كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

يُؤَوِّلُونَهَا بِمَا ذُكِرَ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ بِتَأَوُّلِ الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنْ يُقَدَّرَ الْمَوْصُوفُ الْمُذَكَّرُ كَانَ الْأَمْرُ أَسْهَلَ وَيَرْتَفِعُ الِاشْتِبَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ .
ثُمَّ إنَّ الشُّرَّاحَ قَاطِبَةً قَالُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ : أَيْ يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَقْتُ الْإِقْرَارِ لَا وَقْتُ الْمَوْتِ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ : إنَّ اعْتِبَارَ وَقْتِ الْإِقْرَارِ دُونَ وَقْتِ الْمَوْتِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ ، بَلْ ذَلِكَ إذَا كَانَ كَوْنُهُ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ كَوْنُهُ وَارِثًا بِسَبَبٍ كَانَ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا وَقْتَ الْمَوْتِ أَيْضًا ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَرِيضٍ أَقَرَّ لِابْنِهِ الْعَبْدِ فَأُعْتِقَ فَمَاتَ الْأَبُ حَيْثُ صَحَّ الْإِقْرَارُ لِأَنَّ وِرَاثَتَهُ تَثْبُتُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ وَقَبْلَهُ كَانَ عَبْدًا وَكَسْبُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ ، فَهَذَا الْإِقْرَارُ فِي الْمَعْنَى حَصَلَ لِلْمَوْلَى وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ فَلَا يَبْطُلُ بِصَيْرُورَةِ الِابْنِ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ .
وَلَوْ أَقَرَّ لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ قَبْلَهُ حَتَّى صَارَ الْأَخُ وَارِثًا بَطَلَ إقْرَارُهُ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَارِثًا بِسَبَبٍ قَائِمٍ وَقْتَ الْإِقْرَارِ تَبَيَّنَ أَنَّ إقْرَارَهُ حَصَلَ لِوَارِثِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَزْبُورِ : وَأَرَى أَنَّ إطْلَاقَ الْمُصَنِّفِ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ التَّطْوِيلِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ : يُعْتَبَرُ فِي إقْرَارِ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ كَوْنُهُ وَارِثًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِوَارِثٍ عِنْدَ الْإِقْرَارِ لِكَوْنِهِ مَحْرُومًا فَلَا يَكُونُ إقْرَارٌ لِلْوَارِثِ وَكَلَامُنَا فِيهِ وَالْأَخُ لَيْسَ بِمَحْرُومٍ فَيَكُونُ وَارِثًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ ، وَإِنْ

كَانَ مَحْجُوبًا وَالْإِقْرَارُ لِلْوَارِثِ بَاطِلٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَدَارَ هَذَا التَّوْجِيهِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالْوَارِثِ مَا يَعُمُّ الْمَحْجُوبَ وَيُقَابِلُ الْمَحْرُومَ ، وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِالْوَارِثِ هُنَا ذَلِكَ لَكَانَ مُرَادُهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ وَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا ذَلِكَ ، وَإِلَّا لَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ ، فَإِنَّ أَمْرَ الِانْعِكَاسِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمُرَادِ بِالْوَارِثِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْوَارِثِ هُنَاكَ أَيْضًا ذَلِكَ لَفَسَدَ الْمَعْنَى ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ إذَا كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ الْمِيرَاثِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ ، وَنَقَلَهُ الشُّرَّاحُ بِأَسْرِهِمْ عَنْهُ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ وَلَهُ ابْنٌ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ أَثْلَاثًا لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مَعَ الِابْنِ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ مَكَانَ الِابْنِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَالْأَخِ لِأُمٍّ ، وَبَطَلَتْ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّهُ يَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ وَلَا بِنْتٌ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْأَخِ لِأَبٍ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ ، وَبَطَلَتْ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلِلْأَخِ لِأُمٍّ لِأَنَّهُمَا يَرِثَانِهِ انْتَهَى .
فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَارِثِ هُنَا مَا ثَبَتَ لَهُ الْإِرْثُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَحْرُومًا وَلَا مَحْجُوبًا فَاحْتِيجَ إلَى التَّقْيِيدِ فِي صُورَةِ الْإِقْرَارِ بِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْغَايَةِ رَدَّ عَلَى صَاحِبِ النِّهَايَةِ هُنَا بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : وَذُكِرَ فِي وَصَايَا الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَوْ أَنَّ الْمَرِيضَ أَقَرَّ لِابْنِهِ بِدَيْنٍ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ أَوْ عَبْدٌ ثُمَّ أَسْلَمَ الِابْنُ أَوْ أُعْتِقَ

الْعَبْدُ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ ، لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ كَانَ سَبَبُ التُّهْمَةِ بَيْنَهُمَا قَائِمًا وَهُوَ الْقَرَابَةُ الَّتِي صَارَ بِهَا وَارِثًا فِي ثَانِي الْحَالِ .
ثُمَّ قَالَ : فَعَنْ هَذَا عَرَفْت أَنَّ مَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي شَرْحِهِ سَهْوٌ مِنْهُ لَا يَصِحُّ نَقْلُهُ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : أَقَرَّ لِابْنِهِ بِدَيْنِ عَبْدٍ ثُمَّ أُعْتِقَ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَهُوَ مِنْ وَرَثَتِهِ فَإِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ جَائِزٌ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ ، فَهَذَا الْإِقْرَارُ حَصَلَ مِنْ الْمَرِيضِ فِي الْمَعْنَى لِلْمَوْلَى وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ ا هـ .
أَقُولُ : السَّاهِي هُنَا صَاحِبُ الْغَايَةِ نَفْسُهُ ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي نَسَبَ السَّهْوَ إلَيْهِ ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ نَقْلًا مِنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ فِي فَصْلِ اعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَصِيَّةِ مِنْ بَابِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فِيمَا سَيَأْتِي ، وَاعْتَرَفَ صَاحِبُ الْغَايَةِ أَيْضًا ثَمَّةَ بِأَنَّ الصَّدْرَ الشَّهِيدَ وَغَيْرَهُ ذَكَرُوا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ نَقْلًا عَنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ ، فَمَا قَالَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ سَهْوٌ مِنْهُ لَا يَصِحُّ لَعَلَّهُ غُفُولٌ عَنْ ذَلِكَ وَسَهْوٌ مِنْ نَفْسِهِ كَمَا لَا يَخْفَى .
نَعَمْ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ هُنَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ وَصَايَا الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ السَّهْوُ ، فَإِنَّهُ بَنَى كَلَامَهُ هُنَا عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ ، وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي كَلِمَاتِ الثِّقَاتِ .
ثُمَّ إنَّ تَاجَ الشَّرِيعَةِ بَعْدَ أَنْ فَسَّرَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ " بِقَوْلِهِ : أَيْ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا وَغَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْإِقْرَارِ لَا زَمَانَ الْمَوْتِ ، قَالَ : فَلَوْ كَانَ وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَارِثًا لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا زَمَانَ الْمَوْتِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَارِثًا صَحَّ الْإِقْرَارُ وَإِنْ صَارَ وَارِثًا زَمَانَ الْمَوْتِ ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إيجَابٌ فِي الْحَالِ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ

الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْحَالِ وَيَصِحُّ رَدُّهُ فِي الْحَالِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فَلَوْ كَانَ وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَارِثًا لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا زَمَانَ الْمَوْتِ مِمَّا يُنَافِيهِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ فِي فَصْلِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ مِنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ حَيْثُ قَالَ : وَلَوْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا بِأَنْ أَقَرَّ الْأَخُ لَهُ ثُمَّ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ صَحَّ إقْرَارُهُ انْتَهَى .
ثُمَّ إنَّ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ هُنَا كَلِمَاتٌ مُفَصَّلَةٌ غَيْرُ خَالِيَةٍ عَنْ الِاخْتِلَالِ فِي بَعْضِ مَوَاضِعِهَا تَرَكْنَا ذِكْرَهَا وَبَيَانَ اخْتِلَالِهَا مَخَافَةً مِنْ الْإِطْنَابِ الْمُمِلِّ .

قَالَ ( وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ وَالْكَافِرُ لِلْمُسْلِمِ ) فَالْأُولَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } الْآيَةَ .
وَالثَّانِي لِأَنَّهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَلِهَذَا جَازَ التَّبَرُّعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْوَصِيَّةُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ } الْآيَةَ .

( قَوْلُهُ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ ) قَالَ فِي الْكِفَايَةِ : أَرَادَ بِهِ الذِّمِّيَّ بِدَلِيلِ التَّعْلِيلِ ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ وَالتَّعْلِيلُ وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إنَّمَا هُمَا مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ جَعْلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ دَلِيلًا عَلَى إرَادَةِ الْقُدُورِيِّ بِالْكَافِرِ الذِّمِّيِّ دُونَ مُطْلَقِ الْكَافِرِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِهِ ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْحَرْبِ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هُوَ الْحَرْبِيُّ الْغَيْرُ الْمُسْتَأْمَنِ ، لِأَنَّ لَفْظَ الْجَامِعِ هَكَذَا الْوَصِيَّةُ لِحَرْبِيٍّ هُوَ فِي دَارِهِمْ بَاطِلَةٌ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ فَبَقِيَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ خَارِجًا عَنْ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، فَكَيْفَ تَكُونُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْكَافِرِ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ هُوَ الذِّمِّيُّ دُونَ مَا يَعُمُّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ لِلذِّمِّيِّ .
نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَاصُ التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِالذِّمِّيِّ دَلِيلًا عَلَى حَمْلِ الْمُصَنِّفِ مُرَادَ الْقُدُورِيِّ بِالْكَافِرِ عَلَى الذِّمِّيِّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عَلَى أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ بِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ هُوَ الذِّمِّيُّ .
وَأَمَّا ذِكْرُ الْمُصَنِّفِ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْحَرْبِيِّ الْغَيْرِ الْمُسْتَأْمَنِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى حَمْلِ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا إيَّاهُ عَلَى الذِّمِّيِّ فَقَطْ كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْوَصِيَّةُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ ) قَالَ شُرَّاحُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى

جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ ، فَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ ، وَإِنْ فُعِلَ جَازَ وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ صَاحِبُ الْكَافِي وَشُرَّاحُ هَذَا الْكِتَابِ .
أَقُولُ : وَالْإِنْصَافُ أَنَّ لَفْظَةَ بَاطِلَةٍ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِمَّا يَأْبَى التَّوْفِيقُ الْمَذْكُورُ جِدًّا ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْبَاطِلَ مِنْ الْعُقُودِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ ، بِخِلَافِ الْفَاسِدِ مِنْهَا فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْقَبْضِ ، فَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ لَفْظَةَ فَاسِدَةٍ بَدَلَ لَفْظَةِ بَاطِلَةٍ لَكَانَ لِذَلِكَ التَّوْفِيقِ وَجْهٌ وَلَيْسَ فَلَيْسَ .
ثُمَّ أَقُولُ : لَعَلَّ الْحَقَّ هُنَا رَأْيُ صَاحِبِ الْمُحِيطِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُمْ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ ، بَلْ نَقَلَ مَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ حَيْثُ قَالَ : وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ قَالُوا : وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ : مِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ بَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فَقَالَ : لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوصِيَ لِلْحَرْبِيِّ كَمَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ ، وَلَكِنْ لَوْ فَعَلَ جَازَتْ وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ كَمَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ ، هَكَذَا قَالُوا .
وَالْمَذْكُورُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْحَرْبِيِّ بَاطِلَةٌ ، وَالصُّورَةُ الْمَذْكُورَةُ ثَمَّةَ لَوْ أَوْصَى مُسْلِمٌ لِحَرْبِيٍّ وَالْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَجُوزُ فَإِنْ خَرَجَ الْحَرْبِيُّ الْمُوصَى لَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَأَرَادَ أَخْذَ وَصِيَّتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِصِفَةِ الْبُطْلَانِ فَلَا تُعْمَلُ

إجَازَةُ الْوَرَثَةِ فِيهَا ، فَقَدْ نَصَّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَنَصَّ عَلَى الْبُطْلَانِ فِي الْفَرْعِ وَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِهَا ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ فَتَأَمَّلْ ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ التَّوْفِيقَ الْمَارَّ الذِّكْرِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ وَعَزَاهُ إلَى الْكَافِي وَالنِّهَايَةِ قَالَ : أَقُولُ لَا يَخْفَى بَعْدَهُ ، بَلْ وَجْهُ التَّوْفِيقِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ فِي دَارِهِمْ فَإِنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ حَرْبِيٍّ لَيْسَ فِي دَارِهِمْ وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِمَّنْ يُقَاتِلُنَا بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِمَّا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : هَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ ، فَإِنَّ لَفْظَ السِّيَرِ الْكَبِيرِ عَلَى مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ : لَوْ أَوْصَى مُسْلِمٌ لِحَرْبِيٍّ وَالْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجُوزُ انْتَهَى ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْمَنُ هُوَ الْمُرَادَ مِمَّا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ .

قَالَ ( وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنْ قَبِلَهَا الْمُوصَى لَهُ حَالَ الْحَيَاةِ أَوْ رَدَّهَا فَذَلِكَ بَاطِلٌ ) لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ قَبْلَهُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ قَبْلَ الْعَقْدِ .
( قَوْلُهُ وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَإِنْ قَبِلَهَا الْمُوصَى لَهُ حَالَ الْحَيَاةِ أَوْ رَدَّهَا فَذَلِكَ بَاطِلٌ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : لَا يَخْفَى أَنَّ بَيَانَ وَقْتِ الْقَبُولِ حَقُّهُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى بَيَانِ وُجُوبِ الْقَبُولِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ قَوْلُهُ فَالْوَصِيُّ بِهِ يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ عَلَى قَوْلِهِ وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا مَسْأَلَةُ اسْتِحْبَابِ الْوَصِيَّةِ بِمَا دُونَ الثُّلُثِ ا هـ .
أَقُولُ : خَبَطَ ذَلِكَ الْقَائِلُ فِي تَحْرِيرِهِ هَذَا خَبْطَ عَشْوَاءَ ، لِأَنَّ بَيَانَ وَقْتِ الْقَبُولِ إنْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى بَيَانِ وُجُوبِ الْقَبُولِ فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ قَوْلَهُ فَالْمُوصَى بِهِ يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ عَلَى قَوْلِهِ وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، لِأَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ إنَّمَا هُوَ مَا حَقُّهُ أَنْ يُقَدَّمَ وَهُوَ بَيَانُ وَقْتِ الْقَبُولِ عَلَى مُقْتَضَى صَرِيحِ كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَنْبَغِي عَكْسَ مَا ذَكَرَهُ وَذَلِكَ عَيْنُ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ : لَا يَخْفَى أَنَّ بَيَانَ وُجُوبِ الْقَبُولِ حَقُّهُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى بَيَانِ وَقْتِ الْقَبُولِ فَخَبَطَ فِي تَحْرِيرِهِ حَيْثُ عَكَسَ الْأَمْرَ .

قَالَ ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ الثُّلُثِ ) سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ ، لِأَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ بِتَرْكِ مَا لَهُ عَلَيْهِمْ ، بِخِلَافِ اسْتِكْمَالِ الثُّلُثِ ، لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ تَمَامِ حَقِّهِ فَلَا صِلَةَ وَلَا مِنَّةَ ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْلَى أَمْ تَرْكُهَا ؟ قَالُوا : إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ وَلَا يَسْتَغْنُونَ بِمَا يَرِثُونَ فَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ } وَلِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَالْقَرَابَةِ جَمِيعًا ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَكُونُ صَدَقَةً عَلَى الْأَجْنَبِيِّ ، وَالتَّرْكُ هِبَةٌ مِنْ الْقَرِيبِ وَالْأُولَى أَوْلَى لِأَنَّهُ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقِيلَ فِي هَذَا الْوَجْهِ يُخَيَّرُ لِاشْتِمَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى فَضِيلَةٍ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَالصِّلَةُ فَيُخَيِّرُ بَيْنَ الْخَيْرَيْنِ .
قَالَ ( وَالْمُوصَى بِهِ يُمْلَكُ بِالْقَبُولِ ) خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
هُوَ يَقُولُ : الْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ ، إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا خِلَافَةٌ لِمَا أَنَّهُ انْتِقَالٌ ، ثُمَّ الْإِرْثُ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ .
وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ إثْبَاتُ مِلْكٍ جَدِيدٍ ، وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ ، أَمَّا الْوِرَاثَةُ فَخِلَافَةٌ حَتَّى يَثْبُتَ فِيهَا هَذِهِ الْأَحْكَامُ فَيَثْبُتُ جَبْرًا مِنْ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ .
قَالَ ( إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَمُوتَ الْمُوصِي ثُمَّ يَمُوتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ فَيَدْخُلُ الْمُوصَى بِهِ فِي مِلْكِ وَرَثَتِهِ ) اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْقَبُولِ

فَصَارَ كَمَوْتِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبُولِهِ بَعْدَ إيجَابِ الْبَائِعِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنْ جَانِبِ الْمُوصِي قَدْ تَمَّتْ بِمَوْتِهِ تَمَامًا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَتْ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ ، فَإِذَا مَاتَ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِجَازَةِ .

( قَوْلُهُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ الثُّلُثِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ ، لِأَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ بِتَرْكِ مَالِهِ عَلَيْهِمْ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : كَمَا أَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ كَذَلِكَ فِي التَّكْمِيلِ صَدَقَةٌ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ ، وَفِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ كَانَتْ الصِّلَةُ لَهُمْ هِبَةً مِنْهُمْ ، فَالصَّدَقَةُ أَوْلَى مِنْ الْهِبَةِ كَمَا سَيَجِيءُ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي تَعْلِيلِ كَوْنِ الْوَصِيَّةِ بِدُونِ الثُّلُثِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّكْمِيلُ أَيْضًا أَوْلَى مِنْ التَّنْقِيصِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ فَمَا وَجْهُ التَّعْمِيمِ هُنَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ فِي التَّنْقِيصِ أَصْلَ صِلَةِ الْقَرِيبِ لَا زِيَادَتَهَا ، وَفِي التَّكْمِيلِ زِيَادَةُ الصَّدَقَةِ لَا أَصْلُهَا لِتَحَقُّقِ أَصْلِهَا بِمَا دُونَ الثُّلُثِ بِدُونِ التَّكْمِيلِ ، فَفِي اخْتِيَارِ التَّكْمِيلِ تَفْوِيتُ صِلَةِ الْقَرِيبِ عَنْ أَصْلِهَا : أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَلَيْسَ فِي التَّنْقِيصِ تَفْوِيتُ الصَّدَقَةِ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ فِيهِ تَفْوِيتُ بَعْضِهَا ، فَكَانَ فِي اخْتِيَارِ التَّنْقِيصِ الْعَمَلُ بِالْفَضِيلَتَيْنِ مَعًا فَضِيلَةِ الصَّدَقَةِ وَفَضِيلَةِ صِلَةِ الْقَرِيبِ ، وَفِي اخْتِيَارِ التَّكْمِيلِ الْعَمَلُ بِفَضِيلَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ وَهِيَ فَضِيلَةُ الصَّدَقَةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا مَعًا أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا فَقَطْ .
( قَوْلُهُ ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْلَى أَمْ تَرْكُهَا ) أَقُولُ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : قَدْ حُكِمَ فِيمَا مَرَّ آنِفًا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِدُونِ الثُّلُثِ مُسْتَحَبَّةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ الَّذِي كَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ فَمَا مَعْنَى التَّرْدِيدِ هُنَا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْلَى أَمْ تَرْكُهَا وَالتَّفْصِيلُ

بِقَوْلِهِ قَالُوا إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ إلَخْ ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِحْبَابَ فِي قَوْلِهِ سَابِقًا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ الثُّلُثِ لَيْسَ بِنَاظِرٍ إلَى قَوْلِهِ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ بَلْ إلَى قَوْلِهِ بِدُونِ الثُّلُثِ : أَيْ مَصَبُّ الْإِفَادَةِ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ قَيْدُهُ لَا نَفْسُهُ ، فَمَآلُ مَعْنَاهُ إلَى أَنَّ التَّنْقِيصَ عَنْ الثُّلُثِ فِي الْوَصِيَّةِ مُسْتَحَبٌّ مُطْلَقًا ، وَهَذَا إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّنْقِيصُ مِنْ الثُّلُثِ فِي الْوَصِيَّةِ أَوْلَى مِنْ التَّكْمِيلِ مُطْلَقًا وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ : لِأَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ بِتَرْكِ مَالِهِ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْوَصِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ التَّنْقِيصِ عَنْ الثُّلُثِ أَيْضًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ، فَبَيَّنَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ بِمَا قَالُوا : إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ وَلَا يَسْتَغْنُونَ بِمَا يَرِثُونَ فَتَرْكُهَا بِالْكُلِّيَّةِ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى ، فَلَمْ يَكُنْ تَرْدِيدُهُ وَتَفْصِيلُهُ هَاهُنَا مُخَالِفًا لِمَا سَبَقَ آنِفًا ، بَلْ كَانَ بِمُلَاحَظَةِ ذَلِكَ وَرِعَايَتِهِ عَلَى حَالِهِ ، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ هَذَا الْمَقَامُ .
( قَوْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ } ) وَالْكَاشِحُ : الْعَدُوُّ الَّذِي أَبْدَى كَشْحَهُ ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْخَاصِرَةِ إلَى الضِّلْعِ .
وَقِيلَ الْكَاشِحُ : هُوَ الَّذِي أَضْمَرَ الْعَدَاوَةَ فِي كَشْحِهِ .
وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذَا التَّصَدُّقَ أَفْضَلَ لِأَنَّ فِي التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ مُخَالَفَةَ النَّفْسِ وَقَهْرَهَا ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ حِينَئِذٍ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ لَا عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ فَلَا يَتِمُّ

التَّقْرِيبُ ، وَقَدْ تَنَبَّهَ لَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَفِي بِتَمَامِ الْمُدَّعَى وَلِذَلِكَ لَمْ يُصَدِّرْهُ بِأَدَاةِ التَّعْلِيلِ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يُصَدِّرْهُ بِأَدَاةِ التَّعْلِيلِ لَا يُجْدِي نَفْعًا ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ هُنَا سَوَاءٌ صَدَّرَهُ بِأَدَاةِ التَّعْلِيلِ أَوْ لَمْ يُصَدِّرهُ بِهَا ، وَلِهَذَا صَدَّرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي بِاللَّامِ حَيْثُ قَالَ : لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ } ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ كَأَنَّهُ قَصَدَ دَفْعَ ذَلِكَ الْقُصُورِ وَإِصْلَاحَ الْمَقَامِ فَقَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ : هَذَا قِيَاسٌ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ كُبْرَاهُ مَطْوِيَّةٌ وَهِيَ وَكُلُّ صَدَقَةٍ عَلَى الْقَرِيبِ أَوْلَى مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى غَيْرِهِ أُقِيمَ دَلِيلُهَا مَقَامَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ } فَإِنَّهُ بِصَرِيحِهِ يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي رَحِمٍ كَاشِحٍ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي رَحِمٍ غَيْرِ كَاشِحٍ .
وَتَخْصِيصُ الْكَاشِحِ بِذِي الرَّحِمِ يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ أَيْضًا بِتَامٍّ فَإِنَّا إنْ أَغْمَضْنَا عَنْ مَنْعِ قَوْلِهِ فَإِنَّهُ بِصَرِيحِهِ يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ كَاشِحٍ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي رَحِمٍ غَيْرِ كَاشِحٍ نَمْنَعُ جِدًّا قَوْلَهُ وَتَخْصِيصُ الْكَاشِحِ بِذِي الرَّحِمِ يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ عَلَى غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْكَاشِحِ بِذِي الرَّحِمِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلتَّصَدُّقِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ تَأْثِيرٌ فِي أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ ، كَمَا أَنَّ لِكَوْنِهِ كَاشِحًا تَأْثِيرًا فِيهَا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَدُّقُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْغَيْرِ الْكَاشِحِ

أَفْضَلَ مِنْ التَّصَدُّقِ عَلَى غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ ، لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا انْتِفَاءَ أَحَدِ سَبَبَيْ الْأَفْضَلِيَّةِ الْمُسْتَفَادَيْنِ مِنْ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ ، فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَفْضَلِيَّةُ أَحَدِهِمَا تَأَمَّلْ تَقِفْ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَكُونُ صَدَقَةً عَلَى الْأَجْنَبِيِّ ، وَالتَّرْكُ هِبَةٌ مِنْ الْقَرِيبِ وَالْأُولَى أَوْلَى ) أَقُولُ : لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ الْوَصِيَّةِ صَدَقَةً عَلَى الْأَجْنَبِيِّ مُطْلَقًا ، إذْ الْأَجْنَبِيُّ الْمُوصَى لَهُ قَدْ يَكُونُ غَنِيًّا أَيْضًا فَلَمْ يَثْبُت أَوْلَوِيَّةُ الْوَصِيَّةِ مِنْ تَرْكِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَتَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : صُورَةُ الْأَوَّلِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَرِيضُ شَيْئًا وَيُوصِيَ بِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ الْمُوصَى لَهُ يَجِدُهُ مَعِيبًا فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ .
وَصُورَةُ الثَّانِي أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ بَاعَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ وَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا لَا يَرُدُّهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي تَصْوِيرِ الثَّانِي بِمَا ذَكَرَ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْمُوصِيَ إذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ الْمُوصَى بِهِ يَصِيرُ رَاجِعًا عَنْ وَصِيَّتِهِ كَمَا سَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ عَنْ قَرِيبٍ ، فَفِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ يَكُونُ عَدَمُ ثُبُوتِ وِلَايَةِ رَدِّ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ مِنْ الْمُوصِي عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ لِرُجُوعِ الْمُوصِي عَنْ وَصِيَّةِ مَا بَاعَهُ مِنْ التَّرِكَةِ بِبَيْعِهِ وَعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِذَلِكَ بَعْدَ تَحَقُّقِ الرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ لَا لِكَوْنِ الْوَصِيَّةِ إثْبَاتَ مِلْكٍ جَدِيدٍ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ ) لِأَنَّ الدَّيْنَ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ الْحَاجَتَيْنِ فَإِنَّهُ فَرْضٌ وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ ، وَأَبَدًا يُبْدَأْ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ .
( إلَّا أَنْ يُبَرِّئَهُ الْغُرَمَاءُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الدَّيْنُ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ عَلَى الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا .
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِمَالِهِ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ الْحَاجَتَيْنِ فَإِنَّهُ فَرْضٌ وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ ) أَقُولُ : هَذَا التَّعْلِيلُ مَنْقُوضٌ بِالْوَصِيَّةِ بِنَحْوِ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ .
فَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ الْبَسْطُ بِأَنْ يُقَالَ : لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَأَدَاؤُهُ فَرْضٌ ، وَالْوَصِيَّةُ تَكُونُ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فِي الْغَالِبِ وَقَدْ تَكُونُ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَتْ لِأَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْفَائِتَةِ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِمَا ، وَأَيًّا مَا كَانَ يُقَدَّمُ الدَّيْنُ عَلَيْهَا .
أَمَّا فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ أَدَاءَ الدَّيْنِ فَرْضٌ وَالْفَرْضُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّبَرُّعِ لَا مَحَالَةَ .
وَأَمَّا فِي الشِّقِّ الثَّانِي فَلِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّ الْعَبْدِ وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إذَا اجْتَمَعَا لِاحْتِيَاجِ الْعَبْدِ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا عُرِفَ فِي مَحِلِّهِ .

قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَصِحُّ إذَا كَانَ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ يَفَاعٍ أَوْ يَافَاعٍ وَهُوَ الَّذِي رَاهَقَ الْحُلُمَ ، وَلِأَنَّهُ نَظَرَ لَهُ بِصَرْفِهِ إلَى نَفْسِهِ فِي نَيْلِ الزُّلْفَى ، وَلَوْ لَمْ تَنْفُذْ يَبْقَى عَلَى غَيْرِهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَلْزُومٍ وَفِي تَصْحِيحِ وَصِيَّتِهِ قَوْلٌ بِإِلْزَامِ قَوْلِهِ وَالْأَثَرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْحُلُمِ مَجَازًا أَوْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ فِي تَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَهُوَ يُحْرِزُ الثَّوَابَ بِالتَّرْكِ عَلَى وَرَثَتِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ النَّظَرُ إلَى أَوْضَاعِ التَّصَرُّفَاتِ لَا إلَى مَا يَتَّفِقُ بِحُكْمِ الْحَالِ اعْتَبَرَهُ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَلَا وَصِيَّهُ وَإِنْ كَانَ يَتَّفِقُ نَافِعًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، وَكَذَا إذَا أَوْصَى ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَقْتَ الْمُبَاشَرَةِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ إذَا أَدْرَكْت فَثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَصِيَّةً لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّ أَهْلِيَّتَهُمَا مُسْتَتِمَّةٌ وَالْمَانِعُ حَقُّ الْمَوْلَى فَتَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى حَالِ سُقُوطِهِ .

( قَوْلُهُ وَالْأَثَرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْحُلُمِ مَجَازًا ) يَعْنِي كَانَ بَالِغًا لَمْ يَمْضِ عَلَى بُلُوغِهِ زَمَانٌ كَثِيرٌ ، وَمِثْلُهُ يُسَمَّى يَافِعًا مَجَازًا تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا ( أَوْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ فِي تَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : وَفِيهِ نَظَرٌ عِنْدِي ، لِأَنَّهُ صَرَّحَ الرَّاوِي بِأَنَّهُ أَوْصَى لِابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِمَالٍ فَكَيْفَ يُسَمَّى ذَلِكَ وَصِيَّةً بِتَجْهِيزِ نَفْسِهِ ، وَكَيْفَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ كَانَ أَدْرَكَ لَكِنْ سُمِّيَ غُلَامًا مَجَازًا لِأَنَّهُ صَحَّ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ غُلَامًا لَمْ يَحْتَلِمْ انْتَهَى .
وَرَدَّ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَاصِلَ نَظَرِهِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : وَرُدَّ بِأَنَّهُ صَحَّ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ غُلَامًا لَمْ يَحْتَلِمْ وَأَنَّهُ أَوْصَى لِابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِمَالٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّأْوِيلُ بِكَوْنِهِ يَافِعًا مَجَازًا أَوْ يَكُونُ الْوَصِيَّةُ فِي التَّجْهِيزِ وَأَمْرِ الدَّفْنِ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ كَانَ غُلَامًا لَمْ يَحْتَلِمْ مَعْنَى الْيَافِعِ حَقِيقَةً فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي نَقَلَهُ بِمَعْنَاهُ ، وَقَوْلُهُ إنَّهُ أَوْصَى لِابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِمَالٍ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ الْجَوَابُ بِسَدِيدٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَفْظُ الْيَافِعِ فِي الْأَثَرِ الْمَزْبُورِ مَجَازًا عَمَّنْ كَانَ بَالِغًا لَمْ يَمْضِ عَلَى بُلُوغِهِ زَمَانٌ كَثِيرٌ كَانَ مَعْنَى الْيَافِعِ حَقِيقَةً غَيْرَ مُرَادٍ فِي ذَلِكَ الْأَثَرِ بَلْ غَيْرَ وَاقِعٍ فِي أَصْلِ الْقِصَّةِ ، فَلَوْ كَانَ الرَّاوِي نَقَلَهُ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ لَزِمَ أَنْ يَكْذِبَ فِي نَقْلِهِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا : فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَقَوْلُهُ " إنَّهُ أَوْصَى لِابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِمَالٍ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ " مَمْنُوعٌ جِدًّا ، فَإِنَّ

مَعْنَى أَوْصَى لَهُ بِمَالٍ مَلَّكَهُ إيَّاهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِتَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ لَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ كَمَا لَا يَخْفَى .
نَعَمْ لَوْ كَانَ الْمَرْوِيُّ فِي الْأَثَرِ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى ابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِكَلِمَةِ " إلَى " بَدَلَ كَلِمَةِ " اللَّامِ " لَمْ يَلْزَمْ التَّنَافِي ، لِأَنَّ مَعْنَى أَوْصَى إلَيْهِ جَعَلَهُ وَصِيًّا فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ابْنَةُ عَمِّهِ وَصِيَّتَهُ فِي تَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ ، وَلَمَّا كَانَ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَوْصَى لِابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِمَالٍ لَمْ يَبْقَ لِلتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ مَجَالٌ .
( قَوْلُهُ وَهُوَ يُحْرِزُ الثَّوَابَ بِالتَّرْكِ عَلَى وَرَثَتِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ يُحْرِزُ الثَّوَابَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ نَظَرَ لَهُ بِصَرْفِهِ إلَى نَفْسِهِ فِي نَيْلِ الزُّلْفَى ، وَقَوْلُهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَنْ الْقَرِيبِ إلَخْ ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ إمَّا أَفْضَلِيَّةَ التَّرْكِ فِي الثَّوَابِ أَوْ تُسَاوِيهِمَا فِيهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ إشْكَالٌ ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ قَوْلَهُ لِمَا بَيَّنَّاهُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ إلَى آخِرِهِ : أَيْ إلَى آخِرِ تَعْلِيلِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ مَا يَنْتَهِي عِنْدَ قَوْلِهِ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَتِمَّ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هُنَا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِي صُورَةِ إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ فَلَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلِأَنَّهُ نَظَرَ لَهُ بِصَرْفِهِ إلَى نَفْسِهِ فِي نَيْلِ الزُّلْفَى فِي صُورَةٍ إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ ، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُ الشَّارِحِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ إمَّا أَفْضَلِيَّةَ التَّرْكِ فِي الثَّوَابِ أَوْ تُسَاوِيَهُمَا فِيهِ إذْ الْأَفْضَلِيَّةُ مُتَعَيِّنَةٌ حِينَئِذٍ فَلَا مَعْنَى لِلتَّرْدِيدِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إلَخْ ، قَوْلُهُ وَالْمُوصَى بِهِ يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ لِتَنَاوُلِهِ صُورَةَ إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَيْضًا

يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجْرِيَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هُنَا ، وَكَلَامُ الشَّارِحِ أَيْضًا فِي صُورَةِ إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ الضَّعِيفِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ بِقِيلَ وَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَتَرْكِهَا عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ أَوَّلًا وَهُوَ كَوْنُ الْوَصِيَّةِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا .
وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَخْلُو الْمَقَامُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الِاخْتِلَالِ .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هُنَا بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي الْعِنَايَةِ : وَفِيهِ أَنَّ التَّسَاوِيَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ كَمَا سَبَقَ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الْمَقْصُودِ انْتَهَى .
أَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الْمَقْصُودِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ لَا أَفْضَلِيَّةَ لِلتَّرْكِ فِي صُورَةِ إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ ، بَلْ الْأَفْضَلِيَّةُ فِيهَا لِلْوَصِيَّةِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ أَوْ الْوَصِيَّةُ وَتَرْكُهَا سِيَّانِ فِيهَا عَلَى الْقَوْلِ الضَّعِيفِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا سَبَقَ ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَلِأَنَّهُ نَظَرَ لَهُ بِصَرْفِهِ إلَى نَفْسِهِ فِي نَيْلِ الزُّلْفَى ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَهُوَ يُحْرِزُ الثَّوَابَ بِالتَّرْكِ عَلَى وَرَثَتِهِ فِي صُورَةِ إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ بِالتَّشَبُّثِ إلَّا بِالْقَوْلِ الضَّعِيفِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ تُسَاوِي الْوَصِيَّةِ وَتَرْكِهَا إذْ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ فِيهَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ أَفْضَلَ فَلَا يَتَيَسَّرُ إحْرَازُ الثَّوَابِ بِتَرْكِهَا فَتَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذِكْرِ التَّسَاوِي لِيَتِمَّ الْجَوَابُ بِالنَّظَرِ إلَى تِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا .
وَعَنْ هَذَا أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى مَا فِي الْعِنَايَةِ مَا أَوْرَدَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُقَدِّمَةَ الْقَائِلَةَ ، لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الْمَقْصُودِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ التَّسَاوِيَ فِيهِ ضَعِيفٌ ، وَلِذَلِكَ الْبَعْضِ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ انْتَهَى .

قَالَ ( وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً ) لِأَنَّ مَالَهُ لَا يَقْبَلُ التَّبَرُّعَ ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَصِحُّ ، وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ رَدًّا لَهَا إلَى مُكَاتَبٍ يَقُولُ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ عَتَقَ فَمَلَكَ ، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعْرُوفٌ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .

قَالَ ( وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَبِالْحَمْلِ إذَا وُضِعَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ اسْتِخْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ خَلِيفَةً فِي بَعْضِ مَالِهِ وَالْجَنِينُ صَلَحَ خَلِيفَةً فِي الْإِرْثِ فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ إذْ هِيَ أُخْتُهُ ، إلَّا أَنْ يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ ، لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مَحْضٌ وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ لِيُمَلِّكَهُ شَيْئًا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ بِعَرْضِ الْوُجُودِ ، إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُلِمَ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ، وَبَابُهَا أَوْسَعُ لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ وَعَجْزِهِ ، وَلِهَذَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوْجُودِ كَالثَّمَرَةِ فَلَأَنْ تَصِحَّ فِي الْمَوْجُودِ أَوْلَى .

( قَوْلُهُ وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَبِالْحَمْلِ إذَا وُضِعَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ ) أَيْ وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ وَبِالْحَمْلِ كَمَا إذَا أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَهُ أَوْ بِهِ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَصَحَّحَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ ، أَوْ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي بَابِ الْوَصَايَا وَالْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَايَةُ الْبَيَانِ .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ أَنْ شَرَحَ الْمَقَامَ بِهَذَا الْمِنْوَالِ : أَقُولُ : لَيْسَ مَبْنَى هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ وُجُودُ الْمُوصَى لَهُ وَبِهِ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي ، أَوْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ وُجُودِهِمَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لِاتِّفَاقِ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ لِصِحَّتِهَا وُجُودُهُمَا وَقْتَ الْمَوْتِ فَقَطْ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا إذْ ذَاكَ دُونَ وَقْتِ الْإِيجَابِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ ، وَسَيَجِيءُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ مَا تَرَكَ ، وَبِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ نَقْلًا عَنْ الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَنِي فُلَانٍ وَلَيْسَ لِفُلَانٍ ابْنٌ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ حَدَثَ لَهُ بَنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَاتَ الْمُوصِي كَانَ الثُّلُثُ لِلَّذِينَ حَدَثُوا مِنْ بَنِيهِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ

مَنْشَأَ الِاخْتِلَافِ لَيْسَ بِذَاكَ بَلْ خُصُوصِيَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ اعْتَبَرَهَا الطَّحَاوِيُّ وَلَمْ يَتَنَبَّهْ لَهَا غَيْرُهُ ، وَهِيَ أَنَّ الْمَفْهُومَ عُرْفًا وَلُغَةً إذَا قِيلَ أَوْصَيْت لِمَا فِي بَطْنِهَا بِكَذَا كَوْنُهُ مَوْجُودًا فِي بَطْنِهَا وَقْتَئِذٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى لِمَا ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ فِي بَطْنِهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ ، إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْبَعْضِ .
أَقُولُ : فِيهِ اخْتِلَافٌ فَاحِشٌ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ لِاتِّفَاقِ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ لِصِحَّتِهَا وُجُودُهُمَا وَقْتَ الْمَوْتِ فَقَطْ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَقَدْ وُضِعَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ فَصْلٌ عَلَى حِدَةٍ لِبَيَانِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ فِي الْوَصَايَا وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ وُجُودُهُ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ ، وَذَكَرَ هُنَاكَ أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمُوصَى بِهِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا يُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ وُجُودُهُ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ ، حَتَّى إنَّ مَنْ أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِعَيْنٍ لَا يَمْلِكُهُ ثُمَّ مَلَكَهُ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ ، وَإِذَا كَانَ الْعَيْنُ الْمُوصَى بِهِ فِي مِلْكِ الْمُوصِي يَوْمَ الْوَصِيَّةِ فَالْوَصِيَّةُ تَتَعَلَّقُ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ ذَلِكَ الْعَيْنُ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ ، وَمَتَى كَانَ الْمُوصَى بِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَهُوَ شَائِعٌ فِي بَعْضِ التَّرِكَةِ فَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ وَتَتَعَلَّقُ الْوَصِيَّةُ بِهِ ، فَلَوْ قَالَ أَوْصَيْت لَك بِثُلُثِ غَنَمِي أَوْ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِي وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ غَنَمٌ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ ، حَتَّى لَوْ وُجِدَتْ لِلْمُوصِي أَغْنَامٌ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ لَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ الْأَغْنَامِ الْحَادِثَةِ شَيْءٌ ، وَمَتَى كَانَ الْمُوصَى بِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَهُوَ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ يُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَهُ مَالٌ فَهَلَكَ ذَلِكَ

الْمَالُ وَاكْتَسَبَ مَالًا غَيْرَهُ فَإِنَّ ثُلُثَ مَالِهِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ لِلْمُوصَى لَهُ وَلَمْ تَتَعَلَّقْ الْوَصِيَّةُ بِالْمَالِ الْمَوْجُودِ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ حَتَّى لَا تَبْطُلَ بِهَلَاكِهِ ا هـ .
فَقَدْ ظَهَرَ لَك بِذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ فِي أَكْثَرِ أَقْسَامِ الْوَصَايَا وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَا وَقْتَ الْمَوْتِ ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ بِاتِّفَاقِ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ لِصِحَّتِهَا وُجُودُهُمَا : أَيْ وُجُودُ الْمُوصَى لَهُ وَبِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ فَقَطْ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا ، وَقَوْلُهُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا إذْ ذَاكَ دُونَ وَقْتِ الْإِيجَابِ لَيْسَ بِتَامٍّ ، لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْوَصِيَّةُ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ وُجُودُهُمَا وَقْتَ وُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ وُجُودُهُمَا وَقْتَ تَحَقُّقِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ ، وَمِنْ هَذَا مَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، وَقَوْلُهُ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ ، وَسَيَجِيءُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ مَا تَرَكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْمُعْتَبَرِ وَقْتَ الْمَوْتِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُوصَى بِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَهُوَ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي قَوْلِهِ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ لَا فِيمَا إذَا كَانَ الْمُوصَى بِهِ مُعَيَّنًا كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ فِي شَرْحِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي سَتَجِيءُ فِي الْكِتَابِ : هَذَا إذَا كَانَ الْمُوصَى بِهِ غَيْرَ مُعَيِّنٍ وَهُوَ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ كَمَا فِي اسْمِ الْمَالِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُعَيَّنًا فِي نَوْعٍ مِنْ الْمَالِ فَالْحُكْمُ بِخِلَافِهِ ، وَنَقَلُوا عَنْ الذَّخِيرَةِ مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ مِنْ

التَّفْصِيلِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا .
وَقَوْلُهُ وَبِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ نَقْلًا عَنْ الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَنِي فُلَانٍ وَلَيْسَ لِفُلَانٍ ابْنٌ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ حَدَثَ لَهُ بَنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَاتَ الْمُوصِي كَانَ الثُّلُثُ لِلَّذِينَ حَدَثُوا مِنْ بَنِيهِ لَيْسَ بِتَامٍّ ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ هُنَاكَ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ سِيَّمَا عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ ، فَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ الِاتِّفَاقُ بِذَلِكَ وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ : ثُمَّ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعِنْدَ الطَّحَاوِيِّ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَنْشَأَ الِاخْتِلَافِ لَيْسَ بِذَاكَ بَلْ خُصُوصِيَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الطَّحَاوِيُّ وَلَمْ يَتَنَبَّهْ لَهَا غَيْرُهُ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَفْهُومَ عُرْفًا وَلُغَةً إذَا قِيلَ أَوْصَيْت لِمَا فِي بَطْنهَا بِكَذَا كَوْنُهُ مَوْجُودًا فِي بَطْنِهَا وَقْتَئِذٍ لَا يَكَادُ يَصِحُّ ، إذْ لَا نُسَلِّمُ جِدًّا أَنَّ الْمَفْهُومَ عُرْفًا وَلُغَةً إذَا قِيلَ أَوْصَيْت لِمَا فِي بَطْنِهَا بِكَذَا كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَقْتَئِذٍ ، بَلْ يَكْفِي كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي لِثُبُوتِ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ مَوْتِهِ ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْ أَسَاطِينِ الْفُقَهَاءِ سِيَّمَا أَصْحَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ لَا يَنْتَبِهُوا لِمَا يُفْهَمُ مِنْ الْكَلَامِ عُرْفًا وَلُغَةً ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ الْغَفْلَةُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ فَضْلًا عَنْ الْغَفْلَةِ عَنْهُمَا مَعًا .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَعْنَى لِمَا ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ فِي بَطْنِهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ تَحَكُّمٌ بَحْتٌ ، بَلْ الْمَعْنَى لِمَا ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ فِي بَطْنِهَا .
وَأَمَّا كَوْنُ ثُبُوتِهِ فِي وَقْتِ الْوَصِيَّةِ أَوْ فِي وَقْتِ الْمَوْتِ فَأَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَفْهُومِ نَفْسِ اللَّفْظِ ، وَإِنَّمَا الْمُعَيَّنُ لَهُ شَيْءٌ آخَرُ هُوَ

مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ بِأَنْ قَالَ : وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْوَصِيَّةُ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ وُجُودِهِ .
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ وَقْتَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ وَاعْتِبَارِهَا فِي الْحُكْمِ وَقْتُ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ انْتَهَى .
ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ قَالَ : وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْكَافِي هُنَا اضْطِرَابًا لِأَنَّهُ دَلَّ أَوَّلُهُ عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ فِيهِمَا : أَيْ فِي الْمُوصَى لَهُ وَبِهِ ، وَآخِرُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : إنَّ صَاحِبَ الْكَافِي .
قَالَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ : وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَبِالْحَمْلِ إنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ : وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ تَجْرِي فِيهِ الْوِرَاثَةُ فَتَجْرِي فِيهِ الْوِصَايَةُ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِوُجُودِهِ يَوْمَ الْمَوْتِ مَتَى جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ انْتَهَى .
فَيَجُوزُ فِيهِ الْوَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ مُقَدَّرًا فِي قَوْلِهِ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ فَيَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ وَقْتِ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ هُوَ وَقْتُ مَوْتِ الْمُوصِي فَيُوَافِقُ أَوَّلُ كَلَامِهِ آخِرَهُ ، وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى تَأْوِيلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِهَذَا الْوَجْهِ لِيُوَافِقَ كَلَامُهُ مَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَثَانِيهُمَا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِإِيرَادِ آخِرِ كَلَامِهِ مُخَالِفًا لِأَوَّلِهِ هُوَ الْإِشَارَةُ إلَى وُقُوعِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَعْيِينِ أَوَّلِ الْمُدَّةِ الَّتِي يُعْلَمُ فِيهَا وُجُودُ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ كُلٌّ مِنْ ذَيْنِك الْوَجْهَيْنِ حَيْثُ قَالَ : لَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُهُ .

ثُمَّ إنَّهُ أَخْطَأَ فِي قَوْلِهِ وَآخِرُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ ، فَإِنَّ الَّذِي فِي آخِرِهِ إنَّمَا هُوَ الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْلِ لَا الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ : وَأَمَّا الثَّانِي وَلَا رَيْبَ أَنَّ الثَّانِيَ فِي قَوْلِهِ وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَبِالْحَمْلِ هُوَ الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْلِ .
ثُمَّ إنَّ الزَّيْلَعِيَّ قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ : وَذَكَرَ فِي الْكَافِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَوْصَى لَهُ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ ، وَإِنْ أَوْصَى بِهِ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ أَيْضًا بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ عِبَارَةَ الْكَافِي فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ هَكَذَا : وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَبِالْحَمْلِ إنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ إنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَوْلِهِ بِالْحَمْلِ فَقَطْ لِكَوْنِهِ قَرِيبًا مِنْهُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ لِلْحَمْلِ وَبِالْحَمْلِ ، فَمِنْ أَيْنَ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِصَاصِ الِاعْتِبَارِ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ بِمَا إذَا أَوْصَى لَهُ .
نَعَمْ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي فِي آخِرِ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الِاعْتِبَارِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِالْحَمْلِ ، وَبِهَذَا تُرَدُّ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ أَوَّلِ كَلَامِهِ وَآخِرِهِ وَالْمَخْلَصُ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَتَبَصَّرْ .
( قَوْلُهُ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ بِعَرْضِ الْوُجُودِ إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُلِمَ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ : وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِهِ فَلِأَنَّهُ أَيْ الْحَمْلَ بِعَرْضِيَّةِ الْوُجُودِ ، إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُلِمَ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ، فَإِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا وَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْمَوْتِ وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَا مَحَالَةَ

انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّ زِيَادَةَ قَوْلِهِ أَوْ الْمَوْتِ فِي قَوْلِهِ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْمَوْتِ مَعَ كَوْنِهَا غَيْرَ مُطَابِقَةٍ لِلْمَشْرُوحِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُهُ وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَا مَحَالَةَ ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ وَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَصْلًا فِيمَا إذَا مَضَتْ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمَوْتِ مُدَّةٌ يَصِيرُ بِهَا زَمَانُ وَضْعِ الْحَمْلِ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ ) لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْإِطْلَاقِ تَبَعًا ، فَإِذَا أَفْرَدَ الْأُمَّ بِالْوَصِيَّةِ صَحَّ إفْرَادُهَا ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ إفْرَادُ الْحَمْلِ بِالْوَصِيَّةِ فَجَازَ اسْتِثْنَاؤُهُ ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ مَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ، وَمَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا وَلَكِنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْإِطْلَاقِ تَبَعًا ، فَإِذَا أَفْرَدَ الْأُمَّ بِالْوَصِيَّةِ صَحَّ إفْرَادُهَا ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا التَّعْلِيلُ يُنْتَقَضُ بِصُورَةِ الْبَيْعِ ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا فَسَدَ الْبَيْعُ مَعَ إمْكَانِ جَرَيَانِ هَذَا التَّعْلِيلِ هُنَاكَ أَيْضًا .
لَا يُقَالُ : إنَّمَا فَسَدَ الْبَيْعُ لِأَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِعَقْدٍ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَالْحَمْلُ مِمَّا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ فِي الْوَصِيَّةِ : فَإِنَّ إفْرَادَ الْحَمْلِ بِالْوَصِيَّةِ يَصِحُّ فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّعْلِيلِ الثَّانِي .
لِأَنَّا نَقُولُ : ذَلِكَ الْفَرْقُ مُوجِبُ التَّعْلِيلِ الْآتِي وَكَلَامُنَا فِي هَذَا التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ فَلَا مَعْنَى لِلْخَلْطِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ فِي شَرْحِ أَوَّلِ هَذَا التَّعْلِيلِ : لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لَهُ وَلَا هُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَوْضُوعِ ، وَمَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْجَارِيَةِ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْجَارِيَةِ كَقَمِيصِهَا وَسَرَاوِيلِهَا مِمَّا يَلْتَبِسُ بِهَا انْتَهَى .
أَقُولُ : مُقْتَضَى تَقْرِيرِهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا صُغْرَى لِقِيَاسٍ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ كُبْرَاهُ مَطْوِيَّةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ وَمَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْجَارِيَةِ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْجَارِيَةِ ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقِيَاسُ وَحْدَهُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَلَى صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْحَمْلِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ، لَكِنْ فِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ تَنَاوُلِ اسْمِ الْجَارِيَةِ لِلْحَمْلِ عَلَى صِحَّةِ

اسْتِثْنَائِهِ مِنْهَا ، وَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ هُوَ الْإِخْرَاجُ عَمَّا يَتَنَاوَلُهُ صَدْرُ الْكَلَامِ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ أَوْ الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ كَمَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ : الِاسْتِثْنَاءُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْ التَّعْبِيرَاتِ فَتَنَاوُلُ صَدْرِ الْكَلَامِ لِلْمُسْتَثْنَى مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ الْمُتَّصِلُ .
وَأَمَّا الْمُنْقَطِعُ فَصِيغَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مَجَازٌ فِيهِ كَمَا عُرِفَ فِي مَحِلِّهِ سِيَّمَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ صِيغَةَ الِاسْتِثْنَاءِ وَإِنْ كَانَتْ مَجَازًا فِي الْمُنْقَطِعِ إلَّا أَنَّ لَفْظَ الِاسْتِثْنَاءِ حَقِيقَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ فِي الْقِسْمَيْنِ مَعًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ التَّلْوِيحِ فِي فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي تَنَاوُلَ صَدْرِ الْكَلَامِ لِلْمُسْتَثْنَى بَلْ يُنَافِي ذَلِكَ فَيَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ : وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَا يُقَالُ الْحَمْلُ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ قَبْلَ الِانْفِصَالِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ، وَلَوْ اسْتَثْنَى الْيَدَ أَوْ الرِّجْلَ لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ الْحَمْلُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُهُمَا ا هـ .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُهُمَا حَيْثُ قَالَ : إنْ أَرَادَ مَقْصُودًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ تَبَعًا فَالْحَمْلُ كَذَلِكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اسْمَهَا يَتَنَاوَلُهُمَا مَقْصُودًا ، وَقَوْلُهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لَا رَيْبَ أَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ فِيمَا إذَا أَوْصَيْت بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا الْحَقِيقِيَّةِ

مَقْصُودًا ، إذْ لَا مَعْنَى لِإِيصَاءِ الْجَارِيَةِ بِدُونِ يَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِدُونِ أَجْزَائِهَا الْحَقِيقِيَّةِ لِعَدَمِ انْفِكَاكِهَا عَنْهَا بِخِلَافِ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْهَا حَقِيقَةً قَبْلَ الِانْفِصَالِ أَيْضًا ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ مِنْهَا عِنْدَ اتِّصَالِهِ بِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْبُيُوعِ وَيُمْكِنُ انْفِكَاكُهَا عَنْهُ بِوَضْعِهَا إيَّاهُ فَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ مَقْصُودًا عِنْدَ إيصَائِهَا كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ لَا يَرِدُ عَلَى مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ صِحَّتَهُ بِاعْتِبَارِ تَقْرِيرِ مِلْكِ الْمُوصَى فِيهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ كَمَا لَوْ قَالَ أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا فَرَسًا ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الْأَلْفِ صَحِيحَةٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ أَيْضًا صَحِيحٌ فِي تَقْرِيرِ مِلْكِهِ فِي الْفَرَسِ لَا بِاعْتِبَارِ خُرُوجِهِ مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ مَقْصُودًا بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ ، وَلَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ بِاعْتِبَارِ تَقْرِيرِ الْمِلْكِ لَصَحَّ فِي الْإِقْرَارِ أَيْضًا اسْتِثْنَاءُ الْبِنَاءِ مِنْ الدَّارِ وَالْفَصِّ مِنْ الْخَاتَمِ وَالنَّخْلَةِ مِنْ الْبُسْتَانِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْفَرْقِ انْتَهَى .
وَقَصَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْجَوَابَ عَنْهُ فَقَالَ : فَإِنْ قُلْت : يُشْكِلُ حِينَئِذٍ مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ إلَّا بِنَاءَهَا فَإِنَّهُ لِي وَلِلْمُقَرِّ لَهُ الدَّارُ وَالْبِنَاءُ لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْخَطُّ وَالْبِنَاءُ يَدْخُلُ تَبَعًا ، وَالِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْكَلَامُ نَصًّا لَا تَبَعًا فَلِمَ حَكَمُوا

بِبُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ هُنَاكَ وَلَمْ يُصَحِّحُوهُ بِاعْتِبَارِ تَقْرِيرِ الْمِلْكِ كَمَا صَحَّحُوا بِهِ هُنَا ؟ قُلْت : إنَّمَا لَمْ يُصَحِّحُوا ذَلِكَ لِاسْتِلْزَامِهِ إبْطَالَ حَقٍّ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ

قَالَ ( وَيَجُوزُ لِلْمُوصِي الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَمْ يَتِمَّ فَجَازَ الرُّجُوعُ عَنْهُ كَالْهِبَةِ وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ ، وَلِأَنَّ الْقَبُولَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَوْتِ وَالْإِيجَابُ يَصِحُّ إبْطَالُهُ قَبْلَ الْقَبُولِ كَمَا فِي الْبَيْعِ .
قَالَ ( وَإِذَا صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ أَوْ فَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ كَانَ رُجُوعًا ) أَمَّا الصَّرِيحُ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا الدَّلَالَةُ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ فَقَامَ مَقَامَ قَوْلِهِ قَدْ أُبْطِلَتْ ، وَصَارَ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الْخِيَارُ فِيهِ بِالدَّلَالَةِ ، ثُمَّ كُلُّ فِعْلٍ لَوْ فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ ، فَإِذَا فَعَلَهُ الْمُوصِي كَانَ رُجُوعًا ، وَقَدْ عَدَدْنَا هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ .
وَكُلُّ فِعْلٍ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْمُوصَى بِهِ وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ إلَّا بِهَا فَهُوَ رُجُوعٌ إذَا فَعَلَهُ ، مِثْلُ السَّوِيقِ يَلُتُّهُ بِالسَّمْنِ وَالدَّارِ يَبْنِي فِيهِ الْمُوصِي وَالْقُطْنِ يَحْشُو بِهِ وَالْبِطَانَةِ يُبَطِّنُ بِهَا وَالظِّهَارَةِ يُظَهِّرُ بِهَا ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ ، وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْمُوصِي مِنْ جِهَتِهِ ، بِخِلَافِ تَخْصِيصِ الدَّارِ الْمُوصَى بِهَا وَهَدْمِ بِنَائِهَا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي التَّابِعِ ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ أَوْجَبَ زَوَالَ مِلْكِ الْمُوصِي فَهُوَ رُجُوعٌ ، كَمَا إذَا بَاعَ الْعَيْنَ الْمُوصَى بِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَوْ وَهَبَهُ تَمَّ رَجَعَ فِيهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِي مِلْكِهِ ، فَإِذَا أَزَالَهُ كَانَ رُجُوعًا .
وَذَبْحُ الشَّاةِ الْمُوصَى بِهَا رُجُوعٌ لِأَنَّهُ لِلصَّرْفِ إلَى حَاجَتِهِ عَادَةً ، فَصَارَ هَذَا الْمَعْنَى أَصْلًا أَيْضًا ، وَغَسْلُ الثَّوْبِ الْمُوصَى بِهِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ ثَوْبَهُ غَيْرَهُ يَغْسِلُهُ عَادَةً فَكَانَ تَقْرِيرًا .

وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ غَايَتُهُ أَنْ يُحْمَلَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْهَا فِي حَقِّ التَّابِعِ انْتَهَى .
أَقُولُ : جَوَابُهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ .
فَإِنَّ إبْطَالَ حَقٍّ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ إنَّمَا يَلْزَمُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا وَلَا يُجْعَلُ الْبِنَاءُ لِلْمُقَرِّ لَهُ ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا فَلَا يَلْزَمُ إبْطَالُ ذَلِكَ أَصْلًا ، إذْ يَصِيرُ الْإِقْرَارُ حِينَئِذٍ مَخْصُوصًا بِمَا عَدَا الْبِنَاءَ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي مَبَاحِثِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ حُكْمَ الْكَلَامِ يَتَوَقَّفُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى تَمَامِ الْكَلَامِ بِذِكْرِ الْمُسْتَثْنَى فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى فَيَصِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ مَثَلًا هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ إلَّا بِنَاءَهَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ غَيْرَ بِنَاءِ هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ التَّنَاقُضُ الْمُتَوَهَّمُ بَيْنَ أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ فِي أَمْثِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ إبْطَالَ حَقٍّ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ قَطُّ ، ثُمَّ إنَّ الْمَصِيرَ إلَى حَمْلِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ فِي حَقِّ التَّابِعِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ أَيْضًا ، إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى شَيْءٍ مِنْ التَّعْلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ لِمَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ، وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْتِزَامِ مَا لَا يَلْزَمُ ، فَإِنَّ مَسْأَلَةَ جَوَازِ الرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ سَتَجِيءُ بِتَفَاصِيلِهَا وَتَفَارِيعِهَا بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .

قَالَ ( وَإِنْ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا ) كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَكُونُ رُجُوعًا ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ نَفْيٌ فِي الْحَالِ وَالْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا ، وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ كَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا ، أَوْ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إثْبَاتٌ فِي الْمَاضِي وَنَفْيٌ فِي الْحَالِ وَالْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعًا حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَا يَكُونُ جُحُودُ النِّكَاحِ فُرْقَةً وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْت بِهَا لِفُلَانٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَرِبَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا ) لِأَنَّ الْوَصْفَ يَسْتَدْعِي بَقَاءَ الْأَصْلِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّهُ الذَّاهِبُ الْمُتَلَاشِي ( وَلَوْ قَالَ أَخَّرْتهَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا ) لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لَيْسَ لِلسُّقُوطِ كَتَأْخِيرِ الدَّيْنِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ تَرَكْت ) لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ ( وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ كَانَ رُجُوعًا ) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ ) لِأَنَّ الْمَحِلَّ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ وَاللَّفْظَ صَالِحٌ لَهَا ( وَكَذَا إذَا قَالَ فَهُوَ لِفُلَانٍ وَارِثِي يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ ) لِمَا بَيَّنَّا وَيَكُونُ وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ ( وَلَوْ كَانَ فُلَانٌ الْآخَرُ مَيِّتًا حِينَ أَوْصَى فَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى عَلَى حَالِهَا ) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى إنَّمَا تَبْطُلُ ضَرُورَةَ كَوْنِهَا لِلثَّانِي وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فَبَقِيَ لِلْأَوَّلِ ( وَلَوْ كَانَ فُلَانٌ حِينَ قَالَ ذَلِكَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَهِيَ لِلْوَرَثَةِ ) لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّتَيْنِ الْأُولَى بِالرُّجُوعِ وَالثَّانِيَةِ بِالْمَوْتِ .

( قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَكُونُ رُجُوعًا ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ نَفْيٌ فِي الْحَالِ ، وَالْجُحُودُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : قُلْت هَذَا كَلَامٌ ظَاهِرِيٌّ ، وَإِلَّا فَالنَّفْي فِي الرُّجُوعِ عَنْهَا بِمَعْنَى فَسْخِهَا وَرَفْعِهَا وَفِي الْجُحُودِ بِمَعْنَى سَلْبِهَا وَنَفْيِ وُقُوعِهَا وَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ " إنَّ جُحُودَ الْوَصِيَّةِ يَكُونُ رُجُوعًا عَنْهَا " أَنَّ الْجُحُودَ وَالرُّجُوعَ مُتَّحِدَانِ مَعْنًى ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ حُكْمًا وَهُوَ إبْطَالُ الْوَصِيَّةِ بِأَنْ لَا يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ فِي تَرِكَةِ الْمُوصِي فَكَوْنُ النَّفْيِ فِي الرُّجُوعِ بِمَعْنَى الْفَسْخِ وَفِي الْجُحُودِ بِمَعْنَى سَلْبِ الْوُقُوعِ إنَّمَا يُنَافِي الِاتِّحَادَ فِي الْمَعْنَى لَا الِاتِّحَادَ فِي الْحُكْمِ ، وَمَبْنَى اسْتِدْلَالِهِ الْمَذْكُورِ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَا مَحْذُورَ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ عَلَى تَقْدِيرِ وُرُودِهِ إنَّمَا يَئُولُ إلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ الثَّانِي لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ فَلَا وَجْهَ لِنِسْبَتِهِ إلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ قُلْت ( قَوْلُهُ وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالِانْتِفَاءَ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ كَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا التَّعْلِيلِ : وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُحُودَ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَمْ أُوصِ لِفُلَانٍ أَوْ مَا أَوْصَيْت لَهُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي لِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ ، وَالِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ لِاسْتِمْرَارِ ذَلِكَ إنْ ثَبَتَ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ ، وَإِذَا كَانَ الْكَذِبُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ لِكَوْنِهِ كَاذِبًا فِي جُحُودِهِ ، إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ أَوْصَى ثُمَّ جَحَدَ كَانَ النَّفْيُ فِي الْمَاضِي بَاطِلًا فَيَبْطُلُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ وَهُوَ الِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ فَكَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا انْتَهَى

.
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ اسْمَ كَانَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ الْكَذِبَ ، وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ الْكَذِبَ مِمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى وَلَا حُكْمًا ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْمُ كَانَ فِي قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ ضَمِيرًا رَاجِعًا إلَى الْكَذِبِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَالِ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ مُسْتَدْرَكًا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ ، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْكَذِبِ فِي الْجُحُودِ يَقْتَضِي كَوْنَ الْجُحُودِ لَغْوًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ أَوْ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْمَانِ .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى ذَلِكَ لَمَا تَحَقَّقَ الْفَائِدَةُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْكَذِبُ فِي جُحُودِهِ ثَابِتًا بِنَاءً عَلَى كَوْنِ الْفَرْضِ أَنَّهُ أَوْصَى ثُمَّ جَحَدَ كَانَ جُحُودُهُ لَغْوًا بَاطِلًا لَا حُكْمَ لَهُ أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ الِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ مِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَتِهِ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ جَعَلَ اسْمَ كَانَ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ الْوَصِيَّةَ وَفِي بَعْضِهَا الْحَقَّ وَكِلَاهُمَا مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَتَأَمَّلْ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْمُصَادَرَةَ عَلَى الْمَطْلُوبِ إنَّمَا تَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ : وَإِذَا كَانَ الْوَصِيَّةُ أَوْ الْحَقُّ ثَابِتًا فِي الْحَالِ لِعَدَمِ كَوْنِ الْجُحُودِ رُجُوعًا كَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ ذَاكَ بَلْ مَعْنَاهُ : وَإِذَا كَانَ الْإِيصَاءُ أَوْ الْحَقُّ ثَابِتًا فِي الْحَالِ لِكَوْنِهِ كَاذِبًا فِي جُحُودِهِ ، إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ أَوْصَى فِيمَا مَضَى ثُمَّ جَحَدَ كَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا حَيْثُ كَانَ النَّفْيُ فِي الْمَاضِي بَاطِلًا لِظُهُورِ الْكَذِبِ فَبَطَلَ مَا هُوَ

مِنْ ضَرُورَتِهِ وَهُوَ الِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ، وَلَا مُصَادَرَةَ فِي هَذَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ .
( قَوْلُهُ أَوْ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إثْبَاتٌ فِي الْمَاضِي وَنَفْيٌ فِي الْحَالِ وَالْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعًا حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَا يَكُونُ جُحُودُ النِّكَاحِ فُرْقَةً .
) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ : إنَّ الْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ ، وَهُنَا قَالَ : وَالْجُحُودُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كَوْنِ الْجُحُودِ رُجُوعًا حَقِيقَةً عَدَمُ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ مَجَازًا صَوْنًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ مَعْنَاهُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَضْعًا وَحَقِيقَةً وَفِي الْحَالِ ضَرُورَةً لَا وَضْعًا وَهُوَ الْأَوَّلُ فَلَا تَنَافِي .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الرُّجُوعَ وَالْجُحُودَ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَاضِي مُتَضَادَّانِ وَالتَّضَادُّ لَيْسَ مِنْ مُجَوِّزَاتِ الْمَجَازِ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْأَنْوَارِ وَالتَّقْرِيرِ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَى جَوَابِهِ عَنْ النَّظَرِ الثَّانِي أَنَّ جَوَازَ اسْتِعْمَالِ الْجُحُودِ فِي الرُّجُوعِ مَجَازًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى اعْتِبَارِ عَلَاقَةِ الْمَجَازِ التَّضَادَّ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ عَدَمِ كَوْنِ التَّضَادِّ مِنْ مُجَوِّزَاتِ الْمَجَازِ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِعْمَالُ الْجُحُودِ فِي الرُّجُوعِ مَجَازًا أَصْلًا ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكَهُمَا فِي مَعْنًى خَاصٍّ وَهُوَ كَوْنُهُمَا نَافِيَيْنِ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ الْجُحُودُ نَافِيًا فِي الْمَاضِي أَيْضًا كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمَبْسُوطِ : وَالْأَصَحُّ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْجُحُودَ كَذِبٌ حَقِيقَةً إلَّا

أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ مَجَازًا فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ وَهُوَ الْفَسْخُ صِيَانَةً لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْفَسْخِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الْوَصِيَّةِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَازَةِ إذَا جَحَدَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِأَنَّ هُنَاكَ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْفَسْخِ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ هُنَاكَ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ حَتَّى لَوْ تَجَاحَدَا نَقُولُ بِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ جَحَدَ الزَّوْجُ مِنْ الْأَصْلِ بِأَنْ قَالَ لَمْ أَتَزَوَّجْك لِأَنَّ هُنَاكَ أَيْضًا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْفَسْخِ ، لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ ، إذْ لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّ الْجُحُودَ يَنْفِي الْعَقْدَ وَالطَّلَاقَ يَقْطَعُ الْعَقْدَ وَلَا يَنْفِيهِ انْتَهَى ، تَبَصَّرْ .

( بَابُ الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْمَالِ ) .
قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا ) لِأَنَّهُ يَضِيقُ الثُّلُثُ عَنْ حَقِّهِمَا إذْ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَدْ تَسَاوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، وَالْمَحِلُّ يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا ( وَإِنْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِالثُّلُثِ وَلِلْآخَرِ بِالسُّدُسِ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُدْلِي بِسَبَبٍ صَحِيحٍ وَضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ حَقَّيْهِمَا فَيَقْتَسِمَانِهِ عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا كَمَا فِي أَصْحَابِ الدُّيُونِ فَيُجْعَلُ الْأَقَلُّ سَهْمًا وَالْأَكْثَرُ سَهْمَيْنِ فَصَارَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لِصَاحِبِ الْأَقَلِّ وَسَهْمَانِ لِصَاحِبِ الْأَكْثَرِ ( وَإِنْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِلْآخَرِ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ ، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَلَا يَضْرِبُ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا فِي الْمُحَابَاةِ وَالسِّعَايَةِ وَالدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ ) لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْمُوصِي قَصَدَ شَيْئَيْنِ الِاسْتِحْقَاقَ وَالتَّفْضِيلَ ، وَامْتَنَعَ الِاسْتِحْقَاقُ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَلَا مَانِعَ مِنْ التَّفْضِيلِ فَيَثْبُتُ كَمَا فِي الْمُحَابَاةِ وَأُخْتَيْهَا .
وَلَهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ مِنْ الْوَرَثَةِ ، إذْ لَا نَفَاذَ لَهَا بِحَالٍ فَيَبْطُلُ أَصْلًا ، وَالتَّفْضِيلُ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الِاسْتِحْقَاقِ فَبَطَلَ بِبُطْلَانِهِ كَالْمُحَابَاةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ مَوَاضِعِ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ لَهَا نَفَاذًا فِي الْجُمْلَةِ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ كَانَ فِي الْمَالِ سَعَةٌ فَتُعْتَبَرُ فِي التَّفَاضُلِ لِكَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ .

وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِعَيْنٍ مِنْ تَرِكَتِهِ وَقِيمَتُهُ تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يَضْرِبُ بِالثُّلُثِ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَزِيدَ الْمَالُ فَيَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ، لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَقُّ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ وَاسْتَفَادَ مَالًا آخَرَ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ ، وَفِي الْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ لَوْ هَلَكَتْ التَّرِكَةُ تَنْفُذُ فِيمَا يُسْتَفَادُ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا أَوْصَى بِنَصِيبِ ابْنِهِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ .
وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ جَازَ ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَصِيَّةٌ بِمَالِ الْغَيْرِ ، لِأَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ مَا يُصِيبُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالثَّانِيَ وَصِيَّةٌ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ يَتَقَدَّرُ بِهِ فَيَجُوزُ ، وَقَالَ زُفَرُ : يَجُوزُ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا فَيُنْظَرُ إلَى الْحَالِ وَالْكُلُّ مَالُهُ فِيهِ وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا .

لَمَّا كَانَ أَقْصَى مَا يَدُورُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْوَصَايَا عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ثُلُثَ الْمَالِ ذَكَرَ تِلْكَ الْمَسَائِلَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْدَ ذِكْرِ مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْكِتَابِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ .
( قَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِعَيْنِ تَرِكَتِهِ وَقِيمَتُهُ تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ بِالثُّلُثِ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَزِيدَ الْمَالُ فَيَخْرُجَ مِنْ الثُّلُثِ ) أَشَارَ بِهَذَا الْكَلَامِ إلَى صُورَةِ نَقْضٍ تَرِدُ عَلَى وَجْهِ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَبَيْنَ الْخِلَافِيَّةِ ، وَهِيَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مَا إذَا أَوْصَى بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ لِإِنْسَانٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَبِعَبْدٍ آخَرَ بِعَيْنِهِ لِإِنْسَانٍ آخَرَ قِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا فَإِنَّ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ ثَابِتٌ فِيهِ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ هُنَاكَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ مَا سَمَّاهُ لَهُ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَزِيدَ مَالُ الْمَيِّتِ فَيَخْرُجَ الْعَبْدَانِ مِنْ الثُّلُثِ ، وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَصْوِيرِ صُورَةِ النَّقْضِ هُنَا بِأَنْ كَانَ عَبْدًا أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ وَبِثُلُثِ مَالِهِ لِآخَرَ وَلَا مَالَ سِوَى الْعَبْدِ وَلَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكْتَسِبَ هَذَا الْعَبْدُ مَالًا فَتَصِيرُ رَقَبَتُهُ مُسَاوِيَةً لِثُلُثِ الْمَالِ أَوْ يَظْهَرَ لَهُ مَالٌ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْعَبْدُ ثُلُثَ الْمَالِ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ ، لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ يَصِيرُ إذْ ذَاكَ هُوَ الْعَبْدُ وَثُلُثُ الْمَالِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ حِينَئِذٍ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوصَى لَهُ فِي جَمِيعِ مَا سَمَّاهُ لَهُ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَإِنْ زَادَ مَالُ الْمَيِّتِ جِدًّا ، لِأَنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ زَائِدًا عَلَى الثُّلُثِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لَا مَحَالَةَ ، وَلَا يَصِحُّ تَنْفِيذُ

مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَتَكُونُ تِلْكَ الصُّورَةُ مُخَالِفَةً لِلْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا حَيْثُ أَمْكَنَ فِي هَاتِيك الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي جَمِيعِ مَا سَمَّاهُ لَهُمَا فِي الْجُمْلَةِ ، بِخِلَافِ تِلْكَ الصُّورَةِ فَلَا تَصْلُحُ لَأَنْ تَكُونَ صُورَةَ نَقْضٍ لِلْفَرْقِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ هُنَا بَلْ إنَّمَا تَكُونُ نَظِيرَ الْخِلَافِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ قَبْلُ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَقَّ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ وَاسْتَفَادَ مَالًا آخَرَ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ ، وَفِي الْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ لَوْ هَلَكَتْ التَّرِكَةُ تَنْفُذُ فِيمَا يُسْتَفَادُ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ ) هَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ النَّقِيضِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ آنِفًا .
قَالَ الزَّيْلَعِيُّ : فِي التَّبْيِينِ بَعْدَمَا نَقَلَ مَا فِي الْهِدَايَةِ هُنَا : وَهَذَا يُنْتَقَضُ بِالْمُحَابَاةِ فَإِنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِالْعَيْنِ مِثْلَهُ وَمَعَ هَذَا يُضْرَبُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا النَّقْضُ بِوَارِدٍ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالثَّمَنِ لَا بِالْعَيْنِ ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَالْوَصِيَّةُ بِالسِّعَايَةِ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ ، وَكَذَا بِالْمُحَابَاةِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِالثَّمَنِ فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْمُرْسَلِ ا هـ

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ أَخَسُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ السُّدُسِ فَيَتِمَّ لَهُ السُّدُسُ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَهُ مِثْلُ نَصِيبِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ وَلَا يُزَادُ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ ) لِأَنَّ السَّهْمَ يُرَادُ بِهِ أَحَدَ سِهَامِ الْوَرَثَةِ عُرْفًا لَا سِيَّمَا فِي الْوَصِيَّةِ ، وَالْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ ، إلَّا إذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ .
وَلَهُ أَنَّ السَّهْمَ هُوَ السُّدُسُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَدْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا يُرْوَى ، وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ السُّدُسُ ، فَإِنَّ إيَاسًا قَالَ : السَّهْمُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ السُّدُسِ ، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ فَيُعْطَى مَا ذَكَرْنَا ، قَالُوا : هَذَا كَانَ فِي عُرْفِهِمْ ، وَفِي عُرْفِنَا السَّهْمُ كَالْجُزْءِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ أَخَسُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ السُّدُسِ فَيَتِمَّ لَهُ السُّدُسُ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ ) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَحِلَّ مِنْ مَدَاحِضِ هَذَا الْكِتَابِ وَلِهَذَا تَحَيَّرَ الشُّرَّاحُ فِي حَلِّهِ ؛ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : مَعْنَاهُ فَلَهُ السُّدُسُ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ عَنْهُ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا الْمَعْنَى لَمَا كَانَ لِأَدَائِهِ بِمِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ الْمُعْضِلِ الْمُشَوِّشِ وَجْهٌ ، وَهَلْ يَلِيقُ هَذَا بِمَنْصِبِ الْمُصَنِّفِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْكِتَابِ وَهِيَ مَا إذَا كَانَ أَخَسُّ السِّهَامِ أَنْقَصَ مِنْ السُّدُسِ لِيُوَافِقَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا فِي الْكِتَابِ سَاكِتًا عَنْ بَيَانِ الْحُكْمِ إذَا كَانَ أَخَسُّ السِّهَامِ أَزْيَدَ مِنْ السُّدُسِ ا هـ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : وَلَهُ أَنَّ السَّهْمَ هُوَ السُّدُسُ إلَخْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا لِلْمُوصَى لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُ هُوَ السُّدُسُ مُطْلَقًا : أَيْ سَوَاءٌ كَانَ أَخَسُّ السِّهَامِ هُوَ السُّدُسُ أَوْ نَاقِصًا عَنْهُ أَوْ زَائِدًا عَلَيْهِ ، فَلَا مَجَالَ لَأَنْ يَكُونَ مَا فِي الْكِتَابِ مُوَافِقًا لِرِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ ، فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى السُّدُسِ دُونَ النُّقْصَانِ عَنْهُ ، وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ يُنَافِي ذَلِكَ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : أَخَسُّ الْأَنْصِبَاءِ أَقَلُّهُ وَالثُّمُنُ أَقَلُّ مِنْ السُّدُسِ فَكَيْفَ جَعَلَهُ بِمَعْنَى السُّدُسِ ؟ قُلْت : جَعَلَهُ بِمَعْنَاهُ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْأَثَرِ وَاللُّغَةِ ا هـ .
أَقُولُ : الْجَوَابُ مَنْظُورٌ فِيهِ ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ

إنَّمَا يَسْتَدْعِي جَعْلَ السَّهْمِ بِمَعْنَى السُّدُسِ لَا جَعْلَ أَخَسِّ الْأَنْصِبَاءِ الَّذِي هُوَ أَقَلُّهُمَا بِمَعْنَى السُّدُسِ ، وَكَلَامُ الْمَسَائِلِ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا تَرَى .
وَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ مَا يُفْهَمُ مِمَّا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ وَهُوَ أَنَّ أَقَلَّ الْأَنْصِبَاءِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ إنَّمَا هُوَ السُّدُسُ ، وَأَمَّا الثُّمُنُ فَإِنَّمَا هُوَ أَقَلُّهَا بِاعْتِبَارِ الْعَارِضِ وَهُوَ الزَّوْجِيَّةُ ، وَمَا يَكُونُ عَارِضًا فِي مُزَاحَمَةِ مَا هُوَ أَصْلٌ كَالْمَعْدُومِ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى أَقَلِّ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ السِّهَامِ بِالْقَرَابَةِ وَهُوَ السُّدُسُ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَاعْلَمْ أَنَّ عِبَارَةَ الْمَشَايِخِ وَالشَّارِحِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اخْتَلَفَتْ اخْتِلَافًا لَا يَكَادُ يُعْلَمُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَسَبَبُ ذَلِكَ اخْتِلَافُ رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، قَالَ فِي الْكَافِي : فَعَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ النُّقْصَانَ عَنْ السُّدُسِ وَلَمْ يُجَوِّزْ الزِّيَادَةَ عَلَى السُّدُسِ ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ جَوَّزَ الزِّيَادَةَ عَلَى السُّدُسِ وَلَمْ يُجَوِّزْ النُّقْصَانَ عَنْ السُّدُسِ ، وَرِوَايَةُ الْمُصَنِّفِ تُخَالِفُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ السُّدُسِ فَيَتِمُّ لَهُ السُّدُسُ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ ، وَقَوْلُهُ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، فَإِمَّا أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا ، وَإِمَّا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْكَافِي بِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَوَّزَ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ النُّقْصَانَ عَنْ السُّدُسِ وَلَمْ يُجَوِّزْ الزِّيَادَةَ عَلَى السُّدُسِ ، وَجَوَّزَ عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الزِّيَادَةَ عَلَى السُّدُسِ وَلَمْ يُجَوِّزْ النُّقْصَانَ عَنْ السُّدُسِ ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مَا فِي الْكَافِي عَلَى وَجْهِ الِارْتِضَاءِ .

وَمَعْنَى رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ النُّقْصَانَ عَنْ السُّدُسِ وَلَا الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ ، فَلَا جَرَمَ تَكُونُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُنَافِيَةً لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ رِوَايَتَيْ الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا تَتَحَمَّلُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَخْفَى ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ وَإِمَّا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا .
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ وَقَوْلُهُ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ : لَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ تَأَمُّلٌ ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الزِّيَادَةِ عَلَى السُّدُسِ إذَا نَقَصَ أَخَسُّ السِّهَامِ عَنْ السُّدُسِ لَا مُطْلَقًا فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَا فِي الْكِتَابِ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِمُسْتَقِيمٍ ، فَإِنَّ التَّعْلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ وَلَهُ أَنَّ السَّهْمَ هُوَ السُّدُسُ إلَخْ يَقْتَضِي لَا مَحَالَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا فِي الْكِتَابِ نَفْيَ الزِّيَادَةِ عَلَى السُّدُسِ مُطْلَقًا كَمَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيَ النُّقْصَانِ عَنْ السُّدُسِ مُطْلَقًا ، فَلَا مَجَالَ لَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، كَمَا لَا مَجَالَ لَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ رِوَايَةَ الْأَصْلِ وَقَدْ كُنْت نَبَّهْت عَلَيْهِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ السُّدُسُ إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ السُّدُسُ إلَخْ مُشْكِلٌ ، لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ فَيُعْطَى مَا ذَكَرْنَا وَفِي بَعْضِهَا فَيُعْطَى الْأَقَلَّ مِنْهُمَا .
وَفَسَّرَ الْأُولَى بَعْضُ الشَّارِحِينَ فَقَالَ : يَعْنِي إنْ كَانَ أَخَسُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ أَقَلَّ مِنْ السُّدُسِ يُعْطَى السُّدُسَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عَنْ السُّدُسِ ، وَإِنْ كَانَ أَخَسُّ السِّهَامِ أَكْثَرَ يُعْطَى ذَلِكَ ، لِأَنَّ السَّهْمَ يُذْكَرُ

وَيُرَادُ بِهِ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ أَخَسُّ السِّهَامِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ لِمَا فِي الْكِتَابِ فَإِنَّ فِيهِ الزِّيَادَةَ عَلَى السُّدُسِ ، وَقَدْ قَالَ فِي الْكِتَابِ : وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ السُّدُسَ فَمَا ثَمَّةَ عَمَلٌ بِالدَّلِيلَيْنِ ا هـ .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ وَقَدْ قَالَ فِي الْكِتَابِ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الزِّيَادَةِ مُطْلَقًا ، بَلْ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ أَخَسِّ السِّهَامِ نَاقِصًا عَنْ السُّدُسِ فَيَصْلُحُ ذَلِكَ دَلِيلًا لِمَا فِي الْكِتَابِ ا هـ .
أَقُولُ : قَدْ مَرَّ مِنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ وَلَهُ أَنَّ السَّهْمَ هُوَ السُّدُسُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَدْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمُرَادِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ نَفْيَ الزِّيَادَةِ مُطْلَقًا فَلَا يَصْلُحُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ دَلِيلًا عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ فَيُعْطَى الْأَقَلَّ مِنْهُمَا فَتُؤَدِّي إلَى النُّقْصَانِ عَنْ السُّدُسِ وَفِي الْكِتَابِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ السُّدُسِ فَيَتِمَّ لَهُ السُّدُسُ .
وَأَيْضًا قَوْلُهُ مَا ذَكَرْنَا إنْ أَرَادَ بِهِ السُّدُسَ فَلَا تَعَلُّقَ لِقَوْلِهِ وَقَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ بِالدَّلِيلِ لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِقَوْلِ إيَاسٍ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْأَقَلَّ مِنْهُمَا عَادَ الِاعْتِرَاضُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ الْأَدَاءُ إلَى النُّقْصَانِ عَنْ السُّدُسِ ا هـ .
وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنْ يُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ مَا ذَكَرْنَا إلَخْ حَيْثُ قَالَ : لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ السَّهْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ السُّدُسُ وَيُذْكَرُ

وَيُرَادُ بِهِ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ فَيُعْطَى السُّدُسَ لِتَعَيُّنِهِ بِأَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ أَثَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ ، فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الدَّلِيلِ الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ كَانَ مَدَارُ هَذَا الدَّلِيلِ أَيْضًا أَثَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ وَالِاسْتِدْرَاكُ كَمَا لَا يَخْفَى ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَأَرَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا هُوَ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا لِيَكُونَ مَعْنَى النُّسْخَتَيْنِ وَاحِدًا ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ النُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ عَلَى السُّدُسِ تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ السُّدُسِ فَيَتِمَّ لَهُ السُّدُسُ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ لَيْسَ رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَإِنَّمَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ رِوَايَتَيْنِ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ سَقِيمٌ جِدًّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرِيدَهُ الْعَاقِلُ فَضْلًا عَنْ مِثْلِ الْمُصَنِّفِ الْفَطِنِ الْكَامِلِ فَإِنَّ قَوْلَهُ فَيُعْطَى مَا ذَكَرْنَا مَذْكُورٌ بِصَدَدِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ الرِّوَايَةِ الْمُخَالِفَةِ لِرِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَرِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ هَذَا الشَّارِحُ فِيمَا قَبْلُ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِشَارَةُ فِي الدَّلِيلِ إلَى مَا يُخَالِفُ الْمُدَّعَى وَيُنَافِيهِ .
ثُمَّ إنَّ كَوْنَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ مُرَكَّبًا مِنْ رِوَايَتَيْ الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِمَّا لَا مَجَالَ لَهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلُ فَلَا وَجْهَ وَإِنَّمَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ رِوَايَتَيْنِ

قَالَ ( وَلَوْ أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ قِيلَ لِلْوَرَثَةِ أَعْطُوهُ مَا شِئْتُمْ ) لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ ، غَيْرَ أَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ وَالْوَرَثَةُ قَائِمُونَ مُقَامَ الْمُوصِي فَإِلَيْهِمْ الْبَيَانُ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ قِيلَ لِلْوَرَثَةِ أَعْطُوهُ مَا شِئْتُمْ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ ، غَيْرَ أَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ وَالْوَرَثَةُ قَائِمُونَ مُقَامَ الْمُوصِي فَإِلَيْهِمْ الْبَيَانُ ) قَالَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ : أَقُولُ : دَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَوْ أَقَرَّ بِمَجْهُولٍ كَقَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَيْنٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَهُ فَمَاتَ مُجَهِّلًا يُجْبَرُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْبَيَانِ ، وَكَذَا لَوْ أُقِيمَ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِمَجْهُولٍ يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ ، وَيُجْبَرُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْبَيَانِ ا هـ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ : قُلْت : مَا ذَكَرَهُ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَلَوْ بِمَجْهُولٍ يُوجِبُ تَعَلُّقَ الْغَيْرِ بِهِ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ فَيُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى بَيَانِهِ بِطَلَبِ الْمُقَرِّ لَهُ ، فَإِذَا فَاتَ الْجَبْرُ فِي حَيَاتِهِ بِوَفَاتِهِ سَقَطَ سِيَّمَا إذَا كَانَ بِتَقْصِيرٍ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ فَلَمْ يَنُبْ عَنْهُ وَرَثَتُهُ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِمَجْهُولٍ لِعَدَمِ ثُبُوتِ حَقِّ الْغَيْرِ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَقَبْلَ مَوْتِهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيَانِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِتَرِكَتِهِ وَلَا يُمْكِنُ جَبْرُهُ فَيُجْبَرُ مَنْ يَقُومُ مُقَامَهُ إحْيَاءً لِحَقٍّ ثَابِتٍ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ الْمَقِيسُ فِي مَعْنَى الْمَقِيسِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ ، بَلْ يَكْفِي الِاشْتِرَاكُ فِي عِلَّةٍ هِيَ مَدَارُ الْحُكْمِ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ ، فَمُجَرَّدُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ فِي كَوْنِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ وَفِي الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَضُرُّ بِصِحَّةِ الْقِيَاسِ الْمُنْفَهِمِ مِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ ، وَإِنَّمَا يَضُرُّ بِهَا الْفَرْقُ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ مَدَارُ الْحُكْمِ ،

وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ هُنَا ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَدَارُ ثُبُوتِ الْجَبْرِ بِالْبَيَانِ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي الَّذِينَ يَقُومُونَ مُقَامَ الْمُوصِي إحْيَاءَ حَقٍّ ثَابِتٍ بِالْوَصِيَّةِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الْجَبْرُ بِالْبَيَانِ لِوَرَثَةِ الْمُقِرِّ بِالْمَجْهُولِ أَيْضًا إذَا مَاتَ مُجَهِّلًا إحْيَاءً لِحَقٍّ ثَابِتٍ بِالْإِقْرَارِ ، فَقَوْلُ ذَلِكَ الْبَعْضِ فَإِذَا فَاتَ الْجَبْرُ فِي حَيَاةِ الْمُقِرِّ بِوَفَاتِهِ سَقَطَ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْحَقُّ أَصْلًا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ حُقُوقُ الْعِبَادِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْجَبْرُ لِعَدَمِ إمْكَانِهِ وَإِنْ كَانَ بَقِيَ أَصْلُ الْحَقِّ عَلَيْهِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ قَوْلَهُ فَلَمْ يَنُبْ عَنْهُ وَرَثَتُهُ ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَقِيَ حَقُّ الْمُقِرِّ عَلَيْهِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَجْهُولًا مُحْتَاجًا إلَى الْبَيَانِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ وَكَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ عَاجِزًا عَنْ الْبَيَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ وَرَثَتُهُ فِي الْبَيَانِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَجْهُولِ تَأَمَّلْ تَقِفْ

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لَهُ ثُلُثُ مَالِي وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَلَهُ ثُلُثُ الْمَالِ وَيَدْخُلُ السُّدُسُ فِيهِ ، وَمَنْ قَالَ سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي غَيْرِهِ سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ فَلَهُ سُدُسٌ وَاحِدٌ ) لِأَنَّ السُّدُسَ ذُكِرَ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمَالِ ، وَالْمَعْرِفَةُ إذَا أُعِيدَتْ يُرَادُ بِالثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ هُوَ الْمَعْهُودُ فِي اللُّغَةِ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لَهُ ثُلُثُ مَالِي وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَلَهُ ثُلُثُ الْمَالِ وَيَدْخُلُ السُّدُسُ فِيهِ ) لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ زِيَادَةَ السُّدُسِ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ الثُّلُثُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إيجَابَ ثُلُثٍ عَلَى السُّدُسِ حَتَّى يَصِيرَ الْمَجْمُوعُ نِصْفًا وَعِنْدَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ لَهُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ فَيُجْعَلُ السُّدُسُ دَاخِلًا فِي الثُّلُثِ حَمْلًا لِكَلَامِهِ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ : هَكَذَا قَالُوا ، وَهَذَا كَمَا تَرَى حَمْلٌ لِلْكَلَامِ عَلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ .
وَلَك أَنْ تَقُولَ : لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مُحْتَمَلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ وَكَانَ الْقَدْرُ الثَّابِتُ بِهِ بِيَقِينٍ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الثُّلُثَ .
قُلْنَا : مَا ثَبَتَ بِهِ مِنْ الْوَصِيَّةِ هُوَ الثُّلُثُ لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ حَمْلِهِ عَلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ كَمَا زَعَمُوا ، بَلْ يَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ بَدَأَ ثُلُثُ مَالِي وَصِيَّةً لِأَنَّ الْمُتَيَقَّنَ ثُبُوتُ الثُّلُثِ بِمَجْمُوعِ الِاحْتِمَالَيْنِ لَا بِأَوَّلِهِمَا ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَيَقَّنَ ثُبُوتُ الثُّلُثِ بِأَوَّلِ الِاحْتِمَالَيْنِ ، فَإِنَّ زِيَادَةَ الثُّلُثِ عَلَى السُّدُسِ كَمَا هُوَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الثُّلُثِ بِلَا رَيْبٍ ، وَانْضِمَامَ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي إلَيْهِ إنَّمَا يُفِيدُ جَوَازَ إرَادَةِ النِّصْفِ وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي ثُبُوتِ الثُّلُثِ لِثُبُوتِهِ بِدُونِ ذَلِكَ .
فَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ هُنَا مَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ لَا مَا زَادَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : إذَا أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُ الْمَالِ وَإِلَّا لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَائِدَةٌ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ

مَعْنَاهُ حَقُّهُ الثُّلُثُ وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ لِأَنَّ السُّدُسَ يَدْخُلُ فِي الثُّلُثِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ زِيَادَةَ السُّدُسِ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ الثُّلُثُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا إيجَابَ ثُلُثٍ عَلَى السُّدُسِ فَيَجْعَلُ السُّدُسَ دَاخِلًا فِي الثُّلُثِ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ وَحَمْلًا لِكَلَامِهِ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ الْإِيصَاءُ بِالثُّلُثِ ا هـ .
أَقُولُ : فِي قَوْلِهِ وَحَمْلًا لِكَلَامِهِ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ الْإِيصَاءُ بِالثُّلُثِ بَحْثٌ ، لِأَنَّ مَا يَمْلِكُهُ إنَّمَا يَكُونُ هُوَ الْإِيصَاءُ بِالثُّلُثِ إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ .
وَأَمَّا إذَا أَجَازَتْ كَمَا هُوَ الْمَفْرُوضُ هُنَا فَيَمْلِكُ الْإِيصَاءَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ أَيْضًا ، وَيَتَمَلَّكُهُ الْمَجَازُ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ فَلَا يَتِمُّ هَذِهِ الْعِلَّةُ تَدَبَّرْ

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ دَرَاهِمِهِ أَوْ بِثُلُثِ غَنَمِهِ فَهَلَكَ ثُلُثَا ذَلِكَ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ جَمِيعُ مَا بَقِيَ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَهُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَالْمَالُ الْمُشْتَرَكُ يُتْوَى مَا تُوِيَ مِنْهُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَيَبْقَى مَا بَقِيَ عَلَيْهَا وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً .
وَلَنَا أَنَّ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ يُمْكِنُ جَمِيعُ حَقِّ أَحَدِهِمْ فِي الْوَاحِدِ وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ عَلَى الْقِسْمَةِ وَفِيهِ جَمْعٌ وَالْوَصِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ فَجَمَعْنَاهَا فِي الْوَاحِدِ الْبَاقِي وَصَارَتْ الدَّرَاهِمُ كَالدِّرْهَمِ ، بِخِلَافِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ فِيهَا جَبْرًا فَكَذَا تَقْدِيمًا .
قَالَ ( وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ ثِيَابِهِ فَهَلَكَ ثُلُثَاهَا وَبَقِيَ ثُلُثُهَا وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنْ الثِّيَابِ ، قَالُوا : هَذَا ) إذَا كَانَتْ الثِّيَابُ مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ ، وَكَذَلِكَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ بِمَنْزِلَتِهَا لِأَنَّهُ يَجْرِي فِيهِ الْجَمْعُ جَبْرًا بِالْقِسْمَةِ ( وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ ثَلَاثَةٍ مِنْ رَقِيقَةِ فَمَاتَ اثْنَانِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا ثُلُثُ الْبَاقِي ، وَكَذَا الدُّورُ الْمُخْتَلِفَةُ ) وَقِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْجَبْرَ عَلَى الْقِسْمَةِ فِيهَا .
وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ الْكُلِّ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْقَاضِي أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَجْمَعَ وَبِدُونِ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِلْفِقْهِ الْمَذْكُورِ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَهُ مَالٌ عَيْنٌ وَدَيْنٌ ، فَإِنْ خَرَجَ الْأَلْفُ مِنْ ثُلُثِ الْعَيْنِ دُفِعَ إلَى الْمُوصَى لَهُ ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ إيفَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ فَيُصَارُ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ دُفِعَ إلَيْهِ ثُلُثُ الْعَيْنِ ، وَكُلَّمَا خَرَجَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ أَخَذَ ثُلُثَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَلْفَ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ ، وَفِي تَخْصِيصِهِ بِالْعَيْنِ بَخْسٌ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الْعَيْنَ فَضْلًا عَنْ الدَّيْنِ ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِمَالٍ فِي مُطْلَقِ الْحَالِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَالًا عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّمَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ إيفَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ فَيُصَارُ إلَيْهِ ) أَقُولُ : فِيهِ تَأَمُّلٌ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَظْهَر أَنْ لَوْ كَانَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي الْعَيْنِ خَاصَّةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ شَائِعٌ فِي الْعَيْن وَالدَّيْنِ مَعًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ .
وَقَالُوا : الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ الْمُرْسَلَةَ تَكُونُ شَائِعَةً فِي كُلِّ الْمَالِ لِكَوْنِ الْمُوصَى لَهُ إذْ ذَاكَ شَرِيكَ الْوَرَثَةِ ، وَعَنْ هَذَا لَا يَأْخُذُ الْأَلْفَ كَمَلًا فِي صُورَةِ إنْ لَمْ يَخْرُجْ الْأَلْفُ مِنْ ثُلُثِ الْعَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ شَائِعًا فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ الَّذِي هُوَ الْعَيْنُ وَالدَّيْنُ كَشُيُوعِ حَقِّ الْوَرَثَةِ فِيهِ كَانَ تَخْصِيصُ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ فِي صُورَةِ إنْ خَرَجَ الْأَلْفُ مِنْ ثُلُثِ الْعَيْنِ بَخْسًا فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ كَمَا فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى ، إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَ الْمُوصَى لَهُ جَمِيعَ حَقِّهِ مِنْ الْعَيْنِ الَّذِي لَهُ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ وَيَأْخُذَ الْوَرَثَةُ بَعْضَ حَقِّهِمْ مِنْ الْعَيْنِ وَبَعْضَ حَقِّهِمْ مِنْ الدَّيْنِ .
وَهَذَا بَخْسٌ فِي حَقِّهِمْ لَا مَحَالَةَ مُنَافٍ لِمَا يَقْتَضِيهِ حَقُّ الشَّرِكَةِ مِنْ تَعْدِيلِ النَّظَرِ لِلْجَانِبَيْنِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ وَلَعَلَّهُ تُسْكَبُ فِيهِ الْعَبَرَاتُ

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِذَا عَمْرٌو مَيِّتٌ فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِزَيْدٍ ) لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْوَصِيَّةِ فَلَا يُزَاحِمُ الْحَيَّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِهَا ، كَمَا إذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَجِدَارٍ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِهِ فَلَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عِنْدَهُ صَحِيحَةٌ لِعَمْرٍو فَلَمْ يَرْضَ لِلْحَيِّ إلَّا نِصْفَ الثُّلُثِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَيِّتِ لَغْوٌ فَكَانَ رَاضِيًا بِكُلِّ الثُّلُثِ لِلْحَيِّ ، وَإِنْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَزَيْدٌ مَيِّتٌ كَانَ لِعَمْرٍو نِصْفُ الثُّلُثِ ، لِأَنَّ قَضِيَّةَ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثُّلُثِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِزَيْدٍ وَسَكَتَ كَانَ لَهُ كُلُّ الثُّلُثِ ، وَلَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي بَيْنَ فُلَانٍ وَسَكَتَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الثُّلُثَ .

( قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِذَا عَمْرٌو مَيِّتٌ فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِزَيْدٍ ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْوَصِيَّةِ فَلَا يُزَاحِمُ الْحَيَّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِهَا كَمَا إذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَجِدَارٍ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَانْدَفَعَ بِقَوْلِهِ فَلَا يُزَاحِمُ الْحَيَّ مَا إذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَهُمَا بِالْحَيَاةِ فَمَاتَ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ لِلْبَاقِي نِصْفَ الثُّلُثِ لِوُجُودِ الْمُزَاحَمَةِ بَيْنَهُمَا حَالَ الْمِلْكِ ، ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بَلْ يَقُومُ وَارِثُهُ فِيهِ مَقَامَهُ كَمَوْتِ أَحَدٍ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ ا هـ .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِ الشَّارِحِ الْمَذْكُورِ هُنَا قُصُورٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ أَضَافَ انْدِفَاعَ الْإِشْكَالِ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا إلَى قَوْلِهِ فَلَا يُزَاحِمُ الْحَيَّ مَعَ أَنَّ انْدِفَاعَهُ بِمَجْمُوعِ التَّعْلِيلِ بَلْ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْوَصِيَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ فَلَا يُزَاحِمُ الْحَيَّ مُتَفَرِّعٌ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ لِوُجُودِ الْمُزَاحَمَة بَيْنَهُمَا حَالَ الْمِلْكِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُزَاحَمَةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَلَا يُزَاحِمُ الْحَيَّ هُوَ الْمُزَاحَمَةُ حَالَ الْمِلْكِ وَهِيَ حَالَ مَوْتِ الْمُوصِي وَذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ تَامٍّ فِي نَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ إذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو بِثُلُثِ مَالِهِ وَهُمَا بِالْحَيَاةِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي كَانَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا نِصْفُ الثُّلُثِ لَا كُلُّهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، مَعَ أَنَّ الْعِلَّةَ هُنَاكَ أَيْضًا التَّزَاحُمُ ، وَإِنَّ التَّزَاحُمَ فِيهِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي حَالِ إيجَابِ الْمُوصِي لَا فِي حَالِ الْمِلْكِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا فِي حَالِ الْمِلْكِ وَلَا تَزَاحُمَ لِلْمَيِّتِ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ فِي تَعْلِيلِ جَوَابِ

ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ : وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ عِلْمِ الْمُوصِي بِحَيَاتِهِ وَعَدَمِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَيِّ مِنْهُمَا لِجَمِيعِ الثُّلُثِ بِعَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ عِنْدَ إيجَابِ الْمُوصِي ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ ا هـ .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِبَيَانِ انْدِفَاعِ الْإِشْكَالِ بِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى أَيْضًا بِعِبَارَةِ الْكِتَابِ ، وَهِيَ أَيْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ مَا إذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَهُمَا بِالْحَيَاةِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَإِنَّ لِلْبَاقِي نِصْفَ الثُّلُثِ هُنَاكَ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ مَعَ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ يُفِيدُ انْدِفَاعَ ذَلِكَ أَيْضًا ، فَالتَّقْرِيرُ الظَّاهِرُ الْوَاسِعُ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مَا أَفَادَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ : وَبِهَذَا التَّعْلِيلِ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا لَوْ أَوْرَدُوا شُبْهَةً عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنْ قَالُوا مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَهُمَا بِالْحَيَاةِ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْبَاقِي نِصْفُ الثُّلُثِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي كَانَ لِلْبَاقِي نِصْفُ الثُّلُثِ ، وَلَكِنْ هُنَا كَانَ النِّصْفُ الْآخَرُ لِلْمُوصِي لِمَا أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَدْ تَمَّتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا بِمَوْتِ الْمُوصِي ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا لَا يُبْطِلُ حَقَّهُ بَلْ يَقُومُ وَارِثُهُ فِيهِ مَقَامَهُ كَمَوْتِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَمَّا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي بَطَلَتْ حِصَّتُهُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي مَعْنَى عَقْدٍ مُضَافٍ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُشْتَرَطُ بَقَاءُ مَنْ أَوْجَبَ لَهُ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ حَيْثُ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَيَبْطُلُ نَصِيبُهُ ، كَمَا لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ

وَلِلْآخَرِ نِصْفُ الثُّلُثِ ، لِأَنَّ الِانْقِسَامَ قَدْ حَصَلَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْإِيجَابِ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلًا لِإِيجَابِ الْوَصِيَّةِ لَهُ فَبِبُطْلَانِ حَقِّ أَحَدِهِمَا لَا يَزْدَادُ نَصِيبُ الْآخَرِ ، كَمَا لَوْ رَدَّ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ كَانَ لِلْآخَرِ نِصْفُ الثُّلُثِ ، وَهَذَا عَلَى خِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّ فِيهَا لِلْحَيِّ كُلَّ الثُّلُثِ ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ لَهُ ، فَإِنَّمَا يُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِإِثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ وَلَمْ تَثْبُتْ الْمُزَاحَمَةُ حَيْثُ كَانَ الْآخَرُ مَيِّتًا فَبَقِيَ الثُّلُثُ لِلْحَيِّ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَلِلْمَوْلَى فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِفُلَانٍ ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ فَتَبَصَّرْ

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُ وَاكْتَسَبَ مَالًا اسْتَحَقَّ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ مَا يَمْلِكُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ ) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدُ اسْتِخْلَافٍ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَثْبُتُ حُكْمُهُ بَعْدُ فَيُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمَالِ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا قَبْلَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فَهَلَكَ ثُمَّ اكْتَسَبَ مَالًا لِمَا بَيَّنَّا .
.

وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ غَنَمِهِ فَهَلَكَ الْغَنَمُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ فِي الْأَصْلِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إيجَابٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ قِيَامُهُ حِينَئِذٍ ، وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ تَعَلَّقَتْ بِالْعَيْنِ فَتَبْطُلُ بِفَوَاتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ فَاسْتَفَادَ ثُمَّ مَاتَ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِلَفْظِ الْمَالِ تَصِحُّ ، فَكَذَا إذَا كَانَتْ بِاسْمِ نَوْعِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ وُجُودَهُ قَبْلَ الْمَوْتِ فَضْلٌ وَالْمُعْتَبَرُ قِيَامُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ ؛ وَلَوْ قَالَ لَهُ شَاةٌ مِنْ مَالِي وَلَيْسَ لَهُ غَنَمٌ يُعْطِي قِيمَةَ شَاةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى الْمَالِ عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْوَصِيَّةُ بِمَالِيَّةِ الشَّاةِ إذْ مَالِيَّتُهَا تُوجَدُ فِي مُطْلَقِ الْمَالِ ، وَلَوْ أَوْصَى بِشَاةٍ وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى مَالِهِ وَلَا غَنَمَ لَهُ قِيلَ لَا يَصِحّ لِأَنَّ الْمُصَحَّحَ إضَافَتُهُ إلَى الْمَالِ وَبِدُونِهَا تُعْتَبَرُ صُورَةُ الشَّاةِ وَمَعْنَاهَا ، وَقِيلَ تَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الشَّاةَ وَلَيْسَ فِي مِلْكَهُ شَاةٌ عُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ الْمَالِيَّةُ ؛ وَلَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي وَلَا غَنَمَ لَهُ فَالْوَصِيَّة بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى الْغَنَمِ عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ عَيْنُ الشَّاةِ حَيْثُ جَعَلَهَا جُزْءًا مِنْ الْغَنَمِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَضَافَهُ إلَى الْمَالِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ .

( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي وَلَا غَنَمَ لَهُ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى الْغَنَمِ أَنَّ مُرَادَهُ عَيْنُ الشَّاةِ حَيْثُ جَعَلَهُ جُزْءًا مِنْ الْغَنَمِ ) اعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي عِبَارَةِ الْوِقَايَةِ وَلَا شَاةَ لَهُ مَوْضِعَ وَلَا غَنَمَ لَهُ الْوَاقِعِ فِي عِبَارَةِ الْهِدَايَةِ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِهِ لِلْوِقَايَةِ : وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَلَا غَنَمَ لَهُ وَقَالَ فِي الْمَتْنِ وَلَا شَاةَ لَهُ ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ لِأَنَّ الشَّاةَ فَرْدٌ مِنْ الْغَنَمِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَاةٌ لَا يَكُونُ لَهُ غَنَمٌ ، لَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَاةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَاحِدٌ لَا كَثِيرٌ ، فَعِبَارَةُ الْهِدَايَةِ تَنَاوَلَتْ صُورَتَيْنِ : مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَاةٌ أَصْلًا ، وَمَا يَكُونُ لَهُ شَاةٌ لَا غَنَمَ لَهُ ، فَفِي الصُّورَتَيْنِ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ ، وَعِبَارَةُ الْمَتْنِ لَمْ تَتَنَاوَلْ إلَّا الصُّورَةَ الْأُولَى وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهَا الْحُكْمُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ ، فَعِبَارَةُ الْهِدَايَةِ أَشْمَلُ لَكِنَّ هَذِهِ أَحْوَطُ ا هـ كَلَامُهُ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِهِ : إنَّمَا قَالَ وَلَا شَاةَ لَهُ وَلَمْ يَقُلْ وَلَا غَنَمَ لَهُ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ ، لِأَنَّ الشَّاةَ فَرْدٌ مِنْ الْغَنَمِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَاةٌ لَا يَكُونُ لَهُ غَنَمٌ بِدُونِ الْعَكْسِ ، وَالشَّرْطُ عَدَمُ الْجِنْسِ لَا عَدَمُ الْجَمْعِ حَتَّى لَوْ وُجِدَ الْفَرْدُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ يُفْصِحُ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ فِي الْكَافِي : وَلَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي أَوْ قَفِيزٌ مِنْ حِنْطَتِي فَإِنَّ الْحِنْطَةَ اسْمُ جِنْسٍ لَا اسْمُ جَمْعٍ ا هـ .
وَقَالَ فِي حَاشِيَتِهِ : أَخْطَأَ هُنَا صَدْرُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ فِي الصُّورَتَيْنِ ا هـ .
وَقَصَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ : وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ

الْأَفَاضِلِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ عِبَارَةَ الْوِقَايَةِ هِيَ الصَّوَابُ ، وَأَنَّ الْحُكْمَ فِي وُجُودِ الْفَرْدِ صِحَّةُ الْوَصِيَّةِ ، وَزَعَمَ أَنَّ الشَّرْطَ عَدَمُ الْجِنْسِ لَا عَدَمُ الْجَمْعِ .
قُلْت : بَعْدَ تَسْلِيمِ أَنَّ الْغَنَمَ جَمْعٌ أَوْ اسْمُ جَمْعٍ لَا اسْمُ جِنْسٍ أَنَّ نَفْيَ الْغَنَمِ كَمَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ الْهِدَايَةِ وَعَامَّةِ الْكُتُبِ هُوَ الصَّوَابُ ، وَأَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِوُجُودِ شَاةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الشَّرْطَ عَدَمُ الْجَمْعِ لَا عَدَمُ الْجِنْسِ كَمَا زَعَمَهُ الْمُعْتَرِضُ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ بَلْ فَرْدٌ لَمْ يَتَحَقَّقْ شَاةٌ مِنْ غَنَمِهِ فَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ فَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي تَعْمِيمِ الْغَنَمِ دُونَ الشَّاةِ إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : الظَّاهِرُ عِنْدِي مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ بِوُجُودِ شَاةٍ وَاحِدَةٍ ، لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ الشَّاةُ يَصِيرُ مَوْجُودًا حِينَئِذٍ فَتَصِيرُ الْوَصِيَّةُ بِشَيْءٍ مَوْجُودٍ لَا مَعْدُومٍ ، وَلَا مَانِعَ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ هُنَا سِوَى كَوْنِ الْمُوصَى بِهِ مَعْدُومًا ، فَإِذَا وُجِدَتْ شَاةٌ وَاحِدَةٌ انْتَفَى الْمَانِعُ .
نَعَمْ لَا يُوجَدُ حِينَئِذٍ مَا أُضِيفَتْ الشَّاةُ إلَيْهِ مِنْ الْغَنَمِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْغَنَمُ اسْمَ جَمْعٍ لَا اسْمَ جِنْسٍ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْإِضَافَةِ إلَى الْغَنَمِ تَعْيِينُ أَنَّ مُرَادَهُ عَيْنُ الشَّاةِ لَا مَالِيَّتُهَا ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا ، وَلَا يَقْتَضِي وُجُودَهَا أَلْبَتَّةَ كَوُجُودِ الشَّاةِ الَّتِي هِيَ الْمُوصَى بِهِ ، وَمِمَّا يُرْشِدُ إلَى كَوْنِ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا لَوْ تُوجَدُ شَاةٌ أَصْلًا أَنَّهُ قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي : وَلَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي أَوْ قَفِيزٌ مِنْ حِنْطَتِي وَلَيْسَ لَهُ غَنَمٌ وَلَا حِنْطَةٌ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِهِ : لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى

الْغَنَمِ عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْوَصِيَّةُ بِعَيْنِ الشَّاةِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ جُزْءًا مِنْ الْغَنَمِ .
وَأَنَّهُ يَصْلُحُ جُزْءًا لِلْغَنَمِ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَصَارَتْ الْوَصِيَّةُ بِشَيْءٍ مَعْدُومٍ وَلَا وُجُودَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَيْضًا فَلَا تَصِحُّ ا هـ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَهُنَّ ثَلَاثٌ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْسَمُ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لَهُنَّ ثَلَاثَةٌ وَلِكُلِّ فَرِيقٍ سَهْمَانِ ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ جَائِزَةٌ وَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ جِنْسَانِ ، وَفَسَّرْنَاهُمَا فِي الزَّكَاةِ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَذْكُورَ لَفْظُ الْجَمْعِ وَأَدْنَاهُ فِي الْمِيرَاثِ اثْنَانِ نَجِد ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فَكَانَ مِنْ كُلِّ فَرِيقِ اثْنَانِ وَأُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ ثَلَاثٌ فَلِهَذَا يُقْسَمُ عَلَى سَبْعَةٍ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمْعَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ ، وَأَنَّهُ بِتَنَاوُلِ الْأَدْنَى مَعَ احْتِمَالِ الْكُلِّ ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ تَعَذُّرِ صَرْفِهِ إلَى الْكُلِّ فَيُعْتَبَرُ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ وَاحِدٌ فَبَلَغَ الْحِسَابُ خَمْسَةً وَالثَّلَاثَةُ لِلثَّلَاثِ .
قَالَ ( وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِفُلَانٍ وَلِلْمَسَاكِينِ فَنِصْفُهُ لِفُلَانِ وَنِصْفُهُ لِلْمَسَاكِينِ عِنْدَهُمَا ) وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ثُلُثُهُ لِفُلَانٍ وَثُلُثَانِ لِلْمَسَاكِينِ ، وَلَوْ أَوْصَى لِلْمَسَاكِينِ لَهُ صَرْفُهُ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَهُ لَا يُصْرَفُ إلَّا إلَى مِسْكِينَيْنِ بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .

( قَوْلُهُ وَأَصْلُهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ جَائِزَةٌ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لِأُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَهِيَ إنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا ، وَبَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا حَالَ حُلُولِ الْعِتْقِ بِهَا فَالْعِتْقُ يَحُلُّهَا وَهِيَ أَمَةٌ ، وَالْوَصِيَّةُ لِأَمَتِهِ بِشَيْءٍ غَيْرِ رَقَبَتِهَا بَاطِلَةٌ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مُضَافَةٌ إلَى مَا بَعْدَ عِتْقِهَا إلَى حَالِ حُلُولِ الْعِتْقِ بِهَا بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُوصِي ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ أَنْ يَقْصِدَ بِإِيصَائِهِ وَصِيَّةً صَحِيحَةً لَا بَاطِلَةً ، وَالصَّحِيحَةُ هِيَ الْمُضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ عِتْقِهَا ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ ، وَعَزَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ إلَى الذَّخِيرَةِ .
أَقُولُ : فِيمَا ذَكَرُوا مِنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ وَبَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا حَالَ حُلُولِ الْعِتْقِ بِهَا مَمْنُوعٌ ، بَلْ حَالُ حُلُولِ الْعِتْقِ بِهَا إنَّمَا هِيَ حَالَ مَوْتِ مَوْلَاهَا لَا بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ حِينَ مَوْتِ مَوْلَاهَا وَلَا يُنْتَظَرُ عِتْقُهَا إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَهِيَ بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا حُرَّةٌ فَلَمْ تَكُنْ الْوَصِيَّةُ لِأُمِّ الْوَلَدِ وَصِيَّةً لِلْأَمَةِ فِي شَيْءٍ ، فَلَمْ يَتِمَّ وَجْهُ الْقِيَاسِ وَلَمْ يُحْتَجْ إلَى مَا تَكَلَّفُوهُ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ ، وَلَعَلَّ الْإِمَامَ قَاضِي خَانْ وَالْإِمَامَ الْمَحْبُوبِيَّ عَنْ هَذَا قَالَا : أَمَّا جَوَازُ الْوَصِيَّةِ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ فَلِأَنَّ أَوْ أَنَّ ثُبُوتَ الْوَصِيَّةِ وَعَمَلِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُنَّ حَرَائِرُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لَهُنَّ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْهُمَا .
ثُمَّ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الْمَالِ لِعَبْدِهِ جَائِزَةٌ وَلَمْ يَعْتِقْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأُمُّ الْوَلَدِ لَيْسَتْ أَقَلَّ حَالًا مِنْهُ فَكَيْفَ لَمْ تَصِحَّ لَهَا الْوَصِيَّةُ

قِيَاسًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثِ الْمَالِ لِلْعَبْدِ إنَّمَا جَازَتْ لِتَنَاوُلِهِ ثُلُثَ رَقَبَتِهِ فَكَانَتْ وَصِيَّةً بِرَقَبَتِهِ ، وَالْوَصِيَّةُ بِرَقَبَتِهِ إعْتَاقٌ وَهُوَ يَصِحُّ مُنَجَّزًا أَوْ مُضَافًا بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ إعْتَاقًا لِأَنَّهَا تَعْتِقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ وَصِيَّةٌ أَصْلًا ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الْمَالِ أَمَّا إنْ صَادَفَتْهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَهِيَ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا وَجْهَ لِنَفْيِ الْقِيَاسِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَكَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَالْعَبْدِ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْعَبْدِ لِأَنَّ عِتْقَهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى ، فَلَوْ كَانَ بِالْوَصِيَّةِ أَيْضًا تَوَارَدَ عِلَّتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ وَهُوَ ثُلُثُ رَقَبَتِهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ السُّؤَالَ الثَّانِيَ وَجَوَابَهُ لَغْوٌ مِنْ الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا قَبْلَهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرَهُ ، لِأَنَّ التَّرْدِيدَ الْوَاقِعَ فِي هَذَا السُّؤَالِ إنْ كَانَ عَلَى مُوجِبِ الِاسْتِحْسَانِ دُونَ الْقِيَاسِ فَالشِّقُّ الْأَوَّلُ مُتَعَيِّنٌ ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَلَا وَجْهَ لِنَفْيِ الْقِيَاسِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَالشِّقُّ الثَّانِي مُخْتَارٌ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْعَبْدِ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ قَدْ عُلِمَ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ قَطْعًا فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ بِمِائَةٍ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ قَدْ أَشْرَكْتُك مَعَهُمَا فَلَهُ ثُلُثُ كُلِّ مِائَةٍ ) لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لِلْمُسَاوَاةِ لُغَةً ، وَقَدْ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ بَيْنَ الْكُلِّ بِمَا قُلْنَاهُ لِاتِّحَادِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَا مِائَةٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَلِآخَرَ بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ كَانَ الْإِشْرَاكُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْكُلِّ لِتَفَاوُتِ الْمَالَيْنِ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مُسَاوَاتِهِ كُلَّ وَاحِدٍ بِتَنْصِيفِ نَصِيبِهِ عَمَلًا بِاللَّفْظِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .

( وَقَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ بِمِائَةٍ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ قَدْ أَشْرَكْتُك مَعَهُمَا فَلَهُ ثُلُثُ كُلِّ مِائَةٍ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَهُ نِصْفُ كُلِّ مِائَةٍ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِشْرَاكِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } وَقَدْ أَشْرَكَ الثَّالِثَ فِيمَا يُوصِي بِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِائَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُ كُلِّ مِائَةٍ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَثْبَتَ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمْ وَهِيَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْمُسَاوَاةُ إذَا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الْمِائَةِ ، أَمَّا إذَا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْمِائَةِ حَصَلَ لَهُ مِائَةٌ فَلَا يَثْبُتُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمْ ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ أَشْرَكَهُ مَعَهُمَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فَلَا يُعْتَبَرُ بِإِشْرَاكِهِ إيَّاهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَفَرِّقًا انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لِلْمُسَاوَاةِ لُغَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فَيَقْتَضِي لَفْظُ الْإِشْرَاكِ التَّسْوِيَةَ بِلَا رَيْبٍ ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُوصِي لِلثَّالِثِ قَدْ أَشْرَكْتُك مَعَهُمَا إشْرَاكَهُ مَعَهُمَا جُمْلَةً وَاحِدَةً أَيْ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْكُلِّ لَا إشْرَاكَهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا : أَيْ تَسْوِيَتَهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ بِنِصْفِ نَصِيبِهِ بِعَيْنِهِ فَلَا مَعْنَى لِوَجْهِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ هُوَ الثَّانِيَ فَلَا مَعْنَى لِوَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ الْمَذْكُورِ .
وَبِالْجُمْلَةِ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ مِنْ وَجْهَيْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ مَعْنَيَانِ مُتَضَادَّانِ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ ، فَمَعْنَى كَلَامِ الْمُوصِي لُغَةً وَعُرْفًا أَحَدُهُمَا لَا غَيْرُ فَلَمْ يَصْلُحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِلْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ عَلَى مَا ذَكَرَاهُ ، وَعَنْ هَذَا لَمْ أَرَ

أَحَدًا ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سِوَى ذَيْنِك الشَّارِحَيْنِ ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُوَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْكُلِّ هُوَ الْمَعْنَى فِيمَا أَمْكَنَ تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْكُلِّ ، وَإِلَّا يُحْمَلُ عَلَى الْمُسَاوَاةِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ بِنِصْفِ نَصِيبِهِ عَمَلًا بِاللَّفْظِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَبِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا تَرَى وَلَا غُبَارَ فِيهِ

قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَيْنٌ فَصَدَّقُوهُ ) مَعْنَاهُ قَالَ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ ( فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ إلَى الثُّلُثِ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمَجْهُولِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِهِ إلَّا بِالْبَيَانِ وَقَوْلُهُ فَصَدَّقُوهُ صَدَرَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ إقْرَارًا مُطْلَقًا فَلَا يُعْتَبَرُ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مِنْ قَصْدِهِ تَقْدِيمَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ وَقَدْ أَمْكَنَ تَنْفِيذُ قَصْدِهِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَنْ يَعْلَمُ بِأَصْلِ الْحَقِّ عَلَيْهِ دُونَ مِقْدَارِهِ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ فَيَجْعَلُهَا وَصِيَّةً جَعَلَ التَّقْدِيرَ فِيهَا إلَى الْمُوصَى لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ إذَا جَاءَكُمْ فُلَانٌ وَادَّعَى شَيْئًا فَأَعْطُوهُ مِنْ مَالِي مَا شَاءَ ، وَهَذِهِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ الثُّلُثِ فَلِهَذَا يُصَدَّقُ عَلَى الثُّلُثِ دُونَ الزِّيَادَةِ .
قَالَ ( وَإِنْ أَوْصَى بِوَصَايَا غَيْرِ ذَلِكَ يُعْزَلُ الثُّلُثُ لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا وَالثُّلُثَانِ لِلْوَرَثَةِ ) لِأَنَّ مِيرَاثَهُمْ مَعْلُومٌ .
وَكَذَا الْوَصَايَا مَعْلُومَةٌ وَهَذَا مَجْهُولٌ فَلَا يُزَاحِمُ الْمَعْلُومَ فَيُقَدَّمُ عَزْلُ الْمَعْلُومِ ، وَفِي الْإِفْرَازِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ يَكُونُ أَعْلَمَ بِمِقْدَارِ هَذَا الْحَقِّ وَأَبْصَرَ بِهِ ، وَالْآخَرُ أَلَدُّ خِصَامًا ، وَعَسَاهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْفَضْلِ إذَا ادَّعَاهُ الْخَصْمُ وَبَعْدَ الْإِفْرَازِ يَصِحُّ إقْرَارُ كُلِّ وَاحِدٍ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ مُنَازَعَةٍ ( وَإِذَا عَزَلَ يُقَالُ لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا صَدِّقُوهُ فِيمَا شِئْتُمْ وَيُقَالُ لِلْوَرَثَةِ صَدِّقُوهُ فِيمَا شِئْتُمْ ) لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ وَصِيَّةً فِي حَقِّ التَّنْفِيذِ ، فَإِذَا أَقَرَّ كُلُّ فَرِيقٍ بِشَيْءٍ ظَهَرَ أَنَّ فِي التَّرِكَةِ دَيْنًا شَائِعًا فِي النَّصِيبَيْنِ ( فَيُؤْخَذُ أَصْحَابُ الثُّلُثِ بِثُلُثِ مَا أَقَرُّوا وَالْوَرَثَةُ بِثُلُثَيْ مَا أَقَرُّوا )

تَنْفِيذًا لِإِقْرَارِ كُلِّ فَرِيقٍ فِي قَدْرِ حَقِّهِ وَعَلَى كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ إنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ .
.

( قَوْلُهُ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصْدُقُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمَجْهُولِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِهِ إلَّا بِالْبَيَانِ ) يَعْنِي لَا يُحْكَمُ بِهِ إلَّا إذَا قُرِنَ بِبَيَانٍ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ وَقَدْ فَاتَ بِمَوْتِهِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لِمَ لَا يَنُوبُ عَنْهُ الْوَرَثَةُ فِي الْبَيَانِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَجْهُولِ ، مِثْلُ إنْ أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ هُنَاكَ لِلْوَرَثَةِ أَعْطُوا مَا شِئْتُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَجْهُولٌ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ وَالْوَرَثَةُ قَائِمُونَ مَقَامَ الْمُوصِي فَإِلَيْهِمْ الْبَيَانُ كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ فَتَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا عَزَلَ يُقَالُ لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا صَدِّقُوهُ فِيمَا شِئْتُمْ وَيُقَالُ لِلْوَرَثَةِ صَدِّقُوهُ فِيمَا شِئْتُمْ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَحَقِّ وَصِيَّةً فِي حَقِّ التَّنْفِيذِ إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : حَاصِلُهُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُشْبِهُ الْإِقْرَارَ لَفْظًا وَيُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ تَنْفِيذًا ، فَبِاعْتِبَارِ شَبَهِ الْوَصِيَّةِ لَا يُصَدَّقُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ ، وَبِاعْتِبَارِ شَبَهِ الْإِقْرَارِ يُجْعَلُ شَائِعًا فِي الْأَثْلَاثِ ، وَلَا يُخَصَّصُ بِالثُّلُثِ الَّذِي لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ا هـ .
وَقَدْ سَبَقَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ إلَى بَيَانِ حَاصِلِ هَذَا الْمَقَامِ بِهَذَا الْوَجْهِ .
أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِمَجْمُوعِ الشَّبَهَيْنِ إنْ كَانَ أَمْرًا وَاجِبًا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمَعْرُوفُ فَمَا بَالُهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِشَبَهِ الْإِقْرَارِ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ إذَا لَمْ يُوصِ بِوَصَايَا غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ، بَلْ جَعَلُوهُ وَصِيَّةً جَعَلَ التَّقْدِيرَ فِيهَا إلَى الْمُوصَى لَهُ كَمَا إذَا قَالَ إذَا جَاءَكُمْ فُلَانٌ وَادَّعَى شَيْئًا فَأَعْطُوهُ مِنْ مَالِي وَلَمْ يَعْتَبِرُوا شَبَهَ الْإِقْرَارِ قَطُّ حَيْثُ لَمْ يَجْعَلُوا لَهُ حُكْمًا أَصْلًا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَمْرًا وَاجِبًا فَكَيْفَ يَصْلُحُ ذَلِكَ تَعْلِيلًا

لِجَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ .
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا فِي الثُّلُثِ وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْهُ ، بَلْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْوَرَثَةِ وَأَصْحَابِ الْوَصَايَا فَتَأَمَّلْ ا هـ .
وَقَصَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ فَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ قُلْت بَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ إنَّ عَدَمَ التَّصْدِيقِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لَا يُوجِبُ التَّصْدِيقَ فِي الثُّلُثِ ، فَالْمَعْنَى لَا يُصَدَّقُ فِي صُورَةِ دَعْوَى الزِّيَادَةِ بَلْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِمْ فَلَا اعْتِبَارَ فِيهِ فَتَأَمَّلْ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِمُسْتَقِيمٍ ، فَإِنَّ مُرَادَ ذَلِكَ الْمُعْتَرِضِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا فِي الثُّلُثِ وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْهُ كَمَا لَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ بَلْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْوَرَثَةِ وَأَصْحَابِ الْوَصَايَا بَالِغًا مَا بَلَغَ .
فَمِنْ أَيْنَ يَظْهَرُ اعْتِبَارُ شَبَهِ الْوَصِيَّةِ ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فَبِاعْتِبَارِ شَبَهِ الْوَصِيَّةِ لَا يُصَدَّقُ فِي الزِّيَادَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنْ يُصَدَّقَ فِي الثُّلُثِ وَمَا دُونَهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَتَّى يَتِمَّ الْجَوَابُ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَهُ لَك الْمُجِيبُ تَأَمَّلْ تَقِفْ ، ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ اسْتَشْكَلَ هَذَا الْمَحِلَّ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ : هَذَا مُشْكِلٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوَرَثَةَ كَانُوا يُصَدِّقُونَهُ إلَى الثُّلُثِ وَلَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَهَاهُنَا لَزِمَهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْوَصَايَا أَخَذُوا الثُّلُثَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْوَصَايَا تَسْتَغْرِقُ الثُّلُثَ كُلَّهُ وَلَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُمْ تَصْدِيقُهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : الْإِشْكَالُ سَاقِطٌ جِدًّا ، إذْ لَا يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ

يُصَدِّقُوهُ إلَى الثُّلُثِ ، كَمَا لَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ لَهُمْ وَلِأَصْحَابِ الْوَصَايَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يُصَدِّقُوهُ فِيمَا شَاءُوا ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلْزَامُ الْوَرَثَةِ أَنْ يُصَدِّقُوهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْوَصَايَا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَصَايَا تَسْتَغْرِقُ الثُّلُثَ كُلَّهُ لَا يَأْخُذُونَ الثُّلُثَ بِطَرِيقِ التَّمَلُّكِ التَّامِّ ، بَلْ إنَّمَا يَأْخُذُونَهُ بِطَرِيقِ الْعَزْلِ وَالْإِفْرَازِ ، فَكَانَ ذَلِكَ الثُّلُثُ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ جَوَازِ تَصَرُّفِ الْوَرَثَةِ فِيهِ بِتَصْدِيقِهِمْ الْمُدَّعِي فِيمَا شَاءَ ، وَلَا يَضُرُّ بِذَلِكَ عَدَمُ بَقَاءِ ذَلِكَ الثُّلُثِ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ جِهَةِ الْعَزْلِ وَالْإِفْرَازِ ، وَلَئِنْ سَلِمَ عَدَمُ بَقَاءِ ذَلِكَ الثُّلُثِ الْمَخْصُوصِ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ حَتَّى مِنْ جِهَةِ جَوَازِ تَصَرُّفِهِمْ فِيهِ بِتَصْدِيقِهِمْ الْمُدَّعِي أَيْضًا فَيَكْفِي جَوَازُ التَّصَرُّفِ لَهُمْ فِي مُطْلَقِ الثُّلُثِ الشَّائِعِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا : إنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ يُشْبِهُ الْإِقْرَارَ وَالْوَصِيَّةَ ، فَبِاعْتِبَارِ شَبَهِ الْوَصِيَّةِ لَا يَصْدُقُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ ، وَبِاعْتِبَارِ شَبَهِ الْإِقْرَارِ يُجْعَلُ شَائِعًا فِي الْأَثْلَاثِ وَلَا يُخَصُّ بِالثُّلُثِ الَّذِي لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ تَأَمَّلْ تَرْشُدْ .
( قَوْلُهُ وَعَلَى كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ إنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ الْوَرَثَةُ إذَا بَلَغَ مَا أُخِذَ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ ثُلُثَ الْمَالِ إنْ كَانَ مَا ادَّعَاهُ زَائِدًا عَلَيْهِ وَيَحْلِفُ أَصْحَابُ الْوَصَايَا لِبَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الثُّلُثِ فِي أَيْدِيهِمْ فَتَأَمَّلْ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِكَلَامٍ صَحِيحٍ .
أَمَّا قَوْلُهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ الْوَرَثَةُ إذَا بَلَغَ مَا أُخِذَ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ ثُلُثَ الْمَالِ إنْ كَانَ مَا ادَّعَاهُ زَائِدًا عَلَيْهِ فَلِأَنَّ

تَحْلِيفَ الْوَرَثَةِ فِيمَا إذَا كَانَ مَا ادَّعَاهُ زَائِدًا عَلَى الثُّلُثِ لَيْسَ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، بَلْ لِكَوْنِ الْمُدَّعِي هُنَاكَ مِمَّنْ يَدَّعِي حَقًّا لِنَفْسِهِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ ادِّعَاءَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى ، فَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى فَلَا جَرَمَ يَحْلِفُ الْوَرَثَةُ إذَا أَنْكَرُوا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَيَحْلِفُ أَصْحَابُ الْوَصَايَا لِبَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الثُّلُثِ فِي أَيْدِيهِمْ فَلِأَنَّ دَعْوَى الدَّيْنِ لَا تَخْتَصُّ بِالثُّلُثِ الَّذِي فِي أَيْدِي أَصْحَابِ الْوَصَايَا ، بَلْ يَخْتَصُّ بِثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ مُطْلَقًا وَالْمُدَّعِي فِيمَا إذَا ادَّعَى زَائِدًا عَلَى الثُّلُثِ إنَّمَا يَدَّعِي الدَّيْنَ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لَا الْوَصِيَّةِ ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى الْوَصِيَّةَ فِيهِ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ رَأْسًا فَضْلًا عَنْ التَّحْلِيفِ

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ وَلِوَارِثِهِ فَلِلْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الْوَصِيَّةِ وَتَبْطُلُ وَصِيَّةُ الْوَارِثِ ) لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمَا يَمْلِكُ الْإِيصَاءَ بِهِ وَبِمَا لَا يَمْلِكُ فَصَحَّ فِي الْأَوَّلِ وَبَطَلَ فِي الثَّانِي ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْوَصِيَّةِ فَلَا يَصْلُحُ مُزَاحِمًا فَيَكُونُ الْكُلُّ لِلْحَيِّ وَالْوَارِثُ مِنْ أَهْلِهَا وَلِهَذَا تَصِحُّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَافْتَرَقَا ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَوْصَى لِلْقَاتِلِ وَلِلْأَجْنَبِيِّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ لِوَارِثِهِ وَلِلْأَجْنَبِيِّ حَيْثُ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ أَيْضًا ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ وَالشَّرِكَةَ تُثْبِتُ حُكْمًا لَهُ فَتَصِحُّ فِي حَقِّ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْهُمَا وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَإِخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِوَصْفِ الشَّرِكَةِ فِي الْمَاضِي ، وَلَا وَجْهَ إلَى إثْبَاتِهِ بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا أَخْبَرَ بِهِ ، وَلَا إلَى إثْبَاتِ الْوَصْفِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْوَارِثُ فِيهِ شَرِيكًا وَلِأَنَّهُ لَوْ قَبَضَ الْأَجْنَبِيُّ شَيْئًا كَانَ لِلْوَارِثِ أَنْ يُشَارِكَهُ فَيَبْطُلَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَقْبِضُ وَيُشَارِكُهُ الْوَارِثُ حَتَّى يَبْطُلَ الْكُلُّ فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا وَفِي الْإِنْشَاءِ حِصَّةُ أَحَدِهِمَا مُمْتَازَةٌ عَنْ حِصَّةِ الْآخَرِ بَقَاءً وَبُطْلَانًا .

قَالَ ( وَمَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ جَيِّدٌ وَوَسَطٌ وَرَدِيءٌ فَأَوْصَى بِكُلِّ وَاحِدٍ لِرَجُلٍ فَضَاعَ ثَوْبٌ وَلَا يَدْرِي أَيُّهَا هُوَ وَالْوَرَثَةُ تَجْحَدُ ذَلِكَ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ) وَمَعْنَى جُحُودَهُمْ أَنْ يَقُولَ الْوَارِثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ حَقُّك قَدْ هَلَكَ فَكَانَ الْمُسْتَحَقُّ مَجْهُولًا وَجَهَالَتُهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَضَاءِ وَتَحْصِيلَ الْمَقْصُودِ فَبَطَلَ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يُسَلِّمَ الْوَرَثَةُ الثَّوْبَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ ، فَإِنْ سَلَّمُوا زَالَ الْمَانِعُ وَهُوَ الْجُحُودُ فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْجَيِّدِ ثُلُثَا الثَّوْبِ الْأَجْوَدِ ، وَلِصَاحِبِ الْأَوْسَطِ ثُلُثُ الْجَيِّدِ وَثُلُثِ الْأَدْوَنِ فَثَبَتَ الْأَدْوَنُ ، وَلِصَاحِبِ الْأَدْوَنِ ثُلُثَا الثَّوْبِ الْأَدْوَنِ ) لِأَنَّ صَاحِبَ الْجَيِّدِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الرَّدِيءِ بِيَقِينٍ ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَسَطًا أَوْ رَدِيئًا وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِمَا ، وَصَاحِبَ الرَّدِيءِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْجَيِّدِ الْبَاقِي بِيَقِينٍ ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَيِّدًا أَوْ وَسَطًا وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِمَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرَّدِيءُ هُوَ الرَّدِيءُ الْأَصْلِيُّ فَيُعْطَى مِنْ مَحِلِّ الِاحْتِمَالِ ، وَإِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا الْجَيِّدِ وَثُلُثَا الْأَدْوَنِ لَمْ يَبْقَ إلَّا ثُلُثُ الْجَيِّدِ وَثُلُثُ الرَّدِيءِ فَيَتَعَيَّنُ حَقُّ صَاحِبِ الْوَسَطِ فِيهِ بِعَيْنِهِ ضَرُورَةً .

( قَوْلُهُ وَمَعْنَى جُحُودِهِمْ أَنْ يَقُولَ الْوَارِثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ حَقُّك قَدْ هَلَكَ ) أَقُولُ : فِي ظَاهِرِ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا فَسَادٌ لِأَنَّ هَلَاكَ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا ضَاعَ الْأَثْوَابُ الثَّلَاثَةُ مَعًا ، وَالْمَفْرُوضُ فِي مَوْضِعِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَضِيعَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ مِنْهَا غَيْرُ مَعْلُومِ الْخُصُوصِيَّةِ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ الْوَارِثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ حَقُّك قَدْ هَلَكَ فَإِنَّهُ كَذِبٌ ظَاهِرٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْمَعَ أَصْلًا ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بَلْ قَوْلُهُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ حَقُّك قَدْ هَلَكَ يَقْتَضِي الِاعْتِرَافَ بِكَوْنِ الثَّوْبَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ لِصَاحِبَيْهِ ، وَالْأَوْلَى فِي التَّعْبِيرِ مَا ذَكَرَهُ شَرْحُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ سِيَّمَا الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَالْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِجُحُودِ الْوَرَثَةِ أَنْ يَقُولُوا : حَقٌّ وَاحِدٌ مِنْكُمْ بَطَلَ وَلَا نَدْرِي مَنْ بَطَلَ حَقُّهُ وَمَنْ بَقِيَ حَقُّهُ ، فَلَا نُسَلِّمُ إلَيْكُمْ شَيْئًا .
وَاَلَّذِي فِي تَوْجِيهِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَعْنَى جُحُودِهِمْ أَنْ يَقُولَ الْوَارِثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ : الثَّوْبُ الَّذِي قَدْ هَلَكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَقَّك فَكَأَنَّهُ تَسَامَحَ فِي الْعِبَارَةِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ الْمُرَادِ ، وَوَافَقَهُ صَاحِبُ الْكَافِي فِي هَاتِيك الْعِبَارَةِ مَعَ ظُهُورِ رَكَاكَتِهَا

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَوْصَى أَحَدَهُمَا بِبَيْتٍ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ فَإِنَّهَا تُقْسَمُ ، فَإِنْ وَقَعَ الْبَيْتُ فِي نَصِيبِ الْمُوصِي فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نِصْفُهُ لِلْمُوصَى لَهُ ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَلِلْمُوصَى لَهُ مِثْلُ دِرْعِ الْبَيْتِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : مِثْلُ ذَرْعِ نِصْفِ الْبَيْتِ لَهُ أَنَّهُ أَوْصَى بِمِلْكِهِ وَبِمِلْكِ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ الدَّارَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا مُشْتَرَكَةٌ فَيَنْفُذُ الْأَوَّلُ وَيُوقَفُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَنَّ مِلْكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ الَّتِي هِيَ مُبَادَلَةٌ لَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ السَّالِفَةُ ، كَمَا إذَا أَوْصَى بِمِلْكِ الْغَيْرِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ، ثُمَّ إذَا اقْتَسَمُوهَا وَوَقَعَ الْبَيْتُ فِي نَصِيبِ الْمُوصِي تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي عَيْنِ الْمُوصَى بِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْبَيْتِ ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ لَهُ مِثْلُ ذَرْعِ نِصْفِ الْبَيْتِ تَنْفِيذًا لِلْوَصِيَّةِ فِي بَدَلِ الْمُوصَى بِهِ عِنْدَ فَوَاتِهِ ، كَالْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِهَا إذَا قُتِلَتْ خَطَأً تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي بَدَلِهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا بِيعَ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِهِ حَيْثُ لَا تَتَعَلَّقُ الْوَصِيَّةُ بِثَمَنِهِ ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْبَيْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَا تَبْطُلُ بِالْقِسْمَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ أَوْصَى بِمَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ فِيهِ بِالْقِسْمَةِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ بِقَصْدِ الْإِيصَاءِ بِمِلْكٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْقِسْمَةِ ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمُشَاعِ قَاصِرٌ وَقَدْ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ فِي جَمِيعِ الْبَيْتِ إذَا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِيهِ ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ تَابِعٌ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْإِفْرَازُ تَكْمِيلًا لِلْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ فِيهِ ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْإِفْرَازِ يَصِيرُ كَأَنَّ الْبَيْتَ مِلْكُهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ .

وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ تَنْفُذُ فِي قَدْرِ ذُرْعَانِ جَمِيعِهِ مِمَّا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ ، إمَّا لِأَنَّهُ عِوَضُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ، أَوْ لِأَنَّ مُرَادَ الْمُوصِي مِنْ ذِكْرِ الْبَيْتِ التَّقْدِيرُ بِهِ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِهِ مَا أَمْكَنَ ، إلَّا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْبَيْتُ إذَا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ التَّقْدِيرِ وَالتَّمْلِيكِ ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ عَمِلْنَا بِالتَّقْدِيرِ ، أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ التَّقْدِيرَ عَلَى اعْتِبَارِ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَالتَّمْلِيكَ بِعَيْنِهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْآخَرِ ، كَمَا إذَا عَلَّقَ عِتْقَ الْوَلَدِ وَطَلَاقَ الْمَرْأَةِ بِأَوَّلِ وَلَدٍ تَلِدُهُ أَمَتُهُ ، فَالْمُرَادُ فِي جَزَاءِ الطَّلَاقِ مُطْلَقُ الْوَلَدِ وَفِي الْعِتْقِ وَلَدٌ حَيٌّ ثُمَّ إذَا وَقَعَ الْبَيْتُ فِي نَصِيبِ غَيْرِ الْمُوصِي وَالدَّارُ مِائَةُ ذِرَاعٍ وَالْبَيْتُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ يُقْسَمُ نَصِيبُهُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ : تِسْعَةٌ مِنْهَا لِلْوَرَثَةِ وَسَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ ، وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ بِخَمْسَةِ أَذْرُعٍ نِصْفِ الْبَيْتِ وَهُمْ بِنِصْفِ الدَّارِ سِوَى الْبَيْتِ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَيُجْعَلُ كُلُّ خَمْسَةٍ سَهْمًا فَيَصِيرُ عَشَرَةً ، وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَضْرِبُ بِالْعَشَرَةِ وَهُمْ بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ فَتَصِيرُ السِّهَامُ أَحَدَ عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمَانِ وَلَهُمْ تِسْعَةٌ ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْوَصِيَّةِ إقْرَارٌ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ ، وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِيهِ لِمُحَمَّدٍ .
وَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ صَحِيحٌ ، حَتَّى إنَّ مَنْ أَقَرَّ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لِغَيْرِهِ ثُمَّ مَلَكَهُ يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ ، وَالْوَصِيَّةُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لَا تَصِحُّ ، حَتَّى لَوْ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ثُمَّ مَاتَ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ وَلَا تَنْفُذُ .

( قَوْلُهُ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ تَابِعٌ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْإِفْرَازُ تَكْمِيلًا لِلْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ : وَالْإِفْرَازُ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعَرُوضِ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْعَرُوضِ فَكَيْفَ كَانَتْ الْمُبَادَلَةُ فِيهِ تَابِعَةً ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْعَرُوضِ إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْبَرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ ، فَكَانَ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِيهِ تَابِعًا كَمَا ذَكَرَ هَاهُنَا لِأَنَّ الْجَبْرَ لَا يَجْرِي فِي الْمُبَادَلَةِ ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَاكَ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعَرُوضِ إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ : وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْإِفْرَازُ تَكْمِيلًا لِلْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ فِيهِ ا هـ .
وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى أَصْلِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ .
أَقُولُ : قَدْ خَبَطَ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ جِدًّا حَيْثُ قَصَدَا التَّوْفِيقَ بَيْنَ كَلَامَيْ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَقَامَيْنِ ، وَلَكِنْ خَالَفَا صَرِيحَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ وَمَا أَطْبَقَا عَلَيْهِ مَعَ سَائِرِ الشُّرَّاحِ فِي بَيَانِ مُرَادِهِ هُنَاكَ ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ هُنَاكَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعَرُوضِ : إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْبَرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لِتَقَارُبِ الْمَقَاصِدِ .
وَقَالَ : مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ كَمَا فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ ، وَقَالَ ذَلِكَ

الشَّارِحَانِ وَسَائِرُ الشُّرَّاحِ فِي شَرْحِ ذَلِكَ الْمَقَامِ لَمَّا وَرَدَ عَلَى قَوْلِهِ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعَرُوضِ أَنْ يُقَالَ : لَوْ كَانَ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعَرُوضِ لَمَا أَجْبَرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ فِي ذَلِكَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْبَرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لِتَفَاوُتِ الْمَقَاصِدِ .
وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْمُبَادَلَةِ ، فَإِنَّ الْمُبَادَلَةَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغَيْرِ ، كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْمَدْيُونَ يُجْبَرُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَصَارَ مَا يُؤَدِّي بَدَلًا عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ ا هـ .
وَلَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ مَضْمُونَ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ هُنَا مِمَّا يُنَافِي ذَلِكَ ، وَالصَّوَابُ فِي حَلِّ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ هُنَا وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ تَابِعٌ عَلَى وَجْهٍ يَنْدَفِعُ عَنْهُ السُّؤَالُ الَّذِي تَمَحَّلَ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ لِدَفْعِهِ مَا تَمَحَّلَاهُ أَنْ يُقَالَ : يَعْنِي أَنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ إلَّا أَنَّهُ يُجْعَلُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ تَابِعًا وَيُجْعَلُ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِيهَا مَقْصُودًا تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْمُوصِي وَقَصْدِهِ الَّذِي هُوَ تَكْمِيلُ الْمَنْفَعَةِ ، فَإِنَّ مَبْنَى الْوَصِيَّةِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَسُرْعَةِ الثُّبُوتِ ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ حَيْثُ قَالَ : وَلَهُمَا أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ وَإِنْ كَانَتْ مُبَادَلَةً مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِالْقِسْمَةِ ، وَلَوْ اشْتَرَيَا دَارًا وَاقْتَسَمَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا اشْتَرَى فَهِيَ إفْرَازٌ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ ؛ أَلَا يُرَدُّ أَنَّهُ يُجْبَرُ

عَلَيْهَا .
وَلَوْ بَنَى أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِنَاءً ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْأَرْضَ لَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَلَا يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ فِي الْقِسْمَةِ ، وَالْمُشْتَرِي لَوْ قَاسَمَ الْبَائِعَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ نَقْضُهُ ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَكَانَتْ الْأَحْكَامُ عَلَى عَكْسِهَا فَثَبَتَ أَنَّهَا إفْرَازٌ مِنْ وَجْهٍ مُبَادَلَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَتُجْعَلُ إفْرَازًا فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ تَصْحِيحًا لِلْوَصِيَّةِ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَسُرْعَةِ الثُّبُوتِ وَلِهَذَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمَعْدُومِ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ كَالثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ ، وَإِذَا جُعِلَتْ الْقِسْمَةُ إفْرَازًا ظَهَرَ أَنَّهُ أَوْصَى بِمَا يَمْلِكُهُ ا هـ تَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ تَنْفُذُ فِي قَدْرِ ذُرْعَانِ جَمِيعِهِ مِمَّا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ ، إمَّا لِأَنَّهُ عَوَّضَهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي فِي الْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِهَا كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَيْسَ قَدْرُ ذُرْعَانِ جَمِيعِهِ مِمَّا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ عَوَّضَهُ : أَيْ عَوَّضَ جَمِيعَ ذَلِكَ الْبَيْتِ الْوَاقِعِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ ، بَلْ قَدْرَ ذُرْعَانِ نِصْفِهِ مِمَّا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ عَوَّضَ نِصْفَهُ ، وَلَا مُعَاوَضَةَ فِي نِصْفِ الْآخَرِ لِأَنَّ الدَّارَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُوصِي وَصَاحِبِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبَيْتُ وَمَا وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْمُوصِي مُشْتَرَكَيْنِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَالْمُعَاوَضَةُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ بَيْنَ نِصْفِ ذَلِكَ الْبَيْتِ الْوَاقِعِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ وَبَيْنَ قَدْرِ ذُرْعَانِ نِصْفِهِ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْمُوصِي ، وَأَمَّا نِصْفُهُ الْآخَرُ وَقَدْرُ ذُرْعَانِ نِصْفِ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْمُوصِي فَبَاقِيَانِ عَلَى حَالَتِهِمَا الْأَصْلِيَّةِ فِي مِلْكِ الْمُوصِي وَصَاحِبِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ إمَّا لِأَنَّهُ عَوَّضَهُ صَالِحًا لَأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا فِي إفَادَةِ

الْمَطْلُوبِ هَاهُنَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ ذُرْعَانِ جَمِيعِ الْبَيْتِ الْمُوصَى بِهِ مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ عِنْدَهُمَا فِيمَا إذَا وَقَعَ ذَلِكَ الْبَيْتُ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ بِدُونِ مُلَاحَظَةِ أَحَدِ الدَّلِيلِينَ الْآتِيَيْنِ وَتَحْرِيرُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي اسْتِقْلَالَهُ فِيهَا كَمَا تَرَى فَتَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ وَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ صَحِيحٌ حَتَّى إنَّ مَنْ أَقَرَّ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لِغَيْرِهِ ثُمَّ مَلَكَهُ يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ إلَخْ ) أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِي صُورَةِ إنْ وَقَعَ الْبَيْتُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فِي نَصِيبِ الْمُوصِي ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ إنْ وَقَعَ بَعْدَهَا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَلَا ، لِأَنَّ الْمُوصِيَ حِينَئِذٍ كَانَ مُقِرًّا بِمِلْكِ الْغَيْرِ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يَصِرْ مَالِكًا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يُؤْمَرَ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ ، وَمَسْأَلَتُنَا تَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى مِنْ مَالِ رَجُلٍ لِآخَرَ بِأَلْفٍ بِعَيْنِهِ فَأَجَازَ صَاحِبُ الْمَالِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَإِنْ دَفَعَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ ) لِأَنَّ هَذَا تَبَرُّعٌ بِمَالِ الْغَيْرِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ ، وَإِذَا أَجَازَ يَكُونُ تَبَرُّعًا مِنْهُ أَيْضًا فَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ التَّسْلِيمِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي مَخْرَجِهَا صَحِيحَةٌ لِمُصَادِفَتِهَا مِلْكَ نَفْسِهِ وَالِامْتِنَاعِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ ، فَإِذَا أَجَازُوهَا سَقَطَ حَقُّهُمْ فَنَفَذَ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي .

قَالَ ( وَإِذَا اقْتَسَمَ الِابْنَانِ تَرِكَةَ الْأَبِ أَلْفًا ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِرَجُلٍ أَنَّ الْأَبَ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِنَّ الْمُقِرَّ يُعْطِيهِ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالثُّلُثِ لَهُ تَضَمَّنَ إقْرَارَهُ بِمُسَاوَاتِهِ إيَّاهُ ، وَالتَّسْوِيَةُ فِي إعْطَاءِ النِّصْفِ لِيَبْقَى لَهُ النِّصْفُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِثُلُثٍ شَائِعٍ فِي التَّرِكَةِ وَهِيَ فِي أَيْدِيهمَا فَيَكُونُ مُقِرًّا بِثُلُثِ مَا فِي يَدِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ مُقِرًّا بِتَقْدِيمِهِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ، أَمَّا الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ شَرِيكُ الْوَارِثِ فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يُسَلَّمَ لِلْوَرَثَةِ مِثْلَاهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ فَرُبَّمَا يُقِرُّ الِابْنُ الْآخَرُ بِهِ أَيْضًا فَيَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ فَيَصِيرُ نِصْفَ التَّرِكَةِ فَيُزَادُ عَلَى الثُّلُثِ .

( قَوْلُهُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِثُلُثٍ شَائِعٍ فِي التَّرِكَةِ وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمَا فَيَكُونُ مُقِرًّا بِثُلُثِ مَا فِي يَدِهِ ) قَالَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ : أَقُولُ مَضَى فِي فَصْلِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ أَنَّ ابْنَهُ لَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ فَجَحَدَهُ أَخُوهُ الْآخَرُ دَفَعَ إلَيْهِ الْمُقِرُّ نِصْفَ نَصِيبِهِ كَمَا قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْمُسَاوَاةِ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ يَدْفَعُ إلَيْهِ ثُلُثَ نَصِيبِهِ كَمَا قُلْنَا هُنَا نَحْنُ وَالْحَاصِلُ أَنَّنَا عَمِلْنَا هُنَا بِأَصْلِ مَالِكٍ ثَمَّةَ وَعَمِلَ زُفَرُ هُنَا بِأَصْلِنَا ثَمَّةَ ، فَلَا بُدَّ لِلْأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ أَوْ الِاتِّحَادِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ التَّسْهِيلِ ، وَقَصَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ فَقَالَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ .
قُلْت : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بَيِّنٌ فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ مِنْ اللَّوَازِمِ الْبَيِّنَةِ لِلْإِخْوَةِ دُونَ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِهَا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهَا بَيِّنَةً ، فَالْإِقْرَارُ بِالْأَخِ يَتَضَمَّنُ الْقَرَارَ بِالْمُسَاوَاةِ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِهَا ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، فَإِنَّ الَّذِي مِنْ لَوَازِمِ الْإِخْوَةِ إنَّمَا هُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي جُمْلَةِ التَّرِكَةِ لَا الْمُسَاوَاةُ فِيمَا فِي يَد أَحَد الْأَخَوَيْنِ فَقَطْ كَنِصْفِ التَّرِكَةِ مَثَلًا ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حِصَّةُ أَحَدِ الْإِخْوَةِ النِّصْفَ وَحِصَّةُ مَجْمُوعِ الْأَخَوَيْنِ النِّصْفَ ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي جُمْلَةِ التَّرِكَةِ إنَّمَا تَقْتَضِي كَوْنَ حِصَّةِ الْأَخِ الْمُقَرِّ لَهُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ لَا نِصْفَهُ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِوَصِيَّةِ ثُلُثِ الْمَالِ فَوَرَدَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ مِنْ مُطَالَبَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ .
ثُمَّ إنَّ قَوْلَ ذَلِكَ الْبَعْضِ دُونَ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ

فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِهَا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهَا بَيِّنَةً لَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا ، لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ إنَّمَا لَا تَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ مُطْلَقِ الْوَصِيَّةِ مَعَ مُطْلَقِ الْوَرَثَةِ ، وَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَالْمُسَاوَاةُ لَازِمَةٌ قَطْعًا لِانْحِصَارِ الْوَارِثِ فِي الِابْنَيْنِ ، وَكَوْنِ إقْرَارِ أَحَدِهِمَا بِوَصِيَّةِ الْمُوَرِّثِ لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسَالَتَيْنِ بِوَجْهٍ آخَرَ كَمَا لَا يَخْفَى .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَارِيَةٍ فَوَلَدَتْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَلَدًا وَكِلَاهُمَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ فَهُمَا لِلْمُوصَى لَهُ ) لِأَنَّ الْأُمَّ دَخَلَتْ فِي الْوَصِيَّةِ أَصَالَةً وَالْوَلَدُ تَبَعًا حِينَ كَانَ مُتَّصِلًا بِالْأُمِّ ، فَإِذَا وَلَدَتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالتَّرِكَةُ قَبْلَهَا مُبْقَاةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ حَتَّى يُقْضَى بِهَا دُيُونُهُ دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ فَيَكُونَانِ لِلْمُوصِي لَهُ ( وَإِنْ لَمْ يَخْرُجَا مِنْ الثُّلُثِ ضَرَبَ بِالثُّلُثِ وَأَخَذَ مَا يَخُصُّهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمِّ ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَخَذَهُ مِنْ الْوَلَدِ ) .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَيَّنَ صُورَةً وَقَالَ : رَجُلٌ لَهُ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَمَةٌ تُسَاوِي ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَوْصَى بِالْجَارِيَةِ لِرَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلِلْمُوصَى لَهُ الْأُمُّ وَثُلُثُ الْوَلَدِ عِنْدَهُ .
وَعِنْدَهُمَا لَهُ ثُلُثَا كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
لَهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ تَبَعًا حَالَةَ الِاتِّصَالِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْهَا بِالِانْفِصَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِيهِمَا عَلَى السَّوَاءِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ الْأُمِّ .
وَلَهُ أَنَّ الْأُمَّ أَصْلٌ وَالْوَلَدُ تَبَعٌ وَالتَّبَعُ لَا يُزَاحِمُ الْأَصْلَ ، فَلَوْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِيهِمَا جَمِيعًا تَنْتَقِضُ الْوَصِيَّةُ فِي بَعْضِ الْأَصْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْبَيْعِ فِي التَّبَعِ لَا يُؤَدِّي إلَى نَقْضِهِ فِي الْأَصْلِ بَلْ يَبْقَى تَامًّا صَحِيحًا فِيهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ بَعْضُ الثَّمَنِ ضَرُورَةَ مُقَابِلَتِهِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ وَلَكِنَّ الثَّمَنَ تَابِعٌ فِي الْبَيْعِ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِدُونِ ذِكْرِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا ( هَذَا إذَا وَلَدَتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ ) لِأَنَّهُ نَمَاءُ خَالِصِ مِلْكِهِ لِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ فِيهِ

بَعْدَ الْقِسْمَةِ .

( فَصْلٌ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَصِيَّةِ ) .
قَالَ ( وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِامْرَأَةٍ بِدَيْنٍ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِشَيْءٍ أَوْ وَهَبَ لَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ مَاتَ جَازَ الْإِقْرَارُ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَالْهِبَةُ ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ عِنْدَ صُدُورِهِ ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَلَا يَبْطُلُ بِالدَّيْنِ إذَا كَانَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ أَوْ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ ، إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ يُؤَخَّرُ عَنْهُ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا إيجَابٌ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ وَارِثَةٌ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَلَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ ، وَالْهِبَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُنَجَّزَةً صُورَةً فَهِيَ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمًا لِأَنَّ حُكْمَهَا يَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْمَوْتِ ؛ أَلَّا تَرَى أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالدَّيْنِ الْمُسْتَغْرِقِ وَعِنْدَ عَدَمِ الدَّيْنِ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ .

فَصْلٌ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَصِيَّةِ ) لَمَّا ذَكَرَ الْحُكْمَ الْكُلِّيَّ فِي الْوَصِيَّةِ وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِثُلُثِ الْمَالِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالْأَحْوَالِ الْمُتَغَيِّرَةِ مِنْ وَصْفٍ إلَى وَصْفٍ لِمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ بِمَنْزِلَةِ الْعَوَارِضِ وَالْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِثُلُثِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْأُصُولِ ، وَالْأَصْلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَارِضِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِامْرَأَةٍ بِدَيْنٍ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِشَيْءٍ أَوْ وَهَبَ لَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ مَاتَ جَازَ الْإِقْرَارُ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَالْهِبَةُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ وَفَسَادِهَا كَوْنُ الْمُوصَى لَهُ وَارِثًا وَغَيْرَ وَارِثٍ يَوْمَ الْمَوْتِ لَا يَوْمَ الْوَصِيَّةِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي فَسَادِ الْإِقْرَارِ وَجَوَازِهِ كَوْنُ الْمُقَرِّ لَهُ وَارِثًا لِلْحَالِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ ، فَمَتَى كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ وَارِثًا يَوْمَ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ مَرِيضًا ا هـ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّقْرِيرِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِي عِبَارَتِهِمَا خَلَلٌ حَيْثُ قَالَا : لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ بَلْ هُوَ إظْهَارٌ لَلْمُقَرِّ بِهِ ، وَقَالُوا : وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِالْمَالِ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إقْرَارِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ ، وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلَ كَثِيرَةً : مِنْهَا أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَقَرَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَنْفُذْ إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَتِهِمْ ، فَحَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَصَرُّفٌ فِي الْحَالِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْوَصَايَا

فَتَذَكَّرْ .

قَالَ ( وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِابْنِهِ بِدَيْنٍ وَابْنُهُ نَصْرَانِيٌّ أَوْ وَهَبَ لَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ فَأَسْلَمَ الِابْنُ قَبْلَ مَوْتِهِ بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ ) .
أَمَّا الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ فَلِمَا قُلْنَا إنَّهُ وَارِثٌ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُمَا إيجَابَانِ عِنْدَهُ أَوْ بَعْدَهُ ، وَالْإِقْرَارُ وَإِنْ كَانَ مُلْزِمًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ وَهُوَ الْبُنُوَّةُ قَائِمٌ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيُعْتَبَرُ فِي إيرَاثِ تُهْمَةِ الْإِيثَارِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ الزَّوْجِيَّةُ وَهِيَ طَارِئَةٌ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ ثُمَّ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لِقِيَامِ السَّبَبِ حَالَ صُدُورِهِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَأُعْتِقَ لِمَا ذَكَرْنَا وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ لَهُ وَهُوَ ابْنُهُ ، وَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا وَقْتُ الْمَوْتِ .
وَأَمَّا الْهِبَةُ فَيُرْوَى أَنَّهَا تَصِحُّ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَالِ وَهُوَ رَقِيقٌ ، وَفِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ هِيَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فَلَا تَصِحُّ .
قَالَ ( وَالْمُقْعَدُ وَالْمَفْلُوجُ وَالْأَشَلُّ وَالْمَسْلُولُ إذَا تَطَاوَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يُخَفْ مِنْهُ الْمَوْتُ فَهِبَتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ) لِأَنَّهُ إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ صَارَ طَبْعًا مِنْ طِبَاعِهِ وَلِهَذَا لَا يَشْتَغِلُ بِالتَّدَاوِي ، وَلَوْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَرَضٍ حَادِثٍ ( وَإِنْ وَهَبَ عِنْدَ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ وَمَاتَ مِنْ أَيَّامِهِ فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ إذَا صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ ) لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ وَلِهَذَا يَتَدَاوَى فَيَكُونُ مَرَضَ الْمَوْتِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَوْلُهُ وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَأُعْتِقَ لِمَا ذَكَرْنَا ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : أَيْ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ وَالْهِبَةُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مُضَافَةٌ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ ، أَمَّا إذَا أَقَرَّ لَهُ بِدَيْنٍ ثُمَّ أُعْتِقَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يُذْكَرْ هُنَا وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ : أَيْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يَصِحُّ ا هـ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مِمَّا يَأْبَاهُ سَدَادُ الْمَعْنَى وَانْتِظَامُ الْكَلَامِ ، فَإِنَّهُمَا حَمَلَا قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ فَقَطْ ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ عُمُومُ عَدَمِ الصِّحَّةِ لِلصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا قَبْلُ جَمِيعًا وَهِيَ الْإِقْرَارُ وَالْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ ، لِأَنَّهُ كَانَ عَامًّا لَهَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ ، فَانْتِظَامُ إطْلَاقِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا سِيَّمَا مَعَ انْضِمَامِ قَوْلِهِ لِمَا ذَكَرْنَا إلَيْهَا ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ الدَّلِيلِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ جَمِيعًا بِلَا رَيْبٍ .
ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُمَا أَمَّا إذَا أَقَرَّ لَهُ بِدَيْنٍ ثُمَّ أُعْتِقَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يُذْكَرْ هُنَا ، إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ صُورَةَ الْإِقْرَارِ لَمْ تُذْكَرْ هُنَا بِعَيْنِهَا صَرَاحَةً فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَكِنْ صُورَتَا الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ أَيْضًا لَمْ تُذْكَرَا هُنَا بِعَيْنِهِمَا صَرَاحَةً بَلْ انْدَرَجَتَا فِي إشَارَةِ قَوْلِهِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَأُعْتِقَ فَمَا مَعْنَى جَعْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَامِلَةً لِصُورَتَيْ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ دُونَ صُورَةِ الْإِقْرَارِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ صُورَةَ الْإِقْرَارِ لَمْ تُذْكَرْ هُنَا أَصْلًا لَا

صَرَاحَةً بِعَيْنِهَا وَلَا انْدِرَاجًا فِي إطْلَاقِ إشَارَةِ شَيْءٍ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ مَسْأَلَتَنَا هَذِهِ مَعَ مَا قَبْلَهَا مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هُنَا عَلَى مَا نَقَلَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ هَكَذَا : وَقَالَ فِي الْمَرِيضِ أَقَرَّ لِابْنِهِ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ بِدَيْنٍ أَوْ وَهَبَ لَهُ هِبَةً فَقَبَضَهَا أَوْ أَوْصَى لَهُ وَصِيَّةً ثُمَّ أَسْلَمَ الِابْنُ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ قَالَ ذَلِكَ كُلُّهُ بَاطِلٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا فَأُعْتِقَ فِي هَذَا ا هـ .
وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ صُورَةَ الْإِقْرَارِ وَصُورَتَيْ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ سِيَّانِ فِي الِانْدِرَاجِ تَحْتَ إطْلَاقِ إشَارَةِ قَوْلِهِ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا فَأُعْتِقَ فِي هَذَا .
فَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَأُعْتِقَ لِمَا ذَكَرْنَا هُوَ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ وَالْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ كُلُّهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا لِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ ، وَأَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ إلَى قَوْلِهِ قَالَ وَالْمُقَعَّدُ بَيَانُ أَنَّ فِي صُورَةِ الْإِقْرَارِ رِوَايَةً لِلصِّحَّةِ أَيْضًا ، وَكَذَا فِي صُورَةِ الْهِبَةِ ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ الْوَصِيَّةِ فَلَا رِوَايَةَ لِلصِّحَّةِ أَصْلًا تَبَصَّرْ تَرْشُدْ .

( بَابُ الْعِتْقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ ) .
الْإِعْتَاقُ فِي الْمَرَضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَصِيَّةِ قَالَ : وَمَنْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا أَوْ بَاعَ وَحَابَى أَوْ وَهَبَ فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ مِنْ الثُّلُثِ ، وَيُضْرَبُ بِهِ مَعَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَهُوَ وَصِيَّةٌ مَكَانَ قَوْلِهِ جَائِزٌ ، وَالْمُرَادُ الِاعْتِبَارُ مِنْ الثُّلُثِ وَالضَّرْبُ مَعَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا لَا حَقِيقَةُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا إيجَابٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهَذَا مُنَجَّزٌ غَيْرُ مُضَافٍ ، وَاعْتِبَارُهُ مِنْ الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ ، وَكَذَلِكَ مَا ابْتَدَأَ الْمَرِيضُ إيجَابَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَالضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِيهِ كَمَا فِي الْهِبَةِ ، وَكُلُّ مَا أَوْجَبَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ أَوْجَبَهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْإِضَافَةِ دُونَ حَالَةِ الْعَقْدِ ، وَمَا نَفَّذَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَةُ الْعَقْدِ ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَمِنْ الثُّلُثِ ، وَكُلُّ مَرَضٍ صَحَّ مِنْهُ فَهُوَ كَحَالِ الصِّحَّةِ لِأَنَّ بِالْبُرْءِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَقَّ فِي مَالِهِ .

( بَابُ الْعِتْقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : الْإِعْتَاقُ فِي الْمَرَضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَصِيَّةِ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ لَهُ أَحْكَامٌ مَخْصُوصَةٌ أَفْرَدَهُ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ ، وَأَخَّرَهُ عَنْ صَرِيحِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الصَّرِيحَ هُوَ الْأَصْلُ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ فُتُورٌ ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي الْمَرَضِ لَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَصِيَّةِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلْوَصِيَّةِ حَقِيقَةً ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهَذَا مُنَجَّزٌ غَيْرُ مُضَافٍ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الْوَصِيَّةِ ؟ نَعَمْ إنَّهُ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ إذَا وُجِدَ فِي مَرَضٍ حَيْثُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ لَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ كَمَا سَيَأْتِي أَيْضًا فِي الْكِتَابِ ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ : لَمَّا كَانَ الْإِعْتَاقُ فِي الْمَرَضِ أَمْرًا يُغَايِرُ حَقِيقَةَ الْوَصِيَّةِ وَلَكِنْ كَانَ فِي حُكْمِهَا أَفْرَدَهُ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَخَّرَهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْوَصِيَّةِ لِكَوْنِهَا هِيَ الْأَصْلُ ( قَوْلُهُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَهُوَ وَصِيَّةٌ مَكَانَ قَوْلِهِ جَائِزٌ ) أَقُولُ : فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ هُنَا تَسَامُحٌ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ جَائِزٌ فِي النُّسْخَةِ الْأُولَى مَحْمُولٌ فِي الْكَلَامِ ، وَقَوْلُهُ فَهُوَ وَصِيَّةٌ فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ مَوْضُوعٌ وَمَحْمُولٌ فَكَيْفَ يَكُونُ الثَّانِي مَكَانَ الْأَوَّلِ ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ مَكَانَ قَوْلِهِ فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ

قَالَ ( وَإِنْ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ وَضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهُمَا ) فَالْمُحَابَاةُ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى فَهُمَا سَوَاءٌ ، ( وَقَالَا : الْعِتْقُ أَوْلَى فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْوَصَايَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا جَاوَزَ الثُّلُثَ فَكُلٌّ مِنْ أَصْحَابِهَا يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ فِي الثُّلُثِ لَا يُقَدَّمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ إلَّا الْمُوقَعُ فِي الْمَرَضِ ، وَالْعِتْقُ الْمُعَلَّقُ بِمَوْتِ الْمُوصِي كَالتَّدْبِيرِ الصَّحِيحِ وَالْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ إذَا وَقَعَتْ فِي الْمَرَضِ لِأَنَّ الْوَصَايَا قَدْ تَسَاوَتْ ، وَالتَّسَاوِي فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يُوجِبُ التَّسَاوِي فِي نَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْعِتْقُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا لِأَنَّهُ أَقْوَى فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي ، وَغَيْرُهُ يَلْحَقُهُ .
وَكَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي ، وَإِذَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فَمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ سِوَاهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوَصَايَا ، وَلَا يُقَدَّمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ .
لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ وَالْمُحَابَاةُ يَلْحَقُهَا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَقْدِيمِ الذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّقَدُّمَ فِي الثُّبُوتِ .
وَلَهُ أَنَّ الْمُحَابَاةَ أَقْوَى ، لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَكَانَ تَبَرُّعًا بِمَعْنَاهُ لَا بِصِيغَتِهِ ، وَالْإِعْتَاقُ تَبَرُّعٌ صِيغَةً وَمَعْنًى ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْمُحَابَاةُ أَوَّلًا دُفِعَ الْأَضْعَفُ ، وَإِذَا وُجِدَ الْعِتْقُ أَوَّلًا وَثَبَتَ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الدَّفْعَ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْمُزَاحَمَةُ ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى قُسِمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُحَابَاتَيْنِ نِصْفَيْنِ لِتَسَاوِيهِمَا ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْمُحَابَاةَ الْأَخِيرَةَ قُسِمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا فَيَسْتَوِيَانِ ، وَلَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى

ثُمَّ أَعْتَقَ قُسِمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ وَالْمُحَابَاةِ نِصْفَيْنِ ، وَمَا أَصَابَ الْعِتْقَ قُسِمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ الثَّانِي ، وَعِنْدَهُمَا الْعِتْقُ أَوْلَى بِكُلِّ حَالٍ .

( قَوْلُهُ وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْعِتْقَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا لِأَنَّهُ أَقْوَى ، فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي وَغَيْرُهُ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ ، وَكَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي ) أَقُولُ : فِي هَذَا التَّحْرِيرِ قُصُورٌ بَلْ خَلَلٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَيْدٌ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي فِي قَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي حَشْوٌ مُفْسِدٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَنَا أَيْضًا فِي الرِّوَايَاتِ ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ عَلَى أَنْ يَلْحَقَهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِ الْمُوصِي كَمَا فِي الْمُحَابَاةِ مَعَ أَنَّ الْفَسْخَ لَا يَلْحَقُ الْعِتْقَ مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ أَصْلًا وَإِنْ لَحِقَ الْمُحَابَاةَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِ الْمُوصِي وَهُوَ الْمُشْتَرِي .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ " وَغَيْرُهُ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ " يُوهِمُ بِإِطْلَاقِهِ أَنْ يَلْحَقَ الْفَسْخُ الْمُحَابَاةَ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي مَعَ أَنَّهُ قَالَ وَكَذَا الْمُحَابَاةُ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي .
فَالْحَقُّ فِي تَحْرِيرِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ : فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ أَصْلًا وَالْمُحَابَاةُ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي وَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَيَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي وَغَيْرِ الْمُوصِي أَيْضًا .
ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ قَالُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هُنَا " وَغَيْرُهُ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ " أَيْ غَيْرُ الْعِتْقِ الْمُوقَعِ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ كَالْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَلِكَ بِسَدِيدٍ ، فَإِنَّ الْعِتْقَ الْمُعَلَّقَ غَيْرُ الْعِتْقِ الْمُوقَعِ وَلِهَذَا عَطَفَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ فِيمَا قَبْلُ حَيْثُ قَالَ : إنَّ الْعِتْقَ الْمُوقَعَ فِي الْمَرَضِ وَالْعِتْقَ الْمُعَلَّقَ بِمَوْتِ الْمُوصِي كَالتَّدْبِيرِ الصَّحِيحِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّ الْعِتْقَ الْمُعَلَّقَ أَيْضًا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ عِنْدَنَا .
فَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ فِي تَفْسِيرِ

قَوْلِهِ وَغَيْرُهُ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ : أَيْ غَيْرُ الْعِتْقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا وَهُوَ الْعِتْقُ الْمُوقَعُ فِي الْمَرَضِ وَالْعِتْقُ الْمُعَلَّقُ بِمَوْتِ الْمُوصِي فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى جِدًّا كَمَا لَا يَخْفَى ، وَاللَّفْظُ أَيْضًا يُسَاعِدُهُ لَا مَحَالَةَ ، فَإِنَّ الْعِتْقَ الَّذِي يَعُمُّ الْعِتْقَ الْمُوقَعَ وَالْمُعَلَّقَ كَمَا تَرَى ( قَوْلُهُ وَإِذَا قَدَّمَ ذَلِكَ فَمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ سِوَاهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوَصَايَا ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ سِوَاهُمَا : أَيْ سِوَى الْعِتْقِ وَالْمُحَابَاةِ ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِيهِ سَمَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ ، فَإِنَّ كَلِمَةَ " مَنْ " فِي قَوْلِهِ " مَنْ سِوَاهُمَا " تَأْبَى هَذَا التَّفْسِيرَ جِدًّا كَمَا لَا يَخْفَى ، وَكَذَا قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْوَصَايَا بَعْدَ قَوْلِهِ مَنْ سِوَاهُمَا يُنَافِي ذَلِكَ كَمَا تَرَى .
فَالْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : أَيْ سِوَى الْمُعْتَقِ وَاَلَّذِي حُوبِيَ لَهُ أَوْ سِوَى أَهْلِ الْعِتْقِ وَالْمُحَابَاةِ .
نَعَمْ يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْمُضَافِ فِي تَفْسِيرِ الشَّارِحِينَ الْمَزْبُورِينَ وَهُوَ لَفْظُ الْأَهْلِ أَوْ لَفْظُ الصَّاحِبِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فِي مَقَامِ التَّفْسِيرِ ، إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّفْسِيرِ الْكَشْفُ وَالْبَيَانُ لَا الْإِخْفَاءُ وَالتَّعْمِيَةُ ، فَبَقِيَتْ السَّمَاجَةُ فِي تَفْسِيرِهَا الْمَذْكُورِ لَا مَحَالَةَ ( قَوْلُهُ لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ الْخِلَافِيَّةِ : وَهِيَ الَّتِي قُدِّمَ فِيهَا الْمُحَابَاةُ عَلَى الْعِتْقِ وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : هَذَا شَرْحٌ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي كِلْتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَهُمَا الَّتِي قُدِّمَ فِيهَا الْمُحَابَاةُ عَلَى الْعِتْقِ وَاَلَّتِي قُدِّمَ فِيهَا الْعِتْقُ عَلَى الْمُحَابَاةِ وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ قِبَلِهِمَا ، وَكَذَا الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ قِبَلِهِ يَتَمَشَّيَانِ فِي تَيْنِك الْمَسْأَلَتَيْنِ مَعًا بِلَا

كُلْفَةٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ ، فَلَا وَجْهَ لِتَفْسِيرِ الْخِلَافِيَّةِ هُنَا بِمَا يَخُصُّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مِنْهُمَا ، وَالصَّوَابُ فِي بَيَانِهَا أَنْ يُقَالَ : وَهِيَ الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا الْعِتْقُ وَالْمُحَابَاةُ سَوَاءٌ قُدِّمَ الْعِتْقُ عَلَى الْمُحَابَاةِ أَوْ قُدِّمَتْ الْمُحَابَاةُ عَلَى الْعِتْقِ ( قَوْلُهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّقْدِيمَ فِي الثُّبُوتِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : أَلَا يُرَى أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَلِفُلَانٍ وَلِفُلَانٍ كَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَصَلَ أَوْ فَصَلَ وَلَا عِبْرَةَ لِلْبُدَاءَةِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ا هـ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْأَسْرَارِ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : حُكْمُ الْإِيصَاءِ فِي صُورَةِ التَّنْوِيرِ نَازِلٌ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيقِ ، وَالْحُكْمُ فِي التَّعْلِيقَاتِ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَزَمَانِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي صُورَةِ التَّنْوِيرِ زَمَانٌ وَاحِدٌ فَلِهَذَا كَانَ الثُّلُثُ الْمُوصَى بِهِ لَهُمْ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْعِتْقَ الْمُوقَعَ فِي الْمَرَضِ مُنَجَّزٌ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَكَذَا الْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ إذَا وَقَعَتْ فِي الْمَرَضِ وَالْمُنَجَّزُ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِي الْحَالِ لَا مَحَالَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي الْمُقَدَّمِ فِي الذِّكْرِ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْمُؤَخَّرِ فَافْتَرَقَتْ الصُّورَتَانِ فَتَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إذَا حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى قُسِمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُحَابَاتَيْنِ نِصْفَيْنِ لِتَسَاوِيهِمَا ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْمُحَابَاةَ الْأَخِيرَةَ قُسِمَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا فَيَسْتَوِيَانِ ) قَالَ فِي

الْعِنَايَةِ : فِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : الْمُحَابَاةُ الْأُولَى مُسَاوِيَةٌ لِلْمُحَابَاةِ الثَّانِيَةِ وَالْمُحَابَاةُ الثَّانِيَةُ مُسَاوِيَةٌ لِلْعِتْقِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهَا ، فَالْمُحَابَاةُ الْأُولَى مُسَاوِيَةٌ لِلْعِتْقِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهَا وَهُوَ يُنَاقِضُ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ مِنْ جَانِبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَيْضًا لَوْ حَابَى ثُمَّ حَابَى وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ تَحَاصَّا ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّ التَّقْدِيمَ يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ يَسْتَدْعِي أَنْ يَنْفُذَ الْأُولَى ثُمَّ الثَّانِيَةَ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ شَرْطَ الْإِنْتَاجِ أَنْ يَلْزَمَ النَّتِيجَةَ الْقِيَاسُ لِذَاتِهِ ، وَقِيَاسُ الْمُسَاوَاةِ لَيْسَ كَذَلِكَ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ إنَّمَا تَحَاصَّا لِأَنَّ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ مِنْ تَبَرُّعَاتِ الْمَرِيضِ يَنْفُذُ ثُمَّ يُنْقَضُ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نَفَّذْنَاهُ جَمِيعًا ثُمَّ نَقَضْنَاهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَثَبَتَ لَهُمَا بِحُكْمِ الْوَصِيَّةِ وَهُمَا نَافِذَتَانِ فَاسْتَوَيَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ السُّؤَالَ الثَّانِيَ غَيْرُ مُتَّجَهٍ عَلَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَصْلًا ، إذْ لَمْ يَقُلْ الْمُصَنِّفُ قَطُّ أَنَّ التَّقْدِيمَ مُطْلَقًا يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ ، بَلْ إنَّمَا قَالَ إنَّ تَقْدِيمَ الْأَقْوَى يَقْتَضِيَ التَّرْجِيحَ كَمَا فِي تَقْدِيمِ الْمُحَابَاةِ عَلَى الْإِعْتَاقِ لِكَوْنِ الْمُقَدَّمِ إذَا ذَاكَ دَافِعًا لِلْأَضْعَفِ الْمُؤَخَّرِ ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ غَيْرِ الْأَقْوَى فَلَا يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ دَفْعَ الْمُؤَخَّرِ الْأَقْوَى كَمَا فِي تَقْدِيمِ الْعِتْقِ عَلَى الْمُحَابَاةِ ، وَلَا دَفْعَ الْمُؤَخَّرِ الْمُسَاوِي كَمَا فِي تَقْدِيمِ إحْدَى الْمُحَابَاتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي السُّؤَالِ الثَّانِي فَلَا اتِّجَاهَ لَهُ أَصْلًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ،

لِأَنَّ لُزُومَ النَّتِيجَةِ الْقِيَاسُ لِذَاتِهِ إنَّمَا هُوَ شَرْطُ الْإِنْتَاجِ مُطْلَقًا لَا شَرْطُ الْإِنْتَاجِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَإِنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ فِي عِلْمِ الْمِيزَانِ بِأَنَّ قِيَاسَ الْمُسَاوَاةِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ النَّتِيجَةَ لِذَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُهَا بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَةٍ غَرِيبَةٍ إذَا صَدَقَتْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةُ كَمَا فِي قَوْلِنَا امساولب وب مساولج فَإِنَّهُ يُنْتِجُ ، وَيَسْتَلْزِمُ امساولج بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَةٍ غَرِيبَةٍ صَادِقَةٍ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مُسَاوِي الْمُسَاوَى مُسَاوٍ ، وَالسُّؤَالُ الْأَوَّلُ بِمِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ فَلَا يَدْفَعُهُ عَدَمُ اسْتِلْزَامِهِ النَّتِيجَةَ لِذَاتِهِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي مِمَّا لَا حَاصِلَ لَهُ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ بِتَنْفِيذِ الْمُحَابَاتَيْنِ جَمِيعًا ثُمَّ بِنَقْضِهِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَرْتَفِعُ تَقَدُّمُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُسَاعِدُهُ الْعَقْلُ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ بَيْنَهُمَا بَاقِيَانِ وَلَكِنْ لَا تَأْثِيرَ لَهُمَا فِي تَرْجِيحِ الْمُقَدَّمِ عَلَى الْمُؤَخَّرِ فِي هَاتِيك الصُّورَةِ فَذَلِكَ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ السُّؤَالَ الْمَبْنِيَّ عَلَى كَوْنِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ التَّقْدِيمَ يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ مُطْلَقًا .
فَالصَّوَابُ فِي رَدِّ السُّؤَالِ الثَّانِي مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ آنِفًا مِنْ أَنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَقْوَى يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ ، لَا أَنَّ التَّقْدِيمَ مُطْلَقًا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَلَا اتِّجَاهَ لِذَلِكَ السُّؤَالِ .
وَفِي دَفْعِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْفَوَائِدِ الْحُمَيْدِيَّةِ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يُقْسَمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْكُلِّ أَثْلَاثًا لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ الثَّانِيَةَ مُسَاوِيَةٌ لِلْأُولَى وَالْعِتْقَ مُسَاوٍ لِلْمُحَابَاةِ الثَّانِيَةِ فَكَانَ مُسَاوِيًا لِلْأُولَى لِأَنَّ الْمُسَاوِيَ لِلْمُسَاوَى مُسَاوٍ .
قُلْنَا : الْعِتْقُ مُسَاوٍ لِلثَّانِيَةِ بِمَعْنًى يَخُصُّهُ

وَهُوَ تَقَدُّمُهُ عَلَيْهَا فَلَا يُسَاوِي الْأُولَى ، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ إشْكَالٍ آخَرَ .
وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : الْمُحَابَاةُ الْأُولَى تَرَجَّحَتْ عَلَى الْعِتْقِ وَالثَّانِيَةُ مُسَاوِيَةٌ لِلْأُولَى فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَرَجَّحَ عَلَى الْعِتْقِ كَالْأُولَى لِأَنَّ الْمُسَاوِيَ لِلرَّاجِحِ رَاجِحٌ ، لِمَا مَرَّ أَنَّ رُجْحَانَ الْأُولَى بِمَعْنًى يَخُصُّهَا وَهُوَ تَقَدُّمُهَا عَلَيْهِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُحَابَاةِ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ لِأَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِلْعِتْقِ وَالْعِتْقُ مَرْجُوحٌ وَالْمُسَاوِي لِلْمَرْجُوحِ مَرْجُوحٌ ، كَذَا فِي الْفَوَائِدِ الْحُمَيْدِيَّةِ ا هـ فَتَأَمَّلْ .
( فَصْلٌ ) تَرْجَمَ هَذَا الْفَصْلَ فِي مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ بِبَابِ الْوَصَايَا إذَا ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ .
وَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ بَابَ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ لِقُوَّةِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ بِخِلَافِ مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يَعْتِقَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْمِائَةِ عَبْدٌ فَهَلَكَ مِنْهَا دِرْهَمٌ لَمْ يُعْتَقْ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ بِحَجَّةٍ يَحُجُّ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ ، وَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ مِنْهَا وَبَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْحَجَّةِ يُرَدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ .
وَقَالَا : يُعْتَقُ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ ) لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِنَوْعِ قُرْبَةٍ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا مَا أَمْكَنَ اعْتِبَارًا بِالْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ .
وَلَهُ أَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِالْعِتْقِ لِعَبْدٍ يَشْتَرِي بِمِائَةٍ وَتَنْفِيذُهَا فِيمَنْ يَشْتَرِي بِأَقَلَّ مِنْهُ تَنْفِيذٌ لِغَيْرِ الْمُوصَى لَهُ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ وَهِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُسْتَحَقُّ لَمْ يَتَبَدَّلْ فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةٍ فَهَلَكَ بَعْضُهَا يَدْفَعُ الْبَاقِيَ إلَيْهِ ، وَقِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ آخَرَ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُمَا حَتَّى تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَلَمْ يَتَبَدَّلْ الْمُسْتَحَقُّ ، وَعِنْدَهُ حَقُّ الْعَبْدِ حَتَّى لَا تُقْبَلَ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى ، فَاخْتَلَفَ الْمُسْتَحَقُّ وَهَذَا أَشْبَهُ .

قَالَ ( وَمَنْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ وَعَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقَدْ كَانَ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ فَأَجَازَ الْوَارِثَانِ ذَلِكَ لَمْ يَسْعَ فِي شَيْءٍ ) لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ وَقَدْ وَقَعَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا أَنَّهَا تَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ ، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لَحِقَهُمْ وَقَدْ أَسْقَطُوهُ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ ثُمَّ مَاتَ فَجَنَى جِنَايَةً وَدَفَعَ بِهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ) لِأَنَّ الدَّفْعَ قَدْ صَحَّ لِمَا أَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُوصِي ، فَكَذَلِكَ عَلَى حَقِّ الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّهُ يَتَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْ جِهَتِهِ إلَّا أَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ بَاقٍ ، وَإِنَّمَا يَزُولُ بِالدَّفْعِ فَإِذَا خَرَجَ بِهِ عَنْ مِلْكِهِ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمُوصِي أَوْ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَإِنْ فَدَاهُ الْوَرَثَةُ كَانَ الْفِدَاءُ فِي مَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ الْتَزَمُوهُ ، وَجَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْعَبْدَ طَهُرَ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِآخَرَ فَأَقَرَّ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَارِثُ أَنَّ الْمَيِّتَ أَعْتَقَ هَذَا الْعَبْدَ فَقَالَ الْمُوصَى لَهُ أَعْتَقَهُ فِي الصِّحَّةِ وَقَالَ الْوَارِثُ أَعْتَقَهُ فِي الْمَرَضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ إلَّا أَنْ يَفْضُلَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ أَوْ تَقُومَ لَهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ ) لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ وَلِهَذَا يَنْفُذُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَالْوَارِثُ يُنْكِرُ لِأَنَّ مُدَّعَاهُ الْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ وَهُوَ وَصِيَّةٌ ، وَالْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْمَالِ فَكَانَ مُنْكِرًا ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ حَادِثٌ وَالْحَوَادِثُ تُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِلتَّيَقُّنِ بِهَا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْوَارِثِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ ، إلَّا أَنْ يَفْضُلَ شَيْءٌ مِنْ الثُّلُثِ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَا مُزَاحِمَ لَهُ فِيهِ أَوْ تَقُومَ لَهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً وَهُوَ خَصْمٌ فِي إقَامَتِهَا لِإِثْبَاتِ حَقِّهِ .

قَالَ ( وَمَنْ تَرَكَ عَبْدًا فَقَالَ لِلْوَارِثِ أَعْتَقَنِي أَبُوك فِي الصِّحَّةِ وَقَالَ رَجُلٌ لِي عَلَى أَبِيك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ صَدَقْتُمَا فَإِنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) ، وَقَالَا : يَعْتِقُ وَلَا يَسْعَى فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَالْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ ظَهَرَا مَعًا بِتَصْدِيقِ الْوَارِثِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ فَصَارَا كَأَنَّهُمَا كَانَا مَعًا ، وَالْعِتْقُ فِي الصِّحَّةِ لَا يُوجِبُ السِّعَايَةَ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ دَيْنٌ .
وَلَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ أَقْوَى لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَالْإِقْرَارُ بِالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَالْأَقْوَى يَدْفَعُ الْأَدْنَى ، فَقَضِيَّتُهُ أَنْ يَبْطُلَ الْعِتْقُ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ فَيُدْفَعُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ أَسْبَقُ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُ مِنْ الِاسْتِنَادِ فَيَسْتَنِدُ إلَى حَالَةِ الصِّحَّة ، وَلَا يُمْكِنُ إسْنَادُ الْعِتْقِ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الْعِتْقَ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ مَجَّانًا فَتَجِبُ السِّعَايَةُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَالَ رَجُلٌ لِي عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ وَقَالَ الْآخَرُ كَانَ لِي عِنْدَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَعِنْدَهُ الْوَدِيعَةُ أَقْوَى وَعِنْدَهُمَا سَوَاءٌ .
( فَصْلٌ )

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِوَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قُدِّمَتْ الْفَرَائِضُ مِنْهَا قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا مِثْلَ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ ) لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنْ النَّافِلَةِ ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ ( فَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْقُوَّةِ بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي إذَا ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَهَمِّ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالزَّكَاةِ وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْحَجِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْحَجَّ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
وَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُمَا وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْفَرِيضَةِ فَالزَّكَاةُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْعِبَادِ فَكَانَ أَوْلَى .
وَجْهُ الْأُخْرَى أَنَّ الْحَجَّ يُقَامُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالزَّكَاةُ بِالْمَالِ قَصْرًا عَلَيْهِ فَكَانَ الْحَجُّ أَقْوَى ، ثُمَّ تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ عَلَى الْكَفَّارَاتِ لِمَزِيَّتِهِمَا عَلَيْهَا فِي الْقُوَّةِ ، إذْ قَدْ جَاءَ فِيهِمَا مِنْ الْوَعِيدِ مَا لَمْ يَأْتِ فِي الْكَفَّارَاتِ ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهُ عُرِفَ وُجُوبُهَا دُونَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِهَا بِالْقُرْآنِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْأُضْحِيَّةَ ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَدَّمُ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْبَعْضِ .

قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى بِوَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قُدِّمَتْ الْفَرَائِضُ مِنْهَا قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا ) أَقُولُ : يُشْكِلُ إطْلَاقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْعِتْقِ الْمُوقَعِ فِي الْمَرَضِ وَالْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ بِمَوْتِ الْمُوصِي عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، فَإِنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا مِنْ غَيْرِ دَعْوَى كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ وَمَرَّ فِي الْبَابِ السَّابِقِ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْفَرَائِضِ مِنْهَا بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ نَفْسُهُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَتَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنْ النَّافِلَةِ ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ ) أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ يُنَافِي قَوْلَهُ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا إذْ عَلَى تَقْدِيرِ إنْ أَخَّرَ الْفَرَائِضَ تَكُونُ بُدَاءَتُهُ بِالنَّافِلَةِ لَا مَحَالَةَ فَلَا يَقَعُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ هُنَاكَ بِالْأَهَمِّ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَهَمَّ هُوَ الْفَرَائِضُ فَكَيْفَ يَتَمَشَّى هُنَاكَ أَنْ يُقَالَ الظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُدَاءَةِ فِي قَوْلِهِ وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ هُوَ الْبُدَاءَةُ فِي الْإِعْطَاءِ وَالتَّمْلِيكِ لَا الْبُدَاءَةُ فِي الذِّكْرِ وَالتَّلَفُّظِ ؛ فَالْمَعْنَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُوصِي الْبُدَاءَةُ فِي الْإِعْطَاءِ وَالتَّمْلِيكِ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي الشَّرْعِ وَإِنْ أَخَّرَهُ فِي الذِّكْرِ وَالتَّلَفُّظِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبُدَاءَةِ الْمَذْكُورَةِ بُدَاءَةَ مَنْ يُنَفِّذُ وَصَايَاهُ وَيُؤَدِّيهَا إلَى مَحَلِّهَا مِنْ الْوَصِيِّ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمَا لَا بُدَاءَةَ نَفْسِهِ .
فَالْمَعْنَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُوصِي أَنْ

يَقْصِدَ بُدَاءَةَ مَنْ يُنَفِّذُ وَصَايَاهُ وَيَصْرِفُهَا إلَى مَحَلِّهَا بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي الشَّرْعِ مِنْ بَيْنِ مَا ذَكَرَهُ نَفْسَهُ .
( قَوْلُهُ فَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْقُوَّةِ بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي إذَا ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَهَمِّ ) يَعْنِي إنْ تَسَاوَتْ الْوَصَايَا الَّتِي مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُوَّةِ بِأَنْ كَانَ كُلُّهَا فَرَائِضَ أَوْ وَاجِبَاتٍ أَوْ نَوَافِلَ بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي إذَا ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْأَهَمِّ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : فِي تَمَامِ التَّعْلِيلِ نَظَرٌ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْأَهَمَّ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ الْأَقْوَى مِنْهَا ، وَالْمَفْرُوضُ فِي وَضْعِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ تَسَاوِي تِلْكَ الْحُقُوقِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَهَمِّيَّةُ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ ، وَإِنْ وُجِدَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهَا فِي الْقُوَّةِ مِنْ جِهَةِ بُعْدِ تَسَاوِيهَا فِي الْقُوَّةِ مِنْ جِهَةِ الْفَرِيضَةِ أَوْ الْوُجُوبِ أَوْ التَّنَفُّلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَهَمُّهَا مَا هُوَ أَقْوَاهَا فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ دُونَ اعْتِبَارِ الْمُوصِي ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَهَمِّ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَهَمِّ مَا هُوَ الْأَهَمُّ : أَيْ الْأَقْوَى فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ ، إذْ لَا يَهْتَدِي كُلُّ أَحَدٍ إلَى مَعْرِفَةِ مَا هُوَ الْأَقْوَى فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ مِنْ بَيْنِ الْفَرَائِضِ أَوْ الْوَاجِبَاتِ أَوْ النَّوَافِلِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ ابْتِدَاؤُهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَهَمِّ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَ الْمُبْتَدِئِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَبْدَأَ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ فَيَكُونُ الظَّاهِرُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ فَمُسَلَّمٌ ، لَكِنَّ كَوْنَ مِثْلِ هَذَا الظَّاهِرِ مُوجِبًا لِلْبُدَاءَةِ فِي التَّنْفِيذِ

وَالْأَدَاءِ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي فِي الذِّكْرِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِ مَا أَخَّرَهُ أَهَمَّ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ غَيْرُ وَاضِحٍ ، فَإِنَّ كَوْنَ الظَّاهِرِ مِنْ حَالِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَبْدَأَ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ مُتَحَقِّقٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُنَا أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ هُنَاكَ بَلْ عَمِلَ هُنَاكَ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَ الشَّرْعِ حَيْثُ قُدِّمَتْ الْفَرَائِضُ سَوَاءٌ قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا فَلْيَتَدَبَّرْ فِي الدَّفْعِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَصَدَ تَفْصِيلَ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْمَقَامِ وَضَبَطَهَا فَقَالَ : ثُمَّ الْوَصَايَا إمَّا أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ كُلُّهَا لِلْعِبَادِ أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، فَمَا لِلْعِبَادِ خَاصَّةً تُقَدَّمَ ذِكْرُهَا ، وَمَا لِلَّهِ تَعَالَى إمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ فَرَائِضَ كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، أَوْ وَاجِبَاتٍ كَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، أَوْ كُلُّهُ تَطَوُّعًا كَالْحَجِّ التَّطَوُّعِ وَالصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَمَا أَشْبَهَهَا ، أَوْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْوَصَايَا كُلِّهَا ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهَا وَالثُّلُثُ يَحْتَمِلُ جَمِيعَ ذَلِكَ تَنْفُذُ وَصَايَاهُ كُلُّهَا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَحْتَمِلْ ذَلِكَ وَلَكِنْ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا فَإِنْ كَانَ كُلُّهَا لِلَّهِ وَهِيَ فَرَائِضُ كُلُّهَا أَوْ وَاجِبَاتٌ كُلُّهَا أَوْ تَطَوُّعٌ يَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ ، وَإِنْ اخْتَلَطَتْ يَبْدَأُ بِالْفَرَائِضِ قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا ، مِثْلُ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ ، لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنْ النَّافِلَةِ وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِهِ خَلَلٌ ، لِأَنَّ ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا إمَّا أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْوَصَايَا الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالنَّوَافِلِ ، أَوْ يَرْجِعَ إلَى مُطْلَقِ الْوَصَايَا جَامِعَةً كَانَتْ بَيْنَهَا أَوْ غَيْرَ

جَامِعَةٍ ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْأُولَى كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ كَلَامِهِ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهَا فَسَاقَ كَلَامَهُ إلَخْ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ كُلُّهَا لِلَّهِ وَهِيَ فَرَائِضُ أَوْ وَاجِبَاتٌ كُلُّهَا أَوْ تَطَوُّعٌ يَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ ، لِأَنَّ الْوَصَايَا الَّتِي كُلُّهَا فَرَائِضُ وَاَلَّتِي كُلُّهَا وَاجِبَاتٌ وَاَلَّتِي كُلُّهَا تَطَوُّعٌ قَسِيمَاتٌ لِلْوَصَايَا الْجَامِعَةِ بَيْنَهَا كَمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَبْلُ ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَجْعَلَ هُنَا قِسْمًا مِنْهَا ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى الثَّانِيَةِ فَمَعَ كَوْنِهِ مِمَّا يَأْبَاهُ سِيَاقُ كَلَامِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَقْسَامِ مَعَ أَحْكَامِهَا مُهْمَلًا مَتْرُوكًا فِي مَقَامِ التَّفْصِيلِ ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْوَصَايَا كُلُّهَا فَرَائِضَ أَوْ وَاجِبَاتٍ أَوْ نَوَافِلَ وَالثُّلُثُ يَحْتَمِلُ الْكُلَّ أَوْ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ .
وَلَكِنْ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا قَدْ خَرَجَ بِقَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا بَعْدُ أَصْلًا فَيَفُوتُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْبَسْطِ وَالْبَيَانِ وَهُوَ الضَّبْطُ وَالْجَمْعُ ، ثُمَّ إنَّ الشَّارِحَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا وَقَعَ فِيمَا وَقَعَ بِزِيَادَةِ قَوْلِهِ فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهَا بَعْدَ قَوْلِهِ أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْوَصَايَا كُلِّهَا ، وَلَوْ سَلَكَ فِي التَّقْرِيرِ مَسْلَكَ غَيْرِهِ مِنْ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْوَصَايَا كُلِّهَا فَإِنْ كَانَ ثُلُثُ مَالِهِ يَحْتَمِلُ جَمِيعَ ذَلِكَ وَسَاقَ كَلَامَهُ إلَخْ لَسَلِمَ عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ الْخَلَلِ تَأَمَّلْ تَقِفْ .
( قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَدَّمُ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْبَعْضِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَدَّمَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى النُّذُورِ لِكَوْنِهَا وَاجِبَةً بِإِيجَابِ الشَّرْعِ وَكَوْنِ النُّذُورِ وَاجِبَةً بِإِيجَابِ الْعَبْدِ ا هـ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يُعَارِضَ وَيَقُولَ عُرِفَ وُجُوبُ النُّذُورِ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْله

تَعَالَى { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } وَعُرِفَ وُجُوبُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِالسُّنَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَدَّمَ النُّذُورُ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ كَمَا قُدِّمَ الْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ عَلَيْهَا لِذَلِكَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ

قَالَ ( وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ قُدِّمَ مِنْهُ مَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي ) لِمَا بَيَّنَّا وَصَارَ كَمَا إذَا صَرَّحَ بِذَلِكَ .
قَالُوا : إنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ ، فَمَا أَصَابَ الْقُرَبَ صُرِفَ إلَيْهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَيُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الْقُرَبِ وَلَا يُجْعَلُ الْجَمِيعُ كَوَصِيَّةٍ وَاحِدَةٍ ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِجَمِيعِهَا رِضًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكُلُّ وَاحِدَةٍ فِي نَفْسِهَا مَقْصُودٌ فَتَنْفَرِدُ كَمَا تَنْفَرِدُ وَصَايَا الْآدَمِيِّينَ .
قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَحَجُّوا عَنْهُ رَجُلًا مِنْ بَلَدِهِ يَحُجُّ رَاكِبًا ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِلَّهِ تَعَالَى الْحَجُّ مِنْ بَلَدِهِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مِنْ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ مِنْ بَلَدِهِ وَالْوَصِيَّةُ لِأَدَاءِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا قَالَ رَاكِبًا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَانْصَرَفَ إلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ .
قَالَ ( فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ الْوَصِيَّةُ النَّفَقَةَ أَحَجُّوا عَنْهُ حَيْثُ تَبْلُغُ ) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحُجُّ عَنْهُ ، لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْحَجَّةِ عَلَى صِفَةٍ عَدِمْنَاهَا فِيهِ ، غَيْرَ أَنَّا جَوَّزْنَاهُ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمُوصِيَ قَصَدَ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا مَا أَمْكَنَ وَالْمُمْكِنُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِهَا رَأْسًا ، وَقَدْ فَرَّقْنَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ مِنْ قَبْلُ .

( قَوْلُهُ قَالُوا : إنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ إلَخْ ) وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ : قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي : فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَدَّمَ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِإِنْسَانٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَالْحَجُّ فَرِيضَةٌ .
قُلْنَا : هَذَا إذَا اتَّحَدَ الْمُسْتَحَقُّ ، فَأَمَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا تُعْتَبَرُ قُوَّةُ الْوَصِيَّةِ ا هـ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ ، فَإِنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْعِتْقِ الْمُوقَعِ فِي الْمَرَضِ وَالْعِتْقِ بِمَوْتِ الْمُوصِي وَبِالْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ إذَا وَقَعَتْ فِي الْمَرَضِ ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يُقَدَّمُ عَلَى جَمِيعِ سَائِرِ الْوَصَايَا مَا كَانَ لِلَّهِ وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ لِقُوَّةِ الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ أَصْلًا ، وَقُوَّةُ الْمُحَابَاةِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ ، وَلَوْ لَمْ تُعْتَبَرْ قُوَّةُ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُسْتَحَقِّ لَمَا قُدِّمَتْ الْمُحَابَاةُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا مَعَ وَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ فِي الْمُحَابَاةِ هُوَ الْعَبْدُ ، وَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمُسْتَحَقُّ ، وَكَذَا الْحَالُ فِي الْعِتْقِ الْمُوقَعِ فِي الْمَرَضِ أَوْ الْمُعَلَّقِ بِالْمَوْتِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِ مَعَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، لِأَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ اجْتِمَاعِهِ مَعَ حُقُوقِ الْعِبَادِ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ ، لِأَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُمَا عَلَى مَا عُرِفَ تَدَبَّرْ

قَالَ ( وَمَنْ خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ حَاجًّا فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَأَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ .
يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ اسْتِحْسَانًا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَاتَ الْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ فِي الطَّرِيقِ .
لَهُمَا أَنَّ السَّفَرَ بِنِيَّةِ الْحَجِّ وَقَعَ قُرْبَةً وَسَقَطَ فَرْضُ قَطْعِ الْمَسَافَةِ بِقَدْرِهِ وَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَيَبْتَدِئُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ ، بِخِلَافِ سَفَرِ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ قُرْبَةً فَيَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ .
وَلَهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْصَرِفُ إلَى الْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ عَلَى مَا قَرَرْنَاهُ أَدَاءً لِلْوَاجِبِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ السَّفَرَ بِنِيَّةِ الْحَجِّ وَقَعَ قُرْبَةً وَسَقَطَ فَرْضُ قَطْعِ الْمَسَافَةِ بِقَدْرِهِ إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ السَّفَرَ بِنِيَّةِ الْحَجِّ وَقَعَ قُرْبَةً إلَخْ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ إلَّا ثَلَاثَةٌ } فَإِنَّ الْخُرُوجَ لِلْحَجِّ لَيْسَ مِنْهُ .
وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُكَفِّرَ إذَا أَطْعَمَ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ فَمَاتَ وَأَوْصَى بِهِ وَجَبَ الْإِكْمَالُ بِمَا بَقِيَ بِالِاتِّفَاقِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ مَا أَطْعَمَهُ بِالْمَوْتِ ، ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ ، فَمَا هُوَ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَوَابُنَا عَنْ الْحَجِّ .
وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ سَفَرَ الْحَجِّ لَا يَتَجَزَّأُ فِي حَقِّ الْآمِرِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ بَدَا لَهُ فِي الطَّرِيقِ أَنْ لَا يَحُجَّ بِنَفْسِهِ بَعْدَمَا مَشَى بَعْضَ الطَّرِيقِ وَفَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى غَيْرِهِ بِرِضَا الْوَصِيِّ لَمْ يَجُزْ وَلَزِمَهُ رَدُّ مَا أَنْفَقَهُ ، وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّجَزِّي حَتَّى إنَّ الْمَأْمُورَ بِالْإِطْعَامِ إذَا أَطْعَمَ الْبَعْضَ ثُمَّ تَرَكَ الْبَعْضَ وَأَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِدَافِعٍ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمُتَجَزِّئِ وَغَيْرِهِ فِي الِانْقِطَاعِ ، إلَّا أَنْ يُقَالَ : التَّجَزِّي فِي الْإِطْعَامِ مُسْتَنِدٌ إلَى الْكِتَابِ فَإِنَّهُ أَقْوَى وَإِنْ كَانَ دَلَالَةً فَعُمِلَ بِهِ ، وَالْحَجُّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْ الْحَدِيثِ فَعُمِلَ بِهِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا بِقَوْلِهِ وَرُدَّ وَأُجِيبَ مَذْكُورَانِ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا ، وَتَصَرُّفُ هَذَا الشَّارِحِ نَفْسُهُ إنَّمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ وَهَذَا لَيْسَ بِدَافِعٍ إلَخْ سَاقِطٌ ، إذْ لَيْسَ مَدَارُ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ الْمُتَجَزِّئَ لَا يَنْقَطِعُ وَغَيْرَ الْمُتَجَزِّئِ يَنْقَطِعُ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمُتَجَزِّئِ

وَغَيْرِهِ ، بَلْ مَدَارُهُ عَلَى أَنَّ الِانْقِطَاعَ لَا يَضُرُّ فِي الْمُتَجَزِّئِ وَإِنَّمَا يَضُرُّ فِي غَيْرِ الْمُتَجَزِّئِ ، فَإِنَّ كُلَّ عَمَلٍ غَيْرِ مُتَجَزٍّ إذَا انْقَطَعَ قَبْلَ التَّمَامِ يَبْطُلُ مِنْ الْأَصْلِ بِالضَّرُورَةِ وَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، وَالْحَجُّ غَيْرُ مُتَجَزٍّ ؛ فَإِذَا انْقَطَعَ بِمَوْتِ الْحَاجِّ فِي الطَّرِيقِ وَجَبَ أَنْ يَحُجَّ مِنْ بَلَدِ الْمُوصِي أَدَاءً لِلْوَاجِبِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْعَمَلِ الْمُتَجَزِّئِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْقِطَاعِهِ قَبْلَ تَمَامِهِ أَنْ يَبْطُلَ مِنْ الْأَصْلِ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُتَمِّمَ الْآخَرَ مَا بَقِيَ مِنْهُ ، كَمَا إذَا أَطْعَمَ الْمَأْمُورُ بِالْإِطْعَامِ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ ثُمَّ تَرَكَ الْبَعْضَ وَأَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَسْرَارِ .
وَعَلَى هَذَا كَانَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ دَافِعًا لِلسُّؤَالِ قَطْعًا ، وَلِعَدَمِ فَرْقِ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ بَيْنَ الْمَدَارَيْنِ قَالَ فِي تَقْرِيرِ السُّؤَالِ : وَلَمْ يَنْقَطِعْ مَا أَطْعَمَهُ بِالْمَوْتِ وَالْوَاقِعُ فِي النِّهَايَةِ بَدَلُ ذَلِكَ وَلَمْ يَبْطُلْ هُنَاكَ مَا أَطْعَمَهُ بِالْمَوْتِ ، وَفِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بَدَلُهُ ، وَلَمْ يَجِبْ الِاسْتِئْنَافُ هُنَاكَ بَلْ وَجَبَ الْإِكْمَالُ بِمَا بَقِيَ بِالِاتِّفَاقِ .
ثُمَّ إنَّ مَدَارَ التَّوْجِيهِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ التَّجَزِّي فِي الْإِطْعَامِ مُسْتَنَدٌ إلَى الْكِتَابِ إلَخْ ، عَلَى أَنَّ التَّجَزِّيَ يُنَافِي الِانْقِطَاعَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَالْكِتَابِ الدَّالِ عَلَى تَجَزِّي الْإِطْعَامِ تَعَارُضٌ أَصْلًا حَتَّى يَتْرُكَ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي حَقِّ الْإِطْعَامِ وَيَعْمَلَ بِالْكِتَابِ فِيهِ لِقُوَّتِهِ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ التَّجَزِّيَ لَا يُنَافِي الِانْقِطَاعَ بَلْ يَتَحَقَّقُ الِانْقِطَاعُ فِي الْمُتَجَزِّئِ وَغَيْرِهِ ، إلَّا أَنَّ الْإِكْمَالَ بِمَا بَقِيَ مُتَصَوَّرٌ فِي الْمُتَجَزِّئِ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا يَقْتَضِي الْعَمَلُ بِالْكِتَابِ فِي حَقِّ

الْإِطْعَامِ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي حَقِّ ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى ، فَمَا ارْتَكَبَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ هُنَا مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ كَمَا تَرَى .

( بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ ) قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِجِيرَانِهِ فَهُمْ الْمُلَاصِقُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُمْ الْمُلَاصِقُونَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَسْكُنُ مَحَلَّةَ الْمُوصِي وَيَجْمَعُهُمْ مَسْجِدُ الْمَحَلَّةِ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَقَوْلُهُ قِيَاسٌ لِأَنَّ الْجَارَ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ وَهِيَ الْمُلَاصَقَةُ حَقِيقَةً وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِهَذَا الْجِوَارِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا صَرَفَهُ إلَى الْجَمِيعِ يُصْرَفُ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الْمُلَاصِقُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ جِيرَانًا عُرْفًا ، وَقَدْ تَأَيَّدَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } وَفَسَّرَهُ بِكُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ بِرُّ الْجِيرَانِ وَاسْتِحْبَابُهُ يَنْتَظِمُ الْمُلَاصِقَ وَغَيْرَهُ ، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاخْتِلَاطِ وَذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَسْجِدِ ، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْجِوَارُ إلَى أَرْبَعِينَ دَارًا بَعِيدٌ ، وَمَا يُرْوَى فِيهِ ضَعِيفٌ .
قَالُوا : وَيَسْتَوِي فِيهِ السَّاكِنُ وَالْمَالِكُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْمُسْلِمُ الذِّمِّيُّ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِ يَتَنَاوَلُهُمْ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْعَبْدُ السَّاكِنُ عِنْدَهُ لِإِطْلَاقِهِ ، وَلَا يَدْخُلُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ وَصِيَّةٌ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ غَيْرُ سَاكِنٍ .
.

( بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ ) أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ عَمَّا تَقَدَّمَهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحْكَامَ الْوَصِيَّةِ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ ، وَذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَهُ أَحْكَامَ الْوَصَايَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ ، وَالْخُصُوصُ أَبَدًا يَتْلُو الْعُمُومَ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى لِجِيرَانِهِ فَهُمْ الْمُلَاصِقُونَ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : كَانَ حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَدِّرَ وَصِيَّةَ الْأَقَارِبِ نَظَرًا إلَى تَرْجَمَةِ الْبَابِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : الْوَاوُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ ، وَأَنْ يُقَالَ : فَعَلَ ذَلِكَ اهْتِمَامًا بِأَمْرِ الْجَارِ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تَوْجِيهِهِ كَاسِدٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْوَاوَ إنَّمَا لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ الْخَارِجِيِّ : أَيْ لَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ مَدْخُولِهِ فِي الْخَارِجِ بَعْدَ وُقُوعِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِيهِ ، وَأَمَّا مَا تَأَخَّرَ مَدْخُولُهُ فِي الذِّكْرِ عَنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَأَمْرٌ ضَرُورِيٌّ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَدَارَ قَوْلِهِ كَانَ حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَدِّمَ وَصِيَّةَ الْأَقَارِبِ نَظَرًا إلَى تَرْجَمَةِ الْبَابِ عَلَى الثَّانِي : يَعْنِي لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ كَانَ حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَدِّمَ ذَلِكَ فِي بَسْطِ الْمَسَائِلِ أَيْضًا لِيَحْصُلَ التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ ، وَعَدَمُ دَلَالَةِ الْوَاوِ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوُقُوعِ الْخَارِجِيِّ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الِاهْتِمَامَ بِأَمْرِ الْجَارِ لَوْ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحْسَنًا لَفَعَلَ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ بِأَنْ قَالَ بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْجِيرَانِ وَغَيْرِهِمْ ، وَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ هُنَاكَ عُلِمَ أَنَّ اهْتِمَامَهُ كَانَ بِأَمْرِ الْأَقَارِبِ ، فَكَانَ حَقُّ الْكَلَامِ هُنَا أَنْ يُسَاقَ عَلَى مِنْوَالِهِ رِعَايَةً لِلتَّنَاسُبِ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ صَرْفُهُ إلَى الْجَمِيعِ يُصْرَفُ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الْمُلَاصِقُ إلَخْ ) أَوْضَحَهُ فِي

الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ صَرْفُهُ إلَى الْجَمِيعِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ جَارُ الْمَحَلَّةِ وَجَارُ الْأَرْضِ وَجَارُ الْقَرْيَةِ صُرِفَ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الْمُلَاصِقُ ا هـ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لَمَّا تَعَذَّرَ صَرْفُهُ إلَى الْجَمِيعِ : يَعْنِي لِعَدَمِ دُخُولِ جَارِ الْمَحَلَّةِ وَجَارِ الْقَرْيَةِ وَجَارِ الْأَرْضِ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : عَدَمُ دُخُولِ جَارِ الْمَحَلَّةِ وَجَارِ الْقَرْيَةِ وَجَارِ الْأَرْضِ فِي الْوَصِيَّةِ لِجِيرَانِ الْمُوصِي لِعَدَمِ انْطِلَاقِ لَفْظِ الْجِيرَانِ الْمُضَافِ إلَى الْمُوصِي نَفْسِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَا حَقِيقَةً وَلَا عُرْفًا بِخِلَافِ مَنْ يَسْكُنُ مَحَلَّةَ الْمُوصِي وَيَجْمَعُهُمْ مَسْجِدُ مَحَلَّتِهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ جِيرَانَ الْمُوصِي عُرْفًا كَمَا سَيَأْتِي فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَذُّرِ صَرْفِهِ إلَى الْجَمِيعِ تَعَذُّرُ صَرْفِهِ إلَى أَهْلِ مَسْجِدِ مَحَلَّتِهِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامَانِ حَتَّى يَتَعَيَّنَ صَرْفُهُ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فَتَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ بِرُّ الْجِيرَانِ فَاسْتِحْبَابُهُ يَنْتَظِمُ الْمُلَاصِقَ وَغَيْرَهُ ) أَقُولُ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : نَعَمْ إنَّ مَقْصُودَ الْمُوصِي مِنْ إيصَائِهِ لِجِيرَانِهِ بِرُّ الْجِيرَانِ لَكِنَّ الْجِيرَانَ هُمْ الْمُلَاصِقُونَ لَا غَيْرُ لِأَنَّ الْجَارَ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ وَهِيَ الْمُلَاصَقَةُ فَكَيْفَ يَنْتَظِمُ الْمُلَاصِقَ وَغَيْرَهُ ، وَإِنْ صُيِّرَ إلَى كَوْنِ غَيْرِ الْمُلَاصِقِ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ جِيرَانًا عُرْفًا يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ ، فَلَا يَكُونُ لِجَعْلِ هَذَا التَّعْلِيلِ دَلِيلًا ثَانِيًا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّحْرِيرِ وَجْهٌ كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ قَالُوا وَيَسْتَوِي فِيهِ السَّاكِنُ وَالْمَالِكُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِ يَتَنَاوَلُهُمْ ) أَقُولُ : التَّعْمِيمُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ وَيَسْتَوِي فِيهِ

السَّاكِنُ وَالْمَالِكُ يُنَافِي تَقْيِيدَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا مَرَّ بِقَوْلِهِ مِمَّنْ يَسْكُنُ مَحَلَّةَ الْمُوصِي ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا نَقَلَهُ هَاهُنَا عَنْ الْمَشَايِخِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، لَكِنَّ أُسْلُوبَ تَحْرِيرِهِ يَأْبَى ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ مِمَّنْ يَسْكُنُ مَحَلَّةَ الْمُوصِي إلَخْ اشْتِرَاكُ السُّكْنَى فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ الْوَصِيَّةَ عِنْدَهُمَا مُلَّاكًا أَوْ غَيْرَهُمْ .
وَمِمَّا نَقَلَهُ عَنْ الْمَشَايِخِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ السُّكْنَى عِنْدَهُمَا إنْ كَانُوا مُلَّاكًا بِدَلِيلِ تَخْصِيصِ خِلَافِهِمَا بِالْعَبْدِ السَّاكِنِ فَتَأَمَّلْ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِتَامٍّ لِأَنَّ تَخْصِيصَ خِلَافِهِمَا بِالْعَبْدِ السَّاكِنِ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْخِلَافِ فِي الْحُرِّ السَّاكِنِ ، لَا عَلَى عَدَمِ الْخِلَافِ فِي الْحُرِّ الْغَيْرِ السَّاكِنِ إذَا كَانُوا مُلَّاكًا حَتَّى يُفْهَمَ مِنْهُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ السُّكْنَى عِنْدَهُمَا إنْ كَانُوا مُلَّاكًا ، ثُمَّ إنَّ تَعْلِيلَ قَوْلِهِمَا فِي الْعَبْدِ السَّاكِنِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ وَصِيَّةٌ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ غَيْرُ سَاكِنٍ بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ فِي اشْتِرَاطِ السُّكْنَى عِنْدَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِهِمَا الْوَصِيَّةَ وَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا وَمُلَّاكًا فَإِنَّهُ قَالَ وَهُوَ غَيْرُ سَاكِنٍ وَلَمْ يَقُلْ وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ لِلدَّارِ ، فَدَلَّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ عَدَمَ دُخُولِ الْعَبْدِ السَّاكِنِ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ سُكْنَى مَوْلَاهُ الَّذِي هُوَ الْمُوصَى لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ بِاشْتِرَاطِ السُّكْنَى عِنْدَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ الْوَصِيَّةَ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِنْبَاطِ عَدَمِ اشْتِرَاطِ السُّكْنَى عِنْدَهُمَا إنْ كَانُوا مُلَّاكًا مِنْ الْخِلَافِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا فَعَلَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ وَصِيَّةٌ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ غَيْرُ سَاكِنٍ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَعَلَّهُ أَرَادَ بِدُخُولِهِ كَوْنَ نَفْسِهِ مُوصًى لَهُ

وَمُسْتَحِقًّا لِلْوَصِيَّةِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُعْتِقَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي صَارَ مُسْتَحِقًّا لَهُ ، وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ عَبْدًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ، إذْ الْعِبْرَةُ لِوَقْتِ الْمَوْتِ فَالْخِلَافُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ ، وَأَيْضًا الْوَصِيَّةُ بَدْءًا لِلْعَبْدِ ثُمَّ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا يَمْلِكُهُ لِمَوْلَاهُ فَسُكْنَاهُ كَافٍ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْوَصِيَّةَ فَتَأَمَّلْ إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : كُلٌّ مِنْ شِقَّيْ كَلَامِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ .
أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَلِأَنَّ الْعِبْرَةَ إذَا كَانَتْ لِوَقْتِ الْمَوْتِ دُونَ وَقْتِ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ كَانَ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ بَيْنَهُمَا فِيمَنْ كَانَ عَبْدًا وَقْتَ الْمَوْتِ وَكَانَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ حَقِيقِيًّا لَا مَحَالَةَ .
وَأَمَّا الَّذِي كَانَ عَبْدًا وَقْتَ الْإِيجَابِ ثُمَّ أُعْتِقَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَصَارَ حُرًّا وَقْتَ الْمَوْتِ فَخَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ قَطْعًا ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ حُرًّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَهُ الْعِبْرَةُ فِي أَحْكَامِ الْوَصِيَّةِ عَامَّةً وَهُوَ وَقْتُ مَوْتِ الْمُوصِي صَارَ مِنْ قَبِيلِ سَائِرِ الْأَحْرَارِ بِلَا تَفَاوُتٍ ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنْ لَيْسَ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ لِلْعَبْدِ أَنْ يُمَلَّكَ شَيْءٌ لِلْعَبْدِ تَمْلِيكًا مُضَافًا إلَى الْمَوْتِ فَيَمْلِكُهُ الْعَبْدُ ابْتِدَاءً عِنْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ مِنْ ذَلِكَ الْعَبْدِ إلَى مَوْلَاهُ ثَانِيًا ، بَلْ مَعْنَاهَا تَمْلِيكُ شَيْءٍ لِمَوْلَى الْعَبْدِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي سَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ لِلْعَبْدِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أَهْلًا لِلْمِلْكِ لِنَفْسِهِ ابْتِدَاءً وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ، فَإِذَنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ وَصِيَّةً لِمَوْلَاهُ وَكَانَ التَّمْلِيكُ تَمْلِيكًا لِمَوْلَاهُ ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ ذَلِكَ الْبَعْضِ فَسُكْنَاهُ كَافٍ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْوَصِيَّةَ تَأَمَّلْ تَرْشُدْ

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِأَصْهَارِهِ فَالْوَصِيَّةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ امْرَأَتِهِ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا تَزَوَّجَ صَفِيَّةَ أَعْتَقَ كُلَّ مَنْ مَلَكَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا إكْرَامًا لَهَا } وَكَانُوا يُسَمُّونَ أَصْهَارَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَهَذَا التَّفْسِيرُ اخْتِيَارُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ ، وَكَذَا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجَةِ أَبِيهِ وَزَوْجَةِ ابْنِهِ وَزَوْجَةِ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لِأَنَّ الْكُلَّ أَصْهَارٌ .
وَلَوْ مَاتَ الْمُوصِي وَالْمَرْأَةُ فِي نِكَاحِهِ أَوْ فِي عِدَّتِهِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَالصِّهْرُ يَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا لِأَنَّ بَقَاءَ الصِّهْرِيَّةِ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْمَوْتِ .

الْوَصِيَّةَ ( قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى لِأَصْهَارِهِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : أَيْ لِأَقْرِبَاءِ امْرَأَتِهِ .
وَفِي الصِّحَاحِ : الْأَصْهَارُ أَهْلُ بَيْتِ الْمَرْأَةِ ا هـ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَالِاسْتِشْهَادِ بِمَا فِي الصِّحَاحِ صَاحِبَا الْعِنَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
أَقُولُ : تَفْسِيرُ الْأَصْهَارِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَقْرِبَاءِ امْرَأَتِهِ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ ، وَكَذَا يَدْخُلُ فِي كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجَةِ أَبِيهِ وَزَوْجَةِ ابْنِهِ وَزَوْجَةِ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لِأَنَّ الْكُلَّ أَصْهَارٌ ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ لَيْسَ مِنْ أَقْرِبَاءِ امْرَأَتِهِ مَعَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِيصَاءِ بِالْأَصْهَارِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ كُلِّهِمْ أَصْهَارًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ .
فَالْوَجْهُ أَنْ يُفَسِّرَ الْأَصْهَارَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ أَقْرِبَاءِ امْرَأَتِهِ .
وَقَدْ جَاءَ فِي اللُّغَةِ جَعْلُ الْأَصْهَارِ أَعَمَّ مِنْ أَقْرِبَاءِ الْمَرْأَةِ .
قَالَ فِي الصِّحَاحِ : الْأَصْهَارُ أَهْلُ بَيْتِ الْمَرْأَةِ .
عَنْ الْخَلِيلِ قَالَ : وَمِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَلُ الصِّهْرَ مِنْ الْأَحْمَاءِ وَالْأُخْتَانِ جَمِيعًا ا هـ .
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ : الصِّهْرُ بِالْكَسْرِ الْقَرَابَةُ وَحُرْمَةُ الْخُتُونَةِ جَمْعُهُ أَصْهَارٌ .
ثُمَّ قَالَ : وَزَوْجُ بِنْتِ الرَّجُلِ وَزَوْجُ أُخْتِهِ وَالْأُخْتَانِ أَصْهَارٌ أَيْضًا ا هـ تَدَبَّرْ

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِأَخْتَانِهِ فَالْوَصِيَّةُ لِزَوْجِ كُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ وَكَذَا مَحَارِمُ الْأَزْوَاجِ ) لِأَنَّ الْكُلَّ يُسَمَّى خَتَنًا .
قِيلَ هَذَا فِي عُرْفِهِمْ .
وَفِي عُرْفِنَا لَا يَتَنَاوَلُ الْأَزْوَاجُ الْمَحَارِمَ ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ .
لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ .

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ فَهِيَ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ : الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ ) وَهُوَ أَوَّلُ أَبٍ أَسْلَمَ أَوْ أَوَّلُ أَبٍ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ .
وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي أَوْلَادِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُسْلِمْ .
لَهُمَا أَنَّ الْقَرِيبَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرَابَةِ فَيَكُونُ اسْمًا لِمَنْ قَامَتْ بِهِ فَيَنْتَظِمُ بِحَقِيقَةِ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ .
وَلَهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ ، وَفِي الْمِيرَاثِ يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ الْمَذْكُورِ فِيهِ اثْنَانِ فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ تَلَاقِي مَا فَرَطَ فِي إقَامَةِ وَاجِبِ الصِّلَةِ وَهُوَ يَخْتَصُّ بِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ قَرَابَةُ الْوِلَادِ فَإِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ أَقْرِبَاءَ ، وَمَنْ سَمَّى وَالِدَهُ قَرِيبًا كَانَ مِنْهُ عُقُوقًا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَرِيبَ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إلَى غَيْرِهِ بِوَسِيلَةِ غَيْرِهِ ، وَتَقَرُّبُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَرْكِهِ ، فَعِنْدَهُ يُقَيَّدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَعِنْدَهُمَا بِأَقْصَى الْأَبِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالْأَبِ الْأَدْنَى .

( قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَفِي الْمِيرَاثِ يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ الْمَذْكُورِ فِيهِ اثْنَانِ فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ ) أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَقَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ وَالْكَافِرُ لِلْمُسْلِمِ بِلَا خِلَافٍ وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ ، وَكَذَا قَدْ مَرَّ فِيهِ أَنَّهُ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ إيَّاهَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَلَا يَجُوزُ الْمِيرَاثُ لِلْقَاتِلِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَلَوْ أَجَازَتْهُ الْوَرَثَةُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَكَذَا مَرَّ فِيهِ آنِفًا فِي مَسْأَلَةِ الْإِيصَاءِ لِأُخْتِهِ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ ، وَلَا مِيرَاثَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا ، وَلَا يَسْتَوِي فِي الْمِيرَاثِ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ ، إذْ الْخَصْمُ لَا يُسَلِّمُ كَوْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ بَلْ هُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ .
ثُمَّ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْأُخُوَّةَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَيْضًا مِنْ جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ حَيْثُ قَالَ فِيهَا بِاسْتِوَاءِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، كَمَا قَالَ بِهِ صَاحِبَاهُ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ حَيْثُ قَالَ : وَيَسْتَوِي الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ ا هـ .
وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ أَيْضًا .
وَلَا مِيرَاثَ لِلْعَبْدِ وَالْكَافِرِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ التَّسَاوِي مَعَ الْحُرِّ

وَالْمُسْلِمِ .
وَأَمَّا الْأُنْثَى فَإِنَّهَا وَإِنْ وَرِثَتْ إلَّا أَنَّهَا لَا تَسْتَوِي مَعَ الذَّكَرِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ أَلْبَتَّةَ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ الْأُخُوَّةُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فِي هَاتِيك الْأُمُورِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَيْضًا ، فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال عَلَى مُدَّعِي أَبِي حَنِيفَةَ هَاهُنَا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْبَدَائِعِ تَفَطَّنَ لَهُ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِحَدِيثِ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ ، بَلْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ آخَرَ ذَكَرَهُ وَفَصَّلَهُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي كِتَابِهِ ذَلِكَ

قَالَ ( وَإِذَا أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ وَلَهُ عَمَّانِ وَخَالَانِ فَالْوَصِيَّةُ لِعَمَّيْهِ ) عِنْدَهُ اعْتِبَارٌ لِلْأَقْرَبِ كَمَا فِي الْإِرْثِ ، وَعِنْدَهُمَا بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا إذْ هُمَا لَا يَعْتَبِرَانِ الْأَقْرَبَ ( وَلَوْ تَرَكَ عَمًّا وَخَالَيْنِ فَلِلْعَمِّ نِصْفُ الْوَصِيَّةِ وَالنِّصْفُ لِلْخَالَيْنِ ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْجَمِيعِ وَهُوَ الِاثْنَانِ فِي الْوَصِيَّةِ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِذِي قَرَابَتِهِ حَيْثُ يَكُونُ لِلْعَمِّ كُلُّ الْوَصِيَّةِ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لِلْفَرْدِ فَيُحْرِزُ الْوَاحِدُ كُلَّهَا إذْ هُوَ الْأَقْرَبُ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَاحِدٌ فَلَهُ الثُّلُثُ لِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَلَوْ تَرَكَ عَمًّا وَعَمَّةً وَخَالًا وَخَالَةً فَالْوَصِيَّةُ لِلْعَمِّ وَالْعَمَّةِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَاءِ قَرَابَتِهِمَا وَهِيَ أَقْوَى ، وَالْعَمَّةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَارِثَةً فَهِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لِلْوَصِيَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَرِيبُ رَقِيقًا أَوْ كَافِرًا ، وَكَذَا إذَا أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ أَوْ لِأَقْرِبَائِهِ أَوْ لِأَنْسِبَائِهِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَفْظُ جَمْعٍ ، وَلَوْ انْعَدَمَ الْمَحْرَمُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِهَذَا الْوَصْفِ .
قَالَ : وَمَنْ أَوْصَى لِأَهْلِ فُلَانٍ فَهِيَ عَلَى زَوْجَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ : يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ يَعُولُهُمْ وَتَضُمُّهُمْ نَفَقَتُهُ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِالنَّصِّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } وَلَهُ أَنَّ اسْمَ الْأَهْلِ حَقِيقَةٌ فِي الزَّوْجَةِ يَشْهَدُ بِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ تَأَهَّلَ بِبَلْدَةِ كَذَا ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَقِيقَةِ .
قَالَ : وَلَوْ أَوْصَى لِآلِ فُلَانٍ فَهُوَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ لِأَنَّ الْآلُ الْقَبِيلَةُ الَّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ بَيْتِ فُلَانٍ يَدْخُلُ فِيهِ أَبُوهُ وَجَدُّهُ لِأَنَّ الْأَبَ أَصْلُ الْبَيْتِ ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ نَسَبِهِ أَوْ لِجِنْسِهِ فَالنَّسَبُ عِبَارَةٌ عَمَّنْ

يُنْسَبُ إلَيْهِ ، وَالنَّسَبُ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْآبَاءِ ، وَجِنْسُهُ أَهْلُ بَيْتِ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَجَنَّسُ بِأَبِيهِ ، بِخِلَافِ قَرَابَتِهِ حَيْثُ تَكُونُ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ وَالْأَبِ ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَيْتَامِ بَنِي فُلَانٍ أَوْ لِعُمْيَانِهِمْ أَوْ لِزَمْنَاهُمْ أَوْ لِأَرَامِلِهِمْ إنْ كَانُوا قَوْمًا يُحْصَوْنَ دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ فُقَرَاؤُهُمْ وَأَغْنِيَاؤُهُمْ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ ، لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ التَّمْلِيكِ فِي حَقِّهِمْ وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ .
وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَالْوَصِيَّةُ فِي الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَصِيَّةِ الْقُرْبَةُ وَهِيَ فِي سَدِّ الْخَلَّةِ وَرَدِّ الْجَوْعَةِ .
وَهَذِهِ الْأَسَامِي تُشْعِرُ بِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ فَجَازَ حَمْلُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِشُبَّانِ بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ أَوْ لِأَيَامَى بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ حَيْثُ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فَلَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَى الْفُقَرَاءِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ تَمْلِيكًا فِي حَقِّ الْكُلِّ لِلْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ وَتَعَذَّرَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ ، وَفِي الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ يَجِبُ الصَّرْفُ إلَى اثْنَيْنِ مِنْهُمْ اعْتِبَارًا لِمَعْنَى الْجَمْعِ ، وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ فِي الْوَصَايَا عَلَى مَا مَرَّ .
وَلَوْ أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ يَدْخُلُ فِيهِمْ الْإِنَاثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلُ قَوْلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ جَمْعَ الذُّكُورِ يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ خَاصَّةً لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْمِ لِلذُّكُورِ وَانْتِظَامُهُ لِلْإِنَاثِ تَجَوُّزٌ وَالْكَلَامُ لِحَقِيقَتِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَنُو فُلَانٍ اسْمَ قَبِيلَةٍ أَوْ فَخِذٍ حَيْثُ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُرَادُ بِهَا أَعْيَانُهُمْ إذْ هُوَ مُجَرَّدُ الِانْتِسَابِ كَبَنِي آدَمَ وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَالْمُوَالَاةُ وَحُلَفَاؤُهُمْ .

( قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ اسْمَ الْأَهْلِ حَقِيقَةٌ فِي الزَّوْجَةِ يَشْهَدُ بِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ تَأَهَّلَ بِبَلْدَةِ كَذَا ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَقِيقَةِ ) أَقُولُ : فِي الِاسْتِشْهَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَهْلِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجَةِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهَا أَيْضًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظٍ فِي مَوْضِعَ فَرْدٌ مَخْصُوصٌ مِنْ أَفْرَادِ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَجُوزَ إطْلَاقُ ذَلِكَ اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ عَلَى فَرْدٍ آخَرَ مِنْ أَفْرَادِ ذَاكَ الْمَعْنَى ؛ أَلَا يُرَى أَنَّك إذَا قُلْت رَأَيْت إنْسَانًا يَفْعَلُ كَذَا وَأَرَدْت بِالْإِنْسَانِ هُنَاكَ فَرْدًا مَخْصُوصًا مِنْ أَفْرَادِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يُطْلَقَ لَفْظُ الْإِنْسَانِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ عَلَى فَرْدٍ آخَرَ مِنْ أَفْرَادِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، فَإِذَنْ لَا يَثْبُتُ بِتِلْكَ الْآيَةِ مَطْلُوبُ أَبِي حَنِيفَةَ هُنَا وَهُوَ اخْتِصَاصُ الْوَصِيَّةِ لِأَهْلِ فُلَانٍ بِزَوْجَتِهِ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَتَنَاوَلَ غَيْرَهَا أَيْضًا كَمَا قَالَ صَاحِبَاهُ .
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : وَقَوْلُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْآيَةِ الزَّوْجَةُ خَاصَّةً ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا } أَلَا يَرَى أَنَّهُ خَاطَبَهُمْ بِخِطَابِ الْجَمْعِ ا هـ .
وَأَجَابَ عَنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ : وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبِهِ أَوْ أَقَارِبِهَا مِمَّنْ ضَمَّتْهُمْ نَفَقَتُهُ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ الْأَرِقَّاءُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ أَحَدٌ بِالِاتِّفَاقِ ا هـ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ

هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ فِي دَفْعِ نَظَرِ صَاحِبِ الْغَايَةِ ، فَإِنَّ حَاصِلَ نَظَرِهِ الْقَدَحُ فِي الِاحْتِجَاجِ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا وَقَعَ فِي سِيَاقِهِ مِنْ خِطَابِ الْأَهْلِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَأْبَى كَوْنَ الْمُرَادِ بِالْأَهْلِ هُنَاكَ الزَّوْجَةَ خَاصَّةً لَا الِاسْتِدْلَالَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبَيْهِ بِتِلْكَ الْآيَةِ حَتَّى يَتِمَّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ جَوَابًا عَنْهُ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ .
فَالْأَظْهَرُ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ هُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَهْلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُرَادُ بِهِ الزَّوْجَةُ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ ، يُقَالُ فُلَانٌ مُتَأَهِّلٌ وَفُلَانٌ لَمْ يَتَأَهَّلْ وَفُلَانٌ لَهُ أَهْلٌ وَفُلَانٌ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ ، وَيُرَادُ بِهِ الزَّوْجَةُ فَتُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ ا هـ تَبَصَّرْ تَقِفْ

قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ ) لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَنْتَظِمُ الْكُلَّ انْتِظَامًا وَاحِدًا .

( وَمَنْ أَوْصَى لِوَرَثَةِ فُلَانٍ فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى لَفْظِ الْوَرَثَةِ آذَنَ ذَلِكَ بِأَنَّ قَصْدَهُ التَّفْضِيلَ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ .
وَمَنْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ وَمَوَالٍ أَعْتَقُوهُ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ : إنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُمْ جَمِيعًا ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يُوقَفُ حَتَّى يُصَالِحُوا .
لَهُ أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يُسَمَّى مَوْلًى فَصَارَ كَالْإِخْوَةِ .
وَلَنَا أَنَّ الْجِهَةَ مُخْتَلِفَةٌ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُسَمَّى مَوْلَى النِّعْمَةِ وَالْآخَرُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ فَصَارَ مُشْتَرَكًا فَلَا يَنْتَظِمُهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ مَوَالِيَ فُلَانٍ حَيْثُ يَتَنَاوَلُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ لِأَنَّهُ مَقَامُ النَّفْيِ وَلَا تَنَافِي فِيهِ ، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مَنْ أَعْتَقَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ ، وَلَا يَدْخُلُ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ لِأَنَّ عِتْقَ هَؤُلَاءِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْوَصِيَّةُ تُضَافُ إلَى حَالَةِ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الِاسْمِ قَبْلَهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لَازِمٌ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ عَبْدٌ قَالَ لَهُ مَوْلَاهُ إنْ لَمْ أَضْرِبْك فَأَنْتَ حُرٌّ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ عِنْدَ تَحَقُّقِ عَجْزِهِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَوَالٍ وَأَوْلَادُهُ مَوَالٍ وَمَوَالِي مُوَالَاةٍ يَدْخُلُ فِيهَا مُعْتَقُوهُ وَأَوْلَادُهُمْ دُونَ مَوَالِي الْمُوَالَاةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ أَيْضًا وَالْكُلُّ شُرَكَاءُ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ عَلَى السَّوَاءِ .
وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ : الْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ ، فِي الْمُعْتَقِ الْإِنْعَامُ ، وَفِي الْمَوَالِي عَقْدُ الِالْتِزَامِ وَالْإِعْتَاقُ لَازِمٌ فَكَانَ الِاسْمُ لَهُ أَحَقَّ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ مَوَالِي الْمَوَالِي لِأَنَّهُمْ مَوَالِي غَيْرِهِ حَقِيقَةً ، بِخِلَافِ مَوَالِيهِ

وَأَوْلَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ بِإِعْتَاقٍ وُجِدَ مِنْهُ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَالٍ وَلَا أَوْلَادُ الْمَوَالِي لِأَنَّ اللَّفْظَ لَهُمْ مَجَازٌ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ .
وَلَوْ كَانَ لَهُ مُعْتَقٌ وَاحِدٌ وَمَوَالِي الْمَوَالِي فَالنِّصْفُ لِمُعْتَقٍ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ ابْنُهُ أَوْ أَبُوهُ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوَالِيهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا ، وَإِنَّمَا يُحْرِزُ مِيرَاثُهُمْ بِالْعُصُوبَةِ ، بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَوْلُهُ وَلَا يَدْخُلُ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ ، لِأَنَّ عِتْقَ هَؤُلَاءِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْوَصِيَّةُ تُضَافُ إلَى حَالَةِ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الِاسْمِ قَبْلَهُ ) أَقُولُ : لَهُ فِي التَّعْلِيلِ كَلَامٌ ، لِأَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ لِأَنَّ عِتْقَ هَؤُلَاءِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْوَصِيَّةُ تُضَافُ إلَى حَالَةِ الْمَوْتِ أَنْ لَا تَجُوزَ الْوَصِيَّةُ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَصْلًا ، إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونُوا أَرِقَّاءَ فِي حَالَةٍ تُضَافُ الْوَصِيَّةُ إلَيْهَا وَهِيَ حَالَةُ الْمَوْتِ ، فَإِنَّ الْمَفْرُوضَ كَوْنُ ثُبُوتِ عِتْقِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَوْنُ إضَافَةِ الْوَصِيَّةِ إلَى حَالَةِ الْمَوْتِ وَالْوَصِيَّةُ لِلرَّقِيقِ بِشَيْءٍ غَيْرِ رَقَبَتُهَا لَا تَجُوزُ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بِثُلُثِ مَالِهِ جَائِزَةٌ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَعَلَّقَ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بِرَقَبَتِهَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالرَّقَبَةِ إعْتَاقٌ وَالْوَصِيَّةَ لَهَا لَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ إعْتَاقًا لِأَنَّهَا تَعْتِقُ بِمَوْتِ مَوْلَاهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ وَصِيَّةٌ أَصْلًا كَمَا حَقَّقَهُ الشُّرَّاحُ هُنَاكَ ، فَكَانَ بَيْنَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ هَذَا التَّعْلِيلِ تَدَافُعٌ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : جَوَابُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مُوجِبِ الِاسْتِحْسَانِ كَمَا ذَكَرُوهُ هُنَاكَ ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرُوا هُنَاكَ غَيْرُ مُتَمَشٍّ هَاهُنَا كَمَا يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ هَاهُنَا .
( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ أَيْضًا وَالْكُلُّ شُرَكَاءُ ، لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ عَلَى السَّوَاءِ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : قُلْت لَا يَخْفَى أَنَّ تَنَاوُلَ الِاسْمِ لِلْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ كَوْنِ هَذَا التَّنَاوُلِ كَذَلِكَ ، فَالْعَجَبُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ جَوَّزَ هَذَا دُونَ ذَاكَ ا هـ .
أَقُولُ : إنَّ أَبَا يُوسُفَ جَوَّزَ ذَاكَ أَيْضًا فِي

رِوَايَةٍ عَنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْكَافِي هُنَاكَ حَيْثُ قَالَ : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْوَصِيَّةُ لَهُمْ جَمِيعًا ، وَهُوَ رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ ا هـ .
وَصَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا هُنَاكَ حَيْثُ قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُمْ جَمِيعًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ ا هـ .
وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَةً أَيْضًا عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا قَوْلُهُ مُطْلَقًا كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ حَيْثُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ " عَنْ " وَلَمْ يَقُلْ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ فِيهَا ، بَلْ ذَكَرَ فِيهَا الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ ، فَقَالَ فِي الْقِيَاسِ يَدْخُلُونَ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَدْخُلُونَ ، كَمَا ذَكَرَ تَفْصِيلَهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ، فَالْعَجَبُ مِنْ ذَلِكَ الْبَعْضِ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى رِوَايَةِ تَجْوِيزِ أَبِي يُوسُفَ تَنَاوُلَ الِاسْمِ لِلْكُلِّ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مَعًا مَعَ كَوْنِهَا مَذْكُورَةً فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ الْمُتَدَاوِلَةِ ، فَتَعْجَبُ أَنَّهُ جَوَّزَ التَّنَاوُلَ لِلْكُلِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دُونَ الْأُولَى وَمَفَاسِدُ قِلَّةِ التَّدْبِيرِ وَالتَّتَبُّعِ مِمَّا يَضِيقُ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِهِ نِطَاقُ الْبَيَانِ .
( قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَالٍ وَلَا أَوْلَادُ الْمَوَالِي ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَهُمْ مَجَازٌ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَالٍ : أَيْ مَوَالِي الْعَتَاقَةِ وَلَا أَوْلَادِ الْمَوَالِي : أَيْ وَلَا أَوْلَادُ مَوَالِي الْعَتَاقَةِ يَعْنِي حِينَئِذٍ الثُّلُثُ لِمَوَالِي الْمُوَالَاةِ .
وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ

إلَّا مَوَالِي الْمُوَالَاةِ كَانَ الثُّلُثُ لَهُمْ لِأَنَّ الْأَحَقَّ إذَا لَمْ يُوجَدْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِمَا دُونَهُ انْتَهَى ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ لَمَا صَحَّ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَهُمْ مَجَازٌ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمَوْلَى مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُعْتَقِ وَبَيْنَ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ آنِفًا ، وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ : الْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ ، فِي الْمُعْتَقِ الْإِنْعَامُ وَفِي الْمَوْلَى عَقْدُ الِالْتِزَامِ ، وَقَدْ صَرَّحَ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً بِاشْتِرَاكِهِ بَيْنَهُمَا وَبَيَّنُوا مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ عَلَى وَفْقِ ذَاكَ ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ فِي التَّعْلِيلِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَهُمْ مَجَازًا ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ حَقِيقَةٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ .
وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا هُوَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَالٍ وَلَا أَوْلَادُ الْمَوَالِي فَالثُّلُثُ لِمَوَالِي الْمَوَالِي فَحِينَئِذٍ يَرْتَبِطُ قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَالٍ وَلَا أَوْلَادُ الْمَوَالِي بِمَا قَبْلَهُ أَشَدُّ ارْتِبَاطٍ ، وَيَنْتَظِمُ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَهُمْ مَجَازٌ إلَخْ انْتِظَامًا تَامًّا كَمَا لَا يَخْفَى ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْكَافِي بِعَيْنِ مَا قُلْنَا عِنْدَ تَقْرِيرِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ، وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا عِنْدَ شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ إنَّمَا اغْتَرَّ بِمَا نَقَلَهُ عَنْ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ مَوَالِي الْمُوَالَاةِ دُونَ مَوَالِي الْمَوَالِي ، لَكِنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْأَحَقَّ إذَا لَمْ يُوجِبْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِمَا دُونَهُ مُطَابِقٌ لِلْمَسْأَلَةِ غَيْرَ آبٍ عَنْهَا ، فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي

الِاشْتِرَاكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ مَعْنَيَيْ الْمُشْتَرَكِ أَحَقُّ بِالْإِرَادَةِ مِنْ الْآخَرِ لِأَمْرٍ مُرَجَّحٍ ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ بِقَوْلِهِ وَالْإِعْتَاقُ لَازِمٌ فَكَانَ الِاسْمُ لَهُ أَحَقَّ ، بِخِلَافِ تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ هُنَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُرَادَ بِالْمَسْأَلَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ كَمَا تَوَهَّمَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَإِنَّهُ لَا يُطَابِقُ الْمَسْأَلَةَ حِينَئِذٍ بَلْ يَأْبَاهُ جِدًّا كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا .
( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ لَهُ مُعْتَقٌ وَاحِدٌ وَمَوَالِي الْمَوَالِي فَالنِّصْفُ لِمُعْتَقِهِ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لِمَ لَا يُصَارُ هَاهُنَا إلَى عُمُومِ الْمَجَازِ صِيَانَةً لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْقَاءِ فِي حَقِّ النِّصْفِ ، وَالْمَصِيرُ إلَى عُمُومِ الْمَجَازِ مُخَلِّصٌ مَعْرُوفٌ فِي دَفْعِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ .
وَطَرِيقُهُ هَاهُنَا أَنْ يُحْمَلَ الْمَوَالِي عَلَى مَنْ كَانَ لِلْمُوصِي مَدْخَلٌ فِي عِتْقِهِ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ كَمَا فِي مُعْتِقِ نَفْسِهِ أَوْ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ كَمَا فِي مُعْتِقِ مُعْتِقِهِ فَلْيَتَأَمَّلْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ وَالثَّمَرَةِ ) قَالَ ( وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَسُكْنَى دَارِهِ سِنِينَ مَعْلُومَةً وَتَجُوزُ بِذَلِكَ أَبَدًا ) لِأَنَّ الْمَنَافِعَ يَصِحُّ تَمْلِيكُهَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ بِبَدَلٍ وَغَيْرِ بَدَلٍ ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ لِحَاجَتِهِ كَمَا فِي الْأَعْيَانِ ، وَيَكُونُ مَحْبُوسًا عَلَى مِلْكِهِ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ حَتَّى يَتَمَلَّكَهَا الْمُوصَى لَهُ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا يَسْتَوْفِي الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَنَافِعَ الْوَقْفِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْوَاقِفِ ، وَتَجُوزُ مُؤَقَّتًا وَمُؤَبَّدًا كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ عَلَى أَصْلِنَا ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ خِلَافُهُ فِيمَا يَتَمَلَّكُهُ الْمُوَرِّثُ وَذَلِكَ فِي عَيْنٍ تَبْقَى وَالْمَنْفَعَةُ عَرْضٌ لَا يَبْقَى ، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ بِغَلَّةِ الْعَبْدِ وَالدَّارِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَأَخَذَ حُكْمَهَا وَالْمَعْنَى يَشْمَلُهُمَا .
قَالَ ( فَإِنْ خَرَجَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ مِنْ الثُّلُثِ يُسَلَّمُ إلَيْهِ لِيَخْدُمَهُ ) لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِي الثُّلُثِ لَا يُزَاحِمُهُ الْوَرَثَةُ ( وَإِنْ كَانَ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ خَدَمَ الْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ يَوْمًا ) لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الثُّلُثِ وَحَقَّهُمْ فِي الثُّلُثَيْنِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ فِي الْعَيْنِ وَلَا تُمْكِنُ قِسْمَةُ الْعَبْدِ أَجْزَاءً لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَصِرْنَا إلَى الْمُهَايَأَةِ إيفَاءً لِلْحَقَّيْنِ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِسُكْنَى الدَّارِ إذَا كَانَتْ لَا تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ حَيْثُ تُقَسَّمُ عَيْنُ الدَّارِ ثَلَاثًا لِلِانْتِفَاعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقِسْمَةُ بِالْأَجْزَاءِ وَهُوَ أَعْدَلُ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا زَمَانًا وَذَاتًا ، وَفِي الْمُهَايَأَةِ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا زَمَانًا .
وَلَوْ اقْتَسَمُوا الدَّارَ مُهَايَأَةً مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ تَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ الْأَعْدَلُ أَوْلَى ، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَبِيعُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ ثُلُثَيْ الدَّارِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78