كتاب : الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي
المؤلف : علي بن عبد الكافي السبكي

بصفة ممكنة لأنا نقول فعله لذلك الفعل لتحصيل غرضهم إن كان أولى من لا فعله جاء حديث الاستكمال وإن لم يكن فتحصيل الغرض إن كان لتحصيل غرض آخر لهم كان الكلام فيه كالأول وتسلسل وإن لم يكن لغرض آخر لهم مع أنه ليس فيه أولوية استحال أن يكون غرضا
وقد نجز من القول في هذه المسألة ما لا يحتمل هذا الشرح أطول منه وبقي سؤال يورد الشيوخ وهو أن المشتهر عن المتكلمين أن أحكام الله تعالى لا تعلل واشتهر عن الفقهاء التعليل وأن العلة بمعنى الباعث وتوهم كثير منهم منها أنها باعثة للشرع على الحكم كما هو مذهب قد بينا بطلانه فيتناقض كلام الفقهاء وكلام المتكلمين وما زال الشيخ الإمام الوالد والدي رحمه الله أطال الله عمره يستشكل الجمع بين كلاميهما إلى أن جاء ببديع من القول فقال في مختصر لطيف كتبه على هذا السؤال وسماه ورد العلل في فهم العلل لا تناقض بين الكلامين لأن المراد أن العلة باعثة على فعل المكلف مثاله حفظ النفوس فإنه علة باعثة على القصاص الذي هو المكلف المحكوم به من جهة الشرع فحكم الشرع لا علة له ولا باعث عليه لأنه قادر أن يحفظ النفوس بدون ذلك وإنما تعلق أمره بحفظ النفوس وهو مقصود في نفسه وبالقصاص لكونه وسيلة إليه فكلا المقصد والوسيلة مقصود للشارع وأجرى الله تعالى العادة أن القصاص سبب للحفظ فإذا فعل المكلف من السلطان والقاضي وولي الدم القصاص وانقاد إليه القاتل امتثالا لأمر الله به ووسيلة إلى حفظ النفوس كان لهم أجران أجر على القصاص وأجر على حفظ النفوس وكلاهما مأمور به من جهة الله تعالى
أحدهما بقوله كتب عليكم القصاص
والثاني إما بالاستنباط وأما بالإيماء في قوله ولكم في القصاص حياة وهكذا يستعمل ذلك في جميع الشريعة ومن هنا يتبين أن كل

حكم معقول المعنى فللشارع فيه مقصودان أحدهما ذلك المعنى والثاني الفعل الذي هو طريق إليه وأمر المكلف أن يفعل ذلك الفعل قاصدا به ذلك المعنى فالمعنى باعث له لا للشارع ومن هنا يعلم أن الحكم المعقول المعنى أكثر أجرا من الحكم التعبدي فيه معنى آخر وهو أن النفس لاحظ لها فيه فقد يكون أجر الواحد يعدل الأجرين اللذين في الحكم غير التعبدي ويعرف أيضا أن العلة القاصرة سواء كانت منصوصة أم مستنبطة فيها فائدة وقد ذكر الناس لها فوائد وما ذكرناه فائدة زائدة وهي قصد المكلف فعله لأجلها فيزداد أجره فانظر هذه الفائدة الجليلة واستعمل في كل مسألة ترد عليك هذا الطريق وميز بين المراتب الثلاث وهي حكم الله بالقصاص ونفس القصاص حفظ النفوس وهو باعث على الثاني لا على الأول وكذا حفظ المال بالقطع في السرقة وحفظ العقل باجتناب المسكر فشد يديك بهذا الجواب
قال والنظر في أطراف الأول في الطرق الدالة على العلية الأول النص القاطع كقوله تعالى كيلا يكون دولة وقوله عليه السلام إنما جعل الاستئذان من أجل البصر وقوله إنما نهيتكم عن لحم الأضاحي لأجل الدافة
المراد بالنص كما قال الإمام وغيره ما كانت دلالته ظاهرة سواء كانت قاطعة أم محتملة وتقسيم المصنف النص إلى قاطع وظاهر يخالف ما تقدم منه في تقسيم الألفاظ من جعل الظاهر قسيما للنص لا قسما منه وحاصله ما ذكره هنا أن النص على قسمين الأول القاطع وعبر عنه الآمدي والهندي وغيرهما بالصريح وله ألفاظ منها كي كقوله تعالى في الفيء كيلا يكون دولة أي إنما وجب تخميسه كيلا يتداوله الأغنياء منكم فلا يحصل للفقراء شيء ومنها لأجل كذا أو من أجل كذا كقوله عليه السلام إنما جعل الاستئذان من أجل البصر رواه البخاري ومسلم وقوله إنما نهيتكم من

أجل الدافة التي وفت فكلوا وادخروا رواه مسلم وأبو داود والنسائي أي لأجل التوسعة على الطائفة التي قامت المدينة أيام التشريق والدافة القافلة السائلة ومنها لعلة كذا أو لسبب أو لمؤثر أو لموجب وإهمال المصنف ذلك لكونه في معنى لأجل
قال والظاهر اللام كقوله تعالى لدلوك الشمس فإن أئمة اللغة قالوا اللام للتعليل وفي قوله تعالى لقد ذرأنا لجهنم
وقول الشاعر ... لدوا للموت وابنوا للخراب ...

للعاقبة مجازا وأن مثل ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة مبليا
والباء مثل فبما رحمة من الله لنت لهم
الثاني من قسمي النص الظاهر وهو اللام وأن الباء أما اللام فكما في قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس فإن أهل اللغة نصوا على أنه للتعليل وإنما لم يكن صريحا لاحتمال الاختصاص أو الملك وغير ذلك قوله وفي قوله هذا جواب عن سؤال مقدار تقريره اللام ليست للتعليل كقوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس فإن ذلك ليس عرضا بالإجماع فإن الناس على قولين منهم من لم يعلل أفعال الله لشيء أصلا ومنهم من يعللها بالمصالح فأما تعليلها بالمضار والعقوبات فلم يقل به عاقل ولقول الشاعر ... له ملك ينادي كل يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب

وذلك ليس للعلية إذا الولادة والبناء ليس لغرض الموت والخراب وجوابه أن اللام في هذه الأماكن مستعملة على جهة التجوز للعاقبة فإن عاقبة كثير من المخلوقات جهنم وعاقبة الولادة الموت والبناء للخراب والعلاقة بين العلة والعاقبة أن عاقبة الشيء مترتبة عليه في الحصول كترتب العلة الغائبة على معلولها واستعمالها على جهة المجاز لا ينفي كونها ظاهرة في التعليل الذي هو حقيقتها فإن قلت استعمالها في غير التعليل لا ينفي كونها ظاهرة فيه لو ثبت كونها حقيقة له لكن لم يثبت بعد فإنكم إنما استدللتم عليه بالاستعمال وعارضناه بمثله فليس الاستدلال بذلك الاستعمال على حقيتها في التعليل أولى من العكس
قلت الاستدلال بما ذكرناه من الاستعمال أولى لموافقته قول أهل اللغة أنها للتعليل ولكونه أسبق إلى الفهم وأما إن فكقوله عليه الصلاة و السلام في المحرم الذي وقصته ناقته ولا تمسوه طيبا ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا أخرجاه في الصحيحين وفي هذا الحديث جهتان يدلان على التعليل أن كما تقرر وترتيب الحكم على الوصف كما سيأتي في كلام المصنف إن شاء الله تعالى وأما الباء ففي قوله تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم
فإن قلت أصل الباء للإلصاق فلم قلتم بأنها ظاهرة في التعليل قلت قال الإمام ذات العلة لما اقتضت وجود المعلول حصل معنى الإلصاق هنا فحسن استعماله فيه مجازا لكن قال صفي الدين الهندي هذا مخالف لما ذكره غيره ولما أشعر به كلامه أيضا إذ صرح بأن دلالة اللام وأن والباء على التعليل ظاهرة من غير تفرقة بينها ثم إنه صرح بأن دلالة اللام حقيقة فأشعر بالتسوية في الدلالة ولأن دلالة المجاز لا تكون ظاهرة إلا بطريق علية الاستعمال أو القرينة فكان يجب عليه أن يقيد ظهور دلالته بغلبة الاستعمال لا في أصل الوضع
قال الثاني الإيماء وهو خمسة أنواع

الأول ترتيب الحكم على الوصف بالفاء ويكون في الوصف أو الحكم وفي لفظ الشارع أو الراوي مثاله السارق والسارقة لا تقربوه طيبا زنا ماعز فرجم
الثاني من الطرق الدالة على العلية الإيماء والتنبيه قال الآمدي وصفي الدين الهندي دلالته على العلية بالالتزام لأنه يفهم التعليل فيه من جهة المعنى لا من جهة اللفظ قال الهندي إذ اللفظ لو كان موضوعا لها لم يكن دلالته من قبيل الإيماء بل كان صريحا وهذا الذي قالاه فيه نظر سنذكره وهو أنواع
الأول أن يذكر حكما ووصفا وتدخل الفاء على أحدهما وهو أقسام أولها دخول الفاء على الوصف في كلام الشارع كقوله صلى الله عليه و سلم فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا
الثاني دخولها في كلام الراوي ولم يمثل له المصنف
الثالث دخول الفاء على الحكم في كلام الشارع مثل والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما
الرابع دخولها عليه في كلام الراوي مثل زنا ماعز فرجم وقد تقدم الكلام على حديث زنا ماعز من التخصيص وليس فيه وقوع هذا اللفظ في كلام الراوي ومثاله أيضا سها رسول الله صلى الله عليه و سلم فسجد
قال الإمام يشبه أن يكون تقدم العلة على الحكم أقوى في الإشعار بالعلية من الثاني لأن إشعار العلة بالمعلول أقوى من إشعار المعلول بالعلة لأن الطرد واجب في العلل دون العكس وعكس النقشواني الأمر معترضا على الإمام بأنه إذا تقدم الحكم تطلب نفس السامع العلة فإذا سمع وصفا معقبا بالفاء سكنت

نفسه عن الطلب وركنت إلى أن ذلك هو العلة وأما إذا تقدم معنى لم يعلم بعد حكمه مثل والسارق والسارقة فالنفس تطلب الحكم فإذا صار الحكم مذكورا فبعد ذلك قد يكتفي في العلة بما سبق إن كان شديد المناسبة مثل السارق والسارقة وقد لا يكتفي بل يطلب العلة بطريق آخر بأن يقول إذا أقمتم الصلاة فاغسلوا وجوهكم تعظما للمعبود وأما فيما إذ تأخر ذكر العلة فلا يجوز ذكر علة أخرى قال ولو ذكر علة عد مناقضا فكان الإشعار بالعلية على عكس ما قاله الإمام كيف وترتيب الحكم على الوصف عند الإمام يقتضي العلة وإن لم يكن مناسبا ويلزمه أن يقول إشعار قول القائل أما الطوال فأكرموهم بالعلة أقوى من أكرموا هؤلاء فإنهم طوال وليس كذلك لإمكان قول القائل في الأول لم أجعل الإكرام علة دون الثاني وأما قول الإمام إشعار العلة بالمعلول أقوى فهذا لا يتأتى إلا في شيء عرف كونه علة قبل الكلام أو قبل الحكم أما ما كانت العلة فيه مستنبطة من ذلك الكلام فلا يتأتى فيه ما ذكر الثانية ما ورد في كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه و سلم فهو أقوى دلالة على العلية من كلام الراوي لتطرق احتمال الخطأ إليه دون الله ورسوله وجعل الآمدي الوارد في كلام الله أقوى من الوارد في كلام رسوله والحق مساواتهما لعدم احتمال تطرق الخطأ قاله الهندي وهو صحيح وما كان من كلام الراوي الفقيه أقوى مما هو من كلام من ليس بفقيه
الثالثة استدل الآمدي على إفادة هذا النوع من الإيماء العلية بأن الفاء للتعقيب ودخولها على الحكم بعد الوصف يقتضي ثبوت الحكم عقب الوصف ويلزم كون الوصف سببا إذ لا معنى لسببيته إلا ثبوت الحكم عقيبه
وقد ذكر الهندي هذا التعليل واعترض عليه بأنا نسلم أن كل سبب يعقبه الحكم لكن لا نسلم أن كل ما يعقبه الحكم سبب فإن القضية الكلية لا تنعكس كنفسها وهو اعتراض صحيح ثم هذا الدليل على ضعفه يختص بدخولها على الحكم بعد الوصف دون عكسه
وقد جعل ابن الحاجب دلالة الأقسام التي ذكرناها في هذا القسم من باب

الصريح دون الإيماء والحق عندي في هذا أن يقال ترتيب الحكم على الوصف يفيد العلية بوضع اللغة ولم تضع العرب ذلك دالا على مدلوله بالقطع والصراحة بل بالإيماء والتنبيه ولا بدع في مثل هذا الوضع وإنما لم نجعله من باب الصريح لتخلفه في بعض محاله عن أن يكون إيماء وهو حيث تكون الفاء بمعنى الواو فكانت دلالته أضعف وإذا وضح هذا علمت أن دلالته ليست إلتزامية كما زعم الآمدي والهندي وهذا هو النظر الذي أشرنا إليه أول الفصل وإنها ليست صريحة على خلاف ما ظن ابن الحاجب الرابعة قد يقال كيف يعتمد قول الراوي هنا مع جواز أن يكون ترتيبه للحكم على الوصف لفهمه أو ظنه ما ليس بعلة علة وقد قال الجمهور لا يعتمد قوله هذا منسوخ ولا عمله بخلاف ما رواه لاحتمال ذلك ولا قوله أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم عند بعض الأصوليين وقد يقال يعتمد قوله في فهم مدلولات الألفاظ كالرواية بالمعنى ويجاب بأن العمل بقوله هذا منسوخ يلزم منه رفع دليل ثابت بقول جاز أن يقوله عن اجتماد لا نراه بخلاف مثل قوله سها فسجد فإنه لا يلزم من إثبات هذا الحكم الذي جاءه به رفع دليل ثابت وكذا الآخذ بما رآه دون ما رواه وأما قوله أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بكذا فالأكثرون على اعتماده والعمل به ومن لم يعتمده مستنده احتمال أن الحكم كان غير دائم وظنه دائما أو مختصا بواحد وظن عدم اختصاصه لا من جهة ظنه ما ليس بأمر أمرا فإن ذلك بعيد من العربي وحاصل هذا كله أن الراوي يرجع إليه في مدلولات الألفاظ لا في الاجتهاد والحق عندي في هذا أن يقال إن كان الراوي صحابيا اعتمد فهمه لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم فقهاء ومن صميم العرب وإن كان غير صحابي فالظاهر أيضا اعتماده إذا كان كذلك وإن كان ممن قد يخفى عليه أن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية فلا يعتمد
فرع ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية وقيل إذا كان مناسبا لنا لو قيل أكرم الجاهل وأهن العالم قبح وليس لمجرد الأمر فإنه قد يحسن فهو لسبق التعليل قيل الدلالة في هذه الصورة لا تستلزم دلالته في الكل قلنا يجب دفعا للاشتراك

اختلفوا في اشتراط المناسبة في الوصف المومى إليه فذهب الأكثرون إلى عدم اشتراطه
وقيل يشترط وتوجيه تفريع هذا الفرع على ما قبله أن يقال إذا ثبت أن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية فهو يشترط مناسبة الوصف واستدل المصنف على أنه لا يشترط بأن القائل لو قال أكرم الجاهل وأهن العالم استقبح هذا الكلام منه عرفا وليس الاستقباح لمجرد الأمر بذلك فإن الجاهل قد يحسن إكرامه في الجملة لسبب أو دين أو غير ذلك
والعالم قد يحسن إهانته لفسق أو بخل أو غيره فثبت أن استقباح ذلك إنما هو لسبق الفهم إلى تعليل إكرام الجاهل بالجهل وإهانة العالم بالعلم لأن الأصل عدم غيره فيكون حقيقة في أن ترتيب الحكم على الوصف يقتضي العلية مطلقا واعلم أن عبارة الإمام أكرم الجهال وأهن العلماء وفهم علية الوصفين في هذه الصورة أسبق إلى الذهن من فهمه في قولنا أكرم الجاهل وأهن العالم لأنه قد يقال أنه في حالة الجمع يكون ناظرا إلى جهة الجهل والعلم دون الأفراد إذ يكون الشخص فيه مقصودا فإتيان المصنف بصيغة الإفراد أحسن إذ يلزم من ثبوته فيه ثبوته لك الصورة بطريق أولى
وهكذا فعل الآمدي وقد اعترض الخصم على هذا الدليل بأن دلالته الترتيب على العلية في هذه الصورة لا تستلزم دلالته في جميع الصور لأن المثال الجزئي لا يدل على الكلية فيحتمل أن يكون ذلك لخصوصية هذه الصورة

وأجاب بأنه إذا ثبت في هذه الصورة لزم في جميع الصور وألا يلزم الاشتراك في هذا النوع من التركيب ولقائل أن يقول الترتيب تركيب والمركب غير موضوع عنده فأين لزوم الاشتراك سلمنا أنه موضوع ولكن إنما يلزم الاشتراك أن لو قلنا إنه يدل في غير هذه الصورة على شيء وفرق بين الدلالة على العدم وعدم الدلالة والاشتراك لازم على الأول الممنوع دون الثاني المسلم ولا يقال الترتيب الدال في هذه الصورة لا بد أن يدل على شيء في غيرها لأن ذلك مجرد دعوى
قال الثاني أن يحكم عقيب علمه بصفة المحكوم عليه كقول الأعرابي واقعت يا رسول الله فقال اعتق رقبة لأن صلاحية جوابه تغلب ظن كونه جوابا والسؤال معاد فيه تقديرا فالتحق بالأول
الثاني من أنواع الإيماء أن يحكم الرسول صلى الله عليه و سلم بحكم في محل عند علمه بصفة فيه فيغلب على الظن أن تلك الصفة علة لذلك الحكم مثاله ما روي أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال هلكت وأهلكت واقعت أهلي في نهار رمضان عامدا فقال أعتق رقبة وأصل الحديث في الكتب الستة كلها لكن بغير صيغة أعتق رقبة وبهذا الصيغة في سنن ابن ماجة فيظن أن الوقاع في نهار رمضان سبب لوجوب عتق الرقبة لأن ما ذكره الرسول عليه السلام من الكلام يصلح أن يكون جوبا لهذا السؤال وصلاحيته لذلك تغلب على الظن كونه جوابا لأن الاستقراء يدل على أن الغالب فيما صلح للجواب أن يكون جوابا فإن قلت يحتمل أن يكون جوابا عن سؤال آخر أو ابتداء كلام أو زجرا له عن الكلام كقول السيد لعبده إذا سأله عن شيء اشتغل بشأنك قلت غلبة الظن توجب لحاق هذا الفرد بالأعم والأغلب ولأنه لو لم يكن جوابا لخلا السؤال عن الجواب ولزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وما يقال عليه لعله عليه السلام عرف أنه لا حاجة للمكلف إلى ذلك الجواب في ذلك الوقت فلا يلزم تأخير البيان عن وقت

الحاجة فهو احتمال مرجوح لكونه نادرا إذا الغالب في السؤال كونه وقت الحاجة وإذا كان ما ذكره الرسول عليه السلام جوابا عن السؤال معاد في الجواب تقديرا فيصير تقدير الكلام واقعت فاعتق فيرجع إلى نوع ترتيب الحكم على الوصف بالفاء لكنه أضعف منه لأن الفاء وإعادة السؤال مقدر فيه والمقدر وإن ساوى المحقق في أصل الثبوت فلا يساويه في القوة وما وقع من هذا النوع في كلام الراوي فهو حجة أيضا لأن معرفة كون الكلام المذكور جوابا عنه أو ليس جوابا لا يحتاج إلى دقيق نظر وظاهر حال الراوي العدل لا سيما العارف أنه لا يجزم بكونه جوابا إلا وقد تيقن ذلك
قال الثالث أن يذكر وصفا لو لم يؤثر لم يفد مثل إنها من الطوافين عليكم والطوافات ثمرة طيبة وماء طهور وقوله أينقض الرطب إذا جف قيل نعم فقال فلان إذن وقوله لعمر وقد سأل عن قبلة الصائم أرأيت لو تمضمضت بما ثم مججته
إذا ذكر الشارع وصفا لو لم يؤثر في الحكم أي لم يكن علة فيه لم يكن لذكره فائدة دل على عليته إيماء وإلا كان ذكره عبثا ولغوا ينزه هذا المنصب الشريف عنه وهو على أربعة أقسام
الأول أن يدفع السؤال في صورة الإشكال بذكر الوصف كما روي أن عليه السلام امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب فقيل إنك تدخل على بني فلان وعندهم هرة فقال عليه السلام إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات رواه الأربعة أصحاب السنن فلو لم يكن لكونها من

الطوافات أثر في طهارتها لم يكن لذكره عقيب الحكم بطهارتها فائدة
الثاني أن يذكر وصفا في محل حكم لا حاجة إلى ذكره ابتداء فتعلم أنه إنما ذكره لكونه مؤثرا في الحكم كما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ليلة الجن لابن مسعود ما في أداوتك قال نبيذ قال تمرة طيبة وماء طهور وهو حديث ضعيف رواه الترمذي وابن ماجة قال القرافي في تعليقه على المنتخب وهذا المثال غير مطابق لأن ذكره عليه السلام طيب التمرة ليس إشارة إلى العلة في بقاء الطهورية بل إلى عدم المانع والمعنى لو كانت التمرة مستقذرة أمكن أن تكون نجسة كمنع من بقاء الطهورية لكن ليست كذلك
الثالث أن يسأل الرسول صلى الله عليه و سلم عن شيء فيسأل عليه السلام عن وصف له فإذا أخبر عنه حكم فيه بحكم كما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد سأل عن اشتراء الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا يبس قالوا نعم قال صلى الله عليه و سلم فلا إذن رواه الأربعة وقال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن خزيمة والحاكم فلو لم يكن نقصانه علة في المنع لم يكن للتقديم عليه فائدة وهو يدل على العلية بوجهين آخرين من حيث الفاء ومن قوله إذن فهي من صيغ التعليل وقد عدها ابن الحاجب مما يدل بالنص على العلية مثل من أجل كذا وشبه
الرابع أن يسأل عن حكم فيتعرض لنظيره وينبه على وجه الشبه بينه وبين المسؤول عنه فيفيد أن وجه الشبه هو العلة كما روى أبو داود والنسائي أن عمر رضي الله عنه قال هششت فقبلت وأنا صائم فقلت يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم قال أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم قلت لا بأس قال فمه قال النسائي هذا الحديث منكر وقال أحمد بن حنبل ضعيف فنبه عليه السلام بهذا على أنه لا يفسد الصوم بالمضمضة لمشابهتها للقبلة في أن كلا منهما وإن كان مقدمة للشرب والوقاع المفسدين فلم يحصل منه المطلوب من الشرب والوقاع وفيه إشارة إلى أركان القياس الأربعة لأنه عليه

السلام جعل المضمضة أصلا والقبلة فرعا وكون كل منهما مقدمة المفسد جامعا وعدم الإفساد حكما واعترض الآمدي على التمثيل بهذا الحديث بأنه ليس من قبيل ما نحن فيه إذ ليس فيه ما تتخيل أن يكون مانعا من الإفطار بل غايته أن لا يفطر قال بل هو نقض لما توهمه عمر رضي الله عنه من إفساد مقدمة الإفساد قال الهندي وهو ضعيف لأن في قوله عليه السلام أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه تنبيها على الوصف المشترك بين المضمضة والقبلة وهو عدم حصول المقصود منهما وهو يصلح للعلية لعدم اشتراط المناسبة في الوصف المومى إليه
قال الرابع أن يفرق الحكم بين شيئين بذكر وصف مثل القاتل لا يرث وقوله إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد
إذا فرق الشارع بين شيئين في الحكم بذكر صفة كان إيماء إلى علية الصفة وإلا لم يكن لذكرها معنى وهو ضربان
أحدهما أن لا يكون حكم أحدهما مذكورا في الخطاب بل في خطاب آخر مثل قوله عليه السلام القاتل لا يرث وقد تقدم الكلام على الحديث في الخصوص مع تقديم بيان إرث الورثة ففرق بقوله القاتل لا يرث بينه وبين جميع الورثة بذكر القتل الذي يجوز جعله في نفي الإرث
وثانيهما أن يذكر حكمهما في الخطاب وهو على خمسة أوجه اقتصر في الكتاب على الأول منها وهو أن يقع التفرقة بلفظ يجري مجرى الشرط كقوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو في صحيح مسلم فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد نهيه عن بيع البر بالبر متفاضلا والثاني أن يقع التفرقة بالغاية مثل ولا تقربوهن حتى يطهرن والثالث بالاستثناء إلا أن يعفون والرابع بلفظ يجري

مجرى الاستدراك مثل لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان يدل على علية التعقيد للمؤاخذة والخامس استئناف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الآخر صالحة للعلية كقوله عليه السلام للراجل سهم وللفارس سهمان وأعلم أن اعتماد هذين النوعين على أنه لا بد لتلك التفرقة من سبب ولذكر الوصف من فائدة وجعل الوصف سبب التفرقة فائدة
قال الخامس النهي عن مفوت الواجب مثل وذروا البيع
إذا نهى عن فعل يمنع الإتيان به حصول ما تقدم وجوبه علينا كان إيماء إلى أن علة ذلك النهي كونه مانعا من الواجب كقوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فإنه لما أوجب السعي ونهى عن البيع مع علمنا بأنه لو لم يكن النهي عنه لمنعه من السعي الواجب لما جاز ذكره في هذه الموضع لكونه يخل بجزالة الكلام وفصاحته دل على إشعاره بالعلية وقد نجز القول في أقسام الإيماء الذي هو الثاني من الطرق الدالة على العلية ونعقبه إن شاء الله بالثالث وبالله التوفيق
قال الثالث الإجماع كتعليل تقديم الأخ من الأبوين في الإرث بامتزاج النسبين
إذا أجمعت الأمة على علية وصف الحكم ثبتت عليته له كإجماعهم على أن العلة في تقديم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في الإرث وهو امتزاج النسبين فيلحق به تقديمه في ولاية النكاح وصلاة الجنازة والحضانة والوصية لأقرب الأقارب والوقف عليه وتحمل الدية قياسا بجامع امتزاج النسبين فإن قلت قد وقع خلاف في المذهب في أكثر هذه الصور هل يستويان أو يقدم

الأخ من الأبوين كولاية النكاح وصلاة الجنازة وتحمل العقل والوصية والوقف وإنما لم يقع في الحضانة لأن الأنوثة في بابها أقوى من الذكورة ولذلك قال بعض الأصحاب بتساوي الأخ للأم والأخ للأب فكيف ذلك مع الإجماع قلت لا يلزم من إجماعهم على علية وصف أن لا يقع خلاف معها لجواز أن يكون وجودها في الأصل أو الفرع متنازعا فيه أو يكون في حصول شرطها أو منعها نزاع وهذا على رأي من يجوز تخصيص العلة وإنما لا يتصور الخلاف إذا وقع الاتفاق على ذلك كله
قال الرابع المناسبة المناسب ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا
عرف المناسب بأنه الذي يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا وغيره قال إنه الوصف المفضي إلى ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضرا وهما متغايران لأن المصنف جعل المقاصد أنفسها أوصافا وهذا التعريف هو قوله من يعلل أفعال الله تعالى بالمصالح والنفع عبارة عن اللذة وما كان طريقا إليها والضرر الألم وطريقه وقيل في حد اللذة إدراك الملايم والألم إدراك المنافي قال الهندي وهو لا يخلو عن شائبة الدور يعني لأن إدراك أحدهما يتوقف معرفته على إدراك الآخر وهذا فيه نظر إذ قد يدرك المنافي من لم يدرك الملايم ويعرفه وكذا العكس قال الإمام والصواب عندي أنهما لا يحدان لكونهما من الأمور الوجدانية أما من لم يعلل أفعال الله تعالى فقال المناسب الملايم لأفعال العقلاء في العادات
قال وهو حقيقي دنيوي ضروري كحفظ النفس بالقصاص والدين

بالقتال والعقل بالزجر عن المكسرات والمال بالضمان والنسب بالحد على الزنا ومصلحي كنصب الولي للصغير وتحسيني كتحريم القاذورات واحروي كتزكية النفس وإقناعي بظن مناسبا فيزول بالتأمل فيه
هذا تقسيم أول للمناسب المناسب إما حقيقي أو إقناعي الأول الحقيقي وهو إما لمصلحة تتعلق بالدنيا أو بالآخرة والمتعلق بالدنيا إما أن يكون في محل الضرورة وهو الضروري أو في محل الحاجة وهو المصلحي أولا في محل الضرورة ولا الحاجة بل كان مستحسنا في العادات فهو التحسيني فالضروري ما تضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمس التي اتفقت الملل على حفظها وهي النفس والدين والعقل والمال والنسب فحفظ النفس بمشروعية القصاص قال الله تعالى ولكم في القصاص حياة وأما الدين فبقتال الكفار وعليه نبه قوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون وأما العقل فبتحريم المسكرات
وعليه نبه قوله تعالى إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة وأما حفظ المال فبالضمان على الغاصب والاختلاس والسرقة وأما النسب فبوجوب الحد على الزاني فهذه الخمسة هي الضرورية ويلتحق بها ما كان مكملا لها كتحريم البدعة والمبالغة في عقوبة المبتدع إليها وفي تحريم شرب القليل من المسكر ووجوب الحد فيه وفي حفظ النسب بتحريم النظر والمس وترتيب التعزير على ذلك وأما المصلحي فكنصب الولي للصغير فيمكن من تزويج الصغيرة لأن مصالح النكاح غير ضرورية ولكن واقعة في محل الحاجة فإنها داعية إلى الكفء الموافق وهو لا يوجد في كل وقت فلو لم يقيد بالنكاح لأوشك فواته لا إلى بدل ومثله تجويز الإجاره فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضنة مالكها ببذلها عارية
قال إمام الحرمين فمن قال الإجارة خارجة عن مقتضى القياس فليس على

بصيرة من قوله فإنها إن خرجت فخروجها عن الاستصلاح فهي خارجة على مقتضى الحاجة والحاجة أصل والاستصلاح بالإضافة إليه فرع انتهى ومراده بالاستصلاح كما نبه هو عليه الحمل على الأصلح والأرشد كاشتراط مقابلة الموجود بالموجود فليست الإجارة من الأقيسة الجزئية التي هي الاستصلاح لأنها مقابلة موجود بمعدوم
قال إمام الحرمين وليس المراد بكونه قياسا جزئيا جريانه في شخص أو جزء ولكن الأصل الذي لا بد من رعايته الضرورة ثم الحاجة والاستصلاح في الوجوه الخاصة في حكم الجزء عند النظر في المصالح والضوابط الكلية انتهى وكالإجارة المساقاة لاشتغال بعض الملاك عن تعهد أشجاره والقراض وذكر بعضهم البيع في ذلك هذا القسم
وقال إمام الحرمين تصحيح البيع آيل إلى الضرورة فإن الناس لم يبذلوا ما بأيديهم لجر ذلك إلا لضرورة ظاهرة فيلتحق بمشروعية القصاص واعلم أنه قد يتناهى بعض جزئيات هذا القسم فيخرج عنه إلى حد الضرورة كتمكين الولي من شراء الطعام والملبوس للصغير الذي في معرض التلف من الجوع والبر واستئجار المرضعة له ويلتحق بقسم المصلحي ما كان مكملا له كرعاية الكفاءة ومهر المثل في التزويج فإنه أفضى إلى دوام النكاح وتكميل مقاصده وإن حصلت أصل الحاجة بدون ذلك وأما التحسيني فقسمان أحدهما وعلى ذكره اقتصر المصنف ما يقع على غير معارضة قاعدة معتبرة كتحريم القاذورات فإن نفرة الطباع عنها لقذارتها معنى يناسب حرمة تناولها حثا على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ومن هذا إزالة النجاسات فإنها مستقذرة في الجبلات واجتنابها أهم في المكارم والمرآت ولهذا يحرم على الصحيح أن يتضمخ المرء بالنجاسة من غير حاجة
قال إمام الحرمين في البرهان والشافعي نص على هذا في الكبير ثم إنه في النهاية عند الكلام في وطئ المرأة في دبرها قال لا يحرم ويحرم أيضا على الصحيح لبس جلد الميتة ولا يجوز أن يلبس دابته جلد الكلب أو الخنزير وقال بعض الأصحاب بمنع الاستصباح بالدهن النجس وأما إيجاب الوضوء

فليس ينكر العاقل ما فيه من إفادة النظافة والأمر بالنظافة على استغراق الأوقات يعسر الوفاء به فوظف الشرع الوضوء في أوقات وبنى الأمر على إفادته المقصود وعلم الشارع أن أرباب العمل لا يعتمدون نقل الأوساخ والادران إلى أعضائهم البادية منهم فكان ذلك النهاية في الاستصلاح ومحاولة الجمع بين تحصيل أقصى الإمكان في هذه المكرمة ورفع التضييق في التدنس والتوسخ إذا حاول المرء ذلك
قال إمام الحرمين ولكن إزالة النجاسة أظهر في هذا من النظافة الكلية المترتبة على الوضوء من حيث أن الجبلة تستقذرها والمروءة تقتضي اجتنابها فهي أظهر من اجتناب الشث والغبرات قال ولهذا خص الشافعي رضي الله عنه الوضوء بالنية من حيث التحق بالتعبدات العرية عن الأغراض وضاهى العبادات الدينية ومن هذا القسم التحسيني أيضا سلب أهلية الشهادة عن الرقيق لأجل أنها منصب شريف والعبد نازل القدر والجمع بينهما غير ملائم
وأما سلب ولايته فهو محل الحاجة إذ ولاية الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا والعبد مستغرق بخدمة سيده فتفويض أمر طفله إليه إضرار بالطفل أما الشهادة فتتفق أحيانا كالرواية والفتوى قال الغزال وقول القائل سلب منصب الشهادة لخسة قدره ليس كقولنا سلب ذلك لسقوط الجمعة عنه فان ذلك لا يشم منه رائحة مناسبة أصلا وهذا لا ينفك عن الانظام لو صرح به الشارع وليس تنتفي مناسبته بالرواية والفتوى بل ذلك نقض على المناسب إلى أن يعتذر عنه
والمناسب قد يكون منقوضا فيترك أو يحترز عنه بعذر أو تعبد وكذلك تقييد النكاح بالولي فلو علل بقصور رأيها في انتفاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظواهر لكان مصلحيا في محل الحاجة ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها وفي نكاح الكفوء فهو رتبة التحسيني لأن الأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد لأن ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال وذلك غير لائق بالمروءة ففوضه الشرع إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج وكذلك تقييد النكاح بالشهادة لو علل بالإثبات عند النزاع لكان واقعا في محل

الحاجة ولكن سقوط الشهادة على رضاها يضعف هذا المعنى فهو لتفخيم أمر النكاح وتمييزه عن السفاح بإعلان والإظهار عند من له رتبة ومنزلة على الجملة والثاني من قسمي التحسيني ما يقع على معارضة قاعدة معتبرة وذلك كالكتابة فإنها من حيث كونها مكرمة في العوائد مستحسنة احتمل الشرع فيها خرم قاعدة ممهدة وهي امتناع معاملة السيد عبده وامتناع مقابلة الملك بالملك على صيغة المعارضة ولم يجز ذلك في الصرف المتقدم ولكن اختص ذلك الضرب بإيجاب الطهارة ولا تجب الكتابة على السيد على رأي معظم العلماء وحكى صاحب التقريب قولا أنها تجب إذا طلبها العبد ووجد السيد فيه خيرا وهذا تمام القول في المتعلق بالدنيا وأما المتعلق بالآخرة فكتزكية النفس ورياضتها وتهذيب الأخلاق المؤدي إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي الموصل إلى رضا الرحمن سبحانه وتعالى
وبقي قسم ثالث لم يورده المصنف تبعا للإمام وهو ما يتعلق بمصالح الدارين معا وذلك ما يحصل برعياته بعض ما تقدم من مصالح الدنيا والآخرة كإيجاب الكفارات إذ يحصل بها الزجر عن تعاطي تلك الأفعال التي وجبت الكفارة بسببها ويحصل تلاقي التقصير وتكفير الذنب الكبير الذي حصل من فعلها واعلم أنه قد يقع في كل قسم من هذه الأقسام ما يظهر كونه منه وما يظهر كونه ليس منه وما يستوي الأمران فيه
أما الأول فوجوب القصاص بالمثقل إذ يظهر أنه من المصالح الضرورية في حفظ النفوس لأنه لو لم يجب به القصاص لفات المقصود من حفظ النفوس لأن من يريد قتل إنسان والحالة هذه يعدل عن المحدد إلى المثقل درءا للقصاص عن نفسه والمثقل ليست فيه زيادة مؤنة على المحدد حتى يقال لا يكثر به القتل بسبب تلك المؤنة كما يكثر في المحدد فعدم وجوب القصاص فيه لا يفضي إلى الهرج والمرج بل المثقل أسهل من المحدد لوجوده غالبا من غير عوض
وأما الثاني فكإيجاب القصاص على أحد الوجهين عندنا بالثقل بغرز الإبرة في غير مقتل بحيث لا يعقب ألما وورما ظاهرا وكذا إبانه فلقة خفيفة من

اللحم على ما ذكره إمام الحرمين ونظائر ذلك فإنه يظهر منه أنه ليس من قبيل رعاية المصالح الضرورية إذ لا يفضي ذلك إلى الهلاك إلا نادرا فاشبه السوط الخفيف
وأما الثالث فكإيجاب القصاص على الجماعة بقتل الواحد لاحتمال الحاقة بالمصالح الضرورية إذ لو لم نوجب ذلك لاستعان كل من أراد قتل إنسان بصديق يشاركه فتبطل فائدة شرعية القصاص واحتمال خروجه عنه لاحتياجه إلى مشاركة غيره والظاهر أن ذلك الغير لا يشاركه فلم تساو المصلحة هنا المصلحة في وجوب القصاص في المنفرد ولنزول هذا القسم عن الأول كان في المذهب قول استنبطه أبو حفص بن الوكيل من كلام الشافعي أن الجماعة لا يقتلون الواحد
وقول آخر عن القديم أن ولي الدم يقتل واحدا يختاره من الجماعة ويأخذ حصة الآخرين ولا يقتل الجميع ولا خلاف عندنا في وجوب القصاص بالمثقل ولتعاليه عن الثاني كان الخلاف فيه أضعف منه في الثاني وقد نجز القول في تقسم الحقيقي وأما الاقناعي فهو الذي يظن مناسبته في بادئ الرأي وإذا بحث عنه حق البحث وضح أنه غير مناسب مثل تعليل بعض أصحابنا تحريم بيع الخمر والميتة والعذرة بنجاستها وقياس الكلب والسرقين عليها قال لأن كونه نجسا يناسب إذلاله ومقابلته بالمال في البيع يناسب إعزازه والجمع بينهما متناقض فهذا وإن تخيلت مناسبته أولا فليس الأمر كذلك لأن المعنى بكونه نجسا منع الصلاة معه ولا مناسبة بين بيعه واستصحابه في الصلاة كذا ذكره ولقائل أن يقول لا نسلم أن المعنى بكونه نجسا منع الصلاة معه بل ذلك من جملة أحكام النجس وحينئذ فالتعليل بكون النجاسة تناسب الإذلال ليس بإقناعي نعم مثال هذا استدلال الحنفية على قولهم إذا باع عبدا من عبدين أو ثلاثة يصح غرر قليل تدعو الحاجة إليه فأشبه خيار الثلاث فان الرؤساء لا يحضرون السوق لاختيار المبيع فيشتري الوكيل واحدا من ثلاثة ويختار الموكل ما يريد فهذا وإن تخيلت مناسبته أولا فعند

التأمل يظهر أنه غير مناسب لأنا نقول لا حاجة إلى ذلك لأنه يمكنه أن يشتري ثلاثة في ثلاثة عقود بشرط الخيار فيختار منها ما يريد
قال والمناسبة تفيد العلمية إذا اعتبرها الشارع فيه كالسكر في الحرمة أو في جنسه كامتزاج النسبين في التقديم أو بالعكس كالمشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في سقوط الصلاة أو جنسه في جنسه كإيجاب حد القذف على الشارب لكون الشرب مظنة للقذف والمظنة قد أقيمت مقام الظنون
هذا تقسيم ثان للمناسب من جهة شهاب الشرع لاعتباره وعدم اعتباره فنقول المناسب إما أن يعتبره الشارع أو لا الضرب الأول ما علم اعتبار الشارع له والمراد بالعلم هنا ما هو أعم من الظن وبالاعتبار إيراد الحكم على وفقه لا التنصيص عليه ولا الإيماء إليه وإلا لم تكن العلية مستفادة من المناسبة وهو أربعة أحوال لأنه إما أن يعتبر نوعه أو في جنسه أو جنسه في نوعه أو جنسه
الحالة الأولى أن يعتبر نوعه في نوعه ومثل له المصنف بالسكر في الحرمة أي أن حقيقة السكر إذا اقتضت حقيقة التحريم فإن النبيذ يلحق بها لأنه لا فارق بين العلتين وبين الحكمين إلا اختلاف المحلين واختلاف المحل لا يقتضي ظاهرا اختلاف الحاليين ومثاله أيضا قياس المثقل على الجارح في وجوب القصاص بجامع كونه قتلا عمدا محضا عدوانا وأنه عرف تأثير نوع كونه قتلا عمدا عدوانا في نوع الحكم الذي هو وجوب القصاص في النفس في المحدد
الحالة الثانية أن يعتبر نوعه في جنسه وإليه الإشارة بقوله أو في جنسه الإخوة من الأب والأم لما اقتضت التقدم في الميراث قيس عليها التقدم في النكاح وما أشبهه والأخوة من الأب والأم نوع واحد في الموضعين إلا أن ولاية النكاح ليست مثل ولاية الإرث ولكن بينهما مجانسة في الحقيقة وهذا القسم دون الأول لأن المفارقة بين المثلين بحسب اختلاف المحلين أقل من المقارن بين نوعين مختلفين
الحالة الثالثة أن يعتبر جنسه في نوعه وإليه الإشارة بقوله أو بالعكس

إسقاط قضاء الصلاة عن الحائض إذا قيس على إسقاط الركعتين الساقطتين عن المسافر في الرباعية تعليلا بالمشقة فالمشقة جنس وإسقاط قضاء الصلاة نوع واحد يشتمل على صنفين إسقاط قضاء الكل وإسقاط قضاء البعض وقد ظهر تأثيرها في هذا النوع ضرورة تأثيرها في إسقاط قضاء الركعتين ولو فرض ورود النص بسقوط قضاء الصلاة على الحرائر الحيض وقسنا عليهن الإماء لكن ذلك من الحالة الأولى لظهور تأثير نوعه في نوع الحكم ومثال هذا القسم أيضا قولنا قليل النبيذ حرام وإن لم يسكر قياسا على قليل الخمر وتعليلنا قليل الخمر بأن ذلك يدعو إلى كثيره فهذا مناسب لم يظهر تأثير نوعه لكن ظهر تأثير جنسه إذ الخلوة لما كانت داعية إلى الزنا حرمها الشرع بتحريم الزنا وهذا القسم والذي قبله متقاربان لكن ذلك أولى لأن الإبهام في العلة أكثر محذورا من الإبهام في المعلول
الحالة الرابعة وإليها الإشارة بقوله أو جنسته في جنسه اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم
مثل ما روي أن عليا رضي الله عنه أقام الشرب مقام القذف فقال أرأى أنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترض وأوجب عليه حد القذف إقامة لمظنة الشيء مقامه قياسا على الخلوة فإنها لما كانت مظنة الوطئ أقيمت مقامه في الحرمة ولقائل أن يقول كان الوفا بإقامة المظنة مقام المظنون أن يوجب الحد بالخلوة ولا قائل به وبتفريغ مظنة القذف على مظنه الوطئ أن يقال بتحريم ما هو مظنة القذف
كما هو الواقع وكما هو في الأصل ولا يوجب الحد فإن فيه زيادة في الفرع على الأصل الذي هو إلحاق الخلوة بالوطئ إذ لم يلحق به في غير الحرمة ثم اعلم أن للجنسية مراتب فأعم الأوصاف كونها حكما ثم ينقسم الحكم إلى أقسامه من تحريم ومن إيجاب وغيره والواجب إلى عبادة وغيرها والعبادة إلى صلاة وغيرها وتنقسم الصلاة إلى فرض ونفل فما ظهر تأثيره في الفرائض أخص مما ظهر في الصلاة وهكذا وكذا في جانب الأوصاف أعم أوصافه كونه وصفا يناط به الأحكام حتى تدخل فيه الأوصاف المناسبة وغيرها

وأخص منه المناسب الضروري وأخص منه ما هو كذلك في حفظ النفوس وبالجملة فإنما يلتفت إلى الأوصاف بعد ظن التفات الشرع إليها وكل ما كان التفات الشرع إليه أكثر كان ظن كونه معتبرا أقوى وكل ما كان الوصف والحكم أخص كان ظن كون ذلك الوصف معتبرا في حق ذلك الحكم آكد فيكون مقدما على ما هو أعم منه
قال لأن الاستقراء دل على أن الله تعالى شرع أحكامه لمصالح لعباده تفضيلا وإحسانا فحيث ثبت حكم وهناك وصف ولم يعلم غيره ظن كونه علة
هذا دليل على أن ما تقدم من المناسب يفيد العلية وتقريره أنا استقرينا أحكام الشرع فوجدناها على وفق مصالح العباد وذلك من فضل الله تعالى وإحسانه لا بطريق الوجوب عليه خلافا للمعتزلة فحيث ثبت حكم وهناك وصف صالح لعلية ذلك الحكم ولم يوجد غيره يحصل ظن أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم والعمل بالظن واجب وقد ادعى بعضهم الإجماع على أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد قال وذلك إما بطريق الوجوب عند المعتزلة أو الإحسان عند الفقهاء من أهل السنة وهذه الدعوى باطلة لأن المتكلمين لم يقولوا بتعليل الأحكام بالمصالح لا بطريق الوجوب ولا الجواز وهو اللائق بأصولهم وكيف ينعقد الإجماع مع مخالفة جماهير المتكلمين والمسألة من مسائل علمهم وقد قالوا لا يجوز أن تعلل أفعال الله تعالى لأن من فعل فعلا لغرض كان حصوله بالنسبة إليه أولى سواء كان ذلك الغرض يعود إليه أم إلى الغير وإذا كان كذلك يكون ناقصا في نفسه مستكملا في غيره ويتعالى الله سبحانه عن ذلك
قال وإن لم يعتبر فهو المناسب المرسل اعتبر مالك
تقدم الكلام في المناسب إذا اعتبره الشارع وإن لم يعتبره فوراء ذلك حالتان
إحداهما أن لا يعلم أن الشارع اعتبره ولا الفاه وفيها كلام المصنف

وذلك هو المناسب المرسل وقد قال به مالك بن أنس وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى مبسوطا في الكتاب الخامس فإن صاحب الكتاب هناك ذكره
والثانية ولم يذكرها المصنف أن يلغيه الشارع فهذا لا يجوز التعليل به باتفاق القياسيين ومثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان عليك صوم شهرين متتابعين فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بالاعتاق مع اتساع ماله قال لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر عتق رقبة في قضاء شهوته فكانت المصلحة عندي في إيجاب الصوم لينزجر فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بما اعتقده مصلحة وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصه بسبب تغير الأحوال ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم يحصل الثقة بقولهم للمستفتين ويظن الظان أن فتياهم بتحريف من جهتهم بالرأي فإن قلت قولكم آنفا هذه الحالة لم يذكرها المصنف مدخول لأنها داخلة في عموم قوله وإن لم يعتبر ولا يقال هي وإن دخلت في كلامه فلم يردها لعدم الاختلاف في بطلانها لأن ابن الحاجب قد جعل المرسل هو ما لم يعتبر سواء علم إلغاؤه أم لا ونقل بعضهم القول بالمرسل عن مالك فيعلم من ذلك إن كان مالكا يخالف فيما علم إلغاؤه أيضا قلت هذا التركيب غير صحيح لأن الذي نقل عن مالك أنه اعتبر المرسل لم يقل أن المرسل ما لم يعتبر سواء أعلم إلغاؤه كابن الحاجب صرح بوقوع الاتفاق على ما علم إلغاؤه
وقد قال إمام الحرمين في باب ترجيح الأقيسة من كتاب الترجيح ولا نرى التعليق عندنا بكل مصلحة ولم ير ذلك أحد من العلماء قال ومن ظن ذلك بمالك فقد أخطأ انتهى فإذا كان مالك لا يرى التعليق بكل مصلحة مع أن من جملة ذلك ما لم يعلم إلغاؤه فكيف يقول بما علم إلغاؤه
قال والغريب ما أثره هو فيه ولم يؤثر جنسه كالطعم في الربا والملائم ما أثر جنسه في جنسه أيضا والمؤثر ما أثر جنسه فيه
هذا تقسيم للضرب الأول من المناسب وهو ما علم أن الشارع اعتبره وقد قسمه المصنف إلى غريب وملائم ومؤثر وعبارات المصنفين في التعبير عن

هذه الأقسام مضطربة والأمر فيه قريب لكونه أمرا اصطلاحيا ونحن نأتي بما ذكره المصنف ونشير إلى قليل من كلام غيره فنقول الوصف إما أن يؤثر نوعه في نوع الحكم ولا يؤثر جنسه في جنسه أو يكون كذلك
والأول هو الغريب وهو معدول عند جماهير القياسيين وسمي بذلك لأنه لم يشهد غير أصله المعين باعتباره وذلك كالطعم في الربا فإن كل واحد من نوع الطعم يؤثر في نوع من الأحكام وهو حرمة الربا إذا بيع ذلك النوع بمثله كالبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر ولا يؤثر جنس هذه الأنواع وهو الطعم في جنس الربا وهو زيادة أحد العوضين على الآخر بدليل جواز بيع بعض الأنواع كالشعير مثلا ببعض آخر كالبر مثلا متفاضلا مع وجود الطعم فيهما
والثاني أن لا يكون كذلك فإما أن يكون أثر نوعه في نوع الحكم وجنسه أيضا في جنس الحكم أولا والأول الملائم وقد اتفق القياسيون على قبوله كالقتل العمد لعدوان في وجوب القصاص إذا أثر نوعه في وجوب القصاص الذي هو نوع من الحكم وكذلك جنسه وهي الجناية التي هي أعم من القتل حيث أثرت في جنس المؤاخذة وجوبا أو جوازا وذلك أعم من وجوب القصاص
والثاني أن يكون جنسه مؤثرا في نوع الحكم لا غير كالمشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في سقوط قضاء الصلاة على ما تقدم بيانه وكقياس الجمع بين الصلاتين في الحضر بعذر المطر على الجمع في السفر بجامع الحرج فإن جنس الحرج مؤثر في نوع الحكم وهو إباحة الجمع وكقياس من شذ من أصحابنا وجوز الجمع للمرض فهو المؤثر عند صاحب الكتاب وسماه غيره بالملائم وقال قوم المؤثر هو ما دل نص أو إجماع على عليته سواء كان مناسبا كما تقدم من الأمثلة أو غير مناسب كالمني لايجاب الغسل واللمس لنقض الوضوء وقالوا إنما يسمى بذلك لأنه ظهر تأثيره فلم يحتج مع ذلك إلى المناسبة وأما الإمام فإنه قال في تعريف الغريب والملائم ما قاله المصنف وقال في المؤثر عكس مقالته فجعله ما يكون الوصف فيه مؤثرا في جنس الحكم دون غيره كامتزاج النسبين مع تقديم الأخ من الأبوين وكالبلوغ

فإنه يؤثر في رفع الحجر عن المال فيؤثر في رفعه عن النكاح دون الثيابة فإنها لا تؤثر في جنس هذا الحكم وهو رفع الحكم ثم قال الإمام إن ذلك إنما يتم بالمناسب أو السير
قال مسألة المناسبة لا تبطل المعارضة لأن الفعل وإن تضمن ضررا أزيد من نفعة لا يصير نفعه غير نفع لكن يندفع مقتضاه
إذا تضمن الوصف المشتمل على مصلحة مقتضية لمناسبته مفسدة هل يكون تضمنه لها موجبا لبطلان مناسبته فيه مذهبان
أحدهما واختاره صفي الدين الهندي وابن الحاجب نعم
والثاني وبه جزم في الكتاب تبعا للإمام أنها لا تبطل واحتج عليه بأن الفعل إذا تضمن مصلحة ومفسدة فإما أن تترجح مصلحته على مفسدته فالراجح لا يبطل بالمرجوح أو تكون مساوية لها فيلزم الترجيح من غير مرجح أو انقص منها فالفعل وإن تضمن ضررا أزيد من نفعه لا يصير نفعه بذلك التضمن غير نفع ولا يخرج عن حقيقته غاية الأمر أن مقتضاه لا يترتب عليه وذلك غير قادح في المناسبة لأن انتفاء المانع شرط في ترتب المقتضى والمانع هنا موجود وقد اقتصر المصنف على هذا القسم الثالث لأن المناسبة إذا لم تبطل فيه بمعارضة المفسدة الراجحة لم تبطل في غيره بطريق أولى
واعترض على هذا الدليل بأنا على تقدير كونها مساوية لها لا نسلم لزوم الترجيح من غير مرجح وهذا لأن إبطال مناسبة المصلحة بأعمال مناسبة المفسدة أولى لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح ولقائل أن يقول تقديم درء المفاسد على جلب المصالح عند التعارض إنما هو فيما إذا تساويا من حيث المصلحة والمفسدة أما لو ترجح جانب المصلحة مثل إن عظم وقعها وجل خطبها على جانب المفسدة فإن حقر أمرها وقل فلا نسلم هنا أن درء هذه المفسدة أولى من جلب تلك المصلحة ولعل هذه الحالة هي المرادة بالمساواة في الدليل وإلا فعلى تقدير مطلق كونها مصلحة مع كونها مفسدة أين المساواة مع ترجح درء المفاسد واعترض عليه أيضا بأن العقلاء يعدون فعل ما فيه مفسدة

مساوية للمصلحة عبثا وسفها فإن من سلك مسلكا يفوت درهما ويحصل آخر مثله وأقل منه عد عابثا وسفيها وأعلم أن كل من قال بتخصيص العلة يقول ببقاء المناسبتين للمصلحة والمفسدة لأن القول بإحالة انتفاء الحكم على تحقق المانع مع موجود المقتضي إما أن يكون مناسبته راجحة أو مساوية أو مرجوحة فإن كان الأول أو الثاني فقد لزم منه تحقيق مناسبة المقتضى المرجوحة أو المساوية وإلا فقد كان الحكم منتفيا لانتفاء المقتضى لا لوجود المانع فإن المقتضى إذا لم يكن مناسبا لم يكن مقتضيا فكان الانتفاء مضافا إليه لأن إضافة انتفاء الحكم إلى عدم المقتضى أولى من إضافة انتفائه إلى وجود المانع ولكنه خلف إذ التقديران انتفاء الحكم إنما هو لوجود المانع وإن كان الثالث فلأنه لا بد أن يكون المانع مناسبا لانتفاء الحكم إذ لو جاز انتفاء الحكم بما ليس بمناسب للانتفاء لجاز ثبوته بما ليس مناسب للثبوت مع عدم جهة أخرى للعلية ويلزم من ذلك القول ببقاء المناسبة المرجوحة مع المعارضة إذ الغرض أن مفسدة المانع مرجوحة وأما من لم يقل بتخصيص العلة فهم المختلفون في المسألة
قال الخامس الشبه القاضي المقارن للحكم إن ناسبه بالذات كالسكر للحرمة فهو المناسب أو بالتبع كالطهارة لاشتراط النية فهو الشبه وإن لم يناسب فهو الطرد كبناء القطرة للتطهير وقيل ما لم يناسب إن علم اعتبار جنسه فهو المناسب وإلا فالطرد
اسم الشبيه ينطلق على كل قياس فإن الفرع يلحق بالأصل بجامع يشبهه فيه فهو إذن تشبيه ولكن اصطلح على تسمية بعض الأقيسة به وقد اختلف في تعريف الشبه المصطلح على مقالات ذكر منها المصنف مقالتين
الأولى مقالة القاضي أبي بكر وهو مقتضى إيراد إمام الحرمين في البرهان أن الوصف المقارن للحكم إما أن يناسبه بالذات فهو المناسب كالسكر للتحريم إذ السكر مناسب بالذات لتحريم المسكر أولا فإما أن يناسبه بالتبع أي بالالتزام فهو الشبه كالطهارة لاشتراط النية فإن الطهارة من حيث هي لا يناسب اشتراط النية لكن يناسبها من حيث أنها عبادة والعبادة مناسبة

لاشتراط النية أو لا يناسبه مطلقا فهو الطرد وهو حكم لا يعضده معنى ولا شبه كقول بعضهم الخل مايع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تزال النجاسة به كالدهن فكأنه علل إزالة النجاسة بالماء بأنه تبني القنطرة على جنسه واحترز عن الماء القليل وإن كان لا تبنى القنطرة عليه لأنه يبنى على جنسه فهذه علة مطردة لا نقض عليها وليس فيها خصلة سوى الاطراد ويعلم أنها لا تناسب الحكم ولا تستلزم ما يناسبه فإنا نعلم أن الماء جعل مزيلا للنجاسة بخاصة وعلل وأسباب يعلمها الله تعالى وإن لم نعلمها ويعلم أن بناء القنطرة مما لا يوهم الاشتمال عليها ولا يناسبها وقد علم من هذا التقسيم أن الشبه هو الوصف المقارن للحكم المناسب له بالتبغ دون الذات وإن شئت قلت المستلزم لما يناسبه وهو الذي نقلوه عن القاضي كما عرفت والذي رأيته في مختصر التقريب والإرشاد من كلامه أن قياس الشبه إلحاق فرع بأصل لكثرة أشباهه للأصل في الأوصاف من غير أن يعتقد أن الأوصاف التي شابه الفرع فيها الأصل علة حكم الأصل
المقالة الثانية أن الوصف الذي لا يناسب الحكم إن علم اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم فهو الشبه لأنه من حيث كونه غير مناسب يظن عدم اعتباره ومن حيث أنه عرف تأثير جنسه القريب في الجنس القريب للحكم مع أن غيره من الأوصاف ليس كذلك لظن أنه أولى بالاعتبار وتردد بين أن يكن معتبرا أو لا يكون وإن لم يعلم اعتبار جنسه القريب في الجنس للحكم فهو الطرد وعلم من هذا التقسيم أن الشبه هو الوصف الذي لا يكون مناسبا للحكم المعلوم اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب للحكم
ومثال هذا إيجاب المهر بالخلوة على القديم فإن الخلوة لا تناسب وجوب المهر لأن وجوبه في مقابلة الوطىء إلا أن جنس هذا الوصف وهو كون الخلوة مظنة للوطىء معتبر في جنس الوجوب وهو الحكم بتحريم الخلوة بالأجنبية واعلم أن تعبير المصنف عن ما ليس بمناسب ولا مستلزم للمناسب بالطرد موافق لعبارة الإمام وأتباعه ومن قبلهم إمام الحرمين والغزالي وغيرهما

وعبر عنه الآمدي بالطردي بزيادة الياء وهو أحسن فإن الطرد عند المصنف من جملة طرق العلة كما سيأتي إن شاء الله تعالى
قال واعتبر الشافعي رضي الله عنه المشابهة في الحكم وابن علية في الصورة والإمام ما يظن استلزامه ولم يعتبر القاضي مطلقا
المختار أن قياس الشبه حجة والخلاف فيه مع القاضي أبي بكر والصرفي وأبي إسحاق المروزي وأبي إسحاق الشيرازي فإنهم لم يعتبروه وأنكروا حجيته ولكن النقل عن الصيرفي وأبي إسحاق المروزي في مختصر التقريب والإرشاد أه هو عند القاضي صالح لأن يرجح به كما ذكر في باب ترجيح العلل من التقريب ثم القائلون بأنه حجة اختلفوا في أنه فيماذا يعتبر فاعتبر الشافعي رضي الله عنه المشابهة في الحكم ولهذا الحق العبد المقتول بسائر المملوكات في لزوم قيمته على القائل بجامع إن كل واحد منهما يباع ويشتري ومن أمثلته أن نقول في الترتيب في الوضوء عبادة يبطلها الحدث فكان الترتيب فيها مستحقا أصله الصلاة فالمشابه في الحكم الذي هو البطلان بالحدث ولا تعلق له بالترتيب وإنما هو مجرد شبه ومنها الأخ لا يستحق النفقة على أخيه لأنه لا يحرم منكوحة
أحدهما على الآخر فلا يستحق النفقة كقرابة بني العم واعتبر ابن علية المشابهة في الصور دون الحكم ومقتضى ذلك قتل الحر بالعبد وهذا ما نقله إمام الحرمين في البرهان عن أبي حنيفة في الحاقة التشهد الثاني بالأول في عدم الوجوب حيث قال تشهد فلا يجب كالتشهد الأول فكذلك قوله يقتل الحر بعبد الغير وعن أحمد أيضا في الحاقة الجلوس الأول بالثاني في الوجوب حيث قال أحد الجلوسين في الصلاة فيجب كالجلوس الأخير
وقال الإمام المعتبر حصول المشابهة فيما يظن أنه مستلزم لعلة الحكم أو علة للحكم فمتى كان كذلك صح القياس سواء كانت المشابهة في الصورة أو المعنى واعلم أن صاحب الكتاب لم يصرح بذكر قياس علية الأشباه وهو أن يكون الفرع مترددا بين أصلين لمشابهته لهما فيلحق بأحدهما لمشابهته في أكبر

صفات مناط الحكم ولعله ظنه قسما من قياس الشبه أو هو هو وهو ظن صحيح فالناس فيه على هذين الاصطلاحين ولم يقل أحد أنه قسم للشبه بل أما قسم منه أو هو هو وحينئذ يكون قضية كلام المصنف بقوله ولم يعتبر القاضي مطلقا أن الخلاف جار فيه
وهذا الذي اقتضاه كلام المؤلف صحيح واقتضاه كلام غيره وقد صرح به القاضي في مختصر التقريب والإرشاد لإمام الحرمين والذي تحصل لي من كلامه في هذا الكتاب أن في قياس الشبه مذاهب أحدها بطلانه والثاني اعتباره ثم قال إن ذلك يؤثر عن الشافعي رضي الله عنه ولا يكاد يصح عنه مع علو رتبته في الأصول وهذا الذي قاله القاضي قاله الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع وقال كلام الشافعي متأول محمول على قياس العلة فإنه ترجح بكثرة الأشباه ويجوز ترجيح العلل بكثرة الأشباه ثم قال القاضي وأجمع القائلون بقياس الشبه على أنه لا يصار إليه مع إمكان المصير إلى قياس العلة والثالث أنه لا يعمل بالشبه إلا بشرطين
أحدهما ما ذكرناه من عدم إمكان المصير إلى قياس العلة والثاني أن يجتذب الفرع أصلان فيلحق بأحدهما بعلية الأشباه قال ومما اختلفوا فيه أن قال بعضهم الأشباه الحكيمة أولى ثم الأشباه الراجعة إلى الصفة وذهب آخرون إلى أنه لا فرق بينهما وهذا مذهبان لم يتقدم لهما حكاية لأن الذي تقدم أن الشافعي يعتبر الحكم وغيره الصورة والإمام ما يظن استلزامه وهذان القولان متفقان على اعتبار الحكم والصفة وإنما الخلاف عند القائلين بهما في أن الحكم أولى وأنهما مستويان ولهما يحصل في قياس الشبه سبعة مذاهب
أحدهما بطلانه والثاني اعتباره في الحكم ثم الصورة والثالث اعتباره فيها على حد سواء والرابع اعتباره في الحكم فقط والخامس اعتباره في الصورة فقط والسادس فيما يظن استلزامه للعلة والسابع اعتبار قياس عليه الأشباه دون غيره ورأيت نص الشافعي رضي الله عنه عليه في الأم في باب اجتهاد الحاكم وهو باب الأفضية وقيل باب التثبيت في الحكم وغيره قال رضي

الله عنه ما نصه والقياس قياسان أحدهما يكون في معنى فذاك الذي لا يحل لأحد خلافه ثم قياس أن يشبه الشيء بالشيء من الأصل والشيء من الأصل غيره فيشبهه هذا بهذا الأصل ويشبه غيره قال الشافعي وموضع الصواب فيه عندنا والله أعلم أن ينظر فأيهما كان أولى بشبهة صيره إليه أن أشتبه أحدهما في خصلتين والآخر في خصلة ألحقه بالذي هو أشبه في خصلتين انتهى هذا لفظه بحروفه وهذا الباب في مجلد ثامن من الأم من أجزاء تسعة واعلم أن القاضي بين قياس الشبه على أن المصيب واحد من المجتهدين أو كل مجتهد مصيب وقال إن كنت تذب عن القول بأن المصيب واحد من المجتهدين
فالأولى بك أبطال قياس الشبه وإن قلنا بتصويبهم فلو غلب على ظن المجتهد حكم من قضية اعتبار الأشباه فهو مأمور به قطعا عند الله تعالى قال إمام الحرمين وأول ما يعني القاضي إلى أن رد قياس الشبه والقول به لا يبلغ إلى القطع وهو من مسائل الاحتمال قال وهذا فيه نظر عندنا فإن الأليق بما مهده من الأصول إن يقال كلما آل إلى إثبات دليل من الأدلة فيطلب فيه القطع قال على إن ما قاله من أن المجتهد مأمور بما غلب على ظنه سديد فيما رامه فأنار بما نقول أن المجتهد المتمسك بضرب من القياس إذا غلب على ظنه شيء وفي الحادثة نص لم يبلغه فهو مأمور قطعا بما أدى إليه اجتهاده وإن كان القياس في مخالفة النص مردود انتهى قلت وحاصل هذا أن إمام الحرمين لم يوافق القاضي على أن المسألة ظنية ووافقه على البناء على مسألة تصويب المجتهدين على تقدير ثبوت كونها ظنية وفي هذا البناء على هذا التقدير أيضا نظر فإن قياس الشبه إن كان باطلا فكيف يغلب على ظن المجتهد حكم مستند إليه مع كونه عنده باطلا وكيف يجوز له العمل بما هو مبني على باطل وإن فرض حصول ظن مستند إليه فلا عبرة به لبنائه على فاسد وإن كان قياس الشبه صحيحا فهو معمول به كسائر الأدلة من غير تعلق بتصويب المجتهدين وقول إمام الحرمين إذا غلب على ظنه شيء وفي الحادثة نص لم يبلغه فهو مأمور به وإن كان القياس في مقابلة النص مردودا من غير ما نحن فيه لأن الذي غلب على ظنه حكم مستند إلى اجتهاده ولم يبلغه النص فغلب على

ظنه أن الاجتهاد الذي جاء به دليل يجب عليه العمل به بخلاف قياس الشبه فإنه يظن بطلانه فكيف يستند إليه أو يبني اجتهاده عليه
قال لنا أنه يفيد ظن وجود العلية فيثبت الحكم قالوا ما ليس بمناسب فهو مردود بالإجماع قلنا ممنوع
واحتج على أن قياس الشبه حجة بأنه يفيد ظن وجود العلية إما على تفسير المنقول عن القاضي فلأنه مستلزم للمناسب وإما على الثاني فلأنه لما أثر جنس الوصف في جنس الحكم دون غيره من الأوصاف أفاد ظن إسناد الحكم إليه وإذا ثبت كونه مفيدا لظن وجب العمل به واحتج القاضي بأن الشبه ليس مناسبا وغير المناسب مردود بالإجماع فلا يعتبر وأجاب بالمنع فإن ما ليس بمناسب ينقسم إلى الشبه وغيره والشبه غير مردود بالإجماع وهو محل النزاع وذكر القاضي من وجوه الاحتجاج للقائلين ببطلان الشبه إن الأشباه التي الحق الفرع بها إن كانت علة في الأصل فذاك إذا كان قياس علة لا شبه وإن لم يكن فما وجه إلحاق الفرع بأشباه لم يجب لها في الأصل ولو ساغ ذلك لساغ أن يجمع بينهما من غير وصف أصلا
فروع الأول الظهار لفظ محرم وهو كلمة زور فيدور بين القذف والطلاق ويبنى على هذا مسائل منها لو قال عينك طالق طلقت كيدك وجسمك وجميع الأجزاء ولو قال لرجل زنت عينك وما أشبه ذلك من الأعضاء دون الفرج فإنه في هذا الباب صريح فالمذهب أنه كناية وقيل صريح أيضا ولو قال لامرأته أنت علي كعين أمي فإن أراد الكرامة فليس بظهار وأن أراد الظهار فظهار على المذهب وإن أطلق فعلى أيهما يحمل وجهان أرجحهما أنه يحمل على الإكرام ويتجه أن يقال إنما جرى الوجهان هنا في حالة الإطلاق لتردد الظهار بين مشابهة الطلاق والقذف فقضية مشابهته للطلاق أن يحمل الإطلاق هنا على الظهار ومقتضى مشابهته للقذف أن يحمل على الإكرام ولا يجعل صريحا في الظهار
والثاني زكاة الفطر تتردد بين المؤنة والقربة

الثالث الكفارة تردد بين العبادة والعقوبة
الرابع الحوالة تردد بين الاستيفاء والاعتياض فإذا تناقض حكم الشائبتين ولم يمكن إجلاء الواقعة عن أحد الحكمين وظهر دليل ترجيح إحدى الشائبتين ولم يظهر معنى مناسب في أحد الطرفين ينبغي أن يحكم بالأغلب الأشبه وأما ما يتفرع على تردد هذه الأبواب بين معانيها فكثير لا نطيل بذكره وفي كتابنا الأشباه والنظائر تممه الله تعالى منه ما لا مزيد على حسنه ولا مطمع للطالب في الإحاطة بأكثر منه
الخامس اللعان يشبه اليمين والشهادة ولفظهما فيه وهو مركب منهما فليس يمينا محضا فإن يمين المدعي لا يقبل والملاعن مدع وليس بشهادة محضة فإن الشاهد يشهد لغيره وهو إنما شهد لغيره وهو إنما يشهد لنفسه وينبني على ذلك لعان الذمي والرقيق فإنهما ليسا من أهل الشهادة وأن صحت منهما اليمين وقال الأصحاب بصحة لعانهما لأن المعروف عندهم أن اللعان يمين مؤكدة بلفظ الشهادة وقيل هو يمين فيها شوب الشهادة
السادس الجنين يشبه بعض أعضاء الأم في الحكم لأنه يتبعها في البيع المطلق والهبة ونحوها ويشبه إنسانا منفردا في الصورة لأنه مستقل بالحياة والموت فإذا قال بعتك هذه الجارية إلا حملها فعلى الأول يبطل البيع كاستثناء عضو من الأعضاء وعلى الثاني يصح كما لو قال بعتك هذه الصيعان إلا هذا الصاع والمذهب فيما إذا استثنى حملها أنه لا يصح البيع وقيل وجهان
قال السادس الدوران وهو أن يحدث الحكم بحدوث وصف وينعدم بعدمه وهو يفيد ظنا وقيل قطعا وقيل لا ظنا ولا قطعا
عرف الدوران بحدوث الحكم بحدوث الوصف وانعدامه بعدمه فذلك الوصف يسمى مدارا والحكم دائرا والمراد بالحكم تعلقه عند من يجعل التعلق حادثا ومنهم المصنف ثم قول المصنف يحدث بحدوثه وينعدم بعدمه عبارة فيها نظر لأن ثبوت الحكم بثبوته هو كونه علة فكيف تستدل به على علية الوصف لثبوت الحكم وقد سبق الغزالي إلى هذه العبارة

وقال هذا هو الدوران الصحيح وأما ثبوته عند ثبوته وعدمه عند عدمه ففاسد واعترض عليه لما ذكرناه والعبارة المحررة ما زعم الغزالي فسادها ثم الدوران يقع على وجهين
أحدهما أن يقع في صورة واحد كالتحريم مع السكر في العصير فإنه لما لم يكن مسكرا لم يكن حراما فلما حدث السكر فيه وجدت الحرمة ثم لما زال السكر بصيرورته خلا صار حلالا فيدل على أن العلة في تحريمه السكر ومثل الحب يجري فيه الربا وهو مأكول فإذا زرع صار قصيلا غير مطعوم لا ربا فيه فإذا عقد الحب فيه صار مطعوما وعاد الربا فيه فيدل على أن علية الربا فيه الطعم
والثاني أن يوجد في صورتين وهو كوجوب الزكاة مع ملك النصاب تام في صورة أحد النقدين وعدمه مع عدم شيء منها كما في ثياب البذلة والمهنة حيث لا يجب فيها الزكاة لفقد شيء مما ذكرناه واختلف الأصوليون في إفادة الدوران العلية فذهب الجمهور كإمام الحرمين وغيره ونقله عن القاضي أبي بكر بعضهم وليس بصحيح عنه إلى إفادته ظن العلية بشرط عدم المزاحم وهو اختيار الجدليين والإمام وأتباعه ومنهم المصنف فذهب بعض المعتزلة إلى أنه يفيد يقين العلة وذهب الباقون إلى أنه لا يفيد ظن العلية ولا يقينها وهو اختيار الآمدي
قال إمام الحرمين وذهب القاضي أبو الطيب الطبري إلى أنه أعلى المسالك المظنونة وكاد يدعي افضاه إلى القطع
قال لنا أن الحادث له علة وغير المدار ليس بعلة لأنه إن وجد قبله فليس بعلة للتخلف وإلا فالأصل عدمه وأيضا علية بعض المدارات مع التخلف في شيء من الصور لا تجتمع مع عدم علية بعضها لأن ماهية الدوران إما أن يدل على علية المدار فيلزم عليه هذه المدارات أو يدل فيلزم عدم علية تلك للتخلف السالم عن المعارض
والأول ثابت فانتفى الثاني وعورض في مثله وأجيب بأن المدلول قد لا يثبت لمعارض

استدل على علية الدوران بوجهين
أحدهما أن الحكم لا بد له من علة على ما تقرر فتلك العلة إما المدار أو غيره
الثاني باطل لأن ذلك الغير إن كان موجودا قبل الحكم لزم تخلف الحكم عن العلة وهو خلاف الأصل وإن لم يكن موجودا قبله لم يكن علة لذلك الحكم إذ ذاك والأصل بقاؤه على ما كان عليه عدم من عليته فيحصل ظن عدم عليته باستصحاب هذا الأصل وبحصول هذا الظن يحصل ظن علية المدار إذ ليس غيره فإن قلت كما دار الحكم مع ذلك الوصف وجودا وعدما كذلك دار مع تعينه وحصوله في ذلك المحل فيحصل المزاحم حينئذ وتمتنع الإضافة إلى الوصف أو يقال مجموع الوصف مع التعين والحصول في المحل عملا بالدورانين وحينئذ لا يجوز تعديته عن ذلك المحل قلت التعين والحصول في المحل أمران عدميان إذ لو كانا وجوديين لزم أن يكون للتعين تعين آخر وللحصول في المحل حصول آخر فيتسلل ضرورة مشاركة التعيين حينئذ لسائر التعيينات في كونه تعينا وامتيازه عنها بخصوصية وكذا الحصول في المحل فإنه حينئذ يكون له حصول في المحل إذ ليس هو بجوهر قائم بنفسه وهو معلوم بالضرورة فيكون له حصول في المحل فثبت أنهما أمران عدميان حينئذ لا يجوز أن يكونا جزئي علة ولا مزاحما لها كذا ذكر السؤال والجواب ولك أن تقول المختار عند صاحب الكتاب كما صرح به في الطوالع أن التعين أمر وجودي فالسؤال وارد عليه وقد استدل على كونه وجوديا أنه جزء من المعين الموجود إذ الموجود ليس هو الماهية الكلية بل المعينة وكلما هو جزء الموجود فهو موجود ولقائل أن يقول إن أريد بالمعين معروض التعين فيمنع أن التعين جزؤه وإن كان المراد به المركب من العارض والمعروض فيمنع أنه موجود في الخارج على أن هذا العلم ليس موضع البسط في مسألة التعين واعترض النقشواني على هذا الدليل بأوجه أخر منه أنه لا يختص بصورة الدوران بل قيل ابتداء هذا الحكم لا بد له من علة حادثة وما كان موجودا قبل هذا الحكم لا يصلح علة له للتخلف المذكور فوضح أن العلة التي هي غير هذا الوصف لم تكن موجودة قبل هذا الحكم فوجب بقاؤها على العدم بالاستصحاب فتعين كون هذا الوصف

علة فهذه طريقة مستقلة لا يحتاج إلى الدوران ومنها أنه يمكن معارضته بأن يقال ليس هذا الوصف علة لأنه إن وجد قبل هذا الحكم لا يكون علة للتخلف وإن لم يوجد قبله لا يكون علة أيضا لأن الأصل استمراره على العدم
وهما اعتراضان صحيحان وأجاب عنهما بعض الشراح المحصول بما لا أرتضيه
الوجه الثاني مما يدل على علية الدوران أن علية بعض المدارات للحكم الدائر عنه في شيء من صور الدوران لا يجتمع مع عدم علية بعض المدارات للدائر ويلزم من انتفاء ثبوت علية جميع المدارات للدائر وذلك لأن ماهية الدوران من حيث هي إما أن تدل على علية المدار للدائر
أولا فإن دلت لزم علية المدارات التي فرضنا عدم عليتها الوجود ماهية الدوران فيها فيكون جميع المدارات علة لاشتراكها في وجود ماهية الدوران وإن لم تدل لزم علية البعض الذي فرضنا عليته وتخلف الدائر عنه في صورة من صور الوجود المقتضى لعدم العلية وهو تخلف الدائر عن المدار مع سلامته عن المعارض الذي هو دلالة ماهية الدوران على العلية إذ الغرض ماهية الدوران لا يدل على العلية فلا يعارض وهذا بخلاف ما لو دلت ماهية الدوران على العلية إذا كانت تعارض التخلف لاقتضائه عدم العلية فوضح أن علية بعض المدارات مع التخلف لا يجتمع مع عدم علية بعضها
لكن الأول وهو علية بعض المدارات مع التخلف في صورة من صوره ثابت فإن تناول السقمونيا علة للإسهال مع تخلفه عنه بالنسبة إلى بعض الأشخاص في بعض الأوقات فينتفي الثاني وهو عدم علية بعض المدارات للدائر وهو المطلوب وإنما قيد المصنف علية بعض المدارات بالتخلف المذكور ليحتج به على عدم علية تلك على التقدير الثاني وهو عدم دلالة ماهية الدوران على العلية قوله وعورض أي عورض هذا الدليل الثاني بمثله وتقرير المعارضة أن يقال علية بعض المدارات مع التخلف في شيء من صوره مع عدم علية البعض مما لا يجتمعان

لأن ماهية الدوران إن دلت على العلية لزم علية ذلك البعض المفروض عدم عليته كما تقدم وإن لم يدل لزم علية البعض المفروض كونه علة كما عرفت
لكن الثاني ثابت وهو عدم علية البعض لأن الأبوة مع النبوة والعلم مع المعلوم والجزء الأخير من العلة المركبة مع المعلول ونظائرها من الأشياء المتلازمة تدور وجودا أو عدما ولا علة ولا معلوم وإذا ثبت الثاني انتفى الأول وهو علية البعض ويلزم منه عدم علية جميع المدارات للتنافي بين علية البعض وعدم علية البعض الآخر وذلك هو المطلوب
وأجاب عن هذه المعارضة بأن غاية ما يلزم مما ادعيناه من علية جميع المدارات للدائر مع التخلف في بعض الصور أن يوجد الدليل بدون المدلول وهذا أمر لا بدع فيه فإن المدلول قد يتخلف لمانع وأما ما قلتموه من عدم علية المدارات فيلزم منه أن يوجد المدلول بدون الدليل وهو محال
قال قيل الطرد لا يؤثر والعكس لم يعتبر قلنا يكون للمجموع ما ليس لأجزائه
هذه شبهة لمن منع الدوران وتقريرها أنه مركب من الطرد وهو ترتب وجود الشيء على وجود غيره والعكس وهو ترتب عدمه على عدم غيره وكل منهما لا يدل على العلية أما الطرد فلأن حاصله يرجع إلى سلامة الوصف عن النقص وسلامته عن مفسد واحد لا يوجب سلامته عن كل مفسد ولو سلم عن كل مفسد لم يلزم من ذلك صحته فإنه كما يعتبر عدم المفسد يعتبر وجود المقتضى للعلية والطرد من حيث هو طرد لا يشعر بالعلية بل بعدم النقص فلا يفيد العلية والعكس غير معتبر في العلل الشرعية فمجموعها أيضا كذلك
وأجاب بأنه لا يلزم من عدم دلالة كل واحد منهما على الانفراد عدم دلالة المجموع فإنه يجوز أن يكون للهيئة الاجتماعية ما ليس لكل واحد من الأجزاء ألا ترى أن كل واحد من أجزاء العلة ليس بعلة مع أن المجموع علة
وهذا ما أجاب به إمام الحرمين في البرهان بعد أن ذكر أن الشبهة المذكورة

من فن التشدق والتفيهق الذي يستدل به من لا يعد من الراسخين وقال من زعم أن مجموعها لا يغلب على الظن انتصاب ما اطرد وانعكس علما فقد انتسب إلى العناد
قال السابع التقسيم الحاصر كقولنا ولاية الاجبار إما أن لا تعلل بالبكارة أو الصغر أو غيرهما والكل باطل سوى الثاني والأول والرابع للإجماع والثالث لقوله صلى الله عليه و سلم الثيب أحق بنفسها والبر غير الحاصر مثل أن يقول علة حرمة الربى إما الطعم أو الكيل أو القوت فإن قيل لا علة لها أو العلة غيرها قلنا قد بينا أن الغالب على الأحكام تعليلها والأصل عدم غيرها من طرق العلة التقسيم الحاصر والتقسيم الذي ليس بحاصر ويعبر عنهما بالسبر والتقسيم لأن الناظر في العلة يقسم الصفات ويختبر صلاحية كل واحد منها للعلية والسبر في اللغة الاختبار ثم التقسيم إما أن يكون دائرا بين النفي والإثبات وهو التقسيم المنحصر أو لا يكون كذلك وهو التقسيم المنتشر وإليه أشار المصنف بقوله والسبر غير الحاصر أما الأول فهو لإفادته العلم حجة في العمليات والعمليات من غير اختلاف إن كان الدليل الدال على نفي علته ما عدا الوصف المعين فيه قطعيا أيضا وإلا فهو والقسم الثاني حجة في العمليات لإفادته الظن دون العلميات وطريق إيراد النوع الأول أن يقال الحكم إما أن يكون معللا بعلة أولا والثاني باطل فتعين الأول وتلك العلة أما الوصف الفلاني أو غيره والثاني باطل ونذكر على ذلك دليلا قاطعا وحصول هذا القسم في الشرعيات عسر جدا ومثل المصنف للتقسيم الحاضر في الشرعيات بقولنا ولاية الإجبار على النكاح إما أن تعلل أو لا تعلل وحينئذ فإما أن تكون العلة البكارة أو الصغر أو غيرهما وما عدا القسم الثاني من الأقسام باطل أما الأول وهو عدم تعليلها مطلقا والرابع وهو تعليلها بغير البكارة والصغر فبالإجماع
وأما الثالث فلأنها لو عللت بالصغر لثبت على الثيب الصغيرة لوجود الصغر

فيها وهو باطل لقوله صلى الله عليه و سلم الثيب أحق بنفسها أخرجه مسلم ولفظه الأيم ومثل للتقسيم المنتشر وهو الذي ليس بحاصر بقولنا علة حرمة الربا فيما عدا النقدين من الربويات إما الطعم أو الكيل أو القوت والثاني والثالث باطلان فتعين أن تكون العلة الطعم والدليل على بطلان الثاني والثالث أنه علية السلم علق الحكم باسم الطعام في قوله الطعام بالطعام وهو مشتق من الطعم والحكم المعلق بالاسم المشتق معلل بما منه الاشتقاق وهذا دليل على أن غير الطعم ليس بعلة وهو صالح لأن يكون دليلا أصليا على علية الطعم من غير نظر إلى طريقة البر والتقسيم فإن قيل في الابراد على الاستدلال بالتقسيم المنتشر لا نسلم أن تحريم الربا معلل ولئن سلمنا أنه معلل فلا نسلم انحصار العلة فيما ذكرتم لجواز أن تكون العلة غير هذه الثلاثة
وأجاب المصنف عن الأول بأنا بينا فيما سبق أن الغالب أحكام الله تعالى معللة بمصالح العباد تفضلا منه وإحسانا فيلحق هذا الحكم بالغالب وعن الثاني بأن الأصل عدم علة آخرى غير الأمور المذكورة واستصحاب هذا الأصل كاف في حصول الظن بعلية أحدها وقد صرح إمام الحرمين في كتاب الأساليب بأن البر والتقسيم لا يحتج به إلا أن قام الدليل على أن الحكم معلل وأن العلة منحصرة في أحد أوصاف معينة ومتحدة ثم يبطل ما عدا الوصف المدعى علة فيثبت حينئذ علية ذلك الوصف وهذا هو المختار
قال الثامن الطرد وهو أن يثبت معه الحكم فيما عدا التنازع فيه فيثبت فيه إلحاقا للفرد بالأعم الأغلب وقد قيل يكفي مقارنته في صوره وهو ضعيف
الطرد هو الحكم الذي لم يعلم كونه مناسبا ولا مستلزما للمناسب وإذا كان الحكم حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع في حصوله فيه هذا هو المراد من الإطراد على قول الأكثر واختلف من قال بحجية الدوران في حجية الطرد فذهب المعتبرون من النظار إلى أن التمسك به باطل
قال إمام الحرمين وتناهى القاضي في التغليظ على من يعتقد ربط أحكام الله تعالى به وذهب طوائف من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه حجة وإليه مال

الإمام وجزم به المصنف وقال الكرخي هو مقبول جدلا ولا يسوغ التعويل عليه عملا ولا الفتوى به وبالغ قوم وقالوا يكفي في علية الوصف الطردي أن يكون الحكم مقارنا له ولو في صورة واحدة قال صاحب الكتاب وهو ضعيف وسنبين وجه ذلك إن شاء الله تعالى
واحتج المصنف على أنه حجة بأن الحكم إذا ثبت فيما عدا صورة النزاع مع الوصف ووجه الوصف في صورة النزاع لزم ثبوت الحكم معه فيه إلحاقا للمفرد بالأعم الأغلب فإن الاستقراء يدل على إلحاق لنادر بالغالب وهذا معتصم ضعيف فإنه إن أريد بالاستقراء إلحاق كل نادر بالغالب في جميع الأشياء فهو ممنوع لما يرد عليه من النقوض الكثيرة ولأن من جملة تلك الصور محل النزاع ولو ثبت هذا الحكم في محل النزاع لاستغنى عن هذه المقدمة وإن أريد به أنه في بعض الصور كذلك فلا يلزم من تسليمه شيء وإن أريد به أنه كذلك فيما عدا محل النزاع فيصعب إثباته لما ذكرناه من النقوض ولو سلم فلقائل أن يقول لم يلزم فيما نحن فيه إلحاق النادر بالغالب وهل هذا إلا إثبات الطرد بالطرد ولو سلمنا أنا إذا رأينا حكما في أغلب صور وصف يغلب على ظننا أنه في جميع صور الوصف كذلك
فلقائل أن يقول المعلوم فيما نحن فيه في أغلب الوصف إنما هو مقارنة الحكم مع الوصف لا كون الحكم معللا بذلك الوصف فإن هذا غير معلوم لي ولا في صورة واحدة ولا يلزم من علية الاقتران كونه علة للحكم ولو لزم ذلك لما كان الوصف بكونه علة للحكم أولى من الحكم بأن يكون الوصف
واحتج من أبطله بوجوه أوجهها أن أقيسة المعاني لم تقتض الأحكام لأنفسها وإنما تعلق بها الصحابة إذا عدموا متعلقا من الكتاب والسنة فإجماعهم على ذلك ومستند العمل بالأقيسة الصحيحة كما سبق والذي تحقق لنا من مسالكهم النظر إلى المصالح والمراشد والاستحثاث على اعتناق محاسن الشرع فأما الأحكام بطرد لا يناسب الحكم ولا يثير شبها فلم يثبت عنهم الاعتماد عليه بل نظرهم إلى ما ذكرناه دليل على أنهم كانوا يأبونه ولا يرونه ولو كان الطرد

مناطا لأحكام الله تعالى لما أهملوه ولا عطلوه ولسنا نطيل بالرد على القائل بالطرد ففي هذا الدليل مقنع
وقد قال القاضي والأستاذ من طرد عن غيره فهو جاهل غبي ومن مارس قواعد الشرع واستجاز الطرد فهي هازئ بالشريعة مستهين بضبطها مشير إلى أن الأمر إلى القائل كيف أراد وإذا وضح بطلان القول بالطرد بأن فساد قول من يكفي ولو في صورة واحدة بطريق الأول
وقد قال المصنف إنه ضعيف مع قوله بالطرد وهذا صحيح لأن القائل بالطرد يستند إلى ضرب من الظن وهو حصول التكرار والصورة الواحدة لا تكرار فيها فمن أين الظن وأما الكرخي فقد ناقض لقوله كما قال إمام الحرمين فإن المناظرة مباحثة عن مأخذ أحكام الشريعة والجدال استياقها على أحسن ترتيب وأقربه إلى المقصود وليس في أبواب الجدل ما يسوغ استعماله في النظر مع الاعتراف بأنه لا يصح أن يكون مناطا لحكم وغاية المعترض أن يثبت ذلك فيما تمسك به خصمه فإن اعترف به فقد كفى المؤونة وعاد الكلام ونكدا وعنادا وأضحى لجاجا وخرج عن كونه حجاجا
قال التاسع تنقيح المناط بأن يبين إلغاء الفارق وقد يقال العلة أما المشترك أو المميز والثاني باطل فثبت الأول ولا يكفي أن يقال محل الحكم أما المشترك أو المميز الأصل لأنه لا يلزم من ثبوت المحل ثبوت الحكم
إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه بإلغاء الفارق يسمى تنقيح المناط وهو أن يقال لا فرق بين الفرع والأصل إلا كذا وكذا وذلك لا مدخل له في الحكم البتة فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما في الموجب له ومثاله قياس الأمة على العبد في السراية في قوله صلى الله عليه و سلم من اعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي بأنه لا فارق بين الأمة والعبد إلا الذكورة وهو ملغى بالإجماع إذ لا مدخل له في العلية وهذا هو الذي تسميه الحنفية بالاستدلال ويفرقون بينه وبين القياس بأن يخصوا اسم القياس بما يكون الإلحاق فيه بذكر الجامع الذي لا يفيد إلا الظن والاستدلال بما يكون الإلحاق فيه بإلغاء الفارق الذي يفيد

القطع حتى اجروه مجرى القطعيات في النسخ به ونسخه فيجوز والزيادة عن النص به ولم يجوزوا نسخه بخبر الواحد والحق أن تنقيح المناط قياس خاص مندرج تحت مطلق القياس وكل من القياسين أعني ما يلحق فيه بذكر الجامع وبالغاء الفارق قد يكون ظنيا وهو الغالب إذ قلنا يقوم القاطع على أن الجامع علة أو أن ما به الامتياز لا مدخل له في العلية وقد يكون قطعيا بأن يوجد ذلك نعم حصول القطع فيما فيه الإلحاق بإلغاء الفارق أكثر من القسم الآخر لكن ليس ذلك فرقا في المعنى بل في الوقوع
وأعلم أنه قد يقال في إيراد تنقيح المناط هذا الحكم لا بد له من علة كما تقدم وهي إما المشترك بين الأصل والفرع كالرق في المثال الذي ذكرناه أو المختص بالأصل كالذكورة والثاني باطل لأن الفارق ملغى فتعين الأول فيلزم ثبوت الحكم في الفرع لثبوت عليته فيه فإن قلت هذه الطريقة بعينها هي طريقة السبر والتقسيم قلت كذا قال الإمام ولكن يمكن أن يفرق بينهما بأن السبر والتقسيم لا بد فيه من تعيين الجامع والاستدلال على العلية وأما هذا فلا يجب فيه تعيين العلة ولكن ضابطه أنه لا يحتاج إلى التعرض للعلة الجامعة بل يتعرض للفارق ويعلم أنه لا فارق إلا كذا ولا مدخل له في التأثير مثل من أعتق شركا له في عبد كما أوضحناه كقوله صلى الله عليه و سلم أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه فالمرأة في معناه وقوله تعالى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فالعبد في معناها وقوله صلى الله عليه و سلم من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشرطه المبتاع فالجارية في معناه وقوله صلى الله عليه و سلم في موت الحيوان في السمن أنه يراق المائع ويقور ما حوالي الجامد فإن العسل وكل جامد في معناه ولا يكفي أن يقال في إيراده هذا الحكم لا بد له من محل وهو إما المشترك أو مميز الأصل عن الفرع

والثاني باطل لأن الفرق ملغى فوجب أن يكون محله المشترك ويلزم ثبوت الحكم في الفرع ضرورة حصوله في الأصل وذلك لأنه لا يلزم من وجود المحل وجود الحال فيه ومثاله قول الحنفي وجوب كفارة الإفطار له محل وهو إما المفطر بالوقائع بخصوص الوقاع أو المفطر لا بخصوص الوقاع
والأول باطل لأن خصوص الوقاع ملغى كخصوص القتل بالسيف في وجوب القصاص فتعين الثاني فتجب الكفارة على من أفطر بالأكل فنقول سلمنا أن المفطر بالأكل يصدق عليه أنه مفطر لكن لا يلزم من ثبوت الحكم في المفطر ثبوته في كل مفطر وهذا كما أنه إذا صدق هذا الرجل طويل يصدق الرجل الطويل ضرورة كون الرجل جزء من هذا الرجل واستلزام حصول المركب حصول المفرد ولا يلزم منه صدق كل رجل طويل
فائدة قد اقتصر المصنف على ذكر تنقيح المناط دون تحقيق المناط وتخريج المناط ونحن لا نطيب قلبا بإخلاء هذا الشرح عن الكلام فيهما ليحصل التفرقة بينهما وبين تنقيح المناط فنقول أما تنقيح المناط فقد عرفت أنه الاجتهاد في تعيين السبب الذي ناط التنازع الحكم به وأضافه إليه ونصبه علامة عليه بحذف غيره من الأوصاف عن درجة الاعتبار وأما تحقيق المناط فهو أن يتفق على علية وصف بعض إجماع ويجتهد في وجودها في صورة النزاع كالاجتهاد في تعيين الإمام بعد ما علم من إيجاب نصب الإمام وكذا تعيين القضاة والولاة وكذا في تقدير التعزيزات وتقدير الكفاية في نفقة القريب
وإيجاب المثل في قيم المتلفات وأروش الجنايات وطلب المثل في جزاء الصيد فإن مناط الحكم في نفقة القريب الكفاية وذلك معلوم بالنص إما أن الرطل كفاية لهذا الشخص أم لا فيدرك بقول المقومين وهو مبنى على الظن والتخمين وينتظم هذا الاجتهاد بأصلين
أحدهما أنه لا بد من الكفاية
والثاني أن الرطل قدر الكفاية فيلزم منه أنه الواجب أما الأصل الأول فمعلوم بالنص والإجماع

وأما الثاني فبالظن وكذا نقول يجب في حمار الوحش بقرة لقوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم فنقول المثل واجب والبقرة مثل فإذن هي الواجب فالأول معلوم بالنص وهي المثلية التي هي مناط الحكم أما تحقيق المثلية في البقرة فمعلوم بنوع من المقايسة والاجتهاد وكذلك من أتلف على إنسان فرسا فعلية ضمانه والضمان هو المثل في القيمة أما كون مائة درهم مثلا له في القيمة فيعرف بالاجتهاد ومن هذا القبيل الاجتهاد في القبلة فإنه يجب استقبال جهتها بالنص أما أن هذه هي جهة القبلة فيعلم بالاجتهاد عند تعذر اليقين وكذا العدالة فإن كونها مناط قبول الشهادة معلوم بالإجماع وتحققها في كل واحد من الشهود مظنون وكلما علم وجوبه أو جوازه من حيث الجملة وإنما النظر في تعيينه وتقديره
قال الغزالي وهذا لا خلاف فيه بين الأمة وهو نوع اجتهاد قال والقياس مختلف فيه فكيف يكون هذا قياسا وكيف يكون مختلفا فيه وهي ضرورة كل شريعة لأن التنصيص على عدالة الأشخاص وقدر كفاية كل شخص محال فمن ينكر القياس ينكره حيث يمكن التعريف للحكم بالنص المحيط بمجاري الحكم
وأما تخريج المناط فهو الاجتهاد في استنباطه علة الحكم الذي دل النص والإجماع عليه من غير تعرض لبيان علته لا بالصراحة ولا بالإيماء نحو قوله لا تبيعوا البر بالبر إلا مثلا بمثل فإنه ليس فيه ما يدل على أن علة تحريم الربا الطعم لكن المجتهد نظر واستنبط العلة بالطرق العقلية من المناسبة وغيرها فكأن المجتهد أخرج العلة من خفاء فلذلك سمى تخريج المناط بخلاف تنقيح المناط فإنه لم يستخرجه لكونه مذكورا في النص بل نقح المنصوص وأخذ منه ما يصلح للعلية وترك ما لا يصلح قال الغزالي وهذا هو الاجتهاد والقياس الذي عظم فيه الخلاف

قال تنبيه قيل لا دليل على عدم عليته فهو علة قلنا لا دليل على عليته فليس بعلة قيل لو كان علة لتأتى القياس المأمور به قلنا هو دور
هذان طريقان ظن بعض الأصوليين أنهما مقيدان للعلية فعقد المصنف هذه الجملة منبهة على فساد هذا الظن أحدهما أن يقال لم يقم الدليل على أن هذا الوصف غير علة فيكون علة لأنه إذا انتفى الدليل على عدم عليته ثبت كونه علة للزوم انتفاء المدلول بانتفاء الدليل وقد اختار الأستاذ أبو إسحاق هذه الطريقة كما هو محكى في مختصر التقريب والجواب أن يعارض هذا بمثله ويقال لم يقم الدليل على عليته فليس بعلة كما ذكرتم وقد بالغ القاضي في مختصر التقريب في الرد على من استدل بهذا الطريق وهذا الجواب هو حاصل ما ذكره
والثاني أن يقال هذا الوصف على تقدير عليته يتأتى معه العمل بالقياس المأمور به وعلى تقدير عدم عليته لا يتأتى معه ذلك فوجب أن يكون علة لتمكن الإتيان معه بالمأمور به وهذا إيضاح هذا الطريق على الوجه الذي ساقه المصنف ولو قال إذا كان علة بدل قوله لو كان لأحسن فإن عبارة هذه توهم أن هذا طريق في نفي العلية لا في إثباتها وقد فهم الشيرازي شارح الكتاب هذا ومشى عليه وليس بجيد وأجاب المصنف بأن هذا دور لأن تأتي القياس يتوقف على ثبوت العلة فلو أثبتنا العلة به لتوقف ثبوت العلة ولزم الدور والله أعلم
قال الطرف الثاني فيما يبطل العلية وهو ستة النقض وهو إبداء الوصف بدون الحكم مثل أن يقول لمن لم يبيت يعري أول صومه عن النية فلا يصح فينتقض بالتطوع
هذا مبدأ القول في الأمور المبطلة للعلية وهي ستة النقض وعدم التأثير والكسر والقلب والقول بالموجب والفرق الأول النقض وهو عبارة عن إبداء الوصف الذي ادعى المستدل حجة عليته في بعض الصور مع تخلف الحكم عنه فيها وربما يعبر عنه معبرون بتخصيص العلة ومثاله قولنا من لم

يبيت النية تعرى أول صومه عنها فلا يصح لأن الصوم عبارة عن إمساك النهار جميعه مع النية فيجعل العراء عن النية في أول الصوم علة بطلانه فيقول الخصم ما ذكرت منقوض بصوم التطوع فإنه يصح من غير تثبيت وأمثلة هذا الفصل يخرج على حد الحصر فلا نطيل باستقصائها
قال قيل يقدح وقيل لا مطلقا في المنصوصة وقيل حيث مانع وهو المختار قياسا على التخصيص والجامع جمع الدليلين ولأن الظن باق بخلاف ما لم يكن مانع
الكلام في النقض من عظائم المشكلات أصولا وجدلا ونحن نتوسط في تهذيبه فلا نسهب ولا نوجز بل نأتي بالمقنع فنقول أعلم أولا أن الصور في النقض تسع لأن العلة إما منصوصة قطعا أو ظنا أو مستنبطة وتخلف الحكم إما بمانع أو فوات شرط أو دونهما فصارت تسعا من ضرب ثلاثة في ثلاثة فالقائل بأن النقض قادح مطلقا قائل به في التسع ومقابلة مانع في جميع ذلك ولنذكر صورها الأولى القطعية المتخلف الحكم عنها لوجود مانع الثانية القطعية المتخلف الحكم عنها لفوات الشرط الثالثة القطعية المتخلف الحكم عنها لا لمانع ولا لفوات شرط وإنما يكون ذلك بعض تعبدي أو إجماع مع عدم ظهور مانع أو شرط الرابعة والخامسة والسادسة الظنية كذلك السابعة والثامنة والتاسعة المستنبطة كذلك وعلى الفقيه طلب أمثلتها وسنذكر في أثناء الفصل من أمثلتها الكثير إن شاء الله تعالى
وقد اختلف الناس في النقد هل يكون قادحا في العلية
أحدها أنه يقدح مطلقا وهو اختيار أبي الحسين البصري والإمام وإليه ذهب أكثر أصحابنا
والثاني لا يقدح مطلقا وعليه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد
والثالث لا يقدح في المنصوصة مطلقا في صورها الست ويقدح المستنبطة مطلقا في صورها الثلاث
والربع واختاره المصنف لا يقدح حيث وجد مانع مطلقا سواء كانت

العلة منصوصة أم مستنبطة فإن لم يكن مانع قدح مطلقا وإلى المذهبين الأخيرين أشار بقوله وقيل في المنصوصة وقيل حيث مانع وتقديره وقيل لا يقدح في المنصوصة وقيل لا يقدح حيث مانع ولم يصرح بالنفي لأنه معطوف على منفي وحكى القاضي أبو بكر في التلخيص الذي اختصره إمام الحرمين من كتابه التقريب والإرشاد مذهبا خامسا عن بعض المعتزلة أنه يجوز تخصيص علة الحل والوجوب ونحوهما مما لا يكون خطرا قال وحملهم على ذلك قولهم لا تصح التوبة عن قبيح مع الإصرار على قبيح ويصح الإقدام على عبادة مع ترك أخرى وحكى ابن الحاجب مذهبا سادسا أنه لا يقدح في المستنبطة ويقدح في المنصوصة عكس الثالث واختار مذهبا سابعا وهو أنه يجوز في المستنبطة في صورتين فلا يقدح فيهما وهما ما إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرط ولا يجوز في صورة واحدة ويقدح فيها وهي ما إذا كان التخلف دونهما وأما المنصوصة فإذا كان النص ظنيا وقدر مانع أو فوات شرط جاز ولا يجوز في القطعي في صوره الثلاث أي لا يمكن وقوعه لأن الحكم لو تخلف لتخلف الدليل وهو لا يمكن أن يكون قطعيا لاستحالة تعارض القطعيين إلا أن يكون أحدهما ناسخا ولا ظنيا لأن الظني لا يعارض القطعي وهذا الذي اختاره ابن الحاجب نحو ما اختاره الآمدي والمنع في النص القطعي إذا لم يكن مانع ولا فوات شرط ظاهر
وأما إذا كان مانع أو فات شرط فلا وجه للمنع إذا كان ذلك المانع أو الشرط عليه دليل لأنه حينئذ يكون ذلك الدليل مخصصا للنص القطعي اللهم إلا أن تقدر دلالة النص على جميع الأفراد قطعية فيصح ما قاله لأنه حينئذ لا يمكن التخلف وحاصله أنه في النص القطعي لا يمكن ورود النقض وفي الظني يمكن وقال إنه يقدر مانع ولا حاجة إلى ذلك فقد يكون تعبديا بالدليل الدال على التخصيص من غير ظهور معني فيمكن النقض ولا يكون قادحا وفي المستنبطة يجوز حيث مانع أو فقدان شرط ولا يجوز فيما سواهما ففيما سواهما يكون قادحا ولا يكون النقض قادحا في شيء من المواضع إلا في هذا المكان وهو إذا استنبطت علة وتخلف الحكم عنها إلا لمانع أو لفوات شرط فيستدل حينئذ بالتخلف على فسادها فينبغي أن يختصر الكلام

ويقال النقض يقدح في العلية إذا كانت مستنبطة ولم يكن مانع ولا فوات شرط ولا يقدح فيما سواه
وإما إمام الحرمين فذهب إلى رأي ثامن فقال في المستنبطة أن انقدح من جهة المعنى فرق بين ما ورد نقضا وبين ما نصبه المستنبطة علة بطلت علته لأنه يتبين بهذا أنه ذكر في الابتداء بعض العلة وأظهر أنه علة مستقلة وإن لم ينقدح فرق فإن لم يكن الحكم فيها مجمعا عليه أو ثابتا بمسلك قاطع سمعي بطلت علته أيضا فإنه مناقض بها وتارك للوفاء بحكم العلة فإذا لم يف بحق طردها فكيف يلزم الخصم حق طردها في موضع قصده وإن طرد مسألة اجماعية لا فرق بينها وبين محل العلة فهذه موضع الآباء والامناء فإن كان الحكم الثابت فيها على مناقصة علة التعلل معللا بعلة معنوية جارية فوردها ينقض العلة من جهة أنها منعت العلة من الجريان وعارضتها بفقه وإن كانت المسألة قاطعة للطرد ولا فرق وكان لا يتأتى تعليل الحكم فيها على المناقضة بعلة فقيهة فهذا موضع التوقف هذا رأيه في المستنبطة وحاصله أن النقض قادح فيما إذا انقدح فرق أو لم يكن الحكم في الصورة مجمعا عليه أو لم يكن ثابتا بقطعي أو كان ثابتا بإجماع وفي محل النقض معنى يعارض العلة التي ذكرها المستدل ويمنعها من الجريان وإن لم يكن كذلك فالتوقف
وأما المنصوصة فإن كان بنص ظاهر فيظهر أورده المعترض أن الشارع لم يرد التعليل وإن ظهر ذلك من مقتضى لفظه وتخصيص الظواهر ليس بدعا وإن كان بنص لا يقبل التأويل فإن عمم بصيغة لا يتطرق إليها تخصيص ببعض الصور التي تطرق العلة فيها فلا مطمع في تخصيصها لقيام القطع على العلية وجريانها على اطراد ونص الشارع لا يصادم وإن نص الشارع على شيء وعلى تخصيصه في كونه علة لمسائل معدودة فلا يمتنع ذلك ولا معترض عليه تنصيصه وتخصيصه ولو نص على نصب علة على وجه لا يقبل أصل النصب تأويلا ولم يجز في لفظ الشارع تنصيص على التعميم على وجه لا يأول ولا على التخصيص بمواقع مخصوصة فهذا عام ولا يمتنع فيه تخصيص العلة
وأما حجة الإسلام الغزالي فذهب إلى مقالة تاسعة فقال تخلف الحكم عن

العلة بفرض على ثلاثة أوجه الأول أن يفرض في صوب جريان العلة ما يمنع اطرادها وهو الذي يسمى نقصا وهو قسمان
أحدهما ما يظهر أنه ورد مستثنى عن القياس مع استثناء القياس فلا يفسد العلة بل يخصصها بما وراء المستثنى ويكون علة في غير محل الاستثناء ولا فرق بين أن يرد ذلك على علة مقطوعة أو مظنونة مثال الأول إيجاب صاع من التمر في لبن المصراة فإن علة إيجاب المثل في المثليات تماثل الأجزاء والشرع لما أوجب ذلك لم ينقص هذه العلة إذ عليها تعويلنا في الضمانات لكن استثنى هذه الصور فهذا الاستثناء لا يبين المجتهد فساد هذه العلة ولا ينبغي أن يكلف الناظر الاحتراز عنه حتى نقول في علته تماثل الأجزاء في غير المصراة فيقتضي إيجاب المثل لأن هذا تكليف قبيح
ومثال الثاني مسألة العرايا كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كلام المصنف
وثانيهما ما لم يرد مورد الاستثناء فلا يخلو إما أن يرد على المنصوصة أو المظنونة فإن ورد على المنصوصة فلا يتصور هذا إلا بأن ينعطف منه قيد على العلة ويتبين أن ما ذكر لم يكن تمام العلة مثاله قولنا خارج فينقض الطهر أخذا من قوله الوضوء مما خرج ثم بان إنه لم يتوضأ من الحجامة فيعلم أن العلة ليس مطلق كونه خارجا بل خارج عن المخرج المعتاد فكان ما ذكر بعض العلة فإن لم يكن كذلك فيجب تأويل التعليل إذ قد يرد بصيغة التعليل ما لا يراد به التعليل أو يراد به التعليل لكن لا لذلك الحكم المذكور قال الله تعالى يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ثم قال تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله وليس كل من شاقق الله ورسوله يخرب بيته فتكون العلة منقوضة ولا يمكن أن يقول إنه علة في حقهم خاصة لأن هذا يعد تهافتا في الكلام فإذن الحكم المعلول بذلك ليس هو التخريب المذكور بل هو لازمه أو جزؤه الأعم وهو كونه عذابا ولا شك أن كل من يشاقق الله ورسوله فإنه معذب أما بخراب البيت أو غيره

وهذا وإن كان خلاف الظاهر وتأويلا للنص لكي يتعين المصير إليه رعاية لعدم انتقاض الكلام وإن ورد على العلة المظنونة وانقدح جواب عن محل النقض من طريق الإحالة إن كانت العلة محيلة أو من طريق الشبه إن كان تشبيها فهذا يبين أن ما ذكر لم يكن تمام العلة وانعطف قيد على العلة من مسألة النقض به يندفع النقض أما إذا كانت العلة محيلة ولم ينقدح جواب مناسب وأمكن كون النقض دليلا على فساد العلة وكونه معرفا اختصاص العلة بمجراها بوصف من قبيل الأوصاف الشبيهة بفصلها عن غير مجراها فهذا الاحتراز عنه مهم في الجدل للمناظر لكن المجتهد الناظر ماذا عليه أن يعتقده في هذه العلة الانتقاض والفساد أو التخصص هذا عندي في محل الاجتهاد ويتبع كل مجتهد وغلب على ظنه
ومثاله قولنا إن صوم رمضان يفتقر إلى تبييت النية لأن النية لا تنعطف على ما مضى وصوم جميع النهار واجب وأنه لا يتجزأ فينتقض هذا بالتطوع فإنه لا يصح إلا بنية ولا يتجزأ على المذهب الصحيح ولا مبالاة بمذهب من يقول إنه صائم بعض النهار فيحتمل أن ينقدح عند المجتهد فساد هذه العلة يسبب التطوع ويحتمل أن ينقدح له أن التطوع ورد مستثنى رخصة لتكثير النوافل فإن الشرع قد يسامح في النقل بما لا يسامح به في الفرض فالمحيل الذي ذكرناه يستعمل في الفرض ويكون وصف الفرضية فاصلا بين مجرى العلة موقعها ويكون ذلك وصفا شبهيا اعتبر في استعمال المحيل وتمييز مجراه عن موقفه ومن أنكر قياس الشبه جوز الاحتراز عن النقض بمثل هذا الوصف الشبهي فأكثر العلل المحيلة خصص الشرع اعتبارها بمواضع لا ينقدح في تعيين المحل معنى مناسب على مذاق أصل العلة وهذا التردد وإنما ينقدح في معنى مؤثر لا يحتاج إلى شهادة الأصل فإن مقدمات هذا القياس مؤثرة بالاتفاق من قولنا إن كل الصوم واجب وأن النية عزم لا ينعطف على الماضي وأن الصوم لا يصح إلا بنية فإن كانت العلة مناسبة بحيث يفتقر إلى أصل يستشهد به فإنما يشهد لصحتها ثبوت الحكم في موضع واحد على وفقها فتنقض هذه الشهادة

بتخلف الحكم على وفق المعنى إن دل على التفات الشرع إليه فقطع الحكم أيضا يدل على إعراض الشرع عنه
وقول القائل أني اتبعته إلا في أعراض الشرع بالنص ليس بأولى من قول خصمه أعرض عنه إلا في اعتبار الشرع إياه بالتنصيص على الحكم وعلى الجملة يجوز أن يصرح الشرع بتخصيص العلة أن يكون بفساد العلة وأن يكون يصرح واحتمل نفي الحكم مع وجود العلة أن يكون بفساد العلة وأن يكون لتخصيصها فإن كانت العلة قطعية كان تنزيلها على التخصيص أولى من التنزيل على نسخ العلة وإن كانت مظنونة ولا مستند للظن إلا إثبات الحكم على وفقها في موضع فينقطع هذا الظن بأعراض الشرع عن إثباتها في موضع وإن كانت مستقلة مؤثرة كما ذكرناه في مسألة التبييت كان ذلك في محل الاجتهاد
الوجه الثاني لانتفاء حكم العلة أن ينتفي لا لخلل في نفس العلة لكن يندفع الحكم عنه بمعارضته علة أخرى وافقة كما سيأتي تمثيله في كلام المصنف في أن علة رق الولد ملك الأم وتخلف في ولد المغرور فهذا لا يرد نقضا لأن الحكم هنا كأنه حاصل تقديرا
الوجه الثالث أن يكون النقض مائلا عن صوب جريان العلة ويكون تخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة لكن لعدم مصادفتها محلها أو شرطها أو أهلها كقولنا السرقة علة القطع وقد وجد في حق النباش فقيل تبطل بسرقة الصبي وسرقة ما دون النصاب والسرقة من غير حرز أو نقول والتبع علة الملك وقد جرى فلبثت الملك في زمن الخيار فيقال باطل ببيع المستولدة والموقوف والمرهون وأمثال ذلك فهذا جنس لا يلتفت المجتهد إليه لأن نظره في تحقيق العلة دون شرطها ومحلها فهو مائل عن صوب نظره أما المناظر فهل يلزمه الاحتراز عنه أم يقبل منه العذر بأن هذا منحرف عن مقصد النظر وليس البحث عن المحل والشرط فيه اختلاف بين الجدليين والخطب فيه يسير والجدل شريعة وضعها أهلها فإليهم وضعها كيف شاءوا أو تكليف الاحتراز الجميع لنشر الكلام وذلك بأن يقول بيع صدر من أهله وصادف محله وجمع شرطه

فيفيد الملك أو سرق نصابا كاملا من حرز لا شبهة له فيه هذا إتمام كلام الغزالي رضي الله عنه
وهو عندنا كلام جيد مرضي فلذلك احتملنا طوله وأوردناه وفيما ذكرناه من تفاصيل المذاهب شفاء للعليل فلنلتفت إلى كلام صاحب الكتاب وقد علمت اختياره أن التخلف إن كان لمانع لا يقدح والاقداح سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة فإن قلت كيف يتصور تخلف الحكم لا لوجود مانع أو لفوات شرط في محل فيه وصف نص الشارع قطعا أو ظاهرا على عليته أو استنبط ذلك استنباطا صحيحا
قلت هو لعمر الله بعيد الوجود والمجوز لذلك إنما مستنده جواز تخصيص العلة منصوصة كانت أو مستنبطة والتخصيص لا يكون بغير مخصص ذلك المخصص إن كان حيث يوجد مانع أو يفوت شرط لم يكن صورة المسألة وإن كان بدونها أمكن وهو محتمل على بعد بأن يحصل نص على عدم الحكم في محل الوصف فيه موجود وليس فيه معنى يدعى أنه مانع أو عدمه شرط وهيهات أن يوجد ذلك
وإذا عرفت هذا فقد استدل المصنف على ما اختاره بوجهين
أحدهما قياس النقض على التخصيص حيث لا يقدح في حجية العام في الباقي على ما سبق في مكانه والجامع الجمع بين الدليلين المتعارضين فترتب الحكم على العلة فيما عدا صورة وجود المانع إذ الوصف بالنسبة إلى موارده كالعام بالنسبة إلى أفراده والمانع المعارض للوصف كالمخصص المعارض للعام وهذا الوجه يختص بإحدى شقي المدعي وهو أن التخلف إذا كان لمانع لا يقدح
والثاني أن التخلف إذا كان لمانع فظن عليه الوصف باق والعمل بالظن واجب بخلاف ما إذا لم يكن التخلف لمانع فإن ظن العلية ينتفي وذلك لأن انتفاء الحكم إذا لم يكن لمانع يتعين أن يكون لعدم المقتضى فيكون التخلف لا لمانع قادحا في العلية

قال رحمه الله قيل العلة ما يستلزم الحكم وقبل انتفاء المانع لم يستلزم قلنا بل ما يغلب على ظنه وإن لم يخطر المانع وجودا وعدما
هذه حجة من حجج القائلين بأن النقض يقدح مطلقا وتقريرها أن العلة ما تستلزم الحكم وقبل أن ينتفي المانع أي مع وجوده لا يستلزم الحكم فلا تكون علة وحينئذ يكون تخلف الحكم مع وجود المانع قادحا في العلية وإذا كان كذلك كان التخلف لا لمانع قادحا بطريق أولى والجواب أنا لا نسلم كون العلة ما تستلزم الحكم بل هي ما يغلب على الظن وجود الحكم بمجرد النظر إليه وإن لم يخطر وجود المانع أو عدمه بالبال وهذا الجواب يستدعي تحديد العهد بالكلام في العلة وقد بنى المصنف كلامه على المختار من العلة المعرف
ولقائل أن يقول إن قلنا العلة مؤثرة أو باعثة فلا ريب في أنها تستلزم وإن قلنا معرفة نصبت أمارة فتعريفها للحكم يوجب ظن حصوله فصار مستلزما لحصول الظن والعمل بالظن واجب فهي مستلزمة على الأقوال جميعا وإن اختلفت جهة الاستلزام وحكمها
وقال أبو الحسين في المعتمد إن أقوى ما يحتج به هؤلاء أن يقال تخصيص العلة مما يمنع كونها أمارة على الحكم في شيء من الفروع سواء ظن كونها جهة المصلحة أو لا يظن ذلك لكن ذلك باطل لأن العلة فائدتها كونها توجب العلم أو الظن بثبوت الحكم في الفرع والأفقي الأصل لا حاجة إليها لثبوت الحكم فيه بالنص وإذا لم يحصل هذا بطل كونه علة وبيان أنه يمنع كونها أمارة على الحكم أنا إذا علمنا أن علة حرمة التفاضل في بيع الذهب بالذهب هي كونه موزونا ثم علمنا إباحة بيع الرصاص بالرصاص متفاضلا مثلا مع أنه موزون فلا يخلو إما أن يعلم ذلك بعلة أخرى يقتضي إباحته أو بنص فإن علمنا إباحته بعلة أخرى بقياس بها الرصاص على أصل ثبت فيه ذلك الحكم لكونه أبيض مثلا فأنا إذا علمنا في شيء أنه موزون وشككنا في كونه أبيض مثلا لم يعلم قبح بيعه متفاضلا ما لم يعلم أنه ليس بأبيض كما لو شككنا في كونه موزونا فظهر أنه لا يعلم بعد التخصيص تحريم بيع شيء متفاضلا لكونه

موزونا فقط فبطل أن يكون كونه موزونا وحده علة بل كونه موزونا مع كونه غير أبيض وإن علمنا إباحته بالنص فالكلام فيه كما في القسم الأول
وأجيب عن هذا الوجه بأنا نسلم أنه مهما انتفى الحكم عن العلة في بعض الصور لمعارض فما لم يعلم أو يظن انتفاء ذلك المعارض في غيره من الصور لا يمكننا إثبات ذلك الحكم فيه لكن لم قلتم أنه يلزم منه أن يكون إثبات ذلك الحكم فيه داخلا في ذات العلة بل جاز أن يكون شرطا
واحتج القائلون بأن النقض لا يقدح مطلقا بأوجه منها ما روى عن ابن مسعود أنه كان يقول هذا حكم معدول به عن سنن القياس وعن ابن عباس رضي الله عنه مثله واشتهر ذلك فيما بين الصحابة من غير نكير فصار إجماعا وأجيب عنه بوجهين
أحدهما أنه لا دلالة لقول ابن مسعود وابن عباس على أن القياس الذي ثبت الحكم على خلافه حجة فالإجماع على ذلك لا يكون مفيدا
والثاني سلمنا أن حجة لكن يمكن حمل ذلك على ما إذا كان تخلف الحكم عنه بطريق الاستثناء ويجب الحمل عليه جمعا بين الأدلة واعترض صفي الدين الهندي على الأول بعد أن ذكر أنه إشكال قوي بأن إطلاق القياس عليه يشعر إشعارا ظاهرا بكونه حجة وتسميته ذلك اعتبارا بما كان قبل ذلك الحكم المعدول به مجازا على خلاف الأصل والقياس الذي لا يعمل به من المنسوخ والفاسد لا نسلم أنه يسمى قياسا إذ ذاك على الإطلاق في الفرق وإن سمي به مفيدا ومنها أن العلة الشرعية أمارة على الحكم في الفرع فوجودها في موضع من غير حكم لا يخرجها عن كونها أمارة إذ ليس من شرط الإمارة أن يصحبها الحكم ولا يتخلف عنها أصلا وإلا لكان دليلا قاطعا لأمارة ولهذا أن جميع الإمارات الشرعية موجودة قبل ورود الشرع وإن لم تكن الأحكام ملازمة لها والغيم الرطب أمارة على وجود المطر وأن تخلف عنه المطر آونة
وخبر الواحد العدل علامة على وجود وإن تخلف عنه وجود القاطع

وجوابه أنا لا نسلم أن تخلف الحكم عن الإمارة لا يقدح في كونها أمارة قوله لو صحبها الحكم في كل الصور لم تكن أمارة بل قاطعا قلنا ممنوع وهذا لأن القاطع هو الذي لا يجوز أن ينفك الحكم عنه ولو لمانع لا أنه الذي لا ينفك الحكم عنه فإن الدليل الظني قد لا ينفك الحكم عنه وإن كان يجوز انفكاكه لمانع وما ذكره من الأمثلة فنحن نمنع كونه لا يقدح في غلبة الظن في كونه إمارة وإنما لا يقدح ذلك إذا غلبت على ظنه حصول ما يلازم انتفاء الحكم في صور التخلف فإما إذا لم يحصل ذلك فلا نسلم أنه لا يقدح ذلك فيه ثم الذي يؤيد ما ذكرناه من الاحتمال أن الدليل الدال على كون الإمارة للحكم الفلاني أن اعتبر في كونها إمارة صورا مخصوصة وصفة مخصوصة وهيئة مخصوصة فلا يكون تخلف الحكم في غير تلك الصور وفي غير تلك الصفة والهيئة تخلف الحكم عن الإمارة بل عن بعضها لأن تلك الخصوصيات معتبرة في ماهية الإمارة حينئذ وإن لم تعتبر ذلك بل دل على كونها إمارة في سائر الصور كيف حصلت فيمتنع التخلف وإلا يلزم الترك لمقتضى دليل الإمارة وهو باطل
واحتج القائلون بأن النقض يقدح المستنبطة دون المنصوصة بأن دليل العلة المستنبطة اقتران الحكم بها في بعض الصور فكما أن اقتران الحكم بالوصف في بعض الصور يدل على العلية فقدم الاقتران به في بعض الصور يدل على عدم العلية فتعارضا وتساقطا بخلاف العلة المنصوصة فإن دليل عليتها النص فكما أن تخلف حكم النص عنه في بعض الصور لمعارض لا يوجب إبطال العمل به فيما عداها فكذلك العلة المنصوصة التي في معناها
وأجيب عنه بأنه ليس دليل علية المستنبطة مجرد الاقتران بل شهادة المناسبة وغيرها من الطرف المذكورة والتخلف لمانع أو فوات شرط لا يدل على عدم العلية لما سبق فلا يعارض دليل العلية كما في المنصوصة
قال والوارد استثناء لا يقدح كمسألة العرايا لأن الإجماع أول من النقض
ما تقدم في كلام المصنف هو فيما إذا لم تكن صورة النقض واردة على سبيل الاستثناء أما إذا كانت واردة على سبيل الاستثناء

أما إذا كانت واردة على سبيل الاستثناء فإنه لا يقدح على المختار خلافا لبعض المانعين من جواز تخصيص العلة سواء كانت العلة معلومة كمسألة الصاع في المصراة أو مظنونة كمسألة العرايا وهي بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر والعنب في الكرم بالزبيب فإنها واردة نقضا على تحريم الربا لأن العلة في تحريمه إما الطعم أو الكيل أو الفوت أو المال وكل منها موجود في العرايا وإنما لا يقدح ذلك في العلة لأنه إنما يعلم كونه ورد على سبيل الاستثناء إذا كان النقص لازما على جميع المذاهب كما ذكرناه في مسألة العرايا
وحينئذ يكون معارضا للإجماع فإنه منعقد على أن علة الربا أحد الأمور الأربعة والإجماع أقوى في الدلالة منه فيقدم عليه ويعمل بمقتضاه واعلم أن الإمام مثل الوارد على سبيل الاستثناء في المظنونة بمسألة العرايا وفي المعلومة بضرب الدية على العاقلة فإنها لا تنقض علمنا بأن من لم ينقدح على الجنابة لم يؤاخذ بضمانها
وقد سبق الإمام بهذا المثال إمام الحرمين وغيره واعترض على التمثيل به بأنه عكس النقص لأنه أبدا الحكم بدون القلة وذلك أن الجنابة سبب لوجوب الضمان وهنا وجب بدون الجناية وهو اعتراض غير منقدح لأن تقرير التمثيل ذلك أن يقال الجناية سبب الضمان
وقد تخلف الحكم في القاتل عمدا أو عمد خطأ مع وجود العلة وإن قرر على الوجه المذكور كان بمعنى أن يقول عدم الجناية سبب لعدم الضمان
وقد وجب هذا السبب في العاقلة مع تخلف عدم الضمان والمصنف اقتصر على التمثيل بمسألة العرايا لأنها واردة نقضا على علة مظنونة فإذا لم يقدح فيها لم يقدح في المعلومة بطريق الأولى وفي التمثيل بمسألة العرايا دقيقة أخرى وهي الإشارة إلى أن ما ورد مستثنى جاز أن يكون معقول المعنى كمسألة العرايا فإنها استثنيت رخصة وتسهيلا على المعسرين ولذلك يختص بها الفقراء على أحد قولين وهذا ما عليه الجمهور وأعني أن المستثنى يجوز أن يعقل له معنى وأن لا يعقل

وادعى إمام الحرمين أن الصورة المستثناة لا تكون معقولة المعنى وأن ما يعقل معناه لا يستثنى ثم أورد تحمل العاقلة ومسألة المصراة فقال إذا أردنا إجراء علة في تخصيص الغرامة بمختص بسببها ومقتضاها طردناها غير مكثرين بتحمل العاقلة على قطع وتحملهم لا يعترض على ما يمهد من المعنى ولو ظن ظان أنه ينقدح في تحمل العاقلة معنى تصح على السير مأخوذا من المعاونة فهذا غير سديد فإن ذلك لا يجري فيما يتفق تلفه من الأموال وهو أعم وجودا وأغلب وقوعا من العقل الواقع خطأ أو على شبه العمد ثم الإعانة إنما تجري في الشريعة وإذا كان المعان معسرا وعلى هذا انتظمت أبواب النفقات والكفارات والقاتل خطأ يتحمل عنه وإن كان من أيسر أهل زمانه فليس بمثل هذه التخيلات اعتبار
وكذلك إذا طردنا طريقة في إيجاب المثل في المثليات التي تنشأ به أجزاؤها فيلزمنا عليه من إيجاب رسول الله صلى الله عليه و سلم صاعا من التمر في مقابلة لبن المصراة لم يحتمل بمثل هذا الإلزام ولا تعويل على قول المتكلفين إذ زعموا أن اللبن المحتلب في أيام اختيار الفرارة والبكارة يقع مجهول القدر فرأي الشارع فيما يقع ويكثر إثبات مقدر من جنس درا للنزاع
فإن هذا لا جريان له أصلا ويلزم طرد مثله في كل مثلي جهل مقداره وليس لبن المصراة مما يعم ويغلب الابتلاء بالحكم به
فإن أمثال هذه المعاني البعيدة إنما يثبت بعض الثبوت إذا تقيدت وتأيدت بعموم البلوى على أنها لو كانت أيضا كانت من المعاني الكلية التي لا تتخلص في مسالك الفرض على السبر ثم تعيين جنس التمر كيف يهتدي إلى تعلية
وإنما المطلوب فيما فرضناه الكلام في الجنس المعدول إليه لا في المقدار فإن ما ذكروه من دوام النزاع بعد انقطاعه بذكر مقدار من النقدين وهما أثمان الأشياء إذا عسر تقدير الثمن انتهى وإمام الحرمين أجل من أن يصادم كلامه بكلمات أمثالنا ولكنا نقول على جهة الاستشكال دون المناظرة مسألة العاقلة معقولة المعنى واتفاق الجاهلية على ذلك قبل ورود الشرع يرشد إلى ذلك لأن التعبدي لا تهتدي إليه العقول وإنما يتلقى من الشرع

فإن قلت وما ذلك المعنى قلت المعاونة على حمل الجناية قولكم ذلك لا يجري فيما يتفق تلفه من الأموال
قلنا أولا هذا نقض والكلام في أن النقض يقدح
وثانيا أن الأموال غالبا لا تتلف ما سيق مؤثة وإنما يكون ذلك في أموره يسيرة وأما إتلاف النفوس فالأمر فيها مشق وإذا ثبت الحمل في موضع يعظم العزم فيه لم يلزم إثباته في موضع لا يعظم فيه ولا يشق وأيضا فوقوع إتلاف النفوس لا يكثر بخلاف الأموال فلم يلزم من تحمل ما يقع نادرا تحمل ما يغلب وقوعه أيضا كانت العرب تتناضل أبطالها وتتجاول فرسانها وبهم إلى ذلك حاجة ويقع القتل الخطأ عند الطراد فرجعت الفائدة إلى العاقلة فناسب توزيع الغرم الذي لا يشق عليهم قولكم وهو أعم وجودا وأغلب وقوعا من قتل الخطأ وشبه العمد قلنا لعل ذلك هو السبب في عدم التحمل فيه كما بيناه فإن الشيء إذا كان وقوعه نادرا تناسب فيه المعاونة قوله الإعانة إنما تكون إذا كان المعان معسرا قلنا الإعانة من حيث هي مطلوبة محبوبة والصدقة على الأغنياء جائزة ولكن الإعانة حالة الإعسار آكدور بما شبه أعانته الأقارب بتحمل الدية عنهم بإعانة الأجانب الذين غرموا لإصلاح ذات البين
وأما مسألة المصراة فمعقولة المعنى أيضا من جهة ما ذكره إمام الحرمين وقوله يلزم طرد مثله في كل مثلي جهل مقداره إلى قوله كيف يهتدي إلى تعيين جنس التمر قلنا قد رجع الشرع إلى البدل من غير مثل ولا يقوم في أماكن منها الحر يضمن بمائة من الإبل ومنها الجنين يضمن بالقوة ويستوي في الذكر والأنثى
ومنها المقدرات الشرعية في الشجاج كالموضحة مع اختلافها في الصغر والكبر
ومنها جزاء الصيد فليس من شرط الضمان أن يكون بالمثل أو القيمة من النقدين ولا من شرط المثل أن يضمن بالمثل والعدول في الأمور التي لا تنضبط إلى شيء مقدر لا يختلف من محاسن الشريعة قطعا للتشاجر والتخاصم

والتمر كان أغلب أقواتهم كما أن الإبل غالب أموالهم وقد انتهى ما تخيلناه وأوردناه ولكنا نطرق سبيلا للبحث يسلكه الفطن يغر ناظرين إلى الجزم بصحته
وقد تعرض ابن الابياري شارح البرهان لما أوردناه في مسألة العاقلة والذي نقول أخيرا أن الظاهر أن الحق في جانب إمام الحرمين ولو عقل في العاقلة معنى المعاونة لعدى إلى الجيران ولكان أبعاض الجاني من آبائه وبنيه أولى من بقية العصيات في تحملها مع كونهم لا يتحملونها
وأما تشبيه تحمل الأقارب الدية بإعانة الأجانب الغارمين فأين أحدهما من الآخر والغارمون قد ثبت في ذمتهم وناسب قضاء دينهم في ذلك أما القاتل خطأ أو عمد خطأ فلم يشغل الشارع ذمته بشيء فلا ريب في أن هذا حكم تعبدي نتلقاه على الرأس والعين وكذلك القول في مسألة المصراة
ثم ألحق إمام الحرمين بتحمل العاقلة الكتابة الفاسدة حيث نزلناها منزلة الكتابة الصحيحة
وإذا قلنا في البيع الفاسد الملك لا ينتقل بدون سبب شرعي والفاسد حائد عن سبيل الصحة غير واقع والموقع المطلوب في الشريعة فلا وقع له في مقصود العقد الصحيح لم يكن للخصم نقض ذلك بالكتابة الفاسدة لكونها مستثناة شاذة عن القاعدة كتحمل العاقلة ورأي ذو البصائر أن لا يحكموا بالشاذ عن الكل ولكن يتركون الشاذ على شذوذه يعتقدونه كالخارج على المنهاج ولقائل أن يقول
إذا كانت الكتابة مستثناة والمستثنى عندك تعبد خارج عن القياس فلم قست الفاسد منها على الصحيح ولا محيص عن هذا إلا أن يحصل نص أو ينعقد إجماع على إلحاق الكتابة الفاسدة بالصحيحة فكذلك فاسد البيع يلحق بالصحيحة فتصير مستثناة بذلك وإلا فللمنفي أن يقول وقع الاتفاق على إلحاق الكتابة الفاسدة بالصحيحة فكذلك فاسد البيع يلحق بالصحيحة فتصير الكتابة الفاسدة بالصحيحة فكذلك فاسد البيع يلحق بصحيحه
فإن قلت هذا مستثنى قلت أين دليله الذي خرج به ثم نحرر عبارة فنقول

ما اتسعت طرقه كان الفاسد أحد طرقه الدليل عليه العتق وبيان هذا في الفرع أن الملك يحصل بأسباب البيع والهبة والإرث والاغتنام والاحتطاب والاحتشاش والإلتقاط والمعدن وفي الأصل العتق يحل بأسباب مباشرة وتسببا وفي الثمن بالإستيلاد والتدبير والكتابة فلما استويا في اتساع الطرق جاز أن يكون الفاسد أحد الطرق وتأثير هذا الكلام أن الطرق إذا اتسعت في تحصيله فقد دخله نوع من المسامحة والمساهلة فجاز أن يكون الفاسد من طرقه ولا يقال الكتابة حصل العتق فيها بالتعليق دون المعارضة لأنا نقول لو كان كذلك وجب اشتراط التنصيص على التعليق ولا يجب التنصيص عليه
وتقول فإن أديت إلى فأنت حر وأيضا فإنه مستحق فسخ هذه الكتابة ولو كان التعليق هو الذي تحصل به العتق لما قبل الفسخ كسائر التعليق وأيضا فإكسابه وأولاده تتبعه في العتق ولو عتق بالتعليق لم يكن ذلك وأيضا فلو كاتبه على خمر وأداه وجب عليه قيمة نفسه ولو عتق بالتعليق لما وجب عليه قيمة نفسه فما هذا الرجوع بالقيمة إلا حكم المعاوضة
وقد تناهينا في الاحتجاج للخصم ولسنا ممن يغادر هذه الكلمات سالمة عن الإبطال وإن طال بها الفصل وخرج عن المقصود من الشرح
فنقول قد أجاب أصحابنا عن قياسهم البيع الفاسد على الكتابة الفاسدة بطريق ونحن نزيف منها ما لا نرتضيه حتى لا نتجاوز حد الإنصاف
أحدهما قولهم البدل في الكتابة غير مقصود لتمكن السيد من أخذ اكتساب العبد دون الكتابة ولما كان كذلك لم ينظر إلى فساده وصحته وهذا غير مرضي فإن العبد قد يكون كسوبا ويكاتبه السيد طمعا فيما لعله يصل إليه من سهم الرقاب وأيضا كان ينبغي أن لا يفسد العقد كما إذا تزوجها على صداق فاسد فإنه لما كان البدل غير مقصود في النكاح لم يؤثر في فساده فتأثيره في الكتابة يدل على أنه مقصود

وثانيها قولهم العتق في الكتابة مضاف إلى التعليق فإن الكتابة الصحيحة اشتملت على تعليق ومعاوضة ولا بد فيها من ذكر التعليق فنقول كاتبتك على ألف فإن أديت فأنت حر وفي الفاسدة لا بد من التعليق والتعليق لا فساد فيه وعلى هذا تمتنع المسائل التي لزمت من أحكام المعاوضات كقبول الفسخ ولزوم القيمة له واستتباع الاكساب والأولاد
وهذا الجواب أمثل من الأول إلا أن لقائل أن يقول العتق مضاف إلى المعاوضة لا إلى التعليق قولكم يشترط أن ينص على التعليق قلنا لا نسلم بل لو نواه بقوله كاتبتك على كذا صحت الكتابة أيضا وهذا واضح وأبلغ منه قول مخرج من التدبير أن لفظ الكتابة صريح مغن عن التصريح بالتعليق ونيته ونظيره قول إلى اسحاق إن كان الرجل فقيها صحت الكتابة والأفد به من التعليق أو نيته ثم كيف يشترط التنصيص على التعليق والعتق عند الأداء يحصل لا محالة بعقد المعاوضة وتسليم العوض يقتضي تسليم ما يقابله فلا يحتاج أن يشترطه في العقد ويصير بمثابة البيع لما اقتضى بنفسه الملك لم يحتج إلى أن يقول بعتك على أن تتسلم أو تتملك
وأما المسائل فلا منع فيها وإنما منع أصحابنا استتباع الكسب والولد فحسب وأما الفسخ فغير ممتنع وقيمة نفسه واجبة وذلك من أحكام العوض دون التعليق
وثالثهما قول بعضهم الكتابة في الأصل خارجة عن القياس فألحقنا فاسدها بصحيحها لأن ما ثبت على خلاف القياس لا يقاس عليه بخلاف البيع وهذا كلام رديء فإن إلحاق فاسدها بصحيحها عين القياس ثم إنها وإن عدل بها عن القياس إلا أنه بعد ورود الشرع بها وصفت بالصحة فينبغي وصف فاسدها بالفساد وإذا ثبت فسادها والفاسد عند الشافعي مرادف للباطل وجب إلغاؤها وأن يكون لها حكم ألا ترى أن السلم والإجارة ثبتا على خلاف القياس لورودهما على معدوم ثم لما ثبت الصحيح منهما ونعت بالصحة يؤدي على الفاسد بالفساد حتى لا يثبت لفاسد كل منهما ما لصحيحه
والحق عندنا في الجواب رأي رابع فنقول الكتابة عقد إرفاق لا يقصد بها غير العتق وأن يخلص العبد من الرق فألفينا مضى الفساد ولم ننظر إليه

وعمدنا إلى العتق الذي هو المقصود ورأينا الشارع متشوف إلى تحصيله ما أمكن ولهذا يكمل بعضه بعضا ويجعل بعض الملك كجميعه وبعض اللفظ كجميعه ويعتق القريب على قريبه وننزله في أبواب الكفارات في أول الدرجات ونضرب صفحا عن إيجاب الصوم على ذي الميسرة العظمى وإن كان الصوم أشق عليه وما ذلك إلا تشوف إلى تحصيل العتق كيف قدر الأمر ولهذا إذا أدى الأمر إلى العتق بعد هذا لا ينقض ولا يرفض وفي البيع الفاسد إذا تأدى الأمر إلى الملك بالقبض يجب نقضه عندهم ورفضه واسترجاعه كل ذلك تغليبا لتحصيل العتق
فإن قلت فما دعاك إلى آنه تتبعه ولده قلت في ثبوت الكتابة لولد المكاتبة من زنا أو نكاح أجنبي قولان فإن قلنا لا يثبت اندفع السؤال وإن قلنا بالصحيح وهو أنه يثبت فنقول نحن إذا الفينا معنى المعاوضة الفاسدة ولم ننظر إليها طلبا لتحصيل العتق صححنا ما هو تابع طلبا لتكثير العتق ولهذا كان هذا القول الصحيح وهو الأحب للشافعي رضي الله عنه وإنما أحبه للزومه تكثير العتق وقطع به إسحاق رحمه الله وقال إذا اختاره الشافعي كان الآخر ساقطا
فرعان أحدهما في وجوب الاحتراز عن النقض مذاهب ثالثها يجب في المستثنى دون غيره
الثاني ذهب بعض الفقهاء إلى أن مسألة النقض من القطعيات قال القاضي وليس الأمر كذلك عندي بل هي من المجتهدات وكل مأمور بما غلب على ظنه
قال وجوابه منع العلة لعدم قيد
هذه الجملة معقودة لبيان النقض وجوابه قال صاحب الكتاب وهو يتأتى بأحد أمور ثلاثة الأول منع وجود العلة في محل النقض وفيه بحثان
أحدهما أن ذلك لا يكون معاندة وصدا بالمكابرة بل يكون بناء على وجود فيه مناسب أو مؤثر في العلة وهو غير حاصل في صفة النقض ولم يتعرض

المصنف للكلام في تقسيم القيد فنقول لا يخلو ذلك القيد أما أن يكون جليا أو خفيا الأول الجلي وله أمثلة منها أن في نصرة القول الصحيح هذا الحلي مال معد لاستعمال مباح فلا يجب فيه زكاة كثياب البذلة وعبيد الخدمة فإن نقض بالمعد لاستعمال محرم أو مكروه فدفعه واضح لأنه غير معد لاستعمال مباح
ومنها قولنا طهارة عن حديث فيشترط فيها النية كالتيمم فإن نقض بالطهارة عن النجاسة قلنا ليس الحدث من النجاسة
ومنها قولنا من لم ينو في رمضان ليلا يعرا أول صومه عن النية فلا يصح فإن نقض بالتطوع قلنا العلة عرا أول الصوم الواجب لا مطلق الصوم
ومنها قولنا في المستولد بين الظباء والغنم حيوان متولد بين ما لا يجب فيه الزكاة بحال وما يجب فيه فلا يجب كما إذا كانت أمهات ظباء فإن نقض بالمتولد بين السائمة والمعلولة يجب فيها الزكاة في بعض الأحوال
ومنها أن نقول في نصرة المذهب الصحيح التباس أخذ لنصاب تام خفيفة من حرز مثله عدوانا فيكون سارقا يجب قطعه فإن نقض بما إذا سرق الكفن في قبر في مغارة حيث لا يجب القطع على أصح الوجهين قلنا ليس ذلك في حرز مثله والثاني الخفي فإما أن يكون معناه واحدا أو متعددا إما بطريق التواطئ أو المشكك أو الإشتراك فهذه أقسام أربعة أن يكون معناه واحدا
وذكر من أمثلته قولنا السلم عقد معاوضة فلا يشترط فيه الأجل كالبيع فإن نقض بالكتابة قلنا ليست عقد معاوضة إذ هي بيع مال الإنسان بمال نفسه وذلك لا يجوز بل هي عقد إرفاق ولذلك لا يحيل مقصودها لفساد العوض
وفي هذا المثال نظر والحق أن الكتابة معاوضة تضمنت تعليق عتق وقيل تعليق عتق بصفة ضمنت معاوضة معدولة عن القياس بل الجواب عن هذا النقض أن نقول الكتابة وردت مستثناه فلا ترد نقضا لم تقدم
ومنها قولنا في قصر الصلاة رخصة شرعت للتخفيف فلا يتحتم الأخذ بها

كالإفطار في الصوم فإن نقض بأكل الميتة حال من الإضطرار حيث يجب على أصح الوجهين قلنا حينئذ أنه شرع للتخفيف بل للضرورة وقيام البينة
وثانيها أن يتعدد بطريق التواطؤ
ومن أمثلته قولنا الصوم عبادة متكررة فتفتقر إلى تعيين النية كالصلاة فإن نقض بالحج لأنه يتكرر على الأشخاص قلنا المراد من التكرار التكرار بحسب الأزمان والأشخاص أو بحسب الأزمان وما ذكرتم من النقض ليس كذلك بل هو متكرر بحسب الأشخاص فقط ومنها قولنا يحج عن الميت المستطيع وإن لم يوص لأنه حق لازم عليه فيقضي عنه سواء أوصى به أو لم يوص كالدين فإن نقض بالصلاة والصوم قلنا بعد تسليم الحكم وعدم الفرق الإجمالي الحق اللازم مقول على الحق المالي وعلى غيره بالتواطئ والأول هو المقصود هنا دون الثاني الذي هو المراد من النقض
وثالثها أن يتعدد معناه بطريق التشكيك كقولنا في المتولد بين الظباء والغنم حيوان متولد بين ما لا زكاة فيه وما فيه زكاة فلا تجب فيها الزكاة قياسا على ما إذا كانت الأمهات ظباء فإن الخصم وافق في هذه الحالة فإن نقض بالمتولد بين السائمة والمعلوفة من البقر والغنم قلنا ما لا يجب فيه الزكاة مقول بالتشكيك على ما يجب فيه بحال كالظباء وعلى ما يجب له من حيث الجملة كالمعلوفة فإنه يجب فيها الزكاة إذا صارت سائمة وكذا إذا علفت قدرا تعيش الماشية بدونه كاليومين مثلا فإنها معلوفة ولا زكاة فيها والحالة هذه على أصح الأوجه وكذا لم يقصد العلف على أحد الوجهين وقد تقدم ذكره هذه المسألة مثالا للقيد الجلي ولكن على غير هذا الوجه فإنها ثم مقيدة بقولنا لا يجب فيها الزكاة بحال
وقد قال بعض الأصوليين أن النقض يندفع أيضا بتفسير اللفظ وذكر هذا المثال وقال إذا صارت من سائمة وجبت زكاتها ويكون اللفظ غير متناول لها عرفا أو شرعا وذكر إمام الحرمين في التخليص الذي اختصره من التقريب والإرشاد للقاضي أبي بكر هذا المثال ثم قال وهذا الضرب مقبول ولا نظن أن النقض يندفع بالتفسير ولكنه يندفع بقضية اللفظ لاقتضاء عموم اللفظ النفس والتفسير إيضاح له وكل تفسير لا ينبني عليه قضية اللفظ في إطلاقه فلا معول عليه في دفع النقض مثل أن يقول القائل مطعوم فلا يباع بعضه ببعض متفاضلا فإذا

نقض عليه اعتلاله بالبر مع الشعير فلا يجديه في دفع النقض أن يقول اسم المطعوم ينطلق على ما يتحد جنسه وعلى ما يختلف جنسه فإذا خصصه وفسره بجهة من جهات احتماله وهي ما إذا اتحد الجنس فلا يقبل ذلك منه إذ ظاهر لفظه لا ينبني على هذا التفسير وأطال القاضي في هذا الفصل وما ذكره حق متقبل
وحاصله أن التفسير إذا كان لا ينبئ عنه اللفظ لم يقبل وإلا قبل ويكون حينئذ راجعا إلى هذه الأقسام التي نحن في ذكرها
ورابعها أن يتعدد بطريق الإاشتراك كقولنا جمع الطلاق في القرء الواحد فلا يكون مبتدعا كما لو طلقها ثلاثا في قرء واحد مع الرجعة بين الطلقتين فإن نقض بما لو طلقها ثلاثا في الحيض فإنه جمع الطلاق في الطهر الواحد مع أن الطلاق يدعى وفاقا قبنا المراد من القرء هنا الطهر
قال وليس للمعترض الدليل على وجوده لأنه نقل ولو قال فادللت على وجوده هنا دل عليه ثمنه فهو نقل إلى نقض الدليل
البحث الثاني في أن المستدل إذا منع حصول وجود العلة في صورة النقض فهل للمعترض إقامة الدلالة عليه فيه مذاهب
أحدها قال الأكثرون وجزم به الإمام والمصنف أنه لا يمكن من ذلك لأنه انتقال من مسألة قبل تمامها إلى أخرى لأن وجود العلة في صورة النقض مسألة تغاير المسألة التي أقام المستدل عليها الدليل وأيضا فإن فيه قلب القاعدة فإن المعترض يصير مستدلا والمستدل معترضا
والثاني أنه يمكن من ذلك لأن فيه تحقيق النقض فكان من متمماته
والثالث قاله الآمدي أنه إن تعين ذلك طريقا للمعترض في هدم كلام المستدل وجب قبوله منه تخفيفا لفائدة المناظرة وإن أمكن القدح بطريق آخر هو أفضى إلى المقصود فلا وهذا التفصيل عندي داخل في مجاري التحقيق
والرابع يمكن المعترض ما لم يكن حكما شرعيا كذا حكاه ابن الحاجب

وقال قطب الدين السيرازي ما وجدته في شيء من الكتب ولعل تقريره أن يقال يمكن المعترض في الحكم العقلي لأنه يقدح فيه فيحصل فيه فائدة لا أن يمكن في الحكم الشرعي إذا التمكين فيه انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال ولا ينفعه لأنه بعد بيان المعترض وجود العلة في صورة النقض يقول المستدل يجوز أن يكون تخلف الحكم لوجود مانع أو فوات شرط فيجب الحمل عليه جمعا بين الدليلين دليل العلة ودليل التخلف فلا تبطل العلة بخلاف الحكم العقلي فإنه لا يتمشى فيه قال قطب الدين ويحتمل أن يكون المراد ما لم يكن الوصف المدعي علة حكما شرعيا فإنه إن مكن من إثباته لزم قلب القاعدة لصيرورة المعترض مستدلا لإثباته الحكم الشرعي بخلاف ما لم يكن الوصف حكما شرعيا فإنه لا يلزمه ذلك قال وهذا الاحتمال أظهر
قلت وقد حكى صفي الدين الهندي هذا المذهب وفرق بين الحكم الشرعي وغيره بأن الحكم ينتشر الكلام فيه جدا بخلاف غيره فإن الأمر فيه قريب قوله فلو قال المعترض ما ذكرت من الدلالة على وجود العلة في محل النقض فهو نقل أي انتقال من نقض العلة إلى نقض الدليل أي دليل وجود العلة في الفرع ولم يتعرض المصنف بعد قوله إن هذا نقل إلى أنه هل يكونه مسموعا أولا ولك أن تقول قوله أنه نقل الإشارة إلى أنه لا يكون مسموعا لأنه قدم أولا أنه ليس للمعترض الدليل على وجوده لكونه نقلا فأومأ بذلك إلى أن النقل لا يجوز ويحتمل أن يريد أن مثل هذا النقل يسمع وعلى هذا مشى الشيرازي شارح الكتاب وكلام الإمام أيضا محتمل للأمرين وظاهره الإشارة إلى أنه لا يكون مسموعا فإنه قال لا يمكن المعترض من إقامة الدليل على وجود العلة في صورة النقض لكونه انتقالا إلى مسألة أخرى بل لو قال المعترض ما دللت به إلى آخره قال فيكون انتقالا من السؤال الذي ابتدأ به إلى غيره هذا كلامه وكأنه قال في تلك الصورة إنها انتقال من مسألة إلى مسألة أخرى أراد التنبيه على أن ما يقوله المعترض في هذا الفرع انتقال من السؤال الأول إلى غيره لا من مسألة إلى أخرى فأتى بلفظه بلى لذلك ولم يرد أن هذا انتقال مسموع

وعلى هذا مشى الشيخ صفي الدين الهندي وقال يعد منقطعا وبه جزم الآمدي أعني بأنه لا يكون مسموعا نعم لو قال ذلك ابتداء أو قال يلزمك إما نقض العلة أو نقض الدليل الدال على وجودها في الفرع كان مسموعا يحتاج المستدل إلى الجواب عنه
قال أو دعوى الحكم مثل أن يقول السلم عقد معاوضة فلا يشترط فيه التأجيل كالبيع فينتقض بالإجارة قلنا هناك لاستقرار المعقود لا لصحة العقد ولو تقديرا كقولنا رق الأم علة رق الولد وثبت في ولد المغرور تقديرا وإلا لما تجب قيمته
الأمر الثاني من الأمور الثلاثة التي يتأتى بها دفع النقض أن يمنع المطل عدم الحكم في صورة النقض ويدعي ثبوته فيها وذلك قد يكون ظاهرا بأن يكون الحكم ثابتا فيها جزما على رأس المستدل إن كان مجتهدا أو رأي إمامه إن كان مقلدا ناصرا لمذهبه أو على أحد قوليه غير المرجوع عنه أو غير ذلك ولم يتعرض المصنف لهذا القسم لكونه كما قال الإمام معلوما وقد يكون خفيا وفيه كلام المصنف وذلك قد يكون تحقيقا وقد يكون تقديرا الأول التحقيقي مثل السلم عقد معاوضة فلا يتشرط فيه التأجيل كالبيع فإن نقض بالإجارة قلنا الأجل ليس شرطا لصحة عقد الإجارة وإنما جاء فيها التقرير المعقود عليه وهو الانتفاع بالعين
ومن أمثلته أيضا الإجارة عقد معاوضة فلا تنفسخ بالموت كالبيع فإن نقض بالنكاح قلنا بعد تسليم كونه عقد معاوضة هناك لا ينفسخ بالموت لكن انتهى
منها الثيب الصغيرة ثيب فلا يجوز إجبارها كالبالغ فإن نقض بالثيب المجنونة بحيث يجوز تزويجها على الوجه الصحيح قلنا لا نسلم صحة إجبارها كما لو كانت عاقلة وهو وجه في المذهب
ومنها أن يقول في تخالف المتبايعين بعد هلاك السلعة أنه فسخ بيع يصح مع رد العين فصح مع رد القيمة كما لو اشترى ثوبا بعبد وتقابضا ثم هلك العبد ثم

علم مشتري الثوب بالثوب عيبا فيقول الحنفي هذا ينتقض بالإقالة فإنها بيع يصح مع رد العين ولا يصح مع رد القيمة فنقول لا نسلم ذلك فإن الإقالة عندنا تصح بعد هلاك السلعة ويرجع فيها بالقيمة
والثاني التقديري وإليه أشار بقوله ولو تقديرا وهو دافع للنقض على الرأي الأظهر لأن المقدر كالمحقق
مثاله قولنا رق الأم علة رق الولد فيكون هذا الولد رقيقا فإن نقض بولد المغرور بحرية الجارية حيث كان رق الأم موجودا مع انعقاد الولد حرا قلنا رق الولد موجود تقديرا أو مقدر وجوده إذ لو لم يقدر رقه لم نوجب قيمته إذ لا قيمة في الحر ولذلك حكي وجه أنه ينعقد رقيقا ثم يعتق على المغرور حكاه الرافعي في كتاب العتق وجزم في النكاح بخلافه
وأعلم أن الأول أعني التحقيق دافع للنقض إذا كان الحكم مشفقا عليه بين المستدل وخصمه وكذا إن كان مذهبا للمستدل فقط لأنه إذا لم يف بمقتضى علته في الاطراد فالآن لا يجب على غيره كان أولى وإن كان مذهبا لخصمه فقط كما يقول هذا الوصف مما لا يطرد على أصل فإنه ثابت في الصورة الفلانية والحكم غير ثابت فيها عندي ولست بالمنقاد إليه لم يتوجه النقض لأن خلاف الخصم في تلك المسألة كخلافه في المسألة المتنازع فيها وهو محجوب بذلك الدليل في المسألتين معا وأما تمكين المعترض في إقامة الدلالة على عدم الحكم ففيه الخلاف السابق في منع وجود العلة في صورة النقض ومن فروع هذا القسم أعني منع الحكم ما إذا ذكر المعترض صورة فقال المستدل المنتصر لمذهب إمامه لا أعرف في هذه نصا فلا يلزمني النقض فهل يندفع النقض بذلك ذكر الشيخ أبو إسحاق هذا في كتابه الملخص في الجدل
ومثل له بأن يستدل الحنفي في القارن إذا قتل صيدا أنه يلزمه جزآن لأنه أدخل النقض على إحرام الحج والعمرة فلزمه جزآن كما لو أحرم بالحج فقتل صيدا ثم أحرم بالعمرة فقتل صيدا فيقال له هذا ينتقض به إذا أحرم المتمتع بالعمرة فجرح صيدا ثم أحرم بالحج فجرحه ثم مات فإنه أدخل النقض على إحرام الحج والعمرة ثم لا يلزمه جزاء أن فيقول المخالف لا أعرف نصا في هذه

المسألة ثم قال رأيت القاضي أبا الطبيب يقول في مثل هذا إذا جوزت أن يكون مذهبك على ما ألزمته وجب أن لا يحتج بهذا القياس قال وعندي أنه لا يلزمه النقض لأنه وإن احتمل ما قال إلا أن القياس يقتضي أنه يلزمه كفارتان فيعمل به ما لم يمنع كالعموم قبل ظهور المخصص
قلت وحاصل هذا أن المعلل له أن يلتزم بصورة النقض عند الشيخ وعند القاضي ليس له الالتزام بها مع احتمال أن لا يكون مذهب إمامه وهذا أمر راجع إليه في نفسه ولا خلاف بينهما في أنه لا يكتفي منه بأن يقول لا أعرف نصا في هذه المسألة وهذا هو الحق وكيف يكون خلافه والمعترض بنادي يلزمك إما انتقاض علتك أو دعوى ثبوت الحكم
قال أو إظهار المانع الأمر الثالث مما يجاب به عن النقض أن يظهر المعلل مانعا من ثبوت الحكم في صورة النقض فيندفع النقض بذلك عند من يجعل تخلف الحكم لمانع لا يقدح ومنهم المصنف كما علمت مثاله يجب القصاص القتل بالمثقل قياسا على المحدد بجامع القتل العمد من العدوان فإن نقص بقتل الوالد ولده بأن الوصف فيه مع تخلف الحكم قلنا تخلف لمانع وهو أن الوالد سبب لوجود الولد فلا يحسن أن يكون الوالد سببا لعدمه وإذا تخلف لمانع فلا يقدح في العلية
ولم يذكر المصنف مما يدفع به النقض غير هذه الثلاثة وكان ينبغي أن يذكر دفعه يورد صورة النقض مستثاة فإنه دافع أيضا
قال تنبيه دعوى ثبوت الحكم أو نفيه عن صورة معينة أو مهمة ينتقض بالإثبات أو النفي العامين وبالعكس
هذه الكلمات منبهة على ما يتجه من النقوض ويستحق الجواب وما ليس كذلك أعلم أن المقصود من ثبوت الحكم إما إثباته ونفيه معا أو أحدهما
فإن كان الأول ولم يتعرض له المصنف وجب أن يكون الحكم مطردا ومنعكسا مع علته كالحد مع المحدود فمتى ثبت عند عدمه أو عدم وجوده توجه عليه النقض

وإن كان الثاني فالمدعي إما ثبوت الحكم أو نفيه وكل منهما إما أن يكون في بعض الصور أو جميعها وإذا كان في بعض الصور فإما أن يكون في صورة معينة أو مبهمة فهذه ثلاثة أقسام داخلة في كل من القسمين أعني ثبوت الحكم أو نفيه في صورة وثبوته أو نفيه مطلقا
الأول دعوى ثبوت الحكم في صورة معينة فينتقضه النفي عن جميع الصور لأن السالبة الكلية تناقض الموجبة الجزئية ولا ينقضها النفي عن صورة لأن الجزئين لا يتناقضان فالثبوت في صورة لا تناقض النفي في صورة
مثاله قول الحنفي في جريان القصاص بين المسلم والذمي في حالة العمد محقونا الدم فجرى بينهما القصاص كالمسلمين وينقضه الأب والابن فإنهما لا يجري بينهما القصاص بحال ولا ينقضه إذا بين عدم جريان القصاص بينهما حالة الخطأ
والثاني دعوى نبوته في صورة مبهمة وهو كالأول
ومثاله قولنا الصبي حر مسلم مالك للنصاب فيجب الزكاة في ماله كالبالغ فإن نقض بالحلي وثياب البذلة لم نجبه لما عرفت ومثال المعين المنفي أن يقال هذا النبيذ ليس بنجس قياسا على خل الزبيب فينتقض بأن كل نبيذ مسكر وكل مسكر نجس
ومثال المبهم المنفي أن يقال إذا اشتبه عليه نهر غيره بأنهار نفسه لا يحل له الشرب من نهر واحد لا بعينه كما لو اشتبه عليه ظرف ماء غيره بظروف مائه بجامع الاشتباه فينقبض بأنه يحل الشرب من النهر الجاري وإن كان لغيره فإنه لا يجوز المنع من الشرب على أظهر الوجهين وادعى الشيرازي صاحب الكتاب في هذا الإجماع وليس بسديد وإذا علمت هذه الأقسام الأربعة فهي المشار إليها بقوله دعوى ثبوت الحكم إلى قوله العامين وتقدير الكلام دعوم ثبوت الحكم في صورة معينة أو مهمة ينتقض بالنفي العام ودعوى نفيه عن صورة معينة أو مبهمة ينتقض بالإثبات العام ففيه لف ونشر على جعل الأول للثاني والثاني للأول

قوله وبالعكس إشارة إلى القسم الآخر وهو أن يدعي ثبوت الحكم أو نفيه عاما وقد قلنا إنه يدخل فيه أقسام ثلاثة أيضا الأول نقض دعوى ثبوت الحكم عاما بالصورة المعينة مثاله قولنا كل شريك فدعواه رد المال على شريكه مقبولة قياسا على الوكيل إذا ادعى الرد من وكله وكذا المودع والجامع أن كلا من الشريك والوكيل والمودع أمين فينتقض هذا بالمرتهن حيث لا يقبل دعواه الرد عند العراقيين وهو الأصح وكذلك ينتقض بالمستأجر ومن أمثلته أيضا قولنا يقتل كل رقيق بمثله والمدبر بالمدبر وأم الولد بأم الولد قياسا على الحر بالحر بجامع الكفاءة فينتقض بما إذا قيل المبعض مثله مع التساوي في قدري الرق والحرية حيث لا يجب القصاص على أحد الوجهين ولا ينتقض بما إذا قتل الأب الرقيق عبد ابنه لأن المستدل يقول تخلف الحكم لمانع وهو أن قصاص العبد لابن القاتل فلو ثبت لأدى إلى ثبوت القصاص للوالد على الولد
الثاني نقض هذه الدعوى المذكورة بالصورة المبهمة ولا استحضر له مثالا
الثالث نقض دعوى نفي الحكم عاما بالصورة المعينة
كما إذا قال قائل فيما إذا قطع مملوك طرف مملوك آخر فملوكان فلا يجري بينهما القصاص كالصغيرين فينقض بجريان القصاص بينهما في النفس ومن أمثلته أيضا أن يقال بيع النحل في الكوارة والحمام في البرج إذا لم يشاهد غير صحيح قياسا على بيع الغائب بجامع عدم الرؤية للمشتري فينتقض بأن العبد الأعمى يصح أن يشتري نفسه من سيده مع أن المبيع غير مرئي للمشتري وبأنه لو كان مرئيا قبل العقد ولم يحتمل التغير صح بيعه وإن لم يشاهد في الحال ولئن قال المعلل لا يصح بيع السمك في الماء والطير في الهواء قياسا على بيع الغائب بجامع الغرر كان تعليلا صحيحا وليس للمعترض نقضه ببيع النحل وهو طائر حيث يصح على أصح الوجهين وبيع الحمام وهي طائرة اعتمادا على عودها ليلا على أحد الوجهين لأن المعلل يمنع الغرر والحالة هذه
الرابع نقض هذه الدعوى بالصورة المبهمة ولا يحضرني مثاله والله تعالى أعلم

قال الثاني عدم التأثير بأن ينفي الحكم بعده وعدم العكس بأن يثبت الحكم في صورة بعلة أخرى فالأول كما لو قيل مبيع لم ير فلا يصح كالطير في الهواء والثاني الصبح لا يقصر فلا يقدم أذانها كالمغرب ومنع التقديم ثابت فيما قصر
عدم التأثير وعدم العكس من واد واحد فلذلك جمع بينهما والذي عليه الجدليون أن عدم التأثير أعم من عدم العكس فإنهم قالوا كما نقله أمام الحرمين وغيره عدم التأثير ينقسم إلى ما يقع في وصف العلة وإلى ما يقع في أصلها وجعلوا الواقع في الوصف وهو عدم الانعكاس وسيتضح إن شاء الله ذلك بالمثل
وقال إمام الحرمين الذي نراه أن القسمين ينشآن من الأصل وإذا عرفت هذا فقد عرف المصنف تبعا للإمام عدم التأثير بأن ينفي الحكم بدون ما فرض علة له وعدم العكس بحصول الحكم في صورة بعلة أخرى واعتراض على هذا لأن قوله ينفي الحكم بدون ما فرض علة له إن أريد به أنه كذلك في المحل الذي ادعى أنه علة فيه وهو ظاهر مراده فهو غير لازم لأن عدم التأثير قد يكون بأن يبين ثبوت الحكم في غير ذلك المحل بدون ما جعل علة له وإن أراد أنه كذلك في غير ذلك المحل فقط ففاسد لأنه إذا بين بناء الحكم في ذلك المحل بعينه بدون ما جعل علة له كان ذلك عدم التأثير بطريق أولى وإن عنى به ما هو الأعم من هذين فباطل لأن العكس أيضا كذلك إذا ليس من شرط العكس حصول الحكم في صورة أخرى بل لو حصل في تلك الصورة بعينها بعلة أخرى كان ذلك عكسا أيضا وهو اعتراض منقدح إذا كان الإمام قد مشى على مراسم الجدليين وعلمك محيط بأن القوم ذوو اصطلاح فليساعدوا عليه ما لم يخرج عن قانون معتبر وإن لم يف الإمام باصطلاحهم كان له أن يقول المراد من عدم التأثير
القسم الأول وقولكم قد يكون بغير ذلك قلنا في مصطلحي لا يكون كذلك بل له أن يقول المراد
القسم الثالث قولكم ليس من شرط العكس حصول الحكم في صورة

أخرى قلنا بل هو من شرطه في مصطلحنا وإذا علمت هذا فقد مثل المصنف لعدم التأثير بقولنا في الغائب يبيع غير مرئي فلا يصح كالطير في الهواء والسمك في الماء بجامع عدم الرؤية فينقدح للمعترض أن يقول عدم الرؤية لا تأثير له في الحكم لبقاء الحكم المذكور بعد زواله فيما إذا صار البيع مرئيا ولكن غير مقدور على تسليمه وهذا المثال واقع لعدم التأثير في أصل العلة دون وصفها كما وضح ومثل لعدم العكس باستدلال الحنفي على منع تقديم آذان الصبح بقوله الصبح صلاة لا تقصر فلا يجوز تقديم آذانها على وقتها كالمغرب بجامع عدم جواز القصر فيقول هذا الوصف لا ينعكس لأن الحكم الذي هو منع تقديم الآذان على الوقت موجود فيما قصر من الصلوات بعلة أخرى وهذا المثال واقع لعدم التأثير في الوصف كما ظهر
ومن أمثلة الأول أيضا أن يقال على لسان الشافعي في منع نكاح الأمة الكتابية أمة كافرة فلا يحل للمسلم نكاحها كالأمة المجوسية فيقال لا أثر للرق في الأصل فإن الحرة المجوسية محرمة والتمجس مستقل بإثارة منع النكاح والرق مستغن عنه فذكره عديم التأثير في الأصل وقد تم ما في الكتاب
وقد قسم الباب النظر عدم التأثير أقساما عديدة
أولها وثانيها عدم التأثير في الأصل والوصف وهما المتقدمان في كلام المصنف والثالث عدم التأثير في الأصل والفرع جميعها فإذا قلنا بأن عدم التأثير في الأصل فقط يقدح كما ستعرفه إن شاء الله كان قادحا بطريق أولى ومثال هذا قوله من اعتبر العدد الاستجمار بالأحجار عبادة متعلقة بالأحجار لم يتقدمها معصية فينبغي أن يعتبر فيها العدد قياسا على رمي الجمار وإذا اعتبر العدد وجب أن يكون ثلاثة ضرورة أنه لا قائل بالوصف
وقوله لم يتقدمها معصية عديم التأثير في الأصل والوصف معا بخلاف قولنا أمة كافرة فلا تحل للمسلم كالأمة المجوسية فإن كونها أمة لا أثر له في الأصل لكن تأثير في الفرع فلئن قال مثلا إذا سقط قوله لم يتقدمها معصية انتقض بالرجم فإنه عبادة تتعلق بالأحجار ثم لا يعتبر فيه العدد فنقول قال الشيخ أبو

إسحاق الشيرازي هذا أصعب ما يجيء في هذا الباب قال وعندي أن مثل هذا لا يجوز تعليق الحكم عليه ذكره في الملخص
والرابع عدم التأثير في الفرع دون الأصل وهو قسمان
أحدهما أن يذكر وصف في الفرع يتحقق الخلاف فيه بدونه كقولهم نوى صوم رمضان قبل الزوال فصح كما لو نوى من الليل فقيل كونه من رمضان لا مدخل له في تحقيق الخلاف إذ يتحقق بدونه ولو نوى مطلق الصوم فيه لخلاف أيضا وقد اختلف في قبول هذا القسم أيضا
وثانيهما أن يلحق الفرع بالأصل بوصف تأثير له على إطلاقه في الفرع وفاقا كقولنا في إثبات فسخ النكاح بالعيوب الخمسة عيب ينقض الرغبة في المعقود عليه فوجد ثبوت الفسخ به كما في البيع فالوصف المذكور في الإلحاق لا تأثير له في الفرع على إطلاقه وفاقا ولهذا لا يثبت الخيار في النكاح بكل عيب شأنه ما ذكر وفاقا وقول القاضي الحسين ومن شذ عن الأصحاب بدعواه ثبوت الخيار بكل عيب منفر يكسر ثورة التوقان لا يرد على دعوانا الوفاق هنا فمن العيوب ما ينقص الرغبة ولا يكن منفرا يكسر ثورة التوقان ولا عبرة به على العموم إجماعا وإن اختلف في أفراد خاصة
والخامس عدم التأثير في الحكم وهو أن يذكر في الدليل وصفا لا تأثير له في الحكم المعلل به كما إذا قيل في مسألة المرتدين إذا أتلفوا أموالنا في دار الحرب طائفة مشركة فلا يجب عليهم الضمان يتلف أموالنا في دار الحرب كأهل الحرب فالإتلاف في دار الحرب لا تأثير له في نفي الضمان وإثباته فإن من أوجب الضمان أوجبه مطلقا سواء كان في دار الحرب أم غيرها ومن نفاه نفاه مطلقا
والفرق بين هذا والثالث فرق ما بين العام والخاص لأنه يلزم من أن يكون له تأثير في الحكم أن لا يكون له تأثير في الأصل والفرع من غير العكس
وقال الآمدي حاصل هذا القسم يرجع إلى عدم التأثير في الوصف بالنسبة إلى الحكم المذكور وإذا بطل عدم التأثير في الفرع كما هو أحد الرأيين ورجع

حاصل هذا القسم إلى عدم التأثير في الوصف فلم يبق غير عدم التأثير في الوصف وفي الأصل
والآمدي لم يذكر القسم الثالث الذي أوردناه ولعله أهمله لكون الخامس أعم منه وإذا تفهمت ما ألقيته لك من الشرح وعلمت عود الأقسام كلها إلى عدم التأثير في الأصل وفي الوصف عرفت أن اقتضاء صاحب الكتاب على ذكرهما نوع حسن من الاختصار والله أعلم
قال الأول يقدح أن منعنا تعليل الواحد بالشخص بعلتين
والثاني تمتنع تعليل الواحد بالنوع بعلتين وذلك جائز في المنصوصة كالايلاء واللعان والقتل والردة لافي المستنبطة لأن ظن ثبوت الحكم لأحدهما يصرفه عن الآخر عند المجموع
تقدم تصويرها عدم التأثير وعدم العكس والكلام هنا في أنهما هل يقدحان في العلية وقد تشاجر القوم في ذلك وبنى المصنف الأول على أنه هل يجوز تعليل الحكم الذي هو واحد بالشخص بعلتين فيقدح عند مانعه لأنه إذا لم يوجد الوصف المفروض علة مع بقاء الحكم والفرض أنه ليس ثابتا بعلة أخرى يحصل العلم بأن ذلك الوصف ليس علة
وبنى الثاني على أنه يمتنع تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلتين بناؤه ظاهر مما تقدم لأن النوع باق فيه ويعلم من هذا أن الحكم الواحد إن بقي شخصه بعد زوال العلة فهو عدم التأثير وإن بقي بنوعه فهو عدم العكس فامتناع بيع الطير في الهواء بقي شخصه بعد زوال الرؤية كما كان قبلها وامتناع نكاح الأمة المجوسية باق بالشخص بعد زوال العلة وهي كون الصلاة لا تقصر إنما هو في الرباعية وما كان ثابتا مع العلة إنما هو مع غيرها لكنهما اشتركا في النوعية وهو منع تقديم الآذان
وأعلم أن المبني عليه من أعظم ما خاض فيه الأصوليون والمصنف اختصر القول فيه جدا نحن نأخذ ما في شرح الكتاب على الاختصار ثم نعود إلى الكلام في ذلك على حسب التوسط فنقول يجوز تعليل الحكم الواحد نوعا

المختلف شخصا بعلل مختلفة وفاقا كتعليل إباحة قتل زيد بردته وعمرو بالقصاص وخالد بالزنا بعد الإحصان وربما أومأ بعضهم إلى جريان الخلاف فيه وعلى ذلك مشى صاحب الكتاب حيث جعل عدم العكس مبنيا عليه والأشبه ما ذكرناه وبه صرح الآمدي وصفي الدين الهندي وهذا في العلل الشرعية
أما العقلية فظاهر نقل بعضهم أن الخلاف في تعليل المعلول الواحد بعلل عقلية يختص بالواحد بالنوع دون الواحد بالشخص فإنه يمتنع تعدد علته بلا خلاف وأما تعليل الحكم الواحد في شخص واحد بعلل مختلفة نحو تحريم وطء المعتدة المحرمة الحائض وزاد إمام الحرمين الصائمة وهو سهو لأن الصوم يستحيل أن يجامع الحيض شرعا وكذا أباحه قتل الشخص الواحد بردته وقتله الموجب للقصاص هل يجوز بهذه الإمارات المزدحمة اختلفوا فيه على مذاهب
أحدهما المنع من ذلك مطلقا
والثاني الجواز مطلقا وإليه ذهب الجماهير
والثالث أنه يجوز في المنصوصة دون المستنبطة وهو اختيار الأستاذ أبي بكر بن فورك الغزالي والإمام والمصنف قال إمام الحرمين وللقاضي إليه صفو ظاهر في كتاب التقريب
قلت وظاهر ما في التخليص مختصر التقريب تجويزه مطلقا وأما ما ذهب إليه الغزالي منا من التفصيل فيخالف ما ذكره في الفقه فإن قال في كتاب البيع من الوسيط عند الكلام في زوائد المبيع والحكم الواحد قد يعلل بعلتين
والرابع عكسه وذهب إمام الحرمين إلى رأي خامس وهو أنه جائز غير واقع قوله وذلك هذا دليل على التفصيل الذي اختاره
وتقريره أنه قد وقع تعليل الواحد بالشخص بعلتين منصوصتين فدل على جوازه ودليل وقوعه اللعان والإيلاء فإنهما علتان مستقلتان في تحريم وطء المرأة ولك أن تقول الإيلاء لا تحرم به الزوجة فلا يصح التمثيل به ولا يمكن أن يبدل الإيلاء بالظهار لأن الظهار وإن كان محرما إلا أنه لا يمكن اجتماعه مع اللعان

إذا اللعان يقطع الزوجية فلا تجتمع علتان على معلول واحد فينبغي التمسك بالطلاق الرجعي مع الظهار فإنهما علتان في تحريم الوطء وقد يجتمعان في المرأة فتكون رجعية مظاهرة أمنها ودليل وقوعه أيضا المرتد الجاني فإن كلا من الارتداد والجناية علة مستقلة في إراقة دمه وكذلك الصوم والعدة والإحرام في تحريم الوطء الزوجية ومثل الغزالي بأن من لمس ومس وبال في وقت واحد انتقض طهره ولا يخال على واحد من هذه الأسباب ومن أرضعتها زوجة أخيك وأختك أيضا وجمع لبنهما وانتهيا إلى حلق المرتضعة في لحظة واحدة حرمت عليك لأنك خالها وعمها والنكاح فعل واحد وتحريمه حكم واحد ولا يمكن أن يحال على الخؤلة دون العمومة أو بعكسه ولا يمكن أن يقال هما تحريمان وحكمان بل التحريم له حد واحد وحقيقة واحدة يستحيل اجتماع المثلين انتهى
وإذا ثبت هذا في الواحد بالشخص وضح ثبوته في الواحد بالنوع بطريق أولى
وأما المنع في المستنبطة فاستدل عليه بأن ظن ثبوت الحكم لأجل أحد الأمرين مانع من ظن ثبوته لأجل الأمر الآخر بمفرده أو لأجل المجموع وما لا يحصل الظن لثبوت الحكم لأجله لا يحكم بعلتيه بالاستنباط والاجتهاد فلا نحكم بعلية أمور متعددة لشيء واحد بالاستنباط والاجتهاد وهذا كما إذا تصدق على فقيه فقير قريب فإنه يحتمل أن يكون الداعي إلى الصدقة مجموع الأوصاف أو بعضها أو فرد منها والاحتمالات متنافية لما ذكرناه هذا تقرير ما في الكتاب وفي الدليل المذكور نظر نذكره من بعد إن شاء الله تعالى
عدنا إلى الكلام في أصل المسألة فنقول اختلفوا في أن العكس هل يجب في العلة فقالت المعتزلة وبعض أصحابنا كالإمام لا يجب سواء كانت عقلية أم شرعية وادعى القاضي في مختصر التقريب والإرشاد الاتفاق في العلل العقلية على خلاف ذلك فإنه قال يشترط في العلة العقلية الإطراد والانعكاس باتفاق العقلاء القائلين بالعلل أو قال قوم أنه واجب مطلقا وأوجبه قوم في العقلية دون الشرعية وعليه أكثر أصحابنا وقال آخرون يجب في المستنبطة دون المنصوصة

وقال الغزالي إن لم يكن للحكم إلا علة واحدة فالعكس لازم لأن انتفاء العلة يوجب انتفاء الحكم لأن الحكم لا بد له من علة فإذا اتحدت العلة وانتفت فلو بقي الحكم لكان ثابتا بغير سبب أما حيث تعددت العلة فلا يلزم انتفاء الحكم عند انتفاء بعض العلل بل عند انتفاء جميعها قال والذي يدل على لزوم العكس عند اتحاد العلة أنا إذا قلنا لا نثبت الشفعة للجار لأن ثبوتها للشريك معلل بعلة الضرر اللاحق من التزاحم على المرافق المتحدة من المطبخ والخلاء ومطرح التراب ومصعد السطح وغيره
فلأبي حنيفة أن يقول لا مدخل لهذا في التأثير فإن الشفعة ثابتة في العرصة أيضا وما لا مرافق له فهذا إلزام عكس وهو لازم لأنه يقول لو كان هذا مناطا للحكم لا ينفي الحكم عند انتفائه فنقول السبب فيه ضرر مزاحمة الشريك فيما يتأبد ويبقى فنقول فليجر في الحمام وما لا ينقسم كما هو عندكم قول قديم أو وجه فلا يزال يؤاخذنا بالطرد والعكس وهي مؤاخذة صحيحة إلى أن يعلل بضرر مؤنة القسمة ونأتي بتمام قيود العلة بحيث يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها وهذا المكان أنا أثبتنا هذه العلة بالمناسبة وشهادة الحكم لها بوروده على وفقها وشرط مثل هذه العلة الاتحاد وشرط الاتحاد العكس
قال صفي الدين الهندي وينبغي أن لا يكون فيما ذكر الغزالي خلاف ونزاع لأحد ويظهر عند هذا أن هذه المسألة فرع مسألة الحكم الواحد بعلل مختلفة فلذلك لم يشتغل صاحب الكتاب بالكلام فيها بل تكلم في تعليل الواحد بعلل فليكن كلامنا أيضا في ذلك
وقد علمت المذاهب فيها وما احتج به صاحب الكتاب على اختياره وهو مدخول عندنا لأن نقول على الاستدلال له المنصوصة لا دلالة لما ذكرت إلا على اجتماع سببين أو أكثر على حكم واحد وليس فيه دلالة على أن ذلك الحكم معلل بكل منها أو واحد منها فلئن قال أعود وأقرره على وجه آخر فأقول العلل إذا اجتمعت في الشخص الواحد كالقتل والردة والزنا فإما أن يقال لا يثبت الحكم فيه أصلا وهو باطل أو يثبت بواحدة معينة وهو أيضا باطل للزوم الترجيح من غير مرجح أو بواحدة لا بعينها وهو كذلك لأن ما لا

تعين له لا وجود له في نفسه ما لا وجود له لا يصلح أن يكون علة أو بمجموعها وهو كذلك لأنه حينئذ تكون كل واحدة منها جزءا لعلة وليس كلامنا فيه فيتعين أن يعلل الحكم بكل واحدة منها لا يقال نمنع وجود العلل دفعة واحدة ونقول فيما إذا ترتيب الحكم معلل بالسابق منها وشيء من تلك المفاسد المذكورة غير لازم حينئذ لأنا نقول منع وجودها مكابر ة إذ نحن على قطع أنه لا منافاة بين تلك الأمور فيصح اجتماعها ووجودها دفعة واحدة إذ يمكن صدور الزنا والردة من واحد من واحد والعياذ بالله في ساعة واحدة
فنقول قاربت الإصابة بالتقرير على هذا الوجه ولكنا لا نسلم بعد ذلك أن الحكم هناك حكم واحد بل أحكام كثيرة فإن الإباحة الحاصلة بالقتل غير الحاصلة بالردة والدليل عليه وجهان
الأول أن الرجل إذا عاد إلى الإسلام زالت الإباحة الحاصلة بسبب الردة وبقيت الإباحة الحاصلة بالقتل والزنا
والثاني أن القتل المستحق بالقتل يجوز لولي الدم العفو عنه والمستحق الردة لا يتمكن الولي من إسقاطه فدل على تغاير الحكمين وهذا لمنع الذي ذكرناه هو الذي اعتمد عليه إمام الحرمين في رد هذه الحجة وهو عندنا منع صحيح
وإن كان القاضي في مختصر التقريب والإشاد قال إنه هذيان يدني قائله من جحد الحقائق ونحن نذكر ما رد به ونزيفه بعد ذلك وأجمع كلام في الرد عليه كلام الإمام فقال الدليل على أن الحكم واحد أن إبطال حياة الشخص الواحد أمر واحد فهو إما أن يكون ممنوعا منه من جهة الشرع بوجه فهو الحرمة أو لا فهو الحد
وإن كانت الحياة واحدة كانت إزالتها واحدة فكان الإذن في تلك الإزالة واحدا فإن قلت الفعل الواحد كونه حلالا من وجه حراما من آخر وحينئذ يجوز أن يتعدد حكم الحد لتعدد جهاته فيكون الشخص الواحد مباح الدم من حيث أنه مرتد وأنه زان وأنه قاتل

قلت حرمة الشيء من وجه وحله من آخر معقول لأن الحل هو تمكين الشرع من الفعل ولا يتحقق هذا المعنى إذا لم يكن فيه وجه يقتضي المنع أصلا بل ليس من شرط الحرمة أن يكون حراما من جميع جهاته لأن الظلم حرام مع أن كونه حادثا وعرضا وحركة لا يقتضي الحرمة وحينئذ نقول حل الدم على هذا الوجه يستحيل أن يتعدد والعلم بذلك ضروري هذا ما ذكره الإمام
وقد اعترض النقشواني على قوله إبطال حياة الشخص الواحد أمر واحد بالمنع
وفيه نظر ثم بعد التسليم بأنك لم قلت أن ما يكون طريقا إلى الشيء يجب أن يكون واحدا لأن الحكم الذي كلامنا فيه ليس نفي إبطال حياة الشخص بل الطريق إليه ألا ترى أن حياة الشخص الواحد يمكن إبطالها بضرب عنقه وقده نصفين وأمور لا تعد فيما نحن فيه لم ادعيت أنه ليس كذلك فإن إباحة القتل بالردة هو طريق واحد إلى إبطال الحياة وحكمه أن يقتله الإمام ما لم يتب وليس له إسقاطه وإباحته بالقصاص أن يتمكن الولي من قتله بمثل الطريق التي صدرت عنه أو بالسيف وله العفو وإباحته بالزنا أن يرجم ولا يتبع إذا هرب ولا يسقط فهذه طرق مختلفة غير أنها اشتركت في أمر واحد وذلك لا يوجد اجتماع العلل على حكم واحد وأيضا عصمة دم المرء حكم شرعي وهو مشروط بأمور منها الإسلام ويضاده الكفر ومنها العفة ويضادها الزنا ومنها العدل ويضاده القتل ظلما ويختل كل واحد منها بواحد من هذه الأفعال
وكما قال إمام الحرمين لن يقدم الانس بالفقه استمكانا من تقدير التعدد في الموجبات بوجوه ترشد إلى التغاير والاختلاف ونظير هذا في الأمور العقلية إن حياة الشخص الواحد مشروطة بشروط منها بقاء الأعضاء الرئيسية على أمزجتها المعينة ومنها اتصال بعضها ببعض وغير ذلك وكل ما يحصل في البدن مبطلا لواحد من هذه الشروط تصير سببا لإبطال الحياة ولا جرم إن تعددت أسباب إبطال الحياة فإذا فرضنا اجتماع عدة منها لا نقول إن العلل الكثيرة تواردت على معلول واحد وإذا فرضنا دفعة واحدة حز رقبة شخص وقده بنصفين من شخصين معا لا يقال اجتمع هاتان العلتان على معلول واحد إذ

لا يتصور ذلك في العلل العقلية التامة المؤثرة فكلما ذكر عذرا في الصورة كان عذرا لنا في دفع ما ذكر من الدليل ولسنا بالمعتذرين عن العلل العقلية فإن العلة العقلية لا حقيقة لها عندنا ومن طلب الإحاطة بذلك فهو محال على دقيق الكلام في العلة والمعلول ولكنا نحيل الأمر إلى الإمام
ثم قال الإمام قولكم الدليل على التغاير أنه لو أسلم زال أحد الحلين وبقي الآخر قلنا لا نسلم أنه يزول أحد الحلين بل يزول كون ذلك الحكم معللا بالردة فالزائل ليس هو نفس الحل بل وصف كونه معللا بالردة
ولقائل أن يقول لو لم يزل ذلك الحل لكان مستمرا بدون علته فإنه لا أثر للزائل في المستمر بل التحقيق أن الحل المضاف إلى الردة زال وبقي حل آخر ثم قال قولكم ولي الدم مستقل بإسقاط أحد الحلين قلنا ممنوع بل هو متمكن من إزالة أحد الأسباب فإذا زال السبب زال انتساب ذلك الحكم إليه لا الحكم نفسه واعترض عليه النقشواني أيضا بأنا نعلم أن الولي كان متمكنا من إزالة الحل الثابت له وهذا الزوال يستدعي سببا غير عفوه وبأنا نقول إن كان الزائل بالعفو شيء آخر غير حل القتل فموجب قتل القاتل ظلما هو ذلك الشيء لأن العفو يسقط موجب الجناية فإذا كان موجب الجناية غير الحل فلا يلزم اجتماع العلل على حكم واحد وهكذا نقول في سائر الصور المذكورة من اجتماع العدة والحيض في الزوجة وصورة الرضاع في زوجة الأخ والأخت وغيرها وإن كل هذه الأحكام مشروطة بشروط على ما تقرر
ثم إنا نقول ما ذكرتم من الصور التي فرضتم الكلام فيها أمر عجاب فإن بعضها مستنبطة مومئ إليها فإن عليه ما أردتم إنما جاء من الاستنباط وإيماء النصوص لا من النص وأنتم لا تجوزون اجتماعها على المعلول الواحد إذ فرقتم بين المستنبطة والمنصوصة فكيف يحصل الفرض من هذا وعليهم في هذا الدليل اعتراضات أخر أضربنا عنها إذ قد أطلنا بعض الإطالة
ولإمام الحرمين هنا كلمات لا نرى إخلاء هذا الشرح منها فلا يطولن الفصل عليك ففيه كبير فائدة

قال قد يظن الظان الفطن في هذا المقام أن المسؤول إذا فرض الكلام في طرف من المسألة لفرض إيضاح كلام ولصورة الفرد تعلق بالعلة من حيث العموم وليست مقصود الفارضي
من حيث الخصوص وهي مقصود والفارض وإذا كان كذلك فقد تعلق الحكم في هذا الطرف بعلتين قال وهذا على حسنه غير صاف عن القذى والكدر وأنا أضرب في ذلك أمثلة توضح الفرض فنقول إذا قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى ضيف فأكله الضيف ظانا أن الطعام ملك المقدم المضيف فقرار الضمان في قول الشافعي على المضيف ومعتمد هذا الظن التغرير وكون الغرور مناطا للضمان
وقد قال أبو حنيفة لو أكره الغاصب إنسانا على تناول ذلك الطعام فالقرار على الطاعم وإن كان مجبرا أو مؤجرا كما إذا مختارا في التناول فإذا فرض الفارض في صورة الإكراه فليس يجبر لأنه إنما يصح أن لو كان في الصورة عموم وخصوص والغرور ليس أعم من الإجبار إذ الإجبار ينافي الاغترار ومن ضرورة الاغترار فرض إجبار في المغرور مع استناد اختياره إلى الاغترار فأما المجبر المكره فلا يتصور بصورة مغتر وإن فرض منه ظن فليس ذلك الاغترار المعنى
قال فهذا النوع ليس بمرضي من جهة أنه مجانب لمحل السؤال أو لا إذ لا عموم وخصوص فيه والفرض المستحسن هو ما اشتمل على ذلك ثم قال وليس للفرض في هذه المسألة وجه أيضا فإنه إذا ثبت الضمان لا يستغرق على المكره فكيف يبني عليه عدم القرار على المختار الطاعم في مسألة التقرير ولا معتمد في التقرير على المختار إلا الاغترار
وحاصل هذا أنه لا عموم وخصوص في هذه الصورة وليس للشافعي إلزام الحنفي بها لأن الضمان إذا ثبت لا يستقر على المكره وهو كلام صحيح إلا أن المذهب الصحيح المشهور في الجديد أن قرار الضمان في مسألة التغرير على الآكل دون المضيف والصحيح في مسألة الإكراه استقرار الضمان على المكره بكسر الراء على خلاف ما قاله فيهما ثم ذكر إمام الحرمين صورة من الفرض

المستحسن فقال إذا سأل عن نفوذ عتق الراهن فسؤاله يعم المعتق الموسر والمعسر فإذا فرض المسؤول كلامه في المعسر كان مندرجا تحت سؤال السائل ويستفيد الفارض بالفرض في المعسر أمرين أحدهما دفع أسئلة قد لا يحضر عنده الجواب عنها كسريان العتق إلى ملك الشريك فلا يلزمه إذا فرض كلامه في هذه الصورة لأن عتق المعسر غير سار عند الشافعي
وأحسنهما أن الخصم قد يتمسك في كلامه على أن قيمة العبد في غرض المالية منزل منزلة العبد فليس الراهن المعتق مقوتا على المرتهن غرضه من الاستيثاق فإنه إذا قام قيمة العبد مقامه هنا لم يكن معترضا على محل الحق المرتهن قال وهذا لا حقيقة له إذا ليس هو مبني على مذهب من ينفذ عتق الراهن فإن عتقه لا ينفذ عند من ينفذه لإمكان إتمامة القيمة مقام المقوم بل سبب نفوذه الملك وصحة العبارة فاستفاد الفارض بفرضه المسألة في المعسر قطع هذا الكلام الواقع فضله لا أثر لها
قال فليكن قصد المحقق إذا فرض مثل ذلك ويتجه للفارض في المعسر أن يقول يستأصل المعسر المعتق لو نفذ عتقه حتى المرتهن بكماله ويشير إلى أنه لا يجد ما يقيمه مقام المرهون فيظهر كلامه من جهة الاستئصال والتسبب إلى قطع حق المرتهن من الاستيثاق بالكلية
قال وهذه وقفة محتومة على طالب الغايات فنقول من منع نفوذ العتق يكتفي فيما يقرره بأنه لو نفذ أدى إلى قطع حق لازم للمرتهن في غير الرهن وإذا كفى هذا فأي حاجة للتعرض لقطع المالية وحسم الطلب في القيمة قال ويوشك لو لم يفطن الفارض أنه يقع في المحذور الذي ذكرناه وهو التعلق بما لا اعتبار به ولا وقع له
فإن قال قائل ما المانع من ازدحام علتين في هذه الصورة قطع المالية بالكلية وقطع حق المرتهن من العين المخصوصة فيعلل امتناع النفوذ بعلة خاصة وهي قطع المالية وأخرى عامة وهي قطع الحق من عين العبد فإن هذا الشيء يعم المعسر والموسر

فنقول هذا هو الغرض من سياق هذا الكلام وليس بشيء فإن المالية ليست مرعية في حق المرتهن وإنما المعتبر اختصاص استحقاق واستيثاقه بعين يستمسك بها إذا عرضت له توقفات العسر في الدين الذي يقع في الذمة وهو تأثر مسبوق بالعين التي استمسك بها فهذا غرض الراهن مطالبا بالدين فقد خرج عن مقصود الراهن
قال ولهذا السر لا يجوز رهن الدين نعم لو فرض من الرهن إتلاف المرهون فالشرع يتقاضاه أن يقيم قيمته مقامه إذ مسلك الشرع ثبات الضمان جبرانا لكل بدل فائت فلا ينبغي أن يعد قضايا الشرع في مظن الضرورات من القضايا الوضعية في تأسيس الأصول اه وهو بليغ معترض عليه ومراده أن هذه الصورة إن أوردها عليه من يقول باجتماع العلتين خلص عن إيراده بأن يقول العلة عندي واحدة وهي ما ذكرت وإن اعتقد الخصم أن المالية مرعية فلا مبالاة بمعتقده ثم قال وهذا يناظر عندي مسلكي في توزيع العوض على مختلفين في أحد شقي العقد عند مسيس الحاجة في شفعة لو فرض تلف في أحد عوضين
وقد زل جماهير الفقهاء فاعتقدوا أن التوزيع مقصود العقد كما نبهت عليه في مسألة العجوة وهذا زلل وسوء مدرك فإن العقد ما أنشىء على التوزيع
وإنما هو أمر ضروري أحوج الشفعة إليه أه ومناظرة ما ذكر لأن قضايا الشرع في محل الضرورة لا يعد من القضايا الوضعية في تأسيس الأصول ظاهرة على مسلكه كما ذكر ولكن هو مسلك جاد به عن سبيل الأصحاب ومع ذلك هو مدخول
ومن وجوه الاعتراض عليه ما ذكره الرافعي فقال أليس قد ثبت التوزيع المفصل في مسألة الشفعة وهي ما إذا باع شخصا من عقار وسيفا بألف ولولا أنه قضية العقد لكان ضم السيف إلى الشخص من الأسباب الدافعة للشفعة فإنها قد تندفع بأسباب وعوارض
واعترض عليه أيضا حيث قال المعتمد عندي في التعليل أنا تعبدنا بالمماثلة تحقيقا وإذا باع مدا ودرهما بمدين لم تتحقق المماثلة فيفسد العقد فإن للخصم

أن يقول تعبدنا بتحقيق المماثلة فيما إذا تمحضت مقابلة شيء منها بجنسه أم على الإطلاق وإن قلنا بالثاني فممنوع وإن قلنا بالأول فمسلم ولكنه ليس صورة المسألة إلا أن هذا اعتراض ضعيف ولا سيما في الغرض الذي فرضه وهو إذا باع مدا ودرهما بمدين فإنه يصح في هذه الصورة إنه باع تمرا بتمر لأن التمر مع الدرهم مبيع قطعا ولا مقابل له إلا تمر ومتى صدق أنه باع تمرا بتمر وجبت المماثلة بالنص وتمحض المفاضلة قيد زائد لم يدل عليه دليل فالكلام في هذا دخيل في الكتاب
ولعلنا نأتي إن شاء الله تعالى في كتابنا الأشباه والنظائر بالعجب العجاب ثم قال وإن اعتقد الفارض في الراهن المعسر الفصل بينه وبين الموسر صائرا إلى أن الراهن إذا كان موسرا ينفذ اعتاقه ويلزمه إحلال القيمة موضع العبد وإن كان معسرا لا ينفذ اعتاقه لتعذر تغريمه وافضاء الإعتاق فيه بتقدير نفوذه إلى إبطال اختصاص المرتهن باستيثاقه بالكلية وشبه ذلك بتفصيل مذهب في ترسه عتق الشريك إذا كان موسرا دون ما إذا كان معسرا فاتحاد العلة على هذا المذهب أوضح فإن صاحبه متشوق إلى اعتبار انقطاع علقة الرهن من عرض الوثيقة بالكلية وليس لبطلان حق المرتهن من عتق الرهن عنده وقع أصلا فلذلك ينفذ عتق الراهن الموسر فلم ينتظم على المسلكين علتان عامة وخاصة في صورة الفرض
ثم قال إذا فرض الشافعي الكلام في مسألة ضمان منافع المغصوب في طرف الإتلاف طرد ما يرتضيه في الباب فقد يعتقد الفطن أنه يجتمع في هذا الطرف معنيان
أحدهما الإقدام على الإتلاف وهو من أقوى أسباب الضمان ولذلك اختار الفارض تعيين هذا الطرف وتخصيصه بالكلام المختص به
وقد اجتمع فيه الإتلاف والتلف تحت يد العارية وهذا أقرب مسلك في تخييل اجتماع معنيين بحكم واحد
ونحن نقول فيه العلة في الضمان الإتلاف في هذه الصورة فحسب فإن

المتلف الحاصل تحت يد العارية إنما يضمن من جهة اعتداء ذي اليد بمنع الحق مستحقة فصار الضياع الذي يقع سماويا في إطراد منع المتعدي مشبها بإتلافه وإذا تحقق الإتلاف لم يبق لتخيل التلف على دوام المنع المشبه بالإتلاف معنى والإتلاف هو المشبه به واعتقاد اجتماع المشبه والمشبه به في صورة واحدة محال أهو بليغ لا يخدشه شيء وهذا ما أردنا إيراده من كلام إمام الحرمين
ولنعد إلى الكلام على ما استدل به صاحب الكتاب على اختياره فنقول وأما ما استدل به على المنع في المستنبطة فلولا مراعاة الاتفاق لما رددناه لأنه ماس على معتقدنا ولكنا نقول للخصم أن يقول لا نسلم أن ظن ثبوت الحكم لأجل أحد الأمرين يمنع ظن ثبوته لأجل الأمر الآخر أو المجموع وإنما يكون ذلك أن لو تأتت عليه
أحدهما للحكم علية الآخر وهو أول النزاع
فإن قلت قد تحصل لنا من اختيارك موافقة إمام الحرمين على عدم وقوع اجتماع العلل على المعلول الواحد وما دللت عليه بل زدت على هذا أن أبطلت الدليل على المنع في المستنبطة وهو بعض مطلوبك
قلت طال الفصل وما بقي الشرح يحتمل أكثر من هذا التطويل ولذلك لم يشتغل بالكلام في حجج بقية المذاهب ولعلنا نقرر اختيارنا في مجموع آخر وبالله التوفيق
قال رحمه الله الثالث الكسر وهو عدم تأخير أحد الجزئين ونقض الآخر كقولهم صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها قيل خصوصية الصلاة ملغى لأن الحج كذلك فبقي كونه عبادة وهو منقوض بصوم الحائض
اتفق أكثر أهل العلم كما ذكره الشيخ أبو إسحاق في الملخص وغيره على صحة الكسر وإفساد العلة به وهذا ما اختاره الإمام والمصنف والآمدي وهو نقض من طريق المعنى وإلزام من سبيل الفقه وعبر عنه الآمدي وابن الحاجب بالنقض والمكسور وجعلا الكسر قسما آخر وغيره وهو تعبير حسن

وعبر عنه المصنف بأنه عدم تأثير أحد جزأي المركب الذي ادعى المستدل عليته ونقض الآخر ومثل له تبعا للإمام بما إذا قيل على لسان الشافعية في إثبات صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها كصلاة الأمن فيقول المعترض خصوصية كونها صلاة ملغاة لا أثر لها لأن الحج أيضا كذلك فلم يبق غير كونها عبادة وهو منقوض بصوم الحائض حيث كان عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها بل يحرم فيكون ذلك قدحا في تمام العلة بعدم التأثير وفي جزئها بالنقض
واعترض بأن العلة إذا كانت مركبة فكل جزء من أجزاءها يكون ملغى بالنسبة إلى ذلك الحكم وحينئذ فالكسر غير صحيح لأن العلة المجموع ولم يرد النقض عليه وهو ضعيف لأن المعترض أزال الوصف الخاص بالنقض والزم بالوصف العام وصار المستدل عنده معللا بالوصف العام مع الوصف الآخر فوجه النقض عليه بعد ذلك فلم يرد إلا على المجموع هذا شرح ما في الكتاب وتعبيره عن الكسر بأنه عدم تأثير أحد الجزئين ونقض الآخر تعبير لم يصرح به الإمام وإن دل عليه قوله فيكون ذلك قدحا في تمام العلة بعدم التأثير وفي جزئها بالنقض والأمر فيه قريب
ومن أمثلته أيضا أن يقال على لسان الشافعية في بيع ما لم يره المشتري مبيع مجهول الصفة عند العاقد فلم يصح كما لو قال بعتك ثوبا
فيقول المعترض ينكسر هذا بما إذا نكح امرأة لم يرها فإنه يصح نكاحها كونها مجهولة الصفة عند العاقد فهذا كسر لأنه نقض من طريق المعنى بدليل أن النكاح في الجهالة كالبيع بدليل أن الجهل بالعين في كل منهما يوجب الفساد وإن أردت تنزيل هذا المثال على عبارة المصنف
قلت خصوص كونه مبيعا ملغى لأن المرهون كذلك فبقي كونه عقدا وهو منقوض بالنكاح وليس للمعترض إيراد الوصية بدل النكاح لأنها ليست في معنى البيع في باب الجهالة ألا ترى أن شيئا من الجهالات لا ينافيها بخلاف النكاح

ومنها أم يقال على لسان الشافعية في إيجاب الكفارة في قتل العمد قتل من يضمن بدية أو قصاص بغير أذن شرعي فيجب كفارته كالخطأ فيقول المعترض خصوص كونه يضمن بالدية أو القصاص ملغى لأنها تجب على السيد في قتل عبده فبقي كونه آدميا وهو منقوض بالحربي والمرتد وقاطع الطريق والزاني المحصن ولو أن المستدل قال قتل معصوم الدم لما توجه عليه كسر
ومنها أن يقال على لسان الشافعية صلاة الجمعة صلاة مفروضة فلم تفتقر إقامتها إلى إذن السلطات كالظهر فيقول المعترض خصوص كونها مفروضة ملغى لأن التطوع كذلك فبقي كونها صلاة مطلوبة وهو منقوض بصلاة الاستسقاء وإنما قلنا مطلوبة ولم نقتصر على قولنا صلاة لتكون العلة مركبة كما أتى بها المستدل
قال الرابع القلب وهو أن يربط خلاف قول المستدل على علته إلحاقا بأصله
عرف القلب بأن يربط المعترض خلاف قول المستدل على علته التي ذكرها إلحاقا بالأصل الذي جعله مقيسا عليه وإنما قال خلاف قوله ولم يقل نقيض قوله كما فعل الإمام لأن الحكم الذي يثبته القالب جاز أن يكون مغيرا لا نقيضا ولكن للعبارة التي ذكرها الإمام فائدة ستعرفها إن شاء الله تعالى
ولقائل أن يقول هذا ليس بجامع لأنه يخرج بقوله على علته قلب في غير القياس
والمصنف تبع الإمام حيث قال في قياس ولعلهما أرادا تعريف قلب خاص وهو الواقع في القياس لأن الكلام في مبطلات العلة وليس بمانع لجواز أن يربط المعترض مسألة أخرى غير التي ذكرها المستدل على علته ويصدق ربط خلاف قوله على علته وليس ذلك بقلب فكان ينبغي أن يزيد في التعريف ويقول أن يربط خلاف قول المستدل في مسألة على علته ويزيد أيضا على ذلك الوجه وإلا لم يكن مانعا أيضا لجواز أن يثبته في تلك المسألة لكن على غير ذلك الوجه مثل أن يستدل بنص بطريق الحقيقة والمعترض يستدل

عليه في تلك المسألة بطريق التجوز وإن أريد تعريف القلب مطلقا فيقال هو بيان أن ما ذكره المستدل عليه في تلك المسألة على ذلك الوجه
قال وهو إما نفي مذهبه صريحا كقولهم المسح ركن من الوضوء فلا يكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم كالوجه فنقول ركن منه فلا يتقدر بالربع كالوجه أو ضمنا كقولهم بيع الغائب عقد معاوضة فيصح كالنكاح فنقول فلا يثبت فيه خيار الرؤية ومنه قلب المساواة كقولهم المكره مالك مكلف فيقع طلاقه كالمختار فنقول فيسوي بين إقراره وإيقاعه أو إثبات مذهب المعترض كقولهم الاعتكاف لبث مخصوص فلا يكون بمجرد قربة كالوقوف بعرفة
فيقول فلا يشترط الصوم فيه كالوقوف بعرفة
قسم القلب إلى ثلاثة أقسام
الأول أن يكون لنفي مذهب المستدل صريحا وهو قسمان
أحدهما وعلى ذكره اقتصر المصنف أن لا يدل مع النفي على صحة مذهب المعترض صريحا كقولهم مسح الرأس ركن من أركان الوضوء فلا يكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم كالوجه فنقول ركن من أركان الوضوء فلا يتقدر بالربع كالوجه فهذا نفي لمذهب المستدل بالصراحة ولا إثبات فيه لمذهب المعترض بالصراحة لجواز أن يكون الحق في جانب ثالث وهو الاستيعاب كما هو قول المالكي نعم يدل عليه بواسطة اتفاق الإمامين على أحد الحكمين ونفي ما عداهما
وثانيهما أن يدل على الأمرين معا كما إذا قيل على لسان الشافعية في البيع الموقوف عقد عقده في حق الغير من غير ولاية ولا استنابة فلا يصح كما إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فيقول الخصم عقد عقده في حق الغير من غير ولاية ولا استنابة فكان صحيحا كما إذا اشترى شيئا لغيره بغير أذنه
القسم الثاني أن يكون لنفي مذهب المستدل ضمنا أي لنفي لازم من لوازم مذهب المستدل لانتفاء الحكم بانتفاء لازمه كقولهم بيع الغائب صحيح

كنكاح الغائبة بجامع أن كل واحد منهما عقد معاوضة فيقول فلا تثبت الرؤية في بيع الغائب قياسا على النكاح بالي مع المذكور ويلزم من نفي خيار الرؤية نفي صحة بيع الغائب إذ خيار الرؤية لازم لصحة بيع الغائب بدليل أن من قال بصحته قال بثبوت خيار الرؤية فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم فالحكمان أعني الصحة ونفي الخيار لا تنافي بينهما في الأصل وهو النكاح لاجتماعهما فيه وهما متنافيان في الفرع وهو بيع الغائب قوله ومنه أي ومن هذا
القسم الثاني قلب المساواة وهو أن يكون في الأصل حكمان
أحدهما منتف في الفرع بالاتفاق من الخصمين والآخر متنازع فيه بينهما فإذا أراد أن يثبت في الفرع بالقياس على الأصل فيقول المعترض تجب التسوية بينهما في الفرع بالقياس على الأصل أو يلزم من وجوه التسوية بينهما في الفرع عدم ثبوته فيه
كقولهم في طلاق المكره مكلف مالك للطلاق فيقع طلاقه كالمختار فنقول مكلف مالك فيسوي بين إقراره بالطلاق وإيقاعه إياه كالمختار ويلزم من هذا أن لا يقع طلاقه ضمنا لأنه إذا ثبتت المساواة بين إقراره وإيقاعه وإقراره غير معتبر بالاتفاق فيكون إيقاعه أيضا غير معتبر
فإن قلت الحاصل في الأصل اعتبارهما معا وفي الفرع عند المعترف عدم اعتبارهما معا بمقتضى القلب فأين التسوية بينهما في الحكم وكيف يسمى هذا بطلب المساواة
قلت القياس على الأصل إنما هو من حيث عدم الاختلاف وهو ثابت فيه لكن عدم اختلاف الأصل في ثبوت الصحة فيهما وفي الفرع في عدم ثبوت الصحة فيهما وهو غير متناف للاشتراك في أصل الاستواء فظهرت التسوية وصحة التسمية
القسم الثالث أن يكون لإثبات مذهب المعترض صريحا كقولهم الاعتكاف مكث في محل مخصوص فلا يكون بمجرده قربة كالوقوف بعرفة

حيث لم يكن قربة بغير الإحرام وغرضهم التعرض لاشتراط الصوم ولكنهم لم يستمكنوا من التصريح باشتراطه لأنه لو صرح بذلك لم يجد أصلا فيقول مكث في محل مخصوص فلا يشترط في وقوعه قربة صوم كالوقوف بعرفه فهذا القسم يعترض للعلة تعرضا كليا ويثبت مذهب المعترض صريحا لصحة الاعتكاف
قال المتنافيان لا يجتمعان قلنا الثاني حصل في الفرع بغرض الإجماع
أنكر بعض الناس إمكان القلب على الوجه الذي تقدم تعريفه محتجا بأن الحكمين أعني ما يثبته المستدل وما يثبته الغالب إن لم يتنافيا فلا قلب إذ لامتناع في أن تكون العلة الواحدة مقتضية لحكمين غير متنافيين فلا تفسد به العلة وهذا يعرفك فائدة قول الإمام في التعريف نقيض الحكم كما سبقت الإشارة إليه وإن تنافيا استحال اجتماعهما في صورة واحدة فلم يمكن الرد إلى ذلك الأصل بعينه فلا يكون قلبا إذ لا بد فيه من الرد إلى ذلك الأصل
والجواب أن الحكمين غير متنافيين لذاتيهما فلا جرم يصح اجتماعهما في الفرع وهو إجماع الخصمين على أن الثابت فيه إنما هو أحد الحكمين
فالثاني حصل في الفرع بعرض الإجماع والعرض بالعين المهملة أي الأمر العارض للفرع وهو إجماع الخصمين وإنما نبهنا عليه لوقوع الغلط فيه وهذا الكلام كما إنه الجواب فهو ابتداء دليل على القلب والمختار عند جمهور الأصوليين أن القلب حجة قادح في العلة إن اختلفوا في بعض أنواعه وذكر الشيخ أبو علي الطبري من أئمة أصحابنا أنه من ألطف ما يستعمله المناظر
قال الشيخ أبو إسحاق وسمعت القاضي أبا الطيب يقول إن القلب إنما ذكره المتأخرون من أصحابنا حيث استدل أبو حنيفة بقوله صلى الله عليه و سلم لا ضرر ولا

إضرار في مسألة الساحة وفي هدم البناء ضرر بالغاصب فقال له أصحابنا وفي منع صاحب الساحة من ساحته إضرار به فقال يجب أن يذكر مثل هذا في القياس ثم أعلا مراتبه ما يدل على بطلان مذهب الخصم وإثبات مذهب المعترض وهو الذي عليه المعظم ولا يخفى عليك الترتيب مما تقدم وأما قلب التسوية فذهب القاضي في مختصر التقريب والإرشاد وغيره إلى بطلانه مع القول بأصل القلب
قال تنبيه القلب معارضة إلا أن علة المعارضة وأصلها قد يكون مغايرا لعلة المستدل
وأصل القلب في الحقيقة معارضة وذلك أن المعارضة تسليم دليل الخصم وإقامة دليل آخر على خلافه وهذا صادق على القلب إلا أن الفرق بينهما فرق ما بين العموم والخصوص وذلك أن العلة المذكورة في المعارضة والأصل المذكور فيها قد تغاير العلة والأصل اللذين أتى بهما المستدل بخلاف القالب فإن علته وأصله هما علتا المستدل وأصله ومن الناس من لم يجعل القلب معارضة بل مناقضة لبعض مقدمات الدليل فيقال لو كان الوصف المذكور علة لما ذكرت لم يكن علة لما ينافيه معنى ما ذكرت والشيء الواحد لا يعلل به المتنافيان وإلا لاجتمعا
وقال الشيخ أبو إسحاق أن هذا يكثر في إيراد القلب قلت وهذا القول لازم لهؤلاء الذين عدوا القلب من مفسدات العلة ولا يغتر بهم وإلا فالقالب كيف يفسدها مع احتجاجه بها ومنهم من يقول القلب شاهد زور كما يشهد لك يشهد عليك
قال الخامس القول بالموجب وهو تسليم قول المستدل مع بقاء الخلاف مثاله في النفي أن يقول التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص فيقول مسلم ولكن لم يمنعه غيره ثم لو بينا أن الموجب قائم ولا مانع غيره لم يكن ما ذكرنا تمام

الدليل وفي الثبوت قولهم الخيل يسابق عليها فيجب فيها الزكاة كالإبل فيقول مسلم في زكاة التجارة
القول بالموجب هو تسليم مقتضى ما نصه المستدل دليلا لحكم مع بقاء الخلاف بينهما فيه وذلك بأن نظر المعلل أن ما تأتي به مستلزم لمطلوبه من حكم المسألة المتنازع فيها مع كونه غير مستلزم فلا ينقطع النزاع بتسليمه وهذا التعريف أولى من قول الإمام تسليم ما جعله المستدل موجب العلة لكونه لا يتناول غير القياس
والقول بالموجب لا يختص بالقياس وليت المصنف عمل كذلك في القلب إلا أنا اعتذرنا عنه ثم بما هو عذرا للإمام هذا والقول بالموجب من أحسن ما يجيء به المناظر
وقد وقع في الكتاب العزيز في قوله تعالى ليخرجن الأعز منها الأذل فأنتم المخرجون بفتح الواو وهو قادم في الدليل لأنه إذا كان تسليم موجب ما ذكره من الدليل لا يرفع الخلاف علمنا أن ما ذكره ليس بدليل الحكم الذي رام إثباته أو نفيه كذا ذكره صفي الدين الهندي وغيره وهو مقتضى كلام الآمدي والمراد بهذا التقرير جعله من مفسدات العلة
ولقائل أن يقول هذا التقرير يخرج لفظ القول بالموجب عن إجرائه على قضيته بل الحق أن القول بموجب الدليل تسليم له وهذا ما اقتضاه كلام الجدليين وإليهم المرجع في ذلك وحينئذ لا يتجه عده من مبطلات العلة ثم القول بالموجب له حالتان
أحدهما أن يكون في جانب النفي كقولنا في القتل بالمثقل التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في المتوسل إليه فإن الوضيع والشريف وغير ذلك على السواء في القصاص فيقول الخصم أقول بموجبه لكن لم لا يجوز أن يمنعه مانع آخر غير التفاوت في الوسيلة بأن يكون في المثقل وصف مانع من القصاص غير ذلك أو فقدان شرط فإنه لا يلزم من عدم مانعية ذلك عدم

عدم مانعية ما عداه ثم أنا لو ادعينا بعد ذلك أنه يلزم من تسليم ذلك الحكم تسليم محل النزاع وبيناه بأن المقتضي للقصاص قائم في محل النزاع وأنه لا مانع فيه غير التفاوت في الوسيلة بالأصل أو بغيره من الأدلة لم يكن ما ذكرناه أولا تمام الدليل بل جزءا منه فيكون ذلك انقطاعا والثانية أن يكون في جانب الثبوت نحو قولهم الخيل يسابق عليها فيجب فيها الزكاة كالإبل فنقول بالموجب إذ يجب فيها زكاة التجارة والنزاع ليس الا في زكاة العين ودليلكم إنما يقتضي وجوب الزكاة في الجملة فلئن قال المعلل أن هذا ليس قولا بالموجب لأن كلامنا في زكاة العين والألف واللام التي في الزكاة المذكورة للعهد فيصرف إليه
وحينئذ ليس ما إلتزموه قولا بالموجب قلنا العبرة بدلالة اللفظ لا بالقرينة وشيء من ألفاظ القياس في العلة وغيرها لا يأتي ذلك بل يصدق عليه فكان قولا بالموجب كذا أجاب الهندي
ولك أن تقول الحمل على العهد مقدم على الجنس والعموم على ما هو مقرر في موضعه ومدلوله غير مدلولها وإنما يصح ما ذكرتم أن لو أمكن حمله على غير العهد
ثم أن العلة في المثال المذكور كون الخيل يسابق عليها وليس هذا الوصف المقتضى لزكاة التجارة إنما الوصف المقتضي لذلك النماء الحاصل فيها هذا شرح ما في الكتاب
وقد علمت به أن المستدل إما أن ينصب دليله على إبطال مذهب خصمه فيقول الخصم بموجبه وهو الأغلب ورودا في المناظرات كالمثال الأول وإما أن ينصبه على تحقيق مذهبه كالثاني
ومن أمثلته الفصل ما لو قيل على لساننا الجاني الملتجئ إلى الحرم وجد فيه سبب جواز استيفاء القصاص فكان استيفاؤه جائزا فيقول الخصم أقول بموجب هذا الدليل فإن الاستيفاء عندي جائز بعد الخروج من الحرم والنزاع ليس إلا في الاستيفاء في الحرم فإني أدعي أن الاستيفاء فيه هتك لحرمته

ومنها لو قيل في نصره أحد الوجهين الملتجئ إلى المسجد الحرام وجد في سبب استيفاء القصاص فتبسط الانطاع ويستوفي منه فيقول ناصر الوجه الأصح يستوفي منه بعد الإخراج
وهذا تأخير يسير وفيه صيانة للمسجد ومنها لو قال من نصر القول القديم من ضل ماله أو غضب أو سرق وتعذر انتزاعه أو أودعه فجحد أو وقع في بحر فلا زكاة فيه وإلا لوجب أداؤه لأنه مال يجب زكاته فيجب أداؤها قياسيا على سائر الأموال الزكوية فيقول ناصر الجديد أقول بموجبه فإنه يجب أداؤها إذا وجده والكلام فما قبله وقائل به
قال السادس الفرق وهو جعل تعيين الأصل علة والفرع مانعا والأول يؤثر حيث لم يجز التعليل بعلتين والثاني عند من جعل البعض مع المانع قادحا
ذهب جماهير الفقهاء إلى أن الفرق أقوى الاعتراضات وأجدرها بالاعتناء به وقال ابن السمعاني جعل كثير من فقهاء الفريقين الفرق أقوى سؤال وظنوه فقه المسألة قال وبه يتمسك الناظرون من فقهاء غزنة وكثير من بلدان خراسان قال وهو عند المحققين أضعف سؤال يذكر وهو ضربان
الأول أن يجعل المعترض تعين أصل القياس علة لحكمه كما لو قال الزائد عن الشافعية النية في الوضوء واجبة لأنها عن طهارة عن حدث فوجبت كالتيمم والجامع أنهما طهارتان قال الشافعي رضي الله عنه طهارتان فأنى يفترقان فيقول الخصم الفرق ثابت بين الأصل والفرع فإن العلة في وجوب النية في التيمم خصوصيته التي لا تعدوه وهي كونه ترابا وقع في كلام بعض الشارحين أن الخصوصية كونه طهارة ضعيفة وهذا عرى عن التحقيق
فإن ضعف الطهارة لا تختص بالتيمم فإن وضوء المستحاضة ومن به سلس البول وسلس المذي كذلك ثم إن ضعف الطهارة لا يمنع من وجوب النية إذ تجب النية على من ذكرناه في وضوئه عند من يوجبها في مطلق الوضوء
وقد بنى المصنف القول في أن هذا الضرب هل يقدح على تعليل الحكم

الواحد بعلتين فصاعدا وقد سلف القول البليغ فيه وهو في هذا البناء تابع للجماهير من المتقدمين والمتأخرين ووجه البناء واضح
فإن السائل إذا عارض علة الأصل التي جعلها المسؤول رابطة القياس بعلة أخرى فمن منع التعليل بعلتين رآه اعتراضا واقعا يجب الجواب عنه وإلا يلزمه تعدد العلة ومن لم يمنع لم ير ذلك قادحا إذا لامتناع في إبداء معنى آخر واجتماع علتيه القدر المشترك والتعيين الخاص وبهذا ضعف ابن السمعاني الفرق وفي تضعيفه بذلك نظر لأنا إذا بنينا الأمر على مسألة التعليل بعلتين نقول له إنما يضعف الفرق لو جعلنا التعليل بالعلتين جائزا أما أن معناه فلا وينقدح عندي قبل هذا البناء بناء آخر لم أر من ذكره وهو تفريغ المسألة أولا على التعليل بالعلة القاصرة
فإن قلنا بمنعها فالفرق مردود لأن التعين يتخص بالمحل الذي هو فيه وهذا هو القصور ولعل من لم يذكر ذلك لم ير التفريغ على معنى القاصرة لضعف وإلا فيبين على التعليل بعلتين فإن معناه امتنع وإلا فيحتمل أن يقال وإن وقع التعليل بعلتين لكن لا بد وأن يكون من واد واحد فلا يكون أحديهما متعدية والأخرى قاصرة لأن المتعدية تقتضي إلحاق فرغ بالأصل والقاصرة تقتضي الجمود فيتنافيان فيما يقتضيان
ويحتمل أن يقال يجوز اجتماع القاصرة والمعتدية ولا تنافي ويكون مقتضى القاصرة عدم التعدية بها لا بغيرها فيجوز التعدية بغيرها من دون تناف وهذا هو الحق وهو مقتضى كلام ابن السمعاني وغيره من أصحابنا في العلة القاصرة
الضرب الثاني أن يجعل تعيين الفرع مانعا من ثبوت الحكم الأصل فيه كقولهم يقاد المسلم بالزمن قياسا على غير المسلم بجامع القتل العمد العدوان فنقول الفرق أن تعين الفرع وهو الإسلام مانع من وجوب القصاص عليه ولك أن تقول هذا أيضا إنما يأت على القول بالقاصرة
وقد وقع في بعض الشروح أن تعين المسلم مانع لشرفه وهو محمول على شرفه

الخاص وهو الإسلام لا مطلق شرفه وإلا لم يكن تعينا ثم إن صاحب الكتاب بنى القول في هذا الضرب على أن النقض مع المانع هل يقدح فإن قلنا بقدحه كان هذا قادحا لأن الوصف الذي علق المستدل الحكم به إذ وجد في الفرع وتخلف الحكم عنه لمانع وهو التعين فقد وجد النقض مع المانع والغرض أنه قادح وإلا لم يقدح
وقد أنهينا الكلام في المبني عليه غاية الفصل القول عنها هذا شرح ما في الكتاب وإذا جردت العهد بما تقدم من كلامه في المسألتين اللتين بني عليهما القول هنا علمت أن الفرق بتعين الأصل إنما يقدح عنده في المستنبطة دون المنصوصة وأن الفرق بتعين الفرع لا يقدح مطلقا
واعلم أن الفرق عند بعض المتقدمين عبارة إن عن مجموع الضربين المذكورين حتى أنه لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقا واختلفوا في أنه سؤال واحد أو سؤالان لاشتماله على معارضة علة الأصل بعلة ثم على معاوضة الفرع بعلة مستقلة في جانب الفرع
والحق الذي قال إمام الحرمين أنه اختار عنده وارتضاه كل منتم إلى التحقيق من الفقهاء والأصوليين أن الفرق صحيح ومقبول وهو إن اشتمل على معنى معاوضة الأصل وعلى معارضة الفرع وعلى معارضة علته بعلة مستقلة فليس المقصود منه المعارضة وإنما الغرض منه المناقضة للجمع فالكلام في الفرق وراء المعارضة وخاصية وسره فقه تناقض قصدا الجمع ومن رد الفرق لا يرد المعارضة بل خاصية الفرق
وذكر إمام الحرمين أن من الفروق ما يلحق جمع الجامع بالطرد وإن كان لولاه لكان الجمع ففيها قال وما كان كذلك فهو مقبول مجمع عليه لا محالة غير معدود من الفروق التي يختلف فيها قال ومن أنه هذا القسم أن يعيد الفارق جمع الجامع ويزيد فيه ما يوضح بطلان أثره قيل قول الحنفي في البيع الفاسد معاوضة جرت على تراض فيفيد ملكا كالصحيحة
فيقول الفارق المعنى في الأصل أنها معاوضة جرت على وفق الشرع فنقلت

الملك بالشرع بخلاف المعاوضة الفاسدة فينتهض الكلام إذا وفيه صاحبه بتحقيقه مبطلا إخاله كلام المعلل وما ادعاه مشعرا بالحكم قال ومن خصائصه إمكان البوح به بالعوض لا على سبيل المفاقهة بأن يقول السائل لا تعويل على التراضي بل المتبع الشرع والطرق النافلة على ما يعرفه الفقيه
ثم ذكر مثالا لا ينحط عن هذا وثالثا يضادهما فلا يكون الفرق فيه مبطلا الكلية والأمثلة الجزئية يختلف الحكم فيها باختلاف الاخالة فلا وجه للتطويل بتعداد الأمثلة والإخالة لا ينضبط
وقد أتى إمام الحرمين بعد ذلك بكلام جامع فقال الفرق والجمع إذا ازدحما على فرع واصل في محل النزاع فالمختار عندنا فيه إتباع الإحالة فإن كان الفرق أخيل أبطل الجمع وعكسه وإن استويا أمكن أن يقال هما كالعلتين المتناقضتين إذا ثبتنا على صيغة التساوي وأمكن أن يقدم الجمع من جهة وقوع الفرق بعده غير مناقض له وكل هذا فيما إذا كان الفرق لا يحيط فقه الجمع بالكلية فإن ذلك ليس من الفرق المختلف فيه على ما عرفت وقد نجز تمام هذا القول فيما يفسد العلة
واعلم أن صاحب الكتاب لم يذكر كيفية دفع الفرق وما قبله من القلب والكسر وعدم التأثير وخص النقض من بين المفسدات بذلك لتشعب الآراء وكثرة النظر فيه ونحن تابعناه على ما فعل فإن ذلك نظر متمحض جدلا لا تعلق له بصوم نظر المجتهد وإنما هو تابع لشريعة الجدل والتي وصفها أهلها باصطلاحاتهم فإن لم يتعلق بها فائدة دينية فينبغي أن نشح على الأوقات أن نضيعها بها وبتفصيلها وأن تعلق بها فائدة من ضم نشر الكلام ورد مباحث المناظرين إلى مجز الخصام لئلا يذهب كل واحد في كلامه طولا وعرضا وينحرف عن مقصود نظره بما لا يرضي فتلك فائدة ليست من أصول الفقه فينبغي أن يفرد بعلم النظر وهو عندنا من أكيس العلوم وأعظمها كفالة بتدقيق المنطوق والمفهوم ولكن لا ينبغي أن المزج بالأصول التي مقصدها تذليل سبل الاجتهاد للمجتهدين لا تعليم طرق الخصام للمتناظرين ولهذا حذف الغزالي هذه الاعتراضات بالأصالة وبالله التوفيق

قال رحمه الله الطرف الثالث في أقسام العلة الحكم إما محله أو جزؤه عنه عقلي حقيقي أو إضافي أو سلبي أو شرعي أو لغوي متعدية أو قاصرة وعلى التقديرات إما بسيطة أو مركبة
هذا الطرف معقود لبيان ما يظن أنه من مفسدات العلة مع أنه ليس كذلك وذكر قبل الخوض فيه تقسيمات للعلة
اعلم أن كل حكم ثبت في محل فعلة ذلك الحكم إما نفي ذلك المحل أو ما يكون جزءا من ماهيته إما العام أو الخاص أو ما يكون خارجا عنه والخارج إما أن يكون أمرا عقليا أو شرعيا أو لغويا أو عرفيا ولم يذكره المصنف والعقلي إما أن يكون حقيقيا وهو الذي يعقل باعتبار نفسه أو إضافيا وهو الذي يعقل باعتبار غيره والحقيقي والإضافي ثبوتيان فيقابلهما السلب فحصل في العقلي ثلاثة أقسام مع الأربعة المذكورة فالأقسام سبعة
التعليل بالمحل مثل الذهب ربوي لكونه ذهبا
الثاني بجزء المحل الخاص وهو مع الأول لا يكون في العلة القاصرة لاستحالة وجود خصوصية المحل أو جزئه الخاص في غيره أو بجزئه العام كتعليل إباحة البيع بكونه عقد معاوضة فعقد المعاوضة من حيث أنها جنسه جزء له لا يختص به
الثالث بأمر خارج عقلي حقيقي كتعليل الربوي بالطعم
الرابع بأمر خارج عقلي إضافي كتعليل ولاية الإجبار بالأبوة
الخامس بأمر خارج على سلبي كتعليل بطلان بيع الآبق والضال بعدم القدرة على التسليم وقد يجتمع التعليل بهذه الأقسام الثلاثة مثل القتل العمد بغير حق فإن القتل حقيقي والعمد إضافي وقولنا بغير حق سلبي
السادس بأمر شرعي كتعليل حرمة بيع الكلب بنجاسته
السابع بأمر لغوي كقولنا في النبيذ أنه يسمى بالخمر فيحرم كالمعتصر من العنب هذه الأقسام التي في كلام المصنف

والثامن ما أشرنا إليه وأهمله التعليل بأمر عرفي كقولنا هذا عيب عرفا فيثبت به الرد ثم العلة تنقسم باعتبار آخر إلى متعدية وهي التي توجد في غير المحل المنصوص أو قاصرة وهي التي تختص بذلك المحل وعلى التقديرات كلها إما أن تكون بسيطة وهي التي لا جزء لها كالإسكار والطعم أو مركبة وهي التي لها جزء كالقتل العمد العدوان
قال قيل لا يعلل بالمحل لأن القابل لا يفعل قلنا لا نسلم ومع هذا فالعلة المعرف
شرع في مسائل الفصل وهي ست
الأولى اختلفوا في جواز التعليل بمحل الحكم أو جزئه الخاص والمختار عند المصنف والأكثرين جوازه وقول الآمدي المختار التفصيل وهو امتناع ذلك المحل دون الجزء ليس مذهبا ثالثا لأن مراده الجزء العام بدليل قوله بعد ذلك وأما الجزء فلا يمتنع التعليل به لاحتمال عمومه للأصل والفرع
قال صفي الدين الهندي الحق أن الخلاف في المسألة مبني على جواز التعليل بالقاصرة فإن جوز ذلك جوز هذا سواء عرفت عليته بنص أو غيره إذ لا يبتعد أن يقول الشارع حرمت الربا في البر لكونه برا أو تعرف مناسبة محل الحكم له لاشتماله على حكمة داعية إلي إثبات ذلك الحكم فيه وهذا صحيح وهو مقتضى كلام الإمام وغيره
واجتمع من منع التعليل بالمحل بأن المحل قابل للحكم فلو كان علة له لكان فاعلا له أيضا لتأثير العلة في المعلول والمؤثر لا بد أن يفعل فيه ويمتنع كون الشيء قابلا وفاعلا معا لشيء واحد لأن نسبة القابل إلى المقبول بالإمكان ونسبة الفاعل إلى المفعول بالوجوب فبينهما تناف
وأجاب بأنا لا نسلم أن الشيء الواحد لا يكون قابلا وفاعلا ألا ترى أن الجسم المتحرك قابل للحركة وفاعل لها ولو سلم امتناع كون الشيء الواحد قابلا وفاعلا ولكن ذلك إذا كان الفاعل بمعنى المؤثر أما إذا كان معنى المعرف فلا يمتنع قطعا وإلى هذا أشار بقوله ومع هذا فالعلة المعرف

قال قيل لا يعلل بالحكم الغير المضبوطة كالمصالح والمفاسد لأنه لا يعلم وجود القدر الحاصل في الأصل والفرع قلنا لو لم يجز لما جاز بالوصف المشتمل عليها فإذا حصل ظن أن الحكم لمصلحة وجدت في الفرع يحصل ظن الحكم فيه
المسألة الثانية جوز قيام التعليل بالحكمة واختاره المصنف تبعا للإمام ومنع منه آخرون وفصل قوم فقالوا إن كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها جاز التعليل بها وإلا فلا
واختاره الآمدي وصفي الدين الهندي وأطبق الكل على جواز التعليل بالوصف المشتمل عليها ما حاد عن ذلك قياس كالقتل والزنا والسرقة وغير ذلك
واحتج المفصل بما أشار إليه في الكتاب من أن الحكم التي لا تنضبط كالمصالح والمفاسد لا يعلم لعدم انضباطها أن القدر الحاصل منهما في الأصل حاصل في الفرع أم لا فلا يمكن التعليل بها لأن القياس فرع ثبوت ما في الأصل من المعنى في الفرع
وأجاب بأنه لو لم يجز التعليل بالحكم التي لا تنضبط لم يجز بالوصف المشتمل عليها أيضا واللازم باطل بالاتفاق فبطل الملزوم
وبيان الملازمة أن الوصف بذاته ليس بعلة للحكم بل بواسطة اشتماله على الحكمة فعلية الوصف بمعنى أنه علامة على الحكمة التي هي علة غائبة باعثة للفاعل والوصف هو المعرف فإذا لم تكن تلك الحكمة علة للحكم لم يكن الوصف بواسطته علة له وإذا بطل الملزوم فيجوز التعليل بالحكم التي لا تنضبط لأننا إذا ظننا استناد الحكم المخصوص في مورد النص إلى الحكم المخصوصة ثم ظننا حصول تلك الحكمة في صورة تولد لا محالة من ذينك الظن ظن حصول الحكم في تلك الصورة والعمل بالظن واجب
وإذا أقام الدليل على جواز التعليل بالحكم التي لا تنضبط فليكن جائزا فيما تنضبط بطريق أولى وهذا هو السر في إعراض المصنف عن الكلام مع مانع

التعليل بالحكم مطلقا والذي نختاره نحن في هذه المسألة التفصيل وقولهم إذا ظننا استناد الحكم المخصوصة إلى الحكمة ثم حصول تلك الحكمة في صورة ظننا حصول الحكم فيها قلنا هذا لا يتأتى إلا إذا كانت الحكمة مضبوطة يمكن معرفة مقاديرها فإنها إذا لم تنضبط لا يمكن معرفة مقاديرها فيتعذر حصول الظن بالمقدمتين
وقولهم لو لم يجز بالحكمة لم يجز بالوصف المشتمل عليها
قلنا العلة في الحقيقة هي الحكمة والحاجة فإنها غائبة الباعثة للفاعل كما ذكرتم ولكنها لما كانت في الغالب لا تنضبط ولا تتقدر في ذاتها جعل الوصف علة بمعنى أنه يعرف العلة بصالحية الوصف للضبط وتعريف العلة التي هي الحكمة هي العلة في جعله علة وهذا قررناه مرة من قبل وإذا وضح هذا فالحكمة لا تصلح لأن يعامل بها ما لا ينضبط إلا بواسطة الوصف لأن الشارع أقامه حينئذ ضابطا لها ولا مبالاة بوجدانها والحالة هذه دون الوصف فأنا تعلم بالاستقراء من محاسن الشريعة رد الناس فيما يضطرب ويختلف باختلاف الصورة والأشخاص والأزمان والأحوال إلى المظان الواضحة التي يكشف غيهبها ردا لما تدع العامة تخبط عشواء ونفيا للجرح والضراء ألا ترى إلى حصر القصر والفطر في مظنته الغالبة وهي السفر وإن كانت الحكمة المشقة التي قد توجد في حق الحاضر وتنعدم في حق المسافر
قال قيل العدم لا يعلل به لأن الإعدام لا تتميز وأيضا ليس على المجتهد سبرها قلنا لا نسلم فإن عدم اللازم متميز عن عدم الملزوم وإنما سقطت عن المجتهد لعلة تناهيها
المسألة الثالثة ذهب قوم إلى أنه يجوز التعليل بالعدم ثبوتيا كان الحكم أو عدميا لأنه قد يحصل دور أن الحكم مع بعض العدميات والدوران يفيد الظن ولأن العدة المعرف وهو غير مناف للعدم فإن العدم قد يعرف وجود الحكم الثبوتي فإن عدم امتثال العبد لأمر سيده يعرفنا سخطه عليه والحكم العدمي فإن عدم العلة يعرف عدم المعلول وكذا عدم اللازم وكذا عدم اللازم وعدم الشرط فيصح

قيام العلية بالعدم كما بالموجود واختاره الإمام وأتباعه ومنهم المصنف ومنع منه قوم إذا كان الحكم ثبوتا واختاره الآمدي وابن الحاجب واحتج هؤلاء بوجهين أشار إليهما في الكتاب
أحدهما أن العلة لا بد أن تتميز عما ليس بعلة سواء أريد بها المؤثر أو المعرف أو الداهي والتمييز عبارة عن كون كل واحد من المتميزين مخصوصا في نفسه بحيث لا يكون تعيين هذا حاصلا لذاك ولا تعيين ذلك لهذا وهذا غير معقول في العدم الصرف لأنه نفي محض
والثاني أن المجتهد إذا بحث عن علة الحكم لم يجب عليه سبر الأوصاف العدمية فإنها غير متناهية مع أنه يجب عليه سبر كل وصف يصلح للعلية وهذا يدل على أن الوصف العدمي لا يصلح للعلية
وأجاب عن الأول بأنا لا نسلم أن الإعدام لا تتميز لأن كلامنا في الإعدام المضافة وبعضها يتميز عن بعض بدليل أن عدم اللازم متميز عن بعض الملزوم
لأن الأول يستلزم الثاني من دون عكس وكذا عدم أخذ الضدين عن المحل يصح حلول الآخر فيه نعم العدم المطلق لا يتميز وليس فيه كلامنا
وعن الثاني بأنه إنما أسقط عن المجتهد سبرها لتعذره لأن العدميات لما كانت غير متناهية تعذر سبرها
وقد يجاب بأنا لا نسلم أنه لا يجب عليه سبر ما تتخيل المناسبة فيه أو الدوران أو ما يقرب من العلية
قال قيل إنما يجوز التعليل بالحكم المقارن وهو أحد التقادير الثلاثة فيكون مرجوحا قلنا ويجوز بالمتأخر لأنه معرف
المسألة الرابعة ذهب الأكثرون إلى أنه يجوز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي وهو اختيار الإمام وأتباعه ومنهم المصنف لأن الحكم قد يدور مع الآخر وجودا وعدما لأن العلة هي المعرف فلا بدع في جعل حكمه معرفا لآخر

كأن يقول الشارع مهما رأيتموني أثبت الحكم الفلاني في الصورة الفلانية فاعملوا إني أثبت الحكم الفلاني فيها أيضا وذهب الأقلون إلى امتناع ذلك واحتجوا بأن الحكم إذا كان علة لحكم آخر فلا بد وأن يكون مقارنا له لأنه إن لم يقارنه فإما أن يكون متقدما عليه فيلزم وجود العلة مع تخلف المعلول عنها وهو غير جائز ولو سلم جوازه فلا ريب في أنه مخالف للأصل فلا يجوز إثبات العلة بهذه الصفة إلا عند قيام الدليل عليه أو يكون متأخرا عنه والمتأخر لا يكون علة للمتقدم فثبت أنه لا بد في كونه علة من المقارنة وعلى هذا فلا يكون الحكم علة إلا على تقدير واحد من ثلاثة وهو احتمال المقارنة والاحتمالان أغلب واحد والتعليل به لا يصح على تقديرهما فكان عدم التعليل به راجحا على التعليل به لأنه ثابت على احتمالين من ثلاثة والعبرة بالراجح دون المرجوح
وأجاب بأنا لا نسلم أن يمتنع كونه علة على تقدير تأخره فإن العلة هي المعرف ويجوز أن يكون المتأخر معرفا للمتقدم كالعام للصانع وحينئذ يندفع ما ذكرتم ويكون التعليل به ثابتا على احتمالين من ثلاثة فيكون راجحا وقد ذهب الآمدي في المسألة إلى تفصيل مبني على ما لا نوافقه عليه فلذلك لم نورده
قال قالت الحنفية لا يعلل بالقاصرة لعدم الفائدة قلنا معرفة كونه على وجه المصلحة فائدة ولنا أن التعدية توقفت على العلة فلو توقفت هي عليها لزم الدور
المسألة الخامسة أطبق الناس كافة على صحة العلة القاصرة وهي المقصورة على محل النص المنحصرة فيه التي لا تعداه إذا كانت منصوصة أو مجمعا عليها كما نقله جماعة ومنهم القاضي أبو بكر في التقريب والإرشاد فيما إذا كانت منصوصة وجعلوا محل الخلاف في المستنبطة والذي ذهب إليه الأكثرون منهم الشافعي والأصحاب ومالك وأحمد والقاضيان أبو بكر وعبد الجبار وأبو الحسين وعليه المتأخرون كالإمام وأتباعه ومنهم المصنف أنها صحيحة معول عليها
وذهب أبو حنيفة وأصحابه وأبو عبد البصري والكرخي إلى امتناعها وحكاه الشيخ محي الدين النووي في شرح المذهب وجها لأصحابنا وكذلك

الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع وأغرب القاضي عبد الوهاب في المخلص فحكى مذهبا ثالثا أنها لا تصح على الإطلاق فيه سواء كانت منصوصه أم مستنبطة وقال هو قول أكثر فقهاء العراق وهذا يصادم ما نقلناه من وقوع الاتفاق في المنصوصة ولم أر هذا القول في شيء مما وقف عليه من كتب الأصول سوى هذا
واحتجت الحنفية على امتناع التعليل بها بما أشار إليه المصنف من أنه لا فائدة فيها لأن الفائدة من العلة التوسل بها إلى معرفة الحكم وهذه الفائدة مفقودة هنا لأن الحكم في الأصل معلوم بالنص ولا يمكن التوسل بها إلى معرفة الحكم في غيره لأن ذلك إنما يمكن إذا وجد ذلك الوصف في غير الأصل والفرض خلافه لأنها قاصرة
وأجاب بأن لها فائدة وهي معرفة أن الحكم الشرعي مطابق لوجه الحكمة والمصلحة وهذه فائدة معتبرة لأن النفوس إلى قبول الأحكام المطابقة للحكم والمصالح أميل وعن قبول الحكم المحض والتعبد الصرف أبعد وقد ذكر لها فوائد أخرى منه أنه إذا ثبت كون القاصرة علة للحكم في محل فلو وجد فيه وصف آخر مناسب متعد يمتنع تعدية الحكم به لمعارضة القاصرة ما لم يدل دليل على استقلاله بالعلية بخلاف ما لو لم يثبت كون القاصرة علة له فإنه حينئذ كان تعدى الحكم بالوصف المناسب المتعدي من غير افتقار إلى دلالة دليل على استقلاله وحاصله أنها تفيد منع حمل الفرع على الأصل كما أن تعديها يفيد وجوب الحمل ومنها أنا بإطلاعنا على علة الحكم نزداد علما بما كنا غافلين عنه والعلم بالشيء أعظم فائدة كما أن الجهل أخس خسران وأقبحه ومنها أن العلة إذا طابقت النص زادته قوة ويتعاضدان وكذلك سبيل كل دليلين اجتمعا في مسألة واحدة ففائدتها فائدة اجتماع دليلين ذكره القاضي في التقريب والإرشاد باختصار إمام الحرمين ومنها ما نبه عليه والدي أيده الله تعالى من أن المكلف يقصد الفصل لأجلها خير زاد أجره كما قررناه في الكلام على العلة فجدد العهدية
وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي من فوائدها أنه إذا حدث هناك فرع

فيعلق على العلة ويلحق المنصوص عليه وهذا فيه نظر إذا المسألة مفروضة في القاصرة ومتى حدث فرع يشاركها في المعنى خرت عن أن تكون قاصرة
وقد ذكر إمام الحرمين ذلك فقال قال من يصحح القاصرة فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس إذا ضربت نقودا وضعفه بأن المذهب أن الوبا لا يجري في الفلوس وإن استعملت نقودا فإن التعدية الشرعية مختصة بالمطبوعات من التبرين والفلوس في حكم العروض وإن غلب استعمالها ثم إن صح هذا المذهب قيل لصاحبه إن كانت الفلوس داخلة تحت اسم الدراهم والنص متناول لها فالطلبة بالفائدة قائمة وأن لم يتناولها النص فالعلة إذن متعدية لا قاصرة
قوله ولنا أي دليلنا على صحة القاصرة أن صحة تعدية العلة إلى الفرع فرع صحتها في نفسها فلو توقفت صحتها في نفسها على صحة تعديتها إلى الفرع لزم الدور وإذا لم تتوقف صحتها في نفسها على صحة التعدية صحت وإن لم تتعد وهو المطلوب
واعترض الآمدي على هذا الدليل بوجهين
أحدهما أنه أن أريد بالتعدية الموقوفة على صحة العلة ثبوت الحكم بها في الفرع وهو مسلم ولكن لا نسلم أن التعدية بهذا الاعتبار شرط في صحة العلة وإن أريد بهذه التعدية وجودها في الفرع لا غير فهو غير مفض إلى الدور فإن صحة العلة وإن كان مشروطا بوجودها في غير حمل النص فوجودها فيه غير متوقف على صحتها في نفسها فلا دور سلمنا لزوم الدور لكن دور معية أو غيره
والثاني ممنوع والأول مسلم وهو صحيح كما في المتلازمين والمتضايفين
فإن قلت ليس دور معية بدليل أن صحة تعديتها إلى الفرع فرع صحتها في نفسها لأنه يصح دخول ما يقتضي التراخي عليه إذ يصح أن يقال صحت العلة في نفسها ثم عدمت أو عدمت بعد أن صحت أو فعديت ولو كانا معا لما صح بهذا القول إذ لا يجوز إدخال كلمة تقتضي التأخير ما بين المتضافين

والمتلازمين فلا يجوز أن يقال حصلت الأبوة ثم النبوة أو حصل العلو ثم السفل وبالعكس
قلت دخول ثم ههنا إنما هو لحصول الترتيب في التعدية التي هي فعل المعدي ولا نسلم جواز دخول ما يقتضي التأخير في التعدية التي أريد بها وجود الوصف في صورة فلا يقال صحت العلة في كذا فعديت أو ثم عدينا بمعنى وجدت وإنما يصح بمعنى الإثبات
فائدتان أحدهما
قال إمام الحرمين إن كلام الشارع نصا لا يقبل التأويل فلا يرى للقاصرة وقعا ولكن يمتنع عن الحكم بفسادها لما سبق وإنما يفيد إذا كان قول الشارع ظاهرا يتأتى تأويله ويمكن حمله على الكثير مثلا دون التعليل فإذا سنحت علة توافق الظاهر فهي تعصمه من التخصيص بعلة أخرى لا تترقى مرتبتها إلى المستنبطة القاصرة ثم في ذلك سر وهو أن الظاهر إن كان متعرضا للتأويل ولو أول لخرج بعض المسميات ولارتد الظاهر إلى ما هو نص فيه فالعلة في محل الظاهر فإنها ثابتة في مقتضى النص منه متعدية إلى ما اللفظ ظاهر فيه عاصم له عن التخصيص والتأويل فكان ذلك إفادة وإن لم يكن تعديا حقيقيا ولا يتجه غير ذلك في العلة القاصرة
ثم قال فإن قيل قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تبيعوا الورق بالورق الحديث نص أم ظاهر فإن زعمتم أنه نص بطل التعليل بالنقدية وإن كان ظاهرا فالأمة مجمعة على إجرائه في القليل والكثير فقد صار بقرينة الإجماع نصا فأي حاجة إلى التعليل فنقول أما الخط الأصولي فقد وفينا به والأصول لا تصح على الفروع فإن تخلفت مسألة فليمتحن بحقيقة الأصول فإن لم يصح فليطرح هذا كلام إمام الحرمين

ولقائل أن يقول القاصرة مفيدة مطلقا سواء كانت مستنبطة من ظاهر أم نص لما عرفت ولكن هذا الذي ذكره في منعها من التخصيص في الظاهر فائدة أخرى جلية ولا تنحصر الفائدة فيها
وأما قوله إن الأمة مجمعة على إجرائه في القليل والكثير فصار كالنص
فنقول إذا انتهى القليل إلى حد لا يورث فلا نسلم حصول الإجماع بل أبو حنيفة يخالف فيه كمخالفته في بيع ثمرة بتمرتين فيجوز عنده بيع ذرة بذرة من الذهب والفضة كذا حكاه والدي في تكعلة شرح المهذب عن شرح الهداية للسقناقي من كتب أصحابه فيمكن استعمال العلة وهي جنس الأثمان في ذلك ومنع تخصيص العموم فيه وتحصل الفائدة التي حاولها إمام الحرمين وإلا فآخر كلامه يشير إلى الامتناع من الحكم بصحة العلة المذكورة فإنه قال فإن قيل هذا تصريح بإبطال التعليل النقدية
قلنا الصحيح عندنا أن مسائل الربا بأشهية والشبه على وجوه منها التعليق بالمقصود والمقصود من الأشياء الأربعة الطعم ومن النقدين النقدية هي مقتصرة وليست هي علة إذ لا شبه فيها ولا إحالة ولكن لما انتظم منها اتباع المقصود عد من مسالك الأشياء الأربعة انتهى
فقد امتنع من الحكم بصحة العلة المذكورة لعدم الجريان على القانون الذي مهده وهو مع ذلك لا يراد التعليل بالوزن كقول أبي حنيفة لبطلان التعليل من أوجه تخصه
الثانية رجع الجمهور التعدية على القاصرة امتنع قوم من الترجيع ورجح الأستاذ أبو إسحاق القاصرة بشادة النص بحكمها ويتضح بذلك مذهب الشافعي فيما إذا أفسد صوم رمضان بجماع وترجيح كون العلة الجماع وهي قاصرة على الإفساد وفي تعليل النقدين بالنقدية على الوزن وفي نفقة الوالد على الولد وبالعكس وعلق الأصول على الفروع وبالعكس بالبعضية على القرابة وأما على المذهب الأولين فللشافعي في هذه المسائل أدلة تخصها كالشمس وضوحا

قال قيل لو علل بالمركب فإذا انتفى جزء تنتفي العلية ثم إذا انتفى جزء آخر يلزم التخلف أو تحصيل الحاصل قلنا العلة عدمية فلا يلزم ذلك
مثل المسألة السادسة التعليل بالوصف المركب جائز عند المعظم وبه قال المتأخرون ومنهم الإمام وأتباعه ومنهم صاحب الكتاب لأن ما يدل على علية الوصف من الدوران والسبر والتقسيم والمناسبة مع الاقتران لا تختص بمفرد بل دلالته عليه وعلى المركب على حد سواء فعمل به في المركب كما عمل به في المفرد
وقال قوم لا يجوز به معللين بأن جوازه يؤدي إما إلى تخلف المعلول عن العلة العقلية أو تحصيل الحاصل وهما محالان فكذا ملزومهما والدليل على أنه مؤد إلى ذلك أن الوصف المركب إذا كان علة كالقتل العمد العدوان في إيجاب القصاص مثلا كان عدم كل جزء من أجزائه علة مستقلة لعدم عليته لانعدام كل واحد من أجزائه ضرورة إذ عليته من جملة صفات ماهية المنعدمة بانعدام كل واحد من أجزائه وانعدام الوصف يستلزم انعدام الصفة
فإذا انتفى جزء من أجزاء المركب يترتب عليه عدم عليته فيلزم تحصيل الحاصل أو لا يلزم تخلف المعلول عن العلة
وأجاب بأن العلية صفة عدمية لأنا من النسب والإضافات تعتبرها العقول ولا وجود لها في الخارج
ويلزم من كونها عدمية أن يكون انتفاؤها وجوديا فإن العدم والوجود نقيضان ولا بد و أن يكون أحد النقيضين وجوديا وإذا كان انتقاؤها وجوديا فلا يجوز أن يكون عدم كل جزء علة له لأن الأمور العدمية لا تكون علة للأمر الوجودي هكذا أقرره العبري وغيره من شارحي الكتاب وهو أولا ضعيف لأنه ليس بأولى من قول المعترض العلية أمر وجودي لأن نقيضها وهو عدم العلية عدمي واحد من النقيضين واقع لا محالة
وثانيا مخالف لما في المحصول فإنه جعله جوابا لشبهة أخرى لهم غير هذه

ولكن صاحب الحاصل ترك ذكر تلك الشبهة ونقل جوابها إلى هذه الشبهة التي أوردها صاحب الكتاب فتبعه المصنف على ذلك
وقد أجيب عن هذه الشبهة بأمور منها أن عدم الجزء ليس علة لعدم العلية بل كل جزء فوجوده شرط لها وعدمه يكون عدما لشرطها ومنها أنه يقتضي أن لا يوجد ماهية مركبة لما ذكر من التقرير بعينه فإن عدم كل واحد من أجزائه علة لعدم تلك الماهية المركبة فإذا انعدم جزء انعدمت تلك الماهية وإذا انعدم جزء آخر لزم إما انعدامها وهو تحصيل الحاصل ونقص العلة العقلية وكلاهما محال
فرع قال الإمام نقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن بعضهم إنه قال لا يجوز أن تزيد الأوصاف على سبعة وهذا الحصر لا أعرف له حجة قلت والذي نقله الشيخ شرح اللمع عن بعض الفقهاء أنه لا يجوز أن تزيد على خمسة وغلط قائله ورأيته في عدة نسخ من الشرح وكان الخمسة تصحفت بسبعة في نسخة الإمام
قال وهنا مسائل الأولى يستدل بوجود العلة على الحكم لا بعليتها لأنها نسبة يتوقف عليه
ش الاستدلال قد يكون بذات العلة على الحكم كما يقال في القتل بالمثقل قتل عمد عدوان فيجب به القصاص وهو طريق صحيح بخلاف الاستدلال بعلية العلة للحكم على الحكم فإنه فاسد
ومثاله أن يقال عليه القتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص وقد وجد في المثقل فيجب
واحتج علية للمصنف تبعا للإمام بأمر العلية أمر نسبي بين العلة والحكم فيتوقف ثبوتها على ثبوت المنتسبين اللذين هما العلة والحكم فتتوقف على ثبوت الحكم فيكون إثبات الحكم دورا واعترض عليه صاحب التحصيل بأن صدق قول القتل سبب لوجوب القصاص لا يتوقف لا على وجود القصاص وهو

اعتراض منقدح لأن النسبة لا تتوقف على وجود المنتسبين في الخارج بل في الذهن
وحينئذ لا يلزم الدور قال ولو سلمناه لكن لما فسرت العلة بالمعروف انقطع الدور وهو أيضا متجه ومراده انقطع الدور الممتنع وإلا فلزوم الدور على تفسير العلة بالمعروف أيضا واضح
وللاعتراف بصحة هذين الاعتراضين فر صفي الدين الهندي من تعليل فساد هذه الطريق بهذا الوجه إلى وجه تكلفة وهو أن علية العلة للحكم تتوقف على اقتضاء العلة للحكم وكونه مرتبا عليها لولا المانع بحيث يجب أن يكون فلو استفيد اقتضاؤها بها وترتبه عليها من العلية لزم الدور
فإن قلت كيف علية العلة على اقتضاء العلة للحكم وكونه بحيث يجب أن يترتب عليها لولا المانع ولا معنى للعلية إلا هذا والشيء لا يتوقف على نفسه
قلت هو مغاير له لأن اقتضاء الشيء للحكم وكونه مرتبا عليها لولا المعارض أعم من أن يكون بطريق العلة أو غيرها نعم إذا أضيف الاقتضاء إلى العلة تخصص لكن ذلك لا تقتضي أن يكون عينه فإن هذا التخصيص خارج عن ماهية الاقتضاء وداخل في ماهية العلية فهما متغايران
سلمنا أنه عينه لكن تقول إن كون الحكم مترتبا على العلة وكونها مقتضية له إما أن يكون عين فعلية فيلزم الاستدلال بالشيء على نفسه أو غيرها فيلزم الدور على ما سبق فثبت المقصود على التقديرين وهو امتناع الاستدلال بالعلية على ثبوت الحكم وترتبه على العلة
قال الثانية التعليل بالمانع لا يتوقف على المقتضى لأنه إذا أثر معه فدونه أولى قلنا لا يستند العدم المستمر قلنا الحادث يعرف الإلى كالعالم للصانع
تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي يسمى تعليلا بالمانع واختلفوا في أنه هل يشترط في صحة هذا التعليل بيان وجود المقتضى
فذهب جمع إلى اشتراطه وهو اختيار الآمدي وأباه الآخرون وعليه الإمام

وشيعته كالمصنف واختاره الحاجب ولا يخفى عليك أن هذا الخلاف إنما يتأتى إذا جوزنا تخصيص العلة فأما إذا لم يجوز ذلك فلا يتصور هذا الخلاف لأن التعليل بالمانع حينئذ لا يتصور فضلا من أن يختلف في أنه مشروط ببيان وجود المقتضى
كذا قال صفي الدين الهندي وهو متلقى من قول الإمام إن هذه المسألة من تفاريع تخصيص العلة فإما إن أنكرناه امتنع الجمع بين المقتضى والمانع
ولقائل أن يقول هذا غير لازم فإن العلة من تخصيص العلة جاز أن يقول شرط تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي وجود المقتضى في تلك الصورة ويكون مراده أن هذا الشرط ممتنع ويمتنع بامتناعه تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي
واحتج المصنف بأن بين المقتضى والمانع معاندة ومضادة والشيء لا يتقوى بضده بل يضعف به فإذا كان المانع مؤثرا حال ضعفه وهو وجود المقتضى فلأن يكون ذلك حال قوته وهو عدم المقتضى أولى
واحتج المشترطون بأن المعلول الذي هو عدم الحكم إما أن يكون هو العدم المستمر وذلك باطل لأن المانع حادث والعدم المستمر أزلي ويمتنع استناد الأزلي الحادث وإن كان هو العدم المتجدد فهو المطلوب لأن العدم المتجدد إنما يتصور بعد قيام المقتضى
وأجاب بأنا لا نسلم امتناع تعليل المتقدم بالمتأخر بمعنى المعرف وحينئذ المعلل هو العدم المستمر وهو جائز بهذا المعنى كما أن العالم معرف للصانع
وأجيب أيضا بأنا نقول المعلل هو العدم المتجدد قلنا ممنوع لأنا لا نعني العدم المتجدد إلا أنه حصل لنا العلم بعدم الحكم من قبل الشرع ومعلوم أن هذا لا يقتضي تحقق المقتضى
ولقائل أن يقول ما حكم ما فيه بالعدم بناء على البراءة الأصلية لا يكون معرفا من قبل الشرع لأن الشرع لم يرد فيه بشيء وقولهم إن العلة المعرف والمتأخر يعرف المتقدم قلنا لا يصح أن تكون العلة بمعنى المعرف في هذا المقام

لأنكم اعترفتم من قبل بأن الوصف ليس معرفا للحكم في الأصل بل هو معرف بالحكم في الأصل معرف للحكم في الفرع فالوصف معرف إما بالنص إن ورد فيه نص كما قلتم أو بالبراءة الأصلية وعلى التقديرين لا يكون الوصف معرفا له
والكلام لم يقع إلا فيه فامتنع استناد العدم في الأصل إلى هذا العدم المتحدد سواء جعلناه معرفا أو مؤثرا وإذا عرفت ضعف ما أجاب به فنقول وما استدل به أيضا ضعيف لأن للخصم أن يقول لا يلزم من جواز تعليل عدم الحكم بالمانع حال وجود المقتضى الذي هو شرط التعليل به جواز تعليله به حال عدم المقتضى الذي هو مناف لتعليله به
وأما قولكم إنه قوي حال عدمه ضعيف حال وجوده فلسنا نسلم ذلك وسند هذا المنع أن وجود المقتضى لما كان شرط تأثيره في عدم الحكم استحال أن يقال إنه يضعف إذ ذاك وكيف يضعف الشيء حال وجود شرط تأثيره
ولئن سلمناه فلا يلزم منه أيضا عدم الجواز لأن المأخذ في هذا ليس هو القوة والضعف حتى يلزم ما ذكرتم بل غيرها من أدلة نقيمها ومن جملتها الدليل الذي أشرتم إليه وبينا ضعف ما أجبتم به عنه
قال الثالثة لا يشترط الاتفاق على وجود العلة في الأصل بل يكفي انتهاض الدليل عليه
ش شذ بعض الأصوليين فقال وجود الوصف الذي جعل علة في الأصل لا بد وأن يكون متفقا عليه وهذا ضعيف لأنه لما أمكن إثباته بالدليل حصل الغرض وكان اشتراط الاتفاق تعيثا بل الحق أنه قد يكون ضروريا ومعلوما بالبرهان اليقيني ومظنونا
واستدل الشيخ أبو إسحاق على بطلان هذا المذهب بأن قائله إن أراد بالاتفاق الذي اشترط إجماع الأمة كلها أدى إلى إبطال القياس لأن نفاة القياس من جملة الأمة وأكثرهم يقولون إن الأصول غير معللة وإن أراد إجماع القياسيين فهم بعض الأمة وليس قولهم بدليل

قال الرابعة الشيء يدفع الحكم كالعدة أو يرفعه كالطلاق أو يدفع ويرفع كالرضاع
ش الوصف المجعول علة على ثلاثة أقسام
الأول أن يكون دافعا للحكم فقط ومثل له المصنف بالعدة فإنها دافعة لحل النكاح إذا وجدت في ابتداء النكاح وليست رافعة له إذا وجدت في أثنائه فإن الموطؤة بشبهة تعتد وهي باقية على الزوجية
وكذا الإحرام يمنع ابتداء النكاح ولا يقطعه وهذا يلتفت على أن يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وكذلك الأصح صحة رجعة المحرم لتنزيلها منزلة الدوام وتوقيت النكاح مانع في ابتدائه ولا يمنع في دوامه
فإذا قال أنت طالق غدا أو بعد شهر صح وعقد الذمة لا يجوز مع تهمة الخيانة ولو اتهمهم بعد العقد لم ينبذ إليهم عهدهم بخلاف الهدنة فإنه ينبذ العقد فيها بالتهمة ولو نكح حرة لا تفسخ نكاح الأمة خلافا للمزني ولو رأى المتيمم الماء في أثناء صلاته أتمها إن كانت مما يسقط فرضها بالتيمم وهو مانع في ابتداء الصلاة ولو ملك عبدا له عليه دين ففي سقوط الدين وجهان أصحهما لا وإن كان لا يثبت له على عبده ابتداء لأن الدوام من القوة ما ليس للابتداء وهذه قاعدة في الفقه عظيمة كثرت مسائلها ومن أراد الإحاطة بفروعها فعليه بكتابنا الأشباه والنظائر أتمه الله
الثاني أن يكون رافعا للحكم فقط كالطلاق فإنه يرفع حل الاستمتاع ولكن لا يدفعه إذ الطلاق لا يمنع وقوع نكاح جديد ولك أن تقول الرفع أشد من الدفع فإذا صلح الوصف لأن يكون دافعا بطريق أولى والطلاق كما رفع حل الاستمتاع دفعه ولكن ليس هذا الدفع والرفع مؤبدا بل قد يزولان بنكاح جديد والمصنف أراد بكونه لا يدفعه أنه لا يمنع من طريانه فإنه في القسم الأول منع من الابتداء دون الدوام وفي هذا المنع من الدوام دون الابتداء
ويتعرج هذا إلى أنه قد يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام عكس هذه

القاعدة الأولى وهو في مسائل معدودة غير عديدة استقضيناها في كتابنا الأشباه والنظائر كمله الله تعالى
منها في الملك مضمنى لو اشترى قريبه الذي يعتق عليه صح وعتق عليه فالقرابة منافية لدوام الملك دون ابتدائه
ومنها لو قتل عتيق زوجته وله منها ولد ثم ماتت قبل الاستيفاء وبعد البينونة فهل نقول وجب لولدها هذا القصاص ثم سقط أو لم يجب أصلا ظاهر قول الأصحاب ورث القصاص ولده أنه وجب ثم سقط فقد قارن المسقط وهو البنوة سبب الملك ولم يمنع ابتداء دخول الملك ومنع الدوران وحكى إمام الحرمين عن شيخه أن القصاص لا يجب وقس على هذا لو زوج عبده بأمته هل نقول المهر ثم سقط أو لم يجب
ومنها المفلس يصح أن يستدين مؤجلا على المذهب ولو حجر عليه بالفلس حل ما عليه من الدين على قول
ومنها أن الجنون فإنه يحل به الديون على وجه ولو أن ولي المجنون استدان له مؤجلا حيث لا تجوز له الاستقراض له لجاز ذلك
ومنها لو تكفل ببدن حي فمات انقطعت الكفالة على وجه ومنها إذا أذن لجاريته ثم استولدها ففي بطلان الإذن اختلف بين الأصحاب قال الرافعي واتفقوا على أنه يجوز ابتداء أن يأذن للمستولدة
الثالث أن يكون دافعا ورافعا كالرضاع فإنه يمتنع من ابتداء النكاح ومن دوامه إذا طرأ وكذا اللعان إذا طراء قطع ومنع الابتداء وحرم على التأييد والحق بهذا أم زوجتك فإن نكاحك بنتها إذا وجد مانع من أن يبتدئ عليها عقدا ولو كنت قد عقدت على أمها ولم تدخل بها لجاز لك نكاح بنتها وانقطع به نكاح الأم وأقسام هذا الأنواع كثيرة أعني كون الشيء يمنع من الدوام والابتداء
قال الخامسة العلة قد يعلل بها ضدان ولكن بشرطين متضادين
ش هذه المسألة مبنية على جواز تعدد الحكم لعلة واحدة فلنذكر المبني عليه

ثم نعود إلى المبنى عليه ثم نعود إلى المبنى فنقول ذهبت الجماهير إلى أن العلة الواحدة الشرعية يجوز أن يترتب عليها حكمان شرعيان مختلفا
وخالف شرذمة قليلون وحجة الجمهور أن العلة إن فسرت بالمعرف فجوازه ظاهر إذ لا يمتنع لا عقلا ولا شرعا نصب إمارة واحدة على حكمين مختلفين
قال الآمدي وذلك مما لا نعرف فيه خلافا كما لو قال الشارع جعلت طلوع الهلال أمارة على وجوب الصوم والصلاة وإن فسرت بالباعث فلا يمتنع أيضا أن يكون الوصف الواحد باعثا على حكمين مختلفين أي مناسبا لهما بأمر مشترك بينهما كمناسبة الربا وللشرب للتحريم ووجوب الحد والقتل للقصاص والكفارة وحرمان الميراث وإن فسرت بالموجب وكانت العلة مركبة لم يمتنع ذلك أيضا لجواز أن يكون الموجب المركب مصدرا لأثرين مختلفين كما في العلل الفعلية المركبة وإن كانت بسيطة فكذلك إذ لا يتمنع أن تكون العلة البسيطة موجبة لأثرين مختلفين لأن القول بأن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد مقطوع ببطلانه على أن القول يكون العلة الشرعية موجبة باطل
وأيضا دليل الجواز الوقوع وقد وقع كما عرفت واعتل المانع بما لا يعصم ولا يرتضى ذكره
إذا عرفت ذلك فإن قلنا بمذهب الجماهير فقد يعلل بالعلة متماثلان كالقتل الصادر من زيد ومن عمرو فإنه يوجب القصاص على كل واحد منهما ولا يتأتى ذلك في الذات الواحد لاستحالة اجتماع المثلين
وقد يعلل بها مختلفان غير متضادين كالحيض لحرمة الوطء ومس المصحف
وقد يعلل بها ملولان متضادان وعلى ذكر هذا القسم اقتصر في الكتاب وذلك لا يكون إلا بشرطين متضادين كالجسم يكون علة للسكون بشرط البقاء في الحيز وعلة للحركة بشرط الانتقال عنه وإنما قلنا يشترط فيهما شرطان لأنه لا يمكن اقتضاؤهما لها بلا شرط أصلا أو لبعضهما بشرط دون الآخر وإلا يلزم اجتماع الضدين وهو محال وإنما قلنا يشترط التضاد في الشرطين لأنه لو أمكن

اجتماعهما كالبقاء في الحيز مع الانتقال مثلا فعند حصول ذلك الشرطين إن حصل الحكمان أعني السكون والحركة لزم اجتماع الضدين
وإن حصل أحدهما دون الآخر لزم الترجيح دون مرجح وإن لم يحصل واحد منهما خرجت العلة عن أن تكون علة فتعين التضاد في الشرطين فاعتمد على هذا التقرير
قال الفصل الثاني في الأصل والفرع أما الأصل فشرطه ثبوت الحكم فيه بدليل غير القياس لأنه إن اتحدت العلة فالقياس على الأصل الأول وإن اختلفت لم ينعقد الثاني
ش للأصل شرائط الأول ثبوت الحكم فيه لأن القياس عبارة عن إثبات مثل حكم الأصل في الفرع كما عرفت ولا يتأتى ذلك إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل
والثاني أن يكون ذلك الثبوت بدليل لأن الحكم لا بد له من دليل وأن يكون شرعيا وهذا في الحقيقة شرط ثالث ولكن لما كان الحكم عندنا لا يكون إلا شرعيا لعدم القول بالحسن والقبح اكتفى المصنف بقول بدليل وأن يكون الدليل على معرفته سمعيا
وهذا وإن صلح لأن يكون شرطا رابعا فاكتفى المصنف عن ذكره بقوله بدليل أيضا لأن رأينا أن ما لا يكون طريق معرفته سمعيا لا يكون حكما شرعيا وهذا ظاهر على مذهبنا
وقال صفي الدين الهندي يحترز بالحكم الشرعي عن اللغوي والعقلي فأنا بتقدير أن يجري القياس التمثيلي فيهما فإنه ليس قياسا شرعيا بل لغويا وعقليا وكلامنا في اللغوي
ولقائل أن يقول إذا قلت بجريان القياس فيهما ترتب على ذلك أمر شرعي وهو تحريم النبيذ مثلا لصدق الخمر عليها قياسا
والثالث هو المشار إليه بقوله غير القياس وأنت إذا تأملت كلامنا قضيت

عليه بأنه خامس أن لا يكون الدليل الدال على حكم الأصل قياسا وهذا الشرط معتبر عند الجماهير من أصحابنا والحنفية
وخالف فيه بعض المعتزلة والحنابلة وأبو عبد الله البصري لنا أن العلة الجامعة بين القياسين إما أن تكون متحدة أو مختلفة فإن كان ذكر الأصل الثاني تطويلا بلا فائدة لأنه يستثنى عنه بقياس الفرع الثاني على الأصل الأول
مثاله كما لو قيل من جانبنا الوضوء عبادة فيشترط فيها النية قياسا على الغسل ثم نقيس الغسل في أنه يشترط فيه النية على الصلاة والصوم بجامع كونه عبادة فرض الوضوء إلى الصلاة والصوم بهذا الجامع أولى
وإن كان الثاني لم ينعقد القياس الثاني لعدم اشتراك الأصل والفرع فيه في علة الحكم كما يقال من جانبنا الجذام عيب يفسخ به البيع فيفسخ به النكاح قياسا على القرن والرتق ثم يقاس القرن على الجب في الحكم المذكور بجامع فوات الاستمتاع وهو غير موجود في الجذام فلا يصح قياسه عليه
فرع قد علمت أن حكم الأصل لا بد وأن يكون ثابتا بدليل سوى القياس ولا ينحصر الدليل المشار إليه في الكتاب والسنة بل جاز أن يكون إجماعا لأنه أصل في إثبات الأحكام فجاز القياس على ما ثبت به ولأنه إذا جاز القياس على ما ثبت بخبر الواحد فلأن يجوز على ما ثبت بالإجماع بطريق أولى ومن أصحابنا من قال لا يجوز القياس على ما ثبت بالإجماع بل يشترط أن يكون كتابا أو سنة حكاه الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع
قال وأن لا يتناول دليل الأصل الفرع وإلا لضاع القياس
ش الشرط الرابع أن لا يكون دليل الأصل بعينه دليل الفرع أي متناولا له وإلا لضاع القياس لخلوه عن الفائدة حينئذ بالاستثناء بدليل الأصل عنه ولأنه حينئذ لا يكون جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا أولى من العكس
مثاله ما لو قيل من جانبنا فضل لقاتل القتيل بالإسلام فلا يقتل به كما لو قتل المسلم الحربي

ثم استدل على علية الكفر لذلك بقوله صلى الله عليه و سلم لا يقتل مؤمن بكافر وكذا لو قسنا السفرجل على البر بجامع الطعم دالين عليه بقوله عليه الصلاة و السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام الحديث
قال وأن يكون حكم الأصل معللا بوصف معين الخامس لا بد وأن يظهر كون ذلك الأصل معللا بوصف معين لأن رد الفرع إليه لا يصح إلا بهذه الواسطة فلو ادعى عليه شيء مشترك بين الأصل والفرع منهم لم يقبل منه إلا عند بعض المتحذلقين من متأخري الجدليين حيث قلبوه في مجلس المناظرة قال غير متأخر عن حكم الفرع دليل سواه
ش السادس أن يكون حكم الأصل متأخر عن حكم الفرع وهو كقياس الوضوء على التيمم في اشتراط النية لأن التبعد بالتيمم إنما ورد بعد الهجرة والتبعد بالوضوء كان قبله
قال المصنف تبعا للإمام وهذا يستقيم إذا لم يكن للفرع دليل سوى القياس علة ذلك الأصل المتأخر لأن قبل ذلك المتأخر إن كان الحكم ثابتا في الفرع من أنه لا دليل عليه سوى القياس عليه لزم تكليف ما لا يطاق وأما إذا كان عليه دليل آخر سوى القياس عليه فيجوز كونه متأخرا لزوال المحذور المذكور
وترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز مليح وكتب الأصوليين إلا من نحا نحو الإمام ساكتة عن هذا التفصيل

ولقائل أن يقول إذا كان للفرع دليل آخر سواه فكيف يكون هذا الذي سميتموه بالأصل أصلا له وهو لم يتفرع عنه ولم ينبن عليه نعم هو صالح لأن يكون أصلا بمعنى أنه لو يوجد حكمة المستند إلى غير هذا الأصل لوجد مستندا إليه
قال وشرط الكرخي عدم مخالفة الأصول أو أحد أمور ثلاثة التنصيص على العلة والإجماع على التعليل مطلقا وموافقة أمور أخر والحق أنه يطلب الترجيح بينه وبين غيره
جعل الكرخي من شروط الأصل كونه غير مخالف في الحكم للأصول الثابتة في الشرع أو وجدان أحد أمور ثلاثة على تقدير مخالفته لها
أولها تنصيص الشارع على علة ذلك الحكم قال فإن التنصيص على علتيه كالتصريح بوجوب القياس عليه
وثانيها إجماع الأمة على تعليل ذلك ولا يضر مع هذا الإجماع إن يختلفوا في علته وإلى هذا أشار المصنف بقوله مطلقا
وثالثها أن يكون القياس عليه موافقا للقياس على أصول أخر كالتخالف عن اختلاف المتبايعين في قدر الثمن إذا لم يكن لأحد منهما بينة فإنه وإن كان مخالفا لقياس الأصول لأن قياس الأصول يقتضي قول المنكر إذ الأصل عدم شغل ذمته بما يدعيه البائع من القدر الزائد لكن ثم أصل آخر يوافقه وهو أن المشتري ملك المبيع علية فالقول قول من ملك عليه أصله الشفيع من المشتري إذا اختلفا في قدر ثمن الشقص فإن القول قول المشتري لأن الشفيع يملك عليه الشقص ولذلك قسنا في التحالف على الاختلاف ثمن المبيع ما عدا المبايعات من عقود المعاوضات كالسلم والإجازة والمساقاة والقراض والجعالة والصلح عن الدم والخلع والصداق والكتابة
وذهب أكثر أصحابنا وبعض الحنفية إلى جواز القياس على ما خالف قياس الأصول مطلقا والمختار عند المصنف تبعا للإمام أنه بطلب الترجيح بين ذلك الأصل وبين غيره من الأصول المخالفة له ويلحق الفرع بالراجح منهما هذا شرح ما في الكتاب والموضع يزيد بسطه في الكلام

وقد أحسن الغزالي في هذا الفصل ونحن لا نعد بكلامه فنقول من شروط حكم الأصل أن لا يكون خارجا عن قاعدة القياس وهذا مما أطلق وهو محتاج إلى تفصيل فاعلم أن وصف الحكم بهذه الصفة باعتبارات
الأول القاعدة المشروعية ابتداء من غير أن تقطع عن أصل آخر التي لا يعقل معناها فلا يقاس عليها لتعذر العلة
قال الغزالي فيسمى هذا خارجا عن القياس تجوز إذ معناه أنه ليس منقاسا لأنه لم يدخل في القياس حتى يخرج عنه ومثاله المقدرات في إعداد الركعات ونصب الزكوات ومقادير الحدود والكفارات وجميع التحكمات المبتدأة التي لا ينقدح فيها معنى
الثاني ما استثني عن قاعدة عامة ولا يعقل معناه من غير أن تنسخ تلك القاعدة قلا يقاس عليه أيضا لأنه فهم ثبوت الحكم في المستثنى على الخصوص وفي القياس إبطال الخصوص مثل تخصيصه عليه الصلاة و السلام خزيمة بقبول شهادته وحده وتخصيص أبي بردة في الأضحية بالعناق
الثالث ما استثني عن قاعدة لمعنى يعقل فهذا بقياس عليه مثاله استثناء العرايا فإنه لم يرد ناسخا لعلة الربا وإنما استثني فنقيس عليه العنب على الرطب وهذا القسم هو وقع فيه كلام المصنف واختلاف العلماء على الأقوال الثلاثة التي قد عرفها ولا يتجه جريان الخلاف في غيره
والرابع ما شرع مبتدأ غير متقطع عن أصول أخر وهو معقول المعنى لكنه عديم النظر فلا يقاس عليه لأنه لا يوجد له نظير خارج مما يتناوله النص والإجماع فالمانع من القياس فقد العلة في غير المنصوص معلل بعلة قاصرة ومثاله رخص السفر والمسح على الخفين رخصة المضطر في أكل الميتة وتعلق الأرش برقبة العبد وإيجاب غرة الجنين والشفعة في العقار وخاصية الإجارة والنكاح وحكم اللعان والقسامة ونظائرها
وعد الغزالي من جملتها ضرب الدية على العاقلة وذلك قول منه بأنها معقولة المعنى مخالف إمامه ويساعد ما أوردناه بحثا فيما تقدم فإن هذه القواعد

متباينة المأخذ فلا يقال بعضها خارج عن قياس البعض بلى لكل واحد معنى ينفرد به لا يوجد له نظير فليس البعض بأن يوضع أصلا ويجعل الآخر خارجا عن قياسه بأولى عن عكسه ولا ينظر فيه إلى كثرة العدد وقلته
وتحقيقه أنا نعلم أنه إنما جوز المسح على الخف لعسر النزع ومسيس الحاجة إلى استصحابه فلا نقيس عليه والقفازين وما لا يستر جميع القدم لا لأنه خارج عن القياس لكن لأنه لا يوجد ما يساويه في الحاجة وكذا رخصة السفر ثابتة للمشقة ولا يقاس عليها مشقة أخرى لأنه لا يشاركها غيرها في جملة معانيها ومصالحها لأن المرض لا يحوج إلى الجمع بل إلى القصر
وقد قصر في حقه بالرد من القيام إلى القعود ولما سواه في حاجة الفطر سوى الشرع بينهما وكذلك قولهم تناول الميتة للمضطر رخصة خارجة عن القياس غلط لأنه إن أريد به أنه لا يقاس عليه غير المضطر فلأنه ليس في معناه وإلا فنقيس الخمر على الميتة والمكره على المضطر فهو منقاس وكذلك بداية الشرع بأيمان المدعي في القسامة لشرف أمر الدم ولخاصية لا يوجد مثلها في غيره ولأنه عديم النظير وأقرب شيء إليه البضع
وقد ورد تصديق المدعي باللعان على ما يليق به وكذلك ضرب الدية على العاقلة كان ذلك رسم الجاهلية قرره الشرع لكثرة وقوع الخطأ وشدة الحاجة إلى ممارسة السلاح ونظير له في غير الدية وهذا مما يكثر وهو يعرف أن قول الفقهاء تأقت الإجارة خارج عن قياس البيع والنكاح خطأ كقولهم تأبد البيع والنكاح خارج عن قياس الإجارة فتأقت المساقات خارج عن قياس تأبد القراض خارج عن قياس تأقت المساقاة فإذن هذه الأقسام الأربعة لا بد من فهم تباينها بحصول الوقوف على سر هذا الأصل
الخامس ما شرع مبتدأ من غير اقتطاع عن أصول أخر وهو معقول المعنى وله نظائر وفروع فهذا هو الذي يجري فيه القياس وفي جزئياته تنافر القياسيين واضطراب آراء الجدليين
قال وزعم عثمان البتي قيام ما يدل على جواز القياس عليه وبشر

المريسي الإجماع عليه أو التنصيص على العلة وضعفهما ظاهر
ش هذان بحثان
الأول لا يشترط في الأصل أن يقوم دليل على جواز القياس عليه بحسب الخصوصية نوعية كانت أو شخصية بل كل حكم انقدح فيه معنى مخيل غلب على الظن إتباعه فإنه يجوز أن يقاس عليه
والثاني لا يشترط في الأصل انعقاد الإجماع على أن حكمه معللا وإن ثبتت عليته بالنص
وخالف عثمان البتي في الأول فزعم اشتراط قيام ما يدل على جواز القياس علية بحسب الخصوصية النوعية فإن كانت المسألة من مسائل البيع مثلا فلا بد من دليل على جواز القياس في أحكام البياعات أو في النكاح فكذلك
وخالف بشر بن غياث المريسي في الثاني فزعم اشتراط قيام الإجماع عليه أو التنصيص على العلة
قال صاحب الكتاب وضعفهما ظاهر يعني مذهب عثمان وبشر وهو كما قال فقد استعملت الصحابة رضي الله عنهم القياس من غير بحث عن ذلك وأيضا أدلة القياس مطلقة من غير تقييد باشتراط شيء مما ذكراه
قال وأما الفرع فشرطه ثبوت العلة فيه بلا تفاوت وشرط العلم به والدليل على حكمه إجمالا ورد بأن الظن يحصل بدونهما

ش ذكر المصنف مما اشترط في الفرع واحدا يوافق عليه وآخرين لا يوافق عليهما
أما الأول فأن تكون العلة الموجودة فيه مثل علة حكم الأصل من غير تفاوت البتة لا في الماهية ولا في القدر أي في النصفان فأما في الزيادة فلا يشترط إذ قد يكون في الفرع أولى كقياس الضرب على التأفيف
والدليل على هذا الشرط أن القياس إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم فإذا لم توجد علة حكم الأصل في الفرع لا يحصل إثبات حكمه فيه
وأما الثاني فشرط أن يكون وجود العلة في الفرع معلوما لا مظنونا
وأما الثالث فشرط دلالة دليل غير القياس على ثبوت الحكم في الفرع بطريق التفصيل وهذا ذكره أبو هاشم وقال لولا أن الشرع ورد بميراث الجد جملة لما نظر الصحابة رضي الله عنهم في توريث الجد مع الأخوة ورد المصنف هذين القولين بأن ظن ثبوت الحكم في الفرع يحصل بدون حصول هذين الأمرين والعمل بالظن واجب فلا يشترطان
ورد الغزالي إلى قول أبي هاشم بأن الصحابة رضي الله عنهم قاسوا قوله أنت علي حرام الطلاق والظهار واليمين ولم يكن ورد فيه حكم لا على العموم ولا على الخصوص
وقد أهمل المصنف من شروط الفرع كون حكمه مماثلا لحكم الأصل إما نوعا كقياس وجوب القصاص في النفس في صورة القتل بالمثقل على وجوبه فيها في القتل بالمحدد أو جنسا كإثبات ولاية النكاح على البنت الصغيرة بالقياس على إثبات الولاية في مالها فإن المماثلة إنما هي في جنس الولاية لا في نوعها وهذا شرط معتبر بلا شك ويدل عليه قولنا القياس إثبات مثل حكم معلوم في معلوم
فإن قلت كلامكم هنا ناطق بأن كون حكم الفرع مماثلا لحكم الأصل شرط

وكذا وجود العلة فيه بلا تفاوت وظاهر ما ذكرتم في تعريف القياس يقتضي أنهما ركنان إذ قلتم إنه إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم وإنما يذكر في الحد الأركان دون الشرائط
قلت الذي ذكرناه هنا أنه شرط للفرع وما ذكرناه في التحديد يقتضي أن يكون ركنا في القياس ولا امتناع في أن يكون الشيء ركنا لمجموع ويكون شرطا لبعض أجزائه كقراءة الفاتحة ركن في الصلاة وشرط لصحة القيام وكذلك التشهد بالنسبة إلى القعود بل أركان الصلاة كلها بهذه المثابة فإن بعضها شرط لصحة البعض الآخر
قال تنبيه يستعمل القياس على وجه التلازم ففي الثبوت يجعل حكم الأصل ملزوما وفي النفي نقيضه لازما مثل لما وجبت الزكاة في مال البالغ للمشترك بينه وبين مال الصبي وجبت في ماله ولو وجبت في الحلي لوجبت في اللآلئ قياسا عليه واللازم منتف فالملزوم مثله
ش القياس أكثر ما يستعمل لا على وجه التلازم ولما اشتمل الباب على الكثير منه نبه المصنف بهذه الجملة على أنه لا ينحصر في ذلك بل قد يستعمل أيضا على وجه التلازم وذلك بأنه يصرح فيه بصيغة الشرطية وذلك قد يكون في الإثبات وقد يكون في النفي فإذا استعمل في الثبوت يجعل حكم الأصل ملزوما لحكم الفرع وحكم الفرع لازما والعلة المشتركة بيانا للملازمة حتى يلزم من ثبوت حكم الأصل حكم الفرع وإذا استعمل في النفي جعل حكم الفرع ملزوما من ثبوت حكم الأصل حكم الفرع وإذا استعمل في النفي جعل حكم الفرع ملزوما ونقيض حكم الأصل لازما والعلة مشتركة دليلا على الملازمة حتى يلزم في الأول من وجود اللازم وفي الثاني من نفي اللازم نفي الملزوم
مثال الأول لما وجبت الزكاة في مال البالغ للعلة المشتركة بينه وبين مال الصبي وهي دفع حاجة الفقراء لزم أن تجب في مال الصبي ولو لم يستعمله على وجه التلازم لقلت تجب الزكاة في مال الصبي قياسا على البالغ بجامع دفع

حاجة الفقراء فجعلت في التلازم ما كان أصلا وهو مال البالغ ملزوما لما كان فرعا وهو مال الصبي والعلة المشتركة دليل الملازمة
ومثال الثاني لو وجبت الزكاة في الحلي لوجبت في اللآلئ واللازم منتف لأنها بإجماع الخصمين لا تجب في اللآلئ فالملزوم الذي هو الوجوب في الحلي مثله وبيان الملازمة اشتراكهما في المشترك وهو الزينة ولو لم تستعمله على وجه التلازم لقلت لا زكاة في الحلي قياسا على اللآلئ يجامع الزينة واعلم أن المقدمة المنتجة في جانب الثبوت قد استعمل المصنف فيها لما لإفادتها ذلك واستعمل في المنتجة في جانب النفي لفظه لو لدلالتها على امتناع الشيء لامتناع غيره وهذا منتهى القول في كتاب القياس والحمد لله وحده وصلى الله علي سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل
قال الكتاب الخامس في دلائل اختلف فيها وفيه بابان الأول في المقبولة منها وهي ستة الأول الأصل في المنافع الإباحة لقوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده أحل لكم الطيبات وفي المضار التحريم لقوله صلى الله عليه و سلم لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ش هذا الكتاب معقود للمدارك التي وقع الاختلاف بين المجتهدين المعتبرين في أنها هل هي مدارك للأحكام أم لا أولها الأصل في المنافع الأذن وفي المضار المنع خلافا لبعضهم وهذا بعد ورود الشرع وأما قبله فقد تقدم تقريره في مسألة حكم الأشياء قبل ورود الشرع واستدل المصنف على أن الأصل في المنافع الإباحة بآيات الأولى الشرع قوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا واللازم يقتضي التخصيص بجهة الانتفاع فيكون الانتفاع بجميع ما في الأرض جائزا إلا الخارج بدليل والثانية قوله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق أنكر على من حرم زينته فوجب أن يثبت حرمتها ولا

حرمة شيء منها وإذا انتفت الحرمة ثبتت الإباحة والثالثة قوله تعالى أحل لكم الطيبات واللام في لكم للاختصاص على جهة الانتفاع كما عرفت وليس المراد بالطيبات الحلال وإلا يلزم التكرار بل المراد ما تستطيعه النفوس واستدل على أن الأصل في المضار التحريم بما روى الدارقطني من قوله صلى الله عليه و سلم لا ضرر ولا ضرار قال النووي في الأذكار حديث حسن وجه الاحتجاج أن الحديث دال على نفي الضرر وليس المراد نفي وقوعه ولا إمكانه فدل على أنه لنفي الجواز ويدل عليه قوله صلى الله عليه و سلم في لفظ آخر للحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من ضار أضر الله به وإن انتفى الجواز ثبت التحريم وهو المدعى
تنبيه الضرر ألم القلب كذا قاله الأصوليون واستدلوا عليه بأن الضرب يسمى ضرارا وكذا تفويت المنفعة والشتم والاستخفاف فجعل اللفظ اسما للمشترك بين هذه الأمور وهو ألم القلب دفعا للاشتراك والذي قاله أهل اللغة أن الضرر خلاف النفع وهو أعم من هذه المقالة
قال قيل على الأول اللام تجيء لغير النفع كقوله تعالى وإن أسأتم فلها وقوله تعالى ولله ما في السموات قلنا مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أنها للملك ومعناه الاختصاص النافع بدليل قولهم الجل للفرس قيل المراد الاستدلال قلنا هو حاصل من نفسه فيحتمل على غيره ش اعترض على دليل إباحة المنافع بوجهين أحدهما أنا لا نسلم أن اللام تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع ويدل عليه قوله تعالى وإن أسأتم فلها وقوله ولله ما في السموات وما في الأرض إذ يمتنع في هاتين الآيتين أن تكون لاختصاص المنافع أما الأولى فلاستحالة حصول النفع في الإساءة وأما الثانية فلتنزهه تعالى عودة النفع إليه وأجاب بأن استعمال اللام فيما ذكرتم من الآيتين مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أن اللام موضوعة لملك ومعنى الملك الاختصاص النافع لأنه يصح إطلاقها عليه كما تقول الجل للفرس فيكون حقيقة في الاختصاص النافع ويحمل في غيره على المجاز دفعا للاشتراك واعترض القرافي على هذا الجواب

بأن جعلها حقيقة في مطلق الاختصاص أولى من الاختصاص النافع حذرا من الاشتراك والمجاز وموافقة لقول النحاة اللام للاختصاص بالمنافع خلاف الأصل وهو منقدح ولهم الجل للفرس لا دلالة فيه إلا على صحة استعمالها في الاختصاص النافع ولا يدل على نفي استعمالها في الاختصاص الذي لا ينفع ثم ادعى أن اللام للملك وفسره بالاختصاص النافع والملك أخص من الاختصاص النافع ألا ترى أن من لا يملك كالعبد يقدر الاختصاصات من الاصطياد والاحتطاب وغيرها وأيضا فهذه الدعوى تخالف قوله في القياس اللام للتعليل الثاني سلمنا أن اللام للاختصاص النافع ولكن لا يلزم منه إباحة جميع الانتفاعات بل المراد مطلق الانتفاع ويحمل على الاستدلال بالمخلوقات على وجود الخالق وأجاب بأن الاستدلال على الخالق يحصل لكل عاقل من نفسه إذ يصح أن يستدل بنفسه على خالقه فليحمل على الانتفاع في الآيات على غيره ولا يحمل عليه لامتناع تحصيل الحاصل فإن قلت لا نسلم أنه يلزم تحصيل الحاصل وهذا لأن الانتفاع بالاستدلال الثاني غير الانتفاع بالاستدلال بنفسه ضرورة أنه يحصل تأكيد العلم الأول قلت الدليل على كونه تحصيلا للحاصل أن الحاصل بالاستدلال الأول هو العلم بوجود الصانع وما هو من لوازمه والحاصل بالثاني هو هذا وقولك يحصل تأكيد العلم ممنوع بناء على أن العلم لا يقبل التأكيد سلمناه لكن الحمل على غير هذه الفائدة فائدة تأسيسية وهي أولى من التأكيدية سلمنا أن المراد مطلق الانتفاع ولكنه كما ذكرتم يصدق بصورة وإذا كان الانتفاع بفرد من أفراد الانتفاعات مأذون فيه لزم الإذن في الكل لأنه لا قائل بالفصل هذا شرح ما في الكتاب
واعتراض القرافي بعد تسليم أن الأخبار عن اختصاص الخلق بالمنافع بأن الانتفاع لا يدل على أنه لا حجر فيها لأنه صادق بأن الانتفاع لا يصدر إلا منا سواء كان مباحا أو محرما فجاز أن يصدق الاختصاص بالانتفاع مع الثواب على تركه أو ترك بعضه أو فعل بعضه كما تقول وطء النساء حلال لبني آدم لم يجعل لغيرهم في الوجود وإن عوقب على البعض
ولقائل أن يقول لا يصدق اختصاصهم بها مع صدق المعاقبة ولا تحصل المنة

مع ذلك أيضا واعترض صفي الدين الهندي على الاستدلال بقوله أحل لكم الطيبات بأنه لا يفيد العموم لأنه يجوز أن يكون للعهد وهو ما أحل في الشرع مما يستطاب طبعا وحينئذ لا يحمل على العموم لتقدم العهد عليه ولك أن تقول يلزم مما قررت أن يكون قوله أحل خبر إلا إنشاء والحمل على الإنشاء أولى لكونه أكثر فائدة على أنا لا نسلم أن ما أحل في الشرع يجوز أن يكون معهودا هنا لأنه لم يتقدم له ذكر في الكلام ولا تعلق بحال الخطاب والمعهود ليس إلا ما كان كذلك وأما الاستدلال بقوله قل من حرم زينة الله فهو مبني على أن المفرد المضاف يفيد العموم فإن قلت لا نسلمه ولو سلمناه فالدليل خاص بالزينة والدعوة عامة
قلت أما الأول فمبين في موضعه وأما الثاني فإذا دل على الزينة دل على ما لا زينة فيه من المنافع ضرورة أنه لا قائل بالفصل كما علمت نعم لقائل أن يقول الآية دالة على عدم الحرمة ولا يلزم من ذلك الإباحه إلا أن يستدل مع ذلك باللام في قوله أخرج لعباده من حيث أنها للإختصاص النافع على ما سلف
فائدة قد علمت قول الجماهير أن الأصل في المنافع الإباحة ولك أن تقول الأموال من جملة المنافع والظاهر أن الأصل فيها التحريم لقوله صلى الله عليه و سلم إن دماؤكم وأموالكم الحديث وهو أخص من الدلائل المتقدمة التي استدلوا بها على الإباحة فيكون فاضيا عليها إلا أنه أصل طارئ على أصل سابق فإن المال من حيث كونه من المنافع الأصل فيه الإباحة بالدلائل السابقة ومن خصوصية الأصل فيه التحريم بهذا الحديث
قال الثاني الاستصحاب حجة خلافا للحنفية والمتكلمين
ش الاستصحاب يطلق على أوجه أحدهما استصحاب العدم الأصلي وهو الذي عرف العقل نفيه بالبقاء على العدم الأصلي كنفي وجوب الصلاة سادسة وصوم شوال فالعقل يدل على انتفاء وجوب ذلك لا لتصريح الشارع لكن لأنه لا مثبت للوجوب فبقي على النفي الأصلي لعدم ورود السمع به والجمهور على العمل بهذا وادعى بعضهم فيه الاتفاق فإن قلت قصارى دلالة الاستصحاب الظن وعدم وجوب

الصلاة السادسة وصوم شوال قطعي فكيف يستفاد من الاستصحاب قلت عدم السمعي الناقل قد يكون معلوما كما في هذين المثالين ويدل الاستصحاب فيه على القطع وقد يكون مظنونا كعدم وجوب الوتر والأضحية وزكاة الخيل والحلي
والثاني استصحاب العموم إلى أن يرد مخصص وهو دليل عند القائلين به واستصحاب النص إلى أن يرد ناسخ وهو دليل على دوام الحكم ما لم يرد النسخ كما دل العقل على البراءة الأصلية بشرط أن لا يرد سمع متغير
الثالث استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه كالملك عند جريان فعل الملك وكشغل الذمة عند جريان إتلاف أو إلزام فإن هذا وإن لم يكن حكما أصليا فهو شرعي دل الشرع على ثبوته ودوامه جميعا ولولا دلالات الشرع على دوامه إلى حصول براءة الذمة لما جاز استصحابه فالاستصحاب ليس بحجة إلا مما دل الدليل على ثبوته ودوامه بشرط عدم المغير كما دل على البراءة العقلية وعلى الشغل السمعي وعلى الملك الشرعي
ومن هذا القبيل الحكم بتكرر الأحكام عند تكرار أسبابها كشهور رمضان ونفقات الأقارب عند مسيس الحاجات وأوقات الصلوات لأنه لما عرف حملة الشريعة قصد الشارع صلوات الله عليه إلى نصبها أسبابا وجب استصحابها ما لم يمنع منه مانع فإذن الاستصحاب عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي وليس راجعا إلى عدم العلم بالدليل بل إلى دليل مع العلم بانتفاء المغير أو مع ظن انتفاء المغير عند بذل الجهد في الطلب
والرابع استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف مثاله من قال إن المتيمم إذا رأى الماء في خلال الصلاة مضى في الصلاة لأن الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها وطريان وجود الماء كطريان هبوب الريح وطلوع الفجر وسائر الحوادث فنحن نستصحب دوام الصلاة حتى يدل الدليل على أن رؤية الماء قاطعة فهذا ليس بحجة عند كافة المحققين وذهب الصيرفي والمزني وأبو ثور إلى صحته وهو مذهب داود قال الشيخ أبو إسحاق وكان القاضي يعني أبا الطيب

يقول داود لا يقول بالقياس الصحيح وهنا يقول بقياس فاسد لأنه يحمل حالة الخلاف على حالة الإجماع من غير علة جامعة وللخصم في هذا أن يقول أجمعنا على أن رؤية الماء قبل الدخول في الصلاة مبطلة فكذا بعد الدخول استصحابا لحال وكذا إذا كان الكلام في زوال ملك المرتد بالردة ويؤدي ذلك إلى تكافؤ الأدلة وهذه الأقسام الأربعة وردها الغزالي كما ذكرناها
والخامس الاستصحاب المقلوب وهو استصحاب الحال في الماضي كما إذا وقع البحث في أن هذا المكيال مثلا هل كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقول القائل نعم إذ الأصل موافقة الماضي للحال وكما رأيت زيدا جالسا في مكان وشككت هل كان جالسا فيه أمس فيقضي بأنه كان جالسا فيه أمس استصحابا مقلوبا وأعلم أن الطريق في إثبات الحكم به يعود إلى الاستصحاب المعروف وذلك لأنه لا طريق له إلا قولك لو لم يكن جالسا أمس لكان الاستصحاب يفضي بأنه غير جالس الآن فدل على أنه كان جالسا أمس
وقد قال به الأصحاب في صورة واحدة وهي ما إذا اشترى شيئا وادعاه مدع وأخذه منه بحجة مطلقة فإن أطبق عليه الأصحاب ثبوت الرجوع له على البائع بل لو باع المشتري أو وهب وانتزع المال من المتهب أو المشتري منه كان للمشتري الأول الرجوع أيضا وهذا استصحاب للحال في الماضي فإن قيل السنة لا توجب الملك ولكنها تظهره فيجب أن يكون الملك سابقا على إقامتها ويقدر له لحظة لطيفة ومن المحتمل انتقال الملك من المشتري إلى المدعي ولكنهم استصحبوا مقلوبا وهو عدم الانتقال منه فيما مضى استصحابا للحال وقال الأصحاب فيما إذا وجدنا ركازا مدفونا في الأرض ولم يعرف هل هو من دفين الجاهلية أو الإسلام فالمنقول عن نصه أنه ليس بركاز وفيه وجه أنه ركاز لأن الموضع يشهد له وعلى هذا الوجه استصبحنا مقلوبا لأنه استدللنا بوجه أنه في الإسلام على أنه كان موجودا قبل ذلك
وإذا عرفت هذه الأقسام فنقول اختلف الناس في استصحاب الحال المشار إليه في القسم الثاني والثالث وكذا الأول إن لم نجعله محل وفاق على مذاهب بعد اتفاقهم على أنه لا بد من استفراغ الجهد في طلب الدليل وعدم وجدانه

أحدها أنه حجة وبه قال الأكثرون وهو مختار الإمام وأتباعه منهم المصنف
والثاني أن ليس بحجة وبه قال الحنفية كما نقله في الكتاب تعبا لغيره وكثير من المتكلمين والثالث ما اختاره القاضي أبو بكر في كتابه التقريب والإرشاد أنه حجة على المجتهد فيما بينه وبين الله تعالى فإن لم يكلف إلا أقصى الطلب الداخل في مقدوره على العادة فإذا فعل ذلك ولم يجد دليلا أخذ بنفي الوجوب ولا يسمع منه إذا انتصب مسؤولا في مجالس المناظرة فإن المجتهدين إذا تناظرا وتذاكرا طرق الاجتهاد فما يفي المجيب قوله لم أجد دليلا على الوجوب وهل هو في ذلك إلا مدع فلا يسقط عنه عهدة الطلبة بالدلالة وهذا التفصيل عندنا حق متقبل والرابع وهو المعمول به عند الحنفية كما صرح به أصحابهم في كتبهم أنه لا يصلح حجة على الغير ولكن يصلح لإبداء العذر والدفع ولذلك قالوا حياة المفقود باستصحاب الحال تصلح حجة لإبقاء ملكه لا في إثبات الملك له في مال مورثه والخامس أنه يصلح للترجيح فقط قال لنا أن ما ثبت ولم يظهر زواله ظن بقاؤه ولولا ذلك لما تقررت المعجزة لتوقفها على استمرار العادة ولم تثبت الأحكام الثابتة في عهده عليه السلام لجواز النسخ ولكان الشك في الطلاق كالشك في النكاح ولأن الباقي يستقي عن سبب أو شرط جديد بل يكفيه دوامها دون الحادث ويقل عدمه لصدق عدم الحادث على ما لا نهاية له فيكون دوامها راجحا ش استدل على حجية الاستصحاب بأوجه
أحدها أن ما علم حصوله في الزمان الأول ولم يظهر زواله ظن بقاؤه في الزمن الثاني ضرورة وحينئذ فيجب العمل به على علم من وجوب العمل بالظن
الثاني أنه لو لم يكن حجة لما تقررت المعجزة لأنها فعل خارق للعوائد ولا يحصل هذا الفعل إلا عند تقرير العادة ولا معنى للعادة إلا العلم بوقعه على وجه مخصوص في الحال يقتضي اعتقاد أنه لو وقع لما وقع إلا على ذلك الوجه وهذا عين الاستصحاب

الثالث أنه لو لم يكن حجة لم تكن الأحكام الثابتة في عهد النبي ثابتة في زماننا وتلازم باطل فكذا الملزوم وجه الملزمة أن دليل ثبوت الأحكام في زماننا هو اعتقاد استمرارها على ما كانت عليه وهذا هو الاستصحاب فإذا لم تكن حجة لم يمكن الحكم بثبوتها لجواز تطرق النسخ
الرابع لو لم تكن حجة لتساوي الشك في الطلاق والشاك في النكاح لاشتراكهما في عدم حصول الظن بما مضى وهو باطل اتفاقا إذ يباح للشاك في الطلاق دون الشاك في النكاح ولك أن تجعل هذه الأوجه الأربعة وجها واحدا في الدليل فنقول ما ثبت ولم يظهر زواله ظن بقاؤه لما تقررت المعجزة ولم تثبت الأحكام الثابتة في عهده عليه السلام ولتساوي الشك في الطلاق والنكاح وعلى ذلك جرى العبري في شرحه وكلام المصنف محتمل للأمرين فارن قوله ولولا ذلك يحتمل أن يريد ولولا حجة الاستصحاب وأن يريد ولولا ظن البقاء
الخامس أن الباقي لا يفتقر إلى سبب جديد وشرط جديد بل يكفيه دوام السبت والشرط أي لا يحتاج إلى مؤثر والحادث مفتقر إلى هذين فيكون الباقي راجحا في الوجود على الحادث والعمل بالراجح واجب فيجب العمل بالاستصحاب لا استلزامه العمل بالباقي وإنما قلنا إن الباقي مستغن عن المؤثر لأنه لو افتقر إليه فإما أن يصدر منه والحالة هذه أثر أو لا وهذا الثاني محال لأن فرض مؤثر مفتقر إليه مع أنه لم يصدر منه أثر البتة جمع بين النقضين الأول إن كان أثره عين ما كان حاصلا قبله فيلزم تحصيل الحاصل وإن كان غيره فيقتضي أن يكون الأثر الصادر عنه حادثا لا باقيا والفرض خلافه ولما كان افتقار الباقي إلى المؤثر يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة كان باطلا وأما كون الحادث مفتقرا إليه فمتفق عليه بين العقلاء هذا تقرير الدليل المذكور وعليه من الاعتراضات والأجوبة عنها ما لا يحتمل هذا الشرح ذكره قوله ويقل عدمه هذا يصلح أن يكون دليلا سادسا وأن يكون دليلا على أن الباقي راجح في الوجود على الحادث وتقريره أن عدم الباقي أقل من عدم الحادث

لأن عدم الحادث صادق على ما ليس له نهاية بخلاف عدم الباقي فإنه مشروط بوجود الباقي وهو متناه فلا يصدق على ما لا نهاية له وإذا وضح أن عدم الباقي أقل من عدم الحادث كان وجوده أكثر من وجوده والكثرة مرجحة والله أعلم
خاتمة قد علمت أن الاستصحاب هو ثبوت أمر في الثاني لثبوته في الأول لعدم وجدان ما يصلح أن يكون مغيرا بعد البحث التام وينشأ من هذا البحث في أن مجرد الظهور هل يصلح أن يكون معارضا له وهذه هي قاعدة الأصل والظاهر المشهور في الفقه وللشافعي فيما إذا تعارض أصل وظاهر غالبا قولان وقد أتينا في كتابنا الأشباه والنظائر أتمه الله تعالى في هذه القاعدة بعد تحقيقها من سرد فروعها ما تقر الأعين فعليك به وعلمت أيضا أن الأصل لا يدفع بمجرد الشك والاحتمال أخذا بالاستصحاب وهذا معنى القاعدة المشهورة في الفقه أن اليقين لا يرفع بالشك فإنه مع وجدان الشك لا يقين ولكن استصحاب لما تيقن في الماضي وهو الأصل وأطلق عليه اليقين مجازا وقد قال أبو العباس بن القاص لا يستثنى من هذه القاعدة إلا إحدى عشرة مسألة فيها بمجرد الشك وقد سردناها في الأشباه والنظائر وزدنا ما أمكن مع التحري في كل ذلك فلا نطل بذكره هنا
قال الثالث الاستقراء مثاله الوتر يؤدي على الراحلة فلا يكون واجبا لاستقراء الواجبات وهو يفيد الظن والعمل به لازم لقوله صلى الله عليه و سلم نحن نحكم بالظاهر
ش الاستقراء ينقسم إلى تام وناقص فأما التام فهو إثبات الحكم في جزئي لثبوته في الكلي وهو هو القياس المنطقي وهو يفيد القطع مثاله كل جسم متحيز فإنا استقرينا جميع جزئيات الجسم فوجدناها منحصرة في الجماد والنبات والحيوان وكل منها متحيز فقد أفاد هذا الاستقراء الحكم يقينا في كلي وهو قولنا كل جسم متحيز بوجود التحيز في جميع جزئياته وأما الناقص وفيه كلام المصنف فهو إثبات الحكم في كلي لثبوته في أكثر جزئياته وهذا هو المشهور بإلحاق الفرد بالأعم والأغلب ويختلف فيه الظن باختلاف الجزئيات فكلما كانت أكثر كان الظن أغلب وقد اختلف في هذا النوع واختار المصنف أنه

حجة تبعا لتاج الدين صاحب الحاصل وهو ما اختاره صفي الدين الهندي وبه نقول وقال الإمام الأظهر أنه لا يفيد الظن إلا بدليل منفصل ثم بتقرير الحصول يكون حجة وهذا يعرفك أن الخلاف الواقع في أنه هل يفيد الظن لا في أن الظن المستفاد منه هل يكون حجة
ولقائل أن يقول الدليل المنفصل لا يصير ما لا يفيد الظن مقيدا للظن فإن أراد بالدليل المنفصل ما يعضد الاستقراء فالمفيد للظن حينئذ هو مجموع المنفصل والاستقراء لا الاستقراء بالدليل المنفصل فالمنفصل وإن أراد بالدليل المنفصل ما يدل على أنه مفيد للظن أو أنه حجة فسوف يأتي به إن شاء الله تعالى
وقد مثل المصنف له بقولنا الوتر يصلي على الراحلة بالإجماع منا ومن الخصم أو بالدليل الذي عليه ولا شيء من الواجبات يؤدي على الراحلة لأنا استقرأنا القضاء والأداء من الظهر والعصر وغيرهما من الواجبات فلم نر شيئا منها يؤدي على الراحلة والدليل على أنه يفيد الظن أنا إذا وجدنا صورا كثيرة داخلة تحت نوع واحد وقد اشتركت في حكم ولم نر شيئا مما نعلم أنه منها خرج عند ذلك الحكم إفادتنا هذه الكثرة بلا ريب ظن أن ذلك الحكم وهو عدم الأداء على الراحلة في مثالنا هذا من صفات ذلك النوع وهو الصلاة الواجبة ومنهم من استدل عليه بأن القياس التمثيلي حجة عند القائلين بالقياس في الحكم الشرعي وهو أقل مرتبة من الاستقراء لأنه حكم على جزئي لثبوته في جزئي آخر والاستقراء حكم على جزئي كلي لثبوته في أكثر الجزئيات فيكون أولى من القياس التمثيلي وهذا مدخولا لأنه يشترط في إلحاق الجزئي بالجزئي الآخر أن يكون بالجامع الذي هو عليه الحكم وليس الأمر في الاستقراء بل حكم على الكل بمجرد ثبوته في أكثر جزئياته ولا يمنع عقلا أن يكون بعض الأنواع مخالفا للنوع الآخر في الحكم وإن اندرجا تحت جنس واحد وإذا كان مفيدا للظن كان العمل به لازما واستدل المصنف على ذلك مما روى من قوله صلى الله عليه و سلم نحن نحكم بالظاهر والله متولي السرائر وهو حديث لا أعرفه وقد سألت عنه

شيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي فلم يعرفه ولو استدل بأن العمل بالظن واجب لما تقدم من الأدلة لكفاه ذلك والله أعلم
قال الرابع أخذ الشافعي بأقل ما قيل إذا لم يجد دليلا كما قيل دية الكتابي الثلث وقد قيل النصف وقيل الكل بناء على الإجماع والبراءة الأصلية قيل يجب الأكثر ليتقن الخلاص قلنا حيث يتيقن الشغل والزائد لم يتيقن
ش ذهب إمامنا الشافعي رضوان الله تعالى عليه إلى أنه يجوز الاعتماد في إثبات الأحكام على الأخذ بأقل ما قيل ووافقه القاضي أبو بكر والجمهور وخالفه قوم مثاله اختلاف العلماء في دية اليهود قال بعضهم كدية المسلم وقال آخرون نصف ديته وقال آخرون بل الثلث فقط وأخذ به الشافعي رضي الله عنه ونحوه أيضا زكاة الفطر قال بعضهم خمسة أرطال وثلث وقال آخرون ثمانية أرطال فأخذ بالأول ونحوه أيضا النفاس واعلم أن هذه كما أشار المصنف بقوله بناء إلى آخره مبنية على قاعدتين أحدهما الإجماع والثانية البراءة الأصلية فإن الأمة لما أجمعت على ذلك الأول كالثلث في المثال الأول فإن من أوجب الكل أو النصف فقد أوجب الثلث ضرورة كونه بعضه فلكل مطبقون على وجوب الثلث وأما البراءة الأصلية فإنها تدل على عدم الوجوب في الكل ترك العمل بها في الثلث لحصول الإجماع عليه فيبقى الباقي على أصله ويصار إليه وإنما يتم هذا إذا لم يكن في الأمة من يقول بعدم وجوب شيء منها أو بوجوب أقل من الثلث فإن بتقدير ذلك لا يكون القول بوجوب الثلث قول كل الأمة وأن لا يكون هناك دليل دال على الأكثر فإن بتقدير ذلك لا يصح أن يتمسك بالبراءة الأصلية فإنها ليست بحجة مع الناقل السمعي فإن قلت هل الأخذ بأقل ما قيل تمسك بالإجماع قلت قال بعض الفقهاء ذلك وعزاه إلى الشافعي وهو خطأ عليه رضي الله عنه قال القاضي أبو

بكر ولعل الناقل عنه زل في كلامه وقال الغزالي هو سوء ظن به فإن الجمع عليه وجوب هذا القدر ولا مخالفة فيه والمختلف فيه سقوط الزيادة والإجماع فيه وقد علمت مما قررناه أنه ليس تمسكا بالإجماع وحده فإن قلت حاصل ما قررته أنه مركب من الإجماع وهو دليل بلا ريب ومن البراءة الأصلية وهي كذلك فما وجه جعله دليلا مستقلا برأسه وكيف يتجه ممن يوافق على الدليل المذكورين مخالفة الشافعي رحمه الله فيه فما هو إلا تمسك بمجموع هذين الدليلين الدال
أحدهما على إثبات الأقل والآخر على نفي الزيادة قلت هذا السؤال لم نزل نورده ولم يتحصل لها عنه جواب فإن قلت ما بال الشافعي اشترط أربعين في الجمعة وقد اكتفى بعض العلماء بثلاث واشترط سبعا في عدد الغسل من ولوغ الملك وقد اكتفى فيه بثلاث مرات قلت هذا سؤال لم يحط بالحقائق فالشافعي لم يخالف أصله لأن أصله الأخذ بالمتيقن وطرح المشكوك واتفق العلماء في صورة الجمعة والغسل من ولوغ الكلب بالخروج عن العهد بالأربعين وبالسبع واختلفوا في الخروج عنها بما دون ذلك فالأربعون السبع بمنزلة الأقل إذا أخذ الشافعي فيهما بالمتيقن فلا يتوهمن متوهم أنه أخذ بالأكثر فيما ذكر وإنما أخذ بالمتيقن ولا يقال قد اشترط بعض العلماء الخمسين في الجمعة وكان قياس هذا الأصل القول بالخمسين لأنا نقول وصح له دليل ينفي اشتراط الخمسين هذا ما انقدح لنا في وجوب هذا السؤال وهو ما اقتضاه إيراد الإمام أبي المظفر بن السمعان في القواطع حيث قال الأخذ بأقل ما قيل على ضربين
أحدهما أن يكون فيما أصله براءة الذمة فيختلف في قدره بعد الاتفاق على وجوبه كدية اليهودي وحكى وجهين للأصحاب فيه
والثاني أن يكون فيما هو ثابت في الذمة كالجمعة الثابت فرفضها فلا يكون الأخذ بالأقل دليلا لارتهان الذمة بها ولا تبرأ الذمة بالشك وهل يكون الأخذ بالأكثر دليلا فيه وجهان انتهى فجعل الأكثر هنا بمنزلة الأقل ثم ومن الناس من أجاب عنه بأن الشافعي لم يخالف أصله لأن شرطه عدم ورود دليل سمعي على الأكثر كما عرفت ولم يوجد هذا الشرط عنده فيما ذكرتم بل دل

الدليل على الأكثر فلم يمكن التمسك فيه بالبراءة الأصلية ويوضح ذلك أن بعض العلماء اشترط في الجمعة خمسين فلو أن الشافعي أخذ بالأكثر لاشتراط الخمسين فإن قلت فهل يقضون فيما إذا أحدث مجتهد أداه اجتهاده إلى إيجاب قدر أقل من الثلث بأن ذلك يصير مذهبا للشافعي رحمه الله لأنه أقل ما قيل حينئذ قلت هذا غير متصور لأن الاجتهاد مع قيام الإجماع خطأ ولو صدر من واحد لسفهنا كلامه وقضينا عليه بما نقضي على خارق الإجماع فإذا قلت هب أنه لم يوجد دليل سمعي سوى الإجماع لكن لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول قلت إنما لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول في الأمور الحقيقة لا في الشرعية التكليفية فإن تجويز ذلك يستلزم تكليف ما لا يطاق فإن قلت لا يلزم من عدم وجدانه عدم وجوده قلت هذا ساقط إن قلنا كل مجتهد مصيب وإلا فيصير حكم الله في حقه إذ ذاك ذلك الذي غلب على ظنه فيخرج عن العهدة وألا يلزم التكليف بما لا يطاق
قوله قيل يجب الأكثر تقرير هذا الاعتراض أنه ينبغي أن يجب الأكثر ليستيقن المكلف الخاص حينئذ وجوابه أن ذلك إنما يجب حيث تيقنا شغل الذمة لا حيث الشك والزائد على الأقل لم يتيقن فيه ذلك لعدم ثبوت الدليل عليه واعلم أن هذا الاعتراض يناسب من يقول بقاعدة الاحتياط والاحتياط أن يجعل المعدوم كالموجود والموهوم كالمحقق وما يبرئ على بعض التقديرات يلزم به وما لا يبرئ على كل التقديرات لا يلزم به ونأخذ بأقل القولين وأكثرهما ولعلنا نتعرض لهذه القاعدة في الأشباه والنظائر كملها الله تعالى وقد عضدت القول بها مرة بقوله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وهو استئناس حسن ذكرته لأبي أيده الله فأعجبه
قال الخامس المناسب المرسل إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية كتترس الكفار المقاتلين بأسارى المسلمين اعتبر وإلا فلا وأما مالك فقد اعتبرها مطلقا لأن اعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتبارها ولأن الصحابة رضي الله عنهم قنعوا بمعرفة المصالح
ش تقدم في كتاب القياس أن المناسب إما يعلم أن الشارع اعتبره أو الفاه

أو يجهل حاله وانفصل القول البليغ في القسمين الأولين والنظر هنا في الثالث وقد يعبر عنه بالمصالح المرسلة وبالاستصحاب وفيه مذاهب
أحدها المنع منه مطلقا وهو الذي عليه الأكثرون والثاني أنه معتبر مطلقا وهو المنقول عن مالك بن أنس رحمه الله والثالث ما اختاره المصنف أنه إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية اعتبرت وإن فات أحد هذه القيود الثلاثة لم تعتبر والضرورية ما تكون في الضروريات الخمس أعني الدين والعقل والنفس والمال والنسب والقطعية التي تجزم بحصول المصلحة فيها والكلية هي التي تكون موجبة لفائدة تعم جميع المسلمين ومثل ذلك بما إذا تترس الكفار حال التحام الحرب بأسارى المسلمين وقطعنا بأنا لو امتنعنا عن التترس لعدمونا واستولوا على ديارنا وقتلوا كافة المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما من دون جريمة صدرت منه فيجوز والحالة هذه رمية وهذا التفصيل مأخوذ من الغزالي رحمه الله ونحن نشبع القول فيه ثم نلتفت إلى الكلام مع مالك رضي الله عنه فنقول ما ذكرناه من المثال لا عهد به في الشريعة قال الغزالي فلا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد فنقول هذا الأسير مقتول بكل حال لأنا لو كففنا عن الترس لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا فحفظ المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا على قطع نعلم أن الشرع يقصد تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان فإن لم نقدر على الحسم فقد قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة بالشرع لا بدليل واحد بل أدلة خارجة عن الحصر ولكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب لم يشهد أصل معين فينقدح اعتبار هذه المصلحة باعتبار الأوصاف الثلاثة وهي كونها ضرورية قطعية كلية فليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم أنه لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة بنا إلى أخذ القلعة فيعدل عنها وليس في معناها إذا لم يقطع بظفرهم بنا فإنها ليست قطعية بل ظنية كذا قال الغزالي وهو إشارة إلى اعتبار القطع بحصول المصلحة وفي اشتراط القطع به وعدم الاكتفاء بالظن الغالب نظر
وقد حكى الأصحاب في مسألة الترس وجهين من غير تصريح منهم

باشتراط القطع وعللوا وجه المنع بأن غاية الأمر أن نخاف على أنفسنا ودم المسلم لا يباح بالخوف وهذا تصريح بجريان الخلاف في صورة الخوف ولا قاطع فيه وقد يقال إن المسألة في حالة القطع مجزوم باعتبارها والخلاف إنما هو في حالة الخوف وقد صرح الغزالي بذلك في المستصفي وقال إنه إنما يجور ذلك عند القطع أو ظن قريب من القطع وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا لنجوا وإلا غرقوا بحملتهم لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور ولعل مصلحة الذين في بقاء من طرح أعظم منها في بقاء من بقي ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يعين بالقرعة ولا أصل لها في الشرع وكذلك جماعة في مخصمة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا فلا رخصة فيه وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظا للروح فإنه ينقدح الرخصة فيه لأنه إضرار به لمصلحة وقد شهد الشرع بالإضرار لشخص في قصد صلاحه كالقصد والحجامة وغيرهما وكذلك قطع المضطر فلقة من فخذه إلى أن يجد الطعام هو كقطع اليد لكن بما يكون القطع سببا ظاهرا في الهلاك ويكون الخوف منه كالخوف في ترك الأكل أو أشد فيمنع منه وليس كذلك ما إن كان الخوف منه دون الخوف من ترك الأكل فإنه يجوز على الأصح بشرط أن لا يجد شيئا غيره فإن قلت فهل يجوزون أن يقطع لنفسه من معصوم غيره أو أن يقطع الغير للمضطر من نفسه قلت لا نجوزه لأنه ليس رعاية مصلحة أحدهما بالقطع له أولى من رعاية الآخر بترك القطع فإن قلت فالضرب بالتهتمة للاستنطاق بالسرقة مصلحة فهل تقولون به قلت قد قال به مالك رحمه الله ولكنا لا نقول به لا لإبطال النظر إلى جنس المصلحة لكن لما علمت من معارضة هذه المصلحة لمصلحة أخرى وهي مصلحة المضروب فربما يكون بريئا من الذهب فترك الضرب في مذنب أهون من ضرب برئ وإن كان فيه فتح باب يعسر معه انتزاع الأموال ففي الضرب فتح أبواب إلى تعذيب البرآء فإن قلت فالزنديق إذا تاب فالمصلحة في قتله وأن لا تقبل توبته وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فماذا ترون

قلت المسألة في محل الاجتهاد والذي نراه قبول توبته جريا على تعميم كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن غاية ظننا فيه أنه أسر الكفار ولسنا على قطع بذلك وقد صادم هذا الظهور بلفظه بكلمة الشهادة العاصمة عن القتل فلا يرجع إليه وهذا الذي رأيناه هو الذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه في المختصر وقطع به العراقيون وصححه المتأخرون وخالف فيه بعض الأصحاب واستعجل هذه المصلحة في تخصيص عموم الحديث وزعم الروياني أن العمل على ذلك وفي المسألة أوجه أخر ناظرة إلى ما يقوي الظن
فقال القفال الشاشي لا تقبل توبة المشاهير في الخبث كدعاة الباطنية وتقبل من عوامهم وقال الأستاذ أبو إسحاق إن أخذ ليقتل فتاب لم تقبل وإن جاء تائبا وظهرت إمارات الصدق قبلت وهو حسن وقال أبو إسحاق المروزي لا يقبل إسلام من تكررت ردته فإن قلت رب ساع في الأرض بالفساد بالدعوة إلى البدعة أو بإغراء الظلمة بأموال الناس وحرجهم وسفك دمائهم بإثارة الفتنة والمصلحة قتله لكف شره فما تقولون
قلت إذا لم يقتحم جريمة موجبة لسفك الدم فلا سبيل إلى قتله إذ في تجليد الحبس عليه كفاية شره فليست هذه المصلحة ضرورية فإن قلت فلو كان زمان فترة لم يقدر على تخليد الحبس فيه مع تبديل الولايات على قرب فليس في حبسه إلا إيغار صدره وتحريك داعيته
قلت هذا رجم وحكم بالوهم فربما لا يفلت وتتبدل الولاية والتنقل بتوهم المصلحة لا سبيل إليه فإن قلت إذا توقعنا من الساعي في الأرض بالفساد بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك وغلب ذلك على الظن بما عرف من طبيعته وعادته المجربة طول عمره
قلت قال الغزالي لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إليه قال بل هو أولى من التترس فإن هذا ظهرت جرائمه الموجبة للعقوبة فكأنه التحق بالحيوانات الضارية لما عرف من طبعه وسجيته ونحن نقول فيما ذكره الغزالي نظر بل الفرق بين هذا ومسألة التترس دعت الضرورة إلى المبادرة بحيث أنا لو لم نبادر

في الوقت الحاضر لاستأصلونا وأما هذا فجاز أن يهلكه الله تعالى قبل أن يصدر منه ما يتوقع في المستقبل ولا يتصور قطع في ذلك فإن قلت كيف يجوز هذا في مسألة الترس وها هنا على ما ذكر الغزالي وقد قدمتم في كتاب القياس أن المصلحة إذا علم إلغاؤها بمخالفة النص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملك المجامع في نهار رمضان وهذا يخالف قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا وقوله تعالى ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فإن زعمتم أن نخصص العموم بصورة ليس فيها خطر كلي فليخص العتق بصورة يحصل بها الانزجار على الجناية
قلت جعل الغزالي المسألة في محل الاجتهاد قال ولا يبعد المنع من ذلك ويتأيد بمسألة السفينة فإنه يلزم منه قتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها ترجيحا بالكثرة إذ لا خلاف في أن كافرا لو قصد قتل عدد مخصوص كعشرة مثلا وتترس بمسلم فلا يجوز لهم قتل الترس في الدفع بل حكمهم حكم عشرة أكرهوا على قتل أو اضطروا إلى أكل أحدهم
وإنما نشأ هذا من الكثرة ومن كونه كليا لكن الكلي الذي لا يحصره حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد ولهذا لو اشتبهت أخته بنساء بلدة حل له النكاح ولا يحل له إذا اشتبهت بعشرة أو عشرين ولا خلاف أنهم لو تترسوا بنسائهم أو ذراريهم قتلناهم وأن التحريم عاما لكن تخصيصه بغير هذه الصورة بل أبلغ من هذه الصورة أنه لو لم تكن المصلحة ضرورية
وإنما كانوا يدفعون بهم عن أنفسهم واحتمل الحال تركهم لجاز رميهم على أحد قولي الشافعي رحمه الله لئلا يتخذ ذلك ذريعة للجهاد فإذا خصص العموم بما ذكرناه كذلك ها هنا التخصيص ممكن وقول القائل هذا سفك دم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها ونحن نعلم أن الشرع يؤثر حفظ الكلي على الجزئي وأن حفظ أصل الإسلام عن اصطدام

الكفار أهم في مقصود الشرع من دم مسلم واحد فهذا مقطوع به من جهة الشرع والمقطوع به لا يحتاج إلى شهادة أصل فإن قلت فتوظيف الخراج من المصالح فهل إليه سبيل أم لا قلت لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود
أما إذا خلت الأيدي ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر ولو تفرق العسكر أو اشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام أو خيف ثوران الفتنة من أهل الغرامة في بلاد الإسلام فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج لأنا نعلم أنه إذا تعارض ضرران دفع أشدهما وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة بحفظ نظام الأمور وبقطع مادة الشرور وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة بأن لولي الطفل عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية وكل ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه وهذا أيضا يؤيد مسلك الترجيح في مسألة التترس لكن هذا تصرف في الأموال والأموال بذلة محور ابتذالها في الأغراض التي هي أهم منها
وإنما الخطر سفك دم المعصوم من غير ذنب فإن قلت أجرة الجلاد في الحدود والقاطع في السرقة إذا قلنا حدا لوجهين وهو أنها تجب من بيت المال لا على المجلود والسارق المقطوع ولم يكن في بيت المال ما يمكن صرفه إليه فهل للإمام أخذها من الأغنياء
قلت يأخذ من الأغنياء إذا لم تكن مندوحة عن ذلك وهنا مندوحة فليستقرض على بيت المال إلى أن يجد سعة فإن لم يجد من يفرضه فعل ذلك على أن القاضي الروياني جوز أن تستأجر بأجرة مؤجلة أو من يستخير من يقوم به على ما يراه قال الرافعي والاستئجار قريب والتخيير بعيد وبتقدير أن يجوز ذلك فيجوز أن يأخذ الأجرة من يراه من الأغنياء ويستأجر به فإن قلت فما قولكم في المصالح الجزئية المتعلقة بالأشخاص مثل المفقود زوجها وكذلك إذا عقد وليان أو وكيلان نكاحين وأحدهما سابق وأستبهم الأمر ووقع اليأس على البيان هل ينفسخ النكاح بالمصلحة أم تبقى المرأة محبوسة طول العمر عن

الأزواج ومحرومة في الصورة الثانية عن زوجها المالك في علم الله وكذلك المرأة إذا تباعد حيضها ما شاء الله وتعوقت عدتها وبقيت ممنوعة من النكاح هل يجوز لها الاعتداد بالأشهر أو يكفي بتربصها أربع سنين فكل ذلك مصلحة ودفع ضررها ونحن نعلم أن دفع الضرر مقصود شرعا
قلت المسألتان الأوليان مختلف فيهما فهما في محل الاجتهاد فقد قال في القديم تنكح زوجته المفقودة بعد أربع سنين ولكن الجديد هو الصحيح فإنه يبعد الحكم بموته من غير بينه إذ لا ندارس الأخبار أسباب سواء الموت لا سيما في حق الحامل الذكر النازل القدر وإن فسخنا فالفسخ إنما يثبت بنص أو قياس والمنصوص أعذار وعيوب من جهة الزوج من إعسار وجب وعنة وإذا كانت النفقة دائمة فغايته الامتناع من الوطء وذلك في الحضر لا يؤثر فكذا في الغيبة لإيقاع سبب الفسخ رفع الضرار عنها ورعاية جانبها لأنه معارض برعاية جانبه وفي تسليم زوجته إلى غيره بفتنة ولعله محبوس أو غير ذلك إضرار به فقد تقابل الضرران وما من ساعة إلا وقدوم الزوج فيها ممكن
وأما مسألة الأولين فإن علم سبق أحدهما ولم يعلم عينه فباطلان على المذهب المنصوص وأن سبق معين ثم خفي فالمذهب الوقف حتى يتبين وقيل فيه قولان فلو قبل بالفسخ من حيث تعذر إمضاء العقد لم يكن حكما بمجرد مصلحة بل معتضدا بأصل معين وأما تباعد الحيضة فلا خلاف فيها في مذهب الشافعي
وقد أوجب الله تعالى التربص بالإقراء إلا على اللائي يئسن وليس هذه منهن وما من لحظة إلا ويتوقع هجوم الحيض فهذا عذر نادر لا يسلطنا على تخصيص النص قال الغزالي وكان لا يبعد عندي لو اكتفى بأقصى مدة الحمل وهو أربع سنين لكن لما وجبت العدة مع تعليق الطلاق على يقين البراءة غلب العبد قلت وقد قال في القديم فيما إذا انقطع دمها لا لعلة تعرف أنها تترابص بسبعة أشهر وفي قول أربع سنين وفي قول مخرج ستة أشهر ثم تنتقل إلى الأشهر فإن قلت فقد ملتم في أكثر هذه المسألة إلى القول بالمصالح فلم لم

تلحقوا هذا الأصل بالكتاب والسنة والإجماع والقياس وتجعلوه أصلا خامسا قلت من ظن أنه أصل خامس خطأ لانا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع وهي معروفة بالكتاب والسنة والإجماع فكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودا بهذه الأدلة فليس هذا خارجا عن هذه الأصول لكنه لا يسمى قياسا بل مصلحة مرسلة إذ القياس له أصل معين وكون هذه المعاني مقصودة عرفت بلا دليل واحد بل بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الإمارات فسمى لذلك مصلحة مرسلة
قال الغزالي وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف فيها بل نقطع بكونها حجة وحيث جاء خلاف فهو عند تعارض مصلحتين ومقصودين وعند ذلك يرجح الأقوى
ولذلك قطعنا بكون الإكراه مبيحا لكلمة الكفر والشرب لأن الحذر من سفك الدم أشد من هذه الأمور ولا يباح به الزنا لأنه في مثل محذور الإكراه فإذن منشأ الخلاف في مسألة الترس الترجيح إذ الشرع ما رجح الكثير على القليل في مسألة السفينة ولا رجح الجزئي على الكلي في قطع اليد المتآكلة وهل يرجح الكلي على الجزئي في مسألة الترس فيه خلاف فإن قلت لا ننكر أن مخالفة مقصود الشرع حرام ولكن لا نسلم أن هذه مخالفة قلت قهر الكفار واستعلاء الإسلام مقصود وفي هذا استئصال الإسلام واستعلاء الكفر فإن قلت فالكف عن المسلم الذي لم يذنب مقصود قلت اضطررنا إلى مخالفة أحد المقصودين ولا بد من الترجيح والجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي فإن قلت لا نسلم أن الجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي فإن ذلك لا يعرف إلا بنص أو قياس قلت عرف ذلك لا بنص واحد بل بتفاريق أحكام واقتران دلالات لم يبق معها الشك في أن حفظ خطة الإسلام ورقاب المسلمين أهم في مقاصد الشرع من حفظ شخص معين في ساعة أو نهار وسيعود إليه الكفار بالقتل
وهذا كما أبحنا أكل مال الغير بالإكراه لعلمنا بحقارة المال في ميزان الشرع بالإضافة إلى الدماء وكما قلنا في مسألة السفينة أنه لو كان فيها مال

لوجب الفاه لأن المفسدة في فواته أخف من المفسدة في فوات أرواح الناس فإن قلت لو علمنا أنهم لا يقتلون الترس بعد استئصال الإسلام فما ترون
قلت الذي لاح من كلام الغزالي أولا وآخرا أن الجواز إنما هو حالة العلم باستئصال الأسارى أيضا ولكن كلام الأصحاب في حكاية الخلاف مطلق والذي يظهر لي إطلاق الجواز فإن حفظ الجمع العظيم الخارج عن حد الحصر مع خطة الدين وإعلاء كلمة الإسلام أهم في مقاصد الشرع من حفظ عشرة أنفس مثلا يصيرون مستأسرين تحت ذل الكفر فإن قلت فهلا فهمتم أن حفظ الكثير أهم من حفظ القليل في مسألة السفينة والإكراه والمخصمة
قلت إن الإجماع قام وهو لا يصادم على أنه لو أكره شخصان على قتل شخص لا يحل لهما قتله وأنه لا يحل لمسلم أكل مسلم في المخصمة فمنع الإجماع من ترجيح الكثرة بمجردها أما ترجيح الكلي فمعلوم إما على القطع أو بظن قريب منه لم يقم دليل على خلافه فقد علمت بما أوردناه وغالبه من كلام الغزالي أنه يجوز أتباع المصالح بالشروط التي سردناها وبأن لك أن الاستصلاح ليس أصلا خامسا برأسه بل من استصلح فقد شرع كما أن من استحسن فقد شرع فلنلتفت إلى الكلام مع إمام دار الهجرة مالك رضي الله عنه حيث اعتبر جنس المصالح مطلقا وقد نقل ناقلون هذا عن الشافعي رحمه الله ولم يصح عنه والذي نقله عنه إمام الحرمين أنه لا يستجيز التنائي والإفراط في البعد وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاقا وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول قارة في الشريعة
واختار إمام الحرمين ذلك أو نحوا منه وإذا حقق التفصيل الذي ذكرناه عن الغزالي لم يكن بعيدا من هذا إذا عرفت هذا فنقول قال إمام الحرمين الذي ننكره من مذهب مالك ترك رعاية ذلك وجريانه على استرساله في الاستصواب من غير اقتصاد ونحن نعرض على مالك واقعة وقعت نادرة لا يعهد مثلها ونقول له لو رأى ذو نظر فيها جذع أنف أو اصطلاح شفة وأبدى رأيا لا تنكره العقول صائرا إلى أن العقوبات مشروعة لحسم الفواحش وهذه العقوبة لائقة بهذه النازلة للزمك التزام هذا لأنك تجوز لأصحاب الإيالات القتل

في التهم العظيمة حتى نقل عنك الثقات أنك قلت أقتل ثلث الأمة في استيفاء ثلثيها ثم إنا نقول ثانيا أيجوز التعلق بكل رأي فإن أبى ذلك لم نجد مرجعا يفر عنه إلا ما ارتضاه الشافعي من اعتبار المصالح المشبه بما علم اعتباره وإن لم يذكر ضابطا وصرح بأن ما لا نص فيه ولا أصل له فهو مردود إلى الرأي واستصواب ذوي العقول فهذا الآن اقتحام عظيم وخروج عن الضبط كما ذكر القاضي أبو بكر حيث قال المعاني إذا حضرتها الأصول وضبطتها المنصوصات كانت منحصرة في ضبط الشرع فإذا لم يشترط استنادها إلى الأصول لم تنضبط ويتسع الأمر ويرجع إلى اتباع وجوه الرأي واقتفاء حكمة الحكماء ويصير ذوو الأحلام بمثابة الأنبياء حاش الله ثم لا ينسب ما يرونه إلى ربقة الشريعة وهذه ذريعة في الحقيقة إلى إبطال أبهة الشريعة ومصير إلى أن كلا يفعل ما يرى ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون والزم إمام الحرمين مالكا رضي الله عنه إن قال بالتمسك بكل رأي من غير فرق ومداناة بأن العاقل ذا الرأي العالم بوجوه الآيات إذا أرجع المفتتن في واقعة فاعلموه أنها ليست بمنصوصة ولا أصل يصاهيها بأن يسوغ له والحالة هذه أن يعمل بالصواب عنده والأليق بطرق الاستصلاح قال وهذا مركب صعب مساقه رد الأمر إلى عقول العقلاء واحتكام الحكماء ونحن على قطع نعلم أن الأمر بخلاف ذلك ثم وجوه الرأي تختلف بالبقاع والأصقاع والأوقات وعقول العقلاء تتباين فيلزم اختلاف الأحكام باختلاف كل ذلك
وهذا لا يلزم فيما له أصل وتقريب قال ولو شاع هذا لا اتخذ العقلاء أيام كسرى أنوشروان في العدل والإيالات معتبرهم وهذا يخرجنا الاستقلال به
وهذه الجملة التي أوردناها مجموعة من كلام إمام الحرمين في البرهان وهذا الإلزام الذي ذكره أخيرا لا يلزم مالكا لأنه يشترط في اتباع المصلحة أن لا يناقض أمرا مفهوما من الشريعة والعامي من أين يعلم هذا والمانع من مناقضة ما يراه من الرأي لقواعد الشريعة وقد احتج مالك بوجيهن أشار إليهما في الكتاب
أحدهما أن الشارع اعتبر جنس المصالح في جنس الأحكام واعتبار جنس

المصالح يوجب ظن اعتبار هذه المصلحة لكونها من جملة أفرادها والعمل بالظن واجب
والثاني أن المتتبع لأحوال الصحابة رضي الله عنهم يقطع بأنهم كانوا يقنعون بمجرد معرفة المصالح في الواقع ولا يبحثون عن وجود أمر آخر وراءها فكان ذلك منهم إجماعا على وجوب اعتبار المصالح كيف كانت ولم يتعرض المصنف للجواب عن هاتين الشبهتين ونحن نقول في الجواب عن الأولى ليس اعتبار المصالح المرسلة بمجرد مشاركتها للمصالح التي اعتبرها الشارع في كونها مصالح بأولى من إلغائها لمشاركتها للمصالح التي ألقاها الشارع في ذلك فيلزم اعتبارها وإلقاؤها وعن الثانية لا نسلم أن الصحابة رضي الله عنهم قنعوا بمجرد معرفة المصالح وسند المنع أنه لو كان كذلك لم ينعقد الإجماع بعدهم على إلغاء بعض المصالح فدل على أنهم لم يعتبروا من المصالح إلا ما اطلعوا على اعتبار الشرع نوعه أو جنسه القريب فإن الشارع لم يعتبر المصالح مطلقا بل بقيود وشرائط لا تهتدي العقول إليها إذ غاية العقل أن يحكم بأن جلب المصلحة مطلوب لكن لا ينتقل بإدراك الطريق الخاص لكيفيته فلا بد من الإطلاع على ذلك الطريق بدليل شرعي مرشد إلى المقصد فقبله لا يمكن اعتبار المصالح فإن قيل فبأي طريق أبلغ الصحابة رضي الله عنهم حد الشرب إلى ثمانين فإن كان مقدرا فقد زادوا بالمصلحة وإن كان تعذيرا غير مقدر فلم افتقر إلى التشبيه بحد القذف وكيف بلغ الحد
قلنا الصحيح أنه لم يكن مقدرا لكن ضرب الشارب في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالنعال وأطراف الثياب مقدار ذلك على سبيل التعديل والتقويم بأربعين فرأوا المصلحة في الزيادة فزادوا و التقديرات مفوضة إلى رأي الأئمة فكأنه يثبت بالإجماع أنهم أمروا بمراعاة المصلحة وقيل اعملوا بما رأيتموه أصوب بعد صدور الجناية الموجبة للعقوبة ومع هذا فلم يريدوا الزيادة على تقرير فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا بتقريب من منصوصات الشرع فرأوا الشرب مظنة القذف لأن من سكر هذا ومن هذا افترا ومظنة الشيء تقام مقام الشيء كما يقام النوم مقام الحدث والوطء مقام شغل الرحم والبلوغ مقام نفس العقل والله أعلم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7