كتاب : البرهان في أصول الفقه
المؤلف : عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أبو المعالي

التقاسيم بعبارتين فقال قائلون إذا اجتمع المطلق والمقيد في واقعة واحدة فالمطلق محمول على المقيد وفاقا وإن وقعا في واقعتين متباعدتين فلا حمل ومثلوا هذا بتقييد الشهادة بالعدالة وجريان ذكر الرقبة في الكفارة مطلقا معرى عن ذكر العدالة والأصلان متباعدان لا يجمعهما مأخذ فلا يحمل المطلق في أحدهما على المقيد في الثاني فإن قربت الواقعتان بعض القرب ولم يبعد في مأخذ الظنون تلاقيهما ككفارة الظهار وكفارة القتل فهذا موضع الخلاف فالذي يراه الشافعي حمل المطلق على المقيد في مسألة الخلاف المقدم بين أصحابه
وهذه العبارة عن الأقسام المشتملة على صور الوفاق والخلاف
335 - وذكر آخرون عبارة أقرب من هذه فقالوا إذا جرى إطلاق وتقييد واتحد قبيل الموجب والموجب فليس إلا حمل المطلق على المقيد مثل أن تطلق الرقبة في كفارة القتل وتفرض مقيدة في مواضع أخر فإذا اختلف الموجب والموجب فلا حمل كالشهادة والكفارة
وإذا اختلف الموجب واتفق صنف الموجب مثل كفارة القتل وكفارة الظهار فهذا موضع التردد
336 - وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنهم منعوا حمل الرقبة المطلقة في كفارة الظهارعلى الرقبة المقيدة بالإيمان في كفارة القتل وبنوا حقيقة أصلهم في ذلك على قاعدة لهم في النسخ
والمسألة حرية بأن تذكر في مسائل النسخ وهي مناسبة لأحكام العموم والخصوص فابتدرناها في كتاب العموم والخصوص ونحن الان ننبه على ما تخيلوه أخذا من النسخ

قالوا قوله في كفارة الظهار فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا مقتضى الاية إجزاء الرقبة المطلقة فمن قيدها بالإيمان كان زائدا على النص والزيادة على النص نسخ ووجه ادعائهم كونها نسخا أن مقتضى الخطاب يتضمن الإجزاء مع الإطلاق والزائد يرفع الإجزاء في الإطلاق وهو متضمن الاية فاقتضت الزيادة رفع ما تضمنه الإطلاق من الإجزاء فكان ذلك نسخا من هذه الجهة
ولا يدعى محقق أن الزيادة اقتضت نسخا على الإطلاق إذا لم تكن مرتبطة بالمزيد عليه بعض الارتباط ووجه الارتباط ما أشرنا إليه من أن اقتضاء الإطلاق الإجزاء دون رعاية صفة في الرقبة فمن زاد صفة كان مدعيا نسخا في الإجزاء المتلقى من مطلق الخطاب
ولا امتناع في نسخ القرآن على الجملة ولكنه لا يثبت نسخ القران بأخبار الاحاد والمقاييس المظنونه وليس مع من شرط الإيمان في رقبة الظهار ما يجوز نسخ القرآن به فهذا منتهى كلام القوم
337 - ومن ادعى من أصحاب الشافعي وجوب حمل المطلق على المقيد من طريق اللفظ لم يذكر كلاما به اكتراث وأقرب طريق لهؤلاء أن كلام الله في حكم الخطاب الواحد وحق الخطاب الواحد أن يترتب المطلق فيه على المقيد وهذا من فنون الهذيان فإن قضايا الألفاظ في كتاب الله تعالى مختلفة متباينة لبعضها حكم التعلق والاختصاص ولبعضها حكم الاستقلال والانقطاع فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد مع العلم بأن في كتاب الله تعالى النفي والإثبات والأمر والزجر والأحكام المتغايرة فقد ادعى أمرا عظيما ولا يغني في مثل ذلك الإشارة إلى اتحاد الكلام الأزلي ومضطرب المتكلمين على الألفاظ

وقضايا الصيغ وهي مختلفة لا مراء فيها فسقط هذا الفن ولم يبق بعد سقوطه إلا مسلكان
أحدهما ما ادعاه أصحاب أبي حنيفة من أن الزيادة على النص نسخ واستقصاء القول في ذلك يأتي في كتاب النسخ
338 - ولكنا نذكر الآن حظ حكم العموم والخصوص من هذه المسألة وفيه مقنع وبلاغ ونحصر ما نحاوله في ثلاثة أوجه من الكلام أحدهما يحوي مناقضات الخصوم بحيث لا يجدون عنها محيصا وإذا وجهت عليهم سكتوا لها مقرين بالحق أو نطقوا بالصدق فمما يلزمهم اشتراطهم سلامة الرقبة عن كثير من العيوب وهذا تقييد منهم للمطلق وليقع الإلزام في صفات لم يرجعوا في اشتراطها إلى قاطع كمصيرهم إلى اشتراط نطق الرقبة وامتناع إجزاء الأخرس مع تجويزهم إعتاق الأقطع الذي بقيت له يد
فإن هذي هاذون منهم وزعموا أن الرقبة يقتضي إطلاقها كمال الخلقة والسلامة مستفادة من إطلاق الرقبة قيل هذا مما لا يرضاه منتسب إلى التحقيق فإنا على اضطرار نعلم أن اسم الرقبة ينطلق على المعيبة انطلاقه على السليمة ولو كانت تسمية الرقبة المعيبة رقبة مجازا لكان تسميتها إنسانا وآدميا مجازا ولا ينتمي إلى التزام هذا المذهب ذو مسكة في عقله ولو أردنا أن نضرب الأيمان في البر والحنث ومجاري إطلاق الألفاظ وجدنا مقالا ومجالا ثم نقول لم أجزأ الأقطع والرقبة مطلقة ولم امتنع إجزاء الأخرس والخلقة كاملة وكيف

يرجو الخلاص من مثل هذا الخبط ذو فهم وقد قيد هؤلاء ذوي القربى بالفقر والاستحقاق في قوله تعالى ولذى القربى ولم يعتصموا في هذا التقييد بقاطع يجوز نسخ القران بمثله فهذا أحد الوجوه الثلاثة
339 - والوجه الثاني أن نقول أتدعون أن ذكر الرقبة على الإطلاق نص في إجزاء كل رقبة حتى لو تخيل متخيل اختصاص الإجزاء ببعض الرقاب كان خارما لمقتضى النص خارجا عن الفحوى المقطوع بها أم ترون فهم الإجزاء مظنونا متلقى من الظاهر فإن ادعوا كونه قاطعا بحيث لا يتطرق إليه التأويل كان ذلك بهتانا ومعاندة في مسلك العقول فإن الرب تعالى ذكر الرقبة مطلقة وذكر الطعام والكسوة على الإطلاق ولم يتعرض لتفصيلها وإنما استاقها استياقا لا يشتمل على التزام البيان والتفصيل كما جرى ذلك في قوله تعالى والسارق والسارقة وقوله تعالى والزانية والزاني وقوله تعالى فاقتلوا المشركين فهذه الاى لتأصيل الأصول ولا يمتنع أن يقع البيان في التفاصيل بعد استفادة التأصيل ووضوح احتمال ما ذكرناه يغنى اللبيب عن البسط في ذلك
وإن اعترفوا بأن الاجزاء ظاهر فقد كفونا المؤنة وأقروا بالحق فإن إزالة الظاهر ليس في حكم النسخ وهذا هو الوجه الثاني من الكلام
340 - والوجه الثالث أن الرقبة المطلقة تعم كل رقبة فحملها على خصوص من الرقاب عين التخصيص وقد قسم المحصلون التخصيص قسمين أحدهما قصر على بعض المسيمات من غير فرض تمييز ما وقع القصر عليه من غيره بصفات كحمل قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين على ثلاثة منهم

والقسم الثاني تخصيص تمييز وهو حمل المطلق المتناول في الإطلاق للمختلفات على مسميات متيزة بصفات عن أغيارها كحمل المشركين على أهل الحرب دون المهادين وأهل الذمة وكحمل السرقة على إخراج مخصوص من محل مخصوص في مقدار مخصوص وعلى الجملة المطلق يتناول المختلفات تناول عموم على ظهور لا على تنصيص لا يتطرق إليه إمكان تأويل
341 - وإذا لاح ما ذكرناه بنينا عليه ما نختاره ونقول لا يحمل المطلق عندنا على المقيد لا في حكم الإطلاق ولا في حكم التقييد ولكن المطلق عام يتصرف فيه بما يتصرف بمثله في العمومات فإن لاح تأويل واعتضد بدليل وترتب على الشرط الذي سنذكره في باب التأويل وأثر ظهور الدليل العاضد للتأويل على ظهور العام حكم به كان المقيد أو لم يكن فليس في تقييد الحكم بمجرده ما يوجب حمل المطلق على المقيد نعم إن انقدح قياس على المقيد يتسلط مثله على التخصيص إما على حكم المعارضة كما ارتضيناه إذ صرنا إلى الوقف أو على حكم القضاء بالتخصيص كما صار إليه الجمهور كان ذلك أحد ما يتمسك به ولا معنى لاشتراطه واقعا في ألفاظ الشرع فكم من عموم خص وليس على وفق ذلك التخصيص حكم مقيد في لفظ الشرع فإن التخصيص مستند إلى خبر الواحد على قطع كما سبق ذلك في اختيارنا ويستند عند معظم الفقهاء إلى القياس الجلى ولا يطيب التصرف في تفصيل ذلك إلا في أبواب التأويل
342 - فإن قيل فما معتمدكم في اشتراط ذكر الإيمان في الرقبة في كفارة

الظهار فهل ترون القياس على كفارة القتل قلنا هذا الآن ليس من شرط هذا الفن فإن غاية مقصودنا أن نلحق الكلام على المطلق بتخصيص العموم وندرجه في مسالك الظنون وقد ثبت ذلك قطعا وانتفى المراء عنه وليس من شرطنا وراء ذلك تفصيل مسالك الظنون فإنه محض الفقه
وقد نجز غرضنا فيهذه المسألة بذلك وفيها طرفان يستقصى أحدهما في كتاب النسخ عند ذكرنا وراء ذلك تفصيل القول في الزيادة على النص والثاني في باب التأويلات وقد توضح فيها أن الرقبة في الاية التي فيها الكلام ليس لها حكم العموم أيضا وما سيقت قصدا إلى تعميم كل رقبة وإنما أثبتت مع سائر خلال الكفارات ذكرا لتراجم الأصناف مع إحالة البيان على صاحب الشرع وهذا يأتي على أحسن وجه إن شاء الله
مسألة
343 - الصحابي إذا روى خبرا وعمل بخلافه فالذي ذهب إليه الشافعي أن الاعتبار بروايته لا بعمله
344 - وقال أصحاب أبي حنيفة لا يجوز الاحتجاج بما رواه إذا كان عمله مخالفا له
345 - والذي نرضاه أن نفصل القول فيما أتاه ورواه فنقول إن تحققنا نسيانه لما رواه فلا يتخيل عاقل في ذلك خلافا ولا شك أن العمل بروايته وإن روى خبرا مقتضاه رفع الحرج والحجر فيما كان يظن فيه التحريم والحظر ثم رأيناه يتحرج فالاستمساك بروايته أيضا وعمله محمول على الورع والتعلق بالأفضل وإن ناقض عمله روايته مع ذكره لها ولم يحتمل محملا في الجمع فالذي أراه امتناع

التعلق بروايته فإنه لا يظن بمن هو من أهل الرواية أن يعتمد مخالفة ما رواه إلا عن ثبت يوجب المخالفة
واللفظ الوجيز فيه أنه إن فعل ماله فعله فالاحتجاج بما رواه وإن فعل ما ليس له أن يفعله أخرجه ذلك عن رتبة الثقة وأدنى المنازل فيه أن يجر إلى مرويه ظنونا متعارضة في الدين يقتضي الوقف بعضها
346 - وكل ما ذكرناه غير مختص بالصحابي فلو روى بعض الأئمة حديثا وعمله مخالف له فالأمر على ما فصلناه
347 - وقد اعترض للأئمة أمور أسقطت آثار أفعالهم المخالفة لروايتهم وهذه كرواية أبي حنيفة خبر خيار المجلس مع مصيره إلى نفى خيار المجلس فهذه المخالفة غير قادحة في الرواية من جهة أنه ثبت من أصله تقديم الرأي على الخبر فمخالفته محمولة على انتحاله هذا الرأي الفاسد وهو بين من فحوى كلامه
ومن رواة الحديث مالك بن أنس وهو لا يقول بخيار المجلس ولكن الصحيح عنه أن الذي حمله على هذا تقديمه عمل أهل المدينة على الأخبار الصحيحة والنصوص الصريحة فمهما جرى شيء من قبيل ما ذكرناه فالتعويل على الحديث المروي فإن روى الراوي خبرا وكان الأظهر أنه لم يحط بمعناه ورب حامل فقه غير

فقيه فمخالفته لا أثر لها في الرواية
والضابط للنفي والإثبات ما أجريناه في درج الكلام حيث قلنا إن وجدنا محملا للفعل غير احتمال للمخالفة فالتعلق بالرواية وإن لم نجد محملا إلا المخالفة فيمتنع التعلق بالحديث
348 - فإن قالوا رتبتم الكلام قبولا وردا على تحقيق النسيان والذكر فما تقولون إذا لم يتحقق واحد منها قلنا الوجه والحالة هذه التعلق بالمروى فإنه من أصول الشريعة ونحن على تردد فيما يدفع التعلق به فلا يندفع الأصل بسبب هذا التردد نعم إن غلب على الظن أنه خالف الحديث قصدا ولم نتحققه فهذا يعضد التأويل ويؤيده ويحقق معتضده من الدليل ويحط مرتبة الظاهر كما سيأتي
349 - ولو روى الصحابى خبرا وأوله وذكر محمله فتأويله مقبول عند الشافعي ولذلك تعلق بتأويل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله عليه السلام لا تبيعوا الورق بالورق إلا هاء وهاء فذكر الشافعي أربعة أوجه في معنى اللفظ وقدم فيها التقابض في المجلس لحمل عمر رضي الله عنه ( راوى الحديث ) اللفظ عليه وهذا يتعلق به كلام من أحكام التأويل سيأتي مشروحا
350 - ولو روى راو وكان إذ روى عدلا ثم فسق بعد روايته وتخلل زمن لا يغلب على الظن انعطاف غوائل الفسق على حال الرواية ثم إنه في زمن فسقه خالف ما رواه فلا أثر لمخالفته فإنه محمول على تجريه لا على محمل عنده في الحديث فهذا منتهى الغرض في ذلك
مسألة
351 - إذا ورد لفظ من الشارع وله مقتضى في وضع اللسان ولكن عم في عرف أهل الزمان استعمال ذلك اللفظ على خصوص في بعض المسميات

فالذي رآه الشافعي أن عرف المخاطبين لا يوجد تخصيص لفظ الشارع
وقال أبو حنيفة العرف من المخصصات وهو مغن عن التأويل والمطالبة بالدليل
وضرب العلماء لذلك مثالا وهو نهيه عليه السلام عن بيع الطعام بالطعام فزعم بعض أصحاب أبي حنيفة أن الطعام في العرف موضوع للبر وحاولوا حمل الطعام في لفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما جرى العرف فيه
352 - وهذا الذي ادعوه من العرف ممنوع وهم غير مساعدين عليه ولو قدر ذلك مسلما لهم بمجرد العرف فمجرد العرف لا يقتضي تخصيصا فإن القضايا متلقاة من الألفاظ وتواضع الناس عبارات لا يغير وضع اللغات ومقتضى العبارات
فإن قالوا الناس مخاطبون على أفهامهم قلنا فليفهموا من اللفظ مقتضاه لاما تواضعوا عليه ولو تواضع قوم على تخصيص أو تعميم ثم طرقهم اخرون لم يشاركوهم في تواضعهم فإنهم لا يلتزمون أحكام تواطئهم فالشرع وصاحبه كيف يلزمهم حكم تواضع المتعاملين وقد خاطب المصطفى بشريعة العربية الأعاجم على اختلاف لغاتها على تقدير أن يسعوا في درك معاني الألفاظ التي خوطبوا بها والمسألة موضوعة فيه إذا لم يكن الرسول صاحب الشريعة ناطقا بما ينطق أهل العرف فلو ظهر منه مناطقة أهل زمانه بما اصطلحوا عليه فلفظه في الشرع لا ينزل على موجب اللسان
وإنما مأخذ المسألة في ظن الخصوم أن الشارع وإن لم يكن من الناطقين باصطلاح أصحاب العرف فإنه لا يناطقهم إلا بما يتفاوضون به وليس الأمر كذلك كما قدمناه

وقد انتجز الكلام في قضية الألفاظ العامة والخاصة وما يقتضي التخصيص ومالا يقتضيه على الجملة والتفصيل محال على باب التأويل ونحن نرى الان أن نذكر قولا بالغا في مفهوم الخطاب ليكون جامعا بين المنطوق به وبين المسكوت عنه ثم إذا انتهى القول فيه استفتحنا باب التأويل مستعينين بالله تعالى

فصل القول في المفهوم
353 - ما يستفاد من اللفظ نوعان أحدهما متلقى من المنطوق به المصرح بذكره والثاني ما يستفاد من اللفظ وهو مسكوت عنه لا ذكر له على قضية التصريح
فأما المنطوق به فينقسم إلى النص والظاهر وقد قدمنا فيهما تأصيلا وتفصيلا ما يقنع الناظر ولم يندرج المجمل في هذا التفسير لأنا حاولنا تقسيم ما يفيد
وأما ما ليس منطوقا به ولكن المنطوق به مشعر به فهو الذي سماه الأصوليون المفهوم والشافعي قائل به وقد فصله في الرسالة أحسن تفصيل ونحن نسرد معاني كلامه
354 - فمما ذكره أن قال المفهوم قسمان مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة
أما مفهوم الموافقة فهو ما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه موافق للحكم في المنطوق به من جهة الأولى وهذا كتنصيص الرب تعالى في سياق الأمر ببر الوالدين على النهي عن التأفيف فإنه مشعر بالزجر عن سائر جهات التعنيف
وأما مفهوم المخالفة فهو ما يدل من جهة كونه مخصصا بالذكر على وجه سيأتي الشرح عليه على أن المسكوت عنه مخالف للمخصص بالذكر كقوله عليه السلام

في سائمة الغنم الزكاة هذا التخصيص يشعر بأن المعلوفة لا زكاة فيها
وذكر الأستاذ أبو بكر بن فورك في مجموعاته فصلا لفظيا بين قسمى المفهوم فقال ما دل على الموافقة فهو الذي يسمى مفهوم الخطاب وما دل على المخالفة فهو الذي يسمى دليل الخطاب وهذا راجع إلى تلقيب قريب
وذهب أبو حنيفة إلى نفي القول بالمفهوم ووافقه جمع من الأصوليين
355 - وأما منكرو صيغ العموم ولما يتطرق إليها من تقابل الظنون فلا شك أنهم ينكرون المفهوم فإن تقابل الظنون فيه أوضح وهو بالتوقف أولى
وشيخنا أبو الحسن مقدم الواقفية وقد نقل النقلة عند رد الصيغة والمفهوم وفي كلامه ما يدل على القول بالمفهوم فإنه تعلق في مسألة الرؤية بقوله سبحانه كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وقال لما ذكر الحجاب على إذلال الأشقياء أشعر ذلك بنقيضه في السعداء وقد تحققت على طول بحثي عن كلام أبي الحسن أنه ليس من منكري الصيغ على ما اعتقده معظم النقلة ولكنه قال في مفاوضة مع أصحاب الوعيد بإنكار الصيغ وال مذهبه إلى إنكار التعلق بالظواهر فيما ينبغي القطع فيه ولا نرى له المنع من العمل بقضايا الظواهر في مظان الظنون
نعم باح القاضي بجحد الصيغ في المواضع التي تقدم ذكرها في العقليات والعلميات وصرح بنفي المفهوم

356 - ثم من أنكر المفهوم لم يجحد ما يسمى الفحوى في مثل قوله تعالى فلا تقل لهما أف ثم اضطربوا فيه فقال قائلون كل ما دل من جهة الموافقة من حيث أشعر الأدنى بالأعلى فهو معترف به
وذهب المنتمون إلى التحقيق من هؤلاء إلى أن الفحوى الواقعة نصا مقبولة قطعا وليس ثبوتها من جهة إشعار الأدنى بالأعلى ولكن مساق قوله تعالى وبالوالدين إحسانا إلى مختتم الآية مشتمل على قرائن في الأمر بالتناهي في البر يدل مجموعها الى تحريم ضروب التعنيف وليس يتلقى ذلك من محض التنصيص على النهي عن التأفيف إذ لا يمتنع في العرف أن يؤمر بقتل شخص وينهى عن التغليظ عليه بالقول والمواجهة بالقبيح وضابط مذهب هؤلاء أن المقطوع به يستند إلى قرائن مجتمعة ولا سبيل إلى نفى القطع وما يتطرق إليه الظنون فهو من المفهوم المردود عندهم وإن كان مقتضيا للموافقة عند القائلين بالمفهوم
357 - ومما تردد فيه من رد المفهوم الشرط وأبوابه فذهب الأكثرون إلى الاعتراف باقتضاء الشرط وتخصيص الجزاء به وغلا غالون بطرد مذهبهم في رد اقتضاء الشرط تخصيص الجزاء به وهذا سرف عظيم
358 - ومن قال بالمفهوم حصر مفهوم الموافقة في إشعار الأدنى في قصد المتكلم بالأعلى ثم ينقسم ذلك إلى ما يقع نصا وإلى ما يقع ظاهرا فالواقع نصا كالمتلقى من قوله فلا تقل لهما أف وما يقع ظاهرا كقوله ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنه فقال الشافعي تقييد القتل بالخطأ في إيجاب الكفارة يدل

على أن إيجابها في قتل العمد أولى وهذا الذي ذكره ظاهر غير مقطوع به إذ يتطرق إليه إمكان اخر سوى ما ذكره الشافعي من إشعار الأدنى بالأعلى
359 - فأما مفهوم المخالفة فقد حصره الشافعي في وجوه من التخصيص منها التخصيص بالصفة كقوله في سائمة الغنم زكاة وكقوله عليه السلام لي الواجد ظلم ومنها التخصيص بالعدد والتقدير والتخصيص بالحد والتخصيص بالمكان والزمان وظاهر هذه التخصيصات في هذه الجهات يتضمن نفى المسكوت عنه في الأمر المقصود في المخصص المنطوق به ونص رضي الله عنه على أن تخصيص المسميات بألقابها يتضمن نفى ما عداها
وذهب أبو بكر الدقاق من أئمة الأصول إلى أن التخصيص بالألقاب ظاهر في نفي ما عدا النصوص عليه وقد صار إلى ذلك طوائف من أصحابنا
وما ذكره الشافعي من حصر القول بالمفهوم في الجهات التي عدها من التخصيصات حق متقبل عند الجماهير ولكن لو عبر معبر عن جميعها بالصفة لكان ذلك منقدحا فإن المعدود والمحدود موصوفان بعدهما وحدهما والمخصوص بالكون في مكان وزمان موصوف بالاستقرار فيهما فإذا قال القائل زيد في الدار فإنما يقع خبرا ما يصلح أن يكون مشعرا عن صفة متصلة بظرف زمان أو بظرف مكان والتقدير مستقر في الدار أو كائن فيها والقتال واقع يوم الجمعة فالصفة تجمع جميع الجهات التي ذكرها ومن ينكر المفهوم فإنه يأبى القول في جميع هذه الوجوه

ونحن الان نعقد مسألتين تشتمل إحداهما على تعارض القائلين بالمفهوم ومنكريه وتحتوي على ما نختاره فيه وتشتمل الثانية على مكالمة الدقاق وإبداء السر في التخصيص بالألقاب
فلتقع البداية بالمسألة الأولى
مسألة
360 - يذكر وجوه احتجاج القائلين بالمفهوم ونتتبع ما لا نرضى منها بالإفساد ثم نعقبها بوجه الحق
فمن طرقهم أنه صار إلى القول بالمفهوم أئمة العربية منهم أبو عبيدة معمر بن المثنى وهو إمام غير مدافع ولئن ساغ الاحتجاج بقول أعرابي جلف من الأقحاح فالاحتجاج بقول أبي عبيدة أولى وقد قال في قول الرسول صلى الله عليه و سلم
مطل الغنى ظلم يدل على أنه لا ملام على المقتر وقد قال في قوله عليه السلام
لأن يتملىء جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلىء شعرا وهذا يدل على توبيخ من لا يعتني بغير الشعر فأما من جمع إلى علومه علم الشعر فلا يلام عليه والشافعي

من القائلين بالمفهوم وقد احتج بقوله الأصمعي وصحح عليه دواوين الهذليين
وهذا المسلك فيه نظر فإن الأئمة قد يحكمون على اللسان عن نظر واستنباط وهم في مسالكهم في محل النزاع مطالبون بالدليل والأعرابي ينطقه طبعه فيقع التمسك بمنظومه ومنثوره ولا يعدم من يتمسك بهذه الطريقة المعارضة وقصارى الكلام تجاذب ونزاع واعتصام بنفس المذهب
361 - طريقة أخرى لمثبتى المفهوم قالوا وردت أخبار نقلها آحاد وهي لو جمعت لالتحق معناها بالمستفيض الذي لا يستراب فيه وسبيله سبيل الحكم بجود حاتم وشجاعه على والأقاصيص المأثورة عنهما أفراد ثم نقل هؤلاء جملا من أخبار الآحاد وزعموا أنها تشعر بإثبات القول بالمفهوم فمما ذكروه ما روى عن يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب ما بالنا نقصر وقد أمنا وأشار إلى قوله تعالى فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم فقال لقد تعجبت مما تعجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال
صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته
362 - ونحن لا نتجاوز خبرا من متمسكاتهم حتى نورد من طريق التفصيل عليهم ما يسقط معتصمهم فنقول على هذا الحديث قد كان ثبت وجوب الصلاة أربعا في غير حالة الخوف واستقر الشرع عليه وورد القصر مخصوصا بحالة الخوف فاعتقدوا وجوب الإتمام في غير حالة الخوف على ما تمهد الشرع عليه فلم

يكن ذلك قولا بالمفهوم والذي يحقق ذلك أنه لو فرض مع ما تقدم تخصيص بلقب لكان ما عدا المخصوص مقرا على ما استمر الشرع عليه قبل ذلك وإن لم يكن للألقاب مفهوم على أن الآية اقتضت التخصيص على صيغة الشرط فإنه تعالى قال إن خفتم وقد قال بتخصيص الشرط معظم من أنكر المفهوم
363 - ومما تعلقوا به قوله تعالى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم قيل قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأزيدن على السبعين قلنا هذا لم يصححه أهل الحديث أولا وقد قال القاضي رضي الله عنه من شدا طرفا من العربية لم يخف عليه أن قول الله تعالى لم يجر تحديدا بعدد على تقدير أن الزائد عليه يخالفه وإنما جرى ذلك مويسا من مغفرة المذكورين وإن استغفر لهم ما يزيد على السبعين فكيف يخفى مدرك هذا وهو مقطوع به عمن هو أفصح من نطق بالضاد
364 - وما يطلقونه من هذا الفن ما روى أن ابن عباس كان لا يرى

حجب الأم من الثلث إلى السدس باثنين من الإخوة والأخوات ويحتج بقوله تعالى فإن كان له إخوة فلأمه السدس وكان يرى أن الأمر في الاثنين بخلاف الإخوة وقال لعثمان رضي الله عنه محتجا عليه ليس الأخوان إخوة في لسان قومك قلنا أولا انفراده بهذا المذهب ومخالفته جملة الصحابة يعارض احتجاجه وقد قيل إنه لما قال لعثمان ليس الأخوان إخوة في لسان قومك قال له عثمان ردا عليه إن قومك حجبوها باثنين يا صبي ثم قد تمهد للأم الثلث بالنص ثم استبان ردها إلى السدس في حالة مخصوصة فرأى ابن عباس تقرير ما عدا تيك الحالة على ما تمهد مطلقا قبل الحجب والرد
365 - وربما يستدلون بأن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم اعتقدوا أنه لا غسل على من يواقع ويكسل ولا ينزل واعتصموا بقوله عليه السلام
الماء من الماء ومعناه وجوب استعمال الماء من نزول الماء قلنا قد كان الشرع على ذلك في ابتداء الإسلام وقد نقل الرواة فيه أخبارا
منها ما روى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بدار رجل من الأنصار فناداه فتريث قليلا ثم برز ورأسه تقطر ماء فاستبان رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان مخالطا أهله وقد اغتسل فقال صلى الله عليه و سلم
لعلنا أعجلناك لعلنا أقحطناك إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك ثم تبين نسخ هذا الأصل بما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت

وإذا التقى الختانان فقد وجب الغسل فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه و سلم فاغتسلنا فلم يصح الاحتجاج بقوله عليه السلام
الماء من الماء وإنما نقل مذهب أقوام على الإطلاق وله محمل كما ذكرناه
وبالجملة ليس يخلو المتمسك لهولاء من وجه أو وجوه توهى ما يحولونه ويتخذونه معولهم فكيف يسوغ التعلق بالمحتملات في محاولة القطع والبتات
366 - ثم قال القاضي هذه الأخبار وإن زادت أضعافا مضاعفة فلا تبلغ مبلغ الاستفاضة فإن رواة هذه الأقاصيص لو اجتمعوا على نقل قصة واحدة لم تتواتر بنقلهم والمعتبر في ذلك أنا مضطرون إلى العلم بجود حاتم وشجاعة على ولا نجد في أنفسنا العلم الضروري باعتقاد الأولين اقتضاء التخصيص نفى ما عدا المخصص
367 - طريقة أخرى لأصحاب المفهوم ضعيفة وهي أنهم قالوا إذا قال الرجل لمن يخاطبه اشتر لي عبدا هنديا اقتضى ذلك نهيه عن شراء من ليس هنديا قالوا هذا ومثله مما لا يتمارى فيه أهل اللسان
فنقول لا حاصل لهذا الفن فإن المأمور كان محجورا عليه مقبوضا على يديه في حق من وكله قبل أن وكله واستنابه ثم ثبت التوكيل على الخصوص

واستمر ما كان ثبت قبل في غير المحل المخصوص بالصفات والذي يقطع الشغب عنا أن فرض التخصيص باللقب في هذا بمثابة فرض التخصيص بالصفات
368 - فأما الإمام الشافعي فإنه احتج في إثبات القول بالمفهوم بأن قال إذا خصص الشارع موصوفا بالذكر فلا شك أنه لا يحمل تخصيصه على وفاق من غير انتحاء قصد التخصيص وإجراء الكلام من غير فرض تجريد القصد إليه يزري بأوساط الناس فكيف يظن ذلك بسيد الخليقة صلى الله عليه و سلم فإذا تبين أنه إذا خصص فقد قصد إلى التخصيص فينبني على ذلك أن قصد الرسول عليه السلام في بيان الشرع يجب أن يكون محمولا على غرض صحيح إذ المقصود العرى عن الأغراض الصحيحة لا يليق بمنصب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا ثبت القصد واستدعاؤه غرضا فليكن ذلك الغرض آيلا إلى مقتضى الشرع وإذا كان كذلك وقد انحسمت جهات الاحتمالات في إفادة التخصيص انحصر القول في أن تخصيص الشيء الموصوف بالذكر يدل على أن العاري عنها حكمه بخلاف حكم المتصف بها والذي يعضد ذلك من طريق التمثيل أن الرجل إذا قال السودان إذا عطشوا لم يروهم إلا الماء عد ذلك من ركيك الكلام وهجره وقيل لقائله لا معنى لذكرك السودان وتخصيصهم مع العلم بأن من عداهم في معناهم
369 - وهذا تحرير كلام الشافعي وهو على مساقه بالغ حسن ولكن يرد عليه على انطباق تخصيص للأشياء بألقابها ويلزم من مضمون طلب الفائدة من التخصيص المصير إلى أن الشارع إذا خصص شيئا باسمه الذي ليس مشتقا اقتضى ذلك نفى الحكم فيما عداه ولو لم يكن كذلك لكان تخصيصه من غير قصد أو قصده من غير غرض أو غرضه غير محمول على مقاصد الشرع

وكل ذلك محظور لا سبيل إلى التزامه وإن كان ما ذكرناه في اللقب مسوغا لزم تسويغ مثله في الموصوف فإذا لا يستقل الكلام متعلقا بالتخصيص إلا بأحد وجهين إما أن يطرد في الألقاب كما ذهب إليه الدقاق وإما أن يوضح مع التمسك بالتخصيص أمرا يوجب ما ذكرناه في الموصوف دون غيره وليس في كلام الشافعي التزام ذلك على ما ينبغي من اختصاص أثر التخصيص بالموصوفات
370 - وقد حان الان أن نبدأ مسلك الحق على وجه يشتمل بيان المختار ونبين تدريج الكلام على مراتبه ونوضح القاصد في الأطراف فنقول لا يتبين المقصد من المسألة إلا باستفتاح التفصيل في آحاد الصور حتى إذا نجزت نرد الكلام إلى الضابط لها فنقول لا يتبين المقصد من المسألة إلا بذكر صور فمن الصور التي يجب الاعتناء بها الشرط والجزاء فإن سلم اقتضاء الشرط تخصيص الجزاء به تعدينا هذه المرتبة وإن استقر على النزاع اكتفينا معه بنسبته إلى الجهل باللسان إو إلى المراغمة والعناد فنحن نعلم من مذهب العرب قاطبة أنها وضعت باب الشرط لتحصيص الجزاء به فإذا قال القائل من أكرمني أكرمته فقد أشعر باختصاص إكرامه بمن يكرمه ومن جوز أن يكون وضع هذا الكلام على أن يكرم مكرمه ويكرم غيره أيضا فقد نأى وبعد فآل الكلام معه إلى التسفيه والجهل والإحالة على تعلم مذاهب العرب ولسنها وحوارها
ولنعد إلى خصلة أخرى وهي التتمة وهي أنا نكتفي فيما ندعى بظهور الاختصاص ولا نحاول قطعا ناصا لا يتطرق إليه إمكان فإذا أنكر منكر ظهور ما

ذكرناه ظهر فساد قوله وانحطت رتبته عن استحقاق المفاوضات فهذا منتهى المراد في هذا الطرف
371 - ومما نذكره التحديد بالزمان والمكان أو العدد ونقول مما ظهر في الكلام ظهورا لا يستجاز المراء فيه أن الحدود تتضمن حصر المحدودات ولذلك تساق ولهذا الغرض تصاغ فإذا كان الحكم وراء المحدود كالحكم فيما يحويه الحد فلا غرض في الحد وظهور ذلك لا يجحد وهو من صور مسألة المفهوم ومن الصور تخصيص الموصوفات بالذكر كقوله عليه السلام في
سائمة الغنم زكاة وقوله
لي الواجد ظلم وهذا الفن عمدة المسألة وملتطم الكلام فليقع به فضل اعتناء والله المستعان
372 - فأقول إذا كانت الصفات مناسبة للأحكام المنوطة بالموصوف بها مناسبة العلل معلولاتها فذكرها يتضمن انتفاء الأحكام عند انتفائها كقوله صلى الله عليه و سلم
في سائمة الغنم زكاة فالسوم يشعر بخفة المؤن ودرور المنافع واستمرار صحة المواشي في صفو هواء الصحاري وطيب مياه المشارع وهذه المعاني تشير إلى سهولة احتمال مؤنة الإرفاق بالمحاويج عند اجتماع أسباب الارتفاق بالمواشي وقد انبنى الشرع على رعاية ذلك من حيث خصص وجوب الزكاة بمقدار كثير وأثبت فيه مهلا يتوقع في مثله حصول المرافق فإذا لاحت المناسبة جرى ذلك على صيغة التعليل
وكذلك النهي عن لي الواجد فإن الموسر المقتدر ذا الوفاء والملاء إذا طلب

بما عليه لم يعذر بتأخير الحق للمستحق وهذا في حكم التعليل لانتسابه إلى الظلم إذا سوف وماطل
فإن طولبنا بإثبات القول بالمفهوم فيما نصننا عليه فالقول الواضح فيه أن ما أشعر وضع الكلام بكونه تعليلا فهو أظهر عندي في اقتضاء التخصيص الذي من حكمه انتفاء الحكم عند انتفاء الصفة من الشرط والجزاء فإن العلة إذا اقتضت حكما تضمنت ارتباطه بها وانتفاءه عند انتفائها وإذا قال القائل إنما أكرم الرجل لاختلافه إلى كان ذلك أوضح في تضمن اختصاص إكرامه بمن يختلف إليه من قوله من اختلف إلى أكرمته
373 - فإن قيل إن العلل الشرعية ليس من شرطها أن تنعكس والمفهوم تعلق بادعاء العكس قلنا هذا الان كلام من لم يحط بما أوردناه والقول في العلل المستنبطة وشرائطها وقوادحها ليس مما نحن فيه بسبيل فإن غرضنا التعلق بما يقتضيه اللفظ في وضع اللسان اقتضاء ظاهرا ولا شك إن صيغة التعليل يظهر منها للفاهم ما أدرناه والقول في مآخذ العلل المستثارة لا يؤخذ من مقتضى العبارات والألفاظ فهذا ما أردناه
374 - فإن قيل خصصتم بالذكر الصفات المناسبة للأحكام وقد أطلق القائلون بالمفهوم أقوالهم بإثبات المفهوم بكل موصوف فأثبتوا في ذلك ما هو الحق قلنا الحق الذي نراه أن كل صفة لا يفهم منها مناسبة للحكم فالموصوف بها كالملقب بلقبه والقول في تخصيصه بالذكر كالقول في تخصيص المسميات بألقابها فقول القائل زيد يشبع إذا أكل كقله الأبيض يشبع إذ لا أثر للبياض فيما ذكر كما لا أثر للتسمية بزيد فيه ولنا كلام طويل على قوله صلى الله عليه و سلم
لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل تقصيناه في الأساليب فليطلبه مريده من ذلك الكتاب ومن سر

هذا الفصل أن شرط العلة المخيلة المستنبطة السلامة عن جمل من الاعتراضات والقوادح ولا يشترط شيء من ذلك في القول بمفهوم كلام الشارع إذا اشتمل على ذكر موصوف وفهم من الصفة مناسبة فإن الكلام في ذلك يدار على فهم الخطاب لا على شرائط العلل ولا يتضح الغرض في ذلك مع كل هذا التقرير إلا بذكر المسألة المعقودة على الدقائق
مسألة
375 - قد سفه علماء الأصول هذا الرجل في مصيره إلى أن الألقاب إذا خصصت بالذكر تضمن تخصيصها نفي ما عداها وقالوا هذا خروج عن حكم اللسان وانسلال عن تفاوض أرباب وتفاهمهم فإن من قال رأيت زيدا لم يقتض ذلك إنه لم ير غيره قطعا
376 - وعندي أن المبالغة في الرد عليه سرف ونحن نوضح الحق الذي هو ختام الكلام قائلين لا يظن بذي العقل الذي لا ينحرف عن سنن الصواب أن يخصص بالذكر ملقبا من غير غرض وإذا رأى الرائي طائفة والخبر عن رؤية جميعهم عنده مستو لاتفاوت فيه وهو في سماع من يسمع كذلك فلا يحسن أن يقول والحالة هذه رأيت فلانا فينص على واحد من المرئيين نعم إن ظهر غرض في أن المذكور في جملة من راه فقد ظهر عند المتكلم فائدة خاصة يفيدها السامع فإذ ذاك يحسن تخصيصه بالذكر ولا خفاء بذلك
فإن قيل هذا الذي ذكرتموه ميل إلى مذهب الدقاق قلنا الذي نراه أن التخصيص باللقب يتضمن غرضا مبهما كما أشرنا إليه ولا يتضمن انتفاء ما

عدا المذكور واللفظ في نفسه ليس متضمنا نفى ما عدا المذكور بل وضع الكلام إذا رد الأمر إلى المقصود يقتضي اختصاص المذكور بغرض ما للمتكلم والصفة المناسبة في وضعها تقتضي نفي الحكم عند انتفاء الصفة فظهر القول بمفهوم الصفة وظهر اقتضاء التخصيص باللقب غرضا مبهما فإنا نقول وراء ذلك لا يجوز أن يكون من غرض المتكلم في التخصيص نفى ما عدا المسمى يلقبه فإن الإنسان لا يقول رأيت زيدا وهو يريد الإشعار بأنه لم ير غيره فإن هو أراد ذاك قال إنما رأيت زيدا وما رأيت إلا زيدا فاستبان بمجموع ذلك أن تخصيص الملقب بالذكر ليس يخلو عن فائدة هي غرض للمتكلم منها حكاية الحال وإن بلغنا الكلام مرسلا اعتقدنا غرضا مبهما ولم نر انتفاء غير المسمى من فوائد التخصيص
377 - ومن تمام الكلام فيه أن متكلفا لو فرض عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال
في عفر الغنم الزكاة فهذا عندنا لا مفهوم له وهو كالمخصوص بلقبه ولكن يبعد من الرسول صلى الله عليه و سلم النطق بمثله وليس من الحزم أن يفرض من الشارع كلام لغو ويتعب في طلب فائدته فقد بان الآن مراتب العلماء
فقد صار قوم إلى إبطال المفهوم وهذا ذهول عن فائدة الكلام وصار قوم إلى أن لكل تخصيص مفهوما كالدقاق وهذا الرجل ابتدر أمرا لا ينكر وهو أن العاقل لا يخصص مذكورا هزلا وليس كل الغرض موقوفا على نفي ما عدا المسى واعتبر الشافعي الصفة ولم يفصلها واستقر رأيي على تقسيمها وإلحاق ما لا يناسب منها باللقب وحصر المفهوم فيما يناسب وهذا منتهى الكلام
مسألة
378 - فقد ذكرنا أن المفهوم ينقسم إلى ما يقع نصا غير قابل للتأويل ويغلب

ذلك في مفهوم الموافقة إذا انتهى إلى المرتبة العليا وإذ ذاك يسمى عند أرباب الأصول الفحوى والغالب على مفهوم المخالفة الظهور والانحطاط عن رتبة النصوص
فما يقع ظاهرا من تقاسيم المفهوم فالقول الضابط فيه أنه نازل منزلة اللفظ الموضوع للعموم وضعا ظاهرا فيجوز ترك المفهوم بما يسوغ به تخصيص العموم وهذا نفصله في باب التأويل إن شاء الله تعالى
379 - وغرضنا الان بعد إلحاق المفهوم باللفظ الموضوع للعموم أمران
أحدهما أن ترك جميع المفهوم بدليل يقوم بمثابة تخصيص العموم وليس كرفع جميع مقتضى اللفظ
والقول المقنع فيه أن المفهوم ليس مستقلا بنفسه وليس جزءا من الخطاب بذاته ولكنه من مقتضيات اللفظ فإن اقتضى ظهور أمر تركه فاللفظ بمقتضياته باق وفي تقدير رفع جميع متعلقات المنطوق رفع جميع مقتضى اللفظ وتعطيله ومعناه فكان المفهوم كبعض مسميات العموم
وإيضاح ذلك أنا ألفينا اللفظ الموضوع للعموم يستعمل تارة للاستغراق وتارة لبعض المسميات فلما استمر الأمران لم يكن في التخصيص خروج عن مقتضى اللسان وإن كان الظاهر الجريان على العموم وكذلك نرى العرب تخصص الشيء بصفة وهي تبغي نفي المخبر عنه عند انتفاء الصفة وقد لا تريد ذلك فليس قصد نفي ما عدا المخصص أمرا مقطوعا به فكان ترك المفهوم ورفع أصل التخصيص من السائغ الذي لا يستنكر مثله وشفاء غليل الطالب موقوف على وقوفه على حقائق التأويلات وهذا أحد الأمرين
380 - والثاني أن التخصيص إذا جرى موافقا لما يصادف ويلقى في مستقر

العرف فالشافعي لا يرى الاستمساك بالمفهوم فيه ويصير إلى حمل الاختصاص على محاولة تطبيق الكلام على ما يلقى جاريا في العرف وقد ذكر الشافعي في الرسالة كلاما بالغا في الحسن في هذا وذلك أنه قال إذا تردد التخصيص بين تقدير نفى ما عدا التخصيص وبين قصد أخراج الكلام على مجرى العرف فيصير تردد التخصيص بين هاتين الجهتين كتردد اللفظ بين جهتين في الاحتمال واللفظ إذا تعارض فيه محتملات التحق بالمجملات كذلك التخصيص مع التردد يلتحق بالمجملات ثم ضرب لذلك أمثلة من الكتاب منها قوله تعالى فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان فاستشهاد النساء مع التمكن من استشهاد الرجل مما لا يجري العرف به للعلم بما في ذلك من الشهرة وهتك الستر وعسر الأمر عند إقامة الشهادة فيقتضي التقييد إجراء للكلام على موجب العرف ومنها قوله تعالى فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم وقوله عليه السلام
المسافر وماله على قلت إلا ما وقى الله فجرى ذلك

على الأعم الأغلب في أحوال المسافرين فلم يكن للتخصيص بالخوف مفهوم ومنها قوله تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به فظاهر الآية اختصاص المفاداة بحالة الشقاق وقد رأى الشافعي حمل ذلك على العرف الجاري في مثله في أن الزوجين لا يتخالعان ولا يتقامطان على الحب والمقة والتصافي وإنما تسمح المرأة ببذل المال المحبوب ويستبدل الزوج عنها مالا إذا أظهرا تقاليا وشقاقا فكان جريان التخصيص على حكم العرف وعلى هذا حمل الشافعي حديث عائشة رضي الله عنها إذ روت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال
إيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فمقتضى التخصيص لو اتسق القول بالفهوم أن يصح النكاح بلفظها إذا أذن وليها ولكن الشافعي قال إنما تزوج المرأة نفسها إذا كانت متبرجة كاشفة جلباب الحياء عن وجهها مؤثرة لنفسها الخروج عن دأب الخفرات فإذ ذاك تستبد بنفسها وإن بقي فيها ملتفت إلى الأولياء فإنها تفوض أمرها إليهم فإن عضلوها حملت خاطبها على رفع الأمر إلى القاضي فجرى التخصيص على حكم العرف أيضا ونظائر ذلك كثيرة في الكتاب والسنة فهذا مساق كلام الشافعي

381 - والذي أراه في ذلك أن اتجاه ما ذكره من حمل الأمر على خروج الكلام على مجرى العرف لا يسقط التعلق بالمفهوم نعم يظهر مسالك التأويل ويخفف الأمر على المؤول في مرتبة الدليل العاضد للتأويل والدليل عليه أن عين التخصيص لا يتضمن نفي ما عدا المخصص ولو صير إلىذلك ففيه تطرق إلى مذهب الدقاق وإنما ظهر نفي ما عدا المخصوص في إشعار المنطوق به شرطا أو تحديدا أو تعليلا ومقتضى اللفظ لا يسقط باحتمال يئول إلى العرف
والذي يحقق ذلك أنه لما قال يعلى بن أمية لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في قوله تعالى أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أنقصر وقد أمنا قال عمر تعجبت مما تعجبت منه ولم ينكر عليه اعتقاد المفهوم من طريق اللسان وقد صار محمد بن الحسن إلى تنزيل مذهبه على مفهوم حديث عائشة ومنطوقه في النكاح بغير ولي فلست أرى المفهوم في هذا الفن متروكا من غير فرض دليل ومن حاسيك الصدور ترك المفهوم في مسألة النكاح بلا ولي وما ذكر في هذا الفصل فأنا أوفيه حظه إذا ذكرت طرق تأويلات المفهومات إن شاء الله تعالى
مسألة
382 - ما صار إليه المحققون أن قوله صلى الله عليه و سلم
تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم يتضمن حصرها بين القضيتين في التكبير والتسليم
وذهب طوائف من أصحاب أبي حنيفة إلى تنزيل هذا على المفهوم وقضوا بأنهم

من حيث لم يروا القول به لا يلزمون نفي ما عدا التكبير والتسليم وتمسكوا بهذا المسلك في قوله صلى الله عليه و سلم
الشفعة فيما لم يقسم
383 - وهذان فنان عندنا ونحن نخصص المثال الأول والثاني بما يليق بكل واحد منهما فأما قوله عليه السلام
وتحريمها التكبير فمقتضاه الحصر لا محالة وليس هذا من فن المفهوم المتلقى من تخصيص الشيء بالذكر كما سبق مفصلا وهذا يقرر من وجهين
أحدهما النقل والإحتكام إلى ذوي الحجا والأحكام في كل لسان ولغة فإذا قال القائل زيد صديقي لم يتضمن هذا نفي الصداقة عن غيره والقول بالمفهوم لا يتضمن في سياق هذا الكلام حصرا للصداقة ولا قصرا لها على زيد المذكور صدرا ومبتدأ ولو قال القائل صديقي زيد اقتضى هذا أنه لا صديق له غيره وهذا مما لا يبعد ادعاء إجماع أهل اللسان فيه ومن أبدى في ذلك مراء كان مباهتا محكوما عليه بالعناد فهذا وجه
والوجه الآخر أن ترتيب الكلام أن تقول زيد صديقي فإن وضع المبتدأ ذكر معرف تبتدره الأفهام حتى إذا فهم أسند إليه خبر لا يستقل معلوما في نفسه فينتظم من ارتباط الخبر به في إفادة السامع ما يقدر المتكلم أنه ليس عالما به فإذا قلب الكلام وقال صديقي زيد لم يصلح قوله صديقي صدرا مبدوءا به فإنه يترقب بعد البداية به خبره فحملت العرب تقديمه وصرف الاهتمام به على حصر معناه في زيد المذكور بعده ولولا ذلك لما انتظم الكلام وهذا معنى لا يفضي إلى

القطع بنفسه والمعتمد القاطع النقل كما ذكرناه فهذا في أحد الفنين وقد تحصل منه أنه ليس من المفهوم في شيء وإنما مأخذه ما ذكرناه
384 - وأما الفن الثاني وهو
الشفعة فيما لم يقسم فوجه التمسك به لا يتلقى من البناء على المفهوم وإنما مأخذه أن اللام في قوله الشفعة لتعريف الجنس فكأنه عليه السلام حصر جنس الشفعة فيما لم يقسم
385 - وقد نجز مقدار غرضنا من الكلام عن النص والظاهر والأمر والنهي والعموم والخصوص والمنطوق والمفهوم والمجمل والمفسر فهذه هي المراتب المقصودة في هذا الفن ولا يبقى بعد نجازها إلا ذكر مراتب التأويلات وما يقبل منها وما يرد وبيان مستنداتها ولكني أرى أن أخلل بين نجاز هذه المراتب وبين التأويلات القول في أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنها من متعلقات الشرع والتأويلات والمحامل في حكايات الأحوال تتعلق بها
فنبتدىء مستعينين بالله تعالى بذكر أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم نعقب نجازها بكتاب التأويلات إن شاء الله تعالى

باب القول في أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم
386 - الكلام في أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم يستدعي تقديم صدر من القول في عصمة الأنبياء عليهم السلام ونحن نذكر منه القدر الذي تمس الحاجة إليه ثم نعود إلى نظم الكلام فنقول
387 - لا شك أن المعجزة تدل على صدق النبي عليه السلام فيما يبلغه عن الله تعالى فتجب عصمته عن الخلف في مدلول المعجزة ولو لم يكن كذلك لما كانت المعجزة دالة
فأما الفواحش والموبقات والأفعال المعدودة من الكبائر فالذي ذهب إليه طبقات الخلق استحالة وقوعها عقلا من الأنبياء وإليه مصير جماهير أئمتنا
388 - وقال القاضي هي ممتنعة ولكن مدرك امتناعها السمع ومستندة الإجماع المنعقد من حملة الشريعة على الأمن من وقوع الفواحش من الأنبياء ولو رددنا إلى العقل لم يكن في العقل ما يحيلها فإن الذي يتميز به النبي عن غيره مدلول المعجزة ومتعلقها والكبائر ليست مدلولها بوجه فلا تعلق للمعجزة بنفيها ولا بإثباتها نعم لو كان فيما ذكره من تنبي وتحدي به أنه منزه عن الفواحش واستشهد على صدقه بقيام المعجزة فوقعت على حسب الدعوى فكل ما أدرجه في كلامه إذا ارتبط قيام المعجزة به فنعلم على القطع إذ ذاك وجوب صدقه في جميع مخبراته ولا اختصاص لتعلق المعجزة بفن من الأخبار فإنها تقع على مطابقة دعوى النبي ووفقها فإن قامت ودعواه شيء واحد دلت على صدقه فيه وإن قامت ودعواه أشياء وقد استشهد على جميعها بقيام المعجزة دلت على صدقه في جميعها
والمختار عندنا ما ذكره القاضي

389 - وأما الصغائر ففي إثباتها أولا كلام كثير لسنا له الآن ولكن الذي نعنيه بذكر الصغائر مالا يتضمن فسق من صدر منه وانسلاله عن نعت العدالة وهذا أيضا إحالة على جهالة ولكن الكلام يجمل في غير مقصوده ويتبين في مقصوده
390 - والذي صار إليه أئمة الحق أنه لا يمتنع صدورها عن الرسل عقلا وترددوا في المتلقى من السمع في ذلك فالذي ذهب إليه الأكثرون أنها لا تقع منهم ثم اضطربوا وتخبطوا في تأويل آى مشهورة في قصص المرسلين والذي ذهب إليه المحصلون أنه ليس في الشرع قاطع في ذلك نفيا وإثباتا والظواهر مشعرة بوقوعها منهم
391 - ومما نقدمه قبل الخوض في الغرض النسيان فلا امتناع في تجويز وقوعه فيما لا يتعلق بالتكاليف فأما ما يفرض متعلقا بالتكاليف ففيه اضطراب ونحن قاطعون بأنه لا يمتنع وقوعه عقلا إلا أن يقول النبي أنه لا يقع منى نسيان ويقيم المعجزة عليه وهذا مطرد في كل خبر يتردد بين الصدق والكذب
فإذا تأيد بقيا المعجزة تعين الصدق فيه و إذا لم يتأيد بقيام المعجزة على الاختصاص به ففيه الكلام والنسيان إن لم يقع انتفاؤه مدلولا للمعجزة فهو مسوغ عقلا والظواهر دالة على وقوعه من الرسل
392 - وقد قال من لم يحط بمأخذ الحقائق إنهم عليهم السلام غير مقرين على النسيان بل ينبهون على قرب وهذا لا تحصيل له فليس يمتنع أن يقروا عليه زمانا طويلا ولكن لا ينقرض زمانهم وهم متمرون على النسيان وهذا متلقى من الإجماع لا من مسالك العقول

فهذا القدر مقنع فيما نبغيه في ذلك وفي أدراجه ملامح كافية في إيضاح المختار والدليل عليه
393 - ونحن نقول بعد ذلك إذا لم يبعد وقوع الذنب من الرسول عليه السلام فكيف يتخيل الناظر وجوب الاقتداء به في فعل وإن بنينا الأمر على امتناع وقوع الذنب منه فالكلام يقع وراء ذلك في حكم فعله
حكم فعل الرسول صلى الله عليه و سلم
394 - وأجمع تقسيم فيه أن نقول فعله صلى الله عليه و سلم ينقسم إلى ما شهد عليه قول منه ناص وإلى ما لم يشهد عليه قول ناص فأما ما يشهد عليه قول منه فهو كأفعاله في صلاته في قوله
صلوا كما رأيتموني أصلي وكأفعاله في نسكه مع قوله
خذوا عني مناسككم فهذا الفن خارج عن متعلق الغرض من الكلام في الأفعال فإن الأقوال هي المتبعة في هذا القسم والأفعال في حكم الأعلام ولكنا ذكرنا ذلك لاستيعاب الأقسام
395 - فأما ما ورد غير مقترن بقول شاهد عليه فينقسم إلى الأفعال الجبلية التي لا يخلو ذو الروح عن جميعها كالسكون والحركة والقيام والقعود وما ضاهاها من تغاير أطوار الناس فإذا ظهر ذلك فلا استمساك بهذا الفن من فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم
396 - وأما ما لم يقترن به ما يدل على كونه من الأفعال الجارية في العادات فإنه ينقسم إلى ما يقع بيانا وإلى مالا يظهر ذلك فيه

فأما ما يقع بيانا فهو بمثابة ورود قول في الكتاب على إجمال فإذا وقع من رسول الله صلى الله صلى الله عليه و سلم فعل في حكاية حال أو مراجعة وسؤال فظهور قصده في بيان الإجمال ينزل منزلة القول المقترن بالفعل الشاهد عليه
397 - فأما ما لم يظهر فيه قصد البيان فهو ينقسم إلى ما يقع في سياق القرب ويظهر كونه في قصد الرسول عليه السلام قربة وإلى مالا يقع في سياق القرب فأما ما يقع قربة في قصده فهو الذي اختلف فيه الخائضون في هذا الفن فذهب طوائف من المعتزلة إلى أن فعله صلى الله عليه و سلم محمول على الوجوب ويتعين اتباعه فيه وذهب إلى هذا المذهب ابن سريج وأبو علي بن أبي هريرة من أصحابنا
وذهب ذاهبون إلى أن فعله لا يدل على الوجوب ولكنه محمول على الاستحباب وفي كلام الشافعي ما يدل على ذلك
وذهب الواقفية إلى الوقف فإنهم في ظواهر الأقوال سباقون إليه فالفعل الذي لا صيغة له بذلك أولى
398 - فأما من صار إلى أن فعله على الوجوب فمما استدلوا به قوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وهذا الاستدلال مدخول فإن من يقف لا يسلم أن فعله يعدوه ويقول بحسب ذلك إن فعله ليس هو مما آتانا به

الرسول عليه السلام وفعله مختص به لا يتعداه وقد تكلم هؤلاء على الآية من وجه واقع وهو قول شيخنا أبي الحسن فإنه قال أراد ما أمركم به الرسول فخذوه والشاهد لذلك قوله تعالى وما نهاكم عنه فانتهوا والنهي إنما يقارنه على مضادة الأمر وبالجملة الاية محتملة وغاية المستمسك بها أن يسلم له ظهورها في غرضه والظهور مع تطرق فنون الظنون لا يقنع في القطعيات
ومما تمسك به هؤلاء أن قالوا أجمع المسلمون قبل اختلاف الآراء على أنه يجب على الأمة التأسى برسولها ومتابعته ومن متابعته أن يوافق في أفعاله
وهذا زلل عظيم فإن منصب النبوة يقتضي كون النبي متبوعا على معنى أنه مطاع الأمر فأما وجوب متابعته في أفعاله فليس ذلك مدلول معجزته ولا قضية نبوته ولا حكم مرتبته والملك الذي يتبع أمره لا يفعل مثل ما فعله إلا إذا أمر به
399 - فأما من صار إلى أن الفعل يدل على الاستحباب فيما يقع قربة فهذا أقرب قليلا من المسلك الأول في القسم الذي فيه الكلام فإنا لم نفرض قولنا إلا فيما يقع من الرسول في معرض القرب فإذا ظهر تقربه بفعل إلى الله تعالى فقد يظن الظان أن الأمة في ذلك بمثابته فإنه أسوة الخلق وقدوتهم في قربه وعبادته وليس ذلك كالفعل المرسل الذي ينقل عنه من غير أن يبين كونه قربة في حقه
وهذا الرأي غير سديد أيضا فإن ما ثبت قربة في حق المصطفى فليس في نفس الفعل ما يتضمن الدعاء إلى مساواته فيه والفعل في نفسه لا صيغة له وليس بدعا أن

يختص صاحب الشريعة بشيء دون أمته لعلو منزلته ورتبته وهذا متمسك الواقفية إذا حاولو إثبات الوقف
400 - والرأي المختار عندنا أنه يقتضي أن يكون ما وقع منه مقصودا قربة محبوبا مندوبا إليه في حق الأمة وشرطنا انتحاء الوسط في كل مسلك والنزول عن طرفي السدف في الإثبات والنفي فمن ادعى أن الفعل بعينه يقتضي ذلك فهو زلل فإن الفعل لا صيغة له ومن ادعى أنه لا يتأسى بفعل المصطفى صلى الله عليه و سلم فيما ثبت قصد القرب فيه فقد أبعد أيضا
والوجه في ذلك أن يقال ثبت عندنا أن صحب رسول الله صلى الله ليه وسلم كانوا يتحرون لأنفسهم في القربات ما يصح عندهم من فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا إذا اختلفوا في قربة فروى لهم صادق موثوق به عن المصطفى صلى الله لعيه وسلم فعلا كانوا يتبدرونه ابتدارهم أقواله ولا ينكر هذا منصف فالوجه أن نقول إن رددنا إلى الفعل ومقتضاه أو إلى مدلول المعجزة فإنهما يفضيان إلى الوقف كما قال الواقفية ولكن تأكد عندنا من عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم التأسي به في كيفية أفعاله في قربة فليحمل هذا على الإجماع ولا يقطع به في مقتضى العقل والمعجزة وكل ذلك فيما ظهر وقوعه على قصد القربة من الرسول صلى الله عليه و سلم
401 - فأما فعله المرسل الذي لا يظهر وقوعه منه على قصد القربة فقد ذهب طوائف من حشوية الفقهاء إلى أنه محمول على الوجوب كالذي سبق في

القرب وقد عزى ذلك إلى ابن سريج بعض النقلة وهذا زلل وقدر الرجل عن هذا أجل ومذهب الوجوب وإن لاح بطلانه في القرب فهو على حال يصلح أن يكون معتقدا لمعتقد من حيث إنه يقول هو إمام الخليقة في الطاعة فإذا لم يظهر انتفاء الوجوب بنى الأمر على الوجوب أخذا بالأحوط فأما التزام هذا المذهب في كل فعل يصدر منه وإن لم يظهر كونه قربة فبعيد جدا
402 - فإن قيل فما المرتضى في هذا القسم قلنا أما الواقفية فيطردون مذاهبهم في الوقف ومذهبهم في هذه الصورة أظهر وأما أصحاب الندب فقد يصيرون إليه وهو ردىء مزيف بمثل ما زيفنا به مذهب أصحاب الوجوب في هذا القسم فإن انقسام فعله إلى الواجب وغيره كانقسام فعله إلى المندوب وغيره فالمختار إذا أن فعله لا يدل بعينه ولكن يثبت عندنا وجوب حمله على نفى الحرج فيه عن الأمة ومستند هذا الاختيار إلى علمنا بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لو اختلفوا في حظر أو إباحة فنقل الناقل في موضع اختلافهم فعلا عن المصطفى لفهموا منه أنه لا حرج على الأمة في فعله وجاحد هذا جاهل بمسالك النقل فضلا عن المعنى واللفظ وأما ادعاء اعتقادهم أن فعله واجب على غيره أو مندوب مستحب فدعوى عرية لا تستند إلى قضية المعجزة ولا إلى عادتهم ولا إلى صفة الفعل
فهذا منتهى القول في أقسام أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو نجاز الغرض في هذا الفصل

فصل يحوى بقايا من أحكام الأفعال
حكم الأفعال التي تظهر فيها خصائص الرسول صلى الله عليه و سلم
403 - قد تبين أن معتصمنا ما ظهر لنا من دأب أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في اعتقاد القربة فيما يجري عن المصطفى في سياق القربة وفي اعتقاد نفي الحرج فيما لا يظهر فيه قصد القربة منه ولم نتحقق على حاصل في فن من أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو ما يتعلق بقبيل يظهر في خصائصه فليس عندنا نقل لفظي ولا معنوي في أنهم رضي الله عنهم كانوا يقتدون به في هذا النوع ولم يتحقق عندنا نقيض ذلك فهذا محل الوقف
404 - فلينظر الناظر كيف لقطنا من كل مسلك خياره وقررنا كل شيء على واجبه في محله وهذه غاية ينبغي أن ينتبه من يبغي البحث عن المذاهب لها فإنه يبعد أن يصير أقوام كثيرون إلى مذهب لا منشأ له من شيء ومعظم الزلل يأتي أصحاب المذاهب من سبقهم إلى معنى صحيح لكنهم لا يسبرونه حق سبره ليتبينوا بالإستقراء أن موجبه عام شامل أو مفصل ومن نظر عن نحيزة سليمة عن منشأ المذاهب فقد يفضى به نظرة إلى تخير طرف من كل مذهب كدأبنا في المسائل

حكم فعلى الرسول صلى الله عليه و سلم المختلفين المؤرخين
405 - ومما نذكره في أحكام الأفعال بعد ثبوت التاسي به على التفصيل المقدم أنه إذا نقل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلان مؤرخان مختلفان فقد صار كثير من العلماء إلى أن التمسك باخرهما واعتقاد كونه ناسخا للأول وتنزيلهما منزلة القولين المنقولين المؤرخين فإن اخرهما ناسخ لأولهما إذا كانا نصين وللشافعي صغو إلى ذلك وهو مسلكه الظاهر في كيفية صلاة الخوف بذات الرقاع فإنه صحت فيها رواية ابن عمر وصالح بن خوات فرأى الشافعي رواية ابن خوات متأخرة ورأى رواية ابن عمر في غير تلك الغزوة فقدرها في غزاة سابقة عليها وربما سلك مسلكا آخر فسلم اجتماع الروايتين في غزاة واحدة ورآهما متعارضتين ثم تمسك من طريق القياس بأقرب المسلكين إلى الخضوع والخشوع وقلة الحركة

406 - وذهب القاضي إلى أن تعدد الفعل مع التقدم والتأخر أو غير ذلك محمول على جواز الأمرين إذا لم يكن في أحدهما ما يتضمن حظرا
والذي ذكره القاضي ظاهر في نظر الأصول فإن الأفعال لا صيغ لها ولكن إذا ادعى مدع أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يتمسكون بالأحداث فالأحدث فهو منصف والقول في ذلك على الجملة ملتبس فإن ادعاء ذلك عليهم في الأفعال على الخصوص نأي عن القطع وإن استمر فيه قطع فلا يبعد أنهم كانوا يرون الأخير أفضل أحواله وأولى أفعاله
مسألة
407 - مما يتعلق بالكلام في أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم بيان حكم تقريره غيره على أمر
فالذي ذهب إليه جماهير الأصوليين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا رأى مكلفا يفعل فعلا أو يقول قولا فقرره عليه ولم ينكر عليه كان ذلك شرعا منه في رفع الحرج فيما رآه
قالوا من لم ير التعلق بأفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم من جهة تردد أفعاله بين خواصه وبين ما يشاركه فيه غيره فإنه يقول إذا قرر غيره على أمر كان ذلك شرعا فإن تقريره يتعلق بالمقرر وكان ذلك في حكم الخطاب له وقد تمهد أن خطابه للواحد في حكم الخطاب للأمة
وهذا كما ذكروه ولكن فيه مستدرك فإنه لا يبعد أن يرى رسول الله صلى الله عليه و سلم أبيا عليه ممتنعا من القبول منه على أمر فلا يتعرض له وهو معرض عنه لعلمه

بأنه لو نهاه لما قبل نهيه بل يأباه وذلك بأن يكون من يراه منافقا أو كافرا فلا يحمل تقريره هؤلاء وسكوته عنهم على إثبات الشرع فهذا تفصيل لا بد منه في التقرير
مسألة
408 - استدل الشافعي رضي الله عنه في إثبات القافة بتقرير رسول الله صلى الله عليه و سلم مجززا المدلجي على قوله إذ قال لما نظر إلى أسامه وزيد وهما تحت قطيفة وقد بدت منهما أقدامهما إن هذه الأقدام بعضها من بعض فاستبشر رسول الله وسره ما قاله في القصة المشهورة وموضع الاستدلال للشافعي تقرير رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك الرجل
409 - قال القاضي هذا فيه نظر فإن قول مجزز كان موافقا لظاهر الحال وكان المنافقون يبدون غمزة في نسبة زيد وأسامة قاصدين به أذى رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان الشرع حاكما بالتحاق أسامه بزيد فجرى قول مجرزا منطبقا على وفق الشرع والظاهر والأمر المستفيض الشائع وهو بمثابة ما لو قال فاسق مردود الشهادة هذه الدار لفلان يعزوها إلى مالكها وصاحب اليد فيها فلو قرر الشارع مثل هذا الرجل على قوله لم يكن ذلك حكما منه بأقوال الفسقة في محل النزاع وقيام الحاجات إلى إقامة البينات

وإن انتصر منتصر للشافعي قائلا إنما استدل الشافعي باهتزاز رسول الله صلى الله ليه وسلم ومن تمام كلام الشافعي أن الرسول لا يسره إلا الحق فإذا سره قول مجزر تبين أنه من مسالك الحق قيل يمكن أن يحمل ذلك على علم رسول الله صلى الله عليه و سلم برجوع العرب إلى أقوال القافة والقيافة لم تزل عندهم مرجوعا إليها وهي من أبواب الكهانة وكان المغمز منهم فلما رأى ما يكذبهم سره ما ساءهم
410 - فأقصى الإمكان في ذلك أن الرسول لو لم يكن معتقدا قبول قول القائف لعده من الزجر والفأل والحدس والتخمين ولما أبعد أن يخطىء في مواضع وإن أصاب في مواضع فإذا تركه ولم يرده كان الكلام على الأنساب بطريق القيافة فهذا من هذا الوجه قد يدل على أنه مستند الأنساب فهذا هو الممكن في ذلك
وقد انتجز بنجازه أحكام الأفعال والأقوال
وأنا أرى على أثر ذلك أن أتكلم في شرع من قبلنا وأوضح مذاهب الناس فيه فإن من العلماء من قدر شرائع الأنبياء الماضية شرعا لنا إذا لم يثبت في شرعنا ناسخ له على التعيين

باب القول في التعليق بشرائع الماضين
411 - اضطربت المذاهب في ذلك فصار صائرون إلى أنا إذا وجدنا حكما في شرع من قبلنا ولم نر في شرعنا ناسخا له لزمنا التعلق به وللشافعي ميل إلى هذا وبنى عليه أصلا من أصوله في كتاب الأطعمة وتابعه معظم أصحابه
412 - وذهب ذاهبون من المعتزلة إلى أن التعلق بشرع من قبلنا غير جائز عقلا وبنوا مذهبهم على أن ذلك لو قدر لأشعر بحطيطة في شريعتنا ولتضمن ذلك أيضا إثبات حاجة إلى مراجعة من قلنا وهذا حط من مرتبة الشريعة وغض من منصب المصطفى عليه السلام
413 - وصار صائرون إلى أن ذلك لا يمتنع عقلا ولكنه ممنوع شرعا واعتصموا بما روى أن رسول الله صلى الله لعيه وسلم بلغه أن عمر كان يراجع اليهود في أقاصيص بني إسرائيل فسأله رسول الله صلى الله ليه وسلم عن ذلك ونهاه عن صنيعه وقال
لو كان ابن عمران حيا لما وسعه إلا اتباعي
414 - والمختار عندنا أن العقل لا يحيل إيجاب اتباع أحكام شرع من قلنا إذا لم يرد في شرعنا ناسخ له وما ذكره بعض المعتزلة من أن ذلك غض من الدين

وحط من مرتبة الشريعة وتنفير من اتباع شرعة الحق ساقط لا حاجة إلى إيضاح بطلانه ولكن ثبت عندنا شرعا أنا لسنا متعبدين بأحكام الشرائع المتقدمة والقاطع الشرعي في ذلك إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يترددون في الوقائع بين الكتاب والسنة والإجتهاد إذا لم يجدوا متعلقا فيهما وكانوا لا يبحثون عن أحكام الكتب المنزلة على النبيين والمرسلين قبل نبينا عليهم الصلاة والسلام
415 - فإن قيل امتنع ذلك عليهم من جهة أن أهل الأديان السابقة حرفوا كتبهم وغيروها عن الوجوه التي نزلت عليها قلنا هذا باطل من وجوه أحدها أن ما ذكروه يجر مساقه إلى أنه لا يجب التتبع للشرائع المتقدمة لمكان التباسها واندراسها فكأن هؤلاء وافقوا المذهب وخالفوا في العلة
والوجه الثاني أنه لو كان لنا متعلق في شرع من قبلنا لنبهنا الشارع على مواقع التلبيس حتى لا يتعطل علينا مرجع الأحكام والوجه الثالث أنه كان أسلم من الأحبار المطلعين على مواقع التغيير طائفة منهم عبد الله بن سلام وقد استشهد الله به في نص القرآن وقال ومن عنده علم الكتاب وقال وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم وأسلم كعب الأحبار في زمن عمر وكان المنتهى في علوم الأديان والإحاطة بالكتب وبالجملة لم يثبت قط رجوع إمام في عصر من الأعصار إلى تتبع الأحكام من الملل السابقة فانتهض ما ذكرناه قاطعا شرعيا فيما نحاوله

416 - فإن تمسك فقهاؤنا بقوله سبحانه وتعالى إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي وقوله ملة أبيكم إبراهيم وقوله شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا قيل المراد بمساق هذه الآى الرد على المشركين وبيان إطباق النبيين على الدعاء إلى التوحيد وكان إبراهيم صلى الله عليه و سلم على مسلكه المعروف رادا على عبدة الأوثان فلما بلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بهم جرت الآى المشتملة على ذكر إبراهيم صلى الله عليه و سلم في تأييد التوحيد والرد على عبدة الأوثان
مسألة
417 - مما ذكره الأصوليون متصلا بهذا الفن القول فيما كان النبي عليه السلام قبل أن يبعثه الله نبيا وهذا ترجع فائدته وعائدته إلى ما يجرى مجرى التواريخ ولكن مأخذه الأصول كما سنبين الآن
418 - فذهبت المعتزلة إلى أنه صلى الله عليه و سلم لم يكن على اتباع نبي ولكن على شريعة العقل في اجتناب القبائح وإتيان المحاسن العقلية وزعموا أنه لو عهد متبعا قط لكان في ذلك غميزة فيه لما بعث نبيا
وهذا كلام مستندة أصلان باطلان أحدهما القول بشريعة العقل وقد أبطلناه والثاني أن ما ادعوه من إفضاء اتباعه إلى منقصة في منصبه فهذا قد تكرر منهم مرارا ووضح سقوطه
419 - وذهب ذاهبون إلى أنه كان على شريعة إبراهيم عليه السلام كما قدمناه في المسألة السابقة وقد أوضحنا أنها واردة في التوحيد والتمسك بها في هذه

المسألة ليس بشيء قطعي وغاية ما يسلم لهم ظاهر معرض للتأويل وقد تقرر أن الظواهر لا يسوغ التمسك بها في محاولة القطعيات ثم يعارضها قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا
420 - وذهب ذاهبون إلى أنه كان على شرع نوح لهذه الاية فإن تعلق بها صاحب هذا المذهب فاية إبراهيم تعارضها
421 - وصار طائفة ممن ينتمي إلى التحقيق إلى أنه كان على شريعة عيسى فإنها آخر الشرائع قبل شريعة المصطفى وكان الخلق عامة مكلفين بها وكان الرسول صلى الله عليه و سلم من المكلفين
وهذا غير سديد من جهة أنه لم يثبت عندنا أن عيسى عليه السلام كان مبعوثا إلى الناس كافة ولو ثبت ابتعاثه إليه فقد كانت شريعته دارسة الأعلام مؤذنة بالانصرام والشرائع إذا درست سقط التكليف بها
422 - وقال القاضي لم يكن عليه السلام على شرع وقطع بهذا ولكنه لم يأخذه من مأخذ المعتزلة حيث أحالوا ذلك عقلا بل القاضي قطع بجواز ذلك في العقل ولكن متعلقة فيما صار إليه أنه عليه السلام لو كان على ملة لاقتضى العرف ذكره لها لما بعث نبيا ولتحدث بذلك أحد في زمانه وبعده فإن الأمر ظاهر لا يكاد يخفى في مستقر العادات على ما سيأتي ذلك مستقصى في كتاب الأخبار وما يجب أن يتواتر منها
423 - والمختار عندنا أن الأمر في ذلك ملتبس فلا وجه لجزم القول في نفي ولا إثبات وما ذكره القاضي من اقتضاء العادة ظهور دين مثله عليه السلام فهو في

مسلكه بين ولكن يعارضه أنه لو لم يكن على دين أصلا لذكر فإن ذلك أبدع وأبعد من المعتاد مما ذكره القاضي فقد تعارض الأمران
والوجه أن يقال كانت العادة انخرقت برسول الله عليه السلام في أمور منها انصراف الناس عن أمر دينه والبحث عنه فهذا منتهى القول في ذلك
ونحن الان بتوفيق الله وتأييده نبتدىء الكلام في التأويل مستعينين بالله تعالى وهو خير معين

باب التأويلات
424 - التأويل رد الظاهر إلى ما إليه ماله في دعوى المؤول وإنما يستعمل إذا علق بما يتلقى من الألفاظ منطوقا ومفهوما والألفاظ تنقسم انقساما أولا إلى المجمل والمجمل الذي لا يستقل بإفادة المعنى وإلى ما ليس مجملا
فأما المجمل فلا يسوغ فرض الاستدلال به حتى يقدر احتياج المستدل عليه إلى تأويله فإذا حسب المستدل المجمل ظاهرا اكتفى المستدل عليه بإبدائه كونه مجملا فإذا اشتغل المستدل عليه بتفسيره كان مجاوزا حد النظر متعديا مسلك الجدال مائلا إلى الانحلال فليكتف ببيان الإجمال وفيه سقوط استدلال المستدل
فأما ما ليس مجملا فينقسم إلى النص الظاهر وقد قدمنا ما يتميز به أحد البابين عن الثاني ومسائل هذا الكتاب تفصل تلك الضوابط إن شاء الله تعالى
فالنص ما لا يتطرق إلى فحواه إمكان التأويل وينقسم إلى ما ثبت أصله قطعا كنص الكتاب والخبر المستفيض وإلى ما لم يثبت أصله قطعا كالذي ينقله الآحاد ولا مجال لتأويل في النوعين وإنما يتعلق الكلام فيهما بتقديم المراتب عند فرض المعارضات مثل أن يعارض نص متواتر نص الكتاب إن أمكن ذلك أو يعارض خبر ناص مستفيض خبرا مثله أو يعارض خبر نقله الآحاد ما ثبت أصله قطعا أو يعارض مثله والقول في ذلك يأتي مشروحا في آخر كتاب التأويل إن شاء الله تعالى
425 - والقول الوجيز الآن فيه على ما تقتضيه التوطئة والتمهيد أن

الناظر يقدم ما يقتضي العقل والشرع جميعا تقديمه عند تفاوت المراتب فإن استوت المراتب وتحقق التعارض والألفاظ نصوص فالكلام في ذلك يئول إما إلى الإسقاط وإما إلى الترجيح على ما يأتي في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى
426 - فأما الظاهر الذي يتطرق إمكان التأويل إليه وإنما ظهوره في جهته مظنون غير مقطوع به فعليه ينبني هذا الكتاب
427 - والوجه تصدير هذا الفصل بأمرين
أحدهما إبانة بطلان الاستدلال بالظاهر فيما المطلوب منه القطع لأن ظهور معناه غير مقطوع به فلا يسوغ وضع الاستدلال به على ما هذا سبيله وإن قدر ذلك من مستدل أشعر بجهله بأحد أمرين إما أن يجهل كونه ظاهرا أو يعتقده نصا والأمر على خلاف ما يقدره وإما أن يجهل تمييز مواقع العلوم عن مجال الظنون والجاهل بالوجه الأول أحق بأن يعذر من الجاهل بالرتبة الثانية ثم إذا فرض ذلك في المستدل فليس من حق المستدل عليه أن يشتغل بالتأويل بل يكفيه أن يبين تطرق الاحتمال وخروج اللفظ عن القواطع
وإذا وضح ذلك التحق الظاهر في محل طلب العلم بالمجملات التي لا تستقل بأنفسها
428 - والثاني أن الظاهر حيث لا يطلب العلم معمول به والمكلف محمول على الجريان على ظاهره في عمله وقد قدمنا في أثناء الكلام في ذلك قولا بالغا وإن حاولنا تجديد العهد به فالمعتمد فيه والأصل والتمسك بإجماع علماء

السلف والصحابة ومن بعدهم فإنا نعلم على قطع أنهم كانوا يتعلقون في تفاصيل الشرائع بظواهر الكتاب والسنة وما كانوا يقصرون استدلالاتهم على النصوص ومن استراب في تعلقهم بالقياس لم يسترب في استدلالهم بالظواهر ولم يؤثر منع التعلق بالظواهر عمن بخلافه ووفاقه مبالاة وإن ظهر خلاف فاستدلالنا قاطع بالمسلك الذي ذكرناه ومستنده الإجماع وسبيل نقل الإجماع التواتر
429 - فإن قيل أنتم تعلمون وجوب العمل بالظاهر وربط العلم بالمظنون محال وهذا رددوه مرارا وبان مسلك الحق فيه إذ قلنا الظاهر بنفسه لا يثبت علما بوجوب العمل وإنما المفيد للعلم الإجماع فهو يقتضي العلم بوجوب العمل وليس يتطرق إليه ظن وهذا نجريه في خبر الواحد والأقيسة المظنونة وقد صدرنا الكتاب بذلك لما حاولنا بيان ماهية أصول الفقه فإذا تبين جواز التعلق بالظواهر في المحال التي ذكرناها وتأويل الظواهر على الجملة مسوغ إذا استجمعت الشرائط اتي سنصفها إن شاء الله تعالى ولم ينكر أصل التأويل ذو مذهب وإنما الخلاف في التفاصيل وإن قدرنا فيه خلافا فالمعتمد في الرد على المخالف إجماع من سبق فإن المستدلين بالظواهر كانوا يؤولونها في مظان التأويل وهذا معلوم اضطرارا كما علم أصل الإستدلال ثم إذا ثبت جواز التأويل فلا يسوغ التحكم به اقتصارا عليه من غير عضد له بشيء إذ لو ساغ ذلك لبطل التمسك بالظواهر واكتفى المستدل عليه بذكر تطرق الإمكان إلى الظاهر وهذا إن

قيل به يسقط أصل الاستدلال ويلحق جمال الإجمال بما يطلب فيه العلم المحض
فإذا وضح أن أصل التأويل مقبول وتبين أن التحكم به مردود فيفتح بعد ذلك الكلام في تفصيل التأويل وما يعضد كل قسم منه من فنون الدليل
430 - ولجميع مسائل الباب عندنا ضبط في النفي والإثبات هو المتبوع وإليه المرجع
والذي أراه في طريقة الإفهام رسم مسائل في التأويلات اضطرب العلماء فيها فقبلها بعضهم وردها آخرون ونحن نطردها على وجوهها ونبين المختار منها حتى إذا نجزت نبهنا بعد نجازها على سر الكتاب
مسألة
431 - استدل الشافعي رضي الله عنه في اشتراط الولى في النكاح بحديث عائشة فإنها روت عن النبي عليه السلام أنه قال
أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل الحديث
وتعرض أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه لذكر محامل وتأويلات ونحن نشير إلى وجوهها على إيجاز حتى يفضي الكلام إلى مقصود هذه المسألة
432 - قال قائلون الحديث محمول على الصغيرة فأنكر عليهم وقيل لهم ليست الصغيرة امرأة في حكم اللسان كما ليس الصبي رجلا وألزموا سقوط التأويل على مذهبهم فإن الصغيرة لو زوجت نفسها انعقد النكاح صحيحا موقوف النفاذ على إجازة الولى وقد قال عليه السلام
فنكاحها باطل ثم أكد البطلان بتكرير الباطل ثلاثا وكان عليه السلام إذا أراد تأكيدا كرر ثلاثا
فقالوا وجه تسمية نكاحها باطلا أنه إلى البطلان مصيره عند فرض رد الولى

واستشهدوا بقوله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون قيل لهم نكاحها يتردد بين النفوذ عند تقدير الإجازة من الولى وبين الرد عند فرض الرد منه ولا يسوغ والحالة هذه التعبير عن إحدى العاقبتين مع تجويز الأخرى وإنما يعبر عما سيكون بالكائن فيما يكون لا محالة كالموت الذي إليه مصير كل ذي روح
433 - ومن تأويلاتهم أنهم يحملون لفظ الرسول على الأمة وزعموا أنه لا يمتنع تسمية الأمة امرأة كما لا يمتنع تسمية السيد وليا ورد ذلك عليهم بوجهين أحدهما أنه نكاح صحيح موقوف كما ذكرنا في الصغيرة ومنتهى الكلام فيه كما سبق والثاني أنه عليه السلام قال
فإن مسها فلها المهر ومهر الأمة لمولاها
434 - وزعم من يدعي التحقيق والتحذق من متأخريهم أن الحديث محمول على المكاتبة واستفادوا بالحمل عليها على زعمهم استحقاقها المهر ثم الأمر عند هؤلاء قريب في حمل المرأة على الأمة والولي على المولى ومن هذا المنتهى منشأ مقصود المسألة
435 - ذهب معظم الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إلى أن هذا الصنف من التأويل مقبول
436 - وقال القاضي هو مردود قطعا وعزا هذا المذهب إلى الشافعي قائلا إنه على علو قدره كان لا يخفى عليه هذه الجهات في التأويلات وقد رأى الاعتصام بحديث عائشة اعتصاما بنص وقدمه على الأقيسة الجلية وكان ذلك شاهد

عدل في أنه رضي الله عنه كان لا يرى التعلق بأمثال هذه المحامل
ومجموع ما نوضح به هذه المسألة طرق نعددها
437 - الأولى أنه عليه السلام ذكر أعم الألفاظ إذ أدوات الشرط من أعم الصيغ وأعمها ما و وأي فإذا فرض فرض الجمع بينهما كان بالغا في محاولة التعميم وقرائن الأحوال متقبلة عند الكافة فإذا قال من ظهرت به مخايل الضجر لمرضه أو إلمام مهم به لبوابه لا تدخل على أحدا فلو أدخل البواب كل ثقيل ولم يدخل أقواما مخصوصين زاعما أني حملت لفظك على الذين منعته لم يقبل ذلك منه
فإذا ابتدأ الرسول عليه السلام حكما ولم يجره جوابا عن سؤال ولم يضفه إلى حكاية حال ولم يصدر منه حلا للإعضال والإشكال في بعض المحال بل قال مبتدئا وإليه ابتداء الشرع بأمر الله وشرح ما أعضل من كتاب الله أيما امرأة فانتحى أعم الصيغ وظهر من حاله قصده تأسيس الشرع بقرائن بينة فمن ظن والحالة هذه أنه أراد المكاتبة على حيالها دون الحرائر اللواتي هن الغالبات والمقصودوات فقد قال محالا ولا يكاد يخفى أن الفصيح إذا أراد بيان خاص شاذ فإنه ينص عليه ولا يضرب عن ذكره وهو يريده ولا يأتي بعبارة مع قرائن دالة على قصد التعميم وهو يبغى النادر قال الشافعي الشاذ ينتحى بالنص عليه ولا يراد على الخصوص بالصيغة العامة
438 - الطريقة الثانية أن التعلق بالظاهر يقتضي ظهوره في مقصود المتكلم من جهة وضع اللسان ومن جهة العرف والتأويل الذي يصغى إليه ثم

يطالب بالدليل عليه وهو الذي ينساغ من ذي الجد من غير أن يتولج في فن الهزء والهزل واللغز وما يقع كذلك فهو مردود
وبيان ذلك بالأمثلة أن الرجل إذا قال رأيت أسدا فقد يعني السبع المعروف وقد يعني به رجلا عجوما مقداما فهذا مساغ لا ينافيه الجد ولكنه تأويل فلو قال رأيت أسدا ويعني رجلا دميما أو أبخر لم يكن ذلك وجها منساغا فإن هذا لا يطلقه أرباب اللغات على انتحاء مسالك التأويل ولا على الجريان على الظواهر فإن أراد مريد ذلك كان ملغزا وإن ادعى جاهل تأويل مثل هذا الوجه لم يقبل ذلك منه ومن الأمثلة التي ذكرناها أن من قال رأيت جمعا من العلماء ثم لما روجع فسر بقطيع من البقر ذهابا منه إلى أنها على علوم تتعلق بمصالحها ومضارها ومنافعها وكذلك لو فسره برؤية سفلة من الجهلة ثم زعم أنهم من العلماء لم يقبل ذلك ولم يعد من المحامل المسوغة وإذا قال القائل لا تمنع فلانا شيئا من مالي ثم فسره بكسرة أو شربة عد جاهلا أو هازلا
439 - ثم اختتم كلامه بطريقة ثالثة تعضد ما تقدم وتستقل بنفسها فقال فقد سلم لرسول الله صلى الله عليه و سلم المخالف والمؤالف أنه كان على النهاية القصوى من الفصاحة ولا حاجة إلى الإطناب في إثبات هذا ولا يخالف من معه مسكة من العقل أن الحمل على ما ذكره هؤلاء يحط الكلام عن مرتبة الفصاحة والجزالة ويحل المتكلم به محل الحصر العيى الذي يعمم في غير غرض ويبتغي التخصيص من غير إشعار به وكل ما يتضمن إلحاق كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمستهجن الغث

فهو مردود على قائله
440 - ثم لما استكمل رضي الله عنه الطرق ختم كلامه بأن قال كل ما قدمته توطئة وتمهيد وضرب أمثال وأنا أعلم على الضرورة والبديهة أن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يرد بقوله أيما امرأة المكاتبة دون غيرها
فهذا منتهى القول في هذا ولا مزيد على ما ذكره القاضي
441 - فإن احتج من يسوع هذا الفن بأن قال الإماء والمكاتبات داخلان تحت العموم عند فرض التمسك بظاهر العموم وكل ما يدخل تحت الظاهر في العموم لا يبعد تنزيل العموم عليه تخصيصا وهذا الذي ذكروه فإنه لا يعارض ما نبهنا عليه فليس المعتبر فيما يقبل ويرد أقيسة وتشبيهات وتلفيق عبارات ولكن إنما يسوغ في التأويلات ما يسوغه الفصحاء وقد قدمنا في صدر هذا المجموع انحسام مسلك القياس في اللغات فإن إرادة النوادر مع إرادة الظواهر ليست بدعا وكذلك إرادة بعض ما يظهر باللفظ العام ليس مستنكرا على شرائط ستأتي فأما إرادة الأقل الأخص باللفظ الأعم الأشمل فهو مردود بالوجه الذي قدمناه
442 - فإن قالوا التخصيص حال في تمييز حكم عموم اللفظ محل الاستثناء ثم يجوز إطلاق لفظ عام يعقبه استثناء لا ينفى إلا الشاذ الأخص فليسغ ذلك في التخصيص أيضا وهذا من الطراز الأول فإنه قياس وتشبيه وتلفيق عبارات مع معاندة القطع
ثم لا يجوز أن يصدر من الرسول عليه السلام مثل هذا الاستثناء وقد منع القاضي

مثله من غير الرسول عليه السلام على ما ذكرناه في مسائل الاستثناء ومن جوز ذلك من غير الرسول عليه السلام فهو في حكم النص المصرح به وإن جىء به في صيغة ركيكة والرسول منزه عن مثل ذلك فقد لاح الغرض من هذه المسألة
مسألة
443 - استدل الشافعي رضي الله عنه في اشتراط تبييت النية في صوم رمضان بقوله صلى الله عليه و سلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل فذكر المخالفون أسئلة تداني ما اشتلمت عليه المسألة الأولى ونحن نعيدها على الإيجاز ونتعداها إلى فن آخر من التأويل المردود
444 - فمما ذكروه حمل الحديث على القضاء والنذر المطلق وهذا مردود بالمسالك المقدمة فإنه عليه السلام قال ابتداء لا صيام ولا النافية إذا اتصلت على حكم التبرئة باسم منكور وجاء الاسم بعدها مبنيا على الفتح كان بالغا في اقتضاء العموم فإذا قال المصطفى صلى الله عليه و سلم ابتداء لابناء على سؤال ولا تطبيقا للكلام على حال لا صيام فظن ظان أن الصوم الذي هو ركن الإسلام وهو القاعدة في الصيام لم يعنه ولم يرده وإنما أراد ما يقع فرعا للفرائض الشرعية كالمنذورات وفرعا للأداء كالقضاء فقد أبعد ونأي عن مأخذ الكلام وهلم جرا إلى استتمام الطرق المقدمة في المسألة الأولى
445 - وذكر أصحاب أبي حنيفة مسلكا آخر في التأويل وعزوه إلى الطحاوي وذكروا أنه كان يتبجح به وهو أنه قال أراد صلى الله عليه و سلم نهى الرجل عن

الاكتفاء بنية صوم الغد في بياض نهار اليوم فقال فعليه أن يؤخر النية إلى غيبوبة الشمس حتى يكون بإيقاع النية في الليل مبيتا وزعم هذا المؤول أن مسلكه هذا يجري في جميع أنواع الصيام فرضها ونفلها وهذا كلام غث لا أصل له وهو يحط من مرتبة الطحاوي أن صح النقل عنه
446 - والدليل على بطلانه وجهان قريبان أحدهما أن هذا اللفظ لو سمعه عربي ناشىء من منبع اللغة لم يسبق إلى فهمه النهي عن إيقاع نية صوم الغد في يوم قبله وبالجملة هذه صورة شاذة نادرة تجري في أدراج الكلام للوسواس يضعها المتكلفون وظاهر الخطاب ينزل على ما يفهمه المخاطبون فإن أنكر الخصم أن المفهوم من الخطاب ما ذكرناه سقطت مكالمته ولم يبق إلا أن يرد إلى حكم اللسان وتفاهم أهل التحاور وإن اعترف أن هذا هو الظاهر فحمل كلام الرسول عليه السلام على نادر شاذ باطل بالمسلك الذي ذكرناه
447 - والوجه الثاني أن هذا الفن إنما يذكر نهيا عن الذهول وتحذيرا من الغفلة واستحثاثا على تقديم التبييت وهذا يجري مجرى الفحوى التي لا ينكرها محصل فإذا حمل حامل ذلك على النهي عن التقديم على الليل كان ذلك نقيض مقصود الخطاب
448 - والكلام الوجيز فيه أن مقصود الخطاب الأمر بتقديم النية والنهي عن تأخيرها عن وقت التبييت وموجب ما ذكره النهي عن التقديم والأمر بالتأخير وليس تخيل ما ذكره هذا القائل في اليوم الذي يلي الغد بأولى من تخيله من يوم قبله بسنة
449 - واعلم هديت لرشدك أن هذه الفنون من الكلام ما كانت تجري في عصور العلماء الأولين وإنما أقدم عليها المتأخرون لأمرين أحدهما التعري عن

مأخذ الكلام والثاني الاستجراء على دين الله تعالى والتعرض لخرق حجاب الهيبة نعوذ بالله منه
450 - مما وجه على هذا الحديث من التأويل حمل النفي فيه على نفي الكمال وهذا أقرب قليلا إلى مسالك التأويلات ولكنه مردود من وجهين أحدهما أن حمل هذا اللفظ على نفي الكمال غير ممكن في القضاء والنذر وهما من متضمنات الحديث وإذا تعين حمل اللفظة على حقيقتها في بعض المسميات تعين ذلك في سائرها فإن الإنسان الفصيح ذا الجد لا يرسل لفظه وهو يبغي حقيقتها من وجه ومجازها من وجه
فإن قالوا ليس القضاء والنذر مقصودين كما ذكرتم قلنا نعم ولكن الشاذ لا يعني باللفظ العام تخصيصا واقتصارا عليه وانحصارا عليه ولا يمتنع أن يشمله العموم مع الأصول
والذي يحقق هذا أنه لو حمل لفظه على نوع من الصوم ثم حمل فيه على نفي الكمال لما كان اللفظ عاما أصلا وكان مختصا بنوع واحد وهو من أعم الصيغ كما تقدم تقريره والدليل عليه أن ما ذكروه من أن الرسول عليه السلام لم يرد القضاء والنذر ليس مذهبا لذي مذهب فإنه إذا امتنع قبول التأويل من غير دليل فلأن يمتنع من غير مذهب أولى
مسألة
451 - استدل الشافعي رضي الله عنه في نكاح المشركات بالقصص المشهورة في الذين أسلموا على العشر والخمس والأختين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لغيلان وقد أسلم على عشر نسوة ثم راجع الرسول عليه السلام في مفارقتهم أو إمساكهن

فقال عليه السلام
أمسك أربعا وفارق سائرهن وقال للذي أسلم على اختين
أمسك أيتهما شئت وفارق الاخرى
فجرت تلك الأقاصيص نصوصا عند الشافعي في أن الكفار إذا أسلموا على عدد من النساء لا يوافق حصر الإسلام فعليهم أن يمسكوا عدد الإسلام ويفارقوا الباقيات ولا يؤاخذون برعاية الأوائل والأواخر ولا يكلفون الجريان على أحكام التواريخ ووجه التمسك بين فإنه عليه السلام علم أنهم على حداثة العهد بالإسلام ولم يخبروا تفاصيل الأحكام ثم أطلق لهم الخيرة في إمساك من شاءوا على شرط رعاية عدد الإسلام
452 - فوجه المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة سؤالين ركيكين أحدهما يسقطه اللفظ فلتقع البداية به ومقصود المسألة السؤال الثاني فأما ما
يدفعه اللفظ فدعواهم أنه أمرهم أن يختاروا الأوائل وهذا
يدفعه قوله عليه السلام لصاحب الأختين
اختر أيتهما شئت وفارق الأخرى وقال عليه السلام لبعضهم وقد أسلم على خمس
اختر أربعا وفارق واحدة قال صاحب الواقعة فعمدت إلى أقدمهن صحبة ففارقتها فلا حاجة إلى الإطناب في ذلك وهو على معاندة اللفظ
453 - فأما الثاني وهو المقصود الذي عقدت المسألة له فهو أنهم قالوا إنه عليه السلام أراد بقوله
أمسك أربعا أن يمسكهن ويجدد عليهم الأنكحة على موجب الشرع

وهذا عند المحققين سرف ومجاوزة حد وقلة احتفال بكلام الشارع فإن الرسول عليه السلام ذكر لفظ الإمساك أولا وموجبه الاستدامة واستصحاب الحال والثاني أن النقلة لم ينقلوا تجديد العقود بل رووا الحكايات رواية من لا يستريب أنهم استمروا في عدد الإسلام على مناكحتهم فيهن وكان المخاطبون على قرب عهد والرسول صلى الله عليه و سلم لا يخاطبهم إلا بما يقرب من أفهامهم والتعبير عن ابتداء النكاج بالإمساك بعيد جدا ناء عن المحامل الظاهرة وفي القصص أنهم جاءوا سائلين عن الفراق أو الإمساك فانطبق جواب رسول الله صلى الله عليه و سلم على سؤالهم ثم النكاح على الابتداء لا يختص بهن بل جوازه سائغ في نسوة العالم وقوله
أمسك أمر وما ذكروه تخيير فينتظم من جوامع الكلام ما يحل محل قرائن الأحوال التي تفضى إلى العلم بإرادة المتكلم
وهذا وإن كان يستدعي مزيد تقرير في النظر ففي هذا المقدار تأصيل الكلام والمحصل ذو المنة يورده إيرادا مقررا وإن أردنا أن نأتي بكلام قريب جدا يستوي في نيله و الإفهام به المتشدق البليغ وذو العي الحصر قلنا
454 - إن جحدا معاند إفضاء ما ذكرناه إلى الغرض نصا لم يجحد ظهور ما ذكرناه وغلبة الظن في صغو قصد الشارع إلى ما قررناه ولا خلاف بين العالمين بالظواهر أن تأويلاتها لا تقبل غير مقترنة بأدلة وغاية المتمسك بهذا المسلك أن يأتي بقياس مظنون ومعنى الظن في أنه يحسبه أنه منصوب الشارع ظنا منه وتقديرا وقد غلب على الظن مقصود الشارع في لفظه فما يغلب متصلا بلفظه على الظن أولى مما يغلب على الظن كونه منصوبا للشارع في فنون الأقيسة وهذا يقع من الظن بعيدا بدرجات عن الظن المختص بلفظ المصطفى عليه السلام

455 - فإن قيل كأنكم تبنون هذا على تقديم الخبر على القياس فتثبتون استواء الظنين ثم تقدمون إحدى المرتبتين وقد لا تساعدون على تقديم الخبر على القياس قلنا ما أهون إثبات هذا علينا وسنذكره مستقصى في كتاب الأخبار
ثم هذه المسألة لا تختص بهذا المأخذ فإن من يرى هذا الفن من التأويل يطرده في تأويل ظواهر القرآن والأخبار المتواترة وإن كان القياس لا يقدم على نصوص القران والسنة المتواترة
456 - والذي يقطع مادة الإشكال في ذلك أنا نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا إذا وجدوا ما يظهر عندهم قصد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه اكتفوا به ولم يميلوا إلىغيره ورأوا من يركن إلى القياس لإزالة ظاهر ما صح عندهم في حكم الراد لخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو تتبع المتتبع الأخبار التي رويت لهم فعملوا بها لوجدها ظواهر والجحد في هذا المقام الآن إنكار البديهة ومداره الضرورة ثم معتضد القياس عملهم به لا غير فإن أنصف الخصم علم أنهم كانوا لا يقيسون في هذه الحال وإن ركب رأسه وطرد شماسه لم يمكنه أن يثبت قياسهم في هذه الصورة ولهذا لا يطمع فيه إلا أخرق ولا شك أنهم ما قاسوا في كل محل
457 - فليتخذ الناظر هذا الفصل معتضدة الأقوى في هذه المسألة وأمثالها وهنالك استبان أن كل ما ظهر في قصد الشارع لم يجر مخالفة ظاهر قصده بقياس فلهذا لم يشتغل الأوائل المتقدمون بما أنشاه ناشئة الزمان من التأويلات

المزخرفة ولم يكن ذلك لغفلتهم عن أمثالها
مسألة
458 - مما يجريه أبناء الزمان في أدراج الاعتراضات ادعاء أمور من طريق الاحتمال من غير نقل فحاولوا بها مداراة الاستدلال
وهذا بمثابة قول بعض أصحاب أبي حنيفة في المسألة التي تقدمت في نكاح المشركات حيث قالوا لم يكن في عدد النساء حصر في ابتداء الشرع ولعل الذين أسلموا كانوا نكحوا في الشرك حين لا حصر وكانت تلك الأنكحة على الصحة ولما أسلموا كان الحصر مستقرا في الشرع فلم يبطل رسول الله صلى الله عليه و سلم أنكحتهم السابقة الموافقة في وقت وقوعها موجب الشرع ولم يقرر عليها بالكلية
459 - وسبيل الكلام على هذا الصنف أن نقول لم يثبت ما ذكروه من أحكام الإسلام في ابتداء الأيام ولا مبالاة بما جاءوا به فلفظ الرسول عليه السلام محمول على ما الشرع عليه الآن ومن قدر أمرا على مخالفة ما يصادفه الآن فدعواه من غير حجة مردودة عليه وهذا متفق عليه فإن أمثال هذه الاحتمالات لو طرقت إلى حكايات الأحوال وأقوال الرسول فيها لما انتظم الاستدلال بواحد منها فإن هذه الفنون المدافعة للاستدلال ممكنة في كل أصل
460 - فإن قيل أليس تأويل الظواهر مقبولا بالإحتمال قلنا ليس الاحتمال مقتضيا قبول التأويل ولكنا رأينا الأولين على الجملة يتمسكون بالتأويلات وكما

رأيناهم متفقين على التأويل مع التعويل على دليل يعضده رأيناهم غير مكتفين بهذه الإمكانات وهذا بمثابة دعوى النسخ من غير ثبت فإن من ادعى نسخا فقد ادعى ممكنا ولكن لا يقبل منه بالإجماع إلا بثبت يعول عليه
فإن نقل أصحاب أبي حنيفة من التواريخ الصحيحة أن الحصر لم يكن في ابتداء الإسلام فيعسر التمسك بتلك الأقاصيص وعلى المتمسك بها أن يثبت وقوعها بعد الحصر وإلا كان الاستدلال معرضا لإجمال واحتمال ومثل هذا الاحتمال مع ثبوت الأصل في حكايات الأحوال ينزل منزلة الاحتمال في صيغ الأقوال
461 - ولكن لو صح ما ذكروه انقدح وراءه نوعان من الكلام
أحدهما أنه إن استقام النقل فيما ادعوه وهيهات فهو مما ادعاه ناشئة الزمان في الحصر في العدد فأما الجمع بين الأختين فلم يصر أحد إلى أنه عهد مسوغا في صدر الشريعة وقوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف معدود عند المفسرين من باب الاستثناء من غير الجنس والمراد من قوله إلا ما قد سلف ما سلف في الجاهلية قبل مبعث المصطفى صلى الله عليه و سلم والدليل عليه أنه قال إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا وكان إذا جرى على صيغته فصيفته تتضمن الإخبار عما مضى فهذا وجه
462 - والوجه الاخر أنا نقول لو صح ما ادعوه من صحة مناكح المشركين لكان قياس الشرع يقتضي أن يبطل جميعها عند ورود الحجر والحصر بالتدافع كما إذا نكح الرجل رضيعتين جميعا أرضعتهما امرأة وثبتت الأخوة بينهما فاستدامة نكاحهما ممتنعة وتخصيص ارتفاع النكاح بأحدهما لا سبيبل إليه فلزم تدافع

النكاحين فإذا سلموا أن طريان الحجر لا يوجب التدافع قام عليهم مسلك في القياس قبل لهم به كما ذكرناه في مسائل الفقه فليطرد الناظر مقصود هذه المسألة في أمثالها وليحمل الخصم على تصحيح النقل فيما يدعيه ولا يكتفي بمجرد الاحتمال أصلا
مسألة
463 - إن صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قوله
من ملك ذا رحم محرم فهو حر فلا يصح تأويل متبعي الشافعي إذا حاولوا حمل اللفظ على الذين هم عمود النسب وهم الأصول أو الفصول وهذا الفن مما لا يلفى في الزمان من يجحده وهو باطل قطعا عند ذوي التحقيق وهذه المسألة عبرة لأمثالها فليمعن الناظر النظر فيها مستعينا بالله تعالى
464 - فنقول قصد رسول الله صلى الله عليه و سلم للتعميم واضح لائح في قوله
من ملك ذا رحم محرم فإن ذلك مما نقل عنه ابتداء لا في حكاية حال ولا جوابا عن سؤال ولا في قصد حل إعضال وكان يعتاد تأسيس الشرع ابتداء فإذا قال من ملك ذا رحم محرم تبين أنه أراد المحارم من ذوي الرحم أجمعين ولو أراد الاباء والأمهات والبنين وعلم تخصيصهم بهذه القضية لنص عليهم فإذا ذكر الأقارب ثم علم أنهم ينقسمون إلى المحارم وغيرهم فخص الحكم الذي نص

عليه بالمحارم من ذوي الأرحام تقرر أنه قصد بذلك الضبط والتشوف إلى ما يسميه أهل الصناعة الحد فكيف يستقيم أن يظن به عليه السلام أنه أراد الذين هم عمود النسب وجرى أيضا كلامه مجرى تعظيم أمر الرحم إذا انضمت إليه المحرمية فانتظم من مجموع ما ذكرناه ظهور قصد التعميم من الرسول فمن رام مخالفة قصده لم يقبل منه وإن عضده بقياس فمستنده ظن المستنبط أنه مراد الشارع وليس له في ألفاظه ذكر فما يظهر من لفظ الرسول عليه السلام كيف يترك بما يظنه القايس على بعد من لفظ الرسول صلى الله عليه و سلم
465 - والقول الضابط في ذلك أنه لو تقدم قياس مظنون على ظاهر من لفظ الرسول عليه السلام لاقتضى ذلك تقديم مرتبة القياس على مرتبة الخبر وسنبين أن الخبر مقدم على القياس
466 - والقدر المقنع فيها أن لو رددنا إلى عقولنا لما سفكنا الدماء المحقونة في أهبها ولما حللنا الأبضاع المعظمة بأقيسة مستندها ظنون ولكنا ألفينا صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم الأكرمين يقيسون في غير موارد النصوص وثبت عندنا بالقاطع السمعي أن الإجماع حجة فإذا وقع العمل عند القياس بإجماعهم والإجماع مقطوع به ثم كانوا لا يقيسون ما وجدوا خبرا وكان الراوي البدوي الموثوق به إذا روى خبرا وظهر لهم قصد رسول الله صلى الله عليه و سلم في تعميم حكم لم

يعرجوا على التأويلات البعيدة لأقيسة تعن لهم
فإذا الألفاظ المأثورة على ثلاث مراتب عندنا
467 - المرتبة الأولى أن يلوح للمؤول أن الشارع لم يقصد التعميم بها فما كان كذلك فلا يسوغ الاستدلال بحكم العموم فيه ولا حاجة إلى التأويل فيه وهذا نضرب فيه أمثالا منها أن الرسول عليه السلام قال ما سقت السماء ففيه العشر وما سقي بنضح أو دالية ففيه نصف العشر فإذا استدل الحنفي بهذا الظاهر في إثبات العشر في كل ما تنبته الأرض كان ذلك مردودا عليهم فإن الرسول استاق كلامه هذا للفرق بين السيح والنضح لا للتعرض لجنس ما يجب فيه العشر فإذا ظهر أن هذا الفن من العموم لم يقصده الشارع وإن جرى في كلامه اللفظ الصالح له وهو ما سقت السماء فالاستمساك به في قصد التعميم باطل إذ ظهر من كلامه خلافه ومن أمثلة ذلك استدلال من استدل من أصحاب أبي حنيفة بقوله تعالى وثيابك فطهر أن قالوا كل ما يقع به التطهير مندرج تحت مقتضى الأمر قال الشافعي الغرض من الآية التعرض لأصل التطهير لا التعرض لأصل التخصيص والتعميم في آلات التطهير والذي يحقق ذلك أن الباحث عن آلة التطهير عند اتصال هذا الخطاب به سائل عن الشيء على وجهه والذي يحقق ذلك قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم استاق الاية لبيان كيفية الوضوء ولم يخصص الغسل بآلة مخصوصة مع اختصاصها بالماء وفاقا

فهذه مرتبة فلتقس على الأمثال التي ذكرناها ما في معناها
468 - والمرتبة الثانية أن يظهر قصد التعميم من الشارع عليه السلام فهذا لا يسوغ تأويله بقياس مظنون كما سبق
469 - والمرتبة الثالثة أن يرد اللفظ ولا يقترن به ما يدل على قصد التعميم ولا ما يدل على نقيضه فهذا ملتطم التأويل وموقف التشاجر بين المستدل باللفظ وبين مدعى التأويل بمعاضدة بالقياس
والقول في هذه المرتبة عندي هين مدركه والحكم الجم لى فيه أن الأمر في ذلك أيضا ليس متروكا سدى بل على الناظر أن يزن حكم ظنه قياسه ومبلغ ظنه في عموم اللفظ وضعا فإن رجحت كفة ظنه في القياس حكم يغالب ظنه وإن غلب الظن في الشق الآخر أتبع الحكم موجب اللفظ وإن استويا فقد قال القاضي يقف الناظر فلا يعمل بهما وأنا أقول يعمل بالخبر فإن الظنين إذا تساويا فالخبر مرجح لعلو المرتبة وهذا مثله قوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات فإذا تمسك الشافعي به في الطهارة كان تمسكه به معرضا للتأويل على القانون المقدم فنتخذ هذه عبرة في مسائل الشرع

مسألة
470 - مما رده المحققون من طرق التأويل ما يتضمن حمل كلام الشارع من جهة ركيكة تنأى عن اللغة الفصحى فقد لا يتساهل فيه إلا في مضايق القوافى وأوزان الشعر فإذا حمل حامل آية من كتاب الله أو لفظا من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه و سلم على أمثال هذه المحامل وأزال الظاهر الممكن إجراؤه لمذهب اعتقده فهذا لا يقبل
471 - ومن أمثلة ذلك حمل الكسر على الجوار في قوله وأرجلكم إلى الكعبين من غير مشاركة المعطوف عليه في المعنى وهذا في حكم الخروج عن نظم الإعراب بالكلية وإيثار ترك الأصول لإتباع لفظة لفظة في الحركة وهذا ارتياد الأردأ من غير ضرورة وإذا اضطر الشاعر إليه في مضايق القوافي لم يعد ذلك من حسن شعره كما قال امرؤ القيس ... كأن ثبيرا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل ...
فقوله مزمل خبر عن قوله كبير أناس جار معه مجرى الصفة ووجه الكلام كبير أناس مزمل في بجاد ولكنه أتبع كسرة اللام الكسرات المتقدمة لما كانت القافية على الكسرة
472 - وقال من أحاط بعلم هذا الباب حمل قراءة من قرأ وأرجلكم بالفتح على المسح في الرجل والمصير إلى أنه محمول على محل رءوسكم أمثل وأقرب إلى قياس الأصول من حمل قراءة الكسر على الجوار فإن كل مجرور

اتصل الفعل به بواسطة الجار فمحله النصب وإنما الكسر فيه في حكم العارض فاتباع المعنى والعطف على المحل من فصيح الكلام ومن كلامهم يا عمر الجواد فإن المنادى المفرد العلم وإن كان مبنيا على الرفع فأصله النصب فرد الصفة إلى محله وأصله حسن بالغ
473 - فالمختار إذا في قوله وأرجلكم ما ذكره متبوع الجماعة وسيد الصناعة سيبويه إذ قال الكلام الجزل الفصيح يسترسل في الأحايين استرسالا ولا تختلف مبانيه لأدنى تغيير في معانيه وترى العرب المسح قريبا من الغسل فإن كل واحد منهما إمساس العضو ماء فإذا جرى في الكلام عطف مقتضاه التشريك وتقارب المعنيان لم يبعد إتباع اللفظ اللفظ وهو كقول قائهم ... ولقد رأيتك في الوغى متلقدا سيفا ورمحا ...
والرمح يعتقل ويتأبط ولا يتقلد ولكن التقلد والاعتقال حملان قريبان وهو مسكوت عنه في المعطوف فسهل احتماله ومنه قول الاخر ... فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ... بالجهلتين ظباؤها ونعامها ...
قال سيبويه وهذا الذي ذكرناه وجه لا يخرج الكلام عن أساليب البلاغة والجزالةوتبسط المتكلم واسحنفاره وعدم انصرافه عن استرساله في التفاصيل أحسن وأبلغ من خرم اتساق الكلام لدقائق في المعاني لا تحتفل بها العرب ثم عضد ما قاله بأن قال ذكر الرب تعالى فرض الرجلين ذكره فرض اليدين

وربط منتهى الغرض في الرجلين بالكعبين ربطه واجب منتهى فرض اليدين بالمرفقين ومن يكتفي بالمسح فلا معنى لذكر الكعبين عنده وهذا راجع إلى إطباق حملة الشريعة قبل ظهور الاراء على غسل الرجلين ولما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبين الوضوء غسل رجليه فاجتماع هذه الأمور في القرآن والسنة وفعل السلف أظهر من الجريان على ما يقتضيه ظاهر العطف
474 - ومال الكلام في المسألة راجع إلى أن من حمل كلام الشارع على وجه ركيك من غير ضرورة مخققه ولا قافية مضيقة جره ذلك إلى نسبة الشارع إلى الجهل باختيار فصيح الكلام أو إلى ارتياد الركيك من غير غرض وكلا الوجهين باطل
475 - فإن قيل بناء فعالل و فعاليل مما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة وصرفه معدود من ضرورات الشعر وفي القران قراءات عصبة من القراء سلاسلا وأغلالا وقواريرا فما وجه صرف ذلك وليس صرفه مسوغا في سعة الكلام
قلنا اختلف أصحاب المعاني في ذلك فقال قائلون الألف في سلاسلا تضاهى إطلاق القوافى ثم قد تبدل العرب الألف نونا فتستروح إلى عينها استرواحها إلى استرسال الألف وفي الغايات ومقاطع الآيات بعض أحكام القوافى والصحيح أن الأصل صرف كل اسم متمكن وليس في صرف ما لا ينصرف خروج عن وضع الكلام وإنما منع الصرف في حكم تضييق طارىء على الكلام وأما كسر الجوار فخارج عن القانون كما سبق تقريره

ولسنا نلتزم الان تتبع كل مشكلة في القرآن وإنما غرضنا أن نبين أن الاحتكام بتأويل يتضن صرف الكلام إلى وجه ركيك في محل الظن غير سائغ من غير غرض
مسألة
476 - مما غلظ الشافعي فيه القول على المؤولين كل ما يؤدي التأويل فيه إلى تعطيل اللفظ
وخرج الشافعي على ذلك مسائل مستفادة ونحن نرى أن نفردها مسألة مسألة
477 - ونبدأ الان بالكلام على قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء الآية قال الشافعي أضاف الله تعالى الصدقات بلام الاستحقاق إلى أصناف موصوفين بأوصاف فرأى بعض الناس جواز الاقتصار على بعضهم ذاهبا إلى أن المرعى الحاجة وهذا في التحقيق تأسيس معنى يعطل تقييدات أمر الله تعالى فلو كانت الحاجة هي المرعية لكان ذكرها أكمل وأشمل وأولى من الأقسام التي اقتضاها اللفظ ومقتضاها الضبط
فإذا قال المؤول الغرض التعرض للحاجة في جهة من هذه الجهات كان معطلا مؤولا فإن الحاجة قد لا تستمر في بعض الأصناف كالعاملين عليها وكبعض الغارمين الذين يتحملون الحمالات لتطفئة النائرة والفتن الثائرة فقد بطل التعويل على الحاجة
وإن كان أبو حنيفة يرعى الحاجة في جميع الأصناف فالمصير إلى

الكفاية ببعض جهات الحاجات تحكم والنص مصرح بذكر جميع الحاجات في معرض التشريك والعطف والتمليك ولو كان المراد ما تخيله المؤول لكان وجه الكلام إنما الصدقات للفقراء والمساكين فاستبان أن ما صار إليه المعترضون تعطيل وليس بتأويل
478 - واحتج الشافعي بالوصية على هؤلاء ولم يظن أن أحدا يجسر أن يقدم فيها على منع وتمام كلامه أنه إذا تعين اعتبار لفظ الموصى واعتقاده نصا فيجب تنزيل لفظ الكتاب على مثل ذلك وقد أحدث بعض المتأخرين منعا في الوصية وزعموا أنها بمثابة الصدقات فيجوز صرفها إلى واحد من ذوي الحاجات وهذا باطل قطعا فإن الوصايا تتلقى من ألفاظ الموصين فإذا صرف واحد طائفة من ماله إلى جهات عددها كان كما لو صرفها إلى أشخاص معينين فهذا منتهى المراد في هذه المسألة
مسألة
479 - مما عده الشافعي من القبيل المقدم الكلام على قوله تعالى فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى فقال علق الله الاستحقاق بالقرابة ولم يتعرض لذكر الحاجة فاعتبر أبو حنيفة الحاجة ولم يشترط القرابة والذي ذكره مضادة ومحادة
وقد ينقدح عندي نوع من الكلام في ذلك وهو أن يقال حرمت الصدقات على ذوي القربى فكان فائدة ذكرهم في خمس الفىء والغنيمة إيضاح أنه لا يمتنع من صرف ذلك إليهم امتناع صرف الصدقات وهذا مما لا ينبغي أن يغتر

به فإن صيغة الآية ناصة على سبب الاستحقاق لهم على حكم التخصيص والتشريف والتنويه والتنبيه على عظم أقدارهم فمن أراد حمل ذلك مع ما ذكرناه على جواز أن يصرف إليهم مع معارضة هذا الجواز جواز حرمانهم فقد عطل فحوى الاية
وهذا يعظم وقعه عليهم مع مصيرهم إلى أن اشتراط الإيمان في رقبة الظهار زيادة على النص فإن الرقبة مطلقة والقرابة في الاية مطلقة فيلزمهم أن يعتقدوا اشتراط الحاجة معها في حكم الزيادة
والذي نختتم المسألة به وهو البالغ أنهم لو حتموا صرف شيء إلى القرابة وشرطوا الحاجة لقرب ما ذكروا بعض القرب فأما وأصلهم أن المخصوصين من نسب الرسول والدانين من شجرته كالعجم الطماطم فلا يبقى مع هذا لمذهبهم وجه
مسألة
480 - من فاسد تصرفات أصحاب أبي حنيفة قولهم في قوله تعالى فإطعام ستين مسكينا تقديره فإطعام طعام ستين مسكينا قصدوا بهذا رد العدد إلى الطعام كي ينتظم لهم مذهبهم في جواز صرف الأطعمة إلى مسكين واحد
وهذا كلام خارج عن الضبط لا يخفى درك فساده على من شدا طرفا من العربية ونحن نذكر في ذلك على الإيجاز قولا بليغا
فنقول الإطعام مما يتعدى إلى مفعولين والفعل المتعدى إلى مفعولين ينقسم قسمين قسم يتعدى إلى مفعولين لا ينتظم منها مبتدأ وخبر لو فرض حذف الفعل

فتقول أعطيت زيدا درهما وأطعمت عمرا طعاما فلا يتسق من زيد والدرهم وعمرو والطعام مبتدأ وخبر عند تقدير حذف الفعل فلا تقول زيد درهم ولا عمرو طعام
والقسم الثاني ما يتعدى إلى مفعولين ينتظم منهما مبتدأ وخبر إذا حذف الفعل كقوله ظننت زيدا عالما فلو حذفت الفعل فقلت زيد عالم لكان كلاما مفيدا فما كان مفعولاه مبتدأ وخبرا تقديرا فإذا ذكر المتكلم أحد المفعولين تعين ذكر الثاني لما بين المفعولين من ارتباط الخبر بالمخبر عنه وما يختلف المفعولان فيه كالقسم المقدم فلا يمنع ذكر أحدهما والسكوت عن الثاني فتقول أعطيت زيدا وتقتصر وتقول أعطيت درهما ولا تذكر الموهوب له وقد تذكرهما والكل فصيح بالغ والسبب فيه أنه لا ارتباط لأحد المفعولين بالثاني من طريق الإخبار وإنما البناء للفعل والمخبر يتخير إن أحب أسنده إليهما وإن أحب أسنده إلى أحدهما فالتعويل على الفعل في باب الإعطاء ولهذا لا يسوغ تعطيل عمله وإن تقدم المفعولان في وجه الكلام فتقول زيدا درهما أعطيت فإذا تقدم مفعولا ظننت لم يقع فعل الظن موقعا فتقول زيد عالم ظننت لا يتجه غيره وإن وسطت الفعل تخيرت بين الإعمال والإلغاء فإن شئت قلت زيد ظننت عالم وإن شئت قلت زيدا ظننت عالما وإن قدمت الفعل فوجه الكلام الإعمال لظهور الاعتناء بالفعل إذا قدم
481 - فإذا ثبت ما نبهنا عليه من هذه القاعدة رجع بنا الكلام بعد هذا إلى قوله تعالى فإطعام ستين مسكينا والمساكين معطون والطعام في هذاالتقدير المفعول الثاني فقد جرى الكلام على إظهار أحد المفعولين وترك الثاني لما في الكلام من الدليل عليه وقد أوضحنا أن ذلك سائغ غير ممتنع وإذا ظهر أحد المفعولين أشعر ظهوره بقصد المتكلم إلى تصديق الاعتناء به والاكتفاء في الثاني

بما في الكلام من الدلالة عليه وطعام المسكين مشعر بقدر سداده وكفايته فلم يجر للقدر المذكور ذكر ووقع الاعتناء بذكر عدد الاخذين
هذا بيان الكلام فمن عذيرنا ممن يقدر حذف المظهر المعتبر وإظهار المفعول المسكوت عنه وهذا عكس الحق ونقيض الصدق وتغيير قصد الكلام بوجه لا يسيغه ذو عقل وقد أجرينا في الأساليب والعمد مسائل ومعتمد المذاهب فيها الأخبار وتناهينا في الكلام عليها فمن أرادها فليطلبها في مواضعها كمسألة خيار المجلس وبيع العرايا والمصراة وغيرها
ومن أعظم ما انبسط الكلام فيه نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع البر بالبر في مسألة الحفنة بالحفنتين فلم نرسم هذه المسائل واكتفينا بإيرادها في مواضعها
مسألة
482 - إذا ظهر من رسول الله صلى الله عليه و سلم لفظ يدل على تعليل حكم فلا يرى الشافعي إزالة ذلك الظاهر بقياس وهذا كما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن بيع الرطب بالتمر قال للسائل
أينقص الرطب إذا يبس فقال نعم قال عليه السلام
فلا إذا فعلل منع بيع الرطب بالتمر بنقصان الرطب عند الجفاف عن التمر وهذا وإن لم يكن نصا في وضع اللسان في التعليل بحيث لا يقبل إمكان التأويل فهو ظاهر فيه فمن أراد أن يزيل هذا الظاهر بقياس كان ما يحاوله مردوا عليه والسبب فيه أن أصل قياسه إذا كان القياس قياسا معنويا معلل والقايس مطالب بإثبات العلة

وسيتعلق إذا طولب بمسلك من الظنون وظهور كلام الرسول في التعليل مقدم على ما يظهر في ظن المستنبط ويرجع بناء الكلام إلى تقديم مرتبة الخبر على مرتبة ظن القياس وهذا إذا لم يجد المؤول العاضد تأويله بالقياس لأصل قياسه كلاما يظهر للشارع في تعليل أصل القياس فإن وجد ذلك من كلام الشارع استوت المنزلتان والتحق ذلك بالتعارض وسيأتي قول بالغ في التعارض في كتاب الأخبار إن شاء الله تعالى
مسألة
483 - إذا وردت مناه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في عقود وظهر من شيم العلماء القائمين بالشرع حملها على الفساد فإذا اتفق التعلق بنهي عن العقد وهو على صيغ سائر المناهى فالشافعي لا يقبل حمله على الكراهية وهذا كنهيه عليه السلام عن نكاح الشغار فمن أراد حمله على الكراهية قيل له قد ثبت من عادات السلف الماضين حمل أمثال ما ذكرناه وتمسكنا به على الفساد وهذا الذي تعلقنا به على صورة سائر المناهى ونحن نعلم بما تحقق عندنا من شيم الماضين أن هذا لو نقل إليهم لجروا فيه على ما القوه في أمثاله فمن أراد مخالفة ما ظهر لنا منهم كان في حكم المخالف لهم
484 - وهذا عندي لا يبلغ في السقوط مبلغ ما تقدم من التأويلات في المسائل لا سيما والذي مثلنا به نواه في البيع والنكاح في وضعه بعيد الشبه بالبيع فلا يلزم من جريانهم على حمل المناهى في البيع القابل للفساد بالشروط الحكم بمثل ذلك عليهم في النكاح البعيد عن قبول الفساد بالشرط
وهذا الذي ذكرناه من المسائل لم نقصد بها حصر ما يفسد ويصح فإن

ذلك لا ينحصر ولكن رمنا بإيرادها الإيناس بها وإجراءها أمثالا وشواهد في تمهيد الأصول
485 - والضابط المنتحل من مسائل هذا الكتاب أن المؤول يعتبر بما يعضد التأويل به فإن كان ظهور المؤول زائدا على ظهور ما عضد التأويل به فالتأويل مردود وإن كان ما عضد التأويل به أظهر فالتأويل صائغ معمول به وإن استويا وقع ذلك في رتبة التعارض والشرط استواء رتبة المؤول وما عضد التأويل به فإن كان مرتبة المؤول مقدمة فالتأويل مردود وكل ذلك إذا كان التأويل في نفسه محتملا فإن لم يكن محتملا فهو في نفسه باطل والباطل لا يتصور أن يعضد بشيء
فليتخذ الناظر ما ذكرناه مرجوعه ومعتبره في جميع مسائل الشريعة
عود إلى ترتيب الكتاب
486 - وقد نجز مرادنا في التأويل تفصيلا وتأصيلا ونحن الآن نجدد العهد بترتيب يشتمل على ما مضى من الكتاب وعلى ما سيأتي منه حتى يتجدد عهد الناظر بترتيب أبواب الكتاب فإن معرفة الترتيب من أظهر الأعوان على درك مضمون العلوم القطعية
فنقول والله المستعان
487 - مقصود هذا الفن ذكر أصول الفقه على حقائقها ومراتبها ومناصبها وتفاصيلها وجملها

فأصول الفقه أدلته كما صدرنا الكتاب به وما يحال عليه أحكام الشرع وتعتقد مرتبطا لها ثلاثة أقسام نطق الشارع والإجماع الحاصل من حملة الشريعة وهم علماؤها ومسالك الاستنباط من مواقع ألفاظ الشارع وهو القياس
فأما نطق الشارع فنعني به قول الله تعالى وقول الرسول عليه السلام وينقسم الصنفان إلى النص والمجمل والظاهر وقد سبقت مفصلة فيقع القول في مقتضيات الألفاظ فنا كبيرا وصنفا عظيما ويحوي العموم والخصوص وصيغة الأمر والنهي وما يلحق بهذه الأبواب وقد مضى جميع ذلك
ثم قول الرسول عليه السلام ينقسم إلى متواتر وإلى ما ينقله الاحاد كما سيأتي إن شاء الله تعالى
فأما قول الله فهو الذي أجمع المسلمون عليه من السور والآيات في القرآن وألحق بعض المتكلمين القراءات الشاذة بأخبار الآحاد وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى والحق المختار عندنا في كتاب الأخبار
وقد ذكرنا أحكام الألفاظ وبقى علينا تقاسيم أخبار الرسول عليه السلام ومواقعها والمقطوع به منها والظنون
ونحن الآن نفتح كتاب الأخبارعلى أشمل وجه وأوجزه فإذا انتجز عقبناه بالإجماع ثم نذكر بعده كتاب القياس ثم نعقبه بكتاب الترجيح ثم نذكر بعده النسخ ثم إذا انتجز ذكرنا الفتوى وصفات المفتين والاستفتاء وما على المستفتين وأوصاف المجتهدين ونختتم الكتاب بالقول في تصويب المجتهدين وهو غاية الغرض من هذا المجموع فنبتدىء الآن

باب الأخبار
488 - الأخبار صنف من أصناف الكلام وهو قائم بالنفس عند معتقد كلام النفس والعبارات تراجم عنه وقد ذكرنا في إثبات كلام النفس والغوائل المتطرقة إلى مثبتيه ما فيه مقنع للمعتبر ومضطرب للمتفكر
والخبر هو الذي يدخله الصدق والكذب ويتميز بذلك عن جميع أقسام الكلام كالأمر والنهي والاستخبار على ما قدمنا رأى كل فريق في تقاسيم الكلام
فرأى القاضي الصدق والكذب على التنويع بلفظ أو إذ ذلك أمثل من الإتيان بهما فإن من قال الخبر يدخله الصدق والكذب أو هم إمكان اتصالهما بخبر واحد وإذا ردد ونوع فقال ما يدخله الصدق أو الكذب فقد تحرز من ذلك والذي تقتضيه صناعة الحد ارتياد أبلغ الألفاظ وأبعدها عن الإيهام وأقربها إلى الأفهام والذي لم يأت بالكلام على صيغة التنويع قال لسنا نحاول حد خبر واحد وإنما نتعرض لجنس الخبر والصدق والكذب يجريان في جنس الخبر والقول في ذلك قريب
489 - فإن قيل لم سمى الأصوليون ما نقله الرواة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبارا ومعظمها أوامر ونواه
فأجاب القاضي عن ذلك بوجهين أحدهما أن حاصل جميعها آيل إلى الخبر فالمأمور به في حكم المخبر عن وجوبه وكذلك القول

في النواهي وبهذا دلت المعجزة على وجوب قبولها منه والمعجزة تدل على الصدق والسر فيه أنه عليه السلام ليس آمرا على الاستقلال وإنما الآمر حقا الله تعالى وموضع صيغ الأمر من المصطفى صلى الله عليه و سلم في حكم الأخبار عن أمر الله فهذا وجه تسمية جميع المنقول خبرا
490 - والوجه الثاني أنها سميت أخبارا لنقل النقلة المتوسطين وهم مخبرون عمن روى لهم والذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا لا يقولون إذا بلغهم أمر أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بل يقولون أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فالمنقول إذا استجد اسم الخبر في المرتبة الثالثة إلى حيث انتهى
ثم أول ما نبتديه القول في تقاسيم الأخبار إلى المتواتر والمنقول آحادا وإذا تم غرض القمسين نجز بنجازه معظم مقصود الكتاب
فلتقع البداية بالخبر المتواتر
القول في الخبر المتواتر
491 - الذي يقتضيه الترتيب أن نصدر الخبر بذكر شرائطه ونصف الخبر المتواتر ثم نذكر قول الناس فيه وفي إفضائه إلى العلم
فنقول ذكر الأصوليون شرائط الخبر المتواتر
منها أن يخبر المخبرون عما علموه ضرورة فإذ ذاك يتضمن العلم ويقتضيه فأما إذا أخبروا عما علموه نظرا فنفس خبرهم لا يقتضي علما وإن أخبر

أهل الزمان قاطبة بحدث العالم لم يفد خبرهم علما وكانت طلبات العقل قائمة إلى حين قيام البرهان والذين أخبروا عن كثير من النظريات زائدون على عدد النقلة تواترا
والسبب في ذلك أن النظر مضطرب العقول ولهذا يتصور الاختلاف فيه نفيا وإثباتا فلا يستقل بجميع وجوه النظر عاقل والعقلاء ينقسمون أولا إلى راكن إلى الدعة والهويني من برحاء كد النظر وإلى ناظر ثم النظار ينقسمون ويتحزبون أحزابا لا تنضبط على أقدار القرائح في انتهاء ذكائها واتقادها وبلادتها واقتصادها ومن أعظم أسباب اختلافهم اعتراض القواطع والموانع قبل استكمالها النظر فلا يتضمن أخبار المخبرين في مجارى النظريات صدقا ولا كذبا
492 - وقيد طوائف من الأصوليين هذا الركن الذي فيه نتكلم باشتراط إسناد الأخبار إلى المحسوس ولا معنى لهذا التقييد فإن المطلوب صدر الخبر عن العلم الضروري ثم قد يترتب على الحواس ودركها وقد يحصل عن قرائن الأحوال ولا أثر للحس فيها على الاختصاص فإن الحس لا يميز احمرار الخجل والغضبان عن احمرار المخوف المرعوب وإنما العقل يدرك تمييز هذه الأحوال ولا معنى إذا للتقييد بالحس
493 - والوجه اشتراط صدر الأخبار عن البديهة والاضطرار ثم لا نظر إلى تفاصيل مقتضيات العلوم الضرورية فهذا شرط

494 - ومما يشترط في الخبر المتواتر الذي يفضي إلى العلم صدوره عن عدد وقد اضطرب الناس في ذلك اضطرابا فاحشا فنقل أصحاب المقالات عن النظام أنه قال قد يتضمن إخبار الواحد العلم الضروري فلا يشترط على موجب هذا النقل عنده عدد ولا يتضح مذهبه الآن نبين حقيقته عند ذكرنا الحق المختار
495 - وذهب من سواه من الخائضين في هذا الفن إلى اشتراط العدد ثم تباينت مذاهبهم فيه فلم يغادروا على اختلاف الاراء عددا في الشرع وهو مرتبط حكم أو جار وفاقا في حكاية حال إلا مال ذاهبون بالاعتقاد إليه فذهب قوم إلى اعتبار الأربعين مصيرا إلى عدد الجمعة عند بعض الفقهاء وذهابا إلى أن هذا العدد هو الذي نزل فيه قوله تعالى يايها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين نزلت هذه الاية لما امن أربعون من الرجال وكملت العدة بإسلام عمر وذكر بعضهم عدد رجال بدر وهم ثلثمائة وثلاثة عشر وذكر آخرون عدد أهل بيعة الرضوان وهم كانوا ألفا وسبعمائة واعتبر آخرون السبعين لقوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا وقال طوائف من الفقهاء ينبغي أن يبلغوا مبلغا لا يحويهم بلد ولا يحصيهم عدد وهذا سرف ومجاوزه حد وذهول عند مدرك الحق
496 - وقال القاضي أعلم أن عددهم يزيد على اقصى العدد المرعى في بيانات الشريعة وزعم أن إخبار الأربعة لا يتضمن العلم فإنه عدد بينة الزنا ونحن نعلم أن البينات في تفاصيل الحكومات لا تثمر العلوم وما زال القضاة مكتفين بغلبات الظنون في أقضيتهم ثم لم يقطع القاضي بأن إخبار الخمسة يوجب العلم ولم ينفه وإنما

محل قطعه أن الأربعة لا يوجب إخبارهم العلم
وذكر القاضي رحمه الله في بعض مصنفاته أن الوجه في درك ذلك أن يمتحن اللبيب أخبار المخبرين عن الضروريات فلا يجد من نفسه العلم على عدة مخصوصة والمخبرون يتزايدون والممتحن في ذلك يحس وجدان نفسه وما يدركه من الثلج واليقين ويتخذ العدد الذي اتصل بأخبارهم علمه معتبرا
497 - والذي أراه أن هذه المذاهب منقسمة فمنها ما هو مصروف عن مدرك الحق ومنها ما هو محوم وليس بوارد ونحن نتتبع جميعها بالنقض حتى إذا بطلت لاح من منتهى بطلانها الحق المبين ونستفتح عند ذلك وجه الحق مستعينين بالله
498 - ونبدأ باتباع مذاهب أصحاب الأعداد ونتكلم على جميعهم بثلاثة أنواع من الكلام أحدها أن نعارض بعض المذاهب ببعض فلا يتجه عند تعارضها ترجيح بعض على بعض وإن عن ترجيح فليس ذلك من مدارك الحق المقطوع به فإن الترجيحات ثمراتها غلبات الظنون في مطرد العادة
499 - والثاني أنه لا يتعلق شيء من هذه الأعداد التي هي مستندات المذاهب بالأخبار وإنما هي قضايا واتفاقات جرت في حكايات أحوال وليس في العقل ما يقضى بمناسبة شيء منها لاقتضاء العلم فلا وجه لاعتبار شيء منها

500 - والوجه الثالث أن المطلوب من الخبر المتواتر وجدان الصدق على ثلج من الصدر في المخبر عنه وما من عدد تمسك به طائفة إلا ويمكن فرض تواطئهم على الكذب فكيف يفيد النظر إلى عدد ربط به مقصود غير مناسب للمطلوب من الخبر المتواتر مع إمكان تصور الخبر على حكم الخلف الذي يبغى سامع الخبر انتفاءه
وبالجملة الأعداد التي تمسك بها هؤلاء منقسمة إلى ما تقدر معتبرة في أقاصيص وحكاية أحوال على وفاق وكان لا يمتنع أن يقع أقل من تلك المبالغ أو أكثر وإلى ما ورد في أحكام لا تعلق لها بالصدق والكذب فلا معنى للتمسك بها
501 - وأما ما ذكره القاضي فهو موافق فيما أخرجه عن الضبط ونفاه حيث قال ليس الأربعة عدد التواتر فأما تردده في الخمسة فلا وجه له فإنا لا نبعد في مجرى الاعتياد التواطؤ على الكذب من خمسة وستة وليس ذلك من الأمور البديعة المعدودة من نوادر وقائع الزمان والذي جعله معتبرا من أمر البينات ليس بالمرضى فيما نطلبه فإن مما ورد الشرع به الاستظهار بمزيد العدد في الوقائع الخطيرة وقد يستظهر القاضي بعد تمام عدة البينة بالتماس مزيد في الشهود ثم ما يفرض من مزيد لا يفضى إلى العلم المقطوع به فلئن كان الخامس خارجا عن عدد البينات فهو داخل في الاستظهار المأذون فيه ولم نذكر هذا الفصل لنتخذه معولنا ولكنا عارضنا القاضي بما ينقض عليه مذهبه
502 - وأما من قال إن عدد التواتر لا يحويهم بلد ولا يحصيهم عدد فقد أسرف فإن التواتر يقع بدون ذلك وإذا أخبر جمع كثير في بلدة عن واقعة

شاهدوها واستجمع إخبارهم الشرائط المرعية التي نحن في تفصيلها فيحصل العلم الضروري بإخبارهم وهم بعض من أهل البلدة والخروج عن إمكان العدد لا يعتبر شرطا وليس عدد معظم أهل الدنيا خارجا عن إمكان البشر
فإذا بطلت هذه المذاهب ولم يبق إلا مذهب النظام فسندرجه في مجاري الكلام المشتمل على اختيار الحق
503 - فإن قيل فماذا ترضون في ذلك
قلنا الخوض فيما نؤثره يستدعي تقديم أمر وهو أن العلوم الحاصلة على حكم العادات وجدناها مرتبة على قرائن الأحوال وهي لا تنضبط انضباط المحدودات بحدودها ولا سبيل إلى حجدها إذا وقعت وهذا كالعلم بخجل الخجل ووجل الوجل ونشط الثمل وعضب الغضبان ونحوها فإذا ثبتت هذه القرائن ترتب عليها علوم بديهية لا يأباها إلا جاحد ولو رام واجد العلوم ضبط القرائن وصفها بما تتميز به عن غيرها لم يجد إلى ذلك سبيلا فكأنها تدق عن العبارات وتأبى على من يحاول ضبطها بها
وقد قال الشافعي رحمه الله من شاهد رضيعا قد التقم ثديا من مرضع ورأى فيه اثار الامتصاص وحركات الغلصمة وجرجرة المتجرع لم يسترب في وصول اللبن إلى جوف الصبي وحل له أن يشهد شهادة باتة بالرضاع ولو أنه لم يبت شهادته في ثبوت الرضاع ولكنه شهد على ما رأى من القرائن وأطنب في وصفها واستعان بالوصافين المعرفين فبلغ ذكر القرائن مجلس القاضي فلا يثبت

الرضاع بذلك لأن ما سمعه القاضي وصف لا يبلغ مبلغ العيان والذي يفضي بالمعاين إلى درك اليقين يدق مدركه عن عبارة الوصافين ولو قيل لأذكى خلق الله قريحة وأحدهم ذهنا افصل بين حمرة الخجل وحمرة الغضب وبين حمرة المرعوب لم تساعده عبارة في محاولة الفصل فإن القرائن لا تبلغها غايات العبارات
504 - فإذا تمهد ذلك قلنا
لا يتوقف حصول العلم بصدق المخبرين على حد محدود وعدد معدود ولكن إذا ثبتت قرائن الصدق ثبت العلم به فإذا وجدنا رجلا مرموقا عظيم الشأن معروفا بالمحافظة على رعاية المروءات حاسرا رأسه شاقا جيبه حافيا وهو يصيح بالثبور والويل ويذكر أنه أصيب بوالده أو ولده وشهدت الجنازة ورؤى الغسال مشمرا يدخل ويخرج فهذه القرائن وأمثالها إذا اقترنت بإخباره تضمنت العلم بصدقه مع القطع بأنه لم يطرأ عليه خبل وجنة والذي ذكره النظام ما أراه إلا في مثل هذه الصورة فإنه لا يخفى على غبي من حثالة الناس أن الواحد قد يخبر صادقا وقد يخبر كاذبا فلا تقع الثقة بأخباره
ولكن لعله قال لا يبعد أن يحصل الصدق بإخبار واحد فعزى إليه جزم القول في ذلك مطلقا وليس من الإنصاف نسبة رجل من المذكورين إلى الخروج عن المعقول من غير غرض
505 - وإذ ذكرت إمكان حصول العلم بصدق مخبر واحد فإنى أفرض تخلف العلم بالصدق عن إخبار عدد كثير وجم غفير إذا جمعتهم إيالة وضمنهم في اقتضاء الكذب حالة فإن الملك قد يواطىء قواد الجند في مكيدة ليواطئوا بالمترتبين في جملتهم وغرضه إخفاء أمره ليشن غارة فيقع التواطؤ على الكذب فيما أشرنا

إليه ولا تعويل على العدد بمجرده أصلا
ولكن إذا انتفى ما ذكرناه من تقدير جامع على التواطؤ وبلغ المخبرون مبلغا لا يقع في طرد العادة اتفاق تعمد الكذب فيهم ولا يجري ذلك من امثالهم سهوا وغلطا أيضا فتصير حينئذ الكثرة مع انتفاء أسباب التواطؤ قرينة ملحقة بالقرائن التي ترتبت عليها العلوم فالعدد في عينه ليس مغنيا إذ يتصور معه تقدير حالة ضابطة وإيالة حاملة على الكذب رابطة للكذب
506 - وأنا الآن أنخل للناظر جميع مصادر المذاهب ليحيط بها ويقضى العجب من الاطلاع عليها ويتنبه لسبب اختلاف الاراء فيها ويجعل جزاءنا منه دعوة بخير
507 - أما النظام فإنما نظر إلى إمكان الصدق مع القرينة وإن اتحد المخبر ولم يطرد ذلك في كل أحد
508 - ونقل النقلة عن السمنية أنهم قالوا لا ينتهى الخبر إلى منتهى يفضي إلى العلم بالصدق وهو محمول على أن العدد وإن كثر فلا يكتفي به حتى ينضم إليه ما يجري مجرى القرينة من انتفاء الحالات الجامعة
509 - وذهب الكعبي إلى أن العلم بصدق المخبرين تواترا نظرى وقد كثرت

المطاعن عليه من أصحابه ومن عصبة الحق والذي أراه تنزيل مذهبه عند كثرة المخبرين على النظر في ثبوت إيالة جامعة وانتفائها فلم يعن الرجل نظريا عقليا وفكرا سبريا على مقدمات ونتائج وليس ما ذكره إلا الحق
510 - وظن ظانون أن العدد معتبر فانقسموا قسمين فاختبط قوم ولم يجدوا متعلقا عقليا فارجحنوا إلى أعداد سمعية وكان هؤلاء أبعد البرية عن درك الحق
وتفطن آخرون لبطلان هذا المأخذ مع الاصرار على التشوف إلى العدد فغلا غالون فقالوا هم الذين لا يحويهم بلد وهذا كلام ركيك واقتصد القاضي فضبط ما رآه دون عدد التواتر وبقى على تردد في عدد التواتر
511 - ومن عجيب الأمر وهو خاتمة الكلام ما أبديه الان قائلا الكثرة من جملة القرائن التي تترتب عليه العلوم المجتناة من العادات مع انضمام انتفاء الإيالات عنها وكل قرينة تتعلق بالعادة يستحيل أن تحد بحد أو تضبط بعد وما عندي أن ذلك يخفى على المستطرفين في هذا الفن فليت شعري كيف تشوفوا إلى ضبط ما يستحيل ضبطه ثم اختلفوا وتقطعوا
512 - وأنا أقول المحكم في ذلك العلم وحصوله فإذا حصل استبان للعاقل ترتبه على القرائن فإن العلم في العادة لا يحصل هزلا وقد يختلف ذلك باختلاف الوقائع وعظم أخطارها وأحوال المخبرين وهذا هو المنتهى الذي ليس بعده مطلب لمتشوف
ونحن نذكر بعد ذلك مجامع من كلام الناس في شرط التواتر وراء ما ذكرناه بعضها قريب مقتصد وبعضها باطل

513 - فمما ذكره الأصوليون في شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة وعنوا به أن العصور إذا تناسخت فلا يكفي توافر الشرائط وكمال العدد في طرف النقل من الرسول صلى الله عليه و سلم مثلا بل ينبغي أن يدوم ذلك في كل عصر وقد ينقلب التواتر احادا وقد يندرس ما تواتر دهرا على ما سيأتي ذلك مشروحا
فالمتواتر من أخبار الرسول صلى الله عليه و سلم في حقوقنا ما اطردت الشرائط فيه عصرا بعد عصر حتى انتهى إلينا وهذا لا خفاء به ولكنه ليس من شرائط التواتر وحاصل ذلك أن التواتر قد ينقلب احادا وليس الأمر كذلك ولكنه من تفاصيل القول فيما يتواتر وينقلب احادا وليس من شرائط وقوع التواتر
514 - وذكر بعض أصحاب المقالات عن اليهود أنها اشترطت في التواتر أن يكون في المخبرين أصحاب ذلة وصغار وزعموا أنه إذا كان أصحاب الأخبار أصحاب الاختيار ولم يختلط بهم أقوام هم تحت صغار الانتهار فقد يظن بذوي الاختيار الاستجراء على الكذب
وهذا ساقط فإنا على اضطرار نعلم أن الجمع العظيم مع رعاية القرائن المذكورة إذا أخبروا عن واقعة عاينوها نعلم صدقهم وإن لم يكن من جملتهم أهل ذلة ومثل هذا لا يعارضه تشكيك المتخيلين وما تشبثوا به من اجتراء أهل الاختيار على الكذب معكوس عليهم بإمكان حملهم على الكذب انتهارا وإجبارا
515 - والجملة في ذلك أن التواتر من أحكام العادات ولا مجال لتفصيلات الظنون فيها فليتخذ الناظر العادة محكمة

وقد أتى هذا المقدار على أسرار لا تحويها أسفار وهو على إيجازه لا يغادر وجها من البيان تمس إليه الحاجة وينزل كل كلام وراءه كالفضل المستغنى عنه

فصل في تقاسيم الأخبار
516 - ذكر الأئمة رضي الله عنهم تقاسيم الأخبار وقالوا إنها ثلاثة أقسام
أحدها ما يقطع بصدقه والثاني ما يقطع بكذبه والثالث مالا يقطع فيه بواحد منهما
517 - فأما ما يقطع بصدقه فمنه ما يوافق المعقول ثم المعقول ينقسم إلى ضروري مهجوم عليه وإلى نظري يوصل إليه صحيح النظر فأما الخبر عن الضروري فكقول القائل الضدان لا يجتمعان وكإخبار المخبر عن المحسوسات ونحوها من البدائه وأما الخبر عن النظري فكقول القائل العالم حادث مفتقر إلى صانع مختار إلى غير ذلك
518 - ومما يتخالج في الصدر من هذا القسم أن المعترض قد يعترض فيقول خير المخبر في الفنون التي ذكرتموها ليس مقتضيا صدقا وإنما السبيل المفضى إلى درك المخبر به نظر العقول في ضرورتها والأمر في ذلك قريب فإن الغرض منه عد ما يوصف بالصدق من الأخبار وما ذكرنا بهذه الصفة ومما يحكم بصدقه ما يقتضي اطراد العادة موافقته وهو الخبر المتواتر الذي سبق وصفه ووضح أن تلقى الصدق منه مستند إلى مستقر العادة والقرائن العرفية
519 - وذكر الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله قسما اخر بين التواتر والمنقول آحادا وسماه المستفيض وزعم أنه يقتضي العلم نظرا والمتواتر يقتضيه ضرورة ومثل ذلك المستفيض وما يتفق عليه أئمة الحديث

وهذا الذي ذكره مردود عليه فإن العرف واطراد الاعتياد لا يقضي بالصدق فيه ولا نرى وجها في النظر يؤدي إلى القطع بالصدق نعم ما ذكره مما يغلب على الظن الصدق فيه فأما أن يفضي إلى العلم به فلا
520 - وقال الأستاذ أبو بكر بن فورك رحمه الله الخبر الذي تلقته الأئمة بالقبول محكوم بصدقه وفصل ذلك في بعض مصنفاته فقال إن اتفقوا على العمل به لم يقطع بصدقه وحمل الأمر على اعتقادهم وجوب العمل بخبر الواحد وإن تلقوه بالقبول قولا وقطعا حكم بصدقه
521 - قال القاضي لا يحكم بصدقه وإن تلقوه بالقبول قولا وقطعا فإن تصحيح الأئمة للخبر مجرى على حكم الظاهر فإذا استجمع خبر من ظاهره عدالة الراوي وثبوت الثقة به وغيرها مما يرعاه المحدثون فإنهم يطلقون فيه الصحة ولا وجه إذا للقطع بالصدق والحالة هذه
ثم قيل للقاضي لو رفعوا هذا الظن وباحوا بالصدق فماذا تقول فقال مجيبا لا يتصور هذا فإنهم لا يتوصلون إلى العلم بصدقه ولو قطعوا لكانوا مجازفين وأهل الإجماع لا يجتمعون على باطل
522 - ومن أقسام الصدق مدلول المعجزة والتحق به صدق النبي وصدق كل من صدقه النبي عليه السلام
523 - فأما القسم الثاني من الأقسام الثلاثة فهو ما يقطع بكونه كذبا

وهو متنوع فمنه ما يخالف المعقول ضرورة أو نظرا وهو مناقض لما يوافق المعقول في القسم الأول
ومنه ما يجري على وجه يكذبه حكم العادة وهذا يتفنن فنونا منها
أن يخبر آحاد بوقوع حادثة عظيمة حكم العادة فيها أن تشيع لو وقعت فإذا لم تشع تبين كذب المخبرين وهي كإخبار أقوام من الآحاد عن مقتلة هلك فيها أمم في البلدة على قرب من العهد وكالإخبار عن دخول ملك صقعا فهذا وما في معناه حكم العرف فيه الشيوع وهذا من الأصول العظيمة التي تستند إليها امور خطيرة وتتوجه فيها غائلة هائلة ونحن نعددها ونأتي بمجامعها إن شاء الله تعالى
524 - فمما نبينه على ذلك إيضاح بهت الروافض في ادعاء النص على على كرم الله وجهه في الإمامة فإن هذا لو كان لما خفى عن أهل بيعة السقيفة ولتحدثت به المرأة على مغزلها ولأبداه مخالف أو موالف وبهذا المسلك يتبين بطلان قول من يقول إن القرآن الكريم قد عورض فإن ذلك لو جرى لما خفى وبه يتبين فساد قول العيسوية إذ قالوا في التوراة إن موسى آخر مبعوث فإن ذلك لو كان لذكره أحبار اليهود في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولما أبدوا عنه معدلا إلى تحريف نعت رسول الله عليه السلام وتبديل الأقرن

بالأبلج والأدهم بالأشقر إلى غير ذلك من تحريفاتهم
525 - والقول الواضح في ذلك أن مسلك العلم بصدق الخبر المتواتر على ما سبق وصفه أن المخبرين لا يتواطئون عند زوال القرائن الضابطه والايالات الحاملة على التواطؤ ويئول مستند القول إلى مطرد العرف وهذا المسلك بعينه مطرد في شيوع الفنون التي ذكرناها
526 - ثم ما يقضى العرف فيه بالشيوع ينقسم فمنه ما يثبت على الشيوع عند الوقوع وينقله المخبرون تواترا زمنا ثم يتناقص اهتمام النقلة بنقله حتى ينتهي إلى نقل الآحاد وقد يفضى طول الأمد إلى دروسه ومنه ما يتمادى زمان التواتر فيه إذا قامت في النفوس دواعي نقله
والقسم الأول يمثل بدخول ملك بلدة أو ما ضاهاها والقسم الثاني يمثل بالأمور الدينية فإن همم أصحاب الدين متوفرة على نقل الجليات فيه فإن وهي فبالحرى أن يتداعى إلى الأخبار الدينية الدروس
527 - ومما يتعلق بذلك أن الجمع العظيم إذ تواطئوا على الكذب لامر إيالى فإن كذبهم يستبين على ممر الزمان في حكم العرف وينكشف الغطاء فيه على قرب
528 - فهذه الأصول مهدناها وبينا ما يستند من أمور الدين إليها

ونحن نوجه الآن أسئلة يتعين الاعتناء بالبحث عنها ونذكرها أولا ثم نتعقبها بالكلام عليها إن شاء الله
529 - فمنها أن حجة الوداع كانت من أظهر الوقائع وقد اختلف الرواة في حج رسول الله صلى الله عليه و سلم فنقل طائفة أنه أفرد ونقل اخرون أنه قرن
ومنها أن انشقاق القمر كان من أعظم الايات ثم لم يثبت النقل فيه تواترا على أنه أمر ديني
ومنها وهو أعوصها إفراد الإقامة وتثنيتها فإن بلالا كان يقيم بعد الهجرة إلى انقلاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى رضوانه في اليوم والليلة خمس مرات ثم اختلف النقلة فيه وغاية بعض العلماء أن يثبت ظهور رواياتهم ومحل الإشكال أنه كيف لم ينقل تواترا
530 - فهذه الأسئلة يتعين الاعتناء بالانفصال عنها وتنزيلها محالها
فأما إحرام رسول الله عليه السلام فسبب التردد في نقله أنه صلى الله عليه و سلم

كان على تردد في أمره وقيل إنه مطلقا ينتظر الوحى فنزل عليه جبريل ان يجعله حجا هكذا رواه جابر بن عبد الله وهو أحسن الرواة سياقا للرواية وهذا إلى علم الصحابة بأن الإفراد والقران جميعا مسوغان ولا يبعد في حكم العادة عدم الاعتناء بالأفضل والأكمل ولا يمتنع أن يلتحق بما ذكرناه في أثناء الكلام وهو ما يقتضى العرف إشاعته أولا مع إفضاء الأمر إلى الدروس على قرب وليس هذا ببعيد في السبر
وبالجملة ما ذكرناه من حكم الشيوع متلقى من ضرورات العقول فليس فيه مراء فإن عورضنا بواقعة وجهل السائل فيها جريانها على خلاف الأصل الممهد لم يقبل ذلك منه قطعا واعتقد في الواقعة خروجها عن حكم القاعدة ومباينتها لها في وجه ثم الخيرة إلينا أن أحببنا اقتصدنا على إجمال ذلك وإن أحببنا تكلفنا محملا يقتضي الخروج عن حكم العرف ولا سبيل إلى تشكيك الأنفس

531 - فأما انشقاق القمر فذهب بعض علماء الإسلام إلى أن معنى قوله تعالى وانشق القمر أنه سينشق عند قيام الساعة وشهد لذلك ذكره مقترنا باقتراب الساعة والشيء إذا تناهى قربه يقام الماضي فيه مقام المستقبل قال الله تعالى أتى أمر الله فلا تستعجلوه معناه سيأتي أمر الله وقد مال الحليمي إلى هذا المذهب ويمكن أن يقال انشقاق القمر اية ليلية لعله جرى والخلق نيام والمتيقظون في أكنان لا يترقبون القمر وإن لحظة لاحظ وفاقا فغير بدع أن يحمله على تشعب في أشعة البصر وانعراج عن الاستداد فهذا وجه التكلف فيه فإن وقع الانشقاق فلا محل لعدم الشيوع فيه إلا ما ذكرناه والتعويل على ما سبق من أن الأمر الضروري لا تخرمه التخييلات
532 - وأما أمر الإقامة وهو من أغمض الأسئلة فإنها من الشعائر الجلية المتكررة فلم ينقدح عند القاضي وجه في عدم الشيوع إلا أنه قال لعله كان

يثنى مرة ويفرد أخرى فلم يشع واحد منهما وهذا قد يعترض عليه وجوب الشيوع في أن بلالا رضي الله عنه كان يفعل تارة هكذا وتارة هكذا ثم المعتمد عندي في ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم هونت أمر الإفراد والتثنية فلم يعتنوا بالإشاعة فإذا أشاعوا أفضى إلى الدروس وليس ذلك بدعا فيما ليس من العزائم وهذا تنضم إليه بدع ثارت مع تواتر من أصحاب سلطنة واقتهار فإنه جرى من اخر أيام على كرم الله وجهه إلى قريب من مائة سنة دواه تشيب النواصي واستجرأ على تغيير ما كان منوطا بالأمراء وكانت الجماعة وإقامة شعائرها من أهم ما يهتم به الأمراء فلعل الشيوع على حكم العادة كان قد أثبت ثم ألهى الناس عنه ما أحدثه النابغون وحقنا أن نحكم الأصول فيما نأتي ونذر ولا نسلك بمسلك الحقائق ذبا عن مذهب
533 - فإن زعم زاعمون أن ما ذكرتموه يتوجه في النص على على رضي الله عنه قلنا لو كان لظهر يوم السقيفة فإن خلافة أبي بكر رضي الله عنه ما كانت أيدت بشوكة قاهرة وإنما كان الأمر فوضى وهذا واضح وأيضا فإن أمر الولايات من أخطر الأشياء في العادات ولا تتشوف النفوس لنقل شيء تشوفها إلى ما يتعلق بالولايات ففيها تطير الجماجم عن الغلاصم وتتهالك النفوس في

الملاحم وهذا مطرد في أحكام العادات وفي عرف أهل الديانات والولايات
وأما الإقامة فشعار مسنون ليس بالعظيم الوقع في العرف والشرع وقد يمر بالناس أيام لو روجعوا عن كيفية الإقامات في الجماعات لم يذكروها
534 - ومما يلزم من هذا الفن اضطراب الرواة في أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فتح مكة عنوة وصلحا وهذا قريب فإن أصل دخوله عليه السلام مع أكمل العدد والعدد منقول متواترا ولا شك أنه عليه السلام لم يلق قتالا والأمر وراء ذلك تقديرات تختبط فيها النقلة فلم يلزم مع تمادى الأمر وطول الزمن استمرار حكم الشيوع فيها
وقد نجز ما حاولناه في هذا القسم إذ قلنا كل خبر يخالفه حكم العرف فهو كذب
535 - ومما نذكره من أقسام الكذب أن يتنبأ متنبىء من غير معجزة فيقطع بكذبه وهذا مفصل عندي
فأقول إن تنبأ متنبىء وزعم أن الخلق كلفوا متابعته وتصديقه من غير آية فهو كاذب فإن مساقه مفض إلى تكليف ما لا يطاق وهو الأمر بالعلم بصدقه من غير سبيل مؤد إلى العلم فأما إذا قال ما كلف الخلق اتباعي

ولكن أوحى إلى فلا يقطع بكذبه
536 - فإن قيل من أصلكم القول بالكرامات الخارقة للعادات فإذا أخبر المخبر أن جبلا يقلع له من أصله فهذا إخبار يخالف حكم العرف والعادة ويلزم منه أن يقال أخبرنا مخبر ونحن في كن أن الجبل المظل القريب منا قد يقلع الآن ينبغي أن يجوز صدقه الآن حملا على الكرامة وهذا يهدم أحكام العرف وما يتلقى منه
قلنا هذا مما نستخير الله فيه فلا وجه للتشكيك في كذب هذا المخبر وإنما تجوز الكرامات وقوعا عند عموم انخراق العادات ومصير الأمر إلى حالة لا يستبعد أهل العادة صدق المخبر فيما يخبر عنه فلينعم المنتهى إلى هذا الفصل نظره وليتدبر غائلته بالبدل
537 - فأما القسم الثالث فهو الذي لا يقطع فيه بالصدق ولا الكذب وهو الذي نقله الاحاد من غير أن يقترن بالنقل قرينة تقتضي الصدق أو الكذب على ما سبقت الإشارة إلى القرائن فهذا الصنف لا يفضى إلى العلم بصدق المخبر ولا يقطع بكذبه أيضا
ونحن نسعين بالله ونستفتح الآن القول في أخبار الآحاد والله الموفق للسداد

أخبار الآحاد
مسألة
538 - ما ذهب إليه علماء الشريعة ومفتوها وجوب العمل عند ورود خبر الواحد على الشرائط التي سنصفها ثم أطلق الفقهاء القول بأن خر الواحد لا يوجب العلم ويوجب العمل وهذا تساهل منهم والمقطوع به أنه لا يوجب العلم ولا العمل فإنه لو ثبت وجوب العمل مقطوعا به لثبت العلم بوجوب العمل وهذا يؤدي إلى إفضائه إلى نوع من العلم وذلك بعيد فإن ما هو مظنون في نفسه يستحيل أن يقتضي علما مبتوتا فالعمل بخبر الواحد مستند إلى الأدلة التي سنقيمها على وجوب العمل عند خبر الواحد وهذا تناقش في اللفظ ولست أشك أن أحدا من المحققين لا ينكر ما ذكرناه
وذهب طوائف من الروافض إلى أن خبر الواحد لا يناط به وجوب العمل وهؤلاء أنكروا الإجماع إذا لم يكن في المجمعين قول الإمام القائم في هذيان طويل
وقد مال إلى ذلك بعض المعتزلة
539 - ثم افترق نفاة العمل بخبر الواحد فذهب بعضهم إلى أن العقل يحيل التعبد بالعمل به وذهب الأكثرون إلى أنه لا يستحيل ورود الشرع به وهو من تجويزات العقل ثم افترق هؤلاء من وجه اخر فذهب ذاهبون إلى أن في الشرع ما يمنع التعلق به وقال اخرون لم تقم دلالة قاطعة على العمل به فتعين الوقف
وقد أكثر الأصوليون وطولوا أنفاسهم في طرق الرد على المنكرين
540 - والمختار عندنا مسلكان أحدهما يستند إلى أمر متواتر لا يتمارى فيه إلا

جاحد ولا يدرؤه إلا معاند وذلك أنا نعلم باضطرار من عقولنا أن الرسول عليه السلام كان يرسل الرسل ويحملهم تبليغ الأحكام وتفاصيل الحلال والحرام وربما كان يصحبهم الكتب وكان نقلهم أوامر رسول الله عليه السلام على سبيل الآحاد ولم تكن العصمة لازمة لهم فكان خبرهم في مظنة الظنون وجرى هذا مقطوعا به متواترا لا اندفاع له إلا بدفع التواتر ولا يدفع المتواتر إلا مباهت فهذا أحد المسلكين
والمسلك الثاني مستند إلى إجماع الصحابة وإجماعهم على العمل بأخبار الاحاد منقول متواترا فإنا لا نستريب أنهم في الوقائع كانوا يبغون الأحكام من كتاب الله تعالى فإن لم يجدوا للمطلوب ذكرا مالوا إلى البحث عن أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا يبتدرون التعويل على نقل الأثبات والثقات بلا اختلاف فإن فرض مزاع بينهم فهو آيل إلى انقسامهم قسمين فمنهم من كان يتناهى في البحث عن العدالة الباطنة ولا يقنع بتعديل العلانية وربما كان يضم إلى استقصائه تحليف الراوي ومنهم من كان لا يغلو في البحث فأما اشتراط التواتر فعلى اضطرار نعلم أنهم ما كانوا يرونه فإن أنكر منكر الإجماع فسيأتي إثباته على منكريه في أول كتاب الإجماع إن شاء الله تعالى فهذا هو المعتمد في إثبات العلم بخبر الواحد
541 - وأما الرد على من يزعم أن تكليف العمل بخبر الواحد يستحيل في العقل فهين فقد تكرر مرارا أن إطلاق الاستحالة يتردد بين أن يستحيل وقوعه وجودا كاستحالة اجتماع الضدين ونحوها وهذا ساقط فإن تقدير اتباع العمل عند اتفاق أمر يغلب على الظن غير مستحيل قطعا والواحد منا يكتسبه

في حق مأموره وعبده والمحالات يستحيل تقدير وقوعها شاهدا وغائبا فهذا قسم
وقد نقول ليس يستحيل تقدير وقوعه استحالة اجتماع الضدين ولكن يستحيل وقوعه لما فيه من استفساد الخلق وهذا ينجر الان إلى الصلاح والأصلح والاستفساد والاستصلاح وكل ذلك مرتب على التقبيح والتحسين العقليين وقد سبق القول فيهما في صدر هذا المجموع
542 - على أنا إن رمنا انتقالا عن هذه المحاجة فليس يتجه لهم ادعاء نقيض الاستصلاح فإنه لا يمتنع في العقل أن يقع في علم الله تعالى أن الخلق لو كلفوا اتباع غلبات الظنون لصلحوا ولو تركوا سدى إلى وجدان اليقين لفسدوا أو كادوا فقد بطل جميع ما ذكروه وإذا تقرر الجواز عقلا وقد قامت الدلالة السمعية كما تقدم ذكره لم يبق مضطرب يلوذ الخصم به
فإن قيل ليس في العقل ما يوجب العمل بخبر الواحد وليس في كتاب الله تعالى ناص عليه ولا مطمع في التواتر والإجماع مع قيام النزاع ويستحيل أن يثبت خبر الواحد بخبر الواحد وإذا انحسم المسلك العقلي والسمعي فقد حصل الغرض
قلنا بنيتم كلامكم على أمرين أنتم منازعون فيهما أحدهما أنكم قلتم لم يستند العمل بخبر الواحد إلى التواتر وقد أوضحنا استناده إليه والثاني أنا نقلنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بخبر الواحد فقولكم أن لا إجماع خطأ ونحن تمسكنا بإجماع سابق على مسائل الخلاف وإن تمسكوا بأن في

إيجاب العمل بخبر الواحد ادعاء العلم بوجوبه بخبر الواحد فقد تكلمنا عليه وبينا القول فيه فهذا لباب المسألة ومقصودها المنتخل المحصل
543 - ولكنا نذكر وراء ذلك عيونا من شبهات المخالفين حتى يشتمل الكلام على المسلك الحق واستيعاب جماهير وجوه القول استدلالا وسؤالا وانفصالا وقد يستدلون بظاهر قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم والمخبر الذي ليس معصموما عن الخطأ وإمكان تعمد الكذب لا يتضمن خبره علما فهو بحكم القران مما لا يجوز اقتفاؤه واحتذاؤه وهذا مما لا يسوغ التمسك به فإن مضمون الآية النهي عن اقتفاء الظنون من غير ضبط متأيد بمراسم الشارع وليس الغرض الإضراب عن كل ما ليس معلوما فالمقصود إذا النهي عن المجازفة في الظنون ثم غاية المتمسك بالاية أن يسلم له عموم معرض للتأويل ولا يجوز التعلق بالظواهر فيما يبتغي القطع فيه فالجواب الحق أن المتبع هو الدليل القاطع على وجوب العمل بخبر الواحد وقد قدمنا ما فيه مقنع في ذلك وذلك الدليل هو المقتفى لا الخبر وفيه غنية وقد تقرر هذا مرارا
544 - وربما يعودون إلى استبعاد تعليق الأمور الخطيرة بأقوال مخبرين لا يمنع أن يعتمدوا الكذب أو يزلوا من غير قصد
فإذا روى واحد ظاهر العدالة خبرا مقتضاه سفك دم فالاستمرار على حقن الدم وانتظار قاطع فيه أغلب على الظن وأرجح في مسلكه وقد تكلمنا على ذلك وأوضحنا أن المعتمد هو الخبر المتواتر من سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم أو

إجماع الأمة وهما يفيدان العلم على قطع ثم ما ذكروه منقوض عليهم بشهادة الشهود في تفاصيل القضاء فإن الأمور الخطيرة تربط بها وإن كانت لا تفضي إلى القطع وهي متلقاة بالقبول وكذلك قول المفتى مقبول وإن كان متعرضا لما ذكروه في مضطرب الأوهام فقد سقط معلوهم فإن اعتذروا عن الشهادات والفتوى وزعموا أنها مستندة إلى الإجماع فهذا قولنا في خبر الواحد
مسألة
545 - ذهبت الحشوية من الحنابلة وكتبة الحديث إلى أن خبر الواحد العدل يوجب العلم وهذا خزى لا يخفى مدركه على ذي لب
فنقول لهؤلاء أتجوزون أن يزل العدل الذي وصفتموه ويخطىء فإن قالوا لا كان ذلك بهتا وهتكا وخرقا لحجاب الهيبة ولا حاجة إلى مزيد البيان فيه
والقول القريب فيه أن قد زل من الرواة والأثبات جمع لا يعدون كثرة ولو لم يكن الغلط متصورا لما رجع راو عن روايته والأمر بخلاف ما تخيلوه
فإذا تبين إمكان الخطأ فالقطع بالصدق مع ذلك محال ثم هذا في العدل في علم الله تعالى ونحن لا نقطع بعدالة واحد بل يجوز أن يضمر خلاف ما يظهر ولا متعلق لهم إلا ظنهم أن خبر الواحد يوجب العمل وقد تكلمنا عليه بما فيه مقنع
مسألة
546 - ذهب الجبائي إلى أن خبر الواحد لا يقبل بل لا بد من العدد وأقله

اثنان وهذا الذي قاله غير متلقى من مسالك العقول فإنها لا تفرق بين الواحد والاثنين وإمكان الخطأ يتطرق إلى اثنين تطرقه إلى الواحد فيتعين عليه أن يسند مذهبه هذا إلى سبيل قطعى سمعي وهو لا يجده أبدا
547 - وما ذكرناه من التمسك بكتب الرسول عليه السلام ورسله يجري عليه فإنه كان لا يتكلق جمع رسولين إلى كل صوب بل كان يبعثهم ويحملهم نقل الشريعة على ما تقتضيه الأحوال مفردين ومقترنين وهذا بين
وكذلك مسلك الإجماع فإنا نعلم قطعا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يعملون في الوقائع بالأخبار التي ترويها الاحاد من جملة الصحابة ولا نستريب أنه لو وقعت واقعة واعتاص مدرك حكمها فروى الصديق رضي الله عنه فيها خبرا عن الصادق المصدوق المصدوق عليه السلام لابتدروا العمل به ومن ادعى أن جملة الأخبار التي استدل بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في أحكام الوقائع رواها أعداد فقد باهت وعاند وخالف ما المعلوم الضروري بخلافه
548 - فإن قيل أليس كان على يستظهر برواية العدد وروى أن أبا موسى الأشعري لما استاذن على عمر ولم يأذن له انصرف ورده عمر وعاتبه في انصرافه وقال هلا وقفت فقال سمعت رسول الله عليه السلام يقول

الاستئذان ثلاثة فإن أذن لكم وإلا فانصرفوا فقال إن جئت بمن يشهد لك وإلا أوجعت طهرك ضربا فجاء بأبى سعيد الخدري فشهد له
ولما التبس على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر الجدة في الميراث قال المغيرة بن شعبة أشهد أن رسول الله عليه السلام أطعم الجدة السدس قال أبو بكر لا أو تأتي بمن يشهد لك فكان ذلك من أبي بكر اشتراط عدد في الرواة
549 - قلنا أما على كرم الله وجهه فلم ينقل عنه اشتراط العدد ولكنه كان يحلف بعض الرواة وهذا رأى انفرد به استظهارا وأما ما جرى للصديق والفاروق رضي الله عنهما فمحمول على الاستظهار لريبة معترضة وأحوال مقتضية مزيد تغليب على الظن وهذا جرى منهم على شذوذ وندور كدأب القضاة في بعض الحكومات إذا استدعوا مزيدا على الأعداد المرعية في البينات فمن ادعى أن ذلك كان أصلا عاما في جميع الروايات والرواة فقد ادعى نكرا وقال هجرا
ثم ما ذكره يؤدي إلى رد معظم الأحاديث إذا تطاولت العصور وتناسخت الأزمان والدهور فإنه شرط في النقل عن كل راو وراويين والأعداد إذا تضاعفت أربت عند طول الأعصار على عدد التواتر

وهذا منتهى القول في العدد والكلام في بقية الكتاب يتعلق بفصول

فصل في صفة الرواة
وفصل مشتمل على التعديل والجرح وفصل في الإسناد والإرسال وآخر في كيفية التحمل وآخر في كيفية الرواية
فصل في صفة الرواة
550 - العقل والإسلام والعدالة معتبرة وأصحاب أبي حنيفة وإن قبلوا شهادة الفاسق لم يجسروا أن يبوحوا بقبول رواية الفاسق فإن قال به قائل فقوله مسبوق بإجماع من مضى على مخالفته
551 - فأما البلوغ فقد اختلف الأصوليون في اشتراطه وتردد الفقهاء في ذلك أيضا وعليه بنوا اختلافهم المشهور في قبول قوله في رؤية الهلال والقاضي يرى رد رواتيه وهو المختار عندنا
والدليل عليه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ما راجعوا الصبيان الذين كانوا يخالطون رسول الله عليه السلام ويلجون على ستوره مع مسيس حاجتهم إلى من يخبرهم عن دقائق أحوال رسول الله صلى الله عليه و سلم وراء الحجب فلم يؤثر عن أحد من الحكام والمفتين إسناد حكمه في قضية إلى رواية صبي والذين اعتنوا بجمع الروايات وتأليف المسندات لم ينقلوا عن صبي أصلا والذي يعضد الطريقة أن معولنا في إثبات العمل بأخبار الاحاد إرسال رسول الله صلى الله عليه و سلم كتبه ورسله وبعثه ولاته وإجماع الصحابة ولا مأخذ سوى هذين

فأما المأخذ الأول فلم يبعث عليه السلام رسولا صبيا ولم يحمله أداء بيان حكم الشريعة وأما الإجماع فعلى ما سبق تقريره وليس في العقول ما يرشد إلى القبول والرد
552 - ثم ذكر القاضي طريقة لطيفة فقال الصبي إن كان غير متكامل التمييز فلا شك في ردهم روايته وإن كان مميزا فقد بلغه أنه غير مؤاخذ بالكذب ولا يزعه عن الهجوم عليه وازع وهذه الصفة منه تؤمنه عن اللائمة ومحذور المعتبة فبالحري أن يجريه على الخلف وفي النفوس على الجملة صغو بين إلى التحريف ونقل الأعاجيب فإذا الصبا أولى بأن ينتهض ردا للرواية من الفسق وما ذكرناه يغنى عن التمسك برد أقاريره وألفاظ عقوده فإن هذا من القياس الفقهي فلا يثمر قطعا
ونحن نرى القطع برد روايته وفي كلام القاضي في بعض مصنفاته تشبيب بإلحاق هذه المسألة بالمظنونات وهذا ظاهر رأى الفقهاء والذي نراه القطع بالرد كما تقدم
مسألة
في رواية المستور الذي لم يظهر منه نقيض العدالة ولم يتفق البحث الباطن عن عدالته
553 - تردد المحدثون في روايته والذي صار إليه المعتبرون من الأصوليين أنه لا تقبل روايته وهو المقطوع به عندنا
والمعتمد فيه الرجوع إلى اجماع الصحابة فإنا نعلم منهم بمسلك الاستفاضة والتواتر أنهم كانوا لا يقبلون روايات المجان والفسقة وأصحاب الخلاعة ولو ناداهم إنسان برواية لا يبتدروا العمل بروايته ما لم يبحثوا عن حالته ويطلعوا

على باطن عدالته ومن ظن أنهم كانوا يعملون برواية كل مجهول الحال فقد ظن محالا وظهور ذلك مغن عن تقريره وإذا كنا نتعلق في العمل بالرواية بإجماعهم فإن لم نتحقق إجماعهم على التوقف في العمل برواية المستور لم نجد متعلقا نتمسك به في قبول روايته فكيف وقد استمر لنا قطعا منهم التوقف في المجهول المتسور الحال
554 - والذي أوثره في هذه المسألة ألا نطلق رد رواية المستور ولا قبولها بل يقال رواية العدل مقبولة ورواية الفاسق مردودة ورواية المستور موقوفة إلى استبانة حالته ولو كنا على اعتقاد في حل شيء فروى لنا مستور تحريمه فالذي أراه وجوب الانكفاف عما كنا نستحله إلى استتمام البحث عن حال الراوي وهذا هو المعلوم من عادتهم وشيمهم وليس ذلك حكما منهم بالحظر المترتب على الرواية وإنما هو توقف في الأمر فالتوقف عن الإباحة يتضمن الانحجاز وهو في معنى الحظر فهو إذا حظر مأخوذ من قاعدة في الشريعة ممهدة وهي التوقف عند بدء ظواهر الأمور إلى استتبابها فإذا ثبتت العدالة فالحكم بالرواية إذ ذاك
555 - ولو فرض فارض التباس حال الراوي واليأس من البحث عنها بأن يروي مجهول ثم يدخل في غمار الناس ويعسر العثور عليه فهذه مسألة اجتهادية عندي والظاهر أن الأمر إذا انتهى إلى اليأس لم يلزم الانكفاف وانقلبت الإباحة كراهية
556 - فإن قيل أليس روى أن أعرابيا شهد عند رسول الله صلى الله عليه و سلم

على رؤية الهلال فأمر النبي عليه السلام بالصيام ولم يبحث عن حال الأعرابي قلنا لعله علمه وأحاط به علما فلا يصح التمسك بمثل هذا مع تعارض الاحتمالات فيه والمطلوب القطع
557 - فإن قالوا الأصل نقيض الفسق فليطرد قبول الرواية إلى تحقق الفسق قلنا هذه دعوى عرية عن البرهان وهو في التحقيق اقتصار على ترجمة المذهب فإنا نقول الرواية قبولها موقوف على ظهور العدالة ومن يخالف يزعم أن الرد منوط بظهور الفسق وعلى الجملة لسنا نرتضي التمسك بالتخييلات في مسالك القطعيات وفي كل أصل من الأصول قاعدة كلية معتبرة فكل تفصيل رجع إلى الأصل فهو جار على السبيل المطلوب وكل ما لم نجد مستندا فيه ومتعلقه تخييل ظن فهو مطرح والأصل في العمل بالأخبار إجماع الصحابة وقد قررنا سبيله فما ذكروه ليس قادحا فيه فلا يحتفل به
558 - فإن قيل ثبت في الشرع الأمر بتحسين الظن بآحاد المسلمين إلى أن يظهر ما يناقض ذلك وإذا رددنا رواية المستور كان ذلك منافيا لتحسين الظن به قلنا هذا من الطراز الأول فلا احتفال به
على أنا أمرنا بتحسين الظن حتى لا تطلق الألسنة بالمطاعن فهذا فائدة تحسين الظن فأما أن يقال نبتدر إلى إراقة الدماء وتحليل الفروج برواية كل هاجم على الرواية بناء على تحسين الظن فهذا لا يتخيله إلا خلو من التحصيل والله الموفق

فصل في التعديل والجرح
559 - إذا تقرر أن الفاسق مردود الرواية وواضح أن القبول متوقف على ظهور العدالة ولا يقع الاكتفاء بظاهر الستر فنحن نذكر وراء ذلك التعديل والجرح المعتبرين في الرواة ونقدم على غرضنا أصلا وهو مرجوع الكتاب وأصل الباب في أخبار الآحاد
فنقول قد لاح لنا على السبر والمباحثة أن المعنى المعتمد في قبول الرواية ظهور الثقة بقول الراوي وكل ما لا يجزم الثقة فليس شرطا في الرواية وما يجزم الثقة ففيه الكلام وليس في الرواة والروايات تعبدات شرعية كما وردت توقيفات الشرع بأمثالها في رتب الشهادات ومنازل البينات من نحو اعتبار العدد وألفاظ مخصوصة ومكان معلوم إلى غير ذلك ومن التعبدات المرعية في الشهادة اشتراط الحرية فليتخذ الناظر الثقة في الرواية معتبره فيما يأتى ويذر فعليه إحالة معظم الكلام
والدليل القاطع فيه الرجوع إلى شيم الأولين فإنا نعلم أنهم كانوا يقبلون الرواية عند ظهور الثقة من المرأة والمملوك قبولهم من الحر وقد رددنا على من يتخيل اعتبار العدد في الرواية فإذا تمهد ذلك وستكون لنا عودات إليه فالكلام في التعديل والجرح متفرع علىذلك ونحن ننقل المذاهب فيهما ونؤثر المختار عندنا ونؤكده بالحجاج اختيارا للإيجاز إن شاء الله تعالى

560 - فالتعديل والجرح يقعان على وجهين أحدهما التصريح والثاني الضمن فأما وقوعهما تصريحا فقد قال قائلون لا بد من ذكر أسبابها جميعا ولا يكفى إطلاق التعديل والجرح
قال الشافعي رحمه الله إطلاق التعديل كاف فإن أسبابه لا تنضبط ولا تنحصر وإطلاق الجرح لا يكفي فإن أسبابه مما اختلف الناس فيه فقد يرى بعض الناس الجرح بما لو أظهره لم يوافق عليه فلا بد لذلك من ذكر أسباب الجرح وهذا مذهبه رضي الله عنه في تعديل الشهود وجرحهم
وقال بعض الأصوليين يكفي إطلاق التعديل والجرح جميعا ولا حاجة إلى التعرض للأسباب فيهما
وقال القاضي رضي الله عنه إطلاق الجرح كاف فإنه يخرم الثقة وهي المعتبرة وإطلاق التعديل لا يحصل الثقة حتى يستند إلى أسباب ومباحثات وهذا الذي ذكره القاضي رضي الله عنه أوقع في مآخذ الأصول
561 - والذي أختاره أن الأمر في ذلك يختلف بالمعدل والجارح فإن كان المعدل إماما موثوقا به في الصناعة لا يليق به إطلاق التعديل إلا عند علمه بالعدالة الظاهرة فمطلق ذلك كاف منه فإنا نعلم أنه لا يطلقه إلا عن بحث واستفراغ وسع في النظر فأما من لم يكن من أهل هذا الشأن وإن كان عدلا رضا إذا لم يحط علما بعلل الروايات فلا بد من البوح بالأسباب وإبداء المباحثة التامة
والجرح أيضا يختلف باختلاف أحوال من يجرح والعامى العرى عن

والتحصيل إذا جرح ولم يفصل فلا يكترث بقوله فأما من يثير جرحه المطلق خرم الثقة فمطلق جرحه كاف في اقتضاء التوقف
فهذا بيان المذاهب والإيماء إلى مستند كل فريق وذكر المختار مؤيدا بمعتبر الباب هو بيان التصريح بالتعديل والجرح
562 - ثم قال المحققون يكفي في التعديل والجرح قول واحد وذهب بعض المحدثين إلى اشتراط العدد وهذا مما ليس يحتفل به فإنه قد ثبت أن أصل الرواية لا يعتبر فيه العدد فلا معنى للاحتكام باشتراطه في التعديل والجرح ولا يشك منصف أن الصديق رضي الله عنه وغيره من جلة الصحابة رضي الله عنهم لو فرض انفراده بتعديل أو جرح لما كان أهل العصر يعتبرون انضمام قول اخر إلى قول المعدل أو الجارح وهذا كله مرتبط بالثقة كما تقدم فإذا كان قول الواحد يفيد الثقة كفى وإذا كان الجارح الواحد يخرمها أفاد جرحه ردا أو توفقا
563 - فأما التعديل والجرح الواقعان ضمنا فلتقع البداية بالتعديل فمما عد في التعديل ضمنا إطلاق الرجل العدل الرواية عن الرجل من غير تعرض له بجرح أو تعديل فهذا مما اختلف في المحدثون والأصوليون
فذهب ذاهبون إلى أن إطلاق الرواية تعديل ومنع آخرون ذلك والرأى فيه عندي التفصيل فإن ظهر من عادة ذلك الراوي الانكفاف عن الرواية عمن يتغشاه ريب واستبان أنه لا يروي إلا عن موثوق به فرواية مثل هذا الشخص

تعديل وإن تبين من عادته الرواية عن الثقة والضعيف فليست روايته تعديلا وإن أشكل الأمر فلم يوقف على عادة مطردة لذلك الراوي في الفن الذي أشرنا إليه فلا يحكم بأن روايته تعديل وهذا من أصناف ما يعد تعديلا ضمنا
564 - ومما يذكر في هذا القسم عمل الراوي بما رواه مع ظهور إسناده العمل إلى الرواية وقد قال قائلون إنه تعديل وقال اخرون ليس بتعديل
والذي أرى فيه أنه إذا ظهر أن مستند فعله ما رواه ولم يكن ذلك من مسالك الاحتياط فإنه تعديل وإن كان ذلك في سبيل الاحتياط لم يقض بكونه تعديلا فإن المتحرج قد يتوقى الشبهات كما يتوقى الجليات وهذا ينعطف أيضا على الثقة واعتبارها
وهذا نجاز الكلام في هذا الفن
مسألة
565 - قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه إذا لم نجد معتصما مقطوعا به في العمل بخبر الواحد قطع برده وإن لم يظهر له قاطع ناص في الرد وبنى ذلك على أن معتمدنا في العمل بأخبار الاحاد قطعا إجماع من قبلنا فحيث لا نجد قاطعا لا نحكم بالعمل إذ لو حكمنا به لكنا بانين القطع بالعمل على غير قاطع وهذا لا سبيل إليه
وهذا الذي ذكره وإن كان مخيلا فالذي أراه أنه يلتحق بالمجتهدات ويتعين على كل مجتهد فيه الجريان على حكم اجتهاده
والدليل القاطع فيه أنا نعلم أنه كان يقع في عصر أصحاب رسول الله

صلى الله عليه و سلم أحاديث يقبلها بعض ويتوقف عن قبولها اخرون ثم كان القابلون لها لا يعابون ولا يكثر النكير عليهم من الرادين وكانوا يجرون ذلك مجرى المجتهدات في مظان الاحتمالات فإذا قطعنا بوقوع ذلك منهم وإلحاقهم ذلك بمواقع التحري والتوخي فقد صادفنا قاطعا في وجوب العمل بالاجتهاد في مجال الظن وهذا بالغ حسن فإذا جرت أمثال من المجتهدات أحلناها على هذا القانون
مسألة
566 - جرى رسم الأصوليين بعقد مسألة في فن من التعديل والجرح مشتملة على تعديل صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما تمس الحاجة إليها في أصول الإمامة ولكنها قد تتعلق ببعض مسائل الشرع ففي الفقهاء من طرق مسالك الطعن والغمز إلى أقوام من مشاهير أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كأبى هريرة وابن عمر وغيرهما
ونحن نذكر نكتا قاطعة يتخذها المرء وزره ومعتضدة إذا عارضه طعان يحاول مغمزا في رواة أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم من الصحابة
567 - فمما نصدر القول به الآيات المشتملة على تقريظهم وإطرائهم وحسن الثناء عليهم كاية أهل البيعة بيعة الرضوان فإنه تعالى قال لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة والآيات الواردة في المجاهدين مع رسول الله صلى الله عليه و سلم كثيرة واتفق المفسرون على أن قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس واردة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا هم

معدلون بنصوص الكتاب مزكون بتزكية الله تعالى إياهم
568 - ومن أقوى ما يعتصم به على الجاحدين المعاندين سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه كان يعرف أهل النفاق بأعيانهم لا يخفى عليه مضمر الشقاق بينهم وقد سماهم بأعينهم لصاحب سره ومؤتمنه حذيفة بن اليمان وكان عليه السلام يبجل أهل الإخلاص منهم وينزلهم منازلهم ويحل كلا على خطره في مجلسه وكانوا رضي الله عنهم معدلين بتعديله عليه السلام مزكين أبرارا وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتمدهم في نقل آثاره وأخباره ويسألهم عن أخبار غابت عنه وكانوا عنه ناقلين ومخبرين واشتهر ذلك من سيرته صلى الله عليه و سلم فيهم فكان ذلك مسلكا قاطعا في ثبوت عدالتهم بتعديل الرسول عليه السلام إياهم عملا وقولا
569 - ومما يتمسك به في أبي هريرة رضي الله عنه أن عمر مع تنزهه عن المداراة والمداجاة والمداهنة اعتمده وولاه في زمانه أعمالا جسيمة وخطوبا عظيمة وكان يتولى زمانا على الكوفة وكان يبلغه روايته عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلو لم يكن من أهل الرواية لما كان يقرره عمر رضي الله عنهما مع العلم بإكثاره
وقد اجتمع السابقون على الرواية عن هؤلاء وكذلك الأئمة المعتبرون من أهل الحديث قال محمد بن إسماعيل البخاري روى عن أبي هريرة سبعمائة من أولاد المهاجرين والأنصار وأما ابن عمر فلا يتعرض للقدح فيه إلا

جسور وقد زكاه جبريل عليه السلام إذ قال لرسول صلى الله عليه و سلم نعم الرجل عبد الله
فقد ثبت تعديلهم بنصوص الكتاب وسيرة الرسول عليه السلام واتفاق الصحابة والتابعين وأئمة الحديث رضي الله عنهم أجمعين ولا احتفال بعد ذلك بمطاعن النابغة الثائرين بعد انقراض الأئمة الماضين
570 - فأن قيل ما تمسكتم به من تعديل الرسول عليه السلام إياهم وإكرامه لهم إن سلم لكم فإنه ليس متضمنا نصا بعصمتهم في مستقبل الزمان وقد أحدث بعضهم هنات واقتحموا موبقات يزول بأدناها نعت العدالة واستقامة الحالة وربما اندفعوا في أقاصيص وأحوال جرت في مثار الفتن ولو تتبعناها لطال المغزى والمرام وتعدى الكلام حد الاختصار
فالوجه المحصل لغرضنا القاطع الشغب عنا أن نقول لا يتعلق متعلق بشيء يبغى به طعنا إلا وينقدح مثله متطرقا إلى من يعدله الطاعن ويؤدي مساق إلى الطعن في جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وكل مسلك يفضي إلى تعميم الطعن في جلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو مردود من سالكه فهذا وجه مقطوع به عظيم الوقع والخطر
571 - والذي يعضد ذلك أن من تعلق بشيء من المطاعن في معين من الصحابة فعورض بمثله فيمن يوافق على تعديله فسينتهض الطاعن لحمل ما عورض به على محامل في الجواز وتحسين الظن ويتجه أمثالها وأجلى منها فيمن ذكره وإذا تعارضت الأقوال على نحو واحد وعسر الجمع بينها والقضاء بها ولم يكن بعضها

أولى من بعض فالوجه سقوطها والإضراب عنها والاستمساك بما تمهدت به عدالتهم من المسالك المتقدمة
572 - وإنما تعدينا طور الاقتصار قليلا لسؤال به اختتام الإشكال وفي جوابه تحقيق الانفصال وهو أن قائلا لو قال غايتكم حملكم ما نقل من هناتهم على وجوه ممكنه في الجواز ولستم قاطعين بها بل وافقتم الطاعنين على أنه لا يجب عصمة غير المرسل عليه السلام فإذا ترددت أحوالهم فليقتض ترددها وقوفا عن تعديلهم فإن التردد يناقض الحكم البات
وسبيل الجواب عن هذا أن نقول هذا أولا نزول عن التصريح بالطعن ورضا بأن ينكف عن تعديلهم ففيه ظهور بطلان القطع بالطعن
على أنا نقول ما ذكرتموه مدفوع بالإجماع فإن الأمة مجمعة على أنه لا يسوغ الامتناع عن تعديل جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وما ذكره هذا السائل يوجب التوقف في تعديل كل نفر من الذين لابسوا الفتن وخاضوا المحن ومتضمن هذا الانكفاف عن الرواية عنهم وهذا باطل من دين الأمة وإجماع العلماء فانتهض الإجماع على بطلان هذا الطرف حجة باتة على بناء الأمر على تحسين الظن وردهم إلى ما تمهد لهم من المآثر بالسبيل السابقة وهذا من نفائس الكلام

ولعل السبب الذي أتاح الله الإجماع لأجله أن الصحابة هم نقلة الشريعة ولو ثبت توقف في رواياتهم لانحصرت الشريعة على عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم ولما استرسلت على سائر الأعصار

فصل في المراسيل والمسندات وذكر المذاهب فيها وإيضاح المختار منها
573 - نصدر هذا الفصل بذكر صور المرسلات ثم ننقل المقالات ونشير إلى عمدة كل فريق ونختتم الكلام بالمرتضي المختار عندنا
فمن صور المراسيل أن يقول التابعي قال رسول الله صلى الله عله وسلم فهذا إضافة إلى الرسول عليه السلام مع السكوت عن ذكر الناقل عنه وهذا يجري في الرواة بعضهم مع بعض في الأعصار المتأخرة عن عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم
وإذا قال واحد من أهل عصر قال فلان وما لقيه ولا سمى من أخبر عنه فهو ملتحق بما ذكرناه
ومن الصور أن يقول الراوي أخبرني رجل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أو عن فلان الراوي من غير أن يسميه
ومن الصور أن يقول أخبرني رجل عدل موثوق به رضا عن فلان أو عن رسول الله عليه السلام
ومن صور المراسيل إسناد الأخبار إلى كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما التحق هذا القسم بالمرسلات من جهة الجهل بناقل الكتب ولو ذكر من يعزو الخبر إلى الكتاب ناقله وحامله التحق الحديث بالمسندات فهذه صور المراسيل

حكم العمل بالمراسيل وقبولها
574 - وأبو حنيفة قائل بجميعها قابل لها عامل بها والشافعي رضي الله عنهما لا يعمل بشيء منها ومتعلق أصحاب أبي حنيفة أن الراوي إذا كان في نفسه عدلا ثقة فروايته محمولة على وجه يقتضي القبول ولو عين من روى عنه وعدله وكان من أهل التعديل لقبل تعديله كما قبلت روايته فإذا أرسل الحديث جازما وأطلق الرواية باتة أشعر بنهاية الثقة
575 - وقال بعض أئمة الحديث إذا قال التابعي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ذلك أولى من ذكره معينا منهم فإنه لا يحكم بإثبات قول رسول الله صلى الله عليه و سلم مع السكوت عن ذكر من نقله إلا مع انتفاض قلبه عن الشبهات وطرق الريب وإذا ذكر معينا فكأنه لا يتقلد صحة الرواية وإنما يكل الأمر إلى الناظرين فيمن روى عنه
576 - ومما تمسك به القائلون بالمراسيل أن أخبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مقبولة وإن كان في بعضها إرسال لا سيما أخبار الذين كانوا صبية في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم وفرت حظوظهم من العلوم بعد انقلاب رسول الله إلى رحمه الله صلى الله عليه و سلم كابن عباس وابن الزبير وغيرهما رضي الله عنهم ثم كانت أخبارهم مقبولة في الصحابة والتابعن مع القطع بأن معظمها مراسيل ونحن نتتبع ذلك على ما ينبغي عند ذكرنا ما نختاره إن شاء الله تعالى

577 - وأما الشافعي رضي الله عنه فإن استدل على رد المراسيل بأن الراوي إذا لم يذكرمن روى له فهو مجهول في حقوقنا وقبول خبر من نجهله ولا نعرفه مستجمعا للصفات المرعية لا وجه له وربما علم الراوي تعديل من روى الحديث ولو ذكره لغيره لعرف المخبر عنه ما لم يعرفه فإذا الإضراب عن ذكر الراوي يخرم الثقة ويطرق إلى القلوب التردد فإذا سمى الراوي من حدثه وعدله وطرد الناظرون الجرح إن وجدوه واستمر الزمن ولم يعثر على سبب جارح فيحصل به الثقة وإذا لم يسم المروى عنه فليست العدالة مقطوعا بها لأن معتمدها أمور ظاهرة وأسباب الجرح أخفى منها والتعديل على الإبهام مع تركه تسمية المعدل لا يتضمن الثقة في حق غير المعدل هذا معتمد الشافعي ويقوى كلامه جدا في بعض الصور كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى
578 - وما اعتمده أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه أولا يعارض هذا المسلك فيوهنه
وما ذكروه من أمر الصحابة رضي الله عنهم وإرسالهم الحديث فقد قال القاضي منتصرا للشافعي ثبوت الاحتجاج بما أطلقه أحداث أصحاب رسول الله صلى اللهعليه وسلم من الروايات مع ترددها بين الإسناد والإرسال لا يثبت الاحتجاج بما تحقق الإرسال فيه إلا من جهة القياس والأقيسة الظنية المعنوية منها والشبهية يقتضي ما يصح منها على السبر العمل ولا يسوغ استعمالها في القطعيات في النفى والإثبات
حاصل التمسك بذلك اعتبار ما تحقق فيه الإرسال بما تعارض فيه احتمال الإسناد والإرسال فقد بطل على ما زعم هذا المسلك

579 - فإذا وضح اعتبار ما تمسك به النفاة والمثبتون فقد جاز أن نوضح المختار قائلين
وقد ثبت أن المعتمد في الأخبار ظهور الثقة في الظن الغالب فإن انخرمت اقتضى انخرامها التوقف في القبول وهذا الأصل مستندة الإجماع الذي ثبت نقله من طريق المعنى استفاضة وتواترا فإذا سبرنا ما ردوه وما قبلوه يحصل لنا من طريق السبر أنهم لم يرعوا صفات تعبدية كالعدد والحرية وإنما اعتمدوا الثقة المحضة فلتعتبر هذه قاعدة في الباب
ومساقها يقتضي رد بعض وجوه الإرسال وقبول بعضها فإذا قال الراوي سمعت رجلا يقول قال فلان فليس في هذا المسلك من الرواية ما يقتضي الثقة فالوجه القطع بردها وإن قال سمعت رجلا موثوقا به عدلا رضا يقول سمعت فلانا وكان الراوي من يقبل تعديله لعدالته واستقامة حالته وعلمه بالجرح والتعديل ودرايته فهذا يورث الثقة لا محالة
580 - وليست الثقة على قضية واحدة بل هي على أنحاء ولها مبتدأ ومنتهى ووسائط بينهما ويبعد أن يشترط في الراوي أن يعرفه كل من يبلغه خبر مسند حتى يسنده إليه وإذا استحال اشتراط هذا لزم على الاضطرار تعديل حال من يلتزم موجب الإخبار على تعديل الأئمة المشهورين وعرفانهم فإذا قال أخبرني الثقة أو من لا أتمارى فيه خيرا ونبلا فقد أفضى ذلك إلى المطلب المقصود في الثقة أو من لا أتمارى فيه خيرا ونبلا فقد أفضى ذلك إلى المطلب المقصود في الثقة وكذلك إذا قال الإمام الراوي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم

فهذا بالغ في ثقته بمن روى له فليطرد الطارد ما ذكرناه طردا وعكسا في صور الإرسال وليحكم في رده وقبوله بموجب الثقة
581 - ثم مخالفة الشافعي في أصول الفقه شديدة وهو ابن بجدتها وملازم أرومتها ولكني رأيت في كلام الشافعي ما يوافق مسلكي هذا وتقر به الأعين
قال رحمه الله مرسلات ابن المسيب حسنة وشبب بقولها والعمل بها وقال في كتاب الرسالة العدل الموثوق به إذا أرسل وعمل بمرسله العاملون قبلته
وقد تعرض القاضي لتفصح كلام الشافعي في هذا الفصل فقال قوله مراسيل ابن المسيب حسنة لست أدري ما الذي يحسنها وقد بلغت عن هذا الحبر أنه قال في بعض مجموعاته تتبعت مراسيل سعيد فألفيت معظمها مسندا من غير طريقه
وهذا فيه نظر فإن التمسك بإسناد من أسند وعليه إحالة العمل والقبول لا على المراسيل فأما العمل إن لم يكن على وفاق فلا وقع له وإن كان على وفاق فالتمسك بالإجماع فهذا معترضه على الشافعي
582 - والذي لاح لي أن الشافعي ليس يرد المراسيل ولكن يبغي فيها مزيد تأكيد بما يغلب على الظن من جهة أن الإرسال على حال يجر ضربا من الجهالة في المسكوت عنه فرأى الشافعي أين يؤكد الثقة فليثق الناظر بهذا المسلك الذي ذكرته فعلى الخبير سقط وقد عثرت من كلام الشافعي على أنه إن لم يجد إلا المراسيل مع الاقتران بالتعديل على الإجمال فإنه يعمل به فكأن

إضرابه عن المراسيل في حكم تقديم المسانيد عليها وهذا إذا اقترن المرسل بما يقتضي الثقة وهذا منتهى القول في ذلك والله أعلم
583 - وقد سمى الأستاذ أبو بكر بن فورك رحمه الله قول التابعي قال رسول الله عليه السلام وقول تابع التابعي قال الصحابي منقطعا وسمى ذكر الواسطة على الإجمال مرسلا مثل أن يقول التابعي قال رجل قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي كلام الشافعي إشارة إلى هذا وليس ذلك متعلقا بفرق معنوي وإنما هو ذكر ألقاب في الباب ذكرناها حتى يطلع الناظر عليها إذا وجدها في كلام الأئمة والقول في الرد والقبول على ما تفصل وتحصل

فصل في تحمل الرواية وجهة تلقيها ومن يصح منه تحملها
584 - فنقول إذا روى الشيخ الذي منه التلقى شفاها ونطق بما سمعه لفظا ووعاه السامع وحواه فهذا هو التحمل والتحميل
585 - ولو كان الحديث يقرأ والشيخ يسمع نظر فإن كان يحيط بما يحرفه القارىء ولو فرض منه تصريف وتحريف لرده فسكوته والأخبار التي تقرأ بمثابة نطقه والحديث يستند بذلك فإن قيل هذا تنزيل منكم للسكوت منزلة القول وهذا من خصائص من يجب له العصمة قلنا إخباره تصريحا ونطقا كان تحميلا للرواية من جهة أنه أفهم بما أسمع السامع من عباراته
فإذا كان الحديث يقرأ وهو يقرر ولا يأبى مع استمرار العادات في أمثال ذلك فهذا على الضرورة حال محل التصريح بتصديق القارىء ومن لم يفهم من

هذه القرائن ما ذكرناه فلا يفهم أيضا من الإخبار النطقي
وأما ما ذكره السائل من أن السكوت إنما ينزل منزلة التقرير ممن يجب عصمته فيقال السكوت مع القرائن التي وصفناها ينزل منزلة النطق ثم النطق ممن لا يعصم عرضة للزلل أيضا ولكنا تعبدنا بالعمل بظواهر الظنون مع العلم بتعرض النقلة لإمكان الزلل وتعمد الخلف والكذب ثم ما ذكرناه يتأيد بإجماع أهل الصناعة فما زالوا يكتفون بما وصفناه في تلقى الأحاديث من المشايخ وهذا إذا كان الشيخ يدري ما يجري
ويلتحق بهذا القسم أن يكون عنده للأحاديث التي تقرأ عليه نسخة مهذبة وكان ينظر فيها فهذا ثبت يكتفي بمثله ولا يشترط استقلال الشيخ بحفظ الأحاديث عن ظهر قلبه
586 - وإذا كان لا يحيط بها وكان لا ينظر في نسخة يعتمدها ولو فرض التدليس عليه لما شعر فإذا قرىء عليه على هذه الصفة شيء من مسموعاته فهذا باطل قطعا فإن التحمل مرتب على التحميل فإذا لم يحمل الشيخ السامع الرواية فكيف يحملها وأي فرق بين شيخ يسمع أصواتا وأجراسا لا يأمن تدليسا والتباسا وبين شيخ لا يسمع ما يقرأ عليه والغرض المطلوب الفهم والإفهام
وتردد جواب القاضي فيه إذا كانت النسخة بيد غير الشيخ وكانت الأحاديث تقرأ وذلك الناظر عدل مؤتمن لا يألو جهدا في التأمل وصغوه الأظهر إلى أن ذلك لا يصح فإن الشيخ ليس على دراية فيه فلم ينهض مفهما محملا فلئن جاز الاكتفاء بنظر الغير فينبغي أن يجوز الاكتفاء بقراءة القارىء المعتمد من النسخة المصححة فهذا ما يتعلق بالتحمل وفيه بيان الغرض من التحميل

587 - ثم المرعى في صفة المتحمل الاستمكان من الفهم والتحمل والمعتبر في صفته هو المعتبر في صفة متحمل الشهادة ثم إذا نجزت النوبة والشيخ على خبرة مما يجرى فلا حاجة أن يقول الشيخ للقارىء كما قرأت أو أصبت أو ما جرى هذا المجرى من الألفاظ وقد اشترط بعض المحدثين ذلك فإن كان هذا مذكورا للتأكيد والاستقصاء فالأمر فيه قريب وإن ذكر هؤلاء ذلك شرطا في صحة التحمل والتحميل فهو ساقط عند قرائن الأحوال كما تقدم وصفها حالة محل التصريح بالقول قطعا والتعويل على وقوع الإفهام والفهم وتحقق الإحاطة والعلم ووضوح ذلك يغنى الناظر عن مزيد البيان
مسألة
588 - إذا قال الشيخ المتلقى عنه أجزتك أن تروى عني ما صح عندك من مسموعاتي أو عين كتابا وأجاز له الرواية عنه فقد تردد الأصوليون في ذلك
فذهب ذاهبون إلى أنه لا يتلقى بالإجازة حكم ولا يسوغ التعويل عليها عملا ورواية
589 - والذي نختاره جواز التعويل عليها فإن المعتمد في الباب الثقة فإذا تحقق سماع الشيخ وذكر المتلقى منه سماعه وسوغ له إسناد مسموعاته إلى إخباره فلا فرق بين أن يعلق الإخبار بها جملة وبين أن يعلقه تفصيلا وقد تمهد بما تقدم أن إفصاحه بالنطق ليس شرطا فإن الغرض حصول الإفهام وترتب الفهم عليه وهذا يحصل بالإجازة المفهمة
ثم هي على مراتب

أعلاها الإشارة الى كتاب وربطه إجازة الرواية مع الإخبار عن صحة السماع فيه وقد يؤكد بعض المحدثين هذا القسم بالمناولة وهي أن يناول الشيخ المتلقى عنه كتابا ويقول دونكه فاروه عني ولست أرى في المناولة مزيد تأكيد
فإذا فوض المجيز إلى المتلقى تصحيح المسموعات ولم ينص عليها فهذه إجازة مترتبة على عماية والأمر في تصحيحها موكول إلى صحة بحث الراوي عن ثبوت سماع الشيخ مع انتفاض الشيخ عن التحريفات وهذا يعسر دركه ويتطرق إليه جهات من الجهالات تنخرم الثقة بأدناها
فإن كان المتلقى معولا على خطوط مشتملة على سماع الشيخ فلست أرى ذلك مقنعا
وإن تحقق ظهور سماع موثوق به فإذ ذاك وهيهات
590 - ومما يتعلق بتتميم الكلام في هذا أن الذي مستندة الإجازة يعمل بما يتلقاه ويعمل غيره بما رواه على هذه الجهة ولكن اللائق به أن يذكر جهة تلقيه الإجازة فإن ذلك أدفع للبس وأرفع للريب فإن قال حدثني فلان أو أخبرني مطلقا فلست أرى ذلك خلفا محضا لتحقق الثقة وقد تقدم أن نفس لفظ الشيخ ليس شرطا وليس قوله حدثني في الإجازة عبارة مرضية لائقة بالتحفظ والتصون فالوجه البوح بالإجازة
وللمحدثين مواضعات يرتبونها ويقولون في بعضها أخبرني وفي بعضها حدثني وليست على حقائق وليسوا ممنوعين من اصطلاحهم ولكل طائفة في الفن

الذي تعاطوه عبارات مصطلحة
مسألة
591 - إذا وجد الناظر حديثا مسندا في كتاب مصحح ولم يسترب في ثبوته واستبان انتفاء اللبس والريب عنه ولم يسمع الكتاب من شيخ فهذا رجل لا يروى ما رآه
592 - ولكن الذي أراه أنه يتعين عليه العمل به ولا يتوقف وجوب العمل على المجتهدين بموجبات الأخبار على أن تنتظم لهم الأسانيد في جميعها
والمعتمد في ذلك أن روجعنا فيه الثقة والشاهد له أن الذين كانوا يرد عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على أيدي نقلة ثقات كان يتعين عليهم الانتهاء إليها والعمل بموجبها ومن بلغه ذلك الكتاب ولم يكن مخاطبا بمضمونه ولم يسمع من مسمع كان كالذين قصدوا بمضمون الكتاب ومقصود الخطاب
ولو قال هذا الرجل رأيت في صحيح محمد بن إسماعيل البخاري ووثقت باشتمال الكتاب عليه فعلى الذي سمعه يذكر ذلك أن يثق به ويلحقه بما تلقاه بنفسه ورآه ورواه من الشيخ المسمع
ولو عرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأبوه فإن فيه سقوط منصب الرواية عند ظهور الثقة وصحة الراوية وهم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول
593 - وإذا نظر الناظر في تفاصيل هذه المسائل صادفها خارجة في الرد والقبول على ظهور الثقة وانخرامها وهذا هو المعتمد الأصولي فإذا صادفناه لزمناه وتركنا وراءه المحدثين ينقطعون في وضع ألقاب وترتيب أبواب

مسألة
594 - إذا قال الصحابي من السنة كذا فقد تردد فيه العلماء فذهب ذاهبون إلى أن قوله هذا محمول على النقل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كأنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا فإن السنة إذا أطلقت تشعر بحديث الرسول عليه السلام
وأبي المحققون هذا فإن السنة هي الطريقة وهي مأخوذة من السنن والاستنان فلا يمتنع أن يحمل ما قاله على الفتوى وكل مفت ينسب فتواه إلى شريعة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم مستند الفتوى قد يكون نقلا وقد يكون استنباطا واجتهادا فالحكم بالرواية مع التردد لا أصل له
وكذلك إذا قال أمرنا بكذا فهو بمثابة قوله من السنة كذا فهذا منتهى القول في التحميل والتحمل ويلتحق الان بذلك مسائل
مسألة
595 - إذا نقل الراوي العدل خبرا من شيخ فروجع الشيخ فيه فأنكره
فالذي ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة وطوائف من المحدثين أن ذلك يوهى الحديث ويمنع العمل به
وأطلق الشافعي القول بقبول الحديث وإيجاب العمل به
وذكر القاضي في ذلك تفصيلا ونزل مطلق كلام الشافعي رحمه الله عليه فقال إن قال اشيخ المرجوع إليه كذب فلان الراوي عني أو قال غلط وما رويت له قط ما ذكر فإذا جزم الرد عليه أوجب ذلك سقوط تلك الرواية

فإن ردد الشيخ قوله ولم يثبت الرد على الراوي عنه ولكنه قال لست إذكر هذه الرواية فهذا لايتضمن ردا ررواية إذا كان الراوي عن الشيخ موثوقا به
596 - فأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم احتجوا بالشهادة على الشهادة فإن الفروع وإن كانوا عدولا إذا شهدوا ولم يمض القاضي قضاءه بشهادتهم حتى روجع الأصول فتوقفوا في أصل الشهادة اقتضى ذلك أبطال شهادة الفروع وامتنع أيضا التمسك بها والفروع في حكم الناقل عن الأصل شهادته وربما أطلقوا استدلالا وقالوا قد ذكرتم أن التعويل على ظهور الثقة ولا شك أن التردد من الشيخ أو تصريحه بالرد على الراوي عنه يوهى الثقة ويخرمها ويتضمن التوقف
597 - وقال الشافعي أما الشهادة فلا يجوز اعتبار الرواية بها لا فيها من التعبدات التي لا يعتبر شيء منها في الروايات فإذا أمكن حمل ما ذكروه في الشهادة على وجه في التعبد فلا يسوغ اعتبار الرواية بها وإن اتجه للخصم تقدير انخرام الثقى استغنى باتجاه ذلك عن القياس على الشهادة
ثم قال الشافعي رحمه الله الذي يؤكد سقوط اعتبار الرواية بالشهادة أنه لا يجوز اعتماد شهادة الفروع مع إمكان مراجعة الأصول ويجوز اعتماد رواية الثقة من غير مراجعة لشيخه فيها فوضح بذلك افتراق البابين في غر ما دفعنا إليه
ولو شبب مشبب بوجوب مراجعة الشيخ في الرواية عند الإمكان لم يترك ورأيه ورد عليه بقاطع لا استرابة فيه وهو أنا نعلم أن الصحابة رضي

الله عنهم كان يروى بعضهم لبعض أحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم فيتلقونها بالقبول ولا يلتزمون على الطرد مراجعة رسول الله صلى الله عليه و سلم مع الإمكان وكذلك القول في رواية بعضهم عن البعض
وهذا الذي ذكره الشافعي تأكيد متغنى عنه والتعويل على ما ذكرناه من حمل أمر الشهادة على التعبد وإمكان ذلك كاف في إبطال الاستدلال به و أما ما ذكروه من ادعاء وهاء الثقة فباطل لا أصل له والقول فيه عندنا يحققه التفصيل الذي أشار إليه القاضي
598 - فإن قال الشيخ لست أذكر هذه الرواية والراوي عنه قاطع بروايته مع ظهور عدالته واستقامة حالته فالوجه حمل تردد الشيخ على الذهول والنسيان ولا يوهن قطع الذاكر تردد غيره فالثقة إذا لم تسقط ولا تنحزم انخراما يسقط الاعتبار بالرواية
ولكن لو فرض تصديق الشيخ الراوي لدى المراجعة لكان ذلك أظهر في الثقة وأوضح في اقتضاء الاعتماد ونهاية الثقة ليست شرطا في أصل القبول وإنما يؤثر تفاوت الدرجات فيها في الترجيحات على ما سيأتي في كتابها وهذا بمثابة إضافة رواية رجل عدل إلى رواية إمام الدهر وموثوق العصر ومن إليه الرجوع في الأمر فلا شك أن رواية العدل تنحط عن مثل هذا الشخص برتب ظاهرة ولا يوجب ذلك رد رواية العدل بل يتعين حملها على القبول
وقد قال الشافعي لو روى عدل خبرا في أثناء خصومة وكان فحواها حجة على الخصم فالرواية مقبولة ولا تجعل للتهمة موضعا إذا كان الراوي عدلا

وكذلك إذا وقعت الرواية جارة منفعة إلى الراوي أو إلى والده أو ولده فلا ترد الرواية مع ظهور عدالة الراوي وإن كانت الشهادة مردودة في أمثال ذلك فإذا لا يعارض تردد من شيخ قطعا من راو عدل معارضة تحبط الثقة المعتبرة
599 - وهذا إذا لم يصرح الشيخ بالرد فأما إذا كذبه أو قطع بنسيته إلى الغلط فقد يظهر انخرام الثقة في هذه الحالة
واعدى القاضي على الشافعي أنه قال ترد الرواية في مثل هذه الصورة
والذي أختاره فيها أن نزل قول الشيخ القاطع بتكذيب الراوي عنه مع رواية الثقة العدل عنه منزلة خبرين متعارضين على التناقض فإذا اتفق ذلك فقد يقتضي الحال سقوط الاحتجاج بالروايتين وقد يقتضي ترجيح رواية على رواية بمزيد العدالة في إحدى الروايتين أو غير ذلك من وجوه الترجيح فلا فرق بين ذلك وبين تعارض قولين من شيخ وراو عنه

فصل في كيفية الرواية وتفصيلها وما يقبل منها وما يرد
مسألة
600 - ما ذهب إليه معظم الأصوليين أن رواية الخبر على المعنى من غير اعتناء باللفظ جائزة إذا كان الراوي المترجم عنه قاطعا بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه
وامتنع من ذلك معظم المحدثين وشرذمة من الأصوليين
601 - والدليل على الجواز مع القطع وانتفاء الريب أمور

منها أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا ينقلون معنى واحدا في قصة واحدة بألفاظ مختلفة ولا محمل لذلك إلا اعتناؤهم بنقل المعنى وها قاطع في فنه ومما تواتر عنهم في ذلك أنهم كانوا يرددون العبارات في محاولة إفهام من لا يفهم وهذا بعينه تعرض للمعنى ومما يشهد له في ذلك أن الرسول عليه السلام كان يحمل رسله تبليغ أوامره ونواهيه ولا يكلفهم حفظ ألفاظه ومن جحد ذلك فهو مباهت فكان أصحابه رضي الله عنهم يصرفون عنايتهم إلى الألفاظ التي يفهموم أنهم متعدبون بتحفظها كألفاظ التشهد وغيرها وكانوا لا يجرون جميع ما يسمعون من أوامر رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا المجرى
والذي يحقق ذلك أنا على قطع نعلم أن الرسول عليه السلام كان يقصد أن تمتثل أوامره وكان لا يبغى من ألفاظه غيرذلك
والذي يوضح ما قدمناه أنه عليه السلام كان مبتعثا إلى العرب والعجم ولا يتأتى إيصال معنى أوامره إلى معظم خليقة الله سبحانه وتعالى إلا بالترجمة ومن أحاط بمواقع الكلام عرف أن إحلال الألفاظ من ثقة محل الألفاظ أقرب إلى الاقصاد من نقل المعاني من لغة إلى لغة
فإن استدل من منع ذلك بما روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال نضر الله امرا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها قلنا هذا أولا من أخبار الاحاد ونحن نحاول الخوض في مخاض القطعيات وقد قال بعض المحققين من أذى المعنى على وجهه فقد وعى وأدى والتأويل الصحيح لو رمنا الكلام على الحديث أنه صلى الله عليه و سلم أراد بذلك من لا يستقل بفهم المعنى على القطع وتتميم الحديث شاهد فيه فإنه عليه لسلام قال في اخره فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه

إلى من هو أفقه منه فيشهد مساق الكلام على أن ما قاله فيه إذا كان يتوقع من الناقل زللا ولو ترجم
مسألة
602 - من سمع حديثا مشتملا على أحكام فهل له أن ينقل بعضها دون بعض بقدر مسيس الحاجة ولا يسوق الحديث على وجهه
اختلف العلماء في ذلك فمنع بعضهم الاقتصار على بعض الحديث وهذا قريب من التزام نقل اللفظ على وجهه وأجاز ذلك اخرون
603 - والمرضى عندنا التفصيل فإن كان ما سكت الراوي عنه حكما يتميز عما نقله ولم يكن للمسكوت عنه تعلق بالمنقول وكان لا يختل البيان في المروى بترك بعض الحديث فيجوز تخصيص البعض بالنقل على هذا الشرط وإن كان يختل البيان في القدر المنقول بسبب ترك المسكوت عنه فهذا إخلال في النقل ممتنع
604 - وقد تردد كلام الشافعي على خبرين ونحن نذكر سياق كلامه فيهما وبه يتم غرض المسألة قال الشافعي رحمه الله نل بعض النقلة عن ابن مسعود أنه أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بحجرين وروثة ليستنجي بها فرمى رسول الله صلى الله عليه و سلم الروثة وقال إنها رجس وروى بعض الرواة أنه رمى بالروثة ثم قال ابغ لي

ثالثا والسكون عن ذكر الثالث ليس يخل بنقل الرواية وبيان أنها رجس ولكن قد يوهم النقل على هذا الوجه جواز الاكتفاء بحجرين فلا يجةو مع هذا الإيهام الاقتصار على بعض الحديث ويحمل رواية المقتصر على أنه لم يبلغه غير ما رواه
605 - والذي أختاره في هذا المسلك أن الراوي إن قصد إثبات منع استعمال الروث ونقل ما يدل على ذلك من رمى رسول الله صلى الله عليه و سلم الروثة وحكمه بأنها نجسة فهذا سائغ غير بعيد وإن لم يعلق روايته بقصده منع استعمال الروثة ولكنه استفتح الرواية غير متعلقة بغرض معين فلا يسوغ الاقتصار على ذكر رمى الروثة فإن ذلك يوهم جواز الاكتفاء بحجرين كما ذكر الشافعي فهذا أحد الخبرين
606 - والخبرالثاني في هذا القبيل حديث ماعز في الرجم في مقابلة ما روى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم الثيب بالثيب جلد مائة والرجم
قال الشافعي رحمه الله هذا منسوخ بحديث ماعز فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر برجمه ولم ينقل أنه جلده ثم استوفى الشافعي الكلام في صيغة الأجوبة عن أسئلة وجهها على مانسوقها على وجهها قال فإن قيل لعله جلده ورجمه قيل له كانت فصة مشهورة من مشاهير القصص ولو جلد لنقل

فإن قيل رب تفصيل في القصة لا يتفق نقله ودواعي النفوس إنما تتوفر على نقل كليات الأقاصيص وقد صح في الحديث المقدم التصريح بالجلد فلا يعارضه التعلق بعدم النقل في حديث مع اتجاه وجه ترك النقل فيه
قال الشافعي مجيبا الأمر كذلك والحق أحق أن يتبع ولولا أن أبا الزبير روى عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رجم ماعزا ولم يجلد لكنا نعارض الحديث الأول بقصة ماعز
607 - قال القاضي ما ذكره الشافعي يتأكد بالإجماع على ترك الجلد وليس ما ذكره القاضي مسلما ففي السلف من يجمع بين الجلد والرجم ولولا ذلك لما اعتني الشافعي بالكلام على الحديث ثم قال القاضي وما أرى الحديث الأول إلا هفوة فإن من يقتل الأحجار أي معنى لجلده مائة وهو يدق بالأحجار إلى الموت فلعل الراوي سمع الجلد في البكر فاطرد على ذكره في الثيب ولا نهاية لمواقع إمكان الغلطات في الروايات
وهذا الذي ذكره القاضي لا يسوغ التعلق بمثله في رد رويات الثقات ولكن تقوى به مسالك التأويل وتظهر غلبات الظنون وهذا منتهى القول في ذلك
مسألة
608 - إذا روى طائفة من الأثبات قصة وانفرد واحد منهم بنقل زيادة فيها

فالزيادة من الراوي الموثوق به مقبولة عند الشافعي وكافة المحققين ومنع أبو حنيفة التعلق بها
واستدل الشافعي بأن انفراد بعض الناقلين بالاطلاع على مزيد ليس بدعا والناقل قاطع بالنقل فلا يعارض قطعه ذهول غيره وإذا ظهرت عدالة الراوي ولم يعارض نقله نقل يعارضه فلا يسوغ اتهام مثبت في نقله لعدم نقل غيره والدليل عليه أنه لو شهد جمع مجلس الرسول عليه السلام فنقل بعضهم حديثا ولم ينقل غيره من الحاضرين شيئا منه فهو مقبول ولا يسوغ تقدير الخلاف فيه فإن معظم الأحاديث التي نقلها الاحاد والأفراد عزوها إلى مشاهد لرسول الله صلى الله عليه و سلم ومجالسه بين أصحابه كان كذلك ولو شرط نقل كل من شهد لرد معظم الأحاديث
والذي يعضد ما ذكرناه أن الشهادات تبر في وجوه من التعبدات على الراويات وهي تضاهيها في أصل اعتبار الثقة ثم لو شهد جمع من العدول رجلا وشهدوا على إقراره لإنسان وانفرد عدلان من الشهود الحضور بمزيد في شهادتهما فهي مقبولة ولا يقدح فيها سكوت الباقين عنها فإذا كان ذلك لا يقدح في الشهادات مع أنها قد ترد بالتهم فالروايات بذلك أولى وليس

ما ذكرناه من فن القياس ولكنا أوردنا ما أوردناه استشهادا في تحقيق الثقة
609 - قال الشافعي من متناقض القول الجمع بين قبول رواية القراءة الشاذة في القران وبين رد الزيادة الت ينفرد بعض الرواة الثقات مع العلم بأن سبيل إثبات القران أن ينقل استفاضة وتواترا فما كان أصله كذلك إذا قبلت الزيادة فيه شاذة نادرة فلأن تقبل فيما سبيل نقله الاحاد كان أولى
610 - وهذه المسألة عندي بينة إذا سكت الحاضرون عن نقل ما تفرد به بعضهم فأما إذا صرحوا بنفى ما نقله عند إمكان غطلاعهم على نقله فهذا يعارض قول المثبت ويوهيه وقد أرى قبول الشهادة على النفي إن فرض الاطلاع عليه تحقيقا
مسألة
611 - كل أمر خطير ذي بال يقتضي العرف نقله إذا وقع تواترا إذا نقله احاد فهم يكذبون فيه منسوبون إلى تعمد الكذب أو الزلل وقد أجرينا هذا في أدراج أحكام التواتر ووجهنا أسئلة مخيلة وانفصلنا عنها
وقال أبو حنيفة بانيا على هذا لا يقبل خبر الواحد فيما يعم به البلوي فإن سبيل ما كان كذلك أن ينقل استفاضة
612 - ونحن نقول رد أبو حنيفة أخبار الاحاد في تفاصيل ما يعم به البلوي وأسند مذهبه إلى ذلك وهذا زلل بين فإن التفاصيل لا تتوافر الدواعي بها على نقلها توافرها على الكليات فنقل الصلوات الخمس مما يتواتر فأما تفصيلها في

الكيفية فلا يقضي العرف بالاستفاضة والدليل القاطع فيه أنه لو كان مما يتواتر لنقل تواترا فإذا لم ينقل نقيضه مع القطع بأنه لا بد من وقوع أحدهما دل على أن ما ورد خبر الاحاد فيهمن قبيل ما لا يجب التواتر فيه على حكم الاعتياد
وتمام البيان فيه أنا إنما نكذب المنفرد بالنقل في كلى متواتر قطعا لو وقع أو في تفصيل يقضي العرف التواتر فيه ثم لا بد أن يتواتر نقيض ما نقله المنفرد بنقله
مسألة
613 - ظاهر مذهب الشافعي أن القراءة الشاذة التي لم تنقل تواترا لا يسوغ الاحتجاج بها ولا تنزل منزلة الخبر الذي ينقله احاد من الثقات ولهذا نفى التتابع واشتراطه في صيام الأيام الثلاثة في كفارة اليمين ولم ير الاحتجاج بما نقله الناقلون من قراءة ابن مسعود في قول الله تعالى فصيام ثلاثة أيام متتابعات
وشرط أبو حنيفة التتابع وتعلق بهذه القراءة ولا يكاد يخفى أولا على ذي بصيرة أن العمل بزيادة في القران بنقل الاحاد يناقض رد ما ينفرد به بعض الثقات من الزيادات في الأخبار التي لا تقتضي العادة نقلها متواترا
614 - والذي يحقق سقوط الاحتجاج بالقراءة الشاذة أمران أحدهما أن القران قاعدة الإسلام وقطب الشريعة وإليه رجوع جميع الأصول ولا أمر في الدين أعظم منه وكل ما يجل خطره ويعظم وقعه لا سيما من الأمور الدينية فأصحاب الأديان يتناهون في نقله وحفظه ولا يسوغ في اطراد الاعتياد رجوع

الأمر إلى نقل الاحاد ما دامت الدواعي متوفرة والنفوس إلى ضبط الدين متشوفة
وهذا يستند إلى ما سبق تمهيده فيما يقتضي تواتر الأخبار فهذا وجه
والوجه الثاني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أجمعوا في زمن أمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضي الله عنه على ما بين الدفتين واطرحوا ما داه وكان ذلك عن اتفاق منهم وابن مسعود لما شبب بنكر ناله من خليفة الله تعالى أدب بين ولم ينكر على عثمان في ذلك منكر وكل زيادة لا تحويها الأم ولا تشمل عليها الدفتان فهي غير معدودة في القران
615 - وأما ما يتعلق باختلاف القراءة في اعراب القران فليس مما يحوي المصحف المجمع عليه مخالفة له فإنه لم يثبت في المجموع في الأم قطع في التعرض لذلك فكان الأمر فيه محالا على نقل القراءة تواترا فإن خالج قلب من لم يعن بحفظ القران ريب في تواترها فذلك لأنه ليس من القراء والمرعى في التواتر ما يتلفى من أهل ذلك الشأن والتوار ينقسم منه ما يعم الكافة لاشتراكهم في سببه كنقل الدول والبلدان ومنه ما يختص به طوائف وفرق لاختصاصهم بالاعتناء به
616 - ولا ينبغي أن ينسبنا الناظر والمنهخى إلى هذا المقام إلى تقصير فيما يتعلق بمحل الإشكال في نقل القران العظيم فإنه قطب عظيم لم يشف القاضي فيه الغليل في كتاب الانتصار وإن عد ذلك من أجل مصنافته وفي نفسي أن أجمع من ذلك ما تقر به الأعين إن شاء الله تعالى وحظ هذه المسألة مما ذكرنا أن نقل

الاحاد في القران يلتحق بنقل الاحاد فيما يقتضي العادة في التواتر وهذا كاف
وقد نجزت مسائل الأخبار

-

الكتاب الثاني
- كتاب الإجماع
617 - أصدر هذا الكتاب مستعينا بالله تعالى بثلاث مسائل ثم نخوض بعد نجازها في ترتيب الكتاب تأصيلا وتفصيلا
إحدى المسائل الثلاث في تصور الإجماع وقوعا والأخرى في كونه حجة وذكر الخلاف فيه والأخرى في المسالك الدالة على كون الإجماع حجة
مسألة
618 - ذهب طوائف من الناس إلى أن الإجماع لا يتصور وقوعه واشتد كلام القاضي ونكيره على هؤلاء وتعدى حد الإنصاف قليلا
ونحن نسلك مسلكنا في استيعاب ما لكل فريق حتى إذا لاحت نهايات النفي والإثبات وضح منها مدرك الحق
619 - فأما الذين منعوا تصور الإجماع فإنهم قالوا قد اتسعت خظة الإسلام ووقعته وعلماء الشريعة متباعدون في الأمصار ومعظم البلاد المتباينة لا تتواصل الأخبار فيها وإنما يندرج المندرج من طرف إلى طرف بسفيرات ورفيقات

ولا يتفق انتهاض رفقة ومدها مدة واحدة من الشرق إلى الغرب فكيف يتصور والحالة هذه رفع مسألة إلى جميع علماء العالم ثم كيف يفرض اتفاق ارائهم فيها مع تفاوت الفطن والقرائح وتباين المذاهب والمطالب وأخذ كل جيل صوبا في اساليب الظنون فتصور اجتماعهم في الحكم المظنون بمثابة تصور اجتماع العالمين في صبيحة يوم على قيام أو قعود أو أكل مأكول ومثل ذلك غير ممكن في اطراد العادة نعم إن انخرقت لنبي أو ولى على رأى من يثبت الكرامات فنعم وبالجملة لا يتصور الإجماع مع اطراد العادة فهذا قول هؤلاء ثم زاجوا إيهاما اخر فقالوا لو فرض الإجماع فكيف يتصور النقل عنه تواترا والحكم في المسألة الواحدة ليس مما تتوفر الدواعي على نقله
فقد أسندوا كلامهم إلى ثلاث جهات مترتبات في العسر أولها تعذر عرض مسألة واحدة على الكافة والأخرى عسر اتفاقهم والحكم مظنون والثالثة تعذر النقل تواترا عنهم واختتموا هذه بأن قالوا لو ذهب ذاهب من العلماء إلى مذهب فما الذي يؤمن من بقائه عليه وإصراره على مذهبه إلى أن يطبق النقل طبق الأرض فهذه عين كلام هؤلاء
620 - قال القاضي معترضا عليهم متتبعا مسالكهم نحن نرى إطباق جيل من الفار يربى عددهم على عدد المسلمين وهم متفقون على ضلالة يدرك بأدنى فكر بطلانها فإذا لم يتمتنع إجماع أهل الدين على الإحاطه بذلك منهم وإن أردنا

فرض ذلك في الفروه فنحن نعلم إجماع علماء أصحاب الشافعي على مذهبه في المسائل مع تباعد الديار وتنائي المزار وانقطاع الأسفار فبطل ما زخرفه هؤلاء
ثم قال القاضي لا يمتنع تصور ملك تنفذ عزائمه في خظة أهل الإسلام إما باحتوائه على البيضة أو بعلو قدره واستمكانه من إحضار من يشاء من المماليك بجوازم أوامره المنفذه إلى ملوك الأطراف وإذا كان ذلك ممكنا فلا يمتنع أن يجمع مثل هذا الملك علماء العالم في مجلس واحد ثم يلقى عليهم ما عن له من المسائل ويقف على خلافهم ووفاقهم فهذا وجه في التصوير بين لا يتوقف تصوره على فرض خرق العادة فهذا منتهى كلامه
621 - ونحن نفصل الان القول في ذلك قائلين لا يمتنع الإجماع عند ظهور دواع مستحثه عليه داعية إليه ومن هذا القبيل كل أمر كلى يتعلق بقواعد العقائد في الملل فإن على القلوب روابط في أمثالها حتى كأن نواصي العقلاء تحت ربقة الأمور العظيمة الدينية ومن هذا القبيل ما استشهد به القاضي من اجتماع جموع الكفار على ما وقتوه من دينهم ومنه اجتماع أتباع إمام على مذهبه فإن كل من رأسه ازمان يصرف إليه قلوب الأتباع وبذلك يتصل النظام وهذا مستبين في الجلى والخفى
وما ضوره القاضي من إحضار جميع العلماء ليس منكرا فقد تكون أطراف المماليك في حق الملك العظيم كأنها بمرأى منه ومسمع فلا يبعد ما قاله على ما صوره
622 - وأما فرض اجتماع على حكم مظنون في مسألة فردة ليست من

كليات الدين مع تفرق العلماء واستقرارهم في أماكنهم ونتفاء داعية تقتضي جمعهم فهذا لا يتصور مع اطراد العادة فإذا من أطلق التصور أو عدم التصور فهو زلل والكلام المفصل إذا أطلق نفيه أو إثباته كان خلفا ومن ظن أن تصور الاجماع وقوعا في زماننا في احاد المسائل المظنونة مع انتفاء الدواعي الجامعة هين فليس على بصيرة من أمره نعم معظم مسائل الإجماع جرى من صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم مجتمعون أو متقاربون فهذا منتهى الغرض في تصوير الإجماع
المسألة الثانية في كونه حجة إذا وقع
623 - ما ذهب إليه الفرق المعتبرون من أهل المذاهب أن الإجماع في السمعيات حجة وأول من باح بردة النظام ثم تابعه طوائف من الروافض وقد يطلق بعضهم كون الإجماع حجة وهو في ذلك ملبس فإن الحجة عنده في قول الإمام القائم صاحب الزمان وهو منغمس في غمار الناس فإذا استفر الإجماع كان قوله من جملة الأقوال فهو الحجة وبه التمسك
624 - وعمدة نفاة الإجماع أن العقول لا تدل على كون الإجماع حجة وليس يمتنع في مقدور الله تعالى أن يجمع أقوام لا يعصم احادهم عن الخطأ على نقيض الصواب فإذا ليس في العقل متعلق في انتصاب الإجماع حجة فلم يبق إلا تتبع الأدلة السمعية وتعيين انتفاء القاطع فيها والقاطع نص الكتاب أو نص

السنة متواترا والمسألة عرية عنهما فلا دليل إذا على أن الإجماع حجة وهذا الكلام مخيل بالغ في فنه إن لم يسلك المسلك المرضى في تتبعه
625 - ثم تمسك القائلون بالإجماع باى من كتاب الله تعالى ونحن نذكر أوقعها فمما استدل به الشافعي قول الله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى الايه ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما نولى ونصله جهنم وساءت مصيرا فإذا أجمع المؤمنون على حكم في قضية فمن خالفهم فقد شاقهم المعترضون وظنى أن معظم تلك الاعتراضات الفاسدة تكلفه المصنفون حتى ينتظم لهم أجوبة عنها ولسن لأمثالها
بل أوجه سؤالا واحدا يسقط الاستدلال بالاية فأقول إن الرب تعالى أراد بذلك من أراد الكفر وتكذيب المصطفى صلى الله عليه و سلم والحيد عن سنن الحق وترتيب المعنى ومن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين المقتدين به نوله ما تولى فإن سلم ظهور ذلك فذلك وإلا فهو وجه في التأويل لائح ومسلك في الإمكان واضح فلا يبقى للمتمسك بالاية إلا ظاهر معرض للتأويل ولا يسوغ التمسك بالمحتملات في مطالب القطع وليس على المعترض إلا أن يظهر وجها في الإمكان ولا يقوم للمحصل عن هذا جواب إن أنصف
626 - فإن تمسك مثبتو الإجماع بما روى عن النبي عليه لسلام أنه قال لا تجتمع أمتي على ضلالة وقد روى الرواة هذا المعنى بألفاظ مختلفة فلست أرى

للتمسك بذلك وجها لأنها من أخبار الاحاد فلا يجوز التعلق بها في القطعيات وقد تكرر هذا مرارا
ولا حاصل لقول من يقول هذه الأحاديث متلقاة بالقبول فإن المقصود من ذلك يئول إلى أن الحديث مجمع عليه وقصاراه إثبات الإجماع بالإجماع على أنه لا تستتب هذه الدعوى أيضا مع اختلاف الناس في الإجماع
ثم الأحاديث متعرضة للتأويلات القريبة المأخذ الممكنة فيمكن أن يقال قوله صلى الله عليه و سلم لا تجتمع أمتى على ضلالة بشارة منه مشعرة بالغيب في مستقبل الزمان مؤذنه بأن عليه السلام لا ترتد إلى قيام الساعة وإذا لم يكن الحديث مقطوعا به نقلا ولم يكن في نفسه نصا فلا وجه للاحتجاج به في مظان القطع
627 - فإن قيل قد تحقق أن العقول لا تدل على ثبوت الإجماع واستبان أنه ليس في المعيات قاطع دال على أن الإجماع واجب الاتباع فلا معنى بعد ذلك إلا الرد والإجماع عصام الشريعة وعمادها وإليه استنادها
قلنا الإجماع حجة قاطعة والطريق القاطع في ذلك أن نقول للإجماع صورتان نذكرهما ونذكر السبيل المرضى في إثبات الإجماع في كل واحدة منهما إحداهما أن نصادف علماء العصر على توافرهم في أطراف الخطة وأوساطها مجمعين على حكم مظنون وللرأي فيه مضطرب فنعلم والحالة هذه أن اتفاقهم إن وقع لا يحمل على وفاق اعتقاداتهم وجريانها على منهاج واحد فإن ذلك مع تطرق

وجوه الإمكان واطراد الاعتياد مستحيل بل يستحيل اجتماع العقلاء على معقول مقطوع به في أساليب العقول إذا كان لا يتطرق إليه إلا بإنعام نظر وتسديد فكر وذلك لاختلاف الناظرين في نظرهم فإذا كان حكم العادة هذا في النظر القطعي فما الظن بالنظر الظني الذي لا يفرض فيه قطع فإذا تقرر أن اطراد الاعتياد يجيل اجتماعهم على فن من النظر فإذا ألفيناهم قاطعين بالحكم لا يرجعون فيه رأيا ولا يرددون قولا فنعلم قطعا أنهم أسندوا الحكم إلى شيء سمعي قطعي عندهم ولا يبعد سقوط النقل فيه فهذا مسلك إثبات الإجماع في هذه الصورة
628 - فأما الصورة الثانية وهي إذا أجمعوا على حكم مظنون وأسندوه إلى الظن وصرحوا به فهذا أيضا حجة قاطعة والدليل على كونه حجة أنا وجدنا العصر الماضية والأمم المنقرضة متفقة على تبكيت من يخالف إجماع العلماء علماء الدهر فلم يزالوا ينسبون المخالف إلى المروق والمحادة والعقوق ولا يعدون ذلك أمرا هينا بل يرون الاجتراء على مخالفة العلماء ضلالا بينا فإجماعهم على

هذا مع الإنصاف كالقطع في مجال الظن عند نظر العقل فإذا التحق هذا بإجمناعهم قطعا في حكم مطنون قطع به المجمعون من غير ترديد ظن فليكن الإجماع على تبكيت المخالف وتعنيفه مستند قاطع شرعي ولا يبعد أن يكون ذلك بعض الأخبار التى ذكرناها تلقاها من تلقاها من فلق في رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلم بقرائن الحال قصد المصطفى عليه السلام في انتصاب الإجماع حجة ثم علموا ذلك وعملوا واستمروا على القطع بموجبه ولم يهتموا بنقل سبب قطعهم فقد تقرر الان انتصاب الإجماع دليى قاطعا وبرهانا ساطعا في الشرع
المسألة الثالثة
629 - في التنصيص على المسلك الذي ثبت الإجماع به إذ لا مطمع في إسناده إلى العقل وكذلك لا مطمع في إسناده إلى دليل قاطع سمعي هجوما عليه من غير اعتبار واسطة
فإذا الواسطة التي هي العمدة النظر في قضيات اطراد العادات كما سبق تقرير ذلك في الصورتين ثم إذا أنعم الباحث نظره كان متعلقه دليلا قاطعا سمعيا يشعر الإجماع به
فإن قيل ما ذكرتموه إخراج الإجماع عن كونه حجة قلنا هذه الان غباوة فإن ذا التحصيل لا يطمع في كون إجماع الناس حجة لعينه وإنما المطلوب المكتفي به استناده إلى حجة والدليل عليه أن قول المصطفى صلوات الله عليه في نفسه ليس

بحجة ولكنه مشعر بتبليغ قول الله تعالى حقا صدقا وهو المطلوب المقصود وليس وراء الله للمرء مذهب

فصل
630 - الكلام بعد هذه المسائل الثلاث في أربعة فنون
أحدها في عدد المجمعين وصفتهم
والثاني في الزمن لمعتبر في الإجماع
والثالث في كيفية الإجماع قولا أو سكوتا أو فعلا
والرابع فيما يثبت بالإجماع وفيما لا يثبت
631 - فأما الفن الأول فإنه ينقسم إلى مسائل خلافية وفصول مذهبية ومجموع القول فيه يقع في نوعين
أحدهما في صفة المجمعين والثاني في عددهم
فأما الصفة فلا شك أن العوام ومن شدا طرفا قريبا من العلم لم يصر بسبب ما تحلى به من المتصرفين في الشريعة وليسوا من أهل الإجماع فلا يعتبر خلافهم ولا يؤثر وفاقهم وأما المفتون المجتهدون فلا شك في اعتبارهم وأما الذين تبحروا في الأصول وقواعد الشرع وأطراف من الفقه والذين تبحروا في يجمعه مضمون المسألة التي نرسمها إن شاء الله تعالى

مسألة
632 - ذهب القاضي إلى أن الأصولي الماهر المتصرف في الفقه يعتبر خلافه ووفاقه
والذي ذهب إليه معظم الأصوليين خلاف ذلك فإن من وصفه القاضي ليس من المفتين ومن لم يكن منهم ووقعت له واقعة لزمه أن يستفتي المفتين فيها فهو إذا من المقلدين ولا اعتبار بأقوالهم فإنهم تابعون غير متبوعين وحملة الشريعة مفتوها والملقدون فيها
واحتج القاضي لمذهبه بأن قال من وصفته من أهل التصرف في الشرع وهو ممن يستضاء برأيه ويستهدي بنهجة وأنحائه في مجلس الاشتوار وإذا كان كذلك فخلافه يشير إلى وجه من الرأي معتبر وإذا ظهر على اعتباره في الخلاف انبنى عليه اعتبار الوفاق وعضد ما قاله بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا في النظر في المشكلات لا ينكرون على ذوي الفطن والأكياس من الناس رأيهم إنكار توبيخ وتقريع وتحذير من مخالفة الإجماع وأهله فإن ابن عباس كان يفاوض حلة الصحابة رضي الله عنهم وما كان بلغ بعد مبلغ المدتمهدين
وهذا الذي ذكره القاضي فيه نظر فإنه ما أظهر ابن عباس الخلاف إلا بعد استجماعه خلال الكمال فمن ادعى أنه وقت مخالفته ما كان من المدتهدين فقد أحال قوله على عماية لا تحقق فيها

وعلى الجملة إذا أجمع المفتون وسكت المتصرفون فيبعد أن يتوقف انعقاد الإجماع على مراجعتهم وأخذ رأيهم فإن الذين لا يستقلون بأنفهم في جواب مسألة ويتعين عليهم تقليد غيرهم فوجوب مراجعتهم محال وإن فرض عدم الإنكار عليهم إذا أبدوا وجها في التصرف إن سلم ذلك فهو محمول على إرشادهم وهدايتهم إلى سواء السبيل وإن أبدوا أقوالهم إبداء من يرغم الإجماع فالإنكار يشتد عليهم
633 - والقول المغنى في ذلك أنه لا قول لمن لم يبلغ مبلغ المجتهدين وليس بين من يقلد ويقلد مرتبة ثالثة فإن قيل إذا أجمع المفتون والمتصرفون الذين لم يبلغوا ذروة الفتوى فهذا إجماع مقطوع به وإذا أجمع المفتون وخالفهم المتصرفون فيلتحق هذا بما لا يقطع بكونه إجماعا وإنما يقوم الإجماع حجة إذا كان النظر مقطوعا به قلنا النظر السديد يتخطى كلام القاضي وعصره ويترقى إلى اعصر المتقدم ويفضي إلى مدرك الحق قبل ظهور هذا الخلاف
فأما التحقيق خالف القاضي أو وافق أن المجتهدين إذا اطبقوا لم يعد خلاف المتصرفين مذهبا محتفلا به فإن المذاهب لأهل الفتوى فإن شبب القاضي بأن المتصرف الذي ذكره من أهل الفتوى في كلامه تشبيب بهذا فنشرح القول في كتاب الفتوى والكلام الكافى في ذلك أنه إن كان مفتيا اعتبر خلافه
مسألة
634 - ذهب معظم الأصوليين إلى أن الورع معتبر في أهل الإجماع والفسقة وإن كانوا بالغين في العلم مبلغ المجتهدين فلا يعتبر خلافهم ووفاقهم فإنهم بفسقهم خارجون عن الفتوى والفاسق غير مصدق فيما يقول وافق أو خالف
635 - وهذا فيه نظر عندي فإن الفاسق المجتهد لا يلزمه أن يقلد غيره بل يلزمه

أن يتبع في وقائعه ما يؤدي إليه اجتهاده وليس له أن يقلد غيره فكيف ينعقد الإجماع عليه في حقه واجتهاده مخالف اجتهاد من سواه وإذا بعد انعقاد الإجماع في حقه استحال انعقاد بعض حكمه حتى يقال انعقد الإجماع من وجه ولم ينعقد من وجه
فإن قيل هو عالم في حق نفسه باجتهاده مصجق عليه فيما بينه وبين ربه وهو مكذب في حق غيره فلا يمتنع انقسام أمره على هذا الوجه فينقسم حكم الإجماع في حقه قلنا هذا محال فإن الفاسق لا يقكع بكذبه ولا يقطع بصدقه فهو كعالم في غيبته فإن تاب كان كما لو اب الغائب فهذا ما تمس الحاجة إلى ذكره من صفات المجمعين
636 - والقول الضابط في كل ما لم نذكره أن كل ما لا يعتبر عند المفتين فهو غير معتبر في المجمعين كالحرية والذكورة وغيرهما والكافر وإن حوى م علوم الشريعة أركان الاجتهاد فلا معتبر بقوله أصلا وافق أو خالف فإنه ليس من أهل الإسلام والحجة في إجماع المسلمين والمبتدع إن كفرناه لم نعتبر خلافه ووفاقه وإن لم نكفره فهو من المعتبرين إذا استجمع شرائط المجتهدين وقد قبل الشافعي شهادة أهل الأهواء ولم ينزلهم منزلة الفسة فهذا أحد طرفي هذا الفن
637 - فأما الكلام في عدد المجمعين فإن كان علماء العصر بالغين مبلغا لا يتوقع

منهم التواطؤ وهم الذين يسمون عدد التواتر فلا شك في انعقاد الإجماع بوفاقهم وإن فرض نقصان عدد علماء العصر عن هذا المبلغ فهذا موضع التردد
مسألة
638 - ذهب بعض أهل الأصول إلى أنه لا يجوز انحطاط علماء العصر عن مبلغ التواتر فإنهم قومة للملة وحفظة للشريعة وقد ضمن الله قيامها ودوامها وحفظها إلى قيام الساعة ولو عاد العلماء إلى عدد لا ينعقد منهم التواطؤ فلا يتأتي منهم الاستقلال بالحفظ
وقال الأستاذ يجوز بلوغ عددهم إلى مبلغ ينحط عن عدد التواتر ولو أجمعوا كان إجماعهم حجة ثم طرد قياسه فقال يجوز ألا يبقى في الدهر إلا مفت واحد ولو اتفق ذلك فقوله حجة كالإجماع
639 - والذي نرتضيه وهو الحق أنه يجوز انحطاط عددهم بل يجوز شغور الزمان عن العلماء وتعطيل الشريعة وانتهاء الأمر إلى الفترة وهذا نيقصيه في كتاب الفتوى إن شاء الله تعالى فأما من قال إن إجماع المنحطين عن مبلغ التواتر حجة فهو غير مرضى فإن مأخذ الإجماع يستند إلى طرد العادة كما تقدم ذكره ومن لم يحن إسناد الإجماع إليه لم تستقر له قدم فيه
الفن الثاني
فأما الفن الثاني فهو القول في الزمان وتفصيل المذهب في اشتراط

انقراض العصر في انعقاد الإجماع
مسألة
640 - اختلفت مسالك القائلين بالإجماع في اشتراط انقراض المجمعين في انعقاد الإجماع
فذهب أقوام إلى أنه لا يحكم بانعقاد الإجماع ما بقى من المجمعين أحد
ثم هؤلاء يقولون لو أجمع العلماء في عصر ثم لحقهم لاحقون وبلغوا رتبة المجتهدين فلا يعتبر انقراضهم إذ قد يلحقهم اخرون
وهذا يفضي إلى عسر تصوير الانقراض فالمرعى إذا انقراض الذين أجمعوا أولا
ومن مقتضى هذا المذهب أنه لو رجع واحد من المجمعين فهو سائغ وتعود المسألة نزاعية بعد ما كانت تظن إجماعه وإنما يمتنع الخلاف إذا استمروا على الوفاق حتى انقرضوا
ثم قال هؤلاء لو اتفق اجتماع العلماء ومصيرهم إلى مذهب في واقعة ثم خر عليهم سقف على القرب أو عمهم وجه من وجوه الهلاك فقد انبرم إجماعهم في ذلك الحكم وإن كان ذلك في زمن قريب ولو بقوا زمنا طويلا مصمين على ما قالوه لم ينعقد الإجماع ما لم ينقرضوا
وقال القاضي إذا أجمعوا قامت الحجة من غير استئخار وانتظار انقراض ولو فرض خلاف بعد الوفاق كان المخالف خارجا عن حكم الإجماع خارقا ربقة الوفاق
وقال الأستاذ أبو إسحاق وطائفة من الأصوليين إن كان الإجماع قوليا لم يشترط فيه الانقراض وإن كان حصوله بسكوت جماهير العلماء على قول واحد منهم من غير إبداء نكير عليه فهذا النوع يشترط في انعقاده ووجوب الحكم به انقراض العصر خليا عن إظهار الإنكار

641 - والحق المرضى عندنا أن الإجماع ينقسم إلى مقطوع به وإن كان في مظنة الظن وإلى حكم مطلق أسنده المجمعون إلى الظن بزعمهم
فأما ما قطعوا به على خلاف موجب الاعتياد فتقوم الحجة به على الفور من غير انتظار واستئخار فإنا أوضحنا أن ذلك إذا اتفق فهو محمل على رجوعهم إلى أصل مقطوع به عندهم وتقدير خلاف ذلك مخالف موجب طرد العادة والعادة لا تنخرق لا في لحظة ولا في اماد متطاولة
إن اتفقوا على حكم وأسندوه إلى الظن فلا يتم الإجماع ولا ينبرم مع إسنادهم ما أفتوا به إلى أساليب الظنون ما لم يتطاول الزمن فإن الإجماع على الحكم مع الاعتراف بالتردد في الأصل لا يعد إجماعا وإطباقا ولو فرض من بعضهم إظهار خلاف ما عن لهم على البدار لم يعد ذلك المخالف والحالة كما صورناه عاقا خارقا حجاب الهيبة فإنهم إذا قالوا قالوا قرنوه بما يرخى طول الناظر المتفكر وسوغ له طرق التفكير نعم إن استمروا على حكمهم ولم ينقدح على طول الزمن لواحد منهم خلاف فهذا الان يلتحق بقاعدة الإجماع وهذا عسر التصور فإن المظنون مع فرض كول الزمن فيه يبعد أن يسلم عن خلاف مخالف من الظانين فإذا تصور فالحكم ما ذكرناه فإن امتداد الأيام يبين إلحاقهم بالمصرين ويرفعهم عن رتبة المترددين ويتجه إذ ذاك توبيخ المخالفين ومخاكبتهم بأن ما ذكرتموه لو كان وجها معتبرا لما أغفله العلماء المفتون
وشرط ما ذكرناه أن يغلب عليهم في الزمن الطويل ذكر تلك الواقعة وترداد

الخوض فيها فلو وقعت الواقعة فسبقوا إلى حكم فيها ثم تناوسها فلا أثر للزمان والحالة هذه
ثم إذا لاح أن المعتبر ظهور الإصرار بتطاول الزمن فلو قالوا عن ظن ثم ماتوا على الفور كما تقدم تصوير ذلك فلست أرى ذلك إجماعا من جهة أنهم أبدوا وجها من الظن ثم لم يتضح إصرارهم فهذا هو المغزى
642 - ثم لو روجعنا في ضبك ذلك الزمان فقد أحوجنا إلى كشف الغطاء فإنا سنقول مجيبين المعتبر زمن لا يفرض في مثله استقرار الجم الغفير على رأى إلا عن حامل قاطع أو نازل منزلة القاطع على الإصرار وهذا إذا يمنع تصوير الإصرار مع البوح بالظن في جميع الزمان إلا أن يتكلف متكلف فيه وجها فنقول وقد يفهم ظهور وجه من الظن فإن الأمر البالغ الجلى الظني تبتدره العلماء ابتدارهم اليقين ولكن لا يلوح جلاؤه إلا بالإصرار
وللفطن أن يقول من انتهى إلى هذا المنتهى فقد اعتزر إلى القطع فإن ما بلغ في الوضوح مبلغا يجمع شتات الرأي فهو مسلك متبوع قطعا فليفهم الناظر ما يلقى إليه
643 - وإما إطلاق القاضي القول بقيام الحجة من غير تفصيل ففي أطراف كلامنا ما يدرؤه واشتراط الموت مع طول الزمن لا معنى له والاكتفاء به على قرب لا طائل وراءه
وما ذكره الأستاذ أبو إسحاق من ربط الإجماع السكوتي بالانقراض فغير مرضى فإنا سنوضح أن سكوت العلماء على قول قائل محل الظن لا يكون إجماعا ثم ما ذكره يلزمه اعتبار الزمان إذا باحوا بصدور حكمهم عن

موجب الظن كما قدمناه ثم لا معول على الانقراض فالذي اخترناه استثمار طرق الحق في المسالك كلها فهذا منتهى القول في الزمان وما يتعلق به
الفن الثالث في وجه انعقاد الإجماع
فأما الفن الثالث فمضمونه تفصيل القول في وجه انعقاد الإجماع
644 - والكلام في ذلك تفصله مسائل خلافية وفي أدراجها فصول مذهبية ونرسم المسائل أولا ونذكر ما فيها ونجرى في أثنائها ما يتعلق بحكاية المذاهب ثم إذا نجز الفن ختمناه بضابط يسهل التناول ويبين صور الخلاف والوفاق
مسألة
645 - إذا قال واحد في شهود علماء العصر فكان ذلك القول موافقا لبعض مذاهب العلماء في محل الاجتهاد ومسلك الظن فسكت العلماء عليه ولم يبدوا نكيرا على القائل فهو يكون تركهم النكير تقريرا نازلا منزلة إبداء الموافقة قولا
اختلف الأصوليون في ذلك فظاهر مذهب الشافعي وهو الذي يميل إليه كلام القاضي أن ذلك لا يكون إجماعا
والذي مال إليه أصحاب أبي حنيفة أنه إجماع وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق فنذكر ما تمسك به أصحاب أبي حنيفة ونتتبعه ثم نذكر المختار عندنا

فإن قالوا أهل الإجماع معصومون عن الزلل والعصمة واجبة لهم كما تجب للبني ثم إذا رأى النبي مكلفا يقول قولا متعلقا بأحكام الشرع فسكت عنه ولم ينهه كان ذلك تقريرا منه نازلا منزلة التصريح بالتصديق وإبداء الوفاق
وهذا الذي ذكروه لا حاصل له فإنه أولا محاولة إثبات الإجماع بطريق القياس وهذا ما لا سبيل إليه فإن الأقيسة المظنونة لا مساغ لها في القطعيات وغاية هذا الكلام تشبيه صورة بصورة وقياس حالة من قوم على حالة من الشارع عليه السلام
والذي يوضح فساد هذا المسلك أنه لا يمتنع في مقتضى العقل ورود التعبد باعتقاد تقرير رسول الله صلى الله عليه و سلم شرعا مع التعبد بالعلم بأن سكوت العلماء لا ينزل منزلة تصريحهم بالقول فإذا لم يكن هذا ممتنعا في حكم العقل ولم يقم دليل قاطع سمعي على تنزيل سكوت العلماء منزلة سكوت الشارع عليه السلام فقد فسد هذا الاعتبار وال حاصلة إلى محاولة إثبات مقطوع به بمسلك هو في مجرى مظنون ثم لا عذر للشارع في السكوت على الباطل فإن الحق عتيد عنده وإن لم يكن فتلقى وجه الحق من مورد الوحى الذي هو بمر صاده هين عليه فأما أهل الإجماع إذا سكتوا في محل ظن حيث يرون للاجتهاد مساغا ومضكربا فسكوتهم محمول على تسويغ ذلك القول لذلك القائل فلاح الفرق مع الاستغناء عنه فإن القطعي لا ينتظم فيه جمع فيحوج إلى الفرق
646 - فالمختار إذا مذهب الشافعي فإن من ألفاظه الرشيقة في المسألة لا ينسب إلى ساكت قول ومراده بذلك أن سكوت الساكتين له محملان أحدهما موافقة القائل كما يدعيه الخصم والثاني تسويغ ذلك القول الواقع في محل الاجتهاد لذلك القائل وهذا ممكن بطرد العرف غير ملتحق بالنوادر

والدليل عليه أنا لو فرضنا اجتماع العلماء في مجلس وقام سئل إلى رجل حنفى وسأله عن مسألة اختلف العلماء فيها فلو أجاب المفتى الحنفي بما يوازى مذهب أبي حنيفة فسكت الحاضرون عليه لابتدرت الأوهام إلى حمل سكوتهم على التسويغ في محل الاجتهاد وتمهيد عذر المفتي المعرب عن مذهبه المسوغ وإذا تردد سكوتهم كما ذكرناه والإجماع هو القول الجازم المبتوت فيستحيل ادعاؤه على صفته وشروطه في محل تقابل الاحتمالات
وهذا يتضح بصورة تناقض صورة الخلاف وهي أن واحدا لو ذكر على رءوس الأشهاد وجمع المفتين قولا خرق به الإجماع وخالف دين الأمة فالمفتون لا يسكتون عليه بل يثورون مبادرين إلى الإنكار عليه وتجهيله وتسفيه عقله وذلك لأن الذي جاد به ليس قولا ينقدح تسويغه لقائل فهذا معنى قول الشافعي لا ينسب إلى ساكت قول
647 - ونحن نصور هذه المسألة في صورتين ونذكر في كل واحدة منها ما يليق بها حتى يستبين الناظر وجوه مجاري الكلام في نظائرهما من مسائل الشرع
فنقول قد يدعى أصحاب أبي حنيفة في بعض المسائل انتشار قول الصحابي في علماء العصر مع سكوتهم وتركهم الإنكار ثم يبنون عليه أن سكوتهم تقرير نازل منزلة التصديق بالقول ولا يستمر لهم إثبات الانتشار وذلك كتعلقهم تقرير نازل منزلة التصديق بالقول ولا يستمر لهم إثبات الانتشار وذلك كتعلقهم بقضاء عثمان رضي الله عنه بتوريث المبتوتة في قصة تماضر زوجة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ويتجه في هذه الصورة وأمثالها أسئلة قبل الانتهاء إلى ابداء الخلاف في المسألة
منه أنا نقول ما ادعيتموه من الانتشار في كافة علماء الأمصار فأنتم منازعون فيه وليس كل قضاء يقضي به إمام أو وال من الولاة يشاع ويذاع في كافة العلماء ومن اعتاص عليه حكم من قضايا مطرد العادة في العصور المنقرضة فليصور

مثله في عصره فإن الأزمنة وأهلها على التداني في أحكام العادات ونحن نعلم في زمننا أن أقضية القضاة لا تنتشر في كافة العلماء وهذا السؤال إذا حققنا المباحثة فيه لم يجد الخصم عنه مهربا ولم يبق بيده مستمسك يحاول به إثبات غرضه فهذا نوع من السؤال متقدم على الخلاف في المسألة التي نحن فيها
648 - والسؤال الثاني أن نقول إن ثبت الانتشار فلعل بعض العلماء أنكر فدعوى سكوتهم لا اعتضاد له بثبت وتحقيق وغاية الخصم فيه أن يقول لو جرى إنكار لاشتهر وعنه جوابات واقعان أحدهما أنه إنما يشتهر كل خطب ذي بال وإنكار واحد من العلماء على قاض من القضاة ليس من الأمور الجسيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها فهذا وجه والوجه الثاني أن نقول لعله اشتهر أولا ثم انصرفت الدواعي عن المواظبة على تذكاره ودرس ما كان متواترا وذلك كثير في العرف وهذه الطلبات لا محيص عنها ولا يتواصل الخصم معها إلى تصوير صورة المسألة من الانتشار وعدم الإنكار على قطع استمرار فإن تأتي له التصوير وهيهات فما قدمناه قاطع من تقابل الاحتمالات فيمحامل السكون ولا سبيل إلى القطع مع التردد فهذه إحدى الصورتين
649 - والصورة الثانية لا يتجه فيها بعض هذه الأسئلة وهي كتعلق أصحاب أبي حنيفة في ترك انتظار بلوغ الأطفال في الاقتصاص بحديث قتل الحسن بن علي رضي الله عنهما عبد الرحمن بن ملجم وفي الورثة صبيان فلا سبيل في هذه القصة إلى ابداء مراء في الانتشار فإن الأمر عظيم والخطب جسيم ولكن ينقدح ادعاء نكير من بعض العلماء من غير انتشار الإنكار وسبيل التقرير ما مضى ثم وراء تسليم ذلك الدليل القاطع الذي قدمناه وين1م إلى تحقيقه حكم الأب في ترك الاعتراض على الأئمة فإنه ليس للعلماء إذا جرى قضاء قاض بمذهب مسوغ أن ينكروا

عليه مع نفوذ قضائه فهذا إذا وجه في الاستحثاث على السكوت فهذا منتهى القول في هذه المسألة
650 - وبعد ذلك كله غائلة هي خاتمة المسألة وغاية سرها ونحن نبديها في معرض سؤال وجواب فإن قيل إن اتجه في حكم العاة سكوت العلماء على قول مجتهد فيه مظنون في مسألة فاستمرارهم على السكوت زمنا متطاولا يخالف العادة قطعا إذا كان يتكرر تذاكر الواقعة والخوض فيها ومن لم يجعل السكوت إجماعا فإنما يستقيم له مطلوبة في السكوت في الزمان القصير ولهذا السؤال اشترط بعض المحققين في الأصول في الإجماع السكوتي انقراض العصر
651 - وأنا أقول لا يتصور دوام السكوت مع تذاكر الواقعة في حكم العادة قطعا وهذه صورة يحيل العقل وقوعها فإن هؤلاء سيخوضون فيها إما بوفاق أو خلاف لما يبدون حكمه وافقوا أو خالفوا فإذا لم يتصور استمرار السكوت حتى يبنى عليه ادعاء القطع ومن عجيب الأمر أن هذا القائل أحال إدامة السكوت من غير قطع ولم يعلم أنهم لو أضمروا القطع لأبدوه ولم يسكتوا إذا تطاول الزمان فرجعت صورة المسألة على الضرورة إلى السكوت في الزمان القصير وفيه الاحتمالات التي قدمناها ولا قطع من الاحتمال وهذا منتهى المسألة تصويرا وتقريرا
مسألة
652 - إذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على قولين واستمروا على الخلاف

فالذي صار إليه معظم المحققين أن اختراع قول ثالث خرق للإجماع
وذهب شرذمة من طوائف الأصوليين إلى أن ذلك لا يكون مخالفة الإجماع واستدلوا بأمر تخيلوه على نقيض الصواب فقالوا اختلافهم يناقض الاتفاق ويفيد النازر أن المسألة في محل الظنون والخلاف متطرق إليها ولهذا لا يتضمن المنع من قول ثالث بل لو قيل إنه متضمن جواز الخلاف لكان ذلك قريبا وعضدوا هذا بأن قالوا التنصيص على القولين من غير قطع فريق بتخطئة الاخر بمثابة تصريحهم بأن الأمر مظنون وكل ذي ظن على ظنه
653 - وهذا الذي ذكروه ساقط فإن الذي انتعض معتمدا للإجماع بعد السبر والمباحثة ما تحصل وتنخل من قولنا إن المجتمعين قد يقطعون بما أجمعوا عليه وقد يسندونه إلى الظن فإن قطعوا فالأمر فيه متلقى من حكم العادة وهي قاضية لا محالة بإسناد المجمعين إلى قاطع فإن أسندوا المحكوم به إلى الظن فمعتمد الإجماع في هذه الصورة قطع العلماء في العصر الماضية بتبكيت من يخالف وليس ذلك أمرا معقولا فيستند القطع بالتبكيت إلى قاطع
654 - فإذا تجدد العهد بالمسلك الحق في الصورتين قلنا بعد ذلك إن ذكر علماء العصر قولين وقطعوا بنفي ثالث سواهما ورددوا الظن في القولين فنفيهم الثالث قطع في حصر الحق في القولين فإن فرض من يخترع مذهبا ثالثا فهو مخالف لإجماع مقطوع به وإن لم يصرحوا بنفي ثالث على قطع فتركهم التعرض له وحصرهم التردد في القولين في حكم اتفاقهم على حكم مظنون مع التصريح باستناده إلى الظن والتبكيت يتطرق إلى من قال قولا ثانيا والعلماء

الماضون على خلافه كذلك يتطرق التبكيت إلى من يخترع مذهبا ثالثا لم يصر إليه صائر من المتقدمين وإن كانوا مختلفين
وما ذكره الخصم تلبيس لا حاصل له فإن الصائرين إلى القولين سوغوا الخلاف منحصرا في القولين وهم قاطعون بنفي ما وراءهما أو ظانون وكلا الوجهين في نفي القول الثالث إجماع فقطعه ملحق بالقطع بالحكم الواحد وظن نفي القول الثالث ملحق بالإجماع على مذهب واحد مع الإسناد إلى الظن
655 - فإن رددوا كلاما واستدلوا به شاديا مبتديا فالسبب فيه والوجه في كشفه ما ننبه عليه فنقول
وقد ذكرنا أن القول الواحد المظنون إذا فرضنا الاتفاق عليه لم يكن الاتفاق عليه وهو مظنون إجماعا على القرب حتى يتمادى الزمن عليه على ما سبق تقريره في مسألة اشتراط انقراض المجمعين فإذا كان ذلك والقول واحد فهو أولى أن يعتبر والعلماء على قولين فإن ترديد القولين نهاية في تطريق الظنون ولو قيل تمادى الزمن المعتبر في هذه الصورة يبر على تماديه في اتحاد القول لكان حقا مبينا فهذا مغزى المسألة
مسألة
656 - إذا اختلف علماء العصر على قولين ثم رجع المتمسكون بأحد القولين إلى القول الاخر وصاروا مطبقين عليه فالذي ذهب إليه معظم الأصوليين أن هذا إجماع
وذهب القاضي إلى أن هذا لا يكون إجماعا

وإذا انقرض العلماء على سجية الاختلاف ثم أجمع علماء العصر الثاني على أحد القولين فالاختلاف في هذه الصورة أظهر
قال قائلون هذا ليس بإجماع ولو تعلق متعلق بالقول المضرب عنه لم يكن خارقا للإجماع وميل الشافعي رضي الله عنه في أثناء ما يجريه إلى هذا
وقال قائلون هذا إجماع
وأما القاضي فلا شك أنه لا جعل هذا أجماعا ومن مذهبه أن المختلفين في العصر الأول لو رجعوا إلى قول واحد لم يكن ذلك إجماعا فإذا كان هذا غور مذهبه فكيف الظن به والإجماع من أهل العصر الثاني ثم إنه يستدل على تمهيد قاعدته بنكته واحدة فيقول إذا اختلف علماء عصر على مذهبين فقد ظهر اختلافهم في التحليل والتحريم مثلا ثم تضم تقرير كل قوم أصحابهم على مذهبهم إجاعا من كافتهم على أن الخلاف سائغ فيحصل في ضمن الخلاف مع التقرير الإجماع على جواز الخلاف فإذا فرض الرجوع إلى قول واحد فهذا غير منكر عملا ووقعا ولكنه مسبوق بالإجماع على تسويغ الخلاف وهذا يجري في العصر الواحد فإذا جرى فيه فلأن يجري في العصرين أولى
657 - وأما الذين جعلوا الاتفاق على قول من القولين السابقين إجماعا فإن بعضهم يتعلق ويستدل على بعض باجتماع المختلفين على أحد القولين قبل أن ينقرضوا ويقولون أيضا لو وقعت واقعة فاتفق علماء العصر على حكم واحد فيها كان اتفاقهم حجة وإكباقهم على قول واحد يجري هذا المجرى
ولا يستقر لهؤلاء قدم إلا بتخييل هو مكتتهم وعنها صدر ما قدمناه وذلك

أنهم قالوا المختلفون كأنهم بعد على تردد النظر وليس التردد مذهبا محققا وإنما يتلقى الإجماع من استقرار العلماء وليس تردد المترددين حجة على مخالفة قطع القاطعين
658 - والرأي الحق عندنا ما نبديه الان فنقول إن قرب عهد المختلفين ثم اتفقوا على قول فلا أثر للاختلاف المتقدم وهو نازل منزلة تردد ناظر واحد أولا مع استقراره اخرا وإن تمادى الخلاف في زمن متطاول على قولين بحيث يقضي العرف بأنه لو كان ينقدح وجه في سقوط أحد القولين على طول المباحثة لظهر ذلك للباحثين فإذا انتهى الأمر إلى هذا المنتهى فلا حكم للوفاق على أحد القولين وذلك أن ما صورناه من اختلافهم في الزمان مع مشاورة الذكر وترديد البحث يقتضي ما ذكره القاضي من حصول وفاق ضمني على أن الخلاف في هذه المحال سائغ
وشفاء الغليل في ذلك أن رجوع قوم وهم جم غفير إلى قول أصحابهم حتى لا يبقى على ذلك المذهب الثاني أحد ممن كان ينتحله لا يقع في مستقر العادة فإن الخلاف إذا رسخ وتناهى وتمادى الباحثون ثم لم يتجدد بلوغ خبر أو اية أو أثر يجب الحكم بمثله فلا يقع في العرف دروس مذهب طال الذب عنه فإن فرض فارض ذلك فالإجماع فيه محمول على أنه بلغ الراجعين أمر سوى ما كانوا يخوضون فيه في مجال الظنون ثم غاية النظر إن انتهى الأمر إلى هذا أنهم إن قطعوا بذلك فوفاقهم إجماع حملا على هذا وعلى هذا انبنى أصل الإجماع وإن فرض فارض عدم القطع مع الرجوع عن المذهب القديم فهذا يعيد في التصوير وإن تصور ذلك على تكلف فما أرى ذلك بالغا مبلغ الإجماع فإنه لا ينقدح فيه دعوى تبكيت من يتعلق بالقول المرجوع عنه حسب انقداح ذلك في مواقع القطع

وإذا ظهر في التردد زال ادعاء الإجماع فإن الإجماع واجب الاتباع وهو المقطوع به فهذا قولنا مع اتحاد العصر
659 - فأما إذا انقرض علماء العصر مع طول الزمان فإن المعتمد عندنا طول الزمان على الخلاف ثم إذا اجتمع علماء العصر الثاني على أحد المذاهب فالوجه أن لا يجعل ذلك إجماعا لما قرره القاضي من استنباط الإجماع على تسويغ الخلاف وما ذكره الأولون من اعتبار هذه الصورة جمع بترديد ناظر أولا واستقراره اخرا فقول عرى عن التحصيل فإن استمرار العلماء الغواصين المعتنين بالبحث المتدارك على الخلاف قطع منهم بأن لا سبيل إلى القطع فإن اجتمع في العصر الثاني قوم على أحد المذاهب فهو اجتماع وفاقى على مذهب مسبوق بقطع الأولين بنفى القطع وتسويغ الخلاف وأين يقع هذا ممن يتردد أولا ثم يتمم نظره
والذي يحقق ذلك أن المذاهب التي انتحلها الأولون جرت بها أقضية وأحكام ونيط بها سفك دماء وتحليل فروج من غير إنكار فريق على فريق والمتردد في نظره لا ينوط بتردده حكما ومن العبارات الرشيقة للشافعي أنه قال المذاهب لا تموت بموت أصحابها فيقدر كأن المنقرضين أحياء ذابون عن مذاهبهم وتحقيق هذا ما ذكرناه
مسألة
660 - إذا اتفق أهل الإجماع على عمل ولم يصدر منهم فيه قول فقد قال قوم من الأصوليين فعل أصحاب الإجماع كفعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد سبق تفصيل

المذاهب في أفعال رسول الله عليه السلام
ومتعلق هؤلاء أن العصمة ثابته لأهل الإجماع ثبوتها للشارع فكانت أفعالهم كفعل الشارع صلى الله عليه و سلم
661 - قال القاضي وهذا غير مرضي عند المحققين من أوجه منها أن اجتماع أهل الإجماع على فعل يبعد تصويره فإنهم لا يعصمون عن الخطأ والزلل ولكن وفاقهم على قول حجة على الترتيب المقدم وإن زعم زاعم أنه يجب عصمتهم عن زلل عن الفعل فمعنى ذلك أن العصمة تجب لجميعهم فأما أن تجب لاحادهم عن زلل عن الفعل فمعنى ذلك أن العصمة تجب لجميعهم فأما أن تجب لاحادهم فلا فلم يمتنع صدر الزلل عن بعضهم وإذا كان كذلك فكيف يتأتي في العادة تصور عدد لا يسوغ منهم التواطؤ ثم يطبقون على فعل واحد فإن تكلف متكلف في تصويره فإنما يمكن فرضه إذا اجتمعا في مجلس واحد ثم ان تصور فلا احتفال به فإن متعلق الإجماع في الصورتين المتقدمتين ما قدمناه وليس يتحقق ذلك في الفعل فإنه لا يمتنع إذا فرض جمعهم أن يفعلوا فعلا ويعترف كل واحد منهم بأنه عاص به
662 - والذي أراه أنه إن تيسر فرض أجتماعهم في الفعل فهو حجة وهو خارج على الأصل الذي هو مستند الإجماع فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لو جمعهم مجلس وقدم إليهم شيء فتعاطوه وأكلوه فمن حرمه عد خارقا للإجماع وتناهى أهل العصر في تبكيته فإذا يدل فعلهم على ارتفاع الحرج على حسب ما قدمناه في فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا إلى الفعل المطلق فإن تقيد بقرينة دالة على وجوب أو استحباب ثبت ما دلت القرينة عليه

الفن الرابع
في الأمر الذي ينعقد الإجماع فيه وفيما ينعقد الإجماع عنه
663 - فأما ما ينعقد الإجماع فيه حجة ودلالة فالسمعيات ولا أثر للوفاق في المعقولات فإن المتبع في العقليات الأدلة القاطعة فإذا انتصبت لم يعارضها شقاق ولم يعضدها وفاق
664 - وأما ما ينعقد الإجماع عنه فالقول ينقسم فيه كما تقدم فإن كان المجمعون قاطعين على الحكم في مجال الظنون فلا يتأتى فرض هذا الإجماع إلا عن قاطع وإن أسندوا إجماعهم إلى ظن لم يمتنع أيضا ثم مستند الإجماع في كونه حجة قطع أهل الإجماع بتقريع من يخالف الإجماع
فهذا مجامع القول في الإجماع تفصيلا وتأصيلا وقد حاولنا جهدنا في إدراج مسائل الكتاب تحت التقاسيم وقد شذت مسائل قريبة منها ونحن نرسمها الان مرسلة إن شاء الله تعالى
مسائل متفرقة في الإجماع
مسألة
665 - اختلف الأصوليون في أن الإجماع في الأمم السالفة هل كان حجة
فزعم زاعمون أن إثباته حجة من خصائص هذه الأمة فإنها أمة مفضلة على سائر الأمم مزكاة بتزكية القران قال الله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس وقال تعالى لتكونوا شهداء على الناس

ومنع مانعون هذا الفرق فقالوا لم يزل الإجماع حجة في الملل
وقال القاضي لست أدري كيف كان ولا يشهد له موجب عقلي على وجوب التسوية ولا على وجوب الفرق ولم يثبت عندنا في ذلك قاطع من طريق النقل فلا وجه إلا التوقف
666 - والذي أراه أن أهل الإجماع إذا قطعوا فقولهم في كل مسألة يستند إلى حجة قاطعة فإن تلقى هذا من قضية العادات والعادات لا تختلف إلا إذا انخرقت فأما إن فرض إجماع من قبلنا على مظنون من غير قطع فالوجه الان ما قاله القاضي لإنا لا ندري أن الماضيين هل كانوا يبكتون من يخالف مثل هذا الإجماع أم لا وقد تحققنا التبكيت في ملتنا
مسألة
667 - نقل أصحاب المقالات عن مالك رضي الله عنه أنه كان يرى اتفاق أهل المدينة يعني علماءها حجة وهذا مشهور عنه ولا حاجة إلى تكلف رد عليه فإن صح النقل فإن البقاع لا تعصم ساكنيها ولو اطلع مطلع على ما يجري بين لابتي المدينة من المجاري قضى العجب فلا أثر إذا للبلاد ولو فرض احتواء المدينة على جميع علماء الإسلام فلا أثر لها فإنه لو اشتمل عليهم بلدة من بلاد الكفر ثم أجمعوا لاتبعوا والظن بمالك رحمه الله لعلو درجته أنه لا يقول بما نقل الناقلون عنه نعم قد يتوقف في الأحاديث التي نقلها علماء المدينة ثم خالفوها لاعتقاده فيهم أنهم أخبر من غيرهم بمواضع الأخبار وتواريخها

مسألة
668 - إذا اتفق علماء التابعين على حكم في واقعة عنت في زمنهم فإجماعهم كإجماع الصحابة رضي الله عنهم
وذهب بعض المنتيم إلى الأصول إلى أن الحجة في إجماع الصحابة
وهذا تحكم لا أصل له فإن الدال على وجوب الإجماع في الأعصار واحد كما تقدم وليس للتحكم بتخصيص عصر وجه لا في عقل ولا في سمع وهو بمثابة قول من يقول لا احتجاج إلا في قياس الصحابة ولولا إرادتنا الإتيان على جميع المسائل وإلا كنا نضرب عن أمثال هذا
مسألة
669 - إذا ذهب معظم العلماء إلى حكم وخال فيه واحد منهم وكان من المعتبر في الخلاف والإجماع فلا ينعقد الإجماع مع خلافه
وقال ابن جرير الطبري لا يعتد بخلافه ويسمى عاقا شاقا حجاب الهيبة وطرد هذا في الاثنين وسلم أن مخالفة الثلاثة معتبرة
وكل ما ذكره مردود عليه فإن الإجماع هو الحجة والذي نحن فيه ليس بإجماع والثلاثة إذا نسبوا إلا ثلاثة الاف كالواحد إذا نسب إلى ألف
مسألة
670 - من فروع القول في اشتراط انقراض العصر من شرط انقراض العصر بالمجمعين فالمذهب الظار لهؤلاء أن علماء العصر لو أجمعوا ثم التحق بهم مجتهدون ناشئة في الزمن وخالفوهم والمجمعون الأولون مصرون وقد

انقرضوا فالمسألة إجماعية فإن التلاحق لو كان يمنع انعقاد الإجماع مع فرض الخلاف من المتلاحقين لما استقرت ثقة بالإجماع فإن العلماء يتلاحقون
وقال قائلون ممن شرط الانقراض خلاف المتلاحقين في بقاء المجمعين
671 - وهذا لعمرى قياس هذه الطريقة وإن كان يفضى ذلك إلى عسر في تصوير الإجماع وإنما قلنا القياس على اشتراط الانقراض هذا لأن اتفاق الأولين ليس إجماعا بعد بل الأمر موقوف فإذا خالف مخالفون كان هذا الخلاف واقعا قبل الحكم بانعقاد الإجماع فأما من لا يشترط الانقراض فلا شك أنه يجعل المخالفين خارقين للإجماع
672 - ومقصود هذه المسألة سؤال وجواب عنه
فإن قال قائل قد أحدث ابن عباس رضي الله عنه أقوالا خالف بها اتفاق جملة الضحابة وما كان ابن عباس في ابتداء العصر من أهل الإجماع فعلى ماذا يحمل ذلك قلنا لا محمل لتسويغ هذا إلا شيئان
أحدهما أن يقدر الصحابة رضي الله عنهم على تردد إلى أن استقل ابن عباس وأظهر مذهبه وكذلك كانوا في معظم مسائل الفرائض فهذا وجه
والوجه الثاني أن يفرض وقوع تلك المسائل في زمن بلوغه مبلغ الاجتهاد وقد كان يجري ابن عباس مذهبه مجرى من يبدى احتمالا ولا يعتقده وحمل على ذلك مذهه في المتعة وتخصيص الربا بالنسيئة

وقال عيسى بن أبان خلاف ابن عباس ومن تابعه من علماء الصابة غير معتبر أصلا وهذا على الإطلاق باطل فإن فصل فالوجه ما قدمناه
مسألة
673 - فشا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفر
وهذا باطل قطعا فإن من ينكر أصل الإجماع لا يكفر والقول في التكفير والتبرؤ ليس بالهين ولنا فيه مجموع فليتأمله طالبه نعم من اعترف بالإجماع وأقر بصدق المجمعين في النقل ثم أنكر ما أجمعوا عليه كان هذا التكذيب ايلا إلى الشارع عليه السلام ومن كذب الشارع كفر
والقول الضابط فيه أن من أنكر طريقا في ثبوت الشرع لم يكفر ومن اعترف بكون الشيء من الشرع ثم أنكره كان منكرا للشرع وإنكار جزئه كإنكار كله والله أعلم
نجز النصف الأول من كتاب البرهان بحمد الله المعين المستعان على يدي حاجبه كاتبه أبي زيد حمد بن جعفر بن بشار رحمه الله في النصف من شوال سنة إحدى وستمائة هجرية النبوية صلوات الله عليه بمحروسة دمشق حماها الله تعالى هذه خاتمة الجزء الأول من النسخه -

البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين ابي المعالي عبد الملك بن عبد الله
بن يوسف الجويني

-

كتاب القياس مقدمة الكتاب ببيان منزلة القياس وضرورية
676 - القياس مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه وأساليب الشريعة وهو المفضى إلى الاستقلال بتفاصيل أحكام الوقائع مع انتفاء الغاية والنهاية فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة مقصورة ومواقع الإجماع معدودة مأثورة فما ينقل منهما تواترا فهو المستند إلى القطع وهو معوز قليل وما ينقله الاحاد عن علماء الأعصار ينزل منزلة أخبار الاحاد وهي على الجملة متناهية ونحن نعلم قطعا أن الوقائع التي يتوقع وقوعها لا نهاية لها
677 - والرأي المبتوت المقطوع به عندنا أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى متلقى من قاعدة الشرع والأصل الذي يسترسل على جميع الوقائع القياس وما يتعلق به من وجوه النظر والا ستدلال فهو إذا أحق الأصول باعتناء الطالب ومن عرف ماخذه وتقاسيمه وصحيحه وفاسده وما يصح من الاعتراضات عليها وما يفسد منها وأحاط بمراتبها جلاء وخفاء وعرف مجاريها ومواقعها فقد احتوى على مجامع الفقه
678 - وإن نحن خصصنا هذا الكتاب بفضل بسط فسببه مانبهنا عليه من عظم خطره واشتداد مسيس الحاجة إليه وابتنائه على أفضائه إلى مالا نهاية له مع انضباط مأخذه فليس النظر في الشرع مفوضا إلى استصلاح كل أحد فهي إذا متناهية

الأصول غير متناهية الجدوى والفوائد وهذا قد يحسبه الفطن المبتدىء متناقضا وسيأتي القول فيه مشروطا مشروحا إن شاء الله تعالى
679 - ثم الذي يقتضيه الترتيب أن نبتدىء القول في ماهية القياس ثم نبتني عليه نقل المذاهب في اعتقاد صحته وفساده ونبين المختار عندنا حتى إذا ثبت وجوب القول بالقياس على الجملة رتبنا بعده تراجم الكتاب على نظام وخضنا في الوفاء ببيان الجمل والتفاصيل

الباب الأول
-
فصل القول في ماهية القياس
680 - لما كان القول في الصحة والفساد والرد والقبول مبنيا على الإحاطة بماهية الشيء اقتضى الترتيب تقديم هذا الباب
وإذا قيل لنا ما القياس عرفنا أولا أنا لم نسأل عن الصحيح والفاسد وإنما طولبنا بإثبات رسم مشعر بالقياس صحيحه وفاسده قطعيه وظنيه عقليه وشرعية فنذكر أقرب رسم يقرب من الوفاء بالاحتواء على الغرض ثم نذكر ما عداه ونبين وجه تطرق الاعتراض عليه ثم نختتم الفصل بأمرين بهما الختام والتمام
681 - فأقرب العبارات ما ذكره القاضي إذ قال
القياس حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر يجمع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما
فقوله حمل معلوم على معلوم أراد به اعتبار معلوم بمعلوم وذكر المعلوم حتى يشتمل الكلام على الوجود والعدم والنفى والإثبات فإنه لو قال حمل شيء على شيء لكان ذلك حصرا للقياس في الموجودات وسبيل القياس أن يجري في المعدوم والموجود ثم فسر الحمل لما كان فيه ضرب من الإجمال عند تقدير الاقتصار عليه فقال في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما ثم لما علم أن التحكم بالحمل ليس من القياس بسبيل وإنما القايس من يتخيل جامعا

ويبني عليه ما يبغيه مبطلا كان أو محقا ذكر الجامع فقال بجامع ثم صنفه إلى حكم وصفة في نفى أو إثبات
فهذه ترجمة كلامه على الجملة
682 - وذكر غيره عبارات في روم ضبط القياس نائية عن الصواب فمن مقرب مع إخلال ومن مبعد
والمعتبر في العبارات العبارة التي جمعها القاضي وكل من أتى بها فقد طبق غاية الإمكان ومن خرم شيئا منها تطرق إليه على قدر خرمه اعتراض على ما سنبين الان
683 - قال بعض المتأخرين القياس رد فرع إلى أصل بما يجمع بينهما وهذا فيه إيهام من الوجوه التي أخل بها من تقييدات كلام القاضي فإنه لم يتعرض للحكم الذي يطرد القياس له ولم يفصل الجامع
684 - وقال الأستاذ أبو بكر القياس حمل الشيء على الشيء لإثبات حكم بوجه شبه وذكر الشيء يخرج الأقيسة المتعلقة بالنفي وكذلك ذكر إثبات الحكم لم يتعرض لنفيه
وقد يزيد بعض الناس نفيه وهذه الطبقة وإن تطرق إلى كلامهم ضرب من الخلل فهم على المطلوب يحومون وإياه يبغون
685 - ونقل بعض أصحاب المقالات عبارات نائية عن جهة الصواب

بالكلية فنقلوا أنه قال بعضهم القياس إصابة الحق وهذا خرق وخروج عن الحق فإن من وجد نصا لا يسمى قايسا وإن أصاب الحق
وقال بعضهم القياس هو الاجتهاد في طلب الحق وهذا فاسد فإن من كان يجتهد في طلب نص ليس قايسا إلى غير ذلك مما لا نرى التطويل بذكره
686 - وأما ما نرى ختم الفصل به فشيئان
أحدهما أنا إذا أنصفنا لم نر ما قاله القاضي حدا فإن الوفاء بشرائط الحدود شديد وكيف الطمع في حد ما يتركب من النفي والإثبات والحكم والجامع فليست هذه الأشياء مجموعة تحت خاصية نوع ولا تحت حقيقة جنس وإنما المطلب الأقصى رسم يؤنس الناظر بمعنى المطلوب وإلا فالتقاسيم التي ضمنها القاضي كلامه تجانب صناعة الحد فهذا مما لا بد من التنبه له
وحق المسئول عن ذلك أن يبين بالواضحة أن الحد غير ممكن وأن الممكن ما ذكرناه ثم يقول أقرب عبارة في البيان عندي كذا وكذا والفاضل من يذكر في كل مسلك الممكن الأقصى فهذا أحد الأمرين
687 - والثاني أن القياس قد يتجوز في إطلاقه في النظر المحض من غير تقدير فرع وأصل إذ يقول المفكر قست الشيء إذا افتكر فيه ولكن هذا تجوز وأصل القياس اعتبار معلوم بمعلوم وإذا قال القائل قست الأرض فمعناه ذرعتها بمقياس مهيأ لذرعها وبيني وبين فلان قيس رمح أي قدر معتبر بقدر رمح فهذا منتهى القول في ذلك
ونحن نذك بعده المقالات في رد القياس وقبوله وتفصيل القول فيه

فصل القول في ذكر المقالات في قبول القياس ورده
688 - الوجه أن نذكر المذاهب المتعلقة بالأصل ردا وقبولا ثم نذكر مسائل الخلاف على هذا المنهاج ثم نعقد بعد ذلك بابا في المذاهب المقتضية رد بعض الأقيسة الصحيحة عندنا وقبول بعضها
فنبدأ بالكلام على الجملة ونقول في رسم التقسيم القياس فيما ذكره أصحاب المذاهب ينقسم إلى عقلى وشرعي ثم الناظرون في الأصول والمنكرون تفرقوا على مذاهب
689 - فذهب بعضهم إلى رد القياس وقال الناقلون هذا مذهب منكري النظر والقول في إثباته يتعلق بفن من الكلام وقد أنهينا القول فيه نهايته
690 - وقال قائلون بالقياس العقلي والسمعي وهذا مذهب الأصوليين والقياسين من الفقهاء
691 - وذهب ذاهبون إلى القول بالقياس العقلي وجحدوا القياس الشرعي وهذا مذهب النظام وطوائف من الروافض والإباضية والأزارقة ومعظم فرق الخوارج إلا النجدات منهم فإنهم اعترفوا بأطراف من القياس

692 - وصار صائرون إلى النهي عن القياس العقلي والأمر بالقياس الشرعي وهذا مذهب أحمد بن حنبل والمقتصدين من أتباعه فليسوا ينكرون إفضاء نظر العقل إلى العلم ولكنهم ينهون عن ملابسته والاشتغال به
693 - وذهب الغلاة من الحشوية وأصحاب الظاهر إلى رد القياس العقلي والشرعي
694 - وأنا أقول أطلق النقلة القياس العقلي فإن عنوا به النظر العقلي فهو في نوعه إذا استجمع شرائط الصحة مفض إلى العلم مأمور به شرعا والقياس الشرعي متقبل شرعا معمول به إذا صح على السبر اللائق به كما سيأتي شرح ذلك في أبواب الكتاب إن شاء الله تعالى
وإن عنى الناقلون بالقياس العقلي اعتبار شيء بشيء ووقوف نظر في غائب على استثارة معنى من شاهد فهذا باطل عندي لا أصل له وليس في المعقولات فياس وقد فهم عنا ذلك طالب المعقولات
والأمر المختص بهذا الفن الكلام في الأقيسة الشرعية وذكر الخلاف المتعلق بجملتها
695 - فقد ذهب النظام ومن تابعه من الضلال والحشوية إلى إنكار القياس الشرعي و الذين ردوا القياس اختلفوا في طريق رده فقال بعضهم الخوض فيه قبيح لعينه
696 - وقال اخرون في التعبد به منع الناس من المسلك الأقصد

الأسد وعنوا به أن التنصيص على مواقع الإشكال أقطع للنزاع وأرفع للدفاع وأجلب للطمأنينة وأنفى لرهج الخلاف وأدعى إلى الائتلاف ويجب على الله تعالى وجوب الحكمة أن يستصلح عباده فيما يتعلق بأمر الدين
697 - وقال قائلون الأقيسة متفاوته لا قرار لها في المظنونات وإنما يرجح الظن على حسب القرائح وكل يظن أمرا يليق بمبلغ فكره
698 - وقال قائلون في أصول الشريعة ما لا يصح على السبر كإيجاب العقل على العاقلة وإيجاب ذبح البهائم البريئة بسبب ارتكاب المكلف محظورات الحج واسترقاق أولاد الكفار وإن حكم لهم بالإسلام مع السبي ثم تبقى وصمة الرق في نسلهم ما توالدوا على الإسلام قالوا فلا وجه والحالة هذه إلا اتباع النصوص
699 - وذهب من نفاة القياس طائفة إلى أنه مردود بنصوص الكتاب والسنة
ونحن نذكر مسلك كل فريق ونتتبعه بالنقض ونرسم مسألة في جواز التعبد بالقياس فإذا نجزت عقدنا بعدها المسألة الكبرى في وقوع التعبد بالقياس مسألة في جواز التعبد بالقياس
700 - ذهب علماء الشريعة وأهل الحل والعقد إلى أن التعبد بالقياس في مجال الظنون جائز غير ممتنع وقد ذكرنا مذاهب المخالفين في الجواز فأما من ذهب إلى أن الخوض فيه والأمر به قبيح لعينه فقد تعلق بأن الظنون أضداد العلوم وضد العلم في معنى الجهل والجهل قبيح لعينه وهذا مبنى أولا على التقبيح والتحسين بالعقل وقد صدرنا هذا المجموع بالرد على القائلين

بذلك بما فيه مقنع ثم لو قدرنا تسليم ذلك جدلا فهذا باطل من أوجه
منها أن الغفلة والغشية والبهيمية أضداد منافية للعلوم وهي من خلق الله تعالى ومن رأى هؤلاء أن الله تعالى لا يخلق قبيحا ثم ذكروه جحد للشريعة فإن من أنكر ربط الأقضية والحكومات بالشهادات المستندة إلى بحث قريب وسبر يسير لا يطلع على الباطن من أحوال الشهود فقد أنكر قاعدة من الشرع عظيمة لا يبوء بجحدها من وفر الإسلام في صدره
وكذلك قول المفتين مظنون عند المستفتين والتعويل على قول الثقات في أحكام المعاملات وتصديق الأثبات في أمن السبل والطرقات لا ينكره عاقل فإذا أعضلت الإشكالات وتعارضت الاحتمالات فالرجوع إلى غالب الظن في كل فن دأب ذوي البصائر وهو من ثمرات العقول فكيف يعد من مستقبحاتها ومعظم وجوه الرأي والنظر في العواقب ظنون ومتى لم يتبع صاحبه أرشدها لزم أن يفعل ما يتفق وهو الخرق بعينه نعم الاكتفاء بالظن مع القدرة على ثلج الصدر وطمأنينة النفس قد يعد قصورا أو تقصيرا وخصومنا لم يبدوا في مواقع أقيستنا مسالك في اليقين ينتحونها وإنما يبغون رد جنس الظنون حيث لا يرجعون فيه إلى يقين والنظر يضاد العلم وهو واجب والشك المتقدم على النظر عند أبي هاشم حسن وهو الداعية الجالبة لافتتاح النظر

فهذا وجه الرد على من قبح الخوض فيه لكونه نقيض العلم لعينه
701 - وأما من قال في حمل الخلق على ملتطم الظنون وحجرهم عن درك اليقين ترك استصلاحهم والاستصلاح في الدين محتوم فهذا مبني على التحسين والتقبيح وقد ظهر بطلان مذهبهم فيهما
ثم ما ذكروه باطل بقواعد العقائد فإنها منوطه بدقائق النظر ولا يتوصل إلى أدراكها إلا الأكياس من طبقات الناس ثم انقسام طباق الخلق يوجب ازورار طرقهم في وجوه النظر ومجاري أحوالهم في ذلك أصدق الشواهد والمحن وهو سبب افتراق الفرق ثم معظم الخليقة لا يبغون الحقيقة بل يرجحنون إلى التقليد ولو حمل الله الخلق على الحق المبين باية تظل لها الرقاب خاشعة لأوشك ألا يتفرقوا
ولا يغنى مما ألزمناهم قول القائل مسالك العقول عتيدة والبراهين موجودة والشواهد مشهودة وطرق الصواب معدودة فإن كل ناظر يزعم أن مسلكه الحق وقوله الصدق
ثم إنما كان يستقيم ما ذكروه لو دعونا إلى اليقين وزيفوا بسببه طرق الظنون فأما وهم بعد رد القياس لا يرجعون إلى يقين ومعقل في الدين حصين وغايتهم التعطيل والتبطيل والانسلال عن ربقة التكليف والانحلال عن ربط التصريف وترك الناس سدى يموج بعضهم في بعض على موعد وخبر وقول مزخرف وإمام

منتظر فلا يدعو إلى الخروج من محاسن الشريعة إلى هذه المسالك إلا هازىء بنفسه مستهين بدينه
702 - وأما من قال الأقيسة لا قرار لها وفنون النظر على حسب الفكر فقصاراه ايل إلى تقبيح الظن وإيجاب الاستصلاح وشرع اليقين وقد تكلمنا على المسلكين
ثم الأمر ليس على ما تخيلوه بل للظنون المرعية والأقيسة المعتبرة الشرعية المرضية روابط وضوابط لا يعرفها إلا الغواصون على ما سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى
ومن حمل كل ظن على جودة القريحة وحدة الطبع فقد أنكر وجه الرأي وتقريب أرباب الألباب وتطلعهم بالفكر الصائب على حجب الغيوب ولو قيل هو عماد الصلاح في الدين والدنيا ودعامة المراشد لم يكن بعيدا والشارع فيما استن كالعاقل الذي يمهد للطلبة طرق الحكمة ومسالك النفع والدفع ثم يكلهم إلى إتعاب الفكر النقية عن الأقذاء والكدر
ثم إن أضربوا عما رأيناه واجتنبوه فهل معهم يقين إدعوه أم الغرض قطع النظر عن بقية المراشد وانتحاء المقاصد وغمس الناس في غمرات المتاهات
وعلى كل الحالات التشوف بالظن إلى الخير إجتناب الضير أحرى من حل

الرباط وقطع أسباب الاستنباط وتخيير الخلق بين التفريط والإفراط
703 - وأما من أشار إلى أن قواعد في الشرع لا تعقل معانيها كضرب العقل على العاقلة واسترقاق الأطفال
فهذا القائل يتشبث بالوقيعة في الشريعة واتخاذ هذه الجهات إلى المطاعن ذريعة والقياس يعترف بالوقوف عند هذه المواقف وانقسام الشرع إلى ما يجري فيه الأقيسة وإلى ما يجب فيه الانحصار والاقتصار على موارد النصوص فلا يجب من وقوف الرأي في مسلك انحسامه من جميع الوجوه وذلك مستبين بما يعرض للإنسان في ماربه وأوطاره فقد يتغشاه عماية ويستبهم عليه عاقبتها وقد يلوح له وجه الصواب فيما يأتي ويذر ثم العقل لا يحسم طريق الرأي لاستعجامه في بعض الوجوه
فقد بطل جميع ما حاولوه
704 - وأما من إدعى أن القياس مردود بنصوص القران العظيم فقد ادعى أمرا محالا وغايته التلبيس بذكر اية ما سيقت لما دفعنا إليه كقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم إلى غير ذلك والمراد أن ينهى عن الحيد عن مدرك اليقين مع إمكانه ومجاوزة مراسم المراشد بالحدس والتخمين
ونحن لا ندعو إلى كل ظن ثم التمسك بالمجملات أو بالظاهر في مواضع القطع باطل ونعارض ما ذكروه بالاى الدالة على الأمر بالنظر والاستحثاث على الاعتبار ويتطرق إلى ما يعارضون به من الأعتراضات ما تطرق إلى ما استدلوا
705 - فإن قالوا وجوب العمل معلوم عندكم مقطوع به وهذا العلم مرتب

على الظن ويستحيل أن ينتج الظن علما
قلنا الأقيسة لا تقتضي العلم بوجوب العمل لأعيانها والعمل لا يقع بها وإنما يقع عندها والعلم بوجوبه مستند إلى أدلة قطعية سنبديها وقد تقرر هذا الفن في مواضع من هذا الكتاب
706 - ومن تمويهاتهم في ذلك قالوا إذا لم يمتنع انتهاض الظن علما بالعمل فينبغي أن تبعدوا أن ينتصب الظن علما في العلم بوقوع الرؤية
قلنا لو قام دليل قاطع على أن وقوع الظن علم ينصبه الله تعالى لوقوع شيء رؤية كانت أو غيرها لم يبعد ذلك ومستند العلم ناصب الظن لا عينه
707 - والذي تمسك به النظام ورهطه وهو معتصم القوم أن العقول لا تدل على وجوب العمل بالظنون وإنما يبغي الناظر ذلك إن كان من ماخذ السمع ثم لا يقع الاكتفاء بالظواهر فإن إثبات القياس عند القائلين به مقطوع به وقواطع السمع نص الكتاب أو نص السنة المتواترة وليس في إثبات القياس نص كتاب ولا نص سنة متواترة
والإجماع قد نفاه النظام أصلا وزعم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم دعوا الناس إلى اتباع الإجماع وراموا أن يتخذوا رءوسا فقرروا الإجماع

وأسندوا إليه ما يرون وأخذوا يحكموا مسترسلين فيما لا نهاية له وأصول الشريعة مضبوطة
ومن قال بالإجماع يقول القول بالقياس مختلف فيه ومعظم الأمة على رده فادعاء الإجماع فيه محال ولا نص ومسالك العقول منحسمة فلم يبق بالقول على القياس دليل
وربما عضدوا ذلك بأن يقولوا الأمارات التي يستنبطها القياسيون لا تقتضي الأحكام لأعيانها فإن الشدة المطربة التي يعتقدها القياسيون علة في تحريم الخمر كانت ثابته قبل الشرع وفي الملل السالفة ولا تحريم وكانت الخمر مباحة في بدء الإسلام مع قيام الشدة والإطراب والقايس لا يتوهمها موجبة لعينها وإنما يتوهم نصب الشارع لها وليس في العقل ولا قواطع السمع ما يدل على ذلك
708 - قلنا مستند وجوب العمل بالقياس الإجماع وما ذكره النظام كفر وزندقة ومحاولة استئصال قاعدة الشرع لأنه إذا نسب حامليها إلى ما هذى به فبمن يوثق وإلى قول من يرجع وقد رد القياس وطرد مساق رده إلى الوقيعة في أعيان الأمة ومصابيح الشريعة فإذا لا نقل ولا استنباط ولا تحصل الثقة على ما قاله باى القران فإنه لا يبعد على المنكر الجاحد إدعاء ما قاله في التحريف والتصريف وكتم البعض وتغيير مقتضى البعض فلم تختص غائلته ومماراته

بالقياس بل عمت قاعدة الشريعة
709 - وأما من اقتصر في قطع ارتباط القياس بالإجماع على قوله القياس مختلف فيه فادعاء الإجماع في محل النزاع محال
فأنا نقول لهؤلاء إنما كان يستقيم ما ذكرتموه لو كنا نحتج عليكم بإجماع أهل الزمان المشتمل عليكم فأما متمسكنا فإجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن بعدهم من أئمة التابعين إلى أن نبغت الأهواء واختلفت الاراء على ما سنقرره الان فخلافكم مسبوق بالإجماع ولا مبالاة به
710 - فهذي قواعد منكري القياس وعيون شبههم وقد تقرر الفراغ من الرد على من ينكر جواز التعبد بالقياس وأوضحنا الرد على من زعم أنه لا طريق إلىإثباته بقاطع عقلي أو سمعي
وقد حان الان أن نبين وقوع التعبد بالقياس وانعقاد الإجماع على العمل به

فصل في وقوع التعبد بالقياس بعد بيان الجواز
فنقول والله المستعان
711 - نحن نعلم قطعا أن الوقائع التي جرت فيها فتاوي علماء الصحابة وأقضيتهم تزيد على المنصوصات زيادة لا يحصرها عد ولا يحويها حد فإنهم كانوا قايسين في قريب من مائة سنة والوقائع تترى والنفوس إلى البحث طلعة وما سكتوا عن واقعة صائرين إلى أنه لا نص فيها والايات

والأخبار المشتملة على الأحكام نصا وظاهرا بالإضافة إلى الأقضية والفتاوي كغرفة من بحر لا ينزف
وعلى قطع نعلم أنهم ما كانوا يحكمون بكل ما يعن لهم من غير ضبط وربط وملاحظة قواعد متبعة عندهم وقد تواتر من شيمهم أنهم كانوا يطلبون حكم الواقعة من كتاب الله تعالى فإن لم يصادفوه فتشوا في سنن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن لم يجدوها اشتوروا ورجعوا إلى الرأي
712 - والذي يوضح ما ذكرناه أنهم مع اختلاف مذاهبهم في مواقع الظنون ومواضع التحري ما كانوا ينكرون أصل الاجتهاد والرأي وإنما كان بعضهم يعترض على بعض ويدعوه إلى ما يراه هو ولو كان الاجتهاد حائدا عن مسالك الشريعة لأنكره منهم منكر وإذا لاح المعنى فترديد العبارات عنه هين
ونحن نوضح المقصد بأسئلة وتخييلات وأجوبة عنها
713 - فإن قيل قد صح من بعضهم التغليظ على بعض في مسائل كقول ابن عباس في رد العول مع من كان يكلمه وقولهم في الرد عليه وقد صح انتهاء القول إلى المباهلة في الأقاصيص المشهورة

قلنا لم ينكر أصل الاجتهاد أحد منهم وإنما كانوا ينتاظرون في الذب عن وجوه الاجتهاد والدعاء إلى غيرها من الاجتهاد وكانوا مجمعين على الأصل مختلفين في التعيين والتفصيل نحو اختلاف علماء الدهر
714 - فإن قيل غايتكم في هذا ادعاء اجتهاد بعضهم وسكون الباقين وقد ذكرتم في مسائل الإجماع أنه لا ينسب إلى ساكت قول
قلنا هذا باطل من أوجه منها أنه لم يخل أحد من علماء الصحابة من الاجتهاد في مسائل وإن لم ينقل عنهم الاجتهاد في مسألة واحدة فقد صح النقل المتواتر في مصير كل واحد منهم إلى أصل الاجتهاد في مسائل قضى فيها أو أفتى بها ثم أحداث قاعدة في الشريعة تستند إليها الأحكام بل يصدر عنها معظم الشريعة مما لا يجوز السكوت عليه لو لم يكن ثابتا وإنما يسوغ السكوت عن المظنونات وليس من تكلم في القياس ردا وقبولا ممن يجترىء بالظن بل كل فريق قاطعون بما يذكرون ويعتقدون وقد ذكرنا مسألة الانتشار وأنه لا يجوز السكوت مع طول الزمان وتذاكر أهله ولو كان الأمر مظنونا فكيف يسوغ في مطرد العرف تصرف علماء الصحابة في مذاهب الاجتهاد على الدوام من غير فتور فيه ثم يسكت عنه من يعتقد بطلانه
715 - فإن قالوا بم تنكرون على من يزعم أنهم كانوا يتلقون الأحكام من استنباطات من الظواهر والعمومات وفحوى الخطاب

قلنا لا أصل لهذه المقالة وهي كمحاولة تسبيع الغزالة فأنى تفى الظواهر ومقتضياتها بالأحكام التي طبقت طبق الأرض والأقضية التي فاتت الحد والعد وقد أوضحنا بالنقل المتواتر عنهم أنهم كانوا يقدمون كل متعلق بنص وظاهر ثم كانوا يشتورون وراء ذلك ويثبتون الأحكام على وجوه الرأي واعتبار المسكوت عنه بالمنصوص عليه
716 - فقد تبين بمجموع ما ذكرناه إجماع الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وم بعدهم على العمل بالرأي والنظر في مواقع الظن ومن أنصف من نفسه لم يشكل عليه إذا نظر في الفتاوى والأقضية أن تسعة أعشارها صادرة عن الرأي المحض والاستنباط ولا تعلق لها بالنصوص والظواهر
717 - فإن قالوا قد روى عن جمع من أئمة الصحابة رد الرأي والرد على القائلين به قال أبو بكر رضي الله عنه أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيى وقال ابن مسعود رضي الله عنه لو عملتم بالرأي لحللتم كثيرا مما حرم الله وحرمتم كثيرا مما أحل الله تعالى إلى غير ذلك من أفراد اثار فقد عورضوا بأضعافها وذكروا أولا إشارة الرسول عليه السلام إلى القياس في الآخبار
منها ما روى أنه عليه السلام سئل عن قبلة الصائم فقال للسائل أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته فكان ذلك منه قياسا للقبلة على المضمضة وقال

عليه السلام لضباعة الأسدية وقد ذكرت له حجا على أبيها وسألته عن إمكان أدائه فقال أرأيت لو كان على أبيك دينا أكنت تقضينه قالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء وقول ابن مسعود في حديث بروع بنت واشق وقد كانت فوضت بعضها فردد ابن مسعود السائل شهرا ثم قال إني أقول

فيها برأيى فإن أصبت فمن الله تعالى وإن أخطأت فمني ومن الشيطان أرى لها مثل مهر نسائها لا وكس فيه ولا شطط
718 - قال الإمام ومن رام منا أن ننقل اجتهادات الصحابة بطريق الاحاد فقد تكلف أمرا عسرا فإن ما ثبت النقل فيه تواترا عسر النقل فيه من طريق الاحاد ومن أراد أن ينظم إسنادا عن الأثبات بالعنعنة أن رسول الله صلى الله عليه سلم كان يصلي الفجر ركعتين لم يتمكن منه وهذا يناظر في المعقولات محاولة إثبات الضروريات والمحسوسات بطريق المباحثات فإنه معوز لا سبيل إليه وقد اضطررنا وكل منصف معنا إلى العلم بأن الذين مضوا كانوا يسندون جل الأحكام إلى النظر والرأي وكيف يطمع الطامع في معارضة ذلك بألفاظ محتملة ينقلها الاحاد ولو كانت نصوصا لما عارضت التواتر
719 - ثم ما تمسكوا به من قول الصديق وابن مسعود رضي الله عنهما لا حجة فيه فأما الصديق فإنه قيد كلامه بالرأي في كتاب الله تعالى وأراد به مخالفة المفسرين الذين إلى قولهم الرجوع وهذا ممنوع عندنا وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من قال في القران برأيه فليتبوأ مقعده من النار فلا حجة إذا فيما رووه

عن الصديق رضي الله عنه
وأما قول ابن مسعود فلا متعلق له فإن فيه ما يدل على أن الرأي المجرد لا يطرد إذ قد يلقاه من أصول الشرع ما يمنعه من الجريان فعلى كل ناظر الا يتبع رأيه المحض حتى يربطه بأصول الشريعة ومن أعمل الرأي المجرد أحل وحرم على خلاف الشريعة فلا حجة إذا في قوله
720 - واحتج الشافعي ابتداء بحديث معاذ بن جبل رضي الله عنهما قال له الرسول عليه السلام لما بعثه إلى اليمن بم تحكم يا معاذ قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيى فقال عليه الصلاة و السلام الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضاه رسول الله وهو مدون في الصحاح وهو متفق على صحته لا يتطرق إليه

التأويل فإنه رضي الله عنه انتقل من الوحي والتنزيل إلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم انتقل منهما عند تقديره فقدهما إلى الرأي ولا يجوز أن يقال أراد بالرأي رأي استنباط من كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه السلام فإن ذلك لو كان على هذا الوجه لكان متعلقا بالكتاب والسنة
721 - فإن قيل خبر الواحد لا يقتضي العلم وإثبات القياس يقتضي أمرا مقطوعا قلنا قد ثبت عندنا بالقواطع العمل بخبر الواحد كما قد تقرر في صدر كتاب الأخبار وعرفنا من طريق التواتر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لو أخبر معاذا أن العمل بالرأي سائغ وأخبر معاذ الذين أرسل إليهم أن النبي عليه السلام أخبرني أن العمل بالرأي إذا لم تكن الواقعة في كتاب ولا سنة واجب كانوا يتبعونه ولو روى الصديق أو غيره من أئمة الصحابة على رؤوس الإشهاد أن الرسول عليه السلام شرع القياس والعمل به لكان الذين لم يبلغهم ذلك يتلقونه بالقبول ويبتدرون إلى

القياس ويسارعون إلى تمهيد قواعده وسبله وإذا كان القياس مغزاه العمل فالدال عليه دال على العمل فلا فرق بين أن يستند القياس إلى قاطع بدرجة وبين أن يستند إليه بدرجات
722 - فهذا منتهى ما أردناه في إثبات القياس وإثبات تجويز التعبد بالقياس والرد على منكريه وإثبات وقوع ما أثبتنا جوازه وتتبع اعتراضات الحاحدين فيه
ونحن نذكر بعد ذلك مسلك النهرواني والقاساني وابن الجبائي في تفصيل ما يقبل ويرد من النظر

مسألة
723 - ذهب النهرواني والقاساني إلى أن المقبول من مسالك النظر في مواقع الظنون شيئان
أحدهما ما دل كلام الشارع على التعليل به ولهذا صيغ منها ربط الحكم بالأسماء المشتقة كقوله تعالى والسارق والسارقة وقوله سبحانه وتعالى الزانية والزاني فما منه اشتقاق الاسم في فحوى الكلام منصوب علما
ومن هذا القبيل ما روى أنه سها فسجد وزنى ما عز فرجمه رسول الله صلى الله عليه و سلم فالفاء تقتضي ربطا وتسبيبا وذلك مشعر بالتعليل إلى غير ذلك مما يأتي مفصلا في ترتيب الأبواب
فهذا أحد الأمرين
وربما يلحقون بهذا الفحوى نحو قوله تعالى فلا تقل لهما أف ففحوى النهي عن التأفيف يمنع ما يزيد عليه من التعنيف والضرب والإهانة
724 - والأمر الثاني إلحاق ما يكون في معنى المنصوص عليه بالمنصوص عليه وهو كقوله عليه السلام لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم قالوا لو جمع جامع بولا في كوز وصبه في الماء الراكد لكان في معنى البول في الماء
وما عدا هذين من سبل النظر فهو مردود عند هؤلاء

725 - وأما أبو هاشم فقد قال بهذين الوجهين وزاد وجها ثالثا وقال إذا ثبت أن المكلف مطالب بشيء واعتاص عليه الوصول إليه يقينا فاعلم أنه مأمور يبذل المجهود في طلبه والتمسك بالأمارات المفضية إلى الظنون فيه ومثل هذا القول بوجوب طلب استقبال القبلة عند إشكال جهاتها فقال يتعين طلبها بالتمكن من جهة الظن ولما أوجب الله تعالى المثل في الجزاء ولم يبينه لنا تبينا أنه كلفنا طلب المثل لما قال تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم
726 - فنقول ما اعترفتم به أنتم مساعدون عليه وهو يلتحق بقبيل النصوص والظواهر والمباحثة وراء هذه الجهات
أفتزعمون أن الفتاوي والأقضية في الأعصار الخالية تنحصر في هذه الجهات فإن قلتم بذلك فقد باهتم وعاندتم مدارك الضرورات فإن ما في النصوص إشعار بتعليله ملتحق بالظواهر وما نراه يبلغ في الكتاب والسنة مائة عدد
وما يذكره أبو هاشم معوز النظير في موارد الشرع والأحكام الجارية في نوادر الوقائع قد عدت العد وجاوزت الحد فأين يقع ما ذكره مما جرت فيه فتاوي المفتين وينجر الكلام إلى المسلك المقدم في المسألة الأولى فإن أبدوا شبهة لم يخل من الوقوع في أحد الشقين إما أن يتعرض لمنع جواز التعبد بالقياس وقد مر

القول فيه مستقصى وإما أن يتعرض لعدم الوقوع مع الاعتراف بالجواز وقد تقدم القول البالغ في ذلك فما استفاد هؤلاء بما أودوه إلا اعترافا بمسائل معدوده والدليل عليهم قائم فيما أنكروه
727 - ثم تتبع المحققون كلامهم فيما وافقوا فيه وأبدوا لهم صفحة الخلاف وطالبوهم بتثبيت ما أقروا به وقالوا لم قلتم إن ما عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم بتعليله في حق البعض فتلك العلة مطردة على الكافة مع القطع بأنها لا تدل لنفسها وإنما تدل بنصب ناصب إياها علما ولا يجب من نصبه علما في حق زيد انتصابه في حق عمرو ولو قال الرجل لمن يخاطبه بع عبدي هذا فإنه سيء الأدب فإنه يبيعه بحكم الإذن فلو أساء عبد اخر أدبه لم يبعه جريا على تعليله بيع الأول بإساءة الأدب
فإن قالوا إذا قال الرجل لولده لا تأكل هذه الحشيشة فإنها سم اقتضى ذلك نهيه عن تعاطي كل سم
قلنا ليس ذلك من حكم اللفظ ولكن ما أظهر من الإشفاق والحث على الحذار من مواقعة الضرر هو الذي اقتضى تعميم الأمر وقد قال المحققون لولا ما تحقق في سياق الخطاب من قوله تعالى ولا تقل لهما أف من نهاية الحث على البر لما أبعدنا النهي عن التأفيف مع الأمر بضرب العنق وقد يأمر السلطان بقتل الرجل المعظم ويتقدم إلى الجلاد بألا يستهين به قولا وفعلا
728 - والغرض مما نذكره يتبين الان بأمر هو الشأن كله فنقول
إن تجرد اللفظ عن القرائن فالقياس بماذا ولا مفزع في إثباته إلا ما اعتصمنا به

في إثبات وجوب النظر فإن تمسكوا به ساقهم إلى القول بوجوب النظر فإن مواقع فتاوي المفتين ليست مختصة بما ذكروه
وإن اقترنت باللفظ قرينة أوجبت التعميم
والذي قبلوه إذا موجب اللفظ وقضية ظاهره وليس من أبواب النظر في ورد ولا صدر فال حاصل الكلام قولهم بتعيين الظواهر
729 - فإن قيل أنتم لا تصححون أيضا كل نظر ومتعلقكم فيما تصححونه الإجماع من الأولين فلا تنقلون فيه لفظا جامعا مانعا حتى يكون مرجعكم فيما تأتون وتذرون وتصححون وتبطلون وإلا فالأقاصيص المتفرقة لا ضبط لها فكيف ينضبط لكم منها ما يصح وما يفسد فقد اعترفتم بأن لا مدرك غير التعلق بما صدر منهم
وهذا سؤال مشكل لا يتأتى الجواب عنه في معرض الأجوبة عن الأسئلة ولكن القدر المتعلق بمقصود المسألة
أنا نعلم ضرورة أن النظر الذي حكموا به زائد على ما اعترف هؤلاء به بأضعاف مضاعفة والاف مؤلفة فقد ثبت نظر أنكروه وليس من شرط توجه الكلام عليهم أن نذكر مأخذنا في التصحيح والإفساد ولو حاولنا ذلك لم

نتوصل إليه إلا بذكر أسباب وتبويب أبواب ورب كلام لا يبينه إلا التفصيل
وتفصيل ما يصح ويفسد واستناد كل دعوى فيها إلى الحق هو لباب القياس ونحن نضمن للناظر الموفق إلا يتنجز الكتاب وفي صدره غلة لم يشفها وعلة لم يداوها والله المستعان
وقد تنجز الكلام الان على الجملة وجاز أن نرسم بعده تقاسيم تشير إلى أغراض الكتاب يتخذها الطالب دستوره والله ولي التوفيق

-

الباب الثاني القول في تقاسيم النظر الشرعي
730 - اعلم أن النظر العقلي لا يفي بتراجم أبوابه وذكر مباديه وأسبابه هذا المجموع فالغرض الان إذا مردود إلى النظر الشرعي
ومجامعه إلحاق الشيء المسكوت عنه بالمنصوص عليه والمختلف فيه بالمتفق عليه لكونه في معناه أو تعليق حكم بمعنى مخيل به مناسب له في وضع الشرع مع رده إلى أصل ثبت الحكم فيه على وفق نظر وربط حكم كما ذكرناه من غير أن يجد الناظر أصلا متفق الحكم يستشهد عليه وهذا هو المسمى الاستدلال وتشبيه الشيء بالشيء لأشباه خاصة يشتمل عليه من غير التزام كونها مخيلة مناسبة وهو المسمى قياس الشبه
فهذه وجوه النظر في الشرع
731 - فأما إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به لكونه في معناه فمن أمثلته أنه صلى الله عليه و سلم قال لايبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل به فجمع البول في إناء وصبه في الماء في معنى البول فيه
ومنها قوله عليه السلام من أعتق شركا له في عبد قوم عليه فجرى ذكر العبد والأمة في معناه
ونص الرسول عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت على إجراء الربا في

البر والشعير والتمر والملح وقال القاضي الأرز في معنى البر والزبيب في معنى التمر وهذا القسم يترتب على ما سيلفى مشروحا
732 - والقدر اللائق بغرضنا أن نثبت ما يعلم ثبوته على اضطرار من غير حاجة الى نظر واعتبار وهو كإلحاق صب البول في الماء الراكد بالبول فيه وما أنكر هذا الجنس إلا حشوية لا يبالى بقولهم وهم في الشرع كمنكرى البدائة في المعقولات وهؤلاء داود وطائفة من أصحابه وقد قال القاضي لا يعتد بخلاف هؤلاء ولا ينخرق الإجماع بخروجهم عنه وليسوا معدودين من علماء الشريعة
733 - ومن هذا الفن ما يحتاج فيه إلى فكر قريب وهو ينقسم إلى الجلى البالغ وإلى ما ينحط عنه
فالجلى كإلحاق الأمة بالعبد في الحديث الذي ذكرناه وسبب الوضح أن ما منه اشتقاق العبد يتحقق في الأمة فإذا العبودية تجمعها وقد يقال عبدة للأمة فإذا انضم هذا إلى علم العاقل باستواء أثر العتق في العبد والأمة واعتقاد تماثل السريان فيهما وتشاكل عسر التجزئة ترتب على ذلك القطع بتنزيل الأمة منزلة العبد
734 - وما يتخلف الاشتراك عنه في معنى الاسم فهو دون ما ذكرناه وإن كان معلوما فهو كتنزيل نبيذ الزبيب منزلة نبيذ التمر لو صح حديث ابن مسعود في الحكاية المروية ليلة الجن ولا يأبى هذا الإلحاق ذو حظوة من التحصيل ولسنا نرى إلحاق الأرز بالبر في الربويات من قبيل القطعيات

وإلحاق الزبيب بالتمر أقرب وليس مقطوعا به من قبل أن التمر قوت غالب عام فقد يرى الشارع فيه استصلاحا ولم يبلغنا أن أمة من الأمم كانت تجتزىء بالزبيب
مسألة
735 - ما علم قطعا بهذه الجهات التحاقه بالمنصوص عليه فلا حاجة فيه إلى استنباط معنى من مورد النص وبيان وجود ذلك المعنى في المسكوت عنه بل العقل يسبق إلى القضاء بالإلحاق ويقدره بالمنصوص عليه وإن لم ينظر في كونه معللا بمعنى مناسب مخيل أو غير مخيل ولو قدر معللا فلا يتوقف ما ذكرناه من الإلحاق على تعيين علته المستنبطة
وإذا كان كذلك فقد اختلف ارباب الأصول في تسمية ذلك قياسا فقال قائلون إنه ليس من أبواب القياس وهو متلقى من فحوى الخطاب
وقال اخرون هو من القياس وهذه مسألة لفظية ليس وراءها فائدة معنوية ولكن الأمر إذا رد إلى حكم اللفظ فعد ذلك من القياس أمثل من جهة أن النص غير مشعر به من طريق وضع اللغة وموجب اللسان ولو قال رجل من أعتق نصفا من عبدي فالنصف الأخير منه حر فلو أعتق معتق النصف من أمة لم ينفذ إعتاقه إنشاء ولا سراية لأن لفظه هو المتبع ولم يثبت في حكم اللفظ استرسال أحكام الشرع فتبين أن حكم اللفظ لا يقتضى ذلك وإنما يثبت هذا في لفظ الشارع من حيث تقرر في وضع الشرع أن الأحكام لا تنحصر على الصور بل تسترسل ولو قال الشارع قاطعا لطريق القياس من أعتق شركا له في عبد قوم عليه دون الأمة كان الكلام متناقضا

فوضح أن تلقى ذلك مما تمهد لا من أجل اعتبار المسكوت عنه بالمنطوق به
736 - ثم ينقسم ذلك أقساما ويتنوع أنواعا فمنه الجلى المقطوع به ومنه المظنون الذي لا يثبت فيه العلم فالوجه أن يسمى ذلك قياسا وإن عني من أبي تسمية ذلك قياسا أن لفظ الشارع كاف فيه من غير سبر وفكر فهو صحيح
فهذا القدر كاف في توطئة الكلام في هذا القسم
القسم الثاني قياس العلة
737 - والقسم الثاني من أقسام النظر الشرعي استنباط المعاني المخيلة المناسبة من الأحكام الثابته في مواقع النصوص والإجماع ثم إذا وضح ذلك على الشرائط التي سنشرحها وثبتت تلك المعاني في غير مواقع النص وسلمت عن المبطلات فهذا القسم يسمى قياس العلة وهو على التحقيق بحر الفقه ومجموعه وفيه تنافس النظار وأكثر القول في هذا الكتاب يتعلق ببيان صحيحه وفاسده وذكر الاعتراضات الصحيحة والفاسدة عليه
وأنا أرى أن أصدر القول فيها بالطرد ومعناه وذكر المذاهب في قبوله ورده واختيار المسلك الحق فيه إن شاء الله تعالى
مسألة في الطرد
738 - الطرد هو الذي لا يناسب الحكم ولا يشعر به ولو فرض ربط نقيض الحكم به لم يترجح في مسلك الظن قبل البحث عن القوادح النفى على

الإثبات ولم يكن من فن الشبه على ما نصفه هذا هو الطرد
739 - وقد ذهب المعتبرون من النظائر إلى أن التمسك به باطل وتناهى القاضي في التغليظ على من يعتقد ربط حكم الله تعالى به
740 - وذهب طوائف من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه حجة من حجج الله تعالى إذا سلم من الانتقاض وجرى على الاطراد
741 - وذهب الكرخي إلى أن التعلق به مقبول جدلا ولا يسوغ التعويل عليه عملا ولا فتوى
742 - وقد أكثر المحققون في وجوه الرد على أصحاب الطرد وحاصل ما ذكروه يئول إلى وجوه منها
أن أقيسة المعاني لم تقتض الأحكام لأنفسها وإنما ظهر لنا من دأب أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم التعلق بها إذا عدموا متعلقا من الكتاب والسنة فكان مستند الأقيسة الصحيحة إجماعهم على ما سبق تقريره
والذي تحقق لنا من مسلكهم النظر إلى المصالح والمراشد والاستحثاث على اعتبار محاسن الشريعة فأما الاحتكام بطرد لا يناسب الحكم لا يثير شبها فما كانوا يرونه أصلا فإذا لم يستند الطرد إلى دليل قاطع سمعي بل يتبين أنهم كانوا يأبونه ولا يرونه ولو كان الطرد مناطا لأحكام الله تعالى لما أهملوه وعطلوه فقد استمرت الطريقة قاطعة من وجهين
أحدهما أنا أوضحنا أنه ليس للطرد مستند معلوم ولا مظنون وليس هو في نفسه مقتضيا حكما لعينه

والاخر أنا نعلم إضرابهم عن مثله في النظر في أحكام الوقائع كما نعلم إكبابهم على تطبيق الأحكام على المصالح الشرعية وهذه طريقة واقعة
743 - ومن أوضح ما يعتصم به أن مناط الأعمال في الشريعة ينقسم إلى معلوم ومظنون وما لا يتطرق إليه علم ولا ظن فذاكره ومعلق الحكم به متحكم وقد أجمع حملة الشريعة على بطلان الاحتكام
فإن إدعى الطارد ظنا تبين خلفه وكذبه فإن للظن في مطرد العرف أسبابا كما أن للعلوم النظرية طرقا مفضية إليها ومن ادعى أنه يظن أن وراء الجبل المظل غزالة من غير أن يبين لظنه مرتبطا أو سببا كان صاحب هذه المقالة كاذبا أو مخيلا فإذا بطل التحكم ولم ينقدح ظن ولا علم والذي ربط به ثبوت الحكم لو نسب إلى نفيه لكان كما لو نسب إلى إثباته فلا يبقى للتعلق به وجه
744 - وقد انتهى كلام القاضي والأستاذ في هذا إلى ما نرمز إلى مبادئه فإنهما قالا
من طرد عن غرة فهو جاهل غبي ومن مارس قواعد الشرع واستجاز الطرد فهو هازىء بالشريعة مستهين بضبطها مشير إلى أن الأمر إلى القائل كيف أراد
745 - فإن قيل سلامته عن النقض تغلب على الظن انتصابه علما قلنا هذا الطارد مطالب بتصحيح مطرده فهو الذي طرده والصورة التي فيها النزاع عند المعترض على الطرد نقض للطرد

746 - فإن قال الطارد فقد اطرد في غير محل النزاع
قيل له جريانه في غير محل النزاع لا يوجب القضاء بالطرد في غيره وعلى الطارد أن يثبت كونه علما فيما ادعى جريانه فيه
فإن تمسك بنفس الجريان قيل هذا جريان في مسائل معدودة فلا ينتهض علما ولا يجب منها الحكم على جميع الشريعة فإنما يكون ما ذكره مخيلا لو جرى الطرد في جميع المسائل وساوقه الحكم على حسب طرد الطارد
قال النزاع إلى أن ما جرى على وفاق هل هو علة فإذ ذاك ربما تخيل من لا تحصيل له أن الجاري علة وسنبين أن الأمر ليس كذلك
747 - بعد هذا قلنا إذا كان الطارد منازعا في طرده فكيف يصح أن يستدل بالطرد وحاصل استدلاله أنه يقول الدليل على صحة طردي دعواي اطراده في صور النزاع فلا يبقى بعد هذا الذي عقل تعلق بالطرد المحض في مسائل معدودة
748 - ثم قال القاضي لو كان التمسك بالطرد سائغا لما عجز عنه أحد من طبقات الخلق ولما كان في اشتراط استجماع أوصاف المجتهدين معنى
فإن زعم زاعم أن شرط الطرد أن يسلم من العوارض والمبطلات ولا يتهدى إليها إلا العالم
قيل له ليطرد العامى ثم يراجع العالم فإذا انتهى التصرف في الشرع إلى هذا المنتهى كان ذلك هزءا بقواعد الدين

749 - ثم نقول علماء الشريعة صرفوا مباحثتهم في الوقائع العرية عن النصوص والإجماع إلى ما يرونه مشعرا بالحكم مشيرا إليه مخيلا به وقد ضرب الحليمي لذلك مثلا فقال من رأى دخانا وثار له الظن أن وراءه حريقا كان محوما على الإصباة قريبا من نيلها
فإن قال وقد رأى غبارا إن وراءه حريقا لم يكن ما جاء به علما على ما أنبأ عنه وأقيسة الشريعة أعلام الأحكام وهذا بمنزلة الطارد
فإن تنسم نسيما أرجا فقال إن وراءه حريقا كان ذلك في محل فساد الوضع من حيث إنه استدل بالشيء على نقيضه
وهذا القدر فيه بلاغ ومقنع في الرد على أصحاب الطرد
750 - فأما من جوز الجدل به ومنع تعليق ربط الحكم به عقدا وعملا وفتوى وحكما فقد ناقض فإن المناظرة مباحثة عن ماخذ الشرع والجدل يستاقها على أحسن ترتيب وأقربه إلى المقصود وليس في أبواب الجدل ما يسوغ استعماله في النظر مع الاعتراف بأنه لا يصلح أن يكون مناطا للحكم وغاية المعترض كفى المئونة وعاد الكلام نكدا وعنادا وأضحى لجاجا وخرج عن كونه حجاجا
751 - فأما الطاردون فمما تمسكوا به أن قالوا للشارع أن ينصب الطرد علما وإن لم يكن مناسبا للحكم وإذا لم يمتنع ذلك لم يمتنع من المستنبط تقديره

وهذا لا حاصل له فإن للشارع تأسيس الحكم وما يذكره من علم يجري مجرى الحد ولو ذكر الشارع الحكم من غير علة لقوبل بالقبول فإذا حده صدق والمستنبط ممنوع من التحكم بالحكم كما سبق فإن ظن شيئا بمسلك شرعي أبداه وعرضه على القواعد وليس للطارد مسلك ظنى ولا له منزلة الابتداء بوضع الحكم
ولو جاز أن يتحكم بنصب الطرد لجاز أن يتحكم بنصب الحكم وهو في التحقيق كذلك فإن الطارد يتحكم بالحكم في صورة يدعيها وهو منازع فيها
752 - وما عدوه مستروحا لهم أن قالوا المعانى المخيلة المناسبة للحكم لا توجب لعينها كما لا يوجب الطرد الحكم لذاته إذ الشدة التي اعتقدت مخيلة في إثارة التحريم كانت ثابته والخمر حلال فإذا العلل كلها وإن اعتقدت مخيلة إذا كانت لا توجب الأحكام لأعيانها فهي كالطرد
قلنا هذا فاسد لا حاصل له فإنا لا نرتضى المخيل من جهة الإخالة ولكن إذا صادفناه وظنناه موافق لعلل الصحابه ومسالكهم رضي الله عنهم في النظر فهو الدليل على وجوب العمل لا نفس الإخالة ولم يثبت تمسك الصحابة بالطرد فلا يبقى للمستنبط وجه يبنى عليه الظن بأن ما طرده منصوب الشارع فال الأمر إلى التحكم المحض وهو باطل من دين الأمة كما سبق تقريره
مسألة
753 - إذا ذكر المستنبط علة مخيلة مناسبة ولكنها منتقضة فقيدها بلفظ يدرا

النقض فالذين يتمسكون بالطرد المحض لا يمتنعون من التمسك بها والذين ردوا الطرد اختلفوا في ذلك
فذهب المحقون إلى أن ذلك الوصف الزائد الذي لاحظ له في الفقه على حياله ولا على تقدير ضمه محذوف غير محتفل به والدليل على ذلك هو الدليل على إبطال الطرد فإن حاصل القول في الرد على القائلين به نسبتهم إلى التحكم ولا فرق بين التحكم بما هو على صيغة علة وبين التحكم بصيغة تقيدت العلة بها
754 - وهذه المسألة لا تصفو قبل ذكر النقض وحقيقته ورده وقبوله فإن الخصم قد يقول فائدة هذه الزيادة درء النقض فإذا ظهرت فائدته في الكلام خرج عن كونه متحكما به من حيث نتج فائدة وهي اندفاع النقض وليس كما إذا كان الكلام بجملته طردا غير مناسب لأن صاحبه حرى أن ينسب إلى التحكم
فالوجه أن يقال إن كانت المسألة التي ترد نقضا لو حذفت الزيادة تفارق محل العلة بفرق فقهي فالمذكور دونه بعض العلة والاقتصار على بعض العلة لا يجدي فائدة وإن كان لا ينقدح فرق فقهى فالعلة منتقضة لا يعصم فيها لفظ لا يفيد فقها ولا يشعر بفرق معنوي وهو بمثابة تعليل الرجل حكما مع تقييد العلة بنعيق غراب أو ما في معناه مما لا يفيد حتى إذا ألزم شيئا اتخذ ما ذكره مدراه
وهذا من الفن الذي يأنف منه المحقق
وسنعود إلى تحقيق ذلك في باب النقض إن شاء الله تعالى
755 - فإذا ثبت أن التقييد بما لا فقه له لا يفيد فلو فرض التقييد باسم غير مشعر

في وضع اللسان بفقه ولكن مباينة المسمى لما عداه مشهورة عند النظار فهل يكون التقييد بمثل هذا اللفظ محصنا للعلة وهذا كتقييد العلة بالطلاق في قول القائل جزء حله الحل فإضافة الطلاق إليه نافذة كالجزء الشائع
فإذا قال الملزم العلة تنتقض بالنكاح ولفظ الطلاق لا فقه فيه فيكون من جواب المعلل أن الطلاق سلطانه ونفوذه يفارق النكاح إذ تسميته تشير إلى خصائصه فذكره كذكر خاصية تفيد فقها
وهذا مما تردد فيه أرباب الجدل ولعل الأقرب تصحيحه فإن ذلك جار مجرى اصطلاح النظار على عبارات يتواطئون عليها مشعرة بأغراضهم
فهذا مقدار غرضنا الان في الطرد وما يليق به ونحن نذكر بعده تفصيل القول فيما تثبت به علل الأصول

فصل القول في تصحيح علة الأصل في أقيسة المعاني
756 - إذا ثبت حكم في أصل متفق عليه وادعى المستنبط أنه معلل بمعنى أبداه فهو مطالب بتصحيح دعواه في الأصل وادعى بعض الأغبياء أنه لا يسوغ ذلك ولكن على المعترض أن يبطل ذلك برده إن كان عنده مبطل
وهذا قول من لا يحيط بمنازل النظر وحقائق الأقيسة
فإذا ادعى مدعي أن المعنى الذي أبداه علة للحكم فهذه دعوى عرية عن البرهان من جهة أن التحكم ينصب العلل غير سائغ كما سبق في الرد على

أقسام الكتاب
1 2 3 4