كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل
تأليف:محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل
ص -2- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل.
الإمام ابن قيم الجوزية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ذي الإفضال والإنعام، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والأئمة الأعلام أما بعد فإن أهم ما يجب معرفته على المكلف النبيل فضلا عن الفاضل الجليل، ما ورد في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، فهو من أسنى المقاصد والإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين المبين وختامه، فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها، فالعدل قوام الملك، والحكمة مظهر الحمد، والتوحيد متضمن لنهاية الحكمة، وكمال النعمة، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين،: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
فصل: وقد سلك جماهير العقلاء في هذا الباب في كل واد، وأخذوا في كل طريق، وتولجوا كل مضيق، وركبوا كل صعب وذلول، وقصدوا الوصول إلى معرفته، والوقوف على حقيقته، وتكلمت فيه الأمم قديما وحديثا، وساروا للوصول إلى مغزاه سيرا حثيثا، وخاضت فيه الفرق على تباينها واختلافها، وصنف فيه المصنفون الكتب على تنوع أصنافها، فلا أحد إلا وهو يحدث نفسه بهذا الشأن، ويطلب الوصول فيه إلى حقيقة العرفان، فتراه إما مترددا فيه مع نفسه، أو مناظرا لبني جنسه، وكل قد اختار لنفسه قولا لا يعتقد الصواب في سواه، ولا يرتضي إلا إياه، وكلهم إلا من تمسك بالوحي عن طريق الصواب مردود، وباب الهدى في وجهه مسدود، تحسى علما غير طائل، وارتوى من ماء آجن، قد طاف على أبواب الأفكار، ففاز بأخس الآراء والمطالب، فرح بما عنده من العلم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وقدم آراء من أحسن به الظن على الوحي المنزل المشروع، والنص المرفوع، حيران يأتم بكل

حيران، يحسب كل شراب ماء فهو طول عمره ظمآن،

ص -3- ينادى إلى الصواب من مكان بعيد، أقبل إلى الهدى فلا يستجيب إلى يوم الوعيد، قد فرح بما عنده من الضلال، وقنع بأنواع الباطل وأصناف المحال، منعه الكفر الذي اعتقده هدى وما هو ببالغه عن الهداة المهتدين، ولسان حاله أو قاله يقول: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.
فصل: ولما كان الكلام في هذا الباب نفيا وإثباتا موقوفا على الخبر عن أسماء الله وصفاته وأفعاله وخلقه وأمره وأسعد الناس بالصواب فيه من تلقى ذلك من مشكاة الوحي المبين ورغب بعقله وفطرته وإيمانه عن آراء المتهوكين وتشكيكات المشككين وتكلفات المتنطعين واستمطر ديم الهداية من كلمات أعلم الخلق برب العالمين فإن كلماته الجوامع النوافع في هذا الباب وفي غيره كفت وشفت وجمعت وفرقت وأوضحت وبينت وحلت محل التفسير والبيان لما تضمنه القرآن ثم تلاه أصحابه من بعده على نهجه المستقيم وطريقه القويم فجاءت كلماتهم كافية شافية مختصرة نافعة لقرب العهد ومباشرة التلقي من تلك المشكاة التي هي مظهر كل نور ومنبع كل خير وأساس كل هدى ثم سلك آثارهم التابعون لهم بإحسان فاقتفوا طريقهم وركبوا مناهجهم واهتدوا بهداهم ودعوا إلى ما دعوا إليه ومضوا على ما كانوا عليه ثم نبغ في عهدهم وأواخر عهد الصحابة القدرية مجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر وأن الأمر أنف فمن شاء هدى نفسه ومن شاء أضلها ومن شاء بخسها حظها وأهملها ومن شاء وفقها للخير وكملها كل ذلك مردود إلى مشيئة العبد ومقتطع من مشيئة العزيز الحميد فأثبتوا في ملكه مالا يشاء وفي مشيئته ما لا يكون ثم جاء خلف هذا السلف فقرروا ما أسسه أولئك من نفي القدر وسموه عدلا وزادوا عليه نفي صفاته سبحانه وحقائق أسمائه وسموه توحيدا فالعدل عندهم إخراج أفعال الملائكة والإنس والجن وحركاتهم وأقوالهم وإراداتهم من قدرته

ومشيئته وخلقه والتوحيد عند متأخريهم تعطيله عن صفات كماله ونعوت جلاله وأنه لا سمع له ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة تقوم به ولا كلام ما تكلم ولا يتكلم ولا أمر ولا يأمر ولا قال ولا يقول إن ذلك إلا أصوات وحروف مخلوقة منه في الهواء أو في محل مخلوق ولا استوى على عرشه فوق سماواته ولا ترفع إليه الأيدي ولا تعرج الملائكة والروح إليه ولا ينزل الأمر والوحي من عنده وليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد ما فوقه إلا العدم المحض والنفي الصرف فهذا توحيدهم وذاك عدلهم.
فصل: ثم نبغت طائفة أخرى من القدرية فنفت فعل العبد و قدرته و اختياره و زعمت أن حركته الاختيارية و لا اختيار كحركة الأشجار عند هبوب الرياح و كحركات الأمواج و إنه على الطاعة و المعصية مجبور و إنه غير ميسر لما خلق له بل هو عليه مقسور و مجبور ثم تلاهم أتباعهم على آثارهم مقتدين و لمناهجهم مقتفين فقرروا هذا المذهب و انتموا إليه و حققوه وزادوا عليه أن تكاليف الرب تعالى لعباده كلها تكليف ما لا يطاق و إنها في الحقيقة كتكليف المقعد أن يرقى إلى السبع الطباق فالتكليف بالإيمان و شرائعه تكليف بما ليس من فعل العبد و لا هو له بمقدور و إنما هو تكليف بفعل من هو متفرد بالخلق و هو على كل شيء قدير فكلف عباده بأفعاله و ليسوا عليها قادرين ثم عاقبهم عليها وليسوا في الحقيقة لها فاعلين ثم تلاهم على آثارهم محققوهم من العباد فقالوا ليس في الكون

ص -4- معصية البتة إذ الفاعل مطيع للإرادة موافق للمراد كما قيل:
أصبحت منفعلا لما يختاره منى ففعلي كله طاعات

ولاموا بعض هؤلاء على فعله فقال إن كنت عصيت أمره فقد أطعت إرادته ومطيع الإرادة غير ملوم وهو في الحقيقة غير مذموم وقرر محققوهم من المتكلمين هذا المذهب بأن الإرادة والمشيئة والمحبة في حق الرب سبحانه هي واحد فمحبته هي نفس مشيئته وكل ما في الكون فقد أراده وشاءه وكل ما شاءه فقد أحبه وأخبرني شيخ الإسلام قدس الله روحه أنه لام بعض هذه الطائفة على محبة ما يبغضه الله ورسوله فقال له الملوم المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب وجميع ما في الكون مراده فأي شيء أبغض منه قال الشيخ فقلت له إذا كان قد سخط على أقوام ولعنهم وغضب عليهم وذمهم فواليتهم أنت وأحببتهم وأحببت أفعالهم ورضيتها تكون مواليا له أو معاديا قال فبهت الجبري ولم ينطق بكلمة وزعمت هذه الفرقة أنهم بذلك للسنة ناصرون وللقدر مثبتون ولأقوال أهل البدع مبطلون هذا وقد طووا بساط التكليف وطففوا في الميزان غاية التطفيف وحملوا ذنوبهم على الأقدار وبرأوا أنفسهم في الحقيقة من فعل الذنوب والأوزار وقالوا أنها في الحقيقة فعل الخلاق العليم وإذا سمع المنزه لربه هذا قال: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} فالشر ليس إليك والخير كله في يديك ولقد ظنت هذه الطائفة بالله أسوأ الظن ونسبته إلى أقبح الظلم وقالوا أن أوامر الرب ونواهيه كتكليف العبد أن يرقى فوق السماوات وكتكليف الميت إحياء الأموات والله يعذب عباده أشد العذاب على فعل ما لا يقدرون يقدرون على تركه وعلى ترك مالا يقدرون على فعله بل يعاقبهم على نفس فعله الذي هو لهم غير مقدور وليس أحد ميسر له بل هو عليه مقهور ونرى العارف منهم ينشد مترنما ومن ربه متشكيا ومتظلما:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء

وليس عند القوم في نفس الأمر سبب ولا غاية ولا حكمة ولا قوة في الأجسام ولا طبيعة ولا غريزة فليس في الماء قوة التبريد ولا في النار قوة التسخين ولا في الأغذية قوة الغذاء ولا في الأدوية قوة الدواء ولا في العين قوة الإبصار ولا في الأذن قوة السماع ولا في الأنف قوة الشم ولا في الحيوان قوة فاعلة ولا جاذبة ولا ممسكة ولا دافعة والرب تعالى لم يفعل شيئا بشيء ولا شيئا لشيء فليس في أفعاله باء تسبب ولا لام تعليل وما ورد من ذلك فمحمول على باء المصاحبة ولام العاقبة وزادوا على ذلك أن الأفعال لا تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب والبر والفجور والعدل والظلم والسجود للرحمن والسجود للشيطان والإحسان إلى الخلق والإساءة إليهم ومسبة الخالق والثناء عليه وإنما نعلم الحسن من ذلك من القبيح بمجرد الأمر والنهي ولذلك يجوز النهي عن كل ما أمر به والأمر بكل ما نهى عنه ولو فعل ذلك لكان هذا قبيحا وهذا حسنا وزاد بعض محققيهم على هذا أن الأجسام كلها متماثلة فلا فرق في الحقيقة بين جسم النار وجسم الماء ولا بين جسم الذهب وجسم الخشب ولا بين المسك والرجيع وإنما تفترق بصفاتها وأعراضها مع تماثلها في الحد والحقيقة وزادوا على ذلك بأن قالوا الأعراض كلها لا تبقى زمانين ولا تستقر وقتين فإذا جمعت بين قولهم بعدم بقاء الأعراض وقولهم بتماثل الأجسام وتساوي الأفعال وأن العبد لا فعل له البتة وأنه لا سبب في

ص -5- الوجود ولا قوة ولا غريزة ولا طبيعة وقولهم أن الرب تعالى ليس له فعل يقوم به وفعله غير مفعوله وقولهم أنه ليس بمباين لخلقه ولا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه وقولهم أنه لا يتكلم ولا يكلم ولا قال ولا يقول ولا سمع أحد خطابه ولا يسمعه ولا يراه المؤمنون يوم القيامة جهرة بأبصارهم من فوقهم أنتجت لك هذه الأصول عقلا يعارض السمع ويناقض الوحي وقد أوصاك الأشياخ عند التعارض بتقديم هذا المعقول على ما جاء به الرسول
فلو أني بليت بهاشمي ؤلته بنو عبد المدان
لهان عليّ ما ألقى ولكن عالوا فانظروا بمن ابتلاني

فصل: ولما كانت معرفة الصواب في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل واقعة في مرتبة الحاجة بل في مرتبة الضرورة اجتهدت في جمع هذا الكتاب وتهذيبه وتحريره وتقريبه فجاء فردا في معناه بديعا في مغزاه وسميته شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل وجعلته أبوابا:
الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض.
الباب الثاني: في تقدير الرب تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم قبل خلقهم وهو تقدير ثان بعد الأول.
الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم.
الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه.
الباب الخامس: في التقدير الرابع ليلة القدر.
الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي.
الباب السابع: في أن سبق المقادير بالسعادة والشقاوة لا يقتضي ترك الأعمال بل يوجب الاجتهاد والحرص لأنه تقدير بالأسباب.
الباب الثامن: في قوله تعالى أن الذين سبقت لهم منا الحسنى.
الباب التاسع: في قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر.
الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها والإيمان بها فقد آمن بالقدر وذكر المرتبة الأولى.
الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة الكتابة الباب الثاني عشر في ذكر المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة.
الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة وهي مرتبة خلق الأعمال.
الباب الرابع عشر: في الهدي والضلال ومراتبهما.
الباب الخامس عشر: في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة ونحوها وأنه مفعول الرب.
الباب السادس عشر: في تفرد الرب بالخلق للذات والصفات والأفعال.
الباب السابع عشر: في الكتب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا.
الباب الثامن عشر: في فعل وافعل في القضاء والقدر وذكر الفعل والانفعال.
الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة بين جبري وسني.
الباب العشرون: في

مناظرة بين قدري وسني.
الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المقضي.
الباب الثاني والعشرون: في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره واثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لأجلها وهو من أجل أبواب الكتاب.
الباب الثالث والعشرون: في استيفاء شبه نفاة الحكمة وذكر الأجوبة المفصلة عنها.
الباب الرابع والعشرون: في معنى قول السلف في الإيمان بالقدر خيره وشره وحلوه ومره.
الباب الخامس والعشرون: في بيان بطلان قول من قال إن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له وامتناع إطلاق ذلك نفيا وإثباتا.
الباب السادس والعشرون: فيما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ

ص -6- بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك" من تحقيق القدر وإثباته وأسرار هذا الدعاء.
الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد تحت قوله: "ماض في حكمك عدل في قضاؤك" وما تضمنه الحديث من قواعد الدين.
الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه.
الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والقدر والإرادة والكتابة والحكم والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والعطاء والمنع إلى كوني يتعلق بخلقه وديني يتعلق بأمره وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال.
الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها وبيان أنها لا تنافي القضاء والعدل بل توافقه وتجامعه، وهذا حين الشروع في المقصود فما كان فيه من صواب فمن الله وحده هو المان به وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله.
فيا أيها المتأمل له الواقف عليه لك غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، ولك فائدته، وعليه عائدته، فلا تعجل بإنكار ما لم يتقدم لك أسباب معرفته ولا يحملنك شنآن مؤلفه وأصحابه على أن تحرم ما فيه من الفوائد التي لعلك لا تظفر بها في كتاب ولعل أكثر من تعظمه ماتوا بحسرتها ولم يصلوا إلى معرفتها والله يقسم فضله بين خلقه بعلمه وحكمته وهو العليم الحكيم والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

شفاء العليل

الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض
الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السموات والأرض
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء" رواه مسلم في الصحيح وفيه دليل على أن خلق العرش سابق على خلق القلم وهذا أصح القولين لما روى أبو داود في سننه عن أبي حفصة الشامي قال عبادة بن الصامت لإبنه: "يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يك ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فقال رب وماذا أكتب قال أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة" يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مني" وكتابة القلم للقدر كان في الساعة التي خلق فيها لما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث عبادة بن الصامت قال: حدثني أبي قال دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال: أجلسوني فلما أجلسوه قال: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان ولن تبلغ حق حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى حتى تؤمن بالقدر خيره وشره قلت يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره قال تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله تعالى القلم ثم قال أكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة: يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار، وهذا الذي كتبه القلم هو القدر لما رواه ابن وهب أخبرني عمر بن محمد أن سليمان بن مهران حدثه قال قال عبادة بن الصامت ادع لي ابني وهو يموت لعلي أخبره بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول شيء خلقه الله من حلقه القلم فقال له:

أكتب فقال: يا رب ماذا أكتب قال: القدر قال رسول الله

ص -7- صلى الله عليه وسلم فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار" وعن عبد الله بن عباس قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال لي: "يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فسل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وعن أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو ذر" رواه البخاري في صحيحه قال حدثنا أصبغ ثنا ابن وهب عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ورواه ابن وهب في كتاب القدر وقال فيه: "فأذن لي أن أختصي قال فسكت عنى حتى قلت ذلك ثلاث مرات فقال جف القلم بما أنت لاق" وقال أبو داود الطيالسي ثنا عبد المؤمن هو ابن عبد الله قال كنا عند الحسن فأتاه يزيد بن أبي مريم السلولي يتوكأ على عصا فقال يا أبا سعيد أخبرني عن قول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} فقال الحسن: نعم والله إن الله ليقضي القضية في السماء ثم يضرب لها أجلا أنه كائن في يوم كذا وكذا في ساعة كذا وكذا في الخاصة والعامة حتى إن الرجل ليأخذ العصا ما يأخذها إلا بقضاء وقدر قال: يا أبا سعيد والله لقد أخذتها وإني عنها لغني ثم لا صبر لي عنها قال الحسن: أولا ترى، واختلف في الضمير قوله من قبل أن نبرأها فقيل هو عائد على الأنفس

لقربها منه وقيل هو عائد على الأرض وقيل عائد على المصيبة والتحقيق أن يقال هو عائد على البرية التي تعم هذا كله ودل عليه السياق وقوله نبرأها فينتظم التقادير الثلاثة انتظاما واحدا والله أعلم، وقال ابن وهب أخبرني عمر بن محمد أن سليمان بن مهران حدثه قال قال عبد الله بن مسعود: "إن أول شيء خلقه الله عز وجل من خلقه القلم فقال له اكتب فكتب كل شيء يكون في الدنيا إلى يوم القيامة فيجمع بين الكتاب الأول وبين أعمال العباد فلا يخالف ألفا ولا واوا وميما" وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور شيء اهتدى ومن أخطأه ضل" قال عبد الله: فلذلك أقول جف القلم بما هو كائن رواه الإمام أحمد وقال أبو داود حدثنا عباس بن الوليد بن مزيد قال أخبرني أبي قال سمعت الأوزاعي قال حدثني ربيعة بن يزيد ويحيى بن أبي عمرو الشيباني قال حدثني عبد الله بن فيروز الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو ابن العاص وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط فقلت خصال بلغتني عنك تحدث بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شرب الخمر لم تقبل توبته أربعين صباحا وأن الشقي من شقي في بطن أمه" وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل" فلذلك أقول جف القلم على علم الله ورواه الإمام أحمد في مسنده أطول من هذا عن عبد الله بن فيروز الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط وهو محاضر فتى من قريش يزن بشرب الخمر

ص -8- فقلت: بلغني عنك حديث: "أن من شرب شربة خمر لم تقبل توبته أربعين صباحا وأن الشقي من شقي في بطن أمه وأن من أتى بيت المقدس لا ينهزه إلا الصلاة فيه خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه" فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق فقال عبد الله بن عمرو أني لا أحل لأحد أن يقول علي ما لم أقل سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: "من شرب من الخمر شربة لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: فإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة" قال وسمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: "أن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمه ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله" وسمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: "إن سليمان بن داود سأل الله عز وجل ثلاثا فأعطاه اثنتين ونحن نرجوا أن تكون لنا الثالثة سأل الله تعالى حكما يصادف حكمه فأعطاه الله إياه وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه فنحن نرجوا أن يكون الله تعالى عز وجل قد أعطانا إياه" ورواه الحاكم في صحيحه وهو على شرط الشيخين ولا علة له.

شفاء العليل

الباب الثاني: في تقدير الرب تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم قبل خلقهم وهو تقدير ثان بعد الأول
الباب الثاني: في تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم قبل خلقهم وهو تقدير ثان بعد التقدير الأول
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكث بمخصرته ثم قال: "ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة قال: فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فقال من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}"، وفي لفظ اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}، وعن عمران بن حصين قال: "قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار فقال: نعم قيل ففيم يعمل العاملون قال كل ميسر لما خلق له" متفق عليه وفي بعض طرق البخاري كل يعمل لما خلق له أو لما يسر له، وعن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن حصين أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون

ص -9- فيه أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم فقلت بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم قال فقال أفلا يكون ظلما قال ففزعت من ذلك فزعا شديدا و قلت كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون قال فقال لي يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم فقال: "بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم" وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}، رواه مسلم في صحيحه، وعن شغي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: "أتدرون ما هذان الكتابان قال قلنا لا ألا أن تخبرنا يا رسول الله قال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين تبارك وتعالى بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل عليهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص أبدا ثم قال للذي في يساره هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا فقال أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلأي شيء نعمل إن كان هذا أمر قد فرغ منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل النار وإن عمل أي عمل ثم قال: بيده فقبضها ثم قال: فرغ ربكم عز وجل من العباد ثم قال: باليمنى فنبذ بها فقال: فريق في الجنة ونبذ باليسرى فقال: فريق في السعير" رواه الترمذي عن قتيبة عن ليث أبي قبيل عن شغى وعن قتيبة عن بكر بن نصر عن أبي قبيل به وقال حديث حسن صحيح غريب ورواه النسائي

والإمام أحمد وهذا السياق له، وفي صحيح الحاكم وغيره من حديث أبي جعفر الرازي ثنا الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} قال جمعهم له يومئذ جمعا ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعلهم أزواجا ثم صورهم واستنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} إلى قوله المبطلون قال فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم أو تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين فلا تشركوا بي شيئا فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي فقالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ورفع لهم أبوهم آدم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك فقال رب لو سويت بين عبادك فقال إني أحب أن أشكر ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج وذكر تمام الحديث وفي صحيحه وجامع الترمذي من حديث هشام بن يزيد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال من هؤلاء يا رب فقال هؤلاء ذريتك فرأى فيهم رجلا أعجبه وبيص ما بين عينيه فقال يا رب من هذا قال ابنك داود يكون في آخر الأمم قال كم جعلت له من العمر قال ستين سنة قال يا رب زده من عمري أربعين سنة قال الله: إذا يكتب ويختم لا يبدل فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال أولم يبق من عمري أربعون سنة قال له أولم تجعلها لابنك داود قال: فجحد فجحدت ذريته ونسي فنسيت ذريته وخطئ فخطئت ذريته" قال هذا على شرط مسلم وفي موطأ مالك عن زيد بن

أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم} فقال عمر سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عنها فقال: "إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره

ص -10- بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل فقال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار"، قال الحاكم هذا الحديث على شرط مسلم وليس كما قاله بل هو حديث منقطع قال أبو عمر: هو حديث منقطع فإن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب بينهما نعيم بن ربيعة هذا إن صح أن الذي رواه عن زيد بن أبي أنيسة فذكر فيه نعيم بن ربيعة إذ ليس هو بأحفظ من مالك ولا ممن يحتج به إذا خالفه مالك ومع ذلك فإن نعيم بن ربيعة ومسلم بن يسار جميعا مجهولان غير معروفين بحمل العلم ونقل الحديث وليس هو مسلم بن يسار العابد البصري وإنما هو رجل مدني مجهول ثم ذكر من تاريخ ابن أبي خيثمة قال: قرأت على يحي بن معين حدث مالك هذا فكتب بيده على مسلم بن يسار لا يعرف، قال أبو عمر: هذا الحديث وإن كان عليل الإسناد فإن معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي من وجوه كثيرة من حديث عمر بن الخطاب وغيره وممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه في القدر علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأبو سريحة العبادي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص وذو اللحية الكلابي وعمران بن حصين وعائشة وأنس بن مالك وسراقة بن

جعثم وأبو موسى الأشعري وعبادة بن الصامت قلت وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله وحذيفة بن أسيد وأبو ذر ومعاذ بن جبل وهشام بن حكيم وأبو عبد الله رجل من الصحابة روى عنه أبو نصر وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأبو الدرداء وعمرو بن العاص وعائشة أم المؤمنين وعبد الله بن الزبير وأبو أمامة الباهلي وأبو الطفيل وعبد الرحمن بن عوف وبعض أحاديثهم موقوفة وستمر بك جميعا متفرقة في أبواب الكتاب إن شاء الله عز وجل، وقال إسحاق بن راهوية أخبرنا بقية بن الوليد قال أخبرني الزبيدي محمد بن الوليد عن راشد بن سعد عن عبد الرحمن بن أبي قتادة عن أبيه عن هشام بن حكيم بن حزام أن رجلا قال: يا رسول الله أتبتدأ الأعمال أم قد مضى القضاء فقال إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه فقال هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار قال إسحاق وأخبرنا عبد الصمد حدثنا حماد حدثنا الحريري عن أبي نصرة أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقال له أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي فقالوا له ما يبكي قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: "إن الله قبض قبضة بيمينه وأخرى بيده الأخرى قال هذه لهذه وهذه لهذه ولا أبالي فلا أدري في أي القبضتين أنا"، أخبرنا عمرو بن محمد بن إسماعيل بن رافع عن المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "إن الله تعالى خلق آدم من تراب ثم جعله طينا ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار كان إبليس يمر به فيقول خلقت لأمر عظيم ثم نفخ الله فيه من روحه قال يا رب ما ذريتي قال اختر يا آدم قال اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين فبسط الله كفه فإذا كل من هو كائن من ذريته في كف الرحمن"، أخبرنا النضر أخبرنا أبو معشر عن أبي سعيد المقبري ونافع مولى الزبير عن أبي هريرة قال:

لما أراد الله

ص -11- أن يخلق آدم فذكر خلق آدم فقال له يا آدم أي يدي أحب إليك أن أريك ذريتك فيها قال يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين فبسط يمينه وإذا فيها ذريته كلهم ما هو خالق إلى يوم القيامة الصحيح على هيئته والمبتلى على هيئته والأنبياء على هيئاتهم فقال ألا أعفيهم كلهم فقال أني أحببت أن أشكر وذكر الحديث، وقال محمد بن نصر المروزي حدثنا محمد بن يحيى ثنا سعيد بن أبي مريم أنا الليث بن سعد حدثني ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن عبد الله بن سلام قال: "خلق الله آدم ثم قال بيده فقبضها فقال اختر يا آدم فقال اخترت يمين ربي وكلتا يديك يمين فبسطها فإذا فيها ذريته فقال من هؤلاء يا رب قال من قضيت أن أخلق من ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة"، قال وثنا إسحاق بن راهوية أنا جعفر بن عون أنا هشام بن سعد عن زيد بن سالم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وذكر الحديث، وقال إسحاق بن الملاي ثنا المسعودي عن علي بن نديمة عن سعد عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم} قال: إن الله أخذ على آدم ميثاقه أنه ربه وكتب رزقه وأجله ومصيباته ثم أخرج من ظهره ولده كهيئة الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه ربهم وكتب رزقهم وأجلهم ومصيباتهم قال وحدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس قال مسح الله ظهر آدم فأخرج كل طيب في يمينه وفي يده الأخرى كل خبيث وقال محمد بن نصر حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني وثنا حجاج عن أبن جريج عن الزبير بن موسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "إن الله ضرب منكبه الأيمن فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية فقال هؤلاء أهل الجنة ثم ضرب منكبه الأيسر فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء فقال هؤلاء أهل النار ثم أخذ

عهده على الإيمان والمعرفة به والتصديق له وبأمره من بني آدم كلهم وأشهدهم على أنفسهم فآمنوا وصدقوا وعرفوا وأقروا"، حدثنا إسحاق ثنا روح بن عبادة بن محمد بن عبد الملك عن أبيه عن الزبير بن موسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بهذا الحديث وزاد قال ابن جريج وبلغني أنه أخرجهم على كفه أمثال الخردل قال إسحاق وأخبرنا جرير عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} قال أخذهم كما يؤخذ بالمشط وفي تفسير أسباط عن السدي عن أصحابه أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود عن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية قال: لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال أدخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال ألست بربكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} الآية فلذلك ليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن الله ربه ولا مشرك إلا وهو يقول:: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} فذلك قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وذلك حين يقول: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} وذلك حين يقول: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ

ص -12- فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} قال يعني يوم أخذ الميثاق، وقال إسحاق حدثنا وكيع حدثنا مضر عن ابن سليط قال قال أبو بكر رضي الله عنه: "خلق الله الخلق قبضتين فقال لمن في يمينه ادخلوا الجنة بسلام وقال لمن في يده الأخرى ادخلوا النار ولا أبالي" وأخبرنا جرير بن الأعمش عن أبي ظبيان عن رجل من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله الخلق قبض قبضتين بيده فقال لمن في يمينه أنتم أصحاب اليمين وقال لمن في اليد الأخرى أنتم أصحاب الشمال فذهبت إلى يوم القيامة"، وقال عبد الله بن وهب في كتاب القدر أخبرني جرير بن حازم عن أيوب السختياني عن أبي قلابة قال: "إن الله عز وجل لما خلق آدم أخرج ذريته ثم نشرهم في كفه ثم أفاضهم فألقى التي في يمينه عن يمينه والتي في يده الأخرى عن شماله ثم قال هؤلاء لهذه ولا أبالي وهؤلاء لهذه ولا أبالي وكتب أهل النار وما هم عاملون وأهل الجنة وما هم عاملون فطوى الكتاب ورفع القلم"، وقال أبو داود ثنا مسدد ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي صالح فذكره قال ابن وهب وأخبرني عمرو بن الحرث وحيوة ابن شريح عن ابن أبي أسيد هكذا قال عن أبي فراس حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: "إن الله عز وجل لما خلق آدم نفضه نفض المرود فأخرج من ظهره ذريته أمثال النغف فقبضهم قبضتين ثم ألقاهما ثم قبضهما فقال فريق في الجنة وفريق في السعير"، قال ابن وهب وأخبرني يونس بن يزيد عن الأوزاعي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "من كان يزعم أن مع الله قاضيا أو رازقا أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا أو موتا أو حياة أو نشورا لقي الله فأدحض حجته وأحرق لسانه وجعل صلاته وصيامه هباء وقطع به الأسباب وأكبه الله على وجهه في النار وقال أن الله خلق الخلق فأخذ منهم الميثاق وكان عرشه على الماء"، وذكر أبو داود ثنا يحيى بن حبيب ثنا معتمر ثنا أبي عن أبي العالية في قوله عز وجل:

{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} قال صاروا فريقين وقال لمن سود وجوههم وغيرهم أكفرتم بعد أيمانكم قال هو الإيمان الذي كان حيث كانوا أمة واحدة مسلمين قال أبو داود وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا أبو نعامة السعدي قال كنا عند أبي عثمان النهدي فحمدنا الله عز وجل فذكرناه ودعوناه فقلت لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحا مني بآخره فقال أبو عثمان ثبتك الله كنا عند سلمان فحمدنا الله عز وجل وذكرناه ودعوناه فقلت لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحا مني بآخره فقال سلمان: "ثبتك الله إن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج من ظهره ما هو ذارئ إلى يوم القيامة فخلق الذكر والأنثى والشقوة والسعادة والأرزاق والآجال والألوان ومن علم السعادة فعل الخير ومجالس الخير ومن علم الشقاوة فعل الشر ومجالس الشر" وقال أبو داود حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "مسح ربك تعالى ظهر آدم فأخرج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة أخذ عهودهم ومواثيقهم" قال سعيد: فيرون أن القلم جف يومئذ، وقال الضحاك خرجوا كأمثال الذر ثم أعادهم فهذه وغيرها تدل على أن الله سبحانه قدر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم وشقاوتهم عقيب خلق أبيهم وأراهم لأبيهم آدم صورهم وأشكالهم وحلاهم وهذا والله أعلم أمثالهم وصورهم، وأما تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية به ففيه ما فيه وحديث عمر لو صح لم يكن تفسيرا للآية وبيان

ص -13- إن ذلك هو المراد بها فلا يدل الحديث عليه ولكن الآية دلت على أن هذا الآخذ من بني آدم لا من آدم وأنه من ظهورهم لا من ظهره وأنهم ذرياتهم أمة بعد أمة وأنه إشهاد تقوم به الحجة له سبحانه فلا يقول الكافر يوم القيامة كنت غافلا عن هذا ولا يقول الولد أشرك أبي وتبعته فإن ما فطرهم الله عليه من الإقرار بربوبيته وأنه ربهم وخالقهم وفاطرهم حجة عليهم ثم دل حديث عمر وغيره على أمر آخر لم تدل عليه الآية وهو القدر السابق والميثاق الأول وهو سبحانه لا يحتج عليهم بذلك وإنما يحتج عليهم برسله وهو الذي دلت عليه الآية فتضمنت الآية والأحاديث إثبات القدر والشرع وإقامة الحجة والإيمان بالقدر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عنها بما يحتاج العبد إلى معرفته والإقرار به معها وبالله التوفيق.

شفاء العليل

الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم
الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم.
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى فحج آدم موسى فحج آدم موسى" وفي رواية "كتب لك التوراة بيده" وفي لفظ آخر: "تحاج آدم وموسى فحج آدم موسى فقال له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة فقال آدم أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته قال نعم قال أفتلومني على أمر قدر على قبل أن أخلق"، وفي لفظ آخر: "احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى فقال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين عاما قال آدم هل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى قال نعم قال أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله على أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى"، وفي لفظ آخر: "احتج آدم وموسى فقال له موسى أنت الذي أخرجتنا خطيئتك من الجنة" وذكر الحديث متفق على صحته وهذا التقدير بعد التقدير الأول السابق بخلق السماوات بخمسين ألف سنة، وقد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة كأبي علي الجبائي ومن وافقه على ذلك وقال لو صح لبطلت نبوات الأنبياء فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي فإن

العاصي بترك الأمر أو فعل النهي إذا صحت له الحجة بالقدر السابق ارتفع اللوم عنه وهذا من ضلال فريق الاعتزال وجهلهم بالله ورسوله وسنته فإن هذا حديث صحيح متفق على صحته لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول من عهد نبيها قرنا بعد قرن وتقابله بالتصديق والتسليم ورواه أهل الحديث في كتبهم وشهدوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله وحكموا بصحته فما لأجهل الناس بالسنة ومن عرف بعداوتها وعداوة حملتها والشهادة عليهم بأنهم مجسمة ومشبهة حشوية وهذا الشأن ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكلين برد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص -14- التي تخالف قواعدهم الباطلة وعقائدهم الفاسدة كما ردوا أحاديث الرؤية وأحاديث علو الله على خلقه وأحاديث صفاته القائمة به وأحاديث الشفاعة وأحاديث نزوله إلى سمائه ونزوله إلى الأرض للفصل بين عباده وأحاديث تكلمه بالوحي كلاما يسمعه من شاء من خلقه حقيقة إلى أمثال ذلك وكما ردت الخوارج والمعتزلة أحاديث خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة وغيرها وكما ردت الرافضة أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة وكما ردت المعطلة أحاديث الصفات والأفعال الاختيارية وكما ردت القدرية المجوسية أحاديث القضاء والقدر السابق وكل من أصل أصلا لم يؤصله الله ورسوله قاده قسرا إلى رد السنة وتحريفها عن مواضعها فلذلك لم يؤصل حزب الله ورسوله أصلا غير ما جاء به الرسول فهو أصلهم الذي عليه يعولون وجنتهم التي إليها يرجعون، ثم اختلف الناس في فهم هذا الحديث ووجه الحجة التي توجهت لآدم على موسى فقالت فرقة إنما حجه لأن آدم أبوه فحجه كما يحج الرجل ابنه وهذا الكلام لا محصل فيه البتة فإن حجة الله يجب المصير إليها مع الأب كانت أو الابن أو العبد أو السيد ولو حج الرجل أباه بحق وجب المصير إلى الحجة وقالت فرقة إنما حجه لأن الذنب كان في شريعة واللوم في شريعة وهذا من جنس ما قبله إذ لا تأثير لهذا في الحجة بوجه وهذه الأمة تلوم الأمم المخالفة لرسلها المتقدمة عليها وإن كان لم تجمعهم شريعة واحدة ويقبل الله شهادتهم عليهم وإن كانوا من غير أهل شريعتهم وقالت فرقة أخرى إنما حجه لأنه كان قد تاب من الذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ولا يجوز لومه وهذا وإن كان أقرب مما قبله فلا يصح لثلاثة أوجه أحدها: أن آدم لم يذكر ذلك الوجه ولا جعله حجة على موسى ولم يقل أتلومني على ذنب قد تبت منه، الثاني: أن موسى أعرف بالله سبحانه وبأمره ودينه من أن يلوم على ذنب قد أخبره سبحانه أنه قد تاب على فاعله واجتباه بعده وهداه فإن هذا لا يجوز

لآحاد المؤمنين أن يفعله فضلا عن كليم الرحمن، الثالث: أن هذا يستلزم إلغاء ما علق به النبي صلى الله عليه وسلم وجه الحجة واعتبار ما ألغاه فلا يلتفت إليه وقالت فرقة أخرى إنما حجه لأنه لامه في غير دار التكليف ولو لامه في دار التكليف لكانت الحجة لموسى عليه وهذا أيضا فاسد من وجهين أحدهما: أن آدم لم يقل له لمتني في غير دار التكليف وإنما قال أتلومني على أمر قدر عليّ قبل أن أخلق فلم يتعرض للدار وإنما احتج في القدر السابق الثاني أن الله سبحانه يلوم الملومين من عباده في غير دار التكليف فيلومهم بعد الموت ويلومهم يوم القيامة وقالت فرقة أخرى إنما حجه لأن آدم شهد الحكم وجريانه على الخليقة وتفرد الرب سبحانه بربوبيته وإنه لا تحرك ذرة إلا بمشيئته وعلمه وأنه لا راد لقضائه وقدره وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن قالوا ومشاهدة العبد الحكم لا يدع له استقباح سيئة لأنه شهد نفسه عدما محضا والأحكام جارية عليه معروفة له وهو مقهور مربوب مدبر لا حيلة له ولا قوة له قالوا ومن شهد هذا المشهد سقط عنه اللوم وهذا المسلك أبطل مسلك سلك في هذا الحديث وهو شر من مسلك القدرية في رده وهم إنما ردوه إبطالا لهذا القول وردا على قائليه وأصابوا في ردهم عليهم وإبطال قولهم وأخطأوا في رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا المسلك لو صح لبطلت الديانات جملة وكان القدر حجة لكل مشرك وكافر وظالم ولم يبق للحدود معنى ولا يلام جان على جنايته ولا ظالم على ظلمه ولا ينكر منكر أبدا ولهذا قال شيخ الملحدين ابن سينا في إشارته العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله تعالى في القدر وهذا كلام

ص -15- منسلخ من الملل ومتابعة الرسل وأعرف خلق الله به رسله وأنبياؤه وهم أعظم الناس إنكارا للمنكر وإنما أرسلوا لإنكار المنكر فالعارف أعظم الناس إنكارا للمنكر وإنما أرسلوا لإنكار المنكر فالعارف أعظم الناس إنكارا للمنكر لبصرته بالأمر والقدر فإن الأمر يوجب عليه الإنكار والقدر يعينه عليه وينفذه له فيقوم في مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وفي مقام فاعبده وتوكل عليه فنعبده بأمره وقدره ونتوكل عليه في تنفيذ أمره بقدره فهذا حقيقة المعرفة وصاحب هذا المقام هو العارف بالله وعلى هذا أجمعت الرسل من أولهم إلى خاتمهم وأما من يقول:
أصبحت منفعلا لما يختاره منى ففعلي كله طاعات
ويقول أنا وإن عصيت أمره فقد أطعت إرادته ومشيئته ويقول العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله في القدر فخارج عما عليه الرسل قاطبة وليس هو من أتباعهم وإنما حكى الله سبحانه الاحتجاج في القدر عن المشركين أعداء الرسل فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} إلى قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء} إلى قوله: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} فهذه أربع مواضع حكى فيها الاحتجاج بالقدر عن

أعدائه وشيخهم وإمامهم في ذلك عدوه الأحقر إبليس حيث احتج عليه بقضائه فقال:: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} فإن قيل قد علم بالنصوص والمعقول صحة قولهم لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولو شاء الرحمن ما عبدناهم فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} فكيف أكذبهم ونفى عنهم العلم وأثبت لهم الخرص فيما هم فيه صادقون وأهل السنة جميعا يقولون لو شاء الله ما أشرك به مشرك ولا كفر به كافر ولا عصاه أحد من خلقه فكيف ينكر عليهم ما هم فيه صادقون قيل أنكر سبحانه عليهم ما هم فيه أكذب الكاذبين وأفجر الفاجرين ولم ينكر عليهم صدقا ولا حقا بل أنكر عليهم أبطل الباطل فإنهم لم يذكروا ما ذكروه إثباتا لقدره وربوبيته ووحدانيته وافتقارا إليه وتوكلا عليه واستعانة به ولو قالوا كذلك لكانوا مصيبين وإنما قالوه معارضين به لشرعه ودافعين به لأمره فعارضوا شرعه وأمره ودفعوه بقضائه وقدره ووافقهم على ذلك كل من عارض الأمر ودفعه بالقدر وأيضا فإنهم احتجوا بمشيئتة العامة وقدره على محبته لما شاءه ورضاه به وإذنه فيه فجمعوا بين أنواع من الضلال معارضة الأمر بالقدر ودفعه به والإخبار عن الله أنه يحب ذلك منهم ويرضاه حيث شاءه وقضاه وأن لهم الحجة على الرسل بالقضاء والقدر وقد ورثهم في هذا الضلال وتبعهم عليه طوائف من الناس ممن يدعي التحقيق والمعرفة أو يدعي فيه ذلك وقالوا العارف إذا شاهد الحكم سقط عنه اللوم وقد وقع في كلام شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري ما يوهم ذلك وقد أعاذه الله منه فإنه قال في باب التوبة من منازل السائرين ولطائف التوبة ثلاثة أشياء، أولها: أن ننظر في الجناية والقضية فنعرف

مراد الله فيها إذ خلاك وإتيانها فإن الله تعالى إنما يخلي العبد والذنب لأحد معنيين: أن يعرف عبرته في قضائه وبره في مسيره وحلمه في إمهال راكبه وكرمه في قبول العذر منه وفضله في مغفرته، والثاني: ليقيم على العبد حجة عدله فيعاقبه
ص -16- على ذنبه بحجته، واللطيفة الثانية: أن يعلم أن طلب البصير الصادق سنته لم تبق له حسنه بحال لأنه يسير بين مشاهدة المنة ويطلب عيب النفس والعمل، واللطيفة الثالثة: أن مشاهدة العبد الحكم لم يدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم، فهذا الكلام الأخير ظاهره يبطل استحسان الحسن واستقباح القبيح والشرائع كلها مبناها على استحسان هذا واستقباح هذا بل مشاهدة الحكم تزيد البصير استحسانا للحسن واستقباحا للقبيح وكلما ازدادت معرفته بالله وأسمائه وصفاته وأمره قوي استحسانه واستقباله فإنه يوافق في ذلك ربه ورسله ومقتضى الأسماء الحسنى والصفات العلى وقد كان شيخ الإسلام في ذلك موافقا للأمر وغضبه لله ولحدوده ومحارمه ومقاماته في ذلك شهيرة عند الخاصة والعامة وكلامه المتقدم بين في رسوخ قدمه في استقباح ما قبحه الله واستحسان ما حسنه الله وهو كالمحكم فيه وهذا متشابه فيرد إلى محكم كلامه والذي يليق به ما ذكره شيخنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي في شرحه فذكر قاعدة في الفناء والاصطلام فقال الفناء عبارة عن اصطلام العبد لغلبة وجود الحق وقوة العلم به في العبد فيزيد بذلك يقينه به ومعرفته به وبصفاته سبحانه فيذهل بذلك كما يذهل الإنسان في أمر عظيم دهمه فإنه ربما غاب عن شعوره بما دهمه من الأمور المهمة مثاله رجل وقف بين يدي سلطان عظيم قاهر من ملوك الأرض فأذهله ما يلاحظه من هيبته وسلطانه عن كثير مما يشعر به وهذا تقريب والأمر فوق ذلك فكيف بمن أشهده الله عز وجل فردانيته حيث كان ولا شيء معه فرأى الأشياء مواتا لا قوام لها إلا بقدرته فشهدها خيالا كالهباء

بالنسبة إلى وجود الحق تعالى وذلك في البصائر القلبية بالكشف الصحيح بعد التصفية والتدرب في القيام بأعباء الشريعة وحمل أثقالها والتخلق بأخلاقها وصفى الله عبده من درنه ويكشف لقلبه فيرى حقائق الأشياء فمتى تجلت على العبد أنوار المشاهدة الحقيقية الروحية الدالة على عظمة الفردانية تلاشى الوجود الذي للعبد واضمحل كما يتلاشى الليل إذا أسفر عليه الصباح ويكون العبد في ذلك آكلا شاربا فلا يظهر عليه شيء مغاير لما اعتاده لكن يزداد إيمانه ويقينه حتى ربما غطى إيمانه عن قلبه كل شيء في أوقات سكره ويبقى وجوده كالخيال قائما بالعبودية في حضرة ذي الجلال وتعود عليه البصائر الصحيحة في معرفة الأشياء عند صحوه ثم يزول عنه عدم التمييز ويقوى على حاله فيتصرف وذلك هو البقاء بحيث يتصرف في الأشياء ولا يحجب عنه ما وجده من الإيمان والإيقان في حال البقاء بل يعود عليه شعوره الأول بوجود آخر يتولاه الله عز وجل مشهده فيه قيامه عليه بتدبيره ويصل إلى مقام المراد بعد عبوره على مقام المريد فيصير به يسمع وبه ينطق كما جاء في الحديث الصحيح ووجه آخر وهو أن الفاني في حال فنائه قبل أن يبلغ إلى مقام البقاء والصحوة والتمييز فيستر من قلبه محل الزهد والصبر والورع لا بمعنى أن تلك المقامات ذهبت وارتفع عنها العبد لكن بمعنى أن الشهود ستر محلها من القلب وانطوت واندرجت في ضمن ما وجده اندراج الحال النازل في الحال العالي فصارت فيما وجده الواجد من وجود الحق ضمنا وتبعا وصار القلب مشتغلا بالحال الأعلى عن الحال الأدنى بحيث لو فتش قلب العبد لوجد فيه الزهد والورع وحقائق الخوف والرجاء مستورا بأمثال الجبال من الأحوال الوجودية التي يضيق القلب عن الاتساع لمجموعها وفي حال البقاء والصحو والتمييز تعود عليه تلك المقامات بالله لا بوجود نفسه إذا علمت ذلك انحل إشكال قوله إن مشاهدة العبد لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة

ص -17- لصعوده إلى معنى الحكم أي أن صفة حكم الله حشت بصيرته وملأتها فشهد قيام الله على الأشياء وتصرفه فيها وحكمه عليها فرأى الأشياء كلها منه صادرة عن نفاذ حكمه وتقديره وإرادته القدرية فغاب بما لاحظ من الجمع عن التمييز والفرق ويسمى هذا جمعا لأن العبد اجتمع نظره إلى مولاه في كل حكم وقع في الكون وفي ملاحظة هذا الحكم الذي صدرت عنه التصرفات اجتمع قلبه ولضعف قلبه حين هذا الاجتماع لم يتسع للتمييز الشرعي بين الحسن والقبيح بمعنى أنه انطوى حكم معرفته بالحسن والقبيح في طي هذه المعرفة الساترة له عن التمييز لا بمعنى أنه ارتفع عن قلبه حكم التحسين والتقبيح بل اندرج في مشهده وانطوى بحيث لو فتش لوجد حكم التحسين والتقبيح مستورا في طي مشهده ذلك وبالله التوفيق، وتلخيص ما ذكره شيخنا رحمه الله أن للفعل وجهين وجه قائم بالرب تعالى وهو قضاؤه وقدره له وعلمه به والعبد له ملاحظتان: ملاحظة للوجه الأول وملاحظة للوجه الثاني والكمال أن لا يغيب بأحد الملاحظتين عن الأخرى بل يشهد قضاء الرب وقدره ومشيئته ويشهد مع ذلك فعله وجنايته وطاعته ومعصيته فيشهد الربوبية والعبودية فيجتمع في قلبه معنى قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} مع قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه} وقوله: {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فمن الناس من يتسع قلبه لهذين الشهودين ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما بقوة الوارد عليه وضعف المحل فيغيب بشهود العبودية والكسب وجهة الطاعة والمعصية عن شهود الحكم القائم بالرب تعالى من غير إنكار له فلا يظهر عليه إلا أثر الفعل وحكمه الشرعي وهذا لا يضره إذا كان الإيمان بالحكم قائما في قلبه ومنهم من يغيب بشهود الحكم وسبقه وأولية الرب تعالى وسبقه للأشياء عن جهة عبوديته وكسبه وطاعته ومعصيته فيغيب بشهود الحكم عن المحكوم به فضلا عن

صفته فإذا لم يشهد له فعلا فكيف يشهد كونه حسنا أو قبيحا وهذا أيضا لا يضره إذا كان علمه بحسن الفعل وقبحه قائما في قلبه وإنما توارى عنه لاستيلاء شهود الحكم على قلبه وبالله التوفيق، فأين هذا من احتجاج أعداء الله بمشيئته وقدره على إبطال أمره ونهيه وعباد هؤلاء الكفرة يشهدون أفعالهم كلها طاعات لموافقتها المشيئة السابقة ولو أغضبهم غيرهم وقصر في حقوقهم لم يشهدوا فعله طاعة مع أنه وافق فيه المشيئة فما احتج بالقدر على إبطال الأمر والنهي الآمن هو من أجهل الناس وأظلمهم وأتبعهم لهواه وتأمل قوله سبحانه بعد حكايته عن أعدائه واحتجاجهم بمشيئته وقدره على إبطال ما أمرهم به رسوله وأنه لولا محبته ورضاه به لما شاءه منهم: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فأخبر سبحانه أن الحجة له عليهم برسله وكتبه وبيان ما ينفعهم ويضرهم وتمكنهم من الإيمان بمعرفة أوامره ونواهيه وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول فثبتت حجته البالغة عليهم بذلك واضمحلت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه ثم قرر تمام الحجة بقوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فإن هذا يتضمن أنه المتفرد بالربوبية والملك والتصرف في خلقه وأنه لا رب غيره ولا إله سواه فكيف يعبدون معه إلها غيره فإثبات القدر والمشيئة من تمام حجته البالغة عليهم وأن الأمر كله لله وأن كل شيء ما خلا الله باطل فالقضاء والقدر والمشيئة النافذة من أعظم أدلة التوحيد فجعلها الظالمون الجاحدون حجة لهم على الشرك فكانت حجة الله هي البالغة وحجتهم هي الداحضة وبالله التوفيق، إذا عرفت هذا فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله فاجتباه ربه بعده وهداه واصطفاه وآدم

ص -18- أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة بسبب خطيئة أبيهم فذكر الخطيئة تنبيها على سبب المصيبة المحنة التي نالت الذرية ولهذا قال له أخرجتنا ونفسك من الجنة وفي لفظ خيبتنا فاحتج آدم بالقدر على المصيبة وقال أن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب أي أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة هذا جواب شيخنا رحمه الله وقد يتوجه جواب آخر وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع ويضر في موضع فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه وترك معاودته كما فعل آدم فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع لأنه لا يدفع بالقدر أمرا ولا نهيا ولا يبطل به شريعة بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة، يوضحه أن آدم قال لموسى أتلومني على أن عملت عملا كان مكتوبا علي قبل أن أخلق فإذا أذنب الرجل ذنبا ثم تاب منه توبة وزال أمره حتى كأن لم يكن فأنبه مؤنب عليه ولامه حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك ويقول هذا أمر كان قد قدر عليّ قبل أن أخلق فإنه لم يدفع بالقدر حقا ولا ذكره حجة له على باطل ولا محذور في الاحتجاج به وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل بأن يرتكب فعلا محرما أو يترك واجبا فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره فيبطل بالاحتجاج به حقا ويرتكب باطلا كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا}: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه وأنهم لم يندموا على فعله ولم يعزموا على تركه ولم

يقروا بفساده فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه وندم وعزم كل العزم على أن لا يعود فإذا لامه لائم بعد ذلك قال كان ما كان بقدر الله، ونكتة المسألة أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر وإذا كان اللوم واقعا فالاحتجاج بالقدر باطل، فإن قيل فقد احتج عليّ بالقدر في ترك قيام الليل وأقره النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عن علي: "أن رسول الله صلى الله عيه وسلم طرقه وفاطمة ليلا فقال لهم ألا تصلون قال فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثها بعثها فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك ولم يرجع إلي شيئا ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه وهو يقول: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}"، قيل علي لم يحتج بالقدر على ترك واجب ولا فعل محرم وإنما قال أن نفسه ونفس فاطمة بيد الله فإذا شاء أن يوقظها ويبعث أنفسها بعثها وهذا موافق لقول النبي صلى الله عليه وسلم ليلة ناموا في الوادي: "إن الله قبض أرواحنا حيث شاء وردها حيث شاء" وهذا احتجاج صحيح صاحبه يعذر فيه فالنائم غير مفرط واحتجاج غير المفرط بالقدر صحيح وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاحتجاج بالقدر في الموضع الذي ينفع العبد الاحتجاج به فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر الله ما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان" فتضمن هذا الحديث الشريف أصولا عظيمة من أصول الإيمان أحدها: أن الله سبحانه وتعالى موصوف بالمحبة وأنه

ص -19- يحب حقيقة الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها فهو القوي ويحب المؤمن القوي وهو وتر يحب الوتر وجميل يحب الجمال وعليم يحب العلماء ونظيف يحب النظافة ومؤمن يحب المؤمنين ومحسن يحب المحسنين وصابر يحب الصابرين وشاكر يحب الشاكرين، ومنها أن محبته للمؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض، ومنها أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودا وكماله كله في مجموع هذين الأمرين أن يكون حريصا وأن يكون حرصه على ما ينتفع به فإن حرص على مالا ينفعه أو فعل ما ينفعه بغير حرص فاته من الكمال بحسب ما فاته من ذلك فالخير كله في الحرص على ما ينفع ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه أمره أن يستعين به ليجتمع له مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله ولا تتم إلا بمعونته فأمره بأن يعبده وأن يستعين به ثم قال ولا تعجز فإن العجز ينافي حرصه على ما ينفعه وينافي استعانته بالله فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله ضد العاجز فهذا إرشاد له قبل رجوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها إليه فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان حالة عجز وهي مفتاح عمل الشيطان فيلقيه العجز إلى لو ولا فائدة في لو ههنا بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن وذلك كله من عمل الشيطان فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا المفتاح وأمره بالحالة الثانية وهي النظر إلى القدر وملاحظته وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد فلم يبق له ههنا أنفع من شهود القدر ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجود المقدور وإذا انتفت امتنع وجوده فلهذا قال فإن غلبك أمر فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا ولكن قل قدر

الله وما شاء فعل فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين حالة حصول مطلوبة وحالة فواته فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدا بل هو أشد شيء إليه ضرورة وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام والعبودية ظاهرا وباطنا في حالتي حصول المطلوب وعدمه وبالله التوفيق.

شفاء العليل

الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه
الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك
عن عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم ليجمع خلقا في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" متفق عليه وعن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أم سعيد فيكتبان فيقول أي رب أذكر أم أنثى

ص -20- فيكتبان ويكتب عمله وأثره واجله ورزقه ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص" رواه مسلم وعن عامر بن واثلة أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: "الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره" فأتى رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري فحدثه بذلك من قول ابن مسعود فقال وكيف يشقى رجل بغير عمل فقال له الرجل أتعجب من ذلك فأنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب رزقه فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص" وفي لفظ آخر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول: "إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك" قال زهير بن معاوية أحسبه قال: "الذي يخلقها فيقول يا رب أذكر أم أنثى فيجعله الله ذكرا أو أنثى ثم يقول يا رب أسوي أم غير سوي فيجعله الله سويا أو غير سوي ثم يقول يا رب ما رزقه وما أجله وما خلقه ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا" وفي لفظ آخر إن ملكا موكلا بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئا بإذن الله ولبضع وأربعين ليلة ثم ذكر نحوه وهذا الحديث بطرقه انفرد به مسلم وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة وإذا أراد أن يقضي خلقا قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه" متفق عليه وقال ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أن سعيد بن عبد الرحمن بن هنيدة حدثهم أن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله أن يخلق

النسمة قال ملك الأرحام معها يا رب أذكر أم أنثى فيقضي الله بأمره ثم يقول يا رب شقي أم سعيد فيقضي الله أمره ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق حتى النكبة ينكبها" قال ابن وهب وأخبرني عبد الله بن لهيعة عن بكر بن سوادة الجدمي عن أبي تميم الجيشاني عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخلت يعني النطفة في الرحم أربعين أتى ملك النفس فعرج إلى الرب فقال يا رب عبدك أذكر أو أنثى فيقضي الله بما هو قاض أشقي أم سعيد فيكتب ما هو كائن وذكر بقية الحديث وقال ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن كعب بن علقمة عن عيسى عن هلال عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: "إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين ليلة جاءها ملك فاختلجها ثم عرج بها إلى الله تعالى أخلق يا أحسن الخالقين فيقضي الله فيها بما يشاء من أمره ثم تدفع إلى الملك فيسأل الملك عند ذلك فيقول يا رب أسقط أم يتم فيبين له ثم يقول يا رب أواحد أم توأم فيبين له ثم يقول له أقطع رزقه مع خلقه فيقضيهما جميعا فوالذي نفس محمد بيده لا ينال إلا ما قسم له يومئذ إذا أكل رزقه قبض" وقال عبد الله بن أحمد أنا العلاء ثنا أبو الأشعث ثنا أبو عامر عن الزبير بن عبد الله حدثني جعفر بن مصعب قال سمعت عروة بن الزبير يحدث عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله سبحانه حين يريد أن يخلق الخلق يبعث ملكا فيدخل الرحم فيقول أي رب ماذا فيقول غلام أو جارية أو ما شاء أن يخلق في الرحم فيقول أي رب أشقي أم سعيد فيقول شقي أو سعيد فيقول أي رب ما أجله فيقول كذا وكذا فيقول ما خلقه ما خلائقه فيقول

ص -21- كذا وكذا فما شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم" وفي المسند من حديث إسماعيل بن عبيد الله وهو ابن أبي المهاجر أن أم الدرداء حدثته عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فرغ الله عز وجل إلى كل عبد من خمس من أجله ورزقه ومضجعه وأثره وشقي أم سعيد" وقال ابن حميد ثنا يعقوب بن عبد الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "إذا وقعت النطفة في الرحم تلبث أربعة أشهر وعشرا ثم تنفخ فيها الروح ثم تلبث أربعين ليلة ثم يبعث إليها ملك فنقفها في نقرة القفا وكتب شقيا أو سعيدا" وروى ابن أبي خيثمة ثنا عبد الرحمن بن المبارك ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السعيد من سعد في بطن أمه" رواه أبو داود في القدر عن عبد الرحمن عن حماد عن هشام بن حسان عن محمد به وقال أحمد بن عبد أنبأنا علي بن عبد الله بن ميسر ثنا عبد الحميد بن بيان ثنا خالد بن عبد الله عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه" وقال سعيد عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: "الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره" وقال شعبة عن مخارق عن طارق عن عبد الله بن مسعود قال: "إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها فاتبعوا ولا تبتدعوا فإن الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره وأن شر الروايا روايا الكذب وشر الأمور محدثاتها وكل ما هو آت قريب" رواهن أبو داود في القدر وذكر الطبري من رواية أبي إسحاق عن أبي عبدة عنه أنه كان يجيء كل يوم خميس يقوم قائما لا يجلس فيقول إنما هما اثنتان فأحسن الهدى هدى محمد وأصدق الحديث كتاب الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدث ضلالة إن الشقي من شقي في بطن أمه وأن السعيد من وعظ بغيره ألا فلا يطولن عليكم الأمد ولا يلهينكم الأمل فإن كل

ما هو آت قريب وإنما البعيد ما ليس آتيا وأن من شرار الناس بطال النهار جيفة الليل وأن قتل المؤمن كفر وإن سبابه فسوق ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ألا إن شر الروايا روايا الكذب وأنه لا يصلح من الكذب جد ولا هزل ولا أن يعد الرجل صفيه ثم لا ينجزه ألا وأن الكذب يهدى إلى الفجور وأن الفجور يهدي إلى النار وأن الصدق يهدي إلى البر وأن البر يهدي إلى الجنة وأن الصادق يقال له صدق وبر وأن الكاذب يقال له كذب وفجر وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن العبد ليصدق فيكتب عند الله صديقا وأنه ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا ألا هل تدرون ما العضة هي النميمة التي تفسد بين الناس" وهذا متواتر عن عبد الله وبلغ معاوية أن الوباء اشتد بأهل دار فقال لو حولناهم عن مكانهم فقال له أبو الدرداء: كيف لك يا معاوية بأنفس قد حضرت آجالها فكأن معاوية وجد على أبي الدرداء فقال له كعب يا معاوية لا تجد على أخيك فإن الله سبحانه لم يدع نفسا حين تستقر نطفتها في الرحم أربعين ليلة إلا كتب خلقها وخلقها وأجلها ورزقها ثم لكل نفس ورقة خضراء معلقة بالعرش فإذا دنا أجلها خلقت تلك الورقة حتى تيبس ثم تسقط فإذا يبست سقطت تلك النفس وانقطع أجلها ورزقها ذكره أبو داود عن محمود بن خالد ثنا مروان ثنا معاوية بن سلام حدثني أخي زيد بن سلام عن جده ابن سلام قال بلغ معاوية فذكره وقال أبو داود ثنا واصل بن عبد الأعلى ثنا ابن فضيل عن الحسن بن عمرو الفقيمي عن الحكم عن مجاهد في قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي

ص -22- عُنُقِهِ} قال ما من مولود يولد إلا في عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد وفي الصحيحين عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: "توفي صبي من الأنصار فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم" ولا يناقض هذا حديث سمرة بن جندب الذي رواه البخاري في صحيحه من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أطفال المشركين حول إبراهيم الخليل في الروضة فإن الأطفال منقسمون إلى شقي وسعيد كالبالغين فالذي رآه حول إبراهيم السعداء من أطفال المسلمين والمشركين وأنكر على عائشة شهادتها للطفل المعين أنه عصفور من عصافير الجنة فاجتمعت هذه الأحاديث والآثار على تقدير رزق العبد وأجله وشقاوته وسعادته وهو في بطن أمه واختلفت في وقت هذا التقدير وهذا تقدير بعد التقدير الأول السابق على خلق السماوات والأرض وبعد التقدير الذي وقع يوم استخراج الذرية بعد خلق أبيهم آدم ففي حديث ابن مسعود أن هذا التقدير يقع بعد مائة وعشرين يوما من حصول النطفة في الرحم وحديث أنس غير مؤقت وأما حديث حذيفة بن أسيد فقد وقت فيه التقدير بأربعين يوما وفي لفظ بأربعين ليلة وفي لفظ ثنتين وأربعين ليلة وفي لفظ بثلاث وأربعين ليلة وهو حديث تفرد به مسلم ولم يروه البخاري وكثير من الناس يظن التعارض بين الحديثين ولا تعارض بينهما بحمد الله وأن الملك الموكل بالنطفة يكتب ما يقدره الله سبحانه على رأس الأربعين الأولى حتى يأخذ في الطور الثاني وهو العلقة وأما الملك الذي ينفخ فيه فإنما ينفخها بعد الأربعين الثالثة فيؤمر عند نفخ الروح فيه بكتي رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته وهذا تقدير آخر غير التقدير الذي كتبه الملك الموكل بالنطفة ولهذا قال في حديث ابن

مسعود ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات وأما الملك الموكل بالنطفة فذاك راتب معها ينقلها بإذن الله من حال إلى حال فيقدر الله سبحانه شأن النطفة حتى تأخذ في مبدأ التخليق وهو العلق ويقدر شأن الروح حين تتعلق بالجسد بعد مائة وعشرين يوما فهو تقدير بعد تقدير فاتفقت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق بعضها بعضا ودلت كلها على إثبات القدر السابق ومراتب التقدير وما يؤتى أحد إلا من غلط الفهم أو غلط في الرواية ومتى صحت الرواية وفهمت كما ينبغي تبين أن الأمر كله من مشكاة واحدة صادقة متضمنة لنفس الحق وبالله التوفيق.

شفاء العليل

الباب الخامس: في التقدير الرابع ليلة القدر
الباب الخامس: في ذكر التقدير الرابع ليلة القدر
قال تعالى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} وهذه هي ليلة القدر قطعا لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ومن زعم أنها ليلة النصف من شعبان فقد غلط قال سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ليلة القدر ليلة الحكم وقال سفيان عن محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير يؤذن للحجاج في ليلة القدر فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم فلا يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم ولا ينقص منهم وقال ابن علية ثنا ربيعة بن كلثوم قال قال رجل للحسن وأنا أسمع أرأيت ليلة القدر في كل رمضان هي قال نعم والله الذي لا إله إلا هو

ص -23- إنها لفي كل رمضان وأنها لليلة القدر يفرق فيها كل أمر حكيم فيها يقضي الله كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها وذكر يوسف بن مهران عن ابن عباس قال يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحجاج يقال يحج فلان ويحج فلان وذكر عن سعيد بن جبير في هذه الآية أنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى وقال مقاتل يقدر الله في ليلة القدر أمر السنة في بلاده وعباده إلى السنة القابلة وقال أبو عبد الرحمن السلمي يقدر أمر السنة كلها في ليلة القدر وهذا هو الصحيح أن القدر مصدر قدر الشيء يقدره قدرا فهي ليلة الحكم والتقدير وقالت طائفة ليلة القدر ليلة الشرف والعظمة من قولهم لفلان قدر في الناس فإن أراد صاحب هذا القول أن لها قدرا وشرفا مع ما يكون فيها من التقدير فقد أصاب وإن أراد أن معنى القدر فيها هو الشرف والخطر فقد غلط أن الله سبحانه أخبر أن فيها يفرق أي يفصل الله ويبين ويبرم كل أمر حكيم.

شفاء العليل

الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي
الباب السادس: في التقدير الخامس اليومي
قال الله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ذكر الحاكم في صحيحه من حديث أبي حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن مما خلق الله لوحا محفوظا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة أو مرة ففي كل نظرة منها يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقال مجاهد والكلبي وعبيد ابن عمير وأبو ميسرة وعطاء ومقاتل من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق ويمنع وينصر ويعز ويذل ويفك عانيا ويشفي مريضا ويجيب داعيا ويعطي سائلا ويتوب على قوم ويكشف كربا ويغفر ذنبا ويضع أقواما ويرفع آخرين دخل كلام بعضهم في بعض وقد ذكر الطبراني في المعجم والستة وعثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على المريسي عن عبد الله بن مسعود قال: "إن ربكم عز وجل ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات والأرض نور وجهه وأن مقدار كل يوم من أيامكم عنده ثنتي عشرة ساعة فيعرض عليه أعمالكم فيها على ما يكره فيغضبه ذلك وأول من يعلم غضبه العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه حملة العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة ثم ينفخ جبريل في القرن فلا يبقى شيء إلا سمع صوته فيسبحون الرحمن ثلاث ساعات حتى يمتلئ الرحمن عز وجل رحمة فتلك ست ساعات ثم يؤتى بالأرحام فينظر فيها ثلاث ساعات فذلك قوله في كتابه: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} فتلك تسع ساعات ثم يؤتى بالأرزاق فينظر فيها ثلاث ساعات فذلك قوله في

كتابه: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال هذا شأنكم وشأن ربكم تبارك وتعالى" قال الطبراني ثنا بشر بن موسى ثنا يحيى بن إسحاق أنا حماد بن سلمة عن أبي عبد السلام عن عبد الله أو عبيد الله ابن مكرز عن ابن مسعود فذكره وقال عثمان بن سعيد الدارمي ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة عن الزبير بن أبي عبد السلام عن أيوب بن عبيد الله الفهري أن ابن مسعود قال: "أن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار.." فذكر الحديث إلى قوله "فيسبحه حملة العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة" فهذا تقدير يومي والذي قبله تقدير حولي والذي قبله تقدير عمري عند تعلق النفس

ص -24- به والذي قبله كذلك عند أول تخليقه وكونه مضغة والذي قبله تقدير سابق على وجوده لكن بعد خلق السماوات والأرض والذي قبله تقدير سابق على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكل واحد من هذه التقادير كالتفصيل من التقدير السابق وفي ذلك دليل على كمال علم الرب وقدرته وحكمته وزيادة تعريف لملائكته وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه وقد قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ فتستنسخ الملائكة ما يكون من أعمال بني آدم قبل أن يعملوها فيجدون ذلك موافقا لما يعملونه فيثبت الله تعالى منه ما فيه ثواب أو عقاب ويطرح منه اللغو وذكر ابن مردويه في تفسيره من طرق إلى بقية عن أرطأة بن المنذر عن مجاهد عن ابن عمر يرفعه أن أول خلق الله القلم فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين فكتب الدنيا وما يكون فيها من عمل معمول من بر أو فجور رطب أو يابس فأحصاه عند الذكر وقال اقرؤا إن شئتم: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فهل تكون النسخة إلا من شيء قد فرغ منه وقال آدم ثنا ورقاء عن عطاء بن السائب عن مقسم عن ابن عباس إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون قال تستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم فإنما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب وفي تفسير الأشجع عن سفيان عن منصور عن مقسم عن ابن عباس قال كتب في الذكر عنده كل شيء هو كائن ثم بعث الحفظة على آدم وذريته وكل ملائكته ينسخون من الذكر ما يعمل العباد ثم قرأ: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وفي تفسير الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال هي أعمال أهل الدنيا الحسنات والسيئات تنزل من السماء كل غداة وعشية ما يصيب الإنسان في ذلك اليوم أو الليلة الذي يقتل

والذي يغرق والذي يقع من فوق بيت والذي يتردى من جبل والذي يقع والذي يحرق بالنار فيحفظوا عليه ذلك كله وإذا كان الشيء صعدوا به إلى السماء فيجدونه كما في السماء مكتوبا في الذكر الحكيم.

شفاء العليل

الباب السابع: في أن سبق المقادير بالسعادة والشقاوة لا يقتضي ترك الأعمال بل يوجب الاجتهاد والحرص لأنه تقدير بالأسباب
الباب السابع: في أن سبق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقضي ترك الأعمال بل يقضي الاجتهاد والحرص
يسبق إلى أفهام كثير من الناس أن القضاء والقدر إذا كان قد سبق فلا فائدة في الأعمال وإن ما قضاه الرب سبحانه وقدره لا بد من وقوعه فتوسط العمل لا فائدة فيه وقد سبق إيراد هذا السؤال من الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم بما فيه الشفاء والهدى ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال: "كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكث بمخصرته ثم قال: "ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة فقال رجل يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة فقال اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} وفي بعض طرق البخاري أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فمن

ص -25- كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة من كل من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة وعن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: " جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأننا خلقنا الآن فيم العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل ؟ قال: "لا،بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير قال: ففيم العمل فقال: اعملوا فكل ميسر" رواه مسلم وعن عمران بن حصين قال: قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار فقال: نعم قيل ففيم يعمل العاملون فقال كل ميسر لما خلق له" متفق عليه وفي بعض طرق البخاري "كل يعمل لما خلق له أو لما يسر له" ورواه الإمام أحمد أطول من هذا فقال: ثنا صفوان بن عيسى ثنا عروة بن ثابت عن يحي بن عقيل عن أبي نعيم عن أبي الأسود الدؤلي قال: غدوت على عمران بن حصين يوما من الأيام فقال: إن رجلا من جهينة أو مزينة أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شيء قضى عليهم أو مضى عليهم في قدر قد سبق أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم واتخذت عليهم الحجة قال بل شيء قضى عليهم قال فلم يعملون إذا يا رسول الله قال من كان الله عز وجل خلقه لواحدة من المنزلتين فهيأه لعملها وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}وقال المحاملي ثنا أحمد بن المقدام ثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت أبا سفيان يحدث عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال نزل فمنهم شقي وسعيد فقال عمر: يا نبي الله على م نعمل على أمر قد فرغ منه أم لم يفرغ منه قال لا على أمر قد فرغ منه قد جرت الأقلام ولكن كل ميسر: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ

لِلْعُسْرَى} فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه بل يوجب الجد والاجتهاد ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال ما كنت أشد اجتهادا مني الآن وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة ودقة أفهامهم وصحة علومهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب فإن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدر عليه ومكن منه وهيئ له فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب وكلما زاد اجتهادا في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه وهذا كما إذا قدر له أن يكون من أعلم أهل زمانه فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابه وإذا قدر له أن يرزق الولد لم ينل ذلك إلا بالنكاح أو التسري والوطء وإذا قدر له أن يستغل من أرضه من المغل كذا وكذا لم ينله إلا بالبذر وفعل أسباب الزرع وإذا قدر الشبع والري فذلك موقوف على الأسباب المحصلة لذلك من الأكل والشرب واللبس وهذا شأن أمور المعاش والمعاد فمن عطل العمل اتكالا على القدر السابق فهو بمنزلة من عطل الأكل والشرب والحركة في المعاش وسائر أسبابه اتكالا على ما قدر له وقد فطر الله سبحانه عباده على الحرص على الأسباب التي بها مرام معاشهم ومصالحهم الدنيوية بل فطر الله على ذلك سائر الحيوانات فهكذا الأسباب التي بها مصالحهم الأخروية في معادهم فإنه سبحانه رب الدنيا والآخرة وهو الحكيم بما نصه من الأسباب في المعاش والمعاد وقد يسر كلا من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة فهو مهيأ له ميسر له فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد اجتهادا في فعلها من القيام بها منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه وقد فقه هذا كل الفقه من قال

ص -26- ما كنت أشد اجتهادا مني الآن فإن العبد إذا علم أن سلوك هذا الطريق يقضي به إلى رياض مونقة وبساتين معجبة ومساكن طيبة ولذة ونعيم لا يشوبه نكد ولا تعب كان حرصه على سلوكها واجتهاده في السير فيها بحسب علمه بما يفضي إليه ولهذا قال أبو عثمان النهدي لسلمان لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحا مني بآخره وذلك لأنه إذا كان قد سبق له من الله سابقة وهيأه ويسره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها فإنها سبقت له من الله قبل الوسيلة منه وعلمها الله وشاءها وكتبها وقدرها وهيأ له أسبابها لتوصله إليها فالأمر كله من فضله وجوده السابق فسبق له من الله سابقة السعادة ووسيلتها وغايتها فالمؤمن أشد فرحا بذلك من كون أمره مجعولا إليه كما قال بعض السلف والله ما أحب أن يجعل أمري إلي إنه إذا كان بيد الله خيرا من أن يكون بيدي فالقدر السابق معين على الأعمال وما يحث عليها ومقتض لها لا أنه مناف لها وصاد عنها وهذا موضع مزلة قدم من ثبتت قدمه فاز بالنعيم المقيم ومن زلت قدمه عنه هوى إلى قرار الجحيم فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة في القدر إلي أمرين هما سببا السعادة الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره وذلك نظام الشرع فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر فأبى المنحرفون إلا القدح بإنكاره في أصل التوحيد أو القدح بإثباته في أصل الشرع ولم تتسع عقولهم التي لم يلق الله عليها من نوره للجمع بين ما جمعت الرسل جميعهم بينه وهو القدر والشرع والخلق والأمر وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والنبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على جمع هذين الأمرين للأمة وقد تقدم قوله: "أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن العاجز من لم يتسع للأمرين" وبالله التوفيق.

شفاء العليل

الباب الثامن: في قوله تعالى أن الذين سبقت لهم منا الحسنى
الباب الثامن: في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}
قد تقدمت الأحاديث بوقوع أهل السعادة في إحدى القبضتين وكتابتهم بأسمائهم وأسماء آبائهم في ديوان السعداء قبل خلقهم وفي صحيح الحاكم من حديث الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قال المشركون فالملائكة وعيسى وعزيرا يعبدون من دون الله قال فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}" وهذا إسناد صحيح وقال علي بن المديني ثنا يحيى بن آدم ثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم قال أخبرني أبو رزين عن أبي يحيى عن ابن عباس أنه قال: "آية لا يسأل الناس عنها لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها أو جهلوها فلا يسألون عنها فقيل له وما هي فقال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} شق ذلك على قريش أو على أهل مكة وقالوا يشتم آلهتنا فجاء ابن الزبعري فقال: مالكم قالوا: يشتم آلهتنا قال: وما قال قالوا: قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} قال: ادعوه لي فلما دعي النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله فقال: لا بل لكل من عبد من دون الله قال فقال ابن الزبعري: خصمت ورب هذه البنية يعني الكعبة ألست تزعم أن الملائكة عباد صالحون وأن عيسى عبد صالح وأن عزيرا عبد صالح وهذه بنو مليح تعبد الملائكة وهذه النصارى تعبد عيسى وهذه اليهود تعبد عزيرا قال فضج أهل مكة فأنزل

ص -27- الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} قال: ونزلت: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قال: هو الضجيج وهذا الإيراد الذي أورده ابن الزبعري لا يرد على الآية فإنه سبحانه قال إنكم وما تعبدون من دون الله ولم يقل ومن تعبدون وما لما لا يعقل فلا يدخل فيها الملائكة والمسيح وعزير وإنما ذلك للأحجار ونحوها التي لا تعقل وأيضا فإن السورة مكية والخطاب فيها لعباد الأصنام فإنه قال إنكم وما تعبدون فلفظة إنكم ولفظة ما تبطل سؤاله وهو رجل فصيح من العرب لا يخفى عليه ذلك ولكن إيراده إنما كان من جهة القياس والعموم المعنوي الذي يعم الحكم فيه بعموم علته أي إن كان كونه معبودا يوجب أن يكون حصب جهنم فهذا المعنى بعينه موجود في الملائكة وعزير والمسيح فأجيب بالفارق وذلك من وجوه، أحدها: أن الملائكة والمسيح وعزيرا ممن سبقت لهم من الله الحسنى فهم سعداء لم يفعلوا ما يستوجبون به النار فلا يعذبون بعبادة غيرهم مع بعضهم ومعاداتهم لهم فالتسوية بينهم وبين الأصنام أقبح من التسوية بين البيع والربا والميتة والذكي وهذا شأن أهل الباطل وإنما يسوون بين ما فرق الشرع والعقل والفطرة بينه ويفرقون بين ما سوى الله ورسوله بينه، الفرق الثاني: أن الأوثان حجارة غير مكلفة ولا ناطقة فإذا حصبت بها جهنم إهانة لها ولعابديها لم يكن في ذلك من لا يستحق العذاب بخلاف الملائكة والمسيح وعزير فإنهم أحياء ناطقون فلو حصبت بهم النار كان ذلك إيلاما وتعذيبا لهم، الثالث: أن من عبد هؤلاء بزعمه فإنه لم يعبدهم في الحقيقة فإنهم لم يدعوا إلى عبادتهم وإنما عبد المشركون الشياطين وتوهموا أن العبادة لهؤلاء فإنهم

عبدوا بزعمهم من ادعى أنه معبود مع الله وأنه معه إله وقد برأ الله سبحانه ملائكته والمسيح وعزيرا من ذلك وإنما ادعى ذلك الشياطين وهم بزعمهم يعتقدون أنهم يرضون بأن يكونوا معبودين مع الله ولا يرضى بذلك إلا الشياطين ولهذا قال سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} فما عبد غير الله إلا الشيطان وهذه الأجوبة منتزعة من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} فتأمل الآية تجدها تلوح في صفحات ألفاظها وبالله التوفيق والمقصود ذكر الحسنى التي سبقت من الله لأهل السعادة قبل وجودهم وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم ثنا أبو سعيد بن يحي بن سعيد ثنا أبو عامر العقدي ثنا عروة بن ثابت الأنصاري ثنا الزهري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: "أن عبد الرحمن بن عوف مرض مرضا شديدا أغمي عليه فأفاق فقال: أغمي علي قالوا: نعم قال: إنه أتاني رجلان غليظان فأخذا بيدي فقالا: انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين فانطلقا بي فتلقاهما رجل وقال: أين تريدان به قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين فقال: دعاه فإن هذا ممن سبقت له السعادة وهو في بطن أمه" وقال عبد الله بن

محمد البغوي ثنا داود بن رشيد ثنا ابن علية حدثني محمد بن محمد القرشي عن عامر بن سعد قال: "أقبل سعد من أرض له فإذا الناس عكوف على رجل فاطلع فإذا هو يسب
ص -28- نبي من الأنبياء فانطلق فدخل دارا فتوضأ ودخل المسجد ثم قال: اللهم إن كان هذا قد سب أقواما قد سبقت لهم منك حسنى أسخطك سبه إياهم فأرني اليوم آية تكون للمؤمنين آية وقال تخرج بختية من دار بني فلان لا يردها شيء حتى تنتهي إليه ويتفرق الناس وتجعله بين قوائمها وتطأه حتى طفى قال: فأنا رأيت سعدا يتبعه الناس يقولون استجاب الله لك يا أبا إسحاق استجاب الله لك يا أبا إسحاق وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} أي الله سماكم من قبل القرآن وفي القرآن فسبقت تسمية الحق سبحانه لهم مسلمين قبل إسلامهم وقبل وجودهم وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وقال ابن عباس في رواية الوالي عنه في قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال سبقت لهم السعادة في الذكر الأول وهذا لا يخالف قول من قال أنه الأعمال الصالحة التي قدموها ولا قول من قال أنه محمد صلى الله عليه وسلم فإنه سبق لهم من الله في الذكر الأول السعادة بأعمالهم على يد محمد صلى الله عليه وسلم فهو خير تقدم لهم من الله ثم قدمه لهم على يد رسوله ثم يقدمهم عليه يوم لقائه وقد قال تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقد اختلف السلف في هذا الكتاب السابق فقال جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم لولا قضاء من الله سبق لكم يا أهل بدر

في اللوح المحفوظ أن الغنائم حلال لكم لعاقبكم وقال آخرون لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب أحدا إلا بعد الحجة لعاقبكم وقال آخرون لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر أنه مغفور لهم وإن عملوا ما شاؤا لعاقبهم وقال آخرون وهو الصواب لولا كتاب من الله سبق بهذا كله لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم والله أعلم.

شفاء العليل

الباب التاسع: في قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر
الباب التاسع: في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}
قال سفيان عن زياد بن إسماعيل المخزومي ثنا محمد بن عباد بن جعفر ثنا أبو هريرة قال جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمون في القدر فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} رواه مسلم وقد روى الدارقطني من حديث حبيب بن عمرو الأنصاري عن أبيه قال قال رسول الله تعالى صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين خصماء الله وهم القدرية" ولكن حبيب هذا قال الدارقطني: مجهول والحديث مضطرب الاسناد ولا يثبت والمخاصمون في القدر نوعان أحدهما: من يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره كالذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا والثاني: من ينكر قضاءه وقدره السابق والطائفتان خصماء الله قال عوف: من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام إن الله تبارك وتعالى قدر اقدارا وخلق الخلق بقدر وقسم الآجال بقدر وقسم الأرزاق بقدر وقسم البلاء بقدر وقسم العافية بقدر وأمر ونهى وقال الإمام أحمد القدر قدرة الله واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جدا وقال هذا يدل على دقة علم أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين وهو كما قال أبو الوفاء: فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد وكتابها وتقديرها وسلف القدرية كانوا ينكرون علمه بها وهم الذين اتفق سلف الأمة على تكفيرهم وسنذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله وفي تفسير علي بن أبي طلحة

ص -29- عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} قال: "الذين يقولون إن الله على كل شيء قدير وهذا من فقه ابن عباس وعلمه بالتأويل ومعرفته بحقائق الأسماء والصفات فإن أكثر أهل الكلام لا يوفون هذه الجملة حقها ولو كانوا يقرون فمنكرو القدر وخلق أفعال العباد لا يقرون بها على وجهها ومنكرو أفعال الرب القائمة به لا يقرون بها على وجهها بل يصرحون أنه لا يقدر على فعل يقوم به ومن لا يقر بأن الله سبحانه كل يوم هو في شأن يفعل ما يشاء لا يقر بأن الله على كل شيء قدير ومن لا يقر بأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء وأنه سبحانه مقلب القلوب حقيقة وأنه إن شاء يقيم القلب أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه لا يقر بأن الله على كل شيء قدير ومن لا يقر بأنه استوى على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض وأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يقول من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له وأنه نزل إلى الشجرة فكلم موسى كلمه منها وأنه ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة حين تخلو من سكانها وأنه يجيء يوم القيامة فيفصل بين عباده وأنه يتجلى لهم يضحك وأنه يريهم نفسه المقدسة وأنه يضع رجله على النار فيضيق بها أهلها وينزوي بعضها إلى بعض إلى غير ذلك من شؤنه وأفعاله التي من لم يقر بها لم يقر بأنه على كل شيء قدير بأنه على كل شيء قدير" فيا لها كلمة من حبر الأمة وترجمان القرآن وقد كان ابن عباس شديدا على القدرية وكذلك الصحابة كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.

شفاء العليل

الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها والإيمان بها فقد آمن بالقدر وذكر المرتبة الأولى
الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر
وهي أربع مراتب المرتبة الأولى على الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها المرتبة الثانية كتابته لها قبل كونها المرتبة الثالثة مشيئته لها الرابعة خلقه لها، فأما المرتبة الأولى: وهي العلم السابق فقد اتفق عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم واتفق عليه جميع الصحابة ومن تبعهم من الأمة وخالفهم مجوس الأمة وكتابته السابقة تدل على علمه بها قبل كونها وقد قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} قال مجاهد علم من إبليس المعصية وخلقه لها وقال قتادة كان في علمه أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة وقال ابن مسعود: "أعلم ما لا تعلمون من إبليس" وقال مجاهد أيضا: "علم من إبليس أنه لا يسجد لآدم" وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} وفي المسند من حديث لقيط بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا رسول الله ما عندك من علم الغيب فقال: ضن ربك بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله وأشار بيده فقلت: ما هن قال علم المنية قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه وعلم المنى حين يكون في الرحم قد علمه ولا تعلمونه وعلم ما في غد قد علم ما أنت طاعم ولا تعلمه وعلم يوم الغيث يشرق عليكم مشفقين فيظل يضحك

قد علم أن غوثكم إلى قريب قال لقيط لن نعدم من رب يضحك خيرا وعلم يوم الساعة" وقد تقدم حديث علي المتفق على صحته: "ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد علم مكانها من الجنة أو النار" وقال البزار حدثنا محمد بن عمر بن هياج الكوفي ثنا عبيد الله بن موسى ثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن

ص -30- أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحسبه قال: "يؤتى بالهالك في الفترة والمعتوه والمولود فيقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ولا رسول ويقول المعتوه أي رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ويقول المولود أي رب لم أدرك العمل قال فيرفع لهم نار فيقال لهم ردوها أو قال أدخلوها فيردها من كان في علم الله سعيدا أن لو أدرك العمل قال ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا أن لو أدرك العمل فيقول تبارك وتعالى إياي عصيتم فكيف رسلي بالغيب" وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعا هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها قالوا: يا رسول الله أفرأيت من يموت منهم وهو صغير قال الله أعلم بما كانوا عاملين" ومعنى الحديث الله أعلم بما كانوا عاملين لو عاشوا وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} قال ابن عباس: علم ما يكون قبل أن يخلقه وقال أيضا على علم قد سبق عنده وقال أيضا: يريد الأمر الذي سبق له في أم الكتاب وقال سعيد بن جبير ومقاتل: على علمه فيه وقال أبو إسحاق: أي على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه وهذا الذي ذكره جمهور المفسرين وقال الثعلبي: على علم منه بعاقبة أمره قال وقيل على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه وكذلك ذكر البغوي وأبو الفرج بن الجوزي قال: على علمه السابق فيه أنه لا يهتدي وذكر طائفة منهم المهدوي وغيره: قولين في الآية

هذا أحدهما قال المهدوي: فأضله الله على علم علمه منه بأنه لا يستحقه قال: وقيل على علم من عابد الصنم أنه لا ينفع ولا يضر وعلى الأول يكون على علم حال من الفاعل المعنى أضله الله عالما بأنه من أهل الضلال في سابق علمه وعلى الثاني حال من المفعول أي أضله الله في حال علم الكافر بأنه ضال قلت وعلى الوجه الأول فالمعنى أضله الله عالما به وبأقواله وما يناسبه ويليق به ولا يصلح له غيره قبل خلقه وبعده وأنه أهل للضلال وليس أهلا أن يهدي وأنه لو هدى لكان قد وضع الهدى في غير محله وعند من لا يستحقه والرب تعالى حكيم إنما يضع الأشياء في محالها اللائقة بها فانتظمت الآية على هذا القول في إثبات القدر والحكمة التي لأجلها قدر عليه الضلال وذكر العلم إذ هو الكاشف المبين لحقائق الأمور ووضع الشيء في مواضعه وإعطاء الخير من يستحقه ومنعه من لا يستحقه فإن هذا لا يحصل بدون العلم فهو سبحانه أضله على علمه بأحواله التي تناسب ضلاله وتقتضيه وتستدعيه وهو سبحانه كثيرا ما يذكر ذلك مع إخباره بأنه أضل الكافر كما قال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وقال تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}: {كَذَلِكَ

يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وقد أخبر سبحانه أنه يفعل ذلك عقوبة لأرباب هذه الجرائم وهذا إضلال ثان بعد الإضلال الأول كما قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} وقال تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقال: {وَإِذْ قَالَ

ص -31- مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي إن تركتم الاستجابة لله ورسوله عاقبكم بأن يحول بينكم وبين قلوبكم فلا تقدرون على الاستجابة بعد ذلك ويشبه هذا أن لم يكن بعينه قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} الآية وفي موضع آخر: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} وفي هذه الآية ثلاثة أقوال أحدها: قال أبو إسحاق: هذا إخبار عن قوم لا يؤمنون كما قال عن نوح: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} واحتج على هذا بقوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} قال وهذا يدل على أنه قد طبع على قلوبهم وقال ابن عباس فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرها وأقروا باللسان وأضمروا التكذيب وقال مجاهد فما كانوا لو أحييناهم بعد هلاكهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم قلت وهو نظير قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه} وقال آخرون لما جاءتهم رسلهم بالآيات التي اقترحوها وطلبوها ما كانوا

ليؤمنوا بعد رؤيتها ومعاينتها بما كذبوا به من قبل رؤيتها ومعاينتها فمنعهم تكذيبهم السابق بالحق لما عرفوه من الإيمان به بعد ذلك وهذه عقوبة من رد الحق أو أعرض عنه فلم يقبله فإنه يصرف عنه ويحال بينه وبينه ويقلب قلبه عنه فهذا إضلال العقوبة وهو من عدل الرب في عبده وأما الإضلال السابق الذي ضل به عن قبوله أولا والاهتداء به فهو إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به وأن محله غير قابل له فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه كما هو أعلم حيث يجعل رسالته فهو أعلم حيث يجعلها أصلا وميراثا وكما أنه ليس كل محل أهلا لتحمل الرسالة عنه وأدائها إلى الخلق فليس كل محل أهلا لقبولها والتصديق بها كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} أي ابتلينا واختبرنا بعضهم ببعض فابتلى الرؤساء والسادة بالأتباع والموالى والضعفاء فإذا نظر الرئيس والمطاع إلى المولى والضعيف أنفة وأنف أن يسلم وقال هذا يمن الله عليه بالهدى والسعادة دوني قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وهم الذين يعرفون النعمة وقدرها ويشكرون الله عليها بالاعتراف والذل والخضوع والعبودية فلو كانت قلوبكم مثل قلوبهم تعرفون قدر نعمتي وتشكروني عليها وتذكروني بها وتخضعون لي كخضوعهم وتحبوني كحبهم لمننت عليكم كما مننت عليهم ولكن لمنني ونعمي محالّ لا تليق إلا بها ولا تحسن إلا عندها ولهذا يقرن كثيرا بين التخصيص والعلم كقوله ههنا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وقوله: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ

لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي سبحانه المتفرد بالخلق والاختيار مما خلق وهو الاصطفاء والاجتباء ولهذا كان الوقف التام عند قوله ويختار ثم نفى عنهم الاختيار الذي اقترحوه بإرادتهم وأن ذلك ليس إليهم بل إلى الخلاق العليم الذي هو أعلم بمحالّ الاختيار ومواضعه لا من قال: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} فأخبر سبحانه أنه لا يبعث الرسل باختيارهم

ص -32- وأن البشر ليس لهم أن يختاروا على الله بل هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ثم نفى سبحانه أن تكون لهم الخيرة كما ليس لهم الخلق ومن زعم أن ما مفعول يختار فقد غلط إذ لو كان هذا هو المراد لكانت الخيرة منصوبة على أنها خبر كان ولا يصح المعنى ما كان لهم الخيرة فيه وحذف العائد فإن العائد ههنا مجرور بحرف لم يجر الموصول بمثله فلو حذف مع الحرف لم يكن عليه دليل فلا يجوز حذفه وكذلك لم يفهم معنى الآية من قال أن الاختيار ههنا هو الإرادة كما يقوله المتكلمون أنه سبحانه فاعل بالاختيار فإن هذا الاصطلاح حادث منهم لا يحمل عليه كلام الله بل لفظ الاختيار في القرآن مطابق لمعناه في اللغة وهو اختيار الشيء على غيره وهو يقتضي ترجيح ذلك المختار وتخصيصه وتقديمه على غيره وهذا أمر أخص من مطلق الإرادة والمشيئة قال في الصحاح الخيرة الاسم من قولك خار الله لك في هذا الأمر والخيرة أيضا يقول محمد خيرة الله من خلقه وخيرة الله أيضا بالتسكين والاختيار الاصطفاء وكذلك التخيير والاستخارة طلب الخيرة يقال استخر الله يخر لك وخيرته بين الشيئين فوضت إليه الاختيار انتهى فهذا هو الاختيار في اللغة وهو أخص مما اصطلح عليه أهل الكلام ومن هذا قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} أي اختار منهم وبهذا يحصل جواب السؤال الذي تورده القدرية يقولون في الكفر والمعاصي هل هي واقعة باختيار الله أم بغير اختياره فإن قلتم باختياره فكل مختار مرضى مصطفى محبوب فتكون مرضية محبوبة له وإن قلتم بغير اختياره لم يكن بمشيئته واختياره وجوابه أن يقال ما تعنون بالاختيار العام في اصطلاح المتكلمين وهو المشيئة والإرادة أم تعنون به الاختيار الخاص الواقع في القرآن والسنة وكلام العرب

وإن أردتم بالاختيار الأول فهي واقعة باختياره بهذا الاعتبار لكن لا يجوز أن يطلق ذلك عليها لما في لفظ الاختيار من معنى الاصطفاء والمحبة بل يقال واقعة بمشيئته وقدرته وإن أردتم بالاختيار معناه في القرآن ولغة العرب فهي غير واقعة باختياره بهذا المعنى وإن كانت واقعة بمشيئته فإن قيل فهل تقولون أنها واقعة بإرادته أم لا تطلقون ذلك قيل لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان إرادة كونية شاملة لجميع المخلوقات كقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} وقوله: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} ونظائر ذلك وإرادة دينية أمرية لا يجب وقوع مرادها كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} فهي مرادة بالمعنى الأول غير مرادة بالمعنى الثاني وكذلك إن قيل هل هي واقعة بإذنه أم لا والإذن أيضا نوعان كوني كقوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} وديني أمري كقوله: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُم} وقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} ولفظ الاختيار مشتق من الخير المخالف للشر ولما كان الأصل في الحي أنه يريد ما ينفعه وما هو خير سميت الإرادة اختيارا وهذا يتضمن أن الإرادة اختيارا لا ترجح نوعا على نوع إلا لمرجح رجح ذلك النوع عند الفاعل والمقصود أنه يذكر العلم عند التخصيصات كقوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} لا خلاف بين الناس أن المعنى على علم منا بأنهم أهل الاختيار فالجملة في موضع نصب على الحال أي اخترناهم عالمين بهم وبأحوالهم وما يقتضي اختيارهم من قبل خلقهم ذكر سبحانه اختيارهم وحكمته في اختياره إياهم وذكر علمه الدال على مواضع حكمته واختياره ومن هذا قوله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ

عَالِمِينَ} وأصح الأقوال في الآية أن المعنى من قبل نزول التوراة فإنه سبحانه قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ

ص -33- الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} وقال: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} ثم قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} ذلك ولهذا قطعت قبل عن الإضافة وبنيت لأن المضاف منوي معلوم وإن كان غير مذكور في اللفظ وذكر سبحانه هؤلاء الثلاثة وهم أئمة الرسل وأكرم الخلق عليه محمد وإبراهيم وموسى وقد قيل من قبل أي في حال صغره قبل البلوغ وليس في اللفظ ما يدل على هذا السياق إنما يقتضي من قبل ما ذكر وقيل المعنى بقوله من قبل أي في سابق علمنا وليس في الآية أيضا ما يدل على ذلك ولا هو أمر مختص بإبراهيم بل كل مؤمن فقد قدر الله هداه في سابق علمه والمقصود قوله: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} قال البغوي: "أنه أهل للهداية والنبوة" وقال أبو الفرج: "أي عالمين بأنه موضع لإيتاء الرشد" وقال صاحب الكشاف: "المعنى علمه به أنه علم منه أحوالا بديعة وأسرارا عجيبة وصفات قد رضيها وحمدها حتى أهله لمخالته ومخالصته وهذا كقولك في حر من الناس أنا عالم بفلان فكلامك هذا من الاحتواء على محاسن الأوصاف" وهذا كقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقوله: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ} ونظيره قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقريب منه قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} حيث وضعنا هذا التخصيص في المحل الذي يليق به من الأماكن والأناسي.
فصل: وهو سبحانه كما هو العليم الحكيم في اختياره

من يختاره من خلقه وإضلاله من يضله منهم فهو العليم الحكيم بما في أمره وشرعه من العواقب الحميدة والغايات العظيمة قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} بين سبحانه أن ما أمرهم به يعلم ما فيه من المصلحة والمنفعة لهم التي اقتضت أن يختاره ويأمرهم به وهم قد يكرهونه إما لعدم العلم وإما لنفور الطبع فهذا علمه بما في عواقب أمره مما لا يعلمونه وذلك علمه بما في اختياره من خلقه بما لا يعلمونه فهذه الآية تضمنت الحض على التزام أمر الله وإن شق على النفوس وعلى الرضا بقضائه وإن كرهته النفوس وفي حديث الاستخارة: "اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فأقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلمه شرا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه وأقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به"، ولما كان العبد يحتاج في فعل ما ينفعه في معاشه ومعاده إلى علم ما فيه من المصلحة وقدرة عليه وتيسره له وليس له من نفسه شيء من ذلك بل علمه ممن علم الإنسان ما لم يعلم وقدرته منه فإن لم يقدره عليه وإلا فهو عاجز وتيسيره منه فإن لم ييسره عليه وإلا فهو متعسر عليه بعد إقداره أرشده النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى محض العبودية وهو جلب الخيرة من العالم بعواقب الأمور وتفاصيلها وخيرها وشرها وطلب القدرة منه فإنه إن لم يقدره وإلا فهو عاجز وطلب فضله منه فإن لم ييسره له ويهيئه له وإلا فهو متعذر عليه ثم إذا اختاره له بعلمه وأعانه عليه بقدرته ويسره له من فضله فهو يحتاج إلى أن يبقيه عليه ويديمه بالبركة التي يضعها فيه والبركة

تتضمن ثبوته ونموه وهذا قدر زائد على إقداره عليه وتيسيره له ثم إذا فعل ذلك كله فهو محتاج إلى أن يرضيه به فإنه قد يهيئ له ما يكرهه فيظل ساخطا ويكون قد خار الله له فيه قال عبد الله بن عمران: "الرجل ليستخير الله فيختار له فيسخط على ربه فلا يلبث ان ينظر في العاقبة فإذا هو قد خار له" وفي المسند من

ص -34- حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من سعادة ابن آدم استخارته الله تعالى ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله ومن شقوة ابن آدم تركة استخارة الله عز وجل ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضى الله فالمقدور يكتنفه أمران الاستخارة قبله والرضا بعده فمن توفيق الله لعبده وإسعاده إياه أن يختار قبل وقوعه ويرضى بعد وقوعه ومن خذلانه له أن لا يستخيره قبل وقوعه ولا يرضى به بعد وقوعه وقال عمر بن الخطاب: "لا أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره" وقال الحسن: "لا تكرهوا النقمات الواقعة والبلايا الحادثة فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك ولرب أمر تؤثره فيه عطبك".
فصل: ومما يناسب هذا قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} بين سبحانه حكمة ما كرهوه عام الحديبية من صد المشركين لهم حتى رجعوا ولم يعتمروا وبين لهم أن مطلوبهم يحصل بعد هذا فحصل في العام القابل وقال سبحانه: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} وهو صلح الحديبية وهو أول الفتح المذكور في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} فإن بسببه حصل من مصالح الدين والدنيا والنصر وظهور الإسلام وبطلان الكفر ما لم يكونوا يرجونه قبل ذلك ودخل الناس

بعضهم في بعض وتكلم المسلمون بكلمة الإسلام وبراهينه وأدلته جهرة لا يخافون ودخل في ذلك الوقت في الإسلام قريب ممن دخل فيه إلى ذلك الوقت وظهر لكل أحد بغي المشركين وعداوتهم وعنادهم وعلم الخاص والعام أن محمدا وأصحابه أولى الحق والهدى وأن أعداءهم ليس بأيديهم إلا العدوان والعناد فإن البيت الحرام لم يصد عنه حاج ولا معتمر من زمن إبراهيم فتحققت العرب عناد قريش وعداوتهم وكان ذلك داعية لبشر كثير إلى الإسلام وزاد عناد القوم وطغيانهم وذلك من أكبر العون على نفوسهم وزاد صبر المؤمنين واحتمالهم والتزامهم لحكم الله وطاعة رسوله وذلك من أعظم أسباب نصرهم إلى غير ذلك من الأمور التي علمها الله ولم يعلمها الصحابة ولهذا سماه فتحا وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أفتح هو؟ قال: "نعم".
فصل: ويشبه هذا قول يوسف الصديق: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} فأخبر أنه يلطف لما يريده فيأتي به بطرق خفية لا يعلمها الناس واسمه اللطيف يتضمن علمه بالأشياء الدقيقة وإيصاله الرحمة بالطرق الخفية ومنه التلطف كما قال أهل الكهف: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} فكان ظاهر ما امتحن به يوسف من مفارقة أبيه وإلقائه في السجن وبيعه رقيقا ثم مراودة التي هو في بيتها عن نفسه وكذبها عليه وسجنه محنا ومصائب وباطنها نعما وفتحا جعلها الله سببا لسعادته في الدنيا والآخرة، ومن هذا الباب ما يبتلي به عباده من المصائب ويأمرهم به من المكاره وينهاهم عنه من الشهوات هي طرق يوصلهم بها إلى سعادتهم في العاجل والآجل وقد حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وقد قال صلى الله عليه

وسلم: "لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن" فالقضاء كله خير لمن أعطي الشكر والصبر جالبا ما جلب

ص -35- وكذلك ما فعله بآدم وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم من الأمور التي هي في الظاهر محن وابتلاء وهي في الباطن طرق خفية أدخلهم بها إلى غاية كمالهم وسعادتهم فتأمل قصة موسى وما لطف له من إخراجه في وقت ذبح فرعون للأطفال ووحيه إلى أمه أن تلقيه في اليم وسوقه بلطفه إلى دار عدوه الذي قدر هلاكه على يديه وهو يذبح الأطفال في طلبه فرماه في بيته وحجره على فراشه ثم قدر له سببا أخرجه من مصر وأوصله به إلى موضع لا حكم لفرعون عليه ثم قدر له سببا أوصله به إلى النكاح والغنى بعد العزوبة والعيلة ثم ساقه إلى بلد عدوه فأقام عليه به حجته ثم أخرجه وقومه في صورة الهاربين الفارين منه وكان ذلك عين نصرتهم على أعدائهم وإهلاكهم وهم ينظرون وهذا كله مما يبين أنه سبحانه يفعل ما يفعله لما يريده من العواقب الحميدة والحكم العظيمة التي لا تدركها عقول الخلق مع ما في ضمنها من الرحمة التامة والنعمة السابغة والتعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته فكم في أكل آدم من الشجرة التي نهى عنها وإخراجه بسببها من الجنة من حكمة بالغة لا تهتدي العقول إلى تفاصيلها وكذلك ما قدره لسيد ولده من الأمور التي أوصله بها إلى أشرف غاياته وأوصله بالطرق الخفية فيها إلى أحمد العواقب وكذلك فعله بعباده وأوليائه يوصل إليهم نعمة ويسوقهم إلى كمالهم وسعادتهم في الطرق الخفية التي لا يهتدون إلى معرفتها إلا إذا لاحت لهم عواقبها وهذا أمر يضيق الجنان عن معرفة تفاصيله ويحصر اللسان عن التعبير عنه وأعرف خلق الله به أنبياؤه ورسله وأعرفهم به خاتمهم وأفضلهم وأمته في العلم به على مراتبهم ودرجاتهم ومنازلهم من العلم بالله وبأسمائه وصفاته وهو سبحانه قد أحاط

علما بذلك كله قبل السماوات والأرض وقدره وكتبه عنده ثم يأمر ملائكته بكتابه ذلك من الكتاب الأول قبل خلق العبد فيطابق حاله وشأنه لما كتب في الكتاب ولما كتبته الملائكة لا يزيد شيئا ولا ينقص مما كتبه سبحانه وأثبته عنده كان في علمه قبل أن يكتبه ثم كتبه كما في علمه ثم وجد كما كتبه قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} والله سبحانه قد علم قبل أن يوجد عباده أحوالهم وما هم عاملون وما هم إليه صائرون ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر معلومه الذي علمه فيهم كما علمه وابتلاهم من الأمر والنهي والخير والشر بما أظهر معلومه فاستحقوا المدح والذم والثواب والعقاب بما قام بهم من الأفعال والصفات المطابقة للعلم السابق ولم يكونوا يستحقون ذلك وهي في علمه قبل أن يعملوها فأرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه إعذارا إليهم وإقامة للحجة عليهم لئلا يقولوا كيف تعاقبنا على علمك فينا وهذا لا يدخل تحت كسبنا وقدرتنا فلما ظهر علمه فيهم بأفعالهم حصل العقاب على معلومه الذي أظهره الابتلاء والاختبار وكما ابتلاهم بأمره ونهيه ابتلاهم بما زين لهم من الدنيا وبما ركب فيهم من الشهوات فذلك ابتلاه بشرعه وأمره وهذا ابتلاء بقضائه وقدره وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} فأخبر في هذه الآية أنه خلق السماوات والأرض ليبتلي عباده بأمره ونهيه وهذا من الحق الذي خلق به خلقه وأخبر في الآية التي قبلها أنه خلق الموت والحياة ليبتليهم أيضا فأحياهم ليبتليهم بأمره ونهيه وقدر عليهم الموت الذي ينالوا به عاقبة ذلك الابتلاء من الثواب والعقاب وإن خبر في الآية الأولى أنه زين

لهم ما على الأرض ليبتليهم به أيهم يؤثر ما عنده وابتلى بعضهم ببعض

ص -36- وابتلاهم بالنعم والمصائب فأظهر هذا الابتلاء علمه السابق فيهم موجودا عيانا بعد أن كان غيبا في علمه فابتلى أبوي الإنس والجن كل منهما بالآخر فأظهر ابتلاء آدم ما علمه منه وأظهر ابتلاء إبليس ما علمه منه فلهذا قال للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} واستمر هذا الابتلاء في الذرية إلى يوم القيامة فابتلى الأنبياء بأممهم وابتلى أممهم بهم وقال لعبده ورسوله وخليله إني مبتليك ومبتل بك وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} وقال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} وفي الحديث الصحيح: "أن ثلاثة أراد الله أن يبتليهم أبرص وأقرع وأعمى فأظهر الابتلاء حقائقهم التي كانت في علمه قبل أن يخلقهم فأما الأعمى فاعترف بإنعام الله عليه وأنه كان أعمى فقيرا فأعطاه الله البصر والغنى وبذل للسائل ما طلبه شكرا لله وأما الأقرع والأبرص فكلاهما جحدا ما كان عليه قبل ذلك من سوء الحال والفقر وقال في الغنى إنما أوتيته كابرا عن كابر وهذا حال أكثر الناس لا يعترف بما كان عليه أولا من نقص أو جهل وفقر وذنوب وأن الله سبحانه نقله من ذلك إلى ضد ما كان عليه وأنعم بذلك عليه ولهذا ينبه سبحانه الإنسان على مبدأ خلقه الضعيف من الماء المهين ثم نقله في أطباق خلقه وأطواره من حال إلى حال حتى جعله بشرا سويا يسمع ويبصر ويقول وينطق ويبطش ويعلم فنسي مبدأه وأوله وكيف كان ولم يعترف بنعم ربه عليه كما قال تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُون} وأنت إذا تأملت ارتباط إحدى الجملتين بالأخرى وجدت تحتها كنزا عظيما من كنوز المعرفة والعلم فأشار سبحانه بمبدأ خلقه مما يعلمون من النطفة وما بعدها إلى موضع الحجة والآية الدالة على وجوده

ووحدانيته وكماله وتفرده بالربوبية والإلهية وأنه لا يحسن به مع ذلك أن يتركهم سدى لا يرسل إليهم رسولا ولا ينزل عليهم كتابا وأنه لا يعجز مع ذلك أن يخلقهم بعد ما أماتهم خلقا جديدا ويبعثهم إلى دار يوفيهم فيها أعمالهم من الخير والشر فكيف يطمعون في دخول الجنة وهم يكذبون ويكذبون رسلي ويعدلون بي خلقي وهم يعلمون من أي شيء خلقتهم ويشبه هذا قوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} وهم كانوا مصدقين بأنه خالقهم ولكن احتج عليهم بخلقه لهم على توحيده ومعرفته وصدق رسله فدعاهم منهم ومن خلقه إلى الإقرار بأسمائه وصفاته وتوحيده وصدق رسله والإيمان بالمعاد وهو سبحانه يذكر عباده بنعمه عليهم ويدعوهم بها إلى معرفته ومحبته وتصديق رسله والإيمان بلقائه كما تضمنته سورة النعم وهي سورة النحل من قوله: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَة} إلى قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} فذكرهم بأصول النعم وفروعها وعددها عليهم نعمة نعمة وأخبر أنه أنعم بذلك عليهم ليسلموا له فتكمل نعمه عليهم بالإسلام الذي هو رأس النعم ثم أخبر عمن كفره ولم يشكر نعمه بقوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} قال مجاهد: "المساكن والأنعام وسرابيل الثياب والحديد يعرفه كفار قريش ثم ينكرونه بأن يقولوا هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم" وقال عون بن عبد الله: "يقولون لولا فلان لكان كذا وكذا" وقال الفراء وابن قتيبة: "يعرفون أن النعم من الله ولكن يقولون هذه بشفاعة آلهتنا" وقالت طائفة: "النعمة ههنا محمد صلى الله عليه وسلم وإنكارها جحدهم نبوته" وهذا يروى عن مجاهد والسدّي وهذا أقرب إلى حقيقة الإنكار فإنه إنكار لما هو أجل النعم أن

تكون نعمة وأما على القول الأول والثاني والثالث فإنهم لما أضافوا النعمة إلى غير الله فقد أنكروا

ص -37- نعمة الله بنسبتها إلى غيره فإن الذي قال إنما كان هذا لآبائنا ورثناه كابرا عن كابر جاحدا لنعمة الله عليه غير معترف بها وهو كالأبرص والأقرع اللذين ذكرهما الملك بنعم الله عليهما فأنكرا وقالا إنما ورثنا هذا كابرا عن كابر فقال إن كنتما كاذبين فصيركما الله إلى ما كنتما وكونها موروثة عن الآباء أبلغ في إنعام الله عليهم إذ أنعم بها على آباءهم ثم ورثهم إياها فتمتعوا هم وآباؤهم بنعمة وأما قول الآخرين لولا فلان لما كان كذا فيتضمن قطع إضافة النعمة إلى من لولاه لم تكن وإضافتها إلى من لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا وغايته أن تكون جزء من أجزاء السبب أجرى الله تعالى نعمته على يده والسبب لا يستقل بالإيجاد وجعله سببا هو من نعم الله عليه وهو المنعم بتلك النعمة وهو المنعم بما جعله من أسبابها فالسبب والمسبب من إنعامه وهو سبحانه قد ينعم بذلك السبب وقد ينعم بدونه فلا يكون له أثر وقد يسلبه تسبيبيته وقد يجعل لها معارضا يقاومها وقد يرتب على السبب ضد مقتضاه فهو وحده المنعم على الحقيقة وأما قول القائل بشفاعة آلهتنا فتضمن الشرك مع إضافة النعمة إلى غير وليها فالآلهة التي تعبد من دون الله أحقر وأذل من أن تشفع عند الله وهي محضرة في الهوان والعذاب مع عابديها وأقرب الخلق إلى الله وأحبهم إليه لا يشفع عنده إلا من بعد إذنه لمن ارتضاه فالشفاعة بإذنه من نعمة فهو المنعم بالشفاعة وهو المنعم بقبولها وهو المنعم بتأهيل المشفوع له إذ ليس كل أحد أهلا أن يشفع له فمن المنعم على الحقيقة سواه قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} فالعبد لا خروج له عن نعمته وفضله ومنته وإحسانه طرفة عين لا في الدنيا ولا في الآخرة ولهذا ذم الله سبحانه من أتاه شيئا من نعمة فقال إنما أوتيته على علم عندي وفي

الآية الأخرى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} وقال البغوي: "على علم من الله أني له أهل" وقال مقاتل: "على خير علمه الله عندي" وقال آخرون: "على علم من الله أني له أهل" ومضمون هذا القول أن الله آتانيه على علمه بأني أهله وقال آخرون: "بل العلم له نفسه ومعناه أوتيته على علم مني بوجوه المكاسب" قاله قتادة وغيره وقيل: المعنى قد علمت أني لما أوتيت هذا في الدنيا فلي عند الله منزلة وشرف وهذا معنى قول مجاهد "أوتيته على شرف" قال تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي النعم التي أوتيتها فتنة نختبره فيها ومحنة نمتحنه بها لا يدل على اصطفائه واجتبائه وأنه محبوب لنا مقرب عندنا ولهذا قال في قصة قارون: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعا} فلو كان إعطاء المال والقوة والجاه يدل على رضاء الله سبحانه عمن آتاه ذلك وشرف قدره وعلو منزلته عنده لما أهلك من آتاه من ذلك أكثر مما آتى قارون فلما أهلكهم مع سعة هذا العطاء وبسطته علم أن عطاءه إنما كان ابتلاء وفتنة لا محبة ورضا واصطفاء لهم على غيرهم ولهذا قال في الآية الأخرى: {بَلْ هِيَ فِتْنَة} أي النعمة فتنة لا كرامة ولكن أكثرهم لا يعلمون ثم أكد هذا المعنى بقوله: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي قد قال هذه المقالة الذين من قبلهم لما آتيناهم نعمنا قال قال ابن عباس: "كانوا قد بطروا نعمة الله إذ آتاهم الدنيا وفرحوا بها وطغوا وقالوا هذه كرامة من الله لنا" وقوله: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المعنى أنهم ظنوا أن ما آتيناهم لكرامتهم علينا ولم يكن كذلك لأنهم وقعوا في العذاب ولم

يغن عنهم ما كسبوا شيئا وتبين أن تلك النعم لم تكن لكرامتهم علينا وهو أن من منعناه إياها وقال أبو إسحاق: "معنى الآية أن قولهم إنما آتانا الله ذلك لكرامتنا عليه وإنا أهله أحبط أعمالهم فكنى عن إحباط العمل بقوله: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ثم أبطل

ص -38- سبحانه هذا الظن الكاذب منهم بقوله: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} "والمقصود أن قوله على علم عندي إن أريد به علمه نفسه كان المعنى أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة والمعرفة التي توصلت بها إلى ذلك وحصلته بها وإن أريد به علم الله كان المعنى أوتيته على ما علم الله عندي من الخير والاستحقاق وإني أهله وذلك من كرامتي عليه وقد يترجح هذا القول بقوله أوتيته ولم يقل حصلته واكتسبته بعلمي ومعرفتي فدل على اعترافه بأن غيره آتاه إياه ويدل عليه قوله تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي محنة واختبار والمعنى أنه لم يؤت هذا لكرامته علينا بل أوتيه امتحانا منا وابتلاء واختبارا هل يشكر فيه أم يكفر وأيضا فهذا يوافق قوله: {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} فهو قد اعترف بأن ربه هو الذي آتاه ذلك ولكن ظن أنه لكرامته عليه فالآية على التقدير الأول تتضمن ذم من أضاف النعم إلى نفسه وعلمه وقوته ولم يضفها إلى فضل الله وإحسانه وذلك محض الكفر بها فإن رأس الشكر الاعتراف بالنعمة وأنها من المنعم وحده فإذا أضيفت إلى غيره كان جحدا لها فإذا قال أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة التي حصلت بها ذلك فقد أضافها إلى نفسه وأعجب بها كما أضافها إلى قدرته الذين قالوا من أشد منا قوة فهؤلاء اغتروا بقوتهم وهذا اغتر بعلمه فما أغنى عن هؤلاء قوتهم ولا عن هذا

علمه وعلى التقدير الثاني يتضمن ذم من اعتقد أن إنعام الله عليه لكونه أهلا ومستحقا لها فقد جعل سبب النعمة ما قام به من الصفات التي يستحق بها على الله أن ينعم عليه وأن تلك النعمة جزاء له على إحسانه وخيره فقد جعل سببها ما اتصف به هو لا ما قام بربه من الجود والإحسان والفضل والمنة ولم يعلم أن ذلك ابتلاء واختبار له أيشكر أم يكفر ليس ذلك جزاء على ما هو منه ولو كان ذلك جزاء على عمله أو خير قام به فالله سبحانه هو المنعم عليه بذلك السبب فهو المنعم بالمسبب والجزاء والكل محض منته وفضله وجوده وليس للعبد من نفسه مثقال ذرة من الخير وعلى التقديرين فهو لم يضف النعمة إلى الرب من كل وجه وإن أضافها إليه من وجه دون وجه وهو سبحانه وحده هو المنعم من جميع الوجوه على الحقيقة بالنعم وأسبابها فأسبابها من نعمه على العبد وإن حصلت بكسبه فكسبه من نعمه فكل نعمة فمن الله وحده حتى الشكر فإنه نعمة وهي منه سبحانه فلا يطيق أحد أن يشكره إلا بنعمته وشكره نعمة منه عليه كما قال داود: "يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة من نعمك علي تستوجب شكرا آخر فقال: الآن شكرتني يا داود" ذكره الإمام أحمد وذكر أيضا عن الحسن قال: قال داود: "إلهي لو أن لكل شعرة من شعري لسانين يذكرانك بالليل والنهار والدهر كله لما أدّوا مالك علي من حق نعمة واحدة والمقصود أن حال الشاكر ضد حال القائل إنما أوتيته على علم عندي ونظير ذلك قوله: {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} قال ابن عباس: "يريد من عندي" وقال مقاتل: "يعني أنا أحق بهذا" وقال مجاهد: "هذا بعملي وأنا محقوق به" وقال الزجاج: "هذا واجب بعملي استحقيته" فوصف الإنسان بأقبح صفتين إن مسه الشر صار إلى حال القانط ووجم وجوم الآيس فإذا مسه الخير نسي أن الله هو

المنعم عليه المفضل بما أعطاه فبطر وظن أنه هو المستحق لذلك ثم أضاف إلى ذلك تكذيبه بالبعث فقال:: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} ثم أضاف إلى ذلك ظنه الكاذب أنه إن بعث كان له عند الله الحسنى فلم يدع هذا للجهل والغرور موضعا.

ص -39- فصل: وفي قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} قول آخر أنه على علم الضال كما قيل على علم منه أن معبوده لا ينفع ولا يضر فيكون المعنى أضله الله مع علمه الذي تقوم به عليه الحجة لم يضله على جهل وعدم علم هذا يشبه قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} وقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} وقول موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} وقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} ونظائره كثيرة وعلى هذا التقدير فهو ضال عن سلوك طريق رشده وهو يراها عيانا كما في الحديث: "أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه" فإن الضال عن الطريق قد يكون متبعا لهواه عالما بأن الرشد والهدى في خلاف ما يعمل ولما كان الهدى هو معرفة الحق والعمل به كان له ضدان الجهل وترك العمل به فالأول ضلال في العلم والثاني ضلال في القصد والعمل فقد وقع قوله على علم في قوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْم}

وفي قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} وفي قوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} فالأول يرجع العلم فيه إلى الله قولا واحدا والثاني والثالث فيهما قولان والراجح في قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} أن يكون كالأول وهو قول عامة السلف والثالث فيه قولان محتملان وقد ذكر توجههما والله أعلم والمقصود ذكر مراتب القضاء والقدر علما وكتابة ومشيئة وخلقا.

شفاء العليل

الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة الكتابة
الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية وهي مرتبة الكتابة
وقد تقدم في أول الكتاب ما دل على ذلك من نصوص القرآن والسنة الصحيحة الصريحة فنذكر هنا بعض ما لم نذكره قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} فالزبور هنا جميع الكتب المنزلة من السماء لا تختص بزبور داود والذكر أم الكتاب الذي عند الله والأرض الدنيا وعباده الصالحون أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم هذا أصح الأقوال في هذه الآية وهي علم من أعلام نبوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه أخبر بذلك بمكة وأهل الأرض كلهم كفار أعداء له ولأصحابه والمشركون قد أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم وشتتوهم في أطراف الأرض فأخبرهم ربهم تبارك وتعالى أنه كتب في الذكر الأول إنهم يرثون الأرض من الكفار ثم كتب ذلك في الكتب التي أنزلها على رسله والكتاب قد أطلق عليه الذكر في قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: "كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء" وكتب في الذكر كل شيء فهذا هو الذكر الذي كتب فيه أن الدنيا تصير لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والكتب المنزلة قد أطلق عليه الزبر في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُر} أي أرسلناهم بالآيات الواضحات والكتب التي فيها الهدى والنور والذكر ههنا الكتابان اللذان أنزلا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما التوراة والإنجيل والذكر في قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} هو

القرآن ففي هذه الآية علمه بما كان قبل كونه وكتابته له بعد علمه وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ

ص -40- وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} فجمع بين الكتابين الكتاب السابق لأعمالهم قبل وجودهم والكتاب المقارن لأعمالهم فأخبر أنه يحييهم بعد ما أماتهم للبعث ويجازيهم بأعمالهم ونبه بكتابته لها على ذلك قال نكتب ما قدموا من خير أو شر فعلوه في حياتهم وآثارهم ما سنوا من سنة خير أو شر فاقتدي بهم فيها بعد موتهم وقال ابن عباس في رواية عطاء: "آثارهم ما أثروا من خير أو شر" كقوله: {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} فإن قلت قد استفيد هذا من قوله قدموا فما أفاد قوله: {آثَارَهُمْ} على قوله قلت أفاد فائدة جليلة وهو أنه سبحانه يكتب ما عملوه وما تولد من أعمالهم فيكون المتولد عنها كأنهم عملوه في الخير والشر وهو أثر أعمالهم فآثارهم هي آثار أعمالهم المتولدة عنها وهذا القول أعم من قول مقاتل وكأن مقاتلا أراد التمثيل والبيان على عادة السلف في تفسير اللفظة العامة بنوع أو فرد من أفراد مدلولها تقريبا وتمثيلا لا حصرا وإحاطة وقال أنس وابن عباس في رواية عكرمة: "نزلت هذه الآية في بني سلمة أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد وكانت منازلهم بعيدة فلما نزلت قالوا بل نمكث مكاننا واحتج أرباب هذا القول بما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال: "كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم" وقد روى مسلم في صحيحه نحوه من حديث جابر وأنس وفي هذا القول نظر فإن سورة يس مكية وقصة بني سلمة بالمدينة إلا أن يقال هذه الآية وحدها مدنية وأحسن من هذا أن تكون

ذكرت عند هذه القصة ودلت عليها وذكروا بها عندها إما من النبي صلى الله عليه وسلم وإما من جبريل فأطلق على ذلك النزول ولعل هذا مراد من قال في نظائر ذلك نزلت مرتين والمقصود أن خطاهم إلى المساجد من آثارهم التي يكتبها الله لهم قال عمر بن الخطاب: "لو كان الله سبحانه تاركا لابن آدم شيئا لترك ما عفت عليه الرياح من أثر" وقال مسروق: "ما خطا رجل خطوة إلا كتبت له حسنة أو سيئة" والمقصود أن قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب وهو الذكر الذي كتب فيه كل شيء يتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها وحفظها لها والإحاطة بعددها وإثباتها فيه وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} وقد اختلف في الكتاب ههنا هل هو القرآن أو اللوح المحفوظ على قولين فقالت طائفة المراد به القرآن وهذا من العام المراد به الخاص أي ما فرطنا فيه من شيء يحتاجون إلى ذكره وبيانه كقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} ويجوز أن يكون من العام المراد به عمومه والمراد أن كل شيء ذكر فيه مجملا ومفصلا كما قال ابن مسعود: "وقد لعن الواصلة والمستوصلة ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه فقالت امرأة لقد قرأت القرآن فما وجدته فقال إن كنت قرأتيه فقد وجدته قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة" وقال الشافعي ما نزل بأحد من المسلمين نازلة إلا وفي كتاب الله سبيل الدلالة عليها وقالت طائفة المراد بالكتاب في الآية اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء وهذا إحدى الروايتين عن ابن عباس وكان هذا

القول أظهر في الآية والسياق يدل عليه فإنه قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} وهذا يتضمن أنها أمم أمثالنا في الخلق والرزق والأكل والتقدير الأول وأنها لم تخلق سدى

ص -41- بل هي معبدة مذللة قد قدر خلقها وأجلها ورزقها وما تصير إليه ثم ذكر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها ثم قال إلى ربهم يحشرون فذكر مبدأها ونهايتها وأدخل بين هاتين الحالتين قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أي كلها قد كتبت وقدرت وأحصيت قبل أن توجد فلا يناسب هذا ذكر كتاب الأمر والنهي وإنما يناسب ذكر الكتاب الأول، ولمن نصر القول الأول أن يجيب عن هذا بأن في ذكر القرآن ههنا الإخبار عن تضمنه لذكر ذلك والإخبار به فلم نفرط فيه من شيء بل أخبرناكم بكل ما كان وما هو كائن إجمالا وتفصيلا ويرجحه أمر آخر وهو أن هذا ذكر عقيب قوله: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فنبههم على أعظم الآيات وأدلها على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الكتاب الذي يتضمن بيان كل شيء ولم يفرط فيه من شيء ثم نبههم بأنهم أمة من جملة الأمم التي في السماوات والأرض وهذا يتضمن التعريف بوجود الخالق وكمال قدرته وعلمه وسعة ملكه وكثرة جنوده والأمم التي يحصيها غيره وهذا يتضمن أنه لا إله غيره ولا رب سواه وأنه رب العالمين فهذا دليل على وحدانيته وصفات كماله من جهة خلقه وقدره وإنزال الكتاب الذي لم يفرط فيه من شيء دليل من جهة أمره وكلامه فهذا استدلال بأمره وذاك بخلقه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، وشهد لهذا أيضا قوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا

نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ولمن نصر إن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أن يقول لما سألوا آية أخبرهم سبحانه بأنه لم يترك إنزالها لعدم قدرته على ذلك فإنه قادر على ذلك وإنما لم ينزلها لحكمته ورحمته بهم وإحسانه إليهم أذلوا أنزلها على وفق اقتراحهم لعوجلوا بالعقوبة أن لم يؤمنوا ثم ذكر ما يدل على كمال قدرته بخلق الأمم العظيمة التي لا يحصي عددها إلا هو فمن قدر على خلق هذه الأمم مع اختلاف أجناسها وأنواعها وصفاتها وهيئاتها كيف يعجز عن إنزال آية ثم أخبر عن كمال قدرته وعلمه بأن هؤلاء الأمم قد أحصاهم وكتبهم وقدر أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم في كتاب لم يفرط فيه من شيء ثم يميتهم ثم يحشرهم إليه والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات عن النظر والاعتبار الذي يؤديهم إلى معرفة ربوبيته ووحدانيته وصدق رسله ثم أخبر أن الآيات لا تستقل بالهدى ولو أنزلها على وفق اقتراح البشر بل الأمر كله له من يشأ يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم فهو أظهر القولين والله أعلم وقال: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} قال ابن عباس: "في اللوح المحفوظ المقري عندنا" قال مقاتل: "أن نسخته في أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ وأم الكتاب أصل الكتاب وأم كل شيء أصله" والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب وقد دل القرآن على أن الرب تعالى كتب في أم الكتاب ما يفعله وما يقوله فكتب في اللوح أفعاله وكلامه فتبت يدا أبي لهب في

اللوح المحفوظ قبل وجود أبي لهب وقوله لدينا يجوز فيه أن تكون من صلة أم الكتاب أي أنه في الكتاب الذي عندنا وهذا اختيار ابن عباس ويجوز أن يكون من صلة الخبر أنه عليّ حكيم عندنا ليس هو كما عند المكذبين به أي وإن كذبتم به وكفرتم فهو عندنا في غاية الارتفاع والشرف

ص -42- والإحكام وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} قال سعيد بن جبير ومجاهد وعطية: "أي ما سبق لهم في الكتاب من الشقاوة والسعادة ثم قرأ عطية: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} "والمعنى أن هؤلاء أدركهم ما كتب لهم من الشقاوة وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء قال: "يريد ما سبق عليهم في علمي في اللوح المحفوظ" فالكتاب على هذا القول الكتاب الأول ونصيبهم ما كتب لهم من الشقاوة وأسبابها وقال ابن زيد والقرطبي والربيع بن أنس: "ينالهم ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال فإذا فني نصيبهم واستكملوه جاءتهم رسلنا يتوفونهم ورجح بعضهم هذا القول لمكان حتى التي هي للغاية يعني أنهم يستوفون أرزاقهم وأعمارهم إلى الموت ولمن نصر القول الأول أن يقول حتى في هذا الموضع هي التي تدخل على الجمل ويتصرف الكلام فيها إلى الابتداء كما في كقوله:
فيا عجبا حتى كليب تسبني
والصحيح أن نصيبهم من الكتاب يتناول الأمرين فهو نصيبهم من الشقاوة ونصيبهم من الأعمال التي هي أسبابها ونصيبهم من الأعمار التي هي مدة اكتسابها ونصيبهم من الأرزاق التي استعانوا بها على ذلك فعمت الآية هذا النصيب كله وذكر هؤلاء بعضه وهؤلاء بعضه هذا على القول الصحيح وأن المراد ما سبق لهم في أم الكتاب وقالت طائفة المراد بالكتاب القرآن قال الزجاج: "معنى نصيبهم من الكتاب ما أخبر الله من جزائهم نحو قوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} وقوله: {يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً}"

قال أرباب هذا القول وهذا هو الظاهر لأنه ذكر عذابهم في القرآن في مواضع ثم أخبر أنه ينالهم نصيبهم منه والصحيح القول الأول وهو نصيبهم الذي كتب لهم أن ينالوه قبل أن يخلقوا ولهذا القول وجه حسن وهو أن نصيب المؤمنين منه الرحمة والسعادة ونصيب هؤلاء منه العذاب والشقاء فنصيب كل فريق منه ما اختاروه لأنفسهم وآثروه على غيره كما أن حظ المؤمنين منه كان الهدى والرحمة فحظ هؤلاء منه الضلال والخيبة فكان حظهم من هذه النعمة أن صارت نقمة وحسرة عليهم وقريب من هذا قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي تجعلونه حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم التكذيب به قال الحسن: "تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون قال وخسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به" وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} قال عطاء ومقاتل: "كل شيء فعلوه مكتوب عليهم في اللوح المحفوظ" وروى حماد بن زيد عن داود بن أبي هند عن الشعبي: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} قال: "كتب عليهم قبل أن يعملوه" وقالت طائفة: "المعنى أنه يحصى عليهم في كتب أعمالهم" وجمع أبو إسحاق بين القولين فقال: "مكتوب عليهم قبل أن يفعلوه ومكتوب عليهم إذا فعلوه للجزاء" وهذا أصح وبالله التوفيق وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: "ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينين النظر وزنا اللسان النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك ويكذبه" وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق الفرج ذلك كله ويكذبه" وفي صحيح البخاري

وغيره عن عمران بن حصين قال: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا: قد بشرتنا فأعطنا

ص -43- مرتين ثم دخل عليه ناس من اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا: قد قبلنا يا ِرسول الله قالوا: جئنا لنسألك عن هذا الأمر قال كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض فنادى مناد ذهبت ناقتك يا ابن الحصين فانطلقت فإذا هي ينقطع دونها السراب فوالله لوددت أني كنت تركتها فالرب سبحانه كتب ما يقوله وما يفعله وما يكون بقوله وفعله وكتب مقتضى أسمائه وصفاته وآثارها" كما في الصحيحين من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي".

شفاء العليل

الباب الثاني عشر في ذكر المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة
الباب الثاني عشر: في ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة المشيئة
وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم وجميع الكتب المنزلة من عند الله والفطرة التي فطر الله عليها خلقه وأدلة العقول والعيان وليس في الوجود موجب ومقتض إلا مشيئة الله وحده فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن هذا عموم التوحيد الذي لا يقوم إلا به والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وخالفهم في ذلك من ليس منهم في هذا الموضع وأن كان منهم في موضع آخر فجوزوا أن يكون في الوجود ما لا يشاء الله وأن يشاء ما لا يكون وخالف الرسل كلهم وأتباعهم من نفى مشيئة الله بالكلية ولم يثبت له سبحانه مشيئة واختيارا أو جدبها الخلق كما يقوله طوائف من أعداء الرسل من الفلاسفة وأتباعهم والقرآن والسنة مملوآن بتكذيب الطائفتين فقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وقال تعالى: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا} وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} وقال:

{وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ} وقال: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك} وقال: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِك} وقال: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً} وقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقال عن نوح أنه قال لقومه: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} وقال إمام الحنفاء وأبو الأنبياء لقومه: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} وقال الذبيح له: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} وقال خطيب الأنبياء شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} وقال الصديق الكريم ابن الكريم ابن الكريم: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقال حمو موسى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} وقال كليم الرحمن للخضر: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} وقال قوم موسى له: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} وقال لسيد ولد آدم وأكرمهم عليه: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} وقال عن أهل

ص -44- الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} وعن أهل النار كذلك ليبين أن الأمر راجع إلى مشيئته ولو شاء لكان غير ذلك وقال: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} وقال: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} وقال: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاء} وقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وقال: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت} وقال: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وقال: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} وقال: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} وقال: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} وقال: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} وقال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه} وفي الآية الأخرى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه} فأخبر أن مشيئتهم وفعلهم موقوفان على مشيئته لهم هذا وهذا وقال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاء} وقال: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ

السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وقوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء} وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} وقوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} وقوله: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} وقوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} وقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقوله: {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} وقوله: {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} وقوله: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاء} وقوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيح} وقوله: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاما}: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} وقوله: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُم} وقوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} وقوله عن كليمه موسى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء} وهذه الآيات ونحوها تتضمن الرد على طائفتي الضلال نفاة المشيئة بالكلية ونفاة مشيئة أفعال العباد وحركاتهم وهداهم وضلالهم وهو سبحانه تارة يخبر أن كل ما في الكون بمشيئته وتارة أن ما لم يشأ لم يكن وتارة أنه لو شاء لكان خلاف الواقع وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الذي قدره وكتبه وأنه لو شاء ما عصى وأنه لو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة فتضمن ذلك أن الواقع بمشيئته وأن ما لم يقع

فهو لعدم مشيئته وهذا حقيقة الربوبية وهو معنى كونه رب العالمين وكونه القائم بتدبير عباده فلا خلق ولا رزق ولا عطاء ولا منع ولا قبض ولا بسط ولا موت ولا حياة ولا إضلال ولا هدى ولا سعادة ولا شقاوة إلا بعد إذنه وكل ذلك بمشيئته وتكوينه إذ لا مالك غيره ولا مدبر سواه ولا رب غيره قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَار} وقال: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} وقال: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} وقال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} وقال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} وتقدم في حديث حذيفة بن أسيد في صحيح مسلم في شأن الجنين "فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك" وفي صحيح البخاري من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء" وفي صحيح البخاري من حديث علي بن أبي طالب

ص -45- حين طرقه النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة ليلا فقال: "ألا تصليان علي إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا" وفي صحيحه أيضا في قصة نومهم في الوادي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم: "أن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها حين شاء" وفي حديث ابن مسعود الذي في المسند وغيره في قصة رجوعهم من الحديبية ونومهم عن صلاة الصبح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لو شاء لم تناموا عنها ولكن أراد أن تكون لمن بعدكم فهكذا لمن نام ونسي" وفي لفظ آخر: "إن الله سبحانه وتعالى لو شاء أيقظنا ولكنه أراد أن يكون لمن بعدكم" وفي مسند الإمام أحمد عن طفيل بن سخيرة أخي عائشة لامها أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مر برهط من اليهود فقال: من أنتم قالوا: نحن اليهود قال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيرا ابن الله فقالت اليهود: وأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد ثم مر برهط من النصارى فقال: من أنتم قالوا: نحن النصارى قال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله قالوا: وأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد فلما أصبح أخبر بها من أخبر ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: أخبرت أحدا؟ قال: نعم فلما صلوا خطبهم فحمد الله وأثنى عليه فقال إن طفيلا رأى رؤيا فأخبر بها من أخبر منكم وإنكم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم" زاد البيهقي: "فلا تقولوها ولكن قولوا ما شاء الله وحده لا شريك له" وروى جعفر عن عون عن الأجلح عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه في بعض الأمر فقال الرجل لرسول الله: ما شاء الله وشئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله عدلا بل ما شاء الله وحده" وروى سعيد عن منصور عن عبد الله بن يسار عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء

فلان" قال الشافعي في رواية الربيع عنه: "المشيئة إرادة الله قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فأعلم الله خلقه أن المشيئة له دون خلقه وأن مشيئتهم لا تكون إلا أن يشاء الله فيقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله ثم شئت ولا يقال ما شاء الله وشئت قال ويقال من يطع الله ورسوله فإن الله تعبد العباد بأن فرض عليهم طاعة رسوله فإذا أطيع رسول الله فقد أطيع الله بطاعة رسوله" وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك" وفي حديث النواس بن سمعان سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك والميزان بيد الرحمن يرفع أقواما ويخفض آخرين إلى يوم القيامة" وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يقول: "إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس" وذكر الحديث وقال في آخره "فذلك فضلي أوتيه من أشاء" وفي صحيح البخاري مرفوعا: "مثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء وقال عبد الرازق عن معمر عن همام هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر فاني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما" قال الشافعي تأويله والله أعلم أن العرب كان شأنها

ص -46- أن تذم الدهر وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف أو غير ذلك فيقولون إنما يهلكنا الدهر وهو الليل والنهار ويقولون أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر فيجعلون الليل والنهار يفعلان الأشياء فيذمون الدهر بأنه الذي يفنيهم ويفعل بهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدهر على أنه الذي يفنيكم والذي يفعل بكم هذه الأشياء فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنما تسبون الله تبارك وتعالى فإنه فاعل هذه الأشياء" وفي حديث أنس يرفعه: "اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله عز وجل سحائب من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده وسلوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم" وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" وفيهما أيضا من حديث احتجاج الجنة والنار: "قول الله للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء وللنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء" وفيه أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت وارحمني إن شئت وارزقني إن شئت ليعزم مسألته إنه يفعل ما يشاء لا مكره له" وفي صحيح مسلم عنه يرفعه: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير إحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان" وفي حديث أبي ذر: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته" الحديث وفي آخره "ذلك بأني جواد أفعل ما أشاء عطائي كلام فإذا أردت شيئا فإنما أقول له كن فيكون" وفي حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله

على عبد من نعمة من أهل وولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى فيه آية دون الموت" وهذا الحديث الصحيح مشتق من قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّه} وفي حديث الشفاعة: "فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني" وفي حديث آخر أهل الجنة دخولا إليها "فيسكت ما شاء الله أن يسكت وفيه قوله سبحانه لا أهزأ بك ولكني على ما أشاء قدير" والحديثان في الصحيحين وفيهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة فأريد إن شاء الله أن أختبي دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" وقال: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد" وقال: "إني لأطمع أن يكون حوضي إن شاء الله أوسع ما بين أيلة إلى كذا" وقال في المدينة: "لا يدخلها الطاعون ولا الدجال إن شاء الله" وقال في زيارة المقابر: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" وقال لما حاصر الطائف: "إنا قافلون غدا إن شاء الله" وقال لما قدم مكة: "منزلنا غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة" وقال يوم بدر: "هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله وهذا مصرع فلان إن شاء الله" وقال في بعض أسفاره: "إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم ثم إنكم تأتون الماء غدا إن شاء الله" وقال للأعرابي الذي عاده من الحمى: "لا بأس طهور إن شاء الله" وأخبر عن سليمان بن داود أنه قال: "لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله فقال له الملك قل إن شاء الله فلم يقل فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون" وقال: "من حلف فقال إن شاء الله فإن

ص -47- شاء مضى وإن شاء رجع غير حنث" وقال: "لأغزون قريشا ثم قال في الثالثة إن شاء الله" وقال: "ألا مشمر للجنة فقالت الصحابة نحن المشمرون لها يا رسول الله فقال قولوا إن شاء الله" وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قال الحسن: "إذا نسيت أن تقول إن شاء الله" وهذا هو الاستثناء الذي كان يجوزه ابن عباس متراخيا ويتأول عليه الآية لا الاستثناء في الإقرار واليمين والطلاق والعتاق وهذا من كمال علم ابن عباس وفقهه في القرآن وقد أجمع المسلمون على أن الحالف إذا استثنى في يمينه متصلا بها فقال لأفعلنّ كذا أو لا أفعله إن شاء الله إنه لا يحنث إذا خالف ما حلف عليه لأن من أصل أهل الإسلام أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله فإذا علق الحالف الفعل أو الترك بالمشيئة لم يحنث عند عدم المشيئة ولا تجب عليه الكفارة ولو ذهبنا نذكر كل حديث أو أثر جاء فيه لفظ المشيئة وتعليق فعل الرب بها لطال الكتاب جدا وأما الإرادة فورودها في نصوص القرآن والسنة معلوم أيضا كقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا}: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً}: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} وقول نوح: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} وقوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ} وقوله: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد

الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} وأخبر أنه إذا لم يرد تطهير قلوب عباده لم يكن لهم سبيل إلى تطهيرها فقال: {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} وقال: {وإن الله يهدي من يريد}: {وإن الله يحكم ما يريد} وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} وقوله: {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} وقوله: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} وقول صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} وقوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِه} وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ} وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} والنصوص النبوية في إثبات إرادة الله أكثر من أن تحصر كقوله "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين" "من يرد الله به خيرا يصب منه" "إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق" "إذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها" "إذا أراد الله هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأقر عينه بهلكها" "إذا أراد الله بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا" "إذا أراد الله بعبد شرا أمسك عنه توبته حتى يوافي يوم القيامة كأنه عير"

"إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة" "إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم باب الرفق" "إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم" والآثار النبوية في ذلك أكثر من أن نستوعبها.
فصل: وههنا أمر يجب التنبيه عليه والتنبه له وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة تعرض لمن لم يحط به علما وهو أن الله سبحانه له الخلق والأمر وأمره سبحانه نوعان: أمر كوني قدري، وأمر ديني

ص -48- شرعي فمشيئته سبحانه متعلقة بخلقه وأمره الكوني وكذلك تتعلق بما يحب وبما يكرهه كله داخل تحت مشيئته كما خلق إبليس وهو يبغضه وخلق الشياطين والكفار والأعيان والأفعال المسخوطة له وهو يبغضها فمشيئته سبحانه شاملة لذلك كله وأما محبته ورضاه فمتعلقة بأمره الديني وشرعه الذي شرعه على ألسنة رسله فما وجد منه تعلقت به المحبة والمشيئة جميعا فهو محبوب للرب واقع بمشيئته كطاعات الملائكة والأنبياء والمؤمنين وما لم يوجد منه تعلقت به محبته وأمره الديني ولم تتعلق به مشيئته وما وجد من الكفر والفسوق والمعاصي تعلقت به مشيئته ولم تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني وما لم يوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته فلفظ المشيئة كوني ولفظ المحبة ديني شرعي ولفظ الإرادة ينقسم إلى إرادة كونية فتكون هي المشيئة وإرادة دينية فتكون هي المحبة إذا عرفت هذا فقوله تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وقوله: {لا يُحِبُّ الْفَسَاد} وقوله: {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} لا يناقض نصوص القدر والمشيئة العامة الدالة على وقوع ذلك بمشيئته وقضائه وقدره فإن المحبة غير المشيئة والأمر غير الخلق ونظير هذا لفظ الأمر فإنه نوعان أمر تكوين وأمر تشريع والثاني قد يعصي ويخالف بخلاف الأول فقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} لا يناقض قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ

بِالْفَحْشَاءِ} ولا حاجة إلى تكلف تقدير أمرنا مترفيها فيها بالطاعة فعصونا وفسقوا فيها بل الأمر ههنا أمر تكوين وتقدير لا أمر تشريع لوجوه أحدها: أن المستعمل في مثل هذا التركيب أن يكون ما بعد الفاء هو المأمور به كما تقول أمرته فقام وأمرته فأكل كما لو صرح بلفظة أفعل كقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا} وهذا كما تقول دعوته فأقبل وقال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} الثاني: أن الأمر بالطاعة لا يخص المترفين فلا يصح حمل الآية عليه بل تسقط فائدة ذكر المترفين فإن جميع المبعوث إليهم مأمورون بالطاعة فلا يصح أن يكون أمر المترفين علة إهلاك جميعهم الثالث: أن هذا النسق العجيب والتركيب البديع مقتض ترتب ما يعد الفاء على ما قبلها ترتب المسبب على سببه والمعلول على علته ألا ترى أن الفسق علة حق القول عليهم وحق القول عليهم علة لتدميرهم فهكذا الأمر سبب لفسقهم ومقتض له وذلك هو أمر التكوين لا التشريع الرابع: أن إرادته سبحانه لإهلاكهم إنما كانت بعد معصيتهم ومخالفتهم لرسله فمعصيتهم ومخالفتهم قد تقدمت فأراد الله إهلاكهم فعاقبهم بأن قدر عليهم الأعمال التي يتحتم معها هلاكهم فإن قيل فمعصيتهم السابقة سبب لهلاكهم فما الفائدة في قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} وقد تقدم الفسق منهم قبل المعصية السابقة وإن كانت سببها للهلاك لكن يجوز تخلف الهلاك عنها ولا يتحتم كما هو عادة الرب تعالى المعلومة في خلقه أنه لا يتحتم هلاكهم بمعاصيهم فإذا أراد إهلاكهم ولا بد أحدث سببا آخر يتحتم معه الهلاك ألا ترى أن ثمود ألم يهلكهم بكفرهم السابق حتى أخرج لهم الناقة فعقروها فأهلكوا حينئذ وقوم فرعون لم يهلكهم بكفرهم السابق بموسى حتى أراهم الآيات المتتابعات واستحكم بغيهم وعنادهم فحينئذ أهلكوا وكذلك قوم لوط لما أراد هلاكهم أرسل الملائكة إلى لوط في صورة الأضياف

فقصدوهم بالفاحشة ونالوا من لوط وتواعدوه وكذلك سائر الأمم إذا أراد الله هلاكهم أحدث لها بغيا وعدوانا يأخذها على أثره وهذه عادته مع عباده عموما وخصوصا فيعصيه العبد وهو يحلم عنه ولا يعاجله حتى إذا أراد أخذه قيض له عملا يأخذه به مضافا إلى أعماله الأولى فيظن الظان أنه أخذه بذلك العمل وحده وليس كذلك بل حق عليه القول بذلك وكان قبل ذلك

ص -49- لم يحق عليهم القول بأعماله الأولى حيث عمل ما يقتضي ثبوت الحق عليه ولكن لم يحكم به أحكم الحاكمين ولم يمض الحكم فإذا عمل بعد ذلك ما يقرر غضب الرب عليه أمضى حكمه عليه وأنفذه قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} وقد كانوا قبل ذلك أغضبوه بمعصية رسوله ولكن لم يكن غضبه سبحانه قد استقر واستحكم عليهم إذ كان بصدد أن يزول بإيمانهم فلما أيس من إيمانهم تقرر الغضب واستحكم فحلت العقوبة فهذا الموضع من أسرار القرآن وأسرار التقدير الإلهي وفكر العبد فيه من أنفع الأمور له فإنه لا يدري أي المعاصي هي الموجبة التي يتحتم عندها عقوبته فلا يقال بعدها والله المستعان وسنعقد لهذا الفصل بابا في الفرق بين القضاء الكوني والديني نشبع الكلام فيه إن شاء الله لشدة الحاجة إليه إذ المقصود في هذا الباب مشيئة الرب وأنها الموجبة لكل موجود كما أن عدم مشيئته موجب لعدم وجود الشيء فهما الموجبتان ما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ وجب عدمه وامتناعه وهذا أمر يعم كل مقدور من الأعيان والأفعال والحركات والسكنات فسبحانه أن يكون في مملكته ما لا يشاء أو أن يشاء شيئا فلا يكون وإن كان فيها ما لا يحبه ولا يرضاه وإن كان يحب الشيء فلا يكون لعدم مشيئته له ولو شاءه لوجد.

شفاء العليل

الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة وهي مرتبة خلق الأعمال
الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة خلق الله سبحانه الأعمال وتكوينه وإيجاده لها
وهذا أمر متفق عليه بين الرسل صلى الله تعالى عليهم وسلم وعليه اتفقت الكتب الإلهية والفطر والعقول والاعتبار وخالف في ذلك مجوس الأمة فأخرجت طاعات ملائكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين وهي أشرف ما في العالم عن ربوبيته وتكوينه ومشيئته بل جعلوهم هم الخالقون لها ولا تعلق لها بمشيئته ولا تدخل تحت قدرته وكذلك قالوا في جميع أفعال الحيوانات الاختيارية فعندهم أنه سبحانه لا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا ولا يقدر أن يجعل المسلم مسلما والكافر كافرا والمصلي مصليا وإنما ذلك بجعلهم أنفسهم كذلك لا يجعله تعالى وقد نادى القرآن بل الكتب السماوية كلها والسنة وأدلة التوحيد والعقول على بطلان قولهم وصاح بهم أهل العلم والإيمان من أقطار الأرض وصنف حزب الإسلام وعصابة الرسول وعسكره التصانيف في الرد عليهم وهي أكثر من أن يحصيها إلا الله ولم تزل أيدي السلف وأئمة السنة في أقفيتهم ونواصيهم تحت أرجلهم إذ كانوا يردون باطلهم بالحق المحض وبدعتهم بالسنة والسنة لا يقوم لها شيء فكانوا معهم كالذمة مع المسلمين إلى أن نبغت نابغة ردوا بدعتهم ببدعة تقابلها وقابلوا باطلهم بباطل من جنسه وقالوا العبد مجبور على أفعاله مقهور عليها لا تأثير له في وجودها البتة وهي واقعة بإرادته واختياره وغلا غلاتهم فقالوا بل هي عين أفعال الله ولا ينسب إلى العبد الأعلى المجاز والله سبحانه يلوم العبد ويعاقبه ويخلده في النار على ما لم يكن للعبد فيه صنع ولا هو فعله بل هو محض فعل الله وهذا قول الجبرية وهو إن لم يكن شرا من القدرية فليس هو بدونه في البطلان وإجماع الرسل واتفاق الكتب الإلهية وأدلة العقول والفطر والعيان يكذب هذا القول ويرده

والطائفتان في عمي عن الحق القويم والصراط المستقيم ولما رأى القاضي وغيره بطلان هذا القول وتناقضه للشرائع والعدل والجبلة قالوا قدرة العبد وإن لم تؤثر في وجود الفعل فهي مؤثرة في صفة من صفاته

ص -50- وتلك الصفة تسمى كسبا وهي متعلق الأمر والنهي والثواب والعقاب فإن الحركة التي هي من طاعته والحركة التي هي من معصيته قد اشتركا في نفس الحركة وامتازت إحداهما عن الأخرى بالطاعة والمعصية فذات الحركة ووجودها واقع بقدرة الله وإيجاده وكونها طاعة ومعصية واقع بقدرة العبد وتأثيره وهذا وإن كان أقرب إلى الصواب فالقائل به لم يوفه حقه فإن كونها طاعة ومعصية هو موافقة الأمر ومخالفته فهذه الموافقة والمخالفة إما أن تكون فعلا للعبد يتعلق بقدرته واختياره وإن كان لم يكن للعبد اختيار ولا فعل ولا كسب البتة فلم يثبت هؤلاء من الكسب أمرا معقولا ولهذا يقال محالات الكلام ثلاثة كسب الأشعري وأحوال أبي هاشم وطفرة النظام ولما رأى طائفة فساد هذا قالوا المؤثر في وجود الفعل هو قدرة الرب على سبيل الاستقلال قالوا ولا يمتنع اجتماع المؤثرين على أثر واحد ولم يستوحش هؤلاء من القول بوقوع مفعول بين فاعلين ولا مقدور بين قادرين قالوا كما يمتنع وقوع معلوم بين عالمين ومراد بين مريدين ومحبوب بين محبوبين ومكروه بين مكروهين قالوا ونحن نشاهد قادرين مستقلين كل منهما يمكنه أن يستقل بالفعل يقع بينهما مفعول واحد يشتركان في فعله والتأثير فيه قالوا وليس معكم ما يبطل هذا إلا قولكم أن إضافته إلى أحدهما على سبيل الاستقلال يمنع إضافته إلى الآخر وإضافته إليهما وفي هذه الحجة إجمال لا بد له من تفصيل فيجوز وقوع مفعول بين فاعلين لا يستقل أحدهما به كالمتعاونين على الأمر لا يقدر عليه أحدهما وحده ويجوز وقوع مفعول بين فاعلين يشتركان فيه كل منهما يستقل به على سبيل البدل وهذا ظاهر أيضا ويجوز وقوع مفعول بين فاعلين يشتركان فيه وكل منهما يقدر عليه

حال الانفراد كمحمول يحمله اثنان كل منهما يمكنه أن يستقل بحمله وحده وكل هذه الأقسام ممكنة بل واقعة بقي قسم واحد وهو مفعول بين فاعلين كل منهما فعله على سبيل الاستقلال فهذا محال فإن استقلال كل منهما بفعله ينفي فعل الآخر له فاستقلالهما ينافي استقلالهما وأكثر الطوائف يقر بوقوع مقدور بين قادرين وإن اختلفوا في كيفية وقوعه، فقالت طائفة الفعل يضاف إلى قدرة الله سبحانه على وجه الاستقلال بالتأثير ويضاف إلى قدرة العبد لكنها غير مستقلة فإذا انضمت قدرة الله إلى قدرة العبد صارت قدرة العبد مؤثرة على سبيل الاستقلال بتوسط إعانة قدرة الله وجعل قدرة العبد مؤثرة والقائل بهذا لم يتخلص من الخطأ حيث زعم أن قدرة العبد مستقلة بإعانة قدرة الله له فعاد الأمر إلى اجتماع مؤثرين على أثر واحد لكن قدرة أحدهما وتأثيره مستند إلى قدرة الآخر وتأثيره وكأنه والله أعلم أراد أن قدرة الرب مستقلة بالتأثير في إيجاد الفعل وهذا قد قاله طائفة من العلماء وقائل هذا لم يتخلص من الخطأ حيث جعل قدرة العبد مستقلة بالتأثير في إيجاد المقدور وهذا باطل إذ غاية قدرة العبد أن تكون سببا بل جزأ من السبب والسبب لا يستقل بحصول المسبب ولا يوجبه وليس في الوجود ما يوجب حصول المقدور إلا مشيئة الله وحده وأصحاب هذا القول زعموا أن الله أعطى العبد قدرة وإرادة وفوض إليه بهما الفعل والترك وخلاه وما يريد فهو يفعل ويترك بقدرته وإرادته اللتين فوض إليه الفعل والترك بهما وقالت طائفة أخرى مقدور العبد هو عين مقدور الرب بشرط أن يفعله العبد إذا تركه الرب ولم يفعله لا على أنه يفعله والرب له فاعل لاستحالة خلق بين خالقين وهذا بعينه مذهب من يقول بوقوع مفعول بين فاعلين على سبيل وهذا مذهب كثير من القدرية منهم الشحام وغيره

ص -51- وقالت طائفة يجوز وقوع فعل بين فاعلين بنسبتين مختلفتين بأحدهما يكون محدثا وبالأخرى يكون كاسبا وهذا مذهب النجار وضرار بن عمرو ومحمد بن عيسى بن حفص والفرق بين هذا المذهب ومذهب الأشعريين من وجهين أحدهما: أن صاحب هذا المذهب يقول العبد فاعل حقيقة وإن لم يكن محدثا مخترعا للفعل والأشعري يقول العبد ليس بفاعل وإن نسب إليه الفعل وإنما الفاعل في الحقيقة هو الله فلا فاعل سواه الثاني: أنهم يقولون الرب هو المحدث والعبد هو الفاعل وقالت فرقة: بل أفعال العباد فعل لله على الحقيقة وفعل العبد على المجاز وهذا أحد قولي الأشعري وقالت فرقة أخرى منهم القلانسي وأبو إسحاق: في بعض كتبه أنها فعل لله على الحقيقة وفعل الإنسان على الحقيقة لا على معنى أنه أحدثها بل على معنى أنه كسب له وقالت طائفة أخرى وهم جهم وأتباعه: أن القادر على الحقيقة هو الله وحده وهو الفاعل حقا ومن سواه ليس بفاعل على الحقيقة ولا كاسب أصلا بل هو مضطر إلى جميع ما فيه من حركة وسكون وقول القائل قام وقعد وأكل وشرب مجاز بمنزلة مات وكبر ووقع وطلعت الشمس وغربت وهذا قول الجبرية الغلاة وقابله طائفة أخرى فقالوا: العباد موجدون لأفعالهم مخترعون لها بقدرهم وإرادتهم والرب لا يوصف بالقدرة على مقدور العبد ولا تدخل أفعالهم تحت قدرته كما لا يوصف العباد بمقدور الرب ولا تدخل أفعاله تحت قدرهم وهذا قول جمهور القدرية وكلهم متفقون على أن الله سبحانه غير فاعل لأفعال العباد واختلفوا هل يوصف بأنه مخترعها ومحدثها وأنه قادر عليها وخالق لها فجمهورهم نفوا ذلك ومن يقرب منهم إلى السنة أثبت كونها مقدورة لله وأن الله سبحانه قادر على أعيانها وأن العباد أحدثوها بإقدار الله لهم على إحداثها وليس معنى قدرة الله عليها عندهم أنه قادر على فعلها هذا عندهم عين المحال بل قدرته عليها إقدارهم على إحداثها فإنما أحدثوها بقدرته وإقداره وتمكينه وهؤلاء أقرب القدرية إلى

السنة وأرباب هذه المذاهب مع كل طائفة منهم خطأ وصواب وبعضهم أقرب إلى الصواب وبعضهم أقرب إلى الخطأ وأدلة كل منهم وحججه إنما تنهض على بطلان خطأ الطائفة الأخرى لا على إبطال ما أصابوا فيه فكل دليل صحيح للجبرية إنما يدل على إثبات قدرة الرب تعالى ومشيئته وأنه لا خالق غيره وأنه على كل شيء قدير لا يستثنى من هذا العموم فرد واحد من أفراد الممكنات وهذا حق ولكن ليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون العبد قادرا مريدا فاعلا بمشيئته وقدرته وأنه هو الفاعل حقيقة وأفعاله قائمة به وأنها فعل له لا لله وأنها قائمة به لا بالله وكل دليل صحيح يقيمه القدرية فإنما يدل على أن أفعال العباد فعل لهم قائم بهم واقع بقدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم وأنهم مختارون لها غير مضطرين ولا مجبورين ليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون الله سبحانه قادرا على أفعالهم وهو الذي جعلهم فاعلين فأدلة الجبرية متظافرة صحيحة على من نفى قدرة الرب سبحانه على كل شيء من الأعيان والأفعال ونفى عموم مشيئته وخلقه لكل موجود وأثبت في الوجود شيئا بدون مشيئته وخلقه وأدلة القدرية متظافرة صحيحة على من نفى فعل العبد وقدرته ومشيئته واختياره وقال أنه ليس بفاعل شيئا والله يعاقبه على ما لم يفعله ولا له قدرة عليه بل هو مضطر إليه مجبور عليه وأهل السنة وحزب الرسول وعسكر الإيمان لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء بل هم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه وهم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه فكل حق مع طائفة من الطوائف فهم يوافقونهم فيه وهم براء من باطلهم فمذهبهم جمع حق الطوائف بعضه إلى بعض والقول

ص -52- به ونصره وموالاة أهله من ذلك الوجه ونفي باطل كل طائفة من الطوائف وكسره ومعاداة أهله من هذا الوجه فهم حكام بين الطوائف لا يتحيزون إلى فئة منهم على الإطلاق ولا يردون حق طائفة من الطوائف ولا يقابلون بدعة ببدعة ولا يردون باطلا بباطل ولا يحملهم شنآن قوم يعادونهم ويكفرونهم على أن لا يعدلوا فيهم بل يقولون فيهم الحق ويحكمون في مقالالتهم بالعدل والله سبحانه وتعالى أمر رسوله أن يعدل بين الطوائف فقال:: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِِلَ بَيْنَكُمُ} فأمره سبحانه أن يدعو إلى دينه وكتابه وأن يستقيم في نفسه كما أمره وأن لا يتبع هوى أحد من الفرق وأن يؤمن بالحق جميعه ولا يؤمن ببعضه دون بعض وأن يعدل بين أرباب المقالات والديانات وأنت إذا تأملت هذه الآية وجدت أهل الكلام الباطل وأهل الأهواء والبدع من جميع الطوائف أبخس الناس منها حظا وأقلهم نصيبا ووجدت حزب الله ورسوله وأنصار سنته هم أحق بها وأهلها وهم في هذه المسألة وغيرها من المسائل أسعد بالحق من جميع الطوائف فإنهم يثبتون قدرة الله على جميع الموجودات من الأعيان والأفعال ومشيئته العامة وينزهونه ان يكون في ملكه ما لا يقدر عليه ولا هو واقع تحت مشيئته ويثبتون القدر السابق وأن العباد يعملون على ما قدره الله وقضاه وفرغ منه وأنه لا يشاؤن إلا أن يشاء الله ولا يفعلون إلا من بعد مشيئته وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا تخصيص عندهم في هاتين القضيتين بوجه من الوجوه والقدر عندهم قدرة الله تعالى وعلمه ومشيئته وخلقه فلا يتحرك ذرة فما فوقها إلا بمشيئته وعلمه وقدرته فهم المؤمنون بلا حول ولا قوة إلا بالله على الحقيقة إذا قالها غيرهم على المجاز إذ العالم علويه وسفليه وكل حي يفعل فعلا فإن فعله بقوة فيه على الفعل وهو في حول من ترك إلى

فعل ومن فعل إلى ترك ومن فعل إلى فعل وذلك كله بالله تعالى لا بالعبد ويؤمنون بأن من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأنه هو الذي يجعل المسلم مسلما والكافر كافرا والمصلي مصليا والمتحرك متحركا وهو الذي يسير عبده في البر والبحر وهو المسير والعبد السائر وهو المحرك والعبد المتحرك وهو المقيم والعبد القائم وهو الهادي والعبد المهتدي وأنه المطعم والعبد الطاعم وهو المحي المميت والعبد الذي يحيى ويموت ويثبتون مع ذلك قدرة العبد وإرادته واختياره وفعله حقيقة لا مجازا وهم متفقون على أن الفعل غير المفعول كما حكاه عنهم البغوي وغيره فحركاتهم واعتقاداتهم أفعال لهم حقيقة وهي مفعولة لله سبحانه مخلوقة له حقيقة والذي قام بالرب عز وجل علمه وقدرته ومشيئته وتكوينه والذي قام بهم هو فعلهم وكسبهم وحركاتهم وسكناتهم فهم المسلمون المصلون القائمون القاعدون حقيقة وهو سبحانه هو المقدر لهم على ذلك القادر عليه الذي شاءه منهم وخلقه لهم ومشيئته وفعله بعد مشيئته فما يشاؤن إلا أن يشاء الله وما يفعلون إلا أن يشاء الله وإذا وازنت بين هذا المذهب وبين ما عداه من المذاهب وجدته هو المذهب الوسط والصراط المستقيم ووجدت سائر المذاهب خطوطا عن يمينه وعن شماله فقريب منه وبعيد وبين ذلك وإذا أعطيت الفاتحة حقها وجدتها من أولها إلى آخرها منادية على ذلك دالة عليه صريحة فيه وإن كان حمده لا يقتضي غير ذلك وكذلك كمال ربوبيته للعالمين لا يقتضي غير ذلك فكيف يكون الحمد كله لمن لا يقدر على مقدور أهل سماواته وأرضه من الملائكة والجن والإنس والطير والوحش بل يفعلون ما لا يقدر عليه ولا يشاءه ويشاء ما لا يفعله

ص -53- كثير منهم فيشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء وهل يقتضي ذلك كمال حمده وهل يقتضيه كمال ربوبيته ثم قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مبطل لقول الطائفتين المنحرفتين عن قصد السبيل فإنه يتضمن إثبات فعل العبد وقيام العبادة به حقيقة فهو العابد على الحقيقة وإن ذلك لا يحصل له إلا بإعانة رب العالمين عز وجل له فإن لم يعنه ولم يقدره ولم يشأ له العبادة لم يتمكن منها ولم يوجد منه البتة فالفعل والإقدار والإعانة من الرب عز وجل ثم قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} يتضمن طلب الهداية ممن هو قادر عليها وهي بيده إن شاء أعطاها عبده وإن شاء منعه إياها والهداية معرفة الحق والعمل به فمن لم يجعله الله تعالى عالما بالحق عاملا به لم يكن له سبيل إلى الاهتداء فهو سبحانه المتفرد بالهداية الموجبة للاهتداء التي لا يتخلف عنها وهي جعل العبد مريدا للهدى محبا له مؤثرا له عاملا به فهذه الهداية ليست إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل وهي التي قال سبحانه فيها: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} مع قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فهذه هداية الدعوة والتعليم والإرشاد وهي التي هدي بها ثمود فاستحبوا العمى عليها وهي التي قال تعالى فيها: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُون} فهداهم هدى البيان الذي تقوم به حجته عليهم ومنعهم الهداية الموجبة للاهتداء التي لا يضل من هداه بها فذاك عدله فيهم وهذا حكمته فأعطاهم ما تقوم به الحجة عليهم ومنعهم ما ليسوا له بأهل ولا يليق بهم وسنذكر في الباب الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى ذكر الهدى والضلال ومراتبهما وأقسامهما فإنه عليه مدار مسائل القدر والمقصود ذكر بعض ما يدل على إثبات هذه المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر وهي خلق الله

تعالى لأفعال المكلفين ودخولها تحت قدرته ومشيئته كما دخلت تحت علمه وكتابه قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} وهذا عام محفوظ لا يخرج عنه شيء من العالم أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته وليس مخصوصا بذاته وصفاته فإنه الخالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق له واللفظ قد فرق بين الخالق والمخلوق وصفاته سبحانه داخله في مسمى اسمه فإن الله سبحانه اسم للإله الموصوف بكل صفة كمال المنزه عن كل صفة نقص ومثال والعالم قسمان أعيان وأفعال وهو الخالق لأعيانه وما يصدر عنها من الأفعال كما أنه العالم بتفاصيل ذلك فلا يخرج شيء منه عن علمه ولا عن قدرته ولا عن خلقه ومشيئته قالت القدرية: نحن نقول إن الله خالق أفعال العباد لا على أنه محدثها ومخترعها لكن على معنى أنه مقدرها فإن الخلق التقدير كما قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} وقال الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى
أي لأنت تمضي ما قدرته وتنفذه بعزمك وقدرتك وبعض القوم يقدر ثم لا قوة له ولا عزيمة على إنفاذ ما قدره وإمضائه فالله تعالى مقدر أفعال العباد وهم الذين أوجدوها وأحدثوها، قال أهل السنة: قدماؤكم ينكرون تقدير الله سبحانه لأعمال العباد البتة فلا يمكنهم أن يجيبوا بذلك ومن اعترف منكم بالتقدير فهو تقدير لا يرجع إلى تأثير وإنما هو مجرد العلم بها والخبر عنها ليس التقدير عندكم جعلها على قدر كذا وكذا فإن هذا عندكم غير مقدور للرب ولا مصنوع له وإنما هو صنع العبد وإحداثه فرجع التقدير إلى مجرد العلم والخبر وهذا لا يسمى خلقا في لغة أمة من الأمم ولو كان هذا خلقا لكان من علم شيئا وعلم أسمائه وصفاته وأخبر عنه بذلك خالقا له فالتقدير الذي أثبتموه إن كان متضمنا للتأثير

ص -54- في إيجاد الفعل فهو خلاف مذهبكم وإن لم يتضمن تأثيرا في إيجاده فهو راجع إلى محض العلم والخبر، قالت القدرية قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} من العام المراد به الخاص ولا سيما فإنكم قلتم إن القرآن لم يدخل في هذا العموم وهو من أعظم الأشياء وأجلها فخصصنا مه أفعال العباد بالأدلة الدالة على كونها فعلهم ومنعهم، قالت أهل السنة: القرآن كلام الله سبحانه وكلامه صفة من صفاته وصفات الخالق وذاته لم تدخل في المخلوق فإن الخالق غير المخلوق فليس ههنا تخصيصا البتة بل الله سبحانه بذاته وصفاته الخالق وكل ما عداه مخلوق وذلك عموم لا تخصيص فيه بوجه إذ ليس إلا الخالق والمخلوق والله وحده الخالق وما سواه كله مخلوق وأما الأدلة الدالة على أن أفعال العباد صنع لهم وإنما أفعالهم القائمة بهم وأنهم هم الذين فعلوها فكلها حق نقول بموجبها ولكن لا ينبغي أن تكون أفعالا لهم ومخلوقة مفعولة لله فإن الفعل غير المفعول ولا نقول أنها فعل لله والعبد مضطر مجبور عليها ولا نقول أنها فعل للعبد والله غير قادر عليها ولا جاعل للعبد فاعلا لها ولا نقول أنها مخلوقة بين مخلوقين مستقلين بالإيجاد والتأثير وهذه الأقوال كلها باطلة، قالت القدرية يعني قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} مما لا يقدر عليه غيره وأما أفعال العباد التي يقدر عليها العباد فإضافتها إليهم ينفي إضافتها إليه والألزم وقوع مفعولين بين فاعلين وهو محال، قالت أهل السنة: إضافتها إليهم فعلا وكسبا لا ينفي إضافتها إليه سبحانه خلقا ومشيئة فهو سبحانه الذي شاءها وخلقها وهم الذين فعلوها وكسبوها حقيقة فلو لم تكن مضافة إلى مشيئته وقدرته وخلقه لاستحال وقوعها منهم إذ العباد أعجز وأضعف من أن يفعلوا ما لم يشأه الله ولم يقدر عليه ولا خلقه.
فصل: ومما يدل على قدرته سبحانه على أفعالهم قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} واعتراض القدرية على الاستدلال

بذلك والجواب عنه نظير الاعتراض على قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وجوابه ونزيده تقريرا أن أفعالهم أشياء ممكنة والله قادر على كل ممكن فهو الذي جعلهم فاعلين بقدرته ومشيئته ولو شاء لحال بينهم وبين الفعل مع سلامة آلة الفعل منهم كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} فهو سبحانه يحول بين المرء وقلبه وبين الإنسان ونطقه وبين اليد وبطشها وبين الرجل ومشيها فكيف يظن به ظن السوء ويجعل له مثل السوء إنه لا يقدر على ما يقدر عليه عباده ولا تدخل أفعالهم تحت قدرته تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون لقدرته علوا كبيرا نعم ولا نظن به ظن السوء ونجعل له مثل السوء أنه يعاقب عباده على ما لم يفعلوه ولا قدرة لهم على فعله بل على ما فعله هو دونهم واضطرهم إليه وجبرهم عليه وذلك بمنزلة عقوبة الزمن إذا لم يطر إلى السماء وعقوبة أشل اليد على ترك الكتابة وعقوبة الأخرس على ترك الكلام فتعالى الله عن هذين المذهبين الباطلين المنحرفين عن سواء السبيل.
فصل: ومن الدليل على خلق أعمال العباد قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} فأخبر أنه هو الذي جعل السرابيل وهي الدروع والثياب المصنوعة ومادتها لا تسمى سرابيل إلا أن بعد تحيلها

ص -55- صنعة الآدميين وعملهم فإذا كانت مجعولة لله فهي مخلوقة له بجملتها صورتها ومادتها وهيآتها ونظير هذا قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} فأخبر سبحانه أن البيوت المصنوعة المستقرة والمتنقلة مجعولة له وهي إنما صارت بيوتا بالصنعة الآدمية ونظيره قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} فأخبر سبحانه وتعالى أنه خالق الفلك المصنوع للعباد وأبعد من قال أن المراد بمثله هو الإبل فإنه إخراج المماثل حقيقة واعتبار لما هو بعيد عن المماثلة ونظير ذلك قوله تعالى حكاية عن خليله أنه قال لقومه أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون فإن كانت ما مصدرية كما قدره بعضهم فالاستدلال ظاهر وليس بقوي إذ لا تناسب بين إنكاره عليهم عبادة ما ينحتونه بأيديهم وبين إخبارهم بأن الله خالق أعمالهم من عبادة تلك الآلهة ونحتها وغير ذلك فالأولى أن تكون ما موصولة أي والله خلقكم وخلق آلهتكم التي عملتموها بأيديكم فهي مخلوقة له لا آلهة شركاء معه فأخبر أنه خلق معمولهم وقد حله عملهم وصنعهم ولا يقال المراد مادته فإن مادته غير معمولة لهم وإنما يصير معمولا بعد عملهم.
فصل: وقد أخبر سبحانه أنه هو الذي جعل أئمة الخير يدعون إلى الهدى وأئمة الشر يدعون إلى النار فتلك الإمامة والدعوة بجعله فهي مجعولة له وفعل لهم قال تعالى عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} وقال عن أئمة الهدى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} فأخبر أن هذا وهذا بجعله مع كونه كسبا وفعلا للأئمة ونظير ذلك قول الخليل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} فأخبر الخليل أنه سبحانه هو الذي

يجعل المسلم مسلما وعند القدرية هو الذي جعل نفسه مسلما لا أن الله جعله مسلما ولا جعله إماما يهدي بأمره ولا جعل الآخر إماما يدعوا إلى النار على الحقيقة بل هم الجاعلون لأنفسهم كذلك حقيقة ونسبة هذا الجعل إلى الله مجاز بمعنى التسمية أي سمنا مسلمين لك و كذلك جعلناهم أئمة أي سميناهم كذلك وهم جعلوا أنفسهم أئمة رشد وضلال فمنهم الحقيقة ومنه المجاز والتعبير.
فصل: ومن ذلك إخباره سبحانه بأنه هو الذي يلهم العبد فجوره وتقواه والإلهام الإلقاء في القلب لا مجرد البيان والتعليم كما قاله طائفة من المفسرين إذ لا يقال لمن بين لغيره شيئا وعلمه إياه أنه قد ألهمه ذلك هذا لا يعرف في اللغة البتة بل الصواب ما قاله ابن زيد قال جعل فيها فجورها وتقواها وعليه حديث عمران بن حصين: "أن رجلا من مزينة أو جهينة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر سابق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم قال: بل شيء قضى عليهم ومضى قال: ففيم العمل قال: من خلقه الله لإحدى المنزلتين استعمله بعمل أهلها وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}" فقراءته هذه الآية عقيب إخباره بتقديم القضاء والقدر السابق يدل على أن المراد بالإلهام استعمالها فيما سبق لها لا مجرد تعريفها فإن التعريف والبيان لا يستلزم وقوع ما سبق به القضاء والقدر ومن فسر الآية من السلف بالتعليم والتعريف فمراده تعريف مستلزم لحصول ذلك لا تعريف مجرد عن الحصول فإنه لا يسمى إلهاما وبالله التوفيق.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وذات الصدور كلمة لما يشتمل عليه الصدر من الاعتقادات والإرادات

ص -56- والحب والبغض أي صاحبة الصدور فإنها لما كانت فيها قائمة بها نسبت إليها نسبة الصحبة والملازمة وقد اختلف في إعراب من خلق هو النصب أو الرفع فإن كان مرفوعا فهو استدلال على علمه بذلك لخلقه له والتقدير أنه يعلم ما تضمنته الصدور وكيف لا يعلم الخالق ما خلقه وهذا الاستدلال في غاية الظهور والصحة فإن الخلق يستلزم حياة الخالق وقدرته وعلمه ومشيئته وإن كان منصوبا فالمعنى ألا يعلم مخلوقه وذكر لفظة من تغليبا ليتناول العلم العاقل وصفاته على التقديرين فالآية دالة على خلق ما في الصدور كما هي على علمه سبحانه به وأيضا فإنه سبحانه خلقه لما في الصدور دليلا على علمه بها فقال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَق} أي كيف يخفى عليه ما في الصدور وهو الذي خلقه فلو كان ذلك غير مخلوق له لبطل الاستدلال به على العلم فخلقه سبحانه للشيء من أعظم الأدلة على علمه به فإذا انتفى الخلق انتفى دليل العلم فلم يبق ما يدل على علمه بما ينطوي عليه الصدر إذا كان غير خالق لذلك وهذا من أعظم الكفر برب العالمين وجحد لما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم وعلم بالضرورة أنهم القوة إلى الأمم كما ألقوا إليهم أنه إله واحد لا شريك له
فصل: ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} وقوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً} وقوله حكاية عن زكريا أنه قال عن ولده: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} وقال في الطرف الآخر: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} وهذه الأكنة والوقر هي شدة البغض والنفرة والإعراض التي لا يستطيعون معها

سمعا ولا عقلا والتحقيق أن هذا ناشئ عن الأكنة والوقر فهو موجب ومقتضاه فمن فسر الأكنة والوقر به فقد فسرهما بموجبهما ومقتضاهما وبكل حال فتلك النفرة والإعراض والبغض من أفعالهم وهي مجعولة لله سبحانه كما أن الرأفة والرحمة وميل الأفئدة إلى بيته هو من أفعالهم والله جاعله فهو الجاعل للذوات وصفاتها وأفعالها وإراداتها واعتقاداتها فذلك كله مجعول مخلوق له وإن كان العبد فاعلا له باختياره وإرادته فإن قيل هذا كله معارض بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} والبحيرة والسائبة إنما صارت كذلك بجعل العباد لها فأخبر سبحانه أن ذلك لم يكن بجعله قيل لا تعارض بحمد الله بين نصوص الكتاب بوجه ما والجعل ههنا جعل شرعي أمري لا كوني قدري فإن الجعل في كتاب الله ينقسم إلى هذه النوعين كما ينقسم إليهما الأمر والإذن والقضاء والكتابة والتحريم كما سيأتي بيانه إن شاء الله فنفى سبحانه عن البحيرة والسائبة جعله الديني الشرعي أي لم يشرع ذلك ولا أمر به ولكن الذين كفروا افتروا عليه الكذب وجعلوا ذلك دينا له بلا علم ومن ذلك قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} فأخبر سبحانه أن هذه الفتنة الحاصلة بما ألقى الشيطان هي بجعله سبحانه وهذا جعل كوني قدري ومن هذا قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه: "اللهم اجعلني لك شكارا لك ذكارا لك رهابا لك مطواعا لك مخبتا لك أواها منيبا" فسأل ربه أن يجعله كذلك وهذه كلها أفعال اختيارية واقعة بإرادة العبد واختياره وفي هذا الحديث وسدد لساني وتسديد اللسان جعله ناطقا بالسداد من القول ومثله قوله في الحديث الآخر: "اللهم اجعلني لك مخلصا" ومثله قوله

ص -57- "اللهم اجعلني أعظم شكرك وأكثر ذكرك وأتبع نصيحتك وأحفظ وصيتك" ومثله قول المؤمنين: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} فالصبر وثبات الأقدام فعلان اختياريان ولكن التصبير والتثبيت فعل الرب تعالى وهو المسؤول والصبر والثبات فعلهم القائم بهم حقيقة ومثله قوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} وقال ابن عباس والمفسرون بعده ألهمني قال أبو إسحاق وتأويله في اللغة كفني عن الأشياء إلا نفس شكر نعمتك ولهذا يقال في تفسير الموزع المولع ومنه الحديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم موزعا بالسؤال أي مولعا به كأنه كف ومنع إلا منه" وقال في الصحاح وزعته أزعه وزعا كففته فاتزع عنه أي كف وأوزعته بالشيء أغريته به فأوزع به فهو موزع به واستوزعت الله شكره فأوزعني أي استلهمته فألهمني فقد دار معنى اللفظة على معنى ألهمني ذلك واجعلني مغرى به وكفني عما سواه وعند القدرية إن هذا غير مقدور للرب بل هو غير مقدور العبد
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} فتحبيبه سبحانه الإيمان إلى عباده المؤمنين هو إلقاء محبته في قلوبهم وهذا لا يقدر عليه سواه وأما تحبيب العبد الشيء إلى غيره فإنما هو بتزيينه وذكر أوصافه وما يدعو إلى محبته فأخبر سبحانه أنه جعل في قلوب عباده المؤمنين الأمرين حبه وحسنه الداعي إلى حبه وألقى في قلوبهم كراهة ضده من الكفر والفسوق والعصيان وإن ذلك محض فضله ومنته عليهم حيث لم يكلهم إلى أنفسهم بل تولى هو سبحانه هذا التحبيب

والتزيين وتكريه ضده فجاد عليهم به فضلا منه ونعمة والله عليم بمواقع فضله ومن يصلح له ومن لا يصلح حكيم بجعله في مواضعه ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} وتأليف القلوب جعل بعضها يألف ويميل إليه ويحبه وهو من أفعالها الاختيارية وقد أخبر سبحانه أنه هو الذي فعل ذلك لا غيره ومن ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} فأخبر سبحانه بفعلهم وهو إلههم وبفعله وهو كفهم عما هموا به ولا يصح أن يقال أنه سبحانه أشل أيديهم وأماتهم وأنزل عليهم عذابا حال بينهم وبين ما هموا به بل كف قدرهم وإرادتهم مع سلامة حواسهم وبنيتهم وصحة آلات الفعل منهم وعند القدرية هذا محال بل هم الذين يكفون أنفسهم والقرآن صريح في إبطال قولهم ومثله قوله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} فهذا كف أيدي الفريقين مع سلامتهما وصحتهما وهو بأن حال بينهم وبين الفعل فكف بعضهم عن بعض ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} والإيمان والطاعة من أجل النعم بل هما أجل النعم على الإطلاق فهما منه سبحانه تعليما وإرشادا وإلهاما وتوفيقا ومشيئة وخلقا ولا يصح أن يقال أنها أمرا وبيانا فقط فإن ذلك حاصل بالنسبة إلى الكفار والعصاة فتكون نعمته على أكفر الخلق كنعمته على أهل

الإيمان والطاعة والبر منهم إذ نعمة البيان والإرشاد مشتركة وهذا قول القدرية وقد صرح به كثير منهم ولم يجعلوا لله على العبد نعمة في مشيئته

ص -58- وخلقه فعله وتوفيقه إياه حين فعله وهذا من قولهم الذي باينوا به جميع الرسل والكتب وطردوا ذلك حين لم يجعلوا لله على العبد منه في إعطائه الجزاء بل قالوا ذلك محض حقه الذي لا منة لله عليه فيه واحتجوا بقوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قالوا أي غير ممنون به عليهم إذ هو جزاء أعمالهم وأجورها قالوا والمنة تكدر النعمة والعطية ولم يدعوا هؤلاء للجهل بالله موضعا وقاسوا منته على منة المخلوق فإنهم مشبهة في الأفعال معطلة في الصفات وليست المنة في الحقيقة إلا لله فهو المان بفضله وأهل سمواته وأهل أرضه في محض منته عليهم قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وقال تعالى لكليمه موسى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} وقال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} وقال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي قالوا الله ورسوله أمن وقال الرسل لقومهم: {إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فمنه سبحانه وتعالى محض إحسانه وفضله ورحمته وما طاب عيش أهل الجنة فيها إلا بمنته عليهم ولهذا قال أهلها وقد أقبل بعضهم على بعض يتساءلون إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم فأجزوا لمعرفتهم بربهم وحقه عليهم أن نجاهم من عذاب السموم بمحض منته عليهم وقد قال

أعلم الخلق بالله وأحبهم إليه وأقربهم منه وأطوعهم له: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" وقال: "إن الله لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم" والأول في الصحيح والثاني في المسند والسنن وصححه الحاكم وغيره فأخبر سيد العالمين والعاملين أنه لا يدخل الجنة بعمله وقالت القدرية أنهم يدخلونها بأعمالهم لئلا يتكدر نعيمهم عليهم بمشيئة الله بل يكون ذلك النعيم عوضا وما رمى السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم القدرية عن قوس واحد إلا لعظم بدعهم ومنافاتها لما بعث الله به أنبياءه ورسله فلو أتى العباد بكل طاعة وكانت أنفاسهم كلها طاعات لله لكانوا في محض منته وفضله وكانت له المنة عليهم وكلما عظمت طاعة العبد كانت منة الله عليه أعظم فهو المان بفضله فمن أنكر منته فقد أنكر إحسانه وأما قوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} فلم يختلف أهل العلم بالله ورسوله وكتابه أن معناه غير مقطوع ومنه ريب المنون وهو الموت لأنه يقطع العمر.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وقوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وهذا الإغراء والإلقاء محض فعله سبحانه والتعادي والتباغض أثره وهو محض فعلهم وأصل ضلال القدرية والجبرية من عدم اهتدائهم إلى الفرق بين فعله سبحانه وفعل العبد فالجبرية جعلوا التعادي والتباغض فعل الرب دون المتعاديين والمتباغضين والقدرية جعلوا ذلك محض فعلهم الذي لا صنع لله فيه ولا قدرة ولا مشيئة وأهل الصراط السوي جعلوا ذلك فعلهم وهو أثر فعل الله وقدرته ومشيئته كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فالتسيير فعله والسير فعل العباد وهو أثر

التسيير وكذلك الهدى والإضلال فعله والإهتداء والضلال أثر فعله وهما أفعالنا القائمة بنا فهو الهادي والعبد المهتدي وهو الذي يضل من يشاء والعبد الضال وهذا حقيقة وهذا

ص -59- حقيقة والطائفتان عن الصراط المستقيم ناكبتان.
فصل: ومن ذ لك قوله تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} فها هنا أمران تجنيب عبادتها واجتنابه فسأل الخليل ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها ليحصل منهم اجتنابها فالاجتناب فعلهم والتجنيب فعله ولا سبيل إلى فعلهم إلا بعد فعله ونظير ذلك قول يوسف الصديق: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وصرف كيدهن هو صرف دواعي قلوبهن ومكرهن بألسنتهن وأعمالهن وتلك أفعال اختيارية وهو سبحانه الصارف لها فالصرف فعله والانصراف أثر فعله وهو فعل النسوة ومن ذلك قوله سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} فالتثبيت فعله والثبات فعل رسوله فهو سبحانه المثبت وعبده الثابت ومثله قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} فأخبر سبحانه أن تثبيت المؤمنين وإضلال الظالمين فعله فإنه يفعل ما يشاء وأما الثبات والضلال فمحض أفعالهم ومن ذلك قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} فأخبر أنه هو الذي قسى قلوبهم حتى صارت قاسية

فالقساوة وصفها وفعلها وهي أثر فعله وهو جعلها قاسية وذلك أثر معاصيهم ونقضهم ميثاقهم وتركهم بعض ما ذكروا به فالآية مبطلة لقول القدرية والجبرية.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} وهم إنما خرجوا باختيارهم وقد أخبر هو الذي أخرجهم فالإخراج فعله حقيقة والخروج فعلهم حقيقة ولولا إخراجه لما خرجوا وهذا بخلاف قوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} وقوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْر} وقوله: {أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} فإن هذا إخراج لا صنع لهم فيه فإنه بغير اختيارهم وإرادتهم وأما قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقّ} فيحتمل أن يكون إخراجا بقدره ومشيئته فيكون من الأول ويحتمل أن يكون إخراجا يوجبه بأمره فلا يكون من هذا فيكون الإخراج في كتاب الله ثلاثة أنواع أحدها إخراج الخارج بإختياره ومشيئته والثاني إخراجه قهرا وكرها والثالث إخراجه أمرا وشرعا.
فصل: وقد ظن طائفة من الناس أن من هذا الباب قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وجعلوا ذلك من أدلتهم على القدرية ولم يفهموا مراد الآية وليست من هذا الباب فإن هذا خطاب لهم في واقعة بدر حيث أنزل الله سبحانه وملائكته فقتلوا أعداءه فلم يفرد المسلمون بقتلهم بل قتلتهم الملائكة وأما رميه صلى الله عليه وسلم فمقدوره كان هو الحذف والإلقاء وأما إيصال ما رمى به إلى وجوه العدو مع البعد وإيصال ذلك إلى وجوه جميعهم فلم يكن من فعله ولكنه فعل الله وحده فالرمي يراد به الحذف والإيصال فأثبت له الحذف بقوله إذ رميت ونفى عنه الإيصال بقوله وما رميت.
فصل: ومن ذلك

قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} والضحك والبكاء فعلان اختياريان فهو سبحانه المضحك المبكي حقيقة والعبد هو الضاحك الباكي حقيقة وتأويل الآية بخلاف ذلك إخراج للكلام

ص -60- عن ظاهره بغير موجب ولا منافاة بين ما يذكر من تلك التأويلات وبين ظاهره فإن إضحاك الأرض بالنبات وإبكاء السماء بالمطر وإضحاك العبد وإبكاءه بخلق آلات الضحك والبكاء له لا ينافي حقيقة اللفظ وموضوعه ومعناه من أنه جاعل الضحك والبكاء فيه بل الجميع حق.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعا} ورؤية البرق أمر واقع بإحساسهم فالإراءة فعله والرؤية فعلنا ولا يقال إراءة البرق خلقه فإن خلقه لا يسمى إراءة ولا يستلزم رؤيتنا له بل إراءتنا له جعلنا نراه وذلك فعله سبحانه ومن ذلك قول الخضر لموسى: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} فبلوغ الأشد ليس من فعلهما واستخراج الكنز من أفعالهما الاختيارية وقد أخبر أن كليهما بإرادته سبحانه ومن ذلك قوله تعالى عن السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} وليس إذنه ها هنا أمره وشرعه بل قضاؤه وقدره ومشيئته فهو إذا كوني قدري لا ديني أمري.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} وكلمة التقوى هي الكلمة التي يتقى الله بها وأعلى أنواع هذه الكلمة هي قول لا إله إلا الله ثم كل كلمة يتقى الله بها بعدها فهي من كلمة التقوى وقد أخبر سبحانه أنه ألزمها عبادة المؤمنين فجعلها لازمة لهم لا ينفكون عنها فبإلزامه التزموها ولولا إلزامه لهم إياها لما التزموها والتزامها فعل اختياري تابع لإرادتهم واختيارهم فهو الملزم وهم الملتزمون.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ

الْخَيْرُ مَنُوعاً} وهذا تفسير الهلوع وهو شدة الحرص الذي يترتب عليه الجزع والمنع فأخبر سبحانه أنه خلق الإنسان كذلك وذلك صرح في أن هلعه مخلوق لله كما أن ذاته مخلوقة فالإنسان بجملته ذاته وصفاته وأفعاله وأخلاقه مخلوق لله ليس فيه شيء خلق لله وشيء خلق لغيره بل الله خالق الإنسان بجملته وأحواله كلها فالهلع فعله حقيقة والله خالق ذلك فيه حقيقة فليس الله سبحانه بهلوع ولا العبد هو الخالق لذلك.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} وإذنه ها هنا قضاؤه وقدره لا مجرد أمره وشرعه كذلك قال السلف في تفسير هذه الآية قال ابن المبارك عن الثوري: "بقضاء الله" وقال محمد بن جرير: "يقول جل ذكره لنبيه وما لنفس خلقها من سبيل إلى أن تصدقك إلا أن يأذن لها في ذلك فلا تجهدن نفسك في طلب هداها وبلغها وعيد الله ثم خلها فإن هداها بيد خالقها" وما قبل الآية وما بعدها لا يدل إلا على ذلك فإنه سبحانه قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي لا تكفي دعوتك في حصول الإيمان حتى يأذن الله لمن دعوته أن يؤمن ثم قال:: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} قال ابن جرير: يقول تعالى يا محمد قل لهؤلاء السائلينك الآيات على صحة ما تدعو إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان أنظروا أيها القوم ماذا في السماوات من الآيات الدالة على حقية ما أدعوكم إليه من توحيد الله من شمسها وقمرها واختلاف ليلها ونهارها ونزول الغيث بأرزاق العباد من سحابها وفي الأرض من جبالها وتصدعها بنباتها وأقوات أهلها وسائر صنوف عجائبها فإن

في ذلك لكم إن عقلتم وتدبرتم

ص -61- عظة ومعتبرا ودلالة على أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك ولا له على حفظه وتدبيره ظهير يغنيكم عما سواه من الآيات وما يغني عن قوم قد سبق لهم من الله الشقاء وقضى عليهم في أم الكتاب أنهم من أهل النار فهم لا يؤمنون بشيء من ذلك ولا يصدقون به ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} قال ابن جرير: "وكل إنسان ألزمناه ما قضي له أنه عامله وما هو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله في عنقه لا يفارقه" وهذا ما قاله الناس في الآية وهو ما طار له من الشقاء والسعادة وما طار عنه من العمل ثم ذكر عن ابن عباس قال: "طائره عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان وزائل معه أينما زال" وكذلك قال ابن جريج وقتادة ومجاهد: "هو عمله" زاد مجاهد: "وما كتب له" وقال قتادة أيضا: "سعادته وشقاوته بعمله" قال ابن جرير: "فإن قال قائل فكيف قال ألزمناه طائره في عنقه إن كان الأمر على ما وصفت ولم يقل في يديه أو رجليه أو غير ذلك من أعضاء الجسد قيل إن العنق هي موضع السمات وموضع القلائد والأطوقة وغير ذلك مما يزين أو يشين" فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد فقالوا ذلك بما كسبت يداه وإن كان الذي جره عليه لسانه أو فرجه فكذلك قوله: {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِه} وقال الفراء: "الطائر معناه عندهم العمل" قال الأزهري: "والأصل في هذا أن الله سبحانه لما خلق آدم علم المطيع من ذريته والعاصي فكتب ما علمه منهم أجمعين وقضى بسعادة من علمه مطيعا وشقاوة من علمه عاصيا فطار لكل ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه" وأما قوله: {فِي عُنُقِهِ} فقال أبو إسحاق: "إنما يقال

للشيء اللازم هذا في عنق فلان أي لزومه له كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق" قال أبو علي: "مثل هذا قولهم طوقتك كذا وقلدتك كذا أي صرفته نحوك وألزمتك إياه ومنه قلده السلطان كذا أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق" وقيل: "إنما خص العنق لأن عمله لا يخلو إما أن يكون خيرا أو شرا وذلك مما يزين أو يشين كالحلي والغل فأضيف إلى الأعناق" قالت القدرية: "إلزامه ذلك وسمه به وتعليمه بعلامة يعرف الملائكة أنه سعيد أو شقي والخبر عنه لا أنه ألزمه العمل فجعله لازما له" قال أهل السنة: هذه طريقة لكم معروفة في تحريف الكلم عن مواضعه سلكتموها في الجسم والطبع والعقل وهذا لا يعرفه أهل اللغة وهو خلاف حقيقة اللفظ وما فسره به أعلم الأمة بالقرآن ولا يعرف ما قلتموه عن أحد من سلف الأمة البتة ولا فسر الآية غيركم به ولا يصح حمل الآية عليه فإن الخبر عنه بذلك والعلامة أعلم بها إنما حصل بعد طائره اللازم له من عمله فلما لزمه ذلك الطائر ولم ينفك عنه أخبر عنه بذلك وصارت عليه علامة وسمة ونحن قد أريناكم أقوال أئمة الهدى وسلف الأمة في الطائر فأرونا قولكم عن واحد منهم قاله قبلكم وكل طائفة من أهل البدع تجر القرآن إلى بدعها وضلالها وتفسره بمذاهبها وآرائها والقرآن بريء من ذلك وبالله التوفيق
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} وقد وقع هذا المعنى في القرآن في موضعين هذا أحدهما والثاني في سورة الشعراء في قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي

ص -62- قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} قال ابن عباس: "سلك الشرك في قلوب المكذبين كما سلك الخرزة في الخيط" وقال أبو إسحاق: "أي كما فعل بالمجرمين الذين استهزؤا بمن تقدم من الرسل كذلك سلك الضلال في قلوب المجرمين" واختلفوا في مفسر الضمير في قوله: {نَسْلُكُهُ} فقال ابن عباس: "سلكنا الشرك" وهو قول الحسن وقال الزجاج وغيره: "هو الضلال" وقال الربيع: "يعني الاستهزاء" وقال الفراء: "التكذيب" وهذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد والتكذيب والاستهزاء والشرك كل ذلك فعلهم حقيقة وقد أخبر أنه سبحانه هو الذي سلكه في قلوبهم وعندي في هذه الأقوال شيء فإن الظاهر أن الضمير في قوله لا يؤمنون به هو الضمير في قوله سلكناه فلا يصح أن يكون المعنى لا يؤمنون بالشرك والتكذيب والاستهزاء فلا تصح تلك الأقوال إلا باختلاف مفسر الضميرين والظاهر اتحاده فالذين لا يؤمنون به هو الذي سلكه في قلوبهم وهو القرآن فإن قيل فما معنى سلكه إياه في قلوبهم وهم ينكرونه قبل سلكه في قلوبهم بهذه الحال أي سلكناه غير مؤمنين به فدخل في قلوبهم مكذبا به كما دخل في قلوب المؤمنين مصدقا به وهذا مراد من قال إن الذي سلكه في قلوبهم هو التكذيب والضلال ولكن فسر الآية بالمعنى فإنه إذا دخل في قلوبهم مكذبين به فقد دخل التكذيب والضلال في قلوبهم فإن قيل فما معنى إدخاله في قلوبهم وهم لا يؤمنون به قيل لتقوم عليهم بذلك حجة الله فدخل في قلوبهم وعلموا أنه حق وكذبوا به فلم يدخل في قلوبهم دخول مصدق به مؤمن به مرضي به وتكذيبهم به بعد دخوله في قلوبهم أعظم كفرا من تكذيبهم به قبل أن يدخل في قلوبهم فإن المكذب بالحق بعد معرفته له شر من المكذب به ولم يعرفه فتأمله فإنه من فقه التفسير والله الموفق للصواب.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً}

فالإرسال هاهنا إرسال كوني قدري كإرسال الرياح وليس بإرسال ديني شرعي فهو إرسال تسليط بخلاف قوله في المؤمنين: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} فهذا السلطان المنفى عنه على المؤمنين هو الذي أرسل به جنده على الكافرين قال أبو إسحاق: "ومعنى الإرسال ههنا التسليط تقول قد أرسلت فلانا على فلان إذا سلطته عليه كما قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}" فاعلم أن من اتبعه هو مسلط عليه قلت ويشهد له قوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُون} وقوله: {تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} فالأز في اللغة التحريك والتهييج ومنه يقال لغليان القدر الأزيز لتحرك الماء عند الغليان وفي الحديث: "كان لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أزيزا كأزيز المرجل من البكاء" وعبارات السلف تدور على هذا المعنى قال ابن عباس: "تغريهم إغراء" وفي رواية أخرى عنه "تسلهم سلا" وفي رواية أخرى "تحرضهم تحريضا" وفي أخرى "تزعجهم للمعاصي إزعاجا" وفي أخرى "توقدهم إيقادا" أي كما يتحرك الماء بالوقد تحته قال أبو عبيدة: "الأزيز الإلهاب" والحركة كالتهاب النار في الحطب يقال إز قدرك أي ألهب تحتها النار وائتزت القدر إذا اشتد غليانها وهذا اختيار الأخفش والتحقيق أن اللفظة تجمع المعنيين جميعا قالت القدرية "معنى أرسلنا الشياطين على الكافرين خلينا بينهم وبينها ليس معناه التسليط" قال أبو علي "الإرسال يستعمل بمعنى التخلية بين المرسل وما يريد" فمعنى الآية خلينا بين الشياطين وبين الكافرين ولم يمنعهم منهم ولم يعدهم بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم أن عبادي ليس لك عليهم سلطان قال الواحدي "وإلى هذا الوجه يذهب القدرية في معنى الآية قال وليس المعنى على

ص -63- ما ذهبوا إليه" وقال أبو إسحاق "والمختار أنهم أرسلوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وقال: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} وإنما معنى الإرسال التسليط" قلت وهذا هو المفهوم من معنى الإرسال كما في الحديث: "إذا أرسلت كلبك المعلم أي سلطته ولو خلى بينه وبين الصيد من غير إرسال منه لم يبح صيده" وكذلك قوله: {وفي وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} أي سلطناها وسخرناها عليهم وكذلك قوله: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} وكذلك قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} والتخلية بين المرسل وبين ما أرسل عليه من لوازم هذا المعنى ولا يتم التسليط إلا به فإذا أرسل الشيء الذي من طبعه وشأنه أن تفعل فعلا ولم تمنعه من فعله فهذا هو التسليط ثم أن القدرية تناقضوا في هذا القول فإنهم إن جوزوا منعهم منهم وعصمتهم وإعادتهم فقد نقضوا أصلهم فإن منع المختار من فعله الاختياري مع سلامة النية وصحة بنيته تدل على أن فعله وتركه مقدور للرب وهذا عين قول أهل السنة وإن قالوا لا يقدر على منعهم وعصمهم منهم وإعادتهم فقد جعلوا قدرتهم ومشيئتهم بفعل ما لا يقدر الرب على المنع منه وهذا أبطل الباطل ثم قالت القدرية تؤزهم أزا تأمرهم بالمعاصي أمرا وحكوا ذلك عن الضحاك وهذا لا يلتفت إليه إذ لا يقال لمن أمر غيره بشيء قد أزه ولا تساعد اللغة على ذلك ولو كان ذلك صحيحا لكان يؤز المؤمنين أيضا فإنه يأمرهم بالمعاصي أكثر من أمر الكافرين فإن الكافر سريع الطاعة والقبول من الشيطان فلا يحتاج من أمره ما يحتاج إليه من أمر المؤمنين بل يأمر الكافر مرة ويأمر المؤمن مرات فلو كان الأز الأمر لم يكن له اختصاص بالكافرين.
فصل: ومن ذلك قوله

تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} وقوله: {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ومن المعلوم أن الإعاذة من الشيطان الرجيم ليست بإماتته ولا تعطيل آلات كيده وإنما هي بأن يعصم المستعيذ من أذاه له ويحول بينه وبين فعله الاختياري له فدل على أن فعله مقدور له سبحانه إن شاء سلطه على العبد وإن شاء حال بينه وبينه وهذا على أصول القدرية باطل فلا يثبتون حقيقة الإعاذة وإن أثبتوا حقيقة الاستعاذة من العبد وجعلوا الآية ردا على الجبرية والجبرية أثبتوا حقيقة الإعاذة ولم يثبتوا حقيقة الاستعاذة من العبد بل الاستعاذة فعل الرب حقيقة كما أن الإعاذة فعله وقد ضل الطائفتان عن الصراط المستقيم وأصابت كل طائفة منهما فيما أثبتته من الحق.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} وقول هود وما توفيقي إلا بالله ومعلوم أن الصبر والتوفيق فعل اختياري للعبد وقد أخبر أنه به لا بالعبد وهذا لا ينبغي أن يكون فعلا للعبد حقيقة ولهذا أمر به وهو لا يأمر عبده بفعل نفسه سبحانه وإنما يؤمر العبد بفعله هو ومع هذا فليس فعله واقعا به وإنما هو بالخالق لكل شيء الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فالتصبير منه سبحانه وهو فعله والصبر هو القائم بالعبد وهو فعل العبد ولهذا أثنى على من يسأله أن يصبره فقال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} ففي الآية أربعة أدلة أحدها: قولهم: {أفرغ علينا صبرا}

والصبر فعلهم الاختياري فسألوه ممن هو

ص -64- بيده ومشيئته وإذنه إن شاء أعطاهموه وإن شاء منعهموه، والثاني: قولهم: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} وثبات الأقدام فعل اختياري ولكن التثبيت فعله والثبات فعلهم ولا سبيل إلى فعلهم إلا بعد فعله، الثالث: قولهم: {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} فسألوه النصر وذلك بأن يقوي عزائمهم ويشجعهم ويصبرهم ويثبتهم ويلقي في قلوب أعداهم الخور والخوف والرعب فيحصل النصر وأيضا فإن كون الإنسان منصورا على غيره إما أن يكون بأفعال الجوارح وهو واقع بقدرة العبد واختياره وأما أن يكون بالحجة والبيان والعلم وذلك أيضا فعل العبد وقد أخبر سبحانه أن النصر بجملته من عنده وأثنى على من طلبه منه وعند القدرية لا يدخل تحت مقدور الرب، الرابع: قوله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} وإذنه هاهنا هو الإذن الكوني القدري أي بمشيئته وقضائه وقدره وليس هو الإذن الشرعي الذي بمعنى الأمر فإن ذلك لا يستلزم الهزيمة بخلاف إذنه الكوني وأمره الكوني فإن المأمور المكون لا يتخلف عنه البتة.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} وفي الآية رد ظاهر على الطائفتين وإبطال لقولهما فإنه سبحانه أغفل قلب العبد عن ذكره فغفل هو فالإغفال فعل الله والغفلة فعل العبد ثم أخبر عن اتّباعه هواه وذلك فعل العبد حقيقة والقدرية تحرف هذا النص وأمثاله بالتسمية والعلم فيقولون معنى أغفلنا قلبه سميناه غافلا أو وجدناه غافلا أي علمناه كذلك وهذا من تحريفهم بل أغفلته مثل أقمته وأقعدته وأغنيته وأفقرته أي جعلته كذلك وأما أفعلته أو أوجدته كذلك كأحمدته وأجنبته وأبخلته وأعجزته فلا يقع في أفعال الله البتة إنما يقع في أفعال العاجز أن يجعل جبانا وبخيلا وعاجزا فيكون معناه صادفته كذلك وهل يخطر بقلب الداعي اللهم أقدرني أو أوزعني وألهمني أي سمني وأعلمني كذلك وهل

هذا إلا كذب عليه وعلى المدعو سبحانه والعقلاء يعلمون علما ضروريا أن الداعي إنما سأل الله أن يخلق له ذلك ويشاءه له ويقدره عليه حتى القدري إذا غابت عنه بدعته وما تقلده عن أشياخه وأسلافه وبقي وفطرته لم يخطر بقلبه سوى ذلك وأيضا فلا يمكن أن يكون العبد هو المغفل لنفسه عن الشيء فإن إغفاله لنفسه عنه مشروط بشعوره به وذلك مضاد لغفلته عنه بخلاف إغفال الرب تعالى له فإنه لا يضاد علمه بما يغفل عنه العبد وبخلاف غفلة العبد فإنها لا تكون إلا مع عدم شعوره بالمغفول عنه وهذا ظاهر جدا فثبت إن الإغفال فعل الله بعبده والغفلة فعل العبد.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى إخبارا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} وهذا يبطل تأويل القدرية المشيئة في مثل ذلك بمعنى الأمر فقد علمت أنه من الممتنع على الله أن يأمر بالدخول في ملة الكفر والشرك به ولكن استثنوا بمشيئته التي يضل بها من يشاء ويهدي من يشاء ثم قال شعيب وسع ربنا كل شيء علما فرد الأمر إلى مشيئته وعلمه فإن له سبحانه في خلقه علم محيط ومشيئته نافذة وراء ما يعلمه الخلائق فامتناعنا من العود فيها هو مبلغ علومنا ومشيئتنا ولله علم آخر ومشيئة أخرى وراء علومنا ومشيئتنا فلذلك رد الأمر إليه ومثله قول إبراهيم: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} فأعادت الرسل بكمال معرفتها بالله أمورها إلى مشيئة الرب وعلمه ولهذا أمر الله رسوله أن لا يقول لشيء أنه فاعله حتى يستثني بمشيئة الله فإنه إن شاء فعله

ص -65- وإن شاء لم يفعله وقد تقدم تقرير هذا المعنى وبالجملة فكل دليل في القرآن على التوحيد فهو دليل على القدر وخلق أفعال العباد ولهذا كان إثبات القدر أساس التوحيد قال ابن عباس: "الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه التوحيد"

شفاء العليل

الباب الرابع عشر: في الهدي والضلال ومراتبهما
الباب الرابع عشر: في الهدى والضلال ومراتبهما والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم
هذا المذهب هو قلب أبواب القدر ومسائله فإن أفضل ما يقدر الله لعبده وأجل ما يقسمه له الهدى وأعظم ما يبتليه به ويقدره عليه الضلال وكل نعمة دون نعمة الهدى وكل مصيبة دون مصيبة الضلال وقد اتفقت رسل الله من أولهم إلى آخرهم وكتبه المنزلة عليهم على أنه سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأن الهدى والإضلال بيده لا بيد العبد وأن العبد هو الضال أو المهتدي فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه ولا بد قبل الخوض في تقرير ذلك من ذكر مراتب الهدى والضلال في القرآن فأما مراتب الهدى فأربعة:إحداها: الهدى العام وهو هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها وهذا أعم مراتبه، المرتبة الثانية: الهدى بمعنى البيان والدلالة والتعليم والدعوة إلى مصالح العبد في معاده وهذا خاص بالمكلفين وهذه المرتبة أخص من المرتبة الأولى وأعم من الثالثة، المرتبة الثالثة: الهداية المستلزمة للاهتداء وهي هداية التوفيق ومشيئة الله لعبده الهداية وخلقه دواعي الهدى وإرادته والقدرة عليه للعبد وهذه الهداية التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل، المرتبة الرابعة: الهداية يوم المعاد إلى طريق الجنة والنار.
فصل: فأما المرتبة الأولى فقد قال سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} فذكر سبحانه أربعة أمور عامة الخلق والتسوية والتقدير والهداية وجعل التسوية من تمام الخلق والهداية من تمام التقدير قال عطاء "خلق فسوى أحسن ما خلقه وشاهده قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} فإحسان خلقه يتضمن تسويته وتناسب خلقه وأجزائه بحيث لم يحصل بينها تفاوت يخل

بالتناسب والاعتدال فالخلق الإيجاد والتسوية إتقانه وإحسان خلقه" وقال الكلبي "خلق كل ذي روح فجمع خلقه وسواه باليدين والعينين والرجلين" وقال مقاتل" خلق لكل دابة ما يصلح لها من الخلق" وقال أبو إسحاق "خلق الإنسان مستويا" وهذا تمثيل وإلا فالخلق والتسوية شامل للإنسان وغيره قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} وقال: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات} فالتسوية شاملة لجميع مخلوقاته: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} وما يوجد من التفاوت وعدم التسوية فهو راجع إلى عدم إعطاء التسوية للمخلوق فإن التسوية أمر وجودي تتعلق بالتأثير والإبداع فما عدم منها فلعدم إرادة الخالق للتسوية وذلك أمر عدمي يكفي فيه عدم الإبداع والتأثير فتأمل ذلك فإنه يزيل عنك الإشكال في قوله: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} فالتفاوت حاصل بسبب عدم مشيئة التسوية كما أن الجهل والصمم والعمى والخرس والبكم يكفي فيها عدم مشيئة خلقها وإيجادها وتمام هذا يأتي إن شاء الله في باب دخول الشر في القضاء عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والشر ليس إليك" والمقصود أن كل

ص -66- مخلوق فقد سواه خالقه سبحانه في مرتبة خلقه وإن فاتته التسوية من وجه آخر لم يخلق له
فصل: وأما التقدير والهداية فقال مقاتل "قدر خلق الذكر والأنثى فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها" وقال ابن عباس والكلبي وكذلك قال عطاء "قدر من النسل ما أراد ثم هدى الذكر للأنثى" واختار هذا القول صاحب النظم فقال: "معنى هدى هداية الذكر لإتيان الأنثى كيف يأتيها" لأن إتيان ذكران الحيوان لإناثه مختلف لاختلاف الصور والخلق والهيآت فلولا أنه سبحانه جبل كل ذكر على معرفة كيف يأتي أنثى جنسه لما اهتدى لذلك وقال مقاتل أيضا: "هداه لمعيشته ومرعاه" وقال السدي: "قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج" وقال مجاهد: "هدى الإنسان لسبيل الخير والشر والسعادة والشقاوة" وقال الفراء: "التقدير فهدى وأضل فاكتفى من ذكر أحدهما بالآخر" قلت: الآية أعم من هذا كله وأضعف الأقوال فيها قول الفراء إذا المراد هاهنا الهداية العامة لمصالح الحيوان في معاشه ليس المراد هداية الإيمان والضلال بمشيئته وهو نظير قوله: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} فإعطاء الخلق إيجاده في الخارج والهداية التعليم والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه ويقيمه وما ذكر مجاهد فهو تمثيل منه لا تفسير مطابق للآية فإن الآية شاملة لهداية الحيوان كله ناطقه وبهيمه طيره ودوابه فصيحه وأعجمه وكذلك قول من قال أنه هداية الذكر لإتيان الأنثى تمثيل أيضا وهو فرد واحد من أفراد الهداية التي لا يحصيها إلا الله وكذلك قول من قال هداه للمرعى فإن ذلك من الهداية فإن الهداية إلى التقام الثدي عند خروجه من بطن أمه والهداية إلى معرفته أمه دون غيرها حتى يتبعها أين ذهبت والهداية إلى قصد ما ينفعه من المرعى دون ما يضره منه وهداية الطير والوحش والدواب إلى الأفعال العجيبة التي يعجز عنها الإنسان كهداية النحل إلى سلوك السبل التي فيها مراعيها على تباينها ثم عودها إلى

بيوتها من الشجر والجبال وما يغرس بنو آدم وأمر النحل في هدايتها من أعجب العجب وذلك أن لها أميرا ومدبرا وهو اليعسوب وهو أكبر جسما من جميع النحل وأحسن لونا وشكلا وإناث النحل تلد في إقبال الربيع وأكثر أولادها يكن إناثا وإذا وقع فيها ذكر لم تدعه بينها بل إما أن تطرده وإما أن تقتله إلا طائفة يسيرة منها تكون حول الملك وذلك أن الذكر منها لا تعمل شيئا ولا تكسب ثم تجمع الأمهات وفراخها عند الملك فيخرج بها إلى المرعى من المزوج والرياض والبساتين والمراتع في أقصد الطرق وأقربها فيجتني منها كفايتها فيرجع بها الملك فإذا انتهوا إلى الخلايا وقف على بابها ولم يدع ذكرا ولا نحلة غريبة تدخلها فإذا تكامل دخولها دخل بعدها وتواجدت النحل على مقاعدها وأماكنها فيبتدئ الملك بالعمل كأنه يعلمها إياه فيأخذ النحل في العمل ويتسارع إليه ويترك الملك العمل ويجلس ناحية بحيث يشاهد النحل فيأخذ النحل في إيجاد الشمع من لزوجات الأوراق والأنوار ثم تقتسم النحل فرقا فمنها فرقة تلزم الملك ولا تفارقه ولا تعمل ولا تكسب وهم حاشية الملك من الذكورة ومنها فرقة تهيئ الشمع وتصنعه والشمع هو ثفل العسل وفيه حلاوة كحلاوة التين وللنحل فيه عناية شديدة فوق عنايتها بالعسل فينظفه النحل ويصفيه ويخلصه مما يخالطه من أبوالها وغيرها وفرقة تبني البيوت وفرقة تسقي الماء وتحمله على متونها وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجيف والزبل وإذا رأت بينها نحلة مهينة بطالة قطعها وقتلها حتى لا تفسد عليهن بقية العمال وتعديهن ببطالتها ومهانتها وأول ما يبنى في الخلية مقعد الملك وبيته فيبنى له بيتا مربعا يشبه السرير والتخت فيجلس عليه ويستدير حوله

ص -67- طائفة من النحل يشبه الأمراء والخدم والخواص لا يفارقنه ويجعل النحل بين يديه شيئا يشبه الحوض يصب فيه من العسل أصفى ما يقدر عليه ويملأ منه الحوض يكون ذلك طعاما للملك وخواصه ثم يأخذن في ابتناء البيوت على خطوط متساوية كأنها سكك ومحال وتبنى بيوتها مسدسة متساوية الأضلاع كأنها قرأت كتاب أقليدس حتى عرفت أوفق الأشكال لبيوتها لأن المطلوب من بناء الدور هو الوثاقة والسعة والشكل المسدس دون سائر الأشكال إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صار شكلا مستديرا كاستدارة الرحى ولا يبقى فيه فروج ولا خلل ويشد بعضه بعضا حتى يصير طبقا واحدا محكما لا يدخل بين بيوته رؤوس الإبر فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناء المحكم الذي يعجز البشر عن صنع مثله فعلمت أنها محتاجة إلى أن تبني بيوتها من أشكال موصوفة بصفتين إحداهما: أن لا يكون زواياها ضيقة حتى لا يبقى الموضع الضيق معطلا الثانية: أن تكون تلك البيوت مشكلة بأشكال إذا انضم بعضها إلى بعض وامتلأت العرصة منها فلا يبقى منها ضائعا ثم إنها علمت أن الشكل الموصوف بهاتين الصفتين هو المسدس فقط فإن المثلثات والمربعات وإن أمكن امتلاء العرصة منها إلا أن زواياها ضيقة وأما سائر الأشكال وإن كانت زواياها واسعة إلا أنها لا تمتلئ العرصة منها بل يبقى فيما بينها فروج خاليه ضائعة وأما المسدس فهو موصوف بهاتين الصفتين فهداها سبحانه على بناء بيوتها على هذا الشكل من غير مسطر ولا آلة ولا مثال يحتذى عليه وأصنع بني آدم لا يقدر على بناء البيت المسدس إلا بالآلات الكبيرة فتبارك الذي هداها أن تسلك سبل مراعيها على قوتها وتأتها ذللا لا تستعصي عليها ولا تضل عنها وأن تجتني أطيب ما في المرعى وألطفه وأن تعود إلى بيوتها الخالية فتصب فيها شرابا مختلفا ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون فإذا فرغت من بناء البيوت خرجت خماصا تسيح سهلا وجبلا فأكلت من الحلاوات المرتفعة

على رؤوس الأزهار وورق الأشجار فترجع بطانا وجعل سبحانه في أفواهها حرارة منضجة تنضج ما جنته فتعيده حلاوة ونضجا ثم تمجه في البيوت حتى إذا امتلأت ختمتها وسدت رؤوسها بالشمع المصفى فإذا امتلأت تلك البيوت عمدت إلى مكان آخر إن صادفته فاتخذت فيه بيوتا وفعلت كما فعلت في البيوت الأولى فإذا برد الهوى وأخلف المرعى وحيل بينها وبين الكسب لزمت بيوتها واغتذت بما ادخرته من العسل وهي في أيام الكسب والسعي تخرج بكرة وتسيح في المراتع وتستعمل كل فرقة منها بما يخصها من العمل فإذا أمست رجعت إلى بيوتها وإذا كان وقت رجوعها وقف على باب الخلية بواب منها ومعه أعوان فكل نحلة تريد الدخول يشمها البواب و يتفقدها فإن وجد منها رائحة منكرة أو رأى بها لطخة من قذر منعها من الدخول وعزلها ناحية إلى أن يدخل الجميع فيرجع إلى المعزولات الممنوعات من الدخول فيتفقدهن ويكشف أحوالهن مرة ثانية فمن وجده قد وقع على شيء منتن أو نجس قده نصفين ومن كانت جنايته خفيفة تركه خارج الخلية هذا دأب البواب كل عشية وأما الملك فلا يكثر الخروج من الخلية إلا نادرا إذا اشتهى التنزه فيخرج ومعه أمراء النحل والخدم فيطوف في المروج والرياض والبساتين ساعة من النهار ثم يعود إلى مكانه ومن عجيب أمره أنه ربما لحقه أذى من النحل أو من صاحب الخلية أو من خدمه فيغضب ويخرج من الخلية ويتباعد عنها ويتبعه جميع النحل وتبقى الخلية خالية فإذا رأى صاحبها ذلك وخاف أن يأخذ النحل ويذهب بها إلى مكان آخر احتال لاسترجاعه وطلب رضاه فيتعرف موضعه الذي صار إليه بالنحل فيعرفه

ص -68- باجتماع النحل إليه فإنها لا تفارقه وتجتمع عليه حتى تصير عليه عنقودا وهو إذا خرج غضبا جلس على مكان مرتفع من الشجرة وطافت به النحل وانضمت إليه حتى يصير كالكرة فيأخذ صاحب النحل رمحا أو قصبة طويلة ويشد على رأسه حزمة من النبات الطيب الرائحة العطر النظيف ويدنيه إلى محل الملك ويكون معه إما مزهر أو يراع أو شيء من آلات الطرب فيحركه وقد أدنى إليه ذلك الحشيش فلا يزال كذلك إلى أن يرضى الملك فإذا رضي وزال غضبه طفر ووقع على الضغث وتبعه خدمه وسائر النحل فيحمله صاحبه إلى الخلية فينزل ويدخلها هو وجنوده ولا يقع النحل على جيفة ولا حيوان ولا طعام ومن عجيب أمرها أنها تقتل الملوك الظلمة المفسدة ولا تدين لطاعتها والنحل الصغار المجتمعة الخلق هي العسالة وهي تحاول مقاتلة الطوال القليلة النفع وإخراجها ونفيها عن الخلايا وإذا فعلت ذلك جاد العسل وتجتهد أن تقتل ما تريد قتلها خارج الخلية صيانة للخلية عن جيفته ومنها صنف قليل النفع كبير الجسم وبينها وبين العسالة حرب فهي تقصدها وتغتالها وتفتح عليها بيوتها وتقصد هلاكها والعسالة شديدة التيقظ والتحفظ منها فإذا هجمت عليها في بيوتها حاولتها وألجأتها إلى أبواب البيوت فتتلطخ بالعسل فلا تقدر على الطيران ولا يفلت منها الآكل طويل العمر فإذا انقضت الحرب وبرد القتال عادت إلى القتلى فحملتها وألقتها خارج الخلية وقد ذكرنا ان الملك لا يخرج إلا في الأحايين وإذا خرج خرج في جموع من الفراخ والشبان وإذا عزم على الخروج ظل قبل ذلك اليوم أو يومين يعلم الفراخ وينزلها منازلها ويرتبها فيخرج ويخرجن معه على ترتيب ونظام قد دبره معهن لا يخرجن عنه وإذا تولدت عنده ذكران عرف أنهن يتطلبن الملك فيجعل كل واحد منهم على طائفة من الفراخ ولا يقتل ملك منها ملكا آخر لما في ذلك من فساد الرعية وهلاكها وتفرقها وإذا رأى صاحب الخلية الملوك قد كثرت في الخلية وخاف من تفرق النحل بسببهم احتال

عليهم وأخذ الملوك كلها إلا واحدا ويحبس الباقي عنده في إناء ويدع عندهم من العسل ما يكفيهم حتى إذا حدث بالملك المنصوب حدث مرض أو موت أو كان مفسدا فقتلته النحل أخذ من هؤلاء المحبوسين واحدا وجعله مكانه لئلا يبقى النحل بلا ملك فيتشتت أمرها ومن عجيب أمرها أن الملك إذا خرج متنزها ومعه الأمراء والجنود ربما لحقه إعياء فتحمله الفراخ وفي النحل كرام عمال لها سعي وهمة واجتهاد وفيها لئام كسالى قليلة النفع مؤثرة للبطالة فالكرام دائما تطردها وتنفيها عن الخلية ولا تساكنها خشية أن تعدي كرامها وتفسدها والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه ولذلك لا تلقي زبلها إلا حين تطير وتكره النتن والروائح الخبيثة وأبكارها وفراخها أحرس وأشد اجتهادا من الكبار وأقل لسعا وأجود عسلا ولسعها إذا لسعت أقل ضررا من لسع الكبار ولما كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه قد خصت من وحي الرب تعالى وهدايته لما لم يشركها فيه غيرها وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من الأسقام والنور الذي يضيء في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام كان أكثر الحيوان أعداء وكان أعداؤها من أقل الحيوان منفعة وبركة وهذه سنة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم
فصل: وهذه النمل من أهدى الحيوانات وهدايتها من أعجب شيء فإن النملة الصغيرة تخرج من بيتها وتطلب قوتها وإن بعدت عليها لطريق فإذا ظفرت به حملته وساقته في طرق معوجة بعيدة ذات صعود وهبوط في غاية من التوعر حتى تصل إلى بيوتها فتخزن فيها أقواتها في وقت الإمكان

ص -69- فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين لئلا ينبت فإن كان ينبت مع فلقه باثنتين فلقته بأربعة فإذا أصابه بلل وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يوما ذا شمس فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها ثم أعادته إليها ولا تتغذى منها نملة مما جمعه غيرها ويكفي في هداية النمل ما حكاه الله سبحانه في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته ثم أتت بالاسم المبهم ثم أتبعته بما يثبته من اسم الجنس إرادة للعموم ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم فيتحصنون من العسكر ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول وهو خشية أن يصيبهم معرة الجيش فيحطمهم سليمان وجنوده ثم اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك وهذا من أعجب الهداية وتأمل كيف عظم الله سبحانه شأن النمل بقوله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} ثم قال: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} فأخبر أنهم بأجمعهم مروا على ذلك الوادي ودل على أن ذلك الوادي معروفا بالنمل كوادي السباع ونحوه ثم أخبر بما دل على شدة فطنة هذه النملة ودقة معرفتها حيث أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم فقد عرفت هي والنمل أن لكل طائفة منها مسكنا لا يدخل عليهم فيه سواهم ثم قالت لا يحطمنكم سليمان وجنوده فجمعت بين اسمه وعينه وعرفته بهما وعرفت جنوده وقائدها ثم قالت وهم لا يشعرون فكأنها جمعت بين الاعتذار عن مضرة الجيش بكونهم لا يشعرون وبين لوم أمة النمل حيث لم يأخذوا حذرهم ويدخلوا مساكنهم ولذلك تبسم نبي الله ضاحكا من قولها وأنه لموضع تعجب وتبسم وقد روى الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عيينة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه

وسلم: "نهى عن قتل النمل والنحلة والهدهد والصرد" وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نزل بني من الأنبياء تحت شجرة فقرصته نملة فأمر بجهازه فأخرج وأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح فهلا نملة واحدة" وذكر هشام بن حسان: "أن أهل الأحنف بن قيس لقوا من النمل شدة فأمر الأحنف بكرسي فوضع عند تنورين فجلس عليه ثم تشهد ثم قال لتنتهن أو ليحرقن عليكن ونفعل ونفعل قال فذهبن" وروى عوف بن أبي جميلة عن قسامة بن زهير قال قال أبو موسى الأشعري: "إن لكل شيء سادة حتى للنمل سادة ومن عجيب هدايتها أنها تعرف ربها بأنه فوق سماواته على عرشه كما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد من حديث أبي هريرة يرفعه قال: "خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون فأذاهم بنملة رافعة قوائمها إلى السماء تدعو مستلقية على ظهرها فقال ارجعوا فقد كفيتم أو سقيتم بغيركم" ولهذا الأثر عدة طرق ورواه الطحاوي في التهذيب وغيره وقال الإمام أحمد حدثنا قال: "خرج سليمان بن داؤد يستسقي فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنا عن سقياك ورزقك فأما أن تسقينا وترزقنا وإما أن تهلكنا فقال ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم" ولقد حدثني أن نملة خرجت من بيتها فصادفت شق جرادة فحاولت أن تحمله فلم تطق فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها قال فرفعت ذلك من الأرض فطافت في مكانه فلم تجده فانصرفوا وتركوها قال فوضعته فعادت تحاول حمله فلم تقدر فذهبت وجاءت بهم فرفعته فطافت فلم تجده فانصرفوا قال فعلت ذلك مرارا فلما كان في المرة الأخرى استدار

ص -70- النمل حلقة ووضعوها في وسطها وقطعوها عضوا عضوا قال شيخنا وقد حكيت له هذه الحكاية فقال هذه النمل فطرها الله سبحانه على قبح الكذب وعقوبة الكذاب والنمل من أحرص الحيوان ويضرب بحرصه المثل ويذكر أن سليمان صلوات الله وسلامه عليه لما رأى حرص النملة وشدة ادخارها للغذاء استحضر نملة وسألها كم تأكل النملة من الطعام كل سنة قالت ثلاث حبات من الحنطة فأمر بإلقائها في قارورة وسد فم القارورة وجعل معها ثلاث حبات حنطة وتركها سنة بعد ما قالت ثم أمر بفتح القارورة عند فراغ السنة فوجد حبة ونصف حبة فقال أين زعمك أنت زعمت أن قوتك كل سنة ثلاث حبات فقالت: نعم ولكن لما رأيتك مشغولا بمصالح أبناء جنسك حسبت الذي بقي من عمري فوجدته أكثر من المدة المضروبة فاقتصرت على نصف القوت واستبقيت نصفه استبقاء لنفسي فعجب سليمان من شدة حرصها وهذا من أعجب الهداية والعطية ومن حرصها أنها تكد طوال الصيف وتجمع للشتاء علما منها بإعواز الطلب في الشتاء وتعذر الكسب فيه وهي على ضعفها شديدة القوى فإنها تحمل أضعاف أضعاف وزنها وتجره إلى بيتها ومن عجيب أمرها أنك إذا أخذت عضو كزبرة يابس فأدنيته إلى أنفك لم تشم له رائحة فإذا وضعته على الأرض أقبلت النملة من مكان بعيد إليه فإن عجزت عن حمله ذهبت وأتت معها بصف من النمل يحتملونه فكيف وجدت رائحة ذلك من جوف بيتها حتى أقبلت بسرعة إليه فهي تدرك بالشم من البعد ما يدركه غيرها بالبصر أو بالسمع فتأتي من مكان بعيد إلى موضع أكل فيه الإنسان وبقي فيه فتات من الخبز أو غيره فتحلمه وتذهب به وإن كان أكبر منها فإن عجزت عن حمله ذهبت إلى حجرها وجاءت معها بطائفة من أصحابها فجاؤا كخيط أسود يتبع بعضهم بعضا حتى يتساعدوا على حمله ونقله وهي تأتي إلى السنبلة فتشمها فإن وجدتها حنطة قطعتها ومزقتها وحملتها وإن وجدتها شعيرا فلا ولها صدق الشم وبعد الهمة وشدة الحرص والجرأة على محاولة نقل ما هو أضعاف أضعاف

وزنها وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل إلا أن لها رائدا يطلب الرزق فإذا وقف عليه أخبر أصحابه فيخرجن مجتمعات وكل نملة تجتهد في صلاح العامة منها غير مختلسة من الحب شيئا لنفسها دون صواحباتها ومن عجيب أمرها أن الرجل إذا أراد أن يحترز من النمل لا يسقط في عسل أو نحوه فإنه يحفر حفيرة ويجعل حولها ماء أو يتخذ إناء كبيرا ويملأه ماء ثم يضع فيه ذلك الشيء فيأتي الذي يطيف به فلا يقدر عليه فيتسلق في الحائط ويمشي على السقف إلى أن يحاذي ذلك الشيء فتلقي نفسها عليه وجربنا نحن ذلك وأحمى صانع مرة طوقا بالنار ورماه على الأرض ليبرد واتفق أن اشتمل الطوق على نمل فتوجه في الجهات ليخرج فلحقه وهج النار فلزم المركز ووسط الطوق وكان ذلك مركزا له وهو أبعد مكان من المحيط.
فصل: وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض لا يراه غيره ومن هدايته ما حكاه الله عنه في كتابه أن قال لنبي الله سليمان وقد فقده وتوعده فلما جاءه بدره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة وخاطبه خطابا هيجه به على الإصغاء إليه والقبول منه فقال أحطت بما لم تحط به وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفته حق المعرفة بحيث أحطت به وهو خبر عظيم له شأن فلذلك قال وجئتك من سبأ بنبأ يقين والنبأ هو الخبر الذي له شأن والنفوس متطلعة إلى معرفته ثم وصفه بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ استفرغت

ص -71- قلب المخبر لتلقي الخبر وأوجبت له التشوف التام إلى سماعه ومعرفته وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج ثم كشف عن حقيقة الخبر كشفا مؤكدا بأدلة التأكيد فقال إني وجدت امرأة تملكهم ثم أخبر عن شأن تلك الملكة وأنها من أجل الملوك بحيث أوتيت من كل شيء يصلح أن تؤتاه الملوك ثم زاد في تعظيم شأنها بذكر عرشها التي تجلس عليه وأنه عرش عظيم ثم أخبره بما يدعوهم إلى قصدهم وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله فقال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وحذف أداة العطف من هذه الجملة وأتى بها مستقلة غير معطوفة على ما قبلها إيذانا بأنها هي المقصودة وما قبلها توطئة لها ثم أخبر عن المغوي لهم الحامل لهم على ذلك وهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم حتى صدهم عن السبيل المستقيم وهو السجود لله وحده ثم أخبر أن ذلك الصد حال بينهم وبين الهداية والسجود لله الذي لا ينبغي السجود إلا له ثم ذكر من أفعاله سبحانه إخراج الخبء في السماوات والأرض وهو المخبوء فيهما من المطر والنبات والمعادن وأنواع ما ينزل من السماء وما يخرج من الأرض وفي ذكر الهدهد هذا الشأن من أفعال الرب تعالى بخصوصه إشعار بما خصه الله به من إخراج الماء المخبوء تحت الأرض قال صاحب الكشاف "وفي إخراج الخبء إمارة على أنه من كلام الهدهد لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض جلت قدرته ولطف علمه ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة الناظر بنور الله مخايل كل شخص بصناعة أو فن من العلم في روائه ومنطقه وشمائله فما عمل آدمي عملا إلا ألقى الله عليه رداء عمله".
فصل: وهذا الحمام من أعجب الحيوان هداية حتى قال الشافعي: "أعقل الطير الحمام" وبرد الحمام هي التي تحمل الرسائل والكتب ربما زادت قيمة الطير منها على قيمة المملوك والعبد فإن الغرض الذي يحصل به لا يحصل بمملوك ولا بحيوان غيره لأنه يذهب

ويرجع إلى مكانه من مسيرة ألف فرسخ فما دونها وتنهي الأخبار والأغراض والمقاصد التي تتعلق بها مهمات الممالك والدول والقيمون بأمرها يعتنون بأنسابها اعتناء عظيما فيفرقون بين ذكورها وإناثها وقت السفاد وتنقل الذكور عن إناثها إلى غيرها والإناث عن ذكورها ويخافون عليها من فساد أنسابها وحملها من غيرها ويتعرفون صحة طرقها ومحلها لا يأمنون أن تفسد الأنثى ذكرا من عرض الحمام فتعتريها الهجنة والقيمون بأمرها لا يحفظون أرحام نسائهم ويحتاطون لها كما يحفظون أرحام حمامهم ويحتاطون لها والقيمون لهم في ذلك قواعد وطرق يعتنون بها غاية الاعتناء بحيث إذا رأوا حماما ساقطا لم يخف عليهم حسبها ونسبها وبلدها ويعظمون صاحب التجربة والمعرفة وتسمح أنفسهم بالجعل الوافر له ويختارون لحمل الكتب والرسائل الذكور منها ويقولون هو أحن إلى بيته لمكان أنثاه وهو أشد متنا وأقوى بدنا وأحسن اهتداء وطائفة منهم يختار لذلك الإناث ويقولون الذكر إذا سافر وبعد عهده حن إلى الإناث وتاقت نفسه إليهن فربما رأى أنثى في طريقه ومجيئه فلا يصبر عنها فيترك المسير ومال إلى قضاء وطره منها وهدايته على قدر التعليم والتوطين والحمام موصوف باليمن والألف للناس ويحب الناس ويحبونه ويألف المكان ويثبت على العهد والوفاء لصاحبه وإن أساء إليه ويعود إليه من مسافات بعيدة وربما صد فترك وطنه عشر حجج وهو ثابت على الوفاء حتى إذا وجد فرصة واستطاعة عاد إليه والحمام إذا أراد السفاد يلطف للأنثى غاية اللطف فيبدأ بنشر ذنبه وإرخاء جناحه ثم يدنو من الأنثى فيهدر لها ويقبلها ويزفها وينتفش

ص -72- ويرفع صدره ثم يعتريه ضرب من الوله والأنثى في ذلك مرسلة جناحها وكتفها على الأرض فإذا قضى حاجته منها ركبته الأنثى وليس ذلك في شيء من الحيوان سواه وإذا علم الذكر أنه أودع رحم الأنثى ما يكون منه الولد يقدم هو والأنثى بطلب القصب والحشيش وصغار العيدان فيعملان منه أفحوصة وينسجانها نسجا متداخلا في الوضع الذي يكون بقدر حيمان الحمامة ويجعلان حروفها شاخصة مرتفعة لئلا يتدحرج عنها البيض ويكون حصنا للحاضن ثم يتعاودان ذلك المكان ويتعاقبان الأفحوص يسخنانه ويطيبانه وينفيان طباعه الأول ويحدثان فيه طبعا آخر مشتقا ومستخرجا من طباع أبدانهما ورائحتهما لكي تقع البيضة إذا وقعت في مكان هو أشبه المواضع بأرحام الحمام ويكون على مقدار من الحر والبرد والرخاوة والصلابة ثم إذا ضربها المخاض بادرت إلى ذلك المكان ووضعت فيه البيض فإن أفزعها رعد قاصف رمت بالبيضة دون ذلك المكان الذي هيأته كالمرأة التي تسقط من الفزع فإذا وضعت البيض في ذلك المكان لم يزالا يتعاقبان الحضن حتى إذا بلغ الحضن مداه وانتهت أيامه انصدع عن الفرخ فأعاناه على خروجه فيبدآن أولا بنفخ الريح في حلقه حتى تتسع حوصلته علما منهما بأن الحوصلة تضيق عن الغذاء فتتسع الحوصلة بعد التحامها وتنفتق بعد ارتقاقها ثم يعلمان أن الحوصلة وإن كانت قد اتسعت شيئا فإنها في أول الأمر لا تحتمل الغذاء فيزقانه بلعابهما المختلط بالغذاء وفيه قوى الطعم ثم يعلمان أن طبع الحوصلة تضعف عن استمرار الغذاء وأنها تحتاج إلى دفع وتقوية لتكون لها بعض المتانة فيلقطان من الغيطان الحب اللين الرخو ويزقانه الفرخ ثم يزقانه بعد ذلك الحب الذي هو أقوى وأشد ولا يزالان يزقانه بالحب والماء على تدريج بحسب قوة الفرخ وهو يطلب ذلك منهما حتى إذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع ليحتاج إلى اللقط ويعتاده وإذا علما أن رئته في قويت ونمت وأنهما إن فطماه فطما تاما قوي على اللقط وتبلغ

لنفسه ضرباه إذا سألهما الزق ومنعاه ثم تنزع تلك الرحمة العجيبة منهما وينسيان ذلك التعطف المتمكن حين يعلمان أنه قد أطاق القيام بنفسه والتكسب ثم يبتدآن العمل ابتداء على ذلك النظام والحمام يشاكل الناس في أكثر طباعه ومذاهبه فإن من إناثه أنثى لا تريد إلا زوجها وفيه أخرى لا ترد يد لامس وأخرى لا تنال إلا بعد الطلب الحثيث وأخرى تركب من أول وهلة وأول طلب وأخرى لها ذكر معروف بها وهي تمكن ذكرا آخر منها إذا غاب زوجها لم تمتنع ممن ركبها وأخرى تمكن من يغنيها عن زوجها وهو يراهما ويشاهدهما ولا تبالي بحضوره وأخرى تعمط الذكر وتدعوه إلى نفسها وأنثى تركب أنثى وتساحقها وذكر يركب ذكرا ويعسفه وكل حالة توجد في الناس ذكورهم وإناثهم توجد في الحمام وفيها من لا تبيض وإن باضت أفسدت البيضة كالمرأة التي لا تريد الولد كيلا يشغلها عن شأنها وفي إناث الحمام من إذا عرض لها ذكر أي ذكر كان أسرعت هاربة ولا تواتي غير زوجها البتة بمنزلة المرأة الحرة ومنها ما يأخذ أنثى يتمتع بها تم ينتقل عنها إلى غيرها وكذلك الأنثى توافق ذكرا آخر عن زوجها وتنتقل عنه وإن كانوا جميعا في برج واحد ومنها ما يتصالح على الأنثى منها ذكران أو أكثر فتعايرهم كلهم حتى إذا غلب واحد منهم لرفيقه وقهره مالت إليه وأعرضت عن المغلوب وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: "رأى حمامة تتبع حمامة فقال شيطان يتبع شيطانه" ومنها ما يزق فراخه خاصة ومنا ما فيه شفقة ورحمة بالغة يزق فراخه وغيرها ومن عجيب هداها أنها إذا حملت الرسائل سلكت الطرق البعيدة عن القرى ومواضع الناس لئلا يعرض لها من

ص -73- يصدها ولا يرد مياههم بل يرد المياه التي لا يردها الناس ومن هدايتها أيضا أنه إذا رأى الناس في الهواء عرف أي صنف يريده وأي نوع من الأنواع ضده فيخالف فعله ليسلم منه ومن هدايته أنه في أول نهوضه يغفل ويمر بين النسر والعقاب وبين الرخم والبازي وبين الغراب والصقر فيعرف من يقصده ومن لا يقصده وإن رأى الشاهين فكأنه يرى السم الناقع وتأخذه حيرة كما يأخذ الشاة عند رؤية الذئب والحمار عند مشاهدة الأسد ومن هداية الحمام أن الذكر والأنثى يتقاسمان أمر الفراخ فتكون الحضانة والتربية والكفالة على الأنثى وجلب القوت والزق على الذكر فإن الأب هو صاحب العيال والكاسب لهم والأم هي التي تحبل وتلد وترضع ومن عجيب أمرها ما ذكره الجاحظ أن رجلا كان له زوج حمام مقصوص وزوج طيار وللطيار فرخان قال ففتحت لهما في أعلى الغرفة كوة للدخول والخروج وزق فراخهما قال فحبسني السلطان فجأة فاهتممت بشأن المقصوص غاية الاهتمام ولم أشك في موتهما لأنهما لا يقدران على الخروج من الكوة وليس عندهما ما يأكلان ويشربان قال فلما خلى سبيلي لم يكن لي هم غيرهما ففتحت البيت فوجدت الفراخ قد كبرت ووجدت المقصوص على أحسن حال فعجبت فما لبث أن جاء الزوج الطيار فدنا الزوج المقصوص إلى أفواههما يستطعمانهما كما يستطعم الفرخ فزقاهم فانظر إلى هذه الهداية فإن المقصوصبن لما شاهدا تلطف الفراخ للأبوين وكيف يستطعمانهما إذا اشتد بهما الجوع والعطش فعلا كفعل الفرخين فأدركتهما رحمة الطيارين فزقاهما كما يزقان فرخيهما ونظير ذلك ما ذكره الجاحظ وغيره قال الجاحظ: "وهو أمر مشهور عندنا بالبصرة أنه لما وقع الطاعون الجارف أتى على أهل دار فلم يشك أهل تلك المحلة أنه لم يبق منهم أحد فعمدوا إلى باب الدار فسدوه وكان قد بقي صبي صغير يرضع ولم يفطنوا له فلما كان بعد ذلك بمدة تحول إليها بعض ورثة القوم ففتح الباب فلما أفضى إلى عرصة الدار إذا هو بصبي يلعب مع جراء

كلبة قد كانت لأهل الدار فراعه ذلك فلم يلبث أن أقبلت كلبة قد كانت لأهل الدار فلما رآها الصبي حبا إليها فأمكنته من أطبائها فمصها وذلك أن الصبي لما اشتد جوعه ورأى جراء الكلبة يرتضعون من أطباء الكلبة حبا إليها فعطفت عليه فلما سقته مرة أدامت له ذلك وأدام هو الطلب ولا يستبعد هذا" وما هو أعجب منه فإن الذي هدى المولود إلى مص إبهامه ساعة يولد ثم هداه إلى التقام حلمة ثدي لم يتقدم له به عادة كأنه قد قيل له هذه خزانة طعامك وشرابك التي كأنك لم تزل بها عارفا وفي هدايته للحيوان إلى مصالحة ما هو أعجب من ذلك ومن ذلك أن الديك الشاب إذا لقي حبا لم يأكله حتى يفرقه فإذا هرم وشاخ أكله من غير تفريق كما قال المدائني "إن إياس بن معاوية مر بديك ينقر حبا ولا يفرقه فقال ينبغي أن يكون هرما فإن الديك الشاب يفرق الحب ليجتمع الدجاج حوله فتصيب منه والهرم قد فنيت رغبته فليس له همة إلا نفسه قال إياس: والديك يأخذ الحبة فهو يريها الدجاجة حتى يلقيها من فيه والهرم يبتلعها ولا يلقيها للدجاجة" وذكر ابن الأعرابي قال: "أكلت حبة بيض مكاء فجعل المكاء يصوت ويطير على رأسها ويدنو منها حتى إذا فتحت فاها وهمت به ألقى حسكة فأخذت بحلقها حتى ماتت" وأنشد أبو عمرو الشيباني في ذلك قول الأسدي:
إن كنت أبصرتني عيلا ومصطلما فربما قتل المكاء ثعبانا
وهداية الحيوانات إلى مصالح معاشها كالبحر حدث عنه ولا حرج ومن عجيب هدايتها أن الثعلب إذا

ص -74- امتلأ من البراغيث أخذ صوفة بفمه ثم عمد إلى ماء رقيق فنزل فيه قليلا قليلا حتى ترتفع البراغيث إلى الصوفة فيلقيها في الماء و يخرج ومن عجيب أمره أن ذئبا أكل أولاده وكان للذئب أولاد وهناك زبية فعمد الثعلب وألقى نفسه فيها وحفر فيها سردابا يخرج منه ثم عمد إلى أولاد الذئب فقتلهم وجلس ناحية ينتظر الذئب فلما أقبل وعرف أنها فعلته هرب قدامه وهو يتبعه فألقى نفسه في الزبية ثم خرج من السرداب فألقى الذئب نفسه وراءه فلم يجده ولم يطق الخروج فقتله أهل الناحية ومن عجيب أمره أن رجلا كان معه دجاجتان فاختفى له وخطف إحداهما وفر ثم أعمل فكرة في أخذ الأخرى فتراأى لصاحبها من بعيد وفي فمه شيء شبيه بالطائر وأطمعه في استعادتها بأن تركه وفر فظن الرجل أنها الدجاجة فأسرع نحوها وخالفه الثعلب إلى أختها فأخذها وذهب ومن عجيب أمره أنه أتى إلى جزيرة فيها طير فأعمل الحيلة كيف يأخذ منها شيئا فلم يطق فذهب وجاء بضغث من حشيش وألقاه في مجرى الماء الذي نحو الطير ففزع منه فلما عرفت أنه حشيش رجعت إلى أماكنها فعاد لذلك مرة ثانية وثالثة ورابعة حتى تواظب الطير على ذلك وألفته فعمد إلى جرزة أكبر من ذلك فدخل فيها وعبر إلى الطير فلم يشك الطير أنه من جنس ما قبله فلم تنفر منه فوثب على طائر منها وعدا به ومن عجيب أمر الذئب أنه عرض لإنسان يريد قتله فرأى معه قوسا وسهما فذهب وجاء بعظم رأس جمل في فيه وأقبل نحو الرجل فجعل الرجل كلما رماه بسهم اتقاه بذلك العظم حتى أعجزه وعاين نفاذ سهمه فصادف من استعان به على طرد الذئب ومن عجيب أمر القرد ما ذكره البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي قال: "رأيت في الجاهلية قردا وقردة زينا فاجتمع عليهما القرود فرجموهما حتى ماتا" فهؤلاء القرود أقاموا حد الله حين عطله بنو آدم وهذه البقر يضرب ببلادتها المثل وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أن رجلا بينا هو يسوق بقرة إذ ركبها فقالت لم أخلق

لهذا فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم قال وبينا رجل يرعى غنما له إذ عدا الذئب على شاة منها فاستنقذها منه فقال الذئب هذه استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري فقال الناس سبحان الله ذئب يتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم" ومن هداية الحمار الذي هو من أبلد الحيوان أن الرجل يسير به ويأتي به منزله من البعد في ليلة مظلمة فيعرف المنزل فإذا خلى جاء إليه ويفرق بين الصوت الذي يستوقف به والصوت الذي يحث به على السير، ومن عجيب أمر الفأر أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلا الجرة فنقص وعز عليها الوصول إليه ذهبت وحملت في أفواهها ماء وصبته في الجرة حتى يرتفع الزيت فتشربه والأطباء تزعم أن الحقنة أخذت من طائر طويل المنقار إذا تعسر عليه الذرق جاء إلى البحر المالح وأخذ بمنقاره منه واحتقن به فيخرج الذرق بسرعة وهذا الثعلب إذا اشتد به الجوع انتفخ ورمى بنفسه في الصحراء كأنه جيفة فتتداوله الطير فلا يظهر حركة ولا نفسا فلا تشك أنه ميت حتى إذا نقر بمنقاره وثب عليها فضمها ضمة الموت وهذا ابن عرس والقنفذ إذا أكلا الأفاعي والحيات عمدا إلى الصتر النهري فأكلاه كالترياق لذلك ومن عجيب أمر الثعلب أنه إذا أصاب القنفذ قلبه لظهره لأجل شوكه فيجتمع القنفذ حتى يصير كبة شوك فيبول الثعلب على بطنه ما بين مغرز عجبه إلى فكيه فإذا أصابه البول اعتراه الأسر فانبسط فيسلخه الثعلب من بطنه ويأكل مسلوخه وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أمورا تنفعه في معاشه وأخلاقه

ص -75- وصناعته وحربه وحزمه وصبره وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} قال أبو جعفر الباقر والله ما اقتصر على تشبههم بالأنعام حتى جعلهم أضل سبيلا منها فمن هدى الأنثى من السباع إذا وضعت ولدها أن ترفعه في الهواء أياما تهرب به من الذر والنمل لأنها تضعه كقطعة من لحم فهي تخاف عليه الذر والنمل فلا تزال ترفعه وتضعه وتحوله من مكان إلى مكان حتى يشتد وقال ابن الأعرابي: "قيل لشيخ من قريش من علمك هذا كله وإنما يعرف مثله أصحاب التجارب والتكسب قال: علمني الله ما علم الحمامة تقلب بيضها حتى تعطي الوجهين جميعا نصيبهما من حضانتها ولخوف طباع الأرض على البيض إذا استمر على جانب واحد" وقيل لآخر: "من علمك اللجاج في الحاجة والصبر عليها وإن استعصت حتى تظفر بها قال: من علم الخنفساء إذا صعدت في الحائط تسقط ثم تصعد ثم تسقط مرارا عديدة حتى تستمر صاعدة" وقيل لآخر: "من علمك البكور في حوائجك أول النهار لا تخل به قال من علم الطير تغدو خماصا كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها لا تسأم ذلك ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض" وقيل لآخر: "من علمك السكون والتحفظ والتماوت حتى تظفر بأربك فإذا ظفرت به وثبت وثوب الأسد على فريسته فقال الذي علم السهر أن ترصد جحر الفأرة فلا تتحرك ولا تتلوى ولا تختلج كأنها ميتة حتى إذا برزت لها الفأرة وثبت عليها كالأسد" وقيل لآخر: "من علمك الصبر والجلد والاحتمال وعدم السكون قال من علم أبا أيوب صبره على الأثقال والأحمال الثقيلة والمشي والتعب وغلظة الجمال وضربه فالثقل والكل على ظهره ومرارة الجوع والعطش في كبده وجهد التعب والمشقة ملأ جوارحه ولا يعدل به ذلك عن الصبر" وقيل لآخر: "من علمك حسن الإيثار والسماحة بالبذل قال من علم الديك يصادف الحبة في

الأرض وهو يحتاج إليها فلا يأكلها بل يستدعي الدجاج ويطلبهن طلبا حثيثا حتى تجيء الواحدة منهن فتلقطها وهو مسرور بذلك طيب النفس به وإذا وضع له الحب الكثير فرقه هاهنا وهاهنا وإن لم يكن هناك دجاج لأن طبعه قد ألف البذل والجود فهو يرى من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام" وقيل لآخر: "من علمك هذا التحيل في طلب الرزق ووجوه تحصيله قال من علم الثعلب تلك الحيل التي يعجز العقلاء عن علمها وعملها وهي أكثر من أن تذكر" ومن علم الأسد إذا مشى وخاف أن يقتفى أثره ويطلب عفى أثر مشيته بذنبه ومن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه فينفخ في منخريه لأن اللبؤة تضعه جروا كالميت فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه فيفعل به ذلك ومن ألهم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع ومن علم الأسد أن يخضع للبر ويذل له إذا اجتمعا حتى ينال منه له ومن عجيب أمره أنه إذا استعصى عليه شيء من السباع دعا الأسد فأجابه إجابة المملوك لمالكه ثم أمره فربض بين يديه فيبول في أذنيه فإذا أراد السباع ذلك أذعنت له بالطاعة والخضوع ومن علم الثعلب إذا اشتد به الجوع أن يستلقي على ظهره ويختلس نفسه إلى داخل بدنه حتى ينتفخ فيظن الظان أنه ميتة فيقع عليه فيثب على من انقضى عمره منها ومن علمه إذا أصابه صدع أو جرح أن يأتي إلى صبغ معروف فيأخذ منه ويضعه على جرحه كالمرهم ومن علم الدب إذا أصابه كلم أن يأتي إلى نبت قد عرفه وجهله صاحب الحشائش فيتداوى به فيبرأ ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنا وقت ولادتها أن تأتي إلى الماء فتلد فيه لأنها دون

ص -76- الحيوانات لا تلد إلا قائمة لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان وهي عالية فتخاف أن تسقطه على الأرض فينصدع أو ينشق فتأتي ما وسطها تضعه فيه فيكون كالفراش اللين والوطاء الناعم ومن علم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون الآخر ومن علم الكلب إذا عاين الظباء أن يعرف المعتل من غيره والذكر من الأنثى فيقصد الذكر مع علمه بأن عدوه أشد وأبعد وثبة ويدع الأنثى على نقصان عدوها لأنه قد علم أن الذكر إذا عدا شوطا أو شوطين حقن ببوله وكل حيوان إذا اشتد فزعه فإنه يدركه الحقن وإذا حقن الذكر لم يستطع البول مع شدة العدو فيقل عدوه فيدركه كالكلب وأما الأنثى فتحذف بولها لسعة القبل وسهولة المخرج فيدوم عدوها ومن علمه أنه إذا كسا الثلج الأرض أن يتأمل الموضع الرقيق الذي قد انخسف فيعلم أن تحته جحر الأرنب فينبشه ويصطادها علما منه بأن حرارة أنفاسها تذيب بعض الثلج فيرق ومن علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نوبا بين عينيه فينام بإحداهما حتى إذا نعست الأخرى نام بها وفتح النائمة حتى قال بعض العرب:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان نائم

ومن علم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث فلا يبقى عصفور بجوارها حتى يجيء فيطيرون حول الفرخ ويحركونه بأفعالهم ويحدثون له قوة وهمة وحركة حتى يطير معهم قال بعض الصيادين: ربما رأيت العصفور على الحائط فأومئ بيدي كأني أرميه فلا يطير وربما أهويت إلى الأرض كأني أتناول شيئا فلا يتحرك فإن مسست بيدي أدنى حصاة أو حجر أو نواة طار قبل أن تتمكن منها يدي ومن علم الحمامة إذا حملت أن تأخذ هي والأب في بناء العش وأن يقيما له حروفا تشبه الحائط ثم يسخناه ويحدثا فيه طبيعة أخرى ثم يقلبان البيض في الأيام ومن قسم بينهما الحضانة والكد فأكثر ساعات الحضانة على الأنثى وأكثر ساعات جلب القوت على الأب وإذا خرج الفرخ علما ضيق حوصلته عن الطعام فنفخا فيه نفخا متداركا حتى تتسع حوصلته ثم يزقانه اللعاب أو شيئا قبل الطعام وهو كاللبا للطفل ثم يعلمانه احتياج الحوصلة إلى دباغ فيزقانه من أصل الحيطان من شيء بين الملح والتراب تندبغ به الحوصلة فإذا اندبغت زقاه الحب فإذا علما أنه أطاق اللقط منعاه الزق على التدريج فإذا تكاملت قوته وسألهما الكفالة ضرباه ومن علمهما إذا أراد السفاد أن يبتدئ الذكر بالدعاء فتتطارد له الأنثى قليلا لتذيقه حلاوة المواصلة ثم تطيعه في نفسها ثم تمتنع بعض التمنع ليشتد طلبه وحبه ثم تتهادى وتتكسل وتريه معاطفها وتعرض محاسنها ثم يحدث بينهما من التغزل والعشق والتقبيل والرشف ما هو مشاهد بالعيان ومن علم المرسلة منها إذا سافرت ليلا أن تستدل ببطون الأودية ومجاري المياه والجبال ومهاب الريح ومطلع الشمس ومغربها فتستدل بذلك وبغيره إذا ضلت فإذا عرفت الطريق مرت كالريح ومن علم اللبب وهو صنف من العناكب أن يلطأ بالأرض ويجمع نفسه فيرى الذبابة أنه لاه عنها ثم يثب عليها وثوب الفهد ومن علم العنكبوت أن تنسج تلك الشبكة الرفيعة المحكمة وتجعل في أعلاها خيطا ثم تتعلق به فإذا تعرقلت البعوضة في الشبكة تدلت إليها فاصطادتها ومن

علم الظبي أنه لا يدخل كناسة إلا مستدبرا ليستقبل بعينيه ما يخافه على نفسه وخشفه ومن علم السنور إذا رأى فأرة في السقف أن يرفع رأسه كالمشير إليها بالعود ثم يشير إليها بالرجوع وإنما يريد أن يدهشها فتزلق فتسقط ومن علم اليربوع أن يحفر بيته في سفح الوادي حيث يرتفع عن مجرى السيل ليسلم من مدق الحافر ومجرى الماء ويعمقه ثم يتخذ في زواياه

ص -77- أبوابا عديدة ويجعل بينها وبين وجه الأرض حاجزا رقيقا فإذا أحس بالشر فتح بعضها بأيسر شيء وخرج منه ولما كان كثير النسيان لم يحفر بيته إلا عند أكمة أو صخرة علامة له على البيت إذا ضل عنه ومن علم الفهد إذا سمن أن يتوارى لثقل الحركة عليه حتى يذهب ذلك السمن ثم يظهر ومن علم الأيل إذا سقط قرنه أن يتوارى لأن سلاحه قد ذهب فيسمن لذلك فإذا كمل نبات قرنه تعرض للشمس والريح وأكثر من الحركة ليشتد لحمه ويزول السمن المانع له من العدو وهذا باب واسع جدا ويكفي فيه قوله سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها" وهذا يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون إخبارا عن أمر غير ممكن فعله وهو أن الكلاب أمة لا يمكن إفناؤها لكثرتها في الأرض فلو أمكن إعدامها من الأرض لأمرت بقتلها والثاني: أن يكون مثل قوله: "أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح" فهي أمة مخلوقة بحكمة ومصلحة فإعدامها وإفناؤها يناقض ما خلقت لأجله والله أعلم بما أراد رسوله قال ابن عباس في رواية عطاء: ": {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} يريد يعرفونني

ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني" مثل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه} ومثل قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} ويدل على هذا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابّ} وقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} ويدل عليه قوله تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} ويدل عليه قوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْل} وقوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} وقول سليمان: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} وقال مجاهد: "أمم أمثالكم أصناف مصنفة تعرف بأسمائها" وقال الزجاج: "أمم أمثالكم في أنها تبعث" وقال ابن قتيبة: "أمم أمثالكم في طلب الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك" وقال سفيان بن عيينة: "ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم" فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد ومنهم من يعدو عدو الذئب ومنهم من ينبح نباح الكلب ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي إليها الطعام عافته فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه فلذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمه لم يحفظ واحدة منها وإن أخطأ رجل ترواه وحفظه قال الخطابي: "ما أحسن ما تأول سفيان هذه الآية واستنبط منها هذه الحكمة" وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعا لظاهره وجب المصير إلى باطنه وقد أخبر الله عن وجود المماثلة بين الإنسان وبين كل طائر ودابة وذلك ممتنع من جهة الخلقة والصورة وعدم من جهة النطق والمعرفة فوجب أن يكون منصرفا إلى المماثلة في الطباع والأخلاق وإذا كان الأمر كذلك فاعلم أنك إنما تعاشر البهائم والسباع

فليكن حذرك منهم ومباعدتك إياهم على حسب ذلك انتهى كلامه والله سبحانه قد جعل بعض الدواب كسوبا محتالا وبعضها متوكلا غير محتال وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنته وبعضها يتكل على الثقة بأن له في كل يوم قدر كفايته رزقا مضمونا وأمرا مقطوعا وبعضها يدخر وبعضها لا تكسب له وبعض الذكورة يعول ولده وبعضها لا يعرف ولده البتة وبعض الإناث تكفل ولدها لا تعدوه وبعضها تضع ولدها وتكفل ولد غيرها وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغنى عنها وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه

ص -78- وجعل بعض الحيوانات يتمها من قبل أمهاتها وبعضها يتمها من قبل آبائها وبعضها لا يلتمس الولد وبعضها يستفرغ الهم في طلبه وبعضها يعرف الإحسان ويشكره وبعضها ليس ذلك عنده شيئا وبعضها يؤثر على نفسه وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمة من جنسه لم يدع أحدا يدنو منه وبعضها يحب السفاد ويكثر منه وبعضها لا يفعله في السنة إلا مرة وبعضها يقتصر على أنثاه وبعضها لا يقف على أنثى ولو كانت أمه أو أخته وبعضها لا تمكن غير زوجها من نفسها وبعضها لا ترد يد لامس وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم وبعضها يستوحش منهم وينفر غاية النفار وبعضها لا يأكل إلا الطيب وبعضها لا يأكل إلا الخبائث وبعضها يجمع بين الأمرين وبعضها لا يؤذي إلا من بالغ في أذاها وبعضها يؤذي من لا يؤذيها وبعضها حقود لا تنسى الإساءة وبعضها لا يذكرها البتة وبعضها لا يغضب وبعضها يشتد غضبه فلا يزال يسترضى حتى يرضى وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة لا يهتدي إليها أكثر الناس وبعضها لا معرفة له بشيء من ذلك البتة وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه وبعضها الحسن والقبيح سواء عنده وبعضها يقبل التعليم بسرعة وبعضها مع الطول وبعضها لا يقبل ذلك بحال وهذا كله من أدل الدلائل على الخالق لها سبحانه وعلى إتقان صنعه وعجيب تدبيره ولطيف حكمته فإن فيما أودعها من غرائب المعارف وغوامض الحيل وحسن التدبير والتأني لما تريده ما يستنطق الأفواه بالتسبيح ويملأ القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته وما يعلم به كل عاقل أنه لم يخلق عبثا ولم يترك سدى وأن له سبحانه في كل مخلوق حكمة باهرة وآية ظاهرة وبرهانا قاطعا يدل على أنه رب كل شيء ومليكه وأنه المنفرد بكل كمال دون خلقه وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم.
فصل: فلنرجع إلى ما ساقنا إلى هذا الموضع وهو الكلام على الهداية العامة التي هي قرينة الخلق في الدلالة على الرب تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته وتوحيده قال تعالى إخبارا عن فرعون

أنه قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قال مجاهد: "أعطى كل شيء خلقه لم يعط الإنسان خلق البهائم ولا البهائم خلق الإنسان" وأقوال أكثر المفسرين تدور على هذا المعنى قال عطية ومقاتل: "أعطى كل شيء صورته" وقال الحسن وقتادة: "أعطى كل شيء صلاحه" والمعنى أعطاه من الخلق والتصوير ما يصلح به لما خلق له ثم هداه لما خلق له وهداه لما يصلحه في معيشته ومطعمه ومشربه ومنكحه وتقلبه وتصرفه هذا هو القول الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين فيكون نظير قوله: {قَدَّرَ فَهَدَى} وقال الكلبي والسدي: "أعطى الرجل المرأة والبعير الناقة والذكر الأنثى من جنسه" ولفظ السدي: "أعطى الذكر الأنثى مثل خلقه ثم هدى إلى الجماع" وهذا القول اختيار ابن قتيبة والفراء قال الفراء: "أعطى الذكر من الناس امرأة مثله والشاة شاة والثور بقرة ثم ألهم الذكر كيف يأتيها" قال أبو إسحاق: "وهذا التفسير جائز لأنا نرى الذكر من الحيوان يأتي الأنثى ولم ير ذكرا قد أتى أنثى قبله فألهمه الله ذلك وهداه إليه" قال: والقول الأول ينتظم هذا المعنى لأنه إذا هداه لمصلحته فهذا داخل في المصلحة قلت: أرباب هذا القول هضموا الآية معناها فإن معناها أجل وأعظم مما ذكروه وقوله أعطى كل شيء يأبى هذا التفسير فإن حمل كل شيء على ذكور الحيوان وإناثه خاصة ممتنع لا وجه له وكيف يخرج من هذا اللفظ الملائكة والجن ومن لم يتزوج من بني آدم ومن لم يسافد من الحيوان وكيف يسمى الحيوان الذي يأتيه الذكر خلقا له وأين نظير هذا في القرآن

ص -79- وهو سبحانه لما أراد التعبير عن هذا المعنى الذي ذكروه وذكره بأدل عبارة عليه وأوضحها فقال: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُْثَى} فحمل قوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} على هذا المعنى غير صحيح فتأمله وفي الآية قول آخر قاله الضحاك قال: "أعطى كل شيء خلقه أعطى اليد البطش والرجل المشي واللسان النطق والعين البصر والأذن السمع" ومعنى هذا القول أعطى كل عضو من الأعضاء ما خلق له والخلق على هذا بمعنى المفعول أي أعطى كل عضو مخلوقه الذي خلقه له فإن هذه المعاني كلها مخلوقة لله أودعها الأعضاء وهذا المعنى وإن كان صحيحا في نفسه لكن معنى الآية أعم والقول هو الأول وأنه سبحانه أعطى كل شيء خلقه المختص به ثم هداه لما خلق له ولا خالق سواه سبحانه ولا هادي غيره فهذا الخلق وهذه الهداية من آيات الربوبية ووحدانيته فهذا وجه الاستدلال على عدو الله فرعون ولهذا لما علم فرعون أن هذه حجة قاطعة لا مطعن فيها بوجه من الوجوه عدل إلى سؤال فاسد عن وارد فقال: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} أي فما للقرون الأولى لم تقر بهذا الرب ولم تعبده بل عبدت الأوثان والمعنى لو كان ما تقوله حقا لم يخف على القرون الأولى ولم يهملوه فاحتج عليه بما يشاهده هو وغيره من آثار ربوبية رب العالمين فعارضه عدو الله بكفر الكافرين به وشرك المشركين وهذا شأن كل مبطل ولهذا صار هذا ميزانا في ورثته يعارضون نصوص الأنبياء بأقوال الزنادقة والملاحدة وأفراخ الفلاسفة والصابئة والسحرة ومبتدعة الأمة وأهل الضلال منهم فأجابه موسى عن معارضته بأحسن جواب فقال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} أي أعمال تلك القرون وكفرهم وشركهم معلوم لربي قد أحصاه وحفظه وأودعه في كتاب فيجازيهم عليه يوم القيامة ولم يودعه في كتاب خشية النسيان والضلال فإنه سبحانه لا يضل ولا ينسى وعلى هذا فالكتاب ها هنا كتاب الأعمال وقال الكلبي: "يعني به اللوح المحفوظ"

وعلى هذا فهو كتاب القدر السابق والمعنى على هذا أنه سبحانه قد علم أعمالهم وكتبها عنده قبل أن يعملوها فيكون هذا من تمام قوله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى فتأمله.
فصل: وهو سبحانه في القرآن كثيرا ما يجمع بين الخلق والهداية كقوله في أول سورة أنزلها على رسوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} وقوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} الآيات ثم قال: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فالخلق إعطاء الوجود العيني الخارجي والهدى إعطاء الوجود العلمي الذهني فهذا خلقه وهذا هداه وتعليمه.
فصل: المرتبة الثانية من مراتب الهداية هداية الإرشاد والبيان للمكلفين وهذه الهداية لا تستلزم حصول التوفيق واتّباع الحق وإن كانت شرطا فيه أو جزء سبب وذلك لا يستلزم حصول المشروط والمسبب بل قد يتخلف عنه المقتضى إما لعدم كمال السبب أو لوجود مانع ولهذا قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} فهداهم هدى البيان والدلالة فلم يهتدوا فأضلهم عقوبة لهم على ترك

الاهتداء أولا

ص -80- بعد أن عرفوا الهدى فأعرضوا عنه فأعماهم عنه بعد أن أراهموه وهذا شأنه سبحانه في كل من أنعم عليه بنعمة فكفرها فإنه يسلبه إياها بعد أن كانت نصيبه وحظه كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وقال تعالى عن قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} أي جحدوا بآياتنا بعد أن تيقنوا صحتها وقال: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وهذه الهداية هي التي أثبتها لرسوله حيث قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ونفى عنه ملك الهداية الموجبة وهي هداية التوفيق والإلهام بقوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت} ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "بعثت داعيا ومبلغا وليس إليّ من الهداية شيء وبعث إبليس مزينا ومغويا وليس إليه من الضلالة شيء" قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فجمع سبحانه بين الهداء يتبين العامة والخاصة فعم بالدعوة حجة مشيئة وعدلا وخص بالهداية نعمة مشيئة وفضلا وهذه المرتبة أخص من التي قبلها فأنها هداية تخص المكلفين وهي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدا إلا بعد إقامتها عليه قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقال: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ

الْمُتَّقِينَ} وقال: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} فإن قيل كيف تقوم حجته عليهم وقد منعهم من الهدى وحال بينهم وبينه قيل حجته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى وبيان الرسل لهم وإراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عيانا وأقام لهم أسباب الهداية ظاهرا وباطنا ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل أو صغر لا تمييز معه أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله فإنه لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته فلم يمنعهم من هذا الهدى ولم يحل بينهم وبينه نعم قطع عنهم توفيقه ولم يرد من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه وهو فعله ومشيئته وتوفيقه فهذا غير مقدور لهم وهو الذي منعوه وحيل بينهم وبينه فتأمل هذا الموضع واعرف قدره والله المستعان.
فصل: المرتبة الثالثة من مراتب الهداية هداية التوفيق والإلهام وخلق المشيئة المستلزمة للفعل وهذه المرتبة أخص من التي قبلها وهي التي ضل جهال القدرية بإنكارها وصاح عليهم سلف الأمة وأهل السنة منهم من نواحي الأرض عصرا بعد عصر إلى وقتنا هذا ولكن الجبرية ظلمتهم ولم تنصفهم كما ظلموا أنفسهم بإنكار الأسباب والقوى وإنكار فعل العبد وقدرته وأن يكون له تأثير في الفعل البتة فلم يهتدوا لقول هؤلاء بل زادهم ضلالا على ضلالهم وتمسكا بما هم عليه وهذا شأن المبطل إذا دعى مبطلا آخر إلى ترك مذهبه لقوله ومذهبه الباطل كالنصراني إذا دعى اليهودي إلى التثليث وعبادة الصليب وأن المسيح إله تام غير مخلوق إلى أمثال ذلك من الباطل الذي هو عليه وهذه المرتبة تستلزم أمرين أحدهما: فعل الرب تعالى وهو الهدى والثاني: فعل

العبد وهو الاهتداء وهو أثر فعله سبحانه فهو الهادي والعبد المهتدي قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} ولا سبيل إلى وجود الأثر

ص -81- إلا بمؤثره التام فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد ولهذا قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ} وهذا صريح في أن هذا الهدى ليس له صلى الله عليه وسلم ولو حرص عليه ولا إلى أحد غير الله وأن الله سبحانه إذا أضل عبدا لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته كما قال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} وقال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات} وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} وقال: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّه} ولم يريدوا أن بعض الهدى منه وبعضه منهم بل الهدى كله منه ولولا هدايته لهم لما اهتدوا وقال تعالى:

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُو} وقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} وقال: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وأمر سبحانه عباده كلهم أن يسألوه هدايتهم الصراط المستقيم كل يوم وليلة في الصلوات الخمس وذلك يتضمن الهداية إلى الصراط والهداية فيه كما أن الضلال نوعان ضلال عن الصراط فلا يهتدي إليه وضلال فيه فالأول ضلال عن معرفته والثاني ضلال عن تفاصيله أو بعضها قال شيخنا: "ولما كان العبد في كل حال مفتقرا إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية فهو محتاج إلى التوبة منها وأمور هدي إلى أصلها دون تفصيلها أو هدي إليها من وجه دون وجه فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها

ليزداد هدى وأمور هو محتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو محتاج إلى الهداية وأمور لم يفعلها فهو محتاج إلى فعلها على وجه الهداية إلى غير ذلك من أنواع الهدايات فرض الله عليه أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله وهي الصلاة مرات متعددة في اليوم والليلة" انتهى كلامه ولا يتم المقصود إلا بالهداية إلى الطريق والهداية فيها فإن العبد قد يهتدي إلى طريق قصده وتنزيله عن غيرها ولا يهتدي إلى تفاصيل سيره فيها وأوقات السير من غيره وزاد المسير وآفات الطريق ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} قال: "سبيلا وسنة" وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير فالسبيل الطريق وهي المنهاج والسنة الشرعة وهي تفاصيل الطريق وحزوناته وكيفية المسير فيه وأوقات المسير وعلى هذا فقوله سبيلا وسنة يكون السبيل المنهاج

ص -82- والسنة الشرعة فالمقدم في الآية للمؤخر في التفسير وفي لفظ آخر سنة وسبيلا فيكون المقدم للمقدم والمؤخر للتالي.
فصل: ومن هذا إخباره سبحانه بأنه طبع على قلوب الكافرين وختم عليها وأنه أصمها عن الحق وأعمى أبصارها عنه كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} والوقف التام هنا ثم قال: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} كقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} وأخبر سبحانه أن على بعض القلوب أقفالا تمنعها من أن تنفتح لدخول الهدى إليها وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمى} فهذا الوقر والعمى حال بينهم وبين أن يكون لهم هدى وشفاء وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} قرأها الكوفيون وصد بضم الصاد حملا على زين وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} وقال: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ومعلوم أنه لم ينف هدى البيان والدلالة الذي تقوم به الحجة فإنه حجته على عباده، والقدرية ترد هذا كله إلى المتشابه وتجعله من متشابه

القرآن وتتأوله على غير تأويله بل تتأوله بما يقطع ببطلانه وعدم إرادة المتكلم له كقول بعضهم المراد من ذلك تسمية الله العبد مهتديا وضالا فجعلوا هداه وإضلاله مجرد تسمية العبد بذلك وهذا مما يعلم قطعا أنه لا يصح حمل هذه الآيات عليه وأنت إذا تأملتها وجدتها لا تحتمل ما ذكروه البتة وليس في لغة أمة من الأمم فضلا عن أفصح اللغات وأكملها هداه بمعنى سماه مهتديا وأضله سماه ضالا وهل يصح أن يقال علمه إذا سماه عالما وفهمه إذا سماه فهما وكيف يصح هذا في مثل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء} فهل فهم أحد غير القدرية المحرفة للقرآن من هذا ليس عليك تسميتم مهتدين ولكن الله يسمي من يشاء مهتديا وهل فهم أحد قط من قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت} لا تسميه مهتديا ولكن الله يسميه بهذا الاسم وهل فهم أحد من قول الداعي اهدنا الصراط المستقيم وقوله اللهم اهدني من عندك ونحوه اللهم سمني مهتديا وهذا من جناية القدرية على القرآن ومعناه نظير جناية إخوانهم من الجهمية على نصوص الصفات وتحريفها عن مواضعها وفتحوا للزنادقة والملاحدة جنايتهم على نصوص المعاد وتأويلها بتأويلات إن لم تكن أقوى من تأويلاتهم لم تكن دونها وفتحوا للقرامطة والباطنية تأويل نصوص الأمر والنهي بنحو تأويلاتهم فتأويل التحريف الذي سلسلته هذه الطوائف أصل فساد الدنيا والدين وخراب العالم وسنفرد إن شاء الله كتابا نذكر فيه جناية المتأولين على الدنيا والدين وأنت إذا وازيت بين تأويلات القدرية والجهمية والرافضة لم تجد بينها وبين تأويلات الملاحدة والزنادقة من القرامطة الباطنية وأمثالهم كبير فرق والتأويل الباطل يتضمن تعطيل ما جاء به الرسول والكذب على المتكلم أنه أراد ذلك المعنى فتتضمن إبطال الحق وتحقيق الباطل ونسبة المتكلم إلى ما لا يليق به من التلبيس والألغاز مع القول عليه بلا علم أنه أراد هذا المعنى

فالمتأول عليه أن يبين صلاحية اللفظ للمعنى الذي ذكره أولا واستعمال المتكلم له في ذلك المعنى في أكثر

ص -83- المواضع حتى إذا استعمله فيما يحتمل غيره حمل على ما عهد منه استعماله فيه وعليه أن يقيم دليلا سالما عن المعارض على الموجب لصرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه واستعارته وإلا كان ذلك مجرد دعوى منه فلا تقبل، وتأويل بعضهم هذه النصوص على أن المراد بها هداية البيان والتعريف لا خلق الهدى في القلب فإن الله سبحانه لا يقدر على ذلك عند هذه الطائفة وهذا التأويل من أبطل الباطل فإن الله سبحانه يخبر أنه قسم هدايته للعبد قسمين قسما لا يقدر عليه غيره وقسما مقدورا للعباد فقط في القسم المقدور للغير: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال في غير المقدور للغير: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وقال: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} ومعلوم قطعا أن البيان والدلالة قد تحصل له ولا تنفى عنه وكذلك قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ} لا يصح حمله على هداية الدعوة والبيان فإن هذا يهدى وإن أضله الله بالدعوة والبيان وكذا قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} هل يجوز حمله على معنى فمن يدعوه إلى الهدى ويبين له ما تقوم به حجة الله عليه وكيف يصنع هؤلاء بالنصوص التي فيها أنه سبحانه هو الذي أضلهم أيجوز لهم حملها على أنه دعاهم إلى الضلال فإن قالوا ليس ذلك معناها وإنما معناها الفاهم ووجدهم كذلك أو أعلم ملائكته ورسله بضلالهم أو جعل على قلوبهم علامة يعرف الملائكة بها أنهم ضلال قيل هذا من جنس قولكم إن هداه سبحانه وإضلاله بتسميتهم مهتدين وضالين فهذه أربع تحريفات لكم وهو أنه سماهم بذلك وعلمهم بعلامة يعرفهم بها الملائكة وأخبر عنهم بذلك ووجدهم كذلك فالإخبار من

جنس التسمية وقد بينا أن اللغة لا تحتمل ذلك وأن النصوص إذا تأملها المتأمل وجدها أبعد شيء من هذا المعنى وأما العلامة فيا عجبا لفرقة التحريف وما جنت على القرآن والإيمان ففي أي لغة وأي لسان يدل قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت} على معنى أنك لا تعلمه بعلامة ولكن الله هو الذي يعلمه بها وقوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} من يعلمه الله بعلامة الضلال لم يعلمه غيره بعلامة الهدى وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} لعلمناها بعلامة الهدى الذي خلقته هي لنفسها وأعطته نفسها وفي أي لغة يفهم من قول الداعي اهدنا الصراط المستقيم علمنا بعلامة يعرف الملائكة بها أننا مهتدون وقولهم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا لا تعلمها بعلامة أهل الزيغ وقوله يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك وأمثال ذلك من النصوص ففي أي لغة وأي لسان يفهم من هذا علمنا بعلامة الثبات والتصريف على طاعتك وفي أي لغة يكون معنى قوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة} علمناها بعلامة القسوة أو وجدناها كذلك نعم لو نزل القرآن بلغة القدرية والجهمية وأهل البدع لأمكن حمله على ذلك أو كان الحق تبعا لأهوائهم وكانت نصوصه تبعا لبدع المبتدعين وآراء المتحيرين وأنت تجد جميع هذه الطوائف تنزل القرآن على مذاهبهم وبدعها وآرائها فالقرآن عند الجهمية جهمي وعند المعتزلة معتزلي وعند القدرية قدري وعند الرافضة رافضي وكذلك هو عند جميع أهل الباطل: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وأما تحريفهم هذه النصوص وأمثالها بأن المعنى ألفاهم ووجدهم ففي أي لسان وأي لغة وجدتم هديت الرجل إذا وجدته مهتديا وختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة وجده كذلك وهل هذا إلا افتراء محض على القرآن واللغة فإن قالوا نحن لم نقل

هذا في نحو ذلك وإنما قلناه في نحو أضله الله أي وجده ضالا كما يقال أحمدت الرجل وأبخلته وأجننته إذا

ص -84- وجدته كذلك أو نسبته إليه فيقال لفرقة التحريف هذا إنما ورد في ألفاظ معدودة نادرة وإلا فوضع هذا البناء على أنك فعلت ذلك به ولا سيما إذا كانت الهمزة للتعدية من الثلاثي كقام وأقمته وقعد وأقعدته وذهب وأذهبته وسمع وأسمعته ونام وأنمته وكذا ضل وأضله الله وأسعده وأشقاه وأعطاه وأخزاه وأماته وأحياه وأزاغ قلبه وأقامه إلى طاعته وأيقظه من غفلته وأراه آياته وأنزله منزلا مباركا وأسكنه جنته إلى أضعاف ذلك هل تجد فيها لفظا واحدا معناه أنه وجده كذلك تعالى الله عما يقول المحرفون ثم انظر في كتاب فعل وافعل هل تظفر فيه بأفعلته بمعنى وجدته مع سعة الباب إلا في الحرفين أو الثلاثة نقلا عن أهل اللغة ثم انظر هل قال أحد من الأولين والآخرين من أهل اللغة أن العرب وضعت أضله الله وهداه وختم على سمعه وقلبه وأزاغ قلبه وصرفه عن طاعته ونحو ذلك لمعنى وجده كذلك ولما أراد سبحانه الإبانة عن هذا المعنى قال: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ولم يقل وأضلك وقال في حق من خالف الرسول وكفر بما جاء به وأضله على علم ولم يقل ووجده الله ضالا ثم أي توحيد تمدح وتعريف للعباد أن الأمر كله لله وبيده وأنه ليس لأحد من أمره شيء في مجرد التسمية والعلامة ومصادفة الرب تعالى عباده كذلك ووجوده لهم على هذا الصفات من غير أن يكون له فيها صنع أو خلق أو مشيئة وهل يعجز البشر عن التسمية والمصادفة والوجود كذلك فأي مدح وأي ثناء يحسن على الرب تعالى بمجرد ذلك فأنتم وإخوانكم من الجبرية لم تمدحوا الرب بما يستحق أن يمدح به ولم تثنوا عليه بأوصاف كماله ولم تقدروه حق قدره وأتباع الرسول وحزبه وخاصته بريئون منكم ومنهم في باطلكم وباطلهم وهم معكم ومعهم فيما عندكم من الحق لا يتحيزون إلى غير ما بينه الرسول وجاء به ولا ينحرفون عنه نصرة لآراء الرجال

المختلفة وأهوائهم المتشتتة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم قال ابن مسعود: "علمنا رسول لله صلى الله عليه وسلم التشهد في الصلاة والتشهد في الحاجة إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا لله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ويقرأ ثلاث آيات: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} الآية: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} الآية" قال الترمذي هذا حديث صحيح وقال أبو داود حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن خالد الحذاء عن عبد الأعلى عن عبد الله بن الحارث قال: "خطب عمر بن الخطاب بالجابية فحمد الله وأثنى عليه وعنده جاثليق يترجم له ما يقول فقال: من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له فنفض جبينه كالمنكر لما يقول قال عمر: ما يقول قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أن الله لا يضل أحدا قال عمر: كذبت أي عدو الله بل الله خلقك وقد أضلك ثم يدخلك النار أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك إن الله عز وجل خلق أهل الجنة وما هم عاملون وخلق أهل النار وما هم عاملون فقال هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه قال: فتفرق الناس وما يختلفون في القدر".
فصل: المرتبة الرابعة من مراتب الهداية الهداية إلى الجنة والنار يوم القيامة قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} فهذه هداية بعد قتلهم فقيل المعنى سيهديهم إلى طريق الجنة ويصلح حالهم في الآخرة بإرضاء خصومهم وقبول أعمالهم وقال ابن

ص -85- عباس سيهديهم إلى أرشد الأمور ويعصمهم أيام حياتهم في الدنيا واستشكل هذا القول لأنه أخبر عن المقتولين في سبيله بأنهم سيهديهم واختاره الزجاج وقال: "يصلح بالهم في المعاش وأحكام الدنيا" قال: "وأراد به يجمع لهم خير الدنيا والآخرة" وعلى هذا القول فلا بد من حمل قوله قتلوا في سبيل الله على معنى يصح معه إثبات الهداية وإصلاح البال.

شفاء العليل

الباب الخامس عشر: في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة ونحوها وأنه مفعول الرب
الباب الخامس عشر: في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة والحائل بين الكافر وبين الإيمان وأن ذلك مجعول للرب تعالى
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} وقال: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وقال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وقد دخل هذه الآيات ونحوها طائفتا القدرية والجبرية فحرفها القدرية بأنواع من التحريف المبطل لمعانيها وما أريد منها وزعمت الجبرية أن الله أكرهها على ذلك وقهرها عليه وأجبرها من غير فعل منها ولا إرادة ولا اختيار ولا كسب البتة بل حال بينها وبين الهدى ابتداء من غير ذنب ولا سبب من العبد يقتضي ذلك بل أمره وحال مع أمره بينه وبين الهدى فلم

ييسر إليه سبيلا ولا أعطاه عليه قدره ولا مكنه منه بوجه وأراد بعضهم بل أحب له الضلال والكفر والمعاصي ورضيه منه فهدى أهل السنة والحديث وأتباع الرسول لما اختلف فيه هاتان الطائفتان من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، قالت القدرية: لا يجوز حمل هذه الآيات على أنه منعهم من الإيمان وحال بينهم وبينه إذ يكون لهم الحجة على الله ويقولون كيف يأمرنا بأمر ثم يحول بيننا وبينه ويعاقبنا عليه وقد منعنا من فعله وكيف يكلفنا بأمر لا قدرة لنا عليه وهل هذا إلا بمثابة من أمر عبده بالدخول من باب ثم سد عليه الباب سدا محكما لا يمكنه الدخول معه البتة ثم عاقبه أشد العقوبة على عدم الدخول وبمنزلة من أمره بالمشي إلى مكان ثم قيده بقيد لا يمكنه معه نقل قدمه ثم أخذ يعاقبه على ترك المشي وإذا كان هذا قبيحا في حق المخلوق الفقير المحتاج فكيف ينسب إلى الرب تعالى مع كمال غناه وعلمه وإحسانه ورحمته قالوا وقد كذب الله سبحانه الذين قالوا قلوبنا غلف وفي أكنة وأنها قد طبع عليها وذمهم على هذا القول فكيف ينسب إليه تعالى ولكن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بهداه الذي بعث به رسله حتى صار ذلك الإعراض والنفار كالألف والطبيعة والسجية أشبه حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه وصار هذا وقرا في آذانهم وختما على قلوبهم وغشاوة على أعينهم فلا يخلص إليها الهدى وإنما أضاف الله تعالى ذلك إليه لأن هذه الصفة قد صارت في تمكنها وقوة ثباتها كالخلقة التي خلق عليها العبد قالوا ولهذا قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا

ص -86- يَكْسِبُونَ} وقال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقال: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} ولعمر الله إن الذي قاله هؤلاء حقه أكثر من باطله وصحيحه أكثر من سقيمه ولكن لم يوفوه حقه وعظموا الله من جهة وأخلوا بتعظيمه من جهة فعظموه بتنزيهه عن الظلم وخلاف الحكمة وأخلوا بتعظيمه من جهة التوحيد وكمال القدرة ونفوذ المشيئة والقرآن يدل على صحة ما قالوه في الران والطبع والختم من وجه وبطلانه من وجه وأما صحته فإنه سبحانه جعل ذلك عقوبة لهم وجزاء على كفرهم وأعراضهم عن الحق بعد أن عرفوه كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وقال: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقال: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقد اعترف بعض القدرية بأن ذلك خلق الله سبحانه ولكنه عقوبة على كفرهم وإعراضهم السابق فإنه سبحانه يعاقب على الضلال المقدور بإضلال بعده ويثيب على الهدى بهدى بعده كما يعاقب على السيئة بسيئة مثلها ويثيب على الحسنة بحسنة مثلها وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّر} ومن الفرقان الهدى الذي يفرق به بين الحق والباطل وقال في ضد ذلك:

{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} وقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} وقال: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء حق والقرآن دل عليه وهو موجب العدل والله سبحانه ماض في العبد حكمه عدل في عبده قضاؤه فإنه إذا دعى عبده إلى معرفته ومحبته وذكره وشكره فأبى العبد إلا إعراضا وكفرا قضى عليه بأن أغفل قلبه عن ذكره وصده عن الإيمان به وحال بين قلبه وبين قبول الهدى وذلك عدل منه فيه وتكون عقوبته بالختم والطبع والصد عن الإيمان كعقوبته له بذلك في الآخرة مع دخول النار كما قال: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} فحجابه عنهم إضلال لهم وصد عن رؤيته وكمال معرفته كما عاقب قلوبهم في هذه الدار بصدها عن الإيمان وكذلك عقوبته لهم بصدهم عن السجود له يوم القيامة مع الساجدين هو جزاء امتناعهم من السجود له في الدنيا وكذلك عماهم عن الهدى في الآخرة عقوبة لهم على عماهم في الدنيا ولكن أسباب هذه الجرايم في الدنيا كانت مقدورة لهم واقعة باختيارهم وإرادتهم وفعلهم فإذا وقعت عقوبات لم تكن مقدورة بل قضاء جار عليهم ماض عدل فيهم وقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ومن ههنا ينفتح للعبد باب واسع عظيم النفع جدا في قضاء الله المعصية والكفر والفسوق على العبد وأن ذلك محض عدل فيه وليس المراد بالعدل ما يقوله الجبرية أنه الممكن فكل ما يمكن فعله بالعبد فهو عندهم عدل والظلم هو الممتنع لذاته فهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب الكلام في الأسباب والحكم ولا المراد به ما تقوله القدرية النفاة أنه إنكار عموم قدرة الله ومشيئته على أفعال عباده وهدايتهم وإضلالهم وعموم مشيئته لذلك وأن الأمر إليهم لا إليه وتأمل قول النبي

صلى الله عليه وسلم: "ماض في حكمك عدل في قضاؤك" كيف ذكر العبد في القضاء مع الحكم النافذ وفي ذلك رد لقول الطائفتين القدرة والجبرية فإن العدل الذي أثبتته القدرية مناف للتوحيد معطل

ص -87- لكمال قدرة الرب وعموم مشيئته والعدل الذي أثبته الجبرية مناف للحكمة والرحمة ولحقيقة العدل والعدل الذي هو اسمه وصفته ونعته سبحانه خارج عن هذا وهذا ولم يعرفه إلا الرسل وأتباعهم ولهذا قال هود عليه الصلاة والسلام لقومه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فأخبر عن عموم قدرته ونفوذ مشيئته وتصرفه في خلقه كيف شاء ثم أخبر أنه في هذا التصرف والحكم على صراط مستقيم وقال أبو إسحاق: "أي هو سبحانه وإن كانت قدرته تنالهم بما شاء فإنه لا يشاء إلا العدل" وقال ابن الأنباري: "لما قال: {هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} كان في معنى لا يخرج من قبضته وأنه قاهر بعظيم سلطانه لكل دابة فأتبع قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}" قال: وهذا نحو كلام العرب إذا وصفوا بحسن السيرة والعدل والإنصاف قالوا فلان على طريقة حسنة وليس ثم طريق" ثم ذكر وجها آخر فقال: "لما ذكر أن سلطانه قد قهر كل دابة أتبع هذا قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي لا تخفى عليه مشيئته ولا يعدل عنه هارب فذكر الصراط المستقيم وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه كما قال: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}"، قلت فعلى هذا القول الأول يكون المراد أنه في تصرفه في ملكه يتصرف بالعدل ومجازات المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ولا يظلم مثقال ذرة ولا يعاقب أحدا بما لم يجنه ولا يهضمه ثواب ما عمله ولا يحمل عليه ذنب غيره ولا يأخذ أحدا بجريرة أحد ولا يكلف نفسا ما لا تطيقه فيكون من باب له الملك وله الحمد ومن باب ماض في حكمك عدل في

قضاؤك ومن باب الحمد لله رب العالمين أي كما أنه رب العالمين المتصرف فيهم بقدرته ومشيئته فهو المحمود على هذا التصرف وله الحمد على جميعه وعلى القول الثاني المراد به التهديد والوعيد وأن مصير العباد إليه وطريقهم عليه لا يفوته منهم أحد كما قال تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} قال الفراء: "يقول مرجعهم إلي فأجازيهم كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}" قال: "وهذا كما تقول في الكلام طريقك علي وأنا على طريقك لمن أوعدته" وكذلك قال الكلبي والكسائي ومثل قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} على إحدى القولين في الآية وقال مجاهد: "الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه" ومنها أي ومن السبيل ما هو جائر عن الحق ولو شاء لهداكم أجمعين فأخبر عن عموم مشيئته وأن طريق الحق عليه موصلة إليه فمن سلكها فإليه يصل ومن عدل عنها فإنه يضل عنه والمقصود أن هذه الآيات تتضمن عدل الرب تعالى وتوحيده والله يتصرف في خلقه بمكله وحمده وعدله وإحسانه فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وشرعه وقدره وثوابه وعقابه يقول الحق ويفعل العدل: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} فهذا العدل والتوحيد الذين دل عليهما القرآن لا يتناقضان وأما توحيد أهل القدر والجبر وعدلهم فكل منهما يبطل الآخر ويناقضه.
فصل: ومن سلك من القدرية هذه الطريق فقد توسط بين الطائفتين لكنه يلزمه الرجوع إلى مثبتي القدر قطعا وإلا تناقض أبين تناقض فإنه إذا زعم أن الضلال والطبع والختم والقفل والوقر وما يحول بين العبد وببين الإيمان مخلوق لله وهو واقع بقدرته ومشيئته فقد أعطى أن أفعال العباد مخلوقة وأنها واقعة بمشيئته فلا فرق بين الفعل الابتدائي والفعل الجزائي إن كان هذا مقدور الله واقعا بمشيئته والآخر كذلك وإن لم يكن ذاك مقدورا ولا يصح دخوله تحت المشيئة فهذا كذلك والتفريق بين النوعين تناقض محض وقد حكى هذا التفريق عن بعض القدرية أبو

القاسم الأنصاري في شرحه

ص -88- الإرشاد فقال: "ولقد اعترف بعض القدرية بأن الختم والطبع توابع غير أنها عقوبات من الله لأصحاب الجرائم" قال: "وممن صار إلى هذا المذهب عبد الواحد بن زيد البصري وبكر ابن أخته" قال: "وسبيل المعاقبين بذلك سبيل المعاقبين بالنار وهؤلاء قد بقي عليهم درجة واحدة وقد تحيزوا إلى أهل السنة والحديث".
فصل: وقالت طائفة منهم الكافر هو الذي طبع على قلب نفسه في الحقيقة وختم على قلبه والشيطان أيضا فعل ذلك ولكن لما كان الله سبحانه هو الذي أقدر العبد والشيطان على ذلك نسب الفعل إليه لإقراره للفاعل على ذلك لأنه هو الذي فعله، قال أهل السنة: والعدل هذا الكلام فيه حق وباطل فلا يقبل مطلقا ولا يرد مطلقا فقولكم أن الله سبحانه أقدر الكافر والشيطان على الطبع والختم كلام باطل فإنه لم يقدره إلا على التزيين والوسوسة والدعوة إلى الكفر ولم يقدره على خلق ذلك في قلب العبد البتة وهو أقل من ذلك وأعجز وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت داعيا ومبلغا وليس إلي من الهداية شيء وخلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلالة شيء" فمقدور الشيطان أن يدعو العبد إلى فعل الأسباب التي إذا فعلها ختم الله على قلبه وسمعه وطبع عليه كما يدعوه إلى الأسباب التي إذا فعلها عاقبه الله بالنار فعقابه بالنار كعقابه بالختم والطبع وأسباب العقاب فعله وتزيينها وتحسينها فعل الشيطان والجميع مخلوق لله، وأما ما في هذا الكلام من الحق فهو أن الله سبحانه أقدر العبد على الفعل الذي أوجب الطبع والختم على قلبه فلولا إقدار الله له على ذلك لم يفعله وهذا حق لكن القدرية لم توف هذا الموضع حقه وقالت أقدره قدرة تصلح للضدين فكان فعل أحدهما باختياره ومشيئته التي لا تدخل تحت مقدور الرب وإن دخلت قدرته الصالحة لهما تحت مقدروه سبحانه فمشيئته واختياره وفعله غير واقع تحت مقدور الرب وهذا من أبطل الباطل فإن كل ما سواه تعالى مخلوق وله

داخل تحت قدرته واقع بمشيئته ولو لم يشأ لم يكن، قلت القدرية لما أعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى التذكر وكان ذلك مقارنا لا يراد الله سبحانه حجته عليهم أضيفت أفعالهم إلى الله لأن حدوثها إنما اتفق عند إيراد الحجة عليهم، قال أهل السنة: هذا من أمحل المحال أن يضيف الرب إلى نفسه أمرا لا يضاف إليه البتة لمقارنته ما هو من فعله ومن المعلوم أن الضد يقارن الضد فالشر يقارن الخير والحق يقارن الباطل والصدق يقارن الكذب وهل يقال أن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان لمقارنتها ما يحبه من الإيمان والطاعة وأنه يحب إبليس لمقارنة وجوده لوجود الملائكة فإن قيل قد ينسب الشيء إلى الشيء لمقارنته له وإن لم يكن له فيه تأثير كقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} ومعلوم أن السورة لم تحدث لهم زيادة رجس بل قارن زيادة رجسهم نزولها فنسب إليها قيل لم ينحصر الأمر في هذين الأمرين اللذين ذكرتموهما وهما أحداث السورة الرجس والثاني مقارنته لنزولها بل ههنا أمر ثالث وهو أن السورة لما أنزلت اقتضى نزولها الإيمان بها والتصديق والإذعان لأوامرها ونواهيها والعمل بما فيها فوطن المؤمنون أنفسهم على ذلك فازدادوا إيمانا بسببها فنسبت زيادة الإيمان إليها إذ هي السبب في زيادته وكذب بها الكافرون وجحدوها وكذبوا من جاء بها ووطنوا أنفسهم على مخالفة ما تضمنته وإنكاره فازدادوا بذلك رجسا فنسب إليها إذ كان نزولها ووصولها إليهم هو السبب في تلك

ص -89- الزيادة فأين هذا من نسبة الأفعال القبيحة عندكم التي لا تجوز نسبتها إلى الله عند دعوتهم إلى الإيمان وتدبر آياته على أن أفعالهم القبيحة لا تنسب إلى الله سبحانه وإنما هي منسوبة إليهم والمنسوب إليه سبحانه أفعاله الحسنة الجميلة المتضمنة للغايات المحمودة والحكم المطلوبة والختم والطبع والقفل والإضلال أفعال حسنة من الله وضعها في أليق المواضع بها إذ لا يليق بذلك المحل الخبيث غيرها والشرك والكفر والمعاصي والظلم أفعالهم القبيحة التي لا تنسب إلى الله فعلا وإن نسبت إليه خلقا فخلقها غيرها والخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول والقضاء غير المقضي والقدر غير المقدور وستمر بك هذه المسألة مستوفاة إن شاء الله في باب اجتماع الرضاء بالقضاء وسخط الكفر والفسوق والعصيان إن شاء الله، قالت القدرية: لما بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء ولم تقتض حكمته تعالى أن يقسرهم على الإيمان لئلا تزول حكمة التكليف عبر عن ترك الإلجاء والقسر بالختم والطبع إعلاما لهم بأنهم انتهوا في الكفر والإعراض إلى حيث لا ينتهون عنه إلا بالقسر وتلك الغاية في وصف لجاجهم وتماديهم في الكفر، قال أهل السنة: هذا كلام باطل فإنه سبحانه قادر على أن يخلق فيهم مشيئة الإيمان وإرادته ومحبته فيؤمنون بغير قسر ولا إلجاء بل إيمان اختيار وطاعة كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا} وإيمان القسر والإلجاء لا يسمى إيمانا ولهذا يؤمن الناس كلهم يوم القيامة ولا يسمى ذلك إيمانا لأنه عن إلجاء واضطرار قال تعال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} وما يحصل للنفوس من المعرفة والتصديق بطريق الإلجاء والاضطرار والقسر لا يسمى هدى وكذلك قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} فقولكم لم يبق طريق إلى

الإيمان إلا بالقسر باطل فإنه بقي إلى إيمانهم طريق لم يرهم الله إياه وهو مشيئته وتوفيقه وإلهامه وإمالة قلوبهم إلى الهدى وإقامتها على الصراط المستقيم وذلك أمر لا يعجز عنه رب كل شيء ومليكه بل هو القادر عليه كقدرته على خلقه ذواتهم وصفاتهم ودرائهم ولكن منعهم ذلك لحكمته وعدله فيهم وعدم استحقاقهم وأهليتهم لبذل ذلك لهم كما منع السفل خصائص العلو ومنع الحار خصائص البارد ومنع الخبيث خصائص الطيب ولا يقال فلم فعل هذا فإن ذلك من لوازم ملكه وربوبيته ومن مقتضيات أسمائه وصفاته وهل يليق بحكمته أن يسوي بين الطيب والخبيث والحسن والقبيح والجيد والرديء ومن لوازم الربوبية خلق الزوجين وتنويع المخلوقات وأخلاقها، فقول القائل لم خلق الرديء والخبيث واللئيم سؤال جاهل بأسمائه وصفاته وملكه وربوبيته وهو سبحانه فرق بين خلقه أعظم تفريق وذلك من كمال قدرته وربوبيته فجعل منه ما يقبل جميع الكمال الممكن ومنه ما لا يقبل شيئا منه وبين ذلك درجات متفاوتة لا يحصيها إلا الخلاق العليم وهدى كل نفس إلى حصول ما هي قابلة له والقابل والمقبول والقبول كله مفعوله ومخلوقه وأثر فعله وخلقه وهذا هو الذي ذهب عن الجبرية والقدرية ولم يهتدوا إليه وبالله التوفيق، قالت القدرية: الختم والطبع هو شهادته سبحانه عليهم بأنهم لا يؤمنون وعلى أسماعهم وعلى قلوبهم، قال أهل السنة: هذا هو قولكم بأن الختم والطبع هو الإخبار عنهم بذلك وقد تقدم فساد هذا بما فيه كفاية وأنه لا يقال في لغة من لغات الأمم لمن أخبر عن غيره بأنه مطبوع على قلبه وأن عليه ختما أنه قد طبع على قلبه وختم عليه بل هذا كذب على اللغات وعلى القرآن وكذلك قول من قال أن ختمه على قلوبهم اطلاعه على ما فيها من الكفر وكذلك قول من قال أنه إحصاؤه

ص -90- عليهم حتى يجازيهم به وقول من قال أنه أعلامها بعلامة تعرفها بها الملائكة وقد بينا بطلان ذلك بما فيه كفاية، قالت القدرية: لا يلزم من الطبع والختم والقفل أن تكون مانعة من الإيمان بل يجوز أن يجعل الله فيهم ذلك من غير أن يكون منعهم من الإيمان بل يكون ذلك من جنس الغفلة والبلادة والغشا في البصر فيورث ذلك إعراضا عن الحق وتعاميا عنه ولو أنعم النظر وتفكر وتدبر لما آثر على الإيمان غيره وهذا الذي قالوه يجوز أن يكون في أول الأمر فإذا تمكن واستحكم من القلب ورسخ فيه امتنع معه الإيمان ومع هذا فهو أثر فعله وإعراضه وغفلته وإيثاره وشهوته وكبره على الحق والهدى فلما تمكن فيه واستحكم صار صفة راسخة وطبعا وختما وقفلا ورانا فكان مبداه غير حائل بينهم وبين الإيمان والإيمان ممكن معه لو شاؤا لآمنوا مع مبادئ تلك الموانع فلما استحكمت لم يبق إلى الإيمان سبيل ونظير هذا أن العبد يستحسن ما يهواه فيميل إليه بعض الميل ففي هذه الحال يمكن صرف الداعية له إذ الأسباب لم تستحكم فإذا استمر على ميله واستدعى أسبابه واستمكنت لم يمكنه صرف قلبه عن الهوى والمحبة فيطبع على قلبه ويختم عليه فلا يبقى فيه محل لغير ما يهواه ويحبه وكان الانصراف مقدورا له في أول الأمر فلما تمكنت أسبابه لم يبق مقدورا له كما قال الشاعر:
تولع بالعشق حتى عشق فلما استقل به لم يطق
رأى لجة ظنها موجة فلما تمكن منها غرق

فلو أنهم بادروا في مبدأ الأمر إلى مخالفة الأسباب الصادة عن الهدى لسهل عليهم ولما استعصى عليهم ولقدروا عليه ونظير ذلك المبادرة إلى إزالة العلة قبل استحكام أسبابها ولزومها للبدن لزوما لا ينفك منها فإذا استحكمت العلة وصارت كالجزء من البدن عز على الطبيب استنقاذ العليل منها ونظير ذلك المتوحل في حمأة فإنه ما لم يدخل تحتها فهو قادر على التخلص فإذا توسط معظمها عز عليه وعلى غيره إنقاذه فمبادئ الأمور مقدورة للعبد فإذا استحكمت أسبابها وتمكنت لم يبق الأمر مقدور له فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه من أنفع الأشياء في باب القدر والله الموفق للصواب والله سبحانه جاعل ذلك كله وخالقه فيهم بأسباب منهم وتلك الأسباب قد تكون أمورا عدمية يكفي فيها عدم مشيئة أضدادها فلا يشاء سبحانه أن يخلق للعبد أسباب الهدى فيبقى على العدم الأصلي وإن أراد من عبده الهداية فهي لا تحصل حتى يريد من نفسه إعانته وتوفيقه فإذا لم يرد سبحانه من نفسه ذلك لم تحصل الهداية.
فصل: ومما ينبغي أن يعلم أنه لا يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول الإيمان بأن يفك الذي ختم على القلب وطبع عليه وضرب عليه القفل ذلك الختم والطابع والقفل ويهديه بعد ضلاله ويعلمه بعد جهله ويرشده بعد غيه ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر لم يمتنع أن يمحوها ويكتب عليه السعادة والإيمان وقرأ قارئ عند عمر بن الخطاب: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وعنده شاب فقال اللهم عليها أقفالها ومفاتيحها بيدك لا يفتحها سواك فعرفها له عمر وزادته عنده خيرا وكان عمر يقول في دعائه: "اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت" فالرب تعالى فعال لما يريد لا حجر عليه وقد ضل ههنا فريقان القدرية حيث زعمت أن ذلك ليس مقدورا للرب ولا يدخل تحت فعله إذ لو كان مقدورا له ومنعه العبد لناقض

جوده ولطفه والجبرية حيث زعمت أنه سبحانه إذا قدر قدرا أو علم

ص -91- شيئا فإنه لا يغيره بعد هذا ولا يتصرف فيه بخلاف ما قدره وعلمه والطائفتان حجرت على من لا يدخل تحت حجر أحد أصلا وجميع خلقه تحت حجره شرعا وقدرا وهذه المسألة من أكبر مسائل القدر وسيمر بك إن شاء الله في باب المحو والإثبات ما يشفيك فيها والمقصود انه مع الطبع والختم والقفل لو تعرض العبد أمكنه فك ذلك الختم والطابع وفتح ذلك القفل يفتحه من بيده مفاتيح كل شيء وأسباب الفتح مقدورة للعبد غير ممتنعة عليه وإن كان فك الختم وفتح القفل غير مقدور له كما أن شرب الدواء مقدور له وزوال العلة وحصول العافية غير مقدور فإذا استحكم به المرض وصار صفة لازمة له لم يكن له عذر في تعاطي ما إليه من أسباب الشفاء وإن كان غير مقدور له ولكن لما ألف العلة وساكنها ولم يحب زوالها ولا آثر ضدها عليها مع معرفته بما بينها وبين ضدها من التفاوت فقد سد على نفسه باب الشفاء بالكلية والله سبحانه يهدي عبده إذا كان ضالا وهو يحسب أنه على هدى فإذا تبين له الهدى لم يعدل عنه لمحبته وملاءمته لنفسه فإذا عرف الهدى فلم يحبه ولم يرض به وآثر عليه الضلال مع تكرار تعريفه منفعة هذا وخيره ومضرة هذا وشره فقد سد على نفسه باب الهدى بالكلية فلو أنه في هذه الحال تعرض وافتقر إلى من بيده هداه وعلم أنه ليس إليه هدى نفسه وأنه إن لم يهده الله فهو ضال وسأل الله أن يقبل بقلبه وأن يقيه شر نفسه وفقه وهداه بل لو علم الله منه كراهية لما هو عليه من الضلال وأنه مرض قاتل إن لم يشفه منه أهلكه لكانت كراهته وبغضه إياه مع كونه مبتلى به من أسباب الشفاء والهداية ولكن من أعظم أسباب الشقاء والضلال محبته له ورضاه به وكراهته الهدى والحق فلو أن المطبوع على قلبه المختوم عليه كره ذلك ورغب إلى الله في فك ذلك عنه وفعل مقدوره لكان هداه أقرب شيء إليه ولكن إذا استحكم الطبع والختم حال بينه وبين كراهة

ذلك وسؤال الرب فكه وفتح قلبه.
فصل: فإن قيل فإذا جوزتم أن يكون الطبع والختم والقفل عقوبة وجزاء على الجرايم والإعراض والكفر السابق على فعل الجرائم، قيل هذا موضع يغلط فيه أكثر الناس ويظنون بالله سبحانه خلاف موجب أسمائه وصفاته والقرآن من أوله إلى آخره إنما يدل على أن الطبع والختم والغشاوة لم يفعلها الرب سبحانه بعبده من أول وهلة حين أمره بالإيمان أو بينه له وإنما فعله بعد تكرار الدعوة منه سبحانه والتأكيد في البيان والإرشاد وتكرار الإعراض منهم والمبالغة في الكفر والعناد فحينئذ يطبع على قلوبهم ويختم عليها فلا تقبل الهدى بعد ذلك والإعراض والكفر الأول لم يكن مع ختم وطبع بل كان اختيارا فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية فتأمل هذا المعنى في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ومعلوم أن هذا ليس حكما يعم جميع الكفار بل الذين آمنوا وصدقوا الرسل كان أكثرهم كفارا قبل ذلك ولم يختم على قلوبهم وعلى أسماعهم فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار فعل الله بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير وبعضهم بالطمس على أعينهم فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب كما يعاقب بالطمس على الأعين وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة وقد يعاقب به إلى وقت ثم يعافي عبده ويهديه كما يعاقب بالعذاب كذلك.

ص -92- فصل: وههنا عدة أمور عاقب بها الكفار بمنعهم عن الإيمان وهي: الختم والطبع والأكنة والغطاء والغلاف والحجاب والوقر والغشاوة والران والغل والسد والقفل والصمم والبكم والعمى والصد والصرف والشد على القلب والضلال والإغفال والمرض وتقليب الأفئدة والحول بين المرء وقلبه وإزاغة القلوب والخذلان والإركاس والتثبيط والتزيين وعدم إرادة هداهم وتطهيرهم وإماتة قلوبهم بعد خلق الحياة فيها فتبقى على الموت الأصلي وإمساك النور عنها فتبقى في الظلمة الأصلية وجعل القلب قاسيا لا ينطبع فيه مثال الهدى وصورته وجعل الصدر ضيفا حرجا لا يقبل الإيمان وهذه الأمور منها ما يرجع إلى القلب كالختم والطبع والقفل والأكنة والإغفال والمرض ونحوها ومنها ما يرجع إلى رسوله الموصل إليه الهدى كالصمم والوقر ومنها ما يرجع إلى طليعته ورائده كالعمى والغشا ومنها ما يرجع إلى ترجمانه ورسوله المبلغ عنه كالبكم النطقي وهو نتيجة البكم القلبي فإذا بكم القلب بكم اللسان ولا تصغ إلى قول من يقول أن هذه مجازات واستعارات فإنه قال بحسب مبلغه من العلم والفهم عن الله ورسوله وكان هذا القائل حقيقة الفعل عنده أن يكون من حديد والختم أن يكون بشمع أو طين والمرض أن يكون حمى بنافض أو قولنج أو غيرهما من أمراض البدن والموت هو مفارقة الروح للبدن ليس إلا والعمى ذهاب ضوء العين الذي تبصر به وهذه الفرقة من أغلظ الناس حجابا فإن هذه الأمور إذا أضيفت إلى محلها كانت بحسب تلك المحال فنسبة قفل القلب إلى القلب كنسبة قفل الباب إليه وكذلك الختم والطابع الذي عليه هو بالنسبة إليه كالختم والطابع الذي على الباب والصندوق ونحوهما وكذلك نسبة الصمم والعمى إلى الأذن والعين وكذلك موته وحياته نظير موت البدن وحياته بل هذه الأمور ألزم للقلب منها للبدن فلو قيل أنها حقيقة في ذلك مجاز في الأجسام المحسوسة لكان مثل قول هؤلاء وأقوى منه وكلاهما باطل فالعمى في الحقيقة والبكم

والموت والقفل للقلب ثم قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور والمعنى أنه معظم العمى وأصله وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة" وقوله: "إنما الماء من الماء" وقوله: "ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس" وقوله: "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان إنما المسكين الذي لا يجد ما يعنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه" وقوله: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" ولم يرد نفي الاسم عن هذه المسميات إنما أراد أن هؤلاء أولى بهذه الأسماء وأحق ممن يسمونه بها فهكذا قوله لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقريب من هذا قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية وعلى التقديرين فقد أثبت للقلب عمى حقيقة وهكذا جميع ما نسب إليه ولما كان القلب ملك الأعضاء وهي جنوده وهو الذي يحركها ويستعملها والإرادة والقوى والحركة الاختيارية تنبعث كانت هذه الأمثال أصلا وللأعضاء تبعا فلنذكر هذه الأمور مفصلة ومواقعها في القرآن فقد تقدم الختم قال الأزهري: "وأصله التغطية وختم البذر في الأرض إذ غطاه" قال أبو إسحاق: "معنى ختم وطبع في اللغة واحد وهو التغطية على الشيء والاستيثاق منه فلا يدخله شيء كما قال تعالى: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وكذلك قوله: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}" قلت الختم والطبع يشتركان فيما ذكر ويفترقان في معنى آخر وهو أن الطبع ختم يصير سجية وطبيعة فهو تأثير لازم لا

ص -93- يفارق وأما الأكنة ففي قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} وهي جمع كنان كعنان وأعنة وأصله من الستر والتغطية ويقال كنه وأكنه وكنان بمعنى واحد بل بينهما فرق فأكنة إذا ستره وأخفاه كقوله تعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} وكنه إذا صانه وحفظه كقوله: {بَيْضٌ مَكْنُونٌ} ويشتركان في الستر والكنان ماأكن الشيء وستره وهو كالغلاف وقد أقروا على أنفسهم بذلك فقالوا: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَاب} فذكروا غطاء القلب وهي الأكنة وغطاء الأذن وهو الوقر وغطاء العين وهو الحجاب والمعنى لا نفقه كلامك ولا نسمعه ولا نراك والمعنى إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول ولا يراك قال ابن عباس: "قلوبنا في أكنة مثل الكنانة التي فيها السهام" وقال مجاهد: "كجعبة النبل" وقال مقاتل: "عليها غطاء فلا نفقه ما تقول.
فصل: وأما الغطاء فقال تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} وهذا يتضمن معنيين أحدهما: أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات الله وأدلة توحيده وعجائب قدرته والثاني: أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن وتدبره والاهتداء به وهذا الغطاء للقلب أولا ثم يسري منه إلى العين.
فصل: وأما الغلاف فقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِم} وقد اختلف في معنى قولهم قلوبنا غلف فقالت طائفة المعنى قلوبنا أوعية للحكمة والعلم فما بالها لا تفهم عنك ما أتيت به أو لا تحتاج إليك وعلى هذا فيكون غلف جمع غلاف والصحيح قول أكثر المفسرين أن المعنى قلوبنا لا تفقه ولا تفهم ما تقول وعلى هذا فهو جمع أغلف كأحمر وحمر وقال أبو عبيدة: "كل

شيء في غلاف فهو أغلف كما يقال سيف أغلف وقوس أغلف ورجل أغلف غير مختون" قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: "على قلوبنا غشاوة فهي في أوعية فلا تعي ولا تفقه ما تقول" وهذا هو الصواب في معنى الآية لتكرر نظائره في القرآن كقولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} وقوله تعالى: {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} ونظائر ذلك وأما قول من قال هي أوعية للحكمة فليس في اللفظ ما يدل عليه البتة وليس له في القرآن نظير يحمل عليه ولا يقال مثل هذا اللفظ في مدح الإنسان نفسه بالعلم والحكمة فأين وجدتم في الاستعمال قول القائل قلبي غلاف وقلوب المؤمنين العالمين غلف أي أوعية للعلم والغلاف قد يكون وعاء للجيد والرديء فلا يلزم من كون القلب غلافا أن يكون داخله العلم والحكمة وهذا ظاهر جدا فإن قيل فالإضراب ببل على هذا القول الذي قويتموه ما معناه وأما على القول الآخر فظاهر أي ليست قلوبكم محلا للعلم والحكمة بل مطبوع عليها قيل وجه الإضراب في غاية الظهور وهو أنهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به الرسول ومعرفته بل جعل قلوبهم داخلة في غلف فلا تفقهه فكيف تقوم به عليهم الحجة وكأنهم ادعوا أن قلوبهم خلقت في غلف فهم معذورون في عدم الإيمان فأكذبهم الله وقال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وفي الآية الأخرى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} فاخبر سبحانه أن الطبع والإبعاد عن توفيقه وفضله إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم وآثروه على الإيمان فعاقبهم عليه بالطبع واللعنة والمعنى لم نخلق قلوبهم غلفا لا تعي ولا تفقه ثم نأمرهم بالإيمان وهم لا يفهمونه ولا يفقهونه بل اكتسبوا أعمالا عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب والختم عليها.
فصل: وأما الحجاب ففي قوله تعالى حكاية عنهم: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} وقوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ

ص -94- الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} على أصح القولين والمعنى جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجابا يحول بينهم وبين فهمه وتدبره والإيمان به ويبينه قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} فأخبر سبحانه أن ذلك جعله فالحجاب يمنع رؤية الحق والأكنة تمنع من فهمه والوقر يمنع من سماعه وقال الكلبي: "الحجاب ههنا مانع يمنعهم من الوصول إلى رسول الله بالأذى من الرعب ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه" ووصفه بكونه مستورا فقيل بمعنى ساتر وقيل على النسب أي ذو ستر والصحيح أنه على بابه أي مستورا عن الأبصار فلا يرى ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت والنسب في مفعول لم يشتق من فعله كمكان مهول أي ذي هول ورجل مرطوب أي ذي رطوبة فأما مفعول فهو جار على فعله فهو الذي وقع عليه الفعل كمضروب ومجروح ومستور.
فصل: وأما الران فقد قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قال أبو عبيدة: "غلب عليها" والخمر ترين على عقل السكران والموت يرون على الميت فيذهب به ومن هذا حديث اسيفع جهينة وقول عمر: "فأصبح قدرين به أي غلب عليه وأحاط به الرين" وقال أبو معاذ النحوي: "الرين أن يسود القلب من الذنوب والطبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرين والإقفال أشد من الطبع وهو أن يقفل على القلب" وقال الفراء: "كثرت الذنوب والمعاصي منهم فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها" وقال أبو إسحاق: "ران غطى يقال ران على قلبه الذنب يرين رينا أي غشيه" قال: "والرين كالغشاء يغشى القلب ومثله الغين" قلت: أخطأ أبو إسحاق فالغين ألطف شيء وأرقه

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" وأما الرين والران فهو من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها وقال مجاهد: "هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه فيموت القلب" وقال مقاتل: "غمرت القلوب أعمالهم الخبيثة" وفي سنن النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}" قال الترمذي هذا حديث صحيح وقال عبد الله بن مسعود: "كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله فأخبر" سبحانه أن ذنوبهم التي اكتسبوها أوجبت لهم رينا على قلوبهم فكان سبب الران منهم وهو خلق الله فيهم فهو خالق السبب ومسببه لكن السبب باختيار العبد والمسبب خارج عن قدرته واختياره.
فصل: وأما الغل فقال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} قال الفراء: "حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله" وقال أبو عبيدة: "منعناهم عن الإيمان بموانع" ولما كان الغل مانعا للمغلول من التصرف والتقلب كان الغل الذي على القلب مانعا من الإيمان فإن قيل فالغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب فكيف ذكر الغل الذي في العنق قيل لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكر محله والمراد به القلب كقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ

ص -95- طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} ومن هذا قولهم إثمي في عنقك وهذا في عنقك ومن هذا قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} شبه الإمساك عن الإنفاق باليد إذا غلت إلى العنق ومن هذا قال الفراء: "إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا حبسناهم عن الإنفاق" قال أبو إسحاق: "وإنما يقال للشيء اللازم هذا في عنق فلان أي لزومه كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق" قال أبو علي: "هذا مثل قولهم طوقتك كذا وقلدتك كذا ومنه قلده السلطان كذا أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق" قلت ومن هذا قولهم قلدت فلانا حكم كذا وكذا كأنك جعلته طوقا في عنقه وقد سمى الله التكاليف الشاقة أغلالا في قوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم} فشبهها بالأغلال لشدتها وصعوبتها قال الحسن: "هي الشدائد التي كانت في العبادة كقطع أثر البول وقتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وتتبع العروق من اللحم" وقال ابن قتيبة: "هي تحريم الله سبحانه عليهم كثيرا مما أطلقه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعلها أغلالا لأن التحريم يمنع كما يقبض الغل اليد" وقوله: {فَهِيَ إِلَى الأَذْقَان} قالت طائفة: "الضمير يعود إلى الأيدي وإن لم تذكر لدلالة السياق عليها قالوا لأن الغل يكون في العنق فتجمع إليه اليد ولذلك سمي جامعة وعلى هذا فالمعنى فأيديهم أو فأيمانهم مضمومة إلى أذقانهم" هذا قول الفراء والزجاج وقالت طائفة: "الضمير يرجع إلى الأغلال" وهذا هو الظاهر وقوله: {فَهِيَ إِلَى الأَذْقَان} أي واصلة وملزوزة إليها فهو غل عريض قد أحاط بالعنق حتى وصل إلى الذقن وقوله فهم مقمحون قال الفراء والزجاج المقمح هو الغاض بصره بعد رفع رأسه ومعنى الإقماح في اللغة رفع الرأس وغض البصر يقال أقمح البعير رأسه وقمح وقال الأصمعي: "بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب" قال الأزهري: "لما غلت أيديهم إلى

أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل الرافعة رؤوسها" انتهى فإن قيل فما وجه التشبيه بين هذا وبين حبس القلب عن الهدى والإيمان قيل أحسن وجه وأبينه فإن الغل إذا كان في العنق واليد مجموعة إليها منع اليد عن التصرف والبطش فإذا كان عريضا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن منع الرأس من تصويبه وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبه لا يستطيع له حركة ثم أكد هذا المعنى والحبس بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} قال ابن عباس: "منعهم من الهدى لما سبق في علمه والسد الذي جعل من بين أيديهم ومن خلفهم هو الذي سد عليهم طريق الهدى فأخبر سبحانه عن الموانع التي منعهم بها من الإيمان عقوبة لهم ومثلها بأحسن تمثيل وأبلغه وذلك حال قوم قد وضعت الأغلال العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم وضمت أيديهم إليها وجعلوا بين السدين لا يستطيعون النفوذ من بينهما وأغشيت أبصارهم فهم لا يرون شيئا وإذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق وتبين له ثم جحده وكفر به وعاداه أعظم معاداة وجدت هذا المثل مطابقا له أتم مطابقة وأنه قد حيل بينه وبين الإيمان كما حيل بين هذا وبين التصرف والله المستعان.
فصل: وأما القفل فقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} قال ابن عباس: "يريد على قلوب هؤلاء أقفال" وقال مقاتل: "يعني الطبع على القلب" وكأن القلب بمنزلة الباب المرتج الذي قد ضرب عليه قفل فإنه ما لم يفتح القفل لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراءه وكذلك ما لم يرفع الختم والقفل عن القلب لم يدخل الإيمان والقرآن وتأمل تنكير القلب وتعريف الأقفال فإن تنكير القلوب يتضمن

ص -96- إرادة قلوب هؤلاء وقلوب من هم بهذه الصفة ولو قال أم على القلوب أقفالها لم تدخل قلوب غيرهم في الجملة وفي قوله أقفالها بالتعريف نوع تأكيد فإنه لو قال أقفال لذهب الوهم إلى ما يعرف بهذا الاسم فلما أضافها إلى القلوب علم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة القفل للباب فكأنه أراد أقفالها المختصة بها التي لا تكون لغيرها والله أعلم.
فصل: وأما الصمم والوقر ففي قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} وقوله: {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قال ابن عباس: "في آذانهم صمم عن استماع القرآن وهو عليهم عمى أعمى الله قلوبهم فلا يفقهون أولئك ينادون من مكان بعبد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء" وقال مجاهد: "بعيد من قلوبهم" وقال الفراء: "تقول للرجل الذي لا يفهم كذلك أنت تنادي من مكان بعيد قال: وجاء في التفسير كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون" انتهى والمعنى أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعى من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم.
فصل: وأما البكم فقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} والبكم جمع أبكم وهو الذي لا ينطق والبكم نوعان بكم القلب وبكم اللسان كما أن النطق نطقان نطق القلب ونطق اللسان وأشدهما بكم القلب كما أن عماه وصممه أشد من عمى العين وصمم الأذن فوصفهم سبحانه بأنهم لا يفقهون الحق ولا تنطق به ألسنتهم والعلم يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب من سمعه وبصره وقلبه وقد عليهم سدت

هذه الأبواب الثلاثة فسد السمع بالصمم والبصر بالعمى أو القلب بالبكم ونظيره قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} وقد جمع سبحانه بين الثلاثة في قوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ} فإذا أراد سبحانه هداية عبد فتح قلبه وسمعه وبصره وإذا أراد ضلاله أصمه وأعماه وأبكمه وبالله التوفيق.
فصل: وأما الغشاوة فهو غطاء العين كما قال تعالى: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} وهذا الغطاء سري إليها من غطاء القلب فإن ما في القلب يظهر على العين من الخير والشر فالعين مرآة القلب تظهر ما فيه وأنت إذا أبغضت رجلا بغضا شديدا أو أبغضت كلامه ومجالسته تجد على عينك غشاوة عند رؤيته ومخالطته فتلك أثر البغض والإعراض عنه وغلظت على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول وجعل الغشاوة عليها يشعر بالإحاطة على ما تحته كالعمامة ولما عشوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك العشاء غشاوة على أعينهم فلا تبصر مواقع الهدى.
فصل: وأما الصد فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} قرأ أهل الكوفة على البناء للمفعول حملا على زين وقرأ الباقون وصد بفتح الصاد ويحتمل وجهين أحدهما: أعرض فيكون لازما والثاني: يكون صد غيره فيكون متعديا والقراءتان كالآيتين لا يتناقضان وأما الشد على القلب ففي قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ

ص -97- سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} فهذا الشد على القلب هو الصد والمنع ولهذا قال ابن عباس: "يريدا منعها" والمعنى قسها وأطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان وهذا مطابق لما في التوراة أن الله سبحانه قال لموسى اذهب إلى فرعون فإني سأقسي قلبه فلا يؤمن حتى تظهر آياتي وعجائبي بمصر وهذا الشد والتقسية من كمال عدل الرب سبحانه في أعدائه جعله عقوبة لهم على كفرهم وإعراضهم كعقوبته لهم بالمصائب ولهذا كان محمودا عليه فهو حسن منه وأقبح شيء منهم فإنه عدل منه وحكمة وهو ظلم منهم وسفه فالقضاء والقدر فعل عادل حكيم غني عليم يضع الخير والشر في أليق المواضع بهما والمقضي المقدر يكون ظلما وجورا وسفها وهو فعل جاهل ظالم سفيه.
فصل: وأما الصرف فقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} فأخبر سبحانه عن فعلهم وهو الانصراف وعن فعله فيهم وهو صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره لأنهم ليسوا أهلا له فالمحل غير صالح ولا قابل فإن صلاحية المحل بشيئين حسن فهم وحسن قصد وهؤلاء قلوبهم لا تفقه وقصودهم سيئة وقد صرح سبحانه بهذا في قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم هذا السماع الخاص وهو الكبر والتولي

والإعراض فالأول مانع من الفهم والثاني مانع من الانقياد والإذعان فأفهام سيئة وقصود ردية وهذه نسخة الضلال وعلم الشقاء كما أن نسخة الهدى وعلم السعادة فهم صحيح وقصد صالح والله المستعان وتأمل قوله سبحانه: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} كيف جعل هذه الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو إعادة عقوبة لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول فلم ينلهم الإقبال والإذعان فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه فلا يمكنه من الإقبال عليه ولتكن قصة إبليس منك على ذكر تنتفع بها أتم انتفاع فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك عاقبه بأن جعله داعيا إلى كل معصية فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية وفروعها صغيرها وكبيرها وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق فمن عقاب السيئة السيئة بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها فإن قيل فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض عنه وقد قال تعالى: {أَنَّى يُصْرَفُونَ} و: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} وقال: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين فكيف ينفي ذلك عليهم قيل هم دائرون بين عدله وحجته عليهم فمكنهم وفتح لهم الباب ونهج لهم الطريق وهيأ لهم الأسباب فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ودعاهم على السنة رسله وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر والنافع والضار وأسباب

ص -98- الردي وأسباب الفلاح وجعل لهم أسماعا وأبصارا فآثروا الهوى على التقوى واستحبوا العمى على الهدى وقالوا معصيتك آثر عندنا من طاعتك والشرك أحب إلينا من توحيدك وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم وانصرفت عن طاعته ومحبته فهذا عدله فيهم وتلك حجته عليهم فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختيارا فسده عليهم اضطرارا فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم وولاهم ما تولوه ومكنهم فيما ارتضوه وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه وهم معرضون فلا أقبح من فعلهم ولا أحسن من فعله ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة ولأنشأهم على غير هذه النشأة ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل والنور والظلمة والنافع والضار والطيب والخبيث والملائكة والشياطين والشاء والذياب ومعطيها آلاتها وصفاتها وقواها وأفعالها ومستعملها فيما خلقت له فبعضها بطباعها وبعضها بإرادتها ومشيئتها وكل ذلك جار على وفق حكمته وهو موجب حمده ومقتضى كماله المقدس وملكه التام ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما إن هو إلا كنقرة عصفور من البحر.
فصل: وأما الإغفال فقال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} سئل أبو العباس ثعلب عن قوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} فقال: جعلناه غافلا قال: ويكون في الكلام أغفلته سميته غافلا ووجدته غافلا" قلت: الغفل الشيء الفارغ والأرض الغفل التي لا علامة بها والكتاب الغفل الذي لا شكل عليه فأغفلناه تركناه غفلا عن الذكر فارغا منه فهو إبقاء له على العدم الأصلي لأنه سبحانه لم يشأ له الذكر فبقي غافلا فالغفلة وصفه والإغفال فعل الله فيه بمشيئته وعدم مشيئته لتذكره فكل منهما مقتض لغفلته فإذا لم يشأ له التذكر لم يتذكر وإذا شاء غفلته امتنع منه الذكر فإن قيل

فهل تضاف الغفلة والكفر والإعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الرب أضدادها أم إلى مشيئته لوقوعها قيل القرآن قد نطق بهذا وبهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} وقال: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً}: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} فإن قيل فكيف يكون عدم السبب المقتضى موجبا للأثر إن كان وجوديا فلا بد له من مؤثر وجودي وأما العدم فيكفي فيه عدم سببه وموجبه فيبقى على العدم الأصلي فإذا أضيف إليه كان من باب إضافة الشيء إلى دليله فعدم السبب دليل على عدم المسبب وإذا سمي موجبا ومقتضيا بهذا الاعتبار فلا مشاحة في ذلك وأما أن يكون العدم أثرا ومؤثرا فلا وهذا الإغفال ترتب عليه اتّباع هواه وتفريطه في أمره قال مجاهد: "كان أمره فرطا أي ضياعا" وقال قتادة: "أضاع أكبر الضيعة" وقال السدي: "هلاكا" وقال أبو الهيثم: "أمر فرط أي متهاون به مضيع والتفريط تقديم العجز" قال أبو إسحاق: "من قدم العجز في أمر أضاعه وأهلكه" قال الليث: "الفرط الأمر الذي يفرط فيه يقول كل أمر فلان فرط" قال الفراء: "فرطا متروكا يفرط فيما لا ينبغي التفريط فيه واتبع مالا ينبغي اتّباعه وغفل عما لا يحسن الغفلة عنه".
فصل: وأما المرض فقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} وقال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} وقال: {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} ومرض القلب خروج عن صحته واعتداله فإن صحته أن يكون عارفا بالحق محبا له مؤثرا له على غيره فمرضه إما بالشك فيه وإما بإيثار غيره عليه فمرض

ص -99- المنافقين مرض شك وريب ومرض العصاة مرض غي وشهوة وقد سمى الله سبحانه كلا منهما مرضا قال ابن الأنباري: "أصل المرض في اللغة الفساد" مرض فلان فسد جسمه وتغيرت حاله ومرضت بالمرض تغيرت وفسدت قالت ليلى الأخيلية:
إذا هبط الحجاج أرضا مريضة تبع أقصى دائها فشفاها
وقال آخر:
ألم تر أن الأرض أضحت مريضة فقد الحسين والبلاد اقشعرت
والمرض يدور على أربعة أشياء فساد وضعف ونقصان وظلمة ومنه مرض الرجل في الأمر إذا ضعف فيه ولم يبالغ وعين مريضة النظر أي فاترة ضعيفة وريح مريضة إذا هب هبوبها كما قال:
راحت لأربعك الرياح مريضة
أي لينة ضعيفة حتى لا يعفى أثرها وقال ابن الأعرابي: "أصل المرض النقصان ومنه بدن مريض أي ناقص القوة وقلب مريض ناقص الدين ومرض في حاجتي إذا نقصت حركته وقال الأزهري عن المنذري عن بعض أصحابه: "المرض أظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها" قال والمرض الظلمة وأنشد:
وليلة مرضت من كل ناحية فما يضيء لها شمس ولا قمر

هذا أصله في اللغة ثم الشك والجهل والحيرة والضلال وإرادة الغي وشهوة الفجور في القلب تعود إلى هذه الأمور الأربعة فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض فيعاقبه الله بزيادة المرض لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها.
فصل: وأما تقليب الأفئدة فقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وهذا عطف على أنها إذا جاءت لا يؤمنون أي نحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون واختلف في قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فقال كثير من المفسرين المعنى نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة قال ابن عباس: "في رواية عطاء عنه ونقلب أفئدتهم وأبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي قال وهذا كقوله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" وقال آخرون: المعنى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم وهذا معنى حسن فإن كاف التشبيه تتضمن نوعا من التلعيل كقوله: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وقوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم} والذي حسن اجتماع التعليل والتشبيه الإعلام بأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر والتقليب تحويل الشيء من وجه إلى وجه وكان الواجب من مقتضى إنزال الآية ووصولهم إليها كما سألوا أن يؤمنوا إذا جاءتهم لأنهم رأوها عيانا وعرفوا أدلتها وتحققوا صدقها فإذا لم يؤمنوا كان تقليبا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

"إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك" وروى الترمذي من حديث أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلب

ص -100- القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال: نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء" قال هذا حديث حسن وروى حماد عن أيوب وهشام ويعلي بن زياد عن الحسن قال: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: "دعوة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو بها يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله دعوة كثيرا ما تدعو بها قال إنه ليس من عبد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فإذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه" وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} قال ابن عباس: "أخذلهم وأدعهم في ضلالهم يتمادون".
فصل: وأما إزاغة القلوب فقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} وقال عن عباده المؤمنين أنهم سألوه ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وأصل الزيغ الميل ومنه زاغت الشمس إذا مالت فإزاغة القلب إمالته وزيغه ميله عن الهدى إلى الضلال والزيغ يوصف به القلب والبصر كما قال تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِر} وقال قتادة ومقاتل: "شخصت فرقا" وهذا تقريب للمعنى فإن الشخوص غير الزيغ وهو أن يفتح عينيه ينظر إلى الشيء فلا يطرق ومنه شخص بصر الميت ولما مالت الأبصار عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا إليهم من كل جانب اشتغلت عن النظر إلى شيء آخر فمالت عنه وشخصت بالنظر إلى الأحزاب وقال الكلبي: "مالت أبصارهم إلا من النظر إليهم" وقال الفراء. "زاغت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها متحيرة تنظر إليه" قلت: القلب إذا امتلأ رعبا شغله

ذلك عن ملاحظة ما سوى المخوف فزاغ البصر عن الوقوع عليه وهو مقابله.
فصل: وأما الخذلان فقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} وأصل الخذلان الترك والتخلية ويقال للبقرة والشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى وتركت صواحباتها خذول قال محمد بن إسحاق في هذه الآية: "إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس ولن يضرك خذلان من خذلك وإن يخذلك فلن ينصرك الناس أي لا تترك أمري للناس وارفض الناس لأمري" والخذلان أن يخلي الله تعالى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها والتوفيق ضده أن لا يدعه ونفسه ولا يكله إليها بل يصنع له ويلطف به ويعينه ويدفع عنه ويكلأه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه فمن خلى بينه وبين نفسه هلك كل الهلاك ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم "يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك" فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس فإن تولاه الله لم ظفر به عدوه وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئب الشاة فإن قيل فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب وبينها وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه قيل لعمر الله إن الشيطان ذئب الإنسان كما قاله الصادق المصدوق ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا مع ضعفها فإذا أعطت بيدها وسالمت الذئب ودعاها فلبت دعوته وأجابت أمره ولم تتخلف بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدا لهم فهل الذئب كل الذئب إلا الشاة فكيف والراعي يحذرها ويخوفها وينذرها وقد رآها مصارع الشاة التي انفردت عن الراعي ودخلت وادي

أقسام الكتاب
1 2 3 4