان قد كيد غير مرة أولها ان إخوته كادوا به كيدا حيث احتالوا به في التفريق بينه وبين أبيه ثم إن امرأة العزيز كادته بما أظهرت انه راودها عن نفسها ثم اودع السجن ثم إن النسوة كادوه حتى استعاذ بالله من كيدهن فصرفه عنه وقال له يعقوب لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا وقال الشاهد لامرأة العزيز إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم وقال تعالى في حق النسوة فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن وقال الرسول ارجع الى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن ايديهن إن ربي بكيدهن عليم فكاد الله له أحسن كيد وألطفه وأعدله بأن جمع بينه وبين اخيه واخرجه من أيدي إخوته بغير اختيارهم كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره وكاد له عوض كيد المرأة بأن أخرجه من ضيق السجن الى فضاء الملك ومكنه في الارض يتبوأ منها حيث يشاء وكاد له في تصديق النسوة اللاتي كذبنه وراودنه حتى شهدن ببراءته وعفته وكاد له في تكذيب امرأة العزيز لنفسها واعترافها بأنها هي التي راودته وانه من الصادقين فهذه عاقبة من صبر على كيد الكائد له بغيا وعدوانا

فصل كيد الله على نوعين
وكيد الله تعالى لا يخرج عن نوعين
النوع الاول
احدهما وهو الاغلب ان يفعل تعالى فعلا خارجا عن قدرة العبد الذي كاد له فيكون الكيد قدرا زائدا محضا ليس هو من باب لا يسوغ كما كاد أعداء الرسل بانتقامه منهم بأنواع العقوبات وكذلك كانت قصة يوسف فإن أكثر ما أمكنه ان يفعل ان القى الصواع في رحل اخيه وان أذن مؤذن بسرقتهم فلما انكروا قال فما جزاؤه إن كنتم كاذبين أي جزاء السارق او جزاء السرق قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه أي جزاؤه نفس السارق يستعبده المسروق منه إما مطلقا وإما إلى مدة وهذه كانت شريعة آل يعقوب
ثم في إعراب هذا الكلام وجهان أحدهما ان قوله جزاؤه من وجد في رحله جملة مستقلة قائمة من مبتدأ وخبر وقوله فهو جزاؤه جملة ثانية كذلك مؤكدة للاولى مقرره لها والفرق بين الجملتين ان الاولى إخبار عن استحقاق المسروق لرقبة السارق والثانية إخبار أن هذا جزاؤه في شرعنا وحكمنا فالأولى إخبار عن المحكوم عليه والثانية إخبار عن الحكم وإن كانا متلازمين وإن أفادت الثانية معنى الحصر فإنه لا جزاء له غيره والقول الثاني أن جزاؤه الاول مبتدأ وخبره الجملة الشرطية والمعنى جزاء السارق ان من وجد المسروق في رحله كان هو الجزاء كما تقول جزاء السرقة من سرق قطعت يده وجزاء الاعمال من عمل حسنة فبعشر أو سيئة فبواحدة ونظائره
قال شيخنا رضى الله عنه وإنما احتمل الوجهين لان الجزاء قد يراد به نفس الحكم باستحقاق العقوبة وقد يراد به نفس فعل العقوبه وقد يراد به

نفس الألم الواصل إلى المعاقب والمقصود ان إلهام الله لهم هذا الكلام كيد كاده ليوسف خارج عن قدرته إذ قد كان يمكنهم أن يقولوا لا جزاء عليه حتى يثبت أنه هو الذي سرق فإن مجرد وجوده في رحله لا يوجب ثبوت السرقة وقد كان يوسف عادلا لا يأخذهم بغير حجة وقد كان يمكنهم ان يقولوا يفعل به ما يفعل بالسراق في دينكم وقد كان في دين ملك مصر كما قاله أهل التفسير أن يضرب السارق ويغرم قيمة المسروق مرتين ولو قالوا ذلك لم يمكنه ان يلزمهم بما لا يلزم به غيرهم ولهذا قال تعالى كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا ان يشاء الله أي ما كان يمكنه أخذه في دين ملك مصر إذ لم يكن في دينه طريق له إلى أخذه وعلى هذا فقوله إلا أن يشاء الله استثناء منقطع أي لكن إن شاء الله اخذه بطريق آخر أو يكون متصلا على بابه أي إلا أن يشاء الله ذلك فيهيء له سببا يؤخذ به في دين الملك من الاسباب التي كان الرجل يعتقل بها

ما يؤخذ من قصة يوسف
فإذا كان المراد من الكيد فعلا من الله بأن ييسر لعبده المؤمن المظلوم المتوكل عليه أمورا يحصل بها مقصوده من الانتقام من الظالم كان هذا خارجا عن الحيل الفقهية فإن كلامنا في الحيل التي يفعلها العبد لا فيما يفعله الله تعالى بل في قصة يوسف تنبيه على بطلان الحيل وان من كاد كيدا محرما فإن الله يكيده ويعامله بنقيض قصده وبمثل عمله وهذه سنة الله في أرباب الحيل المحرمة انه لا يبارك لهم فيما نالوه بهذه الحيل ويهيء لهم كيدا على يد من يشاء من خلقه يجزون به من جنس كيدهم وحيلهم
وفيها تنبيه على ان المؤمن المتوكل على الله اذا كاده الخلق فان الله يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوة
وفيها دليل على ان وجود المسروق بيد السارق كاف في إقامة الحد عليه بل هو بمنزل إقراره وهو أقوى من البينة وغاية البينة أن يستفاد منها ظن

وأما وجود المسروق بيد السارق فيستفاد منه اليقين وبهذا جاءت السنة في وجوب الحد بالحبل والرائحة في الخمر كما اتفق عليه الصحابة والاحتجاج بقصة يوسف على هذا احسن واوضح من الاحتجاج بها على الحيل
وفيها تنبيه على ان العلم الخفي الذي يتوصل به الى المقاصد الحسنة مما يرفع الله به درجات العبد لقوله بعد ذلك نرفع درجات من نشاء قال زيد بن أسلم وغيره بالعلم وقد اخبر تعالى عن رفعه درجات أهل العلم في ثلاثة مواضع من كتابه احدها قوله وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء فأخبر انه يرفع درجات من يشاء بعلم الحجة وقال في قصة يوسف كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا ان يشاء الله نرفع درجات من نشاء فأخبر انه يرفع درجات من يشاء بالعلم الخفي الذي يتوصل به صاحبه الى المقاصد المحمودة وقال يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات فأخبر انه يرفع درجات أهل العلم والايمان

فصل النوع الثاني من كيد الله
النوع الثاني من كيده لعبده المؤمن هو ان يلهمه تعالى امرا مباحا او مستحبا او واجبا يوصله به الى المقصود الحسن فيكون على هذا إلهامه ليوسف ان يفعل ما فعل هو من كيده تعالى أيضا وقد دل على ذلك قوله نرفع درجات من نشاء فإن فيها تنبيها على ان العلم الدقيق الموصل إلى المقصود الشرعي صفة مدح كما ان العلم الذي يخصم به المبطل صفة مدح وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع لكن لا يجوز ان يراد به الكيد الذي تستحل به المحرمات او تسقط به الواجبات فإن هذا كيد الله والله هو الذي

يكيد الكائد ومحال أن يشرع الله تعالى أن يكاد دينه وأيضا فإن هذا الكيد لا يتم إلا بفعل يقصد به غير مقصوده الشرعي ومحال ان يشرع الله لعبده ان يقصد بفعله ما لم يشرع الله ذلك الفعل له
فهذا هو الجواب عن احتجاج المتحيلين بقصة يوسف عليه الصلاة و السلام وقد تبين أنها من أعظم الحجج عليهم وبالله التوفيق

فصل لا دليل مع المحتالين من حديث أبي هريرة
وأما حديث أبي هريرة وأبي سعيد بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا فما أصحه من حديث ونحن نتلقاه بالقبول والتسليم والكلام معكم فيه من مقامين احدهما إبطال استدلالكم به على جواز الحيل وثانيهما بيان دلالته على نقيض مطلوبكم إذ هذا شأن كل دليل صحيح احتج به محتج على باطل فإنه لا بد ان يكون فيه ما يدل على بطلان قوله ظاهرا أو إيماء مع عدم دلالته على قوله
المطلق والفرق بينه وبين العام
فأما المقام الاول فنقول غاية ما دل الحديث عليه ان النبي صلى الله عليه وسلم - أمره ان يبيع سلعته الاولى بثمن ثم يبتاع بثمنها تمرا آخر ومعلوم قطعا أن ذلك إنما يقتضى البيع الصحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم - لا يأذن في العقد الباطل فلا بد ان يكون العقد الذي أذن فيه صحيحا والشأن كل الشأن في العقد المتنازع فيه فلو سلم لكم المنازع صحته لاستغنيتم عن الاستدلال بالحديث ولا يمكن الاستدلال بالحديث على صحته لانه ليس بعام فإن قوله بع مطلق لا عام فهذا البيع لو كان صحيحا متفقا على صحته لم يكن هناك لفظ عام يحتج به على تناوله فكيف وهذا البيع مما قد دلت السنة الصحيحة وأقوال الصحابة والقياس الصحيح على بطلانه كما تقدم ولو اختلف

رجلان في بيع هل هو صحيح أو فاسد وأراد كل واحد منهما إدخاله في هذا اللفظ لم يمكنه ذلك حتى يثبت أنه بيع صحيح ومتى أثبت انه بيع صحيح لم يحتج الى الاستدلال بهذا المطلق فتبين انه لا حجة فيه على صورة من صور النزاع ألبتة
ونكتة الجواب أن يقال الامر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح ومن سلم لكم ان هذه الصورة التي تواطأ فيها البائع والمشتري على الربا وجعل السلعة الدخيلة محللا له غير مقصودة بالبيع بيع صحيح وإذا كان الحديث ليس فيه عموم وإنما هو مطلق والامر بالحقيقة المطلقة ليس امر بشيء من صورها لأن الحقيقة مشتركة بين الافراد والقدر المشترك ليس هو مما يميز به كل واحد من الافراد عن الآخر ولا هو مستلزما له فلا يكون الامر بالمشترك امرا بالمميز بحال وإن كان مستلزما لبعض تلك القيود لا بعينه فيكون عاما لها على سبيل البدل لكن ذلك لا يقتضى العموم للأفراد على سبيل الجمع وهو المطلق في قوله بع هذا الثوب لا يقتضى الامر ببيعه من زيد أو عمرو ولابكذا أو كذا ولا بهذه السوق أو هذه فإن اللفظ لا دلالة له على شئ من شئ من ذلك إذا أتى بالمسمى حصل ممتثلا من جهة وجود تلك الحقيقة لا من جهة تلك القيود وهذا الامر لا خلاف فيه لكن بعض الناس يعتقد ان عدم الامر بالقيود يستلزم عدم الاجزاء إذا اتى بها إلا بقرينة وهو خطأ والصواب ان القيود لا تنافى الامر ولا تستلزمه وإن كان لزوم بعضها لزوما عقليا ضرورة وقوع القدر المشترك في ضمن قيد من تلك القيود وإذا تبين هذا فليس في الحديث أمره أن يبيع التمر لبائع النوع الآخر ولا لغيره ولا بحلول ولا تأجيل ولا بنقد البلد ولا غيره ولا بثمن المثل أو غيره وكل هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ ولو زعم زاعم ان اللفظ يعم هذا كله كان مبطلا لكن اللفظ لا يمنع الإجزاء إذا أتى بها وإنما استفيد عدم الامتثال إذا بيع بدون ثمن المثل او بثمن مؤجل او بغير نقد البلد من العرف الذي ثبت للبيع المطلق وكذلك ليس في اللفظ ما يدل على أنه يبيعه من البائع

بعينه ولا غيره كما ليس فيه ما يمنعه بل كل واحد من الطرفين يحتاج الى دليل خارج عن اللفظ المطلق فما قام الدليل على إباحته أبيح فعله بالدليل الدال على جوازه لا بهذا اللفظ وما قام دليل على المنع منه لم يعارض دليل المنع بهذا اللفظ المطلق حتى يطلب الترجيح بل يكون دليل المنع سالما عن المعارضة بهذا فإن عورض بلفظ عام متناول لإباحته بوضع اللفظ له او بدليل خاص صحت المعارضة فتأمل هذا الموضع الذي كثيرا ما يغلط فيه الناظر والمناظر وبالله التوفيق
وقد ظهر بهذا جواب من قال لو كان الابتياع من المشتري حراما لنهى عنه فإن مقصوده صلى الله عليه وسلم - إنما كان لبيان الطريق التي بها يحصل اشتراء التمر الجيد لمن عنده رديء وهو ان يبيع الرديء بثمن ثم يبتاع بالثمن جيدا ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه لأن المقصود ذكر الحكم على وجه الجملة ولأن المخاطب أحيل على فهمه وعلمه بأنه إنما أذن له في بيع يتعارفه الناس وهو البيع المقصود في نفسه ولم يؤذن له في بيع يكون وسيلة وذريعة ظاهرة إلى ما هو ربا صريح وكان القوم أعلم بالله ورسوله وشريعته من أن يفهموا عنه أنه اذن لهم في الحيل الربوية التي ظاهرها بيع وباطنها ربا ونحن نشهد بالله أنه كما لم يأذن فيها بوجه لم يفهمها عنه اصحابه بخطابه بوجه وما نظير هذا الاستدلال إلا استدلال بعضهم على جواز أكل ذي الناب والمخلب بقوله وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود واستدلال آخر بقوله وأحل لكم ما وراء ذلكم على جواز نكاح الزانية المصرة على الزنا واستدلال آخر على ذلك بقوله وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم واستدلال غيره به على صحة نكاح التحليل بذلك وعلى صحة نكاح المتعة واستدلال آخر على جواز نكاح المخلوقة من مائه إذا كان زانيا ولو ان رجلا استدل بذلك على جواز نكاح المرأة على عمتها وخالتها وأخذ يعارض به السنة لم يكن فرق بينه وبين هذا الاستدلال بل لو استدل به على كل نكاح حرمته السنة لم يكن فرق بينه وبين هذا الاستدلال وكذلك قوله بع الجميع لو استدل به مستدل

على بيع من البيوع المتنازع فيها لم يكن فيه حجة وليس بالغالب ان بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري حتى يقال هذه الصورة غالبة فيحمل اللفظ عليها ولا هو المتعارف عند الاطلاق عرفا وشرعا وبالجملة فإرادة هذه الصورة وحدها من اللفظ ممتنع وإرادتها مع غيرها فرع على عمومه ولا عموم له وإرادة القدر المشترك بين أفراد البيع إنما تنصرف الى البيع المعهود عرفا وشرعا وعلى التقديرات كلها لا تدخل هذه الصورة
ومما يدل على ذلك ان هذه الصورة لا تدخل في امر الرجل لعبده وولده ووكيله ان يشتري له كذا فلو قال بع هذه الحنطة العتيقة واشتر لنا جديدة لم يفهم السامع إلا بيعا مقصودا او شراء مقصودا فثبت ان الحديث ليس فيه إشعار بالحيلة الربوية ألبتة
يوضحه ان قوله بع كذا واشتر كذا او بعت واشتريت لا يفهم منه إلا البيع الذي يقصد به نقل ملك المبيع نقلا مستقرا ولهذا لا يفهم منه بيع الهازل ولا المكره ولا بيع الحيلة ولا بيع العينة ولا يعد الناس من اتخذ خرزة أو عرضا يحلل به الربا ويبيعه ويشتريه صورة خالية عن حقيقة البيع ومقصوده تاجرا وإنما يسمونه مرابيا ومتحيا فكيف يدخل هذا تحت لفظ النبي صلى الله عليه وسلم -
يزيده إيضاحا ان النبي صلى الله عليه وسلم - قال من باع بيعتين في بيعة فله اوكسهما او الربا ونهى عن بيعتين في بيعة ومعلوم انهما متى تواطئا على أن يبيعه بالثمن ثم يبتاع به منه فهو بيعتان في بيعة فلا يكون ما نهى عنه داخلا تحت ما أذن فيه
يوضحه ايضا انه قال لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع وتواطؤهما على أن يبيعه السلعة بثمن ثم يشتري منه غيرها بذلك الثمن منطبق على لفظ الحديث فلا يدخل ما أخبر أنه لا يحل تحت ما أذن فيه

يوضحه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا وهذا يقتضى بيعا ينشئه ويبتدئه بعد انقضاء البيع الاول ومتى واطأه في أول الامر على ان ابيعك وأبتاع منك فقد اتفقا على العقدين معا فلا يكون الثاني عقدا مستقلا مبتدأ بل هو من تتمة العقد الاول عندهما وفي اتفاقهما وظاهر الحديث انه امر بعقدين مستقلين لا يرتبط احدهما بالآخر ولا ينبنى عليه
ولو نزلنا عن ذلك كله وسلمنا أن الحديث عام عموما لفظيا يدخل تحته صورة الحيلة فهو لا ريب مخصوص بصور كثيرة فنخص منه هذه الصورة المذكورة بالادلة المتقدمة على بطلان الحيل واضعافها والعام يخص بدون مثلها بكثير فكم قد خص العموم بالمفهوم وخبر الواحد والقياس وغير ذلك فتخصيصه لو فرض عمومه بالنصوص والاقيسة وإجماع الصحابة على تحريم الحيل اولى واحرى بل واحد من تلك الادلة التي ذكرناها على المنع من الحيل وتحريمها كاف في التخصيص وإذا كنتم قد خصصتم قوله صلى الله عليه وسلم - لعن الله المحلل والمحلل له مع أنه عام عموما لفظيا فخصصتموه بصورة واحدة وهي ما اشترطا في صلب العقد أنه إنما تزوجها ليحلها ومتى أحلها فهى طالق مع ان هذه الصورة نادرة جدا لا يفعلها المحلل والصور الواقعة في التحليل اضعاف هذه فحملتم اللفظ العام عموما لفظيا ومعنويا على أندر صورة تكون لو قدر وقوعها وأخليتموه عن الصور الواقعة المستعملة بين المحللين فقوله صلى الله عليه وسلم - بع الجميع بالدراهم أولى بالتقييد بالنصوص الكثيرة والآثار والاقيسة الصحيحة التي هي في معنى الاصل وحمله على البيع المتعارف المعهود عرفا وشرعا وهذا بحمد الله تعالى في غاية الوضوح ولا يخفى على منصف يريد الله ورسوله والدار الآخرة وبالله التوفيق

فصل توضيح المقصود من حديث ابي هريرة
ومما يوضح فساد حمل الحديث على صورة الحيلة وان كلام الرسول ومنصبه العالى منزه عن ذلك ان المقصود الذي شرع الله تعالى له البيع واحله لاجله هو ان يحصل ملك الثمن للبائع ويحصل ملك المبيع للمشتري فيكون كل منهما قد حصل له مقصوده بالبيع هذا ينتفع بالثمن وهذا بالسلعة وهذا إنما يكون إذا قصد المشتري نفس السلعة للانتفاع بها أو التجارة فيها وقصد البائع نفس الثمن ولهذا يحتاط كل واحد منهما فيما يصير اليه من العرض هذا في وزن الثمن ونقده ورواجه وهذا في سلامة السلعة من العيب وأنها تساوي الثمن الذي بذله فيها فإذا كان مقصود كل منهما ذلك فقد قصدا بالسبب ما شرعه الله له وأتى بالسبب حقيقة وحكما وسواء حصل مقصوده بعقد أو توقف على عقود مثل أن يكون بيده سلعة وهو يريد ان يبتاع سلعة اخرى لا تباع سلعته بها لمانع شرعي أو عرفي أو غيرهما فيبيع سلعته ليملك ثمنها وهذا بيع مقصود وعوضه مقصود ثم يبتاع بالثمن سلعة اخرى وهذه قصة بلال في تمر خيبر سواه فإنه إذا باع الجميع بالدراهم فقد اراد بالبيع ملك الثمن وهذا مقصود مشروع ثم إذا ابتاع بالدراهم جنيبا فقد عقد عقدا مقصودا مشروعا فلما كان بائعا قصد تملك الثمن حقيقة ولما كان مبتاعا قصد تملك السلعة حقيقة فإن ابتاع بالثمن من غير المشتري منه فهذا لا محذور فيه إذ كل من العقدين مقصود مشروع ولهذا يستوفيان حكم العقد الاول من النقد والقبض وغيرهما وأما إذا ابتاع بالثمن من مبتاعه من جنس ما باعه فهذا يخشى منه ان لا يكون العقد الاول مقصودا لهما بل قصدهما بيع السلعة الاولى بالثانية فيكون ربا بعينه ويظهر هذا القصد بأنهما يتفقان على صاع بصاعين أولا ثم يتوصلان الى ذلك ببيع الصاع بدرهم ويشتري به صاعين ولا يبالي البائع بنقد ذلك الثمن ولا بقبضه ولا بعيب فيه ولا بعدم رواجه ولا

يحتاط لنفسه فيه احتياط من قصده تملك الثمن إذ قد علم هو الآخر ان الثمن بعينه خارج منه عائد اليه فنقده وقبضه والاحتياط فيه يكون عبثا وتأمل حال باعة الحلى عينة كيف يخرج كل حلقة من غير جنسه او قطعة ما ويبيعك إياها بذلك الثمن ثم يبتعاعها ! منك فكيف لا تسأل عن قيمتها ولا عن وزنها ولا مساواتها للثمن بل قد تساوي اضعافه وقد تساوى بعضه إذ ليست هي القصد وانما القصد أمر وراءها وجعلت هي محللا لذلك المقصود وإذا عرف هذا فهو إنما عقد معه العقد الاول ليعيد اليه الثمن بعينه ويأخذ العوض الآخر وهذا تواطؤ منهما حين عقداه على فسخه والعقد اذا قصد به فسخه لم يكن مقصودا وإذا لم يكن مقصودا كان وجوده كعدمه وكان توسطه عبثا
ومما يوضح الامر في ذلك انه اذا جاءه بتمر او زبيب او حنطة ليبتاعه به من جنسه فإنهما يتشارطان ويتراضيان على سعر أحدهما من الآخر وأنه مد بمد ونصف مثلا ثم بعد ذلك يقول بعتك هذا بكذا وكذا درهما ثم يقول بعنى بهذه الدراهم كذا و كذا صاعا من النوع الآخر وكذلك في الصرف وليس للبائع ولا للمشتري غرض في الدراهم والغرض معروف فأين من يبيعه السلعة بثمن ليشتري به منه من جنسها الى من يبيعه اياها بثمن له غرض في تملكه وقبضه وتوسط الثمن في الاول عبث محض لا فائدة فيه فكيف يأمر به الشارع الحكيم مع زيادة التعب والكلفة فيه ولو كان هذا سائغا لم يكن في تحريم الربا حكمة سوى تضييع الزمان واتعاب النفوس بلا فائدة فإنه لا يشاء احد ان يبتاع ربويا بأكثر منه من جنسه الاول الا قال بعتك هذا بكذا وابتعت منك هذا بهذا الثمن فلا يعجز احد استحلال ما حرمه الله قط بأدنى الحيل
يوضحه ان الربا نوعان ربا الفضل وربا النسيئة فأما ربا الفضل فيمكنه في كل مال ربوى ان يقول بعتك هذا المال بكذا ويسمى ما شاء ثم يقول

اشتريت منك هذا للذي هو من جنسه بذلك الذي سماه ولا حقيقة له مقصودة واما ربا النسيئة فيمكنه ان يقول بعتك هذه الحريرة بألف درهم أو عشرين صاعا الى سنة وابتعتها منك بخمسمائة حاله أو خمسة عشر صاعا ويمكنه ربا الفضل فلا يشاء مراب إلا أقرضه ثم حاباه في بيع او إجارة أو غيرهما ويحصل مقصوده من الزيادة فيا سبحان الله أيعود الربا الذي قد عظم الله شأنه في القرآن وأوجب محاربة مستحله ولعن آكله موكله وشاهديه وكاتبه وجاء فيه من الوعيد ما لم يجيء في غيره الى ان يستحل نوعاه بأدنى حيلة لا كلفة فيها أصلا إلا بصورة عقد هي عبث ولعب يضحك منها ويستهزأ بها فكيف يستحسن ان ينسب الى نبي من الانبياء فضلا عن سد الانبياء بل ان ينسب رب العالمين الى ان يحرم هذه المحرمات العظيمة ويوعد عليها بأغلظ العقوبات وأنواع الوعيد ثم يبيحها بضرب من الحيل والعبث والخداع الذي ليس له حقيقة مقصودة البتة في نفسه للمتعاقدين وترى كثيرا من المرابين لما علم ان هذا العقد ليس له حقيقة مقصودة البتة قد جعل عنده خرزة ذهب فكل من جاءه يريد ان يبيعه جنسا بجنسه اكثر منه او اقل ابتاع منه ذلك الجنس بتلك الخرزة ثم ابتاع الخرزة بالجنس الذي يريد ان يعطيه إياه افيستجيز عاقل ان يقول إن الذي حرم بيع الفضة بالفضة متفاضلا أحلها بهذه الخرزة وكذلك كثير من الفجار قد أعد سلعة لتحليل ربا النساء فإذا جاءه من يريد الفا بألف ومائتين أدخل تلك السلعة محللا ولهذا كانت أكثر حيل الربا في بابها أغلظ من حيل التحليل ولهذا حرمها او بعضها من لم يحرم التحليل لان القصد في البيع معتبر في فطر الناس ولأن الاحتيال في الربا غالبا إنما يتم بالمواطأة اللفظية او العرفية ولايفتقر الى شهادة ولكن يتعاقدان ثم يشهدان ان له في ذمته دينا ولهذا إنما لعن شاهداه إذا علما به والتحليل لا يمكن إظهاره وقت العقد لكون الشهادة

شرطا فيه والشروط المتقدمة تؤثر كالمقارنة كما تقدم تقريره إذ تقديم الشرط ومقارنته لا يخرجه عن كونه عقد تحليل ويدخله في نكاح الرغبة والقصود معتبرة في العقود

فصل آراء بعض الفقهاء في الحيل الربوية
وجماع الامر انه اذا ربويا بثمن وهو يريد ان يشتري منه بثمنه من جنسه فإما أن يواطئه على الشراء منه لفظا او يكون العرف بينهما قد جرى بذلك او لا يكون فإن كان الاول فهو باطل كما تقدم تقريره فإن هذا لم يقصد ملك الثمن ولا قصد هذا تمليكه وإنما قصد تمليك المثمن بالمثمن وجعلا تسمية الثمن تلبيسا وخداعا ووسيلة الى الربا فهو في هذا العقد بمنزلة التيس الملعون في عقد التحليل وان لم تجر بينهما مواطأة لكن قد علم المشتري ان البائع يريد ان يشترى منه ربويا بربوي فكذلك لان علمه بذلك ضرب من المواطأة وهو يمنع قصد الثمن الذي يخرجان به عن قصد الربا وان قصد البائع الشراء منه بعد البيع ولم يعلم المشترى فقد قال الإمام احمد ههنا لو باع من رجل دنانير بدارهم لم يجز ان يشترى بالدراهم منه ذهبا إلا أن يمضى ويبتاع بالورق من غيره ذهبا فلا يستقيم فيجوز ان يرجع الى الذي ابتاع منه الدنانير فيشترى منه ذهبا وكذلك كره مالك ان تصرف دراهمك من رجل بدنانير ثم تبتاع منه بتلك الدنانير دراهم غير دراهمك في الوقت او بعد يوم أو يومين قال ابن القاسم فإن طال الزمان وصح أمرهما فلا بأس به فوجه ما منعه الإمام احمد رضى الله عنه انه متى قصد المشتري منه تلك الدنانير لم يقصد تملك الثمن ولهذا لا يحتاط في النقد والوزن ولهذا يقول إنه متى بدا له بعد القبض والمفارقة ان يشترى منه بأن يطلب من غيره فلا يجد لم يكن في العقد الاول خلل والمتقدمون من أصحاب حملوا هذا المنع منه على التحريم

وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما اذا لم يكن شرطا ومواطأة بينهما لم يحرم وقد اوما اليه الامام احمد في رواية حرب فإنه قال قلت لأحمد اشترى من رجل ذهبا ثم ابتاعه منه قال بيعه من غيره احب إلي وذكر ابن عقيل ان احمد لم يكرهه في رواية اخرى وكره ابن سيرين للرجل ان يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير ثم يشتري منه بالدراهم دنانير وهذه المسألة في ربا الفضل كمسائل العينة في ربا النساء ولهذا عدها من الربا الفقهاء السبعة وأكثر العلماء وهو قول أهل المدينة كمالك وأصحابه وأهل الحديث كأحمد وأصحابه وهو مأثور عن ابن عمر ففي هذه المسأله قد عاد الثمن الى المشترى وحصلا على ربا الفضل او النساء وفي العينة قد عاد المبيع الى البائع وافضى الى ربا الفضل والنساء جميعا ثم إن كان في الموضعين لم يقصد الثمن ولا المبيع وإنما جعل وصلة الى الربا فهذا الذي لاريب في تحريمه والعقد الاول ههنا باطل بلا توقف عند من يبطل الحيل وقد صرح به القاضي في مسألة العينة في غير موضع وحكى ابو الخطاب في صحته وجهين
قال شيخنا والاول هو الصواب وانما تردد من تردد من الاصحاب في العقد الاول في مسألة العينة لان هذه المسألة انما ينسب الخلاف فيها في العقد الثاني بناء على ان الاول صحيح وعلى هذا التقدير فليست من مسائل الحيل وإنما هي من مسائل الذرائع ولها مأخذ آخر يقتضى التحريم عند ابي حنيفة وأصحابه فإنهم لا يحرمون الحيل ويحرمون مسألة العينة وهو أن الثمن إذا لم يستوف لم يتم العقد الاول فيصير الثاني مبنيا عليه وهذا تعليل خارج عن قاعدة الحيل والذرائع فصار للمسألة ثلاثة مآخذ فلما لم يتمحض تحريمها على قاعدة الحيل توقف في العقد الاول من توقف
قال شيخنا والتحقيق أنها إذا كانت من الحيل أعطيت حكم الحيل وإلا اعتبر فيها المأخذان الآخران هذا إذا لم يقصد الاول فإن قصد حقيقته

فهو صحيح لكن ما دام الثمن في ذمة المشتري لم يجز ان يشترى منه المبيع بأقل منه من جنسه ولا يجوز ان يبتاع منه بالثمن ربويا لا يباع بالآول نساء لان احكام العقد الاول لا تتم إلا بالتقابض فإذا لم يحصل كان ذريعة الى الربا وان تقابضا وكان العقد مقصودا فله يشتري منه كما يشتري من غيره وإذا كان الطريق الى الحلال هي العقود المقصودة المشروعة التي لا خداع فيها ولا تحريم لم يصح ان تلحق بها صورة عقد لم تقصد حقيقته وإنما قصد التوصل به الى استحلال ما حرمه الله والله الموفق
وانما اطلنا الكلام على هذه الحجة لأنها عمدة أرباب الحيل من السنة كما وان عمدتم من الكتاب وخذ بيدك ضغثا

فصل حديث ابي هريرة على تحريم الحيل
فهذا تمام الكلام على المقام الاول وهو عدم دلالة الحديث على الحيل الربوية بوجه من الوجوه
وأما المقام الثاني وهو دلالته على تحريمها وفسادها فلأنه صلى الله عليه وسلم - نهاه أن يشتري الصاع بالصاعين ومن المعلوم ان الصفة التي في الحيل مقصودة يرتفع سعره لاجلها والعاقل لا يخرج صاعين ويأخذ صاعا إلا لتميز ما يأخذه بصفة أو لغرض له في المأخوذ ليس في المبذول والشارع حكيم لا يمنع المكلف مما هو مصلحة له ويحتاج اليه إلا لتضمنه أو لاستلزامه مفسدة أرجح من تلك المصلحة وقد خفيت هذه المفسدة على كثير من الناس حتى قال بعض المتأخرين لا يتبين لى ما وجه تحريم ربا الفضل والحكمة فيه وقد تقدم أن هذا من أعظم حكمة الشريعة ومراعاة مصالح الخلق وان الربا نوعان ربا نسيئة وتحريمه تحريم المقاصد وربا فضل وتحريمه تحريم الذرائع

والوسائل فإن النفوس متى ذاقت الربح فيه عاجلا تسورت منه الى الربح الآجل فسندت عليها بالذريعة وحمى جانب الحمى وأي حكمة وحكم احسن من ذلك واذا كان كذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم - منع بلالا من أخذ مد بمدين لئلا يقع في الربا ومعلوم انه لو جوز له ذلك بحيلة لم يكن في منعه من بيع مدين بمد فائدة اصلا بل كان بيعه كذلك اسهل واقل مفسدة من توسط الحيلة الباردة التي لا تغنى من المفسدة شيئا وقد نبه على هذا بقوله في الحديث لا تفعل اوه عين الربا فنهاه عن الفعل والنهي يقتضي المنع بحيلة أو غير حيلة لان المنهي عنه لا بد ان يشتمل على مفسدة لاجلها ينهى عنه وتلك المفسدة لا تزول بالتحيل عليها بل تزيد واشار الى المنع بقول اوه عين الربا فدل على ان المنع إنما كان لوجود حقيقة الربا وعينه وانه لا تأثير للصورة المجردة مع قيام الحقيقة فلا يهمل قوله عين الربا فتحت هذه اللفظة ما يشير الى ان الاعتبار بالحقائق وانها هي التي عليها المعول وهي محل التحليل والتحريم والله تعالى لا ينظر الى صورها وعباراتها التي يكسوها إياها العبد وإنما ينظر الى حقائقها وذواتها والله الموفق

فصل لا تجوز المعاريض في استباحة الحرام
وأما تمسكهم بجواز المعاريض وقولهم إن الحيل معاريض فعلية على وزان المعاريض القولية فالجواب من وجوه
احدها ان يقال ومن سلم لكم ان المعاريض اذا تضمنت استباحة الحرام وإسقاط الواجبات وإبطال الحقوق كانت جائزة بل هي من الحيل القولية وإنما تجوز المعاريض اذا كان فيها تخلص من ظالم كما عرض الخليل بقوله هذه أختي فإذا تضمنت نصر حق أو إبطال باطل كما عرض الخليل بقوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وكما عرض الملكان لداود بما ضرباه له من

المثال الذي نسباه الى انفسهما وكما عرض النبي صلى الله عليه وسلم - قوله ونحن من ماء وكما كان يروى عن الغزوة بغيرها لمصلحة الاسلام والمسلمين إذا لم تتضمن مفسدة في دين ولا دنيا كما عرض صلى الله عليه وسلم - بقوله إنا حاملوك على ولد الناقة وبقوله إن الجنة لا تدخلها العجز وبقوله من يشترى منى هذا العبد يريد عبد الله وبقوله لتلك المرأة زوجك الذي في عينيه بياض وإنما اراد به البياض الذي خلقه الله في عيون بين آدم وهذه المعاريض ونحوها من اصدق الكلام فأين في جواز هذه ما يدل على جواز الحيل المذكورة

رأي ابن تيمية في المعاريض
وقال شيخنا رضى الله عنه والذي قيست عليه الحيل الربويه وليست مثله نوعان احدهما المعاريض وهي ان يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحا ويوهم غيره انه يقصد به معنى آخر فيكون سبب ذلك الوهم كون اللفظ مشتركا بين حقيقتين لغويتين او عرفيتين او شرعيتين او لغوية مع إحداهما او عرفية مع إحداهما او شرعية مع أحداهما فيعنى احد معنييه ويوهم السامع له أنه إنما على الآخر إما لكونه لم يعرف إلا ذلك وإما لكون دلالة الحال تقتضيه واما لقرينة حالية او مقالية يضمها الى اللفظ او يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرا في معنى فيعنى به معنى يحتمله باطنا بأن ينوى مجاز اللفظ دون حقيقته أو ينوي بالعام الخاص او بالمطلق المقيد او يكون سبب التوهم كون المخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته لعرف خاص به او غفلة منه او جهل او غير ذلك من الاسباب مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته فهذا كله إذا كان المقصود به رفع ضرر غير مستحق فهو جائز كقول الخليل هذه اختي وقول النبي صلى الله عليه وسلم - نحن من ماء وقول الصديق رضى الله عنه هاد يهديني السبيل ومنه قول عبدالله بن رواحة

شهدت بأن وعد الله حق ...
الابيات
أوهم امرأته القرآن وقد يكون واجبا إذا تضمن دفع ضرر يجب دفعه ولا يندفع إلا بذلك
وهذا الضرب وان كان نوع حيلة في الخطاب لكنه يفارق الحيل المحرمة من الوجه المحتال عليه والوجه المحتال به أما الاول فلكونه دفع ضرر غير مستحق فلو تضمن كتمان ما يجب إظهاره من شهادة أو إقرار او علم أو نصيحة مسلم أو التعريف بصفة معقود عليه في بيع او نكاح أو أجارة فإنه غش محرم بالنص
قال مثنى الانباري قلت لاحمد بن حنبل كيف الحديث الذي جاء في المعاريض فقال المعاريض لا تكون في الشراء والبيع تكون في الرجل يصلح بين الناس او نحو هذا
قال شيخنا والضابط ان كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام لأنه كتمان وتدليس ويدخل في هذا الاقرار بالحق والتعريض في الحلف عليه والشهادة على العقود ووصف المعقود عليه والفتيا والحديث والقضاء وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز بل واجب إذا أمكن ووجب الخطاب كالتعريض لسائل عن مال معصوم او نفسه يريد ان يعتدى عليه
وإن كان بيانه جائزا او كتمانه جائزا فإما ان تكون المصلحة في كتمانه او في إظهاره او كلاهما متضمن للمصلحة فإن كان الاول فالتعريض مستحب كتورية الغازي عن الوجه الذي يريده وتورية الممتنع عن الخروج والاجتماع بمن يصده عن طاعة او مصلحة راجحة كتورية احمد عن المروزي وتورية الحالف لظالم له أو لمن استحلفه يمينا لا تجب عليه ونحو ذلك وان كان الثاني فالتورية فيه مكروهة والاظهار مستحب وهذا في كل موضع يكون البيان فيه مستحبا وإن تساوي الامران وكان كل منهما طريقا الى المقصود لكون ذلك المخاطب التعريض والتصريح بالنسبة إليه سواء جاز الأمران كما لو كان يعرف بعدة ألسن وخطايه بكل لسان منها يحصل مقصوده ومثل هذا ما لو كان له غرض مباح

في التعريض ولا حذر عليه في التصريح والمخاطب لا يفهم مقصوده وفي هذا ثلاثة اقوال للفقهاء وهي في مذهب الامام احمد أحدها له التعريض إذ لا يتضمن كتمان حق ولا إضرار بغير مستحق والثاني ليس له ذلك فإنه إيهام للمخاطب من غير حاجة اليه وذلك تغرير وربما أوقع السامع في الخبر الكاذب وقد يترتب عليه ضرر به والثالث له التعريض في غير اليمين
وقال الفضيل بن زياد سألت احمد عن الرجل يعارض في كلامه يسألني عن الشيء أكره أن أخبره به قال إذا لم يكن يمينا فلا بأس في المعاريض مندوحة عن الكذب وهذا عند الحاجة الى الجواب فأما الابتداء فالمنع فيه ظاهر كما دل عليه حديث ام كلثوم انه لم يرخص فيما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث وكلها مما يحتاج اليه المتكلم وبكل حال فغاية هذا القسم تجهيل السامع بأن يوقعه المتكلم في اعتقاد ما لم يرده بكلامه وهذا التجهيل قد تكون مصلحته أرجح من مفسدته وقد تكون مفسدته أرجع من مصلحته وقد يتعارض الامران ولا ريب ان من كان علمه بالشيء يحمله على ما يكرهه الله ورسوله كان تجهيله به وكتمانه عنه اصلح له وللمتكلم وكذلك ما كان في علمه مضرة على القائل او تفوت عليه مصلحة هي ارجح من مصلحة البيان فله ان يكتمه عن السامع فان ابي الا استنطاقه فله أن يعرض له
فالمقصود بالمعاريض فعل واجب او مستحب او مباح اباح الشارع السعي في حصوله ونصب له سببا يفضى اليه فلا يقاس بهذه الحيل التي تتضمن سقوط ما أوجبه الشارع وتحليل ما حرمه فأين احد البابين من الآخر وهل هذا إلا من أفسد القياس وهو كقياس الربا على البيع والميتة على المذكى

فصل جواز المعاريض فيما لا يضر
فهذا الفرق من جهة المحتال عليه وأما الفرق من جهة المحتال به فإن المعرض إنما تكلم بحق ونطق بصدق فيما بينه وبين الله لا سيما إن لم ينو باللفظ خلاف ظاهره في نفسه وإنما كان عدم الظهور من ضعف فهم السامع وقصوره في فهم دلالة اللفظ ومعاريض النبي صلى الله عليه وسلم - ومزاحه كان من هذا النوع كقوله نحن من ماء وقوله إنا حاملوك على ولد الناقة ولا يدخل الجنة العجز وزوجك الذي في عينيه بياض وأكثر معاريض السلف كانت من هذا ومن هذا الباب التدليس في الإسناد لكن هذا مكروه لتعلقه بالدين وكون البيان في العلم واجبا بخلاف ما قصد به دفع ظالم أو دفع ضرر عن المتكلم
المعاريض نوعان
والمعاريض نوعان أحدهما ان يستعمل اللفظ في حقيقته وما وضع له فلا يخرج به عن ظاهره ويقصد فردا من أفراد حقيقته فيتوهم السامع انه قصد غيره إما لقصور فهمه وأما لظهور ذلك الفرد عنده أكثر من غيره وإما لشاهد الحال عنده وإما لكيفية المخبر وقت التكلم من ضحك او غضب او إشارة ونحو ذلك وإذا تأملت المعاريض النبوية والسلفيه وجدت عامتها من هذا النوع والثاني ان يستعمل العام في الخاص والمطلق العام في الخاص والمطلق في المقيد وهو الذي يسميه المتأخرون الحقيقة والمجاز وليس يفهم أكثر من المطلق والمقيد فإن لفظ الاسد والبحر والشمس عند الاطلاق له معنى وعند التقييد له معنى يسمونه المجاز ولم يفرقوا بين مقيد ومقيد ولابين قيد وقيد فإن قالوا كل مقيد مجاز لزمهم ان يكون كل كلام مركب مجازا فإن التركيب يقيده بقيود زائدة على اللفظ المطلق وإن قالوا بعض القيود بجعله مجازا دون بعض سئلوا عن الضابظ ما هو ولن يجدوا اليه سبيلا وإن قالوا يعتبر اللفظ الفرد من حيث هو مفرد قبل التركيب وهناك يحكم عليه بالحقيقة والمجاز

قيل لهم هذا أبعد وأشد فسادا فإن اللفظ قبل العقد والتركيب بمنزلة الاصوات التي ينعق بها ولا تفيد شيئا وإنما إفادتها بعد تركيبها وأنتم قلتم الحقيقة هي اللفظ المستعمل وأكثركم يقول استعمال اللفظ فيما وضع له اولا والمجاز بالعكس فلا بد في الحقيقة والمجازم من استعمال اللفظ فيما وضع له وهو إنما يستعمل بعد تركيبه وحيئذ فتركيبه بعده يفهم منها مراد المتكلم فما الذي جعله مع بعض تلك القيود حقيقة ومع بعضها مجازا
وليس الغرض إبطال هذا التقسيم الحادث المبتدع المتناقض فإنه باطل من اكثر من أربعين وجها وإنما الغرض التنبيه على نوعى التعريض وأنه تارة يكون مع استعمال اللفظ في ظاهره وتارة يكون اخراجه عن ظاهره ولا يذكر المعرض قرينة تبين مراده ومن هذا النوع عامة التعريض في الايمان والطلاق كقوله كل امرأة له فهى طالق وينوى في بلد كذا وكذا او ينوى فلانة أو قوله أنت طالق وينوي من زوج كان قبله ونحو ذلك فهذا القسم شيء والذي قبله شيء فأين هذا من قصد المحتال بلفظ العقد او صورته ما لم يجعله الشارع مقتضيا له بوجه بل جعله مقتضيا لضده ولا يلزم من صلاحية اللفظ له إخبارا صلاحيته له إنشاء فإنه لو قال تزوجت في المعاريض وعنى نكاحا فاسدا كان صادقا كما لو بينه ولو قال تزوجت إنشاء وكان فاسدا لم ينعقد وكذلك في جميع الحيل فإن الشارع لم يشرع القرض إلا لمن قصد ان يسترجع مثل قرضه ولم يشرعه لمن قصد ان يأخذ اكثر منه لا بحيلة ولا بغيرها وكذلك إنما شرع البيع لمن له غرض في تمليك الثمن وتمليك السلعة ولم يشرعه قط لمن قصد به ربا الفضل أو النساء ولا غرض له في الثمن ولا في المثمن ولا في السلعة وإنما غرضهما الربا وكذلك النكاح لم يشرعه إلا لراغب في المرأة لم يشرعه للمحلل وكذلك الخلع لم يشرعه إلا للمفتدية نفسها من الزوج تتخلص منه من سوء العشرة ولم يشرعه للتحيل على الحنث قط وكذلك التمليك لم يشرعه الله سبحانه وتعالى إلا لمن قصد نفع الغير والاحسان اليه بتمليكه

سواء كان محتاجا أو غير محتاج ولم يشرعه لاسقاط فرض من زكاة او حج او غيرهما قط وكذلك المعاريض لم يشرعها إلا لمحتاج إليها او لمن لا يسقط بها حقا ولا يضربها احدا ولم يشرعها إذا تضمنت إسقاط حق او إضرار لغير مستحق

متى تباح المعاريض ومتى تحرم
فثبت ان التعريض المباح ليس من المخادمة لله في شيء وغايته انه مخادعة لمخلوق اباح الشارع مخادعته لظلمه ولا يلزم من جواز مخادعه الظالم المبطل جواز مخادعة المحق فما كان من التعريض مخالفا لظاهر اللفظ كان قبيحا إلا عند الحاجة وما لم يكن منها مخالفا لظاهر اللفظ كان جائزا إلا عند تضمن مفسدة
والمعاريض كما تكون بالقول تكون بالفعل وتكون بالقول والفعل معا مثال ذلك أن يظهر المحارب انه يريد وجها من الوجوه ويسافر اليه ليحسب العدو أنه لا يريده ثم يكر عليه وهو آمن من قصده او يستطرد المبارز بين يدي خصمه ليظن هزيمته ثم يعطف عليه وهذا من خداعات الحرب
فصل النوع الآخر من المعاريض
فهذا أحد النوعين الذي قيست عليه الحيل المحرمة والنوع الثاني الكيد الذي شرعه الله للمظلوم أن يكيد به ظالمه ويخدعه به إما للتوصل الى أخذ حقه منه او عقوبة له او لكف شره وعدوانه عنه كما روى الإمام احمد في مسنده ان رجلا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - من جاره أنه يؤذيه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم - ان يطرح متاعه في الطريق ففعل فجعل كل من مر عليه يسأل عن شأن المتاع فيخبر بأن جار صاحبه يؤذيه فيسبه ويلعنه فجاء اليه وقال رد متاعك الى مكانه فوالله لا أوذيك بعد ذلك ابدا فهذا من أحسن المعاريض الفعليه والطف الحيل التي يتوصل بها الى دفع ظلم الظالم
ونحن لا ننكر هذا الجنس وإنما الكلام في الحيل على استحلال محارم

الله وإسقاط فرائضه وإبطال حقوق عباده فهذا النوع هو الذي يفوت أفراد الادلة على تحريمه الحصر

فصل ليس كل الحيل حراما
وأما قولكم جعل العقود حيلا على التوصل الى مالا يباح إلا بها الى آخره فهذا موضع الكلام في الحيل وانقسامها الى احكامها الخمسة فنقول
ليس كل ما يسمى حيلة حراما قال الله تعالى الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا اراد بالحيلة التحيل على التخلص من بين الكفار وهذه حيلة محمودة يثاب عليها وكذلك الحيلة على هزيمة الكفار كما فعل نعيم بن مسعود يوم الخندق او على تخليص ماله منهم كما فعل الحجاج بن علاط بإمرأته وكذلك الحيلة على قتل راس من رؤوس اعداء الله كما فعل الذين قتلوا ابن ابي الحقيق اليهودي وكعب بن الأشرف وابا رافع وغيرهم فكل هذه حيل محمودة محبوبة لله ومرضية له
الحيلة اشتقاقها ومعناها
والحيلة مشتقة من التحول وهي النوع والحالة كالجلسة والقعدة والركبة فإنها بالكسر للحالة وبالفتح للمرة كما قيل الفعلة للمرة والفعلة للحالة والمفعل للموضع والمفعل للآلة
وهي من ذوات الواو فإنها من التحول من حال يحول وانما انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وهو قلب مقيس مطرد في كلامهم نحو ميزان وميقات وميعاد فإنها مفعال من الوزن والوقت والوعد فالحيلة هي نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي يتحول به فاعله من حال الى حال ثم غلب عليها بالعرف استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل الى حصول غرضه بحيث لا يتفطن له الا بنوع من الذكاء والفطنة فهذا اخص من موضوعها في اصل اللغة وسواء كان المقصود امرا جائزا او محرما او خص من هذا استعمالها في التوصل الى الغرض الممنوع منه شرعا او عقلا او عادة

فهذا هو الغالب عليها في عرف الناس فإنهم يقولون فلان من ارباب الحيل ولا تعاملوه فإنه متحيل وفلان يعلم الناس الحيل وهذا من استعمال المطلق في بعض انواعه كالدابة والحيوان وغيرهما

تقسيم الحيلة الى الأحكام الخمسة
وإذا قسمت باعتبارها لغة انقسمت الى الاحكام الخمسة فإن مباشرة الاسباب الواجبة حيلة على الحصول مسبباتها فالأكل والشرب واللبس والسفر الواجب حيلة على المقصود منه والعقود الشرعية واجبها ومستحبها ومباحها كلها حيلة على حصول المعقود عليه والاسباب المحرمة كلها حيلة على حصول مقاصدها منها وليس كلامنا في الحيلة بهذا الاعتبار العام الذي هو مورد التقسيم الى مباح ومحظور فالحيلة جنس تحته التوصل الى فعل الواجب وترك المحرم وتخليص الحق ونصر المظلوم وقهر الظالم وعقوبة المعتدي وتحته التوصل الى استحلال المحرم وإبطال الحقوق وإسقاط الواجبات ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم - لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل غلب استعمال الحيل في عرف الفقهاء على النوع المذموم وكما يذم الناس ارباب الحيل فهم يذمون ايضا العاجز الذي لا حيلة عنده لعجزه وجهله بطرق تحصيل مصالحه فالأول ماكر مخادع والثاني عاجر مفرط والممدوح غيرهما وهو من له خبرة بطرق الخير والشر خفيها وظاهرها فيحسن التوصل الى مقاصده المحمودة التي يحبها الله ورسوله بأنواع الحيل ويعرف طرق الشر الظاهرة والخفية التي يتوصل بها الى خداعه والمكر به فيحترز منها ولا يفعلها ولا يدل عليها وهذه كانت حال سادت الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا ابر الناس قلوبا واعلم الخلق بطرق الشر ووجوه الخداع واتقى لله من ان يرتكبوا منها شيئا او يدخلوه في الدين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لست بخب ولا يخدعني الخب وكان حذيفة اعلم الناس بالشر والفتن وكان الناس يسألون صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكان هو يسأله عن الشر والقلب السليم ليس هو

الجاهل بالشر الذي لا يعرفه بل الذي يعرفه ولا يريده بل يريد الخير والبر والنبي صلى الله عليه وسلم - قد سمى الحرب خدعة ولا ريب في انقسام الخداع الى ما يحبه الله ورسوله والى ما يبغضه وينهى عنه وكذلك المكر ينقسم الى قسمين محمود ومذموم فالحيلة والمكر والخديعة تنقسم الى محمود ومذموم فالحيل المحرمة منها ما هو كفر ومنها ما هو كبيرة ومنها ما هو صغيرة وغير المحرمة منها ما هو مكروه ومنها ما هو جائز ومنها ما هو مستحب ومنها ما هو واجب فالحيلة بالردة على الفسخ النكاح كفر ثم انها لا تتأتى الا على قول من يقول بتعجيل الفسخ بالردة فأما من وقفه على انقضاء العده فإنها لا يتم لها غرضها حتى تنقضى عدتها فإنها متى علم بردتها قتلت إلا على قول من يقول لا تقتل المرتدة بل يحبسها حتى تسلم أو تموت وكذلك التحيل بالردة على حرمان الوارث كفر والافتاء بها كفر ولا تتم إلا على قول من يرى ان مال المرتد لبيت المال فأما على القول الراجح انه لورثته من المسلمين فلا تتم الحيلة وهذا القول هو الصواب فان ارتداده اعظم من مرض الموت المخوف وهو في هذه الحال قد تعلق حق الورثة بماله فليس له ان يسقط هذا التعلق بتبرع فهكذا المرتد بردته تعلق حق الورثة بماله إذ صار مستحقا للقتل

فصل الحيلة التي تعد من الكبائر
وأما الحيل التي هي من الكبائر فمثل قتل امرأته إذا قتل حماته وله من امرأته ولد والصواب ان هذه الحيلة لا تسقط عنه القود وقولهم إنه ورث ابنه بعض دم ابيه فسقط عنه القود ممنوع فان القود وجب عليه اولا بقتل أم المرأة وكان لها ان تستوفيه ولها أن تسقطه فلما قتلها قام وليها في هذه الحال مقامها بالنسبة إليها وبالنسبة الى امها ولو كان ابن القاتل فإنه لم يدل كتاب

ولا سنة ولا إجماع ولا ميزان عادل على ان الولد لا يستوفي القصاص من والده لغيره وغاية ما يدل عليه الحديث انه لا يقاد الوالد بولده على ما فيه من الضعف وفي حكمه من النزاع ولم يدل على انه لا يقاد بالاجنبي إذا كان الولد هو مستحق القود والفرق بينهما ظاهر فإنه في مسألة المنع قد أقيد بابنه وفي هذه الصورة إنما أقيد بالاجنبي وكيف تأتي شريعة أو سياسة عادلة بوجوب القود على من قتل نفسا بغير حق فإن عاد فقتل نفسا أخرى بغير حق وتضاعف إثمه وجرمه سقط عنه القود بل لو قيل بتحتم قتله ولا بد إذا قصد هذا لكان أقرب الى العقول والقياس

فصل الحيلة المحرمة
ومن الحيل المحرمة التي يكفر من أفتى بها تمكين المرأة ابن زوجها من نفسها لينفسخ نكاحها حيث صارت موطوءة ابنه وكذا بالعكس أو وطئه حماته لينفسخ نكاح امرأته مع ان هذه الحيلة لا تتمشى إلا على قول من يرى أن حرمة المصاهرة تثبت بالزنا كما تثبت بالنكاح كما يقوله ابو حنيفة واحمد في المشهور من مذهبه والقول الراجح ان ذلك لا يحرم كما هو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك فإن التحريم بذلك موقوف على الدليل ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح وقياس السفاح على النكاح في ذلك لا يصح لما بينهما من الفروق والله تعالى جعل الصهر قسيم النسب وجعل ذلك من نعمة التي امتن بها على عباده فكلاهما من نعمه وإحسانه فلا يكون الصهر من آثار الحرام وموجباته كما لا يكون النسب من آثاره بل إذا كان النسب الذي هو اصل لا يحصل بوطء الحرام فالصهر الذي هو فرع عليه ومشبه به اولى ألا يحصل بوطء الحرام وأيضا فإنه لو ثبت تحريم المصاهرة لا تثبت المحرمية التي هي من أحكامه فإذا لم تثبت المحرمية لم تثبت الحرمة وايضا فإن الله تعالى إنما قال وحلائل ابنائكم ومن زنا بها الابن لا تسمى حليلة لغة ولا شرعا ولا عرفا وكذلك قوله ولا تنكحوا ما نكح

آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنما المراد به النكاح الذي هو ضد السفاح ولم يأت في القرآن النكاح المراد به الزنا قط ولا الوطء المجرد عن عقد
وقد تناظر الشافعي هو وبعض العراقيين في هذه المسألة ونحن نذكر مناظرته بلفظها

مناظرة بين الشافعي ومن يرى حرمة المصاهرة بالزنا
قال الشافعي الزنا لا يحرم الحلال وقال به ابن عباس قال الشافعي لان الحرام ضد الحلال ولا يقاس شيء على ضده فقال لي قائل ما تقول لو قبلت امرأة الرجل ابنه بشهوة حرمت على زوجها أبدا فقلت لم قلت ذا والله تعالى إنما حرم أمهات نسائكم ونحو هذا بالنكاح فلم يجز أن يقاس الحرام بالحلال فقال أجد جماعا وجماعا قلت جماعا حمدت به وأحصنت وجماعا رجمت به احدهما نقمة والآخر نعمة وجعله الله نسبا وصهرا وأوجب به حقوقا وجعلك محرما لام امرأتك وابنتها تسافر بهما وجعل على الزنا نقمة في الدينا بالحد وفي الآخرة بالنار إلا ان يعفو الله فتقيس الحرام الذي هو نقمة على الحلال الذي هو نعمة وقلت له فلو قال لك وجدت المطلقة ثلاثا تحل بجماع زوج وإصابة فاحلها بالزنا لانه جماع كجماع قال إذا اخطيء لأن الله تعالى أحلها بنكاح زوج قلت وكذلك ما حرم الله في كتابه بنكاح زوج واصابة زوج قال أفيكون شيء يحرمه الحلال ولا يحرمه الحرام اقول به قلت نعم ينكح اربعا فيحرم عليه ان ينكح من النساء خامسة أفيحرم عليه إذا زنا باربع شيء من النساء قال لا يمنعه الحرام مما يمنعه الحلال قال فقد ترتد فتحرم على زوجها قلت نعم وعلى جميع الخلق وأقتلها وأجعل ما لها فيئا قال فقد نجد الحرام يحرم الحلال قلت أما في مثل ما اختلفنا فيه من امر النساء فلا انتهى
ومما يدل على صحة هذا القول ان احكام النكاح التي رتبها الله تعالى عليه من العدة والاحداد والميراث والحل والحرمة ولحوق النسب

ووجوب النفقة والمهر وصحة الخلع والطلاق والظهار والايلاء والقصر على أربع ووجوب القسم والعدل بين الزوجات وملك الرجعة وثبوت الاحصان والاحلال للزوج الاول وغير ذلك من الاحكام لا يتعلق شيء منها بالزنا وان اختلف في العدة والمهر والصواب انه لا مهر لبغى كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكما فطر الله عقول الناس على استقباحه فكيف يثبت تحريم المصاهرة من بين هذه الاحكام والمقصود ان هذه الحيلة باطلة شرعا كما هي محرمة في الدين

إبطال حيلة لاسقاط الحد في السرقة
وكذلك الحيلة على إسقاط حد السرقة بقول السارق هذا ملكي وهذه داري وصاحبها عبدي من الحيل التي هي الى المضحكة والسخرية والاستهزاء بها أقرب منها الى الشرع ونحن نقول معاذ الله ان يجعل في فطر الناس وعقولهم قبول مثل هذا الهذيان البارد المناقض للعقول والمصالح فضلا عن أن يشرع لهم قبوله وكيف يظن بالله وشرعه ظن السوء انه شرع رد الحق بالباطل الذي يقطع كل احد ببطلانه وبالبهتان الذي يجزم كل حاضر ببهتانه ومتى كان البهتان والوقاحة والمجاهرة بالزور والكذب مقبولا في دين من الاديان او شريعة من الشرائع او سياسة أحد من الناس ومن له مسكة من عقل وان بلى بالسرقة فإنه لا يرضى لنفسه بدعوى هذا البهت والزور ويالله وياللعقول ايعجز سارق قط عن التكلم بهذا البهتان ويتخلص من قطع اليد فما معنى شرع قطع يد السارق ثم إسقاطه بهذا الزور والبهتان
إبطال حيلة لاسقاط اليمين عن الغاصب
وكذلك إذا غصب شيئا فادعاه المغصوب منه فأنكر فطلب تحليفه
قالوا فالحيلة في إسقاط اليمين عنه أن يقر به لولده الصغير فيسقط عنه اليمين ويفوز بالمغصوب وهذه حيلة باطلة في الشرع كما هي محرمة في الدين بل المقر له إن كان كبيرا صار0هو الخصم في ذلك وتوجهت عليه اليمين وإن كان صغيرا

توجهت اليمين على المدعي عليه فإن نكل قضى به للمدعي وغرم قيمته لمن أقر له به لأنه بنكوله قد فوته عليه

إبطال حيلة لاسقاط القصاص
وكذلك إذا جرح رجلا فخشى أن يموت من الجرح فدفع عليه دواء مسموما فقتله
قال أرباب الحيل يسقط عنه القصاص وهذا خطأ عظيم بل يجب عليه القصاص بقتله بالسم كما يجب عليه بقتله بالسيف ولو أسقط الشارع القتل عمن قتل بالسم لما عجز قاتل عن قتل من يريد قتله به آمنا إذ قد علم أنه لا يجب عليه القود وفي هذا من فساد العالم مالا تأتى به شريعة
ابطال حيلة لاخراج الزوجة من الميراث
وكذلك إذا أراد إخراج زوجته من الميراث في مرضه وخاف ان الحاكم يورث المبتوتة قالوا فالحيلة ان يقر انه كان طلقها ثلاثا وهذه حيلة محرمة باطلة لا يحل تعليمها ويفسق من علمها المريض ويستحق عقوبة الله ومع ذلك فلا تنفذ فإنه كما هو متهم بطلاقها فهو متهم بالإقرار بتقدم الطلاق على المرض وإذا كان الطلاق لا يمنع الميراث للتهمة فالإقرار لا يمنعه للتهمة ولا فرق بينهما فالحيلة باطلة محرمة
إبطال حيلة لاسقاط الزكاة
وكذلك إذا كان في يده نصاب فباعه او وهبه قبل الحول ثم استرده قال ارباب الحيل تسقط عنه الزكاة بل لو ادعى ذلك لم يأخذ العامل زكاته وهذه حيلة محرمة باطلة ولا يسقط ذلك عنه فرض الله الذي فرضه وأوعد بالعقوبة الشديدة من ضيعه واهله فلو جاز إبطاله بالحيلة التي هي مكر وخداع لم يكن في إيجابه والوعيد على تركه فائدة
وقد استقرت سنة الله في خلقه شرعا وقدرا على معاقبة العبد بنقيض قصده كما حرم القاتل الميراث وورث المطلقة في مرض الموت وكذلك الفار من

الزكاة لايسقطها عنه فراره ولا يعان على قصده الباطل فيتم مقصود ويسقط مقصود الرب تعالى وكذلك عامة الحيل إنما يساعد فيها المتحيل على بلوغ غرضه ويبطل غرض الشارع

إبطال حيلتين لاسقاط الكفارة
وكذلك المجامع في نهار رمضان إذا تغدى او شرب الخمر اولا ثم جامع قالوا لا تجب عليه الكفارة وهذا ليس بصحيح فإن إضمامه الى إثم الجماع إثم الاكل والشرب لا يناسب التخفيف عنه بل يناسب تغليظ الكفارة عليه ولو كان هذا يسقط الكفارة لم تجب كفارة على واطيء اهتدى لجرعة ماء أو ابتلاع لبابة أو أكل زبيبة فسبحان الله هل أوجب الشارع الكفارة لكون الوطء لم يتقدمه مفطر قبله او للجناية على زمن الصوم الذي لم يجعله الله محلا للوطء أفترى بالأكل والشرب قبله صار الزمان محلا للوطء فانقلبت كراهة الشارع له محبة ومنعه إذنا هذا من المحال وأفسد من هذا قولهم الحيلة في إسقاط الكفارة أن ينوي قبل الجماع قطع الصوم فإذا أتى بهذه النية فليجامع آمنا من وجوب الكفارة ولازم هذا القول الباطل انه لا تجب كفارة على مجامع أبدا وإبطال هذه الشريعة رأسا فإن المجامع لا بد ان يعزم على الجماع قبل فعله وإذا عزم على الجماع فقد تضمنت نيته قطع الصوم فأفطر قبل الفعل بالنية الجازمة للإفطار فصادفه الجماع وهو مفطر بنية الإفطار السابقة على الفعل فلم يفطر به فلا تجب الكفارة فتأمل كيف تضمن الحيل المحرمة مناقضة الدين وإبطال الشرائع
إبطال حيلة لإسقاط وجوب القضاء في الحج
وكذلك قالوا لو ان محرما خاف الفوت وخشى القضاء من قابل فالحيلة في إسقاط القضاء أن يكفر بالله ورسوله في حال إحرامه فيبطل إحرامه فإذا عاد الى الاسلام لم يلزمه القضاء من قابل بناء على ان المرتد كالكافر الاصلي فقد اسلم إسلاما مستأنفا لا يجب عليه فيه قضاء ما مضى ومن له مسكة من علم ودين

يعلم ان هذه الحيلة مناقضة لدين الاسلام اشد مناقضة فهو في شق الاسلام في شق

إبطال حيلة في إسقاط الحق
وكذلك لو وكل رجلا في استيفاء حقه فرفعه الى الحاكم فأراد ان يحلفه بالطلاق أنه لا حق لوكيله قبله فالحيلة في حلفه صادقا ان يحضر الموكل الى منزله ويدفع اليه حقه ثم يغلق عليه الباب ويمضي مع الوكيل فإذا حلف أنه لا حق لوكيله قبله حلف صادقا فإذا رجع الى البيت فشأنه وشأن صاحب الحق
وهذه شر من حيلة اليهود اصحاب الحيتان وهذه وأمثالها انما هي من حيل اللصوص وقطاع الطريق فما لدين الله ورسوله وإدخالها فيه ولا يجدي عليه هذا الفعل في بره باليمين شيئا بل هو حانث كل الحنث إذ لم يتمكن صاحب الحق من الظفر بحقه فهو في ذمة الحالف كما هو وإنما يبرأ منه إذا تمكن صاحبه من قبضه وعد نفسه مستوفيا لحقه
ابطال بعض الحيل لإسقاط الزكاة
وكذلك لو كان له عروض للتجارة فأراد ان يسقط زكاتها قالوا فالحيلة ان ينوي بها القنية في آخر الحول يوما أو أقل ثم ينقض هذه النية ويعيدها للتجارة فيستأنف بها حولا ثم يفعل هكذا في آخر كل حول فلا تجب عليه زكاتها أبدا
فيالله العجب أيروج هذا الخداع والمكر والتلبيس على احكم الحاكمين الذي يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور ثم إن هذه الحيلة كما هي مخادعة لله ومكر بدين الاسلام فهي باطلة في نفسها فإنها إنما تصير للقنية إذا لم يكن من نيته إعادتها للتجارة فأما وهو يعلم أنه لا يقتنيها ألبتة ولا له حاجة باقتنائها وإنما أعدها للتجارة فكيف تتصور منه النية الجازمة للقنية وهو يعلم قطعا أنه لا يقتنيهما ولا يريد اقتناءها وإنما هو مجرد حديث النفس أو خاطر أجراه على قلبه بمنزلة من

يقول بلسانه أعددتها للقنية وليس ذلك في قلبه أفلا يستحي من الله من يسقط فرائضه بهذا الهوس وحديث النفس
وأعجب من هذا انه لو كان عنده عين من الذهب والفضة فأراد إسقاط زكاتها في جميع عمره فالحيلة أن يدفعها الى محتال مثله أو غيره في آخر الحول ويأخذ منه نظيرها فيستأنف له الحول ثم في آخره يعود فيستبدل بها مثلها فإذا هو فعل مثل ذلك لم تجب عليه زكاته ما عاش وأعظم من هذه البلية إضافة هذا المكر والخداع الى الرسول وان هذا من الدين الذي جاء به
ومثل هذا وأمثاله منع كثيرا من أهل الكتاب من الدخول في الاسلام وقالوا كيف يأتي رسول الله بمثل هذه الحيل وأساءوا ظنهم به وبدينه وتواصوا بالتمسك بما هم عليه وظنوا ان هذا هو الشرع الذي جاء به وقالوا كيف تأتى بهذا شريعة او تقوم به مصلحة او يكون من عند الله ولو ان ملكا من الملوك ساس رعيته بهذه السياسة لقدح ذلك في ملكه قالوا وكيف يشرع الحكيم الشيء لما في شرعه من المصلحة ويحرم لما في فعله من المفسدة ثم يبيح إبطال ذلك بأدنى حيلة تكون وترى الواحد منهم إذا ناظره المسلم في صحة دين الاسلام إنما يحتج عليه بهذه الحيل كما هو في كتبهم وكما نسمعه من لفظهم عند المناظرة فالله المستعان
وكذلك قالوا لو كان له نصاب من السائمة فأراد إسقاط زكاتها فالحيلة في ذلك أن يعلفها يوما واحدا ثم تعود الى السوم وكذلك يفعل في كل حول وهذه حيلة باطلة لا تسقط عنه وجوب الزكاة بل وكذلك كل حيلة يتحيل بها على إسقاط فرض من فرائض الله أو حق من حقوق عباده لا يزيد ذلك الفرض إلا تأكيدا وذلك الحق إلا إثباتا

إبطال حيلة لإبطال الشهادة
وكذلك قالوا إذا علم أن شاهدين يشهدان عليه فأراد ان يبطل شهادتها

فليخاصمهما قبل الرفع الى الحاكم وهذه الحيلة حسنة إذا كانا يشهدان عليه بالباطل فإذا علم أنهما يشهدان بحق لم تحل له مخاصمتهما ولا تسقط هذه المخاصمة شهادتهما

إبطال حيلة لضمان البساتين
وكذلك قالوا لا يجوز ضمان البساتين والحيلة على ذلك ان يؤجره الارض ويساقيه على الثمر من كل ألف جزء على جزء وهذه الحيلة لا تتم إذا كان البستان وقفا وهو ناظره أو كان ليتيم فإن هذه المحاباة في المسقاة تقدح في نظره ووصيته
فإن قيل إنها تغتفر لأجل العقد الآخر وما فيه من محاباة المستأجر له فهذا لا يجوز له أن يحابى في المساقاة لما حصل للوقف واليتيم من محاباة اخرى وهو نظير ان يبيع له سلعة بربح ثم يشترى له سلعة بخسارة توازن ذلك الربح هذا إذا لم يبن احد العقدين على الآخر فإن بنى عليه كانا عقدين في عقد وكانا بمنزلة سلف وبيع وشرطين في بيع وإن شرط أحد العقدين في الآخر فسدا مع ان هذه الحيلة لا تتم إلا على أصل من لم ير جواز المساقاة أو من حصها بالتحيل وحده ثم فيها مفسدة اخرى وهي أن المساقاة عقد جائز فمتى أراد أحدهما فسخها فسخها وتضرر الآخر ومفسدة ثانية وهي انه يجب عليه تسليم هذا الجزء من ألف جزء من جميع ثمرة البستان من كل نوع من انواعه وقد يتعذر عليه ذلك او يتعسر إما بأن يأكل الثمرة أو يهديها كلها أو يبيعها على أصولها فلا يمكنه تسليم ذلك الجزء وهكذا يقع سواء ثم قد يكون ذلك الجزء من الالف يسيرا جدا فلا يطالب به عادة فيبقى في ذمته لليتيم وجهه الوقف الى غير ذلك من المفاسد التي في هذه الحيلة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - كانوا أفقه من ذلك وأعمق علما وأقل تكلفا وأبر قلوبا فكانوا يرون ضمان الحدائق بدون هذه الحيلة كما فعله عمر بن الخطاب رضى الله عنه بحديقة أسيد بن حضير

ووافقه عليه جميع الصحابة فلم ينكره منهم رجل واحد وضمان البساتين كما هو إجماع الصحابة فهو مقتضى القياس الصحيح كما تضمن الارض لمغل الزرع فكذلك تضمن الشجر لمغل الثمر ولا فرق بينهما البتة إذ الاصل هنا كالأرض هناك والمغل يحصل بخدعة ! المستأجر والقيام على الشجر كما يحصل بخدمته والقيام على الارض ولو استأجر أرضا ليحرثها ويسقيها ويستغل ما ينبته الله تعالى فيها من غير بذر منه كان بمنزلة استئجار الشجر من كل وجه لا فرق بينهما ألبتة فهذا من هذه الحيلة وأبعد من الفساد وأصلح للناس واوفق للقياس وهو أختيار أبي الوفاء ابن عقيل وشيخ الاسلام ابن تيمية رضى الله عنهما وهو الصواب

فصل الحيلة السريجية لسد باب الطلاق
ومن هذا الباب الحيلة السريجية التي حدثت في الاسلام بعد المائة الثالثة وهي تمنع الرجل من القدرة على الطلاق ألبتة بل تسد عليه باب الطلاق بكل وجه فلا يبقى له سبيل الى التخلص منها ولا يمكنه مخالعتها عند من يجعل الخلع طلاقا وهي نظير سد الانسان على نفسه باب النكاح بقوله كل امرأة أتزوجها فهى طالق فهذا لو صح تعليقه لم يمكنه في الاسلام ان يتزوج امرأة ما عاش وذلك لو صح شرعه لم يمكنه أن يطلق امرأة أبدا
وصورة هذه الحيلة ان يقول كلما طلقتك او كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا قالوا فلا يتصور وقوع الطلاق بعد ذلك إذ لو وقع لزم وقوع ما علق به وهو الثلاث فإذا وقعت الثلاث امتنع وقوع هذا المنجز فوقوعه يفضى الى عدم وقوعه وما أفضى وجوده الى عدم وجوده لم يوجد هذا اختيار ابى العباس ابن سريج ووافقه عليه جماعة من أصحاب الشافعي

وأبي ذلك جمهور الفقهاء من المالكية والحنفية والحنبلية وكثير من الشافعية ثم اختلفوا في وجه إبطال هذا التعليق فقال الاكثرون هذا التعليق لغو وباطل من القول فإنه يتضمن المحال وهو وقوع طلقة مسبوقه بثلاث وهذا محال فما تضمنه فهو باطل من القول فهو بمنزلة قوله إذا وقع عليك طلاقي لم يقع وإذا طلقتك لم يقع عليك طلاقي ونحو هذا من الكلام الباطل بل قوله إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا أدخل في الاحالة والتناقض فإنه في الكلام الاول جعل وقوع الطلاق مانعا ومن وقوعه مع قيام الطلاق وهنا جعل وقوعه مانعا ومن وقوعه مع زيادة محال عقلا وعادة فالمتكلم به يتكلم بالمحال قاصدا للمحال فوجود هذا التعليق وعدمه سواء فإذا طلقها بعد ذلك نفذ طلاقها ولم يمنع منه مانع وهذا اختيار ابي الوفاء بن عقيل وغيره من أصحاب احمد وابي العباس بن القاص من اصحاب الشافعي وقالت فرقة اخرى بل المحال إنما جاء من تعليق الثلاث على المنجز وهذا محال ان يقع المنجز ويقع جميع ما علق به فالصواب ان يقع المنجز ويقع جميع ما علق به او تمام الثلاث من المعلق وهذا اختيار القاضي وابي بكر وبعض الشافعية ومذهب ابي حنيفة والذين منعوا وقوع الطلاق جملة قالوا هو ظاهر كلام الشافعي فهذا تلخيص الاقوال في هذا التعليق
قال المصححون للتعليق صدر من هذا الزوج طلاقان منجز ومعلق والمحل قابل وهو ممن يملك التنجيز والتعليق والجمع بينهما ممتنع ولامزية لاحدهما على الآخر فتمانعا وتساقطا وبقيت الزوجية بحالها وصار كما لو تزوج اختين في عقد واحد فإنه يبطل نكاحهما لهذا الدليل بعينه
وكذلك إذا أعتق امته في مرض موته وزوجها عبده ولم يدخل بها وقيمتها مائة ومهرها مائة وباقي التركة مائة لم يثبت لها الخيار لان إثبات الخيار يقتضي

سقوط المهر وسقوط المهر يقتضي نفي الخيار والجمع بينهما لا يمكن وليس احدهما اولى من الآخر لان طريق ثبوتهما الشرع فأبقينا النكاح ورفضنا الخيار ولم يسقط المهر وكل ما افضى وقوعه الى عدم وقوعه فهذه سبيله
ومثاله في الحس إذا تشاح اثنان في دخول دار وهما سواء في القوة وليس لأحدهما على الآخر مزية توجب تقديمه فإنهما يتمانعان فلا يدخل واحد منهما وهذا مشتق من دليل التمانع على التوحيد وهو ان يستحيل ان يكون للعالم فاعلان مستقلان بالفعل فإن استقلال كل منهما ينفى استقلال الآخر فاستقلالهما يمنع استقلالهما ووزانه في هذه المسألة ان وقوعهما يمنع وقوعهما
قالوا وغاية ما في هذا الباب استلزام هذا التعليق لدور حكمى يمنع وقوع المعلق والمنجز ونحن نريكم من مسائل الدور التي يفضى وقوعها الى عدم وقوعها كثيرا ومنها ما ذكرناه ومنها ما لو وجد من أحدهما ريح وشك كل واحد منهما هل هي منه او من صاحبه لم يجز اقتداء احدهما بالآخر لان اقتداءه به يبطل اقتداءه وكذلك لو كان معهما إناءان أحدهما نجس فأدى اجتهاد كل منهما إلى إناء لم تجز القدوة بينهما لانها تفضى الى ابطال القدرة وكذلك إذا اجتهد في الثوبين والمكانين ومنها لو زوج عبده حرة وضمن السيد مهرها ثم باعه لزوجه قبل الدخول بها فالبيع باطل لان صحته تؤدي الى فساده إذ لو صح لبطل النكاح لانها إذا ملكت زوجها بطل نكاحها وإذا بطل سقط مهرها لان الفرقة من جهتها وإذا سقط مهرها وهو الثمن بطل البيع والعتق البتة بل إما أن يصح البيع ولا يقع العتق إذ لو وقع العتق لبطل البيع وإذا بطل بطل العتق فوقوعه يؤدي الى عدم وقوعه وهذا قول المزني وقال ابن سريج لا يصح بيعه لانه لو صح لوقع العتق قبله ووقوع العتق قبله يمنع صحة البيع فصحة البيع تمنع صحته وكذلك لو قال له إذا رهنتك

فأنت حر قبله بساعة وكذلك لو قال لعبيده ولا مال له سواهم وقد أفلس إن حجر الحاكم على فانتم أحرار قبل الحجر بيوم لم يصح الحجر لان صحته تمنع صحته ومثاله لو قال لعبده متى صالحت عليك فأنت حر قبل الصلح ومثله لو قال لامرأته إن صالحت فلانا وانت امرأتي فأنت طالق قبله بساعة لم يصح الصلح لان صحته تمنع صحته ومثل لو قال لعبده متى ضمنت عنك صداق امرأتك فأنت حر قبله إن كنت في حال الضمان مملوكي ثم ضمن عنه الصداق لم يصح لانه لو صح لعتق قبله واذا عتق قبله لم يصادف الضمان شرطه وهو كونه مملوكه وقت الضمان وكذلك لا يقع العتق لان وقوعه يؤدي الى ان لا يصح الضمان عنه وإذا لم يصح الضمان عنه لم يصح العتق فكل من الضمان والعتق تؤدي صحته الى بطلانه فلا يصح واحد منهما ومثله ما لو قال إن شاركني في هذا العبد شريك فهو حر قبله بساعة لم تصح الشركة فيه بعد ذلك لانها لو ضحت لعتق العبد وبطلت الشركة فصحتها تفضى الى بطلانها ومثله لو قال إن وكلت إنسانا ببيع هذا العبد او رهنه او هبته وكالة صحيحة فهو قبله بساعة حر لم تصح الوكالة لان صحتها تؤدي الى بطلانها ومثله ما لو قال لامرأته إن وكلت وكيلا في طلاقك فأنت طالق قبله او معه ثلاثا لم يصح توكيله في طلاقها إذ لو صحت الوكالة لطلقت في حال الوكالة أو قبلها فتبطل الوكالة فصحتها تؤدي الى بطلانها وكذلك لو خلف الميت ابنا فاقر بابن آخر للميت فقال المقربه أنا ابنه وأما انت فلست بابنه لم يقبل إنكار المقربه لأن قبول قوله يبطل قوله ومن هنا قال الشافعي لو ترك أخا لأب وأم فأقر الاخ بابن للميت ثبت نسبه ولم يرث لأنه لو ورث لخرج المقر عن ان يكون وارثا وإذا لم يكن وارثا لم يقبل إقراره بوارث آخر فتوريث الابن يفضى الى عدم توريثه ونازعه الجمهور في ذلك وقالوا إذا ثبت نسبه ترتب عليه أحكام النسب ومنها الميراث ولا يفضى

توريثه الى عدم توريثه لانه بمجرد الإقرار يثبت النسب ويترتب عليه الميراث والاخ كان وارثا في الظاهر فحين أقر كان هو كل الورثة وإنما خرج عن الميراث بعد الإقرار وثبوت النسب فلم يكن توريث الابن مبطلا لكون المقر وارثا حين الاقرار وان بطل كونه وارثا بعد الاقرار وثبوت النسب وأيضا فالميراث تابع لثبوت النسب والتابع اضعف من المتبوع فإذا ثبت المتبوع الأقوى فالتابع أولى ألا ترى ان النساء تقبل شهادتهن منفردات في الولادة ثم في النسب ونظائر ذلك كثيرة
ومن المسائل التي يفضى ثبوتها الى إبطالها لو أعتقت المرأة في مرضها عبدا فتزوجها وقيمته تخرج من الثلث صح النكاح ولا ميراث له إذ لو ورثها لبطل تبرعها له بالعتق لأنه يكون تبرعا لوارث وإذا بطل العتق بطل النكاح وإذا بطل بطل الميراث وكان توريثه يؤدي الى ابطال توريثه وهذا على اصل الشافعي وأما على قول الجمهور فلا يبطل ميراثه ولا عتقه ولا نكاحه لانه حين العتق لم يكن وارثا فالتبرع نزل في غير وارث والعتق المنجز يتنجز من حينه ثم صار وارثا بعد ثبوت عتقه وذلك لا يضره شيئا
ومن ذلك لو أوصى له بابنه فمات قبل قبول الوصية وخلف إخوة لابيه فقبلوا الوصية عتق على الموصى له ولم يصح ميراثه منه إذ لو ورث لاسقط ميراث الاخوة وإذا سقط ميراثهم بطل قبولهم للوصية فيبطل عتقه لأنه مرتب على القبول وكان توريثه مفضيا الى عدم توريثه
والصواب قول الجمهور أنه يرث ولا دور لان العتق حصل حال القبول وهم ورثة ثم ترتب على العتق تابعه وهو الميراث وذلك بعد القبول فلم يكن الميراث مع القبول ليلزم الدور وإنما ترتب على القبول العتق وعلى العتق الميراث فهو مترتب عليه بدرجتين

ومن المسائل التي يفضى ثبوتها الى بطلانها لو زوج عبده امرأة وجعل رقبته صداقها لم يصح إذا لو صح لملكته وانفسخ النكاح ومنها لو قال لأمته متى أكرهتك فأنت حرة حال النكاح أو قبله فأكرهها على النكاح لم يصح إذ لو صح النكاح عتقت ولو عتقت بطل إكراهها فيبطل نكاحها ومنها لو قال لامرأته قبل الدخول متى استقر مهرك على فأنت طالق قبله ثلاثا ثم وطئها لم يستقر مهرها بالوطء لأنه لو استقر لبطل النكاح قبله ولو بطل النكاح قبله لكان المستقر نصف المهر لاجميعه ! فاستقراره يؤدي الى بطلان استقراره هذا على قول ابن سريج وأما على قول المزني فإنه يستقر المهر بالوطء ولا يقع الطلاق لانه معلق على صفة تقتضي حكما مستحيلا

فصل المجيزون للحيل يؤيدون رأيهم
ومن المسائل التي يؤدي ثبوتها الى نفيها لو قال لامرأته إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم ومضى اليوم ولم يطلقها لم تطلق إذ لو طلقت بمضي اليوم لكان طلاقها مستندا الى وجود الصفة وهي عدم طلاقها اليوم وإذا مضى اليوم ولم يطلقها لم يقع الطلاق المعلق باليوم
ومنها لو تزوج أمة ثم قال لها إن مات مولاك وورثتك فأنت طالق او قال إن ملكتك فأنت طالق ثم ورثها او ملكها بغير إرث لا يقع الطلاق إذ لو وقع لم تكن الزوجة في حال وقوعه ملكا له لاستحالة وقوع الطلاق في ملكه فكان وقوعه مفضيا الى عدم وقوعه
ومنها لو كان العبد بين موسرين فقال كل منهما لصاحبه متى اعتقت نصيبك فنصيبي حر قبل ذلك فأعتق احدهما نصيبه لم ينفذ عتقه لانه لو نفذ

لوجب عتق نصيب صاحبه قبله وذلك يوجب السراية الى نصيبه فلا يصادف إعتاقه محلا فنفوذ عتقه يؤدي الى عدم نفوذه والصواب في هذه المسألة بطلان هذا التعليق لتضمنه المحال وأيهما عتق نصيبه صح وسرى الى نصيب شريكه
ومنها لو قال لعبده إن دبرتك فأنت حر قبله ثم دبره صح التدبير ولم يقع العتق لأن وقوعه يمنع صحة التدبير وعدم صحته يمنع وقوع العتق وكانت صحته تفضى الى بطلانه هذا على قول المزنى وعلى قول ابن سريج لايصح التدبير لأنه لو صح لوقع العتق قبله وذلك يمنع التدبير وكان وقوعه يمنع وقوعه
ونظيره ان يقول لمدبره متى ابطلت تدبيرك فأنت حر قبله ثم ابطله بطل ولم يقع العتق على قول المزنى إذ لو وقع لم يصادف إبطال التدبير محلا وعلى قول ابن سريج لايصح إبطال التدبير لأنه لو صح إبطاله لوقع العتق ولو وقع العتق لم يصح إبطال التدبير ومثله لو قال لمدبره إن بعتك فأنت حر قبله ومثله لو قال لعبده إن كاتبتك غدا فأنت اليوم حر ثم كاتبه من الغد ومثله لو قال لمكاتبه إن عجزت عن كتابتك فأنت حر قبله ومثله لو قال متى زنيت او سرقت او وجب عليك حد وانت مملوك فأنت حر قبله ثم وجد الوصف وجب الحد ولم يقع العتق المعلق به إذ لو وقع لم توجد الصفة فلم يصح وكان مستلزما لعدم وقوعه ومثله ان يقول له متى جنيت جناية وانت مملوكي فأنت حر قبله ثم جنى لم يعتق
ومثله ان يقول له متى بعتك وتم البيع فأنت حر قبله ثم باعه فعلى قول المزنى يصح البيع ولا يقع العتق لأن وقوعه يستلزم عدم وقوعه وعلى قول ابن سريج لايصح البيع لأنه يعتق قبله وعتقه يمنع صحة بيعه
ومثله لو قال لأمته إن صليت ركعتين مكشوفة الرأس فأنت حرة قبل ذلك فصلت مكشوفة الرأس فعلى قول المزنى تصح الصلاة دون العتق
وعلى قول ابن سريج لا تصح الصلاة لأنها لو صحت عتقت قبل ذلك واذا عتقت بطلت صلاتها

وكانت صحة صلاتها مستلزمة لبطلانها ومنها لو زوج أمته بحر وادعى عليه مهرها قبل الدخول وادعى الزوج الاعسار وادعى سيد الامة يساره قبل نكاحه الامة بميراث أو غيره لم تسمع دعواه إذ لو ثبتت دعواه لبطل النكاح لانه لا يصح نكاح الامة مع وجود الطول وإذا بطل النكاح بطل دعوى المهر
وكذلك لو تزوج بأمة فادعت ان الزوج عنين لم تسمع دعواها إذ لو ثبتت دعواها لزال خوف العنت الذي شرط في نكاح الامة وذلك يبطل النكاح وبطلانه يوجب بطلان الدعوى منها فلما كانت صحة دعواها تؤدي إلى إفسادها أفسدناها
وكذلك المرأة إذا ادعت على سيد زوجها أنه باعه إياها بمهرها قبل الدخول لم تصح دعواها لأنها لو صحت لسقط نصف المهر وبطل البيع في العبد
وكذلك لو شهد شاهدان على عتق عبد فحكم بعتقه ثم ادعى العبد بعد الحكم بحريته على احد الشاهدين انه مملوكه لم تسمع دعواه لأن تحقيقها يؤدي الى بطلان الشهادة على العتق فتبطل دعوى ملكة للشاهد
وكذلك لو سبى مراهق من أهل الحرب ولم يعلم بلوغه فأنكر البلوغ لم يستحلف لأن إحلافه يؤدي الى إبطال استحلافه فإنا لو حلفناه لحكمنا بصغره والحكم بالصغر يمنع الاستحلاف
ونظيره لو ادى على أم مراهق ما يوجب القصاص أو قذفا يوجب الحد او مالا من مبايعة أو ضمان او غير ذلك وادعى انه بالغ وانه يلزمه الحكم بذلك فأنكر الغلام ذلك فالقول قوله ولا يمين عليه إذ لو حلفناه لحكمنا بصغره والحكم بالصغر يسقط اليمين عنه وإذا لم يكن هنا يمين لم يكن رد يمين لان رد اليمين إنما يكون عند نكول من هو من أهلها وكذلك لو أعتق المريض جارية له

قيمتها مائة وتزوج بها في مرض موته ومهرها مائة وترك مائتي درهم فالنكاح صحيح ولا مهر لها ولا ميراث أما الميراث فلأنها لو ورثت لبطلت الوصية بعتقها لان العتق في المرض وصية وفي بطلان الوصية بطلان الحرية وفيه بطلان الميراث واما سقوط المهر فلأنه لو ثبت لركب السيد دين ولم تخرج قيمتها من الثلث فيبطل عتقها كلها فلم يكن للزوج ان ينكحها وبعضها رقيق فيبطل المهر فكان ثبوت المهر مؤديا الى بطلانه
فالحكم بإبطالها مستفاد من قوله تعالى ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا فعير تعالى من نقض شيئا بعد ان اثبته فدل على ان كل ما كان إثباته مؤديا الى نفيه وإبطاله كان باطلا فهذا ما احتج به السريجيون

الرد على السرجيين
قال الآخرون لقد أطلتم الخطب في هذه المسألة ولم تأتوا بطائل وقلتم ولكن تركتم مقالا لقائل وتأبى قواعد اللغة والشرع والعقل لهذة المسائل تصحيحا والميزان العادل لها عند الوزن ترجيحا وهيهات أن تكون شريعتنا في هذه المسألة مشابهة لشريعة اهل الكتاب إذ يستحيل وقوع الطلاق وتسد دونه الابواب وهل هذا إلا تغيير لما علم بالضرورة من الشريعة وإلزام لها بالاقوال الشنيعة وهذا أشنع من سد باب النكاح بتصحيح تعليق الطلاق لكل من تزوجها في مدة عمره فإنه وإن كان نظير سد باب الطلاق لكن قد ذهب إليه بعض السلف وأما هذه المسألة فمهما حدث في الاسلام بعد انقراض الاعصار المفضلة
ونحن نبين مناقضة هذه المسألة للشرع واللغة والعقل ثم نجيب عن شبهكم شبهة شبهة
أما مناقضتها للشرع فإن الله تعالى شرع للأزواج إذا أرادوا استبدال

زوج مكان زوج والتخلص من المرأة الطلاق وجعله بحكمته ثلاثا توسعة على الزوج إذ لعله يبدو له ويندم فيراجعها وهذا من تمام حكمته ورأفته ورحمته بهذه الامة ولم يجعل انكحتهم كأنكحة النصارى تكون المرأة غلا في عنق الرجل الى الموت ولا يخفى ما بين الشريعتين من التفاوت وان هذه المسألة منافية لإحداهما منافاة ظاهرة ومشتقة من الاخرى اشتقاقا ظاهرا ويكفى هذا الوجه وحده في إبطالها
وأما مناقضتها للغة فإنها تضمنت كلاما ينقض بعضه بعضا ومضمونه إذا وجد الشيء لم يوجد وإذا وجد الشيء اليوم فهو موجود قبل اليوم وإذا فعلت الشيء اليوم فقد وقع منى قبل اليوم ونحو هذا من الكلام المتناقض في نفسه الذي هو إلى المحال أقرب منه الى الصحيح من المقال
وأما مناقضتها قضايا العقول فلأن الشرط يستحيل ان يتأخر وجوده عن وجود المشروط ويتقدم المشروط عليه في الوجود هذا ممالا يعقل عند احد من العقلاء فإن رتبة الشرط التقدم او المقارنة والفقهاء وسائر العقلاء معهم مجمعون على ذلك فلو صح تعليق المشروط بشرط متأخر بعده لكان ذلك إخراجا له عن كونه شرطا أو جزء شرط او علة أو سببا فإن الحكم لا يسبق شرطه ولا سببه ولا علته إذ في ذلك إخراج الشروط والاسباب والعلل عن حقائقها وأحكامها ولو جاز تقديم الحكم على شرطه لجاز تقديم وقوع الطلاق على إيقاعه فإن الايقاع سبب والاسباب تتقدم مسبباتها كما ان الشروط رتبتها التقدم فإذا جاز إخراج هذا عن رتبته جاز إخراج الآخر عن رتبته فجوزوا حينئذ تقدم الطلاق على التطليق والعتق على الاعتاق والملك على البيع وحل المنكوحة على عقد النكاح وهل هذا في الشرعيات إلا بمنزلة تقدم الانكسار على الكسر والسيل على المطر والشبع على الاكل والولد على الوطء وأمثال

ذلك ولا سيما على أصل من يجعل هذه العلل والاسباب علامات محضة ولا تأثير لها بل هي معرفات والمعرف يجوز تأخيره عن المعرف
وبهذا يخرج الجواب عن قولكم إن الشروط الشرعية معرفات وأمارات وعلامات والعلامة يجوز تأخرها فإن هذا وهم وإيهام من وجهين

الشروط وأحكامها
أحدهما أن الفقهاء مجمعون على ان الشرائط الشرعية لا يجوز تأخرها عن المشروط ولو تأخرت لم تكن شروطا
الثاني أن هذا شرط لغوي كقوله إن كلمت زيدا فأنت طالق ونحو ذلك وإن خرجت بغير إذنى فأنت طالق ونحو ذلك والشروط اللغوية أسباب وعلل مقتضية لاحكامها اقتضاء المسببات لاسبابها ألا ترى أن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق سبب ومؤثر وأثر ولهذا يقع جوابا عن العلة فإذا قال لم أطلقها قال لوجود الشرط الذي علقت عليه الطلاق فلولا أن وجوده مؤثر في الايقاع لما صح هذا الجواب ولهذا يصح ان يخرجه بصيغة القسم فيقول الطلاق يلزمني لا تدخلين الدار فيجعل إلزامه للطلاق في المستقبل مسببا عن دخولها الدار بالقسم والشرط وقد غلط في هذا طائفة من الناس حيث قسموا الشرط الى شرعي ولغوي وعقلي ثم حكموا عليه بحكم شامل فقالوا الشرط يجب تقديمه على المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط ويلزم من انتفائه انتفاء المشروط كالطهارة للصلاة والحياة للعلم ثم أوردوا على نفسهم الشرط اللغوي فإنه يلزم من وجوده وجود المشروط ولا يلزم من انتفائه انتفاؤه لجواز وقوعه بسبب آخر ولم يجيبوا عن هذا الإيراد بطائل والتحقيق ان الشروط اللغوية اسباب عقلية والسبب إذا تم لزم من وجوده وجود مسببه وإذا انتفى لم يلزم نفى المسبب مطلقا لجواز خلف سبب اخر بل يلزم انتفاء السبب المعين عن هذا المسبب

وأما قولكم إنه صدر من هذا الزوج طلاقان منجز ومعلق والمحل قابل لهما فجوابه بالمنع فإن الحل ليس بقابل فإنه يتضمن المحال والمحل لا يقبل المحال نعم هو قابل للمنجز وحده فلا مانع من وقوعه وكيف تصح دعواكم ان المحل قابل للمعلق ومنازعكم إنما نازعكم فيه وقال ليس المحل بقابل للمعلق فجعلتم نفس الدعوى مقدمة في الدليل
وقولكم إن الزوج ممن يملك التنجيز والتعليق جوابه إنما يملك التعليق الممكن فأما التعليق المستحيل فلم يملكه شرعا ولا عرفا ولا عادة وقولكم لا مزية لاحدهما على الاخر باطل بل المزية كل المزية لاحدهما على الآخر فإن المنجز له مزية الامكان في نفسه والمعلق له مزية الاستحالة والامتناع فلم يتمانعا ولم يتساقطا فلم يمنع من وقوع المنجز مانع وقولكم إنه نظير ما لو تزوج أختين في عقد جوابه أنه تنظير باطل فإنه ليس نكاح إحداهما شرطا في نكاح الاخرى بخلاف مسألتنا فإن المنجز شرط في وقوع المعلق وذلك عين المحال
وقولكم إنه لا مزية لأحد الطلاقين على الآخر باطل بل للمنجز مزية من عدة وجوه أحدها قوة التنجيز على التعليق الثاني ان التنجيز لا خلاف في وقوع الطلاق به واما التعليق ففيه نزاع مشهور بين الفقهاء والموقعون لم يقيموا على المانعين حجة توجب المصير اليها مع تناقضهم فيما يقبل التعليق ومالا يقبله فمنازعوهم يقولون الطلاق لا يقبل كما قلتم أنتم في الاسقاط والوقف والنكاح والبيع ولم يفرق هؤلاء بفرق صحيح وليس الغرض ذكر تناقضهم بل الغرض ان للمنجز مزية على المعلق الثالث ان المشروط هو المقصود لذاته والشرط تابع ووسيلة الرابع أن المنجز لا مانع من وقوعه لأهلية الفاعل وقبول المحل والتعليق المحال لا يصلح ان يكون مانعا من اقتضاء السبب الصحيح اثره

الخامس أن صحة التعليق فرع على ملك التنجيز فإذا انتفى ملكه للمنجز في هذه المسألة انتفى صحة التعليق فصحة التعليق تمنع من صحته وهذه معارضة صحيحة في أصل المسألة فتأملها السادس انه لو قال في مرضه إذا اعتقت سالما فغانم حر ثم اعتق سالما ولا يخرجان من الثلث قدم عتق المنجز على المعلق لقوته يوضحه الوجه السابع أنه لو قال لغيره ادخل الدار فإذا دخلت أخرجتك وهو نظيره في القوة فإذا دخل لم يمكنه إخراجه وهذا المثال وزان مسألتنا فإن المعلق هو الاخراج والمنجز هو الدخول الثامن ان المنجز في حيز الامكان والمعلق قد قارنه ما جعله مستحيلا التاسع ان وقوع المنجز يتوقف على امر واحد وهو التكلم باللفظ اختيارا ووقوع المعلق يتوقف على التكلم باللفظ ووجود الشرط وما توقف على شيء واحد أقرب وجودا مما توقف على أمرين العاشر أن وقوع المنجز موافق لتصرف الشارع وملك المالك ووقوع المعلق بخلافه لان الزوج لم يملكه الشارع ذلك فهذه عشرة اوجه تدل على مزية المنجز وتبطل قولكم إنه لا مزية له والله أعلم

فصل ردود على المسألة السريجية
وأما سائر الصور التي ذكرتموها من صور الدور التي يفضى ثبوتها الى إبطالها فمنها ما هو ممنوع الحكم لا يسلمه لكم منازعكم وإنما هي مسائل مذهبية يحتج لها ولا يحتج بها وهم يفكون الدور تارة بوقوع الحكمين معا وعدم إبطال احدهما للآخر ويجعلونهما معلولى علة واحدة ولا دور وتارة يسبق احد الحكمين للآخر سبق السبب لمسببه ثم يترتب الآخر عليه ومنها ما هو مسلم الحكم وثبوت الشيء فيه يقتضي إبطاله
ولكن لهذا حجة لهم في إبطال هذا التعليق فإنه لو صح لأفضى ثبوته إلى

بطلانه فإنه لو صح لزم منه وقوع طلقة مسبوقة بثلاث وسبقها بثلاث يمنع وقوعها فبطل التعليق من أصله للزوم المحال فهذه الصور التي استشهدتم بها من أقوى حججهم عليكم على بطلان التعليق
وأدلتكم في هذه المسألة نوعان أدلة صحيحة وهي إنما تقتضي بطلان التعليق
وأما الادلة التي تقتضى بطلان المنجز فليس منها دليل صحيح فإنه طلاق صدر من أهله في محله فوجب الحكم بوقوعه أما أهلية المطلق فلأنه زوج مكلف مختار وأما محلية المطلقة فلأنها زوجة والنكاح صحيح فيدخل في قوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره وفي سائر نصوص الطلاق إذ لو لم يلحقها طلاق لزم واحد من ثلاثة وكلها منتفية إما عدم أهلية المطلق وإما عدم قبول المحل وإما قيام مانع يمنع من نفوذ الطلاق والمانع مفقود إذ ليس مع مدعى قيامه إلا التعليق المحال الباطل شرعا وعقلا وذلك لا يصح ان يكون مانعا
يوضحه ان المانع من اقتضاء السبب لمسببه انما هو وصف ثابت يعارض سببيته فيوقفها عن اقتضائها فأما المستحيل فلا يصح ان يكون مانعا معارضا للوصف الثابت وهذا في غاية الوضوح ولله الحمد

فصل السريجيون يعترضون
قال السريجيون لقد ارتقيتم مرتقى صعبا وأسأتم الظن بمن قال بهذه المسألة وهم أئمة علماء لا يشق غبارهم ولا تغمز قناتهم كيف وقد أخذوها من نص الشافعي رحمه الله تعالى وبنوها على اصوله ونظروا لها النظائر واتوا لها بالشواهد فنص الشافعي على انه إذا قال أنت طالق قبل موتي بشهر ثم مات لأكثر من شهر بعد هذا التعليق وقع الطلاق قبل موته بشهر وهذا إيقاع

طلاق في زمن ماض سابق لوجود الشرط وهو موته فإذا وجد الشرط تبينا وقوع الطلاق قبله وايضاح ذلك بإخراج الكلام مخرج الشرط كقوله إن مت أو إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر ونحن نلزمكم بهذه المسألة على هذا الأصل فإنكم موافقون عليه وكذا قوله قبل دخوله أنت طالق طلقة قبلها طلقة فإنه يقع بها طلقتان وإحداهما وقعت في زمن ماض سابق على التطليق وبهذا خرج الجواب عن قوله إن الوقوع كما لم يسبق الايقاع فلا يسبق الطلاق التطليق فكذا لا يسبق شرطه فإن الحكم لا يتقدم عليه ويجوز تقدمه على شرطه واحد سببيه او أسبابه فإن الشرط معرف محض ولا يمتنع تقديم المعرف عليه وأما تقديمه على أحد سببيه فكتقدم الكفارة على الحنث بعد اليمين وتقديم الزكاة على الحول بعد ملك النصاب وتقديم الكفارة على الجرح قبل الزهوق ونظائرها
وأما قولكم إن الشرط يجب تقديمه على المشروط فممنوع بل مقتضى الشرع توقف المشروط على وجوده وأنه لا يوجد بدونه وليس مقتضاه تأخر المشروط عنه وهذا يتعلق باللغة والعقل والشرع ولا سبيل لكم الى نص عن أهل اللغة في ذلك ولا الى دليل شرعي ولا عقلي فدعواه غير مسموعة ونحن لا ننكر ان من الشروط ما يتقدم مشروطه ولكن دعوى ان ذلك حقيقة الشرط وأنه إن لم يتقدم خرج عن أن يكون شرطا دعوى لا دليل عليها وحتى لو جاء عن أهل اللغة ذلك لم يلزم مثله في الاحكام الشرعية لان الشروط في كلامهم تتعلق بالافعال كقوله إن زرتني أكرمتك وإذا طلعت الشمس جئتك فيقتضى الشرط ارتباطا بين الاول والثاني فلا يتقدم المتأخر ولا يتأخر المتقدم وأما الاحكام فتقبل التقدم والتأخر والانتقال كما لو قال إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر ومعلوم انه لو قال مثل هذا في الحسيات كان محالا فلو قال إذا زرتني أكرمتك قبل ان تزورني بشهر كان محالا إلا ان يحمل كلامه على معنى صحيح وهو إذا أردت او عزمت على زيارتي أكرمتك قبلها

وسر المسألة ان نقل الحقائق عن مواضعها ممتنع والاحكام قابلة للنقل والتحويل والتقديم والتأخير ولهذا لو قال اعتق عبدك عنى ففعل وقع العتق عن القائل وجعل الملك متقدما على العتق حكما وإن لم يتقدم عليه حقيقة
وقولكم يلزمنا تجويز تقديم الطلاق على التطليق فذلك غير لازم فإنه انما يقع بإيقاعه فلا يسبق إيقاعه بخلاف الشرط فانه لا يوجب وجود المشروط وإنما يرتبط به والارتباط أعم من السابق والمقارن والمتأخر والاعم لا يستلزم الاخص
ونكتة الفرق أن الايقاع موجب للوقوع فلا يجوز ان يسبقه أثره وموجبه والشرط علامة على المشروط فيجوز ان يكون قبله وبعده فوزان الشرط وزان الدليل ووازن الايقاع وزان العلة فافترقا
وأما قولكم إن هذا التعليق يتضمن المحال الى آخره فجوابه ان هذا التعليق تضمن شرطا ومشروطا وقد تعقد القضية الشرطية في ذلك للوقوع وقد تعقد للإبطال فلا يوجد فيها الشرط ولا الجزاء بل تعليق ممتنع بممتنع فتصدق الشرطية وإن انتفى كل من جزئيها كما تقول لو كان مع الله إله آخر لفسد العالم وكما في قوله إن كنت قلته فقد علمته ومعلوم انه لم يقله ولم يعلمه الله وهكذا قوله ان وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا فقضية عقدت لامتناع وقوع طرفيها وهما المنجز والمعلق
ثم نذكر في ذلك قياسا آخر حرره الشيخ ابو إسحاق رحمه الله تعالى فقال طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر فوجب ان ينفى السابق منهما المتأخر نظيره ان يقول لامرأته إن قدم زيد فانت طالق ثلاثا وإن قدم عمرو فأنت طالق طلقة فقدم زيد بكرة وعمرو عشية ونكتة المسألة أنا لو أوقعنا

الطلاق المباشر لزمنا ان نوقع قبله ثلاثا ولو أوقعنا قبله ثلاثا لامتنع وقوعه في نفسه فقد أدى الحكم بوقوعه الحكم بعدم وقوعه فلا يقع
وقولكم إن هذه اليمين تفضى الى سد باب الطلاق وذلك تغيير لشرع الله فإن الله ملك الزوج الطلاق رحمة به إلى آخره جوابه ان هذا ليس فيه تغيير للشرع وإنما هو إتيان بالسبب الذي ضيق به على نفسه ما وسعه الله عليه وهو هذه اليمين وهذا ليس تغيير للشرع ألا ترى ان الله تعالى وسع عليه أمر الطلاق فجعلة واحده بعد واحدة ثلاث مرات لئلا يندم فإذا ضيق على نفسه وأوقعها بفم واحد حصر نفسه وضيق عليها ومنعها ما كان حلالا لها وربما لم يبق له سبيل الى عودها اليه ولذلك جعل الله تعالى الطلاق الى الرجال ولم يجعل للنساء فيه حظا لنقصان عقولهن وأديانهن فلو جعله إليهن لكان فيه فساد كبير تأباه حكمة الرب تعالى ورحمته بعباده فكانت المرأة لا تشاء ان تتبدل بالزوج الا استبدلت به بخلاف الرجال فانهم اكمل عقولا واثبت فلا يستبدل بالزوجة إلا إذا عيل صبره ثم إن الزوج قد يجعل طلاق امرأته بيدها بأن يملكها ذلك او يحلف عليها ان لا تفعل كذا فتختار طلاقه متى شاءت ويبقى الطلاق بيدها وليس في هذا تغيير للشرع لأنه هو الذي ألزم نفسه هذا الحرج بيمينه وتمليكه ونظير هذا ما قاله فقهاء الكوفة قديما وحديثا إنه لو قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق لم يمكنه ان يتزوج بعد ذلك امرأة حتى قيل إن اهل الكوفة أطبقوا على هذا القول ولم يكن في ذلك تغيير للشريعة فإنه هو الذي ضيق على نفسه ما وسع الله عليه ونظير هذا لو قال كل عبد وأمة أملكها فهما حران لم يكن له سبيل بعد هذا الى ملك رقيق اصلا وليس في هذا تغيير للشرع بل هو المضيق على نفسه والضيق والحرج الذي يدخله المكلف على نفسه لا يلزم ان يكون الشارع قد شرعه له وإن الزمه به بعد ان ألزم نفسه ألا ترى ان

من كان معه الف دينار فاشترى بها جارية فأولدها ثم ساءت العشرة بينهما لم يبق له طريق الى الاستبدال بها وعليه ضرر في إعتاقها او تزويجها او إمساكها ولا بد له من أحدها
ثم نقول في معارضة ما ذكرتم بل يكون في هذه اليمين مصلحة له وغرض صحيح بأن يكون محبا لزوجته شديد الإلف بها وهو مشفق من ان ينزع الشيطان بينهما فيقع منه طلاقها من غضبة او موجدة او يحلف يمينا بالطلاق أو يبلى بمن يستحلفه بالطلاق ويضطر الى الحنث او يبلى بظالم يكرهه على الطلاق ويرفعه الى حاكم ينفذه او يبلى بشاهدي زور يشهدان عليه بالطلاق وفي ذلك ضرر عظيم به وكان من محاسن الشريعة ان يجعل له طريقا الى الامن من ذلك كله ولا طريق احسن من هذه فلا ينكر من محاسن هذه الشريعة الكاملة أن تأتى بمثل ذلك ونحن لا ننكر ان في ذلك نوع ضرر عليه لكن رأى احتماله لدفع ضرر الفراق الذي هو أعظم من ضرر البقاء وما ينكر في الشريعة من دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما

فصل الجواب على الشبه السريجية
قال الموقعون لقد دعوتم الشبه الجفلي الى وليمة هذه المسألة فلم تدعوا منها داعيا ولا مجيبا واجتهدتم في تقريرها ظانين إصابة الاجتهاد وليس كل مجتهد مصيبا ونثرتم عليها ما لا يصلح مثله للنثار وزينتموها بأنواع الحلي ولكنه حلى مستعار فإذا استردت العارية زال الالتباس والاشتباه وهناك تسمع بالمعيدي خير من أن تراه

فأما قولكم إنا ارتقينا مرتقي صعبا وأسأنا الظن بمن قال بهذه المسألة فإن أردتم بإساءة الظن بهم تأثيما او تبديعا فمعاذ الله بل انتم أسأتم بنا الظن وإن أردتم بإساءة الظن أنا لم نصوبهم في هذه المسألة ورأينا الصواب في خلافهم فيها فهذا قدر مشترك بيننا وبينكم في كل ما تنازعنا فيه بل سائر المتنازعين بهذه المثابة وقد صرح الاربعة الائمة بأن الحق في واحد من الاقوال المختلفة وليست كلها صوابا
وأما قولكم إن هذه المسألة مأخوذة من نص الشافعي لجوابه من وجهين
أحدهما أنها لوكانت منصوصة له فقوله بمنزلة قول غيره من الائمة يحتج له ولا يحتج به وقد نازعه الجمهور فيها والحجة تفصل ما بين المتنازعين
الثاني ان الشافعي رضي الله تعالى عنه لم ينص عليها ولا على ما يستلزمها
وغاية ما ذكرتم نصه على صحة قوله انت طالق قبل موتي بشهر فإذا مات لأكثر من شهر من وقت هذا التعليق تبينا وقوع الطلاق وهذا قد وافقه عليه من يبطل هذه المسألة وليس فيه ما يدل على صحة هذه المسألة ولا هو نظيرها وليس فيه سبق الطلاق لشرطه ولا هو متضمن للمحال إذ حقيقته إذا بقى من حياتي شهر فأنت طالق
وهذا الكلام معقول غير متناقض ليس فيه تقديم الطلاق على زمن التطليق ولا على شرط وقوعه وانما نظير المسألة المتنازع فيها ان يقول إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر وهذا المحال بعينه وهو نظير قوله إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا او يقول انت طالق عام الاول فمسألة الشافعي شيء ومسألة ابن سريج شيء ويدل عليه ان الشافعي إنما أوقع عليه الطلاق إذا مات لأكثر من شهر من حين التعليق فلو مات عقيب اليمين لم تطلق وكانت بمنزلة قوله انت طالق في الشهر الماضي وبمنزلة قوله أنت طالق قبل ان

أنكحك فإن كلا الوقتين ليس بقابل للطلاق لأنها في أحدهما لم تكن محلا وفي الثاني لم تكن فيه طالقا قطعا فقوله انت طالق في وقت قد مضى ولم تكن فيه طالقا إما إخبار كاذب أو إنشاء باطل وقد قيل يقع عليه الطلاق ويلغو قوله أمس لأنه أتى بلفظ الطلاق ثم وصل به ما يمنع وقوعه أو يرفعه فلا يصلح ويقع لغوا وكذلك قوله انت طالق طلقة قبلها طلقة ليس فيه إيقاع الطلقة الموصوفة بالقبلية في الزمن الماضي ولا تقدمها على الايقاع وإنما فيه إيقاع طلقتين احداهما قبل الاخرى فمن ضرورة قوله قبلها طلقة إيقاع هذه السابقة أولا ثم إيقاع الثانية بعدها فالطلقتان إنما وقعتا بقوله انت طالق لم تتقدم إحداهما على زمن الايقاع وإن تقدمت على الاخرى تقديرا فأين هذا من التعليق المستحيل فان أبيتم وقلتم قد وصل الطلقة المنجزة بتقدم مثلها عليها والسبب هو قوله انت طالق فقد تقدم وقوع الطلقة المعلقة بالقبلية على المنجزة ولما كان هذا نكاحا صح وهكذا قوله إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا اكثر ما فيه تقدم الطلاق السابق على المنجز ولكن المحل لا يحتملهما فتدافعا وبقيت الزوجية بحالها ولهذا لو قال إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله واحدة صح لاحتمال المحل لهما
فالجواب أنه أوقع طلقتين واحدة قبل واحدة ولم تسبق إحداهما إيقاعه ولم يتقدم شرط الايقاع فلا محذور وهو كما لو قال بعدها طلقة او معها طلقة وكأنه قال أنت طالق طلقتين معا أو واحدة بعد واحدة ويلزم من تأخر واحدة عن الأخرى سبق إحداهما للأخرى فلا إحالة اما وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فهو محال وقصده باطل والتعبير عنه إن كان خبرا فهو كذب وإن كان إنشاء فهو منكر فالتكلم به منكر من القول وزور في إخباره منكر في إنشائه وأما كون المعلق تمام الثلاث فههنا لمنازعيكم قولان تقدم حكايتهما وهما وجهان في مذهب احمد والشافعي

أحدهما يصح هذا التعليق ويقع المنجز والمعلق وتصير المسألة على وزان ما نص عليه الشافعي من قوله إذا مات زيد فأنت صالق قبله بشهر فمات بعد شهر فهكذا إذا قال إذا وقع عليك طلاقي فانت طالق قبله واحدة ثم مضى زمن تمكن فيه القبيلة ثم طلقها تبينا وقوع المعلق في ذلك الزمان وهو متأخر عن الايقاع فكأنه قال أنت طالق في الوقت السابق على تنجيز الطلاق أو وقوعه معلقا فهو تطليق في زمن متأخر
والقول الثاني أن هذا محال ايضا ولا يقع المعلق إذ حقيقته انت طالق الزمن السابق على تطليقك تنجيزا او تعليقا فيعود الى سبق الطلاق للتطليق وسبق الوقوع للإيقاع وهو حكم بتقديم المعلول على علته
يوضحه ان قوله إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله إما ان يريد طالق قبله بهذا الايقاع او بإيقاع متقدم والثاني ممتنع لانه لم يسبق هذا الكلام منه شيئا والثاني كذلك لانه لا يتضمن انت طالق قبل ان اطلقك وهذا عين المحال فهذا كشف حجاب هذه المسألة وسر ما اخذها وقد تبين ان مسالة الشافعي لون وهذه لون آخر
وأما قولكم إن الحكم لا يجوز تقدمه على علته ويجوز تقدمه على شرطه كما يجوز تقدمه على احد سببيه الى آخره فجوابه ان الشرط إما ان يوجد جزءا من المقتضى او يوجد خارجا عنه وهما قولان للنظار والنزاع لفظي فإن اريد بالمقتضى التام فالشرط جزء منه وان اريد به المقتضى الذي يتوقف اقتضاؤه على وجود شرطه وعدم مانعه فالشرط ليس جزءا منه ولكن اقتضاؤه يتوقف عليه والطريقة الثانية طريقة القائلين بتخصيص العلة والاولى طريقة المانعين من التخصيص وعلى التقديرين فيمتنع تأخر الشرط عن وقوع المشروط لانه يستلزم

وقوع الحكم بدون سببه التام فإن الشرط ان كان جزءا من المقتضى فظاهر وان كان شرطا لاقتضائه فالمعلق على الشرط لا يوجد عند عدمه وإلا لم يكن شرطا فإنه لوكان يوجد بدونه لم يكن شرطا فلو ثبت الحكم قبله لثبت بدون سببه التام فإن سببه لا يتم إلا بالشرط فعاد الامر الى سبق الاثر لمؤثره والمعلول لعلته وهذا محال ولهذا لما لم يكن لكم حيلة في دفعه وعلمتم لزومه فررتم الى ما لا يجدى عليكم شيئا وهو جعل الشرط مجرد علامة ودليل ومعرف وهذا إخراج للشرط عن كونه شرطا وإبطال لحقيقته فإن العلامة والدليل والمعرف ليست شروطا في المدلول المعرف ولا يلزم من نفيها نفيه فإن الشيء يثبت بدون علامة ومعرف له والمشروط ينتفى لانتقاء شرطه وان لم يوجد لوجوده وكل العقلاء متفقون على الفرق بين الشرط والامارة المحضة وان حقيقة احدهما وحكمه دون حقيقة الآخر وحكمه وإن كان قد يقال إن العلامة شرط في العلم بالمعلم والدليل شرط في العلم بالمدلول فذاك امر وراء الشرط في الوجود الخارجي فهذا شئ وذلك شئ آخر وهذا حق ولهذا ينتفى العلم بالمدلول عند انتفاء دليله ولكن هل يقول أحد أن المدلول ينتفي لانتفاء دليله
فإن قيل نعم قد قاله غير واحد وهو انتفاء الحكم الشرعي لانتفاء دليله
قيل نعم فإن الحكم الشرعي لا يثبت بدون دليله فدليله موجب لثبوته فإذا انتفى الموجب انتفى الموجب ولهذا يقال لا موجب فلا موجب أما شرط اقتضاء السبب لحكمه فلا يجوز اقتضاؤه بدون شرطه ولو تأخر الشرط عنه لكان مقتضيا بدون شرطه وذلك يستلزم إخراج الشرط عن حقيقته وهو محال
وأما تقديم الحكم على احد سببيه في الصور التي ذكرتموها على إحدى الطريقتين او تقديمه على شرط بعد وجود سببه على الطريقة الاخرى فالتنظير به

مغلطة فإن الحكم لم يتقدم على سببه ولا شرطه وهذا محال وإن وقع تسامح في عبارة الفقهاء فإن انقضاء الحول مثلا والحنث والموت بعد الجرح شرط للوجوب ونحن لم نقدم الوجوب على شرطه ولا سببه وإنما قدمنا فعل الواجب والفرق بين تقدم الحكم بالوجوب وبين تقدم اداء الواجب فظهر ان هذا وهم او إيهام وقد ظهر ان تقديم شرط علة الحكم وموجبه على الحكم امر ثابت عقلا وشرعا ونحن لم نأخذ ذلك عن نص اهل اللغة حتى تطالبونا بنقله بل ذلك أمر ثابت لذات الشرط وحكم من احكامه وليس ذلك متلقى من اللغة بل هو ثابت في نفس الامر لا يختلف بتقدم لفظ ولا تأخره حتى لو قال انت طالق إن دخلت الدار أو قال يبعثك الله إذا مت او تجب عليك الصلاة اذا دخل وقتها ونحو ذلك فالشرط متقدم عقلا وطبعا وشرعا وإن تأخر لفظا
وأما قولكم إن الاحكام تقبل النقل عن مواضعها فتتقدم وتتأخر فتطويل بلا تحصيل وتهويل بلا تفصيل فهل تقبل النقل عن ترتيبها على أسبابها وموجباتها بحيث يثبت الحكم بدون سببه ومقتضيه نعم قد يتقدم ويتأخر وينتقل لقيام سبب آخر يقتضى ذلك فيكون مرتبا على سببه الثاني بعد انتقاله كما كان مرتبا على الاول قبل انتقاله وفي كل من الموضعين هو مرتب على سببه هذا في حكمه وذاك في محله وأما تنظيركم بنقل الاحكام وتقدمها على أسبابها بقوله انت طالق قبل موتي بشهر وقولكم إن نظيره في الحسيات ان تقول إن زرتني أكرمتك قبل زيارتك بشهر فوهم أيضا أو إيهام فإن قوله أنت طالق قبل موتى بشهر إنما تطلق إذا مضى شهر بعد هذه اليمين حتى يتبين وقوع الطلاق بعد إيقاعه فلو مات قبل مضي شهر لم تطلق على الصحيح لانه يصير بمنزلة انت طالق عام الاول وليس كذلك قوله إن زرتني أكرمتك قبله بشهر فإن الطلاق حكم يمكن تقدير وقوعه قبل الموت والإكرام فعل حتى

لا يكون إكراما بالتقدير وإنما يكون إكراما بالوقوع وأما استشهادكم بقوله اعتق عبدك عني فهو حجة عليكم فإنه يستلزم تقدم الملك التقديري على العتق الذي هو اثره وموجبه والملك شرطه ولو جاز تأخر الشرط لقدر الملك له بعد العتق وهذا محال فعلم ان الاسباب والشروط يجب تقدمها سواء كانت محققة او مقدرة
وقولكم إن هذا التعليق يتصمن شرطا ومشروطا والقضية الشرطية قد تعقد للوقوع وقد تعقد لنفي الشرط والجزاء الى آخره فجوابه ايضا ان هذا من الوهم أو الايهام فإن القضية الشرطية هي التي يصح الارتباط بين جزءيها سواء كانا ممكنين او ممتنعين ولا يلزم من صدقها شرطية صدق جزءيها جملتين فالاعتبار إنما هو بصدقها في نفسها ولهذا كان قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا من أصدق الكلام وجزاء الشرطية ممتنعان لكن أحدهما ملزوم للآخر فقامت القضية الشرطية من التلازم الذي بينهما فإن تعدد الآلهة مستلزم لفساد السموات والارض فوجود آلهة مع الله ملزوم لفساد السموات والارض والفساد لازم فإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه فصدقت الشرطية دون مفرديها وأما الشرطية في مسألتنا فهي كاذبة في نفسها لانها عقدت للتلازم بين وقوع الطلاق المنجز وسبق الطلاق الثلاث عليه وهذا كذب في الإخبار باطل في الانشاء فالشرطية نفسها باطلة لا تصح بوجه فظهر ان تنظيرها بالشرطية الصادقة الممتنعة الجزءين وهم او إيهام ظاهر لاخفاء به
وأما قياسكم المحرر وهو قولكم طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر فوجب ان ينفى السابق منهما المتأخر كقوله إن قدم زيد إلى آخره فجوابه أنه لما قدم زيد طلقت ثلاثا فقدم عمرو بعده وهي أجنبية فلم يصادف الطلاق الثاني محلا فهذا معقول شرعا ولغة وعرفا فأين هذا من تعلق مستحيل

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8