كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل
تأليف:محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

ص -101- الذئاب قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب المجالسة: "سمعت ابن أبي الدنيا يقول: أن لله سبحانه من العلوم ما لا يحصى يعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره" لقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن حمد بن سعيد القطان ثنا عبيد الله بن بكر السهمي عن أبيه: "أن قوما كانوا في سفر فكان فيهم رجل يمر بالطائر فيقول أتدرون ما تقول هؤلاء فيقولون لا فيقول تقول كذا وكذا فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق فيه هو أم كاذب إلى أن مروا على غنم وفيها شاة قد تخلفت على سخلة لها فجعلت تحنو عنقها إليها وتثغو فقال أتدرون ما تقول هذه الشاة قلنا لا قال تقول للسخلة إلحقي لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان قال فانتهينا إلى الراعي فقلنا له ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا قال نعم ولدت سخلة عام أول فأكلها الذئب بهذا المكان ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها وهو يرغو ويحنو عنقه إليها فقال أتدرون ما يقول هذا البعير قلنا لا قال فإنه يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وهو في سنامه قال فانتهينا إليهم فقلنا يا هؤلاء إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وأنه في سنامه قال فأناخوا البعير وحطوا عنه فإذا هو كما قال فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت وقد حذر الله سبحانه آدم من ذئبه مرة بعد مرة وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه ويبيت معه ويصبح: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
فصل: وأما الإركاس فقال تعالى:

{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} قال الفراء: "أركسهم ردهم إلى الكفر" وقال أبو عبيدة: "يقال ركست الشيء وأركسته لغتان إذا رددته والركس قلب الشيء على رأسه" أورد أوله على آخره والارتكاس الارتداد قال أمية
فاركسوا في حميم النار إنهم كانوا عصاة وقالوا الإفك الزورا

ومن هذا يقال للروث الركس لأنه رد إلى حال النجاسة ولهذا المعنى سمي رجيعا والركس والنكس والمركوس والمنكوس بمعنى واحد قال الزجاج: "أركسهم نكسهم وردهم والمعنى أنه ردهم إلى حكم الكفار من الذل والصغار" وأخبر سبحانه عن حكمه وقضائه فيهم وعدله وإن كان إركاسه كان بسبب كسبهم وأعمالهم كما قال: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فهذا توحيده وهذا عدله لا ما تقوله القدرية المعطلة من أن التوحيد إنكار الصفات والعدل والتكذيب بالقدر.
فصل: وأما التثبيط فقال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} والتثبيط رد الإنسان عن الشيء الذي يفعله قال ابن عباس: "يريد خذلهم وكسلهم عن الخروج" وقال في رواية أخرى: "حبسهم" قال مقاتل: "وأوحى إلى قلوبهم اقعدوا مع القاعدين" وقد بين سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد فقال: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} فلما تركوا الإيمان به وبلقائه وارتابوا بما لا ريب فيه ولم يريدوا الخروج في طاعة الله ولم يستعدوا له ولا أخذوا أهبة ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه فإن من لم يرفع به وبرسوله أو كتابه رأسا ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب

ص -102- خلقه إليه وأكرمهم عليه ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها بل بدلها كفرا فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهه الله سبحانه فثبطه لئلا يقع ما يكره من خروجه وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن يقعد مع القاعدين ثم أخبر سبحانه عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلاء عنهم فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا} و الخبال الفساد و الاضطراب فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم فأوقعوا بينهم الاضطراب والاختلاف قال ابن عباس: "ما زادوكم إلا خبالا عجزا و جبنا" يعني يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم و تعظيمهم في صدورهم ثم قال: {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُم} أي أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق والإفساد قال ابن عباس: "يريد ضعفوا شجاعتكم يعني بالتفريق بينهم لتفريق الكلمة فيجبنوا عن العدو" وقال الحسن: "لا أوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين" وقال الكلبي: "ساروا بينكم يبغونكم العيب" قال لبيد:
أرانا موضعين لختم عيب وسحر بالطعام وبالشراب
أي مسرعين ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
تبا لهن بالعرفان لما عرفنني وقلن أمرؤ باغ أكل وأوضعا

أي أسرع حتى كلت مطيته: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} قال قتادة: "وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم" وقال ابن إسحاق: "وفيكم قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم" ومعناه على هذا القول وفيكم أهل سمع وطاعة لهم لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم قلت فتضمن سماعين معنى مستجيبين وقال مجاهد وابن زيد والكلبي: "المعنى وفيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم أي جواسيس والقول هو الأول كما قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي قابلون له ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين فان النافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين ينزلون معهم ويرحلون ويصلون معهم ويجالسونهم ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها وأرصد بينهم عيونا له فالقول قول قتادة وابن إسحاق والله أعلم فإن قيل انبعاثهم إلى طاعته طاعة له فكيف يكرهها وإذا كان سبحانه يكرهها فهو يحب ضدها لا محالة إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر فيكون قعودهم محبوبا له فكيف يعاقبهم عليه قيل هذا سؤال له شأن وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب وأجوبة الطوائف على حسب أصولهم فالجبرية تجيب عنه بأن أفعاله لا تعلل بالحكم والمصالح وكل ممكن فهو جائز عليه ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه ويرضاه وترك ما يبغضه ويسخطه والجميع بالنسبة إليه سواء وهذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل والقدرية تجيب عنه على أصولها بأنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة ولم يمنعهم بل هم منعوا أنفسهم وثبطوها عن الخروج وفعلوا ما لا يريد ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله قالوا وجعل سبحانه إلقاء كراهة الانبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة من غير أن يكره هو سبحانه انبعاثهم فإنه أمرهم به قالوا وكيف يأمرهم بما يكرهه ولا يخفى على من

نور الله بصيرته فساد هذين الجوابين وبعدهما من دلالة القرآن فالجواب الصحيح أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة له ولأمره واتّباعا لرسوله صلى الله عليه وسلم ونصرة له وللمؤمنين وأحب لك منهم ورضيه لهم دينا وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا

ص -103- الوجه بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين فكان خروجا يتضمن خلاف ما يحبه ويرضاه ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه فكان مكروها له من هذا الوجه ومحبوبا له من الوجه الذي خرج عليه أولياؤه وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه إليه فكرهه وعاقبهم على ترك الخروج الذي يحبه ويرضاه لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة حتى لو فعلوه لم يثبهم عليه ولم يرضه منهم وهذا الخروج المكروه له ضدان أحدهما: الخروج المرضي المحبوب وهذا الضد هو الذي يحبه والثاني: التخلف عن رسوله والقعود عن الغزو معه وهذا الضد يبغضه ويكرهه أيضا وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذا الضد فيقول للسائل قعودهم مبغوض له ولكن ههنا أمران مكروهان له سبحانه وأحدهما أكره له من الآخر لأنه أعظم مفسدة فإن قعودهم مكروه له وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه ولم يكن لهم بد من أحد المكروهين إليه سبحانه فدفع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه فإن مفسدة قعودهم تختص بهم ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين فتأمل هذا الموضع فإن قلت فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه ويرضاه وهو الذي خرج عليه المؤمنون قلت قد تقدم جواب مثل هذا السؤال مرارا وأن حكمته سبحانه تأبى أن يضع التوفيق في غير محله وعند غير أهله فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله وليس كل محل يصلح لذلك ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته فإن قلت وعلى ذلك فهلا جعل المحال كلها صالحة قلت يأباه كمال ربوبيته وملكه وظهور

آثار أسمائه وصفاته في الخلق والأمر وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبا له فإنه يحب أن يذكر ويشكر ويطاع ويوحد ويعبد ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان وهو محبته لجهاز أعدائه والانتقام منهم وإظهار قدر أوليائه وشرفهم وتخصيصهم بفضله وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه وظهور عزته وقدرته وسطوته وشدة أخذه وأليم عقابه وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق ولو تناهوا في العلم والمعرفة إلى الإحاطة بها ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عليهم كنقرة عصفور في بحر.
فصل: وأما التزيين فقال تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُم} وقال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وقال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فأضاف التزيين إليه منه سبحانه خلقا ومشيئة وحذف فاعله تارة ونسبة إلى سببه ومن أجراه على يده تارة وهذا التزيين سبحانه حسن إذ هو ابتلاء واختبار بعيد ليتميز المطيع منهم من العاصي والمؤمن من الكافر كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وهو من الشيطان قبيح وأيضا فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيئ عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته وإيثار سيء العمل على حسنه فإنه لا بد أن يعرفه سبحانه السيئ من الحسن فإذا آثر القبيح واختاره وأحبه ورضيه لنفسه زينه سبحانه له وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحا وكل ظالم وفاجر وفاسق لا بد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحا فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه فربما رآه حسنا عقوبة له فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور الذي في قلبه وهو حجة الله عليه فإذا تمادى في غيه وظلمه ذهب

ص -104- ذلك النور فلم ير قبحه في ظلمات الجهل والفسوق والظلم ومع هذا فحجة الله قائمة عليه بالرسالة وبالتعريف الأول فتزيين الرب تعالى عدل وعقوبته حكمة وتزيين الشيطان إغواء وظلم وهو السبب الخارج عن العبد والسبب الداخل فيه حبه وبغضه وإعراضه والرب سبحانه خالق الجميع والجميع واقع بمشيئته وقدرته ولو شاء لهدى خلقه أجمعين والمعصوم من عصمه الله والمخذول من خذله الله ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
فصل: وأما عدم مشيئته سبحانه وإرادته فكما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا} وعدم مشيئته للشيء مستلزم لعدم وجوده كما أن مشيئته تستلزم وجوده فما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ امتنع وجوده وقد أخبر سبحانه أن العباد لا يشاؤن إلا بعد مشيئته ولا يفعلون شيئا إلا بعد مشيئته فقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه} وقال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فإن قيل فهل يكون الفعل مقدورا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله قيل إن أريد بكونه مقدورا سلامة آلة العبد التي يتمكن بها من الفعل وصحة أعضائه ووجوده قواه وتمكينه من أسباب الفعل وتهيئة طريق فعله وفتح الطريق له فنعم هو مقدور بهذا الاعتبار وإن أريد بكونه مقدورا القدرة المقارنة للفعل وهي الموجبة له التي إذا وجدت لم يتخلف عنها الفعل فليس بمقدور بهذا الاعتبار وتقرير ذلك أن القدرة نوعان قدرة مصححة وهي قدرة الأسباب والشروط وسلامة الآلة وهي مناط التكليف وهذه متقدمة على الفعل غير موجبة له وقدرة مقارنة للفعل مستلزمة له لا يتخلف الفعل عنها وهذه ليست شرطا في التكليف فلا يتوقف صحته وحسنه عليها فإيمان من لم يشأ الله إيمانه وطاعة من لم يشأ طاعته مقدور

بالاعتبار الأول غير مقدور بالاعتبار الثاني وبهذا التحقيق تزول الشبهة في تكليف ما لا يطاق كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى فإذا قيل هل خلق لمن علم أنه لا يؤمن قدرة على الإيمان أم لم يخلق له قدرة قيل خلق له قدرة مصححة متقدمة على الفعل هي مناط الأمر والنهي ولم يخلق له قدرة موجبة للفعل مستلزمة له لا يتخلف عنها فهذه فضله يؤتيه من يشاء وتلك عدله التي تقوم بها حجته على عبده فإن قيل فهل يمكنه الفعل ولم يخلق له هذه القدرة قيل هذا هو السؤال السابق بعينه وقد عرفت جوابه وبالله التوفيق.
فصل: وأما إماتة قلوبهم ففي قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} وقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وقوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً} وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} فوصف الكافر بأنه ميت وأنه بمنزلة أصحاب القبور وذلك أن القلب الحي هو الذي يعرف الحق ويقبله ويحبه ويؤثره على غيره فإذا مات القلب لم يبق فيه إحساس ولا تمييز بين الحق والباطل ولا إرادة للحق وكراهة للباطل بمنزلة الجسد الميت الذي لا يحس بلذة الطعام والشراب وألم فقدهما وكذلك وصف سبحانه كتابه ووحيه بأنه روح لحصول حياة القلب به فيكون القلب حيا ويزداد حياة بروح الوحي فيحصل له حياة على حياة ونور على نور نور الوحي على نور الفطرة قال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} فجعله روحا لما يحصل

ص -105- به من الحياة ونورا لما يحصل به من الهدى والإضاءة وذلك نور وحياة زائدة على نور الفطرة وحياتها فهو نور على نور وحياة على حياة ولهذا يضرب سبحانه لمن عدم ذلك مثلا بمستوقد النار التي ذهب عنه ضوؤها وبصاحب الصيب الذي كان حظه منه الصواعق والظلمات والرعد والبرق فلا استنار بما أوقد من النار ولا حيي بما في الصيب من الماء ولذلك ضرب هذين المثلين في سورة الرعد لمن استجاب له فحصل على الحياة والنور ولمن لم يستجب له وكان حظه الموت والظلمة فأخبر عمن أمسك عنه نوره بأنه في الظلمة ليس له من نفسه نور فقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} ثم ذكر من أمسك عنه هذا النور ولم يجعله له فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} وفي المسند من حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ

فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهذه الظلمات ضد الأنوار التي يتقلب فيها المؤمن فإن نور الإيمان في قلبه ومدخله نور ومخرجه نور وعلمه نور ومشيته من الناس نور وكلامه نور ومصيره إلى نور والكافر بالضد، ولما كان النور من أسمائه الحسنى وصفاته كان دينه نورا ورسوله نورا وكلامه نورا وداره نورا يتلألأ والنور يتوقد في قلوب عباده المؤمنين ويجري على ألسنتهم ويظهر على وجوههم وكذلك لما كان الإيمان واسمه المؤمن لم يعطه إلا أحب خلقه إليه وكذلك الإحسان صفته وهو المحسن ويحب المحسنين وهو صابر يحب الصابرين شاكر يحب الشاكرين عفو يحب أهل العفو حي يحب أهل الحياء ستير يحب أهل الستر قوى يحب أهل القوة من المؤمنين عليم يحب أهل العلم من عباده جواد يحب أهل الجود جميل يحب المتجملين بر يحب الأبرار رحيم يحب الرحماء عدل يحب أهل العدل رشيد يحب أهل الرشد وهو الذي جعل من يحبه من خلقه كذلك وأعطاه من هذه الصفات ما شاء وأمسكها عمن يبغضه وجعله على أضدادها فهذا عدله وذاك فضله والله ذو الفضل العظيم.
فصل: وأما جعله القلب قاسيا فقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} والقسوة الشدة والصلابة في كل شيء يقال حجر قاس وأرض قاسية لا تنبت شيئا قال ابن عباس: "قاسية عن الإيمان" وقال الحسن: "طبع عليها" والقلوب ثلاثة: قلب قاس وهو اليابس الصلب الذي لا يقبل صورة الحق ولا تنطبع فيه وضده القلب اللين المتماسك وهو السليم من المرض الذي يقبل صورة الحق بلينه ويحفظه بتماسكه بخلاف المريض الذي لا يحفظ ما ينطبع فيه لميعانه ورخاوته كالمائع الذي إذا طبعت فيه الشيء قبل صورته بما فيه من اللين ولكن رخاوته تمنعه من حفظها فخير القلوب القلب الصلب الصافي

اللين فهو يرى الحق بصفائه ويقبله بلينه

ص -106- ويحفظه بصلابته وفي المسند وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: "القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إليه أصلبها وأرقها وأصفاها" وقد ذكر سبحانه أنواع القلوب في قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُم} فذكر القلب المريض وهو الضعيف المنحل الذي لا تثبت فيه صورة الحق والقلب القاسي اليابس الذي لا يقبلها ولا تنطبع فيه فهذان القلبان شقيان معذبان ثم ذكر القلب المخبت المطمئن إليه وهو الذي ينتفع بالقرآن ويزكو به قال الكلبي: "فتخبت له قلوبهم فترق للقرآن قلوبهم" وقد بين سبحانه حقيقة الإخبات ووصف المخبتين في قوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فذكر للمخبتين أربع علامات وجل قلوبهم عند ذكره والوجل خوف مقرون بهيبة ومحبة وصبرهم على أقداره وإتيانهم بالصلاة قائمة الأركان ظاهرا وباطنا وإحسانهم إلى عباده بالإنفاق مما آتاهم وهذا إنما يتأتى للقلب المخبت قال ابن عباس: "المخبتين المتواضعين" وقال مجاهد: "المطمئنين إلى الله" وقال الأخفش: "الخاشعين" وقال ابن جرير: "الخاضعين" قال الزجاج: "اشتقاقه من الخبت وهو المنخفض من الأرض وكل مخبت متواضع فالإخبات سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله"، فإن قيل كان معناه التواضع والخشوع فكيف عدى بالي في قوله: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِم} قيل ضمن معنى أنابوا واطمأنوا وتابوا وهذه عبارات السلف في هذا الموضع والمقصود أن القلب المخبت ضد القاسي

والمريض وهو سبحانه الذي جعل بعض القلوب مخبتا إليه وبعضها قاسيا وجعل للقسوة آثارا وللإخبات آثارا فمن آثاره القسوة تحريف الكلم عن مواضعه وذلك من سوء الفهم وسوء القصد وكلاهما ناشئ عن قسوة القلب ومنها نسيان ما ذكر به وهو ترك ما أمر به علما وعملا ومن آثار الإخبات وجل القلوب لذكره سبحانه والصبر على أقداره والإخلاص في عبوديته والإحسان إلى خلقه.
فصل: وأما تضييق الصدر وجعله حرجا لا يقبل الإيمان فقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} والحرج هو الشديد الضيق في قول أهل اللغة جميعهم يقال رجل حرج وحرج أي ضيق الصدر قال الشاعر:
لا حرج الصدر ولا عنيف
وقال عبيد بن عمير: قرأ ابن عباس هذه الآية فقال: "هل هنا أحد من بني بكر قال رجل نعم قال ما الحرجة فيكم قالوا الوادي الكثير الشجر الذي لا طريق فيه فقال ابن عباس: كذلك قلب الكافر" وقرأ عمر بن الخطاب الآية فقال: "ايتوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيا فأتوه به فقال عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم فقال الشجرة تحدق بها الأشجار الكثيرة فلا تصل إليها راعية ولا وحشية فقال عمر كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير" قال ابن عباس: "يجعل صدره ضيقا حرجا إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه وإن ذكر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك" ولما كان القلب محلا للمعرفة والعلم والمحبة والإنابة وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها فإذا أراد الله هداية عبد وسع صدره وشرحه فدخلت فيه وسكنته وإذا أراد ضلاله ضيق صدره وأحرجه فلم يجد محلا يدخل فيه فيعدل عنه ولا يساكنه وكل إناء فارغ إذا دخل فيه الشيء ضاق به وكلما أفرغت فيه الشيء ضاق إلا القلب اللين فكلما أفرغ فيه الإيمان والعلم اتسع وانفسح

ص -107- وهذا من آيات قدرة الرب تعالى وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل النور قلبه انفسح وانشرح قالوا فما علامة ذلك يا رسول الله قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله" فشرح الصدر من أعظم أسباب الهدى وتضييقه من أسباب الضلال كما أن شرحه من أجل النعم وتضييقه من أعظم النقم فالمؤمن منشرح الصدر منفسحه في هذه الدار على ما ناله من مكروهها وإذا قوي الإيمان وخالطت بشاشته القلوب كان على مكارهها أشرح صدرا منه على شهوتها ومحابها فإذا فارقها كان انفساح روحه والشرح الحاصل له بفراقها أعظم بكثير كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع موافق له فإنها سجن المؤمن فإذا بعثه الله يوم القيامة رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه فشرح الصدر كما أنه سبب الهداية فهو أصل كل نعمة وأساس كل خير وقد سأل كليم الرحمن موسى بن عمران ربه أن يشرح له صدره لما علم أنه لا يتمكن من تبليغ رسالته والقيام بأعبائها إلا إذا شرح له صدره وقد عدد سبحانه من نعمه على خاتم أنبيائه ورسله شرح صدره له وأخبر عن أتباعه أنه شرح صدورهم للإسلام، فإن قلت فما الأسباب التي تشرح الصدور والتي تضيقه قلت السبب الذي يشرح الصدر النور الذي يقذفه الله فيه فإذا دخله ذلك النور اتسع بحسب قوة النور وضعفه وإذا فقد ذلك النور أظلم وتضايق، فإن قلت فهل يمكن اكتساب هذا النور أم هو وهبي قلت هو وهبي وكسبي واكتسابه أيضا مجرد موهبة من الله تعالى فالأمر كله لله والحمد كله له والخير كله بيديه وليس مع العبد من نفسه شيء البتة بل الله واهب الأسباب ومسبباتها وجاعلها أسبابا ومانحها من يشاء ومانعها من يشاء إذا أراد بعبده خيرا وفقه لاستفراغ وسعه وبذل جهده في الرغبة والرهبة إليه فإنهما مادتا التوفيق فبقدر قيام الرغبة والرهبة في القلب يحصل التوفيق، فإن قلت فالرغبة والرهبة بيده لا بيد العبد

قلت نعم والله وهما مجرد فضله ومنته وإنما يجعلهما في المحل الذي يليق بهما ويحبسهما عمن لا يصلح لهما فإن قلت فما ذنب من لا يصلح قلت أكثر ذنوبه أنه لا يصلح لأن صلاحيته بما اختاره لنفسه وآثره وأحبه من الضلال والغي على بصيرة من أمره فآثر هواه على حق ربه ومرضاته واستحب العمى على الهدى وكان كفر المنعم عليه بصنوف النعم وجحدا لهيئته والشرك به والسعي في مساخطه أحب إليه من شكره وتوحيده والسعي في مرضاته فهذا من عدم صلاحيته لتوفيق خالقه ومالكه وأي ذنب فوق هذا فإذا أمسك الحكم العدل توفيقه عمن هذا شأنه كان قد عدل فيه وانسدت عليه أبواب الهداية وطرق الرشاد فأظلم قلبه فضاق عن دخول الإسلام والإيمان فيه فلو جاءته كل آية لم تزده إلا ضلالا وكفرا وإذا تأمل من شرح الله صدره للإسلام والإيمان هذه الآية وما تضمنته من أسرار التوحيد والعذر والعدل وعظمة شأن الربوبية صار لقلبه عبودية أخرى ومعرفة خاصة وعلم أنه عبد من كل وجه وبكل اعتبار وأن الرب تعالى رب كل شيء وملكيه من الأعيان والصفات والأفعال والأمر كله بيده والحمد كله له وأزمة الأمور بيده ومرجعها كلها إليه ولهذه الآية شأن فوق عقولنا وأجل من أفهامنا وأعظم مما قال فيها المتكلمون الذين ظلموها معناها وأنفسهم كانوا يظلمون تالله لقد غلظ عنها حجابهم وكثفت عنها أفهامهم ومنعتهم من الوصول إلى المراد بها أصولهم التي أصلوها وقواعدهم التي أسسوها فإنها تضمنت إثبات التوحيد والعدل الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه والعدل الذي يقوله معطلو الصفات ونفاه القدر

ص -108- وتضمنت إثبات الحكمة والقدرة والشرع والقدر والسبب والحكم والذنب والعقوبة ففتحت للقلب الصحيح بابا واسعا من معرفة الرب تعالى بأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله وحكمته في شرعه وقدره وعدله في عقابه وفضله في ثوابه وتضمنت كمال توحيده وربوبيته وقيوميته وإلهيته وأن مصادر الأمور كلها عن محض إرادته ومردها إلى كمال حكمته وأن المهدي من خصه الله بهدايته وشرح صدره لدينه وشريعته وأن الضال من جعل صدره ضيقا حرجا عن معرفته ومحبته كأنما يتصاعد في السماء وليس ذلك في قدرته وأن ذلك عدل في عقوبته لمن لم يقدره حق قدره وجحد كمال ربوبيته وكفر بنعمته وآثر عبادة الشيطان على عبوديته فسد عليه باب توفيقه وهدايته وفتح عليه أبواب غيه وضلاله فضاق صدره وقسا قلبه وتعطلت من عبودية ربها جوارحه وامتلأت بالظلمة جوانحه والذنب له حيث أعرض عن الإيمان واستبدل به الكفر والفسوق والعصيان ورضي بموالاة الشيطان وهانت عليه معاداة الرحمن فلا يحدث نفسه بالرجوع إلى مولاه ولا يعزم يوما على إقلاعه عن هواه قد ضاد الله في أمره بحب ما يبغضه وببغض ما يحبه ويوالي من يعاديه ويعادي من يواليه يغضب إذا رضي الرب ويرضى إذا غضب هذا وهو يتقلب في إحسانه ويسكن في داره ويتغذى برزقه ويتقوى على معاصيه بنعمه فمن أعدل منه سبحانه عما يصفه به الجاهلون والظالمون إذا جعل الوحي على أمثال هذا من الذين لا يؤمنون.
فصل: وإذا شرح الله صدر عبده بنوره الذي يقذفه في قلبه أراه في ضوء ذلك النور حقائق الأسماء والصفات التي تضل فيها معرفة العبد إذ لا يمكن أن يعرفها العبد على ما هي عليه في نفس الأمر وأراه في ضوء ذلك النور حقائق الإيمان وحقائق العبودية وما يصححها وما يفسدها وتفاوت معرفة الأسماء والصفات والإيمان والإخلاص وأحكام العبودية بحسب تفاوتهم في هذا النور قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي

النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} فيكشف لقلب المؤمن في ضوء ذلك النور عن حقيقة المثل الأعلى مستويا على عرش الإيمان في قلب العبد المؤمن فيشهد بقلبه ربا عظيما قاهرا قادرا أكبر من كل شيء في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله السماوات السبع قبضة إحدى يديه والأرضون السبع قبضة اليد الأخرى يمسك السماوات على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع والثرى على أصبع ثم يهزهن ثم يقول أنا الملك فالسماوات السبع في كفه كخردلة في كف العبد يحيط ولا يحاط به ويحصر خلقه ولا يحصرونه ويدركهم ولا يدركونه لو أن الناس من لدن آدم إلى آخر الخلق قاموا صفا واحدا ما أحاطوا به سبحانه ثم يشهده في علمه فوق كل عليم وفي قدرته فوق كل قدير وفي جوده فوق كل جواد وفي رحمته فوق كل رحيم وفي جماله فوق كل جميل حتى لو كان جمال الخلائق كلهم على شخص واحد منهم ثم أعطي الخلق كلهم مثل ذلك الجمال لكانت نسبته إلى جمال الرب سبحانه دون نسبة سراج ضعيف إلى ضوء الشمس ولو اجتمعت قوى الخلائق على شخص واحد منهم ثم أعطي كل منهم مثل تلك القوة لكانت نسبتها إلى قوته سبحانه دون نسبة قوة البعوضة إلى حملة العرش ولو كان جودهم على رجل واحد وكل الخلائق على ذلك الجود لكانت نسبته إلى جوده دون نسبة قطرة إلى

ص -109- البحر وكذلك علم الخلائق إذا نسب إلى علمه كان كنقرة عصفور من البحر وكذلك سائر صفاته كحياته وسمعه وبصره وإرادته فلو فرض البحر المحيط بالأرض مدادا تحيط به سبعة أبحر وجميع أشجار الأرض شيئا بعد شيء أقلام لفني ذلك المداد والأقلام ولا تفنى كلماته ولا تنفد فهو أكبر في علمه من كل عالم وفي قدرته من كل قادر وفي وجوده من كل جواد وفي غناه من كل غني وفي علوه من كل عال وفي رحمته من كل رحيم استوى على عرشه واستولى على خلقه متفرد بتدبير مملكته فلا قبض ولا بسط ولا منع ولا ضلال ولا سعادة ولا شقاوة ولا موت ولا حياة ولا نفع ولا ضر إلا بيده لا مالك غيره ولا مدبر سواه لا يستقل أحد معه بملك مثقال ذرة في السماوات والأرض ولا له شركة في ملكها ولا يحتاج إلى وزير ولا ظهير ولا معين ولا يغيب فيخلفه غيره ولا يعي فيعينه سواه ولا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه لمن شاء وفيمن شاء فهو أول مشاهد المعرفة ثم يترقى منه إلى مشهد فوقه لا يتم إلا به وهو مشهد الإلهية فيشهده سبحانه متجليا في كماله بأمره ونهيه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه وفضله في ثوابه فيشهد ربا قيوما متكلما آمرا ناهيا يحب ويبغض ويرضى ويغضب قد أرسل رسله وأنزل كتبه وأقام على عباده الحجة البالغة وأتم عليهم نعمته السابغة يهدى من يشاء منه نعمة وفضلا ويضل من يشاء حكمة منه وعدلا ينزل إليهم أوامره وتعرض عليه أعمالهم لم يخلقهم عبثا ولم يتركهم سدى بل أمره جار عليهم في حركاتهم وسكناتهم وظواهرهم وبواطنهم فلله عليهم حكم وأمر في كل تحريكة وتسكينة ولحظة ولفظة وينكشف له في هذا النور عدله وحكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وبره في شرعه وأحكامه وأنها أحكام رب رحيم محسن لطيف حكيم قد بهرت حكمته العقول وأقرت بها الفطر وشهدت لمنزلها بالوحدانية ولمن جاء بها بالرسالة والنبوة وينكشف له في ضوء ذلك النور إثبات صفات الكمال وتنزيهه سبحانه عن النقص والمثال وأن كل

كمال في الوجود فمعطيه وخالقه أحق به وأولى وكل نقص وعيب فهو سبحانه منزه متعال عنه وينكشف له في ضوء هذا النور حقائق المعاد واليوم الآخر وما أخبر به الرسول عنه حتى كأنه يشاهده عيانا وكأنه يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأمره ونهيه ووعده ووعيده إخبار من كأنه قد رأى وعاين وشاهد ما أخبر به فمن أراد سبحانه هدايته شرح صدره لهذا فاتسع له وانفسح ومن أراد ضلالته جعل صدره من ذلك في ضيق وحرج لا يجد فيه مسلكا ولا منفذا والله الموفق المعين وهذا الباب يكفي اللبيب في معرفة القدر والحكمة ويطلعه على العدل والتوحيد الذي تضمنهما قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}.

شفاء العليل

الباب السادس عشر: في تفرد الرب بالخلق للذات والصفات والأفعال
الباب السادس عشر: فيما جاء في السنة من تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو منفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم
قال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد حدثنا علي بن عبد الله ثنا مروان بن معاوية ثنا أبو مالك

ص -110- عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته" قال البخاري: "وتلا بعضهم عند ذلك: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}" حدثنا محمد أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن حذيفة نحوه موقوفا عليه وأما استشهاد بعضهم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} بحمل ما على المصدر أي خلقكم وأعمالكم فالظاهر خلاف هذا وأنها موصولة أي خلقكم وخلق الأصنام التي تعملونها فهو يدل على خلق أعمالهم من جهة اللزوم فإن الصنم اسم للآلة التي حل فيها العمل المخصوص فإذا كان مخلوقا لله كان خلقه متناولا لمادته وصورته قال البخاري: وحدثنا عمرو بن محمد حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن طاووس عن ابن عمر: "كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك" قال البخاري: وحدثني إسماعيل قال حدثني مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم عن طاووس قال: "أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" ورواه مسلم في صحيحه عن طاووس وقال سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" قال البخاري: وقال ليث عن طاووس عن ابن عباس ": {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} حتى العجز والكيس" قال البخاري: سمعت عبيد الله بن سعيد يقول سمعت يحيى بن سعيد يقول: "ما زلت أسمع أصحابنا يقولون أفعال العباد مخلوقة" قال البخاري: "حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة" وقال جابر بن عبد الله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا

الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فيسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به قال: ويسمى حاجته" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح فقوله: "إذا هم أحدكم بالأمر" صريح في أنه الفعل الاختياري المتعلق بإرادة العبد وإذا علم ذلك فقوله "أستقدرك بقدرتك" أي أسألك أن تقدرني على فعله بقدرتك ومعلوم أنه لم يسأل القدرة المصححة التي هي سلامة الأعضاء وصحة البنية وإنما سأل القدرة التي توجب الفعل فعلم أنها مقدورة لله ومخلوقة له وأكد ذلك بقوله: "فإنك تقدر ولا أقدر" أي تقدر أن تجعلني قادرا فاعلا ولا أقدر أن أجعل نفسي كذلك وكذلك قوله: "تعلم ولا أعلم" أي حقيقة العلم بعواقب الأمور ومآلها والنافع منها والضار عندك وليس عندي وقوله يسره لي أو اصرفه عني فإنه طلب من الله تيسيره إن كان له فيه مصلحة وصرفه عنه إن كان فيه مفسدة وهذا التيسير والصرف متضمن إلقاء داعية الفعل في القلب أو إلقاء داعية الترك فيه ومتى حصلت داعية الفعل حصل الفعل وداعية الترك امتنع الفعل وعند القدرية ترجيح فاعلية العبد على الترك منه ليس للرب فيه صنع ولا تأثير فطلب هذ التيسير منه لا معنى له عندهم فإن تيسير الأسباب التي لا قدرة للعبد عليها موجود ولم يسأله العبد وقوله: "ثم رضني به" يدل على أن حصول الرضا وهو فعل اختياري من أفعال القلوب أمر وقدور للرب تعالى وهو الذي يجعل نفسه راضيا وقوله: "فاصرفه عني واصرفني عنه" صريح في أنه سبحانه هو الذي يصرف عبده عن فعله الاختياري إذا شاء صرفه عنه كما قال تعالى

في حق يوسف الصديق: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ

ص -111- السُّوءَ وَالْفَحْشَاء} وصرف السوء والفحشاء هو صرف دواعي القلب وميله إليهما فينصرفان عنه بصرف دواعيهما وقوله "وأقدر لي الخير حيث كان" يعم الخير المقدور للعبد من طاعته وغير المقدور له فعلم أن فعل العبد للطاعة والخير أمر مقدور لله إن لم يقدره الله لعبده لم يقع من العبد ففي هذا الحديث الشفاء في مسألة القدر وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الداعي به أن يقدم بين يدي هذا الدعاء ركعتين عبودية منه بين يدي نجواه وإن يكونا من غير الفريضة ليتجرد فعلهما لهذا الغرض المطلوب ولما كان الفعل الاختياري متوقفا على العلم والقدرة والإرادة لا يحصل إلا بها توسل الداعي إلى الله بعلمه وقدرته وإرادته التي يؤتيه بها من فضله وأكد هذا المعنى بتجرده وبراءته من ذلك فقال "إنك تعلم ولا أعلم وتقدر ولا أقدر" وأمر الداعي أن يعلق التيسير بالخير والصرف بالشر وهو علم الله سبحانه تحقيقا للتفويض إليه واعترافا بجهل العبد بعواقب الأمور كما اعترف بعجزه ففي هذا الدعاء إعطاء العبودية حقها وإعطاء الربوبية حقها وبالله المستعان، وفي الترمذي وغيره من حديث الحسن بن علي قال: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت وتعاليت" فقوله: "اهدني" سؤال للهداية المطلقة التي لا يتخلف عنها الاهتداء وعند القدرية أن الرب سبحانه وتعالى عن قولهم لا يقدر علة هذه الهداية وإنما يقدر على هداية البيان والدلالة المشتركة بين المؤمنين والكفار وقوله "فيمن هديت" فيه فوائد أحدها: أنه سؤال له أن يدخله في جملة المهديين وزمرتهم ورفقتهم الثانية: توسل إليه بإحسانه وإنعامه أي يا ربي قد هديت من عبادك بشرا كثيرا فضلا منك وإحسانا فأحسن إليّ

كما أحسنت إليهم كما يقول الرجل للملك اجعلني من جملة من أغنيته وأعطيته وأحسنت إليه الثالثة: إن ما حصل لأولئك من الهدى لم يكن منهم ولا بأنفسهم وإنما كان منك فأنت الذي هديتهم وقوله "وعافني فيمن عافيت" إنما يسأل ربه العافية المطلقة وهي العافية من الكفر والفسوق والعصيان والغفلة والإعراض وفعل ما لا يحبه وترك ما يحبه فهذا حقيقة العافية ولهذا ما سئل الرب شيئا أحب إليه من العافية لأنها كلمة جامعة للتخلص من الشر كله وأسبابه وقوله "وتولني فيمن توليت" سؤال للتولي الكامل ليس المراد به ما فعله بالكافرين من خلق القدرة وسلامة الآلة وبيان للطريق فإن كان هذا هو ولايته للمؤمنين فهو ولي الكفار كما هو ولي المؤمنين وهو سبحانه يتولى أولياءه بأمور لا توجد في حق الكفار من توفيقهم وإلهامهم وجعلهم مهديين مطيعين ويدل عليه قوله "إنه لا يذل من واليت" فإنه منصور عزيز غالب بسبب توليك له وفي هذا تنبيه على أن من حصل له ذل في الناس فهو بنقصان ما فاته من تولي الله وإلا فمع الولاية الكاملة ينتفي الذل كله ولو سلط عليه بالأذى من في أقطارها فهو العزيز غير الذليل وقوله "وقني شر ما قضيت" يتضمن أن الشر بقضائه فإنه هو الذي يقي منه وفي المسند وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: "يا معاذ والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" وهذه أفعال اختيارية وقد سأل الله أن يعينه على فعلها وهذا الطلب لا معنى له عند القدرية فإن الإعانة عندهم الإقدار والتمكين وإزاحة الأعذار وسلامة الآلة وهذا حاصل للسائل وللكفار أيضا والإعانة التي سألها أن يجعله ذاكرا شاكرا محسنا لعبادته كما في حديث ابن

ص -112- عباس عنه صلى الله عليه وسلم في دعائه المشهور: "رب أعني ولا تعن علي وانصرني ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر علي واهدني ويسر الهدى لي وانصرني علي من بغى علي رب اجعلني لك شكارا لك ذكارا لك رهابا لك مطواعا لك مخبتا إليك أواها منيبا رب تقبل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبت حجتي واهد قلبي وسدد لساني واسلل سخيمة صدري" رواه الإمام أحمد في المسند وفيه أحد وعشرون دليلا فتأملها وفي الصحيحين أنه صلى الله عيه وسلم كان يقول بعد انقضاء صلاته: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وكان يقول ذلك الدعاء عند اعتداله من الركوع ففي هذا نفي الشريك عنه بكل اعتبار وإثبات عموم الملك له بكل اعتبار وإثبات عموم الحمد وإثبات عموم القدرة وأن الله سبحانه إذا أعطى عبدا فلا مانع له وإذا منعه فلا معطي له، وعند القدرية أن العبد قد يمنع من أعطى الله ويعطي من منعه فإنه يفعل باختياره عطاء ومنعا لم يشأه الله ولم يجعله معطيا مانعا فيتصور أن يكون لمن أعطى مانع ولمن منع معط وفي الصحيح أن رجلا سأله أن يدله على عمل يدخل به الجنة فقال: "إنه ليسير على من يسره الله عليه" فدل على أن التيسير الصادر من قبله سبحانه يوجب اليسر في العمل وعدم التيسير يستلزم عدم العمل لأنه ملزومه والملزوم ينتفي لانتفاء لازمه والتيسير بمعنى التمكين وخلق الفعل وإزاحة الأعذار وسلامة الأعضاء حاصل للمؤمن والكافر والتيسير المذكور في الحديث أمر آخر وراء ذلك وبالله التوفيق والتيسير وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي موسى: "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة لا حول ولا قوة إلا بالله" وقد أجمع المسلمون على هذه الكلمة وتلقيها بالقبول وهي شافية كافية في إثبات القدر وإبطال قول القدرية وفي بعض الحديث "إذا قالها العبد قال الله أسلم عبدي

واستسلم وفي بعضه فوض إليّ عبدي" قال بعض المنتسبين للقدر لما كانت القدرة بالنسبة إلى الفعل وإلى الترك بحصول الدواعي على التسوية وما دام الأمر كذلك امتنع صدور الفعل فإذا رجح جانب الفعل على الترك بحصول الدواعي وإزالة الصوارف حصل الفعل وهذه القوة هي المشار إليها بقولنا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وشأن الكلمة أعظم مما قال فإن العالم العلوي والسفلي له تحول من حال إلى حال وذلك التحول لا يقع إلا بقوة يقع بها التحول فكذلك الحول وتلك القوة قائمة بالله وحده ليست بالتحويل فيدخل في هذا كل حركة في العالم العلوي والسفلي وكل قوة على تلك الحركة سواء كانت الحركة قسرية أو إرادية أو طبيعية وسواء كانت من الوسط أو إلى الوسط أو على الوسط وسواء كانت في الكم أو الكيف أو في الأين كحركة النبات وحركة الطبيعة وحركة الحيوان وحركة الفلك وحركة النفس والقلب والقوة على هذه الحركات التي هي حول فلا حول ولا قوة إلا بالله ولما كان الكنز هو المال النفيس المجتمع الذي يخفى على أكثر الناس وكان هذا شأن هذه الكلمة كانت كنزا من كنوز الجنة فأوتيها النبي صلى الله عليه وسلم من كنز تحت العرش وكان قائلها أسلم واستسلم لمن أزمة الأمور بيديه وفوض أمره إليه وفي المسند والسنن عن أبي الديلمي قال: "أتيت أبي كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله يذهبه عني من قلبي فقال: إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله

ص -113- منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير ذلك كنت من أهل النار قال فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت فكل منهم حدثني بمثل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهذا الحديث حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه وله شأن عظيم وهو دال على أن من تلكم به أعرف الخلق بالله وأعظمهم له توحيدا وأكثرهم له تعظيما وفيه الشفاء التام في باب العدل والتوحيد فإنه لا يزال يجول في نفوس كثير من الناس كيف يجتمع القضاء والقدر والأمر والنهي وكيف يجتمع العدل والعقاب على المقضي المقدر الذي لا بد للعبد من فعله ثم سلك كل طائفة في هذا المقام واديا وطريقا فسلك الجبرية وادي الجبر وطريق المشيئة المحضة الذي يرجح مثلا على مثل من غير اعتبار علة ولا غاية ولا حكمة قالوا وكل ممكن عدل والظلم هو الممتنع لذاته فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لكان متصرفا في ملكه والظلم تصرف القادر في غير ملكه وذلك مستحيل عليه سبحانه قالوا ولما كان الأمر راجعا إلى محض المشيئة لم تكن الأعمال سببا للنجاة فكانت رحمته للعباد هي المستقلة بنجاتهم فكانت رحمته خيرا من أعمالهم وهؤلاء راعوا جانب الملك وعطلوا جانب الحمد والله سبحانه له الملك وله الحمد وسلكت القدرية وادي العدل والحكمة ولم يوفوه حقه وعطلوا جانب التوحيد وحاروا في هذا الحديث ولم يدروا ما وجهه وربما قابله كثير منهم بالتكذيب والرد له وأن الرسول لم يقل ذلك قالوا وأي ظلم يكون أعظم من تعذيب من استنفذ أوقات عمره كلها واستفرغ قواه في طاعته وفعل ما يحبه ولم يعصه طرفة عين وكان يعمل بأمره دائما فكيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم أن تعذيب هذا يكون عدلا لا ظلما ولا يقال أن حقه عليهم وما ينبغي له أعظم من طاعاتهم فلا تقع تلك الطاعات في مقابلة نعمه وحقوقه فلو عذبهم لعذبهم بحقه عليهم لأنهم إذا فعلوا مقدورهم من طاعته لم يكلفوا

بغيره فكيف يعذبون على ترك ما لا قدرة لهم عليه وهل ذلك إلا بمنزلة تعذيبهم على كونهم لم يخلقوا السماوات والأرض ونحو ذلك مما لا يدخل تحت مقدورهم قالوا فلا وجه لهذا الحديث إلا رده أو تأويله وحمله على معنى يصح وهو أنه لو أراد تعذيبهم جعلهم أمة واحدة على الكفر فلو عذبهم في هذه الحال لكان غير ظالم لهم وهو لم يقل لو عذبهم مع كونهم مطيعين له عابدين له لعذبهم وهو غير ظالم لهم ثم أخبر أنه لو عمهم بالرحمة لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم ثم أخبر أنه لا يقبل من العبد عمل حتى يؤمن بالقدر والقدر هو علم الله بالكائنات وحكمه فيها ووقفت طائفة أخرى في وادي الحيرة بين القدر والأمر والثواب والعقاب فتارة يغلب عليهم شهود القدر فيغيبون به عن الأمر وتارة يغلب عليهم شهود الأمر فيغيبون عن القدر وتارة يبقون في حيرة وعمى وهذا كله إنما سببه الأصول الفاسدة والقواعد الباطلة التي بنوا عليها ولو جمعوا بين الملك والحمد والربوبية والإلهية والحكمة والقدرة وأثبتوا له الكمال المطلق ووصفوه بالقدرة التامة الشاملة والمشيئة العامة النافذة التي لا يوجد كائن إلا بعد وجودها والحكمة البالغة التي ظهرت في كل موجود لعلموا حقيقة الأمر وزالت عنهم الحيرة ودخلوا إلى الله سبحانه من باب أوسع من السماوات السبع وعرفوا أنه لا يليق بكماله المقدس إلا ما أخبر به عن نفسه على ألسنة رسله وأن ما خالفه ظنون كاذبة وأوهام باطلة تولدت بين أفكار باطلة وآراء مظلمة فنقول وبالله التوفيق وهو المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله، الرب تبارك اسمه وتعالى جده ولا إله

ص -114- غيره هو المنعم على الحقيقة بصنوف النعم التي لا يحصيها أهل سماواته وأرضه فإيجادهم نعمة منه وجعلهم أحياء ناطقين نعمة منه وإعطائهم الأسماع والأبصار والعقول نعمة منه وإدرار الأرزاق عليهم على اختلاف أنواعها وأصنافها نعمة منه وتعريفهم نفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله نعمة منه وإجراء ذكره على ألسنتهم ومحبته ومعرفته على قلوبهم نعمة منه وحفظهم بعد إيجادهم نعمة منه وقيامه بمصالحهم دقيقها وجليلها نعمة منه وهدايتهم إلى أسباب مصالحهم ومعايشهم نعمة منه وذكر نعمه على سبيل التفصيل لا سبيل إليه ولا قدرة للبشر عليه ويكفي أن النفس من أدنى نعمه التي لا يكادون يعدونها وهو أربعة وعشرون ألف نفس في كل يوم وليلة فلله على العبد في النفس خاصة أربعة وعشرون ألف نعمة كل يوم وليلة دع ما عدا ذلك من أصناف نعمه على العبد ولكل نعمة من هذه النعم حق من الشكر يستدعيه ويقتضيه فإذا وزعت طاعات العبد كلها على هذه النعم لم يخرج قسط كل نعمة منها إلا جزء يسير جدا لا نسبة له إلى قدر تلك النعمة بوجه من الوجوه قال أنس بن مالك ينشر للعبد يوم القيامة ثلاثة دواوين ديوان فيه ذنوبه وديوان فيه العمل الصالح فيأمر الله تعالى أصغر نعمة من نعمه فتقوم فتستوعب عمله كله ثم تقول أي رب وعزتك وجلالك ما استوفيت ثمني وقد بقيت الذنوب والنعم فإذا أراد الله بعبد خيرا قال ابن آدم ضعفت حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك ووهبت لك نعمي فما بيني وبينك وفي صحيح الحاكم حديث "صاحب الرمانة الذي عبد الله خمسمائة سنة يأكل كل يوم رمانة تخرج له من شجرة ثم يقوم إلى صلاته فسأل ربه وقت الأجل أن يقبضه ساجدا وأن لا يجعل للأرض عليه سبيلا حتى يبعث وهو ساجد فإذا كان يوم القيامة وقف بين يدي الرب فيقول تعالى أدخلوا عبدي الجنة برحمتي فيقول رب بل بعملي فيقول الرب جل جلاله قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله فتؤخذ نعمة البصر بعبادة خمسمائة سنة وبقيت نعمة الجسد فضلا عليه

فيقول أدخلوا عبدي النار فيجر إلى النار فينادي رب برحمتك رب برحمتك أدخلني الجنة فيقول ردوه فيوقف بين يديه فيقول يا عبدي من خلقك ولم تكن شيئا فيقول أنت يا رب فيقول من قواك على عبادة خمسمائة سنة فيقول أنت يا رب فيقول من أنزلك في جبل وسط اللجة وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح وأخرج لك كل يوم رمانة وإنما تخرج مرة في السنة وسألتني أن أقبضك ساجدا ففعلت ذلك بك فيقول أنت يا رب فيقول الله فذلك برحمتي وبرحمتي أدخلك الجنة" رواه من طريق يحيى بن بكير حدثنا الليث بن سعد عن سليمان بن هرم عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والإسناد صحيح ومعناه صحيح لا ريب فيه فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن ينجو أحد منكم بعمله وفي لفظ لن يدخل احد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" فقد أخبر صلى الله عليه وسلم: "أنه لا ينجي أحدا عمله من الأولين ولا من الآخرين إلا أن يرحمه ربه سبحانه" فتكون رحمته خير له من عمله لأن رحمته تنجيه وعمله لا ينجيه فعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم ببعض حقه عليهم ومما يوضحه أنه كلما كملت نعمة الله على العبد عظم حقه عليه وكان ما يطالب به من الشكر أكثر مما يطالب من دونه فيكون حق الله عليه أعظم وأعماله لا تفي بحقه عليه وهذا إنما يعرفه حق المعرفة من عرف الله وعرف نفسه هذا كله لو لم يحصل للعبد من الغفلة والإعراض والذنوب ما يكون في قبالة طاعاته فكيف إذا حصل له من ذلك ما يوازي طاعاته أو يزيد عليها فإن من حق الله على عبده أن يعبده لا يشرك به

ص -115- شيئا وأن يذكره ولا ينساه وأن يشكره ولا يكفره وأن يرضى به ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وليس الرضا بذلك مجرد إطلاق هذا اللفظ وحاله وإرادته وتكذيبه وتخالفه فكيف يرضى به ربا من يسخط ما يقضيه له إذا لم يكن موافقا لإرادته وهواه فيظل ساخطا به متبرما يرضى وربه غضبان ويغضب وربه راض فهذا إنما رضي من ربه حظا لم يرض بالله ربا وكيف يدعي الرضا بالإسلام دينا من ينبذ أصوله خلف ظهره إذا خالفت بدعته وهواه وفروعه وراءه إذا لم يوافق غرضه وشهوته وكيف يصح الرضا بمحمد رسولا من لم يحكمه على ظاهره وباطنه ويتلق أصول دينه وفروعه من مشكاته وحده وكيف يرضى به رسولا من يترك ما جاء به لقول غيره ولا يترك قول غيره لقوله ولا يحكمه ويحتج بقوله إلا إذا وافق تقليده ومذهبه فإذا خالفه لم يلتفت إلى قوله والمقصود أن من حقه سبحانه على كل أحد من عبيده أن يرضى به ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وأن يكون حبه كله لله وبغضه في الله وقوله لله وتركه لله وأن يذكره ولا ينساه ويطيعه ولا يعصيه ويشكره ولا يكفره وإذا قام بذلك كله كانت نعم الله عليه أكثر من عمله بل ذلك نفسه من نعم الله عليه حيث وفقه له ويسره وأعانه عليه وجعله من أهله واختصه به على غيره فهو يستدعي شكرا آخر عليه ولا سبيل له إلى القيام بما يجب لله من الشكر أبدا فنعم الله تطالبه بالشكر وأعماله لا تقابلها وذنوبه وغفلته وتقصيره قد تستنفد عمله فديوان النعم وديوان الذنوب يستنفدان طاعاته كلها هذا وأعمال العبد مستحقة عليه بمقتضى كونه عبدا مملوكا مستعملا فيما يأمره به سيده فنفسه مملوكة وأعماله مستحقة بموجب العبودية فليس له شيء من أعماله كما أنه ليس له ذرة من نفسه فلا هو مالك لنفسه ولا صفاته ولا أعماله ولا لما بيده من المال في الحقيقة بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه لمالكه أعظم استحقاقا من سيد اشترى عبدا بخالص ماله ثم قال اعمل وأد إليّ

فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء فلو عمل هذا العبد من الأعمال ما عمل فإن ذلك كله مستحق عليه لسيده وحق من حقوقه عليه فكيف بالمنعم المالك على الحقيقة الذي لا تعد نعمه وحقوقه على عبده ولا يمكن أن تقابلها طاعاته بوجه فلو عذبه سبحانه لعذبه وهو غير ظالم له وإذا رحمه فرحمته خير له من أعماله ولا تكون أعماله ثمنا لرحمته البتة فلولا فضل الله ورحمته ومغفرته ما هنا أحدا عيش البتة ولا عرف خالقه ولا ذكره ولا آمن به ولا أطاعه فكما أن وجود العبد محض وجوده وفضله ومنته عليه وهو المحمود على إيجاده فتوابع وجوده كلها كذلك ليس للعبد منها شيء كما ليس له في وجوده شيء فالحمد كله لله والفضل كله له والإنعام كله له والحق له على جميع خلقه ومن لم ينظر في حقه عليه وتقصيره وعجزه عن القيام به فهو من أجهل الخلق بربه وبنفسه ولا تنفعه طاعاته ولا يسمع دعاؤه قال الإمام أحمد حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال: "بلغني أن نبي الله موسى مر برجل يدعو ويتضرع فقال يا رب ارحمه فإني قد رحمته فأوحى الله تعالى إليه لو دعاني حتى ينقطع فؤاده ما استجبت له حتى ينظر في حقي عليه" والعبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منته عليه ونعمه وحقوقه وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته فهو يعلم أن ربه لو عذبه أشد العذاب لكان قد عدل فيه وأن أقضيته كلها عدل فيه وأن ما فيه من الخير فمجرد فضله ومنته وصدقته عليه ولهذا كان في حديث سيد الاستغفار "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي" فلا يرى نفسه إلا مقصرا مذنبا ولا يرى ربه إلا محسنا

ص -116- متفضلا وقد قسم الله خلقه إلى قسمين لا ثالث لهما تائبين وظالمين فقال: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وكذلك جعلهم قسمين معذبين وتائبين فمن لم يتب فهو معذب ولا بد قال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وأمر جميع المؤمنين من أولهم إلى أخرهم بالتوبة ولا يستثنى من ذلك أحد وعلق فلاحهم بها قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وعدد سبحانه من جملة نعمه على خير خلقه وأكرمهم عليه وأطوعهم له وأخشاهم له أن تاب عليه وعلى خواص أتباعه فقال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} ثم كرر توبته عليهم فقال: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقدم توبته عليهم على توبة الثلاثة الذين خلفوا وأخبر سبحانه أن الجنة التي وعدها أهلها في التوراة والإنجيل أنها يدخلها التائبون فذكر عموم التائبين أولا ثم خص النبي والمهاجرين والأنصار بها ثم خص الثلاثة الذين خلفوا فعلم بذلك احتياج جميع الخلق إلى توبته عليهم ومغفرته لهم وعفوه عنهم وقد قال تعالى لسيد ولد آدم وأحب خلقه إليه عفا الله عنك فهذا خبر منه وهو أصدق القائلين أو دعاء لرسوله بعفوه عنه وهو طلب من نفسه وكان صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده أقرب ما يكون من ربه: "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وقال لأطوع نساء الأمة وأفضلهن وخيرهن الصديقة بنت الصديق وقد قالت له يا رسول الله لئن وافقت ليلة القدر فما أدعو به قال: "قولي اللهم إنك عفو تحب

العفو فاعف عني" قال الترمذي حديث حسن صحيح وهو سبحانه لمحبته للعفو والتوبة خلق خلقه على صفات وهيئات وأحوال تقتضي توبتهم إليه واستغفارهم وطلبهم عفوه ومغفرته وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم و لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم" و الله تعالى يحب التوابين و التوبة من أحب الطاعات إليه و يكفي في محبتها شدة فرحه بها كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "قال الله عز و جل: أنا عند ظن عبدي بي و أنا معه حين يذكرني و الله للهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في الفلاة" و في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم: "للهُ أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه و شرابه فنام فاستيقظ و قد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش ثم قال أرجع إلى المكان الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ و عنده راحلته عليها زاده و طعامه و شرابه فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته و زاده" و في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال: "للهُ أشد فرحا بتوبة عبده من رجل حمل زاده و مزاده على بعير ثم سار حتى كان بفلاة فأدركته القائلة فنزل فقال تحت شجرة فغلبته عينه و انسل بعيره فاستيقظ فسعى شرفا فلم ير شيئا ثم سعى شرفا ثانيا ثم سعى شرفا ثالثا فلم ير شيئا فأقبل حتى أتى إلى مكانه الذي قال فيه فبينا هو قاعد فيه إذ جاء بعيره يمشي حتى وضع خطامه في يده" فالله أشد فرحا بتوبة العبد من هذا حين وجد بعيره فتأمل محبته سبحانه لهذه الطاعة التي هي أصل الطاعات و أساسها فإن من زعم أن أحدا من الناس يستغني عنها ولا حاجة

ص -117- به إليها فقد جهل حق الربوبية و مرتبة العبودية و ينتقص بمن أغناه بزعمه عن التوبة من حيث زعم أنه معظم له إذ عطله عن هذه الطاعة العظيمة التي هي من أجل الطاعات و القربة الشريفة التي هي من أجل القربات وقال لست من أهل هذه الطاعة و لا حاجة بك إليها فلا قدر الله حق قدره و لا قدر العبد حق قدره و قد جعل بعض عباده غنيا عن مغفرة الله و عفوه و توبته إليه و زعم أنه لا يحتاج إلى ربه في ذلك و في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للهُ أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب عن أحدكم من رجل كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع وقد يئس من راحلته فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح" وأكمل الخلق أكملهم توبة وأكثرهم استغفارا وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" ولما سمع أبو هريرة هذا من النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد عنه: "إني لأستغفر الله في اليوم والليلة اثني عشر ألف مرة بقدر ديتي" ثم ساقه من طريق آخر وقال: "بقدر ذنبه" وقال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا محمد بن راشد عن مكحول عن رجل عن أبي هريرة قال: "ما جلست إلى أحد أكثر استغفارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال الرجل: "وما جلست إلى أحد أكثر استغفارا من أبي هريرة" وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" وفي السنن والمسند من حديث ابن عمر قال: "كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم" قال الترمذي

هذا حديث حسن صحيح وقال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل ثنا يونس عن حميد بن هلال عن أبي بردة قال جلست إلى الشيخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الكوفة فحدثني قال: سمعت رسول الله أو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى الله عز وجل واستغفروه فإني أتوب إلى الله وأستغفره كل يوم مائة مرة" قال الإمام أحمد وثنا يحيى عن شعبة ثنا عمرو بن مرة قال سمعت أبا بردة قال سمعت الأغر يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم عز وجل فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة" وقال أحمد ثنا يزيد أنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساؤا استغفروا" وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم في أول الصلاة عند الاستفتاح بعد التكبير: "اللهم أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت لبيك وسعديك والخير في يديك وأنا بك وإليك تباركت وتعاليت استغفرك وأتوب إليك" رواه مسلم وفي الصحيحين عنه أنه كان يقول في دعائه: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" وكان يقول هذا سرا لم يعلم به من خلفه حتى سأله عنه أبو هريرة وروى عنه علي بن أبي طالب أنه كان إذا استفتح الصلاة قال لا إله إلا أنت ظلمت نفسي وعملت سوأ فاغفر لي إنه لا يغفر

ص -118- الذنوب إلا أنت وفي الصحيحين أنه كان يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى: "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملأ السماوات وملأ الأرض وملأ ما شئت من شيء بعد اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ" وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله أوله وآخره علانيته وسره" وفي مسند الإمام أحمد أنه كان يقول في صلاته: "اللهم اغفر لي ووسع عليّ في ذاتي وبارك لي فيما رزقتني" وفي صحيح مسلم عن فروة بن نوفل قال: قلت لعائشة حدثيني بشيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به في صلاته قالت: نعم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من شر ما علمت ومن شر ما لم أعلم وكان يقول بين السجدتين اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني" وكان يقول في قيامه إلى الصلاة بالليل: "اللهم لك الحمد" الحديث وفيه "فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت" وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير"، وحقيقة الأمر أن العبد فقير إلى الله من كل وجه وبكل اعتبار فهو فقير إليه من جهة ربوبيته له وإحسانه إليه وقيامه بمصالحه وتدبيره له وفقير إليه من جهة إلهيته وكونه معبوده وإلهه ومحبوبه الأعظم الذي لا صلاح له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون أحب شيء إليه فيكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله ووالده وولده ومن الخلق كلهم وفقير إليه من

جهة معافاته له من أنواع البلاء فإنه إن لم يعافيه منها هلك ببعضها وفقير إليه من جهة عفوه عنه ومغفرته له فإن لم يعف عن العبد ويغفر له فلا سبيل إلى النجاة فما نجى أحد إلا بعفو الله ولا دخل الجنة إلا برحمة الله وكثير من الناس ينظر إلى نفس ما يتاب منه فيراه نقصا ولا ينظر إلى كمال الغاية الحاصلة بالتوبة وأن العبد بعد التوبة النصوح خير منه قبل الذنب ولا ينظر إلى كمال الربوبية وتفرد الرب بالكمال وحده وأن لوازم البشرية لا ينفك منها البشر وأن التوبة غاية كل أحد من ولد آدم وكماله كما كانت هي غايته وكماله فليس للعبد كمال بدون التوبة البتة كما أنه ليس له انفكاك عن سببها فإنه سبحانه هو المتفرد المستأثر بالغنى والحمد من كل وجه وبكل اعتبار والعبد هو الفقير المحتاج إليه المضطر إليه بكل وجه وبكل اعتبار فرحمته للعبد خير له من عمله فإن عمله لا يستقل بنجاته ولا سعادته ولو وكل إلى عمله لم ينج به البتة فهذا بعض ما يتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم" ومما يوضحه أن شكره سبحانه مستحق عليهم بجهة ربوبيته لهم وكونهم عبيده ومماليكه وذلك يوجب عليهم أن يعرفوه ويعظموه ويوحدوه ويتقربوا إليه تقرب العبد المحب الذي يتقلب في نعمه ولا غناء به عنه طرفة عين فهو يدأب في التقرب إليه بجهده ويستفرغ في ذلك وسعه وطاقته ولا يعدل به سواه في شيء من الأشياء ويؤثر رضا سيده على إرادته وهواه بل لا هوى له ولا إرادة إلا فيما يريد سيده ويحبه وهذا يستلزم علوما وأعمالا وإرادات وغرائم لا يعارضها غيرها ولا يبقى له معها التفات إلى

ص -119- غيره بوجه ومعلوم أن ما يطبع عليه البشر لا يفي بذلك وما يستحقه الرب تعالى لذاته وأنه أهل أن يعبد أعظم مما يستحقه لإحسانه فهو المستحق لنهاية العبادة والخضوع والذل لذاته ولإحسانه وإنعامه وفي بعض الآثار "لو لم أخلق جنة ولا نارا لكنت أهلا أن أعبد" ولهذا يقول أعبد خلقه له يوم القيامة وهم الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك فمن كرمه وجوده ورحمته أن رضي من عباده بدون اليسير مما ينبغي أن يعبد به ويستحقه لذاته وإحسانه فلا نسبة للواقع منهم إلى ما يستحقه بوجه من الوجوه فلا يسعهم إلا عفوه وتجاوزه وهو سبحانه أعلم بعباده منهم بأنفسهم فلو عذبهم لعذبهم بما يعلمه منهم وإن لم يحيطوا به علما ولو عذبهم قبل أن يرسل رسله إليهم على أعمالهم لم يكن ظالما لهم كما أنه سبحانه لم يظلمهم بمقته لهم قبل إرسال رسوله على كفرهم وشركهم وقبائحهم فإنه سبحانه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ولكن أوجب على نفسه إذ كتب عليها الرحمة أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه برسالته وسر المسألة أنه لما كان شكر المنعم على قدره وعلى قدر نعمه ولا يقوم بذلك أحد كان حقه سبحانه على كل أحد وله المطالبة به وإن لم يغفر له ويرحمه وإلا عذبه فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه كحاجتهم إلى حفظه وكلاءته ورزقه فإن لم يحفظهم هلكوا وإن لم يرزقهم هلكوا وإن لم يغفر لهم ويرحمهم هلكوا وخسروا ولهذا قال أبوهم آدم وأمهم حواء: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وهذا شأن ولده من بعده وقد قال موسى كليمه سبحانه: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وقال: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وقال: {أَنْتَ

وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} وقال خليله إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} وقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} إلى قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} وقال أول رسله إلى أهل الأرض: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقال لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَق} إلى قوله: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} وقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} وقد تقدم حديث ابن عباس في دعائه صلى الله عليه وسلم: "رب أعني ولا تعن عليّ" وفيه "رب تقبل توبتي واغسل حوبتي" الحديث وقد أخبر سبحانه عن أعبد البشر داود أنه استغفر ربه راكعا وأناب وقال تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِك} وقال عن نبيه سليمان: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} وقال عن نبيه يونس أنه ناداه في الظلمات: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وقال صديق الأمة وخيرها وأبرها وأتقاها لله بعد رسوله: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال: "قل اللهم إني ظلمت

نفسي ظلما كبيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني أنك أنت الغفور الرحيم" فاستفتح الخبر عن نفسه بأداة التوكيد التي تقتضي تقرير ما بعدها ثم ثنى بالإخبار عن ظلمه لنفسه ثم وصف ذلك الظلم بكونه ظلما كبيرا ثم طلب من ربه أن يغفر له مغفرة من عنده أي لا يبلغها

ص -120- علمه ولا سعيه بل هي محض منته وإحسانه وأكبر من عمله فإذا كان هذا شأن من وزن بالأمة فرجح بهم فكيف بمن دونه.

شفاء العليل

الباب السابع عشر: في الكتب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا
الباب السابع عشر: في الكسب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا
وما دل عليه السمع والعقل من ذلك، أما الكسب فأصله في اللغة الجمع قاله الجوهري وهو طلب الرزق يقال كسبت شيئا واكتسبته بمعنى وكسبت أهلي خيرا وكسبت الرجل مالا فكسبه وهذا مما جاء على فعلته ففعل والكواسب الجوارح وتكسب تكلف الكسب انتهى والكسب قد وقع في القرآن على ثلاثة أوجه أحدها عقد القلب وعزمه كقوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي بما عزمتم عليه وقصدتموه وقال الزجاج: "أي يؤاخذكم بعزمكم" على أن لا تبروا وأن لا تتقوا وأن تعتلوا في ذلك بأنكم حلفتم وكأنه التفت إلى لفظ المؤاخذة وأنها تقتضي تعذيبا فجعل كسب قلوبهم عزمهم على ترك البر والتقوى لمكان اليمين والقول الأول أصح وهو قول جمهور أهل التفسير فإنه قابل به لغو اليمين وهو أن لا يقصد اليمين فكسب القلب المقابل للغو اليمين هو عقده وعزمه كما قال في الآية الأخرى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} فتعقيد الإيمان هو كسب القلب الوجه الثاني من الكسب: كسب المال من التجارة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} فالأول للتجار والثاني للزراع والوجه الثالث من الكسب: السعي والعمل كقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} فهذا كله للعمل واختلف الناس في الكسب والاكتساب هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق فقالت طائفة معناهما واحد

قال أبو الحسن علي بن أحمد وهو الصحيح عند أهل اللغة: "ولا فرق بينهما" قال ذو الرمة:
ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب
وقال الآخرون الاكتساب أخص من الكسب لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره ولا يقال يكتسب قال الحطيئة:
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر هداك مليك الناس يا عمر
قلت: والاكتساب افتعال وهو يستدعي اهتماما وتعملا واجتهادا وأما الكسب فيصح نسبته بأدنى شيء ففي جانب الفضل جعل لها ما لها فيه أدنى سعى وفي جانب العدل لم يجعل عليها إلا مالها فيه اجتهاد واهتمام وأما الجبر فيرجع في اللغة إلى ثلاثة أصول أحدها: أن يغنى الرجل من فقر أو يجبر عظمه من كسر وهذا من الإصلاح وهذا الأصل يستعمل لازما ومتعديا يقول جبرت العظم وجبر وقد جمع العجاج بينهما في قوله:
قد جبر الدين الإله فجبر الأصل الثاني: الإكراه والقهر وأكثر ما يستعمل هذا على أفعل يقال أجبرته على كذا إذا أكرهته عليه ولا يكاد يجيء جبرته عليه إلا قليلا والأصل الثالث: من العز والامتناع ومنه نخلة جبارة قال الجوهري: "والجبار من النخل ما طال وفات اليد" قال الأعشى:
طريق وجبار رواء أصوله عليه أبابيل من الطير تنعب

ص -121- وقال الأخفش في قوله تعالى: {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} قال: "أراد الطول والقوة والعظم" ذهب في هذا إلى الجبار من النخل وهو الطويل الذي فات الأيدي ويقال رجل جبار إذا كان طويلا عظيما قويا تشبيها بالجبار من النخل قال قتادة: "كانت لهم أجسام وخلق عجيبة ليست لغيرهم" وقيل الجبار ههنا من جبره على الأمر إذا أكرهه عليه قال الأزهري: "وهي لغة معروفة كثير من الحجازيين يقولونها" وكان الشافعي رحمه الله يقول: "جبره السلطان" ويجوز أن يكون الجبار من أجبره على الأمر إذا أكرهه قال الفراء: "لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين وهما جبار من أجبر ودراك من أدرك" وهذا اختيار الزجاج قال الجبار من الناس العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وأما الجبار من أسماء الرب تعالى فقد فسره بأنه الذي يجبر الكسير ويغني الفقير والرب سبحانه كذلك ولكن ليس هذا معنى اسمه الجبار ولهذا قرنه باسمه المتكبر وإنما هو الجبروت وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة" فالجبار اسم من أسماء التعظيم كالمتكبر والملك والعظيم والقهار قال ابن عباس في قوله تعالى: {الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} هو العظيم وجبروت الله عظمته والجبار من أسماء الملوك والجبر الملك والجبابرة الملوك قال الشاعر:
وأنعم صباحا أيها الجبر
أي أيها الملك وقال السدي: "هو الذي يجبر الناس ويقهرهم على ما يريد وعلى هذا فالجبار معناه القهار وقال محمد بن كعب: "إنما سمي الجبار لأنه جبر الخلق على ما أراد والخلق أدق شأنا من أن يعصوا ربهم طرفة عين إلا بمشيئته" قال الزجاج: "الجبار الذي جبر الخلق على ما أراد" وقال ابن الأنباري: "الجبار في صفة الرب سبحانه الذي لا ينال" ومنه قولهم نخلة جبارة إذا فاتت يد المتناول فالجبار في صفة الرب سبحانه ترجع إلى ثلاثة معان الملك والقهر والعلو فإن النخلة إذا طالت وارتفعت وفاتت الأيدي سميت

جبارة ولهذا جعل سبحانه اسمه الجبار مقرونا بالعزيز والمتكبر وكل واحد من هذه الأسماء الثلاثة تضمن الاسمين الآخرين وهذه الأسماء الثلاثة نظير الأسماء الثلاثة وهي الخالق البارئ المصور فالجبار المتكبر يجريان مجرى التفصيل لمعنى اسم العزيز كما أن البارئ المصور تفصيل لمعنى اسم الخالق فالجبار من أوصافه يرجع إلى كمال القدرة والعزة والملك ولهذا كان من أسمائه الحسنى وأما المخلوق فاتصافه بالجبار ذم له ونقص كما قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّار} أي مسلط تقهرهم وتكرههم على الإيمان وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطأهم الناس".
فصل: إذا عرف هذا فلفظ الكسب تطلقه القدرية على معنى والجبرية على معنى وأهل السنة والحديث على معنى فكسب القدرية هو وقوع الفعل عندهم بإيجاد العبد وإحداثه ومشيئته من غير أن يكون الله شاءه أو أوجده وكسب الجبرية لفظ لا معنى له ولا حاصل تحته وقد اختلفت عباراتهم فيه وضربوا له الأمثال وأطالوا فيه المقال فقال القاضي: "الكسب ما وجدوا عليه قدرة محدثة" وقيل: أنه المتعلق بالقادر على غير جهة الحدوث وقيل: أنه المقدور بالقدرة الحادثة قالوا: ولسنا نريد بقولنا ما وجدوا عليه قدرة محدثة أنها قدرة على وجوده فإن القادر على وجوده هو الله وحده وإنما نعني بذلك أن للكسب تعلقا بالقدرة الحادثة لا من باب الحدوث والوجود وقال الأسفرائيني: "حقيقة الخلق من الخالق وقوعه بقدرته من حيث صح انفراده به وحقيقة الفعل وقوعه بقدرته وحقيقة

ص -122- الكسب من المكتسب وقوعه بقدرته مع انفرداه به ويختص القديم تعالى بالخلق ويشترك القديم والمحدث في الفعل ويختص المحدث بالكسب" قلت: مراده أن إطلاق لفظ الخلق لا يجوز إلا على الله وحده وإطلاق لفظ الكسب يختص بالمحدث وإطلاق لفظ الفعل يصح على الرب سبحانه والعبد وقال أيضا: "كل فعل يقع على التعاون كان كسبا من المستعين" قلت: يريد أن الخالق يستقل بالخلق والإيجاد والكاسب إنما يقع منه الفعل على وجهه المعاونة والمشاركة منه ومن غيره لا يمكنه أن يستقل بإيجاد شيء البتة وقال آخرون: قدرة المكتسب تتعلق بمقدوره على وجه ما وقدرة الخالق تتعلق به من جميع الوجوه قالوا وليس كون الفعل كسبا من حقائقه التي تخصه بل هو معنى طرأ عليه كما يقول منازعونا من المعتزلة إن هذه الحركة لطف وهذا الفعل لطف وصيغة أفعل تصير أمرا بالإرادة لأنها حدثت بالإرادة واعتقاد الشيء على ما هو به يصير علما بسكون النفس إليه لا أنه يحدث كذلك به والأشياء قد تقترن في الوجود فتتغير أوصافها وأحكامها قالوا فالحركة إذا صادفت المتحرك بها على وجه مخصوص تسمى سباحة مثلا ولطما ومشيا ورقصا وقال الأشعري و ابن الباقلاني: "الواقع بالقدرة الحادثة هو كون الفعل كسبا دون كونه موجودا أو محدثا فكونه كسبا وصف للوجود بمثابة كونه معلوما" ولخص بعض متأخريهم هذه العبارات بأن قال: "الكسب عبارة عن الاقتران العادي بين القدرة المحدثة والفعل" فإن الله سبحانه أجرى العادة بخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته لا بهما فهذا الاقتران هو الكسب ولهذا قال كثير من العقلاء إن هذا من محالات الكلام وإنه شقيق أحوال أبي هاشم وطفرة النظام والمعنى القائم بالنفس الذي يسميه القائلون به كلاما وشيء من ذلك غير معقول ولا متصور والذي استقر عليه قول الأشعري: "أن القدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها ولم يقع المقدور ولا صفة من صفاته بل المقدور بجميع صفاته واقع بالقدرة القديمة ولا تأثير

للقدرة الحادثة فيه" وتابعه على ذلك عامة أصحابه والقاضي أبو بكر يوافقه مرة ومرة يقول: "القدرة الحادثة لا تؤثر في إثبات الذات وأحداثها ولكنها تقتضي صفة للمقدور زائدة على ذاته تكون حالا له" ثم تارة يقول: "تلك الصفة التي هي من أثر القدرة الحادثة مقدورة لله تعالى ولم يمتنع من إثبات هذا المقدور بين قادرين على هذا الوجه" وقد اضطربت آراء أتباع الأشعري في الكسب اضطرابا عظيما و اختلفت عباراتهم فيه اختلافا كثيرا وقد ذكره كله أبو القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري في شرح الإرشاد وذكر اختلاف طرائقهم واضطرابهم فيه ثم قال: "وقد قال الأستاذ في المختصر قول أهل الحق في الكسب لا يرجع إلى إثبات قدرة للعبد عليه" كما يقال أنه معلوم له إلا أن الإمام ادعى على الأستاذ أنه أثبت للقدرة الحادثة أثرا في الحدوث فإنه لما نفي الأحوال وأثبت للقدرة الحادثة أثرا فلا يعقل الجمع بينهما إلا أن يكون الأثر في الحدوث ثم ذكر لنفسه مذهبا ذكره في الكتاب المترجم بالنظامية وانفرد به عن الأصحاب وهو قريب من مذهب المعتزلة والخلاف بينه وبينهم فيه في الاسم قال: "وهذه العقدة التي تورط الأصحاب فيها في الكسب شبيهة بالعقدة التي وقعت بين الأئمة في القراءة والمقروء "قالك "وما ذكره الإمام في النظامية له وجه غير أنه مما انفرد بإطلاقه" ولكل ناظر نظره والله يرحمنا وإياه قلت: الذي قاله الإمام في النظامية أقرب إلى الحق مما قاله الأشعري وابن الباقلاني ومن تابعهما ونحن نذكر كلامه بلفظه قالك "قد تقرر عند كل حاظ! بعقله مترق عن مراتب التقليد في قواعد التوحيد أن الرب سبحانه يطالب عباده

ص -123- بأعمالهم في حياتهم ودواعيهم إليها ومثيبهم ومعاقبهم عليها في مآلهم" وتبين بالنصوص التي لا تتعرض للتأويلات أنه أقدرهم على الوفاء بما طالبهم به ومكنهم من التوصل إلى امتثال الأمر والانكفاف عن مواقع الزجر ولو ذهبت أتلو الآي المتضمنة لهذه المعاني لطال المرام ولا حاجة إلى ذلك مع قطع اللبيب المنصف به ومن نظر في كليات الشرائع وما فيها من الاستحثاث والزواجر عن الفواحش الموبقات وما نيط ببعضها من الحدود والعقوبات ثم تلفت على الوعد والوعيد وما يجب عقده من تصديق المرسلين في الأنباء عما يتوجه على المردة العتاة من الحساب والعقاب وسوء المنقلب والمآب وقول الله لهم لم تعديتم وعصيتم وأبيتم وقد أرخيت لكم الطول وفسحت لكم المهل وأرسلت الرسل وأوضحت المحجة لئلا يكون للناس علي حجة وأحاط بذلك كله ثم استراب في أن أفعال العباد واقعة على حسب إيثارهم واختيارهم واقتدارهم فهو مصاب في عقله أو مستقر على تقليده مصمم على جهله ففي المصير إليه أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله قطع طلبات الشرائع والتكذيب بما جاء به المرسلون فإن زعم من لم يوفق لمنهج الرشاد أنه لا أثر لقدرة العبد في مقدوره أصلا وإذا طولب بمتعلق طلب الله بفعل العبد تحريما وفرضا ذهب في الجواب طولا وعرضا وقال لله أن يفعل ما يشاء ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون قيل له ليس لما جئت به حاصل كلمة حق أريد بها باطل نعم يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ولكن يتقدس عن الخلف ونقيض الصدق وقد فهمنا بضرورات المعقول من الشرع المنقول أنه عزت قدرته طالب عباده بما أخبر أنهم ممكنون من الوفاء به فلم يكلفهم إلا على مبلغ الطاقة والوسع في موارد الشرع ومن زعم أنه لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومة فوجه مطالبة العبد بأفعاله عنده كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألوانا وإدراكات وهذا خروج عن حد الاعتدال إلى التزام

الباطل والمحال وفيه إبطال الشرع ورد ما جاء به النبيون فإذا لزم المصير بأن القدرة الحادثة تؤثر في مقدورها واستحال إطلاق القول بأن العبد خالق أعماله فإن فيه الخروج عما درج عليه سلف الأمة واقتحام ورطات الضلال ولا سبيل إلى المصير إلى وقوع فعل العبد بقدرته الحادثة والقدرة القديمة فإن الفعل الواحد يستحيل حدوثه بقادرين إذ الواحد لا ينقسم فإن وقع بقدرة الله استقل بها وأسقط أثر القدرة الحادثة ويستحيل أن يقع بعضه بقدرة الله تعالى فإن الفعل الواحد لا بعض له وهذه مهواة لا يسلم من غوائلها إلا مرشد موفق إذ المرء بين أن يدعى الاستبداد وبين أن يخرج نفسه عن كونه مطالبا بالشرائع وفيه أبطال دعوة المرسلين وبين أن يثبت نفسه شريكا لله في إيجاد الفعل الواحد وهذه الأقسام بجملتها باطلة ولا ينجى من هذه الملتطم ذكر اسم محض ولقب مجرد من غير تحصيل معنى وذلك أن قائلا لو قال العبد يكتسب وأثر قدرته الاكتساب والرب سبحانه خالق لما العبد مكتسب له قيل له فما الكسب وما معناه وأديرت الأقسام المتقدمة على هذا القائل فلا يجد عنه مهربا ثم قال فنقول قدرة العبد مخلوقة لله تعالى باتفاق القائلين بالصانع والفعل المقدور بالقدرة الحادثة واقع بها قطعا ولكنه يضاف إلى الله سبحانه تقديرا وخلقا فإنه وقع بفعل الله وهو القدرة فعلا للعبد وإنما هي صفته وهي ملك لله وخلق له فإذا كان موقع الفعل خلقا لله فالواقع به مضاف خلقا إلى الله تعالى وتقديرا وقد ملك الله تعالى العبد اختيارا يصرف به القدرة فإذا أوقع بالقدرة شيئا آل الواقع إلى حكم الله

ص -124- من حيث أنه وقع بفعل الله ولو اهتدت إلى هذا الفرقة الضالة لم يكن بيننا وبينهم خلاف ولكنهم ادعوا استبدادا بالاختراع وانفراد بالخلق والابتداع فضلوا وأضلوا وتبين تميزنا عنهم بتفريع المذهبين فإنا لما أضفنا فعل العبد إلى تقدير الإله سبحانه قلنا أحدث الله تعالى القدرة في العبد على أقدار أحاط بها علمه وهيأ أسباب الفعل وسلب العبد العلم بالتفاصيل وأراد من العبد أن يفعل فأحدث فيه دواع مستحثة وخيرة وإرادة وعلم أن الأفعال ستقع على قدر معلوم فوقعت بالقدرة التي اخترعها العبد على ما علم وأراد فاختيارهم واتصافهم بالاقتداء والقدرة خلق الله ابتداء ومقدورها مضاف إليه مشيئة وعلما وقضاء وخلقا من حيث أنه نتيجة ما انفرد بخلقه وهو القدرة ولو لم يرد وقوع مقدورها لما أقدره عليه ولما هيأ أسباب وقوعه ومن هدي لهذا استمر له الحق المبين فالعبد فاعل مختار مطالب مأمور منهي وفعله تقدير لله من أدلة خلق مقضي ونحن نضرب في ذلك مثلا شرعيا يستروح إليه الناظر في ذلك فنقول: العبد لا يملك آن يتصرف في مال سيده ولو استبد بالتصرف فيه لم ينفذ تصرفه فإذا أذن له في بيع ماله فباعه نفذ والبيع في التحقيق معزو إلى السيد من حيث أن سببه إذنه ولولا إذنه لم ينفذ التصرف ولكن العبد يؤمر بالتصرف وينهى ويوبخ على المخالفة ويعاقب فهذا والله الحق الذي لا غطاء دونه ولا مراء فيه لمن وعاه حق وعيه وأما الفرقة الضالة فإنهم اعتقدوا انفراد العبد بالخلق ثم صاروا إلى أنه إذا عصى فقد انفرد بخلق فعله والرب كاره له فكان العبد على هذا الرأي الفاسد مزاحما لربه في التدبير موقعا ما أراد إيقاعه شاء الرب أو كره, فإن قيل على ماذا تحملون آيات الطبع والختم والإضلال في القرآن وهي متضمنة اضطرار الرب سبحانه للأشقياء إلى ضلالتهم, قلنا إذا أباح الله حل هذا الإشكال والجواب عن هذا السؤال لم يبق على ذوي البصائر بعده غموض فنقول أولا من أنبأ الله سبحانه

عن الطبع على قلوبهم كانوا مخاطبين بالإيمان مطالبين بالإسلام والتزام الأحكام مطالبة تكاليف ودعاء مع وصفهم بالتمكن والاقتدار والإيثار كما سبق تقريره ومن اعتقد أنهم كانوا ممنوعين مأمورين مصدودين قهرا مدعوين فالتكليف عنده إذا بمثابة ما لو شد من الرجل يداه ورجلاه رباطا وألقي في البحر ثم قيل له لا تبتل وهذا أمر لا يحمل شرائع الرسل عليه إلا عائب بنفسه مجترئ على ربه ولا فرق عند هذا القائل بين أمر التسخير والتكوين في قوله: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وبين أمر التكليف فإذا بطل ذلك فالوجه في الكلام على هذه الآي وقد غوى في حقائقها أكثر الفرق أن يقول إذا أراد الله بعبد خيرا أكمل عقله وأتم بصيرته ثم صرف عنه العوائق والدوافع وأزاح عنه الموانع ووفق له قرناء الخير وسهل له سبله وقطع عنه الملهيات وأسباب الغفلات وقيض له ما يقربه إلى القربات فيوافيها ثم يعتادها ويمرن عليها وإذا أراد الله بعبده شرا قدر له مما يبعده عن الخير ويقصيه وهيأ له أسباب تماديه في الغي وحبب إليه التشوف إلى الشهوات وعرضه للآفات وكلما غلبت عليه دواعي النفس خنست دواعي الخير ثم يستمر على الشرور على مر الدهور ويأتي مهاويها ويتعاون عليه الوسواس ونزعات الشيطان ونزفات النفس الإمارة بالسوء فتنسخ الغفلة على قلبه غشاوة بقضاء الله وقدره فذلكم الطبع والختم والأكنة وأنا أضرب في ذلك مثلا فأقول لو فرضنا شابا حديث العهد بحلمه لم تهذبه المذاهب ولم تحنكه التجارب وهو على نهاية في غلمته وشهوته وقد استمكن من بلغة من الحطام

ص -125- وخص بمسحة من الجمال ولم يقم عليه قوام يزعه عن ورطات الردى ويمنعه عن الارتباك في شبكات الهوى ووافاه أخدان الفساد وهو في غلواء شبابه يحدث نفسه بالبقاء أمدا بعيدا فما أقرب من هذا وصفه من خلع العذار والبدار إلى شيم الأشرار وهو مع ذلك كله مؤثر مختار ليس مجبرا على المعاصي والزلات ولا مصدودا عن الطاعات ومعه من العقل ما يستوجب به اللائمة إذا عصى فمن هذا سبيله لا يستحيل في العقل تكليفه فإنه ليس ممنوعا ولكن إن سبق له من الله سوء القضاء فهو صائر إلى حكم الله الجزم وقضائه الفصل محجوج بحجة الله ألا أن يتغمده الله برحمته وهو أرحم الراحمين وهذا الذي ذكرته بين في معاني الآيات لا يتمارى فيه موفق قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} أراد أنهم استمروا على المخالفات وأصرا بانتهاك الحرمات فقست قلوبهم وقال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} فقد جمعت بين تفويض الأمور كلها نفعها وضرها خيرها وشرها إلى الإله جلت قدرته وبين إثبات حقائق التكليف وتقرير قواعد الشرع على الوجه المعقول ألست في هذا أهدى سبيلا وأقوم قيلا ممن يقدر الطبع منعا والختم صدا ودفعا ثم ينفي التكاليف بزعمه وقد افترق الخلق في هذا المقام فرقا فذهب ذاهبون إلى أن المخذولين ممنوعون مدفوعون لا اقتدار لهم على إجابة دعاة الحق وهم مع ذلك ملزمون وهذا خطب جسيم وأمر عظيم وهو طعن في الشرائع وإبطال للدعوات وقد قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} وقال إبليس:: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُد} نعوذ بالله من سوء النظر في مواقع الخطر وذهب طوائف من الضلال إلى أن العبد يعصي والرب لما يأتي به كاره فهذا خبط في الأحكام الإلهية ومزاحمة في الربوبية ولو لم يرد الرب من الفجار ما علمه منهم في أزليته لما فطرهم مع علمه بهم كيف وقد أكمل قواهم

وأمدهم بالعدد والعدد والعتاد وسهل لهم طريق الحيد عن السداد, فإن قيل: فعل ذلك بهم ليطيعوه, قلنا أنى يستقيم ذلك وقد علم أنهم يعصونه ويهلكون أنفسهم ويهلكون أولياءه وأنبيائه ويشقون شقاوة لا يسعدون بها أبدا ولو علم سيد عن وحي أو أخبار نبي أنه لو أمد عبده بالمال لطغى وأبق وقطع الطريق فأمده بالمال زاعما أنه يريد منه ابتناء القناطر والمساجد وهو مع ذلك يقول أعلم أنه لا يفعل ذلك قطعا فهذا السيد مفسد عبده وليس مصلحا له باتفاق من أرباب الألباب فقد زاغت الفئتان وضلت الفرقتان واعترضت إحداهما على القواعد الشرعية وزاحمت الأخرى أحكام الربوبية واقتصد الموفقون فقالوا مراد الله من عباده ما علم أنهم إليه يصيرون ولكنه لم يسلبهم قدرتهم ولم يمنعهم مراشدهم فقرت الشريعة في نصابها وجرت العقيدة في الأحكام الإلهية على صوابها, فإن قيل كيف يريد الحكيم السفه فقد أوضحنا أن الأفعال متساوية في حق من لا ينتفع ولا يتضرر ولكن إذا أخبر أنه مكلف مطالب عباده مزيح عللهم فقوله الحق وكلامه الصدق وأقرب أمر يعارضون به أن الحكيم منا إذا رأى جواريه وعبيده يمرج بعضهم في بعض وهم على محارمهم بمرأى منه ومسمع فلا يحسن تركهم على ما هم عليه والرب سبحانه يطلع على سوء أفعالهم ويستدرجهم من حيث لا يعلمون ثم قال قد أطلقت أنفاسي ولكن لو وجدت في اقتباس هذا العلم من يسرد لي هذا الفصل لكان وحق القائم على كل نفس بما كسبت أحب إلي من ملك الدنيا بحذافيرها أطول أمدها" انتهى كلامه بلفظه وهذا توسط حسن بين الفريقين وقد أنكره عليه عامة أصحابه منهم الأنصاري شارح الإرشاد وغيره وقالوا هو أقرب من مذهب

ص -126- المعتزلة ولا يرجع الخلاف بينه وبينهم إلا إلى الاسم فقط وأن هذا مما انفرد به ولكن بقي عليه فيه أمور منها أنه نفى كراهة الله لما قدره من المعاصي بناء على أصله أن كل مراد له فهو محبوب له وأنه إذا كان قد قدر الكفر والفسوق والعصيان فهو يريده ويحبه ولا يكرهه وإن كانت قدرة العبد واختياره مؤثرة في إيجاد الفعل عنده بأقدار الرب سبحانه وقد أصاب في هذا وأجاد ولكن القول بأن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يكرهه إذا كان واقعا قول في غاية البطلان وهو مخالف لصريح العقل والنقل والذي قاده إلى ذلك قوله أن المحبة هي الإرادة والمشيئة وأن كل ما شاءه فقد أراده وأحبه ومن لم يفرق بين المشيئة والمحبة لزمه أحد أمرين باطلين لا بد له من التزامه أما القول بأن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق والعصيان أو القول بأنه ما شاء ذلك ولا قدره ولا قضاه وقد قال بكل من المتلازمين طائفة قالت طائفه لا يحبها ولا يرضاها فما شاءها ولا قضاها وقالت طائفة هي واقعة بمشيئته وإرادته فهو يحبها ويرضاها فاشترك الطائفتان في هذا الأصل وتباينا في لازمه وقد أنكر الله سبحانه على من احتج على محبته بمشيئته في ثلاثة مواضع من كتابه في سورة الأنعام والنحل والزخرف فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} وكذلك حكى عنهم في النحل ثم قال: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقال في الزخرف: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ

يَخْرُصُونَ} فاحتجوا على محبته لشركهم ورضاه به بكونه أقرهم عليه وأنه لولا محبته له ورضاه به لما شاءه منهم وعارضوا بذلك أمره ونهيه ودعوة الرسل قالوا كيف يأمر بالشيء قد شاء منا خلافه وكيف يكره منا شيئا قد شاء وقوعه ولو كرهه لم يمكنا منه ولحال بيننا وبينه فكذبهم سبحانه في ذلك وأخبر أن هذا تكذيب منهم لرسله وأن رسله متفقون على أنه سبحانه يكره شركهم ويبغضه ويمقته وأنه لولا بغضه وكراهته لما أذاق المشركين بالله عذابه فإنه لا يعذب عبده على ما يحبه ثم طالبهم بالعلم على صحة مذهبهم بأن الله أذن فيه وأنه يحبه ويرضى به ومجرد إقراره لهم قدرا لا يدل على ذلك عند أحد من العقلاء وإلا كان الظلم والفواحش والسعي في الأرض بالفساد والبغي محبوبا له مرضيا ثم أخبر سبحانه أن مستندهم في ذلك إنما هو الظن وهو أكذب الحديث وأنهم لذلك كانوا أهل الخرص والكذب ثم أخبر سبحانه أن له الحجة عليهم من جهتين إحداهما ما ركبّه فيهم من العقول التي يفرقون بها بين الحسن والقبيح والباطل والأسماع والأبصار التي هي آلة إدراك الحق والتي يفرق بها بينه وبين الباطل والثانية إرسال رسله وإنزال كتبه وتمكينهم من الإيمان والإسلام ولم يؤاخذهم بأحد الأمرين بل بمجموعها لكمال عدله وقطعا لعذرهم من جميع الوجوه ولذلك سمى حجته عليهم بالغة أي قد بلغت غاية البيان وأقصاه بحيث لم يبق معها مقال لقائل ولا عذر لمعتذر ومن اعتذر إليه سبحانه بعذر صحيح قبله ثم ختم الآية بقوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته وهذا من تمام حجته البالغة فإنه إذا امتنع الشيء لعدم مشيئته لزم وجوده عند مشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن كان هذا من أعظم أدلة التوحيد ومن أبين أدلة بطلان ما أنتم عليه من الشرك واتخاذ الأنداد من دونه فما احتججتم به من المشيئة على ما أنتم عليه من الشرك هو من

ص -127- أظهر الأدلة على بطلانه وفساده فلو أنهم ذكروا القدر والمشيئة توحيدا له وافتقارا والتجاء إليه وبراءة من الحول والقوة إلا به ورغبة إليه أن يقيلهم مما لو شاء أن لا يقع منهم لما وقع لنفعهم ذلك ولفتح لهم باب الهداية ولكن ذكروه معارضين به أمره ومبطلين به دعوة الرسل فما ازدادوا به إلا ضلالا والمقصود أنه سبحانه قد فرق بين حجته ومشيئته وقد حكى أبو الحسن الأشعري في مقالاته اتفاق أهل السنة والحديث على ذلك والذي حكى عنه ابن فورك في كتاب تجريده لمقالاته أنه كان يفرق بين ذلك قال: "وكان لا يفرق بين الود والحب والإرادة والمشيئة والرضا وكان لا يقول أن شيئا منها يخص بعض المردات دون بعض بل كان يقول أن كل واحد منها بمعنى صاحبه على جهة التقييد الذي يزول معه الإبهام وهو أن المؤمن محبوب لله أن يكون مؤمنا من أهل الخير كما علم والكافر أيضا مراد أن يكون كافرا كما علم من أهل الشر ويحب أن يكون ذلك كذلك كما علم وكذلك كان يقول في الرضا والاصطفاء والاختيار ويقيد اللفظ بذلك حتى لا يتوهم فيه الخطأ" انتهى والذي عليه أهل الحديث والسنة قاطبه والفقهاء كلهم وجمهور المتكلمين والصوفية أنه سبحانه يكره بعض الأعيان والأفعال والصفات وإن كانت واقعة بمشيئته فهو يبغضها ويمقتها كما يبغض ذات إبليس وذوات جنوده ويبغض أعمالهم ولا يحب ذلك وإن وجد بمشيئته قال الله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وقال: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} وقال:: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وقال:: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} وقال:: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وقال:: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} فهذا إخبار عن عدم محبته لهذه الأمور ورضاه بها بعد وقوعها فهذا صريح في إبطال

قول من تأول النصوص على أنه لا يحبها ممن لم تقع منه ويحبها إذا وقعت فهو يحبها ممن وقعت منه ولا يحبها ممن لم تقع منه وهذا من أعظم الباطل والكذب على الله بل هو سبحانه يكرهها ويبغضها قبل وقوعها وحال وقوعها وبعد وقوعها فإنها قبائح وخبائث والله منزه عن محبة القبيح والخبيث بل هو أكره شيء إليه قال الله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} وقد أخبر سبحانه أنه يكره طاعات المنافقين ولأجل ذلك يثبطهم عنها فكيف يحب نفاقهم ويرضاه ويكون أهله محبوبين له مصطفين عنده مرضيين ومن هذا الأصل الباطل نشأ قولهم باستواء الأفعال بالنسبة إلى الرب سبحانه وأنها لا تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح فلا فرق بالنسبة إليه سبحانه بين الشكر والكفر ولذلك قالوا لا يجب شكره على نعمه عقلا فعن هذا الأصل قالوا أن مشيئته هي عين محبته وإن كل ما شاءه فهو محبوب له ومرضى له ومصطفى ومختار فلم يمكنهم بعد تأصل هذا الأصل أن يقولوا أنه يبغض الأعيان والأفعال التي خلقها ويحب بعضها بل كل ما فعله وخلقه فهو محبوب له والمكروه المبغوض ما لم يشأه ولم يخلقه وإنما أصلوا هذا الأصل محافظة منهم على القدر فحثوا به على الشرع والقدر والتزموا لأجله لوازم شوشوا بها على القدر والحكمة وكابروا لأجلها صريح العقل وسووا بين أقبح القبائح وأحسن الحسنات في نفس الأمر وقالوا هما سواء لا فرق بينهما إلا بمجرد الأمر والنهي فالكذب عندهم والظلم والبغي والعدوان مساو للصدق والعدل والإحسان في نفس الأمر ليس في هذا ما يقتضي حسنه ولا في هذا ما يقتضي قبحه وجعلوا هذا المذهب شعارا لأهل السنة والقول بخلافه قول أهل البدع من المعتزلة وغيرهم ولعمر الله أنه لمن أبطل الأقوال وأشدها منافاة

ص -128- للعقل والشرع ولفطرة الله التي فطر عليها خلقه وقد بينا بطلانه من أكثر من خمسين وجها في كتاب المفتاح والمقصود أنه لما انضم القول به إلى القول بأنه سبحانه لا يحب شيئا ويبغض شيئا بل كل موجود فهو محبوب له وكل معدوم فهو مكروه له وانضم إلى هذين الآخرين إنكار الحكم والغايات المطلوبة في أفعاله سبحانه وأنه لا يفعل شيئا لمعنى ألبتة وانضم إلى ذلك إنكار الأسباب وأنه لا يفعل شيئا بشيء وإنكار القوى والطبائع والغرائز وأن تكون أسبابا أو يكون لها أثر انسد عليهم باب الصواب في مسائل القدر والتزموا لهذه الأصول الباطلة لوازم هي أظهر بطلانا و فسادا و هي من أول شيء على فساد هذه الأصول وبطلانها فإن فساد اللازم من فساد ملزومه فإن قيل الكراهة والمحبة ترجع إلى المنافرة والملائمة للطبع وذلك محال في حق من لا يصف بطبع ولا منافرة ولا ملائمة قيل قد دلت النصوص التي لا تدفع على وصفه تعالى بالمحبة و الكراهة فتبينكم حقائق ما دلت عليه بالتعبير عنها بملائمة الطبع ومنافرته باطل وهو كنفي كل مبطل حقائق أسمائه وصفاته بالتعبير عنها بعبارات اصطلاحية توصل بها إلى نفي ما وصف به نفسه كتسمية الجهمية المعطلة صفاته أعراضا ثم توصلوا بهذه التسمية إلى نفيها وسموا أفعاله القائمة به حوادث ثم توصلوا بهذه التسمية إلى نفيها وقالوا لا تحله الحوادث كما قالت المعطلة لا تقوم به الأعراض وسموا علوه على خلقه واستواءه على عرشه وكونه قاهرا فوق عباده تحيزا وتجسما ثم توصلوا بنفي ذلك إلى نفي علوه عن خلقه واستوائه على عرشه وسموا ما أخبر به عن نفسه من الوجه واليدين والأصبع جوارح وأعضاء ثم نفوا ما أثبته لنفسه بتسميتهم له بغير تلك الأسماء: {إِنْ هِيَ إِلاَّأَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّالظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ

رَبِّهِمُ الْهُدَى} فتوصلوا بالتشبيه والتجسيم والتركيب والحوادث والأعراض والتحيز إلى تعطيل صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأخلوا تلك الأسماء من معانيها وعطلوها من حقائقها فيقال لمن نفى محبته وكراهته لاستلزامهما ميل الطبع ونفرته ما الفرق بينك وبين من نفى كونه مريدا لاستلزام الإرادة حركة النفس إلى جلب ما ينفعها ودفع ما يضرها ونفى سمعه وبصره لاستلزام ذلك تأثر السمع والبصر بالمسموع والمبصر وانطباع صورة المرئي في الرائي وحمل الهواء الصوت المسموع إلى إذن السامع ومن نفى علمه لاستلزامه انطباع صورة المعلوم في النفس الناطقة ونفي غضبه ورضاه لاستلزام ذلك حركة القلب وانفعاله بما يرد عليه من المؤلم والسار ونفي كلامه لاستلزام الكلام محلا يقوم به ويظهر منه من شفة ولسان ولهوات ولما لم يكن أحدا أقر بوجود رب العالمين طرد ذلك وقع في التناقض ولا بد فإنه أي شيء أثبته لزمه فيه ما التزم كمن أثبت ما نفاه هو من غير فرق البتة ولهذا قال الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة: "لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين" والمقصود أنا لا نجحد محبته تعالى لما يحبه وكراهته لما يكرهه لتسمية النفاة ذلك ملائمة ومنافرة وينبغي التفطن لهذا الموضع فإنه من أعظم أصول الضلال فلا نسمي العرش حيزا ولا نسمي الاستواء تحيزا ولا نسمي الصفات إعراضا ولا الأفعال حوادث ولا الوجه واليدين والأصابع جوارح وأعضاء ولا إثبات صفات كماله التي وصف بها نفسه تجسيما وتشبيها فنجني جنايتين عظيمتين جناية على اللفظ وجناية على المعنى فنبدل الاسم ونعطل معناه ونظير هذا تسمية خلقه سبحانه لأفعال عباده وقضائه السابق جبرا ولذلك أنكر أئمة ألسنة كالأوزاعي

ص -129- وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد وغيرهم هذا اللفظ قال الأوزاعي والزبيدي: "ليس في الكتاب والسنة لفظ جبر وإنما جاءت السنة بلفظ الجبر كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأشج عبد القيس إن فيك خلقين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم جبلت عليهما فقال: بل جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على ما يحب" فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جبله على الحلم والأناة وهما من الأفعال الاختيارية وإن كانا خلقين قائمين بالعبد فإن من الأخلاق ما هو كسبي ومنها ما لا يدخل تحت الكسب والنوعان قد جبل الله العبد عليهما وهو سبحانه يهب ما جبل عبده عليه من محاسن الأخلاق ويكره ما جبله عليه من مساويها فكلاهما بجبله وهذا محبوب له وهذا مكروه كما أن جبريل صلوات الله عليه مخلوق له وإبليس عليه لعائن الله مخلوق له وجبريل محبوب له مصطفى عنده وإبليس أبغض خلقه إليه ومما يوضح ذلك أن لفظ الجبر لفظ مجمل فإنه يقال أجبر الأب ابنته على النكاح وجبر الحاكم الرجل على البيع ومعنى هذا الجبر أكرهه عليه ليس معناه أنه جعله محبا لذلك راضيا به مختارا له والله تعالى إذا خلق فعل العبد جعله محبا له مختارا لإيقاعه راضيا به كارها لعدمه فإطلاق لفظ الجبر على ذلك فاسد لفظا ومعنى فإن الله سبحانه أجل وأعز من أن يجبر عبده بذلك المعنى وإنما يجبر العاجز عن أن يجعل غيره فاعلا بإرادته ومحبته ورضاه وأما من جعل فعل العبد مريدا محبا مؤثرا لما يفعله فكيف يقال أنه جبره عليه فهو سبحانه أجل وأعظم وأقدر من أن يجبر عبده ويكرهه على فعل يشاؤه منه بل إذا شاء من عبده أن يفعل فعلا جعله قادرا عليه مريدا له محبا مختارا لإيقاعه وهو أيضا قادر على أن يجعله فاعلا له باختياره مع كراهته له وبغضه ونفرته عنه فكل ما يقع من العباد بإرادتهم ومشيئاتهم فهو سبحانه الذي جعلهم فاعلين له سواء أحبوه و أبغضوه

وكرهوه وهو سبحانه لم يجبرهم في النوعين كما يجبر غيره من لا يقدر على جعله فاعلا بإرادته ومشيئته نعم نحن لا ننكر استعمال لفظ الجبر فيما هو أعم من ذلك بحيث يتناول من قهر غيره وقدر على جعله فاعلا لما يشاء فعله وتاركا لما لا يشاء فعله فإنه سبحانه المحدث لإرادته له وقدرته عليه قال محمد بن كعب القرطبي في اسم الجبار: "أنه سبحانه هو الذي جبر العباد على ما أراد" وفي الدعاء المعروف عن علي رضي الله عنه: "اللهم داحي المدحوات وبارئ المسموكات جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها" فالجبر بهذا المعنى معناه القهر والقدرة وأنه سبحانه قادر على أن يفعل بعبده ما شاء وإذا شاء منه شيئا وقع ولا بد وإن لم يشأ لم يكن ليس كالعاجز الذي يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء والفرق بين هذا الجبر وجبر المخلوق لغيره من وجوه، أحدها أن المخلوق لا قدرة له على جعل الغير مريدا للفعل محبا له والرب تعالى قادر على جعل عبده كذلك، الثاني أن المخلوق قد يجبر غيره إجبارا يكون به ظالما معتديا عليه والرب أعدل من ذلك فإنه لا يظلم أحدا من خلقه بل مشيئته نافذة فيهم بالعدل والإحسان بل عدله فيهم من إحسانه إليهم كما سنبينه إن شاء الله تعالى، الثالث أن المخلوق يكون في جبره لغيره سفيها أو عائبا أو جاهلا والرب تعالى إذا جبر عبده على أمر من الأمور كان له في ذلك من الحكمة والعدل والإحسان والرحمة ما هو محمود عليه بجميع وجوه الحمد، الرابع أن المخلوق يجبر غيره لحاجته إلى ما جبره عليه ولانتفاعه بذلك وهذا لأنه فقير بالذات وأما الرب تعالى فهو الغني بذاته الذي كل ما سواه محتاج إليه وليس به حاجة إلى أحد، الخامس أن المخلوق يجبر غيره

ص -130- لنقصه فيجبره ليحصل له الكمال بما أجبره عليه والرب له الكمال المطلق من جميع الوجوه وكماله من لوازم ذاته لم يستفده من خلقه بل هو الذي أعطاهم من الكمال ما يليق بهم فالمخلوق يجبر غيره ليتكمل والرب تعالى منزه عن كل نقص فكماله المقدس ينفي الجبر، السادس أن المخلوق يجبر غيره على فعل يعينه به على غرضه لعجزه عن التوصل إليه إلا بمعاونته له فصار الفعل من هذا والقهر والإكراه من هذا محصلا لغرض المكره كما أن المعين لغيره باختياره شريك له في الفعل والرب تعالى غني عما سواه بكل وجه فيستحيل في حقه الجبر، السابع أن المجبور على ما لا يريد فعله يجد من نفسه فرقا ضروريا بينه وبين ما يريد فعله باختياره ومحبته فالتسوية بين الأمرين تسوية بين ما علم بالحس والاضطرار الفرق بينهما وهو كالتسوية بين حركة المرتعش وحركة الكاتب وهذا من أبطل الباطل، الثامن أن الله سبحانه قد فطر العباد على أن المجبور المكره على الفعل معذور لا يستحق الذم والعقوبة ويقولون قد أكره على كذا وجبره السلطان عليه وكما أنهم مفطورون على هذا فهم مفطورون أيضا على ذم من فعل القبائح باختياره وشريعته سبحانه موافقة لفطرته في ذلك فمن سوى بين الأمرين فقد خرج عن موجب الشرع والعقل والفطرة، التاسع أن من أمر غيره بمصلحة المأمور وما هو محتاج إليه ولا سعادة له ولا فلاح إلا به لا يقال جبره على ذلك وإنما يقال نصحه وأرشده ونفعه وهداه ونحو ذلك وقد لا يختار المأمور المنهي ذلك فيجبره الناصح له على ذلك من له ولاية الإجبار وهذا جبر الحق وهو جائز بل واقع في شرع الرب وقدره وحكمته ورحمته وإحسانه لا نمنع هذا الجبر، العاشر أن الرب ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فجعله العبد فاعلا لقدرته ومشيئته واختياره أمر يختص به تبارك وتعالى والمخلوق لا يقدر أن يجعل غيره فاعلا إلا بإكراهه له على ذلك فإن لم يكرهه لم يقدر على غير الدعاء والأمر بالفعل

وذلك لا يصير العبد فاعلا فالمخلوق هو يجبر غيره على الفعل ويكرهه عليه فنسبه ذلك إلى الرب تشبيه له في أفعاله بالمخلوق الذي لا يجعل غيره فاعلا إلا بجبره له وإكراهه فكمال قدرته تعالى وكمال علمه وكمال مشيئته وكمال عدله وإحسانه وكمال غناه وكمال ملكه وكمال حجته على عبده تنفي الجبر.
فصل: فالطوائف كلها متفقة على الكسب ومختلفون في حقيقته فقالت القدرية هو إحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته استقلالا وليس للرب صنع فيه ولا هو خالق فعله ولا مكونه ولا مريدا له وقالت الجبرية الكسب اقتران الفعل بالقدرة الحادثه من غير أن يكون لها فيه أمر وكلا الطائفتين فرق بين الخلق والكسب ثم اختلفوا فيما وقع به الفرق فقال الأشعري في عامة كتبه: "معنى الكسب أن يكون الفعل بقدرة محدثة فمن وقع منه الفعل بقدرة قديمة فهو فاعل خالق ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب" وقال قائلون من يفعل بغير آلة ولا جارحة فهو خالق ومن يحتاج في فعله إلى الآلات والجوارح فهو مكتسب وهذا قول الإسكافي وطوائف من المعتزلة قال واختلفوا هل يقال أن الإنسان فاعل على الحقيقة فقالت المعتزلة كلها إلا الناشئ: "أن الإنسان فاعل محدث ومخترع ومنشئ على الحقيقة دون المجاز" وقال الناشئ: "الإنسان لا يفعل في الحقيقة ولا يحدث في الحقيقة" وكان يقول: "أن البارئ أحدث كسب الإنسان قال فلزمه محدث لا لمحدث في الحقيقة ومفعول لا لفاعل في الحقيقة" قلت وجه إلزامه ذلك أنه قد أعطى أن الإنسان غير فاعل

ص -131- لفعله وفعله مفعول وليس هو فعلا لله ولا فعلا للعبد فلزمه مفعول من غير فاعل ولعمر الله أن هذا الإلزام لازم لأبي الحسن وللجبرية فإن عندهم الإنسان ليس بفاعل حقيقة والفاعل هو الله وأفعال الإنسان قائمة لم تقم بالله فإذا لم يكن الإنسان فاعلها مع قيامها به فكيف يكون الله سبحانه هو فاعلها ولو كان فاعلها لعادت أحكامها عليه واشتقت له منها أسماء وذلك مستحيل على الله فيلزمك أن تكون أفعالا لا فاعل لها فإن العبد ليس بفاعل عندك ولو كان الرب فاعلا لها لاشتقت له منها أسماء وعاد حكمها عليه، فإن قيل فما تقولون أنتم في هذا المقام، قلنا لا نقول بواحد من القولين بل نقول هي أفعال للعباد حقيقة ومفعولة للرب فالفعل عندنا غير المفعول وهو إجماع من أهل السنة حكاه الحسين بن مسعود البغوي وغيره فالعبد فعلها حقيقة والله خالقه وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة وخالق فاعليته وسر المسألة أن العبد فاعل منفعل باعتبارين هل هو منفعل في فاعليته فربه تعالى هو الذي جعله فاعلا بقدرته ومشيئته وأقدره على الفعل وأحدث له المشيئة التي يفعل بها قال الأشعري وكثير من أهل الإثبات يقولون: "أن الإنسان فاعل في الحقيقة بمعنى مكتسب" ويمنعون أنه محدث قلت هؤلاء وقفوا عند ألفاظ الكتاب والسنة فإنهما مملوآن من نسبة الأفعال إلى العبد باسمها العام وأسمائها الخاصة فالاسم العام كقوله تعالى: {تَعْمَلُونَ}: {تَفْعَلُونَ}: {تَكْسِبُونَ} والأسماء الخاصة: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ}: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}: {وَيُؤْمِنُونَ}: {وَيَخَافُونَ}: {يَتُوبُونَ}: {يُجَاهِدُونَ} وأما لفظ الإحداث فلم يجيء إلا في الذم كقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا" فهذا ليس بمعنى الفعل والكسب وكذلك قول عبد الله بن مغفل لابنه: "إياك والحدث في الإسلام" ولا يمتنع إطلاقه على فعل الخير مع التقييد قال بعض السلف: "إذا أحدث الله لك نعمة

فأحدث لها شكرا وإذا أحدثت ذنبا فأحدث له توبة" ومنه قوله هل أحدثت توبة وأحدث للذنب استغفارا ولا يلزم من ذلك إطلاق اسم المحدث عليه والإحداث على فعله قال الأشعري وبلغني أن بعضهم أطلق في الإنسان أنه محدث في الحقيقة بمعنى مكتسب قلت ههنا ألفاظ وهي فاعل وعامل ومكتسب وكاسب وصانع ومحدث وجاعل ومؤثر ومنشئ وموجد وخالق وبارئ ومصور وقادر ومريد وهذه الألفاظ ثلاثة أقسام قسم لم يطلق إلا على الرب سبحانه كالبارئ والبديع والمبدع وقسم لا يطلق إلا على العبد كالكاسب والمكتسب وقسم وقع إطلاقه على الرب والعبد كاسم صانع وفاعل وعامل ومنشئ ومريد وقادر وأما الخالق والمصور فإن استعملا مطلقين غير مقيدين لم يطلقا إلا على الرب كقوله الخالق البارئ المصور وإن استعملا مقيدين أطلقا على العبد كما يقال لمن قدر شيئا في نفيه أنه خلقه قال:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفر
أي لك قدرة تمضي وتنفذ بها ما قدرته في نفسك وغيرك يقدر أشياء وهو عاجز عن إنفاذها وإمضائها وبهذا الاعتبار صح إطلاق خالق على العبد في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أي أحسن المصورين والمقدرين والعرب تقول قدرت الأديم وخلقته إذا قسته لتقطع منه مزادة أو قربة ونحوها قال مجاهد: "يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين" وقال الليث: "رجل خالق أي صانع وهن الخالقات للنساء" وقال مقاتل: "يقول تعالى هو أحسن خلقا من الذين يخلقون التماثيل وغيرها التي لا يتحرك منها شيء وأما البارئ فلا يصح إطلاقه إلا عليه سبحانه فإنه الذي برأ الخليقة وأوجدها بعد عدمها

ص -132- والعبد لا تتعلق قدرته بذلك إذ غاية مقدوره التصرف في بعض صفات ما أوجده الرب تعالى وبراه وتغييرها من حال إلى حال على وجه مخصوص لا تتعداه قدرته ليس من هذا بريت القلم لأنه معتل لا مهموز ولا برأت من المرض لأنه فعل لازم غير متعد وكذلك مبدع الشيء وبديعه لا يصح إطلاقه إلا على الرب كقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} والإبداع إيجاد المبدع على غير مثال سبق والعبد يسمى مبتدعا لكونه أحدث قولا لم تمض به سنة ثم يقال لمن اتبعه عليه مبتدع أيضا وأما لفظ الموجد فلم يقع في أسمائه سبحانه وإن كان هو الموجد على الحقيقة ووقع في أسمائه الواجد وهو بمعنى الغنى الذي له الوجد وأما الموجد فهو مفعل من أوجد وله معنيان أحدهما: أن يجعل الشيء موجودا وهو تعدية وجده وأوجده قال الجوهري: "وجد الشيء عن عدم فهو موجد مثل حم فهو محموم" وأوجده الله ولا يقال وجدوه والمعنى الثاني: أوجده جعل له جدة وغنى وهذا يتعدى إلى مفعولين قال في الصحاح: "أوجده الله مطلوبه أي أظفره به وأوجده أي أغناه" قلت وهذا يحتمل أمرين أحدهما: أن يكون من باب حذف أحد المفعولين أي أوجده مالا وغنى وأن يكون من باب صيره واجدا مثل أغناه وأفقره إذا صيره غنيا وفقيرا فعلى التقدير الأول يكون تعديه وجد مالا وغنى وأوجده الله إياه وعلى الثاني يكون تعديه وجد وجدا إذا استغنى ومصدر هذا الوجد بالضم والفتح والكسر قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} فغير ممتنع أن يطلق على من يفعل بالقدرة المحدثة أنه أوجد مقدوره كما يطلق عليه أنه فعله وعمله وصنعه وأحدثه لا على سبيل الاستقلال وكذلك لفظ المؤثر لم يرد إطلاقه في أسماء الرب وقد وقع إطلاق الأثر والتأثير! على فعل العبد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} قال ابن عباس: "ما أثروا من خير أو شر فسمى ذلك آثارا لحصوله بتأثيرهم" ومن

العجب أن المتكلمين يمتنعون من إطلاق التأثير والمؤثر على من أطلق عليه في القرآن والسنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة: "دياركم تكتب آثاركم" أي الزموا دياركم ويخصونه بمن لم يقع إطلاقه عليه في كتاب ولا سنة وإن استعمل في حقه الإيثار والاستئثار كما قال أخو يوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} وفي الأثر: "إذا استأثر الله بشيء فاله عنه" وقال الناظم:
استأثر الله بالثناء وبالحمد وولى الملامة الرجلا
ولما كان التأثير تفعيلا من أثرت في كذا تأثير فأنا مؤثر لم يمتنع إطلاقه على العبد قال في الصحاح التأثير إبقاء الأثر في الشيء وأما لفظ الصانع فلم يرد في أسماء الرب سبحانه ولا يمكن ورودها فإن الصانع من صنع شيئا عدلا كان أو ظلما سفها أو حكمة جائزا أو غير جائز وما انقسم مسماه إلى مدح وذم لم يجئ اسمه المطلق في الأسماء الحسنى كالفاعل والعامل والصانع والمريد والمتكلم لانقسام معاني هذه الأسماء إلى محمود ومذموم بخلاف العالم والقادر والحي والسميع والبصير وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم العبد صانعا قال البخاري حدثنا علي بن عبد الله ثنا مروان بن معاوية ثنا أبو مالك عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته" وقد أطلق سبحانه على فعله اسم الصنع فقال: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وهو منصوب على المصدر لأن قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} يدل على الصنعة وقيل هو نصب على المفعولية أي انظروا صنع الله فعلى الأول يكون صنع الله مصدرا بمعنى الفعل وعلى الثاني يكون

ص -133- بمعنى المصنوع المفعول فإنه الذي يمكن وقوع النظر والرؤية عليه وأما الإنشاء فإنما وقع إطلاقه عليه سبحانه فعلا كقوله: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} وقوله: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ} وقوله: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} وهو كثير ولم يرد لفظ المنشئ وأما العبد فيطلق عليه الإنشاء باعتبار آخر وهو شروعه في الفعل وابتداؤه له يقول أنشأ يحدثنا وأنشأ السير فهو منشأ لذلك وهذا إنشاء مقيد وإنشاء الرب إنشاء مطلق وهذه اللفظة تدور على معنى الابتداء أنشأه الله أي ابتدأ خلقه وأنشأ يفعل كذا ابتداء وفلان ينشئ الأحاديث أي يبتدئ وضعها والناشئ أول ما ينشأ من السحاب قال الجوهري: "وناشئة الليل أول ساعاته" قلت هذا قد قاله غير واحد من السلف إن ناشئة الليل أوله التي منها ينشأ الليل والصحيح أنها لا تختص بالساعة الأولى بل هي ساعاته ناشئة بعد ناشئة كلما انقضت ساعة نشأت بعدها أخرى وقال أبو عبيدة: "ناشئة الليل ساعاته وآناؤه ناشئة بعد ناشئة" قال الزجاج: "ناشئة الليل كلما نشأ منه أي حدث منه فهو ناشئة" قال ابن قتيبة: "هي آناء الليل وساعاته" مأخوذة من نشأت تنشأ نشأ أي ابتدأت وأقبلت شيئا بعد شيء وأنشأها الله فنشأت والمعنى أن ساعات الليل الناشئة وقول صاحب الصحاح منقول عن كثير من السلف قال علي بن الحسين: "ناشئة الليل ما بين المغرب إلى العشاء" وهذا قول أنس وثابت وسعيد بن جبير والضحاك والحكم واختيار الكسائي قالوا: "ناشئة الليل أوله" وهؤلاء راعوا معنى الأولية في الناشة وفيها قول ثالث أن الليل كله ناشئة وهذا قول عكرمة وأبي مجلز ومجاهد والسدي وابن الزبير وابن عباس في رواية قال ابن أبي مليكة سألت ابن الزبير وابن عباس عن ناشئة الليل فقالا: "الليل كله ناشئة" فهذه أقوال من جعل ناشئة الليل زمانا وأما من جعلها فعلا ينشأ بالليل فالناشئة عندهم اسم لما يفعل بالليل من القيام وهذا قول ابن

مسعود ومعاوية بن قرة وجماعة قالوا: "ناشئة الليل قيام الليل" وقال آخرون منهم عائشة إنما يكون القيام ناشئة إذا تقدمه نوم قالت عائشة: "ناشئة الليل القيام بعد النوم" وهذا قول ابن الأعرابي قال: "إذا نمت من أول الليل نومة ثم قمت فتلك النشأة" ومنه ناشئة الليل فعلى قول الأولين ناشئة الليل بمعنى من إضافة نوع إلى جنسه أي ناشئة منه وعلى قول هؤلاء إضافة بمعنى في أي طاعة ناشئة فيه والمقصود أن الإنشاء ابتداء سواء تقدمه مثله كالنشأة الثانية أو لم يتقدمه كالنشأة الأولى وأما الجعل فقد أطلق على الله سبحانه بمعنيين أحدهما: الإيجاد والخلق والثاني: التصيير فالأول يتعدى إلى مفعول كقوله وجعلنا الظلمات والنور والثاني: أكثر ما يتعدى إلى مفعولين كقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} وأطلق على العبد بالمعنى الثاني خاصة كقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} وغالب ما يستعمل في حق العبد في جعل التسمية والاعتقاد حيث لا يكون له صنع في المجعول كقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً} وهذا يتعدى إلى واحد وهو جعل اعتقاد وتسمية وأما الفعل والعمل فإطلاقه على العبد كثير: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وأطلقه على نفسه فعلا واسما فالأول كقوله: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} والثاني كقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقوله: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} في موضعين من كتابه أحدهما قوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} والثاني قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ

خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} فتأمل قوله كنا فاعلين في هذين الموضعين

ص -134- المتضمن للصنع العجيب الخارج عن العادة كيف تجده كالدليل على ما أخبر به وأنه لا يستعصي على الفاعل حقيقة أي شأننا الفعل كما لا يخفى الجهر والإسرار بالقول على من شأنه العلم والخبرة ولا تصعب المغفرة على من شأنه أن يغفر الذنوب ولا الرزق على من شأنه أن يرزق العباد وقد وقع الزجاج على هذا المعنى بعينه فقال: "وكنا فاعلين قادرين على فعل ما نشاء".

شفاء العليل

الباب الثامن عشر: في فعل وافعل في القضاء والقدر وذكر الفعل والانفعال
الباب الثامن عشر: في فعل وافعل في القضاء والقدر والكسب وذكر الفعل والانفعال
ينبغي الاعتناء بكشف هذا الباب وتحقيق معناه فبذلك ينحل عن العبد أنواع من ضلالات القدرية والجبرية حيث لم يعطوا هذا الباب حقه من العرفان، اعلم أن الرب سبحانه فاعل غير منفعل والعبد فاعل منفعل وهو في فاعليته منفعل للفاعل الذي لا ينفعل بوجه فالجبرية شهدت كونه منفعلا يجري عليه الحكم بمنزلة الآلة والمحل وجعلوا حركته بمنزلة حركات الأشجار ولم يجعلوه فاعلا إلا على سبيل المجاز فقام وقعد وأكل وشرب وصلى وصام عندهم بمنزلة مرض وألم ومات ونحو ذلك مما هو فيه منفعل محض والقدرية شهدت كونه فاعلا محضا غير منفعل في فعله وكل من الطائفتين نظر بعين عوراء وأهل العلم والاعتدال أعطوا كلا المقامين حقه ولم يبطلوا أحد الأمرين بالآخر فاستقام لهم نظرهم ومناظرتهم واستقر عندهم الشرع والقدر في نصابه ومهدوا وقوع الثواب والعقاب على من هو أولى به فأثبتوا نطق العبد حقيقة وإنطاق الله له حقيقة قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} فالإنطاق فعل الله الذي لا يجوز تعطيله والنطق فعل العبد الذي لا يمكن إنكاره كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} فعلم أن كونهم ينطقون هو أمر حقيقي حتى شبه به في تحقيق كون ما أخبر به وأن هذا حقيقة لا مجاز ومن جعل إضافة نطق العبد إليه مجازا لم يكن ناطقا عنده حقيقه فلا يكون التشبيه بنطقه محققا لما أخبر به فتأمله ونظير هذا قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} فهو المضحك المبكي حقيقة والعبد الضاحك الباكي حقيقة كما قال تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً}

وقال: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} فلولا المنطق الذي أنطق والمضحك المبكي الذي أضحك وأبكى لم يوجد ناطق ولا ضاحك ولا باك فإذا أحب عبدا أنطقه بما يحب وأثابه عليه وإذا أبغضه أنطقه بما يكرهه فعاقبه عليه وهو الذي أنطق هذا وهذا وأجرى ما يحب على لسان هذا وما يكره على لسان هذا كما أنه أجرى على قلب هذا ما أضحكه وعلى قلب هذا ما أبكاه وكذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} فالتسيير فعله حقيقة والسير فعل العبد حقيقة فالتسيير فعل محض والسير فعل وانفعال ومن هذا قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} فهو سبحانه المزوج ورسوله المتزوج وكذلك قوله: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} فهو المزوج وهم المتزوجون وقد جمع سبحانه بين الأمرين في قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} فالإزاغة فعله والزيغ فعلهم فإن قيل أنتم قررتم أنه لم يقع منهم الفعل إلا بعد فعله وأنه لولا إنطاقه لهم وإضحاكه وإبكاؤه لما نطقوا ولا ضحكوا ولا بكوا وقد دلت هذه الآية على أن فعله بعد فعلهم وأنه أزاغ قلوبهم بعد أن

ص -135- زاغوا وهذا يدل على أن إزاغة قلوبهم هو حكمه عليها بالزيغ لا جعلها زائغة وكذلك قوله أنطقنا الله المراد جعل لنا آلة النطق وأضحك وأبكى جعل لهم آلة الضحك والبكاء قيل أما الإزاغة المترتبة على زيغهم فهي إزاغة أخرى غير الإزاغة التي زاغوا بها أولا عقوبة لهم على زيغهم والرب تعالى يعاقب على السيئة بمثلها كما يثيب على الحسنة بمثلها فحدث لهم زيغ آخر غير الزيغ الأول فهم زاغوا أولا فجازاهم الله بإزاغة فوق زيغهم، فإن قيل فالزيغ الأول من فعلهم وهو مخلوق لله فيهم على غير وجه الجزاء وإلا تسلسل الأمر، قيل بل الزيغ الأول وقع جزاء لهم وعقوبة على تركهم الإيمان والتصديق لما جاءهم من الهدى وهذا الترك أمر عدمي لا يستدعي فاعلا فإن تأثير الفاعل إنما هو في الوجود لا في العدم، فإن قيل فهذا الترك العدمي له سبب أو لا سبب له، قيل سببه عدم سبب ضده فبقي على العدم الأصلي ويشبه هذا قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} عاقبهم على نسيانهم له بأن أنساهم أنفسهم فنسوا مصالحها أن يفعلوها وعيوبها أن يصلحوها وحظوظها أن يتناولوها ومن أعظم مصالحها وأنفع حظوظها ذكرها لربها وفاطرها وهي لا نعيم لها ولا سرور ولا فلاح ولا صلاح إلا بذكره وحبه وطاعته والإقبال عليه والإعراض عما سواه فأنساهم ذلك لما نسوه وأحدث لهم هذا النسيان نسيانا آخر وهذا ضد حال الذين ذكروه ولم ينسوه فذكرهم مصالح نفوسهم ففعلوها وأوقفهم على عيوبها فأصلحوها وعرفهم حظوظها العالية فبادروا إليها فجازى أولئك على نسيانهم بأن أنساهم الإيمان ومحبته وذكره وشكره فلما خلت قلوبهم من ذلك لم يجدوا عن ضده محيصا وهذا يبين لك كمال عدله سبحانه في تقدير الكفر والذنوب عليها وإذا كان قضاؤه عليها بالكفر والذنوب عدلا منه عليها فقضاؤه عليها بالعقوبة أعدل وأعدل فهو سبحانه ماض في عبده حكمه عدل فيه قضاؤه وله فيها قضاآن قضاء السبب

وقضاء المسبب وكلاهما عدل فيه فإنه لما ترك ذكره وترك فعل ما يحبه عاقبه بنسيان نفسه فأحدث له هذا النسيان ارتكاب ما يبغضه ويسخطه بقضائه الذي هو عدل فترتب له على هذا الفعل والترك عقوبات وآلام لم يكن له منها بد بل هي مترتبة عليه ترتب المسببات على أسبابها فهو عدل محض من الرب تعالى فعدل في العبد أولا وآخرا فهو محسن في عدله محبوب عليه محمود فيه يحمده من عدل فيه طوعا وكرها قال الحسن: "لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا" وستزيد هذا الموضع بسطا وبيانا في باب دخول الشر في القضاء الإلهي إن شاء الله إذ المقصود ههنا بيان كون العبد فاعلا منفعلا والفرق في هذا الباب بين فعل وافعل وأن الله سبحانه أفعل والعبد فعل فهو الذي أقام العبد وأضله وأماته والعبد هو الذي قام وضل ومات وأما قولكم أن معنى أنطقه وأضحكه وأبكاه جعل له آلة ينطق بها ويضحك ويبكي فإعطاؤه الآلة وحدها لا يكفي في صدق الفعل بأنه أنطقه وأضحكه فلو أن رجلا صمت يوما كاملا فحلف حالف أن الله أنطقه لكان كاذبا حانثا ولو دعوت كافرين إلى الإسلام فنطق أحدهما بكلمة الشهادة وسكت الآخر لم يقل أحد قط إن الله قد أنطق الساكت كما أنطق المتكلم وكلاهما قد أعطى آلة النطق ومتعلق الأمر والنهي والثواب والعقاب الفعل لا الأفعال، فإن قيل هل تطردون هذا في جميع أفعال العبد من كفره وزناه وسرقته فتقولون أن الله أفعله وهو الذي فعل أو تخصون ذلك ببعض الأفعال فيظهر تناقضكم، قيل ههنا أمران أمر لغوي وأمر معنوي فأما اللغوي فإن ذلك لا يطرد في لغة

ص -136- العرب لا يقولون أزنى الله الرجل وأسرقه وأشربه وأقتله إذا جعله يزني ويسرق ويشرب ويقتل وإن كان في لغتها أقامه وأقعده وأنطقه وأضحكه وأبكاه وأضله وقد يأتي هذا مضاعفا كفهمه وعلمه وسيره وقال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فالتفهيم منه سبحانه والفهم من نبيه سليمان وكذلك قوله: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} فالتعليم منه سبحانه وكذلك التسيير والسير والتعلم من العبد فهذا المعنى ثابت في جميع الأفعال فهو سبحانه هو الذي جعل العبد فاعلا كما قال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} فهو سبحانه الذي جعل أئمة الهدى يهدون بأمره وجعل أئمة الضلال والبدع يدعون إلى النار فامتناع إطلاق أكلمه فتكلم لا يمنع من إطلاق أنطقه فنطق وكذلك امتناع إطلاق أهداه بأمره وادعاه إلى النار لا يمنع من إطلاق جعله يهدي بأمره ويدعو إلى النار، فإن قيل ومع ذلك كله هل تقولون أن الله سبحانه هو الذي جعل الزانيين يزنيان وهو الذي جمع بينهما على الفعل وساق أحدهما إلى صاحبه، قيل أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل فيطلقها من يريد حقها فينكرها من يريد باطلها فيرد عليه من يريد حقها وهذا باب إذا تأمله الذكي الفطن رأى منه عجائب وخلصه من ورطات تورط فيها أكثر الطوائف فالجعل المضاف إلى الله سبحانه يراد به الجعل الذي يحبه ويرضاه والجعل الذي قدره وقضاه قال الله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} فهذا نفي لجعله الشرعي الديني أي ما شرع ذلك ولا أمر به ولا أحبه ورضيه وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} فهذا جعل كوني قدري أي قدرنا ذلك وقضيناه وجعل العبد إماما يدعو إلى النار أبلغ من جعله يزني ويسرق ويقتل وجعله كذلك أيضا لفظ مجمل يراد به أنه جبره

وأكرهه عليه واضطره إليه وهذا محال في حق الرب تعالى وكماله المقدس يأبى ذلك وصفات كماله تمنع منه كما تقدم ويراد به أنه مكنه من ذلك وأقدره عليه من غير أن يضطره إليه ولا أكرهه ولا أجبره فهذا حق ،فإن قيل هذا كله عدول عن المقصود فمن أحدث معصية وأوجدها وأبرزها من العدم إلى الوجود، قيل الفاعل لها هو الذي أوجدها وأحدثها وأبرزها من العدم إلى الوجود بأقدار الله له على ذلك وتمكينه منه من غير إلجاء له ولا اضطرار منه إلى فعلها، فإن قيل فمن الذي خلقها إذا، قيل لكم ومن الذي فعلها فإن قلتم الرب سبحانه هو الفاعل للفسوق والعصيان أكذبكم العقل والفطرة وكتب الله المنزلة وإجماع رسله وإثبات حمده وصفات كماله فإن فعله سبحانه كله خير وتعالى أن يفعل شرا بوجه من الوجوه فالشر ليس إليه والخير هو الذي إليه ولا يفعل إلا خيرا ولا يريد إلا خيرا ولو شاء لفعل غير ذلك ولكنه تعالى تنزه عن فعل مالا ينبغي وإرادته ومشيئته كما هو منزه عن الوصف به والتسمية به، وإن قلتم العبد هو الذي فعلها بما خلق فيه من الإرادة والمشيئة، قيل فالله سبحانه خالق أفعال العباد كلها بهذا الاعتبار ولو سلك الجبري مع القدري هذا المسلك لاستراح معه وأراحه وكذلك القدري معه ولكن انحرف الفريقان عن سواء السبيل كما قال:
سارت مشرقة وسرت مغربا شتان بين مشرق ومغرب
فإن قيل فهل يمكنه الامتناع منها وقد خلقت فيه نفسها أو أسبابها الموجبة لها وخلق السبب الموجب خلق لمسببه وموجبه قيل هذا السؤال يورد على وجهين أحدهما أن يراد به أنه يصير مضطرا إليها

ص -137- ملجأ إلى فعلها بخلقها أو خلق أسبابها بحيث لا يبقى له اختيار في نفسه ولا إرادة وتبقى حركته قسرية لا إرادية الثاني أنه هل لاختياره وإرادته وقدرته تأثير فيها أو التأثير لقدرة الرب ومشيئته فقط وذلك هو السبب الموجب للفعل فإن أوردتموه على الوجه الأول فجوابه أنه يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل ولا يصير مضطرا ملجأ بخلقها فيه ولا بخلق أسبابها ودواعيها فإنها إنما خلقت فيه على وجه يمكنه فعلها وتركها ولو لم يمكنه الترك لزم اجتماع النقيضين وأن يكون مريدا غير مريد فاعلا غير فاعل ملجأ غير ملجأ وأن أوردتموه على الوجه الثاني فجوابه أن لإرادته واختياره وقدرته أثرا فيها وهي السبب الذي خلقها الله به في العبد فقولكم أنه لا يمكنه الترك مع الاعتراف بكونه متمكنا من الفعل جمع بين النقيضين فإنه إذا تمكن من الفعل كان الفعل اختياريا إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله فكيف يصح أن يقال لا يمكنه ترك الفعل الاختياري الممكن هذا خلف من القول وحقيقة الأمر أنه يمكنه الترك لو أراده لكنه لا يريده فصار لازما بالإرادة الجازمة، فإن قيل فهذا يكفي في كونه مجبورا عليه، قيل هذا من أدل شيء على بطلان الجبر فإنه إنما لزم بإرادته المنافية للجبر ولو كان وجوب الفعل بالإرادة يقتضي الجبر لكان الرب تعالى وتقدس مجبورا على أفعاله لوجوبها بإرادته ومشيئته وذلك محال، فإن قيل الفرق أن إرادة الرب تعالى من نفسه لم يجعله غيره مريدا والعبد إرادته من ربه إذ هي مخلوقة له فإنه هو الذي جعله مريدا، قيل هذا موضع اضطرب فيه الناس فسلكت فيه القدرية واديا وسلكت الجبرية واديا فقالت القدرية العبد هو الذي يحدث إرادته وليست مخلوقة لله والله مكنه من إحداث إرادته بأن خلقه كذلك وقالت الجبرية بل الله هو الذي يحدث إرادات العبد شيئا بعد شيء فإحداث الإرادات فيه كإحداث لونه وطوله وقصره وسواده وبياضه مما لا صنع له فيه البتة فلو أراد أن لا يريد لما أمكنه ذلك

وكان كما لو أراد أن يكون طوله وقصره ولونه على غير ما هو عليه فهو مضطر إلى الإرادة وكل إرادة من إراداته فهي متوقفة على مشيئة الرب لها بخصوصها فهي مرادة له سبحانه كما هي معلومة مقدورة فلزمهم القول بالجبر من هذه الجهة ومن جهة تفيهم أن يكون لإرادة العبد وقدرته أثر في الفعل، فإن قيل فأي واد تسلكونه غير هذين الواديين وأي طريق تمرون فيها سوى هذين الطريقين، قيل نعم ههنا طريقة ثالثة لم يسلكها الفريقان ولم يهتد إليها الطائفتان ولو حكمت كل طائفة ما معها من الحق والتزمت لوازمه وطردته لساقها إلى هذه الطريق ولأوقعها على المحجة المستقيمة فنقول وبالله التوفيق وهو المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله، العبد بجملته مخلوق لله جسمه وروحه وصفاته وأفعاله وأحواله فهو مخلوق من جميع الوجوه وخلق على نشأة وصفة يتمكن بها من إحداث إرادته وأفعاله وتلك النشأة بمشيئة الله وقدرته وتكوينه فهو الذي خلقه وكونه كذلك وهو لم يجعل نفسه كذلك بل خالقه وباريه جعله محدثا لإرادته وأفعاله وبذلك أمره ونهاه وأقام عليه حجته وعرضه للثواب والعقاب فأمره بما هو متمكن من إحداثه ونهاه عما هو متمكن من تركه ورتب ثوابه وعقابه على هذه الأفعال والتروك التي مكنه منها وأقدره عليها وناطها به وفطر خلقه على مدحه وذمه عليها مؤمنهم وكافرهم المقر بالشرائع منهم والجاحد لها فكان مريدا شائيا بمشيئة الله له ولولا مشيئة الله أن يكون شائيا لكان أعجز وأضعف من أن يجعل نفسه شائيا فالرب سبحانه أعطاه مشيئة وقدره وإرادة وعرفه ما ينفعه وما يضره وأمره أن يجري مشيئته وإرادته

ص -138- وقدرته في الطريق التي يصل بها إلى غاية صلاحه فإجراؤها في طريق هلاكه بمنزلة من أعطى عبده فرسا يركبها وأوقفه على طريق نجاة وهلكة وقال أجرها في هذه الطريق فعدل بها إلى الطريق الأخرى وأجراها فيها فغلبته بقوة رأسها وشدة سيرها وعز عليه ردها عن جهة جريها وحيل بينه وبين إدارتها إلى ورائها مع اختيارها وإرادتها فلو قلت كان ردها عن طريقها ممكنا له مقدورا أصبت وإن قلت لم يبق في هذه الحال بيده من أمرها شيء ولا هو متمكن أصبت بل قد حال بينه وبين ردها من يحول بين المرء وقلبه ومن يقلب أفئدة المعاندين وأبصارهم وإذا أردت فهم هذا على الحقيقة فتأمل حال من عرضت له سورة بارعة الجمال فدعاه حسنها إلى محبتها فنهاه عقله وذكره ما في ذلك من التلف والعطب وأراه مصارع العشاق عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه فعاد يعاود النظر مرة مرة ويحث نفسه على التعلق وقوة الإرادة ويحرض على أسباب المحبة ويدني الوقود من النار حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ورمت بشررها وقد أحاطت به طلب الخلاص قال له القلب هيهات لات حين مناص وأنشده:
تولع بالعشق حتى عشق فلما استقل به لم يطق
رأى لجة ظنها موجة فلما تمكن منها غرق
فكان الترك أولا مقدورا له لما لم يوجد السبب التام والإرادة الحازمة الموجبة للفعل فلما تمكن الداعي واستحكمت الإرادة قال المحب لعاذله:
يا عاذلي والأمر في يده هلا عذلت وفي يدي الأمر

فكان أول الأمر إرادة واختيار ومحبة ووسطه اضطرارا وآخره عقوبة وبلاء ومثل هذا برجل ركب فرسا لا يملكه راكبه ولا يتمكن من رده وأجراه في طريق ينتهي به إلى موضع هلاك فكان الأمر إليه قبل ركوبها فلما توسطت به الميدان خرج الأمر عن يده فلما وصلت به إلى الغاية حصل على الهلاك ويشبه هذا حال السكران الذي قد زال عقله إذا جني عليه في حال سكره لم يكن معذورا لتعاطيه السبب اختيارا فلم يكن معذورا بما ترتب عليه اضطرارا وهذا مأخذ من أوقع طلاقه من الأئمة ولهذا قالوا إذا زال عقله بسبب يعذر فيه لم يقع طلاقه فجعلوا وقوع الطلاق عليه من تمام عقوبته والذين لو يوقعوا الطلاق قولهم أفقه كما أفتى به عثمان بن عفان ولم يعلم له في الصحابة مخالف ورجع عليه الإمام أحمد واستقر عليه قوله فإن الطلاق ما كان عن وطر والسكران لا وطر له في الطلاق وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بعدم عدم الطلاق في حال الغلق والسكر من الغلق كما أن الإكراه والجنون من الغلق بل قد نص الإمام أحمد وأبو عبيد وأبو داود على أن الغضب إغلاق وفسر به الإمام أحمد الحديث في رواية أبي طالب وهذا يدل على أن مذهبه أن طلاق الغضبان لا يقع وهذا هو الصحيح الذي يفتى به إذا كان الغضب شديدا قد أغلق عليه قصده فإنه يصير بمنزلة السكران والمكره بل قد يكونان أحسن حالا منه فإن العبد في حال شدة غضبه يصدر منه ما لا يصدر من السكران من الأقوال والأفعال وقد أخبر الله سبحانه أنه لا يجيب دعاءه على نفسه وولده في هذا الحال ولو أجابه لقضى إليه أجله وقد عذر سبحانه من اشتد به الفرح بوجود راحلته في الأرض المهلكة بعدما يأس منها فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك ولم يجعله بذلك كافرا لأنه أخطأ بهذا القول من شدة الفرح فكمال

ص -139- رحمته وإحسانه وجوده يقتضي أن لا يؤاخذ من اشتد غضبه بدعائه على نفسه وأهله وولده ولا بطلاقه لزوجته وأما إذا زال عقله بالغضب فلم يعقل ما يقول فإن الأمة متفقة على أنه لا يقع طلاقه ولا عتقه ولا يكفر بما يجري على لسانه من كلمة الكفر

شفاء العليل

الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة بين جبري وسني
الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة جرت بين جبري وسني جمعهما مجلس مذاكرة
قال الجبري: القول بالجبر لازم لصحة التوحيد ولا يستقيم التوحيد إلا به لأنا إن لم نقل بالجبر أثبتنا فاعلا للحوادث مع الله إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وهذا شرك ظاهر لا يخلص منه إلا القول بالجبر قال السني: بل القول بالجبر مناف للتوحيد ومع منافاته للتوحيد فهو مناف للشرائع ودعوة الرسل والثواب والعقاب فلو صح الجبر لبطلت الشرائع وبطل الأمر والنهي ويلزم من بطلان ذلك بطلان الثواب والعقاب قال الجبري: ليس من العجب دعواك منافاة الجبر للأمر والنهي والثواب والعقاب فإن هذا لم يزل يقال وإنما العجب دعواك منافاته للتوحيد وهو من أقوى أدلة التوحيد فكيف يكون المصور للشيء المقوي له منافيا له قال السني: منافاته للتوحيد من أظهر الأمور ولعلها أطهر من منافاته الأمر والنهي وبيان ذلك أن أصل عقد التوحيد وإثباته هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والجبر ينافي الكلمتين فإن الإله هو المستحق لصفات الكمال المنعوت بنعوت الجلال وهو الذي تألهه القلوب وتصمد إليه بالحب والخوف والرجاء فالتوحيد الذي جاءت به الرسل هو إفراد الرب بالتأله الذي هو كمال الذل والخضوع والانقياد له مع كمال المحبة والإثابة وبذل الجهد في طاعته ومرضاته وإيثار محابه ومراده الديني على محبة العبد ومراده فهذا أصل دعوة الرسل وإليه دعوا الأمم وهو التوحيد الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه لا من الأولين ولا من الآخرين وهو الذي أمر به رسله وأنزل به كتبه ودعا إليه عباده ووضع لهم دار الثواب والعقاب لأجله وشرع الشرائع لتكميله وتحصيله وكان من قولك أيها الجبري أن العبد لا قدرة له على هذا البتة ولا أثر له فيه ولا هو فعله وأمره بهذا أمر له بما لا يطيق بل أمر له بإيجاد فعل الرب وأن الرب سبحانه أمره بذلك

وأجبره على ضده وحال بينه وبين ما أمره به ومنعه منه وصده عنه ولم يجعل له إليه سبيلا بوجه من الوجوه مع قولك أنه لا يحب ولا يحب فلا تتألهه القلوب بالمحبة والود والشوق والطلب وإرادة وجهه والتوحيد معنى ينتظم من إثبات الإلهية واثبات العبودية فرفعت معنى الإلهية بإنكار كونه محبوبا مودودا تتنافس القلوب في محبته وإرادة وجهه والشوق إلى لقائه ورفعت حقيقة العبودية بإنكار كون العبد فاعلا وعابدا ومحبا فإن هذا كله مجاز لا حقيقة له عندك فضاع التوحيد بين الجبر وإنكار محبته وإرادة وجهه لا سيما والوصف الذي وصفته به منفر للقلوب عنه حائل بينها وبين محبته فإنك وصفته بأنه يأمر عبده بما لا قدرة له على فعله وينهاه عما لا يقدر على تركه بل يأمره بفعله هو سبحانه وينهاه عن فعله هو سبحانه ثم يعاقبه أشد العقوبة على ما لم يفعله البتة بل يعاقبه على أفعاله هو سبحانه وصرحت بأن عقوبته على ترك ما أمره وفعل ما نهاه بمنزلة عقوبته على ترك طيرانه إلى السماء وترك تحويله للجبال عن أماكنها ونقله مياه البحار عن مواضعها وبمنزلة عقوبته له على ما لا صنع له فيه من لونه وطوله وقصره وصرحت بأنه يجوز عليه أن يعذب أشد العذاب لمن لم يعصه طرفة عين وأن حكمته ورحمته

ص -140- لا تمنع ذلك بل هو جائز عليه ولولا خبره عن نفسه بأنه لا يفعل ذلك لم ننزهه عنه وقلت أن تكليفه عباده بما كلفهم بمنزلة تكليف الأعمى للكتابة والزمن للطيران فبغضت الرب إلى من دعوته إلى هذا الاعتقاد ونفرته عنه وزعمت أنك تقرر بذلك توحيده وقد قلعت شجرة التوحيد من أصلها وأما منافاة الجبر للشرائع فأمر ظاهر لا خفاء به فإن مبنى الشرائع على الأمر والنهي وأمر الآمر لغيره بفعل نفسه لا بفعل المأمور ونهيه عن فعله لا فعل المنهي عبث ظاهر فإن متعلق الأمر والنهي فعل العبد وطاعته ومعصيته فمن لا فعل له كيف يتصور أن يوقعه بطاعة أو معصية وإذا ارتفعت حقيقة الطاعة والمعصية ارتفعت حقيقة الثواب والعقاب وكان ما يفعله الله بعباده يوم القيامة من النعيم والعذاب أحكاما جارية بمحض المشيئة والقدرة لا أنها بأسباب طاعاتهم ومعاصيهم بل ههنا أمر آخر وهو أن الجبر مناف للخلق كما هو مناف للأمر فإن الله سبحانه له الخلق والأمر وما قامت السماوات إلا بعدله فالخلق قام بعدله وبعدله ظهر كما أن الأمر بعدله وبعدله وجد فالعدل سبب وجود الخلق والأمر وغايته فهو علية الفاعلية الغائية والجبر لا يجامع العدل ولا يجامع الشرع والتوحيد قال الجبري: لقد نطقت أيها السني بعظيم وفهمت بكبير وناقضت بين متوافقين وخالفت بين متلازمين فإن أدلة العقول والشرع المنقول قائمة على الجبر وما دل عليه العقل والنقل كيف ينافي موجب العقل والشرع فاسمع الآن الدليل الباهر والبرهان القاهر على الجبر ثم نتبعه بأمثال فنقول صدور الفعل عند حصول القدرة والداعي إما أن يكون واجبا أولا يكون واجبا فإن كان واجبا كان فعل العبد اضطراريا وذلك عين الجبر لأن حصول القدرة والداعي ليس بالعبد والإلزام التسلسل وهو ظاهر وإذا كان كذلك فعند حصولهما يكون واجبا وعند عدم حصولهما يكون الفعل ممتنعا فكان الجبر لازما لا محالة وأما إن لم يكن حصول الفعل عند حصول القدرة والداعي واجبا

فإما أن يتوقف رجحان الفعل على رجحان الترك على مرجح أولا يتوقف فإن توقف كان حصول ذلك الفعل عند حصول المرجح واجبا وإلا عاد الكلام ولزم التسلسل وإذا كان واجبا كان اضطراريا وهو عين الجبر وإن لم يتوقف على مرجح كان جائز الوقوع وجائز العدم فوقوعه بغير مرجح يستلزم حصول الأثر بلا مؤثر وذلك محال، فإن قلت المرجح هو إرادة العبد، قلت لك إرادة العبد حادثة والكلام في حدوثها كالكلام في حدوث المراد بها ويلزم التسلسل قال السني: هذا أحد سهم في كنانتك وهو بحمد الله سهم لا ريش له ولا نصل مع عوجه وعدم استقامته وأنا أستفسرك عما في هذه الحجة من الألفاظ المجملة المستعملة على حق وباطل وأبين فسادها فما تعني بقولك إن كان الفعل عند القدرة والداعي واجبا كان فعل العبد اضطراريا وهو عين الجبر أتعني به أن يكون مع القدرة والداعي بمنزلة حركة المرتعش وحركة من نفضته الحمى وحركة من رمي به من مكان عال فهو يتحرك في نزوله اضطرارا منه أم تعني به أن الفعل عند اجتماع القدرة والداعي يكون لازم الوقوع بالقدرة فإن أردت بكونه اضطراريا المعنى الأول كذبتك العقول والفطر والحس والعيان فإن الله فطر عباده على التفريق بين حركة من رمي به من شاهق فهو يتحرك إلى أسفل وبين حركة من يرقى في الجبل إلى علوه وبين حركة المرتعش وبين حركة المصفق وبين حركة الزاني والسارق والمجاهد والمصلي وحركة المكتوف الذي قد أوثق رباطا وجر على الأرض فمن سوى بين الحركتين فقد خلع ربقة العقل والفطرة

ص -141- والشرعة من عنقه وإن أردت المعنى الثاني وهو كون العقل لازم الوجود عند القدرة والداعي كان لازم الوجود وهذا لا فائدة فيه وكونه لازما وواجبا بهذا المعنى لا ينافي كونه مختارا مرادا له مقدورا له غير مكره عليه ولا مجبور فهذا الوجوب واللزوم لا ينافي الاختيار ثم نقول لو صحت هذه الحجة لزم أن يكون الرب سبحانه مضطرا على أفعاله مجبورا عليها بمعنى ما ذكرت من مقدماتها وأنه سبحانه يفعل بقدرته ومشيئته وما ذكرت من وجوب الفعل عند القدرة والداعي وامتناعه عند عدمهما ثابت في حقه سبحانه وقد اعترف أصحابك بهذا الإلزام وأجابوا عنه بما لا يجدي شيئا قال ابن الخطيب عقيب ذكر هذه الشبهة: "فإن قلت هذا ينفي كونه فاعلا مختارا قلت الفرق أن إرادة العبد محدثة فافتقرت إلى إرادة يحدثها الله دفعا للتسلسل وإرادة الباري قديمة فلم يفتقر إلى إرادة أخرى" ورد هذا الفرق صاحب التحصيل فقال: "ولقائل أن يقول هذا لا يدفع التقسيم المذكور" قلت فإن التقسيم متردد بين لزوم الفعل عند الداعي وامتناعه عند عدمه وهذا التقسيم ثابت في حق الغائب والشاهد وكون إرادة الرب سبحانه قديمة من لوازم ذاته لا فاعل لها لا يمنع هذا الترديد والتقسيم فإن عند تعلقها بالمراد يلزم وقوعه وعند عدم تعلقها به يمتنع وقوعه وهذا اللزوم والامتناع لا يخرجه سبحانه عن كونه فاعلا مختارا ثم نقول هذا المعنى لا يسمى جبرا ولا اضطرارا فإن حقيقة الجبر ما حصل بإكراه غير الفاعل له على الفعل وحمله على إيقاعه بغير رضاه واختياره والرب سبحانه هو الخالق للإرادة والمحبة والرضا في قلب العبد فلا يسمى ذلك جبرا لا لغة ولا عقلا ولا شرعا ومن العجب احتجاجك بالقدرة والداعي على أن الفعل الواقع بهما اضطراري من العبد والفعل عندكم لم يقع بهما ولا هو فعل العبد بوجه وإنما هو عين فعل الله وذلك لا يتوقف على قدرة من العبد ولا داع منه ولا هناك ترجيح له عند وجودهما ولا عدم ترجيح عند

عدمهما بل نسبة الفعل إلى القدرة والداعي كنسبته إلى عدمهما فالفعل عندك غير فعل الله فلا ترجيح هناك من العبد ولا مرجح ولا تأثير ولا أثر قال السني: وقد أجابك إخوانك من القدرية عن هذه الحجة بأجوبة أخرى فقال أبو هاشم وأصحابه لا يتوقف فعل القادر على الداعي بل يكفي في فعله مجرد قدرته قالوا فقولك عند حصول الداعي إما أن يجب الفعل أو لا يجب عندنا لا يجب الفعل بالداعي ولا يتوقف عليه ولا يمكنك أيها الجبري الرد على هؤلاء فإن الداعي عندك لا تأثير له في الفعل البتة ولا هو متوقف عليه ولا على القدرة فإن القدرة الحادثة عندك لا تؤثر في مقدورها فكيف يؤثر الداعي في الفعل فهذه الحجة لا تتوجه على أصولك البتة وغايتها إلزام خصومك بها على أصولهم وقال أبو الحسين البصري وأصحابه: "يتوقف الفعل على الداعي" ثم قال أبو الحسين: "إذا تجرد الداعي وجب وقوع الفعل ولا يخرج بهذا الوجوب عن كونه اختياريا" وقال محمود الخوارزمي صاحبه: "لا ينتهي بهذا الداعي إلى حد الوجوب بل يكون وجوده أولى" قالوا فنجيبك عن هذه الشبهة على الرأيين جميعا أما على رأي أبي هاشم فنقول صدور إحدى الحركتين عنه دون الأخرى لا يحتاج إلى مرجح بل من شأن القادر أن يوقع الفعل من غير مرجح لجانب وجوده على عدمه قالوا ولا استبعاد في العقل في وجود مخلوق متمكن من الفعل بدلا عن الترك وبالضد من غير مرجح كما أن النائم والساهي يتحركان من غير داع وإرادة فإن قلتم بل هناك داع وإرادة لا يذكرها النائم والناسي كان ذلك مكابرة قلت وأصحاب هذا القول يقولون أن

ص -142- القادر هو الذي يفعل مع جواز أن لا يفعل وأصحاب القول الأول يقولون بل يفعل مع وجوب أن يفعل ومحمود الخوارزمي توسط بين المذهبين وقال: "بل يفعل مع أولوية أن يفعل" ولا ينتهي الترجيح إلى حد الوجوب فالأقوال خمسة أحدها أن الفعل موقوف على الداعي فإذا انضمت القدرة إليه وجب الفعل بمجموع الأمرين وهذا قول جمهور العقلاء ولم يصنع ابن الخطيب شيئا في نسبته له إلى الفلاسفة وأبي الحسين البصري من المعتزلة الثاني أن الفعل يجب بقدرة الله وقدرة العبد وهذا قول من يقول أن قدرة العبد مؤثرة في مقدوره مع قدرة الله على عين مقدور العبد وهذا قول أبي إسحق واختيار الجويني في النظامية الثالث قول من يقول يجب بقدرة الله فقط وهذا قول الأشعري والقاضي أبي بكر ثم إختلفا فقال القاضي: "كونه فعلا واقع بقدرة الله وكونه صلاة أو حجا أو زنا أو سرقة واقع بقدرة العبد فتأثير قدرة الله في ذات الفعل وتأثير قدرة العبد في صفة الفعل" وقال الأشعري: "أصل الفعل ووصفه واقعان بقدرة الله ولا تأثير لقدرة العبد في هذا ولا هذا" الرابع قول من يقول لا يجب الفعل من القادر البتة بل القادر هو الذي يفعل مع جواز أن لا يفعل فلا ينتهي فعل القادر المختار إلى الوجوب أصلا وهذا قول أبي هاشم وأصحابه الخامس أن يكون عند الداعي أولى بالوقوع ولا ينتهي إلى حد الوجوب وهذا قول الخوارزمي وقد سلم أبو الحسين أن الفعل يجب مع الداعي وسلم أن الداعي مخلوق لله وقال أن العبد مستقل بإيجاد فعله قال: "والعلم بذلك ضروري" قال ابن الخطيب: "وهذا غلو منه في القدر" وقوله أنه يتوقف على الداعي والداعي خلق لله غلو في الجبر فجمع بين القدر والجبر مع غلوه فيهما ولم ينصفه فليس ما ذهب إليه غلو في قدر ولا جبر فإن توقف الفعل على الداعي ووجوبه عنده بقدرة العبد ليس جبرا فضلا أن يكون غلوا فيه وكون العبد محدثا لفعله ضرورة بما خلقه الله فيه من القدرة والاختيار ليس قولا بمذهب

القدرية فضلا عن كونه غلوا فيه.
فصل: قال الجبري: إذا كان الداعي ليس من أفعالنا وهو علم القادر أن في ذلك الفعل مصلحة له وذلك أمر مركوز في طبيعته التي خلق عليها وذلك مفعول لله فيه والفعل واجب عنده فلا معنى للجبر إلا هذا، قال له السني: أخوك القدري يجيبك عن هذا بأن ذلك الداعي قد يكون جهلا وغلطا وهذه أمور يحدثها الإنسان في نفسه فيفعل على حسب ما يتوهم أن فيه مصلحته صادفها أو لم يصادفها فالداعي لا ينحصر في العلم خاصة، قال الجبري: لا يساوي هذا الجواب شيئا فإن العطشان مثلا يدعوه الداعي إلى شرب الماء لعلمه بنفعه وشهوته وميله إلى شربه وذلك العلم وتلك الشهوة والميل إلى الشرب من فعل الله فيجب على القدري أن يترك مذهبه صاغرا داخرا ويعترف بأن ذلك الفعل مضاف إلى من خلق فيه الداعي المقتضى، قال القدري: ذلك الداعي وإن كان من فعل الله إلا أنه جار مجرى فعل المكلف لأنه قادر على أن يبطل أثره بأن يستحضر صارفا عن الشرب مثل أن يحجم عن الشراب تجربة هل يقدر على مخالفة الداعي أم لا فإحجامه لأجل التجربة أثر داع ثان هو الصارف يعارض الداعي فالحي قادر على تحصيله وقادر على إبقاء الداعي الأول بحاله فإبقاؤه الداعي الأول بحاله وإعراضه عن إحضار المعارض له أمر لولاه ما حصل الشرب فمن هذا الوجه كان الشرب فعلا له لأنه قادر على تحصيل الأسباب المختلفة التي تصدر عنها الآثار ويصير هذا

ص -143- كمن شاهد إنسانا في نار متأججة وهو قادر على إطفائها عنه من غير مشقة ولا مانع فإنه إن لم يطفئها استحق الذم وإن كان الإحراق من أثر النار وقد أجاب ابن أبي الحديد بجواب آخر فقال ويمكن أن يقال إذا تجرد الداعي كما ذكرتم في صورة العطشان فإن التكليف بالفعل والترك يسقط لأنه يصير أسوأ حالا من الملجأ وهذا من أفسد الأجوبة على أصول جميع الفرق فإن مقتضى التكليف قائم فكيف يسقط مع حضور الفعل والقدرة وهذا قسم رابع من الذين رفع عنهم التكليف أثبته هذا القدري زائدا على الثلاثة الذين رفع عنهم القلم وهذا خرق منه لإجماع الأمة المعلوم بالضرورة ولو سقط التكليف عند تجرد الداعي لكان كل من تجرد داعيه إلى فعل ما أمر به قد سقط عنه التكليف وهذا القول أقبح من القول بتكليف ما لا يطاق ولهذا كان القائلون به أكثر من هذا القائل وقولهم يحكى ويناظر عليه، قال الجبري: إذا كان الداعي من الله وهو سبب الفعل والفعل واجب عنده كان خالق الفعل هو خالق الداعي أي خالق السبب، قال السني: هذا حق فإن الداعي مخلوق لله في العبد وهو سبب الفعل والفعل يضاف إلى الفاعل لأنه صدر منه ووقع بقدرته ومشيئته واختياره وذلك لا يمنع إضافته بطريق العموم إلى من هو خالق كل شيء وهو على كل شيء قدير وأيضا فالداعي ليس هو المؤثر بل هو شرط في تأثير القادر في مقدوره وكون الشرط ليس من العبد لا يخرجه عن كونه فاعلا وغاية قدرة العبد وإرادته الجازمة أن يكون شرطا أو جزء سبب والفعل موقوف على شروط وأسباب لا صنع للعبد فيها البتة وأسهل الأفعال رفع العين لرؤية الشيء فهب أن فتح العين فعل العبد إلا أنه لا يستقل بالإدراك فإن تمام الإدراك موقوف على خلق الدرك وكونه قابلا للرؤية وخلق آلة الإدراك وسلامتها وصرف الموانع عنها فما تتوقف عليه الرؤية من الأسباب والشروط التي لا تدخل تحت مقدور العبد أضعاف أضعاف ما يقدر عليه من تقليب حدقته نحو المرئي فكيف يقول عاقل أن

جزء السبب أو الشرط موجب مستقل لوجود الفعل وهذا الموضع مما ضل فيه الفريقان حيث زعمت القدرية أنه موجب للفعل وزعمت الجبرية أنه لا أثر له فيه فخالفت الطائفتان صريح المعقول والمنقول وخرجت عن السمع والعقل والتحقيق أن قدرة العبد وإرادته ودواعيه جزء من أجزاء السبب التام الذي يجب به الفعل فمن زعم أن العبد مستقل بالفعل مع أن أكثر أسبابه ليست إليه فقد خرج عن موجب العقل والشرع فهب أن دواعي حركة الضرب منك مستقلا بها فهل سلامة الآلة منك وهل وجود المحل المنفعل وقبوله منك وهل خلق الفضاء بينك وبين المضروب وخلوه عن المانع منك وهل إمساك قدرته عن مضاربتك وغلبك منك وهل القوة التي في اليد والرباطات والاتصالات التي بين عظامها وشد أسرها منك ومن زعم أنه لا أثر للعبد بوجه ما في الفعل وأن وجود قدرته وإرادته وعدمهما بالنسبة إلى الفعل على السواء فقد كابر العقل والحس، قال الجبري: إن انتهت سلسلة الترجيحات إلى مرجح من العبد فذلك المرجح ممكن لا محالة فإن ترجح بلا مرجح انسد عليكم باب إثبات الصانع إذا جوزتم رجحان أحد طرفي الممكن وإن توقف على مرجح آخر لزم التسلسل فلا بد من انتهائه إلى مرجح من الله لا صنع للعبد فيه قال السني: أما إخوانك القدرية فإنهم يقولون القادر المختار يحدث إرادته وداعيته بلا مرجح من غيره قالوا والفطرة شاهدة بذلك فإنا لا نفعل ما لم نرد ولا نريد ما لم نعلم إن في الفعل منفعة لها أو دفع مضرة ولا نجد لهذه الإرادة إرادة

ص -144- أحدثتها ولا لعلمنا بأن لك نافع علما آخر أحدثه فالمرجح هو ما خلق عليه العبد وفطر عليه من صفاته القائمة به فالله سبحانه أنشأ العبد نشأة يتحرك فيها بالطبع فحركته بالإرادة والمشيئة من لوازم نشئه وكونه حيوانا فإرادته وميله من لوازم كونه حيا فأفعال العبد الخاصة به هي الدواعي والإرادات لا غير وما يقع بها من الأفعال شبيه بالفعل المتولد من حيث كان المتولد سببا وهذه الأفعال صادرة عن الدواعي التي عرفها العبد ابتداء من غير واسطة فاشتراكهما في أن كل واحد منهما مستند إلى فعل خاص بالعبد فهما متماثلان من هذه الجهة قال السني وهذا جواب باطل بأبطل منه ورد فاسد بأفسد منه ومعاذ الله والله أكبر وأجل وأعظم وأعز أن يكون في عبده شيء غير مخلوق له ولا هو داخل تحت قدرته ومشيئته فما قدر الله حق قدره من زعم ذلك ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه بل العبد جسمه وروحه وصفاته وأفعاله ودواعيه وكل ذرة فيه مخلوق لله خلقا تصرف به في عبده وقد بينا أن قدرته وإرادته ودواعيه جزء من أجزاء سبب الفعل غير مستقل بإيجاده ومع ذلك فهذا الجزء مخلوق لله فيه فهو عبد مخلوق من كل وجه وبكل اعتبار وفقره إلى خالقه وبارئه من لوازم ذاته وقلبه بيد خالقه وبين أصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء فيجعله مريدا لما شاء وقوعه منه كارها لما لم يشأ وقوعه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ونعم والله سلسلة المرجحات تنتهي إلى أمر الله الكوني ومشيئته النافذة التي لا سبيل لمخلوق إلى الخروج عنها ولكن الجبر لفظ مجمل يراد به حق وباطل كما تقدم فإن أردتم به أن العبد مضطر في أفعاله وحركته في الصعود في السلم كحركته في وقوعه منه فهذا مكابرة للعقول والفطر وإن أردتم به أنه لا حول له ولا قوة إلا بربه وفاطره فنعم لا حول ولا قوة إلا بالله وهي كلمة عامة لا تخصيص فيها بوجه ما فالقوة والقدرة والحول بالله فلا قدرة له ولا فعل إلا بالله فلا ننكر هذا ولا

نجحده لتسمية القدري له جبرا فليس الشأن في الأسماء: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فلا نترك لهذه الأسماء مقتضى العقل والإيمان والمحذور كل المحذور أن نقول أن الله يعذب عبده على ما لا صنع له فيه ولا قدرة له عليه ولا تأثير له في فعله بوجه ما بل يعذبه على فعله هو سبحانه وعلى حركته إذا سقط من علو إلى سفل نعم لا يمتنع أن يعذبه على ذلك إذ كان قد تعاطي أسبابه بإرادته ومحبته كما يعاقب السكران على ما جناه في حال سكره لتفريطه وعدوانه بارتكاب السبب وكما يعاقب العاشق الذي غلب على صبره وعقله وخرج الأمر عن يده لتفريطه السابق بتعاطي أسباب العشق وكما يعاقب الذي آل به إعراضه وبغضه للحق إلى أن صار طبعا وقفلا ورينا على قلبه فخرج الأمر عن يده وحيل بينه وبين الهدى فيعاقبه على ما لم يبق له قدرة عليه ولا إرادة بل هو ممنوع منه وعقوبته عليه عدل محض لا ظلم فيه بوجه ما، فإن قيل فهل يصير في هذه الحال مكلفا وقد حيل بينه وبين ما أمر به وصد عنه ومنع منه أم يزول التكليف، قيل ستقف على الجواب الشافي إن شاء الله عن هذا السؤال في باب القول في تكليف ما لا يطاق قريبا فإنه سؤال جيد إذ المقصود ههنا الكلام في الجبر وما في لفظه من الإجمال وما في معناه من الهدى والضلال.
فصل: قال الجبري: إذا صدر من العبد حركة معينة فإما أن تكون مقدورة للرب وحده أو العبد وحده أو للرب والعبد أو لا للرب ولا للعبد وهذا القسم الأخير باطل قطعا والأقسام

ص -145- الثلاثة قد قال بكل واحد منها طائفة فان كانت مقدورة للرب وحده فهو الذي يقوله وذلك عين الجبر وان كانت مقدورة للعبد وحده فذلك إخراج لبعض الأشياء عن قدرة الرب تعالى فلا يكون على كل شيء قدير ويكون العبد المخلوق الضعيف قادرا على ما لم يقدر عليه خالقه وفاطره وهذا هو الذي فارقت به القدرية للتوحيد وضاهت به المجوس وإن كانت مقدورة للرب والعبد لزمت الشركة ووقوع مفعول بين فاعلين ومقدور بين قادرين وأثر بين مؤثرين وذلك محال لأن المؤثرين إذا اجتمعا استقلالا على أثر واحد فهو غني عن كل منهما بكل منهما فيكون محتاجا إليهما مستغنيا عنهما قال السني: قد افترق الناس في هذا المقام فرقا شتى ففرقة قالت إنما تقع الحركة بقدرة الله وحده لا بقدرة العبد وتأثير قدرة العبد في كونها طاعة أو معصية فقدرة الرب وحده اقتضت وجودها وقدرة العبد اقتضت صفتها وهذا قول القاضي أبي بكر ومن اتبعه ولعمر الله أنه لغير شاف ولا كاف فإن صفة الحركة إن كان أثرا وجوديا فقد أثرت قدرته في أمر موجود فلا يمتنع تأثيرها في نفس الحركة وإن كان صفتها أمرا عدميا كان متعلق قدرته عدما لا وجودا وذلك ممتنع إذ أثر القدرة لا يكون عدما صرفا وفرقة أخرى قالت بل الفعل وصفته واقع بمحض قدرة الله وحده ولا تأثير لقدرة العبد في هذا ولا هذا وهذا قول الأشعري ومن اتبعه وفرقة قالت بل المؤثر قدرة العبد وحده دون قدرة الرب ثم انقسمت هذه الفرقة إلى فرقتين فرقة قالت أن قدرة العبد هي المؤثرة مع كون الرب قادرا على الحركة وقالت أن مقدورات العباد مقدورة لله تعالى وهذا قول أبي الحسين البصري وأتباعه الحسينية وفرقة قالت أن قدرة العبد هي المؤثرة والله سبحانه غير قادر على مقدور وهذا قول المشايخية أتباع أبي على وأبي هاشم وليس عند ابن الخطيب وجمهور المتكلمين غير هذه الأقوال التي لا تشفي عليلا ولا تروي غليلا وليس عند أربابها إلا مناقضة بعضهم بعضا وقد أجاب بعض

أصحاب أبي الحسين عن هذا السؤال انه كان يقول بمقدور بين قادرين فله أن يقول في هذا المقام ان كان الدليل الذي ذكرته دليلا صحيحا على استحالة اجتماعهما على فعل واحد فإنما يدل على استحالته على فعلهما على سبيل الجمع ولا يستحيل على سبيل البدل كما يستحيل حصول جوهرين في مكان واحد ولا يستحيل حصولهما فيه على البدل وهذا جواب باطل قطعا فإن مضمونه أن أحدهما لا يقدر عليه إلا إذا تركه الآخر فحال تلبس العبد بالفعل بقدرته وإرادته إن كان مقدورا لله فهو القول بمقدور بين قادرين وان لم يكن مقدورا له لزم إخراج بعض الممكنات عن قدرته فإن قلت هو قادر عليه بشرط أن لا يقدر عليه العبد قيل لك فهذا تصريح منك بأنه في حال قدرة العبد عليه لا يقدر عليه الرب فلا ينفعك القول بأنه قادر عليه على البدل وأيضا فإن قدر عليه بشرط أن لا يقدر عليه العبد فإذا قدر العبد عليه انتفت قدرة الرب لانتفاء شرطها وهذا مما صاح به عليكم أهل التوحيد من أقطار الأرض ورموكم به عن قوس واحدة وإنما صانعتم به أهل السنة مصانعة وإلا فحقيقة هذا القول أن العبد يقدر عليه على مالا يقدر عليه الرب وحكاية هذا الرأي الباطل كافية في فساده فإن قلت كما لا يمتنع معلوم واحد بين عالمين ومراد واحد بين مريدين قيل هذا من أفسد القياس لأن المعلوم لا يتأثر بالعالم والمراد لا يتأثر بالمريد فيصح الاشتراك في المعلوم والمراد كما يصح الاشتراك في المرئي والمسموع وأما المقدور فيجوز اشتراك القادرين فيه بالقدرة المصححة

ص -146- وهي صحة وقوعه من كل واحد منهما وصحة التأثير من أحدهما لا تنافي صحته من الأخر أما اشتراكهما فيه بالقدرة الموجبة المقارنة لمقدورها فهو عين المحال إلا أن يراد الاشتراك على البدل فيكون تأثير أحدهما فيه شرطا في تأثير الآخر ولما تفطن أبو الحسين لهذا قال: "لست أقول أن إضافته إلى أحدهما هي إضافته إلى الآخر كما أن الشيء الواحد يكون معلوما لعالمين ويمتنع أن يكون علم أحدهما به هو علم الآخر فهكذا أقول في المقدور بين قادرين ليست قدرة أحدهما عليه هي قدرة الآخر والمفعول بين فاعلين ليس فعل أحدهما فيه هو فعل الآخر وإنما معنى قولي هذا أنه فعل لهذا وتأثير له أنه لقدرته وداعيته وجد وليس معنى كونه وجد لقدرة هذا وداعيته هو معنى كونه وجد لقدرة الآخر وداعيته" قال وليس يمتنع في العقل إضافة شيء واحد إلى شيئين لكنه يمتنع أن يكون إضافته إلى أحدهما هي عين إضافته إلى الآخر، وهذا لا يجدي عنه شيئا فإن التقسيم المذكور دائر فيه ونحن نقول قد دل الدليل على شمول قدرة الرب سبحانه لكل ممكن من الذوات والصفات والأفعال وأنه لا يخرج شيء عن مقدوره البتة ودل الدليل أيضا على أن العبد فاعل لفعله بقدرته وإرادته وأنه فعل له حقيقة يمدح ويذم به عقلا وعرفا وشرعا وفطرة فطر الله عليها العباد حتى الحيوان البهيم ودل الدليل على استحالة مفعول واحد بالعين بين فاعلين مستقلين وأثر واحد بين مؤثرين فيه على سبيل الاستقلال ودل الدليل أيضا على استحالة وقوع حادث لا محدث له ورجحان راجح لا مرجح له، وهذه أمور كتبها الله سبحانه في العقول وحجج العقل لا تتناقض ولا تتعارض ولا يجوز أن يضرب بعضها ببعض بل يقال بها كلها ويذهب إلى موجبها فإنها يصدق بعضها بعضا وإنما يعارض بينهما من ضعفت بصيرته وإن كثر كلامه وكثرت شكوكه والعلم أمر آخر وراء الشكوك والإشكالات ولهذا تناقض الخصوم، وهذا رأس مال المتكلمين والقول الحق لم ينحصر في هذه الأقوال التي

حكوها في المسألة، والصواب أن يقال تقع الحركة بقدرة العبد وإرادته التي جعلها الله فيه فالله سبحانه إذا أراد فعل العبد خلق له القدرة والداعي إلى فعله فيضاف الفعل إلى قدرة العبد إضافة السبب إلى مسببه ويضاف إلى قدرة الرب إضافة المخلوق إلى الخالق فلا يمتنع وقوع مقدور بين قادرين قدرة أحدهما أثر لقدرة الآخر وهي جزء سبب وقدرة القادر الآخر مستقلة بالتأثير والتعبير عن هذا المعنى بمقدور بين قادرين تعبير فاسد وتلبيس فإنه يوهم أنهما متكافئان في القدرة كما تقول هذا الثوب بين هذين الرجلين وهذه الدار بين هذين الشريكين وإنما المقدور واقع بالقدرة الحادثة وقوع المسبب بسببه والسبب أو المسبب والفاعل والآلة كله أثر القدرة القديمة ولا نعطل قدرة الرب سبحانه عن شمولها وكمالها وتناولها لكل ممكن ولا نعطل قدرة الرب التي هي سبب عما جعلها الله سببا له ومؤثرة فيه وليس في الوجود شيء مستقل بالتأثير سوى مشيئة الرب سبحانه وقدرته وكل ما سواه مخلوق له وهو أثر قدرته ومشيئته ومن أنكر ذلك لزمه إثبات خالق سوى الله أو القول بوجود مخلوق لا خالق له فإن فعل العبد إن لم يكن مخلوقا لله كان مخلوقا للعبد إما استقلالا وإما على سبيل الشركة وإما أن يقع بغير خالق ولا مخلص عن هذه الأقسام لمنكر دخول الأفعال تحت قدرة الرب ومشيئته وخلقه وإذا عرف هذا فنقول الفعل وقع بقدرة الرب خلقا وتكوينا كما وقعت سائر المخلوقات بقدرته وتكوينه وبقدرة العبد سببا ومباشرة والله خلق الفعل

ص -147- والعبد فعله وباشره والقدرة الحادثة وأثرها واقعان بقدرة الرب ومشيئته.
فصل: قال الجبري: لو كان العبد فاعلا لأفعاله لكان عالما بتفاصيلها لأنه يمكن أن يكون الفعل أزيد مما فعله أو أنقص فوقوعه على ذلك الوجه مشروط بالعلم بتفصيله ومعلوم أن النائم والغافل قد يفعل الفعل ولا يشعر بكيفية ولا قدرة وأيضا فالمتحرك يقطع المسافة ولا شعور له بتفاصيل الحركة ولا أجزاء المسافة ومحرك أصبعه لأجزائها ولا يشعر بعدد أجزائها ولا بعدد أحيازها والمنفس يتنفس باختياره ولا يشعر في الغالب بنفسه فضلا عن أن يشعر بكميته وكيفيته ومبدئه ونهايته والغافل قد يتكلم بالكلمة ويفعل الفعل باختياره ثم بعد فراغه منه يعلم أنه لم يكن قاصدا له فنحن نعلم علما ضروريا من أنفسنا عدم علمنا بوجود أكثر حركاتنا وسكناتنا في حالة المشي والقيام والقعود ولو أردنا فصل كل جزء من أجزاء حركاتنا في حالة إسراعنا بالمشي والحركة والإحاطة به لم يمكنا ذلك بل ونعلم ذلك من حال أكمل العقلاء فما الظن بالحيوانات العجم في مشيها وطيرانها وسباحتها حتى الذر والبعوض وهنا مشاهد في السكران ومن اشتد به الغضب ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فدل على أن السكران يصدر منه أقوال لا يعلم بها فكيف يكون هو المحدث لتلك الأقوال وهو لا يشعر بها والإرادة فرع الشعور ولهذا أفتى الصحابة بأنه لا يقع طلاق السكران نزلوا حركة لسانه منزلة تحريك غيره له بغير إرادته ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق في الإغلاق" لأن الإغلاق يمنع العلم والإرادة فكيف يكون التطليق فعله وهو غير عالم به ولا مريد له وأيضا فقد قال جمهور الفقهاء أن الناسي غير مكلف لأن فعله لا يدخل تحت الاختيار ففعله غير مضاف إليه مع أنه وقع باختياره وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه

في قوله: "من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" فأضاف فعله إلى الله لا إليه فلم يكن له فعل في الأكل والشرب فلم يفطر به قال السني: هذا موضع تفصيل لا يليق به الإجمال فنقول ما يصدر من العبد من الأفعال ينقسم أقساما متعددة بحسب قدرته وعلمه وداعيته وإرادته فتارة يكون ملجأ إلى الفعل لا إرادة له فيه بوجه ما كمن أمسكت يده وضرب بها غيره أو أمسكت أصبعه وقلع بها عين غيره فهذا فعله بمنزلة حركات الأشجار بالريح ولهذا لا يترتب عليه حكم البتة ولا يمدح عليه ولا يذم ولا يثاب ولا يعاقب وهذا لا يسمى فاعلا عقلا ولا شرعا ولا عرفا وتارة يكون مكرها على أن يفعل فهذا فعله يضاف إليه وليس كالملجأ الذي لا فعل له واختلف الناس هل يقال أنه فعل باختياره وأنه يختار ما فعله أو لا يطلق عليه ذلك على قولين والتحقيق أن النزاع لفظي فإنه فعل بإرادة هو محمول عليها مكره عليها فهو مكره مختار مكره على أن يفعل بإرادته مريد ليفعل ما أكره عليه فإن أريد بالمختار من يفعل بإرادته وإن كان كارها للفعل فالمكره مختار وأيضا فهو مختار ليفعل ما أكره لتخلصه به مما هو أكره إليه من الفعل فلما عرض له مكروهان أحدهما أكره إليه من الآخر اختار أيسرهما دفعا لأشقهما ولهذا يقتل قصاصا إذا قتل عند الجمهور والملجأ لا يقتل باتفاق الناس ومما يوضح هذا أن المكره على التكلم لا يتأتى منه التكلم إلا باختياره وإرادته ولهذا أوقع طلاقه وعتاقه بعض العلماء والجمهور قالوا لا يقع لأن الله جعل كلام المكره على كلمة الكفر لغو لا يترتب عليه أثره لأنه وإن قصد التكلم باللفظ دفعا عن نفسه فلم يقصد معناه وموجبه حتى قال بعض الفقهاء لو قصد الطلاق بقلبه مع الإكراه لم

ص -148- يقع طلاقه لأن قوله هدر ولغو عند الشارع فوجوده كعدمه في حكمه فبقي مجرد القصد وهو غير موجب للطلاق وهذا ضعيف فإن الشارع إنما ألغى قول المكره إذا تجرد عن القصد وكان قلبه مطمئنا بضده فأما إذا قارن اللفظ القصد واطمأن القلب بموجبه فإنه لا يعذر، فإن قيل فما تقولون فيمن ظن أن الإكراه لا يمنع وقوع الطلاق فقصده جاهلا بأن الإكراه مانع من وقوعه، قيل هذا لا يقع طلاقه لأنه لما ظن أن الإكراه على الطلاق يوجب وقوعه إذا تكلم به كان حكم قصده حكم لفظه فإنه إنما قصده دفعا عن نفسه لما علم أنه لا يتخلص إلا به ولم يظن أن الكلمة بدون القصد لغوا ودهش عن ذلك ولا وطر له في الطلاق فهذا لا يقع بخلاف الأول فإنه لما أكره على الطلاق نشأ له قصد طلاقها إذ لا غرض له أن يقيم مع امرأة أكره على طلاقها وإن كان لو لم يكره لم يبتدي طلاقها والمقصود أن المكره مريد لفعله غير ملجأ إليه.
فصل: وأما أفعال النائم فلا ريب في وقوع الفعل القليل منه والكلام المفيد واختلف الناس هل تلك الأفعال مقدورة له أو مكتسبة أو ضرورية بعد اتفاقهم على أنها غير داخلة تحت التكليف فقالت المعتزلة وبعض الأشعرية هي مقدورة له والنوم لا يضاد القدرة وإن كان يضاد العلم وغيره من الإدراكات وذهب أبو إسحاق إلى أن ذلك الفعل غير مقدور له وأن النوم يضاد القدرة كما يضاد العلم وذهب القاضي أبو بكر وكثير من الأشعرية إلى أن فعل النائم لا يقطع بكونه مكتسبا ولا بكونه ضروريا وكل من الأمرين ممكن قال أصحاب القدرة كان النائم قادرا في يقظته وقدرته باقية والنوم لا ينافيها فوجب استصحاب حكمها قالوا وأيضا فالنائم إذا انتبه فهو على ما كان عليه في نومه ولا يتجدد أمر وراء زوال النوم وهو قادر بعد الانتباه وزوال النوم غير موجب للاقتدار ولا وجوده نافيا لقدرة قالوا وأيضا قد يوجد من النائم ما لو وجد منه في حال اليقظة لكان واقعا على حسب الداعي والاختيار والنوم وإن نافى

القصد فلا ينافي القدرة قال النافون للقدرة قولكم النوم لا ينافي القدرة دعوى كاذبة فإن النائم منفعل محض متأثر صرف ولهذا لا يمتنع ممن يؤثر فيه وقولكم لم يتجدد له أمر غير زوال النوم فالتجدد زوال المانع من القدرة فعاد إلى ما كان عليه كمن أوثق غيره رباطا ومنعه من الحركة فإذا حل رباطه تجدد زوال المانع قالوا نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم وحركة المرتعش والمفلوج وما ذاك إلا أن حركته مقدورة له وحركة المرتعش غير مقدورة له والتحقيق أن حركة النائم ضرورية له غير مكتسبة وكما فرقنا في حق المستيقظ بين حركة ارتعاشه وحركة تصفيقه كذلك نجد تفرقه ضرورية بين حركة النائم وحركة المستيقظ.
فصل: وأما زائل العقل بجنون أو سكر فليست أفعاله اضطرارية كأفعال الملجأ ولا اختيارية بمنزلة أفعال العامل العالم بما يفعله بل هي قسم آخر من الاضطرارية وهي جارية مجرى أفعال الحيوان وفعل الصبي الذي لا تمييز له بل لكل واحد من هؤلاء داعية إلى الفعل يتصورها وله إرادة يقصد بها وقدرة ينفذ بها وإن كان داعية نوع آخر غير داعي العاقل العالم بما يفعله فلا بد أن يتصور ما في الفعل من الغرض ثم يريده ويفعله وهذه أفعال طبيعية واقعة بالداعي والإرادة والقدرة والدواعي والإرادات تختلف ولهذا لا يكلف أحد هؤلاء بالفعل فأفعاله لا تدخل تحت التكليف وليست كأفعال الملجأ ولا المكره وهي مضافة إليهم مباشرة وإلى خالق ذواتهم وصفاتهم خلقا فهي مفعولة وأفعال

ص -149- لهم والساهي الذي يفعل الفعل مع غفلته وذهوله فهو إنما يفعله بقدرته إذ لو كان عاجزا لما تأتى منه الفعل وله إرادة لكنه غافل عنها فالإرادة شيء والشعور بها شيء آخر فالعبد قد يكون له إرادة وهو ذاهل عن شعوره بها لاشتغال محل التصور منه بأمر آخر منعه من الشعور بالإرادة فعملت عملها وهي غير مشعور بها وإن كان لا بد من الشعور عند كل جزء من أجزائه وبالله التوفيق وبالجملة فالفعل الاختياري يستلزم الشعور بالفعل في الجملة وأما الشعور به على التفصيل فلا يستلزمه.
فصل: قال الجبري: ضلال الكافر وجهله عند القدري مخلوق له موجود بإيجاده اختيارا وهذا ممتنع فإنه لو كان لكان كذلك قاصدا له إذا القصد من لوازم الفعل اختيارا واللازم ممتنع فإن عاقلا لا يريد لنفسه الضلال والجهل فلا يكون فاعلا له اختيارا، قال السني: عجبا لك أيها الجبري تنزه العبد أن يكون فاعلا للكفر والجهل والظلم ثم تجعل ذلك كله فعل الله سبحانه ومن العجب قولك أن العاقل لا يقصد لنفسه الكفر والجهل وأنت ترى كثيرا من الناس يقصد لنفسه ذلك عنادا وبغيا وحسدا مع علمه بأن الرشد والحق في خلافه فيطيع دواعي هواه وغيه وجهله ويخالف داعي رشده وهداه ويسلك طرق الضلال ويتنكب عن طريق الهدى وهو يراهما جميعا، قال أصدق القائلين: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}، وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وقال تعالى عن قوم فرعون: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا

أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} وقال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} وقال: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} وهذا في القرآن كثير يبين سبحانه فيه اختيارهم الضلال والكفر عمدا على علم! هذا وكم من قاصد أمرا يظن أنه رشد وهو ضلال وغي.
فصل: قال الجبري: لو جاز تأثير قدرة العبد في القول بالإيجاد لجاز تأثيرها في إيجاد كل موجود لأن الوجود قضية واحدة مشتركة بين الموجودات الممكنة وإن اختلفت محاله وجهاته ويلزم من صحة تأثير القدرة في بعضه صحة تأثيرها في جميعه لاتحاد المتعلق وإن ما ثبت لأحد المثلين ثبت للآخر وأيضا فالمصحح للتأثير هو الإمكان ويلزم من الاشتراك في المصحح للتأثير الاشتراك في الصحة ومعلوم قطعا أن قدرة العبد لا تتعلق بإيجاد الأجسام وأكثر الأعراض إنما تتعلق ببعض الأعراض القائمة لمحل قدرته، قال السني: لقد كشف الله عوار مذهب يكون إثباته مستندا إلى مثل هذه الخرافات التي حاصلها أنه يلزم من صحة قدرة العبد على قلع حصاة من الأرض صحة قدرته على قلع الجبل ومن إمكان حمله لرطل إمكان حمله لمائة ألف رطل ومن إيجاده للفعل القائم به من الأكل والشرب والصلاة وغيرها صحة إيجاده لخلق السماوات والأرض

وما بينهما وهل سمع في الهذيان

ص -150- بأسمج من هذا وأغث من هذا واشتراك الموجودات في مسمى الوجود الكلي العام لا يلزم منه أن ما جاز على موجود ما جاز على كل موجود وهذا أسمج من الأول وأبين فسادا ولا يلزم من ذلك تماثل البعوضة والفيل وتماثل الأجسام والإعراض ومن يجعل من الجبرية للقدرة الحادثة تعلقا ما بفعل العبد يعترف بالفرق ويقول قدرته تتعلق ببعض الأعراض ولا تتعلق بالأجسام ولا بكل الأعراض فإن احتج على إبطال التأثير بهذه الشبهة الغثة ألزم بها بعينها في عموم تعلق قدرته بكل موجود.
فصل: قال الجبري: دليل التوحيد ينفي كون العبد فاعلا وأن يكون لقدرته تأثير في فعله وتقريره بدليل التمانع، قال السني: دليل التوحيد إنما ينفي وجود رب ثان ويدل على أنه لا رب إلا هو سبحانه ولا يدل على امتناع وجود مخلوق له قدرة وإرادة مخلوقة يحدث بها وهو وقدرته وإرادته وفعله مخلوق لله فهو بعد طول مقدماته واعتراف فضلائكم بالعجز عن تقريره وذكر ما في مقدماته من منع ومعارضة إنما ينفي وجود قادرين متكافئين قدرة كل واحد منهما من لوازم ذاته ليست مستفادة من الآخر وهو دليل صحيح في نفسه وإن عجزتم عن تقريره ولكن ليس فيه ما ينفي أن تكون قدرة العبد وإراداته سببا لوجود مقدوره وتأثيرها فيه تأثير الأسباب في مسبباتها فلا للتوحيد قررتم بدليل التمانع ولا للجبر وقد كفانا أفضل متأخريكم بيان تنافي هذا الدليل من المنوع والمعارضات، قال الجبري: دعنا من هذا كله أليس في القول بتأثير قدرة العبد في مقدوره مع الاعتراف بأن الله سبحانه قادر على مقدور العبد إلزام وقوع المقدور الواحد بين القادرين والدليل ينفيه، قال السني: ما تعني بقولك يلزم وقوع مقدور بين قادرين أتعنى به قادرين مستقلين متكافئين أم تعنى به قادرين تكون قدرة أحدهما مستفادة من الآخر فإن عنيت الأول منعت الملازمة وإن عنيت الثاني منع انتفاء اللازم ومثبتو الكسب يجيبون عن هذا بأنه

لا يمتنع وقوع مقدور بين قادرين لقدرة أحدهما تأثير في إيجاده ولقدرة الآخر تأثير في صفته كما يقوله القاضي أبو بكر ومن تبعه والأشعري يجيب عنه على أصله بأن الفعل وقع بين قادرين لا تأثير لقدرة أحدهما في المقدور بل تعلق قدرته بمقدورها كتعلق العلم بمعلومه وإنما الممتنع عنده وقوع مقدور بين قادرين مؤثرين وهذا الاعتذار لا يخرج عن الجبر وأن زخرفت له العبارات، وأجاب عنه الحسينية بما حكيناه أنه لا يمتنع مقدرو بين قادرين على سبيل البدل ويمتنع على سبيل الجمع وقد تقدم فساده وأجاب عنه المشايخية بأنه مقدور للعبد وليس مقدورا للرب وهذا أبطل الأجوبة وأفسدها والقائلون به يقولون أن الله سبحانه عن إفكهم يريد الشيء فلا يكون ويكون الشيء بغير إرادته ومشيئته فيريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد وكفى بهذا بطلانا وفسادا، قال الجبري: الفعل عند المرجح التام واجب والمرجح ليس من العبد وإلا لزم التسلسل فهو من الرب فإذا وجب الفعل عنده فهو الجبر بعينه، قال السني: قد تقدم هذا الدليل وبيان ما فيه وحيث أعدتموه بهذه العبارة الوجيزة المختصرة فنحن نذكر الأجوبة عنه كذلك قولكم لا بد من مرجح يرجح الفعل على الترك أو بالعكس مسلم قولكم المرجح إن كان من العبد لزم التسلسل وإن كان من الرب لزم الجبر جوابه ما المانع أن يكون من فعل العبد ولا يلزم التسلسل بأن يكون من فعله على وجه لا يكون الترك ممكنا له حينئذ ولا يلزم من سلب الاختيار عنه في فعل المرجح سلبه عنه مطلقا ثم ما المانع أن يكون المرجح من فعل الله ولا يلزم الجبر فإنكم إن

ص -151- عنيتم بالجبر أنه غير مختار للفعل ولا مريد له لم يلزم الجبر بهذا الاعتبار لأن الرب سبحانه جعل المرجح اختيار العبد ومشيئته فانتفى الجبر وإن عنيتم بالجبر أنه وجد لا بإيجاد العبد لم يلزم الجبر أيضا بهذا الاعتبار وإن عنيتم أنه يجب عند وجود المرجح وأنه لا بد منه فنحن لا ننفي الجبر بهذا الاعتبار وتسمية ذلك جبرا اصطلاح يختص بكم وهو اصطلاح فاسد فإن فعل الرب سبحانه يجب عند وجود مرجحه التام ولا يكون ذلك جبرا بالنسبة إليه سبحانه ثم هذا لازم على من اثبت الكسب منكم فنقول له في الكسب ما قاله في أصل الفعل سواء ومن لم يثبت الكسب لزم ذلك في فعل الرب كما تقدم فإن قلتم الفرق أن صدور الفعل عن القادر موقوف على الإرادة وإرادة العبد محدثة فافتقرت إلى محدث فإن كان ذلك المحدث هو العبد لزم التسلسل فوجب انتهاء جميع الإرادات إلى إرادة ضرورية يخلقها الله في القلب ابتداء ويلزم منه الجبر بخلاف إرادة الرب سبحانه فإنها قديمة مستغنية عن إرادة أخرى فلا تسلسل قيل لكم لا يجدي هذا عليكم في دفع الإلزام فإن الإرادة القديمة إما أن يصح معها الفعل بدلا عن الترك وبالعكس أو لا فإن كان الأول فلا بد لأحد الطرفين من مرجح والكلام في ذلك المرجح كالكلام في الأول ويلزم التسلسل وإن كان الثاني لزم الجبر، قال الجبري: معتمدي في الجبر على حرف لا خلاص لكم منه إلا بإلزام الجبر وهو أن العبد لو كان فاعلا لفعله لكان محدثا له ولو كان محدثا له لكان خالقا له والشرع والعقل ينفيه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَْرضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}، قال السني: قد دل العقل والشرع والحس على أن العبد فاعل له وأنه يستحق عليه الذم واللعن كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى حمارا قد وسم في وجهه فقال: "ألم

أنه عن هذا لعن الله من فعل هذا" وقال تعالى: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} وقال: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} وهذا في القرآن أكثر من أن يذكر والحس شاهد به فلا تقبل شبهة تقام على خلافه ويكون حكم تلك الشبهة حكم القدح في الضروريات فلا يلتفت إليه ولا يجب على العالم حل كل شبهة تعرض لكل أحد فإن هذا لا آخر له فقولكم لو كان فاعلا لفعله لكان محدثا له إن أردتم بكونه محدثا صدور الفعل منه اتحد اللازم والملزوم وصار حقيقة قولكم لو كان فاعلا لكان فاعلا وإن أردتم بكونه محدثا كونه خالقا سألناكم ما تعنون بكونه خالقا هل تعنون به كونه فاعلا أم تعنون به أمرا آخرا فإن أردتم الأول كان اللازم فيه عين الملزوم وإن أردتم أمرا آخر غير كونه فاعلا فبينوه، فإن قلتم نعني به كونه موجودا للفعل من العدم إلى الوجود، قيل هذا معنى كونه فاعلا فما الدليل على إحالة هذا المعنى فسموه ما شئتم إحداثا أو إيجادا أو خلقا فليس الشأن في التسميات وليس الممتنع ألا أن يكون مستقلا بالإيجاد وهذا غير لازم لكونه فاعلا فإنا قد بينا أن غاية قدرة العبد وإراداته وداعية وحركته أن تكون جزء سبب وما توقف عليه الفعل من الأسباب التي لا تدخل تحت قدرته أكثر من الجزء الذي إليه بأضعاف مضاعفة والفعل لا يتم إلا بها، فإن قيل فهذا الجبر بعينه، قيل ذلك السبب الذي أعني به من القدرة والإرادة هو الذي أخرجه من الجبر وأدخله في الاختيار وكون ذلك السبب من خالقه وفاطره ومنشيه هو الذي أخرجه من الشرك والتعطيل وأدخله في باب التوحيد فالأول

ص -152- أدخله في باب العدل والثاني أدخله في باب التوحيد ولم يكن ممن نقض التوحيد بالعدل ولا ممن نقض العدل بالتوحيد فهؤلاء جنوا على التوحيد وهؤلاء جنوا على العدل وهدى الله أهل السنة للتوحيد والعدل: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

شفاء العليل

الباب العشرون: في مناظرة بين قدري وسني
الباب العشرون: في ذكر مناظرة بين قدري سني
قال القدري: قد أضاف الله الأعمال إلى العباد بأنواع الإضافة العامة والخاصة فأضافها إليهم بالاستطاعة تارة كقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} وبالمشيئة تارة كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} وبالإرادة تارة كقول الخضر فأردت أن أعيبها وبالفعل والكسب والصنع كقوله: {يَفْعَلُونَ}: {يَعْمَلُونَ}: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وأما بالإضافة الخاصة فكإضافة الصلاة والصيام والحج والطهارة والزنا والسرقة والقتل والكذب والكفر والفسوق وسائر أفعالهم إليهم وهذه الإضافة تمتنع إضافتها إليه كما أن إضافة أفعاله تعالى تمتنع إضافتها إليهم فلا تجوز إضافة أفعالهم إليه سبحانه دونهم ولا إليه معهم فهي إذا مضافة إليهم دونه قال السني: هذا الكلام مشتمل على حق وباطل أما قولك أنه أضاف الأفعال إليهم فحق لا ريب فيه وهذا حجة لك على خصومك من الجبرية وهم يجيبونك بأن هذا الإسناد لا حقيقة له وإنما هو نسبة مجازية صححها قيام الأفعال بهم كما يقال جرى الماء وبرد وسخن ومات زيد ونحن نساعدك على بطلان هذا الجواب ومنافاته للعقول والشرائع والفطر ولكن قولك هذه الإضافة تمنع إضافتها إليه سبحانه كلام فيه إجمال وتلبيس فإن أردت بمنع الإضافة إليه منع قيامها به ووصفه بها وجريان أحكامها عليه واشتقاق الأسماء منه له فنعم هي غير مضافة إليه بشيء من هذه الاعتبارات والوجوه وإن أردت بعدم إضافتها إليه عدم إضافتها إلى علمه بها وقدرته عليها ومشيئته العامة وخلقه فهذا باطل فإنها معلومة له سبحانه مقدورة له مخلوقة وإضافتها إليهم لا تمنع هذه الإضافة كالأموال فإنها مخلوقة له سبحانه وهي ملكه حقيقة قد أضافها إليهم فالأعمال والأموال خلقه

وملكه وهو سبحانه يضيفها إلى عبيده وهو الذي جعلهم مالكيها وعامليها فصحت النسبتان وحصول الأموال بكسبهم وإرادتهم كحصول الأعمال وهو الذي خلق الأموال وكاسبيها والأعمال وعامليها فأموالهم وأعمالهم ملكه وبيده كما أن أسماعهم وأبصارهم وأنفسهم ملكه وبيده فهو الذي جعلهم يسمعون ويبصرون ويعملون فأعطاهم حاسة السمع والبصر وقوة السمع والبصر وفعل الإسماع والإبصار وأعطاهم آلة العمل وقوة العمل ونفس العمل فنسبة قوة العمل إلى اليد والكلام إلى اللسان كنسبة قوة السمع إلى الأذن والبصر إلى العين ونسبة الرؤية والاستماع اختيارا إلى محلهما كنسبة الكلام والبطش إلى محلهما وإن كانوا هم الذين خلقوا لأنفسهم الرؤية والسمع فهل خلقوا محلهما وقوى المحل والأسباب الكثيرة التي تصلح معها الرؤية والسمع أم الكل خلق من هو خالق كل شيء وهو الواحد القهار قال القدري: لو كان الله سبحانه هو الفاعل لأفعالهم لاشتقت له منها الأسماء وكان أولى بأسمائها منهم إذ لا يعقل الناس على اختلاف لغاتهم وعاداتهم ودياناتهم قائما إلا من فعل القيام وآكلا إلا من فعل الأكل وسارقا إلا من فعل السرقة وهكذا جميع الأفعال لازمها ومتعديها

ص -153- فقلبتم أنتم الأمر وقلبتم الحقائق فقلتم من فعل هذه الأفعال حقيقة لا يشتق له منها اسم وإنما يشتق منها الأسماء لمن لم يفعلها ولم يحدثها وهذا خلاف العقول واللغات وما تتعارفه الأمم قال السني: هذا إنما يلزم إخوانك وخصومك الجبرية القائلين بأن العبد لم يفعل شيئا البتة وأما من قال العبد فاعل لفعله حقيقة والله خالقه وخالق آلات فعله الظاهرة والباطنة فإنه إنما يشتق الأسماء لمن فعل تلك الأفعال فهو القائم والقاعد والمصلي والسارق والزاني حقيقة فإن الفعل إذا قام بالفاعل عاد حكمه إليه ولم يعد إلى غيره واشتق له منه اسم ولم يشتق لمن لم يقم به فههنا أربعة أمور أمران معنويان في النفي والإثبات وأمران لفظيان فيهما فلما قام الأكل والشرب والزنا والسرقة بالعبد عادت أحكام هذه الأفعال إليه واشتقت له منها الأسماء وامتنع عود أحكامها إلى الرب واشتقاق أسمائها له ولكن من أين يمنع هذا أن تكون معلومة للرب سبحانه مقدورة له مكونة له واقعة من العباد بقدرة ربهم وتكوينه قال القدري: لو كان خالقا لها لزمته هذه الأمور قال السني: هذا باطل ودعوى كاذبة فإنه سبحانه لا يشتق له اسم مما خلقه في غيره ولا يعود حكمه عليه وإنما يشتق الاسم لمن قام به ذلك فإنه سبحانه خلق الألوان والطعوم والروائح والحركات في محالها ولم يشتق له منها اسم ولا عادات أحكامها إليه ومعنى عود الحكم إلى المحل الإخبار عنه بأنه يقوم ويقعد ويأكل ويشرب قال السني: ومن ههنا علم ضلال المعتزلة الذين يقولون أن القرآن مخلوقا خلقه الله في محل ثم اشتق له اسم المتكلم باعتبار خلقه له وعاد حكمه إليه فأخبر عنه أنه تكلم به ومعلوم أن الله سبحانه خالق صفات الأجسام وأعراضها وقواها فكيف جاز أن يشتق له اسم مما خلقه من الكلام في غيره ولم يشتق له اسم مما خلقه من الصفات والأعراض في غيره فأنت أيها القدري نقضت أصولك بعضها ببعض وأفسدت قولك في مسألة الكلام بقولك في

مسألة القدر وقولك في القدر بقولك في الكلام فجعلته متكلما بكلام قائم بغيره وأبطلت أن يكون فاعل الفعل قائما بغيره فإن كنت أصبت في مسألة الكلام فقد نقضت أصلك في القدر وإن أصبت في هذا الأصل لزم خطأك في مسألة الكلام فأنت مخطئ على التقديرين قال القدري فما تقول أنت في هذا المقام قال السني: لا تناقض في هذا ولا في هذا بل أصفه سبحانه بما قام به وامتنع من وصفه بما لم يقم قال القدري فالآن حمى الوطيس فأنت والمسلمون وسائر الخلق تسمونه تعالى خالقا ورازقا ومميتا والخلق والرزق والموت قائم بالمخلوق والمرزوق والميت إذ لو قام ذلك بالرب سبحانه فالخلق إما قديم وإما حادث فإن كان قديما لزم قدم المخلوق لأنه نسبة بين الخالق والمخلوق ويلزم من كونها قديمة قدم المصحح لها وإن كان حادثا لزم قيام الحوادث به وافتقر ذلك الخلق إلى خلق آخر فلزم التسلسل فثبت أن الخلق غير قائم به سبحانه وقد اشتق له منه اسم قال السني: أي لازم من هذه اللوازم التزمه المرء كان خيرا من أن ينفي صفة الخالقية عن الرب سبحانه فإن حقيقة هذا القول أنه غير خالق فإن إثبات خالق بلا خلق إثبات اسم لا معنى له وهو كإثبات سميع لا سمع له وبصير لا بصر له ومتكلم وقادر لا كلام له ولا قدرة فتعطيل الرب سبحانه عن فعله القائم به كتعطيله عن صفاته القائمة به والتعطيل أنواع تعطيل المصنوع عن الصانع وهو تعطيل الدهرية والزنادقة وتعطيل الصانع عن صفات كماله ونعوت جلاله وهو تعطيل الجهمية نفاة الصفات وتعطيله عن أفعاله وهو أيضا تعطيل الجهمية وهم أبنائه ودب فيمن عداهم من الطوائف فقالوا لا يقوم بذاته فعل لأن الفعل

ص -154- حادث وليس محلا للحوادث كما قال إخوانهم لا تقوم بذاته صفة لأن الصفة عرض وليس محلا للأعراض فلو التزم الملتزم أي قول التزمه كان خيرا من تعطيل صفات الرب وأفعاله فالمشبهة ضلالهم وبدعتهم خير من المعطلة ومعطلة الصفات خير من معطلة الذات وإن كان التعطيلان متلازمين لاستحالة وجود ذات قائمة بنفسها لا توصف بصفة فوجود هذه محال في الذهن وفي الخارج ومعطلة الأفعال خير من معطلة الصفات فإن هؤلاء نفوا صفة الفعل وإخوانهم نفوا صفات الذات وأهل السمع والعقل وحزب الرسول والفرقة الناجية برآء من تعطيل هؤلاء كلهم فإنهم أثبتوا الذات والصفات والأفعال وحقائق الأسماء الحسنى إذ جعلها المعطلة مجازا لا حقيقة له فشر هذه الفرق لخيرها الفداء والمقصود أنه أي قول لزمه الملتزم كان خيرا من نفي الخلق وتعطيل هذه الصفة عن الله وإذا عرض على العقل السليم مفعول لا فاعل له ومفعول لا فاعل لفعله لم يجد بين الأمرين فرقا في الإحالة فمفعول بلا فعل كمفعول بلا فاعل لا فرق بينهما البتة فليعرض العاقل على نفسه القول بتسلسل الحوادث والقول بقيام الأفعال بذات الرب سبحانه والقول بوجود مخلوق حادث عن خلق قديم قائم بذات الرب سبحانه والقول بوجود مفعول بلا فعل ولينظر أي هذه الأقوال أبعد عن العقل والسمع وأيها أقرب إليهما ونحن نذكر أجوبة الطوائف عن هذا السؤال فقالت طائفة يختار من هذا التقسيم والترديد كون الخلق والتكوين قديما قائما بذات الرب سبحانه ولا يلزمنا قدم المخلوق المكون كما نقول نحن وأنتم أن الإرادة قديمة ولا يلزم من قدمها قدم المراد وكل ما أجبتم به في صورة الإلزام فهو جوابنا بعينه في مسألة المكون وهذا جواب سديد وهو جواب جمهور الحنفية والصوفية وأتباع الأئمة فإن قلتم إنما لا يلزم من قدم الإرادة قدم المراد لأنها تتعلق بوجود المراد في وقته فهو يريد كون الشيء في ذلك الوقت وأما تكوينه وخلقه قبل وجوده فمحال قيل لكم لسنا نقول

أنه كونه قبل وقت كونه بل التكوين القديم اقتضى كونه في وقته كما اقتضت الإرادة القديمة كونه في وقته فإن قلتم كيف يعقل تكوين ولا مكون قيل كما عقلتم إرادة ولا مراد فإن قلتم المريد قد يريد الشيء قبل كونه ولا يكونه قبل كونه قيل كلامنا في الإرادة المستلزمة لوجوده في الإرادة التي لا تستلزم المراد وإرادة الرب سبحانه ومشيئته تستلزم وجود مراده وكذلك التكوين يوضحه أن التكوين هو اجتماع القدرة والإرادة وكلمة التكوين وذلك كله قديم ولم يلزم منه قدم المكون قالوا وإذا عرضنا هذا على العقول السليمة وعرضنا عليها مفعولا بلا فعل بادرت إلى قبول ذاك وإنكار هذا فهذا جواب هؤلاء وقالت الكرامية بل نختار من هذا الترديد كون التكوين حادثا وقولكم يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الرب سبحانه فالتكوين هو فعله وهو قائم به وكأنكم قلتم يلزم من قيام فعله به قيامه به وسميتم أفعاله حوادث وتوسلتم بهذه التسمية إلى تعطيلها كما سمى إخوانكم صفاته إعراضا وتوسلوا بهذه التسمية إلى نفيها عنه وكما سموا علوه على مخلوقاته واستواءه على عرشه تحيزا وتوسلوا بهذه إلى نفيه وكما سموا وجهه الأعلى ويديه جوارح وتوسلوا بذلك إلى نفيها قالوا ونحن لا ننكر أفعال خالق السماوات والأرض وما بينهما وكلامه وتكليمه ونزوله إلى السماء واستواءه على عرشه ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده وندائه لأنبيائه ورسله وملائكته وفعله ما شاء بتسميتكم لهذا كله حوادث ومن أنكر ذلك فقد أنكر كونه

ص -155- رب العالمين فإنه لا يتقرر في العقول والفطر كونه ربا للعالمين إلا بأن يثبت له الأفعال الاختيارية وذات لا تفعل ليست مستحقة للربوبية ولا للإلهية فالإجلال من هذا الإجلال واجب والتنزيه عن هذا التنزيه متعين فتنزيه الرب سبحانه عن قيام الأفعال به تنزيه له عن الربوبية وملكه قالوا ولنا على صحة هذه المسألة أكثر من ألف دليل من القرآن والسنة والعقول وقد اعترف أفضل متأخريكم بفساد شبهكم كلها على إنكار هذه وذكرها شبهة شبهة وأفسدها والتزم بها جميع الطوائف حتى الفلاسفة الذين هم أبعد الطوائف من إثبات الصفات والأفعال قالوا ولا يمكن إثبات حدوث العالم وكون الرب خالقا ومتكلما وسامعا ومبصرا ومجيبا للدعوات ومدبرا للمخلوقات وقادرا ومريدا إلا القول بأنه فعال وأن أفعاله قائمة به فإذا بطل أن يكون له فعل وأن تقوم بذاته الأمور المتجددة بطل هذا كله.
فصل: وقد أجاب عن هذا عبد العزيز بن يحيى الكناني في حيدته فقال في سؤاله للمريسي: بأي شيء حدثت الأشياء فقال له أحدثها الله بقدرته التي لم تزل فقلت له أحدثها بقدرته كما ذكرت أو ليس تقول أنه لم يزل قادرا قال بلى قلت فتقول أنه لم يزل يفعل قال لا أقول هذا قلت فلا بد أن نلزمك أن تقول أنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة لأن القدرة صفة ثم قال عبد العزيز لم أقل لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل وإنما الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع فأثبت عبد العزيز فعلا مقدورا لله هو صفة ليس من المخلوقات وأنه به خلق المخلوقات وهذا صريح في أن مذهبه كمذهب السلف وأهل الحديث لأن الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول كما حكاه البغوي إجماعا لأهل السنة وقد صرح عبد العزيز أن فعله سبحانه القائم به وأنه خلق به المخلوقات كما صرح به البخاري في آخر صحيحه وفي كتاب خلق الأفعال قال في صحيحه باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق وفعل الرب وأمره فالرب سبحانه

بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون فصرح إمام السنة أن صفة التخليق هي فعل الرب وأمره وأنه خالق بفعله وكلامه وجميع جند الرسول وحزبه مع محمد بن إسماعيل في هذا والقرآن مملوء من الدلالة عليه كما دل عليه العقل والفطرة قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} ثم أجاب نفسه بقوله: {بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} فأخبر أنه قادر على نفس فعله وهو أن يخلق فنفس أن يخلق فعل له وهو قادر عليه ومن يقول لا فعل له وأن الفعل هو عين المفعول يقول لا يقدر على فعل يقوم به البتة بل لا يقدر إلا على المفعول المباين له الحادث بغير فعل منه سبحانه وهذا أبلغ في الإحالة من حدوثه بغير قدرة بل هو في الإحالة كحدوثه بغير فاعل فإن المفعول يدل على قدرة الفاعل باللزوم العقلي ويدل على فعله الذي وجد به بالتضمن فإذا سلبت دلالته التضمنية كان سلب دلالته اللزومية أسهل ودلالة المفعول على فاعله وفعله دلالة واحدة وهي أظهر بكثير من دلالته قدرته وإرادته في القرآن كثير كقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ}وأن يبعث هو نفس فعله والعذاب هو مفعوله المباين له وكذلك قو4له: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فإحياء الموتى نفس فعله وحياتهم مفعوله المباين له وكلاهما مقدور له وقال تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} فتسوية البنان فعله واستواؤها

ص -156- مفعوله ومنكرو الأفعال يقولون أن الرب سبحانه يقدر على المفعولات المباينة له ولا يقدر على فعل يقوم بنفسه لا لازم ولا متعد وأهل السنة يقولون الرب سبحانه يقدر على هذا وعلى هذا وهو سبحانه له الخلق والأمر فالجهمية أنكرت خلقه وأمره وقالوا خلقه نفس مخلوقه وأمره مخلوق من مخلوقاته فلا خلق ولا أمر ومن أثبت له الكلام القائم بذاته ونفى أن يكون له فعل فقد أثبت الأمر دون الخلق ولم يقل أحد بقيام أفعاله به ونفى صفة الكلام عنه فيثبت الأمر دون الخلق وأهل السنة يثبتون له تعالى ما أثبته لنفسه من الخلق والأمر فالخلق فعله والأمر قوله وهو سبحانه يقول ويفعل وأجابت طائفة أخرى من أهل السنة والحديث عن هذا بالتزام التسلسل وقالوا ليس في العقل ولا في الشرع ما ينفي دوام فاعلية الرب سبحانه وتعاقب أفعاله شيئا قبل شيء إلى غير غاية كما تتعاقب شيئا بعد شيء إلى غير غاية فلم تزل أفعالا قالوا والفعل صفة كمال ومن يفعل أكمل ممن لا يفعل قالوا ولا يقتضي صريح العقل إلا هذا ومن زعم أن الفعل كان ممتنعا عليه سبحانه في مدد غير مقدرة لا نهاية لها ولا يقدر أن يفعل ثم انقلب الفعل من الاستحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي من غير حدوث سبب ولا تغير في الفاعل فقد نادى على عقله بين الأنام قالوا وإذا كان هذا في العقول جاز أن ينقلب العالم من العدم إلى الوجود من غير فاعل وإن امتنع هذا في بداية العقول فكذلك نجد إمكان الفعل وانقلابه من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب وأما أن يكون هذا ممكنا وذاك ممتنعا فليس في العقول ما يقضي بذلك قالوا والتسلسل لفظ مجمل لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ناطق ولا سنة متبعة فيجب مراعاة لفظه وهو ينقسم إلى واجب وممتنع وممكن كالتسلسل في المؤثر محال ممتنع لذاته وهو أن يكون

مؤثرين كل واحد منهم استفاد تأثيره ممن قبله لا إلى غاية والتسلسل الواجب ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيما آخر لا نفاد له وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرق الأزل وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر فهذا واجب في كلامه فإنه لم يزل متكلما إذا شاء ولم تحدث له صفة الكلام في وقت وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته فإن كل حي فعال والفرق بين الحي والميت بالفعل ولهذا قال غير واحد من السلف الحي الفعال، وقال عثمان بن سعيد: كل حي فعال ولم يكن ربنا سبحانه قط في وقت من الأوقات المحققة أو المقدرة معطلا عن كماله من الكلام والإرادة والفعل وأما التسلسل الممكن فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف كما يتسلسل في طرف الأبد فإنه إذا لم يزل حيا قادرا مريدا متكلما وذلك من لوازم ذاته فالفعل ممكن هذه الصفات له وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدم لا أول له فلكل مخلوق أول والخالق سبحانه لا أول له فهو وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن قالوا وكل قول سوى هذا فصريح العقل يرده ويقضي ببطلانه وكل من اعترف بأن الرب سبحانه لم يزل قادرا على الفعل لزمه أحد الأمرين لا بد له منهما أما أن يقول بأن الفعل لم يزل ممكنا وأما أن يقول لم يزل واقعا إلا تناقض تناقضا بينا حيث زعم أن الرب سبحانه لم يزل قادرا على الفعل والفعل محال ممتنع لذاته لو أراده لم يكن وجوده بل فرض إرادته عنده محال وهو مقدور له وهذا قول ينقض بعضه بعضا وأجابت طائفة أخرى بالجواب المركب على جميع التقادير فقالوا

ص -157- تسلسل الآثار إما أن يكون ممكنا أو ممتنعا فإن كان ممكنا فلا محذور في التزامه وإن كان ممتنعا لم يلزم من بطلانه بطلان الفعل الذي لا يكون المخلوق إلا به فإنا نعلم أن المفعول المنفصل لا يكون إلا بفعل والمخلوق لا يكون إلا بخلق قبل العلم بجواز التسلسل وبطلانه، ولهذا كثير من الطوائف يقولون الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول مع قولهم ببطلان التسلسل مثل كثير من أتباع الأئمة الأربعة وكثير من أهل الحديث والصوفية والمتكلمين ثم من هؤلاء من يقول الخلق الذي هو التكوين صفة كالإرادة ومنهم من يقول بل هي حادثة بعد أن لم تكن كالكلام والإرادة وهي قائمة به سبحانه وهم الكرامية ومن وافقهم أثبتوا حدوثها وقيامها بذاته وأبطلوا دوامها فرارا من القول بحوادث لا أول لها وكلا الفريقين يقول أن ذلك التكوين والخلق مخلوق بل يقول أن المخلوق وجد به كما وجد بالقدرة قالوا فإذا كان القول بالتسلسل لازما لكل من قال أن الرب تعالى لم يزل قادرا على الخلق يمكنه أن يفعل بلا ممانع فهو لازم لك كما ألزمته لخصومك فلا ينفردون بجوابه دونك وأما ما ألزموك به من وجود مفعول بلا فعل ومخلوق بلا خلق فهو لازم لك وحدك قالوا ونحن إنما قلنا الفعل صفة قائمة به سبحانه وهو قادر عليه لا يمنعه منه مانع والفعل القائم به ليس هو المخلوق المنفصل عنه فلا يلزم أن يكون معه مخلوقا في الأزل إلا إذا ثبت أن الفعل اللازم يستلزم الفعل المتعدي وأن المتعدي يستلزم دوام نوع المفعولات ودوام نوعها يستلزم أن يكون معه سبحانه في الأزل شيء منها وهذه الأمور لا سبيل لك ولا لغيرك إلى الاستدلال على ثبوتها كلها وحينئذ فنقول أي لازم لزم من إثبات فعله كان القول به خيرا من نفي الفعل وتعطيله فإن ثبت قيام فعله به من غير قيام الحوادث به كما يقوله كثير من الناس بطل قولكم وإن لزم من إثبات فعله قيام الأمور الاختيارية به والقول بأنها مفتتحة ولها أول فهو خير من

قولكم كما تقوله الكرامية وإن لزم تسلسلها وعدم أوليتها في الأفعال اللازمة فهو خير من قولكم وإن لزم تسلسل الآثار وكونه سبحانه لم يزل خالقا كما دل عليه النص والعقل فهو خير من قولكم ولو قدر أنه يلزم أن الخلق لم يزل مع الله قديما بقدمه كان خيرا من قولكم مع أن هذا لا يلزم ولم يقل به أحد من أهل الإسلام بل ولا أهل الملل فكلهم متفقون على أن الله وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق موجود بعد عدمه وليس معه غيره من المخلوقات يكون وجوده مساويا لوجوده فما لزم بعد هذا من إثبات خلقه وأمره وصفات كماله ونعوت جلاله وكونه رب العالمين وأن كماله المقدس من لوازم ذاته فإنا به قائلون وله ملتزمون كما إنا ملتزمون لكل ما لزم من كونه حيا عليما قديرا سميعا بصيرا متكلما آمرا ناهيا فوق عرشه بائن من خلقه يراه المؤمنون بأبصارهم عيانا في الجنة وفي عرصات القيامة ويكلمهم ويكلمونه فإن هذا حق ولازم الحق مثله وما لم يلزم من إثبات ذلك من الباطل الذي تتخيله خفافيش العقول فنحن له منكرون وعن القول به عادلون وبالله التوفيق، قال القدري: كون العبد موجدا لأفعاله وهو الفاعل لها من أجل الضروريات والبديهيات فإن كل عاقل يعلم من نفسه أنه فاعل لما يصدر منه من الأفعال الواقعة على وفق قصده وداعيته بخلاف حركة المرتعش والمجرور على وجهه وهذا لا يتمارى فيه العاقل ولا يقبل التشكيك والقدح في ذلك والاستدلال على خلافه استدلال على بطلان ما علمت صحته بالضرورة فلا يكون مقبولا، قال السني: قد أجابك خصومك من الجبرية عن هذا بأن العاقل يعلم من نفسه وقوع الفعل مقارنا لقدرته

ص -158- ولا يعلم من نفسه أنه واقع بقدرته والفرق بين الأمرين ظاهر ولو كان وقوعه بقدرته هو المعلوم بالضرورة لما خالف فيه جمع عظيم من العقلاء يستحيل عليهم الإطباق على جحد الضروريات وهذا الجواب مما لا يشفي عليلا ولا يروي غليلا وهو عبارات لا حاصل تحتها فإن كل عاقل يجد من نفسه وقوع الفعل بقدرته وإراداته وداعيته فإن ذلك هو المؤثر في الفعل ويجد تفرقة ضرورية بين مقارنة القدرة والداعية للفعل ومقارنة طوله ولونه وشمه وغير ذلك من صفاته للفعل ونسبة ذلك كله عند الجبري إلى الفعل نسبة واحدة والله سبحانه أجرى العادة بخلق الفعل عند القدرة والداعي لا بهما وإنما اقترن الداعي والقدرة بالفعل اقترانا مجردا ومعلوم أن هذا قدح في الضروريات ولا ريب أن من نظر إلى تصرفات العقلاء ومعاملاتهم مع بعضهم بعضا وجدهم يطلبون الفعل من غيرهم طلب عالم بالاضطرار أن المطلوب منه الفعل هو المحصل له فالواقع بقدرته وإرادته ولذلك يتلطفون لوقوع الفعل منه بكل لطيفة ويحتالون عليه بكل حيلة فيعطونه تارة ويزجرونه تارة ويخوفونه تارة ويتوصلون إلى إخراج الفعل منه بأنواع الرغبة والرهبة ويقولون قد فعل فلان كذا فما لك لا تفعل كما فعل وهذا أمر مشاهد بالحس والضرورة فالعقلاء ساكنو لأنفس إلى أن الفعل من العبد يقع وبه يحصل ولو حرك أحدهم أصبعه فشتمت المحرك لها لغضب وشتمك وقال كيف تشتمني ولم يقل لي لم تشتم ربي وهذا أوضح من أن يضرب له المثال أو يبسط فيه المقال وما يعرض في ذلك من الشبه جار مجرى السفسطة وقد فطر الله العقلاء على ذم فاعل الإساءة ومدح فاعل الإحسان وهذا يدل على أنهم مفطورون على العلم بأنه فاعل لأن الذم فرع عليه ويستحيل أن يكون الفرع معلوما باضطرار والأصل ليس كذلك والعقلاء قاطبة يعلمون أن الكاتب مثلا يكتب إذا أراد ويمسك إذا أراد وكذلك الباني والصانع وأنه إذا عجزت قدرته أو عدمت إرادته بطل فعله فإن عادت إليه القدرة والإرادة عاد

الفعل وقولك لو كان ذلك أمرا ضروريا لاشترك العقلاء فيه جوابك انه لا يجب الاشتراك في الضروريات فكثير من العقلاء يخالفون كثيرا من الضروريات لدخول شبهة عليهم ولا سيما إذا تواطؤا عليها وتناقلوها كمخالفة الفلاسفة في الإلهيات بيسير من الضروريات وهم جمع كثير من العقلاء وهؤلاء النصارى يقولون ما يعلم فساده بضرورة العقل وهم يناظرون عليه وينصرونه وهؤلاء الرافضة يزعمون أن أبا بكر وعمر لم يؤمنا بالله ورسوله طرفة عين ولم يزالا عدوين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مترصدين لقتله وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام عليا على رؤوس جميع الصحابة وهم ينظرون إليه جهرة وقال: "هذا وصي وولي العهد من بعدي فكلكم له تسمعون" وأطبقوا على كتمان هذا النص وعصيانه وهؤلاء الجهمية ومن قال بقولهم يقولون ما يخالف صريح العقل من وجود مفعول بلا فعل ومخلوق بلا خلق وهؤلاء الفلاسفة وهم المدلون بعقولهم يثبتون ذواتا قائمة بأنفسهم خارج الذهن ليست في العالم ولا خارجة عن العالم ولا متصلة به ولا منفصلة عنه ولا مباينة له ولا محايثة وهو ما يعلم بصريح العقل فساده وهؤلاء طائفة الاتحادية تزعم أن الله هو هذا الوجود وأن التعدد والتكثير فيه وهم محض وهؤلاء منكرو الأسباب يزعمون أنه لا حرارة في النار تحرق بها ولا رطوبة في الماء يروى بها وليس في الأجسام أصلا لا قوى ولا طبائع ولا في العالم شيء يكون سببا لشيء آخر البتة وإن لم تكن هذه الأمور جحدا للضروريات فليس في العالم من جحد الضروريات وإن كانت جحدا

ص -159- للضروريات بطل قولكم ان جمعا من العقلاء لايتفقون على ذلك والأقوال التي يجحد بها المتكلمون الضروريات أضعاف أضعاف ماذكرناه فهم أجحد الناس لما يعلم بضرورة العقل وكيف يصح في عقل سليم سميع لا سمع له بصير لا بصر له حي لا حياة له أم كيف يصح عند عقل مرئي يرى بالأبصار عيانا لا فوق الرائي ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا عن يساره ولا خلفه ولا أمامه أم كيف يصح عند ذي عقل إثبات كلام قديم أزلي لو كان البحر يمده من بعده سبعة أبحر وجميع أشجار الأرض على اختلافها وكبرها وصغرها أقلام يكتب به لنفدت البحار وفنيت الأقلام ولم يفن ذلك الكلام ومع هذا فهو معنى واحد لا جزء له ولا ينقسم وهو والنهي فيه عين الأمر والنفي فيه عين الإثبات والخبر فيه عين الاستخبار والتوراة فيه عين الإنجيل وعين القرآن وذلك كله أمر واحد إنما يختلف بمسمياته ونسبه وقد أطبق على هذا جمع عظيم من العقلاء وكفروا من خالفهم فيه واستحلوا منهم ما حرمه الله وهؤلاء الجهمية يقولون أن للعالم صانعا قائما بذاته ليس في العالم ولا هو خارج العالم ولا فوق العالم ولا تحته ولا خلفه ولا أمامه ولا عن يمينه ولا عن يسرته ولا هو مباين له ولا محايث له فوصفوا واجب الوجود بصفة ممتنع الوجود وكفروا من خالفهم في ذلك واستحلوا دمه وقالوا ما يعلم فساده بصريح العقل ولو ذهبنا نذكر ما جحد فيه أكثر الطوائف الضروريات لطال الكتاب جدا وهؤلاء النصارى قد طبقت شرق الأرض وغربها وهم من أعظم الناس جحدا للضروريات وهؤلاء الفلاسفة هم أهل المعقولات وهم من أكثر الناس جحدا للضروريات فاتفاق طائفة من الطوائف على المقالة لا يدل على مخالفتها لصريح العقل وبالله التوفيق.
فصل: قال القدري: قال الله سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وعند الجبري أن الكل فعل الله وليس من العبد شيء، قال الجبري: في الكلام

استفهام مقدر تقديره أفمن نفسك فهو إنكار لا إثبات وقرأها بعضهم فمن نفسك بفتح الميم ورفع نفسك أي من أنت حتى تفعلها وقال ولا بد من تأويل الآية وإلا ناقض قوله في الآية التي قبلها: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فأخبر أن الحسنات والسيئات جميعا من عنده لا من عند العبد، قال السني: أخطأتما جميعا في فهم الآية أقبح الخطأ ومنشأ غلطكما إن الحسنات والسيئات في الآية المراد بها الطاعات والمعاصي التي هي فعل العبد الاختياري وهذا وهم محض في الآية وإنما المراد بها النعم والمصائب ولفظ الحسنات والسيئات في كتاب الله يراد به هذا تارة وهذا تارة فقوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} وقوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} وقوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ} وقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ} وقوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} وقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} المراد في هذا كله النعم والمصائب وأما قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} وقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وقوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} والمراد به في هذا كله الأعمال المأمور بها والمنهي عنها وهو سبحانه إنما قال ما أصابك ولم

يقل ما أصبت وما كسبت فما يفعله العبد يقال فيه

ص -160- ما أصبت وكسبت وعملت كقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وكقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} وقول المذنب التائب يا رسول الله أصبت ذنبا فأقم علي كتاب الله ولا يقال في هذا أصابك ذنب وأصابتك سيئة وما يفعل به بغير اختياره يقال فيه أصابك كقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وقوله: {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} وقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} فجمع الله في الآية بين ما أصابوا بفعلهم وكسبهم وما أصابهم مما ليس فعلا لهم وقوله: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} وقوله: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} وقوله: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} فقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} هو من هذا القسم الذي يصيبه العبد لا باختياره وهذا إجماع من السلف في تفسير هذه الآية، قال أبو العالية: "وإن تصبكم حسنة هذا في السراء وإن تصبهم سيئة هذ في الضراء"، قال السدي: "الحسنة الخصب تنتج مواشيهم وأنعامهم ويحسن حالهم فتلد نساؤهم الغلمان قالوا هذا من عند الله وإن تصبهم سيئة قال الضر في أموالهم تشاءموا بمحمد وقالوا هذه من عنده قالوا بتركنا ديننا وإتباعنا محمدا أصابنا ما أصابنا فأنزل الله سبحانه ردا عليهم قل كل من عند الله الحسنة والسيئة" وقال الوالبي عن ابن عباس ما أصابك من حسنة فمن الله قال ما فتح الله عليك يوم بدر وقال أيضا هو الغنيمة والفتح والسيئة ما أصابه يوم أحد شج في وجهه وكسرت رباعيته وقال أما الحسنة فأنعم الله بها عليك وأما السيئة فابتلاك بها وقال أيضا ما أصابك من

نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم وفي تفسير أبي صالح عن ابن عباس: "إن تصبك حسنة الخصب وإن تصبك سيئة الجدب والبلاء" وقال ابن قتيبة في هذه الآية: "الحسنة النعمة والسيئة البلية" فإن قيل فقد حكى أبو الفرج بن الجوزي عن أبي العالية أنه فسر الحسنة والسيئة في هذه الآية بالطاعة والمعصية وهو من أعلم التابعين فالجواب أنه لم يذكر بذلك إسنادا ولا نعلم صحته عن أبي العالية وقد ذكر ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي العالية ما تقدم حكايته أن ذلك في السراء والضراء وهذا هو المعروف عن أبي العالية ولم يذكر ابن أبي حاتم عنه غيره وهو الذي حكاه ابن قتيبة عنه وقد يقال أن المعنيين جميعا مرادان باعتبار أن ما يوفقه الله من الطاعات فهو نعمة في حقه أصابته من الله كما قال: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} فهذا يدخل فيه نعم الدين والدنيا وما يقع منه من المعصية فهو مصيبة أصابته من الله وإن كان سببها منه والذي يوضح ذلك أن الله سبحانه إذا جعل السيئة هي الجزاء على المعصية من نفس العبد بقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} فالعمل الذي أوجب الجزاء أولى أن يكون من نفسه فلا منافاة بين أن تكون سيئة العمل من نفسه وسيئة الجزاء من نفسه ولا ينافي ذلك أن يكون الجميع من الله قضاء وقدرا ولكن هو من الله عدل وحكمة ومصلحة وحسن ومن العبد سيئة وقبيح وقد وري عن ابن عباس أنه كان يقرأها: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وأنا قدرتها عليك وهذه القراءة زيادة بيان وإلا فقد دل قوله قبل ذلك: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} على السابق القضاء والقدر النافذ والمعاصي قد تكون بعضها عقوبة بعض فيكون لله على المعصية عقوبتان عقوبة بمعصية تتولد منها وتكون الأولى سببا فيها وعقوبة بمؤلم يكون جزاؤها كما في الحديث المتفق على صحته عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق

فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة

ص -161- ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا" وقد ذكر الله سبحانه في غير موضع من كتابه أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الحسنة الأولى وأن المعصية قد تكون عقوبة للمعصية الأولى فالأول كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وقال: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وأما قوله: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} فيحتمل أن لا يكون من هذا وتكون الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة فإنه رتب هذا الجزاء على قتلهم ويحتمل أن يكون منه ويكون قوله سيهديهم ويصلح بالهم إخبارا منه سبحانه عما يفعله بهؤلاء الذين قتلوا في سبيله قبل أن قتلوا وأتى به بصيغة المستقبل إعلاما منه بأنه يجدد له كل وقت نوعا من أنواع الهداية وإصلاح البال شيئا بعد شيء فإن قلت فكيف يكون ذلك المستقبل خبرا عن الذين قتلوا قلت الخبر قوله: {فلن يضل أعمالهم} أي أنه لا يبطلها عليهم ولا يترهم إياها هذا بعد أن قتلوا ثم أخبر سبحانه خبرا مستأنفا عنهم أنه سيهديهم ويصلح بالهم لما علم أنهم سيقتلون في سبيله وأنهم بذلوا أنفسهم له فلهم جزاآن جزاء في الدنيا بالهداية على الجهاد وجزاء في الآخرة بدخول الجنة فيرد السامع كل جملة إلى

وقتها لظهور المعنى وعدم التباسه وهو في القرآن كثير والله أعلم وقال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} وقال: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وقال: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} فضمن التمام معنى الإنعام فعداه بعلى أي أنعاما منا على الذي أحسن وهذا جزاء على الطاعات بالطاعات وأما الجزاء بالمعاصي على المعاصي فكقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} وقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} وقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} وهو كثير في القرآن وعلى هذا فيكون النوعان من السيئات أعني المصائب والمعايب من نفس الإنسان وكلاهما بقدر الله فشر النفس هو الذي أوجب هذا وهذا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته المعروفة: "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا" فشر النفس نوعان صفة وعمل والعمل ينشأ عن الصفة والصفة تتأكد وتقوى بالعمل

فكل منهما يمد الآخر وسيئات الأعمال نوعان قد فسرهما الحديث أحدهما مساويها وقبائحها فتكون الإضافة فيه من النوع إلى جنسه وهي إضافة بمعنى من أي السيئات من أعمالنا والثاني أنها ما يسوء العامل مما يعود عليه من عقوبة عمله فيكون من إضافة المسبب إلى سببه وتكون الإضافة على معنى اللام وقد يرجح الأول بأنه يكون قد استعاذ من الصفة والعمل الناشئ عنها وذلك يتضمن الاستعاذة من الجزاء السيئ

ص -162- المترتب على ذلك فتضمنت الاستعاذة ثلاثة أمور الاستعاذة من العذاب ومن سببه الذي هو العمل ومن سبب العمل الذي هو الصفة وقد يرجح الثاني أن شر النفس يعم النوعين كما تقدم فسيئات الأعمال ما يسوء من جزائها ونبه بقوله: "سيئات أعمالنا" على أن الذي يسوء من الجزاء إنما هو بسبب الأعمال الإرادية لا من الصفات التي ليست من أعمالنا ولما كانت تلك الصفة شرا استعاذ منها وأدخلها في شر النفس وقال الصديق رضي الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: "قل اللهم فاطر ا السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوأ أو أجره إلى مسلم قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك"، ولما كان الشر له مصدر يبتدي منه وغاية ينتهي إليها وكان مصدرها إما من نفس الإنسان وإما من الشيطان وغايته أن يعود على صاحبه أو على أخيه المسلم تضمن الدعاء هذه المراتب الأربعة بأوجز لفظ وأوضحه وأبينه.
فصل: قال السني: فليس لك أيها القدري أن تحتج بالآية التي نحن فيها لمذهبك لوجوه أحدها أنك تقول فعل العبد حسنة كان أو سيئة هو منه لا من الله بل الله سبحانه قد أعطى كل واحد من الاستطاعة ما يفعل به الحسنات والسيئات ولكن هذا أحدث من عند نفسه إرادة فعل بها الحسنات وهذا أحدث إرادة فعل بها السيئات وليست واحدة من الإرادتين من إحداث الرب سبحانه

البتة ولا أوجبتها مشيئته والآية قد فرقت بين الحسنة والسيئة وأنتم لا تفرقون بينهما فإن الله عندكم لم يشأ هذا ولا هذا قال القدري: إضافة إلى نفس العبد لكونه هو الذي أحدثها وأوجدها وأضاف الحسنة إليه سبحانه لكونه هو الذي أمر بها وشرعها قال السني: الله سبحانه أضاف إلى العبد ما أصابه من سيئة وأضاف إلى نفسه ما أصاب العبد من حسنة ومعلوم أن الذي أصاب العبد هو الذي قام به والأمر لم يقم بالعبد وإنما قام به المأمور وهو الذي أصابه فالذي أصابه لا تصح إضافته إلى الرب عندكم والمضاف إلى الرب لم يقم بالعبد فعلم أن الذي أصابه من هذا وهذا أمر قائم به فلو كان المراد به الأفعال الاختيارية من الطاعات والمعاصي لاستوت الإضافة ولم يصح الفرق وإن افترقا في كون أحدهما مأمورا به والآخر منهيا عنه على أن النهي أيضا من الله كما أن الأمر منه فلو كانت الإضافة لأجل الأمر لاستوى المأمور والمنهي في الإضافة لأن هذا مطلوب إيجاده وهذا مطلوب إعدامه قال القدري: أنا أجوز تعلق الطاعة والمعصية بمشيئة الرب سبحانه وإحداثه على وجه الجزاء لا على سبيل الابتداء وذلك أن الله سبحانه يعاقب عبده بما شاء ويثيبه فكما يعاقبه بخلق الجزاء الذي يسوءه وخلق الثواب الذي يسره ولذلك يحسن أن يعاقبه بخلق المعصية وخلق الطاعة فإن هذا يكون عدلا منه وأما أن يخلق فيه الكفر والمعصية ابتداء بلا سبب فمعاذ الله من ذلك قال السني: هذا توسط حسن جدا لا يأباه العقل ولا الشرع ولكن من ابتدأ الأول وليس هو عندك مقدورا لله ولا واقعا بمشيئته فقد أثبت في ملكه ما لا يقدر عليه وأدخلت فيه ما لا يشاء ونقضت أصلك كله فإنك أصلت أن فعل العبد الاختياري قدرة العبد عليه واختياره له ومشيئته تمنع قدرة الرب عليه ومشيئته له وهذا الأصل لا فرق فيه بين الابتدائي والجزائي قال القدري: فالقرآن قد فرق بين النوعين وجعل الكفر والفسوق الثاني جزاء على الأول فعلم أن الأول من العبد قطعا

وإلا لم يستقم

ص -163- جعل أحدهما عقوبة على الآخر وقد صرح بذلك في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} فأضاف نقض الميثاق إليهم وتقسية القلوب إليه فالأول سبب منهم والثاني جزاء منه سبحانه قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} فأضاف عدم الإيمان أولا إليهم إذ هو السبب وتقليب القلوب وتركهم في طغيانهم هو الجزاء ومثله قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} والآيات التي سمعتموها آنفا إنما تدل على هذا قال السني: نعم هذا حق لكن ليس فيه إخراج السبب عن كونه مقدورا للرب سبحانه واقعا بمشيئته ولو شاء لحال بين العبد وبينه ووفقه لضده فهي البقية التي بقيت عليك من القدر كما أن إنكار إثبات الأسباب واقتضائها لمسبباتها وترتبها عليها هي البقية التي بقيت على الجبري في المسألة أيضا وكلاكما مصيب من وجه مخطئ من وجه ولو تخلص كل منكما من البقية التي بقيت عليه لوجدتما روح الوفاق واصطلحتما على الحق وبالله التوفيق قال القدري: فما تقول أنت أيها السني في العقل الأول إذا لم يكن جزاء فما وجهه وأنت ممن يقول بالحكمة والتعليل وتنزه الرب سبحانه عن الظلم الذي هو ظلم لا ما يقوله الجبري أنه الجمع بين النقيضين قال السني: لا يلزمني في هذ ا المقام بيان ذلك فإني لم أنتصب له إنما انتصبت لإبطال احتجاجك بالآية لمذهبك الباطل وقد وفيت به ولله في ذلك حكم وغايات محمودة لا تبلغها عقول العقلاء ومباحث الأذكياء فالله سبحانه إنما يضع فضله وتوفيقه وإمداده في المحل الذي يصلح له وما لا يصلح له من المحال يدعه غفلا فارغا من الهدى والتوفيق فيجري مع طبعه الذي خلق عليه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ

مُعْرِضُونَ} قال القدري: فإذا كان الله سبحانه قد أحدث فيهم تلك الإرادة والمشيئة المستلزمة لوجود الفعل كان ذلك إيجادا منه سبحانه لذلك فيهم كما أوجد الهدى والإيمان في أهله قال السني هذا معترك النزال وتفرق طرق العالم والله سبحانه أعطى العبد مشيئة وقدرة وإرادة تصلح لهذا ولهذا ثم أمد أهل الفضل بأمور وجودية زائدة على ذلك المشترك أوجب له الهداية والإيمان وأمسك ذلك الإمداد عمن علم أنه لا يصلح له ولا يليق به فانصرفت قوى إرادته ومشيئته إلى ضده اختيارا منه ومحبة لا كرها واضطرارا قال القدري: فهل كان يمكنه إرادة ما لم يعن عليه ولم يوفق له بإمداد زائد على خلق الإرادة قال السني: إن أردت بالإمكان أنه يمكنه فعله لو أراده فنعم هو ممكن بهذا الاعتبار مقدور له وإن أردت به أنه ممكن وقوعه بدون مشيئة الرب وإذنه فليس يمكن فإنه ما شاء الله كان ووجب وجوده وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده قال القدري: فقد سلمت حينئذ أنه غير ممكن للعبد إذا لم يشأ الله منه أن يفعله فصار غير مقدور للعبد فقد عوقب على ترك ما لا يقدر على فعله قال السني: عدم إرادة الله سبحانه للعبد ومشيئته أن يفعل لا يوجب كون الفعل غير مقدور له فإنه سبحانه لا يريد من نفسه أن يعينه عليه مع كونه أقدره عليه ولا يلزم من إقداره عليه وقوعه حتى توجد منه إعانة أخرى فانتفاء تلك الإعانة لا يخرج الفعل عن كونه مقدورا للعبد فإنه قد يكون قادرا على الفعل لكن يتركه كسلا وتهاونا وإيثارا لفعل ضده فلا يصرف الله عنه ترك الواقع ولا يوجب عدم صرفه كونه عاجزا عن الفعل فإن الله سبحانه يعلم أنه قادر عليه بالقدرة التي أقدره بها ويعلم أنه لا يريده مع كونه قادرا عليه فهو سبحانه مريد له ومنه الفعل ولا يريد من نفسه إعانته وتوفيقه وقطع هذه الإعانة والتوفيق لا يخرج الفعل عن كونه مقدورا له وإن جعلته غير مراد وسر

ص -164- المسألة الفرق بين تعلق الإرادة بفعل العبد وتعلقها بفعله هو سبحانه بعده فمن لم يحط معرفة بهذا الفرق لم يكشف له حجاب المسألة قال الجبري: أما أن تقول أن الله علم أن العبد لا يفعل أو لم يعلم ذلك والثاني محال وإذا كان قد علم أنه لا يفعله صار الفعل ممتنعا قطعا إذ لو فعله لا نقلب العلم القديم جهلا قال السني: هذه حجة باطلة من وجوه أحدهما أن هذا بعينه يقال فيما علم الله أنه لا يفعله وهو مقدور له فإنه لا ينفع البتة مع كونه مقدورا له فما كان جوابك عن ذلك فهو جوابنا لك وثانيها أن الله سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه فهو يعلم أنه لا يفعله لعدم إرادته له لا لعدم قدرته عليه وثالثها أن العلم كاشف لا موجب وإنما الموجب مشيئة الرب والعلم يكشف حقائق المعلومات، عدنا إلى الكلام على الآية التي احتج بها القدري وبيان أنه لا حجة فيها من ثلاثة أوجه أحدها أنه قال ما أصابك ولم يقل ما أصبت الثاني أن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والمصيبة الثالث أنه قال: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فالإنسان هو فاعل السيئات ويستحق علها العقاب والله هو المنعم عليه بالحسنات عملا وجزاء والعادل فيه بالسيئات قضاء وجزاء ولو كان العمل الصالح من نفس العبد كما كان السيئ من نفسه لكان الأمران كلاهما من نفسه والله سبحانه قد فرق بين النوعين وفي الحديث الصحيح الإلهي: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
فصل: قال الجبري: أول الآية محكم وهو قوله كل من عند الله وآخرها متشابه وهو قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قال القدري: آخرها محكم وأولها متشابه قال السني: أخطأتما جميعا بل كلاهما محكم مبين وإنما أتيتما من قلة الفهم في القرآن وتدبره فليس بين اللفظين تناقض لا في المعنى ولا في

العبارة فإنه سبحانه وتعالى ذ كر عن هؤلاء الناكلين عن الجهاد أنهم إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا لرسوله صلى الله عليه وسلم هذه من عندك أي بسبب ما أمرتنا به من دينك وتركنا ما كنا عليه أصابتنا هذه السيئات لأنك أمرتنا بما أوجبها فالسيئات ههنا هي المصائب والأعمال التي ظنوا أنها سبب المصائب هي التي أمروا بها وقولهم في السيئة التي تصيبهم هذه من عندك تتناول مصائب الجهاد التي حصلت لهم من الهزيمة والجراح وقتل من قتل منهم وتتناول مصائب الرزق على وجه التطير والتشاؤم أي أصابنا هذا بسبب دينك كما قال تعالى عن قوم فرعون: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} أي إذا جاءهم ما يسرون به ويتنعمون به من النعم قالوا نحن أهل ذلك ومستحقوه وإن أصابهم ما يسوءهم قالوا هذا بسبب ما جاء به موسى وقال أهل القرية للمرسلين إنا تطيرنا بكم وقال قوم صالح له عليه السلام اطيرنا بك وبمن معك وكانوا يقولون لما ينالهم من سبب الحرب هذا منك لأنك أمرتنا بالأعمال الموجبة له وللمصائب الحاصلة من غير جهة العدو وهذا أيضا منك أي بسبب مفارقتنا لديننا ودين آبائنا والدخول في طاعتك وهذه حال كل من جعل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم سببا لشر أصابه من السماء أو من الأرض وهؤلاء كثير في الناس وهم الأقلون عند الله تعالى قدرا الأرذلون عنده ومعلوم أنهم لم يقولوا هذه من عندك بمعنى أحدثتها ومن فهم هذا يتبين له أن قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} لا يناقض قوله تعالى: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} بل هذا تحقيق له فإنه سبحانه

ص -165- بين أن النعم والمصائب كلها من عنده فهو الخالق لها المقدر لها المبتلي خلقه بها فهي من عنده ليس بعضها من عنده وبعضها خلقا لغيره فكيف يضاف بعضها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبعضها إلى الله تعالى ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدثها فلم يبق إلا ظنهم أنه سبب لحصولها إما في الجملة كحال أهل التطير وإما في الواقعة المعينة كحال اللائمين له في الجهاد فأبطل الله سبحانه وذلك الوهم الكاذب والظن الباطل وبين أن ما جاء به لا يوجب الشر البتة بل الخير كله فيما جاء صلى الله عليه وسلم به والشر بسبب أعمالهم وذنوبهم كما قال الرسل عليهم السلام لأهل القرية طائركم معكم ولا يناقض هذا قول صالح عليه السلام لقومه: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} وقوله تعالى عن قوم فرعون: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} بل هاتان النسبتان نظير هاتين النسبتين في هذه الآية وهي نسبة السيئة إلى نفس العبد ونسبة الحسنة والسيئة إلى أنهما من عند الله عز وجل فتأمل اتفاق القرآن وتصديق بعضه بعضا فحيث جعل الطائر معهم والسيئة من نفس العبد فهو على وجهة السبب والموجب أي الشر والشؤم الذي أصابكم هو منكم ومهما فإن أسبابه قائمة بكم كما تقول شرك منك وشؤمك فيك يراد به العمل وطائرك معك وحيث جعل ذلك كله من عنده فهو لأنه الخالق له المجازي به عدلا وحكمة فالطائر يراد به العمل وجزاءه فالمضاف إلى العبد العمل والمضاف إلى الرب الجزاء فطائركم معكم طائر العمل وطائركم عند الله الجزاء فما جاءت به الرسل ليس سببا لشيء من المصائب ولا تكون طاعة الله ورسوله سببا لمصيبة قط بل طاعة الله ورسوله لا توجب إلا خيرا في الدنيا والآخرة ولكن قد يصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم وتقصيرهم في طاعة الله ورسوله كما لحقهم يوم أحد ويوم حنين وكذلك ما امتحنوا به من الضراء

وأذى الكفار لهم ليس هو بسبب نفس إيمانهم ولا هو موجبه وإنما امتحنوا به ليخلص ما فيهم من الشر فامتحنوا بذلك كما يمتحن الذهب بالنار ليخلص من غشه والنفوس فيها ما هو من مقتضى طبعها فالامتحان يمحص المؤمن من ذلك الذي هو من موجبات طبعه كما قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} وقال: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} فطاعة الله ورسوله لا تجلب إلا خيرا ومعصيته لا تجلب إلا شرا ولهذا قال سبحانه: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} فإنهم لو فقهوا الحديث لعلموا أنه ليس في الحديث الذي أنزله الله على رسوله ما يوجب شرا البتة ولعلموا أنه سبب كل خير ولو فقهوا لعلموا أن العقول والفطر تشهد بأن مصالح المعاش والمعاد متعلقة بما جاء به الرسول فلو فقهوا القرآن علموا أنه أمرهم بكل خير ونهاهم عن كل شر وهذا مما يبين أن ما أمر الله به يعلم حسنه بالعقل وأنه كله مصلحة ورحمة ومنفعة وإحسان بخلاف ما يقوله كثير من أهل الكلام الباطل أنه سبحانه يأمر العباد بما لا مصلحة لهم فيه بل يأمرهم بما فيه مضرة لهم وقول هؤلاء تصديق وتقرير لقول المتطيرين بالرسل.
فصل: ومما يوضح الأمر في ذلك أنه سبحانه لما قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} عقب ذلك بقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} وذلك يتضمن أشياء منها تنبيه أمته على أن رسوله الذي شهد له بالرسالة إذا أصابه ما يكره فمن نفسه فما الظن بغيره ومنها أن حجة الله قد قامت عليهم بإرساله فإذا أصابهم سبحانه بما يسوءهم لم يكن ظالما لهم في ذلك لأنه قد أرسل رسوله إليهم يعلمهم بما فيه مصالحهم وما يجلبها لهم وما فيه مضرتهم وما يجلبها لهم

ص -166- فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ومنها أنه سبحانه قد شهد له بالرسالة بما أظهره على يديه من الآيات الدالة على صدقه وأنه رسوله حقا فلا يضره جحد هؤلاء الجاهلين الظالمين المتطيرين به لرسالته ومن شهد له رب السماوات والأرض ومنها أنهم أرادوا أن يجعلوا سيئاتهم وعقوباتها حجة على إبطال رسالته فشهد له بالرسالة وأخبر أن شهادته كافيه فكان في ضمن ذلك إبطال قولهم أن المصائب من عند الرسول صلى الله عليه وسلم وإثبات أنها من عند أنفسهم بطريق الأولى ومنها إبطال قول الجهمية المجبرة ومن وافقهم في قولهم إن الله قد يعذب العباد بلا ذنب ومنها إبطال قول القدرية الذين يقولون أن أسباب الحسنات والسيئات ليست من الله بل هي من العبد ومنها ذم من لم يتدبر القرآن ولم يفقهه وإن إعراضه عن تدبره وفقهه يوجب له من الضلال والشقاء بحسب إعراضه ومنها إثبات الأسباب وإبطال قول من ينفيها ولا يرى لها ارتباطا بمسبباتها ومنها أن الخير كله من الله والشر كله من النفس فإن الشر هو الذنوب وعقوبتها والذنوب من النفس وعقوباتها مترتبة عليها والله هو الذي قدر ذلك وقضاه وكل من عنده قضاء وقدرا وإن كانت نفس العبد سببه بخلاف الخير والحسنات فإن سببها مجرد فضل الله ومنه وتوفيقه كما تقدم تقريره ومنها أنه سبحانه لما رد قولهم أن الحسنة من الله والسيئة من رسوله وأبطله بقوله: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} رفع وهم من توهم أن نفسه لا تأثير لها في السيئة ولا هي منها أصلا بقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وخاطبه بهذا تنبيها لغيره كما تقدم ومنها أنه قال في الرد عليهم: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ولم يقل من الله لما جمع بين الحسنات والسيئات والحسنة مضافة إلى الله من كل وجه والسيئة إنما تضاف إليه قضاء وقدرا وخلقا وأنه خالقها كما هو خالق

الحسنة فلهذا قال: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهو سبحانه إنما خلقها لحكمة فلا تضاف إليه من جهة كونها سيئة بل من جهة ما تضمنته من الحكمة والعدل والحمد وتضاف إلى النفس كونها سيئة ولما ذكر الحسنة مفردة عن السيئة قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ولم يقل من عند الله فالخير منه وأنه موجب أسمائه وصفاته والشر الذي هو بالنسبة إلى العبد شر من عنده سبحانه فإنه مخلوق له عدلا منه وحكمة ثم قال: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} ولم يقل من عندك لأن النفس طبيعتها ومقتضاها ذلك فهو من نفسها والجميع من عند الله فالسيئة من نفس الإنسان بلا ريب والحسنة من الله بلا ريب وكلاهما من عنده سبحانه قضاء وقدرا وخلقا ففرق بين ما من الله وبين ما من عنده والشر لا يضاف إلى الله إرادة ولا محبة ولا فعلا ولا وصفا ولا اسما فإنه لا يريد إلا الخير ولا يحب إلا الخير ولا يفعل شرا ولا يوصف به ولا يسمى باسمه وسنذكر في باب دخول الشر في القضاء الإلهي وجه نسبته إلى قضائه وقدره إن شاء الله.
فصل: وقد اختلف في كاف الخطاب في قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} هل هي لرسول الله أو هي لكل واحد من الآدميين، فقال ابن عباس في رواية الوالبي عنه: "الحسنة ما فتح الله عليه يوم بدر من الغنيمة والفتح والسيئة ما أصابه يوم أحد أن شج في وجهه وكسرت رباعيته"، وقالت طائفة بل المراد جنس ابن آدم كقوله: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} روى سعيد عن قتادة: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قال عقوبة يا ابن آدم بذنبك

ص -167- ورجحت طائفة القول الأول، واحتجوا بقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} قالوا وأيضا فإنه لم يتقدم ذكر الإنسان ولا خطابه وإنما تقدم ذكر الطائفة قالوا ما حكاه الله عنهم فلو كانوا هم المرادين لقال ما أصابهم أو ما أصابكم على طريق الالتفات قالوا وهذا من باب السبب لأنه إذا كان سيد ولد آدم وهكذا حكمه فكيف بغيره ورجحت طائفة القول الآخر، واحتجت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم معصوم لا يصدر عنه ما يوجب أن تصيبه به سيئة قالوا والخطاب وإن كان له في الصورة فالمراد به الأمة كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} قالوا ولما كان أول الآية خطابا له أجرى الخطاب جميعه على وجه واحد فأفرده في الثاني والمراد به الجميع والمعنى وما أصابكم من سيئة فمن أنفسكم فالأول له والثاني لأمته ولهذا لما أفرد إصابة السيئة قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فأخبر أن الهزيمة بذنوبهم وإعجابهم وأن النصر بما أنزله على رسوله وأيده به إذ لم يكن منه من سبب الهزيمة ما كان منه وجمعت طائفة ثالثة بين القولين وقالوا صورة الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد العموم كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} ثم قال: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ثم قال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وكقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ

وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} قالوا وهذا الخطاب نوعان نوع يختص لفظه به لكن يتناول غيره بطريق الأولى كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ونوع يكون الخطاب له وللأمة فأفرده بالخطاب لكونه هو المواجه بالوحي وهو الأصل فيه والمبلغ للأمة والسفير بينهم وبين الله وهذا معنى قول كثير من المفسرين الخطاب له والمراد غيره ولم يريدوا بذلك أنه لم يخاطب بذلك أصلا ولم يرد به البتة بل المراد أنه لما كان إمام الخلائق ومقدمهم ومتبوعهم أفرد بالخطاب وتبعته الأمة في حكمه كما يقول السلطان لمقدم العساكر أخرج غدا وأنزل بمكان كذا وأحمل على العدو وقت كذا قالوا فقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} خطاب له وجميع الأمة داخلون في ذلك بطريق الأولى بخلاف قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} فإن هذا له خاصة قالوا وهذه الشرطية لا تستلزم الوقوع بل تربط الجزاء بالشرط وأما وقوع الشرط والجزاء فلا يدل عليه فهو مقدر في حقه محقق في غيره والله أعلم، قال القدري: إذا كانت الطاعات والمعاصي مقدرة والنعم والمصائب مقدرة فلم فرق سبحانه بين الحسنات التي هي النعم والسيئات التي هي المصائب فجعل هذه منه سبحانه وهذه من نفس الإنسان والجميع مقدر، قال السني: بينهما فروق الفرق الأول أن نعم الله وإحسانه إلى عباده يقع بلا كسب منهم أصلا بل الرب سبحانه ينعم عليهم بالعافية والرزق والنصر وإرسال الرسل وإنزال

الكتب وأسباب الهداية فيفعل ذلك من لم يكن منه سبب يقتضيه وينشئ للجنة خلقا يسكنهم إياها بغير سبب منهم ويدخل أطفال المؤمنين ومجانينهم الجنة بلا عمل وأما العقاب فلا يعاقب أحدا إلا بعمله، الفرق الثاني أن عمل الحسنات من إحسان الله

ص -168- ومنه وتفضله عليه بالهداية والإيمان كما قال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} فخلق الرب سبحانه لهم الحياة والسمع والبصر والعقول والأفئدة وإرسال الرسل وتبليغهم البلاغ الذي اهتدوا به وإلهامهم الإيمان وتحبيبه إليهم وتزيينه في قلوبهم وتكريه ضده إليهم كل ذلك من نعمه كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فجميع ما يتقلب فيه العالم من خير الدنيا والآخرة هو نعمة محضة بلا سبب سابق يوجب ذلك لهم ومن غير حول وقوة منهم إلا به وهو خالقهم وخالق أعمالهم الصالحة وخالق جزائها وهذا كله منه سبحانه بخلاف الشر فإنه لا يكون إلا بذنوب العبد وذنبه من نفسه وإذا تدبر العبد هذا علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله فشكر ربه على ذلك فزاده من فضله عملا صالحا ونعما يفيضها عليه وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه وبذنوبه استغفر ربه وتاب فزال عنه سبب الشر فيكون دائما شاكرا مستغفرا فلا يزال الخير يتضاعف له والشر يندفع عنه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته الحمد لله فيشكر الله ثم يقول نستعينه ونستغفره نستعينه على طاعته ونستغفره من معصيته ونحمده على فعله وإحسانه ثم قال ونعوذ بالله من شرور أنفسنا لما استغفره من الذنوب الماضية استعاذ به من الذنوب التي لم تقع بعد ثم قال ومن سيئات

أعمالنا فهذه استعاذة من عقوبتها كما تقدم ثم قال من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له فهذه شهادة للرب بأنه المتصرف في خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء فإذا هدى عبدا لم يضله أحد وإذا أضله لم يهده أحد وفي ذلك إثبات ربوبيته وقدرته وعلمه وحكمته وقضائه وقدره الذي هو عقد نظام التوحيد وأساسه وكل هذا مقدمة بين يدي قوله وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فإن الشهادتين إنما تتحققان بحمد الله واستعانته واستغفاره واللجأ إليه والإيمان بأقداره والمقصود أنه سبحانه فرق بين الحسنات والسيئات بعد أن جمع بينهما في قوله كل من عند الله فجمع بينهما الجمع الذي لا يتم الإيمان إلا به وهو اجتماعهما في قضائه وقدره ومشيئته وخلقه ثم فرق بينهما الفرق الذي ينتفعون به وهو أن هذا الخير والحسنة نعمة منه فاشكروه عليه يزدكم من فضله ونعمه وهذا الشر والسيئة بذنوبكم فاستغفروه يرفعه عنكم وأصله من شرور أنفسكم فاستعيذوا به يخلصكم منها ولا يتم ذلك إلا بالإيمان بالله وحده وهو الذي يهدي ويضل وهو الإيمان بالقدر فادخلوا عليه من بابه فإن أزمة الأمور بيده فإذا فعلتم ذلك صدق منكم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فهذه الخطبة العظيمة عقد نظام الإسلام والإيمان فلو اقتصر لهم على الجمع دون الفرق أعرض العاصي والمذنب عن ذم نفسه والتوبة من ذنوبه والاستعاذة من شرها وقام في قلبه شاهد الاحتجاج على ربه بالقدر وتلك حجة داحضة تبع الأشقياء فيها إبليس وهي لا تزيد صاحبها إلا شقاء وعذابا كما زادت إبليس طردا وبعدا عن ربه وكما زادت المشركين ضلالا وشقاء حين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا وكما تزيد الذي يقول يوم القيامة لو أن الله هداني لكنت من المتقين حسرة وعذابا ولو اقتصر لهم على الفرق دون الجمع لغابوا به في التوحيد والإيمان بالقدر واللجأ إلى الله في الهداية والتوفيق

والاستعاذة به من شر النفس وسيئات العمل والافتقار التام إلى إعانته وفضله وكان في الجمع والفرق

ص -169- بيان حق العبودية وسيأتي تمام هذا الكلام على هذا الموضع العظيم القدر إن شاء الله بإثبات اجتماع القدر والشرع وافتراقهما، الفرق الثالث أن الحسنة يضاعفها الله سبحانه وينميها ويكتبها للعبد بأدنى سعي ويثيب على الهم بها والسيئة لا يؤاخذ على الهم بها ولا يضاعفها ويبطلها بالتوبة والحسنة الماحية والمصائب المكفرة فكانت الحسنة أولى بالإضافة إليه تعالى والسيئة أولى بالإضافة إلى النفس، الفرق الرابع أن الحسنة التي هي الطاعة والنعمة يحبها ويرضاها فهو سبحانه يحب أن يطاع ويحب أن ينعم ويحسن ويجود وإن قدر المعصية وأراد المنع فالطاعة أحب إليه والبذل والعطاء آثر عنده فكان إضافة نوعي الحسنة له وإضافة نوعي السيئة إلى النفس أولى ولهذا تأدب العارفون من عباده بهذا الأدب فأضافوا إليه النعم والخيرات وأضافوا الشرور إلى محلها كما قال إمام الحنفاء: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فأضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه، وقال الخضر: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} ثم قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا}، وقال مؤمنو الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً}، الفرق الخامس أن الحسنة مضافة إليه لأنه أحسن بها من كل وجه وبكل اعتبار كما تقدم فما من وجه من وجوهها إلا وهو يقتضي الإضافة إليه وأما السيئة فهو سبحانه إنما قدرها وقضاها لحكمته

وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه فإن الرب سبحانه لا يفعل سوأ قط كما لا يوصف به ولا يسمى باسمه بل فعله كله حسن وخير وحكمة كما قال تعالى بيده الخير وقال أعرف الخلق به: "والشر ليس إليك" فهو لا يخلق شرا محضا من كل وجه بل كل ما خلقه ففي خلقه مصلحة وحكمة وإن كان في بعضه شر جزئي إضافي وأما الشر الكلي المطلق من كل وجه فهو تعالى منزه عنه وليس إليه، الفرق السادس أن ما يحصل للإنسان من الحسنات التي يعملها فهي أمور وجودية متعلقة بمشيئة الرب وقدره ورحمته وحكمته وليست أمورا عدمية تضاف إلى غير الله بل هي كلها أمور وجودية وكل موجود حادث والله محدثه وخالقه وذلك أن الحسنات إما فعل مأمور أو ترك محظور والترك أمر وجودي فترك الإنسان لما نهى عنه ومعرفته بأنه ذنب قبيح وبأنه سبب العذاب فبغضه له وكراهته له ومنع نفسه إذا هويته وطلبته منه أمور وجودية كما أن معرفته بالحسنات كالعدل والصدق حسنة وفعله لها أمر وجودي والإنسان إنما يثاب على ترك السيئات إذا تركها على وجه الكراهة لها والامتناع عنها وكف للنفس عنها قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} وقال: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" وقد جعل صلى الله عليه وسلم البغض في الله من أوثق عرى الإيمان وهو أصل الترك وجعل المنع لله من كمال الإيمان وهو أصل الترك فقال: "من أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله" وقال: "من أحب

لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" وجعل إنكار المنكر بالقلب من مراتب الإيمان

ص -170- وهو بغضه وكراهته المستلزم لتركه فلم يكن الترك من الإيمان إلا بهذه الكراهة والبغض والامتناع والمنع لله وكذلك براءة الخليل وقومه من المشركين ومعبودهم ليست تركا محضا بل تركا صادرا عن بغض ومعاداة وكراهة هي أمور وجودية هي عبودية للقلب يترتب عليها خلو الجوارح من العمل كما أن التصديق والإرادة والمحبة للطاعة من عبودية القلب يترتب عليها آثارها في الجوارح وهذا الحب والبغض تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وهو إثبات تأله القلب لله ومحبته ونفي تألهه لغيره وكراهته فلا يكفي أن يعبد الله ويحبه ويتوكل عليه وينيب إليه ويخافه ويرجوه حتى يترك عبادة غيره والتوكل عليه والإنابة إليه وخوفه ورجاه ويبغض ذلك وهذه كلها أمور وجودية وهي الحسنات التي يثيب الله عليها وأما مجرد عدم السيئات من غير أن يعرف أنها سيئة ولا يكرهها بقلبه ويكف نفسه عنها بل يكون تركها لعدم خطورها بقلبه ولا يثاب على هذا الترك فهذا تكون السيئات في حقه بمنزلتها في حق الطفل والنائم لكن قد يثاب على اعتقاد تحريمها وإن لم يكن له إليها داعية البتة فالترك ثلاثة أقسام قسم يثاب عليه وقسم يعاقب عليه وقسم لا يثاب ولا يعاقب عليه فالأول ترك العالم بتحريمها الكاف نفسه عنها لله مع قدرته عليها والثاني كترك من يتركها لغير الله لا لله فهذا يعاقب على تركه لغير الله كما يعاقب على فعله لغير الله فإن ذلك الترك والامتناع فعل من أفعال القلب فإذا عبد به غير الله استحق العقوبة، والثالث كترك من لم يخطر على قلبه علما ولا محبة ولا كراهة بل بمنزلة ترك النائم والطفل، فإن قيل كيف يعاقب على ترك المعصية حياء من الخلق وإبقاء على جاهه بينهم وخوفا منهم أن يتسلطوا عليه والله سبحانه لا يذم على ذلك ولا يمنع منه، قيل لا ريب أنه لا يعاقب على ذلك وإنما يعاقب على تقربه

إلى الناس بالترك ومرآتهم به وأنه تركها خوفا من الله ومراقبة وهو في الباطن بخلاف ذلك فالفرق بين ترك يتقرب به إليهم ومرآتهم به وترك يكون مصدره الحياء منهم وخوف أذاهم له وسقوطه من أعينهم فهذا لا يعاقب عليه بل قد يثاب عليه إذا كان له فيه غرض يحبه الله من حفظ مقام الدعوة إلى الله وقبولهم منه ونحو ذلك وقد تنازع الناس في الترك هل هو أمر وجودي أم عدمي والأكثرون على أنه وجودي، وقال أبو هاشم وأتباعه هو عدمي وأن المأمور يعاقب على مجرد عدم الفعل لا على ترك يقوم بقلبه وهؤلاء رتبوا الذم والعقاب على العدم المحض والأكثرون يقولون إنما يثاب من ترك المحظور على ترك وجودي يقوم بنفسه ويعاقب تارك المأمور على ترك وجودي يقوم بنفسه وهو امتناعه وكفه نفسه عن فعل ما أمر به إذا تبين هذا فالحسنات التي يثاب عليها كلها وجودية فهو سبحانه الذي حبب الإيمان والطاعة إلى العبد وزينه في قلبه وكره إليه أضدادها وأما السيئات فمنشأها من الجهل والظلم فإن العبد لا يفعل القبيح إلا لعدم علمه بكونه قبيحا أو لهواه وشهوته مع علمه بقبحه فالأول جهل والثاني ظلم ولا يترك حسنة إلا لجهله بكونها حسنة أو لرغبته في ضدها لموافقته هواه وغرضه وفي الحقيقة فالسيئات كلها ترجع إلى الجهل وإلا فلو كان علمه تاما برجحان ضررها لم يفعلها فإن هذا خاصة الفعل فإنه إذا علم أن إلقاءه من مكان عال يضره لم يقدم عليه وكذلك لبثه تحت حائط مائل وإلقاءه نفسه في ماء يغرق فيه وأكله طعاما مسموما ولا يفعله لعلمه التام بمضرته الراجحة بل هذه فطرة فطر الله عليها الحيوان بهيمة وناطقة ومن لم يعلم أن ذلك يضره كالطفل والمجنون والسكران الذي انتهى سكره فقد يفعله وأما من أقدم على ما يضره مع علمه

ص -171- بما فيه من الضرر فلا بد أن يقوم بقلبه أن منفعته له راجحة ولا بد من رجحان المنفعة عنده إما في الظن وإما في المظنون ولو جزم راكب البحر بأنه يغرق ويذهب ماله لم يركب أبدا بل لا بد من رجحان الانتفاع في ظنه وإن أخطأ في ذلك وكذلك الذنوب والمعاصي فلو جزم السارق بأنه يؤخذ ويقطع لم يقدم على السرقة بل يظن أنه يسلم ويظفر بالمال وكذلك القاتل والشارب والزاني فلو جزم طالب الذنب بأنه يحصل له الضرر الراجح لم يفعله بل إما أن لا يكون جازما بتحريمه أو لا يجزم بعقوبته بل يرجو العفو والمغفرة وأن يتوب ويأتي بحسنات تمحو أثره وقد يغفل عن هذا كله بقوة وإرادة الشهوة واستيلاء سلطانها على قلبه بحيث تغيبه عن مطالعة مضرة الذنب والغفلة من أضداد العلم كالغفلة والشهوة أصل الشر كله قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} وينبغي أن يعلم أن الهوى وحده لا يستقل بفساد السيئات إلا مع الجهل وإلا فصاحب الهوى لو جزم بأن ارتكاب هواه يضره ولا بد ضررا راجحا لانصرفت نفسه عن طاعته له بالطبع فإن الله سبحانه جعل في النفس حبا لما ينفعها وبغضا لما يضرها فلا تفعل مع حضور عقلها ما تجزم بأنه يضرها ضررا راجحا ولهذا يوصف تارك ذلك بالعقل والحجى واللب فالبلاء مركب من تزيين الشيطان وجهل النفس فإنه يزين لها السيئات ويريها أنها في صور المنافع واللذات والطيبات ويغفلها عن مطالعتها لمضرتها فتولد من بين هذا التزيين وهذا الإغفال والإنساء لها إرادة وشهوة ثم يمدها بأنواع التزيين فلا يزال يقوى حتى يصير عزما جازما يقترن به الفعل كما زين للأبوين الأكل من الشجرة وأغفلهما عن مطالعة مضرة المعصية فالتزيين هو سبب إيثار الخير والشر كما قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} وقال

في تزيين الخير: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} وقال في تزيين النوعين: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وتزيين الخير والهدى بواسطة الملائكة والمؤمنين وتزيين الشر والضلال بواسطة الشياطين من الجن والإنس كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} وحقيقة الأمر أن التزيين إنما يغتر به الجاهل لأنه يلبس له الباطل والضار المؤذي صورة الحق والنافع الملائم فأصل البلاء كله من الجهل وعدم العلم ولهذا قال الصحابة كل من عصى الله فهو جاهل وقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} وقال: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال أبو العالية: "سألت أصحاب محمد عن قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل ومن تاب قبل الموت فقد تاب من قريب" وقال قتادة: "أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة عمدا كان أو لم يكن وكل من عصى الله فهو جاهل" وقال مجاهد: "من شيخ أو شاب فهو بجهالة" وقال: "من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن خطيئته" وقال هو وعطاء: "الجهالة العمد" وقال مجاهد: "من عمل سوأ خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع منه" ذكر هذه الآثار ابن أبي حاتم ثم قال وروي عن قتادة وعمرو بن مرة والثوري نحو ذلك خطأ أو

عمدا وروي عن مجاهد والضحاك: "ليس من جهالته أن لا يعلم حلالا ولا

ص -172- حراما ولكن من جهالته حين دخل فيه" وقال عكرمة: "الدماء كلها جهالة ومما يبين ذلك قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وكل من خشيه فأطاعه بفعل أوامره وترك نواهيه فهو عالم كما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}" وقال رجل للشعبي: أيها العالم فقال: "لسنا بعلماء إنما العالم من يخشى الله" وقال ابن مسعود: "وكفى بخشية الله علما وبالاغترار بالله جهلا" وقوله إنما يخشى الله من عباده العلماء يقتضي الحصر من الطرفين أن لا يخشاه إلا العلماء ولا يكون عالما إلا من يخشاه فلا يخشاه إلا عالم وما من عالم إلا وهو يخشاه فإذا انتفى العلم انتفت الخشية وإذا انتفت الخشية دلت على انتفاء العلم لكن وقع الغلط في مسمى العلم اللازم للخشية حيث يظن أنه يحصل بدونها وهذا ممتنع فإنه ليس في الطبيعة أن لا يخشى النار والأسد والعدو من هو عالم بها مواجه لها وأنه لا يخشى الموت من ألقى نفسه من شاهق ونحو ذلك فأمنه في هذه المواطن دليل عدم علمه وأحسن أحواله أن يكون معه ظن لا يصل إلى رتبة العلم اليقيني فإن قيل فهذا ينتقض عليكم بمعصية إبليس فإنها كانت عن علم لا عن جهل وبقوله: : {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وقال: : {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} وقال عن قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} وقال: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} وقال موسى لفرعون:

{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} يعني القرآن أو محمدا صلى الله عليه وسلم وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} والجحود إنكار الحق بعد معرفته وهذا كثير في القرآن قيل حجج الله لا تتناقص بل كلها حق يصدق بعضها بعضا وإذا كان سبحانه قد أثبت الجهالة لمن عمل السوء وقد أقر به وبرسالته وبأنه حرم ذلك وتوعد عليه بالعقاب ومع ذلك يحكم عليه بالجهالة التي لأجلها عمل السوء فكيف بمن أشرك به وكفر بآياته وعادى رسله أليس ذلك أجهل الجاهلين وقد سمى تعالى أعداءه جاهلين بعد إقامة الحجة عليهم فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} فأمره بالإعراض عنهم بعد أن أقام عليهم الحجة وعلموا أنه صادق وقال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} فالجاهلون هم الكفار الذين علموا أنه رسول الله فها العلم لا ينافي الحكم على صاحبه بالجهل بل يثبت له العلم وينافي عنه في موضع واحد كما قال تعالى عن السحرة من اليهود: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فأثبت لهم العلم الذي تقوم به عليهم الحجة ونفى عنهم العلم النافع الموجب لترك الضار وهذا نكتة المسألة وسر الجواب فما دخل النار إلا عالم ولا دخلها إلا جاهل وهذا العلم لا يجتمع مع الجهل في الرجل الواحد يوضحه أن

الهوى والغفلة والإعراض تصد عن كماله واستحضاره ومعرفة موجبه على التفصيل وتقيم لصاحبه شبها وتأويلات تعارضه فلا يزال المقتضى يضعف والعارض يعمل عمله حتى كأنه لم يكن ويصير صاحبه بمنزلة الجاهل من كل وجه فلو علم إبليس أن تركه للسجود لآدم يبلغ به ما بلغ وأنه يوجب له أعظم العقوبة وتيقن ذلك لم يتركه ولكن حال الله بينه وبين هذا العلم ليقضي أمره

ص -173- وينفذ قضائه وقدره ولو ظن آدم وحواء أنهما إذا أكلا من الشجرة خرجا من الجنة وجرى عليهما ما جرى ما قرباها ولو علم أعداء الرسل تفاصيل ما يجري عليهم وما يصيبهم يوم القيامة وجزموا بذلك لما عادوهم قال تعالى عن قوم فرعون: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} وقال: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} وقال عن المنافقين وقد شاهدوا آيات الرسول وبراهين صدقه عيانا: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} وقال: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} وقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وهو الشك ولو كان هذا لعدم العلم الذي تقوم به الحجة عليهم لما كانوا في الدرك الأسفل من النار بل هذا بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم الذي لم ينفعهم فالعلم يضعف قطعا بالغفلة والإعراض واتّباع الهوى وإيثار الشهوات وهذه الأمور توجب شبهات وتأويلات تضاده فتأمل هذا الموضع حق تأمل فإنه من أسرار القدر والشرع والعدل فالعلم يراد به العلم التام المستلزم لأثره ويراد به المقتضى وإن لم يتم بوجود شروطه وانتقاء موانعه فالثاني يجامع الجهل دون الأول فتبين أن أصل السيئات الجهل وعدم العلم وإن كان كذلك فعدم العلم ليس أمرا وجوديا بل هو لعدم السمع والبصر والقدرة والإرادة والعدم ليس شيئا حتى يستدعي فاعلا مؤثرا فيه بل يكفي فيه عدم مشيئة

ضده وعدم السبب الموجب لضده والعدم المحض لا يضاف إلى الله فإنه شر والشر ليس إليه فإذا انتفى هذا الجازم عن العبد ونفسه بطبعها متحركة مريدة وذلك من لوازم شأنها تحركت بمقتضى الطبع والشهوة وغلب ذلك فيها على داعي العلم والمعرفة فوقعت في أسباب الشر ولا بد.
فصل: والله سبحانه قد أنعم على عباده من جملة إحسانه ونعمه بأمرين هما أصل السعادة أحدهما: أن خلقهم في أصل النشأة على الفطرة السليمة فكل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يخرجانه عنها كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وشبه ذلك بخروج البهيمة صحيحة سالمة حتى يجدعها صاحبها وثبت عنه أنه قال: "يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" فإذا تركت النفس وفطرتها لم تؤثر على محبة باريها وفاطرها وعبادته وحده شيئا ولم تشرك به ولم تجحد كمال ربوبيته وكان أحب شيء إليها وأطوع شيء لها وآثر شيء عندها ولكن يعدها من يقترن بها من شياطين الجن والإنس بتزيينه وإغوائه حتى ينغمس موجبها وحكمها الأمر الثاني أنه سبحانه هدى الناس هداية عامة بما أودعه فيهم من المعرفة ومكنهم من أسبابها وبما أنزل إليهم من الكتب وأرسل إليهم من الرسل وعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه ففي كل نفس ما يقتضي معرفتها بالحق ومحبتها له وقد هدى الله كل عبد إلى أنواع من العلم يمكنه التوصل بها إلى سعادة الآخرة وجعل في فطرته محبة لذلك لكن قد يعرض العبد عن طلب علم ما ينفعه فلا يريده ولا يعرفه وكونه لا يريد ذلك ولا يعرفه أمر عدمي فلا يضاف إلى الرب لا هذا ولا هذا فإنه من هذه الحيثية شر والذي يضاف إلى الرب علمه به وقضاؤه له بعدم مشيئته لضده وإبقائه على العدم الأصلي وهو من هذه الجهة خير فإن العلم بالشر خير من الجهل به وعدم رفعه بإثبات ضده إذا كان مقتضى الحكمة كان خيرا وإن كان شرا بالنسبة

إلى محله وسيأتي تمام تقرير هذا في باب دخول الشر في القضاء الإلهي إن شاء الله سبحانه.
فصل: وههنا حياة أخرى غير الحياة الطبيعية الحيوانية نسبتها إلى القلب كنسبة حياة

ص -174- البدن إليه فإذا أمد عبده بتلك الحياة أثمرت له من محبته وإجلاله وتعظيمه والحياء منه ومراقبته وطاعته مثل ما تثمر حياة البدن له من التصرف والفعل وسعادة النفس ونجاتها وفلاحها بهذه الحياة وهي حياة دائمة سرمدية لا تنقطع ومتى فقدت هذه الحياة واعتاضت عنها بحياتها الطبيعية الحيوانية كانت ضالة معذبة شقية ولم تسترح راحة الأموات ولم تعش عيش الأحياء كما قال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} فإن الجزاء من جنس العمل فإنه في الدنيا لما لم يحي الحياة النافعة الحقيقية التي خلق لها بل كانت حياته من جنس حياة البهائم ولم يكن ميتا عديم الإحساس كانت حياته في الآخرة كذلك فإن مقصود الحياة حصول ما ينتفع به ويلتذ به والحي لا بد له من لذة أو ألم فإذا لم تحصل له اللذة لم يحصل له مقصود الحياة كمن هو حي في الدنيا وبه أمراض عظيمة تحول بينه وبين التنعم بما يتنعم به الأصحاء فهو يختار الموت ويتمناه ولا يحصل له فلا هو مع الأحياء ولا مع الأموات إذا عرف هذا فالشر من لوازم هذه الحياة وعدمها شر وهو ليس بشيء حتى يكون مخلوقا والله خالق كل شيء فإذا أمسك عن عبد هذه الحياة كان إمساكها خيرا بالنسبة إليه سبحانه وإن كان شرا بالإضافة إلى العبد لفوات ما يلتذ ويتنعم به فالسيئات من طبيعة النفس ولم يمد بهذه الحياة التي تحول بينها وبينها فصار الشر كله من النفس والخير كله من الله والجميع بقضائه وقدره وحكمته وبالله التوفيق.
فصل: قال القدري: ونحن نعرف بهذا جميعه ونقر بأن الله خلق الإنسان مريدا ولكن جعله على خلقة يريد بها وهو مريد بالقوة والقبول أي خلقه

قابلا لأن يريد هذا وهذا وأما كونه مريدا لهذا المعنى فليس ذلك بخلق الله ولكنه هو الذي أحدثه بنفسه ليس هو من إحداث الله قال الجبري: هذه الإرادة حادثة فلا بد لها من محدث فالمحدث لها إما أن يكون نفس الإنسان أو مخلوق خارج عنها أو ربها وفاطرها وخالقها والقسمان الأولان محال فتعين الثالث أما المقدمة الأولى فظاهرة إذ المحدث إما النفس وإما أمر خارج عنها والخارج عنها إما الخالق أو المخلوق وأما المقدمة الثانية فبيانها أن النفس لا يصح أن تكون هي المحدثة لإرادتها فإنها إما أن تحدثها بإرادة أو بغير إرادة وكلاهما ممتنع فإنها لو توقف إحداثها على إرادة أخرى فالكلام فيها كالكلام في الأولى ويلزم التسلسل إلى غير نهاية فلا توجد إرادة حتى يتقدمها إرادات لا تتناهى وإن لم يتوقف إحداثها على إرادة منها بطل أن تكون هي المؤثرة في إحداثها إذ وقوع الحادث بلا إرادة من الفاعل المختار محال وإذا بطل أن تكون محدثة للإرادة بإدارة وأن يحدثها بغير إرادة تعين أن يكون المحدث لتلك الإرادة أمرا خارجا عنها فحينئذ إما أن يكون مخلوقا أو يكون هو الخالق سبحانه والأول محال لأن ذلك المحدث إن كان غير مريد لم يمكنه جعل الإنسان مريدا وإن كان مريدا فالكلام في إرادته كالكلام في إرادة الإنسان سواء فتعين أن يكون المحدث لتلك الإرادة هو الخالق لكل شيء الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن قال القدري: قد اختلفت طرق أصحابنا في الجواب عن هذا الإلزام فقال الجاحظ: العبد يحدث أفعاله بغير إرادة منه بل مجرد قدرته وعلمه بما في الفعل من الملائمة فإذا علم موافقة الفعل له وهو قادر عليه أحدثه بقدرته وعلمه وأنكر توقفه على إرادة محدثه وأنكر حقيقة الإرادة في الشاهد ولم ينكر الميل والشهوة ولكن لا يتوقف إحداث عليها فإن الإنسان قد يفعل ما لا يشتهيه ولا يميل إليه وخالفه جميع

ص -175- الأصحاب وأثبتوا الإرادة الحادثة ثم اختلفوا في سبب حدوثها فقال طائفة منهم كون النفس مريدة أمر ذاتي لها وما بالذات لا يعلل ولا يطلب سبب وجوده وطريقة التعليل تسلك ما لم يمنع منها مانع واختصاص الذات بالصفة الذاتية لا تعلل فهكذا اختصاص النفس بكونها مريدة هو أمر ذاتي لها وبذلك كانت نفسا فقول القائل لم أردت كذا وما الذي أوجب لها إرادته كقوله لم كانت نفسا وكقوله لم كانت النار محرقة أو متحركة ولم كان الماء مائعا سيالا ولم كان الهواء خفيفا فكون النفس مريدة متحركة بالإرادة هو معنى كونها نفسا فهو بمنزلة قول القائل لم كانت نفسا وحركتها بمنزلة حركة الفلك فهي خلقت هكذا وقالت طائفة أخرى بل الله سبحانه أحدث فيها الإرادة والإرادة صالحة للضدين فخلق فيها إرادة تصلح للخير فآثرت أحدهما على ألآخر بشهوتها وميلها فأعطاها قدرة صالحة للضدين وإرادة صالحة لها فكانت القدرة والإرادة من إحداثه سبحانه واختيارها أحد المقدورين المرادين من قبلها فهي التي رجحته قالوا والقادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بغير مرجح كالعطشان إذا قدم له قدحان متساويان من كل وجه والهارب إذا عن له طريقان كذلك فإنه يرجح أحدهما بلا مرجح فالله سبحانه أحدث فيه إرادة الفعل ولكن الإرادة لا توجب المراد فأحدثها فيه امتحانا له وابتلاء وأقدره على خلافها وأمره بمخالفتها ولا ريب أنه قادر على مخالفتها فلا يلزم من كونها مخلوقة لله حاصلة بإحداثه وجوب الفعل عندها وقال أبو الحسين البصري: "إن الفعل يتوقف على الداعي والقدرة وهما من الله خلقا فيه وعندهما يجب وجود الفعل باختيار العبد وداعيه فيكون هو المحدث له بما فيه من الدواعي والقدرة" فهذه طرق أصحابنا في الجواب عما ذكرتم قال السني: لم تتخلصوا بذلك من الإلزام ولم تبينوا به بطلان حجتهم المذكورة فلا منعتم مقدماتها وبينتم فسادها ولا عارضتموها بما هو أقوى منها كما أنهم لم يتخلصوا من

إلزامكم ولم يبينوا بطلان دليلكم وكان غاية ما عندكم وعندهم المعارضة وبيان كل منكم تناقض الآخر وهذا لا يفيد نصرة الحق وإبطال الباطل بل يفيد بيان خطأكم وخطأهم وعدولكم وإياهم عن منهج الصواب فنقول وبالله التوفيق مع كل منكما صواب من وجه وخطأ من وجه فأما صواب الجبري فمن جهة إسناده الحوادث كلها إلى مشيئة الله وخلقه وقضائه وقدره والقدري خالف الضرورة في ذلك فإن كون العبد مريدا فاعلا بعد أن لم يكن أمر حادث فأما أن يكون له محدث وأما أن لا يكون فإن لم يكن له محدث لزم حدوث الحوادث بلا محدث وإن كان له محدث فأما أن يكون هو العبد أو الله سبحانه أو غيرهما فإن كان هو العبد فالقول في إحداثه لتلك الفاعلية كالقول في إحداث سببها ويلزم التسلسل وهو باطل ههنا بالاتفاق لأن العبد كائن بعد أن لم يكن فيمتنع أن تقوم به حوادث لا أول لها وإن كان غير الله فالقول فيه كالقول في العبد فتعين أن يكون الله هو الخالق المكون لإرادة العبد وقدرته وإحداثه وفعله وهذه مقدمات يقينية لا يمكن القدح فيها فمن قال إن إرادة العبد وإحداثه حصل بغير سبب اقتضى حدوث ذلك والعبد أحدث ذلك وحاله عند إحداثه كما كان قبله بل خص أحد الوقتين بالإحداث من غير سبب اقتضى تخصيصه وأنه صار مريدا فاعلا محدثا بعد أن لم يكن كذلك من غير من جعله كذلك فقد قال ما لا يعقل بل يخالف صريح العقل وقال بحدوث حوادث بلا محدث وقولكم أن الإرادة لا تعلل كلام باطل لا حقيقة له فإن الإرادة أمر حادث فلا بد له من محدث ونظير هذا المحال قولكم في فعل الرب سبحانه أنه بواسطة إرادة يحدثها

ص -176- لا في محل من غير سبب اقتضى حدوثها يكون مريدا بها للمخلوقات فارتكبتم ثلاث محالات حدوث حادث بلا إرادة من الفاعل وحدوث حادث بلا سبب حادث وقيام الصفة بنفسها لا في محل وادعيتم مع ذلك أنكم أرباب العقول والنظر فأي معقول أفسد من هذا وأي نظر أعمى منه وإن شئت قلت كون العبد مريدا أمر ممكن والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح تام والمرجح التام إما من العبد وإما من مخلوق آخر وأما من الله سبحانه والقسمان الأولان باطلان فتعين الثالث كما تقدم فهذه الحجة لا يمكن دفعها ولا يمكن دفع العلم الضروري باستناد أفعالنا الاختيارية إلى إرادتنا وقدرتنا وإنا إذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة وبالعكس فهذه الحجة لا يمكن دفعها والجمع بين الحجتين هو الحق فإن الله سبحانه خالق إرادة العبد وقدرته وجاعلهما سببا لإحداثه الفعل فالعبد محدث لفعله بإرادته واختياره وقدرته حقيقة وخالق السبب خالق للمسبب ولو لم يشأ سبحانه وجود فعله لما خلق له السبب الموجد له فقال الفريقان للسني كيف يكون الرب تعالى محدثا لها والعبد أيضا، قال السني: إحداث الله سبحانه لها بمعنى أنه خلقها منفصلة عنه قائمة بمحلها وهو العبد فجعل العبد فاعلا لها بما أحدث فيه من القدرة والمشيئة وإحداث العبد لها بمعنى أنها قامت به وحدثت بإرادته وقدرته وكل من الإحداثين مستلزم للآخر ولكن جهة الإضافة مختلفة فما أحدثه الرب سبحانه من ذلك فهو مباين له قائم بالمخلوق مفعول له لا فعل وما أحدثه العبد فهو فعل له قائم به يعود إليه حكمه ويشتق له منه اسمه وقد أضاف الله سبحانه كثيرا من الحوادث إليه وأضافها إلى بعض مخلوقاته كقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}، وقال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} وقال: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} وقال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ

أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وقال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقال وأنزل الله عليك الكتاب وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وقال: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} وقال: {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} وهذا كثير فأضاف هذه الأفعال إلى نفسه إذ هي واقعة بخلقه ومشيئته وقضائه وأضافها إلى أسبابها إذ هو الذي جعلها أسبابا لحصولها بين الإضافتين ولا تناقض بين السببين وإذا كان كذلك تبين أن إضافة الفعل الاختياري إلى الحيوان بطريق التسبب وقيامه به ووقوعه بإرادته لا ينافي إضافته إلى الرب سبحانه خلقا ومشيئة وقدرا ونظيره قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وقال لنوح: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} فالرب سبحانه هو الذي حملهم فيها بإذنه وأمره ومشيئته ونوح حملهم بفعله ومباشرته.
فصل: وأما قول الجاحظ أن العبد يحدث أفعاله الاختيارية من غير إرادة منه بل بمجرد القدرة والداعي فإن أراد نفي إرادة العبد وجحد هذه الصفة عنه فمكابرة لا تنكر من طوائف هم أكثر الناس مكابرة وجحدا للمعلوم بالضرورة فلا أرخص من ذلك عندهم وأن أراد أن الإرادة أمر عدمي وهو كونه غير مغلوب ولا ملجأ فيقال هذا العدم من لوازم الإرادة لا أنه نفسها وكون الإرادة أمرا عدميا مكابرة أخرى وهي بمنزلة قول القائل القدرة أمر عدمي لأنها بمعنى عدم العجز والكلام عدمي لأنه عدم الخرس والسمع والبصر عدمي لأنهما عدم الصمم والعمى وأما قوله أن الفعل يقع بمجرد القدرة وعلم الفاعل بما فيه من الملائمة فمكابرة ثالثة فإن العبد يجد من نفسه قدرة

ص -177- على الفعل وعلما بمصلحته ولا يفعله لعدم إرادته له لما في فعله من فوات محبوب له أو حصول مكروه إليه فلا يوجب القدرة والعلم وقوع الفعل ما لم تقارنهما الإرادة.
فصل: وأما قول الآخر أن كون النفس مريدة أمر ذاتي لها فلا تعلل إلى آخره كلام في غاية البطلان فهب أنا لا نطلب علة كونها مريدة فكونها كذلك هو مخلوق فيها أم غير مخلوق وهي التي جعلت نفسها كذلك أم فاطرها وخالقها هو الذي جعلها كذلك وإذا كان سبحانه هو الذي أنشأها بجميع صفاتها وطبيعتها وهيآتها فكونها مريدة هو وصف لها وخالقها خالق لأوصافها فهو خالق لصفة المريدية فيها فإذا كانت تلك الصفة سببا للفعل وخالق السبب خالق للمسبب والمسبب واقع بقدرته ومشيئته وتكوينه وهذا مما لا ينكره إلا مكابر معاند.
فصل: وأما قول الطائفة الأخرى أن الله سبحانه خلق فيه إرادة صالحة للضدين فاختار أحدهما على الآخر ولا ريب أن الأمر كذلك ولكن وقوع أحد الضدين باختياره وإيثاره له وداعية إليه لا يخرجه عن كونه مخلوقا للرب سبحانه مقدورا له مقدرا على العبد واقعا بقضاء الرب وقدره وأنه لو شاء لصرف داعية العبد وإرادته عنه إلى ضده فهذه هي البقية التي بقيت على هذه الفرقة من إنكار القدر فلو ضموها إلى قولهم لأصابوا كل الإصابة ولكانوا أسعد بالحق في هذه المسألة من سائر الطوائف وتحقيق ذلك أن الله سبحانه بعدله وحكمته أعطى العبد قدرة وإرادة يتمكن بها من جلب ما ينفعه ودفع ما يضره فأعانه بأسباب ظاهرة وباطنة ومن جملة تلك الأسباب القدرة والإرادة وعرفه طريق الخير والشر ونهج له الطريق وأعانه بإرسال رسله وإنزال كتبه وقرن به ملائكته وأزال عنه كل علة يحتج بها عليه ثم فطرهم سبحانه على إرادة ما ينفعهم وكراهة مما يؤذيهم ويضرهم كما فطر على ذلك الحيوان البهيم ثم كان كثير مما ينفعهم لا علم لهم به على التفصيل والذي يعلمونه من المنافع أمر مشترك بينهم وبين الحيوانات وثم أمور عظيمة هي

أنفع شيء لهم لا صلاح لهم ولا فلاح ولا سعادة إلا بمعرفتها وطلبها وفعلها ولا سبيل لهم إلى ذلك إلا بوحي منه وتعريف خاص فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه فعرفهم ما هو الأنفع لهم ما فيه سعادتهم وفلاحهم فصادفتهم الرسل مشتغلين بأضدادها قد ألفوها وساكنوها وجرت عليها عوائدهم حين ألفتها الطباع فأخبرتهم الرسل أنها أضر شيء عليهم وأنها من أعظم أسباب ألمهم وفوات إربهم وسرورهم فنهضت الإرادة طالبة للسعادة والفلاح إذ الدعوة إلى ذلك محركة للقلوب والأسماع والأبصار إلى الاستجابة فقام داعي الطبع والألف والعادة في وجه ذلك الداعي معارضا له يعد النفس ويمنيها ويرغبها ويزين لها ما ألفته واعتادته لكونه ملائما له وهو نقد عاجل وراحة مؤثرة ولذة مطلوبة ولهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر وداعي الفلاح يدعو إلى أمر آجل في دار غير هذه الدار لا ينال إلا بمفارقة ملاذها وطيباتها ومسراتها وتجرع مرارتها والتعرض لآفاتها وإيثار الغير لمحبوباتها ومشتهياتها يقول خذ ما تراه ودع ما سمعت به فقامت الإرادة بين الداعيين تصغي إلى هذا مرة وإلى هذا مرة فههنا معركة الحرب ومحل المحنة فقتيل وأسير وفائز بالظفر والغنيمة فإذا شاء الله سبحانه وتعالى رحمة عبد جذب قوى إرادته وعزيمته إلى ما ينفعه ويحييه الحياة الطيبة فأوحى إلى ملائكته أن ثبتوا عبدي واصرفوا همته وإرادته إلى مرضاتي وطاعتي كما قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}

ص -178- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن للملك بقلب ابن آدم لمة وللشيطان لمة فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالوعد ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} وإذا أراد خذلان عبد أمسك عنه تأييده وتثبيته وخلى بينه وبين نفسه ولم يكن بذلك ضالا له لأنه قد أعطاه قدرة وإرادة وعرفه الخير والشر وحذر طريق الهلاك وعرفه بها وحضه على سلوك طريق النجاة وعرفه بها ثم تركه وما اختار لنفسه وولاه ما تولى فإذا وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه، قال القدري: فتلك الإرادة المعينة المستلزمة للفعل المعين إن كانت بإحداث العبد فهو قولنا وإن كانت بإحداث الرب سبحانه فهو قول الجبري وإن كانت بغير محدث لزم المحال، قال السني: لا تفتقر كل إرادة من العبد إلى مشيئة خاصة من الله توجب حدوثها بل يكفي في ذلك المشيئة العامة لجعله مريدا فإن الإرادة هي حركة النفس والله سبحانه شاء أن تكون متحركة وأما أن تكون كل حركة تستدعي مشيئة مفردة فلا وهذا كما أنه سبحانه شاء أن يكون الحي متنفسا ولا يفتقر كل نفس من أنفاسه إلى مشيئة خاصة وكذلك شاء أن يكون هذا الماء بجملته جاريا ولا تفتقر كل قطرة منه إلى مشيئة خاصة يجري بها الماء وكذلك مشيئته لحركات الأفلاك وهبوب الرياح ونزول الغيث وكذلك خطرات القلوب ووساوس النفس وكذلك مشيئته أن يكون العبد متكلما لا يستلزم أن يكون كل حرف بمشيئته غير مشيئة الحرف الآخر وإذا تبين ذلك فهو سبحانه شاء أن يكون عبده شائيا مريدا وتلك الإرادة والمشيئة صالحة للضدين فإذا شاء أن يهدي عبدا صرف داعيه ومشيئته وإرادته إلى معاشه ومعاده وإذا شاء أن يضله تركه ونفسه وتخلى عنه والنفس متحركة بطبعها لا بد لها من مراد محبوب هو مألوهها ومعبودها فإن لم يكن الله وحده هو معبودها ومرادها وإلا كان غيره لها معبودا

ومرادا ولا بد فإن حركتها ومحبتها من لوازم ذاتها فإن لم تحب ربها وفاطرها وتعبده أحبت غيره وعبدته وإن لم تتعلق إرادتها بما ينفعها في معادها تعلقت بما يضرها فيه ولا بد فلا تعطيل في طبيعتها وهكذا خلقت فإن قلت فأين مشيئة الله لهداها وضلالها قلت إذا شاء إضلالها تركها ودواعيها وخلى بينها وبين ما تختاره وإذا شاء هداها جذب دواعيها وإرادتها إليه وصرف عنها موانع القبول فيمدها على القدر المشترك بينها وبين سائر النفوس بإمداد وجودي ويصرف عنها الموانع التي خلى بينها وبين غيرها فيها وهذا بمشيئته وقدرته فلم يخرج شيء من الموجودات عن مشيئته وقدرته وتكوينه البتة لكن يكون ما يشاء بأسباب وحكم ولو أن الجبرية أثبتت الأسباب والحكم لانحلت عنها عقد هذه المسألة ولو أن القدرية سحبت ذيل المشيئة والقدر والخلق على جميع الكائنات مع إثبات الحكم والغايات المحمودة في أفعال الرب سبحانه لانحلت عنها عقدها وبالله التوفيق.

شفاء العليل

الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المقضي
الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر
قال الله تعالى: {قل اللهم قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فصدر الآية سبحانه بتفرده بالملك كله وأنه هو

ص -179- سبحانه هو الذي يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء لا غيره فالأول تفرده بالملك والثاني تفرده بالتصرف فيه وأنه سبحانه هو الذي يعز من يشاء بما يشاء من أنواع العز ويذل من يشاء بسلب ذلك العز عنه وأن الخير كله بيديه ليس لأحد معه منه شيء ثم ختمها بقوله: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فتناولت الآية ملكه وحده وتصرفه وعموم قدرته وتضمنت أن هذه التصرفات كلها بيده وأنها كلها خير فسلبه الملك عمن يشاء وإذلاله من يشاء خير وإن كان شرا بالنسبة إلى المسلوب الذليل فإن هذا التصرف دائر بين العدل والفضل والحكمة والمصلحة لا تخرج عن ذلك وهذا كله خير يحمد عليه الرب ويثنى عليه به كما يحمد ويثنى عليه بتنزيهه عن الشر وأنه ليس إليه كما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يثني على ربه بذلك في دعاء الاستفتاح في قوله: "لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك أنابك وإليك تباركت وتعاليت" فتبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه بل كل ما نسب إليه فهو خير والشر إنما صار شرا لانقطاع نسبته وإضافته إليه فلو أضيف إليه لم يكن شرا كما سيأتي بيانه وهو سبحانه خالق الخير والشر فالشر في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله وخلقه وفعله وقضاؤه وقدره خير كله ولهذا تنزه سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه كما تقدم فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها وذلك خير كله والشر وضع الشيء في غير محله فإذا وضع في محله لم يكن شرا فعلم أن الشر ليس إليه وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك فإن منها القدوس السلام العزيز الجبار المتكبر فالقدوس المنزه من كل شر ونقص وعيب كما قال أهل التفسير هو الطاهر من كل عيب المنزه عما لا يليق به وهذا قول أهل اللغة وأصل الكلمة من الطهارة والنزاهة ومنه بيت المقدس لأنه مكان يتطهر فيه من الذنوب ومن أمه لا يريد إلا الصلاة فيه رجع من خطيئته كيوم ولدته أمه ومنه سميت الجنة حظيرة القدس

لطهارتها من آفات الدنيا ومنه سمي جبريل روح القدس لأنه طاهر من كل عيب ومنه قول الملائكة ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك فقيل المعنى ونقدس أنفسنا لك فعدى باللام وهذا ليس شيء والصواب أن المعنى نقدسك وننزهك عما لا يليق بك هذا قول جمهور أهل التفسير، وقال ابن جرير: "ونقدس لك ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس ومما أضاف إليك أهل الكفر بك" قال وقال بعضهم: "نعظمك ونمجدك" قاله أبو صالح، وقال مجاهد: "نعظمك ونكبرك" انتهى وقال بعضهم ننزهك عن السوء فلا ننسبه إليك واللام فيه على حدها في قوله: {رَدِفَ لَكُمْ} لأن المعنى تنزيه الله لا تنزيه نفوسهم لأجله قلت ولهذا قرن هذا اللفظ بقولهم نسبح بحمدك فإن التسبيح تنزيه الله سبحانه عن كل سوء، قال ميمون بن مهران: "سبحان الله كلمة يعظم بها الرب ويحاشى بها من السوء" وقال ابن عباس: "هي تنزيه لله من كل سوء" وأصل اللفظة من المباعدة من قولهم سبحت في الأرض إذا تباعدت فيها ومنه كل في فلك يسبحون فمن أثنى على الله ونزهه عن السوء فقد سبحه ويقال سبح الله وسبح له وقدسه وقدس له وكذلك اسمه السلام فإنه الذي سلم من العيوب والنقائص ووصفه بالسلام أبلغ في ذلك من وصفه بالسالم ومن موجبات وصفه بذلك سلامة خلقه من ظلمه لهم فسلم سبحانه من إرادة الظلم والشر ومن التسمية به ومن فعله ومن نسبته إليه فهو السلام من صفات النقص وأفعال النقص وأسماء النقص المسلم لخلقه من الظلم ولهذا وصف سبحانه ليلة القدر بأنها سلام والجنة بأنها دار السلام وتحية أهلها السلام وأثنى على أوليائه بالقول السلام

ص -180- كل ذلك السالم من العيوب وكذلك الكبير من أسمائه والمتكبر، قال قتادة: "وغيره هو الذي تكبر عن السوء" وقال أيضا: "الذي تكبر عن السيئات" وقال مقاتل: "المتعظم عن كل سوء"، وقال أبو إسحاق: "الذي يكبر عن ظلم عباده" وكذلك اسمه العزيز الذي له العزة التامة ومن تمام عزته براءته عن كل سوء وشر وعيب فإن ذلك ينافي العزة التامة وكذلك اسمه العلي الذي علا عن كل عيب وسوء ونقص ومن كمال علوه أن لا يكون فوقه شيء بل يكون فوق كل شيء وكذلك اسمه الحميد وهو الذي له الحمد كله فكمال حمده يوجب أن لا ينسب إليه شر ولا سوء ولا نقص لا في أسمائه ولا في أفعاله ولا في صفاته فأسماؤه الحسنى تمنع نسبة الشر والسوء والظلم إليه مع أنه سبحانه الخالق لكل شيء فهو الخالق للعباد وأفعالهم وحركاتهم وأقوالهم والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل الشر والسوء والرب سبحانه هو الذي جعله فاعلا لذلك وهذا الجعل منه عدل وحكمة وصواب فجعله فاعلا خير والمفعول شر قبيح فهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشيء موضعه لما له في ذلك من الحكمة البالغة التي يحمد عليها فهو خير وحكمة ومصلحة وإن كان وقوعه من العبد عيبا ونقصا وشرا وهذا أمر معقول في الشاهد فإن الصانع الخبير إذا أخذ الخشبة العوجاء والحجر المكسور واللبنة الناقصة فوضع ذلك في موضع يليق به ويناسبه كان ذلك منه عدلا وصوابا يمدح به وإن كان في المحل عوج ونقص وعيب يذم به المحل ومن وضع الخبائث في موضعها ومحلها اللائق بها كان ذلك حكمة وعدلا وصوابا وإنما السفه والظلم أن يضعها في غير موضعها فمن وضع العمامة على الرأس والنعل في الرجل والكحل في العين والزبالة في الكناسة فقد وضع الشيء موضعه ولم يظلم النعل والزبالة إذ هذا محلهما ومن أسمائه سبحانه العدل والحكيم الذي لا يضع الشيء إلا في موضعه فهو المحسن الجواد الحكيم العدل في كل ما خلقه وفي كل ما وضعه في محله وهيأه له وهو سبحانه له الخلق

والأمر فكما أنه في أمره لا يأمر إلا بأرجح الأمرين ويأمر بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإذا تعارض أمران رجح أحسنهما وأصلحهما وليس في الشريعة أمر يفعل إلا ووجوده للمأمور خير من عدمه ولا نهي عن فعل إلا وعدمه خير من وجوده فإن قلت فإذا كان وجوده خيرا من عدمه فكيف لا يشاء وجوده فإذا كان عدمه خيرا من وجوده فكيف يشاء وجوده فالمشيئة العامة تنقض عليك هذه القاعدة الكلية قلت لا تنقضها لأن وجوده وإن كان خيرا من عدمه فقد يستلزم وجوده فوات محبوب له هو أحب إليه من وقوع هذا المأمور من هذا المعنى وعدم المنهي وإن كان خيرا من وجوده فقد يكون وجوده وسيلة وسببا إلى ما هو أحب إليه من عدمه وسيأتي تمام تقرير ذلك في باب اجتماع القدر والشرع وافتراقهما إن شاء الله والرب سبحانه إذا أمر بشيء فقد أحبه ورضيه وأراده وبينه وهو لا يحب شيئا إلا ووجوده خير من عدمه وما نهى عنه فقد أبغضه وكرهه وهو لا يبغض شيئا إلا وعدمه خير من وجوده هذا بالنظر إلى ذات هذا وهذا وأما باعتبار إفضائه إلى ما يحب ويكره فله حكم آخر ولهذا أمر سبحانه عباده أن يأخذوا بأحسن ما أنزل إليهم فالأحسن هو المأمور به وهو خير من المنهي عنه وإذا كانت هذه سنته في أمره وشرعه فهكذا سنته في خلقه وقضائه وقدره فما أراد أن يخلقه أو يفعله كان أن يخلقه ويفعله خيرا من أن لا يخلقه ولا يفعله وبالعكس وما كان عدمه خيرا من وجوده فوجوده شر وهو لا يفعله بل هو منزه عنه والشر ليس

ص -181- إليه، فإن قلت فلم خلقه وهو شر، قلت خلقه له وفعله خير لا شر فإن الخلق والفعل قائم به سبحانه والشر يستحيل قيامه به واتصافه به وما كان في المخلوق من شر فلعدم إضافته ونسبته إليه والفعل والخلق يضاف إليه فكان خيرا والذي شاءه كله خير والذي لم يشأ وجوده بقي على العدم الأصلي وهو الشر فإن الشر كله عدم وأن سببه جهل وهو عدم العلم أو ظلم وهو عدم العدل وما يترتب على ذلك من الآلام فهو من عدم استعداد المحل وقبوله لأسباب الخيرات واللذات، فإن قلت كثير من الناس يطلق القول بأن الخير كله من الوجود ولوازمه والشر كله من العدم ولوازمه والوجود خير والشر المحض لا يكون إلا عدما، قلت هذا اللفظ فيه إجمال فإن أريد به أن كل ما خلقه الله وأوجده ففيه الخير ووجوده خير من عدمه وما لم يخلقه ولم يشأه فهو المعدوم الباقي على عدمه ولا خير فيه إذ لو كان فيه خير لفعله فإنه بيده الخير فهذا صحيح فالشر العدمي هو عدم الخير وإن أريد أن كل ما يلزم الوجود فهو خير وكل ما يلزم العدم فهو شر فليس بصحيح فإن الوجود قد يلزمه شر مرجوح والعدم قد يلزمه خير راجح مثال الأول النار والمطر والحر والبرد والثلج ووجود الحيوانات فإن هذا موجود ويلزمه شر جزئي مغمور بالنسبة إلى ما في وجود ذلك من الخير وكذلك المأمور به قد يلزمه من الألم والمشقة ما هو شر جزئي مغمور بالنسبة إلى ما فيه من الخير.
فصل: وتحقيق الأمر أن الشر نوعان شر محض حقيقي من كل وجه وشر نسبي إضافي من وجه دون وجه فالأول لا يدخل في الوجود إذ لو دخل في الوجود لم يكن شرا محضا والثاني هو الذي يدخل في الوجود فالأمور التي يقال هي شرور إما أن تكون أمورا عدمية أو أمورا وجودية فإن كانت عدمية فإنها إما أن تكون عدما لأمور ضرورية للشيء في وجوده أو ضرورية له في دوام وجوده وبقائه أو ضرورية له في كماله وإما أن تكون غير ضرورية له في وجوده ولا بقائه ولا كماله وإن كان وجودها خيرا من

عدمها فهذه أربعة أقسام فالأول كالإحساس والحركة والنفس للحيوان والثاني كقوة الاغتذاء والنمو للحيوان المغتذي النامي والثالث كصحته وسمعه وبصره وقوته والرابع كالعلم بدقائق المعلومات التي العلم بها خير من الجهل وليست ضرورية له وأما الأمور الوجودية فوجود كل ما يضاد الحياة والبقاء والكمال كالأمراض وأسبابها والآلام وأسبابها والموانع الوجودية التي تمنع حصول الخير ووصوله إلى المحل القابل له المستعد لحصوله كالمواد الردية المانعة من وصول الغذاء إلى أعضاء البدن وانتفاعها به وكالعقائد الباطلة والإرادات الفاسدة المانعة لحصول أضدادها للقلب إذا عرف هذا فالشر بالذات هو عدم ما هو ضروري للشيء في وجوده أو بقائه أو كماله ولهذا العدم لوازم من شر أيضا فإن عدم العلم والعدل يلزمهما من الجهل والظلم ما هو شرور وجودية وعدم الصحة والاعتدال يلزمهما من الألم والضرر ما هو شر وجودي وأما عدم الأمور المستغنى عنها كعدم الغنى المفرط والعلوم التي لا يضر الجهل بها فليس بشر في الحقيقة ولا وجودها سببا للشر فإن العلم منه حيث هو علم والغنى منه حيث هو غنى لم يوضع سببا للشر وإنما يترتب الشر من عدم صفة تقتضي الخير كعدم العفة والصبر والعدل في حق الغنى فيحصل الشر له في غناه بعدم هذه الصفات وكذلك عدم الحكمة ووضع الشيء موضعه وعدم إرادة الحكمة في حق صاحب العلم يوجب ترتب الشر له على ذلك فظهر أن الشر لم يترتب إلا على عدم وإلا فالموجود من حيث وجوده لا يكون شرا ولا سببا للشر فالأمور الوجودية ليست شرورا

ص -182- بالذات بل بالعرض من حيث أنها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة فإنك لا تجد شيئا من الأفعال التي هي شر إلا وهي كمال بالنسبة إلى أمور وجهة الشر فيه بالنسبة إلى أمور أخر مثال ذلك أن الظلم يصدر عن قوة تطلب الغلبة والقهر وهي القوة الغضبية التي كمالها بالغلبة ولهذا خلقت فليس في ترتب أثرها عليها شر من حيث وجوده بل الشر عدم ترتب أثرها عليها البتة فتكون ضعيفة عاجزة مقهورة وإنما الشر الوجودي الحاصل شر إضافي بالنسبة إلى المظلوم بفوات نفسه أو ماله أو تصرفه وبالنسبة إلى الظالم لا من حيث الغلبة والاستيلاء ولكن من حيث وضع الغلبة والقهر والاستيلاء في غير موضعه فعدل به من محله إلى غير محله ولو استعمل قوة الغضب في قهر المؤذي الباغي من الحيوانات الناطقة والبهيمة لكان خيرا ولكن عدل به إلى غير محله فوضع القهر والغلبة موضع العدل والنصفة ووضع الغلظة موضع الرحمة فلم يكن الشر في وجود هذه القوة ولا في ترتب أثرها عليها من حيث هما كذلك بل في إجرائها في غير مجراها ومثال ذلك ماء جار في نهر إلى أرض يسقيها وينفعها فكماله في جريانه حتى يصل إليها فإذا عدل به عن مجراه وطريقه إلى أرض يضرها ويخرب دورها كان الشر في العدول به عما أعدله وعدم وصوله إليه فهكذا الإرادة والغضب أعين بهما العبد ليتوصل بهما إلى حصول ما ينفعه وقهر ما يؤذيه ويهلكه فإذا استعملا في ذلك فهو كمالها وهو خير وإذا صرفا عن ذلك إلى استعمال هذه القوة في غير محلها وهذه في غير محلها صار ذلك شرا إضافيا نسبيا وكذلك النار كمالها في إحراقها فإذا أحرقت ما ينبغي إحراقه فهو خير وإن صادفت ما لا ينبغي إحراقه فأفسدته فهو شر إضافي بالنسبة إلى المحل المعين وكذلك القتل مثلا هو استعمال الآلة القطاعة في تفريق اتصال البدن فقوة الإنسان على استعمال الآلة خير وكون الآلة قابلة للتأثير خير وكون المحل قابلا لذلك خير وإنما الشر نسبي إضافي وهو وضع هذا التأثير في

غير موضعه والعدول به عن المحل المؤدي إلى غيره وهذا بالنسبة إلى الفاعل وأما بالنسبة إلى المفعول فهو شر إضافي أيضا وهو ما حصل له من التألم وفاته من الحياة وقد يكون ذلك خيرا له من جهة أخرى وخير لغيرة وكذلك الوطء فإن قوة الفاعل وقبول المحل كمال ولكن الشر في العدول به عن المحل الذي يليق به إلى محل لا يحسن ولا يليق وهكذا حركة اللسان وحركات الجوارح كلها جارية على هذا المجرى فظهر أن دخول الشر في الأمور الوجودية إنما هو بالنسبة والإضافة لا أنها من حيث وجودها وذواتها شر وكذلك السجود ليس هو شرا من حيث ذاته ووجوده فإذا أضيف إلى غير الله كان شرا بهذه النسبة والإضافة وكذلك كل ما وجوده كفر وشرك إنما كان شرا بإضافته إلى ما جعله كذلك كتعظيم الأصنام فالتعظيم من حيث هو تعظيم لا يمدح ولا يذم إلا باعتبار متعلقه فإذا كان تعظيما لله وكتابه ودينه ورسوله كان خيرا محضا وإن كان تعظيما للصنم وللشيطان فإضافته إلى هذا المحل جعلته شرا كما أن إضافة السجود إلى غير الله جعلته كذلك.
فصل: ومما ينبغي أن يعلم أن الأشياء المكونة من موادها شيئا فشيئا كالنبات والحيوان أما إن يعرض لها النقص الذي هو شر في ابتدائها أو بعد تكونها فالأول هو بأن يعرض لمادتها من الأسباب ما يجعلها ردية المزاج ناقصة الاستعداد فيقع الشر فيها والنقص في خلقها بذلك السبب وليس ذلك بأن الفاعل حرمه وأذهب عنه أمرا وجوديا به كماله بل لأن المنفعل لم يقبل الكمال والتمام وعدم قبوله

ص -183- أمر عدمي ليس بالفاعل وأما الذي بالفاعل فهو الخير الوجودي الذي يتقبل به كماله وتمامه ونقصه والشر الذي حصل فيه هو من عدم إمداده بسبب الكمال فبقي على العدم الأصلي وبهذا يفهم سر قوله تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} فإن ما خلقه فهو أمر وجودي به كمال المخلوق وتمامه وأما عيبه ونقصه فمن عدم قبوله وعدم القبول ليس أمرا مخلوقا يتعلق بفعل الفاعل فالخلق الوجودي ليس فيه تفاوت والتفاوت إنما حصل بسبب هذا الخلق فإن الخالق سبحانه لم يخلق له استعدادا فحصل التفاوت فيه من عدم الخلق لا من نفس الخلق فتأمله والذي إلى الرب سبحانه هو الخلق وأما العدم فليس هو بفاعل له فإذا لم يكمل في مادة الجنين في الرحم ما يقتضي كماله وسلامة أعضائه واعتدالها حصل فيه التفاوت وكذلك النبات.
فصل: وأما الثاني وهو أن الشر الحاصل بعد تكونه وإيجاده فهو نوعان أيضا أحدهما أن يقطع عنه الإمداد الذي به كماله بعد وجوده كما يقطع عن النبات إمداده بالسقي وعن الحيوان إمداده بالغذاء فهو شر مضاف إلى العدم أيضا وهو عدم ما يكمل به الثاني حصول مضاد مناف وهو نوعان أحدهما قيام مانع في المحل يمنع تأثير الأسباب الصالحة فيه كما تقوم بالبدن أخلاط ردية تمنع تأثير الغذاء فيه وانتفاعه به وكما تقوم بالقلب إرادات واعتقادات فاسدة تمنع انتفاعه بالهدى والعلم فهذا الشر وإن كان وجوديا وأسبابه وجودية فهو أيضا من عدم القوة والإرادة التي يدفع بها ذلك المانع فلو وجدت قوة وإرادة تدفعه لم يتأثر المحل به مثاله أن غلبة الأخلاط واستيلائها من عدم القوة المنضجة لها أو القوة الدافعة لما يحتاج إلى خروج وكذلك استيلاء الإرادات الفاسدة لضعف قوة العفة والصبر واستيلاء الاعتقادات الباطلة لعدم العلم المطابق لمعلومه فكل شر ونقص فإنما حصل لعدم سبب ضده وعدم سبب ضده ليس فاعلا له بل يكفي فيه بقاؤه على العدم الأصلي الثاني مانع من خارج كالبرد

الشديد والحرق والغرق ونحو ذلك مما يصيب الحيوان والنبات فيحدث فيه الفساد فهذا لا ريب انه شر وجودي مستند إلى سبب وجودي ولكنه شر نسبي إضافي وهو خير من وجه آخر فإن وجود ذلك الحر والبرد والماء يترتب عليه مصالح وخيرات كلية هذا الشر بالنسبة إليها جزئي فتعطيل تلك الأسباب لتفويت هذا الشر الجزئي يتضمن شرا أكثر منه وهو فوات تلك الخيرات الحاصلة بها فإن ما يحصل بالشمس والريح والمطر والثلج والحر والبرد من مصالح الخلق أضعاف أضعاف ما يحصل بذلك من مفاسد جزئية هي في جنب تلك المصالح كقطرة في بحر هذا لو كان شرها حقيقيا فكيف وهي خير من وجه وشر من وجه وإن لم يعلم جهة الخير فيها كثير من الناس فما قدرها الرب سبحانه سدى ولا خلقها باطلا وعند هذا فيقال الوجود إما أن يكون خيرا من كل وجه أو شرا من كل وجه أو خيرا من وجه شرا من وجه وهذا على ثلاثة أقسام قسم خيره راجح على شره وعكسه وقسم مستو خيره وشره وأما أن لا يكون فيه خير ولا شر فهذه ستة أقسام ولا مزيد عليها فبعضها واقع وبعضها غير واقع فأما القسم الأول وهو الخير المحض من كل وجه الذي لا شر فيه بوجه ما فهو أشرف الموجودات على الإطلاق وأكملها وأجلها وكل كمال وخير فيها فهو مستفاد من خيره وكماله في نفسه وهي تستمد منه وهو لا يستمد منها وهي فقيرة إليه وهو غني عنها كل منها يسأله كماله فالملائكة تسأله ما لا حياة لها إلا به وإعانته على ذكره وشكره وحسن

ص -184- عبادته وتنفيذ أوامره والقيام بما جعل إليهم من مصالح العالم العلوي والسفلي وتسأله أن يغفر لبني آدم والرسل تسأله أن يعينهم على أداء رسالاته وتبليغها وأن ينصرهم على أعدائهم وغير ذلك من مصالحهم في معاشهم ومعادهم وبنو آدم كلهم يسألونه مصالحهم على تنوعها واختلافها والحيوان كله يسأله رزقه وغذاءه وقوته وما يقيمه ويسأله الدفع عنه والشجر والنبات يسأله غذاءه وما يكمل به والكون كله يسأله إمداده بقاله وحاله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فأكف جميع العالم ممتدة إليه بالطلب والسؤال ويده مبسوطة لهم بالعطاء والنوال يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سجاء الليل والنهار وعطاؤه وخيره مبذول للأبرار والفجار له كل كمال ومنه كل خير له الحمد كله وله الثناء كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله تبارك اسمه وتباركت أوصافه وتباركت أفعاله وتباركت ذاته فالبركة كلها له ومنه لا يتعاظمه خير سئله ولا تنقص خزائنه على كثرة عطائه وبذله فلو صور كل كمال في العالم صورة واحدة ثم كان العالم كله على تلك الصورة لكان نسبة ذلك إلى كماله وجلاله وجماله دون نسبة سراج ضعيف إلى عين الشمس.
فصل: وأما الأقسام الخمسة الباقية فلا يدخل منها في الوجود إلا ما كانت المصلحة والحكمة والخير في إيجاده أكثر من المفسدة والأقسام الأربعة لا تدخل في الوجود أما الشر المحض الذي لا خير فيه فذاك ليس له حقيقة بل هو العدم المحض، فإن قيل فإبليس شر محض والكفر والشرك كذلك وقد دخلوا في الوجود فأي خير في إبليس وفي وجود الكفر، قيل في خلق إبليس من الحكم والمصالح والخيرات التي ترتبت على وجوده ما لا يعلمه إلا الله كما سننبه على بعضه فالله سبحانه لم يخلقه عبثا ولا قصد بخلقه إضرار عباده وهلاكهم فكم لله في خلقه من حكمة باهرة وحجة قاهرة وآية ظاهرة ونعمة سابغة وهو وإن كان للأديان والإيمان كالسموم للأبدان ففي

إيجاد السموم من المصالح والحكم ما هو خير من تفويتها وأما الذي لا خير فيه ولا شر فلا يدخل أيضا في الوجود فإنه عبث فتعالى الله عنه وإذا امتنع وجود هذا القسم في الوجود فدخول ما الشر في إيجاده أغلب من الخير أولى بالامتناع ومن تأمل هذا الوجود علم أن الخير فيه غالب وأن الأمراض وإن كثرت فالصحة أكثر منها واللذات أكثر من الآلام والعافية أعظم من البلاء والغرق والحرق والهدم ونحوها وإن كثرت فالسلامة أكثر ولو لم يوجد هذا القسم الذي خيره غالب لأجل ما يعرض فيه من الشر لفات الخير الغالب وفوات الخير الغالب شر غالب ومثال ذلك النار فإن في وجودها منافع كثيرة وفيها مفاسد لكن إذا قابلنا بين مصالحها ومفاسدها لم تكن لمفاسدها نسبة إلى مصالحها وكذلك المطر والرياح والحر والبرد وبالجملة فعناصر هذا العالم السفلي خيرها ممتزج بشرها ولكن خيرها غالب وأما العالم العلوي فبريء من ذلك، فإن قيل فهلا خلق الخلاق الحكيم هذه خالية من الشر بحيث تكون خيرات محضة فإن قلتم اقتضت الحكمة خلق هذا العالم ممتزجا فيه اللذة بالألم والخير بالشر فقد كان يمكن خلقه على حالة لا يكون فيه شر كالعالم العلوي سلمنا أن وجود ما الخير فيه أغلب من الشر أولى من عدمه فأي خير ومصلحة في وجود رأس الشر كله ومنبعه وقدوة أهله فيه إبليس وأي خير في إبقائه إلى آخر الدهر وأي خير يغلب في نشأة يكون فيها تسعة وتسعون إلى النار وواحد في الجنة وأي خير غالب حصل بإخراج الأبوين من الجنة حتى جرى على الأولاد ما جرى ولو داما في الجنة لارتفع

ص -185- الشر بالكلية وإذا كان قد خلقهم لعبادته فكيف اقتضت حكمته أن صرف إليهم عنا ووفق لها الأقل من الناس وأي خير يغلب في خلق الكفر والفسوق والعصيان والظلم والبغي وأي خير في إيلام غير المكلفين كالأطفال والمجانين فإن قلتم فائدته التعويض أنقض عليكم بإيلام البهائم ثم وأي خير في خلق الدجال وتمكينه من الظهور والافتتان به وإذ قد اقتضت الحكمة ذلك فأي خير حصل في تمكينه من إظهار تلك الخوارق والعجائب وأي خير في السحر وما يترتب عليه من المفاسد والمضار وأي خير في إلباس الخلق شيعا وإذاقة بعضهم بأس بعض وأي خير في خلق السموم وذات السموم والحيوانات العادية المؤذية بطبعها وأي خير في خراب هذه البنية بعد خلقها في أحسن تقويم وردها إلى أرذل العمر بعد استقامتها وصلاحها وكذلك خراب هذا الدار ومحو أثرها فإن كان وجود ذلك خيرا غالبا فإبطاله إبطال للخير الغالب دع هذا كله فأي خير راجح أو مرجوح في النار وهي دار الشر الأعظم والبلاء الأكبر ولا خلاص لكم عن هذه الأسئلة إلا بسد باب الحكم والتعليل وإسناد الكون إلى محض المشيئة أو القول بالإيجاب الذاتي وأن الرب لا يفعل باختياره ومشيئته وهذه الأسئلة إنما ترد على من يقول بالفاعل المختار فلهذا لجأ القائلون إلى إنكار التعليل جملة فاختاروا أحد المذهبين وتحيزوا إلى إحدى الفئتين وإلا فكيف تجمعون بين القول بالحكمة والتعليل وبين هذه الأمور فالجواب بعد أن نقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر بل في تحقيق هذه الكلمات الجواب الشافي: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ}: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ

النَّارِ}: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}: {وأحسن كل الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} بل هو في غاية التناسب واقع على أكمل الوجوه وأقربها إلى حصول الغايات المحمودة والحكم المطلوبة فلم يكن تحصل تلك الحكم والغايات التي انفرد الله سبحانه بعلمها على التفصيل وأطلع من شاء من عباده على أيسر اليسير منها إلا بهذه الأسباب والبدايات وقد سأله الملائكة المقربون عن جنس هذه الأسئلة وأصلها فقال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} وأقروا له بكمال العلم والحكمة وأنه في جميع أفعاله على صراط مستقيم وقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ولما ظهر لهم ببعض حكمته فيما سألوا عنه وأنهم لم يكونوا يعلمون قال: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}.
فصل: ونحن نذكر أصولا مهمة نبين بها جواب هذه الأسئلة وقد اعترف كثير من المتكلمين ممن له نظر في الفلسفة والكلام أنه لا يمكن الجواب عنها إلا بالتزام القول

بالموجب بالذات أو القول بإبطال الحكمة والتعليل وأنه سبحانه لا يفعل شيئا لشيء ولا يأمر بشيء لحكمة ولا جعل شيئا من الأشياء سببا لغيره وما ثم إلا مشيئة محضة وقدرة ترجح مثلا على مثل بلا سبب ولا على وأنه لا يقال

ص -186- في فعله لم ولا كيف ولا لأي سبب وحكمة ولا هو معلل بالمصالح قال الرازي في مباحثه: "فإن قيل فلم لم يخلق الخالق هذه الأشياء عرية عن كل الشرور فنقول لأنه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأول وذلك مما خرج عنه" يعني كان ذلك هو القسم الذي هو خير محض لا شر فيه قال: "وبقي في الفعل قسم آخر وهو الذي يكون خيره غالبا على شره" وقد بينا أن الأولى بهذا القسم أن يكون موجودا قال وهذا الجواب لا يعجبني لأن لقائل أن يقول أن جميع هذه الخيرات والشرور إنما توجد باختيار الله سبحانه وإرادته فالاحتراق الحاصل عقيب النار ليس موجبا عن النار بل الله اختار خلقه عقيب مماسة النار وإذا كان حصول الاحتراق عقيب مماسة النار باختيار الله وإرادته فكان يمكنه أن يختار خلق الإحراق عندما يكون خيرا ولا يختار خلقه عندما يكون شرا ولا خلاص عن هذه المطالبة إلا ببيان كونه فاعلا بالذات لا بالقصد والاختيار ويرجع حاصل الكلام في هذه المسألة إلى مسألة القدم والحدوث فانظر كيف اعترف بأنه لا خلاص عن هذه الأسئلة إلا بتكذيب جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم وإبطال جميع الكتب المنزلة من عند الله ومخالفة صريح العقل في أن خالق العالم سبحانه مريد مختار ما شاء كان بمشيئته وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته وأنه ليس في الكون شيء حاصل بدون مشيئته البتة فأقر على نفسه أنه لا خلاص له في تلك الأسئلة إلا بالتزام طريقة أعداء الرسل والملل القائلين بأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام ولا أوجد العالم بعد عدمه ولا يفنيه بعد إيجاده وصدور ما صدر عنه بغير اختياره ومشيئته فلم يكن مختارا مريدا للعالم وليس عنده إلا هذا القول أو قول

الجبرية منكري الأسباب والحكم والتعليل أو قول المعتزلة الذين أثبتوا حكمة لا ترجع إلى الفاعل وأوجبوا رعاية مصالح شبهوا فيها الخالق بالمخلوق وجعلوا له بعقولهم شريعة أوجبوا عليه فيها وحرموا وحجروا عليه فالأقوال الثلاثة تتردد في صدره وتتقاذف به أمواجها تقاذف السفينة إذا لعبت بها الرياح الشديدة والعاقل لا يرضى لنفسه بواحد من هذه الأقوال لمنافاتها العقل والنقل والفطرة والقول الحق في هذه الأقوال كيوم الجمعة في الأيام أضل الله عنه أهل الكتابين قبل هذه الأمة وهداهم إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة: "أضل الله عنها من كان قبلنا فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى" ونحن هكذا نقول بحمد الله ومنه القول الوسط الصواب لنا وإنكار الفاعل بالمشيئة والاختيار لأعداء الرسول وإنكار الحكمة والمصلحة والتعليل والأسباب للجهمية والجبرية وإنكار عموم القدرة والمشيئة العائدة إلى الرب سبحانه من محبته وكراهته وموجب حمده ومقتضى أسمائه وصفاته ومعانيها وآثارها للقدرية المجوسية ونحن نبرأ إلى الله من هذه الأقوال وقائلها إلا من حق تتضمنه مقالة كل فرقة منهم فنحن به قائلون وإليه منقادون وله ذاهبون.
فصل: الأصل الأول: إثبات عموم علمه سبحانه وإحاطته بكل معلوم وأنه لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض بل قد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا والخلاف في هذا الأصل مع فرقتين إحداهما أعداء الرسل كلهم وهم الذين ينفون علمه بالجزئيات وحاصل قولهم أنه لا يعلم موجودا البتة فإن كل موجود جزئي معين فإذا لم يعلم الجزئيات لم يكن عالما بشيء من العالم العلوي والسفلي والفرقة الثانية غلاة القدرية الذين اتفق السلف على كفرهم وحكموا بقتلهم الذين يقولون لا يعلم أعمال العباد حتى يعلموها ولم يعلمها قبل ذلك ولا كتبها ولا قدرها فضلا

ص -187- عن أن يكون شاءها وكونها وقول هؤلاء معلوم البطلان بالضرورة من أديان جميع المرسلين وكتب الله المنزلة وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم مملوءة بتكذيبهم وإبطال قولهم وإثبات عموم علمه الذي لا يشاركه فيه خلقه ولا يحيطون بشيء منه إلا بما شاء أن يطلعهم عليه ويعلمهم به وما أخفاه عنهم ولم يطلعهم عليه لا نسبة لما عرفوه إليه إلا دون نسبة قطرة واحدة إلى البحار كلها كما قال الخضر لموسى وهما أعلم أهل الأرض حينئذ ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر ويكفي أن ما يتكلم به من علمه لو قدر أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مداد وأشجار الأرض كلها من أول الدهر إلى آخره أقلام يكتب به ما يتكلم به مما يعلمه لنفدت البحار وفنيت الأقلام ولم تنفذ كلماته فنسبة علوم الخلائق إلى علمه سبحانه كنسبة قدرتهم إلى قدرته وغناهم إلى غناه وحكمتهم إلى حكمته وإذا كان أعلم الخلق به على الإطلاق يقول: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" ويقول في دعاء الاستخارة: "فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب" ويقول سبحانه للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ويقول سبحانه لأعلم الأمم وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ويقول لأهل الكتاب: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً} وتقول رسله يوم القيامة حين يسألهم: {مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} وهذا هو الأدب المطابق للحق في نفس الأمر فإن علومهم وعلوم الخلائق تضمحل وتتلاشى في علمه سبحانه كما يضمحل ضوء السراج الضعيف في عين الشمس فمن أظلم الظلم وأبين الجهل وأقبح القبيح

وأعظم القحة والجراءة أن يعترض من لا نسبة لعلمه إلى علوم الناس التي لا نسبة لها إلى علوم الرسل التي لا نسبة لها إلى علم رب العالمين عليه ويقدح في حكمته ويظن أن الصواب والأولى أن يكون غير ما جرى به قلمه وسبق به علمه وأن يكون الأمر بخلاف ذلك فسبحان الله رب العالمين تنزيها لربوبيته وإلهيته وعظمته وجلاله عما لا يليق به من كل ما نسبه إليه الجاهلون الظالمون فسبحان الله كلمة يحاشى الله بها عن كل ما يخالف كماله من سوء ونقص وعيب فهو المنزه التنزيه التام من كل وجه وبكل اعتبار عن كل نقص متوهم وإثبات عموم حمده وكماله وتمامه ينفي ذلك واتصافه بصفات الإلهية التي لا تكون لغيره وكونه أكبر من كل شيء في ذاته وأوصافه وأفعاله ينفي ذلك لمن رسخت معرفته في معنى سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وسافر قلبه في منازلها وتلقى معانيها من مشكاة النبوة لا من مشكاة الفلسفة والكلام الباطل وآراء المتكلمين فهذا أصل يجب التمسك به في هذا المقام وأن يعلم أن عقول العالمين ومعارفهم وعلومهم وحكمهم تقصر عن الإحاطة بتفاصيل حكمة الرب سبحانه في أصغر مخلوقاته، الأصل الثاني: أنه سبحانه حي حقيقة وحياته أكمل الحياة وأتمها وهي حياة تستلزم جميع صفات الكمال ونفي أضدادها من جميع الوجوه ومن لوازم الحياة الفعل الاختياري فإن كل حي فعال وصدور الفعل عن الحي بحسب كمال حياته ونقصها وكل من كانت حياته أكمل من غيره كان فعله أقوى وأكمل وكذلك قدرته ولذلك كان الرب سبحانه على كل شيء قدير وهو فعال لما يريد وقد ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال عن نعيم بن حماد أنه قال: "الحي هو الفعال" وكل حي فعال فلا فرق بين الحي والميت إلا بالفعل والشعور وإذا كانت الحياة مستلزمة للفعل وهو الأصل الثالث فالفعل

ص -188- الذي لا يعقل الناس سواه هو الفعل الاختياري الإرادي الحاصل بقدرة الفاعل وإرادته ومشيئته وما يصدر عن الذات من غير سفير قدرة منها ولا إرادة لا يسميه أحد من العقلاء فعلا وإن كان أثرا من آثارها ومتولدا عنها كتأثير النار في الإحراق والماء في الإغراق والشمس في الحرارة فهذه آثار صادرة عن هذه الأجسام وليست أفعالا لها وإن كانت بقوى وطبائع جعلها الله فيها فالفعل والعمل من الحي العالم لا يقع إلا بمشيئته وقدرته وكون الرب سبحانه حيا فاعلا مختارا مريدا مما اتفقت عليه الرسل والكتب ودل عليه العقل والفطرة وشهدت به الموجودات ناطقها وصامتها جمادها وحيوانها علويها وسفليها فمن أنكر فعل الرب الواقع بمشيئته واختياره وفعله فقد جحد ربه وفاطره وأنكر أن يكون للعامل رب، الأصل الرابع: أنه سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعا وقدرا وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني والشرعي وأمره الكوني القدري ومحل ملكه وتصرفه فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات وقدح في العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء فقد جعل سبحانه مصالح العباد في معاشهم ومعادهم والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه بل الموجودات كلها أسباب ومسببات والشرع كله أسباب ومسببات والمقادير أسباب ومسببات والقدر جار عليها متصرف فيها فالأسباب محل الشرع والقدر والقرآن مملوء من إثبات الأسباب كقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}: {جَزَاءً وِفَاقاً}: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ

سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} إلى قوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} وقوله: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} وقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ}: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً}: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} وقوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} وقوله: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} وقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ

بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} الآية وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} وكل موضع رتب فيه الحكم الشرعي أو الجزائي على الوصف أفاد كونه سببا له كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وقوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} وهذا أكثر من أن يستوعب وكل موضع تضمن الشرط والجزاء أفاد سببية

ص -189- الشرط والجزاء وهو أكثر من أن يستوعب كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} وقوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} وكل موضع رتب فيه الحكم على ما قبله بحرف أفاد التسبب وقد تقدم وكل موضع تقدم ذكرت فيه الباء تعليلا لما قبلها بما بعدها أفاد التسبب وكل موضع صرح فيه بأن كذا جزاء لكذا أفاد التسبيب فإن العلة الغائية عله للعلة الفاعلية ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة ويكفي شهادة الحس والعقل والفطر ولهذا قال من قال من أهل العلم تكلم قوم في إنكار الأسباب فأضحكوا ذوي العقول على عقولهم وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد فشابهوا المعطلة الذين أنكروا صفات الرب ونعوت كماله وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لملائكته وعباده وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد فما أفادهم إلا تكذيب الله ورسله وتنزيهه عن كل كمال ووصفه بصفات المعدوم والمستحيل ونظير من نزه الله في أفعاله وأن يقوم به فعل البتة وظن أنه ينصر بذلك حدوث العالم وكونه مخلوقا بعد أن لم يكن وقد أنكر أصل الفعل والخلق جملة ثم من أعظم الجناية على الشرائع والنبوات والتوحيد إيهام الناس أن التوحيد لا يتم إلا بإنكار الأسباب فإذا رأى العقلاء أنه لا يمكن إثبات توحيد الرب سبحانه إلا بإبطال الأسباب ساءت ظنونهم بالتوحيد وبمن جاء به وأنت لا تجد كتابا من الكتب أعظم إثباتا للأسباب من القرآن ويا لله العجب إذا كان الله خالق السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سببا لهذا والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة لحكمه إن شاء أن يبطل سببية الشيء أبطلها كما أبطل إحراق النار على خليله إبراهيم وإغراق الماء على كليمه وقومه وإن شاء أقام لتلك الأسباب موانع تمنع تأثيرها مع بقاء

قواها وإن شاء خلى بينها وبين اقتضائه لآثارها فهو سبحانه يفعل هذا وهذا وهذا فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد وأي شرك يترتب على ذلك بوجه من الوجوه ولكن ضعفاء العقول إذا سمعوا أن النار لا تحرق والماء لا يغرق والخبر لا يشبع والسيف لا يقطع ولا تأثير لشيء من ذلك البتة ولا هو سبب لهذا الأثر وليس فيه قوة وإنما الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا لكذا قالت هذا هو التوحيد وإفراد الرب بالخلق والتأثير ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة ظن بالتوحيد وتسليط لأعداء الرسل على ما جاؤوا به كما تراه عيانا في كتبهم ينفرون به الناس عن الإيمان ولا ريب أن الصديق الجاهل قد يضر مالا يضره العدو العاقل قال تعالى عن ذي القرنين: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "علما" قال قتادة وابن زيد وابن جريج والضحاك: "علما تسبب به إلى ما يريد" وكذلك قال إسحاق: "علما يوصله إلى حيث يريد" وقال المبرد: "وكل ما وصل شيئا بشيء فهو سبب" وقال كثير من المفسرين: "آتيناه من كل ما بالخلق إليه حاجة علما ومعونة له وقد سمى الله سبحانه الطريق سببا في قوله فأتبع سببا" قال مجاهد: "طريقا" وقيل السبب الثاني هو الأول أي أتبع سببا من تلك الأسباب التي أوتيها مما يوصله إلى مقصوده وسمى سبحانه أبواب السماء أسبابا إذ منها يدخل إلى السماء قال تعالى عن فرعون: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي أبوابها التي أدخل منها إليها وقال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم

ص -190- وسمى الحبل سببا لإيصاله إلى المقصود قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} قال بعض أهل اللغة السبب من الحبال القوي الطويل قال ولا يدعى الحبل سببا حتى يصعد به وينزل ثم قيل لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها سبب يقال ما بيني وبين فلان سبب أي أصرة رحم أو عاطفة مودة وقد سمى تعالى وصل الناس بينهم أسبابا وهي التي يتسببون بها إلى قضاء حوائجهم بعضهم من بعض قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} يعني الواصلات التي كانت بينهم في الدنيا وقال ابن عباس وأصحابه: "يعني أسباب المودة الواصلات التي كانت بينهم في الدنيا" وقال ابن زيد: "هي الأعمال التي كانوا يؤملون أن يصلوا بها إلى ثواب الله" وقيل هي الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها وبالجملة فسمى الله سبحانه ذلك أسبابا لأنها كانت يتوصل بها إلى مسبباتها وهذا كله عند نفاة الأسباب ومجاز لا حقيقة له وبالله التوفيق.
فصل: الأصل الخامس: أنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئا عبثا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمه هي الغاية المقصودة بالفعل بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها فنذكر بعض أنواعها، النوع الأول: التصريح بلفظ الحكمة وما تصرف منه كقوله: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} وقوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وقوله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً} والحكمة هي العلم النافع والعمل الصالح وسمي حكمة لأن العلم والعمل قد تعلقا بمتعلقهما وأوصلا إلى غايتيهما وكذلك لا يكون الكلام حكمة حتى يكون موصلا إلى الغايات المحمودة والمطالب النافعة فيكون مرشدا إلى العلم النافع والعمل الصالح فتحصل الغاية

المطلوبة فإذا كان المتكلم به لم يقصد مصلحة المخاطبين ولا هداهم ولا إيصالهم إلى سعادتهم ودلالتهم على أسبابها وموانعها ولا كان ذلك هو الغاية المقصودة المطلوبة ولا تكلم لأجلها ولا أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجلها ولا نصب الثواب والعقاب لأجلها لم يكن حكيما ولا كلامه حكمة فضلا عن أن تكون بالغة، النوع الثاني: إخباره أنه فعل كذا لكذا وأنه أمر بكذا لكذا كقوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقوله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} وقوله: {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} وقوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} أي ليتمكنوا بهذا الحفظ والرصد من تبليغ رسالاته فيعلم الله ذلك واقعا وقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ

مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} وقوله: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} وقوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ

ص -191- وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وقوله: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} وقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} وقوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} وهذا في القرآن فإن قيل اللام في هذا كله لام العاقبة كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} وقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} وقوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وقوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} وقوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} فإن ما بعد اللام في هذا ليس هو الغاية المطلوبة ولكن لما كان الفعل منتهيا إليه وكان عاقبة الفعل دخلت عليه لام التعليل وهي في الحقيقة لام العاقبة، فالجواب من وجهين، أحدهما: أن لام العاقبة إنما

تكون في حق من هو جاهل أو هو عاجز عن دفعها فالأول: كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} والثاني: كقول الشاعر:
لدوا للموت وابنوا للخراب فكلكم يصير إلى ذهاب
وأما من هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فيستحيل في حقه دخول هذه اللام وإنما اللام الواردة في أفعاله وأحكامه لام الحكمة والغاية المطلوبة، الجواب الثاني: إفراد كل موضع من تلك المواضع بالجواب أما قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} فهو تعليل لقضاء الله سبحانه بالتقاطه وتقديره له فإن التقاطهم له إنما كان بقضائه وقدره فهو سبحانه قدر ذلك وقضى به ليكون لهم عدوا وحزنا وذكر فعلهم دون قضائه لأنه أبلغ في كونه حزنا لهم وحسرة عليهم فإن من اختار أخذ ما يكون هلاكه على يديه إذا أصيب به كان أعظم لحزنه وغمه وحسرته من أن لا يكون فيه صنع ولا اختيار فإنه سبحانه أراد أن يظهر لفرعون وقومه ولغيرهم من خلقه كمال قدرته وعلمه وحكمته الباهرة وأن هذا الذي يذبح فرعون إلا بناء في طلبه هو الذي يتولى تربيته في حجره وبيته باختياره وإرادته ويكون في قبضته وتحت تصرفه فذكر فعلهم به في هذا أبلغ وأعجب من أن يذكر القضاء والقدر وقد أعلمنا سبحانه أن أفعال عباده كلها واقعة بقضائه وقدره وأما قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} فلا ريب أن هذا تعليل لفعله المذكور وهو امتحان بعض خلقه ببعض كما امتحن السادات والأشراف بالعبيد والضعفاء والموالي فإذا نظر الشريف والسيد إلى العبد والضعيف والمسكين قد أسلم أنف وحمى أن يسلم معه أو بعده ويقول هذا يسبقني إلى الخير والفلاح وأتخلف أنا فلو كان ذلك خيرا وسعادة ما سبقنا هؤلاء إليه فهذا القول منهم هو بعض الحكم والغاية المطلوبة بهذا الامتحان فإن هذا القول دال على إباء

واستكبار وترك الانقياد للحق بعد المعرفة التامة به وهذا وإن كان علة فهو مطلوب لغيره والعلل الغائية تارة تطلب لنفسها وتارة تطلب لغيرها فتكون وسيلة إلى مطلوب لنفسه وقول هؤلاء ما قالوه وما يترتب عليه هذا القول موجب لآثار مطلوبة للفاعل من إظهار عدله وحكمته وعزه وقهره وسلطانه وعطائه من يستحق

ص -192- عطاءه ويحسن وضعه عنده ومنعه من يستحق المنع ولا يليق به غيره ولهذا قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} الذين يعرفون قدر النعمة ويشكرون المنعم عليهم فيما من عليهم من بين من لا يعرفها ولا يشكر ربه عليها وكانت فتنة بعضهم ببعض لحصول هذا التمييز الذي ترتب عليه شكر هؤلاء وكفر هؤلاء.
فصل: وأما قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ} فهي على بابها وهي لام الحكمة والتعليل أخبر الله سبحانه أنه جعل ما ألقاه الشيطان في أمنية الرسول محنة واختبارا لعباده فافتتن به فريقان وهم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وعلم المؤمنين أن القرآن والرسول حق وأن إلقاء الشيطان باطل فآمنوا بذلك وأخبتت له قلوبهم فهذه غاية مطلوبة مقصودة بهذا القضاء والقدر والله سبحانه جعل القلوب على ثلاثة أقسام مريضة وقاسية ومخبتة وذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافا وإذعانا أو لا تكون كذلك فالأول حال القلوب القاسية الحجرية التي لا تقبل ما يبث فيها ولا ينطبع فيها الحق ولا ترتسم فيها العلوم النافعة ولا تلين لإعطاء الأعمال الصالحة وأما النوع الثاني فلا يخلوا إما أن يكون الحق ثابتا فيه لا يزول عنه لقوته مع لينه أو يكون ثابتا مع ضعف وانحلال والثاني هو القلب المريض والأول هو الصحيح المخبت وهو جمع الصلابة والصفاء واللين فيبصر الحق بصفائه ويشتد فيه بصلابته ويرحم الخلق بلينه كما في أثر مروي: "القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إلى الله

أصلبها وأرقها وأصفاها" كما قال تعالى في أصحاب هذه القلوب: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} فهذا وصف منه للمؤمنين الذين عرفوا الإيمان بصفاء قلوبهم واشتدوا على الكفار بصلابتها وتراحموا فيما بينهم بلينها وذلك أن القلب عضو من أعضاء البدن وهو أشرف أعضائه وملكها المطاع وكل عضو كاليد مثلا إما أن تكون جامدة ويابسة لا تلتوي ولا تبطش أو تبطش بضعف فذلك مثل القلب القاسي أو تكون مريضة ضعيفة عاجزة ولضعفها ومرضها فذلك مثل الذي فيه مرض أو تكون باطشة بقوة ولين فذلك مثل القلب العليم الرحيم فبالعلم خرج عن المرض الذي ينشأ من الشهوة والشبهة وبالرحمة خرج عن القسوة ولهذا وصف سبحانه من عدا أصحاب القلوب المريضة والقاسية بالعلم والإيمان والإخبات فتأمل ظهور حكمته سبحانه في أصحاب هذه القلوب وهم كل الأمة فأخبر أن الذين أوتوا العلم علموا أنه الحق من ربهم كما أخبر أنهم في المتشابه يقولون آمنا به كل من عند ربنا وكلا الوصفين موضع شبهة فكان حظهم منه الإيمان وحظ أرباب القلوب المنحرفة عن الصحة الافتتان ولهذا جعل سبحانه أحكام آياته في مقابلة ما يلقي الشيطان بإزاء الآيات المحكمات في مقابلة المتشابهات فالأحكام ههنا بمنزلة إنزال المحكمات هناك ونسخ ما يلقي الشيطان ههنا في مقابلة رد المتشابه إلى المحكم هناك والنسخ ههنا رفع ما ألقاه الشيطان لا رفع ما شرعه الرب سبحانه وللنسخ معنى آخر هو النسخ من أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يرده ولا دل اللفظ عليه وإن أوهمه كما أطلق الصحابة النسخ على قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} قالوا نسختها قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآية فهذا نسخ من الفهم لا نسخ للحكم الثابت فإن المحاسبة لا تستلزم العقاب في الآخرة ولا في الدنيا أيضا ولهذا عمهم بالمحاسبة ثم

أخبر بعدها أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ففهم

ص -193- المؤاخذة التي هي المعاقبة من الآية تحميل لها فوق وسعها فرفع هذا المعنى من فهمه بقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخرها فهذا رفع لفهم غير المراد من إلقاء الملك وذاك رفع لما ألقاه غير الملك في أسماعهم أو في التمني وللنسخ معنى ثالث عند الصحابة والتابعين وهو ترك الظاهر إما بتخصيص عام أو بتقييد مطلق وهذا كثير في كلامهم جدا وله معنى رابع وهو الذي يعرفه المتأخرون وعليه اصطلحوا وهو رفع الحكم بجملته بعد ثبوته بدليل رافع له فهذه أربعة معان للنسخ والإحكام له ثلاثة معان، أحدها: الإحكام الذي في مقابلة المتشابه كقوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} والثاني: الإحكام في مقابلة نسخ ما يلقي الشيطان كقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} وهذا الإحكام يعم جميع آياته وهو إثباتها وتقريرها وبيانها ومنه قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}، الثالث: إحكام في مقابلة الآيات المنسوخة كما يقوله السلف كثيرا هذه الآية محكمة غير منسوخة وذلك لأن الإحكام تارة يكون في التنزيل فيكون في مقابلة ما يلقيه الشيطان في أمنيته ما يلقيه المبلغ أو في سمع المبلغ فالحكم هنا هو المنزل من عند الله أحكمه الله أي فصله من اشتباهه بغير المنزل وفصل منه ما ليس منه بإبطاله وتارة يكون في إبقاء المنزل واستمراره فلا ينسخ بعد ثبوته وتارة يكون في معنى المنزل وتأويله وهو تمييز المعنى المقصود من غيره حتى لا يشتبه به والمقصود أن قوله: {ليجعل ما يلقى لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هي لام التعليل على بابها وهذا الاختبار والامتحان مظهر لمختلف القلوب الثلاثة فالقاسية والمريضة ظهر خبؤها من الشك والكفر والمخبتة

ظهر خبؤها من الإيمان والهدى وزيادة محبته وزيادة بغض الكفر والشرك والنفرة عنه وهذا من أعظم حكمة هذا الإلقاء.
فصل: وأما اللام في قوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} فلام التعليل على بابها فإنها مذكورة في بيان حكمته في جمع أوليائه وأعدائه على غير ميعاد ونصرة أوليائه مع قلتهم ورقتهم وضعف عددهم وعدتهم على أصحاب الشوكة والعدد والحد والحديد الذي لا يتوهم بشر أنهم ينصرون عليهم فكانت تلك آية من أعظم آيات الرب سبحانه صدق بها رسوله وكتابه ليهلك بعدها من اختار لنفسه الكفر والعناد عن بينة فلا يكون له على الله حجة ويحيي من حي بالإيمان بالله ورسوله عن بينة فلا يبقى عنده شك ولا ريب وهذا من أعظم الحكم ونظير هذا قوله: {إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
فصل: وأما اللام في قوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} فهي على بابها للتعليل فإنها إن كانت تعليلا لفعل العدو وهو إيحاء بعضهم إلى بعض فظاهر وعلى هذا فيكون عطفا على قوله: {غُرُوراً} فإنه مفعول لأجله أي ليغروهم بهذا الوحي ولتصغى إليه أفئدة من يلقى إليه فيرضاه ويعمل بموجبه فيكون سبحانه قد أخبر بمقصودهم من الإيحاء المذكور وهو أربعة أمور غرور من يوحون إليه وإصغاء أفئدتهم إليهم ومحبتهم لذلك وانفعالهم عنده بالاقتراف وإن كان ذلك تعليلا لجعله سبحانه لكل نبي عدوا فيكون هذا الحكم من جملة الغايات والحكم المطلوبة بهذا الجعل وهي غاية وحكمة مقصودة لغيرها لأنها مفضية إلى أمور هي محبوبة مطلوبة للرب سبحانه وفواتها يستلزم فوات ما هو أحب إليه من حصولها وعلى التقديرين فاللام لام التعليل والحكمة.

ص -194- فصل: النوع الثالث الإتيان بكي الصريحة في التعليل كقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} فعلل سبحانه تسمية الفيء بين هذه الأصناف كي لا يتداوله الأغنياء دون الفقراء والأقوياء دون الضعفاء وقوله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} فأخبر سبحانه أنه قدر ما يصيبهم من البلاء في أنفسهم قبل أن يبرأ الأنفس أو المصيبة أو الأرض أو المجموع وهو الأحسن ثم أخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه وأنه يسير عليه وحكمته البالغة التي منها أن لا يحزن عباده على ما فاتهم إذا علموا أن المصيبة فيه بقدره وكتابته ولا بد قد كتبت قبل خلقهم هان عليهم الفائت فلم يأسوا عليه ولم يفرحوا بالحاصل لعلهم أن المصيبة مقدرة في كل ما على الأرض فكيف يفرح بشيء قد قدرت المصيبة فيه قبل خلقه ولما كانت المصيبة تتضمن فوات محبوب أو خوف فواته أو حصول مكروه أو خوف حصوله نبه بالأسى على الفائت على مفارقة المحبوب بعد حصوله وعلى فوته حيث لم يحصل ونبه بعدم الفرح به إذا وجد على توطين النفس لمفارقته قبل وقوعها وعلى الصبر على مرارتها بعد الوقوع وهذه هي أنواع المصائب فإذا تيقن العبد أنها مكتوبة مقدرة وأن ما أصابه منها لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه هانت عليه وخف حملها وأنزلها منزلة الحر والبرد.
فصل: النوع الرابع ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلل به كقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً} ونصب ذلك على المفعول له أحسن

من غيره كما صرح به في قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وفي قوله: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} فإتمام النعمة هو الرحمة وقوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي لأجل الذكر كما قال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وقوله فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا أي للإعذار والإنذار وقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} فهذا كله مفعول لأجله وقوله: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً} إلى قوله: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} والمتاع واقع موقع التمتيع كما يقع السلام موقع التسليم والعطاء موضع الإعطاء وأما قوله: {رِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} فيحتمل أن يكون من ذلك أي إخافة لكم وإطماعا وهو أحسن ويحتمل أن يكون معمول فعل محذوف أي فيرونهما خوفا وطمعا فيكونان حالا وقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} إلى قوله: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي لأجل التبصرة والذكرى والفرق بينهما أن التبصرة توجب العلم والمعرفة والذكرى توجب الإنابة والانقياد وبهما تتم الهداية.
فصل: النوع الخامس الإتيان بأن والفعل المستقبل بعدها تعليلا لما قبله كقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} وقوله أن: {تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى} وقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} ونظائره وفي ذلك طريقان أحدهما للكوفيين والمعنى لئلا تقولوا ولئلا تقول نفس والثاني للبصريين أن المفعول له

محذوف أي كراهة أن تقولوا أو حذار أن تقولوا فإن قيل كيف يستقيم الطريقان في قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} فإنك إن

ص -195- قدرت لئلا تضل إحداهما لم يستقم العطف فتذكر إحداهما عليه وأن قدرت حذار أن تضل إحداهما لم يستقم العطف أيضا وإن قدرت إرادة أن تضل لم تصح أيضا، قيل هذا من الكلام الذي ظهور معناه مزيل للإشكال فإن المقصود إذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت ونسيت فلما كان الضلال سببا للإذكار جعل موضع العلة كما تقول أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه بها فإنما أعددتها للدعم لا للميل وأعددت هذا الدواء أن أمرض فأتداوى به ونحوه وهذا قول سيبويه والبصريين قال أهل الكوفة تقديره كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت فلما تقدم الجزاء اتصل بما قبله ففتحت أن قال الفراء ومثله قوله ليعجبني أن يسأل السائل فيعطي معناه ليعجبني أن يعطي السائل إن سأل لأنه إنما يعجبه الإعطاء لا السؤال من ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ألست بربكم قالوا بل شهدنا أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فذكر سبحانه من حكم أخذ الميثاق عليهم أن لا يحتجوا يوم القيامة بغفلتهم عن هذا الأمر ولا بتقليد الأسلاف ومنه قوله: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} فالضمير في به للقرآن وأن تبسل في محل نصب على أنه مفعول له أي حذار أن تسلم نفس إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء عملها.
فصل: النوع السادس ذكر ما هو من صرائح التعليل وهو من أجل كقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً

بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} وقد ظنت طائفة أن قوله من أجل ذلك تعليل لقوله فأصبح من النادمين أي من أجل قتله لأخيه وهذا ليس بشيء لأنه يشوش صحة النظم وتقل الفائدة بذكره ويذهب شأن التعليل بذلك للكتابة المذكورة وتعظيم شأن القتل حين جعل علة لهذا الكتابة فتأمله، فإن قلت كيف يكون قتل أحد بني آدم للآخر علة لحكمه على أمة أخرى بذلك الحكم وإذا كان علة فكيف كان قاتل نفس واحدة بمنزلة قاتل الناس كلهم، قلت الرب سبحانه يجعل أقضيته وأقداره عللا وأسبابا لشرعة وأمره فجعل حكمه الكوني القدري علة لحكمه الديني الأمري وذلك أن القتل عنده لما كان من أعلى أنواع الظلم والفساد فخم أمره وعظم شأنه وجعل إثمه أعظم من إثم غيره ونزل قاتل النفس الواحدة منزلة قاتل الأنفس كلها ولا يلزم من التشبيه أن يكون المشبه بمنزلة المشبه به من كل الوجوه فإذا كان قاتل الأنفس كلها يصلى النار وقاتل النفس الواحدة يصلاها صح تشبيهه به كما يأثم من شرب قطرة واحدة من الخمر ومن شرب عدة قناطير وإن اختلف مقدار الإثم وكذلك من زنى مرة واحدة وآخر زنى مرارا كثيرة كلاهما آثم وإن اختلف قدر الإثم وهذا معنى قول مجاهد: "من قتل نفسا واحدة يصلى النار بقتلها كما يصلاها من قتل الناس جميعا} وعلى هذا فالتشبيه في أصل العذاب لا في وصفه وإن شئت قلت التشبيه في أصل العقوبة الدنيوية وقدرها فإنه لا يختلف بقلة القتل وكثرته كما لو شرب قطرة فإن حده حد من شرب راوية ومن زنى بامرأة واحدة حده حد من زنى بألف وهذا تأويل الحسن وابن زيد قالا: "يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعا" ولك أن تجعل التشبيه في الأذى والغم الواصل إلى المؤمنين بقتل الواحد منهم فقد جعلهم كلهم خصماءه وأوصل إليهم من الأذى والغم ما يشبه القتل وهذا تأويل ابن الأنباري وفي الآية تأويلات أخر.

ص -196- فصل: النوع السابع التعليل بلعل وهي في كلام الله سبحانه وتعالى للتعليل مجردة عن معنى الترجي فإنها إنما يقارنها معنى الترجي إذا كانت من المخلوق وأما في حق من لا يصح عليه الترجي فهي للتعليل المحض كقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فقيل هو تعليل لقوله أعبدوا ربكم وقيل تعليل لقوله خلقكم والصواب أنه تعليل للأمرين لشرعه وخلقه ومنه قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} فلعل في هذا كله قد أخلصت للتعليل والرجاء الذي فيها متعلق بالمخاطبين.
فصل: النوع الثامن ذكر الحكم الكوني والشرعي عقيب الوصف المناسب له وتارة يذكر بأن وتارة يقرن بالفاء وتارة يذكر مجردا فالأول كقوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} وقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} وقوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} والثاني كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا}: {الزَّانِيَةُ

وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} والثالث كقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وهذا في التنزيل يزيد على عدة آلاف موضع بل القرآن مملوء منه فإن قيل هذا إنما يفيد كون تلك الأفعال أسبابا لما رتب عليها لا يقتضي إثبات التعليل في فعل الرب وأمره فأين هذا من هذا قيل لما جعل الرب سبحانه هذه الأوصاف عللا لهذه الأحكام وأسبابا لها دل ذلك على أنه حكم بها شرعا وقدرا لأجل تلك الأوصاف وأنه لم يحكم بها لغير علة ولا حكمة ولهذا كان كل من نفى التعليل والحكم نفى الأسباب ولم يجعل لحكم الرب الكوني والديني سببا ولا حكمة هي العلة الغائية وهؤلاء ينفون الأسباب والحكم ومن تأمل شرع الرب وقدره وجزاءه جزم جزما ضروريا ببطلان قول النفاة والله سبحانه قد رتب الأحكام على أسبابها وعللها وبين ذلك خبرا وحسا وفطرة وعقلا ولو ذكرنا ذلك على التفصيل لقام منه عدة أسفار.
فصل: النوع التاسع تعليله سبحانه عدم الحكم القدري والشرعي بوجود المانع منه كقوله: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} وقوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} أي آيات الاقتراح لا الآيات الدالة على صدق الرسل التي يقيمها هو سبحانه ابتداء وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً

لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} وقوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} فأخبر سبحانه عن المانع الذي منع من إنزال الملك عيانا بحيث يشاهدونه وأن حكمته وعنايته بخلقه منعت من ذلك فإنه لو أنزل الملك ثم عاينوه ولم يؤمنوا لعوجلوا

ص -197- بالعقوبة ولم ينظروا وأيضا فإنه جعل الرسول بشرا ليمكنهم التلقي عنه والرجوع إليه ولو جعله ملكا فإما أن يدعه على هيئة الملائكة أو يجعله على هيئة البشر والأول يمنعهم من التلقي عنه والثاني لا يحصل مقصودهم إذ كانوا يقولون هو بشر لا ملك وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} فأخبر سبحانه عن المانع من إنزال الملائكة وهو أنه لم يجعل الأرض مسكنا لهم ولا يستقرون فيها مطمئنين بل يكون نزولهم لينفذوا أوامر الرب سبحانه ثم يعرجون إليه ومن هذا قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} فأخبر سبحانه عن حكمته في الامتناع من إرسال رسله بآيات الاقتراح والتشهي وهي أنها لا توجب الإيمان فقد سألها الأولون فلما أوتوها كذبوا بها فأهلكوا فليس لهم مصلحة في الإرسال بها بل حكمته سبحانه تأبى ذلك كل الإباء ثم نبه على ما أصاب ثمود من ذلك فإنهم اقترحوا الناقة فلما أعطوا ما سألوا ظلموا ولم يؤمنوا فكان في إجابتهم إلى ما سألوا هلاكهم واستئصالهم ثم قال: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلاّ تَخْوِيفاً} أي لأجل التخويف فهو منصوب نصب المفعول لأجله قال قتادة: "إن الله يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبون أو يذكرون أو يرجعون" وهذا يعم آياته التي تكون مع الرسل والتي تقع بعدهم في كل زمان فإنه سبحانه لا يزال يحدث لعباده من الآيات ما يخوفهم بها ويذكرهم بها ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون حكمته تعالى ومصلحة عباده

في الامتناع من إنزال الآيات التي يقترحها الناس على الأنبياء وليس المراد أن أكثر الناس لا يعلمون أن الله قادر فإنه لم ينازع في قدرة الله أحد من المقرين بوجوده سبحانه ولكن حكمته في ذلك لا يعلمها أكثر الناس.
فصل: النوع العاشر إخباره عن الحكم والغايات التي جعلها في خلقه وأمره كقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} إلى قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} وقوله: {فلينظر الإنسان فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} إلى قوله: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ

مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} وقوله: {الله الذي سخر البحر لتجري اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إلى أضعاف أضعاف ذلك في القرآن مما يفيد من له أدنى تأمل القطع بأنه سبحانه فعل ذلك للحكم والمصالح التي ذكرها وغيرها مما لم يذكره وقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ

ص -198- بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وقوله: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} فهل يستقيم ذلك ويصح فيمن لا يفعل لحكمة ولا لمصلحة ولا لغاية هي مقصودة بالفعل ومعلوم بالضرورة أن هذا الإثبات وهذا النفي متقابلان أعظم التقابل.
فصل: النوع الحادي عشر إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لغاية ولا لحكمة كقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} وقوله: {أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ} والحق هو الحكم والغايات المحمودة التي لأجلها خلق ذلك كله وهو أنواع كثيرة منها أن يعرف الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وآياته ومنها أن يحب ويعبد ويشكر ويذكر ويطاع ومنها أن يأمر وينهى ويشرع الشرائع ومنها أن يدبر الأمر ويبرم القضاء ويتصرف في المملكة بأنواع التصرفات ومنها أن يثيب ويعاقب فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فيوجد أثر عدله وفضله موجودا مشهودا فيحمد على ذلك ويشكر ومنها أن

يعلم خلقه أنه لا إله غيره ولا رب سواه ومنها أن يصدق الصادق فيكرمه ويكذب الكاذب فيهينه ومنها ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوعها وكثرتها في الوجود الذهني والخارجي فيعلم عباده ذلك علما مطابقا لما في الواقع ومنها شهادة مخلوقاته كلها بأنه وحده ربها وفاطرها ومليكها وأنه وحده إلهها ومعبودها ومنها ظهور أثر كماله المقدس فإن الخلق والصنع لازم كماله فإنه حي قدير ومن كان ذلك كذلك لم يكن إلا فاعلا مختارا ومنها أن يظهر أثر حكمته في المخلوقات بوضع كل منها في موضعه الذي يليق به ومحبته على الوجه الذي تشهد العقول والفطر بحسنه فتشهد حكمته الباهرة ومنها أنه سبحانه يحب أن يجود وينعم ويعفو ويغفر ويسامح ولا بد من لوازم ذلك خلقا وشرعا ومنها أنه يحب أن يثنى عليه ويمدح ويمجد ويسبح ويعظم ومنها كثرة شواهد ربوبيته ووحدانيته وإلهيته إلى غير ذلك من الحكم التي تضمنها الخلق فخلق مخلوقاته بسبب الحق ولأجل الحق وخلقها ملتبس بالحق وهو في نفسه حق فمصدره حق وغايته حق وهو يتضمن للحق وقد أثنى على عباده المؤمنين حيث نزهوه عن إيجاد الخلق لا لشيء ولا لغاية فقال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} وأخبر أن هذا ظن أعدائه لا ظن أوليائه فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول أنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له ولا أمر لحكمة ولا نهى لحكمة وإنما يصدر الخلق والأمر عن مشيئة وقدرة محضة لا لحكمة ولا لغاية مقصودة وهل هذا إلا إنكار لحقيقة حمده بل الخلق والأمر إنما قام بالحكم والغايات فهما مظهران بحمده وحكمته فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره فإن الذي أثبته المنكرون من ذلك ينزه عنه الرب ويتعالى عن نسبته إليه فإنهم أثبتوا خلقا وأمرا لا رحمة فيه ولا مصلحة ولا حكمة بل

يجوز عندهم أو يقع أن يأمر بما لا مصلحة للمكلف فيه البتة وينهى عما فيه مصلحة والجميع بالنسبة إليه سواء ويجوز

ص -199- عندهم أن يأمر بكل ما نهى عنه وينهى عن جميع ما أمر به ولا فرق بين هذا وهذا إلا لمجرد الأمر والنهي ويجوز عندهم أن يعذب من لم يعصه طرفة عين بل أفنى عمره في طاعته وشكره وذكره وينعم على من لم يطعه طرفة عين بل أفنى عمره في الكفر به والشرك والظلم والفجور فلا سبيل إلى أن يعرف خلاف ذلك منه إلا بخبر الرسول وإلا فهو جائز عليه وهذا من أقبح الظن وأسوئه بالرب سبحانه وتنزيهه عنه كتنزيهه عن الظلم والجور بل هذا هو عين الظلم الذي يتعالى الله عنه والعجب العجاب أن كثيرا من أرباب هذا المذهب ينزهونه عما وصف به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال ويزعمون أن إثباتها تجسيم وتشبيه ولا ينزهونه عن هذا الظلم والجور ويزعمون أنه عدل وحق وأن التوحيد عندهم لا يتم إلا به كما لا يتم إلا بإنكار استوائه على عرشه وعلوه فوق سماواته وتكلمه وتكليمه وصفات كماله فلا يتم التوحيد عند هذه الطائفة إلا بهذا النفي وذلك الإثبات والله ولي التوفيق.
فصل: النوع الثاني عشر إنكاره سبحانه أن يسوى بين المختلفين أو يفرق بين المتماثلين وأن حكمته وعدله يأبى ذلك أما الأول فكقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فأخبر أن هذا حكم باطل جائر يستحيل نسبته إليه كما يستحيل نسبة الفقر والحاجة والظلم إليه ومنكرو الحكمة والتعليل يجوزون نسبة ذلك إليه بل يقولون بوقوعه وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}

فجعل سبحانه ذلك حكما سيئا يتعالى ويتقدس عن أن يجوز عليه فضلا عن أن ينسب إليه بل أبلغ من هذا أنه أنكر على من حسب أن يدخل الجنة بغير امتحان له وتكليف يبين به صبره وشكره وأن حكمته تأبى ذلك كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} فأنكر عليهم هذا الظن والحسبان لمخالفته بحكمته وأما الثاني وهو أن لا يفرق بين المتماثلين فكقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وقوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} وقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} وقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وقوله: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} وقوله: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} وقوله: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ

لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} فسنته سبحانه عادته المعلومة في أوليائه وأعدائه بإكرام هؤلاء وإعزازهم ونصرتهم وإهانة أولئك وإذلالهم وكبتهم وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} والقرآن مملوء من هذا يخبر تعالى أن حكم الشيء في حكمته وعدله حكم نظيره ومماثله وضد حكم مضاده ومخالفه وكل نوع من هذه

ص -200- الأنواع لو استوعبناه لجاء كتابا مفردا.
فصل: النوع الثالث عشر أمره سبحانه بتدبر كلامه والتفكر فيه وفي أوامره ونواهيه وزواجره ولولا ما تضمنه من الحكم والمصالح والغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي هي محل الفكر لما كان للتفكير فيه معنى وإنما دعاهم إلى التفكر والتدبر ليطلعهم ذلك على حكمته البالغة وما فيه من الغايات والمصالح المحمودة التي توجب لمن عرفها إقراره بأنه تنزيل من حكيم حميد فلو كان الحق ما يقوله النفاة وأن مرجع ذلك وتصوره مجرد القدرة والمشيئة التي يجوز عليها تأييد الكاذب بالمعجزة ونصره وإعلائه وإهانة الحق وإذلاله وكسره لما كان في التدبر والتفكر مما يدلهم على صدق رسله ويقيم عليهم حجته وكان غاية ما دعوا إليه القدر المحض وذلك مشترك بين الصادق والكاذب والبر والفاجر فهؤلاء بإنكارهم الحكمة والتعليل سدوا على نفوسهم باب الإيمان والهدى وفتحوا عليهم باب المكابرة وجحد الضروريات فإن ما في خلق الله وأمره من الحكم والمصالح المقصودة بالخلق والأمر والغايات الحميدة أمر تشهد به الفطرة والعقول ولا ينكره سليم الفطرة وهم لا ينكرون ذلك وإنما يقولون وقع بطريق الاتفاق لا بالقصد كما تسقط خشبة عظيمة فيتفق عبور حيوان مؤذ تحتها فتهلكه ولا ريب أن هذا ينفي حمد الرب سبحانه على حصول هذه المنافع والحكم لأنها لم تحصل بقصده وإرادته بل بطريق الاتفاق الذي لا يحمد عليه صاحبه ولا يثنى عليه بل هو عندهم بمثابة ما لو رمى رجل درهما لا لغرض ولا لفائدة بل لمجرد قدرته ومشيئته على طرحه فاتفق أن وقع في يد محتاج انتفع به فهذا من شأنه الحكم والمصالح عند المنكرين.
فصل: النوع الرابع عشر إخباره عن صدور الخلق والأمر عن حكمته وعلمه فيذكر هذين الاسمين عند ذكر مصدر خلقه وشرعه تنبيها على أنهما إنما صدرا عن حكمة مقصودة مقارنة للعلم المحيط التام لقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ

عَلِيمٍ} وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فذكره العزة المتضمنة لكمال القدرة والتصرف والحكمة المتضمنة لكمال الحمد والعلم وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وسمع بعض الأعراب قارئا يقرأها والله غفور رحيم فقال ليس هذا كلام الله فقال أتكذب بالقرآن فقال لا ولكن لا يحسن هذا فرجع القارئ إلى خطئه فقال عزيز حكيم فقال صدقت وإذا تأملت ختم الآيات بالأسماء والصفات وجدت كلامه مختتما بذكر الصفة التي يقتضيها ذلك المقام حتى كأنها ذكرت دليلا عليه وموجبة له وهذا كقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي فإن مغفرتك لهم مصدر عن عزة هي كمال القدرة لا عن عجز وجهل وقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} في عدة مواضع من القرآن يذكر ذلك عقيب ذكره الإجرام العلوية وما تضمنه من فلق الإصباح وجعل الليل مسكنا وإجراء الشمس والقمر بحساب لا يعدوانه وتزيين السماء الدنيا بالنجوم وحراستها وأخبر أن هذا التقدير المحكم المتقن صادر عن عزته وعلمه ليس أمرا اتفاقيا لا يمدح به فاعله ولا يثنى عليه به كسائر الأمور الاتفاقية ومن هذا ختمه سبحانه قصص الأنبياء وأممهم في سورة الشعراء عقيب كل قصة: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فإن ما حكم به لرسله وأتباعهم ولأعدائهم صادر عن عزة ورحمة فوضع الرحمة في محلها وانتقم من أعدائه بعزته ونجى رسله وأتباعهم برحمته والحكمة

ص -201- الحاصلة من ذلك أمر مطلوب مقصود وهي غاية الفعل لا أنها أمر اتفاقي.
فصل: النوع الخامس عشر إخباره بأن حكمه أحسن الأحكام وتقديره أحسن التقادير ولولا مطابقته للحكمة والمصلحة المقصودة المرادة لما كان كذلك إذ لو كان حسنه لكونه مقدورا معلوما كما يقوله النفاة لكان هو وضده سواء فإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فكان كل معلوم مقدور أحسن الأحكام وأحسن التقادير وهذا ممتنع قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} فجعل هذا أن يختار لهم دينا سواه ويرتضي دينا غيره كما يمتنع عليه العيب والظلم وقال تعالى: {مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} وقال: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وقال: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} وقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} فلا أحسن من تقديره وخلقه لوقوعه على الوجه الذي اقتضته حكمته ورحمته وعلمه وقال تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} ولولا مجيئه على أكمل الوجوه وأحسنها ومطابقتها للغايات المحمودة والحكم المطلوبة لكان كله متفاوتا أو كان عدم تفاوته أمرا اتفاقيا لا يحمد فاعله لأنه لم يرده ولم يقصده وإنما اتفق أن صار كذلك.
فصل: النوع السادس عشر إخباره سبحانه أنه على صراط مستقيم في موضعين من كتابه أحدهما قوله حاكيا عن نبيه هود: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} والثاني قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ

بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال أبو إسحاق: "أخبر أنه وإن كانت قدرته تنالهم بما شاء فهو لا يشاء إلا العدل" قال ابن الأنباري: "لما قال إلا هو آخذ بناصيتها كان في معنى لا تخرج عن قبضته" قاهر بعظيم سلطانه كل دابة فأتبع ذلك قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي أنه على الحق قال وهذا نحو كلام العرب إذا وصفوا رجلا حين السيرة والعدل والإنصاف قالوا فلان طريقه حسنة وليس ثم طريق وذكر في معنى الآية أقوال أخر هي من لوازم هذا المعنى وآثاره كقول بعضهم إن ربي يدل على صراط مستقيم فدلالته على الصراط من موجبات كونه في نفسه على صراط مستقيم فإن تلك الدلالة والتعريف من تمام رحمته وإحسانه وعدله وحكمته وقال بعضهم معناه لا يخفى عليه شيء ولا يعدل عنه هارب وقال بعضهم المعنى لا مسلك لأحد ولا طريق له إلا عليه كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} وهذا المعنى حق ولكن كونه هو المراد بالآية ليس بالبين فإن الناس كلهم لا يسلكون الصراط المستقيم حتى يقال أنهم يصلون سلوكه إليه ولما أراد سبحانه هذا المعنى قال: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} وأما وصفه سبحانه بأنه على صراط مستقيم فهو كونه يقول الحق ويفعل الصواب فكلماته صدق وعدل كله صواب وخير والله يقول الحق وهو يهدي السبيل فلا يقول إلا ما يحمد عليه لكونه حقا وعدلا وصدقا وحكمة في نفسه وهذا معروف في كلام للعرب قال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
وإذا عرف هذا فمن ضرورة كونه على صراط مستقيم أنه لا يفعل شيئا إلا بحكمة يحمد عليها وغاية هي

أقسام الكتاب
1 2 3 4