كتاب : أصول الفقه المسمى: الفصول في الأصول
المؤلف : الإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص

الْبَدَاءُ ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى اللهِ تَعَالَى ، إذْ هُوَ الْعَالِمُ بِالْعَوَاقِبِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ عِلْمُ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ فِي الْأَوَّلِ ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى النَّسْخِ فِي الشَّرْعِ مَا وَصَفْنَا .
وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مَعْنَى النَّسْخِ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِمَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْلُومًا وُقُوعُهُ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي وَصَفْنَا ، وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى لَيْسَ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَهُ فِي اللُّغَةِ ، فَقَدْ صَارَ اسْمًا شَرْعِيًّا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا نَنْسَخُُُُْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ تَوْقِيتَ الْمُدَّةِ فِيمَا كَانَ يُظَنُّ بَقَاؤُهُ وَدَوَامُهُ يُسَمَّى نَسْخًا ، فَثَبَتَ أَنَّهُ اسْمٌ شَرْعِيٌّ
( وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ شَرْعِيٌّ ) إطْلَاقُهُ فِي أَوَامِرِنَا لِمَنْ تَلْزَمُهُ طَاعَتُنَا مِنْ عَبِيدِنَا وَمَنْ تَحْتَ أَيْدِينَا ، وَأَنَّ هَذَا الِاسْمَ مَخْصُوصٌ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ .
وَلَيْسَ كُلُّ مَا بُيِّنَ بِهِ ( مُدَّةُ ) الْحُكْمِ يُسَمَّى نَسْخًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِأَنْ قَالَ : صَلُّوا فِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي غَيْرِهِ ، لَمْ يَكُنْ زَوَالُ الْأَمْرِ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ نَسْخًا ، لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا عِنْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ تَوْقِيتَ مُدَّتِهِ ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ اسْمُ النَّسْخِ فِيمَا يَكُونُ فِي تَوَهُّمِنَا وَتَقْدِيرِنَا تَجْوِيزُ بَقَائِهِ عَلَى الدَّوَامِ ، فَيَأْتِي الْحُكْمُ النَّاسِخُ وَيُبَيِّنُ أَنَّ مَا كَانَ فِي تَقْدِيرِنَا مِنْ بَقَاءِ الْحُكْمِ غَيْرَ ثَابِتٍ وَأَنَّ مُدَّةَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ قَدْ انْقَضَتْ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ وَهَذَا جَهْلٌ مُفْرِطٌ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَجُوزُ رَفْعُهُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْبَدَاءِ ، وَإِنَّمَا يَدُلُّنَا النَّسْخُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا فِي هَذَا الْوَقْتِ .ُُُُ

الْبَابُ الخَامِسُ وَالثَّلَاثُوْنَ:الْقَوْلِ فِيمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ ُُُُ
وَفِيْهِ فَصْلٌ: حُكْمُ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِيْمَا يَجُوْزُ نَسْخُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَ مَالَا يَجُوْزُ نَسْخُهُ مِنْهَا

فارغة ُُُُ

بَابُ الْقَوْلِ فِيمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ
الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِينَ إذَا وَقَعَتْ عَنْ قَصْدِ فَاعِلِهَا فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ فِي الْعَقْلِ .
مِنْهَا وَاجِبٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ ، كَتَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَاجْتِنَابِ الْمُقَبَّحَاتِ فِي الْعُقُولِ .
وَمِنْهَا مُمْتَنِعٌ مَحْظُورٌ انْقِلَابُهُ عَنْ حَالٍ ، نَحْوُ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَالْكَذِبِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِ اللهِ وَارْتِكَابِ الْمُقَبَّحَاتِ فِي الْعُقُولِ ، فَهَذَانِ الْبَابَانِ يَجْرِيَانِ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمَا التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ ، وَلَا يَصِحُّ مَجِيءُ الْعِبَادِ فِيهِمَا بِخِلَافِ مَا فِي الْعُقُولِ مِنْ حُكْمِهَا ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ نَسْخُهُمَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَمَا حَسَّنَهُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ حَسَنٌ وَمَا قَبَّحَهُ فَهُوَ قَبِيحٌ ، وَالسَّمْعُ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْضًا ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَتَضَادَّ حُجَجُ اللهِ تَعَالَى ، وَلَا ( يَجُوزُ أَنْ ) تَتَنَافَيَا فَثَبَتَ أَنَّ السَّمْعَ لَا يَرِدُ بِرَفْعِ مَا فِي الْعَقْلِ وُجُوبُهُ وَلَا إيجَابِ مَا فِي الْعَقْلِ حَظْرُهُ ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا إنَّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِمَا .

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَهُوَ مَا يُجَوِّزُ الْعَقْلُ إيجَابَهُ ( تَارَةً ) وَحَظْرَهُ أُخْرَى وَإِبَاحَتَهُ ، مِثْلُ ( الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ) وَالْحَجِّ وَذَبْحِ الْبَهَائِمِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ ، فَهَذَا الضَّرْبُ مِمَّا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ يُجَوِّزُ الْعَقْلُ مَجِيءَ الشَّرْعِ بِهِ ، وَإِنَّمَا صَارَ النَّسْخُ يَتَطَرَّقُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ حُكْمَهُ مَرْدُودٌ إلَى مَا فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، فَإِذَا عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِي إيجَابِهِ أَوْجَبَهُ ، وَإِذَا عَلِمَهَا فِي حَظْرِهِ بَعْدَ الْإِيجَابِ حَظَرَهُ ، وَإِذَا عَلِمَهَا فِي إبَاحَتِهِ دُونَ إيجَابِهِ وَحَظْرِهِ فَعَلَُُُُُُُُُُُُ
فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا الْمَعْلُومَةِ ، وَيَحْظُرُ صِيَامَ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَيَحْظُرُ الصَّلَاةَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا وَيُبِيحُ فِعْلَ الصِّيَامِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ ، فَلِذَلِكَ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُتَعَبَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ ثُمَّ يَنْسَخُهُ بِحَظْرِهَا أَوْ إبَاحَتِهَا ، وَيَدُلُّكَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَجْهَيْنِ ( الْأَوَّلَيْنِ ) أَنَّهُ جَائِزٌ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِلُزُومِ ( الصَّلَاةِ ، وَالصِّيَامِ ) بَعْضَ الْمُكَلَّفِينَ وَحَظْرِهِمَا عَلَى بَعْضِهِمْ كَنَحْوِ مَا أَمَرَ الطَّاهِرَ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَهَى عَنْهُمَا ، وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ يَجْرِي مَجْرَى سَائِرِ أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى فِي تَدْبِيرِ عِبَادِهِ مِنْ الْغِنَى وَالْفَقْرِ ( وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ ) وَمِنْ إحْدَاثِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ لِمَا عَلِمَ تَعَالَى ( فِيهِ ) مِنْ مَصَالِحِ عِبَادِهِ ، فَكَذَلِكَ سَبِيلُ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ عَلَيْهِ مَجِيءُ الْعِبَادَةِ ( بِهِ ) تَارَةً وَبِضِدِّهِ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ الْمَصْلَحَةِ .

وَالْبَابَانِ الْأَوَّلَانِ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ فِيهِمَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُكَلَّفِينَ مَأْمُورِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَبَعْضُهُمْ مَنْهِيِّينَ عَنْهُ ، أَوْ مُبَاحًا لَهُمْ تَرْكُهُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُكَلَّفَ بَعْضُهُمْ مُجَانَبَةَ الْمُقَبَّحَاتِ فِي الْعَقْلِ ( مِنْ نَحْوِ ) كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَالْكَذِبِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَيُؤْمَرَ بَعْضُهُمْ بِارْتِكَابِهَا .
فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمِ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِمَا .
وَلَمَّا جَازَ فِي غَيْرِهِمَا مِمَّا وَصَفْنَا اخْتِلَافَ أَحْكَامِ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا فِي الزَّمَانِ الْوَاحِدِ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْأَزْمِنَةِ ( الْمُخْتَلِفَةِ ) فَيَتَعَبَّدُونَ بِالْحَظْرِ فِي زَمَانٍ وَبِالْإِيجَابِ أَوْ الْإِبَاحَةِ فِي زَمَانٍ غَيْرِهِ .
وَأَمَّا الْخَبَرُ الْوَارِدُ عَنْ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يَنْتَظِمُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْعِبَادَةُ بِاعْتِقَادِ مَخْبَرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ ، فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَلَا تَبْدِيلُهُ وَلَا التَّعَبُّدُ فِيهِ بِغَيْرِ الِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ .
وَالْمَعْنَى الْآخَرُ : حِفْظُهُ وَتِلَاوَتُهُ ، وَهَذَا مِمَّا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِأَنْ يَأْمُرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَتَرْكِ تِلَاوَتِهِ حَتَّى يَنْدَرِسَ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمَانِ فَيُنْسَى ، كَمَا نُسِخَتْ ( تِلَاوَةُ ) سَائِرِ كُتُبِ ( اللهِ تَعَالَى ) الْقَدِيمَةِ كَصُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، قَدْ نُسِخَتْ تِلَاوَةً حَتَّى صَارَتْ لَا يَتْلُوهَا أَحَدٌ وَلَا يَحْفَظُهَا .

وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِنَسْخِ اعْتِقَادِ مَعْنَى الْخَبَرِ وَإِنْ جَازَ وُرُودُهَا بِنَسْخِ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ التِّلَاوَةُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَكَانَ فِيهِ إيجَابُ ( التَّعَبُّدِ بِاعْتِقَادِ الشَّيْءِ ) عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ ( لِأَنَّ خَبَرَ اللهِ تَعَالَى لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا يَلْزَمُنَا عِنْدَ وُرُودِهِ اعْتِقَادُ مَخْبَرِهِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ ) وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَلَا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَأْمُرَنَا بِاعْتِقَادِ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَنَا بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ عَلَى حَسَبِ مَا أُمِرْنَا بِاعْتِقَادِهِ ، فَيَكُونُ أَمْرًا لَنَا بِالْكَذِبِ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَأْمُرَنَا بِالْكَذِبِ لَجَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ هُوَ ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
فَلِذَلِكَ قُلْنَا إنَّ مَعَانِيَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ مِنْ اللهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ عَلَى اعْتِقَادِنَا فِيهَا ، بِأَنْ يَتَعَبَّدَنَا بِاعْتِقَادِ ضِدِّ مَخْبَرِهَا لِأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ بِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ .
فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ نَعْتَقِدَ فِيهَا خِلَافَ مَا أَوْجَبَهُ وُرُودُ الْخَبَرِ
وَهَذَا نَظِيرُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى ( بِهِ ) مِنْ الْعِبَادَاتِ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا وَمَضَى عَلَيْهَا أَوْقَاتُ فِعْلِهَا ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَرِدَ الْعِبَادَةُ بِنَسْخِ اعْتِقَادِ صِحَّتِهَا وَثُبُوتِهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَاضِيَةِ ؛ لِأَنَّ فِي نَسْخِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ وُجُوبِ اعْتِقَادِ فَسَادِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ، وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ قُبْحٌ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا .
وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ اعْتِقَادَ مَعَانِي الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَارٍ مَجْرَى التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَسَائِرِ مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ ، فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا لَهُ فِي الْعُقُولِ حَالَانِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهَا تَارَةً وَبِأَضْدَادِهَا أُخْرَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْأَمْرُ بِالِاعْتِقَادَيْنِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لِزَمَانَيْنِ مُخْتَلِفِينَ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : اعْتَقِدُوا فِي خَبَرِي هَذَا أَنَّهُ ( عَلَى ) مَا هُوَ عَلَيْهِ إلَى مُدَّةِ كَذَا ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَاعْتَقِدُوا فِيهِ ضِدَّهُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : اعْتَقِدُوا صِحَّةَ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقَ الرُّسُلِ إلَى وَقْتِ كَذَا ( فَإِذَا انْقَضَى الْوَقْتُ فَاعْتَقِدُوا ضِدَّهُمَا ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ : صَلُّوا وَصُومُوا إلَى وَقْتِ كَذَا ) فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ

فَلَا تَصُومُوا وَلَا تُصَلُّوا ، فَثَبَتَ أَنَّ اعْتِقَادَ مَعْنَى الْخَبَرِ يَجْرِي فِي حُكْمِ الْعَقْلِ عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ كَاعْتِقَادِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، فَلَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وَمَنْ جَوَّزَ النَّسْخَ فِي اعْتِقَادِ مَعَانِي خَبَرِ اللهِ تَعَالَى وَخَبَرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالْبَدَاءِ ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ فِي الثَّانِي مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ قَبْلُ ، لِأَنَّ الْبَدَاءَ مَعْنَاهُ ، الظُّهُورُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } يَعْنِي إنْ تَظْهَرْ لَكُمْ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } وَمَنْ جَوَّزَ الْبَدَاءَ عَلَى اللهِ تَعَالَى فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْأَخْبَارِ إذَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( نَسْخَهَا ) .
قِيلَ لَهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ تَعَالَى : { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ } مِنْ مَعَانِي الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ مِنْ جِهَتِهِ ، فَإِنْ تَعَلَّقْت بِعُمُومِهِ فَجَعَلْته عَلَى الْخَبَرِ وَغَيْرِهِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْك أَوَّلًا أَنْ تُثْبِتَ أَنَّ نَسْخَ مَعَانِي الْأَخْبَارِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَشَاءَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا آنِفًا عَلَى أَنَّ هَذَا سَفَهٌ وَقُبْحٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشَاءَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى ( بَاطِلٌ ) سَاقِطٌ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ نَسْخُ الْخَبَرِ لَكَانَ الْمَعْنَى نَسْخَ تِلَاوَتِهِ لَا مَخْبَرِهِ ( لِأَنَّهُ ) لَيْسَ هُوَ الْخَبَرَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ نَسْخِ التِّلَاوَةِ ، وَامْتِنَاعَ جَوَازِ نَسْخِ اعْتِقَادِ مَخْبَرِهِ .

وَقَدْ رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَقَاوِيلُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ نَسْخُ الْأَخْبَارِ ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ مَعْنَاهُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْدِلُهُ مَا يَشَاءُ مِنْ الْقُرْآنِ فَيَنْسَخُهُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فَلَا يُبْدِلُهُ { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } يَعْنِي جُمْلَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ .
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِمَّا يُنْزِلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِمَّا يُنْزِلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ لَا يُغَيَّرُ وَلَا يُبَدَّلُ .
وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ : يَمْحُو اللَّهُ مَنْ جَاءَ أَجَلُهُ فَيَذْهَبُ ، وَيُثْبِتُ الَّذِي هُوَ حَيٌّ يَجْرِي إلَى أَجَلِهِ .
فَصْلٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ
قَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِيمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ .
وَنُبَيِّنُ الْآنَ حُكْمَ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الْقَبِيلِ الَّذِي يَجُوزُ نَسْخُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ مِنْهَا .
فَنَقُولُ : إنَّ الْحُكْمَ الْوَارِدَ عَنْ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَقَّتًا وَلَا مَقْرُونًا

بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ فِي الْأَزْمَانِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ، فَإِنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى سَامِعِهِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ ( لَهُ وَالْمُتَعَبِّدِينَ بِهِ لُزُومُ ) اعْتِقَادِ جَوَازِ نَسْخِهِ مَا دَامَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيًّا ، كَقَوْلِهِ : صَلُّوا وَصُومُوا فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَيَّامِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ نَعْلَمُهُ ، وَأَمَّا إذَا ( قَرَنَهُ بِوَقْتٍ ) بِعَيْنِهِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : صَلُّوا هَذِهِ السَّنَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، أَوْ يَقُولَ : صُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ الْقَابِلَ ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ عِنْدَنَا بِحَالٍ ، وَسَنُفْرِدُ الْقَوْلَ فِيهِ بَعْدَ هَذَا .
وَأَمَّا إذَا قَالَ : صَلُّوا الظُّهْرَ أَبَدًا فِي مُسْتَقْبَلِ أَعْمَارِكُمْ وَمِنْ بَعْدِكُمْ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ ، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُجِيزُ وُرُودَ النَّسْخِ فِي مِثْلِهِ ، إذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ نَبِيِّنَا خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بَعْدَهُ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُجِيزُ وُرُودَ النَّسْخِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَإِنَّمَا جَازَ نَسْخُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْصُرْهُ تَوْقِيتٌ وَلَا مُدَّةٌ ، وَكَانَ جَوَازُ النَّسْخِ قَائِمًا فِي مِثْلِهِ ، وَجَبَ عَلَيْنَا أَلَّا نَعْتَقِدَ عِنْدَ وُصُولِهِ إلَيْنَا بَقَاءَ حُكْمِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ مَعَ بَقَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا فِي مِثْلِهِ اعْتِقَادُ جَوَازِ
نَسْخِهِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ ( كَذَلِكَ ) جَازَ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ ، حَتَّى إذَا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نَسْخِهِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ ، لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَجُوزُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَأَمَّا إذَا ( قَرَنَهُ بِالتَّأْبِيدِ ) فَقَالَ : افْعَلُوهُ ( أَبَدًا ) أَنْتُمْ وَمَنْ ( يَحْدُثُ ) بَعْدَكُمْ إلَى

أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ ، فَإِنَّ الْأَظْهَرَ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوز نَسْخُ ( مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ ) لِأَنَّهُ قَدْ أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَ بَقَائِهِ مُؤَبَّدًا ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَقَاءَهُ إلَى وَقْتٍ وَمُدَّةٍ ، لِأَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ دَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ ( فِيهِ ) فِي إثْبَاتِ الْعُمُومِ وَامْتِنَاعِ جَوَازِ تَأْخِيرِ ( بَيَانِ ) الْخُصُوصِ فِيمَا سَلَفَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الْيَهُودَ تَزْعُمُ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ الْأَمْرَ بِالتَّمَسُّكِ بِالسَّبْتِ مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ، وَقَدْ وَرَدَ نَسْخُهُ عَلَى لِسَانِ كَثِيرٍ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ ، وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الَّذِي ادَّعَوْهُ فِي التَّوْرَاةِ بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ يَحْتَمِلُ التَّأْبِيدَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ ، فَحَمَلَهُ هَؤُلَاءِ عَلَى التَّأْبِيدِ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا عِلْمٌ بِحَقِيقَةِ مَعْنَى اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي التَّوْرَاةِ فِي هَذَا الْبَابِ لَمْ يَثْبُتْ مَا ذَكَرُوهُ .
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مَا ادَّعَوْهُ فِي ذَلِكَ ثَابِتًا وَكَانَ الْعِلْمُ بِهِ وَاقِعًا لَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِهِ مَعَ سَمَاعِنَا لِذَلِكَ ، كَوُقُوعِ عِلْمِهِمْ بِهِ فِي زَعْمِهِمْ ، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا ذَلِكَ مَعَ سَمَاعِنَا لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلِمْنَا بُطْلَانَ مَا ادَّعَوْهُ .
وَمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ فِي أَزْمَانِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعَ ذِكْرِ التَّأْبِيدِ فِيهِ مِمَّنْ وَصَفْنَا قَوْلَهُمْ فَإِنَّمَا أَجَازَهُ لِأَنَّ عَلَيْنَا اعْتِقَادَ صِحَّةِ مَا يَأْتِي بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الشَّرِيعَةِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ أَوْ يُوَافِقُهُ ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ ذِكْرِ التَّأْبِيدِ فِيهِ مَقْرُونًا بِجَوَازِ النَّسْخِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : افْعَلُوا هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ أَبَدًا مَا لَمْ أَنْسَخْهُ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا هُوَ الْأَوَّلُ ، لِأَنَّ هَذَا لَوْ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْعُمُومِ فَيُقَالُ : إنَّا نَعْتَقِدُ فِيهِ

الْعُمُومَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَرَادَ الْخُصُوصَ ، وَلَجَازَ فِي الْحُكْمِ الْمَفْرُوضِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ أَنْ ( يَقُولَ لَهُ ) : افْعَلْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا لَمْ أَنْسَخْهُ ، وَهَذَا قَوْلٌ فَاحِشٌ قَبِيحٌ لَا يَصِحُّ ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ مَا وَصَفْنَا .

فارغة

الْبَابُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُوْنَ: فِي الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ ( فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ) بَيَّنَّا

فارغة

بَابٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ ( فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ) بَيَّنَّا
( قَالَ أَبُو بَكْرٍ ):
مَنْ يُنْكِرُ النَّسْخَ فَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : الْيَهُودُ ، وَالْآخَرُ : فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ .
فَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ( تَجْوِيزَ ) النَّسْخِ ( فِيمَا زَعَمَ ) مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ فِي الْعَقْلِ إلَّا أَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ ، وَ ( تَحْرِيمَ ) يَوْمِ السَّبْتِ لَا يُنْسَخُ أَبَدًا ، فَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى ( أَنَّ ) هَذَا ( بَدَاءٌ ) وَرُجُوعٌ عَنْ إرَادَةِ الشَّيْءِ إلَى كَرَاهَتِهِ ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مِمَّنْ كَانَ جَاهِلًا بِالْعَوَاقِبِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمُ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا ، فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ صَحِيحًا فَالرُّجُوعُ عَنْ الصَّحِيحِ لَا يَفْعَلُهُ حَكِيمٌ ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ جَهْلٌ مِنْهُمْ بِمَعْنَى النَّسْخِ ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ غَيْرُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ النَّسْخُ ، وَإِنَّمَا النَّسْخُ يُبَيِّنُ أَنَّ زَمَانَ الْفَرْضِ الْأَوَّلِ قَدْ انْقَضَى ،

وَأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ غَيْرُ الْوَاجِبِ ( الَّذِي ) كَانَ فِي الْمَاضِي ، وَهَذَا لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ كَانَ جَائِزًا مُسْتَقِيمًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : تَمَسَّكُوا بِتَحْرِيمِ السَّبْتِ ، إلَى مِائَةِ سَنَةٍ ثُمَّ أَحِلُّوهُ كَانَ جَائِزًا .
وَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تُطْلِقَ الْقَوْلَ بِتَحْرِيمِ السَّبْتِ ثُمَّ تُبَيِّنَ الْوَقْتَ الَّذِي انْتَهَى إلَيْهِ مُدَّةُ التَّحْرِيمِ عَلَى حَسَبِ مَا عَلِمَ سُبْحَانَهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِيهِ ، وَكَمَا ( أَنَّهُ ) جَازَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ أَحْكَامِ الْعِبَادِ فَيَتَعَبَّدُ بَعْضَهُمْ بِحُكْمٍ ، وَ ( يَتَعَبَّدُ ) بَعْضَهُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ
الْحُكْمِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ ، نَحْوُ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ ، وَإِيجَابِهِمَا عَلَى الطَّاهِرِ عَلَى حَسَبِ مَا عُلِمَ مِنْ مَصَالِحِهِمْ .
كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ أَحْكَامِهِمْ ( فِي زَمَانَيْنِ وَكَمَا جَازَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهُمْ فِي تَغْيِيرِهِ وَأَفْعَالِهِ فِيهِمْ نَحْوُ أَنْ ) يُمِيتَ وَاحِدًا وَيَخْلُقَ آخَرَ وَيُمْرِضَ وَاحِدًا وَيُصِحَّ آخَرَ وَيُغْنِيَ وَاحِدًا وَيُفْقِرَ آخَرَ ، وَ ( يَفْعَلَ ) ذَلِكَ بِوَاحِدٍ فِي زَمَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْبَدَاءِ وَعَلَى الرُّجُوعِ عَمَّا أَرَادَهُ ، لِأَنَّ الَّذِي أَرَادَهُ فِي الثَّانِي غَيْرُ الَّذِي أَرَادَهُ فِي الْأَوَّلِ .
وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ تَجْرِي عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مُبَاحًا لِوَلَدِ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَخُ مِنْهُمْ بِأُخْتِهِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ تَنَاسُلٌ وَهُوَ مُحَرَّمٌ فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ بَعْدَهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يُوجِبُ الْبَدَاءَ ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ السَّبْتِ وَسَائِرُ الشَّرَائِعِ الَّتِي يُجَوِّزُ الْعَقْلُ حَظْرَهَا تَارَةً وَإِبَاحَتَهَا أُخْرَى جَائِزٌ نَسْخُهَا وَالْإِبَانَةُ عَنْ مُضِيِّ وَقْتِ تَحْرِيمِهَا .
وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ لَا تُنْسَخُ ، فَإِنَّهُ مُعْتَرِفٌ أَنَّ التَّوْرَاةَ قَدْ أَنْبَأَتْ عَنْ نُبُوَّةِ أَنْبِيَاءَ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ( وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَحْرِيمَ السَّبْتِ مُعَلَّقٌ بِتَوْقِيفِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ) فَإِذَا أَحَلَّتْهُ صَارَ ذَلِكَ

مَقْرُونًا إلَى لَفْظِ التَّحْرِيمِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : حَرِّمُوا السَّبْتَ مَا لَمْ أُحِلَّهُ عَلَى لِسَانِك .
وَعَلَى أَنَّ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ تَوْقِيفِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى التَّمَسُّكِ ( بِتَحْرِيمِ السَّبْتِ ) أَبَدًا لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِهِ مَعَ سَمَاعِنَا لِلْخَبَرِ عَنْهُ ( بِهِ ) كَمَا ادَّعَى هَؤُلَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ .
فَلَمَّا لَمْ يَقَعْ لَنَا الْعِلْمُ بِذَلِكَ مَعَ سَمَاعِنَا الْأَخْبَارَ الَّتِي سَمِعُوهَا فِي ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ إنَّمَا صَارُوا إلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ فَأَخْطَئُوا فِيهِ .
وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاس عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ لَا انْفِصَالَ لَهُمْ مِنْهَا ، وَلَيْسَ غَرَضُنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْكَلَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا ( الْقَصْدُ ) الْكَلَامُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا عَرَضَ فِيهِ الْقَوْلُ بِالنَّسْخِ أَحْبَبْنَا أَلَا نُخَلِّيَهُ مِنْ جُمْلَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَعَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَبَى ذَلِكَ مِنْ الْفِرْقَةِ الَّتِي تَنْتَحِلُ دِينَ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ ضَاهَتْ الْيَهُودَ فِي امْتِنَاعِهَا مِنْ تَجْوِيزِ نَسْخِ الشَّرِيعَةِ .
فَنَقُولُ بَعْدَ تَقْدِمَةِ الْقَوْلِ فِي جَوَازِ النَّسْخِ فِي الْجُمْلَةِ إنَّ الْفِرْقَةَ الْمُنْكِرَةَ لِلنَّسْخِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ قَدْ خَالَفَتْ الْكِتَابَ وَالْآثَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَاتِّفَاقَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ جَمِيعًا فِيمَا صَارَتْ إلَيْهِ ( مِنْ ) هَذِهِ الْمَقَالَةِ .
فَأَمَّا مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَأَثْبَتَ النَّسْخَ فِي الْكِتَابِ .

وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّمَا أَرَادَ النَّسْخَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْإِزَالَةَ وَالْإِسْقَاطَ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَخْلُو ( مِنْ ) أَنْ يُرِيدَ بِهِ إزَالَةَ الْحُكْمِ ( أَوْ إزَالَةَ الرَّسْمِ ، فَإِنْ أَرَدْت إزَالَةَ الْحُكْمِ فَقَدْ وَافَقْت ، وَإِنْ أَرَدْت إزَالَةَ الرَّسْمِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ ) فَإِنَّ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا : أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْأَمْرَيْنِ وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ الْآخَرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ مُتَحَكِّمٌ قَائِلٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا لَك مَا ادَّعَيْت مِنْ إزَالَةِ الرَّسْمِ فَدَلَالَتُهُ قَائِمَةٌ عَلَى مَا ادَّعَيْنَا لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ عَنَّا فَرْضَ تِلَاوَتِهِ وَاعْتِقَادَ كَوْنِهِ مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ
كَانَ لَزِمَنَا ذَلِكَ .
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْإِزَالَةَ وَالْإِسْقَاطَ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى : { أَوْ نُنْسِهَا } فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ بِذِكْرِ النَّسْخِ هُوَ نَسْخُ الْحُكْمِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } وَقَالَ تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } وَأَخْبَرَ عَنْ نَسْخِ بَعْضِ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ }
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَالْبُطْلَانُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى أَنْ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّلَاةَ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ

وَأَمَرَهُ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِك فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ ( قَدْ ) كَانُوا عَلَى قِبْلَةٍ غَيْرِهَا ثُمَّ نُقِلُوا عَنْهَا ، وَقَدْ كَانَ حَدُّ الزَّانِيَيْنِ الْحَبْسَ وَالْأَذَى فَنُسِخَا عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } ، وَكَانَتْ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا سَنَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ } ، ثُمَّ نُسِخَ مِنْهُ مَا عَدَا الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ وَالْعَشَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَمِثَالُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَقَدْ نَقَلَتْ الْأُمَّةُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ وَتَوَارَثُوهُمَا قَرْنًا عَنْ قَرْنٍ لَا يَتَنَاكَرُونَهُ وَلَا يَشُكُّونَ فِيهِ .
وَذَكَرَ مَنْ أَبَى وُجُودَ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ ( أَنَّ النَّسْخَ ) الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ نَسْخُهُ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَتَنْزِيلُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَنْسُوخًا وَكُلُّهُ

نَاسِخًا ، وَهَذَا مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ .
وَقَوْلُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ أَظْهَرُ فَسَادًا وَأَبْيَنُ انْحِلَالًا مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْإِكْثَارِ فِي الْإِبَانَةِ ( عَنْ ) قُبْحِهِ وَشَنَاعَتِهِ .

الْبَابُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُوْنَ: فِيْ نَسْخِ الْحُكْمِ بِمَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ

فارغة

بَابُ نَسْخِ الْحُكْمِ بِمَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ .
فَقَالَ قَائِلُونَ وَهُمْ الْأَكْثَرُ : لَا يَمْتَنِعُ نَسْخُ الْحُكْمِ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ وَبِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ وَبِمَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ .
وَقَالَ آخَرُونَ لَا يُنْسَخُ حُكْمٌ إلَّا بِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُنْسَخُ بِمِثْلِهِ وَبِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ ، وَلَا يُنْسَخُ بِمَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ .
وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْمَقَالَتَيْنِ إنَّمَا هِيَ تَظْنِينٌ وَحُسْبَانٌ مِنْ قَائِلِيهَا لَا يَرْجِعُ مِنْهَا إلَى دَلَالَةٍ يُعَضِّدُ بِهَا مَقَالَتَهُ .
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ .
وَهُوَ عِنْدِي قَوْلُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ : أَنَّ الْعِبَادَاتِ إنَّمَا تَرِدُ مِنْ اللهِ تَعَالَى ( عَلَى ) حَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْ مَصَالِحِنَا فِيهَا ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ تَارَةً فِي الْأَخَفِّ وَتَارَةً فِي الْأَثْقَلِ ، فَيُنْقَلُ ( الْمُتَعَبِّدُ ) مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَنْقُلُهُمْ

مِنْ الرَّخَاءِ ، إلَى الشِّدَّةِ تَارَةً وَمِنْ الشِّدَّةِ إلَى الرَّخَاءِ أُخْرَى فَيُغْنِي فِي وَقْتٍ ثُمَّ يُفْقِرُ فِي ( وَقْتٍ ) آخَرَ وَيُصِحُّ فِي وَقْتٍ وَيُمْرِضُ فِي ( وَقْتٍ ) آخَرَ كَذَلِكَ الْعَادَاتُ جَارِيَةٌ هَذَا الْمَجْرَى ، وَالْعِلَّةُ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ ، وَهَذَا أَيْضًا مَعْلُومٌ مِنْ تَدْبِيرِ الْحُكَمَاءِ لِمَنْ يَلُونَ أَمْرَهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ أَنَّهُمْ يَنْقُلُونَهُمْ مِنْ الشِّدَّةِ ، إلَى الرَّخَاءِ وَمِنْ الرَّخَاءِ إلَى الشِّدَّةِ فَيَنْقُلُونَهُمْ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَوْنَ لَهُمْ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي أَحْوَالِهِمْ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ مَقَالَةَ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ يُوجِبُ أَلَا يَفْرِضَ اللَّهُ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا ، لِأَنَّ إيجَابَ الْفَرْضِ تَكْلِيفٌ وَهُوَ أَثْقَلُ مِنْ الْإِبَاحَةِ ، وَقَدْ وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى مَا يُوَضِّحُ عَنْ بُطْلَانِ قَوْلِ
هَؤُلَاءِ ، قَالَ تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَقَلَهُمْ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى الْحَظْرِ وَهُوَ أَشَدُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ( وَابْنِ عُمَرَ ) وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ ( فِي ) تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ مِسْكِينًا ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فَجَعَلَ الصَّوْمَ حَتْمًا وَأَسْقَطَ التَّخْيِيرَ ، ( وَأَيْضًا ) فَإِنَّ الْخَمْرَةَ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي

أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَأْمُورًا بِتَرْكِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } ثُمَّ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } وَقَالَ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ } وَنَحْوُهُ ( مِنْ ) الْآيَاتِ فَنَقَلَهُمْ مِنْ الْأَخَفِّ إلَى مَا هُوَ أَشَقُّ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ كَانَ حَدُّ الزَّانِيَيْنِ الْحَبْسَ وَالْأَذَى فَنُقِلُوا إلَى الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ ، وَقَدْ كَانَ مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَمَنْ كَانَ يُفْطِرُ فِي ( شَهْرِ ) رَمَضَانَ لَمْ ( تَكُنْ ) تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ثُمَّ أَوْجَبَهَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمُجَامِعِ ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً حَتَّى أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْبِيَاعَاتِ الْمُحَرَّمَةِ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهَا مُتَقَدِّمًا ثُمَّ حُرِّمَتْ .
وَالْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِجَوَازِ النَّسْخِ فِي الْأَصْلِ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ نَسْخِ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ وَبَيْنَ نَسْخِ الْأَثْقَلِ بِالْأَخَفِّ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَصْلَحَةِ ( الْمُتَعَبِّدِ بِهِ ) وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ : قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي نَقْلِ الْمُتَعَبِّدِ مِنْ الْأَخَفِّ إلَى الْأَثْقَلِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ .
وَأَيْضًا لَوْ جُمِعَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لَمْ يَتَنَافَيَا ، بِأَنْ يَقُولَ : قَدْ أَبَحْت لَكُمْ كَذَا

إلَى وَقْتِ كَذَا ثُمَّ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ .
كَمَا أَبَاحَ الْإِفْطَارَ فِي سَائِرِ السَّنَةِ إلَى دُخُولِ ( شَهْرِ ) رَمَضَانَ فَإِذَا جَاءَ ( شَهْرُ ) رَمَضَانَ حُظِرَ الْإِفْطَارُ ( فِيهِ ، وَ ) كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " فُرِضَتْ الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ زِيدَتْ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى مَا كَانَتْ " .
فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْقَلُ إلَى مَا هُوَ أَشَقُّ عَلَيْنَا ، وَإِنَّمَا يَنْقُلُ إلَى مِثْلِهِ أَوْ أَخَفَّ ( مِنْهُ ) .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ أَنْ يَكُونَ الْأَثْقَلُ خَيْرًا لَنَا وَأَصْلَحَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ أَشَقُّ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ تَرْكِهَا ، وَفِعْلُهَا مَعَ ذَلِكَ خَيْرٌ لَنَا مِنْ تَرْكِهَا ، فَلَيْسَ الْخَبَرُ إذْن عِبَارَةٌ عَنْ الْأَخَفِّ وَلَا الْأَثْقَلِ ، فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ .
( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ ) .

الْبَابُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ
وَفِيْهِ فَصْلٌ:فِي الدَّلَالَةِ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلِ مَجِيْءِ وَقْتِهِ

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ
لَيْسَ يَخْلُو الْأَمْرُ فِي تَعْلِيقِهِ بِالْمَأْمُورِ مِنْ أَحَدِ أَقْسَامٍ خَمْسَةٍ : إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ : صَلُّوا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ، أَوْ يَقُولَ : صُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ بِعَيْنِهِ .
أَوْ أَنْ يُعَلِّقَهُ بِوَقْتٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : صَلُّوا صَلَاةً وَاحِدَةً فِي أَيِّ يَوْمٍ شِئْتُمْ ، وَصُومُوا ( شَهْرَ ) رَمَضَانَ فِي أَيِّ ( شَهْرِ ) رَمَضَانَ شِئْتُمْ .
وَأَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا غَيْرَ مَحْصُورٍ بِوَقْتٍ يَتَنَاوَلُ فَرْضًا فِي وَاحِدٍ إلَّا عَلَى وَجْهِ تَكْرَارِهِ فِي الْأَوْقَاتِ ، وَلَا التَّخْيِيرَ فِي أَوْقَاتِ فِعْلِهِ ، نَحْوُ قَوْلِهِ : صَلُّوا صَلَاةً وَاحِدَةً ، وَصُومُوا يَوْمًا أَوْ شَهْرًا وَاحِدًا .
أَوْ أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا بِالتَّأْبِيدِ نَحْوُ ( أَنْ يَقُولَ ) : صَلُّوا أَبَدًا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا بَقِيتُمْ ، وَصُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَا حَيِيتُمْ .
أَوْ ( أَنْ ) يَكُونَ وَارِدًا بِلَفْظٍ يَقْتَضِي أَدْنَى الْجَمْعِ حَقِيقَةً ، وَيَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْهُ ، وَيَقْتَضِي فِعْلَهُ مُكَرَّرًا فِي الْأَزْمَانِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْرُونٍ بِذِكْرِ التَّأْبِيدِ .
فَالْأَمْرُ الْوَارِدُ عَنْ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِدًا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ .

فَأَمَّا هَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهَا بِحَالٍ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَسْقُطُ عَنَّا الْفَرْضُ بِأُمُورٍ أُخْرَى عَلَى غَيْرِ وَجْهِ النَّسْخِ .
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ هُوَ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ : أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِهِ تَعَلَّقَ وُجُوبُ فِعْلِهِ بِوَقْتٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ نَسْخِهِ ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الْمَأْمُورِ بِعَيْنِهِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ ( بِهِ ) مِنْ أَحْكَامِ اللهِ تَعَالَى هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ .
وَالْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا هِيَ مِنْ هَذَاالْقَبِيلِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ ، صَلُّوا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ ، وَصُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ، فَرْضٌ ( قَدْ تَعَلَّقَ ) بِوَقْتٍ بِعَيْنِهِ ، فَلَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يُنْسَخَ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ ( أَوْ بَعْدَهُ وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُهُ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ ) لِمَا نَسْتَنِدُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِذَا مَضَى وَقْتُ الْفِعْلِ ( قَبْلَ أَنْ ) يَفْعَلَهُ ، فَإِنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ مِنْ لُزُومِ الْفِعْلِ قَدْ سَقَطَ بِمُضِيِّ وَقْتِهِ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْأَبْوَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ ( وَسُقُوطُ الْفَرْضِ بِمُضِيِّ وَقْتِهِ لَا يُسَمَّى نَسْخًا ) لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعْقُولًا مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ وَمَا لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ ، لِأَنَّ مَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ لَا يُسَمَّى سُقُوطُهُ بِمُضِيِّ وَقْتِهِ نَسْخًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ( وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ) فَلَمْ يَصُمْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ ، وَأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي لُزُومِ

الْقَضَاءِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ ، وَأَنَّ سُقُوطَهُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُسَمَّى نَسْخًا .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ : صَلُّوا صَلَاةً وَاحِدَةً فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْتُمْ ، أَوْ صُومُوا شَهْرًا أَيَّ شَهْرٍ شِئْتُمْ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ وُرُودَ الْأَمْرِ بِمِثْلِهِ ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ صَحَّ الْأَمْرُ بِهِ لَمْ يَصِحَّ نَسْخُهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا فَأَيُّ وَقْتٍ فَعَلَ فِيهِ الْمَأْمُورَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ وَقْتَ فَرْضِهِ .
وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ الْأَمْرِ بِمِثْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ وَسِعَهُ التَّأْخِيرُ أَبَدًا ، ثُمَّ لَا يَصِيرُ مُفَرِّطًا بِالْمَوْتِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْوَقْتِ الَّذِي يُعَيَّنُ عَلَيْهِ فِيهِ الْفَرْضُ ، فَيَخْرُجُ ذَلِكَ الْأَمْرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا ، إلَّا أَنَّا تَكَلَّمْنَا فِيهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ وُرُودَ الْأَمْرِ بِمِثْلِهِ فَقُلْنَا: وَاجِبٌ أَلَا يَجُوزَ نَسْخُهُ لِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ يَأْتِي عَلَيْهِ إذَا فَعَلَهُ فِيهِ كَانَ فَاعِلًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ بِعَيْنِهِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ نَسْخِهِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ لِمَا وَصَفْنَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ .
وَأَمَّا إذَا فَعَلَهُ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهُ فَلَيْسَ هُنَاكَ أَمْرٌ يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ فَيُنْسَخُ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ مِنْهُمَا غَيْرَ مَحْصُورٍ بِوَقْتٍ وَهُوَ فَرْضٌ وَاحِدٌ لَا يَقْتَضِي لَفْظُ الْأَمْرِ فِعْلَهُ مُكَرَّرًا فِي أَوْقَاتٍ مُسْتَقْبَلَةٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ نَسْخُهُ أَيْضًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِعْلَهُ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُهُ قَبْلَ وَقْتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَفِي الثَّانِي ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ ( لَزِمَهُ فِعْلُهُ ) فِي الثَّانِي بِذَلِكَ الْأَمْرِ بِعَيْنِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فِي الثَّانِي لَزِمَهُ فِعْلُ مِثْلِهِ فِي الثَّالِثِ بِالْأَمْرِ أَيْضًا ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْأَمْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَفِي الثَّانِي فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَفِي الثَّالِثِ فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَقْتٍ لَمْ يَفْعَلْهُ فِيهِ كَانَ الَّذِي يَلِيهِ وَقْتًا لِفِعْلِهِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ ( ثُمَّ ) لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَنْسَخَهُ قَبْلَ الْفِعْلِ أَوْ بَعْدَهُ .
وَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ قَبْلَ وَقْتِهِ كَمَا قُلْنَا فِي نَسْخِ الْفِعْلِ قَبْلَ ( مَجِيءِ ) وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ أَوْ أَنْ

يَنْسَخُهُ بَعْدَ الْفِعْلِ ، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ ، وَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ ( الْفَرْضُ ) بِأَدَائِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ قَدْ نُسِخَ عَنْهُ مَا قَدْ أَدَّاهُ وَلَمْ يَقْضِ لَفْظُ الْأَمْرِ لُزُومَ غَيْرِ مَا فَعَلَهُ ( فَلَمْ يَكُنْ هَاهُنَا شَيْءٌ نُسِخَ فِي الْحَقِيقَةِ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يُوجِبَ فِعْلَهُ ) مُكَرَّرًا فِي أَوْقَاتٍ وَيُقْرِنَهُ بِذِكْرِ التَّأْبِيدِ ، نَحْوُ قَوْلِهِ : صَلُّوا
أَبَدًا مَا بَقِيتُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، وَصُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ( أَبَدًا ) مَا حَيِيتُمْ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فَإِنَّ هَذَا قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِيمَا سَلَفَ وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي جَوَازِ نَسْخِهِ وَامْتِنَاعِهِ .
وَبَيَّنَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُ بِلَفْظٍ تَنَاوَلَ أَدْنَى الْجَمْعِ حَقِيقَةً وَيُحْتَمَلُ أَكْثَرُ مِنْهُ وَيَقْتَضِي فِعْلُهُ مُكَرَّرًا فِي أَوْقَاتٍ مُسْتَقْبَلَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا وَلَا مَقْرُونًا بِذِكْرِ التَّأْبِيدِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَجُوزُ نَسْخُهُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِهِ عَلَى أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُهُ سَوَاءٌ فَعَلَهُ الْمَأْمُورُ ( بِهِ ) أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ .
وَأَقْسَامُ النَّهْيِ فِيمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَمْرِ إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : صَلِّ وَصُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ إنَّمَا يَقْتَضِي فِعْلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً إذَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِعْلُهُ مُكَرَّرًا ، فَمَتَى فَعَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ بِالْأَمْرِ فَلَمْ يَصِحَّ مَعْنَى النَّسْخِ ( فِيهِ ) قَبْلَ فِعْلِهِ وَلَا بَعْدَ فِعْلِهِ .

وَأَمَّا النَّهْيُ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : لَا تَصُمْ أَوْ لَا تُصَلِّ فَفَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حُكْمُ النَّهْيِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ : وَيَكُونُ فِي تَوَهُّمِنَا وَتَقْدِيرِنَا بَقَاءُ حُكْمِ النَّهْيِ مَا لَمْ يَرِدْ النَّسْخُ فَيَصِحُّ وُرُودُ النَّسْخِ ( فِيهِ ) ، فَأَمَّا فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَهُوَ وَالْأَمْرُ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
فَصْلٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ
الدَّلَالَةُ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْأَمْرِ يَقْتَضِي لُزُومَ فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِحَسَنٍ ، وَلَا يَنْهَى إلَّا عَنْ قَبِيحٍ ، فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَدْ دَلَّ بِأَمْرِهِ ( بِهِ ) عَلَى حُسْنِهِ وَعَلَى قُبْحِ تَرْكِهِ ، وَكُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ فَقَدْ دَلَّ عَلَى قُبْحِهِ بِنَهْيِهِ فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْإِخْبَارِ فِيهِ فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ حَسَنًا وَيَكُونُ تَرْكُهُ قَبِيحًا .
وَإِذَا صَحَّ هَذَا لَمْ يَجُزْ ( أَنْ ) يَنْهَى عَمَّا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ مِمَّا هَذَا وَصْفُهُ لِأَنَّهُ لَوْ نَهَى ( عَنْهُ ) لَكَانَ نَهْيُهُ دَلَالَةً مِنْهُ عَلَى قُبْحِهِ وَعَلَى حُسْنِ تَرْكِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْبَارِ

مِنْهُ بِكَوْنِهِ قَبِيحًا إذَا وَقَعَ مِنْ فَاعِلِهِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَدُلَّ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَبِيحٌ الْوَجْهُ الَّذِي ( دَلَّ ) عَلَيْهِ حُسْنُهُ لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي تَنَاقُضَ دَلَالَتِهِ وَتَنَافِيهَا ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ .
وَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَنَا عَنْهُ بِأَنَّهُ حَسَنٌ ، وَيُخْبِرَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ قَبِيحٌ ، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْإِخْبَارِ فِي بَابِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَسَنِ أَوْ الْقَبِيحِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِيمَا ذَكَرْت غَيْرَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا بِوَقْتٍ مَحْصُورٍ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا مُحَالٌ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ بِالْأَمْرِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أُوقِعَ هَذَا الْفِعْلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَقَعَ حَسَنًا ، وَالنَّسْخُ إذَا وَرَدَ فَإِنَّمَا تَنَاوَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِعَيْنِهِ لَا فِعْلًا غَيْرَهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فِعْلُ غَيْرِ مَا تَعَلَّقَ حُكْمُهُ بِالْأَمْرِ فَيَتَنَاوَلُهُ النَّسْخُ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ النَّهْيُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ النَّسْخُ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ الْمَأْمُورَ ( بِهِ ) بِعَيْنِهِ ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَبْقَى وُجُوبُ فِعْلِهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَلَى حَسَبِ اقْتِضَائِهِ الْأَمْرَ بَدْءًا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا السَّائِلَ لَمْ يُحَصِّلْ مَعْنَى مَا قَالَ .
دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَدْ أَرَادَ مِنَّا فِعْلَهُ ، وَمَا نَهَانَا عَنْهُ فَقَدْ كَرِهَ مِنَّا فِعْلَهُ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَلَّا يَكُونَ مُرِيدًا لِمَا أَمَرَ بِهِ ، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا بِضِدِّهِ ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمَا كَانَ الْمَأْمُورُ مُطِيعًا بِفِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مُطِيعًا لَهُ بِفِعْلِ مَا أَرَادَهُ مِنْهُ ، وَكَانَ لَا يَكُونُ عَاصِيًا بِفِعْلِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَهُ مِنْهُ ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرْتَكِبُ النَّهْيِ مُطِيعًا لِلَّهِ

تَعَالَى ، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أَرَادَهُ مِنْهُ وَهَذَا يُوجِبُ سُقُوطَ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيَجْعَلُ وُرُودَهُمَا عَبَثًا وَسَفَهًا ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا ثُمَّ وَرَدَ الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا لِإِرَادَةِ الْفِعْلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْرَهَهُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ مِنْهُ وَفِي النَّهْيِ عَنْهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِهِ كَرَاهَةٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ ، وَهَذَا هُوَ الْبَدَاءُ الَّذِي هُوَ مَنْفِيٌّ عَنْ اللهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَكْرَهُهُ بَعْدَ إرَادَتِهِ ، لَهُ إلَّا وَقَدْ اسْتَحْدَثَ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ وَقْتَ إرَادَتِهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَبَثًا وَسَفَهًا فِي الِابْتِدَاءِ ، وَالْوَجْهَانِ جَمِيعًا مَنْفِيَّانِ عَنْ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَادَ الْفِعْلُ مِنْ وَجْهٍ وَيُكْرَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَتَتَعَلَّقُ الْإِرَادَةُ وَالْكَرَاهَةُ ( بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، فَأَمَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَلَا .
وَتَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ ) مِنْ وَجْهَيْنِ أَنْ يُرِيدَ الْفِعْلَ عِبَادَةً لِلَّهِ وَيَكْرَهَهُ عِبَادَةً لِلشَّيْطَانِ ( وَمِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ أَنْ يُرِيدَهُ مِنْهُ عِبَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَيَكْرَهَهُ عِبَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى ) وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ الَّذِي أَجَازَهُ مُخَالِفُونَا فِي ذَلِكَ ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللهِ ، تَعَالَى ( اللَّهُ ) عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْبَى جَوَازَ تَعَلُّقِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، وَيَزْعُمُ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي تَعَلَّقَتْ الْإِبَاحَةُ بِهِ غَيْرُ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحَظْرُ ، وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ صَحَّ مِنْهُمَا ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لِجَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ مَجِيءِ الْفِعْلِ لِمَا بَيَّنَّا ) .
وَدَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَجُوزُ وُرُودُهُ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ شَرْطُهُ مَعَ الْأَمْرِ ( بِهِ ) فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : صَلُّوا إلَى وَقْتِ كَذَا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ صَلُّوا ، بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْكَعْبَةِ .

وَمَا لَا يَجُوزُ شَرْطُهُ مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لَمْ يَصِحَّ وُرُودُ النَّسْخِ ( بِهِ ) وَمَا ذَكَرْنَا وَصْفَهُ مِنْ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ قَدْ فَرَضْت عَلَيْكُمْ الظُّهْرَ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ بِعَيْنِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مَذْكُورًا مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ يَصِحُّ أَنْ يُرِيدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَتَعَبَّدَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ بَعْدَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ مَا يَجُوزُ نَسْخُهُ إنَّمَا يَجُوزُ عَلَى وَجْهٍ لَوْ ذُكِرَ مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ بَدْءًا لَمْ يَتَنَاقَضْ ( وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِمَا لَوْ ذُكِرَ مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ تَنَاقَضَ ) الْكَلَامُ وَاسْتَحَالَ ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ امْتِنَاعِ ( جَوَازِ ) نَسْخِ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَجُوزَ وُرُودُ النَّسْخِ فِيمَا ( كَانَ ) هَذَا وَصْفَهُ إذَا كَانَ لَفْظُ الْأَمْرِ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذِكْرُ النَّهْيِ عَنْهُ مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ بِأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مُعَلَّقًا بِعَدَمِ وُرُودِ النَّسْخِ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ ، افْعَلُوا إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْكُمْ .
قِيلَ لَهُ : فَهَذَا هُوَ الْمُسْتَنْكَرُ الَّذِي لَا يَجُوزُ شَرْطُهُ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ إنْ لَمْ أَنْهَكُمْ عَنْهُ ، وَقَدْ أَرَدْته مِنْكُمْ إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ ، وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : افْعَلُوهُ إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْكُمْ إذَا كَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْرِطَهُ مَعَ الْأَمْرِ .
وَعَلَى أَنَّ قَائِلَ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقُولَ : بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ أَوْ النَّدْبِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ ، أَوْ أَنْ يَقُولَ : إنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَا تَقْتَضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ حُكْمُهُ فِي اقْتِضَاءِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ مَوْقُوفًا عَلَى دَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَأْبَى الْقَوْلَ بِاقْتِضَاءِ وُرُودِ الْأَمْرِ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ ( وَهُوَ أَنْ ) يَقُولَ : إنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ فَإِنَّ الْأَمْرَ مَعَ ذَلِكَ فِي صِيغَتِهِ وَحِيَالَ وُرُودِهِ لَيْسَ بِالْإِيجَابِ

أَوْلَى مِنْهُ بِالنَّهْيِ ، حَتَّى إذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَلِمْت أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْأَمْرِ الْإِيجَابَ .
فَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ الْأُمَّةِ إذْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ النَّهْيَ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ : إنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي إيقَاعَ الْفِعْلِ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ أَلَّا يُنْسَخَ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ اقْتَضَى إيقَاعَهُ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ أَوْ النَّدْبِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ وَلَا مُقَيَّدًا بِوَصْفٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ كَمَا يَقُولُ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ .
وَالْحَقَائِقُ أَنَّهَا مَتَى وَرَدَتْ مُطْلَقَةً كَانَتْ مُقْتَضِيَةً لِأَحْكَامِهَا الْمَوْضُوعَةِ لَهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَزِمَنَا بِهَا اعْتِقَادُ مُوجِبِ صِيغَتِهَا ، ثُمَّ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَرِدَ - بَعْدَ أَنْ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ صُورَتُهَا بِحُصُولِ الْفَرَاغِ فِيهَا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ وَلَا وَصْفٍ - أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا غَيْرُ مَا اقْتَضَتْهُ حَقِيقَةُ لَفْظِهَا ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا ( مُقْتَضِيًا ) لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُجْعَلَ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ أَلَّا يُنْسَخَ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي نَفْيِ إثْبَاتِ الشَّرْطِ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ الْعَارِي مِنْ الشَّرْطِ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ ، وَسَنَتَكَلَّمُ بَعْدَ هَذَا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ مُقَيَّدًا بِهَذَا الشَّرْطِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَلَيْسَ لَوْ قَالَ ( اللَّهُ تَعَالَى ) لَنَا : صَلُّوا الظُّهْرَ فِي مُسْتَقْبَلِ أَعْمَارِكُمْ ، أَوْ صُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ فِي مُسْتَقْبَلِ السِّنِينَ ، كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا اعْتِقَادَ وُجُوبِهِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَوْقَاتِ مُكَرَّرًا ، ثُمَّ جَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ عِنْدَك وُرُودُ نَسْخِهِ بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْ فِعْلِ أَدْنَى مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ ، فَلِمَ أَنْكَرْت أَنْ يَجُوزَ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْهُ كَمَا أَجَزْت وُرُودَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي شَيْءٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وُرُودَ الْأَمْرِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مُقَارِنٌ لِجَوَازِ نَسْخِهِ بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْ أَدْنَى فِعْلِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ مَا دَامَ النَّسْخُ قَائِمًا بِبَقَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا وَرَدَ النَّسْخُ عَلِمْنَا أَنَّ الْفَرْضَ كَانَ الْمِقْدَارَ الَّذِي وَقَعَ التَّمْكِينُ مِنْهُ إلَى وَقْتِ

النَّسْخِ ، وَأَنَّ مَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِالْأَمْرِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَسْأَلَتُنَا لِأَنَّهُ
إذَا قَالَ لَنَا : صَلُّوا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ لَزِمَنَا اعْتِقَادُ وُجُوبِهَا فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ تَجْوِيزٍ لِغَيْرِهِ ، فَمَتَى وَرَدَ نَسْخُهُ كَانَ نَهْيًا عَنْ الْمَأْمُورِ بِعَيْنِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا أَجَزْت وُرُودَ الْأَمْرِ مَعْقُودًا بِشَرْطِ فِعْلِهِ فِي وَقْتٍ إنْ لَمْ ( يَنْهَ ) عَنْهُ وَلَمْ يَنْسَخْهُ فَيَقُولُ : صَلُّوا عِنْدَ الزَّوَالِ إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْكُمْ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ قَدْ ( أَرَدْته ) مِنْكُمْ إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ ، وَكَقَوْلِهِ : هُوَ حَسَنٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إنْ لَمْ يَكُنْ قَبِيحًا ، وَكَقَوْلِهِ : خَبَرِي هَذَا صِدْقٌ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَكَقَوْلِهِ : ( قَدْ ) أَمَرْتُكُمْ بِهِ إنْ لَمْ يَبْدُ لِي فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا جَاهِلٌ بِالْعَوَاقِبِ وَبِقُبْحِ الْأَمْرِ أَوْ بِحُسْنِهِ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَيْسَ هُوَ الْمُوجِبَ لِحُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَا النَّهْيُ عَنْهُ مُوجِبًا لِقُبْحِهِ وَإِنَّمَا يَدُلَّانِ إذَا وَرَدَا مِنْ اللهِ تَعَالَى عَلَى حُسْنِهِ أَوْ قُبْحِهِ ، لِأَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِحُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِهِ وَعَالِمٌ بِقُبْحِهِ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْهُ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُ جَوَازُ شَرْطِ النَّهْيِ فِيمَا عُلِمَ حُسْنُهُ وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ الْأَمْرِ فِيمَا عُلِمَ قُبْحُهُ .
فَإِنْ قَالَ : أَلَيْسَ جَائِزًا فِيمَا بَيْنَنَا أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ : اُدْخُلْ الدَّارَ غَدًا مَا لَمْ أَنْهَك عَنْهُ وَلَا يَكُونُ هَذَا مُسْتَنْكَرًا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ فَمَا أَنْكَرْت مِنْ تَجْوِيزِ مِثْلِهِ فِي أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى .
قِيلَ لَهُ : إنَّمَا يَجُوزُ هَذَا فِيمَا بَيْنَنَا لِجَوَازِ الْبَدَاءِ عَلَيْنَا وَالتَّنَقُّلِ فِي الرَّأْيِ وَاسْتِحْدَاثِ الْعِلْمِ ( بِالْأَمْرِ ) ، فَجَازَ أَنْ يَقُولَ الْوَاحِدُ مِنَّا لِعَبْدِهِ : افْعَلْ غَدًا كَذَا مَا لَمْ أَنْهَك عَنْهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : افْعَلْهُ إنْ لَمْ يَبْدُ لِي فِيهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْبُدَاءَاتُ ، وَلَا اسْتِحْدَاثُ الْعِلْمِ

بِالْأُمُورِ فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ جَوَازُ شَرْطِ ذَلِكَ فِي أَوَامِرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ ( مِثْلَ ) ذَلِكَ مِنَّا لِعَبْدِهِ عَقَلْنَا مِنْ لَفْظِهِ ( أَنَّهُ ) إنَّمَا جَوَّزَ عَلَى نَفْسِهِ انْتِقَالَهُ عَنْ الرَّأْيِ ( الْأَوَّلِ ) إلَى غَيْرِهِ لِمَا عَسَى أَنْ يَبْدُوَ لَهُ فِي الْمُسْتَأْنَفِ وَأَنْ سَيَحْدُثُ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ فِي الْأَوَّلِ ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَلَّا يَجُوزَ مِثْلُهُ عَلَى اللهِ تَعَالَى كَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْبَدَاءُ وَاسْتِحْدَاثُ الْعِلْمِ بِالْأُمُورِ .
فَإِنْ قَالَ : قَدْ أَجَزْت فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْأَبْوَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
وُرُودَ الْأَمْرِ مِنْ اللهِ تَعَالَى مُعَلَّقًا بِشَرْطِ التَّمْكِينِ مِنْهُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : صَلِّ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ إنْ كُنْت صَحِيحًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَقَاتِلْ الْمُشْرِكِينَ غَدًا إنْ أَمْكَنَك ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ عِنْدَك صِحَّةَ الْأَمْرِ مُعَلَّقًا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ ، فَهَلَّا جَوَّزْت ( أَنْ يَقُولَ ) صَلِّ عِنْدَ الزَّوَالِ إنْ لَمْ أَنْهَك عَنْهُ .
قِيلَ لَهُ : مَا قَدَّمْنَا مِنْ عِلَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَثَلَيْنِ فِي الْجَوَازِ أَوْ الِامْتِنَاعِ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : قَدْ أَرَدْته مِنْك إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ ، وَأَنَّ أَمْرِي إيَّاكَ حَسَنٌ إنْ لَمْ يَكُ قَبِيحًا ، وَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ يَقْتَضِي تَجْوِيزَ الْبَدَاءِ ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ مَنْفِيَّةٌ ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ : صَلِّ إنْ قَدَرْت عَلَيْهِ اقْتِضَاءُ صِفَةٍ حُكْمُهَا أَنْ تَكُونَ مَنْفِيَّةً عَنْ اللهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُهُ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْأَمْرِ وَكَوْنِهِ حَسَنًا وُجُودُ التَّمْكِينِ فِي حَالِ لُزُومِ فِعْلِهِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُرُودُهُ مَقْرُونًا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ .
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الثَّانِي مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ فِي الثَّانِي مَا يُضَادُّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمَعْلُومٌ امْتِنَاعُ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُ فِي حَالِ وُجُودِ ضِدِّهِ ، كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ امْتِنَاعُ وُقُوعِهِ ( مِنْهُ ) مَعَ عَدَمِ التَّمْكِينِ مِنْهُ ، ثُمَّ لَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُ الْأَمْرِ

بِفِعْلٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِأَجَلٍ مَا فِي الْمَعْلُومِ مِنْ وُقُوعِ ضِدِّهِ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ بَدَلًا مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عَبَثًا وَلَا سَفَهًا ، كَذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ التَّمْكِينِ أَمْرٌ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ ( فِي ) مَعْلُومِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ الْمَأْمُورَ لَا يَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ ، وَمَنْ مَنَعَ حُسْنَ الْأَمْرِ عَلَى شَرْطِ التَّمْكِينِ إذَا كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ فَإِنَّمَا مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْآمِرَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ كَانَ أَمْرُهُ ( بِهِ ) عَبَثًا كَأَمْرِهِ لَنَا بِصُعُودِ السَّمَاءِ وَنَحْوِهِ .
وَفَرْقٌ بَيْنَ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَأَوَامِرِنَا لِعَبِيدِنَا وَمَنْ يَلْزَمُهُ طَاعَتُنَا فِي جَوَازِهِ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ التَّمْكِينِ مِنْهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ مِنَّا يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ بُلُوغُ الْمَأْمُورِ حَالَ التَّمْكِينِ وَلَوْ كَانَ وُجُودُهُ مِنْ الْمَأْمُورِ فِيمَا بَيْنَنَا مَيْئُوسًا مِنْهُ لَمَا كَانَ الْأَمْرُ بِهِ حَسَنًا .
قَالَ : وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي مَعْلُومِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا : أَنَّ هَذَا إنَّمَا جَازَ وُرُودُهُ مِنْ اللهِ تَعَالَى مَقْرُونًا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ بُلُوغُ حَالَ التَّمْكِينِ وَإِنْ كَانَ ( فِي ) مَعْلُومِ اللهِ ( أَنَّا ) لَا نَبْلُغُهَا لِأَنَّا مَتَى جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَزِمَنَا بِوُرُودِهِ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ عَلَى الشَّرِيطَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ وَيُلْزِمُنَاهَا تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَيْهِ وَتَسْهِيلُهُ عَلَيْهَا إنْ بَلَغْنَا حَالَ التَّمْكِينِ وَهَذِهِ عِبَادَةٌ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَيُلْزِمَنَاهَا فِي الْحَالِ .
وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ بِصُعُودِ السَّمَاءِ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ ، لِأَنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّا لَا نَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ مِنْهُ أَبَدًا وَلَا يَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ اعْتِقَادُ جَوَازِ بُلُوغِ حَالِ الْإِمْكَانِ وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى الْفِعْلِ إذَا بَلَغْنَاهَا ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَذَا الْأَمْرِ وُجُوبُ الْفِعْلِ وَلَا اعْتِقَادُ شَيْءٍ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ بِهِ

كَانَ عَبَثًا فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَفْعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِنْ قَالَ : مَا أَنْكَرْت عَلَى هَذَا أَنْ يَجُوزَ وُرُودُ الْأَمْرِ مَعْقُودًا بِشَرِيطَةِ ( أَنْ يَقُولَ ) افْعَلُوا مَا لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْكُمْ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ ،وَأَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ عَلَيْنَا فِيهِ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ إنْ لَمْ يَنْسَخْهُ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَلْزَمَهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ بِوُرُودِ الْأَمْرِ ، أَوْ أَنْ يَلْزَمَهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ إنْ كَانَ وَاجِبًا ، أَوْ اعْتِقَادُ حَظْرِهِ إنْ كَانَ مَحْظُورًا فَيُعْتَقَدُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَوْ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ .
فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَلْزَمُهُ بِوُرُودِ الْأَمْرِ الْمَعْقُودِ بِشَرِيطَةِ أَنْ لَا يَنْهَى عَنْهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ لَيْسَ هُوَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْأَمْرِ الْمُقَيَّدُ بِالشَّرْطِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْت ، بَلْ هُوَ مُقْتَضَى اعْتِقَادِ الْأَمْرِ الْمُبْهَمِ الَّذِي لَا شَرْطَ فِيهِ فَيُؤَدِّي هَذَا إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ الشَّرْطِ .
وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِجَوَازِ نَسْخِ ( الْأَمْرِ ) الْمُبْهَمِ الْعَارِي مِنْ الشَّرْطِ إذَا تَنَاوَلَ ( وَقْتًا ) مَحْصُورًا ، وَأَيْضًا فَإِنَّ كَوْنَهُ مَعْقُودًا بِشَرِيطَةِ أَنْ لَا يَنْهَى عَنْهُ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ اعْتِقَادُ وُجُوبِ فِعْلِهِ عِنْدَ مَجِيءِ وَقْتِهِ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِقَادِ وُجُوبِ تَرْكِهِ فَلَوْ لَزِمَنَا بِوُرُودِ الْأَمْرِ الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ كَانَ فِي ذَلِكَ إيجَابَ اعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَهَذَا أَمْرٌ بِاعْتِقَادِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَجَوَازُ الْأَمْرِ بِمِثْلِهِ مُنْتَفٍ عَنْ اللهِ تَعَالَى فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ بِمَا وَصَفْنَا فَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِوُرُودِ الْأَمْرِ الَّذِي هَذَا وَصْفُهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ إنْ

كَانَ وَاجِبًا ، أَوْ حَظْرِهِ إنْ كَانَ مَحْظُورًا عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ ، فَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ عَلَى اعْتِقَادِ شَيْءٍ لَا حَظْرَ وَلَا إيجَابَ ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِهِ رَأْسًا ، لِأَنَّ بَعْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ كَهِيَ قَبْلَ وُرُودِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَعْتَقِدُ قَبْلَ وُرُودِ الْأَمْرِ أَنَّ مَا يُوجِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَأْنَفِ فَهُوَ وَاجِبٌ ، وَأَنَّ مَا يَحْظُرُهُ فَهُوَ مَحْظُورٌ ، فَيُؤَدِّي هَذَا الْقَوْلُ ( إلَى ) إسْقَاطِ فَائِدَةِ الْأَمْرِ رَأْسًا ، فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا .
فَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ لَمْ يَصِحَّ هَذَا ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَجِيءُ الْعِبَادَةِ بِهِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَرَدْته مِنْك إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ ، وَهُوَ حَسَنٌ إنْ لَمْ يَكُنْ قَبِيحًا ، وَأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ صِدْقٌ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ وُرُودُ الْخِطَابِ مِنْ اللهِ تَعَالَى بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي خِطَابِهِ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلِاعْتِقَادِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي وَصَفَهُ مَا ذَكَرْت وَجْهٌ غَيْرُ مَا وَصَفْنَا ، وَلَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهَا لِمَا بَيَّنَّا ، ثَبَتَ امْتِنَاعُ جَوَازِ وُرُودِهِ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ .
فَإِنْ قَالَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَجُوزَ وُرُودُ الْأَمْرِ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ .
فَنَقُولُ : قَدْ أَمَرْتُك ( بِهِ ) إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ ، وَيَكُونُ الَّذِي يَلْزَمُنَا بِوُرُودِ الْأَمْرِ الَّذِي هَذِهِ صُورَتُهُ : أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ مُجْمَلٌ يَرِدُ بَيَانُهُ فِي الثَّانِي مِنْ حَظْرٍ أَوْ إبَاحَةٍ ، وَيَكُونُ بَيَانُ حُكْمِهِ مُتَرَقَّبًا بِمَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ فَإِنْ حَظَرَهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ ( بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ كَانَ الْحَظْرَ ، وَإِنْ لَمْ يَنْسَخْهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ ) ( بِهِ ) كَانَ الْإِيجَابَ ، كَمَا نَقُولُ فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِعْمَالِهَا إلَّا بِوُرُودِ بَيَانِهَا وَلَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ ( فَائِدَةِ الْأَمْرِ كَمَا لَا يَكُونُ ) اللَّفْظُ الْمُجْمَلُ عَارِيًّا مِنْ ( الْفَائِدَةِ ) لِوُرُودِهِ مُجْمَلًا .

قِيلَ لَهُ : هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ أَوْ تَصَدَّقْ بِدِرْهَمٍ غَدًا لَيْسَ بِمُجْمَلٍ مِنْ حَيْثُ اقْتَضَى وُجُوبَ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ لَهُ ، فَقَدْ أَلْزَمَنَا بِوُرُودِهِ اعْتِقَادَ وُجُوبِهِ فَلَوْ جَازَ أَنْ يُقْرَنَ بِهِ ( قَوْلُهُ )افْعَلْ مَا لَمْ أَنْسَخْهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُؤَثِّرًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّهُ مُقْتَضَى الْإِيجَابِ إلَّا أَنَّهُ شُرِطَ جَوَازُ رَفْعِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَأَمَّا الْمُجْمَلُ : فَمِنْ حَيْثُ لَمْ يَلْزَمْنَا فِيهِ اعْتِقَادُ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ ، فَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ بَيَانِ الْحُكْمِ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ الْمُرَادُ بِالْجُمْلَةِ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّ النَّهْيَ لَوْ وَرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَمْرِ عِبَارَةً عَنْهُ .
فَقَوْلُك : إنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ الْمَقْرُونَ بِجَوَازِ شَرْطِ النَّهْيِ مَوْقُوفٌ عَلَى وُرُودِ الْبَيَانِ خَطَأٌ ، لِأَنَّ النَّسْخَ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ الْأَمْرُ بَاقِيًا ، بَلْ يَكُونُ مَرْفُوعًا زَائِلًا فَكَيْفَ يَكُونُ مَا يُوجِبُ دَفْعَهُ وَإِسْقَاطَهُ بَيَانًا لَهُ ، وَهُوَ يُوجِبُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَمْرِ مَوْضُوعًا لِلنَّهْيِ ، وَلَفْظُ الْإِيجَابِ مَوْضُوعًا لِلْحَظْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ .
وَأَمَّا وُرُودُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ فَغَيْرُ مُزِيلٍ لِحُكْمِ اللَّفْظِ ، لِأَنَّ لَفْظَ الْجُمْلَةِ قَدْ كَانَ يَصْلُحُ لَهُ ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةٌ عَنْهُ إمَّا فِي اللُّغَةِ أَوْ الشَّرْعِ ، فَلَمْ يَكُنْ بَيَانُهُ مُنَافِيًا لِحُكْمِ الْجُمْلَةِ .
وَقَدْ احْتَجَّ مَنْ أَجَازَ نَسْخَ الْحُكْمِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُرِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ خَمْسُونَ صَلَاةً فَمَا زَالَ يَسْأَلُ اللَّهَ حَتَّى رَدَّهَا إلَى خَمْسٍ .
قَالُوا : فَقَدْ نُسِخَ فَرْضُ الْخَمْسِينَ إلَى الْخَمْسِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ .
وَبِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ وَأَنَّهُ نُسِخَ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ ، وَبِصُلْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ ( مِنْهُمْ ) مُسْلِمًا ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْ النِّسَاءِ قَبْلَ

مَجِيئِهِنَّ إلَيْهِ ، وقَوْله تَعَالَى : { إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَسَخَهُ قَبْلَ مَجِيءِ ( وَقْتِ فِعْلِهِ ) .
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ : أَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ فَرْضِ الْخَمْسِينَ صَلَاةً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي الِابْتِدَاءِ مَعْقُودًا بِشَرْطِ اخْتِيَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا اسْتَأْذَنُوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَجَعَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( بِأَعْلَى ) النَّظَرَيْنِ فِي ذَلِكَ ، لَيْسَ يَمْتَنِعُ عِنْدَنَا تَعَلُّقُ الْفَرْضِ بِاخْتِيَارِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، كَاخْتِلَافِ حُكْمِ صَلَاةِ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ بِاخْتِيَارِهِ السَّفَرَ وَالْإِقَامَةَ ، وَكَمَا تَلْزَمُنَا الْقُرَبُ بِالنَّذْرِ وَإِيجَابُنَا لَهَا عَلَى أَنْفُسِنَا ، وَكَمَا يَكُونُ الْحَانِثُ فِي يَمِينِهِ مُخَيَّرًا فِي أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ بِوَاحِدَةٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَبِأَيِّهَا كَفَّرَ تَعَيَّنَ حُكْمُ الْفَرْضِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إيجَابُ الْفَرْضِ مَوْكُولًا إلَى اخْتِيَارِ أَحَدٍ مِنْ الْمَأْمُورِينَ ، لِأَنَّ الْفُرُوضَ وَالْأَوَامِرَ إنَّمَا ( هِيَ ) حَسَبَ الْمَصَالِحِ وَلَا عِلْمَ لِأَحَدٍ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ يَمْتَنِعُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْلُومِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُتَسَاوِيَةٌ مِنْ جِهَةِ الصَّلَاحِ ، فَإِذَا خُيِّرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ لَا يَخْتَارُ إلَّا مَا هُوَ صَلَاحٌ فَيَكِلُ وُجُوبَ الْفَرْضِ إلَى اخْتِيَارِهِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُسِنَّ مَا رَأَى ، وَيَفْرِضَ مَا شَاءَ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ يَأْتِيهِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ ، كَمَا { قَالَ

لِلْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ الْحَجِّ أَوَاجِبٌ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : بَلْ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ } وَكَمَا اسْتَثْنَى الْإِذْخِرَ عِنْدَ مَسْأَلَةِ الْعَبَّاسِ إيَّاهُ ذَلِكَ حِينَ قَالَ : { لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ : إلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ : إلَّا الْإِذْخِرَ } بَعْدَمَا أَطْلَقَ النَّهْيَ فِي الْجَمِيعِ قَالَ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ أَوْ الْإِبَاحَةِ مُعَلَّقًا بِاخْتِيَارِهِ .
وَكَمَا قَالَ : { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إيجَابَ ذَلِكَ كَانَ مَجْعُولًا إلَيْهِ وَمَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهِ ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، إلَّا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عِنْدَ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا صِحَّتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ ( عِنْدَنَا ) أَنْ نَكِلَ فَرْضَ الْخَمْسِينَ إلَى اخْتِيَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ فِيهِ ، فَمَا زَالَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَى خَمْسٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ فِي الِابْتِدَاءِ مَوْكُولًا إلَى اخْتِيَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا مَعْنَى مَسْأَلَتِهِ التَّخْفِيفَ وَمُرَاجَعَتِهِ فِيهِ .
قِيلَ لَهُ : إنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَوْكُولًا إلَى اخْتِيَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ

يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى التَّخْفِيفَ عَنْ أُمَّتِهِ فَتَكُونُ مَسْأَلَتُهُ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ ، كَمَا قُلْنَا ( فِي ) فَرْضِ السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ إنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى اخْتِيَارِنَا لِلسَّفَرِ أَوْ الْإِقَامَةِ فَيَخْتَلِفُ الْفَرْضُ بِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَوْقُوفَانِ عَلَى اخْتِيَارِنَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ الْفَرْضَ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ
الثَّلَاثَةِ لَا جَمِيعُهَا ، وَأَنَّ حُكْمَ الْمَفْرُوضِ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارِ الْمُكَفِّرِ حَتَّى يَتَعَيَّنَ بِهِ الْحُكْمُ إذَا فَعَلَهُ دُونَ غَيْرِهِ ، وَأَمَّا أَمْرُ اللهِ تَعَالَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَبْحِ ابْنِهِ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِذَبْحِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ عَلَى شَرْطِ التَّمْكِينِ مِنْهُ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ الْحَائِلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ وُرُودِ الْأَمْرِ مَعْقُودًا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ ، فَلَمَّا عَالَجَ أَسْبَابَ الذَّبْحِ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ بِضَرْبٍ مِنْ الْمَنْعِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ ( الْعِلْمِ فِي ) التَّفْسِيرِ : ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حَلْقِهِ صَفِيحَةَ نُحَاسٍ فَلَمْ تَعْمَلْ فِيهَا الشَّفْرَةُ ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، قَدْ صَدَّقْت الرُّؤْيَا ، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أَمْكَنَهُ وَبَذَلَ الْمَجْهُودَ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ( إنَّمَا ) رَأَى فِي الْمَنَامِ فِعْلَ أَسْبَابِ الذَّبْحِ وَمُعَالَجَتَهُ وَقَدْ فَعَلَ وَسَمَّاهُ ذَبْحًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ يَقَعُ بِمِثْلِهِ الذَّبْحُ فِي الْعَادَةِ مَا لَمْ يَحْدُثْ مَنْعٌ كَمَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مُجَاوِرًا لَهُ أَوْ كَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَلَا مَعْنَى إذَنْ لِلْفِدْيَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالذَّبْحِ لِعَدَمِ التَّمْكِينِ مِنْهُ وَلَا يَقَعُ مَا سُمِّيَ فِدْيَةً مَوْقِعَ الْفِدْيَةِ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ مَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ .

وَمَا فُدِيَ بِهِ عِنْدَك لَمْ يَقُمْ مَقَامَ شَيْءٍ أُمِرَ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْهُ إذَا كَانَ جَمِيعُ مَا أَمَرَ بِهِ قَدْ فَعَلَهُ عِنْدَك .
قِيلَ لَهُ : ( لَيْسَ ) يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ سُمِّيَ فِدْيَةً لِمَا كَانَ يَتَوَقَّعُهُ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حُدُوثِ الْمَوْتِ بِالذَّبْحِ ، فَفَدَى مَا كَانَ فِي تَقْدِيرِهِ أَنَّهُ سَيَقَعُ بِمَا ( قَدَرَ ) بِهِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ ذَبَحَهُ وَفَرَى الْأَوْدَاجَ ثُمَّ وَصَلَهَا اللَّهُ فِي أَسْرَعَ مِنْ لَمْحِ الطَّرْفِ قَبْلَ خُرُوجِ الرُّوحِ ، وَهَذَا جَائِزٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ.
وَأَمَّا صُلْحُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُرَيْشًا عَلَى مَا صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ وَنَسْخُ الْحُكْمِ عَنْ النِّسَاءِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَضَى مِنْ وَقْتِ الْحُكْمِ إلَى أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِرَدِّ النِّسَاءِ مُدَّةً يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ الْحُكْمِ فِيهَا فَلَيْسَ فِي هَذَا نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ ، وَكَذَلِكَ نَسْخُ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُنَاجَاةِ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَضَى مِنْ وَقْتِ نُزُولِ الْحُكْمِ إلَى وَقْتِ وُرُودِ النَّسْخِ مُدَّةٌ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ الْحُكْمِ فِيهَا ، وَنَسْخُ مِثْلِهِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَسْأَلَتِنَا فِي شَيْءٍ .
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا امْتِنَاعُ جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ وَجَمِيعُ الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُهَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي ذَكَرْنَا جَوَازَ نَسْخِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَرِدَ لَفْظٌ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ عُمُومًا فِي جِنْسِ يُوجِبُ فِعْلَهُ عَلَى الدَّوَامِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ تَوْقِيتٍ فَهُوَ ( مِنْ ) نَحْوِ قَوْله تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } وقَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } وَمَا جَرَى مَجْرَى

ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ وَفِيمَا ( يَقْتَضِي ) مُسْتَقْبَلَ الْأَوْقَاتِ كَقَوْلِهِ : صُومُوا عَاشُورَاءَ فِيمَا ( يُسْتَقْبَلُ ) مِنْ السِّنِينَ وَنَحْوُ ( ذَلِكَ ) قَوْلُهُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ : تَمَسَّكُوا بِتَحْرِيمِ السَّبْتِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ ، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِهَا اعْتِقَادُ مُوجِبِ لَفْظِهَا وَتَجْوِيزُ نَسْخِهَا مَعَ ذَلِكَ إذَا وُجِدَ مِنْ وَقْتِ الْفِعْلِ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ ، لِأَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَوْقَهَا ، وَذِكْرُهُ بِمُسْتَقْبَلِ الْأَوْقَاتِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ قَلِيلِ الْأَوْقَاتِ وَكَثِيرِهَا ، لَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ بِأَنْ يُبَيِّنَ تَارَةً أَنَّ حُكْمَ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وُجُوبُ قَتْلِهِمْ ، وَمِنْ الْآنَ قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ حُكْمَ بَعْضِ الْقَاذِفِينَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ الْجَلْدُ ، وَمِنْ الْآنَ اللِّعَانُ وَهُمْ قَاذِفُو الزَّوْجَاتِ ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ فَرْضُهُ إلَى وَقْتِ نُزُولِ ( الْأَمْرِ بِصَوْمِ شَهْرِ ) رَمَضَانَ ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ السَّبْتِ ( إلَى الْوَقْتِ ) الَّذِي نَسَخَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ آخَرَ جَاءَ بَعْدَهُ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ فُعِلَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَوْ لَمْ يُفْعَلْ ، فَإِنَّ نَسْخَهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ التَّمْكِينُ مِنْ الْفِعْلِ فَقَدْ لَزِمَهُ فَرْضُهُ ، وَتَفْرِيطُهُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ نَسْخَهُ عَنْهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّقَهُ فِي الِابْتِدَاءِ بِوَقْتٍ بِعَيْنِهِ ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ قَبْلَ فِعْلِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ ، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ فَتَقُولُ ( لَهُ : إنْ فَعَلْته عِنْدَ وُجُودِ التَّمْكِينِ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِنْ تَرَكْته فَأَنْتَ مُعَاقَبٌ ) عَلَى تَرْكِهِ وَلَا فَرْضَ عَلَيْك بَعْدَهُ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا : أَنَّ وُرُودَ النَّسْخِ جَائِزٌ ، وَإِنْ تَرَكَ بَعْضَ الْمَأْمُورِينَ مَا أَمَرَ بِهِ فِي وَقْتِ لُزُومِهِ ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا أَرَادَ نَسْخَ شَيْءٍ سَأَلَهُمْ : هَلْ تَرَكَ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ حَتَّى يَصِحَّ نَسْخُهُ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ .
وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَنُقِلَ ، فَلَمَّا لَمْ يَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِمَّا نَسَخَهُ ، بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ نَسَخَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ مِنْهُ عَنْ حَالِ

الْمَأْمُورِينَ فِي فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ دَلَّ ( ذَلِكَ ) عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطُ جَوَازِ النَّسْخِ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ .
وَأَيْضًا فَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَصِحُّ نَسْخُهُ بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْ تَرْكِهِ وَإِنْ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ فِعْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ ارْتِكَابُهُ لِلْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَانِعًا مِنْ نَسْخِهِ كَذَلِكَ تَرْكُهُ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ نَسْخِهِ .

فارغة

الْبَابُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُوْنَ: فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ

فارغة

بَابٌ فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نَسْخِ ( رَسْمِ ) الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ .
فَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَكُونُ رَفْعُ حُكْمِهِ إلَّا بِرَفْعِ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ فَيَرْتَفِعُ الْحُكْمُ بِارْتِفَاعِهَا .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَجُوزُ رَفْعُ أَحَدِهِمَا مَعَ بَقَاءِ الْآخَرِ أَيُّهُمَا كَانَ مِنْ تِلَاوَةٍ أَوْ حُكْمٍ .
وَقَالَ طَائِفَةٌ : لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتُهُ وَلَكِنْ يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ التِّلَاوَةِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَمَّا جَوَازُ نَسْخِ الْحُكْمِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ إلَّا فِرْقَةً شَذَّتْ عَنْهَا ، وَقَدْ حَكَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَوْلَهَا .
وَأَمَّا نَسْخُ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ فَإِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُنْسِيَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ وَيَرْفَعَهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ ( أَوْ يَأْمُرَهُمْ ) بِالْإِعْرَاضِ عَنْ تِلَاوَتِهِ وَكَتْبِهِ فِي الْمُصْحَفِ فَيَنْدَرِسُ عَلَى الْأَيَّامِ كَسَائِرِ كُتُبِ اللهِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ فِي قَوْله تَعَالَى : { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ، صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } وَلَا نَعْرِفُ الْيَوْمَ مِنْهَا شَيْئًا ، ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا تُوُفِّيَ لَا يَكُونُ مَتْلُوًّا مِنْ الْقُرْآنِ ، أَوْ يَمُوتُ وَهُوَ مَتْلُوٌّ مَوْجُودٌ بِالرَّسْمِ ثُمَّ يُنْسِيهِ اللَّهُ النَّاسَ وَيَرْفَعُهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ .
وَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا نَسْخُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا رَسْمُهُ وَلَا حُكْمُهُ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ لَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا قَوْمٌ مُلْحِدَةٌ يَسْتَهْزِئُونَ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَيَقْصِدُونَ إفْسَادَ الشَّرِيعَةِ بِتَجْوِيزِ نَسْخِ الْأَحْكَامِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَأَمَّا نَسْخُ رَسْمِ الْقُرْآنِ دُونَ حُكْمِهِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَإِنَّ فِي مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَجْوِيزِهِمْ نَسْخَ التِّلَاوَةِ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ ، وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَغَيْرُ جَائِزٍ .

وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا : إيجَابُهُمْ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، لِمَا ذَكَرُوا أَنَّ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْيَوْمَ وَلَا يَجُوزُ تِلَاوَتُهُ فِيهِ وَلَا الْقَطْعُ بِأَنَّهُ مِنْهُ ، وَقَدْ كَانَ حَرْفُ عَبْدِ اللهِ مُسْتَفِيضًا عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّسْخَ غَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُهُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ نَأْمَنْ مِنْ أَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ كَانَتْ عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَضْعَافَ مَا فِي أَيْدِينَا الْيَوْمَ فَرَفَعَهَا اللَّهُ مِنْ أَوْهَامِ الْأُمَّةِ ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَلَّا يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا فِي أَيْدِينَا مِنْ الشَّرِيعَةِ مِمَّا كَانَ مَوْجُودًا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، بِأَنْ يَكُونَ أَنْسَى الْأُمَّةَ جَمِيعَ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَرَفَعَهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ ثُمَّ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَأَلْهَمَهُمْ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الَّتِي فِي أَيْدِينَا ( الْيَوْمَ ) .
وَفِي الْقَوْلِ بِهَذَا خُرُوجٌ عَنْ الْمِلَّةِ ، فَثَبَتَ امْتِنَاعُ جَوَازِ النَّسْخِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَنْسُوخَ التِّلَاوَةِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ أُمِرُوا بِأَلَّا يَقْرَءُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا يَكْتُبُوهُ فِي الصُّحُفِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا مِنْ الطَّرِيقِ الَّتِي نُقِلَ الْقُرْآنُ ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ ( أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ ) ثُمَّ نُسِخَتْ التِّلَاوَةُ وَبَقِيَ الْحُكْمُ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ نَقَلَهُ إلَيْنَا إلَّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي نُقِلَ إلَيْنَا مِنْهُ سَائِرُ الْقُرْآنِ ، وَهُوَ التَّوَاتُرُ وَالِاسْتِفَاضَةُ ، حَتَّى لَا يَشُكَّ أَحَدٌ فِي كَوْنِهِ مِنْهُ ، فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ نَقْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّهُ مِمَّا كَانَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ وَأَنَّ تِلَاوَتَهُ مَنْسُوخَةٌ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ إلَيْنَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْأَحَادِيثِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِك أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ ( إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ ) بِهِ النَّسْخُ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُسْتَفِيضًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُ كَانَ مَتْلُوًّا مِنْ الْقُرْآنِ فَأَثْبَتْنَا الْحُكْمَ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَبَقَاءُ تِلَاوَتِهِ غَيْرِ ثَابِتٍ بِالِاسْتِفَاضَةِ ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ بَقَاءُ الْحُكْمِ مَعَ نَسْخِ التِّلَاوَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ نُثْبِتْهُ مَتْلُوًّا فِيهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالِاسْتِفَاضَةِ ، فَأَثْبِتْ التِّلَاوَةَ بِمِثْلِهَا ، لِأَنَّهُ الْوَجْهُ الَّذِي مِنْهُ نُقِلَ الرَّسْمُ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ لَمَّا لَمْ يَبْقَ حُكْمُهَا الْيَوْمَ مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الِاسْتِفَاضَةِ إذَا لَمْ تَثْبُتْ فِي سَائِرِ الْمَصَاحِفِ ، عَلِمْنَا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ تِلَاوَتِهَا مَا يُوجِبُ نَسْخَ حُكْمِهَا إذْ لَا يَمْتَنِعُ بَقَاءُ أَحَدِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْآخَرِ .
فَأَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا : فَجَائِزٌ ( أَيْضًا ) عِنْدَنَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَيَجُوزُ ( عِنْدَنَا أَيْضًا ) نَسْخُ الْأَخْبَارِ دُونَ مَخْبَرِهَا فِي حَيَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ تَتَعَلَّقُ بِنَا بِوُرُودِ رَسْمِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : التِّلَاوَةُ .
وَالْآخَرُ : الْحُكْمُ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ زَوَالُ الْعِبَادَةِ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا .

أَمَّا نَسْخُ الْحُكْمِ : فَبِأَنْ يُتَعَبَّدَ بِضِدِّهِ .
وَأَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ فَبِأَنْ يُنْسِيَهُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ كَانَ حَفِظَ مِنْ الْأُمَّةِ فِي عَصْرِهِ وَيَرْفَعَهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ أَوْ يَأْمُرَهُمْ بِأَلَّا يُثْبِتُوهُ فِي الْمُصْحَفِ وَلَا يَتْلُوهُ ، فَيُنْسَى عَلَى مَرِّ الْأَوْقَاتِ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ نَسْخَهُ بِالنِّسْيَانِ قَدْ كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، { وَأَنَّ بَعْضَهُمْ أُنْسِيَ سُورَةً قَدْ كَانَ حَفِظَهَا فَسَأَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إنَّهَا نُسِخَتْ } ، وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرَأَ فِي صَلَاةٍ سُورَةً ، فَتَرَكَ آيَةً مِنْهَا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : تَرَكْت آيَةَ كَذَا ، فَقَالَ : أَلَا أَذْكَرْتنِيهَا فَقَالَ الرَّجُلُ : ظَنَنْت أَنَّهَا نُسِخَتْ } .
{ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } .
وَرُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ : أَوْ نُنْسِهَا مِنْ النِّسْيَانِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ مِنْ التَّرْكِ بِأَلَّا يَنْسَخَهَا ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْآيَةِ إذَا كَانَتْ مُحْتَمِلَةً ( لِلنِّسْيَانِ ) تَجْوِيزُ مَا وَصَفْنَا فِيهَا .
وَأَمَّا مَا طَعَنَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ دِينَ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ
مِنْهُ فِي شَيْءٍ ثُمَّ كَشَفَ قِنَاعَهُ وَأَبْدَى مَا كَانَ يُضْمِرُهُ مِنْ إلْحَادِهِ ، بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَدْخُولٌ فَاسِدُ النِّظَامِ لِسُقُوطِ كَثِيرٍ مِنْهُ .
وَيَحْتَجُّ فِيهِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " إنَّ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى

وَسَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ وَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ إذَا زَنَى الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ " " وَإِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ : إنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ تُوَازِي الْبَقَرَةَ أَوْ هِيَ أَطْوَلُ ، وَأَنَّهُ " كَانَ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ وَأَنَّهُ كَانَ فِيهَا لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى إلَيْهِمَا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ "

وَأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ "
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ " أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ بَلِّغُوا قَوْمًا عَنَّا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا " ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُرْوَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْقُرْآنِ ، فَإِنَّهُ لَا مَطْعَنَ لِمُلْحِدٍ فِيهِ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ وُرُودُهَا مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْقُرْآنِ بِهَا .
ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ ثَابِتَةً عَلَى مَا رُوِيَ فِيهَا أَوْ سَقِيمَةً مَدْخُولَةً ، ( فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولَةً ) فَالْكَلَامُ عَنَّا فِيهَا سَاقِطٌ ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ تَكُونَ مُحْتَمِلَةً أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ ، وَمُحْتَمِلَةً لِغَيْرِهِ ، أَوْ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا كَوْنَهَا مِنْ الْقُرْآنِ ، فَمَا لَمْ يَحْتَمِلْ مِنْهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَتْ مِنْ الْقُرْآنِ فَهُوَ مِنْ الْخَبَرِ الَّذِي قُلْنَا إنَّهُ مَنْسُوخُ التِّلَاوَةِ وَالرَّسْمِ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَمَا احْتَمَلَ مِنْهَا لَفْظُهُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ (أَنَّهُ ) آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ( آيَةً ) مِنْ حُكْمِ اللهِ وَمِمَّا أَنْزَلَهُ ( اللَّهُ ) ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ الْقَطْعُ فِيهِ بِأَحَدِ وَجْهَيْ الِاحْتِمَالِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَالْكَلَامُ فِيهِ عَنَّا سَاقِطٌ ، وَعَلَى أَيِّ الْوَجْهَيْنِ حُمِلَ فَلَا اعْتِرَاضَ فِيهِ لِمُلْحِدٍ ، لِأَنَّهُ إنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ فَهُوَ ( مِنْ ) الْقَبِيلِ الَّذِي هُوَ مَنْسُوخُ

التِّلَاوَةِ ، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ ذُكِرَ فِي سِيَاقِهِ لَفْظُهُ فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ ، مِثْلُ خَبَرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ( أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ) أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ قَالَ : إنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ قَرَأْنَاهُ وَوَعَيْنَاهُ ، فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ فِي فَرْضِ اللهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ } يَعْنِي فَرَضَهُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ } يَعْنِي فِي فَرْضِهِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } ( أَيْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ ) وَ { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ } يَعْنِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ ، وَإِذَا كَانَ ( ذَلِكَ ) كَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ فَنُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِاسْتِفَاضَةِ النَّقْلِ فِي لَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا .
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ كَانَ مَا وَصَفْنَا ، أَنَّهُ قَالَ : لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللهِ لَكَتَبْته فِي الْمُصْحَفِ ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ لَكَتَبَهُ فِيهِ قَالَ النَّاسُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُولُوهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ إنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ ( وَ ) رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الرَّجْمَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَسَيَجِيءُ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِهِ ،
وَهَذَا اللَّفْظُ أَيْضًا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قُرْآنًا وَغَيْرَ قُرْآنٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وَرُوِيَ فِي

بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ : " إنْ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ " وَهَذَا اللَّفْظُ لَوْ ثَبَتَ لَمْ يَدُلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ ، لِأَنَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْآيَةِ لَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ ، قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ } فَسَمَّى الدَّلَالَةَ الْقَائِمَةَ مِمَّا خَلَقَ عَلَى تَوْحِيدِهِ آيَةً فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَذْكُرَ ( آيَةَ ) الرَّجْمِ وَهُوَ يَعْنِي أَنَّ مَا يُوجِبُ الرَّجْمَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ .
وَأَيْضًا ( فَإِنَّهُ ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْخَبَرِ مَا ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ( الرَّجْمُ ) ثُمَّ ( كَانَ ) تَغْيِيرُ الْأَلْفَاظِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الرُّوَاةِ فَعَبَّرَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّ مِنْ الرُّوَاةِ مَنْ يَرَى نَقْلَ الْمَعْنَى ( عِنْدَهُ دُونَ ) اللَّفْظِ فَظَنَّ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّهُ إذَا قَالَ إنَّهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ قَالَ إنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنَّهُ آيَةٌ مِنْهُ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ الْقُرْآنِ كَيْفَ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ ( لَوْلَا أَنْ يَقُولَ ) النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللهِ لَكَتَبْته فِي الْمُصْحَفِ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ فِي الْمُصْحَفِ مَا لَيْسَ مِنْهُ .
قِيلَ لَهُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُهُ فِي آخِرِ الْمُصْحَفِ وَيُبَيِّنُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ لِيَتَّصِلَ نَقْلُهُ وَيَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِهِ كَمَا يَتَّصِلُ نَقْلُ الْقُرْآنِ لِئَلَّا يَشُكَّ فِيهِ شَاكٌّ وَلَا يَجْحَدَهُ

جَاحِدٌ فَقَالَ : لَوْلَا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ ، أَوْ يَقُولَ قَائِلٌ : إنَّ عُمَرَ زَادَ فِي الْقُرْآنِ لَكَتَبْته فِي الْمُصْحَفِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَكْتُبَ فِي الْمُصْحَفِ شَهِدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ رَجَمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ وَسَيَجِيءُ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ وَبِالشَّفَاعَةِ وَبِقَوْمٍ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ } فَبَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُرَادَهُ كَانَ إشَاعَتَهُ وَإِظْهَارَهُ لِيَسْتَفِيضَ نَقْلُهُ لَا أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ سَيَجِيءُ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ سَيَجِيءُ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِطَرِيقِ الْوَحْيِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، فَإِنْ ثَبَتَ وَصَحَّ فَهُوَ مِنْ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ لَا مَحَالَةَ .
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ : لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ فَلَا دَلَالَةَ ( فِيهِ ) عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّ السُّنَنَ وَسَائِرَ كَلَامِ النَّاسِ يُقْرَأُ ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : تَأْوِيلُكُمْ لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ فَإِنَّهُ مِنْ الْخَبَرِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ وَالرَّسْمِ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْسُوخِ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ لَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ وَلَا يَقْرَءُونَهُ ، وَقَدْ أَخَّرْت ثُبُوتَ الْخَبَرِ وَقِرَاءَتَهُمْ إيَّاهُ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَيْفَ يَكُونُ مَنْسُوخَ الرَّسْمِ مِمَّا بَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ ( وَرَسْمُهُ ) إلَى يَوْمِنَا هَذَا .
قِيلَ لَهُ : تَجْوِيزُنَا لِثُبُوتِ الْخَبَرِ لَا يَمْنَعُ مَا ذَكَرْنَا
وَلَا يَنْقُضُ تَأْوِيلَنَا ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَقْتَضِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَنْقُولُ بِعَيْنِهِ هُوَ الَّذِي كَانَ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى نِظَامِهِ وَتَأْلِيفِهِ حَسَبَ مَا نَقَلُوهُ إلَيْنَا وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ نَقَلُوهُ عَلَى نَظْمٍ آخَرَ وَنُسِخَ ذَلِكَ النَّظْمُ وَأُنْسِيَ مَنْ كَانَ يَحْفَظُهُ وَلَمْ يُنْسَخْ الْحُكْمُ ، فَنَقَلُوهُ بِلَفْظٍ غَيْرِ اللَّفْظِ الَّذِي كَانَ رَسْمُ الْقُرْآنِ حِينَ نُزُولِهِ إلَى أَنْ رُفِعَ فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ ، وَهَذَا جَائِزٌ أَنْ يَفْعَلَهُ اللَّهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَمِنْ رَسْمِهِ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ ، مِنْهَا أَنَّهُ مِمَّا يَلْزَمُ الْجَمِيعَ اعْتِقَادُ أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نِظَامِهِ وَتَرْتِيبِهِ مِنْ ( غَيْرِ ) تَغَيُّرٍ لِنَظْمِهِ وَلَا إزَالَةٍ لِتَأْلِيفِهِ فَإِذَا نُسِخَ رَسْمُهُ وَنِظَامُهُ أَسْقَطَ عَنَّا التَّعَبُّدَ بِالِاعْتِقَادِ وَاَلَّذِي أَلْزَمْنَاهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ .
وَالثَّانِي : مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حُكْمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ ( بِهِ ) وَأَنَّ قِرَاءَتَهُ فِيهَا لَا تُفْسِدُهَا وَإِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ أَفْسَدَهَا .
وَالثَّالِثُ : الْعِبَادَةُ بِالتَّقَرُّبِ إلَى اللهِ تَعَالَى بِتِلَاوَتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ بِقِرَاءَتِهِ .
وَالرَّابِعُ : أَنْ نَكُونَ مَأْمُورِينَ بِحِفْظِهِ وَإِثْبَاتِهِ فِي مَصَاحِفِنَا وَنَقْلِهِ عَلَى نِظَامِهِ وَتَرْتِيبِهِ .
فَهَذِهِ كُلُّهَا أَحْكَامٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِوُجُودِ رَسْمِ الْقُرْآنِ دُونَ مَعَانِيهِ وَأَحْكَامِهِ الْمَذْكُورَةِ ( فِيهِ ) فَلَا يَمْتَنِعُ إذَا

كَانَ هَذَا كَمَا وَصَفْنَا أَنْ يُنْسَخَ الرَّسْمُ فَتَزُولُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ مِنْ الْمَنْسُوخِ وَيَبْقَى حُكْمُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ السُّنَنِ كَمَا نُسِخَ رَسْمُ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ وَتِلَاوَتُهَا وَكَثِيرٌ مِنْ أَحْكَامِهَا وَمَعَانِيهَا بَاقِيَةٌ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ وَهُوَمِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ الِاعْتِقَادِ فِيهِ فَيُعْتَقَدُ فِي حَالٍ أَنَّهُ قُرْآنٌ وَفِي حَالٍ أَنَّهُ غَيْرُ قُرْآنٍ ، وَهَلَّا كَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ نَسْخُهَا كَأَخْبَارِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ اعْتِقَادَنَا فِي مُخْبَرَاتِهَا لَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهَا فِي حَالٍ فَنَعْتَقِدُ فِي حَالِ نُزُولِهَا مُوجَبَ مُخْبَرَاتِهَا وَنَعْتَقِدُ فِي حَالٍ أُخْرَى خِلَافَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ نَسْخُهَا .
قِيلَ لَهُ : مَا ذَكَرْت لَا يَمْنَعُ ( نَسْخَ ) الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إنَّمَا كَانَ ( قُرْآنًا ) لِوُجُودِهِ عَلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنْ النِّظَامِ الْمُعْجِزِ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ ، وَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَى إزَالَةِ النَّظْمِ وَرَفْعِهِ مِنْ قُلُوبِ عِبَادِهِ وَأَوْهَامِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ } فَإِذَا ذَهَبَ بِهِ وَأَنْسَاهُ خَلْقَهُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنً ، لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ لَا يُسَمَّى قُرْآنًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ( إلَّا أَنَّ الِاعْتِقَادَ ) الْأَوَّلَ بَاقٍ فِي أَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَى ذَلِكَ الضَّرْبِ مِنْ النِّظَامِ كَانَ قُرْآنًا حِينَ كَانَ مَوْجُودًا مَتْلُوًّا وَمَسْطُورًا ، فَإِذَا عُدِمَ ذَلِكَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَالِ قُرْآنًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ مُخْبِرُ أَخْبَارِ اللهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَنَا اعْتِقَادُ مَعْنَاهُ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ وُرُودُ الْخَبَرِ بِهِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي وَرَدَ الْخَبَرُ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَمْ يَتَبَدَّلْ ( فَلَا يَصِحُّ ) أَنْ نَتَعَبَّدَ بِخِلَافِ مُعْتَقَدِهِ ، وَأَمَّا النَّظْمُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانَ قُرْآنًا إذَا زَالَ فَقَدْ زَالَ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ لَزِمَ الدَّوَامُ عَلَى الِاعْتِقَادِ فِي بَقَائِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قُرْآنًا فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } .
وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لَهُ أَبَدًا وَأَنَّ الْبَيَانَ بِهِ حَاصِلٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ إذْ لَمْ يَخُصَّ وَقْتًا مِنْ وَقْتٍ وَلَا قَوْمًا مِنْ قَوْمٍ ، وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَهُ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَذَلِكَ يُؤْمِنُنَا وُقُوعَ نَسْخِ تِلَاوَتِهِ وَرَسْمِهِ ، لِأَنَّ مَا رَفَعَ وَأُنْسِيَ وَلَمْ يُنْقَلْ لَا يَكُونُ ذِكْرًا لِلْعَالَمِينَ ، وَقَالَ تَعَالَى : { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مُنْذَرٌ بِجَمِيعِ الْقُرْآنِ فِي ( كُلِّ ) الْأَوْقَاتِ وَمَا رُفِعَ لَا يَصِحُّ الْإِنْذَارُ بِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } وَهَذَا يَمْنَعُ جَوَازَ ( رَفْعِهِ ) ، وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } ، فَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَهُ يَهْدِي وَلَمْ يَسْتَثْنِ وَقْتًا مِنْ وَقْتٍ فَوَجَبَ أَنْ تُوجَدَ الْهِدَايَةُ فِي جَمِيعِهِ أَبَدًا .
وَقَالَ تَعَالَى : { مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } وَذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ جَمِيعِهِ .
وَالْجَوَابُ : بِأَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ نَسْخِ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ كَمَا لَمْ تَمْنَعْ ( هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ ) جَوَازِ نَسْخِ أَحْكَامِهِ وَمُوجِبَاتِهِ ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَنْتَظِمُ شَيْئَيْنِ ، النَّظْمَ وَالْمَعْنَى ، فَإِذَا لَمْ تَمْنَعْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ جَوَازِ نَسْخِ أَحْكَامِهِ لَمْ تَمْنَعْ جَوَازَ نَسْخِ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ ، وَكَانَتْ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَحْمُولَةً عَلَى غَيْرِ جَوَازِ النَّسْخِ .

وَأَمَّا نَسْخُ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ فَغَيْرُ جَائِزٍ كَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فِي رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي أَحْكَامِهِ ، فَلَمَّا امْتَنَعَ نَسْخُ أَحْكَامِهِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ امْتَنَعَ نَسْخُ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ ، لِأَنَّ الرَّسْمَ قَدْ تُعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ وَفِي نَسْخِهِ نَسْخُ تِلْكَ الْأَحْكَامِ .
وَقَدْ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ لِاعْتِبَارِ الْخَمْسِ رَضَعَاتٍ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ بِمَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَيَحْيَى بْنُ شُعْبَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ : { كَانَ فِيمَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ

مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ } وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ " وَكَانَتْ فِي صَحِيفَةٍ تَحْتَ السَّرِيرِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ اشْتَغَلْنَا بِدَفْنِهِ فَدَخَلَتْ دَاجِنٌ فَأَكَلَتْهَا " فَلَا يَخْلُو ( الْمُحْتَجُّ بِهَذَا ) الْحَدِيثِ مِنْ إحْدَى مَنْزِلَتَيْنِ : إمَّا أَنْ يُجِيزَ نَسْخَ رَسْمِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ لَا يُجِيزَ .
فَإِذَا أَجَازَهُ ارْتَكَبَ أَمْرًا شَنِيعًا قَبِيحًا خَارِجًا عَنْ أَقَاوِيلِ الْأُمَّةِ كَطُرُقِ الْمُلْحِدِينَ الطَّاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَكْثَرُهُ وَأَنَّهُ قَدْ فُقِدَ عِظَمُهُ ، وَلَا يُمْكِنُهُ مَعَ ذَلِكَ الْفَصْلُ بَيْنَ إجَازَةِ نَسْخِ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ وَبَيْنَ إجَازَةِ نَسْخِ أَحْكَامِهِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ ، وَإِنْ مَنَعَ جَوَازَ نَسْخِ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ ( بِهِ ) ، لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَرَسْمُهُ بَاقٍ ، لِأَنَّهَا قَالَتْ : تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ ، فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ ثَابِتًا عِنْدَهُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إثْبَاتُهُ مِنْ الْقُرْآنِ

لِأَنَّهُ قَدْ أَعْطَى امْتِنَاعَ جَوَازِ النَّسْخِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا أُثْبِتُ الْحُكْمَ دُونَ التِّلَاوَةِ كَمَا أَثْبَتَّ أَنْتَ التَّتَابُعَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِمَا فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ وَإِنْ لَمْ تُثْبِتْ الرَّسْمَ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَهُوَ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَكَوْنُهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي وَقْتٍ لَا يُوجِبُ ( كَوْنَهُ مِنْ الْقُرْآنِ ) أَبَدًا مَا دَامَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَاقِيًا فَوَجَبَ إذْ لَمْ يَثْبُتْ نَقْلُهُ قُرْآنًا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ أَلَّا نُثْبِتَهُ قُرْآنًا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَفِي خَبَرِ عَائِشَةَ هَذَا أَنَّهُ كَانَ قُرْآنًا بَعْدَ وَفَاتِهِ ، وَمَا ثَبَتَ فِي ذَلِكَ ، لَا يَجُوزُ بَعْدَ ذَلِكَ نَسْخُهُ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ ذَهَابَهُ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ الدَّاجِنَ أَكَلَ الصَّحِيفَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ فِي كِتَابِ اللهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ أَنَّهُ كَانَ مُعَرَّضًا لِأَكْلِ الدَّاجِنِ لَهُ وَذَهَابِهِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَكُمْ .
قِيلَ لَهُ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ عَائِشَةَ فِيهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنْ تَكُونَ قَالَتْ إنَّهُ كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ فِي كِتَابِ اللهِ كَيْتَ ( وَ ) كَيْتَ ، وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ وَيُرَادُ بِهِ وَحْيٌ غَيْرُ قُرْآنٍ .
فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ كَانَ قُرْآنًا إلَى أَنْ تُوُفِّيَ ، فَنُقِلَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ
عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي خَبَرِ عُمَرَ فِي الرَّجْمِ ، وَإِذَا اُحْتُمِلَ ذَلِكَ سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي إثْبَاتِ مَا رُوِيَ فِيهِ لَا سِيَّمَا وَهُوَ مَعْنَى يَرُدُّهُ الْكِتَابُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }

وَنَحْوُهُ مِنْ الْآيِ الْمُقْتَضِيَةِ لِبَقَاءِ رَسْمِ الْقُرْآنِ وَنَظْمِهِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَإِنْ قِيلَ ، فَأَثْبِتُوا الْحُكْمَ وَإِنْ لَمْ تُثْبِتُوا الرَّسْمَ ( كَمَا أَثْبَتُّمْ التَّتَابُعَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِحَرْفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الرَّسْمُ ) قِيلَ لَهُ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاهِنًا سَقِيمًا غَيْرَ ثَابِتٍ فِي الْأَصْلِ مِنْ طَرِيقِ الرِّوَايَةِ فَيَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ ، أَوْ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ النَّقْلُ بِهِ فَلَا يَصِحُّ إثْبَاتُ حُكْمِهِ لِمَا قَدْ بَانَ مِنْ خَطَأِ الرَّاوِي لَهُ فِي نَقْلِهِ .
إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ لَفْظُهُ ثَابِتًا عَلَى مَا رُوِيَ فِيهِ ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَفْظُ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ حُكْمِهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي يُقْصَدُ إلَى إثْبَاتِهِ إلَّا وَجَائِزٌ أَنْ ( يَكُونَ ) وَهُوَ مِمَّا غَلِطَ فِيهِ رَاوِيهِ كَغَلَطِهِ فِي لَفْظِهِ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ حُذِفَ مِنْهُ أَيْضًا بَعْضُ لَفْظِهِ مِمَّا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِحُكْمِهِ عَلَى بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، وَفِي بَعْضِ الْمَوْضِعَيْنِ دُونَ بَعْضٍ ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ حُكْمًا فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ خَاصَّةً ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ لَفْظِهِ وَسِيَاقَةِ مَعْنَاهُ سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ .
وَأَمَّا حَرْفُ عَبْدِ اللهِ فِي التَّتَابُعِ : فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ لَفْظِهِ مَا يُدْفَعُ
، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ غَيْرُ مَدْفُوعٍ وَلَيْسَ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ قَبْلَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا نَسْخُ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ الرَّسْمِ فَمَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ } إلَى آخِرِهَا مَنْسُوخُ الْحُكْمِ بِالْجَلْدِ تَارَةً

وَبِالرَّجْمِ أُخْرَى ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } ، وقَوْله تَعَالَى : { مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ } مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذْرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وقَوْله تَعَالَى : { ، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } رُوِيَ أَنَّ الصَّحِيحَ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ فَنُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ .

فارغة

الْبَابُ الأْأَرْبَعُوْنَ: الْقَوْلِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا النَّسْخُ
وَفِيْهِ فَصْلَانِ:
فَصْلٌ: إِذَا وَرَدَ خَبَرَانِ فِيْ أَحَدِهِمَا إِيْجَابُ شَيْءٍ وَ فِي الْآخِرِ حَظْرٌ
فَصْلٌ: حُكْمُ الزِّيَادَةِ إِذَا وَرَدَتْ وَ قَدْ وَرَدَ النَّصُّ مُنْفَرِدًا عَنْهَا وَ لَا نَعْلَمُ تَارِيْخَهُمَا

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا النَّسْخُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
نَسْخُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ( نَسْخُ جَمِيعِ الْحُكْمِ .
وَالْآخَرُ : نَسْخُ بَعْضِهِ .
وَالْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ مِنْ الْمَنْسُوخِ ) مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ، ثُمَّ بِدَلَائِلِ الْأُصُولِ إذَا عُدِمَ ذَلِكَ .
وَالْحُكْمُ النَّاسِخُ هُوَ الَّذِي يَرِدُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ ( وَالتَّمْكِينِ مِنْ فِعْلِهِ مِمَّا يُنَافِي بَقَاءَ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ ) وَيَمْتَنِعُ مَعَهُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْآخَرُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ وَإِنْ اقْتَضَى زَوَالَ ( جَمِيعِهِ ، وَإِنْ اقْتَضَى ) بَعْضَهُ فَهُوَ نَاسِخٌ لِذَلِكَ الْبَعْضِ .
فَأَمَّا نَسْخُ الْجَمِيعِ : فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } رُوِيَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ حَرُمَ عَلَيْهِمْ الْجِمَاعُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ فَنُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } الْآيَةُ فَأَبَاحَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْجِمَاعَ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ بَعْدَ النَّوْمِ وَقَبْلَهُ ، وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } وَ ( نَحْوُ ) قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا

الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } .
وَأَمَّا نَسْخُ بَعْضِ الْحُكْمِ : فَنَحْوُ الصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إنَّمَا نُسِخَ مِنْهَا التَّوَجُّهُ إلَى هُنَاكَ وَسَائِرُ أَحْكَامِهَا بَاقِيَةٌ ، وَصَلَاةُ اللَّيْلِ نُسِخَ مِنْهَا الْوُجُوبُ وَسَائِرُ أَحْكَامِهَا بَاقِيَةٌ ، مِنْ أَوْصَافِ أَفْعَالِهَا وَشَرَائِطِهَا وَكَوْنِهَا قُرْبَةً ثَابِتَةً ، وَنَحْوُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَلْدِ عَلَى قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالزَّوْجَاتِ بِقَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } الْآيَةُ ثُمَّ نَسَخَ الْجَلْدَ عَنْ قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ وَأَوْجَبَ اللِّعَانَ إذَا كَانَا عَلَى صِفَةٍ .
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْجَمِيعِ كَانَ الْجَلْدَ { قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ : ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ ، وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : الْآنَ يُجْلَدُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ } .
وَلَمْ يُوجِبْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرَ الْجَلْدِ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ أَمَرَهُ بِاللِّعَانِ وَلَمْ يَجِدْهُ .
وَإِذَا عُرِفَ تَارِيخُ الْحُكْمَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُ التَّعَبُّدِ بِهِمَا فِي حَالِ وَاحِدَةٍ

لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَإِنْ الْآخِرَ مِنْهُمَا نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّبِعُونَ الْأَحْدَثَ فَالْأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ " .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ النَّسْخَ يَقَعُ بِمَا لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ بِهِ مَعَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لَمْ وَلَا يَكُونُ نَسْخًا ، لِأَنَّ مَا جَازَتْ الْعِبَادَةُ بِهِ فِي حَالٍ ( وَاحِدَةٍ ) لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ فِي تَكْلِيفِ أَحَدِهِمَا مَا يَنْفِي لُزُومَ الْآخَرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَا جَمِيعًا إذَا وَرَدَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّهُ كَانَ ( يَصِحُّ ) التَّعَبُّدُ بِهِمَا مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا لَمْ يَتَنَافَيَا
إذَا وَرَدَا مَعًا وَجَبَ أَلَّا يَتَنَافَيَا إذَا وَرَدَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ ، أَلَا ( تَرَى ) أَنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ لَمَّا صَحَّ الْأَمْرُ بِهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ وَلَا مَانِعًا ( مِنْ بَقَاءِ ) حُكْمِهِ إذَا وَرَدَ بَعْدَهُ ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ وَاجِبٌ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ .
وَقَدْ يَرِدُ حُكْمٌ يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ وُرُودُهُ عَقِيبَ نَسْخِ الْأَوَّلِ ، فَيُطْلِقُ ( بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْأَوَّلَ مَنْسُوخٌ بِالثَّانِي وَإِنْ كَانَ النَّسْخُ ) فِي الْحَقِيقَةِ وَاقِعًا بِغَيْرِهِ ، وَإِطْلَاقُ هَذَا مَجَازٌ عِنْدَنَا لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا نَسْخًا لِأَنَّهُ وَرَدَ عَقِيبَ النَّسْخِ مُتَّصِلًا بِهِ وَسُمِّيَ بِاسْمِهِ ، كَمَا يُسَمَّى ( الشَّيْءُ ) بِاسْمِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مُجَاوِرًا لَهُ وَكَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ وَالتَّشْبِيهِ بِهِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ ، فَرُوِيَ أَنَّ هَذَا كَانَ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَهُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَوْ خَلَّيْنَا وَالْآيَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ ( بَيْنَ ) حُكْمِهِمَا عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، فَيَكُونُ حَدُّهُ الْحَبْسَ وَالْأَذَى وَالْجَلْدَ مَعَ ذَلِكَ ، فَلَا يَكُونُ وُجُوبُ جَلْدِ غَيْرِ الْمُحْصَنِ مَانِعًا مِنْ بَقَاءِ حُكْمِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُزِيلًا لَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، إلَّا أَنَّهُ ( كَانَ ) يَكُونُ نَسْخًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ تُوجِبُ النَّسْخَ عِنْدَنَا لِمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَعَلِمْنَا أَنَّ زَوَالَ حُكْمِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى لَمْ يَتَعَلَّقْ بِوُجُوبِ الْجَلْدِ وَإِنَّمَا
تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ غَيْرِهِ ، فَلَمَّا أَوْجَبَ الْجَلْدَ عَلَى الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ عِنْدَ نَسْخِهِمَا ، أَطْلَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ نَسَخَهُ .
وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ فِي الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ ، فَأَمَّا الزَّانِي الْمُحْصَنُ فَهَذَا الْحُكْمُ لَا مَحَالَةَ مَنْسُوخٌ عَنْهُ بِسُنَّةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إيجَابِهِ الرَّجْمَ عَلَى الْمُحْصَنِ ، إذْ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُ ( الرَّجْمِ وَالْحَبْسِ وَالْأَذَى ) .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ كَانَ يَصِحُّ اجْتِمَاعُ الْحَبْسِ وَالْأَذَى وَالرَّجْمِ عَلَيْهِ وَيَكُونَانِ جَمِيعًا عُقُوبَتَهُ ، بِأَنْ يَكُونَ الرَّجْمُ بَعْدَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا الَّذِي فِي الْآيَةِ ( مِنْ ذَلِكَ ) فَلَمْ يَكُنْ يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الرَّجْمِ ، لِأَنَّهُ قَالَ : { حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } فَكَانَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى هُمَا الْحَدَّ إلَى أَنْ تَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهَا أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهَا سَبِيلًا غَيْرَهُمَا ، وَوُقُوعُ الرَّجْمِ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ ذَلِكَ ، فَقَدْ نَسَخَ الرَّجْمُ هَذَا الْحُكْمَ بِحَيْثُ لَمْ يَصِحَّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ .

وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : إنَّ الرَّجْمَ إذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالزِّنَى ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ حَدُّهُمَا الْحَبْسَ وَالْأَذَى فِي الْحَالِ الَّتِي أَبْدَلَ مَكَانَهَا الرَّجْمَ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ ثُبُوتُ ( الْحَبْسِ وَالْأَذَى ) فِي الْحَالِ الَّتِي وَجَبَ فِيهَا الرَّجْمُ ، لِأَنَّ وُقُوعَ الرَّجْمِ يُنَافِيهِمَا ، فَثَبَتَ أَنَّهُمَا مَنْسُوخَانِ بِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ .
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : { خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } وَهَذَا يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - السَّبِيلَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ } فَأَخْبَرَ بِزَوَالِ الْحَبْسِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ حَبْسَهُنَّ إلَى وَقْتِ وُرُودِ السَّبِيلِ ،
فَبَيَّنَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( ذَلِكَ ) السَّبِيلَ ، وَأَخْبَرَ بِنَسْخِ حُكْمِ الْآيَةِ عَنْ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ لَا بِإِيجَابِ الْجَلْدِ ، لَكِنْ بِمَعْنًى غَيْرِهِ ، وَنَسَخَهُ عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ ، لِأَنَّ وُقُوعَ الرَّجْمِ يُنَافِي الْحَبْسَ .
وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } ، قِيلَ إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْمِيرَاثِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وُجُوبَ الْمِيرَاثِ لَمْ يَكُنْ يُنَافِي بَقَاءَ الْوَصِيَّةِ فَيَسْتَحِقُّهَا جَمِيعًا مَعًا ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا نُسِخَتْ الْوَصِيَّةُ وَأَوْجَبَ عَقِيبَهَا الْمِيرَاثَ ، قِيلَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِهِ .
وَلَوْ خُلِّينَا وَالْآيَتَيْنِ لَاسْتَعْمَلْنَاهُمَا جَمِيعًا ، وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ ثُمَّ نُسِخَ بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ } وَأَنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتْ كُلَّ صَدَقَةٍ كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَهَا ، وَأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ نَسَخَتْ كُلَّ ذَبِيحَةٍ كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَهَا ، وَأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ } مَنْسُوخٌ بِإِيجَابِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ ، وَلَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلِمْنَا

أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَمْ يُنْسَخْ بِالْأَحْكَامِ الْوَارِدَةِ بَعْدَهَا ، فَإِنَّ مَنْ سَمَّى ذَلِكَ نَسْخًا فَإِنَّمَا سَمَّاهُ ( بِهِ ) مَجَازًا لَا حَقِيقَةً ، لِأَنَّهُ لَمَّا نُسِخَ الْأَوَّلُ وَجَبَ الثَّانِي عَقِيبَهُ وَإِنْ كَانَ النَّسْخُ وَاقِعًا لِغَيْرِهِ.
وَأَمَّا كُلُّ حُكْمَيْنِ لَا يَصِحُّ مَجِيءُ التَّعَبُّدِ بِهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ ، فَإِنَّ الثَّانِيَ مِنْهُمَا يَكُونُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ إذَا وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ } مَتَى اسْتَقَرَّ هَذَا الْحُكْمُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نَسْخَ التَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ فِيهِ ، إذْ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : قَدْ خَيَّرْتُك بَيْنَ الْحُكْمِ وَالْإِعْرَاضِ وَمَعَ ذَلِكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ إعْرَاضٍ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاقَضُ بِهِ وَيَسْتَحِيلُ مَعْنَاهُ ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَنَعْنَا أَنْ يَعْتَرِضَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } عَلَى قَوْله تَعَالَى : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } لِأَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ التَّخْيِيرَ فِي الْمَفْرُوضِ مِنْ الْقِرَاءَةِ ، وَإِذَا حُمِلَ مَعْنَى التَّخْيِيرِ عَلَى تَعْيِينِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَوْجَبَ إسْقَاطَ التَّخْيِيرِ الَّذِي فِي الْآيَةِ فَيَكُونُ نَاسِخًا لَهُ .
وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا } فَأَوْجَبَ عَلَى الْعِشْرِينَ مُقَاوَمَةَ الْمِائَتَيْنِ وَعَلَى الْمِائَةِ مُقَاوَمَةَ الْأَلْفِ وَحَظَرَ عَلَيْهِمْ الْفِرَارَ مِنْهُمْ ثُمَّ قَالَ : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ } فَصَارَ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَثَبَتَ نَسْخُ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ قُلْنَا : إنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ ( يُوجِبُ نَسْخُهُ إذَا وَرَدَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ ، وَكَذَلِكَ النَّصُّ إذَا وَرَدَ مُنْفَرِدًا عَنْ ذِكْرِ

الزِّيَادَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ مَعَ النَّصِّ وَاسْتِقْرَارِ ) حُكْمِهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ نَاسِخًا لِلزِّيَادَةِ ، وَذَلِكَ ( لِاسْتِحَالَةِ ) جَمْعِهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } اقْتَضَى ظَاهِرُهُ وَحَقِيقَتُهُ جَوَازَ الصَّلَاةِ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ :قَدْ أَجْزَأَتْكُمْ صَلَاتُكُمْ بِغَسْلِهَا دُونَ وُجُودِ النِّيَّةِ فِيهِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ النِّيَّةُ وَاجِبَةٌ فِي غَسْلِهَا فَإِنْ لَمْ تَنْوُوا بِهِ الطَّهَارَةَ لَمْ تُجْزِكُمْ صَلَاتُكُمْ .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } الْآيَةُ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ مَعَ اسْتِعْمَالِ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَاهَا وَمُوجِبِهَا ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ : ( قَدْ ) أَوْجَبْت عَلَيْكُمْ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدَيْنِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَأَجَزْت لَكُمْ مَعَ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاقَضُ وَيَسْتَحِيلُ مَعْنَاهُ .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمِائَةُ حَدَّهُمَا ( وَأَنَّ وُجُودَهُمَا ) يُوجِبُ وُقُوعَهَا مَوْقِعَ الْجَوَازِ وَاسْتِيفَاءُ كَمَالِ الْحَدِّ بِهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَقُولَ بَعْدَ ذَلِكَ : هَذَا بَعْضُ الْحَدِّ دُونَ جَمِيعِهِ وَأَنَّ كَمَالَهُ بِوُجُودِ النَّفْيِ مَعَهُ .
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فَلَمَّا امْتَنَعَ وُجُودُهُمَا فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ مُوجِبًا لِنَسْخِهِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وُرُودِ النَّصِّ مُنْفَرِدًا عَنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ فِي كَوْنِهَا نَاسِخًا لِلنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ لَهُ الْمَعْقُودِ بِذِكْرِ الزِّيَادَةِ ، وَبَيْنَ وُرُودِ الزِّيَادَةِ بَعْدَ وُرُودِ النَّصِّ مُنْفَرِدًا عَنْهَا ، فَأَمَّا وُرُودُ النَّصِّ بَعْدَ الزِّيَادَةِ فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } فَاقْتَصَرَ مِنْهَا عَلَى ذِكْرِ الْجَلْدِ دُونَ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ ، وَقَدْ كَانَ تَقَدَّمَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذِكْرُ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ مَعَ الْجَلْدِ فِي حَالِ وُجُودِ الْإِحْصَانِ أَوْ عَدَمِهِ بِقَوْلِهِ : { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ،الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ } وَبِهِ نُسِخَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى لِأَنَّ هَذَا السَّبِيلَ هُوَ السَّبِيلُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } فَعَلِمْنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } لَمْ يَكُنْ نَزَلَ حِينَئِذٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ

كَانَ نَزَلَ لَكَانَ السَّبِيلُ قَدْ جُعِلَ لَهُنَّ قَبْلَ قَوْلِهِ : { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } فَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ السَّبِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مَأْخُوذٌ عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ عُلِمَ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ قَبْلَهُ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ بَعْدَهُ مُنْفَرِدَةً عَنْ ذِكْرِ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا مُسْتَعْمَلًا عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَاهَا وَمُوجِبِهَا فَيَكُونُ الْجَلْدُ الْمَذْكُورُ فِيهَا ( هُوَ ) كَمَالُ الْحَدِّ وَتَكُونُ نَاسِخَةً لِلنَّفْيِ وَالرَّجْمِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْخَبَرِ حَدًّا مَعَ الْجَلْدِ .
فَإِنْ ( قَالَ قَائِلٌ ) قَدْ قُلْت فِيمَا سَلَفَ : إنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ بِهِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ وَأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُ ذِكْرِهِ مَعَ الْمَنْسُوخِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لَمْ يَصِحَّ نَسْخُهُ بِهِ ، وَالزِّيَادَةُ مَعَ الْأَصْلِ مِمَّا يَصِحُّ وُجُودُهُ مَعَهُ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَا ( إلَى هَاهُنَا ) مِنْ حُكْمِ أَحْكَامِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ نَفْيٌ لِمَا قُلْنَا مِنْ اعْتِبَارِ جَوَازِ النَّسْخِ فِي الْأَصْلِ بَلْ هُمَا جَمِيعًا صَحِيحَانِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّا قُلْنَا إنَّ مَا ( لَا ) يَصِحُّ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يَكُونَ مَأْمُورًا بِاعْتِقَادِ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهٍ وَمَأْمُورًا أَيْضًا فِي تِلْكَ الْحَالِ بِاعْتِقَادِهِ عَلَى خِلَافِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي يَلْزَمُهُ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ ، لَا يَصِحُّ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا فِي أَنَّ الْآيَةَ إذَا كَانَتْ مُوجِبَةً لِكَوْنِ الْحَدِّ ( جَلْدَ مِائَةٍ فَقَدْ أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَ
كَوْنِهِ ) حَدًّا كَامِلًا ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : فَاعْتَقِدُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ أَيْضًا أَنَّ جَلْدَ الْمِائَةِ هُوَ بَعْضُ الْحَدِّ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هُوَ بَعْضَ الْحَدِّ وَهُوَ جَمِيعُهُ ، وَكَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا سَنَةٌ ، وَعِدَّتُهَا أَيْضًا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ ، فَلَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِاعْتِقَادِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُدَّتَيْنِ عِدَّةً كَامِلَةً فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، وَأَمَّا مَا قُلْنَا فِي اعْتِبَارِ جَوَازِ النَّسْخِ بِاجْتِمَاعِ ذِكْرِ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ فَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ هُنَاكَ أَمْرَيْنِ مُدَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُدَّةِ الْآخَرِ ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً

لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ } فَكَانَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } فَكَانَ نَاسِخًا لِمَا عَدَا هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ الْحَوْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ بِأَنْ نَتَعَبَّدَ بِهِمَا فِي حَالَيْنِ بِجَوَازِ أَنْ تَقُولَ : عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَوْلٌ إلَى أَنْ يَمْضِيَ خَمْسُ سِنِينَ فَإِذَا مَضَتْ السُّنُونَ الْخَمْسُ كَانَتْ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا ( زَوْجُهَا ) أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا ذَكَرْت مِنْ حُكْمِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ لَا يَقْتَضِي مَا ذَكَرْت مِنْ إيجَابِهَا النَّسْخَ ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ : حَدُّ الزَّانِيَيْنِ الْجَلْدُ وَالنَّفْيُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ أَوْ شَاهِدًا وَيَمِينًا ، وَأَنَّ غَسْلَ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَرْضٌ مَعَ إحْضَارِ النِّيَّةِ لَهُ وَلَا يَتَنَاقَضُ الْخِطَابُ بِهِ ، فَلَيْسَ ( فِي ) وُرُودِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ مَا يُوجِبُ النَّسْخَ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ مُحَالٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهُمَا إذَا وَرَدَا مَعًا لَا يَكُونَانِ زِيَادَةً فِي النَّصِّ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَذْكُورُ جَمِيعَ النَّصِّ ، لِأَنَّ مَا جَمَعَهُ أَمْرٌ وَاحِدٌ ( وَخِطَابٌ وَاحِدٌ ) لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ بَعْضَهُ زِيَادَةٌ فِي بَعْضٍ وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ ، ( أَنْ يَرِدَ النَّصُّ مُفْرَدًا عَنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ ثُمَّ تَرِدُ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً عَنْ خِطَابِ النَّصِّ ) نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } فَتَكُونُ الْآيَةُ مُوجِبَةً لِكَوْنِ جَلْدِ الْمِائَةِ حَدًّا وَاقِعًا مَوْقِعَ الْجَوَازِ فِي عِقَابِ الزَّانِي ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : فَاجْلِدُوهُمْ مِائَةَ ( جَلْدَةٍ ) وَانْفُوهُمْ فَقَدْ تَغَيَّرَ بِوُرُودِ الزِّيَادَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اعْتِقَادُ مُوجَبِ حُكْمِ الْآيَةِ فَكُلُّ مَا وَرَدَ بَعْدَهُ مِمَّا يُوجِبُ زِيَادَةً فِيهِ أَوْ نُقْصَانًا مِنْهُ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ نَسْخٌ لِاسْتِحَالَةِ وُرُودِ الْخِطَابِ ( بِهِ ) فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ ، بَلْ يَقُولُ :

جَلْدُ الْمِائَةِ هُوَ جَمِيعُ الْحَدِّ وَهُوَ بَعْضُهُ ، فَأَمَّا أَنْ يَرِدَا مَعًا فَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَلَا يَكُونُ زِيَادَةً ، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا سَنَةً وَيَكُونُ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرُ دَاخِلَةً فِيهَا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ : الْعِدَّةُ سَنَةٌ وَالْعِدَّةُ أَرْبَعَةٌ وَعَشْرٌ ، وَكَمَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ نَقُولَ : صَلُّوا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَإِلَى الْكَعْبَةِ ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ نَقُولَ صَلُّوا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصَلُّوا إلَى الْكَعْبَةِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ .
وَمَتَى اسْتَقَرَّ أَحَدُهُمَا ثُمَّ وَرَدَ الْآخَرُ كَانَ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ ، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ ( هَاهُنَا ) فِي النَّصِّ ( هِيَ ) عَلَى هَذَا الْمَعْنَى .
وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقُولُ فِي الزِّيَادَةِ ( كَمَا يَقُولُ مُخَالِفُنَا مَعَنَا فِي النُّقْصَانِ : فَلَمَّا كَانَ النُّقْصَانُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِيِّ نَسْخًا كَذَلِكَ الزِّيَادَةُ ) وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : الْعِدَّةُ سَنَةٌ ، ثُمَّ يَقُولُ :
الْعِدَّةُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا ، وَلَوْ جَمَعَهُمَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ بِأَنْ قَالَ : الْعِدَّةُ سَنَةٌ إلَّا ( كَذَا وَكَذَا وَشَهْرًا ) لَمْ يَكُنْ نَسْخًا ، كَذَلِكَ الزِّيَادَةُ إذَا وَرَدَتْ مَعَ النَّصِّ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِذَا وَرَدَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ النَّصِّ كَانَ نَسْخًا ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي الزِّيَادَةِ إذَا وَرَدَتْ بَعْدَ النَّصِّ ، فَأَمَّا إذَا أُورِدَ النَّصُّ مُنْفَرِدًا عَنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ ( وَوَرَدَتْ الزِّيَادَةُ ) وَلَا يُعْلَمُ تَارِيخُهُمَا فَإِنَّ هَذَا لَهُ شَرِيطَةٌ أُخْرَى غَيْرُ مَا كُنَّا فِيهِ ، وَسَنَذْكُرُهَا أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْهَا فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْبَابِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ وُجُودِ النَّسْخِ .
وَنُبَيِّنُ الْآنَ الْوُجُوهَ الَّتِي تُوصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّ النَّسْخَ يَقَعُ بِهَا .
فَنَقُولُ : إنَّ مَا يُعْلَمُ بِهِ النَّسْخُ عَلَى وُجُوهٍ ، مِنْهَا أَنْ يَرِدَ لَفْظٌ يَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا مَعَ ذِكْرِ تَارِيخِهِمَا فَلَا يُشْكِلُ عَلَى سَامِعِهِمَا أَنَّ الثَّانِيَ مِنْهُمَا فِي التَّارِيخِ نَاسِخٌ ( لِلْأَوَّلِ ) نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا عَلَى قِبْلَةٍ غَيْرِهَا ثُمَّ حُوِّلُوا إلَيْهَا وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } فَكَانَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا ثُمَّ قَالَ : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } إلَى آخِرِ الْآيَةِ فَدَلَّ ذِكْرُهُ لِلتَّخْفِيفِ أَنَّهُ وَارِدٌ بَعْدَ حُكْمٍ هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ فَصَارَ نَاسِخًا لَهُ ، وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } يَعْنِي فَخَفَّفَ عَنْكُمْ وَهَذَا بَعْدَ قَوْله تَعَالَى : { قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا } ثُمَّ قَالَ : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى } إلَى آخِرِ السُّورَةِ فَاقْتَضَتْ الْقِصَّةُ بِفَحْوَاهَا وَمَضْمُونِ خِطَابِهَا أَنَّ فَرْضَ صَلَاةِ اللَّيْلِ مَنْسُوخٌ بِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ إبَاحَةِ تَرْكِهَا ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ }
يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - سَهَّلَ عَلَيْكُمْ وَخَفَّفَ عَنْكُمْ ، فَدَلَّ عَلَى نَسْخِ حَظْرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ ، فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ ذِكْرَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ .
وَالسُّنَّةُ عَلَى وَجْهَيْنِ ، قَوْلٌ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِعْلٌ ، وَقَدْ يَقَعُ النَّسْخُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
فَأَمَّا النَّسْخُ بِالسُّنَّةِ مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ فَنَحْوُ قَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا } ، وَ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَوْعِيَةِ ، فَاشْرَبُوا وَلَا تَسْكَرُوا } ، وَ { كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ ، فَكُلُوا وَادَّخِرُوا } فَانْتَظَمَ الْخَبَرُ ذِكْرَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا .

وَكَمَا رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ، ثُمَّ قَالَ مَالِي وَلِلْكِلَابِ ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ } .
وَقَالَ جَابِرٌ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ثُمَّ أَذِنَ لِطَوَائِفَ } فَهَذِهِ الْآيَةُ وَالْأَخْبَارُ مِمَّا نُقِلَ إلَيْنَا فِيهِ حُكْمُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَكُلُّ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ فَلَا إشْكَالَ عَلَى أَحَدٍ فِي حُكْمِهِ .
وَأَمَّا النَّسْخُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ فَنَحْوُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ : فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ } ثُمَّ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أُتِيَ بِشَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَقْتُلْهُ } وَمِثْلُ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَكَلَ لَحْمًا وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ } نُسِخَ بِهِ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ { تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } .
وَمِنْ الْأَلْفَاظِ مَا يُوجِبُ النَّسْخَ مِنْ جِهَةِ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى تَأَخُّرِ حُكْمِهَا عَنْ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ مَذْكُورًا مَعَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } ، فَمَنَعَ تَخْلِيَةَ سَبِيلِهِمْ إلَّا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ .
وَرُوِيَ أَنَّ سُورَةَ " بَرَاءَةٌ " مِنْ آخِرِ مَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلْفِدَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } .
وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَنَّهُ رَضَخَ رَأْسَ يَهُودِيٍّ قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ

لَهَا }
{ وَأَنَّهُ قَطَعَ أَيْدِيَ الْعُرَنِيِّينَ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ لَمَّا ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا رَاعِيَ الْإِبِلِ وَسَاقُوهَا } .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَشْعَرَ الْبُدْنَ ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَخْبَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ الْمُثْلَةِ } ، وَقَالَ سَمُرَةُ ( بْنُ جُنْدَبٍ ) { مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَأَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ } فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَ النَّهْيِ عَنْهَا فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا ، فَيَكُونُ نَاسِخًا لِسَمْلِ أَعْيُنِ الْمُحَارَبِينَ وَرَضْخِ الرَّأْسِ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ وَإِشْعَارِ الْبُدْنِ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ الْمُثْلَةِ .
وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِالْهَجِيرِ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، ثُمَّ قَالَ : أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } فَأَخْبَرَنَا بِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ

كَانَ مُتَأَخِّرًا ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى خَبَرِ خَبَّابٍ { شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا } لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّأْخِيرِ كَانَ
مُتَأَخِّرًا .
وَمِنْ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى تَأْخِيرِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَنْ الْآخَرِ : مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ } ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ وُجُوبِ الْقَوَدِ مُتَقَدِّمٌ لِهَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّهُ لَا يَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ الْقَوَدِ إلَّا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وُجُوبِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ } عَلَى إيجَابِ الْقَوَدِ بِكُلِّ مَا قُتِلَ بِهِ لِأَنَّ إيجَابَ الْقَوَدِ بِالسَّيْفِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ فَهُوَ قَاضٍ عَلَيْهِ .
وَنَحْوُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً } فَلَمْ يَذْكُرْ خَطَأَ الْعَمْدِ إلَّا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ .
وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ { فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ حِينَ رَآهَا مَيِّتَةٌ : هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا فَقَالُوا إنَّهَا مَيِّتَةٌ } فَدَلَّ عَلَى

أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ كَانَ مُقَدَّمًا لِذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ } يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إيجَابُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ مُتَقَدِّمًا لِهَذَا الْخَبَرِ ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ إخْبَارُ الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ عَنْ تَارِيخِ الْحُكْمَيْنِ ( عِيَارًا فِي ) هَذَا الْبَابُ ، فَيُوجَبُ بِهِ النَّسْخُ نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } ( نَزَلَ ) بَعْدَ قَوْله تَعَالَى : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ }
وَنَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ الرَّضْعَةَ الرَّضْعَتَانِ قَالَ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَلَا فَأَخْبَرَ عَنْ تَقَدُّمِ عِلْمِهِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ ، وَإِنْ ( كَانَ ) حُكْمُهُ غَيْرَ

ثَابِتٍ الْآنَ فَصَارَ ذَلِكَ إخْبَارًا مِنْهُ بِنَسْخِهِ وَتَارِيخِ حُكْمِهِ .
وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَدَّ زَيْنَبَ ابْنَتَهُ عَلَيْهَا السَّلَامُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ وَكَانَتْ هَاجَرَتْ وَبَقِيَ هُوَ مُشْرِكًا ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا بَعْدَ سِنِينَ } .
قَالَ الزُّهْرِيُّ وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ .
" وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ فِي الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ، قَالَ الزُّهْرِيُّ : ( إنَّمَا ) كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ اسْتَحْكَمَتْ الْفَرَائِضُ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ الصَّحَابِيَّ وَالتَّابِعِيَّ إذَا أُخْبِرَا بِنَسْخِ حُكْمٍ كَانَ خَبَرُهُمَا مَقْبُولًا فِيهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّارِيخِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ .
( اجْتِهَادِ الرَّأْيِ ) وَإِنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ وَالتَّوْقِيفِ ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقِلَّ ( ذَلِكَ ) إلَّا مِنْ جِهَةِ ( التَّوْقِيفِ ) .
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْنَا

مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا أَوْصَلَ إلَى الْعِلْمِ بِتَارِيخِ الْحُكْمَيْنِ ، إمَّا بِذِكْرِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا مَعَ ذِكْرِ تَارِيخِهِمَا ، أَوْ بِذِكْرِ النَّاسِخِ وَتَارِيخِهِ دُونَ ذِكْرِ الْمَنْسُوخِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَوْ فَحْوَى الْخِطَابِ وَدَلَالَتِهِ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاعِ عَلَى النَّسْخِ فَقَدْ ذَكَرَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا رُوِيَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ وَالنَّاسُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَهُوَ النَّاسِخُ لِلْآخَرِ ، فَاسْتَدَلَّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى النَّسْخِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَسْنَا نَقُولُ إنَّ الْإِجْمَاعَ يُوجِبُ النَّسْخَ ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ فَالْمَرْجِعُ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ لِمَنْ كَانَ فِي حَضْرَتِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ ، وَلَا يَصِحُّ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، إلَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا حَصَلَ عَلَى زَوَالِ حُكْمٍ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ دَلَّنَا الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِتَوْقِيفٍ ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا اللَّفْظُ النَّاسِخُ لَهُ .
فَمِمَّا دَلَّنَا الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِهِ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } وَلَمْ يُعْلَمْ زَوَالُ هَذَا الْحُكْمِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ .
وَنَحْوُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمِنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ } وَحَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ { فِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا وَهِيَ لَهُ ، وَإِنْ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا }
وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَذِنَتْ لَهُ جُلِدَ مِائَةً

وَإِنْ لَمْ تَكُنْ امْرَأَتُهُ أَذِنَتْ لَهُ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ } .
فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ( لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهَا إلَّا بِدَلَالَةِ ) الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا اعْتِبَارُ دَلَائِلِ النَّظَرِ عَلَى النَّاسِخِ مِنْ الْحُكْمَيْنِ فَإِنَّمَا يَجِبُ فِيمَا لَا يُعْرَفُ تَارِيخُهُ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي بَيَّنَّا ، فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى شَوَاهِدِ الْأُصُولِ وَدَلَائِلِ النَّظَرِ فَيَثْبُتُ مِنْهُ مَا أَثْبَتَهُ وَيَنْتَفِي ( مِنْهُ ) مَا نَفَتْهُ وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى جُمْلَةً يُعْرَفُ بِهَا عَامَّةُ هَذَا الْبَابِ مِنْ فَهْمِ مَعَانِي كَلَامِهِ .
قَالَ عِيسَى : إذَا رُوِيَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ وَالنَّاسُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَهُوَ النَّاسِخُ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا وَاسْتِعْمَالُ أَشْبَهِهِمَا بِالْأُصُولِ ، وَإِنْ عُلِمَ تَارِيخُهُمَا فَالْآخَرُ نَاسِخُ الْأَوَّلِ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ الْمُوَافَقَةَ وَإِنْ احْتَمَلَ الْمُوَافَقَةَ ، سَاغَ الِاجْتِهَادُ ( فِيهِ ) .
وَإِنْ عَمِلَ النَّاسُ بِالْأَوَّلِ وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْآخَرُ خَامِلٌ لَا يَعْمَلُ بِهِ إلَّا الشَّاذُّ نَظَرُهُ ، فَإِنْ سَوَّغَ الَّذِينَ عَمِلُوا بِالْأَوَّلِ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ ، وَإِنْ عَابُوا مَنْ عَمِلَ بِالْآخَرِ كَانَ مَا عَمِلَ بِهِ النَّاسُ هُوَ الْمُسْتَعْمَلَ ، لِأَنَّ النَّسْخَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَمَا عَرَفُوا الْأَوَّلَ وَلَظَهَرَ النَّسْخُ مِنْهُمْ كَمَا ظَهَرَ الْفَرْضُ الْأَوَّلُ ، حَتَّى لَا يَشِذَّ عَنْهُ إلَّا الْقَلِيلُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ قَدْ ظَهَرَتْ الْإِبَاحَةُ فِيهَا كَمَا ظَهَرَ الْحَظْرُ ، وَكَذَلِكَ زِيَارَةُ الْقُبُورِ ، وَإِبَاحَةُ الظُّرُوفِ ، وَمُتْعَةُ النِّسَاءِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( أَمَّا قَوْلُهُ ) أَمَّا إذَا كَانَ النَّاسُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَهُوَ النَّاسِخُ ، فَإِنَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ صِحَّةُ ( حُجَّةِ ) الْإِجْمَاعِ ، فَحَيْثُمَا وُجِدَتْ فَوَاجِبٌ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ

وَإِنْ وُجِدَ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَاسْتَحَالَ ثُبُوتُ مَا يُضَادُّهُ مِنْ الْحُكْمِ فِي حَالِ ثُبُوتِهِ ثَبَتَ هُوَ وَانْتَفَى مَا يُضَادُّهُ ، وَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْآخَرَ
مَنْسُوخٌ بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إذَا اخْتَلَفُوا سَاغَ الِاجْتِهَادُ وَاسْتُعْمِلَ أَشْبَهُهُمَا بِالْأُصُولِ ، فَإِنَّ مُرَادَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ تَارِيخَهُمَا ، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَبَ الِاسْتِدْلَال بِالْأُصُولِ عَلَى النَّاسِخِ مِنْهُمَا وَجِهَاتُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى النَّاسِخِ مِنْهُمَا مُخْتَلِفَةٌ ، وَأَنَا ذَاكِرٌ مِنْهَا طَرَفًا نَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى جُمْلَةِ الْقَوْلِ فِيهِ .
فَنَقُولُ قَبْلَ أَنْ نَشْرَعَ فِي ذِكْرِ جِهَاتِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ النَّاسِخِ : إنَّ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ النَّاسِخِ مِنْهُمَا ( عَلَى ) أَنَّ اخْتِلَافَ النَّاسِخِ فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَحْتَمِلَانِ غَيْرَ النَّسْخِ يُجْعَلُ الْحُكْمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَعْنَى سَائِرِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي ( قَدْ ) اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ ، ثُمَّ كَانَ طَرِيقُ اسْتِدْرَاكِ حُكْمِهَا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأُصُولِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إثْبَاتِ ( حُكْمِ ) أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ اعْتِبَارَ شَوَاهِدِ الْأُصُولِ ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ الَّذِي تُعَضِّدُهُ الْأُصُولُ مِنْهَا أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ ، كَحُكْمِ الْحَادِثَةِ إذَا عَاضَدَتْهُ دَلَائِلُ الْأُصُولِ فَيَكُونُ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَضَادَّتْ أَحْكَامُهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِهِمَا أَنْ يَسْقُطَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا فَيُجْعَلُ الْحُكْمُ مَوْقُوفًا عَلَى شَوَاهِدِ الْأُصُولِ فَمَا دَلَّتْ الْأُصُولُ عَلَى ثَبَاتِهِ مِنْ الْحُكْمَيْنِ فَهُوَ الثَّابِتُ دُونَ الْآخَرِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ حُكْمًا ( يُوجِبُهُ الْأَثَرُ ) وَدَلَائِلُ الْأُصُولِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ مِنْ حُكْمٍ يَنْفَرِدُ بِإِيجَابِهِ الْأَثَرُ دُونَ ( دَلَائِلِ ) الْأُصُولِ .
فَدَلَّ جَمِيعُ مَا وَصَفْنَا عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأُصُولِ عَلَى النَّاسِخِ مِنْ الْخَبَرَيْنِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إنْ عَلِمَ تَارِيخَهُمَا فَالْآخَرُ أَوْلَى إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ الْمُوَافَقَةَ ، فَمِنْ قِبَلِ أَنَّ الْآخَرَ ثَابِتُ الْحُكْمِ

لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَهُ مَا يُزِيلُهُ ، وَفِي ( ثُبُوتِهِ نَفْيُ الْأَوَّلِ لِتَضَادِّهِمَا ) وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنْ احْتَمَلَ الْمُوَافَقَةَ سَاغَ الِاجْتِهَادُ ، فَلِأَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ النَّسْخَ وَاحْتَمَلَ الْمُوَافَقَةَ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ النَّسْخِ بِالِاحْتِمَالِ ، وَلَا الْحُكْمِ بِالْمُوَافَقَةِ أَيْضًا بِالِاحْتِمَالِ ، إذْ لَيْسَ أَحَدُ ( وَجْهَيْ الِاحْتِمَالِ ) بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، فَصَارَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَالِاسْتِدْلَالَ بِالْأُصُولِ عَلَى ثُبُوتِهِمَا بِالْحَمْلِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ أَوْ إثْبَاتُ حُكْمِ أَحَدِهِمَا بِإِثْبَاتِ النَّسْخِ .
فَإِنْ قَالَ ( قَائِلٌ ) : هَلَّا حَكَمْت بِالْمُوَافَقَةِ دُونَ النَّسْخِ ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْأُصُولِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ حُكْمُهُ ثَابِتٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا يُزِيلُهُ ، فَإِذَا اُحْتُمِلَ كَوْنُ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ وَاحْتُمِلَ كَوْنُهُ مُوَافِقًا لَهُ ، لَمْ يَزُلْ عَنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ إلَّا بِيَقِينٍ وَلَمْ يَثْبُتْ النَّسْخُ بِالشَّكِّ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ ، لِأَنَّ هَاهُنَا أَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ ( أَنَّ ) الْخَبَرَ ( الثَّانِيَ ) إذَا كَانَ حُكْمُهُ مُنَافِيًا لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ ، فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ فَإِذَا احْتَمَلَ الْمُوَافَقَةَ صَارَ بَقَاءُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ مَشْكُوكًا فِيهِ ، وَصَارَ إيجَابُ النَّسْخِ مَشْكُوكًا فِيهِ أَيْضًا ، فَلَمَّا تَطَرَّقَ الشَّكُّ عَلَى الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا احْتَجْنَا إلَى اعْتِبَارِهِمَا بِالْأُصُولِ ، فَإِنْ شَهِدَتْ الْأُصُولُ لِأَحَدِ الْحَكَمِينَ دُونَ الْآخَرِ كَانَ حُكْمُهُ ثَابِتًا ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ حُمِلَ الثَّانِي عَلَى مُوَافَقَتِهِ ، وَإِنْ شَهِدَتْ الْأُصُولُ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ كَانَ الْخَبَرُ الثَّانِي ثَابِتَ الْحُكْمِ وَكَانَ الْأَوَّلُ مَحْمُولًا عَلَى مُوَافَقَةِ الثَّانِي .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنْ عَمِلَ النَّاسُ ( بِالْأَوَّلِ ) وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي يَدِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْآخَرُ خَامِلٌ لَا يَعْمَلُ بِهِ إلَّا الشَّاذُّ نَظَرُهُ ، فَإِنْ سَوَّغَ الَّذِينَ عَمِلُوا بِالْأَوَّلِ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ ، سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ وَإِنْ عَابُوا مَنْ عَمِلَ بِالْآخَرِ ، كَانَ مَا ( عَمِلَ بِهِ ) النَّاسُ هُوَ الْمُسْتَعْمَلَ ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنَّ عَمَلَهُمْ بِالْأَوَّلِ مَعَ تَرْكِهِمْ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِالثَّانِي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَرِيقَ اسْتِعْمَالِ حُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاجْتِهَادُ ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْآخَرُ عِنْدَهُمْ نَسْخًا لِلأَوَّلِ وَلَظَهَرَ النَّكِيْرُ

مِنْهُمْ ) عَلَى مَنْ عَمِلَ بِالْأَوَّلِ ، فَكَانَ فِي تَرْكِ بَعْضِهِمْ النَّكِيرَ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَهُمْ فِي اسْتِعْمَالِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ أَيُّهُمَا كَانَ دُونَ الْآخَرِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَإِنْ عَابُوا مَنْ عَمِلَ بِالْآخَرِ كَانَ مَا عَمِلَ بِهِ النَّاسُ هُوَ الْمُسْتَعْمَلَ ، فَلِأَنَّهُمْ إذَا عَابُوا عَلَى الْآخَرِينَ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ، فَقَدْ أَبَانُوا عَنْ نَسْخِ الْآخَرِ وَأَفْصَحُوا بِهِ ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ
كَذَلِكَ لَكَانَ الاِجْتِهَادُ فِيهِ سَائِغًا عِنْدَهُمْ ، وَمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لَا يَسَعُ بَعْضَهُمْ إظْهَارُ النَّكِيرِ فِيهِ عَلَى بَعْضٍ ، فَدَلَّ ظُهُورُ النَّكِيرِ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِينَ فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ عَلَى أَنَّ خَبَرَهُمْ ثَابِتٌ ( عِنْدَهُمْ ) غَيْرُ مَنْسُوخٍ ، فَصَارَ ذَلِكَ كَالْإِخْبَارِ مِنْهُمْ بِأَنَّ الثَّابِتَ هُوَ الَّذِي اسْتَعْمَلُوهُ دُونَ الْآخَرِ
وَلِأَنَّ نَسْخَ الْأَوَّلِ ( لَوْ كَانَ ) ثَابِتًا لَعَرَفُوهُ كَمَا عَرَفُوا الْأَوَّلَ وَلَظَهَرَ النَّسْخُ فِيهِمْ كَمَا ظَهَرَ الْأَوَّلُ حَتَّى لَا يَشِذَّ عَنْ عِلْمِهِ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ ، كَالنَّهْيِ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالشُّرْبِ فِي الظُّرُوفِ وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ عَلَى حَسَبِ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَكُونُ الْأَوَّلُ نَاسِخًا لِلْآخَرِ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ نَقُلْ إنَّ الْأَوَّلَ نَاسِخٌ لِلْآخَرِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَالِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الثَّابِتُ الْحُكْمِ دُونَ الْآخَرِ ، وَأَنَّ الْآخَرَ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ثَابِتٍ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنًى لَا يُخَالِفُ الْأَوَّلَ ، أَوْ يَكُونُ مَنْسُوخًا بِالْأَوَّلِ ( وَلَكِنْ ) بِمَعْنًى آخَرَ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا كَمَا قُلْنَا فِيمَا دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ ،
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
وَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ عِيسَى مِنْ أَنَّ نَسْخَ الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَظَهَرَ فِيهِمْ كَظُهُورِ الْحُكْمِ ( الْأَوَّلِ ) صَحِيحٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ وَانْتَشَرَ فِي الْكَافَّةِ ثُمَّ أَحْدَثَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَسْخًا فَلَا بُدَّ ( مِنْ ) أَنْ يُظْهِرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْكَافَّةِ حَتَّى يَعْرِفُوهُ كَمَا كَانُوا عَرَفُوا الْمَنْسُوخَ قَبْلَ نَسْخِهِ ، لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ مُعْتَقِدُونَ لِبَقَائِهِ

عَلَيْهِمْ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ ثُبُوتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ مَعَ إيجَابِ نَسْخِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ فِيهِ إقْرَارُهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ الشَّيْءِ ( عَلَى خِلَافِ ) مَا هُوَ عَلَيْهِ ، وَعَلَى الْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ ، وَلَكَانَ فِيهِ أَيْضًا تَرْكُ الْإِبْلَاغِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك } وقَوْله تَعَالَى : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُسَارَعَةً إلَى اتِّبَاعِ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى ، فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إظْهَارُ الْحُكْمِ النَّاسِخِ مِمَّنْ عَرَفَ ( الْحُكْمَ ) الْمَنْسُوخَ بَدْءًا ، وَمَتَى أَظْهَرَهُ فِيهِمْ نَقَلُوهُ كَمَا نَقَلُوا الْأَوَّلَ ، وَلَوْ نَقَلُوهُ لَاسْتَفَاضَ فِيهِمْ وَظَهَرَ كَظُهُورِ الْأَوَّلِ ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ الْحُكْمُ الْآخَرُ إلَّا الشَّاذُّ مِنْهُمْ وَثَبَتَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ بِنَقْلِ الْكَافَّةِ كَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ ثَابِتًا غَيْرَ ( مَرْفُوعٍ بِالشَّاذِّ ) الَّذِي لَا يُوَازِيهِ فِي النَّقْلِ وَالِاسْتِعْمَالِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْحُكْمَ الْآخَرَ إذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهِ مَاسَّةً ثُمَّ عُرِفَ الْأَوَّلُ ، فَالْوَاجِبُ تَوْقِيفُهُمْ عَلَيْهِ ، وَإِعْلَامُهُمْ إيَّاهُ ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ النَّاسِخُ بِمَنْزِلَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهَا ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا نَقْلُ
الْكَافَّةِ ، وَلَا يُلْتَفَتُ ( فِيهِ ) إلَى نَقْلِ الشَّاذِّ ، فَيَصِيرُ الْحُكْمُ ( بِالْآخَرِ ) حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَقْلٌ ، وَصَارَ الْأَوَّلُ ثَابِتًا غَيْرَ مُعَارَضٍ بِالْآخَرِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ( حُكْمُ ) الْآيَتَيْنِ إذَا أَوْجَبَتَا حُكْمَيْنِ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْأَخْبَارِ ( فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ ) مِنْ جِهَةِ أَنَّ عَمَلَ النَّاسِ بِأَحَدِهِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْآخَرِ وَوَهَانَتِهِ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ أَوْ عَلَى

إغْفَالِ بَعْضِ الرُّوَاةِ لِبَعْضِ مَعَانِيهِ ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ ، فَيَصِيرُ الْمَعْمُولُ بِهِ عِنْدَ النَّاسِ كَالْمَنْقُولِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ ، وَالْآخَرُ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْآيَتَانِ فَجَوَازُ وُقُوعِ ذَلِكَ فِيهِمَا مَأْمُونٌ ( مِنْهُمَا ) .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ عِيسَى لَمْ يُفَرِّقْ ( مَا ) بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا وَرَدَا مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ ، وَبَيْنَهُمَا إذَا وَرَدَا مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ مَا ذَكَرْت ، وَعَلَى أَنَّهُ لَمَّا اُعْتُبِرَ ظُهُورُ الْحُكْمِ النَّاسِخِ أَنَّهُ نَاسِخٌ كَظُهُورِ الْمَنْسُوخِ كَانَ عِنْدَهُمْ بَدْءًا ، وَجَبَ أَلَّا يَخْتَلِفَ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْآيَتَيْنِ وَالْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ نَقْلَ النَّاسِخِ مِنْهُمَا أَنَّهُ نَاسِخٌ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ كَذَلِكَ كَنَقْلِ لَفْظِهِ وَأَحْكَامِهِ ، وَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ هُوَ النَّاسِخُ عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَهُ مَوْكُولٌ إلَى الِاجْتِهَادِ وَاعْتِبَارِ الْأُصُولِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَأَمَّا طُرُقُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ النَّاسِخِ مِنْهُمَا مِنْ جِهَةِ الْأُصُولِ ، فَعَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ يَتَعَذَّرُ وَصْفُ جَمِيعِهَا وَلَكِنَّا نَذْكُرُ مِنْهَا جُمَلًا يُعْتَبَرُ بِهَا نَظَائِرُهَا وَتَدُلُّ عَلَى أَمْثَالِهَا .
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ :
( إنَّ ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا وَجَازَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِالْآخَرِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُبَاحَ الْأَصْلِ ثُمَّ وَرَدَ فِيهِ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ ، وَالْآخَرُ الْحَظْرَ فَحُكْمُ الْحَظْرِ أَوْلَى وَيَصِيرُ خَبَرُ الْحَظْرِ رَافِعًا لِلْإِبَاحَةِ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُسَمِّي ذَلِكَ نَسْخًا إذَا لَمْ تَكُنْ الْإِبَاحَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ثَابِتَةً مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ .
وَلَيْسَ غَرَضُنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْكَلَامَ فِي أَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى نَسْخًا أَوْ لَا يُسَمَّى ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَلَامٌ فِي الْعِبَارَةِ ، فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُنَا فِي الْمَعْنَى وَفِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَزَوَالِهِ ، وَفِي أَنَّ أَيَّ الْخَبَرَيْنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا عَلَى الْآخَرِ وَمُزِيلًا لِحُكْمِهِ .
فَنَقُولُ : إنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِخَبَرِ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ ، أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا وُرُودَ النَّقْلِ عَنْ الْإِبَاحَةِ الَّتِي كَانَ ( الْأَصْلُ ) بِخَبَرِ الْحَظْرِ ، وَالْخَبَرُ الْمُبِيحُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُ مُؤَكِّدًا لِلْإِبَاحَةِ الَّتِي كَانَتْ هِيَ الْأَصْلَ مِنْ طَرِيقِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ ، إذْ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ ، وَفِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ مِنْهُ مَا يَفُوقُ الْإِحْصَاءَ ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } وقَوْله تَعَالَى : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا

مِنْ رِزْقِهِ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا } وَنَحْوِ ذَلِكَ .
فَإِذَا كَانَ خَبَرُ الْإِبَاحَةِ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ وَرَدَ مُؤَكِّدًا لَمَا كَانَ ( فِي ) الْعَقْلِ مِنْهَا ، وَكَانَ خَبَرُ الْحَظْرِ طَارِئًا لَا مَحَالَةَ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَنَاقِلًا عَنْهَا إلَى الْحَظْرِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْحَظْرِ ثَابِتًا ، وَأَلَّا يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْإِبَاحَةِ إنْ لَمْ نَتَيَقَّنْ وُرُودَهُ عَلَى الْحَظْرِ وَنَاقِلًا عَنْهُ .
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا الِاعْتِبَارِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، حِينَ سُئِلَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَقَالَ : " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى " فَأَثْبَتَ حُكْمَ الْحَظْرِ عِنْدَ تَعَارُضِ مُوجِبِ الْآيَتَيْنِ ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ قَدْ كَانَ يَقُولُهَا شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ نَحْوُ خَبَرِ جَرْهَدٍ الْأَسْلَمِيِّ وَمَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ { النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَغْطِيَةِ الْفَخِذِ وَقَالَ : إنَّهَا عَوْرَةٌ } .
وَمَا رُوِيَ { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا دَخَلَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَخِذُهُ مَكْشُوفٌ فَلَمْ يُغَطِّهَا ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَغَطَّاهَا ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا أَسْتَحْيِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحْيِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ } فَاقْتَضَى هَذَا الْخَبَرُ إبَاحَةَ كَشْفِ

الْفَخِذِ ، وَاقْتَضَى ( خَبَرُ ) جَرْهَدٍ وَمَعْمَرٍ حَظْرَ كَشْفِهِمَا فَصَارَ خَبَرُ الْحَظْرِ أَوْلَى .
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَبَاحَهُ } فَكَانَ خَبَرُ الْحَظْرِ أَوْلَى لِمَا وَصَفْنَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَهَلَّا وَقَفْت حُكْمَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ عَلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ ، لِأَنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ وَإِنْ كَانَ يَقِينًا فِي وُرُودِهِ عَلَى إبَاحَةِ الْأَصْلِ ، فَإِنَّ بَقَاءَهُ مَعَ وُرُودِ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ بِيَقِينٍ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْإِبَاحَةِ ( وَارِدًا ) بَعْدَ الْحَظْرِ فَيَكُونُ رَافِعًا لَهُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِيهِمَا ( فَقَدْ ) وَقَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَبَرَيْنِ مَوْقِفَ الِاحْتِمَالِ ، فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يُجْعَلَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا ، فَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ الْمُقَدَّمَةِ ( أَوْ يُوقَفُ ) حُكْمُهُ ، وَيُطْلَبُ حُكْمُ حَظْرِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ مِنْ وَجْهِ غَيْرِهِمَا .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّا لَمَّا عَلِمْنَا وُرُودَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، وَثُبُوتَ حُكْمِهِ بَعْدَهُ لَمْ يُجِزْ لَنَا الْحُكْمُ بِزَوَالِهِ إلَّا بِيَقِينٍ ، لِأَنَّ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ لَوْ كَانَ مُتَأَخِّرًا ( عَنْ الْحَظْرِ ) يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ الْحَظْرَ ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَنْقُلَ الْجَمِيعُ تَارِيخَ الْإِبَاحَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْحَظْرِ ، لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا الْحَظْرَ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا قُلْنَا فِي خَبَرِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا ، وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ وَنَظَائِرِهَا : فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلُوا تَارِيخَ الْإِبَاحَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْحَظْرِ عَلِمْنَا أَنَّ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ وَارِدٌ

عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حَالُ الشَّيْءِ الْمَحْكُومِ فِيهِ قَبْلَ وُرُودِ حَظْرِهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ مَا كَانَ أَصْلُهُ الْإِبَاحَةَ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ ، ثُمَّ أَقَرَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّاسَ عَلَيْهِ وَتَرَكَ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ فِي إتْيَانِهِمْ إيَّاهُ ( عَلَى ) وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِبَاحَتِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مَا كَانَ أَصْلُهُ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْقَضَاءِ بِخَبَرِ الْحَظْرِ عَلَيْهِ وَإِزَالَتِهِ عَنْ حُكْمِ الْإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
كَذَلِكَ وُرُودُ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ مَعَ خَبَرِ الْحَظْرِ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّاسَ عَنْ إبَاحَةِ شَيْءٍ ( مِنْ ) إزَالَتِهِ بِخَبَرِ الْحَظْرِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : يَلْزَمُك عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنْ تَقْضِي بِخَبَرِ إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ عَلَى الْخَبَرِ النَّافِي لَهُ ، لِأَنَّ خَبَرَ النَّفْيِ وَارِدٌ عَلَى الْأَصْلِ ، وَخَبَرُ الْإِيجَابِ نَاقِلٌ عَنْهُ ، فَوَجَبَ حَظْرُ الصَّلَاةِ قَبْلَ إحْدَاثِ الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْمَسِّ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَلْزَمُنَا ذَلِكَ ، لِأَنَّ خَبَرَ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ ( لَوْ ) انْفَرَدَ عَنْ مُعَارَضَةِ خَبَرِ النَّفْيِ لَمَا لَزِمَنَا قَبُولُهُ عَلَى أَصْلِنَا ، لِأَنَّهُ مِمَّا بِالنَّاسِ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ أَخْبَارُ الْآحَادِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا الِاعْتِبَارَ الَّذِي وَصَفْنَا فِي الْخَبَرَيْنِ إذَا تَوَازَيَا وَتَسَاوَيَا فِي النَّقْلِ وَوَجْهِ الِاسْتِعْمَالِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَلَهُمَا حُكْمٌ آخَرُ ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنْ نَقُولَ : لَوْ عَلِمْنَا شَيْئًا كَانَ أَصْلُهُ الْحَظْرَ ، ثُمَّ وَرَدَ خَبَرٌ يُبِيحُهُ وَخَبَرٌ يَحْظُرُهُ ( يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْإِبَاحَةُ ) أَوْلَى ، لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ طَارِئَةٌ عَلَى الْحَظْرِ لَا مَحَالَةَ ، وَالْحَظْرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالُهُ قَبْلَ وُرُودِ إبَاحَتِهِ ، فَخَبَرُ الْإِبَاحَةِ نَاقِلٌ عَنْ الْحَظْرِ فَلَا يُعْلَمُ خَبَرُ الْحَظْرِ طَارِئًا عَلَيْهَا نَاقِلًا عَنْهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْإِبَاحَةِ أَوْلَى مَا لَمْ تَعُمَّ الدَّلَالَةُ عَلَى وُرُودِ خَبَرِ الْحَظْرِ بَعْدَ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ .
وَلَا أَحْفَظُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ شَيْئًا ( فِي هَذَا ) الْفَصْلِ الْأَخِيرِ ، وَاعْتِلَالُهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ فِي مِثْلِهِ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِ وُرُودِهَا عَلَى الْحَظْرِ وَإِزَالَتِهَا ( لِحُكْمِهِ يَقِينًا ) وَغَيْرُ مَعْلُومٍ وُرُودُ خَبَرِ الْحَظْرِ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، بَلْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ( وَرَدَ تَأْكِيدًا ) لِمَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَظْرِ قَبْلَ وُرُودِ الْإِبَاحَةِ ، إلَّا أَنِّي قَدْ سَمِعْته

يَحْتَجُّ أَيْضًا بِوُجُوبِ اسْتِعْمَالِ خَبَرِ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ إذَا وَرَدَا عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي وَصَفْنَا ، بِأَنَّ تَرْكَ الْمُبَاحِ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابُ ، وَفِعْلُ الْمَحْظُورِ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابُ ، فَالِاحْتِيَاطُ ( عِنْدَ الشَّكِّ ) اجْتِنَابُهُ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ مُوَافَقَتِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاَلَّذِي يُعَضِّدُ هَذَا الْحِجَاجَ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } وَقَالَ : { فَمَنْ تَرَكَهُنَّ كَانَ أَشَدَّ اسْتِبْرَاءً لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَحِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ } .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالْحِجَاجُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي هَذَا الْفَصْلِ يُوجِبُ أَنْ يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ فِي وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْحَظْرِ ، لِاخْتِلَافِ حَالِ الشَّيْءِ الْمَحْكُومِ فِيهِ فِي الْأَصْلِ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إبَاحَةٍ ، لِأَنَّهُ إذْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِاسْتِعْمَالِ خَبَرِ الْحَظْرِ فِيمَا وَصَفْنَا مَا لَزِمَ مِنْ الْأَخْذِ بِالْحَزْمِ وَالِاحْتِيَاطِ لِلدِّينِ ، فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا كَانَ أَصْلُهُ الْحَظْرَ ثُمَّ وَرَدَ فِيهِ خَبَرَانِ : أَحَدُهُمَا حَاظِرٌ ، وَالْآخَرُ مُبِيحٌ ، وَتَجْوِيزُ ( وُرُودِ ) خَبَرِ الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ قَائِمٌ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا لَزِمَ مِنْ الِاحْتِيَاطِ لِلدِّينِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ مُوجِبًا لِلْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ فِي اسْتِعْمَالِ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ احْتِيَاطٌ ، وَلَا أَخْذٌ بِالْحَزْمِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْت ، لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ الْحَظْرِ فِيمَا هُوَ مُبَاحٌ ، كَمَا حُظِرَ عَلَيْنَا اعْتِقَادُ الْإِبَاحَةِ فِيمَا هُوَ مَحْظُورٌ ، فَمَنْ اعْتَقَدَ الْحَظْرَ فِيمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فَهُوَ تَارِكٌ لِلِاحْتِيَاطِ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّهُ إذْ كَانَ مَأْمُورًا بِتَرْكِ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يَأْمَنُهُ مَحْظُورًا ، وَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا ثَابِتًا فِي الشَّرِيعَةِ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِيمَا وَصَفْنَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْقَوْلِ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ ذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ ( إلَى ) غَيْرِ هَذَا الْمَذْهَبِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا كَانَ أَصْلُهُ الْإِبَاحَةَ ، ثُمَّ وَرَدَ خَبَرَانِ : حَاظِرٌ وَمُبِيحٌ ، وَلَمْ يَعْلَمْ

تَارِيخَهُمَا ، فَقَالَ عِيسَى فِيهِمَا : إذَا عَرِيَا مِنْ شَوَاهِدِ الْأُصُولِ ، وَتَسَاوَيَا فِي جِهَةِ النَّقْلِ فَإِنَّهُمَا إذَا تَعَارَضَا وَلَمْ يَحْتَمِلَا الْمُوَافَقَةَ سَقَطَا ، وَصَارَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا ، وَبَقِيَ الشَّيْءُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ كَأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ خَبَرٌ .
وَذَكَرَ مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ حَدِيثَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ :{ كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ{أُتِيَ بِنَبِيذٍ فَرَفَعَهُ إلَى فِيهِ فَقَطَّبَ ، فَقِيلَ لَهُ : أَحَرَامٌ هُوَ ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَهُ}.
وَرُوِيَ عَنْهُ { مَنْ خَشِيَ مِنْ شَرَابِهِ فَلْيُكْثِرْهُ بِالْمَاءِ } .
وَذُكِرَ أَنَّ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ أَوْلَى ، لِأَنَّ الْحَظْرَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا فِي مِثْلِهِ لَعَرَفَهُ جُلُّ الصَّحَابَةِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ الْإِبَاحَةُ ، وَلِأَنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ يَحْتَمِلُ الْمَعَانِيَ ، وَخَبَرَ الْإِبَاحَةِ لَا يَحْتَمِلُهَا .
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْخَبَرَيْنِ إلَّا وَفِي الْآخَرِ مِثْلُهُ ، لَكَانَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى إحْلَالِهِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَثْبُتُ إذَا تَضَادَّ الْخَبَرَانِ ، كَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَضَادَّةِ .
وَذَكَرَ أَيْضًا خَبَرَ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ ( قَالَ ) : " لَا وُضُوءَ فِيهِ " ، ثُمَّ ذَكَرَ وُجُوهَ التَّرْجِيحِ لِلْخَبَرِ النَّافِي لِلْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إلَّا تَضَادُّ الْخَبَرَيْنِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا مَا لَيْسَ لِلْآخَرِ ، كَانَ الْخَبَرَانِ كَأَنَّهُمَا لَمْ يَأْتِيَا وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ لَا وُضُوءَ فِيهِ .
وَذَكَرَ عِيسَى ( بْنُ أَبَانَ ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعَثَ رَجُلَيْنِ يَنْظُرَانِ إلَى الْفَجْرِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : قَدْ طَلَعَ ، وَقَالَ الْآخَرُ : لَمْ يَطْلُعْ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ اخْتَلَفْتُمَا إذًا ( شَذَّا بِي ) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ .
قَالَ عِيسَى : ( فَأَسْقَطَا الْخَبَرَيْنِ ) عِنْدَ التَّعَارُضِ ، وَتَرَكَا الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَهَذَا الْمَذْهَبُ خِلَافُ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ .

وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ خَبَرَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لَمَّا اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ طَارِئًا عَلَى صَاحِبِهِ فَنَسَخَهُ ، وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَا ( جَمِيعًا ) إذَا تَسَاوَيَا ، كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا فَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ( حُكْمُهُ ) قَبْلَ وُرُودِهِمَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ( وَجْهَ مَا ) كَانَ يَقُولُهُ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ .
وَمَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ فِي هَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قُلْتُمْ فِي رَجُلٍ دُعِيَ إلَى طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ : إنَّ هَذَا اللَّحْمَ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ ، وَهَذَا الشَّرَابَ قَدْ خَالَطَهُ خَمْرٌ ، وَأَخْبَرَهُ آخَرُ أَنَّهُ طَاهِرٌ حَلَالٌ .
أَوْ كَانَ ذَلِكَ ( فِي مَاءٍ ) أَرَادَ الْوُضُوءَ بِهِ ، وَقَالَ لَهُ أَحَدُ الْمُخْبِرَيْنِ : قَدْ حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ ، وَقَالَ الْآخَرُ : هُوَ طَاهِرٌ ، أَنَّهُ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ فَيَعْمَلُ عَلَى آكَدِ ظَنِّهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ فِي ذَلِكَ ، وَاسْتَوَتْ الْحَالَانِ عِنْدَهُ ، جَازَ لَهُ أَكْلُ ذَلِكَ وَشُرْبُهُ وَالْوُضُوءُ بِهِ .
وَأَسْقَطْتُمْ الْخَبَرَيْنِ لَمَّا تَعَارَضَا ، وَجَعَلْتُمُوهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ خَبَرٌ ، فَهَلَّا قُلْتُمْ مِثْلَهُ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا رُوِيَا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَسَاوَيَا فِي النَّقْلِ ، وَدَلَالَةُ الْأُصُولِ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ وَيَسْقُطَانِ ؟ .
قِيلَ لَهُ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَخْبَارَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا جَازَ فِيهَا وُرُودُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ثُمَّ وُرُودُ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا الْحَظْرَ طَارِئًا عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا مَحَالَةَ ، وَالْإِبَاحَةُ لَوْ وَرَدَتْ بَعْدَ الْحَظْرِ لَظَهَرَ أَمْرُهَا وَانْتَشَرَ تَارِيخُهَا فِيمَنْ عَرَفَ الْحَظْرَ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَا مَحَالَةَ يُظْهِرُ الْإِبَاحَةَ لِكَافَّةِ مَنْ عَلِمَ الْحَظْرَ ، حَتَّى يَنْتَشِرَ فِيهِمْ وَيَظْهَرَ كَظُهُورِ الْحَظْرِ قَبْلَهَا عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَاهُ فِي خَبَرِ النَّهْيِ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا ، وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ وَنَحْوِهَا ، فَلَمَّا فَقَدْنَا ذَلِكَ فِيمَا وَصَفْنَا ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ( أَنَّ خَبَرَ ) الْإِبَاحَةِ وَرَدَ عَلَى الْأَصْلِ ، وَأَنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ ، وَكَانَتْ هَذِهِ جِهَةً تُوجِبُ لِخَبَرِ الْحَظْرِ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ لِخَبَرِ الْإِبَاحَةِ ، وَتَغْلِبُ

بِهَا فِي النَّفْسِ أَنَّهُ أَوْلَى مِنْهُ ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمُخْبِرَيْنِ إذَا أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا بِنَجَاسَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، وَالْآخَرُ بِطَهَارَتِهِ أَنَّهُ مَتَى غَلَبَ ( فِي الظَّنِّ ) صِحَّةُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَمِلْنَا عَلَيْهِ وَأَلْغَيْنَا الْآخَرَ ، فَالْخَبَرَانِ الْمُتَضَادَّانِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ بِمَنْزِلَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ فِي خَبَرِ أَحَدِ الْمُخْبِرَيْنِ بِالنَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ وَلَا يُشْبِهُ تَسَاوِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ ( فِي هَذَا الْوَجْهِ تُسَاوِيَ خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ ) فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ فَيَسْقُطَانِ وَيَبْقَى الشَّيْءُ مُبَاحًا عَلَى الْأَصْلِ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ ارْتِفَاعُ حُكْمِ النَّجَاسَةِ بَعْدَ حُلُولِهَا فِي الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ ، فَيَعْتَبِرُ فِيهِ وُرُودَ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ وَظُهُورُ أَمْرِهَا لَوْ ثَبَتَ عَلَى حَسَبِ مَا قُلْنَا فِي أَخْبَارِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَاهُنَا حَالٌ يَغْلِبُ بِهَا جِهَةَ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ تَسَاوَى الْخَبَرَانِ جَمِيعًا وَسَقَطَا وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا الْحُكْمُ ، وَصَارَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا وَبَقِيَ الشَّيْءُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي تَغْلِيبِ جِهَةِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ مَا ذَكَرْت ، مِنْ أَنَّ الْإِبَاحَةَ لَوْ كَانَتْ بَعْدَ الْحَظْرِ لَظَهَرَ أَمْرُهَا وَانْتَشَرَ تَارِيخُهَا حَتَّى يَعْرِفَهَا عَامَّةُ مَنْ عَرَفَ الْحَظْرَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُك مِثْلُهُ فِي الْإِبَاحَةِ ، لِأَنَّ الْحَظْرَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ لَظَهَرَ تَارِيخُ الْحَظْرِ عَنْهَا ، وَلَعَرَفَهُ عَامَّةُ مَنْ عَرَفَ الْإِبَاحَةَ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ وُرُودَ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ بِأَكْثَرَ فِي إيجَابِهِ مَا أَوْجَبَ مِنْ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِنْ عِلْمِنَا بِكَوْنِ الشَّيْءِ مُبَاحًا عَلَى الْأَصْلِ ، وَإِقْرَارُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّاسَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ لَمْ يَجِبْ إذَا وَرَدَ خَبَرُ الْحَظْرِ عَارِيًّا عَنْ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ لَفْظًا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَنْ تَكُونَ الْإِبَاحَةُ أَوْلَى بَلْ ( أَنْ ) يَكُونَ الْحَظْرُ أَوْلَى ، وَلَا يَحْتَاجُونَ أَنْ يَنْقُلُوا إلَيْنَا أَنَّ هَذَا الْحَظْرَ كَانَ بَعْدَ إقْرَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّاسَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
كَذَلِكَ إذَا نُقِلَ لَفْظُ الْإِبَاحَةِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنُقِلَ الْحَظْرُ ، فَلَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ وُرُودِ الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ كَوْنُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى نَقْلِ التَّارِيخِ ، وَأَمَّا إذَا ثَبَتَ الْحَظْرُ ثُمَّ نَقَلُوا عَنْهُ إلَى الْإِبَاحَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ تَارِيخِهِ وَظُهُورِهِ فِيمَنْ عَرَفَ الْحَظْرَ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ بِهَذَا الْوَصْفِ فَعَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ وَارِدَةٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَصْلُ ، وَأَنَّ الْحَظْرَ وَارِدٌ بَعْدَهَا فَكَانَ أَوْلَى .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَاذَكَرْت فِي الْفَصْلِ بَيْنَ أَخْبَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَبَيْنَ خَبَرِ

الْمُخْبِرَيْنِ بِالطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ ، بِأَنَّ مَا يُثْبِتُهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا يَجُوزُ فِيهِ وُرُودُ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ تَارَةً وَوُرُودُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ أُخْرَى ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي مُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ طَاهِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ نَجَسًا .
( فَوَجَبَ تَأْكِيدُ ) خَبَرِ النَّجَاسَةِ وَالتَّحْرِيمُ عَلَى خَبَرِ الطَّهَارَةِ وَالتَّحْلِيلُ ، لِأَنَّهُ إذَا حَلَّتْهُ النَّجَاسَةُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَطْهُرَ بَعْدَهُ ، وَمَا حَظَرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجُوزُ أَنْ يُبِيحَهُ بَعْدَهُ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّا لَمْ نَجْعَلْ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ ، أَنَّ أَحَدَهُمَا يَجُوزُ فِيهَا وُرُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إبَاحَةٍ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَأَنَّ الْأُخْرَى لَا يَجُوزُ فِيهَا وُرُودُ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ فَحَسْبُ ، دُونَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ أَخْبَارَ الشَّرْعِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، لَمَّا جَازَ فِيهَا وُرُودُ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا صِحَّةَ الْحَظْرِ طَارِئًا عَلَى الْإِبَاحَةِ ، امْتَنَعَ وُجُودُ الْإِبَاحَةِ بَعْدَهُ ، إلَّا مَعَ وُرُودِ تَارِيخِهِمَا مُتَأَخِّرًا عَنْ الْحَظْرِ مُنْتَشِرًا ظَاهِرًا عِنْدَ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ الْحَظْرُ ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ ، فَلَمَّا عَدِمْنَا ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ وَارِدٌ ( عَلَى الْأَصْلِ ) وَأَنَّ خَبَرَ ( الْحَظْرِ ) بَعْدَهُ ( وَ ) قُلْنَا : إنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ بِالنَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ ، لِامْتِنَاعِ وُرُودِ الطَّهَارَةِ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ وُرُودِ النَّجَاسَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ هَاهُنَا جِهَةٌ تُوجِبُ كَوْنَ إثْبَاتِ النَّجَاسَةِ أَوْلَى مِنْ إثْبَاتِ الطَّهَارَةِ .
وَيُبَيِّنُ لَك الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا ( أَنَّك لَا تُخَالِفُنَا ) فِي صِحَّةِ خَبَرِ الْحَظْرِ طَارِئًا عَلَى إبَاحَةِ الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا تُرِيدُ إثْبَاتَ الْإِبَاحَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلٌ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَوْ فِعْلٌ طَارِئٌ عَلَى الْحَظْرِ ، وَلَا نَقُولُ مِثْلَهُ فِي خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ بِالنَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ ، لِأَنَّك تَمْنَعُ إثْبَاتَ الطَّهَارَةِ بَعْدَ النَّجَاسَةِ ، وَإِنَّمَا عَارَضْت أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ ، فَأَسْقَطَتْهُمَا جَمِيعًا ، وَبَقَّيْت الشَّيْءَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُهُ قَبْلَ خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَ خَبَرِ النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ ، وَبَيْنَ أَخْبَارِ الشَّرْعِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، أَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ بِالنَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ إنَّمَا ( تَنَاوَلَ خَبَرَاهُمَا عَيْنًا وَاحِدَةً أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا )

بِنَجَاسَتِهَا ، وَالْآخَرُ بِطَهَارَتِهَا ، وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُ مُخْبِرِيهِمَا عَلَى مَا ( أَخْبَرَا بِهِ ) مِنْ حُكْمِ الْمَخْبَرِ عَنْهُ ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدَ الْمُخْبِرَيْنِ قَدْ أَوْهَمَ فِي خَبَرِهِ وَأَخْبَرَ عَنْ ( الشَّيْءِ عَلَى ) خِلَافِ حَقِيقَةِ حَالِهِ .
فَلَمَّا لَمْ يَعْرِفْ الْغَالِطَ مِنْهُمَا ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِقَبُولِ خَبَرِهِ ، مِنْ الْآخَرِ سَقَطَ الْخَبَرَانِ جَمِيعًا فَصَارَ وُجُودُ خَبَرَيْهِمَا عَلَى هَذَا الْوَصْفِ قَادِحًا فِي نَفْسِ الْخَبَرِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ أَخْبَارِ الشَّرْعِ إذَا وَرَدَتْ مُتَعَارِضَةً فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، لِأَنَّ وُرُودَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَقْدَحْ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ ، وَلَمْ يُوجِبْ كَوْنَهُ مَشْكُوكًا فِيهِ إذْ لَا فَرْقَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَمِنْ جِهَةِ الْآحَادِ ، وَإِنَّمَا تَعَارَضَ الْخَبَرَانِ مِنْ حَيْثُ فَقَدْنَا الْعِلْمَ بِتَارِيخِهِمَا ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا فِي ( حُكْمِ ) شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ إذَا وَرَدَ ( عَلَى مَا ) عَلِمْت إبَاحَتَهُ فِي الْأَصْلِ ، وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( النَّاسَ ) عَلَيْهَا ، أَنَّهُ يَقْضِي عَلَى الْإِبَاحَةِ وَيَرْفَعُهَا ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَعَارُضًا وَلَا تَضَادًّا فِي الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ مَا حُظِرَ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مَا كَانَ مُبَاحًا ، فَلَمْ يَرِدْ الْخَبَرَانِ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ ( فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ) أَنَّهُ : مَحْظُورٌ مُبَاحٌ .
فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ثَبَتَ حُكْمُ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، وَكَانَ خَبَرُ الْإِبَاحَةِ صَحِيحًا ، مَحْكُومٌ بِهِ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْحَظْرِ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ الْحَظْرُ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَارَضَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، لِأَنَّ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا فِي إثْبَاتِ الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ ثَابِتَانِ ، إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا بِتَقَدُّمِ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ ، وَأَثْبَتْنَا الْحَظْرَ بَعْدَهَا ، فَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي تَارِيخِ الْحُكْمَيْنِ أَيَّهُمَا الْمُتَقَدِّمُ لِصَاحِبِهِ.
وَأَمَّا الْمُخْبِرَانِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ أَوْ بِنَجَاسَتِهِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي حَالٍ يُثْبِتُ صَاحِبُهُ فِيهِ ضِدَّهُ ، فَلَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُهُمَا إذَا تَسَاوَيَا ، وَلَمْ يَجْرِ الْحُكْمُ بِتَأْخِيرِ حُلُولِ النَّجَاسَةِ عَنْ الْحَالِ الَّتِي أَخْبَرَ الْمُخْبِرُ الْآخَرُ مِنْهُمَا بِالطَّهَارَةِ ، لِأَنَّ الْمُخْبِرَ بِالطَّهَارَةِ يَزْعُمُ أَنَّهُ طَاهِرٌ فِي الْحَالِ ، وَأَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ ثَابِتُ الْحُكْمِ ، وَالْمَخْبَرُ بِالنَّجَاسَةِ يَقُولُ : هُوَ نَجِسٌ فِي الْحَالِ ، لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ ، فَتَنَاوَلَ خَبَرُهُمَا عَيْنًا وَاحِدَةً بِحُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ ، فَتَعَارَضَ مُوجِبُ خَبَرَيْهِمَا عِنْدَ اسْتِوَاءِ حَالِهِمَا ، وَسَقَطَا كَأَنْ لَمْ يَرِدَا ، وَبَقِيَ الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْإِبَاحَةِ وَيَكُونُ هَذَا نَظِيرَ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ عَمْرًا يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ ، وَشَهِدَ آخَرَانِ

أَنَّهُ قَتَلَ زَيْدًا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ ، فَتَبْطُلُ شَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ لِتَضَادِّهِمَا ، إذْ قَدْ عَلِمْنَا كَذِبَ أَحَدِهِمَا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ بِالْمَوْضِعِ ( الَّذِي ذَكَرَهُ فِي شَهَادَتِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي أَثْبَتَ الْآخَرُ كَوْنَهُ بِالْمَوْضِعِ ) الْآخَرِ ، وَذَلِكَ مُتَنَافٍ مُتَضَادٌّ ، لَا يَصِحُّ إثْبَاتُهُ ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَوْلَى بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ مِنْ الْآخَرِ ، فَسَقَطَتْ شَهَادَتُهُمَا جَمِيعًا .
فَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَسْأَلَةَ السَّائِلِ عَمَّا وَصَفْنَا لَيْسَتْ ( مِنْ ) تَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ اللَّذَيْنِ يَجُوزُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّاسِخَ لِصَاحِبِهِ فِي شَيْءٍ
وَإِنَّمَا نَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا السَّائِلُ : أَنْ يَرِدَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ يُخْبِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْهُ بِحَالِ تَضَادِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِهِ صَاحِبَهُ ، فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ فِيهِ إلَى اعْتِبَارٍ آخَرَ ، نَحْوُ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } ،وَمَا رُوِيَ { أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ } وَكَانَ ذَلِكَ تَزْوِيجًا وَاحِدًا.
وَنَحْوُ مَا

رُوِيَ { أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ حُرًّا فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُعْتِقَتْ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا " وَمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ حِينَ دَخَلَهَا .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِيهَا } وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَيْءٍ ، وَلَهُ شُرُوطٌ أُخَرُ سَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إذَا انْتَهَيْنَا إلَى مَوْضِعِ الْكَلَامِ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ .

فَصْلٌ مِنْ هَذَا ( الْبَابِ )
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَأَمَّا إذَا وَرَدَ خَبَرَانِ فِي أَحَدِهِمَا إيجَابُ شَيْءٍ وَفِي الْآخَرِ حَظْرٌ ، وَهُمَا مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّمْنَا ، فَإِنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَبَرِ الْمُبَاحِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ أَوْ مِنْ خَبَرِ الْمَحْظُورِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ مِنْ خَبَرِ الْمَحْظُورِ الَّذِي يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ عَلَى حَسَبِ مَجِيءِ السَّمْعِ بِهَا ، فَقَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا وُرُودَ الْإِيجَابِ عَلَى الْحَظْرِ وَإِزَالَتَهُ لِحُكْمِهِ .
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْحَظْرِ وَارِدًا عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُهُ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ ، فَالْحُكْمُ فِي مِثْلِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابَ لِلْعِلَّةِ الَّتِي وَصَفْنَا .
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي الْأَصْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ مِنْ خَبَرِ الْمُبَاحِ ، فَلَيْسَ وُرُودُ الْحَظْرِ بِأَنْ يَكُونَ طَارِئًا عَلَى إبَاحَةِ الْأَصْلِ ، بِأَوْلَى مِنْ وُرُودِ خَبَرِ الْإِيجَابِ عَلَيْهَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَنَا تَارِيخٌ ، فَلَيْسَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ بِأَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْآخَرِ ، فَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ طَلَبُ الدَّلِيلِ ( عَلَى الثَّابِتِ ) مِنْ حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأُصُولِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُصُولِ مَا يَشْهَدُ لِثُبُوتِ حُكْمِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْوَاجِبَ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَتَعَارَضَا ، وَأَنْ يَسْقُطَا وَيَصِيرَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْوَاجِبَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْفِعْلِ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَنَا الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ طَاعَةٌ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَنَا .
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَيْضًا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ، لِأَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ قَدْ أَخْرَجَاهُ مِنْ حَيِّزِ الْإِبَاحَةِ وَأَلْحَقَاهُ بِحُكْمِ الْحَظْرِ أَوْ الْإِيجَابِ ، وَالِاحْتِيَاطِ فِي مِثْلِهِ الْكَفُّ عَنْ الْإِقْدَامِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ فَيَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ، وَلَا يَعْلَمُهُ وَاجِبًا وَلَا مَنْدُوبًا إلَيْهِ فَيَفْعَلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَالِاحْتِيَاطُ بِهِ إذَنْ لَمْ يَثْبُتْ إيجَابُهُ ، وَعَلَى أَنَّا بِحَمْدِ اللهِ لَمْ نَجِدْ خَبَرَيْنِ أَحَدَهُمَا يَحْظُرُ وَالْآخَرَ يُوجِبُ ، إلَّا وَالدَّلَائِلُ قَائِمَةٌ عَلَى ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، إمَّا مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ بِتَارِيخِهِمَا ، أَوْ قِيَامِ دَلَائِلَ مِنْ الْأُصُولِ عَلَى الثَّابِتِ مِنْهُمَا .
وَإِنَّمَا تَكَلَّمْنَا عَلَى حَالِ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِهِمَا وَتَسَاوِيهِمَا فِي مُوجِبِ لَفْظِهِمَا ، اسْتَوَيَا فِي الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ حَسَبَ مَا يَقْتَضِيهِ أَقْسَامُ الِاحْتِمَالِ .

وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى النَّاسِخِ ، أَنْ يَرِدَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ مَعَ احْتِمَالِ نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ ، فَيَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي النَّاسِخِ مِنْهُمَا ، بَعْدَ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى نَسْخِ بَعْضِ أَحْكَامِ أَحَدِهِمَا ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي لَمْ يَتَّفِقْ عَلَى نَسْخِ شَيْءٍ مِنْهُ ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَا اتَّفَقَ عَلَى نَسْخِ بَعْضِهِ مَنْسُوخًا بِالْآخِرِ لِدَلَالَةِ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَا فِيهِ قَدْ نُسِخَ بِالْآخَرِ ( وَأَنَّ الْآخَرَ قَدْ ) صَارَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فِي وُجُوبِ نَسْخِ بَعْضِهِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ وَإِذَا سَجَدَ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ ، وَإِذَا نَهَضَ إلَى الْقِيَامِ } .
وَرُوِيَ ( عَنْ ) عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى } وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِ الرَّفْعِ عِنْدَ السُّجُودِ وَعِنْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْهُ ، وَإِذَا نَهَضَ إلَى الْقِيَامِ ، ( فَدَلَّ عَلَى ) أَنَّ خَبَرَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مُتَقَدِّمٌ لِخَبَرِ التَّرْكِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ مَنْسُوخًا بِهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ هُنَا خَبَرٌ يُوجِبُ نَسْخَ الرَّفْعِ عِنْدَ السُّجُودِ وَبَعْدَهُ إلَّا الْخَبَرَ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ تَرْكُ الرَّفْعِ فِي الرُّكُوعِ وَفِي سَائِرِ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ إلَّا عِنْدَ الِافْتِتَاحِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّاسِخُ لِلرَّفْعِ عِنْدَ السُّجُودِ ، صَارَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فِي التَّارِيخِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُنْسَخَ الرَّفْعُ عِنْدَ الرُّكُوعِ ، إذْ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ وَمَا يَقْتَضِيهِ عُمُومُهُ فَرْقٌ بَيْنَ الرَّفْعِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَ ( عِنْدَ ) السُّجُودِ .
وَنَظِيرُهُ أَيْضًا مَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ وَفِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ }
وَرُوِيَ عَنْهُ : { تَرْكُ الْقُنُوتِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ } وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِهِ فِي

الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ( فَدَلَّ عَلَى ) أَنَّ خَبَرَ التَّرْكِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِجَمِيعِهِ إذْ كَانَ قَدْ قَضَى عَلَيْهِ وَأَوْجَبَ نَسْخَ بَعْضِهِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ إنَّ فِعْلَ الْقُنُوتِ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لَمْ يُنْسَخْ بِهَذَا الْخَبَرِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَنَا خَبَرٌ غَيْرُهُ يُوجِبُ نَسْخَهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّهُ هُوَ النَّاسِخُ دُونَ غَيْرِهِ ، كَمَا أَنَّا إذَا ( وَجَدْنَا ) الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةً عَلَى مَعْنًى مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ ، وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حَصَلَ عَنْ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ ، فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا.
وَمِثْلُ مَا رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صِفَةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَنَّهُ : رَكَعَ رُكُوعَيْنِ ثُمَّ سَجَدَ } وَرُوِيَ أَنَّهُ { رَكَعَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ سَجَدَ } وَرُوِيَ أَنَّهُ : { رَكَعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ

سَجَدَ } وَرُوِيَ أَنَّهُ { صَلَّى كَهَيْئَةِ صَلَاتِنَا ، وَأَنَّهُ قَالَ : صَلُّوا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا }
وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْكَعُ فِي رَكْعَةٍ أَكْثَرَ مِنْ رُكُوعَيْنِ فَصَارَ ( مَا زَادَ عَلَى الرُّكُوعَيْنِ مَنْسُوخًا بِخَبَرٍ مَا ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا ) عَنْ الرُّكُوعَيْنِ أَيْضًا نَاسِخًا لَهُمَا كَنَسْخِهِ لِمَا زَادَ عَلَيْهِمَا وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى النَّسْخِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ مُتَّفَقًا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ ، وَالْآخَرُ مُخْتَلَفًا فِي اسْتِعْمَالِهِ ، فَالْوَاجِبُ فِيمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ أَنْ يُقْضَى فِيهِ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ فَيَصِيرُ نَاسِخًا ( لَهُ ) إنْ اقْتَضَى لَفْظُهُ رَفْعَ جَمِيعِهِ وَإِنْ اقْتَضَى رَفْعَ بَعْضِهِ كَانَ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْبَعْضِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } الْآيَةُ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ { قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ } فَلَوْ ثَبَتَ الْخَبَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُخَالِفُ لَكَانَتْ الْآيَةُ نَاسِخَةً لَهُ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى ثَبَاتِ حُكْمِهَا وَاخْتِلَافِهِمْ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْخَبَرِ ، وَنَحْوُ قَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } { وَنَهْيِهِ عَنْ

الْمُزَابَنَةِ } فَهَذَانِ الْخَبَرَانِ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا ، " وَخَبَرُ الْخَرْصِ وَالْعَرَايَا " مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا فَهُمَا مَنْسُوخَانِ بِهِمَا ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْقَوْلِ فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ .

وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى النَّاسِخِ مِنْ الْخَبَرَيْنِ بِالْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ فَنَحْوُ مَا ذَكَرْنَا عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ { أَنَّهُ أَكَلَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ }.
وَرُوِيَ فِيهِ عَنْ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ فَكَانَ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِنْهُ أَشْبَهَ بِالسُّنَّةِ ، لِأَنَّا لَمْ نَرَ الْوُضُوءَ فِي السُّنَّةِ الْقَائِمَةِ إلَّا فِي الْأَنْجَاسِ الْخَارِجَةِ ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فِيهِ .
وَوَجَدْنَا لْمَسَ مَا هُوَ أَنَجَسُ مِنْ الذَّكَرِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْوُضُوءُ فَكَانَ الْأَمْرُ ( فِيهِ ) عِنْدَنَا أَنْ لَا وُضُوءَ فِيهِ .فَاسْتَدَلَّ عِيسَى بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ لِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَمُعَاضَدَةِ الْقِيَامِ لَهُ عَلَى بَيَانِ حُكْمِهِ دُونَ الْآخَرِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ : لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } وَرُوِيَ

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { غَطُّوا رُءُوسَ مَوْتَاكُمْ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا مَاتَ الْمَرْءُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ وَعِلْمٍ يُعْمَلُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } ، فَكَانَ النَّظَرُ مُعَاضِدًا لِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ وَمُنَافِيًا لِخَبَرِ النَّهْيِ عَنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِ الْمُحْرِمِ لِاتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مُحْرِمًا لَا يُوقَفُ بِهِ بِعَرَفَةَ وَلَا بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلَا يُطَافُ بِهِ وَلَا يُفْعَلُ بِهِ سَائِرُ أَفْعَالِ الْمَنَاسِكِ ، فَدَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ إحْرَامِهِ ، وَعَلَى أَنَّ خَبَرَ النَّهْيِ عَنْ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ مَنْسُوخٌ بِالْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا ، وَكَذَلِكَ ( مَا ) رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ } وَرُوِيَ { أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ } فَكَانَ الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيهِ اعْتِبَارَ الْوَقْتِ أَوْلَى ، مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ وَجَدْنَا فِي الْأُصُولِ طَهَارَةً مُقَدَّرَةً بِوَقْتٍ وَهُوَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَلَيْسَ مِنْهَا طَهَارَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ وَنَظِيرُهُ أَيْضًا : مَا رُوِيَ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَضَادَّةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ ، فَقُلْنَا : إنَّ خَبَرَنَا أَوْلَى لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لَيْسَ فِيهَا الْجَمْعُ بَيْنَ رُكُوعَيْنِ مِنْ غَيْرِ سُجُودٍ بَيْنَهُمَا ، فَكَانَتْ الْأُصُولُ شَاهِدَةً بِخَبَرِنَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ لِسَائِرِ الْأَخْبَارِ الَّتِي تُخَالِفُهُ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا تَرَكْنَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الدَّلَالَةِ ( فِي مَوَاضِعَ ) عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْأُصُولِ لِحُكْمِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ يُوجِبُ كَوْنَهُ أَوْلَى مِمَّا تُنَافِيهِ الْأُصُولُ ( فِي مَوَاضِعَ ) فَكَرِهْنَا إعَادَتَهُ مَخَافَةَ التَّطْوِيلِ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِ الزِّيَادَةِ إذَا وَرَدَتْ ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ مُنْفَرِدًا عَنْهَا وَلَا يُعْلَمُ تَارِيخُهَا.
مِنْ هَذَا الْبَابِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ إذَا وَرَدَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ مُنْفَرِدًا عَنْهَا كَانَ نَسْخًا ، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ وَرَدَتْ مُتَّصِلَةً بِالنَّصِّ مَعْطُوفَةً عَلَيْهِ - كَاتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ - فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا مُسْتَعْمَلَانِ ، فَيَكُونُ النَّصُّ مُسْتَعْمَلًا بِالزِّيَادَةِ الْوَارِدَةِ مَعَهُ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي مِثْلِهِ إفْرَادُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُ الْجُمْلَةِ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ .
وَنَذْكُرُ الْآنَ حُكْمَ الزِّيَادَةِ إذَا وَرَدَتْ ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ مُنْفَرِدًا عَنْهَا ، وَلَا نَعْلَمُ تَارِيخَهُمَا فَنَقُولُ : إنَّ الزِّيَادَةَ إنْ كَانَتْ وَرَدَتْ مِنْ جِهَةٍ ثَبَتَ النَّصُّ بِمِثْلِهَا فَإِنَّ طَرِيقَهُ الِاسْتِدْلَال بِالْأُصُولِ ، فَإِنْ شَهِدَتْ الْأُصُولُ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ أَوْ النَّظَرِ عَلَى ثُبُوتِهِمَا مَعًا أَثْبَتْنَاهُمَا ، فَإِنْ شَهِدَتْ ( بِالنَّصِّ ) مُنْفَرِدًا عَنْهَا أَثْبَتْنَاهُ دُونَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُصُولِ دَلَالَةً عَلَى إسْقَاطِ حُكْمِ الزِّيَادَةِ وَإِثْبَاتِ النَّصِّ دُونَهَا فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحْكَمَ فِي ذَلِكَ بِوُرُودِهِمَا مَعًا ، وَيَكُونَانِ بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ إذَا وَرَدَا وَلَا نَعْلَمُ تَارِيخَهُمَا ، وَلَا فِي الْأُصُولِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَيَكُونَانِ مُسْتَعْمَلَيْنِ جَمِيعًا .
كَذَلِكَ إذَا وَرَدَتْ الزِّيَادَةُ وَالنَّصُّ وَلَمْ نَعْلَمْ تَارِيخَهُمَا وَلَا مَعَ أَحَدِهِمَا دَلَالَةٌ مِنْ الْأُصُولِ وَلَا اسْتِعْمَالُ النَّاسِ لِلنَّصِّ دُونَ الزِّيَادَةِ ، فَالْحُكْمُ بِوُرُودِهِمَا مَعًا وَاجِبٌ فَيَكُونُ النَّصُّ ثَابِتًا بِزِيَادَتِهِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ وُرُودُ النَّصِّ مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُوجِبِهِ ، نَحْوُ أَنْ يَكُونَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوْ سُنَّةً ثَابِتَةً بِالنَّقْلِ ( الْمُسْتَفِيضِ ) وَكَانَ وُرُودُ الزِّيَادَةِ مِنْ جِهَةِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِالنَّصِّ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً مَوْجُودَةً ( مَعَ النَّصِّ ) لِنَقْلِهَا إلَيْنَا مِنْ نَقْلِ النَّصِّ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إثْبَاتَ النَّصِّ مَعْقُودًا بِالزِّيَادَةِ ، فَيَقْتَصِرُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( عَلَى ) إبْلَاغِ النَّصِّ مُنْفَرِدًا مِنْهَا ، فَوَاجِبٌ

إذَنْ ) أَنْ يَذْكُرَهَا مَعَهُ ، وَلَوْ ذَكَرَهُمَا مَعًا لَنَقَلَ الزِّيَادَةَ مَنْ نَقَلَ النَّصَّ .
فَإِنْ كَانَ النَّصُّ مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ وَالزِّيَادَةُ وَارِدَةً مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقْتَصِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تِلَاوَةِ الْحُكْمِ الْمُنَزَّلِ فِي الْقُرْآنِ دُونَ أَنْ يُعْقِبَهَا بِذِكْرِ الزِّيَادَةِ ، لِأَنَّ حُصُولَ الْفَرَاغِ مِنْ النَّصِّ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ بِنَفْسِهِ يَلْزَمُنَا اعْتِقَادُ مُقْتَضَاهُ مِنْ حُكْمِهِ ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ }
فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ هُوَ الْجَلْدَ وَالنَّفْيَ أَوْ الْجَلْدَ وَالرَّجْمَ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتْلُوَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْآيَةَ عَلَى النَّاسِ عَارِيَّةً مِنْ ذِكْرِ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ عَقِيبَهَا ، لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ مَعَهَا يُلْزِمُنَا اعْتِقَادَ مُوجِبِهَا ، وَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا هُوَ كَمَالُ الْحَدِّ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ إيقَاعِهِ ، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَعَهُ نَفْيٌ أَوْ رَجْمٌ مُسْتَحَقٌّ بِالْفِعْلِ لَكَانَ الْجَلْدُ بَعْضَ الْحَدِّ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ ( أَنَّهُ ) بَعْضُ الْحَدِّ وَأَنَّهُ جَمِيعُهُ ، فَإِذَا أَخْلَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ التِّلَاوَةَ مِنْ ذِكْرِ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ عَقِيبَهَا ، فَقَدْ أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَ الْجَلْدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ ( حَدًّا كَامِلًا ) ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بِهِ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { اُغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ جَلْدًا ، كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِمَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ { وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ } .
وَكَذَلِكَ لَمَّا رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَجْلِدْهُ دَلَّ عَلَى ( أَنَّهُ ) نَسَخَ الْجَلْدَ مَعَ الرَّجْمِ .
كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } عَارِيًّا عَنْ ذِكْرِ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ مُوجِبًا لِنَسْخِ النَّفْيِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ ( بْنِ الصَّامِتِ ) { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ }
فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَابِتَةً مَعَ الْأَصْلِ لَذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِيبَ التِّلَاوَةِ ، وَلَوْ ذَكَرَهَا لَنَقَلَتْهَا " الْكَافَّةُ الَّتِي نَقَلَتْ الْأَصْلَ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا ( الْحَدَّ ) الْجَلْدَ

وَالنَّفْيَ جَمِيعًا فَيَنْقُلُوا الْجَلْدَ دُونَ النَّفْيِ .
كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُلُوا بَعْضَ الْحَدِّ دُونَ بَعْضٍ وَقَدْ سَمِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْجَمِيعَ
فَلَمَّا عَدِمْنَا نَقْلَ الْكَافَّةِ لِلزِّيَادَةِ حَسَبِ نَقْلِهَا لِلنَّصِّ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَقِيبَ التِّلَاوَةِ ذِكْرُ الزِّيَادَةِ ، إذْ كَانَ ( السَّامِعُونَ لِلْآيَةِ مُعْتَقِدِينَ نَقْلَ ) الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ الْأَصْلِ وَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِمْ التَّبْعِيضُ وَتَرْكُ النَّقْلِ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بِالنَّصِّ مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِنَقْلِ الْكَافَّةِ إيَّاهَا ، فَلَا تَخْلُو حِينَئِذٍ الزِّيَادَةُ الْوَارِدَةُ مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ إنْ كَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ النَّصِّ أَوْ بَعْدَهُ .
فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَهُ فَقَدْ نَسَخَهَا النَّصُّ الْمُطْلَقُ عَارِيًّا مِنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهُ فَهَذَا يُوجِبُ نَسْخَ الْآيَةِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ الْآيَةِ بِخَبَرٍ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } وَالْقِيَاسُ الَّذِي ( شَرْطٌ فِي الرَّقَبَةِ الْإِيمَانِ ) يُوجِبُ نَسْخَ مَا فِي الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْتَقَ رَقَبَةً ، وَكَذَلِكَ قَالَ لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنْ الْإِفْطَارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً ، وَلَمْ يَشْرِطْ فِيهَا الْإِيمَانَ مَعَ عِلْمِهِ بِجَهْلِ السَّائِلِ بِالْحُكْمِ فَلَا يَجُوزُ زِيَادَةُ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِيهَا إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ ، وَهَذَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ الْقِيَاسِ وَإِلْحَاقَ شَرْطِ الْإِيمَانِ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَسْخَ الْآيَةِ لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْقِيَاسَ لَوْ أَوْجَبَ شَرْطَ الْإِيمَانِ فِيهَا لَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ لِئَلَّا يَعْتَقِدَ السَّائِلُ غَيْرَهُ ، وَلِئَلَّا يَقْدَمَ فِي الْحَالِ عَلَى تَنْفِيذِهَا فِي رَقَبَةٍ كَافِرَةٍ ، إذْ قَدْ أَمَرَهُ بِعِتْقِهَا فِي الْحَالِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { اُغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } عَقَلْنَا مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا غَيْرُ الرَّجْمِ إذْ كَانَ مَأْمُورًا فِي الْحَالِ بِتَنْفِيذِ هَذَا

الْحُكْمِ وَإِمْضَائِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدُّ لَا غَيْرُ .
كَذَلِكَ أَمْرُهُ السَّائِلَ بِرَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ فِي الْحَالِ أَيِّ رَقَبَةِ كَانَتْ ، يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هِيَ الْوَاجِبَةَ كَافِرَةً كَانَتْ أَوْ مُسْلِمَةً .
وَأَمَّا إذَا كَانَ ثُبُوتُ النَّصِّ مِنْ جِهَةِ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ نَسْخُهُ بِهِ عَلَى الِاعْتِبَارِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ تَارِيخَهُمَا ، وَلَمْ يُرِدْ مَعَ النَّصِّ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ ( مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ، وَإِذَا كَانَتْ وَارِدَةً مَعَ النَّصِّ
فِي خِطَابِ وَاحِدٍ ) فَلَيْسَتْ هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ الْجُمْلَةُ كُلُّهَا هِيَ النَّصُّ فَجَمِيعُهَا ثَابِتُ الْحُكْمِ .
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ النَّسْخِ بِهِ ، وَهَذَا مَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ .
وَحُكِيَ لِي عَنْ بَعْضِ مِنْ ( كَانَ بِبَغْدَادَ مِنْ ) أَذْنَابِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ نَسْخَ الْقُرْآنِ قِيَاسًا عَلَى نَصٍّ فِي الْقُرْآنِ .
وَكَذَلِكَ نَسْخُ السُّنَّةِ قِيَاسًا عَلَى سُنَّةٍ أُخْرَى .
وَاَلَّذِي يَحْكِي عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ خَامِلٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَخِلَافُهُ فِي ذَلِكَ كَخِلَافِ رَجُلٍ مِنْ الْعَامَّةِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لَوْ خَالَفَ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ ، فَكَيْفَ بِهِ إذَا خَالَفَ عَلَى السَّلَفِ وَالْخَلَفِ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلْمَأْثُورِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ .
فَمِنْهُ مَا رُوِيَ بِالنَّقْلِ الشَّائِعِ الَّذِي تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ بِمَ تَقْضِي قَالَ : بِكِتَابِ اللهِ ، قَالَ : فَإِنْ جَاءَك شَيْءٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ ، قَالَ : أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللهِ قَالَ : فَإِنْ جَاءَك شَيْءٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا فِيمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللهِ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي ، قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَهُ لِمَا يُحِبُّهُ رَسُولُ اللهِ } .

فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جَوَازَ الِاجْتِهَادِ مَقْصُورٌ عَلَى عَدَمِ النَّصِّ الْمُتَوَارَثِ عَنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ إذَا اُبْتُلُوا بِحَادِثَةٍ طَلَبَ حُكْمَهَا مِنْ النَّصِّ ، ثُمَّ إذَا عَدِمُوا النَّصَّ فَزِعُوا إلَى الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ ، وَلَا يُسَوِّغُونَ لِأَحَدٍ الِاجْتِهَادَ وَاسْتِعْمَالَ الْقِيَاسِ مَعَ النَّصِّ .
أَلَا تَرَى إلَى مَارُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ { مَنْ أَتَاهُ مِنْكُمْ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ } .
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا نَزَلَ بِهِ نَازِلَةٌ مِنْ أَمْرِ الْأَحْكَامِ سَأَلَ الصَّحَابَةَ : هَلْ فِيكُمْ مَنْ يَحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا شَيْئًا فَإِذَا رُوِيَ لَهُ فِيهَا ( أَثَرٌ ) قَبِلَهُ وَلَمْ يَفْتَقِرْ مَعَهُ إلَى مُشَاوَرَةٍ وَلَا اجْتِهَادٍ ، فَإِذَا عَدِمَ حُكْمَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَزِعَ إلَى مُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ وَإِلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيهَا " .
وَكَذَلِكَ كَانَ أَمْرُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَفْزَعُونَ إلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ ، وَلَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ مُقَابَلَةُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ وَلَا مُعَارَضَتُهُ بِالِاجْتِهَادِ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا أَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ يُوجِبَانِ

الْعِلْمَ بِمَا تَضَمَّنَاهُ ، وَالْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ لَا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِمُوجِبِهِ وَإِنَّمَا هُوَ غَالِبُ ظَنٍّ فَغَيْرُ جَائِزٍ رَفْعُ مَا أَوْجَبَ الْعِلْمُ بِمَا لَا يُوجِبُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْقَوْلِ فِي تَخْصِيصِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : يَلْزَمُك عَلَى هَذَا أَلَّا تُزِيلَ الْإِبَاحَةَ الثَّابِتَةَ فِي الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الشَّرْعِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ ، لِأَنَّ ثُبُوتَهَا مِنْ طَرِيقِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ .
قِيلَ ( لَهُ ) : هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْعَقْلَ وَإِنْ دَلَّ عَلَى إبَاحَةِ أَشْيَاءَ فِي الْجُمْلَةِ ، فَإِنَّا مَتَى قَصَدْنَا إلَى اسْتِبَاحَةِ شَيْءٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ ، فَإِنَّمَا نَسْتَبِيحُهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ غَلَبَ ( فِي ) ظَنِّنَا أَنَّ عَلَيْنَا فِي تَنَاوُلِهِ ضَرَرًا أَكْثَرَ مِمَّا نَرْجُو مِنْ نَفْعِهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا تَنَاوُلُهُ ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاسْتِبَاحَةِ طَرِيقُهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ لَا حَقِيقُهُ الْعِلْمِ ، لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَمَّا كَانَتْ مَعْقُودَةً بِأَلَّا يَلْحَقَنَا ضَرَرٌ أَكْثَرُ مِمَّا نَرْجُو مِنْ نَفْعِهِ ، وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْقُوفًا عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ ، بَطَلَ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ اسْتِبَاحَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ
وَهَذَا نَظِيرُ مَا نَقُولُ : إنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ قَبُولُ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ فِي الدُّيُونِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } ثُمَّ إذَا أَرَدْنَا قَبُولَ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا كَانَ طَرِيقُ قَبُولِهَا الِاجْتِهَادَ وَغَلَبَةَ الظَّنِّ ، لَا مِنْ جِهَةٍ تُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِصِحَّةِ مَقَالَتِهِمَا فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّسْخَ لَمَّا كَانَ بَيَانًا لِمِقْدَارِ مُدَّةِ الْحُكْمِ وَكَانَ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْمَقَادِيرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ ، كَتَوْقِيتِ مِقْدَارِ فَرْضِ الصَّوْمِ وَرَكَعَاتِ الظُّهْرِ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ مُدَّةِ الْفَرْضِ .

الْبَابُ الْحَادِيْ وَالْأَرْبَعُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِيمَا يُنْسَخُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَمَا لَا يُنْسَخُ
وَفِيْهِ فَصْلٌ: الدَّلِيْلُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ ( فِيمَا يُنْسَخُ ) بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَمَا لَا يُنْسَخُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
قَدْ ثَبَتَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَكَذَلِكَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِسُنَّةٍ مِثْلِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَجَائِزٌ عِنْدَنَا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ ، وَ ( نَسْخُ ) الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ .

وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ وَلَا نَسْخُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَيَجُوزُ نَسْخُ مَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِمِثْلِهِ وَبِمَا هُوَ آكَدُ مِنْهُ .
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ فَجَائِزٌ نَسْخُهُ بِمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ .
( فَلَا ) يَجُوزُ نَسْخُهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ فَجَائِزٌ نَسْخُهُ بِمِثْلِهِ وَبِمَا هُوَ آكَدُ مِنْهُ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ .
فَصْلٌ
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } فَإِذَا كَانَ النَّسْخُ بَيَانًا لِمُدَّةِ الْحُكْمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا اقْتَضَى عُمُومُ الْكِتَابِ جَوَازَ نَسْخِ السُّنَّةِ ( بِهِ ) ، وَأَيْضًا : لَمَّا جَازَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِوَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ نَسْخُهَا أَيْضًا بِوَحْيٍ هُوَ قُرْآنٌ ، لِأَنَّهُمَا وَحْيٌ مِنْ اللهِ تَعَالَى .
وَأَيْضًا : لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ فِي جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ ، لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ قَدْ تَظَاهَرَتْ عَنْهُمْ فِي أَشْيَاءَ مِنْ السُّنَنِ ذَكَرُوا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْقُرْآنِ .
مِنْهَا ( مَا ) رُوِيَ فِي شَأْنِ الْقِبْلَةِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَلَّى بِضْعَةَ عَشَرَ

شَهْرًا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ، وَنَسَخَ بِهِ التَّوَجُّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ } .
وَرَوَى أَبُو رَافِعٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ، فَقَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْتَ بِقَتْلِهَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ ( مُكَلِّبِينَ ) } } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَأَخْبَرَ أَنَّ نَسْخَ قَتْلِ الْكِلَابِ كَانَ بِالْآيَةِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } ثُمَّ أَنْزَلَ ( قَوْلَهُ ) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ بَعْدَ النَّوْمِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } فَنَسَخَ ( بِهِ ) الْحَظْرَ الْمُتَقَدِّمَ .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ إلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مِنْ نِسَائِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا ، فَنُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } } الْآيَةُ .
رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ { أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ } مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ }
وَقَالَ قَتَادَةُ : كَانَ رَدُّهُ إيَّاهَا إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ سُورَةُ

بَرَاءَةٌ " فَرَأَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ بِسُورَةِ " بَرَاءَةٌ " يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - قَوْله تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنِسَاؤُهُ عِنْدَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ بَعْدَ أَنْ كُنَّ غَيْرَ مُحَجَّبَاتٍ } .
وَمِنْهَا تَبَنِّي النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ، وَتَبَنِّي أَبِي حُذَيْفَةَ سَالِمًا نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالكُمْ } وقَوْله تَعَالَى : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ } .
{ وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِفَسْخِ الْحَجِّ ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }.
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ، وَقَدْ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ عَلَى هَذَا ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَقِفُ مِنْ تَأْوِيلِ مُجْمَلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا لَا يُشْرِكُهُ فِي الْوُقُوفِ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ ، فَلَيْسَتْ لَهُ سُنَّةٌ لَا كِتَابَ فِيهَا إلَّا وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَهَا فِي الْكِتَابِ جُمْلَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا ، فَخَصَّ ( اللَّهُ تَعَالَى ) رَسُولَهُ بِعِلْمِ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ آيَةً نَسَخَتْ سُنَّةً ، لِأَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ قَدْ تَكُونُ مَأْخُوذَةً مِنْ جُمْلَةِ ( هَذَا ) الْكِتَابِ وَإِنْ خَفِيَ ( عَلَيْنَا ) عِلْمُ ذَلِكَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا الْكَلَامُ بَيِّنُ الِانْحِلَالِ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوَازَ مَا ذَكَرَهُ

يَمْنَعُ وُجُودَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَنَسْخِ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ آيَتَيْنِ ظَاهِرُهُمَا النَّسْخُ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَسْخُ إحْدَاهُمَا إنَّمَا كَانَ بِسُنَّةِ الرَّسُولِ وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا إلَّا بِقُرْآنٍ .
وَ ( أَنَّ ) الْقُرْآنَ إنَّمَا نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُكْمٍ قَدْ سَنَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسَخَ بِهِ الْقُرْآنَ ، وَكُلُّ سُنَّتَيْنِ كَانَ ظَاهِرُهُمَا النَّسْخَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَسْخُ الْمَنْسُوخِ مِنْهُمَا إنَّمَا كَانَ بِحُكْمٍ أَوْجَبَهُ جُمْلَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وقَوْله تَعَالَى : { فَاتَّبَعُوهُ } وقَوْله تَعَالَى : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } ، وَعَلَى
أَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَلَّا يَكُونَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُنَّةٌ رَأْسًا وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سَنَّهُ ( فَإِنَّمَا هُوَ ) بَيَانٌ لِجُمْلَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ ، وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَفْسِيرَهَا دُونَنَا لِمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ الَّتِي لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ .
وَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ مِنْ اتِّفَاقِ الْأُمَّةِ ، لِأَنَّهَا قَدْ عَقَلَتْ أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ أَحْكَامًا مَأْخُوذَةً مِنْ الْكِتَابِ ، وَأَحْكَامًا لَيْسَتْ مِنْ الْكِتَابِ مَأْخُوذَةً مِنْ السُّنَّةِ .
فَإِنْ قَالَ ( قَائِلٌ ) : إنَّ ( هَذَا الْقَوْلَ ) الَّذِي عَارَضْت بِهِ مَا حَكَيْت يَرُدُّهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } فَقَدْ أَفْصَحَ الْكِتَابُ بِأَنَّ بَعْضَهُ يَنْسَخُ بَعْضًا .
قِيلَ لَهُ : نَقُولُ لَك إنَّمَا أَفْصَحَ الْكِتَابُ بِوُجُودِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ نَسْخَهُ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ بِسُنَّةٍ نُوحِي بِهَا إلَيْك نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا .

وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } بِأَنْ نَنْسَخَهَا بِوَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ ثُمَّ نَنْزِلُ أُخْرَى مَكَانَهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَاسِخَةً لَهَا ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَائِلُ بِمَا وَصَفْنَا الِانْفِصَالَ مِمَّنْ نَفَى نَسْخَ الْكِتَابِ إلَّا بِالسُّنَّةِ وَنَسْخَ السُّنَّةِ إلَّا بِالْكِتَابِ ، فَإِنْ قَالَ : قَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَنَسْخَ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ .
قِيلَ لَهُ : الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ هُمْ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ .
فَإِنْ قَالَ ( قَائِلٌ ) : الشَّافِعِيُّ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ .
قِيلَ لَهُ : مَنْ تَقَدَّمَ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَجَازُوا ذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّافِعِيُّ
خِلَافًا عَلَيْهِمْ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْكِيَ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ .
وَقَدْ حَكَيْنَا نَحْنُ عَنْ خَلْقٍ مِنْ السَّلَفِ جَوَازَهُ فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ خِلَافًا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَائِلُ الَّذِي حَكَيْنَا قَوْلَهُ وَعَارَضْنَا بِهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا عَلَيْنَا وَعَلَى الشَّافِعِيِّ جَمِيعًا .
ثُمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ : ( لَمْ نَرَ ) مَنْ خَالَفَ ( فِي ) هَذَا أَوْرَدَ آيَةً نُسِخَتْ عِنْدَهُ لِسُنَّةٍ ، وَقَدْ وَجَدْنَا لَهَا جُمْلَةً فِي الْكِتَابِ نَحْوُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاسْتِحْلَالِ الْخَمْرِ وَتَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ .
فَقَدْ يَكُونُ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَأْخُوذًا مِنْ جُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ شُرْبَهَا لَا يَحِلُّ وَفِيهِ إثْمٌ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ...
} الْآيَةُ .
وَتَحْرِيمُ مَا يَحِلُّ لِلْمُفْطِرِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ قَدْ يَكُونُ مَأْخُوذًا مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أَيْ عَلَى ( تِلْكَ ) الْهَيْئَةِ .
وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا عَلَى ذَلِكَ .

قَالَ : وَإِنْ وَرَدَ مَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ الْكِتَابِ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ فَيُقَالُ ( لَهُ ) : بِمَ تَنْفَصِلُ مِمَّنْ قَالَ لَك إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُؤَدِّي ( إلَى ) أَلَّا يَكُونَ فِي شَرِيعَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هُدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } فِيهِ الْأَمْرُ ( بِالِاقْتِدَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ ) الْمُتَقَدِّمِينَ فِي شَرَائِعِهِمْ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَأَنَّ مَعْنَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا بَقَاءُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ فِيهِمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ مِنْ الزَّمَانِ ثُمَّ نُقِلُوا إلَى الْحُكْمِ الثَّانِي ، فَلَا شَيْءَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إيجَابٍ أَوْ إبَاحَةٍ إلَّا وَقَدْ كَانَ مِثْلُهُ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ثَبَتَ فِي شَرِيعَتِنَا .
وَإِنَّمَا صَارَ فِي شَرِيعَتِنَا ( بِقَوْلِهِ تَعَالَى ) { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } .
فَإِنْ قَالَ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا كَوْنَ أَشْيَاءَ مُبَاحَةً فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا حُظِرَتْ فِي شَرِيعَتِنَا كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا ، وَكَوْنَ أَشْيَاءَ مَحْظُورَةٍ فِي شَرِيعَتِهِمْ أَبَاحَتْهَا شَرِيعَتُنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } قِيلَ لَهُ : نَقُولُ لِهَذَا الْقَائِلِ لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا حُظِرَ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ وَأُبِيحَ بَعْدَ الْحَظْرِ إلَّا وَقَدْ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ كَانَ ( مِنْ ) قَبْلِنَا كَذَلِكَ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ فَتَعَبَّدَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الْحُكْمِ فِي ( مِثْلِ ) الْمُدَّةِ الَّتِي فِيهَا الْحَظْرُ أَوْ الْإِبَاحَةُ .
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا أَنَّ سُنَنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ كَانَ يَجُوزُ نَسْخُهَا بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِمْ مِنْ اللهِ تَعَالَى إذْ لَيْسَ ( مَعَنَا ) نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } فَيَنْتَظِمُ جَوَازُ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ كَمَا كَانَ فِي شَرِيعَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَظْرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ ( بَعْدَ النَّوْمِ ) ، وَنَسْخُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ إثْبَاتَهُ عَلَيْنَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُنَا أَلَّا نَجْعَلَ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } ، وَأَنَّهُ إنَّمَا زَالَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ بَقِيَ فِيهَا ، لِأَنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ مِنْ شَرِيعَتِنَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ }
ثُمَّ قَالَ : حُظِرَ ( عَلَيْهِمْ ) الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْمُبَاشَرَةُ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ بَعْدَ النَّوْمِ مِقْدَارَ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ إبَاحَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ بِاللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ وَقَبْلَهُ ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَسْخُ شَيْءٍ وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ فِيهِ إيجَابُ حُكْمٍ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ ، وَلَا يُمْكِنُهُ مَعَ ذَلِكَ الِانْفِصَالُ مِمَّنْ يَنْفِي مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ وُجُودَ نَاسِخٍ ، وَمَنْسُوخٍ فِي الْقُرْآنِ ، لِأَنَّ مَنْ يَنْفِي مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا نَسْلُكُ فِيهِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَيَجْرِي ( فِيهِ ) عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ فِي نَفْيِ النَّسْخِ .
وَهَذَا قَوْلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَعَلَى أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْنَا الصِّيَامُ ، وَالصِّيَامُ لَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ وَإِنْ حُظِرَ الْأَكْلُ فِيهِ بَعْدَ النَّوْمِ فَكَيْفَ يَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ وَقَدْ بَيَّنَ ( ذَلِكَ ) فِي سِيَاقِ الْآيَةِ

فِي قَوْله تَعَالَى : { أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْنَا ( كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا إنَّمَا هُوَ أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ ) فَلَمْ يَتَنَاوَلْ اللَّيْلَ قَطُّ فَسَقَطَ قَوْلُهُ إنَّ مَا نُسِخَ مِنْ ذَلِكَ قَدْ كَانَ مُوجِبًا بِالْآيَةِ قَبْلَ نَسْخِهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } وَأَنَّهُ قَدْ قَرَنَهَا بِالْإِثْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } وَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ اقْتَضَى تَحْرِيمَهَا لِأَنَّ الْإِثْمَ كُلَّهُ مُحَرَّمٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ } ، وَ ( ذِكْرُ الْمَنَافِعِ ) الَّتِي فِيهَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ سَائِرَ الْمَحْظُورَاتِ قَدْ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مَعَ بَقَاءِ الْحَظْرِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا مَعَ عِلْمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِشُرْبِهِمْ إيَّاهَا وَإِقْرَارِهِ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ يَشْرَبُهُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحَظْرِ وَظَنَّ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُوجِبْ تَحْرِيمَهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بَعْدَ إبَاحَتِهَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت ، لِأَنَّ إبَاحَتَهَا قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَتْ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَكَوْنَ الْأَشْيَاءِ مُبَاحَةً فِي الْأَصْلِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُطْلَقُ فِيهِ اسْمُ النَّسْخِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُرُودُ الْكِتَابِ بِحَظْرِهَا ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ بَيْنَك وَبَيْنَهُمْ : إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِالسُّنَّةِ هَلْ يَجُوزُ نُزُولُ الْقُرْآنِ بِزَوَالِهِ وَنَسْخِهِ أَمْ لَا .
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مَعَ عِلْمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ فَصَارَ إقْرَارُهُ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ ( إبَاحَةً مِنْهُ بِشُرْبِهَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ : قَدْ أَبَحْت لَكُمْ شُرْبَهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ لَفْظِهِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ وَبَيْنَ إقْرَارِهِ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ ) ، وَقَدْ وَرَدَتْ الْآيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَسْخِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فَثَبَتَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ .

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ ( أَنَّ ) دَلَالَتَنَا عَلَى مَا اسْتَدْلَلْنَا ( بِهِ ) عَلَيْهِ قَائِمَةٌ ، لِأَنَّ هَذَا كَلَامٌ فِي الِاسْمِ لَا فِي الْمَعْنَى ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يُزِيلَ اللَّهُ حُكْمًا أَقَامَ عَلَيْهِ الدَّلَالَةَ فِي الْأَصْلِ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ بِالْقُرْآنِ ، جَازَ أَنْ يُزِيلَ بِهِ مَا حُكِمَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ عِنْدِهِ فَجِهَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ صَحِيحَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا قَوْلُ هَذَا الرَّجُلِ وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ وَرَدَ مَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ الْكِتَابِ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ .
فَإِنَّهُ يُقَالُ ( لَهُ ) : هَلْ يَجُوزُ عِنْدَك أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى مُرَادٌ فِي حُكْمٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ لَفْظٌ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ فَيَخْفَى عَامُّهُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ ؟ .
فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَدْ خَفِيَ عِلْمُهَا عَنْ الْأُمَّةِ فَأَخْطَئُوهَا ، وَحَكَمُوا بِغَيْرِهَا وَهَذَا يُوجِبُ جَوَازَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مَأْمُونٌ مِنْهُمْ .
وَإِنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ، قِيلَ لَهُ : فَلِمَ أَجَزْت أَنْ تَرِدَ آيَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمٍ مَذْكُورٍ فِيهَا ثُمَّ يُنْسَخُ ذَلِكَ الْحُكْمُ ، فَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ مِنْ الْكِتَابِ ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ قَدْ ذَهَبَ عَنْ الْأُمَّةِ لِأَنَّ مُخَالِفِيك يَقُولُونَ:لَيْسَ فِي الْكِتَابِ حُكْمٌ قَدْ خَفِيَ عَلَيْنَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَلَفْنَا فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْكِتَابُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَرَدَ فِي نَسْخِ السُّنَّةِ وَتَزْعُمُ أَنْتَ أَنَّك لَا تَقِفُ عَلَيْهِ وَلَا تَعْلَمُهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حُكْمٌ قَدْ خَفِيَ عَلَيْك فَقَدْ أَدَّاك هَذَا إلَى خَفَاءِ الْحُكْمِ عَنْ الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا .
وَلَوْ جَازَ هَذَا لَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَحْكَامًا كَثِيرَةً نَحْنُ مُتَعَبِّدُونَ بِهَا لَمْ تَقِفْ الْأُمَّةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا ، وَهَذَا قَوْلٌ ظَاهِرُ السُّقُوطِ .

وَيُقَالُ لَهُ : فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَا سَنَّهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ مِمَّا أَوْجَبَتْهُ جُمْلَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ وَلَمْ نَقِفْ عَلَيْهَا ، وَكَذَلِكَ مَا نَسَخَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ثَبَاتِ حُكْمِهِ مِنْ سُنَّتِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَسَخَهُ بِمَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةٌ فِي الْكِتَابِ لَمْ نَقِفْ عَلَى مَعْنَاهَا وَيَجِبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَلَّا يَكُونَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُنَنٌ بِوَحْيٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ .
وَهَذَا قَوْلٌ سَاقِطٌ مَرْدُودٌ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَحْكَامٌ تَخْفَى عَلَى الْأُمَّةِ ، لَمَا صَحَّ الرَّدُّ إلَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى ، وَلَبَطَلَ الِاسْتِدْلَال وَالنَّظَرُ لِأَنَّا مَتَى أَرَدْنَا رَدَّ الْحَادِثَةِ إلَى الْأَصْلِ ، وَجَوَّزْنَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُصُولِ مَا قَدْ خَفِيَ عَلَيْنَا حُكْمُهُ لَمْ نَأْمَنْ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ هُوَ مِمَّا قَدْ خَفِيَ عَلَيْنَا حُكْمُهُ مِنْ الْكِتَابِ ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ ، وَكَفَى بِقَاعِدَةٍ تُؤَدِّي الْبَانِيَ عَلَيْهَا إلَى هَذِهِ الْجَهَالَاتِ فَسَادًا مِنْ إبْطَالِ نَسْخِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَمِنْ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ النَّسْخُ فِيهِمَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ ، وَإِلَى تَجْوِيزِ ( خَفَاءِ حُكْمٍ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ عَلَى الْأُمَّةِ فَلَا نَعْلَمُهُ وَلَا نَقِفُ عَلَيْهِ ، وَإِلَى تَجْوِيزِ ) أَلَّا يَكُونَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُنَّةٌ ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا سَنَّهُ فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ ، وَإِلَى بُطْلَانِ رَدِّ الْحَادِثَةِ إلَى الْكِتَابِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا مِمَّا لَمْ تَقِفْ عَلَيْهِ الْأُمَّةِ .
وَذَكَرَ هَذَا الرَّجُلُ وَجْهًا ثَالِثًا فِي زَعْمِهِ لِتَخْرِيجِ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ سَنَذْكُرُهُ عِنْدَ حِكَايَتِنَا بِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَعَلَى أَنَّ الْآيَ الَّتِي احْتَجَجْنَا بِهَا إنَّمَا يُطْلَبُ لَهَا تَأْوِيلٌ يُوَافِقُ مَذْهَبَ مَنْ أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ الْمَقَالَةِ فِي الْأَصْلِ ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُعَضِّدْ قَوْلَهُ بِحُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ فَلَمْ يَلْجَأْ فِيهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ عَقْلٍ وَلَا شَرْعٍ ، ثُمَّ اسْتَغَلَّ مَطْلَبَ تَأْوِيلِ

الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِفَسَادِ مَقَالَتِهِ وَحَمَلَهَا عَلَى وُجُوهٍ تُنَاقِضُ الْأُصُولَ وَتُنَافِيهَا كَانَ قَوْلُهُ سَاقِطًا مَطْرُوحًا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَقَالَتِنَا قَوْله تَعَالَى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ مُبَيِّنًا فَلَا يَكُونُ الْكِتَابُ إذَنْ مُبَيِّنًا لِقَوْلِهِ .
وقَوْله تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَنْسَخُ آيَةً مِثْلَهَا ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } .
قِيلَ لَهُ لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ إظْهَارَهُ وَتَرْكَ كِتْمَانِهِ ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مَا افْتَقَرَ مِنْهُ إلَى بَيَانٍ ، وَمَا لَمْ يَفْتَقِرْ ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك } ( أَنْ ) يَكُونَ الْمُرَادُ ( مِنْهُ ) مَا احْتَاجَ مِنْهُ إلَى ( بَيَانِ ) الرَّسُولِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ تَعَالَى ( إلَيْهِ ) النَّسْخَ لِلسُّنَّةِ فَيُبَيِّنُهُ ( لِلنَّاسِ ) بِإِظْهَارِهِ إيَّاهُ ، فَهَذَا لَا يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ .
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْت ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لُزُومِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَانَ مُجْمَلِ الْكِتَابِ ، مَا يَنْفِي نَسْخَ السُّنَّةِ بِحُكْمٍ فِي الْقُرْآنِ غَيْرِ مُفْتَقِرٍ

إلَى بَيَانِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ يَقُولَ : لِتُبَيِّنَ مُجْمَلَ الْكِتَابِ لَمْ يَنْفِ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ( مَا لَا يَحْتَاجُ ) إلَى الْبَيَانِ مِنْهُ نَاسِخًا لِسُنَّتِهِ .
وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ مَا يَحْصُلُ مِنْ بَيَانِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُتَوَلِّي لِتَبْيِينِهِ بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَكُنْ قَوْله تَعَالَى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } مَانِعًا أَنْ يَكُونَ مَا حَصَلَ مِنْ الْبَيَانِ فَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَهُوَ الْمُتَوَلِّي لِذَلِكَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَيْضًا أَنْ يُبَيِّنَ مُدَّةَ السُّنَّةِ فَيَنْسَخُهَا بِالْكِتَابِ كَمَا تَوَلَّى تَبْيِينَهَا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَأَيْضًا : لَيْسَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُبَيِّنُ الْقُرْآنَ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ السُّنَّةَ أَيْضًا ، كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ الْقُرْآنَ ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ نَسْخَهُ بِهِ ، وَكَمَا أَنَّ السُّنَّةَ تُبَيِّنُ السُّنَّةَ وَتَنْسَخُهَا أَيْضًا ، فَلَيْسَ إذَنْ فِي وَصْفِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نُبَيِّنُ الْقُرْآنَ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْسَخَ سُنَّةً بِالْقُرْآنِ .
وَأَيْضًا : فَاَلَّذِي قَالَ : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } هُوَ الَّذِي قَالَ : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } فَهَلَّا أَجَزْت لِعُمُومِهِ تَبْيِينَ مُدَّةِ السُّنَّةِ إذْ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } وَلِتُبَيِّنَ الْكِتَابَ مَا بِسُنَّةٍ إذْ لَيْسَ بَيَانُ مُجْمَلِ الْكِتَابِ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّمَا يُبَيِّنُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ كَذَا ، أَوْ أَنَّ مُرَادَهُ بِمَا قَالَ كَذَا ، فَلَا يُسَمَّى هَذَا سُنَّةً فَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى قَوْله تَعَالَى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } وَإِيجَابُ تَخْصِيصِهِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَلَيْسَ لَهُ

تَعَلُّقٌ بِمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ إذَا نَسَخَ آيَةً أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ لَا تُنْسَخُ بِهَا ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } ( أَنَّهُ ) لَا يَمْنَعُ أَنْ يُبَدِّلَ آيَةً مَكَانَ سُنَّةٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ حِكَايَةَ قَوْلِ الْكُفَّارِ عِنْدَ نَسْخِ آيَةٍ بِآيَةٍ مِثْلِهَا وَلَمْ يَنْفِ نَسْخَ السُّنَّةِ بِآيَةٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ : وَسُنَّةُ رَسُولِ اللهِ لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ وَلَوْ أَحْدَثَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ فِي أَمْرٍ سُنَّ مِنْهُ غَيْرُ مَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسَنَّ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ لَهُ سُنَّةً نَاسِخَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا مِمَّا يُخَالِفُهَا وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي السُّنَّةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَقَدْ ، وَجَدْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَنْسَخُ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فَأَوْجَبْنَا ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيمَا وَصَفْت مِنْ فَرْضِ اللهِ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قُبِلَتْ عَنْ اللهِ ، فَمَنْ قَبِلَهَا فَكِتَابُ اللهِ تَعَالَى يَتْبَعُهَا ، وَلَا نَجِدُ خَبَرًا أَلْزَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَلْقَهُ نَصًّا مُبَيِّنًا إلَّا كِتَابَهُ ثُمَّ سُنَّةَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
فَإِذَا كَانَتْ السُّنَّةُ كَمَا وَصَفْت لَا شِبْهَ لَهَا مِنْ قَوْلِ خَلْقٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْسَخَهَا إلَّا مِثْلُهَا وَلَا مِثْلَ لَهَا غَيْرُ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هَذَا الْفَصْلُ مِنْ كَلَامِهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ضُرُوبٍ مِنْ الِاخْتِلَالِ مِنْهَا قَوْلُهُ : إنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَ بِذَلِكَ نَسْخَ السُّنَّةِ إلَّا بِسُنَّةٍ مِثْلِهَا ، ثُمَّ نَقَضَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ كَلَامِهِ ، وَلَوْ أَحْدَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ فِي أَمْرٍ سُنَّ فِيهِ غَيْرُ مَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ ، لَيْسَ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ لَهُ سُنَّةً نَاسِخَةً ، فَأَجَازَ بِذَلِكَ أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ سُنَّةَ نَبِيِّهِ بِالْقُرْآنِ ، وَهَذَا يَنْقُضُ قَوْلَهُ بَدْءًا أَنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةٌ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَمْ يَقُلْ إنْ أَحْدَثَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقُرْآنٍ يُنَزِّلُهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَنْسَخُهُ بِوَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ .
قِيلَ لَهُ : فَإِذَنْ يَكُونُ مَا أَحْدَثَ سُنَّةً لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِأَنَّ مَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ غَيْرُ قُرْآنٍ مِنْ الْأَحْكَامِ هِيَ مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ : لَسُنَّ فِيمَا أَحْدَثَ ( اللَّهُ ) إلَيْهِ ، ، وَاَلَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ سُنَّةً لَا يَفْتَقِرُ فِي وُقُوعِ النَّسْخِ بِهَا إلَى سُنَّةٍ أُخْرَى .
وَعَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَبْطَلَ تَأْوِيلَ هَذَا الْقَائِلِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْفَصْلِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَهَلْ تُنْسَخُ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ .
قِيلَ لَهُ : لَوْ نُسِخَتْ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ سُنَّةٌ تَبَيَّنَ أَنَّ سُنَّتَهُ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ ، حَتَّى تَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ ، فَإِنَّ الشَّيْءَ يُنْسَخُ بِمِثْلِهِ ، فَأَجَازَ نَسْخَهَا بِالْقُرْآنِ إذَا سَنَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ سُنَّتَهُ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ .
وَقَوْلُهُ : لَسَنَّ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ لَهُ سُنَّةً نَاسِخَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ مُسْتَحِيلٌ ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ نَسَخَهُ بِمَا أَحْدَثَهُ مِنْ خِلَافِ سُنَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَقَوْلُهُ أَيْضًا : لَسَنَّ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ لَهُ ( سُنَّةً ) نَاسِخَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا .
فَمَا قَدْ نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَهُ ( النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) بَعْدَهُ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُ الْمَنْسُوخِ ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ مَا قَدْ نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفَ يَجُوزُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّ سُنَّتَهُ نَسَخَتْهُ فَيَكُونُ فِيهِ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ ، حَاشَا لَهُ

مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةٌ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ اللهِ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَهَذَا لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا الْقُرْآنُ ، إذْ لَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ ( النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَنْفِي جَوَازَ نَسْخِهَا بِالْقُرْآنِ كَمَا لَا يَنْفِي جَوَازَ نَسْخِهَا بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَيْسَ بِقُرْآنٍ ، فَإِذَنْ لَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ ) النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعَلُّقٌ بِنَسْخِ السُّنَّةِ بِقُرْآنٍ وَلَا غَيْرِهِ ، لِأَنَّا إنَّمَا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( الَّتِي ) لَمْ تُنْسَخْ ( فَأَمَّا ) إذَا نَسَخَهَا الْقُرْآنُ أَوْ سُنَّةٌ لَهُ أُخْرَى فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ حِينَئِذٍ بِاعْتِقَادِ نَسْخِهَا وَزَوَالِ حُكْمِهَا ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِ كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } ، وَلَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ نَسْخِهِ بِالْقُرْآنِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ السُّنَّةَ لَا شِبْهَ لَهَا مِنْ قَوْلِ خَلْقٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ فَلَيْسَ يَخْلُو مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ .
إمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ نَظْمَهَا مُعْجِزٌ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْخَلْقِ .
أَوْأَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْحُكْمَ .
فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ اللَّفْظَ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقُولُ إنَّ كَلَامَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُعْجِزٌ بِالنَّظْمِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْصَحَ الْخَلْقِ ، وَلَوْ كَانَ كَلَامُهُ مُعْجِزًا لَكَانَ مُسَاوِيًا لِلْقُرْآنِ فِي إعْجَازِ النَّظْمِ وَهَذَا خَلَفٌ مِنْ الْقَوْلِ ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِإِعْجَازِ النَّظْمِ دُونَ سَائِرِ الْكَلَامِ .
وَلَوْ كَانَ كَلَامُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُعْجِزًا لَتَحَدَّى بِهِ الْعَرَبَ كَمَا تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ وَلَاسْتَغْنَى النَّاسُ ( بِهِ ) عَنْ طَلَبِ الشَّبَهِ لِمُبَايِنَتِهِ لِكَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ الْبَشَرِ فِي إعْجَازِ

نَظْمِهِ كَمَا بَانَ الْقُرْآنُ مِنْ سَائِرِ الْكَلَامِ بِالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ وَالتَّأْلِيفِ الْبَدِيعِ الَّذِي لَيْسَ فِي وُسْعِ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ .
وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْحُكْمَ الثَّابِتَ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقُولُ : إنَّ لِغَيْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ الْخَلْقِ أَنْ يَشْرَعَ الشَّرَائِعَ ( وَيَبْتَدِعَ ) الْأَحْكَامَ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِهِ هَاهُنَا إذْ لَيْسَ هُوَ مَوْضِعَ الْخِلَافِ ، لِأَنَّ كَلَامَنَا إنَّمَا هُوَ فِي نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي لَا شِبْهَ لَهُ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ لَا فِي نَسْخِهَا بِمَا لَهُ شَبَهُ ( كَلَامٍ ) مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ السُّنَّةَ لَا شِبْهَ لَهَا مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ مَعْنَى كَلَامِهِ ، لِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَنْسَخُهَا لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا شِبْهَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ ، وَيَنْسَخُهُ الْقُرْآنُ ( فَكَذَلِكَ السُّنَّةُ لَا يَكُونُ لَهَا شِبْهٌ مِنْ قَوْلِ الْخَلْقِ ، وَيَنْسَخُهَا الْقُرْآنُ ) الَّذِي لَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْمَخْلُوقِينَ فَلَمْ يَحْصُلْ ( لَهُ ) مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَجْهُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَنْعِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ :وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُسِخَتْ سُنَّتُهُ بِالْقُرْآنِ ، وَلَا يُؤْثَرُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ السُّنَّةُ النَّاسِخَةُ ، جَازَ أَنْ يُقَالَ فِيمَا حَرَّمَ ( رَسُولُ ) اللهِ تَعَالَى مِنْ الْبُيُوعِ كُلِّهَا قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَرَّمَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَفِيمَنْ يُرْجَمُ مِنْ الزِّنَا قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجْمُ ( قَبْلَ نُزُولِ ) قَوْله

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10