كتاب : القواعد في الفقه الإسلامي
المؤلف : أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي

الْمَظْلُومِ فِي نَفْسِهِ بِالْمَشِيئَةِ; لاِنَّهَا تَرْفَعُ الْحُكْمَ بِالْكُلِّيَّةِ فَهُوَ, كَالنَّسْخِ, فَلاَ يَصِحُّ بِالنِّيَّةِ إلاَ مَعَ الْعُذْرِ, بِخِلاَفِ شُرُوطِ الطَّلاَقِ وَنَحْوِهَا, فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِالنِّيَّةِ مُطْلَقًا; لاِنَّهَا مُخَصَّصَةٌ لاَ رَافِعَةٌ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَلَهُ صُوَرٌ.
منها: إذَا نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالٍ وَنَوَى فِي نَفْسِهِ قَدْرًا مُعَيَّنًا, فَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ, وَخَرَّجَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْهِدَايَةِ اللُّزُومَ قَالَ: وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمًا أَوْ صَلاَةً وَنَوَى فِي نَفْسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مَا نَوَاهُ, وَهَذَا مِثْلُهُ, وَكَذَلِكَ رَجَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ اللُّزُومَ فِيمَا نَوَى فِي الْجَمِيعِ, وَكَذَلِكَ ذَكَرَ صَاحِبُ الْكَافِي أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ لَحْمًا أَوْ فَاكِهَةً أَوْ لَيَشْرَبَنَّ مَاءً أَوْ لَيُكَلِّمَنَّ رَجُلاً أَوْ لَيَدْخُلَنَّ دَارًا وَأَرَادَ بِيَمِينِهِ مُعَيَّنًا تَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ, وَإِنْ نَوَى الْفِعْلَ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ اخْتَصَّ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلاَفًا.
وَمنها: لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى ثَلاَثًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ الثَّلاَثُ أَمْ لاَ يَقَعُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَجْهُ الْقَوْلِ بِلُزُومِ الثَّلاَثِ: إنَّ طَالِقًا اسْمُ فَاعِلٍ, وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى مَن قَامَ بِهِ الْفِعْلُ مَرَّةً وَأَكْثَرَ, فَيَكُونُ مُحْتَمِلاً لِلْكَثْرَةِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهَا بِالنِّيَّةِ. وَرَأَيْت فِي كِتَابِ شَرْحِ الْقَوَافِي لاِبْنِ جِنِّي أَنَّ الأَفْعَالَ كُلَّهَا لِلْعُمُومِ, وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ وَهُوَ غَرِيبٌ, وَأَمَّا إذَا قَالَ ثَلاَثًا فَتَطْلُقُ ثَلاَثًا لَكِنْ لَنَا فِيهِ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثَلاَثًا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ طَلاَقًا ثَلاَثًا وَالْمَصْدَرُ يَتَضَمَّنُ الْعَدَدَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ ثَلاَثًا صَالِحٌ لإيَقَاعُ الثَّلاَثُ مِنْ طَرِيقِ الْكِنَايَةِ, وَذَكَرَ الطَّلاَقَ يُقَرِّرُ الإِيقَاعَ بِهَا, كَنِيَّةِ الطَّلاَقِ, وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْمَأْخَذَيْنِ هَلْ وَقَعَ الثَّلاَثُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ, أَمْ بِقَوْلِهِ ثَلاَثًا, وَلَوْ مَاتَتْ مَثَلاً فِي حَالِ قَوْلِهِ ثَلاَثًا هَلْ تَقَعُ الثَّلاَثُ أَوْ وَاحِدَةٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي التَّرْغِيبِ, وَهَذَا إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِنَا: أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى ثَلاَثًا أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الثَّلاَثُ, أَمَّا إذَا قُلْنَا لاَ يَقَعُ الثَّلاَثُ بِالنِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ الثَّلاَثُ إلاَ بِقَوْلِهِ ثَلاَثًا بِغَيْرِ خِلاَفٍ.
وَمنها: إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى اسْمٍ مُطْلَقٍ وَنَوَى تَعْيِينَهُ قَبْلَ الْعَقْدِ فَهَلْ يَصِحُّ أَمْ لاَ؟ قَدْ سَبَقَ لَنَا أَنَّ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَجْهَيْنِ إذَا قَالَ زَوَّجْتُك بِنْتِي وَلَهُ بَنَاتٌ وَنَوَيَا وَاحِدَةً مُعَيَّنَةً, وَإِنَّ مَأْخَذَ الْبُطْلاَنِ اشْتِرَاطُ الشَّهَادَةِ عَلَى النِّكَاحِ, وَهَذَا يَقْتَضِي صِحَّةَ سَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي لاَ يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الشَّهَادَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَصَرَّحَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ مُطْلَقٍ فِي الذِّمَّةِ وَنَوَى نَقْدَهُ مِنْ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ وَنَقَدَهُ مِنْهُ فَهَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلاً كَمَا لَوْ وَقَعَ عَلَى عَيْنِ الْمَغْصُوبِ أَوْ يَكُونُ صَحِيحًا عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنَّمَا خَرَّجَ الْخِلاَفَ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ بِالنِّيَّةِ دُونَ تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِهَا; لاِنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ نَقْصٌ مِنْهُ وَقَصْرٌ لَهُ

عَلَى بَعْضِ مَدْلُولِهِ, وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ وَالإِرَادَةِ فَهِيَ الْمُخَصِّصَةُ حَقِيقَةً, وَإِنَّمَا تُسَمَّى الأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّخْصِيصِ مُخَصَّصَاتٍ لِدَلاَلَتِهَا عَلَى الإِرَادَةِ الْمُخَصَّصَةِ, وَهَذَا بِخِلاَفِ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى مَدْلُولِهِ فَلاَ تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا يُنْتَقَضُ عَلَيْكُمْ بِتَعْمِيمِ الْخَاصِّ بِالنِّيَّةِ فَإِنَّهُ إلْزَامُ زِيَادَةٍ عَلَى اللَّفْظِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ, قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْخَاصَّ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ كَانَ نَصًّا عَلَى الْحُكْمِ فِي صُورَةٍ لِعِلَّةٍ, فَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ إلَى كُلِّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ, وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْمُطْلَقِ إذَا أُرِيدَ بِهِ بَعْضُ مُقَيَّدَاتِهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فَلَهُ صُوَرٌ:
منها: لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ إلاَ وَاحِدَةً. فَهَلْ يَلْزَمُهُ الثَّلاَثُ فِي الْبَاطِنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَلْزَمُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَصَاحِبِ الْحَلْوَانِيِّ.
وَالثَّانِي: يَقَعُ بِهِ الثَّلاَثَةُ فِي الْبَاطِنِ وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ السَّامِرِيُّ فِي فُرُوقِهِ, وَصَاحِبُ الْمُغْنِي, وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ; لاِنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَصْرِفُ اللَّفْظَ إلَى مُحْتَمَلٍ وَلاَ احْتِمَالَ فِي النَّصِّ الصَّرِيحِ, إنَّمَا الاِحْتِمَالُ فِي الْعُمُومِ, وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: النِّيَّةُ فِيمَا خَفِيَ لَيْسَ فِيمَا ظَهَرَ.
وَمنها: لَوْ قَالَ نِسَائِي الأَرْبَعُ طَوَالِقُ وَاسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ فُلاَنَةَ فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا.
وَمنها: لَوْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ لِي حُرٌّ وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ بَعْضَ عَبِيدِهِ, فَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي صِحَّتِهِ رِوَايَتَيْنِ, وَلَكِنْ صِحَّةُ الاِسْتِثْنَاءِ هُنَا أَظْهَرُ, وَفِي كَلاَمِ أَحْمَدَ فِي مَسْأَلَةِ الأَشْقَاصِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ; لاِنَّ كُلاً وَإِنْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً لاِسْتِغْرَاقِ مَا يُضَافُ إلَيْهِ, إلاَ أَنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ الْقَابِلَةِ للتخصيص فِي الْجُمْلَةِ.
تَنْبِيهٌ حَسَنٌ: فَرَّقَ الأَصْحَابُ بَيْنَ الإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ فِي الأَيْمَانِ فِي مَسَائِلَ, وَقَالُوا فِي الإِثْبَاتِ: لاَ يَتَعَلَّقُ الْبِرُّ إلاَ بِتَمَامِ الْمُسَمَّى, وَفِي الْحِنْثِ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِهِ عَلَى الصَّحِيحِ, وَقَالُوا: الأَيْمَانُ تُحْمَلُ عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ وَالشَّارِعِ إذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِجُمْلَتِهِ وَأَبْعَاضِهِ, وَإِذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ لَمْ يَحْصُلْ الاِمْتِثَالُ بِدُونِ الإِتْيَانِ بِكَمَالِهِ. فَأَخَذَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مِنْ هَذَا أَنَّ الْيَمِينَ فِي الإِثْبَاتِ لاَ تَعُمُّ وَفِي النَّفْيِ تَعُمُّ, كَمَا عَمَّتْ أَجْزَاءَ الْمَحْلُوفِ, قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ خِلاَفِهِ أَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ فِي النَّفْيِ دُونَ الإِثْبَاتِ. قَالَ الشَّيْخُ: وَهَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ فِي الأَيْمَانِ, وَقَرَّرَهُ بِأَنَّ الْمَفَاسِدَ يَجِبُ اجْتِنَابُهَا كُلَّهَا, بِخِلاَفِ الْمَصَالِحِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ تَحْصِيلُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ منها:; فَإِذَا وَجَبَ تَحْصِيلُ مَنْفَعَةٍ لَمْ يَجِبْ تَحْصِيلُ أُخْرَى مِثْلِهَا لِلاِسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِالْأُولَى, وَكَلاَمُهُ يَشْمَلُ التَّعْمِيمَ بِالنِّيَّةِ أَيْضًا, حَتَّى ذَكَرَ فِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي كَلاَمِ الشَّارِعِ أَنَّهَا

كَانَتْ فِي تَحْرِيمٍ تَعَدَّتْ بِالْقِيَاسِ إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِالْعِلَّةِ, وَإِنْ كَانَتْ إيجَابًا لَمْ تَتَعَدَّ, وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ. وَحَكَى عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَوْجَبْت كُلَّ يَوْمٍ أَكْلَ السُّكَّرِ; لاِنَّهُ حُلْوٌ وَجَبَ أَكْلُ كُلِّ حُلْوٍ, ثُمَّ قَالَ وَهَذَا بَعِيدٌ, بَلْ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ يَجِبُ كُلَّ يَوْمٍ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ الْحُلْوِ كَائِنًا مَا كَانَ, قَالَ وَفِيهِ نَظَرٌ; لاِنَّهُ يُبْطِلُ إيجَابَ السُّكَّرِ, وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُرْفَعُ إشْكَالٌ فِي مَسْأَلَةِ قَوْلِ السَّيِّدِ: أَعْتَقْت غَانِمًا لِسَوَادِهِ, وَأَنَّهُ لاَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ كُلُّ أَسْوَدَ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ, خِلاَفًا لِمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَتْحِ الْحَلْوَانِيُّ وَأَبُو الْخَطَّابِ.

القاعدة السادسة والعشرون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
الصُّوَرُ الَّتِي لاَ تُقْصَدُ مِنْ الْعُمُومِ عَادَةً إمَّا لِنُدُورِهَا أَوْ لاِخْتِصَاصِهَا بِمَانِعٍ لَكِنْ يَشْمَلُهَا اللَّفْظُ مَعَ اعْتِرَافِ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إدْخَالَهَا فِيهِ هَلْ يُحْكَمُ بِدُخُولِهَا أَمْ لاَ؟ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ, وَيَتَرَجَّحُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الدُّخُولُ وَفِي بَعْضِهَا عَدَمُهُ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْقَرَائِنِ وَضَعْفِهَا, وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ:
منها: إذَا قِيلَ تَزَوَّجْت عَلَى امْرَأَتِك فَقَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ طَالِقٌ هَلْ تَطْلُقُ الْمَرْأَةُ الْمُخَاطَبَةُ أَمْ لاَ إذَا قَالَ لَمْ أردهَا؟ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ تَارَةً عَلَى أَنَّهَا تَطْلُقُ وَتُوقَفُ فِيهَا أُخْرَى. وَخَرَّجَهَا ابْنُ عَقِيلٍ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَمنها: لَوْ قَذَفَ أَبَاهُ إلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ, فَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ أَنَّ عَلَيْهِ حَدًّا وَاحِدًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ رِدَّةً عَنْ الإِسْلاَمِ; لاِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ دُخُولَ الأَنْبِيَاءِ فِي ذَلِكَ وَلاَ يَقْصِدُ ذَلِكَ مُسْلِمٌ, وَخَرَّجَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِيهَا وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ رِدَّةٌ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ.
وَمنها: لَوْ قَالَ عَصَيْت اللَّهَ فِيمَا أَمَرَنِي بِهِ هَلْ يَكُونُ يَمِينًا؟ قَالَ الْقَاضِي لَيْسَ بِيَمِينٍ; لاِنَّ الْمَشْهُورَ تَخْصِيصُ الْمَعَاصِي بِالذُّنُوبِ دُونَ الْكُفْرِ وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ عِنْدِي أَنَّهُ يَمِينٌ لِدُخُولِ التَّوْحِيدِ فِيهِ.
وَمنها: لَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ وَهُمْ عِنْدَهُ: أَنْتُمْ أَحْرَارٌ, وَكَانَ فِيهِمْ أُمُّ وَلَدِهِ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ بِهَا وَلَمْ يُرِدْ عِتْقَهَا, هَلْ تُعْتَقُ أَمْ لاَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ حَكَاهُمَا أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى. وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى عِتْقِهَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ وَغَيْرِهِ, وَشَبَّهَهَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْن حَسَّانَ بِمَنْ نَادَى امْرَأَةً لَهُ فَأَجَابَتْهُ أُخْرَى فَطَلَّقَهَا يَظُنُّهَا الْمُنَادَاةَ, وَقَالَ: تَطْلُقُ هَذِهِ بِالإِجَابَةِ وَتِلْكَ بِالتَّسْمِيَةِ, وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْمُنَادَاةِ فِيهَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: تَطْلُقُ الْمُنَادَاةُ وَحْدَهَا نَقَلَهَا مُهَنَّا وَهِيَ اخْتِيَارُ الأَكْثَرِينَ كَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي فَيَتَعَيَّنُ تَخْرِيجُ رِوَايَةٍ فِي أُمِّ الْوَلَدِ أَنَّهَا لاَ تُعْتَقُ منها, وَعَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: تَطْلُقُ الْمُنَادَاةُ

وَالْمُجِيبَةُ, وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ حَسَّانَ أَنَّهُمَا يُطَلَّقَانِ جَمِيعًا فِي الْبَاطِنِ. وَالظَّاهِرِ, كَمَا يَقُولُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إذَا لَقِيَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً فَطَلَّقَهَا فَإِذَا هِيَ زَوْجَتُهُ, أَنَّ زَوْجَتَهُ تَطْلُقُ ظَاهِرًا َوَ بَاطِنًا. وَزَعَم صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ أَنَّ الْمُجِيبَةَ إنَّمَا تَطْلُقُ ظَاهِرًا, وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا أَجْنَبِيَّةً أَنَّ الطَّلاَقَ هَاهُنَا صَادَفَ مَحِلاً فَنَفَذَ فِيهِ وَهُوَ الْمُنَادَاةُ فَلاَ يُحْتَاجُ إلَى مَحِلٍّ آخَرَ, بِخِلاَفِ طَلاَقِ مَنْ يَعْتَقِدُهَا أَجْنَبِيَّةً, فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ بِهَا لِلْغَيِّ الطَّلاَقُ الصَّادِرُ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ وَلاَ سَبِيلَ إلَيْهِ, وَقَدْ أَشَارَ أَحْمَدُ إلَى مَعْنَى هَذَا الْفَرْقِ وَسَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ يُسَلِّمُ عَلَى فُلاَنٍ فَسَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ هُوَ فِيهِمْ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ وَلَمْ يَرُدَّهُ بِالسَّلاَمِ, فَحَكَى الأَصْحَابُ فِي حِنْثِهِ الرِّوَايَتَيْنِ, وَيُشْبِهُ تَخْرِيجَهُمَا عَلَى مَسْأَلَةِ مَنْ حَلَفَ لاَ يَفْعَلُ فَفَعَلَهُ جَاهِلاً بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ, وَالْمَنْصُوصُ هَاهُنَا عَنْ أَحْمَدَ الْحِنْثُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا, حَتَّى فِيمَا إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُسْتَتِرًا بَيْنَ الْقَوْمِ بِبَارِيَةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ لاَ يَرَاهُ. وَنَقَلَ عنه أَبُو طَالِبٍ إنْ كَانَ وَحْدَهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ لاَ يَعْرِفُهُ حَنِثَ, وَإِنْ كَانَ بَيْنَ جَمَاعَةٍ وَهُوَ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ; لاِنَّهُ أَرَادَ الْجَمَاعَةَ, وَهَذَا يُشْبِهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُنَادَاةِ إذَا أَجَابَتْ غَيْرَهَا, وَبَيْنَ مَنْ يُطَلِّقُهَا يَعْتَقِدُهَا أَجْنَبِيَّةً, فَإِنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَمْ يَقْصِدْ السَّلاَمَ عَلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ, وَهُنَاكَ مَنْ يَصِحُّ قَصْدُهُ وَغَيْرُهُ, فَانْصَرَفَ السَّلاَمُ إلَيْهِ دُونَهُ, بِخِلاَفِ مَا إذَا كَانَ وَحْدَهُ فَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وُجِدَ وَلَكِنْ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ, وَقَدْ تَأَوَّلَ الْقَاضِي رِوَايَةَ أَبِي طَالِبٍ هَذِهِ عَلَى أَنَّهُ أَخْرَجَهُ بِالنِّيَّةِ مِنْ السَّلاَمِ وَلاَ يَصِحُّ; لاِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِحُضُورِهِ بَيْنَهُمْ, فَكَيْفَ يَسْتَثْنِيهِ بِالنِّيَّةِ؟
وَمنها: لَوْ وَقَفَ الْمُسْلِمُ عَلَى قَرَابَتِهِ أَوْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ أَوْ وَصَّى لَهُمْ وَفِيهِمْ مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْكُفَّارَ حَتَّى يُصَرِّحَ بِدُخُولِهِمْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ وَأَبِي طَالِبٍ, وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ مُسْلِمٌ وَاحِدٌ وَالْبَاقِي كُفَّارٌ فَفِي الاِقْتِصَارِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ; لاِنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى وَاحِدٍ بَعِيدٌ جِدًّا.
وَمنها: لَوْ تَهَايَأَ الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ هُوَ وَسَيِّدُهُ عَلَى مَنَافِعِهِ وَأَكْسَابِهِ, فَهَلْ يَدْخُلُ فِيهَا الأَكْسَابُ النَّادِرَةُ كَالرِّكَازِ وَالْهَدِيَّةِ وَاللُّقَطَةِ أَمْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
وَمنها: لَوْ قَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَهُ زَوْجَةٌ وَمَالٌ وَقَالَ لَمْ أُرِدْ زَوْجَتِي فَهُوَ مُظَاهِرٌ, عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ; لاِنَّ الزَّوْجَةَ أَشْهَرُ أَفْرَادِ الْحَلاَلِ الَّذِي يَقْصِدُ تَحْرِيمَهُ, وَلاَ يَنْصَرِفُ الذِّهْنُ ابْتِدَاءً إلَى غَيْرِهِ, فَلاَ يَصِحُّ إخْرَاجُهُ مِنْ الْعُمُومِ بِعَدَمِ إرَادَةِ دُخُولِهِ, وَإِنَّمَا يَصِحُّ إخْرَاجُهُ بِإِرَادَةِ عَدَمِ دُخُولِهِ.
فَأَمَّا إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَهُ مَالٌ فَهُوَ يَمِينٌ كَسَائِرِ تَحْرِيمِ الْمُبَاحَاتِ, وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ وَمَالٌ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ لاَ غَيْرُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَأَبِي طَالِبٍ فِي صُورَةِ: كُلِّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يَجِبُ مَعَ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِدُخُولِ الْمَالِ فِي الْعُمُومِ.

وَوَجْهُ الْقَاضِي نَصَّ أَحْمَدُ بِتَوْجِيهَاتٍ مُسْتَبْعَدَةٍ, وَعِنْدِي فِي تَخْرِيجِهِ وَجْهَانِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَبَادَرَ إلَى الأَفْهَامِ مِنْ تَحْرِيمِ الْحَلاَلِ تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ دُونَ الأَمْوَالِ, فَإِنَّهَا لاَ تُقْصَدُ بِالتَّحْرِيمِ فَلاَ تَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ لِكَوْنِهَا لاَ تُقْصَدُ عَادَةً, فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ حِينَئِذٍ فِي صُورَةِ الْقَاعِدَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُخَرَّجَةً عَلَى قَوْلِهِ بِتَدَاخُلِ الأَيْمَانِ, وَأَنَّ مُوجِبَهَا وَاحِدٌ فَإِنَّ الْجِنْسَ هَاهُنَا وَاحِدٌ وَهُوَ تَحْرِيمُ الْحَلاَلِ, فَصَارَ مُوجِبُهُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً, ثُمَّ تَعَيَّنَتْ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ لِدُخُولِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ.

القاعدة السابعة والعشرون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
إذَا اسْتَنَدَ إتْلاَفُ أَمْوَالِ الآدَمِيِّينَ وَنُفُوسِهِمْ إلَى مُبَاشَرَةٍ وَسَبَبٍ تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ السَّبَبِ إلاَ إذَا كَانَتْ الْمُبَاشَرَةُ مَبْنِيَّةً عَلَى السَّبَبِ وَنَاشِئَةً عَنْهُ, سَوَاءٌ كَانَتْ مُلْجِئَةً, ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْمُبَاشَرَةُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لاَ عُدْوَانَ فِيهَا بِالْكُلِّيَّةِ اسْتَقَلَّ السَّبَبَ وَحْدَهُ بِالضَّمَانِ, وَإِنْ كَانَ فِيهَا عُدْوَانٌ شَارَكَتْ السَّبَبَ فِي الضَّمَانِ. فَالأَقْسَامُ ثَلاَثَةٌ: وَمِنْ صُوَرِ الْقِسْمِ الأَوَّلِ مَسَائِلُ:
منها: إذَا حَفَرَ وَاحِدٌ بِئْرًا عُدْوَانًا ثُمَّ دَفَعَ غَيْرَهُ فِيهَا آدَمِيًّا مَعْصُومًا أَوْ مَالاً لِمَعْصُومٍ فَسَقَطَ فَتَلِفَ فَالضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ وَحْدَهُ.
وَمنها: لَوْ فَتَحَ قَفَصًا عَنْ طَائِرٍ فَاسْتَقَرَّ بَعْدَ فَتْحِهِ فَجَاءَ آخَرُ فَنَفَّرَهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُنَفِّرِ وَحْدَهُ.
وَمنها: لَوْ رَمَى مَعْصُومًا مِنْ شَاهِقٍ فَتَلَقَّاهُ آخَرُ بِسَيْفٍ فَقَدَّهُ بِهِ فَالْقَاتِلُ هُوَ الثَّانِي دُونَ الأَوَّلِ. فَأَمَّا أَنْ لَوْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا وَفِيهِ حَيَاةٌ غير مُسْتَقِرَّةٌ فَضَرَبَهُ آخَرُ فَمَاتَ فَالْقَاتِلُ هُوَ الأَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْغُرَّةُ وَيُعَزَّرُ الثَّانِي; لاِنَّ الضَّارِبَ لَيْسَ بِمُتَسَبِّبٍ بَلْ هُوَ مُبَاشِرٌ لِلْقَتْلِ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ. وَكَذَا لَوْ رَمَى بِهِ صَيْدًا فَأَصَابَ مَقْتَلَهُ ثُمَّ رَمَاهُ آخَرُ فَمَاتَ فَالْقَاتِلُ هُوَ الأَوَّلُ فَيُبَاحُ الصَّيْدُ بِذَلِكَ وَالثَّانِي جَانٍ عَلَيْهِ فَيَضْمَنُ مَا خُرِقَ مِنْ جِلْدِهِ هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَالأَكْثَرِينَ وَخَرَّجَهُ طَائِفَةٌ عَلَى الْخِلاَفِ فِي تَحْرِيمِ مَا سَقَطَ بَعْدَ الذَّبْحِ فِي بِنَاءِ وَنَحْوِهِ لاِعَانَتِهِ عَلَى قَتْلِهِ وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ تَحْرِيمُهُ هَاهُنَا فَيَضْمَنُ الثَّانِي قِيمَتَهُ كَامِلَةً وَيَسْقُطُ منها قَدْرَ جُرْحِ الأَوَّلِ.
وَمِنْ صُوَرِ الْقِسْمِ الثَّانِي مَسَائِلُ:
منها: إذا قَدَّمَ إلَيْهِ طَعَامًا مَسْمُومًا عَالِمًا بِهِ فَأَكَلَهُ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ بِالْحَالِ, فَالْقَاتِلُ هُوَ الْمُقَدِّمُ, وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ.

وَمنها: لَوْ قَتَلَ الْحَاكِمُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا بِشَهَادَةٍ ثُمَّ أَقَرَّ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا الْكَذِبَ فَالضَّمَانُ وَالْقَوَدُ عَلَيْهِمْ دُونَ الْحَاكِمِ. وَنَقَلَ أَبُو النَّصْرِ الْعِجْلِيّ عَنْ أَحْمَدَ إذَا رَجَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرْجُومَ مَجْبُوبٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ وَهُوَ مُشْكِلٌ; لاِنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ بِالْعِيَانِ فَهُوَ كَإِقْرَارِهِمْ بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ, وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الْمَجْبُوبَ لاَ يُخْفَى أَمْرُهُ غَالِبًا فَالإِقْدَامُ عَلَى رَجْمِهِ لاَ يَخْلُو مِنْ تَفْرِيطٍ, وَبِأَنَّ الشُّهُودَ قَدْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ فَلاَ يَتَحَقَّقُ تَعَمُّدُهُمْ لِلْكَذِبِ وَأَمَّا إنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الشُّهُودَ فَسَقَةٌ أَوْ كُفَّارٌ وَقُلْنَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ وَكَانَ الْحَقُّ لاِدَمِيٍّ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ, وَإِنْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَهُ حَالَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنْ يَسْتَنِدَ الْحَاكِمُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ إلَى تَزْكِيَةِ مَنْ زَكَّاهُمْ وَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهُمَا: الضَّمَانُ عَلَى الْمُزَكِّيَيْنِ قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْكَافِي وَالتَّرْغِيبِ; لاِنَّهُمْ أَلْجَئُوا الْحَاكِمَ إلَى الْحُكْمِ, وَالْحَاكِمُ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ, وَالشُّهُودُ لاَ يَعْتَرِفُونَ بِبُطْلاَنهمِ شَهَادَتِهِمْ فَيَتَعَيَّنُ إحَالَةُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُزَكِّيَيْنِ.
وَالثَّانِي: الضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ وَحْدَهُ قَالَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ: لاِنَّهُ مُفَرِّطٌ بِالْحُكْمِ بِشَهَادَةِ مَنْ لاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ, وَحُكْمُهُ يَخْتَصُّ بِالْمَحْكُومِ بِهِ, بِخِلاَفِ التَّزْكِيَةِ, فَإِنَّهَا لاَ تَخْتَصُّ ِالْمَحْكُومِ بِهِ.
وَالثَّالِثُ: يُخَيَّرُ الْمُسْتَحِقُّ بَيْنَ تَضْمِينِ مَنْ شَاءَ مِنْ الْحَاكِمِ وَالْمُزَكِّيَيْنِ وَالْقَرَارُ عَلَى الْمُزَكِّيَيْنِ قَالَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ, لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهِ تَغْرِيمِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَيُخَيَّرُ الْمُسْتَحِقُّ وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْمُزَكِّيَيْنِ لاِلْجَائِهِمْ الْحَاكِمَ إلَى الْحُكْمِ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ وَجْهٌ رَابِعٌ: أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الشُّهُودِ كَمَا لَوْ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ وَلاَ يَصِحُّ حِكَايَتُهُ عَنْهُ لِتَصْرِيحِهِ بِخِلاَفِهِ; وَهُوَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ; لاِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِبُطْلاَنِ شَهَادَتِهِمْ وَلاَ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ, بِخِلاَفِ الرَّاجِعِينَ عَنْ الشَّهَادَةِ.
لَكِنْ ذَكَرَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ الْحُكْمُ وَيَضْمَنُ الشُّهُودُ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا.
وَخَرَّجَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْهِدَايَةِ ضَمَانَ الشُّهُودِ مِنْ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا ثُمَّ بَانُوا فُسَّاقًا فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِبُطْلاَنِ قَوْلِهِمْ, وَهَذَا تَخْرِيجٌ ضَعِيفٌ; لاِنَّ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَا قَذْفٌ فِي الْمَعْنَى مُوجِبَةٌ لِلْحَدِّ فِي نَفْسِهَا, إلاَ أَنْ يُوجَدَ مَعَهَا كَمَالُ

النِّصَابِ الْمُعْتَبَرِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هُنَا, وَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ, سَوَاءٌ اسْتَوْفَى مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ الْحَدَّ أَوْ لاَ, وَلَيْسَ الْمُسْتَوْفَى مِنْ الشَّاهِدِ نَظِيرُ الْمُسْتَوْفَى مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالْمَالِ فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ضَمَانٌ إلاَ بَعْدَ أَنْ يَنْشَأَ عَنْهَا غُرْمٌ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ بُطْلاَنُهَا إمَّا بِإِقْرَارِ الشَّاهِدِ أَوْ يَتَبَيَّنُ كَذِبُهَا بِالْعِيَانِ, وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَة: أَنْ لاَ يَكُونَ ثَمَّ تَزْكِيَةٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ وَحْدَهُ, ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ وَالأَصْحَابُ; لِتَفْرِيطِهِ بِقَبُولِ مَنْ لاَ تَجُوزُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ إلْجَاءٍ لَهُ إلَى الْقَبُولِ.
وَمنها: الْمُكْرَهُ عَلَى إتْلاَفِ مَالِ الْغَيْرِ وَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَحْدَهُ, لَكِنْ لِلْمُسْتَحِقِّ مُطَالَبَةُ الْمُتْلِفِ, وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرَهِ; لاِنَّهُ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ, بِخِلاَفِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ, فَلِهَذَا شَارَكَهُ فِي الضَّمَانِ, وَبِهَذَا جَزَمَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ, وَابْنُ عَقِيلٍ فِي عُمَدِ الأَدِلَّةِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ كَالدِّيَةِ, صَرَّحَ بِهِ فِي التَّلْخِيصِ, وَذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي بَعْضِ تَعَالِيقِهِ احْتِمَالاً, وَعَلَّلَ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الإِثْمِ, وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الإِكْرَاهَ لاَ يُبِيحُ إتْلاَفَ مَالِ الْغَيْرِ, وَكَانَ فَرْضُ الْكَلاَمِ فِي الْوَدِيعَةِ, وَحَكَى احْتِمَالاً آخَرَ: أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُتْلِفِ وَحْدَهُ, كَمَا لَوْ اُضْطُرَّ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ فَأَكَلَهُ, وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا; لاِنَّ الْمُضْطَرَّ لَمْ يُلْجِئْهُ إلَى الإِتْلاَفِ مَنْ يُحَالُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى تَسْلِيمِ الْوَدِيعَةِ إلَى غَيْرِ الْمَالِكِ فَقَالَ الْقَاضِي: لاَ ضَمَانَ; لاِنَّهُ لَيْسَ بِإِتْلاَفٍ. وَكَذَا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ تَعَالِيقِهِ, وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْمُجَرَّدِ مَفْرِقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ بِأَنَّ الْقَتْلَ لاَ يُعْذَرُ فِيهِ بِالإِكْرَاهِ بِخِلاَفِ هَذَا, وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَشْمَلُ الإِتْلاَفَ أَيْضًا, وَتَابَعَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ, وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لاِبِي الْبَرَكَاتِ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ, كَمَا لَوْ حَلَفَ لاَ يَدْخُلُ الدَّارَ فَدَخَلَهَا مُكْرَهًا, وَفِي الْفَتَاوَى الرَّجَبِيَّاتِ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ الضَّمَانُ مُطْلَقًا; لاِنَّهُ افْتَدَى بِهَا ضَرَرهُ, وَعَنْ ابْنِ الزاغوني أَنَّهُ إنْ أُكْرِهَ عَلَى التَّسْلِيمِ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلاَ إثْمَ, وَإِنْ نَالَهُ الْعَذَابُ فَلاَ إثْمَ وَلاَ ضَمَانَ.
وَأَشَارَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فِي مَسْأَلَةِ الإِكْرَاهِ عَلَى الأَكْلِ فِي الصَّوْمِ مِنْ شَرْحِ الْهِدَايَةِ إلَى خِلاَفٍ فِي أَصْلِ جَوَازِ تَضْمِينِ الْمُكْرَهِ عَلَى إتْلاَفِ الْمَالِ,وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي الأَيْمَانِ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ صَيْدًا مُكْرَهًا فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ لَهُ,وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ثَوابٍ عَلَى أَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ عُدْوَانًا إذَا

أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَى الْحَفْرِ لَمْ يَضْمَنْ, لَكِنَّ هَذَا إكْرَاهٌ عَلَى السَّبَبِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ, وَهَذِهِ النُّقُولُ الثَّلاَثَةُ تَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ ابْتِدَاءً مَنْ لاَ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمُكْرَهَةُ عَلَى الْوَطْءِ فِي الْحَجِّ وَالصِّيَامِ إذَا أَفْسَدْنَا حَجَّهَا وَصِيَامَهَا, فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهَا أَوْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ أَوْ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا عَنْهَا؟ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ, وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ الْأُولَى عَلَى أَنَّهَا تَرْجِعُ بِهَا عَلَى الزَّوْجِ. وَالْمُكْرَهُ عَلَى حَلْقِ رَأْسِهِ فِي الإِحْرَامِ تَجِبُ الْفِدْيَةُ عَلَى الْحَالِقِ فِي أَشْهَرِ الْوَجْهَيْنِ قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَجِبُ عَلَى الْمَحْلُوقِ وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْحَالِقِ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَجْهًا; لاِنَّ حَلْقَ الشَّعْرِ كَالإِتْلاَفِ, وَلِهَذَا يَسْتَوِي عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَمِنْ صُوَرِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مَسَائِلُ:
منها: الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ, وَالْمَذْهَبُ اشْتَرَاك الْمُكْرَهِ فِي الْقَوَدِ وَالضَّمَانِ; لاِنَّ الإِكْرَاهَ لَيْسَ بِعُذْرٍ فِي الْقَتْلِ, وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ فِي بَابِ الرَّهْنِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ذَكَرَ أَنَّ الْقَوَدَ عَلَى الْمُكْرَهِ الْمُبَاشِرِ وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَى الْمُكْرَهِ قَوَدًا, قَالاَ: وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُهُ عَلَيْهِمَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الشُّهُودِ الرَّاجِعِينَ إذَا اعْتَرَفُوا بِالْعَمْدِ. وَقَدْ بَيَّنَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ كَلاَمَ أَبِي بَكْرٍ, وَأَنَّهُ قَالَ فِي الأَسِيرِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ, وَهَاهُنَا الْمُكْرَهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ; لاِنَّهُ حَرْبِيٌّ, فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ تَضْمِينَهُ, وَذَكَرَ ابْنُ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ السَّمَرْقَنْدِيَّ مِنْ أَصْحَابِنَا خَرَّجَ وَجْهًا أَنَّهُ لاَ قَوَدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رِوَايَةِ امْتِنَاعِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ وَأَوْلَى; لاِنَّ السَّبَبَ هَاهُنَا غَيْرُ صَالِحٍ فِي كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا; لاِنَّ أَحَدَهُمَا مُتَسَبِّبٌ وَالْآخَرُ ملجأٌ, وَفِي صُورَةِ الاِشْتِرَاكِ هُمَا مُبَاشِرَانِ مُخْتَارَانِ.
وَمنها: الْمُمْسِكُ مَعَ الْقَاتِلِ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الضَّمَانِ وَالْقَوَدِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ, وَفِي الْأُخْرَى يَخْتَصُّ الْمُبَاشِرُ بِهِمَا وَيُحْبَسُ الْمَاسِكُ حَتَّى يَمُوتَ.
وَمنها: لَوْ حَفَرَ بِئْرًا عُدْوَانًا فِي الطَّرِيقِ فَوَضَعَ آخَرُ حَجَرًا إلَى جَانِبِهَا فَهَلْ يَخْتَصُّ بِالضَّمَانِ الْوَاضِعُ جَعْلاً لَهُ كَالدَّافِعِ أَوْ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ كَالْمُمْسِكِ وَالْقَاتِلِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَلَوْ كَانَ الْحَافِرُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ فَالضَّمَانُ عَلَى الْوَاضِعِ وَحْدَهُ, وَهِيَ مِنْ صُوَرِ الْقِسْمِ الثَّانِي.
وَمنها: لَوْ دَلَّ الْمُوَدِّعُ لِصًّا عَلَى الْوَدِيعَةِ فَسَرَقَهَا بِالضَّمَانِ عَلَيْهِمَا, ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ, كَمَا لَوْ دَلَّ الْمُحْرِمُ مُحْرِمًا آخَرَ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ, وَلَوْ دَلَّ حَلاَلاً فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَحْدَهُ, وَهِيَ مِنْ صُوَرِ الْقِسْمِ الثَّانِي:
وَمنها: لَوْ أَحْرَمَ وَفِي يَدِهِ الْمُشَاهَدَةِ صَيْدٌ وَتَمَكَّنَ مِنْ إرْسَالِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ فَفِيهِ

احْتِمَالاَنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ: أَحَدُهُمَا: الضَّمَانُ عَلَى الْقَاتِلِ; لاِنَّهُ مُبَاشِرٌ وَالأَوَّلُ مُتَسَبِّبٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ. وَالثَّانِي: الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا; عَلَى الأَوَّلِ بِالْيَدِ وَعَلَى الثَّانِي بِالْمُبَاشَرَةِ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كُلُّ مَنْ أَتْلَفَ عَيْنًا فِي يَدِ مَنْ هِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ بِالْيَدِ, هَلْ يَضْمَنُ الْمُتْلِفُ وَحْدَهُ الْجَمِيعَ دُونَ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْ يَجُوزُ تَضْمِينُ صَاحِبِ الْيَدِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُتْلِفِ؟ وَفَرَضَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ التَّخْرِيجِ مَسْأَلَةَ الصَّيْدِ فِي حَالَيْنِ: صَادَ أَحَدُهُمَا فِي الْحَرَمِ صَيْدًا فَقَتَلَهُ الْآخَرُ فِيهِ. وَذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِمَا جَزَاءَيْنِ كَامِلَيْنِ, أَحَدُهُمَا عَلَى الْقَاتِلِ بِقَتْلِهِ, وَالْآخَرُ عَلَى الْمُمْسِكِ لِتَلَفِهِ فِي يَدِهِ قَبْلَ إرْسَالِهِ, ثُمَّ يَرْجِعُ الَّذِي فِي يَدِهِ عَلَى الْقَاتِلِ بِمَا غَرِمَهُ; لاِنَّهُ قَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانًا كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ بِالإِرْسَالِ, وَصَرَّحَ فِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْمَغْصُوبَ إذَا أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ كَانَ الْمَالِكُ مُخَيَّرًا فِي الْمُطَالَبَةِ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا.

القاعدة الثامنة والعشرون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
إذَا اخْتَلَفَ حَالُ الْمَضْمُونِ فِي حَالَيْ الْجِنَايَةِ وَالسِّرَايَةِ. فَهَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي الْحَالَيْنِ, لَكِنْ يَتَفَاوَتُ قَدْرُ الضَّمَانِ فِيهِمَا, فَهَلْ الاِعْتِبَارُ بِحَالِ السِّرَايَةِ أَوْ حَالِ الْجِنَايَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُهْدَرًا فِي الْحَالَيْنِ فَلاَ ضَمَانَ بِحَالٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ مُهْدَرَةً وَالسِّرَايَةُ فِي حَالِ الضَّمَانِ فَتُهْدَرُ تَبَعًا لِلْجِنَايَةِ بِالاِتِّفَاقِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ فِي حَالِ الضَّمَانِ وَالسِّرَايَةُ فِي حَالِ الإِهْدَارِ, فَهَلْ يَسْقُطُ الضَّمَانُ أَمْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الأَوَّلُ فَلَهُ أَمْثِلَةٌ:
منها: لَوْ جَرَحَ ذِمِّيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَلاَ قَوَدَ, وَهَلْ يَجِبُ فِيهِ دِيَةُ مُسْلِمٍ أَوْ دِيَةُ ذِمِّيٍّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ, اخْتَارَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ وُجُوبَ دِيَةِ ذِمِّيٍّ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ, وَابْنُ حَامِدٍ وُجُوبَ دِيَةِ مُسْلِمٍ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ نَصُّ أَحْمَدَ, وَبِكُلِّ حَالٍ فَالدِّيَةُ تَكُونُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ; لاِنَّهُ اسْتَحَقَّ أَرْشَ جُرْحِهِ حَيًّا فَمَلَكَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ ومات فَانْتَقَلَ مَا مَلَكَهُ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي الاِنْتِصَارِ.

وَمنها: لَوْ جَرَحَ عَبْدًا ثُمَّ أُعْتِقَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْجُرْحِ, فَهَلْ يَضْمَنُ بِقِيمَتِهِ أَوْ بِدِيَتِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ, نَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ يَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ لاَ بِالدِّيَةِ, وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي خِلاَفِهِ وَنَصَرَهُ الْقَاضِي فِي الْخِلاَفِ أَيْضًا.
وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ فِيمَنْ ضَرَبَ بَطْنَ أَمَةٍ فَأُعْتِقَتْ ثُمَّ أَسْقَطَتْ جَنِينًا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ هُوَ حُرٌّ وَعَلَيْهِ دِيَتُهُ; لاِنَّ الْعِتْقَ لاَ يَجِبُ إلاَ بِالْوِلاَدَةِ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ, وَحَكَى عَنْهُ الْقَاضِي أَنَّهُ يَجِبُ أَقَلُّ الأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ أَوْ الدِّيَةِ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ الْقَاضِي أَنَّ ابْنَ حَامِدٍ أَوْجَبَ دِيَةَ حُرٍّ لِلْمَوْلَى منها أَقَلُّ الأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ أَوْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَالْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ احْتِمَالاً بِوُجُوبِ أَكْثَرِ الأَمْرَيْنِ مِنْ الْقِيمَةِ أَوْ الدِّيَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّ الْمَنْصُوصَ فِي الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ وُجُوبُ دِيَةِ مُسْلِمٍ وَفِي الْعَبْدِ إذَا عَتَقَ قِيمَةُ عَبْدٍ, ثُمَّ خَرَّجَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ, وَعَلَى الأَوَّلِ فَجَمِيعُ الْقِيمَةِ لِلسَّيِّدِ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَالأَصْحَابُ; لاِنَّ السِّرَايَةَ لاَ تَثْبُتُ مُنْفَرِدَةً وَإِنَّمَا تَجِبُ تَابِعَةً لِلْجِنَايَةِ وَقَدْ ثَبَتَ أَرْشُ الْجُرْحِ لِلسَّيِّدِ حِينَ كَانَ الْمَجْرُوحُ عَبْدًا لاَ يَمْلِكُ, فَتَتْبَعُ السِّرَايَةُ الْجِنَايَةَ وَيَكُونُ أَرْشُهَا لِمُسْتَحِقِّ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَهُوَ السَّيِّدُ, وَهَكَذَا لَوْ بَاعَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْجُرْحِ ثُمَّ مَاتَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَالْقِيمَةُ كُلُّهَا لِلْأَوَّلِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَذَكَرَ ابْنُ الزاغوني فِي الإِقْنَاعِ فِيمَا إذَا قَطَعَ يَدَيْ عَبْدٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفَا دِينَارٍ فَأَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ ثُمَّ مَاتَ احْتِمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الأَلْفَيْنِ بَيْنَ السَّيِّدِ وَالْوَرَثَةِ نِصْفَيْنِ تَوْزِيعًا لِلْقِيمَةِ عَلَى السِّرَايَةِ وَالْجِنَايَةِ. وَالثَّانِي: يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا أَثْلاَثًا; لاِنَّ لِلسَّيِّدِ مَا يُقَابِلُ الْيَدَيْنِ وَهُوَ كَمَالُ الدِّيَةِ, وَلِلْوَرَثَةِ كَمَالُ الدِّيَةِ وَهُوَ بِقَدْرِ نِصْفِ الْقِيمَةِ, وَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا, لاِنْتِفَاءِ الْمُكَافَأَةِ حَالَ الْجِنَايَةِ.
تَنْبِيهٌ: ذَكَرَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ أَنَّ رِوَايَةَ الضَّمَانِ بِدِيَةِ حُرٍّ نَقَلَهَا حَرْبٌ عَنْ أَحْمَدَ, وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ, وَزَادَ أَنَّ لِلسَّيِّدِ منها أَقَلُّ الأَمْرَيْنِ, وَلَمْ يَنْقُلُ حَرْبٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ, وَإِنَّمَا نَقَلَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ قَوْلَ الزُّهْرِيِّ يَضْمَنُهُ بِقِيمَةِ مَمْلُوكٍ؟ فَقَالَ مَا أَدْرِي كَيْفَ هَذَا؟! وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَنْكَرَ ضَمَانَهُ بِالْقِيمَةِ, وَإِنَّمَا نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَضْمَنُهُ بِدِيَةِ حُرٍّ كَامِلَةٍ بِاللَّفْظِ الَّذِي زَعَمَ الْقَاضِي أَنَّ حَرْبًا نَقَلَهُ.
وَمنها: لَوْ ضَرَبَ بَطْنَ أَمَةٍ حَامِلٍ فَأُعْتِقَتْ أَوْ جَنِينُهَا ثُمَّ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا, فَهَلْ يَضْمَنُهُ بِغُرَّةِ جَنِينٍ حُرٍّ أَوْ بِقِيمَةِ جَنِينِ أَمَةٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَ بَطْنَ نَصْرَانِيَّةٍ حَامِلٍ بِنَصْرَانِيٍّ فَأَسْلَمَتْ ثُمَّ أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا هَلْ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ جَنِينٍ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ عَلَى الوَجْهَيْنِ.
وَمنها: لَوْ قَطَعَ يَدَيْ عَبْدٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ ثُمَّ سَرَتْ إلَى نَفْسِهِ وَمَاتَ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَقَالَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَضْمَنُهُ بِأَلْفَيْنِ; لاِنَّ نُقْصَانَ الْقِيمَةِ كَنُقْصَانِ بَدَلِهِ بِالْحُرِّيَّةِ, وَقَدْ قُلْنَا يَضْمَنُ

بِأَلْفَيْنِ إذَا عَتَقَ, كَذَلِكَ هَاهُنَا, قال: وَهَذَا مَوْضِعٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ; لاِنَّ مَوْتَهُ حَصَلَ بِقَطْعِ يَدِهِ وَقِيمَتُهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَلْفَانِ.
وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا مَا إذَا جُرِحَ ذِمِّيٌّ خَطَأً ثُمَّ أَسْلَمَ وَسَرَى الْجُرْحُ إلَى النَّفْسِ وَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ مَذْكُورَةٍ فِي الْمُغْنِي وَالْمُحَرَّرِ. أَحَدُهَا: الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ حَالَ الْجُرْحِ وَبِهِ جَزَمَ فِي الْكَافِي وَالْمُحَرَّرِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ. وَالثَّانِي: عَلَى عَاقِلَتِهِ أَرْشُ الْجُرْحِ وَالزَّائِدُ بِالسِّرَايَةِ فِي مَالِهِ; لاِنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ مُخَالَفَتِهِ لِدِينِ عَاقِلَتِهِ. وَالثَّالِثُ: الدِّيَةُ كُلُّهَا فِي مَالِهِ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَتْ دِيَتُهُ حَالَ الرَّمْيِ وَالإِصَابَةِ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ; لاِنَّ أَرْشَ الْجُرْحِ إنَّمَا يَسْتَقِرُّ بِالاِنْدِمَالِ أَوْ السِّرَايَةِ, وَلَوْ كَانَ الْجَانِي ابْنَ مُعْتَقَةٍ لِقَوْمٍ ثُمَّ أَنْجَزَ وَلاَءَهُ إلَى مَوَالِي أَبِيهِ فَفِي الْمُحَرَّرِ هُوَ عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ, وَفِي الْكَافِي الدِّيَةُ فِي مَالِهِ, وَلَمْ يَذْكُرْ خِلاَفًا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ:
منهَا: إذَا جَرَحَ عَبْدًا حَرْبِيًّا ثُمَّ عَتَقَ ثُمَّ مَاتَ, أَوْ جَرَحَ عَبْدًا مُرْتَدًّا ثُمَّ مَاتَ, فَلاَ ضَمَانَ; لاِنَّ الْحَرْبِيَّ وَالْمُرْتَدَّ لاَ يَضْمَنُ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَلَهُ أَمْثِلَةٌ:
منها: لَوْ جَرَحَ حَرْبِيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَلاَ ضَمَانَ.
وَمنها: لَوْ جَرَحَ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَلاَ ضَمَانَ أَيْضًا. وَذَكَرَ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ أَنَّ الضَّمَانَ هُنَا مُخَرَّجٌ عَلَى الضَّمَانِ فِيمَا إذَا طَرَأَ الإِسْلاَمُ بَعْدَ الرَّمْيِ وَقَبْلَ الإِصَابَةِ.
وَمنها: لَوْ جَرَحَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ فَمَاتَ فِيهِ فَلاَ ضَمَانَ وَيَحِلُّ أَكْلُهُ, ذَكَاةً فِي الْحِلِّ ذَكَرَهُ الْقَاضِي, وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ, وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِ سُفْيَانَ فِي صَيْدِ ذِمِّيٍّ فِي الْحِلِّ فَتَحَامَلَ فَدَخَلَ الْحَرَمَ فَمَاتَ قَالَ لَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ; لاِنَّهُ مَاتَ فِي الْحَرَمِ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ: وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ.
وَمنها: لَوْ جَرَحَ عَبْدٌ نَفْسَهُ ثُمَّ عَتَقَ ثُمَّ مَاتَ فَهَلْ يَضْمَنُهُ أَمْ لاَ عَلَى وَجْهَيْنِ، ذَكَرَهُمَا فِي التَّرْغِيبِ؛ لاِنَّ عَبْدَ نَفْسِهِ إنَّمَا يُهْدَرُ ضَمَانُهُ عَلَى السَّيِّدِ دُونَ غَيْرِهِ، فَهُوَ مَضْمُونٌ فِي الْجُمْلَةِ، بِخِلاَفِ الْمُرْتَدِّ وَالْحَرْبِيِّ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَضْمَنُهُ بِدِيَةِ حُرٍّ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الضَّمَانَ بِالْقِيمَةِ فَلاَ إشْكَالَ فِي عَدَمِ ضَمَانِهِ، وَلِهَذَا خَرَّجَهُ صَاحِبُ الْكَافِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الاِعْتِبَارِ بِحَالِ الْجِنَايَةِ أَوْ السِّرَايَةِ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَلَهُ أَمْثِلَةٌ:
منها: لَوْ جَرَحَ مُسْلِمًا أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا فَارْتَدَّ ثُمَّ مَاتَ فَهَلْ يَجِبُ الْقَوَدُ فِي طَرَفِهِ أَمْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، الْمُرَجَّحُ مِنْهُمَا عَدَمُهُ؛ لاِنَّ الْجِرَاحَةَ صَارَتْ نَفْسًا لاَ قَوَدَ فِيهَا بِالاِتِّفَاقِ، وَفِي التَّرْغِيبِ أَصْلُ الْوَجْهَيْنِ الْخِلاَفُ فِيمَا إذَا قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا فَسَرَتْ إلَى نَفْسِهِ، هَلْ يُقْتَصُّ فِي الطَّرَفِ ثُمَّ فِي النَّفْسِ أَمْ فِي النَّفْسِ فَحَسْبُ؟ وَعَلَى وَجْهِ ثُبُوتِ الْقَوَدِ هَلْ يَسْتَوْفِيهِ الإِمَامُ أَوْ وَلِيُّهُ الْمُسْلِمُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَالْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ يَسْتَوْفِيهِ الْوَلِيُّ. قَالَ فِي التَّرْغِيبِ أَصْلُهُمَا أَنَّ مَالَهُ هَلْ هُوَ فَيْءٌ أَوْ لِوَرَثَتِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْآمِدِيِّ، قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَارِثَ يَسْتَوْفِيهِ لَوْ عَفَا عَلَى مَالٍ ما لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمَالُ لاِمْتِنَاعِ إرْثِهِ، وَفِي الْمُحَرَّرِ الْوَجْهَانِ عَلَى قَوْلِنَا مَالُهُ فَيْءٌ، وَأَمَّا ضَمَانُ طَرَفِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ, أَحَدُهُمَا: لاَ ضَمَانَ أَيْضًا؛ لاِنَّ الْجِنَايَةَ صَارَتْ نَفْسًا مُهْدَرَةً. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ لِثُبُوتِ ضَمَانِ الطَّرَفِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، ثُمَّ هَلْ يَضْمَنُ بِأَقَلِّ الأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ أَوْ الطَّرَفِ أَوْ بِدِيَةِ الطَّرَفِ مُطْلَقًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، الْمُرَجَّحُ مِنْهُمَا الأَوَّلُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُحَرَّرِ سِوَاهُ.
وَمنها: لَوْ جَرَحَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَخَرَجَ إلَى الْحِلِّ فَمَاتَ لَزِمَهُ كَمَالُ ضَمَانِهِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي خِلاَفَيْهِمَا تَغْلِيبًا لِضَمَانِ الصَّيْدِ حَيْثُ كَانَ لَهُ حَالاَنِ يَضْمَنُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ، وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَضْمَنَ أَرْشَ جُرْحِهِ خَاصَّةً مِنْ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.

القاعدة التاسعة والعشرون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
إذَا تَعَيَّنَ حَالُ الْمَرْمِيِّ أو الرامي بَيْنَ الرَّمْي وَالإِصَابَةِ، فَهَلْ الاِعْتِبَار بِحَالِ الإِصَابَةِ أَمْ بِحَالَةِ الرَّمْي، أَمْ يُفَرَّق بَيْن الْقَوَدِ وَالضَّمَانِ، أَمْ بَيْن أَنْ يَكُون بَيْن الرَّمْي مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا؟ فِيهِ لِلْأَصْحَابِ أَوْجُهٌ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ:
منها: لَوْ رَمَى مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا أَوْ حُرٌّ عَبْدًا فَلَمْ يَقَعْ بِهِمَا السَّهْمُ حَتَّى أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ وَعَتَقَ الْعَبْدُ ثُمَّ مَاتَا فَهَلْ يَجِبُ الْقَوَدُ أَمْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ وَابْنِ حَامِدٍ وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي لِفَقْدِ التَّكَافُؤِ حِينَ الْجِنَايَةِ وَهُوَ حَالَةُ الإِرْسَالِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ رَمَى إلَى مُرْتَدٍّ فَأَسْلَمَ قَبْلَ الإِصَابَةِ.
وَالثَّانِي: يَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَخَذَهُ مِمَّا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ أَرْسَلَ سَهْمًا عَلَى زَيْدٍ فَأَصَابَ عَمْرًا قَالَ هُوَ عَمْدٌ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، فَاعْتُبِرَ الرَّمْيُ الْمَحْظُورُ إذَا أَصَابَ بِهِ مَعْصُومًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْمَقْصُودِ.

وَفَرَّقَ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَ رَمْيِ الْمُرْتَدِّ وَالذِّمِّيِّ بِأَنَّ رَمْيَ الْمُرْتَدِّ مُبَاحٌ، وَرَدَّهُ الْقَاضِي بِأَنَّ رَمْيَهُ لِلْأَمَانِ لاَ إلَى آحَادِ النَّاسِ فَهُوَ غَيْرُ مُبَاحٍ لاِحَادِهِمْ، وَأَمَّا النَّصُّ الْمَذْكُورُ فَلَمْ يُجِبْ عَنْهُ الْقَاضِي، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَصَدَ هُنَاكَ مُكَافِئًا وَأَصَابَ نَظِيرُهُ وَهُنَا لَمْ يَقْصِدْ مُكَافِئًا، وَقَدْ خَرَّجَ صَاحِبُ الْكَافِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي مَسْأَلَةِ النَّصِّ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا أَصْلُهُ وَأَمَّا صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فَجَعَلَهُ خَطَأً بِغَيْرِ خِلاَفٍ؛ لاِنَّهُ أَصَابَ مَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ، فَأَشْبَهَ مَا إذَا قَصَدَ صَيْدًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لاِنَّهُ قَصَدَ مَعْصُومًا فَأَصَابَ نَظِيرَهُ، بِخِلاَفِ مَنْ قَصَدَ صَيْدًا، وَلِهَذَا لَوْ قَصَدَ صَيْدًا مُعَيَّنًا فَأَصَابَ غَيْرَهُ حَلَّ، بِخِلاَفِ مَا إذَا رَمَى هَدَفًا يَعْلَمُهُ فَأَصَابَ صَيْدًا فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ، أَمَّا لَوْ ظَنَّ الْهَدَفَ صَيْدًا فَأَصَابَ صَيْدًا فَوَجْهَانِ، وَقَدْ يَتَخَرَّجُ هَاهُنَا مِثْلُهُمَا لَوْ رَمَى هَدَفًا يَظُنُّهُ آدَمِيًّا مَعْصُومًا فَأَصَابَ آدَمِيًّا مَعْصُومًا غَيْرَهُ؛ لاِنَّ أَصْلَ الرَّمْيِ كَانَ مَحْظُورًا فَهَذَا الْكَلاَمُ فِي الْقَوَدِ. وَأَمَّا الضَّمَانُ فَيَضْمَنُهُ بِدِيَةِ حُرٍّ ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ وَالْقَاضِي وَالأَكْثَرُونَ وَلَمْ يَحْكُوا فِيهِ خِلاَفًا، حَتَّى نَقَلَ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ اتِّفَاقَ الأَصْحَابِ عَلَى ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الإِصَابَةِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا أَصَابَ حُرًّا مُسْلِمًا وَتَكُونُ دِيَةُ الْمُعْتَقِ لِوَرَثَتِهِ دُونَ السَّيِّدِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي.
وَمنها: لَوْ رَمَى إلَى مُرْتَدٍّ أَوْ إلَى حَرْبِيٍّ فَأَسْلَمَا ثُمَّ وَصَلَ إلَيْهِمَا السَّهْمُ فَقَتَلَهُمَا فَلاَ قَوَدَ بِغَيْرِ خِلاَفٍ؛ لاِنَّ دَمَهُمَا حَالَ الرَّمْيِ كَانَ مُهْدَرًا، وَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ؟ فِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: وُجُوبُهُ فِيهِمَا قَالَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ وَالْآمِدِيُّ وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْهِدَايَةِ، وَعَزَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ إلَى الْخِرَقِيِّ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الإِصَابَةِ وَهُمَا حِينَئِذٍ مُسْلِمَانِ مَعْصُومَانِ، وَلاَ أَثَرَ لاِنْتِفَاءِ الْعِصْمَةِ حَالَ السَّبَبِ، كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا لَهُمَا فَوَقَعَا فِيهَا بَعْدَ إسْلاَمِهِمَا فَإِنَّهُ يَضْمنها بِغَيْرِ خِلاَفٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ قَالَ الْقَاضِي: وَلاَ نُسَلِّمُ أَنَّ رَمْيَ الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ مُبَاحٌ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مُرَاعًا فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْوُقُوعِ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا.
وَالثَّانِي: لاَ ضَمَانَ فِيهِمَا وَهُوَ أَشْهَرُ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ فِي الْمُرْتَدِّ، وَقَالَ لاَ خِلاَفَ فِيهِ فِي الْمَذْهَبِ؛ لاِنَّ رَمْيَهُمَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ، وَقَدْ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ لاَ يُمْكِنُ تَلاَفِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا إذَا جَرَحَهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَا.
وَالثَّالِثُ: يَضْمَنُ الْمُرْتَدُّ دُونَ الْحَرْبِيِّ وَأَصْلُ هَذَا الْوَجْهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ الْحَرْبِيُّ بِغَيْرِ خِلاَفٍ؛ وَفِي الْمُرْتَدِّ وَجْهَانِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ قَتْلُهُ إلَى الإِمَامِ فَالرَّامِي إلَيْهِ مُتَعَدٍّ وَهُوَ كَالرَّامِي إلَى الذِّمِّيِّ، بِخِلاَفِ الْحَرْبِيِّ فَإِنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ قَتْلَهُ، فَرَمْيُهُ لَيْسَ بِعُدْوَانٍ، أَمَّا عَكْسُهُ وَهُوَ لَمَّا رَمَى إلَى مَعْصُومٍ فَأَصَابَهُ السَّهْمُ وَهُوَ مُهْدَرٌ كَمُسْلِمٍ ارْتَدَّ وَذِمِّيٌّ نَقَضَ الْعَهْدَ بَيْنَ الرَّمْيِ وَالإِصَابَةِ فَلاَ ضَمَانَ بِغَيْرِ خِلاَفٍ أَعْلَمُهُ بَيْنَ الأَصْحَابِ؛ لاِنَّ الإِصَابَةَ لَمْ تُصَادِفْ مَعْصُومًا، فَهُوَ كَمَا لَوْ رَمَى مَعْصُومًا، فَأَصَابَهُ السَّهْمُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى عَبْدًا قِيمَتُهُ

عِشْرُونَ دِينَارًا فَأَصَابَهُ السَّهْمُ وَقِيمَتُهُ عَشَرَةٌ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ وَقْتَ الإِصَابَةِ لاَ وَقْتَ الرَّمْيِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ.
وَمنها: لَوْ رَمَى الذِّمِّيُّ سَهْمًا إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ آدَمِيًّا وَقَدْ أَسْلَمَ الرَّامِي، فَقَالَ الْآمِدِيُّ يَجِبُ ضَمَانُهُ فِي مَالِهِ؛ لاِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا حَالَ الرَّمْيِ لِتَعْقِلَهُ عَاقِلَتُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لاِنَّهُ حِينَ الإِصَابَةِ كَانَ مُسْلِمًا وَبِذَلِكَ جَزَمَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ وَالْكَافِي، وَكَذَلِكَ حَكَمَ مَا إذَا رَمَى ابْنَ مُعْتَقَةٍ فَلَمْ يُصِبْ حَتَّى أُنْجِزَ وَلاَؤُهُ إلَى مَوَالِي أَبِيهِ، وَلَوْ رَمَى مُسْلِمًا سَهْمًا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَصَابَ سَهْمُهُ فَقَتَلَ فَهَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الإِصَابَةِ أَمْ عَلَى عَاقِلَتِهِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الرَّمْيِ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ الْمُسْتَوْعِبِ. وَيُخَرَّجُ منها فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ وَجْهَانِ أَيْضًا. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَوَالِي الْأُمِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَوَالِي الأَبِ.
وَمنها: لَوْ رَمَى الْحَلاَلُ إلَى صَيْدٍ ثُمَّ أَحْرَمَ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ ضَمِنَهُ، وَلَوْ رَمَى الْمُحْرِمُ إلَى صَيْدٍ ثُمَّ أَحَلَّ قَبْلَ الإِصَابَةِ لَمْ يَضْمَنْهُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الإِصَابَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ فِي الْجِنَايَاتِ، قَالَ: وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ فِيمَنْ رَمَى طَيْرًا عَلَى غُصْنٍ فِي الْحِلِّ أَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ أَنْ يَضْمَنَ هُنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَغْلِيبًا لِلضَّمَانِ، انْتَهَى.
وَيَتَخَرَّجُ عَدَمُ الضَّمَانِ فِيمَا إذَا رَمَى وَهُوَ مَحِلٌّ ثُمَّ أَحْرَمَ، مِنْ عَدَمِ ضَمَانِ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ الإِصَابَةِ اعْتِبَارًا بِإِبَاحَةِ الرَّمْيِ، إلاَ أَنْ يُفَرِّقَ بِأَنَّ قَصْدَ الإِحْرَامِ عَقِيبَ الرَّمْيِ سَبَبٌ إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّيْدِ فَيهِ وَلاَ سِيَّمَا إنْ قَصَدَ الرَّمْيَ قَبْلَ الإِحْرَامِ لِذَلِكَ.
وَمنها: لَوْ رَمَى الْحَلاَلُ مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي رَجُلٍ رَمَى صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَأَصَابَهُ فِي الْحَرَمِ قَالَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ. وَقَالَ أَيْضًا فِي رِوَايَتِهِ وَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ سُفْيَانَ لَوْ رَمَى شَيْئًا فِي الْحِلِّ فَدَخَلَتْ رَمْيَتُهُ فِي الْحَرَمِ فَأَصَابَتْ شَيْئًا ضَمِنَ؛ لاِنَّ يَدَهُ الَّتِي جَنَتْ. قَالَ أَحْمَدُ مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ !
وَكَذَلِكَ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَة ابْنِ مَنْصُورٍ فِي شَجَرَةٍ فِي الْحِلِّ غُصْنُهَا فِي الْحَرَمِ عَلَيْهِ طَيْرٌ لاَ يُرْمَى وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ رَمْيِهِ مِنْ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالْقَاضِي وَالأَكْثَرُونَ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ سِوَاهُ؛ لاِنَّهُ صَيْدٌ مَعْصُومٌ بِمَحِلِّهِ فَلاَ يُبَاحُ قَتْلُهُ بِكُلِّ حَالٍ وَفِيهِ الضَّمَانُ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَجَمَاعَةٌ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُهُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الرَّامِي وَمَحِلِّهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلاَ يَثْبُتُ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ الْقَاضِي من رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي إبَاحَةِ الاِصْطِيَادِ

بِالْكَلْبِ وَإِرْسَالِهِ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ. قَالَ فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مَتَى كَانَ أَحَدُهُمَا فِي الْحِلِّ وَالْآخَرُ فِي الْحَرَمِ فَلاَ ضَمَانَ وَلاَ يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّصَّ فِي الْكَلْبِ، وَالْكَلْبُ لَهُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ، فَإِذَا أَرْسَلَهُ فِي الْحَرَمِ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَكَّلَ عَبْدَهُ فِي الْحَرَمِ فِي شِرَاءِ صَيْدٍ مِنْ الْحِلِّ وَذَبَحَهُ فِيهِ. وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا إذَا أَرْسَلَ سَهْمَهُ؛ لاِنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى فِعْلِهِ، وَلِهَذَا فَرَّقَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ بَيْنَ أَنْ يُرْسِلَ سَهْمَهُ مِنْ الْحِلِّ إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَيَدْخُلُ الْحَرَمَ فَيُقْتَلُ فِيهِ فَيَضْمَنُهُ، وَبَيْنَ أَنْ يُرْسِلَ الْكَلْبَ فَلاَ يَضْمَنُ؛ لاِنَّ دُخُولَ الْكَلْبِ إلَى الْحَرَمِ بِاخْتِيَارِهِ، وَدُخُولَ السَّهْمِ بِفِعْلِ الرَّامِي، وَلِهَذَا لَوْ أَصَابَ سَهْم هذا آدَمِيًّا لَضَمِنَهُ، وَلَوْ أَصَابَ الْكَلْبُ آدَمِيًّا لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِلَى هَذَا التَّفْرِيقِ أَشَارَ ابْنُ أَبِي مُوسَى حَيْثُ ضَمِنَ فِي رَمْيِ السَّهْمُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَلَمْ يَضْمَنْ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ إذَا أَرْسَلَهُ فِي الْحِلِّ فَصَادَ فِي الْحَرَمِ، إلاَ أَنْ يُرْسِلَهُ بِقُرْبِ الْحَرَمِ، وَأَمَّا إنْ أَرْسَلَهُ فِي الْحَرَمِ فَصَادَ فِي الْحِلِّ فَحَكَى فِيهِ رِوَايَتَيْنِ قَالَ: وَالأَظْهَرُ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ جَزَاءَ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْقَاضِي إنَّمَا صَرَّحَ بِالْخِلاَفِ فِي الْكَلْبِ، وَأَبُو الْخَطَّابِ هُوَ الَّذِي طَرَدَ الْخِلاَفَ فِي السَّهْمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا النَّصَّ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الضَّمَانِ فِيمَا إذَا أَرْسَلَ سَهْمَهُ مِنْ الْحَرَمِ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ؛ لاِنَّ صَيْدَ الْحِلِّ غَيْرُ مَعْصُومٍ فَلاَ يَصِحُّ إلْحَاقُ صَيْدِ الْحَرَمِ بِهِ، وَقَدْ فَرَّقَ طَوَائِفُ مِنْ الأَصْحَابِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَزَمَ بِنَفْيِ الضَّمَانِ فِيمَا إذَا أَرْسَلَ سَهْمَهُ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ، وَبِالضَّمَانِ فِي الْعَكْسِ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ حَكَاهُ فِيهِمَا، وَهُوَ فِي الْمُبْهِجِ لِلشِّيرَازِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى الْخِلاَفَ فِيهِمَا، وَصَحَّحَ الْفَرْقَ وَهُوَ صَاحِبُ الْمُغْنِي، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى الْخِلاَفَ فِيمَا إذَا أَرْسَلَ سَهْمَهُ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ وَلَمْ يُحْكَ الْخِلاَفُ فِي ضَمَانٍ عَكْسِهِ وَهُوَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ، وَأَخْذُ نَفْيِ الضَّمَانِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ الْمَذْكُورَةِ، وَالضَّمَانُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ قَتَلَ صَيْدًا عَلَى غُصْنٍ فِي الْحِلِّ أَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ أَنَّهُ يَضْمَنُهُ.
وَفِي أَخْذ الضَّمَانِ مِنْ هَذَا نَظَرٌ، فَإِنَّ الْغُصْنَ تَابِعٌ لِمَحِلٍّ مَعْصُومٍ وَهُوَ أَصْلُ الشَّجَرَةِ الَّذِي فِي الْحَرَمِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْحَرَمِ بِخِلاَفِ الْحِلِّ، وَلِهَذَا لَمْ يُفَرِّقْ أَحْمَدُ بَيْنَ قَتْلِهِ مِنْ الْحِلِّ أَوْ مِنْ الْحَرَمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْغُصْنِ عِنْدَهُ حُكْمُ الْحَرَمِ، وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ أَيْضًا وَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ سُفْيَانَ فِي شَجَرَةٍ أَصْلُهَا فِي الْحِلِّ وأغصانها في الحرم وعليها طير فرماه إنسان فصرعه قال: ما كان في الحل فليرم وما كان في الحرم فلا يرمي, قَالَ أَحْمَدُ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ ! فَجَعَلَ الْقَاضِي هَذِهِ رِوَايَةً ثَانِيَةً مُخَالِفَةً لِلْأُولَى، وَحَكَى فِي الصَّيْدِ الَّذِي عَلَى غُصْنٍ فِي الْحِلِّ أَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ رِوَايَتَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ أَحْمَدَ ضَمِنَ الصَّيْدَ فِي الْأُولَى إلْحَاقًا لِلْفَرْعِ بِأَصْلِهِ فِي الْحُرْمَةِ، وَلَمْ يَضْمَنْ فِي الثَّانِيَة إلْحَاقًا لِلْفَرْعِ بِأَصْلِهِ فِي عَدَمِ الْحُرْمَةِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ مَا كَانَ عَلَى الْغُصْنِ الذي في الحرم لأنه في هواء الحرم وهو معصوم بمحله وهو الحرم وجعل ابن أبي موسى الغصن تَابِعًا لِقَرَارِهِ مِنْ الأَرْضِ دُونَ أَصْلِهِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِنَصِّ أَحْمَدَ.

وَمنها: هَلْ الاِعْتِبَارُ بِحَالِ الصَّيْدِ بِأَهْلِيَّةِ الرَّامِي وَسَائِرِ الشُّرُوطِ حَالَ الرَّمْيِ أَوْ الإِصَابَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: الاِعْتِبَارُ بِحَالِ الإِصَابَةِ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ، وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي رُءُوسِ الْمَسَائِلِ، فَلَوْ رَمَى سهماً وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ مُرْتَدٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِالصَّيْدِ وَقَدْ حَلَّ أَوْ أَسْلَمَ حَلَّ أَكْلُهُ، وَلَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ لَمْ يَحِلَّ، وَقَدْ سَبَقَ الْخِلاَفُ فِي الْمُحْرِمِ.
وَالثَّانِي: الاِعْتِبَارُ بِحَالِ الرَّامِي، قَالَهُ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَأَخَذَهُ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ أَبِي مُوسَى فِي رَجُلٍ رَمَى بِنُشَّابٍ وَسَمَّى فَمَاتَ الرَّامِي قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ فَلاَ بَأْسَ بِأَكْلِهِ إذَا رَمَاهُ بِمَا يُجْرَحُ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ مَا إذَا رَمَيَاهُ جَمِيعًا فَأَصَابَهُ سَهْمُ أَحَدِهِمَا أَوَّلاً فَأَثْخَنَهُ ثُمَّ أَصَابَهُ سَهْمُ الْآخَرِ فَقَتَلَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُهُ؛ لاِنَّ الثَّانِيَ أَرْسَلَ سَهْمَهُ قَبْلَ امْتِنَاعِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ فِي رَجُلَيْنِ رَمَيَا صَيْدًا فَأَصَابَهُ جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَا قَدْ ذكياه جَمِيعًا أَكَلاَهُ، قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ إذَا كَانَا رَمَيَاهُ بِمَالِهِ حُدَّ، وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إصَابَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ أَوْ يَتَأَخَّرَ انْتَهَى.
وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ: التَّسْمِيَةُ فَإِنَّهَا تُشْتَرَطُ عِنْدَ الإِرْسَالِ، وَلَوْ سَمَّى بَعْدَ إرْسَالِهِ فَإِنَّ الزَّجْرَ بِالتَّسْمِيَةِ وَزَادَ جَرْيُهُ كَفَى، وَإِلاَ فَلاَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ التَّسْمِيَةُ وَقْتَ الإِرْسَالِ لِمَشَقَّةِ مَعْرِفَتِهِ وَقْتَ الإِصَابَةِ. وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَوْ سَمَّى عِنْدَ الإِصَابَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا لاَجْزَأَ.

القاعدة الثلاثون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الثَّلاَثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ وَالْمَرْكَبُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ لَيْسَ بِمَالٍ فَاضِلٍ يَمْنَعُ أَخْذَ الزَّكَوَاتِ وَلاَ يَجِبُ فِيهِ الْحَجُّ وَالْكَفَّارَاتُ وَلاَ يُوفِي مِنْهُ الدُّيُونَ وَالنَّفَقَاتِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ فِي مَسَائِلَ:
منها: الزَّكَاةُ قَالَ أَبُو دَاوُد: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ لَهُ دَارٌ يَقْبَلُ مِنْ الزَّكَاةِ قَالَ نَعَمْ ! قُلْت: هِيَ دَارٌ وَاسِعَةٌ قَالَ: أَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ قَالَ أَرْجُو، قِيلَ لَهُ: فَرَسٌ قَالَ إنْ كَانَ يَغْزُو عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ جَارِيَةٌ تُسَاوِي مِائَةَ دِينَارٍ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِلْخِدْمَةِ يَأْخُذُ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ نَعَمْ ! وَسُئِلَ عَنْ الدَّارِ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ فَضَلَ كَثِيرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ يُعْطَى. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ صَاحِبُ الْمَسْكَنِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ يَفْضُلُ عَنْهُ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا: أَنَّ الْعَرْضَ الَّذِي لاَ يُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ فِي دَيْنِهِ إذَا كَانَ يَفِي بِدَيْنِ صَاحِبِهِ وَبِيَدِهِ نِصَابٌ فَإِنَّهُ لاَ يُجْعَلُ الدَّيْنُ فِي مُقَابَلَتِهِ حَتَّى يُزَكِّيَ النِّصَابَ بِغَيْرِ خِلاَفٍ؛ لاِنَّهُ لاَ يَجِبُ صَرْفُهُ إلَى جِهَةٍ وَدَيْنٍ وَوَفَائِهِ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا يُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ فَهَلْ يُجْعَلُ الدَّيْنُ فِي مُقَابَلَتِهِ وَيُزَكِّي النِّصَابَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَمنها: الْحَجُّ قَالَ أَحْمَدُ: فِي رِوَايَة الْمَيْمُونِيِّ إذَا كَانَ الْمَسْكَنَ وَالْمَسْكَنَيْنِ وَالْخَادِمَ أَوْ الشَّيْءَ الَّذِي يَعُودُ بِهِ عَلَى عِيَالِهِ فَلاَ يُبَاعُ إذَا كَانَ كِفَايَةً لاِهْلِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَنَازِلُ يُكْرِيهَا إنَّمَا هِيَ قُوتُهُ وَقُوتُ عِيَالِهِ فَإِذَا خَرَجَ عَنْ كِفَايَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَةِ عِيَالِهِ بَاعَ. وَالضَّيْعَةُ مِثْلُ ذَلِكَ إذَا كَانَ فَضْلاً عَنْ الْمُؤْنَةِ بَاعَهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْضٌ فَلاَ أَرَى أَنْ يَبِيعَ وَيَحُجَّ وَلاَ يَجِبُ عليه عندي إلا أن يشاء. قال أصحابنا ولا فرق بين أن يكون الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ فِي مِلْكِهِ أَوْ بِيَدِهِ نَقْدٌ يُرِيدُ شِرَاءَهُمَا بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَمنها: الْمُفْلِسُ وَلاِحْمَدَ فِيهِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ الْمَسْكَنُ إلاَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ فَضْلٌ فَيُبَاعُ الْفَضْلُ وَيُتْرَكُ لَهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ وَأَبِي طَالِبٍ. وَأَمَّا الْخَادِمُ فَلاَ يُبَاعُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ لِزَمِنٍ أَوْ كِبَرٍ أَوْ حَاجَة غَيْرِهِمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ إذَا كَانَ مَسْكَنًا وَاسِعًا نَفِيسًا أَوْ خَادِمًا نَفِيسًا يَشْتَرِي لَهُ مَا يُقِيمُهُ وَيَجْعَلُ سَائِرَهُ لِلْغُرَمَاءِ وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ مُوسَى بْنُ سَعِيدٍ وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخَادِمُ وَالْمَسْكَنُ فِي مِلْكِهِ أَوْ يَحْتَاجُ إلَيْهِمَا فَيَتْرُكُ لَهُ ثَمَنَهُمَا عَلَى ظَاهِرِ كَلاَمِ الأَصْحَابِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا لَوْ كَانَ مَسْكَنُهُ وَثِيَابُهُ عَيْنَ مَالِ رَجُلٍ يَرْجِعُ بِهَا وَتَرَكَ لَهُ بَدَلَهَا مِنْ بَقِيَّةِ الْمَالِ لِيَشْتَرِيَ لَهُ مِنْهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ جِنْسِهَا؛ لاِنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِهِ بِخِلاَفِ الْمُفْلِسِ فَإِنَّ حَاجَتَهُ تَنْدَفِعُ بِغَيْرِهَا أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُفْلِسِ سِوَاهَا وَهِيَ عَيْنُ مَالِ رَجُلٍ وَكَانَ الشِّرَاءُ قَبْلَ الإِفْلاَسِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَفِي الْكَافِي يُحْتَمَلُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ لِئَلاَ يُؤَدِّيَ إلَى الْحِيلَةِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ.
وَمنها: الشَّرِيكُ فِي عَبْدٍ إذَا أَعْتَقَ حِصَّتَهُ وَلَيْسَ لَهُ سِوَى دَارٍ وَخَادِمٍ فَهُوَ مُعْسِرٌ لاَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ سِوَى حِصَّتِهِ وَلاَ يُبَاعُ ذَلِكَ فِي قِيمَةِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ. قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: قُلْت لاِحْمَدَ مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا فِي عَبْدٍ ضَمِنَ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ؟ قَالَ عَتَقَ كُلُّهُ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، قُلْت كَمْ قَدْرُ الْمَالِ؟ قَالَ لاَ يُبَاعُ فِيهِ دَارٌ وَلاَ رِبَاعٌ وَلَمْ يَقُمْ لِي عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ. قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ لاَ يُبَاعُ مَا لاَ غِنًى لَهُ عَنْ سُكْنَاهُ كَالْمُفْلِسِ.
وَمنها: التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ لاَ يُبَاعُ فِيهِ الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالأَصْحَابُ وَقَالُوا يُبَاعُ فِيهِ الْفَاضِلُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ رَقَبَةٌ نَفِيسَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمنها: رَقَبَتَانِ فَيَسْتَغْنِيَ بخدمة إحداهما وَيُعْتِقُ الْأُخْرَى لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَهَكَذَا الدَّارُ وَالْمَلاَبِسُ. وَأَمَّا إنْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ وَلَهُ خَادِمٌ لاَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ ثُمَّ احْتَاجَ إلَيْهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ جَزَمَ هُنَا بِلُزُومِ الْعِتْقِ؛ لاِنَّهُ بِمَثَابَةِ مَنْ كَانَ مُوسِرًا حَالَ يَحْنَثُ الْعِتْقُ ثُمَّ أَعْسَرَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ فَإِنَّ الْعِتْقَ يَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ.

وَمنها: نَفَقَةُ الأَقَارِبِ قَالَ أَبُو طَالِبٍ: قِيلَ لاِحْمَدَ فَإِنْ كَانَ لَهُ دَارٌ يَبِيعُهَا وَيُنْفِقُ عَلَى ابْنِهِ؟ قَالَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ مَسْكَنٍ إنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَنْ مَسْكَنِهِ فَضْلٌ عَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ فَلْيُنْفِقْ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ وَلاَ سَعَةٌ فَلاَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ. وَصَرَّحَ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ بِأَنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ لاَ يُبَاعُ فِيهَا إلاَ مَا يُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ فِي دَيْنِهِ وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْعَاقِلَةِ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ قَرِيبِهِ فَغَيَّبَ مَالَهُ وَامْتَنَعَ منها وَوَجَدَ الْحَاكِمُ لَهُ عَقَارًا فَلَهُ بَيْعُهُ وَالنَّفَقَةُ فِيهِ عَلَى أَقَارِبِهِ، وَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالأَوْلاَدِ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْعَقَارُ الَّذِي لاَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلسُّكْنَى أَوْ أَنَّ هَذَا يَخْتَصُّ بِالْمُمْتَنِعِ مِنْ النَّفَقَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ حَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ لَهُ عَلَى غَيْرِ عَقَارِهِ.

القاعدة الحادية والثلاثون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلاَثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
الْقُدْرَةُ عَلَى اكْتِسَابِ الْمَالِ بِالْبِضْعِ لَيْسَ بِغِنًى مُعْتَبَرٍ، صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ وَفَرَّعَ عَلَيْهِ مَسَائِلَ:
منها: إذَا أَفْلَسَتْ الْمَرْأَةُ وَهِيَ مِمَّنْ يُرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا لَمْ تُجْبَرْ عَلَى النِّكَاحِ لاِخْذِ الْمَهْرِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ.
وَمنها: أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهَا نَفَقَةُ الأَقَارِبِ بِقُدْرَتِهَا عَلَى النِّكَاحِ وَتَحْصِيلِ الْمَهْرِ.
وَمنها: أَنَّهُ لاَ تُمْنَعُ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ بِذَلِكَ أَيْضًا.
وَمنها: لَوْ كَانَ لِمُفْلِسٍ أُمُّ وَلَدٍ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى إنِكَاحِهَا وَأَخْذِ مَهْرِهَا وَإِنْ كَانَ يُجْبَرُ عَلَى إجَارَتِهَا وَأَخْذِ أُجْرَتِهَا.

القاعدة الثانية والثلاثون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلاَثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
الْقُدْرَةُ عَلَى اكْتِسَابِ الْمَالِ بِالصِّنَاعَاتِ غَنِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفَقَةِ النَّفْسِ، وَمَنْ تَلْزَمُ نَفَقَتُهُ مِنْ زَوْجَةٍ وَخَادِمٍ وَهَلْ هُوَ غَنِيٌّ فَاضِلٌ عَنْ ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ:
منها: الْقَوِيُّ الْمُكْتَسِبُ لاَ يُبَاحُ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ بِجِهَةِ الْفَقْرِ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ بِالاِكْتِسَابِ، وَهَلْ لَهُ الأَخْذُ لِلْغُرْمِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَعَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ قَالَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي عُمَدِهِ فِي الزَّكَاةِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَاهُ فِي الْمُجَرَّدِ وَالْفُصُولِ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ. وَالثَّانِي: لاَ يَجُوزُ وَبِهِ جَزَمَ

القاعدة الثالثة والثلاثون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلاَثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
يَثْبُتُ تَبَعًا مَا لاَ يَثْبُتُ اسْتِقْلاَلاً فِي مَسَائِلَ:
منها: شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِالْوِلاَدَةِ يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ وَلاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِشَهَادَتِهِنَّ بِهِ اسْتِقْلاَلاً.
وَمنها: شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى إسْقَاطِ الْجَنِينِ بِالضَّرْبَةِ يُوجِبُ الْغُرَّةَ إنْ سَقَطَ مَيِّتًا وَالدِّيَةَ إنْ سَقَطَ حَيًّا.
وَمنها: شَهَادَةُ امْرَأَةٍ عَلَى الرَّضَاعِ يُقْبَلُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ انْفِسَاخُ النِّكَاحِ.
وَمنها: لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِرُؤْيَةِ هِلاَلِ رَمَضَانَ ثُمَّ أَكْمَلُوا الْعِدَّةَ وَلَمْ يَرَوْا الْهِلاَلَ فَهَلْ يُفْطِرُونَ أَمْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَشْهَرُهُمَا: لاَ يُفْطِرُونَ لِئَلاَ يُؤَدِّيَ إلَى الْفِطْرِ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: بَلَى ! وَيَثْبُتُ الْفِطْرُ تَبَعًا لِلصَّوْمِ وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ قَالَ إنْ كَانَ غَيْمًا أَفْطَرُوا وَإِلاَ فَلاَ.
وَمنها: لَوْ أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ جَازَ الْفِطْرُ وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ اقْتَضَى كَلاَمُهُ حِكَايَةَ الاِتفَاقِ عَلَيْهِ؛ لاِنَّ وَقْتَ الْفِطْرِ تَابِعٌ لِوَقْتِ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ، وَلَهُ مَأْخَذٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ لِلْغُرُوبِ عَلَيْهِ أَمَارَاتٌ تُورَثُ ظَنًّا بِانْفِرَادِهَا فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهَا قَوْلُ الثِّقَةِ قَوِيَ بِخِلاَفِ الشَّهَادَةِ بِرُؤْيَةِ هِلاَلِ الْفِطْرِ.
وَمنها: صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ لَيْلَةَ الْغَيْمِ تَبَعًا لِلصِّيَامِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَذَكَرَ الْقَاضِي احْتِمَالاً بِثُبُوتِ سَائِرِ الأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِالشَّهْرِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ بِهِ وَحُلُولِ آجَالِ الدُّيُونِ وَهُوَ ضَعِيفٌ هُنَا، نَعَمْ ! إذَا شَهِدَ وَاحِدٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ ثَبَتَ بِهِ الشَّهْرُ وَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الأَحْكَامُ وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ وَاحِدَةٍ ابْتِدَاءً صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي عُمَدِ الأَدِلَّةِ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ بِالطَّلاَقِ عَلَى حَدِيثٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَهُ فَرَوَاهُ وَاحِدٌ ثَبَتَ الْحَدِيثُ بِهِ وَوَقَعَ الطَّلاَقُ وَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ لاَ يَثْبُتُ بخبرٍ وَاحِدٍ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْعُمَدِ أَيْضًا، وَيَتَخَرَّجُ عَدَمُ وُقُوعِ الطَّلاَقِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ:
وَمنها: لَوْ حَلَفَ بِالطَّلاَقِ أَنَّهُ مَا غَصَبَ شَيْئًا ثُمَّ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ أَوْ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَحَكَاهُمَا الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ فِي كِتَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ وَالْآمِدِيُّ رِوَايَتَيْنِ وَجَزَمَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي بِعَدَمِ الْوُقُوعِ وَاخْتَارَ السَّامِرِيُّ الْوُقُوعَ وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْهِدَايَةِ: وَعِنْدِي أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ مَنْ عَفَا عَنْ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي فِي الطَّلاَقِ أَنْ لاَ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِهِ وَلَوْ ثَبَتَ الْغَصْبُ بِرَجُلَيْنِ.
وَمنها: لَوْ عَلَّقَ الطَّلاَقَ بِالْوِلاَدَةِ فَشَهِدَ بِهَا النِّسَاءُ حَيْثُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي وِلاَدَتِهَا هَلْ يَقَعُ

الطَّلاَقُ؟ الْمَشْهُورُ الْوُقُوعُ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ وَتَبِعَهُ الشَّرِيفُ أَبُو حَفْصٍ وَأَبُو الْمَوَاهِبِ الْعُكْبَرِيُّ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَالأَكْثَرُونَ وَيَشْهَدُ لَهُ نَصُّ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا إذَا قَالَ لَهَا إنْ حِضْت فَأَنْت وَضَرَّتُك طَالِقٌ فَشَهِدَ النِّسَاءُ بِحَيْضِهَا طَلُقَتَا جَمِيعًا، وَخَرَّجَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ لاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَمنها: لَوْ ادَّعَى الْمُكَاتَبُ إذَا أَخَّرَ نُجُومَ الْكِتَابَةِ فَأَنْكَرَ السَّيِّدُ فَأَتَى الْمُكَاتَبُ بِشَاهِدَيْنِ وَيَمِينٍ أَوْ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى مَا قَالَ فَهَلْ يُعْتَقُ أَمْ لاَ؟ قَالَ الْخِرَقِيِّ يُعْتَقُ وَلَمْ يَحْكِ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِيهِ خِلاَفًا وَحَكَى صَاحِبُ التَّرْغِيبِ فِيهِ وَجْهَيْنِ.
وَمنها: إذَا وَقَفَ وَقْفًا مُعَلَّقًا بِمَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الْمَنْصُوصِ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ وَذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ وَقَالَ الْقَاضِي: لاَ يَصِحُّ وَالأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لاِنَّهَا وَصِيَّةٌ وَالْوَصَايَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ.
وَمنها: الْبَرَاءَةُ الْمُعَلَّقَةُ بِمَوْتِ الْمُبَرِّئِ تَصِحُّ أَيْضًا لِدُخُولِهَا ضِمناً فِي الْوَصِيَّةِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيّ وَقَالَهُ الْقَاضِي وَالأَصْحَابُ وَكَذَا إبْرَاءُ الْمَجْرُوحِ لِلْجَانِي مِنْ دَمِهِ أَوْ تَحْلِيلِهِ مِنْهُ يَكُونُ وَصِيَّةً مُعَلَّقَةً بِمَوْتِهِ، وَهَلْ هِيَ وَصِيَّةٌ لِلْقَاتِلِ؟ عَلَى طَرِيقَيْنِ فَعِنْدَ الْقَاضِي هِيَ وَصِيَّةٌ لِلْقَاتِلِ فَيُخَرَّجُ عَلَى الْخِلاَفِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَعِنْدَ أَبِي بَكْرٍ لَيْسَ الإِبْرَاءُ وَالْعَفْوُ وَصِيَّةً؛ لاِنَّهُ إسْقَاطٌ لاَ تَمْلِيكٌ وَقَالَ الْآمِدِيُّ: هُوَ الْمَذْهَبُ. قَالَ: وَإِنَّمَا يَكُونُ إبْرَاءً مَحْضًا قَبْلَ الاِنْدِمَالِ فَأَمَّا بَعْدَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ.
وَمنها: إذَا قَالَ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَتَدْخُلُ الْمُعَاوَضَةُ تَبَعًا لِلطَّلاَقِ إذَا قَبِلَتْهُ فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ قَبُولِهَا، كَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ لَهُ: إنْ طَلَّقْتنِي فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ. فَطَلَّقَهَا بَانَتْ وَلَزِمَهَا الأَلْفُ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: ذَكَرَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا وَقَاس الشَّيْخُ عَلَيْهِ مَا إذَا قَالَتْ: إنْ طَلَّقْتنِي فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ صَدَاقِي فَطَلَّقَهَا أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ صَدَاقِهَا وَيَقَعُ الطَّلاَقُ بَائِنًا؛ لاِنَّ تَعْلِيقَ الإِبْرَاءِ أَقْرَبُ إلَى الصِّحَّةِ مِنْ تَعْلِيقِ التَّمْلِيكِ لِتَرَدُّدِ الإِبْرَاءِ بَيْنَ الإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ يَقَعُ مُعَلَّقًا فِي الْجَعَالَةِ وَالسَّبْقِ فَهَاهُنَا كَذَلِكَ.
وَمنها: إذَا قَالَ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَهِيَ طَالِقٌ فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لاَ يَصِحُّ؛ لاِنَّ الطَّلاَقَ اخْتِيَارٌ وَالاِخْتِيَارُ لاَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ؛ لاِنَّ الطَّلاَقَ يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ وَالاِخْتِيَارَ يَثْبُتُ تَبَعًا لَهُ وَضِمْنًا.
وَمنها: إذَا قَالَ رَجُلٌ لاِخَرَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ فَقَالَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ هُوَ اسْتِدْعَاءٌ لِلْعِتْقِ وَالْمِلْكُ يَدْخُلُ تَبَعًا وَضِمْنًا لِضَرُورَةِ وُقُوعِ الْعِتْقِ لَهُ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ مِلْكٌ قَهْرِيٌّ حَتَّى أَنَّهُ يَثْبُتَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ الْعَبْدُ الْمُسْتَدْعَى عِتْقُهُ مُسْلِمًا وَالْمُسْتَدْعِي كَافِرًا مَعَ أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ شِرَاءِ الْكَافِرِ مَنْ يُعْتَقُ

عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ كَانَ الْعَقْدُ مَوْضُوعًا فِيهِ لِلْمِلْكِ دُونَ الْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ سِرَايَةُ عِتْقِ الشَّرِيكِ وَأَوْلَى لأنها إتْلاَفٌ مَحْضٌ يَحْصُلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ أَحَدٍ وَلاَ قَصْدِهِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ الْكَافِرُ الْمُوسِرُ شِرْكًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَسْرِي وَلاَ يُخَرَّجُ عَلَى الْخِلاَفِ فِي شِرَاءِ مُسْلِمٍ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِمِلْكِهِ كَمَا فَعَلَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ.
وَمنها: صَلاَةُ الْحَاجِّ عَنْ غَيْرِهِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ تَحْصُلُ ضِمْنًا وَتَبَعًا لِلْحَجِّ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلاَةُ لاَ تَقْبَلُ النِّيَابَةَ اسْتِقْلاَلاً وَقَدْ أَشَارَ الإِمَامُ أَحْمَدُ إلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ الشَّالَنْجِيِّ.
وَمنها: أَنَّ الْوَكِيلَ وَوَصِيَّ الْيَتِيمِ لَهُمَا أَنْ يَبْتَاعَا بِزَائِدٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ مَا يَتَغَابَنُ بِمِثْلِهَا عَادَةً وَلاَ يَجُوزُ لَهُمَا هِبَةُ ذَلِكَ الْقَدْرِ ابْتِدَاءً ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ، وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوا مَأْخَذَهُ أَنَّ الْمُحَابَاةَ لَيْسَتْ بِبَذْلٍ صَرِيحٍ وَإِنَّمَا فِيهَا مَعْنَى الْبَذْلِ وَجَعْلُهَا مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَوْلَى.
وَمنها: لَوْ كَانَ لَهُ أَمَتَانِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَلَدٌ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: وَلَدِي ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ وَلَمْ يُبَيِّنْ وَارِثَهُ وَلَمْ يُوجَدْ قَافَّةٌ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ فَهُوَ حُرٌّ وَأُمُّهُ مُعْتَقَةٌ بِالاِسْتِيلاَدِ وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ أَنَّهُ أَحْبَلَهَا فِي مِلْكِهِ، وَهَلْ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ وَيَرِثُهُ أَمْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَلاَ يَرِثُ بِهِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَالسَّامِرِيُّ؛ لاِنَّ الْقُرْعَةَ لاَ مَدْخَلَ لَهَا فِي الأَنْسَابِ. قَالَ الْقَاضِي وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنْ الْخِلاَفِ فِي دُخُولِ الْقُرْعَةِ فِيمَا إذَا زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ فَلَمْ يَعْلَمْ السَّابِقَ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيَرِثُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ وَصَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَذَكَرَ صَاحِبُ المغني أَنَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ؛ لاِنَّهُ حُرٌّ اسْتَنَدَتْ حُرِّيَّتُهُ إلَى الإِقْرَارِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَيْنُهُ فِي إقْرَارِهِ.
وَمنها: لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مُعَيَّنَةً مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُعْلَمْ عَيْنُهَا أُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ وَأُخْرِجَتْ الْمُطَلَّقَةُ بِالْقُرْعَةِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَتُحْسَبُ لَهَا عِدَّةُ الطَّلاَقِ مِنْ حِينِهِ وَعَلَى الْبَوَاقِي عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِي ظَاهِرِ كَلاَمِ أَحْمَدَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لاِنَّ الطَّلاَقَ لَمَّا ثَبَتَ بِالْقُرْعَةِ تَبِعَهُ لَوَازِمُهُ مِنْ الْعِدَّةِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي يَعْتَدُّ الْكُلُّ بِأَطْوَلِ الأَجَلَيْنِ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِيمَا بَعْدُ -إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-.
وَمنها: لَوْ قَالَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ: أَنَا رَجُلٌ. وَقَبِلْنَا قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ فَهَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ سَائِرِ أَحْكَامِ الرِّجَالِ تَبَعًا لِلنِّكَاحِ وَيَزُولُ بِذَلِكَ إشْكَالُهُ؟ أَمْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيمَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ دُونَ مَالِهِ منها لِئَلاَ يَلْزَمَ قَبُولُ قَوْلِهِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ بِمِيرَاثِ ذَكَرٍ وَدِيَتِهِ فِيهِ وَجْهَانِ.

القاعدة الرابعة والثلاثون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلاَثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
الْمَنْعُ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ جِدًّا:
منها: تَخْمِيرُ الْخَلِّ ابْتِدَاءً بِأَنْ يُوضَعَ فِيهَا خَلٌّ يَمْنَعُ تَخْمِيرَهَا مَشْرُوعٌ، وَتَخْلِيلُهَا بَعْدَ تَخْمِيرِهَا مَمْنُوعٌ.
منها: ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ يَمْنَعُ نَجَاسَةَ لَحْمِهِ وَجِلْدِهِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ وَدَبْغُ جِلْدِهِ بَعْدَ نَجَاسَتِهِ بِالْمَوْتِ لاَ يُفِيدُ طَهَارَتَهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.
وَمنها: السَّفَرُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصِّيَامِ يُبِيحُ الْفِطْرَ وَلَوْ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَفِي اسْتِبَاحَةِ الْفِطْرِ رِوَايَتَانِ وَالإِتْمَامُ فِيهِ أَفْضَلُ بِكُلِّ حَالٍ. وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ نَوَى السَّفَرَ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ أَفْطَرَ وَإِنْ نَوَى السَّفَرَ فِي النَّهَارِ وَسَافَرَ فِيهِ فَلاَ يُعْجِبُنِي أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ نِيَّةَ السَّفَرِ مِنْ اللَّيْلِ تَمْنَعُ الْوُجُوبَ إذَا وَجَدَ السَّفَرَ فِي النَّهَارِ فَيَكُونُ الصِّيَامُ قَبْلَهُ مُرَاعًى بِخِلاَفِ مَا إذَا طَرَأَتْ النِّيَّةُ وَالسَّفَرُ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ.
وَمنها: الرَّجُلُ يَمْلِكُ مَنْعَ زَوْجَتِهِ مِنْ حَجِّ النَّذْرِ وَالنَّفَلِ فَإِنْ شَرَعَتْ فِيهِ بِدُونِ إذْنِهِ فَفِي جَوَازِ تَحْلِيلِهَا رِوَايَتَانِ.
وَمنها: أَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ بَعْدَ التَّيَمُّمِ وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ يَمْنَعُ الدُّخُولَ فِيهَا بِالتَّيَمُّمِ، وَلَوْ دَخَلَ فِيهَا بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فَهَلْ يُبْطِلُ الصَّلاَةَ أَمْ لاَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْخِلاَفُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ بَعْدَ نِكَاحِ الأَمَةِ هَلْ يَبْطُلُ نِكَاحُهَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَنَمْنَعُهُ ابْتِدَاءً وَكَذَلِكَ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِالْعِتْقِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصِّيَامِ لاَ يُوجِبُ الاِنْتِقَالَ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَبْلَهُ يُوجِبُ.
منها: أَنَّ الْمَرْأَةَ تَمْلِكُ مَنْعَ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ صَدَاقَهَا فَإِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا ابْتِدَاءً قَبْلَ قَبْضِ الصَّدَاقِ فَهَلْ تَمْلِكُ الاِمْتِنَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى تَقْبِضَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَكَذَلِكَ اخْتَارَ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي الْبَيْعِ أَنَّ الْبَائِعَ يَمْلِكُ الاِمْتِنَاعَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ ثَمَنَهُ فَإِذَا سَلَّمَهُ لَمْ يَمْلِكْ اسْتِرْجَاعَهُ وَمَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَالْحَجْرِ عَلَيْهِ مُسْتَنِدًا إلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَهُوَ خِلاَفُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ الْغَرِيبِ.
وَمنها: اخْتِلاَفُ الدِّينِ الْمَانِعِ مِنْ النِّكَاحِ يَمْنَعُهُ ابْتِدَاءً وَلاَ يَفْسَخُهُ فِي الدَّوَامِ عَلَى الأَشْهَرِ بَلْ يَقِفُ الأَمْرُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِيهِ.

وَمنها: الإِسْلاَمُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الرِّقِّ وَلاَ يَرْفَعُهُ بَعْدَ حُصُولِهِ وَإِنَّمَا اسْتَرَقَ وَلَدُ الأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ؛ لاِنَّهُ جُزْءٌ منها فَهُوَ فِي مَعْنَى اسْتِدَامَةِ الرِّقِّ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا الأَسْرَى إذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ الاِسْتِرْقَاقِ فَإِنَّمَا أَجَازَ اسْتِرْقَاقَهُمْ لاِنْعِقَادِ سَبَبِهِ فِي الْكُفْرِ انْعِقَادًا تَامًّا فَاسْتَنَدَ إلَى سَبَبٍ مَوْجُودٍ فِي الْكُفْرِ.

القاعدة الخامسة والثلاثون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلاَثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
الْمِلْكُ الْقَاصِرُ مِنْ ابْتِدَائه لاَ يُسْتَبَاحُ فِيهِ الْوَطْءُ بِخِلاَفِ مَا كَانَ الْقُصُورُ طَارِئًا عَلَيْهِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
فَمِنْ الأَوَّلِ: الْمُشْتَرَاةُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرَاةُ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَبِيعَ وَلاَ يَهَبَ وَإِنْ بَاعَهَا فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِهَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَنُصُوصُهُ صَرِيحَةٌ بِصِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ وَالشَّرْطِ وَمَنْعِ الْوَطْءِ قَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَنْ بَاعَ جَارِيَته عَلَى أَنْ لاَ يَبِيعَ وَلاَ يَهَبَ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَلاَ يَقْرَبُهَا؛ لاِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لاَ يَقْرَبُ فَرْجًا فِيهِ شَرْطٌ لأِحَدٍ، كَذَلِكَ قَالَ مُهَنَّا فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ وَزَادَ إنْ اشْتَرَطُوا إنْ بَاعَهَا فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ فَلاَ يَقْرَبُهَا يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ عُمَرَ حِينَ قَالَ لاِبْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَلِكَ نَقَلَ مُهَنَّا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِيمَنْ اشْتَرَى أَمَةً بِشَرْطِ لاَ يَقْرَبُهَا وَفِيهَا شَرْطٌ وَكَذَلِكَ نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ.
وَقَوْلُ عُمَرَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ اشْتَرَى جَارِيَةً مِنْ امْرَأَةٍ وَشَرَطَ لَهَا إنْ بَاعَهَا فَهِيَ لَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا فَسَأَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: لاَ يَنْكِحُهَا وَفِيهَا شَرْطٌ. قَالَ حَنْبَلٌ قَالَ عَمِّي كُلُّ شَرْطٍ فِي فَرْجٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا وَالشَّرْطُ الْوَاحِدُ فِي الْبَيْعِ جَائِزٌ إلاَ أَنَّ عُمَرَ كَرِهَ لاِبْنِ مَسْعُودٍ أَنْ يَطَأَهَا؛ لاِنَّهُ شَرَطَ لاِمْرَأَتِهِ الَّذِي شَرَطَ فَلَمْ يُجَوِّزْ عُمَرُ أَنْ يَطَأَهَا وَفِيهَا شَرْطٌ وَكَذَلِكَ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ عَلَى مَنْعِ الْوَطْءِ فِي الأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِشَرْطِ التَّدْبِيرِ وَنَصَّ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ عَلَى مَنْعِ وَطْءِ بِنْتِ الْمُدَبَّرَةِ دُونَ أُمِّهَا وَكَاعَ الأَصْحَابُ فِي تَوْجِيهِهِ وَالأَمْرُ فِيهِ وَاضِحٌ عَلَى مَا قَرَرْنَاهُ إذْ بِنْتُ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرَةٌ مِنْ ابْتِدَاءِ مِلْكِهَا بِخِلاَفِ أُمِّهَا.
وَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ وَطْءِ الأَمَةِ الْمَمْلُوكَةِ بِالْعُمْرَى وَحَمَلَهُ الْقَاضِي عَلَى الاِسْتِحْبَابِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالصَّوَابُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ بِالْعُمْرَى قَاصِرٌ وَلِهَذَا نَقُولُ عَلَى رِوَايَةٍ: إذَا شَرَطَ رُجُوعَهَا إلَيْهِ بَعْدُ صَحَّ فَيَكُونُ تَمْلِيكًا مُؤَقَّتًا. وَمِنْ ذَلِكَ الأَمَةُ الْمُوصَى بِمَنَافِعِهَا لاَ يَجُوزُ لِلْوَارِثِ وَطْؤُهَا عَلَى أَصَحِّ

الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي خِلاَفًا لاِبْنِ عَقِيلٍ وَلَكِنَّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَأْخَذٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ هَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْمَنَافِعِ الْمُوصَى بِهَا أَمْ لاَ؟ وَمِنْ الثَّانِي: أُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ إذَا اشْتَرَطُوا وَطْئَهَا فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ وَالْمُوجَرَةِ وَالْجَانِيَةِ. وَأَمَّا الْمَرْهُونَةُ فَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ وَطْئِهَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُفْضِي إلَى اسْتِيلاَدِهَا فَيَبْطُلُ الرَّهْنُ وَيَسْقُطُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ مِنْ الاِنْتِفَاعِ بِالرَّهْنِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ وَلَوْ بِالاِسْتِخْدَامِ وَغَيْرِهِ فَالْوَطْءُ أَوْلَى.

القاعدة السادسة والثلاثون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلاَثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ لعَارِضُ هَلْ يَسْتَتْبِعُ تَحْرِيمَ مُقَدِّمَاتِهِ أَمْ لاَ؟ إنْ كَانَ لِضَعْفِ الْمِلْكِ وَقُصُورِهِ أَوْ خَشْيَةَ عَدَمِ ثُبُوتِهِ كَالأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ إذَا مُلِكَتْ بِعَقْدٍ مُحَرَّمٍ فَيَحْرُمُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَانِعِ فَهُوَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: الْعِبَادَاتُ الْمَانِعَةُ مِنْ الْوَطْءِ وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ. ضَرْبٌ يَمْتَنِعُ فِيهِ جِنْسُ التَّرَفُّهِ وَالاِسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ فَيَمْنَعُ الْوَطْءَ وَالْمُبَاشَرَةَ كَالإِحْرَامِ الْقَوِيِّ وَهُوَ مَا قَبْلَ التَّحَلُّلِ الأَوَّلِ وَالاِعْتِكَافِ. وَضَرْبٌ يَمْتَنِعُ فِيهِ الْجِمَاعُ وَمَا أَفْضَى إلَى الإِنْزَالِ، فَلاَ يُمْنَعُ مِمَّا بَعُدَ إفْضَاؤُهُ إلَيْهِ مِنْ الْمُلاَمَسَةِ وَلَوْ كَانَتْ لِشَهْوَةٍ وَهُوَ الصِّيَامُ، وَأَمَّا الإِحْرَامُ الضَّعِيفُ وَهُوَ مَا بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَحْرُمُ بِالْوَطْءِ وَالْمُبَاشَرَةِ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الْوَطْءُ خَاصَّةً. النَّوْعُ الثَّانِي: غَيْرُ الْعِبَادَاتِ فَهَلْ يَحْرُمُ مَعَ الْوَطْءِ غَيْرُهُ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ فِي الْمَذْهَبِ. وَيُخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ:
منها: الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ يَحْرُمُ بِهِمَا الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ وَلاَ يَحْرُمُ مَا دُونَهُ فِي الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى يُمْنَعُ الاِسْتِمْتَاعُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.
وَمنها: الظِّهَارُ يُحَرِّمُ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ وَفِي الاِسْتِمْتَاعِ بِمُقَدِّمَاتِهِ رِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا التَّحْرِيمُ.
وَمنها: الأَمَةُ الْمَسْبِيَّةُ فِي مُدَّةِ الاِسْتِبْرَاءِ يَحْرُمُ وَطْئُهَا وَفِي الاِسْتِمْتَاعِ بِالْمُبَاشَرَةِ رِوَايَتَانِ وَصَحَّحَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ الْجَوَازَ.
وَمنها: الزَّوْجَةُ الْمَوْطُوءَةُ لِشُبْهَةٍ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا مُدَّةَ الاِسْتِبْرَاءِ وَفِي مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ وَجْهَانِ.
وَمنها: الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ فِي الاِسْتِمْتَاعِ بِمُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يُكْرَهُ وَلاَ يَحْرُمُ، وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَحْرُمَ أَمَّا إذَا قُلْنَا إَنَّ الْمُبَاشَرَةَ لِشَهْوَةٍ كَالْوَطْءِ فِي تَحْرِيمِ الْأُخْتِ حَتَّى تَحْرُمَ الْأُولَى فَلاَ إشْكَالَ.

القاعدة السابعة والثلاثون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلاَثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
الْوَاجِبُ بِقَتْلِ الْعَمْدِ هَلْ هُوَ الْقَوَدُ عَيْنًا أَوْ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا الْقَوَدُ وَإِمَّا الدِّيَةُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا ثَلاَثُ قَوَاعِدَ، اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ، وَالصُّلْحُ عَنْهُ.
الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: فِي اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ. فَيَتَعَيَّنُ حَقُّ الْمُسْتَوْفِي فِيهِ بِغَيْرِ إشْكَالٍ ثُمَّ إنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقَوَدُ عَيْنًا فَلاَ يَكُونُ الاِسْتِيفَاءُ تَفْوِيتًا لِلْمَالِ وَإِنْ قُلْنَا أَحَدُ الأَمْرَيْنِ فَهَلْ هُوَ تَفْوِيتٌ لِلْمَالِكِ أَمْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا مَسَائِلُ:
منها: إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ، فَاقْتَصَّ الرَّاهِنُ مِنْ قَاتِلِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ لِلْمُرْتَهِنِ أَمْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَشْهَرُهُمَا اللُّزُومُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَالأَكْثَرِينَقَالُوا: وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الْقِصَاصُ بِدُونِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ؛ لاِنَّ الْوَاجِبَ كَانَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ فَإِذَا عَيَّنَهُ بِالْقِصَاصِ فَقَدْ فَوَّتَ الْمَالَ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَقَدْ كَانَ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فَيَتَعَلَّقُ بِبَدَلِهِ الْوَاجِبُ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ فَيَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ فِي الْمَنْصُوصِ وَبِهِ جَزَمَ فِي الْمُحَرَّرِ وَقَالَ الْقَاضِي وَالأَكْثَرُونَ بِأَقَلِّ الأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَالْخِلاَفُ فِي هَذَا يُشْبِهُ الْخِلاَفَ فِيمَا يَضْمَنُ بِهِ الْعَبْدُ الْجَانِي إذَا أَعْتَقَهُ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانٌ وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ؛ لاِنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالاِخْتِيَارِ وَالاِخْتِيَارُ نَوْعُ تَكَسُّبٍ وَالتَّكَسُّبُ لِلْمُرْتَهِنِ لاَ يَلْزَمُ وَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْ الْمُفْلِسَ أَخْذُ الْمَالِ إذَا جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقَوَدَ بَلْ لَهُ الاِقْتِصَاصُ وَلاَ نَعْدَمُ شَيْئًا مَعَ تَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِأَعْيَانِ مَالِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ آخَرُ يَغْرَمُ مِنْهُ فَظَاهِرُ كَلاَمِ صَاحِبِ الْكَافِي أَنَّ الْوَجْهَيْنِ عَلَى قَوْلِنَا مُوجِبُ الْعَمْدِ الْقَوَدُ عَيْنًا. فَأَمَّا إنْ قُلْنَا أَحَدُ أَمْرَيْنِ وَجَبَ الضَّمَانُ لِتَفْوِيتِ الْمَالِ الْوَاجِبِ وَهُوَ بَعِيدٌ فَأَمَّا إنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقَوَدُ عَيْنًا فَإِنَّمَا فَوَّتَ اكْتِسَابَ الْمَالِ لَمْ يُفَوِّتْ مَالاً وَاجِبًا فَلاَ يَتَوَجَّهُ الضَّمَانُ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَطْلَقَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَيَتَعَيَّنُ بِنَاؤُهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ؛ لاِنَّهُمَا صَرَّحَا فِي الْعَفْوِ أَنَّهُ لاَ يُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقَوَدُ عَيْنًا، وَعَلَّلاَ بِأَنَّهُ إنَّمَا فَوَّتَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ اكْتِسَابَ الْمَالِ وَذَلِكَ غَيْرُ لاَزِمٍ لَهُ وَالاِقْتِصَاصُ مِثْلُ الْعَفْوِ ثُمَّ وَجَدَت الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ صَرَّحَ بِهَذَا الْبِنَاءِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ.
وَمنها: إذَا قُتِلَ عَبْدٌ مِنْ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدُّيُونِ عَمْدًا وَقُلْنَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَى الْوَرَثَةِ فَاخْتَارُوا الْقِصَاصَ فَهَلْ يُطَالَبُونَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ أَمْ لاَ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الْمَرْهُونِ.
وَمنها: الْعَبْدُ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ إذَا قُتِلَ عَمْدًا فَهَلْ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ الاِقْتِصَاصُ بَعْدَ إذْنِ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ وَهَلْ

يَضْمَنُ أَمْ لاَ؟ صَرَّحَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ بِالْمَنْعِ كَالرَّهْنِ سَوَاءٌ وَهَذَا يَتَخَرَّجُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَنَّ حَقَّ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ لَمْ يَبْطُلْ بِالْقَتْلِ وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ وَهُوَ بُطْلاَنُ حَقِّهِ بِالْقَتْلِ جَعْلاً لِلْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ كَالْهِبَةِ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ فَلاَ يُمْنَعُ مَالِكُ الرَّقَبَةِ مِنْ الاِقْتِصَاصِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَمنها: إذَا جَنَى عَلَى الْمُكَاتَبِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ بِدُونِ إذْنِ سَيِّدِهِ؟ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ الْجَوَازَ؛ لاِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْقِصَاصِ وَالْعَفْوَ عَنْهُ إلَى الْعَبْدِ دُونَ سَيِّدِهِ وَلَوْ كَانَ قِنًّا وَقَالَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ فِي مَنْعِهِ مِنْ الاِقْتِصَاصِ مِنْ عَبِيدِهِ إذَا قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ لاِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الاِقْتِصَاصُ بِدُونِ إذْنِ سَيِّدِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْقَاتِلَ قَدْ فَوَّتَ مَالاً مَمْلُوكًا فَهُوَ كَقَتْلِ الرَّاهِنِ الْمَرْهُونَ بِقِصَاصٍ اسْتَحَقَّهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لاَ يَلْزَمُ ضَمَانُ الْمُكَاتَبِ لِسَيِّدِهِ؛ لاِنَّ السَّيِّدَ لاَ يَسْتَحِقُّ انْتِزَاعَ ذَلِكَ مِنْهُ وَهَذَا بِخِلاَفِ اقْتِصَاصِ الْمُكَاتَبِ مِنْ الْجَانِي عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ بِهِ مَالاً مَمْلُوكًا لَهُ.
وَمنها: لَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِهِ لِمُعَيَّنٍ قَبْلَ قَبُولِهِ فَهَلْ لِلْوَرَثَةِ الاِقْتِصَاصُ بِدُونِ إذْنِ الْمُوصَى لَهُ؟ إذَا قُلْنَا هُوَ مِلْكٌ يَتَوَجَّهُ الْمَنْعُ إذَا قُلْنَا إنَّ الْجِنَايَةَ أَوْجَبَتْ أَحَدَ شَيْئَيْنِ فَإِنْ فَعَلُوا ضَمِنُوا لِلْمُوصَى لَهُ الْقِيمَةَ إذَا قَبِلَ.
وَمنها: لَوْ قُتِلَ عَبْدٌ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ عَمْدًا فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ فَهُمَا شَرِيكَانِ وَلَيْسَ لاِحَدِهِمَا الاِنْفِرَادُ بِالْقِصَاصِ وَلاَ الْعَفْوُ. هَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ فَلَوْ اقْتَصَّ رَبُّ الْمَالِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمُضَارِبِ تَوَجَّهَ أَنْ يَضْمَنَ لِلْمُضَارِبِ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ إنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ بِالْقَتْلِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ.
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَة: فِي الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَلَهُ ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا أَنْ يَقَعَ الْعَفْوُ إلَى الدِّيَةِ وَفِيهِ طَرِيقَانِ. إحْدَاهُمَا: ثُبُوتُ الدِّيَةِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِوُهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي. وَالثَّانِيَة: بِنَاؤُهُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا مُوجِبُهُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ ثَبَتَتْ الدِّيَةُ وَإِلاَ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ بِدُونِ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَذَكَرهَا الْقَاضِي أَيْضًا فِي الْمُضَارَبَةِ، فَيَكُونُ الْقَوَدُ بَاقِيًا بِحَالِهِ؛ لاِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِإِسْقَاطِهِ إلاَ بِعِوَضٍ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْقِصَاصِ وَلاَ يَذْكُرَ مَالاً، فَإِنْ قُلْنَا مُوجِبُهُ الْقِصَاصُ عَيْنًا فَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ قُلْنَا أَحَدَ شَيْئَيْنِ ثَبَتَ الْمَالُ وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ إذَا عُفِيَ عَنْ الْقَوَدِ سَقَطَ وَلاَ شَيْءَ بِكُلِّ حَالٍ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ؛ لاِنَّهُ بِعَفْوِهِ عَنْهُ تَعَيَّنَ الْوَاجِبُ فِيهِ بِتَصَرُّفِهِ فِيهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الاِخْتِيَارُ فِيهَا وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ إسْقَاطَ الْقَوَدِ تَرْكٌ لَهُ وَإِعْرَاضٌ عَنْهُ وَعُدُولٌ إلَى غَيْرِهِ لَيْسَ اخْتِيَارًا لَهُ وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ عَنْ الْقَوَدِ وَالْمَالِ جَمِيعًا وَلَيْسَ لَهُ اخْتِيَارُهُمَا جَمِيعًا بِخِلاَفِ الزَّوْجَاتِ فَإِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ طَلاَقَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ عَلَى الْمَشْهُورِ.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْقَوَدِ إلَى غَيْرِ مَالٍ مُصَرِّحًا بِذَلِكَ فَإِنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ عَيْنًا فَلاَ مَالَ لَهُ فِي نَفْسِ الأَمْرِ وَقَوْلُهُ هَذَا لَغْوٌ، وَإِنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ سَقَطَ الْقِصَاصُ وَالْمَالُ جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لا تَبَرَّعَ لَهُ كَالْمُفْلِسِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَرِيضِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَالْوَرَثَةِ مَعَ اسْتِغْرَاقِ الدُّيُونِ لِلتَّرِكَةِ فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لاَ يَسْقُطُ الْمَالُ بِإِسْقَاطِهِمْ وَهُوَ الْمَشْهُورُ؛ لاِنَّ الْمَالَ وَجَبَ بِالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَلاَ يُمْكِنُهُمْ إسْقَاطُهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْعَفْوِ عَنْ دِيَةِ الْخَطَأِ. الثَّانِي: يَسْقُطُ, وفِي الْمُحَرَّرِ أَنَّهُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ؛ لاِنَّ الْمَالَ لاَ يَتَعَيَّنُ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ لَهُ أَوْ إسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَحْدَهُ وَأَمَّا إن أسْقَاطُهُمَا فِي كَلاَمٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلٍ سَقَطَا جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ دُخُولِ الْمَالِ فِي مِلْكِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ. نَقُولُ: لِتَرْكِ التَّمَلُّكِ فَلاَ يَدْخُلُ الْمَالُ فِي مِلْكِهِ.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهَلْ يَكُونُ الْعَفْوُ تَفْوِيتًالِلْمَالِ إنْ قُلْنَا إنَّ الْوَاجِبَ الْقَوَدُ عَيْنًا لَمْ يَكُنْ الْعَفْوُ تَفْوِيتًا لِلْمَالِ فَلاَ يُوجِبُ ضَمَانًا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَكَلاَمُ أَبِي الْخَطَّابِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ وَصَرَّحَ فِي الْكَافِي بِأَنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا لَوْ اقْتَصَّ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ عِنْدَهُ فِي الضَّمَانِ وَجْهَيْنِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ضَعْفِ ذَلِكَ وَمُخَالَفَتِهِ لِظَاهِرِ تَعْلِيلِ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ. وَكَذَلِكَ فِي التَّلْخِيصِ: أَنَّ فِي الضَّمَانِ هَاهُنَا وَجْهَيْنِ وَصَحَّحَ عَدَمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الضَّمَانِ إذَا اقْتَصَّ خِلاَفًا.
وَفَرَّقَ بَعْضُ الأَصْحَابِ بَيْنَ الضَّمَانِ بِالاِقْتِصَاصِ وَعَدَمِ الضَّمَانِ بِالْعَفْوِ بِأَنَّهُ إذَا اقْتَصَّ فَقَدْ اسْتَوْفَى بَدَلَ الْمَالِ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ بِخِلاَفِ مَا إذَا عَفَى فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ لَهُ بَدَلاً بَلْ فَاتَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَلِهَذَا لَوْ أَبرأ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْغَرِيمَ مِنْ حَقِّهِ بَرِئَ وَلَمْ يَلْزَمْ الضَّمَانُ لِشَرِيكِهِ بِخِلاَفِ مَا إذَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ أَوْ بَدَلَهُ فَإِنَّهُ يضمن لِشَرِيكِهِ نَصِيبُهُ مِنْهُ، وَإِنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ فَعُفِيَ مَجَّانًا فَفِي الْكَافِي هُوَ كَالْعَفْوِ عَنْ الْمَالِ فَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كَانَ وَاهِيًا فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: لاَ يَصِحُّ وَهُوَ اخْتِيَارُهُ. أَعْنِي صَاحِبَ الْكَافِي كَمَا لاَ يَصِحُّ عَفْوُ الْمُفْلِسِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْقِيمَةُ تَكُونُ رَهْنًا؛ لاِنَّهُ أَتْلَفَهُ بِعَفْوِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ. وَالثَّالِث: يَصِحُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَتُؤْخَذُ الْقِيمَةُ مِنْ الْجَانِي تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ فَإِذَا زَالَ الرَّهْنُ رُدَّتْ إلَى الْجَانِي وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ.
وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي الَّذِي حَكَيْنَاهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فِي صِحَّةِ عَفْوِ الْمُفْلِسِ وَالْمَرِيضِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَالْوَرَثَةُ وَنَحْوُهُمْ فَيَتَخَرَّجُ فِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ كَالاِقْتِصَاصِ إذَا قُلْنَا الْوَاجِبُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الأَصْلِ مَسَائِلُ:
منها: عَفْوُ الرَّاهِنِ عَنْ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَرْهُونِ وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ مُسْتَوْفًى.

وَإِنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَنْ الْمَالِ وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ الَّذِي قِيلَ أَنَّهُ الْمَنْصُوصُ يَصِحُّ، وَعَلَى طَرِيقَةِ مَنْ حَكَى الضَّمَانَ في الْمَرْهُونُ، وَإِنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقَوَدُ عَيْنًا يَخْرُجُ هَاهُنَا مِثْلُهُ.
وَمنها: عَفْوُ الْمُكَاتَبِ عَنْ الْقِصَاصِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُفْلِسِ.
وَمنها: عَفْوُ الْوَرَثَةِ عَنْ الْقِصَاصِ مَعَ اسْتِغْرَاقِ الدُّيُونِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ ذَلِكَ.
وَمنها: عَفْوُ الْمَرِيضِ عَنْ الْقِصَاصِ وَحُكْمُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ كَذَلِكَ.
وَمنها: إذَا عَفَى الْوَارِثُ عَنْ الْعَبْدِ الْجَانِي عَلَى الْعَبْدِ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ هَلْ يَضْمَنُ لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ قِيمَتُهَا عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا فِي التَّرْغِيبِ وَالأَظْهَرُ تَخْرِيجُهُمَا عَلَى أَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ هَلْ سَقَطَ بِالإِتْلاَفِ أَمْ لاَ؟ وَيَتَوَجَّهُ أَنْ لاَ يَنْفُذَ عَفْوُهُ فِي قَدْرِ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ؛ لاِنَّهَا مِلْكٌ لِلْغَيْرِ إذَا قُلْنَا الْوَاجِبُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ وَهَذَا بِخِلاَفِ الْعَفْوِ عَنْ الْجَانِي عَلَى الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ؛ لاِنَّ الإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِالْقَتْلِ وَيَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ بِبَقِيَّةِ الْأُجْرَةِ.
وَمنها: إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِهِ لْمُعَيَّنُ قَبْلَ قَبُولِهِ فَهَلْ لِلْوَرَثَةِ الْعَفْوُ عَنْ قَاتِلِهِ بِدُونِ اخْتِيَارِ الْمُوصَى لَهُ بِهِ؛ لاِنَّ قِيمَتَهُ لَهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ وَالأَصْحَابُ، وَيَتَوَجَّهُ تَخْرِيجُ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الأَصْلِ إنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ عَيْنًا فَلَمْ يَجِبْ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ مَالٌ فَلَهُمْ الْعَفْوُ وَلاَ سِيَّمَا عَلَى قَوْلِنَا أَنَّ مِلْكَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ لَهُمْ، وَإِنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقَوَدُ عَيْنًا فِي الْمَرْهُونِ يَخْرُجُ هَاهُنَا مِثْلُهُ.
وَمنها: الْعَفْوُ عَنْ الْوَارِثِ الْجَانِي فِي مَرَضِ الْمَوْتِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ إنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقَوَدُ عَيْنًا فَهُوَ صَحِيحٌ وَإِنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ فَكَذَلِكَ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ فِي مسألة الواقف على الوارث في المرض وَيَتَوَجَّهُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ بِوُقُوفِهِ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ.
تَنْبِيهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَوْ أَطْاَقَ الْعَفْوَ عَنْ الْجَانِي عَمْدًا فَهَلْ يَتَنَزَّلُ عَفْوُهُ عَلَى الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ أَوْ عَلَى الْقَوَدِ وَحْدَهُ، حَكَى صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ ثَلاَثَةَ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: وَذَكَرَ أَنَّهُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا جَمِيعًا وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا. وَالثَّانِي: يَنْصَرِفُ إلَى الْقَوَدِ وَحْدَهُ إلاَ أَنْ يُقِرَّ العافي بِإِرَادَةِ الدِّيَةِ مَعَ الْقَوَدِ. وَالثَّالِثُ: يَكُونُ عَفْوًا عَنْهُمَا إلاَ أَنْ يَقُولَ لَمْ أُرِدْ الدِّيَةَ فَيَحْلِفُ وَيُقْبَلُ مِنْهُ. وَفِي التَّرْغِيبِ: إنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقَوَدُ وَحْدَهُ سَقَطَ وَلاَ دِيَةَ، وَإِنْ قُلْنَا أَحَدَ شَيْئَيْنِ انْصَرَفَ الْعَفْوُ إلَى الْقِصَاصِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَالْأُخْرَى يَسْقُطَانِ جَمِيعًا.
الثَّانِي: لَوْ اخْتَارَ الْقِصَاصَ فَلَهُ ذَلِكَ وَهَلْ لَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ إلَى الدِّيَةِ إنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ هُوَ الْقِصَاصُ عَيْنًا فَلَهُ تَرْكُهُ إلَى الدِّيَةِ وَإِنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ فَعَلَى وجهين حَكَاهُمَا فِي التَّرْغِيبِ. أَحَدُهُمَا:

نَعَمْ ! وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَلاِنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ مُعَيَّنٌ لَهُ الْقِصَاصُ فَيَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ إلَى مَالٍ كَمَا إذَا قُلْنَا هُوَ الْوَاجِبُ عَيْنًا. وَالثَّانِي: لاَ، وَهُوَ احْتِمَالٌ فِي الْكَافِي وَالْمُحَرَّرِ؛ لاِنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ الدِّيَةِ بِاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا كَمَا لَوْ عَفَى عَنْهَا وَعَنْ الْقِصَاصِ. وَفَارِقٌ مَا إذَا قُلْنَا أَنَّ الْقَوَدَ هُوَ الْوَاجِبُ عَيْنًا؛ لاِنَّ الْمَالَ لَمْ يَسْقُطْ بِإِسْقَاطِهِ وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الَّذِي أَسْقَطَهُ هُوَ الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ بِالْجِنَايَةِ، وَالْمَأْخُوذُ هُنَا غَيْرُهُ وَهُوَ مَأْخُوذٌ بِطَرِيقِ الْمُصَالَحَةِ عَنْ الْقِصَاصِ الْمُتَعَيَّنِ.
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: الصُّلْحُ عَنْ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ قُلْنَا هُوَ الْقَوَدُ وَحْدَهُ فَلَهُ الصُّلْحُ عَنْهُ بِمِقْدَارِ الدِّيَةِ وَبِأَقَلَّ وَأَكْثَرَ منها إذْ الدِّيَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بِالْجِنَايَةِ وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَارَ الْقَوَدَ أَوَّلاً ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْمَالِ وَقُلْنَا لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ الدِّيَةَ سَقَطَ وُجُوبُهَا وَإِنْ قُلْنَا أَحَدَ شَيْئَيْنِ فَهَلْ يَكُونُ الصُّلْحُ عَنْهَا صُلْحًا عَنْ الْقَوَدِ أَوْ الْمَالِ عَلَى وَجْهَيْنِ؟ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا مَسَائِلُ:
منها: هَلْ يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ جِنْسهَا أَمْ لاَ؟ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الاِنْتِصَارِ لاَ يَصِحُّ لاِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ بِالْعَفْوِ وَالْمُصَالَحَةِ فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ مِنْ الْجِنْسِ وَكَذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ يَصِحُّ على غَيْرُ جِنْسِ الدِّيَةِ وَلاَ يَصِحُّ عَلَى جِنْسِهَا إلاَ بَعْدَ تَعْيِينِ الْجِنْسِ مِنْ إبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ حذاراً مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ وَرِبَا الْفَضْلِ، وَأَطْلَقَ الأَكْثَرُونَ جَوَازَ الصُّلْحِ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. قَالَ فِي الْمُغْنِي: لاَ أَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا وَصَرَّحَ السَّامِرِيُّ فِي فُرُوقِهِ بِجَوَازِ الصُّلْحِ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ. وَإِنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْقَوَدَ ثَابِتٌ فَالْمَأْخُوذُ عِوَضٌ عَنْهُ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ فَجَازَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ الْجَائِزَةِ. وَأَمَّا الْقَوَدُ فَقَدْ يُقَالُ إنَّمَا يَسْقُطُ بَعْدَ صِحَّةِ الصُّلْحِ وَثُبُوتِهِ وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْمُعَاوَضَةِ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ فَلاَ يُوجِبُ سُقُوطَهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُسْقِطُهُ بِعِوَضٍ فَلاَ يَسْقُطُ بِدُونِ ثُبُوتِ الْعِوَضِ لَهُ.
وَمنها: لَوْ صَالَحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ بِشِقْصٍ هَلْ يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ أَمْ لاَ؟ إنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقَوَدُ عَيْنًا فَالشِّقْصُ مَأْخُوذٌ بِعِوَضٍ غَيْرِ مَالِيٍّ فَلاَ شُفْعَةَ فِيهِ عَلَى أَشْهَرِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَالأَكْثَرِينَ خِلاَفًا لاِبِي حَامِدٍ، وَإِنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ إذْ هُوَ عِوَضٌ عَنْ الدِّيَةِ لِتَعْيِينِهَا بِاخْتِيَارِ الصُّلْحِ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَالتَّلْخِيصِ وَكَذَلِكَ السَّامِرِيِّ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَهُوَ خِلاَفُ مَا قَرَّرَهُ فِي الْفُرُوقِ وَيَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الصُّلْحُ عَنْ الْقَوَدِ أَنْ يُطْرَدَ فِيهِ الْوَجْهَانِ الأَوَّلاَنِ وَهُوَ وَقْفٌ عَلَى إطْلاَقِ الأَكْثَرِينَ.
وَمنها: لَوْ قَتَلَ عَبْدُهُ عَبْدًا مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ عَمْدًا فَصَالَحَ الْمَالِكَ عَنْهُ بِمَالٍ فَذَكَرَ الْقَاضِي فِي التَّخْرِيجِ أَنَّهُ إنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ عَيْنًا لَمْ يَصِرْ الْمَالُ الْمُصَالَحُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ إلاَ بِنِيَّةٍ وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ

الْمَقْتُولِ بَلْ عَنْ الْقِصَاصِ وَإِنْ قُلْنَا أَحَدَ شَيْئَيْنِ فَهُوَ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الْمَقْتُولِ فَهُوَ كَقَتْلِ الْخَطَأِ، وَهَذَا مُنَزَّلٌ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى الْمَالِ أَمَّا إنْ قِيلَ إنَّهُ وَاقِعٌ عَنْ الْقَوَدِ فَقَدْ يُقَالُ كَذَلِكَ؛ لاِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْعَبْدِ وَقَدْ يُقَالُ لاَ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ إلاَ بِنِيَّةٍ وَظَاهِرُ تَعْلِيلِ الْقَاضِي يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لاِنَّهُ عِوَضٌ عَمَّا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ عَلَى مَالِكِ الْجَانِي مِنْ إرَاقَةِ دَمِهِ بِخِلاَفِ مَا إذَا أَخَذَ قِيمَةَ الْجَانِي أَوْ بَاعَهُ فِي الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَالَ الْوَاجِبَ بِالْقَتْلِ عِوَضًا عَنْ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُضَارَبَةِ: إذَا قَتَلَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ الْمُضَارَبَةِ عَمْدًا فَصَالَحَ عَنْهُ بِمَالٍ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لاِنَّهُ بَدَلٌ بِكُلِّ حَالٍ عَنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ كَالثَّمَنِ وَلَمْ يَبْنِيَاهُ عَلَى الْخِلاَفِ فِي مُوجِبِ الْعَمْدِ إذْ هُوَ بَدَلٌ عَنْهُ بِكُلِّ حَالٍ فَلاَ حَاجَةَ هَاهُنَا إلَى نِيَّةٍ وَلَكِنْ قَدْ يَبْنِي عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الصُّلْحَ هَلْ وَقَعَ عَنْ الْمَالِ أَوْ عَنْ الْقَوَدِ؟ وَقَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْهِدَايَةِ: يُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّهُ مَتَى قُلْنَا الْقِصَاصُ يَجِبُ عَيْنًا أَنَّ الْمُضَارَبَةَ قَدْ بَطَلَتْ وَيَكُونُ الْجَمِيعُ مَا صَالَحَ عَنْهُ لِلسَّيِّدِ مِلْكًا جَدِيدًا.

القاعدة الثامنة والثلاثون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلاَثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
الْعَيْنُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لاِدَمِيٍّ، إمَّا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً أَوْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ فَإِنْ كَانَتْ مَضْمُونَةً وَجَبَ ضَمَانُهَا بِالتَّلَفِ وَالإِتْلاَفِ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهَا بِالتَّلَفِ وَوَجَبَ بِالإِتْلاَفِ إنْ كَانَ مُسْتَحَقٌّ مَوْجُودٌ وَإِلاَ فَلاَ، أَمَّا الأَوَّلُ فَلَهُ أَمْثِلَةٌ:
منها: الزَّكَاةُ فَإِذَا قُلْنَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ فَإِنَّهَا لاَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ وَيَجِبُ ضَمَانُهَا.
وَمنها: الصَّيْدُ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ وَفِي الْحَرَمِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمَالِكِ بِالْجَزَاءِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ:
منها: الرَّهْنُ يُضْمَنُ بِالإِتْلاَفِ مِثْلُ أَنْ يَسْتَهْلِكَهُ الرَّاهِنُ أَوْ يُعْتِقَهُ إنْ كَانَ عَبْدًا وَلاَ يُضْمَنُ بِالتَّلَفِ.
وَمنها: الْعَبْدُ الْجَانِي إذَا أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ وَهَلْ يَضْمَنُهُ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ مُطْلَقًا أَوْ بِأَقَلِّ الأَمْرَيْنِ مِنْهُ وَمِنْ قِيمَتِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَأَنْكَرَ فِي الْخِلاَفِ رِوَايَةَ الضَّمَانِ بِالأَرْشِ مُطْلَقًا. قَالَ: لاِنَّهُ أَتْلَفَ مَحِلَّ الْحَقِّ فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرَ مِنْ ضَمَانِهِ بِخِلاَفِ مَا إذَا اخْتَارَ فِدَاءَهُ فَإِنَّهُ مَعَ بَقَائِهِ قَدْ يَرْغَبُ فِيهِ رَاغِبٌ فَيَبْذُلُ فِيهِ مَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ الأَرْشَ كُلَّهُ فَلِذَلِكَ ضَمِنَهُ بِأَرْشِ كُلِّهِ عَلَى رِوَايَةٍ وَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِالْجِنَايَةِ ضَمِنَهُ بِالأَرْشِ كُلِّهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَزِمَهُ الأَقَلُّ. وَنَقَلَ عَنْهُ حَرْبٌ إنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلاَ

شَيْءَ عَلَيْهِ بِحَالٍ وَإِنْ عَلِمَ ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ فَقَطْ وَلَوْ قَتَلَهُ الْمَالِكُ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ وَإِنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَفِي الْخِلاَفِ الْكَبِيرِ يَسْقُطُ الْحَقُّ كَمَا لَوْ مَاتَ وَحَكَى الْقَاضِي فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ وَالْآمِدِيُّ رِوَايَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا: يَسْقُطُ الْحَقُّ قَالَ الْقَاضِي نَقَلَهَا مُهَنَّا لِفَوَاتِ مَحِلِّ الْجِنَايَةِ. وَالثَّانِيَة: لاَ تَسْقُطُ نَقَلَهَا حَرْبٌ وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَبِهَا جَزَمَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ فَيَتَعَلَّقُ الْحَقُّ بِقِيمَتِهِ؛ لاِنَّهَا بَدَلُهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ عَمْدًا فَإِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ وَجَعَلَ الْقَاضِي الْمُطَالَبَةَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِلسَّيِّدِ، وَالسَّيِّدُ يُطَالِبُ الْجَانِي بِالْقِيمَةِ.
وَمنها: إذَا قَتَلَ رَجُلاً عَمْدًا ثُمَّ قُتِلَ الْقَاتِلُ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ثَوابٍ فِي رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلاً عَمْدًا ثُمَّ قُتِلَ الرَّجُلُ خَطَأً لَهُمْ الدِّيَةُ قِيلَ لَهُ: وَإِنْ قُتِلَ عَمْدًا قَالَ وَإِنْ قُتِلَ عَمْدًا فَقِيلَ لَهُ: فَإِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ إنَّهُ إذَا قُتِلَ إنَّمَا كَانَ لَهُمْ دَمُهُ وَلَيْسَ لَهُمْ الدِّيَةُ قَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ لحَدِيثُ إنَّ أَوْلِيَاءَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا قَتَلُوا وَإِنْ شَاءُوا قَبِلُوا الدِّيَةَ فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا قَتَلَ تَعَيَّنَتْ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ بِقَتْلِ الْعَمْدِ أَحَدَ شَيْئَيْنِ وَقَدْ فَاتَ أَحَدُهُمَا فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ شَيْءٌ إذَا قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقَوَدُ عَيْنًا وَهَذَا يَقْوَى عَلَى قَوْلنَا إنَّ الدِّيَةَ لاَ تَثْبُتُ إلاَ بِالتَّرَاضِي. وَخَرَّجَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَجْهًا آخَرَ وَقَوَّاهُ: أَنَّهُ يَسْقُطُ الدِّيَةُ بِمَوْتِ الْقَاتِلِ أَوْ قَتْلِهِ بِكُلِّ حَالٍ مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا وَسَوَاءٌ قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقَوَدُ عَيْنًا أَوْ أَحَدَ شَيْئَيْنِ؛ لاِنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِإِزَاءِ الْعَفْوِ وَبَعْدَ مَوْتِ الْقَاتِلِ لاَ عَفْوَ، فَيَكُونُ مَوْتُهُ كَمَوْتِ الْعَبْدِ الْجَانِي وَالْعَجَبُ مِنْ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ كَيْفَ حَمَلَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ الأَوَّلِ يُخَيَّرُونَ فِي الْقَاتِلِ الثَّانِي بَيْنَ أَنْ يَقْتَصُّوا مِنْهُ أَوْ يَأْخُذُوا الدِّيَةَ؟ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فَحَكَاهُ رِوَايَةً وَمَنْ تَأَمَّلَ لَفْظَ الرِّوَايَةِ عَلِمَ أَنَّهَا لاَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَيْضًا فِي خِلاَفِهِ الدِّيَةُ وَاجِبَةٌ فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ قُلْنَا الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ أَوْ الْقِصَاصُ عَيْنًا وَكَلاَمُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى خِلاَفِ ذَلِكَ كَمَا رَأَيْته وَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الرَّجُلِ يَقْتُلُ عَمْدًا ثُمَّ يُقَدَّمُ لِيُقَادَ مِنْهُ فَيَأْتِي رَجُلٌ فَيَقْتُلُهُ قَالَ: الْوَلِيُّ الأَوَّلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَتَلَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ فَلَمَّا ذَهَبَ الدَّمُ فَيَنْظُرُ إلَى أَوْلِيَاءِ هَذَا الْمَقْتُولِ الثَّانِي فَإِنْ هُمْ أَخَذُوا الدِّيَةَ مِنْ الْقَاتِلِ الأَخِيرِ فَقَدْ صَارَ مِيرَاثًا مِنْ مَالِهِ ثُمَّ يَعُودُ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ الأَوَّلِ فَيَأْخُذُونَهَا مِنْهُمْ بِدَمِ صَاحِبِهِمْ وَكَذَلِكَ نَقَلَ أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالَ إذَا فَاتَهُ الدَّمُ أَخَذَ الدِّيَةَ مِنْ مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ؛ لاِنَّهُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ وَإِنْ شَاءَ عَفَا.

َهَذَا كُلُّهُ تَصْرِيحٌ بِالْحُكْمِ وَالتَّعْلِيلِ وَجَعَلَ الْمُطَالَبَةَ بِالدِّيَةِ لاِوْلِيَاءِ الْقَاتِلِ الأَوَّلِ؛ لاِنَّ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ. وَخَرَّجَ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَجْهًا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ لِقَاتِلِ الْقَاتِلِ؛ لاِنَّهُ لَوْ فَوَّتَ مَحِلَّ الْحَقِّ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَتَلَ الْعَبْدَ الْجَانِي.
وَلِلْأَصْحَابِ وَجْهَانِ فِيمَا إذَا قَتَلَ الْجَانِي بَعْضَ الْوَرَثَةِ حَيْثُ لاَ يَنْفَرِدُ بِالاِسْتِيفَاءِ هَلْ الْبَاقِينَ حِصَّتُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْجَانِي أَمْ عَلَى الْمُقْتَصِّ؟عَلَى وَجْهَيْنِ, وَعَلَى الأَوَّلِ يَرْجِعُ وَرَثَةُ الْجَانِي عَلَى الْمُقْتَصِّ بِمَا فَوْقَ حَقِّهِ. وَنَقَلَ صَالِحٌ وَابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلاً فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَعَدَا بَعْضُ وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ فَقَتَلَ الرَّجُلَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْحَاكِمِ. فَقَالَ هَذَا قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ مَا لِلْحَاكِمِ هَاهُنَا؟! وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانٌ؛ لاِنَّهُ اسْتَوْفَى الْحَقَّ لِنَفْسِهِ وَلِشُرَكَائِهِ وَلاَ سِيَّمَا إنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ بِقَتْلِ الْعَمْدِ الْقَوَدُ عَيْنًا.
وَمنها: لَوْ عَيَّنَ الْأُضْحِيَّةَ أَوْ هَدْيًا لاَ عَنْ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ فَإِنْ أَتْلَفَهُ أَوْ تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ بِمِثْلِهِ؛ لاِنَّ مُسْتَحِقَّهُ مَوْجُودٌ وَهُمْ مَسَاكِينُ وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِوَابْنُ عَقِيلٍ فِي عُمَدِهِ رِوَايَةًبِوُجُوبِ الضَّمَانِ كَالزَّكَاةِ وَأَخَذُوه مِنْ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَمَنْ سَاقَ هَدْيًا وَاجِبًا فَعَطِبَ دُونَ مَحِلِّهِ فَعَلَيْهِ مَكَانَهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا وَكَلاَمُ الْخِرَقِيِّ إنَّمَا هُوَ فِي الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ. قَالُوا وَكَذَا الْخِلاَفُ فِيمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى تَلِفَ هَلْ يَضْمَنُهُ؟ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَمنها: لَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُ غَيْرِهِ وَلَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لِعَجْزِهِ عَنْ الْمَنْذُورِ، وَإِنْ قَتَلَهُ السَّيِّدُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لاَ يَلْزَمُهُ قَالَهُ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ؛ لاِنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْعِتْقِ تَكْمِيلُ الأَحْكَامِ وَالْمَصْرِفُ لِلْعَبْدِ فَإِذَا فَاتَ الْمَصْرِفُ لَمْ يَبْقَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِتْقِ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فَيَجِبُ صَرْفُ قِيمَتِهِ فِي الرِّقَابِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِنَا فِي الْوَلاَءِ إذَا حَصَلَ مِنْ الْمُعْتِقِينَ فِي الْكَفَّارَةِ صَرْفٌ فِي الرِّقَابِ وَالْوَلاَءِ أَلَيْسَ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لاِنَّهُ بَدَلُ الاِكْتِسَابِ وَالْقِيمَةِ بَدَلُ الذَّاتِ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الرِّقَابُ مَصْرِفًا فَلاَ وَجْهَ لِسُقُوطِ الْقِيمَةِ عَنْهُ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لِسَيِّدِهِ الْقِيمَةُ وَلاَ يَلْزَمُهُ صَرْفُهَا فِي الْعِتْقِ وَخَرَّجَ بَعْضُ الأَصْحَابِ وَجْهًا بِوُجُوبِهِ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ؛ لاِنَّ الْبَدَلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُبْدَلِ وَلِهَذَا لَوْ وَصَّى لَهُ بِعَبْدٍ فَقبِلَ قَبُولِهِ فَإِنَّ قِيمَتَهُ لَهُ إذَا قُتِلَ.

القاعدة التاسعة والثلاثون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلاَثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ مِنْ جِنْسٍ إذَا كَانَ بَعْضُهَا مُقَدَّرًا بِالشَّرْعِ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِهِ، فَهِيَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْحَقِّ خَشْيَةَ سُقُوطِ صَاحِبِهِ فَحَيْثُ كَانَ مَنْ لَمْ يُقَدّرْ حَقَّهُ يَسْتَحِقُّ الْجَمِيعَ عِنْدَ الاِنْفِرَادِ كَذَوِي الْفُرُوضِ مَعَ الْعَصَبَاتِ فِي الْمِيرَاثِ، فَهَاهُنَا قَدْ يَزِيدُ الْحَقُّ الَّذِي لَمْ يُقَدَّرْ عَلَى الْحَقِّ الْمُقَدَّرِ؛ لاِنَّهُ أَقْوَى مِنْهُ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لِنِهَايَةِ الاِسْتِحْقَاقِ وَغَيْرُ الْمُقَدَّرِ مَوْكُولاً إلَى الرَّأْيِ وَالاِجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِهِ بِأَصْلٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ فَلاَ يُرَادُ الْحَقُّ الَّذِي لَمْ يُقَدَّرْ عَلَى الْمُقَدَّرِ هَاهُنَا، وَلَهُ صُوَرٌ:
منها: الْحَدُّ وَالتَّعْزِيرُ فَلاَ يَبْلُغُ بِتَعْزِيرِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ أَدْنَى حُدُودِهِمَا إلاَ فِيمَا سَبَّبَهُ الْوَطْءُ فَيَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرِ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْحُرِّ مِائَةَ جَلْدَةٍ بِدُونِ نَفْيٍ، وَقِيلَ لاَ يَبْلُغُ الْمِائَةَ بَلْ يَنْقُصُ مِنْهُ سَوْطًا وَفِي حَقِّ الْعَبْدِ خَمْسِينَ إلاَ سَوْطًا، وَيَجُوزُ النَّقْصُ مِنْهُ عَلَى مَا يَرَاهُ السُّلْطَانُ، وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ حَكَى أَنَّهُ لاَ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ فِي مَعْصِيَةٍ حَدًّا مَشْرُوعًا فِي جِنْسِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى حَدِّ غَيْرِ جِنْسِهَا. قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَيَحْتَمِلُهُ كَلاَمُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ وَعَنْ أَحْمَدَ لاَ يُزَادُ فِي كُلِّ تَعْزِيرٍ على عَشْرُ جَلْدَاتٍ لِخَبَرِ أَبِي بُرْدَةَ.
وَمنها: السَّهْمُ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَالرَّضْخِ فَلاَ يَبْلُغُ بِالرَّضْخِ لاِدَمِيٍّ سَهْمَهُ الْمُقَدَّرَ وَلاَ بِالرَّضْخِ لِمَرْكُوبٍ سَهْمَهُ الْمُقَدَّرَ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُقَدَّرًا شَرْعًا وَالْآخَرُ تَقْدِيرُهُ رَاجِعٌ إلَى الاِجْتِهَادِ وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ يَضْبِطُ بِهِ فَهَلْ هُوَ كَالْمُقَدَّرِ أَمْ لاَ؟
إنْ كَانَ مَحِلُّهُمَا وَاحِدًا لَمْ يُجَاوِزْ بِهِ الْمُقَدَّرُ وَفِي بُلُوغِهِ خِلاَفٌ، وَإِنْ كَانَ مَحِلُّهُمَا مُخْتَلِفًا فَالْخِلاَفُ فِي بُلُوغِ الْمُقَدَّرِ وَمُجَاوَزَتِهِ، فَالأَوَّلُ كَالْحُكُومَةِ إذَا كَانَتْ فِي مَحِلٍّ لَهُ مُقَدَّرٍ فَلاَ يُجَاوِزُ بِهَا الْمُقَدَّرَ، وَكَذَلِكَ الْمَحِلُّ وَفِي بُلُوغِهِ وَجْهَانِ: وَالثَّانِي: كَدِيَةِ الْحُرِّ مَعَ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَإِذَا جَاوَزَتْ قِيمَةَ الْعَبْدِ فَهَلْ تَجِبُ الْقِيمَةُ بِكَمَالِهِا أَمْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِهَا دِيَةَ الْحُرِّ بَلْ يَنْقُصُ منها؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَقَدْ يُخَرَّجُ عَلَيْهِمَا جَوَازُ بُلُوغِ الْحُكُومَةِ الأَرْشَ الْمُقَدَّرَ مُطْلَقًا.

القاعدة الأربعون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
مَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ بِإِتْلاَفِ نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضَى لَهُ لِمَانِعٍ فَإِنَّهُ يَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ الْغُرْمُ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ:
منها: إذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا عَمْدًا ضَمِنَهُ بِدِيَةِ مُسْلِمٍ.
وَمنها: مَنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ فَإِنَّهُ يَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ الْغُرْمُ نَصَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالثَّمَرِ وَالْكَثْرِ.
وَمنها: الضَّالَّةُ الْمَكْتُومَةُ يَضْمَنُ بِقِيمَتِهَا مَرَّتَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ مُعَلِّلاً بِأَنَّ التَّضْعِيفَ فِي الضَّمَانِ هُوَ لِدَرْءِ الْقَطْعِ وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ عَلَى أَصْلِهِ فِي قَطْعِ جَاحِدِ الْعَارِيَّةِ.
وَمنها: لَوْ قَلَعَ الأَعْوَرُ عَيْنَ الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ وَتَلْزَمُهُ الدِّيَةُ كَامِلَةً نَصَّ عَلَيْهِ.
وَمنها: الصَّغِيرُ إذَا قَتَلَ عَمْدًا وَقُلْنَا إنَّ لَهُ عَمْدًا صَحِيحًا ضُوعِفَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ.
وَمنها: السَّرِقَةُ عَامَ الْمَجَاعَةِ قَالَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ يَتَضَاعَفُ الْغُرْمُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ؛ لاِنَّهُ لَوْ احْتَجَّ فِي رِوَايَةِ الأَثْرَمِ بِحَدِيثِ عُمَرَ فِي رَقِيقِ حَاطِبٍ.
وَمنها: السَّرِقَةُ مِنْ الْغَنِيمَةِ إذَا قُلْنَا هِيَ كَالْغُلُولِ وَإِنَّ الْغَالَّ يُحْرَمُ سَهْمَهُ منها عَلَى رِوَايَةٍ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ غُرْمُ مَا سَرَقَهُ مَعَ حِرْمَانِ سَهْمِهِ الْمُسْتَحَقِّ منها، وَقَدْ يَكُونُ قَدْرَ السَّرِقَةِ وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ. وَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَغْلِيظُ الدِّيَةِ بِقَتْلِ ذِي الرَّحِمِ عَمْدًا؛ لاِنَّ الْقِصَاصَ فِيهِ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا فِي غَيْرِ الاِبْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِزِيَادَةِ حُرْمَةِ الْجِنَايَةِ فَهُوَ كَالتَّضْعِيفِ بِالْقَتْلِ فِي الْحَرَمِ وَالإِحْرَامِ.

القاعدة الحادية والأربعون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
إذَا أَتْلَفَ عَيْنًا تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُهَا وَاسْتِيفَاؤُهَا إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ لَزِمَهُ ضَمَانُهَا بِقِيمَتِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لاَ يَوْمَ تَلَفِهَا أَوْ بِمِثْلِهَا عَلَى صِفَاتِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لاَ يَوْمَ تَلَفِهَا عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ صُوَرٌ:
منها: لَوْ تَرَكَ السَّاعِي زَكَاةَ الثِّمَارِ أَمَانَةً بِيَدِ رَبِّ الْمَالِ فَأَتْلَفَهَا قَبْلَ جَفَافِهَا أَوْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ ضَمنها بِقَدْرِهَا يَابِسًا لاَ رَطْبًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَنْهُ يَضْمنها بِمِثْلِهَا رَطْبًا.

وَمنها: لَوْ أَتْلَفَ الْأُضْحِيَّةَ أَوْ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ بِأَكْثَر الْقِيمَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ الإِتْلاَفِ أَوْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِيهِ وَجْهٌ يَضْمنها: بِقِيمَتِهَا يَوْمَ التَّلَفِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ بِكُلِّ حَالٍ كَمَا لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، وَفِي الْكَافِي يَضْمنها: بِأَكْثَرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ هَدْيِ مِثْلِهَا؛ لاِنَّهُ فَوَّتَ الإِرَاقَةَ وَالتَّفْرِقَةَ بَعْدَ لُزُومِهِمَا فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ شَيْئَيْنِ، قَالَ: وَيَشْتَرِي بِالْقِيمَةِ هَدْيًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَيَلْتَحِقُ بِهَذَه مَا إذَا أَكَلَ الْمُضَحِّي جَمِيعَ أُضْحِيَّتِهِ أَوْ الْهَدْيَ مِمَّا مُنِعَ مِنْ أَكْلِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِمِثْلِهِ لَحْمًا نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، لاَ تَلْزَمُهُ الإِرَاقَةُ وَالتَّفْرِقَةُ وَقَدْ أَتَى بِأَحَدِهِمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ غَيْرُهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لاِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الإِرَاقَةُ فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ وَيَشْتَرِي بِهَا مِثْلَهُ.

القاعدة الثانية والأربعون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
مَا زَالَ مِنْ الأَعْيَانِ ثُمَّ عَادَ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ أَوْ بِصُنْعِ آدَمِيٍّ هَلْ يُحْكَمُ عَلَى الْعَائِدِ بِحُكْمِ الأَوَّلِ أَمْ لاَ؟ فِيهِ خِلاَفٌ يُطْرَدُ فِي مَسَائِلَ:
منها: لَوْ قَلَعَ سِنَّهُ أَوْ قَطَعَ أُذُنَهُ فَأَعَادَهُ فِي الْحَالِ فَثَبَتَ وَالْتَحَمَ كَمَا كَانَ لَمْ يَرُحْ، فَهَلْ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ أَمْ لاَ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى طَهَارَتِهِ إذَا ثَبَتَ وَالْتَحَمَ، وَعَلَى نَجَاسَتِهِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ، وَحَكَى الْقَاضِي الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَفَرَّقَ ابْنُ أَبِي مُوسَى بَيْنَ أَنْ يَثْبُتَ وَيَلْتَحِمَ فَيُحْكَمَ بِطَهَارَتِهِ لِعَوْدِ الْحَيَاةِ إلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ وَهَذَا حَسَنٌ. فَإِنْ ذلك كَانَ بِجِنَايَةِ جَانٍ فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ قَوَدَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ سِوَى حُكُومَةِ نَقْصِهِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَبَنَاهُ كَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ عَلَى الْقَوْلِ بِطَهَارَتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي حَقُّهُ بِحَالِهِ فَأَمَّا إنْ اقْتَصَّ مِنْ الْجَانِي فَأَعَادَهُ وَالْتَحَمَ فَهَلْ لِلْمُقْتَصِّ إبَانَتُهُ ثَانِيًا أَمْ لاَ؟ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ عَلَى أَنَّ لَهُ إبَانَتُهُ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ لِلشَّيْنِ وَالشَّيْنُ قَدْ زَالَ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
وَمنها: لَوْ قَلَعَ ظُفْرَ آدَمِيٍّ أَوْ سِنَّهُ أَوْ شَعْرَهُ ثُمَّ عَادَ أَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ شَمَّهُ أَوْ بَصَرَهُ ثُمَّ عَادَ بِحَالِهِ فَلاَ ضَمَانَ بِحَالٍ فِي الْمَذْهَبِ؛ لاِنَّ أَطْرَافَ الْآدَمِيِّ لاَ تُضْمَنُ بِالإِتْلاَفِ إذْ لَيْسَتْ أَمْوَالاً، فَإِنَّمَا يَضْمَنُ بِمَا نَقَصَ الْجُمْلَةَ وَلَمْ يُوجَدْ نَقْصٌ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ.
وَيَتَوَجَّهُ التَّفْرِيقُ؛ لاِنَّ أَعْضَاءَ الرَّقِيقِ أَمْوَالٌ وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الأَمَةِ دُونَ الْحُرَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَنَا، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا هَزَلَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ سَمِنَتْ فَهَلْ يُضْمَنُ نَقْصَهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَالأَشْبَهُ بِكَلاَمِهِ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ؛ لاِنَّهُ نَصَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِيمَنْ كَسَرَ خَلْخَالاً لِغَيْرِهِ أَنَّ عَلَيْهِ إصْلاَحُهُ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَإِنَّ إصْلاَحَ الْخَلْخَالِ نَوْعُ ضَمَانٍ بِخِلاَفِ عَوْدِ السَّمْنِ، وَلَكِنْ صَرَّحَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ بِأَنَّهُ لَوْ غَصَبَ جِدَارًا فَنَقَضَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ فَعَلَيْهِ أَرْشُ نَقْصِهِ، إلاَ أَنَّ هَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ

وَمنها: لَوْ أَتْلَفَ الْأُضْحِيَّةَ أَوْ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ بِأَكْثَر الْقِيمَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ الإِتْلاَفِ أَوْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِيهِ وَجْهٌ يَضْمنها: بِقِيمَتِهَا يَوْمَ التَّلَفِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ بِكُلِّ حَالٍ كَمَا لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، وَفِي الْكَافِي يَضْمنها: بِأَكْثَرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ هَدْيِ مِثْلِهَا؛ لاِنَّهُ فَوَّتَ الإِرَاقَةَ وَالتَّفْرِقَةَ بَعْدَ لُزُومِهِمَا فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ شَيْئَيْنِ، قَالَ: وَيَشْتَرِي بِالْقِيمَةِ هَدْيًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَيَلْتَحِقُ بِهَذَه مَا إذَا أَكَلَ الْمُضَحِّي جَمِيعَ أُضْحِيَّتِهِ أَوْ الْهَدْيَ مِمَّا مُنِعَ مِنْ أَكْلِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِمِثْلِهِ لَحْمًا نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، لاَ تَلْزَمُهُ الإِرَاقَةُ وَالتَّفْرِقَةُ وَقَدْ أَتَى بِأَحَدِهِمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ غَيْرُهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لاِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الإِرَاقَةُ فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ وَيَشْتَرِي بِهَا مِثْلَهُ.
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
مَا زَالَ مِنْ الأَعْيَانِ ثُمَّ عَادَ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ أَوْ بِصُنْعِ آدَمِيٍّ هَلْ يُحْكَمُ عَلَى الْعَائِدِ بِحُكْمِ الأَوَّلِ أَمْ لاَ؟ فِيهِ خِلاَفٌ يُطْرَدُ فِي مَسَائِلَ:
منها: لَوْ قَلَعَ سِنَّهُ أَوْ قَطَعَ أُذُنَهُ فَأَعَادَهُ فِي الْحَالِ فَثَبَتَ وَالْتَحَمَ كَمَا كَانَ لَمْ يَرُحْ، فَهَلْ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ أَمْ لاَ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى طَهَارَتِهِ إذَا ثَبَتَ وَالْتَحَمَ، وَعَلَى نَجَاسَتِهِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ، وَحَكَى الْقَاضِي الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَفَرَّقَ ابْنُ أَبِي مُوسَى بَيْنَ أَنْ يَثْبُتَ وَيَلْتَحِمَ فَيُحْكَمَ بِطَهَارَتِهِ لِعَوْدِ الْحَيَاةِ إلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ وَهَذَا حَسَنٌ. فَإِنْ ذلك كَانَ بِجِنَايَةِ جَانٍ فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ قَوَدَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ سِوَى حُكُومَةِ نَقْصِهِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَبَنَاهُ كَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ عَلَى الْقَوْلِ بِطَهَارَتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي حَقُّهُ بِحَالِهِ فَأَمَّا إنْ اقْتَصَّ مِنْ الْجَانِي فَأَعَادَهُ وَالْتَحَمَ فَهَلْ لِلْمُقْتَصِّ إبَانَتُهُ ثَانِيًا أَمْ لاَ؟ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ عَلَى أَنَّ لَهُ إبَانَتُهُ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ لِلشَّيْنِ وَالشَّيْنُ قَدْ زَالَ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
وَمنها: لَوْ قَلَعَ ظُفْرَ آدَمِيٍّ أَوْ سِنَّهُ أَوْ شَعْرَهُ ثُمَّ عَادَ أَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ شَمَّهُ أَوْ بَصَرَهُ ثُمَّ عَادَ بِحَالِهِ فَلاَ ضَمَانَ بِحَالٍ فِي الْمَذْهَبِ؛ لاِنَّ أَطْرَافَ الْآدَمِيِّ لاَ تُضْمَنُ بِالإِتْلاَفِ إذْ لَيْسَتْ أَمْوَالاً، فَإِنَّمَا يَضْمَنُ بِمَا نَقَصَ الْجُمْلَةَ وَلَمْ يُوجَدْ نَقْصٌ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ.
وَيَتَوَجَّهُ التَّفْرِيقُ؛ لاِنَّ أَعْضَاءَ الرَّقِيقِ أَمْوَالٌ وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الأَمَةِ دُونَ الْحُرَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَنَا، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا هَزَلَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ سَمِنَتْ فَهَلْ يُضْمَنُ نَقْصَهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَالأَشْبَهُ بِكَلاَمِهِ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ؛ لاِنَّهُ نَصَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِيمَنْ كَسَرَ خَلْخَالاً لِغَيْرِهِ أَنَّ عَلَيْهِ إصْلاَحُهُ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَإِنَّ إصْلاَحَ الْخَلْخَالِ نَوْعُ ضَمَانٍ بِخِلاَفِ عَوْدِ السَّمْنِ، وَلَكِنْ صَرَّحَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ بِأَنَّهُ لَوْ غَصَبَ جِدَارًا فَنَقَضَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ فَعَلَيْهِ أَرْشُ نَقْصِهِ، إلاَ أَنَّ هَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ

تَقَرُّ فَهَلْ يَجُوزُ بِنَاؤُهَا؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ مِنْهُ مُطْلَقًا. وَالثَّانِي: بِنَاؤُهُ عَلَى الْخِلاَفِ فِي بِنَاءِ الْمُنْهَدِمَةِ.

القاعدة الثالثة والأربعون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
يَقُومُ الْبَدَلُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ وَيَبْنِي حُكْمَهُ عَلَى حُكْمِ مُبْدَلِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ بَعْضِهَا.
وَمنها: إذَا مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ ثُمَّ خَلَعَهُ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ غَسْلُ قَدَمَيْهِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَوْ فَاتَتْ الْمُوَالاَةُ؛ لاِنَّ الْمَسْحَ كَمَّلَ الْوُضُوءَ وَأَتَمَّهُ وَقَامَ مَقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إلَى حِينِ الْخَلْعِ، فَإِذَا وَجَدَ الْخَلْعَ وَتَعَقَّبَهُ غَسَلَ الْقَدَمَيْنِ فَالْوُضُوءُ كَالْمُتَوَاصِلِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدَ مَا يَكْفِي لِغَسْلِ بَعْضِ أَعْضَاءِ الْحَدَثِ الأَصْغَرِ فَاسْتَعْمَلَهُ فِيهَا ثُمَّ تَيَمَّمَ لِلْبَاقِي ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ فَوَاتِ الْمُوَالاَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلاَ غَسْلُ بَاقِي الأَعْضَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لَكِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى سُقُوطِ الْمُوَالاَةِ لِلْعُذْرِ.
وَمنها: لَوْ افْتَرَقَ المتصارفان ثُمَّ وَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَهُ عَيْبًا وَأَرَادَ الرَّدَّ وَأَخَذَ بَدَلِهِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فَهَلْ يُنْتَقَضُ الصَّرْفُ بِذَلِكَ أَمْ لاَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَمنها: إذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ أَرْبَعُونَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا ثُمَّ تُبَدَّلُوا فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ أَوْ الصَّلاَةِ بِمِثْلِهِمْ انْعَقَدَتْ الْجُمُعَةُ وَتَمَّتْ بِهِمْ.
وَمنها: لَوْ أَبْدَلَ نِصَابًا مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ بِنِصَابٍ مِنْ جِنْسِهِ بُنِيَ عَلَى حَوْلِ الأَوَّلِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَوْ أَبْدَلَهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ اسْتَأْنَفَ إلاَ فِي إبْدَالِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ فَإِنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ رِوَايَةً بِالْبِنَاءِ فِي الإِبْدَالِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ مُطْلَقًا.
وَمنها: لَوْ أَبْدَلَ مُصْحَفًا بِمِثْلِهِ جَازَ نَصَّ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْمُبَادَلَةِ هَلْ هِيَ بَيْعٌ أَمْ لاَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَأَنْكَرَ الْقَاضِي ذَلِكَ وَقَالَ هِيَ بَيْعٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِنَّمَا أَجَازَ أَحْمَدُ إبْدَالَ الْمُصْحَفِ بِمِثْلِهِ؛ لاِنَّهُ لاَ يَدُلُّ عَلَى الرَّغْبَةِ عَنْهُ وَلاَ عَلَى الاِسْتِبْدَالِ بِهِ بِعِوَضٍ دُنْيَوِيٍّ بِخِلاَفِ أَخْذِ ثَمَنِهِ
وَمنها: لَوْ أَبْدَلَ جُلُودَ الأَضَاحِيِّ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الْبَيْتِ مِنْ الْآنِيَةِ جَازَ نَصَّ عَلَيْهِ؛ لاِنَّ ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الاِنْتِفَاعِ بِالْجِلْدِ نَفْسِهِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ.
وَمنها: إبْدَالُ الْهَدْيِ وَالأَضَاحِيِّ بِخَيْرٍ منها: وَهُوَ جَائِزٌ نَصَّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إبْدَالُ الْوَقْفِ إذَا خَرِبَ وَالْمَسْجِدُ إذَا بَادَ ِأَهْلِهِ، وفي الْوَقْفُ مَعَ عِمَارَتِهِ بِخَيْرٍ مِنْهُ رِوَايَتَانِ.

وَمنها: لَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ وَهُوَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ أَوْ شَرِيكِ الْعَنَانِ وَأَرَادَ الْوَارِثُ تَقْرِيرَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ جَازَ، وَهَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ عَقْدٍ أَوْ اسْتِدَامَةٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ، وَأَشَارَ إلَيْهِمَا الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ بِأَنْ كَانَ الْمَالُ عَرَضًا وَقُلْنَا يَصِحُّ الْقِرَاضُ عَلَى الْعَرْضِ فَلاَ كَلاَمَ، وَإِنْ قُلْنَا لاَ يَصِحُّ فَخَرَّجَهُمَا الْقَاضِي عَلَى وَجْهَيْنِ. قَالَ فِي التَّلْخِيصِ: إنْ قُلْنَا هُوَ ابْتِدَاءٌ فَلاَ يَصِحُّ، وَإِنْ قُلْنَا تَقْرِيرٌ جَازَ؛ لاِنَّهُ عَرْضٌ هُوَ اشْتَرَاهُ وَجِنْسُ رَأْسِ الْمَالِ قَدْ تَعَيَّنَ مِنْ قَبْلُ فَرَجَعَ إلَيْهِ بِخِلاَفِ الاِبْتِدَاءِ، أَمَّا إذَا مَاتَ الْعَامِلُ وَأَرَادَ الْمَالِكُ تَقْرِيرَ وَارِثِهِ وَكَانَ الْمَالُ عَرْضًا فَهُوَ كَالاِبْتِدَاءِ وَجْهًا وَاحِدًا قَالَهُ الْقَاضِي وَالأَكْثَرُونَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ وَمَوْتِ الْعَامِلِ بِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ تَرَكَ لِلْوَارِثِ أَصْلاً يَبْنِي عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَالُ فَلِذَلِكَ صَحَّ بِنَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِخِلاَفِ الْعَامِلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ سِوَى الْعَمَلِ وَقَدْ زَالَ بِمَوْتِهِ فَلَمْ يَخْلُفْ لِوَارِثِهِ أَصْلاً يَبْنِي عَلَيْهِ.
وَمنها: لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى عَرْضٍ فَأَدَّاهُ فَوَجَدَهُ مَعِيبًا فَرَدَّهُ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ بَدَلَهُ وَلاَ يَرْتَفِعُ الْعِتْقُ أَمْ يَرْتَفِعُ الْعِتْقُ بِرَدِّهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَبَنَاهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ هَلْ يَحْصُلُ بِالْقَبْضِ أَمْ يَقِفُ عَلَى الرِّضَى.
وَمنها: لَوْ اعْتَاضَ عَنْ دَيْنِ الْكِتَابَةِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ فَهَلْ يُعْتَقُ الْمُكَاتَبُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَمنها: أَنَّ الْعِوَضَ هَلْ يَقُومُ مَقَامَ الْمُعَوَّضِ فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ أَمْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.

القاعدة الرابعة والأربعون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
فِيمَا يَقُومُ فِيهِ الْوَرَثَةُ مَقَامَ مَوْرُوثِهِمْ مِنْ الْحُقُوقِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: حَقٌّ لَهُ وَحَقٌّ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا النَّوْعُ الأَوَّلُ فَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِهِ يَجِبُ بِمَوْتِهِ كَالدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَلاَ رَيْبَ فِي أَنَّ لَهُمْ اسْتِيفَاءَهُ وَسَوَاءٌ قُلْنَا إنَّهُ ثَابِتٌ لَهُمْ ابْتِدَاءً أَوْ مُنْتَقِلٌ إلَيْهِمْ عَنْ مَوْرُوثِهِمْ وَلاَ يُؤْثَرُ مُطَالَبَةُ الْمَقْتُولِ بِذَلِكَ شَيْئًا عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَمَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إلَى أَنَّ مُطَالَبَتَهُ بِالْقِصَاصِ تُوجِبُ تَحَتُّمَهُ فَلاَ يَتَمَكَّنُونَ بَعْدَهَا مِنْ الْعَفْوِ وَمَا كَانَ وَاجِبًا لَهُ فِي حَيَاتِهِ إنْ كَانَ قَدْ طَالَبَ بِهِ أَوْ هُوَ فِي يَدِهِ ثَبَتَ لَهُمْ إرْثُهُ.
فَمِنْهُ: الشُّفْعَةُ إذَا طَالَبَ بِهَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَتَوَقَّفَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقَالَ هُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ.
وَمِنْهُ: حَدُّ الْقَذْفِ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا وَيَسْتَوْفِيهِ الْوَارِثُ لِنَفْسِهِ بِحُكْمِ الإِرْثِ عِنْدَ الْقَاضِي. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِيمَا قَرَأْتُهُ بِخَطِّهِ إنَّمَا يَسْتَوْفِي لِلْمَيِّتِ بِمُطَالَبَتِهِ مِنْهُ وَلاَ يَنْتَقِلُ، وَكَذَا الشُّفْعَةُ فِيهِ فَإِنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ وَإِنْ كَانَ طَارِئًا عَلَى الْبَيْعِ إلاَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مِلْكِ مَوْرُوثِهِ.

وَمِنْهُ: خِيَارُ الشَّرْطِ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ أَيْضًا.
وَمِنْهُ: الدَّمُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى وَالْمُرَادُ بِهِ مَا دُونَ النَّفْسِ إذَا وَجَبَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ غَيْرِ سِرَايَتِهِ بَعْدَ طَلَبِهِ.
وَمِنْهُ: خِيَارُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ إذَا طَالَبَ بِهِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ.
وَمِنْهُ الأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ الَّتِي بِيَدِهِ؛ لاِنَّ هَذَا حَقٌّ قَدْ أَحْدَثَهُ وَحَازَهُ، وَكَذَلِكَ الْمَوَاتُ الْمُتَحَجِّرُ وَحُقُوقُ الاِخْتِصَاصَاتِ الَّتِي تَحْتَ يَدِهِ كُلُّهَا.
وَمِنْهُ: حِصَّةُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ إذَا قُلْنَا لاَ تُمْلَكُ بِالظُّهُورِ فَإِنَّ اشْتِرَاطَهُ لَهَا فِي الْعَقْدِ مَعَ عَمَلِهِ فِي الْمَالِ لاِجْلِهَا أَبْلَغُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِاللَّفْظِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْغَانِمِ إنْ سَلَّمْنَاهُ عَلَى قَوْلِنَا لاَ يَمْلِكُ حِصَّتَهُ بِدُونِ التَّمَلُّكِ فَإِنَّهُ لَمْ يُجَاهِدْ لِلْغَنِيمَةِ وَإِنَّمَا جَاهَدَ لاِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْغَنِيمَةُ تَابِعَةٌ.
وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ يُطَالِبُ بِهِ فَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: حُقُوقُ التَّمَلُّكَاتِ وَالْحُقُوقُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَالِيَّةٍ كالقصاص وَحَدِّ الْقَذْفِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ فِي الْمَذْهَبِ أَشْهَرُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يُورَثُ وَيَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ صُوَرٌ.
منها: الشُّفْعَةُ فَلاَ تُورَثُ مُطَالَبَتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَلَهُ مَأْخَذَانِ أَشَارَ إلَيْهِمَا أَحْمَدُ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَقٌّ لَهُ فَلاَ يَثْبُتُ بِدُونِ مُطَالَبَتِهِ بِهِ وَلَوْ عَلِمَتْ رَغْبَتُهُ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَتِهِ لَكَفَى فِي الإِرْثِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّهُ فِيهَا سَقَطَ بِتَرْكِهِ وَإِعْرَاضِهِ لاَ سِيَّمَا عَلَى قَوْلِنَا إنَّهَا عَلَى الْفَوْرِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ غَائِبًا فَلَهُمْ الْمُطَالَبَةُ وَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الأَوَّلِ وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ إذَا مَاتَ صَاحِبُ الشُّفْعَةِ فَلِوَلَدِهِ أَنْ يَطْلُبُوا الشُّفْعَةَ تُوَرِّثُهُ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ لَهُمْ الْمُطَالَبَةَ بِهَا بِكُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِبَقَاءِ إرْثِهَا فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَغَيْرِهِ وَقَدْ وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي كَلاَمِهِ فِي ثُبُوتِ الإِرْثِ فِيهَا.
وَمنها: حَقُّ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَلاَ تُورَثُ بِغَيْرِ مُطَالَبَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ وَجْهًا آخَرَ بِإِرْثِهِ مُطْلَقًا.
وَمنها: الْفَسْخُ الثَّابِتُ بِالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ فَلاَ يَثْبُتُ بِدُونِ الْمُطَالَبَةِ أَيْضًا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي، وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَبِي الْخَطَّابِ تَخْرِيجُ الْخِلاَفِ فِيهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي الْهِبَةِ الْمُخَصَّصِ بِهَا بَعْضُ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ التَّعْدِيلِ وَالرُّجُوعِ هَلْ لِلْوَرَثَةِ الرُّجُوعُ أَمْ لاَ؟ رِوَايَتَانِ، وَمَأْخَذُهُمَا أَنَّ رُجُوعَ الْوَالِدِ فِي هَذِهِ الْهِبَةِ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ الثَّابِتَةِ لِلْوَالِدِ دُونَ غَيْرِهِ فَلاَ يَقُومُ فِيهِ مَقَامَهُ أَوْ هُوَ ثَابِتٌ لاِسْتِدْرَاكِ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ؟ وَعَلَى هَذَا هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ حَيْثُ ظَلَمَ وَاعْتَدَى فَأَمَرَ بِالتَّعْدِيلِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ سَقَطَ أَوْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ لِحَقِّ بَقِيَّةِ الأَوْلاَدِ الْمَظْلُومِينَ فَيَثْبُتُ لَهُمْ الرَّدُّ إذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ مِنْ جِهَتِهِ؟

وَمنها: حَدُّ الْقَذْفِ فَلاَ يُورَثُ بِدُونِ الْمُطَالَبَةِ أَيْضًا نَصَّ عَلَيْهِ وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ وَجْهًا بِالإِرْثِ وَالْمُطَالَبَةِ.
وَمنها: الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِدُونِ الطَّلَبِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْقَاضِي وَالأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَسْتَوْفِي، وَعَلَّلُوا بِأَنَّهُ يَسْقُطُ إلَى مَالٍ فَهُوَ كَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ.
وَمنها: خِيَارُ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ وُصُولِهَا إلَيْهِ. كَذَلِكَ نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَالأَكْثَرِينَ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْقَبُولِ. وَقَالَ الْخِرَقِيِّ يَثْبُتُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ؛ لاِنَّ الْوَصِيَّةَ لَزِمَتْ بِمَوْتِ الْمُوصِي فَهِيَ كَالْمَمْلُوكَةِ وَنَقَلَ صَالِحٌ عَنْ أَبِيهِ إذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ أَوْ أَهْلِ بَيْتِهِ ثُمَّ مَاتَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ الْمَيِّتِ وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ قَدْ وَجَبَتْ الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ مَنْ أَوْصَى لَهُ إذَا كَانَ حَيًّا يوم أَوْصَى لَهُ. قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ وَهَذَا نَصٌّ لِمَا قَالَ الْخِرَقِيِّ وَلَيْسَ بِنَصٍّ فِيهِ لاِحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَثْبَتَ مِلْكًا بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ أَوْ بِالْقَبُولِ، فَلَيْسَ فِي النَّصِّ مَا يَنْفِيهِ صَرِيحًا وَرِوَايَةُ ابْنِ مَنْصُورٍ بِالْبُطْلاَنِ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهَا لِلْقَبُولِ بَلْ لِلْقَبْضِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: حُقُوقُ أَمْلاَكٍ ثَابِتَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالأَمْلاَكِ الْمَوْرُوثَةِ فَيَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ بِانْتِقَالِ الأَمْوَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا بِدُونِ الْمُطَالَبَةِ بِخِلاَفِ الضَّرْبِ الأَوَّلِ فَإِنَّ الْحُقُوقَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ الْمَالِكِينَ لاَ مِنْ حُقُوقِ الأَمْلاَكِ، وَلِهَذَا لاَ تَجِبُ الشُّفْعَةُ عِنْدَنَا لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ؛ لاِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الاِسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُسْلِمِ.
وَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ: الرَّهْنُ فَإِذَا مَاتَ وَلَهُ دَيْنٌ بِرَهْنٍ انْتَقَلَ بِرَهْنِهِ إلَى الْوَرَثَةِ.
وَمنها: الْكَفِيلُ وَهُوَ كَالرَّهْنِ؛ لاِنَّهُ تَوْثِقَةٌ فَهُوَ كَالشَّهَادَةِ، وَعَلَّلَهُ الْقَاضِي بِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْمَالَ كَالرَّهْنِ وَالضَّابِطُ عِنْدَهُ أَنَّ مَا فِيهِ مَالٌ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ وَمَا لاَ فَلاَ.
وَمنها: الضَّمَانُ فَإِذَا مَاتَ وَلَهُ دَيْنٌ لَهُ بِهِ ضَامِنٌ انْتَقَلَ إلَى الْوَرَثَةِ مَضْمُونًا بِخِلاَفِ مَا إذَا أَحَالَ بِهِ رَبُّ الدَّيْنِ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ الضَّمَانُ بِالْحَوَالَةِ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا؛ لاِنَّ الأَجْنَبِيَّ لَيْسَ بِخَلِيفَةٍ لِرَبِّ الدَّيْنِ فَلاَ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِحُقُوقِهِ بِخِلاَفِ الْوَارِثِ.
وَمنها: الأَجَلُ فَلاَ يَحِلُّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ إذَا أَوْثَقَهُ الْوَرَثَةُ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَمنها: الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَقَدْ تَرَدَّدَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ هَلْ هُوَ ثَابِتٌ ابْتِدَاءً أَوْ بِطَرِيقِ الإِرْثِ؟ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ إرْثٌ؛ لاِنَّ الرَّدَّ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ كَانَ الْعَقْدُ لَهُ وَالْخِيَارُ الثَّابِتُ بِفَوَاتِ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعَقْدِ مِثْلُهُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَيْضًا مُعَلَّلاً بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ فِيهِ الأَرْشُ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ التَّخْرِيجِ أَنَّ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَاشْتَرَاهَا الْبَائِعُ مِنْ وَارِثِهِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ؛ لاِنَّ الْوَارِثَ يَمْلِكُهَا عَلَى حُكْمِ

مِلْكِ الْمَيِّتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرُدُّهَا عَلَى بَائِعِهَا بِالْعَيْبِ فَصَارَ الشِّرَاءُ مِنْهُ كَالشِّرَاءِ مِنْ الْمُورِثِ، وَهَذَا غَرِيبٌ، وَهُوَ يُشْبِهُ الْوَجْهَ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي بِنَاءِ الْوَارِثِ عَلَى حَوْلِ الْمُورِثِ فِي الزَّكَاةِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: الْحُقُوقُ الَّتِي هِيَ عَلَى الْمَوْرُوثِ، فَإِن كَانَتْ لاَزِمَةً قَامَ الْوَارِثُ مَقَامَهُ فِي إيفَائِهَا وَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةً، فَإِنْ بَطَلَتْ بِالْمَوْتِ فَلاَ كَلاَمَ وَإِنْ لَمْ تَبْطُلْ بِالْمَوْتِ فَالْوَارِثُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي إمْضَائِهَا وَرَدِّهَا وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ:.
منها: إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ أَوْ أَوْصَى بِوَصَايَا فَلِلْوَرَثَةِ تَنْفِيذُهَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ وَصِيًّا.
وَمنها: إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ عِبَادَةٌ وَاجِبَةٌ تُفْعَلُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالْحَجِّ وَالْمَنْذُورَاتِ فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يَفْعَلُونَهَا عَنْهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلاَ فَلاَ. وَلَوْ فَعَلَهَا عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ بِدُونِ إذْنِهِمْ فَفِي الإِجْزَاءِ وَجْهَانِ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ الْوَاجِبَةُ بِالْمَالِ قَالَ فِي الْمُغْنِي إنْ أَعْتَقَ فِيهَا الأَجْنَبِيُّ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ أَعْتَقَ الْوَارِثُ صَحَّ؛؛ لاِنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَوْرُوثِ فِي مَالٍ وَأَدَاءِ وَاجِبَاتِهِ، وَفِي الْبُلْغَةِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ صَحَّ عِتْقُهُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ عَنْهُ وَيَصِحُّ إطْعَامُهُ عَنْهُ، وَأَمَّا الأَجْنَبِيُّ فَلاَ يَصِحُّ عِتْقُهُ عَنْهُ وَفِي صِحَّةِ إطْعَامِهِ عَنْهُ وَجْهَانِ، وَلَوْ مَاتَ مَنْ أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً قَبْلَ ذَبْحِهَا فَالْوَارِثُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الذَّبْحِ.
تَنْبِيهٌ: كَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ يُطْلِقُ ذِكْرَ الْوَارِثِ هُنَا. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ: هُوَ الأَقْرَبُ فَالأَقْرَبُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْخِرَقِيِّ: هُوَ الْوَارِثُ مِنْ الْعَصَبَةِ، فَأَمَّا الْوَارِثُ بِالشُّفْعَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْعَصَبَاتُ وَذَوُو الْفُرُوضِ وَالرَّحِمِ، وَأَمَّا الْوَارِثُ لِحَدِّ الْقَذْفِ فَكَذَلِكَ عَلَى الْمَنْصُوصِ وَقِيلَ يَخْتَصُّ بِالْعَصَبَةِ وَقِيلَ بِمَنْ عَدَا الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْوَرَثَةِ.
وَمنها: إذَا مَاتَ الرَّاهِنُ قَبْلَ إقْبَاضِ الرَّهْنِ الَّذِي لاَ يَلْزَمُهُ بِدُونِ قَبْضٍ فَوَارِثُهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي اخْتِيَارِ التَّقْبِيضِ وَالاِمْتِنَاعِ ذَكَرَهُ الأَصْحَابُ، وَقَالُوا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَأَبِي طَالِبٍ؛ لاِنَّهُ عَقْدٌ يَئُولَ إلَى اللُّزُومِ فَلاَ يَبْطُلُ فِي الْمَوْتِ كَالْبَيْعِ فِي مُدَّةٍ الْخِيَارِ، بِخِلاَفِ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ مَعَ أَنَّ فِي الْمُضَارَبَةِ خِلاَفًا سَبَقَ.
وَمنها: إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ لُزُومِ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ كَالرَّهْنِ قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَالثَّانِي: يَبْطُلُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَاخْتِيَارِ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَقَالَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْهِبَةِ فِي الصِّحَّةِ، وَأَمَّا الْعَطِيَّةُ فِي الْمَرَضِ إذَا مَاتَ قَبْلَ إقْبَاضِهَا فَجُعِلاَ الْوَرَثَةُ فِيهَا بِالْخِيَارِ لِشَبَهِهَا بِالْوَصِيَّةِ.

القاعدة الخامسة والأربعون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
الْمُعْتَدَّةُ الْبَائِنُ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ فِي مَسَائِلَ:
منها: أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ تَرِثُ فِي الْعِدَّةِ دُونَ مَا بَعْدَهَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لاِنَّ الطَّلاَقَ مَانِعٌ مِنْ الإِرْثِ فَلَمَّا قَصَدَ بِهِ الْفِرَارَ مِنْ الْحَقِّ الْمُنْعَقِدِ سَبَبُهُ ضَعْفٌ مِنْهُ فَلَمْ يَعْمَلْ فِي الْمَنْعِ مَا دَامَتْ عُلَقُ الزَّوْجِيَّةِ قَائِمَةً.
وَمنها: تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا الْبَائِنَ. وَالْخَامِسَةُ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ تَنْزِيلاً لِحَالَةِ الْعِدَّةِ مَنْزِلَةَ حَالَةِ النِّكَاحِ.
وَمنها: أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ لاَ يَتَدَاخَلاَنِ فَإِذَا وُطِئَتْ الْبَائِنُ بِشُبْهَةٍ فِي عِدَّتِهَا أَتَمَّتْ عِدَّةَ الأَوَّلِ وَاسْتَأْنَفَتْ الْعِدَّةَ لِلثَّانِي عَلَى الْمَذْهَبِ فَلاَ تَكُونُ مَحْبُوسَةً عَلَى رَجُلَيْنِ فِي عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا لاَ يُحْبَسُ عَلَيْهِمَا فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ بِشُبْهَةٍ هُوَ الزَّوْجُ تَدَاخَلَتْ الْعِدَّتَانِ؛ لاِنَّهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، إلاَ أَنْ تَحْمِلَ مِنْ أَحَدِ الوطأين فَفِي التَّدَاخُلِ وَجْهَانِ لِكَوْنِ الْعِدَّتَيْنِ مِنْ جِنْسَيْنِ، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِيمَا إذَا وُطِئَتْ زَوْجَةُ الطِّفْلِ ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا ثُمَّ وَضَعَتْ قَبْلَ تَمَامِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَنَّهَا لاَ تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تُكْمِلَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ وَظَاهِرُ هَذَا تَدَاخُلُ الْعِدَّتَيْنِ.
وَمنها: لَوْ طَلَّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا طَلاَقًا بَائِنًا ثُمَّ نَكَحَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَفِيهَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الرَّجْعِيَّةِ إذَا رُوجِعَتْ أَوْ طَلُقَتْ فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ الإِصَابَةِ هَلْ تَبْنِي أَوْ تَسْتَأْنِفُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُجَرَّدِ وَالْفُصُولِ وَالْمُحَرَّرِ. وَالثَّانِي: تَبْنِي هُنَا رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهُوَ مَا فِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي وَعُمَدِ الأَدِلَّةِ لاِنْقِطَاعِ النِّكَاحِ الثَّانِي عَنْ الأَوَّلِ بِالْبَيْنُونَةِ بِخِلاَفِ الرَّجْعِيَّةِ.
وَمنها: لَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ وَزَوْجَتُهُ ذِمِّيَّةٌ فَأَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ فَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ البرزاطي عَلَى أَنَّهَا تَرِثُ مَا لَمْ تُنْقَضْ عِدَّتُهَا، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ أَوَّلاً ثُمَّ مَاتَتْ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ لَمْ يَرِثْهَا زَوْجُهَا الْكَافِرُ وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لاِنْقِطَاعِ عُلَقِ الزَّوْجِيَّةِ عَنْهُ بِمَوْتِهَا، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ لاَ يَتَوَارَثَانِ بِالإِسْلاَمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِحَالٍ، قَالَ وَظَاهِرُ كَلاَمِ الأَصْحَابِ خِلاَفُهُ وَأَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا يَرِثُ الزَّوْجَانِ مِنْ الدِّيَةِ سَوَاءٌ قِيلَ بِحُدُوثِهَا عَلَى مِلْكِهِمْ أَوْ عَلَى مِلْكِ الْمَوْرُوثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ، وَأَمَّا نَفَقَةُ الْبَائِنِ فَإِنْ كَانَتْ بِفَسْخٍ أَوْ طَلاَقٍ فَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ مَعَ الْحَمْلِ وَإِلاَ فَلاَ، هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ؛ لاِنَّ النَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ مِنْ الاِسْتِمْتَاعِ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَلاَ مَعَ النُّشُوزِ وَعَنْهُ لَهَا السُّكْنَى خَاصَّةً إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلاً، وَعَنْهُ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى حَكَاهَا ابْنُ الزاغوني وَغَيْرُهُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ هِيَ كَالزَّوْجَةِ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ وَالتَّجَوُّلُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ مُطْلَقًا.

القاعدة السادسة والأربعون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ وَالأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
تُفَارِقُ الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ الزَّوْجَاتِ فِي صُوَرٍ:
منها: أَنَّ فِي إبَاحَتِهَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ رِوَايَتَيْنِ، وَعَلَى رِوَايَةِ التَّحْرِيمِ فَهَلْ يَجِبُ لَهَا الْمَهْرُ بِالْوَطْءِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَمنها: إنَّ طَلاَقَهَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ طَلاَقُ بِدْعَةٍ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَمنها: أَنَّ الإِيلاَءَ منها: هَلْ يَصِحُّ منها؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَمنها: هَلْ يَصِحُّ اخْتِيَارُهَا لِزَوْجِهَا إذَا عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَمنها: لَوْ نَكَحَتْ الْمُطَلَّقَةُ ثَلاَثًا زَوْجًا آخَرَ فَخَلَى بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَقُلْنَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْخَلْوَةِ وَثَبَّتَتْ الرَّجْعَةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ثُمَّ وَطِئَهَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَهَلْ يَحِلُّهَا لِزَوْجِهَا الأَوَّلِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، حَكَاهُمَا صَاحِبُ التَّرْغِيبِ.
وَمنها: إذَا عَلِقَتْ الرَّجْعِيَّةُ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ بِوَلَدٍ فَهَلْ تَلْحَقُ بِمُطَلَّقِهَا أَمْ لاَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَمنها: أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ مِنْ طِفْلِهَا هَلْ تَعُودُ إلَى حَضَانَتِهِ فِي مُدَّةِ الرَّجْعَةِ أَمْ لاَ تَعُودُ حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتُهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَمنها: لَوْ مَاتَ زَوْجُ الرَّجْعِيَّةِ فَهَلْ تَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَوْ تَعْتَدُّ بِأَطْوَلِهِمَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَمنها: أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ يَجِبُ عَلَيْهَا لُزُومُ مَنْزِلِهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ وَصَاحِبُ الْمُحَرَّرِ، وَقِيلَ هِيَ كَالزَّوْجَةِ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ وَالتَّجَوُّلُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ مُطْلَقًا.

القاعدة السابعة والأربعون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ وَالأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
أَحْكَامُ النِّسَاءِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَحْكَامِ الرِّجَالِ فِي مَوَاضِعَ:
منها: الْمِيرَاثُ وَالدِّيَةُ, والْعَقِيقَةُ عَنْ الْغُلاَمِ شَاتَانِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ.
وَمنها: الشَّهَادَةُ وَالْعِتْقُ، فَيَعْدِلُ عِتْقُ امْرَأَتَيْنِ بِعِتْقِ رَجُلٍ فِي الْفِكَاكِ مِنْ النَّارِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ

الْحَدِيثُ، وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا: كَذَلِكَ. وَالثَّانِيَة: وَجَعَلَهَا الْمَذْهَبَ: أَنَّ عِتْقَ الْعَبْدِ وَالأَمَةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَمنها: عَطِيَّةُ الأَوْلاَدِ فِي الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ خِلاَفًا لاِبْنِ عَقِيلٍ.
وَمنها: الصَّلاَةُ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَسْقُطُ عَنْهَا الصَّلاَةُ أَيَّامَ الْحَيْضِ، وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ نِصْفُ الشَّهْرِ.

القاعدة الثامنة والأربعون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
مِنْ أَدْلَى بِوَارِثٍ وَقَامَ مَقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ إرْثِهِ سَقَطَ بِهِ، وَإِنْ أَدْلَى بِهِ وَلَمْ يَرِثْ مِيرَاثَهُ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَسْأَلَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: وَلَدُ الْأُمِّ يُدْلُونَ بِالْأُمِّ وَيَرِثُونَ مَعَهَا؛ لاِنَّهُمْ يَرِثُونَ بِالْأُخُوَّةِ لاَ بِالْأُمُومَةِ.
وَالثَّانِيَة: الْجَدَّةُ أُمُّ الأَبِ تَرِثُ مَعَ الأَبِ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لاِنَّهَا لاَ تَرِثُ مِيرَاثَ جَدَّةٍ لاَ مِيرَاثَ جَدٍّ.

القاعدة التاسعة والأربعون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ
الْحَقُّ الثَّابِتُ لِمُعَيَّنٍ يُخَالِفُ الثَّابِتَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فِي أَحْكَامٍ:
منها: مَنْ لَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَمَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ مِنْ ذِي فَرْضٍ وَلاَ عُصْبَةٍ وَلاَ رَحِمٍ هَلْ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ كُلِّهِ أَمْ لاَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ بَنَاهُمَا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَنَاهُمَا عَلَى أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ هَلْ هُوَ عُصْبَةُ وَارِثٍ أَمْ لاَ؟ وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا إذَا أَقَرَّ الإِمَامُ بِنَسَبِ مَنْ لاَ يُعْلَمُ لَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ قَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ؛ لاِنَّ الْمَالَ لِلْمُسْلِمِينَ وَالإِمَامُ نَائِبُهُمْ، وَهَذَا كَأَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِتَوْرِيثِ بَيْتِ الْمَالِ، وَيَتَوَجَّهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي إجَازَةِ الإِمَامِ وَصِيَّةَ مَنْ وَصَّى بِكُلِّ مَالِهِ وَقُلْنَا لاَ يَجُوزُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ. وَذَكَرَ الأَصْحَابُ أَنَّ مَنْ قُتِلَ وَلاَ وَارِثَ لَهُ فَلِلْإِمَامِ الْعَفْوُ عَنْ قَاتِلِهِ إلَى الدِّيَةِ وَلَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ مَجَّانًا؛ لاِنَّهُ كَتَوْرِيثِ الْقَاتِلِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُقْتَصَّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُ مَأْخَذِهِمَا.
وَمنها: الأَمْوَالُ الَّتِي يُجْهَلُ رَبُّهَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ منها بِخِلاَفِ مَا عُلِمَ رَبُّهَا، وَقَدْ سَبَقَ مِنْ ذَلِكَ صُوَرٌ عَدِيدَةٌ:

القاعدة الخمسون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
تُعْتَبَرُ الأَسْبَابُ فِي عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الأَيْمَانِ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا مَسَائِلُ مُتَعَدِّدَةٌ:
منها: مَسَائِلُ الْعَينَةِ.
وَمنها: هَدِيَّةُ الْمُقْتَرِضِ قَبْلَ الأَدَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَبُولُهَا مِمَّنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ مِنْهُ عَادَةً.
وَمنها: هَدِيَّةُ الْمُشْرِكِينَ لاِمِيرِ الْجَيْشِ فَإِنَّهُ لاَ يَخْتَصُّ بِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ بَلْ هِيَ غَنِيمَةٌ أَوْ فَيْءٌ عَلَى اخْتِلاَفِ الأَصْحَابِ.
وَمنها: هَدَايَا الْعُمَّالِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْهَدَايَا الَّتِي تُهْدَى لِلْأَمِيرِ فَيُعْطَى منها الرَّجُلُ قَالَ: هَذَا الْغُلُولُ، وَمُنِعَ الأَصْحَابُ مِنْ قَبُولِ الْقَاضِي هَدِيَّةَ مَنْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهَدِيَّتِهِ لَهُ قَبْلَ وِلاَيَتِهِ.
وَمنها: هِبَةُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا صَدَاقَهَا إذَا سَأَلَهَا ذَلِكَ، فَإِنَّ سَبَبَهَا طَلَبُ اسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَهَا الرُّجُوعُ فِيهَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَمنها: الْهَدِيَّةُ لِمَنْ يَشْفَعُ لَهُ بِشَفَاعَةٍ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ فَلاَ يَجُوزُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَأَوْمَأَ إلَيْهِ لاِنَّهَا كَالْأُجْرَةِ، وَالشَّفَاعَةُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا، وَفِيهِ حَدِيثٌ صَرِيحٌ فِي السُّنَنِ،

وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَأَدَّاهَا فَأُهْدِيَتْ إلَيْهِ هَدِيَّةٌ أَنَّهُ لاَ يَقْبَلُهَا إلاَ بِنِيَّةِ الْمُكَافَأَةِ، وَحُكْمُ الْهَدِيَّةِ عِنْدَ أَدَاءِ سَائِرِ الأَمَانَاتِ حُكْمُ الْوَدِيعَةِ.
وَمنها: مَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاهَانَ فِيمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا ثُمَّ اسْتَزَادَ الْبَائِعَ فَزَادَهُ ثُمَّ رَدَّ اللَّحْمَ بِعَيْبٍ فَالزِّيَادَةُ لِصَاحِبِ اللَّحْمِ؛ لاِنَّهَا أُخِذَتْ بِسَبَبِ اللَّحْمِ فَجَعَلَهَا تَابِعَةً لِلْعَقْدِ فِي الرَّدِّ؛ لاِنَّهَا مَأْخُوذَة بِسَبَبِهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ لاَحِقَةٍ بِهِ. وَتَأَوَّلَهَا الْقَاضِي عَلَى أَنَّهَا إنْ كَانَتْ مَأْخُوذَةً فِي الْمَجْلِسِ فَلَحِقَتْ بِالْعَقْدِ، وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ منها رِوَايَةً بِلُحُوقِ الزِّيَادَةِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ وَالْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ.
وَمنها: مَاحَكَاهُ الأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْمَوْلَى يَتَزَوَّجُ الْعَرَبِيَّةَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهَا بَعْضَ الْمَهْرِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا يَرُدُّوهُ، وَإِنْ كَانَ أَهْدَى هَدِيَّةً يَرُدُّونَهَا عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ: لاِنَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَهَبَ لَهُ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْعَقْدِ فَإِذَا زَالَ مَلَكَ الرُّجُوعَ بِهَا كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الثَّوَابِ انْتَهَى. وَهَذَا فِي الْفُرْقَةِ الْقَهْرِيَّةِ لِفَقْدِ الْكَفَاءَةِ وَنَحْوِهَا ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ الْفُرْقَةُ الاِخْتِيَارِيَّةُ الْمُقَسِّطَةُ لِلْمَهْرِ فَأَمَّا النَّسْخُ الْمُقَرَّرُ لِلْمَهْرِ أَوْ نِصْفِهِ فَتَثْبُتُ مَعَهُ الْهَدِيَّةُ.
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْعَطِيَّةُ لِغَيْرِ الْمُتَعَاقِدِينَ لِسَبَبِ الْعَقْدِ كَأُجْرَةِ الدَّلاَلِ وَنَحْوِهَا فَفِي النَّظَرِيَّاتِ لاِبْنِ عَقِيلٍ: أَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ بِإِقَالَةٍ وَنَحْوِهَا لَمْ يَقِفْ عَلَى التَّرَاضِي فَلاَ يَرُدُّ الْأُجْرَةَ وَإِنْ فَسَخَ بِخِيَارٍ أَوْ عَيْبٍ رُدَّتْ؛ لاِنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ، وَقِيَاسُهُ فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ إنْ فُسِخَ لِفَقْدِ الْكَفَاءَةِ أَوْ الْعَيْبِ رُدَّتْ، وَإِنْ فُسِخَ لِرِدَّةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُخَالَعَةٍ لَمْ تُرَدَّ.

القاعدة الحادية والخمسون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
دَلاَلَةُ الأَحْوَالِ يَخْتَلِفُ بِهَا دَلاَلَةُ الأَقْوَالِ فِي قَبُولِ دَعْوَى مَا يُوَافِقُهَا وَرَدِّ مَا يُخَالِفُهَا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الأَحْكَامُ بِمُجَرَّدِهَا، وَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ:
منها: كِنَايَاتُ الطَّلاَقِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ لاَ يُقْبَلُ دَعْوَى إرَادَةِ غَيْرِ الطَّلاَقِ بِهَا.
وَمنها: كِنَايَاتُ الْقَذْفِ وَحُكْمُهَا كَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، حَتَّى إنَّ ابْنَ عَقِيلٍ جَعَلَهَا مَعَ دَلاَلَةِ الْحَالِ صَرَائِحَ.
وَمنها: لَوْ تَلَفَّظَ الأَسِيرُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ كُرْهًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لاِنَّ الأَسْرَ دَلِيلُ الإِكْرَاهِ وَالتَّقِيَّةِ.
وَمنها: لَوْ أَتَى الْكَافِرُ بِالشَّهَادَتَيْنِ عَلَى طَرِيقِ الاِسْتِهْزَاءِ وَالْحِكَايَةِ وَقَالَ لَمْ أُرِدْ الإِسْلاَمَ مَعَ دَلاَلَةِ الْحَالِ عَلَى صِدْقِهِ، فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي فِي رِوَايَتَيْهِ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهِمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَأَفْتَى جَمَاعَةٌ بِلُزُومِ مَا أَقَرَّ بِهِ.

وَمنها: لَوْ أَقَرَّ الْمَحْبُوسُ أَوْ الْمَضْرُوبُ عُدْوَانًا ثُمَّ ادَّعَى الإِكْرَاهَ قُبِلَ قَوْلُهُ نَصَّ عَلَيْهِ. وَلَوْ أُحْضِرَ إلَى سُلْطَانٍ فَأَقَرَّ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ دَهَشَ وَلَمْ يَعْقِلْ مَا أَقَرَّ بِهِ لَمْ يُقْبَلْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَيَتَخَرَّجُ قَبُولُهُ إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَةُ ذَلِكَ مِنْ تَلَجْلُجِهِ فِي الكَلاَمٍ وَرِعْدَةٍ وَنَحْوِهَا.
وَمنها: لَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ إلَيْنَا وَمَعَهُ سِلاَحٌ فَادَّعَى أَنَّهُ جَاءَ مُسْتَأْمَنًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِلاَحٌ قُبِلَ نَصَّ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَ بَعْضُ عَسْكَرِنَا بِحَرْبِيٍّ وَادَّعَى أَنَّهُ أَسَرَهُ وَقَالَ: بَلْ أَمَّنْتَنِي، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَدُلُّ الْحَالُ عَلَى صِدْقِهِ لِضَعْفِهِ أَوْ قُوَّتِهِ.
وَمنها: لَوْ جَاءَ الْمُكَاتَبُ سَيِّدَهُ بِتَمَامِ كِتَابَتِهِ فَقَبَضَهَا السَّيِّدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَانَ الْمَالُ مُسْتَحَقًّا وَقَالَ السَّيِّدُ: إنَّمَا أَرَدْتُ الإِخْبَارَ بِعِتْقِهِ بِالأَدَاءِ وَلَمْ أُرِدْ تَنْجِيزَ عِتْقِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيّ فِي رَجُلٍ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَاسْتَعَارَتْ امْرَأَةٌ ثِيَابَهَا فَلَبِسَتْهَا فَأَبْصَرَهَا زَوْجُهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَابِ فَقَالَ قَدْ فَعَلْت أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَ يَقَعُ طَلاَقُهُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَنَصَّ عَلَى وُقُوعِ طَلاَقِهِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ الإِخْبَارَ بِوُقُوعِ طَلاَقِهَا الْمَحْلُوفِ بِهِ عَلَى خُرُوجِهَا وَلَمْ يُدْنِيهِ فِي ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَلَوْ قِيلَ أَنَّهُ قَصَدَ إنْشَاءَ الطَّلاَقِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَوْقَعَهُ عَلَيْهَا بِخُرُوجِهَا الَّذِي مَنَعَهَا مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، وَهَذَا يَشْهَدُ لِقَوْلِ الْقَاضِي فِيمَا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ دَخَلَتْ الدَّارَ. بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَنَّهَا تَطْلُقُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتْ قَدْ دَخَلَتْ أَوْ لَمْ تَدْخُلْ، خِلاَفًا لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّهَا لاَ تَطْلُقُ إذَا لَمْ تَكُنْ دَخَلَتْ مِنْ قَبْلُ؛ لاِنَّهُ إنَّمَا طَلَّقَهَا لِعِلَّةٍ فَلاَ يَثْبُتُ الطَّلاَقُ بِدُونِهَا، وَكَذَلِكَ أَفْتَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ فِيمَنْ قِيلَ لَهُ قَدْ زَنَتْ زَوْجَتُك فَقَالَ هِيَ طَالِقٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ زَنَتْ أَنَّهَا لاَ تَطْلُقُ. وَجَعْلُ السَّبَبِ كَالشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ أَوْلَى، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.
وَمنها: لَوْ سَرَقَ عَيْنًا وَادَّعَى أَنَّهَا مِلْكُهُ فَفِي قَطْعِهِ رِوَايَتَانِ. ثَالِثُهَا: إنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالسَّرِقَةِ قُطِعَ وَإِلاَ فَلاَ صَحَّحَهَا، صَاحِبُ التَّرْغِيبِ.
وَمنها: لَوْ ادَّعَى دَفْعَ ثَوْبِهِ إلَى مَنْ يَخِيطُهُ أَوْ يُقَصِّرُهُ أَوْ رَكِبَ سَفِينَةً وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِأَخْذِ الأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ. .
وَمنها: الْهِبَةُ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الثَّوَابُ بِدَلاَلَةِ حَالِ الْوَاهِبِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، نَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إثباته، وَالْمَشْهُورُ خِلاَفُهُ.
وَمنها: لَوْ وُجِدَ لَقِيطٌ وَبِجَنْبِهِ مَالٌ ظَاهِرٌ أَوْ مَدْفُونٌ طَرِيًّا فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِهِ. وَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ بِالْقُرْبِ مِنْ الإِنْسَانِ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ مَتَاعٍ أَوْ طَعَامٍ وَنَحْوِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: كَذَلِكَ رزمة

الثِّيَابِ وحزمة الْحَطَبِ يُحْكَمُ بِهَا لِلْوَاقِفِ بِقُرْبِهَا؛ لاِنَّ ذَلِكَ شَاهِدٌ وَضَعَهَا عَنْهُ لِلاِسْتِرَاحَةِ فَكَأَنَّهُ عَلَى رَأْسِهِ انْتَهَى. وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَنْ كَانَ يَلِيقُ بِهِ حَمْلُهَا دُونَ مَنْ لاَ يَحْمِلُهَا مِثْلُهُ.
وَمنها: لَوْ تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا صَلُحَ لِلرَّجُلِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ وَمَا صَلُحَ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ, وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَ صَانِعَانِ فِي آلَةِ دُكَّانٍ لَهُمَا أَوْ نَازَعَ رَبُّ الدَّارِ خَيَّاطًا فِيهَا فِي إبْرَةٍ أَوْ مِقَصٍّ, أَوْ تَنَازَعَ الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي رَفٍّ مَقْلُوعٍ أَوْ مِصْرَاعٍ لَهُ شَكْلٌ مَنْصُوبٌ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اللَّوْثُ فِي الْقَسَامَةِ وَالْقَضَاءِ بِمَعَاقِدِ الْقِمْطِ وَهُوَ رِوَايَةٌ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى وَإِلْحَاقُ النَّسَبِ بِالْقَافَّةِ.
وَمنها: لَوْ ادَّعَى دَعْوَى يَشْهَدُ الظَّاهِرُ بِكَذِبِهَا مِثْلُ أَنْ ادَّعَى عَلَى الْخَلِيفَةِ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ مَا فِيهِ ثِقَلٌ وَحَمَلَهَا بِيَدِهِ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ بِغَيْرِ خِلاَفٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ, وَإِنْ أَطْلَقَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ فَفِي سَمَاعِهَا قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ لَهَا أَصْلاً رِوَايَتَانِ لاِحْتِمَالِ مُعَامَلَتِهِ بِوَكِيلِهِ.
وَمنها: لَوْ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي مَهْرَ الْمِثْلِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.

القاعدة الثانية والخمسون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
الْمُحَرَّمَاتُ فِي النِّكَاحِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الأَوَّلُ: الْمُحَرَّمَاتُ بِالنَّسَبِ, وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الإِنْسَانِ أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ, وَفُرُوعُ أَصْلِهِ الأَدْنَى وَإِنْ سَفَلْنَ, وَفُرُوعُ أُصُولِهِ الْبَعِيدَةِ دُونَ بَنَاتِهِنَّ فَيَدْخُلُ فِي أُصُولِهِ: أُمُّهُ وَأُمُّ أُمِّهِ وَأُمُّ أَبِيهِ وَإِنْ عَلَوْنَ, وَدَخَلَ فِي فُرُوعِهِ: بِنْتُهُ وَبِنْتُ بِنْتِهِ وَبِنْتُ ابْنِهِ وَإِنْ نَزَلْنَ, وَدَخَلَ فِي فَرْعِ أَصْلِهِ الأَدْنَى: أَخَوَاتُهُ مِنْ الأَبَوَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَبَنَاتُهُنَّ وَبَنَاتُ الإِخْوَةِ وَأَوْلاَدُهُمْ وَإِنْ سَفَلْنَ, وَدَخَلَ فِي فُرُوعِ أُصُولِهِ الْبَعِيدَةِ: الْعَمَّاتُ وَالْخَالاَتُ وَعَمَّاتُ الأَبَوَيْنِ وَخَالاَتُهُمَا وَإِنْ عَلَوْنَ. وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الأَقَارِبِ حَلاَلاً سِوَى أُصُولِ فُرُوعِهِ الْبَعِيدَةِ وَهُنَّ بَنَاتُ الْعَمِّ وَبَنَاتُ الْعَمَّاتِ وَبَنَاتُ الْخَالِ وَبَنَاتُ الْخَالاَتِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: الْمُحَرَّمَاتُ بِالصِّهْرِ, وَهُنَّ أَقَارِبُ الزَّوْجَيْنِ وَكُلُّهُنَّ حَلاَلٌ إلاَ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ حَلاَئِلُ الْآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ وَأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَبَنَاتِ النِّسَاءِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ. فَيَحْرُمُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ أُصُولُ الْآخَرِ وَفُرُوعُهُ فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أُمُّ امْرَأَتِهِ وَأُمُّ أَبِيهَا وَإِنْ عَلَتْ. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنْتُ امْرَأَتِهِ وَهِيَ الرَّبِيبَةُ وَبِنْتُ بِنْتِهَا وَإِنْ سَفَلَتْ, وَتَحْرُمُ بِنْتُ الرَّبِيبِ أَيْضًا نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ, وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا, وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَإِنْ عَلاَ, وَامْرَأَةِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْمُحَرَّمَاتُ بِالْجَمْعِ, فَكُلُّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ مَحْرَمٌ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا ذَكَرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّزَوُّجُ بِالْأُخْرَى لاِجْلِ النَّسَبِ دُونَ الصِّهْرِ. فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَإِنْ عَلَتْ وَلاَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا وَإِنْ عَلَتْ, وَلاَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَلاَ بَيْنَ الْبِنْتِ وَأُمِّهَا وَإِنْ عَلَتْ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: لاَ يَجْمَعُ الرَّجُلُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا رَجُلاً لَمْ يَصْلُحْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا, ذَكَرَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بِإِسْنَادِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا لاِجْلِ النَّسَبِ دُونَ الصِّهْرِ لِيَخْرُجَ مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ زَوْجَةِ رَجُلٍ وَابْنَتِهِ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ مُبَاحٌ إذْ لاَ مَحْرَمِيَّةَ بَيْنَهُمَا لِيُخْشَى عَلَيْهِمَا الْقَطِيعَةَ لَكِنْ يَرُدُّ عَلَى هَذَا مَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَحْرِيمٌ مِنْ الرَّضَاعِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الأَثْرَمِ وَحَرْبٍ, وَتَوَقَّفَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي كَوْنِ تَشْبِيهِ الزَّوْجَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ مِنْ الرَّضَاعِ ظَاهِرًا فَدَلَّ أَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ لاَ يُسَاوِي تَحْرِيمَ النَّسَبِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعِ, فَيَحْرُمُ بِهِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ فِي الأَنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَلاَ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ نِكَاحُ أم زَوْجَتِهِ وَابْنَتِهَا مِنْ الرَّضَاعِ, وَلاَ عَلَى الْمَرْأَةِ نِكَاحُ أَبِي زَوْجِهَا وَابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ بدينا فِي حَلِيلَةِ الاِبْنِ مِنْ الرَّضَاعِ: لاَ يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا, يُحَرَّمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يُحَرَّمُ مِنْ النَّسَبِ. وَلَيْسَ عَلَى هَذَا الضَّابِطِ إيرَادٌ صَحِيحٌ سِوَى الْمُرْضِعَةِ بِلَبَنِ الزِّنَا, وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ كَالْبِنْتِ مِنْ الزِّنَا فَلاَ إيرَادَ إذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ-.

القاعدة الثالثة والخمسون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
وَلَدُ الْوَلَدِ هَلْ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْوَلَدِ عِنْدَ الإِطْلاَقِ, هَذَا ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهُ مُطْلَقًا مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ, وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ:
منها: الْمُحَرَّمَاتُ فِي النِّكَاحِ كَالْبَنَاتِ وَحَلاَئِلِ الأَبْنَاءِ.
وَمنها: امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ بَيْنَ الأَبِ وَوَلَدِهِ.
وَمنها: امْتِنَاعُ قَطْعِهِ فِي السَّرِقَةِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ.
وَمنها: رَدُّ شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ.
وَمنها: وُجُوبُ إعْتَاقِ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ.

وَمنها: جَرُّ الْوَلاَءِ, فَإِذَا كَانَ ابْنُ مُعْتِقِهِ قَوْمٌ أَبُوهُ وَجَدُّهُ رَقِيقَيْنِ فَبِعِتْقِ جَدِّهِ انْتَقَلَ الْوَلاَءُ إلَى مَوَالِي الْجَدِّ, سَوَاءٌ كَانَ الأَبُ مَوْجُودًا أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ, وَفِي الْأُخْرَى إنْ كَانَ الأَبُ مَفْقُودًا جَرَّ الْجَدُّ الْوَلاَءَ إلَى مَوَالِيهِ, وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا لَمْ يَجُرَّهُ بِحَالٍ, وَفِي الثَّالِثَةِ لاَ يَجُرُّهُ الْجَدُّ بِحَالٍ فَيَخْتَصُّ جَرُّ الْوَلاَءِ بِعِتْقِ الأَبِ.
وَمنها: الْوَقْفُ عَلَى الْوَلَدِ فَيَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْوَلَدِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَذيِّ وَيُوسُفَ بْنِ أَبِي مُوسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمُنَادِي, وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْخَلاَلُ وَابْنُ أَبِي مُوسَى وَالْقَاضِي فِيمَا عَلَّقَهُ بِخَطِّهِ عَلَى ظَهْرِ خِلاَفِهِ وَغَيْرِهِمْ. وَهَلْ يَدْخُلُونَ مَعَ آبَائِهِمْ بِالتَّشْرِيكِ أَوْ لاَ يَدْخُلُونَ إلاَ بَعْدَهُمْ عَلَى التَّرْتِيبِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِلْأَصْحَابِ, وَفِي التَّرْتِيبِ فَهَلْ هُوَ تَرْتِيبُ بَطْنٍ عَلَى بَطْنٍ فَلاَ يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ الْوَلَدِ شَيْئًا مَعَ وُجُودِ فَرْدٍ مِنْ الأَوْلاَدِ, أَوْ تَرْتِيبِ فَرْدٍ عَلَى فَرْدٍ فَيَسْتَحِقُّ كُلُّ وَلَدٍ نَصِيبَ وَالِدِهِ بَعْدَ فَقْدِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَالثَّانِي هُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ, وَفِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلْقَاضِي: إنْ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ لَمْ يَدْخُلْ وَلَدُ الْوَلَدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ دَخَلَ, وَاسْتَشْهَدَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ قَالَ: وَيَصِحُّ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَفِي حَالَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لاَ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ, مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ احْتِمَالاً بِأَنَّ إطْلاَقَ الْوَلَدِ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ حَقِيقَةٌ, قَالَ: وَالأَشْبَهُ أَنَّهُ مَجَازٌ لِصِحَّةِ نَفْيِهِ, وَفِي الْمُجَرَّدِ لِلْقَاضِي لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَهُوَ بَعْدَ الْبَطْنِ الثَّانِي مِنْ وَلَدِهِ لِلْفُقَرَاءِ, وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ لاَ يَدْخُلُونَ فِي إطْلاَقِ الْوَلَدِ, وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلْ إنَّمَا رَتَّبَ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ جَعَلَ بَعْدَهُمَا لِلْفُقَرَاءِ أَعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ الْبَطْنَيْنِ الأَوَّلَيْنِ خَاصَّةً بِخِلاَفِ حَالَةِ الإِطْلاَقِ, وَإِلَى هَذَا أَشَارَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ.
وَمنها: الْوَصِيَّةُ لِوَلَدِهِ, وَقَدْ جَعَلَ الأَصْحَابُ حُكْمَهَا حُكْمَ الْوَاقِفِ, وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَى دُخُولِهِمْ فِي ذَلِكَ, وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَحْمَدَ إنَّمَا هُوَ فِي الْوَقْفِ, وَأَشَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إلَى دُخُولِهِمْ فِي الْوَقْفِ دُونَ الْوَصِيَّةِ; لاِنَّ الْوَقْفَ يَتَأَبَّدُ فَيَسْتَحِقُّ وَلَدُهُ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ لِلْمَوْجُودِينَ فَيَخْتَصُّ بِالطَّبَقَةِ الْعُلْيَا الْمَوْجُودَةِ. وَحَيْثُ قِيلَ بِدُخُولِ وَلَدِ الْوَلَدِ فِي الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ فَإِنَّمَا هُوَ فِي وَلَدِ الْبَنِينَ فَأَمَّا وَلَدُ الْبَنَاتِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِلْأَصْحَابِ, اخْتَارَ الْخِرَقِيِّ وَالْقَاضِي أَنَّهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ, وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ حَامِدٍ دُخُولَهُمْ. وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيّ عَلَى أَنَّهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْوَلَدِ, فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ قَالَ لاَ يَدْخُلُونَ فِي مُطْلَقِ الْوَلَدِ إذَا وَقَعَ الاِقْتِصَارُ عَلَيْهِ وَيَدْخُلُونَ فِي مُسَمَّى وَلَدِ الْوَلَدِ; لاِنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ الْوَلَدِ حَقِيقَةً ولَيْسُوا بِوَلَدٍ حَقِيقَةً, وَهَذِهِ طَرِيقَةُ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَالشِّيرَازِيِّ وَمَالَ إلَيْهَا صَاحِبُ الْمُغْنِي.
وَمنها: الْمَنْعُ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى الْوَلَدِ ويَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْوَلَدِ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الذُّكُورِ وَالإِنَاثِ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ; لاِنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْوَلَدِ فِي مَوْضِعٍ فَيَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْمَنْعِ مِنْ

الزَّكَاةِ, بِخِلاَفِ الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ فَإِنَّ الْمُرَاعَى فِيهِمَا صِدْقُ الاِسْمِ وَثُبُوتُهُ فِي الْعُرْفِ لاَ جَرَيَانُ الْحُكْمِ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَدْخُلُ فِيهِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ لاَ مَعَ وُجُودِهِ وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ:
منها: الْمِيرَاثُ فَيَرِثُ وَلَدُ الْوَلَدِ جَدَّهُمْ مَعَ فَقْدِ أَبِيهِمْ كَمَا يَرِثُونَ آبَاءَهُمْ, وَلَكِنْ لاَ يَرِثُهُمْ الْجَدُّ مَعَ فَقْدِ الأَبِ كَمَا يَرِثُ الأَبُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَرِثُهُمْ كَأَبٍ مُطْلَقًا بِحَيْثُ يَحْجُبُ الإِخْوَةَ كُلَّهُمْ, اخْتَارَهُ ابْنُ بَطَّةَ وَأَبُو حَفْصٍ الْبَرْمَكِيُّ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.
وَمنها: وِلاَيَةُ النِّكَاحِ; فَيَلِي الْجَدُّ فِيهَا بَعْدَ الأَبِ مطلقاً مُقَدَّمًا عَلَى الاِبْنِ عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَالْقَاضِي لَكِنْ لاَ يَقُومُ مَقَامَ الأَبِ فِي الإِجْبَارِ عَلَى الْمَذْهَبِ, وَحَكَى ابْنُ الزاغوني رِوَايَةً أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الإِجْبَارِ.
وَمنها: وِلاَيَةُ الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فَيَلِي الْجَدُّ بَعْدَ الأَبِ مُقَدَّمًا عَلَى الاِبْنِ عَلَى الصَّحِيحِ أَيْضًا.
وَمنها: الْحَضَانَةُ فَإِنَّ الْجَدَّ أَوْلَى رِجَالِهَا بِهَا بَعْدَ الأَبِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا لاَ يَدْخُلُ فِيهِ فِي مُسَمَّى الْوَلَدِ بِحَالٍ وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ.
منها: الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ.
وَمنها: الأَخْذُ مِنْ مَالِ الْوَلَدِ بِغَيْرِ حَاجَةٍ.
وَمنها: وِلاَيَةُ الْمَالِ وَفِيهِ رِوَايَةٌ.
وَمنها: الاِسْتِئْذَانُ فِي الْجِهَادِ.
وَمنها: الاِسْتِتْبَاعُ فِي الإِسْلاَمِ.
وَمنها: الاِنْفِرَادُ بِالنَّفَقَةِ مَعَ وُجُودِ وَارِثٍ غَيْرِهِ مُوسِرًا كَانَ الْوَارِثُ الَّذِي مَعَهُ أَوْ مُعْسِرًا فَالْمَعْرُوفُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ سَائِرِ مَنْ تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ, هَلْ يَلْزَمُهُ كَمَالُ النَّفَقَةِ أَوْ بِقَدْرِ إرْثِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ أَصَحُّهُمَا لاَ يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ مِقْدَارِ إرْثِهِ مِنْهُ, وَفِي الإِقْنَاعِ لاِبْنِ الزاغوني أَنَّ هَذَا الْخِلاَفَ فِي الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ خَاصَّةً وَأَنَّ سَائِرَ الأَقَارِبِ لاَ يَلْزَمُ مِنْهُمْ الْغَنِيَّ النَّفَقَةُ إلاَ بِالْحِصَّةِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ.

القاعدة الرابعة والخمسون بعد المائة
القاعدة الربعة والخمسون بعد المائة:
خُرُوجُ الْبُضْعِ مِنْ الزَّوْجِ هَلْ هُوَ مُتَقَوِّمٌ أَمْ لاَ؟ بِمَعْنَى أَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُهُ الْمَخْرَجُ لَهُ قَهْرًا ضَمَانَةٌ لِلزَّوْجِ بِالْمَهْرِ؟ وَفِيهِ قَوْلاَنِ فِي الْمَذْهَبِ وَيُذْكَرُ أَنَّ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ, وَأَكْثَرُ الأَصْحَابِ كَالْقَاضِي وَمَنْ بَعْدَهُ يَقُولُونَ: لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ, وَخَصُّوا هَذَا الْخِلاَفَ بِمَنْ عَدَا الزَّوْجَةِ فَقَالُوا لاَ يَضْمَنُ الزَّوْجُ شَيْئًا بِغَيْرِ خِلاَفٍ, وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ عَلَى الزَّوْجَةِ وَغَيْرِهَا, وَحَكَاهُ قَوْلاً فِي الْمَذْهَبِ, وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُه:
منها: لَوْ أَفْسَدَ مُفْسِدٌ نِكَاحَ امْرَأَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بِرَضَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ حَيْثُ يَلْزَمُ الزَّوْجَ نِصْفُ الْمَهْرِ كَمَا إذَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ الأَجْنَبِيِّ وَحْدَهُ وَلَهُ مَأْخَذَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ الزَّوْجِ مُتَقَوّمٌ فَيَتَقَوَّمُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى وَفِيهِ وَجْهٌ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لَكِنْ الْمُفْسِدُ قَرَّرَ هَذَا النِّصْفَ عَلَى الزَّوْجِ إذَا كَانَ بِصَدَدِ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَهْرَ كُلَّهُ يَسْقُطُ بِالْفُرْقَةِ لَكِنْ يَجِبُ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وُجُوبًا مُبْتَدِئًا بِالْفُرْقَةِ الَّتِي اسْتَقَلَّ بِهَا الأَجْنَبِيُّ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ وَفِيهِ بُعْدٌ. وَأَمَّا حَيْثُ لاَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ شَيْءٌ كَمَا إذَا وَطِئَ الأَبُ أَوْ الاِبْنُ زَوْجَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِتَمْكِينِهَا فَهَلْ يَلْزَمُهُ لَهُ نِصْفُ الْمَهْرِ أَمْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَذْكُورَيْنِ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ وَهُمَا مُتَنَزِّلاَنِ عَلَى أَنَّ الْبُضْعَ هُوَ مُتَقَوِّمٌ أَمْ لاَ؟ إذْ لاَ غُرْمَ هُنَا عَلَى الزَّوْجِ.
وَنَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَبَعَثُوا إلَيْهِ ابْنَتَهَا فَدَخَلَ بِهَا وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ قَالَ حُرِّمَتَا عَلَيْهِ جَمِيعًا قَالَ فَقُلْت لَهُ: مَا عَلَيْهِ فَقَالَ عَلَيْهِ لِهَذِهِ الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا. قُلْت وَلِلْأُخْرَى مَا عَلَيْهِ قَالَ لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ. قُلْت يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ الَّذِي غَرِمَ لاِبْنَتِهَا قَالَ لاَ, وَإِنَّمَا لَمْ يَرْجِعْ هُنَا عِنْدَهُ; لاِنَّ فَسَادَ نِكَاحِهِ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ مُبَاشَرَةً فَلِذَلِكَ اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ, وَيُخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ وَأَمَّا إنْ كَانَ الإِفْسَادُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِإِرْضَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَى الْمُفْسِدِ ضَمَانُ الْمَهْرِ الْمُسْتَقِرِّ عَلَى الزَّوْجِ وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مُتَقَوِّمٌ, وَكَمَا يَضْمَنُ الْغَارُّ الْمَهْرَ لِمَنْ غَرَّهُ وَإِنْ اسْتَقَرَّ بِالدُّخُولِ بَلْ هُنَا أَوْلَى; لاِنَّ الْمَغْرُورَ قَدْ يَكُونُ فَسَخَ النِّكَاحَ بِاخْتِيَارِهِ كَمَا إذَا دُلِّسَ عَلَيْهِ عَيْبٌ أَوْ نَحْوُهُ حَيْثُ لَمْ يَرْضَ بِالْمَهْرِ إلاَ مَعَ السَّلاَمَةِ مِنْ الْعُيُوبِ وَهُنَا الْفَسْخُ بِسَبَبِ الأَجْنَبِيِّ فَإِنَّهُ هُوَ الْمَانِعُ لِلزَّوْجِ مِنْ الاِسْتِمْتَاعِ فَكَانَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِالْمَهْرِ أَوْلَى, إذْ الزَّوْجُ يَجِبُ تَمْكِينُهُ مِنْ جِنْسِ الاِسْتِمْتَاعِ وَيَعُودُ إلَيْهِ الْمَهْرُ بِمَنْعِهِ مِنْ جِنْسِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ يَسْتَحِقُّهُ مُقَدَّرًا بِخِلاَفِ مَنْفَعَةِ الإِجَارَةِ فَإِنَّهَا تَتَقَسَّطُ عَلَى الْمُدَّةِ, مَعَ أَنَّ الإِجَارَةَ تُسْقِطُهَا الْأُجْرَةُ عِنْدَنَا بِمَنْعِ الْمُؤَجِّرِ مِنْ التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ كُلِّهِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُفْسِدِ بِحَالٍ لاِسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ بِالْوَطْءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ خُرُوجَهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَإِلَيْهِ مَيْلُ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُفْسِدُ لِلنِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجَةُ وَحْدَهَا بِالرَّضَاعِ أَوْ غَيْرِهِ فَقَالَ الأَصْحَابُ. لاَ ضَمَانَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ خِلاَفٍ, لِئَلاَ يَلْزَمَ اسْتِبَاحَةُ بُضْعِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ, وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ عَلَيْهَا الضَّمَانُ وَأَخَذَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمُهَاجِرَةِ وَامْرَأَةِ الْمَفْقُودِ كَمَا سَيَأْتِي وَكَمَا قَالَ الأَصْحَابُ فِي الْغَارَةِ أَنَّهُ لاَ مَهْرَ لَهَا بَلْ عِنْدَنَا فِي الإِجَارَةِ أَنَّ غَصْبَ الْمُؤَجِّرِ يُسْقِطُ الْأُجْرَةَ كُلَّهَا بِخِلاَفِ غَصْبِ غَيْرِهِ لاِسْتِحْقَاقِ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِ, وَأَجَابَ عَمَّا قِيلَ مِنْ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ بِدُونِ عِوَضٍ بِأَنَّ الْعِوَضَ وَجَبَ لَهَا بِالْعَقْدِ ثُمَّ وَجَبَ عَلَيْهَا ضَمَانُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَمْ يَخْلُ الْعَقْدُ مِنْ عِوَضٍ, كَمَا يَجِبُ لَهَا بِالْعَقْدِ عَلَى الْبَائِعِ ضَمَانُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ بِإِتْلاَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَمْ يَخْلُ الْبَيْعُ مِنْ ثَمَنٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمنها: شُهُودُ الطَّلاَقِ إذَا رَجَعُوا قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُمْ يَغْرَمُونَ نِصْفَ الْمَهْرِ, وَإِنْ رَجَعُوا بَعْدَ الدُّخُولِ فَهَلْ يَغْرَمُونَ الْمَهْرَ كُلَّهُ أَمْ لاَ يَغْرَمُونَ شَيْئًا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ, مَأْخَذُهُمَا تَقْوِيمُ الْبُضْعِ وَعَدَمُهُ. وَعَلَى التَّغْرِيمِ يَغْرَمُونَ الْمَهْرَ الْمُسَمَّى وَقِيلَ مَهْرَ الْمِثْلِ.
وَمنها: امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ إذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ ثُمَّ قَدِمَ زَوْجُهَا الْمَفْقُودُ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ زَوْجَتِهِ وَبَيْنَ الْمَهْرِ, فَإِنْ اخْتَارَ الْمَهْرَ أَخَذَ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي الْمَهْرَ الَّذِي أَقْبَضَهُ إيَّاهَا أَعْنِي الأَوَّلَ; لاِنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَعَلَى الثَّانِيَة يَأْخُذُ الْمَهْرَ الَّذِي أَعْطَاهَا الثَّانِي, وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَلْ يَسْتَقِرُّ ضَمَانُهُ عَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي أَمْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا; لاِنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ منها فَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: لاَ يَرْجِعُ بِهِ; لاِنَّ الْمَرْأَةَ اسْتَحَقَّتْهُ بِالإِصَابَةِ فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُهُ منها.
وَمنها: إذَا طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَأَشْهَدَ عَلَى الرَّجْعَةِ وَلَمْ تَعْلَمْ الْمَرْأَةُ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي, وَقُلْنَا عَلَى رِوَايَةٍ: إنَّ الثَّانِي أَحَقُّ بِهَا, فَهَلْ تَضْمَنُ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا الْمَهْرَ أَمْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ, وَاخْتَارَ الْقَاضِي الضَّمَانَ; لاِنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مُتَقَوِّمٌ.
وَمنها: إذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَهَاجَرَتْ إلَيْنَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا مُسْلِمٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي دَارِ الإِسْلاَمِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى زَوْجِهَا الْكَافِرِ مَهْرَهَا الَّذِي أَمْهَرَهَا إيَّاهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي مُوسَى, وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ, لَكِنَّ أَكْثَرَ الأَصْحَابِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ; لاِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ الصُّلْحُ قَدْ وَقَعَ عَلَى رَدِّ النِّسَاءِ قَبْلَ تَحْرِيمِهِ, فَلَمَّا حَرُمَ الرَّدُّ بَعْدَ صِحَّةِ اشْتِرَاطٍ وَجَبَ رَدُّ بَدَلِهِ وَهُوَ الْمَهْرُ, وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ رَدِّ النِّسَاءِ فَلاَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ رَدِّ مُهُورِهِنَّ; لاِنَّهُ شَرْطٌ مَالَ لِلْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ, وَمَنْ اخْتَارَ الْوُجُوبَ كَالشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ مَنَعَ أَنْ

يَكُونَ رَدُّ النِّسَاءِ مَشْرُوطًا فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَنَعَ عَدَمَ جَوَازِ شَرْطِ رَدِّ الْمَهْرِ, لاَ سِيَّمَا إذَا كَانَ مَشْرُوطًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ.
وَمنها: خُلْعُ الْمُسْلِمِ زَوْجَتَهُ بِمُحَرَّمٍ يَعْلَمَانِ تَحْرِيمَهُ كَخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ, قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَالأَصْحَابُ: هُوَ كَالْخُلْعِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ فَإِذَا صَحَّحْنَاهُ لَمْ يَلْزَمْ الزَّوْجَ شَيْءٌ بِخِلاَفِ النِّكَاحِ عَلَى ذَلِكَ وَعِنْدَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ يَرْجِعُ إلَى الْمَهْرِ كَالنِّكَاحِ, وَيُحْتَمَلُ كَلاَمُ الْخِرَقِيِّ فِي خُلْعِ الأَمَةِ عَلَى سِلْعَةٍ بِيَدِهَا أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُتْبَعُ بِقِيمَتِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ.
وَمنها: مُخَالَعَةُ الأَبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِا فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الأَبِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ, وَخَرَّجَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَجْهًا بِجَوَازِهِ بِأَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مُتَقَوِّمٌ فَمَا بُذِلَ مَالُهَا إلاَ فِيمَا لَهُ قِيمَةٌ فَلاَ يَكُونُ تَبَرُّعًا, وَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ فِيهَا أَنَّ لِلْأَبِ الْعَفْوَ عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ فِي الطَّلاَقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ, وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي احْتِمَالاً فِي وَلِيِّ الصَّغِيرَةِ وَالسَّفِيهَةِ وَالْمَجْنُونَةِ مُطْلَقًا إذَا رَأَى الْحَظَّ فِي ذَلِكَ, وَكَذَلِكَ أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ.
وَمنها: إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ فَلَمْ تُقْبَلْ طَلُقَتْ رَجْعِيًّا وَلَمْ يَلْزَمْهَا شَيْءٌ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا, وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ بِأَلْفٍ فَلَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَعْتِقْ عِنْدَ الأَصْحَابِ, وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ بِخِلاَفِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ مَالٌ مَحْضٌ وَخَرَّجَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَجْهًا أَنَّهُ يَعْتِقُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَمَا فِي الطَّلاَقِ; لاِنَّ الطَّلاَقَ وَالْعَتَاقَ فِيهِمَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ الْعِوَضُ بِرُكْنٍ فِيهِمَا إذَا لَمْ يُعَلِّقْهُمَا عَلَيْهِ بَلْ أَوْقَعَهُمَا مُنْجِزًا وَشَرَطَ فِيهِمَا الْعِوَضَ, فَإِذَا لَمْ يَلْتَزِمَا الْعِوَضَ لُغِيَ وَوَقَعَ الطَّلاَقُ وَالْعِتْقُ لِمَا فِيهِمَا مِنْ الْحَقِّ لِلَّهِ تَعَالَى الَّذِي لاَ يُمْكِنُ إبْطَالُهُ.

القاعدة الخامسة والخمسون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ كُلُّهُ لِلْمَرْأَةِ بِأَحَدِ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ:
الأَوَّلُ: الْوَطْءُ فَيَتَقَرَّرُ بِهِ الْمَهْرُ عَلَى كُلِّ حَالٍ, وَأَمَّا مُقَدِّمَاتُهُ كَاللَّمْسِ لِلشَّهْوَةِ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ أَوْ إلَى جَسَدِهَا وَهِيَ عَارِيَّةٌ فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ أَلْحَقَهُ بِالْوَطْءِ وَجَعَلَهُ مُقَرَّرًا رِوَايَةً وَاحِدَة; لاِنَّهُ آكَدُ مِنْ الْخَلْوَةِ الْمُجَرَّدَةِ, وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَوْ رِوَايَتَيْنِ مِنْ الْخِلاَفِ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ كَانَتْ عَادَتُهُ فِعْلُ ذَلِكَ فِي الْمَلاَ اسْتَقَرَّ بِهِ الْمَهْرُ; لاِنَّ ذَلِكَ خَلْوَةٌ مِثْلُهُ وَإِلاَ فَلاَ, وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا أَنَّهُ إذَا تَعَمَّدَ النَّظَرَ إلَيْهَا وَهِيَ عُرْيَانَةٌ تَغْتَسِلُ وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ.

وَالثَّانِي: الْخَلْوَةُ مِمَّنْ يُمْكِنُ الْوَطْءُ بِمِثْلِهِ, فَإِنْ كَانَ ثُمَّ مَانِعٌ إمَّا حِسِّيٌّ كَالْجَبِّ وَالرَّتَقِ أَوْ شَرْعِيٌّ كَالإِحْرَامِ وَالْحَيْضِ, فَهَلْ يُقَرَّرُ الْمَهْرُ؟ عَلَى طُرُقٍ لِلْأَصْحَابِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ مُطْلَقَتَيْنِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ وَصَاحِبِ الْمُحَرَّرِ وَكَذَا لِصَاحِبِ الْمُغْنِي, إلاَ أَنَّهُ أَوْرَدَ رِوَايَةً ثَالِثَةً بِالْعِوَضِ بَيْنَ الْمَانِعِ الْمُتَأَكِّدِ شَرْعًا كَالإِحْرَامِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ فلا يستقر معه المهر بخلاف غيره والثانية: إن كان المانع من الوطء ودواعيه كالإحرام وصيام رمضان فَفِيهِ رِوَايَتَانِ, وَإِنْ كَانَ لاَ يَمْنَعُ الدَّوَاعِي كَالْحَيْضِ وَالْجَبِّ وَالرَّتَقِ اسْتَقَرَّ رِوَايَةً وَاحِدَةً, وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ, وَالثَّالِثَةُ: إنْ كَانَتْ الْمَوَانِعُ بِالزَّوجِ اسْتَقَرَّ الصَّدَاقُ رِوَايَةً وَاحِدَةً, وَإِنْ كَانَتْ بِالزَّوْجَةِ فَهَلْ يَسْتَقِرُّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ.
وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ حَكَى رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لاَ يَسْتَقِرُّ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ لِمُجَرَّدِهَا بِدُونِ الْوَطْءِ أَخْذًا مِمَّا رُوِى يَعْقُوبُ بْنُ بِخِتَانِ عَنْ أَحْمَدَ إذَا خَلاَ بِهَا وَقَالَ لَمْ أَطَأْهَا وَصَدَّقَتْهُ إنَّ لَهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ, وَأَنْكَرَ الأَكْثَرُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَحَمَلُوا رِوَايَةَ يَعْقُوبَ هَذِهِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْخَلْوَةَ إنَّمَا قَرَّرَتْ الْمَهْرَ; لاِنَّهُ مَظِنَّةُ الْوَطْءِ الْمُقَرَّرِ فَقَامَتْ مَقَامَهُ فِي التَّقْرِيرِ; لاِنَّ حَقِيقَةَ الْوَطْءِ لاَ يُطَّلَعُ عَلَيْهِ غَالِبًا فَعَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَى مَظِنَّتِهِ, فَإِذَا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى انْتِفَاءِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ الْوَطْءُ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ فِي إسْقَاطِ الْعِدَّةِ; لاِنَّ فِيهَا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى, وَهَلْ يُقْبَلُ فِي سُقُوطِ نِصْفِ الْمَهْرِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ, نَقَلَ ابْنُ بُخْتَانَ قَوْلَهُ; لاِنَّهُ حَقٌّ مَحْضٌ لِلزَّوْجَةِ, وَقَدْ أَقَرَّتْ بِسُقُوطِهِ, وَنَقَلَ الأَكْثَرُونَ عَدَمَ قَبُولِهِ لِمُلاَزِمَتِهِ لِلْعِدَّةِ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ مُقَرَّرَةٌ لِمَظِنَّةِ الْوَطْءِ, وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ قَالَ إنَّمَا قُرِّرَتْ لِحُصُولِ التَّمْكِينِ بِهَا وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي, وَرَدَّهَا ابْنُ عَقِيلٍ بِأَنَّ الْخَلْوَةَ مَعَ الْجَبِّ لاَ تَمْكِينَ بِهَا, قَالَ: وَإِنَّمَا قُرِّرَتْ لاِحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا لاِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ, أَوْ; لاِنَّ طَلاَقَهَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ بِهَا وَرَدَّهَا زُهْدًا فِيهَا, فَفِيهِ ابْتِذَالٌ وَكَسْرٌ لَهَا, فَوَجَبَ جَبْرُهُ بِالْمَهْرِ, وَقِيلَ بَلْ الْمُقَرَّرُ هُوَ اسْتِبَاحَةُ مَا لاَ يُسْتَبَاحُ إلاَ بِالنِّكَاحِ مِنْ الْمَرْأَةِ فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْخَلْوَةُ وَاللَّمْسُ بِمُجَرَّدِهِمَا; لاِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ, وَالْمَهْرُ يَسْتَقِرُّ بِنَيْلِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لاَ يَقِفُ عَلَى نَيْلِ جَمِيعِهِ, وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ, قِيلَ لَهُ: فَإِنْ أَخَذَهَا وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ فَمَسَّهَا وَقَبَضَ عَلَيْهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا؟ قَالَ: إذَا نَالَ منها شَيْئًا لاَ يَحِلُّ لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ. وَعَلَى هَذَا فَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: يَتَوَجَّهُ أَنْ يَسْتَقِرَّ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ وَإِنْ مَنَعَهُ الْوَطْءُ, بِخِلاَفِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَالأَصْحَابُ.
الْمُقَرَّرُ الثَّالِثُ: الْمَوْتُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقِيلَ الْفُرْقَةُ, وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْمَرَضِ ثُمَّ مَاتَ فِيهِ فَهَلْ يَسْتَقِرُّ لَهَا الْمَهْرُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى تَوْرِيثِهَا مِنْهُ وَعَدَمِهِ, وَيَتَقَرَّرُ بِأَمْرٍ رَابِعٍ وَهُوَ إذهاب عُذْرَتِهَا بِدَفْعِهَا, عَلَى رِوَايَةٍ خَرَّجَهَا صَاحِبُ الْمُغْنِي وَقَدْ سَبَقَتْ.

القاعدة السادسة والخمسون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
فِيمَا يَنْتَصِفُ بِهِ الْمَهْرُ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ وَمَا يَسْقُطُ بِهِ الْفُرْقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ. إنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ أَوْ مِنْ جِهَةِ أَجْنَبِيٍّ وَحْدَهُ تُنْصَفُ بِهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى, وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ وَحْدَهَا سَقَطَ بِهَا الْمَهْرُ, وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَيْنِ مَعًا أَوْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ مَعَ أَجْنَبِيٍّ فَفِي تَنَصُّفِ الْمَهْرِ وَسُقُوطِهِ رِوَايَتَانِ, فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَوَّلُ مَا اسْتَقَلَّ بِهِ الزَّوْجُ وَلَهُ صُوَرٌ:
منها: طَلاَقُهُ وَسَوَاءٌ كَانَ مُنْجِزًا أَوْ مُتَعَلِّقًا بِصِفَةٍ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الصِّفَةُ مِنْ فِعْلِهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ, كَذَا ذَكَرَهُ الأَصْحَابُ, قَالُوا: لأنَّ السَّبَبَ كَانَ مِنْهُ وَهُوَ الطَّلاَقُ وَإِنَّمَا حَقِيقَتُهُ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَالْحُكْمُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى صَاحِبِ السَّبَبِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: إنْ كَانَتْ الصِّفَةُ مِنْ فِعْلِهَا الَّذِي لَهَا مِنْهُ بُدٌّ فَلاَ مَهْرَ لَهَا, وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ ذَلِكَ مِنْ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَرِيضِ إذَا عَلَّقَ طَلاَقَ امْرَأَتِهِ عَلَى مَالَهَا مِنْهُ بُدٌّ فَفَعَلَتْهُ فَإِنَّ فِي إرْثِهَا رِوَايَتَيْنِ, وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَسْأَلَةُ التَّخْيِيرِ فَإِنَّهُ لَوْ خَيَّرَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهَلْ يَسْقُطُ مَهْرُهَا أَوْ يَنْتَصِفُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالتَّخْيِيرُ تَوْكِيلٌ مَحْضٌ وَالتَّعْلِيقُ بِفِعْلِهَا فِي مَعْنَاهُ, وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ مَهْرَ لِلْمُخَيَّرَةِ, قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَبَتْ مِنْهُ الْخِيَارَ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا, لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ, قَالَ فِي قَلْبِي منها: شَيْءٌ, ثُمَّ قَالَ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهَا شَيْءٌ, قُلْت إنِّي سَأَلْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ قَالَ يَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ. فَقَالَ لِي فَإِنْ أَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ مَجُوسِيَّةٌ وَأَبَى زَوْجُهَا أَنْ يُسْلِمَ يَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ صَدَاقُهَا؟ قَالَ فِي هَذَا: يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ انْتَهَى.
وَمنها: خُلْعُهُ, وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا أَنَّهُ يُوجِبُ نِصْفَ الْمَهْرِ وَعَلَّلَهُ الْقَاضِي بِأَنَّ الْخُلْعَ يَسْتَقِلُّ بِهِ الزَّوْجُ; لاِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الأَجْنَبِيِّ بِدُونِ رِضَى الْمَرْأَةِ فَلِذَلِكَ نُسِبَ إلَيْهِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ الْمَهْرُ, فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى أَنَّهُ فَسْخٌ فَيَكُونُ كَسَائِرِ الْفُسُوخِ مِنْ الزَّوْجِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِمَّا يَشْتَرِكُ بِهِ الزَّوْجَانِ; لاِنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِسُؤَالِ الْمَرْأَةِ فَتَكُونُ الْفُرْقَةُ فِيهِ مِنْ قِبَلِهَا, وَلِذَلِكَ يَسْقُطُ إرْثُهَا بِالْخُلْعِ فِي الْمَرَضِ, وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا لاَ يَصِحُّ مَعَ الأَجْنَبِيِّ أَظْهَرُ. فَأَمَّا إنْ وَقَعَ مَعَ الأَجْنَبِيِّ وَصَحَّحْنَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَصِفَ بِهِ الْمَهْرُ وَجْهًا وَاحِدًا.
وَمنها: إسْلاَمُهُ وَالزَّوْجَةُ غَيْرُ كِتَابِيَّةٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ, وَفِي الْأُخْرَى يَسْقُطُ الْمَهْرُ; لاِنَّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ, وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِامْتِنَاعِهَا مِنْ الإِسْلاَمِ فَلاَ يَكُونُ لَهَا مَهْرٌ.

وَمنها: رِدَّتُهُ عَنْ الإِسْلاَمِ.
وَمنها: إقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ أَوْ بِالرَّضَاعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُفْسِدَاتِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ فِي انْفِسَاخِ النِّكَاحِ دُونَ سُقُوطِ النِّصْفِ.
وَمنها: أَنْ يَطَأَ أُمَّ زَوْجَتِهِ أَوْ ابْنَتَهَا بِشُبْهَةٍ أَوْ زِنًا فَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْبِنْتِ وَيَجِبُ لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ, وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الْفُسُوخُ الَّتِي يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ لِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ إمَّا لِظُهُورِ عَيْبٍ فِي الزَّوْجَةِ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ فَيَسْقُطُ بِهَا الْمَهْرُ; لاِنَّ حُكْمَ الْفُسُوخِ فِي الْعُقُودِ لِعَيْبٍ ظَهَرَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُزَادُ لِلْعِوَضَيْنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَاسْتِيفَائِهِ, وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّتْ نِصْفَ الْمَهْرِ فِي الصَّدَاقِ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ جَبْرًا لَهَا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُوجِبٌ مِنْ جِهَتِهَا, وَهُنَا قَدْ وُجِدَ سَبَبٌ مِنْ جِهَتِهَا فَصَارَ كَالْمَنْسُوبِ إلَيْهَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي مَا اسْتَقَلَّ بِهِ الأَجْنَبِيُّ وَحْدُهُ.
وَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ: أَنْ تُرْضِعَ زَوْجَتُهُ الْكُبْرَى زَوْجَتَهُ الصُّغْرَى.
وَمنها: أَنْ يُكْرِهَ رَجُلٌ زَوْجَةَ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ عَلَى الْوَطْءِ قَبْلَ الدُّخُولِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ الزَّوْجَةُ وَحْدَهَا وَلَهُ صُوَرٌ:
منها: رِدَّتُهَا.
وَمنها: إسْلاَمُهَا, فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ لَهَا نِصْفَ الْمَهْرِ; لاِنَّهَا فَعَلَتْ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا فَنُسِبَ الْفَسْخُ إلَى امْتِنَاعِ الزَّوْجِ.
وَمنها: إرْضَاعُهَا مِمَّنْ يَثْبُتُ بِهِ الْمَحْرَمِيَّةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ, وَكَذَلِكَ ارْتِضَاعُهَا منها وَهِيَ صَغِيرَةٌ.
وَمنها: فَسْخُهَا النِّكَاحَ لِعَيْبِ الزَّوْجِ, قَالَ الأَصْحَابُ: هُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهَا لاَ إلَيْهِ فَسَقَطَ الْمَهْرُ أَيْضًا لِذَلِكَ, وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ فَسْخَهُ لِعَيْبِهَا رَدٌّ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ فَلاَ يُنْسَبُ إلاَ إلَى مَنْ دَلَّسَ الْعَيْبَ, بِخِلاَفِ فَسْخِهَا لِعَيْبِهِ فَإِنَّ الْعَيْبَ لَيْسَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَلْ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ امْتَنَعَتْ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعَ سَلاَمَةِ الْعِوَضَيْنِ لِضَرَرٍ دَخَلَ, فَلِذَلِكَ نُسِبَ الْفِعْلُ إلَيْهَا, وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الزَّوْجَ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ وَفِيهِ خِلاَفٌ سَبَقَ ذِكْرُهُ, وَالأَظْهَرُ فِي الْفَرْقِ أَنْ يُقَالَ الْفُسُوخُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي يَمْلِكُهَا كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إنَّمَا شُرِعَتْ لاِزَالَةِ ضَرَرٍ حَاصِلٍ فَإِذَا وَقَعَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدْ رَجَعَ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إلَى مَا بَذَلَهُ سَلِيمًا كَمَا خَرَجَ فَلاَ حَقَّ لَهُ فِي غَيْرِهِ, بِخِلاَفِ الطَّلاَقِ وَمَا فِي

مَعْنَاهُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْفُرْقَةِ بِغَيْرِ ضَرَرٍ ظَاهِرٍ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ لِلْمَرْأَةِ انْكِسَارٌ وَضَرَرٌ فَجَبَرَهُ الشَّارِعُ بِإِعْطَائِهَا نِصْفَ الْمَهْرِ عِنْدَ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ وَبالْمُتْعَةِ عِنْدَ فَقْدِ التَّسْمِيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَنَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ فِي مَجْبُوبٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا لَمْ تَرْضَ بِهِ, لَهَا ذَلِكَ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ إذَا لَمْ تَرْضَ بِهِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا فَسَخَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ; لاِنَّ سَبَبَ الْفَسْخِ هُوَ الْعَيْبُ مِنْ جِهَتِهِ وَهِيَ مَعْذُورَةٌ فِي الْفَسْخِ, وَأَمَّا الْقَاضِي فَقَالَ قَدْ وُجِدَ الدُّخُولُ وَإِنَّمَا لَمْ يُقَرِّرْ الْمَهْرَ كُلَّهُ لِلْمَانِعِ الْقَائِمِ بِهِ.
وَمنها: فَسْخُهَا النِّكَاحَ لاِعْسَارِ الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ أَوْ النَّفَقَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَالْفَسْخِ لِفَوَاتِ شَرْطٍ صَحِيحٍ, قَالَ الْقَاضِي وَالأَكْثَرُونَ: هُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهَا فَيَسْقُطُ بِهِ مَهْرُهَا كَمَا فِي الْفَسْخِ لِعَيْبِ الزَّوْجِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ: فَسْخُهَا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ يَجِبُ لَهَا بِهِ نِصْفُ الشَّرْطِ; لاِنَّ فَوَاتَ الشَّرْطِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَنُسِبَ الْفَسْخُ بِهِ إلَيْهِ دُونَهَا, وَقِيَاسُهُ الْفَسْخُ بِمَنْعِ النَّفَقَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا هُوَ مِنْ فِعْلِ الزَّوْجِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إزَالَتِهِ, وَأَمَّا الْفَسْخُ لِعُسْرَتِهِ فَهُوَ كَالْفَسْخِ لِعَيْبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ, قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ إنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مُتَقَوِّمٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَإِنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهَا كَإِتْلاَفِ الْبَائِعِ لِلْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنْ يُخَيَّرَ الزَّوْجُ بَيْنَ مُطَالَبَتِهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَضَمَانِ الْمُسَمَّى لَهَا وَبَيْنَ إسْقَاطِ الْمُسَمَّى.
وَمنها: فَسْخُ الْمُعْتَقَةِ تَحْتَ عَبْدٍ قَبْلَ الدُّخُولِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا: لاَ مَهْرَ لَهَا اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ وَغَيْرُهُ لاِسْتِقْلاَلِهَا بِالْفَسْخِ كَالْحُرَّةِ, وَالثَّانِيَة: يَنْتَصِفُ الْمَهْرُ نَقَلَهَا مُهَنَّا وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ; لاِنَّ السَّيِّدَ هُوَ مُسْتَحِقُّ الْمَهْرِ فَلاَ يَسْقُطُ بِفَسْخِ غَيْرِهِ, وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ إعْتَاقَ السَّيِّدِ لِسَبَبٍ فِي الْفَسْخِ يُسْقِطُ حَقَّهُ لَتَسَبُّبِهِ فِي سُقُوطِهِ. وَإِنْ بَاشَرَهُ غَيْرُهُ, كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَلْقِ مَتَاعِي فِي الْبَحْرِ فَفَعَلَ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الزَّوْجَانِ وَلَهُ صُوَرٌ:
منها: لِعَانُهَا فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ جَاءَتْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ; لاِنَّ الْفُرْقَةَ إنَّمَا تَقَعُ بِلِعَانِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ أَصْلُهُمَا إذَا لاَعَنَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَهَلْ تَرِثُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَمنها: أَنْ يُخَالِعَهَا وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ, وَلاِنَّ لَنَا فِيهِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يُسْقِطُ الْمَهْرَ كُلَّهُ إذَا قُلْنَا هُوَ فَسْخٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَنْسُوبًا إلَيْهِمَا, فَيَكُونُ كَالتَّلاَعُنِ, بِخِلاَفِ مَا إذَا قُلْنَا إنَّهُ طَلاَقٌ فَإِنَّ الطَّلاَقَ يَسْتَقِلُّ بِهِ الزَّوْجُ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا ابْتِدَاءً أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفِ فَقَبِلَتْهُ, وَيَتَخَرَّجُ لَنَا وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ الْمَهْرُ, وَإِنْ قُلْنَا هُوَ طَلاَقٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا بِسُؤَالِهَا وَلِهَذَا كَانَ لَنَا فِيمَنْ خَالَعَتْ زَوْجَهَا فِي مَرَضِهِ هَلْ تَرِثُهُ أَوْ لاَ؟ رِوَايَتَانِ. وَجَزَمَ

ابن أبي موسى أنها لا ترثه لأن الفرقة جاءت من قبلها فلا يكون لها شيء من الصداق حينئذ، يؤيد هذا أن الخلع يسقط حقوق الزوجية كلها في إحدى الروايتين عن أحمد ونصف المهر من الحقوق فيسقط على هذه الرواية.
القسم الخامس: ماكان من جهة الزوجة مع أجنبي وله صور:
منها: شراؤها للزوج وفيه وجهان أشهرهما وهو اختيار أبي بكر والقاضي وأصحابه أنه ينتصف بها المهر تغليبا لجة الأجنبي هنا وهو البائع إذ هو أصل العقد ومنه نشأ وعنه تلقى ، والثاني يسقط المهر تغليبا لجهة الزوجة إذ الانفساخ متعقب لقبولها ، فأما شراء الزوج لزوجته فهل ينتصف به المهر أو يسقط ؟ على وجهين أيضا ، واختار أبو بكر أنه يسقط تغليبا لجهة البائع هنا أيضا وهو سيد الأمة المستحق لمهرها فهو كمجئ الفسخ من الحرة المستحقة المهر، وهذا متجه على ما اختاره في فسخ المعتقة تحت عبد ، فعلى هذا لو باعها السيد الذي زوجها الأجنبي ثم باعها الأجنبي للزوج قبل الدخول لم يسقط؛ لأن الفرقة جاءت من البائع الثاني وهو غير مستحق للمهر ، هذه كلام صاحب المحرر وعلل صاحب الكافي سقوط المهر بأن الزوجة شاركته في الفسخ فسقط مهرها كالفسخ بعيب ، وعنى هذا أن كونها أمة صفة لها ثابتة بعد ملك الزوج وذلك يوجب الفسخ فأسند إليه وإن لم يكن باختيارها كما استند فسخها لعيب الزوج إليه وإن لم يكن باختياره وعلى هذا فلا فرق بين شرائها من مستحق مهرها وغيرها وهو مقتضى إطلاق الأكثرين.
ومنها: إذا مكث الزوجة من نفسها من ينفسخ النكاح بوطئه كأب الزوج أو ابنه فقال القاضي ومن أتبعه يسقط مهرها إسنادا للفسخ إليها، وقال الشيخ تقي الدين يتخرج على وجهين لأن الفرقة منها ومن الأجنبي.
وبقي هنا قسم سادس: وهي الفرقة الإجبارية ولها صور:
منها: أن يسلم الكافر وتحته عدد لا يجوز جمعه في الإسلام فينفسخ نكاح العدد الزائد فلا يجب لهن شيء من المهر ذكره القاضي في الجامع والخلاف معللا بأنه ممنوع من إمساكهن فهو كالنكاح الفاسد ، وجزم به صاحب المغني والمحرر ، ويتخرج لنا وجه آخر أنه يجب تنصف المهر من المسألة التي بعدها ، وأما الطلاق في النكاح الفاسد فذكر ابن عقيل وجها أن المهر ينتصف به قبل الدخول ، وعلى المشهور فإنما يسقط لأن المهر يجب في النكاح الفاسد بالإصابة لا بالعقد بخلاف الصحيح.
ومنها: إذا تزوج أختين في عقدين وأشكل السابق وأمرناه بالطلاق فطلقها فقال أبو بكر يتوجه في المهر قولان: أحدهما: يجب نصف المهر ثم يقترعان فمن وقعت لها القرعة حكم لها به لأنه

وَاجِبٌ عَلَيْهِ لاِحْدَاهُمَا فِي نَفْسِ الأَمْرِ فَتَعَيَّنَ بِالْقُرْعَةِ, وَالثَّانِي لاَ يَجِبُ شَيْءٌ بِهِ لاِنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى الطَّلاَقِ فَكَأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ فَلاَ تَسْتَحِقُّ شَيْئًا. وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ مُهَنَّا أَنَّهُ قَالَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ قِيلَ يَكُونُ نِصْفُ الْمَهْرِ لَهُمَا جَمِيعًا, وَمَا أَخْلَقَهُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ شَيْئًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِ نِصْفَ الْمَهْرِ لاَ يَقْتَرِعَانِ عَلَيْهِ. وَلَوْ زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ امْرَأَةً مِنْ زَوْجَيْنِ وَجَهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا وَأَمَرْنَاهُمَا بِالطَّلاَقِ فَهَلْ يَجِبُ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَيُعَيَّنُ بِالْقُرْعَةِ أَمْ لاَ يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ, وَحكَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ اخْتَارَ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ لَهَا وَبِهِ أَفْتَى أَبُو يَعْلَى النَّجَّادُ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ مَا إذَا وَرِثَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فَإِنَّ الْفُرْقَةَ هَاهُنَا بِفِعْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ كَاشْتِبَاهِ الزَّوْجِ.

القاعدة السابعة والخمسون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
إذَا تَغَيَّرَ حَالُ الْمَرْأَةِ الَّتِي فِي الْعِدَّةِ بِانْتِقَالِهَا مِنْ رِقٍّ إلَى حُرِّيَّةٍ أَوْ طَرَأَ عَلَيْهَا سَبَبٌ مُوجِبٌ لِعِدَّةٍ أُخْرَى مِنْ الزَّوْجِ كَوَفَاتِهِ فَهَلْ يَلْزَمُهَا الاِنْتِقَالُ إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَوْ إلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ؟ إنْ كَانَ زَوْجُهَا مُتَمَكِّنًا مِنْ تَلاَفِي نِكَاحِهَا فِي الْعِدَّةِ لَزِمَهَا الاِنْتِقَالُ وَإِلاَ فَلاَ, إلاَ مَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مِنْ الإِبَانَةِ فِي الْمَرِيضِ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا مَسَائِلُ:
منها: الرَّجْعِيَّةُ إذَا أُعْتِقَتْ أَوْ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا انْتَقَلَتْ إلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ أَوْ عِدَّةِ وَفَاةٍ.
وَمنها: إذَا كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ مُشْرِكٍ إمَاءٌ فَأَسْلَمْنَ وَأُعْتِقْنَ فَإِنَّ عِدَّتَهُنَّ عِدَّةُ حَرَائِرَ; لاِنَّهُ عِتْقٌ فِي عِدَّةٍ يَتَمَكَّنُ الزَّوْجُ فِيهَا مِنْ الاِسْتِدْرَاكِ بِالإِسْلاَمِ فَهِيَ فِي مَعْنَى عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ, بِخِلاَفِ مَا إذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ ثُمَّ عَتَقَ الإِمَاءُ وَهُنَّ عَلَى الشِّرْكِ فَإِنَّ عِدَّتَهُنَّ عِدَّةُ إمَاءٍ; لاِنَّ الزَّوْجَ لاَ يُمْكِنُهُ تَلاَفِي نِكَاحِهِنَّ.
وَمنها: الْمُرْتَدُّ إذَا قُتِلَ فِي عِدَّةِ امْرَأَتِهِ فَإِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ; لاِنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ تَلاَفِي النِّكَاحِ بِالإِسْلاَمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَسْخَ يَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
وَمنها: لَوْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَهِيَ تَحْتَ كَافِرٍ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي قِيَاسِ الَّتِي قَبْلَهَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.

القاعدة الثامنة والخمسون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
إذَا تَعَارَضَ مَعَنَا أَصْلاَنِ عُمِلَ بِالأَرْجَحِ مِنْهُمَا لاِعْتِضَادِهِ بِمَا يُرَجِّحُهُ, فَإِنْ تَسَاوَيَا خَرَّجَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهان غَالِبًا.

القاعدة التاسعة والخمسون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
إذَا تَعَارَضَ الأَصْلُ وَالظَّاهِرُ فَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ حُجَّةً يَجِبُ قَبُولُهَا شَرْعًا كَالشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالإِخْبَارِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الأَصْلِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ مُسْتَنِدُهُ الْعُرْفُ أَوْ الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ أَوْ الْقَرَائِنُ أَوْ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَتَارَةً يُعْمَلُ بِالأَصْلِ وَلاَ يُلْتَفَتُ إلَى الظَّاهِرِ، وَتَارَةً يُعْمَلُ بِالظَّاهِرِ وَلاَ يُلْتَفَتُ إلَى الأَصْلِ، وَتَارَةً يُخَرَّجُ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ.

الْقِسْمُ الأَوَّلُ. مَا تُرِكَ الْعَمَلُ فِيهِ بِالأَصْلِ لِلْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ قَوْلُ مَنْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ، وَلَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا:
منها: شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ بِشَغْلِ ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَمنها: شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ بِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ مَنْ عُلِمَ اشْتِغَالُ ذِمَّتِهِ بِدَيْنٍ وَنَحْوِهِ.
وَمنها: إخْبَارُ الثِّقَةِ الْعَدْلِ بِأَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي هَذِهِ الإِنَاءِ.
وَمنها: إخْبَارُهُ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلاَةِ.
وَمنها: شَهَادَةُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ بِرُؤْيَةِ هِلاَلِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ مَقْبُولٌ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى لاَ بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ كَسَائِرِ الشُّهُودِ، وَفَرَّقَ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَ أَنْ يَرَاهُ فِي الْمِصْرِ فَلاَ يُقْبَلُ وَبَيْنَ أَنْ يَرَاهُ خَارِجَ الْمِصْرِ فَيُقَدَّمُ الْمِصْرُ فَيُقْبَلُ خَبَرُهُ.
وَمنها: إخْبَارُ الثِّقَةِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ.
وَمنها: إخْبَارُهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يُبِيحُ الْفِطْرَ؛ صَرَّحَ بِهِ الأَصْحَابُ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى هِلاَلِ شَوَّالٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَقْتَ الْفِطْرِ مُلاَزِمٌ لِوَقْتِ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ فَإِذَا ثَبَتَ دُخُولُ وَقْتِ الصَّلاَةِ بِإِخْبَارِ الثِّقَةِ ثَبَتَ دُخُولُ وَقْتِ الإِفْطَارِ تَبَعًا لَهُ وَقَدْ يَثْبُتُ تَبَعًا مَا لاَ يَثْبُتُ اسْتِقْلاَلاً، بِخِلاَفِ الشَّهَادَةِ بِهِلاَلِ شَوَّالٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ إخْبَارَ الثِّقَةِ هُنَا يُقَارِنُهُ أَمَارَاتٌ تَشْهَدُ بِصِدْقِهِ؛ لاِنَّ وَقْتَ الْغُرُوبِ يَتَمَيَّزُ بِنَفْسِهِ وَعَلَيْهِ أَمَارَاتٌ تُورِثُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهَا إخْبَارُ الثِّقَةِ قَوِيَ الظَّنُّ، وَرُبَمَا أَفَادَ الْعِلْمَ بِخِلاَفِ هِلاَلِ الْفِطْرِ فَإِنَّهُ لاَ أَمَارَةَ عَلَيْهِ، وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ صَائِمًا أَمَرَ رَجُلاً فَأَوْفَى عَلَى شَيْءٍ، فَإِذَا قَالَ قَدْ غَابَتْ الشَّمْسُ أَفْطَرَ "، وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ طَعَامَهُ عِنْدَ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ وَيَبْعَثُ مرتقباً يَرْقُبُ الشَّمْسَ فَإِذَا قَالَ قَدْ وَجَبَتْ قَالَ: كُلُوا ".
وَمِنْ ذَلِكَ: قَبُولُهُ قَوْلَ الْأُمَنَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي تَلَفِ مَالٍ أَوْ ثَمَنٍ عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَمِنْهُ أَيْضًا: قَبُولُ قَوْلِ الْمُعْتَدَّةِ فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالأَقْرَاءِ وَلَوْ فِي شَهْرٍ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ إلاَ بِالْبَيِّنَةِ فِي الشَّهْرِ، وَفَرَّقَ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ بَيْنَ مَنْ لَهَا عَادَةٌ مُنْتَظِمَةٌ فَلاَ يُقْبَلُ مُخَالِفَتُهَا إلاَ بِبَيِّنَةٍ، بِخِلاَفِ مَنْ لاَ عَادَةَ لَهَا، وَفِي الْفُنُونِ لاِبْنِ عَقِيلٍ لاَ يُقْبَلُ مَعَ فَسَادِ النِّسَاءِ إلاَ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ أَنَّ هَذِهِ عَادَتُهَا أَوْ أَنَّهَا رَأَتْ الْحَيْضَ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ وَتَكَرَّرَ ثَلاَثًا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا عُمِلَ بِالأَصْلِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى الْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ:
منها: إذَا ادَّعَتْ الزَّوْجَةُ بَعْدَ طُولِ مَقَامِهَا مَعَ الزَّوْجِ أَنَّهُ لَمْ تُوصِلْهَا النَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ وَلاَ الْكِسْوَةُ. فَقَالَ الأَصْحَابُ: الْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لاِنَّ الأَصْلَ مَعَهَا مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ تَبْعُدُ ذَلِكَ جِدًّا، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الرُّجُوعَ إلَى الْعَادَةِ وَخَرَّجَهُ وَجْهًا مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: وَإِذَا وُجِدَ مَعَهَا نَظِير الصَّدَاقِ أَوْ الْكِسْوَةِ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهَا سَبَبٌ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِهِ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا إذَا أَصْدَقهَا تَعْلِيمَ سُورَةٍ ثُمَّ وُجِدَتْ مُتَعَلِّمَةً لَهَا بَعْدَ مُدَّةٍ وَقَالَتْ لَمْ يُعَلِّمْنِي الزَّوْجُ، وَادَّعَى هُوَ أَنَّهُ عَلَّمَهَا فَإِنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَيْنِ.
وَمنها: إذَا تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ أَوْ النَّجَاسَةَ فِي مَاءٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ بَدَنٍ وَشَكَّ فِي زَوَالِهَا فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الأَصْلِ إلَى أَنْ يَتَيَقَّنَ زَوَالَهُ، وَلاَ يَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ وَلاَ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَيَقَّنَ حَدَثًا أَوْ نَجَاسَةً وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ زَوَالُهَا فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الأَصْلِ، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ وَغَيْرِهِمَا.
وَمنها: إذَا شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الأَكْلُ حَتَّى يَتَيَقَّنَ طُلُوعَهُ نَصَّ عَلَيْهِ، أَحْمَدُ، وَلاَ عِبْرَةَ فِي ذَلِكَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ وَبِالْقَرَائِنِ وَنَحْوِهَا مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَنِدًا إلَى إخْبَارِ ثِقَةٍ بِالطَّلْعِ.
وَمنها: إذَا زَنَى مَنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَوَلَدٌ فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ وَطِئَ زَوْجَتَهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: لاَ يُرْجَمُ؛ لاِنَّ الأَصْلَ عَدَمُ الْوَطْءِ وَلُحُوقُ النَّسَبِ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الإِمْكَانِ وَوُجُودِ الْقَرَائِنِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا عُمِلَ فِيهِ بِالظَّاهِرِ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى الأَصْلِ وَلَهُ صُوَرٌ:
منها: إذَا شَكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلاَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي تَرْكِ رُكْنٍ منها فَإِنَّهُ لاَ يَلْتَفِتُ إلَى الشَّكِّ، وَإِنْ كَانَ الأَصْلُ عَدَمَ الإِتْيَانِ بِهِ وَعَدَمَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ لِلْعِبَادَاتِ أَنْ تَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَيَرْجِعُ هَذَا الظَّاهِرُ عَلَى الأَصْلِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ، وَفِي الْوُضُوءِ وَجْهٌ أَنَّ الشَّكَّ فِي تَرْكِ بَعْضِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ كَالشَّكِّ فِي ذَلِكَ قَبْلَ الْفَرَاغِ؛ لاِنَّ حُكْمَهُ بَاقٍ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا.
وَمنها: لَوْ صَلَّى ثُمَّ رَأَى عَلَيْهِ نَجَاسَةً وَشَكَّ هَلْ لَحِقَتْهُ قَبْلَ الصَّلاَةِ أَوْ بَعْدَهَا وَأَمْكَنَ الأَمْرَانِ فَالصَّلاَةُ صَحِيحَةٌ، وَإِنْ كَانَ الأَصْلُ عَدَمَ انْعِقَادِ الصَّلاَةِ وَبَقَاؤُهَا فِي الذِّمَّةِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ صِحَّتَهَا، لَكِنْ حُكِمَ بِالصِّحَّةِ؛ لاِنَّ الظَّاهِرَ صِحَّةُ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِ وَجَرَيَانُهَا عَلَى الْكَمَالِ وَعَضَّدَ ذَلِكَ أَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ مُقَارَنَةِ الصَّلاَةِ لِلنَّجَاسَةِ، وَتُرْجَعُ الْمَسْأَلَةُ حِينَئِذٍ إلَى تَعَارُضِ أَصْلَيْنِ رُجِّحَ أَحَدُهُمَا بِظَاهِرٍ عَضَّدَهُ.

وَمنها: إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ بَعْدَ الْعَقْدِ فِي بَعْضِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ، كَمَا إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمَذْهَبِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي صُورَةِ دَعْوَى الصَّغِيرِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ؛ لاِنَّ الظَّاهِرَ وُقُوعُ الْعُقُودِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ دُونَ الْفَسَادِ وَإِنْ كَانَ الأَصْلُ عَدَمَ الْبُلُوغِ وَالإِذْنِ. وَذَكَرَ الأَصْحَابُ وَجْهًا آخَرَ فِي دَعْوَى الصَّغِيرِ أَنَّهُ يُقْبَلُ؛ لاِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَكْلِيفُهُ وَالأَصْلُ عَدَمُهُ، بِخِلاَفِ دَعْوَى عَدَمِ الإِذْنِ مِنْ مُكَلَّفٍ فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ لاَ يَتَعَاطَى فِي الظَّاهِرِ إلاَ الصَّحِيحَ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَهَكَذَا يَجِيءُ فِي الإِقْرَارِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ إذَا اخْتَلَفَا هَلْ وَقَعَتْ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَوْ قَبْلَهُ؛ لاِنَّ الأَصْلَ فِي الْعُقُودِ الصِّحَّةُ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ هَذَا عَامٌّ وَإِمَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ وَقْتُ التَّصَرُّفِ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ غَيْرَ مَحْكُومٍ بِبُلُوغِهِ أَوْ لاَ يَتَيَقَّنُ، فَأَمَّا مَعَ تَيَقُّنِ الشَّكِّ قَدْ تَيَقَّنَّا صُدُورَ التَّصَرُّفِ مِمَّنْ لَمْ تَثْبُتْ أَهْلِيَّتُهُ وَالأَصْلُ عَدَمُهَا، فَقَدْ شَكَكْنَا فِي شَرْطِ الصِّحَّةِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الصِّحَّةِ، وَأَمَّا فِي الْحَالَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ يَجُوزُ صُدُورُهُ فِي حَالِ الأَهْلِيَّةِ وَحَالِ عَدَمِهَا وَالظَّاهِرُ صُدُورُهُ وَقْتَ الأَهْلِيَّةِ، وَالأَصْلُ عَدَمُهُ قَبْلَ وَقْتِهَا، فَالأَهْلِيَّةُ هُنَا مُتَيَقِّنٌ وُجُودُهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِالْبُلُوغِ حَتَّى تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مِثْلُ إسْلاَمِهِ بِإِسْلاَمِ أَبِيهِ أَوْ ثُبُوتُ الذِّمَّةِ لَهُ تَبَعًا لاِبِيهِ أَوْ بَعْدَ تَصَرُّفِ الْوَلِيِّ لَهُ أَوْ تَزْوِيجِ وَلِيٍّ أَبْعَدَ مِنْهُ لِمُوَلِّيَتِهِ فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْبُلُوغِ حِينَئِذٍ أَمْ لاَ لِثُبُوتِ هَذِهِ الأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فِي الظَّاهِرِ قَبْلَ دَعْوَاهُ؟ وَأَشَارَ إلَى تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا ارْتَجَعَ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجُهَا فَقَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي، وَشَبَّهَهُ أَيْضًا بِمَا إذَا ادَّعَى الْمَجْهُولُ الْمَحْكُومُ بِإِسْلاَمِهِ ظَاهِرًا كَاللَّقِيطِ الْمُقِرِّ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِنَّهُ لاَ تُسْمَعُ مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَذَا لَوْ تَصَرَّفَ الْمَحْكُومُ بِحُرِّيَّتِهِ ظَاهِرًا كَاللَّقِيطِ ثُمَّ ادَّعَى الرِّقَّ فَفِي قَبُولِهِ خِلاَفٌ مَعْرُوفٌ.
وَمنها: إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولَ وَقْتِ الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ تَصِحُّ صَلاَتُهُ وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَتَيَقَّنَ دُخُولَهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَحَكَى عَنْ ابْنِ حَامِدٍ أَنْ يُعْتَبَرَ التَّيَقُّنُ.
وَمنها: الْفِطْرُ فِي الصِّيَامِ يَجُوزُ بِغَلَبَةِ ظَنِّ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ قَالَ لاَ يَجُوزُ الْفِطْرُ إلاَ مَعَ تَيَقُّنِ الْغُرُوبِ وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ، وَالأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لاِنَّ الْوَقْتَ عَلَيْهِ أَمَارَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا فَاكْتُفِيَ فِيهَا بِالظَّنِّ الْغَالِبِ، بِخِلاَفِ مَا لاَ أَمَارَةَ عَلَيْهِ مِنْ إتْمَامِ الصَّلاَةِ وَالطَّهَارَةِ وَالْحَدَثِ وَنَحْوِهَا، وَأَيْضًا فَالصَّلاَةُ وَالطَّهَارَةُ وَنَحْوُهُمَا كُلٌّ مِنْهُمَا عِبَادَةٌ فَعَلَيْهِ مَطْلُوبَةُ الْوُجُودِ إذَا شَكَّ فِي فِعْلِ شَيْءٍ منها فَالأَصْلُ عَدَمُهُ فَلاَ يُخْرَجُ مِنْ عُهْدَتِهِ إلاَ بِيَقِينٍ، وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ وَكَفٌّ عَنْ مَحْظُورَاتٍ خَاصَّةٍ، فَمَتَى لَمْ يَتَيَقَّنْ وُقُوعَ مَحْظُورَاتِهَا فِي وَقْتِهَا لَمْ يُحْكَمْ بِبُطْلاَنِهَا، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ الْخُرُوجِ منها بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ الْمُسَاوِي؛ لاِنَّ الأَصْلَ بَقَاءُ الصَّوْمِ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ ظَنٌّ يُعَارِضُهُ، فَإِذَا تَرَجَّحَ الظَّنُّ عُمِلَ بِهِ وَلَمْ يُحْكَمْ

بِبُطْلاَنِهِ بِوُقُوعِ مَحْظُورَاتِهِ حِينَئِذٍ لاَ سِيَّمَا وَفِعْلُ مَحْظُورَاتِهِ مَعَ تَرْجِيحِ ظَنِّ انْقِضَائِهِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا عَلَى الأَظْهَرِ وَلِهَذَا جَازَ الأَكْلُ أَوْ اُسْتُحِبَّ مَعَ ظَنِّ طُلُوعِ الْفَجْرِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ طُلُوعَهُ كَمَا سَبَقَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَقْتِ الصَّلاَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا؛ أَنَّ الصَّلاَةَ يَجُوزُ فِعْلُهَا مَعَ غَلَبَةِ ظَنِّ دُخُولِ وَقْتِهَا وَلاَ يَجِبُ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ يَجُوزُ الإِمْسَاكُ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ مَعَ غَلَبَةِ ظَنِّ طلوع الفجر وَلاَ يَجِبُ فَهُمَا سَوَاءٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّلاَةَ عِبَادَةٌ فَعَلَيْهِ لاَ تُسْتَغْرَقُ مَجْمُوعُ وَقْتِهَا بَلْ تُفْعَلُ فِي جُزْءٍ مِنْهُ، فَإِذَا فُعِلَتْ فِي زَمَنٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ مِنْ وَقْتِهَا كَفَى، وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ تَسْتَغْرِقُ زَمنها وَهِيَ مِنْ بَابِ الْكَفِّ وَالتَّرْكِ لاَ مِنْ بَابِ الأَعْمَالِ، فَيَكْفِي اشْتِرَاطُ الْكَفِّ عَنْ مَحْظُورَاتِهَا فِي زَمَانِهَا الْمُحَقَّقِ دُونَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَلاَ يَبْطُلُ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِهَا فِي زَمَنٍ لاَ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ وَقْتُ الصِّيَامِ، إلاَ أَنْ يَكُونَ الأَصْلُ بَقَاءَ وَقْتِ الصِّيَامِ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ خُرُوجُهُ فَلاَ يُبَاحُ حِينَئِذٍ الإِقْدَامُ عَلَى الإِفْطَارِ وَلاَ تَبْرَأُ الذِّمَّةُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ صَلَّى ثُمَّ رَأَى عَلَيْهِ نَجَاسَةً يُمْكِنُ أَنَّهَا لَحِقَتْهُ بَعْدَ الصَّلاَةِ سَوَاءٌ.
وَمنها: أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ الْمُعْتَادَةَ تَرْجِعُ إلَى عَادَتِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا عَادَةٌ فَإِلَى تَمْيِيزِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ وَتَمْيِيزٌ رَجَعَتْ إلَى غَالِبِ عَادَاتِ النِّسَاءِ وَهِيَ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لاِنَّ الظَّاهِرَ مُسَاوَاتُهَا لَهُنَّ وَإِنْ كَانَ الأَصْلُ عَدَمُ فَرَاغِ حَيْضِهَا حِينَئِذٍ.
وَمنها: امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ تَتَزَوَّجُ بَعْدَ انْتِظَارِ أَرْبَعِ سِنِينَ وَيُقَسَّمُ مَالُهُ حِينَئِذٍ؛ لاِنَّ الظَّاهِرَ مَوْتُهُ، وَإِنْ كَانَ الأَصْلُ بَقَاؤُهُ لَكِنْ هَلْ يَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْمَعْدُومِ مِنْ حِينِ فَقَدَهُ أَوْ لاَ يَثْبُتُ إلاَ مِنْ حِينِ إبَاحَةِ أَزْوَاجِهِ وَقِسْمَةِ مَالِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، يَنْبَنِي عَلَيْهِمَا لَوْ مَاتَ لَهُ مُدَّةِ انْتِظَارِهِ مَنْ يَرِثُهُ فَهَلْ يُحْكَمُ بِتَوْرِيثِهِ مِنْهُ أَمْ لاَ؟ وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يُزَكِّي مَالَهُ بَعْدَ مُدَّةِ انْتِظَارِهِ مُعَلِّلاً بِأَنَّهُ مَاتَ وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُحْكَمُ لَهُ بِأَحْكَامِ الْمَوْتَى إلاَ بَعْدَ المُدَّةٍ وَهُوَ الأَظْهَرُ، وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا أَنَّ امْرَأَةَ الْمَفْقُودِ بَعْدَ مُدَّةِ انْتِظَارِهَا تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ ثُمَّ تُبَاحُ لِلْأَزْوَاجِ فَهَلْ تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ مِنْ مَالِهِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ كَمَا فِي مُدَّةِ الاِنْتِظَارِ أَمْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لاَ يَجِبُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الزاغوني فِي الإِقْنَاعِ. وَقَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي الشَّرْحِ: هُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ عِنْدِي؛ لاِنَّهُ حُكِمَ بِوَفَاتِهِ بَعْدَ مُدَّةِ الاِنْتِظَارِ فَصَارَتْ مُعْتَدَّةً لِلْوَفَاةِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ قَالَهُ الْقَاضِي؛ لاِنَّ النَّفَقَةَ لاَ تَسْقُطُ إلاَ بِيَقِينِ الْمَوْتِ وَلَمْ تُوجَدْ هَاهُنَا وَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَزَادَ أَنَّ نَفَقَتَهَا لاَ تَسْقُطُ بَعْدَ الْعِدَّةِ أَيْضًا؛ لاِنَّهَا بَاقِيَةً عَلَى نِكَاحِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ أَوْ يُفَرِّقْ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا.
وَمنها: أَنَّ النَّوْمَ المثقل يَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ لاِنَّهُ مَظِنَّةُ خُرُوجِ الْحَدَثِ وَإِنْ كَانَ الأَصْلُ عَدَمَ خُرُوجِهِ وَبَقَاءُ الطَّهَارَةِ. وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي شَرْحِ الْخِرَقِيِّ وَجْهًا آخَرَ: أَنَّ النَّوْمَ نَفْسَهُ حَدَثٌ لَكِنْ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ كَالدَّمِ وَنَحْوِهِ.
وَمنها: إذَا زَنَا مَنْ نَشَأَ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَادَّعَى الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لاِنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ وَإِنْ كَانَ الأَصْلُ عَدَمَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ.

ومثله: إذَا ادَّعَتْ الْمُعْتَقَةُ تَحْتَ عَبْدٍ الْجَهْلَ بِالْعِتْقِ أَوْ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ وَمِثْلُهَا لاَ يَجْهَلُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَلُ قَوْلُهَا.
وَمنها: إذَا زَوَّجَ الْمَوْلَى امْرَأَةً يُعْتَبَرُ إذْنُهَا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، ثُمَّ أَنْكَرَتْ الإِذْنَ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا؛ لاِنَّ تَمْكِينَهَا يُكَذِّبُهَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَإِنْ كَانَ إذْنُهَا السُّكُوتَ وَادَّعَتْ أَنَّ سُكُوتَهَا كَانَ حَيَاءً لاَ رِضًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الأَثْرَمِ؛ لاِنَّ السُّكُوتَ فِي حُكْمِ الشَّارِعِ إقْرَارٌ بِهِ وَرِضًا فَلاَ يُسْمَعُ دَعْوَى خِلاَفِهِ. وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهَا رَدَّتْ أَوْ كَانَ إذْنُهَا النُّطْقَ فَأَنْكَرَتْهُ فَقَالَ الْقَاضِي الْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لاِنَّ الأَصْلَ مَعَهَا وَلَمْ يُوجَدْ ظَاهِرٌ يُخَالِفُهُ.
وَمنها: لَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ بِمَهْرٍ مُسَمًّى وَشَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ ثُمَّ ادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي يَوْمٍ آخَرَ مُعَيَّنٍ بِمَهْرٍ مُسَمًّى وَشَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ ثُمَّ اخْتَلَفَا. فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: هُمَا نِكَاحَانِ وَلِي الْمَهْرَانِ، وَقَالَ الزَّوْجُ: بَلْ نِكَاحٌ وَاحِدٌ تَكَرَّرَ عَقْدُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ؛ لاِنَّ الظَّاهِرَ مَعَهَا، وَكَذَا لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا الثَّوْبَ فِي يَوْمِ كَذَا بِثَمَنٍ وَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ فِي يَوْمٍ آخَرَ بِثَمَنٍ. فَقَالَ الْمُشْتَرِي: هُوَ عَقْدٌ وَاحِدٌ كَرَّرْنَاهُ. وَقَالَ الْبَائِعُ: بَلْ هُوَ عَقْدَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لاِنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ، ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَالأَصْحَابُ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لاِنَّ الأَصْلَ عَدَمُ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا وَالأَصْلُ بَرَاءَتُهُ مِنْ الْمَهْرِ الثَّانِي.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا خُرِّجَ فِيهِ خِلاَفٌ فِي تَرْجِيحِ الظَّاهِرِ عَلَى الأَصْلِ وَبِالْعَكْسِ وَيَكُونُ ذَلِكَ غَالِبًا عِنْدَ تَقَاوُمِ الظَّاهِرِ وَالأَصْلُ تُسَاوِيهِمَا، وَلَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ:
منها: إذَا سُخِّنَ الْمَاءُ بِنَجَاسَة وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ وُصُولُ الدُّخَانِ إلَيْهِ فَفِي كَرَاهَتِهِ وَجْهَانِ. أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ يُكْرَهُ.
وَمنها: لَوْ أَدْخَلَ الْكَلْبُ رَأْسَهُ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَشَكَّ هَلْ وَلَغَ فِيهِ أَمْ لاَ؟ وَكَانَ فَمُهُ رُطَبًا فَهَلْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ؛ لاِنَّ الظَّاهِرَ وُلُوغُهُ أَمْ بِطَهَارَتِهِ؛ لاِنَّهَا الأَصْلُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الأَزَجِيُّ.
وَمنها: إذَا وَقَعَ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ مَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً وَشَكَّ هَلْ هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ النَّجَاسَةِ أَمْ لاَ؟ وَكَانَ هُنَاكَ بِئْرٌ وَحَشٌّ فَإِنْ كَانَ إلَى الْبِئْرِ أَقْرَبُ أَوْ هُوَ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ إلَى الْحَشِّ أَقْرَبُ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَجِسٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ طَاهِرٌ مَا لَمْ يُعَايِنْ خُرُوجَهُ مِنْ الْحَشِّ نَقَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْمُبْهَمِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ تَمِيمٍ.

وَمنها: طِينُ الشَّوَارِعِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ، وَجَعَلَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي شَرْحِهِ الْمَذْهَبَ تَرْجِيحًا لِلْأَصْلِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ فِي الأَعْيَانِ كُلِّهَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ نَجِسٌ تَرْجِيحًا لِلظَّاهِرِ وَجَعَلَهُ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ الْمَذْهَبَ حَتَّى حَكَى عَنْ ظَاهِرِ كَلاَمِ الأَصْحَابِ أَنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ وَأَبْدَى احْتِمَالاً بِالْعَفْوِ عَنْهُ لِمَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ، وَحَكَى عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِهِ إلاَ مَا تَحَقَّقَ نَجَاسَتُهُ مِنْ الأَرْضِ فَلاَ يُعْفَى عَنْهُ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُبْهَمِ عَنْ ابْنِ تَمِيمٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ الشِّتَاءُ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ فَفِي نَجَاسَةِ الأَرْضِ رِوَايَتَانِ، فَإِذَا جَاءَ الصَّيْفُ حُكِمَ بِطَهَارَتِهَا رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَلِلْمَسْأَلَةِ أُصُولٌ تَنْبَنِي عَلَيْهَا. أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعَارُضِ الأَصْلِ وَالظَّاهِرِ. وَالثَّانِي: طَهَارَةُ الأَرْضِ وَغُسَالَتِهَا بِمَاءِ الْمَطَرِ وَغَيْرِهِ إذَا لَمْ يَبْقَ لِلنَّجَاسَةِ أَثَرٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ النَّجَاسَةُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ أَثَرًا أَوْ عَيْنًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَالثَّانِي: بِالاِسْتِحَالَةِ وَفِي الْمَذْهَبِ خِلاَفٌ يُبْنَى عَلَيْهِ طَهَارَةُ الطِّينِ إذَا بَقِيَتْ فِيهِ عَيْنُ النَّجَاسَةِ ثُمَّ اُسْتُهْلِكَتْ فِيهِ حَتَّى ذَهَبَ أَثَرُهَا.
وَالثَّالِثُ: طَهَارَةُ الأَرْضِ بِالْجَفَافِ وَالشَّمْسِ وَالرِّيحِ، وَقَدْ تَوَقَّفَ فِيهِ أَحْمَدُ وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ إلَى عَدَمِ طَهَارَتِهَا بِذَلِكَ، وَخَالَفَهُمْ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ. وَيُبْنَى عَلَى ذَلِكَ طَهَارَةُ الأَرْضِ مَعَ مُشَاهَدَةِ النَّجَاسَاتِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمنها: الْمَقْبَرَةُ الْمَشْكُوكُ فِي نَبْشِهَا إذَا تَقَادَمَ عَهْدُهَا هَلْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهَا؛ لاِنَّ الظَّاهِرَ نَبْشُهَا أَوْ بِطَهَارَتِهَا؛ لاِنَّ الأَصْلَ عَدَمُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَمنها: ثِيَابُ الْكُفَّارِ وَأَوَانَيْهِمْ وَفِيهَا ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ إحْدَاهَا: الإِبَاحَةُ تَرْجِيحًا لِلْأَصْلِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ. وَالثَّانِيَةُ: الْكَرَاهِيَةُ لِخَشْيَةِ إصَابَةِ النَّجَاسَةِ لَهَا إذْ هُوَ الظَّاهِرُ. وَالثَّالِثَةُ: إنْ قَوِيَ الظَّاهِرُ جِدًّا لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهَا بِدُونِ غَسْلٍ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ اسْتِعْمَالِ مَا وَلِيَ عَوْرَاتهُمْ مِنْ الثِّيَابِ قَبْلَ غَسْلِهِ دُونَ مَا عَلاَ منها. وَالثَّانِيَةُ: يُمْنَعُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الأَوَانِي وَالثِّيَابِ مُطْلَقًا مِمَّنْ يُحْكَمُ بِأَنَّ ذَبِيحَتَهُ مَيْتَةٌ كَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوس دُونَ غَيْرِهِمْ. وَقَالَ الْخِرَقِيِّ فِي شَرْحِهِ وَابْنِ أَبِي مُوسَى: لاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ قُدُورِ النَّصَارَى لاِسْتِحْلاَلِهِمْ الْخِنْزِيرَ، وَزَادَ الْخِرَقِيِّ وَلاَ أَوَانِي طَبِيخِهِمْ دُونَ أَوْعِيَةِ الْمَاءِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَبْعُدُ إصَابَتُهُ بِالنَّجَاسَةِ، وَزَادَ ابن أَبِي مُوسَى الْمَنْعَ مِنْ اسْتِعْمَالِ ثِيَابِ مَنْ لاَ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ كَالْمَجُوسِ مُطْلَقًا، وَمَا سَفَلَ مِنْ ثِيَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَصِقَ بِأَبْدَانِهِمْ حَتَّى تُغْسَلَ.
وَمنها: ثِيَابُ الصِّبْيَانِ وَمَنْ لاَ يَتَحَرَّزُ مِنْ النَّجَاسَةِ وَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: الْكَرَاهَةُ، وَعَدَمُهَا، وَالْمَنْعُ حَتَّى تُغْسَلَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي مُوسَى.
وَمنها: إذَا شَكَّ الْمُصَلِّي فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَفِيهِ ثَلاَثَةُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. إحْدَاهَا: أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الأَقَلِّ وَهُوَ الْمُتَيَقَّنُ؛ لاِنَّ الأَصْلَ عَدَمُ الزِّيَادَةِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا. وَالثَّانِيَةُ: يَبْنِي عَلَى

غَالِبِ ظَنِّهِ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ. وَالثَّالِثَةُ: إنْ قَوِيَ الظَّنُّ بِإِقْرَارِ غَيْرِهِ لَهُ عَلَيْهِ بَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ وَهُوَ الإِمَامُ إذَا أَقَرَّهُ الْمَأْمُومُونَ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي الْمَذْهَبِ. فَأَمَّا إنْ سَبَّحَ لَهُ اثْنَانِ مِنْ الْمَأْمُومِينَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَيْهِمَا مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ صَوَابَ نَفْسِهِ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ إنَّمَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا إذَا قُلْنَا يَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ؛ لاِنَّ تَنْبِيهَهُمَا إنَّمَا يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ وَالأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لاِنَّ الرُّجُوعَ إلَى قَوْلِهِمَا رُجُوعٌ إلَى بَيِّنَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَيُتْرَكُ الأَصْلُ لاِجْلِهَا كَسَائِرِ الْبَيِّنَاتِ الشَّرْعِيَّةِ بِخِلاَفِ غَلَبَةِ الظَّنِّ الْمُجَرَّدَةِ إذَا جَوَّزْنَا لَهُ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْيَقِينِ وَصَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ.
وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ الْمَأْمُومِينَ عَلَى الإِمَامِ أَنَّهُ أَحْدَثَ فِي صَلاَتِهِ وَأَنْكَرَ هُوَ وَبَقِيَّةُ الْمَأْمُومِينَ أَعَادُوا الصَّلاَةَ كُلُّهُمْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَاحْتَجَّ بِخَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ.
وَمنها: إذَا شَكَّ فِي عَدَدِ الطَّوَافِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا: يَرْجِعُ إلَى الأَصْلِ وَهُوَ الْمُتَيَقَّنُ. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إلَى غَالِبِ ظَنِّهِ كَالصَّلاَةِ فَإِنْ أَخْبَرَهُ اثْنَانِ بِمَا طَافَ فَهَلْ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِمَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَيْهِمَا وَكَذَا الْوَجْهَانِ لَوْ أَخْبَرَ الْمُصَلِّي مَنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلاَةِ هَلْ يَرْجِعُ إلَيْهِمَا أَمْ لاَ؟ وَفِي الْمُغْنِي يَرْجِعُ الطَّائِفُ إلَى خَبَرِ الثِّقَةِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ؛ لاِنَّهُ خَبَرٌ دِينِيٌّ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدُّدُ وَإِنَّمَا اشْتَرَطْنَا الْعَدَدَ فِي الصَّلاَةِ لِخَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ فَبَقِيَ مَا عَدَاهَا عَلَى الأَصْلِ.
وَمنها: لَوْ وُجِدَ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ مَيِّتٌ مَجْهُولُ الدِّينِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عَلاَمَةُ الإسلاَمِ وَلاَ الْكُفْرِ أَوْ تَعَارَضَ فِيهِ عَلاَمَةُ الإسلاَمِ وَالْكُفْرِ صَلَّى عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ خَاصَّةً فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ قَالَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى تَعَارُضِ الأَصْلِ وَالظَّاهِرِ إذْ الأَصْلُ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ الإِسْلاَمُ وَالظَّاهِرُ فِي هَذَا الْكُفْرُ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ فِي دَارِ الْكُفْرِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ عَلاَمَاتُ الإِسْلاَمِ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَإِلاَ فَلاَ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ وَهَذَا تَرْجِيحٌ لِلظَّاهِرِ عَلَى الأَصْلِ هَاهُنَا كَمَا رَجَّحَهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَلَمْ يُرَجَّحْ الأَصْحَابُ هُنَا الأَصْلَ كَمَا رَجَّحُوهُ ثُمَّ؛ لاِنَّ هَذَا الأَصْلَ قَدْ عَارَضَهُ أَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الأَصْلَ فِي كُلِّ مَوْلُودٍ أَنَّهُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ.
وَمنها: إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ وَلاَ بَيِّنَةَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لاِنَّهُ مُنْكِرٌ وَغَارِمٌوَالأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى مَا يُقَرِّرُ بِهِ. وَالثَّانِيَةُ: الْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لاِنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ.
وَمنها: إذَا أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَالَ الزَّوْجُ أَسْلَمْنَا مَعًا فَنَحْنُ عَلَى نِكَاحِنَا، وَقَالَتْ الزَّوْجَةُ: بَلْ عَلَى التَّعَاقُبِ فَلاَ نِكَاحَ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لاِنَّ الأَصْلَ مَعَهُ. وَالثَّانِي: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ؛ لاِنَّ الظَّاهِرَ مَعَهَا إذْ وُقُوعُ الإِسْلاَمِ مَعًا فِي آنٍ وَاحِدٍ نَادِرٌ وَالظَّاهِرُ خِلاَفُهُ.

وَمنها: إذَا خَلاَ بِامْرَأَتِهِ وَصَدَّقَتْهُ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا وَقُلْنَا لاَ يَتَقَرَّرُ بِذَلِكَ الْمَهْرُ عَلَى رِوَايَةٍ سَبَقَتْ وَكَانَ لَهُ منها وَلَدٌ فَهَلْ يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ بِذَلِكَ؛ لاِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْوَلَدَ، إنَّمَا يَنْعَقِدُ عَنْ الإِصَابَةِ أَوَّلاً؛ لاِنَّ الأَصْلَ عَدَمُ إصَابَتِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَبَقَ الْمَاءُ إلَى فَرْجِهَا فَانْعَقَدَ بِهِ الْوَلَدُ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنْ سَبْقَ الْمَاءِ إلَى الْفَرْجِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ الْمَهْرُ مِنْ وَطْءِ دُونِ الْفَرْجِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَالأَظْهَرُ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ تَقَرُّرِ الْمَهْرِ أَنْ يُقَالَ: الْوَلَدُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِمُجَرَّدِ الإِمْكَانِ بِخِلاَفِ اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ.
وَمنها: لَوْ زَوَّجَ رَجُلٌ وَلِيَّتَهُ ثُمَّ ظَهَرَتْ مَعِيبَةً وَادَّعَى الْوَلِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ عَيْبَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِأَحَدُهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ بَيِّنَتِهِ؛ لاِنَّ الأَصْلَ مَعَهُ إلاَ أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ جُنُونًا وَيَكُونَ الْوَلِيُّ ذَا اطِّلاَعٍ عَلَيْهَا فَلاَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْمُغْنِي. وَالثَّانِي: إنْ كَانَ الْوَلِيُّ قَرِيبًا كَالأَبِ وَالْجَدِّ وَالاِبْنِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ مُطْلَقًا؛ لاِنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَوَافَقَهُ ابْنُ عَقِيلٍ إلاَ أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ عُيُوبِ الْفَرْجِ وَغَيْرِهَا فَسَوَّى بَيْنَ الأَوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ فِي عُيُوبِ الْفَرْجِ بِخِلاَفِ غَيْرِهَا.
وَمنها: إذَا اخْتَلَطَ مَالٌ حَرَامٌ بِحَلاَلٍ وَكَانَ الْحَرَامُ أَغْلَبَ فَهَلْ يَجُوزُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ أَمْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لاِنَّ الأَصْلَ فِي الأَعْيَانِ الإِبَاحَةُ وَالْغَالِبُ هَهُنَا الْحَرَامُ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ إذَا كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِالنَّهْبَأوْالرِّبَا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ إلاَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا أوشياً لاَ يُعْرَفُ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا إذَا اشْتَبَهَ الْمَاءُ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ وَكَانَ الطَّاهِرُ أَكْثَرَ فَإِنَّ فِي جَوَازِ التَّحَرِّي رِوَايَتَيْنِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيّ جَوَازُهُ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ شَاقِلاَ وَأَبُو عَلِيٍّ النَّجَّادُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَقِيلٍ لَكِنْ هُنَا اعْتَضَدَ أَصْلُ الطَّهَارَةِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ إصَابَةُ الطَّاهِرِ لِكَثْرَتِهِ.
وَمنها: إذَا قَذَفَ مَجْهُولَ النَّسَبِ وَادَّعَى رِقَّهُ وَأَنْكَرَ الْمَقْذُوفُ فَهَلْ يُحَدُّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ لاِنَّ الأَصْلَ عَدَمُ لُزُومِ الْحَدِّ وَالأَغْلَبَ عَلَى النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ، أَوْ يُقَالُ: الأَصْلُ فِيهِمْ الْحُرِّيَّةُ فَيَكُونُ ذَا مِنْ بَابِ تَعَارُضِ الأَصْلَيْنِ.
وَمنها: إذَا قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِالثَّانِيَةِ تَأْكِيدًا وَلاَ إيقَاعًا بَلْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ. فَقَالَ الأَصْحَابُ: تَطْلُقُ اثْنَيْنِ؛ لاِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْإِيقَاعِ كَاللَّفْظِ الأَوَّلِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: إذَا دَار الأَمْرُ بَيْنَ التَّأْسِيسِ وَالتَّأْكِيدِ فَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ وَعَدَمِ وُقُوعِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ إذَا كَرَّرَ ثَلاَثًا فَيَتَوَجَّهُ أَنْ يُخْرِجَ رِوَايَةً أُخْرَى بِوُقُوعِ واحدة مَعَ الإِطْلاَقِ لاِنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ، وَيَشْهَدُ مَا نَقَلَهُ صَالِحٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا فَهُوَ عَلَى مَا أَرَادَ إنْ كَانَ أَرَادَ إفْهَامَهَا فَهُوَ الَّذِي أَرَادَ وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى مَا أَرَادَ فَلَمْ يُوقِعْ الثَّانِيَة بِدُونِ النِّيَّةِ. وَقَدْ حَكَى أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِيمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَطْلَقَ النِّيَّةَ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ فَإِنْ نَوَى بِالثَّانِيَةِ طَلْقَةً أُخْرَى فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَمْ لاَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ لاِنَّهُ إعَادَةُ

اللَّفْظِ الأَوَّلِ بِعَيْنِهِ فَلاَ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ كَذَلِكَ حَكَى الْقَاضِي عَنْهُ فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَكَرَّرَهُ وَأَطْلَقَ النِّيَّةَ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ وَهَهُنَا مَسْأَلَةٌ حَسَنَةٌ نَصَّ عَلَيْهَا أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِيمَا إذَا قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ، قَالَ: هِيَ تَطْلِيقَتَانِ هَذَا كَلاَمٌ مُسْتَقِيمٌ وَإِنَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لاَ بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ هِيَ وَاحِدَةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ بَلْ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ إذَا كَانَ بَعْدَهَا مُفْرَدٌ وَهِيَ هُنَا كَذَلِكَ لاِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ مِنْ الْمُفْرَدَاتِ وَإِنْ كَانَ مُتَحَمِّلاً لِضَمِيرٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْرَبُ، وَالْجُمَلُ لاَ تُعْرَبُ، وَلاِنَّهُ لاَ يَقَعُ صِلَةً وَلَوْ كَانَ جُمْلَةً لَوَقَعَ صِلَةً وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ وَقَدْ أَوْقَعَ قَبْلَهُ وَاحِدَةً ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا أُخْرَى فَتَقَعُ اثْنَتَانِ، كَمَا لَوْ أَتَى بِوَاوِ العطف وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ: هَذَا كَلاَمٌ مُسْتَقِيمٌ - يَعْنِي أَنَّهُ نُسِّقَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ كَسَائِرِ الْمَعْطُوفِ بِالْوَاوِ وَثُمَّ وَنَحْوِهِمَا - وَأَمَّا قَوْلُ النحويين إنَّ مَا قَبْلَهُ يَصِيرُ مَسْكُوتًا عَنْهُ غَيْرَ مُثْبَتٍ وَلاَ مَنْفِيٍّ فَهَذَا فِيمَا يَقْبَلُ النَّفْيَ بَعْدَ إثْبَاتِهِ، وَالطَّلاَقُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَتَعَيَّنَ إثْبَاتُ الأَوَّلِ وَعَطْفُ الثَّانِي عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لاَ بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الأَوَّلِ ثُمَّ أَثْبَتَهُ بَعْدَ نَفْيِهِ فَيَكُونُ الْمُثْبَتُ هُوَ الْمَنْفِيَّ بِعَيْنِهِ وَهُوَ الطَّلْقَةُ الْأُولَى فَلاَ يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الاِسْتِدْرَاكِ كَأَنَّهُ نَسِيَ أَنَّ الطَّلاَقَ الْمُوقَعَ لاَ يُنْفَى فَاسْتَدْرَكَ وَأَثْبَتَهُ لِئَلاَ يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ الطَّلاَقَ قَدْ ارْتَفَعَ بِنَفْيِهِ فَهَذَا إعَادَةٌ لِلْأَوَّلِ لاَ اسْتِئْنَافُ طَلاَقٍ.
وَمنها: إذَا قَالَ: الطَّلاَقُ يَلْزَمُنِي أَوْ أَنْتِ الطَّلاَقُ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ أَوْ الثَّلاَثَةُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ لاِنَّ الأَلِفَ وَاللاَمَ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْعَهْدُ أَيْ الطَّلاَقُ الْمَعْهُودُ الْمَسْنُونُ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ، وَيُرَادُ بِهَا مُطْلَقُ الْجِنْسِ، وَيُرَادُ بِهَا اسْتِغْرَاقُ الْجِنْسِ لَكِنَّهَا فِي الاِسْتِغْرَاقِ وَالْعُمُومِ أَظْهَرُ وَالْمُتَيَقَّنُ مِنْ ذَلِكَ الْوَاحِدَةُ، وَالأَصْلُ بَقَاءُ النِّكَاحِ. وَعَلَى رِوَايَةِ وُقُوعِ الثَّلاَثِ فَلَوْ نَوَى بِهِ مَا دُونَهَا فَهَلْ يَقَعُ بِهِ مَا نَوَاهُ خَاصَّةً أَوْ يَقَعُ بِهِ الثَّلاَثُ وَيَكُونُ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي الثَّلاَثِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ لِلْأَصْحَابِ.
وَلَوْ قَالَ: الطَّلاَقُ يَلْزَمُنِي وَلَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ نِيَّةٌ أَوْ سَبَبٌ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ أَوْ التَّخْصِيصَ عُمِلَ بِهِ. وَمَعَ فَقْدِ النِّيَّةِ وَالسَّبَبِ خَرَّجَهَا بَعْضُ الأَصْحَابِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي وُقُوعِ الثَّلاَثِ بِذَلِكَ عَلَى الزَّوْجَةِ الْوَاحِدَةِ لاِنَّ الاِسْتِغْرَاقَ فِي الطَّلاَقِ يَكُونُ تَارَةً فِي نَفْسِهِ وَتَارَةً فِي مَحَلِّهِ، وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ عُمُومَ الْمَصْدَرِ لاِفْرَادِهِ أَقْوَى مِنْ عُمُومِهِ لِمَفْعُولاَتِهِ؛ لاِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَفْرَادِهِ بِذَاتِهِ عَقْلاً وَلَفْظًا وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَفْعُولاَتِهِ بِوَاسِطَةٍ، فَلَفْظُ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَثَلاً يَعُمُّ الأَنْوَاعَ مِنْهُ وَالأَعْدَادَ أَبْلَغَ مِنْ عُمُومِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ إذَا كَانَ عَامًّا فَلاَ يَلْزَمُ مِنْ عُمُومِهِ لاِفْرَادِهِ عُمُومُ أَنْوَاعِ مَفْعُولاَتِهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَعْنَاهُ،

وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَوِيَ وُقُوعُ الطَّلاَقِ بِجَمِيعِ الزَّوْجَاتِ دُونَ وُقُوعِ الثَّلاَثِ بِالزَّوْجَةِ الْوَاحِدَةِ وَفَرَّقَ بِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلاَثِ بِالْوَاحِدَةِ مُحَرَّمٌ بِخِلاَفِ وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِالزَّوْجَاتِ الْمُتَعَدِّدَاتِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ قَوْلَهُ الطَّلاَقُ يَلْزَمُهُ، وَإِنْ كَانَ صِيغَةَ عُمُومٍ لَكِنْ إذَا لَمْ يَنْوِ عُمُومَهُ كَانَ مُخَصَّصًا بِالشَّرْعِ عِنْدَ مَنْ يُحَرِّمُ جَمْعَ الثَّلاَثِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ حِينَئِذٍ مِنْ صُوَرِ التَّخْصِيصِ بِالشَّرْعِ وَقَدْ ذَكَرْنَا نَظَائِرَهَا فِي قَاعِدَةٍ سَبَقَتْ.
وَمنها: إذَا قَالَ: زَوْجَتِي طَالِقٌ أَوْ عَبْدِي حُرٌّ وَلَهُ زَوْجَتَانِ وَعَبِيدٌ فَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلاَقُ وَالْعِتْقُ بِالْجَمِيعِ إلاَ أَنْ يَنْوِيَ عَدَدًا مُعَيَّنًا؛ لاِنَّ اسْمَ الْجِنْسِ الْمُضَافَ لِلْعُمُومِ فَهُوَ كَالْجَمْعِ الْمَعْرُوفِ. ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي احْتِمَالاً وَرَجَّحَهُ أَنَّهُ لاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ مَعَ إطْلاَقِ النِّيَّةِ إلاَ بِوَاحِدٍ لاِنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمِيعِ فَحَمْلُهُ عَلَى الْوَاحِدِ أَوْلَى؛ لاِنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ وَلَوْ كَانَ الْجَمْعُ أَظْهَرَ فِيهِ تَرْجِيحًا لِلْأَصْلِ عَلَى الظَّاهِرِ.
وَمنها: إذَا قَالَ لَهُ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ. فَهَلْ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي وَنَزَّلَهُمَا صَاحِبُ التَّلْخِيصِ عَلَى تَعَارُضِ الأَصْلِ وَالظَّاهِرِ؛ فَإِنَّ الظَّاهِرَ عَطْفُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي وَيُحْتَمَلُ إرَادَةُ التَّكْرَارِ بِهِ لاِنَّهُ بِلَفْظِهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الإِطْلاَقِ لاِنَّهُ الْيَقِينُ، قَالَ: وَلَوْ قَالَ: أَرَدْت بِالثَّلاَثِ تَكْرَارَ الثَّانِي قُبِلَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ لاِحْتِمَالِهِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي الطَّلاَقِ احْتِمَالاً أَنَّهُ لاَ يَقْبَلُ إرَادَةُ التَّكْرَارِ وَالتَّأْكِيدِ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ لِمُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ؛ لاِنَّ ظَاهِرَ الْعَطْفِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ.

القاعدة الستون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ السِّتُّونَ بَعْدَ الْمِائَة:
تُسْتَعْمَلُ الْقُرْعَةُ فِي تَمَيُّزِ الْمُسْتَحِقِّ إذَا ثَبَتَ الاِسْتِحْقَاقُ ابْتِدَاءً لِمُبْهَمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ عِنْدَ تَسَاوِي أَهْلِ الاِسْتِحْقَاقِ. وَيُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي تَمْيِيزِ الْمُسْتَحَقِّ الْمُعَيَّنِ فِي نَفْسِ الأَمْرِ عَنْ اشْتِبَاهِهِ وَالْعَجْزِ عَلَى الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الأَمْوَالُ وَالأَبْضَاعُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَفِي الأَبْضَاعِ قَوْلٌ آخَرُ: إنَّهُ لاَ تُؤَثِّرُ الْقُرْعَةُ فِي حَلِّ الْمُعَيَّنِ منها فِي الْبَاطِنِ وَلاَ يُسْتَعْمَلُ فِي إلْحَاقِ النَّسَبِ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي حُقُوقِ الاِخْتِصَاصِ وَالْوِلاَيَاتِ وَنَحْوِهَا، وَلاَ تُسْتَعْمَلُ فِي تَعْيِينِ الْوَاجِبِ الْمُبْهَمِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا ابْتِدَاءً، وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّ الْقُرْعَةَ تُمَيِّزُ الْيَمِينَ الْمَنْسِيَّةِ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَاهُنَا مَسَائِلَ الْقُرْعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ أَوَّلِ الْفِقْهِ إلَى آخِرِهِ بِحَسَبِ الإِمْكَانِ، وَاَللَّهُ الْمُوفَّق

فَمنها: إذَا اجْتَمَعَ مُحْدِثَانِ حَدَثًا أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ وَعِنْدَهُمَا مَا يَكْفِي أَحَدَهُمَا وَلاَ اخْتِصَاصَ لاِحَدِهِمَا بِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقْتَرِعَانِ عَلَيْهِ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَالثَّانِي: يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا جُنُبًا وَالْآخَرُ مُحْدِثًا حَدَثًا أَصْغَرَ وَكَانَ الْمَاءُ يَكْفِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَفْضُلُ عَنْهُ فَضْلَةً لاَ يَكْفِي الْآخَرَ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا الْمُحْدِثُ أَوْلَى لاِنَّ فَضْلَتَهُ يُمْكِنُ الْجُنُبَ اسْتِعْمَالُهَا بِخِلاَفِ فَضْلَةِ الْجُنُبِ فَإِنَّمَا لاَ تَرْفَعُ حَدَثَ الْمُحْدِثِ وَلاَ شَيْئًا مِنْهُ. وَالثَّانِي: الْجُنُبُ أَوْلَى لِغِلَظِ حَدَثِهِ. وَالثَّالِثُ: هُمَا سَوَاءٌ فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا أَوْ يُعْطِيهِ بَاذِلُ الْمَاءِ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، قَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ صَوَّرَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي مَاءٍ مُبَاحٍ أَوْ مَمْلُوكٍ أَرَادَ مَالِكُهُ بَذْلَهُ لاِحَدِهِمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْمُبَاحَ قَبْلَ وَضْعِ الأَيْدِي عَلَيْهِ لاَ مِلْكَ فِيهِ، وَبَعْدَ وَضْعِ الأَيْدِي لِلْجَمِيعِ، وَالْمَالِكُ لَهُ وِلاَيَةُ صَرْفِهِ إلَى مَنْ شَاءَ، قَالَ: وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ عِنْدِي فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَاءِ لاِوْلاَهُمْ بِهِ انْتَهَى. وَيُتَصَوَّرُ أَيْضًا فِي النَّذْرِ لاَوْلاَهُمْ بِهِ وَالْوَقْفِ عَلَيْهِ وَفِيمَا إذَا طَلَبَ الْمَالِكُ مَعْرِفَةَ أَوْلاَهُمْ لِيُؤْثِرَهُ بِهِ وَفِيمَا إذَا مَا وَرَدُوا عَلَى مُبَاحٍ وَازْدَحَمُوا وَتَشَاحُّوا فِي التَّنَاوُلِ أَوَّلاً.
وَمنها: إذَا تَشَاحُّوا فِي الأَذَانِ مَعَ تَسَاوِيهِمْ الْمُرَجَّحِ بِهَا فِيهِ، فَإِنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَأَبِي طَالِبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى وَاحْتَجَّ بِأَنَّ سَعْدًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فِي الأَذَانِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ وَنَصَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَلَى تَقْدِيمِ الْقُرْعَةِ عَلَى اخْتِيَارِ الْجِيرَانِ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى عَلَى أَنَّ الْمُتَعَاهِدَ لِلْمَسْجِدِ بِالْعِمَارَةِ أَحَقُّ.
وَمنها: إذَا اجْتَمَعَ عُرَاةٌ وَمَعَ وَاحِدٍ ثَوْبٌ قَدْ صَلَّى فِيهِ اُسْتُحِبَّ لَهُ إعَارَتُهُ لِرُفَقَائِهِ فَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ وَفِيهِمْ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ اُسْتُحِبَّ إعَارَتُهُ فَيُصَلِّي فِيهِ إمَامًا وَالْعُرَاةُ خَلْفَهُ، فَإِنْ اسْتَوَوْا وَلَمْ يَكُنْ الثَّوْبُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، ذَكَرَهُ فِي الْمُغْنِي.
وَمنها: إذَا اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الصِّفَاتِ الْمُرَجَّحِ بِهَا فِي الإِمَامَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَتَشَاحَّا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، كَمَا فِي الأَذَانِ.
وَكَذَلِكَإذَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ وَاسْتَوَيَا وَتَشَاحَّا فِي الصَّلاَةِ عَلَيْهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ وَلِيَ إمَامَةَ الْمَسْجِدِ رَجُلاَنِ صَحَّ وَكَانَا فِي الإِمَامَةِ سَوَاءٌ وَأَيُّهُمَا سَبَقَ إلَيْهَا كَانَ أَحَقَّ بِهَا فَإِنْ حَضَرَا مَعًا اُحْتُمِلَ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا فَيُقَدَّمُ مَنْ قُرِعَ مِنْهُمَا، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى اخْتِيَارِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ لاِحَدِهِمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي فِي الأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ.
وَمنها: إذَا قَدَّمَ مَيِّتَيْنِ إلَى مَكَانٍ مِنْ مَقْبَرَةٍ مُسْبَلَةٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَكُنْ لاِحَدِهِمَا هُنَاكَ مَزِيَّةٌ مِنْ أَهْلٍ مَدْفُونِينَ عِنْدَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا صَرَّحَ بِهِ الأَصْحَابُ. وَكَذَلِكَ إذَا دُفِنَ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ وَاسْتَوَيَا فِي الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا إلَى الْقِبْلَةِ بِالْقُرْعَةِ، كَمَا فَعَلَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِامْرَأَتَيْهِ

وَمنها: إذَا اجْتَمَعَ مَيِّتَانِ فَبُذِلَ لَهُمَا كَفَنَانِ وَكَانَ أَحَدُ الْكَفَنَيْنِ أَجْوَدَ مِنْ الْآخَرِ وَلَمْ يُعَيِّنْ الْبَاذِلُ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ بِذَلِكَ، فَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَقْبَلَتْ صَفِيَّةُ - يَعْنِي أُمَّهُ- فَأَخْرَجَتْ ثَوْبَيْنِ مَعَهَا فَقَالَتْ هَذَانِ ثَوْبَانِ جِئْت بِهِمَا لاِخِي حَمْزَةَ فَكَفِّنُوهُ فِيهِمَا، قَالَ: فَجِئْتُ بِالثَّوْبَيْنِ لِيُكَفَّنَ فِيهِمَا حَمْزَةُ فَإِذَا إلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ قَتِيلٌ قَدْ فُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ بِحَمْزَةَ، قَالَ فَوَجَدْنَا غَضَاضَةً وَحَيَاءً أَنْ يُكَفَّنَ حَمْزَةُ فِي ثَوْبَيْنِ وَالأَنْصَارِيُّ لاَ كَفَنَ لَهُ، فَقَالَ: لِحَمْزَةَ ثَوْبٌ وَلِلْأَنْصَارِيِّ ثَوْبٌ، فَقَدَرْنَاهُمَا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَكْبَرَ مِنْ الْآخَرِ فَأَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا فَكَفَّنَّا كُلَّ وَاحِدٍ فِي الَّذِي طَارَ لَهُ" ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الأَثْرَمُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ لَمَّا عَدَّدَ أَحَادِيثَ الْقُرْعَةِ فَعَرَفَهُ أَحْمَدُ وَعَدَّهُ مَعَهَا وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ أَخَذَ بِهِ.
وَمنها: وَلَوْ اشْتَبَهَ عَبْدُهُ بِعَبْدِ غَيْرِهِ فَهَلْ يَصِحُّ بَيْعُ عَبْدِهِ الْمُشْتَبِهِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ قَبْلَ تَمْيِيزِهِ أَمْ لاَ؟ قَالَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ: يُحْتَمَلُ أَنْ لاَ يَصِحَّ الْعَقْدُ حَتَّى يَقَعَ التَّمْيِيزُ، وَبِمَاذَا يَقَعُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا فَيُعَيَّنُ بِالْقُرْعَةِ ثُمَّ يَبِيعُهُ لاِنَّهُ قَدْ اخْتَلَطَ الْمُسْتَحِقُّ بِغَيْرِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقِفَ عَلَى الْمُرَاضَاةِ. وَلَوْ سَلَّمْنَاهُ فَلاِنَّ الْجَهَالَةَ هُنَا بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَعُفِيَ عَنْهَا قَالَ: وَأَجْوَدُ مَا يُقَالُ فِيهَا إنَّهُمَا يَبِيعَانِ الْعَبْدَيْنِ وَيَقْتَسِمَانِ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدَيْنِ كَمَا قُلْنَا إذَا اخْتَلَطَ زَيْتُهُ بِزَيْتِ الْآخَرِ وَأَحَدُهُمَا أَجْوَدُ مِنْ الْآخَرِ أَنَّهُمَا يَبِيعَانِ الزَّيْتَ وَيَقْتَسِمَانِ الثَّمَنَ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَةِ انْتَهَى.
وَمنها: إذَا ادَّعَى الْوَدِيعَةَ اثْنَانِ فَقَالَ الْمُودَعُ: لاَ أَعْلَمُ لِمَنْ هِيَ مِنْكُمَا. فَإِنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ قُرِعَ صَاحِبُهُ، حَلَفَ وَأَخَذَهَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهِيَ مِنْ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ تَدَاعِي عَيْنٍ بِيَدِ ثَالِثٍ يَعْتَرِفُ بِأَنَّهَا لاِحَدِهِمَا وَسَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَمنها: إذَا سَبَقَ اثْنَانِ إلَى الْجُلُوسِ بِالأَمَاكِنِ الْمُبَاحَةِ كَالطُّرُقِ الْوَاسِعَةِ، وَرِحَابِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا لِمَعَاشٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ بِتَقْدِيمِ السُّلْطَانِ لِمَنْ يَرَى مِنْهُمَا بِنَوْعٍ مِنْ التَّرْجِيحِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَبَقَا إلَى مَوْضِعٍ فِي رِبَاطٍ مُسْبَلٍ أَوْ خَانٍ، أَوْ اسْتَبَقَ فَقِيهَانِ إلَى مَدْرَسَةٍ أَوْ صُوفِيَّانِ إلَى خانكاه ذَكَرَهُ الْحَارِثُ وَهَذَا يَتَوَجَّهُ عَلَى أَحَدِ الاِحْتِمَالَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي الْمَدَارِسِ وَالْخَوَانِقِ الْمُخْتَصَّةِ بِوَصْفٍ مُعَيَّنٍ أَنَّهُ لاَ يَتَوَقَّفُ الاِسْتِحْقَاقُ فِيهَا عَلَى تَنْزِيلِ نَاظِرٍ، فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ وَهُوَ تَوَقُّفُ الاِسْتِحْقَاقِ عَلَى تَنْزِيلِهِ فَلَيْسَ إلاَ تَرْجِيحُهُ لَهُ بِنَوْعٍ مِنْ التَّرْجِيحَاتِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ يُرَجَّحُ بِالْقُرْعَةِ مَعَ التَّسَاوِي.
وَمنها: إذَا سَبَقَ اثْنَانِ إلَى مَعْدِنٍ مُبَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَضَاقَ الْمَكَانُ إلاَ عَنْ أَحَدِهِمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقْتَرِعَانِ عَلَيْهِ اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي. وَالثَّانِي: قَالَهُ الْقَاضِي وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لِلتِّجَارَةِ هَايَأَ الإِمَامُ بَيْنَهُمَا بِالْيَوْمِ أَوْ السَّاعَةِ بِحَسَبِ مَا يَرَى لاِنَّهُ يَطُولُ، وَإِنْ كَانَ لِلْحَاجَةِ فَاحْتِمَالاَتٌ. أَحَدُهَا:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7