كتاب : طريق الهجرتين وباب السعادتين
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

دلت على أن القاعدين عن الجهاد من غير أولي الضرر لا يستوون هم والمجاهدون وسكت عن حكمهم بطريقب منطوقها ولا يدل مفهومها على مساواتهم للمجاهدين بل هذا النوع منقسم إلى معذور من أهل الجهاد غلبه عذره وأقعده عنه ونيته جازمة لم يتخلف عنها مقدورها وإنما أقعده العجز فهذا الذي تقتضيه أدلة الشرع أن له مثل أجر المجاهد وهذا القسم لا يتناوله الحكم بنفي التسوية وهذا لأن قاعدة الشريعة أن العزم التام إذا اقترن به ما يمكن من الفعل أو مقدمات الفعل نزل صاحبه في الثواب والعقاب منزلة الفاعل التام كما دل عليه قوله إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه وفي الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث أبي كبشة الأنماري عن النبي أنه قال إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي في ماله ربه ويصل به رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأحسن المنازل وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته وهما في الأجر سواء وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو لا يتقي في ماله ربه ولا يصل به رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأسوأ

المنازل عند الله وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما في الوزر سواي فأخبر أن وزر الفاعل والناوي الذي ليس مقدوره إلا بقوله دون فعله سواء لأنه أتى بالنية ومقدوره التام وكذلك أجر الفاعل والناوي الذي اقترن قوله بنيته وكذلك المقتول الذي اقترن قوله بنيته وكذلك المقتول الذي سل السيف وأراد به قتل أخيه المسلم فقتل نزل منزلة القاتل لنيته التامة التي اقترن بها مقدورها من السعي والحركة ومثل هذا قوله من دل على خير فله مثل أجر فاعله فإنه بدلالته ونيته نزل منزلة الفاعل ومثله من دعا إلى هدى فله مثل أجور من اتبعه ومن دعا إلى ضلالة عليه من الوزر مثل آثام من اتبعه لأجل نيته واقتران مقدورها بها من الدعوة ومثله إذا جاء المصلي إلى المسجد ليصلي جماعة فأدركهم وقد صلوا فصلى وحده كتب له مثل أجر صلاة الجماعة بنيته وسعيه كما جاء مصرحا به في حديث مروي ومثل هذا من كان له ورد يصليه من الليل فنام ومن نيته أن يقوم

إليه فغلب عينه نوم كتب له أجر ورده وكان نومه عليه صدقة ومثله

المريض والمسافر إذا كان له عمل يعمله فشغل عنه المرض والسفر كتب له مثل عمله وهو صحيح مقيم ومثله من سأل الله الشهادة بصدق بغله الله سبحانه وتعالى منازل الشهداء ولو مات على فراشه ونظائر ذلك كثيرة والقسم الثاني معذور ليس من نيته الجهاد ولا هو عازم عليه عزما تاما فهذا لا يستوي هو والمجاهد في سبيل الله بل قد فضل الله المجاهدين عليه وإن كان معذورا لأنه لا نية له تلحقه بالفاعل التام كنية أصحاب القسم الأول وقد قال النبي في حديث عثمان بن مظعون إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته فلما كان القسم المعذور فيه هذا التفصيل لم يجز أن يساوي بالمجاهد مطلقا ولا ينفي عنه المساواة مطلقا

ودلالة المفهوم لا عموم لها فإن العموم إنما هو من أحكام الصيغ العامة وعوارض الألفاظ والدليل الموجب للقول بالمفهوم لا يدل على أن له عموما يجب اعتباره فإن أدلة المفهوم ترجع إلى شيئين أحدهما التخصيص والآخر التعليل فأما التخصيص فهو أن تخصيص الحكم بالمذكور يقتضي نفي الحكم عما عداه وإلا بطلت فائدة التخصيص وهذا لا يقتضي العموم وسلب حكم المنطوق عن جميع صور المفهوم لأن فائدة التخصيص قد تحصل بانقسام صور المفهوم إلى ما يسلب الحكم عن بعضها ويثبت لبعضها ثبوت تفصيل فيه فيثبت له حكم المنطوق على وجه دون وجه إما بشرط لا تجب مراعاته في المنطوق وإما في وقت دون وقت بخلاف حكم المنطوق فإنه ثابت أبدا ونحو ذلك من فوائد التخصيص وإذا كانت فائدة التخصيص حاصلة بالتفصيل والانقسام فدعوى لزوم العموم من التخصيص دعوى باطلة فإثباته مجرد التحكم وأما التعليل فإنهم قالوا ترتيب الحكم على هذا الوصف المناسب له يقتضي نفي الحكم عما عداه وإلا لم يكن الوصف المذكور علة وهذا أيضا لا يستلزم عموم النفي عن كل ما عداه وإنما غايته اقتضاؤه نفي الحكم المرتب على ذلك الوصف عن الصور المنفي عنها الوصف وأما نفي الحكم جملة فلا يجوز ثبوته بوصف آخر وعلة أخرى فإن الحكم الواحد بالنوع يجوز تعليله بعلل مختلفة وفي الواحد بالعين كلام ليس هذا موضعه ومثال هذا ما نحن فيه لأن قوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون لا يدل على مساواة المضرورين المجاهدين مطلقا من حيث الضرورة بل إن ثبتت المساواة فإنها معللة بوصف آخر وهي النية الجازمة والعزم التام والضرر المانع من الجهاد في ذلك الحال لا يكون مانعا من المساواة في الأجر والله أعلم

والمقصود الكلام على طبقات الناس في الآخرة وأما النصوص والأدلة الدالة على فضل الجهاد وأهله فأكثر من أن تذكر هنا ولعلها أن تفرد في كتاب على هذا النمط إن شاء الله فهذه الدرجات الثلاثة هي درجات السبق أعني درجة العلم والعدل والجهاد وبها سبق الصحابة وأدركوا من قبلهم وفاتوا من بعدهم واستولوا على الأمد البعيد وحازوا قصبات العلى وهم كانوا السبب في وصول الإسلام إلينا وفي تعليم كل خير وهدى وسبب تنال به السعادة والنجاة وهم أعدل الأمة فيما ولوه وأعظمها جهادا في سبيل الله فالأمة في آثار علمهم وعدلهم وجهادهم إلى يوم القيامة فلا ينال أحد منهم مسألة علم نافع إلا على أيديهم ومن طريقهم ينالها ولا يسكن بقعة من الأرض آمنا إلا بسبب جهادهم وفتوحهم ولا يحكم إمام ولا حاكم بعدل وهدى إلا كانوا هم السبب في وصولهم إليه فهم الذين فتحوا البلاد بالسيف والقلوب بالإيمان وعمروا البلاد بالعدل والقلوب بالعلم والهدى فلهم من الأجر بقدر أجور الأمة إلى يوم القيامة مضافا إلى أجر أعمالهم التي اختصوا بها فسبحان من يختص بفضله ورحمته من يشاء وإنما نالوا هذا بالعلم والجهاد والحكم بالعدل وهذه مراتب السبق التي يهبها الله لمن يشاء من عباده
الطبقة السابعة أهل الإيثار والصدقة والإحسان إلى الناس بأموالهم على اختلاف حاجاتهم ومصالحهم من تفريج كرباتهم ودفع ضروراتهم وكفايتهم في مهماتهم وهم أحد الصنفين اللذين قال النبي فيهم لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس ورجل آتاه الله مالا وسلطه على هلكته في الحق يعني أنه لا ينبغي لأحد

أن يغبط أحدا على نعمة ويتمنى مثلها إلا أحد هذين وذلك لما فيهما من منافع النفع العام والإحسان المتعدي إلى الخلق فهذا ينفعهم بعلمه وهذا ينفعهم بماله والخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله ولا ريب أن هذين الصنفين من أنفع الناس لعيال الله ولا يقوم أمر الناس إلا بهذين الصنفين ولا يعمر العالم إلا بهما قال تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقال تعالى الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقال تعالى إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم وقال تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون فصدر سبحانه الآية بألطف أنواع الخطاب وهو الاستفهام المتضمن لمعنى الطلب وهو أبلغ في الطلب من صيغة الأمر والمعنى هل أحد يبذل هذا القرض الحسن فيجازى عليه أضعافا مضاعفة وسمي ذلك الإنفاق قرضا حسنا حثا للنفوس وبعثا لها على البذل لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بد طوعت له نفسه بذله وسهل عليه إخراجه فإن علم أن المستقرض ملي وفي محسن كان أبلغ في طيب قلبه وسماحة نفسه فإن علم أن المستقرض يتجر له بما اقترضه وينميه له ويثمره حتى يصير أضعاف ما بذله كان بالقرض أسمح وأسمح فإن علم

أنه مع ذلك كله يزيده من فضله وعطائه أجرا آخر من غير جنس القرض وأن ذلك الأجر حظ عظيم وعطاء كريم فإنه لا يتخلف عن قرضه إلا لآفة في نفسه من البخل والشح أو عدم الثقة بالضمان وذلك من ضعف إيمانه ولهذا كانت الصدقة برهانا لصاحبها وهذه الأمور كلها تحت هذه الألفاظ التي تضمنتها الآية فإنه سماه قرضا وأخبر أنه هو المقترض لا قرض حاجة ولكن قرض إحسان إلى المقرض واستدعاء لمعاملته وليعرف مقدار الربح فهو الذي أعطاه ماله واستدعى منه معاملته به ثم أخبر عما يرجع إليه بالقرض وهو الأضعاف المضاعفة ثم أخبر عما يعطيه فوق ذلك من الزيادة وهو الأجر الكريم وحيث جاء هذا القرض في القرآن قيده بكونه حسنا وذلك يجمع أمورا ثلاثة أحدها أن يكون من طيب ماله لا من رديئه وخبيثه الثاني أن يخرجه طيبة به نفسه ثابتة عند بذله ابتغاء مرضاة الله الثالث أن لا يمن به ولا يؤذي فالأول يتعلق بالمال والثاني يتعلق بالمنفق بينه وبين الله والثالث بينه وبين الآخذ وقال تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم وهذه الآية كأنها كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التي يضاعفها للمقرض ومثل سبحانه بهذا المثل إحضارا لصورة التضعيف في الأذهان بهذه الحبة التي غيبت في الأرض فأنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة حتى كأن القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته كما تنظر العين إلى هذه السنابل التي من الحبة الواحدة فينضاف الشاهد العياني إلى الشاهد الإيماني القرآني فيقوى إيمان المنفق وتسخو نفسه بالإنفاق وتأمل كيف جمع السنبلة في هذه الآية على سنابل وهي من جموع الكثرة إذ المقام مقام

تكثير وتضعيف وجمعها على سنبلات في قوله تعالى وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات فجاء بها على جمع القلة لأن السبعة قليلة ولا مقتضى للتكثير وقوله تعالى والله يضاعف لمن يشاء قيل المعنى والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق بل يختص برحمته من يشاء وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق في نفسه ولصفات المنفق وأحواله في شدة الحاجة وعظيم النفع وحسن الموقع وقيل والله يضاعف لمن يشاء فوق ذلك فلا يقتصر به على السبعمائة بل يجاوز في المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة واختلف في تفسير الآية فقيل مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة وقيل مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل باذر حبة ليطابق الممثل للممثل به فههنا أربعة أمور منفق ونفقة وباذر وبذر فذكر سبحانه من كل شق أهم قسميه فذكر من شق الممثل المنفق إذ المقصود ذكر حاله وشأنه وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها وذكر من شق الممثل به البذر إذ هو المحل الذي حصلت فيه المضاعفة وترك ذكر الباذر لأن القرض لا يتعلق بذكره فتأمل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمن لغاية البيان وهذا كثير في أمثال القرآن بل عامتها ترد على هذا النمط ثم ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى مطابقين لسياقها وهما الواسع والعليم فلا يستبعد العبد هذه المضاعفة ولا يضيق عنها عطاؤه فإن المضاعف واسع العطاء واسع الغنى واسع الفضل ومع ذلك فلا يظن أن سعة عطائه تقتضي حصولها لكل منفق فإنه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها فإن كرمه وفضله تعالى لا يناقض حكمته بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته ويمنعه من ليس من أهله بحكمته وعلمه ثم قال تعالى الذين

ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون هذا بيان للقرض الحسن ما هو وهو أن يكون في سبيله أي في مرضاته والطريق الموصلة إليه ومن أنفعها سبيل الجهاد وسبيل الله خاص وعام والخاص جزء من السبيل العام وأن لا يتبع صدقته بمن ولا أذى فالمن نوعان أحدهما من بقلبه من غير أن يصرح به بلسانه وهذا إن لم يبطل الصدقة فهو من نقصان شهود منة الله عليه في إعطائه المال وحرمان غيره وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه فلله المنة عليه من كل وجه فكيف يشهد قلبه منة لغيره والنوع الثاني أن يمن عليه بلسانه فيعتدي على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأنه أوجب عليه حقا وطوقه منة في عنقه فيقول أما أعطيتك كذا وكذا ويعدد أياديه عنده قال سفيان يقول أعطيتك فما شكرت وقال عبدالرحمن بن زياد كان أبي يقول إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه وكانوا يقولون إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها وإذا أسديت إليكم صنيعة فلا تنسوها وفي ذلك قيل
وإن امرأ أهدى إلي صنيعة ... وذكرنيها مرة لبخيل
وقيل صنوان من منح سائله ومن ومن منع نائله وضن وحظر الله على عباده المن بالصنيعة واختص به صفة لنفسه لأن من العباد تكدير وتعبير ومن الله سبحانه وتعالى إفضال وتذكير وأيضا فإنه هو المنعم في نفس الأمر والعباد وسائط فهو المنعم على عبده في الحقيقة وأيضا

فالامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن يمن عليه ولا تصلح العبودية والذل إلا لله وأيضا فالمنة أن يشهد المعطي أنه هو رب الفضل والإنعام وأنه ولي النعمة ومسديها وليس ذلك في الحقيقة إلا الله وأيضا فالمان بعطائه يشهد نفسه مترفعا على الآخذ مستعليا عليه غنيا عنه عزيزا ويشهد ذل الآخذ وحاجته إليه وفاقته ولا ينبغي ذلك للعبد وأيضا فإن المعطي قد تولى الله ثوابه ورد عليه أضعاف ما أعطى فبقي عوض ما أعطى عند الله فأي حق بقي له قبل الآخذ فإذا امتن عليه فقد ظلمه ظلما بينا وادعى أن حقه في قلبه ومن هنا والله أعلم بطلت صدقته بالمن فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله وعوض تلك الصدقة عنده فلم يرض به ولاحظ العوض من الأخذ والمعاملة عنه فمن عليه بما أعطاه أبطل معاوضته مع الله ومعاملته له فتأمل هذه النصائح من الله لعباده ودلالته على ربوبيته وإلهيته وحده وأنه يبطل عمل من نازعه في شيء من ربوبيته وإلهيته لا إله غيره ولا رب سواه ونبه بقوله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى على أن المن والأذى ولو تراخى عن الصدقة وطال زمنه ضر بصاحبه ولم يحصل له مقصود الإنفاق ولو أتى بالواو وقال ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لأوهمت تقييد ذلك بالحال وإذا كان المن والأذى المتراخي مبطلا لأثر الإنفاق مانعا من الثواب فالمقارن أولى وأحرى وتأمل كيف جرد الخبر هنا عن الفاء فقال لهم أجرهم عند ربهم وقرنه بالفاء في قوله تعالى الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم فإن الفاء الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تفهم معنى الشرط والجزاء وأنه مستحق بما تضمنه المبتدأ من الصلة أو الصفة

فلما كان هنا يقتضي بيان حصر المستحق للجزاء دون غيره جرد الخبر عن الفاء فإن المعنى أن الذي ينفق ماله لله ولا يمن ولا يؤذي هو الذي يستحق الأجر المذكور لا الذي ينفق لغير الله ويمن ويؤذي بنفقته فليس المقام مقام شرط وجزاء بل مقام بيان للمستحق دون غيره وفي الآية الأخرى ذكر الإنفاق بالليل والنهار سرا وعلانية فذكر عموم الأوقات وعموم الأحوال فأتى بالفاء في الخبر ليدل على أن الإنفاق في أي وقت وجد من ليل أو نهار وعلى أي حالة وجد من سر وعلانية فإنه سبب للجزاء على كل حال فليبادر إليه العبد ولا ينتظر به غير وقته وحاله ولا يؤخر نفقة الليل إذا حضر إلى النهار ولا نفقة النهار إلى الليل ولا ينتظر بنفقة العلانية وقت السر ولا بنفقة السر وقت العلانية فإن نفقته في أي وقت وعلى أي حال وجدت سبب لأحره وثوابه فتدبر هذه الأسرار في القرآن فلعلك لا تظفر بها تمر بك في التفاسير والمنة والفضل لله وحده لا شريك له
ثم قال تعالى قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم فأخبر أن القول المعروف وهو الذي تعرفه القلوب ولا تنكره والمغفرة وهي العفو عمن أساء إليك خير من الصدقة بالأذى فالقول المعروف إحسان وصدقة بالقول والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة فهما نوعان من أنواع الإحسان والصدقة المقرونة بالأذى حسنة مقرونة بما يبطلها ولا ريب أن حسنتين خير من حسنة باطلة ويدخل في المغفرة مغفرته للسائل إذا وجد منه بعض الجفوة والأذى له بسبب رده فيكون عفوه عنه خيرا من أن يتصدق عليه ويؤذيه هذا على المشهور من القولين في الآية والقول الثاني أن المغفرة من الله أي مغفرة لكم من الله بسبب القول المعروف والرد الجميل خير من صدقة يتبعها أذى وفيها قول ثالث أي مغفرة وعفو من السائل إذا رد وتعذر المسؤول خير من

أن ينال بنفسه صدقة يتبعها أذى وأوضح الأقوال هو الأول ويليه الثاني والثالث ضعيف جدا لأن الخطاب إنما هو للمنفق المسؤول لا للسائل الآخذ والمعنى أن قول المعروف له والتجاوز والعفو خير لك من أن تتصدق عليه وتؤذيه ثم ختم الآية بصفتين مناسبتين لما تضمنته فقال والله غني حليم وفيه معنيان أحدهما أن الله غني عنكم لن يناله شيء من صدقاتكم وإنما الحظ الأوفر لكم في الصدقة فنفعها عائد عليكم لا إليه سبحانه وتعالى فكيف يمن بنفقته ويؤذي مع غنى الله التام عنها وعن كل ما سواه ومع هذا فهو حليم إذ لم يعاجل المان بالعقوبة وفي ضمن هذا الوعيد والتحذير والمعنى الثاني أنه سبحانه وتعالى مع غناه التام من كل وجه فهو الموصوف بالحلم والتجاوز والصفح مع عطائه الواسع وصدقاته العميمة فكيف يؤذي أحدكم بمنه وأذاه مع قلة ما يعطي ونزارته وفقره ثم قال الله تعالى يا أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين تضمنت هذه الآية الإخبار بأن المن والأذى يحبط الصدقة وهذا دليل على أن الحسنة قد تحبط بالسيئة مع قوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في أول هذه الرسالة فلا حاجة إلى إعادته وقد يقال إن المن والأذى المقارن للصدقة هو الذي يبطلها دون ما يلحقها بعدها إلا أنه ليس في الفظ ما يدل على

هذا التقييد والسياق يدل على إبطالها به مطلقا وقد يقال تمثيله بالمرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر يدل على أن المن والأذى المبطل هو المقارن كالرياء وعدم الإيمان فإن الرياء لو تأخر عن العمل لم يبطله ويجاب عن هذا بجوابين أحدهما أن التشبيه وقع في الحال التي يحبط بها العمل وهي حال المرائي والمان المؤذي في أن كل واحد منهما يحبط العمل الثاني أن الرياء لا يكون إلا مقارنا للعمل لأنه فعال من الرؤية التي صاحبها يعمل ليرى الناس عمله فلا يكون متراخيا وهذا بخلاف المن والأذى فإنه يكون مقارنا ومتراخيا وتراخيه أكثر من مقارنته وقوله كالذي ينفق إما أن يكون المعنى كإبطال الذي ينفق فيكون شبه الإبطال بالإبطال أو المعنى لا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاء الناس فيكون تشبيها للمنفق بالمنفق وقوله فمثله أي مثل هذا المنفق الذي قد بطل ثواب نفقته كمثل صفوان وهو الحجر الأملس وفيه قولان أحدهما أنه واحد والثاني جمع صفوة عليه تراب فأصابه وابل وهن المطر الشديد فتركه صلدا وهو الأملس الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها فإنه يتضمن تشبيه قلب هذا المنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن إيمان بالله واليوم الآخر بالحجر لشدته وصلاته وعدم الانتفاع به وتضمن تشبيه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار الذي علق بذلك الحجر والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر فأذهبه بالمانع الذي أبطل صدقته وأزالها كما يذهب الوابل التراب الذي على الحجر فيتركه صلدا فلا يقدر المنفق على شيء من ثوابه لبطلانه وزواله وفيه معنى آخر وهو أن المنفق لغير الله هو في الظاهر عامل عملا يرتب عليه الأجر ويزكو له كما تزكو الحبة التي إذا بذرت في التراب الطيب أنبتت

سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ولكن وراء هذا الإنفاق مانع يمنع من نموه وزكائه كما أن تحت التراب حجرا يمنع من نبات ما يبذر من الحب فيه فلا ينبت ولا يخرج شيئا ثم قال ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير هذا مثل الذي مصدر نفقته عن الإخلاص والصدق فإن ابتغاء مرضاته سبحانه هو الإخلاص والتثبيت من النفس هو الصدق في البذل فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مثله ما ذكره في هذه الآية إحداهما طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضا من أغراضه الدنيوية وهذا حال أكثر المنفقين والآفة الثانية ضعف نفسه وتقاعسها وترددها هل يفعل أم لا فالآفة الأولى تزول بابتغاء مرضاة الله والآفة الثانية تزول بالتثبيت فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل وهذا هو صدقها وطلب مرضاة الله إرادة وجهه وحده وهذا إخلاصها فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك كان مثله كجنة وهي البستان الكثير الأشجار فهو مجتن بها أي مستتر ليس قاعا فارغا والجنة بربوة وهو المكان المرتفع فإنها أكمل من الجنة التي بالوهاد والحضيض لأنها إذا ارتفعت كانت بدرجة الأهوية والرياح وكانت ضاحية للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها فكانت أنضج ثمرا وأطيبه وأحسنه وأكثره فإن الثمار تزداد طيبا وزكاء بالرياح والشمس بخلاف الثمار التي تنشأ في الظلال وإذا كانت الجنة بمكان مرتفع لم يخش عليها إلا من قلة الماء والشراب فقال تعالى أصابها وابل وهو المطر الشديد العظيم القدر فأدت ثمرتها وأعطت بركتها فأخرجت ضعفي ما يثمر غيرها أو ضعفي ما كانت تثمر بسبب ذلك الوابل

فهذا حال السابقين المقربين فإن لم يصبها وابل فطل فهو دون الوابل فهو يكفيها لكرم منبتها وطيب مغرسها فتكتفي في إخراج بركتها بالطل وهذا حال الأبرار المقتصدين في النفقة وهم درجات عند الله فأصحاب الوابل أعلاهم درجة وهم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وأصحاب الطل مقتصدوهم فمثل حال القسمين وأعمالهم بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة بالوابل والطل وكما أن كل واحد من المطرين يوجب زكاء ثمر الجنة ونحوه بالأضعاف فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن صدرت عن ابتغاء مرضاة الله والتثبيت من نفوسهم فهي زاكية عند الله نامية مضاعفة
واختلف في الضعفين فقيل ضعفا الشيء مثلاه زائدا عليه وضعفه مثله وقيل ضعفه مثلاه وضعفاه ثلاثة أمثاله وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله كلما زاد ضعفا زاد مثلا والذي حمل هذا القائل ذلك فراره من استواء دلالة المفرد والتثنية فإنه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه فإذا زاد إلى المثل صار مثلين وهما الضعف فلو قيل لها ضعفان لم يكن فرق بين المفرد والمثنى فالضعفان عنده مثلان مضافان إلى الأصل ويلزم من هذا أن يكون ثلاثة أضعاف ثلاثة أمثاله مضافة إلى الأصل ومثله وعليه يدل قوله تعالى فآتت أكلها ضعفين أي مثلين وقوله تعالى يضاعف لها العذاب ضعفين أي مثلين ولهذا قال في الحسنات نؤتها أجرها مرتين وأما ما توهموه من استواء دلالة المفرد والتثنية فوهم منشاؤه ظن أن الضعف هو المثل مع الأصل وليس كذلك بل المثل له اعتباران إن اعتبر وحده فهو ضعف وإن اعتبر مع نظيره فهما ضعفان والله أعلم واختلف في رافع قوله فطل فقيل هو مبتدأ خبره

محذوف أي وطله يكفيها وقيل خبر مبتدأه محذوف فالذي يرويها ويصيبها طل والضمير في أصابها إما أن يرجع إلى الجنة أو إلى الربوة وهما متلازمان ثم قال تعالى أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون قال الحسن هذا مثل قل والله من يعقله من الناس شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا وفي صحيح البخاري عن عبيد بن عمير قال سأل عمر يوما أصحاب النبي فيم هم يرون هذه الآيات نزلت أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل الآية قالوا الله أعلم فغضب عمر فقال قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر قم يا ابن أخي ولا تحقر بنفسك قال ابن عباس ضربت مثلا لعمل قال عمر أي عمل قال ابن عباس لعمل قال عمر لرجل عمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله فقوله تعالى أيود أحدكم أخرجه مخرج الاستفهام الإنكاري وهو ! من النفي والنهي وألطف موقعا كما ترى غيرك يفعل فعلا قبيحا فتقول لا يفعل هذا عاقل لا يفعل هذا من يخاف الله والدار الآخرة وقال تعالى أيود أحدكم بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار العام كما تقول أيفعل هذا

أحد فيه خير وهو أبلغ في الإنكار من أن يقول أيودون وقوله أيود أبلغ في الإنكار من لو قيل أيريد لأن محبة هذا الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها وقوله تعالى أن تكون له جنة من نخيل وأعناب خص هذين النوعين من الثمار بالذكر لأنهما أشرف أنواع الثمار وأكثرها نفعا فإن منهما القوت والغذاء والدواء والشراب والفاكهة والحلو والحامض ويؤكلان رطبا يابسا منافعهما كثيرة جدا وقد اختلف في الأنفع والأفضل منهما فرجحت طائفة النخيل ورجحت طائفة العنب وذكرت كل طائفة حججا لقولها فذكرناها في غير هذا الموضع وفصل الخطاب أن هذا يختلف باختلاف البلاد فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بأن سلطان أحدهما لا يحل حيث يحل سلطان الآخر فالأرض التي يكون فيها سلطان النخيل لا يكون العنب بها طائلا ولا كثيرا لأنه أنما يخرج في الأرض الرخوة اللينة المعتدلة غير السبخة فينمو فيها ويكثر وأما النخيل فنموه وكثرته في الأرض الحارة السبخة وهي لا تناسب العنب فالنخل في أرضه وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها والعنب في أرضه ومعدنه أفضل من النخل فيها والله أعلم والمقصود أن هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها فالجنة المشتملة عليهما من أفضل الجنان ومع هذا فالأنهار تجري تحت هذه الجنة وذلك أكمل لها وأعظم في قدرها ومع ذلك فلم تعدم شيئا من أنواع الثمار المشتهاة بل فيها من كل الثمرات ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب فلا تنافي بين كونها من نخيل وأعناب و فيها من كل الثمرات ونظير هذا قوله تعالى واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما

بنخل وجعلنا بينهما زرعا إلى قوله تعالى وكان له ثمر وقد قيل إن الثمار هنا وفي آية البقرة 266 المراد بها المنافع والأموال والسياق يدل على أنها الثمار المعروفة لا غيرها لقوله هنا له فيها من كل الثمرات ثم قال تعالى فأصابها أي الجنة إعصار فيه نار فاحترقت وفي وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها وما ذلك إلا ثمار الجنة ثم قال تعالى وأصابه الكبر هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته وتعلق قلبه بها من وجوه أحدها أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها الثاني أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه الثالث أن له ذرية فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته الرابع أنهم ضعفاء فهم كل عليه لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم الخامس أن نفقتهم عليه لضعفهم وعجزهم وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة لخطرها في نفسها وشدة حاجته وذريته إليها فإذا تصورت هذه الحال وهذه الحاجة فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار وهي الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود وفيه نار مرت بتلك الجنة فأحرقتها وصيرتها رمادا فصدق والله الحسن هذا مثل قل من يعقله من الناس ولهذا نبه سبحانه وتعالى على عظم هذا المثل وحدا القلوب إلى التفكر فيه لشدة حاجتها إليه فقال تعالى كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه

فهكذا العبد إذا عمل بطاعة الله ثم أتبعها بما يبطلها ويفرقها من معاصي الله كانت كالإعصار ذي النار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح ولولا أن هذه المواضع أهم مما كلامنا بصدده من ذكر مجرد الطبقات لم نذكرها ولكنها من أهم المهم والله المستعان الموفق لمرضاته فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره وتأمله كما ينبغي لما سولت له نفسه والله إحراق أعماله الصالحة وإضاعتها ولكن لا بد أن يغيب عنه علمه عند المعصية ولهذا استحق اسم الجهل فكل من عصى الله فو جاهل
فإن قيل الواو في قوله تعالى وأصابه الكبر واو الحال أم واو العطف وإذا كانت للعطف فعلام عطفت ما بعدها قلت فيه وجهان أحدهما أنه واو الحال اختاره الزمخشري والمعنى أيود أحدكم أن تكون له جنة شأنها كذا وكذا في حال كبره وضعف ذريته والثاني أن تكون للعطف على المعنى فإن فعل التمني وهو قوله أيود أحدكم لطلب الماضي كثيرا فكان المعنى أيود لو كانت له جنة من نخيل وأعناب وأصابه الكبر فجرى عليها ما ذكر وتأمل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن الإيمان بالصفوان الذي عليه التراب فإنه لم ينبت شيئا أصلا بل ذهب بذره ضائعا لعدم إيمانه وإخلاصه ثم ضرب المثل لمن عمل بطاعة الله مخلصا بنيته لله ثم عرض له ما أبطل ثوابه بالجنة التي هي من أحسن الجنان وأطيبها وأزهرها ثم

سلط عليها الإعصار الناري فأحرقها فإن هذا نبت له شيء وأثمر له عمله ثم احترق والأول لم يحصل له شيء يدركه الحريق فتبارك من جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء للصدور وهدى ورحمة ثم قال يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون أضاف سبحانه الكسب إليهم وإن كان هو الخالق لأفعالهم لأنه فعلهم القائم بهم وأسند الإخراج إليه لأنه ليس فعلا لهم ولا هو مقدور لهم فأضاف مقدورهم إليهم وأضاف مفعوله الذي لا قدرة لهم عليه إليه ففي ضمنه الرد على من سوى بين النوعين وسلب قدرة العبد وفعله وتأثيره عنها بالكلية وخص سبحانه هذين النوعين وهما الخارج من الأرض والحاصل بكسب التجارة دون غيرهما من المواشي إما بحسب الواقع فإنهما كانا أغلب أموال القوم إذ ذاك فإن المهاجرين كانوا أصحاب تجارة وكسب والأنصار كانوا أصحاب حرث وزرع فخص هذين النوعين بالذكر لحاجتهم إلى بيان حكمهما وعموم وجودهما وإما لأنهما أصول الأموال وما عداهما فعنهما يكون ومنهما ينشأ فإن الكسب تدخل فيه التجارات كلها على اختلاف أصنافها وأنواعها من الملابس والمطاعم والرقيق والحيوانات والآلات والأمتعة وسائر ما تتعلق به التجارة والخارج من الأرض يتناول حبها وثمارها وركازها ومعدنها وهذان هما أصول الأموال وأغلبها على أهل الأرض فكان ذكرهما أهم ثم قال ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون فنهى سبحانه عن قصد إخراج الرديء للفقير ونهيه سبحانه عن قصد ذلك وتيممه فيه ما يشبه العذر لمن فعل ذلك لا عن قصد وتيمم بل عن اتفاق إذا كان هو الحاضر إذ ذاك أو كان ماله من جنسه فإن هذا لم يتيمم الخبيث بل تيمم إخراج بعض ما من الله عليه وموقع

قوله منه تنفقون موقع الحال أي لا تقصدوه منفقين منه ثم قال ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه أي لو كنتم أنتم المستحقين له وبذل لكم لم تأخذوه في حقوقكم إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه من قولهم أغمض فلان عن بعض حقه ويقال للبائع أغمض أي لا تستقص كأنك لا تبصر وحقيقته من إغماض الجفن فكأن الرائي لكراهته له لا يملأ عينه منه بل يغمض من بصره ويغمض عنه بعض نظره بغضا ومنه قول الشاعر
لم يفتنا بالوتر قوم واللضي ... م رجال يرضون بالإغماض
وفيه معنيان أحدهما كيف تبذلون لله وتهدون له مالا ترضون ببذله لكم ولا يرضى أحدكم من صاحبه أن يهديه له والله أحق من يخير له خيار الأشياء وأنفسها والثاني كيف تجعلون له ما تكروهو لأنفسكم وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا ثم ختم الآيتين بصفتين يقتضيهما سياقهما فقال واعلموا أن الله غني حميد فغناه وحمده يأبى قبول الرديء فإن قبل الرديء الخبيث إما أن يقبله لحاجته إليه وإما أن نفسه لا تأباه لعدم كمالها وشرفها وأما الغني عنه الشريف القدر الكامل الأوصاف فإنه لا يقبله ثم قال تعالى الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم هذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق والحث عليه بأبلغ الألفاظ وأحسن المعاني فإنها اشتملت على بيان الداعي إلى البخل والداعي إلى البذل والإنفاق وبيان ما يدعوه إليه داعي البخل وما يدعو إليه داعي الإنفاق وبيان ما يدعو به داعي

الأمرين فأخبر سبحانه أن الذي يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان وأخبر أن دعوته هي بما يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم وهذا هو الداعي الغالب على الخلق فإنه يهم بالصدقة والبذل فيجد في قلبه داعيا يقول له متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه وافتقرت إليه بعد إخراجه وإمساكه خير لك حتى لا تبقى مثل الفقير فغناك خير لك من غناه فإذا صور له هذه الصورة أمره بالفحشاء وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش وهذا إجماع من المفسرين أن الفحشاء هنا البخل فهذا وعده وهذا أمره وهو الكاذب في وعده الغار الفاجر في أمره فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون فإنه يدلي من يدعوه بغروره ثم يورده شر الموارد كما قال
دلاهم بغرور ثم أوردهم ... إن الخبيث لمن والاه غرار
هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه ولا نصيحة له كما ينصح الرجل أخاه ولا محبة في بقائه غنيا بل لا شيء أحب إليه من فقره وحاجته وإنما وعده له بالفقر وأمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه فيستوجب منه الحرمان وأما الله سبحانه فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه وفضلا بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه إما في الدنيا أو في الدنيا والآخرةفهذا وعد الله وذاك وعد الشيطان فلينظر البخيل والمنفق أي الوعدين هو أوثق وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه والله يوفق من يشاء ويخذل من يشاء وهو الواسع العليم وتأمل كيف ختم هذه الآية بهذين الإسمين فإنه واسع العطاء عليم بمن يستحق فضله ومن يستحق عدله فيعطي هذا بفضله ويمنع هذا بعدله وهو بكل شيء عليم فتأمل هذه الآيات ولا تستطل بسط الكلام فيها فإن لها شأنا لا يعقله إلا من عقل عن الله خطابه وفهم مراده وتلك الأمثال نضربها للناس وما

يعقلها إلا العالمون وتأمل ختم هذه السورة التي هي سنام القرآن بأحكام الأموال وأقسام الأغنياء وأحوالهم وكيف قسمهم إلى ثلاثة أقسام
القسم الأول محسن وهم المتصدقون فذكر جزاءهم ومضاعفته وما لهم في قرض أموالهم للمليء الوفي ثم حذرهم مما يبطل ثواب صدقاتهم ويحرقها بعد استوائها وكمالها من المن والأذى وحذرهم مما يمنع ترتب أثرها عليها ابتداء من الرياء ثم أمرهم أن يتقربوا إليه بأطيبها ولا يتيمموا أردأها وخبيثها ثم حذرهم من الاستجابة لداعي البخل والفحش وأخبر أن استجابتهم لدعوته وثقتهم بوعده أولى بهم وأخبر أن هذا من حكمته التي يؤتيها من يشاء من عباده وأن من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا أوتي ما هو خير وأفضل من الدنيا كلها لأنه سبحانه وصف الدنيا بالقلة فقال تعالى قل متاع الدنيا قليل وقال تعالى ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فدل على أن ما يؤتيه عبده من حكمته خير من الدنيا وما عليها ولا يعقل هذا كل أحد بل لا يعقله إلا من له لب وعقل ذكي فقال تعالى وما يذكر إلا أولو الألباب ثم أخبر أن كل ما أنفقوه من نفقة أو تقربوا به إليه من نذر فإنه يعلمه فلا يضيع لديه بل يعلم ما كان لوجهه ويكل جزاء من عمل لغيره إلى من عمل له فإنه ظالم لنفسه وما له من نصير ثم أخبر سبحانه عن أحوال المتصدقين لوجهه في صدقاتهم وأنه يثيبهم عليها إن أبدوها أو كتموها بعد أن تكون

خالصة لوجهه فقال إن تبدوا الصدقات فنعماهي أي فنعم شيء هي وهذا مدح لها موصوفة بكونها ظاهرة بادية فلا يتوهم مبديها بطلان أثره وثوابه فيمنعه ذلك من إخراجها وينتظر بها الإخفاء فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه أو بينه وبين إخراجها فلا يؤخر صدقة العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السر وهذه كانت حال الصحابة ثم قال وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم فأخبر أن إعطاءها للفقير في خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها وتأمل تقييده تعالى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة ولم يقل وإن تخفوها فهو خير لكم فإن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيز جيش وبناء قنطرة وإجراء نهر أو غير ذلك وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد الستر عليه وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى وأنه لا شيء له فيزهدون في معاملته ومعاوضته وهذا قدر زائد من الإحسان إليه بمجرد الصدقة مع تضمنه الإخلاص وعدم المراءاة وطلبهم المحمدة من الناس وكان إخفاؤها للفقير خيرا من إظهارها بين الناس ومن هذا مدح النبي صدقة السر وأثنى على فاعلها وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة ولهذا جعله سبحانه خيرا للمنفق وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته ولا يخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم فإنه بما تعملون خبير ثم أخبر أن هذا الإنفاق إنما نفعه لأنفسهم يعود عليهم أحوج ما كانوا إليه فكيف يبخل أحدكم عن نفسه بما نفعه مختص بها عائد إليها وإن نفقة المؤمنين إنما تكون ابتغاء وجهه خالصا

لأنها صادرة عن إيمانهم وأن نفقتهم ترجع إليهم وافية كاملة ولا يظلم منها مثقال ذرة وصدر هذا الكلام بأن الله هو الهادي الموفق لمعاملته وإيثار مرضاته وأنه ليس على رسوله هداهم بل عليه إبلاغهم وهو سبحانه الذي يوفق من يشاء لمرضاته
ثم ذكر المصرف الذي توضع فيه الصدقة فقال تعالى للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا فوصفهم بست صفات إحداها الفقر الثانية حبسهم أنفسهم في سبيله تعالى وجهاد أعدائه ونصر دينه وأصل الحصر المنع فمنعوا أنفسهم من تصرفها في أشغال الدنيا وقصروها على بذلها لله في سبيله الثالثة عجزهم عن الأسفار للتكسب والضرب في الأرض هو السفر قال تعالى علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وقال تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الرابعة شدة تعففهم وهو حسن صبرهم وإظهارهم الغنى حتى يحسبهم الجاهل أغنياء من تعففهم وعدم تعرضهم وكتمانهم حاجتهم الخامسة أنهم يعرفون بسيماهم وهي العلامة الدالة على حالتهم التي وصفهم الله بها وهذا لا ينافي حسبان الجاهل أنهم أغنياء لأن الجاهل له ظاهر الأمر والعارف هو المتوسم المتفرس الذي يعرف الناس بسيماهم فالمتوسمون خواص المؤمنين كما قال تعالى إن في ذلك لآيات للمتوسمين السادسة تركهم مسألة الناس فلا

يسألونهم والإلحاف هو الإلحاح والنفي متسلط عليهما معا أي لا يسألون ولا يلحفون فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إلحاف وهذا كقوله على لاحب لا يهتدي لمناره أي ليس فيه منار فيهتدي به وفيه كالتنبيه على أن المذموم من السؤال هو سؤال الإلحاف فأما السؤال بقدر الضرورة من غير إلحاف فالأفضل تركه ولا يحرم فهذه ست صفات للمستحقين للصدقة فألغاها أكثر الناس ولحظوا منها ظاهر الفقر وزيه من غير حقيقته وأما سائر الصفات المذكورة فعزيز أهلها ومن يعرفهم أعززه والله يختص بتوفيقه من يشاء فهؤلاء هم المحسنون في أموالهم
القسم الثاني الظالمون وهم ضد هؤلاء وهم الذين يذبحون المحتاج المضطر فإذا دعته الحاجة إليهم لم ينفسوا كربته إلا بزيادة على ما يبذلونه له وهم أهل الربا فذكرهم تعالى بعد هذا فقال يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا إن كنتم مؤمنين فصدر الآية بالأمر بتقواه المضادة للربا وأمر بترك ما بقي من الربا بعد نزول الآية وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم ولولا ذلك لردوا ما قبضوه به قبل التحريم وعلق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم والمعلق على شرط منتف عند انتفائه ثم أكد عليهم التحريم بأغلظ شيء وأشده وهي محاربة المرابي لله ورسوله فقال تعالى فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ففي ضمن هذا الوعيد أن المرابي محارب لله ورسوله قد آذنه الله بحربه ولم يجىء هذا الوعيد في كبيرة سوى الربا وقطع الطريق والسعي في الأرض بالفساد لأن كل واحد منهما مفسد في الأرض قاطع الطريق على الناس هذا بقهره لهم وتسلطه عليهم وهذا بامتناعه من

تفريج كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها فأخبر عن قطاع الطريق بأنهم يحاربون الله ورسوله وآذن هؤلاء إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب رسوله ثم قال وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى الله منه وقد عاقدتم عليه فإنما لكم رؤوس أموالكم لا تزدادون عليها فتظلمون الآخذ ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها فإن كان هذا القابض معسرا فالواجب إنظاره إلى ميسرة وإن تصدقتم عليه وابرأتموه فهو أفضل لكم وخير لكم فإن أبت نفوسكم وشحت بالعدل الواجب أو الفضل المندوب فذكروها يوما ترجعون فيه إلى الله وتلقون ربكم فيوفيكم جزاء أعمالكم أحوج ما أنتم إليه فذكر سبحانه المحسن وهو المتصدق ثم عقبه بالظالم وهو المرابي
ثم ذكر العادل في آية التداين فقال تعالى يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين الآية ولولا أن هذه الآية تستدعي سفرا وحدها لذكرت بعض تفسيرها والغرض إنما هو التنبيه والإشارة وقد ذكر أيضا العادل وهو آخذ رأس ماله من غريمه لا بزيادة ولا نقصان ثم ختم السورة بهذه الخاتمة العظيمة التي هي من كنز تحت عرشه والشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه وفيها من العلوم والمعارف وقواعد الإسلام وأصول الإيمان ومقامات الإحسان ما يستدعي بيانه كتابا مفردا والمقصود ذكر طبقات الخلائق في الدار الآخرة ولنعد إلى المقصود فإن هذا من سعي القلم ولعله أهم مما نحن بصدده فهذه الطبقات الأربع من طبقات الأمة هم أهل الإحسان والنفع المتعدي وهم العلماء وأئمة العدل وأهل الجهاد وأهل الصدقة وبذل الأموال في مرضاة الله فهؤلاء ملوك الآخرة وصحائف

حسناتهم متزايدة تملى فيها الحسنات وهم في بطون الأرض ما دامت آثارهم في الدنيا فيا لها من نعمة ما أجلها وكرامة ما أعظمها يختص الله بها من يشاء من عباده
الطبقة الثامنة من فتح الله له بابا من أبواب الخير القاصر على نفسه كالصلاة والحج والعمرة وقراءة القرآن والصوم والاعتكاف والذكر ونحوها مضافا إلى أداء فرائض الله عليه فهو جاهد في تكثير حسناته وإملاء صحيفته وإذا عمل خطيئة تاب إلى الله منها فهذا على خير عظيم وله ثواب أمثاله من أعمال الآخرة ولكن ليس له إلا عمله فإذا مات طويت صحيفته فهذه طبقة أهل الربح والحظوة أيضا عند الله
الطبقةالتاسعة طبقة أهل النجاة وهي طبقة من يؤدي فرائض الله ويترك محارم الله مقتصرا على ذلك لا يزيد عليه ولا ينقص منه فلا يتعدى إلى ما حرم الله عليه ولا يزيد على ما فرض عليه هذا من المفلحين بضمان رسول الله لمن أخبره بشرائع الإسلام فقال والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال أفلح إن صدق وأصحاب هذه الطبقة مضمون لهم على الله تكفير سيئاتهم إذا أدوا فرائضه واجتنبوا كبائر ما نهاهم عنه قال تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم

سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما وصح عنه أنه قال الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن ما لم تغش كبيرة فإن غشي أهل هذه الطبقة كبيرة وتابوا منها توبة نصوحا لم يخرجوا من طبقتهم فكانوا بمنزلة من لا ذنب له فتكفير الصغائر يقع بشيئين أحدهما الحسنات الماحية والثاني اجتناب الكبائر وقد نص عليها سبحانه وتعالى في كتابه فقال تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات وقال تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم
الطبقة العاشرة طبقة قوم أسرفوا على أنفسهم وغشوا كبائر ما نهى الله عنه ولكن رزقهم الله التوبة النصوح قبل الموت فماتوا على توبة صحيحة فهؤلاء ناجون من عذاب الله إما قطعا عند قوم وإما رجاء وظنا عند آخرين وهم موكولون إلى المشيئة ولكن نصوص القرآن والسنة تدل على نجاتهم وقبول توبتهم وهو وعد وعدهم الله إياه والله لا يخلف الميعاد فإن قيل فما الفرق بين أهل هذه الطبقة والتي قبلها فإن الله إذا كفر عنهم سيئاتهم وأثبت لهم بكل سيئة حسنة كانوا قبلهم أو أرجح قيل قد تقدم الكلام على هذه المسألة بما فيه كفاية فعليك بمعاودته هناك وكيف يستوي عند الله من أنفق عمره في طاعته ولم يغش كبيرة

ومن لم يدع كبيرة إلا ارتكبها وفرط في أوامره ثم تاب فهذا غايته أن تمحى سيئاته ويكون لا له ولا عليه وأما أن يكون هو من قبله سواء أو أرجح منه فكلا الطبقةالحادية عشرة
طبقة أقوام خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فعملوا حسنات وكبائر ولقوا الله مصرين عليها غير تائبين منها لكن حسناتهم أغلب من سيئاتهم فإذا وزنت بها ورجحت كفة الحسنات فهؤلاء أيضا ناجون فائزون قال تعالى والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون قال حذيفة وعبدالله بن مسعود وغيرهما من الصحابة يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف فمن رجحت حسناته على سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن رجحت سيئاته على حسناته بواحدة دخل النار ومن استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف وهذه الموازنة تكون بعد قصاص واستيفاء المظلومين حقوقهم من حسناته فإذا بقي شيء منها وزن هو وسيئاته

ولكن هنا مسألة وهي إذا وزنت السيئات بالحسنات فرجحت الحسنات هل يلغى المرجوح جملة ويصير الأثر للراجح فيثاب على حسناته كلها أو يسقط من الحسنات ما قابلها من السيئات المرجوحة ويبقى التأثير للرجحان فيثاب عليه وحده فيه قولان هذا عند من يقول بالموازنة والحكمة وأما من ينفي ذلك فلا عبرة عنده بهذا وإنما هو موكول إلى محض المشيئة وعلى القول الأول فيذهب أثر السيئات جملة بالحسنات الراجحة وعلى القول الثاني يكون تأثيرها في نقصان ثوابه لا في حصول العقاب له ويترجح هذا القول الثاني بأن السيئات لو لم تحبط ما قبلها من الحسنات وكان العمل والتأثير للحسنات كلها لم يكن فرق بين وجودها وعدمها ولكان لا فرق بين المحسن الذي محض عمله حسنات وبين من خلط عملا صالحا وآخر سيئا وقد يجاب عن هذا بأنها أثرت في نقصان ثوابه ولا بد فإنه لو اشتغل في زمن إيقاعها بالحسنات لكان أرفع لدرجته وأعظم لثوابه وإذا كان كذلك فقد ترجح القول الأول بأن الحسنات لما غلبت السيئات ضعف تأثير المغلوب المرجوح وصار الحكم للغالب دونه لاستهلاكه في جنبه كما يستهلك يسير النجاسة في الماء الكثير والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث والله أعلم
الطبقة الثانية عشرة قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فتقابل أثراهما فتقاوما فمنعتهم حسناتهم المساوية من دخول النار وسيئاتهم المساوية من دخول الجنة فهؤلاء هم أهل الأعراف لم يفضل لأحدهم حسنة يستحق بها الرحمة من ربه ولم يفضل عليه سيئة يستحق بها العذاب وقد وصف الله سبحانه وتعالى أهل هذه الطبقة في سورة الأعراف بعد أن ذكر دخول أهل النار وتلاعنهم فيها ومخاطبة أتباعهم لرؤسائهم وردهم عليهم ثم مناداة أهل الجنة أهل النار فقال تعالى وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم

لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين فقوله تعالى وبينهما حجاب أي بين أهل الجنة والنار حجاب قيل هو السور الذي يضرب بينهم له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة وظاهره الذي يلي الكفار من جهتهم العذاب والأعراف جمع عرف وهو المكان المرتفع وهو سور عال بين الجنة والنار عليه أهل الأعراف قال حذيفة وعبدالله بن عباس هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار فوقفوا هناك حتى يقضي الله فيهم ما يشاء ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته قال عبدالله بن المبارك أخبرنا أبو بكر الهذلي قال كان سعيد بن جبير يحدث عن ابن مسعود قال يحاسب الله الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن كانت سيئاته أكثر بواحدة دخل النار ثم قرأ قوله تعالى فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم ثم قال إن الميزان يخف بمثقال حبة أو يرجح قال ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم وإذا صرفوا أبصارهم إلى أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ويعطى كل عبد يومئذ نورا فإذا أتوا على الصراط سلب الله تعالى نور كل منافق ومنافقة فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا ربنا أتمم لنا نورنا وأما أصحاب الأعراف فإن النور لم ينزع من أيديهم

فيقول الله لم يدخلوها وهم يطمعون فكان الطمع للنور الذي في أيديهم ثم أدخلوا الجنة وكانوا آخر أهل الجنة دخولا يريد آخر أهل الجنة دخولا ممن لم يدخل النار
وقيل هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم فقتلوا فأعتقوا من النار لقتلهم في سبيل الله وحبسوا عن الجنة لمعصية آبائهم وهذا من جنس القول الأول
وقيل هم قوم رضي عنهم أحد الأبوين دون الآخر يحبسون على الأعراف حتى يقضي الله بين الناس ثم يدخلهم الجنة وهي من جنس ما قبله فلا تناقض بينهما
وقيل هم أصحاب الفترة وأطفال المشركين
وقيل هم أولو الفضل من المؤمنين علوا على الأعراف فيطلعون على أهل النار وأهل الجنة جميعا
وقيل هم الملائكة لا من بني آدم
والثابت عن الصحابة هو القول الأول وقد رويت فيه آثار كثيرة مرفوعة لا تكاد تثبت أسانيدها وآثار الصحابة في ذلك المعتمدة وقد اختلف في تفسير الصحابي هل له حكم المرفوع أو الموقوف على قولين الأول اختيار أبي عبدالله والحاكم والثاني هو الصواب ولا نقول على

رسول الله ما لم نعلم أنه قاله وقوله تعالى يعرفون كلا بسيماهم يعني يعرفون الفريقين بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم أي نادى أهل الأعراف أهل الجنة بالسلام وقوله تعالى لم يدخلوها وهم يطمعون الضميران في الجملتين لأصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة بعد وهم يطمعون في دخولها قال أبو العالية ما جعل الله ذلك الطمع فيهم إلا كرامة يريدها بهم وقال الحسن الذي جمع الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون وفي هذا رد على قول من قال إنهم أفاضل المؤمنين علوا على الأعراف يطالعون أحوال الفريقين فعاد الصواب إلى تفسير الصحابة وهم أعلم الأمة بكتاب الله ومراده منه ثم قال تعالى وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين هذا دليل على أنه بمكان مرتفع بين الجنة والنار فإذا أشرفوا على أهل الجنة نادوهم بالسلام وطمعوا في الدخول إليها وإذا أشرفوا على أهل النار سألوا الله أن لا يجعلهم معهم ثم قال تعالى ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم يعني من الكفار الذين في النار فقالوا لهم ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون يعني ما نفعكم جمعكم وعشيرتكم وتجرؤكم على الحق ولا استكباركم وهذا إما نفي وإما استفهام وتوبيخ وهو أبلغ وأفخم ثم نظروا إلى الجنة فرأوا من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم في الدنيا ويزعمون أن الله لا يختصهم دونهم بفضله كما لم يختصهم دونهم في الدنيا فيقول لهم أهل الأعراف أهؤلاء الذين أقسمتم أيها المشركون أن الله تعالى لا ينالهم برحمة فها هم في الجنة يتمتعون ويتنعمون وفي رياضها يحبرون ثم يقال لأهل

الأعراف ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون وقيل إن أصحاب الأعراف إذا عيروا الكفار وأخبروهم أنهم لم يغن عنهم جمعهم واستكبارهم عيرهم الكفار بتخلفهم عن الجنة وأقسموا أن الله لا ينالهم برحمة لما رأوا من تخلفهم عن الجنة وأنهم يصيرون إلى النار فتقول لهم الملائكة حينئذ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون والقولان قويان محتملان والله أعلم
فهؤلاء الطبقات هم أهل الجنة الذين لم تمسهم النار
الطبقة الثالثة عشرة طبقة أهل المحنة والبلية نعوذ بالله وإن كانت آخرتهم إلى عفو وخير وهم قوم مسلمون خفت موازينهم ورجحت سيئاتهم على حسناتهم فغلبتها السيئات فهذه الطبقة التي اختلفت فيها أقاويل الناس وكثر فيها خوضهم وتشعبت مذاهبهم وتتشتت آراؤهم فطائفة كفرتهم وأوجب لهم الخلود في النار وهذا مذهب أكثر الخوارج بل يكفرون من هو أحسن حالا منهم وهو مرتكب الكبيرة الذي لم يتب منها ولو استغرقتها حسناته وطائفة أوجبت لهم الخلود في النار ولم تطلق عليهم اسم الكفر بل سموهم منافقين وهذا المذهب ينسب إلى البكرية أتباع بكر ابن أخت عبدالواحد وطائفة نزلتهم منزلة بين منزلة الكفار والمؤمنين فجعلوا أقسام الخلق ثلاثة مؤمنين وكفارا وقسما لا مؤمنين ولا كفارا بل بينهما وأوجبت لهم الخلود في النار وهذا هو الرأي الذي عليه أهل الاعتزال وهو أحد أصولهم الخمسة التي هي قواعد مذهبهم وهي التوحيد الذي مضمونه جحد صفات الخالق ونعوت كماله والتعطيل المحض والعدل الذي مضمونه نفي عموم قدرة الله وأنه لا قدرة له على

أفعال الحيوانات بل هي خارجة عن ملكه وخلقه وقدرته وأنه يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد فإنه لا يقدر أن يهدي ضالا ولا أن يضل مهتديا ولا يجعل المصلي مصليا ولا الذاكر ذاكرا ولا الطائف طائفا تعالى الله عن إفكهم وشركهم علوا كبيرا والمنزلة بين المنزلتين التي مضمونها إيجاب القول بالنار للمسلم المبالغ في طاعة ربه الذي أفنى عمره في عبادته وطاعته ومات مصرا على كبيرة واحدة تعالى الله عما نسبوه إليه من ذلك وجل عن هذا الافتراء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي مضمونه الخروج على أئمة الجور بالسيف وخلع اليد من طاعتهم ومفارقة جماعة المسلمين والأصل الخامس النبوة مع أنهم لم يوفوها حقها بل هضموها غاية الهضم من وجوه كثيرة ليس هذا موضعها والمقصود أن مذهبهم تخليد هذه الطبقة في النار وإن لم يسموهم كفارا فوافقوا الخوارج في الحكم وخالفوهم في الاسم ولهذا تسمى هذه المسألة من مسائل الأسماء والأحكام فهذه ثلاث فرق أوجبت لهذه الطائفة الخلود في النار وقالت المرجئة على اختلاف آرائهم لا يدرى ما يفعل الله بهم فيجوز أن يعذبهم كلهم وأن يعفو عنهم كلهم وأن يعذب بعضهم ويعفو عن بعضهم غير أنهم لا يخلد أحد منهم في النار فجوزوا أن يلحق بعضهم بمن ترجحت حسناته على سيئاته بل جوزوا أن يرفع عليه في الدرجة فهم موكولون عندهم إلى محض المشيئة لا يدرى ما يفعل الله بهم بل يرجأ أمرهم إلى الله وحكمه وهذا قول كثير من المتكلمين والفقهاء والصوفية وغيرهم فهذه الأقوال التي يعرفها أكثر الناس ولا يحكي أهل الكلام غيرها وقول الصحابة والتابعين وأئمة الحديث لا يعرفونه ولا يحكونه وهو الذي ذكرناه عن ابن عباس وحذيفة وابن مسعود أن من ترجحت سيئاته بواحدة دخل النار وهؤلاء هم القسم الذين جاءت فيهم الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله فإنهم يدخلون النار فيكونون فيها على مقدار أعمالهم فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه النار

إلى أنصاف ساقيه ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ويلبثون فيها على قدر أعمالهم ثم يخرجون منها فينبتون على أنهار الجنة فيفيض عليهم أهل الجنة بالماء حتى تنبت أجسادهم ثم يدخلون الجنة وهم الطبقة الذين يخرجون من النار بشفاعة الشافعين وهم الذين يأمر الله سيد الشفعاء مرارا أن يخرجهم من النار بما معهم من الإيمان وإخبار النبي أنهم يكونون فيها على قدر أعمالهم مع قوله تعالى بما كنتم تعملون و هل تجزون إلا ما كنتم تعملون وقوله تعالى ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وأضعاف ذلك من نصوص القرآن والسنة يدل على ما قاله أفضل الأمة وأعلمها بالله وكتابه وأحكام الدارين أصحاب محمد والعقل والفطرة تشهد له وهو مقتضى حكمة العزيز الحكيم الذي بهرت حكمته العقول فليس الأمر سببا خارجا عن الضبط والحكمة بل مربوطا بالأساليب والحكم مرتب عليها أكمل ترتيب جار على نظام اقتضاد السبب واستدعته الحكمة وأي الطريق سلكها سالك غير هذه الطريق من الطرق المتقدمة أفضت به إلى ترك بعض النصوص ولا بد فإنها تتناقض في حقه لما أصله من الأصل الذي لا يلتئم عليه جمع النصوص فلا بد أن يرد بعضها ببعض أو يستشكلها أو يتطلب لها مستنكر التأويلات ووجوه التحريفات كما رد الخوارج والمعتزلة النصوص المتواترة الدالة على خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة وكذبوا بها وقالوا لا سبيل لمن دخل النار إلى الخروج منها بالشفاعة ولا غيرها ولما بهرتهم نصوص الشفاعة وصاح بهم أهل السنة وأئمة الإسلام من كل قطر وجانب ورموهم

بسهام الرد عليهم أحالوا بالشفاعة على زيادة الثواب فقط لا على الخروج من النار فردوا السنة المتواترة قطعا وصاروا مضغة في أفواه الأمة وعارا في فرقها فإن أمر الشفاعة أظهر عند الأمة من أن يقبل شكا أو نزاعا وهو عندهم مثل الصراط والحساب ونحوهما مما يعلم إخبار الرسول به قطعا ولكن إنما أتى القوم لأنهم في غاية البعد عما جاء به الرسول أجانب عنه ليسوا من الورثة وأما الخوارج فكذبوا الصحابة صريحا وأما المرجئة فإنهم يجوزون أن لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد وهذا بخلاف المعلوم المتواتر من نصوص السنة بدخول بعض أهل الكبائر النار ثم خروجهم منها بالشفاعة ومع هذا التواتر الذي لا يمكن دفعه لا يجوز أن يقال بجواز أن لا يدخل أحد منهم النار بل لا بد من دخول بعضهم وذلك البعض هو الذي خفت موازينه ورجحت سيئاته كما قال الصحابة وحكى أبو محمد بن حزم هذا إجماعا من أهل السنة ولولا أن المقصود ذكر الطبقات لذكرنا ما لهذه المذاهب وما عليها وبينا تناقض أهلها وما وافقوا فيه الحق وما خالفوه بالعلم والعدل لا بالجهل والظلم فإن كل طائفة منها معها حق وباطل فالواجب موافقتهم فيما قالوه من الحق ورد ما قالوه من الباطل ومن فتح الله له بهذه الطريق فقد فتح له من العلم والدين كل باب ويسر عليه فيهما الأسباب والله المستعان الطبقة الرابعة عشرة قوم لا طاعة لهم ولا معصية ولا كفر ولا إيمان وهؤلاء أصناف منهم من لم تبلغه الدعوة بحال ولا سمع لها بخبر ومنهم المجنون الذي لا يعقل شيئا ولا يميز ومنهم الأصم الذي لا يسمع شيئا أبدا ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا شيئا فاختلفت الأمة في حكم هذه الطبقة اختلافا كثيرا والمسألة التي وسعوا

فيها الكلام هي مسألة أطفال المشركين وأما أطفال المسلمين فقال الإمام أحمد لا يختلف فيهم أحد يعني أنهم في الجنة وحكى ابن عبدالبر عن جماعة أنهم توقفوا فيهم وأن جميع الولدان تحت المشيئة قال وذهب إلى هذا القول جماعة كثيرة من أهل الفقه والحديث منهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحق بن راهويه قالوا وهو شبه ما رسم مالك في موطئه في أبوال القدر وما أورده من الأحاديث في ذلك وعلى أكثر أصحابه وليس عن مالك فيه شيء منصوص إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال المشركين خاصة في المشيئة
وأما أطفال المشركين فيهم ثمانية مذاهب
أحدها الوقف فيهم وترك الشهادة بأنهم في الجنة أو في النار بل يوكل علمهم إلى الله تعالى ويقال الله أعلم ما كانوا عاملين واحتج هؤلاء بحجج منها ما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تنتج البهيمة من بهيمة جمعاء هل يحس فيها من جدعاء قالوا يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير قال الله أعلم بما كانوا عاملين ومنها ما في الصحيحين أيضا عن ابن عباس أن النبي

سئل عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين وفي صحيح أبي حاتم بن حبان من حديث جرير بن حازم قال سمعت أبا رجاء قال سمعت ابن عباس يقول وهو على المنبر قال رسول الله لا يزال أمر هذه الأمة قواما أو مقاربا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر قال أبو حاتم الولدان أراد به أطفال المشركين وفي استدلال هذه الفرقة على ما ذهبت إليه من الموقف بهذه النصوص نظر فإن النبي لم يجب فيهم بالوقف وإنما وكل علم ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى الله سبحانه وتعالى والمعنى الله أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا فهو سبحانه وتعالى يعلم القابل منهم للهدى العامل به لو عاش والقابل منهم للكفر المؤثر له لو عاش لكن لا يدل هذا على أنه يجزيهم علمه فيهم بلا عمل يعملونه وإنما يدل على أنه يعلم منهم ما هم عاملون بتقدير حياتهم وهذا الجواب خرج عن النبي على وجهين أحدهما جواب لهم إذا سألوه عنهم ما حكمهم فقال الله أعلم بما كانوا عاملين وهو في هذا الوجه يتضمن أن الله سبحانه وتعالى يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر بتقدير الحياة وأما المجازاة على العلم فلم يتضمنها جوابه وفي صحيح أبي عوانة الإسفرايني عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس كان النبي في بعض مغازيه فسأله رجل ما يقول في اللاهين فسكت عنه فلما

فرغ من غزوة الطائف إذا هو بصبي يبحث في الأرض فأمر مناديه فنادى أين السائل عن اللاهين فاقبل الرجل فنهى رسول الله عن قتل الأطفال وقال الله أعلم بما كانوا عاملين والوجه الثاني جواب لهم حين أخبرهم أنهم من آبائهم فقالوا بلا عمل فقال الله أعلم بما كانوا عاملين كما روى أبو داود عن عائشة قالت قلت يا رسول الله ذراري المؤمنين قال من آبائهم قلت يا رسول الله بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين ففي هذا الحديث ما يدل على أن الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم الله أنهم لو عاشوا لاختاروا الكفر وعملوا به فهؤلاء مع آبائهم ولا يقتضي أن كل واحد من الذرية مع أبيه في النار فإن الكلام في هذا الجنس سؤالا والجواب يدل علم التفصيل فإن قوله الله أعلم بما كانوا عاملين يدل على أنهم متباينون في التبعية بحسب نياتهم ومعلوم الله فيهم بقي أن يقال فالحديث يدل على أنهم يلحقون بآبائهم من غير عمل ولهذا فهمت ذلك منه عائشة فقالت بلا

عمل فأقرها عليه السلام فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ويجاب عن هذا بأن الحديث إنما دل على أنهم يلحقون بهم بلا عمل عملوه في الدنيا وهو الذي فهمته عائشة ولا ينفي هذا أن يلحقوا بهم إن شاء الله فحينئذ يلحقون بآبائهم ويكونون منهم بلا عمل عملوه في الدنيا وعائشة إنما استشكلت لحاقهم بهم بلا عمل عملوه مع الآباء وأجابها النبي بأن الله سبحانه وتعالى يعلم منهم ما هم عاملوه ولم يقل لها إنه يعذبهم بمجرد علمه فيهم وهذا ظاهر بحمد الله لا إشكال فيه وأما حديث أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس ففي القلب من رفعه شيء وإن أخرجه ابن حبان في صحيحه وهو يدل على ذم من تكلم فيهم بغير علم أو ضرب النصوص بعضها ببعض فيهم كما ذم من تكلم في القدر بمثل ذلك وأما من تكلم فيهم بعلم وحق فلا
المذهب الثاني أنهم في النار وهذا قول جماعة من المتكلمين وأهل التفسير وأحد الوجهين لأصحاب أحمد وحكاه القاضي نصا عن أحمد واحتج هؤلاء بحديث عائشة المتقدم واحتجوا بما رواه أبو عقيل يحيى بن المتوكل عن بهية عن عائشة سألت رسول الله عن أولاد المسلمين أين هم قال في الجنة وسألته عن أولاد المشركين أين هم يوم القيامة قال في النار فقلت لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام قال ربك أعلم بما كانوا عاملين قلت يحيى بن المتوكل لا يحتج بحديثه فإنه في غاية من الضعف وأما حديث عائشة المتقدم

فهو من حديث عمر بن ذر وتفرد به عن يزيد عن أبي أمية أن البراء بن عازب أرسل إلى عائشة يسألها عن الأطفال فذكرت الحديث هكذا قال مسلم بن قتيبة وقال غيره عن عمر بن ذر عن يزيد عن رجل عن البراء ورواه الإمام أحمد في مسنده من حديث عتبة بن ضمرة بن حبيب حدثني عبدالله بن أبي قيس مولى غطيف أنه سأل عائشة فذكرت الحديث وعبدالله هذا ينظر في حاله وليس بالمشهور واحتجوا بما رواه عبدالله بن أحمد في مسند أبيه عن عثمان بن أبي شيبة عن محمد بن فضيل بن غزوان عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي قال سألت خديجة رسول الله عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال هما في النار رأى الكراهية في وجهها قال لو رأيت مكانهما لأبغضتهما قالت يا رسول الله فولدي منك قال إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار ثم قرأ والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وهذا معلول من وجهين أحدهما أن محمد بن عثمان مجهول والثاني أن زاذان لم يدرك عليا وقال جماعة عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن قيس الأشجعي قال أتيت أنا وأخي النبي فقلنا إن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف وتفعل وتفعل فهل نافعها ذلك شيئا قال لا قلنا فإنها كانت وأدت أختا لنا في الجاهلية لم

تبلغ الحنث قال الوائدة والموؤودة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم وهذا إسناد لا بأس به وبحديث خديجة أنها سألت رسول الله عن أولادها الذين ماتوا في الشرك فقال إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار قال شيخنا وهذا حديث باطل موضوع واحتجوا أيضا بما روى البخاري في صحيحه في حديث احتجاج الجنة والنار عن النبي أنه قال وأما النار فينشىء الله لها خلقا يسكنهم إياها قالوا فهؤلاء ينشأون للنار بغير عمل فلأن يدخلها من ولد في الدنيا بين كافرين أولى وهذه حجة باطلة فإن هذه اللفظة وقعت غلطا من بعض الرواة وبينها البخاري في الحديث الآخر وهو الصواب فقال في صحيحه حدثني عبدالله بن أحمد أنبأنا عبدالرزاق أنبأنا معمر عن همام عن أبي هريرة قال النبي تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم قال الله عز و جل للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال

تعالى للنار أنت عذابي اعذب بك من أشاء من عبادي لكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع الجبار عز و جل رجله فتقول قط قط فهناك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله ينشىء لها خلقا فهذا هو الذي قاله رسول الله بلا ريب وهو الذي ذكره في التفسير وفي باب ما جاء في قول الله تعالى إن رحمة الله قريب من المحسنين حدثنا عبيدالله ابن سعد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي قال اختصمت الجنة والنار إلى ربهما فقالت الجنة يا رب مالها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار إني أوثرت بالمتكبرين فقال الله تعالى للجنة أنت رحمتي وقال تعالى للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها قال فأما الجنة فإن الله تعالى لا يظلم من خلقه أحدا وإنه ينشىء للنار من يشاء فيلقون فيها فتقول هل من مزيد ثلاثا حتى يضع قدمه فيها فتمتلىء ويرد بعضها إلى بعض فتقول قط قط قط فهذا غير محفوظ وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعا كما انقلب على بعضهم قوله إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم فقال إن ابن

أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال وله نظائر وحديث الأعرج هذا عن أبي هريرة لم يحفظ كما ينبغي وسياقه يدل على أن راويه لم يقم متنه بخلاف حديث همام عن أبي هريرة واحتجوا بما رواه أبو داود عن عامر الشعبي قال قال رسول الله الوائدة والموؤودة في النار قال يحيى بن زكريا فحدثني أبو إسحاق السبيعي أن عامرا حدثه بذلك عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي ويأتي الجواب عن هذا الحديث إن شاء الله والله أعلم
المذهب الثالث أنهم في الجنة وهذا قول طائفة من المفسرين والمتكلمين وغيرهم واحتج هؤلاء بما رواه البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب قال كان رسول الله مما يكثر أن يقول لأصحابه هل رأى منكم رؤيا / ح / قال فنقص عليه ما شاء الله أن نقص وأنه قال لنا ذات غداة إني أتاني الليلة آتيان / ح / فذكر الحديث وفيه فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط وفيه وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة / ح / فقال بعض المسلمين يا رسول الله وأولاد المشركين فقال الرسول وأولاد المشركين / ح / فهذا الحديث الصحيح صريح في أنهم في الجنة ورؤيا الأنبياء وحي

وفي مستخرج البرقاني على البخاري من حديث عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة عن النبي قال كل مولود يولد على الفطرة فقال الناس يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين وقال أبو بكر بن حمدان القطيعي حدثنا بشر بن موسى حدثنا هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن خنساء بنت معاوية قالت حدثتني عمتي قالت يا رسول الله من في الجنة قال النبي في الجنة والشهيد في الجنة والموؤودة في الجنة وكذلك رواه بندار عن غندر عن عوف واحتجوا بقوله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وبقوله

تعالى لا يصلاها إلا الأشقى وبقوله تعالى أعدت للكافرين وبقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وهؤلاء لم تقم عليهم حجة الله بالرسل فلا يعذبهم واحتجوا بقوله تعالى وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسوللا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون فإذا كان سبحانه لا يهلك القرى في الدنيا ويعذب أهلها إلا بظلمهم فكيف يعذب في الآخرة العذاب الدائم من لم يصدر منه ظلم ولا يقال كما أهلكه في الدنيا تبعا لأبويه وغيرهم فكذلك يدخله النار تبعا لهم لأن مصائب الدنيا إذا وردت لا تخص الظالم وحده بل تصيب الظالم وغيره ويبعثون على نياتهم وأعمالهم كما قال تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وكالجيش الذين يخسف بهم جميعهم وفيهم المكره والمستبصر وغيره فأما عذاب الآخرة فلا يكون إلا للظالمين خاصة ولا يتبعهم فيه من لا ذنب له أصلا وقال تعالى في النار كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء وقال لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وإذا امتلأت بإبليس وأتباعه فأين يستقر فيها من لم يتبعه قالوا وأيضا فالقرآن مملوء من الأخبار بأن دخول النار إنما يكون بالأعمال كقوله تعالى هل تجزون إلا ما كنتم

تعملون وقوله تعالى ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وقوله تعالى وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين إلى غير ذلك من النصوص قالوا وقد أخبر النبي أن كل مولود على الفطرة وإنما يهوده وينصره أبواه فإذا مات قبل التهويد والتنصير مات على الفطرة فكيف يستحق النار وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار عن النبي قال يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وقال محمد بن إسحق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبدالرحمن بن عائذ عن عياض عن النبي قال إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلالا لا حراما فزاد مسلمين قالوا وأيضا فإن النار دار عدله والجنة دار فضله فلهذا ينشىء للجنة من لم يعمل عملا قط وأما النار فإنه لا يعذب بها إلا من عمل بعمل أهلها وقالوا وأيضا فإن النار دار جزاء فمن لم يعص الله طرفة عين كيف

كيف يجازى بالنار خالدا مخلدا أبد الآباد قالوا وأيضا خلو عذب هؤلاء لكان تعذيبهم إما مع تكليفهم بالإيمان أو بدون التكليف والقسمان ممتنعان أما الأول فلاستحالة تكليف من لا تمييز له ولا عقل أصلا وأما الثاني فيمتنع أيضا بالنصوص التي ذكرناها وأمثالها من أن الله لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه وقالوا وأيضا فلو كان تعذيب هؤلاء لأجل عدم الإيمان المانع من العذاب لاشتركوا هم وأطفال المسلمين في ذلك لاشتراكهم في عدم الإيمان الفعلي علما وعملا فإن قلتم أطفال المسلمين منعهم تبعهم لآبائهم العذاب بخلاف أطفال المشركين قلنا الله لا يعذب أحدا بذنب غيره قال تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى وقال تعالى فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون وهذه حجج كما ترى قوة وكثرة ولا سبيل إلى دفعها وسيأتي إن شاء الله فصل النزاع في هذه المسألة والقول بموجب هذه الحجج الصحيحة كلها على أن عادتنا في مسائل الدين كلها دقها وجلها أن نقول بموجبها ولا نضرب بعضها ببعض ولا نتعصب لطائفة على طائفة بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق ونخالفها فيما معها من خلاف الحق لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة ونرجو من الله أن نحيا على ذلك ونموت عليه ونلقى الله به ولا حول ولا قوة إلا بالله
المذهب الرابع أنهم في منزلة بين المنزلتين بين الجنة والنار فإنهم ليس لهم إيمان يدخلون به الجنة ولا لآبائهم فوز يلحق بهم أطفالهم تكميلا لثوابهم وزيادة في نعيمهم وليس لهم من الأعمال ما يستحقون به دخول النار وهذا قول طائفة من المفسرين قالوا وهم أهل الأعراف وقال

عبدالعزيز بن يحيى الكناني وهم الذين ماتوا في الفترة والقائلون بهذا إن أرادوا أن هذا المنزل مستقرهم أبدا فباطل فإنه لا دار للقرار إلا الجنة أو النار وإن أرادوا أنهم يكونون فيه مدة ثم يصيرون إلى دار القرار فهذا ليس بممتنع
المذهب الخامس أنهم تحت مشيئة الله تعالى يجوز أن يعمهم بعذابه وأن يعمهم برحمته وأن يرحم بعضا ويعذب بعضا بمحض الإرادة والمشيئة ولا سبيل إلى إثبات شيء من هذه الأقسشام إلا بخبر يجب المصير إليه ولا حكم فيهم إلا بمحض المشيئة وهذا قول الجبرية نفاة الحكمة والتعليل وقول كثير من مثبتي القدر وغيرهم
المذهب السادس أنهم خدم أهل الجنة ومماليكهم وهم معهم بمنزلة أرقائهم ومماليكهم في الدنيا واحتج هؤلاء بما رواه يعقوب بن عبدالرحمن القاري عن أبي حازم المديني عن يزيد الرقاشي عن أنس قال الدارقطني ورواه عبدالعزيز الماجشون عن ابن المنكدر عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي قال سألت ربي للاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم فهم خدام أهل الجنة يعني الصبيان فهذان طريقان وله طريق ثالث عن فضيل بن سليمان عن عبدالرحمن بن إسحق عن الزهري عن أنس قال ابن قتيبة اللاهون من لهيت عن الشيء إذا

غفلت عنه وليس هو من لهوت وهذه الطرق ضعيفة فإن يزيد الرقاشي واه وفضيل بن سليمان متكلم فيه وعبدالرحمن بن إسحق ضعيف
المذهب السابع أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة فلا يفردون عنهم بحكم في الدارين فكما هم منهم في الدنيا فهم منهم في الآخرة والفرق بين هذا المذهب ومذهب من يقول هم في النار أن صاحب هذا المذهب يجعلهم معهم تبعا لهم حتى لو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما لم يحكم لأفراطهما بالنار وصاحب القول الآخر يقول هم في النار لكونهم ليسوا بمسلمين لم يدخلوها تبعا وهؤلاء يحتجون بحديث عائشة الذي تقدم ذكره واحتجوا بما في الصحيحين عن الصعب بن جثامة قال سئل رسول الله عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصيبون من

نسائهم وذراريهم فقال هم منهم ومثله من حديث الأسود بن سريع وقد تقدم حديث أبي وائل عن ابن مسعود بن يرفعة الوائدة والموؤودة في النار وهذا يدل على أنها كانت في النار تبعا لها قالوا ويدل عليه قوله والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرىء بما كسب رهين فهذا يدل على أن اتباع الذرية لآبائهم ونجاتهم إنما كان إكراما لآبائهم وزيادة في ثوابهم وأن الأتباع إنما يستحق بإيمان الآباء فإذا انتفى إيمان الآباء انتفى اتباع النجاة وبقي اتباع العذاب ويفسره قوله هم منهم وأجيب عن حجج هؤلاء أما حديث عائشة الذي فيه إنهم في النار فقد تقدم ضعفه وأما حديثهما الآخر هم من آبائهم فمثل محديث الصعب والأسود بن سريع وليس فيه تعرض للعذاب بنفي ولا إثبات وإنما فيه أنهم تبع لآبائهم في الحكم وأنهم إذا أصيبوا في الجهاد والبيات لم يضمنوا بدية ولا كفارة وهذا مصرح به في يحديث الصعب والأسود أنه في الجهاد وأما حديث عائشة الآخر فضعفه غير واحد قالوا وعبدالله بن أبي قيس مولى غطيف راويه عنها ليس بالمعروف فيقبل حديثه وعلى تقدير ثبوته فليس فيه تصريح بأن السؤال وقع عن الثواب والعقاب والنبي قال هم من آبائهم ولم يقل هم معهم وفرق بين الحرفين وكونهم منهم لا يقتضي أن يكونوا معهم في أحكام الآخرةبخلاف كونهم منهم فإنه يقتضي أن تثبت لهم أحكام الآباء في الدنيا من التوارث والحضانة والنسب وغير ذلك من أحكام الإيلاد والله سبحانه يخرج الطيب من

الخبيث والمؤمن من ا لكافر وأما حديث ابن مسعود فليس فيه أن هذا حكم كل واحد من أطفال المشركين وإنما يدل على أن بعض أطفالهم في النار وأن من هذا الجنس وهن الموؤودات من يدخل النار وكونها موؤودة لا يمنع من دخولها النار بسبب آخر وليس المراد أن كونها موؤودة هو السبب الموجب لدخول النار حتى يكون اللفظ عاما في كل موؤودة وهذا ظاهر ولكن كونها موؤودة لا يرد عنها النار إذا استحقتها بسبب كما سيأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله وأحسن من هذا أن يقال هي في النار ما لم يوجد سبب يمنع من دخولها النار كما سنذكره إن شاء الله ففرق بين أن تكون جهة كونها موؤودة هي التي استحقت بها دخول النار وبين كونها غير مانعة من دخول النار بسبب وإذا كان تعالى يسأل الوائدة عن وأد ولدها بغير استحقاق ويعذبها على وأدها كما قال تعالى وإذا الموؤدة سئلت فكيف يعذب الموؤودة بغير ذنب والله سبحانه لا يعذب من وأدها بغير ذنب وأما قوله تعالى والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم فهذه الآية تدل على أن الله سبحانه يلحق ذرية المؤمنين بهم في الجنة وأنهم يكونون معهم في درجتهم ومع هذه فلا يتوهم نزول الآباء إلى درجة الذرية فإن الله لم يلتهم أي لم ينقصهم من أعمالهم شيئا بل رفع ذرياتهم إلى درجاتهم مع توفير أجور الآباء عليهم لما كان إلحاق الذرية بالآباء في الدرجة إنما هو بحكم التبعية لا بالأعمال ربما توهم متوهم أن ذرية الكفار يلحقون بهم في العذاب تبعا وإن لم يكن لهم أعمال الآباء فقطع تعالى هذا التوهم بقوله تعالى كل امرىء بما كسب رهين وتأمل قوله تعالى والذين آمنوا وأتبعتهم ذريتهم بإيمان كيف أتى بالواو العاطفة في اتباع الذرية وجعل الخبر عن المؤمنين الذين هذا شأنهم فجعل الخبر مستحقا بأمرين

أحدهما إيمان الآباء والثاني اتباع الله ذريتهم إياهم وذلك لا يقتضي أن كل مؤمن يتبعه كل ذرية له ولو أريد هذا المعنى لقيل آمنوا تتبعهم ذرياهم فعطف الاتباع بالواو يقتضي أن يكون المعطوف بها قيدا وشرطا في ثبوت الخبر لا حصوله لكل أفراد المبتدأ وعلى هذا يخرج ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة قال أتي النبي بصبي من الأنصار يصلي عليه فقلت يا رسول الله طوبى لهذا لم يعمل شرا ولم يدره قال أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم فهذا الحديث يدل على أنه لا يشهد لكل طفل من أطفال المؤمنين بالجنة وإن أطلق على أطفال المؤمنين في الجملة أنهم في الجنة لكن الشهادة للمعين ممتنعة كما يشهد للمؤمنين مطلقا أنهم في الجنة ولا يشهد لمعين بذلك إلا من شهد له النبي فهذا وجه الحديث الذي يشكل على كثير من الناس ورده الإمام أحمد وقال لا يصح ومن يشك أن اولاد المسلمين في الجنة وتأوله قوم تأويلات بعيدة
المذهب الثامن أنهم يمتحنون في عرصات القيامة ويرسل إليهم هناك رسول وإلى كل من لم تبلغه الدعوة فمن أطاع الرسول دخل الجنة ومن عصاه أدخله النار وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار وبهذا يتألف شمل الأدلة كلها وتتوافق الأحاديث ويكون معلوم الله الذي أحال عليه النبي حيث يقول الله أعلم بما كانوا عاملين يظهر حينئذ ويقع الثواب والعقاب عليه بحال كونه معلوما علما خارجيا لا علما مجردا ويكون النبي قد رد جوابهم إلى علم الله فيهم والله يرد ثوابهم وعقابهم إلى معلومه منهم فالخبر عنهم مردود إلى علمه ومصيرهم

مردود إلى معلومه وقد جاءت بذلك آثار كثيرة يؤيد بعضها بعضا فمنها ما رواه الإمام أحمد والبزار أيضا بإسناد صحيح فقال الإمام أحمد حدثنا معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع أن النبي قال أربعة يحتجون يوم القيام رجل أصم لا يسمع رجل هرم ورجل أحمق ورجل مات في الفترة أما الأصم فيقول رب لقد جاء الإسلام وأنا ما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحدفونني بالبعر وأما الهرم فيقول رب لقد جاء الإسلام وما أعقل وأما الذي في الفترة فيقول رب ما أتاني رسول فيأخذمواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما قال معاذ بن هشام وحدثي أبي عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثل هذا الحديث وقال في آخره فمن دخلها كانت ليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها رد إليها وهو في مسند إسحق عن معاذ بن هشام أيضا ورواه البزار ولفظه عن الأسود بن سريع عن النبي قال يعرض على الله تبارك وتعالى الأصم الذي لا يسمع شيئا والأحمق والهرم ورجل مات في الفترة فيقول الأصم رب جاء الإسلام وما أسمع شيئا والأحمق يقول رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا ويقول الذي مات في الفترة رب ما أتاني لك رسول وذكر الهرم وما يقول قال فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم ادخلوا النار فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما قال الحافظ عبد الحق في حديث الأسود قد جاء هذا الحديث

وهو صحيح فيما أعلم والآخرة ليست دار تكليف ولا عمل ولكن الله يخص من يشاء بما يشاء ويكلف من شاء ما شاء وحيثما شاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون قلت وسيأتي الكلام على وقوع التكليف في الدار الآخرة وامتناعه عن قريب إن شاء الله ورواه علي بن المديني عن معاذ بنحوه قال البيهقي حدثنا علي بن محمد بن بشران أخبرنا أبو جعفر الرازي أخبرنا حنبل بن الحسين أخبرنا علي بن عبدالله المديني وقال هذا إسناد صحيح وأما حديث علي بن زيد بن جدعان عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي نحوه ورواه معمر عن عبدالله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قوله وروى محمد بن المبارك الصوري ثقة حدثنا عمرو بن واقد ضعيف حدثنا يونس بن ميسرة ثقة عن أبي إدريس الخولاني عن معاذ يرفعه يؤتى يوم القايمة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرا فيقول الممسوخ عقلا يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد مني ويقول الهالك في الفترة يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهده مني فيقول الهالك صغيرا يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد مني ويقول الرب سبحانه لئن أمرتكم بأمر فتطيعوني فيقولون نعم وعزتك فيقول اذهبوا فادخلوا النار فلو دخلوها ما ضرتهم قال فيخرج عليهم قوابص يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء فيرجعون ويقولون يا ربنا خرجنا وعزتك نريد

دخولها فخرجت علينا قوبص من نار ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء فيأمرهم الثانية فيرجعون كذلك ويقولون مثل قولهم فيقول الله قبل أن تخلقوا علمت ما أنتم عاملون وعلى علمي خلقتكم وإلى علمي تصيرون فتأخذهم النار فهذا وإن كان عمرو بن واقد لا يحتج به فله أصل وشواهد والأصول تشهد له وفي الباب أحاديث غير هذا
وقد رويت أحاديث الامتحان في الآخرة من حديث الأسود بن سريع وصححه عبدالحق والبيهقي من حديث أبي هريرة وأنس ومعاذ وأبي سعيد فأما حديث الأسود فرواه معاذ عن هشام عن أبيه عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع أن النبي قال معاذ وحدثني أبي عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة ورواه أحمد وإسحق عن معاذ ورواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن

رافع عن أبي هريرة ورواه معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة موقوفا عليه وهذا لا يضر الحديث فإنه إن سلك طريق ترجيح الزائد لزيادته فواضح وإن سلك طريق المعارضة فغايتها تحقق الوقف ومثل هذا لا يقدم عليه بالرأي إذ لا مجال له فيقبل بجزم بأن هذا توقيف لا عن رأي وأما حديث أنس فرواه جرير بن عبدالحميد عن ليث بن أبي سليم عن عبدالوارث عن أنس عن النبي يؤتى يوم القيامة بأربعة بالمولود وبالمعتوه وبمن مات في الفترة وبالشيخ الفاني كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب سبحانه لعنق من جهنم أبرزي ويقول لهم إني كنت أبعث إلى عبادي رسولا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم قال ويقول لهم ادخلوا هذه ويقول من كتب عليه الشقاء أنى ندخلها ومنها كنا نفر فيقول الله فأنتم لرسلي أشد تكذيبا قال وأما من كتب عليهم السعادة فيمضي فيقتحم فيها فيدخل هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار وهذا وإن لم يعتمد عليه بمجرده لمكان ليث بن أبي سليم عن عبدالوارث عن أنس عن النبي وأما حديث معاذ فتقدم الكلام عليه وأما حديث أبي سعيد فرواه محمد بن يحيى الذهلي أخبرنا سعيد بن سليمان عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد قال قال رسول الله الهالك في الفترة والمعتوه والمولود يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ويقول المعتوه رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ويقول المولود رب لم أدرك العقل فيرفع لهم نارا فيقول ردوها قال فيردها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول إياي عصيتم فكيف لو رسلي أتتكم تابعه الحسن بن موسى عن فضيل ورواه أبو نعيم عن فضيل بن مروزق فوقفه فهذا وإن كان فيه عطية فهو ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به وإن لم يكن حجة وأما الوقف فقد تقدم نظيره من حديث أبي هريرة فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضا وتشهد لها أصول الشرع وقواعده والقول بمضمونها هو

مذهب السلف والسنة نقله عنهم الأشعري رحمه الله في المقالات وغيرها
فإن قيل قد أنكر ابن عبدالبر هذه الأحاديث وقال أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب لأن الآخرة ليست دار عمل ولا ابتلاء وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين والله لا يكلف نفسا إلا وسعها والجواب من وجوه أحدها أن أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها بل ولا أكثرهم وإن أنكرها بعضهم فقد صحح غيره بعضها كما تقدم الثاني أن أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة والحديث فدل على أنهم ذهبوا إلى موجب هذه الأحاديث الثالث أن إسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث التي يحتج بها في الأحكام ولهذا رواه الأئمة أحمد وإسحق وعلي بن المديني الرابع أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة وقالوا لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف الخامس ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا إليها أن الله سبحانه وتالى يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأله غير الذي يعطيه وأنه يخالفه ويسأله غيره فيقول الله تعالى ما أغدرك وهذا الغدر منه هو لمخالفته للعهد الذي عاهد ربه عليه السادس قوله وليس ذلك في وسع المخلوقين جوابه من وجهين أحدهما أن ذلك ليس تكليفا بما ليس في الوسع وإنما هو تكليف بما فيه مشقة شديدة وهو كتكليف بني إسرائيل قتل

أولادهم وأزواجهم وآبائهم حين عبدوا العجل وكتكليف المؤمنين إذا رأوا الدجال ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا في الذي يرونه نارا والثاني أنهم لو أطاعوه ودخلوها لم يضرهم وكانت بردا وسلاما فلم يكلفوا بممتنع ولا بما لم يستطع السابع أنه قد ثبت أنه سبحانه وتعالى يأمرهم في القيامة بالسجود ويحول بين المنافقين وبينه وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطا فكيف ينكر التكليف بدخول النار في رأي العين إذا كانت سببا للنجاة كما جعل قطع الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف سببا كما قال أبو سعيد الخدري بلغني أنه أدق من الشعرة وأحد من السيف رواه مسلم فركوب هذا الصراط الذي هو في غاية المشقة كالنار ولهذا كلاهما يفضي منه إلى النجاة والله أعلم
الثامن أن هذا استبعاد مجرد لا ترد بمثله الأحاديث والناس لهم طريقان فمن سلك طريق المشيئة المجردة لم يمكنه أن يستبعد هذا التكليف ومن سلك طريق الحكمة والتعليل لم يكن معه حجة تنفي أن يكون هذا التكليف موافقا

للحكم بل الأدلة الصحيحة تدل على أنه مقتضى الحكمة كما ذكرناه
التاسع أن في اصح هذه الأحاديث وهو حديث الأسود أنهم يعطون ربهم المواثيق ليطيعنه فيما يأمرهم به فيأمرهم أن يدخلوا نار الامتحان فيتركون الدخول معصية لأمره لا لعجزهم عنه فكيف يقال إنه ليس في الوسع
فإن قيل فالآخرة دار جزاء وليست دار تكليف فكيف يمتحنون في غير دار التكليف فالجواب أن التكليف إنما ينقطع بعد دخول دار القرار وأما في البرزخ وعرصات القيامة فلا ينقطع وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ وهي تكليف وأما في عرصة القيامة فقال تعالى يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون صريح في أن الله يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة وأ الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك ويكون هذا التكليف بمالا يطاق حينئذ حسا عقوبة لهم لأنهم كلفوا به الدنيا وهم يطيقونه فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم كلفوا به وهم لا يقدرون عليه حسرة عليهم عقوبة لهم ولهذا قال تعالى وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون دعوا إليه في وقت حيل بينهم وبينه كما في الصحيح من حديث زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد رضي الله عنه أن ناسا قالوا يا رسول الله هل نرى بنا فذكر الحديث بطوله إلى أن قال فيقول تتبع كل أمة ما كانت تعبد فيقول المؤمنون فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا شريك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونها بها فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاء

ورياءإلا جعل الله ظهره طبقا واحدا كلما أراد أن يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقا واحدا كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وذكر الحديث وهذا التكليف نظير تكليف البرزخ بالمسألة فمن أجاب في الدنيا طوعا واختيارا أجاب في البرزخ ومن امتنع من الإجابة في الدنيا منع منها في البرزخ ولم يكن تكليفه ف الحال وهو غير قادر قبيحا بل هو مقتضى الحكمة الإلهية لأنه مكلف وقت القدرة وأبى فإذا كلف وقت العجز وقد حيل بينه وبين الفعل كان عقوبة له وحسرة والمقصود أن التكليف لا ينقطع إلا بعد دخول الجنة أو النار وقد تقدم أن حديث الأسود بن سريع صحيح وفيه التكليف في عرصة القيامة فهو مطابق لما ذكرنا من النصوص الصحيحة الصريحة فعلم أن الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة وتأتلف به النصوص ومقتضى الحكمة هذا القول والله أعلم
وقد حكى بعض أهل المقالات عن عامر بن أشرس أنه ذهب إلى أن الأطفال يصيرون في يوم القيامة ترابا وقد نقل عن ابن عباس ومحمد بن الحنفية والقاسم بن محمد وغيرهم أنهم كرهوا الكلام في هذه المسألة جملة
الطبقة الخامسة عشرة طبقة الزنادقة وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل وأبطنوا الكفر ومعاداةالله ورسله وهؤلاء المنافقون وهم فى الدرك الأسفل من النار قال تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا فالكفار والمجاهرون بكفرهم أخف وهم فوقهم في دركات النار لأن الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة الله

ورسله وزاد المنافقون عليهم بالكذب بالكذب والنفاق وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين ولهذا قال تعالى في حقهم هم العدو فاحذرهم ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر أي لا عدو إلا هم ولكن لم يرد ها هنا من إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف وأنه لا يتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهرا وموالاتهم لهم ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم بل هم أحق بالعداوة ممن باينهم في الدار ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها فإن ضرر هؤلاء المخالطين لهم المعاشرين لهم وهم في الباطن على خلاف دينهم أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أياما ثم ينقضي ويعقبه النصر والظفر وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحت ومساء يدلون العدو على عوراتهم ويتربصون بهم الدوائر ولا يمكنهم مناجزتهم فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر فلهذا قيل هم العدو فاحذرهم لا على معنى أنه لا عدو لكم سواهم بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدوا من الكفار المجاهرين ونظير ذلك قول النبي ليس المسكين الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه فليس هذا نفيا لاسم المسكين عن الطواف بل إخبار بأن هذا القانع الذي لا يسمونه مسكينا أحق بهذا الاسم من الطواف الذي يسمونه مسكينا ونظيره قوله ليس الشديد بالصرعة ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب ليس نفيا للاسم عن الصرعة ولكن إخبار بأن من يملك نفسه عن الغضب أحق منه بهذا الاسم ونظيره قوله ما تعدون المفلس فيكم قالوا

من لا درهم له ولا متاع قال المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثل الجبال ويأتي قد لطم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا فيقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم ثم طرح عليه فألقي في النار ونظيره قوله ما تعدون الرقوب فيكم قالوا من لا يولد له قال الرقوب من لم يقدم من ولده شيئا ومنه عندي قوله الربا في النسيئة وفي لفظ إنما الربا في النسيئة هو إثبات لأن هذا النوع هو أحق باسم الربا من ربا الفضل وليس فيه نفي اسم الربا عن ربا الفضل فتأمله والمقصود هذه الطبقة أشقى الأشقياء ولهذا يستهزأ بهم في الآخرة وتعطى نورا يتوسطون به على الصراط ثم يطفىء الله نورهم ويقال لهم ارجعو وراءكم فالتمسوا نورا ويضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور وهذا أشد ما يكون من الحسرة والبلاء أن يفتح للعبد طريق النجاة والفلاح حتى إذا ظن أنه ناج

ورأى منازل السعداء اقتطع عنهم وضربت عليه الشقوة ونعوذ بالله من غضبه وعقابه وإنما كانت هذه الطبقة في الدرك الأسفل لغلظ كفرهم فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم وباشروا من أعلام الرسالة وشواهد الإيمان لما لم يباشره البعداء ووصل إليهم من معرفته وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفرا وأخبث قلوبا وأشد عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البعداء عنهم وإن كان البعداء متصدين لحرب المسلمين ولهذا قال تعالى ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون وقال تعالى فيهم صم بكم عمي فهم لا يرجعون وقال تعالى في الكفار صم بكم عمى فهم لا يرجعون فالكافر لم يعقل والمنافق أبصر ثم عمي وعرف ثم تجاهل وأقر ثم أنكر وآمن ومن ثم كفر ومن كان هكذا كان أشد كفرا وأخبث قلبا وأعتى على الله ورسله فاستحق الدرك الأسفل وفيه معنى آخر ايضا وهو أن الحامل لهم على النفاق طلب العز والجاه بين الطائفتين فيرضوا المؤمنين ليعزهم ويرضوا الكفار ليعزوهم أيضا ومن ههنا دخل عليهم البلاء فإنهم أرادوا العزتين من الطائفتين ولم يكن لهم غرض في الإيمان والإسلام ولا طاعة الله ورسوله بل كان ميلهم وصغوهم وجهتهم إلى الكفار فقوبلوا على ذلك بأعظم الذل وهو أن جعل مستقرهم في أسفل السافلين تحت الكفار فما اتصف به المنافقون من مخادعة الله ورسوله والذين ءامنوا والاستهزاء بأهل الإيمان والكذب والتلاعب بالدين وإظهار أنهم من المؤمنين وأبطنوا قلوبهم على الكفر والشرك وعداوة الله ورسوله أمر اختصوا به عن الكفار فتغلظ كفرهم به فاستحقوا الدرك

الأسفل من النار ولهذا لما ذكر تعالى أقسام الخلق في أول سورة البقرة 22 فقسمهم إلى مؤمن ظاهرا وباطنا وكافر ظاهرا وباطنا ومؤمن في الظاهر كافر في الباطن وهم المنافقون وذكر في حق المؤمنين ثلاث آيات 3 5 وفي حق الكفار آيتين 6 7 فلما انتهى إلى ذكر المنافقين ذكر فيهم بضع عشرة آية 8 2 ذمهم فيها غاية الذم وكشف عوراتهم وقبحهم وفضحهم وأخبر أنهم هم السفهاء المفسدون في الأرض المخادعون المستهزئون المغبونون في اشترائهم الضلالة بالهدى وأنهم صم بكم عمي فهم لا يرجعون وأنهم مرضى القلوب وأن الله يزيدهم مرضا إلى مرضهم فلم يدع ذما ولا عيبا إلا ذمهم به وهذا يدل على شدة مقته سبحانه لهم وبغضه اياهم وعداوته لهم وأنهم أبغض أعدائه إليه فظهرت حكمته الباهرة في تخصيص هذه الطبقة بالدرك الأسفل من النار نعوذ بالله من مثل حالهم ونسأله معافاته ورحمته ومن تأمل ما وصف قلوبهم بالمرض وهو مرض الشبهات والشكوك ووصفهم بالإفساد في الأرض وبالاستهزاء بدينه وبعباده وبالطغيان واشتراء الضلالة بالهدى والصمم والبكم والعمى والحيرة والكسل عند عبادته والزنا وقلة ذكره والحلف باسمه تعالى كذبا وباطلا وبالكذب وبغاية الجبن وبعدم الفقه في الدين وبعدم العلم وبالبخل وبعدم الإيمان بالله وباليوم الآخر وبالرب وبأنهم مضرة على المؤمنين ولا يحصل لهم بنصيحتهم إلا الشر من الخبال و الإسراع بينهم بالشر وإلقاء الفتنة وكراهتهم لظهور أمر الله ومحو الحق وأنهم يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاء وأنهم يتربصون الدوائر بالمسلمين وبكراهتهم الإنفاق في مرضاة الله وسبيله وبعيب المؤمنين ورميهم بما لس فيهم فيلزمون المتصدقين ويعيبون مزهدهم ويرمون بالرياء إرادة الثناء في لناس مكثرهم وأنهم عبيد الدنيا إن أعطوا منها رضوا وإن منعوا

سخطوا وبأنهم يؤذون رسول الله وينسبونه إلى ما برأه الله منه ويعيبونه بما هو من كماله وفضله وأنهم يقصدون إرضاء المخلوقين ولا يطلبون إرضاء رب العالمين وأنهم يسخرون من المؤمنين وأنهم يفرحون إذا تخلفوا عن رسول الله ويكرهون الجهاد في سبيل الله وأنهم يتحيلون على تعطيل فرائض الله ليهم بأنواع الحيل وأنهم يرضون بالتخلف عن طاعة الله ورسوله وأنهم مطبوع على قلوبهم وأنهم يتركون ما أوجب الله عليهم مع قدرتهم عليه وأنهم أحلف الناس بالله قد اتخذوا أيمانهم جنة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم وهذا شأن المنافق أحلف الناس بالله كاذبا قد اتخذ يمنه جنة ووقاية يتقي بها إنكار المسلمين عليه ووصفهم بأنهم رجس والرجس من جنس أخبثه وأقذره فهم أخبث بني آدم وأقذرهم وأرذلهم وبأنهم فاسقون وبأنهم مضرة على أهل الإيمان يقصدون التفريق بينهم ويؤوون من حاربهم وحارب الله ورسوله وأنهم يتشبهون بهم ويضاهونهم في أعمالهم ليتوصلوا منها إلى الإضراب بهم وتفريق كلمتهم وهذا شأن المنافقين أبدا وبأنهم فتنوا أنفسهم بكفرهم بالله ورسوله وتربصوا بالمسلين دوائر السوء وهذه عادتهم في كل زمان وارتابوا في الدين فلم يصدقوا به وغرتهم الأماني الباطلة وغرهم الشيطان وأنهم أحسن الناس أجساما تعجب الرائي أجسامهم والسامع منطقهم فإذا جاوزت أجسامهم وقولهم رأيت خشبا مسندة ولا إيمان ولا فقه ولا علم ولا صدق بل خشب قد كسيت كسوة تروق الناظر وليسوا وراء ذلك شيئا وإذا عرض عليهم التوبة والاستغفار أبوها وزعموا أنهم لا حاجة لهم إليها إما لأن ما عندهم من الزندقة والجهل المركب مغن عنها وعن الطاعات جملة كحال كثير من الزنادقة وإما احتقارا وازدراء بمن يدعوهم إلى ذلك ووصفهم سبحانه بالاستهزاء به وبآياته وبرسوله وبأنهم مجرمون وبأنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في مرضاته ونسيان ذكره وبأنهم يتولوتن الكفار ويدعون المؤمنين وبأن الشيطان قد استحوذ

عليهم وغلب عليهم حتى أنساهم ذكر الله فلا يذكرونه الا قليلا وأنهم حزب الشيطان وأنهم يوادون من حاد الله ورسوله وبأنهم يتمنون ما يعنت المؤمنين ويشق عليهم وأن البغضاء تبدو لهم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم وبأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ومن صفاتهم التي وصفهم بها رسول الله الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة والغدر عند العهد والفجور عند الخصام والخلف عند الوعد وتأخير الصلاة إلى آخر وقتها ونقرها عجلة وإسراعا وترك حضورها جماعة وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاء ومن صفاتهم التي وصفهم الله بها الشح على المؤمنين بالخير والجبن عند الخوف فإذا ذهب الخوف وجاء الأمن سلقوا المؤمنين بألسنة حداد فهم أحد الناس ألسنة عليهم كما قيل
جهلا علينا وجبنا من عدوكم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
وأنهم عند المخاوف تظهر كمائن صدورهم ومخبآتها وأما عند الأمن فيجب ستره فإذا لحق المسلمين خوف دبت عقارب قلوبهم وظهرت المخبآت وبدت الأسرار ومن صفاتهم أنهم أعذب الناس ألسنة وأمرهم قلوبا وأعظم الناس خلفا بين أعمالهم وأقوالهم ومن صفاتهم أنهم لا يجتمع فيهم حسن صمت وفقه في دين أبدا ومن صفاتهم أن أعمالهم تكذب أقوالهم وباطنهم يكذب ظاهرهم وسرائرهم تناقض علانيتهم ومن صفاتهم أن المؤمن لا يثق بهم في شيء فإنهم قد أعدوا لكل أمر مخرجا منه بحق أو بباطل بصدق أو بكذب ولهذا سمي منافقا أخذا من نافقاء اليربوع وهو بيت يحفره ويجعل له أسرابا مختلفة فكلما طلب من سرب خرج من سرب آخر فلا يتمكن طالبه من حصره في سرب واحد قال الشاعر
ويستخرج اليربوع من نافقائه ... ومن جحره بالشيخه اليتقصع
فأنت منه كقابض على الماء ليس معك منه شيء ومن صفاتهم كثرة التلون وسرعة التقلب وعدم الثبات على حال واحد بينا تراه على

حال تعجبك من دين أو عبادة أو هدى صالح أو صدق إذا انقلب إلى ضد ذلك كأنه لم يعرف غيره فهو أشد الناس تلونا وتقلبا وتنقلا جيفة بالليل قطرب بالنهار ومن صفاتهم أنك إذا دعوتهم عند المنازعة للتحاكم إلى القرآن والسنة أبوا ذلك وأعرضوا عنه ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم قال تعالى ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلىالطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصبتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ومن صفاتهم معارضة ما جاء به الرسول بعقول الرجال وآرائهم ثم تقديمها على ما جاء به فهم معرضون عنه معارضون له زاعمون أن الهدى في آراء الرجال وعقولهم دون ما جاء به فلو أعرضوا عنه وتعوضوا بغيره لكانوا منافقين فكيف إذا جمعوا مع ذلك معارضته وزعموا أنه لا يستفاد منه هدى ومن صفاتهم كتمان الحق والتلبيس على أهله ورميهم له بأدوائهم فيرمونهم إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودعوا إلى الله ورسوله بأنهم أهل فتن مفسدون في الأرض وقد علم الله ورسوله والمؤمنون بأنهم أهل الفتن المفسدون في الأرض وإذا دعاهم ورثة الرسول إلى كتاب الله وسنة رسوله خالصة غير مشوبة رموهم بالبدع والضلال وإذا رأوهم زاهدين في الدنيا راغبين في

الآخرة متمسكين بطاعة الله ورسوله رموهم بالزوكرةوالتلبيس والمحال وإذا رأوا معهم حقا ألبسوه لباس الباطل وأخرجوه لضعفاء العقول في قالب شنيع لينفروهم عنه وإذا كان معهم باطل ألسوه لباس الحق وأخرجوه في قالبه ليقبل منهم وجملة أمرهم أنهم في المسلمين كالزغل في النقود يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد ويعرف حاله الناقد البصير من الناس وقليل ما هم وليس على الأديان أضر من هذا الضرب من الناس وإنما تفسد الأديان من قبلهم ولهذا جلا الله أمرهم في القرآن وأوضح أوصافهم وبين أحوالهم وكرر ذكرهم لشدة المؤنة على الأمة بهم وعظم البلية عليهم بوجودهم بين أظهرهم وفرط حاجتهم إلى معرفتهم والتحرز من مشابهتهم والإصغاء إليهم فكم قطعوا على السالكين إلى الله طرق الهدى وسلكوا بهم سبيل الردى وعدوهم ومنوهم ولكن وعدوهم الغرور ومنوهم الويل والثبور فكم من قتيل ولكن في سبيل الشيطان وسليب ولكن للباس التقوى والإيمان وأسير لا يرجى له الخلاص وفار من الله لا إليه وهيهات ولات حين مناص صحبتهم توجب العار والشنار وموودتهم تحل غضب الجبار وتوجب دخول النار من علقت به كلاليب كلبهم ومخاليب رأيهم مزقت منه ثياب الدين والإيمان وقطعت له مقطعات من البلاء والخذلان فهو يسمحب من الحرمان والشقاوة أذيالا ويمشي على عقبيه القهقهرى إدبارا منه وهو يحسب ذلك إقبالا فهم والله قطاع الطريق فيا أيها الركب المسافرون إلى منازل السعداء حذار منهم حذار إذ هم الجزارون ألسنتهم شفار البلايا ففرارا منهم أيها الغنم فرارا ومن البلية إنهم الأعداء حقا وليس لنا بد من مصاحبتهم وخلطتهم أعظم الداء وليس بد في مخالطتهم قد جعلوا على أبواب جهنم دعاة إليها فبعدا للمستجيبين ونصبوا شباكهم حواليها على ما حفت به من الشهوات فويل للمغترين

نصبوا الشباك ومدوا الأشراك وأذن مؤذنهم يا شياه الأنعام حي على الهلاك حي عن التباب فاستبقوا يهرعون إليهم فأوردوهم حياض العذاب لا الموارد العذاب وساموهم من الخسف والبلاء أعظم خطة وقالوا ادخلوا باب الهوان صاغرين ولا تقولوا حطة فليس بيوم حطة فواعجبا لمن نجا من شراكهم لا من علق وأنى ينجو من غلبت عليه شقاوته ولها خلق فحقيق بأهل هذه الطبقة أن يحلوا بالمحل الذي أحلهم الله من دار الهوان وأن ينزلوا في أردأ منازل أهل العناد والكفران وبحسب إيمان العبد ومعرفته يكون خوفه أن يكون من أهل هذه الطبقة ولهذا اشتد خوف سادة الأمة وسابقوها على أنفسهم أن يكونوا منهم فكان عمر بن الخطاب يقول يا حذيفة ناشدتك الله هل سماني رسول الله مع القوم فيقول لا ولا أزكي بعد أحدا يعني لا أفتح علي هذا الباب في تزكية الناس وليس معناه أنه لم يبرأ من النفاق غيرك وقال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل الطبقة السادسة عشرة
رؤساء الكفر وأئمته ودعاته الذين كفروا وصدوا عباد الله عن الإإيمان وعن الدخول في دينه رغبة ورهبة فهؤلاء عذابهم مضاعف ولهم عذابان عذاب بالكفر وعذاب بصد الناس عن الدخول في الإيمان قال الله تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله

زدناهم عذابا فوق العذاب فأخذ العذابين بكفرهم والعذاب الآخر بصدهم عن سبيل الله وقد استقرت حكمة الله وعدله أن يجعل على الداعي إلى الضلال مثل آثام من اتبعه واستجاب له ولا ريب أن عذاب هذا يتضاعف ويتزايد بحسب من اتبعه وضل به وهذا النوع في الأشقياء مقابل دعاة الهدى في السعداء فأولئك يتضاعف ثوابهم وتعلو درجاتهم بحسب من اتبعهم واهتدى بهم وهؤلاء عكسهم ولهذا كان فرعون وقومه في أشد العذاب قال الله تعالى في حقهم النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وهذا تنبيه على أن فرعون نفسه في الأشد من ذلك لأنهم إنما دخلوا أشد العذاب تبعا له فإنه هو الذي استخفهم فأطاعوه وغرهم فاتبعوه ولهذا يكون يوم القيامة أمامهم وفرطهم في هذا الورد قال تعالى يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار والمقصود نهم استحقوا أشد العذاب لغلظ كفرهم وصدهم عن سبيل الله وعقوبتهم من آمن بالله فليس عذاب الرؤساء في النار كعذاب أتباعهم ولهذا كان في كتاب النبي لهرقل فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين والصحيح في اللفظ أنهم الأتباع ولهذا كان عدو الله إليس أشد أهل النار عذابا وهو أول من يكسى حلة من النار لأنه إمام كل كفر وشرك وشر فما عصي الله إلا على يديه وبسببه ثم الأمثل

فالأمثل من نوابه في الأرض ودعاته ولا ريب أن الكفر يتفاوت فكفر أغلظ من كفر كما أن الإيمان يتفاوت فإيمان أفضل من أيمان فكما أن المؤمنين ليسوا في درجة واحدة بل هم درجات عند الله فكذلك الكفار ليسوا في طبقة واحدة ودرك واحد بل النار دركات كما أن الجنة درجات ولا يظلم الله من خلقه أحدا وهو الغني الحميد فصل
وغلظ الكفر الموجب العذاب يكون من ثلاثة أوجه
أحدها من حيث العقيدة الكافرة في نفسها كمن جحد رب العالمين بالكلية وعطل العالم عن الرب الخالق المدبر له فلم يؤمن بالله وملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا اليوم الآخر ولهذا لا يقر أرباب هذا الكفر بالجزية عند كثير من العلماء ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم اتفاقا لتغلظ كفرهم وهؤلاء هم المعطلة والدهرية وكثير من الفلاسفة وأهل الوحدة القائلين بأنه لا وجود للرب سبحانه وتعالى غير وجود هذا العالم
الجهة الثانية تغلظه بالعناد والضلال عمدا على بصيرة ككفر من شهد قلبه أن الرسول حق لما رآه من آيات صدقه وكفر عنادا وبغيا كقوم ثمود وقوم فرعون واليهود الذين عرفوا الرسول كما عرفوا أبناءهم وكفر أبي مجهل وأمية بن أبي الصلت وأمثال هؤلاء
الجهة الثالثة السعي في إطفاء نور الله وصد عباده عن دينه بما تصل إليه قدرتهم فهؤلاء أشد الكفار عذابا بحسب تغلظ كفرهم ومنهم من يجتمع في حقه الجهات الثلاث ومنهم من يكون فيه جهتان منها أو واحدة فليس عذاب هؤلاء كعذاب من هو دونهم في الكفر ممن هو ملبوس عليه لجهله والمؤمنون من أذاه في سلامة لا ينالهم منه أذى ولم يتغلظ كفره كتغلظ هؤلاء بل هو مقر بالله ووحدانيته وملائكته وجنس الكتب والرسل واليوم الآخر وإن شارك أولئك في كفرهم بالرسول فقد زادوا عليه أنواعا من الكفر وهل يستوي في النار عذاب أبي طالب وأبي لهب وأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وأبي بن خلف وأضرابهم والمقصود

أن هذه الطبقة وهي طبقة الرؤساء الدعاة الصادين عن دين الله ليست كطبقة من دونهم وقد ثبت عن النبي أنه قال أهون أهل النار عذابا أبو طالب / ح / ومعلوم أن كفر أبي طالب لم يكن مثل كفر أبي جهل وأمثاله الطبقة السابعة عشرة
طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعا لهم يقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على أسوة بهم ومع هذا فهم متاركون لأهل الإسلام غير محاربين لهم كنساء المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصبت له أولئك أنفسهم من السعي في إطفاء نور الله وهدم دينه وإخماد كلماته بل هم بمنزلة الدواب وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالا مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام وقد صح عن النبي أنه قال ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه / ح / فأخبر أن أبويه ينقلانه عن الفطرة إلى اليهودية والنصرانية والمجوسية ولم يعتبر في ذلك غير المربي والمنشأ على ما عليه الأبوان وصح نه أنه قال إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة / ح / وهذا المقلد ليس بمسلم وهو عاقل مكلف والعاقل المكلف لا يخرج الإسلام أو الفكر وأما من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلف في تلك الحال

وهو بمنزلة الأطفال والمجانين وقد تقدم الكلام عليهم والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافرا معاندا فهو كافر جاهل فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارا فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله إما عنادا أو جهلا وتقليدا لأهل العناد فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند فهو متبع لأهل العناد وقد أخبر الله في القرآن في غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار وأن الأتباع مع متبوعهم وأنهم يتحاجون في النار وأن الأتباع يقولون ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقال تعالى وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون نا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد وقال تعالى ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا فهذا إخبار من الله وتحذير بأن المتبوعين والتابعين اشتركوا في العذاب ولم يغن عنهم تقليدهم شيئا

وأصرح من هذا قوله تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا وصح عن النبي أنه قال من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل أوزار من اتبعه لا ينقص من أوزارهم شيئا وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إنما هو بمجرد اتباعهم وتقليدهم
نعم لا بد في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال وهو الفرق بين مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه والقسمان واقعان في الوجود فالمتمكن المعرض مفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضا أحدهما مريد للهدى مؤثر له

محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة الثاني معرض لا إرادة له ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه فالأول يقول يا رب لو أعلم لك دينا خيرا مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه ولا أقدر على غيره فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي والثاني راض بما هو عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته وكلاهما عاجز وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزا وجهلا والثاني كمن لم يطلبه بل مات على شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض فتأمل هذا الموضع والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل فهبذا مقطوع به في جملة الخلق وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا فذلك ما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول هذا في الجملة والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه هذا في أحكام الثواب والعقاب وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة وهو مبني على أربعة أصول
أحدها أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه كما قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال

تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء وقال تعالى فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير وقال تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين وهذا كثير في القرآن يخبر أنه إنما يعذب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة وهو المذنب الذي يعترف بذنبه وقال تعالى وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين والظالم من عرف ماجاء به الرسول أو تمكن من معرفته بوجه وأما من لم يعرف ما جاء به الرسول وعجز عن ذلك فكيف يقال إنه ظالم
الأصل الثاني أن العذاب يستحق بسببين أحدهما الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها الثاني العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها فالأول كفر إعراض والثاني كفر عناد وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل
والأصل الثالث أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة

والأشخاص فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان وفي بقعة وناحية دون أخرى كما أنها تقوم على شخص دون آخر إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له فهذا بمنزلة الأصم الذي يلا يسمع شيئا ولا يتمكن من الفهم وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة كما تقدم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما
الأصل الرابع أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يخل بها وأنها مصقودة لغايتها المحمودة وعواقبها الحميدة وهذا الأصل هو أساس الكلام في هذه الطبقات إلا من عرف ما في كتب الناس ووقف على أقوال الطوائف في هذا الباب وانتهى إلى غاية مراتبهم ونهاية إقدامهم والله الموفق للسداد الهادي إلى الرشاد وأما من لم يثبت حكمة ولا تعليلا ورد الأمر إلى محض المشيئة التي ترجح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح فقد أراح نفسه من هذا المقام الضنك وافتحام عقبات هذه المسائل العظيمة وأدخلها كلها تحت قوله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وهو افعال لما يريد وصدق الله وهو أصدق القائلين لا يسأل عما يفعل لكما حكمته وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها وأنه ليس في أفعاله خلل ولا عبث ولا فساد يسأل عنه كما يسأل المخلوق وهو الفعال لما يريد ولكن لا يريد أن يفعل إلا ما هوم خير ومصلحة ورحمة وحكة فلا يفعل الشر ولا الفساد ولا الجور ولا خلاف مقتضى حكمته لكمال أسمائه وصفاته وهو الغني الحميد العليم الحكيم الطبقة الثامنة عشرة ...
طبقة الجن وقد اتفق المسلمون على أن منهم

المؤمن والكافر والبر والفاجر قال تعالى إخبارا عنهم وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا قال مجاهد يعنون مسلمين وكافرين وقال الحسن والسدي أمثالكم فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة وقال سعيد بن جبير ألوانا شتى وقال ابن كيسان شيعا وفرقا ومعنى الكلام أصنافا مختلفة ومذاهب متفرقة ثم قيل في إعراب الآية ومنا دون ذلك قوم دون ذلك فحذف الموصوف وأقام صفته مقامه كقوله وما منا إلا له مقام معلوم أي إلا من له مقام معلوم وكقوله ومن الذين هادوا سماعون للكذب أي فريق سماعون وكقوله من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه أي فريق يحرفون وكقوله على أظهر القولين ومن الذين أشركوا يود أحدهم أي فلريق يود أحدهم وقال الشاعر
فظلوا ومنهم دمعه سابق لهم ... وآخر يذري دمعة العين بالمهل
أي ومنهم من دمعه وقولهم كنا طرائق قددا بيان لقولهم منا الصالحون ومنا دون ذلك أي كنا ذوي طرائق وهي المذاهب واحدها طريقة وهي المذهب والقدد جمع قدة كقطعة وقطع وزنا ومعنى وهي من القد وهو القطع وقيل كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة في اختلافها وعلى هذا المعنى كنا طرائق قددا وليس بشيء وأضعف منه قول من قال إن طرائق منصوب على الظرف أي كنا في طرق مختلفة

كقوله عسل الطريق الثعلب وهذا مما لا يحمل عليه أفصح الكلام وقيل المعنى كانت طرائقنا طرائق قددا فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وقال تعالى إخبار عنهم وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فالمسلمون الذين آمنوا بالله ورسوله منهم والقاسطون الجائرون العادلون عن الحق قال ابن عباس هم الذين جعلوا لله أندادا يقال أقسط الرجل إذا عدل فهو مقسط ومنه وأقسطوا إن الله يحب المقسطين وقسط إذا جار فهو قاسط وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا قد تضمنت هذه الآيات انقبسامهم إلى ثلاث طبقات صالحين ودون الصالحين وكفار وهذه الطبقات بإزاء طبقات بني آدم فإنها ثلاثة أبرار ومقتصدون وكفار فالصالحون بإزاء الأبرار ومن دونهم بإزاء المقتصدين والقاسطون بإزاء الكفار وهذا كما قسم سبحانه بني إسرائيل إلى هذه الأقسام الثلاثة في قوله وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك فهؤلاء الناجون منهم ثم ذكر الظالمين وهم خلف السوء الذين خلفوا بعدهم ولما كان الإنس أكمل من الجن وأتم عقولا ازدادوا عليهم بثلاثة أصناف أخر ليس شيء منها للجن وهم الرسل والأنبياء والمقربون فليس في الجن صنف من هؤلاء بل حليتهم الصلاح وذهب شذاذ من الناس إلى أن فيهم الرسل والأنبياء محتجين على ذلك بقوله تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل

منكم وبقوله وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن إلى قوله منذرين وقد قال الله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين هذا قول شاذ لا يلتفت إليه ولا يعرف به سلف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام وقوله تعالى ألم يأتكم رسل منكم لا يدل على أن الرسل من كل واحدة من الطائفتين بل إذا كانت الرسل من الإنس وقد أمرت الجن باتباعهم صح أن يقال للإنس والجن ألم يأتكم رسل منكم ونظير هذا أن يقال للعرب والعجم ألم يجئكم رسل منكم يا معشر العرب والعجم فهذا لا يقتضي بأن يكون من هؤلاء رسل ومن هؤلاء وقال تعالى وجعل القمر فيهن نورا وليس في كل سماء قمر وقوله تعالى ولوا إلى قومهم منذرين فالإنذار أعم من الرسالة والأعم لا يستلزم الأخص قال تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم فهؤلاء نذر وليسوا برسل قال غير واحد من السلف الرسل من الإنس وأما الجن ففيهم النذر قال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى فهذا يدل على أنه لم يرسل جنيا ولاامرأة ولا بدويا وأما تسميته تعالى الجن رجالا في

قوله وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فلم يطلق عليهم الرجال بل هي تسمية مقيدة بقوله من الجن فهم رجال من الجن ولا يستلزم ذلك دخولهم في الرجال عند الإطلاق كما تقول رجال من حجارة ورجال من خشب ونحوه فصل
وقد اتفق المسلمون على أن كفار الجن في النار وقد دل على ذلك القرآن في غير موضع كقوله تعالى ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقوله تعالى لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين الآية فملؤها منه به وبكفار ذريته وقال تعالى ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار وقال تعالى حكاية عن مؤمنهم وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون إلى قوله حطبا وقال الله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس وقال الله تعالى فكبكبوا فيها هم والكافرون وجنود إبليس أجمعون وجنوده إن لم يختص بالشياطين فهم داخلون في عمومه وبالجملة فهذا أمر معلوم باضطرار من دين الإسلام وهو يستلزم تكليف الجن بشرائع ووجوب اتباعهم لهم فأما شريعتنا فأجمع المسلمون على أن محمدا بعث إلى الجن والإنس وأنه يجب على

الجن طاعته كما يجب على الإنس وأما قبل نبينا فقوله تعالى ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار يدل على أن الأمم الخالية من كفا الجن في النار وذلك إنما يكون بعد إقامة الحجة عليهم بالرسالة وقد دلت سورة الرحمن على تكليفهم بالشرائع كما كلف الإنس ولهذا يقول في إثر كل آية الرحمن فبأي آلاء ربكما تكذبان فدل ذلك على أن السورة خطاب للثقلين معا ولهذا قرأها رسول الله على الجن قراءة تبليغ وأخبر أصحابه أنهم كانوا أحسن ردا منهم فإنهم جعلوا يقولون كلما قرأ عليهم فبإي آلاء ربكما تكذبان لا نكذب بشيء من آلائك ربنا فلك الحمد ولما كان أبوهم هو أول

من دعا إلى معصية الله وعلى يده حصل كل كفر وفسوق وعصيان فهو الداعي إلى النار وكان أول من يكسى حلة من النار يوم القيامة يسحبها وينادي واثبوراه فأتباعه من أولاده وغيرهم خلفه ينادون واثبوراهم حتى قيل إن كل عذاب يقسم على أهل النار يبدأ به فيه ثم يصير إليهم فصل وأما حكم مؤمنيهم في الدار الآخرة فجمهور السلف والخلف على أنهم في الجنة وترجم على ذلك البخاري في صحيحه فقال باب ثواب الجن وعقابهم لقوله تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي الآية بخسا نقصا قال مجاهد وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا قال كفار قريش الملائكة بنات الله وأمهاتهم بنات سروات الجن قال الله تعالى ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ستحضر للحساب ثم ذكر حديث أبي سعيد إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة / ح / سمعته من رسول الله هذا ما ذكره في الباب وقد ذهب جمهور الناس إلى أن مؤمنيهم في الجنة وحكى عن أبي حنيفة وغيره أن ثوابهم نجاتهم من النار واحتج لهذا بقوله تعالى حكاية عنهم يا قومنا أجيبوا داعي الله

الآية فجعل غاية ثوابهم إجارتهم من العذاب الأليم وأما الجمهور فقالوا مؤمنهم في الجنة كما أن كافرهم في النار ثم اختلفوا فأطلق أكثر الناس دخول الجنة ولم يقيدوه وقال سهل بن عبدالله يكونون في ربض الجنة يراهم المؤمنون من حيث لا يرونهم فهذه مذاهب الناس في أحكامهم في الآخرة وأما أحكامهم في الدنيا فاختلف الناس هل هم مكلفون بالأمر والنهي أم هم مضطرون على أفعالهم على قولين حكاهما أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات له فقال واختلف الناس في الجن هل هم مكلفون أم مضطرون فقال قائلون من المعتزلة وغيرهم هم مأمورون منهيون وقد أمروا ونهوا وهم مختارون وزعم زاعمون أنهم مضطرون قلت الصواب الذي عليه جمهور أهل الإسلام أنهم مأمورون منهيون مكلفون بالشريعة الإسلامية وأدلة القرآن والسنة على ذلك أكثر من أن تحصر فإضافة هذا القول إلى المعتزلة بمنزلة أن يقال ذهبت المعتزلة إلى القول بمعاد الأبدان ونحو ذلك مما هو أقوال سائر أهل الإسلام وقال الله تعالى أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم الآية فأخبر أن منهم من حق عليه القول أي وجب عليه العذاب وأنه خاسر ولا يكون ذلك إلا في أهل التكليف المستوجبين العقاب بأعمالهم ثم قال بعد ذلك ولكل درجات مما عملوا أي في الخير والشر يوفونها ولا يظلمون شيئا من أعمالهم وهذا ظاهر جدا في ثوابهم وعقابهم وأن مسيئهم كما يستحق العذاب بإساءته فمحسنهم يستحق الدرجات بإحسانه ولكل درجات مما عملوا فدل ذلك لا محالة أنهم كانوا مأمورين بالشرائع متعبدين بها في الدنيا ولذلك

استحقوا الدرجات بأعمالهم في الآخرة في الخير والشر
وقال الله تعالى وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس الآية ومعنى الآية إن الله قيض للمشركين أي سبب لهم قرناء من الشياطين يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم من التكذيب بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب
وقيل عكس هذا وأن ما بين أيديهم هو ترغيبهم في الدنيا وحرصهم عليها وما خلفهم هو حب ما كان عليه آباؤهم من الشرك وتكذيب الرسل وما خلفهم تكذيبهم بالبعث وما بعده
وفي الآية قول رابع وهو أن التزيين كله راجع إلى أعمالهم فزينوا لهم ما بين أيديهم أعمالهم التي عملوها وما خلفهم الأعمال التي هم عازمون عليها ولما يعملوها بعد وكأن لفظ التزيين بهذا القول أليق ومن جعل ما خلفهم هو الآخرة لم يستقم قوله إلا بإضمار أي زينوا لهم التكذيب بالآخرة ومع هذا فهو قول مستقيم ظاهر فإنهم زينوا لهم ترك العمل لها والاستعداد للقائها ولهذا كان عليه جمهور أهل التفسير حتى لم يذكر البغوي غيره وحكاه عن الزجاج فقال الزجاج سببنا لهم قرناء نظراء من الشياطين حتى أضلوهم فزينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة وما خلفهم من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب به وإنكار التكذيب به وإنكار البعث
والمقصود أن قوله تعالى وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين أي وجب عليهم العذاب

مع أمم قد مضت من قبله من الجن والإنس ففي هذا أبين دليل على تكليف الثقلين وتعلق الأمر والنهي بهم وكذلك تعلق الثواب والعقاب بهم وقال تعالى ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا إلى قوله تعالى إلا ما شاء الله وهذا صريح في تكليفهم فإن هذا القول للجن في القيامة فيذكر الإنس استمتاع بعضهم ببعض في الدنيا وذلك الاستمتاع هو ما بين الجن والإنس من طاعتهم إياهم في معصية الله وعبادتهم لهم دون الله ليستعينوا بهم على شهواتهم وأغراضهم فإنهم كانوا يستوحونهم ويعوذون بهم ويذبحون لهم وبأسمائهم ويوالونهم من دون الله كما هو شأن أكثر المشركين من أولياء الشيطان فهذا هو استمتاع بعضهم ببعض ولهذا يقول تعالى للملائكة يوم القيامة وقد جمع العابدين والمعبودين أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون فهؤلاء عباد الجن وأولياء الشياطين وأكثرهم يعلم ذلك ويرضى به لما ينال به من المتعة بمعبوده وكثير منهم ملبوس عليه فهو يعبد الشيطان ولا يشعر وقد أشار زيد بن عمرو بن نفيل في شعره إلى هذا الشرك بالجن فقال
حنانيك إن الجن كانت رجاؤهم ... وأنت إلهي ربنا ورجاؤنا

ولهذا يقولون في القيامة ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال الله تعالى النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله فهذا خطاب للصنفين وهو صريح في اشتراكهم في التكليف كما هو صريح في اشتراكهم في العذاب وهو كثير في القرآن ومما يدل على تكليفهم أيضا قوله تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي إلى قوله تعالى كافرين فلما اعترفوا بأنهم كانوا كافرين وشهدوا على أنفسهم بالكفر دل ذلك على تكليفهم وتوجه الخطاب إليهم وقال تعالى وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا إلى قوله أولئك في ضلال مبين فهذا يدل على تكليفهم من وجوه متعددة أحدها أن الله سبحانه وتعالى صرفهم إلى رسوله يستمعون القرآن ليؤمنوا به ويأمرون بأوامره وينتهوا عن نواهيه الثاني أنهم ولوا إلى قومهم منذرين والإنذار هو الإعلام بالخوف بعد انعقاد أسبابه فعلم أنهم منذرون لهم بالنار إن عصوا الرسول الثالث أنهم أخبروا أنهم سمعوا القرآن وعقلوه وفهموه وأنه يهدي إلى الحق وهذا القول منهم يدل على أنهم عالمون بموسى وبالكتاب المنزل عليه وأن القرآن مصدق له وأنه هاد إلى صراط مستقيم وهذا يدل على تمكنهم من العلم الذي تقوم به الحجة وهم قادرون على امتثال ما فيه والتكليف إنما يستلزم العلم والقدرة الرابع إنهم قالوا لقومهم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به وهذا صريح في أنهم

مكلفون مأمورون بإجابة الرسول وهي تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر الخامس أنهم قالوا يغفر لكم من ذنوبكم والمغفرة لا تكون إلا عن ذنب وهو مخالفة الأمر السادس أنهم قالوا من ذنوبكم والذنب مخالفة الأمر السابع أنهم قالوا ويجركم من عذاب أليم وهذا يدل على أن من لم يستجب منهم لداعي الله لم يجره من العذاب الأليم وهذا صريح في تعلق الشريعة الإسلامية بهم الثامن أنهم قالوا ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء وهذا تهديد لمن تخلف عن إجابة داعي الله منهم وقد استدل بها على أنهم كانوا متعبدين بشريعة موسى كما هم متعبدون بشريعة محمد وهذا ممكن والآية لا تستلزمه ولكن قوله تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم الآية يدل على أن الجن كانوا متعبدين بشرائع الرسل قبل محمد والآيات المتقدمة تدل على ذلك أيضا وعلى هذا فيكون اختصاص النبي بالبعثة إلى الثقلين هو اختصاصه بالبعثة إلى جميعهم لا إلى بعضهم ومن قبله كان يبعث إلى طائفة مخصوصة وأيضا فقد قال تعالى عن نبيه سليمان ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير وهذا محض التكليف وقد تقدم قوله حكاية عنهم وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم إلى قوله تعالى لجهنم حطبا وقد صح أن رسول الله قرأ عليهم القرآن وأنهم سألوه الزاد لهم ولدوابهم فجعل لهم كل عظم ذكر اسم الله

عليه وكل بعرة علف لدوابهم ونهانا عن الاستنجاء بهما ولو لم يكن في هذا إلا قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقد أخبر أنه يعذب كفرة الجن لكفى به حجة على أنهم مكلفون باتباع الرسل ومما يدل على أنهم مأمورون منهيون بشريعة الإسلام ما تضمنته سورة الرحمن فإنه سبحانه وتعالى ذكر خلق النوعين في قوله تعالى خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار ثم خاطب النوعين بالخطاب المضتمن لاستدعاء الإيمان منهم وإنكار تكذيبهم بالآية وترغيبهم في وعده وتخويفهم من وعيده وتهديدهم بقوله تعالى سنفرغ لكم أيه الثقلان وتخويفهم من عواقب ذنوبهم وأنه لعلمه بها لا يحتاج أن يسألهم عنها سؤال استعلام بل يعرف المجرمون منهم بسيماهم فيؤخذ بنواصيهم والأقدام ثم ذكر عقاب الصنفين وثوابهم وهذا كله صريح في أنهم هم المكلفون المأمورون المنهيون المثابون المعاقبون وفي الترمذي من حديث محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال خرج رسول الله على أصحابه فقرأعليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال لقد قرأتها على الجن ليلة الجن وكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على آية فبأي آلاء ربكما تكذبان قالوا

لا شيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد وهذا يدل على ذكائهم وفطنتهم ومعرفتهم بمؤنة الخطاب وعلمهم أنهم مقصودون به وقوله في هذه السورة سنفرغ لكم أيه الثقلان وعيد للصنفين المكلفين بالشرائع قال قتادة معناه فراغ الدنيا وانقضاؤها ومجيء الآخرة والجزاء فيها والله سبحانه لا يشغله شيء عن شيء والفراغ في اللغة على وجهين فراغ من الشغل وفراغ بمعنى القصد وهو في هذا الموضع بالمعنى الثاني وهو قصد لمجازاتهم بأعمالهم يوم الجزاء وقوله يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنقذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا فيها قولان أحدهما إن استطعتم أن تنفذوا ما في السموات والأرض علما أي أن تعلموا ما فيها فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان اي إلا ببينة من الله وعلى هذا فالنفوذ ههنا نفوذ علم الثقلين في السموات والأرض الثاني إن استطعتم أن تخرجوا عن قهر الله ومحل سلطانه ومملكته بنفوذكم من أقطار السموات والأرض وخروجكم عن محل حكم الله وسلطانه فافعلوا ومعلوم أن هذا من الممتنع عليكم فإنكم تحت سلطاني وفي محل ملكي وقدرتي أين كنتم وقال الضحاك معنى الآية إن استطعتم أن تهربوا عند الموت فاهربوا فإنه مدرككم وهذه الأقوال على أن يكون الخطاب لهم بهذا القول في الدنيا وفي الآية تقرير آخر وهو أن يكون هذا الخطاب لهم بهذا القول في الآخرة إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض وأحاط سرادق النار بالآفاق فهرب الخلائق فلا يجدون مهربا ولا منفذا كما قال تعالى ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين قال مجاهد

فارين غير معجزين وقال الضحاك إذا سمعوا زفير النار ندوا هربا فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفا فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه فذلك قوله تعالى والملك على أرجائها وقوله تعالى يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا وهذا القول أظهر والله أعلم فإذا بده الخلائق ولوا مدبرين يقال لهم إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا أي إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم فافعلوا وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول فإن قبلها سنفرغ الآية وهذا في الآخرة وبعدها فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان وهذا في الآخرة وأيضا فإن هذا خطاب لجميع الإنس والجن فإنه أتى فيه بصيغة العموم وهي قوله تعالى يا معشر الجن والإنس فلا بد أن يشترك الكل في سماع هذا الخطاب ومضمونه وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وقال تعالى إن استطعتم ولم يقل إن استطعتما لإرادة الجماعة كما في آية أخرى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم وقال تعالى يرسل عليكما ولم يقل يرسل عليكم لإرادة الصنفين أي لا يختص به صنف بل يرسل ذلك على الصنفين معا وهذا وإن كان مرادا بقوله تعالى إن استطعتم خطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجميع أحسن أي من استطاع منكم وحسن الخطاب بالتثنية في قوله تعالى عليكما أمر آخر وهو موافقة رؤوس الآي فاتصلت التثنية

بالتثنية وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما والله أعلم قال ابن عباس الشواظ اللهب الذي لا دخان فيه والنحاس الدخان الذي لا لهب فيه وقوله تعالى فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان فأضاف الذنوب إلى الثقلين وهذا دليل على أنهما سويا في التكليف واختلف في هذا السؤال المنفي فقيل هو وقت البعث والمصير إلى الموقف لا يسألون حينئذ ويسألون بعد إطالة الوقوف واستشفاعهم إلى الله أن يحاسبهم ويريحهم من مقامهم ذلك وقيل المنفي سؤال الاستعلام والاستخبار لا سؤال المحاسبة والمجازاة أي قد علم الله ذنوبهم فلا يسألهم عنها سؤال من يريد علمها وإنما يحاسبهم عليها فصل فإذا علم تكليفهم بشرائع الأنبياء ومطالبتهم بها وحشرهم يوم القيامة للثواب والعقاب علم أن محسنهم في الجنة كما أن مسيئهم في النار وقد دل على ذلك قوله تعالى حكاية عن مؤمنهم وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه الآية وبهذه الحجة احتج البخاري ووجه الاحتجاج بها أن البخس المنفي هو نقصان الثواب والرهق الزيادة في العقوبة على ما عمل فلا ينقص من ثواب حسناته ولا يزداد في سيئاته ونظير هذا قوله تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما أي لا يخاف زيادة سيئاته ولا نقصان حسناته وأيضا قد قال تعالى في سورة الرحمن ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان وذكر ما في الجنتين إلى قوله تعالى لم يطمثهن

إنس قبلهم ولا جان وهذا يدل على أن ثواب محسنهم الجنة من وجوه
أحدها أن من من صيغ العموم فتتناول كل خائف
الثاني أنه رتب الجزاء المذكور على خوف مقامه فدل على استحقاقه به وقد اختلف في إضافة المقام إلى الرب هل هي من إضافة المصدر إلى فاعله أو إلى مفعوله على قولين أحدهما أن المعنى ولمن خاف مقامه بين يدي ربه فعلى هذا هو إضافة المصدر إلى المفعول والثاني أن المعنى ولمن خالف مقام ربه عليه واطلاعه عليه فهو من باب إضافة المصدر إلى فاعله وكذلك القولان في قوله تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ونظيره قوله تعالى ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد فهذه ثلاثة مواضع وقد يقال الراجح هو الأول وأن المعنى خاف مقامه بين يدي ربه لوجوه أحدها أن طريقة القرآن في التخويف أن يخوفهم بالله وباليوم الآخر فإذا خوفهم به علق الخوف به لا بقيامه عليهم كقوله تعالى فلا تخافوهم وخافون وقوله تعالى ذلك لمن خشي ربه وقوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم وقوله تعالى إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير ففي هذا كله لم يذكر خشية مقامه عليهم وإنما مدحهم بخوفه

وخشيته وقد يذكر الخوف متعلقا بعذابه كقوله تعالى يرجون رحمته ويخافون عذابه وأما خوف مقامه عليهم فهو وإن كان كذلك فليس طريقة القرآن والثاني أن هذا نظير قوله تعالى وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم فخوفهم أن يحشروا إليه هو خوفهم من مقامهم بين يديه والقرآن يفسر بعضه بعضا الثالث أن خوف مقام العبد بين يدي ربه في الآخرة لا يكون إلا ممن يؤمن بلقائه وباليوم الآخر وبالبعث بعد الموت وهذا هو الذي يستحق الجنتين المذكورتين فإنه لا يؤمن بذلك حق الإيمان إلا من آمن بالرسل وهو من الإيمان بالغيب الذي جاءت به الرسل وأما مقام الله على عبده في الدنيا واطلاعه عليه وقدرته عليه فهذا مقر به المؤمن والكافر والبر والفاجر وأكثر الكفار يخافون جزاء الله لهم في الدنيا لما عاينوه من مجازاة الظالم بظلمه والمحسن بإحسانه وأما مقام العبد بين يدي ربه في الآخرة فلا يؤمن به إلا المؤمن بالرسل فإن قيل إذا كان المعنى أنه خاف مقام ربه عليه في الآخرة بالجزاء فقد استوى التقديران فمن أين رجحتم أحدهما قيل التخويف بمقام العبد بين يدي ربه أبلغ من التخويف بمقام الرب على العبد ولهذا خوفنا تعالى في قوله يوم يقوم الناس لرب العالمين ولأنه مقام مخصوص مضاف إلى الله وذلك في يوم القيامة بخلاف مقام الله على العبد فإنه كل وقت وأيضا فإنه لا يقال لقدرة الله على العبد واطلاعه عليه وعلمه به مقام الله ولا هذا من المألوف إطلاقه على الرب وأيضا فإن المقام في القرآن والسنة إنما يطلق على المكان كقوله عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا

وقوله تعالى كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم وقوله تعالى خير مقاما وأحسن نديا والمقصود أن قوله تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان يتناول الصنفين من وجوه تقدم منها وجهان
الثالث قوله عقيب هذا الوعد فبأي آلاء ربكما تكذبان
الرابع أنه ذكر في وصف نسائهم أنهن لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان وهذا والله أعلم معناه أنه لم يطمث نساء الإنس إنس قبلهم ولا نساء الجن جن قبلهم
ومما يدل على أن ثوابهم الجنة قوله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار وأمثال هذه من العمومات وقد ثبت أن منهم المؤمنين فيدخلون في العموم كما أن كافرهم يدخل في الكافرين المستحقين للوعيد ودخول مؤمنهم في آيات الوعد أولى من دخول كافرهم في آيات الوعيد فإن الوعد فضله والوعيد عدله وفضله من رحمته وهي تغلب غضبه وأيضا فإن دخول عاصيهم النار إنما كان لمخالفته أمر الله فإذا أطاع الله أدخل الجنة وأيضا فإنه لا دار للمكلفين سوى الجنة والنار وكل من لم يدخل النار من المكلفين فالجنة مثواه وأيضا فقد ثبت أنهم إذا أجابوا داعي الله غفر لهم وأجارهم من عذابه وكل من غفر له دخل الجنة ولا بد وليس فائدة المغفرة إلا الفوز بالجنة والنجاة من النار وأيضا فإنه قد ثبت ورسوله مع الذين أنعم الله عليهم لقوله تعالى ومن يطع الله

والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وقد أخبر سبحانه عن ملائكته حملة العرش ومن حولهم أنهم يستغفرون للذين آمنوا وأنهم يقولون فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم فدل على أن كل مؤمن غفر الله له ووقاه عذاب الجحيم فقد وعده الجنة وقد ثبت في حق مؤمنهم الإيمان ومغفرة الذنب ووقاية النار كما تقدم فتعين دخولهم الجنة والله أعلم وإذا ثبت تكليفهم بانقسامهم إلى المسلمين والكفار والصالحين ودون ذلك فهم في الموازنة على نحو طبقات الإنس المتقدمية إلا أنهم ليس فيهم رسول وأفضل درجاتهم درجة الصالحين ولو كان لهم درجة أفضل منها لذكروها فقد دل القرآن على انقسامهم إلى ثلاثة أقسام صالحين ودونهم وكفار وزاد عليهم الإنس بدرجة الرسالة والنبوة ودرجة المقربين والله أعلم
فهذا ما وصل إليه الإحصاء من طبقات المكلفين في الدار الآخرة وهي ثمان عشرة طبقة وكل طبقة منها لها أعلى وأدنى ووسط وهم درجات عند الله والله تعالى يحشر الشكل مع شكله والنظير مع نظيره ويقرن بينهما في الدرجة قال تعالى احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله قال الإمام أحمد وقبله عمر بن الخطاب أزواجهم أشباههم ونظراؤهم وقال تعالى وإذا النفوس زوجت

روى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن هذه الآية فقال يقرن الرجل السوء مع الرجل السوء في النار وقال الحسن وقتادة يلحق كل امرىء بشيعته اليهودي باليهودي والنصراني بالنصراني وقال الربيع بن خيثم يحشر الرجل مع صاحب عمله وفي الآية ثلاثة أقوال أخر أحدها أن تزويج النفوس اقترانها بأجسادها وردها إليها الثاني تزويجها اقترانها بأعمالها الثالث أنه تزويج المؤمنين بالحور العين وتزويج الكفار بالشياطين والقول الأول أظهر الأقوال والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

أقسام الكتاب
1 2 3