كتاب : البرهان في أصول الفقه
المؤلف : عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أبو المعالي

سبق منا التدرج إليه في ( الأساليب ) وإذا ثبت ذلك بنينا عليه تحريم الوطء قائلين إذ لم يكن الوطء رجعة لم تنقطع به العدة فيؤدي إباحة الإقدام عليه إلى الجمع بين دوام التربص لتفريغ الرحم وبين إباحة شاغلة وهذا وإن لم يستند إلى أصل فهو معنى قويم ومسلك مستقيم

فصل ( في ضابط ما يجري فيه الاستدلال )
1152 - فإن قيل قد ( أثبتم ) الاستدلال ولم تقبلوه على الإرسال وزعمتم أن المقبول منه ما يلتفت إلى الأصول ويضاهي معانيها ولم تأتوا في ذلك بقول ضابط يستبين به المردود من المقبول قلنا الوجه في ذلك أن نقول إذا ثبت حكم متفق عليه في أصل ثم رام المستنبط إثارة معنى يعتقده مناطا للحكم ( فما الضبط ) فيما يقبل منه وما يرد فليقل المستدل كل معنى لو ربط به حكم متفق عليه في أصل لجرى و ( استد ) فإذا اعتبره المستدل عليه من غير إسناد إلى أصل كان مقبولا إذ المعنى الذي يبديه المستنبط لا يشترط فيها أن يسنده إلى معنى الذي يبديه وفاقي مماثل له ولكن يكفي أن يناسب ويسلم على السبر ويثبت ببعض الطرق المذكورة في إثبات العلل فكل علة إذا لا يشترط في ثبوتها أن تعهد ثابته بعينها ( قبل أن يرى ) المستنبط مثلها في غير محل الاستنباط فكل معنى في أصل فمتعلقه معنى وهو في حكم مستدل به وليس التعلق بحكم الأصل ولا بحصول الوفاق عليه

1153 - وإن قربنا العبارة قلنا ليعتقد المستدل صورة مختلفا فيها متفقا على حكمها ( ولير ) رأيه في استنباط معناه وإن كان لا يستد فكره إلا بمستند وبالجملة لا يحدث الناظر ( الموفق ) مسلكا إلا وبينه وبين ما تمهد في الزمن الماضي من السلف الصالح مداناة والذي ننكره من مالك رضي الله عنه ( تركه ) رعاية ذلك وجريانه على الاستدلال في الاستصواب من غير ( اقتصاد ) ونحن نضرب في ذلك مثالا ثم نذكر بحسبه لمالك مذهبا
1154 - فلو قدر وقوع واقعة حسبت نادرة لا عهد بمثلها فلو رأى ذو نظر جدع الأنف أو اصطلام الشفة وأبدى رأيا لا تنكره العقول صائرا إلى أن العقوبات مشروعة لحسم الفواحش وهذه العقوبة لائقة بهذه النادرة فمثل هذا مردود ومالك رضي الله عنه التزم مثل هذا في تجويزه لأهل الإيالات القتل في التهم العظيمة حتى نقل عنه الثقات أنه قال أنا أقتل ثلث الأمة لاستبقاء ثلثيها
1155 - فإن قيل فبم تردون ما ذكره قلنا تبين من نظر الصحابة رضي الله عنهم في مائة سنة ومن نظر أئمة التابعين أن ما قال مالك رضي الله عنه وما استشهدنا به لا يحكم به ونحن نعلم أن الامد الطويل لا يخلو عن جريان ما يقتضى مثل ما يعتقده مالك ثم لم يجر وشذت واقعة في العقوبات واضطرب فيها رأي الصحابة وهي حد الشارب فجرى فيه واشتهر ولم يستجيزوا الاستجراء على تقدير زيادة فيه إلا بعد أن يثبتوا أنه

لم يكن مقدرا في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كأنهم أجروه مجرى التعزيرات قال على رضي الله عنه أما أنا ( لا أقتل ) في حد وأجد في نفسي ( شيئا إلا حد الشارب فإنه شئ رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فليكن هذا سبيلا قاطعا في الرد على مالك رحمه الله ومن نحا نحوه وفيه تنبيه على ما نريده

فصل ( الاعتراضات على الاستدلال )
1156 - فإن قال قائل ما الاعتراض على الاستدلال قلنا الاستدلال معنى مخيل قد يتطرق إليه من الاعتراضات ما يتطرق إلى معنى يبديه المستنبط مخيلا في أصل غير أن ( للمعنى ) المستند إلى أصل تعلقا به فقد يتوجه كلام على الأصل بفرق أو غيره والاعتراضات على الاستدلال الذي لا يستند إلى أصل تنتحي نحو المعنى فحسب ويتوجه عليه النقض إن أمكن والمعارضة وشرط ثبوته ألا يناقض أصول الأدلة
1157 - وأنا أرى الكلام عليه محصورا في أوجه أحدهما المناقشة في الاخالة والإشعار والأخر طلب النقض إن كان والآخر تقديم مقتضى أصل علته والآخر معارضته بمعنى آخر ( يناقضه )

فهذي مجامع الاعتراضات على الاستدلال ويفسد من الاعتراضات عليه ما يفسد من الاعتراضات على ما يستند إلى أصل وقد تمهد فيما تقدم مسلك الصحيح من الاعتراضات والفاسد ولا شك أنه لا يتصور استقلال التشبيه بنفسه فإن التشبيه معناه تقريب شئ من شئ بما يغلب على الظن من غير ( التزام ) معنى مخيل ومن ضرورة ذلك أصل متفق عليه فإن قيل هل يترجح المعنى المستند إلى أصل على المعنى الذي لا أصل له قلنا هذا نستقصيه في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى

فصل في استصحاب الحال
1158 - قد قال باستصحاب الحال قائلون ثم اختلفوا فذهب بعضهم إلى أنه دليل بنفسه ولكنه مؤخر عن الأقيسة وهو آخر متمسك الناظر وقال قائلون لا يستقل الاستصحاب دليلا ولكن يسوغ الترجيح به والوجه أن نصوره ثم نؤثر ما هو المختار عندنا فيه
1159 - فإذا ثبت حكم متعلق بدليل ولم يتبدل مورد الحكم فليس هذا من مواقع الاستصحاب فإن الحكم معتضد بدليل وهو مستدام فدام الحكم بدوامه قد يقول بعض من لا يحيط بالحقائق لا يمتنع تقدير نسخ ولكنه غير محتفل

به والحكم مستصحب إلى نقل ناسخ على ثبت فيلتحق هذا الفن عند القائل بالاستصحاب فهذه مناقشة لفظية فإنه ثبت بالدليل القاطع قيام الدليل إلى يوم نسخه فإن سمى مسم هذا استصحابا لم يناقش في لفظ وليس مقصود الفصل منه بسبيل
1160 - فأما إذا ثبت حكم في صورة ثم تغيرت وحالت ورام الناظر طرد الحكم الثابت في الصورة الأخرى فإن لم ( يكن للصورة ) الثانية تعلق بالأولى ولم يكن تغيرها مرتبا على الصورة الأولى فلا معنى للاستصحاب في مثل ذلك كالذي يبغى أن يستصحب حكما في صدقة البقر في صدقة الغنم ولا يترتب أحد الجنسين على الثاني تصورا ولا تقديرا وهذا بعينه محاولة جمع بدعوى عرية من غير معنى جامع ولا وجه في الشبه غالبا على الظن وهو احتكام مجرد
1161 - فأما إذا ترتبت صورة على صورة فإن تغيرت عليها فأثبتت في الخلفة عليها فعند ذلك يقول قائلون نستصحب الحكم الثابت في الصورة الأولى ونجريه في الثانية وهذا باطل عندنا غير صالح للاستدلال ولا للترجيح فإن الصورتين متغايرتان وإن أثبتت إحداهما على الأخرى تصورا وخلفة فلا معنى لقول القائل أستصحب ( الحكم ) وقد تغير المورد ( وتغاير ) المحل فلا يمتنع تغاير الحكمين لذلك

وهذا كقول القائل في استئناف الفريضة عند أبي حنيفة في زكاة الإبل فقد اطردت فريضة الإبل على نصب معلومة فينبغي أن يستصحبها وراء المائة والعشرين حتى لا يوجبها إلا على ذلك القياس وقد عورضوا بأن فريضة الإبل إذا ثبتت وجب استصحابها وذلك ( قاض بمنع ) العود إلى الشاة والقائلان ذاهلان عن الحقيقة فلا معنى للاستصحاب من الفئتين وما قاله أصحابنا أمثل لاعتضاده بفقه وهو المعتمد دون الاستصحاب وذلك أن الشاة أثبتت ابتداء اجتنابا لتشقيص مع ( أن ) إيجاب بعير مجحف بالخمس من الإبل فالعود إلى الشاة مع كثرة الإبل بعيد وهذا ليس استصحابا
1162 - فإن قيل من استيقن الطهارة وشك في الحدث فالحكم استصحاب الطهارة وكذلك نقيض هذ1 وكذلك من تيقن النكاح وشك في الطلاق فالجواب كذلك فهل هذا الفن مما يلحق باستصحاب الحال ( أم لا ) قلنا هذا لباب الفصل ونحن نقول فيه قول الفقيه يستصحب يقين الطهارة فيه تجوز فإن اليقين لا يصحب الشك فليس المعنى بقولهم لا يترك اليقين بالشك أنهم على يقين مع التردد في الحدث ولكن المراد به أن ما تقدم من الطهر يقين فيبقى الحكم ما تيقناه والقول فيه إذا طرأ الشك لم يخل المشكوك فيه من ثلاثة أحوال
1163 - أحدها أن يرتبط بعلامة بينة في محل الظنون فما كان كذلك

فلاجتهاد هو المتبع ولا التفات إلى ما تقدم فإنه يتصدى للمرء شك في بقاء ما سبق واجتهاده ظاهر في زواله والاجتهاد مقدم
1164 - فإن ثبتت علامة خفية كالعلامات التي يقع التمسك بها في تمييز النجس من الطاهر في الأواني وفي والثياب فإن عارض يقين النجاسة يقين الطهارة فعلم صاحب الإناءين أن أحدهما نجس والآخر طاهر فليس التمسك بيقين الطهارة بأولى من التمسك بيقين النجاسة فيضطر إلى التمسك بالعلامات وإن خفيت ( وإن لم يوجد ) يقين النجاسة ولكنا تيقنا طهارة وشككنا في طريان نجاسة وثبتت علامة خفية ففي التعلق بها قولان أحدهما أنها ضعيفة وإن تناهى المرء في تصويرها محاولا إظهار ما وقع في النفس فليفهم الناظر ما يرد عليه فالتعلق بالاستصحاب أولى على قول والتمسك بها أولى على قول
1165 - وإن تقدم يقين وطرأ شك وليس لما فيه علامة جلية ولا خفية فعند ذلك تأسيس الشرع على التعلق بحكم ما تقدم وهذا نوع من الاستصحاب صحيح وسببه ارتفاع العلامات وليس هذا من فنون الأدلة ولكنه أصل ثابت في الشريعة مدلول عليه بالإجماع وإن طرأ مثل ذلك في منازل المجادلات فأراد ( المستدل ) أن يدعو الخصم إلى موجب الاستصحاب وكانت الصورة على نحو ما ذكرناها فذلك ( سائغ )

والدليل عليه اعتباره بنظائره بتشبيه أو تقريب معنوي فليلحق ذلك بأبواب القياس إذا
1166 - ولا يستمر هذا إلا بسبر وهو تمام الكلام ومعناه أن يدعى أولا انتفاء الدليل عند قيام التردد ثم لا يتوصل إلى ذلك إلا بتخيل جهات الأدلة وإبانة انتفائها في محل الكلام ثم يستمر بعد هذا ما يحاوله من اعتبار صورة بصورة وبيان ذلك بالمثال أن المسئول عن وجوب الأضحية يقول الأصل براءة الذمة فلا معنى لشغلها إلا بثبت وهذا لو اقتصر عليه لاستقل كلاما مفيدا مستقيما وحاصله يئول إلى أنه لم يقم عندي دليل على وجوب الأضحية وإذا قسم وسبر وتتبع مواقع تعلقات الخصم بالنقض استمر له ما ذكرناه في الاستصحاب فهذا منتهى الغرض في ذلك وقد نجز بنجازه القول المقصود في الاستدلال والحمد لله وحده

الكتاب الخامس -

كتاب الترجيح
1167 - الترجيح تغليب بعض الأمارات على بعض في سبيل الظن ولا ينكر القول به على الجملة مذكور وقبله منكرو القياس واستعملوه في الظواهر والأخبار وحكى القاضي عن ( الملقب بالبصري وهو جعل ) أنه أنكر القول بالترجيح ولم أر ذلك في شيء من مصنفاته مع بحثى عنها وسأذكر شيئا ينبه على إمكان ذلك في النقل
1168 - والدليل القاطع في الترجيح إطباق الأولين ومن تبعهم على ترجيح مسلك في الاجتهاد على مسلك هذا ما درج عليه الأولون قبل اختلاف الآراء وكانوا رضي الله عنهم إذا جلسوا يشتورون تعلق معظم كلامهم في وجوه الرأي بالترجيح وما كانوا يشتغلون بالاعتراضات والقوادح ( وتوجيه النقوض ) وهذا أثبت بتواتر النقل في الأخبار والظواهر وجميع مسالك الأحكام فوضح أن الترجيح مقطوع به
1169 - واستدل القاضي رحمه الله لمن حكى الخلاف عنه في نفي الترجيح

بالبينات في الحكومات فإنه لا يترجح بينة على بينة بعد استقلال كل واحدة لو انفردت وهذا مردود فإن العلماء من يرى ترجيح البينة على البينة وهو مالك رضي الله عنه وطوائف من علماء السلف وليس من الإنصاف إلزام مجتهد فيه على القول في مسألة مسلكها القطع ثم إن ظن ظان أن لا ترجيح في البينة ورآها مستندة إلى توقيفات تعبدية فهذا لا يعارض ما ثبت قطعا تواترا في الترجيح والعمل به وليس متعلق مثبتى الترجيح تجويزا ظنيا فينتقض بشيء أو يقاس على شيء
1170 - فإذا ثبت أصل الترجيح فلا سبيل إلى استعماله في مسالك القطع فإذا أجرى المتكلم في مسلك قطعي صيغة ترجيح أشعرت بذهوله أو غباوته وما يفضى إلى القطع لا ترجيح فيه فإنه ليس بعد العلم بيان ولا ترجيح وإنما الترجيحات تغليبات لطرق الظنون ولا معنى لجريانها في القطعيات فإن المرجح أغلب في الترجيح وهو مظنون ( والمظنون ) غير جار في مسلك القطع فكيف يجرى في القطعيات ترجيح ما لا يجرى أصله فيها مسألة
1171 - أطلق الأئمة القول بأن المعقولات لا ترجيح فيها وهذا سديد لا ننكره ولكنا أوضحنا في الديانات أن العوام لا يكلفون بلوغ الغايات ودرك حقائق العلوم في المعتقدات وإنما يكلفون تحصيل عقد متعلق بالمعتقد على ما هو به مع

التصميم ثم عقدهم لا يحصل في مطرد العادة هجوما وافتتاحا من غير استناد إلى مسلك من مسالك النظر وإن كان غير تام وإذا كان كذلك فالترجيحات عندهم في قواعد العقائد قد تجرى فإن عقودهم ليست علوما ومأخذها كمأخذ الظنون في حق من يعلم أنه ظان وهذا الذي ذكرناه لا يناقض ما ذكره الأئمة فإنهم زعموا أن الترجيحات لا وقع لها في مدارك العلوم وما ذكروه حق لا نزاع فيه وإنما يكتفى من العوام بعقود سليمة ليست علوما فتجرى عقائدهم مجرى الظنون في المظنونات مسألة
1172 - قال الأئمة رضي الله عنهم الترجيحات لا تستعمل في المذاهب من غير نصب أمارات فإن كل ذي مذهب مدع قبل أن يدل والدعاوى لا تقبل الترجيح إذ الترجيح في نفسه لا يستقل دليلا والمذهب لو كفى ترجيحه لكان الترجيح مستقلا لإثبات المذهب وما كان كذلك كان دليلا مستقلا بنفسه وهذا يتطرق إليه استثناء عندنا على تفصيل نشير إليه الآن ثم نقرره في كتاب الفتاوى إن شاء الله تعالى فليعلم الناظر أن المستفتى لا يتخير في تقليد من شاء من المفتين ولكن عليه ضرب من النظر في تخير واحد منهم لمزية يتخيلها أو يظنها لمن يختاره وسيأتي ذلك مشروحا في موضعه إن شاء الله تعالى وإن كان كذلك فمتعلق المستفتى ترجيح مجرد وقد ينقدح أن يقال ما يغلب على ظنه تخصيص واحد من العلماء فهو دليل مثله فالقول في هذا يئول إلى عبارة

ونحن الآن نرسم ما يترجح به مذهب الإمام المطلبي الشافعي رضي الله عنه مسألة
1173 - أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنهم بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل وتعرضوا للكلام على مذاهب الأولين والسبب فيه أن الذين درجوا وإن كانوا قدوة في الدين وأسوة للمسلمين فإنهم لم يفتنوا بتهذيب مسالك الاجتهاد وإيضاح طرق النظر والجدال وضبط المقال ومن خلفهم من أئمة الفقه كفوا من بعدهم النظر في مذاهب الصحابة فكان العامي مأمورا باتباع مذاهب السابرين
1174 - ثم نحن نوضح وراء ذلك ما يتعلق به منتحل المذهب على الجملة في اختيار مذهب الشافعي ومجامع الكلام في ذلك يحصرها طرق أحدها أن السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس والتأصيل فللمتأخر الناقد حق التتميم والتكميل وكل موضوع على الافتتاح قد يتطرق إلى مبادئه بعض التثبيج ثم يتدرج المتأخر إلى التهذيب والتكميل فيكون المتأخر أحق أن يتبع لجمعه المذاهب إلى ما حصل السابق تأصيله وهذا واضح في الحرف والصناعات فضلا عن العلوم ومسالك الظنون وهذه الطريقة يقبلها كل منصف وليس فيها تعرض لنقض مرتبة إمام
1175 - فإذا حصلنا المقصود مع الاعتراف للمتقدمين بفضل السبق فالذي

يتم به الغرض أن الصديق أفضل من طلعت عليه الشمس بعد النبي عليه السلام ثم اشتغال من بعده بالسبر أوجب على العوام ألا يبتدروا مذهب الصديق رضي الله عنه مع علو منصبه وارتفاع قدره فإن قيل يلزمكم على هذا أن توجبوا الاقتداء بمن بعد الشافعي من الأئمة على ما ذكرتموه قلنا إن ثبت لأحد بعده من الأئمة من المزية والفضل وتهذيب ما لم ينتظم وكشف ما لم يتبين فلا يناقض مسلك الطريقة ولكنا لسنا نرى أحدا بلغ هذا المحل وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب الفتوى إن شاء الله تعالى
1176 - طريقة أخرى وهي أن نقول المذاهب ( تمتحن ) بأصولها فإن الفروع تستد باستدادها وتعوج باعوجاجها وهذا النوع ( من النظر ) هو الذي يليق بالمستفتين ومنتحلي المذاهب وسبيل محنة الأصول معرفتها أفرادا في قواعد ثم معرفة ترتيبها وتنزيل كل أصل منها منزلته فإذا تبين ذلك فأصول الشريعة الكتاب والسنة والإجماع ثم الأقيسة الظنية علامات انتصبت على الأحكام ( أعلاما ) بأصل من الأصول الثلاثة مقطوع به كما سبق شرح ذلك ثم لها مراتب ودرجات ومناصب فإذا نظر الناظر إلى منصب الشافعي عرف أنه أعرف الأئمة بكتاب الله تعالى فإنه عربي مبين والشافعي تفقأت عنه بيضة قريش

ولا يخفى تميزه عن غيره فيما نحاوله ثم يتعلق معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول بمعرفة الروايات ومقامه لا يخفى في الأخبار ومعرفة الرجال وفقه الحديث والإجماع يتلقى من معرفة الآثار وما يصح نقله من الوفاق والخلاف وهذا بيان الأصول
1177 - وأما تنزيلها منازلها ( فإنه شوف ) الشافعي فإنه قدم كتاب الله تعالى ثم أتبعه بسنة رسوله عليه السلام ثم إذا لم يجدها تأسى بالصحابة رضي الله عنهم في التعلق بالرأي الناشىء من قواعد الشريعة المنضبطة أصولها ولم ير التعلق بكل استصواب لما فيه من الانحلال والانسلال عن ضبط الشريعة ثم رأى قواعد الشريعة منقسمة إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل فاستحث على الاتباع فيما لا يعقل معناه وقد يقيس إذا لاحت الأشباه وأما ما يعقل معناه فمغزاه فيه المعنى ( المخيل ) المناسب وهو في ذلك يلتفت إلى قواعد الشرع ويدور عليها
1178 - ومن بديع نظره أنه قد يعن له معنى مخيل ولكن يراه منقوضا ( بما لا يعلل ) فيلحقه بما لا يعلل وهذا مسلكه في منع القيم في الزكوات فإن غرض الزكاة سد الخلة والحاجة وهو وإن كان معقولا فلا جريان له فرأى الأتباع فيه معنى السد مع الخلاص ( من ) غرر المخالفة ثم جعل كون الزكاة عبادة عضدا لذلك كالمرجح به ولا حاجة إلى ذكر ( مذهب ) غيره فإن في هذا تنبيها على مقتضاه
1179 - طريقة أخرى وهي تشتمل على نظر كلي إلى الفروع وهذا

يتأتى بضبط ورد نظر إلى الكليات فالشريعة متضمنها مأمور به ومنهي عنه ومباح فأما المأمور به فمعظمه العبادات فلينظر الناظر فيها وأما المنهيات فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر ولا يكاد يخفى احتياط كثير من الناس فيها وبالجملة الدم معصوم بالقصاص ومسألة المثقل يهدم حكمة الشرع فيه والفروج معصومة بالحدود ولا يخفى ما فيها من الاضطراب والأموال معصومة عن السراق بالقطع وقد أثبت من ( نعنيه ) ذرائع إلى إسقاطه سهلة المدارك وأعيان الأموال مستردة من الغصاب وقد بان للفقيه مسالك الناس الذين خالفوا مذهب الشافعي فمن نظر إلى الأصول ثم نظر نظرا كليا إلى الفروع لم يخف عليه من يكون أولى بالاتباع وإن قصر ( نظر ) بعض المستفتين عن فهم ما ذكرناه فلا عليه لو ( احتذى ) بقول النبي عليه السلام الأئمة من قريش ولم أجد أحدا من أصحاب المذاهب معتزيا إلى طينة قريش بالمسلك الواضح إلا الشافعي ولا خلاف في اختصاصه بذاك وأبو حنيفة من الموالى ومالك كذلك ( على ما حكى بعض الناس ) فهذه مرامز كافية فيما نحاوله وإذا أردنا أن نعبر عن الأئمة الثلاثة الناخلين المرموقين الذين طبقت مذاهبهم طبق الأرض مالك والشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهم قلنا

1180 - أما أبو حنيفة فلا ننكر ( اتقاد ) فطنته وجودة قريحته في درك عرف المعاملات ومراتب الحكومات فهو في هذا الفن واستمكانه من وضع المسائل بحسنه على النهاية ولكنه غير خبير بأصول الشريعة وهي في حقه منقسمة إلى أصل جهله ( أو ) أغفله وذهل عنه وإلى آخر تمسك به وما رعاه وما ( عقله ) وانتهض لتبويب الأبواب انتهاض من لم يستمد من القواعد ومن عجيب أمره أنه لم يعتن بجمع الأخبار والآثار ليبني عليها مسائله ولكنه يوصل الفروع بناء على ما يراه ثم يستأنس بما يبلغه وفاقا
1181 - وأما الإمام مالك فلا يشق غباره في ضبط ما يصح من الأخبار والآثار والأقضية ووقائع الصحابة ولا يدرك آثاره في درك سبل الصحابة والطرق التي منها يتطرق الخلل وإمكان الزلل إلى النقلة فقد كان يقول في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد رأيت بعدد أساطين هذا المسجد من يقول حدثني أبي فلان قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم أستجز أن أروى عنهم حديثا فقيل له أكنت لا تثق بهم فقال كنت ( لا ) أتهم صدقهم ولو نشروا بالمناشير ما كذبوا على رسول الله عليه السلام ولكن لم يكونوا من أهل ( هذا ) الشأن ولكنه ينحل بعض الانحلال في الأمور الكلية حتى يكاد أن يثبت في الإيالات والسياسات أمورا لا تناظر قواعد الشريعة وكان يأخذها من وقائع وأقضية لها محامل على موافقة الأصول بضرب من التأويل فكان يتمسك بها ويتخذها أصولا ويبنى عليها أمورا عظيمة كما روى أن عمر رضي الله عنه قال للمغيرة وكان قد أخذ قذاة من لحيته فظن

عمر ( به ) استهانة فقال أبن ما أبنت وإلا أبنت يدك ونقل عنه مشاطرة خالد وعمرو بن العاص على أموالهما فاتخذ ذلك أصلا فرأى إراقة الدم وأخذ أموال بتهم من غير استحقاق لمصالح إيالية حتى انتهى إلى أن قال أقتل ثلث الخلق في استبقاء ثلثيهم وكان من الممكن أن يحمل قول عمر رضي الله عنه على التغليظ بالقول وكانوا يعتادون ذلك وكذلك من بعدهم وأخذه الأموال محمول على علمه بانبساط خالد وعمرو فيما لا يستحقان من مال الخمس وأموال المسلمين ولا يبلغ من حزم عمر درك مبلغ ذلك فإذا أمكن هذا فلا وجه لإطلاق أيدي الولاة في الدماء والأموال
1182 - وأما الشافعي فإنه أعرف خلق الله بأصول الشريعة وأضبطهم لها وأشدهم كيسا ( واتقادا ) في مآخذها وتنزيلها منازلها ( وترتيبها على مراتبها ويشهد ذلك بالثقة فيها سابقا إليه ) ولكن لم تتنفس مدته ولم تتسع مهلته فلم يتشوف إلى وضع مسائل بديعة وكان متصديا للإجابة عن كل ما يسأل عنه واخترم وقد نيف على الخمسين وكان ذلك الأمد لا يتسع لأكثر من ضبط الأصول فيها فهان على أصحابه البناء عليها
1183 - وهذا بيان منازلهم وسنذكر في كتاب الفتوى أنه يتعين على المستفتى نظر كلي في ( تخير ) قدوته وسنصف ذلك النظر وحده ثم نقول ليس على المستفتى تعلق بمبادىء النظر في كل مسألة يأخذ فيها جواب قدوته وهذا متفق عليه في المظنونات

1184 - ونقل عن الأستاذ أبي إسحاق أنه قال إذا اشتملت المسألة على مدرك قطعي وجب على العامي الاحتواء عليه فإن كانت المسألة عملية فتلتحق بالعقائد التي لا يسوغ العقل التقليد فيها
1185 - وهذا عندنا سرف ومجاوزة حد فإنا لا نرى أولا في العقائد ما يراه وقد ظهر اختيارنا فيما عليهم من عقائدهم وأما إلحاق قطعيات الشرع بالعقائد فعظيم فإن الشريعة تحتوي على مائة ألف مسألة وأكثر مستندها القطع وتكليف العامي الإحاطة بها في معاملاته التي يمارسها ظاهر الفساد وهو اقتحام خرق الإجماع مسألة
1186 - ذهب معظم الأصوليين إلى أن المجتهد لا يجوز له الاقتصار على ترجيح مذهب على مذهب من غير تمسك بما يستقل دليلا وحكى صاحب المغنى وهو عبد الجبار في كتابه المترجم بالعمد عن بعض أصحابه جواز الاكتفاء بالترجيح

وسقوط هذا المذهب واضح فإن الترجيح الحقيقي ينشأ من منتهى الدليل فإذا لم يكن دليل لم يثبت الترجيح تصورا وإن فرض تمسك بمبادىء نظر وسمى ذلك ترجيحا فهو نظر فاسد لقصوره ولا ترجيح بالفاسد والنظر يفسد بقصوره تارة وبحيد عن المدرك المطلوب أخرى
1187 - فإن قيل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في تفاوضهم يكتفون بمسالك الترجيحات وما كانوا يمهدون أدلة مستقلة ثم يبنون عليها ترجيحات وهم الأسوة قلنا هذه دعوى عرية لا أصل لها فإنهم كانوا يبنون أحكاما على معان سديدة وعلى تقريبات شبهية وهذا مدرك الشرع وكانوا لا يعتنون برد المعاني إلى الأصول لا عن جهل بها ولكنهم علموا أن معتمد الأحكام المعاني فأما الاقتصار على الترجيحات فادعاؤه عليهم تخرص ( بين ) ( نعم ) قد نقول إذا عريت واقعة عن نظر قويم ولاحت فيه مخيلة على بعد ولا يكون مثلها دليلا فقد يجوز التمسك بها تجويزا للمجتهد استصحاب الحال وإن رأينا أن نذكر في آخر هذا المجموع طرفا صالحا من حكم شغور الزمان عن المفتين وحملة الشريعة ذكرنا طرفا صالحا في ذلك إن شاء الله تعالى

القول في ترجيحات الأدلة
1188 - إنما مظنة الترجيحات تعارض صور الأدلة وهي في غرضنا ألفاظ منقولة ومعان مستنبطة فأما الألفاظ فتنقسم إلى النصوص التي لا تقبل التأويل وإلى الظواهر فأما النصوص فتنقسم إلى ما ينقل قطعا واستوت في النقل ويلتحق بهذا القسم ما ينقل من غير قطع ولكن تستوي النصوص في ( طريق ) النقل من غير ترجيح آيل إلى الثقة والتغليب فيها ونحن نرسم ما يتعلق بهذا القسم مسألة
1189 - إذا تعارض نصان على الشرط الذي ذكرناه وتأرخا فالمتأخر ينسخ المتقدم وليس ذلك من مواقع الترجيح
1190 - فإن تطرق إلى أحد النصين ظن النسخ من غير قطع فهذا نصفه ونصوره ثم نذكر المذاهب فيه قال الشافعي في مسألة المس قيس بن طلق راوي حديث الخصم وهو ممن تقدم

إسلامه وأبو هريرة ممن روى ( أحاديثنا ) وكان إسلامه بعد الهجرة بست سنين فرأينا إمكان النسخ تطرق إلى ما رواه قيس وكذلك صح عن النبي عليه السلام ( في مرض موته ) أنه قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ولكن الشافعي تعلق بجلوس النبي صلى الله عليه و سلم في مرض موته والمقتدون به قيام وراءه فكان هذا من أواخر أفعاله والحديث الذي رويناه مطلق فيغلب على الظن أنه كان في صحته ومن هذا القبيل أخبار الدباغ مع ما رواه عبد الله بن عكيم الجهني قال ورد علينا كتاب النبي عليه السلام قبل موته بشهر لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فأحاديث الدباغ كانت مطلقة غير مقيدة بتاريخ فالغالب على الظن جريانها قبل هذا التاريخ ولكن الشافعي رد حديث عبد الله لأنه كان محالا على الكتاب وناقل الكتاب مجهول ليس بمذكور فالتحق الحديث بالمرسلات فهذا تصوير ما أردناه
1191 - قال الشافعي إن تجرد نص ولم يعارضه آخر فإمكان النسخ مردود ومدعيه مطالب بنقل النسخ ولا يكتفى في هذا المقام بغلبة الظن فإن تعارض نصان وتطرق إلى أحدهما مسلك من المسالك التي صورناها فعند ذلك يرى الشافعي ترجيح النص الذي لا يتطرق إليه ظن النسخ على الآخر ( ورأيه أولى ) من

الحكم بتساقط النصين عند تعارضهما
1192 - وقال قائلون النصان متعارضان فإن الذي اتجه فيه إمكان النسخ ظنا لا يخفى سقوطه والنص الآخر يهى به ويحط عن منزلته والتمسك بمرتبة أخرى دون النصوص أولى ولا يبقى مع تعارض النصين إلا ظن ترجيح ومجرد الترجيح لا يجوز التمسك به
1193 - ووجه الحق في ذلك أن الحادثة إذا عريت عن مسلك ( يعد ) من سبل مسالك الأحكام وتعارض خبران نصان وتطرق إلى أحدهما إمكان النسخ وعدم المجتهد متعلقا سواهما فالوجه التمسك بالخبر الذي لا يتطرق إليه ظن النسخ وهذا أولى من تعطيل الحكم وتعرية الواقعة عن موجب الشرع وهذا يناسب القول في مآخذ الأحكام عند عرو الزمان عن المفتين ولعلنا نختتم هذا المجموع بطرف صالح منه يقع به الاستقلال فإن وجد المتناظران مسلكا من مآخذ ( الأحكام ) سوى الخبرين مثل أن يجد للقياس مضطربا فالوجه النزول عن الخبرين جميعا والتمسك بالقياس ثم الخبر الذي بعد عن ظن النسخ يستعمل ترجيحا لأحد القياسين ( على الآخر ) فهذا وجه مدرك الحق في ذلك وهو أصل في كتاب الترجيح وسنسند إليه أمثاله مسألة
1194 - إذا تعارض خبران نصان نقلهما الآحاد واستوى الرواة في الصفات المرعية في حصول الثقة ولكن كان أحدهما أكثر رواة

فالذي ذهب اليه الأكثرون الترجيح بكثرة العدد ( وهو مذهب الفقهاء ) وذهب بعض المعتزلة إلى منع الترجيح بكثرة العدد واحتجوا في ذلك بالشهادة فإنه لا ترجح بينة على بينة بكثرة العدد وهذا الذي ذكروه مما اختلف الفقهاء فيه
1195 - فذهب معظم أصحاب مالك وشرذمة من أصحاب الشافعي إلى أن البينة المختصة بمزيد العدد في الشهود مقدمة على البينة التي تعارضها
والمسألة على الجملة مظنونة وللاجتهاد فيها مجال ثم معظم قواعد الشهادات منوطة بالتعبدات والروايات مدار أصولها وتفاصيلها على الثقة المحضة ولهذا لا تعتبر فيها الحرية والعدد في ( أصل القبول ) وكثرة الروايات توجب مزيدا في غلبة الظن وقد قال القاضي رحمه الله تعالى تقديم الخبر على الخبر بكثرة الرواة لا أراه قاطعا وإنما أراه من مسالك الاجتهاد
1196 - والوجه في هذا عندنا أن المجتهدين إذا لم يجدوا متمسكا إلا الخبر وتعارض في الواقعة خبران واستوى الرواة في العدالة والثقة وانفرد بنقل أحدهما واحد وروى الآخر جمع فيجب العمل بالخبر الذي رواه الجمع وهذا مقطوع به فإنا على قطع نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لو تعارض لهما خبران كما وصفنا والواقعة في محل لا تقدير للقياس فيه ولا مضطرب للرأي لما كانوا يعطلون الواقعة بل كانوا يرون التعلق بما رواه الجمع
1197 - فأما إذا كان في المسألة قياس وخبران متعارضان كثرت رواة أحدهما فالمسألة الآن ظنية فإن الخبر الذي نقله الواحد يضعف بالخبر الذي يعارضه فيبعد

أن يستقل دليلا والذي يقتضيه هذا المسلك النزول عنهما والتمسك بالقياس وترجيح القياس الذي يعضده الخبر الذي يرويه الجمع ولو تجرد القياس في الجانب الآخر ( فهو ) متمسك ( الحكم ومتعلقه فهذا وجه ولكن قد نظن أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يقدمون ) الخبر الذي يرويه الجمع ويضربون عن القياس كدأبهم في تعظيم الخبر وتقديمه ولسنا على قطع في ذلك فإنا لا نثبت أصول الشريعة إلا بمستند قطعي فما قطعنا به أثبتناه وما غلب على ظننا ترددنا فيه وألحقناه بالمظنونات
1198 - فآل حاصل القول إلى أن الخبر وإن رواه جمع من الثقات إذا عارضه خبر نقله عدل واحد فيسقط ما رواه الجمع عن رتب الأدلة المقطوع بها فإن عدمنا مأخذا سواهما كان تعلقنا بالأرجح تعلق من لا يجد مضطربا سوى الترجيح ومحض الترجيح لا يتعلق به عند فقد الأدلة كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى
1199 - فأما إذا وجدنا ( أدلة فالمسألة إذ ذاك ظنية منزلة على ما يؤدى إليه اجتهاد الناظر وكذلك إذا وجدنا ) القياس موافقا للخبر الذي نقله الواحد فالمسألة ظنية أيضا وإن كان القياس في جانب الخبر الذي رواه الجمع ( فلا شك أن الحكم بذلك القياس المرجح بالخبر الذي رواه الجمع ) فهذه جوامع القول في ذلك
1200 - وقد ذكرنا في تعارض الخبرين إذا تطرق إلى أحدهما إمكان النسخ من الجهات التي ذكرناها ( أن ) الوجه النزول عنهما والتمسك بالأقيسة إن وجدناها

ولم ( نردد ) في ذلك تغليب ظن والسبب فيه أنا ظننا ظنا غالبا بالصحابة رضي الله عنهم اعتبار الترجيح بالثقة والعدد ورددنا القول ولم يسنح لنا مثل ذلك فيما يتطرق إليه النسخ إمكانا إذ تبينا من تفحصهم عن أسباب الثقة ما يغلب على الظن الترجيح بها وتقديم الأخبار على الأقيسة تعظيما لها إذا رجع الأمر إلى التفاوت في الثقة ( فإن ظهر لنا ظن عندنا في وقائع ) بلغته أنهم نظروا في إمكان النسخ نظرهم في الثقة نزلنا تلك ( المسألة ) هذه المنزلة وعاد القول إلى التعارض إلا فيما يمنع منه متمسك لما قدمنا تمهيده من أن التعارض في التساقط ( أقوى ) في نظر الناظرين من الاعتصام بترجيح ظنى فهذا منتهى المراد
1201 - ومما نذكره في فروع هذا الفصل أنه إذا روى راويان خبرين وكل واحد منهما ( ثقة ) مقبول الرواية لو انفرد ولكن في أحدهما مزية ظاهرة في قوة الحفظ والضبط والاعتناء بالوعي فهذا مما يرى أهل الحديث مجمعين على التقديم ( فيه ) وهو كما روى عبيد الله بن عمر العمري ( مع ما رواه أخوه عبد الله بن عمر العمري ) في سهم الفارس من المغنم فقال الأئمة حديث عبيد الله

مقدم وإن كان أخوه عبد الله عدلا فإن بينهما تفاوتا بينا قال محمد بن إسماعيل البخاري بينهما ما بين الدينار والدرهم والفضل لعبيد الله وهذا وإن ظهر من خدمة الحديث فإذا رجع الأمر إلى العلم فالقول عندي في الخبرين مع اختصاص إحدى الروايتين بالمزية كالقول في اختصاص أحد الخبرين بكثرة الرواة مع الاستواء في الصفات المرعية وقد سبق ذلك مفصلا غير أن التمسك بحديث عبيد الله حتم من جهة أن القول متعلق بالتقدير وهو متلقى من توقيف الشارع ولا مجال للقياس فيه والرأي لا يضبط منتهى الغناء والكفاية
1202 - فهذا من المنازل التي يتعين فيها الاستمساك بالخبر ولا نظر لذى الرأي على استرسال كلى وهو موافق لمذهب الشافعي فإن نظرنا إلى الغناء فلا يكاد يخفى أن غناء الفارس يزيد على ضعف غناء الراجل فلا موقف ينتهى ( إليه ) فيستعمل الرأي كليا ويستعمل الخبر توقيفا ينتهى إليه
1203 - ومما يتصل بذلك ( أنه ) إذا روى أحد الخبرين ثقة وروى الآخر جمع لا يبلغ آحادهم مبلغ راوي الخبر الآخر في الثقة والعدالة فاجتمع مزية الثقة وقوة العدد

فمن أهل الحديث من يقدم مزية العدد ومنهم من يقدم مزية الثقة والمسألة لا تبلغ مبلغ القطع والغالب على الظن التعلق بمزية الثقة إذا ظهرت فإن الغالب على الظن أن الصديق رضي الله عنه لو روى خبرا وروى جمع على خلافه خبرا لكان الصحابة يؤثرون رواية الصديق ومأخذ الكلام في جميع هذه الفنون واحد فليرجع الناظر إلى المعتبر الممهد أصلا وتفصيلا وليميز مواقع القطع من الظن مسألة في تقديم أحد الخبرين على الآخر بموافقة أقضية الصحابة رضي الله عنهم
1204 - القول في حقيقة هذه المسألة يستدعى مقدمة من كتاب الإجماع فنقول إن اجتمع علماء العصر على ( مذهب ) واستمر الإجماع على الشرائط المرعية فلا يبقى للتعلق بالخبر والحالة هذه وقع فإن الخبر إن كان منقولا آحادا فلا خفاء بما ذكرناه
ولو فرضنا خبرا متواترا وقد انعقد الإجماع على خلافه فتصويره عسر فإنه غير واقع ولكنا على التقدير نقول لو فرض ذلك فالتعلق بالإجماع أولى فإن الأمة لا تجتمع على الضلالة ويتطرق إلى الخبر إمكان النسخ فيحمل الأمر على ذلك قطعا لا وجه غيره ونقطع بهذا
1205 - فإن قيل الخبر المتواتر النص من الأدلة القاطعة وكذلك الإجماع فلم قدمتم الإجماع

قلنا لأن الخبر عرضة لقبول النسخ والإجماع لا ينعقد متأخرا إلا على قطع فلا يتصور حصول الإجماع على باطل وتطرق النسخ إلى الخبر ممكن فالوجه حمل الإجماع على القطع الكائن وحمل الخبر على مقتضى النسخ استنادا أو تنبيها على تقدير استثناء والمستحيل حصول الإجماع على حكم مع خبر نص على مناقضته مع الإجماع على أنه غير منسوخ فهذا مما لا يتصور وقوعه حتى يتكلم فيه في تقديم أو تأخير وإنما الكلام في خبر مطلق ثم الذي أراه ( أن ) من ضرورة الإجماع على مناقضه الخبر النص المتواتر أن يلهج أهل الإجماع بكونه منسوخا فهذا قولنا في الإجماع
1206 - أما إذا فرض خبر على شرط الصحة نقله الآحاد وجرت أقضية ( أئمة من ) الصحابة على مخالفته فكيف الوجه ذهب مالك رحمه الله إلى تقديم ما صار إليه أهل المدينة يعني علماءها وروي عنه في تحقيق ذلك تمسك بأخبار تشير إلى تعظيم المدينة وأهلها فإن صح ذلك فهو ضعيف وإن كان مذهبه النظر في مذاهب العلماء الذين كانوا وإنما أجرى ذكر ( أهل ) المدينة لتوافر العلماء بها في ذلك الزمن فهذا قريب على ما سيأتي الشرحليه إن شاء الله 1207 وقال الشافعي رحمه الله لا نظر إلى الأعمال والأقضية إذا لم يتفق عليها أهل الإجماع والتعلق بالخبر أولى ونحن نذكر ما تمسك به الشافعي ثم نذكر بعده المختار عندنا قال الشافعي الحجة في الخبر وما نقل من عمل على خلافه فهو منقول عن

أقوام ليست أقوالهم حجة ولا معنى لترك الحجة لما ليس بحجة ويمكن أن يعبر عن هذا فيقال العاملون بخلاف الخبر محجوجون به ولا يقدم قول محجوج بحجة على الحجة وقال الشافعي في بعض مجاري كلامه لو ( عاصرت ) العاملين بخلاف الخبر لحاججتهم وجادلتهم العين العين ولا يتعين ذلك بانقراضهم وهو يقول لو وجدت قياسا يخالف أقضية أقوام من الأئمة لتمسكت به ولم أبال بمن ينازعني والخبر مقدم على القياس فإذا قدمت القياس على قولهم فكيف أترك الخبر المقدم على القياس بقولهم وقال رضى الله عنه إن كان تقديم أقضية الصحابة لتحسين الظن بهم ولا تجب لهم العصمة فتحسين الظن بخبر الشارع المعصوم ( أولى )
1208 - والرأي الحق عندنا ( في ذلك ) يوضحه تقسيم فنقول إن تحققنا بلوغ الخبر ( طائفة من أئمة الصحابة وكان الخبر ) نصا لا يطرق إليه تأويل ثم ألفيناهم يقضون بخلاف مع ذكره والعلم به فلسنا نرى التعلق بالخبر إذ لا محمل لترك العمل بالخبر إلا الاستهانة والإضراب وترك المبالاة أو العلم بكونه منسوخا وليس بين هذين التقديرين لاحتمال ثالث مجال ( وقد ) أجمع المسلمون قاطبة على وجوب اعتقاد تبرئتهم عن القسم الأول فيتعين حمل عملهم مع الذكر والإحاطة بالخبر على العلم بورود النسخ وليس ( ما ) ذكرنا تقديما لأقضيتهم على الخبر وإنما هو استمساك بالإجماع على وجوب حمل عملهم على وجه يمكن من الصواب ( فكأنا ) تعلقنا بالإجماع في معارضة الحديث وليس في تطريق إمكان النسخ إلى الخبر غض من قدره عليه السلام وحط

من منصبه وقد قدمنا في كتاب الإجماع أن الإجماع في نفسه ليس بحجة ولكن ( إجماع ) أهله يشعر بصدر ما أجمعوا عليه ( عن ) حجة فهذا قول في قسم وهو إذا بلغهم الخبر وعملوا بخلافة ذاكرين له
1209 - فأما إذا لم يبلغهم أو غلب على الظن أنه لم يبلغهم فالتعليق بالخبر حينئذ وظنى بدقة نظر الشافعي في أصول الشريعة أنه رأى التقديم للخبر في مثل هذه الصورة
1210 - وإن غلب على الظن أن الخبر بلغهم وتحققنا أن عملهم مخالف له فهذا عندي مقام التوقف والبحث فإن لم نجد في الواقعة متعلقا سوى الخبر والأقضية فالوجه التعلق بالخبر وإن وجدنا مسلكا في الدليل سوى الخبر فالتمسك به أولى
1211 - ومما ينبغي أن يتنبه الناظر له أن مذاهب الصحابة إذا نقلت من غير إجماع فلا نرى التعلق بها وإذا نقلت في معارضة خبر نص على المخالفة التي لا تقبل تأويلا فتعين التعلق بالمذاهب وليس هذا على الحقيقة تعلقا بالمذاهب وإنما هو تعلق بما صدرت المذاهب عنه وما ذكرناه في أئمة الصحابة يطرد في أئمة التابعين وأئمة كل عصر ما لم تقف على خبر وبيان ذلك بالمثال أن مالكا رضي الله عنه يرى تقديم أقضية الصحابة رضي الله عنهم على الخبر مطلقا من غير تفصيل وقد لا نامن أن يكون بعض تلك الأقضية ممن لم يبلغه الخبر أو بلغه ونسيه فإذا لم يفصل مالك تبينا أنه لم يكن مطلعا على حقيقة هذا الأصل فلا جرم

نقول إذا روى مالك خبرا وخالفه لم نبل بمخالفته من حيث لا نثق بتحقيق منه في مأخذ الباب ولذلك ثبت خيار المجلس بما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن الرسول عليه السلام ولم يقل مالك بخيار المجلس
1212 - ومما يجب تنزيله على هذا القسم أن جمعا لو بلغهم خبر ثم صح عندنا عملهم بخلافة بعد تطاول زمن وجوزنا ذهولهم عنه ونسيانهم له فليخرج ذلك على التقاسم في تطاول غلبة الظن كما سبق وما ذكرناه في جمع فهو في المجتهد الواحد الموثوق بعدالته وأمانته بمثابته في جمع
1213 - ولو صح خبر وعمل به جمع ولم يعمل به جمع والفريقان ذاكران الخبر والمسألة مفروضة حيث لا احتمال إلا النسخ فالذي أراه تقديم عمل المخالفين فإنه لا يحمل أمرهم إلا على ثبت وتحقيق وعمل العاملين يحمل على التمسك بظاهر الخبر
1214 - وليعلم الناظر إذا انتهى إلى هذا المقام أن الكلام في هذه المضايق ينتهي إلى حال يعسر التصوير فيها فلا ينبغي للانسان أن يسترسل في قبول كل ما يتصور عليه ومن هذا القبيل ما انتهينا إليه فإنه يبعد قطع قوم بالمخالفة مع تصحيح الخبر وقطع آخرين بالعمل فلا بد أن يشيع المخالفون ما عندهم ويبحث عنه العاملون

( نعم قد يتفق عمل العاملين في صقع من غير غوص وتحقيق وبحث عن حالة المخالفين ) فهذا منتهى القول في ذلك وهو مقدمة غرضنا في الترجيح
1215 - فإذا تعارض خبران صحيحان وعمل باحدهما ائمة من الصحابة فإذا رأى الشافعي ترجيح ذلك الخبر على الخبر الذي ( عارضه و ) لم يصح العمل به واستشهد بما رواه أنس في نصب الغنم إذ عارضه ما رواه على رضي الله عنه فيها وعمل الشيخين يوافق ما رواه أنس ( فقال رضي الله عنه أقدم حديث أنس ) وهذا مما يجب التأني ( فيه ) فليس ما استشهد به مما يقال فيه إن عمل الصحابة خالف خبرا إذ لم يصح عندنا أنهم بلغهم حديث على رضي الله عنه ثم لم يعلموا به ولكن قد يظن ذلك ظنا
1216 - فإن قيل فما الوجه والحالة كما وصفتم قلنا نرى الحديثين متعارضين فإن معارضة أحدهما الثاني ليس مما يسقطه ترجيح ظني في أحد الجانبين ثم لو صح أنه بلغهم الحديثان ثم عملوا بأحدهما فليس هذا من الترجيح ولكنه يتعلق بالقسم المتقدم وهو أن أقضية أئمة الصحابة بخلاف الخبر مع العلم به والذكر له كيف الوجه فيه وقد تقدم ما فيه بلاغ
1217 - ومما يجب التفطن له أن النصب مقادير ولا مجال فيها للرأي والخبران وإن رأينا تعارضهما فيخرج وجوب العمل بما عمل به الصحابة رضي الله عنهم على الرأي المتقدم في أنا إذا عدمنا مسلكا للحكم ولم نظفر إلا بما يقع

ترجيحا لا استقلال له ولو ثبتت الأدلة فالتمسك بما لا يستقل أولى من تعريه الواقعة عن حكم فالوجه إذا التعلق بحديث أنس لما ذكرنا آخرا والله أعلم مسألة
1218 - إذا تعارض خبران نصان وانضم إلى أحدهما قياس يوافق معناه ( الخبر ) فقد اختلف العلماء في ذلك فالذي ارتضاه الشافعي أن الحديث الذي وافقه القياس مرجح على الآخر واستدل بأنه قال إذا اختص أحد الحديثين بما يوجب تغليب الظن تلويحا فهو مرجح على الآخر ومجرد التلويح لا يستقل دليلا فإذا اعتضد أحد الحديثين بما يستقل دليلا فلأن يكون مرجحا أولى
1219 - وقال القاضي إذا تعارض الخبران كما ذكرناه في تصوير المسألة تساقطا ويجب العمل بالقياس والمسلكان يفضيان إلى موافقة حكم القياس ولكن الشافعي يرى متعلق الحكم بالخبر المرجح بوافقة القياس والقاضي يرى العمل بالقياس وسقوط الخبرين واستدل القاضي بأن قال الخبر مقدم في مراتب الأدلة على القياس ( فيستحيل ) ترجيح خبر على خبر بما يسقطه الخبر ومن أحاط بمراتب الأدلة لم يتعلق بالقياس في واقعة فيها خبر صحيح فإن القياس مع الخبر الصحيح المستقل الواقع نصا في حكم اللغو الذي لا حاجة إليه وما يقدم على القياس إذا خالفه فهو مقدم عليه أيضا إذا وافقه فالقياس إذا لا وقع له مع ثبوت الخبر والتعارض يوجب سقوط التعلق بالخبرين فإذا سقطا فالتعلق بعد سقوطهما
1220 - والقول في ذلك عندي لا يبلغ مبلغ الإفادة ويجوز لمن ينصر نص الشافعي في ذلك أن يقول إنما يقدم الخبر إذا لم يعارضه خبر فإذا تعارضا افتقر

أحدهما إلى التأكيد بما يغلبه على الآخر فهذا منتهى القول ولا قطع والعمل بما اجتمع عليه الخبر والنظر ونبني على هذا مسائل نسردها ونبين الحق فيها منها مسألة
1221 - أنه إذا تعارض خبران واعتضد إحدهما بقياس الأصول وكان أقرب إلى القواعد الممهدة قال الشافعي يقدم ما يوافق القواعد ومثال ذلك الخبران المتعارضان ( في صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع فالذي رواه ابن عمر فيه ترددات كثيرة والترددات تخالف نظم الصلاة ورواية خوات ابن جبير ليس فيها حركات وترددات فرأى الشافعي رضي الله عنه تقديم خبر خوات وهذا يتصل تحقيقه بوافقة القياس لإحدى الروايتين ومخالفة الآخرى فكان العمل بموجب القياس أولى ثم يئول الكلام إلى أن رواية خوات مرجحة بالقياس أم الروايتان متعارضتان والتعلق بالقياس بعدهما
1222 - ويجري في هذه الواقعة نوعان من النظر أحدهما أنه لا يمتنع جريان الصلاتين الموصوفتين في الروايتين وقد مال الشافعي في بعض أجوبته إلى تجويزهما جميعا ثم آثر رواية خوات من

طريق التفصيل وهذا متجه حسن فإنه يبعد أن تختلف روايتان في واقعة واحدة اختلاف رواية ابن عمر وخوات وإذا روى عدلان لفظين من غير تاريخ فالظن بهما الصدق ويقدر ( تقدم ) أحدهما ( وتأخر ) الآخر فإذا اعتاص معرفة ذلك منهما قيل تعارضا فأما إذا تعلقت الروايتان بحكاية واحدة وظهر التفاوت في النقل فالوجه أن يحمل الأمر على جريانهما جميعا ويرد الترجيح إلى الفضيلة فهذا وجه ومما يتعلق بما نحن فيه أنا إذا حملنا الرواية المختارة على الجواز ولم نجوز غيرها فليس في روايتنا منع لما رواه ابن عمر فإذا لا تعارض في الحقيقة إلا من وجهة واحدة وهي أن يدعي الاتحاد وتنسب إحدى الروايتين إلى الوهم والزلل ثم لا يتعين لذلك أحدهما فيتمسك بالقياس وهذا بعيد عما تعبدنا به من تحسين الظن بالرواة والمختار تجويز ما اشتملت عليه الروايتان ورد الأمر إلى التفصيل
1223 - وقد ذكرالقاضي وجها في تقديم رواية ابن عمر رضي الله عنهما وهو أنه قال إنها نافلة عن المألوف في القواعد فيجب حملها على تثبيت الناقل والرواية الأخرى ليست كذلك وقد يشعر بعدم التثبيت وبناء الأمر مطلقا على ما عهد في الشرع وهذا غير سديد وهو تحويم على تخصيص عدل بوهم وزلل بموافقة الأصول فيما رواه ثم ( في ) رواية خوات أنواع من الإثبات لا تعهده في القوانين والقواعد فلا وجه لما ذكره

مسألة
1224 - ومنها إذا تعارض خبران ووافق أحدهما حكم اقترن من كتاب الله تعالى فقد رجح بعض العلماء الخبر الذي وافقه حكم القرينة ومثال ذلك الخبران المتعارضان في العمرة فيروى أن النبي عليه السلام قال الحج جهاد والعمرة تطوع وعارضه ما روى أنه عليه السلام قال الحج والعمرة نسكان فرضان لا يضرك بأيهما بدأت ثم خبر الفريضة وافق حكم القرآن في كتاب الله تعالى فإنه قال وأتموا الحج والعمرة لله وهذا فيه نظر فإن إتمام الحج يتعرض لفرضه ابتداء لا في الحج ولا في العمرة وهما مقترنان وفاقا في وجوب الإتمام بعد الشرع فيهما ولم نذكر هذا إلا أن الشافعي ذكره فتيمنا بإيراد كلامه مسألة
1225 - إذا تعارض خبران ولم يترجح احدهما على الثاني ولم يتطرق إلى واحد منهما نسخ فيما يعلم أو يظن وعريت الواقعة عن دلالة أخرى فحكمهما عند الأصوليين الوقف عن الحكم فيها وإلحاق الصورة بالوقائع كلها قبل ورود الشرائع وهذا حكم الأصول
1226 - ولكن ما اراه أن الشريعة إذا كانت متعلقة بالمفتين ولم يشغر عنهم ( الزمان ) فلا يقع مثل هذه الواقعة ( إذ ) لو فرض تجويز ذلك لوجب في حكم العادة وقوعه لا محالة فإذا لم يقع مثله في الأزمان على تطاولها وقد

اشتملت على كل ممكن على التكرر ( فارتقاب ) واقعة شاذة لا نظير لها ولا مداني محال في حكم العادة وسيأتى شرح ذلك في كتاب الفتوى وإن تحقق التعارض والتساوي بين النصين وانحسم مسلك التأويل ووجدنا للحكم متعلقا من طريق القياس ( أو الاستدلال ) وآخر مسلكه استصحاب الحال فهذا مما تقرر القول فيه قبل من أن الخبر الذي يوافقه مرجح به أو الخبران يتساقطان بالتعارض والمعنى مجرد للتعلق به

فصل ( في تعارض الظواهر )
1227 - ( كل ما ) قدمناه في تعارض النصوص وأما إذا تعارض ظاهران يتطرق التأويل إلى كل واحد منهما فتتسع مسالك الترجيح فإن مبنى التعلق بالظاهر على غلبات الظنون وهي حرية بالترجيحات فإذا تعارضا وتأيد أحدهما بمزية ثقة في الراوي أو العدد في الرواة فالوجه التمسك بما تأيد بهذه الجهات وليس كالنصين فيما قدمناه فإنا تحققنا ( من ) طرق الماضين أنهم في غلبات الظنون كانوا يبغون ترجيح ظن على ظن وإنما توقفنا في تعارض النصوص من جهة أن معارضة النص بالنص يوهي التعلق به واقتضاؤه إياه يزيد على ما يتعلق به الترجيح وأيضا فإنا لم نتحقق مثالا في تعارض النصيين مع ترجيح أحدهما بمزية البينة والعدد ولم ينقل لنا مسلك الأولين في مثل

ذلك حتى نتخذه معتبرا ( وأماما ) يتعلق بالظنون ( فقد ) استبنا على قطع استرسال الأولين في الاستمساك بما يتضمن مزية في تغليب الظن فإذا تعارض ظاهران ولم يكن أحدهما في الثبوت والتعرض للتأويل بأولى من الثاني ولم يتطرق إلى أحدهما ما يوجب تغليب الظن فتعارضهما والحالة هذه كتعارض النصين على ما تقدم مسألة
1228 - إذا تعارض ظاهران أحدهما من الكتاب والآخر من السنة فقد اختلف أرباب الأصول فقال بعضهم يقدم كتاب الله تعالى وقال آخرون تقدم السنة وقال آخرون هما متعارضان
1229 - فأما من قدم الكتاب فمتعلقه قول معاذ إذ قال أحكم بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله فإن لم أجد اجتهد رأيي واشتهر في اصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الابتداء بالكتاب ثم طلب السنة إن لم يجدوا متعلقا من الكتاب
12230 - ومن قدم السنة احتج بأن السنة هي المفسرة للكتاب وإليها الرجوع في بيان مجملات الكتاب وتخصيص ظواهره وتفصيل محتملة
2231 - والصحيح عندنا الحكم بالتعارض فإن الرسول عليه السلام ما كان يقول من تلقاء نفسه شيئا وكل ما كان يقول فمستنده أمر الله تعالى وما ذكره معاذ فمعناه أن ما يوجد فيه نص من كتاب الله تعالى فلا يتوقع فيه خبر يخالفه فمبني الأمر فيه على تقديم الكتاب ثم آي الكتاب لا تشتمل على بيان الأحكام

والأخبار أعم وجودا ( منها ) ثم طرق الرأي لا انحصار لها فجرى الترتيب منه بناء على هذا في الوجود ونحن فرضنا المسألة في ظاهرين ليسا نصين وكذلك ما ادعاه من ابتدار الصحابة الكتاب فهو منزل على ما ذكرناه فأما كون السنة مفسرة فلا تعلق ( فيه ) فإنا نقول أن روى تفسيرا للكتاب فلا خلاف في قبوله وتنزيل الكتاب عليه ومعظم التفاسير منقولة آحادا وليس هذا من غرضنا وكذلك لو كان الخبر الذي نقله الأثبات نصا في معارضه ظاهر فالنص مقدم على الظاهر من الكتاب والسنة وقد ذكرنا هذا في تخصيص العموم وأشرنا إلى خلاف فيه والذي ذكرناه الآن هو المختار
1232 - وقال القاضي رحمه الله إن تعارض ظاهر خبر نقله الآحاد فهما متعارضان وهذا لست أراه كذلك فإن الظاهرين متساويان في تطرق التأويل إلى كل واحد منهما والكتاب يختص ( بثبوته على جهة القطع ) ولا أعرف خلافا ( أنه ) إذا تعارض ظاهران من الأخبار أحدهما منقول تواترا والآخر منقول آحادا فالمتواتر يقدم فليكن الأمر كذلك في تقديم الكتاب على السنة مسألة
1233 - قال الله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم

يطعمه الآية وهذه الآية من آخر ما نزل ولا خلاف أنها ليست منسوخة وقد تعلق مالك رحمه الله بموجبها ونزل مذهبه عليها فحرم ما اقتضت الآية تحريمه وأحل ما عداه ورأى الشافعي رحمه الله التعلق بأخبار نقلها الآحاد وترك موجب الآية لها منها أنه عليه السلام نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وحرم الفواسق وحرم الحمر الأهلية والأخبار في تحريمها بعد التحليل في الصحاح وتقديم أخبار الآحاد على نص الكتاب مشكل في غير محل الإجماع وليس القرآن في مرتبة الظواهر في هذا الغرض ولكنه يشتمل على النفي والإثبات والإبقاء والاستثناء وهذا أبعد في التاويل من الأخبار التي رويت في معرض المناهي وصيغ النهي ليست نصوصا في التحريم والتنزيه غالب في كثير من المطعومات
1234 - والذي اعتمده الشافعي في الكلام على الآية تنزيلها على ( سبب ) في النزول يدل عليه ما قبل الآية التي فيها الكلام وما بعدها وذلك أنه قال زعمت اليهود أن الشحوم محرمة وذكر تفاصيلهم في البحيرة والسائبة ونسبوا النبي عليه السلام إلى أنه بغير حكم الله تعالى من تلقاء نفسه وأباح طوائف من الكفار الميتة وجادلوا المسلمين فيها وكانوا يقولون تستحلون ما تقتلون ولا تستحلون ما يقتله الله تعالى وأباح آخرون الخنزير والدم فأنزل الله تعالى أنه لم يحرم إلا ما أحلوه وأنهم

مراغمون لما أنزل الله تعالى على نبيه عليه السلام وتجري الآية على مذهب من يقول لمن يخاطبه لم تأكل اليوم حلاوى فيقول المجيب لم آكل اليوم إلا الحلاوى
1235 - وهذا ( استكراه ) عندي في الكلام على الآية ولكن يعضده عندي ما هو مجمع عليه في أمور ومذهب مالك مسبوق بالإجماع فيها فإنا لا نشك في إجتناب أصحاب النبي عليه السلام أكل الحشرات وغيرها واعتقادهم أنها بمثابة المحرمات وكذلك الخمر محرمة وليس لها ذكر في هذه الآية ونزولها مسبوق يتحريم الخمر فإذا ظاهر الآية متروك بالإجماع ولا يعتد ( مع تحققه ) بخلاف مالك بعده فينتظم من ذلك الآية على ما ذكره الشافعي مسألة
1236 - إذا ورد عام وخاص في حادثة وتسلط الخاص ( على العام ) إجماعا وورد مثله عام وخاص فالوجه تنزيل العام على موجب الخاص ومثال موضع الخلاف والوفاق ما نصفه الآن أما المتفق عليه فتنزيل قوله عليه السلام في الرقة ربع العشر على قوله ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة والحديث الأول يعم القليل والكثير والحديث الثاني يخص الزكاة بالنصاب فهذا متفق عليه وسببه أن المقيد من الخبرين نص في نفي الزكاة عما قصر عن خمس أواق والخبر الأول ظاهر غير مقصود والغالب على الظن أن المراد بيان قدر الزكاة

1237 - فأما ما أختلف العلماء فيه وهو ( في ) معنى ما وصفناه فقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر مع قوله ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة فلم يعتبر أبو حنيفة النصاب وتعلق بظاهر قوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر وقال الشافعي أقصى الممكن منه تسليم ظاهره على أن الأمر على خلاف ذلك فإنه لا يخفى على الفاهم أن الغرض من مساق الحديث الفصل بين العشر وبين نصف العشر فإنه عليه السلام قال فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو دالية نصف العشر وخمسة أوسق نص فلا عذر لأبي حنيفة في تركه وضرب الشافعي ما ( في الورق 9 من الخبرين مثالا ورأى ما ذكره مسلكا قطعيا وألحق الشافعي بهذا الفن قوله عليه السلام في أربعين شاة شاة مع قوله في سائمة الغنم الزكاة وهذا دون القسم الأول فإن اشتراط السوم متلقى من المفهوم ونفي الزكاة عما دون خمسة أوسق منصوص عليه على وجه لا يقبل التأويل مسألة
1238 - إذا تعارض عمومان من الكتاب ( أوالسنة ) فظاهرهما التناقض والتنافي مثل قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فهذا ظاهر في

وضع السيف فيهم حيث يثقفون وقال في آية أخرى حتى يعطوا الجزية عن يد فظاهر الآية أخذ الجزية من كل كافر كتابيا كان أو وثنيا وقال عليه السلام خذ من كل حالم دينارا وظاهر هذا جواز أخذ الجزية من أصناف الكفار من غير تفصيل وقال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وظاهر هذا أن الجزية لا تؤخذ وأن ليس بيننا وبين الكفار إلا السيف أو الإسلام
1239 - وقال بعض الفقهاء فيما ذكرناه وأمثاله الوجه الجمع بين الظاهرين في المقدار الممكن فنأخذ الجزية من أهل الكتاب لآية الجزية ونضع السيف فيمن ليس متمسكا بكتاب ولا شبهة كتاب لظاهر الآية الواردة في القتل وزعم هؤلاء أن هذا يتضمن استعمال مقتضى كل واحدة من الآيتين وكذلك القول في الخبرين وهؤلاء يرون تصرفا في الظواهر مستقلا بنفسه غير محتاج إلى إقامة دلالة
1240 - وهذا مردود عند الأصوليين فالظاهر إذا تعارضهما إلا أن يتجه تأويل وينتصب عليه دليل كما أوضحنا سبيل ذلك في كتاب التأويلات وما ذكره الفقهاء من الجمع احتكام لا أصل له ولو لم يقم عليه دليل لكان ذلك الممسك متضمنا تعطيل الظاهرين وإخرجها من حكم العموم من غيره دليل وليس

أحد الظاهرين أولى بالتسليط على الثاني من الآخر وكل عموم خص فلا بد من عضد تخصيصه بدليل ونحن إنما نخص الجزية بالكتابيين بأخبار وآثار مسطورة في كتب الفقه والغرض من هذا الفصل إجراء الظاهرين على تعارضهما من غير أن يجعل أحدهما دليلا في تخصيص الثاني ثم يجعل الثاني دليلا في تخصيص الأول وهذا لا سبيل إليه ولكن اتجه في كل ظاهر تخصيص افتقر ذلك التخصيص إلى دليل غير الظاهرين وإن لم يتجه تعلقنا بالترجيح إن وجدناه فإن لم نجد نزلنا عن التعلق بالظاهرين مسألة
1241 - إذا تعارض ظاهران وأحدهما وارد على سبب خاص والثاني غير مطلق وارد على سبب أما من قال بتخصيص اللفظ العام بمورده فلا شك أنه يخصصه به وأما من رأى التمسك بالعموم دون السبب فإذا تعارض عمومان كما وصفناه والتفريع على أن الاعتبار بعموم اللفظ فإنه يوهيه ويحطه عن رتبة عموم اللفظ المطلق والترجيح يغلب على الظن من منشأ الدليل واللفظ العام يغلب على الظن حمله على مقتضى شموله فإذا عارضه لفظ آخر ينحط عنه في غلبة الظن آخر عن الاول وهذا هو السر الأخفى في الترجيحات فلا وجه للترجيح من طريق النظر في النصوص إلا أن يحمل ذلك على عمل المجمعين والظاهر يقوى وقع الترجيح

فيها وهو متضح في طريق النظر فإن المتعلق فيه غلبة الظن وقد تحقق من الأولين في تعارض الظواهر الاستمساك بالأظهر فالأظهر مسألة
1242 - إذا تعارض ظاهران وفي أحدهما ما يقتضي التعليل في ( صيغة التعميم ) فهو مرجح على العام الذي عارضه وليس فيه اقتضاء التعليل والسبب فيه أن التعليل في صيغة العموم من أقوى الدلالات على ظهور قصد التعميم حتى ذهب ذاهبون إلى أنه نص ممتنع تخصيصه فإن قدر نصا فلا شك في تقديمه على الظاهر المعرض للتأويل وإن اعتقد ظاهرا فهو مرجح على معارضه لاختصاصه بما يوجب تغليب الظن
1243 - وكشف الغطاء في هذا عندنا وهو مما أراه سر هذه الأبواب ولم نسبق بإظهاره فنقول إذا صدر من الشارع كلام غير مقيد بسؤال ولا حكاية حال ولاح قصد التعميم من إجرائه الحكم الذي فيه العموم مقصودا ( لكلامه ) ( فما ) يقع كذلك فاللفظ في المتماثلات نص وليس من الظواهر واضابط فيه أنما لا يخلو عن ذكر المتكلم وعلمه وقت قوله واللفظ في الوضع يتناوله وقد لاح بانتفاء التقييدات وقرائن الأحوال قصد التعميم فلو تخيل متخيل قصر اللفظ على بعض المسميات المتماثلة لكان ذلك عندنا خلفا وتلبيسا وإنما يسوغ الخروج عن مقتضى اللفظ وضعا فيما يجوز تقدير ذهول المتكلم عنه وهذا في حكم التعميم بناء عظيم

وتمام الغرض فيه بذكر معارض لذلك على المناقضة فنقول مستعينين بالله تعالى
1244 - لو ظهر لنا خروج معنى عن قصد المتكلم وكان سياق الكلام يفضي إلى تنزيل غرض الشارع على قصد آخر فلست أرى التعلق بالعموم الذي ظهر فيه خروجه عن قصد الشارع وهو كقوله عليه السلام ط فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو دالية نصف العشر فالكلام مسوق لتعيين ( العشر ونصف العشر فلو تعلق الحنفي بقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر ورام تعليق العشر بغير الأقوات فلسنا نراه متعلقا بظاهر فهذا طرف
1245 - ولو نقل لفظ ولم يظهر فيه قصد التعميم ولا تنزيل الكلام على مقصود آخر فهذا هو الذي أراه ظاهرا وهو الذي يتطرق التخصيص إليه
1246 - وقد رأى القاضي التعلق بالقسم الأول الذي أخرجته عن الظواهر على رأي المعممين ثم قال هذا يعارضه أدنى مسلك في الظن ويتسلط عليه التأويل والتخصيص والراي عندي فيه قد قدمته والدليل عليه أن الشارع إذا كان مقصوده بيان العشر ونصف العشر لو أخذ يفصل الأجناس وهو يبغي غيرها يعد ذلك تطويلا نازلا عن الوجه المختار في اللغة العالية فتقدير التعميم يشير إلى أنه ( لو لم ) يرد العموم لفصل الأجناس ولو فصلها لكان مائلا عن الوجه الأحسن في النظم وإذا تمهد هذا الأصل فالذي ذكره الاصحاب من أن علة الشارع لا تنقض

محمول على تقدير ما قصد التعميم فيه نصا فليفهم الناظر ذلك وليقف عليه عند هذا وقفة باحث مسألة
1247 - واذا تعارض ظاهران وقد تطرق التخصيص إلى إحدهما فالمذهب الذي ذهب إليها المحققون أن الذي لم يتطرق إليه تخصيص مرجح فأما المعتزلة فإنهم قضوا بأن اللفظ الذي خص في بعض المسميات صار مجملا في الباقي ولا يعارض المجمل ظاهرا وأما أهل الحق وإن لم يحكموا بالإجمال فإنهم يرون تعميم اللفظ في الباقي أضعف في حكم الظن من اللفظ الذي لم يجر فيه تخصيص فإذا لاح وجه في غلبة الظن من منشأ ظهور الظاهر كان ذلك ترجيحا مقبولا مسألة
1248 - إذا تعارض ظاهران أو نصان وأحدهما أقرب إلى احتياط فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الأحوط مرجح على الثاني وزعموا أن الذي يقتضيه الورع وإتباع السلامة هذا واحتجوا بأن قالوا اللائق بحكمة الشريعة ومحاسنها الاحتياط فإذا تعارض لفظان غلب على الظن أن الذي نقله صاحب الاحتياط صدق وكأن القواعد تغلب على الظن ذلك وتؤازر الرأي في ذلك
1249 - وقال القاضي لا مستروح إلى هذا ولا معنى للترجيح بالسلامة وما ذكره هؤلاء من شهادة الأصول وإثارتها تغليب الظن يعارضه أن العدل الذي

نقل الثاني لا يتهم ولا يظن به العدول عن قاعدة الاحتياط إلا بثبت واختصاص بمزية حفظ وقد يتخيل أن ما جاء به الأخر بناه على ما ( رآه ) من ظاهر الاحتياط وحمل عليه نظم لفظه من غير ثبت في النقل ثم قال القاضي لا وجه للترجيح وإن انقدح ما ذكرناه آخر فيما لا يوافق الاحتياط انخرمت الشهادة كما ذكرناها أولا فالوجه التعارض مسالة
1250 - إذا تعارض لفظان متضمن أحدهما النفي ومتضمن الثاني الإثبات فقد قال جمهور الفقهاء الإثبات مقدم وهذا يحتاج إلى مزيد تفصيل عندنا فإن كان الذي ( نقله النافي ) إثبات لفظ عن الرسول عليه السلام مقتضاه النفي فلا يترجح ( على ذلك ) اللفظ الذي متضمنه الإثبات لأن كل واحد من الراويين متثبت فيما نقله وهو مثل أن ينقل أحدهما ان الرسول عليه السلام أباح شيئا وينقل الثاني أنه قال لا يحل وكل ناف في قوله مثبت فأما إذا نقل أحدهما قولا أو فعلا ونقل الثاني أنه لم يقل ولم يفعل فالإثبات مقدم لأن الغفلة تتطرق إلى المصغى المستمع وإن كان محدا والذهول عن بعض ما يجري أقرب من تخيل شيئ لم يجر له ذكر مسألة
1251 - إذا تعارض ظاهران أو نصان أحدهما يوافق المعروف المعتاد والآخر ما جرى به العرف فالقول في هذا كالقول في موافقة أحد المنقولين للاحتياط

ومخالفة الآخر إياه وقد مضى فيه قول بالغ والمختار التعارض في المسألتين فهذا الذي ذكرناه كلام بالغ في ترجيح الألفاظ النصوص منها والظواهر ومن أحاط بها وأحكم أصولها لم يخف عليه مدرك الكلام فيما يرد عليه من أمثالها

باب في ترجيح الأقيسة
1252 - هذا الباب هو الغرض الأعظم من الكتاب وفيه تنافس القياسون وفيه أتساع الاجتهاد وهو يستدعي تجديد العهد بمراتب الأقيسة فنقول المرتبة العليا المعدودة من مسالك القياس ما يقال إنه في معنى الأصل وقد سبق تأصيله وتفصيله وتقدم القول في أنه هل يعد من الأقيسة أو يعد من مقتضيات الألفاظ وهو على كل حال مقدم على ما بعده والسبب فيه أنه ملتحق بأصله قطعا والتحاقه به مقطوع غير مظنون ولا شك في تقديم مراتب العلوم على درجات الظنون ثم يلي ذلك من قياس المعنى ما يطرد وينعكس ويليه القياس الذي يسمى قياس الدلالة كما سبق وصفه ويلي ذلك قياس الشبه فأما ما يعلم فلا ترتيب فيه ( مراتب قياس المعنى )
1253 - وأما قياس المعنى فهو على مراتب لا يضبطها ضابط فإن مسالك الظنون لا يتأتى حصرها وهي وإن كانت منحصرة من جهة تعيين مناسبتها لأصولها الشريعة فلا يتأتى للناظر الوصول إلى ضبطها بعد وربطها بحد ولكنا نحرص على تقريب الأمور والإشراف على ما يكاد أن يكون تشوفا إلى الضبط ونتقي فيما نحاوله مصالح لا نرى تقدير ها مأخذ الأحكام ونحاذر فيها الوقوع في منخرق مذهب مالك ومتسع مسلكه المفضى إلى الخروج عن الحصر والضبط ثم قد ذكرنا في الاستدلال طرفا من ذلك ونحن نعيده ونزيده تقريرا وتقريبا

فنقول
1254 - إذا وجدنا أصلا استنبطنا منه معنى مناسبا للحكم فيكفي فيه ألا يناقضه أصل من أصول الشريعة ويكفي في الضبط فيه استناده إلى اصل متفق الحكم ( ومرجوعنا ) في ذلك وجداننا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مسترسلين في استنباط المصالح من أصول الشريعة من غير توقع وقوف عند بعضها
1255 - فأما المعنى الذي لا نجد له أصلا ولا مستندا فهو الذي سميناه الاستدلال ونحن نرى التعلق به كما مهدنا القول فيه ولا يجوز التعلق عندنا بكل مصلحة ولم ير ذلك أحد من العلماء ومن ظن ذلك بمالك رضي الله عنه فقد أخطأ فإنه قد اتخذ من أقضية الصحابة رضي الله عنهم أصولا وشبه بها مأخذ الوقائع فمال فيما قال إلى فتاويهم وأقضيتهم فإذا لم ير الاسترسال في المصالح ولكنه لم يحط بتلك الوقائع على حقائقها وهذا كبنائه قواعد على سيرة عمر رضي الله عنه في أخذه شطرا من مال خالد وعمرو وقد قدر ذلك تأديبا منه وهذا زلل فإنه لا يمتنع أنه رآهما آخذين من مال الله تعالى ما لا يستحقان أخذه على ظن وحسبان وكان يرعى طبقة الرعية بالعين الكالئة والأليق بشهامته وإيالته أن نظره الثاقب كان بالمرصاد لما يتعديان فيه الحدود عامدين أو خاطئين إذ كانا موليين على مال الله تعالى وإذا أمكن ذلك وهو الظاهر فحمله على التأديب لا وجه له ولو صح عنه أخذ مال رجل غير متصرف في مال الله تعالى لكان يظهر ما تخيله مالك

وكذلك كل واقعة ربط مالك أصلا من أصوله بها فإنه لا يرى ذلك الأصل استحداث أمر وهو عند الباحثين ينعطف على أبلغ وجه إلى قواعد الشريعة فخرج مما ذكرناه أن مالكا ضم وقائع الصحابة إلى الأمور الظاهرة من الشريعة ولم يظن بهم افتتاح أمر من عند أنفسهم ولكنه قال الأخبار ( منقسمة ) إلى ما نقلت صريحا وإلى ما فهمنا ضمنا فإنا لا نظن بأئمة الصحابة استقلالهم بأنفسهم في تأسيس أصول فهذا بيان مذهبه
1256 - ونحن نرى الاقتصار في مآخذ الأحكام على أصول الشريعة وأقضية الصحابة محمولة عليها ولا نتخيل أخبارا استندوا بها وسكتوا عن نقلها مع علمنا بأنهم كانوا يبرئون أنفسهم عن الاستقلال ويعضدون ما يحكمون به بما يصح عندهم من أخبار الرسول عليه السلام وهذا وجه أنفصال أحد المذهبين عن الثاني ثم الاستدلال المقبول هو المعنى المناسب الذي لا يخالف مقتضاه أصلا من أصول الشريعة كما ذكرناه في المعنى المستنبط من الأصول ويظهر أثر ذلك بضابط في النفي والإثبات وهو أن كل معنى لو أطرد جر طرده حكما بديعا لم يعهد مثله في الزمان الأطول فيدل خروج أثره عن النظير على خروج معناه المقتضى عن كونه معتبرا والدليل عليه أنه لو كان معتبرا لوجب في حكم العادة القطع بوقوع مثله في الزمن

المتمادي وبمثل هذا المسلك قطعنا ( بأنه ) لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى وإذا كان أثر المعنى لا يعدم نظيرا قريبا ولم يقتض طرد المعنى مخالفة أصل من الأصول فهو استدلال مقبول معمول به وبيان ذلك بالمثال أن مالكا لما زل نظره كان آثر ذلك تجويز قتل ثلث الأمة مع القطع بتحرز الأولين عن إراقة محجمة دم من غير سبب متأصل في الشريعة ومنه ( تجويزه التأديب ) بالقتل في ضبط الدولة وإقامة السياسة وهذا إن عهد فهو من عادة الجبابرة وإنما حدثت هذه الأمور بعد انقراض عصر الصحابة
1257 - فإذا تجدد العهد بما ذكرناه فنحن نرسم بعده مراتب في الإخالات وننزل كل مرتبة منزلتها ونرى أن مدركها على حقائقها مشرف على طرف المعاني فإذا عسر الوفاء باستيعاب أمثلة الأقيسة المعنوية في هذا المجموع فالوجه أن نتخذ أصلا من أصول الشريعة يشتمل على مجامع القول في وجوه الإخالات ونبين فيه وجوه الترتيب فيها وما يقع في الرتبة العليا والرتبة التي تليها إلى استيعاب مدارك الفقه ومعانيها ثم ( يقيس ) الفطن على ما نرسمه فيها ما يدانيها ( المرتبة الأولى )
1258 - فليقع الكلام في القصاص وما يقتضى إيجابه وما يوجب اندفاعه فنقول أوجب الله القصاص في نص كتابه زجرا للجناة وكفا لهم وأشعر بذلك قوله

تعالى ولكم في القصاص حياة واتفق المسلمون على هذه القاعدة ولم ينكرها من طبقاتهم منكر ثم قال أئمة الشريعة كل مسلك يطرق إلى الدماء الهرج على جريان واسترسال واستمكان من غير حاجة إلى أمر نادر ومعاناة شاقة فهو مردود فإن المقصود المتفق عليه من القصاص صيانة الدماء وحفظ المهج فمن خالف هذا فهو لو قدر ثبوته ( ناقض ) له والثالث نصا وإجماعا لا سبيل إلى نقضه فإذا تمهد ( ذلك ) فكل معنى يستند إلى هذه القاعدة ويوافقها من غير اختلاف في مجراه فهو على المرتبة العليا من أقيسة المعاني
1259 - وهذا يمثل ( بالقول في القتل ) بالمثقل ولا شك أن من نفي القصاص به مناقض للقاعدة من جهة أن القصد إلى القتل بهذه الآلات أمر ثابت وهو ممكن لا عسر في إيقاعه وليس القتل به مما يندر ( فإذا لم يعسر ولم يندر ) فكان نفي القصاص بالقتل بها مضادا لحكمة الشريعة في القصاص فإذا ناكر الخصم العمدية في القتل بهذه الآلات سفه عقله ولم يستفد به إيضاح

عسر القتل
1260 - وإن شبب بتعبد في آلة القصاص وكان ذلك في حكم العبث فإن تقدير التعبد مع ما تمهد من الحكمة يناقض الحكمة المرعية في العصمة فليفهم الفاهم مواقع التعبد
1261 - وإن تمسك بصورة في العكس وقال الجرح الذي لا يغلب إقتضاؤه إلى الهلاك اذا أهلك أوجب القصاص كان هذا غاية في خلاف الحق فإن الجرح لاختصاصه بمزيد الغور وإمكان السريان إذا اقتضى القصاص حسما لمادة الجناية وردعا للمعتدين فكيف يستجيز ذو الدين أن يبنى عليه إسقاط القصاص بالقتل الذي يقع بالأسباب التي تقتل لا محالة وليعتبر المعتبر عن هذا الأصل فإنه أجلى أقيسة المعاني وأعلى مرتبة فيها فإنه لا حاجة في ربطه بالقاعدة إلى تكلف أو تقرير أو تقريب وتحرير ولو قيل هو الأصل بعينه ( و ) ليس ملحقا به لم يكن ( بعيدا )
1262 - ومخالف ما يقع في هذه المرتبة مائل عن الحق على قطع وليس القول فيها دائرا في فنون الظنون وما يكون بهذه الصفة لا يتصور أن يعارضه معارض
1263 - ونضرب لهذا مثالا آخر قياسا فنقول الغرض من شهادة الشهود إيضاح المقصود المشهود به ثم للشرع تعبدات وتأكيدات في رتب البينات على حسب أقدار المقاصد وأعلى البينات بينة الزنا فإذا شهد على صريح الزنا أربعة من الشهود

العدول وتناهى القاضي في البحث وانتفت مسالك التهم فهذا أقصى الإمكان في الإيضاح والبيان فلو شهدوا وأقر المشهود عليه مرة واحدة لم يؤثر إقراره ووجب القصاص بموجب البينة فإن إقراره تأكيد البينة ولا يحط من مرتبة البينة شيئا فإذا قال أبو حنيفة إذا أقر المشهود عليه مرة سقطت البينة ولم ( يثبت ) بذلك الإقرار شئ لم يجز أن يكون هذا مضمون في أصل الشريعة المحمدية فإن الإقرار لم يعارض البينة مناقضا ثم هو ذريعة يسيرة غير عسيرة في ترك البينات ثم المقر لا يحلف حتى يتخيل ارعواؤه ولو طلبنا أمثال ذلك وجدنا منه الكثير المرتبة الثانية
1264 - تعتمد على قياس معتضد بالأصل ولكنه قد يلقى الجامع احتياجا إلى مزيد تقرير وتقريب ويعن للخصم تخيل فرق وإن كان إفساده هينا ومثال ذلك أنه قد ثبت وجوب القصاص على المشتركين في القتل وهذا مستند إلى قاعدة الشرع في تحقيق العصمة وزجر الجناة فإن الاستعانة في أمثال ذلك ليست بالعسيرة والقتل على ( الاشتراك ) غالب الوقوع فاقتضى معنى القصاص في الأصل إيجاب القتل على الشركاء وهذا يتطرق إليه الكلام قليلا من جهة أن كل واحد ( منهم ) ليس قاتلا وفعل كل واحد منهما يخرج أفعال شركائه عن الاستقلال بالقتل وقتل غير القاتل فيه مخالفة الموضوع المشروع في

تخصيص القتل بالقاتل وفيه وجه آخر وهو أن إمكان القتل بالمثقل فوق إمكان الاستعانة وعن هذا تردد بعض العلماء في إيجاب القصاص على الشركاء وصرح بعض المفتين بأن قتل المشتركين خارج عن القياس والمعتمد فيه قول عمر رضي الله عنه إذ قال لو تمالا عليه اهل صنعاء لقتلتهم به فنشأ من منتهى هذا الكلام أن الجاني محرم الدم معصوم ( فإذا تطرقت الاحتمالات لم يجز الهجوم على قتل معصوم )
1265 - والمسلك الحق عندنا أن المشركين يقتلون بحكم قاعدة القصاص ولا نظر إلى خروج بعضهم عن الاستقلال بالقتل إذا كان يظهر بسبب درء القصاص ( عنهم ) هرج ظاهر فلا نظر مع الظهور إلى انحطاط إمكان الاشتراك قليلا عن الأنفراد بالقتل بالمثقل فإنه يعارض ذلك أن المنفرد لا يستمكن استمكان المشتركين ويتطرق إلى الاستقلال بالقتل عسر ( من وجه ) حتى تمس الحاجة إلى فرض كلام في أيد وضعيف أو تقدير اغتيال ( فيعتدل ) المسلكان حينئذ وخروج كل واحد عن كونه قاتلا لا وقع له مع إفضاء درء القصاص إلى الهرج مع العلم بأن القصاص ليس على قياس الأعواض وأما كون الجاني معصوما فلا أثر له في هذا المقام مع أنه سعى في دم من غير

أن يفرض له تقدير عذر فكان ما أقدم عليه مسقطا حرمته وخارما عصمته والشبهات إنما تنشأ من فرض أمر يقدر للجاني عذرا على قرب أو على بعد وهو منشأ الشبهات على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى
1266 - فإذا تمهدت هذه القاعدة ( فغرض هذه ) المرتبة إلحاق فرع بهذا الأصل مع تقدير الوفاق فيه فنقول في الطرف إنه صين بالقصاص على المنفرد فليصن بالقصاص على المشتركين كالنفس وهذا أجلى ولكنه في اعلى مراتب الظنون
1267 - فإن قيل ما سبب خروج هذا القياس عن مسالك العلوم مع استبانة ( استقائه ) من القاعدة كما ذكرتموه قلنا في القاعدة على الجملة نظر أما إسقاط أصل القصاص عن المشتركين فمعلوم بطلانه قطعا فإنه مبطل لحكمة العصمة وأما قتل واحد من المشركين لا بعينه مع تفويض الأمر إلى رأى من له القصاص فليس يرد ذلك ولكنه يقع في مجال الظنون ثم في إلحاق الطرف بالنفس ثلاثة أشياء يطرق كل واحد إليه الظن أحدها أن قائلا لو قال لو أفضى قطع الطرف إلى النفس لوجب القصاص على المشتركين وتقرير ذلك مردعة لهم فلا يؤدي ذلك إلى االهرج هذا وجه واقع ودافعه أنه لو صح لسقط القصاص في الطرف أصلا فإذا جرى القصاص مع الاندمال أشعر ذلك باعتناء الشرع بتخصيصه بالصور حتى كأن الطرف مع النفس كزيد مع عمرو في أن كل واحد منهما مقصود بالصون

1268 - والوجه الثاني مما يقتضي الظن ظن الخصم أن ما ذكرناه من الجمع في حكمه القصاص ينقضه تمييز فعل أحد الشريكين في القطع عن فعل الشريك الثاني فإذا كان كذلك فهو ممكن غير عسير ثم لا قصاص على واحد منهما وهذا إن سلم فهو لعمرى قادح في الجمع وقد صح فيه منع كما يعرف الفقهاء
1269 - والوجه الثالث أن الطرف مما يقبل التبعيض فيصور الخصم أن القطع الواقع على صورة الشركة يحمل على وقوعه على التبعيض إذا كان المجني عليه قابلا للتبعيض وهذا زلل فإن إمكان تصوير ما يسقط القصاص لا يدرؤه إذا لم يكن وكان بدله ما يشابه الأشتراك في الروح فلو توجهت هذه الجهات وبعد القول في الأصل بعض البعد كان ذلك دون المرتبة الأولى المستندة إلى العلم ( والقطع ) فهذا واضح جدا ومن حكم وضوحه أنه لا يثبت له معارض إذ لو قدر له معارض لكان ناشئا من تقدير شبهة توجب المحافظة على حكمة العصمة في حق الجاني ومآخذ الشبهات ما يشير إليه المعاذير ولا عذر للجاني وإن حاول الخصم تسبيب المعارضه في جهه أن واحدا لم يقطع اليد بطل ذلك عليه بالنفس ولو رجع وزعم أن القصاص على الشركاء على خلاف القياس كان ذلك روم اعتراض وقد أوضحنا بطلانه

والمخيلة العظمى في ظهور قياس المعنى امتناع المعارضة المحوجة إلى الترجيح فإن عارضوا القصاص في الطرف بقطع السرقة وشبهوا الاشتراك في قطع اليد بالاشتراك في سرقة نصاب لم يكن ما جاءوا به ماخوذا من قاعدة القصاص ونحن لم نعن بامتناع المعارضة انسداد المسالك البعيدة وإنما المعارضة الحاقة ما ينشأ من وضع الكلام ولا شك ( في ) أن قطع السرقة بعيد في أصله وتفصيله عن القصاص فإن الأصل المعتبر في قطع السرقة أخذ مال غير تافه على الاختفاء من حرز مثله والغرض بشرع القطع ردع السارق عن تناول المال والنفيس وفي النفس مزجرة عن ركوب الأخطار بسبب التافه وهذا المعنى يوجب نفي القطع عن الشركاء فإن كل واحد منهم على حصته من المسروق وذلك المقدار لا حاجة إلى إثبات رادع عنه وهذا لا يتحقق في القصاص أصلا ( فيما نحن فيه ) فإن معتمده الصون وتمهيد العصمة وليس في قاعدته انقسام إلى التافه والنفيس وخروج كل جان عن الاستقلال بكل الجناية لا يسقط القصاص عنه إذ لو قيل به لخرم قاعدة الصون على أنه محقق في النفس كما سبق
1270 - وإذا لم تكن المعارضة على حقها في منشأ الاجتهاد لم ينتظم فرق ورجع كلام المحقق إلى تباين القاعدتين وتباعدهما وإيضاح ابتناء كل واحد منهما على أصل غير معتبر في القاعدة الأخرى وهذا لا ينتظم فرقا ويدخل في أقسام فساد الوضع ووجب نسبه الخصم إلى البعد

عن مأخذ الكلام والاكتفاء بتلفيق لفظي عرى عن التحقيق
1271 - والذي يحقق ذلك ان من سرق نصابا واحدا في دفعات ( وهو في كل دفعة ) يهتك حرزا لم يستوجب قطعا ولو قطع جان يدا واحدة بدفعات استوجب القصاص عند الإبانة
1272 - ويتعلق بالكلام في هذا القسم أمر يتعين الاعتناء به وهو مزلة مالك ونحن نقول فيه إذا ثبت ارتباط حكم في أصل بحكمة مرعية فيجوز الاستمساك بعينها في إلحاق الفرع بالمنصوص عليه في عين الحكم المنصوص ولا يجوز تقدير حكم آخر متعلق بحكمة تناظر الحكمة ( الثابتة ) ( في الأصل المنصوص عليه فإن هذا يجر إلى الخروج عن الضبط ويفضي في مساقه إلى الإنحلال ( فإن الحكمة الثانية ) لو قدرت لدعت إلى ثالثه ثم لا وقوف إلى منتهى مضبوط
1273 - وبيان ذلك بالمثال أن المال صين بشرع القطع إبقاء له على ملاكه وزجرا للمتشوفين إليه ولو فرض تعرض للحرم بمراودات دون الوقاع فأدناها يبر على أقدار الأموال ولا يسوغ نقل القطع إليه وكذلك القول في أمثاله
1274 - وعند ذلك انتشر مذهب مالك وكاد يفارق ضوابط الشريعة واعتصم بألفاظ وعيدية معرضة للتأويل منقولة عن جلة الصحابة وقد يدنو المأخذ جدا فيزل الفطن إذا لم يكن متهذبا دربا بقواعد الاجتهاد
1275 - وبيان ذلك ( بالمثال ) أنا إذا قلنا قطع السرقة مشروع لصون الأموال

وزجر السارقين فألزمنا عليه ما إذا نقب الواحد الحرز وسرق الآخر فلا قطع على وواحد منهما وهذا يخرم الحكمه المرعية في ( صون ) الأموال فإن ( التسبب ) إلى ما ذكرناه يسير ممكن وهذا على الحقيقة غامض من جهة أن الشخص الواحد إذا نقب وسرق فقد أخرج النقب الحرز عن حقيقته ولم يقدم على المال إلا وهو في مضيعة ثم لم نقل لا قطع عليه من حيث انفصل هتك الحرز عن أخذ المال وكان من الممكن أن يختص القطع بمن يتسلق على الحرز ويأخذ المال من غير هتك وهذا مجال ضيق ويتجه فيه خلاف العلماء وحق الأصولي ألا يعرج على مذهب ولا يلتزم الذب عن مسلك واحد ولكن يجري مسلك القطع غير ملتفت إلى مذاهب الفقهاء في الفروع
1276 - ثم القول الممكن في السارق والناقب أن صون الأموال وإن اثبت فهو مخصوص بالسرقة من الحرز وليس ( إلينا ) وضع الحكم والمصالح ولكن إذا وضعها الشارع اتبعناها
1277 - ومن لطيف الكلام في ذلك أن المعلل إذا قيد تعليله ( الفقهي ) المعنوي يقيد غير مخيل لا على معنى الاستقلال ولا على الانضمام إلى أركان العلة المركبة فذلك التقييد مطرح في مسلك المعاني وطرق الإخالة إلا فيما نصفه وهو تقييد الكلام بحكم معين تعلق بحكمة معلومة وهذا كذكرنا صون المال عن السراق فإذا ألزمنا صون الحرم لم نلتفت إليه ولم نلتزم فرقا بين الصورتين فإن ذلك إنما ينشأ من رعاية المصلحة مع الإنحصار على الحكم المنصوص عليه

ثم ما ذكرناه ليس مختصا بحكم واحد بل هو مطرد في جمله المصالح الشرعية فكل مصلحة مختصة ( بحكمها ) وغاية القايس ضم جزئي في المنصوص عليه إلى القاعدة الكلية
1278 - فإن قيل إذا قسم الطرف في حق الاشتراك على النفس فهل تنسبون إلى المحذور الذي ذكرتموه من مجاوزة موارد المصالح قلنا إن كان ذلك مجاوزة فلا قياس إذا وينبغي أن يجتنب المنتهي إلى هذا المقام طرفي القياس والانحلال فنقول ساوى الطرف النفس في الأصل وهو القصاص ثم ثبت الصون في النفس بإجراء ( القصاص ) على المشتركين فرمنا إلحاق الطرف المساوي للنفس ( في أصل القصاص بالنفس ) في فرع اقتضاه أصل القصاص وهذا غاية المطلوب في ارتباط الفرع بالأصل واقتضاء الأصل الفرع
1279 - وإذا بلغ الكلام هذا المبلغ فليعلم الناظر أن اسد المذاهب في القول بالقياس الحق واجتناب الخروج عن الضبط مذهب الشافعي ولست أرى في مسالكه حيدا إلا في أصل واحد لم يحط بسر مذهبه ( فيه فهمي ) وهو إثباته قتل تارك الصلاة فإنه لم يرد فيه نص وتقريب القول فيه يتضمن حكمه لم يثبت أصلها وهذا مشكل جدا فإن طمع ( من ) قصر فكره بتشبيه المأمور به بالمنهي عنه كان ذلك بعيدا غير لائق بمذهب هذا الإمام وهذا القدر كاف في التنبيه وقد نجز غرضنا في القول في المرتبة الثانية من قياس المعنى

المرتبة الثالثة
1280 - نمثلها في القول بالمكره على القتل وفيه ثلاثة مذاهب أحدها أن القصاص على المكره دون المكره والثاني وهو قياس مبين أن القصاص على المكره دون المكره وهو مذهب زفر والثالث أن القصاص يجب عليهما وهو مذهب الشافعي
1281 - وأبعد المذاهب عن الصواب إيجاب القصاص على المكره دون المكره المحمول فإنه زعم أن فعل منقول إلى مكره وكأنه آلة له وهذا ساقط مع المصير إلى ( أن ) النهي عن القتل متجه مستمر على المكره القاتل فكيف يتحقق كونه آلة مع تكليف الشرع إياه ومن ضرورة كون الشي آلة انقطاع التكليف عنه فتخصيص المكره بإلزام القصاص مع ما ذكرناه لا أصل له
1282 - ( ووجه ) مذهب زفر في القياس لائح وهو أنه راى المحمول ممنوعا ولم ير أثر الإكراه في سلب المنع والنهي والمباشرة تغلب على السبب إذا استقلت فارتبط بها التكليف والتصريف من الشارع
1283 - والذي يختاره أصحاب الشافعي ينبني على ما ذكرناه لزفر في استقلال المباشرة وهذا يقتضي إيجاب القصاص على القاتل المحمول ولكن لم ير هؤلاء إحباط الإكراه وإسقاط أثره ( بالكلية ) فإنه موقع القتل غالبا والإكراه من

أسباب تقرير الضمان فيبعد تعطيله وإخراجه من البين وبعد إحباط المباشرة فالوجه تنزيلها منزلة الشريكين ولا شك أن فعل كل واحد من الشريكين يضعف فعل صاحبه من جهة أنه يخرجه عن كونه قتلا ثم لم يسقط الأشتراك القصاص عنهما فإذا لم يصر أحد إلى إسقاط القصاص عن الحامل والمحمول لضعف ما صدر عن كل واحد منهما أما ضعف المباشر فمن جهة كون المباشرة ( محمولا ) وأما ضعف الإكراه فمن جهة كون المكره المحمول منهيا واستمرار التكليف يوهي أثر الإكراه فليس أحدهما بالضعف أولى من الثاني فلا سبيل إلى تخصيص القصاص بأحدهما وقد ثبت أن القصاص أولى بأحدهما وقد ثبت أن القصاص لا يسقط عنهما وقرب تنزيلهما منزلة الشريكين
1284 - ولكن القول في هذا ينحط عن القول في الشريكين من جهة اختلاف السبب والمباشرة وخروج كل واحد منهما عن قياس بابه ثم يتعارض مأخذ مذهب زفر وأبي حنيفة والترجيح لزفر
1285 - ومأخذ إيجاب القصاص عليهما يتشوف إلى جمع نكتتى المذهبين مع امتناع إسقاط القصاص ( عنهما جميعا وإيجاب القصاص ) على شهود الزنا إذا رجعوا بعد إقامة الرجم أظهر من إيجاب القصاص على المكره الحامل من جهة أن الإكراه يضعف ببقاء التكليف على المحمول ولا خيرة للقاضي بعد إقامة البينة وليس ممنوعا منع المكره المحمول بل النية أوجبت على القاضي إقامة الرجم ولذلك لم يختلف قول الشافعي في وجوب القصاص عليهم اختلافه في المكره أما الشهود على القصاص إذا رجعوا فإن فرض رجوع المدعي واعترافه فلا وجه لوجوب القصاص على الشهود فالطريق القطع بتغليب المباشرة وإن فرض الكلام في استمرار المدعي على دعوى الاستحقاق فهذا ينحط في مرتبة الاجتهاد عن شهود الزنا فإن المدعي على خيرته ولو ذهبنا نستقصي هذه الأمثلة لطال الكلام وإنما غرضنا التنبيه

1286 - ولم يوجب الشافعي عقوبة في هذا المساق أبعد من إيجابه حد الزنا على المرأة إذا نكلت عن اللعان بعد لعان الرجل فإن هذا سفك دم بقول المدعي وهو في مسلك القياس يداني إيجاب القصاص بأيمان المدعي في مسلك لوث القسامة ولولا الخبر لما اقتضى القياس ذلك
1287 - وهذا أوان تغليب حق المدعي عليه من طريق القياس قال الشافعي إذا كان القصاص لحقن الدم والهلاك لا يستدرك وإذا رجع الغرض إلى حقن دم الباقين فرعاية حقن دم الجاني وهو غير مسفوك أولى واللعان أبعد من القسامة من جهة أن الشرط فيها ظهور اللوث عند الحاكم وهو غير مشروط في اللعان غير أن المعتمد في القسامة الخبر الصريح والمعتمد في اللعان يستند إلى شيئين أحدهما أنا لا نجد بدا من الخروج عن قانون الحجج فالاستمساك بظاهر القرآن العظيم أقرب وحمل العذاب على الجنس بعيد وبالجملة نفي إيجاب الحد وتغليب حقن دمها أقرب عندي إلى مأخذ الشريعة
1288 - ومن عجيب الأمر أن قول الشافعي اختلف في القصاص هل يجب بأيمان القسامة ولم يختلف في وجوب الحد على المرأة مع تعرض الحد الواجب ( لله تعالى ) فيه للسقوط بما لا يسقط القصاص به وسبب هذا أن خبر القسامة ورد في ( الغرم ) وآية اللعان اشتملت على ذكر العذاب وهذا وغيره في أمثال ما ذكرناه من قواعد الشريعة ونحن نختتمه بأمر بديع يقضي الفطن ( العجب ) منه

1289 - فالمرتبة الأولى العلمية تكاد أن لا تكون جزءا من المنصوص عليه والمرتبة الاخيرة نعنى اللعان والقسامة لا يستقل المعنى فيها ولم نرسمها مرتبة في القياس من حيث لم نرها مستقلة فهذه جملة كافية في التنبيه على المراتب وضابطها القريب من القاعدة والبعيد منها مراتب قياس الشبه
1290 - ونحن نذكر الآن مراتب قياس الشبه فنقول مجال هذا القسم ( عند ) انحسام المعنى المخيل المناسب فإذا لم نجد معنى للحكم الثابت أو صادفنا ما يخيل غير صحيح على السبر فالوجه رد النظر إلى التشبيه
1291 - ثم مراتب الأشباه تنقسم إلى القريب والبعيد انقسام ( مراتب ) قياس المعنى فالواقع في المرتبة الأولى هو الذي يسميه الأصوليون في معنى الأصل ولا يريدون به المعنى المخيل وهذا إذا وقع معلوما كان في المرتبة العاليه وقد سبق ( القول في ) الاختلاف فيها هل يسمى قياسا أو هو ملتقى من الألفاظ والنص
1292 - والوجه عندنا في ذلك أن يقال إن كان في اللفظ إشعار به من طريق اللسان فلا نسميه قياسا كقوله عليه السلام من أعتق شركا له في عبد قوم

عليه فهذا وإن كان في ذكر فالعبودية مستعملة في الأمة وقد يقال للأمة عبدة وأما إذا لم يكن لفظ الشارع مشعرا في وضع اللسان بما ألحق به فهو قياس مفض إلى العلم وهو قاعدة الأشباه بعد ونظيره إلحاق الشافعي عرق الكلب بلعانة في التعبد برعاية العدد والتعفير
1293 - فإذا زال العلم وكان الشبه يفيد غلبة الظن ولا يفسد لدى السبر والعرض على الأصول ( فهو مقبول ) وإن لم يفد غلبة الظن فهو الطرد المردود عند المحققين والأشباه بين طرفي قياس المعنى والطرد
1294 - والذي لاح من كلام الشافعي أن أقرب الرتب من المراتب المعلومة إلحاق الزبيب بالتمر في الربا وأبعد منه قليلا بحيث لا يخرج عن الرتبة إلحاق ( الرز بالحنطة والذرة بالشعير ثم يلي هذه الرتبة ) الوضوء بالتيمم في الأفتقار إلى النية ولهذا قال الشافعي ( مستبعدا ) طهارتان فكيف تفترقان
1295 - ونحن نقول في ذلك كل شبة يعتضد بمعنى كلي فهو بالغ في فنه وذلك إذا كان المعنى لا يستقل مخيلا مناسا وبيان ذلك فيما وقع المثل به أن التيمم ليس فيه غرض ناجز وقد بينا من كلى الشريعة أنها ( مبنية ) على الاستصلاح فإذا لم يلح صلاح ناجز يظهر من المآخذ الكلية ربط ما لا غرض فيه ناجز بصلاح في العقبى وهو التعرض للثواب ولا سبيل إليه إلا بقصد التقرب فإذا وجدنا طهرا كذلك متفقا عليه ثم كان المختلف فيه غير معقول المعنى ظهر فيه وقع التشبيه في الأفتقار إلى النية المحصلة غرض العقبى
1296 - فليتخذ الناظر هذا معتبرا في الرتبه الأولى من الأشباه المظنونة ولم يبلغ

مرتبة العلم للاختلاف الواقع بين الطهرين في أحكام وشرائط وإلحاق المطعومات التي لا تقدر بكيل ووزن طريقة الأشباه عندنا فإن مسالك الإخالات باطلة فلا يبقى إلا التشبيه ثم سبيل هذا التشبيه النظر إلى المقصود من المنصوص عليه وقد لاح أن المقصود هو الطعم وبطل اعتبار القوت لمكان الملح وسقط اعتبار ( التقدير ) لجريانه في الجنسين والجنس على وتيرة واحدة ولاح النظر إلى المقصود مع الاعتراف بأنه غير مستند إلى معنى معقول وهذا ينحط عما يتعلق بغرض في العقبى كما ذكرناه في القسم الأول من المظنونات ولولا ما ثبت عندنا في الاضطرار إلى تعليل المنصوصات في الربا لما لاح لنا فيها معنى ولا شبه ولكن إذا اضطررنا إليه لإجماع القياسين وجدنا إتباع المقصود أقرب مسلك ولهذا وقع في المرتبة الثانية
1297 - فإن قيل هل ترون الشبه الخلقي في غير مجانسة ومماثلة معتبرا قلنا لا إلا أن نشير إلى ان اعتبار الخلقي أصل الشريعة كما ثبت ذلك في جزاء الصيد وقد ثبت قريب منه في الحيوانات المشكلة في الحل والحرمة وما ذكره أبو حنيفة في ( اعتبار الإنطراق ) والانطباع في الجواهر المعدنية في الزكاة طرد عندنا
1298 - ومن أبواب الشبه ما يتعارض فيه المعنى والشبه على التناقض فيقع لذلك الشبه ثانيا وهو كالتردد في أن قيمة العبد هل تضرب على العاقلة فالذي يقتضيه القياس المعنوي عدم الضرب اعتبارا بجملة المملوكات والذي

يقتضيه الشبه اعتباره بالحر فإن قيل هذا ايضا في الشبه الخلقي وقد أنكرتموه قلنا ليس الأمر كذلك فإن العبد يفرض قتله على الجهة التي يفرض فيها قتل الحر إذ قد يظن على بعد أن سبب التعاون في الحمل في الديات ما يقع ( من ) الخطأ بالقتل بين أصحاب الأسلحة وهذا يتفق في الحر والعبد على جهة واحدة
1299 - ومما يلتحق بهذا الفن القول في تقدير أروش أطراف العبيد بالسبب الذي يقدر ( به ) أطراف الأحرار فالذي يقتضيه القياس المعنوي نفي التقدير واعتبار ما ينتقص من القيمة نظرا إلى المملوكات سيما على رأي تقديره قيمه العبيد وتنزيلهم منزلة البهائم التي تضمن بأقصى قيمتها وهذا مذهب ابن سريج والظاهر من مذهب الشافعي أنها تقدر ومعتمده الشبه
1300 - فإن قيل فما الوجه في المثالين قلنا الوجه في مسألة التقدير مذهب الشافعي فإن الشارع أثبت ( للحر ) بدلا حتى لا يحبط إذا قتل خطأ ثم قاسموا أطرافه بجملة بمعان لا تنتهي أفهام المستنبطين إلى ضبطها وكان من الممكن ألا ( تتقدر ) أروش أطراف الحر فإنا ألفينا في جراح الأحرار حكومات غير مقدرة فلئن اقتضى شرف الحر تقدير دينه فهذا لا يطرد في أطرافه فلما تأصل في الطرف تقدير وطرف العبد في العبد كطرف الحر في الحر فلا التفات إلى خروج قيمة العبد عن التقدير

1301 - فإن قيل ( فقدروا ) أطراف البهائم قلنا لم يتحقق فيها أنها تقع موقع اطراف الأحرار في الأحرار فهذا الشبه أولى من المعنى الكلي من جهة أنه أجلى وأليق بالغرض واميز للمقصود هذا والمضمون من الحر والعبد الدمية
1302 - أما القول في تحمل العقل والقيمة فالأظهر عندنا التمسك بالمعنى لعبد تحمل العاقلة العقول عن مدارك العقول وقد يظن أن العبيد لا يخالفون الأحرار في تعاطيهم الأسلحة وإن ذكر فيهم ذلك فقد يتعدى إلى الدواب في تجاول الفرسان فكان تقدير أروش أطراف الأحرار معللا بمعان اعتقدناه ولم ندرك حقيقتها وضرب العقل ( يشبه ) تحكم المالك على المملوكين ( فالاحزم ) أن ( لا ) يضطرب فيها ( بالخطى ) الوساع
1303 - ومما يعده الفطن قريبا مما نحن فيه إلحاق القليل من الدية بالكثير في الضرب على العاقلة ونحن نرى ذلك المسلك الأعلى من الشبه من جهة أن أصل الضرب ثابت وهو جاز في القليل عند كثرة الشركاء جريانه في الكثير وليس هو مبينا على الإجحاف بالمحمول عنه فإن الدية محمولة على الموسرين فكأن الضرب ثبت في الشرع مسترسلا ( على الأقدار ) من غير اعتبار مقدار وهذا من جملة الامثلة التي ذكرناها تكاد أن تلتحق بالمرتبة المعلومة أو تدانيها
1304 - فهذه قواعد الاشباه المعتبرة ونحن نجدد فيها ترتيبا بعد ما وضحت

الأصول ونبني الغرض على سؤال وجواب وهو السر وكشف الغطاء
1305 - فإن قيل إن تعلق الناظر بوجه من الشبه فما وجه تقريره إذا نوقش فيه فإن قال المشبه ما ذكرته يغلب على الظن فقال له المعترض ليس كذلك فما سبيل درئه وكيف الجواب عن سؤاله ولا شك أن غلبة الظن لا تحصل إلا مستندة إلى شبه يقتضيها ولا بد من ذكره وبه يتميز الشبه عن الطرد وكل شبه يقتضي الظن فلا بد أن تنتظم عبارة وعربة عنه ثم أن تأتي وانتظم ذلك سالما عن القوادح فهو معنى إذا فترجع الأشباه الى معان خفية ويبطل تقسيم الأقيسة إلى المعنوي والشبهى
1306 - قلنا هذا السؤال بحث عن لباب الفصل وحقيقته فلا يتصور استقلال ( شبه ) دون ما ذكره السائل ولكن سبيل القول فيه أن الشبه يستند إلى مأخذين هما الأصل وبعدهما أمر ثالث ينبه ( عليه ) أحدهما الأمثلة وجريانها على مقتضى الشبه وهذا كإلحاقنا اليسير بالكثير في الضرب على العاقلة والمستند فيه ضرب حصة آحاد الشركاء مع تناهيها في القلة وينضم إليه بطلان اعتبار المواساة المشروعة بسبب خيفة الإجحاف فيخرج ( مما ) ذكرناه وأمثاله أن ضرب العقل لا ينتهي إلى موقف في قلة ( ولا كثرة ) وليس هذا معنى مخيلا ( مناسبا ) وإنما هو متلقى من أصل الوضع بالمسلك الذي ذكرناه فهذا إذا ظهر قليلا التحق ( بالقسم ) الذي يسمى قياسا في معنى

الأصل كما سنذكره في آخر هذا الفصل فهذا وجه
1307 - والوجه الثاني وهو الذي يدور عليه معظم الأشباه إن ثبت معنى على الجملة في قصد الشارع ولا يدخل في الإمكان ضبطه بعبارة وهذا كعلمنا أن الشارع قدر أرش يد الحر بنصف الدية لنسبة لها مخصوصة إلى الجملة لا يضبطها والإصبع دونها في ( الغناء ) وهذا لا شك فيه ولكنا إذا أردنا أن نطلع عليه وعلى الوجه الذي لأجله يقتضي التشطير لم يكن ذلك ممكنا وهذا يناظر علمنا بأن الشارع فرق بين التافه والنفيس من المسروق ثم قدر النفيس بدينار أو ربع دينار فالأصل معلوم ولا اطلاع على المعنى الذي يقتضي هذا المقدار ويناسبه فإذا تمهد ذلك وكان اعتبار يد العبد بيد الحر شبها فإنا نعلم أن غناء يد العبد من جملته كغناء يد الحر من جملته فهذا إذا يستند إلى معنى معتقد ( على الجملة ) من قصد الشارع ولكن لا سبيل إلى التنصيص عليه ومهما اتجه هذا النوع كان بالغا جدا مقدما على المعاني الكلية المناسبة
1308 - فأما الأمر الثالث الموعود فالتشبيه بالمقصود وهذا لا استقلال له إلا أن يضطر إلى التمسك بتقدير علم الحكم المنصوص عليه ومثال ذلك الأشياء الستة المنصوص عليها في الربا فلو هجم الناظر عليها ولم يتقدم عنده وجوب طلب علم لم يعثر على فقه قط ولا شبه فإن الفقه مناسب جار مطرد سليم على السبر والشبه متلقي من أمثلة أو مخيل معنى جملي والرأي لا يقضي بواحد منهما في نصب الطعم علما ولكن إذا ثبت طلب العلم

وانحسم المعنى المسبور والجملي فلا وجه إلا أن يقال إذا لم يثبت الحكم لأعيان هذه الأشياء ثبت لمعانيها هي المقصودة منها
1309 - ثم ينتصب على ذلك شاهدان أحدهما من قبيل التخصيص وهو اختلاف الحكم باتحاد الجنس واختلافه والثاني عموم قوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام ( إلا مثل بمثل ) فهذه معاقد الأشباه ثم لا حاجة إلى تكلف الميز بينها وبين الطرد
1310 - فإن قيل المعلوم الذي يسمى قياسا في معنى الأصل ما مستند العلم فيه قلنا اكتفى بعض الضعفة بادعاء العلم وانتهى إلى دعوى البديهة وزعم أن جاحده في حكم جاحد الضرورات ونحن نوضح الحق في ذلك ونقول كون العتق في العبد بمثابة كونه في الأمة والرق فيهما أيضا على وتيرة واحدة وهذا معلوم قطعا ولا يمتنع أن ينص الفصيح على واحد من الأمثال ويرغب عن التعلق بالألفاظ العامة ويجعل ما ذكره مثالا لحكم يؤسسه ( كالواحد ) منا إذا أراد أن يبين حكم البيع فقد يقول من باع ( ثوبا ) فقد زال ملكه عنه فيؤثر ضرب مثل لخفته عليه في مجارى الكلام وهذا أن ساغ لا استكراه فيه ولا يمتنع في تحكمات الشرع تخصيص سريان العتق بالعبد

لكن لو كان كذلك لتعين في حكم البيان التنصيص على التخصيص ( فإذا ) لم يجر ذلك انتظم من مجموعة القطع بثبوت القياس في معنى الأصل
1311 - ولو نص الشارع على موصوف وذكر فيه حكما تقتضيه تلك الصفة اقتضاء اختصاص فهذا النوع من التخصيص بتضمن نفي ما عدا المنصوص وهو المفهوم وقاعدته كقوله عليه السلام في سائمة الغنم الزكاة فأما لو قدر مقدر من الشارع ان يقول في عفر الغنم زكاة فهذا ليس في مرتبة المفهوم ولا يصلح ( أيضا ) لإجراء مثالا بخلاف العبد الذي يجرى مثالا في المملوكين فإذا لا يقول الشارع مثل هذا فإنه من التخصيص العرى عن الفائدة فليفهم الناظر هذه المنازل والترتيب بعد ذلك كله
1312 - فالمرتبة الأولى للمعلوم وقد بينا مأخذه
1313 - والمرتبة الثانية لما يتلقى من الأمثلة كإلحاق القليل من العقل ( في الضرب ) على العاقلة بالكثير فإن ذلك قريب جدا من الرتبة المعلومة
1314 - والمرتبة الثالثة ما يستند إلى معنى كلى لا تحيط الأفهام والعبارات بتفصيله كما ذكرناه في تقدير أروش الأطراف وافتقار طهارة الحدث إلى النية
1315 - وأنا أرى الطهارة تنحط في الرتبة عن تقدير الأروش فإن تقدير الأروش يستند إلى أغراض ناجزة نعتقد أصولها ونقصر عن درك تفصيلها وأمر الثواب خفي في الطهارة لا يتأتى فيه من الاطلاع ما يتأتى في مستند تقدير الأروش فلا بأس إذا لو قدر افتقار الطهاره إلى النية كرتبة متأخرة عن تقدير أروش أطراف العبيد وأما نصب المقاصد فمسترسل كما سبق تقديره في الربويات فهذا لا

يستقل بنفسه دون الإرهاق إلى نصب العلم وهو دون المرتبة الثالثة
1316 - ونحن نختم هذا الأصل بمسألة يتعارض فيها شبهان فنقول اختلف العلماء في أن العبد هل يملك ومأخذ الكلام من طريق التشبيه ما نصفه أما من يقول يملك فشبهه بالحر من جهة أن الحر فطن مؤثر مختار طلوب لما يصلحه دافع لما يضره لبيب فطن أريب والعبد في هذا كالحر فهذا شبه فطري غير عائد إلى ( الصورة ) وإنما راجع إلى المعاني التي بها يتهيأ الإنسان لمطالبة ومآربه
1317 - ومن منع كونه مالكا شبهه بالبهائم من حيث إنه مسلوب القصد والاختيار مستوعب المنافع باختيار مالكه حتى كأنه لا اختيار له والتعلق بهذه الأشياء أقرب فإن القائل الأول تمسك بالأمور الخلقية ومن منع الملك تمسك بمأخذ الأحكام فكان ما قاله أقرب فإن الرق حكم غير راجع إلى صفات حقيقية خلقية وحاصلة سقوط استبداد شخص وتهيؤه لتصرف غيره وهذا يناقض صفات المالكين فإن حكم الملك الاستقلال ثم أقام الشارع المالك طالبا للمملوك فيما يسد حاجته ويكفي مؤنته والحاجة ( التي ) لا يتصور فيها الكفاية أثبتها الشارع للمملوك بإذن مالكه وهو حق المستمتع في النكاح
1318 - فإن قيل السيد إذا ملك عبده فالحق لا يعدوهما فإن كان استغراق السيد إياه يمنعه من صفات المالكين فإذا ملكه المولى وجب أن يملك قلنا هذا يلزم الخصم في تصوير إلزام الملك ( له ) ثم التمليك لم يخرجه عن كونه مملوكا متحكما عليه فلم يجامعه التمليك كما لم يجامعه إلزام الملك

فإذا زال الرق عنه ملك حينئذ وإذا ثبت له حق ( الاستقلال ) بأن كاتبه فيتصور له ملك على ضعف على حسب ما يليق به فهذا المعتبر في النظر إلى ( أقرب ) الأشباه ( وأدنى المآخذ ) فيها وما تعلق به الأولون موجبة أن لا فرق لأن خلقه وصفاته كصفات الحر فإذا تصور كونه مملوكا سقط هذا الاعتبار وجلى الشرع حكمه

فصل
1319 - المرتبة الأولى من قياس المعنى هو النتيجة الأولى لما صح من معنى القاعدة ويناظرها في مأخذ الأشباه ما يقال إنه في معنى الأصل وما يستأخر من أقيسة المعاني عن رتبة العلم ويقع في أعلى مراتب الظنون كاعتبار الإطراف بالنفس يناظر من الأشباه ما ثبت بظواهر الأمثلة كاعتبار القليل من ضرب العقل على العاقلة بالكثير وما يبعد عن المرتبة الأولى في المعاني المظنونة يناظر ما يتعلق بتقدير الأروش في أطراف العبيد ثم ما يتعلق بالأمور المغيبة كتقدير الثواب في الطهارة وما ثبت معللا من جهة الشارع ولم يعقل وجه المناسبة فيه كقوله عليه السلام أينقص الرطب إذا يبس يناظر ما يضطر إليه من اعتبار المقاصد في الربويات
1320 - فأما رتبة العلم فلا يترجح فيها مطلوب على مطلوب فإن العلوم لا تفاوت فيها وإن انحططنا عن رتبة العلم فآخر مراتب المعاني مقدم على أعلى مراتب

الأشباه إلا أن يسترسل المعنى ويختص بالشبه كاعتبار نقصان القيمة في أطراف العبيد أخذا من المعاني الكلية مع التقدير أخذا من التشبيه بالأحرار وهذا لا يتطرق إليه قطع إذ لو كان مقطوعا به لما عد من خفيات المظنونات وإلحاق القليل بالكثير في ضرب العقل ( على العاقلة ) أظهر من المعنى الكلي فيه فإن من تمسك بالمعنى الكلي ينقطع طرد كلامه بمحل الوفاق في ضرب العقل على العاقلة ويضطر أن يقف موقف الطالبين ( ويقول ) الأصل تخصيص الغرم بالجاني فأقيموا دليلا في محل النزاع وإذا طالب ذكرنا مسلكا من ضرب الأمثلة فكان في حكم شبه لا يعارضه معنى غير أن الشبه ينبغي أن يكون على نهاية القوة في محاولة النقل من أصل كلي إلى الإلحاق بما هو عن قياس المعنى ولا مزيد في القوة على ما ذكرناه والمسألة مع ذلك مظنونة وليس هذا كتقدير ارش طرف العبد فإن من يوجب ما ينقص بطرد معنى فلا ينتقض عليه فيبغي اعتبار صاحب الشبه بالأخص فلينظر الناظر إلى جولان الحقائق في هذة المضايق

فصل ( في مراتب قياس الدلالة )
1321 - أحدث المتأخرون لقبا لباب من ابواب القياس وراموا بذلك التلقيب تمييز فن كثير في مسالك الأحكام جار على منهاج واحد وهو عند المحققين إذا صح يلتحق بقياس الشبه من وجه وقد يتأتى في بعض أمثلته وجه يلحقه بقياس

المعنى واللقب الذي تواضعوا عليه هو قياس الدلالة وهو كقول الشافعي في الذمي من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم
1322 - والذي يقتضيه الترتيب تصدير الفصل بأن المستدل بهذا النوع يتوجه عليه سؤال المطالبة لا محالة كما ذكرنا قريبا منه ( فيما تمحض ) شبها فللمعترض أن يقول وأي مناسبة بين الطلاق والظهار ولم يجب أن يتساويا ثبوتا ونفيا مع العلم بانقسام الأحكام إلى التساوي والتفاوت فإن لم يبحث المطالب ويبدي وجها كان مقصرا
1323 - ثم ينقدح في الخروج عن المطالبة مسلكان نجريهما ثم ننهي كل واحد منهما النهاية المطلوبة ثم مسلك الحق وراء الاستقصاء المقول والمنقول فإن قال المطالب الطلاق مقتضاه التحريم والحل والكفر لا ينافي ذلك ومحل التصرف قابل له والظهار فيما ذكرته كالطلاق ( ولا ينافي الكفر المنكر والزور كما لا ينافي التصرف في الطلاق ) وإذا سلك هذا المسلك لم يبعد أن يكون ما ذكره جامعا بين الطلاق والظهار معنويا وقد يتمكن المطالب من منع يضاهي ما ذكرناه على ما يورده الفقهاء فهذا النوع إذا سلك صاحب هذا المسلك يلتحق بأقيسة المعاني
1324 - والمسلك الثاني في الخروج عن المطالبة ألا يخوض المطالب في

التزام طريق المعاني المستقلة الجامعة من طريق المعنى وهذا القسم ينقسم قسمين أحدهما أن يرد الأمر إلى طريق الاطراد والانعكاس وقد ذكرنا أن الطرد والعكس معتبر معتمد وقد قدمنا في ذلك قولا بالغا فليقل المطالب اقترن الطلاق ( بالظهار ) ثبوتا ونفيا واقترنا في الصبي ومن لا يعقل انتفاء فكذلك القول في اقترانهما ثبوتا وانتفاء باختلاف صفات المحل في البقاء في النكاح والبينونة عنه فهذا مسلك مرضى
1325 - والقسم الثاني من هذا القسم أن يذكر المطالب بين ما استشهد به وبين المتنازع فيه شبها غير مخيل ولكنه يستقل في طريق الشبه فهذا مضطرب النظار فيما ذكرناه
1326 - وأنا أقول إذا تحقق وجوب الخروج عن المطالبة فلا يستقل بتمهيد قياس الدلالة إلا فطن دراك فإن المعلل لو سلك طريق ( إبداء ) المعنى فقد بين أن ما اعتمده وسكت عليه لم يكن كلاما ( تاما ) فإن إبداء المناسب إذا كان محتوما ولم يكن في الكلام الأول ذلك فسكوت المطالب بالدليل على ( ما جاء ) به يتضمن اعتقاد كونه مسقلا فإذا بين أن ( التمام ) في الجواب عن المطالبة فقد لاح أن ما أبداه مفتاح الحجة ومبدؤها وقد سكت عنه سكوت من يراه تاما مستقلا فهذ وجه
1327 - والوجه الآخر أنه جعل أصل قياسه المسلم فيما تمثلنا به

والآن إذا ابدى معنى جامعا بين الطلاق والظهار فقد صار الطلاق أصلا للظهار وخرج الكلام الأول عن نظمه وترتيبه وإن ابدى وجها من الشبه بين الطلاق والظهار فقد التزم الجمع تشبيها وهو تتمة الكلام ( كما ) قدمناه في المعنى المستقل وينقدح فيه تغيير الترتيب والنظم كما تقدم فإذا لا بد من مناسبة فقهية أو شبهية وكلاهما ينافي المسلك الأول الذي اعتمده
1328 - وإذا انتبه الناظر ( للغائلة ) التي ذكرناها فلا يظن أنها تشبيب برد هذا النوع من القياس فإنا من القائلين به ولكن الوجه في تمهيد هذا النوع ودفع المطالبة شيئان أحدهما الطرد والعكس كما تقدم وفيه التغليب المطلوب وتقرير نظر الدلالة الأولى ( من ) غير مسيس حاجة إلى إتمام او تعيين أصل بتقدير الصرف عن الاعتبار بالمسلم ويرد الأمر إلى اعتبار الظهار بالطلاق ومن اللطائف الجدلية في ذلك أن مطلق الشرط يشعر بالعكس فلا يكون من صاغ ( العلة ) على صيغة الشرط بإبداء الطرد والعكس مظهرا لما لم يتضمنه الكلام الأول والصحيح عندنا التحاق ذلك بالأشباه
1329 - ومن تتمة القول فيه إن قياس المعنى إذا انعكس كان العكس فيه ترجيحا فإذا لم يلتزم المعلل المعنى وتمسك بالاطراد والانعكاس كان متمسكه

شبها وكان قريبا من القسم الثاني الذي يستند إلى ضرب الأمثلة كما قدمناه في إلحاق القليل بالكثير في ضرب العقل على العاقلة
1330 - ومما ينقدح في هذا النوع أن يقول المتمسك به الأصل المسلم وظهاره والفرع الكافر وظهاره والجامع بينهما شبه الطلاق فنفوذ الطلاق من المسلم والذمي شبه جامع بينهما في الظهار فغلب على الظن وهذا وإن كان يستمر شبها فكل شبه يعتضد كما ذكرت في تقاسيم الأشباه فإن تمكن الجامع من إبداء معتضد الشبه كما تقدم مفصلا كان حسنا وإن أراد الاجتزاء بالطرد والعكس عاد إلى المسلك الأول والأحزم في قياس الدلالة الاكتفاء بالطرد والعكس فهذا النوع من القياس يجري في الأغلب من المسائل التي يكون المعنى ممكنا فيها ولكن يطول الكلام في تقريره وتتسع العبارة في محاولة ضم نشره والمناظر المتحذق يبغي ضم أطراف الكلام وإرهاق الخصم بالمسلك الأقرب والسبيل المهذب إلى مضيق التحقيق في إيراد فرق يعسر إيراده على شرطه فلو تكلف المناظر الجمع بين الطلاق والظهار بمعنى مناسب لكثرت المطالبات في وجوه المناسبات ولم يأمن الجامع من التعرض للنقض ما لم يتناه في التصون والتحرز فيؤثر والحالة هذه جعل الطلاق وصفا ويربط الظهار به حكما ويتخذ المسلم اصلا ويجعل معتمده في إثبات الطريقة جريانها طردا وعكسا
1331 - ومما يتعين الإحاطة به في هذا الصنف ( أن ) المعنى المخيل حكم مناسب لحكم أو صورة تنبئ العبارة عنها وتقع مناسبة وقد يكون الجامع نفي حكم أو نفي مع ظهور المناسبة والسلامة عن المبطلات فإذا ظهرت الإخالة واتضحت السلامة قيل معنى مخيل مناسب جامع مستند إلى أصل

فلو قال المطالب وراء ذلك فلم زعمت أن الحكم الذي قدر وصفا يقتضي الحكم الذي فيه النزاع كان الجواب الكافئ فيه إيضاح الإخالة مع استمرار السلامة فإن اراد المطالب إبداء فرق بين الحكم المجعول وصفا وبين محل النزاع لم ينتظم فيه كلام على صورة الفرق ونظمه
1332 - نعم قد يبدى كلاما يقدح في المناسبة ويتعين على المستدل قطع ما دونه واستقلال مناط الحكم المتنازع فيه بمناسبة وإخالة وبيان ذلك بالمثال أنا إذا طلبنا مسلك المعنى وقلنا كلمة تتضمن التحريم فيثبت حكمها في حق الذمي كالطلاق وكان معنى التحريم مع قبول المرأة له واتصاف الكافر بالاستمكان منه مناسبا للنفوذ فإذا قال الخصم التحريم ينقسم إلى ما يقع تصرفا ( محضا ) في مورد النكاح غير متعلق بحق الله تعالى وإلى ما يتعلق بحق الله تعالى ( وتحريم الظهار يتعلق بحق الله تعالى ) والاستحقاق في في مورد النكاح قائم لم ينخرم والكافر لا يخاطب بما يقع حقا لله تعالى فقصد المعترض بهذا يرجع إلى ( توهين ) الإخالة في التحريم المطلق فيتعين الإجابة بطريقها وليس ما جاء به فرقا على نظمه المعروف
1333 - فإذا قلنا في هذه المسألة من صح طلاقه صح ظهاره فنحن رابطون نفوذا بنفوذ ولكن في تصرفين مختلفين يتأتى جعل أحدهما ( أصلا والآخر ) فرعا ونصب الجامع بينهما وإذا أمكن الجمع تصور الفرق ولا يمكن الجمع بين حكم مناسب لشيء وبين ذلك الشيء فلما أمكن الفرق ظهرت المطالبة بالجمع وتميز

هذا الصنف عما يتمحض فقها مناسا فكان القسم الذي فيه الكلام بين قياس المعنى من جهة مناسبة تصرف تصرفا على الجملة مع الجريان على السلامة وبين مسالك الأشباه من جهة تطرق المطالبة بالجمع وعدم التزام المعلل له والذي ( يحيك في الصدر ) أن المعنى إذا أمكن فهو ( أولى ) ونصبه في مراتب الأقيسة أعلى والتمسك بالادنى مع الاستمكان من الأعلى لا ( يتجه ) في طرق الفتوى والنظر تدوار على تمهيد طرق الاجتهاد التي هي مستند الفتوى فسبيل الجواب عنه أن نقول
1334 - إذا اشتملت المسألة المظنونة على مراتب من الأدلة متفاوتة فلا حرج على المستدل لو تمسك بأدنى المراتب وإنما يظهر تفاوت الرتبتين إذا تناقض موجب الحجتين فيقدم موجب الأعلى على الأدنى فأما إذا توافقت شهادات المراتب المختلفة على مقتضى الوفاق فلا معاب على من يتمسك بالأدنى وكذلك إذا اشتملت المسألة على خبر نص وقياس ولا يمتنع التمسك بالقياس الموافق الخبر وإنما يمتنع التمسك بقياس يخالفه نعم إذا كان المطلوب في المسألة علما فلا وجه للتمسك بقياس لا يقتضي العلم
1335 - وحاصل القول في هذا الفن إذا انتهى الكلام إليه يحصره أقسام أحدها يطلب العلم وما كان كذلك فالمطلوب منه ما يفضي إلى العلم ولا حكم لتفاوت الرتب بعد استواء ( الجميع ) في الأفضاء إلى العلم

1336 - والقسم الثاني ما تتفاوت الرتب فيه ومتعلق جميعها ظنون والرأي عندنا تسويغ التمسك بالجميع على ما يراه المستدل ومنع بعض الجدليين التمسك بالأدنى مع التمكن من الأعلى وهذا فيه نظر إذا تميزت المراتب بالقواطع وإن كانت كل مرتبة في نفسها لا تقتضى علما فأما إذا كان تفاوت الرتب مظنونا فلا يمتنع وفاقا من التمسك بأدنى آحاد الرتب
1337 - ومما يتعلق باستكمال الكلام في هذا الفصل أنه قد يتعلق ثبوت بنفي أو نفي بثبوت على مضاهاه قياس الدلالة وليس من قياس الدلالة في شئ وهو كقول القائل من لا يملك التصرف ( يل ) الوالى التصرف منه أو من يستقل بالتصرف لا يلي الوالى منه ما يستقل به فهذا إذا سلم يلتحق بأقيسة المعاني فإنه مناسب مخيل ولا ينتظم بين النفي والإثبات فرق
1338 - وقياس الدلالة ( يتميز ) عن محض قياس المعنى بهذا فإنه لا يمتنع رسم ( فرق ) بين وصف قياس الدلالة والحكم المنوط به ويمتنع ذلك بين نفي التصرف وإثبات الولاية وإثبات التصرف ومنع نفي الولاية
1339 - فهذا منتهى القول على قدر ما يليق بهذا المجموع في قياس الدلالة فإذا نجز قدر الحاجة في مراتب الأقيسة حان أن نرجع بناء الكلام إلى الترجيح فنقول

فصل ( الترجيح في الأقيسة )
1340 - إنما يجري الترجيح في أقيسة لا يعترض عليها إلا من وجهة التعارض ثم الأصل المعتبر في الترجيح ( الخصيص ) بالأقيسة ( ينشأ ) من تفاوت الرتب مع اجتماع الجميع في الظن فأما اقيسة المعاني فمستندها قاعدة معنوية معلومة ولا ترجيح في معلوم فإذا انحط المعنى عن العلوم فقد تقدم ترتيب مسالك الظنون والأرجح فالأرجح أقربها إلى المعنى المعلوم وقد مضى ترتيبها في القرب والبعد
1341 - ومما يتعلق بالترجيح في المعاني النظر فيما يثبتها وقد تقدم القول مثبتات المعاني ورجع الحاصل إلى مسلكين أحدهما إيماء الشارع والثاني الإخالة ( مع السلامة وما يثبته الشرع مقدم على الإخالة ) التي لا دلالة في لفظ الشارع عليها والسبب فيه أن ما أشار الشارع إلى التعليل به أمن المستنبط من الوقوع في متسع المصالح التي لا يحصرها ضبط الشريعة وهذا أمر عظيم في الاجتهاد وهو محذور الحذاق من أهل النظر ثم الإخالة على الرتب المقدمة
1342 - ومن الأسرار في ذلك أن الاستدلال يصح القول به وإن لم يستند إلى أصل حكمه متفق عليه على الرأي الظاهر فلو عارض استدلال لا اصل له

معنى مستندا إلى أصل فالمستند إلى الأصل مرجح على الاستدلال والسبب فيه انحصاره في حكم ثابت شرعا متفق عليه والمستدل على خطر الخروج عن الضبط
1343 - فهذه قواعد الترجيح في أقيسة المعاني ثم أدناها مرجح على أعلى الأشباه المظنونة كما سبق في ذلك قول بالغ
1344 - فإذا تعارض شبه خاص ومعنى عام كلي فقد قدمنا وجه الرأي فيه فلا نعيده
1345 - والاستدلال إذا عارضه شبه ( ومن ) ضرورة الشبه استناده إلى أصل فالذي ذهب إليه المحققون تقديم الشبه لمكان استناده إلى أصل وقدم الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله تعالى الاستدلال على الشبه والقول في ذلك يتعلق بالظن عندنا فليعمل كل مجتهد على حسب ما يؤدي إليه إجتهاده
1346 - فهذه مجامع الأقوال في ترجيح الأقيسة لا يشذ عنها إلا أفراد مسائل اضطراب فيها الجدليون ونحن نرسمها مسألة مسألة وفي استيفائها استكمال القول في الترجيح مسائل ( تشذ عن القاعدة العامة للترجيح ) مسألة
1347 - إذا تعارضت علتان إحداهما منعكسة والأخرى غير منعكسة فالذي ذهب إليه معظم الأصوليين أن الانعكاس من المرجحات المعتمدة

وهذا يتجه جدا على قولنا إن الانعكاس مع الاطراد دليل صحة العلة وقد قدمنا في حقيقة العكس قولا بالغا مغنيا عن الإعادة ونحن نذكر من اسراره مأخذا يستدعيه ويقتضيه أمر الترجيح فنقول
1348 - القياس الشبهى إذا اطرد وانعكس كان الانعكاس مخيلة معتمدة جدا فإن أقوى متعلقات الأشباه الأمثلة كما قدمنا ذكرها والاطراد والانعكاس فن الأمثلة المغلبة على الظن فإذا فرضنا تعارض شبهين انعكس أحدهما دون الثاني كان ذلك ترجيحا مقتضيا مزيد تغليب الظن لا يجحده في هذا المقام إلا غبي بمآخذ الأقيسة ومراتبها
1349 - وإن فرض الانعكاس في أقيسة المعاني فلا بد من ذكر تقسيم في ذلك منبه على سر العكس أولا ثم يعود الكلام إلى غرضنا من الترجيح فنقول رب معنى مخيل مناسب لا يشعر انتفاؤه لانتفاء الحكم في وضعه وربما يشعر انتفاؤه بانتفاء الحكم الذي اقتضاه الطرد وبيان ذلك بالمثال أنا قلنا في تحريم النبيذ مشتد مسكر فهذا يناسب التحريم من جهة إفضاء السكر إلى الاستجراء على محارم الله تعالى والاستهانة بأوامره وعدم الشدة لا يشعر بالتحليل
1350 - وإذا قلنا مستقل بالتصرف فلا يولى عليه كان الاستقلال مشعرا بنفي الولاية وعدم الاستقلال مشعر بإثبات الولاية فإذا تمثل النوعان في قياس المعنى بنينا عليه غرضنا وقلنا إن لم يكن المعنى بحيث يخيل عدمه عدم حكم الطرد وفرض مع ذلك انعكاسه فقد تجمعت فيه

الإخالة والشبه فإذا عارضه معنى غير منعكس ولم يكن في وضعه بحيث يشعر عدمه بعدم الحكم فالمنعكس مقدم عليه بطريق الترجيح إذا اجتمع فيه إخالة فقهية وقوة شبهية
1351 - فإن تعارض معنيان وأحدهما يشعر في الطرد والعكس نفيا وإثباتا والثاني يخيل من وجه الطرد ولا يخيل من جهة العكس فان انعكس المخيل ولم ينعكس ما لا يخيل فالمنعكس مرجح وسبب ترجيحه قوة الإخالة وإن لم ينعكس ما لا يخيل من جهة العكس بسبب علة أخرى خلفت العلة الزائلة فالوجه ترجيحها على العلة التي لا تخيل في العكس فإن عدم الانعكاس فيما يخيل من جهة الانعكاس محمول على ثبوت علة اخرى خلفت العلة الزائلة وقوة الإخالة لا تزول
1352 - وتحقيق هذا أنا قدرنا عند انتفاء العلة التي فيها الكلام انتفاء علة أخرى ( لانتفي ) الحكم لقوة الخالة ( وشدة ) الارتباط ( ومقتضى 9 اقتران الحكم والعلة وهذا المعنى لا يتحقق فيما لا يقتضي الإخالة في جهة العكس
1353 - فلو لم تنعكس علة مقتضاها الانعكاس لمكان علة اخرى ( خالفت ) وانعكست التي لا تخيل في جهة العكس فقد اختلف المحققون في ذلك فقدم مقدمون المنعكس لاجتماع قوة الإخالة في الطرد وقوة الشبه في العكس وذهب أخرون إلى تقديم العلة التي تخيل في جهة العكس لاختصاصها بقوة الإخالة

وأدنى مأخذ المعاني مقدم على أعلى مسالك الاشباه ولا يقدح في قوة الإخالة عدم الانعكاس إذا ثبتت علة تخلف العلة في الطرد
1354 - ومما يتم به الغرض في ذلك أن العلة إذا أخالت في العكس فالعلة المخالفة يجب أن تكون أقوى من ( إخالة ) العلة الأولى في العكس لا محالة
1355 - فإن امتنع الانعكاس لنص أو إجماع فهذا موضوع التوقف قال قائلون عدم الانعكاس مفسد للعلة من حيث إنه أثر في فقهه وإخالته فكان هذا كالنقض في الطرد وقال المحققون لا يبطل العلة فلها في الثبوت دلالة وعلة عدم الحكم عدم العلة أمكن الانعكاس فالإجماع ( قدح انتفاء الحكم ) في تقدير العدم علة والنقض يخرج وجود العلة عن كونه علة والقول في النقض طويل وقد سبق تفصيله فيما تقدم فهذا هو اللآئق بغرض الترجيح في فصل الانعكاس مسألة
1356 - وقد تقدم القول في العلة القاصرة المقتصرة على محل النص فإذا رأينا صحتها فلو فرضنا علة متعدية عن محل النص ففي ترجيحها على القاصرة خلاف
1357 - وحاصل ما قيل فيه ثلاثة مذاهب أحدها وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق ترجيح القاصرة والثاني وهو المشهور ترجيح المتعدية

والثالث وهو اختيار القاضي أنه لا ترجح إحداهما على الأخرى بالقصور والتعدي
1358 - وأول ما يجب به الافتتاح تصوير المسألة فإن فرضنا علتين قاصرة ومتعدية في نص واحد فالقول في هذا ينبني على أن الحكم الواحد هل يعلل بأكثر من علة واحدة وهذا أصل قد سبق تمهيده فإن لم يمتنع اجتماعهما فلا معنى لترجيح إحدى العلتين على الأخرى ولكن الوجه القول بالعلتين والقاصرة والمتعدية متوافيتان في محل النص الواحد لا تناقض بينهما ولا تعارض فإن المتعدية مستعملة مقول بها وراء النص وإن لم نر اجتماع ( العلتين لحكم واحد فإذ ذاك ) ينقدح الكلام في ترجيح القاصرة على المتعدية
1359 - ( أما الجمهور ) من أرباب الأصول فذاهبون إلى ترجيح المتعدية ووجه قولهم أن العلل ( تعني 9 كفوائدها والفائدة المتعدية فإن النص يغنى عن القاصرة فكان التمسك بالمتعدية أولى ومن رجع القاصرة احتج بأنها متأيده بالنص وصاحبها آمن من الزلل في حكم العلة فكان التمسك بها أولى
1360 - ووجه القاضي إن الفوائد بعد صحة العلل ( وصحة العلل ) ترتبط بما يصحهها مما يقتضي سلامتها عن المبطلات فإذا دل الدليل على الصحة

واستمرت دعوى السلامة فلا نظر وراء ذلك في النتائج والفوائد قلت أو كثرت وليس من الرأى الترجيح بحكم العلة وهو النتيجه والفائدة والترجيح الحقيقي إنما ينشأ من مثار الدليل على الصحة وفائدة العلة في مرتبة ما يدعى لها
1361 - وقول القاضي في المسلك الذي ذكره أوجه الأقوال في مقتضى الأصول وما رآه الجمهور من النظر إلى الفوائد متروك بما ذكرناه وما اعتبره الأستاذ في مطابقة النص لحكم العلة القاصرة غير معتبر لما نبهنا عليه من أن حق المرجح ألا ينظر إلى حكم العلة ولا يرجح به بل الترجيح بما يصحح به العله ويقتضى مزيد تغليب الظن فيه وما ذكره مرجح العلة القاصرة من الأمن ( لا وقع ) له فإنه راجع إلى استشعار ( خيفة ) لا إلى تغليب ظن وتلويح متلقى من مسالك الاجتهاد
1362 - والذي ( يبتغى ) وراء ما ذكرناه أن العلة المتعدية إذا صحت على السبر ولم يناف صحتها طارىء فقد وجدنا معنى على شرط الصحة ومقتضاه اعتبار غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه وهو مستند إلى أصل ثابت منشؤه من قاعدة شرعية فلست أدري ردها لمكان حكمة تسنح من الفكر منطبقة على محل النص فإن المعاني إذا اتصفت بالصفات التي ذكرناها من اجتماع الأمور المرعية والسلامة عن المبطلات والاستناد إلى منصوص عليه

فالأولون من الأئمة كانوا مسترسلين على العمل بها وليس ما يجرى في الفكر من العلة القاصرة مناقضا فلا وجه لترك المتعدية قطعا وإنما المتروك من قول من يرجح العلة المتعدية ( تعلقه ) بالفوائد ومصيره إلى أن العلة ( تعنى ) لثمرتها وفوائدها وهذا واه ضعيف فالوجه التعلق باسترسال المجمعين على العمل بالقياس كما ذكرناه وهذا إذا ضمه الناظر إلى ما حصلناه من القول في العلة القاصرة انتظم له فيه حقيقة المراد
1363 - ( وعندنا أن ) هذه المسألة غير ( واقعة في الشريعة وإنما هي مقدرة ) والشريعة عرية عن اتفاق وقوعها
1364 - فإن قيل قد علل أبو حنيفة رحمه الله تعالى الربا في النقدين بالوزن وهو متعد إلى كل موزون وعلل الشافعي رحمه الله بكونهما جوهري النقدين وهذا مقتصر على محل النص فما قولكم في ذلك
1365 - قلنا الوزن على باطلة عند الشافعي والقول في التقديم والترجيح يتفرع على اتصاف كل واحدة من العلتين بما يقتضى صحتها لو انفردت
1366 - ومن تمام الكلام في ذلك أن العلة القاصرة لو صح القول بها إن كانت غير مخيلة في جهة العكس فلا معارضة ولا مناقضة ( والنقدية ) ليست مخيلة في جهة العكس فكيف يتوقع اقتضاؤها نفي الحكم في العكس وقد ذكرنا في مراتب الأقيسة أن علة الربا في الأشياء الستة واقعة آخرا في درجات الأشباه ولا يتسلط المستنبط عليها ( إلا ) بتقدير الإرهاق والاضطرار إلى استنباطها فلسنا نرى للمسألة الموضوعة جدوى ولا فائدة

1367 - فإن قال قائل لو استنبط ناظر علة في محل التحريم فصادف اجتهاده علة قاصرة ورأى محل النزاع عكسا لها واستنبط مستنبط آخر في محل تحليل مجمع عليه علة متعدية وصورة النزاع طردها فما القول والحالة هذه قلنا لا يتصور أن يعارض عكس طردا فإن الطرد في منزلة العلة والعكس يقع في حكم ( العضد ) للإخالة على طريق التبعية ولا يقابل ما هو أصل ما يقع فرعا في معرض التلويح وهذا على التحقيق لو قيل به مصير إلى معارضة العلة ترجيحا
1368 - فإذا لم يتصور في اجتماع العكس قاصرة ومتعدية على حكم التوافق ( نظرا ) إلى الترجيح ولم يتحقق تعارض بين قاصرة ومتعدية في أصلين مختلفين فإن القول يرجع إلى معارضة الطرد والعكس وهذا لا سبيل إليه
1369 - فإن قيل علة الشافعي في تثبيت الخيار للمعتقة تحت العبد قاصرة وقد قدمتموها على العلة المتعدية لأبي حنيفة قلنا هذا ساقط من أوجه أحدها أن ما اعتمده أصحاب أبي حنيفة من تعليل الخيار باطل في نفسه فلا ينتهى القول فيه إلى مقام الترجيح ومنها أن الرأي الظاهر عندنا ألا يعلل خيار المعتقة ( تحت العبد ) كما حققنا في ( الأساليب ) ومنها أن من يثبت الخيار للمعتقة تحت الحر يزعم أن قصة بريرة كانت واقعة والزوج

حر فلا معنى للاستشهاد بهذه الصورة في ادعاء الوقوع والاستشهاد به
1370 - فإذا هذه المسألة تقديرية لا نراها واقعة وقد ( كنا ) ذكرنا أن اجتماع العلل للحكم الواحد ينساغ في نظر العقول ( ولكنه غير متفق وقوعا في الشرع ) فلا معنى لإعادة ما سبق فهذا منتهى المراد ( في ذلك ) ثم فرع الجدليون وراء هذا مسألتين نرسمهما وهما عريتان عن الفوائد مسألة
1371 - قال من يرجح العلة المتعدية إذا تعارضت علتان فروع إحداهما أكثر من ( فروع ) الأخرى ( وهما جميعا متعديتان ) فكثيرة الفروع منهما مقدمة على الأخرى وقد ذكرنا أن أصل الكلام في المتعدية والقاصرة غير واقع وإنما يتكلم المتكلم على التقدير فالقول في المتعديتين يجرى على ذلك النحو فليس في المتفق عندنا علتان على الوفاق لحكم واحد منصوص عليه ومجمع عليه وكل واحدة على شرط الصحة
1372 - فإن قدر المقدر فرضهما فلسنا نرى تعطيل العلة الكثيرة الفروع لمكان أخرى تساويها في بعض مقتضياتها فليس هذا ( إذا ) لو اتفق ( من ) مسالك الترجيح في شيء فلو فرضنا علتين متناقضتين في محل النزاع وأصلاهما مختلفان فلا يقع الترجيح بكثرة فروع إحداهما قطعا ومن خالف في ذلك لم نبال به وإنما تتخصص إحدى العلتين بما يقتضي تغليبا على الظن والترجيح عائد إلى تلويح ظني وهذا القدر كاف

مسألة
1373 - من اعتقد أن كثرة الفروع تقتضي ترجيحا رسم مسألة وتكلم فيها مجادلا بما يصفه والغرض ألا يعرى هذا المجموع عما ( قيل في ) أصول الترجيح قال هؤلاء إذا كثرت فروع علة وقلت فروع أخرى ولكن القليلة الفروع اعتضدت بنظائر لها تضاهي في عدتها فروع العلة الكثيرة ( الفروع ) كانت كثرة النظائر في معارضة كثرة الفروع
1374 - وبيان ذلك بالمثال أن الشافعي خصص لزوم الكفارة العظمى من جملة المفطرات بالوقاع ورأى إتيان المرأة في المأتى الأصل وفيه واقعة الأعرابي وعدى علته إلى إيلاج الحشفة في كل فرج
1375 - واعتبر أبو حنيفة في إيجاب الكفارة الفطر ( بمتنوع ) ( المفطرات ) فكانت فروعه أكثر ولكن للاختصاص بالوقاع نظائر كثيرة كالغسل والحد ووجوب المهر وتكميله والإحصان والتحليل فكانت هذه النظائر في الاختصاص مضاهية لكثرة الفروع في علة الخصم
1376 - وهذا قول عرى عن التحصيل في مساق كلام هذا القائل إلى ( أن نذكر ) حقيقة المسألة فإن النظائر التي ذكرناها ما نراها معللة فلا وجه للاعتضاد بها وإن تمسك متمسك بها في مسلك الأشباه ( فلا ) تعلق أيضا بها فإن ثبوت ( الأحكام بالوقاع ) على الاختصاص لا يغلب على الظن أن يختص بها كل حكم

ينقل فيه ولا يجري مجرى الأمثلة التي ذكرناها للرتبة العليا من أقيسة الأشباه ومن فهم ما تقدم تميز عنده ما نحن فيه عما سبق
1377 - وبالجملة إن تلك الأمثلة تجري في غير المطلوب إذ النظر في اعتبار القليل بالكثير في ضرب العقل اعتضد بالقليل في حق الشريك وكان ذلك ناشئا من عين المطلوب والضرب مسترسل لا توقف فيه فلا أصل إذا لما ذكر هذا الإنسان ثم إنما يستقيم ما ذكره لو كانت علة الخصم صحيحة دون تقدير المعارضة وليست كذلك ولو صحت لما عارضتها علة أخرى تساويها وتوافقها في بعض مقتضياتها وقد ينشأ من فرض هذه المسألة أصل في الترجيح فليتأمله الناظر
1378 - فأما مسلك أبي حنيفة فمردود من جهة التناقض المنقول عنه في مذهبه وإنما المذهب المطرد مذهب مالك في تعليقه الكفارة بكل فطر هاتك حرمة الصوم من غير مناقضة فإذا استنبط ذلك من محل النص وهو الوقاع واستنبطناه فلا نرى لترجيح ما يستنبطه وجها مع جريان ما اعتبره مالك وإن تعلقنا بالأشباه وادعينا أن الوطء يجب أن يكون على مزية اعتبارا ( بالنسك ) فهذا شبه على بعد في معارضة معنى الهتك ( وليس من الانصاف معارضة شبه على هذا النعت بمعنى جار في محل النزاع وإن لم نر تعليل الكفارة لم ينتفع بهذا ما لم نبطل معنى الهتك ) لمالك وبالجملة قوله في تعميم الكفارة متجه جدا والعلم عند الله وليس هذا من القول في قواعد الترجيح ولكن وضع المسألة على ما وصفناه

مسألة متعلقة ببقايا الكلام في هذا الفن
1379 - قال قائلون من أصحاب الشافعي رضي الله عنه إذا تعارضت علتان وإحداهما أكثر فروعا بيد أن الأخرى منطبقة على الأصل والفرع من غير تأويل والكثيرة الفروع تحتاج إلى تقدير ( تأويل ) في بعض مجاريها فهذا يغض من جريانها ويقدح في الترجيح بكثرة فروعها
1380 - وبيان ذلك أن إذا اعتبرنا في القرابة المقتضية للنفقة والعتق البعضية وهذا يجري في الوالدين والمولودين على انطباق واعتبر أبو حنيفة رضي الله عنه الرحم والمحرمية وفروع علته وإن كانت مركبة أكثر فإنها تتناول الأصول والفروع غير أن الرحم والمحرمية لا يجريان إلا على تأويل بين الذكرين والأنثيين وذلك بأن يقدر أحدهما ذكرا والآخر أنثى وهذا ركيك من الكلام لا ينساغ مثله لمتشوف إلى تحصيل وذلك أن الرحم لا تأويل فيه وكذلك المحرمية ولكن لا يظهر التحريم لا لتقاعد العلة ولكن لعدم المحل
1381 - وليس من الرأي التعويل على مثل هذا بعدما قدمنا القول في كثرة الفروع وقلتها وقد انتهى الغرض في هذا الفن ونحن نأخذ بعده في رسم مسائل في سائر أغراض المرجحين إن شاء الله تعالى

( مسائل ) ( في أغراض المرجحين ) مسألة
1382 - ذهب ذاهبون إلى أن ما تجاذبه أصلان وتعارض في إلحاقه بأحدهما نظر النظار فمن تمكن من توفير شبهى الأصليين كان مسلكه مرجحا ومثلوا ذلك بالقول في يمين اللجاج والغضب فإنها بين النذر الذي يوجب الوفاء وبين اليمين التي توجب الكفارة فمن خير بين الوفاء والكفارة كان مسلكه مرجحا من جهة توفير شبهى الأصليين
1383 - وهذا مزيف عندنا من جهة أنه ترجيح مذهب لا ترجيح علة جارية على شرط الصحة وقد قدمنا في أول ( الكتاب ) أن المذاهب لا ترجح ( و ) مأخذ مسألة يمين اللجاج من ( الآثار عندنا ) وكل من سلك هذا المسلك فهو يزعمه ( يوفر ) شبهين من أصلين على إبعاد في الكلام وهو على القرب بقطعة عنهما جميعا وهو غافل عما يأتي وبيانه أن مقتضى النذر إلتزام الوفاء ( لا تجويزه ) ومقتضى اليمين التزام الكفارة والتخيير مباين للمقتضيين ووضوح ذلك مغن عن بسط القول فيه مسألة
1384 - إذا تعارضت علتان واختصت إحداهما بالاستناد إلى أصول ففي الترجيح بكثرة الأصول خلاف بين أهل الأصول فذهب بعضهم إلى أن ذلك يقتضي ترجيحا من جهة أنها في محل الشواهد

وكثرة الشهادات تغلب على الظن وهو المقصود بالترجيح واستشهد هؤلاء بكثرة الرواة في تعارض الخبرين
1385 - والرأي الحق عندنا يقتضي تفصيلا فإن كان المعنى الجامع واحدا وكان مستندا إلى أصول فلست أرى الترجيح بكثرة الأصول والحالة هذه فإن الدلالة على الحكم ( هي ) المعنى وإنما يذكر الذاكر الأصل استئناسا به وأمنا من الوقوع في متسع الظنون مع العلم بأن مسالكها مضبوطة في الشريعة وهذا يحصل بأصل واحد وليس عدد الأصول بمثابة عدد الرواة فإن التعويل في الأخبار على الثقة وظهورها في الظن وهذا يزداد بزيادة عدد الرواة ولو استمكن القايس من جوامع وكل جامع معنى مستقل مستند إلى أصل ولم يتمكن الخصم إلا من معنى واحد فلا شك أن من كثرة معاينة مع الاستواء في الرتب مقدم لكثرة الدلالات وهذا الآن يناظر كثرة الرواة ولكن إذا عارض معنى الخصم معنى أخر ثم أتى بمعان فهذا من باب ترجيح دليل بدليل وقد تقدم القول فيه وهو متعلق بلفظ ( بعدما وضح ) أن صاحب المعاني يقدم مذهبه
1386 - ومما يتصل بهذا الفصل أن الناظر في مسلك الأشباه قد يلقى صورة تضاهي كثرة الأصول والترجيح بها واقع ومثاله أن أحمد بن حنبل رحمه الله جوز المسح على العمامة تشبيها بالمسح على الخفين ومنعه الشافعي رحمه الله تشبيها بالوجه واليدين

فإذا ما يمنع المسح فيه أكثر وهذا يقوي من جهة أن الكلام في قربه واحدة تشتمل عليها رابطة فكثرة الأمثلة فيها تقرب من مآخذ الأشباه وليس هذا كأصول متبددة يجمعها معنى واحد فليفهم الناظر ما يرد عليه
1387 - فإن قيل إلحاق الرجل بالرأس أخص وأمس من جهة أن التخفيف يتطرق إليها قيل هذا باطل فإن ما ابتنى على التخفيف أشعر ابتناؤه عليه باكتفاء الشرع به حتى لا مزيد وهذا يعتضد بأمر واقع وهو تيسير مسح الرأس مع العمامة من غير احتياج إلى ( تنحيتها ) بخلاف القدم والخف ثم محل الأشباه في الرخص البعيدة عن مدارك المعاني الجزئية والكلية ضيق جدا والأصل اتباع الأصل مسألة
1388 - إذا تعارض قياسان ومع أحدهما ظاهر معرض للتأويل فالعلماء على مذاهب قال بعضهم إذا كان الظاهر بحيث يسوغ تأويله بالقياس الذي يعارضه فلا وقع له ولا ترجيح به والقياسان متعارضان وقال قائلون القياس الذي يعتضد بالظاهر مرجح وقال آخرون القياسان يتساقطان والتعلق بالظاهر
1389 - فأما من أسقط الظاهر فمذهبه مردود وذلك أن تأويل الظاهر إنما ينساغ إذا اعتضد بقياس غير معارض والمسألة مفروضة في تعارض القياسين وإذا بطل هذا المذهب فالمذهبان الآخران بعده متقاربان وحاصلهما يئول إلى تقديم المذهب الذي توافق عليه الظاهر والقياس

1390 - والعبارة السديدة ترجح القياس المعتضد بالظاهر فإن الظاهر لا يستقل دليلا مع قياس يصلح لإزالة الظاهر فإذا لم يستقل دليلا واعتضد به قياس أفاده ترجيحا وتلويحا ولا مرد على من أسقط القياسين وتمسك بالظاهر والأمر بعد بطلان المذهب الأول قريب مسألة
1391 - إذا تعارض قياسان واعتضد أحدهما بمذهب صحابي فمن يقول مذهب الصحابي حجة عد هذا من انضمام دليل إلى أحد القياسين وهذا يقتضى تقديم المذهب الذي تطابق عليه القياس ومذهب الصحابي ويقع الكلام في أن هذا هل يسمى ترجيحا أم لا وإذا كنا لا نرى التعلق بمذهب الصحابي فلا أثر له في الترجيح وقوله كقول بعض علماء التابعين ومن بعدهم
1392 - وإن اعتضد القياس بمذهب صحابي شهد له الشارع بمزية علم في ذلك الفن كقوله عليه السلام أفرضكم زيد فهذا على المذهب الظاهر يقتضى ترجيحا وإن كنا لا نرى قول الصحابي حجة وذلك لما في هذا التوافق من تغليب الظن مع المصير إلى أن مجرد قوله ليس بحجة

1393 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه قول زيد في الفرائض أرجح من قول معاذ وإن ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أعرفكم بالحلال والحرام معاذ وذلك أن شهادة الرسول عليه السلام لزيد أخص في الفرائض وأدل على اختصاصه بمزية الدرك فيها وكذلك مذهبه مع انضمام قياس أرجح من مذهب علي رضي الله عنه وإن قال الرسول عليه السلام أقضاكم علي وهذا أوضح وأبين مما قدمناه في معاذ فإن شهادة الشارع له بمزية النظر في القضاء تشير إلى التفطن لقطع الشجار وفصل الخصومة والتهدي إلى تمييز المبطل عن المحق والشهادة بمزية العلم في الحلال والحرام أوقع في مظان الاجتهاد والشهادة بمزية العلم في الفرائض أخص من الجميع فهذه إذا ثلاث مراتب
1394 - فإذا لم يكن في الواقعة قياس واجتمعت هذه المراتب فالقول في تقليد من يقلد يتعلق بكتاب الفتوى وبيان المفتى والمستفتى وسنستقصي القول في مذاهب الصحابة
1395 - فإن قيل إذا اعتضد مذهب يقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

فما الرأي فيه وقد قال عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر قلنا هذا أعم عندنا من الشهادة لعلي بمزية العلم في القضاء فإنا نجوز أن الرسول عليه السلام أشار إلى الاستحثاث على اتباعهما في الخلافة وإبداء الطاعة فإذا انضم إلى المراتب في الشهادة للصحابة رضي الله عنهم مرتبة رابعة فأعلاها وأولاها في التعلق أخصها وتليها الشهادة لمعاذ وتليها الشهادة لعلي رضي الله عنه ثم يلي ما ذكرناه الشهادة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما
1396 - ثم قال الشافعي قول على في الأقضية كقول زيد في الفرائض وقول معاذ في التحليل والتحريم إذا لم يتعلق بالفرائض كقول زيد في الفرائض مسألة
1397 - إذا تعارضت علتان وإحداهما مستندة إلى أصل مجمع عليه ( أو إلى نص ) والأخرى ليست كذلك فالمستندة إلى الإجماع أو إلى محل النص مرجحة وبيان ذلك بالمثال أن أبا حنيفة رحمه الله إذا أوجب الكفارة في الطعام وقاسه على الوقاع فعلته مستندة إلى محل الإجماع والنص ونحن إذا أبقينا الكفارة واستنبطنا القياس من ( بلع ) الحصاة لم يكن مستند ( قياسنا ) مجمعا عليه وهو ( أظهر ) ما يعتني به في الترجيح

ولكن لا ينتهي القول مع أبي حنيفة إلى الترجيح فإن ما استنبطه باطل وإنما يقع الترجيح وراء الاستقلال نعم مصادمة مالك عسرة ( فإنه ) لا يناقض ولا يوجد معه أصل به مبالاة
1398 - ومن هذا القبيل الذي ذكرناه أن أبا حنيفة إذا استنبط علة في عتق الأمة تحت العبد وعداها إلى الأمة المعتقة تحت الحر فعلته إن صحت مستندة إلى محل النص فإن وجدنا محلا مجمعا عليه في نفي الخيار واستندنا إليه علة في عتق الأمة تحت الحر تفاوتت العلتان
1399 - وهذا تقدير ذكرناه تمثيلا وإلا فعله أبي حنيفة باطلة في تلك المسألة والصحيح عندي قصور العلة رأسا على خيار المعتقة تحت العبد كما ذكرنا في ( الأساليب ) فليتنبه الناظر لهذا الأصل العظيم في الترجيح وليكن على بال منه مسألة
1400 - إذا تقابلت علتان إحداهما ذات وصف واحد والأخرى ذات وصفين فصاعدا فذهب بعض الجدلين إلى تقدم التي هي ذات وصف واحد وعللوا بأمرين أحدهما أن ذات الوصف الواحد تكثر فروعها وفوائدها والآخر أن الاجتهاد يقل فيه وإذا قل الاجتهاد قل الخطر
1401 - وهذا المسلك باطل عند المحققين فأما كثرة الفروع فقد سبق القول فيه ثم إطلاق هذا القول لا وجه له فرب علة

ذات وصف لا تكثر فروعها وربما تكون قاصرة لا تعدو محل النص فإن فرض فارض ازدحام علتين على أصل واحد ( و ) لم تكونا قاصرتين فإذ ذاك ذات الوصفين أقل فروعا ويعود الكلام إلى تعليل حكم بعلتين
1402 - ونحن نقول ( و ) قد انتهى الكلام إلى هذا الحد من يتمسك بذات الوصفين لا يخلو إما أن يقول لا تستقل العلة بالوصف الواحد فعليه إبانة بطلانها ولا يكون هذا الكلام في محل الترجيح وإما أن يقول تستقل العلة بالوصف الواحد فلا معنى إذا لما يريده ولا يتعلق هذا بالترجيح
1403 - وهذا نمثله بقولين للشافعي في علة الربا مذهبه في الجديد أن العلة الطعم في الأشياء الأربعة وضم في القديم التقدير إلى الطعم فإن كان يرى في القديم الاقتصار على الطعم فاسدا تعين بيان فساد الاقتصار وإن كان يرى ذلك مسوغا فليس التقدير وصفا في العلة قطعا ولكن إن ذكره ذاكر فغايته أن يكون الكلام في التقدير أظهر منه دونه ويكون هذا بمنزلة من يتخذ صورة من صور الخلاف ويرى الكلام فيها أقرب فالقول بالتقديرين جميعا خارج عن محل الترجيح وإنما أجرينا هذا مثالا وإلا فلا ريب في أن الشافعي رأى في القديم الاقتصار على الطعم فاسدا
1404 - وأما ما ذكره من تقديم ذات الوصف من ( قلة ) الاجتهاد فقول

ركيك فإن ( النظر ) في الأدلة وترجيح بعضها على بعض لا يتلقى من جهة الخطر واستشعار الخوف والذي يحقق ذلك أن صاحب العلة ذات الوصف الواحد إن لم ينظر في ذات الوصفين فاجتهاده قاصر وهو على رتبة المقلدين والمقتصرين على طريق من الاجتهاد وإن نظر في ذات الوصفين ولم ير التعلق بها فقد كثر إجتهاده وتعرض للغرر ولكن أدى اجتهاده إلى النفي فإن رأى ذات الوصف صحيحة فذات الوصفين عنده عديمة التأثير في أحد وصفيها وكل ذلك يفسد نهاية الاجتهاد فسقط الركون إلى قلة الاجتهاد واستشعار الخوف وتبين أن اقتحام الخطر حتم على كل مجتهد مسألة
1405 - إذا تضمنت إحدى العلتين نفيا والأخرى إثباتا فقد صار بعض الناس إلى تقديم العلة المثبة وهذا قول من لا يثبت فيما يأتي به فإن الترجيح لا ينشأ من النفي والإثبات فربما يكون الإثبات أغلب في مسالك الظنون وربما يكون الأمر على ( الظن في ) العكس فليتبع المتبع طريق التغليب على الظن مع الانحصار في مسالك الشريعةغيرمعرج على نفي أو إثبات
1406 - ويتصل بهذه المسألة أن إحدى العلتين إذا انطبقت على أصل مستقر

في الشرع وتضمنت الأخرى النفل عنه فهذا مقام النظر فقد قال قائلون النافلة أولى لاشتمالها على الزيادة واستشهدوا بخبرين أحدهما يثبت قول الشارع والآخر ينفيه فالمثبت أولى لاختصاصه بمزية درك يقدر ذهول النافي عنه وهذا قد فصلناه في ترجيح الأخبار
1407 - ولكن لو سلمنا الآن فليس مما نحن فيه بسبيل من جهة أن مأخذ الأخبار يستند إلى بصيرة النافلة ومرتبته في الدرك وقد يختص المثبت بها والعلل لا تؤخذ من هذا المأخذ ولكن مسالكها معلومه مسبورة فلتعرض ولينظر الناظر فيها ثم لا يقع الترجيح ( بحسبها ) نعم الوجه تقديم العلة المنطبقة علىالاصل المستقر فإنه في حكم الشهادة المؤكدة للعلة والنافلة تحتاج إلى مزيد وضوح يصادم قرار الأصل الذي يناقضها وإذا كان كذلك فالترجيح بمطابقة الأصل المستقر أولى ونقول بحسب ذلك إذا تقابلت علتان في الحكم بالحظر والتحليل ( فالتحليل في ) أصل الحظر علته أغلب فالمرجح العلة الحاظرة إلا أن تختص المحللة بمزية ظاهرة فهذا سر القول في هذا الفصل مسألة
1408 - إذا تقابلت علتان إحداهما حكم والأخرى أمر ثابت محسوس فلا يقع بينهما ترجيح

وذهب بعض الجدليين إلى أن المحسوس مرجح من جهة أن ثبوته معلوم قطعا وهذا الفن ساقط عندنا فإن الحكم عندنا ثابت قطعا وإن لم يكن ثبوته مقطوعا به والقول فيه يتعلق بما مهدناه في إستناد إحدى العلتين إلى مقطوع به وتردد الأخرى فأما إذا كان الحكم مجمعا عليه فلا وجه لما قاله هؤلاء مسألة
1409 - إذاكانت إحدى العلتين تعم الأحوال كعلة الشافعي في منع بيع الكلب فإنه اعتبر النجاسة وكانت العلة الأخرى تختص ببعض الاحوال كالانتفاع الذي تمسك به أبو حنيفة في جواز البيع وهذا لا يجري في الجرو فقد قال قائلون ( تقدم ) العلة التي تعم الأحوال وهذا عندنا عرى عن التحصيل فإن الجرو من جنس ما ينتفع به فلا ينتصب من مثل هذا شئ له وقع في مأخذ الدلة
1410 - ورأينا في مسألة الكلب أن التعلق بالنجاسة شبه لا يتأتى الوفاء بتقديرها معنى فقهيا ولكنه شبه مطرد وقول ابي حنيفة في الانتفاع معنى فقهي ولكنه منتقض والشبه المطرد مقدم على المخيل المنتقض فهذا وجه الكلام
1411 - والأمر المتبع في ترجيح الأقيسة ما مهدناه قبل الخوض في رسم المسائل ولكنا استوعبنا بهذه المسائل ما خاض فيه الخائضون وأوفينا على الاستيعاب وإن تركنا شيئا لم نتعرض له فقد مهدنا ما يرشد إلى ( قواعد ) القول فيه والله المستعان

باب ( النسخ )
1412 - النسخ في وضع اللغة معناه الرفع ومنه قولهم نسخت الشمس الظل ونسخت الريح آثار القوم ومعناه في التواضع بين الأصوليين وحملة الشريعة مختلف فيه فأقرب عبارة منقولة عن الفقهاء أن النسخ هو اللفظ الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع تأخير عن مورده وقال القاضي أبو الطيب الدال على انتهاء أمد العبادة وهذا مزيف من جهة أن النسخ لا يختص بالعبادات والحدود تعني للجمع والاحتواء ولم يقيد كثير من الفقهاء الكلام بالتأخير وهذا يرد عليه الألفاظ المتضمنة للتأقيت على الأتساق والاتصال كقوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل فهذه الألفاظ ليست نسخا وفيها بيان أنتهاء الآماد وليس ما ذكرناه مذهبا ولكن أتى قوم من اختلال العبارة وقلة تصورهم عما يرد عليها
1413 - والمذهب الذي يعزى إلى الفقهاء ما ذكرناه عاما للأحكام مقيدا بشرط التأخير وحقيقته ترجع إلى أن النسخ في حكم البيان لمعنى اللفظ والمكلفون قبل وروده ( لا يقطعون بتناول ) اللفظ الأول جميع الأزمان على التنصيص وإنما يتناولها ظاهرا معرضا للتأويل

فالنسخ عندهم تخصيص اللفظ بالزمان كما أن ما يسمى تخصيصا هو إزالة ظاهر العموم في المسميات
1414 - وقد صرح الأستاذ أبو إسحاق بأن النسخ تخصيص الزمان
1415 - وقالت المعتزلة النسخ هو اللفظ الدال على أن الحكم الذي دل عليه اللفظ الأول زائل في المستقبل على وجه لولاه لثبت مع التراخي ومذهبهم قريب من مذهب الفقهاء وقال القاضي أبو بكر بن الطيب النسخ رفع الحكم بعد ثبوته وهو لا يحتاج إلى التقييد بالتأخير فإن اللفظ الذي ينتظم لقصد التأقيت ليس فيه رفع حكم بعد ثبوته في قصد الشارع ومعتمد القاضي أن الحكم يثبت على التحقيق مؤبدا ثم يزول بعد ثبوته
1416 - ونحن نذكر لباب كلام القاضي في إتباع من يخالفه ثم نذكر بعد نجاز تفاوضهم ما هو الحق عندنا قال القاضي رحمه الله إذا كان النسخ في حكم البيان لمعنى اللفظ فلا فرق بينه وبين التخصيص وإزالة ظاهر اللفظ وهذا في التحقيق إنكار للنسخ وموافقة لجاحديه من اليهود وغلاة الروافض ويلزم منه تجويز النسخ بما يجوز به التخصيص حتى لا يمتنع نسخ نصوص القرآن والأخبار المتواترة بالخبر الذي ينقله الآحاد وبالقياس على رأى من يرى التخصيص به
1417 - وهذا الذي ذكره القاضي ( عندنا ) تشغيب غير مستند إلى مأخذ

من القطع فأما نسبته القوم إلى موافقة من ينكر النسخ فمردود من جهة أن منكريه لا يرون تخصيص الألفاظ في الزمان وما ذكره من إلزامهم تجويز النسخ بما يجوز التخصيص به كلام غير سديد فإن المعتمد في التخصيص ما ظهر من سيرة الصحابة رضي الله عنهم فلولا إزالتهم الظواهر لما أزلناها وقد رأيناهم لا يرون النسخ بما يرون التخسيس به فلا وقع إذا لهذا الكلام وإن تعلق متعلق باقتضاء النسخ الرفع في اللغة كان ذلك ركيكا من الكلام فإن مثل هذا الأصل العظيم لا يتلقى من اشتقاق اللغة مع اتساعها لتطرق التأويلات إليها
1418 - ثم إذا وضح ما ذكرناه فإن نفتتح بعده سؤالا موجها على القاضي ينكشف به وجه الحق فنقول إذا أثبت الله تعالى حكما على المكلفين فمعناه تعلق قوله الأزلى به في حق المكلفين فإذا علم ( الله ) أنه سيرد عليهم ما يسميه العلماء نسخا فخبره الأزلى يتعلق بتقديره وتحقيقه ويستحيل أن يتعلق خبره بثبوته على الأبد وارتفاعه على ( الجمع ) فإن ذلك لو قدر لكان ( تناقضا ) فلا معنى إذا لحقيقة الرفع بعد الثبوت وهذا ما لا جواب عنه ويتصل به أن اللفظ الأول الوارد على المكلفين إذا اقتضى تأبيدا فهو متضمن بشرط ألا يرد ما ينفي التأبيد وكان التقدير فيه أن المكلفين متعبدون بالحكم الأول أبدا بشرط ألا يرد عليهم ما ينافيه وهذا الشرط وإن لم يكن مصرحا به فهو ثابت قطعا
1419 - ولا يسوغ فهم الناسخ والمنسوخ مع تنزيه كلام الله تعالى عن التناقض

واعتقاد استحالة البداء عليه إلا على هذا الوجه فإذا الحكم الذي يرد النسخ عليه في علم الله تعالى غير مؤبد ولا لبس على الله تعالى وإنما حسب المتعبدون أمر بأن خلاف ما حسبوه ولو تحققوا لكانوا في استمرار الحكم الأول مجوزين للتقدير الذي ذكرناه فلا يكونون ( إذا ) قاطعين بالتأبيد في الحكم مع تجويزهم ورود ما ينافيه وعلمهم بأنه لا تبديل لقول الله عز و جل وموجب علمه فيرجع والحالة هذه النسخ إلى انعدام شرط دوام الحكم الأول والنسخ إظهار لذلك بعد أن كان مستورا عن المخاطبين ويرجع التقدير في الحكم الأول إلى أن الحكم ثابت بشرط ألا ينسخ فإذا ظهر النسخ لم يكن مقتضاه رفع ما تحقق ثبوته ولكن كان إبداء ( لانتفاء شرط ) الاستمرار والعبارة عن هذا المقصود أن النسخ هو اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول
1420 - فإن قيل لا فرق بين هذا الاختيار وبين مذاهب الفقهاء قلنا لا فرق بين هذا وبين مذاهبهم في أن الحكم الثابت في علم الله وقوله تعالى لا يزول لما قدمناه ولكن في كلام الفقهاء ما يدل على أن اللفظ الدال على الحكم الأول ظاهر في الأزمان معرض للتأويل تعرض الألفاظ العامة للتخصيص وهذا فيه إيهام لا حاجة إليه فإن اللفظ العام في وضعه ليس نصا في استغراق المسميات وليس كذلك موجب اللفظ في تأبيد الحكم فإنا نجوز ورود النص في استغراق الزمان مطلقا مع ورود الناسخ بعده وليس ذلك من جهة تأويل اللفظ في وضعه وإنما هو من جهة ( تقدير ) شرط مسكوت عنه وهو متضمن كل أمر يجوز تقدير نسخه
1421 - فإن قيل لو قال الشارع هذا الحكم مؤبد عليكم لا ينسخه شئ

فهل يجوز تقدير النسخ فيه والحالة هذه قلنا إذا ثبت هذا المعنى نصا لم يجز ورود ( النسخ عليه ) فإن ( في ) تقدير ( ورود ) النسخ عليه تجويز الخلف ولهذا اعتقدنا تأبيد شريعتنا ولا يكاد يبقى خلاف معنوي مع الفقهاء وما ذكرناه إن كان تنبيها لم ( ينتبه ) إليه ( بحث ) الفقهاء ( و ) إشارة إلى تهذيب لفظ في التعرض لإظهار الشرط ( المقدر ) الذي لا بد منه فإذا رجع إلى أن الثابت في علم الله تعالى لا ينسخ التفتتت المذاهب إلى الوفاق فإن وافق القاضي ما ذكرناه فلا خلاف وإن أصر على أن النسخ يتضمن رفعا لم يكن لمذهبه وجه
1422 - والنسخ فيما اخترناه مثل ما نصفه فنقول إذا توجه الأمر الجازم على معين فهو مشروط بأن يبقى إمكانه فإذا اخترم تبينا لم يكن مأمورا فإن توجه الأمر مشروط بالإمكان والأمر وإن كان مطلقا فالإمكان مشروط ( فيه ) وإن لم يجر ذكره تصريحا وقد ذكرنا في ذلك قولا بليغا في كتاب الأوامر ونقلنا في ذلك لجاج القاضي وطريق تتبعه بالنقض مع بناء الأمر على ( امتناع ) تكليف ما لا يطاق

مسألة
1423 - منعت اليهود النسخ وتابعهم على منعه غلاة الروافض من التناسخية وغيرهم وافترق نفاته فرقتين فذهب أكثرهم إلى أن النسخ ممتنع عقلا فنقول لهؤلاء إن زعمتم أن وقوعه مستحيل وأن ( امتناعه من ) جهة استحالة وقوعه فقد جحدتم البديهة فإنا نعلم على اضطرار أن ذلك ممكن الوقوع
1424 - وإن جحدتم ذلك من جهة ان المأمور به الأول مستحسن فلو فرض النهي عنه لتضمن ( ذلك ) كونه مستقبحا وفي ذلك خروجه عن حقيقة الأولى فقد قدمنا في أول الكتاب أن الاستحسان والاستقباح لا يرجعان إلى حقائق الأفعال وصفات ذواتها ثم القول في النسخ غير مفروض فيما يزعم المخالفون أنه حسن لعينه أو قبيح لعينه وإنما تفرض مسائل النسخ في التفاصيل التي تتفق أرباب العقول على أن مداركها الشرع لا غير
1425 - وإن زعموا أن النسخ ممتنع من جهة إفضائه إلى البداء والقديم سبحانه وتعالى متعال عنه فلا حقيقة لهذا فإن البداء إن أريد به تبين ما لم يكن متبينا في علمه فليس هذا من شرط النسخ فإن الرب تعالى كان عالما في أزلة تفاصيل ما يقع فيما لا يزال ولئن كان يلزم من تجدد الإحكام البداء لزم من تجدد الحوادث إماتة وإحياء وإعاشة ( وإرداء ) ما ادعاه هؤلاء وليس الأمر كذلك
1426 - فإن ردوا الامتناع إلى ما يتعلق باستصلاح العباد واستفسادهم فهذا

غير مرضى عندنا في حكم الله تعالى ثم لا يمتنع في غيبه أن يكون الاستصلاح في تبديل الأحكام كلما فتر قوم في امتثال الأحكام أرسل الله تعالى إليهم مبتعثا جديدا بحكم جديد فلا وجه لادعاء الاستحالة من طريق العقل
1427 - وزعم زاعمون أن النسخ ممتنع من جهة السمة وادعى طوائف من اليهود أن موسى عليه السلام أنبأهم أن شريعته مؤبدة إلى قيام الساعة وزعم هؤلاء أن طريق معرفة ذلك من دينهم كطريق معرفتنا بذلك من ديننا
1428 - وهذا باطل من وجهين أحدهما أن الأمر لو كان كذلك لما قامت معجزة عيسى عليه السلام ومعجزة محمد صلى الله عليه و سلم بعده على نسخ ملة موسى فإن أنكروا قيام المعجزة رد الكلام معهم إلى أصل النبوات وكان سبيل إنكارهم معجزة من بعد موسى كسبيل إنكار من يجحد معجزة موسى
1429 - والوجه الثاني أن ما ادعوه من دينهم لو كان صريحا لأظهروه وباحوا به من عصر نبينا عليه السلام ولا تخذوا ذلك أقوى عصمهم ولو فعلوا ذلك لنقله الناقلون متواترا لأن الأمر الخطير لا يخفى وقوعه وتتوفر الدواعي على نقله فقد ثبت جواز النسخ عقلا وشرعا
1430 - ولو أردنا أن نبتدئ الدليل على جوازه فأقرب مسلك فيه التمسك

بمعجزة عيسى بعد موسى عليهما السلام ثم التمسك بالإجماع في تحريم الخمر بعد ثبوت تحليلها في صدر الشرع وهذا على من ينكر النسخ من اهل الملة ممن ينتمي إلى المسلمين ثم نقول لهؤلاء لا شك في مخالفة ( دين نبينا ) محمد صلى الله عليه و سلم دين موسى وعيسى عليهما السلام في معظم قواعد الشريعة فكيف السبيل إلى تصديق الأنبياء مع إنكار النسخ وهذا فيه أكمل مقنع مسألة مترجمة بالنسخ قبل الفعل
1431 - وهذه الترجمة فيها خلل من جهة أن كل نسخ واقع فهو متعلق بما كان يقدر وقوعه في المستقبل فإن النسخ لا ينعطف على مقدم سابق والغرض من هذه المسألة أنه إذا فرض ورود أمر بشئ فهل يجوز أن ينسخ قبل أن يمضي من وقت اتصال الأمر به زمن يتسع لفعل المأمور به
1432 - فالذي ذهب إليه أهل الحق جواز ذلك وأطبقت المعتزلة على منعه وساعدهم على ذلك طوائف من الفقهاء
1433 - والدليل على تجويزه كالدليل على تجويز أصل النسخ فالوجه رد الكلام إلى التقاسيم السابقة في مسالك العقول التي يتلقى منها الجواز والاستحالة
1434 - فإذا قالوا النسخ يرجع إلى بيان مدة التكليف وليس رافعا لما ثبت في حكم الله تعالى ( ولو جوزنا النسخ في صورة الخلاف لكان ذلك رافعا للحكم لا محالة

قلنا ما ذكرناه من اختيارنا يجيب عن هذا فإنا نقول النسخ راجع إلى إظهار انتفاء لشرط بقاء الحكم فإن الحكم الموجه مشروط بألا ينسخ فإذا ثبت النسخ قبل انقضاء زمان يسع الفعل بان أنه لا حكم أصلا وهو من طريق التمثيل كزوال إمكان المكلف قبل استتمام الفعل
1435 - وإذا رد المعتزلة الكلام إلى استصلاح العباد لم يخف خلافنا لهم في أصل ذلك ثم لا يبعد في مجاري أحكام الغيب أن يكون الاستصلاح في أن يخاطبوا ويقبلوا ثم يرفع عنهم التكليف حتى يؤجروا على صدق نياتهم ويوفوا مالا يستقلون به في علم الله تعالى
1436 - ثم استدل أصحابنا في تجويز النسخ قبل الفعل بما جرى في قصة الخليل عليه السلام وابنه الذبيح الحق أو إسماعيل عليهم السلام ووجه التمسك أن الأمر بالذبح نسخ قبل وقوعه
1437 - فإن زعم المخالف أن المأمور به كان شدا وربطا وتلا للجبين كان ذلك باطلا من وجهين أحدهما أن الخليل عليه السلام اعتقد وجوب الذبح ( ولو لم يكن ) الأمر كذلك لما كان هذا بلاء عظيما كما أشعر به القرآن العظيم وهذا مقطوع به ويستحيل أن يكون معتقد النبي عليه السلام في الذي خوطب به خطا ثم الفداء دليل على ارتفاع الذبح بعد وقوعه الأمر ( به ) وقيام الفداء مقام ما كان المأمور به من الذبح
1438 - فإن ( تعلقوا ) بقوله تعالى قد صدقت الرؤيا

قيل لهم لم يقل قد حققت ( أوأ ) وقعت ما أمرت به بل قال صدقت وليس من شرط التصديق إيقاع ما يتعلق التصديق به
1439 - وقال بعض المخالفين وقع الذبح وجرت المدية وكانت تقطع ويلتحم ما انقطع وهذا بهت عظيم إذ لو كذلك لكان هذا أحق منقول وأظهر معجزة تتوفر الدواعي على نقلها ونص القرآن مع ما فيه من القيود والقرائن أصدق شاهد في ذلك فإنه قال فلما أسلما وتله للجبين وناديناه ولو كان ذبح لما وقع الاقتصار على ذكر التل للجبين دون وقوع المأمور به ثم ذكر الفداء بعد هذا مشعر بأن الذبح المأمور به لم يقع وأن الفداء قائم مقامه وهذا منتهى المثال في ذلك مسألة
1440 - قطع الشافعي جوابه بأن الكتاب لا ينسخ بالسنة وتردد قوله في نسخ السنة بالكتاب والذي اختاره المتكلمون وهو الحق المبين أن نسخ الكتاب بالسنة غير ممتنع والمسألة دائرة على حرف واحد وهو أن الرسول لا يقول من تلقاء نفسه أمرا وإنما يبلغ ما يؤمر به كيف فرض الأمر ولا امتناع بأن يخبر الرسول الأمة مبلغا بأن حكم آية يذكرها قد رفع عنكم ويرجع حاصل القول في المسألة إلى أن النسخ لا يقع إلا بأمر الله تعالى ولا ناسخ إلا الله والأمر كيف فرض جهات تبليغه لله تعالى فهذا القدر فيه مقنع

1441 - فإن زعم الفقيه أن القرآن معجزة بخلاف السنة فليس المنسوخ نفس القرآن وإنما المنسوخ حكمه ولا إعجازه في الحكم ( و ) هذا عرى عن التحصيل
1442 - وإن تعلقوا بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها فهذا خبر من الله تعالى وليس فيه ما يتضمن استحالة الوقوع وفيها الخلاف بل لا يمتنع تأويل الظواهر ولا وقع لها في القطعيات
1443 - ثم لا محمل لقول القائل لا تنسخ السنة بالقرآن فيقال لمن أنتحل هذا المذهب نزول القرآن بخلاف السنة ممتنع أم لا فإن منعه كان منكرا من القول وإن جوزه وزعم أن الرسول يسن عند نزوله سنة بخلاف السنة الأولى فيقع نسخ السنة بالسنة فهذا من الهزء واللعب والتلاعب بالحقائق وكيف يقدر وقوف النسخ وقد ورد القرآن وبالجملة إلى الله مصير الأمور ومنه النسخ والإثبات والرسول عليه السلام مبلغ في البين وهذا القدر كاف

مسألة مشهورة بالزيادة على النص
1444 - ومدارها على تحقيق تصويرها فإذا ورد نص في شئ ( واقتضى ) وروده الاقتصار على المنصوص عليه والحكم بالإجزاء فكان ذلك مقطوعا تلقيا من اللفظ والفحوى ولو فرضنا زيادة مشروطة لتضمن ثبوتها نسخ الإجزاء في المقدار الأول لا محالة ولا ( يسوغ ) تقدير الخلاف في ذلك
1445 - وإن اقتضى ما ورد به أولا الإجزاء وجواز الاقتصار اقتضاء ظاهرا وكان يتطرق التأويل إليه في منع الإجزاء فلو فرضت زيادة كانت في معنى إزالة الظاهر الأول ولم يتضمن نسخا اعتبارا بكل ظاهر يزال بحكم التأويل وهذا مما لا أرى فيه للخلاف مساغا
1446 - وإذا ثبت هذان الطرفان وهما حظ الأصول فالكلام بعدهما في ألفاظ ظنها الظانون نصوصا وهي ظواهر ثم القول في تفاصيلها مستقصى في ( الأساليب ) ولكنا نضرب للتمثيل صورا منها أن أصحاب أبي حنيفة ظنوا أن من أثبت النية في الطهارة فقد زاد على النص والكلام في ذلك مشهور وأقرب مسلك فيه أنا لا نبعد أن يكون غرض الآية مقصورا على بيان ( أفعال الطهارة ) وتقدير هذا لا يخالف نصا ولا فحوى وليس مع تجويز هذا لإدعاء النص وجه ومنها قوله تعالى في كفارة الظهار فتحرير رقبة قال أصحاب أبي حنيفة

زيادة الإيمان نسخ الأجزاء في الرقبة المطلقة وقد أوضحنا أن هذا تخصيص عموم ومنها قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان قالوا إثبات الشاهد واليمين يخالف هذا الحصر وهذا لا وجه له مع أن هذا الاحتياط مندوب إليه ونحن لا ننكر الندب ( إلى بينة ) كاملة مغنية عن الحلف ومنها قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا الآية مع استدلال الخصم بها في معنى التغريب وهذا من أظهر ما يتمسكون به وليس نصا فإنه لا يمتنع اشتمال الآية على بعض العقوبة وإحالة تمامها إلى بيان الرسول عليه السلام إذ ليس في الآية للرجم في حق المحصن ذكر فهذا بيان حقيقة القول في المسألة مسألة
1447 - أجمع العلماء على أن الثابت قطعا لا ينسخه مظنون فالقرآن لا ينسخه الخبر المنقول آحادا والسنة المتواترة لا ينسخها ما نقله غير مقطوع به ووراء ما ذكرناه حقيقة هي كشف الغطاء ونحن نبينها بسؤال وجواب عنه فإن قيل ما المانع من انتصاب دليل قاطع على أن الخبر إذا نقله العدول يجب ترك حكم القرآن عند نقلهم قلنا هذا غير ممتنع لو ورد ولكن لم يرد ثم لو قدر وروده فالنسخ يتلقى من الدليل القاطع والخبر المنقول آحادا في حكم العلم الذي يقع العمل عنده لا به وقد تكرر

هذا الفن مرارا في مسائل هذا المجموع وهذا الذي ذكرناه في الخبر يطرد في القياس أيضا مسألة
1448 - يجوز نسخ رسم آية من القرآن في التلاوة مع بقاء حكمها ويجوز تقدير نسخ حكمها مع بقاء رسمها في آى القرآن وقد منع مانعون من المعتزلة الأمرين وصار إلى منع أحدهما دون الآخر ( على البدل ) صائرون وما ذكرنا في طريق إثبات الجواز في مسالك هذا الكتاب يجري على المنكر للجواز في هذه المسألة ثم الأمر بالتلاوة على نظم القرآن حكم غير القرآن فيؤل القول في الحقيقة إلى نسخ حكم فأما عين القرآن فلا يرد عليه نسخ ( أصلا ) مسألة
1449 - إذا ثبت النسخ ولم يبلغ خبره قوما فهل يثبت النسخ في حقهم قبل بلوغ الخبر إياهم هذا ما أختلف فيه الأصوليون وعندنا أن المسالة إذا حقق تصويرها لم يبق فيها خلاف فإن قيل على من لم يبلغه الخبر الأخذ بحكم الناسخ قبل العلم به فهذا ممتنع عندنا وهو من فن تكليف ما لا يطاق وهو مستحيل في تكليف الطلب وإن أريد بثبوت النسخ في حق من لم يبلغه الخبر أن الخبر إذا بلغه لزمه تدارك أمر فيما مضى فهذا لا امتناع فيه وإذا ردت المذاهب المطلقة في النفي والإثبات إلى هذا التفصيل لم يبق

للخلاف تحصيل مسألة
1450 - لا يمتنع نسخ الحكم من غير بدل عنه ومنع ذلك جماهير المعتزلة وهذا تحكم منهم والدليل على جوازه ما تمهد في مسألة التجويز في أصل النسخ فلا معنى للإعادة بعد وضوح المقصد مسألة
1451 - إذا ورد نص واستنبط منه قياس ثم نسخ النص تبعه القياس المستنبط ( منه ) وقال أبو حنيفة لا يبطل القياس وإن نسخ النص وقد جرى له هذا المسلك في الأخذ من صوم ( يوم ) عاشوراء ( في ترك حكم التتبييت ) لما اعتقد وجوبه ثم ثبت نسخ وجوبه
1452 - والقول الواقع في ذلك عندنا أن المعنى المستنبط من الأصل الأول إذا نسخ أصله ( بقي ) معنى لا أصل له فإن صح استدلالا نظرنا فيه وإن لم يصح أبطلناه

فصل في الفرق بين النسخ والتخصيص
1453 - قال الفقهاء النسخ تخصيص في الأزمان دون المسميات المندرجة تحت ظاهر اللفظ والمعتزلة يقرب مأخذ كلامهم من مآخذ كلام الفقهاء فإن النسخ عند هؤلاء بيان

معنى اللفظ وأما القاضي فإنه يقول التخصيص بيان المراد باللفظ العام والنسخ رفع الحكم بعد ثبوته والمختار عندنا أن التخصيص بيان المراد باللفظ والنسخ ( لا تعلق له بمقتضى اللفظ ) ولا يتضمن رفع حكم ثابت ولكنه إظهاره ما ينافي شرط استمرار الحكم الأول كما سبق تقريره ( والله أعلم وأحكم )
1454 - ثم الكتاب وقد نجز بحمد الله ( ومنة ) وحسن توفيقه الغرض من هذا المجموع في الأصول ونحن نرسم بعد ذلك مستعينين بالله تعالى كتابا جامعا في الاجتهاد والفتوى يقع مصنفا برأسه وتتمة لهذا المجموع إن شاء الله تعالى

خاتمة نسخة الشيخ الخضري والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد المرسلين محمد وآله تم كتاب البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين على يد كاتبه لنفسه عبد الرحمن بن عبد الحي بن محمد الخضري الدمياطي الشافعي الشاذلي الأشعرى في يوم الخميس الثالث من شهر شوال سنة 1336 سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وألف من هجرة من خلقه الله على أكمل وصف صلى الله عليه و سلم صلاة لا تنقطع أبدا ولا تفنى أمدا ولا تنحصر عددا هذه خاتمة نسخة الشيخ الخضري التي في ملك نجله الشيخ أحمد كامل الخضري وهي غير الخاتمة الموجودة في نسخة دار الكتب المنقولة عن نسخة مصطفى مكاوي وهذا يشهد لما قلناه عند عرضنا لنسخ الكتاب ( انظر المقدمة )

ملحق البرهان الكتاب السادس كتاب الاجتهاد
1455 - ونحن نصدر هذا الكتاب بالكلام في تصويب المجتهدين ونردفه بمسألتين فيهما إنجاز الكتاب فإن معظم أحكام الاجتهاد تذكر في كتاب الفتاوى فنقول قد اضطرب الأصوليون في أن المجتهدين في المظنونات وأحكام الشريعة مصيبون على الإطلاق أم المصيب منهم واحد وهذا بعد إطباقهم على أن المصيب فيما اختلف فيه اجتهاد المجتهدين في المعقولات

وقواعد العقائد واحد والباقون على الزلل والخطأ
1456 - ولم يؤثر فيه خلاف إلا عن المعروف بالعنبري فإنه نقل عنه أن كل مجتهد مصيب في المعقولات والمظنونات جمعيا وهذا لا بد أن نتكلف له محملا ونبين له وجها ثم نزيفه إذ لا يظن بذي عقل أن يقول الاجتهادات الواقعة في أصل الملل والنحل كالاجتهادات الواقعة في حدث العالم وقدمه ووجود الصانع كالاجتهاد في المظنونات حتى يصوب فيه كل مجتهد ولو قال بهذا أحد لكان انسلالا عن الدين بالكلية وكيف يعتقد ذلك ( والعلم ) أحد الجانبين وما يعارضه جهل فكيف يعتقد الجاهل مصيبا
1457 - ولعل هذا القائل أراد بذلك أن النظر إذا انحط عن أصول الملل والنحل وانخرط في سلك الشريعة ثم تباينت الآراء وتفاوتت الأهواء كاختلافها في خلق الاعمال ونفيه وإرادة الكائنات وقدم القرآن ( وثباته الخاطئ ) فيه ببديع فمثل هذا يصوب فيه كل مجتهد
1458 - وغاية الإمكان في تقرير هذا المذهب أن يقال مطالب الخلق الوصول إلى الحق ولكن اكتفى منهم بعقدهم عليه ( مصممون ) فإذا خاضوا في طلب الحق ولم يحتمل عقلهم إلا ما اعتقدوه فيعذرون على اعتقادهم ولا يوبخون ولا نقول مع هذا إن معتقداتهم صحيحة أو يلزم من ذلك أن يكون التشبيه حقا ولا وجه له ولكن نقول يعذرون لأنهم تكلفوا ذلك ولم تحتمل عقولهم إلا ما اعتقدوه والذي يستند إليه نهاية هذا التقرير أن الأعراب في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يسألون والرسول عليه السلام يعلمهم تفاصيل أحكام الشريعة وكيفية الاستنجاء وتدوير الأحجار على الصفحات ولو كان البحث عن هذه الحقائق واجبا لكان ذلك أحرى بالتقديم ولكان يعلمهم ذلك

فاستبان بمجموع ذلك أن الخطأ في أمر لم يكلف بأصله سهل المدرك
1459 - وهذا مع ما أطنبنا فيه مزيف فإنا نقول لهم إن عنيتم بقولكم إن النظر في هذه الأبواب لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم فمسلم وإن عنيتم به الاستغناء عنه في زماننا هذا فلا فإن البدع بعد قد ظهرت والفتن قد بدت ولا سبيل إلى تقرير المبتدعة على معتقداتهم ليفشوها ويدعوا الناس إليها وهذا لأنا نعلم على الاضطرار أن مبتدعا لو أظهر في عصر الصحابة رضي الله عنهم بدعة لكانوا يبالغون في تقريعه وتوبيخه فإذا لم يكن من التقريع بد جاز أن يكون البحث عنه مأمورا به
1460 - على أنا نقول هب أنه لم يؤمر به ولكنه يجوز أن يقال إذا خضت فيه فابغ درك اليقين ولا تقنع بما عداه وقولهم إن عقلهم لا يحتمل إلا ما اعتقدوه قلنا عقل من احتمل التنزيه كعقل من اعتقد التشبيه وإن عنيتم أنه لم يحتمل التنزيه فهو قائل للحق إذا ثم جاز أن ينتهض هذا عذرا لجاز أن يصوب اليهود على معنى بأنهم يعذرون لأنه لم يحتمل عقلهم إلا التهود وكذلك النصارى والمجوس فقد بطل هذا المذهب واستبان أن المصيب في المعقولات واحد
1461 - فأما المظنونات فقد اشتهر الخلاف فيه فصار القاضي وشيخنا أبو الحسن إلى تصويب المجتهدين وتابعهم الطبقة الغالبة ونقل القاضي عن الشافعي مثل مذهبة وقال لولا أن مذهبه هذا وإلا ما عددته من الأصولية
1462 - وصار الأستاذ أبو إسحاق إلى أن المصيب واحد ثم قال لمن يصوب المجتهدين هذا مذهب أوله سفسطة وآخره زندقة وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي

1463 - ثم الذين قالوا بالتصويب انقسموا قسمين فصار المقتصدون منهم إلى أن الوقائع العرية عن النصوص والإجماع ليس لله فيها حكم معين ولكن على الناظر فيها الطلب والاجتهاد فإذا غلب على ظنه أمر فحكم الله عليه إتباع غلبة ظنه وموجبه
1464 - وأما الغلاة فإنهم قالوا لا مطلوب في الإجتهاد ولا اجتهاد فيفعل ما يختار أي الطرفين يشاء وعن هذا قال الأستاذ آخره زندقة إثبات الخيرة ورفع الحجة وتفويض الأمر إلى اختيار المريد وأوله سفسطة فإنه تحليل شئ محرم وعلى العكس
1465 - وأما الذين قالوا المصيب واحد ( فقد ) انقسموا أيضا انقسام الفرقة الأولى فصار المقتصدون إلى أن من أصاب منهما فله أجران والمخطئ معذور وأما الغلاة فإنهم قالوا المخطئ آثم معاقب معاتب ونحن نذكر ما لكل فريق مع التنبيه عليه ثم نذكر المختار عندنا
1466 - فأما الذين قالوا المصيب واحد فقد قالوا يستحيل أن يكون الشئ الواحد حلالا حراما فإنهما متناقضان متنافيان فقيل لهم الميتة حرام على غير المضطر وهي على المضطر حلال قالوا تفاوت الأحكام في التحليل والتحريم في حق شخصين قلنا ومن أوجب إتباع الظن يعتقد موجب الظنين صوابا وهما ظنان أيضا من شخصين
1467 - فإن قالوا إذا قلتم المصيب الواحد فالمستشفى يستفتى أيهما ( شاء )

قلنا وأنتم إذا صركم إلى أن المصيب كلاهما فالمستفتي يراجع منهما من فإن قلتم يراجع الأفضل الأورع قلنا كذلك إذا قلنا المصيب واحد فإن فرضوا مفتيه تحت مفت قال لها الزوج أنت بائن واعتقد الزوج أن لفظ البينونة لا يقطع الرجعة لكونها كناية واعتقدت الزوجة أن الكنايات تقطع الرجعة قالوا فإذا قلتم المصيب من المجتهدين واحد فكيف ينتظم الأمر بينهما ويفصل الأمر على أي رأي قلنا وأنتم إذا قلتم المصيب كلاهما فكيف تقطع الخصومة ولا سبيل إلى الجمع بينهما والصورة كما فرضتموها قال الأستاذ أبو إسحاق التحريم مقصود وله مسلك في الشريعة وللتحليل مسلك وله مطلب مقصود في الشريعة ومسلك التحريم والتحليل على المضادة والمناقضة فكيف نعتقد مسلكين متنافيين على حكم في محل متحد
1468 - وهذا فيه بعض النظر لأن من الخصوم من يعلو قبيله المطلوب بالنظر والاجتهاد ويثبت الخيرة فأنى يفند هذا الكلام معهم هذا منتهى ما يستدل به هؤلاء مع الإيجاز
1469 - وإما الذين صاروا إلى التصويب فمعتمدهم أنهم قالوا لا شك أن كل مجتهد يعمل بموجب اجتهاده هذا لا خلاف فيه بلا مرية وريب فالذي أدى اجتهاده إلى التحليل يلزمه العمل بموجب اجتهاده والذي أفضى اجتهاده إلى التحريم يحتم عليه الجريان على مقتضى اجتهاده ووجوب العمل بمقتضى الاجتهادين من أمر الله تعالى وإيجابه
1470 - فالمعنى بقولنا أنهما مصيبان أنهما فعلا ما كان الواجب عليهما في ذلك ويجوز أن يوجب البارئ تعالى حكما على شخص ويوجب على غيره خلافه فإن قيل بم تنكرون على من يزعم أن الواجب طلب الحق ودرك اليقين

وإحكام الآت الاجتهاد والتزام المستند في سبر الرشاد مفض إليه فأحد المجتهدين لما خالف مطلب التأني كان مقصرا في اجتهاده إذ لو أتم الاجتهاد على ما ينبغي لاتحد مطلب الاجتهادين قلنا أليس وجب عليه بإيجاب الله تعالى وأمره العمل بموجب الاجتهاد الذي هو مخطئ فيه فالواجب عليه ذلك فقد أصاب الحق وأما وهي الاجتهاد والتقصير في انقسامه فلا معنى له ولأن الاجتهاد ليس هو إلا طلبا فيه غلبة ظن وإذا أنتج غلبة الظن فقد أتم المقصود وإنهاء الاجتهاد نهايته مما يستحيل أن يخاطب به فإن غايته مجهولة ليست معلومة مفهومة مضبوطة فالأمر بإنهائه إلى نهاية غير مضبوطة تكليف ما لا يطاق وإذا لم يكلف ذلك فقد أدى من الاجتهاد ما أفاد غلبة الظن والشرع اوجب عليه العمل بموجبه فيبعد أن يوجب الشرع عليه عملا ثم يحكم بأنه مخطئ ( فيما ) أوجب الجريان عليه
1471 - فإذا حصلت الإحاطة بهذه الطرق فأقول المختار عندي أمر ملتفت وكأنه ملتقط من الطرفين وهو يجمع المحاسن وذلك أنا نقول للأستاذ إن عنيت بتخطئة أحدهما أنه لا يجب العمل بموجب غلبة الظن فهذا إنكار ما لا وجه لإنكاره إذ المجتهد إذا غلب على ظنه أمر فأمر الله عليه إتباع موجب ( ظنه ) ولا أن يناط لظنه غيره فيتأثر به وإن عنيت به أنه كلف المجتهد وراء غلبة الظن بتحصيل أمر آخر فلا وجه له أيضا إذ الامر والاجتهاد ينضبط به وغلبة الظن حاصل
1472 - وأما القاضي فنقول له إن عنيت بالتصويب وجوب العمل عليهما على وفق ظنهما فهذا مسلم وإن عنيت به رفع الاجتهاد وإثبات الخيرة واعتقاد التسوية بين التحليل والتحريم فهذا أمر يناقض وضع الشريعة على القطع وهذا معلوم على الضرورة

وبالبديهة وإن عنيت به أن لا حكم لله تعالى في الوقائع على التعيين فهذا أيضا جحد لأن الطلب لا ليستقل بنفسه ولا بد من مطلوب ويستحيل فرض طلب لا مطلوب له فإن الباحث عن كون زيد في الدار ( يقدر ) كونه فيه ويقدر أيضا خلافه ثم يطلب الوقوف على أحد الأمرين الذي هو الحقيقة ( فكذلك ) المجتهد إذا وقعت واقعة بطلب النصوص من الكتاب والسنة ثم الإجماع ثم إن أعوز المطلوب فيه فينظر في قواعد الشريعة يحاول إلحاقا ( ويريد ) جمعا ويطلب شبها فيخل في نفسه وجود التشبه ثم يجتهد في طلب الأشبه فالمطلوب هو الأشبه
1473 - إذا ثبت هذا وتقرر أنه لا تخلوا واقعة عن حكم الله فنقول المجتهد مصيب من حيث عمل بموجب الظن بأمر الله مخطئ إذا لم ينه اجتهاده إلى منتهى حصل العثور على حكم الله في الواقعة وهذا هو المختار ونبين ذلك بمثالين أحدهما أن المجتهد إذا اجتهد في واقعة حكم الله فيها التحريم ثم اجتهاده أدرك التحريم فهو مصيب من كل وجه وإذا اجتهد الثاني فغلب ظنه الكراهة فعمل به فهو مصيب من حيث إنه وجب عليه العمل بالكراهة مخطئ من حيث إنه لم يدرك التحريم والمثال الثاني إذا اشتبه صوب القبلة فاجتهد أحدهما فأدرك صوب القبلة فاستقبله فهو مصيب في الجريان على مقتضى الاجتهاد عملا ومصيب من حيث إنه أدرك حكم الله فيه وإذا اجتهد الثاني وغلب على ظنه أن القبلة في صوب آخر فعليه أن يستقبله

وهو مصيب في استقباله مخطئ من حيث إنه لم يدرك صوب الكعبة الذي هو نهاية مطلوبه وهذا مما لا سبيل إلى إنكاره فإن صوب القبلة واحد وهو متعين في علم الله لوجوب الاستقبال
1474 - فإن قال القاضي المجتهد لم يكلف طلب الكعبة وإنما أمر بتحصيل غلبة الظن إذ لو أمر بطلب صوب الكعبة فهو متعين وعليه أمارات يتصور الوقوف عليها على اليقين فلو كان كذلك لما ساغ له استقبال غيره بالاجتهاد وأما المظنونات فهي مشتبكة الطرق لا سبيل إلى حسم مواردها ومسالكها ولا يكون المظنون قط إلا مظنونا فلا يحصل له فيه علم فدل على أنه لا حكم لله فيه وعلى اليقين
1475 - قلنا نعم لا يتصور حصول علم فيه ولكن يتصور ظنه وللظنون مسالك وفوائد كما للعلوم وهو لم يكلف إلا تحصيل غلبة الظن في إنه ظفر بالأشبه وفي الحقيقة يئول الخلاف إلى لفظ إذ لا يستجيز مسلم تأثيم مجتهد وإذا ارتفع التأثيم وحصل الاتفاق على أن كلا يعمل بغلبة ظنه لم يبق للخلاف أثر ولكن شوفنا فيما أوردناه وردناه عودا على بدأ ان تبين أن للمجتهد مطلوبا ه هو شوفه وهو طلب الأشبه والأقرب ثم إن تعارضت ( الأشباه ) وانحسم مسالك الترجح فقد نقول هذه واقعة خلت عن حكم الله تعالى على ما سيأتى ونحن ننجز الأن المسألتين الموعودتين فيهما يتم الغرض مسألة
1476 - رددنا في كلامنا أن شوف الناظرين من الطالبين الأشبه وهذا قد اختلف الأئمة في حقيقة الأشبه الذي هو المطلوب فقال قائلون هو الذي يلوح للناظر فيه المشابهة والمقاربة ولا تنطبع عنه عبارة وهذا هذيان لا حاصل له وراءه
1477 - وقال ابن سريج الأشبه المطلوب هو الذي يغلب على الظن عند تقدير

ورود الشرع بحكم في المحل أنه كان ينص على ذلك الحكم وهذا حكم على الغيب
1478 - فإذا الذي عليه التعويل أنا نقول المسألة إذا ترددت بين أصلين في التحريم والتحليل ويجاذبهما أصل التحريم وأصل التحليل فالمطلوب تقرير الأشبه فإن كانت أشبه بأصل التحريم فالمطلوب الذي هو نهاية التشوف والتحريم وإن كانت على العكس فالتشوف التحليل ومن يسبق إلى الأشبه فله أجرا مصيب فيهما وإن أخطأ الشوف فهو مصيب في العمل مخطئ نهاية الشوف فكأن الذي لم ينته إلى نهاية الشوف مصيب من وجه مخطئ من وجه
1479 - فإن قال قائل مذهب أبي حنيفة أن كل مجتهد مصيب فما الفرق بينه وبينكم قلت إن عنى بالتصويب وجوب العمل فهو متابع عليه وإن عنى أنه مصيب غاية الشوف ففيه النزاع وإن عنى به أنه مصيب في الاجتهاد دون العمل فهو محال فإن كان المعنى به ما فصلنا في اختيارنا فلا ( نتبرأ ) عن أبي حنيفة أنى نطق بالحق ولا يحتج لوفاقه في الأصول ومطالب القطع لوفاقه مسألة
1480 - المجتهد إذا اجتهد وعمل ثم تبين أنه أخطأ نصا فلا شك أنه يرجع إلى مقتضى النص وهل يتدارك ما أمضاه ( فيه ) تردد فقهي والغرض الأصولى أنه إذا تبين أنه أخطأ نصا فهل يصوب فأما الذين صاروا إلى التخطئة في المظنونات فلا شك أنهم يقطعون بتخطئته وأما المصوبون فإنهم اختلفوا فمنهم من غلطه وخطاه ومنهم القاضي لأن التصويب كان لارتفاع المطلوب

وتخيل أن لا حكم لله فيه على اليقين وها هنا الحكم متعين بالنص وقد أخطأ لما لم يصبه وغلا من هؤلاء غالون فقالوا يأثم المجتهد لغفلته عن النص ومنهم من عذره وقال هو مخطئ غير آثم وصار بعض الغلاة من المصوبة إلى تصويبه وإن خالف نصا واستدلوا بأن قالوا إذا خفي النص وجب عليه الاجتهاد وإذا اجتهد مرتسما ما وجب عليه وأدى اجتهاده إلى أمر غلب على ظنه أنه الحكم وجب عليه العمل به فإذا عمل ما وجب فقد أصاب
1481 - والمختار عندي ما قدمته فإن الأشبه الذي هو شوف الطالبين فيما عدم النص فيه ( كالنص ) في محل وجوده فيخرج منه أن الذي أخطأ النص والشوف مصيب من جهة العمل مخطئ من حيث إنه لم ينته إلى نهاية الشوف ولا فرق بين قصور النظر عن الأشبه أو درك النص فما فيه الكلام وإن كان النص يفيد ركون النفس ولا يفيد الأشبه إلا غلبة الظن والله أعلم

-

الكتاب السابع كتاب الفتوى
1482 - ( المفتي ) مناط الأحكام وهو ملاذ الخلائق في تفاصيل الحرام والحلال ولك ينكر واحد ولا سبق إلى إنكاره من لا اعتبار به اتهم في دينه كيف والصحابة رضي الله عنهم كانوا يفتون فيتبعون ويقضون فينفذون وكذلك من لدن عصرهم إلى زماننا هذا ثم مقاصد الكتاب يحصرها فصول
فصل
1483 - في صفات المفتي والأوصاف التي يشترط استجماعه لها وقد عد الأستاذ فيه أربعين خصلة ونحن نذكر ذلك في عبارات وجيزة فنقول يشترط أن يكون المفتي بالغا فإن الصبي وإن بلغ رتبة الاجتهاد وتيسر عليه درك الأحكام فلا ثقة بنظره وطلبه فالبالغ هو الذي يعتمد قوله
1484 - وينبغي أن يكون المفتي عالما باللغة فإن الشريعة عربية وإنما يفهم أصولها من الكتاب والسنة من يفهمه يعرف اللغة ثم لا يشترط أن يكون غواصا في بحور اللغة متعمقا فيها لأن ما يتعلق بمأخذ الشريعة من اللغة محصور مضبوط وقد قيل لا غريب في القرآن من اللغة ولا غريب في اللغة إلا والقرآن يشتمل عليه لأن إعجاز القرآن في نظمه وكما لا يشترط معرفة الغرائب لا ( نكتفي ) بأن يعول في معرفة ما يحتاج إليه

على الكتاب لأن في اللغة استعارات وتجوزات قد يوافق ذلك مآخذ الشريعة وقد يختص به العرب بمذاق ينفردون به في فهم المعاني وأيضا فإن المعاني يتعلق معظمها بفهم النظم والسياق ومراجعة كتب اللغة تدل على ترجمة الألفاظ فأما ما يدل عليه النظم والسياق فلا ويشترط أن يكون المفتي عالما بالنحو والإعراب فقد يختلف باختلافه معاني الألفاظ ومقاصدها
1485 - ويشترط أن يكون عالما بالقرآن فإنه أصل الإحكام ومنبع تفاصيل الإسلام ولا ينبغي أن يقنع فيه بما يفهمه من لغته فإن معظم التفاسير يعتمد النقل وليس له أن يعتمد في نقله على الكتب والتصانيف فينبغي أن يحصل لنفسه علما بحقيقته ومعرفة الناسخ والمنسوخ لا بد منه 1486 وعلم الأصول أصل الباب حتى لا يقدم مؤخرا ولا يؤخر مقدما ويستبين مراتب الأدلة والحجج
1487 - وعلم التواريخ مما تمس الحاجة إليه في معرفة الناسخ والمنسوخ
1488 - وعلم الحديث والميز بين الصحيح والسقيم والمقبول والمطعون
1489 - وعلم الفقه وهو معرفة الأحكام الثابتة المستقرة الممهدة
1490 - ثم يشترط وراء ذلك كله فقه النفس فهو رأس مال المجتهد ولا يتأتى كسبه فإن جبل على ذلك فهو المراد وإلا فلا يتأتى تحصيله بحفظ الكتب
1491 - وعبروا عن جملة ذلك بأن المفتي من يستقل بمعرفة أحكام الشريعة نصا واستنباطا فقولهم نصا يشير إلى معرفة اللغة والتفسير والحديث وقولهم استنباطا يشير إلى معرفة الأصول والأقيسة وطرقها وفقه النفس
1492 - والمختار عندنا أن المفتي من يسهل عليه درك أحكام الشريعة وهذا لا بد فيه من معرفة اللغة والتفسير وأما الحديث فيكتفي فيه بالتقليد وتيسير

الوصول إلى دركه بمراجعة الكتب المرتبة المهذبة ومعرفة الأصول لا بد ( منه ) وفقه النفس هو الدستور والفقه لا بد منه فهو المستند ولكن لا يشترط أن تكون جميع الأحكام على ذهنه في حالة واحدة ولكن إذا تمكن من دركه فهو كاف
فصل
1493 - ويشترط أن يكون المفتى عدلا لأن الفاسق وإن أدرك فلا يصلح قوله للإعتماد كقوله الصبى
1494 - معقود فيمن كان مجتهدا من الصحابة فلا يخفي على ذي بصيرة أن الخلفاء الراشدين كانوا مجتهدين مفتين لأنهم تصدوا ( للإمامة ) ولا يصلح لها إلا مجتهد وكانوا يفتون في زمنهم ويقضون ويحكمون وينفذون ولم يعترض عليهم ( فدل ) ذلك على القطع بأنهم كانوا مفتين
1495 - وأما أصحاب الشورى وهم طلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد ( والزبير ) وكان معهم عثمان وعلي إلا أنا قطعنا بأنهم كانا مفتيين فقال قائلون هؤلاء مجتهدون لأن عمر رضي الله عنه أسهم الخلافة بينهم وألقاها فيهم فدل على أنهم مستصلحون للإمامة ولا يصلح لها إلا مجتهد
1496 - قال القاضي وهذا الاستدلال ضعيف فإن عمر لم يفوضها إلى أحدهم ولذلك كان إذا ذكر واحد منهم له قال فيه قولا فذكر له الزبير فقال صاحب المد والصاع فإنه كان تاجرا فبين أن هذه المرتبة

العلية تترقى عن أفعال تلائم الخسة والركاكة وتفتقر إلى كمال العقل والثبات فذكر له سعد فقال صاحب مقت فذكر له طلحة فقال إنه ذو خير وإنه ذو استكبار فذكر له علي فقال لو وليتموه ليولين بني أبي معيط ولو ولاهم لتثورن الثوار والله لو فعلتم ذلك ليفعلن والله لو فعل ليفعلن ثم قال هذا أمر تقلدته حيا فلا أتقلده ميتا فدل على أنه لم يقطع بصلاح كل واحد منهم لهذا الشأن
1497 - وأما أبو هريرة فقال القاضي كان ناقلا وما كان مفتيا والمختار عندي في هذه التفاصيل ما نقول من تصدى للفتوى في زمان وشاع ذلك واستفاض ولم يبد من أهل الفتوى عليه نكير كان مفتيا وعليه بنينا القول في الخلفاء الراشدين فإنه ما كان يخفى أمرهم وعبد الله بن مسعود كان فقيه الصحابة وكذلك العبادله الأربعة لا يخفى تصديهم للفتوى وأما أبو هريرة فقد كثرت روايته ولم يتبين لنا أنه كان يفتى فالوجه أن نقول من كان يفتى في زمانهم ولم ينكروا فهو مفت ومن لم يفت فيهم نقطع القول بأنه ما كان مفتيا ومن ترددنا فيه نتردد في كونه مجتهدا مفتيا والشافعي قلد معاوية في مسألة وذلك يدل على أنه كان مجتهدا
1498 - وأما من انحط عنهم من التابعين فللشافعي عن الحسن البصري كلام ونحن نكلف أنفسنا عن تعدادهم فقد ذكرنا المختار وعليه يخرج كل كلام مقصود من

هذا الفن
1499 - وأما مالك رضي الله عنه فكان تدواره على النصوص حتى كان معظم أجوبته في المسائل الخالية من النصوص لا أدرى وقد اشتهر مذهبه في استصلاحات مرسلة يراها انسلت تلك القواعد عن ضبط الشريعة وقدم مذاهب أهل المدينة على الأحاديث الصحيحة
1500 - وأما أبو حنيفة فما كان من المجتهدين أصلا لأنه لم يعرف العربية حتى قال لو رماه بأبا قبيس وهذا لا يخفى على من شدا أدنى شيء من العربية ولم يعرف الأحاديث حتى رضي بقبول كل سقيم ومخالفة كل صحيح ولم يعرف الأصول حتى قدم الأقيسة على الأحاديث ولعدم فقه نفسه اضطرب مذهبه وتناقض وتهافت فلا يخفى أن الشريعة مجامعها ( الحث ) على مكارم الأخلاق والنهي عن الفواحش والموبقات ( وإباحة نفي في المحرمات ) ( فمن ) صار في العقوبة الآيلة إلى حقوق الآدمي مثل القصاص إلى إسقاطه بالمثقل فقد خرجت القاعدة التي لأجلها ثبت القصاص حيث قال تعالى ولكم في القصاص حياة ثم ترقى من نفي القصاص إلى إنكار الحس فحكم بكونه خطأ حتى ضرب العقل على العاقلة وأثبت فيه الكفارة مع نفيه الكفارة عن العمد وصار في العقوبات الثابتة لله تعالى إلى أن قطع السرقة يسقط فيما كان أصله على الإباحة والأشياء الرطبة ويضم ما لا قطع فيه إليه ( وحرم انهه العبادات بترتيب أقل ما يجري من الصلاة ) وأبطل مقصود الزكوات حيث أنكر وجوبها على الفور ثم

أسقطها بالموت ثم حج ذلك باعتقاده تغير حكم الله تعالى بقبول كل قاض فأباح زوجة زيد لعمرو بغير طلاق من زيد ومن غير عدة ولا نكاح من عمرو وبشهادة زور ودعوى باطلة ولم ير القصاص في القتل بالمثقل وكان يقول لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة فقال كل فقه بعدك حرام ووقع ذلك منه موقعا عظيما وعن هذا قيل استتيب أبو حنيفة من الإرجاء مرتين فإن هذا مذهب ( المرجئة ) فكيف يظن وحاله هذا مجتهدا
1501 - وأما الشافعي فقد استبان تبحره في اللغة ولهذا قال حبر الصناعة الأصمعي صححت دواوين الهذليين على شاب من قريش يقال له محمد بن إدريس الشافعي أما الأصول فهو أول من صنف فيه وأما فقه النفس وغيره فيتبين في كيفية ترتيبه الأدلة في الفصل ( التالي ) إن شاء الله

فصل
1502 - ذكر الشافعي في الرسالة ترتيبا حسنا فقال إذا وقعت واقعة فأحوج

المجتهد إلى طلب الحكم فيها فينظر أولا في نصوص الكتاب فإن وجد مسلكا دالا على الحكم فهو المراد وإن أعوزه انحدر إلى نصوص الأخبار المتواترة فإن وجده وإلا انحط إلى نصوص أخبار الآحاد فإن عثر على مغزاه وإلا انعطف على ظواهر الكتاب فإن وجد ظاهرا لم يعمل بموجبه حتى يبحث عن المخصصات فإن لاح له مخصص ترك العمل بفحوى الظاهر وإن لم يتبين مخصص طرد العمل بمقتضاه ثم إن لم يجد في الكتاب ظاهرا نزل عنه إلى ظواهر الأخبار المتواترة مع انتفاء المختص ثم إلى أخبار الآحاد
1503 - فإن عدم المطلوب في هذه الدرجات لم يخض في القياس بعد ولكنه ينظر في كليات الشرع ومصالحها العامة وعد الشافعي من هذا الفن إيجاب القصاص في المثقل فإن نفيه يخرم قاعدة الزجر ثم إذا لم يجد في الواقعة مصلحة عامة التفت إلى مواضع الإجماع فإن وجدهم أطبقوا على حكم نصوا عليه فقد كفوه مؤنة البحث والفحص
1504 - فإن عدم ذلك خاض في القياس ونظر فإن وجد الواقعة في معنى المنصوص عليه فلا يثقل عليه سبر الطرق فإن أعوزه فيقيس ويطلب الإخالة والمناسبة والإشعار فإذا هجم عليه عمل به إذا لم يعارضه مثله فإن عارضه ما يوازيه في الإخالة يكلف الترجيح فإن استويا في طرق التلويح لم يفت بواحد منهما فإن تعسر عليه وجدان المخيل طلب الشبه إن جعلناه حجة لا مزيد على هذا الترتيب إلا أن ( يعينه الرب ) فإنه لو قدم الإجماع ليفتي به جاز فإنه مقدم على كل مسلك في المرتبة العلية والله أعلم

فصل
1505 - المجتهد في القبلة إذا كان من أهل الاجتهاد وضاق الوقت وخاف فوات الصلاة لو اشتغل بالإجتهاد فله أن يقلد مجتهدا آخر
1506 - وكذلك المجتهد إذا استشعر الفوات لو اشتغل بالاجتهاد في الأحكام فله أن يقلد مجتهدا
1507 - فأما المجتهد لو أراد التقليد مع سعة الوقت وإمكان الاجتهاد قال الشافعي ليس له أن يقلد بل عليه أن يجتهد وسلك الأستاذ أبو إسحاق في تقرير هذا المذهب مسلكا فقال ذكرنا مراتب الأدلة ودرجاتها وبينا أن النصوص مقدمة على غيرها ثم اجتهاد المرء في حقه يضاهي النص واجتهاد غيره في حقه بمثابة القياس فيجب أن يقدم اجتهاده على اجتهاد غيره كما يقدم النص على القياس
1508 - وهذا فيه خلل لأننا نقول من أين قلت ومن أين تلقيت ولم جعلت الاجتهاد كالنص واجتهاد الغير كالقياس والاجتهاد متبع ( في أي ) وقت بأن يكون المقلد عاميا أو مجتهدا
1509 - وسلك القاضي فيه مسلكا آخر فقال قول الغير لا يتبع إلا بدليل قاطع فإنا لم نقبل قول النبي إلا بمعجزة قاطعة دلت على الصدق وقد قام دليل قاطع على وجوب إتباع اجتهاد المجتهد ولم يقم دليل قاطع على وجوب إتباع المجتهد المجتهد في اجتهاده وانتفاء القاطع دليل قاطع على منع الإتباع وطرد هذا في الأخبار فقال كل ما دل قاطع على رده رددناه وما دل قاطع على قبوله قبلناه وما ترددنا فيه فانتفاء القاطع دليل على رده
1510 - ونحن لا نرى هذا إذ نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في قبول الأحاديث ثم من صار إلى قبولها لم يبال بخلاف من ردها وكان تقضي بها فالمتردد لم يقم دليلا على الرد وكذلك تقليد المجتهد وما دل على وجوب الإتباع

( يتبعه ) وما دل الدليل فيه على الرد فنرده وما ترددنا فيه فالمسألة في مظله الاجتهاد وهو محل التحري والتوخي وذلك من شأن الفقهاء وحظ الأصول منه ما ذكرناه

فصل
1511 - لا يخفى أن المقلد ليس له ان يقلد غيره إلا بعد نظر واجتهاد وقد اختلفوا فيما عليه
1512 - فقال القاضي في ( التقريب ) عليه ان يتلقف مسائل من كل فن مما يحتاج المفتي إلى معرفته من الأحاديث وغرائبه والقرآن ومشكلاته ومسائل الفقه فيمتحن من يوقع تقليده به فإن أصاب في الكل قلده وإن أخطأ فيه أو في البعض وقف في إتباعه ولا بد أن يخبره عدلان بأنه مجتهد
1513 - قال الأستاذ أبو بكر بن فورك إذا قال المفتي أنا مجتهد اعتمده واتبعه ويكتفي بأخباره وقال الآخرون لا بد من أن تستقصي كونه مجتهدا أو يتوافر ذلك بالتسامع
1514 - فنقول أما اشتراط الامتحان فلا وجه له فإنا نعلم أن الأجلاف من العرب كانوا يستفتون المجتهدين من الصحابة وما كانوا بمختبرة لهم فاشتراطه بعيد وأما التسامع فلا اعتبار به لأن المخبرين لا يخبرون عن محسوس وإنما يلهجون به عن قول مخبرين فلا ثقة بقولهم فإذا لعل المختار أن المفتي إذا قال أنا مفت صدق إذ كان عدلا واتبع والله أعلم
فصل
1515 - اختلف أهل الأصول في أن المستفتي هل يجب عليه أن يستفتي الأفضل أم له أن يراجع من هو دونه إذا كان مجتهدا قال قائلون يتحتم مراجعة

الأفضل لأن المقصود من المراجعة حصول الثقة بأمر الله تعالى والثقة في مراجعة الأفضل أكمل فمراجعته أولى وهذا يتأيد بوجوب تقديم الأفضل في الإمامة الكبرى
1516 - والمختار عندي أن الإمامة العظمى يتعين ( لها ) الأفضل لأن المقصود منه المصلحة وفي إتباع الأفضل المصلحة أظهر إلا أنا نقول إذا حصلت المتابعة من واحد أو من جمع لذي نجدة وشوكة فلا يخلع لنبايع الأفضل لأن فيه إظهار المفسدة ثوران نفتن أو كذلك إذا ( بويع ) المفضول ثم نشأ من هو أفضل منه ولم يخلع المفضول ولم يخلع لأنه إذا كان الأول صاحب شوكة كان خلعه مقتضيا إلى نقيض المقصود من الإمامة وأما الفتوى فعندي أنه لا تجب مراجعة الأفضل لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا يراجعون المفتين مع توافرهم وما كانوا يقتصرون على مراجعة من كان أفضلهم والله أعلم مسألة
1517 - إذا وقعت واقعة واستفتى فيها المستفتي ثم وقعت ثانية تلك الواقعة فهل يلزمه المراجعة ثانيا اختلفوا فيه فقال قائلون يلزم ذلك لأن الاجتهاد يتغير والمسؤل إذا سئل ثانيا لزمه تجديد الاجتهاد فإن نتيجة الإجتهاد في حقه كوحي يتصور نسخه
1518 - وعندي أن الفتوى الأولى إذا استقرت إلى قطع من نص فلا يلزمه المراجعة ثانيا لأنه لا يتصور تغيره وكذلك إذا كانت المسالة في مظنه الاجتهاد وعسر المراجعة في كل دفعة بأن كان يحتاج إلى انتقال وسفر والسبب فيه أنا نعلم أن أهل الفيافي كانوا يستفتون في عصر الصحابة مرة وكانوا يتخذون الإجوبة قدوتهم عند تكرار تلك الواقعة وكذلك إذا كانت المسألة فيما يتواتر ويتكرر كالاستنجاء والصلاة فقد يتكرر في كل يوم دفعات فإيجاب المراجعة في كل مرة تكليف مشقة وما عداه فعلى ما قاله الأولون

ولسنا نجعل المشقة دليلا فيما ( استقناه ) آخرا بل نستبين ( معظم المشقة ) أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يفعلونه بل يتسامحون فيه والله أعلم مسألة
1519 - الواقعة إذا ترددت بين مفتيين مستجمعين خلال الاجتهاد وتناقض جوابهما نفيا وإثباتا فالمتغني يتبع الأعلم والأورع فإن استويا في الفضل والعلم واختص أحدهما 0 بمزيد ) في الورع اتبع الأورع وإن استويا في الورع وكان أحدهما أفضل قلد الأفضل وإن أختص احدهما بتقدم في الورع وعارضها زيادة ورع في الجانب الثاني قدم الأفضل فاتباع الأعلم أولى فإما إذا استويا في الورع والفضل فقد اختلف الأصوليون فيه فقال قائلون يؤخذ بالأشد والأغلظ وقال آخرون يراجع نفسه فما شهد بصحته خاطرة وفكره عمل به وقال آخرون يتخير إن شاء عمل بهذا وإن شاء عمل بغيره وتفصيل القول في هذا يستدعي تقديم فصلين أحدهما القول في تقدير فتور الشرائع والثاني جواز خلو بعض الوقائع عن حكم الله تعالى فإذا التجز ننعطف إذ ذاك على المسألة ونرى المختار فيه فأما القول في فتور الشرائع فنذكره في فصلين أحدهما في تقدير فتور الشرائع

قبلنا والثاني في تجويز فتور شريعتنا

فصل
1520 - فأما الشرائع السالفة فمذهب عصبة الحق وبعض المخالفين من المعتزلة أنه يجوز تقدير فتورها وذهب الكعبي إلى منعه وهذا ( بناه ) على أصل له وهو أنه يعتقد أن الله تعالى عن قول المبطلين يجب عليه رعاية الأصلح على العباد ثم قال إذا اتقوا مسلك شريعتهم وقبلوه وقالو به فالأصلح أن يبقيه وفتوره سبب اشباك الغوايات وهو نقيض الأصلح
1521 - قلنا أصل معتقدك في وجوب الأصلح على الله تعالى باطل قطعا على ما يبرهن في محله ثم إن نزلنا على ما تخجيلته فمن الذي أنبأك أن الأصلح تقرير الشرائع فقد لا يكون الأصلح في فتورها حتى يعلموا بمقتضى عقولهم
فصل
1522 - فأما القول في فتور شريعتنا فالذين أحالوا فتور الشرائع قبلنا منعوا فتور هذه الشريعة والذين سبقوا إلى جواز فتور الشرائع اضطربوا في شريعتنا فمنهم من سوى بين الكل ومنهم من صار إلى أن هذه الشريعة لا يتطرق إليها الفتور والسبب فيه ان سائر الشرائع لم تكن محفوظة من النسخ والتبديل ولو قدر فيه فتور لظهرت الشريعة على قول النبي صلى الله عليه و سلم الذي نتبع ولو تطرق الفتور إلى شريعتنا لاستمر ذلك إلى قيام القيامة وهذا الفرق لا أصل له فإن من مات منا في زمان الفتور في سائر الشرائع فقد

قامت قيامته ولا يلحقه ارتفاع الفتور
1523 - فالمختار عندنا أنا نقول الفتور في الشرائع جائز عقلا إذ ليس فيه ما يحيل ذلك ولا تخصص شريعة عن شريعة وقد صرح بهذا شيخنا أبو الحسن إلا أنه ضم إليه شيئا آخر لا يساعد عليه فقال تبقى التكاليف على العباد مع فتور الشرائع وهذا بناه على أصله في جواز تكليف مالا يطاق وقد صار الأستاذ أبو إسحاق إلى اختيار جواز الفتور وتخلف عن شيخنا ابي الحسن في تقرير التكليف إلا أنه قال يبقى تعبد على الخلق بإفتاء محاسن العقول وهذا أيضا مما لا يساعد عليه إذ لا يحسن في العقل ولا يقبح
1524 - فإن قيل أوقع ذلك قلنا الوقوع لا يتلقى من مسالك العقل وإنما يعرف ذلك من طريق السمع وقد طمع طامعون في إثبات نفي الفتور عن شريعتنا من طريق السمع واستدلوا بظواهر منها قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون قالوا إذا ضمن الحفظ أمن الفتور ومما استدلوا به قوله عليه السلام ( إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم )
15250 - وهذه ظنوها نصوصا وهي ظواهر ( فأما ) قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر فالمراد به القرآن والغرض أنه لا تندرس تلاوته فلذلك يزداد

القراء كل يوم وأما الحديث فالتأييد قد وقع ( ووقوع ) التأييد ليس فيه ما يدل على بقاء التأبيد إلى قيام الساعة ويعارض هذا قوله عليه السلام ( سيأتي يوما على أمتي زمان رجلان في فريضة فلا يجدان من يذكر حكم الله فيها ) والظواهر مع تطرق الاحتمال إليها إذا تعارضت كيف تنتج القطع
1526 - هذا قولنا في نفي القطع في نفي الفتور وأما غلبة الظن فليس معنا ما يدل حتى يفيد غلبة الظن ولكنا نقول إن قامت القيامة في خمسمائة سنة فيغلب على الظن أن الشريعة لا يندرس أصلها ولا تفاصيلها ( فأما سفرة حمالها وفي حملها كره ) والدواعي على تعلمها متوفرة وإن تمادت الآماد فيتوقع اندراسها بقبض العلماء الناقلين لها فانطماسها بقبض ( حملتها ) هذا نهاية القول في غلبة الظن وقد نجز الغرض من القول في الفتور

فصل
1527 - واما القول في خلو الواقعة عن حكم الله تعالى فقد اضطرب الأصوليون في جواز ذلك فصار القاضي إلى جواز ذلك وترقي عنه إلى وقوعه فقطع به وقال لا بد أن يقع ذلك فإن مآخذ الأحكام محصورة مضبوطة من الكتاب والسنة والإجماع والوقائع لا تنضبط ولا تتناهى ويستحيل أن يرد ما لا يتناهي إلى ما يتناهي
1528 - فنقول أما جواز خلو الواقعة عن الحكم فلا ينكره عقل وأما وقوعه فأنكر ذلك فإن الأمم الماضين المننقرضين كانوا يتصدون للفتوى مع ( كثرة )

ما ألقي إليهم ( وتفننها ) وكانوا يهجمون على الجواب فيها هجوم من لا يرى ( للأجوبة ) حصرا ومنتهى ولو كان يجوز خلو بعض الوقائع عن حكم الله ( لاتفق ) وقوع واقعة خلت عن حكم الله ( وبدت ) فإذا لم يتفق دل ( على ) أنهم ما اعتقدوه جواز خلو الواقعة عن حكم الله
1529 - وأما ما استدلوا به من كون المآخذ محصورة واستحالة ما لا يتناهي مما يتناهى فهو ( بين ) لا حاصل له فإن من تأمل قواعد الشريعة وجدها مترددة بين طرفين أحدهما محصور والآخر غير محصور فالنجاسة محصورة والطهارة لا حصر فيها والتحريم محصور والإباحة لا حصر لها فالواقعة إذا ترددت من الطرفين ووجدت في شق الحصر وذلك وإلا حكم فيها بحكم الشق الآخر الذي أعفى الحصر عنه
1530 - هذا نهاية القول في المقدمتين ( وإذا ) عدنا إلى المقصود فالواقعة إذا ترددت بين مفتتين وتناقض جوابهما فمن صار إلى الأخذ بالأغلظ فقد تحكم من غير ثبت ومن صار إلى إتباع ما يشهد له نفسه بالصحة فهو إتباع الهواجس والحماقات ومن صار إلى التخيير فهو أقرب قليلا وله الثبات على مأخذ المضربين فإنه ما من مسلك إلا ويجوز أن يفترض اختيار مجتهد وعن هذا صار بعض الناس إلى التخيير في مسألة التصويب من غير اجتهاد
1531 - وهذا مع ما هو عليه من القرب لا وجه له فإن التخيير استواء الإقدام والإحجام وهو حقيقة الإباحة فمنه صار إلى التخيير فقد أثبت الإباحة من غير أصل وثبت فإن قيل فما الذي تختارونه أنتم في هذه المسألة وقد زيفتم المسالك المقدمة

1532 - قلنا نبين أولا صورة نفرضها ثم تظهر حقيقة المراد فيها فنقول اختلف الشافعي وأبو حنيفة في وجوب الإتمام على العاصي ( بسفره ) فقال الشافعي بوجوب الإتمام وجوز أبو حنيفة القصر فإذا تناقض جواب المفتيين على هذا الوجه فنراجعهما ثانيا ونقول قد تناقض الأجوبة فإن اتفقا بعد التخالف فهو المراد فنتعلق بما اتفقا عليه فقد يجدان أصلا يستندان إليه كتغليب الدرء في القصاص وغيره والتحري في الصيود والذبائح وإن استمر على الخلاف ووجد أفضل منهما استفيناه واتبع قوله وإن ساوى الثالث الأوليين في الفضل ووافق قوله قول أحدهما فهل ترجح قول أثنين على قول واحد فقد سبق ترجيحه ولست أختاره ولا سبيل إلى التخير والأخذ بالأغلظ كما تقدم ولا يعتقد أيضا خلو الواقعة عن حكم الله تعالى ولا نرى ذلك في قواعد الدين
1533 - فالوجه أن نقول القول في هذه الواقعة كالقول فيمن يفرض في جزيرة بلفه أصل الدعوة بالإسلام ولم تبلغه تفاصيل الأحكام ونقول فيه لا تكليف الله عليه إذ شرط التكليف إفهام المكلف ما يكلف به
1534 - فإن قيل ألستم قلتم فيمن تردى في بئر من غير بعد ووقع على مصروع ولو مكث عليه لمات وفيه صرعى ( و ) لو انتقل إلى غيره لمات المنتقل إليه هذه واقعة خلت عن حكم الله قلنا لا تلك مسألة إذا فرضت كما وصفتموها فنقول لا تكليف على المتردى إذا كان كما وصفتموه للعلة التي تقدم ذكرها هذا نهاية القول في المسألة مع اختيار وإيجاز مسألة
1535 - المقلد إذا قلد إماما فمات إمامه وفي عصره مجتهد آخر فيتبع مقلده الميت أم يقلد الحي قال قائلون يقفي أثر المقلد الأول ويتبعه فإن المذهب لا يموت

بموت صاحبه وقال آخرون يتبع المجتهد الحي إذا أجمعت الأمة على أن واحدا لو أراد أن يتبع مذهب أبي بكر لم يجز الآن وإن شهد له الرسول صلى الله عليه و سلم بالتقويم على الكافة حيث قال ( والله ما طلعت الشمس ولا غربت ) والسبب فيه أن المجتهد الاخر الباحث الناظر أعرف بمذاهب من سبق وأخبر بحقيقة الحال والصحابة رضي الله عنهم ما اعتنوا بتبويب الأبواب ورسم الفصول والمسائل نعم كانوا مستعدين للبحث ( عند مسيس ) الحاجة إليه متمكنين وما اضطروا إلى تمهيد القواعد ورسم الفروع والأمثلة لأن الأمور في زمانهم لم تضطرب كل هذا الإضطراب والذين اعتنوا بالتمهيد أعرف بالأصول والفروع من غيرهم
1536 - وعلى هذا إذا قلد مقلد الشافعي لم يجز له أن يترك متابعته ويختار مذهب القفال وابن سريج أو غيره وعليه أن يتبع ما ينقل عن الصاحب ولكن ينبغي أن يكون الناقل موثوقا به فقيه النفس لأن الفقه لا يمكن نقله وإن لم يجد نصا ولا تخريجا فهل له أن يقيس منهم من منع وقال القاضي يجوز له أن يقيس على نص صاحبه كنص الحديث في حقه وكانه مجتهد في وجه دون وجه
فصل
1537 - ذكرنا اختلاف العلماء في تصويب المجتهدين إذا اختلفت آراؤهم في مسألة لا نص فيها فأما إذا اختلفوا وفي الواقعة نص غفل عنه احدهما فالذي حكم بالتخطئة ها هنا بالطريق الأولى
1538 - وأما المصوبة فقد اختلفوا ها هنا فمنهم من حكم بالتخطئة ومنهم من صوب ومنهم القاضي واستدل عليه بأن

قال المجتهد إذا خالف النص بحث وسبر وبذل المجهود ولم يأل جهدا في طلب حتى حصل على غلبة ظن ثم وجب عليه العمل بمقتضي غلبة الظن فقد عمل ما وجب عليه فكيف يقال أخطأ وقد عمل ما هو الواجب ولا يبعد أن يختلف حكم الله باختلاف الأشخاص فإن الميتة محرمة على صاحب الرفاهية وهى بعينها محللة على صاحب المخمصة والذي لم يعثر على النص كصاحب الضرورة والمخمصى فقد أدى ما أمر به
1539 - فإن قيل حكم الله تعالى في هذه الواقعة متعين كائن مستقر فالذي لم يجد النص هو الذي قصر لما لم ينه النظر نهايته فإنه لو لم يقصر وأنهى النظر لوجد النص وليس هذا كمسألة لا نص فيها فإن الحكم فيها غير متعين
1540 - قال القاضي مع هذا كله ( أليس ) قد وجب عليه العمل بمقتضى الظن المخالف للنص المستقر مع تقصيره ( و ) وجب عليه العمل بذلك فلا يحكم بتخطئته بعد ذلك فإن المجتهد الذي غفل عن النص أفتى بما قدر عليه واعتقد ألا مطلب وراءه فأمره بطلب النص تكليف ما لا يطاق إذ لا يتأنى افتتاح النظر ممن اعتقاده أنه تمم النظر ( فإذا أخطأ النص ذلك أنه لن يجب الوصول إليه وهذا كقول القائل لمن يصلي بالتيمم ولم يتوضأ ولكن يجب عليه الوضوء عند عسر الوصول إلى الماء ) قال القاضي ولست أبعد أن يرد الشرع بوجوب تدارك ما فاته من العمل الواقع بمقتضى الاجتهاد ولو ورد به لاتبعناه فإنا عبيد الشرع وإذا لم يرد فقد أدى ما كلف
1541 - قلت أما المختار فقد سبق في مسألة تصويب المجتهدين وهنا لا سبيل إلى إنكار أداء هذا المجتهد ما عليه ولا سبيل إلى إنكار مخالفة النص وكأنه مخطىء من وجه مصيب من وجه وأما القضاء والتدارك فأقول إذا اجتهد في القبلة ثم تبين أنه أخطأ والوقت باق ( فإن ) صح يقين آخر باستقبال عين القبلة وثبت أنه مقصود في نفسه وجب عليه

تداركه وإنما فرضته في قضاء الوقت لأن الوقت إذا زال فالقضاء إنما يلزم بأمر ( مجدد ) وإنما ردد الشافعي قوله في هذه الصورة لأنه تخيل أن المأمور به إذا لم يتوصل إليه باجتهاده ونفس استقبال القبلة مقصود في عينه فلهذا نقول الأظهر سقوط القضاء والله أعلم مسألة
1542 - اختلف الأئمة في الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم هل كان يجوز أن يجتهدوا منهم من قال يجوز كما يجوز الاجتهاد في عصرنا ودل على ذلك قوله عليه السلام في القصة المعروفة لما قال معاذ أجتهد رأيى الحمد لله الذي وفق رسول رسوله ( إلى ) ما يرضاه وقال آخرون كان لا يجوز لهم أن يجتهدوا فإنه غلبه الظن وقد أمكنهم تحصيل القطع بمراجعة رسول الله صلى الله عليه و سلم
1543 - والمختار عندنا أنه إن أمكن المراجعة ( كأن ) كان في بلدته تعين المراجعة وإن كان على مسافة يسوغ الاجتهاد وقد ظهر من الآثار أنهم كانوا يجتهدون في الغيبة ويشهد له قصة معاذ والذين كانوا معه كانوا لا يجتهدون مسألة
1544 - أختلف الأئمة في أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هل كان يجتهد قال قائلون كان ينتظر الوحى ولا يجتهد وقال آخرون كان يجتهد وقد ظهر ذلك من قرائن أحواله حيث قال أرأيت لو تمضمضت ولعل الأصح أنه كان لا يجتهد في القواعد والأصول بل كان ينتظر الوحي فأما في التفاصيل فكان مأذونا له في التصرف والاجتهاد ويبقى بين اجتهاده واجتهاد غيره صلى الله عليه و سلم فرق وهو أن ما يراه أمارة تفيد القطع

واجتهاد غيره يفيد غلبة الظن والله أعلم مسألة
1545 - واختلف الأئمة في حقيقة التقليد وما هيته فقال قائلون التقليد هو قبول قول الغير من غير حجة 1 فعلى هذا قبول العامي قول المفتي تقليد وقبول من يروى أخبار الآحاد قولا وسمعه من خلق عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس تقليدا لأنه حجة في نفسه وقبول قول الصحابي تقليد إن لم تجعل أقوالهم حجة ولم نر الاحتجاج بقولهم فإن جعلنا أقوالهم حجة يحتج ( بها ) فإذا ذاك لا يسمى قبول أقوالهم تقليدا وقال قائلون التقليد قبول قول الغير وأنت لا تدري من أين يقوله فعلى هذا قبول قول المفتي وقبول قول الصحابي تقليد لأنا لا ندري من أين يقولون وقبول قول النبي صلى الله عليه و سلم إن قلنا إنه كان يجتهد تقليد لأنا ندري أيقول عن وحي أم عن اجتهاد وإن قلنا كان لا يجتهد فقبول قوله ليس تقليدا فإنا نعلم أن ما يقوله يقوله عن وحي
1546 - قال القاضي عندي لا تقليد ولا مقلد وكل من قبل قولا كالعامي يقبل قول المفتي وجب عليه قبوله وكان قوله حجة في حقه
1547 - والمختار عندي على الضد والعكس فإن الخلائق عندي في أفعالهم وعقائدهم مقلدون ومن قبل قول رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم فهو مقلد فإن قوله عليه السلام لا يكون حجة لذاته والمعجزة وإن قامت فلا تفيد كونها حجة ما لم يقدم عليه العلم بالمرسل فإذا كل من نظر فأدرك حدث العالم انحدر عنه إلى ما يليه فعلم وجود الصانع وصفاته ثم انحط إلى النبوات فأدرك جواز العصمة ونظر في المعجزة بعده فهو

العالم ومن عاداه ممن يترقى ( عن ) الشبهات إلى قبول قوله عليه السلام فهو مقلد تحقيقا وما قاله القاضي من أنه يجب قبوله قلنا كيف يكون ذلك حجة وهو لم يعلم المرسل والله أعلم مسألة
1548 - هل يجب الاحتجاج بأقوال الصحابة وهذا مما اختلف فيه الأصوليون فقال قائلون يجب لقول عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقوله عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وقوله عليه السلام خير القرون قرني ولأنهم عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم وشاهدوا الوحي والتنزيل وهذا لا يدل على وجوب أتباعهم ( وانتهاض ) أقوالهم حجة فقوله أصحابي كالنجوم يعني في التقوى والسيرة وقوله اقتدوا باللذين من بعدي يعني في الخلافة إذ ليس في العلماء من يخصص قولهما عن قول غيرهما من الصحابة وقوله خير القرون قرني فأي دليل فيه على وجوب الأتباع
1549 - وقال قائلون لا يجب أتباعهم لأنهم ليسوا معصومين عن الزلل فكيف يحتج بما ربما يكون غلطا وخطأ وأيضا فقد كانوا يختلفون في زمانهم فإذا لم يكن قول البعض منهم حجة على البعض لم يكن حجة في حق من بعدهم

وهذا يجانب الإنصاف فإن أخبار الآحاد حجة مع أن الناقل عرضة للزلل والخطأ فلا يبعد أن يكون قول الصحابي أيضا حجة وإن لم يكن معصوما فإن قيل قوله صلى الله عليه و سلم حجة قلنا نعم ولكن لا نقطع بإصابة هذا الناقل وأما العلة الثانية فنقول قول المفتي حجة على العامي وليس حجة على العالم المجتهد وكذلك لا يبعد أن يكون قولهم ليس حجة على من يعاصرهم ويكون حجة على غيرهم ممن بعدهم وقد تمسك الصائرون إلى الأتباع بأن قالوا وجدنا التابعين يقتفون آثار الصحابة ويستندون إليها ويحتجون بآثارهم احتجاجهم بالأخبار فلولا أنهم رأوا ذلك حجة وإلا لما أطبقوا على الأتباع هذا الإطباق وأجاب المانعون عن هذا بأن قالوا كان الصحابة إذا وقعت لهم واقعة يجتهدون فيها ثم يبدون ما غلب على ظنهم في معرض التردد مظهرين أن المسألة في مظنة الاجتهاد والاحتمال فإن كانوا لا يتخذون الأتباع بالقطع فكيف يحكم بكونه حجة وهذا أوقع مما قال الأولون
1550 - فنقول إظهار الحق فيه يستدعي تفصيلا في مسائل معينة فنقول لا شك أن الصحابة رضي الله عنهم وإن كانوا على رتبهم العلية ومناصبهم الرفيعة الجلية فما كانوا معصومين ولا تؤمن عثرتهم وليس في مسالك السمع ما يدل على وجوب الاتباع كما تقدم وكان الوجه أن يجعل قولهم كقول من عداهم من المجتهدين لكنا نقول على ما ذكره الصائرون إلى الاتباع والاحتجاج من قولهم وجدنا التابعين يحتجون بأقوالهم منقسمة منها ما جزموا القول فيه بنفي وإثبات باتين حكما ومنها ما ترددوا فيه وأفتوا مع ( استبقاء ) احتمال وظن وما كانوا قاطعين بل

كانوا مستدلين ( متمانعين ) فما كان كذلك فلا نرى الاحتجاج ( بنا منهم ) لأنهم قالوا ماقالوا عن ظن واجتهاد ونظر غيرهم واجتهادهم بمثابة اجتهادهم وأما ما قطعوا القول به ولم تكن المسألة في مظنة الاجتهاد فقالوا قولا مخالفا للقياس ما أرشد إليه نظر ولا يدل عليه اعتبار من تقليد أو غيره ورأيناهم حاكمين قاطعين فتحسين الظن بهم يقتضى أن يقال ما نراهم يحكمون من غير بينة ولا مستند لهذا الحكم من قياس فلعلهم لاح لهم مستند سمعى قطعى من نص حديث كان حكمهم بذلك فيجب اتباعهم لهذا المقام
1551 - وكان الشافعي يرى الاحتجاج بقول الصحابي قديما ثم نقل عنه أنه رجع عن ذلك والظن أنه رجع عن الاحتجاج بقولهم ( فيما ) يوافق القياس دون ما يخالف القياس إذ لم يختلف قوله جديدا وقديما في تغليظ الدية بالحرمة والأشهر الحرم ولا مستند فيه إلا أقوال الصحابة
1552 - فإن قيل فأحسنوا الظن بغير الصحابي كمالك في مسألة خيار المجالس فقولوا إنه خالف الحديث لدليل ثبت له مقدما على الحديث في الاستعمال قلنا إحسان الظن به ثابت ولكن إنما لم نتبعه لأنا عرفنا سبب مخالفته الحديث وذلك أنه كان يرى تقديم مذهب أهل المدينة على الحديث وهذا الذي ( البابت خطأ ) قطعا ومن هذا القبيل استحسان أبي حنيفة فإنه مخالف لأدلة الشرع بمسلك باطل فإن قيل صار ابن مسعود إلى إيجاب ألفى درهم في أجرة رد العبد الآبق وهذا تقدير لا يقتضيه قياس قلنا لم يثبت ذلك منه تقديرا في كل آبق وإنما حكم بذلك في قضية خاصة فلعل أجرة المثل في تلك الصور ( كانت ) ألفى درهم فإن قيل صار ابن مسعود إلى رد قيمة العبد أي مقدار الدية وانحط بعشرة فهلا اتبعتموه

قلنا لعله قال ذلك عن قياس تحلل مثله أبو حنيفة من تفضيل الحر على العبد وغيره على أنا في مسالك الأصول لا نلتفت إلى مسائل الفقه فالفرع يصحح على الأصل ( لا ) على الفرع مسألة
1553 - استبعد مستبعدون من الذين ( قصرت هممهم ) عن درك الحقائق ترديد الشافعي أقواله في المسائل وتخيلوا أن ذلك حكم منه بحكمين متناقضين وجمع بين تحليل وتحريم في قضية واحدة وهذا جهل من هذا الظان وعماية وقلة دراية فإن التردد الذي ذكره الشافعي نفى المذهب واعتراف بالاعتراض والإشكال وتصريح منه أنه لا مذهب لي في الواقعة بعد ثم نقول أوقع لأبي حنيفة تردد في مسألة من مسائل الفقه فإن قالوا لا قلنا مثل هذا الرجل لا يعد من أحزاب الفضلاء فإنه مهد أبوابا

( وقعد ) قواعد في مسالك الظنون ومظان الغموض ( والإعتضال ) من غير نص كتاب وسنة ثم لم ( يستقله ) فيما يخبر به ظن يعارضه ظن بل تهجم على حكم الله في كل واقعة فهذا إنكار ومكابرة الضرورة وإن اعترفوا بتعارض الظنون في حقه قلنا فهو لم يعبر عن تردده والشافعي عبر عنه على أنا لا نحسب الأقوال القديمة من مذهب الشافعي فإنه رجع عنها جديدا والمرجوع عنه لا يكون مذهبا للراجع والشافعي بعد ما ردد الأقوال استقر رأيه على قول واحد في جلة المسائل ولم يبق

على التردد إلا في ثماني عشرة صورة فليس هو كثير التردد وقد صار أبو حنيفة على الشك في سؤر الحمار و ( اعتقد ) الشك فيه مذهبا وهذا عجب وأعجب منه رأى أصحابه نقلوا الشك عنه حتى انتهضوا ذابين عنه داعين إليه هذا نهاية الغرض من هذه المسألة وقد نجز بنجازها هذا المجموع وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما تم بحمد الله تعالى

أقسام الكتاب
1 2 3 4