كتاب : أصول الفقه المسمى: الفصول في الأصول
المؤلف : الإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص

الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } وقَوْله تَعَالَى : { تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَأَوْجَبَ اتِّبَاعَ الْوَاحِدِ إذَا أَنَابَ إلَى اللهِ تَعَالَى .
قِيلَ لَهُ : لَا يُعْلَمُ فِي الْوَاحِدِ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ ، وَإِنَّمَا حَكَمَ لَهُ بِهَا مِنْ جِهَةِ الظَّاهِر ، فَلَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ مَنْ أَنَابَ إلَيْهِ حَقِيقَةً ، وَأَمَّا جُمْلَةُ الْأُمَّةِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَنْ أَنَابَ إلَى اللهِ .
فَإِذَا أَجْمَعَتْ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ الْمُنِيبِينَ الَّذِينَ فِيهَا قَدْ قَالُوا ذَلِكَ وَاعْتَقَدُوهُ - فَهُوَ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ .
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ : الْأَخْبَارُ الَّتِي قَدْ ثَبَتَ وُرُودُهَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ مِنْ جِهَاتٍ : جِهَاتٍ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى صِدْقٍ بِخَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهَادَتِهِ لِلْأُمَّةِ بِصِحَّةِ إجْمَاعِهَا ، وَلُزُومِ اتِّبَاعِهَا .
مِنْهَا : { خُطْبَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْجَابِيَةِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ .
قَالَ فِيهَا : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقِيَامِي فِيكُمْ ، فَقَالَ : خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ ، حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُسْتَشْهَدَ ، وَيَحْلِفَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُسْتَحْلَفَ ، فَمَنْ سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مَعَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَخْبَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمِينَ عَلَى الْحَقِّ ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ } وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَنَّهُ

قَالَ : { لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ } وَأَنَّهُ قَالَ : { يَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ } وَرَوَى أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي ، ثُمَّ لَمْ يَزِدْ فِيهَا ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ :إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ ، وَالْمُنَاصَحَةُ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ }
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ } وَرَوَى أَبُو إدْرِيسَ عَنْ حُذَيْفَةَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ { فَقُلْت يَا رَسُولَ اللهِ : مَا يَعْصِمُنِي مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامُهُمْ }
فَهَذِهِ أَخْبَارٌ ظَاهِرَةٌ مَشْهُورَةٌ ، قَدْ وَرَدَتْ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا وَهْمًا أَوْ كَذِبًا ، عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ أَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرِ ، وَقَدْ كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ شَائِعَةٌ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ : يَحْتَجُّونَ بِهَا فِي لُزُومِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ ، وَيَدْعُونَ النَّاسَ إلَيْهَا ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إنْكَارُ ذَلِكَ ، وَلَا رَدُّهُ ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ فَهُوَ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجُوبُ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ قَدْ رَوَاهَا جَمَاعَةٌ وَوَرَدَتْ مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَهِيَ مَعَ اخْتِلَافِ طُرُقِهَا

وَكَثْرَةِ رِوَايَتِهَا مُتَوَافِقَةٌ عَلَى لُزُومِ اتِّبَاعِ الْجَمَاعَةِ ، فَهُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقْسَامِ التَّوَاتُرِ إذَا أَخْبَرَتْ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ أَمْرٍ شَاهَدُوهُ ، فَيُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ خَبَرَهُمْ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى صِدْقِ نَحْوِ قَافِلَةِ الْحَجِّ إذَا انْصَرَفَتْ فَأَخْبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَدْ حَجَّ ، أَنَّ خَبَرَهُمْ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى صِدْقٍ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ عَلَى خَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا ( ذَكَرَهُ ) وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ .
وَالْآخَرُ : أَنَّهُمْ قَدْ رَوَوْهُ بِحَضْرَةِ جَمَاعَاتٍ وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ بِحَضْرَتِهِمْ تَوْقِيفٌ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إيَّاهُمْ عَلَى لُزُومِ الْجَمَاعَةِ ، وَلَمْ يُنْكِرُوهُ .
فَدَلَّ ( صِحَّتُهُ عَلَى صِحَّةِ ) مَا بَيَّنَّا مِنْ وَجْهِهِ فِي الْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَمَّا جَازَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ الْخَطَأُ فِي اعْتِقَادِهِ وَمَذْهَبِهِ لَمْ يَكُنْ اجْتِمَاعُهُمْ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، كَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا كَانَ أَسْوَدَ فَجَمِيعُهُمْ سُودٌ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنْسَانًا فَجَمِيعُهُمْ نَاسٌ ، فَكَذَلِكَ إذَا جَازَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ الضَّلَالُ ، فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ .
وَلَوْ جَازَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَبَيْنَ مَنْ ( لَا ) يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فَنَجَا مِنْهُمْ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ - لَجَازَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْن قَادِرٍ وَقَادِرٍ ( فَيَصِيرَانِ ) عَاجِزَيْنِ ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ بَصِيرٍ وَبَصِيرٍ ( فَيَصِيرَانِ ) أَعْمَيَيْنِ .
قِيلَ لَهُ : هَذِهِ الْقَاعِدَةُ خَطَأٌ لَا يُوَافِقُك عَلَيْهَا الْخَصْمُ ( لِأَنَّهُ يَقُولُ لَك : إنِّي ) إنَّمَا أُجَوِّزُ الْخَطَأَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ فِي حَالٍ لَا يُطَابِقُهُ الْبَاقُونَ عَلَى الْخَطَأِ .
فَأَمَّا مَعَ مُطَابَقَةِ

الْآخَرِينَ ( فَإِنِّي لَا ) أُجَوِّزُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْخَطَأَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَيَصِيرُ الْكَلَامُ بَيْنَكُمَا فِي إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ وَيَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ .
عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مُنْتَقَضَةٌ ، لِأَنَّهَا تُوجِبُ أَنَّ حَجَرًا لَا يَرْفَعُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عَشَرَةِ رِجَالٍ إنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا أَنْ لَا يَجُوزَ مِنْهُمْ رَفْعُهُ ، وَإِنْ كَانَ لُقْمَةً مِنْ خُبْزٍ إذَا كَانَتْ بِانْفِرَادِهَا لَا تُشْبِعُ وَجَبَ أَلَّا تُشْبِعَ ، وَإِنْ أَكَلَ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ .
وَإِنْ كَانَ جَرْعَةً مِنْ الْمَاءِ إذَا لَمْ تَرْوِ يَجِبُ أَنْ لَا تَرْوِيَ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ ( مَاءٍ ) وَهَذَا فَاسِدٌ .
وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ مِمَّنْ يَقُولُ بِالتَّوَاتُرِ لَزِمَهُ أَنْ لَا يُثْبِتَ لِلتَّوَاتُرِ حُكْمًا ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخْبِرَيْنِ إذَا كَانَ خَبَرُهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمْ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّا لَمْ نُثْبِتْ حُجَّةَ الْإِجْمَاعِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ جَوَازُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى خَطَأٍ إلَّا أَنَّ السَّمْعَ مَنَعَ مِنْهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ:{ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ } وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ : { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ يَقُولُ : اللَّهُ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ( جَوَازِ ) اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى الضَّلَالِ ، وَرُجُوعِهَا عَنْ الْإِسْلَامِ .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا قَوْلُهُ : { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ } ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَشْرَارَ تَكْثُرُ فِيهِمْ فَجَازَ إطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ الْغَالِبَ الْأَشْرَارُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَالِحُونَ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ إذَا جَاءَتْ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ زَالَ التَّكْلِيفُ وَقَبَضَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ : اللَّهُ .

فارغة

الْبَابُ السَّادِسُ وَالسِّتُّوْنَ: الْقَوْلُ فِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ

فارغة

بَابٌ الْقَوْلُ فِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْأَعْصَارِ حُجَّةٌ ، ( وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا ) أَبُو الْحَسَنِ ، وَذَكَرَ هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : الْفِقْهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ( مَا فِي الْقُرْآنِ ) وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ( مُتَوَاتِرٌ ) .
عَنْ رَسُولِ اللَّه ( مَشْهُورٌ ) ، وَمَا أَشْبَهَهَا ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَمَا أَشْبَهَهُ ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا ، وَمَا أَشْبَهَهُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَذَكَرَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ، وَجَعَلَهُ أَصْلًا وَحُجَّةً ، كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَذَكَرَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَمَا أَشْبَهَهُ ، ( وَإِنَّمَا عَنَى : أَنَّ الصَّحَابَةَ ) إذَا اخْتَلَفَتْ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى وُجُوهٍ مَعْلُومَةٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ جَمِيعِ أَقَاوِيلهمْ وَيَبْتَدِعَ قَوْلًا لَمْ يَقُلْ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْنِهِمْ .
وَقَوْلُهُ : وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ ، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ ( صِحَّةَ ) إجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ .

وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ : أَنَّ الْآيَ الَّتِي قَدَّمْنَا ذَكَرَهَا مِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَهِيَ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ كَهِيَ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } عَامٌّ فِي أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ قَدْ انْتَظَمَ : أَنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِمْ عِنْدَ انْعِقَادِ إجْمَاعِهِمْ ، وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ حُجَّةٌ عَلَى الْجَمِيعِ ، كَمَا كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِدًا عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وقَوْله تَعَالَى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وقَوْله تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قَوْلٌ عَامٌّ فِي أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ ( وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى إجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ ) .
وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ ، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِي سَائِرِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ الَّتِي يَتَنَاوَلُ ظَاهِرُهَا جَمِيعَ الْأُمَّةِ .
أَوْ يُقَالُ هِيَ : مَخْصُوصَةٌ فِي الصَّحَابَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَلَمَّا كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ خِطَابِ اللهِ تَعَالَى وَخِطَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إلَى سَائِرِ النَّاسِ وَإِلَى أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْآيُ الَّتِي تَلَوْتهَا فِي إيجَابِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ مَحْمُولَةً عَلَى الْمَعْقُولِ مِنْ خِطَابِ اللهِ فِي تَنَاوُلِهَا أَهْلَ سَائِرِ الْأَعْصَارِ .
وَلَوْ جَازَ أَنْ يُخَصَّ بِهَا الصَّحَابَةُ - لَجَازَ أَنْ يُقَالَ : هِيَ مَخْصُوصَةٌ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ دُونَ طَائِفَةٍ وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ حُكْمٌ مَخْصُوصٌ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ .
فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ ، وَأَنَّ ( إجْمَاعَ ) أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ

بَعْدَهُمْ ، وَجَمِيعُ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ يُوجِبُ صِحَّةَ إجْمَاعِ سَائِرِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ ، لِأَنَّهُ لَا يُخَصِّصُ فِي أَمْرِهِ إيَّانَا بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ جَمَاعَةً مِنْ الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا ، بَلْ عَمَّ سَائِرَ الْجَمَاعَاتِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ } لِأَنَّ قَوْلَهُ : {
لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ } لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ ، وَلَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالٍ .
أَوْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ عَلَى الِانْفِرَادِ ، أَوْ أَهْلَ عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَنْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ إلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ .
وَأَنَّهُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالٍ ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمْ يَكُونُوا عَلَى ضَلَالٍ ، وَلَمْ يَكُنْ لِضَمِّ أَهْلِ الْأَعْصَارِ إلَيْهِمْ فِي نَفْيِ اجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى ضَلَالٍ مَعْنًى وَلَا فَائِدَةٌ ، عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ : أَنَّ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ اجْتِمَاعٌ عَلَى ضَلَالٍ .
وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً ، لِأَنَّ فِيهِ تَخْصِيصًا بِلَا دَلَالَةٍ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ } قَدْ نَفَى بِهِ أَنْ يَضِلَّ كُلُّ أَهْلِ عَصْرٍ بِضَلَالٍ وَاحِدٍ .
وَنَفَى بِهِ أَيْضًا أَنْ يَضِلُّوا ، كُلُّهُمْ ، بِأَنْ يَضِلَّ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ بِضَرْبٍ مِنْ الضَّلَالِ غَيْرِ ضَلَالَةِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى .
هَذَا كُلُّهُ مُنْتَفٍ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ } وَإِفَادَتُهُ أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ لَا تَزَالُ مُتَمَسِّكَةً بِالْحَقِّ إلَى وَقْتِ حُدُوثِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ، وَزَوَالِ التَّكْلِيفِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَصِحُّ لَكُمْ الْقَوْلُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا ( اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى شَيْءٍ سَلَّمْنَاهُ لَهُمْ ، وَإِذَا اجْتَمَعَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ ) وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَكُنْ مِنْ التَّابِعِينَ ، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ فِي لُزُومِ صِحَّتِهِ لَهُ وَلِأَهْلِ عَصْرِهِ .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَهُوَ تَابِعِيٌّ قَدْ أَدْرَكَ فِيمَا يَحْكِي ( أَرْبَعَةً ) مِنْ الصَّحَابَةِ : أَنَسًا

وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ الزُّبَيْدِيَّ ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى ، وَآخَرَ قَدْ ذَهَبَ عَلَيَّ اسْمُهُ ، فَجَازَ لَهُ مُزَاحَمَةُ التَّابِعِينَ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ ، وَكَانَ يُفَقِّهُ النَّاسَ فِيمَا قَبْلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
وَكَثِيرٌ مِنْ التَّابِعِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ بَعْدَ سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ، فَلَمَّا لَحِقَ أَيَّامَهُمْ وَهُوَ مِنْ " أَهْلِ " الْفُتْيَا جَازَ لَهُ مُخَالَفَتُهُمْ وَالْقَوْلُ مَعَهُمْ .

الْبَابُ السَّابِعُ وَالسِّتُّوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِيمَا يَكُونُ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ

فارغة

بَابٌ الْقَوْلُ فِيمَا يَكُونُ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
قَدْ يَكُونُ الْإِجْمَاعُ عَنْ تَوْقِيفٍ ، وَيَكُونُ عَنْ اسْتِخْرَاجِ فَهْمِ مَعْنَى التَّوْقِيفِ ، فَمِنْهُ مَا عُلِمَ وَجْهُ التَّوْقِيفِ فِيهِ .
وَمِنْهُ مَا لَا يُعْلَمُ ، لِعَدَمِ النَّقْلِ فِيهِ ، وَيَكُونُ أَيْضًا عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ .
فَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الَّذِي عَلِمْنَا كَوْنَهُ عَنْ تَوْقِيفٍ ، فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الْآيَةَ ، وَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ ، وَإِنَّمَا صَدَرَ إجْمَاعُهُمْ عَنْ التَّوْقِيفِ الْمَذْكُورِ فِيهَا .
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْآيِ الْمُحْكَمَةِ الَّتِي اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى حُكْمِهَا .
وَمِنْهُ مَا هُوَ عَنْ تَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ مَا وَرَدَ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ فِي أَخْبَارِ الْأَفْرَادِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ ، فَمِمَّا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ : رَجْمُ الْمُحْصَنِ .
اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ

عَلَيْهِ ، إلَّا قَوْمٌ مِنْ الْخَوَارِجِ ، وَلَيْسُوا عِنْدَنَا بِخِلَافٍ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا } وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } وَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ خَالَفَ فِيهِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ .
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ .
وَمِمَّا وَرَدَ مِنْ التَّوْقِيفِ مِنْ طَرِيقِ الْأَفْرَادِ وَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَعْنَاهُ : مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { فِي إحْدَى الْيَدَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَفِي إحْدَى الرِّجْلَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، فِي إحْدَى الْعَيْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ ، وَأَنَّ الدِّيَةَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } { وَمَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ } وَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ هَذِهِ الْأَخْبَارُ .
وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْ الْإِجْمَاعَاتِ الَّتِي لَا تَعْرِفُهَا مَعَهَا تَوْقِيفٌ قَدْ كَانَتْ صَدَرَتْ لَهُ عَنْ تَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، تَرَكَ النَّاسُ نَقْلَهُ ، اكْتِفَاءً بِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ ، وَفَقْدِ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الْوَاقِعُ عَنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ نَعْلَمُهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِهِمْ لِمَعْنَى التَّوْقِيفِ وَاتِّبَاعِ الْبَاقِينَ إيَّاهُ ، فِي نَحْوِ مَا رُوِيَ ( أَنَّ بِلَالًا وَنَفَرًا مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ كَانُوا سَأَلُوا عُمَرَ قِسْمَةَ السَّوَادِ فَأَبَى عَلَيْهِمْ ، وَرَاجَعُوهُ فِيهِ مِرَارًا ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ يَوْمًا : قَدْ وَجَدْت فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا يَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } إلَى أَنْ قَالَ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ } ثُمَّ ذَكَرَ الْأَنْصَارَ { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } ، فَقَدْ جَعَلَ لِهَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فِيهِ الْحَقَّ ، وَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ، وَلَوْ قَسَمْت السَّوَادَ بَيْنَكُمْ لَتَدَاوَلَهُ الْأَغْنِيَاءُ مِنْكُمْ ، وَبَقِيَ آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ ) فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ عَرَفُوا

صِحَّةَ احْتِجَاجِهِ بِهَا ، وَإِبَانَتِهِ عَنْ مَوْضِعِ الدَّلَالَةِ مِنْهَا ، عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ، فَرَجَعُوا إلَى قَوْلِهِ ، وَتَابَعُوهُ عَلَى رَأْيِهِ .
وَنَحْوُ إجْمَاعِهِمْ : عَلَى أَنَّ عَمَّةَ الْأَبِ وَخَالَتَهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ عَمَّةُ أُمِّهِ وَخَالَتُهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ ، وَإِنَّمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ الْمَنْصُوصِ فِي تَحْرِيمِهِ : الْعَمَّةَ وَالْخَالَةَ ، ثُمَّ كَانَتْ أُمُّ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فِي التَّحْرِيمِ ، كَذَلِكَ عَمَّةُ الْأَبِ وَخَالَتُهُ بِمَنْزِلَةِ عَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ ، وَنَحْوُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِلصَّحَابَةِ حِينَ خَالَفُوهُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ : لَأُقَاتِلَن مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ : قَدْ قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } .
فَقَالَ : إنَّمَا قَالَ : عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا ، وَهَذَا مِنْ حَقِّهَا فَعَرَفَ الْجَمِيعُ صِحَّةَ اسْتِخْرَاجِهِ لِمَعْنَى التَّوْقِيفِ ، ( وَرَجَعُوا إلَى قَوْلِهِ .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ وَرَدَ فِيهِ ، وَلَا اسْتِخْرَاجِ مَعْنَى التَّوْقِيفِ ) فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ كَانَ تَوْقِيفًا ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادًا ، نَحْوُ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ لِلْجَدَّتَيْنِ : أُمِّ الْأُمِّ ، وَأُمِّ الْأَبِ ، إذَا اجْتَمَعَتَا السُّدُسَ ، وَأَنَّ لِبِنْتِ الِابْنِ نِصْفَ الْمِيرَاث إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدُ الصُّلْبِ .
وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى تَأْجِيلِ امْرَأَةِ الْعِنِّينِ ، وَلَيْسَ فِيهِ تَوْقِيفٌ ، وَالْأَغْلَبُ مِنْ أَمْرِهِ : أَنَّهُ عَنْ اجْتِهَادٍ ، وَكَذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ : عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ عَلَى نِصْفٍ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ ، مَعَ قَوْله تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } وَأَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ ، وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ : كَالْوِلَادَةِ وَنَحْوِهَا .
وَمِمَّا عَلِمْنَا وُقُوعَهُ عَنْ اجْتِهَادٍ : حَدُّ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ ، وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ فَقَالَ عَلِيٌّ : " إذَا شَرِبَ سَكِرَ ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، وَحَدُّ الْفِرْيَةِ ثَمَانُونَ " وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( مَا أَحَدٌ أُقِيمُ عَلَيْهِ

حَدًّا ) فَيَمُوتُ مِنْهُ فَأَدِيَهُ ( لِأَنَّ الْحَقَّ قَتَلَهُ ) إلَّا حَدُّ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ شَيْءٌ وَضَعْنَاهُ بِآرَائِنَا ) فَإِنْ قِيلَ : لَا يَجُوزُ عِنْدَكُمْ إثْبَاتُ الْحُدُودِ بِالْقِيَاسَاتِ ، فَإِنْ كَانَ الصَّحَابَةُ قَدْ اتَّفَقَتْ عَلَى إثْبَاتِ حَدِّ
الْخَمْرِ قِيَاسًا فَهَذَا إبْطَالٌ لِأَصْلِكُمْ فِي نَفْيِكُمْ إثْبَاتَ الْحُدُودِ قِيَاسًا .
قِيلَ لَهُ : الَّذِي نَمْنَعُهُ وَنَأْبَاهُ مِنْ ذَلِكَ : هُوَ أَنْ نَبْتَدِئَ إيجَابَ حَدٍّ بِقِيَاسٍ ، فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ التَّوْقِيفُ ، فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الِاجْتِهَادِ فِي شَيْءٍ قَدْ وَرَدَ فِيهِ التَّوْقِيفُ ، فَيُتَحَرَّى فِيهِ مَعْنَى التَّوْقِيفِ ، فَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَاسْتِعْمَالُ اجْتِهَادِ السَّلَفِ فِي حَدِّ الْخَمْرِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ ضَرَبَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ } .
وَرُوِيَ : أَنَّهُ ( ضَرَبَهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا ، كُلُّ رَجُلٍ بِنَعْلِهِ ضَرْبَتَيْنِ إنَّمَا تَحَرَّوْا فِي ) اجْتِهَادِهِمْ مُوَافَقَةَ أَمْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَجَعَلُوهُ ثَمَانِينَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَنَقَلُوا ضَرْبَهُ بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ إلَى السَّوْطِ ، كَمَا يَجْتَهِدُ الْجَلَّادُ فِي الضَّرْبِ ، وَكَمَا يَخْتَارُ السَّوْطَ الَّذِي يَصْلُحُ لِلْجَلْدِ اجْتِهَادًا ، فَالِاجْتِهَادُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ شَائِعٌ فِيمَا وَصَفْنَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ ، لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا ( عَلَيْهِ ) هُوَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ - فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ ، فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ إثْبَاتَ الْقِيَاسِ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ، مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ ، وَأُصُولِ الْأَحْكَامِ ، وَلَمْ يَعْرِفُوا قَوْلَ السَّلَفِ وَإِجْمَاعَهُمْ عَلَيْهِ ، وَعِلْمَهُمْ بِالْآثَارِ ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ ، وَطَرِيقُهُمْ فِي اسْتِعْمَالِ الِاجْتِهَادِ وَالْفَزَعِ

إلَى النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ عِنْدَ فَقْدِ النُّصُوصِ ، فَتَهَوَّرُوا فِي إقْدَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ .
ثُمَّ تَبِعَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْحَشْوِ الَّذِينَ لَا
نَبَاهَةَ لَهُمْ ، وَلَا رَوِيَّةَ ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ ، وَلَا يُؤْنَسُ بِوِفَاقِهِمْ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا صَدَرَ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ اخْتِلَافٌ وَمُنَازَعَةٌ ، عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ فِي قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ وَالْمَنَازِلِ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُمْ إذَا تَشَاوَرُوا فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الرَّأْيَ وَالِاجْتِهَادَ وَاخْتَلَفُوا وَتَنَازَعُوا فَإِذَا وَجَدْنَاهُمْ مُتَّفِقِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ كَانَ مِنْهُمْ تَقَدُّمًا ( فَقَدْ عَلِمْنَا ) : أَنَّ ذَلِكَ عَنْ تَوْقِيفٍ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ الْحُكْمِ ظَاهِرًا جَلِيًّا لَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى اسْتِقْصَاءِ النَّظَرِ ، فَيَنْوُوا فِي هِمَمِهِمْ التَّنْبِيهَ عَلَيْهِ ، وَيَسْبِقُ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ ، وَيَحْتَجُّ بِهِ فَيَتْبَعُهُ الْبَاقُونَ ، فَلَا يَحْصُلُ هُنَاكَ خِلَافٌ ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ رَأْيًا ، وَمَصْدَرُهُ عَنْ اجْتِهَادٍ .
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ الْحُكْمِ غَامِضًا خَفِيًّا فِي الِابْتِدَاءِ ، فَيَخْتَلِفُونَ ، ثُمَّ يَتَجَلَّى لِلْجَمِيعِ بِاسْتِقْصَاءِ النَّظَرِ ، وَكَثْرَةِ الْخَوْضِ ، فَيُصْدِرُونَ عَنْ اتِّفَاقٍ ، ثُمَّ لَا يُنْقَلُ إلَيْنَا مَعَ ذَلِكَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ فِيهِ مِنْ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ ، لِأَنَّ وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ قَدْ أَغْنَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ ، وَنَقْلُ الْخِلَافِ وَالْمُنَازَعَةِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَوْ جَازَ وُقُوعُ الْإِجْمَاعِ عَنْ اجْتِهَادٍ وَلَا يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ إلَّا حَقًّا وَصَوَابًا لَأَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُ الْأُمَّةِ أَفْضَلَ مِنْ اجْتِهَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَى مَرْتَبَةً ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَجُوزُ عَلَيْهِ وُقُوعُ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ .

وَالدَّلِيلُ ( عَلَى ) ذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ عَاتَبَهُ فِي أَسَارَى بَدْرٍ ، وَأَنْزَلَ { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { عَفَا اللَّهُ عَنْك لِمَ أَذِنْت لَهُمْ } وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ .
فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُ الْأُمَّةِ أَفْضَلَ مِنْ اجْتِهَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَازَ عَلَيْهِ وُقُوعُ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الْخَطَأِ عَلَى الْأُمَّةِ فِيمَا نَقُولُ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ أَجَبْت عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ .
أَحَدُهَا : أَنَّ اجْتِهَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقَعُ فِيهِ خَطَأٌ ، لِأَنَّ مَعَاصِيَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَلَوْ كَانَتْ صَغَائِرَ - مَغْفُورَةٌ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُهَا فِي شَيْءٍ يَظْهَرُ لِلنَّاسِ ، وَيَلْزَمُهُمْ فِيهِ الِاتِّبَاعُ وَالِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ ظَهَرَتْ مَعَاصِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ( لِلنَّاسِ ) لَكَانَ فِيهِ تَنْفِيرٌ عَنْ الطَّاعَةِ ، وَإِيحَاشٌ عَنْ السُّكُونِ وَالطُّمَأْنِينَةِ إلَى صِحَّةِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَجَابَ : إنَّا نَقُولُ : إنَّ اجْتِهَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ اجْتِهَادِ الْأُمَّةِ ، وَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ اجْتِهَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ ، وَلَا نَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ اجْتِهَادَهُ أَفْضَلُ مِنْ اجْتِهَادِ الْأُمَّةِ مُجْتَمِعَةً ، كَمَا نَقُولُ : إنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْأُمَّةِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى : إنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ ، لَا أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَوَاتِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا مُجْتَمِعَةً ، وَكَمَا نَقُولُ : فُلَانٌ أَقْوَى مِنْ إخْوَةِ فُلَانٍ وَهُمْ عَشْرَةٌ ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ .

الْبَابُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي صِفَةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَ

فارغة

بَابٌ الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَ
الْإِجْمَاعُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ ، لِحَاجَةِ الْجَمِيعِ إلَى مَعْرِفَتِهِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ إجْمَاعِهِمْ : ( عَلَى ) أَنَّ الظُّهْرَ أَرْبَعٌ ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثٌ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَحِجِّ الْبَيْتِ ، وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ ، وَتَحْرِيمِ الزِّنَا ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ ، وَالْأَخَوَاتِ ، وَنَحْوِهِنَّ ، فَهَذَا إجْمَاعٌ قَدْ تَسَاوَى الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ فِيهِ .
وَالْإِجْمَاعُ الْآخَرُ : مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْخَاصَّةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، الَّذِينَ هُمْ شُهَدَاءُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ ، وَلَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِقَوْلِ الْعَامَّةِ ، لِأَنَّ الْعَامَّةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي ذَلِكَ ، إذْ لَيْسَ بَلْوَاهَا بِهِ عَامَّةً .
وَذَلِكَ كَنَحْوِ : فَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ ، وَمَا يَجِبُ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مِنْ الْحَقِّ ، وَتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَمَّةِ وَبِنْتِ الْأَخِ ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ ، مِمَّا لَمْ يَكْثُرْ بَلْوَى الْعَامَّةِ بِهِ ، فَعَرَفَتْهُ الْخَاصَّةُ ، وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ .
ثُمَّ لَا يَخْلُو مَنْ يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ : مِنْ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ إجْمَاعِهِ مُعْتَبَرًا ، بِأَنْ نَعْرِفَ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ ، أَوْ أَنْ يَظْهَرَ الْقَوْلُ مِنْ بَعْضِهِمْ ، وَيَنْتَشِرَ فِي كَافَّتِهِمْ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِ خِلَافٍ مِنْ الْبَاقِينَ عَلَيْهِمْ ، وَلَا نَكِيرَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ مَوْقُوفَةً عَلَى وُجُودِ الْقَوْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، بِوِفَاقِ الْآخَرِينَ ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ شَرْطَ الْإِجْمَاعِ لَمَا صَحَّ إجْمَاعٌ أَبَدًا ، إذْ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَحْكِيَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ قَوْلَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ عَصْرٍ انْعَقَدَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى شَيْءٍ ، إنْ شِئْت مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ شِئْت مِمَّنْ بَعْدَهُمْ .
فَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَنَا صِحَّةُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ ( بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَامْتَنَعَ وُجُودُ الْإِجْمَاعِ ) بِإِثْبَاتِ قَوْلِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي مَسْأَلَةٍ ، عَلِمْنَا : أَنَّ

هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ .
أَلَا تَرَى إلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، لَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ : بِأَنَّ هَذَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْكِيَهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِهِ ، إلَّا مَا ظَهَرَ وَانْتَشَرَ ( مِنْ تَحْرِيمِهِنَّ ) وَتَرْكِ الْبَاقِينَ الْخِلَافَ فِيهِ .
فَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّ شَرْطَ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ انْتِشَارُ الْقَوْلِ ( عَمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ ) مَعَ سَمَاعِ الْبَاقِينَ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِ نَكِيرٍ وَلَا مُخَالَفَةٍ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ فِي تَرْكِ النَّكِيرِ وَعَدَمِ إظْهَارِ الْخِلَافِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوِفَاقِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتْرُكُوا ( النَّكِيرَ ) مَهَابَةً ، أَوْ تَقِيَّةً ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ .
فَإِذًا لَيْسَ فِي تَرْكِ إظْهَارِ الْخِلَافِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُوَافَقَةِ ، كَمَا رُوِيَ : " أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ الصَّحَابَةَ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْسَلَ إلَيْهَا يَدْعُوهَا ، فَفَزِعَتْ ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، فَقَالُوا : إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ ، وَلَمْ تُرِدْ إلَّا الْخَيْرَ وَمَا نَرَى عَلَيْك شَيْئًا ، وَعَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَاكِتٌ ، فَقَالَ لَهُ : مَا تَقُولُ أَبَا الْحَسَنِ ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ : إنْ كَانَ هَذَا جَهْدَ رَأْيِهِمْ فَقَدْ أَخْطَئُوا ، وَإِنْ كَانُوا قَارَبُوك فَقَدْ غَشُّوك ، أَرَى عَلَيْك الدِّيَةَ .
فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( أَنْتَ صَدَقْتنِي ) " فَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ سَاكِتًا مُضْمِرًا لِخِلَافِ الْجَمَاعَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ سُلُوكُهُ دَلَالَةً عَلَى الْمُوَافَقَةِ ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ عُمَرُ أَيْضًا بِسُكُوتِهِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ .
ذَكَرَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ ( ذَكَرَ ) مَسْأَلَةَ الْعَدْلِ ، وَاحْتَجَّ :

بِأَنَّ مَنْ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ فَرْضٍ إلَى فَرْضٍ فَفَرْضُهُ قَائِمٌ ، وَمَنْ كَانَ
يَنْتَقِلُ مِنْ ( فَرْضٍ ) لَا إلَى فَرْضٍ أَدْخَلْت النُّقْصَانَ عَلَيْهِ .
قَالَ : فَقُلْت : هَلَّا ذَكَرْته لِعُمَرَ ؟ فَقَالَ : إنَّهُ كَانَ أَمِيرًا مَهِيبًا ، فَأَخْبَرَ : أَنَّ مَهَابَتَهُ كَانَتْ مَانِعَةً لَهُ مِنْ إظْهَارِ الْخِلَافِ عَلَيْهِ .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا قِصَّةُ عُمَرَ فِي أَمْرِ الْمَرْأَةِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرْت .
مِنْ قِبَلِ : أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَسْكُتْ إلَى أَنْ أَبْرَمُوا الْأَمْرَ وَفَرَغُوا مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَإِنَّمَا سَكَتَ لِيَنْظُرَ فِي جَوَابِ الْقَوْمِ ثُمَّ لَمَّا أَجَابَ الْقَوْمُ ، أَقْبَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلِيٌّ بِشَيْءٍ ، وَعَسَى ( لَوْ ) قَدْ كَانَ عُمَرُ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ قَوْلَهُمْ ، أَوْ أَنْ يَقِفَ فِي الْحُكْمِ ، أَنْ يُخْبِرَهُ وَلَا يَسْكُتَ ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَجْعَلُ تَرْكَ إظْهَارِ الْخِلَافِ حُجَّةً إذَا نُشِرَتْ الْمَقَالَةُ ، وَظَهَرَتْ ، وَاسْتَمَرَّ الْقَائِلُونَ بِهَا عَلَيْهَا ، ثُمَّ لَا يَظْهَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ فِيهَا خِلَافٌ ، فَأَمَّا مَا دَامُوا فِي مَجْلِسِ التَّشَاوُرِ وَالِارْتِيَاءِ فِيهَا فَجَائِزٌ - أَنْ يَكُونَ السَّاكِتُ نَاظِرًا فِي الْمَسْأَلَةِ ، مُرَوِّيًا فِيهَا ، لَمْ يَتَّجِهْ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ ، فَإِذَا اسْتَمَرَّتْ الْأَيَّامُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْ خِلَافًا مَعَ الْعِنَايَةِ مِنْهُمْ بِأَمْرِ الدِّينِ وَحِرَاسَةِ الْأَحْكَامِ ، عَلِمْنَا ( أَنَّهُمْ إنَّمَا ) لَمْ يُظْهِرُوا الْخِلَافَ لِأَنَّهُمْ مُوَافِقُونَ لَهُمْ .
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ : فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ كَانَ يُظْهِرُ هَذَا الْخِلَافَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ ، فَإِنَّمَا مَنَعَتْهُ مَهَابَةُ عُمَرَ مِنْ مُحَاجَّتِهِ ، كَمَا يَهَابُ الْأَحْدَاثُ ذَوِي الْأَسْنَانِ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَمْنَعُهُ مَهَابَةُ عُمَرَ مِنْ الْخِلَافِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يُقَدِّمُهُ وَيَسْأَلُهُ مَعَ سَائِرِ مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ ، لِمَا عُرِفَ مِنْ فَضْلِ فِطْنَتِهِ ، وَنَفَاذِ بَصِيرَتِهِ ، وَكَانَ يَمْدَحُهُ وَيَقُولُ : غُصْ يَا غَوَّاصُ ، وَيَقُولُ : شَنْشَنَةٌ
أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمَ .
يَعْنِي شَبَّهَهُ بِالْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي فَهْمِهِ وَعَقْلِهِ وَدَهَائِهِ .
وَمَتَى كَانَ النَّاسُ فِي تَقِيَّةٍ مِنْ عُمَرَ فِي إظْهَارِ الْخِلَافِ عَلَيْهِ فِي مَسَائِلِ الْحَوَادِثِ ؟ وَهُوَ قَدْ كَانَ يَسْتَدْعِي مِنْهُمْ الْكَلَامَ فِيهَا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ كَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ يَقُولُ : إنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتَفِ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ بِتَرْكِ النَّاسِ النَّكِيرَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ : { أَقَصُرَتْ

الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت حَتَّى سَأَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَقَالَ : أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ فَقَالَا : نَعَمْ .
فَحِينَئِذٍ أَتَمَّ الصَّلَاةَ } .
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : إنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوِفَاقِ ( فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ ، لِأَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ ) فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إظْهَارُ النَّكِيرِ عَلَى مَنْ قَالَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ ، فَلَيْسَ إذَنْ فِي سُكُوتِ الْقَوْمِ وَتَرْكِهِمْ النَّكِيرَ عَلَى الْقَائِلِينَ فِي الْحَادِثَةِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُوَافَقَةِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَسْنَا نَقُولُ : إنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ عَلَى الِانْفِرَادِ يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ ، لِأَنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُجَامِعَهُ إظْهَارُ الْخِلَافِ ، وَعَامَّةُ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ هَذَا سَبِيلُهَا ، وَإِنَّمَا نَقُولُ : إنَّ تَرْكَهُمْ لِإِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ مَعَ انْتِشَارِ الْقَوْلِ وَاسْتِمْرَارِ الْأَيَّامِ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْوِفَاقِ .
فَأَمَّا قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ : فَإِنَّ الْقَوْمَ وَإِنْ تَرَكُوا مُخَالَفَتَهُ وَلَمْ يُظْهِرُوا النَّكِيرَ عَلَيْهِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْإِجْمَاعِ ، وَلَعَلَّ عِيسَى إنَّمَا ، أَرَادَ : أَنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ لَا تَعْتَرِضُ عَلَى مَا قُلْنَا فِي الْإِجْمَاعِ ، مِنْ قِبَلِ : أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ لَمَّا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِيبَهُ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ الْقَوْلِ خِلَافٌ عَلَيْهِ أَوْ وِفَاقٌ لَهُ : ( أَحَقٌّ مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ ) ، لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ حِينَئِذٍ ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ ، وَقَدْ كَانَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْتَبِرَ حَالَ الْقَوْمِ ، هَلْ هُمْ تَارِكُونَ لِلنَّكِيرِ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ فَيَسْتَدِلُّ بِتَرْكِهِمْ الْخِلَافَ عَلَيْهِ ، عَلَى صِحَّةِ خَبَرِهِ ، وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ الِاسْتِفْهَامَ بِالْقَوْلِ ، وَقَدْ قُلْنَا قَبْلَ ذَلِكَ : إنَّ تَرْكَ إظْهَارِ الْخِلَافِ إنَّمَا يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى الْمُوَافَقَةِ إذَا انْتَشَرَ الْقَوْلُ ، وَظَهَرَ ، وَمَرَّتْ عَلَيْهِ أَوْقَاتٌ يُعْلَمُ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مُخَالِفٌ لَأَظْهَرَ الْخِلَافَ ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَى غَيْرِ مَقَالَتِهِ .
إذْ كَانَ قَدْ اسْتَوْعَبَ مُدَّةَ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ .
وَأَمَّا مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ : مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْإِنْكَارُ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ فَهُوَ صَحِيحٌ .
وَلَمْ نَجْعَلْ نَحْنُ تَرْكَ النَّكِيرِ حُجَّةً فِي الْإِجْمَاعِ دُونَ تَرْكِ إظْهَارِ الْخِلَافِ ، بَعْدَمَا مَضَى

وَقْتُ ظُهُورِ الْقَوْلِ وَانْتِشَارِهِ مُدَّةً لَوْ كَانَ هُنَاكَ قَائِلٌ بِخِلَافِهِ لَكَانَ قَدْ اسْتَوْفَى مُدَّةَ نَظَرِهِ وَاسْتَقَرَّ رَأْيُهُ عَلَى قَوْلٍ يَقُولُ بِهِ إنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ ، فَإِذْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ ذَلِكَ عَلِمْنَا : أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُ .
وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اعْتِبَارِ تَرْكِ إظْهَارِ الْخِلَافِ فِي الْقَوْلِ الَّذِي قَدْ اسْتَفَاضَ وَظَهَرَ مِنْ بَعْضِ الْأُمَّةِ : أَنَّهُ مَعْلُومٌ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ وَمَا عَلَيْهِ طَبَائِعُ النَّاسِ إذَا تَشَاوَرُوا فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ فَقَالَ فِيهِ أَعْلَامُهُمْ وَأُولُو الْأَلْبَابِ مِنْهُمْ قَوْلًا وَسَكَتَ الْبَاقُونَ ، أَنَّ ذَلِكَ رِضًا
مِنْهُمْ بِذَلِكَ الْقَوْلِ ، وَمُوَافَقَةً لِلْقَائِلِينَ بِهِ ( وَأَنَّهُ ) لَوْ كَانَ هُنَاكَ مُخَالِفٌ لَهُمْ لِأَظْهَرَ الْخِلَافَ إذَا كَانَ ذَلِكَ ( أَمْرًا ) يُهِمُّهُمْ وَيَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ ، فَمَا كَانَ مِنْهُمْ دِينًا تُضِيفُهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي أَدَّاهُمْ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ فَهُوَ أَوْلَى ، بِأَنْ يَكُونَ تَرْكُهُمْ إظْهَارًا لِخِلَافٍ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى الْمُوَافَقَةِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَتَفَاوُتِ طَبَائِعِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ ، لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَوَانَى هِمَّتُهُمْ عَلَى تَرْكِ إظْهَارِ خِلَافٍ هُمْ لَهُ مُضْمِرُونَ ، كَمَا أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ : يَوْمَ الْجُمُعَةِ إنَّ الْإِمَامَ لَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ ( إنْسَانٌ ) بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْضُرَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ شَهِدَ الْجَامِعَ وَلَمْ يَسْمَعُوا بِذَلِكَ أَنْ يَتْرُكُوا إظْهَارَ النَّكِيرِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ هِمَمُهُمْ عَلَى السُّكُوتِ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ : أَنَّ السَّلَفَ قَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ : أَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُخَالِفٌ لَهُمْ مَعَ انْتِشَارِ قَوْلِهِمْ ، فَيُضْمِرُ خِلَافَهُمْ وَيُسِرُّهُ ، وَلَا يُظْهِرُهُ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ : أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إجْمَاعٌ تَلْزَمُ حُجَّتُهُ مِنْ

بَعْدِهِمْ .
فَوَجَبَ بِهَذَا أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْقَوْلِ وَانْتِشَارِهِ : دَلَالَةً عَلَى الْمُوَافَقَةِ .
وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ الْإِجْمَاعُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، لَمَا صَحَّ إجْمَاعٌ أَبَدًا ، إذْ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَنْ يُضَافَ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِقَوْلٍ إلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ : عَلَى ( أَنَّهَا قَدْ قَالَتْهُ وَلَفَظَتْ بِهِ ) وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ فِيهِ عَلَى ظُهُورِ الْقَوْلِ فِيهِمْ ، مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ لَهُمْ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِمَّنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ : الْإِجْمَاعُ الَّذِي يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ وَيَنْقَطِعُ بِهِ الْعُذْرُ : هُوَ
اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَوْضِعِ الْكَعْبَةِ مِنْ مَكَّةَ ، وَمَوْضِعِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ : هُوَ الشَّهْرُ التَّاسِعُ ، مِنْ ذَلِكَ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَمَا عَدَا هَذَا فَلَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ بِإِيجَابِهِ .
فَيُقَالُ لَهُ : مِنْ أَيْنَ عَلِمْت : أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ ، هَلْ لَقِيت كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ أَسْلَافِهِمْ وَأَخْلَافِهِمْ فَأَخْبَرُوك ( بِذَلِكَ ) ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ .
أَكْذَبَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ ، وَإِنْ قَالَ : لَا .
قِيلَ لَهُ : فَلِمَ قَضَيْت بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ عَلِمْته إلَّا مِنْ حَيْثُ اسْتَفَاضَ ذَلِكَ مِنْ جَمَاعَةٍ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ ؟ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ .
فَهَلَّا جَعَلْت هَذَا عِيَارًا فِي أَمْثَالِهِ ، مِمَّا لَمْ يَظْهَرْ وَيَنْتَشِرْ ؟ ثُمَّ لَا يُوجَدُ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ خِلَافٌ فِيهِ فَنُثْبِتُهُ إجْمَاعًا ؟

الْبَابُ التَّاسِعُ والسِّتُّوْنَ:فِي الْقَوْلِ فِيمَنْ يَنْعَقِدُ بِهِمْ الْإِجْمَاعُ

فارغة

بَابٌ الْقَوْلُ فِيمَنْ يَنْعَقِدُ بِهِمْ الْإِجْمَاعُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
لَا نَعْرِفُ عَنْ أَصْحَابِنَا كَلَامًا فِي تَفْصِيلِ مَنْ يَنْعَقِدُ بِهِمْ الْإِجْمَاعُ ، وَكَيْفَ صِفَتُهُمْ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَهُمْ فِي ذَلِكَ .
فَقَالَ قَائِلُونَ : لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا بِاتِّفَاقِ فِرَقِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا ، مَنْ كَانَ مُحِقًّا ، أَوْ مُبْتَدِعًا ضَالًّا ، بِبَعْضِ الْمَذَاهِبِ الْمُوجِبَةِ لِلضَّلَالِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا اعْتِبَارَ بِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الضَّلَالِ ، لِأَنَّ الْحَقَّ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ .
وَإِنَّمَا الْإِجْمَاعُ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ : إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَقِّ ، الَّذِينَ لَمْ يَثْبُتْ فِسْقُهُمْ ، وَلَا ضَلَالُهُمْ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا .
وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ لِمَنْ أَلْزَمَنَا قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ مِنْ الْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } فَجَعَلَ الشُّهَدَاءَ عَلَى

النَّاسِ وَالْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِيمَا قَالُوهُ ، وَشَهِدُوا بِهِ ، الَّذِينَ وَصَفَهُمْ أَنَّهُمْ وَسَطٌ ، وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ ، وَقَدْ قِيلَ : الْوَسَطُ الْخِيَارُ .
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } يَعْنِي خَيْرُهُمْ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ، لِأَنَّ الْعَدْلَ الْخِيَارُ ، وَالْخِيَارَ الْعَدْلُ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ فِي الِاعْتِدَادِ بِإِجْمَاعِهِمْ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } .
فَأَلْزَمَنَا اتِّبَاعَ مَنْ أَنَابَ إلَيْهِ ، وَالِاقْتِدَاءَ بِالْمُؤْمِنِينَ ، وَبِمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ .
وَأَهْلُ الضَّلَالِ وَالْفِسْقِ بِخِلَافِ هَذِهِ الصِّفَةِ ، فَلَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُمْ ، وَمَتَى أَجْمَعَتْ فِرَقُ الْأُمَّةِ
كُلِّهَا عَلَى أَمْرٍ ، عَلِمْنَا : أَنَّ الْمَأْمُورَ بِاتِّبَاعِهِ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنِينَ ، وَمَنْ أَنَابَ إلَى اللهِ تَعَالَى ، دُونَ ( أَهْلِ ) الضَّلَالِ وَالْفَاسِقِينَ .
فَدَلَّ ذَلِكَ : عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِخِلَافِهِمْ ، إذْ كَانُوا لَوْ وَافَقُوهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّبَعِينَ وَلَا مُقْتَدًى بِهِمْ .
وَلَا كَانَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً عَلَى أَحَدٍ ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ : أَنَّ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي قَدْ شَمِلَهَا الْوَصْفُ مِنْ اللهِ تَعَالَى بِالْعَدَالَةِ ، وَلُزُومِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَلِأَجْلِ مَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ الْأَصْلِ .
لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ الْخَوَارِجِ ، وَسَائِرِ فِرَقِ الضَّلَالَةِ ، لِمَا قَدْ ثَبَتَ مِنْ ضَلَالِهِمْ ، وَأَنَّهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَمِمَّا يُوجِبُ أَيْضًا أَنْ لَا يُعْتَدَّ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي الْإِجْمَاعِ : أَنَّ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّمْعِ .
وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْأُصُولَ السَّمْعِيَّةَ لَمْ يَصِلْ إلَى عِلْمِ فُرُوعِهَا .
وَالْخَوَارِجُ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ قَدْ أَكْفَرَتْ السَّلَفَ الَّذِينَ نَقَلُوا الدِّينَ ، وَلَمْ يَقْبَلُوا

أَخْبَارَهُمْ وَنَقْلَهُمْ لَهَا ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ عُدِمَ الْعِلْمَ بِهَا ، فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ ، وَلَا الِاخْتِلَافِ ، لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِأُصُولِ الشَّرْعِ الَّتِي عَلَيْهَا مَبْنَى فُرُوعِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنْ كُنْت لَا تَعْتَدُّ بِمَنْ ثَبَتَ ضَلَالُهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا تَعُدُّ خِلَافَهُ خِلَافًا لِأَجْلِ مَا ثَبَتَ مِنْ ضَلَالِهِ وَفِسْقِهِ ، فَاَلَّذِي يَلْزَمُك عَلَى هَذَا الْأَصْلِ : أَنْ لَا تَعْتَدَّ بِخِلَافِ ( مَنْ ثَبَتَ ) فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الْأَفْعَالِ ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ فِسْقُهُ لَا يَكُونُ مِنْ شُهَدَاءِ اللهِ تَعَالَى ، وَلَا مِمَّنْ حُكِمَ لَهُ بِالْعَدَالَةِ ، وَأَنَابَ إلَيْهِ .
قِيلَ لَهُ : كَذَلِكَ نَقُولُ : إنَّ مَنْ ثَبَتَ فِسْقُهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ إجْمَاعُهُ ، وَكَيْفَ
يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ ، وَهُوَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا فُتْيَاهُ
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَهَلْ تُجَوِّزُونَ عَلَى هَذِهِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي انْعَقَدَ بِهَا الْإِجْمَاعُ : الِانْتِقَالَ عَنْ حَالِ الْعَدَالَةِ إلَى غَيْرِهَا مِنْ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ ؟
قِيلَ لَهُ : مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ اللهِ تَعَالَى فِي لُزُومِ قَوْلِهِمْ امْتَنَعَ خُرُوجُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْحَالِ إلَى غَيْرِهَا ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ حُجَّةِ اللهِ تَعَالَى .
أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، لَمَّا كَانَ حُجَّةً عَلَى أُمَّتِهِمْ ، لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِمْ التَّبْدِيلُ وَالتَّغْيِيرُ وَالِانْتِقَالُ عَنْ الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا ؟
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْجَمَاعَةِ ، إذَا قَامَ غَيْرُهُمْ بَدَلًا مِنْهُمْ ، لِئَلَّا تَخْلُوَ الْأُمَّةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا قَوْمٌ مُتَمَسِّكُونَ بِالْإِيمَانِ ، قَائِمُونَ بِحُجَّةِ اللهِ تَعَالَى ، الَّتِي هِيَ الْإِجْمَاعُ ، وَجَعَلُوا انْتِقَالَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِمْ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ صَحَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَخْلُو فِي الْحَالَيْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا شُهَدَاءُ اللهِ تَعَالَى ، وَمِنْ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً .

قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مَنْ لَا يَعْرِفُ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ ، وَلَمْ يَرْتَضِ بِطُرُقِ الْمَقَايِيسِ وَوُجُوهِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ : كَدَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ وَالْكَرَابِيسِيِّ ، وَأَضْرَابِهِمَا مِنْ السُّخَفَاءِ ( الْجُهَّالِ ) ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا كَتَبُوا شَيْئًا مِنْ الْحَدِيثِ ، وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِوُجُوهِ النَّظَرِ ، وَرَدِّ الْفُرُوعِ وَالْحَوَادِثِ إلَى الْأُصُولِ ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ ، لِجَهْلِهِ بِبِنَاءِ الْحَوَادِثِ عَلَى أُصُولِهَا مِنْ النُّصُوصِ ، وَقَدْ كَانَ دَاوُد يَنْفِي حُجَجَ الْعُقُولِ ، وَمَشْهُورٌ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : ( بَلْ عَلَى الْعُقُولِ ) ، وَكَانَ يَقُولُ : لَيْسَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِنَا دَلَائِلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَعَلَى تَوْحِيدِهِ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ إنَّمَا عَرَفَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْخَبَرِ ، وَلَمْ يَدْرِ الْجَاهِلُ أَنَّ الطَّرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ صِحَّةِ خَبَرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ خَبَرِهِ وَخَبَرِ مُسَيْلِمَةَ وَسَائِرِ الْمُتَنَبِّئِينَ وَالْعِلْمِ بِكَذِبِهِمْ إنَّمَا هُوَ الْعَقْلُ ، وَالنَّظَرُ فِي الْمُعْجِزَاتِ ، وَالْأَعْلَامِ وَالدَّلَائِلِ ، الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْرِفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
فَمَنْ كَانَ هَذَا مِقْدَارَ عَقْلِهِ وَمَبْلَغَ عِلْمِهِ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؟ وَمِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ ؟ وَهُوَ مُعْتَرِفٌ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : إنِّي مَا أَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الدَّلَائِلِ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ ، فَهُوَ أَجْهَلُ مِنْ الْعَامِّيِّ ، وَأَسْقَطَ مِنْ الْبَهِيمَةِ ، فَمِثْلُهُ لَا يُعَدُّ خِلَافًا عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ إذَا قَالُوا قَوْلًا يُخَالِفُهُمْ ، فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ .
وَنَقُولُ أَيْضًا : فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أُصُولَ السَّمْعِ وَطُرُقَ الِاجْتِهَادِ ( وَ ) الْمَقَايِيسِ

الْفِقْهِيَّةِ : إنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَا حَظٍّ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِالْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ ، ( وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ ، لِأَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ ) لَا يُكْتَفَى بِهِ فِي مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ السَّمْعِيَّةِ ، فَمَنْ كَانَ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي وَصَفْنَا مِنْ فَقْدِ الْعِلْمِ بِأُصُولِ السَّمْعِ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَا حَظٍّ فِي عُلُومٍ أُخَرَ ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي هَذَا الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْأُصُولَ وَرَدَّ الْفُرُوعِ إلَيْهَا ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خِلَافًا .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مِقْدَارِ مَنْ يُعْتَبَرُ إجْمَاعُهُ ، فَقَالَ قَائِلُونَ : الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ جَمَاعَةٍ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُخْبِرُوا عَنْ اعْتِقَادِهِمْ ، وَلَا يَكُونُ خَبَرُهُمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى صِدْقٍ .
فَإِذَا اجْتَمَعَتْ جَمَاعَةٌ هَذِهِ صِفَتُهَا عَلَى قَوْلٍ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا : أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَثْبُتُ بِهِ ، ثُمَّ خَالَفَ عَلَيْهَا الْعَدَدُ الْقَلِيلُ الَّذِي يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ أَنْ يُظْهِرُوا خِلَافَ مَا يَعْتَقِدُونَ ، وَلَا نَعْلَمُ يَقِينًا : أَنَّ خَبَرَهُمْ فِيمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ اعْتِقَادِهِمْ مُشْتَمِلٌ عَلَى صِدْقٍ ، لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ ، إذَا أَظْهَرَتْ الْجَمَاعَةُ إنْكَارَ قَوْلِهِمْ ، وَلَمْ يُسَوِّغُوا لَهُمْ خِلَافًا ، وَإِنْ سَوَّغَتْ الْجَمَاعَةُ لِلنَّفَرِ الْيَسِيرِ خِلَافَهَا وَلَمْ يُنْكِرُوهُ ، لَمْ يَكُنْ مَا قَالَتْ بِهِ الْجَمَاعَةُ إجْمَاعًا ، وَإِنْ خَالَفَتْ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ جَمَاعَةٌ مِثْلُهَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا فِي مَجْرَى الْعَادَةِ أَنْ يَظْهَرَ لَنَا وَصْفُ اعْتِقَادِهَا إلَّا وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى صِدْقٍ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي عَيْنِهِ : أَنَّهُ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي الْأَخْبَارِ ، إنَّ مِثْلَ جَمَاعَاتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا أَخْبَرَتْ عَنْ اعْتِقَادِهَا لِلْإِسْلَامِ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ فِيهَا مُسْلِمِينَ .
كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ وَالرُّومَ إذَا أَخْبَرُوا عَنْ اعْتِقَادِهِمْ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ ، عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَعْتَقِدُهَا .
فَاخْتَلَفَتْ الْجَمَاعَتَانِ اللَّتَانِ وَصْفُهُمَا مَا ذَكَرْنَا فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَا قَالُوا ، أَوْ لَمْ يُنْكِرْهُ ، لَمْ يَنْعَقِدْ بِقَوْلِ إحْدَى الْجَمَاعَتَيْنِ إجْمَاعٌ ، إذَا لَمْ يَكُنْ يَثْبُتُ ضَلَالُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عِنْدَنَا ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : إذَا خَالَفَ عَلَى الْجَمَاعَةِ الَّتِي وَصَفْتُمْ حَالَهَا الْعَدَدُ الْيَسِيرُ وَإِنْ كَانَ

وَاحِدًا ، كَانَ خِلَافُهُ عَلَيْهَا خِلَافًا صَحِيحًا ، وَلَمْ يَثْبُتْ مَعَ خِلَافِهِ إجْمَاعٌ ، وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَذْهَبُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ يَحْكِي عَنْ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ شَيْئًا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى صِحَّتِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَمَنْ سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ } فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْقَوْلُ الْأَمْرَ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ دُونَ الْوَاحِدِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ : إذَا قَالَتْ الْجَمَاعَةُ شَيْئًا وَقَالَ الْوَاحِدُ خِلَافَهُ .
وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ - لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِ الْوَاحِدَ مُنْفَرِدًا عَنْ الْجَمَاعَةِ مَعْنًى ، فَلَوْ وَجَبَ أَنْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ مِثْلِهِ فِيمَا لَمْ تُسَوِّغْ الْجَمَاعَةُ فِيهِ خِلَافَهَا ، لَمَا انْعَقَدَ إجْمَاعٌ أَبَدًا عَلَى شَيْءٍ ، لِأَنَّ الْقَوْلَ إذَا انْتَشَرَ وَظَهَرَ فِي أَهْلِ الْعَصْرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَهَرَ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَإِنَّا نُجَوِّزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ لَمْ تَبْلُغْهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ ، أَوْ بَلَغَتْهُمْ فَلَمْ يُظْهِرُوا الْخِلَافَ ، لِأَنَّ مِثْلَهُ جَائِزٌ مِنْ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْعَدَدِ الْيَسِيرِ ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ الْجَمَاعَاتِ الْمُخْتَلِفِي الْهِمَمِ وَالْأَسْبَابِ .
فَإِذَا كَانَ تَجْوِيزُ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّ إظْهَارَهُمْ لِهَذَا الْخِلَافِ غَيْرُ قَادِحٍ فِي الْإِجْمَاعِ ، لِأَنَّ إجْمَاعَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا حَالَهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ الَّذِي أَسَرَّ الْخِلَافَ وَلَمْ يُظْهِرْ ، أَوْ لَا يَكُونُ حُجَّةً ، فَإِنْ كَانَ حُجَّةً لَهُ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْخِلَافَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ إجْمَاعٌ أَصْلًا ، لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ : بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ قَدْ وَافَقَ الْجَمَاعَةَ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : أَنَّ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَضِلَّ الْقَائِلُ بِهِ ، أَوْ يَكُونَ مُخْطِئًا فِيهِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا : أَنْ يَكُونَ الْجَمَاعَةُ فِي حَيِّزِ الضَّلَالِ أَوْ الْخَطَأِ ، وَالْوَاحِدُ فِي حَيِّزِ الصَّوَابِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ الْمُنْفَرِدُ بِنَفْسِهِ حُجَّةً ، لِوُقُوعِ الصَّوَابِ فِي خَبَرِهِ دُونَ الْجَمَاعَةِ .
فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ الْقَطْعُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ ( بِأَنَّهُ ) مِمَّنْ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْخَطَأِ مِنْهُ ، عَلِمْنَا : أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي قَوْلِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ دُونَ الْجَمَاعَةِ .
وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ تَرْتَدَّ الْجَمَاعَةُ وَيَبْقَى الْوَاحِدُ عَلَى الْإِيمَانِ .
وَلَوْ جَازَ وُقُوعُ هَذَا بَطَلَتْ الشَّرِيعَةُ لِعَدَمِ

مَنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ فِي نَقْلِهَا .
وَلَكَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ الْبَاقِي مَحْكُومًا لَهُ بِاسْتِوَاءِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ .
وَلَوَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى عَيْنِهِ بِأَنَّهُ حُجَّةُ اللهِ عَلَى النَّاسِ فِي الْإِجْمَاعِ .
وَهَذَا قَوْلٌ فَاحِشٌ لَا يَرْتَكِبُهُ ذُو بَصِيرَةٍ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّفَرَ الْيَسِيرَ يَجُوزُ ( أَنْ يَكُونَ ) بَاطِنُهُمْ خِلَافَ ظَاهِرِهِمْ ، وَأَنْ ( لَا ) يَكُونُوا مُعْتَقِدِينَ لِلْإِيمَانِ فِي الْحَقِيقَةِ .
وَجَائِزٌ أَيْضًا : أَنْ لَا يَعْتَقِدُوا صِحَّةَ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي يُخَالِفُونَ بِهَا عَلَى الْجَمَاعَةِ ، وَمَنْ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ الْقَطْعُ عَلَى عَيْنِهِ : بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا الْحَقَّ ، وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَإِنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا : أَنَّهَا قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِدْقٍ فِيمَا أَخْبَرَتْ : أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ بَاطِنُهُ كَظَاهِرِهِ فِي صِحَّةِ اعْتِقَادِهِ ، وَكَمَا تَعْلَمُ يَقِينًا : أَنَّ فِي الْأُمَّةِ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ بِهِ فِي وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } فَوَجَبَ اتِّبَاعُ مَنْ عُلِمَ الْحَقُّ فِي حَيِّزِهِ وَنَاحِيَتِهِ ، دُونَ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَالضَّلَالُ مِنْهُمْ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ دَلَالَةً مِمَّا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ : فِي إثْبَاتِ خِلَافِ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } وَهَذَا يُوجِبُ جَوَازَ الِاقْتِدَاءِ بِالْوَاحِدِ مِنْهُمْ ، وَإِنْ خَالَفَتْهُ الْجَمَاعَةُ .
قِيلَ لَهُ : لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْت ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ : عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا اخْتَلَفَتْ ، لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِمْ تَقْلِيدُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ بِلَا نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ ، فَصَارَ شَرْطُ مُسَاعَدَةِ الدَّلِيلِ لِقَوْلِهِ مُضْمِرًا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ ، وَقَدْ أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ : عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا قَالَتْ قَوْلًا وَانْفَرَدَ عَنْهَا الْوَاحِدُ وَالنَّفَرُ

الْيَسِيرُ : أَنَّهُمْ شُذُوذٌ ، لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } أَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ ، وَأَنَّهُ سَائِغٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ اسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ فِي اتِّبَاعِ أَحَدِهِمْ ، عَلَى حَسَبِ مَا يَقُودُهُ إلَيْهِ الدَّلِيلُ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْ أَقَاوِيلِهِمْ جَمِيعًا
وَأَيْضًا : فَإِنَّ قَوْلَهُ : ( فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ ) يَنْفِي جَوَازَ اتِّبَاعِ الْوَاحِدِ وَتَرْكَ الْجَمَاعَةِ ، فَوَجَبَ : أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ( بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ ) مَحْمُولًا عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَا يَكُونُ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ يَلْزَمُ اتِّبَاعُهَا ، وَفِي الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَسُوغُ لِكُلِّ وَاحِدٍ الْقَوْلُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، لَكَانَ مَنْ اقْتَدَى بِوَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مُصِيبًا بِاقْتِدَائِهِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي أُمُورٍ ، تَحَزَّبُوا فِيهَا ، وَتَبَرَّأَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، وَخَرَجُوا إلَى الْقِتَالِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ ، وَلَمْ يُسَوِّغُوا الْخِلَافَ فِيهِ .
فَدَلَّ : عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِمَّا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، فَيَجْتَهِدُ النَّاظِرُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ ، غَيْرَ خَارِجٍ عَنْهَا ، وَلَا مُبْتَدِعٍ مَقَالَةً لَمْ يَقُولُوا بِهَا .
وَنَظِيرُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ خِلَافِ الْوَاحِدِ فِيمَا لَمْ يُسَوِّغْ الْجَمَاعَةُ خِلَافَهُ عَلَيْهَا : فَنَحْوُ مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، كَانَ فِي الصَّرْفِ يُجِيزُ بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ ، وَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ هَذَا الْقَوْلَ ، فَرَجَعَ عَنْهُ
وَكَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ ، وَإِنْكَارِ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : لَوْ أَنَّ قَاضِيًا ( قَضَى ) بِجَوَازِ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ ، أَبْطَلْت قَضَاءَهُ ، لِأَنَّ جَمَاعَةَ الصَّحَابَةِ سِوَى ابْنِ عَبَّاسٍ : قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى بُطْلَانِهِ .
قَالَ : وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ قَاضِيًا جَعَلَ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ ، أَبْطَلْت قَضَاءَهُ ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ سِوَى ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَدْ أَجْمَعَتْ : عَلَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَوْلَى مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ .
وَرُوِيَ أَيْضًا

فِيهِ حَدِيثٌ { فِي قِصَّةِ مَوْلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَ نِصْفَ مِيرَاثِهِ لِبِنْتِهِ ، وَنِصْفَ مِيرَاثِهِ لِابْنَةِ حَمْزَةَ } .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَهَذِهِ مِنْ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي أَنْكَرَتْ الْجَمَاعَةُ فِيهِ عَلَى الْوَاحِدِ ، وَلَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ خِلَافَهُمْ فِيهِ
فَأَمَّا مَا سَوَّغُوا فِيهِ خِلَافَ الْوَاحِدِ إيَّاهُمْ ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ نَكِيرٌ عَلَيْهِ : فَنَحْوُ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : فِي مَنْعِ الْعَوْلِ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ ، وَامْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ ، وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ : فِي أَنَّهُ لَا يُزَادُ بَنَاتُ الِابْنِ عَلَى تَكْمِلَةِ الثُّلُثَيْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ ، وَأَنَّهُ لَا يُفَضِّلُ أُمًّا عَلَى جَدٍّ ، فَأَظْهَرُوا خِلَافَ الْجَمَاعَةِ ( بِحَضْرَتِهَا ) ، وَلَمْ تُنْكِرْهُ الْجَمَاعَةُ عَلَيْهِمْ ، وَسَوَّغُوا لَهُمْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ ، فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ الْخِلَافِ ، وَتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي تَرْكِ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ .
فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا : إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ فِيمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَسَمِعْت بَعْضَ شُيُوخِنَا يَحْكِي عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي - وَكَانَ هَذَا الشَّيْخُ مِمَّنْ جَالَسَهُ وَأَخَذَ عَنْهُ - فَذَكَرَا أَنَّ أَبَا حَازِمٍ كَانَ يَقُولُ : إنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى شَيْءٍ كَانَ اجْتِمَاعُهَا حُجَّةً ، لَا يَتَّسِعُ خِلَافُهَا فِيهِ ، وَيَحْتَجُّ فِيهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي ، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ } وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ : لَمْ يُعْتَدَّ بِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ خِلَافًا فِي تَوْرِيثِ ذَوِي

الْأَرْحَامِ ، وَحَكَمَ بِرَدِّ أَمْوَالٍ قَدْ كَانَتْ حَصَلَتْ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُعْتَضِدِ بِاَللَّهِ : عَلَى أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ .
فَرَدَّهَا إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ ، وَقَبِلَ الْمُعْتَضِدُ فُتْيَاهُ وَأَنْفَذَ قَضَاءَهُ بِذَلِكَ ، وَكَتَبَ بِهِ إلَى الْآفَاقِ .
وَبَلَغَنِي : أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ كَانَ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ .
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : لَا أَعُدُّ زَيْدًا خِلَافًا عَلَى الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ ، وَإِذَا لَمْ أَعُدَّهُ خِلَافًا فَقَدْ حَكَمْت بِرَدِّ الْمَالِ إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ .
فَقَدْ نَفَذَ قَضَايَ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ بِالْفَسْخِ .

فَصْلٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ .
فَقَالَ قَائِلُونَ : إذَا ظَهَرَ الْقَوْلُ مِنْ جَمَاعَةٍ كَبِيرَةٍ ، أَوْ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ وَانْتَشَرَ وَاسْتَفَاضَ فِي عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خِلَافٌ لِلْقَائِلِ بِهِ - فَهُوَ إجْمَاعٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا حَتَّى يَكُونَ الْقَائِلُونَ بِهِ الْجُمْهُورَ الْأَعْظَمَ ، وَيَكُونُ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ عَدَدٌ قَلِيلٌ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَائِلُونَ نَفَرًا يَسِيرًا ، وَالسَّاكِتُونَ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ ، فَلَيْسَ يَنْعَقِدُ بِهَذَا إجْمَاعٌ ، وَإِنْ تَرَكَتْ الْجَمَاعَةُ إظْهَارَ الْخِلَافِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَمَّا إذَا كَانَ الْقَائِلُونَ بِهِ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ وَالسَّاكِتُونَ نَفَرًا يَسِيرًا : هَذَا إجْمَاعٌ صَحِيحٌ إذَا لَمْ يُظْهِرُوا مُخَالَفَةَ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ انْتِشَارِ الْمَقَالَةِ وَظُهُورِهَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ : مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى مَعْرِفَةِ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْبَابِ ، أَوْ أَنْ يَكُونَ شَرْطُهُ ظُهُورَ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ الْقَائِلَةِ بِهِ ، وَانْتِشَارَهُ فِي الْبَاقِينَ مِنْ غَيْرِ إظْهَارٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ خِلَافًا ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْإِجْمَاعِ وُجُودَ الْقَوْلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ بِعَيْنِهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ ، وَفِي وُجُوبِ اعْتِبَارِهِ بُطْلَانُ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي قَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِحَّتِهِ ، وَلُزُومِ حُجَّتِهِ ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَحْكُمَ اللَّه تَعَالَى بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ وَيَأْمُرَنَا بِلُزُومِهِ ( وَاعْتِبَارِهِ ) ثُمَّ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ ، وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ .
فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا الْوَجْهُ صَحَّ الثَّانِي ، وَهُوَ : أَنَّ شَرْطَهُ ظُهُورُ الْقَوْلِ فِي الْجَمَاعَةِ الَّتِي يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ .
ثُمَّ لَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ خِلَافٌ عَلَى الْقَائِلِينَ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَائِلُ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ وَنَفَرًا يَسِيرًا ، وَانْتَشَرَ قَوْلُهُمْ فِي الْجَمَاعَةِ ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ لِخِلَافِهِمْ لَمَا جَازَ أَنْ تَتَّفِقَ هِمَمُهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِ وَتَرْكِ إظْهَارِهِ ، إذْ لَيْسَ هُنَاكَ مَانِعٌ يَمْنَعُهُمْ مِنْ إظْهَارِ قَوْلِهِمْ وَمَعْلُومٌ : أَنَّ عَادَاتِ النَّاسِ وَتَعَارُفَهُمْ ، أَنَّ مِثْلَهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ هِمَمُهُمْ وَخَوَاطِرُهُمْ عَلَى كِتْمَانِ خِلَافٍ هُمْ مُعْتَقِدُونَ لَهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ إظْهَارِهِ .
فَهَذَا يَدُلُّ : عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُمْ بَعْدَ انْتِشَارِ الْمَقَالَةِ وَظُهُورِهَا فِيهِمْ مُوَافَقَةٌ مِنْهُمْ لِلْقَائِلِينَ .

فارغة

الْبَابُ السَّبْعُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي وَقْتِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ فِي وَقْتِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ
اخْتَلَفَ ( الْعُلَمَاءُ ) فِي وَقْتِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ .
فَقَالَ قَائِلُونَ : إذَا أَجْمَعَ أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى قَوْلٍ لَمْ يَثْبُتْ إجْمَاعٌ مَا دَامُوا بَاقِينَ ، حَتَّى يَنْقَرِضَ أَهْلُ الْعَصْرِ ، مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ يَظْهَرُ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ صَحَّ الْإِجْمَاعُ وَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ وَلَا مِنْ أَهْلِ عَصْرٍ ثَانٍ مُخَالَفَتُهُمْ .
انْقَرَضَ أَهْلُ الْعَصْرِ ، أَوْ لَمْ يَنْقَرِضُوا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا ، وَكَذَا كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ مِنْ قِبَلُ : إنَّ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةَ لِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ قَدْ أَوْجَبَتْ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ ، مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ وَقْتٍ مِنْ وَقْتٍ ، وَلَا حَالٍ مِنْ حَالٍ .
فَثَبَتَ حُجَّةُ إجْمَاعِهِمْ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ ، بِمُقْتَضَى الْآيِ الدَّالَّةِ عَلَى حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ الْإِجْمَاعُ قَبْلَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ - لَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ أَبَدًا ، لِأَنَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ إذَا أَجْمَعُوا ثُمَّ لَا يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ مَا دَامُوا أَحْيَاءَ فَجَائِزٌ أَنْ يُلْحَقَ بِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ قَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ مَنْ يُسَوَّغُ لَهُ الْقَوْلُ مَعَهُمْ ، وَالْخِلَافُ عَلَيْهِمْ ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي جَوَازِ الِاعْتِرَاضِ بِخِلَافِهِ ، كَمَا كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ

وَالْحَسَنُ ، فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ يُفْتُونَ مَعَ الصَّحَابَةِ ، وَيُخَالِفُونَهُمْ ، وَيُسَوِّغُ الصَّحَابَةُ لَهُمْ ذَلِكَ ، كَمَا سَوَّغُوا خِلَافَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ، فَكَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا : أَنْ لَا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بِانْقِرَاضِ الصَّحَابَةِ ، لِأَنَّ هُنَاكَ مِنْ التَّابِعِينَ مَنْ هُوَ فِي حُكْمِهِمْ ، وَفِي مِثْلِ حَالِهِمْ فِي جَوَازِ إعْرَاضِهِ بِالْخِلَافِ عَلَيْهِمْ فِيمَا قَالُوهُ .
فَإِنْ كَانَ ( ذَلِكَ ) كَذَلِكَ ، فَوَاجِبٌ أَلَّا يَصِحَّ ( ذَلِكَ )
الْإِجْمَاعُ بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ مَعَهُمْ ، لِأَنَّهُمْ قَدْ يُلْحَقُ بِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ مَنْ يُخَالِفُ ، عَلَيْهِمْ وَيُعْتَدُّ بِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْصَارِ ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى بُطْلَانِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ ، فَلَمَّا ثَبَتَتْ عِنْدَنَا حُجَّةُ الْإِجْمَاعِ بِمَا قَدَّمْنَا ، عَلِمْنَا : أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ فِي كُلِّ حِينٍ وَزَمَانٍ ، انْقَرَضَ أَهْلُ الْعَصْرِ ، أَوْ لَمْ يَنْقَرِضُوا ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ بَعْدَ انْعِقَادِ إجْمَاعِهِمْ : أَنْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ أَحَدٍ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِمْ ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ .
وَأَيْضًا : فَلَمَّا ثَبَتَ : أَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ وَدَلِيلٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَحَيْثُمَا وُجِدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ ثَابِتًا فِي جِهَةِ الدَّلَالَةِ ، وَوُجُوبِ الْحُجَّةِ ، لِأَنَّ حُجَجَ اللهِ تَعَالَى وَدَلَائِلَهُ لَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِالْأَزْمَانِ وَالْأَوْقَاتِ : كَنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، لَمَّا كَانَا حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُمَا فِيمَا لَا يُوجِبَانِهِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ .
وَأَيْضًا : فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعُهُمْ صَحِيحًا قَبْلَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ : لَمَا أَمِنَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ خَطَأً وَضَلَالًا ، وَقَدْ أَمِنَّا وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وقَوْله تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } وَسَائِرِ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ }

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ } وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ وَقْتٍ عَنْ وَقْتٍ ، وَلَوْ جَازَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى خَطَأٍ قَبْلَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ - لَجَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا مَعَ انْقِرَاضِهِمْ ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ خَالَفَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ( أَنَّهُ قَالَ ) : ( أَجْمَعَ رَأْيِ وَرَأْيُ عُمَرَ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ : أَنْ لَا تُبَاعَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ ، ثُمَّ رَأَيْت أَنْ أَرِقَّهُنَّ ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا التَّسْوِيَةُ فِي الْعَطَاءِ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا إجْمَاعٌ قَطُّ ، لِأَنَّ عُمَرَ قَدْ خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ ، وَقَالَ لَهُ : أَتَجْعَلُ مَنْ لَا سَابِقَةَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ كَذِي السَّابِقَةِ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .
فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ إجْمَاعٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ .
وَأَمَّا بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ : فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ عَلِيٍّ ( وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : ثُمَّ رَأَيْت : أَنْ أَرِقَّهُنَّ ) ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ : ( رَأَيْت أَنْ أَرِقَّهُنَّ دَلِيلٌ أَنَّهُ ) رَأَى جَوَازَ بَيْعِهِنَّ ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ رَقِيقًا ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ، مِثْلُ الرَّهْنِ ، وَالْمُسْتَأْجَرَة ، وَهِيَ عِنْدَنَا رَقِيقٌ ، وَلَا نَرَى بَيْعَهَا .
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا أَفَادَ بِقَوْلِهِ : رَأَيْت أَنْ أَرِقَّهُنَّ : أَنَّ لِلْمَوْلَى وَطْأَهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ .
وَأَخْذَ أَكْسَابِهَا ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَرِقَّاءِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت : أَنْ أَبِيعَهُنَّ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمَحْفُوظُ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَأَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ : رَأَيْت أَنْ أَبِيعَهُنَّ : إنَّمَا هُوَ لَفْظُ الرَّاوِي ، حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَهُ ، لَمَّا ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ ( أَنْ ) أَرِقَّهُنَّ : يُوجِبُ جَوَازَ بَيْعِهِنَّ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ جَائِزٌ لَهُمْ خِلَافُهُمْ ، فَهَلَّا جَوَّزْت لَهُمْ الْخِلَافَ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِمْ إيَّاهُمْ ؟ ؟

قِيلَ لَهُ : إنَّمَا يَجُوزُ خِلَافُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ الِاتِّفَاقُ ، الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، كَمَا يَجُوزُ لِلتَّابِعِيِّ مُخَالَفَةُ الصَّحَابِيِّ ، مَا
لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ ( إجْمَاعٌ ) ، فَإِذَا حَصَلَ الْإِجْمَاعُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْخِلَافِ ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ وُجِدَ - فَهُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَحُكْمُهُ ثَابِتٌ أَبَدًا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لِمَ جَعَلْت قَوْلَ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ عَصْرٍ وَاحِدٍ ؟ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّابِتُونَ عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ حُجَّةً عَلَى مَنْ خَالَفَ عَلَيْهِمْ فِيهَا - لَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُ الْمُخَالِفِ حُجَّةً ( عَلَى الْآخَرِينَ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ نَجْعَلْ قَوْلَ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا قَوْلَهُ فِي الْجَمَاعَةِ حُجَّةً ) عَلَيْهِمْ جَمِيعًا ، وَ ( لَوْ ) لَمْ يَكُونُوا قَدْ وَافَقُوا الْجَمَاعَةَ بَدِيًّا ، لَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ .

فَصْلٌ
وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ ، فَقَالَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ طَائِفَةٌ ، وَبِالْقَوْلِ الْآخَرِ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِثْلُهَا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مِمَّنْ يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِخِلَافِهَا ، وَلَا يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ مِنْهَا ، ثُمَّ انْقَرَضَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَبَقِيَتْ الْأُخْرَى - فَإِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَكَرَ : أَنَّهُ إنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي شَيْءٍ جَرَوْا فِيهِ إلَى تَأْثِيمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا ، وَلَمْ يُسَوِّغُوا اجْتِهَادَ الرَّأْيِ فِيهِ ، فَإِنَّ الطَّائِفَةَ الْبَاقِيَةَ يَكُونُ إجْمَاعُهَا حُجَّةً ، لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُتَمَسِّكَةَ بِالْحَقِّ لَا يَخْلُو مِنْهَا زَمَانٌ ، وَهِيَ قَدْ شَهِدَتْ بِبُطْلَانِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الَّتِي انْقَرَضَتْ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا حَقًّا وَصَوَابًا ، وَوَجَبَ الْحُكْمُ بِفَسَادِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الَّتِي انْقَرَضَتْ .
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا سَوَّغُوا فِيهِ الِاخْتِلَافَ ، وَأَبَاحُوا فِيهِ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ ، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ بِبَقَاءِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ ، قَالَ : لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا قَدْ أَجْمَعُوا بَدِيًّا عَلَى تَسْوِيغِ الِاخْتِلَافِ ، وَوَسَّعُوا فِيهِ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ ، وَهَذَا الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ لَا يَسَعُ خِلَافُهُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَإِنَّمَا بُنِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى أَصْلِهِ : فِي أَنَّ الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الْخِلَافِ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ .
وَسَنَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ تَعَالَى .

فارغة

الْبَابُ الْوَاحِدُ وَالسَّبْعُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي خِلَافِ الْأَقَلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ

فارغة

بَابٌ الْقَوْلُ فِي خِلَافِ الْأَقَلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ
إذَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ الْكَثْرَةِ فِي حَدٍّ يَنْعَقِدُ بِمِثْلِهَا الْإِجْمَاعُ لَوْ لَمْ يُخَالِفْهَا مِثْلُهَا .
فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَبِرُ إجْمَاعَ الْأَكْثَرِ وَهُمْ الْحَشْوُ .
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ : لَا يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ إجْمَاعٌ ، وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ .
وَالْحُجَّةُ لِهَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ الْحَقَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْقَلِيلِ ، بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِي حَدٍّ مَتَى أَخْبَرَتْ عَنْ اعْتِقَادِهَا لِلْحَقِّ ، وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهَا ، وَقَعَ الْعِلْمُ بِاشْتِمَالِ خَبَرِهَا عَلَى صِدْقٍ ، عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَثْنَى عَلَى الْقَلِيلِ ، وَمَدَحَهُمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ } وَ قَالَ تَعَالَى : { فَلَوْلَا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }

وَآيَاتٌ نَحْوُهَا يَذُمُّ فِيهَا الْكَثِيرَ ، وَيَمْدَحُ الْقَلِيلَ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ .
قِيلَ : وَمَنْ هُمْ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إذَا فَسَدَ النَّاسُ } ، وَقَالَ : { خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ } وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَقِلَّ الْعِلْمُ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْزِعُهُ مِنْ النَّاسِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا }
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً }
فِي أَخْبَارٍ نَحْوِهَا ، تُوجِبُ تَصْوِيبَ الْأَقَلِّ ، وَتَقْلِيلَ الْأَكْثَرِ ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ إذَا وَقَعَ الْخِلَافُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدْ ذَكَرْنَا ، وَيَجِبُ عَلَيْنَا حِينَئِذٍ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ .
وَقَدْ ارْتَدَّ أَكْثَرُ النَّاسِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنَعُوا الصَّدَقَةَ ، وَكَانَ الْمُحِقُّونَ - الْأَقَلَّ ، وَهُمْ الصَّحَابَةُ ، وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْقَوْلِ بِإِمَامَةِ مُعَاوِيَةُ وَيَزِيدَ وَأَشْبَاهِهِمَا مِنْ

مُلُوكِ بَنِي مَرْوَانَ ، وَالْأَقَلُّ كَانُوا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، وَمَعْلُومٌ : أَنَّ الْحَقَّ كَانَ مَعَ الْأَقَلِّ ، دُونَ الْأَكْثَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ } .
وَقَالَ : { يَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ } وَقَالَ : { عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ } ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ إجْمَاعِ الْأَكْثَرِ .
قِيلَ لَهُ : فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْفِرْقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَا جَمَاعَةٌ ، فَلِمَ اعْتَبَرْت الْأَكْثَرَ ؟ وَلَا دَلَالَةَ فِي الْخَبَرِ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ } يَعْنِي إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى شَيْءٍ وَخَالَفَهَا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ ، فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمَا ، وَلُزُومِ اتِّبَاعِ الْجَمَاعَةِ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ : { فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ } فَأَخْبَرَ أَنَّ لُزُومَ الْجَمَاعَةِ : إنَّمَا يَجِبُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهَا إلَّا الْوَاحِدُ ، وَالْعَدَدُ الْيَسِيرُ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ } مَعْنَاهُ : مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فِي أُصُولِ اعْتِقَادَاتِهَا ، فَلَا تُنْقِضُوهُ وَتَصِيرُوا إلَى خِلَافِهِ ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِقَوْلٍ بَاطِلٍ فَقَدْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ وَالسَّوَادَ الْأَعْظَمَ ، إمَّا فِي جُمْلَةِ اعْتِقَادِهَا ، أَوْ فِي تَفْصِيلِهِ .

فارغة

الْبَابُ الثَّانِيْ وَالسَّبْعُوْنَ:فِي الْقَوْلِ فِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

فارغة

بَابٌ الْقَوْلُ فِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
( زَعَمَ قَوْمٌ ) مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يُسَوِّغُ لِأَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ مُخَالَفَتَهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ ، وَقَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ : أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَائِرُ النَّاسِ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَزِيَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي لُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ جَمِيعَ الْآيِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ فِيهَا تَخْصِيصُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } خِطَابٌ لِسَائِرِ الْأُمَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الِاسْمِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وَقَوْلُهُ : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وقَوْله تَعَالَى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } قَدْ عَمَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ سَائِرَ الْأُمَمِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ ( بِهَا ) عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ .

وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ ، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } وقَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } وقَوْله تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } إنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا لِأَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ ، كَذَلِكَ حُكْمُ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ ، لَمَّا كَانَتْ مُبْهَمَةً ، لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَلَوْ جَازَ لِقَائِلٍ أَنْ يَخُصَّ بِهَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ ، لَجَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَخُصَّ بِهَا أَهْلَ الْكُوفَةِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِيهَا .
وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ إجْمَاعُهُمْ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً ، لَمَا خَفِيَ أَمْرُهُ عَلَى التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، فَلَمَّا لَمْ نَرَ أَحَدًا مِنْ تَابِعِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ وَمِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ ، دَعَا سَائِرَ الْأَمْصَارِ إلَى اعْتِبَارِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ .
دَلَّ ذَلِكَ : عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ مُحْدَثٌ ، لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ ، بَلْ إجْمَاعُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ ظَاهِرٌ فِي تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ لِأَهْلِ سَائِرِ الْأَمْصَارِ مَعَهُمْ ، وَأَجَازُوا لَهُمْ مُخَالَفَتَهُمْ إيَّاهُمْ .
فَقَدْ حَصَلَ مِنْ إجْمَاعِ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حُجَّةً ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ ، كَمَا أَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ لَمَّا كَانَ حُجَّةً لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ ، لَوَجَبَ اعْتِبَارُ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ، وَمَعْلُومٌ : أَنَّهُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَجْهَلُ النَّاسِ ، وَأَقَلُّهُمْ عِلْمًا ، وَأَبْعَدُهُمْ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا يُعْتَبَرُ الْآنَ إجْمَاعُ مَنْ يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ : أَصْحَابُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ

قِيلَ لَهُ : أَفَتَعْتَبِرُ إجْمَاعَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ .
فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ .
قِيلَ لَهُ : فَاعْتَبِرْ إجْمَاعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ التَّابِعِينَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَإِنَّهُمْ أَخَذُوا الْعِلْمَ عَمَّنْ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ .
وَأَيْضًا : فَلَيْسَ يَخْلُو إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : مِنْ أَنْ تَكُونَ صِحَّتُهُ مُتَعَلِّقَةً بِالْمَوْضِعِ ، أَوْ بِالرِّجَالِ ذَوِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ، فَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَوْضِعِ ، فَالْمَوْضِعُ مَوْجُودٌ ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَوْضِعِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ .
وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ .
( وَإِنْ اُعْتُبِرَ ) بِالرِّجَالِ دُونَ الْمَوْضِعِ ، فَإِنَّ الَّذِينَ نَزَلُوا الْكُوفَةَ هُمْ عُمْدَةُ أَهْلِ ( عِلْمِ ) الدِّينِ وَأَعْلَامُهُ .
مِنْهُمْ : عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَحُذَيْفَةُ ، وَعَمَّارٌ ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، وَآخَرُونَ ، مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ .
وَقِيلَ : إنَّهُ نَزَلَهَا مِنْ الصَّحَابَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَيِّفٌ ، فِيهِمْ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا ، فَلِمَ خَصَصْت بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ مَنْ أَخَذَ عَمَّنْ بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ ؟ دُونَ مَنْ أَخَذَ عَمَّنْ نَزَلَ الْكُوفَةَ وَسَائِرَ الْأَمْصَارِ ؟ وَلِخَصْمِك أَنْ يُعَارِضَك فَيَقُولَ : إنَّمَا اُعْتُبِرَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، دُونَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ ، وَهُمْ أَعْلَامُ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاؤُهُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا خَصَصْنَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ ، لِأَنَّهَا دَارُ السُّنَّةِ وَدَارُ الْهِجْرَةِ ، وَلِأَنَّ سَائِرَ النَّاسِ عَنْهُمْ أَخَذُوا ، كَمَا كَانَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حُجَّةً عَلَى التَّابِعِينَ ، لِأَنَّهُمْ عَنْهُمْ أَخَذُوا .
قِيلَ لَهُ : فَتَعْتَبِرُ إجْمَاعَ ( أَهْلِ ) الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ثَبَتُوا بِالْمَدِينَةِ ، وَلَمْ يَخْرُجُوا

عَنْهَا دُونَ مَنْ خَرَجَ عَنْهَا ، وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ ؟ أَوْ تَعْتَبِرُ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِمَّنْ كَانُوا بَعْدَ الصَّحَابَةِ ؟ فَإِنْ قَالَ : أَعْتَبِرُ إجْمَاعَهُمْ خَاصَّةً فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ ، وَبَعْدَهُمْ ، وَلَا أَعْتَدُّ بِخِلَافِ مَنْ خَالَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ خَرَجَ عَنْهَا ، قَالَ قَوْلًا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بُطْلَانُهُ ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ كَذَلِكَ ، فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يُجْعَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، ( وَعَبْدُ اللهِ ) بْنُ مَسْعُودٍ ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، وَنُظَرَاؤُهُمْ ، خِلَافًا ، وَكَفَى بِهَذَا خِزْيًا لِمَنْ بَلَغَهُ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا اُعْتُبِرَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي الْأَصْلِ
قِيلَ لَهُ : فَإِنَّمَا اعْتَبَرْت إجْمَاعَهُمْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ ، لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا عَنْ الصَّحَابَةِ فَهَلَّا اعْتَبَرْت إجْمَاعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ انْتَقَلُوا إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ؟ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ سَائِرَ النَّاسِ لَمَّا أَخَذُوا عَنْهُمْ ( وَجَبَ ) لُزُومُ اتِّبَاعِهِمْ ، كَمَا لَزِمَ التَّابِعِينَ اتِّبَاعُ الصَّحَابَةِ ، لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا عَنْهُمْ .
قِيلَ لَهُ : فَإِنَّ تَابِعِي أَهْلِ الْكُوفَةِ أَخَذُوا عَمَّنْ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَاعْتُبِرَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا اُعْتُبِرَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، لِأَنَّ { النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَدَحَهُمْ فَقَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَفِي مُدِّهِمْ } ، وَقَالَ : { مَنْ أَرَادَهُمْ بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ } ، وَقَالَ : { إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا } ، وَقَالَ : { إنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ } ، فَإِذَا كَانَ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَا لَهُمْ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ ، وَمَدَحَهُمْ - وَجَبَ اتِّبَاعُهُمْ ، لِأَنَّهُ لَا يَدْعُو لَهُمْ وَلَا يَمْدَحُهُمْ إلَّا وَهُمْ مُؤْمِنُونَ .
قِيلَ لَهُ : وَمَا فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ مِمَّا يُوجِبُ كَوْنَ إجْمَاعِهِمْ حُجَّةً ، وَكَيْفَ وَجْهُ تَعَلُّقِ صِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ بِهِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ أَرَادَهُمْ بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الثَّلْجُ } ، لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخِلَافِ ( عَلَيْهِمْ )
إرَادَتُهُمْ بِسُوءٍ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ الصَّحَابَةُ حِينَ اخْتَلَفَتْ فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي اجْتَهَدُوا فِيهَا آرَاءَهُمْ قَدْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِسُوءٍ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّمَا دَعَا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِهِ ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُهَاجِرِينَ وَأَنْصَارًا ، وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي الْمَدِينَةِ ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا فِي الْبُلْدَانِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كُنْت إنَّمَا جَعَلْت إجْمَاعَ هَؤُلَاءِ حُجَّةً ، فَهَذَا مَا لَا تَنَازُعَ فِيهِ ، وَإِنْ أَرَدْت إجْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ بِالْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْت بَعْدَ ذَهَابِ الصَّحَابَةِ ؟ .
( وَمَعْنَى ) قَوْلِهِ : { إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا } : إنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ ، هَاجَرَ إلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ دُونِ الشِّرْكِ ، فَلَمَّا زَالَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ زَالَ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ بَعْدَ زَوَالِ الْهِجْرَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُقِيمَ فِي قَبِيلَتِهِ وَحَيِّهِ وَبَلَدِهِ ، وَلَا يُهَاجِرَ إلَيْهَا ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا عَامًّا فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ الْآنَ .
وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَهْلَ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ الْكِبَارِ وَقَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الدِّينِ ، وَفَسَادِ الِاعْتِقَادِ ، وَعَدَمِ الْخَيْرِ مَا اسْتَوْلَى عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الدَّجَّالَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ ، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْ أَنْقَابِهَا مَلَكًا شَاهِرًا سَيْفَهُ } وَهَذَا يَدُلُّ : عَلَى حِرَاسَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إيَّاهُمْ ، وَأَنَّهُ قَدْ أَبَانَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ مَزِيَّةٌ فِي لُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ .

قِيلَ لَهُ : وَمَا فِي هَذَا مَا يُوجِبُ مَا ذَكَرْت ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَحْرُوسَةً سَوَاءٌ صَارَ أَهْلُهَا إلَى الضَّلَالِ ، أَوْ ثَبَتُوا عَلَى الْحَقِّ ؟ كَمَا
حَرَسَ أَهْلَ مَكَّةَ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ ، وَكَانُوا مُشْرِكِينَ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَصْفُهَا بِأَنَّ عَلَى أَنْقَابِهَا الْمَلَائِكَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَصَرَهَا الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حِرَاسَةِ اللهِ تَعَالَى إيَّاهَا بِالْمَلَائِكَةِ ، وَأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَهَا ، فَيَكُونُ حُكْمُ الْخَبَرِ مَقْصُورًا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ.

الْبَابُالثَّالِثُ والسَّبْعُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي الْخُرُوجِ عَنْ اخْتِلَافِ السَّلَف

فارغة

بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْخُرُوجِ عَنْ اخْتِلَافِ السَّلَف
ِ إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ عَصْرٍ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى أَقَاوِيلَ مَعْلُومَةٍ ، لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ : أَنْ يَخْرُجَ عَنْ جَمِيعِ أَقَاوِيلِهِمْ ، وَيُبْدِعَ قَوْلًا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ، وَهَذَا مَعْنَى مَا حَكَاهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي ذِكْرِ أَقْسَامِ أُصُولِ الْفِقْهِ .
فَقَالَ : وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَشْبَهَهُ يَعْنِي : أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ اخْتِلَافِهِمْ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ : قَوْلُ اللهِ تَعَالَى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وقَوْله تَعَالَى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وقَوْله تَعَالَى : { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } ، وقَوْله تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } وَهَذِهِ صِفَةُ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ فِي الْخُرُوجِ عَنْ أَقَاوِيلِ الْجَمْعِ ، اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَمُخَالَفَةُ مَنْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ ، لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِدَلَالَةِ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ : أَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ ، فَلَوْ جَازَ إبْدَاعُ قَوْلٍ لَمْ يَقُلْ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، لَمَا أَمِنَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ ، وَأَنَّ مَا قَالُوهُ خَطَأٌ ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ جَوَازَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ ، وَذَلِكَ مَأْمُونٌ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا ذَكَرْت ( لَا ) يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ : أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ مُصِيبِينَ ، وَمَنْ يَقُولُ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ أَيْضًا مُصِيبًا ، إذَا كَانُوا حِينَ اخْتَلَفُوا فَقَدْ سَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ .
قِيلَ لَهُ : مَا ذَكَرْت مِنْ مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ : لَا يَعْصِمُ الْقَائِلَ مِمَّا

أَلْزَمْنَاهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ ، فَقَدْ أَجْمَعُوا : عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهَا
خَطَأٌ ، سَوَاءٌ كَانُوا مُصِيبِينَ فِي اخْتِلَافِهِمْ ، أَوْ بَعْضُهُمْ مُصِيبًا ، وَبَعْضُهُمْ مُخْطِئًا ، كَمَا لَوْ أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ ، كَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ ، بِأَنَّ مَا عَدَاهُ خَطَأٌ ، وَإِنْ كَانَ إجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، فَالْإِلْزَامُ صَحِيحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِمَنْ قَالَ : إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ ، وَلِمَنْ قَالَ : إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ : قَدْ سَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ قَدْ عُرِفَتْ ، فَأَوْجَبَ بَعْضُهُمْ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَخِ ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ الْجَدَّ أَوْلَى ، فَلَوْ قَالَ بَعْدَهُمْ قَائِلٌ : إنِّي أَجْعَلُ الْمَالَ لِلْأَخِ دُونَ الْجَدِّ ، كَانَ مُخْطِئًا فِي قَوْلِهِ ، مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِهِمْ ، وَلَوْ سَاغَ مَا قَالَ هَذَا السَّائِلُ ، لَسَاغَ مُخَالَفَةُ إجْمَاعِهِمْ الْوَاقِعِ عَنْ اجْتِهَادٍ ، لِأَنَّهُمْ حِينَ اجْتَهَدُوا فِي الْمَسْأَلَةِ ، فَقَدْ سَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِيهَا ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُبِيحًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ مُخَالَفَتَهُمْ فِيمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ ، كَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى وُجُوهٍ مَعْلُومَةٍ ، وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ عَنْ اجْتِهَادٍ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِمَنْ بَعْدَهُمْ الْخُرُوجُ عَنْ أَقَاوِيلِهِمْ إذَا كَانَ إجْمَاعُهُمْ : عَلَى أَنْ لَا قَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ - إلَّا مَا قَالُوهُ - مَانِعًا مِنْ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي الْخُرُوجِ عَنْهُ .اااا

البَابُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي التَّابِعِيِّ هَلْ يُعَدُّ خِلَافًا عَلَى الصَّحَابَةِ؟اااااااا

فارغةاااا

بَابٌ الْقَوْلُ فِي التَّابِعِيِّ هَلْ يُعَدُّ خِلَافًا عَلَى الصَّحَابَةِ
قَالَ أَصْحَابُنَا :
التَّابِعِيُّ الَّذِي قَدْ صَارَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا ، يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ عَلَى الصَّحَابَةِ ، كَأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ خِلَافُ الصَّحَابِيِّ إلَّا لِصَحَابِيٍّ مِثْلِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا : أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ سَوَّغَتْ لِلتَّابِعِينَ مُخَالَفَتَهُمْ ، وَالْفُتْيَا بِحَضْرَتِهِمْ ، وَتَنْفِيذِ أَحْكَامِهِمْ ، مَعَ إظْهَارِهِمْ لَهُمْ الْمُخَالَفَةَ فِي مَذَاهِبِهِمْ ، أَلَا تَرَى : أَنَّ عَلِيًّا وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدْ وَلَّيَا شُرَيْحًا الْقَضَاءَ ، وَلَمْ يَعْتَرِضَا عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِهِ ، مَعَ إظْهَارِهِ الْخِلَافَ عَلَيْهِمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا وَلَّوْهُمْ الْحُكْمَ لِيَحْكُمُوا بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ ، لِأَنَّ فِي رِسَالَةِ عُمَرَ إلَى شُرَيْحٍ ، ( فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي السُّنَّةِ فَاجْتَهِدْ رَأْيَك ) وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ ، وَلَا الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ ، وَخَاصَمَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى شُرَيْحٍ وَرَضِيَ بِحُكْمِهِ ، حِينَ حَكَمَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ رَأْيِهِ ، وَشَاوَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَعْبَ بْنَ سَوْرٍ ، وَأَمَرَهُ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا فِي الْكَوْنِ عِنْدَهَا ، فَجَعَلَ لَهَا كَعْبٌ قِسْمًا وَاحِدًا مِنْ أَرْبَعٍ .
وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ : ( تَذَاكَرْت أَنَا وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، عِدَّةَ الْحَامِلِ ، الْمُتَوَفَّى عَنْهَا

زَوْجُهَا .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " آخِرُ الْأَجَلَيْنِ " وَقُلْت أَنَا : عِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي ) وَذَكَرَ إبْرَاهِيمُ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : ( كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا قَدِمَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَدَعَاهُمْ ، قَالَ : فَصَنَعَ لَنَا مَرَّةً طَعَامًا ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ وَيُفْتِي فَكَانَ يُخَالِفُنَا ، فَمَا كَانَ يَمْنَعُنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ إلَّاأَنَّا ( كُنَّا ) عَلَى طَعَامِهِ ) ، وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ فَرِيضَةٍ ، فَقَالَ : ( سَلُوا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي ) وَسُئِلَ أَنَسٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ ، فَقَالَ : ( سَلُوا مَوْلَانَا الْحَسَنَ ) .
وَأَيْضًا : كَانَ التَّابِعِيُّ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَمِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِدْرَاكِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ ، وَكَانَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحَابِيِّ ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا جَازَ لِلصَّحَابِيِّ الْخِلَافُ عَلَى مِثْلِهِ مَوْجُودَةٌ فِي التَّابِعِيِّ : وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ ، وَهُمَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا يَجُوزُ لِلتَّابِعِيِّ مُخَالَفَةُ الصَّحَابِيِّ ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ مَخْصُوصُونَ بِالْفَضْلِ دُونَهُمْ ، وَقَدْ مَدَحَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي : أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ } وَقَالَ : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } ، وَقَالَ : { لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبَا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } وَإِذَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُمْ لَمْ يَجُزْ : أَنْ يُسَاوِيَهُمْ أَحَدٌ فِي مَنْزِلَةٍ .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا الْفَضْلُ فَمُسَلَّمٌ لَهُمْ ، إلَّا أَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي ذَكَرْت لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً

فِي مَنْعِ خِلَافِ الْمَفْضُولِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ مُتَفَاضِلُونَ ، وَأَفْضَلُهُمْ : الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ ، بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، وَقَدْ سَوَّغُوا مَعَ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ لِمَنْ دُونَهُمْ مَعَهُمْ ، وَمُخَالَفَتَهُمْ ، مِثْلِ : ابْنِ عُمَرَ ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَوْ كَانَ الْفَضْلُ مُوجِبًا لَهُمْ التَّفَرُّدَ بِالْفُتْيَا - لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالَفَةُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي } لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَقُولَ : مَعَهُمَا مِنْ دُونِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ كَذَلِكَ لَا يُمْنَعُ التَّابِعِيُّ .
فَإِنْ قِيلَ : لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ مَزِيَّةٌ عَلَى قَوْلِ التَّابِعِيِّ ، لِأَنَّهُ قَدْ شَاهَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمَ بِمُشَاهَدَتِهِ مَصَادِرَ قَوْلِهِ وَمَخَارِجَهُ ، وَمِنْ بَعْدِهِمْ لَيْسَتْ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ ، فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يُزَاحِمُوهُمْ .
قِيلَ لَهُ : مَا ( عَرَفَهُ الصَّحَابِيُّ ) بِالْمُشَاهَدَةِ ، قَدْ عَرَفَهُ التَّابِعِيُّ بِسَمَاعِهِ مِمَّنْ نَقَلَهُ إلَيْهِ ، فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ وَحُكْمُ الصَّحَابِيِّ فِي هَذَا الْوَجْهِ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ، إطْلَاقِ لَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمٍ يُرِيدُ بِهِ أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُ لِيَشْتَرِكَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ فِي مَعْرِفَتِهِ ، وَلُزُومِ حُكْمِهِ ، إلَّا وَذَلِكَ اللَّفْظُ مَتَى نُقِلَ يُفِيدُ الْغَائِبَ مَا أَفَادَهُ الشَّاهِدُ ، وَلَا يَجُوزُ : أَنْ يُخَصَّ الشَّاهِدُ مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ وَمَخَارِجِ اللَّفْظِ ، بِمَا لَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ ، إذَا نُقِلَ عَنْهُ ، إلَّا وَحُكْمُهُ مَقْصُورٌ عَلَى الشَّاهِدِ ، وَمَخْصُوصٌ بِهِ ، دُونَ الْغَائِبِ .
فَأَمَّا إذَا أَرَادَ ( عُمُومَ الْحُكْمِ ) فِي الْفَرِيقَيْنِ ، فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ حَالِ الْمُشَاهَدَةِ وَمَخَارِجِ اللَّفْظِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي : { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ، ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا .
فَرُبَّ

حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } فَجَعَلَ الْمَنْقُولَ إلَيْهِ الْغَائِبَ أَفْقَهَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِمَعْنَى خِطَابِهِ مِنْ السَّامِعِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ ، لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُمْ الْفُتْيَا مَعَ مُشَاهَدَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَيْسَ مُشَاهَدَتُهُ إذًا عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الِاخْتِصَاصِ بِالْفُتْيَا ، وَمَنَعَ مَنْ لَمْ يُشَاهِد
الْقَوْلَ مَعَهُ ، وَلَمَّا لَمْ يُمْنَعْ التَّابِعِيُّ : أَنْ يَقُولَ فِي الْفُتْيَا ، وَيَجْتَهِدَ رَأْيَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ الصَّحَابَةَ .اااا

الْبَابُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِاااااااا

فارغةاااا

بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ
إذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي حُكْمِ مَسْأَلَةٍ وَانْقَرَضُوا ، ثُمَّ أَجْمَعَ أَهْلُ عَصْرٍ بَعْدَهُمْ عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي قَالَ بِهِ أَهْلُ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ - فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، وَيَسَعُ كُلَّ أَحَدٍ خِلَافُهُ بِبَعْضِ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي قَالَ بِهَا أَهْلُ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : فَإِنْ كَانَ خِلَافًا يُؤَثِّمُ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي يُسْقِطُ الْخِلَافَ الْأَوَّلَ .
وَإِنْ كَانَ خِلَافًا يُؤَثِّمُ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَسَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِيهِ فَإِنَّ إجْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ لَا يُسْقِطُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَالَ أَصْحَابُنَا : إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي حُجَّةٌ لَا يَسَعُ مَنْ بَعْدَهُمْ خِلَافُهُ ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - فِي قَاضٍ حَكَمَ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا : إنِّي أُبْطِلُ قَضَاءَهُ ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَتْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ ، ثُمَّ أَجْمَعَ بَعْدَ ذَلِكَ قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَفُقَهَاؤُهُمْ ( عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ لَا تُبَاعُ ، وَلَا تُورَثُ ، لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَفُقَهَائِهِمْ ) فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ تَعَالَى لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضَلَالَةٍ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : فَكُلُّ أَمْرٍ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ جَمِيعًا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ ، وَتَرْكِ قَوْلِ الْآخَرِ ، فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَحَدٌ ، إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، فَعَمِلَ بِهِ عَامِلٌ الْيَوْمَ وَقَضَى بِهِ ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِقَاضٍ وَلِيَ هَذَا أَنْ يُجِيزَهُ ، وَلَكِنْ يَرُدُّهُ وَيَسْتَقْبِلُ فِيهِ الْقَضَاءَ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ .

قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَقَدْ بَانَ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ : أَنَّ هَذَا عِنْدَهُ إجْمَاعٌ صَحِيحٌ ، بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَتَقَدَّمُهُ اخْتِلَافٌ فِي بَابِ وُجُوبِ فَسْخِ قَضَاءِ الْقَاضِي ( بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ) وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : إجَازَةُ أَبِي حَنِيفَةَ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ، لَا يَدُلُّ عَلَى : أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْإِجْمَاعَ الَّذِي حَصَلَ فِي مَنْعِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ السَّلَفِ فِيهِ إجْمَاعًا صَحِيحًا ، يَلْزَمُ صِحَّتُهُ ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ اتِّبَاعُهُ ، إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ : أَنَّهُ إجْمَاعٌ صَحِيحٌ ، وَإِنْ لَمْ يُفْسَخْ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا قَضَى بِخِلَافِهِ ، فَكَانَ يَذْكُرُ لِذَلِكَ وَجْهًا ذَهَبَ عَنِّي حِفْظُهُ ، وَاَلَّذِي يَقُولُهُ فِي ذَلِكَ : إنَّ مَنَازِلَ الْإِجْمَاعَاتِ مُخْتَلِفَةٌ كَمَنَازِلِ النُّصُوصِ ، يَكُونُ بَعْضُهَا آكَدَ مِنْ بَعْضٍ ، وَيُسَوَّغُ الِاجْتِهَادُ فِي تَرْكِ بَعْضِهَا ، وَلَا يَجُوزُ فِي تَرْكِ بَعْضٍ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ النَّصَّ الْمُتَّفَقَ عَلَى مَعْنَاهُ لَيْسَ فِي لُزُومِ حُجَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي مَعْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ حُجَّتُهُمَا جَمِيعًا عِنْدَنَا ثَابِتَةً ، كَذَلِكَ حُكْمُ الْإِجْمَاعَاتِ ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عَلَى هَذَا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَهُ اخْتِلَافٌ ، وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ خِلَافٌ فِي بَابِ فَسْخِ قَضَاءِ الْقَاضِي ، بِخِلَافِ أَحَدِهِمَا وَمَنْعِهِ ذَلِكَ فِي الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةً لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ ، أَوْ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ ، وَهُوَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ إجْمَاعٌ قَدْ سَبَقَهُ اخْتِلَافٌ ، وَقَدْ سَوَّغَ أَهْلُ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ الِاجْتِهَادَ فِيهِ وَأَبَاحُوا فِيهِ الِاخْتِلَافَ ، فَسَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي مَنْعِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَهُمْ ، وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي خِلَافِهِ
لَا يُفْسَخُ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي ، وَلَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ عَصْرٍ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ خِلَافٌ ، فَيُفْسَخُ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا قَضَى بِخِلَافِهِ ، لِأَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ لَا يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي رَدِّهِ ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يُخَالِفُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِيهِ قَوْمٌ - هُمْ شُذُوذٌ عِنْدَنَا - لَا نَعُدُّهُمْ خِلَافًا ، فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا : ( أَنَّهُ ) لَيْسَ فِي مَنْعِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسْخُ قَضَاءِ

الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ - دَلَالَةٌ : عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ إجْمَاعًا صَحِيحًا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ : أَنَّ سَائِرَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ يُوجِبُ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ الْحَادِثِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } وقَوْله تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وقَوْله تَعَالَى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وقَوْله تَعَالَى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } مِنْ حَيْثُ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ وَلُزُومِ حُجَّتِهِ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ خِلَافٌ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى ( صِحَّتِهِ وَلُزُومِ ) حُجَّتِهِ ، وَإِنْ تَقَدَّمَهُ اخْتِلَافٌ ، إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَأَيْضًا : فَلَوْ جَازَ إجْمَاعُ أَهْلِ عَصْرٍ عَلَى قَوْلٍ يَجُوزُ الشَّكُّ فِي تَصْوِيبِهِ وَالْوُقُوفُ عَلَى اتِّبَاعِهِ ، لَبَطَلَ وُقُوعُ الْعِلْمِ : بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ ( شُهَدَاءَ لِلَّهِ ) تَعَالَى ، مُتَمَسِّكِينَ بِالْحَقِّ غَيْرِ مُبْطِلِينَ وَلَا ضَالِّينَ ، وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَمَّا اخْتَلَفُوا وَسَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِيهِ ، صَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الِاخْتِلَافِ ،وَتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ ، فَقَدْ صَارَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ تَجْوِيزِ ذَلِكَ - حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَمَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى فِي وَقْتٍ ، فَهُوَ ثَابِتٌ أَبَدًا حَتَّى يَثْبُتَ نَسْخُهُ ، وَالنَّسْخُ مَعْدُومٌ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قِيلَ لَهُ : تَسْوِيغُهُمْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ مَعْقُودٌ بِبَقَاءِ الْخِلَافِ وَعَدَمِ الْإِجْمَاعِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا : أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ حُجَّةَ الْإِجْمَاعِ ، فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ : أَنَّ تَسْوِيغَهُمْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ مُضَمَّنٌ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ .

أَلَا تَرَى : أَنَّهُمْ لَوْ اخْتَلَفُوا ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلٍ كَانَ إجْمَاعُهُمْ قَاطِعًا لِاخْتِلَافِهِمْ بَدْءًا ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ اخْتِلَافٌ ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْإِجْمَاعَاتِ إنَّمَا حَصَلَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، أَلَا تَرَى : أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا اخْتَلَفُوا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَمْرِ الْإِمَامَةِ ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : ( مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ ) ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَانْحَسَمَ ذَلِكَ الْخِلَافُ ، وَصَحَّ الْإِجْمَاعُ ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى قِتَالِهِمْ ، فَكَانَ إجْمَاعُهُمْ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ قَاطِعًا لِلْخِلَافِ السَّابِقِ لَهُ .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ قِسْمَةِ السَّوَادِ ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ قِسْمَتِهِ ، فَكَانَ إجْمَاعًا صَحِيحًا ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ مُخَالَفَتُهُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا : إنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ إجْمَاعَهُمْ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ يَقْطَعُ الِاخْتِلَافَ ، لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِانْقِرَاضِ أَهْلِ الْعَصْرِ ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْتَبِرُ انْقِرَاضَ أَهْلِ الْعَصْرِ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّهُ يَأْبَى أَيْضًا أَنْ يَجْعَلَ إجْمَاعَهُمْ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ إجْمَاعًا صَحِيحًا يَلْزَمُ حُجَّتُهُ ، لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُمْ مِنْ انْعِقَادِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ هَذَا الْإِجْمَاعُ عِنْدَهُمْ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ .
وَقَدْ قُلْنَا : إنَّ انْعِقَادَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ وَجَوَازِ الِاخْتِلَافِ مُضَمَّنٌ بِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ ، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ فِي الْمُجْتَهِدِ : إنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِمْضَاءِ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ( بَعْدَ ذَلِكَ ) ، وَكَانَ مَا لَزِمَهُ مِنْ ذَلِكَ مُضَمَّنًا بِبَقَاءِ الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى قَوْلٍ آخَرَ ، حَرُمَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، فَكَانَتْ صِحَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَلُزُومُ حُكْمِهِ مَوْقُوفًا عَلَى بَقَاءِ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِهِ .
وَكَذَلِكَ نَقُولُ : إنَّ تَسْوِيغَ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا مَوْقُوفٌ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ ، فَمَتَى

حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى قَوْلٍ مِنْهَا زَالَ الْخِلَافُ ، وَثَبَتَتْ حُجَّةُ الْإِجْمَاعِ .
ثُمَّ لَيْسَ يَخْلُو الْقَائِلُ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إمَّا أَنْ يُحِيلَ وُجُودَ إجْمَاعٍ بَعْدَ اخْتِلَافٍ كَانَ فِي الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَيَمْنَعَ كَوْنَهُ ، أَوْ يُجِيزَ وُقُوعَهُ ، إلَّا أَنَّهُ ( لَا ) تَثْبُتُ حُجَّتُهُ ، وَلَا يُرْفَعُ ( الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ بِهِ ) ، فَإِنْ أَحَالَ وُجُودَ إجْمَاعٍ بَعْدَ اخْتِلَافٍ كَانَ فِي عَصْرٍ مُتَقَدِّمٍ ، فَإِنَّا نُوجِدُهُ ، ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ ، وَإِنْ كَانَ يُجِيزُ وُجُودَهُ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُجَّتُهُ ، فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ عَلَيْهِ نَفْيَ صِحَّةِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا صِحَّةُ الْقَوْلِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ ، وَمَا كَانَ حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ وَالْأَعْصَارِ ، وَلَوْ جَازَ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْخَطَأِ فِي عَصْرٍ ، لَجَازَ اجْتِمَاعُهَا عَلَى الْخَطَأِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ .
وَهَذَاشَيْءٌ قَدْ عَلِمْت بُطْلَانَهُ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَمَّا كَانَا حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْأُمَّةِ ، لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُمَا فِي ثُبُوتِ حُجَّتِهِمَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ حُجَجِ اللهِ تَعَالَى وَدَلَائِلِهِ ، إلَّا فِيمَا يَجُوزُ ( نَسْخُهُ ) وَتَبْدِيلُهُ .
وَالْإِجْمَاعُ مِمَّا لَا يَجُوزُ وُقُوعُ النَّسْخِ فِيهِ ، لِأَنَّا إنَّمَا نَعْتَبِرُهُ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي بَعْدَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ صَوَابًا ، وَيُسَوَّغُ الْخِلَافُ عَلَيْهِ بِأَحَدِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ

سَبَقُوهُمْ بِهِ ، كَمَا نَقُولُ فِي سَائِرِ الِاجْتِهَادِ : إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ جَائِزٌ لَهُ الْقَوْلُ بِمَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ الْمَذْهَبِ الَّذِي أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ .
قِيلَ لَهُ : وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَبَطَلَتْ حُجَّةُ الْإِجْمَاعِ رَأْسًا ، لِأَنَّ كُلَّ إجْمَاعٍ يَحْصُلُ عَلَى قَوْلٍ يَجُوزُ لِأَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي خِلَافُهُ ، وَيَكُونُ كُلُّهُ جَائِزًا ، وَلَا يُقَدَّمُ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ ، لِأَنَّهُ صَوَابٌ كَمَا قُلْت فِي الْمُجْتَهِدِينَ إذَا اخْتَلَفُوا ، وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَأَمَّا مَا وَعَدْنَا إيجَادَهُ مِنْ حُصُولِ إجْمَاعَاتٍ فِي الْأُمَّةِ بَعْدَ اخْتِلَافٍ شَائِعٍ فِي عَصْرٍ مُتَقَدِّمٍ .
فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى ، وَلَكِنَّا نَذْكُرُ مِنْهُ طَرَفًا نُبَيِّنُ بِهِ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ أَبَى وُجُودَهُ ، فَمِنْ ذَلِكَ : قَوْلُ عُمَرَ فِي الْمَرْأَةِ تُزَوَّجُ فِي عِدَّتِهَا : ( إنَّ مَهْرَهَا ( يُجْعَلُ ) فِي بَيْتِ الْمَالِ ) ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ .
وَقَالَ عَلِيٌّ : الْمَهْرُ لَهَا ، بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، فَهَذَا قَدْ كَانَ خِلَافًا مَشْهُورًا فِي السَّلَفِ ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ بَعْدَهُمْ : عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ إذَا وَجَبَ فَهُوَ لَهَا ، لَا يُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
وَمِنْهُ : قَوْلُ ( ابْنِ ) عُمَرَ ، وَالْحَسَنِ ، وَشُرَيْحٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَطَاوُسٌ ، فِي جَارِيَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَطِئَهَا أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ : عَلَيْهِ الْحَدُّ .
وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ بَعْدَ هَذَا الِاخْتِلَافِ ، أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ .
وَاخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا .
فَقَالَ عُمَرُ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي آخَرِينَ : ( أَجَلُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ) .
وَقَالَ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ : ( عِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ ) ، وَكَانَ هَذَا الْخِلَافُ مُنْتَشِرًا ظَاهِرًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ حَاجَّ فِيهِ

بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَفِيهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : ( مَنْ شَاءَ بَاهَلْته ) : أَنَّ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } : نَزَلَ بَعْدَ قَوْلِهِ : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَقَدْ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ بَعْدَهُمْ : أَنَّ عِدَّتَهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ، وَقَالَ عُمَرُ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ ، وَمَسْرُوقٌ ، وَطَاوُسٌ : أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ مُبْهَمَةٌ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ .
وَقَالَ عَلِيٌّ ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ، ( وَمُجَاهِدٌ ) : هُنَّ كَالرَّبَائِبِ ، لَا يَحْرُمْنَ إلَّا بِالْوَطْءِ ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا تَزَوَّجَ بِأُمِّهَا ، وَإِنْ مَاتَتْ عِنْدَهُ لَمْ يَتَزَوَّجْ الْأُمَّ ، وَهَذَا أَيْضًا كَانَ مِنْ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي السَّلَفِ ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَهُمْ : عَلَى أَنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ ، وَقَالَ عَلِيٌّ ، وَعُمَرُ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَسَعْدٌ ، وَشُرَيْحٌ : بَيْعُ الْأَمَةِ لَا يُفْسِدُ نِكَاحَهَا ، وَقَالَ ( ابْنُ ) مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَأَنَسٌ ، وَجَابِرٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنُ : بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا .
وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ بَعْدَهُمْ : عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ لَا يُفْسِدُ نِكَاحَهَا .
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ، تَفُوقُ الْإِحْصَاءَ ، وَيَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا ، وَإِذَا كُنَّا قَدْ وَجَدْنَا أَهْلَ الْأَعْصَارِ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَحَدِ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي قَالُوا بِهَا ، فَلَوْ جَازَ مُخَالَفَتُهُمْ بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ ( لَخَرَجَ إجْمَاعُهُمْ ) مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَسَعُ خِلَافُهُ ، وَلَا نَأْمَنُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَطَأٌ ، وَأَنَّ الصَّوَابَ فِي أَحَدِ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهَا ، مِمَّا كَانَ السَّلَفُ اخْتَلَفُوا فِيهَا .
فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا : لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَسَوَّغُوا فِيهِ

الِاجْتِهَادَ ، وَأَنَّهُمْ سَوَّغُوا مَا لَمْ يَحْصُلْ إجْمَاعٌ ، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ : إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً مَا لَمْ يَحْصُلْ خِلَافٌ ، فَإِذَا وَقَعَ بَعْدَهُمْ خِلَافٌ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حَيْثُمَا وُجِدَ فَهُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى : كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : إنَّهُ حُجَّةٌ مَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ خِلَافٌ .
وَأَمَّا تَسْوِيغُ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُضَمَّنًا بِالشَّرِيطَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، فَيُقَالُ : إنَّ الِاجْتِهَادَ سَائِغٌ ، مَا لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ ، أَوْ إجْمَاعٌ فَإِذَا وُجِدَ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ سَقَطَ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي أَمْرِ الْجَنِينِ ، حَتَّى لَمَّا أَخْبَرَهُ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ بِنَصِّ السُّنَّةِ
قَالَ : ( كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِرَأْيِنَا ، وَفِيهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) .
وَكَذَلِكَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ ، فَإِنَّمَا جَوَازُ اجْتِهَادِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ مُضَمَّنٌ بِعَدَمِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ، فَإِنْ اجْتَهَدَ ثُمَّ وَجَدَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا بِخِلَافِهِ تَرَكَ اجْتِهَادَهُ ، وَصَارَ إلَى مُوجِبِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ، فَكَذَلِكَ اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ ، وَتَسْوِيغُهُمْ الْخِلَافَ فِيهِ ، مَعْقُودٌ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ : وَهُوَ أَنْ ( لَا ) يَحْصُلَ بَعْدَهُ إجْمَاعٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

الْبَابُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُوْنَ: فِي وُقُوعِ الِاتِّفَاقِ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي الْحُكْمِ

فارغة

بَابٌ فِي وُقُوعِ الِاتِّفَاقِ ( عَلَى التَّسْوِيَةِ ) بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي الْحُكْمِ
قَالَ أَصْحَابُنَا :
إذَا ( أَجْمَعَ ) أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ حُكْمِ شَيْئَيْنِ ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ حُكْمِهِمَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ .
وَقَدْ ذَكَرَهُ عِيسَى فَقَالَ : أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَاحِدٌ فِي وُجُوبِ تَوْرِيثِهِمَا ، أَوْ حِرْمَانِهِمَا ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَكَذَلِكَ الْخَالُ وَالْخَالَةُ ، فَمَنْ وَرَّثَ الْخَالَ وَرَّثَ الْخَالَةَ ، وَكَذَلِكَ مَنْ وَرَّثَ الْعَمَّةَ وَرَّثَ الْخَالَةَ ، وَمَنْ لَمْ يُوَرِّثْ أَحَدَهُمَا وَجَعَلَ الْمِيرَاثَ لِبَيْتِ الْمَالِ ، لَمْ يُوَرِّثْ الْآخَرَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ : وُقُوعُ الِاتِّفَاقِ مِنْ الْجَمِيعِ عَلَى تَسَاوِيهِمَا فِي هَذَا الْوَجْهِ ، فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْجَمِيعِ ، وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَسَاغَ الْخُرُوجُ عَنْ اخْتِلَافِهِمْ جَمِيعًا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا لَمْ يَجُزْ الْخُرُوجُ عَنْ اخْتِلَافِهِمْ لِإِجْمَاعِهِمْ : عَلَى أَنْ لَا قَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا مَا قَالُوا ، فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ إحْدَاثُ مَذْهَبٍ غَيْرِ مَذَاهِبِهِمْ .
قِيلَ لَهُ : فَإِنَّمَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ صَحَّ الْقَوْلُ بِلُزُومِ إجْمَاعِهِمْ ، وَأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ وَلَا يَعْدُوهُمْ ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ فِي مَسْأَلَتِنَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا ، لِحُصُولِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى التَّسْوِيَةِ ، فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُمْ .

فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا سَوَّوْا بَيْنَهُمْ لِدَلَالَةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ ، فَتَحْتَاجُ أَنْ نَطْلُبَ الدَّلِيلَ ( فِي إيجَابِ التَّسْوِيَةِ أَوْ جَوَازِ التَّفْرِيقِ .
قِيلَ لَهُ : فَقُلْ مِثْلَهُ فِي كُلِّ إجْمَاعٍ وَقَعَ مِنْهُمْ ، إنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ لِدَلَالَةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ فَتَحْتَاجُ أَنْ تَنْظُرَ فِي الدَّلِيلِ ) فَإِنْ صَحَّ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ ، وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ ، وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ.

الْبَابُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي اعْتِبَارِ الْإِجْمَاعِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ

فارغة

بَابٌ الْقَوْلُ فِي اعْتِبَارِ الْإِجْمَاعِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ
إذَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى حُكْمِ شَيْءٍ ثُمَّ حَدَثَ مَعْنًى فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ فَاخْتَلَفُوا عِنْدَ حُدُوثِهِ ، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بَعْدَ حُدُوثِ الْخِلَافِ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَعْنَى .
وَذَلِكَ : نَحْوُ احْتِجَاجِ مَنْ يَحْتَجُّ فِي الْمَاءِ إذَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ لَمْ تُغَيِّرْ طَعْمَهُ وَلَوْنَهُ وَلَا رَائِحَتَهُ : أَنَّهُ طَاهِرٌ ، لِإِجْمَاعِنَا عَلَى طَهَارَتِهِ قَبْلَ حُدُوثِ النَّجَاسَةِ فِيهِ ، ( فَنَحْنُ ) عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ حَتَّى يُزِيلَنَا عَنْهُ دَلِيلٌ ، وَكَمَنْ يُجِيزُ لِلْمُتَيَمِّمِ إذَا رَأَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ الْمُضِيَّ فِيهَا .
وَيَحْتَجُّ : أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى صِحَّةِ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ ، فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ فِي بَقَاءِ صَلَاتِهِ ، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَكَمَنْ احْتَجَّ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ ، فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ ، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ بَيْعِهَا .
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا ( عِنْدَنَا ) مَذْهَبٌ سَاقِطٌ ، مَتْرُوكٌ ، لَا يَرْجِعُ الْقَائِلُ بِهِ إلَى تَحْصِيلِ دَلَالَتِهِ مَتَى حُقِّقَتْ عَلَيْهِ مَقَالَتُهُ ، ذَلِكَ : ( أَنَّهُ ) لَا يَخْلُو : مِنْ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ الْمُتَقَدِّمُ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وَقَعَ الْخِلَافُ ، إنَّمَا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَلُزُومُهُ لِأَجْلِ وُقُوعِ

الِاتِّفَاقِ ، أَوْ لِدَلِيلٍ غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ إنَّمَا ثَبَتَ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ الْخِلَافُ مِنْ أَجْلِهِ لِلْإِجْمَاعِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ وَلَا إجْمَاعَ فِيهِ بَعْدَ حُدُوثِ الْمَعْنَى ، فَمِنْ أَيْنَ أَثْبَتَهُ ؟ وَقَوْلُهُ : وَنَحْنُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ خَطَأٌ ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ غَيْرُ مَوْجُودٍ .
فَيُقَالُ فِيهِ : نَحْنُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ قَدْ زَالَ ، فَإِنْ بَنَيْت مَوْضِعَ الْخِلَافِ عَلَى الْإِجْمَاعِ الْمَنْصُوصِ ، فَأَرِنَا وَجْهَ بِنَائِهِ ، مَقْرُونًا بِدَلَالَةٍ تُوجِبُ صِحَّتَهُ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا حَكَمْت بَدْءًا فِي حَالِ مَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ ، بِدَلَالَةٍ غَيْرِ الْإِجْمَاعِ ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ .
قِيلَ لَهُ : فَأَظْهِرْ تِلْكَ الدَّلَالَةَ حَتَّى تُنَوِّرَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لَهُ بَعْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ كَإِيجَابِهَا لَهُ ( قَبْلَهُ ) حَكَمْنَا لَهُ ( بِحُكْمِهِ ) ، وَإِلَّا فَقَدْ أَخْلَيْت قَوْلَك مِنْ دَلِيلٍ يُعَضِّدُهُ ، وَحَصَلْت فِيهِ عَلَى دَعْوَى مُجَرَّدَةٍ .
وَعَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمَسَائِلِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ يُمْكِنُ عَكْسُهَا عَلَى الْقَائِلِ بِهَا فِي الْوَجْهِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ ، فَيَلْزَمُهُ بِهَا ضِدُّ مُوجِبِ حُكْمِهَا الَّذِي رَامَ إثْبَاتَهُ .
فَلَا يُمْكِنُهُ الِانْفِصَالُ مِنْهَا .
نَحْوُ قَوْلِهِ فِي الْمَاءِ بَعْدَ حُلُولِ النَّجَاسَةِ ( فِيهِ ) : إنَّهُ عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهِ ، لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا قَبْلَ حُلُولِهَا فِيهِ ، فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ ، حَتَّى يَنْقُلَنَا عَنْهُ دَلِيلٌ ، فَنَقْلِبَ عَلَيْهِ ، هَذَا فِي الْمُحْدِثِ إذَا تَوَضَّأَ بِهَذَا الْمَاءِ ، أَنَّهُ قَدْ أَجْمَعْنَا قَبْلَ طَهَارَتِهِ بِهَذَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا بِطَهَارَةٍ صَحِيحَةٍ ، وَاخْتَلَفْنَا بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ لَهُ ، هَلْ صَحَّ لَهُ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ أَمْ لَا ؟ فَنَحْنُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ فِي بَقَاءِ الْحَدَثِ وَامْتِنَاعِ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى زَوَالِ حَدَثِهِ .
وَكَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ إذَا رَأَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ ، فَقَدْ اتَّفَقْنَا : ( عَلَى ) أَنَّ فَرْضَهُ لَمْ يَسْقُطْ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ ، وَاخْتَلَفْنَا إذَا بَنَى عَلَيْهَا بَعْدَ وُجُودِ الْمَاءِ ، فَنَحْنُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ فِي

بَقَاءِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْقُلَنَا عَنْهُ دَلِيلٌ .
فَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ أَجَازَ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ :إنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّهَا فِي حَالِ الْحَمْلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ، فَلَا تَزُولُ عَنْ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ ، حَتَّى يَنْقُلَنَا عَنْهُ دَلِيلٌ ، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ النَّافِيَ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ، فَنَقُولُ لَهُ : فَأَقِمْ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ اعْتِقَادِك لِلنَّفْيِ ، لِأَنَّ اعْتِقَادَك لِنَفْيِ الْحُكْمِ : هُوَ إثْبَاتُ حُكْمٍ .
فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ هَذَا الِاعْتِقَادُ ؟ فَإِنَّك لَا تَأْبَى مِنْ إيجَابِ ( الدَّلِيلِ ) عَلَى الْمُثْبِتِ .
وَأَنْتَ مُثْبِتٌ لِلْحُكْمِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، كَذَلِكَ نَقُولُ لِلْقَائِلِ : بِأَنَّا عَلَى الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ : إنَّك قَدْ أَثْبَتّ حُكْمًا لِغَيْرِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ ، فَهَلُمَّ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ ، إلَى أَنْ نَرْجِعَ إلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : لَا دَلِيلَ عَلَى النَّافِي فَيَلْزَمُك مَا أَلْزَمْنَاهُ ، وَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ : مِنْ فَسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَمَّا كَانَتْ الْحَالُ الْأُولَى يَقِينًا ، لَمْ يَجُزْ لَنَا بَعْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ : أَنْ نَزُولَ عَنْهَا بِالشَّكِّ ، لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يُزِيلُ الْيَقِينَ ( فَوَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى الْحَالِ الْأُولَى .
قِيلَ لَهُ : الْيَقِينُ غَيْرُ مَوْجُودٍ بَعْدَ وُجُودِ الشَّكِّ ) فَقَوْلُك لَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ خَطَأٌ ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِزَوَالِ حُكْمٍ قَدْ عَلِمْنَاهُ يَقِينًا بِغَيْرِ يَقِينٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } وَقَدْ كَانَ كُفْرُهُنَّ يَقِينًا ، فَأَزَالَهُ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْيَقِينِ بِزَوَالِهِ ، لِأَنَّ إظْهَارَهُنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِيَقِينٍ أَنَّهُنَّ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا } إلَى آخِرِ الْآيَةِ ، فَحَكَمَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ ، وَإِزَالَةِ حُكْمِ الذَّنْبِ الَّذِي قَدْ تُيُقِّنَ وُجُودُهُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ مِنَّا بِحَقِيقَتِهَا ، إلَّا مَا أَظْهَرُوا مِنْ التَّوْبَةِ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : فِي قَوْمٍ آخَرِينَ : { سَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا

عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنَّهُمْ رِجْسٌ } فَأُمِرْنَا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ لِتَوْبَتِهِمْ ، وَقَالَ تَعَالَى فِي قَوْمٍ آخَرِينَ : { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } فَوَقَفَ أَمْرُهُمْ مَعَ إظْهَارِهِمْ التَّوْبَةَ ، فَحَكَمَ فِي هَؤُلَاءِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ : قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَى الظَّاهِرِ وَمَنْعِ قَبُولِ تَوْبَةِ آخَرِينَ .
وَوَقْفِ أَمْرٍ فَرِيقٍ آخَرَ ، فَلَمْ يَأْمُرْ بِأَنْ يُحْمَلُوا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ يَقِينًا ، وَأَمَرَ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ : عَلَى الْحُقُوقِ ، وَالْقَتْلِ ، وَالزِّنَا ، وَغَيْرِهِمَا .
مِمَّا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الدَّمِ ، وَالْمَالِ ، وَشَهَادَةِ الشُّهُودِ ، وَلَا تُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ ، وَأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ الْقَتْلُ ، وَالْمَالُ كَانَ يَقِينًا ، فَأَزَالَ ذَلِكَ الْيَقِينَ بِمَا لَيْسَ بِيَقِينٍ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْبَقَاءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ اسْتِبَاحَتِهَا ، وَتَرْكِ مَسْأَلَةِ الْفُقَهَاءِ عَمَّا بُلِيَ بِهِ مِنْ النَّازِلَةِ .
فَإِنْ احْتَجَّ الْقَائِلُ بِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّاكِّ فِي الْحَدَثِ : أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ طَهَارَتَهُ الَّتِي كَانَتْ ، وَلَا يَزُولُ عَنْهَا بِالشَّكِّ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ الشَّاكَّ فِي صَلَاتِهِ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ } ، بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ : عَلَى أَنَّ الشَّاكَّ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَتَهُ عَلَى مَا كَانَتْ ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا : مِنْ وُجُوبِ الْبِنَاءِ عَلَى الْحَالِ الْأُولَى الَّتِي قَدْ ثَبَتَتْ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْخِلَافِ ، وَبَقَاءِ حُكْمِهَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى زَوَالِهِ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا مِنْ ذَاكَ فِي شَيْءٍ ، لِأَنَّ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَائِمَةٌ ، فَوَجَبَ عِنْدَ حُدُوثِ الْخِلَافِ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى الْحُكْمِ ، فَإِنْ وَجَدْنَا عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ دَلِيلًا مِنْ

الْإِجْمَاعِ الَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ وَوُجُوبُ مُسَاوَاتِهِ لَهُ بَنَيْنَاهُ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا اعْتَبَرْنَاهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأُصُولِ ، فَحَكَمْنَا بِمَا يُوجِبُهُ كَسَائِرِ الْحَوَادِثِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا ، وَأَمَّا الشَّاكُّ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَدَثِ ، وَالشَّاكُّ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ ، فَلَيْسَ عَلَى مَا شَكَكْنَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ أَصْلٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ ، فَحُكْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فِيهِ ) مِنْ ذَلِكَ بِإِلْغَاءِ الشَّكِّ وَالْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ ، وَاتَّبَعْنَاهُ ، وَلَمْ يَجُزْ لَنَا رَدُّ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ إلَيْهِ .
وَنَظِيرُ هَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ : مَا نَقُولُهُ فِي الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ وَالِاتِّفَاقُ ، فَمَتَى عَدِمْنَا التَّوْقِيفَ وَقَفْنَا عِنْدَ الْإِجْمَاعِ ، وَأَلْغَيْنَا الْمُخْتَلَفَ فِيهِ ، إذْ لَا سَبِيلَ إلَى اعْتِبَارِ مِقْدَارِهِ بِمَقَادِيرَ غَيْرِهَا فِي الْأُصُولِ ، مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا نَقُولُهُ فِي مُدَّةِ أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ ، وَفِي مِقْدَارِ السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ : إنَّهُ يَجُوزُ الْوُقُوفُ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ ، وَإِلْغَاءُ الْخِلَافِ وَتَبْقِيَتُهُ عَلَى الْأَصْلِ ، إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا : طَرِيقُهُ التَّوْقِيفُ ، أَوْ الْإِيقَافُ ، وَقَدْ عَدِمْنَاهُمَا فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ .

فارغة

الْبَابُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُوْنَ:فِي الْقَوْلِ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ إذَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ

فارغة

بَابٌ الْقَوْلُ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ إذَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : كَثِيرًا مِمَّا أَرَى لِأَبِي يُوسُفَ فِي إضْعَافِ مَسْأَلَةٍ يَقُولُ : الْقِيَاسُ كَذَا ، إلَّا أَنِّي تَرَكْته لِلْأَثَرِ ، وَذَلِكَ الْآثَرُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ لَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ نُظَرَائِهِ خِلَافُهُ .
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : فَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ ( كَانَ ) يَرَى " أَنَّ " تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ إذَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ .
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : أَمَّا أَنَا فَلَا يُعْجِبُنِي هَذَا الْمَذْهَبُ .
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا يُحْفَظُ عَنْهُ ذَلِكَ ، إنَّمَا الَّذِي يُحْفَظُ عَنْهُ : أَنَّهُ قَالَ : إذَا اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى شَيْءٍ سَلَّمْنَاهُ لَهُمْ ، وَإِذَا اجْتَمَعَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ يُوجَدُ نَحْوُ مَا ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَيْضًا .
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : ( إنَّ الْقِيَاسَ ) فِيمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَقْتَ صَلَاةٍ : أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِمَا رُوِيَ ( عَنْ عَمَّارٍ : أَنَّهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَقَضَى ) ، فَتَرَكُوا الْقِيَاسَ لِفِعْلِ عَمَّارٍ ، وَكَانَ أَبُو عُمَرَ الطَّبَرِيُّ يَحْكِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ : أَنَّ قَوْلَ

الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ ، يُتْرَكُ لَهُ الْقِيَاسُ ، إذَا لَمْ يُعْلَمْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِ خِلَافُهُ ، قَالَ : وَكَانَ يُحْتَجُّ فِيهِ بِأَنَّ قِيَاسَ الصَّحَابِيِّ أَرْجَحُ مِنْ قِيَاسِنَا وَأَقْوَى ، لِعِلْمِهِمْ بِأَحْوَالِ الْمَنْصُوصَاتِ بِمُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كَوْنِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِوُقُوعِ مُخْبَرِهِ .
كَذَلِكَ اجْتِهَادُ الصَّحَابِيِّ لَمَّا كَانَ أَقْوَى مِنْ اجْتِهَادِنَا - وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى رَأَيْنَا .
قَالَ : وَأَيْضًا فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ نَصًّا وَتَوْثِيقًا ، وَجَائِزٌ أَنْ يَقُولَهُ اجْتِهَادًا ، فَصَارَ لَهُ هَذِهِ الْمَزِيَّةُ فِي لُزُومِ تَقْلِيدِهِ ، وَتَرْكِ قَوْلِنَا لِقَوْلِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَتَرْكُ رَأْيِهِ لِقَوْلِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى اجْتِهَادَ نَفْسِهِ ( وَرَوَى دَاوُد بْنُ رَشِيدٍ ) ، عَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَيْسَ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ .
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : إنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَكَانَ يَحْتَجُّ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : بِأَنَّ هَذَا عِنْدَهُ ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ أَنَّ مَنْ يُقَلِّدُهُ أَعْلَمُ وَأَعْرَفُ بِوُجُوهِ الْقِيَاسِ وَطُرُقِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ ، فَيَكُونُ تَقْلِيدُهُ إيَّاهُ ضَرْبًا مِنْ الِاجْتِهَادِ ، يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُ مَنْ قَلَّدَهُ أَقْوَى وَأَوْثَقَ فِي نَفْسِهِ مِنْ اجْتِهَادِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا يُقَوِّي مَا حَكَيْنَاهُ : مِنْ حِجَاجِ أَبِي سَعِيدٍ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ ، وَيَكُونُ لِتَقْدِيمِ قِيَاسِ الصَّحَابِيِّ وَاجْتِهَادِهِ عَلَى اجْتِهَادِنَا فَضْلُ مَزِيَّةٍ بِمُشَاهَدَتِهِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَعْرِفَتِهِ بِأَحْوَالِ النُّصُوصِ ، وَمَا نَزَلَتْ فِيهِ ، وَعِلْمِهِ بِتَصَارِيف الْكَلَامِ ، وَوُجُوهِ الْخِطَابِ

الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا عِلْمُنَا وَمَعْرِفَتُنَا ، فَيَكُونُ قِيَاسُهُ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِنَا .
وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ أَيْضًا : بِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي } قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرَ لُزُومِ تَقْلِيدِهِمَا ، إذَا اتَّفَقَا عَلَى قَوْلٍ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ : عَلَى أَنَّهُمَا إذَا خَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَلْزَمْ تَقْلِيدُهُمَا فَخَصَصْنَاهُ مِنْ اللَّفْظِ ، ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ فِي لُزُومِ تَقْلِيدِهِمَا إذَا أَجْمَعَا عَلَى قَوْلٍ لَمْ يُخَالِفْهُمَا فِيهِ أَحَدٌ مِنْ نُظَرَائِهِمَا ، وَإِذَا لَزِمَ تَقْلِيدُهُمَا عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا - لَزِمَ تَقْلِيدُ أَحَدِهِمَا ، وَأَحَدُ الصَّحَابَةِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ ، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا .
وَيَدُلُّ أَيْضًا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الِاقْتِدَاءِ بِالْوَاحِدِ مِنْهُمْ ، وَأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِ هُدًى ، وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ مَحْكُومًا لَهُ بِالْهُدَى لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ .
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحْتَجُّ فِي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، وَلِلْقِيَاسِ مَدْخَلٌ فِي إثْبَاتِهِ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُجَّةً ، لَمَا جَازَ لِغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ مُخَالَفَتُهُ ، كَمَا أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَمَّا كَانَا حُجَّةً يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُمَا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُمَا .
فَقِيلَ لَهُ : بِأَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ مُخَالَفَةُ الْجَمَاعَةِ مَعَ كَوْنِ إجْمَاعِهِمْ حُجَّةً عَلَيْنَا .
فَمَا أَنْكَرَتْ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حُجَّةً ، وَيَكُونُ قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ حُجَّةً عَلَيْنَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ ، فَأَجَابَ بِأَنَّ خِلَافَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ لِلْجَمَاعَةِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ .
قَالَ : وَنَظِيرُ مَا قُلْنَا : أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ يَشِذَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، فَيُخَالِفُهُمْ بَعْدَ

مُوَافَقَتِهِ إيَّاهُمْ ، فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ انْعَقَدَ ، وَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ فَلَا يُنْقِضُهُ خِلَافُ مَنْ خَالَفَهُمْ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ لَهُمْ .
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْصُلْ إجْمَاعٌ مِنْ جَمِيعِهِمْ ، فَلَمْ يَثْبُتْ هُنَاكَ حُجَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخَالَفَتُهُ .
قَالَ : وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ لَمْ يَكُنْ يَدْعُو النَّاسَ إلَى
تَقْلِيدِهِ وَاتِّبَاعِ قَوْلِهِ .
( أَلَا تَرَى : أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ فِيهَا ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَصَبْت الْحَقَّ ، أَوْ كَلَامًا نَحْوَهُ ، فَقَالَ عُمَرُ : وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ ، وَلَكِنْ لَمْ آلُ عَنْ الْحَقِّ ) وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، فِي قَضِيَّةٍ قَضَى بِهَا ( فِي الْجَدِّ ) : لَيْسَ رَأْيِي حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ ، فِي نَفْيِ لُزُومِ تَقْلِيدِهِمْ .
فَإِذَا لَمْ يَرَ هَؤُلَاءِ وُجُوبَ تَقْلِيدِهِمْ عَلَى النَّاسِ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُقَلِّدَهُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا يَحْتَمِلُ : أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ إنَّمَا مَنَعَتْ وُجُوبَ تَقْلِيدِهِمْ لِأَهْلِ عَصْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، أَوْ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فَأَخْبَرُوا : أَنَّهُمْ لَا يَلْزَمُ أَحَدٌ أَنْ يُقَلِّدَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ فِيهَا ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ دُونَ التَّقْلِيدِ .
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَرَى قَبُولَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ ، ( لَازِمًا ) فِي الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ ، وَالِاجْتِهَادِ .
وَيُعْزِي ذَلِكَ إلَى أَصْحَابِنَا ، وَيَذْكُرُ مَسَائِلَ قَالُوا فِيهَا بِتَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ وَلُزُومِ قَبُولِ قَوْلِهِ ، نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ ( إذَا قَعَدَ الرَّجُلُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ )
وَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ : أَنَّهُ ثَلَاثَةٌ ، وَأَنَّ أَكْثَرَهُ عَشَرَةٌ ( وَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَغَيْرِهِ ( فِي أَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا ) ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ بِمِقْدَارِ فَلْكَةِ مِغْزَلٍ ) .
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ لِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ مِنْ طَرِيقِ
الِاجْتِهَادِ وَالْمَقَايِيسِ وَكَانَ طَرِيقُهُ التَّوْقِيفَ أَوْ الِاتِّفَاقَ ، ثُمَّ وَجَدْنَا الصَّحَابِيَّ قَدْ قَطَعَ بِذَلِكَ وَأَثْبَتَهُ ، دَلَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ : عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ تَوْقِيفًا ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوهُ تَخْمِينًا وَتَظَنُّنًا ، فَصَارَ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ الْمَقَادِيرِ إنَّمَا يَلْزَمُ قَبُولُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْوَاحِدِ فِيهِ ، وَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ تَوْقِيفًا .
قَالَ : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى إثْبَاتِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَقَادِيرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَالرَّأْيِ وَأَنَّ طَرِيقَهُ التَّوْقِيفُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَقَادِيرَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، لَيْسَ عَلَى جِهَةِ إيجَابِ الْفَصْلِ( بَيْنَ ) قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ، وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ، فَيَكُونُ مَوْكُولًا إلَى الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ ، وَإِنَّمَا هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مُبْتَدَأٌ ، كَمَقَادِيرِ أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ ، الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَمَقَادِيرِ أَيَّامِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ ، وَمِقْدَارِ الْجَلْدِ فِي الْحَدِّ ، لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْمَقَايِيسِ لَوْ لَمْ يَرِدْ بِهِ تَوْقِيفٌ ، كَذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ تُثْبِتُونَ أَنْتُمْ مَقَادِيرَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى .
فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ : ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ ، وَقَالَ فِي الْغُلَامُ

إذَا لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا : لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَهُ مَا لَمْ تَمْضِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا ، وَلَا تَوْقِيفَ لَهُمْ فِي إثْبَاتِ ( شَيْءٍ مِنْ ) هَذِهِ الْمَقَادِيرِ ، وَلَا اتِّفَاقَ ، فَأَثْبَتُوهَا مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ .
وَإِذَا كَانَ الرَّأْيُ وَالِاجْتِهَادُ يَدْخُلُ فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ الْمَقَادِيرِ ، لَمْ
يَمْتَنِعْ أَنْ تَكُونَ الصَّحَابَةُ قَالَتْ بِالْمَقَادِيرِ الَّتِي ذُكِرَتْ عَنْهَا مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ تَوْقِيفٌ .
قِيلَ : لَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ ، لِأَنَّا إنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ فِي الْمَقَادِيرِ الَّتِي هِيَ حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، لَا عَلَى ، جِهَةِ إيجَابِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ الَّذِي قَدْ عُلِمَ ، وَبَيْنَ الْكَثِيرِ الَّذِي قَدْ عُرِفَ ، أَوْ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ ، فَوَكَّلَ حُكْمَ الْوَاسِطَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا إلَى آرَائِنَا وَمَا يُؤَدِّينَا إلَيْهِ اجْتِهَادُنَا ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي ذَكَرْنَا .
أَلَا تَرَى : أَنَّ الْقِيَاسَ وَالِاجْتِهَادَ لَا يُوجِبَانِ حَدَّ الزِّنَا ( مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ، وَلَا حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ ، وَلَا يَدُلَّانِ عَلَى مَقَادِيرِ أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا ، وَلَا عَلَى مَقَادِيرِ أَيَّامِ الصَّوْمِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا ، لِأَنَّهَا كُلُّهَا حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى مُبْتَدَأَةٌ .كَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي حَكَيْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ .

الْبَابُ التَاسِعُ وَالسَّبْعُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي وُجُوبِ النَّظَرِ وَذَمِّ التَّقْلِيْدِ

فارغة

بَابٌ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ النَّظَرِ وَذَمِّ التَّقْلِيد
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ النَّظَرِ وَإِثْبَاتِ حُجَجِ الْعُقُولِ .
فَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ : النَّظَرُ وَاجِبٌ ، وَحُجَجُ الْعُقُولِ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ ، تُعْرَفُ بِهَا صِحَّةُ الْمَذَاهِبِ مِنْ فَاسِدِهَا .
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ : لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي تَصْحِيحِ شَيْءٍ وَلَا إفْسَادِهِ ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ صِحَّةُ الْمَذَاهِبِ وَفَسَادُهَا مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ ، وَمَشْهُورٌ عَنْ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيِّ : أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : بَلْ عَلَى الْعُقُولِ .
وَمَوْجُودٌ فِي كُتُبِهِ : أَنَّ حُجَّةَ الْعُقُولِ لَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالْقَائِلُونَ بِنَفْيِ حُجَجِ الْعُقُولِ إنَّمَا يَنْفُونَهَا بِالْقَوْلِ ، فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْعُقُولِ فِي إثْبَاتِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ أَوْ فِي نَفْيِهَا وَالْحِجَاجُ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْهُ ، لِأَنَّ ذَلِكَ صُورَتُهُ فِي عُقُولِ سَائِرِ الْعُقَلَاءِ ، إلَّا أَنَّ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَامِضٌ خَفِيٌّ .
فَالْجَلِيُّ مِنْهُ : لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ الشَّكُّ فِيهِ ، وَلَا إيرَادُ شُبْهَةٍ عَلَى نَفْسِهِ فِي نَفْيِهِ .

وَالْخَفِيُّ مِنْهَا : قَدْ يَعْرِضُ فِيهِ شُبْهَةٌ يَتْبَعُهَا النَّاظِرُ ، فَيَذْهَبُ عَنْ وَجْهِ الصَّوَابِ ، وَأَكْثَرُ مَا يَعْرِضُ هَذَا لِمَنْ نَظَرَ فِي الْفُرُوعِ قَبْلَ إحْكَامِ الْأُصُولِ ، أَوْ لَا يَنْظُرُ فِي شَيْءٍ مِنْ وَجْهِ النَّظَرِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ أَحَدًا لَا يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ وَلَا تَعْرِضُ لَهُ شُبْهَةٌ : فِي أَنَّ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ لَا يَخْلُوَانِ مِنْ أَنْ يَكُونَا فَاسِدَيْنِ ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَحِيحًا وَالْآخَرُ فَاسِدًا ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ الِاعْتِقَادُ لِصِحَّتِهِمَا جَمِيعًا ، كَنَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ : زَيْدٌ فِي الدَّارِ ( فِي هَذِهِ السَّاعَةِ ) .
وَقَالَ آخَرُ : لَيْسَ هُوَ فِي هَذِهِ الدَّارِ ( فِي هَذِهِ السَّاعَةِ ) إنَّهُمَا جَمِيعًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا صَادِقَيْنِ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَا كَاذِبَيْنِ
، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَادِقًا وَالْآخَرُ كَاذِبًا ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَمَا يَجُوزُ فِيهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ طَرِيقُهُ الْعَقْلُ .
وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ لَا يَشْتَرِكُونَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّ حُكْمَ هَذَا الْخَبَرِ وَاقِعٌ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ ، وَمَنْ نَفَى هَذَا فَهُوَ كَنَافِي عُلُومِ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَاتِ .
وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ مَا يَدُقُّ وَيَلْطُفُ ، فَيَحْتَاجُ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ إلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّأَمُّلِ .كَالشَّخْصِ إذَا رَأَيْنَاهُ مِنْ بَعِيدٍ ، وَكَالْهِلَالِ إذَا طَلَبْنَاهُ ، فَرُبَّمَا اشْتَبَهَ ، وَرُبَّمَا كَانَ إدْرَاكُهُ بَعْدَ التَّأَمُّلِ وَالتَّحْدِيقِ الشَّدِيدِ ، وَكَذَلِكَ عُلُومُ الْعَقْلِ : فِيهَا جَلِيٌّ ، وَفِيهَا خَفِيٌّ .
وَيُبَيَّنُ بِمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا : أَنَّ الْعِلْمَ يُفَرِّقُ مَا بَيْنَ الْبَهِيمَةِ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ الْعَاقِلِ الْمُمَيِّزِ ، كَالْعِلْمِ بِوُجُودِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَاتِ ، وَكَالْعِلْمِ يُفَرِّقُ مَا بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادَاتِ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَقْلِ حَظٌّ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَبِيلُ إدْرَاكِهَا الْعَقْلُ ( لَكَانَ الْإِنْسَانُ وَالْبَهِيمَةُ ) بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَكَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ إلَّا مَا تَعْلَمُهُ الْبَهِيمَةُ إذَا كَانَتْ عُلُومُهُ مَقْصُورَةً عَلَى مَا تُؤَدِّيهِ إلَيْهِ حَوَاسُّهُ .
وَتَبَيَّنَ : أَنَّ اسْتِعْمَالَ حُجَجِ الْعُقُولِ ضَرُورَةٌ إذْ كُلُّ مَنْ نَفَاهَا فَإِنَّمَا يَنْفِيهَا بِحُجَجِ

الْعُقُولِ ، وَبِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ .
وَيَحْتَجُّ لِصِحَّةِ التَّقْلِيدِ بِالْعُقُولِ ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ لِلتَّقْلِيدِ بِالتَّقْلِيدِ نَفْسِهِ ، إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ حُجَّةً لِنَفْسِهَا ، فَإِنَّمَا يَفْزَعُ إلَى مَعْنًى غَيْرِ التَّقْلِيدِ ، فَيَقُولُ : إنَّ ( النَّظَرَ بِدْعَةٌ ، وَإِنَّهُ يَدْعُو إلَى الْحِيرَةِ ، وَإِلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّبَايُنِ ) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا ، فَقَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ الْمُقَلِّدَ وَالنَّافِي لِلنَّظَرِ إنَّمَا يُثْبِتُهُ مِنْ حَيْثُ يَنْفِيهِ ، كَمَا
أَنَّ النَّافِيَ لِعُلُومِ الْحِسِّ إنَّمَا يَرُومُ نَفْيَهَا بِحِجَاجٍ وَنَظَرٍ هُوَ دُونَ عُلُومِ الْحِسِّ فِي مَنْزِلَةِ الثَّبَاتِ وَالْوُضُوحِ ، فَيَقُولُ : إنَّمَا أَبْطَلَتْ عِلْمَ الْحِسِّ ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى فِي النَّوْمِ مَا ( لَا ) يَشُكُّ فِي حَقِيقَتِهِ وَصِحَّتِهِ ، كَرُؤْيَتِهِ لِمَا يَرَاهُ فِي الْيَقَظَةِ ، ثُمَّ لَا يَجِدُ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ لَهُ حَقِيقَةً ، وَكَمَا يَرَى الْإِنْسَانُ السَّرَابَ ، فَلَا يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مَاءٌ ، ثُمَّ إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ، وَكَالْمَرِيضِ يَجِدُ الْعَسَلَ مُرًّا ، فَلَمْ آمَنْ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ الْمَحْسُوسَاتِ ، فَيَرُومُ إبْطَالَ ( عُلُومِ ) الْحِسِّ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ .
كَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ : إنَّمَا يَفْزَعُ فِي إثْبَاتِ التَّقْلِيدِ وَإِبْطَالِ النَّظَرِ ، إلَى النَّظَرِ وَالْحِجَاجِ ، فَيُنَاقِضُ فِي مَذْهَبِهِ ، وَيَهْدِمُ مَقَالَتَهُ بِحِجَاجِهِ .
وَيُقَالُ لِلْقَائِلِ بِالتَّقْلِيدِ وَالنَّافِي لِحُجَجِ الْعُقُولِ : أَثْبَتَ الْقَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ بِحُجَّةٍ ، فَإِنْ قَالَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ، فَقَدْ حَكَمَ عَلَى مَذْهَبِهِ بِالْفَسَادِ ، لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي إثْبَاتِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " حَدُّ الْبُلُوغِ " فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ لَا يَكُونُ بَالِغًا ، وَقَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ ابْنَ عِشْرِينَ سَنَةً يَكُونُ بَالِغًا ، فَهَذَانِ الطَّرَفَانِ قَدْ عَلِمْنَا حُكْمَهُمَا يَقِينًا ، وَوَكَّلَ حُكْمَ مَا بَيْنَهُمَا فِي إثْبَاتِ حَدِّ الْبُلُوغِ إلَى اجْتِهَادِنَا ، إذَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوْقِيفٌ ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ إجْمَاعٌ ، فَأَوْجَبَ عِنْدَهُ اجْتِهَادُهُ : أَنْ يَكُونَ حَدُّ الْبُلُوغِ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً.
وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ قَوْلِهِ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْغُلَامِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ إنَّهُ ( قَدْ ) ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا

وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } فَذَكَرَ هَاهُنَا حَالًا لَا يُنْتَظَرُ فِي دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ .
وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } فَمَنَعَ إمْسَاكَ مَالِ الْيَتِيمِ بَعْدَ بُلُوغِ رُشْدِهِ ، فَكَانَ هَذَانِ الطَّرَفَانِ اللَّذَانِ هُمَا : حَالُ الصَّغِيرِ ، وَحَالُ بُلُوغِ الرُّشْدِ ( مَنْصُوصًا عَلَيْهِمَا ، وَوَكَّلَ حَدَّ بُلُوغِ الرُّشْدِ ) إلَى اجْتِهَادِنَا .
فَكَانَ عِنْدَهُ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً ، فَقَدْ بَلَغَ رُشْدَهُ ، لِأَنَّ مِثْلَهُ ( يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ) جَدًّا .
وَيَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ بَلَغَ أَشُدَّهُ مَنْ لَهُ وَلَدٌ ، وَلِوَلَدِهِ وَلَدٌ ، فَكَذَلِكَ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ ( وَ ) فَارَقَ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْمَقَادِيرِ .
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : فَإِنَّهُمَا قَالَا فِي مُدَّةِ نَفْيِ الْوَلَدِ : أَرْبَعِينَ يَوْمًا ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ سُكُوتَهُ سَاعَةً وَسَاعَتَيْنِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ نَفْيِهِ ، وَأَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ ، وَاعْتَبَرَ مُدَّةَ النِّفَاسِ الَّذِي هُوَ حَالُ الْوِلَادَةِ ، وَهَذَا مِمَّا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، وَهَذَا نَظِيرُ الِاجْتِهَادِ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ ، وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ ، فَيَثْبُتُ مَقَادِيرُ الْقِيَمِ : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ لِمَا يَبْتَاعُ بِهِ النَّاسُ مِنْ الْأَثْمَانِ ، أَوْ مَا يَدْخُلُ بِهِ مِنْ النَّقْصِ بِالْجِرَاحَةِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ فِي شَيْءٍ .
وَإِنْ قَالَ : أَثْبَتَهُ بِحُجَّةٍ .
قِيلَ لَهُ : فَمَا تِلْكَ الْحُجَّةُ ؟ فَإِنْ ادَّعَى نَصًّا ، أَوْ اتِّفَاقًا ، فَلَمْ يَجِدْهُ ، وَإِنْ فَزِعَ إلَى التَّقْلِيدِ ، وَقَالَ : حُجَّتِي فِي إثْبَاتِهِ هُوَ التَّقْلِيدُ نَفْسُهُ ، فَقَدْ أَبْطَلَ ، لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَكُونُ حُجَّةً

لِنَفْسِهَا ، وَهُوَ إنَّمَا ( يَسْأَلُ عَنْ ) التَّقْلِيدِ لِمَ قُلْت : إنَّهُ حُجَّةٌ .
فَإِنْ قَالَ : هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْك فِي قَوْلِك بِحُجَجِ الْقَوْلِ ، لِأَنَّا نَقُولُ لَك : أَثْبِتْ حُجَّةَ الْعَقْلِ بِالْعَقْلِ أَوْ بِغَيْرِهِ .
فَإِنْ قُلْت : أُثْبِتُهَا بِغَيْرِ الْعَقْلِ ، قُلْنَا لَك : فَأَظْهِرْهُ .
وَإِنْ قُلْت : أُثْبِتُهَا بِالْعَقْلِ ، فَفِي هَذَا نُوزِعْت ، وَإِنَّمَا جَعَلْت الْمَسْأَلَةَ دَلِيلًا لِنَفْسِهَا .
قِيلَ لَهُ : أَوَّلُ مَا فِي هَذَا : أَنَّ اعْتِرَاضَك بِهِ احْتِجَاجٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ ، وَمُنَاظَرَةٌ مِنْك فِي إفْسَادِ الْمَذْهَبِ ، وَفِي ذَلِكَ إثْبَاتٌ مِنْك لِحُجَّةِ الْعَقْلِ ، فَأَنْتَ مِنْ حَيْثُ أَرَدْت نَفْيَهَا أَثْبَتّهَا ، وَنَاقَضْت فِي قَوْلِك ، عَلَى أَنَّا نُجِيبُك إلَى سُؤَالِك ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا لَك بِحَقِّ النَّظَرِ .
فَنَقُولُ : إنَّا أَثْبَتْنَا دَلَائِلَ الْعُقُولِ بِالْعَقْلِ ، لِأَنَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ : ظَاهِرٌ جَلِيٌّ لَا يَرْتَابُ بِهِ أَحَدٌ ، وَلَا يَشُكُّ فِيهِ .
وَمِنْهُ غَامِضٌ خَفِيٌّ ، فَوَصَلْنَا إلَى عِلْمِ الْخَفِيِّ مِنْهُ بِالْجَلِيِّ ، وَيَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ الْخَفِيِّ مِنْ أَحْكَامِ الْعُقُولِ إلَى نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ ، وَعَرَضَهُ عَلَى الْجَلِيِّ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ .
فَمَا صَحَّحَهُ صَحَّ ، وَمَا نَفَاهُ انْتَفَى ، كَمَا نَقُولُ فِي الْمَحْسُوبَاتِ : إنَّا أَثْبَتْنَا عُلُومَهَا بِالْحِسِّ ، وَإِنْ احْتَجْنَا فِي الْوُصُولِ إلَى اسْتِعْمَالِ آلَةِ الْحِسِّ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ مَنْ بَيْنِ يَدَيْهِ طَعَامٌ ، لَا يَدْرِي حُلْوٌ هُوَ أَمْ حَامِضٌ : أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِوُجُودِ آلَةِ الْحِسِّ فِيهِ دُونَ ذَوْقِهِ ، حَتَّى يَعْرِفَ طَعْمَهُ .
كَذَلِكَ الْعُلُومُ الْعَقْلِيَّةُ : مِنْهَا مَا هُوَ جَلِيٌّ ، يُعْتَبَرُ بِهِ الْخَفِيُّ مِنْهُ ، وَيُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِاسْتِعْمَالِهِ .
وَيُقَالُ لَهُ فِي النَّظَرِ وَمُوجِبِ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ : خَبَرُنَا عَنْ قَوْلِك بِوُجُوبِ التَّقْلِيدِ ، هُوَ مَذْهَبٌ قَدْ عَلِمْت صِحَّتَهُ ، أَوْ لَمْ تَعْلَمْهَا .
فَإِنْ قَالَ : لَا أَعْلَمُ صِحَّتَهُ ، فَقَدْ قَضَى عَلَى اعْتِقَادِهِ بِالْفَسَادِ ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَجُوزُ لَهُ

اعْتِقَادُ صِحَّةِ (شَيْءٍ ) وَلَا يَدْرِي هَلْ صَحِيحٌ أَمْ فَاسِدٌ .
وَإِنْ قَالَ : عَلِمْت صِحَّتَهُ .
قِيلَ لَهُ : فَعَلِمْته بِدَلِيلٍ أَمْ بِلَا دَلِيلٍ ؟ فَإِنْ قَالَ : عَلِمْته بِلَا دَلِيلٍ .
قِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ عَلِمْت صِحَّتَهُ ؟ وَإِنْ قَالَ : عَلِمْته بِدَلِيلٍ .
قِيلَ لَهُ : فَقَدْ تَرَكْت التَّقْلِيدَ وَلَجَأْت إلَى النَّظَرِ ، فَهَلَّا نَظَرْت فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي قَلَّدْت فِيهِ غَيْرَك فَاسْتَدْلَلْت عَلَى صِحَّتِهِ أَوْ فَسَادِهِ ؟ وَقَدْ اسْتَغْنَيْت عَنْ التَّقْلِيدِ بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ ، كَمَا أَثْبَتَّ التَّقْلِيدَ ضَرُورَةً ، فَكُلُّ مَنْ لَمْ يُضْطَرَّ إلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إثْبَاتُهُ ، وَلِخَصْمِهِ مَعَ ذَلِكَ : أَنْ يُعَارِضَهُ فَيَدَّعِيَ عِلْمَ الضَّرُورَةِ فِي إبْطَالِ التَّقْلِيدِ ، وَوُجُوبِ النَّظَرِ ، وَعَلَى أَنَّ مَا كَانَ الْعِلْمُ بِهِ ضَرُورَةً ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَشْتَرِكَ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ إذَا تَسَاوَوْا فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ .
وَيُقَالُ لِلْقَائِلِ بِالتَّقْلِيدِ : قَدْ وَجَدْنَا الْقَائِلِينَ بِالتَّقْلِيدِ مُخْتَلِفِي الْمَذَاهِبِ ، مُتَضَادِّي الِاعْتِقَادَاتِ عَلَى حَسَبِ تَقْلِيدِهِمْ لِمَنْ اتَّبَعُوهُ .
فَأَيُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الْمُتَضَادَّةِ الصَّحِيحُ ؟ وَأَيُّهَا الْفَاسِدُ ؟ إذْ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهَا كُلُّهَا فِي الصِّحَّةِ .
فَإِنْ قَالَ : مَذْهَبِي هُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ مَنْ قَلَّدْته أَوْلَى بِأَنْ يُقَلَّدَ مِنْ غَيْرِهِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَذْهَبِي صَحِيحًا ، وَمَذْهَبُ غَيْرِي فَاسِدًا .
قِيلَ لَهُ : وَلِمَ صَارَ مَنْ قَلَّدْته مَذْهَبُك أَوْلَى بِأَنْ يُقَلَّدَ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ قَلَّدَهُ خَصْمُك ؟ .
فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّ مَنْ قَلَّدْته أَوْرَعُ وَأَزْهَدُ ، وَأَظْهَرُ صَلَاحًا .
قِيلَ لَهُ : فَتَأْمَنُ عَلَيْهِ الْخَطَأَ وَاعْتِقَادَ الْبَاطِلِ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ قَدْ أَمِنْت جَوَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، فَقَدْ حَكَمَ لَهُ بِصِحَّةِ غَيْبِهِ ، وَأَنَّ بَاطِنَهُ كَظَاهِرِهِ ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُحْكَمَ بِهِ لِأَحَدٍ ، إلَّا لِمَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِنْ قَالَ :يَجُوزُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ الضَّلَالِ ، وَاخْتِيَارُ الْخَطَأِ ، وَالْعُدُولُ عَنْ الصَّوَابِ .
قِيلَ لَهُ : فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، فَلَسْت تَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ مُبْطِلًا فِي تَقْلِيدِك إيَّاهُ ، وَاعْتِقَادِك مَذْهَبَهُ ، فَلَسْتَ إذًا عَلَى عِلْمٍ مِنْ صِحَّةِ قَوْلِك وَبُطْلَانِ قَوْلِ خَصْمِك .
وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى

عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } .
وَأَيْضًا : فَإِنَّك إذَا قَلَّدْت مَنْ لَا تَعْلَمُ صِحَّةَ قَوْلِهِ ، فَقَدْ جَعَلْت مَنْزِلَتَهُ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْلَى بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْخَطَأِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا بَعْدَ إظْهَارِ الْأَعْلَامِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى أَيْدِيهِمْ ، وَجَعَلَهَا حُجَّةً عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُمْ ، فَكَانَ عَلَيْك فِي هَذَا أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّك جَعَلْت مَنْزِلَةَ مَنْ قَلَّدْته بِغَيْرِ دَلَالَةٍ ، أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَمْ يَجِبْ اتِّبَاعُهُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ - فَمَنْ دُونَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ
وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَك صِحَّةَ حُجَجِ الْعُقُولِ : أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ فَهُوَ يَجِدُ نَفْسَهُ يَفْزَعُ إلَى النَّظَرِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُ ، مَعْرِفَتِهِ الْحِسَّ وَالْخَبَرَ ، كَمَا يَجِدُهَا تَفْزَعُ إلَى الْحَوَاسِّ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْحِسُّ ، وَإِلَى الِاسْتِخْبَارِ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْخَبَرُ .
فَلَوْلَا أَنَّ النَّظَرَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى عُلُومٍ عَقْلِيَّةٍ - لَمَا كَانَتْ تَفْزَعُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، كَمَا لَا تَفْزَعُ فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الذَّوْقَ إلَى الشَّمِّ ، وَلَا فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ السَّمَاعُ إلَى الذَّوْقِ ، وَإِنَّمَا تَفْزَعُ فِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ الطُّعُومِ إلَى الذَّوْقِ ، وَفِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ الْأَلْوَانِ إلَى الْبَصَرِ ، وَفِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ السَّمْعُ إلَى الِاسْتِمَاعِ ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ : أَنَّ النَّظَرَ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ ، كَالْحِسِّ ، قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِيَارًا وَسَبَبًا إلَى الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَةِ أُمُورٍ بِهِ تُدْرَكُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُقَلَاءِ ، لَا يَخْلُو مِنْ ذَلِكَ فِيمَا يَنُوبُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ، حَتَّى الْعَامِّيُّ الْغُفْلُ الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ طَلَبُ الْعُلُومِ وَالْآدَابِ ، يَفْزَعُ إلَى النَّظَرِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِيمَا يَنُوبُهُ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ ، كَمَا يَفْزَعُ إلَى الْحِسِّ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْحِسُّ ، وَإِلَى الْخَبَرِ فِيمَا ( طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ ) الْخَبَرُ .

وَالنَّافِي لِلنَّظَرِ وَحُجَجِ الْعُقُولِ ، كَالنَّافِي لِعُلُومِ وَصِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ .
لَا فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى : ( قَدْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي طِبَاعِ الْعُقَلَاءِ ، كَمَا جَعَلَ فِي طِبَاعِهِمْ الْحَوَاسَّ وَسَمَاعَ الْأَخْبَارِ ) .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْحُمْقِ : إنَّمَا قُلْت بِالتَّقْلِيدِ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ ، لِأَنَّهُمْ أَمَرُونَا بِالِاتِّبَاعِ ، وَنَهَوْنَا عَنْ الِابْتِدَاعِ وَاتِّبَاعِ الرَّأْيِ .
قِيلَ لَهُ : أَوَّلُ مَا فِي هَذَا ، أَنَّهُ تَخَرُّصٌ عَلَى السَّلَفِ ، لِأَنَّهُمْ قَدْ اسْتَعْمَلُوا النَّظَرَ وَالرَّأْيَ فِي حَوَادِثِ أُمُورِهِمْ ، وَلَا يَجْهَلُ ذَلِكَ إلَّا مَنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ ، وَأَحْسَبُ : أَنَّا قَدْ سَلِمْنَا لَك مَا ادَّعَيْته عَلَى السَّلَفِ .
فَخَبِّرْنَا مِنْ أَيْنَ ثَبَتَ عِنْدَك لُزُومُ تَقْلِيدِ السَّلَفِ فِيمَا ذَكَرْت ؟ فَإِنْ قَالَ : لِأَنِّي قَدْ عَلِمْت : أَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى خَطَأٍ .
قِيلَ : وَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ عِنْدَك صِحَّةُ الْكِتَابِ ( وَالسُّنَّةِ ) ؟ فَلَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى إثْبَاتِ النَّظَرِ وَحُجَجِ الْعُقُولِ ، لِأَنَّ بِهَا تَثْبُتُ النُّبُوَّاتُ بِالدَّلِيلِ ، وَالْأَعْلَامُ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى ، وَمَنْ كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ فَهُوَ لَمْ
يَقُلْ بِالتَّقْلِيدِ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ بِتَقْلِيدِ السَّلَفِ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ قَدْ قَامَتْ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ ، فَهُوَ مِمَّا اتَّبَعَ الدَّلَائِلَ ، وَفِي ذَلِكَ إثْبَاتُ النَّظَرِ وَإِبْطَالُ التَّقْلِيدِ الَّذِي لَمْ تَقُمْ عَلَى صِحَّتِهِ دَلَالَةٌ .
وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا فِي الْعُقُولِ مِنْ نَفْيِ التَّقْلِيدِ وَإِثْبَاتِ ( النَّظَرِ ) ، بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَقَالَ : { وَاعْتَبَرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } ، وَالِاعْتِبَارُ هُوَ : النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ .
وَقَالَ : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ

الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي } إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَهُمْ مُعْرِضُونَ } وَأَمَرَ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُحَاجَّةِ الْكَافِرِ حَتَّى بُهِتَ الْكَافِرُ وَانْقَطَعَ ، وَأَخْبَرَ عَنْ اسْتِدْلَالِ إبْرَاهِيمَ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتِهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا } إلَى قَوْله تَعَالَى : { إنِّي وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى عَلَى نَسَقِ الْكَلَامِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }
وَاحْتَجَّ فِي إبْطَالِ قَوْلِ الثَّنَوِيَّةِ وَالْمَجُوس بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } .

وَاحْتَجَّ عَلَى أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ بِقَوْلِهِ : { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ } إلَى قَوْله تَعَالَى { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ } فَأَدْحَضَ مَقَالَتَهُمْ ، وَأَبَانَ عَنْ فَسَادِهَا بِأَنَّ هَذَا ( لَوْ كَانَ ) مِنْ طَبْعِ التُّرْبَةِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ - لَجَاءَتْ الطُّعُومُ مُتَسَاوِيَةً مُتَّفِقَةً ، وَلَمْ يَتْرُكْ لِمُلْحِدٍ تَأَمَّلَهُ شُبْهَةً ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } فَدَلَّهُمْ بِخَلْقِهَا ابْتِدَاءً ، عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى إعَادَتِهَا بَعْدَ إفْنَائِهَا ، وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } فَحَثَّهُمْ عَلَى النَّظَرِ ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ، مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فَلَوْ كَانَ الدِّينُ بِالتَّقْلِيدِ لَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ وَمَوَاضِعُ الْفِكْرِ .
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ : مِنْ الْآيِ ، الَّتِي فِيهَا الْحِجَاجُ ، وَالنَّظَرُ ، وَالْأَمْرُ بِالِاعْتِبَارِ ، وَالْفِكْرِ .
كَثِيرَةٌ يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا ، وَإِلَى هَذَا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى أَنْ قُبِضَ .
وَأَمَرَهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ ، قَدْ نَقَلَتْ الْأُمَّةُ ذَلِكَ ، خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ ، نَقْلًا مُتَوَاتِرًا مُتَّصِلًا ، كَمَا نَقَلُوا دُعَاءَهُ إيَّاهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ .
وَإِلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقَلُوا مَعَهُ دُعَاءَهُ إيَّاهُمْ إلَى الِاعْتِبَارِ وَالنَّظَرِ .
فَمَنْ أَنْكَرَ حُجَجَ الْعُقُولِ وَدَلَائِلَهَا ، فَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى اللهِ

تَعَالَى ، أَوْ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى ، وَأَمْرَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَنَا ) بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ بِالنُّبُوَّةِ ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أَمَرَنَا بِذَلِكَ ، كَانَ أَمْرُهُ بِهِ مَقْرُونًا بِالْأَمْرِ ( بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ) عَلَى التَّوْحِيدِ ، وَعَلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْلُومٌ : أَنَّ أَمْرَهُ إيَّانَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَجْسَامِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ ، لَمْ يَحْدُثْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَائِلُ لَمْ تَكُنْ ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِيهَا قَبْلَ أَمْرِهِ إيَّانَا بِالنَّظَرِ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا ، فَعَلِمْنَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ خَلَقَهَا فَقَدْ أَرَادَ مِنْ الْعُقَلَاءِ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى التَّقْلِيدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ ، وَجَاءَتْ الْأَنْبِيَاءُ تَدْعُو إلَى تَرْكِ التَّقْلِيدِ ، وَإِلَى النَّظَرِ فِي الْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوك عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ } فَحَكَمَ بِضَلَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ إذَا لَمْ يَرْجِعُوا فِي مَذَاهِبِهِمْ إلَى حُجَّةٍ تُصَحِّحُهَا .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَهَذِهِ مَنْزِلَةُ الْمُقَلِّدِ .
وَذَمَّ مَنْ احْتَجَّ بِالتَّقْلِيدِ فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَجَعَلَ اللَّهُ تَارِكِي النَّظَرِ بِمَنْزِلَةِ الْبَهَائِمِ ،
وَبِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ وَالْبُكْمِ .
فَقَالَ تَعَالَى : { إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } وَقَالَ تَعَالَى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ ، وَصَيَّرُوا أَنْفُسَهُمْ ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ ذَلِكَ ، مِثْلُ الْبَهِيمَةِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ

مَا خُوطِبَ بِهِ ، وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ أَدِلَّةَ الْعُقُولِ صَحِيحَةٌ ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُحْوِجْ إلَيْهَا ، لِأَنَّهُ قَدْ أَغْنَانَا عَنْهَا بِالسَّمْعِ ، وَهَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ ، لِأَنَّ السَّمْعَ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى إلَّا بِحُجَجِ الْعُقُولِ وَدَلَائِلِهَا ، وَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ صِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبِ مُسَيْلِمَةَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعُقُولِ وَالنَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ، وَأَنَّ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ ، وَلَا يَتَأَتَّى فِعْلُهُ لِمَخْلُوقٍ ، وَإِنَّ مَا أَتَى بِهِ مُسَيْلِمَةُ مَخَارِيقَ وَحِيَلَ لَا تَعُوزُ أَحَدًا صَرْفُ هِمَّتِهِ إلَيْهِ إلَّا فَعَلَ مِثْلَهُ وَأَضْعَافَهُ .
وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ يُضَاهِي قَوْلَ دَاوُد فِي قَوْلِهِ : إنِّي عَرَفْت اللَّهَ بِالْخَبَرِ .
وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ مُقِرٌّ : أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى ، لِزَعْمِهِ أَنَّ الْعَقْلَ لَمْ يَدُلَّهُ عَلَى التَّوْحِيدِ ، وَلَا عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ ، وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إلَى عِلْمِ ذَلِكَ ، إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ ، وَلَا وُصُولَ إلَى عِلْمِ صِحَّةِ الْخَبَرِ إلَّا بِالْعَقْلِ ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذِبِ الْمُتَنَبِّي .
وَعَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَعْرِفَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْمُرْسِلَ ، وَيَعْلَمَ النَّبِيَّ نَبِيًّا قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنِّي عَرَفْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْخَبَرِ ، لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ خِذْلَانٍ لَيْسَ وَرَاءَهُ غَايَةٌ ، وَمِنْ جَهَالَةٍ لَيْسَ وَرَاءَهَا نِهَايَةٌ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا أَعْرِفُ دَلَائِلَ الْعُقُولِ بِانْضِمَامِ الْخَبَرِ إلَيْهَا ، وَمَتَى لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا الْخَبَرُ لَمْ تَكُنْ الْعُقُولُ مُفْضِيَةً إلَى عِلْمِ التَّوْحِيدِ ، وَإِلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا مُتَنَاقِضٌ ، لِأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ادَّعَيْت أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِدَلَائِل الْعَقْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا صَحِيحًا ، أَوْ فَاسِدًا ، أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ ، لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ وَلَا فَسَادُهُ ، فَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَاسِدًا أَوْ كَاذِبًا ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُوجِبَ الْعِلْمَ ( بِمُخْبِرِهِ لِأَنَّ مُخْبِرَهُ كَذَبَ ، وَالْخَبَرُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ أَيْضًا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ) ، لِأَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ الْعِلْمَ لَمْ

يَكُنْ مَشْكُوكًا فِيهِ ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ ( لَا ) يَخْتَلِفَ فِي ذَلِكَ خَبَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُ خَبَرِهِ ، إذَا لَمْ تُرَاعَ صِحَّتُهُ فِي انْضِمَامِهِ إلَى دَلَائِلِ الْعُقُولِ .
وَإِنْ كَانَ شَرْطُ ذَلِكَ الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا وَصِدْقًا ، فَإِنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ مِنْ فَسَادِهِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ ، فَيَحْتَاجُ أَوَّلًا أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ أَوْ فَسَادِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ ، فَقَدْ أُوجِبَ اسْتِعْمَالُ دَلَالَةِ الْعَقْلِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْخَبَرِ ، وَقَدْ اسْتَغْنَى الْعَقْلُ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى مَدْلُولِهِ عَنْ خَبَرٍ يُضَادُّهُ ، فَتَنَاقَضَ قَوْلُك ، وَظَهَرَ تَجَاهُلُك .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَنَا بِالِاسْتِدْلَالِ مِنْ جِهَةِ الْعُقُولِ فِي الْآيِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، عَلَى مَا كَلَّفَنَا الْعِلْمُ بِهِ ، مِنْ غَيْرِ شَرْطِ انْضِمَامِ خَبَرٍ إلَيْهِ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى التَّوْحِيدِ قَبْلَ أَنْ جَاءَهُ الْوَحْيُ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي } إلَى قَوْله تَعَالَى : { إنِّي وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا } ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ سَبِيلُ كُلِّ مُكَلَّفٍ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } إلَى قَوْله تَعَالَى { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } فَأَمَرَنَا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَسْتُ أَقُولُ : إنَّ الْخَبَرَ وَالْعَقْلَ مَعًا يُحْدِثَانِ لِي الْعِلْمَ بِمُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ عِنْدَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ .
وَلَكِنِّي أَقُولُ : إنَّ الْخَبَرَ يُنَبِّهُ عَلَى النَّظَرِ ، وَعَلَى اعْتِبَارِ دَلَائِلِ الْعَقْلِ ، وَلَوْلَا الْخَبَرُ لَمَا كَانَ لِي سَبِيلٌ إلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا .
قِيلَ لَهُ : فَهَذَا الْخَبَرُ الَّذِي يَقَعُ بِهِ التَّنَبُّهُ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ، شَرْطُهُ عِنْدَك أَنْ يَكُونَ صِدْقُهُ مَعْلُومًا ، أَوْ جَائِزًا ، لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ وَصِدْقُهُ .
وَأَيُّ خَبَرٍ كَانَ وَقَعَ بِهِ التَّنَبُّهُ ،

وَإِنْ كَانَ شَرِيطَةُ هَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ ( مَعْلُومًا صِحَّتُهُ ) عِنْدَك ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُك أَنْ تَعْلَمَ صِدْقَهُ إلَّا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ، وَعَادَ عَلَيْك الْكَلَامُ الْأَوَّلُ الَّذِي قَدَّمْنَا عَلَى مَنْ قَالَ : إنِّي لَا أَعْلَمُ التَّوْحِيدَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ ، وَإِنْ جَازَ عِنْدَك أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّنْبِيهُ ، خَبَرَ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ نَبِيًّا أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ ، لِوُجُودِ التَّنْبِيهِ فِي الْحَالَيْنِ ، فَلَيْسَ يُفِيدُك الْخَبَرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، إلَّا مَا يُفِيدُك الْخَوَاطِرُ الْمُنَبِّهَةُ عَلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ ، فَقَدْ اسْتَغْنَى بِالْخَوَاطِرِ عَنْ الْخَبَرِ ، إذْ كَانَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ لَا يَخْلُو مِنْهُ ، لِمَا يُرَى مِنْ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَمَا يُشَاهِدُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَا صُنْعَ
لَهُ فِيهَا ، وَمَنْ لَمْ تُزْعِجْهُ هَذِهِ الْخَوَاطِرُ وَلَمْ تَبْعَثْهُ عَلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ ، فَخَبَرُ الْمُخْبِرِ لَهُ بِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِيهِ .
فَيَصِيرَ حِينَئِذٍ وُجُودُ الْمُخْبِرِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ : أَنَّ الْعُلُومَ إلْهَامٌ مِنْ اللهِ تَعَالَى ، وَأَنَّ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ لَا يُوَصِّلَانِ إلَى عِلْمٍ يَرِدُ ، لِنَصِّ الْآيِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْحَثِّ عَلَى النَّظَرِ وَالْفِكْرِ ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَائِلَ بِهِ الِانْفِصَالُ مِمَّنْ يَقُولُ : قَدْ أُلْهِمْت الْعِلْمَ بِإِبْطَالِ الْإِلْهَامِ .
وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : مِنْ أَيْنَ حَكَمَ بِأَنَّ مَا سَبَقْت إلَى اعْتِقَادِهِ هُوَ عِلْمٌ حَتَّى قَضَيْت بِأَنَّهُ إلْهَامٌ مِنْ اللهِ تَعَالَى ، وَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ ظَنًّا لَا حَقِيقَةَ لَهُ ، وَهَلَّا يُمْكِنُك الِانْفِصَالُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ ضِدَّ مَقَالَتِك ، وَيَدَّعِي أَنَّهُ إلْهَامٌ ؟ فَإِنْ ادَّعَى دَلَالَةً أَوْجَبَتْ لَهُ ذَلِكَ - فَقَدْ تَرَكَ الْقَوْلَ بِالْإِلْهَامِ ، وَرَجَعَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ .
وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ - فَهُوَ وَخَصْمُهُ فِي الدَّعْوَى سَوَاءٌ .
وَإِلَى ذَلِكَ يَئُولُ عَاقِبَةُ مَذَاهِبِ الْمُبْطِلِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

الْبَابُ الثَّمَانُوْنَ: فِي الْقَوْل فِي النَّافِي وَهَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ

فارغة

بَابٌ الْقَوْلُ فِي النَّافِي وَهَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي النَّافِي وَهَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ : لَيْسَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ نَفْيِهِ لِمَا نَفَاهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ ، وَلَا فِي السَّمْعِيَّاتِ ، وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ عَلَى الْمُثْبِتِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا نَفَاهُ مِنْ السَّمْعِيَّاتِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : عَلَى كُلِّ مَنْ نَفَى شَيْئًا وَأَثْبَتَهُ إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ ، وَعَلَى إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ ، وَذَلِكَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ سَوَاءٌ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ : أَنَّ كُلَّ مَنْ نَفَى شَيْئًا ، فَهُوَ لَا مَحَالَةَ مُثْبِتٌ لِوُجُودِ اعْتِقَادِ ( صِحَّةِ ذَلِكَ ) .
فَاقْتَضَى أَصْلُهُ وُجُوبَ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ صِحَّةِ اعْتِقَادِهِ فِي إسْقَاطِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّافِي - فَهُوَ مِنْ حَيْثُ يَرُومُ إسْقَاطَ الدَّلِيلِ عَلَى النَّافِي ، فَقَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ اعْتِقَادِهِ لِذَلِكَ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ ، قَدْ قَضَى لِخَصْمِهِ بِإِسْقَاطِ الدَّلَائِلِ عَنْهُ فِي نَفْيِ قَوْلِهِ ، لِأَنَّ خَصْمَهُ نَافٍ لِصِحَّةِ مَقَالَتِهِ ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ إذًا فِي نَفْيِهِ مَقَالَتَهُ عَلَى أَصْلِهِ ، وَلَا دَلَالَةَ أَيْضًا عَلَى الْقَائِلِ : بِأَنَّ النَّفْيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِهِ ، فَيُوجِبُ هَذَا تَنَاقُضَ الْقَوْلَيْنِ ،

لِأَنَّهُ حَكَمَ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ( فِي نَفْيِهِ ) لِمَا نَفَاهُ ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى خَصْمِهِ أَيْضًا فِي نَفْيِ صِحَّةِ قَوْلِهِ ، وَهَذَا غَايَةُ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ .
وَيُقَالُ لِقَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ : إذَا نَفَيْت حُكْمًا خُولِفْت فِي نَفْيِهِ ، وَزَعَمْت أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْك فَهَلْ عَلِمْت صِحَّةَ مَا نَفَيْته ؟ فَإِنْ قَالَ : قَدْ
عَلِمْت ( أَنَّ ) مَا نَفَيْته فَهُوَ مُنْتَفٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ .
قِيلَ لَهُ : بِمَ عَلِمْته وَخَصْمُك بِإِزَائِك يُخَالِفُك فِيهِ ، وَمَنْ ادَّعَى عِلْمَ شَيْءٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ بُرْهَانٍ .
فَإِنْ قَالَ : لَا أَعْلَمُهُ حَقًّا .
قِيلَ لَهُ : فَلِمَ اعْتَقَدْته مَنْفِيًّا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ ، وَأَنْتَ لَا تَدْرِي أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ ، وَقَدْ نَهَاك اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) فَإِنْ جَازَ لَك أَنْ تَعْتَقِدَ صِحَّةَ مَا لَا تَعْلَمُهُ حَقًّا وَصَوَابًا إذَا كُنْت نَافِيًا ، وَلَا تُلْزِمُ نَفْسَك إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُثْبِتَ مَا لَا تَعْلَمُهُ ثَابِتًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ ؟ وَلَوْ كَانَ مَا قَالَتْهُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ حَقًّا ، كَانَ لَا دَلِيلَ عَلَى مَنْ نَفَى حَدَثَ الْعَالَمِ ، وَنَفَى إثْبَاتَ الصَّانِعِ ، وَلَجَازَ لَهُ الْقَوْلُ فِي نَفْيِ ذَلِكَ ، وَتَرْكُ النَّظَرِ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ أَوْ نَفْيِهِ ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَنْ نَفَى مَا طَرِيقُهُ الْعَقْلُ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ دَلَالَةٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا طَرِيقُهُ السَّمْعُ .
فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ فِيهِ : بِأَنَّ فِي الْعَقْلِ دَلَالَةً عَلَى إثْبَاتِ الْمُثْبِتِ ، وَنَفْيِ الْمُنْتَفِي بِمَا طَرِيقُ إثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِهِ الْعَقْلُ .
فَلِمَ يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ .
وَأَمَّا السَّمْعِيَّاتُ فَطَرِيقُهَا السَّمْعُ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي إثْبَاتِهِ ، فَمَنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مِنْهَا

شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ ، جَازَ لَهُ أَنْ يَقُولَ : لَمْ يَبِنْ لِي أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ ، وَمَنْ ادَّعَى إثْبَاتَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ ، وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنَّهُ غَيْرُ مُثْبِتٍ .
فَيُقَالُ لِلْقَائِلِ بِهَذَا الْقَوْلِ : إنَّك وَإِنْ كُنْت نَافِيًا لِلْحُكْمِ الَّذِي نَازَعَك فِيهِ خَصْمُك ، فَإِنَّك مُثْبِتٌ لِصِحَّةِ اعْتِقَادِك بِأَنْ لَا دَلِيلَ عَلَيْك ، وَإِنَّ نَفْيَ هَذَا الْحُكْمِ وَاجِبٌ .
وَهَذَا شَيْءٌ طَرِيقُهُ السَّمْعُ ، فَلِمَ ثَبَتَ اعْتِقَادُك كَذَلِكَ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ وَنَاقَضْت فِي قَوْلِك :
إنَّ النَّافِيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى الْمُثْبِتِ .
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : إنَّ طَرِيقَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، وَإِنْ كَانَ أُصُولُهَا السَّمْعَ - فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَبَ فِي أُصُولِهَا دَلَائِلَ عَلَى فُرُوعِهَا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، فَقَدْ جَرَتْ مَجْرَى الْعَقْلِيَّاتِ فِي وُجُوبِ دَلَائِلِهَا عَلَى الْمَنْفِيِّ وَالْمُثْبَتِ مِنْهَا ، فَهَلَّا أَوْجَبْت إقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَيْت كَمَا أَوْجَبْتهَا عَلَى إثْبَاتِ مَا أَثْبَتّ ؟ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّك قَدْ اسْتَدْلَلْت عَلَى النَّفْيِ بِمَا ذَكَرْته : مِنْ أَنَّ أَصْلَهُ النَّفْيُ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السَّمْعُ ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى النَّفْيِ ، وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، فَقَدْ نَاقَضْت فِي قَوْلِك : إنَّ النَّافِيَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ .
وَيُقَالُ : هَلْ عَلِمْت : أَنَّ مَا نَفَيْت مِنْ ذَلِكَ لَا دَلِيلَ عَلَى إثْبَاتِهِ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ .
قِيلَ لَهُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْته ؟ فَإِنْ قَالَ عَلِمْته بِدَلَالَةٍ .
قِيلَ لَهُ : فَأَنْتَ إنَّمَا نَفَيْته بِدَلَالَةٍ ، فَأَظْهِرْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ .
وَقَدْ تَرَكْتَ مَعَ ذَلِكَ أَصْلَك لِإِقْرَارِك بِأَنَّ عَلَى النَّفْيِ دَلِيلًا .
فَإِنْ قَالَ : لَسْت أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ .
قِيلَ لَهُ : فَنَفَيْتَهُ بِجَهْلٍ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْك بِنَفْيِ الدَّلَالَةِ ، فَهَلَّا أَثْبَتَّهُ مَعَ الْجَهْلِ بِدَلَالَتِهِ ؟ وَكَيْفَ صَارَ النَّفْيُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى مِنْ الْإِثْبَاتِ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ هَذِهِ طَرِيقَتُهُ فِي نَفْيِ الشَّيْءِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ .
فَقَالَ تَعَالَى : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ } فَعَنَّفَهُمْ

عَلَى نَفْيِ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مَنْفِيًّا .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ الْإِثْبَاتَ مِنْ النَّفْيِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ : أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَحْكَامَ الشَّرْعِ فِي كِتَابِهِ ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ ،
فَلَمْ يُخَصِّصْ بِالْبَيَانِ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ ( لَمْ ) يُرِدْ بِهِ وُقُوعَ الْبَيَانِ فِي الْجَمِيعِ نَصًّا .
وَإِنَّمَا أَرَادَ نَصًّا وَدَلِيلًا ، وَلَمْ يُخَصِّصْ الْإِثْبَاتَ مِنْ النَّفْيِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا .
فَهَلَّا طَلَبْت دَلَالَةَ النَّفْيِ فِي الْكِتَابِ : كَدَلَالَةِ الْإِثْبَاتِ .
وَقَالَ تَعَالَى { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فَأَمَرَ بِالتَّفَكُّرِ فِي اسْتِدْرَاكِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، وَلَمْ يُخَصِّصْ الْإِثْبَاتَ مِنْ النَّفْيِ ، فَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } ، وَالنَّافِي مُنْكِرٌ ، فَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَالْمُثْبِتُ مُدَّعٍ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ .
قِيلَ : لَوْ اكْتَفَيْنَا بِهَذَا الْخَبَرِ ( فِي ) دَحْضِ مَقَالَتِك ، وَفَسَادِ أَصْلِك ، كَانَ كَافِيًا ، لِأَنَّك مُدَّعٍ لِنَفْيِ الْحُكْمِ بِإِنْكَارِك لَهُ ، وَمُدَّعٍ لِبُطْلَانِ قَوْلِ خَصْمِك الْمُثْبِتِ لِمَا نَفَيْت ، وَمُدَّعٍ بِأَنَّ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ ، وَمُدَّعٍ لِصِحَّةِ اعْتِقَادِك بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْك فِيمَا نَفَيْت مِنْ ذَلِكَ .
فَمِنْ حَيْثُ كُنْت مُدَّعِيًا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ عَلَيْك إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ دَعَاوِيك هَذِهِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى } .
فَإِنْ تَرَكَ الِاحْتِجَاجَ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ ، وَقَالَ : لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى شَيْئًا فِي يَدَيْ

رَجُلٍ فَجَحَدَهُ : إنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي دُونَ الَّذِي الشَّيْءُ فِي يَدِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الَّذِي فِي يَدِهِ بَيِّنَةٌ ، إذْ كَانَ مُنْكِرًا وَجَبَ مِثْلُهُ فِي مُنْكِرِ الْحُكْمِ وَالْمُدَّعِي لِإِثْبَاتِهِ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ رَضِينَا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَيْضًا ، فَأَنْتَ مُثْبِتٌ فِي مَسْأَلَتِنَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، فَأَلْزِمْ نَفْسَك إقَامَةَ الدَّلَالَةِ مِنْ حَيْثُ كُنْت مُدَّعِيًا لِإِثْبَاتِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا ، وَلِمَ صِرْت بِإِسْقَاطِ الدَّلَالَةِ عَنْك أَوْلَى مِنْ حَيْثُ كَانَ مُثْبِتًا ؟ وَأَسْقَطْت عَنْ الَّذِي الشَّيْءُ فِي يَدِهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ مُنْكِرًا ؟ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ ، إذْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرًا لِمِلْكِ صَاحِبِهِ ، وَمُدَّعِيًا لِمِلْكِ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الَّذِي لَيْسَ الشَّيْءُ فِي يَدِهِ لِأَنَّ الَّذِي الشَّيْءُ فِي يَدِهِ ظَاهِرَةُ يَدِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمِلْكَ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى بَيِّنَةٍ أَكْثَرَ مِنْ شَهَادَةِ ظَاهِرَةِ الْيَدِ ، وَالْخَارِجُ لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لَهُ ، فَاحْتَاجَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلَى بَيِّنَةٍ ، وَأَمَّا الْمُتَنَازِعَانِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ وَإِثْبَاتِهِ ، فَلَيْسَ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لَهُ ، فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ .
وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ مُدَّعِي الْمِلْكِ : أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا ، وَهُمَا يَدَّعِيَانِهِ ، فَيُطَالَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِدَعْوَى صَاحِبِهِ ، إذْ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهَا ظَاهِرٌ يَشْهَدُ ( لَهُ ) .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخَلِّ الْمُنْكِرَ مِنْ يَمِينٍ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ ، لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فِي الْخُصُومَةِ ، فَهَلْ تُوجِبُ أَنْتَ عَلَى مُنْكِرِ الْحُكْمِ سَبَبًا يَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ غَيْرَ نَفْيِهِ إيَّاهُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ يَجِيءُ مَسَائِلُ تُشَاكِلُ هَذَا الْبَابَ فِي إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُثْبِتِ وَالنَّافِي جَمِيعًا ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الَّذِي انْتَحَلَهُ قَدْ انْطَوَى تَحْتَ جُمْلَةٍ تَقْتَضِي النَّفْيَ إنْ كَانَ بَاقِيًا ، وَالْإِثْبَاتُ إنْ كَانَ مُثْبَتًا ، فَيَبْنِي الْقَائِلُ بِهِ مَقَالَتَهُ فِي الْفَرْعِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى

الْجُمْلَةِ الَّتِي تَفَرَّدَتْ .
فَيَقُولُ : لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُ مَا سُمِّيَ تَحْرِيمُهُ ، أَوْ لَمْ يَثْبُتْ نَفْيُ مَا أَرَدْت نَفْيَهُ ، إذَا نَفَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِنَفْيِ أَحْكَامٍ هَذَا مِنْهَا ، أَوْ يُعَلِّقُهُ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْإِثْبَاتَ ، إذَا رَامَ إثْبَاتَهُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِينَ : بِأَنَّ النَّافِيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ ، لِأَنَّ الْمُثْبِتَ وَالنَّافِيَ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْبَابِ ، مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى مَا نَفَاهُ أَوْ أَثْبَتَهُ ، إلَّا أَنَّ دَلَالَتَهُ فِي ذَلِكَ : هِيَ الْجُمْلَةُ الَّتِي أَسْنَدَ إلَيْهَا مَقَالَتَهُ ، عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَدَّمْنَا .
نَظِيرُ ذَلِكَ : أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ لَنَا : لِمَ أَبَحْتُمْ أَكْلَ الْأَرْنَبِ ؟ لَجَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ ؛ إذْ كَانَ الْأَصْلُ الْإِبَاحَةَ فِي مِثْلِهِ ، فَمَنْ رَامَ الْعُدُولَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ ، وَإِخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْهُ احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِ خَطَرِهِ ، فَإِذَا عَلَّقَهُ بِهَذَا الْأَصْلِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْحَظْرِ ، وَيَحْتَاجُ مُثْبِتُ الْحَظْرِ إلَى إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ادَّعَى ، فَلَا يَحْتَاجُ الْقَائِلُ بِالْإِبَاحَةِ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى الْأَصْلِ ، وَإِنْ لَمْ يُعَلِّقْهُ الْمَسْئُولُ بِأَصْلٍ يَقْتَضِي إبَاحَتَهُ - لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ ، لِأَنَّهُ يُقَالُ : أَفَتَثْبُتُ إبَاحَتُهُ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ .
قِيلَ لَهُ : فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَائِلٌ : لِمَ أَجَزْتُمْ بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ ؟ فَقُلْنَا : لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ ، وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ الْبُيُوعَ بِلَفْظٍ عَامٍّ ، فَقَالَ تَعَالَى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } فَمَنْ ادَّعَى الْحَظْرَ
وَإِخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ ، كَانَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ ، وَإِلَّا فَالْحُكْمُ الْإِبَاحَةُ وَالْجَوَازُ ، كَانَ هَذَا كَلَامًا صَحِيحًا ، وَلَوْ اقْتَصَرَ الْمَسْئُولُ عَلَى قَوْلِهِ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إلَى أَصْلٍ مِنْ عُمُومٍ أَوْ جُمْلَةٍ تَقْتَضِي إبَاحَتَهُ ، لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْقَوْلُ ( بِهِ ) ، إلَّا بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِهِ ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْإِثْبَاتِ .
لَوْ قَالَ قَائِلٌ : لِمَ أَجَزْتُمْ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ ؟ جَازَ أَنْ تَقُولَ :

لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ ، إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ النِّكَاحَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } فَمَنْ ادَّعَى حَظْرَ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَإِخْرَاجَهُ مِنْ الْعُمُومِ ، احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ ، وَإِلَّا فَأَنَا مُعْتَصِمٌ بِالظَّاهِرِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ خَصْمَهُ يَقُولُ ( لَهُ ) : فَدَلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ.
فَتَسَاوَيَا جَمِيعًا فِيهِ ، وَيَحْتَاجُ الْمَسْئُولُ حِينَئِذٍ إلَى إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ .
فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يَصِحُّ لِلْقَائِلِ فِيهِ بِالنَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فَسَادُهُ ، أَوْ لِأَنَّهُ ثَبَتَتْ صِحَّتُهُ ؛ إذْ عَلَّقَهُ بِأَصْلٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَيَكُونُ الْأَصْلُ الَّذِي بَنَاهُ عَلَيْهِ ، هُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ ، وَإِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ .
( وَ ) مَنْ رَامَ الْخُرُوجَ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ ، احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي خُرُوجِهِ عَنْهُ ، وَمَنْ اعْتَصَمَ بِالْأَصْلِ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أَكْثَرَ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِمَّا يُضَاهِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ بِعَيْنِهِ : إثْبَاتُ الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَالِاجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا طَرِيقُ إثْبَاتِهَا التَّوْقِيفُ وَالِاتِّفَاقُ ، فَجَائِزٌ عِنْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ لِمَنْ أَثْبَتَ مِقْدَارًا قَدْ دَخَلَ فِي اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ ، أَنْ يَقُولَ : أَثْبَتْنَا هَذَا الْقَدْرَ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَائِلُ عَلَى إثْبَاتِ مَا سِوَاهُ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، إذَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ تَوْقِيفًا ، وَلَا اتِّفَاقًا ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ .
نَظِيرُ ذَلِكَ : إنَّا إذَا قُلْنَا : إنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ .
( فَقِيلَ لَنَا لِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، وَلَا أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ ؟ ) جَازَ لَنَا أَنْ نَعْتَصِمَ فِيهِ بِمَوْضِعِ الِاتِّفَاقِ ، عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْمِقْدَارَيْنِ يَكُونَانِ حَيْضًا .

وَنَقُولُ : إنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ اتِّفَاقٌ وَلَا تَوْقِيفٌ ، فَلَمْ نُثْبِتْهُ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ فَتَسُومُنَا إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَيَقُولُ لَك خَصْمُك : قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ تَرَى فِيهِ الدَّمَ ، فَلَا أَزُولُ عَنْ هَذَا الِاتِّفَاقِ إلَّا بِتَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ مِثْلِهِ .
فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمًا وَأَحَدًا ، حَسْبَمَا ذَكَرْته مِنْ الثَّلَاثَةِ وَالْعَشَرَةِ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ تُؤْمَرْ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى جِهَةِ الْقَطْعِ مِنَّا بِكَوْنِ ذَلِكَ الدَّمِ حَيْضًا ، وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهَا أَمْرًا مُرَاعًا ، وَالثَّلَاثَةُ وَالْعَشَرَةُ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهَا حَيْضٌ ، لَا عَلَى جِهَةِ الْمُرَاعَاةِ وَالتَّرَقُّبِ بِحَالٍ ثَانِيَةٍ .
أَلَا تَرَى : إنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِتَرْكِ أَوَّلِ صَلَاةِ حَضَرَ وَقْتُهَا بَعْدَ رُؤْيَةِ الدَّمِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُؤْيَةُ الدَّمِ ) هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْوَقْتِ حَيْضًا ، وَإِنَّمَا كَانَ أَمْرُنَا إيَّاهَا بِذَلِكَ مُرَاعًا وَمُتَرَقَّبًا بِهِ حَالًا ثَانِيَةً عِنْدَ مُخَالِفِينَا ، كَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي رُؤْيَةِ الدَّمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَمَّا إذَا صَارَتْ ثَلَاثَةً ، فَقَدْ حَصَلَ الْيَقِينُ بِوُجُودِ الْحَيْضِ عِنْدَ الْجَمِيعِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ لَنَا أَنْ نَقِفَ عِنْدَ الْإِجْمَاعِ ،وَنَنْفِيَ مَا سِوَاهُ ، مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوْقِيفٌ وَلَا ثَبَتَ فِيهِ اتِّفَاقٌ .
وَمِنْ نَظَائِرِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَيْضِ : مُدَّةُ أَقَلِّ السَّفَرِ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، وَأَنَّ أَقَلَّ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، مِنْ بَابِ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَالْإِفْطَارِ ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُعَلِّقَةِ بِالسَّفَرِ ، وَهَاتَانِ الْمُدَّتَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا ، فَجَازَ لَنَا الْوُقُوفُ عِنْدَهُمَا ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى اعْتِبَارِهِمَا وَنَفْيِ

مَا عَدَاهُمَا ، مِمَّا يُوجِبُ خِلَافًا ، لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاتِّفَاقِ فِيهِ ، وَامْتِنَاعِ جَوَازِ الْقَوْلِ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ ، وَكَذَلِكَ مُدَّةُ الْحَمْلِ قَدْ اتَّفَقُوا أَنَّهَا تَكُونُ سَنَتَيْنِ ، وَمَا زَادَ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوَقُّفٌ ، وَلَا حَصَلَ عَلَيْهِ اتِّفَاقٌ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ ، فَلَمْ نُثْبِتْهُ .
وَمِثْلُهُ : مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ ، أَنَّ الْعَشَرَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِيهَا ، وَمَا دُونَهَا ، فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَلَمْ نُثْبِتْهُ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ ( إلَّا بِتَوْقِيفٍ ) فَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَالِاجْتِهَادِ .
وَمِثْلُهُ : أَنَّ نَصْبَ الْأَمْوَالِ الْمُعْتَبَرَةِ لِإِيجَابِ الزَّكَوَاتِ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ ، أَوْ الِاتِّفَاقِ ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، فَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي مِلْكٍ إذَا انْفَرَدَ عَنْ الْيَدِ ، هَلْ يَكُونُ نِصَابًا صَحِيحًا ، أَوْ لَا يَكُونُ النِّصَابُ الصَّحِيحُ إلَّا بِانْضِمَامِ الْيَدِ إلَى الْمِلْكِ ، جَازَ الْوُقُوفُ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ ، فِي كَوْنِهِمَا جَمِيعًا شَرْطًا فِي ثُبُوتِ النِّصَابِ وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ بِانْفِرَادِ الْمِلْكِ عَنْ الْيَدِ ، نَحْوُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّهُ مَنْ وَرِثَ دَيْنًا ، أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، إذَا قَبَضَهُ فِيمَا مَضَى ، حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ حَوْلٌ بَعْدَ الْقَبْضِ ، إذْ كَانَ اجْتِمَاعُ الْيَدِ وَالْمِلْكِ ( عِنْدَ الْجَمِيعِ ) نِصَابًا صَحِيحًا .
وَاخْتَلَفُوا عِنْدَ انْفِرَادِ الْمِلْكِ عَنْ الْيَدِ فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ ، وَنَفْيُ مَا عَدَاهُ ، إذْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ .
وَمِثْلُهُ مَا قَالَ فِي السِّخَالِ : إنَّهُ لَا صَدَقَةَ فِيهَا ، لِأَنَّ النِّصَابَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ ، وُجُودُ السِّنِّ وَالْمِقْدَارِ ، وَانْفِرَادُ الْمِقْدَارِ عَنْ السِّنِّ مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهِ نِصَابًا ، فَلَمْ يَثْبُتْ

مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ .
وَأَثْبَتَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ ، مِنْ إيجَابِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السِّخَالِ وَالْمَسَانِّ إذَا اجْتَمَعَا ، هَلْ يَكْمُلُ بِهِمَا نِصَابٌ ؟ وَقَدْ أَثْبَتَ نِصَابًا مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ .
قِيلَ لَهُ : لَا نَأْبَى ( إثْبَاتَهُ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ إذَا كَانَ هُنَاكَ تَوْقِيفٌ يَقْتَضِي إثْبَاتَهُ ، وَإِنَّمَا أَبَيْنَا ) إثْبَاتَهُ مِنْ غَيْرِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : تَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ ، وَمَنَعْنَا أَنْ يَكُونَ لِلْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ مَدْخَلٌ فِي ذَلِكَ
وَالتَّوْقِيفُ الْمُوجِبُ لِمَا وَصَفْنَا : مَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : فِي صَدَقَةِ الْمَوَاشِي وَيُعَدُّ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا } وَلِأَنَّ أَسْمَاءَ الْمِقْدَارِ الَّذِي عَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُجُوبَ يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } وَأَمَّا إذَا انْفَرَدَتْ السِّخَالُ عَنْ الْمَسَانِّ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهَا هَذَا الِاسْمُ ، فَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا تَوْقِيفٌ وَلَا اتِّفَاقٌ فَلَمْ يَثْبُتْ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : يَلْزَمُك عَلَى هَذَا الْأَصْلِ : أَنْ تَجْعَلَ الْجَمْعَ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ أَرْبَعِينَ ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى صِحَّةِ انْعِقَادِهَا بِأَرْبَعِينَ ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا دُونَهَا ، وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ .
وَهَذَا أَيْضًا مَا لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاتِّفَاقِ أَوْ التَّوْقِيفِ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الثَّلَاثَةِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّتِهَا .
فَأَثْبَتْنَاهَا ، وَمَا زَادَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَوْقِيفٌ وَلَا اتِّفَاقٌ ، فَلَمْ نُثْبِتْهُ .
وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا التَّوْقِيفُ فِي جَوَازِهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ { أَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَقَدِمَتْ عِيرٌ فَنَفَرَ النَّاسُ إلَيْهَا ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا اثْنَا عَشَرَ } وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْ الْجُمَعَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ .
وَلَوْ كَانُوا قَدْ عَادُوا إلَى الصَّلَاةِ لَذَكَرَ .
فَدَلَّ أَنَّهُ صَلَّى بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ، وَإِذَا جَازَتْ بِاثْنَيْ عَشَرَ جَازَتْ بِثَلَاثَةٍ ، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنَّهُ قَدْ رُوِيَ : أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهَا ، صَلَّاهَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ، فَثَبَتَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ جَوَازُهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ .

البَابُ الْحَادِيْ والثَّمَانُوْنَ:فِي الْكَلَامِ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ

فارغة

بَابُ الْكَلَامِ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ
فَصْلٌ : فِي مَعْنَى الدَّلِيلِ ، الْعِلَّةِ ، وَالْقِيَاسِ ، وَالِاجْتِهَادِ .
الدَّلِيلُ : هُوَ الَّذِي إذَا تَأَمَّلَهُ النَّاظِرُ الْمُسْتَدِلُّ أَوْصَلَهُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ ، وَسُمِّيَ دَلِيلًا لِأَنَّهُ كَالْمُنَبِّهِ عَلَى النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْمُشِيرِ لَهُ إلَيْهِ ، وَهُوَ مُشَبَّهٌ بِهَادِي الْقَوْمِ وَدَلِيلِهِمْ الَّذِي يُرْشِدُهُمْ إلَى الطَّرِيقِ ، فَإِذَا تَأَمَّلُوهُ وَاتَّبَعُوهُ أَوْصَلَهُمْ إلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَؤُمُّونَهُ
أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ : إنَّ ( فِي ) السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ دَلَائِلَ عَلَى اللهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهَا تُوصِلُ الْمُتَأَمِّلَ بِحَالِهَا إلَى الْعِلْمِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : الدَّلِيلُ هُوَ فَاعِلُ الدَّلَالَةِ فِي الْحَقِيقَةِ ، كَمَا أَنَّ دَلِيلَ الْقَوْمِ هُوَ فَاعِلُ الدَّلَالَةِ ، فَيَقُولُونَ عَلَى هَذَا : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَى الْعِلْمِ بِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي اللُّغَةِ ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُطْلِقُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَلِيلٌ ، وَلَا يَدْعُوهُ بِأَنْ يَقُولَ : يَا دَلِيلُ ، إلَّا أَنْ يُقَيِّدُوهُ ، فَيُرِيدُوا بِهِ الْمُنَجِّيَ مِنْ الْهَلَكَةِ ، عَلَى مَعْنَى الدَّلِيلِ الَّذِي يُنَجِّيهِمْ بِهِدَايَتِهِ .

فَيَقُولُونَ : يَا دَلِيلَ الْمُتَحَيِّرِينَ ، يَا هَادِيَ الْمُضَلِّينَ .
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } يَعْنِي يَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ ، وَيَقُولُ النَّاسُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ دَلَّنَا عَلَى نَفْسِهِ بِآثَارِ صَنْعَتِهِ .
فَيُقَيِّدُونَ اسْمَ الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، إذَا وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى .
وَالْمُرَادُ ( بِهِ ) الْمُنَجِّي وَالْمُبَيِّنُ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ ، لِأَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الدَّلِيلِ مَوْجُودٌ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ ، وَقَدْ يَقُولُ النَّاسُ لِلْأَعْلَامِ الْمَنْصُوبَةِ لِمَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ - نَحْوُ
الْأَمْيَالِ الْمَبْنِيَّةِ فِي الْبَادِيَةِ - : إنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى الطَّرِيقِ .
وَلَا يُسَمُّونَ الَّذِي بَنَاهَا هُنَاكَ دَلِيلًا ، وَإِنَّمَا يُسَمُّونَ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ الْمُتَأَمِّلُ لَهَا دَلِيلًا ، دُونَ الْوَاضِعِ لَهَا .
وَيَدُلُّ عَلَى ( صِحَّةِ ) مَا ذَكَرْنَا : أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ يَقُولُ : الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِي : كَيْتَ وَكَيْتَ ، وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ الدَّلَالَةَ ، وَالْأَعْلَامُ الْمَنْصُوبَةُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا ، وَيَقُولُ السَّائِلُ لِلْمُجِيبِ : مَا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِك ؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ : مَنْ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِك ؟ فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا : أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الَّذِي يُوصِلُ الْمُتَأَمِّلَ لَهُ وَالنَّاظِرَ فِيهِ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ : أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ عِلْمُك بِالشَّيْءِ وَوُجُودُك لَهُ ، قَالَ : لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ : مَا الدَّلِيلُ عَلَى كَذَا ؟ جَازَ أَنْ يُقَالَ عِلْمِي بِكَذَا ، وَوُجُودِي لِكَذَا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ وَصْفِ الدَّلِيلِ شَيْءٌ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا ، وَلَا أَضْعَفُ ، لِأَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ : مَا الدَّلِيلُ عَلَى حَدَثِ الْأَجْسَامِ ؟ لَمْ يَصِحَّ ( أَنْ يَقُولَ ) : عِلْمِي بِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ مِنْ الْحَوَادِثِ .
بَلْ يَقُولُ : الدَّلِيلُ عَلَى حَدَثِهَا أَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ مِنْ الْحَوَادِثِ .
وَيُوجِبُ هَذَا أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْمَحْسُوسَاتُ مَعْلُومَةً مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ ، لِعِلْمِنَا بِهَا وَوُجُودِنَا إيَّاهَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ ( هَذَا ) الْقَائِلِ هُوَ الدَّلِيلُ .

قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ الدَّلِيلُ مُوجِبًا لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ ، وَلَا سَبَبًا لِوُجُودِهِ ، وَكَمَا أَنَّ دَلِيلَ الْقَوْمِ الَّذِي يَهْدِيهِمْ وَيُرْشِدُهُمْ إلَى الطَّرِيقِ ، لَيْسَ هُوَ سَبَبًا لِوُجُودِ الْمَوْضِعِ الْمَقْصُودِ الَّذِي يُوصَلُ إلَى عِلْمِهِ بِدَلَالَتِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِهِ .
وَأَمَّا الْعِلَّةُ ، فَهِيَ الْمَعْنَى الَّذِي عِنْدَ حُدُوثِهِ يَحْدُثُ الْحُكْمُ .
فَيَكُونُ وُجُودُ الْحُكْمِ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِهَا ، وَمَتَى لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ ، هَذِهِ قَضِيَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ ، وَأَصْلُهُ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَرَضُ ، لَمَّا كَانَ بِحُدُوثِهَا يَتَغَيَّرُ حَالُ الْمَرِيضِ ، سُمِّيَتْ الْمَعَانِي الَّتِي تَحْدُثُ بِحُدُوثِهَا الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ عِلَلًا ، لِأَنَّ حُدُوثَهَا يُوجِبُ حُدُوثَ أَوْصَافٍ وَأَحْكَامٍ ، لَوْلَاهَا لَمْ تَكُنْ .
نَحْوُ قَوْلِنَا : حُدُوثُ السَّوَادِ فِي الْجِسْمِ عِلَّةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْوَصْفِ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ ، وَحُدُوثُ الْحَرَكَةِ فِيهِ عِلَّةٌ لِكَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا .
وَنَقُولُ فِي الدَّلِيلِ : إنَّ اسْتِحَالَةَ تَعَرِّي الْجِسْمِ مِنْ الْحَوَادِثِ دَلَالَةٌ عَلَى حُدُوثِهِ ، وَلَيْسَ هُوَ عِلَّةً لِحُدُوثِهِ ، فَإِنَّ الْحَدَثَ دَلَالَةٌ عَلَى مُحْدِثِهِ ، وَلَا نَقُولُ : إنَّهَا عِلَّةٌ لِمُحْدِثِهِ .
فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْعِلَّةِ ، وَأَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا حَظُّهُ إيصَالُ النَّاظِرِ فِيهِ وَالْمُتَأَمِّلِ لَهُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي نَفْسِ الْمَدْلُولِ .
وَأَنَّ الْعِلَّةَ سَبَبٌ لِوُجُودِ مَا هُوَ عَلَيْهِ ، وَلَوْلَاهَا لَمْ يُوجَدْ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ .
فَقَدْ تُسَمَّى الْعِلَّةُ دَلِيلًا عَلَى مَا هِيَ ( عِلَّةٌ ) لَهُ ، مِنْ حَيْثُ كَانَ تَأَمُّلُهَا مُوصِلًا إلَى الْعِلْمِ بِمَا هُوَ عِلَّةٌ لَهُ ، فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ دَلِيلٌ ، وَلَيْسَ كُلُّ دَلِيلٍ عِلَّةً .
وَالِاسْتِدْلَالُ : هُوَ طَلَبُ الدَّلَالَةِ وَالنَّظَرُ فِيهَا ، لِلْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ .
( وَالْقِيَاسُ : أَنْ يُحْكَمَ لِلشَّيْءِ عَلَى نَظِيرِهِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي عِلَّتِهِ الْمُوجِبَةِ لِحُكْمِهِ ) .
وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا : يُوصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ .
وَهُوَ النَّظَرُ فِي دَلَائِلِ الْعَقْلِيَّاتِ ، إذَا نَظَرَ فِيهَا مِنْ وَجْهِ النَّظَرِ .
وَكَثِيرٌ مِنْ دَلَائِلِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا إلَّا دَلِيلٌ وَاحِدٌ ، قَدْ كُلِّفْنَا فِيهَا إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : يُوجِبُ غَلَبَةَ الرَّأْيِ وَأَكْبَرَ الظَّنِّ ، وَلَا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ .
وَذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي طَرِيقُهَا الِاجْتِهَادُ ، وَلَمْ يُكَلَّفْ فِيهَا إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ ، إذْ لَمْ يَنْصِبْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلًا قَاطِعًا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ ( بِهِ ) ، فَيُسَمَّى ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ ، تَشْبِيهًا لَهُ بِدَلَائِلِ الْعَقْلِيَّاتِ وَدَلَائِلِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا إلَّا دَلِيلٌ وَاحِدٌ .
وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْقِيَاسُ عَلَى عِلَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ مُوجِبَةٍ لِلْحُكْمِ الْمَقِيسِ ، وَهِيَ عِلَلُ الْعَقْلِيَّاتِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي وَصَفْنَا .
وَالثَّانِي : قِيَاسُ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى أُصُولِهَا مِنْ النُّصُوصِ ، وَمَوَاضِعِ الِاتِّفَاقِ ، وَغَيْرِهَا .
فَمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ ، فَلَيْسَ بِعِلَّةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعِلَّةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، هِيَ مَا كَانَ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ ، يَسْتَحِيلُ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْ أَحْكَامِهَا .
وَعِلَلُ الشَّرْعِ الَّتِي يَقَعُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا ، لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْ أَحْكَامِهَا .
أَلَا تَرَى : أَنَّ سَائِرَ الْعِلَلِ الَّتِي تَقِيسُ بِهَا أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ ، قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ ، إذْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِلَلُ هِيَ بَعْضَ أَوْصَافِ الْأَصْلِ الْمُعَلَّلِ ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ حُدُوثِ الْحُكْمِ ، غَيْرَمُوجِبَةٍ لَهُ ، وَإِنَّمَا هِيَ سِمَاتُ وَأَمَارَاتُ الْأَحْكَامِ ، يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَيْهَا ، كَدَلَالَةِ الْأَسْمَاءِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا فِي الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِهَا ، فَلَا تَكُونُ مُوجِبَةً لَهَا ، لِوُجُودِنَا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ .
وَإِنَّمَا هِيَ سِمَةٌ وَعَلَامَةٌ ، جُعِلَتْ

أَمَارَةً لِلْحُكْمِ ، فَجَائِزٌ أَنْ تُجْعَلَ أَمَارَةً لَهُ فِي حَالٍ ، وَلَا تُجْعَلَ أَمَارَةً لَهُ فِي أُخْرَى .
كَذَلِكَ عِلَلُ الشَّرْعِ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا الْقِيَاسُ هَذِهِ سَبِيلُهَا .
وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ : فَهُوَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِيمَا يَقْصِدُهُ الْمُجْتَهِدُ ( وَ ) يَتَحَرَّاهُ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ اخْتَصَّ فِي الْعُرْفِ بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَائِمٌ يُوصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ مِنْهَا ، لِأَنَّ مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ( عَلَيْهِ ) دَلِيلٌ قَائِمٌ ، لَا يُسَمَّى الِاسْتِدْلَال فِي طَلَبِهِ اجْتِهَادًا.
أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ : إنَّ عِلْمَ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، لَا يُقَالُ : إنَّهُ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ اسْمٌ قَدْ اخْتَصَّ فِي الْعُرْفِ وَفِي عَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، بِمَا كُلِّفَ الْإِنْسَانُ فِيهِ غَالِبَ ظَنِّهِ ، وَمَبْلَغَ اجْتِهَادِهِ ، دُونَ إصَابَةِ الْمَطْلُوبِ بِعَيْنِهِ ، فَإِذَا اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُ ، فَقَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَ ، وَهُوَ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ غَالِبُ ظَنِّهِ ، وَعِلْمُ التَّوْحِيدِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ ، مِمَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ دَلَائِلُ قَائِمَةٌ كُلِّفْنَا بِهَا : إصَابَةَ الْحَقِيقَةِ ، لِظُهُورِ دَلَائِلِهِ ، وَوُضُوحِ آيَاتِهِ .
وَاسْمُ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِ يَنْتَظِمُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ عَلَى عِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ ، أَوْ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا ، فَيُرَدُّ بِهَا الْفَرْعُ إلَى أَصْلِهِ ، وَتَحْكُمُ لَهُ بِحُكْمِهِ بِالْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا .
وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ - وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا - مِنْ قِبَلِ أَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ لِجَوَازِ وُجُودِهَا عَارِيَّةً ( مِنْهُ ) وَكَانَتْ كَالْأَمَارَةِ ، وَكَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا عَلَامَةً

لِلْحُكْمِ : الِاجْتِهَادِ ، ، وَغَالِبُ الظَّنِّ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَنَا الْعِلْمَ بِالْمَطْلُوبِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ .
وَالضَّرْبُ الْآخَرُ مِنْ الِاجْتِهَادِ : هُوَ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ يَجِبُ بِهَا قِيَاسُ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ ،كَالِاجْتِهَادِ فِي تَحَرِّي جِهَةِ الْكَعْبَةِ لِمَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهَا ، وَكَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَالْحُكْمِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَنَفَقَةِ الْمَرْأَةِ ، وَالْمُتْعَةِ ، وَنَحْوِهَا .
فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاجْتِهَادِ ، كُلِّفْنَا فِيهِ الْحُكْمَ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ غَالِبُ الظَّنِّ ، مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ يُقَاسُ بِهَا فَرْعٌ عَلَى أَصْلِهِ .
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : الِاسْتِدْلَال بِالْأُصُولِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنْ ذِكْرِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ .
وَيَصِحُّ إطْلَاقُ ( لَفْظِ ) الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ جَمِيعًا ، لِأَنَّا قَدْ ( نَقُولُ ) : اسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ ، وَمِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا فِيمَا كَانَ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ ، أَنَّهُ لَا يُوصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ نُكَلَّفْ فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ ، وَلَوْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ لَكُلِّفْنَا

فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ ، كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى نَصْبَ الدَّلَائِلِ عَلَيْهَا ، ثُمَّ كُلِّفْنَا فِيهَا إصَابَةَ مَدْلُولِهَا
وَإِنَّمَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ ، وَوُرُودُ الْعِبَارَةِ فِيهِ بِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ ، تَارَةً بِحَظْرٍ ، وَأُخْرَى بِالْإِبَاحَةِ ، وَأُخْرَى بِالْإِيجَابِ ، عَلَى حَسَبِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا فِيهَا مِنْ الْمَصَالِحِ .
فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إيجَابٍ ، فَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ إذَا كُلِّفْنَا حُكْمَهُ ، فَنَكُونُ حِينَئِذٍ مُتَعَبِّدِينَ فِيهِ بِإِصَابَةِ حَقِيقَةِ الْحُكْمِ ، وَيَكُونُ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ ( وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ) .

فارغة

الْبَابُ الثَّانِيْ وَالثَّمَانُوْنَ:الْقَوْلِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يُوصَلُ بِهَا إلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يُوصَلُ بِهَا إلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
تُسْتَدْرَكُ أَحْكَامُ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا تَوْقِيفٌ وَلَا اتِّفَاقٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اسْتِخْرَاجُ دَلَالَةٍ مِنْ مَعْنَى التَّوْقِيفِ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا .
وَالْآخَرُ : الِاجْتِهَادُ ، وَهُوَ فِيمَا لَمْ نُكَلَّفْ فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ ، وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : اسْتِخْرَاجُ عِلَّةٍ مِنْ أَصْلٍ يُرَدُّ بِهَا عِلَّةُ الْفَرْعِ ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِ ، وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيهِ قِيَاسًا .
وَالْآخَرُ : الِاجْتِهَادُ وَمَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ ، لَا عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ ، وَالِاسْتِشْهَادِ عَلَيْهِ بِالْأُصُولِ .
وَالثَّالِثُ : الِاسْتِدْلَال عَلَى الْحُكْمِ بِالْأُصُولِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فَنَحْوُ احْتِجَاجِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ خَالَفَهُ الصَّحَابَةُ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ ، فَقَالَ : ( لَأُقَاتِلَنَّ ) مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ .
فَقَالُوا : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ ، وَأَمْوَالَهُمْ ، إلَّا بِحَقِّهَا } فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا مِنْ حَقِّهَا ) .
فَتَبَيَّنُوا صِحَّةَ اسْتِخْرَاجِهِ وَرَجَعُوا ( إلَى قَوْلِهِ ) .

وَمِثْلُهُ احْتِجَاجُ عُمَرَ عَلَى الزُّبَيْرِ وَبِلَالٍ ، وَنَفَرٍ مَعَهُمَا ، حِينَ سَأَلُوهُ قِسْمَةَ السَّوَادِ وَرَاجَعُوهُ فِيهِ ، مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَقَالَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } إلَى قَوْله تَعَالَى { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } فَلَوْ قَسَّمْت السَّوَادَ بَيْنَكُمْ كَانَتْ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَبَقِيَ آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ فَعَرَفُوا صِحَّةَ اسْتِدْلَالِهِ ، وَرَجَعُوا إلَى قَوْلِهِ لِظُهُورِدَلَالَتِهِ .
وَكَذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَمْنَعُ الصَّوْمَ ، لِأَنَّ فِي الْآيَةِ إبَاحَةً لِلْجِمَاعِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَصَادَفَ فَرَاغُهُ مِنْ الْجِمَاعِ طُلُوعَ الْفَجْرِ ، أَنَّهُ يُصْبِحُ جُنُبًا ، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِحَّةِ صِيَامِهِ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } ، فَكَانَتْ هَذِهِ دَلَالَةً فِي أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَنْفِي صِحَّةَ الصَّوْمِ .
وَنَحْوُهُ : اسْتِدْلَالُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يَكُونُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } ثُمَّ قَالَ { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } فَجَعَلَ الْحَمْلَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ .
وَنَحْوُهُ : قَوْلُ مُعَاذٍ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَرَادَ أَنْ يَرْجُمَ حُبْلَى : إنْ يَكُنْ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ ، فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِمَّنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ وَجْهُ ذَلِكَ ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ أَعْلَمَ مِنْ مُعَاذٍ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ حَمْلِهَا مَا عَلِمَ مُعَاذٌ.

فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَرْجُمَهَا لِأَجْلِ الْحَمْلِ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا ، لِأَنَّ ظُهُورَ الْحَمْلِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ ، فَعَلِمْنَا أَنَّ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْحَمْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ : لَوْلَا مُعَاذٌ هَلَكَ عُمَرُ .
قِيلَ لَهُ : عَنَى لَوْلَا إخْبَارُهُ إيَّاهُ أَنَّهَا حُبْلَى لَرَجَمَهَا ، فَيَتْلَفُ وَلَدُهَا ، كَمَا يَقُولُ مَنْ جَرَى عَلَى يَدِهِ قَتْلُ رَجُلٍ خَطَأً : فَقَدْ هَلَكْتُ ، وَهُوَ لَمْ يَأْثَمْ ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُهُ اسْتِعْظَامًا لِمِثْلِ هَذَا .
وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } ، فَعُلِمَ
أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لِلْأَبِ ( وَنَحْوُ ) قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } .
فَدَلَّ حِينَ وَعَظَهَا فِي تَرْكِ الْكِتْمَانِ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، وَفِي طُهْرِهَا وَحَيْضِهَا ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْلَهَا مَقْبُولٌ فِي ذَلِكَ لَمَا وَعَظَهَا بِالْكِتْمَانِ .
( وَنَحْوُ ) قَوْله تَعَالَى : { وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ، وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } ، لَمَّا وَعَظَهُ فِي الْبَخْسِ دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِيمَا قَالَ .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } فَدَلَّ عَلَى ( أَنَّ ) أَمْرَهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْمُدَايَنَةِ : اسْتِيثَاقٌ لِمَا يُخْشَى مِنْ الْجُحُودِ فِي الْعَاقِبَةِ ، فَلَمْ يَجِبْ مِنْ أَجْلِهِ أَنْ يَخْتَلِفَ بَيْعُ الْأَعْيَانِ وَعُقُودُ الْمُدَايَنَاتِ .

وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ : وَمِنْهَا مَا هُوَ أَغَمْضُ وَأَلْطَفُ مِمَّا ذَكَرْنَا ، وَهُوَ يُفْضِي مَعَ ذَلِكَ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ لَمَّا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِنْ الدَّلَائِلِ ، فَإِنَّا قَدْ كُلِّفْنَا فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ .
وَأَمَّا قِسْمُ الِاجْتِهَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى قِيَاسٍ ، وَإِلَى غَالِبِ الظَّنِّ ، وَإِلَى الِاسْتِدْلَالِ ( بِالْأُصُولِ ) ، فَإِنَّا لَمْ نُكَلَّفْ فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ ، وَالْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدْنَا بِهِ هُوَ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ ، فَيَكُونُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ ( أَنَّهُ ) أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ ، فَيَحْكُمُ لَهَا بِحُكْمِهِ .
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا : أَنَّا وَجَدْنَا الصَّحَابَةَ اخْتَلَفَتْ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى ضَرْبَيْنِ ، فَسَوَّغُوا الْخِلَافَ وَالتَّنَازُعَ فِي أَحَدِهِمَا ، وَهِيَ مَسَائِلُ الْفُتْيَا ، وَأَنْكَرُوهُ فِي الْآخَرِ ، وَخَرَجُوا مِنْهُ إلَى التَّلَاعُنِ ،
وَالْبَرَاءَةِ ، وَنَصْبِ الْحَرْبِ ، وَالْقِتَالِ ، لِأَنَّ دَلِيلَ الْحُكْمِ كَانَ قَائِمًا قَدْ كُلِّفُوا فِيهِ إصَابَةَ الْحَقِيقَةِ ، فَكَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الذَّاهِبَ عَنْهُ ضَالٌّ آثِمٌ تَارِكٌ لِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى .
وَمَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَغَلَبَةَ الظَّنِّ لَمْ يَخْرُجُوا فِيهِ إلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُكَلَّفُوا فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ ، إنْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ .

الْبَابُ الثَّالِثُ وَالثَّمَانُوْنَ: ذِكْرِ الدَّلَالَةِ عَلَى إثْبَاتِ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ
وَفِيْهِ فَصْلٌ: فِيْمَا احْتَجَّ بِهِ مُبْطِلُوا الْقِيَاسِ

فارغة

بَابُ ذِكْرِ الدَّلَالَةِ عَلَى إثْبَاتِ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ-رَحِمَهُ اللَّهُ :
نَبْدَأُ بِعَوْنِ اللهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ بِالْكَلَامِ عَلَى مُخَالِفِينَا فِي الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ
ثُمَّ نُعْقِبُهُ بِبَيَانِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ
ثُمَّ نَذْكُرُ أَقَاوِيلَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي حُكْمِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَمَذَاهِبَ أَصْحَابِنَا فِيهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا خِلَافَ بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ فِي إجَازَةِ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ عَلَى النَّظَائِرِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ، وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا نَفَاهُ وَحَظَرَهُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
إلَى أَنْ نَشَأَ قَوْمٌ ذُو جَهْلٍ بِالْفِقْهِ وَأُصُولِهِ ، لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ ، وَلَا تَوَقِّيَ لِلْإِقْدَامِ عَلَى الْجَهَالَةِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ الْبَشِعَةِ ، الَّتِي خَالَفُوا فِيهَا الصَّحَابَةَ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَخْلَافِهِمْ.
فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ نَفَى الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ إبْرَاهِيمَ النَّظَّامَ وَطَعَنَ عَلَى الصَّحَابَةِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِمْ بِالْقِيَاسِ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ ، وَإِلَى ضِدِّ مَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ، وَأَثْنَى بِهِ عَلَيْهِمْ ، بِتَهْوِيرِهِ وَقِلَّةِ عِلْمِهِ بِهَذَا الشَّأْنِ ، ثُمَّ تَبِعَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نَفَرٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْبَغْدَادِيِّينَ ، إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَطْعَنُوا عَلَى السَّلَفِ كَطَعْنِهِ ، وَلَمْ يَعِيبُوهُمْ لَكِنَّهُمْ ارْتَكَبُوا مِنْ الْمُكَابَرَةِ ، وَجَحْدِ الضَّرُورَةِ أَمْرًا شَنِيعًا ، فِرَارًا مِنْ الطَّعْنِ عَلَى السَّلَفِ

فِي قَوْلِهِمْ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا : أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ فِي الْحَوَادِثِ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّوَسُّطِ وَالصُّلْحِ بَيْنَ الْخُصُومِ ، وَعَلَى جِهَةِ بَوْنِ الْمَسَائِلِ ، لَا عَلَى وَجْهِ قَطْعِ الْحُكْمِ وَإِبْرَامِ الْقَوْلِ، فَكَانَ عِنْدَهُمْ : أَنَّهُمْ قَدْ حَسَّنُوا مَذْهَبَهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ،وَتَخَلَّصُوا مِنْ الشَّنَاعَةِ الَّتِي لَحِقَتْ النَّظَّامَ بِتَخْطِيئِهِ السَّلَفَ .
ثُمَّ تَبِعَهُمْ رَجُلٌ مِنْ الْحَشْوِ مُتَجَاهِلٌ لَمْ يَدْرِ مَا قَالَ هُوَ ، وَلَا مَا قَالَ هَؤُلَاءِ ، وَأَخَذَ طَرَفًا مِنْ كَلَامِ النَّظَّامِ ، وَطَرَفًا مِنْ كَلَامِ بَعْضِ مُتَكَلِّمِي ( بَغْدَادَ مِنْ ) نُفَاةِ الْقِيَاسِ ، فَاحْتَجَّ بِهِ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ ، مَعَ جَهْلِهِ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ الْفَرِيقَانِ ، مِنْ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ وَمُبْطِلِيهِ ، وَقَدْ كَانَ ( مَعَ ذَلِكَ ) يَنْفِي حُجَجَ الْعُقُولِ ، وَيَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ لَا حَظَّ لَهُ فِي إدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ ، فَأَنْزَلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْبَهِيمَةِ ، بَلْ هُوَ أَضَلُّ مِنْهَا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } .
وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الْحَقِّ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ ، ثُمَّ نُعْقِبُهُ بِبَيَانِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ وَفُرُوعِهَا ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ فِي إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى{وَ الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : قَوْله تَعَالَى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَالْمَعْرُوفُ إنَّمَا يُوصَلُ إلَيْهِ بِغَالِبِ ( الظَّنِّ )

وَالرَّأْيِ ، إذْ لَيْسَ لَهُ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى قَدْرِ الْحَالِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُرْضَعُ وَالْمُرْضِعَةُ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : قَوْله تَعَالَى:{ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا }
وَلَيْسَ لِمَا يَقَعُ التَّرَاضِي عَلَيْهِ حَدٌّ مَعْلُومٌ عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ ، لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْمُشَاوَرَةِ ، وَالْمُشَاوَرَةُ لَا تَقَعُ فِي شَيْءٍ فِيهِ تَوْقِيفٌ أَوْ اتِّفَاقٌ ، أَوْ دَلِيلٌ قَائِمٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِخْرَاجُ رَأْيٍ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ }
وَقَالَ تَعَالَى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ }
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ { فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ } وَلَا سَبِيلَ إلَى الْوُقُوفِ عَلَى مِقْدَارِ هَذِهِ الْمُتْعَةِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ ،(لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ.
مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ }
وَمَنْ غَابَ عَنْ الْكَعْبَةِ لَا يَصِلُ إلَى التَّوَجُّهِ إلَيْهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، وَغَالِبِ الظَّنِّ)
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } وَهَذَا الْخَوْفُ إنَّمَا هُوَ عَلَى غَالِبِ مَا يَسْتَوْلِي عَلَى قُلُوبِنَا مِنْهُ ، وقَوْله تَعَالَى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ،وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } وَإِصْلَاحُ مَالِ الْيَتِيمِ إنَّمَا يَكُونُ بِتَحَرِّي الِاحْتِيَاطِ فِي تَمْيِيزِهِ وَحِفْظِهِ وَإِحْرَازِهِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِغَالِبِ الظَّنِّ .

وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ }.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ ، فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ ( مِنْهُ ) بِشَيْءٍ ، ثُمَّ يَخْتَارُ مِنْ آرَائِهِمْ مَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ ، وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ تَطْيِيبًا لِأَنْفُسِهِمْ ، وَلِيَنْفِيَ عَنْهُ الْفَظَاظَةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى
بِاجْتِنَابِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ يَرْجِعُ إلَى آرَائِهِمْ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَعْمَلُ عَلَى مَا يَنْزِلُ بِهِ الْوَحْيُ .
قِيلَ لَهُ : غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إلَى آرَائِهِمْ - بِاعْتِبَارِ الصَّوَابِ مِنْهَا - بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ ، لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُشَاوَرُونَ ثُمَّ لَا يُلْتَفَتُ إلَى رَأْيِهِمْ ، زَادَ ذَلِكَ فِي وَحْشَتِهِمْ وَانْخِزَالِهِمْ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْعَبَثِ ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، وَهَذِهِ مَنْزِلَةٌ يَرْتَفِعُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا إذْ هُوَ بِالْهُزْءِ وَالِاسْتِخْفَافِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِمَا يُوجِبُ تَطْيِيبَ النُّفُوسِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُشَاوِرُهُمْ أَنَّ الظُّهْرَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثٌ ، مِنْ حَيْثُ كَانَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْوَحْيَ ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ إنَّمَا أُمِرَ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِيُظْهِرُوا آرَاءَهُمْ ، وَمَا يُؤَدِّيهِمْ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ ، فَيَجْتَهِدُ مَعَهُمْ ، وَيَخْتَارُ الصَّوَابَ عِنْدَهُ مِنْهَا .
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : { أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ ، قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَ مَنْزِلًا يُرِيدُ الْمُشْرِكِينَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ : أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللهِ ، هَذَا الْمَنْزِلَ الَّذِي نَزَلْتَهُ ؟ أَبِأَمْرِ اللهِ هُوَ فَنُسَلِّمُ لِأَمْرِ اللهِ .
أَمْ بِالرَّأْيِ وَالْمَكِيدَةِ ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هُوَ بِالرَّأْيِ فَقَالَ : أَرَى أَنْ تُبَادِرَ إلَى الْمَاءِ ، فَتَنْزِلَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ الْمُشْرِكُونَ إلَيْهِ فَقَبِلَ ذَلِكَ } .
وَكَذَلِكَ { يَوْمَ الْأَحْزَابِ ، لَمَّا عَزَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ يُعْطِيَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَقَوْمًا مَعَهُ نِصْفَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ ، عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِنُوا قُرَيْشًا عَلَيْهِ ، قَالَتْ الْأَنْصَارُ : أَرَأْيٌ رَأَيْتَهُ يَا رَسُولَ اللهِ ، أَمْ وَحْيٌ ؟ فَقَالَ بَلْ رَأْيٌ .
رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدٍ ، فَرَأَيْتُ أَنْ

أَدْفَعَهُمْ عَنْكُمْ إلَى يَوْمٍ مَا } فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : وَاَللَّهِ مَا كَانُوا يَطْمَعُونَ فِيهَا ، وَنَحْنُ عَلَى الشِّرْكِ ، إلَّا قِرًى أَوْ شِرًى ، فَكَيْفَ نُعْطِيهِمْ الْآنَ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا بِالسَّيْفِ ، فَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا عَهِدُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَاوِرُهُمْ فِي أُمُورٍ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهَا وَحْيٌ ثُمَّ يَجْتَهِدُ مَعَهُمْ ، فَيَخْتَارُ مِنْهَا مَا يَرَاهُ صَوَابًا .
لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالُوا لَهُ : أَرَأْيٌ هُوَ أَمْ وَحْيٌ ؟ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( بَلْ هُوَ رَأْيٌ ) وَيُبَيِّنُ وَجْهَ اجْتِهَادِهِ وَغَالِبَ ظَنِّهِ فِيهِ .
وَرُوِيَ عَنْ { عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَدْ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللهِ ، إنَّك تُوَجِّهُنِي فِي الْأَمْرِ فَأَكُونَ فِيهِ كَالسِّكَّةِ الْمُحْمَاةِ .أَمْ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ ؟ فَقَالَ : الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَاهُ الْغَائِبُ } فَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ ، لَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ حُكْمُ الشَّاهِدِ ، إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى شَاهِدًا فِي كُلِّ حَالٍ ، عَالِمًا بِالْعَوَاقِبِ .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ كَانَ يَكِلُهُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَرَأْيِهِ .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } وَهَذَا الْخَوْفُ إنَّمَا هُوَ فِي غَالِبِ الظَّنِّ ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحْبَطُ عَمَلُهُ بِمَا يُؤْثِرُهُ فِي مُسْتَقْبَلِ أَوْقَاتِهِ .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } وَالِابْتِلَاءُ وَإِينَاسُ الرُّشْدِ إنَّمَا يَكُونَانِ بِالِاجْتِهَادِ ، وَغَالِبِ الظَّنِّ عَلَى حَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنْ حَزْمِ الْيَتِيمِ وَحِفْظِهِ لِأَمْوَالِهِ .
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } وَكَانَ

ذَلِكَ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَذَى حَدٌّ مَعْلُومٌ يُصَارُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ أَنَّهُ أَذًى .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } وَهَذَا الْوَعِيدُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَكَذَلِكَ الْهِجْرَانُ وَالضَّرْبُ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا } وَهَذَا الْخَوْفُ عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَيَانِهِ صَلَاحًا فِي غَالِبِ رَأْيِهِمَا ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } مَعْنَاهُ مَا يَرَاهُ صَلَاحًا لَهُمْ فِي اجْتِهَادِ رَأْيِهِ ، وَمَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ أَدْعَى إلَى الْأُلْفَةِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ ، وَأَنْفَى لِلتَّنَافُرِ وَتَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } .
وَحُكْمُ الْعَدْلَيْنِ بِالْمِثْلِ ، هُوَ إنَّمَا مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } وَإِنَّمَا يُؤْتَوْنَ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ أَنَّهُ مِقْدَارُ الْكِفَايَةِ وَسَدِّ الْخَلَّةِ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } .
وَالْعَدْلُ الَّذِي بَيْنَهُمَا لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ

الِاجْتِهَادِ ، وَقَالَ تَعَالَى:{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } الْآيَةَ .
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ - غَيْرَ الرَّافِضَةِ - أَنَّ هَذَا الِاسْتِخْلَافَ إنَّمَا يَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِاجْتِهَادِ الْمُسْلِمِينَ وَآرَائِهِمْ ، فِيمَنْ يَرَوْنَهُ مَوْضِعًا لِلْخِلَافَةِ لِفَضْلِهِ ، وَأَنَّهُ أَصْلَحُ لِلْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ التَّنَازُعَ وَاقِعٌ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، إذْ كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ التَّنَازُعَ وَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقَعَانِ فِي الْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ .
فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ ، وَسُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ .
وَالرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ بِاسْتِخْرَاجِ حُكْمِهِ مِنْهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْتُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ } الرَّدَّ إلَى نَصِّ الْكِتَابِ وَنَصِّ السُّنَّةِ ، لَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ .
أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ التَّنَازُعَ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ ، لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ مِنْ أَمْرِهَا .
وَالثَّانِي : أَنَّك تَجْعَلُ تَقْدِيرَ الْآيَةِ عَلَى الْوَضْعِ : أَنْ اتَّبِعُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ، وَهَذَا وَاجِبٌ فِي حَالِ التَّنَازُعِ وَغَيْرِهَا .
فَتَخْلُوا الْآيَةُ مِنْ فَائِدَةِ ذِكْرِ التَّنَازُعِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّك خَصَّصْتَ الْأَمْرَ بِالرَّدِّ فِيمَا قَدْ نُصَّ عَلَيْهِ ، دُونَ مَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ ، وَعُمُومُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي وُجُودَ الرَّدِّ فِي الْحَالَيْنِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْحُكْمُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، فَلَا جَائِزَ لِأَحَدٍ تَخْصِيصُهُ وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى حَالِ وُجُودِ النَّصِّ دُونَ

غَيْرِهِ .
فَثَبَتَ أَنَّهَا قَدْ اقْتَضَتْ وُجُوبَ الرَّدِّ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَاتِّبَاعِ
مُوجَبِهَا نَصًّا وَدَلِيلًا .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ أَيْضًا : { وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ، فَأَمَرَ بِاسْتِنْبَاطِ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ " أُولِي الْأَمْرِ " إنَّهُمْ أُمَرَاءُ السَّرَايَا ، وَقِيلَ : إنَّهُمْ أُولُو الْعِلْمِ ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ أُولِي الْعِلْمِ مُرَادُونَ بِذَلِكَ ، لِأَنَّ أُمَرَاءَ السَّرَايَا إنْ لَمْ يَكُونُوا ذَوِي عِلْمٍ بِالِاسْتِنْبَاطِ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا هَذَا فِي أَمْرِ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنْ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ } قِيلَ لَهُ : إنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ ، فَدَلَالَتُهُ قَائِمَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، لِأَنَّ أَمْرَ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ ، وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ ، مِنْ أُمُورِ الدِّينِ .
فَإِذَا جَازَ الِاسْتِنْبَاطُ فِيهِ لِعَدَمِ وُجُودِ النَّصِّ ، جَازَ فِي سَائِرِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا .
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ تَعَالَى : { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } وَالْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ لَا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ ، لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ : إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ، يَقُولُ : قَدْ عَلِمْت أَنَّ مَا أَدَّانِي إلَيْهِ قِيَاسِي فَهُوَ حُكْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى ( عَلَيَّ ) ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : هَذَا عِلْمُ الظَّاهِرِ ، كَخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَكَالشَّهَادَةِ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا : قَوْله تَعَالَى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ

شَيْءٍ } قَوْله تَعَالَى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } .
فَإِذْ لَمْ نَجِدْ فِيهِ كُلَّ حُكْمٍ مَنْصُوصًا ، عَلِمْنَا أَنَّ بَعْضَهُ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ ،
وَمُودَعٌ فِي النَّصِّ ، نَصِلُ إلَيْهِ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي اسْتِخْرَاجِهِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : مَا نَزَّلَ اللَّهُ تَعَالَى مَسْطُورًا .
وَالْآخَرُ : بَيَانُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يَحْتَاجُ مِنْهُ إلَى الْبَيَانِ .
وَالثَّالِثُ : التَّفَكُّرُ فِيمَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَحَمْلُهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاحْتَجَّ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُلَيَّةَ ، لِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ حُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ رَدَّ حُكْمِ الْحَادِثَةِ إلَى نَظِيرِهَا مِنْ الْأُصُولِ يُسَمَّى اعْتِبَارًا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى : ابْتِدَاءُ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الِاعْتِبَارِ ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } فَأَخْبَرَ عَنْ ظَنِّهِمْ الْكَاذِبِ ، أَنَّ

حُصُونَهُمْ مَانِعَتُهُمْ مِنْ اللهِ تَعَالَى ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَمَّا اسْتَحَقُّوهُ مِنْ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ وَالذُّلِّ وَالْخِذْلَانِ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } وَالْمَعْنَى - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ اُحْكُمُوا لِمَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ مِنْ اللهِ تَعَالَى ، لِئَلَّا يُقْدِمُوا عَلَى مِثْلِ مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ ، فَيَسْتَحِقُّوا مِثْلَ مَا اسْتَحَقُّوا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ هُوَ أَنْ تَحْكُمَ لِلشَّيْءِ بِحُكْمِ نَظِيرِهِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي مَعْنَاهُ ، الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ اسْتِحْقَاقُ حُكْمِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الِاعْتِبَارُ : هُوَ التَّفَكُّرُ وَالتَّدَبُّرُ .
قِيلَ لَهُ : هُوَ كَذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهُ تَفَكُّرٌ فِي رَدِّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا .
أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ : قَدْ اعْتَبَرْت هَذَا الثَّوْبَ بِهَذَا الثَّوْبِ ، إذَا قَوَّمْتَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ .
فَكَانَ الْمَعْنَى : أَنَّك رَدَدْته إلَيْهِ ، وَحَكَمْت لَهُ بِمِثْلِ حُكْمِهِ ، إذْ كَانَ مِثْلَهُ وَنَظِيرَهُ .
وَحَكَى لِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ الْوَاسِطِيِّ قَالَ : رَأَيْت الْقَاشَانِيَّ وَابْنَ سُرَيْجٍ قَدْ صَنَّفَا فِي الْقِيَاسِ نَحْوَ أَلْفِ وَرَقَةٍ ، هَذَا فِي نَفْيِهِ ، وَهَذَا فِي إثْبَاتِهِ ، اعْتَمَدَ الْقَاشَانِيُّ فِيهِ عَلَى قَوْله تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى

عَلَيْهِمْ } ، وَاعْتَمَدَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي إثْبَاتِهِ ( عَلَى ) قَوْله تَعَالَى { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي أَسْرَى بَدْرٍ فِي قَتْلِهِمْ أَوْ فِدَائِهِمْ .
فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بِالْفِدَاءِ ، وَأَشَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بِالْقَتْلِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ ، فَأَشْبَهْتَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَإِنَّهُ قَالَ : { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَأَمَّا أَنْتَ يَا عُمَرُ ، فَإِنَّكَ أَشْبَهْتَ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ ، قَالَ { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } } وَوَافَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتِهَادَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَمَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَخَذَ الْفِدَاءَ ، وَكَانَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ .
وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ مِنْ اللهِ تَعَالَى فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ لَمَا شَاوَرَ فِيهِ أَحَدًا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَاتَبَهُ فِي أَخْذِهِ الْفِدَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى:{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } إلَى قَوْله تَعَالَى : { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللهِ سَبَقَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِدَاءَ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا .
قِيلَ لَهُ : قَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَأَبَى بَعْضُهُمْ مَا ذَكَرْتَ ، وَأَجَازَهُ آخَرُونَ ، وَالْكَلَامُ فِي صِحَّةِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ خُرُوجٌ عَنْ مَسْأَلَتِنَا ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ بَيْنَ مَنْ قَالَ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ، وَالْحَقُّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ ، وَبَيْنَ مَنْ قَالَ : الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ ، بَعْدَ تَسْلِيمِ جَوَازِ

الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ .
فَالْخَبَرُ صَحِيحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ مُخْطِئًا فِي الْفِدَاءِ ، فَعُمَرُ مُصِيبٌ فِي الْإِشَارَةِ بِالْقَتْلِ ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَاتِبْهُ فِي الْمُشَاوَرَةِ فِي اسْتِعْمَالِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيهِ .
وَمِنْهُ : حَدِيثُ قِصَّةِ الْأَذَانِ ، { وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهْتَمَّ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ لَهَا النَّاسَ ، فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللهِ : انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ ، فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ، وَذَكَرُوا لَهُ شَبُّورَ الْيَهُودِ ، فَلَمْ يُعْجِبْهُ وَقَالَ : هَذَا مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ ، وَذَكَرُوا لَهُ النَّاقُوسَ ، فَقَالَ : هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى ، ثُمَّ أُرِيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ الْأَذَانَ ، فَجَاءَ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَقِّنْهَا بِلَالًا } ، فَشَاوَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِي جِهَةِ إعْلَامِ النَّاسِ بِالصَّلَاةِ .
فَاجْتَهَدَ قَوْمٌ فِي الرَّايَةِ ، وَقَوْمٌ فِي الشَّبُّورِ ، وَقَوْمٌ فِي النَّاقُوسِ ، وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اجْتِهَادِهِمْ .
وَمِنْ ذَلِكَ { تَحْكِيمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لِيَحْكُمَ فِيهِمْ بِمَا يَرَاهُ صَلَاحًا ، فَحَكَمَ فِيهِمْ بِقَتْلِ الرِّجَالِ ، وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ } .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أَجَازَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ وَافَقَ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى .
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ وَسَنُبَيِّنُهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَدَلَالَةُ الْخَبَرِ صَحِيحَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَهُوَ تَحْكِيمُهُ إيَّاهُ بِمَبْلَغِ رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ ، وَأَنْ يَكُونَ وَافَقَ حُكْمَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ ، غَيْرُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10