كتاب : الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي
المؤلف : علي بن عبد الكافي السبكي

الباب الثاني
في الاخبار
قال الباب الثاني في الاخبار وفيه فصول
الأول فيما علم صدقه وهو سبعة
الأول ما علم وجود مخبره بالضرورة أو الاستدلال
والثاني خبر الله تعالى وإلا لكنا في بعض الأوقات اكمل منه تعالى ونزه
الثالث خبر الرسول صلى الله عليه و سلم والمعتمد دعواه الصدق وظهور المعجزة على وفقه
الرابع خبر كل الامة لان الاجماع حجة
الخامس خبر جمع عظيم عن أحوالهم
السادس الخبر المحفوف بالقرائن
الخبر قسم من أقسام الكلام والقول في انه حقيقة في اللساني أو النفساني أو مشترك على الخلاف السابق وقد يستعمل الخبر في غير القول كقوله
تخبرني العينات ما القلب كاتم لكنه مجاز لعدم تبادره الى الذهن
وقد سبق الكلام على حد الخبر في باب تقسيم الالفاظ واعلم ان الخبر وان كان من حيث هو يحتمل الصدق والكذب لكنه قد يقطع بصدقه أو بكذبه لأمور خارجة أو لا يقطع بواحد منهما لفقدان ما يوجب القطع وحينئذ فقد يظن الصدق وقد يظن الكذب وقد يستوي الأمران والمصنف تكلم في فصول فيما

يقطع بصدقه والثاني فيما يقطع بكذبه والثالث فيما يظن بصدقه واقتصر على هذه الفصول وقد علمت مما ذكرناه ان الخبر منحصر في الصدق والكذب لأنه إما مطابق للواقع وهو الصدق أو لا وهو الكذب وجعل الجاحظ بينهما واسطة فقال الصادق وهو المطابق للواقع مع اعتقاد كونه مطابقا والكاذب غير المطابق مع اعتقاد كونه غير مطابق قال وأما الذي لا اعتقاد يصحبه فليس بصدق ولا كذب سواء طابق الواقع أم لا يطابق وهذا قول مزيف عند الجماهير
الفصل الأول فيما يقطع بصدقه وهو سبعة أقسام
الأول الخبر الذي علم وجود مخبره أي المخبر به وهو بفتح الباء وحصول العلم به قد يكون بالضرورة كقولنا الواحد نصف الاثنين وقد يكون بالاستدلال كقولنا العالم حادث
الثاني خبر الله تعالى لأنه لو جاز الكذب عليه لكنا في بعض الأوقات وهو وقت صدقنا وكذبه اكمل منه من جهة الصدق والكذب ان الصدق صفة كمال والكذب صفة نقص وتنزه الله تعالى وتبارك عن ذلك علوا كبيرا
والثالث خبر الرسول في الدليل على إفادته العلم انه ادعى الصدق وظهرت المعجزات على في فقه وذلك داليل صدقه لامتناع ظهور المعجزة على يد الكافر وإذا ثبتت نبوته فكل ما يخبر به صحيح قطعا لامتناع الكذب على الأنبياء أما إن فيما كان يتعلق بالتبليغ والتشريع فبإجماع الأمة واما إذا لم يكن متعلقا بالتبليغ فلأنه معصية عندنا وكل معصية من صغيرة أو كبيرة فهي ممتنعة على الأنبياء عليهم السلام
والرابع خبر كل الأمة لأن الاجماع حجة كما سيأتي ان شاء الله تعالى وهذا إنما يتم عند من يقول ان الاجماع قطعي واما من يقول انه ظني فهو ينازع في إفادته العلم
الخامس خبر العدد والجم الغفير عن الصفات القائمة بقلوبهم من الشهوة والنفرة والجوع والعطش كقول زيد انا جائع وعمرو انا ظاميء وخالد أنا

شاكر وبكر انا داع وهلم جرا فانا نقطع بأنه لا بد فيه من الصدق وانه ليس كذبا ولكنا نجهل الصحيح منه كما انا لا نشك في ان بعض المروي عنه صلى الله عليه و سلم صدق وان جهل عينه ولا يتوهمن المتوهم ان هذا هو التواتر الآتي ان شاء الله تعالى في آخر الفصل
وذلك لأن الجمع الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب إذا اخبروا فتارة يتفقون في اللفظ وهو المتواتر وتارة يختلفون في اللفظ والمعنى مع وجود معنى كان فيما اخبروا به وقع عليه اتفاق كما إذا اخبر واحد عن حاتم انه اعطى دينارا وآخر انه اعطى جملا وآخر فرسا وهلم جرا فان المخبرين وان اختلفوا في اللفظ والمعنى فقد اتفقوا على معنى كلي وهو الاعطاء
وهذا هو التواتر المعنوي وتارة تتغاير الالفاظ والمعاني ولا يقع الاتفاق على معنى كلي ولا جزئي بل كل أحد يخبر عن شان نفسه بخبر يغاير ما اخبر به الآخر وهم جمع عظيم تقتضي العادة بأنه لا بد فيهم من صادق في مقاله وهذا هو القسم الذي يتكلم فيه
فالثابت في المتواتر ذلك الشيء اخبر به أهل المتواتر وفي المعنوي القدر المشترك وهو كل أمر وقع الاتفاق عليه ضمنا وفي هذا القسم أمر جزئي لم يتفقوا عليه
السادس الخبر المحفوف بالقرائن ذهب النظام وإمام الحرمين والغزالي والامام واتباعه منهم المصنف والآمدي وابن الحاجب انه يفيد العلم وهو المختار وذهب الباقون الى انه لا يفيد
واحتج الأولون بان الإنسان إذا سمع ان السلطان غضب على وزيره وأهانه ثم رأى الوزير خارجا من باب داره على وجهه الذلة والانكسار والخوف باد على أعطافه والوجل يلوح من حركاته وسكناته وحواليه الأعوان كالمرسمين عليه وكلامهم له كلام النظير بعد ان كانوا خدما بين يديه وهم ذاهبون به نحو حبس السلطان وعدوه يتصرف فيما كان يتصرف فيه فإنه يقطع بصدق ما سمعه لا يداخله في ذلك شك ولا ريب

بل لو ظهر مع هذه القرائن شكا لعد أحمق ورشقته سهام الملام وكذلك إذا وجدنا رجلا مرموقا عظيم الشان معروفا بالمحافظة على رعاية المروءات خاسرا رأسه شاقا جيبه حافيا وهو يصيح بالويل والثبور ويذكر أنه أصيب بولد أو والده وشهدت الجنازة ورؤى الغسال مشمرا يدخل ويخرج فهذه القرائن وأمثالها تفيد العلم بصدق المخبر وان كان واحدا
واعلم ان هذه العلوم الحاصلة على حكم العادات وجدناها مترتبة على قرائن الأحوال وهي لا تنضبط انضباط المحدودات بحدودها
وقد قلنا انه لا سبيل إلى جحدها إذا وقعت وهذا كالعلم يخجل الخجل ووجل الوجل وبسط الثمل وغضب الغضبان ونحوها مما لا يعد ولا يحصى
واذا ثبتت هذه القرائن ترتبت عليها بديهية لا يأباها لا جاحد ولو رام امرؤ العلم بضبط القرائن ووضعها بما يميزها عن غيرها لم يجد الى ذلك سبيلا وكأنها تدق عن العبارات وتأبى عن من يحاول ضبطها بها
وقد قال الشافعي رضي الله عنه من شاهد رضيعا قد ألقم ثديا من موضع وراى فيه آثار الامتصاص وحركات الغلصمة وجرجرة المتجرع لم يسترب في وصول اللبن الى جوف الصبي وحل له ان يشهد له شهادة بأنه بالرضاع ولو انه لم يثبت شهادته في بيان الرضاع ولكنه شهد على ما رأى من القرائن في وصفها واستعان بالواصفين معرفين فبلغ ذكر القرائن مجلس القضاء لم يثبت الرضاع بذلك
وذلك ان ما سمعه القاضي وصفا لا يبلغ مبلغ العيان والذي يقضي بالمعاين الى درك اليقين يدق مدركه عن عبارة الواصفين
قال امام الحرمين ولو قيل لا زكى خلق الله قريحة وأحدهم ذهنا أفضل بين حمرة وجه الغضبان وبين حمرة المرعوب لم تساعده عبارة في محاولة الفصل فان القرائن لا تبلغها غايات العبارات
وبهذا يتمهد ما قلناه من ان حصول العلم بصدق المخبر لن يتوقف على حد محدود ولا عدد معدود والله اعلم

قال السابع المتواتر وهو خبر بلغت رواته في الكثرة مبلغا أحالت العادة تواطؤهم على الكذب وفيه مسائل الاولى انه يفيد العلم مطلقا خلافا للسمنية وقيل يفيد عن الموجود لا عن الماضي لنا انا نعلم بالضرورة وجود البلاد النائية والأشخاص الماضية وقيل نجد التفاوت بينه وبين قولنا الواحد نصف الاثنين قلنا للاستئناس
التواتر لغة هو التتابع وتواتر مجيء القوم أي جاؤوا واحدا بعد واحد بفترة بينهما ومنه قوله تعالى ثم أرسلنا رسلنا تترى أي واحدا بعد واحد بفترة بينهما وفي الاصطلاح ما ذكره المصنف وفي الفصل مسائل أحدها أكثر العقلاء على انه إذا تواتر الخبر أفاد العلم اليقين سواء كان خبرا عن أمور موجودة في زماننا كالإخبار عن البلدان البعيدة أو عن أمور ماضية كالأخبار عن وجود الأنبياء عليهم السلام وغيرهم في القرون الماضية
وقال السمنية بضم السين المهملة وفتح الميم المشددة بعدها نون ثم باء آخر الحروف وهم قوم من عبدة الأوثان انه لا يفيد العلم
قال القاضي في مختصر التقريب وهؤلاء قوم من الأوائل ولا فرق عندهم بين المتواتر والمستفيض والآحاد
وفصل قوم فقالوا ان كان خبرا عن موجود أفاد العلم وان كان عن ماض فلا يفيده لنا أنا بالضرورة نعالم وجود البلاد النائية كنيسابور وخوارزم والأشخاص الماضية كالشافعي وأبي حنيفة ونجزم بذلك جزما يجري مجرى جزمنا بالمشاهدات فيكون المنكر لها كالمنكر للمشاهدات ومن انكر ذلك فقط سقطت مكالمته ووضحت مجاحدته
قال القاضي فان قالوا المحسوسات لما كانت معلومة ضرورية لم نجحدها وانما جحدنا ما تواترت عنه الاخبار قلنا وقد جحد المحسوسات السفسطائية وزعموا ان كل ما يسمى محسوسا فلا حقيقة له وانما رؤيتنا له تخييل كحكم النائم
فان قيل هذا المذهب يؤثر عنهم ولم تر طائفة منهم تقوم بهم حجة

قال القاضي فيقول كذلك لانزال ننقل مذهب السمنية ولم نر حزبا وفئة يكثر بهم
واعترض الخصم بأنا نجد التفاوت بين خبر التواتر وغيره من المحسوسات والبديهات كقولنا الواحد نصف الاثنين وقيام التفاوت دليل احتمال يخرج عن كونه يقينيا
والجواب ان سبب التفاوت الحاصل كثرة استعمال بعض القضايا وتصور طرفها بخلاف غيرها فلهذا يستأنس العقل ببعضها دون بعض وهذا الجواب مبنى على ان العلوم لا تتفاوت والذي اختاره كثيرون خلافه
قال الثانية إذا تواتر الخبر أفاد العلم ولا حاجة الى نظر خلافا لامام الحرمين والحجة والكعبي والبصري وتوقف المرتضى أما لو كان نظريا لم يحصل لمن لا يتأتى له كالبله والصبيان قيل يتوقف على العلم بامتناع تواطئهم على الكذب وان لا داعي لهم الى الكذب قلنا حاصل بقوة قريبة من الفعل فلا حاجة الى نظر
الجمهور على انه إذا تواتر الخبر أفاد العلم ولا حاجة معه الى كسب وهو رأي الإمام واتباعه منهم المصنف واختاره ابن الحاجب وذهب أبو القاسم الكعبي من المعتزلة
وقال الشيخ أبو اسحاق الشيرازي هنا أنه البلخي وكناه أبا مسلم الى انه كسبي ووافقه ابو بكر الدقاق وأبو الحسين ونقله المصنف تبعا للإمام عن حجة الاسلام الغزالي وفيه نظر فالذي نص عليه في المستصفى ان تحقيق القول فيه انه ضروري بمعنى انه لا يحتاج في حصوله الى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع ان الواسطة حاضرة في الذهن وليس ضروريا بمعنى انه حاصل من غير واسطة كقولنا القديم لا يكون محدثا والموجود لا يكون معدوما فانه لا بد فيه من حصول مقدمتين في النفس عدم اجتماع هذا الجمع على الكذب واتفاقهم على الاخبار عن هذه الواقعة وهذا الذي ذكره الغزالي هو الحق وهو الذي اختاره الإمام واتباعه

أما امام الحرمين فقد نقل المصنف عنه ايضا انه نظري وهو صرح في البرهان بموافقة الكعبي كما نقل المصنف لكنه نزل مذهب الكعبي على محمل يقارب ما ذكره الغزالي وهذه عبارته
ذهب الكعبي الى ان العلم بصدق المخبرين تواترا نظري وقد كثرت المطاعن عليه من أصحابه ومن عصبة الحق والذي أراه تنزيل مذهبه عند كثرة المخبرين على النظر في ثبوت اياه جامعة وانتفائها فلم يعن الرجل نظرا عقليا وفكر اسبريا على مقدمات ونتائج فليس ما ذكره الا الحق انتهى
وإذا اتحد رأي امام الحرمين والغزالي وكان هوى رأي الإمام والجمهور ونزل مذهب الكعبي عليه كما صنع امام الحرمين لم يكن بينهم اختلاف وهذا التنزيل هو الذي ينبغي ان يكون ولا يجعل المسائلة نزاع وتوقف الشريف المرتضى والآمدي واحتج الجمهور بأنه لو كان نظريا لما حصل لمن ليس هو من أهل النظر كالبله والصبيان قال الإمام ولما حصل علمنا انه ليس بنظري وفي الدليلين نظر
أما الأول فقال النقشواني نمنع حصول العلم بالمتواتر للصبيان حال طفوليتهم وعدم حصول النظر والتمييز لهم حال كونهم مراهقين قال وكذلك نقول في البلة باعتبار الحالتين
واما الثاني فلأنه يلزم من كونه ضروري العلم بإنه ضروري ضرورة إذ العلم بالشيء لا يستلزم العلم بصفته واحتج القائل بأنه نظري بان العام بمقتضاه متوقف على العلم بامتناع تواطؤ المخبرين عن الكذب عادة وانه لا داعي لهم إليه من غرض ديني أو دنيوي واما إذا كان متوقفا على حصول الغير كان نظريا والمتوقف على النظري الى ان يكون نظريا والجواب ان هذه المقدمات حاصلة بقوة قريبه من الفعل أعني أنه إذا حصل طرفا المطلوب في الذهن فمن غير نظر يحصل لضرورة عقيبة
قال الثالثة ضابطة إفادة العلم وشرطه ان لا يعلمه السامع ضرورة وان لا يعتقد خلافه لشبهة دليل أو تقليد وان يكون سند الخبرين إحساسا به

ضابط الخبر المتواتر إفادة العلم فمتى اخبر هذا الجمع وأفاد خبرهم العلم علمنا انه متواتر ومتى لم يفد تبين لنا انه غير متواتر أما لفقدان شرط من شروط المتواتر أو لوجود مانع وعند هذا يظهر انه يتعذر الاستدلال بالتواتر على من لم يعترف بحصول العلم له ضرورة أنه لا مرجع في حصول شرائطه الا حصول العلم به فمن لم يحصل له العلم لا يمكن الاستدلال به عليه ومن قال لم يحصل لي العلم لا يقال له بل حصل لك العلم وشروط المتواتر أربعة
أحدها ان يكون السامع له غير عالم بمدلوله ضرورة لأن تحصيل الحاصل منزل في الاستحالة منزلة تحصيل الممتنع ونحن نضرب لذلك مثالا قائلين ذو العلم بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان لو اخبر بذلك لم يزدد علما ولم يستفد الثاني
الثاني ان لا يكون السامع معتقدا خلافه إما لشبهة دليل أو تقليد امام ان كان عاميا وهذا الشرط اعتبره الشريف المرتضى واختاره المصنف واحتج الشريف على اشتراطه بأن حصول العلم عقيب التواتر إنما هو بالعادة لا بطريق التقليد فإنه ربما يتوهم حينئذ انه لا مدخل لما ذكر من الشرط حتى يختلف فعله بحسب اختلافه فجاز ان يختلف ذلك باختلاف أحوال المسلمين فيحصل للسامع إذا لم يكن قد اعتقد نقيض ذلك ولا يحصل له إذا اعتقد نقيضه ثم أورد على نفسه بإنه يلزمكم على هذا ان يجوزوا
واصدق من أخبركم بأنه لم يعلم وجود البلدان الكبيرة والحوادث العظام بالأخبار المتواترة لأجل تقليد أو شبهة اعتقدها في نفي تلك الأشياء وأجاب عنه بأنه لا داعي يدعو العقلاء الى سبق اعتقاد نفي هذه الأمور ولا شبهة في نفي تلك الأشياء والتقليد لابد وأن ينتهي إلى ما ليس بتقليد دفعا للتسلسل والدور فلا يتصور فيه اعتقاد نفي موجب الخبر فلا جرم انه لا يجوز صدقه وهذا باطل بانا قد نجد أنفسنا جازمة بما اخبر به أهل التواتر وان سبق لنا اعتقاد نفي موجبه
واعلم ان الشريف رام بهذا الاشتراط مراما بعيدا فانه اتخذ ذلك ذريعة الى معتقده فقال وهذا كما انه النص الدال على إمامة علي رضي الله عنه متواترا ثم

لم يحصل العلم به لبعض السامعين لاعتقادهم نفي النص لشبهة أو تقليد ولقد رمى الغرض من أمد بعيد وأوقع اللبيب في أمر عجاب ما ادري أيتعجب المرء من ذي علم يميل الى معتقد فيدخل في الدين أمورا شامخة وقواعد كلية يتوصل الى إثبات المعتقد الحري بها ولا داعي له الى ذلك سوى غرضه الحري أو يدعي التواتر في أمر إذا عرضه على اهل الخبرة بالحديث في الأثر وذوي المعرفة بفنون السبر لم يلب منهم قائلا ان ذلك خبر يعد في الآحاد فضلا عن الحاقه بالمتوترات وهذا من بهت الروافض فانه لو كان لما خفي على أهل بيعة السقيفة ولتحدثت به امراة على مغزلها ولأبداه مخالف أو مواقف ولخرجه من رواة الحديث ولو حافظ واحد
الثالث ان يكون مستند المخبرين في الاخبار وهو الإحساس بالمخبر عنه الحواس الخمس لأن ما لا يكون كذلك يجوز دخول الغلط والالتباس فيه فلا جرمه انه يحصل العلم به وقال امام الحرمين لا معنى لاشتراط الحس فإن المطلوب صدور الخبر عن العلم الضروري ثم قد يترتب على الحواس ودركها وقد يحصل عن قرائن الأحوال ولا اثر للحس فيها على الاختصار فان الحس لا يميز احمرار الخجل والغضبان عن اصفرار المخوف والمرعوب وانما العقل يدرك تميز هذه الأحوال قال فالوجه اشتراط صدور الاخبار عن البديهة والاضطرار هذا كلام امام وفيه نظر لأن ما ذكره راجع الى الحس ايضا لأن القرائن التي تفيد العلم الضروري مستندة الى الحس ضرورة أنها لا تخلو عن ان تكون حالية أو مقالية وهما محسوسان وأما القرائن العقلية فهي نظرية لا محالة فلا يتصور التواتر فيها ولا تفيد الا علما نظريا فلو اخبر الزائدون على عدد أهل التواتر بما لا يحصى عدمها عما علموه نظرا لم يفد خبرهم علما وكانت طلبات العقل قائمة الى قيام البرهان قال امام الحرمين والسبب في ذلك ان النظر مضطرب العقول ولهذا يتصور الاختلاف فيه نفيا وإثباتا فلا يستقل بجميع وجوه النظر عاقل والعقلاء ينقسمون الى راكن في الدعة والهوينا من برجاء كذا النظر والى ناظر ثم النظار ينقسمون ويتحزبون أحزابا لا ينضبط على أقدام القرائح في ذكائها وأنقاذها وبلادتها واقتصادها ومن اعظم أسباب اختلافهم اعتراض

القواطع والموانع قبل استكمال النظر فلا يتضمن أخبار المخبرين في صحارى النظر صدقا ولا كذبا
قال وعددهم مبلغا يمتنع تواطؤهم على الكذب وقال القاضي لا يكفي الاربعة وإلا لأفاد قول كل أربعة فلا يجب تزكية شهود الزنا لحصول العلم بالصدق او الكذب وتوقف في الخمسة ورد بان حصول العلم بفعل الله تعالى فلا يجب الاطراد وبالفرق بين الرواية والشهادة وشرط اثنا عشر كنقباء موسى وعشرون لقوله تعالى ان يكن منكم عشرون صابرون وأربعون لقوله تعالى ومن اتبعك من المؤمنين وكانوا أربعين وسبعون لقوله واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا وثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر والكل ضعيف
الشرط الرابع ان يبلغ عدد المخبرين الى مبلغ يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب وذلك يختلف باختلاف الوقائع والقرائن والمخبرين ولا يتقيد ذلك بعدد معين بل هذا القدر كاف عند الجماهير لأنه لا عدد يفرض ألف وألفين الا والكذب منهم غير مستعبد لذي العقل بل المرجع في حصول هذا الشرط وغيره إلى الوجدان فإن وجد السامع نفسه عالما بما اخبره به على التواتر علم وجود هذا الشرط وغيره وإلا علم اختلال غيره من الشرائط
وهذا قد تقدم ذكره لكن من هؤلاء الجماهير من قطع في جانب النفي ولم يقطع في جانب الاثبات فقال بعدم إفادة عدد معين له وتوقف في بعضه وهو القاضي رضي الله عنه حيث قال اقطع بأن قول الاربعة لا يفيد العلم وأتوقف في الخمسة واحتج على ذلك بأنه لو حصل العلم بخبر أربعة صادقين لحصل بخبر كل أربعة صادقين لأنه لو لم يكن كذلك مع تساوي الأحوال والقائلين والسامعين في جميع الشروط لزم الترجيح من غير مرجح ولأنه لو جاز ذلك لجاز ان يحصل العلم بأحد الخبرين الصادرين عن جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب دون الآخر ولو حصل العلم بخبر كل أربعة صادقين لوجب ان يستغني الحاكم فيما إذا شهد عنده أربعة ان فلانا زنا بفلانة عن تزكيتهم لأنهم ان كانوا صادقين وجب حصول العلم بقولهم فاستغنى عن التزكية وان لم يحصل القطع بصدقهم وجب ان يحصل العلم بكونهم كاذبين لأن الغرض ان حصول العلم بالصدق من لوازم قول كل أربعة صادقين

فمتى لم يحصل العلم بالصدق فقد انتفى اللازم وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم ولا يمكن انتفاء حصول العلم لانتفاء كونهم شهدوا ولا كونهم أربعة إذ هو خلاف الفرض فتعين ان يكون لانتفاء الصدق ومتى انتفى الصدق تعين الكذب إذ لا واسطة بينهما وحينئذ لا يجب تزكيتهم ايضا للعلم بكذبهم فيخلو عن الفائدة فوضح انه لو أفادت الاربعة تزكية شهود الزنا وطلب تزكيتهم واجب باجماع الامة فبطل الأول
قال واما الخمسة فأتوقف فيها إذ لا يخفي عدم تأتي هذه الدلالة فيها لأنه ان لم يضطر الى العلم بصدقهم قطع بعدم صدقهم ولا يلزم من القطع بعدم صدقهم عدم صدق الاربعة منهم لجواز ان يكون الاربعة منهم شاهد دون الخامس فجاز ان تطلب تزكيتهم لبقاء النصاب وهذا بخلاف الاربعة لأن كذب أحدهم مسقط للحجة هذا تقرير حجة القاضي ونحن نقول له ان عنيت بقولك أتوقف في الخمسة في حصول العلم بقولهم وعدم حصوله فهو صحيح
لكن لاختصاص الوقفة بالخمسة بل يتأتى ذلك في الألف والألفين إذ لا نقطع بحصول العلم بصدقهم ولا بعدمه فكان يجب ان نتوقف في الكل بهذا المعنى وان عنيت به التوقف في جواز العلم بقولهم كما في سائر الأعداد وعدم جوازه كما في الاربعة فهو غير صحيح
لأنه إذا لم يثبت فيهم الدليل الدال على عدم جواز حصول العلم بقولهم يجب إلحاقهم بسائر الأعداد التي يجوز ان يحصل العلم بقولهم قوله وزاد أي رد قول القاضي بوجهين
احدهما منع الملازمة وأما قوله يلزم الترجيح من غير مرجح فممنوع لأنه منسوب الى الفاعل المختار على مذهبنا ومذهبه فالعلم الحاصل بخبر المتواتر إنما هو بخلق الله تعالى لا بطريق التوليد حتى يكون الترجيح من غير ومرجح ممتنعا واما قوله الجاز في أحد الخبرين عن الجمع الكثير دون الآخر فممنوع لأنه يجوز ان يختلف في ذلك عادة الله تعالى فاطرد عادته بخلق العلم الضروري عقيب أخبار الجمع الكثير ولم يطرد ذلك عقيب أخبار الجمع القليل بل تختلف فيه عادته فتارة يخلق وتارة لا يخلق

كما ان عادته مطردة بخلق الحفظ عقيب التكرار على البيت الواحد من الشعر ألف مرة ولم تطرد عادته بخلقه عقيب التكرار عليه مرة أو مرتين
وثانيهما الفرق بين الرواية والشهادة وذلك ان الشهادة تقتضي شرعا خاصا فتواطؤ الشهود على الكذب في المشهود عليه غير مستبعد بخلاف الرواية
وكذلك يشترط في الشهادة ما لا يشترط في الرواية
قوله وشرط علمت مذهب الجماهير وقد ذهب من سواهم من الخائضين فيه هذا الغزالي اشتراط العدد ثم تضايقت مذاهبهم فيه فلم يغادروا فيه على اختلاف الآراء عددا من الشرع هو مربط حكمه أو جار وفقا في حكاية حال الا مال إليه منهم مائل منهم مائل فذهب ذاهبون الى اشتراط اثني عشر كعدد نقباء موسى عليه السلام لأن موسى عليه السلام نصبهم ليعرفوه أحوال بني إسرائيل قال الله تعالى وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وانما خصهم بذلك المدد لحصول العلم بقولهم وبعضهم شرط عشرين لقوله تعالى ان يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وعلى هذا المذهب العلاف وأبو هشام بن عمر والغوطي لكنهما كما ذكر القاضي في مختصر التقريب شرطا مع ذلك ان يكونوا من المؤمنين الذين هم أولياء الله ونقل الإمام اشتراط العشرين عن أبي الهذيل وبعضهم شرط أربعين مصيرا الى عدد الجمعة ذهابا الى ان العدد هو الذي نزل فيه قوله سبحانه وتعالى يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين فنزلت هذه الآية لما آمن أربعون من الرجال
وشرط آخرون من سبعين تمسكا بقوله تعالى واختار موسى قومه سبعين وشرط آخرون من سبعين تمسكا بقوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا وقال قوم ثلثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر والبضع بكسر الباء هو ما بين الثلاث الى التسع والذي مختصر التقريب القاضي والبرهان لامام الحرمين والوجيز لابن برهان والأحكام للآمدي تقييدا هذا العدد بثلاثمائة

وثلاثة عشر وهو لا يبان ما نقل المصنف ولعل الناظر في كتب المحدثين يجد انهم كانوا ثلاثمائة رجل وخمسة رجال
وهو ايضا غير مباين وذلك لأن الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة بدر للمقاتلة ثلثمائة رجل وخمسة رجال ولم يحضر الغزوة ثمانية من المؤمنين أدخلهم النبي صلى الله عليه و سلم في حكم عداد الحاضرين وأجرى عليهم حكمهم فكانت الجملة ثلاثمائة وثلاثة عشر فاستفد هذا فان جماعة من المحدثين ذهلوا عنه حتى حكاه بعضهم خلافا فقال قيل ثلثمائة وقيل ثلثمائة وخمس رجال كالحافظ شرف الدين الدمياطي وغيره والجمع بين القولين ما أشرنا إليه
قال المصنف تبعا للجماهير والكل ضعيف وهو كذلك لأنا نعارض بعض هذه المذاهب ببعض ولا يتجه عند تعارضها ترجيح بعض على بعض
قال امام الحرمين وإن عن ترجيح فليس من مدلول الحق المقطوع به فان الترجيحات ثمراتها غلبان الظنون في مطرد العادة وأيضا فإنه لا تعلق لشيء من هذه الأعداد بالأخبار
وانما هي في قضايا غايات جرت في حكاية أحوال وليس في العقل ما يقتضي بمناسبة شيء منها لاقتضاء العلم فلا وجه لاعتبار شيء منها وأيضا فما من عدد مما ذكروه الا ويمكن فرض تواطؤهم على الكذب وبالجملة فالأعداد التي تمسكوا بها منقسمة الى واقع في أقاصيص وحكايات أحوال جرت وفاقا فكان لا يمتنع ان يقع اقل من تلك المبالغ واكثر وهي واردة في أحكام لا تعلق لها بالصدق والكذب فلا معنى للتمسك بها ويلتحق بهذه المذاهب قول بعضهم باشتراط عدد بيعة الرضوان قال امام الحرمين وهم ألف وتسعمائة
وقال ضرار بن عمرو لا بد من خبر كل الامة وهو الاجماع حكاه القاضي في مختصر التقريب وحكي عن صاحب أبي الهذيل المعروف بأبي عبد الرحمن انه اشترط خمسة من المؤمنين الذين هم أولياء الله شرط عصمتهم عن الكذب قال ولا بد معهم من السادس ليس من الأولياء لتلتبس أعيانهم فلا يشر الى واحد منهم أو لا يجوز ان يكون هو السادس قال القاضي وهو مذهب خالف فيه

سائر المذاهب ومنهم من شرط خمسة وأطلق حكاه الآمدي وابن برهان في وجيزه وقال طوائف من الفقهاء ينبغي أن يبلغوا مبلغا لا تحويهم بلد ولا يحصرهم عدد قال إمام الحرمين وهو سرف ومجاورة حد وذهول عن مدرك الحق
قال ثم إن اخبروا عن عيان فذاك وإلا فيشترط ذلك في كل الطبقات
عدد التواتر أن اخبروا عن معاينه فذاك وان لم يخبروا عن معاينه اشترط وجود هذا العدد اعني الجمع الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب في كل الطبقات وهو معنى قول الاصوليين لا بد فيه من استواء الطرفين والواسطة وبهذا يتبين أن المتواتر قد ينقلب آحادا وربما اندرس دهرا فالمتواتر من أخبار الرسول صلى الله عليه و سلم ما اطردت الشرائع فيه عصرا بعد عصر حتى انتهى إلينا وهذا الإخفاء فيه قال إمام الحرمين ولكنه ليس من شرط التواتر قال بل حاصل ذلك أن المتواتر قد ينقلب آحادا وليس من شرائط وقوع التواتر فلا يصح تعبيرهم باشتراط استواء الطرفين والواسطة
قال الرابعة مثلا لو اخبر واحدا بأن حاتما أعطى دينارا وآخر انه أعطى فرسا وآخر انه اعطى جملا وهلم جرا تواتر القدر المشترك لوجوده في الكل
التواتر قد يكون لفظيا وهو ما سبق وقد يكون معنويا وهو أن يجتمع من يمتنع تواطؤهم على الكذب على الأخبار عن شيء وتتباين أقوالهم فيما يخبرون به ولكن يكون بينها قدر مشترك فيحصل له التواتر لوجوده في خبر كل واحد ووقوع الاتفاق عليه ضمنا إذ الكل مخبرون عن ذلك المعنى المشترك ضرورة إخباراتهم عن جزئياته
ومثال ذلك ما إذا قال زيد أعطى حاتم دينارا وقال عمر وأعطى فرسا وقال خالد أعطي جملا وهلم جرا حتى يبلغ حد التواتر فإن يثبت بهذه الأخبارات القدر المشترك وهو صدور الاعطاء منه ولو ان زيدا ذكر انه اعطى وتصدق ووهب مرارا وعمرو قال أضاف ووقف وانعم بالمال مرارا وهلم جرا لتواتر في نحو هذه الصورة شأن مجرد الاعطاء والكرم

الفصل الثاني
فيما علم كذبه
قال الفصل الثاني فيما علم كذبه وهو قسمان الأول ما علم خلافه ضرورة أو استدلالا
الخبر المقطوع بكذبه ذكر المصنف انه قسمان الأول ما علم بالضرورة خلافه كالأخبار باجتماع النقيضين أو ارتفاعهما أو بالاستدلال بأخبار الفيلسوف بقدم العالم
قال الثاني ما لو صح لتوفير الدواعي على نقله كما نعلم انه لا بلدة بين مكة والمدينة اكبر منهما إذ لو كان لنقل وادعت الشيعة ان النص دل على إمامة على ولم تتواتر كما لم تتواتر الإقامة والتسمية ومعجزات الرسول صلى الله عليه و سلم قلنا الاولان من الفروع ولا كفر ولا بدعة في مخالفتهما بخلاف الإمامة واما تلك المعجزات فلقلة المشاهدين
القسم الثاني الخبر الذي لو كان صحيحا لكانت الدواعي متوفرة على نقله أما لكونه أمرا غريبا كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة أو لتعلق اصل الدين به كالنص الذي تزعم الروافض انه دل على إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فعدم تواتره دليل على عدم صحته ولهذا انا نقطع بأنه لا بلدة بين مكة والمدينة اكبر منهما وليس مستند هذا القطع الا انه لو كان لتواتر وقالت الشيعة ما ندعيه من النص الدال على إمامة على رضي الله عنه لم يتواتر كما لو يتواتر كلمات الإقامة من أنها مثنى أو فرادى والتسمية في الصلاة ومعجزات رسول الله صلى الله عليه و سلم التي لم تتوافر كحنين الجذع إليه وتسليم الحجر عليه ووقوف

الشجر بين يديه وتسبيح الحصى في يمينه مع توافر الدواعي على نقلها فدل ذلك على عدم تواتر ما توافر الدواعي على نقله ليس دليلا على عدم صحته وأجاب عن الأولين اعني الإقامة والتسمية بأنهما من مسائل الفروع ولا كفر ولا بدعة في مخالفتهما فلم تتوافر الدواعي على نقلها لذلك بخلاف الإمامة فإنها من الأصول ومخالفتها بدعة ومؤثرة في الفتن فتتوافر الدواعي على نقلها فلما لم تتوافر دل على عدم صحته
وعن الثالث ان تلك المعجزات التي لم تتواتر لم تكن بحضرة جمع عظيم فعدم تواترها إنما هو لقلة المشاهدين فان قلت يعارض هذا بمثله فنقول إنما لم يتواتر النص الدال على إمامة على رضي الله عنه لقلة السامعين قلت ما تدعون من النص لا نعرفه بنقل في الآحاد الصحاح فضلا عن المتواترات ولو كان له وجود لما خفي على أهل بيعة السقيفة وتحدثت به امرأة في خدرها ولا ابدات معاضد أو معاند وقد كان الأمر إذ ذاك معضلا إذنا يحتاج إلى التلويح فضلا عن النص الصريح ولم يكن عن ابدائه غنى بخلاف سائر معجزات النبي صلى الله عليه و سلم فانه ربما اكتفى بنقل القرآن الذي هو اشهرها وأعظمها عن نقلها وخلافه إبي بكر رضوان الله عليه لم يكن مؤيدة شوكة قاهرة وانما كان الامر فوضى
ومن المعلوم ان أمر الولايات من اخطر الأشياء في العادات ولا نتسق النفوس إلى شيء تشوقها إلى نقل ما يتعلق بالولايات ففيها تطير الجماجم عن الغلاصم وتهلك النفوس ويلوح من هذا فرق آخر واضح بين ما سألوه من أمر الإقامة وبين الإمامة
قال إمام الحرمين وهو من اغمض الأسئلة فان بلال كان يقيم بعد الهجرة الى انقلاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى رضوانه في اليوم والليلة خمس مرات ثم لم يقع التواتر واختلفت النقلة فنقول الإقامة شعار مسنون ليس بالعظيم الموقع في العرب والشرع قال إمام الحرمين والمعتمد عندي ان الصحابة هونت أمر الإفراد والتثنية فلم يعتنوا بالأشاعة وأشاعوا أفضى إلى الدروس وليس ذلك بدعا فيما ليس من العزائم وهذا ينضم اليه بدع ثارت مع تواتر وأصحاب سلطنة واستيلاء وقهر فانه جرى في آخر أيام علي رضي الله عنه قريب من مائة سنة

دواهي تشيب النواصي واستقر على تغيير ما كان منوطا بالأمر اذ كانت الجماعة واقامة شعارها من أهم ما يهتم به الأمر ثم الهي الناس عنه ما حدث فقد تقرر واضحا من المقطوع بكذبه خبر لو صح لتوفرت الدواعي على نقله ويتبين به بطلان ما ادعاه الروافض من النص وفساد قول العيسوية ان في التوراة ان موسى بن عمران عليه السلام آخر مبعوث فان هذا لو كان لذكره أخبار اليهود في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولما آثروا عنه معدلا إلى تحريف نعت رسول الله صلى الله عليه و سلم وتبديلهم الذي خانوا به وخسروا واعلم ان المصنف لم يذكر من المقطوع بكذبه غير قسمين
وذكر الإمام ثالثا وهو ما نقل عن النبي صلى الله عليه و سلم بعد استقرار الاخبار ثم فتش عنه فلم يوجد في بطون الكتب ولا في صدور الرواة ولقائل ان يقول غاية منتهى المنقب الجلد والمتفحص الألد عدم الوجدان فكيف ينتهض ذلك قاطعا في عدم الوجود وانما قصاراه ظن غالب يوجب ان لا يلتفت إلى ذلك الخبر وان فرض دليل عقلي او شرعي او توفر الدواعي على نقله عاد إلى القسمين المذكورين في الكتاب
وذكر إمام الحرمين قسما رابعا فقال مما يذكر من أقسام الكذب ان يتنبأ متنبىء من غير معجزة فيقطع بكذبه قال وهذا معضل عندي فأقول ان تنبأ وزعم ان الخلق كلفوا متابعته وتصديقه من غير آية فهذا كذب فان مساقه يفضي إلى تكليف ما لا يطلق وهو العلم بصدقه من غير سبيل مؤد إلى العلم فأما إذا قال ما أكلف الخلق اتباعي ولكن أوحى إلى فلا يقطع بكذبه قلت وهذا كله يجب ان أكون فيما إذا كان من ادعى النبوة محمد صلى الله عليه و سلم
واما بعده فيقطع بكذبه لقيام القاطع على ان لا نبي بعده وهذا راجع إلى القسم الأول وهو ما علم خلافه استدلالا
قال مسالة بعض ما نسب إلى الرسول صلى الله عليه و سلم كذب لقوله سيكذب على ولأن منها ما لا يقبل التأويل فيمتنع صدوره عنه
بعض الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه و سلم بطريق الآحاد مقطوع بكذبه لوجهين

أحدهما انه روي عنه صلى الله عليه و سلم انه قال سيكذب علي فان صح هذا الحديث لزم وقوع الكذب عليه ضرورة صدقه فيما يقوله به وان لم يصح مع كونه روي عنه فقد حصل الكذب فيما روي عنه ضرورة ان هذا الخبر من جملة ما روي عنه لكن على هذا التقدير يتعين الموضوع عليه وهو هذا الخبر والدعوى كانت مبهمة في بعض غير معين فان قلت تلزم صحته ولا يلزم وقوع الكذب في الماضي الذي هو المدعي لأنه قال سيكذب بصيغة المضارع فيجوز ان يقع في المستقبل قلت السين الداخلة على يكذب وان دلت على الاستقبال فإنما تدل على استقبال قليل بخلاف سوف كما نصوا عليه وقد حصل هذا الاستقبال القليل بزيادة واعلم ان هذا الحديث لا يعرف ويشبه ان يكون موضوعا
الثاني ان من جملة ما روي عنه صلى الله عليه و سلم ما لا يقبل التأويل إما لمعارضة الدليل العقلي أو غير ذلك مما يوجب عدم قبوله للتأويل فيمتنع صدوره عنه عليه السلام قطعا
قال وسببه نسيان الراوي أو غلطة أو افتراء الملاحدة لننفير العلل سبب وقوع الكذب عليه صلى الله عليه و سلم اما نسيان الراوي لطول عهد بالخبر المسموع أو غير ذلك فربما لحمل النسيان على نقص ما يخل بالمعنى أو رفع ما هو موقوف أو غير ذلك من آفات النسيان واما غلطة بأن أراد النطق بلفظ فسبق لسانه إلى سواه أو وضع لفظا مكان آخر ظانا انه يؤدي معناه واما افتراء الزنادقة وغيرهم من أعداء الدين الذين وضعوا أحاديث تخالف العقول ونسبوها إلى النبي صلى الله عليه و سلم تنفيرا للعقلاء عن شريعته المطهرة وقد يقع الوضع من متهالك على حب الجاه كما وضعوا في دولة بني العباس رضي الله عنه نصوصا دالة على إمامة العباس وذريته ومن الغواة المتعصبين من وضع أحاديث لتقرير مذهبه ودفع خصومه ومنهم من جوز وضع الأحاديث للترغيب في الطاعة والترهيب عن المعصية فوقع منه الوضع في ذلك وأسباب الوضع كثيرة لأنها تختلف باختلاف أغراض الفسقة المتمردين والزنادقة المبتدعين والله اعلم

الفصل الثالث
فيما ظن صدقه
فيما ظن صدقه وهو خبر للعدل الواحد والنظر في طرفين الأول في وجوب العمل به دل عليه السمع وقال ابن سريج والقفال والبصري دل الفعل ايضا أنكره قوم لعدم الدليل او للدليل على عدمه شرعا أو عقلا وأحاله آخرون واتفقوا على الوجوب في الفتوى والشهادة والأمور الدنياوية
القسم الثالث من اقسام الخير ما لا يقطع بصدقه ولا يصدقه ولا يكذبه وله احوال لأنه اما ان يترجح احتمال صدقه او كذبه كخبر العدل والفاسق او يتساوى كخبر المجهول وانما يجب العمل بالقسم الأول فلذلك اقتصر على ذكره هنا فقوله العدل احترازا عن القسمين الآخرين وقوله الواحد احتراز عن المتواتر فان المراد بخبر الواحد عند الاصوليين ما لم يبلغ حد التوتر مما لا سبيل الى القطع بصدقه او كذبه سواء نقله واحد ام جمع منحصرون وقد يخبر واحد فيعلم صدقه كالنبي ولا يعد ذلك من أخبار الاحد ويدخل في خبر الواحد المستفيض قال الآمدي وهو ما نقله جماعة يزيد على الثلاثة والأربعة وقيل المستفيض وما تلقته الامة بالقبول وقال الاستاذ ابو بكر بن فورك الخبر الذي تلقته الامة بالقبول محكوم بصدقه قال إمام الحرمين وفصل ذلك في مصنفاته فقال ان اتفقوا على العمل به لم يقطع بصدقه وحمل الامر على اعتقاد وجوب العمل بخبر الواحد وان تلقوه بالقبول قولا ونطقا فان تصحيح الائمة للخبر يجري على حكم الظاهر فإذا اجتمع شروط الصحة اطلق عليه المحدثون الصحة فلا وجه للقطع والحالة هذه قال إمام الحرمين ثم لو قيل للقاضي لو رفعوا هذا الظن وباحوا بالصدق فماذا تقول لقال مجيبا لا يتصور هذا فانهم لا يصلون الى العلم بصدقه ولو قطعوا

لكانوا مجازفين واهل الاجماع لا يجتمعون على باطل وقال الاستاذ ابو اسحاق المستفيض ما تتفق عليه ائمة الحديث وزعم انه يقتضي العلم نظرا والمتواتر يقتضيه ضرورة وضعف إمام الحرمين ما قاله الاستاذ بأن العرف واطراد الاعتبار لايقتضي الصدق قطعا بل قصاراه غلبه الظن و المختار ان المستفيض ما يعده الناس شائعا وقد صدر عن اصل ليخرج الشائع لا عن اصل واقل والمستفيض اثنان وقد حصر المصنف مقصود هذا الفصل في طرفين
احدهما في وجوب العمل بخبر الواحد قال الجمهور يجب العمل به سمعا
وقال احمد بن حنبل والقفال وابو العباس بن سريج منا وابو الحسين دل عليه العقل مع السمع وقد عرفت في اوائل الشرح اعتذار القاضي والاستاذ عمن قضى بدلالة العقل على ذلك من اصحابنا اهل السنة كأحمد وابن سريج والقفال ومن الناس من انكر التعبد به وقد انقسموا ما بينهم الى مذاهب
الاول انه لم يوجد ما يدل على انه حجة فوجب القطع بانه ليس بحجة وهذا معنى قول المصنف لعدم الدليل عليه
والثاني ان الدليل السمعي قام على انه غير حجة وهو راي القاساني وابن داود والرافضة
والثالث ان الدليل العقلي قام على امتناع العمل به وعليه جماعة من المتكلمين منهم الجبائي فإن قلت ما وجه الجمع بين منع الجبائي هنا التعبد به عقلا واشتراطه العدد كما سيأتي ان شاء الله تعالى النقل عنه فان قضية اشتراطه العدد القول به قلت قد يجاب بوجهين اقربهما انه اراد بخبر الواحد الذي انكره هنا ما نقله العدل منفردا به دون خبر الواحد المصطلح اعني الشامل لكل خبر لم يبلغ حد التواتر ولهذا كانت عبارة إمام الحرمين ذهب الجبائي الى ان خبر الواحد لا يقبل بل لا بد من العدد واقله اثنان والثاني انه يجعله من باب الشهادة واعلم ان القائلين بهذا المذهب احالوا وقد صرح المصنف بالمغايرة بين مذهب من منعه عقلا ومن احاله حيث قال بعد قوله عقلا واحاله

آخرون وهو وهم ثم ان المصنف اشار الى تحرير محل النزاع بانه ليس من الفتوى والشهادة والامور الدنياوية كلها بل اطبق علماء الامة على العمل بخبر الواحد في تلك الامور
قال لنا وجوه الاول انه تعالى اوجب الحذر بانذار طائفة من الفرقة والانذار الخبر المخوف والفرقة ثلاثة والطائفة واحدا واثنان قيل لعل للترجي قلنا تعذر فيحمل على الايجاب بمشاركته للتوقع قبل الانذار للفتوى قلنا يلزم تخصيص الانذار والقوم بغير المجتهدين والرواية ينتفع بها المجتهد وغيره قيل فيلزم ان يخرج من كل ثلاثة واحد قلنا خص النص فيه اقامة البرهان على وجوب العمل بخبر الواحد صريحة في الرد على من قاله انه لم يقم دليل على ذلك واستنه الى ما لا يعصم فقال ليس في العقل ما يوجب ذلك وليس في كتاب الله نص عليه ولا سنة متواترة ترشد اليه ولا مطمع في الاجماع مع قيام النزاع ويستحيل ان يثبت خبر الواحد واذا انحسم المسلك العقلي والسمعي فقد حصل الغرض وقدمنا هذا القائل كلامه على امور هو فيها منازع بحق واضح وهي قوله ان العمل به غير مستند الى نص كتاب ومانورده من الآي رادا عليه ولا الى سنة متوترة ولا اجماع
وهو ايضا باطل فانهما قائمان وهما المسلك الذي يختار الاعتماد عليه في اثبات العمل بخبر الواحد والراي الكلام على تقرير ما في الكتاب ثم ايضاحهما فنقول استدل على وجوب العمل بخبر الواحد باوجه
الاول قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون وجه الاحتجاج انه تعالى اوجب الحذر باخبار طائفة لأنه اوجبه بانذار الطائفة في قوله
ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون وكلمة لعل للترجي وهو محال في حقه تعالى فوجب حمله على المجاز وهو طلب الحذر لأن من لازم

الترجي الطلب وطلب الله هو الامر فثبت الامر بالحذر عنه انذار الطائفة والانذار هو الاخبار لأنه عبارة عن الخبر المخوف والخبر داخل في الخبر المخوف والطائفة ها هنا عدد لا يفيد قولهم العلم لأن كل ثلاثة فرقة
وقد اوجب الله تعالى ان يخرج من كل فرقة طائفة والطائفة من الثلاثة واحدا واثنان
وقول الواحد او الاثنين لا يفيد العلم وقد اوجب به الحذر فاثبت وجوب العمل بالخبر الذي لا يقطع بصدقه ولكن يظن صدقه وذلك هو خبر الواحد واعلم ان هذا التقرير مبني على ان المتفقهة هم الطائفة النافرة وأن الضمير في قوله ليتفقهوا ولينذروا راجع إليها وهذا قول لبعض المفسرين والصحيح ان المتفقهة الفرق المقيمة والمراد ان الفرق التي عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ينفر من كل فرقة منهم طائفة الى الجهاد وتبقى بقيتهم عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ليتفقهوا في الدين عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم من الجهاد فالطائفة النافرة ليست المتفقهة بل هي التي تنذر
ومما يوضح هذا المتفقهة هو المقيم بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم يسمع منه ويتلقى عنه والآية نزلت لأن المؤمنين لما نزلت الآيات في المختلفين بعد تبوك صار المؤمنون كلما جهز النبي صلى الله عليه و سلم فرقة للغزو بادروا الى الخروج واستبقوا اليه فانزل الله هذه الآية والمعنى والله اعلم وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلا نفرت طائفة من كل فرقة منهم لتحصيل التفقه للباقين عند النبي صلى الله عليه و سلم
واعترض الخصم على الاحتجاج بهذه الآية على التقرير المذكور في الكتاب بثلاثة اوجه
احدهما ان مدلول لعل الترجي لا الايجاب والجواب ما سبق من انه لما تعذر الحمل على الترجي حمل على الايجاب لمشاركته للترجي في الطلب
وقال في الكتاب بمشاركته له في التوقع وليس ذلك بمستقيم اذ يلزم من حمل لعل على حقيقتها بعينه لأن التوقع في حقه تعالى محال

والثاني لا نسلم أن المراد بالانذار في الآية الخبر المخوف مطلقا بل المراد به التخويف الحاصل من الفتوى وقول الواحد فيها مقبول اتفاقا كما عرف ويؤيد ذلك انه اوجب التفقه من اجل الفتوى والتفقه انما يفتقر اليه في الفتوى لا الرواية
والجواب انه يلزم من حمله على الفتوى تخصيص الانذار المذكور في الآية وهو عام فيه وفي الرواية وتخصيص القوم المنذرين بغير المجتهدين اذ المجتهد لا يقلد مجتهدا فيما افتى به بخلاف ما اذا حمل على ماهو اعم من الفتوى فانه لا يلزمه التخصيص أما الانذار فلأنه الخبر المخوف وهو اعم من ان يكون بالفتوى او بغيرها فانتفاء التخصيص منه اذا حمل على ما هو اعم واضح واما القوم فلأن الرواية ينتفع بها المقلد والمجتهد
اما المجتهد ففي الاستدلال على الاحكام واما المقلد ففي الانزجار وحصول الثواب لو نقلها لغيره بل يلزم من انتفاع المجتهد بها انتفاع العامي بها لأنها اصله الثالث لو كان المراد من الفرقة ثلاثة للزم منه ان يجب على كل ثلاثة ان يخرج منهم واحد للتفقه وذلك باطل بالإجماع
واجاب بان ذلك هو ظاهر الآية الا ان النص في ذلك خص بالإجماع لانعقاده على ان لا يجب على كل ثلاثة ان يخرج منهم واحد بل يكفي فقيه واحد في خلق كثير لإرشادهم الى ما تعبدوا به وإذا خص من هذا الوجه بقي على عمومه فيما عداه
قال الثاني انه لو لم يقبل لما علل بالفسق لأن ما بالذات لا يكون بالغير والثاني باطل لقوله تعالى ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا الثالث القياس على الفتوى والشهادة قيل يقتضيان شرعا خاصا والرواية عاما ورد باصل الفتوى
الدليل الثاني على وجوب العمل بخبر الواحد انه لو لم يجز قبول خبر الواحد في الجملة لما كان عدم قبول خبر الواحد الفاسق معللا بكونه فاسقا والتالي باطل فالمقدم مثله اما بيان الملازمة فإن كون الراوي الواحد واحدا او

لازم لشخصه المعين يمتنع انفكاكه عنه عقلا واما كونه فاسقا فهو وصف عرضي يطرأ ويزول وان اجتمع في المحل وصفان احدهما لازم والآخر عرضي مفارق وكان كل واحد منهما مستقلا باقتضاء الحكم كان الحكم مضافا الى اللازم لا محالة لأنه كان حاصلا قبل حصول المفارق وموجبا لذلك
وحين حال العرض المفارق كان ذلك الحكم حاصلا بسبب ذلك اللازم وتحصيل الحاصل مرة اخرى محال فيستحيل اسناد ذلك الحكم الى ذلك المفارق مثاله الميت يستحيل ويستهجن ان يقال لا يكتب لعدم الدواة والقلم عنده لأن الموت لما كان وصفا لازما له الى حين يبعث وكان مستقلا بامتناع صدور الكناية عنه لم يجز تعليل امتناع الكتابة بالوصف العرضي وهو عدم الدواة والقلم
واذا اردت اعتبار ذلك مثالا بالجزئيات الفقهية قلت خيار المجلس ثابت لقوله صلى الله عليه و سلم المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا وهو اسم مشتق من معنى الحكم مهما نيط باسم مشتق من معنى كان معللا به فكأنه قيل المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا لكونهما متبايعين
فإن قال الخصم نحمل الخيار على خيار القبول فإنه اذا صدر الايجاب من البائع ولم يتصل به القبول من المشتري فإن المشتري بالخيار بين ان يقبل وان لا يقبل فكذلك البائع بالخيار بين ان يثبت على الايجاب وان يرجع قلنا له هذا فاسد لأن قبول البيع حق ثابت له بكونه آدميا لا بمقتضى البيع فهو مستفاد بالذات اعني كونه آدميا فلا يجوز ان يستند الى الوصف العرضي وهو البيع
واما بيان بطلان التالي فان الله تعالى علل عدم قبول خبر الفاسق بكونه فاسقا في قوله تعالى يا ايها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا امر

بالتبين اذا كان خبر المخبر فاسقا والحكم المعلق على الوصف المشتق المناسب يقتضي كونه معللا بما منه الاشتقاق ولا مراء في أن الفسق وصف يناسب عدم القبول فثبت بما ذكرناه ان خبر الواحد لو وجب ان لا يقبل لامتنع تعليل عدم القبول فثبت بما ذكرناه ان خبر الواحد لو وجب ان لا يقبل لامتنع تعليل عدم قبول نبأ الواحد بكونه فاسقا
ولكنه قد علل به فوضح ان خبر الواحد لا يجب ان لا يقبل فهو اذا غير مردود فيكون مقبولا في الجملة وهو الغرض ومن الناس من تمسك بالآية على وجه آخر وهو ان الامر بالتبين مشروط بمجيء الفاسق والمفهوم حجة وهو قاض بانه اذا لم يكن فاسقا يعمل به واعترض الآمدي بان المفهوم وان كان حجة لكنه ظني فلا يكفي في باب الاصول ومن المتمسكين بهذا الوجه الشيخ ابو الحسن رضي الله عنه كما نقله القاضي في مختصر التقريب في الكلام على مفهوم الصفة وذلك يقتضي ان يقول بالمفهوم وقد تقدم الكلام فيه في مكانه
والمفهوم هنا شرط وصفه فالشرط مستفاد من صيغة ان الصفة مكتسبة من لفظة فاسق
واعترض على هذا الاستدلال بان ما ذكرتم وان دل على ان عدم القبول معلل بكون الراوي فاسقا لكن قوله تعالى ان تصيبوا قوما بجهالة يدل على انه معلل بعدم افادته العلم اذ الجهالة هنا عبارة عن عدم القطع بالشيء لا القطع بالشيء مع كونه ليس كذلك فإن خبر الفاسق لا يفيد ذلك حتى يحسن ان يقال ان تصيبوا قوما بجهالة بل انما يفيد النوع الاول وخبر الواحد العدل يشاركه في ذلك فوجب ان لا يقبل
وأجيب بأن الظن كثيرا ما يطلق على العلم والعلم على الظن فالجهالة والجهل يستعمل فيما يقابل هذين المعنيين فالمعنى من الجهالة هنا ضد العلم الذي بمعنى الظن فتكون عبارة عن عدم الظن فالعمل بخبر الفاسق تحمل بجهاله لأنه ليس فيه علم أي ظن واما العمل بخبر الواحد العدل ليس كذلك
الدليل الثالث قياس خبر الواحد على الفتوى والشهادة بجامع تحصيل المصلحة المظنونة او دفع المفسدة المظنونة واعترض الخصم فقال الفرق ان

الفتوى والشهادة يقتضيان شرعا خاص ببعض الناس وهو المستفتي والمشهود له او عليه بخلاف الرواية فانها تقتضي شرعا عاما لكل الناس فلا يلزم من تجويز العمل بالظن الذي هو معرض الخطأ والصواب في حق الواحد تجويز العمل به في حق كافة الناس
واجيب بان هذا مردود شرعية اصل الفتوى فإنه امر لكل الخلق باتباع الظن وفيه نظر فإن عموم شرع الفتوى ليس كعموم شرع الرواية لأن الرواية تشمل المكلفين أجمعين والفتوى ليست حجة على المجتهدين فكان العموم فيها دون العموم في الرواية وايضا فالمسألة علمية والقياس غير كاف فيها وقد ذكر القاضي في مختصر التقريب هذا الوجه اعني القياس على الفتوى والشهادة
وقال لست اختار لك التمسك به فانك تكون في ذلك طاردا ولا تستمر ولا تلك على سير الاصوليين وقصاراه ان يقول لك الخصم قد ثبت الفتوى والشهادة بدلالة قاطعة لم يثبت الخبر فتلجئك الضرورة الى ذكر الأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد هنا تقرير الاوجه المذكورة في هذا الكتاب
والمختار عندي في ذلك طريقة القاضي وعصبته كإمام الحرمين والغزالي وغيرهما وهي الاستدلال على وجوب العمل بخبر الواحد بمسلكين قاطعين لا يماري فيهما منصف
احدهما اجماع الصحابة رضي الله عنهم على قبول خبر الواحد وذلك في وقائع شتى لا تنحصر واحادها ان لم تتواتر فالمجموع منها متواتر ولو اردنا استيعابها لطالت الانفاس وانتهى القرطاس فلا وجه لتعدادها اذ نحن على قطع بالقدر المشترك منها وهو رجوع الصحابة الى خبر الواحد اذا نزلت بهم المعضلات واستكشافهم عن أخبار النبي صلى الله عليه و سلم عند وقوع الحادثات واذا روى لهم تشرعوا الى العمل به فهذا ما لا سبيل الى جحده ولا الى حصر الامر فيه
فإن قيل لئن ثبت عنهم العمل بأخبار الآحاد فقد ثبت عنهم ردها فأول من ردها رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه لما سلم من اثنين فقال له ذو اليدين اقصرت الصلاة

ام نسيت فلم يعول رسول الله صلى الله عليه و سلم على قوله وسأل ابا بكر وعمر ورد ابو بكر الصديق رضوان الله عليه خبر المغيرة بن شعبة فيما رواه من ميراث الجد الى غير ذلك من وقائع كثيرة
قلنا قال القاضي ليس في شيء معتصم فأما قصة ذي اليدين فدليل على الخصم فانه صلى الله عليه و سلم قبل فيها خبر ابي بكر وعمر
والخصم اذا انكر خبر الآحاد ينكر خبر الثلاثة كما ينكر خبر الواحد هذا جواب القاضي في مختصر التقريب
وبمثله يجاب عن قضية المغيرة لأن ابا بكر قبله لما وافقه عليها محمد بن مسلمة ولقائل ان يقول خبر هؤلاء الثلاثة وان لم يفد العلم فقد افاد الظن واذا ظن النبي صلى الله عليه و سلم صدقهم حصل القطع بكونهم صادقين ضرورة اذ ظنه عليه السلام لا يخطيء فيجب العمل بهذا الظن ولا يقاس عليه ظن من عداه وهذا بحث حسن يختص بقضية ذي اليدين واشبهها ويستفاد منه التفرقة بين ظان وظان ولا يقال على هذا ليس ان خبر ذي اليدين بقيد الظن بمجرده لأنا نقول من اين لكم الظن حصل للنبي صلى الله عليه و سلم بخبره بل نقول لو حصل له الظن لا نبعه لما ذكرناه ثم قال القاضي ان ما استروح اليه الخصم لا يبلغ ان يكون استفاضة بخلاف ما اعتمدنا نحن عليه فلا يكون مقاوما له وهذا صحيح والانصاف عدم الاعتراض بشيء من هذه الوقائع فما من واحدة الا وفيها جواب يخصها بل لو لم يعلم الجواب الخاص بها لقلنا قضية الجمع بين ما رويناه ورويتموه ان تم لكم انه يعارضه ان نقول ردوا خبر الواحد حيث فقد شرطا من شروطه او حصل الشك فيه بطريق من الطرق وقبلوه حيث سلم عن ذلك ونحن انما ندعي قبوله حالة السلامة عن معارض او قادح
المسلك الثاني السنة وذلك انا نعلم باضطرار من رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرسل الرسل ويحملهم تبليغ الاحكام وتفصيل الحلال والحرام وربما كان يصحبهم الكتب وكان نقلهم اوامر رسول الله صلى الله عليه و سلم على سبيل الآحاد ولم تكن العصمة لازمة لهم بل كان خبرهم في مظنة الظنون

قال إمام الحرمين وجرى هذا مقطوعا به متواتر الإندفاع له إلا بدفع التواتر إلا مباهت
قال وهذا مسلك لا يتمادى فيه الأجاحد ولا يدفعه إلا معاند واعترض على هذا المسلك بأنا سلمنا انه صلى الله عليه و سلم كان ينفذ الآحاد ولكن لم قلتم ذلك لتبليغ الأخبار التي هي مدارك الأحكام الشرعية بل إنما كان ذلك بطريق الرسالة والقضاء واخذ الزكاة والفتوى وتعليم الأحكام
سلمنا صحة التنفيذ بالأخبار التي هي مدارك للأحكام ولكن لا نسلم دلالة ذلك على ان خبر الواحد حجة بل جاز أن يكون ذلك لفائدة حصول العلم المبعوث إليهم بما تواتر بضم خبر ذلك غير الواحد إليه فان بعث عدد التواتر دفعة واحدة متعذر ومتعسر ومع هذه الاحتمالات لا يثبت كون خبر الواحد حجة والجواب ان المصنف المطلع على الأخبار والسير لا يمتري في أن الآحاد الذين كان النبي صلى الله عليه و سلم يرسلهم كان منهم الذاهب للقضاء والخارج لتبليغ الأحكام والسائر لغير ذلك كإرساله معاذ إلى اليمن وعتاب بن أسيد إلى أهل مكة وعثمان بن العاص إلى الطائف ودحية إلى قصر ملك الروم وعبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى وعمرو بن أمية الضميري إلى الحبشة وبعث إلى المقوقس صاحب الإسكندرية والي هوزه بن علي الحنفية وغيرهم وانما بعث هؤلاء ليدعوا إلى دينه وليقيموا الحجة وعلى هذا جرت عادته صلى الله عليه و سلم وليس يخفى ذلك على العلماء المبرزين بل على الجهال الذين لا خبرة لهم بأحوال النبي صلى الله عليه و سلم ولا يمتري في انهم بلغوا أخبارا تلقنها سامعها بالقبول غير ناظر إلى خبر آخر يعضدها ويصيرها تواترا ولا ملتفت إلى قرينة تساعدها وتصير للظن الحاصل بها علما بل لا يمتري المحدث في ان أهل بقاع كثيرة وقرى متفرقة لم تبلغهم الأحكام إلا مع الآحاد وعملوا بها ممتلئين مكلفين بما بلغهم على يد الآحاد منها هذا ما عندنا في جواب هذين السؤالين وهو جواب يقبله المصنف ولا يرده إلا متعسف وقال صفي الدين الهندي يمكن أن يجيب عن الأول بان الإفتاء في الزمان الأول في الأغلب إنما هو برواية الأخبار لاشتراكهم في العلم بما يتوقف عليه استنباط الأحكام من النصوص كالعلم باللغات والنحو والتصريف ولهذا كانوا يسألون

عن وقوع الواقعة من النبي صلى الله عليه و سلم شيئا ويبادرون إلى امتثال الخبر عند سماعه ولو كان ذلك بطريق الإفتاء لما كان ذلك
وعن الثاني أنه لو كان كما ذكرتم لكان ينبغي أن لا ينكر عليهم عدم الإمتثال ما لم يتواتر لكن ذلك خلاف المعلوم منه عليه السلام ومن المبعوث
قال قيل لو جاز اتباع المتبني والاعتقاد بالظن قلنا ما لجامع قيل الشرع يتبع المصلحة والشرع لا يجعل ما ليس بمصلحة مصلحة قلنا منقوض بالفتوى والأمور الدنيوية
قد علمت أن المنكرين لخبر الواحد فريقان
قال فريق لا ننكره لدليل قائم على منعه بل لعدم دليل على وجوب العمل به وقد ذكرنا ان هؤلاء تقوم الحجة عليهم بما قررناه من الوجوه الدالة على وجوب العمل به
وقال فريق أن الدليل قام على منعه واحتجوا بأنه لو جاز العمل بخبر الواحد لمجرد إفادة الظن لجاز اتباع من ادعى نبوة أو رسالة بمجرد ظن صدقه من دون ابداء معجزة ولجاز إثبات الاعتقاد كمعرفة الله تعالى وصفاته بمجرد الظن وليس كذلك بالاتفاق والملازمة ثابتة بالقياس
والجواب ان القياس لا بد فيه من ابداء الجامع بين المقيس والمقيس عليه وما الجامع هنا بين خبر الواحد والاعتقاد واتباع المتنبيء فإن ابدوا جامعا بان قالوا الجامع دفع ضرر المظنون وتقريره أنكم أيها القائلون بالآحاد قلتم إذا اخبر الواحد عن النبي صلى الله عليه و سلم انه أمر بهذا الفعل مثلا حصل ظن وجدان الأمر وعندنا مقدمة يقينية وهي ان المخالفة سبب العقاب فيحصل الظن بأنا لو تركنا لصرنا مستحقين للعقاب فوجب العمل به لأنه إذا حصل الظن الراجح والتجويز المرجوح قدم الأول
وهذا بعينه موجود في الصورتين اللتين ذكرناهما فنقول الفارق قائم وهو أن الاعتقاد والنبوة من أصول الدين والخطأ فيهما يوجب الكفر والضلال

فلذلك اشترطنا القطع فيهما بخلاف الروايات المتعلقة بالفروع
واحتجوا أيضا بأن الشرع على وفق مصالح العباد بالإجماع منا ومنكم وإن اختلفنا في أنه بطريق الوجوب أو بطريق الاختيار
والظن الحاصل من خبر الواحد لا يجعل ما ليس بمصلحة مصلحة فإن الظن عرضة للخطأ والصواب فلا يعول عليه
والجواب أن هذا موجود في الفتوى والأمور الدنيوية مع قيام الإجماع على قبول الواحد فيهما

الباب الثاني
في شرائط العمل بالخبر
قال الباب الثاني في شرائط العمل به وهي إما في المخبر أو المخبر عنه أو الخبر أما الأول فصفات تغلب
ظن الصدق وهي خمس
الأول التكليف فإن غير المكلف لا يمنعه خشية الله تعالى قيل يصح الاقتداء بالصبي اعتمادا على خبره بطهره
قلنا لعدم توقف صحة صلاة المأموم على طهره
للعمل بخبر الواحد شرائط منها ما هو في المخبر بكسر الباء وهو الراوي ومنها ما هو في المخبر عنه وهو مدلول الخبر ومنها ما هو في الخبر نفسه وهو اللفظ
فأما الأول وهو شروط الراوي فالضابط فيه كونه بحيث يكون ظن صدقه راجحا على ظن كذبه وشرائطه عند التفصيل
ذكر المصنف أنها خمس وهو تساهل في العبارة فإن الخامس ليس شرطا على المختار عنده وعند الجماهير
الأول التكليف فلا تقبل رواية المجنون والصبي مراهقا كان أو لم يكن مميزا كان أو لم يكن أما المجنون والصبي الذي لا يميز فلعدم الضبط وعدم التمكن من الاحتراز عن الخلل وأما المميز فلأن الفاسق إذا لم تقبل روايته مع كونه يخاف الله ويخشى عقابه فالصبي الذي لا يمنعه خشية الله ولا يردعه رادع ديني لعدم تعلق التكليف به أولى بأن لا تقبل وقد اعتمد القاضي في رد رواية

الصبي على الإجماع وفاء بادعاء قيامه على ذلك في كتاب التلخيص
وقال المعلق في التلخيص بعد هذه الدعوى وقد كان الإمام يحكي وجها في صحة رواية الصبي فلعله أسقطه
قلت والوجه المشار إليه موجود والخلاف معروف مشهور وقد ظهر اختلاف الفقهاء في قبول روايته في هلال رمضان فلم يجعلوه مسلوب العبارة بالكلية وستزيد فروعا من المذهب دالة على ذلك ان شاء الله تعالى
فإن قيل أليس يقبل قول المميز في اخباره عن كونه متطهرا حتى يجوز الاقتداء به في الصلاة
قلنا ذلك لأن صحة صلاة المأموم لا تتوقف على صحة صلاة الإمام فإن صلاة المأموم ما لم يظن حدث الإمام صحيحة وان تبين بعد ذلك حدثه ففي الحقيقة لم يقبل قول الصبي
فإن قلت أتجعلون الصبي مسلوب العبارة بالكلية لا فرق ما بينه وبين المجنون والبهيمة قلت هذا هو القاعدة في أمره
وفي البذهب فروع ترد نقضا على ذلك وكلها مختلف فيها ومنها ما هو على وجه ضعيف فمنها قبول قوله في روايه هلال رمضان ومنها إذا اخبر الصبي المميز بنجاسة أحد الأناءين فأصح الوجهين لا يقبل خبره ومنها إذا شهد صبيان بان فلان قتل فلانا فهل يكون ذلك لوثا فيه وجهان ومأخذ القبول أنهم جماعة كثيرة والغالب أن اتفاقهم يورث الظن ومنها صحة بيع الاختبار على وجه ومنها وصيته وفيها قولك ومنها تدبيره وفيه قولان ومنها أمانه وفيه طريقان ومنها إسلامه وأظهر الأقوال المنع ولو سلم على قوم ففي وجوب إجابته وجهان مبنيان على صحة إسلامه ومنها إذا قلنا يؤذن له في الأذن في دخول الدار وحمل الهدية
قال الرافعي فقد جعل وكيلا وقضية جعله وكيلا أن يكون له أن يوكل على خلاف فيه لغيره ومنها قال الروياني في البحر
قال الزبيدي يجوز توكيل الصبي في طلاق زوجته وغلطه فيه ومنها إذا أعتق في مرض موته منجزا على نفوذه وجهان في الكفاية لابن الرفعة قال فإن

تحمل ثم بلغ وأدى قبل قياسا على الشهادة والإجماع على إحضار الصبيان مجالس الحديث ما تقدم فيما إذا أدى في حالة صباه أما إذا تحمل في صباه وأدى بعد بلوغه ففيه مذهبان محكيان في شرح اللمع للشيخ أبى إسحاق ومختصر التقريب للقاضي أصحهما وعليه الجمهور أن يقبل والدليل على ذلك الإجماع على قبول رواية ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير رضي الله عنهم من غير تفرقة بين ما تحملوه قبل البلوغ أو بعده
قال القاضي في مختصر التقريب ثم أن عباس كان ابن سبع لما توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وما بلغ ابن الزبير أيضا حلمه في حياته صلى الله عليه و سلم قلت هذا وهم كان ابن عباس لما توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم ابن ثلاث عشر سنة وقيل ابن عشر وهو ضعيف وقيل ابن خمس عشرة ورجحه أحمد بن حنبل وأما ابن الزبير فإنه ولد بعد عشرين شهرا من الهجرة فيصح ما ذكره القاضي من أنه لم يبلغ الحلم في حياة النبي صلى الله عليه و سلم والمصنف استدل على مذهب الجمهور بوجهين
أحدهما القياس على الشهادة إذا تحملها وهو صغير فإنها تقبل بإجماعنا والجامع أنه حال الأداء مسلم بالغ عاقل يحترز عن الكذب واعترض عليه بان الرواية تقتضي شرعا عاما فأحتيط فيها بخلاف الشهادة وقد يجاب بان باب الشهادة أضيق فكانت بالاحتياط أجدر
والثاني إجماع الكل على إحضار الصبيان مجالس الحديث وفيه نظر فإن الإحضار لعله لقصد البركة
فائدة الكافر إذا تحمل في حال كفره ثم أدى في الإسلام قبل على الصحيح وممن ذكر المسألة من الاصوليين القاضي في مختصر التقريب والإرشاد
قال الثاني كونه من أهل القبلة فنقبل رواية الكافر الموافق كالمجسمة إن اعتقدوا حرمة الكذب فإنه يمنعه عنه وقاسه القاضيان بالفاسق والمخالف ورد بالفريق
الكافر إما أن لا يكون منتميا إلى الملة الإسلامية كاليهودي والنصراني فلا تقبل روايته بالإجماع وإما ان يكون منتميا إليها وهو معنى قولنا من أهل القبلة وذلك كالمجسمة إذا قلنا بتكفيرهم

فإن علمنا من مذهبهم جواز الكذب أما لنصرة رأيهم أو غير ذلك لم تقبل روايتهم وقد ادعى الاتفاق على ذلك مدعون وهذا عندي فيه تفصيل فإن اعتقدوا جواز الكذب مطلقا فالأمر كذلك وإن اعتقدوا جوازه في أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة العقيدة أو الترغيب في الطاعة والترهيب عن المعصية لم يتجه الاتفاق إلا على رد رواياتهم فيما هو متعلق بذلك الأمر الخاص فقط وإن اعتقدوا حرمة الكذب ففيه مذهبان
أحدهما أنه لا يقبل وهو مذهب القاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار والغزالي والآمدي والأكثرين
والثاني يقبل وهو رأي الإمام وأتباعه وأبي الحسين البصري واستدلوا عليه بأن اعتقادهم حرمة الكذب بزجرهم عن الإقدام عليه فيحصل ظن صدقه فيجب العمل به
قال القرافي وفيه نظر فإن من أهل الكتاب من يستقبح الكذب غاية الاستقباح ومع ذلك لا تقبل روايته بالإجماع واحتج القاضيان أبو بكر وعبد الجبار بقياسه على الفاسق قالا فإنه أعظم من الفاسق نكرا والفاسق مردود الرواية فليكن هذا هكذا بطريق الأولى وبالقياس على الكافر والمخالف في الملة بجامع الكفر والجواب أن الفرق بينه وبين الفاسق جهله بفسق نفسه فيحترز عن الكذب لذلك بخلاف الفاسق وأن الفرق بينه وبين المخالف أن كفر المخالف اغلظ
وقد فرق الشرع بينهما في أمور كثيرة ولك أن تقيم هذا جوابا عن اعتراض القرافي الذي أوردنا فنقول إنما لم تقبل رواية أهل الكتاب وأن استقبحوا الكذب غاية لأن كفرهم اغلظ فكانوا بزيادة الإهانة أجدر والله أعلم
قال الثالث العدالة وهي ملكة في النفس تمنعها عن اقتراف الكبائر والرذائل المباحة
ومن شروطه أن يكون عدلا ومعرفة كون الراوي عدلا يتوقف على معرفة العدالة عندنا عبارة عن استقامة السيرة والدين وحاصلها يرجع إلى أنها ملكة في

النفس تمنعها عن إقتراف الكبائر واقتراف الرذائل المباحة كالأكل في الطريق والبول في الشارع
والضابط أن كل ما لا يؤمن معه الجراء على الكذب ويرد به الرواية ومالا فلا فإن قلت تعاطي الكبيرة الواحدة والرذيلة الواحدة تقدح وتعبيره بالكبائر والرذائل ينفي ذلك والإصرار على الصغيرة قادح ولا ذكر له في التعريف قلت أما الأول فالمراد جنس الكبائر والرذائل الصادق بواحدة
وأما الثاني فقد قيل هذا من محاسن الكلام لأن الصغيرة بالإصرار تصير كبيرة فلو ذكر الإصرار على الصغيرة لأطال وكرر من غير فائدة فإن قلت التوقي عن الرذائل المباحة من المروءة التي هي شرط في قبول الشهادة وليست شرطا في العدالة وكلامكم أنها هو في العدالة ولرواية نفسها قلت صحيح ولكن لما كان الغرض الكلام في مقبول الرواية أخذ في وصف العدالة شرط القبول وهو تساهل ولو كانت العبارة مقبول الرواية ! ذلو الملكة النفسية التي يحمل على ملازمة التقوى والمروءة لكانت اشد وأوضح
ثم أعلم أن المروءة التي هي شرط في قبول الشهادة هي الترقي عن الأدناس ومنها ما هو مشترط في اصل العدالة
ومن مجامع القول في ذلك ما ذكره القاضي الماوردي إذ قال المروءة على ثلاثة أضرب ضرب شرط في العدالة قال وهو مجانبة ما سخف من الكلام المؤدي إلى الضحك وترك ما قبح من الفعل الذي يلهو به أو يستقبح فمجانبة ذلك من المروءة المشترطة في العدالة وارتكابها مفسق وضرب لا يكون شرطا فيها وهو الإفضال بالمال والطعام والمساعدة بالنفس والجاه وضرب مختلف فيه وهو على ضربين عادات وصنائع فأما العادات فهو أن يقتدي فيها بأهل الصيانة دون أهل البذلة في أكله وملبسه وتصرفه فلا يتعرى من بلد يلبس فيه أهل الصيانة ثيابهم ولا يتزع سراويله في بلد يلبس فيه أهله السراويلات ولا يأكل على قوارع الطرق ولا يخرج عن العرف في مضغه ولا يغالي بكسرة أكله ولا يباشر ابتياع مأكوله ومشروبه وحمله بنفسه في بلد تتحاماه أهل الصيانة

وفي إعتبار هذا الضرب من المروءة في شرط العدالة أربعة أوجه
أحدها أنه خير معتبر فيها
والثاني أنه معتبر فيها وإن لم يفسق
والثالث إن كان قد نشأ عليها من صغره لم يقدح في عدالته وأن استحدثها في كبره قدحت
والرابع إن اختصت بالدين قدحت كالبول قائما وفي الماء الراكد وكشف عورته إذا خلا وأن يتحدث بمساوئ الناس وأن اختصت بالدنيا لم يقدح كالأكل في الطريق وكشف الرأس بين الناس هذا كلام الماوردي وتحصلنا منه على أن المروءة شرط في أصل العدالة في الضرب الأول وفي الضرب الثاني عند بعضهم فيصبح قول المصنف أن المروءة ركن في أصل العدالة فإن قلت في حد الكبيرة أوجه
أحدهما أنها المعصية الموجبة الحد
والثاني ما لحق صاحبها وعد شديد بنص كتاب أو سنة
والثالث كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة
والرابع كل فعل نص الكتاب على تحريمه أوجب في جنسه حد هذا ما ذكروه في الضبط والتفصيل مستوعب في الفقهيات
فإن قلت وما المراد بالصغائر وبالاصرار عليها قلت أما الصغيرة فالمعصية التي ليست كبيرة
وأما الاصرار فقال ابن الرفعة لم أظفر فيه بما يثلج الصدر وقد عبر عند بعضهم بالمداومة وحينئذ هل المعتبر المداومة على نوع واحد من الصغائر أم الإكثار من الصغائر سواء كانت من نوع أو أنواع قال الرافعي منهم من يميل كلامه إلى الأول ومنهم من يفهم كلامه الثاني ويوافقه قول الجمهور من تغلب معاصيه طاعته كان مردود طاعته كان مردود الشهادة قال وإذا قلنا به تضر المداومة على نوع

واحد من الصغائر إذا غلبت الطاعات وعلى الأول تضر قال ابن الرفعة وقضية كلامه أن مداومة النفوع تضر على الوجهين
أما على الأول فظاهر
وأما على الثاني فلأنه في ضمن حكايته قال إن الإكثار من النوع الواحد كالإكثار من الأنواع وحينئذ لا يحسن معه التفصيل نعم يظهر أثرهما فيم إذا أتى بأنواع من الصغائر إن قلنا بالأول لم تضر وإن قلنا بالثاني ضر
واعلم أن الصغائر كما تصير بالإصرار كبيرة كذلك بعض المباحات تصير بالإصرار صغيرة
قال الغزالي في أثناء كتاب التوبة من إحياء علوم الدين وهو الكتاب الأول من ربع المنجيات الصغيرة تكبر بالمواظبة كما أن المباح يصير صغيرة بالمواظبة كاللعب بالشطرنج والترنم بالغناء على الدوام وغيره
فإن قلت هذا التعريف الذي قدمتموه في العدالة قضيته أن من لم يقدم على كبيرة ولا رذيلة ولم يكن في نفسه ملكة تمنعه عن اقتراف هذين وانما كف عنهما كفا من غير أن يكون في نفسه ملكة تدعوه إلى ذلك لا يكون عدلا فهل في هذا مخالفه لكلام الفقهاء فانهم يقولون إن العدل من لا يقدم على كبيرة ولا يصر على صغيرة فلا يقدم على ما يحرم المروءة وذلك اعم من أن يكون بداعية الملكة النفسية أولا قلت ظاهره المخالفة ولكنا نقول متى حصلت تلك الملكة لم يحصل الاقدام على ما يخل بالعدالة ومتى أقدم علمنا أن الملكة حاصلة فإن الملكة مستقلة بالمنع فمتى حصلت لا بد وأن يحصل الامتناع
فإن قلت هل يحرم تعاطي المباحات التي ترد بها الشهادة لاخلالها بالمروءة
قلت قد حكى ابن الرفعة أن سمع قاضي القضاة تقي الدين أبي عبد الله محمد بن الحسن بن رزين يقول بعض من لقيه بالشام من المشايخ كان يحكي في ذلك ثلاثة أوجه

ثالثها إن تعلقت به شهادة حرمت وإلا فلا لكن في البسيط والنهاية الجزم وبعدم التحريم وهو الظاهر
قال ولا تقبل رواية من أقدم على الفسق عالما وإن جهل قبل
قال القاضي ضم جهل إلى فسق
قلنا الفرق عدم الجراءة
لما كانت العدالة شرطا لم يجز قبول رواية من أقدم على الفسق عالما بكونه فسقا
وقد حكى الإجماع على هذا وهذا واضح إن كان ما أقدم عليه مقطوعا بكونه فسقا واما إن كان مظنونا فيتجه تخريج خلاف فيه ان حكى وجه فيمن شرب النبيذ وهو يعتقد تحريمه أن شهادته لا ترد
قال صاحب البحر وهو الذي مال إلى ترجيحه المتأخرون من الأصحاب ولا فرق بين الرواية والشهادة فيما يتعلق بالعدالة وان افترقا في أمور أخر وأما الجاهل بكونه فسقا فقد يجهل الحال بالكلية ويكون ساذجا والأمر من المظنونات كما لو شرب النبيذ ساذج لا يعتقد الحل ولا التحريم ففي فسقه ورد شهادته بعد إقامة الحد عليه وجهان حكاهما الماوردي في الحاوي لا بد من جريان مثلهما في رد روايته على أن الوجهين المذكورين لا بد من فرضهما في رجل جاهل بالقاعدة المشهورة وهي أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعرف حكم الله فيه
وقد حكى الشافعي في الرسالة الإجماع على هذه القاعدة وكذلك حكاه الغزالي ثم أنهما أعني الوجهين لا يتجهان إلا تخريجا على حكم الأشياء قبل ورود الشرع والمارودي كثيرا ما يخرج على ذلك وقد يكون ظانا الحل فتقبل روايته إما ان كان ما اقدم عليه من المظنونات فقد حكى الإمام فيه الاتفاق
قال الهندي وإلا ظهر أن فيه خلافا كما في الشهادة اذ نقل وجه في الشهادة أنها ترد به ولكن الصحيح أنها لا ترد

قال الشافعي رضي الله عنه اقبل شهادة الحنفي وأحده إذا شرب النبيذ وإن كان من القطعيات فكذلك على المختار خلافا للقاضي أبي بكر والجبائي وأبي هاشم وتبعهم الآمدي
قال الشافعي أقبل شهادة أهل الاهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم لنا إن ظن صدقه راجح والعمل بالظن واجب واحتج القاضي ومن نحا نحوه بأن الاقدام على الفسق من العالم قبيح موجب للرد والجاهل إذا قدم عليه كان أولى بالرد إذ زاد قبيحا آخر على الفسق وهو الجهل فإذا منع الفسق بمجرده من القبول فلأن يمنع والجهل مضاف إليه أولى
وأجاب المصنف بأن الفرق بين من أقدم عالما ومن أقدم جاهلا أن إقدام الأول يدل على الجراءة وقلة المبالاة بالمعصية فيغلب على الظن كذبه بخلاف الجاهل قلت ولعل القاضي رحمه الله يقول ترك استرشاده في التشبهات تهاون بالدين فصار فاسقا وبهذه الكلمة اعتل من ذهب إلى تفسيق الساذج الذي لا يعتقد الحل ولا التحريم كما تقدمت حكايته آنفا وهو هنا ابلغ بخلاف الأمر الظني المجتهد فيه
قال ومن لا تعرف عدالته لا تقبل روايته لأن الفسق مانع ولا بد من تحقق عدمه كالصبا والكفر والعدالة تعرف بالتزكية وفيها مسائل
مجهول العدالة لا تقبل روايته عند الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم بل لابد من البحث عن سيرته باطنا وعليه الإمام وأتباعه منهم المصنف
وقال أبو حنيفة يكتفى في قبول الرواية بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهر أمثاله ما روى المخالف عن أم سلمة أنها قالت كانت النفساء تقعد على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعين يوما وهذا ما رواه أبو سهل عن مسة الأذرية عن أم سلمة وأبو سهل ومسة مجهولان ذكره القاضي أبو الطيب ومثل ذلك كثير فإن قيل قد قبلتم المجهول وذلك أن عبد الرحمن بن وعلة المصري رجل

مجهول وقد روى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أيما أهاب دبغ فقد طهر
ونقل عن أحمد بن حنبل أنه ذكر له حديثه هذا فقال ومن أبن وعلة قلنا ليس ابن وعلة مجهولا بل هو ثقة روى عنه زيد بن اسلم ويحيى بن سعيد وغيرهما ووثقه ابن معين والعجلي والنسائي وروى له مسلم والأربعة
فإن قيل روى خالد بن أبى الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة أنها قالت بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ناسخا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال أو قد فعلوها تحولوا بمقدتي إلى القبلة وخالد مجهول
وحكى أبو بكر بن المنذر في كتابه هذا عن أبي ثور قلنا خالد معروف روى له ابن ماجة وروى عنه سفيان بن حسين ومبارك بن فضالة وغيرهما ذكره ابن حبان في الثقات
قال شيخنا الذهبي وما علمت أحدا تعرض إلى لينه
وقال القاضي أبو الطيب ان أبا بكر بن المنذر أجاب عن هذا بأن أحمد بن حنبل قال مخرج هذا الحديث حسن قال
وقال غيره روى عنه خالد الحذاء ومبارك بن فضالة وواصل مولى بن عيينة وهؤلاء ثقات فوجب أن يكون خالد معروفا وقد استدل المصنف على المختار بأن الفسق مانع من القبول باتفاق فلا بد من تحقق ظن عدمه قياسا على الصبي والكفر بجامع رفع احتمال المفسدة وهذا الدليل فيه نظر لأنا إذا شككنا في المنافع فالأصل عدمه فقد حصل ظن عدمه بدليل الأصل لأن عدم المانع ليس شرطا حتى يشترط تحقق عدمه وكثير من الفقهاء يتخيل انه شرط وليس كذلك بل عدم المانع ليس بشرط وعدم الشرط ليس بمانع ودليله أن الشك في عدم الشرط يمنع ترتب الحكم لأن القاعدة أن المشكوكات كالمعدومات فكل شيء

شككنا في وجوده أو عدمه جعلنا معدوما فلو كان عدم الشرط مانعا أو عدم المانع شرطا لزم من الشك فيه أن ترتب الحكم لأنه مانع وأن لا نرتبه لأنه شرط فنرتبه ولا نرتبه وهذا يوضع بين النقيضين واعلم ان أبا حنيفة إنما يقبل رواية المجهول إذا كان في صدر الإسلام حيث الغالب على الناس العدالة أما في هذا الزمان فلا صرح به بعض المتأخرين من أصحابه ثم ذكر صاحب الكتاب من الطريق التي تعرف بها العدالة التزكية واخل بذكر الاختبار وإن كان هو الأصل إذ ليس مستند التزكية إلا هو إما بمرتبة أو مراتب دفعا للتسلسل لأن مقصود الفصل الكلام في أحكام التزكية وقد ذكر المصنف فيه أربع مسائل
قال الأولى في شرط العدالة في الرواية والشهادة ومنع القاضي فيهما والحق الفرق كالأصل
في اشتراط العدد وفي الرواية والشهادة مذاهب
أحدها يشترط فيهما وهو رأي بعض المحدثين
والثاني لا يشترط بل يكفي فيهما واحد وهو قول القاضي
والثالث وبه قال الأكثرون أن العدد يشترط في التزكية في الشهادة دون التزكية في الرواية وحجته أن الشهادة نفسها لا بد فيها من العدد فكذلك ما هو شرط فيها والرواية لا يشترط فيها العدد فكذا شرطها واليه أشار بقوله كالأصل ويؤخذ منه قبول تزكية المرأة والعبد في الرواية وهو كذلك
قال الثانية قال الشافعي رضي الله عنه يذكر سبب الجرح وقيل سبب التعديل وقيل سببهما قال القاضي لا فيهما
قال الشافعي رضي الله عنه يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل إذ قد يجرح بما لا يكون جارحا لا اختلاف المذاهب فيه بخلاف العدالة إذ ليس لها إلا سبب واحد ولأن الجرح يحصل بخصلة واحدة بخلاف التعديل وقيل عكسه لأن مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى الثناء اعتمادا على الظاهر فلا بد من سببه وقيل لا بد من تبيين السبب فيهما جميعا أخذا بمجامع كلام الفريقين وقال القاضي لا يجب ذكر السبب

فيهما لأنه ان لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم يصلح للتزكية وإن كان بصيرا به فلا معنى للسؤال كذا نص عليه في مختصر التقريب ونقله عنه الآمدي والغزالي والإمام واتباعه منهم المصنف ونقل إمام الحرمين في البرهان عنه المذهب الثاني وهو اشتراط بيان السبب في التعديل دون الجرح وقال انه أوقع في مأخذ الأصول وقال إمام الحرمين والإمام وغيرهما أن كان المزكي عالما بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه فيهما وإن لم يعرف اطلاعه على شرائطهما إستخبرناه عن أسبابهما ويشبه أن لا يكون هذا مذهبا خامسا لأنه إذا لم يكن عارفا بشروط العدالة لم يصلح للتزكية
قال الثالثة الجرح مقدم على التعديل لأن فيه زيادة
الجرح يقدم عند التعارض على التعديل أن كان فيه اطلاع على زيادة لم يطل عليها المعدل اللهم إلا إذا جرحه بقتل إنسان وقت كذا فقال المزكي رأيته حيا بعد ذلك فهنا يتعارضان وهذا إذا كان المعدل والجارح في العدد سواء وقد حكى ابن الحاجب مذهبا أنهما يتعارضان ولا يترجح أحدهما بمرجح واعلم أن الاستدلال بالإجماع إذا كان قد قام كما حكاه القاضي أقوى الحجج على المدعي لأن الزيادة التي ذكرها الجارح قد ينفيها المعدل
فإن قلت لو نفاها كان شاهدا على النفي فلا تقبل شهادته قلت إنما كلامنا في الرواية فهو مخبر عن النفي والأخبار نفيا وإثباتا مقبولا بخلاف الشهادة فلا يقاس أحدهما بالآخر نعم قال القاضي الاخبار عن النفي يضعف وأما إن كثر عدد المعدلين وقل عدد الجارحين فقد صار بعض العلماء إلى أن العدالة في مثل هذه الصورة أولى والحق التسوية فإن كل واحد من الجرح والتعديل يستقل بنفسه لو قدر مفرد فالزيادة لا تقضي بغير ذلك
قال القاضي ونوضحه أن عشرة من الشهود لو شهدوا على ثبوت دين وشهد علان على ابراء مستحقه عنه فيقضي بالابراء فإنهما أخبرا عما أخبر الشهود عنه وانفراد بزيادة علم وهذا شأن الجارح مع المعدلين
قال الرابعة التزكية أن يحكم بشهادته أو يثني عليه أن يروي عن غير العدل أو يعمل بخبره

للتزكية أربع مراتب أعلاها أن يحكم بشهادته وثانيها أن يثني عليه بأن يقول هو عدل وما أشبهه وقال بعض الشافعية لا بد وأن يقول هو عدل على ولي وثالثها إذا روى عنه من لا يروي عن غير العدل فإنه يكون تعديلا على المختار عند الإمام والآمدي كالبخاري ومسلم في صحيحهما وقيل الرواية تعديل مطلقا وقيل عكسه كما أن تركها ليس بجرح ورابعها إذا عمل بمدلول ما أخبر به ولم يمكن حمله على العمل بدليل آخر فهو تعديل وقد نقل الآمدي الاتفاق على ذلك وليس بجيد فإن الخلاف محكي في مختصر التقريب للقاضي وأما ترك العمل بما رواه هل يكون جرحا
فقال القاضي في مختصر التقريب ان تحقق تركه للعمل بالخبر مع ارتفاع الروافع والموانع وتقرر عندنا تركه موجب الخبر مع أنه لو كان ثابتا للزم العمل به فيكون ذلك جرحا وإن كان مضمون الخبر مما يسوغ تركه ولم يتبين قصده إلى مخالفة الخبر فلا يكون جرحا
فائدة أطلق الإمام أن الحكم بالشهادة تزكية كما في الكتاب
وقيده الآمدي إذا لم يكن الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي لا يكذب وهو قيد صحيح إلا أنه لا يختص بهذا القسم
فإن القسم الرابع كذلك
قال الرابع الضبط وعدم المساهلة في الحديث وشرط أبو على العدد ورد بقبول الصحابة خبر الواحد قال طلبوا العدد قلنا عند التهمة
الشرط الرابع من شروط الراوي أن يكون بحيث يؤمن من الكذب والخطأ فيما رواه وذلك يستدعي حصول أمرين
أحدهما الضبط فمن يكون مختل الطبع لا يقدر على الحفظ أصلا لا يقبل خبره البتة وكذا يعتريه السهو غالبا ورب من يضبط قصار الأحاديث دون طوالها لقدرته على ضبط تلك دون هذه فتقبل روايته فيما علم ضبطه إياه
الثاني ولعله يدخل في الأول عدم التساهل فلو روى الحديث وهو غير

واثق به لم يقبله وإن كان التساهل في غير الحديث ويحتاط في الحديث قبلت روايته على الأظهر وإلى ذلك أشار المصنف بقوله في الحديث
وشرط أبو علي الجبائي في كل خبر
وقال كما حكى عنه القاضي عبد الجبار لا يقبل في الزنا إلا خبر أربعة كالشهادة عليه
ونقل القرافي عن كتاب المحصول في الأصول لابن العربي أن الجبائي اشترط في قبول الخبر اثنين وشرط على الإثنين إثنين إلى أن ينتهي الخبر إلى التاسع وهذا الذي قاله مردود بقبول الصحابة خبر العدل الواحد كعمل علي بخبر المقداد وتعويلهم على خبر عائشة في التقاء الختانين وغير ذلك
واحتج بانهم طلبوا العدد في أماكن فإن ابا بكر رضي الله عنه لم يقبل المغيرة في الجدة حتى رواه معه محمد بن مسلمة ولم يعمل عمر بخبر أبي موسى في الاستئذان حتى رواه أبو سعيد الخدري وغير ذلك
والجواب أنهم لم يطلبوا العدد إلا عند الريبة في صحة الرواية أما لاحتمال نسيان من رواه أو غير ذلك
وبهذا يحصل الجمع بين قبولهم تارة وردهم أخرى وحكى ابن الأثير في جامع الأصول أن بعضهم اشترط أربعة عن أربعة إلى أن ينتهي الإسناد
قال الخامس شرط أبو حنيفة فقه الراوي ان خالف القياس ورد بأن العدالة تغلب ظن الصدق فيكفي
الراوي لا يشترط أن يكون فقيها عند الأكثرين سواء كانت روايته مخالفة للقياس أم لم تكن

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يشترط فقهه ان خالفه القياس لأن الدليل نحو قوله ان الظن لا يغني من الحق شيئا ولا تقف ما ليس لك به علم ان يتبعون إلا الظن ينفي جواز العمل بخبر الواحد خالفناه فيما إذا كان الراوي فقيها لأن الاعتماد على روايته أوثق فوجب بقاء ما عداه على الأصل رد بأن عدالة الراوي تغلب ظن صدقه والعمل بالظن واجب كما تقرر وبقوله صلى الله عليه و سلم نضر الله أمرءا سمع فقالت فوعاها فأداها إلى قوله فرب حامل فقه ليس بفقيه فهذا صريح في الباب
واما الثاني فلا يخالفه قاطع ولا يقبل التأويل ولا يضره مخالفة القياس ما لم يكن قطعي المقدمات بل يقدم لقلة مقدماته وعمل الأكثر والراوي
انقضت شروط المخبر بكسر الباء والكلام الآن في شرط المخبر عنه وشرطه أن لا يخالفه دليل قاطع لقيام الإجماع على تقديم المقطوع على المظنون فإن خالفه دليل قاطع فذلك القاطع إما عقلي أو سمعي فإن كان عقليا نظر فإن كان ذلك الخبر قابلا للتأويل القريب الذي طرق أذن من هو أهل اللسان سمعه ولم ينب عنه طبعه وجب تأويله جمعا بين الدليلين
وإلا قطعنا بأنه لم يصدر من الشارع لأن الدليل القطعي لا يحتمل الصرف عما دل عليه بوجه من الوجوه لا بالتخصيص ولا بالتأويل إلا بغيرهما فيجب القطع بأنه مكذوب على الشارع ضرورة أن الشارع لا يصدر عنه الكذب ولو صدر عنه هذا للزم صدور الكذب وهو محال وإن كان سمعيا فإن لم يكن الجمع بينهما فالحكم كما سبق
هذا إذا علم تأخير المظنون عن المقطوع أو جهل التاريخ إذ لا يجوز الحمل على النسخ فان نسخ المقطوع بالمظنون غير جائز شرعا فإن علم تأخير المقطوع عنه حمل على أنه منسوخ ولا يقطع بكذبه وإن كان الجمع غير ممكن لتحقق شرط النسخ

وبهذا يفارق ما نحن فيه الصورة التي تجهل التاريخ فيها فإنه وإن أمكن في تلك الصورة أن يحمل على أن المظنون منسوخ بالمقطوع لكن لم يتحقق شرط النسخ فلا يقطع به بمجرد الاحتمال فإن الآفات العارضة للراوي من كذب ونسيان وغيرهما محتملة بل ربما يكون الحمل عليها أهون من الحمل على النسخ مع عدم تحقيق شرطه هذا شرط خبر الواحد
وأما ما ظن أنه شرط له وليس كذلك فمنه إذا عارض خبر الواحد القياس فأما أن يقتضي أحدهما تخصيص الآخر لأن فيخصيص العلة وخبر الواحد بالقياس جائز وأن تباينا من كل وجه وفيه كلام المصنف فينظر في مقدمات القياس فان ثبت بدليل قطعي قدمنا القياس على خبر الواحد وذلك واضح
وإن لم تكن مقدمات القياس قطعية فإن كانت كلها ظنية قدم الخبر لقلة مقدماته ولا يتجه أن يكون هذا محل خلاف وإن كان كلام بعضهم وهو طريقة الآمدي يقتضي أنه من صور الخلاف لكنه بعيد وإن كان البعض قطعيا والبعض ظنيا فمفهوم كلام المصنف أن خبر الواحد مقدم أيضا وهو قول الشافعي رضي الله عنه واختيار الإمام وجماعة وقال مالك القياس راجح
وقال عيسى بن ابان إن كان الراوي ضابطا عالما قدم خبره وإلا كان في محل الاجتهاد وتوقف قوم المختار عندنا ما ذهب إليه أبو الحسين وهو أنه يجتهد فإن كانت إمارة القياس أقوى وجب المصير إليها وإلا فبالعكس وإن استويا في إفادة الظن فالوجه ما ذهب إليه الشافعي ومنه عمل أكثر الأمة بعض الأمة بخلاف خبر الواحد أي لا يوجب رده لأن اكثر الأمة بعض الأمة
وقول بعض ليس بحجة ومن يقول اتفاق الأكثر إجماع ولا عبرة بالمخالف إذا ندر فاللائق بمذهبه أن يرد به الخبر واما عندنا فلا لكن قول الأكثر من المرجحات فيقدم عند التعارض بمعنى أنه إذا عارض خبر الواحد خبر آخر مثله متعضد بعمل الأكثر قدم على الآخر الذي ليس معه عمل الأكثر ومنه عمل راوي الخبر بخلافه أي بخلاف ظاهر الخبر لا يوجب رده

كما أشار إليه بقوله والراوي عطفا على عمل الأكثر أي ولا يضره مخالفة الراوي وهل المراد بالراوي الصحابي أو أعم من ذلك فيه الكلام المتقدم في أثناء الخصوص وذهب أكثر الحنفية إلى أن عمل الراوي بخلاف الخبر يقدح في الخبر ولا يجوز الأخذ إلا بعمل الراوي وقال عبد الجبار وأبو الحسين إن لم يكن لمذهبه وتأويله وجه إلا أنه علم بالضرورة أنه عليه السلام أراد ذلك الذي ذهب إليه من ذلك الخبر وجب المصير إليه إن لم يعلم ذلك بل جوزنا أن يكون قد صار إليه لنص أو قياس وجب النظر في ذلك
فإن اقتضى ما ذهب إليه وجب المصير إليه وان لم يقتض ذلك لم يطلع على مأخذه وجب المصير إلى ظاهر الخبر
وذلك لأن الحجة إنما هي في كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم لا مذهب الراوي وظاهر كلامه صلى الله عليه و سلم يدل على معنى غير ما ذهب إليه الراوي فوجب المصير إليه وعدم الالتفات إلى مذهب الراوي
قال وأما الثالث ففيه مسائل الأولى لألفاظ الصحابي سبع درجات
الأولى حدثني ونحوه
الثانية قال الاحتمال التوسط
الثالثة أمر لاحتمال اعتقاده ما ليس بأمر أمرا والعموم والخصوص والدوام واللادوام
الرابعة أمرنا وهو حجة عند الشافعي لأن من طاوع أمرا إذا قاله فهم منه أمره ولأن غرضه بيان الشرع
الخامسة من السنة وعن النبي عليه السلام
السادسة قيل للتوسط
السابعة كنا نفعل في عهده
هذا هو الثالث من شرائط العمل بخبر الواحد وهو الكلام في الخبر وفيه مسائل

الأولى في بيان ألفاظ الصحابي ومراتبها وقد أتى المصنف رحمه الله بلفظ جامع لها وهو قوله درجات الدرجة الأولى أن يقول حدثني رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحوه مثل سمعت وأخبرني أو شافهني فهذا خبر عن الرسول صلى الله عليه و سلم واجب القبول انفاقا
الثانية أن يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا فهذا ظاهرة النقل فيكون حجة لكنه ليس نصا صريحا لاحتمال أن يكون قد وصل إليه بواسطة فتكون مرتبته دون الأولى
الثالثة أن يقول أمر النبي صلى الله عليه و سلم بكذا ونهى عن كذا فهذا يتطرق إليه هذا الاحتمال مع احتمال آخر وهو احتمال ظنه ما ليس بأمر أمرا وأيضا فليس فيه أنه أمر الكل أو البعض ولأن الأمر به يدوم أولا فربما اعتقد شيئا لا يوافق اجتهادنا وقول المصنف لاحتمال تعليل لكونه دون الدرجة الثانية لكن الظاهر من حال الصحابي أنه إنما يطلق هذه اللفظة إذا تيقن المراد لذلك ذهب الأكثرون إلى أنه حجة وخالف داود الظاهري وبعض المتكلمين والقاضي في مختصر التقريب حكى عن داود أنه صار إلى التوقف في ذلك وإلى التوقف مال الإمام
الرابعة ان يبني الصيغة للمفعول فيقول أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو وجب علينا كذا وما أشبه ذلك والذي عليه الشافعي رضوان الله عليه وأكثر الأئمة وهو اختيار الإمام والآمدي أن ذلك يفيد أن الآمر والناهي هو الرسول صلى الله عليه و سلم فيكون حجة وذهب الصيرفي والكرخي وغيرهما إلى أن ذلك متردد بين أمر الله الذي اشتمل عليه كتابه المنزل وأمر الرسول صلى الله عليه و سلم
وأمر كل الأمة أو بعض الولاة وبين أن يكون قال ذلك استنباطا لقياس أو غيره بحسب تأدية اجتهاده فلا يكون حجة وأصبح الأولون بوجهين
أحدهما أن من لزم طاعة رئيس فإنه إذا قال أمرنا بكذا فهم منه أمر ذلك الرئيس لا يفهم ممن يقول في دار السلطان أمرنا بكذا إلا أن الأمر السلطان

والثاني أن غرض الصحابي تعليمنا الشرع فيجب حمله على من صدر الشرع عنه دون الائحة والولاة وأما حمله على أمر الله فمنتف لأن أمر الله تعالى ظاهر للكل لا يستفاد من قول الصحابي وحمله على الإجماع متعذر لأن ذلك الصحابي من الأمة وهو لا يأمر نفسه وانما قلنا إن هذه المرتبة دون الثالثة لاحتمالها ما تحتمل تلك مع زيادة ما ذكرناه
الخامس أن يقرر من السنة كذا وهو حجة عند جماعة يجب حمله على سنة الرسول صلى الله عليه و سلم
وهذا ما عليه الإمام والآمدي والمتأخرون وخالف الكرخي والصيرفي والمحققون كما ذكر إمام الحرمين في البرهان
وقال المازري أحد قولي الشافعي أنه ليس بحجة وحكى القاضي في مختصر التقريب اختلاف أصحابنا في ذلك وقد قال الشافعي في القديم إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية أي تساوي في العقل
فإن زاد الواجب على الثلث صارت على النصف وذكر أن هذا القول القديم مرجوع عنه وأن الشافعي رضي الله عنه قال كان مالك يذكر أنه السنة وكنت أتابعه عليه وفي نفس منه شبهة حتى علمت انه يريد سنة أهل المدينة فرجعت عنه وهذا من الشافعي يدل على أن قوله من السنة ظاهر في أن المراد به سنة الرسول صلى الله عليه و سلم ما لم يقم دليل على أن المراد سنة البلد أو غير ذلك
ويدل أيضا على أن هذا لا يختص بالصحابي بل يعم كل متكلم على لسان الشرع كمالك وغيره وحجة الأولين ما تقدم في أمرنا ونهينا وهذه الدرجة دون الرابعة لاحتمالها ما نحتمل تلك مع زيادة احتمال سنة البلد أي طريقتها أو غير ذلك
وإمام الحرمين قال إنها بمثابة تلك وكأنه رأى هذا الأحتمال مرجوحا لبعده من المتكلم على لسان الشريعة ومالك رضي الله عنه وإن كان قد وقع منه قوله من السنة مع إرادته سنة البلد فما ذلك إلا لأن إجماع المدينة عنده حجة فكانت

طريقها عنده من السنة فلذلك أطلق قوله من السنة وأراد سنة المدينة ولا يقع منه ذلك في بلد غيرها
السادسة أن يقول عن النبي صلى الله عليه و سلم واختلفوا فيه فقال قوم بظهوره في إنه سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم فيكون حجة وهو رأي المصنف وصفي الدين الهندي وأما الإمام وغيرهما من اتباعه فلم يرجح أحد منهم شيئا
السابعة ان يقول كنا نفعل في عهده صلى الله عليه و سلم كذا وكانوا يفعلون كذا ومنه قول عائشة رضي الله عنها كانوا لا يقطعون في الشيء التافه والأكثرون على أنه حجة وهو اختيار الآمدي
ومقتضى اختيار الإمام هنا إلا أنه جعله مرتبة سابعة كما فعل المصنف ولم يصرح في السادسة بترجيح وقضية تقديمها ترجيحها وحجة الاكثرين أن قوله كنا نفعل وكانوا يفعلون ظاهر في فعل الجماعة وتقرير النبي صلى الله عليه و سلم لأن قصد الصحابي بيان الشريعة وهذه الدرجة دون التي قبلها لاختصاصها باحتمال أن يكون فعل بعضهم ولم يطلع عليه النبي صلى الله عليه و سلم لأن قصد الصحابي واعلم أن كلام المصنف ربما يوهم توقف الاحتجاج بقول الصحابي كنا نفعل على تقييده بعهد النبي صلى الله عليه و سلم وفيه مخالفة لكلام غيره والذي عندي في ذلك ان لهذه الدرجة ألفاظا
أعلاها أن يقول كنا معاشر الناس أو كانت الناس تفعل ذلك في عهده صلى الله عليه و سلم
وهذا ما لا يتجه في القول بكونه حجة خلافا لتصريحه بنقل الاجماع المتعضد بتقرير النبي
والثانية كنا نفعل في عهده صلى الله عليه و سلم ولا يصرح بجميع الناس فهذه دون ذلك لأن الضمير في قوله كنا يحتمل أن يعود على طائفة مخصوصة
والثالثة أن يقول كان الناس يفعلون كذا ولا يصرح بعهد النبي صلى الله عليه و سلم فهذه دون الثانية من جهة عدم التصريح بعده صلى الله عليه و سلم وفوقها من جهة تصريحه بجميع الناس فيحتمل أن يقال لتساويها وإلا ظهر رجحان تلك لأن التقييد بعهد النبي صلى الله عليه و سلم ظاهر في أنه قرر عليه وتقريره تشريع سواء كان لواحد أو لجماعة

وأما هذه فغايتها أنها ظاهرة في نقل الاجماع بخبر الواحد فيه من الخلاف ما هو معروف
والرابعة أن يقول كنا نفعل كذا وكانوا يفعلون كذا وهي دون الكلام لعدم التصريح بالنبي صلى الله عليه و سلم ومما يعود عليه ضمير قوله كنا وكانوا فهذه طرق الصحابي في نقل الحديث النبوي والصحابي عند الأكثرين هو من رأي النبي صلى الله عليه و سلم وصحبه ولحظة سواء روي عنه أو لم يرو وقيل من طالت صحبته وإن لم يرو وقيل من طالت صحبته وأخذ عنه العلم وروي وتثبت الصحة بالنقل أو بالتواتر أو الآحاد وبقول المعاصر العدل أنا صحابي أو رأيت النبي صلى الله عليه و سلم وصحبته ومن الناس من توقف في ثبوتها بقوله لما في ذلك من دعواه رتبة لنفسه وهو توقف ظاهر فإن المرء لو قال أنا عدل لم يلتفت إلى مقاله لدعواه لنفسه خصلة شريفة فكيف إذا ادعى الصحبة التي هي فوق منصب العدالة بأضعاف مضاعفة فهذا ما يجب التوقف فيه
قال الثانية لغير الصحابي أن يروي إذا سمع الشيخ أو قرأ عليه ويقول له هل سمعت فيقول نعم أو أشار أو سكت وظن إجابته عند المحدثين أو كتب الشيخ أو قال سمعت ما في هذا الكتاب أو يجيز له
هذه المسألة في رواية غير الصحابي وذلك أيضا على سبع مراتب
الأولى أن يسمع من لفظ الشيخ فيلزمه العمل بالخبر ثم هو ينقسم إلى أملا وتحديث من غير أملا وسواء كان من حفظه أو من كتابه وهذا القسم ارفع الأقسام عند الجماهير
وللسامع في هذا القسم أن يقول أخبرني وحدثني او سمعت أو أخبرنا أو حدثنا وهذا إن قصد الراوي إسماعه إما خاصة أو كان في جمع قصد الراوي إسماعهم وإن لم يقصد الشيخ إسماعه لا في وحدة فليس له أن يقول ألا سمعته يحدث عن فلان سأل الخطيب أبو بكر الحافظ شيخه الحافظ أبي بكر اليرقاني عن السر في كونه يقول فيما رواه لهم عن أبي القاسم عبد الله بن إبراهيم الجرجاني الابتذوبي سمت سمعت ولا يقول حدثنا ولا أخبرنا فذكر له أبا

القاسم كان مع علو قدره عسرا في الرواية وكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو القاسم ولا يعلم بحضوره فيسمع منه ما يحدث به الشخص الداخل عليه وحده
الثانية أن يقرأ عليه وأكثر المحدثين يسمعون القراءة على الشيخ عرضا من حيث أن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرأه ويقول له بعد الفراغ من القراءة أو قبلها هل سمعت
فيقول الشيخ نعم أو يقول بعد الفراغ الأمر كما قرىء علي ولا خلاف أنها رواية صحيحة إلا ما كحى عن بعض من لا يعتد بخلافه واختلفوا في أنها مثل السماع من لفظ الشيخ في المرتبة أو دونه أو فوقه والصحيح ترجيح السماع من لفظ الشيخ والحكم بأن القراءة علته مرتبة ثانية
وهو مذهب جمهور أهل المشرق وللقارئ هنا أن يقول قرأت على فلان وللسامع أن يقول قريء عليه وأنا أسمع فأقر به وله أن يقول حديثا قراءة عليه أو أخبرنا قراءة عليه وأما إطلاق حدثنا وأخبرنا ففيه مذاهب
أحدها المنع منهما جميعا وبه قال ابن المبارك ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل والنسائي
والثاني التجويز وأنه كالسماع من لفظ الشيخ في جواز إطلاق حدثنا وأخبرنا
وبه قال الزهري ومالك وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان والبخاري ومن هؤلاء من أجاز فيها أيضا أن يقول سمعت فلانا حكاه ابن الصلاح
والثالث المنع من إطلاق حدثنا ويجوز أخبرنا وهو قول الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق والاحتجاج له ليس بأمر لغوي وإنما هو اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث وقد قرأ ابو حاتم محمد بن يعقوب الهروي صحيح البخاري على بعض الشيوخ عن الفريري وكان يقول له في كل حديث حدثكم الفريري فلما فرغ

من الكتاب سمع الشيخ يذكر أنه سمع الكتاب من الفريري قراءة عليه فأعاد أبو حاتم قراءة جميع الكتاب عليه وقال له في جيعه أخبركم الفريري
الثالثة أن يقرأ على الشيخ ويقول له هل سمعته فيشير الشيخ بإصبعه أو رأسه فالإشارة ههنا كالعبارة في وجوب العمل بذلك الخبر وكذا في جواز الرواية عنه على الصحيح
الرابعة أن يقرأ على الشيخ ويقول بقوله هل سمعته فيسكت الشيخ ويغلب على ظن القارئ بقرينة الحال إجابته له فيجب العمل به بلا خلاف وأما جواز الرواية فالجمهور من المحدثين وغيرهم عليها لأن سكوته نازل منزلة تصريحه بتصديق القارئ وشرط قوم إقرار الشيخ نطقا وبه قطع الشيخ أبو اسحاق الشيرازي وسليم الرازي وأبو نصر الصباغ
الخامسة يكتب الشيخ الى شخص سمعت كذا من فلان فللمكتوب إليه إذا علم خط الشيخ أو ظنه أنه يعمل به وله أن يروي عنه إذا اقترنت المكاتبة بلفظ الأجازة بأن يقول أجزت لك ما كتبته إليك أو نحو ذلك وأما إن تجردت المكاتبة فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين والمتأخرين منهم أيوب السختياني ومنصور والليث بن سعد وجماعة من أصحابنا وغلا أبو المظفر السمعاني من أصحابنا فقال إنها أقوى من الإجازة إليه مصير جمع من الأصوليين وهو قضية ترتيب المصنف حيث أخر ذكر الإجازة في التعداد ومنع قوم من الرواية بها منهم الماوردي في الحاوي وجوز الليث بن سعد ومنصور واطلاق حديثا وأخبرنا في الرواية بالمكاتبة والمختار خلافه وأنه إنما يقول كتب إلى فلان
السادسة أن يشير الشيخ إلى كتاب فيقول سمعت ما في هذا الكتاب من فلان وهو مسموعي من فلان فيعمل السامع به وإما أنه هل يرويه عنه فله أحوال

إحداها أن يقرن ذلك بالمناولة والإجازة وهذه الحالة أعلى من الأحوال ومن صورها أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعا مقابلا له ويقول هذا سماعي أو روايتي عن فلان فأروه عني أو أجزت لك روايته عني ثم يهبه إياه أو يقول خذه وانسخه وقابل به ونحو هذا ومنها أن يجيء الطالب إلى الشيخ بكتاب أو جزء من حديثه فيعرضه عليه فيتأمله الشيخ العارف المتيقظ ثم يعيده إليه ويقول وقفت على ما فيه وهو حدثني عن فلان فاروه عني وهذا يسمى عرض المتأولة كما أن القراءة على الشيخ تسمى عرض القراءة وهذه المناولة المقرونة بالإجازة حاله محل السماع عند الزهري وربيعة الراوي ويحيى بن سعيد ومالك بن أنس ومجاهد وابن عيينة وقتادة وأبي العالية وابن وهب وآخرين والصحيح أن ذلك غير محال محل السماع وأنه منحط عن درجة التحديث لفظا والأخبار قراءة
قال الحاكم أما فقهاء الاسلام الذين أفتوا في الحلال والحرام فإنهم لم يروه سماعا ويه قال الشافعي والأوزاعي والبوطي والمزني وأبو حنيفة وسفيان الثوري واحمد بن حنبل وابن المبارك يحيى واسحاق بن راهويه قال عليه عهدنا أئمتنا وإليه ذهبوا وإليه نذهب
وثانيها ان يناوله الكتاب مناولة مجردة عن الإجازة فيقتصر على قوله هذا من حديثي أو من سماعي ولا يقول أروه عني فهذه مناولة مختلة لا يجوز الرواية بها وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على شر ذمة من المحدثين سوغوا الرواية بها
وثالثها أن لا يناوله ولا يجيزه بل يقتصر على أعلامه بأن هذا من سماعي من فلان فهذه أولى بالمنع من الثانية ونقل ابن جريج أن ذلك طريق مجوز لرواية ذلك عنه وبه قطع ابن الصباغ من أصحابنا والصحيح خلافه لأنه قد يكون ذلك مسموعه ثم لا يأذن في روايته عنه لكونه لا يجوز روايته لخلل يعرفه فيه
وبهذا يفارق هذه الصورة ما إذا قرأ عليه وهو يستمع ويقر به حيث يجوز لكل سامع أن يرويه عنه بالطريق المقدمة فإن هناك من وجد منه تحديث واقرار فدل على أنه لا خلل عنده فيه من التحديث به وانما هذا كالشاهد

إذا ذكر في غير مجلس الحكم شهادته بشيء فليس لمن سمعه إن يشهد على شهادته إذا لم يأذن له ولم يشهده على شهادته وذلك أمر تساوت فيه الشهادة والرواية لأن المعنى يجمع بينهما في ذلك وإن افترقنا في غيره
السابعة الاجازة وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجب العمل بالمروي بها وخالف بعض أهل الظاهر وهو خلاف ضعيف لأنه ليس في الاجازة ما يقدح في اتصال المنقول بها وفي الثقة به
وأما الرواية بالاجازة فقد اختلف العلماء فيها والذي استقر عليه العمل وقال به جماهير أهل العلم من المحدثين وغيرهم القول بتجويز الاجازة وإباحة الرواية بها وخالفهم جماعة منهم إبراهيم بن اسحاق الحربي وأبو محمد عبد الله الأصبهاني الملقب بأبي الشيخ وهو رواية عن الشافعي واختار القاضي الحسين والماوردي من أصحابنا وقال لو جازت الاجازة لبطلت المرحلة
واعلم أن في الاحتجاج لصحة الاجازة غموض قال أبو طاهر الدباس من أئمة الحنفية من قال لغيره أجزت لك أن تروي عنى فكأنه يقول أجزت لك أن تكذب علي
وكذا قال غيره تقدير أجزت لك ابحت لك ما لا يجوز في الشرع لأن الشرع لا يبيح رواية ما لم يسمع واحتج ابن الصلاح للاجازة بأنه إذا أجاز له أن يروي عنه مروياته فقد اخبره بها جملة فهو كما لو أخبره تفصيلا وأخباره بها غير متوقف على التصريح نطقا كما في القراة على الشيخ على ما سبق
قلت وتقدير قوله أجزت لك أنى أجزتك اني أروي هذا الكتاب وأذنت لك أن تنقله عنى
وقول الراوي اخبرنا فلان إجازة ليس معناه إلا هذا كأنه يقول اخبرني انه يروي الكتاب الفلاني واذن لي في نقله عنه بهذا الطريق
هذا هو الذي يتجه في الاجازة ولا يتضح غيره وقد يشبه هذا بما إذا كتب وصيته وقال لشخص اشهد علي بما في هذا المكتوب

قال محمد بن نصر من أئمة صحابنا له أن يشهد عليه بما فيه والرواية أولى من الشهادة وإذا تقرر جواز الاجازة من حيث الجملة فتقول هي عند التفصيل أنواع
الأول أن يجيز لمعين في معين مثل أن يقول أجزت لك الكتاب الفلاني أو ما اشتملت عليه فهرستي هذه فهذا أعلى أنواع الاجازة وزعم بعضهم أنه لا خلاف في جوازها وأن الخلاف إنما هو في غير هذا النوع من الاجازة والصحيح ان الخلاف بطرقها أيضا
الثاني أن يجيز لمعين في غير معين مثل أجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي فالخلاف في هذا النوع أقوى وأكثر والجمهور على تجويزه
الثالث أن يجيز لغير معين بوصف العموم مثل أجزت المسلمين أو لمن أدرك حياتي فقد منعه جماعة وجوزه الخطيب وغيره وجوز القاضي أبو الطيب الاجازة لجميع المسلمين من كان منهم موجودا عند الاجازة والاجازة لغير معين بمعين مثل أجزت جميع المسلمين أن يرووا عنى الكتاب الفلاني أقوى من الاجازة لغير معين بغير معين مثل أجزت جميع المسلمين أن يرووا عنى جميع مروياتي
الرابع الاجازة المجهول أو بالمجهول مثل أجزت لمحمد بن خالد الدمشق وفي وقته ذلك جماعة مشتركون في هذا الاسم والنسب ثم لا يعين المجاز له منهم أو يقول أجزت لفلان أن يروي عني كتاب السنن وهو يروي عن جماعة من كتب السنن المعروفة بذلك وليس ثم قرينة عهد ولا غيرها ترشد إلى المراد من ذلك فهذه إجازة فاسدة لا فائدة لها وليس ومن هذا القبيل ما إذا أجاز جماعة مسمين معينين بانسابهم والمجيز جاهل بأعيانهم فإن هذا غير قادح كما لا يقدح عدم معرفته به إذا حضر شخصه في السماع منه وإن أجاز للمسلمين المنتسبين في الاجازة ولم يعرفهم بأعيانهم ولا بأنسابهم ولم يعرف عددهم ولا تصفح أسماءهم واحدا فواحد
قال ابن الصلاح فينبغي أن يصح ذلك أيضا كما يصح سماع من حضر

مجلسه للسماع منه وإن لم يعرفهم أصلا ولا عددهم ولا تصفح أشخاصهم
الخامس الاجازة المعلقة بشرط مثل أجزت لمن شاء فلان أو نحو ذلك وهو كالنوع الرابع ففيه جهالة وتعليق شرط
وقد أفتى القاضي ابو الطيب بأنه لا يصح وعلل بأنه اجازة لمجهول فصار كقوله أجزت بعض الناس
وقال أبو يعلي ابن الفرار وأبو الفضل بن عمروس المالكي يجوز ذلك وإذا قال أجزت لمن شاء فهو مثل أجزت لمن شاء فلان بل هذه أكثر جهالة وانتشارا من جهة تعليقها بمشيئة من لا يحصر عددهم ثم هذا فيما إذا جاز لمن شاء الاجازة منه له فإن أجاز لمن شاء الرواية عنه فهذا أولى بالجواز من حيث أن قضية كل إجازة تفويض الرواية بها إلى مشيئة الجواز له فكان هذا مع كونه بصيغة التعليق تصريحا بما يقتضيه الاطلاق وحكاية المحال لا تعليقا في الحقيقة
ولهذا أجاز بعض أصحابنا في البيع أن يقول بعتك بكذا ان شئت فيقول قبلت
السادس الاجازة للطفل الصغير
قال الخطيب سألت القاضي أبا الطيب هل يعتبر في صحة الاجازة للطفل الصغير سنه أو تمييزه كما يعتبر ذلك في صحة سماعه فقال لا يعتبر ذلك
قال فقلت له إن بعض أصحابنا قال لا تصح الاجازة لمن لا يصح سماعه فقال قد يصح أن يجيز للغائب عنه ولا يصح السماع له واحتج الخطيب للصحة بأن الاجازة إنما هي إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه والإباحة تصح للعاقل وغير العاقل
السابع الاجازة للمعلوم ابتداء مثل أن يقول أجزت لمن يولد لفلان وقد أجازها أبو يعلي بن الفرا من الحنابلة وأبو الفضل بن عمروس من المالكية والخطيب من أصحابنا
قال ابن الصباغ ومأخذ من أجازها اعتقاده أن الإجازة إذن في الرواية لا

محادثة والصحيح وهو الذي استقر عليه رأي القاضي أبي الطيب أنها لا تصح لأن الاجازة في حكم الاخبار جملة بالمجاز كما تقدم فكما لا يصح الاخبار للمعدوم لا يصح اجازته
الثامن الاجازة للمعدوم عطفا على الموجود مثل أجزت لك ولولدك وعقبك ما تناسلوا وهو أقرب إلى الجواز من الأول ولهذا أجازه الأصحاب في الوقف ولم يجيزوا الأول وقد فعل هذا أبو بكر بن أبي داود السجستاني فانه سئل عن الاجازة فقال قد أجزت لك ولأولادك ولحبل الحبلة يعنى من يولد بعد
التاسع الاجازة بما لم يسمعه المجيز ولم يتحمله فيما مضى ليرويه المجاز له إذا تحمله المجيز بعد ذلك
قال ابن الصلاح ينبغي أن يبنى ذلك على أن الاجازة في حكم الاخبار بالمجاز جملة أو هي إذن فلا يصح إن جعلت في حكم الاخبار إذ كيف يخبر بما لا خبر عنده منه وإن جعلت إذنا بني علي الخلاف في تصحيح الاذن في باب الوكالة فيما لم يملكه الأذن الموكل بعد مثل أن يوكل في بيع العبد الذي يريد أن يشتريه وقد أجاز ذلك بعض أصحابنا والصحيح بطلان هذه الاجازة
العاشر اجازة المجاز مثل أجزت لك مجازاتي أو رواية ما أجيز لي روايته وقد منع من ذلك بعض المتأخرين والصحيح جوازه
وقد كان الفقيه الزاهد نصر المقدسي يروي بالاجازة عن الاجازة حتى ربما والى بين اجازات ثلاث في روايته
الحادي عشر الاذن في الاجازة مثل أن يقول له أذنت لك أن تخبر عني من شئت وهذا نوع لم أر من ذكره ولكنه وقع في عصرنا هذا وسألني بعض المحدثين عنه والذي يتجه أنه يصح كما لو قال وكل عني ويكون مجازا من جهة الاذن وينعزل المأذون له في أن يخبر بموت الآذن كما ينعزل الوكيل بموت الموكل
وإذا قال أذنت لك أن تجيز عني فلانا كان أولى بالجواز من أذنت أن تجيز عني من شئت

قال الثالثة لا يقبل المرسل خلافا لأبي حنيفة ومالك
المرسل عند جمهور المحدثين هو أن يترك الراوي ذكر الواسطة بينه وبين المروى عنه مثل أن يترك التابعي ذكر الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم كقول سعيد بن المسيب
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أما إذا سقط واحد قبل التابعي كقول من يروي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيسمي منقطعا وإن سقط أكثر سمي معضلا وعند الاصوليين المرسل قول من لم يلحق النبي صلى الله عليه و سلم سواء كان تابعيا أم من تابع التابعين
وإلى يومنا هذا فتفسير الأصوليين أعم من تفسير المحدثين إذا عرفت ذلك فقد اختلف في المرسل والذي استقر عليه آراء جماهير الحفاظ الجهابذة الحكم بضعفه وسقوط الاحتجاج به ونقله مسلم رضي الله عنه في صدر الصحيح عن قول أهل العلم بالاخبار وقال بقوله مالك وأبو حنيفة وكذا أحمد في أشهر الروايتين عنه وجمهور المعتزلة واختاره الآمدي ثم غلا بعض القائلين بكونه حجة فزعم أنه أقوى من المستند
والشافعي رضي الله عنه صدر القائلين برد المراسيل إلا أنه نقل عنه أنه قبل بعضها في أماكن قال القاضي رحمه الله ونحن لا نقبل المراسلين مطلقا ولا في الأماكن التي قبلها فيها الشافعي حسم للباب والقول بمذهب الشافعي هو اختيار الإمام وصاحب الكتاب
قال الآمدي وفصل عيسى بن أبان فقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن هو من أئمة النقل مطلقا وهذا هو اختيار ابن الحاجب حيث قال
إن كان من أئمة النقل قبل وإلا فلا وأئمة النقل يدخل فيهم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين وهو اختصار حسن وليس مذهبنا لرأي ابن أبان كما توهمه بعض الشارحين
ومن أمثلة المرسل احتجاج المخالفين بحديث أبي العالية ان ضريرا دخل المسجد فوقع في حفرة في المسجد فضحك بعض من كان خلف النبي صلى الله عليه و سلم فقال

من ضحك منكم فليعد الوضوء والصلاة فنقول أبو العالية تابعي والمرسل عندنا لا حجة فيه فإن قلت روى الشافعي عن مالك عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال الشفعة فيما لم ينقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة وهذا قد احتج به الشافعي وهو سيد المنكرين للمراسيل
قلت ستعرف أن مراسيل سعيد عندنا مقبولة لكونها مسانيد وكذا مراسيل أبي سلمة بن عبد الرحمن وهذا الحديث قد روى بهذا الإسناد مسندا فروى أبو عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني وابن أبي قتيلة وعبد الملك الماجشون عن مالك عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
قال لنا إن عدالة الأصل لم تعلم فلا تقبل الرواية تعديل قلنا قد يروى عن غير العدل قيل إسناده إلى الرسول صلى الله عليه و سلم يقتضي الصدق قلنا بل السماع قيل الصحابة أرسلوا وقبلت قلنا الظن السماع
الدليل على رد المرسل أن عدالة الأصل غير معلومة فلا تكون روايته مقبولة لأن رواية المجهول مردودة فإن قيل روايته عنه مع إخفاء اسمه تعديل وإلا يكون ملبسا غاشا قلنا لا نسلم وسند هذا المنع ان العدل قد يروى عن غير العدل كذا أجاب في الكتاب
ولقائل ان يقول إنما يروي عن غير العدل إذا صرح به ليعرف أما إذا أبهمه فذلك تلبيس لا يجوز الأولى الجواب باحتمال ظنه عدالته وليس في نفس الأمر كذلك ويجوز أنه لو أظهره لاقتضى نظرنا أنه غير عدل بخلاف ما اقتضاه الأمر تظره فإن قيل قول هذا العدل قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقتضي أنه علم أو ظن أنه قال وإلا لم يسنده إليه وإذا صح أنه قال تعين قبوله قلنا قول الفرع قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقتضي الجزم بأن الرسول عليه السلام قال ولا شك في ثبوت احتمال أنه لم يقله والجزم بالشيء مع تجويز نقيضه كذب فادح في عدالة الراوي

قال وإلا لم يسنده إليه وإذا صح تعين قبوله قول الفرع قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الجزم بأن الرسول عليه السلام قال ولا شك في ثبوت احتمال أنه لم يقله والجزم بالشيء مع تجويزه نقيضه كذب فادح في عدالة الراوي
فإذن لا بد من صرف هذا اللفظ عن ظاهره وليس قولهم المراد أني أظن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله بأولى من قولنا نحن المراد أنى سمعت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله
ومعلوم أنه لو صرح بهذا القدر لم يكن تعديلا هذا جواب المصنف ولقائل أن يقول لا نسلم أن قوله قال يقتضي الجزم ولم قلتم أنه لا يكفي الظن مسوغا لإطلاق هذه اللفظة ثم لا نسلم أنه ليس أحدهما أولى لأن قوله قال تقتضي إسناد القول لرسول الله صلى الله عليه و سلم وفي حمله على أنه يظن ذلك تبقية لذلك الإسناد بخلاف حمله على السماع إذ قد يسمع ويقطع بكذب من سمع منه ولا يجوز له والحالة هذه أن يقول قال فحمله على ظن القول أقرب وأولى من حمله على السماع والحاصل أن مجرد السماع لا يسوغ له أن يقول
قال فلا بد من ضم الظن إليه قوله قيل الصحابة احتج القائلون بالمراسيل بأن الصحابة رضي الله عنهم أرسلوا عدة أحاديث لم يصرحوا فيها بالسماع من النبي صلى الله عليه و سلم بل قالوا قال وقبلها كل واحد منهم والجواب أنها إنما قبلت الظن الغالب القاضي بأن الصحابي سمعها من النبي صلى الله عليه و سلم والعمل بالظن واجب وهذا في الحقيقة ليس بمرسل لأن المرسل كما عرفت قول من لم يلق زيدا قال زيد والصحابي لقي النبي صلى الله عليه و سلم
قال فرعان الأول المرسل يقبل إذا تأكد بقول الصحابي أو فتوى أكثر أهل العلم
قال إمام الحرمين في البرهان أن الشافعي لا يقول بشيء من المراسيل وقال القاضي في مختصر التقريب أنه قبل المرسل في بعض الأماكن والحاصل ان قاعدة الشافعي رد المراسيل والمواضع المستثناة لم يقبلها لكونها مراسيل بل لظن عضدها وقضى بكونها مسندة فكلام إمام الحرمين صحيح وما ذكره القاضي أيضا صحيح والمواضع المستثناة منها

وقد ذكره في الكتاب أن يعضده قول صحابي قال القاضي في مختصر التقريب وفيه نظر فإن الصحابي لا يحتج بقوله لغيره ومنها أن يعضده مذهب العامة وهو المشار إليه في الكتاب فتوى أكثر أهل العلم قال القاضي فأقول له إن عنيت بالعامة الأمة فكأنك شرطت الإجماع في قبول المرسل وإذا ثبت الاجماع استغنى عن المرسل
وإن أردت مذهب العوام فأنت أجل قدرا من ذلك إذ لا عبرة بخلافهم ولا وفاقهم وإن أردت معظم العلماء فمصير المعظم مع وجود الخلاف لا يصير ما ليس بحجة حجة قلت والشافعي لم يرد الإجماع ولا قول العوام وإنما أراد أكثر أهل العلم ولا شك أن الظن يقوى عنده وكذلك قول الصحابي وإذا قوى الظن وجب العمل به
فالمرسل بمجرده ضعيف وكذا قول أكثر أهل العلم وحالة الإجتماع قد يقوم ظن غالب وهذا شأن كل ضعيفين اجتمعا ومنها أن يرسله راو آخر يروي عن غير شيوخ الأول وضعفه القاضي بأن كثرة المرسلين لا يدل على الصحة كما إذا روى عن كثير من الضعفاء قلت وهو كالأول فإن ما أتفق جماعة من الضعفاء على روايته أقوى مما انفرد بروايته ضعيف واحد وكذلك الظن الحاصل بصدق المرسل الذي عضده مرسل آخر أقوى منه حالة التجرد فلا يلزم من عدم الاحتجاج بأضعف الظنين عدم الاحتجاج بأقواهما ومنها أن يسنده غير مرسله وكلام القاضي يقتضي أن الشافعي يقول ذلك
وإن كان المسند في تلك الرواية الموافقة للمرسل حجة لأنه رد على الشافعي بأن العمل حينئذ بالمسند دون المرسل والإمام في المحصول قال ان هذا فيما إذا لم تقم حجة بإسناده لكن في كلامه بعد ذلك ما يخالف هذا فإنه ذكر عن الحنفية ما اعترض به القاضي وعلى التقديرين فيه نظر
أما الأول فلما ذكره القاضي
وأما الثاني فلأن الضعيف إذا إنضم إلى الضعيف لا يوجب العمل به كذا ذكروه ولك أن تقول قد يحصل الظن بالضعيفين حالة إجتماعهما كما عرفت

ومنها أن يعلم من المرسل أنه لو نص لنص على من يسوغ قبول خبره قال واقبل مراسيل سعيد بن السيب لأني اعتبرتها فوجدتها كذلك قال ومن هذا حاله احسب مراسيله ولا أستطيع أن أقول إن الحجة ثبتت بها في ثبوتها بالمتصل قلت أنظر ما أحسن كلام الشافعي حيث صرح بأن المرسل لا يبلغ درجة المتصل وإنما هذه الأمور المستثناة توجب ظنا فوق الظن المستفاد من المرسل المجرد قد تقوم به الحجة ولكن تكون حجة دون حجة المسند
وقال الماوردي في باب الشفعة من الحاوي أن مرسل أبى سلمة عبد الرحمن عند الشافعي حسن
قال الثاني إن أرسل ثم أسند قبل وقيل لا لأن إهماله يدل على الضعف من أسند حديثا أرسله غيره فلا شبهة في قبوله
وهذا مما تكاد الفطر الزكية أن تدعي فيه القطع
لكن القاضي في مختصر التقريب حكى عن بعض الغلاة في رد المراسيل أنه قال لا يجب العمل به وهذا مما ذكره القاضي ساقط من القول واما أن أرسله هو مرة وأسنده أخرى فعبارة المصنف كالصريحة في أن الكلام فيه وأن فيه خلافا وعليه الشارحون والخلاف فيه ثابت عن بعض المحدثين ولكن الذي جزم به الإمام وأتباعه أنه يقبل
وما نرى المصنف يخرج عن طريقهم ولا نعلم أنه وقف على هذا الخلاف والذين عندنا أن مراده من شأنه إرسال الاخبار إذا أسند خبرا هل يعتل أو يرد وهي مسألة ذات خلاف مشهور
واحتج من قال لا يقبل بان اهماله ذكر الرواة في الغالب يدل على ضعف الراوي فيكون ستره له خيانة وتدليسا فلا تقبل روايته ولك أن تمنع دلالة الاهمال على الضعف ونقول لعله آثر الإختصار أو طرقه النسيان
وإذا قلنا بالقبول وهو الراجح فقال الشافعي إنما يقبل من حديثه ما قال فيه حدثني أو سمعت ولا يقبل ما يأتي فيه بلفظ موهم
وقال بعض المحدثين لا يقبل إلا إذا قال سمعت فلانا

قال الرابعة يجوز نقل الحديث بالمعنى خلافا لابن سيرين لنا أن الترجمة بالفارسية جائزة بالعربية أولى قيد يؤدي إلى طمس الحديث قلنا لما تطابقا لم يكن ذلك
اتفق الأئمة الأربعة والحسن البصري وعدة من العلماء على جواز نقل الحديث بالمعنى إذا لم يزد في المعنى ولا ينقص وساوى الأصل في الجلاء والخفاء لأن الخطاب تارة يقع بالمحكم وأخرى بالمتشابه وغير ذلك مما لله تعالى فيه حكمة فلا يجوز تغيرها عن وصفها
قال الأئمة والأولى خلافه وهذا ما نقله الآمدي وغيره ونقل الماذري أن مالكا قال لا ينقل حديث النبي صلى الله عليه و سلم بالمعنى بخلاف حديث الناس وذهب محمد بن سيرين وجماعة من السلف إلى وجوب نقل اللفظ على صورته وهو اختيار ابي بكر الرازي ونقله إمام الحرمين في البرهان عن معظم المحدثين وشرذمة من الاصوليين ووهم صاحب التحصيل فعزاه إلى الشافعي رضي الله عنه
ونقله ابن السمعاني عن عبد الله بن عمر وجماعة من التابعين وعن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب
وفصل قوم فقالوا يجوز إبدال اللفظ بما يرادفه دون غيره والأول هو المختار وعليه الإمام والآمدي والمتأخرون جميعا واحتج الجمهور بأوجه
أحدها أنه يجوز شرح الشريعة للعجم بلسانها فإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فإبدالها بعربية أخرى أولى بالجواز ولا شك أن التعاون بالعربية وترجمتها بالعربية أقل مما بينها وبين العجمية
قلت وفيه نظر لأن الترجمة بالفارسية جوزت للحاجة وذلك مما لا يتعلق به استنباط واجتهاد بل هو من قبيل بيان المشروع بخلاف تبديل لفظ الحديث إذ هو مناط اجتهاد واختلاف الالفاظ فيه مظنة اختلاف المعاني

والوجه الثاني قال الإمام وهو الأقوى أنا نعلم بالضرورة ان الصحابة الذين رووا هذه الاخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم ما كانوا يكتبونها في ذلك المجلس ولا يكررون عليها فيه بل كما سمعوها تركوها وما رووها إلا بعد الاعصار والسنين وذلك يوجب القطع بتعذر روايتها على تلك الألفاظ
والثالث أن الصحابة رضي الله عنهم ربما نقلوا القصة الواحدة بألفاظ مختلفة وكتب الحديث تشهد بذلك ومن الظاهر أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يذكر تلك القصة بجميع تلك الألفاظ بل نحن في بعضها قاطعون بذلك وكان هذا شائعا بينهم ذائعا غير منكر من أحد فكان إجماعا على نقل الحديث بالمعنى
قال أبو المظفر بن السمعاني ومما يدل على ذلك رواية الصحابي المناهي عن النبي صلى الله عليه و سلم مثل نهيه عن بيعتين في بيعة ونهيه عن المحاقلة والمزانية وحبل الحبلة والنجش وبيع حاضر لباد وغير ذلك وقوله قضى بالشاهد واليمين والشفعة فيما لم ينقسم فمعلوم أن الرواة لم يقصدوا الفاظه في هذه الاخبار وإنما حكوا المعنى
والرابع أنا نعلم أن الالفاظ خدم للمعاني وليست مقصودة بالذات إلا في القرآن العزيز لكونه معجزا والمعنى هو المقصود فإذا حصل تاما لم يضر اختلاف الالفاظ وليس للفقيه أن يعترض على هذا بكلمات الأذان والتشهد والتكبير ولفظي النكاح والتزويج وغير ذلك مما تعبدنا فيه بالألفاظ لأن الألفاظ مقصودة فيه مع المعاني وكلامنا حيث لا يكون اللفظ مقصود أو احتج من منع نقل الحديث بالمعنى بأن ذلك مؤد إلى طمسه واندراسه لأن الراوي إذا أراد النقل بالمعنى كان غايته الاجتهاد في طلب ألفاظ توافق ألفاظ الحديث وتؤدي معناه
وأهل العلم على أشد اختلاف في معاني الألفاظ وفهم دقائقها والوقوع على أشد اختلاف في معاني الألفاظ وفهم دقائقها والوقوع على مواقعها فيجوز أن يغفل عن بعض تلك الدقائق وينقله إلى لفظ آخر غير دال على تلك الدقيقة ثم يتصل الخبر بالطبقة الثانية وهو خال من تلك الدقيقة فينقلوه أيضا بالمعنى ويدعون منه نحو ما ترك الأول منه وهلم جرا حتى يقع التفاوت الكثير

والجواب أنه متى أخل بأدنى شيء لم يجر وتخرج المسألة عن صورتها لأن الغرض أنه لم يخل بشيء بل أتى بالمطابق من كل وجه
فائدة سأل بعضهم عن الفرق بين هذه المسألة والمسألة المتقدمة في فصل الترادف في جوازه إقامة أحد المترادفين مقام الآخر وزعم أن لا فرق وغره أن الآمدي لم يذكر تلك المسألة فظن اكتفاء بهذه عن تلك وهذا عندي سؤال من لم يترو من الأصول وما الجامع بين المسألتين وأن يحيل أن الراوي بالمعنى إذا أقام أحد المترادفين مقام الآخر تتحد المسألة من هذه الجهة
فنقول تلك المسألة في أمر لغوي وهي أعم من أن يقع في كلام راو للحديث أو غيره فالمانع في تلك نقول اللغة تمنع منه مطلقا ولا يتعرض إلى أن الشرع هل يمنع منه أولا وهذه في أمر شرعي خاص وهو رواية حديث النبي صلى الله عليه و سلم والمانع منه يقول لا يجوز للاحتياط فيه وهذا سواء جوزته اللغة أم منعته
قال الخامسة إذ زاد أحد الرواة وتعدد المجلس قبلت وكذا من اتحد وجاز الذهول عن الباقين ولم يغير اعراب الباقي وإن لم يجر الذهول لم يقبل وان غير الاعراب مثل في أربعين شاة شاة أو نصف شاة طلب الترجيح فان زاد مرة وحذف أخرى فالاعتبار بكثرة المرات
والروايتان فصاعدا إذا اتفقا على رواية خبر وانفرد أحدهما بزيادة فأما أن يكون المجلس متعددا أو متحدا
فإن كان متغايرا قيلت الزيادة إذ لامتناع في ذكره صلى الله عليه و سلم الكلام في أحد المجلسين بدون زيادة وفي الآخر بها والراوي مقبول القول وإن كان المجلس متحدا فالذين لم يرووا الزيادة
أما أن يكونوا عددا لا يجوز أن يذهلوا عما يضبطه الواحد أو ليسوا كذلك فإن كان الأول لم يقبل الزيادة وشرط ابن السمعاني في عدم القبول أن يقول الجماعة أنهم لم يسمعوه
قال فإنهم إذا لم يقولوا ذلك يجوز أن يكونوا رووا بعض الحديث ولم يرووا البعض لغرض لهم قلت وهذا هو المختار إلا أن تكون الزيادة مما توفر الدواعي على نقلها

وإن كان الثاني فتلك الزيادة إما أن لا تغير إعراب الباقي أو تغير فإن لم تغير قبلت عند المصنف والآمدي وقال الإمام تقبل إلا أن يكون الممسك عن الزيادة اضبط من الراوي لها وأن لا يصرح بنفيها فإن صرح وقع التعارض وقال بعضهم لا يقبل مطلقا وإن غيرت الاعراب كما لو روى راو في أربعين شاة شاة
وروى الآخر نصف شاة فالحق عند الجمهور منهم الإمام واتباعه أنها لا تقبل ويتعارضان وخالف أبو عبد الله البصري لنا أنه حصل التعارض لأن أحدهما إذا روي شاة فقد رواه بالرفع والآخر إذا روى نصف شاة فقد رواه بالجر والرفع والجر ضدان فوجب المصير إلى الترجيح
ونقل إمام الحرمين في البرهان من غير تعرض لهذه الشروط عن الشافعي وسائر المحققين قبول الزيادة من الراوي الموثوق به وقال بعضهم إن تساوي الساكت وراوي الزيادة في العدد قبلت وإن كان الساكت أكثر فلا وقد سكت المصنف عما إذا لم يعلم هل تعدد المجلس أو اتحد
قال الآمدي وحكمه حكم المتحدد وأولى بالقبول نظرا إلى احتمال التعدد ومن أمثلة ذلك حديث ابن عمر في صدقة الفطر رواه جماعة من الثقاة أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تخرج صدقة الفطر صاعا من شعير أو صاعا من تمر
وروى سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر وزاد أو صاعا من قمح
وحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم ثم روى يحيى بن محمد الحارثي حدثنا زكريا

ابن ابراهيم بن عبد الله بن مطيع عن أبيه عن جده عن ابن عمر هذا الخبر وزاد فيه أو فيه شيء من ذلك
وهذا كله فيما إذا كان راوي الزيادة ثقة أما إذا كان ضعيفا فذاك مردود الرواية إن صاحب الكتاب ذكر فرعا في ذيل المسألة وهو ما إذا زاد الراوي الواحد مرة ولم يرو تلك الزيادة غير تلك المرة أي وكان المجلس الذي اسند إليه الزيادة والنقصان متحدا
فالاعتبار بكثرة المرات لأن حمل الأقل على السهو أولى من حمل الأكثر عليه قال الإمام وان تساويا قبلت الزيادة ومثال الأول أن سفيان بن عيينة روى عن طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها
قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت أنا خبأنا لك حيسا فقال أما أني كنت أريد الصوم ولكن قريبه أسنده عنه هكذا الشافعي رضي الله عنه ورواه شيخ يقال له محمد بن عمر وابن العباس الباهلي عن سفيان وزاد فيه وأصوم يوما مكانه قال أحمد هذه لفظة كان ابن عيينة زادها في الحديث آخر عمره لا يدري أهي محفوظة أو شيء وقع في لفظه
وقال الشافعي سمعت سفيان عامة مجالسة لا يذكر فيه سأصوم يوما مكانه ثم عرضته عليه قبل موته بسنة فاجاب فيه سأصوم يوما مكانه آخر كتاب السنة والله تعالى اعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

-

الكتاب الثالث
في الإجماع
قال رحمه الله في الكتاب الثالث في الاجماع وهو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه و سلم على أمر من الأمور
الإجماع لغة العزم قال الله تعالى فاجمعوا أمركم وقال صلى الله عليه و سلم لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل والاتفاق أيضا يقال أجمعوا على كذا أي صاروا ذا جمع كما يقال البن والتمر إذا صار ذا لبن وتمر وفي الاصلاح ما ذكره المصنف فقوله اتفاق حسن والمراد به الاشتراك في الاعتقاد أو القول أو الفعل أو في الكل
وقوله أهل الحل والعقد والمراد به المجتهدين فصل يخرج منه من ليس كذلك كالعوام إذ لا عبرة بوفاقهم ولا خلافهم ويخرج أيضا اتفاق بعض أهل الحل والعقد وقوله من أمة محمد صلى الله عليه و سلم اختراز عن اتفاق المجتهدين من الأمم السالفة فإنه وان قيل بأن إجماعهم حجة كما هو أحد المذهبين للاصوليين واختيار الاسناد أبي اسحق كما حكاه عنه أبو اسحاق في شرح اللمع فليس الكلام إلا في الإجماع الذي هو دليل شرعي يجب العمل به الآن وذلك وان وجب العمل به فيما مضى لكن انتسخ حكمه منذ مبعث النبي صلى الله عليه و سلم
وقوله على أمر من الأمور يشمل الأحكام الشرعية كحل النكاح وحرمة قتل النفس بغير حق واللغوية ككون إلقاء للتعقيب ولا نزاع في هذين ويشمل أيضا العقليات كحدث العالم وهو كذلك خلافا لامام الحرمين وخلافا للشيخ أبي اسحاق الشيرازي في كليات أصول الدين كحدث العالم واثبات النبوة لا

جزئياته كجواز الرؤية فإنه وافق على أن الإجماع في مثلها حجة ويشمل الدنياويات أيضا كالآراء والحروب وتدبير أمور الرعية وفيه مذهبان المختار منها وجوب العمل فيه بالإجماع
وفي التعريف نظر من جهة اشعاره بعدم انعقاد الاجماع إلى يوم القيامة فإن أمة محمد صلى الله عليه و سلم جملة من اتبعه إلا يوم القيامة ولم يقل بذلك أحد من المعترفين بالإجماع فكان ينبغي تقييده بعصر من الاعصار
ومن جهة أنه لو لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد فقوله اجماع وتعبير المصنف بالاتفاق ينبغي ذلك إذ حقيقة الاتفاق أن يكون من اثنين فصاعدا ولعل المصنف يختار أن ذلك ليس باجماع وهو مذهب مشهور منقدح لأن الأدلة إنما دلت على عصمة الامة فيما أجمعوا عليه فلا بد من صدق

الباب الأول
في حجية الإجماع
قال وفيه ثلاث أبواب
الباب الأول في بيان كونه حجة وفيه مسائل
الأولى قيل محال كاجماع الناس في وقت واحد على مأكول واحد وأجيب بأن الدواعي مختلفة ثم وقيل يتعذر الوقوف عليه لانتشارهم وجواز خفاء واحد وخموله وكذبه خوفا ورجوعه قبل فتوى الآخر وأجيب بأنه لا يتعذر في أيام الصحابة فانهم كانوا محصورين قليلين
إنما بدا الكلام على إمكانه وإمكان الاطلاع عليه لتوقف الاحتجاج به على ذلك
وقد ذهب بعضهم إلى أن الاجماع محال لأن اجتماع الخلق على شيء واحد يمتنع عادة كما يمتنع عادة اجتماعهم على مأكول واحد في وقت واحد وربما قال بعضهم كما أن اختلاف العلماء في الضروريات محال كذلك اتفاقهم في النظريات محال
والجواب أن الدواعي مختلفة ثم أي في المواكيل بخلاف الأحكام لامكان اجتماعهم على معرفة برهان أو امارة
وذهبت طائفة من المعترفين بامكان الإجماع إلى تعذر الاطلاع عليه وهو رواية عن الإمام أحمد حكاها الآمدي وغيره وقيل إنما استعبد وقوعه ولم يقل بتعذر الاطلاع عليه واحتجوا بانتشار العلماء شرقا ومغربا قالوا فكيف يعرف موافقة من في أقاصي المشرق من في أطراف المغرب قالوا وأيضا يجوز خفاء واحد

وخمول ذكره حيث لا يعرف أنه مجتهد قالوا ويحتمل أيضا كذبه أيضا مخالفة من سلطان جائر أو مجتهد ذي منصب وبطش أفتى بخلاف معتقده قالوا ويحتمل أيضا أن يرجع قبل فتوى الآخر فلا يبرحان مختلفين فلا يقع الاتفاق
قالوا فاحتمال الخفاء والخمول بنفي معرفة أعيانهم ولا بد منها واحتمال الكذب ينفي معرفة ما غلب على ظنه ولا بد منه والاحتمال الأخير ينفي معرفة اجتماعهم في وقت واحد ولا بد منه ايضا
وأجاب في الكتاب بأن ذلك لا يتعذر في أيام الصحابة فإنهم كانوا محصورين قليلين وقضية هذا الجواب أنه لا طريق إلى معرفته في زمن غيرهم
قال الإمام وهو الإنصاف ومنهم من أجاب بأنهم وإن كانوا كثيرين بحيث لا يمكن الواحد أن يعرفهم بأعيانهم فإنه يعرف بمشافهة بعضهم والنقل المتواتر عن الباقين بأن ينقل من أهل كل قطر من يحصل التواتر بقولهم عمن فيه من المجتهدين مذاهبهم وخمول المجتهدين بحيث لا يعرفه أهل بلدته مستحيل عادة فوضح إمكان الاطلاع على إجماع من عدا الصحابة وحكم اجماع من عدا الصحابة حكم اجماع الصحابة في كونه حجة
هذا قول الجمهور وقالت الظاهرية أن الاجماع مختص بالصحابة وهو رواية عن أحمد
قال الثانية أنه حجة خلافا للنظام والشيعة والخوارج لنا وجوه
الأول أنه تعالى جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد حيث قال ومن يشاقق الرسول الآية فتكون محرمة فيجب اتباع سبيلهم اذ لا مخرج عنها قيل رتب الوعيد على الكل
قلنا لا بل على كل واحد وإلا لغي ذكر المخالفة قيل الشرط في المعطوف عليه شرط في المعطوف قلنا لا وإن سلم لم يضر لأن الهدى دليل التوحيد والنبوة
قيل لا يوجب تحريم كل ما غير قلنا يقتضي لجواز الاستثناء

قيل السبيل دليل الإجماع قلنا حمله على الإجماع أولى لعمومه
قيل يجب اتباعهم فيما صاروا به مؤمنين قلنا حينئذ تكون المخالفة المشاقة قيل بترك الاتباع رأسا قلنا الترك غير سبيلهم قيل لا يجب اتباعهم في فعل المباح قلنا كاتباع الرسول صلى الله عليه و سلم
قيل المجمعون اثبتوا الحكم بالدليل قلنا خص النص فيه كل المؤمنين الموجودون إلى يوم القيامة بل في كل عصر لأن المقصود العمل ولا عمل في القيامة
اتفق أكثر المسلمين على أن الاجماع حجة شرعية يجب العمل به على كل مسلم وخالف في ذلك الشيعة والخوارج والنظام ونقل ابن الحاجب أن النظام يحيل الاجماع وهو خلاف نقل الجمهور عنه
وقد صرح الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع بأنه لا يحيله وهو أصح النقلين واعلم ان النظام المذكور هو أبو اسحاق ابراهيم بن سيار النظام كان ينظم الخرز بسوق البصرة وكان يظهر الاعتزال وهو الذي ينسب إليه الفرقة النظامية من المعتزلة لكنه كان زنديقا وإنما أنكر الإجماع لقصده الطعن في الشريعة وكذلك أنكر الخبر المتواتر مع خروج رواته عن حد الحصر هذا مع قوله بأن خبر الواحد قد يفيد العلم فاعجب لهذا الخذلان وأنكر القياس كما سيأتي وكل ذلك زندقة لعنه الله وله كتاب نصر التثليث على التوحيد
وإنما أظهر الاعتزال خوفا من سيف الشرع وله فضائح عديدة واكثرها طعن في الشريعة المطهرة وليس هذا موضوع بسطها
واستدل المصنف على حجية الإجماع من ثلاثة أوجه
الأول الآية وأول من تمسك بها إمامنا الشافعي رضي الله عنه قال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع روي أن الشافعي قرا القرآن ثلاث مرات حتى وجد هذه الآية وهي قوله ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا وجه الحجة أنه

تعالى جمع بين مشاقة الرسول صلى الله عليه و سلم واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد في قوله نوله ما تولى ونصله جهنم فيلزم تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين لأنه لو لم يكن محرما لما جمع بينه وبين المحرم الذي هو مشاقة الرسول صلى الله عليه و سلم ان الجمع بين حرام ونقيضه لا يحسن في وعيد ولأجله يستقبح إن زنيت وشربت الماء عاقبتك فدل على حرمة اتباع غير سبيلهم وإذا حرم اتباع غير سبيلهم وجب اتباع سبيلهم لأنه لا يخرج عنهما أي لا واسطة بينهما وإن لزم اتباع سبيلهم ثبت حجية الإجماع لأن سبيل الشخص ما يختار من قول أو فعل واعتقاد
وقد اعترض الخصم على هذا الدليل بوجوه
الأول أنه رتب الوعيد على الكل أي على المجموع فليست متابعة سبيل غير المؤمنين محرمة على الاطلاق بل كونها محرمة مشروطة بمشاقة الرسول صلى الله عليه و سلم وخرج عن هذا مثل ان زنيت وشربت الماء عاقبتك لأن شربت الماء غير محظور لا مطلقا ولا شرط الزنا
وجوابه أن الوعيد إنما رتب على كل واحد منهما كما ادعيناه وإلا يلزم أن يكون ذكر المخالفة وهو قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين لغو لأمرين
أحدهما المشاقة مستلزمة لمخالفة سبيل المؤمنين وحينئذ فلا يحتاج إلى المخالفة
والثاني أن المشاقة وحدها مستقلة في ترتيب الوعيد واللغو محال في كلام الله عز و جل
الوجه الثاني سلمنا ان الآية تقتضي أن المنع من اتباع غير سبيل المؤمنين لا يشترط المشاقة لكن لا بد فيها من شرط آخر وهو تبين الهدى لأنه تعالى شرط في مشاقة الرسول تبين الهدى ثم عطف عليها متابعة غير سبيل المؤمنين فيجب أن يكون تبين الهدى شرطا فيها أيضا لأن ما كان شرطا في المعطوف عليه يجب أن يكون شرطا في المعطوف والألف واللام في الهدى للعموم فيلزم أن لا يحصل التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إلا عند تبين جميع أنواع الهدى ومن جملة أنواع الهدى دليل الاجماع

وعلى هذا التقدير لا ينفي في التمسك بالاجماع فائدة إذ يستغنى بحصول دليل الإجماع عن الإجماع وجوابه منع كون جميع ما كان شرطا في المعطوف عليه شرطا في المعطوف والعطف إنما يقتضي التشريك في بعض الأحكام دون بعض
ولو سلمنا أن الشرط في المعطوف عليه شرط في المعطوف لم يضر لأن الهدى المشروط في حصول الوعيد عند مشاقة الرسول هو الدليل الدال على التوحيد والنبوة لأدلة الأحكام الفرعية وإن لم يشترط تبين دلائل المسائل الفرعية في لحوق الوعيد على مشاقة الرسول لم يشترط في لحوقه على اتباع غير سبيل المؤمنين وإلا لم تكن الجملة الثانية مشروطة بما شرط في الأولى بل بشرط لم يدل عليه الدليل أصلا
الوجه الثالث سلمنا حرمة المخالفة في الجملة لكن لا نسلم أن قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين يوجب تحريم جمع ما غاير سبيلهم بل يوجب حرمة البعض ودليل ذلك أن كلا من لفظ غير ولفظ سبيل مفرد لا عموم له ولا يلزم حرمة بعض ما يغاير سبيلهم حجية الإجماع لجواز أن يكون ذلك البعض هو الإيمان وشبهه مما لا خلاف في حرمة المخالفة فيه
الجواب إنهما يقتضيان العموم لما فيهما من الإضافة وقد تقرر أن المفرد المضاف يعم ويدل عليه هنا صحة الاستثناء فتقول الا سبيل كذا وجواز الاستثناء من لوازم العام كذا قرروه ولكن أن تنازع في عموم غير وأمثالها كبعض وجزء إذا أضفن مع تسليم أن المفرد المضاف يعم وذلك لأن إضافة غير ليست للتعريف وقد يقال إن العموم تابع للتعريف ويبعد كل البعد أن يفهم من قول القائل أخذت جزء المال أو بعضه انه أخذ جميعه بل يقال أو أخذه المال جميعه يكون مناقضا لهذا اللفظ لأن الجزء أو البعض صريحان في خلافه وللبحث فيما نبهنا عليه محال
وقد أجاب الإمام بجوابين آخرين
أحدهما أنه لو حملنا الآية على سبيل واحد وهو غير مذكور في الآية صارت

مجملة بخلاف ما إذا حملناه على العموم وحمل كلام الله تعالى على ما هو أكثر فائدة أولى
والثاني أن ترتب الحكم على الاسم مشعر بكون المسمى علة له فكانت علة التوعد كونه اتباعا لغير سبيل المؤمنين فيلزم عموم الحكم لعموم هذا المقتضى
الوجه الرابع إن السبيل حقيقة في الطريق الذي يحصل فيه المشي ولا شك أنه غير مراد هنا فتعين حمله على المجاز وهو إما الدليل الذي أجمعوا على الحكم لأجله وبقي الاجماع والأول أولى فإن بين الدليل الذي يدل على ثبوت الحكم وبين الطريق الذي يحصل فيه المشي مشابهة قوية فإنه كما أن الحركة البدنية في الطريق المسلوك توصل البدن إلى المطلوب فكذا الحركة الذهنية في مقدمات ذلك الدليل توصل الذهن إلى المطلوب والمشابهة إحدى جهات حسن المجاز وإذا كان كذلك فإنما يجب الأخذ بالدليل الذي لأجله أجمعوا لا باجماعهم
وجوابه أن السبيل يطلق على الإجماع أيضا إذ لا نزاع في أن أهل اللغة يطلقون لفظ السبيل على ما يختاره الإنسان لنفسه من قول أو عمل وقد قال تعالى
قل هذه سبيلي وقال أدع إلى سبيل ربك
وإذا كان مجازا ظاهرا في الإجماع حمل عليه دون غيره من مجازاته لظهوره فيه ولعموم فائدة الإجماع يعمل به المجتهد والمقلد والدليل إنما يعمل به المجتهد
الوجه الخامس سلمنا دلالة الآية على وجوب اتباع سبيل المؤمنين لكن لا في كل شيء لأن المؤمنين إذا اتفقوا على فعل شيء من المباحات فلو وجب اتباع سبيلهم في كل الأمور لزم التناقض لأنه يجب عليهم فعله من حيث أنهم فعلوه ولا يجب لحكمهم بعدم وجوبه وإذا لم يكن إتباعهم واجبا في كل شيء فإنما يجب في السبيل الذي صاروا به مؤمنين يدل عليه أن القائل إذا قال اتبع سبيل الصالحين فهم منه الأمر باتباعهم فيما صاروا به صالحين

وجوابه أنها تدل على اتباعهم في كل شيء لجواز الاستثناء كما عرفت وقولك يلزم اتباعهم في فعل المباحثات قلنا هب أن هذه صورة خصت لما ذكرت من الضرورة فتبقى حجة فيما عداها ويلزم من قولك إنما يجب إتباعهم فيما صاروا به مؤمنين أن يكون مخالفة سبيل المؤمنين هي المشاقة فانه لا معنى لمشاقة الرسول عليه السلام إلا أن يترك الإيمان فلو حمل على ما ذكرت لزم التكرار
الوجه السادس سلمنا خطر إتباع غير سبيلهم لكن لا نسلم وجوب إتباع سبيلهم وقولكم لا واسطة بينهما غير مسلم فبينهما واسطة وهي ترك الاتباع أصلا فلا يتبع لا سبيل غيرهم ولا سبيلهم
والجواب إن ترك الاتباع أيضا مطلقا إتباع لغير سبيلهم لأن سبيلهم الأخذ بمقالتهم وترك الأخذ غير سبيلهم فثبت حرمة متابعة غير سبيل المؤمنين ويلزم منه وجوب المتابعة وهو المدعي
الوجه السابع سلمنا أنه يجب اتباعهم لكن لا في كل شيء بدليل أنه لا يجب في فعل المباح كالأكل والشرب وقد تقدم هذا لكن في كلام صاحب الكتاب
والجواب أنه كقيام الدليل على وجوب متابعة الرسول صلى الله عليه و سلم فإنه كما أخرج منه المباح يخرج من متابعة سبيل المؤمنين أيضا
الوجه الثامن الدليل على أنه لا يجب المتابعة في كل الأمور أن إجماعهم إنما يكون عن دليل فسبيلهم ليس إثباته باجماعهم بل بذلك الدليل وهذا واضح فالآخذ بإجماعهم مخالفة لسبيلهم فوجب أن لا يجوز وظهر أنه لا يجب المتابعة في كل الأمور
والجواب أنهم لما اثبتوا الحكم بدليل غير الإجماع فقد فعلوا أمرين إثباته بالدليل وتمسكهم بالإجماع والآية لما دلت على وجوب المتابعة في كل الأمور تناولت الصورتين لكن ترك العمل بمقتضاها في إحدى الصورتين لإنعقاد الإجماع على أنه لا يجب علينا الإستدلال بما استدل به أهل الإجماع فبقي العمل بها في الباقي

الوجه التاسع سلمنا وجوب إتباعهم في جميع الأمور ولا يلزم حجية إجماع أهل العصر لأن المؤمنين كل الموجودين إلى يوم القيامة بدليل أنه جمع محلى بالألف واللام وحينئذ الحجة في إجماع كل المؤمنين لا مؤمني العصر الواحد
والجواب أنه إنما المراد مؤمنو العصر لأن المقصود من الإجماع إنما هو العمل به وإذا كان المراد كل المؤمنين إلى يوم القيامة تعذر العمل به لأنه لا عمل يوم القيامة لانتفاء التكليف إذ ذاك
قال الثاني قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا عدلهم فيجب عصمتهم عن الخطأ قولا وفعلا كبيرة وصغيرة بخلاف تعديلنا قيل العدالة فعل العبد والوسط فعل الله تعالى قلنا الكل فعل الله تعالى على مذهبنا قيل عدول وقت الشهادة قلنا حينئذ لا مزية لهم فإن الكل يكونون كذلك
الوجه الثاني من الأوجه الدالة على حجية الإجماع قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس اخبر تعالى بأن هذه الأمة وسط والوسط من كل شيء خياره وأعدله فيكون الله تعالى قد عدل هذه الأمة وأخبر عن خيرتها فلو أقدموا على شيء من المحظورات لا تنفي عنهم هذا الوصف فيجب عصمتهم عن الخطأ كبيرة وصغيرة
في قول وفعل لأن تعديلهم من الله تعالى وهو عليم بالسر والعلانية فلو كان فيهم عاص لما عدله بخلاف تعديلنا فإنه مبني على ظننا وما أدى إليه نظرنا مع احتمال خلافه في نفس الأمر
فإن قلت الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي إتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة فلا بد من حملها على البعض ونحن نحملها على الإمام المعصوم قلت لا نسلم أنها متروكة الظاهر قوله لأنها تقتضي كون كل واحد منهم عدلا قلنا لما ثبت أنه لا يجوز إجراؤه على ظاهره وجب أن يكون المراد إمتناع خلو الأمة عن العدول
وقوله يحمله على الإمام المعصوم قلنا قوله جعلناكم أمة وسطا صيغة جمع فحمله على الواحد خلاف الظاهر هذا كلام الإمام سؤالا وجوابا وقد يقال لا يجمع قول الإمام لا نسلم أنها متروكة الظاهر

قوله لما ثبت أنه لا يجوز إجراء اللفظ على ظاهره إلى آخره وهو سؤال قوي
ويمكن أن يقال في جوابه أن الخصم المدعي أن ظاهر الآية موضوع اللفظ وهو تعديل كل واحد وهو غير مراد
والإمام أجاب بمنع كونها متروكة الظاهر ومراد الإمام بظاهرها غير مراد الخصم فقوله لا نسلم أنها متروكة الظاهر يعنى بالمعنى الذي نعنيه نحن بالظاهر وقوله لما ثبت أنه لا يجوز إجراء اللفظ على ظاهره يعني ظاهره الذي عينتموه أنتم وظاهرها عند الإمام أن الأمة لا تخلو عن العدول وهو غير موضوع اللفظ وظاهرها عند الخصم موضوع اللفظ وهذا أقصى ما يقال في الجواب
وقد قيل مثله في آيات الصافات فادعى بعض الباحثين المتأولين أهل السنة أن ظاهرها هو المعنى الذي أولت عليه لأنه لما ثبت ان إجراء اللفظ على موضوعه ممتنع وجب حمله على ذلك المعنى
وكان هو الظاهر ومثل هذا يقول الملك المتغلب في حال قهره وسطوته على عدوه الخسيس أنا فوقك ويدي عليك قال فإن ظاهر هذا اللفظ المتبادر إلى الفهم غير ما هو موضوعه فليس كل ما هو موضوع اللفظ يكون ظاهره وكذلك قولك رأيت أسدا يرمي بالنشاب ليس ظاهره إلا المجاوز وهو غير الموضوع الحقيقي فقد تقرر كلام الإمام
فإن قلت سلمنا أن الآية ليست متروكة الظاهر لكن لا نسلم ان الوسط من كل شيء خياره ويدل عليه وجهان
الأول أن العدالة من فعل العبد إذ هي عبارة عن أداء الواجبات واجتناب الموبقات وقد أخبر الله تعالى أنه جعلهم أمة وسطا فاقتضى أن كونهم وسطا من فعل الله تعالى فظهر أن العدالة غير الوسط
الثاني سلمنا أنه تعالى عدلهم لكن تعديلهم ليشهدوا على الناس يوم القيامة فيلزم وجوب تحقق عدالتهم يومئذ لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الآداء

لا حالة التحمل وذلك مما لا نزاع فيه فإن الأمة تصير معصومة في الآخرة وأما في الدنيا فلم قلتم إنها كذلك
قلت أما أن الوسط من كل شيء خياره فقال تعالى قال أوسطهم ألم أقل لكم أي أعدلهم
وقال عليه السلام خير الأمور أوسطها أي أعدلها
وقال أهل اللغة الوسط العدل قال الجوهري وكذلك جعلناكم أمة وسطا أي عدولا
وأما ما ذكرتموه فالجواب عن الأول انه باطل على مذهبنا بل الكل من فعل الله تعالى
قلت إن العدالة كما مر في تعريفها ليست عبارة عما ذكر بل هي ملكة في النفس وما ذكر تحقق تلك الملكة به والملكة من فعل الله تعالى
وعن الثاني وإليه أشار في الكتاب بقوله قلنا حينئذ لا مزية لهم أن جميع الامم عدول في الآخرة فلو كان المراد صيرورتهم عدولا في الآخرة لم يبق في هذه الآية تخصيص لأمة محمد صلى الله عليه و سلم بهذه المزية والفضيلة وأيضا فكان يقول سنجعلكم لا جعلناكم وقد عرض للإعتراض كلامان
إحدهما لا نسلم أنه يلزم من عدم صدور المحظور عنهم كون قولهم حجة فرب صالح لا يرتكب معصية جاهل لا يمنع بقول في الشريعة ولا يعطى
والثاني أن العدالة لأننا في صدور الخطأ غلطا وقد يرد هذا بان العدالة التي لا تنافي صدور الخطأ هي تعديلنا أما العدالة من الله تعالى فتنافي ذلك والله أعلم
قال الثالث قال عليه السلام لا تجتمع أمتي على خطأ ونظائره فإنها إن لم تتواتر لكن القدر المشترك بينهما متواتر
هذا الدليل ساقط في كثير من النسخ ولذلك لا تجده مشروحا في بعض الشروح وهو اعتماد على السنة وقد قال الآمدي السنة أقرب الطرق في إثبات

كون الاجماع قاطعا وتقريره أنه روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تجتمع أمتي على خطأ وأنه قال لا تجتمع على ضلالة وهذان اللفظان لا تجدهما عند المحدثين نعم روى أبو داود من حديث أبي مالك الأشعري قال
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله أجاركم من ثلاث أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعا وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وأن لا تجتمعوا على ضلالة وسنده جيد وروى معاذ بن رفاعة عن أبي خلف الأعمى عن أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول أن أمتي لا تجتمع على ضلالة الحديث أخرجه ابن ماجه ومعاذ ضعفه ابن معين وغيره قال السعدي وابو حاتم الرازي ليس بحجة وقال ابن حبان استحق الترك وقال الأزدي لا يحتج بحديثه ولا يكتب وأما أبو خلف فكذبه ابن معين وقال أبو حاتم منكر الحديث ليس بالقوي وروي عن عبد الله بن عمر قال
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجمع الله هذه الأمة عل ضلالة ابدا رواه الترمذي وقال غريب ممن هذا الوجه
قلت وفي إسناده سليمان بن سفيان وهو ضعيف عند المحدثين وقد اختلف أصحابنا في كيفية التمسك بالسنة على الإجماع فقالت طائفة هذه الأخبار وإن لم يتواتر واحد منها لكن القدر المشترك منها متواتر وهو عصمة الأمة عن الخطأ وهذه طريقة المصنف
والامام استبعد إدعاء التواتر المعنوي من هذا الخبر وقال لا نسلم بلوغ مجموع هذه الأخبار إلى حد التواتر ولو سلم فالتواتر إنما وقع في مطلق تعظيم الأمة ينافي الإقدام على الخطأ وما ذكره الإمام أولا صحيح وهو الذي ارتضاه القاضي في مختصر التقريب
فقال أدعاء الإضطرار في هذه المسألة يقربك من الحيد عن الإنصاف ويوسع دعوى الضرورة في كثير من المعاني وأما قوله التواتر إنما وقع في مطلق التعظيم لأني التعظيم الخاص فلقائل أن يقول من تأمل الأحاديث واحدا واحدا عرف أن كلامنا يدل على هذا التعظيم الخاص وأنها كلها مشتركة في المتن مختلفة الأسانيد وسلكت طائفة أخرى

قال القاضي وهي الأولى وهي أنا قد علمنا قطعا وانتشار أحتجاج السلف في الحث على موافقة الأمة واتباعها والزجر عن مخالفاتها بهذه الأخبار التي ذكرناها قال القاضي وما أبدع مبدع في العصر الخالية بدعة إلا وبخه علماء عصره على ترك الأتباع وإثار الإبتداع
واحتجوا عليه بالألفاظ التي قدمناها وهذا مالا سبيل إلى جحده وقد تحقق ذلك في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم ولم يظهر أحد قبل النظام مطعنا في الأحاديث فلولا أنهم علموا قطعا صدق الرواة لوجب في مستقر العادة أن يبدوا ضربا من المطاعن في الاخبار
هذا كلام القاضي ولقائل ان يقول أما أن السلف كانوا يوبخون على ترك الاتباع وإيثار الابتداع فمسلم وإما أنهم كانوا يحتجون على ذلك بالألفاظ المتقدمة فغير مسلم ولم تكن هذه الطريقة سالمة عن الإعتراض
وقال الإمام لم يقل أحد أن الإجماع المنعقد بصريح القول دليل ظني بل منهم من نفى كونه دليلا بالأصالة ومنهم من جعله قاطعا وأما إمام الحرمين فقد أعترف بأنه ليس في السمعيات قاطع على أن الإجماع الاتباع وسلك طريقا آخر عقليا فقال القاطع على أنه حجة قاطعة أنا نقول للإجماع فيه صورتان نذكرهما ونذكر السبيل المرضي في اثبات الإجماع في كل واحدة منهما
إحداهما أن يصادف علماء العصر على توافرهم في أطراف الخطة وأوساطها مجمعون على حكم مظنون والرأي فيه مضطر فيعلم والحالة هذه أن اتفاقهم إن وقع فلا يحمل على وفاق اعتقادهم وجريانها على منهاج واحد فإن ذلك مع تطرق وجوه الإمكان واطراد الاعتياد مستحيل بل يستحيل اجتماع العقلاء على مقطوع به في أساليب العقول إذا كان لا يتطرق إليه إلا بانضمام نظر وسبر فكر وذلك لاختلاف الناظرين في نظرهم
فإذا كان حكم العادة هذا في النظري القطعي في الظن بالنظري الظني الذي لا يفرض فيه قطع فإذا تقرر أن اطراد الاعتياد يحيل اجتماعهم على قول الظن فإذا الفيناهم قاطعين بالحكم لا يرجعون فيه رأيا ولا يرددون قولا فيعلم

قطعا أنهم أسندوا الحكم إلى شيء سمعي قطعي عندهم ثم لا يبعد سقوط النقل فيه
والصورة الثانية إذا أجمعوا على حكم واسندوه إلى الظن وصرحوا به فهذا أيضا حجة قاطعة والدليل عليه أنا وجدنا العصبة الماضين والأئمة المنقرضين متفقين على تبكيت من يخالف إجماع علماء الدهر فلم يزالوا ينسبون المخالف إلى الممروق والمحاداة والعقوق ولا يعدون ذلك أمرا هينا بل يرون الاستجواء على مخالفة العلماء ضلالا بينا
وإجماعم هذا مع الإنصاف كالقطع في محل الظن عند نظر العقل فإذا التحق هذا بإجماعهم قطعا في حكم مظنون قطع به المجتمعون من غير ترديد ظن فليكن الإجماع على تبكيت المخالف وتعنيفه مستند قاطع ولا يبعد أن يكون ذلك بعض الأخبار التي ذكرناها من تلقاها من رسول الله صلى الله عليه و سلم بقرائن الأحوال قصد النبي صلى الله عليه و سلم في انتصاب الإجماع حجة ثم عملوا ذلك وعملوا به واستجروا على القطع بموجبه ولم يهتموا بنقل سبب قطعهم فقد تقرر انتصاب الإجماع دليلا قاطعا وبرهانا ساطعا هذا كلام إمام الحرمين
وحاصله أن يقول انفاق الجمع العظيم على الحكم الواحد يستحيل ان لا يكون لدلالة وأمارة فإن كان لدلالة كان الإجماع كاشفا عن ذلك الدليل وحينئذ يجب اتباع الاجماع لأن مخالفته تكون مخالفة لذلك الدليل وإن كان لأمارة فقد رأينا الأولين قاطعين بالمنع عن مخالفة هذا الإجماع فلولا اطلاعهم على قاطع يمنع من مخالفة هذا الإجماع لاستحال اتفاقهم على المنع من مخالفته
قال الإمام وهذه الدلالة ضعيفة جدا لاحتمال أن يقال أنهم اتفقوا على الحكم لا لدلالة ولا امارة بل الشبهة وكم من المبطلين مع كثرتهم وتفرقهم شرقا وغربا قد اتفقت كلمتهم لأجل الشبهة سلمنا الحصر فلم يجوز أن يكون لإمارة تفيد الظن قوله رأينا السلف مجمعين على المنع من مخالفة هذا الإجماع
قلنا لا نسلم اتفاق السلف على ذلك سلمناه لكنك لما جاوزت حصول الإجماع لأجل الامارة فلعلهم أجمعوا على المنع من مخالفة الإجماع للصادر عن

الامارة لامارة أخرى فإن قلت إنهم لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن الإمارة وقد تعصبوا في هذا الإجماع فدل على أن هذا الإجماع لم يكن عن إمارة
قلت إذا سلمت أنهم لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن إمارة فقد بطل قولك إنهم منعوا من مخالفة هذا الإجماع هذا اعتراض الإمام وهو واضح والنظر فيه يطول والذي يظهر لي وهو معتمدي فيما بينى وبين الله أن الظنون الناشئة عن الإمارات المزدحمة إذا تعاضدت مع كثرتها تؤدي إلى القطع وأن على الإجماع آيات كثيرة من الكتاب وأحاديث عديدة من السنة وإمارات قوية من المعقول انتج المجموع من ذلك ان الأمة لا تجمع على خطأ وحصل القطع به من المجموع لا واحد بعينه
قال والشيعة عولوا عليه لاشتماله على قول الإمام المعصوم
تقدم أن الشيعة أنكروا كون الإجماع الذي هو اتفاق المجتهدين من الأمة حجة واعلم أنهم مع ذلك عولوا عليه واحتجوا به ولكن لا لكونه قول المجتهدين من الأمة وإلا لتناقض قولهم بل لكونه مشتملا على قول الإمام المعصوم إذ عندهم أن كل زمان لا يخلو عن إمام معصوم يجب نصبه وعلى التقدير فمتى اتفق المجتهدون فلا بد من موافقة الإمام لهم وإلا لم يوجد اتفاق أهل الحل والعقد
وإذا وجد اتفاق قول الإمام معهم كان حجة لا من حيث هو بل بواسطة قول الإمام المعصوم ولما كان مذهبهم في أن كل زمان لا يخلو عن إمام معصوم يجب نصبه ظاهر السخافة واضح الفساد والإشتغال يتبين بطلانه من وظائف علم الكلام لم يشتغل صاحب الكتاب برده
قال الثالثة قال مالك إجماع أهل المدينة حجة لقوله عليه الصلاة و السلام أن المدينة لتنفي خبثها وهو ضعيف
ذهب الأكثرون إلى أن البقاع لا تؤثر في كون الأقوال حجة وذهب مالك ابن أنس رحمه الله إلى أن إجماع أهل المدينة حجة فمنهم من قال إنما أراد بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال ابن الحاجب والصحابة والتابعين وقيل محمول على المنقولات المشتهرة كالأذان والإقامة دون غيرها وذهب إلى الحمل على هذا

القرافي في شرح المنتخب وقرر الإمام مذهب مالك وقال ليس يستبعد كما أعتقده جمهور الأصول ولا ينبغي أن يخالف مالك في ذلك إن أراد به ترجيح روايتهم على رواية غيرهم وكانوا من الصحابة لأنهم شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل ولا ريب في أنهم أخبر بأحوال النبي صلى الله عليه و سلم وهذا ضرب من الترجيح لا يدفع ولا ينبغي أن يظن ظان أن مالكا رضي الله عنه يقول باجماع أهل المدينة لذاتها في كل زمان وإنما هي من زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى زمان مالك لم تبرح دار العلم وأثار النبي صلى الله عليه و سلم بها أكثر وأهلها بها أعرف إذا عرف هذا فقد استدل على حجية إجماع أهل المدينة بما صح وثبت من قوله صلى الله عليه و سلم إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها والإستدلال بهذا كما ذكره المصنف ضعيف لأهل الحمل على الخطأ متعذر لأنا نشاهد صدور الخطأ من بعض سكانها وكونها من أشرف البقاع لا يوجب عصمة ساكنيها وإذا تقرر أنه لا أثر للبقاع علم أن إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة والمصرين البصرة والكوفة غير حجة خلافا لمن زعم ذلك من الأصوليين قال القاضي في مختصر التقريب وإنما صاروا إلى ذلك لاعتقادهم تخصيص الاجماع بالصحابة وكانت هذه البلاد مواطن الصحابة ما خرج منها إلا الشذوذ منهم انتهى فلا يظن الظان أن القائل بذلك قال به في كل عصر
قال الرابعة قالت اجماع الشيعة العترة حجة لقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا وهم على وفاطمة وابناءهما رضي الله عنهم لأنها لما نزلت لف عليه السلام كساء وقال هؤلاء أهل بيتي ولقوله عليه السلام أني تارك فيكم ما ان تمسكتم به أن تضلوا كتاب الله وعترتي
قالت الشيعة اجماع أهل البيت حجة وقالوا أيضا كما نقله الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع قول على وحده حجة واستدلوا على الأول بالكتاب والسنة والمعنى أما الكتاب فقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس

أهل البيت ويطهركم تطهيرا فقد نفا عنهم الرجس والخطأ رجس فيكون منفيا عنهم وأهل البيت هم علي وفاطمة وابناؤهما الحسن والحسين رضي الله عنهم كأنهم كما روى الترمذي لما نزلت هذه الآية لف النبي صلى الله عليه و سلم كساء وقال هؤلاء أهل بيتي وخاصتي اللهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا
وأما السنة فما روى الترمذي وأخرج مسلم في صحيحه معناه من قوله صلى الله عليه و سلم إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي وأما المعنى ولم يذكره المصنف فإن أهل البيت مهبط الوحي والنبي منهم وفيهم فالخطأ عليهم أبعد ولم يذكر المصنف الجواب عما استدلوا به والجواب عن الآية أنا وإن سلمنا انتفاء الرجس في الدنيا فلا نسلم أن الخطأ رجس ومنهم من أجاب بأن ظاهر الآية في أزواجه عليهم السلام لأن ما قبلها وما بعدها خطاب معهن لقوله تعالى وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى
قال الإمام ويجري هذا مجرى قول الواحد لابنه تعلم واطعني إنما أريد لك الخير ومعلوم أن هذا القول إنما يتناوله ابنه فكذلك ها منا
وهذا الجواب وإن اتضح المعنى واعتضد بما في المحصول والأحكام وغيرهما من كتب الأصول من أم سلمة قالت للنبي صلى الله عليه و سلم الست من أهل البيت فقال بلى إن شاء الله فيبعده من جهة الخير ما في صحيح مسلم من أن أم سلمة قالت وقد لف صلى الله عليه و سلم عليهم الكساء فانا معهم يا رسول الله قال إنك إلى خير وفي الترمذي قالت أنت على مكانك وأنت إلى خير ومن المعنى أن الكاف والميم لا يكون إلا للمذكر
والجواب عن الحديث أنه من باب الأحاد ولا يجوز عندهم العمل بها في الفروع فضلا عن الأصول ولو كان قطعيا فإنما تقتضي وجوب التمسك بمجموع الكتاب والعترة لا بقول العترة وحدهم

والجواب عن المعنى إنه باطل بزوجاته صلى الله عليه و سلم فانهن شاهدن أكثر أحواله مع أن قولهن وحده غير حجة والله أعلم وقد يقال قدم المصنف ان الشيعة من منكري الإجماع ثم نقل عنهم أن اجماع العترة حجة ومن اعترف بشيء من الإجماع لا يقال انكر أصل الاجماع
والجواب ان الإجماع المصطلح انكروه من أصله وما اعترفوا به ليس منه وان حصل وفاق بقية الأمة بل لأجل العترة فما قلناه لم يعترفوا بشيء منه وما قالوه لم نوافقهم عليه وقد سبقت الإشارة إلى هذا في قوله والشيعة عولوا عليه
قال الخامسة قال القاضي أبو حازم اجماع الخلفاء الأربعة حجة لقوله عليه السلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وقيل اجماع الشيخين لقوله اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر
ذهب القاضي أبو حازم في الحنفية بالحاء المعجمة وكذا أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين إلى أن اجماع الخلفاء الأربعة أبي بكر وعثمان وعلي حجة المسترك بما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه الترمذي والحاكم في المستدرك وقال على شرطهما من قوله صلى الله عليه و سلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ الحديث فإن قيل هذا عام في كل الخلفاء الراشدين قيل المراد الأربعة لقوله عليه الصلاة و السلام الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا وكانت مده الأربعة هذه قيل والصحيح إن المكمل لهذه المدة الحسن بن علي وكانت مدة خلافته ستة أشهر بها تكملت الثلاثون ولكن الحسن رضي الله عنه لم تتسع مهلته ولم تبرز أوامره ولا عرفت طريقته لقلة المدة
وذهب إلى بعضهم أن اجماع الشيخين وحدهما حجة لقوله عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة والترمذي وقال حسن ذكره ابن حبان في صحيحه

وأجاب الإمام وغيره عن الخبرين بالمعارضة بقوله أصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم وهو حديث ضعيف
وأجاب الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع بأن ابن عباس خالف جميع الصحابة في خمس مسائل انفرد بها وابن مسعود انفرد باربع مسائل ولم يحتج عليهم أحد بإجماع الاربعة
قال السادسة يستدل بالإجماع لما لا يتوقف عليه كوحدة الصانع وحدوث العالم لا كاثباته
الإجماع وإن كان حجة لكن لا يستدل به على جميع الأحكام بل على بعضها وهو ما لا يتوقف ثبوت حجية الإجماع على ثبوته سواء كان من الفروع أو الأصول أما يتوقف ثبوت الإجماع على ثبوته فلا يستدل بالإجماع عليه وإلا فيلزم الدور وقد مثل صاحب الكتاب الأول بحدوث العالم ووحدة الصانع أي ثبوت الإجماع لا يتوقف على هذين لجواز معرفة الإجماع قبل معرفة حدوث العالم ووحده الصانع
وقد قال الاسفرايني وغيره من الشراح ان المثال غير صحيح لأن كون الإجماع المصطلح حجة متوقف على وجود المجمعين الذين هم المجتهدون من الأمة المحمدية ولا يصير الشخص من هذه الأمة إلا بعد معرفة وحدة الصانع وحدوث العالم فوضح أن الإجماع متوقف على معرفة هذين ولك أن تمنع توقف حجية الإجماع على وجود المجمعين إذ هو حجة وإن لم يجمعوا
ومثال الثاني وإليه الإشارة بقوله لا كاثباته اثبات الصانع واثبات كونه متكلما والنبوة فإن الإجماع يتوقف على ذلك إذ ثبوته بالكتاب والسنة صحة الاستدلال بها موقوفة على وجود الصانع وعلى كونه متكلما وعلى النبوة فلو اثبتنا وجود الصانع والنبوة بالإجماع لزم الدور لتوقف ثبوت المدلول على ثبوت الدليل

الباب الثاني
في أنواع الإجماع
قال الباب الثاني في أنواع الإجماع وفيه مسائل الأولى إذا اختلفوا على قولين فهل لمن بعدهم احداث الثالث والحق أن الثالث ان لم يرفع مجمعا عليه جاز وإلا فلا مثاله قيل في الجد مع الأخ الميراث للجد وقيل لهما فلا سبيل إلى حرمانه
لك هنا مناقشتان
إحداهما كان من جنس الوضع تأخير هذا الباب عن الذي بعده وهو الثالث في شرائط الإجماع
والثانية أن الإجماع شيء واحد ليس تحته أنواع لكنه أراد الأنواع ما لا يكون إجماعا عند طائفة دون الآخرين وهو إجماع بالإتفاق ثم عرض الفصل أنه اختلف أهل العصر في المسألة على قولين هل يجوز لمن بعدهم احداث قول ثالث وفيه ثلاثة مذاهب
الأول المنع مطلقا وعليه الجمهور
والثاني الجواز مطلقا وعليه طائفة من الحنفية والشيعة وأهل الظاهر
والثالث وهو الحق عند المتأخرين وعليه الإمام وأتباعه الآمدي أن الثالث ان لزم رفع ما أجمعوا عليه لم يجز أحداثه والإجاز مثال الأمل إذا مات رجل وخلف جدا وأخوة ذهب بعض العلماء إلى الاشتراك وذهب الباقون إلى سقوط الأخوة بالجد فلو قال باسقاط الجد بالأخوة لم يجز لأنه رافع لأمر مجمع عليه مستفاد من القولين المتقدمين وهو أن الجد إما منفردا أو مشاركا للأخوة فإذا أسقطنا

الجد فقد رفعنا أمرا مجمعا عليه وهذا المثال سبق المصنف بذكره الإمام والآمدي وغيرهما وهو صحيح
وإن صح ما نقله ابن حزم الظاهري من ذهاب بعضهم إلى انفراد الأخ بالمال لأن الإجماع وقع بعد ذلك على خلافة ومن أمثلته أيضا الجارية الثيب إذا وطئها المشتري ثم وجد عيبا قديما
قال بعضهم تمنع الرد وقال آخرون بالرد مع العقد فالقول بالرد مجانا ثالث كذا صوره الآمدي في الثيب وابن الحاجب في البكر فإن قلت كيف
قال الشافعي رضي الله عنه ومالك والليث بالرد مجانا قلت لم يثبت تكلم جميع الصحابة في المسألة بل كان القولان ممن يتكلم فيها فقط ولو فرض كلام جميعهم فلا نسلم استقرار رأيهم على قولين
وهذا الفرض على تقرير صحة اختلاف الصحابة بل قد روي عن زيد بن ثابت مثل قولنا ثم أن المنقول عن علي وعمر لم يصح
قال والدي رحمه الله أيده الله وقد وقعت على أسانيد وردت في ذلك عنهما فرأيتها كلها ضعيفة وأمثلها الرواية عن علي وهي منقطعة لأنها من رواية علي بن الحسين وهو لم يدرك جده
ومثال الثاني وهو ما لم يرفع مجمعا عليه ولم يمثل له في الكتاب قيل يجوز فسخ النكاح بأحد العيوب الخمسة وقيل لا يجوز بشيء منها فالقول بالفسخ بالبعض دون بعض ليس رافعا لما أجمعوا عليه بل هو موافق لكل من القولين في بعض مقالته ومثاله أيضا قيل يحل أكل متروك التسمية سهوا وعمدا وقيل لا يحل لا سهوا ولا عمدا فالقول بالحل في السهو دون العمد جائز
قال قيل اتفقوا على عدم الثالث قلنا كان مشروطا بعدمه فزال بزواله قيل وارد على الوحداني قلنا لم يعتبر فيه إجماعا
احتج الجمهور وهم المانعون مطلقا بوجهين
أحدهما أن اختلافهم على قولين إجماعا على أنه يجب الأخذ بأحدهما ولا يجوز العدول عنهما وتجويز القول الثالث مبطل فكان مبطلا للإجماع وذلك باطل

والجواب الأخذ بأحد القولين وعدم جواز غيرهما مشروط بعدم حدوث ثالث فإذا حدث ثالث انتفى شرط الإتفاق على وجوب هذا الأخذ بأحد القولين وامتناع الثالث
وأعترض الخصم على هذا الجواب بأنه وارد على الوحداني إذا الشبهة قائمة بعينها فيقال إنما اوجبوا التمسك بالإجماع على القول الواحد بشرط أن لا يظهر الثاني فإذا ظهر فقد زال شرطه فيجوز القول بخلافه
واجيب عنه بأن الإحتمال وإن كان قائما في الإجماع على القول الواحد لكنهم منعوا فيه من إحداث ما يخالفه وجزموا بوجوب الأخذ به دائما بخلاف ما إذا إختلفوا على قولين فلم يعطلوا بنفي الإحتمال المذكور فليس لنا أن نحكم عليه بالتسوية وهنا كلامان
أحدهما أن في صحة وقوع اشتراط عدم إحداث الثالث في الإجماع على أحد القولين نظرا ومن نقل ذلك
والثاني أنه مبني على أنه لا يجوز حدوث إجماع بعد اجماع سبق على خلافه وقد ذهب أبو عبد الله إلى أنه يجوز لكن لا يقع وقال الإمام أنه الاولى كما سيأتي
قال قيل اظهاره يستلزم تخطئة الأولين وأجيب بأن المحظور هو التخطئة في واحد وفيه نظر
والوجه الثاني أن الذهاب إلى الثالث إنما يجوز لو أمكن كونه حقا ولم يكن ذلك إلا أن يكون القولان باطلين ضرورة أن الحق واحد
وحينئذ يلزم إجماع الأمة على الخطأ
وأجيب بأن المحظور وهو تخطئة الأمة في حكم واحد أجمعوا عليه كثبوت حظ الجد مثلا في الميراث
أما تخطئة كل فريق في حكم فلا محذور فيه
قال صاحب الكتاب وفيه نظر ووجهه أنه إذا أخطأت كل الأمة في

شيئين كل شطر في شيء دخل تحت عموم قوله لا تجتمع امتي على خطأ ومن خطأ كل فريق في قوله فقد خطأ كل الأمة وهذا النظر له أصل مختلف فيه وهو أنه هل يجوز إنقسام الأمة إلى شطرين كل شطر مخطيء في مسألة
والأكثر على أنه يجوز
واختار الآمدي خلافه وأعلم أن الجواب من أصله لم يذكره الإمام بل قال هذا الإشكال غير الوارد على القول بأن كل مجتهد مصيب فإنه لا يلزم من حقية أحد الأقسام فساد الباقي سلمنا لكن لا يلزم الذهاب إلى القول الثالث كونه حقا لأن المجتهد يعمل بما أداه إليه اجتهاده وإن كان خطأ في نفس الأمر ولك أن تقول على هذا إذا كان الذهاب إلى الثالث يستلزم الخطيئة وإنها ممتنعة فقد علم أن الذهاب إلى الثالث خطأ فلا يذهب إليه
قال الثانية إذ لم يفصلوا بين مسألتين فهل لمن بعدهم التفصيل والحق والحق أن نصوا بعدم الفرق أو اتحاد الجامع كتوريث العمة والخالة لم يجز لأنه رفع مجمع عليه وإلا جاز ولا يجب على من ساعد مجتهدا في حكم مساعدته في جميع الأحكام
لعلك تقول ما الفرق بين هذه المسألة والتي قبلها مع أن القول بالتفصيل إحداث لقول ثالث ويعتضد بأن الآمدي لم يفرد هذه المسألة بالذكر بل ذكرها في ضمن تلك
وحاصل ما ذكره القرافي في الفرق أن هذه المسألة مخصوصة بما إذا كان محل الحكم متعددا والأولى مخصوصة بما إذا كان محمله متحدا ان أهل العصر لم يفصلوا بين مسألتين بأن ذهب بعضهم إلى الحل فيهما والآخرون إلى التحريم فيهما وأراد من بعدهم الفصل فهذا يقع على أوجه
أحدهما أن ينصوا على عدم الفرق بأن يقولوا لا فصل بين هاتين المسألتين في كل الأحكام أو في الحكم الفلاني فإنه يجوز الفصل بينهما وكلام الكتاب يوهم أن الخلاف جار فيه وصرح فيه الجار بردي وهو صحيح وإن أنكره طوائف من شارحي الكتاب

فقد حكاه القاضي ابو بكر في مختصر التقريب والإرشاد
قال واحتج قائله بإن الاجماع على منع التفرقة ليس باجماع على حكم من الأحكام فلا معول عليه لكنه كما قال القاضي غلط ومراغمة لما قاله الأمة صريحا
وقوله ليس من الأحكام باطل لأنهم إذا أجمعوا على منع الفصل فقد أجمعوا على منع التحريم في إحداهما مع التحليل في الأخرى أو بالعكس
وهذا تعرض لحكم نفيا وإثباتا
والثاني أن لا ينصوا على ما ذكرنا بل يعلم اتحاد الجامع بين المسألتين لذلك جار مجرى النص على عدم الفرق مثاله من ورث العمة ورث الخالة ومن منع أحداهما منع الأخرى
وإنما جمعوا بينهما من حيث أنه انتظمهما حكم ذي الارحام قال الإمام فهذا ومما لا يسوغ خلافهم فيه بتفريق ما جمعوا بينهما إلا أن هذا الإجماع متأخر عن سائر الإجماعات في القوة وذهب بعض الناس إلى خلاف فيه
والثالث وإليه الإشارة بقوله وإلا جاز ان لا يكون كذلك فقيل لا يجوز الفرق والحق جوازه وقوله وألا يجب إشارة إلى الدليل عليه أي لو لم يجز لكان الدليل هو أنه وافقه في مسألة ويلزم على ذلك أن من وافق مجتهدا في مسألة لدليل أن يوافقه في كل المسائل وهو باطل ويلزم منه سد باب الإجتهاد
فائدة ظاهر كلام الإمام والمصنف أن نحو قول بعضهم لا يقتل المسلم بالذمي ولا يصح بيع الغائب وقول بعضهم يقتل ويصح جريان خلاف في أنه هل يجوز الفصل فيقال يقتل المسلم بالذمي ولا يصح بيع الغائب أو العكس وبه يشعر إيراد القاضي في مختصر التقريب
وصرح الآمدي بنفي الخلاف في ذلك وما اقتضاه كلام الإمام غير بعيد لأن التفصيل فيه يؤدي إلى تخطئة كل الأمة إذ يلزم خطأ شطرهم في جواز قتل المسلم بالذمي وخطأ الشطر الآخر في منع الغائب

وقد تقدم أن الأكثرين منعوا إنقسام الأمة إلى فرقتين كل فرقة خاطئة في مسألة وقد يقال لا يلزم من الذهاب إلى التفصيل كونه حقا في نفس الأمر بل يكفي أن يكون في ظن المجتهد كذلك وقد سبق هذا
قال قيل أجمعوا على الاتحاد قلنا عين الدعوى قيل قال الثوري الجماع ناسيا يفطر الصائم والأكل لا قلنا ليس بدليل
احتج من منع الفصل مطلقا بأن الأمة إذا قال نصفها بالحرمة في المسألتين وقال النصف الآخر بالحل فيهما فقد اتفقوا على اتحاد الحكم في المسألتين وأنه لا فصل بينهما فيكون الفصل ردا للإجماع
وجوابه أنه إن عنى بقوله اتفقوا على أنه لا فصل بينهما أنهم نصوا على استوائهما في الحكم وهما مستويان في علة الحكم فليس كذلك لأن النزاع ليس في هذا وان أراد أن ذلك لازمه فليس كذلك لأنه لا يلزم من عدم التعرض لتحريم التفصيل الحكم بتحريمه واتحاد الحكم وهذا عين الدعوى وأول المسألة واحتج من أجاز الفصل مطلقا بأنه وقع الا ترى إلى ذهاب بعض العلماء إلى أن الجماع ناسيا يفطر والأكل ناسيا لا يفطر
وقال بعضهم لا يفطر واحد منهما ثم فرق سفيان الثوري رضي الله عنه فقال الجماع ناسيا يفطر والأكل لا لبعد النسيان في الجماع دون الأكل وأضرب الإمام عن الجواب عن هذا لوضوحه وأجاب المصنف بأن قول الثوري ليس حجة علينا وقد يجاب أيضا بانهم ينصون في هذه الصورة على عدم الفرق أو اتحاد الجامع وبأن فتيا الثوري بتلك لعلها قبل إستقرار المجمعين على القولين المطلقين
قال الثالثة يجوز الاتفاق بعد الاختلاف خلافا للصيرفي لنا الإجماع على الخلافة بعد الاختلاف وله ما سبق
للمسألة تشعب في النظر وشفا الغليل فيها أن يقال هل يجوز أن يجمع على شيء سبق خلافه وذلك على حالتين
الأولى ولا تعرض لها في الكتاب أنه هل يجوز انعقاد الإجماع بعد إجماع على خلافه ذهب الأكثرون إلى المنع وذهب أبو عبد الله البصري إلى الجواز قال الإمام

وهو الأولى لأنه لا إمتناع في إجماع الأمة على قول بشر أن لا يطرأ عليه إجماع آخر ولكن إتفق أهل الإجماع على أن كل أجمعوا عليه فإنه يجب العمل به في كل الأعصار أمنا من وقوع هذا الجائز
الثانية ان يختلف أهل العصر على قولين في مسألة ثم يقع الإجماع على أحدهما فللخلاف حالتان
إحداهما أن يستقروا ولم يتعرض لها الآمدي في الأحكام فالجمهور على جواز وقوع الإجماع بعده وخالف أبو بكر الصيرفي كما اقتضاه إطلاق الإمام وشيعته
والثانية ان يستقر ويمضي أصحاب الخلاف عليه مدة وفيه مسألتان
إحداهما إذا اختلف أهل العصر على قولين فهل يجوز لأهل ذلك العصر بعينهم بعد استقرار الخلاف الإتفاق على أحد القولين والمنع من المصير إلى القول الآخر فيه خلاف ينبني على اشتراط إنقراض العصر في الإجماع فإن إشترطنا جاز بلا نظر وإلا ففيه مذاهب
أحدهما وهو إختيار الإمام أنه لا يجوز مطلقا
والثاني وهو اختيار الآمدي عكسه
والثالث يجوز إن كان مستند اتفاقهم على الخلاف القياس والإجتهاد لا دليل قاطع
المسألة الثانية إذا اختلفوا على قولين ومضوا على ذلك فهل يتصور انعقاد إجماع العصر الثاني بعدم على أحدهما حتى يمتنع المصير إلى القول الآخر ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وأحمد بن حنبل والصيرفي وإمام الحرمين والغزالي إلى امتناعه واختاره الآمدي
وذهب الجمهور إلى الجواز وتبعهم ابن الحاجب إذا عرفت فاستدلال المصنف على جواز وقوع الإجماع بعد الاختلاف باتفاق الصحابة على إمامة أبي بكر بعد اختلافهم فيها وهو دليل على المسألة الأولى ومثله الاستدلال بأجمعهم

على دفنه صلى الله عليه و سلم في بيت عائشة بعد خلافهم ولك أن تمنع أن كلا منهما كان جازما بمقالته ونقول إنما كان إختلافهم على سبيل المشورة ولم يستقر لأحد منهم الجزم بشيء
واستدل للمسألة الثانية باتفاق التابعين على المنع من بيع أمهات الأولاد بعد اختلاف الصحابة
قوله وله ما سبق أي وللصيرفي ما سبق في منع أحداث قول ثالث وتقريره أن إختلافهم إجماع على جواز الأخذ بأي قول كان
فلو انعقد الإجماع لامتنع الأخذ بما أجمعوا على جواز الأخذ به فلزم رفع الإجماع بالإجماع
وجوابه ما سبق أنهم إنما جوزوا بشرط أن لا يحصل إجماع والله أعلم
وأنت إذا إنتهى بك التفهم فيما أوردناه إلى هنا علمت أن المسألة في كلام صاحب الكتاب غير مختصة بما إذا أجمع أهل ذلك العصر الذي اجمعوا بعينهم بل هي أعم من المسألتين ولم تغتر بتخصيص بعض الشارحين لها بالمسألة الأولى مغترا باقتصار المصنف من الدليل على مثال وقع الإجماع في صورته بعد الاختلاف ممن حصل منهم الاختلاف
قال الرابعة الاتفاق على أحد قولي الأولين كالاتفاق على حرمة بيع أم الولد والمتعة إجماع خلافا لبعض المتكلمين والفقهاء لنا سبيل المؤمنين قيل فإن تنازعتم أوجب الرد إلى الله قلنا زال الشرط قيل أصحابي كالنجوم قلنا الخطاب مع العوام الذين عصرهم قيل اختلافهم إجماع على التخبير قلنا زال لزوال شرطه
مضى الكلام في تصور وقوع الإجماع بعد الإختلاف والنظر الآن في أنه إذا هل يكون حجة ولوقوعه حالتان
إحداهما أن يقع من أهل العصر الثاني الإجماع على إحدى مقالتي أهل العصر الأول كوقوع الإجماع عل منع بيع أم الولد من البائعين بعد اختلاف

الصحابة فيها وعلى أن نكاح المتعة باطل مع أن ابن عباس رضي الله عنه كان يفتي بالجواز قال بعض الشارحين وفي المثالين نظرا أما الأول فلمخالفة بعض الشيعة وكونه قولا للشافعي ولك أن تقول أما مخالفة بعض الشيعة فلا اعتداد بها وأما كونه قولا للشافعي فليس كذلك إذ لم ينص على ذلك لا في القديم ولا في الجديد وإنما قيل إن في كلامه ميلا إليه
وذهب معظم الأصحاب إلى أن هذا إختلاق قول قال وأما الثاني فلبقاء المخالفة فيه من ذفر ولك أن تقول إن صح عنه فلا اعتداد بخلافه بعد قيام الإجماع قبله وبعد أن قاس على خلافه وفي شرح الجاربردي أن مراد المصنف بالمتعة التمتع شرحه بأن عثمان كان ينهى عنه ثم صار إجماعا أنه جائز إذا عرفت ذلك فهذه الحالة هي مسألة الكتاب والذي عليه المصنف تبعا للإمام والجمهور أنه إجماع تقوم به الحجة وتحرم مخالفته
وذهب كثير من الشافعية ومن المتكلمين والحنفية إلى خلافه لنا إذ ما أجمع عليه أهل العصر الثاني سبيل المؤمنين فيجب أتباعه لقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين احتجوا بثلاثة أوجه
أحدها قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول أوجب الرد إلى كتاب الله والرسول عند التنازع فيجب أن يرد إليهما دون الإجماع واجيب بوجهين
أحدهما وهو المذكور في الكتاب أن وجوب الرد مشروط بالتنازع والتنازع قد زال بخصوص الإجماع فزال وجوب الرد لزوال شرطه وهو النزاع ولك أن تقول لاخفاء في وجود النزاع قبل حصول الإجماع فكان يجب رده ولا يجوز الإجماع
الثاني وهو حسن الرد أن الإجماع رد إلى الله والرسول صلى الله عليه و سلم
وثانيها ما روي من قوله صلى الله عليه و سلم أصحابي كالنجوم بأيهم إقتديتم إهتديتم جوز

الأخذ بقول كل منهم ولم يفصل بين ما يكون بعده إجماع أو لا فلو وجب الأخذ بقول أهل الإجماع للزم التخصيص وأعلم أن هذا الحديث رواه ابن منده أن أبا الإمام أبا عبد الله محمد بن إسحاق بن منده أن أبا الحسين عمر بن الحسن بن علي حدثنا عبد الله بن روح المدايني حدثنا سلام بن سليمان حدثنا الحارث بن عصين عن الأعمش عن ابن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل أصحابي في أمتي مثل النجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وروى نعيم بن حماد الخزاعي عن عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن سعيد ابن المسيب عن عمر مرفوعا سألت ربي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي فاوحى إلي يا محمد أن أصحابك عندي بمنزلة النجوم بعضها أضوأ من بعض فمن أخذ بشيء مما هم عليه على اختلافهم عندي على هدى
وهذا حديث قال فيه أحمد لا يصح ثم أنه منقطع قال ابن المسيب لم يسمع من عمر شيئا
وأجاب بأن الخطأ ليس لجميع الصحابة ولا للمجتهدين منهم إذ ليس إتباع واحد منهم للآخر أولى من العكس فتعين أن يكون الخطاب مشافهة للعوام الذين في عصر الصحابة وإذا كان كذلك وقد انفرضوا فعوام العصر الثاني وخواصهم غير مخاطبين بهذا الحديث ولم يذكر الإمام هذا الجواب بل أجاب بتخصيص الحديث بتوقف الصحابة في الحكم حال الاستغلال مع عدم جواز الاقتداء في ذلك بعد انعقاد الاجماع فوجب تخصيص الإجماع عنه والجامع بينهما تصحيح الاجماع المنعقد أخيرا ولك أن تقول على جواب المصنف خطاب المشافهة يعم كل العوام وإلا لزم أن يكونوا كذا يكون مخاطبين وليس كذلك على جواب الإمام أنه إذا خص من العموم صورة لا يلزم تخصيص غيرها وهذا ذكره القرافي
وقد يقول من ينصر الإمام إذا خصت صورة لمعنى وجد في صورة أخرى قيست على المخصوصة وأخرجت من العموم ويفرق من يعضد القرافي لأن

الاقتداء بهم في التوقف مخل بمقصود التكليف فلذلك امتنع بخلاف الاقتداء بهم في القول الآخر
وثالثها وإليه الإشارة بقوله إجماع على التخيير أن في ضمن اختلاف أهل العصر الأول الاتفاق على جواز الأخذ بايهما أريد فلو انعقد الإجماع الثاني لتدافع الاجماعان وأجاب بأن إجماعهم على التخيير بين القولين مشروط بأن لا يحدث إجماع فلما زال الشرط بحصول الإجماع زال المشروط وهو التخيير
الحالة الثانية وليست في الكتاب أن يختلف أهل العصر ثم يقع الرجوع منهم بأعيانهم فقيل ليس بحجة وقيل حجة يحرم مخالفته وهو مختار الإمام ولقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين وعليك باعتبار الأجوبة المتقدمة وأجوبتها هنا
وقال الخامسة إن اختلفت الأمة على قولين فماتت إحدى الطائفتين يصير قول الباقين حجة لأنهم محل الأمة
إذا اختلفت الأمة على قولين ثم ماتت إحدى الطائفتين أو كفرت قال الإمام وأتباعه يصير القول الآخر مجمعا عليه لأنه عند الموت أو الكفر بتبين باندراج قول تلك الطائفة الأخرى تحت أدلة الإجماع لصيرورتهم حينئذ كل الأمة وإنما قلت عند الموت ولم أقل بالموت لسؤال يرد فيقال يلزم أن يكون قول الباقين حجة لأجل موت أولئك وليس موتهم مناسبا لكون قول الباقين حجة وجوابه أن قولهم صار حجة عند الموت لأنه إذ ذاك قول كل المؤمنين لا بالموت
وقال الآمدي إنه لا يكون إجماعا ذكره في آخر المسألة الثانية العشرين قال السادسة إذا قال البعض وسكت الباقون فليس بإجماع ولا حجة وقال أبو علي إجماع بعدهم وقال إنه هو حجة لنا ربما سكت لتوقف او خوف أو تصويب كل مجتهد قيل يتمسك بالقول المنتشر ما لم يعرف له مخالفا وجوابه المنع وأنه إثبات الشيء بنفسه
إذا قال بعض المجتهدين قولا في المسائل التكليفية الاجتهادية وعرفه الباقون وسكتوا عن الإنكار فإن ظهرت عليهم أمارات الرضا بما ذهبوا إليه فهو إجماع بلا خلاف

قال القاضي عبد الوهاب من المالكية والقاضي الروياني من أصحابنا وقضية ذلك أنه إن ظهرت عليهم أمارات السخط لا يكون إجماعا بلا نزاع وكلام الإمام كالصريح في أن الخلاف جار وإن ظهرت أمارات السخط فإنه قال السكوت يحتمل وجوها سوى الرضا وعد منها أن يكون في باطنه مانع من إظهار القول قال وقد يظهر عليه قرائن السخط وإلا شبه أن هذا ليس من محل الخلاف وإن لم يظهر عليهم شيء سوى السكوت ففيه مذاهب
أحدها أنه ليس باجماع ولا حجة وبه قال الغزالي والامام وأتباعه ونقله هو والآمدي عن الشافعي لكن قال الرافعي المشهور عند الأصحاب أن الإجماع السكوتي حجة لأنهم لو لم يساعدوه لاعترضوا عليه وهل هو إجماع أو لا فيه وجهان وقال الشيخ أبو إسحاق في اللمع أنه إجماع على المذهب
والثاني أنه إجماع بعد انقراض العصر وبه قال أبو علي الجبائي والإمام أحمد وهو أحد الوجهين عندما نقله الرافعي
الثالث أنه حجة وليس إجماعا وذهب إليه أبو هاشم بن أبي علي وهو المشهور عند أصحابنا كما نقله الرافعي وهل المراد بذلك أنه دليل آخر من أدلة الشرع غير الإجماع أو أنه ليس إجماع قطعي بل ظني النظر مضطرب في ذلك ويؤيد الأول قول الماوردي والقول والثاني أنه لا يكون إجماعا قال الشافعي من نسب إلى ساكت قولا فقد كذب عليه فاقتضى أن الساكت لا ينسب إليه قول لا ظنا ولا قطعا ويعضد الثاني قول أبي عمرو بن الحاجب في المختصر الكبير هو حجة وليس بإجماع قطعي
والرابع ذهب إليه أبو علي بن أبي هريرة إن كان هذا القول من حاكم لم يكن إجماعا ولا حجة وإلا فإجماع لأن الاعتراض على الحاكم ليس من الأدب فلعل السكوت صلى الله عليه و سلم لذلك وأيضا فالحكم في المختلف فيه لا ينكر ويصير مجمعا عليه بخلاف الفتيا
والخامس عكس ذلك لأن الحكم إنما يصدر بعد بحث واتقان بعد الكلام مع العلماء وتصويبهم لذلك فإذا سكتوا عن الحكم جعل ذلك إجماعا وأما الفتيا

فلا يحتاط فيها كالحكم وذهب إلى هذا أبو إسحاق المروزي ثم استدل صاحب الكتاب على ما ذهب إليه هو وإمامه من أنه ليس بإجماع ولا حجة بأن السكوت يحتمل وجودها سوى الرضا وهي كثيرة
أحدها أنه كان في مهلة النظر
الثاني أن يكون في باطنه مانع من إظهار القول وهو الخوف
والثالث أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب فلا يرى الإنكار فرضا وقد ذكر هذه الأوجه في الكتاب
والرابع ربما رآه قولا شائعا لمن أداه إليه اجتهاده وإن لم يكن موافقا عليه
الخامس ربما أراد الإنكار ولكنه ينتهز فرصة التمكن منه ولا يرى المبادرة اليه مصلحة
والسادس أنه لو أنكر لم يلتفت إليه
والسابع ربما سكت لظنه أن غيره قام مقامه في ذلك وإن كان قد غلط فيه
والثامن ربما رأى ذلك الخطأ من الصغائر فلم ينكر وإن احتمل السكوت هذه الجهات كما احتمل الرضا علمنا أنه لا يدل على الرضا لا قطعا ولا ظنا هذا وهذا معنى قول الشافعي لا ينسب إلى ساكت قول ولقائل أن يقول ما انها لا تدل على الرضا قطعا فمسلم وأما ظاهر فممنوع أن هذه الاحتمالات مرجوحة بالنسبة إلى احتمال الرضا وذلك ما هو ظاهر الفساد كالثامن فإن الصغيرة يجب إنكارها كما يجب انكار الكبيرة قال القرافي وقد اختلف الناس في المندوبات والمكروهات هل يدخلها الأمر والإنكار أم لا وأما الواجبات والمحرمات صغائر كانت أم كبائر فيدخلها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إجماعا واحتج أبو هاشم بما ذكره في الكتاب من أن الناس في كل عصر يحتجون بالقول المنتشر في الصحابة إذا لم يعرف له مخالف وجوابه أن ذلك ممنوع ولو سلم فالاستدلال به إنما يتم أن لو كان الإجماع السكوتي حجة إذ هو عينه فلو شئتم الإجماع به لأثبتم الشيء بنفسه

وفي عبارة المصنف كما قال الجاربردي تساهل لأنه إثبات للشيء بفرد من أفراده لا بنفسه ولم يذكر المصنف حجة أبي علي والرد عليها لأنه إذا بطل كونه حجة بطل كونه إجماعا وهذا من حسن الاختصار رحمه الله
قال فرع قول البعض فيما تعم به البلوني كقول البعض وسكوت الباقين
هذه المسألة فيما إذا قال بعض أهل العصر قولا ولم يعلم له مخالف ولا أنه بلغ جميع أهل العصر وليست مختصة بعصر الصحابة على خلاف ما صوره الإمام وتلك المسألة فيما إذا نقل أنه بلغ جميعهم وسكتوا عليه
وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب
أحدها أنه ليس بإجماع ولا حجة لأن الإجماع السكوتي إنما كان حجة إجماعا لأن بعضهم قال الحكم وسكت الباقون مع العلم به فلو كان ذلك الحكم خطأ لحرم عليهم السكوت عن الإبتكار فالسكوت دليل الرضا وهذا لا يمكن حمل السكوت على الرضا لاحتمال أن يكون ذلك لعدم العلم به
وثانيها أنه كالسكوتي حتى يجري فيه الخلاف المتقدم لأنه الظاهر مع الاشتهار وصوله إليهم
وثالثها وهو الحق عند الإمام وأتباعه وبه جزم منهم المصنف أن هذا القول إن كان فيما يعم البلوى كنقض الوضوء بمس الذكر كان كالسكوت إذ لا بد لمن انتشر فيهم من قول لكنه لم يظهر وإلا لم يكن إجماعا ولا حجة لاحتمال ذهول البعض عنه
واعلم أن الآمدي صور المسألة بما إذا ذهب واحد من أهل العصر إلى حكم ولم ينتشر بين أهل العصر لكنه لم يعرف له مخالف وتبعه ابن الحاجب في شرطه عدم الانتشار وظاهر كلام الإمام وصرح به صفي الدين الهندي وتصوبه المسألة بما إذا انتشر
واعلم أنه لا مخالفة بين الكلامين فإن الانتشار في كلام الآمدي محمول على الشهرة وإن لم يعلم أنه بلغ الجميع والانتشار المنفي في كلام الآمدي هو الانتشار بحيث يبلغ الجميع وسكتوا عنه

الباب الثالث
في شرائطه
قال الباب الثالث في شرائطه وفيه مسائل
الأولى أن يكون فيه قول كل عالمي ذلك الفن فإن قول غيرهم بلا دليل فيكون خطأ فلو خالف واحد لم يكن سبيل الكل
قال الخياط وابن جرير وأبو بكر الرازي المؤمنون يصدق على الأكثر قلنا مجاز قالوا عليكم بالسواد الأعظم
قلنا يجب عدم الالتفات إلى مخالفة الثالث
يشترط في الإجماع في كل فن من الفنون أن يكون فيه قول كل العارفين بذلك الفن في ذلك العصر فإن قول غيرهم فيه يكون بلا دليل لجهلهم به فيكون خطأ فيشترط في الإجماع على المسألة الفقهية قول جميع الفقهاء والأصولية قول الأصوليين وهكذا ولا عبرة بقول العوام وفاقا ولا خلافا عند الأكثرين
وقال الأقلون يعتبر قولهم لأن قول الأمة إنما كان حجة لعصمتها عن الخطأ ولا يمتنع أن تكون العصمة من صفات الهيئة الاجتماعية من الخاصة والعامة وحينئذ لا يلزم من ثبوت العصمة للكل ثبوتها للبعض الآخر
وهذا ما اختاره الآمدي وهو مشهور عن القاضي نقله الإمام وغيره وينبغي أن يتمهل في هذه المسألة فإن الذي قاله القاضي في مختصر التقريب ما نصه الاعتبار في الاجماع بعلماء الأمة حتى لو خالف واحد من العوام ما عليه العلماء لم يكترث بخلافه وهذا ثابت اتفاقا وأطباقا إذ لو قلنا أن خلاف العوام يقدح

في الإجماع مع أن قولهم ليس إلا عن جهل أفضى هذا إلى اعتبار خلاف من يعلم أنه قال عن غير أصل على أن الأمة اجتمعت علماؤها وعوامها أن خلاف العوام لا يعتبر به وقد مر على هذا الإجماع عصر فثبت بما قلناه أن لا يعتبر بخلاف العوام
فقد صرح القاضي بقيام الإجماع على عدم الاعتبار بخلاف العوام وقال في هذا الكتاب في الكلام على الخبر المرسل لا عبرة بقول العوام وفاقا ولا خلافا انتهى
فإن قلت فما هذا الخلاف المحكى من أن قول العام هل يعتبر في الإجماع
قلت هو اختلاف في أن المجتهدين إذا أجمعوا هل يصدق اجمعت الأمة ويحكم بدخول العوام معهم تبعا وهو خلاف لفظي في الحقيقة وليس خلافا في أن مخالفتهم تقدح في قيام الإجماع وكلام القاضي في مختصر التقريب ناطق بذلك فإنه حكى هذا الخلاف بعد كلامه المتقدم فقال ما نصه فإن قال قائل فإذا أجمع علماء الأمة على حكم من الأحكام فهل يطلقون القول بأن الأمة مجمعة عليه
قلنا من الأحكام ما يحصل فيه اتفاق الخاص والعام نحو وجوب الصلاة والزكاة والحج والصوم وغيرها من أصول الشريعة فما هذا سبيله فيطلق القول بأن الأمة أجمعت عليه
وأما ما أجمع عليه العلماء من أحكام الفروع التي تشذ عن العوام فقد اختلف أصحابنا في ذلك فقال بعضهم العوام يدخلون في حكم الإجماع وذلك أنهم وإن لم يعرفوا تفصيل الأحكام فقد عرفوا على الجملة أن ما أجمع عليه علماء الأمة في تفاصيل الأحكام فهو حق مقطوع فهذا مساهمة منهم في الإجماع وإن لم يعلموا مواقعه على التفصيل ومن أصحابنا من زعم أنهم لا يكونون مساهمين في الإجماع فإنه إنما يتحقق الإجماع في التفاصيل بعد العلم بها فإذا لم يكونوا عالمين بها فلا يستحق كونهم أهل الإجماع
واعلم أن هذا اختلاف يهون أمره ويؤول إلى عبارة مخصوصة والجملة فيه انا إذا أدرجنا للعوام في حكم الإجماع فيطلق القول بإجماع الأمة وإن لم

ندرجهم بإجماع الأمة أو بدر من بعض طوائف العوام خلاف فلا يطلق القول بإجماع الأمة فإن العوام معظم الأمة وكثيرها بل اجمع علماء الأمة انتهى كلام القاضي
وكلام الغزالي في المستصغى لا ينافيه فليتأمل وليضبط ذلك فهو مكان حسن ولا ينبغي أن يعتقد أن مخالفة العوام تقادح وموافقهم تفتقر الحجة إليها وكيف ذلك وهم يقولون لا عن دليل فيكون قولهم خطأ
والخطأ لا يفتقر قيام الحجة إليه وان سبب مسبب بما سلف من أن العصمة إنما تثبت لجموع الأمة قلت فماذا تقول في البله والأطفال أليس هم من الأمة وهذا إلزام لا محيص له عنه هذا في العوام وقد قلنا إن الخلاف فيهم لفظي ويمكن أن يقال ينبني عليه إذا لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد
فإن قلنا إن العوام داخلون تبعا فهم داخلون معه فيكون إجماعا وإلا فلا يكون قوله اجماعا لما قدمناه في أول كتاب الإجماع من أن الإجماع لا يصدق إلا من اثنين فصاعدا
وأما الأصولي الماهر المتصرف في الفقه فذهب القاضي إلى أن خلافه معتبر
قال الإمام وهو الحق وذهب معظم الأصوليين إلى خلافه لأنه ليس من المفتين ولو وقعت له واقعة للزمه أن يستفتي المفتي فيها واحتج القاضي بأنه من أهل التصرف في الشريعة يستضاء برأيه ويستهدي بنصحه ويحضر مجلس الأشوار وإذا كان كذلك فخلافه يشير إلى وجه من الرأي معتبر وإذا ظهر اعتبار في الخلاف انبنى عليه اعتباره في الوفاق واستبعد امام الحرمين مذهب القاضي وقال إذا أجمع المفتون وسكت المتصرفون فبعد أن يتوقف انعقاد الإجماع على مراجعتهم فإن الذين لا يستقلون بأنفسهم في جواب مسألة ويتعين عليهم تقليد غيرهم من المحال وجوب مراجعتهم وان فرض أنهم أبدوا وجها في التصرف فإن كان سالما فهو محمول على أرشادهم وتهديتهم إلى سواء السبيل وإن ابدوا قولهم أبدي من يراع الإجماع فالإنكار يشتد عليهم
قال والقول المغني في ذلك إنه لا قول لمن لم يبلغ مبلغ المجتهدين وليس بين من يقلد ومن يقلد مرتبة ثالثة

ثم قال والنظر السديد يتخطى كلام القاضي وعصره ويترقى المتقدم ويفضي إلى مدرك الحق قبل ظهور هذا الخلاف ولتحقيق خالف القاضي إذا وافق أن المجتهدين إذا أطبقوا لم لخلاف يعد المتصرفين مذهبا محتفلا به فإن المذهب لأهل الفتوى فإن ثبت بأن المتصرف الذي ذكره من أهل الفتوى فالقول فيه يشرح في كتاب الفتوى
والكلام الكافي في ذلك أنه إن كان مقتبسا اعتبر خلافه وأما المبتدع فإن كفرناه ببدعته فلا خلاف في أنه غير داخل في الإجماع لعدم دخوله في مسمى الأمة المشهود لهم بالعصمة وإن لم يعلم هو كفر نفسه وعلى هذا فلو خالف هو في مسألة وبقي مصرا على المخالفة حتى تاب عن بدعته فلا اثر لمخالفته لانعقاد إجماع جميع الأمة الإسلامية قبل إسلامه كما لو أسلم ثم خالف الأعلى رأي من يشترط في الإجماع انقراض المجمعين وإن لم نكفره فالمختار أنه لا ينعقد الإجماع دونه لكونه من أهل الحل والعقد ومن الداخلين في مفهوم لفظ الأمة
وقيل ينعقد دونه وقيل لا ينعقد عليه بل على غيره فيجوز له مخالفة إجماع من عداه ولا يجوز ذلك لغيره وفيه نظر فإنه إذا تعذر إنعقاد الإجماع من وجه لم ينعقد من وجه وسيأتي إن شاء الله كلام إمام الحرمين فيه وأما أهل الفسقة من أهل القبلة البالغون في العلم مبلغ المجتهدين فذهب معظم الأصوليين كما ذكر امام الحرمين إلى أنه لا يعتبر وفاقهم ولا خلافهم والمختار خلاف ذلك لأن المعصية لا تزيل اسم الإيمان فيكون قول من عداهم قول بعض المؤمنين لا كلهم فلا يكون حجة
وهذا ما مال إليه امام الحرمين فقال الفاسق المجتهد لا يلزمه أن يقلد غيره بل يلزم أن يتتبع في وقائعه ما يؤدي إليه اجتهاده وليس له أن يقلد غيره فكيف ينعقد الإجماع عليه في حقه واجتهاده يخالف اجتهاد من سواه
قال وإن بعد انعقاد الإجماع من وجه لم ينعقد من وجه قال فإن قيل هو عالم في حق نفسه باجتهاده فيصدق عليه بينه وبين ربه وهو يكذب في حق غيره فلا يمتنع لانقسام أمره على هذا الوجه أن ينقسم حكم الإجماع قلنا هذا

محال فإن الفاسق غير مقطوع بصدقه ولا بكذبه فهو كالعالم في غيبته فإن تاب فهو كما لو أتى الغائب
وأعلم أن الأولين اختلفوا في تعليل عدم اعتبار قول الفاسق على وجهين
أحدهما وعليه يقوم هذا السؤال إن اخباره عن نفسه لا يوثق به لفسقه فربما أخبر بالوفاق وهو مخالف أو بالخلاف وهو موافق فلما تعذر الوصول إلى معرفة قوله سقط أثره
وشبه بعض المتأخرين ذلك بسقوط أثر قول الخضر عليه السلام على القول بأنه حي لتعذر الوصول إليه
والثاني أن العدالة ركن في الاجتهاد كالعلم فإذا فاتت العدالة فأتت أهلية الاجتهاد وهذا فيه نظر إذ أهلية الاجتهاد الذي هو استنباط الأحكام وتصحيح المقاييس وترتيب المقدمات إلى غير ذلك مما لا تعلق لها بالديانة أصلا فإن قلت فهذا يرد عليكم في الكافر فإنه قد يجري على علوم الشرع والاجتهاد لا تعلق له بالديانة قلت الكافر لا يرد فإن الحجة في إجماع المسلمين والفاسق منهم دون الكافر ويتفرع على هذين التعليلين أن الفاسق إذا اداه اجتهاده في مسألة إلى حكم هل يأخذ بقوله من علم صدقه في فتواه بقرائن
وإذا ثبت اشتراط قول جميع المجتهدين في الاجماع قال صاحب الكتاب فلو خالف واحد لم يكن قول غيره اجماعا لأن قوله سبيل المؤمنين يتناول الكل وليسوا دون الواحد كل المؤمنين هذا مذهب الجمهور
وقال الإمام الجليل محمد بن جرير وأبو الحسين بن أبي عمر والخياط المعتزلي وأبو بكر الرازي وكذا أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ينعقد اجماع الأكثر مع مخالفة الأقل كذا أطلق النقل عنهم الآمدي وهو قضية إيراد المصنف وخصص الإمام النقل عنهم بالواحد والاثنين قال الآمدي وذهب قوم إلى أن عدد الأقل إن بلغ عدد التواتر لم يعتد بالإجماع دونه وإلا اعتد به قلت وهذا ما ذكر القاضي في مختصر التقريب أنه الذي يصح عن ابن جرير
وقال أبو عبد الله الجرجاني أن سوغت الجماعة الاجتهاد في مذهب المخالف

كان خلافه معتدا به وإلا فلا ومنهم من قال اتباع الأكثر أولى ويجوز خلافه وهو مذهب لا تحرير فيه لانا نسلم أنه إذا تعادل الرأيان وكان القائلون بأحدهما أكثر رجح جانب الكثرة وانما الكلام في التحتم ومنهم من قال هو حجة وليس باجماع ورجحه ابن الحاجب فإنه قال لو نذر المخالف مع كثرة المجمعين لم يكن اجماعا قطعا قال والظاهر أنه حجة لبعد أن يكون الراجح متمسك المخالف
قال صفي الدين الهندي والظاهر أن من قال إنه إجماع فإنما نجعله إجماعا ظنيا لا قطعيا وبه يشعر إيراد بعضهم لنا أن الصحابة اجمعوا على ترك قتال مانعي الزكاة إلا أبو بكر رضي الله عنه ولم يقل أحد أن خلافه غير معتد به بل رجعوا إليه حين المناظر واحتج ابن جرير ورفقته بوجهين ذكرهما في الكتاب
أحدهما أن لفظي المؤمنين والأمة يصدق على الأكثر كما يقال على البقرة أنها سوداء وإن كان فيها شعرات بيض وللزنجي أنه أسود مع بياض حدقته وأسنانه
والجواب أن صدق إطلاق ألفاظ العموم على الأكثر إنما هو على سبيل المجاز وليس حقيقة لأنه يجوز أن يقال لمن عدا الواحد من الأمة ليسوا كل الأمة ويصح استثناؤه منهم وهذا واضح
لثاني قوله صلى الله عليه و سلم عليكم بالسواد الأعظم أو باتباع السواد الأعظم ويعم الاكثرين فيكون قولهم حجة
والجواب أن السواد الأعظم يعم كل الأمة لأن من عدا الكل فالكل الأعظم منه ولو لم يقصد هذا بل ما صدق أنه أعظم من غيره لدخل تحته النصف الزائد بفرد واحد على النصف الآخر وإلى هذا أشار بقوله في الكتاب مخالفة الثلث وهو بضم الثاء واللام أي حمله على ما صدق عليه أنه أعظم يوجب عدم الالتفات إلى ثلث الأمة إذا خالفوا الثلثين وقد قرره الجار بردي والاسفرايني على أن الثاء مفتوحة وأن المراد الثلاث اسم العدد الخاص وان ابن جرير ورفقته يسلمون أن مخالفة الثلاثة قادحة
وهذا ماش على ما اقتضاه ايراد الإمام كما سبق وما ذكرناه من التقرير أحسن وأسلم

واعلم أن السواد الأعظم وقع مفسرا في الحديث على خلاف ما استدل به الخصم فروى ابن ماجة من حديث معاذ بن رفاعة عن أبي خلف الأعمى عن أنس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول أن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم للحق وأهله هذا لفظه وأهل الحق هم جميع الأمة ولا أعلم لهذا الحديث طريقا غير الذي ذكرت ومعاذ وأبو خلف ضعيفان
قال الثانية لا بد له من سند لأن الفتوى بدونه خطأ قيل لو كان فهو الحجة قلنا قد يكونان دليلان قيل صححوا بيع المراضاة بلا دليل قلنا لا بل ترك اكتفاء بالاجماع
رب متراشق في اللفظ يعبر عن المسألة بأن الإجماع لا بد فيه من توقيف وقيل قد يقع عن توقيف واشتراط السند في الإجماع هو الذي عليه الجماهير
وقال قوم يجوز أن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب من غير توقف على مستند لكن سلموا إن ذلك غير واقع كما ذكر الآمدي لنا أن الفتوى في الدين بغير دلالة أو إمارة خطأ فلو اتفقوا عليه كانوا مجمعين على الخطأ
وذلك يقدح في الإجماع واعترض الآمدي على هذا الدليل بأنه إنما يكون خطأ إذا لم تتفق الأمة عليه
أما إن اتفقت عليه فلا نسلم أنه خطأ وذلك لأن من يجوز ذلك مع القول بعصمة الأمة عن الخطأ يمنع أن يكون ذلك خطأ عند الاتفاق
وحاول الشيخ صفي الدين الهندي رد هذا الاعتراض فقال القول في الدين بغير دليل وأمارة باطل في الأصل وكذلك لو لم يحصل الإجماع عليه كان ذلك باطلا وفاقا

والإجماع لا يصير الباطل حقا بل غاية تأثيره أن يصير المظنون حقا قلت وفيه نظر فقد يقال يتبين بحصول الإجماع بعد ذلك أن القول في الأصل كان حقا هذا إذا وقع قولهم مترتبا لو إن وقع دفعة واحدة فلم يقع إلا حقا
ثم إن القائل بغير اجتهاد قبل حصول الإجماع على قوله لا يقول إنه مخطئ فيما قاله ولا مصيب بل مخطيء في كونه قال بدون اجتهاد وهذا الخطأ لا يزول بإجماعهم بعد ذلك على قوله
وأما المقول فيحتمل أنه خطأ فيه ويحتمل أنه أصاب وهذا التردد يزول بالإجماع بعد ذلك على قوله ويعلم أنه كان مصيبا
فإن قلت إذا كان كل فرد منهم أخطأ في كونه قال فيلزم خطأ المجموع في كونهم قالوا وهو محظور قلت القائل الأخير منهم الذي بقوله يحصل الاتفاق ويتكل الإجماع ليس مخطئا في كونه قال وهذا إذا وقع مترتبا فإن وقع دفعة واحدة فلا نسلم خطأهم في كونهم قالوا بل نقول إنما يخطئ من أقدم على القول وحده بغير مستند
أما إذا حصل اتفاق من الأمة على القول فلا واحتج من قال يجوز أن يوفقوا الاختيار الصواب بأمرين
أحدهما أنه لو لم ينعقد الإجماع إلا عن مستند لكان ذلك المستند هو الحجة وحينئذ فلا يبقى في الإجماع فائدة وأجاب المصنف بأن الإجماع وأصله يكونان دليلين واجتماع دليلين على مدلول واحد جائز حسن
والثاني أنه وقع بدليل إجماعهم على بيع المراضاة بلا دليل وأجاب بأن له دليلا لكن ترك ذكره لما وقع الإجماع عليه اكتفاء بالإجماع
قلت وقد الآمدي في أثناء المسألة أن الخلاف ليس في وقوعه وتقدم نقل هذا عنه فاحتجاج الخصم ضعيف لذلك أيضا وأيضا فإن أريد ببيع المراضاة المعاطاة التي يذكرها الفقهاء فالمذهب الصحيح أنها باطلة فأين الإجماع وإن كان كما ذكره الشراح أنه إذا تحقق التراضي من الجانبين فالإجماع منعقد على صحة هذا البيع لكن اختلفوا في الدليل على التراضي

فقال الشافعي ومن وافقه لا بد من صيغة تدل عليه وقال مالك وبعض أصحاب الشافعي يكفي المعاطاة فهذا فيه نظر إذ سند الإجماع أشهر من أن يذكر وأكثر من أن يحصر
قال فرعان الأول يجوز الإجماع عن الإمارة لأنها مبدأ الحكم قيل الإجماع على جواز مخالفتها قلنا قبل الإجماع قيل اختلف فيها قلنا منقوض بالعموم وخبر الواحد
علمت أن الإجماع لا بد له من مستند ويجوز أن يكون ذلك المستند نصا بالاتفاق وكذلك دليلا ظاهرا وهل يجوز أن يكون امارة أي قياسا فيه مذاهب
أحدها أنه جائز واقع وعليه الجمهور
والثاني جائز غير واقع
والثالث أنه غير ممكن وذهب إليه إبن جرير الطبري كذلك داود الظاهري لكنه بناه على أصله في منع القياس
والرابع إن كانت الإمارة خلية جاز وإلا فلا ثم اختلف القائلون بالوقوع في أنه هل يحرم مخالفته إذا وقع مع أطباقهم على أنه حجة والحق أنه تحرم مخالفته
واستدل المصنف على جوازه بأن الإمارة مبدأ الحكم أي تصلح أن يكون طريقا للحكم فيجوز الإجماع عليها قياسا على الدليل ولم يتكلم في الوقوع وقد إستدل عليه الإمام بأن الصحابة أجمعت في زمان عمر رضي الله عنه على أن حد الشارب ثمانون وهو بطريق الإجتهاد لما روى أن عمر رضي الله عنه شاور الصحابة في ذلك فقال علي رضي الله عنه أراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون
وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هذا حد وأقل الحد ثمانون وهذا تصريح منهم بأنهم إنما أثبتوا الحكم بالإجتهاد وضرب من القياس لأنه مع وجدان النص لا يتعلق بمثله

ومن هذا يعرف اندفاع ما يورد من أنه لعلهم أجمعوا عليه لنص لكنه لم ينقل إستغناء الإجماع
وإستدل عليه قوم أيضا بإجماعهم على تحريم شحم الخنزير قياسا على لحمه وعلى اراقة الشيرج والدبس السيال إذا وقعت فيه فارة ماتت قياسا على السمن واستدل المانعون بوجهين
أحدهما أن الإجماع قائم على جواز مخالفة الإمارة والحكم الصادر عن الإجتهاد فلو صدر إجماع عنها لكان يجوز مخالفته وذلك ممتنع
والجواب أن مخالفتها إنما يجوز إذا لم يجمع على الحكم المثبت بها أما بعد الإجماع فلا يجوز مخالفتها
والثاني أن الإمارة مختلف فيها إذ من الأمة من يعتقد بطلان الحكم بها والجواب وذلك يصرفه عن الحكم بها والجواب أن ذلك منقوض بالعموم وخبر الواحد إذ وقع الخلاف فيهما كما مر ويجوز صدور الإجماع عنها اتفاقا
قال الثاني الموافق لحديث لا يجب أن يكون منه خلافا لأبي حنيفة وأبي عبد الله لجواز اجتماع دليلين
الإجماع الموافق لمقتضى دليل إذا لم يعلم له دليل آخر لا يجب أن يكون مستندا إلى ذلك الدليل لاحتمال أن يكون له دليل آخر وهو مستنده ولم ينقل إلينا استغناء بالإجماع
وقال أبو عبد الله البصري أن يكون مستندا إليه والأصناف أن أبا عبد الله إن أراد أنه كذلك على سبيل غلبات للظنون فهو حق إذ الأصل عدم دليل غيره والاستصحاب حجة وينبغي أن يحمل على ذلك ما نقله ابن برهان عن الشافعي من موافقة مذهبه لرأي أبي عبد الله البصري
وقد فصل أبو الحسين في المعتمد فقال إن كان الخبر نصا متواترا لا يحتاج معه إلى استدلال طويل واجتهاد
فيعلم أنهم أجمعوا لأجله وإن أحتاج في الإستدلال به إلى استدلال طويل

وبحث لم يجب أن يكون هو المستند وكذلك إن كان من أخبار الآحاد ولم يرو لنا أنه ظهر فيهم أو روى أنه ظهر فيهم لكن يخبر واحد أيضا وإن روي بالتواتر وجب أن يكون عنه
قال الثالثة لا يشترط انقراض المجمعين لأن الدليل قام بدونه قيل وافق الصحابة على منع بيع المستولدة ثم رجع ورد بالمنع
إختلفوا في إنقراض العصر هل هو شرط في اعتباره الإجماع على مذاهب
أحدها وعليه أكثر الشافعية والحنفية انه لا يشترط واختاره الإمام واتباعه وابن الحاجب
والثاني يشترط وهو رأي أحمد وإبن فورك
والثالث أنه يشترط في السكوتي دون القول وهو مذهب الأستاذ واختاره الآمدي
والرابع نقل إبن الحاجب عن إمام الحرمين إن كان عن قياس اشترط وإلا فلا والذي قاله في البرهان ما ملخصه أن المرضى عنده ان الإجماع ينقسم إلى مقطوع به وإن كان في مظنة الظن فلا يشترط فيه الانقراض ولا طول المكث بعد قوله وإلى حكم مطلق يسنده المجمعون إلى الظن بزعمهم فلا بد فيه من أن يطول عليه الزمان فإذا طال ولم ينقدح على طوله لواحد منهم خلاف فهذا يلتحق بقاعدة الإجماع فإن امتداد الأيام تبين التحاقهم بالمجمعين وترفعهم عن رتبة المترددين فالمعتبر ظهور الإصرار بتطاول الزمان
حتى لو قالوا عن ظن ثم ماتوا على الفور قال فلست أرى ذلك إجماعا من جهة أنهم أبدوا وجها من الظن ثم لم يتضح اصرارهم عليه انتهى وعرفت من كلامه أن الانقراض في نفسه عنده غير مشروط ولا معتبر في حالة من الأحوال وهو خلاف مقتضى نقل ابن الحاجب عنه
والخامس أنه إذا لم يبق من المجتمعين إلا عدد ينقص عن أقل عدد التواتر فلا تكترث ببقائهم وتحكم بانعقاد الإجماع حكاه القاضي في مختصر التقريب

وأشار إليه ابن برهان في الوجيز واستدل المصنف على ما اختاره بأن دليل الإجماع ليس مقيدا بالإنقراض فلا يكون شرطا فيه واحتج الخصم بأن عليا رضي الله عنه سأل عن بيع أمهات الأولاد فقال كان رأي ورأى عمر أن لا يبعن وقد رأيت الآن بيعهن فقال له عبيدة السلماني رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك فدل قول عبيدة على أن الإجماع كان حاصلا مع أن عليا خالفه والجواب أن منع ثبوت الإجماع قبل الرجوع فإن قول عبيدة رأيك في الجماعة يدل على منع بيعهن كان رأي الجماعة ولا يدل على أنه كان رأي كل الأمة وأنما أراد أن ينضم قول علي إلى قول عمر لأنه رجح قول الأكثر على الأقل
هذا تقرير قوله ورد بليغ وقد يقال المراد الرد بمنع رجوع علي والتقرير الأول هو الذي في المحصول
قال الرابعة لا يشترط التواتر في نقله كالسنة
الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة عند الإمام والآمدي واتباعهما لأن الإجماع دليل من الأدلة فلا يشترط التواتر في نقله قياسا على السنة وخالف أكثر الناس فاشترطوا التواتر في نقله قال الآمدي والمسألة دائرة على اشتراط كون دليل الأصل مقطوعا به وعلى عدم اشتراطه فمن اشترط القطع منع أن يكون خبر الواحد مفيدا في نقل الإجماع ومن لم يشترط لم يمنع وكلام الآمدي يشعر بأن الخلاف ليس مبنيا على هذا الأصل بل هو جار مع القول بأن أصل الإجماع قاعدة ظنية قال فكيف القول في تفاصيله
قال الخامسة إذا عارضه نص اول القابل له وإلا تساقط
إذا عارض الإجماع نص من كتاب أو سنة فإن قبل أحدهما التأويل أول سواء كان القابل الإجماع أم النص توفيقا بين الدليلين ولا يختص التأويل بالنص على خلاف ما فهم الجار بردي وإن لم يقبل أحدهما التأويل تساقطا لأن العمل بهما غير ممكن والعمل بواحد دون الآخر ترجيح من غير مرجح وبتمام هذه المسألة نجز كتاب الإجماع والله الموفق

-

الكتاب الرابع في القياس
وهو إثبات حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت أقول القياس في اللغة التقدير ومنه قست الأرض بالخشبة أي قدرتها بها والتسوية ومنه قاس النعل بالنعل أي حاذاه وفلان لا يقاس بفلان أي لا يساويه قال الشاعر ... خف يا كريم على عرض يدنسه ... مقال كل سفيه لا يقاس بكا ...
وبهذا المعنى يطلق على القياس المسطلح لأن الفرع يساوي الأصلي في الحكم وأما تعريفه في الاصطلاح بين العلماء فقد ذكروا فيه أمور أقربها ما ذكره المصنف وهو الذي أبداه الإمام في العالم وهو إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت قال الإمام ونعني بالإثبات القدر المشترك بين العلم والإعتقاد والظن سواء أتعلقت هذه الثلاثة بثبوت الحكم أم بعدمه وأما المثال فبديهي التصور لأن كل عاقل يعرف بالضرورة كون الحار مثلا للحار في كونه حارا ومخالفا للبارد في ذلك وإنما قلنا إثبات مثل حكم ولم نقل إثبات حكم لأن عين الحكم الثابت في الأصل ليس هو عين الثابت في الفرع بل مثله وأما الحكم فسبق تفسيره في أول الأصول وأما المعلوم فلسنا نعني به مطلق متعلق العلم فقط بل ومتعلق الإعتقاد والظن والفقهاء يطلقون لفظ العلم على هذه الأمور وإنما قلنا معلوم ولم نقل موجود ولا

شيء لجريان القياس في المعدوم والموجود والشيء عند الأشاعرة لا يطلق على المعدوم وإنما لم يذكره بدل المعلومين الأصل والفرع لرفع إيهام كون الفرع والأصل وجوديين وذلك لأن الأصل ما يتولد منه شيء والفرع ما تولد عن شيء وإنما قلنا في معلوم آخر لأن القياس كما عرفت هو التسوية بين الأمرين فيستدعي وجود المنتسبين وإنما قلنا لاشتراكهما في علة الحكم لأن القياس لا يوجد بدون العلة وإنما قلنا عند المثبت ليشمل الصحيح والفاسد في نفس الأمر وإنما لم يقل بدل المثبت المجتهد ليعم كل مثبت من مجتهد وغيره وقوله مثل حكم كلاهما مضاف بغير تنوين أعني مثل وحكم ومعلوم مضاف إليه منون ولهذا قال في المعالم إثبات مثل حكم صورة لصورة أخرى وهو أوضح
قال قيل الحكمان غير متماثلين في قولنا لو لم يشترط الصوم في صحة الاعتكاف لما وجب بالنذر كالصلاة قلنا تلازم والقياس لبيان الملازمة والتماثل حاصل على التقدير والتلازم والاقتران لا نسميها قياسا
اعترض على حد القياس هذا بأنه غير جامع لأنه ينتقض بقياس العكس وهو تحصيل نقيض حكم معلوم في غيره لافتراقهما في علة الحكم وقياس التلازم والمقدمتين والنتيجة أما قياس العكس فكقول الحنفي لو لم يكن الصوم شرطا لصحة الاعتكاف مطلقا لم يصر شرطا بالنذر قياسا على الصلاة فإنها لما لم تكن شرطا لحصة الاعتكاف في الأصل لم تكن شرطا له بالنذر إذ لو نذر أن يعتكف مصليا لم يلزمه الجمع بخلاف ما لو نذر أن يعكتف صائما والثابت في الأصل نفي كون الصلاة شرطا لها وفي الفرع إثبات كون الصوم شرطا فحكم الفرع ليس حكم الأصل بل يقتضيه ونظير هذا المثال أيضا من مذهبنا قولنا أن المفوضة يجب لها المهر بالوطئ وعلى أصح القولين والقول الآخر أنه يجب بالقصد واتفق القولان على أن الوطئ في هذا النكاح لا بد له من مهر إنما الخلاف في أنه بماذا يجب وخرج القاضي الحسين وجها أنه لا يجب مهر أصلا فيما إذا وطئ المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن ظانا أنها تباح بالإذن حيث لا يجب المهر في أحد القولين بجامع حصول الملك من مالك

البضع فنقول في الدليل على أنه لا بد من مهر ردا على هذا التخريج الزنا لو شرط فيه مال لم يثبت لأن المال لا يتعلق به شرعا أصلا فلم يتعلق به شرعا فكذلك الوطئ المحترم إذا نفى عنه وجب أن لا ينتفي لأنه يتعلق به المال أصلا شرعا فلم ينتف عنه بالشرط فالثابت في الأصل كون المال لا يجب أصلا وفي الفرع الوجوب والجواب أن هذا في الحقيقة تمسك بنظم التلازم بالقياس وإثبات لإحدى مقدمتي التلازم بالقياس فإنك تقول في المثال الأول لو لم يكن الصوم شرطا للاعتكاف لم يصر شرطا له بالنذر فهو شرط له مطلقا فهذا تمسك بنظم التلازم واستثناء لنقيض اللازم لإثبات نقيض الملزوم ثم أنك تثبت المقدمة الشرطية بالقياس وهو أن ما لا يكون شرطا للشيء في نفسه لا يصير شرطا له بالنذر كما في الصلاة وقيس عدم شرطية الصوم بالنذر على عدم شرطية الصلاة بالنذر بجامع كونهما غير شرطين أحدهما في الوقائع بالإتفاق والثاني على تقدير أن يكون الصوم ليس شرطا في الواقع فوضح أن هذا قياس الطرد لا قياس العكس وظهر دخوله في الحد وهذا الجواب هو المعنى بقوله قلنا تلازم إلى آخره وأما قوله والتلازم والإقتراني لا نسميهما قياسا فهو جواب عن سؤال مقدر وهو ما أشرنا إليه من أنه ينتقض بقياس التلازم والمتقدمين والنتيجة وتقريره أما قياس التلازم وهو القياس الإستثنائي فهو كقولنا إن كان هذا إنسانا فهو حيوان لكنه إنسان فهو حيوان لكنه ليس بحيوان فليس بإنسان وأما المقدمتان والنتيجة وهو القياس الإقتراني فكقولنا وكل جسم مؤلف وكل مؤلف محدث وكل جسم محدث فحكم النتيجة ليس حكم المقدمتين وأجاب بأن ما ذكرتموه من الاستثنائي والاقتراني لا نسميهما قياسا في اصطلاحنا وإن كان المنطقيون يسمونها قياسا وإنما لا نسميهما قياسا لأن القياس هو التسوية وهي لا تحصل إلا عند تشبيه صورة بصورة وليس الأمر كذلك في التلازم وفي المقدمتين والنتيجة فإن قلت بل هي حاصلة في هذين الموضوعين لأن الحكم في كل واحدة من المقدمتين معلوم وفي النتيجة مجهول فاستلزام المطلوب من هاتين المقدمتين يوجب صيرورة الحكم المطلوب مساويا للحكم في المقدمتين في الصفة المعلومة قلت لو كفى هذا الوجه في إطلاق اسم القياس لوجب أن يسمى كل

دليل قياسا لأن التمسك بالنص جعل مطلوبه مساويا لذلك النص في المعلومية فلو صح ذلك لامتنع أن يقال ثبت الحكم في محل النص بالنص لا بالقياس والله أعلم قال الإمام فإن أردنا أن نذكر عبارة في تعريف القياس شاملة لجميع هذه الصورة نقول القياس قول مؤلف من أقوال إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر وقد تم شرح التعريف المذكور في الكتاب للقياس المصطلح وما أورد عليه مما أشار إليه صاحب الكتاب
ولقائل أن يقول يرد عليه أمران أحدهما قياس الشبه فإنه خارج عنه إذ لا علة فيه معينة لا سيما الشبه الصوري عند من اعتبره وثانيهما قياس لا فارق فإنه ليس فيه علة عند المجتهد وأورد الآمدي اعتراضا وقال إنه مشكل لا محيص عنه وهو أن الحكم في الفرع متفرع على القياس وليس ركنا في القياس لأن نتيجة الدليل لا تكون ركنا في الدليل لما فيه من الدور وعند ذلك فيلزم منه أخذ إثبات الحكم في الفرع في حد القياس وهو دور قال الهندي وهذا الإشكال ضعيف جدا لأن المأخوذ في حد القياس إنما هو الإثبات لا الثبوت الذي يترتب عليه ونتيجة القياس هو الثبوت لا الإثبات قلت وهذا حق والعجب من الآمدي أنه لما ذكر حد القاضي وهو قول القياس حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة لهما أو نفيهما عنهما قال حمل الفرع على الأصل معناه التشريك في الحكم ثم اعترض بهذا الإشكال الذي فخم أمره وقال المختار في حده أن يقال أنه عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في حكم الأصل بناء على جامع بينهما في نظر المجتهد قال وهذه العبارة جامعة مانعة وافية بالغرض عارية عما يعترضها من التشكيكات العارضة لغيرها ونحن نقول إن كان الاستواء هو التسوية والتسوية هي الحمل فهي موافقة لحد القاضي سواء من غير فرق وقد تم قوله فإن قوله في إثبات حكم لهما إلى آخره شرح لمعنى الحمل وكذا هو شرح لمعنى الاستواء إذ هو مستلزم لثبوت الحكم في الفرع فلم يخرج بذلك عن كونه جعل حكم الفرع ركنا في القياس فيرد عليه ما أورده وإن كان الاستواء غير التسوية فيرد عليه ما ذكرناه مع اختلاف التسوية والاستواء في

المعنى فالعجب من اختياره لهذا الحد بعد اعتراضه على الأول بما زعم أنه لا محيص عنه وهو لازم له إن كان ما أورده صحيحا وينفرد ما قاله هو بأنه وضع الاستواء موضع التسوية وهما غيران
قال وفيه بابان الباب الأول في بيان أنه حجة وفيه مسائل الأولى في الدليل عليه يجب العمل به شرعا وقال القفال والبصري عقلا والقاساني والنهرواني حيث العلة منصوصة أو الفرع بالحكم أولى كتحريم الضرب على تحريم التأفيف وداود أنكر التعبد به وإحالة الشيعة والنظام
يجوز التعبد بالقياس في الشرعيات عقلا ويجب العمل به شرعا وبه قال السلف وجمهور الخلف وزاد القفال من أصحابنا وأبو الحسين البصري فزعما أن العقل موجب لورود التقييد بالقياس ووافقهما أبو بكر الدقاق من أصحابنا كما نقله الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع ومن الناس من أنكر التعبد به وقد نقله في الكتاب عن داود وهو قضية نقل غيره ونقل الإمام عن داود أنه أحاله عقلا وفي كل من النقلين نظر فقد قال أبو محمد ابن حزم والآمدي أن داود يقول بالقياس إذا كانت العلة منصوصة كمذهب القاساني والنهرواني الآتي ذكره إن شاء الله تعالى قال ابن حزم وأما نحن فلا نقول بشيء من القياس وأما النظام والشيعة فأحالوه عقلا كذا نقل المصنف والنقل عن النظام ليس بجيد لأنه خصص المنع من التعبد بشرعنا خاصة قال لأن مبناها على الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات وذلك يمنع من التعبد بالقياس وأما ما ذكره المصنف بعد من أن القياس

الجلي لم ينكره أحد فمدخول ولو صح لكان وجها يرد عليه هنا وأما القاشاني والنهرواني فقالا يجب العمل بالقياس في صورتين
إحداهما أن تكون العلة منصوصة قالا وذلك أما بصريح اللفظ أو بما يماثله كذا نقله عنهما القاضي في مختصر التقريب وإمام الحرمين والغزالي والإمام والآمدي وغيرهم
والثانية أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل ومثل له في الكتاب بقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف وقد سبق منه أن هذا من باب المفهوم وسيأتي النظر في أن ذلك هل هو متناف إن شاء الله تعالى وهذا إيضاح ما في الكتاب مما يتعلق بمذهب القاشاني والنهرواني وهو في النقل عنهما تابع لأصحابه وقد نقل عنهما الآمدي أنهما لم يقضيا بوقوع القياس إلا فيما كانت عليه منصوصة أو مومأ إليها فقط والذي نقله الغزالي أنهما خصصاه بموضعين
أحدهما النص والإيماء كما عرفت
والثاني الأحكام المعلقة بالأسباب كرجم ماعز لزناه والمعلق باسم مشتق كالسارق والسارقة قال الغزالي وكليهما يعنيان بهذا القسم تنقيح المناط ويعترفان به وكلام إمام الحرمين في البرهان قريب من ذلك فإنه قال المقبول عندهما من مسالك النظر في مواقع الظنون شيئان أحدهما ما دل من كلام الشارع على التعليل به ولهذا صيغ منها ربطه الحكم بالأسماء المشتقة كالزانية والزاني ومن هذا القبيل سها فسجد زنى ماعز فرجم فالفاء تقتضي ربطا وتسبيبا وذلك مشعر بالتعليل قال وربما يلحقون به الفحوى في مثل قوله تعالى ولا تقل لهما أف والأمر الثاني ما يكون في معنى المنصوص عليه بالمنصوص عليه كقوله عليه السلام لا يبولن أحدكم في الماء الراكد قالا لو جمع جامع بولا في وعاء وصبه في الماء الراكد كان في معنى البول في الماء انتهى وكذلك كلامه في مختصر التقريب والإرشاد للقاضي

أبي بكر وقال إن القياسين اختلفوا فذهب قوم إلى أن ما صاروا إليه ليس قولا بالقياس وإنما هو تتبع منهما للنص وقال آخرون وهو الحق هو قول ببعض القياس وقال إمام الحرمين في البرهان إن أبا هاشم قال بهذين الوجهين وزاد ثالثا وهو ما إذا طولب المكلف بشيء واعتاص عليه الوصول إليه يقينا فيتمسك بالإمارات المفضية إلى الظن ومثل أبو هاشم هذا بوجوب استقبال القبلة عند أشكال جهاتها انتهى وهذا من أبي هاشم يحتمل أن يكون منعا من القياس إلا في الأماكن الثلاثة ويكون حينئذ مذهبا آخر في القياس لم يتقدم له ذكر ويحتمل أن يكون منعا من العمل بالظن مطلقا إلا فيها وفي الباب مذهب آخر ذهب إليه أبو الفضل بن عبدان من أصحابنا أن من شرط صحة القياس حدوث حادثة تؤدي الضرورة إلى معرفة حكمها
تنبيه ذهب الأكثرون إلى أن دلالة الدليل السمعي عليه قطعية وقال بعضهم بل ظنية
قال استدل أصحابنا بوجوه الأول أنه مجاوزة عن الأصل إلى الفرع والمجاوزة اعتبار وهو مأمور به في قوله تعالى فاعتبروا قيل المراد الألفاظ فإن القياس الشرعي لا يناسب صدر الآية قلنا المراد قدر مشترك قيل الدال على الكلي لا يدل على الجزئي قلنا بلى ولكن ههنا جواز الاستثناء دليل العموم قيل الدلالة ظنية قلنا المقصود العمل فيكفي الظن
استدل أصحابنا على حجية القياس بوجوه أربعة
أحداها أن القياس مجاوزة اعتبار والاعتبار مأمور به فالقياس مأمور به أما المقدمة الأولى فلأنه مجاوزة عن الأصل إلى الفرع
وأما الثانية فلأن الاعتبار مشتق من العبور وهو المجاوزة والعبور تقول عبرت عليه وعبرت النهر

وأما الثالثة فقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار أمر بماهية الاعتبار وهو أمر شامل لجميع أنواع الاعتبار ومن جملة أفراده القياس فوجب أن يكون الاعتبار مأمورا به واعترض الخصم أولا بأنا لا نسلم أن الاعتبار المجاوزة بل المراد من المأمور به الاتعاظ ودليل ذلك أن القياس الشرعي لا يناسب صدر الآية وهو قوله تعالى يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فإنه لا يقال بعد ذلك فقيسوا الذرة على البر إذ هو حينئذ ركيك من الكلام ولا يليق بالشرع وأجاب عنه بأن المراد بالاعتبار القدر المشترك بين الاتعاظ والقياس وهو المجاوزة إذ في كل منهما معناها بخلاف ما لو جعلناه مختصا بالاتعاظ فإنه يلزم إما الاشتراك أو المجاز على خلاف الأصل وإذا حملنا الاعتبار على مطلق المجاوزة لا تلزم الركاكة لأنها إنما تلزم أن لو خصصنا الاعتبار بالقياس الشرعي وليس كذلك ثم اعترض الخصم ثانيا بأنا سلمنا أن الاعتبار المجاوزة لكن لا يلزم منه الأمر بالقياس لأن الآية دالة على وجوب مطلق الاعتبار والدال على ما به الاشتراك غير دال على ما به الامتياز وغير ملتزم له وهو معنى قوله الدال على الكلي لا يدل على الجزئي ولا يلزم الأمر بالقياس الذي هو جزئي للكلي الذي هو مطلق الاعتبار وأجيب بأن ما ذكر صحيح ولكن هنا يقتضي العموم لوجهين
أحدهما وهو المذكور في الكتاب أنه يحسن أن يقول اعتبروا إلا الاعتبار الفلاني وقد بينا في العموم أن الاستثناء يخرج ما لولاه لدخل فوضح أن كل اعتبار داخل تحت هذه اللفظ
الثاني أن ترتيب الحكم على المسمى يقتضي أن يكون علة ذلك الحكم هو ذلك المسمى وذلك يقتضي أن علة الأمر بالاعتبار كونه اعتبار فيلزم أن يكون كل الاعتبار مأمورا به
ولقائل أن يقول على الأول لا نسلم جواز الاستثناء إذا فسر بالتفسير المذكور وهو ما لولاه لوجب دخوله إذ النكرة في سياق الإثبات لا تعم ثم ولو فسر الاستثناء بأنه ما لولاه لصح دخوله لم يأت ما ذكر أيضا لأنه ينتقض

بالأمر بكل ماهية كلية إذ يجوز فيه هذا النوع من الاستثناء نحو صل الصلاة الفلانية مع أن الأمر بالماهية الكلية ليس أمرا بجزئياتها كذا قاله صفي الدين الهندي وهو صحيح وعلى الثاني أن هذا إثبات للقياس بالقياس أو أن كون ترتيب الحكم على الوصف مشعرا بالعلية قياس فيتوقف ثبوته على ثبوت أصل القياس فلا يثبت به أصل القياس وإلا يلزم الدور فإن قلت قد قال بحجية هذا النوع من القياس بعض من أنكر أصل القياس لكون العلة فيه معلومة بالإيماء فيصح إثباته به بالنسبة إليه قلت صحيح لكن لا يصح إثباته بالنسبة إلى منكر أصل القياس والكلام في هذا المقام ليس إلا معه قال صفي الدين الهندي ويمكن أن يجاب عن اعتراض الخصم بوجه ثالث وهو أن الأمر بالماهية والكلية وإن لم يقتض الأمر بجزئياتها لكن يقتضي تخيير المكلف بالإتيان بكل واحد من تلك الجزئيات بدلا عن الآخر عند عدم القرينة المعينة لواحد منها أو لجميعها ثم التخيير بينها يقتضي جواز فعلى كل واحد منهما ويلزم من جواز فعلى القياس وجوبه لأن القول بجوازه مع عدم وجوبه خارق للإجماع ثم اعترض الخصم ثالثا بأنا ولو سلمنا أن الآية الدالة على الأمر بالقياس لكن التمسك بها ممتنع لأن الاستدلال بالعموم إنما يفيد الظن والتمسك بالظن في المسائل العلمية التي هي الأصول لا يجوز وأجاب المصنف بأن المقصود من حجية القياس العمل به لا مجرد اعتقاده لأصول الدين والعمليات يكفى فيها الظن فكذلك وسائلها والله أعلم ولم يجب الإمام عن هذا السؤال بل قال إنه عام في كل السمعيات فلا تعلق له بخاصية هذه المسألة وأجاب الهندي بمنع أن تكون المسألة علمية وجعلها ظنية وهذا واضح على أحد الرأيين الذي حكيناهما في أول الباب
قال الثاني خبر معاذ وأبي موسى قيل كان ذلك قبل نزول أكملت قلنا المراد الأصول لعدم النص على جميع الفروع
الوجه الثاني من الوجوه الدالة على حجية القياس من السنة وتلك في قصتين قصة أبي موسى وقصة معاذ أما قصة معاذ فروى عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم لما بعثه إلى اليمن قال له كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال

فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أجتهد رأيي ولا آلو قال فضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم في صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله والمراد بالرأي القياس قال إمام الحرمين ولا يجوز أن يقال أراد بالرأي الاستنباط من الكتاب والسنة فإن ذلك لو كان على هذه الوجه لكان تمسكا بالكتاب والسنة وقد قال في البرهان أيضا أن الشافعي رضي الله عنه احتج ابتداء على إثبات القياس بحديث معاذ يعني هذه قال والحديث مدون في الصحاح متفق على صحته لا يتطرق إليه تأويل قلت وهذا عجيب من إمام الحرمين فقد قال إمام الصناعة أبو عبد الله البخاري لا يصح هذا الحديث وقال الترمذي ليس إسناده عندي بمتصل وأما قصة أبي موسى وقد جمع في المحصول وغيره بين القصتين وجعلهما واحدة ولا أعرف ذلك بل روى البيهقي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه كتابا بليغا وفيه ثم قايس الأمور وأعرف الأمثال والأشباه رواه البيهقي وقال هو كتاب معروف مشهور لا بد للقضاة من معرفته والعدل به وقد اعترض الخصم على هذا الدليل الثاني فإنه وإن دل على حجية القياس وقت تقريره عليه السلام فلا يدل على حجيته دائما في جميع الأزمنة بل ذلك قبل نزول قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم فإن إكمال الدين إنما يكون بالتنصيص على الأحكام فما نزلت هذه الآية استغنى عن القياس والجواب أن الأصل عدم التخصيص بوقت دون وقت وأيضا فلم يقل أحد أن القياس كان حجة إلى حين نزول هذه الآية ثم زال والمراد بقوله أكملت

لكم دينكم الأصول أما التفاريع فالآية مخصوصة بالنسبة إليها لعدم شمول النص الصريح لجميع الجزئيات هذا تقرير ما في الكتاب ولك أن تجيب عن هذا الاعتراض بما هو أحسن من هذا الجواب فتقول المراد من قوله أكملت لكم دينكم بيان جميع ما يحتاج إليه في الدين والآية عامة على هذا التقدير ثم للبيان قد يكون بلا واسطة كما في التخصيص وقد يكون بواسطة كما إذا بين المدارك للأحكام فلم قلتم أنه لا يحصل ذلك إلا إذا كان البيان بلا واسطة وحينئذ لا ينافي إكمال الدين العمل بالقياس بل يكون من إكمال شرعه ولا يحتاج على هذا التقرير إلى تخصيص الآية بل تكون باقية على عمومها
قال الثالث أن أبا بكر رضي الله عنه قال في الكلالة أقول برأي أبي الكلالة ما عدا الوالد والولد والرأي هو القياس إجماعا وأمر عمر أبا موسى في عهده بالقياس وقال في الجد أقضي برأيي وقال له عثمان إن اتبعت رأيك في الإجماع فسديد وقال علي اجتمع رأيي ورأي عمر في أم الولد وقاس ابن عباس الجد على ابن الابن في الحجب ولم ينكر عليهم وإلا لاشتهر قيل ذموا أيضا قلنا حيث فقد شرطه توفيقا
الوجه الثالث مما يدل على أن القياس حجة وهو معتمد الجمهور الإجماع وتقريره أن العمل بالقياس مجتمع عليه بين الصحابة لصدوره من طوائف منهم من غير إنكار وكلما كان كذلك كان إجماعا لما تقدم في كتاب الإجماع وأما صدوره عن طوائف منهم فلما روى أن أفضل الصحابة الصديق رضي الله عنه قال حين سئل عن الكلالة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والرأي هو القياس لأنه يقال أقلت هذا برأيك أم بالنص فدلت مقابلته للنص على أنه للاستدلال وادعى المنصف في ذلك الإجماع وكذا ادعى صفي الدين الهندي في النهاية واستدل عليه بأن أصحابنا رووا عن السلف كلاما كثيرا أنهم عملوا بالرأي وقالوا الرأي هو القياس وساعدناهم على ذلك فدل على أن الرأي هو القياس وفاقا فإن قلت هل ذلك باعتبار أصل وضعه أو باعتبار النقلي قلت ألا ظهر أنه بطريق النقل مع أن ذلك مما لا حاجة لنا إليه مع ثبوت ما ذكرناه وأمر عمر رضي

الله عنه أبا موسى في عهده بالقياس حيث قال أعرف الأشباه والنظائر ثم قايس بين الأمور وقد تقدم هذا وقال عمر أيضا في الحد أقضي برأيي وقال عثمان لعمر إن اتبعت رأيك فسديد وإن تتبع رأي من قبلك يعني أبا بكر فنعم الرأي وقال علي اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد على أن لا يبعن وقد رأيت الآن بيعهن وقال ابن عباس الجد على ابن الابن في حجب الأخوة وقال ألا يتقي الله زيد بن ثابت أن يجعلوا ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا فثبت صدور القياس بما قلنا وبعيره من الآثار الكثيرة التي ينكرها إلا معاند وقد تواتر القدر المشترك منها قال القاضي في كتاب التقريب والإرشاد وقد صار تمسكهم بالرأي وتسويغهم التعلق بطريق الاجتهاد مدرك اختلافهم على الجملة ضرورة وإن كانت صورة الاختلاف نقلت آحادا واعترض الخصم على هذا الدليل بأنه معارض بمثله فإنه نقل عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم ذموه أيضا وأنكروه كما روي عن أبي بكر رضوان الله عليه أنه قال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي وقوله تضلني وأي أرض تقلني معناه تحملني وعن عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء الدين وعن علي رضي الله عنه لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظهره إلى غير ذلك من آثار كثيرة والجواب أن معارضة هذا الذم لما ذكرناه أيضا عنهم من العمل به إن ثبتت فالجمع بين الدليلين أولى فيحمل هذا على ما إذا كان القياس غير مستجمع لشرائط وذلك على القياس المستجمع لشرائطه توفيقا بين الدليلين وهذا ما ذكره في الكتاب وهو جواب إجمالي وقد قيل إن المعارضة غير ثابتة وأجيب بوجه تفصيلي أما نقل عن أبي بكر فإنما أراد به قوله في تفسير القرآن ونحن نسلم أنه لا مجال للرأي في ذلك لكونه مستندا إلى محض السمع عن النبي صلى الله عليه و سلم وأهل اللغة بخلاف الفروع الشرعية وأما قول عمر رضي الله عنه فإنما قصد به ذم من ترك الموجود من الأحاديث وعدل إلى الرأي مع أن العمل به مشروطا بعدم النصوص ولذلك سماهم بأصحاب الرأي وإلا فمن قال بالكتاب والسنة والرأي ويقال له صاحب الرأي لأنه لم يتمحض قوله بالرأي وأما قول علي رضي الله عنه لو كان الدين بالقياس إلى آخره فيجب

حمله على أنه لو كان جميع الدين بالقياس ويكون المقصود منه أنه ليس كلما أتت به السنن على ما تقتضيه القياس
قال الرابع إن ظن تعليل الحكم في الأصل بعلة توجد في الفرع يوجب ظن الحكم في الفرع والنقيضان لا يمكن العمل بهما ولا الترك لهما والعمل بالرجوع ممنوع فيبقى الراجح
هذا وجه عقلي وتقريره أن المجتهد إذا ظن أن الحكم في الأصل معلل بعلة موجودة في الفرع حصل له ظن الثبوت الحكم في الفرع والظن بوجود الشيء يستلزم الوهم بعدمه لعدم انفكاك كل من الظن أو الوهم عن الآخر والعمل بهم أو الترك لهم يستلزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما والعمل بالوهم المرجوح خلاف المعقول والمشروع فتعين العمل بالراجح لأنا استقرينا أمور الشرع كلها جزئية وكلية فوجدنا الراجح يجب العمل به لقوله صلى الله عليه و سلم نحن نحكم بالظاهر وما أشبه ذلك وهذا معنى قولنا يتعين العمل بالراجح وليس المراد منه أن كونه راجحا صفة يقتضي الثواب على فعله والعقاب على تركه حتى يقال عليه الأحكام عندنا إنما هي من جهة الشرع دون العقل وإنما المراد بتعينه أن الشرع تقرر منه ذلك فالعقل أدرك كونه راجحا والشرع حكم بالعمل بالراجح وللعقل أهلية الإدراك بلا نزاع بين العقلاء وقد قيل إن في هذا الدليل نظرا لجواز ارتفاعها بارتفاع محل الحكم وذلك بأن لا يكون في الواقعة حكم شرعي البتة ويكون الأمر فيها محالا على البراءة الأصلية بناء على أنه لا يجب أن يكون في كل حادثة حكم شرعي
قال احتجوا بوجوه الأولى قوله تعالى لا تقدموا وإن تقولوا ولا نقف ولا رطب إن الظن قلنا الحكم مقطوع والظن في طريقه
ذكر من شبه الخصوم ستة أولها ما تعلقوا به من الكتاب وذلك في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله والقول بالقياس تقديم بين يدي الله ورسوله إذ هو قول بغير الكتاب والسنة وأيضا

فالقياس إنما يفيد الظن والظن منهي عنه لقوله تعالى وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وقوله ولا تقف ما ليس لك به علم أي ولا تتبع ما لا تعلم فهي نهي عما ليس بعلم ومن جملته الظن وأيضا قوله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين يقتضي الاستغناء عن القياس وأيضا قوله أن الظن لا يغني من الحق شيئا وأجاب في الكتاب بأن الحكم مقطوع به لا مظنون والظن وقع في طريقه كما تقرر في أول الكتاب فإن قلت هذا يشعر بأنه سلم أن الظن مذموما لكنه وقع في طريق الحكم لا فيه وعلى هذا يكون الطريق مذموما ويكون الحكم كذلك لأنه مستفاد من الطريق المذموم قلت حاصل جوابه أنه منع كون الحكم مظنونا حتى لا يستدل الخصم عليه بما استدل ولا يلزم من هذا المنع تسليم أن الظن مذموم ولا إشعار له به ولو سلمنا أنه يشعر بذلك فقال الشيرازي شارح هذا الكتاب لا نسلم أن المستفاد عن المذموم مذموم ألا ترى إلى جواز كذب المقدمتين مع صدق النتيجة مثل قولك كل إنسان حجر وكل حجر حيوان ينتج كل إنسان حيوان وهو صحيح من كذب مقدمتيه ولقائل أن يقول كل انسان حيوان في هذا المثال صورة نتيجة لا نتيجة في نفسه وصدقه لنفسه لا لكون نتيجة فلا نسلم أن هاتين المقدمتين ينتجان هذا القول الصادق واعلم أن هذا الذي أجاب به المضيف ليس شاملا للآية الأولى ولا للآية الرابعة والجواب عن الآية الأولى أنا لا نسلم أن العمل بالقياس تقديم بين يدي الله ورسوله لأنه ثبت بالكتاب والسنة كما تقدم وعن الرابعة بأنه عام مخصوص لعدم اشتمال الكتاب على جميع الجزئيات وقد أجيب عما استدل به الخصم على المنع من الظن بوجهين آخرين لم يذكرهما في الكتاب أحدهما أنه حجة عليه فإن القول ببطلان القياس ليس معلوما عندك بل مظنون ضرورة أنه لا قاطع على فساده والذاتي أنه يجب تخصيصه بالأصول دون الفروع لوجوب العمل بشهادة الشهود وحكم القاضي وفتوى المفتي واجتهاد المجتهد في الماء

والتراب والقبلة وقت الصلاة وهلال رمضان وقيم المتلفات وغلبة السلامة في ركوب البحر وخبر الواحد أو العموم وقول القدر في أرش الجنايات والنفقات وجزاء الصيد وصدق الحالف في مجلس الحكم كل ذلك مظنون ويرفع به النص في الأصل
قال الثاني وقوله صلى الله عليه و سلم تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا الثالث ذم بعض الصحابة له من غير نكير قلنا معارضان بمثليهما فيجب التوفيق الرابع نقل الإمامية إنكاره عن العترة قلنا معارض بنقل الزيدية الخامس أنه يؤدي إلى الخلاف والمنازعة وقد قال تعالى ولا تنازعوا فتفشلوا قلنا الآية في الآراء والحروب لقوله عليه السلام اختلاف أمتي رحمة
الشبهة الثانية للخصوم ما روى من قوله صلى الله عليه و سلم تعمل هذه الأمة برهة أي قطعة من الزمان بكتاب الله ثم تعمل برهة بسنة رسول الله ثم تعمل برهة بالرأي فإذا قالوا بالرأي فقد ضلوا وأضلوا الثالثة الإجماع فإنه قد نقل عن بعض الصحابة ذم الرأي من غير نكير فكان إجماعا والجواب عن هذين الدليلين بأنهما معارضان بمثليهما سنة وإجماعا كما سلف فيجب الجمع بين الدليلين بأن يحمل الذم على القياس الفاسد دون الصحيح كما سبق هذا ما في الكتاب والحديث المشار إليه لا تقوم به الحجة ولا يصلح معارضا لأن رواية جبارة بن المفلس وهو ضعيف حماد بن يحيى الأبح وقد قال فيه البخاري يهم في الشيء بعض الشيء قال ابن عدي وسمعت ابن حماد يقول قال السعد بن الأبح روي عن الزهري حديثا معضلا يعني هذا الحديث ورواه حماد عن الزهري كما ذكر عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا فإن قلت سلمنا ضعف الحديث ومعارضته لما تقدم ومعارضة الإجماع أيضا وأنه يجب التوفيق بينهما ولكن لا نسلم أن التوفيق متعين بما ذكرت من الطرق بل جاز أن بعضهم كان قائلا بالقياس حين كان البعض الآخر منكرا ثم لما انقلب المنكر مقرا انقلب المقر منكرا وحينئذ يكون كل واحد منهم قائلا بالقياس ومنكرا باعتبار حالتين فلا تناقض وتكون الروايتان صحيحتين مع أنه لا

يحصل الإجماع على صحته ولا على بطلانه فلا يصح لك ولا لنا الاستدلال بالإجماع قلت ما ذكرناه من التوفيق أولى لأنه يقتضي بقاء ما كان على ما كان من استمرار كل ذي قول على قوله وتوفيقكم يقتضي التعبير وأيضا فلو وقع ما ذكرتموه لاشتهر لغرابته أو كان في لفظ أحد منهم إشعار بالرجوع الرابعة نقل الإمامية من الشيعة إجماع العترة على أنه لا يجوز العمل بالقياس والجواب أن ذلك معارض بنقل الزيدية منهم حيث نقلوا إجماع العترة على أنه لا يجوز العمل بالقياس والجواب أن ذلك معارض بنقل الزيدية منهم حيث نقلوا إجماع العترة على وجوب العمل به مع أن إجماع العترة غير حجة كما سبق الخامس أن القياس يؤدي إلى الخلاف والمنازعة وكل ما كان كذلك فهو منهي عنه أما الصغرى فلأن القياس مبني على الظن وهو مختلف باختلاف القياسيين وأما بيان الكبرى فلقوله تعالى ولا تنازعوا نهى عن النزاع فاستلزم ذلك النهي عما يفضي إليه والجواب أن الآية إنما وردت في مصالح الحروب لقرينة قوله فتفشلوا وتذهب ريحكم أو أنها محمولة على النزاع فيما يتعين فيه الحق كمسائل الأصول وأما التنازع فيما عدا ذلك فجائز لما روي من قوله صلى الله عليه و سلم اختلاف أمتي رحمة فيحمل الحديث على ما عدا ذلك واعلم أن الحديث المشار إليه غير معروف ولم أقف له على سند ولا رأيت أحدا من الحفاظ ذكره إلى البيهقي في رسالته إلى الشيخ العميد عميد الملك بسبب الأشعري وقد ساقها الحافظ ابن عساكر في التبيين إلا أن البيهقي لم يذكر له إسنادا بل قال روى النبي صلى الله عليه و سلم كذا ولو لم يكن له أصل لما ذكره البيهقي ثم قال البيهقي سمعت الإمام ناصر العمري يقول سمعت القفال المروزي يقول معناه اختلاف هممهم فبهمة واحد في الفقه وآخر في الكلام كاختلاف همم أصحاب الحروف في حرفهم بما فيه مصالح العباد قلت وهذا

تأويل حسن وهو أحسن مما نقله إمام الحرمين في النهاية عن الحليمي من أن معناه اختلافهم في الدرجات والمراتب والمناصب وكلا التأويلين على أنه ليس المراد اختلافهم في الحلال والحرام قال والدي أيده الله القرآن دال على أن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف قال تعالى ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك وقال تعالى ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر وكذا السنة قال عليه السلام إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة والاختلاف على ثلاثة أقسام
أحدها في الأصول وهو المشار إليه في القرآن ولا شك أنه بدعة وضلالة
والثاني في الآراء والحروب هو حرام أيضا لما فيه من تضييع المصالح
والثالث في الفروع كالاختلاف في الحل والحرمة ونحوهما قال والدي أيده الله والذي يظهر لنا ويكاد أن يقطع به أن الاتفاق فيه خير من الاختلاف لكن هل نقلوا الاختلاف ضلال كالقسمين المذكورين ولا كلام ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن منع التقليد يقتضي أنه مثلهما وأما نحن فإنه يجوز التقليد للجاهل والأخذ بالرخصة من أقوال العلماء بعض الأوقات عند مسيس الحاجة من غير تتبع الرخص ومن هذا الوجه يصح أن يقال الاختلاف رحمة إذ الرخص رحمة
قال السادس الشارع فصل بين الأزمنة والأمكنة في الشرف والصلوات في القصر وجمع بين الماء والتراب في التطهير وأوجب التعفف على الحرة الشوهاء دون الأمة الحسناء وقطع السارق القليل دون غاصب الكثير وجلد في الزنا وشرط فيه شهادة أربعة دون الكفر وذلك ينافي القياس قلنا القياس حيث عرف المعنى

الوجه السادس وعليه اعتمد النظام أن مدار شرعنا على الجمع بين المختلفات الإسراء وليلة الجمعة ويومها وشهر رمضان والأشهر الحرم ويومي العيدين ويوم عرفة وكذلك بين الأمكنة كمكة والمدينة والمسجد الأقصى مع الاستواء في الحقيقة وفرق بين الصلوات في القصر فرخص في قصر الرباعيات دون الثنائية والثلاثية وجمع بين الماء والتراب في استباحة الصلاة بهما مع أن الماء ينظف والتراب بضده وجعل الحرة الشوهاء تحصن ويحرم النظر إليها دون الجارية الحسناء وعبارة المصنف أوجب التعفف على الحرة الشوهاء فيحتمل أن يريد ما ذكرناه وأن يريد أنه أوجب عليها الستر دون الأمة الحسناء التي يميل الطبع إليها وقطع السارق القليل ما لم ينقص عن ربع دينار دون غاصب الكثير مع أن غاصب الكثير أبلغ في الفحش لأنه يأخذ المال جهرا على تغلب والسارق يأخذه سرا على تخوف وأعظم في الأذى لكثرته وجلد في القذف بالزنا بخلاف القذف بالكفر مع كونه أبلغ وشرط فيه شهادة أربعة وأكتفي في الشهادة على القتيل والكفر باثنين وإذا ثبت هذا وجب أن لا يصح القياس لأن مبناه على أن الصورتين لما اشتركا في الحكمة وجب اشتراكهما في الحكم وهو باطل والجواب أن القياس إنما يجوز حيث عرف أن الحكم في الأصل معلل بعلة معلومة موجودة في الفرع وامتناع القياس في صور معدودة لا يقتضي امتناعه من أصله وأعلم أن ما ذكره النظام من أن الشريعة مبنية على الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات كذب وافتراء وإنما حمله على ذلك زندقته وقصده الطعن في الشريعة المطهرة وقد كان زندقيا يبطن الكفر ويظهر الاعتزال صنف كتابا في ترجيح التثليث على التوحيد لعنه الله وقد نبهنا على ذلك في أول كتاب الإجماع وما ذكره من الصور وكذلك ما يناسبها لها معان والفرق بين المتماثلات فإنه فرق بين الأزمنة في الشرف كليلة القدر وليلة يعلمها الشارع لا إطلاع لنا عليها وحكم خفية لا ندركها على أن الصور المذكورة قد ذكرت معانيها
قال الثانية قال النظام والبصري وبعض الفقهاء التنصيص على العلة أمر بالقياس وفرق أبو عبيد الله بين الفعل والترك

النص على علة الحكم هل يفيد الأمر بالقياس فيه مذاهب
إحداها وإليه ذهب المحققون كالأستاذ والغزالي والإمام وأتباعه ومنهم المصنف وجماعة من أهل الظاهر وجماعة من المعتزلة واختاره الآمدي ومن تبعه أنه لا يفيد الأمر بالقياس سواء كان في الفعل مثل أكرم زيدا لعلمه أم الترك مثل الخمر حرام لإسكارها
والثاني أنه يفيده وبه قال أحمد بن حنبل والرازي أي أبو بكر والكرخي والقاشاني والنهرواني وأبو إسحاق الشيرازي وأبو الحسين البصري ونقله الأكثرون عن النظام
والثالث قاله أبو عبد الله البصري إن كانت العلة علة للتحريم وترك الفعل كان التنصيص عليها كافيا في ترك الفعل بها أين وجدت وإن كان علة لوجوب الفعل أو ندبيته لم يكن ذلك كافيا في إيجابه ولا ندبيته ما لم يرد التعبد بالقياس من خارج
تنبيه قد عرفت نقل الأكثرين عن النظام ومنهم صاحب الكتاب وكلام الغزالي في النقل عنه صريح في أنه يرى تعميم الحكم في جميع موارد العلة بطريق اللفظ والعموم وبه صرح الآمدي في أثناء المسألة وهو مناف لنقل الأكثر فإن التعميم بالقياس لا يجامع التعميم باللفظ فحينئذ لا يكون أمرا بالقياس عنده وإن ثبت الحكم عنده في غير الصورة المنصوص عليها فإن قلت الجامع بين إنكار النظام التعبد بالقياس وبين مقالته التي نقلتموها عنه هنا قلت أما على ما نقله الغزالي فواضح لأنه جعله من باب العموم وقال الغزالي قد ظن النظام أنه منكر للقياس وقد زاد علينا إذ قاس حيث لا نقيس لكنه أنكر اسم القياس وأما على ما نقله الأكثرون فإنه هنا يقول إذا وقع التنصيص على العلة كان مدلول اللفظ الأمر بالقياس ولم يتعرض لوقوعه من الشارع أو غيره بل لمدلوله لغة وهناك أحال وروده من الشارع فعنده حينئذ أن الشارع لا يقع منه التنصيص على العلة من حيث هو مدلوله ما ذكرناه فأفهم هذا فإن بعض الشراح ظن مناقضته في مقالته وذلك سوء فهم فإن الكلام في مدلول اللفظ إن ورد غير الكلام في أنه هل يرد

قال لنا أنه لو قال حرمت الخمر لإسكارها يحتمل علة الإسكار مطلقا وعلة إسكارها قيل الأغلب عدم التقيد قلنا فالتنصيص وحده لا يفيد قيل لو قال علة الحرمة الإسكار لا يدفع الاحتمال قلنا أثبت الحكم في كل الصور بالنص
استدل صاحب الكتاب على المذهب المختار بأن قوله حرمت الخمر لكونها مسكرة محتمل لأن تكون العلة مطلق الإسكار ولأن تكون العلة إسكارها وهذا لأن الله تعالى أن يجعل إسكار الخمر بخصوصه هو العلة لما يعلم فيه من المفسدة الخاصة التي لا وجود لها في غيره وإذا احتمل واحتمل لم يجز التعبد به إلا بأمر مستأنف بالقياس وإذا وضح هذا في جانب الترك ثبت في الفعل بطريق أولى فإن قلت يقتضي ما قررتم بعينه امتناع القياس عند النص على العلة مع ورود الأمر به أيضا قلت لعل ورود الأمر بالقياس عند النص على علة حكم قرينة تقضي بترجيح أحد الاحتمالين وهو مطلق الإسكار في المثال الذي ذكرناه واعترض الخصم من وجهين
أحدهما أن الأغلب على الظن عدم كون خصوص المحل قيدا في العلة وإلا لما صح قياس أصلا ويحتمل أن الأغلب في العلل التعدية والجواب أنه حينئذ لا يكون النص على العلة وحده هو المفيد الأمر بالقياس بل التنصيص مع كون الأغلب عدم التقييد والنزاع إنما هو في أن التنصيص وحده هل هو كاف
وثانيهما أنه لو قال الشارع علة الحكم الإسكار لاندفع الاحتمال وثبت الحكم في كل الصور التي يوجد فيها الإسكار وأجاب بأن الحرمة حينئذ تثبت في كل الصور لا بالقياس بل بالنص أي بطريق الاستدلال من النص حيث أنه جعل مطلق الإسكار علة تحريم الخمر وهو حاصل في كل مسكر فيلزم ثبوت الحرمة في كل مسكر وعبارة التحصيل لو قال ذلك لم يكن قياسا إذا العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول أي من غير أن يتأخر العلم ببعض الأفراد عن العلم بالآخر فلم يتميز الأصل عن الفرع حتى يقاس أحدهما على الآخر وهذه العبارة نحو عبارة الإمام وعبارة صاحب الكتاب قريبة منهما إلا

أنه لم يقل علة حرمة الخمر بل علة الحرمة وهو واحد فإن المقصود حرمة الخمر إذ ليس الإسكار علة لكل حرمة وهذا واضح ولم يصرح الإمام وسراج الدين بأن ذلك بالنص ولكن بطريق العلم بالعلة وهو الاستدلال بالنص وإياه أراد المصنف رحمه الله وعبارة الآمدي نحو عبارة المصنف فإنه قال يكون التحريم ثابتا في كل الصور بجهة العموم ولقائل أن يقول لا نسلم أن ذلك ليس بقياس وقولكم لم يتميز الأصل عن الفرع مندفع فإنه إذا قال علة حرمة الخمر الإسكار فالحرمة في الخمر أصل وحصل العلم بها حال ورود النص ثم بعد ذلك يحصل العلم بحرمة كل مسكر وكل ما كان غير الخمر يكون فرعا والعلم بحرمته متأخر عن العلم بحرمة الخمر وربما لا يعلم كون الشيء مسكرا إلا بعد حين فلا يعلم حرمته فإذا جرت ووجد مسكرا علم تحريمه فكيف لا يكون العلم به متأخرا فإن قلت نحن ندعي عدم تأخر العلم بحرمة كل مسكر حكما كليا لا العلم بواحد واحد من الجزئيات المندرجة فإنها داخلة في الحكم المعلوم فالعلم بحرمة الجزئيات المخصوصة لا يستفاد من الأصل الذي هو الخمر بل من المقدمة الكلية التي هي العلم بتحريم كل مسكر والعلم بهذه المقدمة لا يتأخر قلت لا نسلم أن العلم بها غير متأخر لأنا نعلم أولا حرمة الخمر ثم كون الإسكار علة بتنصيص الشارع ثم نحكم بتحريم كل مسكر حكما مترتبا على هذا العلم بالعلية والحكم في كل قياس كذلك فإن المجتهد يعلم حكم الأصل ثم يستنبط العلة ثم يحكم بمقدمة كلية شاملة لجميع صور تلك العلة هذا شرح ما في الكتاب وأما الدليل على أن التنصيص على العلة لا يفيد الحكم في جميع الصور باللفظ خلاف ما نقله الغزالي والآمدي عن النظام فإنا نعلم بالضرورة من اللغة أن قوله حرمت الخمر لإسكارها لا يدل على تحريم كل مسكر لدلالة قوله حرمت كل مسكر وأنه غير موضوع لذلك بل هو موضوع لتحريم الخمر لعلة إسكاره وحرمة ما عدا الخمر من المسكرات ليس جزءا من المفهوم ضرورة فيجب أن لا يكون دلالته على تحريم كل مسكر لفظية لأن الدلالة منحصرة في هذين النوعين عند قوم وفي دلالة المطابقة عند آخرين ولهذا لو قال الرجل أعتقت غانما لسواده لم يعتق من عداه من عبيده السود ولو قام ذلك مقام عتقت عبيدي السود لعتقوا عليه من

غير اعتبار نية ولا علم بمقصد وكذا لو قال لوكيله بع سالما لسوء خلقه واحتج أبو عبد الله على مذهبه بأن من ترك أكل رمانة حامضة لحموضتها وجب عليه أن يترك أكل كل رمانة حامضة بخلاف من أكلها لحموضتها وأجيب بأنا لا نسلم أنه يجب عليه ترك الكل وذلك لاحتمال أن يكون الداعي لا مطلق حموضة الرمانة بل حموضة هذه الرمانة الخاصة سلمناه ولكن لا فرق في ذلك بين الفعل والترك وإنما لم يجب أكل رمانة حامضة على من أكل رمانة حامضة لأنه لم يأكلها لمجرد حموضتها بل لحموضتها مع قيام الاشتهاء الصادق بها وخلاء المعدة عن الرمان وعلمه أو ظنه بعدم تضرره بها وهذه القيود غير موجودة في أكل الرمانة الثانية وهذا ما ذكره الإمام ولقائل أن يقول التفرقة بين الفعل والترك ثابتة فإن جانب النهي يدل على كون المشترك مفسدة مطلوبة العدم ولا يحصل هذا الغرض إلا بالامتناع عن كل الأفراد وأما في طرف الفعل فالغرض متعلق بالمصلحة المشتركة بين الأفراد وذلك يحصل بأي فرد كان كذا ذكره النقشواني وهو حسن وهو وجه التفرقة بين اقتضاء النهي التكرار دون الأمر كما قررناه في موضعه قال وقول الإمام مع الاشتهاء الصادق وخلا المعدة عين الفرق
قال الثالثة القياس أما قطعي أو ظني
هذه المسألة تشتمل على بحثين الأول أن القياس ينقسم إلى قطعي وظني الأول القطعي وهو الذي يتوقف على العلم بعلة الحكم في الأصل ثم العلم بحصول مثل تلك العلة في الفرع فإذا علمها المجتهد تيقن إلحاق ذلك الفرع بالأصل في حكمه ومساواته له وهذا القياس قطعي كما قال المصنف وإليه أشار الإمام في المحصول بقوله قد يكون ظاهرا جليا ثم صرح من بعد في أثناء المسألة بأنه يقيني وأما حكمه فقد يكون قطعيا وقد يكون ظنيا ومثال ذلك من لظى قياس التأفيف على الضرب لأنا نعلم أن العلة الأذى ويعلم وجودها في الضرب مع أن ثبوت الحكم في التأفيف ظني لأنه مستعاد من دلالة اللفظ وقد قرر الإمام أن الإنصاف أنه لا سبيل إلى استفادة اليقين منها لتوقفها على الاحتمالات العشرة وهيهات أن توجد ذلك والثاني ظني كما

إذا كانت إحدى المقدمتين أو كلتاهما مظنونة كقياس التفاح على البر في الربا فإن الحكم بأن الطعم هو العلة ليس قطعيا لاحتمال أن يكون الكيل أو القوت
قال فيكون الفرع بالحكم أولى التحريم الضرب على تحريم التأفيف أو مساويا كقياس الأمة على العبد في السراية أو أدون كقياس البطيخ على البر في الربا
البحث الثاني في حكم الأصل فثبوت حكم الأصل أما أن يكون يقينا قال الإمام فيستحيل أن يكون الحكم في الفرع أقوى منه لأنه ليس فوق اليقين درجة واعترض عليه النقشواني بأن اليقين قابل للاستبداد والضعف وهذا الاعتراض بناء على أن العلوم تتفاوت وإن لم يكن يقينيا فثبوت الحكم في الفرع قد يكون أقوى من ثبوته في الأصل وذلك في النفي كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف الذي هو الأصل وفي الإثبات كقوله ومن أهل الكتاب من تأمنه بقنطار يؤده إليك فهذا يفيد تأدية ما دون القنطار بطريق أولى وقد يكون مساويا كقياس الأمة على العبد في السراية في قوله صلى الله عليه و سلم من أعتق شركا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه إذ لا تفاوت بين الأصل والفرع في هذا الحكم وهذا هو المسمى بالقياس في معنى الأصل وقد يكون أدون قال الإمام وذلك كجميع الأقيسة التي يتمسك بها الفقهاء في مباحثهم قال وأما مراتب التفاوت فهي بحسب مراتب الظنون فلا ينحصر ومثل المصنف لهذا القسم بإلحاق البطيخ بالبر في الربا بجامع الطعم مع احتمال كون العلة الكيل أو القوت هذا تقرير ما ذكره الإمام وهو الذي

أورده المصنف وسائر أتباع الإمام وقد علمت به سداد كلام الإمام وأتباعه وخطأ من اعتقد تناقض كلامه حيث جعل في البحث الأول قياس الضرب على التأفيف مقدماته قطعية وجعله هنا ظنيا كالنقشواني وغيره وسبب الخطأ أن القياس إنما يكون قطعيا إذا كان الحكم في الأصل كذلك وهذا ليس بشيء فقد تقطع بمساواة الشيء للشيء في حكمه المظنون كما عرفت في البحث الأول ولك أن تنظر ذلك بإجماعهم على إلحاق الخالة بالخال في الإرث مع اختلافهم فيه وإذا وضح هذا فإن قلت تقسيم القياس إلى أدون أن أردتم به أن يكون ما في العلة الموجودة في الفرع من المصلحة دون ما في الأصل فلا نسلم حينئذ جواز القياس لأن شرطه وجود العلة بكمالها في الفرع وإن أردتم شيئا آخر فعليكم بيانه قلت أردنا شيئا آخر وهو عدم القطع بأن ما ظن عليته علة كالطعم فإن القائل بعليته في الربويات ليس قاطعا بمقالته لاحتمال أن تكون العلة الكيل أو القوت فإذ جئنا إلى قياس التفاح على البر قلنا هو مساواته في الطعم وثبوت الحكم فيه أدون من ثبوته في البر لأن البر مكيل مقتات مطعوم فهو ربوي على كل الاحتمالات والتفاح ربوي على احتمال واحد وهو كون العلة الطعم والثابت على كل الاحتمالات أقوى من الثابت على احتمال واحد
قال قيل تحريم التأفيف يدل على تحريم أنواع الأذى عرفا ويكذبه قول الملك للجلاد اقتله ولا تستخف به قيل لو ثبت قياسا لما قال به منكره قلنا القطعي لم ينكر قبل نفي الأدنى يدل على نفي الأعلى كقولهم فلان لا يملك الحبة ولا النقير ولا القطمير قلنا أما الأول فلأن نفي الجزء يستلزم نفي الكل وأما الثاني فلأن النقل فيه ضرورة ولا ضرورة ههنا
تقدم على الشرح ما ينبغي تقديمه ثم نلتفت إليه فنقول اتفق الأصوليون على أنه لا مستند لثبوت الحكم في القسم الثالث وهو القياس الأدون إلا القياس وأما القسم الثاني وهو قياس المساواة فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت بالقياس أيضا وذهب الحنفية إلى أنه غير ثابت به بل الاستدلال أي هو استدلال على تحرير مناط للحكم وحذف الحشو منه على درجة الإعداد ولهذا

أوجبوه على من أفطر في رمضان في الأكل والشرب والكفارة اعتبار بالمجامع فيه لكن لا لطريق القياس عليه إذا القياس لا يجري عندهم في الكفارات ولكن لطريق الاستدلال
وأما القسم الثالث وهو قياس الأولى وفيه كلام المنصف وفيه مذهبان أحدهما
أنه ثابت فيه بالدلالات اللفظية ثم اختلف القائلون بذلك على مذهبين أحدهما أنه من باب المنطوق وهو المشار إليه يقول صاحب الكتاب قيل تحريم التأفيف إلى آخره والثاني أنه من باب المفهوم الموافقة واختاره المصنف في الفصل التاسع من الكتاب الأول وكذلك الإمام
وثانيهما أنه ثابت فيه بالقياس القطعي واختاره المصنف هنا تبعا للإمام وقد نقل إمام الحرمين في البرهان القول بأنه من باب المفهوم عند معظم الأصوليين وعبارته صار معظم الأصوليين أن هذا ليس معدودا من أقسام الأقيسة بلى هو متلقى من مضمون اللفظ المستفاد من تنبيه اللفظ وفحواه كالمستفاد من صيغته ومعناه ومن يسمي ذلك قياسيا فمتعلقه أنه ليس مصرحا به والأمر في ذلك قريب انتهى وإنما نقلنا هذه العبارة بنصها لوقوع غلط بعض الشارحين في النقل عين البرهان وكلام الغزالي نحو من كلام البرهان لكن استبعد تسمية قياسا قال لأنه لا يحتاج إلى فكر واستنباط علة وصرح بأنه مقطوع عند من سماه قياسا ومن لم يسمه وقد حكى بعض الشراح قولا رابعا أنه ثابت بالقياس الظني وهذا وهم سببه ما تقدم فإن قلت هل من تناف بين ثبوته بالمفهوم وثبوته بالقياس ولم لا يكون إلحاق الضرب بالتأفيف ثابتا بهما جميعا قلت قد يظن ظان عدم تنافيهما لكون المفهوم مسكوتا عنه والقياس إلحاق مسكوت عنه بمنطوق وهذا ما زعم صفي الدين الهندي أنه حق وقال الدلالة اللفظية إذا لم يرد بها المطابقة ولا التضمن وينافي القياس وقد يقول قائل هما متنافيان معتضدا بأن المفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق والمقيس ما لا يدل عليه اللفظ البتة وما قاله الهندي ممنوع غير أن هذا إن كان قياسا فهو من الأقيسة الظاهرة التي تحتاج إلى فكر واستنباط ولكونه كذلك ظن الخصم خروجه عن أبواب والقياس ألحقه بالمفاهيم وهو لعمري

مصيب ولكن مستند المصنف وأمامه من جعله قياسا ما فيه من الأصل والفرع والعلة الجامعة جئنا إلى كلام المصنف فنقول احتج القائل بأن تحريم لا لذ التأفيف يدل لفظا على تحريم أنواع الأذى بثلاثة أوجه أحدها أن ولا تقل لها أف وأن كان موضوعا في اللغة للمنع من التكلم بلفظ أف ولكن نقل عرف إلى المنع من أنواع الأذى لتبادر الفهم إليه فيدل بالعرف على تحريم أنواع الأذى ويكذب ذلك قوله الملك للجلاد حيث أمره بقتل عدوه اقتله ولا تستخف به ولو دل نفي الأدنى على نفي الأعلى عرفا للزم من قوله ولا تستخف به النهي عن قتله وذلك مناقض لصريح قوله ولقائل أن يقول إن كان بقتله من ذي الأنفة والأنفس الأبية فالاستخفاف عنده أشد وقعا من القتل وكذلك قتل كثير من الملوك أنفسهم حيث أيقنوا بالأسر في يد العدو مخافة الاستخفاف فهو حينئذ ناه عن الأعلى آمر بالأدنى سلمنا ذلك النهي عن الاستخفاف إنما يدل على النهي عن القتل عرفا إذا لم يتقدم ما يناقضه كما في محل النزاع وهو صورة التأفيف وجاز أن يتقدم التصريح بخلاف الظاهر فقد وضح بطلان هذا الجواب وأجيب أيضا بأن النقل خلاف الأصل وضعفه النقشواني معتلا بأنه إذا ثبت كثرة الاستعمال والتبادر إلى الفهم فلا يفيد التمسك بهذا الأصل الوجه الثاني أن لو كان مستفادا من القياس لما وافق عليه منكر القياس وأجاب بأن هذا قياس جلي ومن أنكر القياس إنما أنكر الخفي وهو جواب ضعيف فإن بعضهم أنكر القياس مطلقا جليا كان أم خفيا كما تقدم أول الباب بل الجواب الصحيح أن يقال إنما قال به منكر القياس لكونه عنده مفهوم موافقة لا لكونه قياسا الثالث أن نفي الأدنى يدل على نفي الأعلى كقولهم فلان لا يملك الحبة فإنه يدل على أنه لا يملك أكثر منها وكذا قولهم لا يملك

النقير والقطمير يدل على أنه لا يملك شيئا البتة من غير نظر إلى القياس فكذا نفي التأفيف وأجاب بأن دلالة ذلك في كل المثالين إنما هو لأمر خارجي أما الأول فلأن الحبة جزء للأعلى ونفي الجزء يستلزم نفي الكل ولك أن تقول إن كانت الحبة إسما للواحد مما يزرع فليست جزءا لكل ما هو أعلى منها وأما الثاني فإنا نعلم ضرورة أن ليس المراد نفي النقير والقطمير بل نفي ما له قيمته فدعوى النقل فيهما ضرورية وأما فيما نحن فيه فلا ضرورة بنا إلى ذلك لجواز الحمل على المعنى اللغوي ولك أن تقول ما بك ضرورة إلى النقل مع جواز أن يكون نفي ما عدا النقير والقطمير من فحوى الخطاب
تنبيه النقير النقرة التي على ظهر النواة القطمير ما في النواة كذا قاله في المحصول والمعروف وهو الذي في الصحاح أن القشرة الرقيقة هي القطمير وما في شق النواة الفتيل ا ه
قال الرابعة القياس يجري في الشرعيات حتى الحدود والكفارات
هذه المسألة معقود لبيان ما يجري فيه القياس وما لا يجري وفيها أبحاث
الأول أنه يجري في الشرعيات بمعنى أنه موجود فيها ويصح ذلك بوجوده في بعضها وتكون الألف واللام في قول المصنف الشرعيات للجنس دون العموم قال الغزالي فكل حكم شرعي أمكن تعليله فالقياس جار فيه وليس المراد أنه يجوز إثبات جميع الشرعيات به فإن ذلك ممتنع خلافا لبعض الشاذين لنا أن القياس لا يتحقق إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل فحكم الأصل إن كان بغير القياس صح المدعى وهو أنها لم تثبت كلها بالقياس وإن كان بالقياس فالكلام فيه كالأول ويلزم إما الدور أو التسلسل وإن ثبت من الأحكام ما لا يعقل معناه كضرب الدية على العاقلة والقياس فرع تعقل المعنى قالوا الأحكام متماثلة لدخولها تحت الحكم الشرعي فيجب تساويها فيما جاز على بعضها من القياس قلنا قد يمتنع أو يجوز في بعض أفراد النوع أمر لأجل أمر اختص بذلك البعض ويكون المشترك بين جميع الأفراد بخلاف ذلك البعض في امتناع ذلك الأمر وجوازه

فرع قال الجبائي والكرخي ومن تبعهما لا يجوز إثبات أصول العبادات بالقياس وبنوا عليه أنه لا يجوز الصلاة بإيماء الحاجب بالقياس والحق خلافه
البحث الثاني أنه يجري في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات خلافا لأبي حنيفة لنا أن أدلة القياس دالة على جريانه في الأحكام الشرعية مطلقا من غير فصل بين باب وباب ويخص المسألة ما روى الصحابة اجتهدوا في حد شارب الخمر فقال علي أراه ثمانين لأنه إذا شرب سكر وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون وهذا قياس في الحدود ثم لم ينكر عليه فكان إجماعا فإن قلت إن أردتم أن أدلة القياس تدل على جريانه في الأحكام الشرعية مطلقا سواء أوجدت الأركان والشرائط أم لم توجد فهو ممنوع ظاهر الفساد وإن قلتم إن دلالتها عليه إنما هي عند حصول الشرائط فسلم لكن لا نسلم إمكان حصولها فيما نحن فيه سلمناه لكن لا نسلم حصولها فيما نحن فيه لأن الحدود والكفارات والتقدير أمور مقدرة لا يهتدي العقل إلى تعقل المعنى الموجب لتقديرها فلا نعقل فيها العلة والقياس فرع تعقل العلة وأما الرخص فهي منح من الله تعالى فلا يتعدى بها عن مواردها والجواب أنا نريد جريان القياس فيها عند حصول الأركان والشرائط قوله لا نسلم إمكان حصولها فيما نحن فيه قلنا الدليل عليه أن صريح العقل حاكم بأنه لا امتناع في أن شرع الشارع الحد أو الكفارة في صورة لأمر مناسب ثم إنه يوجد ذلك المناسب في صورة أخرى فليس وضع الحد والكفارة منافيا لهذا المعنى حتى يمتنع لأجله قوله سلمنا الإمكان لكن لا نسلم حصوله قلنا حينئذ ارتفع النزاع الأصولي ويكون الامتناع إنما هو بعدم حصول الشرائط والأركان ونحن لا نجوز القياس في شيء بدون حصول شرائطه وأركانه فأما ادعاؤكم بعد ذلك عدم حصوله فيها فذلك إنما يثبت بعد البحث والاستقراء عن كل واحدة من مسائلها فإن وجدت العلة صح القياس فيها وإلا فلا كغيرها من المسائل فلا فرق حينئذ بين مسائل هذا الباب وغيره من هذا الوجه فيجب التسوية في جريان القياس قوله الرخص منح من الله تعالى قلنا قال إمام الحرمين هذا هذيان فإن كلما تتقلب فيه العباد من المنافع فهي

منح من الله تعالى عز و جل ولا يختص هذا بالرخص بل يعمم الشرائع بأسرها فكان ينبغي أن لا يجري القياس في شيء من أحكامها وأعلم أن الشافعي رضي الله عنه ذكر مناقضتهم في هذا الباب فقال أما الحدود فقد كثرت أقيستهم فيها حتى عدوها إلى الاستحسان فأوجبوا الرجم بشهود الزوايا بالاستحسان مع مخالفته للعقل وأما الكفارات فقاسوا الإفطار بالأكل على الإفطار بالوقاع
وقتل الصيد ناسيا على قتله عامدا فإن قالوا إنما أثبتنا بالاستدلال على موضع الحكم بحذف الفوارق قلنا فالاستدلال قياس إذ يجب فيه أن يقال حكم الأصل إما غير معلل أو معلل بالفارق أو المشترك والأولان باطلان وهذا هو القياس واستخراج العلة بالتقسيم وأما المقدرات فهو كتقدير النصب والزكاة والمواقيت في الصلاة فقد قاسوا فيها أيضا كما في تقديراتهم في الدلو والبئر حيث قالوا إذا ماتت الدجاجة في البئر تنزح كذا وفي الفأرة كذا وليس هذا التقدير عن نص ولا إجماع ولا أثر فيكون عن قياس ولو صح في البعض منها أثر كما يزعمه القوم فلا شك في أن ذلك لم يصح في جميع مسائلها فيكون القول بذلك في البعض الآخر قياسا وأما الرخص فبالغوا في القياس بأن الاقتصار على الأحجار في الاستنجاء من أظهر الرخص ثم حكموا بذلك في كل النجاسات وانتهوا فيها إلى إيجاب استعمال الأحجار وقاسوا العاصي بسفره على المطيع مع أن القياس ينفي ترخصه إذ الرخصة إعانة والمعصية غير مناسبة لها
قال وفي العقليات عند أكثر المتكلمين
البحث الثالث القياس في العقليات وقد ذهب إلى صحته أكثر المتكلمين وأنكره طائفة ومنه نوع يسمى إلحاق الغائب بالشاهد وبناء الغائب على الشاهد وما يجري مجراهما واتفق القائلون به على أنه لا بد فيه جامع عقلي وإلا لكان الجمع تحكما محضا ثم حصروا الجامع في العلة والحقيقة والشرط والدليل

فالأول كقول أصحابنا كون الشيء يصح أن يكون مرئيا في الشاهد معللا بالوجود فكذا في الغائب ومثل إمام الحرمين والإمام له بقول أصحابنا إذا كانت العالمية شاهدا فيمن له العلم معللة بالعلم كانت في الغائب كذلك وهو غير مطابق لأن هذا جمع بالمعلول لا بالعلة فإنه جمع فيه بين الشاهد والغائب بالكون عالما وهو معلول العلم لا علته
والثاني كقولهم حقيقة العالم في الشاهد من له العلم فكذا في الغائب
والثالث كقول المعتزلة شرط صحة كون الشيء مرئيا في الشاهد أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل فكذا في الغائب وفيه نظر لأن هذا جمع بالمشروط لا بالشرط فإن كونه عالما وهو الذي وقع به الجمع مشروط لا شرط والرابع مثل الإتقان والتخصيص يدلان على العلم والإرادة في الشاهد فكذا في الغائب وادعى إمام الحرمين أنه باطل لأن الجمع بالعلة والحقيقة أقوى من الآخرين وهما باطلان لأن الجمع بهما مبني على القول بالحال فإن القائل به يقول كل صفة قامت بمحل فإنها توجب له حالا والحال صفة لموجود لا توصف بوجود ولا عدم فيجعلون الصفة القائمة بالمحل علة للحال والقول بالحال باطل عند جماهير أصحابنا والمعتزلة ووافقنا على بطلانه إمام الحرمين أخيرا وبسط ذلك في كتاب الكلام ثم المحققون على أن هذا القياس ظني قال الإمام الجمع بالعلة أقوى وهو غير مفيد للقطع لأن إفادته للقطع تتوقف على حصول القطع بأن علة الحكم في الأصل موجودة بتمامها في الفرع وهو صعب فإن الموجود في الفرع مع الموجود في الأصل لا بد وأن تغايرا بالتعين والهوية وإلا فهذا عين ذاك وذاك عين هذا فيكون كل واحد منهما عين الآخر فالاثنان واحد هذا خلف وإذا حصل التغاير بالتعين والهوية فلعل ذلك التعين في أحد الجانبين جزء العلة أو شرط العلة وفي الجانب الآخر يكون مانعا من العلية ومع هذا الاحتمال لا يحصل القطع نعم لو دل على أن ما به الامتياز لا مدخل له في اقتضاء العلة للحكم حصل القطع بثبوت الحكم لكن لا يكاد يوجد ذلك إلا في العقليات الحقيقية التي لا

نختلف باختلاف تفسير اللفظ مثل العالم شاهدا من له العلم فكذا غائبا لأنا لا نعني بالعالم وهذا لا يختلف موجبه بحسب الواجب والممكن
قال واللغات عند أكثر
البحث الرابع القياس في اللغات وقد أثبته القاضي أبو بكر وابن سريج وابن أبي هريرة وأبو إسحاق الشيرازي والإمام وكثير في فقهائنا وأهل العربية كالمازني والفارسي وابن جنى وذهب إمام الحرمين والغزالي ومعظم أصحابنا والحنفية إلى امتناعه وتبعهم الآمدي وابن الحاجب واتفق الكل على امتناع جريان القياس في أسماء الأعلام لأنها غير معقولة المعاني ولا هي دائرة بدوران وصف في محالها والقياس فروعهما فهي كالحكم تعبدي لا يعقل معناه فإن قلت قد شاع قولهم في العرف هذا سيبويه وهذا جالينوس وليس إلا بطريق القياس وإلا لم يحصل المدح بذلك
قلت جاز أن يكون ذلك بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والتقدير حافظ الكتاب سيبويه وعلم جالينوس واتفقوا على امتناعه أيضا في أسماء الفاعلين والمفعولين وأسماء الصفات كالعالم والقادر لأنها واجبة الاطراد نظرا إلى تحقق معنى الاسم فإن العالم من قام به العلم فإطلاقه على كل من قام به العلم بالوضع لا بالقياس إذ ليس قياس أحد المسلمين المتمثلين في المسمى على الآخر بأولى من العكس وإنما النزاع في الأسماء الموضوعة للمعاني المخصوصة الدائرة مع الصفات الموجودة فيها وجودا وعدما كالخمر فإنه اسم للمسكر المعتصر من العنب وهذا الاسم دائر مع الإسكار وجودا وعدما فهل يقاس عليه النبيذ في كونه مسمى بذلك الوصف لمشاركته في وصف الإسكار وكإطلاق اسم السارق النباش بواسطة مشاركته للسارق من الإخفاء في أخذا المال على سبيل الخفية
واسم الزاني على اللائط لمشاركته بإيلاج فرج في فرج واحتج المجوزون بدوران تسمية المعتصر من العنب بالخمر مع الشدة المطربة فإنه يفيد ظن عليتها له فالعلم بوجودها في النبيذ يفيد كون ظنه مسمى بالخمر وحينئذ يلزم

أن يثبت للنبيذ من الأحكام ما ثبت للخمر والجواب أن إفادة الدوران العلة إنما هو بمعنى الإمارة والعلامة لا بمعنى الداعي إذ لا مناسبة بين الاسم والمسمى وحينئذ لا يخلو الدوران عن المزاحم لأنه كما دار مع ما ذكرتم من الوصف فكذا مع خصوصية إسكار المعتصر من العنب والدوران لا يفيد الظن مع معارضة المزاحم فإن قلت لو كان لا يقعد معارضة مثل هذا الواجب أن لا يفيد في الشرعيات أيضا لعدم خلوه عنه قلت القاطع دل على جواز القياس في الشرعيات فعلمنا بذلك أن تلك الخصوصيات لا مدخل لها في إثبات تلك الأحكام ولا قاطع في اللغات يدل على جريان القياس فيها ولأن سلمنا أنه يظن العلية فما يجعله العبد علة لا يفيد الحكم أينما وجد كقول القائل أعتقت غانما لسواده لا يطرد في عبيده السود فلعل الواضع هو العبد وقول الإمام هنا بينا أن اللغات توقيفية مدخول باختياره التوقف واحتجوا أيضا بعموم قوله فاعتبروا وأجاب صفي الدين الهندي بأنه يقتضي وجوب القياس في اللغات ولا قائل به إنما الاختلاف في الجواز وفيه نظر لأنه إذا ثبت الجواز وجاء تحريم الخمر مثلا لزم من يقول بالقياس في اللغة أن النبيذ داخل تحت هذا المسمى فيجب عليه أن يعممها بالحكم الواحد الوارد على لفظ الخمر وبذلك صرح الإمام بقوله يلزم أن يثبت للنبيذ من الأحكام ما يثبت للخمر
قال دون الأسباب والعادات كأقل الحيض وأكثره
البحث الخامس القياس في الأسباب وفيه مذهبان أحدهما وهو الذي زعم الإمام أنه المشهور وجزم به صاحب الكتاب واختاره الآمدي وابن الحاجب أنه لا يجري القياس فيها والثاني وبه قال أكثر الشافعية جريانه فيها مثاله قياس اللواط على الزنا في إيجاب الحد بجامع كونه إيلاج فرج في فرج محرم شرعا مشتهى طبعا فجعل اللواط سببا وإن كان لا يسمى زنا واحتج الأولون بأن قياس الشيء على الشيء يقتضي أن يكون بينهما وصف مشترك وهو العلة فلو قسنا اللوط مثلا على الزنا فلا بد بينهما من وصف مشترك هو علة الموجبية والسببية وحينئذ يكون السبب ذلك المشترك لا ذلك الزنا على سبيل الخصوصية فلا يكون كل واحد من الزنا واللوط موجبا وسببا لأن الحكم

باستناده إلى المشترك بينهما استحال أن يكون معه مستندا إلى خصوصية كل واحد منهما
ومن شرط القياس بقاء حكم الأصل وهو زائل لأن المقيس عليه حينئذ يخرج أن يكون مقيسا عليه فإذن جريان القياس في الأسباب يقتضي أن لا يكون السبب الذي هو أصل سببا هذا خلف ولا ينتقض هذا بالقياس في الأحكام لأن الأصل فيه غير موجب للحكم فإضافة الموجب إلى القدر المشترك بينه وبين الفرع لا ينافي كونه أصلا بخلاف السبب فإنه موجب للحكم فإضافة الموجب إلى القدر المشترك لا يجامع الإضافة إلى السبب الذي هو الأصل على سبيل الخصوصية فإن قلت الجامع بين الموضعين لا يكون له تأثير في الحكم بل في علية الوصف وأما الحكم فإنما يحصل من الوصف قلت ما صلح لعلية العلة كان صالحا لعلة الحكم فلا حاجة حينئذ إلى الواسطة وقد أجاب النقشواني عن هذا الاحتجاج بما تقريره أن يقال العلة الحقيقية هي الحكمة والحاجة كما هو مقرر في مكانه لكنها لما كانت غير مضبوطة وغير مقدرة في ذاتها جعل الوصف علة بمعنى أنه يعرف العلة المؤثرة فصلاحية الوصف للضبط وتعريف العلة المؤثرة بهذا المعنى هي العلة في جعله علة وبهذا لا تصلح الحكمة لعلية الحكم من غير واسطة الحكم والوصف معا
ويظهر حينئذ قوة السؤال الذي أورده وضعف الجواب فيقال نقيس اللواط على الزنا ونقول إن الزنا إنما أوجب الحد للوصف المشترك بينهما فعندي الموجبة من الزنا إلى اللواط وذلك لأن الزنا إنما صار موجبا وعلة لكونه معرفا للحكمة الموجبة للحد وهي الحاجة المناسبة إلى شرعيته واللواط يشارك الزنى في هذا المعنى فيلزم من كون الزنا علة معرفة كون اللواط كذلك وقوله على هذا التقدير يكون الموجب للحد إنما هو المشترك قلنا ممنوع فإن هذا المشترك الذي ذكرنا يصلح أن يكون علة لعلية الوصف لكن لا يصلح أن يكون علة للحكم على ما وضح ولأن سلمنا أن ذلك المشترك يكون علة للحكم لكن لم لا يجوز أن يكون علة لعلية الوصف أيضا فإنها تكون علة مؤثرة للحكم وعلة مؤثرة لصيرورة الوصف علة معرفة ويكون الحكم مستندا

إلى ذلك المشترك استناد الأثر إلى المؤثر وإلى الوصف استناد الشيء إلى المعرف له ولا يمتنع ذلك بل هو الواقع في سائر الأحكام فإن الحكم مستند إلى الحاجة استناد الأثر إلى المؤثر وإلى الوصف استثناء الشيء إلى المعرف واعلم أن الحجاج في هذه المسألة طويل لا يحتمله هذا الشرح لا سيما وصاحب الكتاب أومى إلى الاختصار حيث اقتصر فيها على مجرد الدعوى والحق عندي جريان القياس فيها إن قلنا برجوع التشبيه إلى الأحكام الشرعية على ما تقدم ذلك في أوائل الكتاب فإنه حينئذ يشملها دلائل العمل بالقياس في الأحكام ثم إن اعترف الخصوم بمكان معرفة العلة وتعديتها ثم توقفوا عن التعدية كانوا متحكمين بالفرق بين حكم وحكم كمين يقول نجري القياس في حكم الضمان لا في القصاص وفي البيع لا في النكاح وإن ادعوا الإحالة فمن أين عرفوا ذلك فإن قلت الأحكام مسلم في العقل لكنه غير واقع لأنه لا يتيقن الأسباب علة مستقيمة تتعدى قلت الآن قد ارتفع النزاع الأصولي إذ لا ذاهب إلى تجويز القياس حيث لا تفعل العلة أو لا تتعدى وهم قد ساعدونا على تجويز القياس حيث أمكن معرفة العلة وتعديتها فارتفع الخلاف وهذا ذكره الغزالي فذكرناه هنا وأما إن لم نقل برجوع السببية إلى الأحكام فعندي توقف
البحث السادس القياس في الأمور العادية والخلقية كأقل الحيض وأكثر وكذا الحمل والنفاس فقال المصنف لا يجري فيه القياس ونقله الإمام عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي والذي قاله الشيخ في شرح اللمع أن ما طريقة العادة إن كانت علته إمارة جاز إثباته بالقياس قال وذلك كالشعر هل يحل فيه الروح والحامل هل تحيض فإنا نستدل في مسألة الشعر والعظم بالنماء والاتصال ونقيس على سائر الأعضاء والخصم يقيس على أغصان الشجرة من حيث أنه لا يحس ولا يتألم وفي مسألة الحامل بأن الحمل لو منع دم الحيض لمنع دم الاستحاضة ألا ترى أن الصغر لما منع أحدهما منع الآخر فكذا الكبر والخصم يقول لو كان دم الحيض لانقضت به العدة وحرم الطلاق وإن لم يكن عليه أمارة كأقل الحيض وأكثره فلا يجوز إثباته بالقياس كما نقله

الإمام لأن أشباهها غير معلومة لا قطعا ولا ظاهرا فوجب الرجوع فيها إلى قول الصادق قال الشيخ أبو إسحاق ومن استدل في هذا بالقياس عالما به فقد كذب على دين الله وفسق بذلك
قال الباب الثاني في أركانه إذا ثبت الحكم في صورة لمشترك بينها وبين غيرها تسمى الأولى أصلا والثانية فرعا والمشترك علة وجامعا وجعل المتكلمون دليل الحكم في الأصل أصلا والإمام الحكم في الأول أصلا والعلة فرعا وفي الثانية بالعكس وبيان ذلك في فصلين
أركان القياس أربعة الأصل والفرع والجامع بينهما وحكم الأصل وأما حكم الفرع فهو حكم الأصل بالحقيقة وإن كان غيره باعتبار المحل فلذلك لم تكن الأركان خمسة وقول الآمدي حكم الفرع ثمرة القياس وليس ركنا منه لأن الحكم في الفرع متوقف على صحة القياس فلو كان ركنا منه لتوقف على نفسه مدخول فإن التوقف على صحة القياس هو العلم بثبوت الحكم في الفرع الذي هو ثمرة القياس لا نفس حكم الفرع ثم إن المصنف اكتفى بتعريف الحكم في أول الكتاب عن إعادته هنا وقد اختلف اصطلاح الأئمة في الأركان الثلاثة فذهب الفقهاء والنظار إلى ما صدر المصنف به كلامه فقالوا إذا ثبت الحكم في صورة كالذرة مثلا لأمر مشترك بينها وبين البر وهو الطعم سميت الأولى وهي البر أصلا والثانية وهي الذرة فرعا والمشترك وهو الطعم علة وجامعا وزعم الآمدي أن هذه المقالة هي لأشبه قال المتكلمون الأصل هو دليل الحكم أي النص الدال على ثبوت أن البر ربوي مثلا وضعف الإمام هاتين المقالتين
أما الأولى فلأن أصل الشيء ما تفرع عليه غيره والحكم المطلوب إثباته في الذرة لا يتفرع على البر لأن البر لو لم يوجد فيه ذلك الحكم وهو تحريم الربا لم يمكن تفريع حرمة الربا في الذرة عليه ولوجد ذلك الحكم في صورة أخرى ولم يوجد في البر أمكن تفريع الذرة عليه فإن الحكم المطلوب إثباته غير متفرع على البر بل على الحكم الحاصل فيه فلا يكون البر أصلا للحكم المطلوب
وأما الثانية فمن هذا الوجه لأنا لو قدرنا كوننا عالمين حرمة الربا في البر

بالضرورة أو بالدليل العقلي لأمكن تفريع الذرة عليه ولو قدرنا أن النص لم يدل على حرمة الربا في صورة خاصة لم يكن تفريع الذرة عليه تفريعا قياسا وإن أمكن تفريعا نصيبا ثم ذهب الإمام إلى رأي ثالث فقال الحكم أصل في محل الوفاق فرع في محل الخلاف والعلة فرع في محل الوفاق أصل في محل الخلاف فتحريم الربا في البر أصل وعلته وهي الطعم فيه فرع وفي الصورة الثانية وهي الذرة بالعكس فصار القياس عنده مشتملا على أصلين وفرعين باعتبار الصورتين المحل المقيس والمقاس عليه قال الإمام ولقول المتكلمين وجه لأن الحكم الحاصل في محل الوفاق أصل كما وضح والنص أصل لذلك الحكم فكان أصلا للأصل فحسنت لذلك تسميته بالأصل ولك أن تقول الكلام فيما هو أصل بالذات من غير وساطة شيء لا فيما هو أصل بالعرض ولقول الفقهاء وجه لأن النص والحكم يتوقفان على حصول المحل ضرورة وحصول المحل لا يتوقف عليهما قال النقشواني وقول الإمام في الرد عليهم البر لو لم يوجد فيه ذلك الحكم لم يمكن تفريع الذرة عليه ممنوع لأن المجتهد إذا تأمل حال البر لو لم يوجد فيه ذلك الحكم لم يمكن تفريغ الذرة عليه ممنوع لأن المجتهد إذا تأمل حال البر والذرة قبل ورود النص بتحريم الربا في شيء منهما ووجدهما مشتركين في الطعم وأنهما مما يتوقف البقاء عليهما وأن بيع بعضه ببعض متفاضلا فيه مفسدة فتلك المفسدة إن كانت موجبة لربا الفضل وجب حرمة ربا الفضل فيهما وإلا لعدم الفرق بينهما في هذا المعنى فقياسه قبل العلم بالنص وثبوت الحكم في أحدهما وقيل أن النص وجد كل واحدة من الصورتين صالحة لأن تكون أصلا وبعده تسمى المنصوصة أصلا لأن علمه بشمول هذا الحكم المعين إنما نشأ من حكم هذه الصورة بعينها فسميت أصلا بهذا الاعتبار وقوله لو وجد ذلك الحكم في صورة أخرى ولم يوجد في البر أمكن تفريع الذرة عليه ممنوع لأنه لو ورد الشرع بروبية الحديد لم يفرع الذرة عليه لبعد الاشتراك في مناط الحكم قلت والمنع الأول حسن وأما الثاني ففيه نظر لأن الصورة الأخرى التي فرض الإمام وجود الحكم فيها لا بد وأن تشارك الذرة في العلة فإن فرضنا أن العلة وصف يشمل الحديد والذرة فلا نسلم بعد الاشتراك في مناط الحكم واعلم أن هذه أمور اصطلاحية لا طائل تحت المنازعة فيها والذي

نقوله أن هناك أربعة أشياء أحدها البر والثاني النص الوارد بتحريم الربا فيه والثالث الحكم المستفاد من ذلك النص والرابع العلم به والحكم في الذرة ليس متفرعا عن البر من حيث هو بر وهذا هو واضح ولا عن الحكم من حيث هو حكم لأن تحريم الربا من حيث هو شيء واحد لا يختلف بالمحل وإنما إذا أخذ مضافا إلى محله فيمكن أن يقال إن الحكم في الذرة متفرع عن الحكم في البر ويمكن أن يقال إن الذرة مع ثبوت الحكم فيها يتفرع عن البر مع ثبوت الحكم فيه فالفقهاء نظروا إلى هذا والإمام نظر إلى الأول وهما متقاربان ونظر الفقهاء أقرب إلى الاصطلاح وأوفق لمجاري الاستعمال بين الجدلين ولقولنا القياس حمل معلوم على معلوم والمحمول المحل لا الحكم ولقول من قال القياس رد فرع إلى أصل لعلة جامعة والفرع والأصل هما المعلومان المذكوران في الحد ولو قال قائل إن المتفرع هو العلم بالحكم في الذرة عن العلم بالحكم في البر لكان أولى من قول الإمام وليس مخالفا لقول الفقهاء
وبيان الأولوية أن الحكم قديم في الأصل والفرع والنص الوارد دال عليه والعلم به هو الذي اقتضى تعديته من محل ورود النص إلى الفرع وينبغي أن يحقق أنه هل يتعقل تفرع حكم الذرة على حكم البر وهما قديمان أولا يعقل بل هما سواء والتفرع في عملنا والأدلة الدالة على ذلك هذا موضع نظر يحتاج إلى زيادة فكر ثم قال الإمام وبعد التنبيه على هذه الاصطلاحات نساعد الفقهاء على مصطلحهم لئلا يفتقر إلى تغييره ثم أن المصنف لما بين الأركان الثلاثة على سبيل الإجمال تصدى لتبينها مفصلة فعقد لذلك فصلين
قال الفصل الأول في العلة وهي المعرف للحكم قيل المستنبطة عرفت به فيدور قلنا تعريفه في الأصل وتعريفها في الفرع فلا دور
إنما أفرد بيان العلة بفصل مقدم على بيان الأصل والفرع ومتعلقاتهما لكثرة تشعب الآراء عندها وعظم موقعها وتشتت المباحث فيها وقد اختلفت مقالات الناس في تفسيرها على مذاهب الأول وبه جزم المصنف واختاره الإمام

وأكثر الأشاعرة أنها المعرف للحكم وقد يقال العلامة والإمارة واعترض على هذا بأن المستنبطة لم تعرف إلا من الحكم لأن معرفة كونها علة للحكم تتوقف على معرفة الحكم ضرورة فلو عرف الحكم لها لتوقف العالم بالحكم عليها وهو دور وإنما قيدنا السؤال بالمستنبطة لعدم توقف معرفة العلة المنصوصة على معرفة الحكم لكونها معروفة من النص وأجاب بأن تعريف الحكم للعلة بالنسبة إلى الأصل وتعريف العلة للحكم بالنسبة إلى الفرع فلا دور لاختلاف المحل وقضية هذا القول أن تكون العلة عبارة عن معرف حكم الفرع فقط ولا فدخل لها في تعريف حكم الأصل لكونه حينئذ معلوما بالنص أو دليل آخر وبهذا اعترض عليه صفي الدين الهندي
وقال يخدشه ما هو المشهور من قول أصحابنا من أن حكم الأصل معلل بالعلة المشتركة بينها وبين الفرع مع كونه على هذا القول غير معرف بها والمذهب الثاني أنها الموجب لا لذاته بل يجعل الشارع إياه موجبا للأحكام وهو رأي الغزالي
وقال صفي الدين الهندي هو قريب لا بأس به والثالث وهو قول المعتزلة أنها المؤثر في الحكم بذاته وهو باطل لأنه مبني على التحسين والتقبيح ولأن الحكم قديم والوصف حادث فيستحيل تعليله به والرابع واختاره الآمدي وابن الحاجب أنها الباعث أي مشتملة على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم وهو ضعيف لاستحالته في حق الله تعالى لأن من فعل فعلا لغرض فلا بد وأن يكون حصول ذلك الغرض بالنسبة إليه أولى من لا حصوله وإلا لم يكن غرضا وإذ كان حصول الغرض أولى وكان حصول تلك الأولوية متوقفا على فعل ذلك الفعل كان حصول تلك الأولوية لله تعالى متوقفة على الغير فتكون ممكنة غير واجبة لذاته ضرورة توقفها على الغير فيكون كماله تعالى ممكنا غير واجب لذاته وهو باطل لا يقال حصول ذلك الغرض ولا حصوله وإن كان مستويا بالنسبة إليه فمتفاوت بالنسبة إلى غيره لأن حصوله لهم أولى فيفعله تعالى لا لغرضه بل لغرضهم وحينئذ لا يلزم منه استكمال ذاته تعالى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7