كتاب : الشامل في فقه الخطيب والخطبة
المؤلف : د.سعود بن إبراهيم بن محمد الشريم

خامساً : دليلهم على الدعاء للمؤمنين في الخطبة هو ما رواه البخاري ومسلم من طلبه صلى الله عليه وسلم الغيث حينما استسقى يوم الجمعة ( (588) انظر : صحيح البخاري ( باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة حديث رقم 891 ) ، صحيح مسلم ( باب الدعاء للاستسقاء حديث رقم 897 ) . 588) .
مذهب الحنابلة :
مذهب الحنابلة في هذه المسالة مقارب لمذهب الشافعية .
فقد قال ابن قدامة : ويشترط لكل واحدة منهما حمد الله تعالى ؛ والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد لله فهو أبتر )) ( (589) أخرجه أبو داود ( 5/ 172 رقم 4840 ) وابن ماجة ( 1/ 610 ) وأحمد في المسند ( 2/ 359 ) . 589) .

وإذا وجب ذكر الله تعالى وجب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، لما روي في تفسير قوله تعالى { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } قال : لا أذكر إلا ذكرت معي ( (590) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ( 3/ 209 ) عن مجاهد ، وعبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن ، كما ذكر السيوطي في الدر المنثور ( 8 / 547 ) . 590) ؛ ولأنه موضع وجب فيه ذكر الله تعالى والثناء عليه ؛ فوجبت فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كالأذان والتشهد ، ويحتمل ألا تجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر في خطبته ذلك ، فأما القراءة فيحتمل أن تشترط في الخطبتين ، ويحتمل أن تشترط في إحداهما ؛ لما روى الشعبي قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال : (( السلام عليكم )) ويحمد الله ويثني عليه ويقرأ سورة ثم يجلس ، ثم يقوم فيخطب ثم ينزل ، وكان أبو بكر وعمر يفعلانه " رواه الأثرم ( (591) وأخرجه أيضاً عبدالرزاق ( 3/ 193 ) وابن أبي شيبة ( 2/ 114 ) في مصنفيهما . 591) ويحتمل ألا يجب شيء سوى حمد الله والموعظة ؛ لأن ذلك يسمى خطبة ويحصل به المقصود فأجزأ . وما عداه فليس على اشتراطه دليل .
ولا يجب أن يخطب على صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق .. الخ ( (592) انظر : المغني ( 3/ 173 وما بعدها ) . 592) اهـ بتصرف .

وقال ابن قدامة أيضاً : " سئل أحمد عمن قرأ سورة الحج على المنبر أيجزئه ؟ قال : لا . لم يزل الناس يخطبون في الثناء على الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم . وقال : لا يكون الخطبة إلا كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم ، أو خطبة تامة ، ولأن هذا لا يسمى خطبة ولا يجمع شروطها . وإن قرأ آيات فيها حمد الله تعالى والموعظة وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم صح لاجتماع الشروط " ( (593) انظر : المغني ( 3/ 180 ) . 593) . اهـ .
وذكر البعلي عن شيخ الإسلام قائلاً : " ويجب في الخطبة أن يشهد أن محمداً عبدالله ورسوله ، وأوجب أبو العباس في موضع آخر الشهادتين ، وتردد في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ، وقال في موضع آخر : ويحتمل - وهو الأشبه - أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فيها واجبة " ( (594) انظر : الاختيارات للبعلي ص ( 146 ) . 594) . اهـ .
وأوجب التشهد في الخطبة ابنُ القيم رحمه الله مثل شيخه ( (595) انظر : زاد المعاد ( 1/ 189 ) ، وحاشية الروض المربع ( 2/ 445 ) . 595) ، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم عند أحمد ، وأبي داود ، والترمذي ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كل خطبة ليس فيها تشهد ، فهي كاليد الجذماء))( (596) انظر : مسند أحمد ( 2/ 302 ) ، سنن أبي داود ، كتاب الأدب ، حديث رقم ( 4841 ) ، جامع الترمذي ، كتاب النكاح ، حديث رقم ( 1106 ) . 596) ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب .
قال الحافظ ابن حجر عن هذا الحديث : " فيه مقال ( (597) انظر : فتح الباري ( 1 / 13 ) . 597) " . اهـ .
وهذا الحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة ( (598) انظر : الجامع الصغير ( 5/ 118 ) . 598) ، ووافقه الألباني فقال : " صحيح " ( (599) انظر : صحيح الجامع الصغير ( 4/ 172 ) . 599) .

وفي ( دلائل النبوة ) للبيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً حكاية عن الله عز وجل : (( وجعلت أمتك لا يجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي )) .
قلت : رواية البيهقي هذه عزاها في سبل السلام ( (600) انظر : سبل السلام ( 2/ 74 ) . 600) إلى دلائل النبوة ، غير أني لم أعثر عليها فيه .
وقال ابن القيم : وقد اختلف في اشتراط الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لصحة الخطبة : قال الشافعي وأحمد رحمهما الله في المشهور من مذهبهما : لا تصح الخطبة إلا بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حنيفة ومالك: تصح بدونها ، وهو وجه في مذهب أحمد( (601) انظر : جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص ( 222 ) . 601) . اهـ .
قلت : قد روى الطبراني في الكبير عن عبدالله بن الزبير قال : ليس من السنة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر .
قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير، وفيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس( (602) انظر : مجمع الزوائد ( 2/ 188 ) . 602). اهـ .
وقد استدل الحنابلة على ما ذهبوا إليه في اشتراط بعض الأركان بمثل ما استدل به الشافعية .
هذا هو حاصل أقوال أهل المذاهب الأربعة حول مسألة أركان الخطبة وما يشترط فيها
وقد مال الشوكاني إلى عدم اشتراط شيء في الخطبة ، وذهب إلى أن حاصل الخطبة وروحها هو الموعظة الحسنة من قرآن أو غيره ، وأما من أوجب بعض الشروط وأهمل البعض الآخر فإن الشوكاني قد جعل ذلك مما لا ينبغي من منصف ، وأنه مجرد تحكم وخلط عظيم يقع فيه بعض المصنفين ( (603) انظر : السيل الجرار ( 1/ 299 ) . 603) .

وقال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله : اشتراط الفقهاء الأركان الأربعة في كل من الخطبتين فيه نظر ، وإذا أتى في كل خطبة بما يحصل به المقصود من الخطبة الواعظة الملينة للقلوب فقد أتي بالخطبة ، ولكن لاشك أن حمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقراءة شيء من القرآن ، من مكملات الخطبة وهي زينة لها ( (604) انظر : فقه الشيخ ابن سعدي ( 2/ 336 ) . 604) . اهـ .
وقال شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين عن مثل قول ابن سعدي : هذا القول له حظ من النظر ( (605) انظر : الشرح الممتع ( 5/ 174 ) . 605) . اهـ .
48-

قول بعض أهل العلم: لا يكفي مجرد التحذير من الدنيا وزخرفها في الخطبة
:
قال إمام الحرمين من الشافعية : " ولا خلاف أنه لا يكفي التحذير من الاغترار بالدنيا وزخارفها ، لأن ذلك قد يتواصى به منكرو الشرائع ، بل لابد من الحث على طاعة الله تعالى والمنع من المعاصي . قال أصحابنا : ولا يجب في الموعظة كلام طويل ، بل لو قال : أطيعوا الله كفى ( (606) انظر : المجموع ( 4 / 348 ) . 606)".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " ولا يكفى في الخطبة ذم الدنيا وذكر الموت ، بل لابد من مسمى الخطبة عرفاً ، ولا تحصل باختصار يفوت به المقصود "( (607) انظر : الاختيارات ( ص 79 ) . 607).

وتحدث ابن القيم واصفاً خطب النبي صلى الله عليه وسلم ثم استدرك بعدها قائلا : " لا كخطب غيره التي إنما تفيد أموراً مشتركة بين الخلائق ، وهي النوح على الحياة ، والتخويف بالموت ، فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيماناً بالله ، ولا توحيداً له ، ولا معرفة خاصة به ، ولا تذكيراً بأيامه ، ولا بعثاً للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه ، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة ، غير أنهم يموتون ، وتقسم أموالهم ، ويبلي التراب أجسامهم ، فيا ليت شعري أي أيمان حصل بهذا ؟ أو أي توحيد معرفة وعلم نافع حصل به ؟!اهـ ( (608) انظر : زاد المعاد ( 1/ 423 ) . 608).
قلت : كلام ابن القيم هذا ليس على ظاهره حتى لا يفهم أنه يهون من شأن هذه الأمور ، لكنه ذكر ذلك واصفاً بعض الخطب في زمانه حيث إن معظمها يكون هكذا ، ويغلب عليها جانب التصوف ومجرد ذم الدنيا دون الاهتمام بالتوحيد وأصول الدين التي ينبغي أن يذكر بها الناس ، والله أعلم .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية : " ينبغي أن تكون الخطبة مشتملة على ذكر دعائم الدين وقواعده العظام ، وكذلك ينبغي بل يجب أن يأتي بما يحرك القلوب . أما شيء لا يحركها فلا ينبغي .
ثم الاقتصار على ذكر فناء الدنيا والموت لا يكفي ، كما أنه لا يكفي الاقتصار على كلمات الحكم النافعة . لابد من موعظة وشيء يحرك القلوب . ثم أيضاً اعتماد التسجيع وكونه هو همّ الخطيب مرجوح ولا ينبغي . فإن أتى به مع إتيانه بالأمور الهامة فلا مانع . ( (609) انظر : فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم ( 3/ 20 ) . 609) . اهـ .
49-

افتتاح الخطب
سار جماعة من الخطباء على صيغة محددة لافتتاح خطب الجمعة والعيدين ولاستسقاء ، فجعلوا افتتاح خطب بالحمد والثناء ، وجعلوا افتتاح العيدين بالتكبير ،وافتتاح الاستسقاء بالاستغفار.
فأما الجمع فهذه هي سنتها باتفاق أهل العلم وهي أن تفتتح بالحمد .

وأما ما خصَّ به الاستسقاء والعيدان :
فقد ذهب الشافعية والحنابلة إلى استحباب افتتاح خطبتي العيدين بالتكبير تسع تكبيرات ( (610) انظر : الأم ( 1/ 397 ) ، المجموع ( 5/ 28 ) ، المغني ( 3 / 277) ، الإنصاف ( 5/ 354 ) . 610) .
ودليلهم في ذلك ما روى عن عبيد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة مرسلاً (( أنه بدأ الخطبة بالتكبير تسع تكبيرات " رواه الشافعي والبيهقي( (611) انظر : الأم ( 1/ 211 ) ، السنن الكبرى ( 3/ 299 ) . 611) .
وأما في الاستسقاء ، فظاهر صنيع الشافعي ، وذكره غير واحد من الشافعية ، أنه يفتتحها بالتكبير . وبقية أصحابه على يبدل التكبيرات المشروعة في أول خطبتي العيد بالاستغفار ، فيستغفر الله تعالى في افتتاح الأولى تسع مرات ، وفي الثانية سبعاً،ولا يكبر( (612) انظر : الأم ( 1/416 ) ، البيان ( 2/ 682 ) . 612) .
وعند الحنابلة : أن المذهب افتتاح الاستسقاء بالتكبير ، وعليه معظم أصحابهم ، وهو من مفردات أحمد ، فقد قال ناظم :
وهكذا التكبير في ابتدائها *** يشرع كالعيد وفي أثنائها ( (613) انظر : منح الشفا الشافيات في المفردات ( 1/ 165 ) . 613)
وقيل: يفتتحها بالاستغفار، وقيل: بالحمد ، وهي التي اختارها شيخ الإسلام وابن رجب ( (614) انظر : الإنصاف ( 5 / 424 ) . 614)
قال ابن القيم : وقد اختلف الناس في افتتاح خطبة العيدين والاستسقاء ، فقيل : يفتتحان بالتكبير ، وقيل : تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار ، وقيل : يفتتحان بالحمد . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وهو الصواب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم )) وكان يفتتح خطبه كلها بالحمد لله ( (615) انظر : زاد المعاد ( 1/ 448 ) الاختيارات ص ( 82 ) . 615). اهـ .

وقد ردَّ شيخ الإسلام ابن تيمية على من فعل مثل هذا ، حيث قال : " لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح خطبة بغير الحمد ، لا خطبة عيد ، ولا خطبة استسقاء ، ولا غير ذلك " ( (616) انظر : مجموع الفتاوى ( 22 / 393 ) . 616) . اهـ .
وقد ردَّ ابن القيم أيضاً على من فعل مثل ذلك بقوله : وكان لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله . وأما قول كثير من الفقهاء : إنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار ، وخطبة العيدين بالتكبير ، فليس معهم فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة ، وسنته تقتضي خلافه ، وهو افتتاح جميع الخطب بـ " الحمد لله " وهو أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب أحمد ، وهو اختيار شيخنا قدس الله سرَّه . ( (617) انظر : زاد المعاد ( 1/ 186) الاختيارات ص ( 82 ) .617) . اهـ .
وقال في موضع آخر : " وكان صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه كلها بالحمد لله ، ولم يحفظ عنه في حديث واحد ، أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير " ( (618) انظر : زاد المعاد ( 1/ 447) . 618) . اهـ .
وقال سماحة شيخنا العلامة عبدالعزيز بن باز : " أما ما يروى عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة مرسلاً " أنه بدأ الخطبة بالتكبير تسع تكبيرات " فليس في الأحاديث الصحيحة ما يدل عليه بل هو مرسل ، والأفضل البدء بالحمد لفعل النبي صلى الله عليه وسلم" ( (619) انظر : شرح الشيخ لحديث البلوغ رقم ( 387 ) . 619). اهـ.
قلت : وهو اختيار العلامة محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية ( (620) انظر : فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم ( 3/ 126 ) . 620) . ولكن يشرع الإكثار من التكبير في خطبتي العيدين لما روى ابن ماجة في سننه عن سعد رضي الله عنه قال : ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر بين أضعاف الخطبة،يكثر التكبير في خطبة العيدين))( (621) انظر : سنن ابن ماجة ( 1/ 409 رقم 1287 ) .621)

50-

حكم افتتاح خطبة الجمعة بخطبة الحاجة
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : (( علَّمنا خطبة الحاجة : الحمد لله نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم يقرأ ثلاث آيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } سورة آل عمران ، آية : 102 { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} سورة النساء ، آية : 1 ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} سورة الأحزاب ، آية : 70 ))
رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه ، والبيهقي( (622) انظر : سنن أبي داود ، كتاب النكاح ، حديث رقم (2118) ، جامع الترمذي ، كتاب النكاح ، حديث رقم (1105 ) ، سنن ابن ماجه ، كتاب النكاح ، حديث رقم (1892) ، سنن النسائي ، كتاب الجمعة ، حديث رقم (1405 ) ، سنن الكبرى ( 3/ 304 ) . 622). وهذا لفظ النسائي .
وعند أبي داود والترمذي وابن ماجه بلفظ : (( إن الحمد لله )) .
وعند ابن ماجه : (( وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له )) .
وعند أبي داود بلفظ : (( في خطبة الحاجة في النكاح وغيره )) .
قلت : هذا الحديث أورده أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه في كتاب النكاح ، وأورده النسائي والبيهقي في كتاب الجمعة .
قال شعبة : " قلت لأبي إسحاق : هذه القصة في خطبة النكاح وفي غيرها ؟ قال : في كل حاجة " ( (623) انظر : نيل الأوطار ( 6/ 134 ) . 623) . اهـ .

قال صاحب عون المعبود : " وقد استدل بحديث ابن مسعود هذا على مشروعية الخطبة عند النكاح وعند كل حاجة " ( (624) انظر : عون المعبود ( 6/ 109 ) . 624) . اهـ .
وقد وضع النسائي لهذا الحديث باباً فقال : باباً كيفية الخطبة .
وكذلك البيهقي أدرج هذا الحديث تحت باب ( كيف يستحب أن تكون الخطبة ) .
فيتضح من صنيعهما أنهما يريان مشروعية الإتيان بخطبة الحاجة في خطبة الجمعة .
قال السندي في حاشيته على النسائي: قوله ( في خطبة الحاجة ) الظاهر عموم الحاجة للنكاح وغيره ، ويحتمل أن المراد بالحاجة النكاح إذ هو الذي تعارف فيه الخطبة دون سائر الحاجات ، وعلى كل تقدير فوجه ذكر المصنف الحديث في هذا الباب ، لأن الأصل اتحاذ الخطبة ، فما جاز أو جاء في موضع جاز في موضع آخر أيضاً ، وكأنه جاء فيه ، والله تعالى أعلم ( (625) انظر : سنن النسائي ( 3/ 105 ) . 625) . اهـ .
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " ولهذا استحبت وفعلت في مخاطبة الناس بالعلم عموماً وخصوصاً من تعليم الكتاب والسنة والفقه في ذلك ، وموعظة الناس ومجادلتهم : أن يفتتح بهذه الخطبة الشرعية " . اهـ .
وقال أيضاً : " فإن حديث ابن مسعود لم يخص النكاح ، وإنما هي خطبة لكل حاجة في مخاطبة العباد بعضهم بعضاً ، والنكاح من جملة ذلك ، فإن مراعاة السنن الشرعية في الأقوال والأعمال في جميع العبادات والعادات ، هو كمال الصراط المستقيم ، وما سوى ذلك إن لم يكن منهياً عنه ، فإنه منقوص مرجوح ، إذ خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم " ( (626) انظر : مجموع الفتاوى ( 18 / 287 - 288 ) . 626) . اهـ .

فظاهر ما مضى ذكره يدلُّ على أنه لا بأس بافتتاح خطبة الجمعة بخطبة الحاجة في بعض الأحيان . نعم لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفتتح بها خطبة الجمعة ، ولكن هذا لا يمنع من الإتيان بها ، لأنه ليس هناك افتتاح بعينه لا تصح الخطبة إلا به ، بل بأي كيفية حمد الله وأثنى عليه في افتتاح خطبة الجمعة فقد وافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا أتى بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك فهو خير وأحسن .
وقد يستأنس للقول بجواز الإتيان بخطبة الحاجة في خطبة الجمعة بما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال : (( الحمد لله نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة ، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ، ولا يضر الله شيئاً )) ( (627) انظر : سنن أبي داود ، كتاب الجمعة ، حديث رقم ( 1097 ) . 627).
ففي صدر هذا الحديث شبه بصدر حديث خطبة الحاجة ، ولا يختلف معه إلا في إيراد الآيات الثلاث التي في خطبة الحاجة . والله أعلم .
تنبيه :
ذكر الشيخ بكر أبو زيد أن التزام افتتاح خطبة الجمعة بخطبة الحاجة الواردة في حديث ابن مسعود من محدثات الخطبة ( (628) انظر : تصحيح الدعاء ص ( 454 ) . 628) .
وقد حدثني أحد المشايخ الفضلاء نقلاً عن أحد العلماء المشاهير في هيئة كبار العلماء : أنه يرى أن مجرد افتتاح خطبة الجمعة بخطبة الحاجة يعدُّ بدعة محدثة ، ويستدل لذلك بكون حديث ابن مسعود جاء في خطبة النكاح .

قلت : والصواب خلاف ذلك بل هو جائز وليس بدعة ، لأن حديث ابن مسعود جاء في خطبة النكاح وغيرها كما هي رواية أبي داود ، ثم كيف نحكم بالبدعية وقد سبق النسائي بالقول بجوازها في الخطبة وكذلك البيهقي ، وكذلك من تقدم ذكرهم من أهل العلم في ذلك ، فالقول بالتبديع صعب المرتقى ، إلا إذا التزم ذلك في كل جمعة فقد يكون للقول بالبدعية وجاهة . والعلم عند الله تعالى .
51-

كراهة تشدق الخطيب وتكلفه في كلامه
قد مرَّ معنا فيما مضى أن الخطيب مطالب في الجملة بالإعراب والفصاحة وحسن البيان ، وذكرنا ما يتعلق بذلك من استدلالات بالنصوص الشرعية وأقوال أهل العلم ، غير أن الأمر ينبغي أن يكون وسطاً بين الإفراط والتفريط ، أي بين الغلو والجفاء ، فلا نترك الفصاحة والبلاغة بالكلية ، كما أنه لا ينبغي للخطيب أن يتعمق فيها بحيث يصل إلى درجة التشدق والتكلف البغيض .
فقد روى أبو داود والترمذي وحسَّنه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها )) ( (629) انظر : سنن أبي داود ( 5/ 274 حديث رقم 5005 ) ، جامع الترمذي ( 5/ 141 حديث رقم 2853 ) . 629) .
قال في النهاية : " هو الذي يتشدق في الكلام ، ويفخم به لسانه ، ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفّاً " ( (630) انظر : النهاية ( 2/ 70 ) . 630) . اهـ .
وروى الترمذي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً ، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون )) ( (631) جامع الترمذي ( 4/ 370 رقم 2018 ) وأخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق ( 1 / 34 ) . 631) . ورواه أحمد من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه ( (632) انظر : مسند أحمد ( 4 / 193 ) . 632) .

قال في النهاية : الثرثار : الذي يكثر الكلام تكلفاً وخروجاً عن الحق . ( (633) انظر : النهاية ( 1/ 204 ) . 633) اهـ .
والمتشدق : المتوسع في الكلام من غير احتياط واحتراز . ( (634) انظر : النهاية ( 2 / 406 ) . 634) . اهـ .
والمتفيهق : الذي يتوسع في الكلام ويفتح فاه به . ( (635) انظر : النهاية ( 3 / 434) . 635) . اهـ .
وروى أبو داود من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال - أو الناس - لم يقبل منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً )) ( (636) انظر : سنن أبي داود ( 5/ 274 رقم 5006 ) . 636) . قال المنذري : يشبه أن يكون الحديث منقطعاً ( (637) انظر : عون المعبود شرح سنن أبي داود ( 7 / 238 ) . 637) . اهـ .
قال الخطابي : بعد أن بوَّب لهذا الحديث باباً فقال : ( ومن باب تعليم الخطب ) : صرف الكلام : فضله وما يتكلفه الإنسان من الزيادة فيه من وراء الحاجة ، ومن هذا سمي الفضل بين النقدين صرفاً . وإنما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لما يدخله من الرياء والتصنع ، ولما يخالطه من الكذب والتزيد ، وأمر صلى الله عليه وسلم أن يكون الكلام قصداً تلو الحاجة ، غير زائد عليها ، يوافق ظاهره باطنه ، وسرّه علنه ( (638) انظر : معالم السنن ( 4 / 136 ) . 638) . اهـ .
وقد ذكر أبو حامد الغزالي الآفة السادسة من آفات اللسان فأدرج تحتها : التقعر في الكلام بالتشدق ، وتكلف السجع والفصاحة ، والتصنع فيه بالتشبيبات والمقدمات ، وما جرى به عادة المتفاصحين المدعين للخطابة .
ثم قال : وكل ذلك من التصنع المذموم ومن التكلف الممقوت .. ثم قال أيضاً : بل ينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده ومقصود الكلام التفهيم للغرض ، وما وراء ذلك تصنع مذموم ( (639) انظر : إحياء علوم الدين ( 3/ 120 ) . 639) . اهـ .

ثم استدرك الغزالي بعد عرضه لمثل هذا وبين ما لا يدخل في هذا الذم فقال : ولا يدخل في هذه تحسين ألفاظ الخطابة والتذكير من غير إفراط وإغراب ، فإن المقصود منها تحريك القلوب وتشويقها وقبضها وبسطها ، فلرشاقة اللفظ تأثير فيه فهو لائق به ( (640) انظر : المصدر السابق . 640) . اهـ .
فائدة :
روي عن معاوية رضي الله عنه أنه قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الخطب تشقيق الشعر " .
قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير ، وفيه جابر الجعفي والغالب عليه الضعف ( (641) انظر : مجمع الزوائد ( 2/ 418 ) . 641)
52-

السجع في الخطب
قال الحافظ ابن حجر : السجع هو تناسب آخر الكلمات لفظاً ، وأصله الاستواء .
وفي الاصطلاح : الكلام المقفى ، والجمع أسجاع وأساجيع ( (642) انظر : فتح الباري ( 12/ 380 ) وقال في لسان العرب ( مادة سجع ) السجع : الكلام المقفى ، والجمع أسجاع ، وأساجيع ، وسَجَعُ : تكلم بكلام له فواصل كفواصل الشعر من غير وزن . 642) .اهـ .
ثم إن السجع في الخطب يعدُّ من الأمور التي لم يتخل عنها الخطباء في القديم ولا في الحديث ، وهو بلا شك جمال في الخطبة إذا أحسن الخطيب استعماله ، غير أن كثيراً من الخطباء قد بالغوا فيه مبالغة ظاهرة حتى صار عيباً في الخطبة ، بحيث لا تكاد تسمع أربع كلمات قد تزيد أو تنقص إلا وتراها مسجوعة سجعاً متكلفاً ، مما يسبب الملل لدى المستمع ، أو يقلل من قيمة الدلالات والألفاظ بسبب الترادف المتكرر في السجع ؛ لأن الخطيب قد يعبر عن شيء يكفي فيه كلمتان - فحسب - بكلمات كثيرة مترادفة لأجل السجع المراد . وهذا في الحقيقة سجع متكلف ، وتكرار وحشو يجعله إلى الذم أقرب . وذلك كمن يقول مثلاً : توالت الأحداث عليكم ، وجاءت مسرعة إليكم ، وحطَّت رحالها لديكم .
فلو نظرنا إلى قوله توالت ، وجاءت ، وحطت . لوجدنا أنها كلمات مترادفة كلها تدل على معنى واحد .

وأما السجع الذي كان يستعمله العرب فقد كانت كل سجعة فيه تختلف عن التي تليها من حيث المعنى ، وإنما التوافق يكون في قافيتها الأخيرة .
فمن ذلك ما ذكره الجاحظ عن عمر بن ذر حين قال : الله المستعان على ألسنة تصف ، وقلوب تعرف ، وأعمال تخلف .
أو كسؤال بعض الأمراء حينما سأل رسولاً قدم من جهة السند : كيف رأيتهم البلاد ؟ فقال : ماؤها وشل ، ولصها بطل ، وتمرها دقل ، إن كثر الجند بها جاعوا ، وإن قلوا بها ضاعوا . اهـ ( (643) انظر : البيان والتبين للجاحظ ص ( 152 ) . 643) .
فيلاحظ من الأمثلة التي أوردها الجاحظ تغاير ظاهر بين معانيها، ففي المثال الأول ذكر الألسنة والقلوب والأعمال، وفي المثال الثاني ذكر الماء واللص والتمر، بخرف المثال الأول الذي ظاهره التكلف والسجع المترادف على كلمة واحدة وهي ( توالت الأحداث عليكم...الخ ) .

وقد اختلف أهل العلم في حكم السجع على قولين :
القول الأول :
قال أصحابه : إن السجع مذموم ، واستدلوا على ذلك بما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر ، فأصاب بطنها وهي حامل ، فقتلت ولدها الذي في بطنها ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أنَّ دية ما في بطنها غُرة ( (644) الغُرَّة : العبد نفسه أو الأمة ، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول : الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء ، وسمي غُرَّة لبياضه ، فلا يقبل في الدية عبد أسود ولا جارية سوداء . وليس ذلك شرطاً عند الفقهاء ، وإنما الغرة عندهم ما بلغ ثمنه نصف عشر الدية من العبيد والإماء . النهاية ( 3 / 353 ) . 644) عبدٌ أو أمةٌ ، فقال ولي المرأة ( (645) وهو حمل بن النابغة الهذلي كما عند مسلم . 645) التي غرمت : كيف أغرم يا رسول مَنْ لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهلَّ ( (646) استهل : استهلال الصَّبيّ : تصويته عند ولادته . النهاية ( 5 / 271 ) . 646) ، فمثل ذلك يُطلُّ ( (647) يُطَّل : أي يهدر ولا يضمن . النهاية ( 3/ 136 ) والمصباح المنير ص ( 377 ) . 647) ؟ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما هذا من إخوان الكهان( (648) الكهان : الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار . النهاية ( 4 / 214 ) . 648) )) ( (649) انظر : صحيح البخاري : الطب ، ( حديث رقم 5758 ) ، صحيح مسلم ( 3/ 1310 رقم 1681 ) . 649) . هذا لفظ البخاري .
وعند مسلم (( من أجل سجعه الذي سجع )) وهذا مدرج من الراوي كما نقله الحافظ ابن حجر عن القرطبي ( (650) انظر : فتح الباري ( 11 / 380 ) . 650) ، وكذا ذكر الصنعاني ( (651) انظر : سبل السلام ( 3 / 457 ) . 651) .
وقد أخرجه مسلم من حديث المغيرة وفيه : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أسجع كسجع الأعراب ؟! )) ( (652) انظر : صحيح مسلم رقم ( 1682 ) . 652) . اهـ .

وثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قال لابن أبي السائب قاص أهل المدينة : " إياك والسجع ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا لا يسجعون " . رواه أحمد وابن حبان في صحيحه ( (653) انظر : مسند أحمد ( 6 / 217 ) صحيح ابن حبان ( 2 / 162 رقم 974 ) . 653) .
القول الثاني :
قال أصحابه : إن السجع ليس مكروهاً على إطلاقه ، بل المكروه منه ما يقع من التكلف في معرض مدافعة الحق ، وأما ما يقع عفواً بلا تكلف في الأمور المباحة فجائز ، وعلى ذلك يحمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم . وقد ذكر ذلك النووي والحافظ ابن حجر والصنعاني والشوكاني وغيرهم ، واختاره شيخنا العلامة عبدالعزيز بن باز ( (654) انظر : شرح مسلم ( 6/ 194 ) ، فتح الباري ( 11 / 380 ) ، سبل السلام ( 3 / 457 ) ، نيل الأوطار ( 7/ 76 ) شرح الشيخ ابن باز على بلوغ المرام ( حديث رقم 1092 ) . 654) .
قال الحافظ ابن حجر : والحاصل أنه جمع الأمرين من التكلف وإبطال الحق كان مذموماً ، وإن اقتصر على أحدهما كان أخف في الذم ، ويخرج من ذلك تقسيمه إلى أربعة أنواع ، فالمحمود ما جاء عفواً في حق ، ودونه ما يقع متكلفاً في حق أيضاً ، والمذموم عكسهما ( (655) انظر : الباري المصدر السابق . 655).
ونقل الجاحظ عن عبدالصمد الرقاشي معلقاً على حديث النبي صلى الله عليه وسلم في سجع الكهان قوله : " لو أن هذا المتكلم لم يرد إلا الإقامة لهذا الوزن ما كان عليه بأس ، ولكنه عسى أن يكون أراد إبطالاً لحق فتشادق في كلامه " ( (656) انظر : البيان والتبين ص ( 153 ) . 656) . اهـ .
وقد ذكر أبو حامد الغزالي أن تكلف السجع مذموم ( (657) انظر : إحياء علوم الدين ( 3 / 120 ) . 657) . اهـ .

وقال الشيخ محمد رشيد رضا واصفاً بعض الخطب المعاصرة بما نصه : " وقد صارت الخطبة في أكثر البلاد الإسلامية رسوماً تقليدية مؤلفة من أسجاع متكلفة كسجع الكهان " ( (658) انظر : مجلة المنار ( 15 / 28 ) . 658) . اهـ .
وقال أيضاً في موضع آخر موصياً الخطيب : " وإياه والسجع المتكلف ، والمحسنات المرذولة التي كثيراً ما تخفي الأغراض وتعمي المعاني ، وتأخذ بصاحبها القول وقصده " ( (659) انظر : مجلة المنار (29 / 341 ) .659) . اهـ .
وقال الشيخ العلامة مفتي الديار السعودية محمد بن إبراهيم : " اعتماد التسجيع وكونه هو همّ الخطيب مرجوح ولا ينبغي . فإن أتى به مع إتيانه بالأمور الهامة فلا مانع ( (660) انظر : فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم ( 3 / 20 ) . 660).اهـ .
قلت : وبه يعرف أن السجع المتكلف ، وكذلك السجع الذي فيه إبطال لحق ، فهو المذموم عند أهل العلم . والله أعلم .
53-

الشعر في الخطب
عاب عليَّ أحد طلبة العلم الفضلاء كيف أورد الشعر أحياناً في خطبي ، وذكر أن هذا الأمر محدث ، ولم يعرف إلا من عصر الحجاج فما بعده ، وأن العز بن عبدالسلام يرى أنه بدعة ( (661) انظر : فتاوى العز بن عبدالسلام ص (79) . 661) ، وأن هذا أمر لا ينبغي ، فتأدبت معه في الخطاب لسعة علمه ومنزلته ، مع قناعتي بأن ما قاله ليس صحيحاً ، كما أنه قد لا يخفى عليه وعلى غيره أن كثيراً من الخطباء قد يأتون في خطبهم بألفاظ لم تكن في خطب النبي صلى الله عليه وسلم ولا خطب أصحابه ولا القرون الأولى المفضلة .

ومن ذلك مثلاً قول معظم الخطباء " أقول قولي هذا .." وقولهم في آخر كل خطبة " اذكروا الله العظيم يذكركم .." ، بل مواظبة بعضهم على الدعاء للسلاطين ، مع أن العز بن عبدالسلام يقول أيضاً ببدعية الدعاء للسلاطين ( (662) سيأتي بحث بأكمله في الدعاء للسلطان . 662) وهذا الذي حاورني قد استشهد بقول العز بن عبد السلام في بدعية الإتيان بالشعر في الخطبة ، والعجب هنا أنه لم يأخذ بقول العز بن عبدالسلام في الدعاء للسلطان ، وغير ذلك من الألفاظ التي اتخذها جمهور الخطباء عادة ، ولو تركها أحد لربما أنكر عليه .
ولردِّ شبهة ذم الشعر في الخطبة أقول وبالله التوفيق :
لاشك أن الإكثار من الشعر بحيث يطغى على جوانب أهم منه ، كالقرآن والسنة ، وما هو أنفع من الشعر ، قد يكون مذموماً ، بل ويزداد ذمّاً إذا اشتمل على قبح أو كذب أو فحش أو تفحش . قال الله تعالى { وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } سورة الشعراء ، آية : 224 .
وقد قال بعضهم : " أعذب الشعر أكذبه " .
وقال بعض العلماء : لم ير متدين صادق اللهجة يأتي بالعجيب في شعره . وقد قال الشافعي - رحمه الله - عن الإكثار من الشعر :
ولولا الشعر بالعلماء يزري *** لكنت اليوم أشعر من لبيد
وقد اختلف أهل العلم في ذم الشعر ومدحه .
وخلاصة الكلام في ذلك ما قاله الحافظ ابن حجر: "والذي يتحصل من كلام العلماء في حد الشعر الجائز أنه إذا لم يكثر منه في المسجد ، وخلى عن هجو ، وعن الإغراق في المدح والكذب المحض .. وقد نقل ابن عبدالبر الإجماع على جوازه إذا كان كذلك " ( (663) انظر : فتح الباري ( 10 / 539 ) . 663) .

وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول : " الشعر منه حسن ومنه قبيح ، خذ الحسن ودع القبيح ، ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعاراً ، منها القصيدة فيها أربعون بيتاً ودون ذلك " ( (664) انظر : الأدب المفرد : باب الشعر منه حسن كحسن الكلام ومنه قبيح ( فضل الله الصمد 2/ 315 ) وأخرجه عنها مرفوعاً أبو يعلى في مسنده ( 4/ 386 ) والدار قطني في سننه ( 4/ 155 ) بلفظ : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشعر ؟ فقال : (( هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح )) . 664) .
قال الحافظ ابن حجر : " وسنده حسن " ( (665) انظر : فتح الباري ( 10 / 539 ) . 665) . اهـ .
وروي مثل ذلك عن عبدالله بن عمرو مرفوعاً ، وسنده ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر ( (666) انظر : المصدر السابق . 666) .
قال الشافعي : والشعر كلام ، فحسنه كحسن الكلام ، وقبيحه كقبيح الكلام غير أنه كلام باق سائر ، فذلك فضله على الكلام ( (667) انظر : الأم ( 6 / 207 ) . 667) . اهـ .
وقد أخرج الطبري من طريق ابن جريج قال : " سألت عطاء عن الحداء والشعر والغناء فقال : لا بأس به ما لم يكن فحشاً " ( (668) انظر : فتح الباري ( 10 / 539 ) . 668) .
قلت : الذي يظهر لي هو أن الخطيب لا بأس بأن يستعمل الشعر إذا كان موعظة ظاهرة يرتدع بها عن خبث الباطن ، أو حكمة نادرة يتعظ بها في كشف السر الكامن ، ويؤيد هذا قول ابن الجوزي : " فإن من العوام من يعجبه حسن اللفظ ، ومنهم من يعجبه الإشارة ، ومنهم من ينقاد ببيت من الشعر " ( (669) انظر : صيد الخاطر ص ( 108 ) . 669) . اهـ .

قلت : وقد سمعت سماحة شيخنا العلامة عبدالعزيز بن باز وهو يقرر أن لا بأس بإيراد الشعر في الخطبة دون إسراف إذا كان حكمة ينتفع بها ، وعلى هذا يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء من حديث أبي ابن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( إن من الشعر حكمة )) رواه البخاري ( (670) انظر : صحيح البخار : كتاب الأدب ( حديث رقم 6145 ) . 670) .
ومما يدل على ذلك هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه عند مسلم حديث يتعلق بخطبة وفيه (( وإن من البيان سحراً )) ( (671) انظر : صحيح مسلم ( 2/ 594 رقم 869 ) . 671) .
وقوله هذا فيه تأويلان :
أحدهما : أنه على وجه الذم ؛ لأنه إمالة للقلوب ، وصرفها بمقاطع الكلام إليه حتى يكسب من الإثم به كما يكسب بالسحر . وبهذا قال مالك ( (672) انظر : الموطأ ( 2/ 986 ) ، إكمال المعلم ( 3 / 274 ) . 672) رحمه الله .
والثاني : أنه على وجه المدح ؛ لأن الله تعالى امتن على عباده بتعليمهم البيان ، وشبهه بالسحر ؛ لميل القلوب إليه . وهذا التأويل هو الصحيح المختار ، كما ذكر ذلك النووي رحمه الله ( (673) انظر : شرح النووي ( 6/ 159 ) . 673) .
قلت : فإذا كان البيان يشبه السحر ، وقد ذمه بعض أهل العلم كما رأيت على أحد التأويلين ، وعلى التأويل الثاني أنه مدح ، فكان ما يشبه السحر يعد مدحاً ولو كان في الخطبة ، لأن الحديث ورد في الخطبة كما سيأتي قريباً إن شاء الله .
فإذا كان الأمر كذلك فإن قوله صلى الله عليه وسلم في الشعر : (( إن من الشعر حكمة )) لا يحتمل تأويلين كما احتمله تأويل البيان ، فإن الحديث هنا محكم يدل دلالة واضحة على أن الحكمة قد تنطلق من الشعر ، و " من " هنا للتبعيض ، فيلخص عندنا هنا أن الشعر لا بأس به إذا أتي به في المجامع والمواعظ والخطب بشروطه المذكورة آنفاً .

ويؤيد ذلك أنه ثبت في الأحاديث الصحيحة ( (674) انظر : حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عند الترمذي ( 5 / 138 رقم 2846 ) وأبي داود ( 5/ 280 ) . وأحمد ( 6/ 72 ) والحكم ( 487 ) . 674) ذكر الأشعار أمام النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي ، من قبل حسان بن ثابت وكعب بن زهير ، وغيرهما . وليس المنبر في المساجد العادية بأفضل من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو منبره . والعلم عند الله تعالى .
وقد اطلعت على رأي خاصة للشيخ بكر أبو زيد حول تضمين خطبة الجمعة أبياتاً من الشعر . وها أنا ذا أورد كلامه من باب الفائدة ، مع قناعتي الخاصة بما رجحته سابقاً ، فقد قال بما نصه : "
لا أعرف في خطب النبي صلى الله عليه وسلم ولا في خطب الصحابة رضي الله عنهم الاستشهاد بالشعر ببيت فصاعداً ، وعلى هذا جرى التابعون لهم بإحسان .
وقد استمرأ بعض الخطباء في القرن الرابع عشر تضمين خطبة الجمعة البيت من الشعر فأكثر ، بل ربما صار الاستشهاد بمقطوعات شعرية متعددة ، وربما كان إنشاد بيت لمبتدع ، أو زنديق ، أو ماجن .
والمقام في : ( خطبة الجمعة ) مقام له خصوصيات متعددة يخالف غيره من المقامات ، في الدروس ، والمحاضرات ، والوعظ ، والتذكير ، وهو مقام عظيم ، لتبليغ هذا الدين صافياً ، يجهر فيها الخطيب بنصوص الوحيين الشريفين ، وتعظيمهما في القلوب ، والبيان عنهما بما يليق بمكانتهما ، ومكانة فرائض الإسلام ، فلا أرى لك أيها الخطيب للجمعة إلا اجتناب الإنشاد في خطبة الجمعة ، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بك أجمل وبمقامك أكمل . والله المستعان " ( (675) انظر : تصحيح الدعاء ص (99) . 675) .

54-

إذا كان الخطيب يقول في خطبته ما هو كذب أو ظلم
هذه المسألة مهمة جداً ، قلما يتفطن لها عدد من الخطباء ، وذلك من خلال عرض بعض المقدمات الفاسدة والقضايا الكاذبة أثناء الخطبة ، وقد يكون ذلك من باب قصد الكذب - وهو قليل - وقد يكون من باب جهل القائل ، أو التلبيس عليه ، أو الاجتهاد الخاطئ الذي يسوغ له قوله هذا .
وقد أشار بعض أهل العلم إلى شيء من ذلك ، كما في رواية ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده عن حماد قال : قلت لإبراهيم : إن الكتب تجيء من قبل قتيبة فيها الباطل والكذب ، فإذا أردت أكلم صاحبي أو أنصت ؟ قال : لا ، بل أنصت - يعني في الجمعة - ( (676) انظر : مصنف ابن أبي شيبة ( 2/ 32 ) . 676) . اهـ.
قلت : معنى هذا أن الخطيب في زمن قتيبة بن مسلم يقرأ صحفاً فيها شيء من الكذب والباطل .
قال النووي : " ويكره المجازفة في أوصاف السلاطين في الدعاء لهم ، وكذبهم من كثير من ذلك ... الخ ( (677) انظر : المجموع ( 4/ 350 ) . 677) ". اهـ .
قلت : ففي هذا إثبات احتمال وقوع الكذب ، بل وقوعه من قبل بعض الخطباء من خلال قول النووي هذا .
ويؤيده قول الحافظ ابن حجر : " واختلف السلف إذا خطب - أي الخطيب - بما لا ينبغي من القول " ( (678) انظر : فتح الباري ( 3/ 81 ) . 678) . اهـ .
فدلَّ على أن من الخطباء من قد يقول ما هو باطل أو كذب في خطبهم .
وقد وجَّه الحافظ ابن حجر فعل مروان بن الحكم حين قدَّم خطبة العيد على الصلاة ، بأن قصده مراعاة مصلحته في إسماعهم الخطبة ؛ لأنهم كانوا في زمنه يتعمدون ترك سماع خطبته ؛ لما فيها من سبِّ من لا يستحق السبّ ، والإفراط في مدح بعض الناس ( (679) انظر : فتح الباري ( 3/ 128 ) . 679). اهـ .
قال الكاساني : " وإنما أحدث بنو أمية الخطبة - أي العيدين - قبل الصلاة ؛ لأنهم كانوا يتكلمون في خطبتهم بما لا يحل ، وكان الناس لا يجلسون بعد الصلاة لسماعها ، فأحدثوها قبل الصلاة ليسمعها الناس " ( (680) انظر : البدائع ( 2 / 241 ) . 680) . اهـ .

وقد نقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله : قال الإمام أحمد رحمه الله : " أكذب الناس على رسول صلى الله عليه وسلم السؤال والقصَّاص ، فيجب منع من يكذب مطلقاً ، فكيف إذا كان يكذب ويسأل ويتخطى ؟ وكيف من يكذب على رؤوس الناس في مثل يوم الجمعة ؟ فنهي من يكذب من أعظم الواجبات ، بل وينهى من روى ما لا يعرف أصدق هو أم كذب ؟ " ( (681) انظر : الآداب الشرعية ( 2/ 87 ) . 681) . اهـ .
وقال الشيخ عبدالله أبو بطين : " بخلاف ما في بعض الخطيب من الثناء والمدح بالكذب ، وولي الأمر يدعى له لا يمدح لاسيما بما ليس فيه .. الخ " ( (682) انظر : الدر السنية ( 5/ 41 ) . 682) . اهـ .
قلت : ويشتد الأمر في هذه المسألة إذا غلب على طبع بعض الخطباء جانب القصص ، حيث إنها مظنة الخلط بين الكذب والصدق ، والحق والباطل ، والصحيح والضعيف من الأحاديث . ولذلك جعل ابن مفلح في كتابه الآداب الشرعية فصلاً كاملاً عن وعظ القصاص وضررهم وكذبهم ، وقد ذكر في هذا الفصل قول الإمام أحمد : ما أحوج الناس إلى قاص صدوق . وفي رواية إسحاق بن إبراهيم عن أحمد قوله عن القصاص : عامة ما يتحدثون به كذب . وفي رواية أبي الحارث قوله : أكذب الناس القصاص والسؤَّال ( (683) انظر : الآداب الشرعية ( 2/ 87 ) .683) .اهـ .
وروى أبو داود وأحمد عن عوف بن مالك الأشجعي مرفوعاً : " لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال " ( (684) انظر : سنن أبي داود ( 4/ 72 رقم 3665 ) ، مسند أحمد ( 6/ 23 ) . 684) .

قال ابن الأثير في النهاية :" أي لا ينبغي ذلك إلا لأمير يعظ الناس ويخبرهم بما مضى ليعتبروا , أو مأمور بذلك ، فيكون حكمه حكم الأمير ، ولا يقص تكسباً ، أو يكون القاص مختالاً يفعل ذلك تكبراً على الناس ، أو مرائياً يرائي الناس بقوله وعمله ، لا يكون وعظه وكلامه حقيقة . وقيل : أراد الخطبة ؛ لأن الأمراء كانوا يلونها في الأول ويعظون الناس فيها ، ويقصون عليهم أخبار الأمم السالفة "( (685) انظر : النهاية ( 4/ 62 ) الآداب الشرعية ( 2 / 85 ) . 685).اهـ
ويحسن بي هنا أن أورد كلاماً جميلاً لابن مهدي المقبلي أنقله هنا للفائدة والاتعاظ المكملين للبحث الممتع في هذا الكتاب .
يقول المقبلي :" أما ما ذكر عن الناصر ـ قدس الله روحه ـ من وقوع الكذب من خطيبهم، وكذلك عن أكابر من أهل البيت ، فالظاهر ـ فيما نظن ـ أنهم أرادوا أنه كحضور الصلاة مع وجود منكرات عارضة مستمرة، كتقول الخطيب على الله أنه ارتضى الجائر ـ يعني الحاكم الجائر ـ فيكون ذلك كسائر البدع والمنكرات التي قلَّ ما يخلو منها محل، وأن تفاوتت كتفاوت مابين السماء والأرض ، لكنها اشتركت في كونها بدعة أو منكراً ، وقد ابتلي الناس بها في القديم والحديث ، وهذه هي الفتنة التي تركت الحليم حيران ، والله المستعان " ( (686) انظر : المنار في المختار للمقبلي ( 1/ 233 ) . 686) . اهـ

ويقول أيضاً في موضع آخر : " وأما ذكر الخلفاء ـ أي في الخطبة ـ عدلهم وجائرهم ، فما هو إلا بدعة ، والتعلق بالعوائد الذي لا شاهد لأهلها ، ولا صدرت عن محلها ، إنما من أرباب الملوك ، وخطباء السوء ، وعلماء الحطام ، فليس فيها متشبث للمتقي ، كيف وأكثر ما يجري منها الكذب والزور كما تجدهم ، ومن هو أعلى درجة كالمفتين والقضاة يحكمون لسلطان جهتهم بوجوب المقاتلة معه لسلطان آخر من المسلمين ، وعلماء الآخر يفعلون ذلك خلفاً عن سلف ، إلا الغراب الأبقع فهل يتعلق بفعلهم وعادتهم منصف لنفسه ولربه؟ فعبارتهم بقولهم (عادة المسلمين) كلمة يخف لها من لم يكن من الاستدلال بورد ولا صدر"( (687) انظر : المنار في المختار . للمقبلي ( 1/ 235 ) . 687) .اهـ.
55-

إيراد الأحاديث الضعيفة في الخطب
أود - قبل الحديث عن كلام أهل العلم في هذه المسألة- إيراد كلم جميل للشيخ محمد رشيد رضا عن كثرة ترديد الأحاديث الضعيفة والموضوعة من قبل بعض الخطباء في عصره .
فقد قال رحمة الله :" إننا كثيراً ما نسمع من خطباء الجمعة الأحاديث الضعيفة والموضوعة والحرفة ، حتى صار يضيق صدري من دخول المسجد لصلاة الجمعة الأولى أو في أثنائها ، فمن سمع الخطيب يعزو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً يعلم أنه موضوع يحار في أمره؛ لأنه إذا سكت على المنكر يكون آثماً ، وإذا أنكر على الخطيب جهراً يخاف الفتنة على العامة. والواجب على مدير الأوقاف منع الخطباء من الخطابة بهذا الدواوين المشتملة على هذه الأحاديث ، أو تخرج أحاديثها إذا كانت الخطب نفسها خالية من المنكرات والخرافات والأباطيل ، وما أكثر ذلك فيها "( (688) انظر : مجلة المنار ( 16 / 186 ) . 688) .اهـ.
وقد عدَّ الشيخ علي الطنطاوي رحمة الله إيراد الأحاديث الضعيفة والموضوعة من عيوب خطب هذا العصر .

فإنه قال رحمة الله: "ومنهم - أي الخطباء- (وهذا كثير) من يأتي بالأحاديث الموضوعة ، أو الضعيفة المتروكة ، مع أنه لا يجوز لأحد أن يسند حديثا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتوثق من صحته؛ فليتنبه الخطباء إلى هذا ، فإنه من أهم المهمات"( (689) انظر : فصول إسلامية ص ( 139) . 689) .اهـ
وقد سئل ابن حجر في فتاويه عن خطيب يرقى المنبر كل جمعة ، ويذكر أحاديث لا يبين مخرجيها ولا رواتها . ما حكم ذلك ؟.
فأجاب بما حاصله : " إنه لا يجوز له أن يروي الحديث من غير أن يذكر الرواة أو الخرجين، إلا إذا كان من أهل المعرفة بالحديث ، أو ينقلها من كتبة ، وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه من أهل الحديث ، أو في خطب ليس مؤلفها كذلك ، فلا يحل ذلك . ومن فعله عزر عليه التعزير الشديد . وهذا حال أكثر الخطباء ، فإنهم بمجرد رؤيتهم خطبة فيها أحاديث ، حفظوها وخطبوا بها (كذا) من غير أن يعرفوا أن لتلك الأحاديث أصلاً أم لا . فيجب على حكام كل بلد أن يزجروا خطباءها عن ذلك , ويجب على حكام بلد هذا الخطيب منعه من ذلك إن ارتكبه ...الخ " ( (690) انظر : فتاوى ابن حجر الحديثية ص ( 32 ) نقلاً عن مجلة المنار ( 16 / 186 ) . 690) .اهـ .
قال الشيخ محمد رشيد رضا معلقاً على كلام ابن حجر : "ولا يخفى أنه ليس عندنا في هذا العصر حفاظ ولا محدثون ، فيا ليت مدير الأوقاف يلزم الخطباء بتخريج الأحاديث من الكتب الصحيحة ، وعزوها في الخطبة إلى مخرجيها كالبخاري ومسلم وغيرهما من الحافظ " ( (691) انظر : مجلة المنار ( 5/ 507 ) .691) . اهـ .
قلت : هذه المسألة تتردد كثيراً بين الخطباء ما بين مؤيد لها أو رافض ، ولما لها من أهمية كبرى وحاجة ماسة إلى كشف الحديث عنها من منطلق علمي مؤصل؛ فإن أهل العلم اختلفوا في قبول الحديث الضعيف والاحتجاج به في الأحكام الشرعية وفضائل الأعمال على ثلاثة أقوال :

القول الأول :
ذهب أصحابه إلى جواز الاحتجاج بالحديث الضعيف مطلقاً في الأحكام وفي الفضائل ، غير أنهم اشترطوا لذلك شرطين :
أحدهما : أن يكون الضعف غير شديد .
وثانيهما : ألا يوجد في الباب غيره ، وألا يوجد ما يعارضه .
وهذا القول مروي عن الأئمة الأربعة ( (692) انظر : لأبي حنيفة فتح المغيث للسخاوي ( 1 / 267 ) ، مرقاة المفاتيح (1 / 3 ) .
وللإمام مالك : عارضة الأحوذي ( 1/ 246) ، إعلام الموقعين ( 1/ 33 ) .
وللإمام الشافعي : الرسالة للشافعي ص ( 465 ) ، إعلام الموقعين ( 1 / 32 ) .
وللإمام الأحمد : إعلام الموقعين (1/ 31 ) ، الآداب الشرعية (2 / 315 ) . 692) وأبي داود السجستاني ( (693) انظر : علوم الحديث لابن الصلاح ص ( 34) ، المسودة لابن تيمية ص ( 275 ) . 693) ، وغيرهم . ووجهة رأي أصحاب هذا القول هي أن الحديث الضعيف لما كان محتملاً للإصابة ولم يعارضه شيء قوي فيعمل به . إضافة إلى أن الحديث الضعيف عندهم أقوى من رأي الرجال .
القول الثاني :
ذهب أصحاب هذا القول إلى أن الحديث الضعيف لا يجوز الاحتجاج به مطلقاً ، لا في الأحكام ولا في غيرها من فضائل الأعمال والترغيب والترهيب .

وممن قال بهذا القول يحيى بن معين ( (694) انظر : عيون الأثر لابن سيد الناس ( 1/ 15 ) . 694)، والبخاري( (695) انظر : قواعد التحديث للقاسمي ص (113) . 695)، ومسلم( (696) انظر : شرح النووي المسلم ( 1/ 76 ) . 696)، والحافظ النيسابوري( (697) انظر : الكفاية للخطيب البغدادي ص ( 56 ) . 697)، وأبو زرعة الرازي ، وأبو حاتم الرازي وابنه ( (698) انظر : المراسيل لابن أبي حاتم ص (7 ) . 698) ، وابن حبان( (699) انظر : المجروحين لابن حبان ( 1/ 327 ) . 699)، والخطابي( (700) انظر : معالم السنن ( 1/ 7 ) . 700) ، وابن حزم ( (701) انظر : الفصل لابن حزم ( 2/ 84 ) . 701) ، وابن العربي ( (702) انظر : أحكام القرآن ( 2/ 580 ) . 702)، وشيخ الإسلام ابن تيمية( (703) انظر : قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص (84 ) . 703)، وغيرهم .
وتعليل أصحاب هذا القول هو أن الحديث الضعيف إنما يفيد الظن المرجوح ، والله عز وجل قد ذمَّ الظن في أكثر من آية ، كما أن في الأحاديث الصحيحة ما يغني المسلم عما سواها من الأحاديث الضعيفة .
القول الثالث :
وقد سلك أصحاب هذا القول مسكاً وسطاً بين القولين السابقين ، فقالوا : نحن لا نحتج بالأحاديث الضعيفة في الأحكام ، ولكننا نعمل بها في فضائل الأعمال ، وفي الترغيب والترهيب .
وقال بهذا القول جمهور العلماء من محدثين وفقهاء ، كما ذكر ذلك النووي في كتابه الأربعين النووية ( (704) انظر : مقدمة الأربعين النووية . 704) . بل قد حكى الاتفاق على ذلك بين أهل العلم .

ومن هؤلاء الذين قالوا بهذا القول سفيان الثوري ( (705) انظر : شرح علل الترمذي لابن رجب ( 1/ 73 ) . 705) ، وعبدالله بن المبارك ( (706) انظر : الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ( 1/ 30 ) . 706) ، وعبدالرحمن بن مهدي ( (707) انظر : قواعد التحديث للقاسمي ص ( 114 ) . 707) ، وسفيان بن عيينة( (708) انظر : شرح علل الترمذي ( 1/ 74 ) .708) وأحمد بن حنبل( (709) انظر : الآداب الشرعية ( 2/ 309 ) . 709)، وابن عبدالبر( (710) انظر : فتح المغيث ( 1/ 267 ) ، جامع بيان العلم وفضله ( 1/ 22 ) . 710) ، والنووي ( (711) انظر : الأذكار للنووي مع شرحه الفتوحات الربانية ( 4/ 236 ) . 711) ، وابن كثير ( (912) انظر : تفسير ابن كثير ( 6/ 43 ) . 912) ، وغيرهم .
وقد اشترط أصحاب هذا القول شروطاً للعمل بالحديث الضعيف عندهم ، فجعلوا هذه الشروط ثلاثة وهي :
أن يكون الضعف غير شديد ، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ، ومن فحش غلطه .
أن يكون الضعف مندرجاً تحت أصل عام ، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً .
ألا يعتقد عند العمل به ثبوته ، لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله .
قلت : وهذه الشروط الثلاثة نقلها الحافظ السخاوي عن شيخه الحافظ ابن حجر ، ونقل عن ابن عبدالسلام وابن دقيق العيد الشرطين الأخيرين ، والشرط الأول نقل العلائي الاتفاق عليه ( (713) انظر : القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع للسخاوي ص ( 195 ) . 713) . اهـ .
وقد نقل العلامة أحمد شاكر عن الإمام أحمد ، وعبدالرحمن بن مهدي ، وعبدالله بن المبارك قولهم : إذا روينا في الحلال والحرام شددنا ، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا ( (714) انظر : الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لأحمد شاكر ص ( 92 ) . 714) . اهـ .

قلت : الذي يظهر - والله أعلم - أن أرجح الأقوال السابقة هو قول المانعين من قبول الحديث الضعيف مطلقاً، لا في الأحكام الشرعية ولا في فضائل الأعمال؛ لأمور منها :
اتفاق علماء الحديث على تسمية الحديث الضعيف بالمردود .
أن الضعيف لا يفيد إلا الظن المرجوح ، والظن لا يغني من الحق شيئاً .
أن تجويز الاحتجاج بالحديث الضعيف يترتب عليه ترك الأحاديث الصحيحة والزهد فيها .
قد تكون الأحاديث الضعيفة سبباً في نشوء البدع من خلال تشريع ما لم يشرعه الله ، أو يشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولأن من أجاز ذلك فإنه يجاب عن أقوالهم بما يأتي :
أولاً : أن ما نقل عن الإمام أحمد وابن مهدي وابن المبارك قد أجاب عنه العلامة أحمد شاطر في الباعث الحثيث ، حيث قال : " فإنما يريدون فيما أرجح ، والله أعلم - أن التساهل إنما هو في الأخذ بالحديث الحسن الذي لم يصل إلى درجة الصحة ، فإن الاصطلاح في التفرقة بين الصحيح والحسن لم يكن في عصرهم أمراً واضحاً ، بل كان أكثر المتقدمين لا يصف الحديث إلا بالصحة أو بالضعف فقط ( (715) انظر : الباعث الحيث ص ( 92 ) . 715) " اهـ .
قلت : ولعل مراد العلامة أحمد شاكر وغيره بالحسن الحسنُ لغيره ، وأما الحسن لذاته فهو حجة ، كما قال الحافظ العراقي في ألفيته :
وهو بأقسام الصحيح ملحق *** حجية وإن يكن لا يلحق ( (716) انظر : فتح المغيث ( 1/ 62 ) . 716)
وقال العلامة الألباني معقباً على كلام أحمد شاكر : وعندي وجه آخر في ذلك ، وهو أن يحمل تساهلهم المذكور على روايتهم إياها مقرونة بأسانيدهم كما هي عادتهم ، فيكون ذكر السند مغنياً عن التصريح بالضعف ، وأما أن يرووها بدون أسانيدها كما هي طريقة الخلف ، ودون بيان ضعفها كما هو صنيع جمهورهم ، فهم أجل وأتقى لله عز وجل من أن يفعلوا ذلك ، والله تعالى أعلم ( (717) انظر : ضعيف الجامع الصغير وزيادته ( 1/ 47 ) . 717) . اهـ .

ثانياً : أن الشروط التي ذكرها الحافظ ابن حجر يجاب عنها كالتالي :
أما الشرط الأول: فإن معرفة حال الحديث وكونه شديد الضعيف من عدمه مما يشق الوقوف عليه عند جماهير الناس ، وأما سماسرة ( (718) السمسار ( فارسي معرب ) سمسار الأرض : العالم بها ( ج) سماسرة : القاموس المحيط ( مادة سمر ) . 718) الحديث فعندهم في الصحيح غنية عن الضعيف .
وأما الشرط الثاني : وهو أن يكون الحديث مندرجاً تحت أصل عام فهذا ردٌّ على أصحابه ، لأننا لو قلنا به ؛ لظهر أن العمل في الواقع ليس بهذا الحديث الضعيف ، وإنما هو بالأصل العام الذي اندرج تحته الحديث الضعيف ، وأن العمل به وارد سواء وجد الحديث الضعيف أم لا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ولا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة ، لكن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن يروى في فضائل الأعمال ما لم يعلم أنه ثابت ، إذا لم يعلم أنه كذب ، وذلك أن العمل إذا عُلم أنه مشروع بدليل شرعي ، وروي في فضله حديث لا يعلم أنه كذب ، جاز أن يكون الثواب حقاً . ولم يقل أحد من الأئمة : إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف ، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع . ( (719) انظر : القاعدة الجليلة ص ( 82) . 719) . اهـ .
وأما الشرط الثالث : فإنه يرد على نفسه ، إذ ما الفائدة من حديث لا تعتقد عند العمل به ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم لئلا ينسب إليه ما لم يقله . والواقع أنه إذا لم نعتقد ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو وكلام البشر سواء .
ولذلك فإن حاصل الأمر أنه لا يجوز العمل بالحديث الضعيف عند أئمة المحققين ، كابن معين ، والبخاري ، ومسلم ، وابن العربي ، وابن حزم ، وابن رجب ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم ، وغيرهم .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " ولا كان أحمد بن حنبل ولا أمثاله من الأئمة يعتمدون على مثل هذه الأحاديث في الشريعة ، ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه " ( (720) انظر : المصدر السابق . 720) اهـ .
هذا حاصل الكلام حول هذه المسألة . والعلم عند الله تعالى .
56-

حكم استشهاد الخطيب بشيء من التوراة والإنجيل في الخطبة
قد يحتاج بعض الخطباء في خطبهم إلى إيراد شيء من الاستشهاد بنصوص التوراة أو الإنجيل على مسألة من المسائل التي يطرحها في خطبته ، مع العلم بأن التوراة والإنجيل محرفة عما أنزلت عليه . ولعل من المناسب هنا أن أورد كلاماً مفيداً يصب في هذا الإطار من باب توضيح هذه المسألة .
فقد قال ابن مفلح : سئل الإمام أحمد رضي الله عنه عن هذه المسألة في رواية إسحاق بن إبراهيم فغضب فقال : " هذه مسألة مسلم ؟! وغضب . وظاهره الإنكار ، وذكره القاضي ثم احتج بأنه عليه الصلاة والسلام لما رأى في يد عمر قطعة من التوراة غضب وقال : (( ألم آت بها بيضاء نقية )) ؟ الحديث ، وهو مشهور رواه أحمد وغيره ( (721) انظر : مسند أحمد ( 3/ 387 ) وانظر مصنف ابن أبي شيبة ( 9/ 47 ) السنة لابن أبي عاصم ( 1/ 27) جامع بيان العلم وفضله ( 2/ 42 ) . 721) ، وهو من رواية مجالد وجابر الجعفي ، وهما ضعيفان ، ولأنها كتب مبدلة مغيرة ، فلم تجز قراءتها والعمل عليها ، قال : وهذه مسألة جرت بين شيوخنا العكبريين ، فكان ابن هرمز والد القاضي أبي الحسين يقص بهذه الكتب - وكانت معربة - فأنكر عليه أبو عبدالله بن بطة ذلك وصنف فيه جزءاً ذكر فيه ما حكينا من رواية إسحاق ، وذكر فيه أيضاً عن أحمد رواية أبي يحيى الناقد : سمعت أحمد يقول : الاشتغال بهذه الأخبار القديمة يقطع عن العلم ، وذكر حديث عمر .

وذكر أيضاً بإسناده أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل مسجد دمشق فإذا كعب يقص فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من قصَّ بغير كتاب الله وسنة نبيه فاضربوا رأسه )) فما رئي كعب في ذلك المجلس بعد . وبإسناده أن رجلاً أهدى إلى عائشة رضي الله عنها هدية فقال : " لا حاجة لي في هديته بلغني أنه يتتبع الكتب الأول والله تعالى يقول : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } ذكره القاضي في الجزء الثاني من الجامع عند الكلام على القراءة والمصحف .. الخ ( (722) انظر : الآداب الشرعية ( 2/ 100 ) . 722) .
57-

رفع الصوت في الخطبة
كتب بعض المؤلفين المعاصرين كتباً صدروها بوصايا للخطباء كطريق للخطيب الناجح ، وقد أفلحوا في بعضها وأخطأوا في البعض لآخر وهو كثير ؛ نظراً لاعتمادهم على كتب غربية أجنبية في وصف الخطيب الصيت الناجح ، ولم يراعوا في ذلك ما كان من هديه صلى الله عليه وسلم ، فكان مما فيه استنكار رفع الصوت في الخطبة، أو الانفعال فيها، وإن ذلك نوع تشنج قد يثير المستمعين ويذهب بجمال الخطبة وحيويتها.
ولا شك أن هذا خطأ واضح لم يكن لقائله نصيب من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهديه في خطبته، حيث إنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (( أنه كان إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته ، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول : صبَّحكم ومسَّاكم..)) ( (723) انظر : صحيح مسلم ( 2/ 592 رقم 867 ) . 723).
وفي لفظ عند مسلم : ((يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ، ثم يقول على إثر ذلك وقد علا صوته..)) فذكره.

وأخرج أحمد والدارمي والحاكم والبيهقي ( (724) انظر : مسند أحمد ( 4/ 272 ) ، مسند الدارمي ( 2/ 329 ) ، المستدرك ( 1/ 287 ) السنن الكبرى ( 3/ 207 ) . 724) عن شعبة عن سماك بن حرب قال : سمعت النعمان بن بشير يخطب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخطب يقول : ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار .حتى لو أن رجلاً كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا . قال : حتى وقعت خميصة( (725) الخمِيصَةُ : هي ثوب خزّ أو صوف مُعْلم . قيل لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء مُعْلمة ، وكانت من لباس الناس قديماً ، وجمعها الخمائص . النهاية ( 2/ 81 ) . 725) كانت على عاتقه عند رجليه)). قال الهيثمي : رواه أحمد ورجاله ورجال الصحيح ( (726) انظر : مجمع الزوائد ( 2/ 187 ) . 726)
قال الشافعي رحمه الله : "وأحب أن يرفع صوته حتى يسمع أقصى من حضره إن قدر ذلك "( (727) انظر : الأم ( 1/ 177 ) . 727) .اهـ
وقال صاحب المهذب : " ويستحب أن يرفع صوته لحديث جابر " ( (728) انظر : المهذب ( 1 / 370 ) . 728). اهـ
وقال النووي : "يستحب رفع صوته زيادة على الواجب لما ذكره الصنف"( (729) انظر : المجموع ( 4/ 358 ) . 729). اهـ
وقال أبو الحسين العمراني : " ويستحب أن يرفع صوته بالخطبة ، لحديث جابر ، ولأن القصد بالخطبة الإعلام ، فكان رفع الصوت أولى "( (730) انظر : البيان ( 2/ 576 ) . 730) . اهـ
وقال ابن قدامة : " ويستحب أن يرفع صوته ، ليسمع الناس "( (731) انظر : المغني ( 3/ 178 ) . 731) . اهـ
وقال الصنعاني : " يستحب للخطيب أن يرفع بالخطبة صوته ، ويجزل( (732) كلام جزل : قوي شديد . واللفظ الجزْل خلاف الركيك . لسان العرب ( مادة جزل ) . 732) كلامه، ويأتي بجوامع الكلم من الترغيب والترهيب ( (733) انظر : سبل السلام ( 2/ 48 ) . 733). اهـ

وقال الشوكاني : يستحب للخطيب أن يضخم أمر الخطبة ويرفع صوته ويجزل كلامه ، ويظهر غاية الغضب والفزع ؛ لأن تلك الأوصاف إنما تكون عند اشتدادهما ( (734) انظر : نيل الأوطار ( 3/ 307 ) . 734). اهـ
فتبين لك أيها القارئ مما سبق ذكره ، أن رفع الصوت والحماس في الخطبة كان من هديه صلى الله عليه وسلم ، وهو من الأمور التي لها وقع في قلوب المستمعين، مع ملاحظة أن رفع الصوت وعلوه هنا لا يراد به الصراخ الفزع الذي يذهب بجمال الخطبة ووقْعها في نفس المستمع ، كما أنه لا يراد به أن يكون احمرار العينين وشدة الغضب في كل شيء . بل ما أحسن ما ذكر القاضي عياض عن حديث جابر هذا ، فقد قال بما نصه : هذا حكم المحذر والمنذر ، وأن تكون حركات الواعظ والمذكر وحالاته في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلم فيه ، ومطابق له ؛ حتى لا يأتي بالشيء وضده . وأما اشتداد غضبه فيحتمل أنه عند نهيه عن أمر خولف فيه شرعه ، أو يريد أن صفته صفه الغضبان عند إنذاره ( (735) انظر : إكمال المعلم بفوائد مسلم ( 3 / 368 ) . 735). اهـ
قلت : قد يقول قائل : إن كلام أهل العلم عن استحباب رفع الصوت للخطيب حال الخطبة إنما هو لأجل إسماع المأمومين ، وأما في هذا الوقت الذي وجدت فيه مكبرات الصوت فإنه لا يطلب فيه رفع الصوت على ما كان في السابق ، لأن مكبرات الصوت تأتي بالمقصود ، وتفهم دون المبالغة في رفع الصوت .
ويجاب عن هذا القول بأنه لابد من مراعاة أمرين هنا:
الأمر الأول : أن الفقهاء استحبوا رفع الصوت مطلقاً دون المبالغة في علوه ، وهذا سببه ظاهر ، وهو من أجل إسماع الحضور، ولعدم وجود مكبرات في الصوت في ذلك الحين .
الأمر الثاني : أن هناك رفعاً للصوت مستحباً حال الخطبة بحيث يبالغ في رفعه، وذلك أمر زائد على مجرد الإسماع ، بل هو مقترن بالغضب والفزع والإنذار ، وهذا لا يكون في جميع الخطبة . والعلم عند الله تعالى .

58-

قراءة سورة ( ق ) وهل تقرأ في كل جمعة أم لا ؟
ثبت عند مسلم في صحيحه من حديث أم هشام بنت حارثة رضي الله عنها قالت : ما أخذت : { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس ( (736) انظر : صحيح مسلم ( 2/ 595 رقم 873 ) . 736) .
وقد اتفق أهل العلم على مشروعية قراءة سورة ( ق ) على المنبر في خطبة الجمعة ، بل قد ذهب بعض أهل العلم إلى أبعد من ذلك ، حيث قالوا بمشروعية قراءتها في كل جمعة ، وممن ذهب إلى ذلك النووي والصنعاني وغيرهما .
فقد قال النووي عن حديث أم هشام : وفيه استحباب قراءة ( ق ) أو بعضها في كل خطبة ( (737) انظر : شرح النووي على صحيح مسلم ( 6/ 161 ) . 737) . اهـ . وقال الصنعاني بمثل قول النووي ( (738) انظر : سبل السلام ( 2 / 77 ) . 738) .
قلت : ووجه الدلالة على أن المراد عموم الجمع في قول النووي والصنعاني ، هو أن لفظة " جمعة " نكرة في سياق الإثبات ، وهي لا تفيد العموم ، ولكنها أفادت العموم في هذا الحديث بدخول لفظة " كل " عليها ولكن يظهر لي والله أعلم : أن هذا الحديث هو من العام المخصوص ، بدليل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب خطباً كثيرة ليس فيها ذكر سورة ( ق ) .
فقد روى ابن ماجة بإسناد حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوم الجمعة تبارك ، وهو قائم .. ) ( (739) انظر : سنن ابن ماجة ( 1/ 353 رقم 1111 ) . 739) .
ورواه أحمد بلفظ (( قرأ يوم الجمعة براءة وهو قائم )) ( (740) انظر : مسند أحمد ( 5 / 143 ) . 740) .
وروى أبو داود في سننه عن أبي سعيد قال : (( قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ( ص ) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه )) ( (741) انظر : سنن أبي داود ( 2/ 123 رقم 1410 ) . 741) قال العراقي : وإسناده صحيح . نقل ذلك الشوكاني في نيل الأوطار ( (742) انظر : نيل الأوطار ( 3 / 303 ) . 742).

وقال الشوكاني بعد ذكر أحاديث كثير لا تخلو من مقال في قراءة سورة من القرآن على المنبر ما نصه : والظاهر من أحاديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يلازم قراءة سورة أو آية مخصوصة في الخطبة ، بل كان يقرأ مرة هذه السورة ومرة هذه ، ومرة هذه الآية ومرة هذه ( (743) المصدر السابق . 743) . والله أعلم .
59-

تلفظ الخطيب بقوله : ( سيدنا محمد ) في الخطبة
اعتاد بعض الخطباء في خطبهم حين الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا : اللهم صل على سيدنا محمد .. الخ .
والحاصل : أن لفظة سيدنا لم ترد في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ، ولكن لو أتى بعضهم بلفظة ( سيدنا ) حال التشهد في الخطبة ، كأن يقول : وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، لكان أخف من الأول ؛ لأنه ليس من باب الصلاة عليه ، وإنما هو من باب الشهادة والإخبار .
ثم إن هذا الأمر الثاني يعترضه حالتان :
الحالة الأولى : جوازه على الإطلاق ، لقوله صلى الله عليه وسلم (( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة )) رواه مسلم( (744) انظر : صحيح مسلم ( 4/ 1782 رقم 2278 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . 744) .
ولكن يشكل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا تفضلوني على موسى .... )) الحديث . أخرجاه في الصحيحين ( (745) صحيح : أحاديث الأنبياء ، باب 35 رقم ( 3414 ) ، صحيح مسلم ( 4/ 1844 رقم 2373 ) . 745) .
والجواب عن هذا : هو أن النهي إنما هو في التفصيل على وجه التخصيص ، أي لا يفضل بعض الرسل على بعض بعينه ، بخلاف قوله : (( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة )) ( (746) أخرجه مسلم ( 4/ 1782 رقم 2278 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . 746) فإنه تفضيل عام فلا يمنع منه ( (747) انظر : شرح الطحاوية ص ( 113 ) . 747) .

الحالة الثانية : أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : أنت سيدنا فقال : (( السيد الله تبارك وتعالى )) رواه أبو داود بسند جيد ( (748) انظر : سنن أبي داود ( 5 / 154 رقم 4806 ) . 748) .
وقد قال ابن القيم في بدائع الفوائد : اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر ، فمنعه قوم ، ونقل عن مالك ، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (( لما قيل له ( يا سيدنا ) قال : السيد الله تبارك وتعالى )) وجوَّزه قوم ، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار (( قوموا إلى سيدكم )) ( (749) انظر : رواه البخاري ، كتاب الجهاد ، حديث رقم ( 3043 ) . 749) وهذا أصح من الحديث الأول ( (750) انظر : فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص ( 705 ) . 750) . اهـ .
وقد سئل العلامة بن إبراهيم مفتي الديار السعودية رحمه الله عن الإتيان بلفظة ( سيدنا محمد ) في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فقال ما خلاصته : لا يخفى أن الاقتصار على ما ورد في الأحاديث ، وما جاء عن سلف هذه الأمة وأئمتها أولى وأفضل وأكمل ، ولاسيما إذا كان ذلك في نفس الصلاة ، فلا ينبغي أن يأتي في الصلاة بألفاظ غير ما ورد . فإن كان خارج الصلاة فهو أيسر ، وتركه أولى على كل حال . وعلى كل فهذه الكلمة لم ترد عن السلف ، فمن تركها فقد أحسن ، ومن قالها فلا ينهى عنها نهياً مطلقاً ، بل يرغب بما هو الأفضل ، وهذا لا يغض من قدر نبينا صلوات الله وسلامه عليه ، فإن له عند المسلمين من المنزلة والمحبة والتعزير والتوقير ما لا يعلمه إلا الله - بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم - وهو بلا شك سيدنا وسيد جميع الخلق ، ولكن اقتران هذه الكلمة بالصلاة عليه دائماً باستمرار لا نراه ، لأنه لم يرد بهذه الصفة . والله أعلم ( (751) انظر : فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم ( 3 / 18 ) . 751) . اهـ .

60-

استحباب قول : (( أما بعد )) في الخطبة
ذهب جماعة من المحققين إلى استحباب قول الخطيب بعد الحمد والثناء :"أما بعد" ( (752) انظر : صحيح البخاري ، كتاب الجمعة ، باب رقم ( 29 ) . 752) ، وذلك تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وقد قال بذلك جماعة من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية ( (753) انظر : غاية المرام ( 7 / 180 ) . 753) ، وتلميذه ابن القيم ( (754) انظر : زاد المعاد ( 1 / 186 ، 426 ) . 754) .
فقد قال شيخ الإسلام : ويخاطب الناس بقوله : أما بعد . اهـ .
وبه قال النووي ( (755) انظر : شرح النووي ( 6 / 156 ) . 755) ، والحافظ ابن حجر ( (756) انظر : فتح الباري ( 2 / 406 ) . 756) ، والصنعاني ( (757) انظر : سبل السلام ( 2 / 48 ) . 757) ، وجماعة .
وقد عقد البخاري في صحيحه باباً في استحبابه فقال : " باب من قال في الخطبة بعد الثناء : " أما بعد ( (758) انظر : صحيح البخاري : كتاب الجمعة ، باب ( 29 ) . 758) " وذكره فيه جملة من الأحاديث .
قال الصنعاني: وظاهره أنه صلى الله عليه وسلم كان يلازمها في جميع خطبه.اهـ( (759) انظر : سبل السلام ( 2 / 48 ) .759)
قال الحافظ ابن حجر : وقد كثر استعمال المصنفين لها بلفظ ((وبعد)) ومنهم من صدر بها كلامه فيقول في أول الكتاب: أما بعد حمد الله فإن الأمر كذا ولا حجر في ذلك( (760) انظر : الفتح ( 3 / 69 ) . 760) اهـ
قال سيبويه : " أما بعد " معناها مهما يكن من شيء بعد .
وقال أبو إسحاق الزجاج : إذا كان الرجل في حديث فأراد أن يأتي بغيره قال : أما بعد ، وهو مبني على الضم ، لأنه من الظروف المقطوعة عن الإضافة ( (761) انظر : شرح ابن عقيل ( 2 / 332 ) وفتح الباري ( 3 / 67 ) . 761) .
قلت : وقد اختار ابن مالك ما ذهب إليه سيبويه فقال في الخلاصة :
أما كمهما يكن من شيء وفا *** لتلو تلوها وجوباً ألفاً ( (762) انظر : شرح ابن عقيل ( 2 / 332 ) . 762)

وقد اختلف أهل العلم في أول من قالها فقيل : داود عليه السلام فيما رواه الطبراني عن أبي موسى الأشعري ( (763) انظر : الأوائل للطبراني ( ص 68 رقم 40 ) . 763) ، وفي إسناده ضعف ، كما قال الحافظ في الفتح ( (764) انظر : فتح الباري ( 3 / 67 ) . 764) .
وقيل : أنه يعقوب عليه السلام ، رواه الدار قطني في غرائب مالك كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر . وقيل غير ذلك .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : والأول أشبه ( (765) انظر : المصدر السابق . 765) . اهـ . يعني داود عليه السلام ، وعلى هذا جماعة من المفسرين .
61-

حكم التابع لكلمة : (( أما بعد ))
إن بعض الخطباء يوردون هذه الكلمة في افتتاح خطبهم ولكنهم لا يتبعونها بالفاء على الدوام أو في أكثر الأحيان . فمثلاً يقول بعضهم : أما بعد ، أيها الناس . ولعل الأظهر في هذا أن يقال : أما بعد ، فيا أيها الناس لأمرين :
الأمر الأول :
أنه هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه حيث كان يقول في خطبته (( أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله .. )) الحديث رواه مسلم والنسائي من حديث جابر ( (766) صحيح مسلم : الجمعة ( 2 / 592 رقم 867 ) سنن النسائي ( 3 / 153 ) . 766) .
الأمر الثاني :
أنه هو المقدم عند بعض المحققين من النحويين . فقد قال ابن مالك في الخلاصة :
أما كمهما يكن من شيء وفا *** لتلو تلوها وجوباً ألفاً
أي أن الفاء تأتي تالية لكلمة ( بعد ) التي هي تلي كلمة ( أما ) وأن هذا يكون للوجوب كما هو مألوف . هذا معنى ما أراده ابن مالك هنا .

وقد خالفه في ذلك ابن عقيل فذكر في شرحه أن هذه الفاء تأتي بقلة كقوله صلى الله عليه وسلم : (( أما بعد ، ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله )) رواه البخاري ( (767) صحيح البخاري : الشروط ، ( باب رقم 2729 ) . 767) . وقال بعض أهل العلم : إن هذا الحديث جاء على تقدير القول . والتقدير هو : أما بعد ، فأقول ما بال رجال ... ( (768) انظر : شرح ابن عقيل ( 2 / 332 ) . 768) الحديث ، والعلم عند الله تعالى .
62-

بماذا تضبط كلمة وخير ( الهدي ) هدي محمد صلى الله عليه وسلم ؟
للخطباء حول نطق كلمة ( الهدي ) توجهان ، فالبعض منهم ينطقها بفتح الهاء وسكون الدال ، والبعض الآخر ينطقها بضم الهاء وفتح الدال ، والواقع أن كلا النطقين صحيح حسب ما ذكره أهل العلم في هذا ، حيث إن كلامهم عن هذه المسألة منطلق من حديث قد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبدالله قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه ، وعلا صوته ، واشْتد غضبه حتّى كأنه منذِرُ جيش ، يقول : صبَّحكم ومسَّاكم . ويقول : (( بعثت أنا والساعة كهاتين )) ويقرن بين إصبعيه السَّبابة والوسطى . ويقول : أما بعد ، فإن خير الحديث كتابُ الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ، ثم يقول : (( أنا أوْلى بكل مؤمن من نفسه ، فمن ترك مالاً فلأهله ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ وعليَّ )) ( (769) انظر : صحيح مسلم ( 2 / 592 رقم 867 ) . 769) .

وقال القاضي عياض : رويناه هنا - أي في مسلم - بضم الهاء فيهما وفتح الدال ، فمعناه الدلالة ، وروينا الحرف في غير الكتاب : (( خير الهَدْي )) فتح الهاء فيها وسكون الدال . وفي هذا الكتاب أدخله الهروي وفسره بالطريق ، أي أن أحسن الطريق طريق محمد ، يقال : فلان حسن الهَدْي ، أي الطريقة والمذهب في الأمور كلها والسيرة ومنه (( اهدوا هدي عمار )) ( (770) انظر : إكمال المعلم ( 3 / 269 ) . 770) . اهـ .
قال النووي رحمه الله : وقوله "خير الهُدَى هُدَى محمد" هو بضم الهاء وفتح الدال فيهما ، وبفتح الهاء وإسكان الدال أيضاً ضبطناه بالوجهين، وكذا ذكره جماعة بالوجهين( (771) انظر : شرح مسلم للنووي ( 6 / 220 ) . 771). اهـ . وقال : وكلاهما صحيح ، فمن فتح فمعناه الطريقة والأخلاق ، ومن ضمَّ فمعناه الإرشاد ( (772) انظر : المجموع ( 4 / 346 ) ، وانظر : النهاية ( 5 / 253 ) . 772) . اهـ .
63-

أمر الخطيب للداخل أن يصلي ركعتين
قد يلاحظ الخطيب أثناء خطبته مصلين يدخلون المسجد بعد ابتدائه بالخطبة ، ثم يجلسون ولا يصلون ركعتين تحية المسجد ، فهل للخطيب أن يقطع خطبته ويأمر الداخل بأن يصلي ركعتين أو لا ؟ .
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين :
القول الأول :
قالوا : على الخطيب إذا رأى الداخل قد جلس فلم يصل ركعتين أن يأمره بأن يصليهما . وبهذا قال الشافعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر وغيرهم ( (773) انظر : الأم ( 1 / 339 ) ، المغني ( 3 / 192 ) . 773) .
واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم من حديث جابر بن عبدالله قال : جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة يخطب ، فقال له (( أركعت ركعتين ؟ )) قال : لا ، فقال : (( اركع )) ( (774) انظر : صحيح مسلم ( 2 / 596 رقم 875 ) . 774) .

وبما رواه مسلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما )) ( (775) انظر : صحيح مسلم ( 2 / 597 رقم 875 ) .775) .
القول الثاني :
قالوا : إن الخطيب لا ينبغي له أن يأمر الداخل بصلاة ركعتين ، ولا ينبغي للداخل أن يصلي ركعتين والإمام يخطب . وهذا قول أبي حنيفة ومالك وغيرهما ( (776) انظر : البدائع ( 2 / 199 ) ، المعونة ( 1 / 308 ) . 776) .
ودليلهم في ذلك هو قوله تعالى : { فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } سورة الأعراف ، آية ( 204 ) والصلاة تفوِّت الاستماع والإنصات ، فلا يجوز ترك الفرض لإقامة السنة ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذين جاء يتخطى رقاب الناس (( اجلس فقد آذيت وآنيت )) رواه ابن ماجة ( (777) انظر : سنن ابن ماجه ( 1 / 354 رقم 1115 ) . 777) . قال البوصيري في زوائد سنن ابن ماجه : هذا إسناد رجاله ثقات ، وله شاهد من حديث عبدالله بن بسر رواه أبو داود والنسائي والبيهقي ( (778) انظر : مصباح الزجاجة ( 1 / 210 ) ، سنن النسائي ( 1 / 499 رقم 1711 ) السنن الكبرى ( 3 / 493 ) . 778) .
واحتجوا كذلك بما رواه الطبراني من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إذا دخل أحدكم المسجد والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام )) قال الهيثمي : وفيه أيوب بن نهيك ، وهو متروك ضعَّفه جماعة وذكره ابن حبان في الثقات وقال : يخطئ ( (779) انظر : مجمع الزوائد ( 2 / 184 ) . 779) . اهـ .
قلت : ولكن هذا القول خلاف الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والتي هي نص المسألة .
وأما حديث أمره للرجل بقوله : " اجلس " فهو قضية عين ، يحتمل أن يكون الموضع يضيق عن الصلاة ، أو يكون في آخر الخطبة بحيث لو تشاغل للصلاة فاتته تكبيرة الإحرام ، كما ذكر ذلك ابن قدامة ( (780) انظر : المغني ( 3 / 193 ) . 780) .

قلت : ويزاد على قول ابن قدامة ، أن هذا الداخل ربما كان قد صلى ثم قام فتقدم وتخطى رقاب الناس .
وأما حديث ابن عمر فقد قال عنه النووي : غريب ، ولو صحَّ لحمل على ما زاد على ركعتين جمعاً بين الأحاديث ( (781) انظر : المجموع ( 4 / 385 ) . 781) . اهـ .
64- إذا كان الخطيب مبتدعاً فما حكم الصلاة خلفه ؟ :
قال في نهاية المحتاج : ويحرم على الإمام كما قاله الماوردي نصب الفاسق إماماً في الصلوات ؛ لأنه مأمور بمراعاة المصالح ، وليس منها أن يوقع الناس في صلاة مكروهة ( (782) نهاية المحتاج ( 2 / 180 ) . 782). اهـ
وقد اتفق أهل العلم على أنه لا تجوز الصلاة خلف الكافر ، ولا خلف المبتدع الذي يكفر ببدعته، ثم اختلفوا في حكم إعادة الصلاة، والصحيح في ذلك وجوب الإعادة كما ذكر ذلك النووي، وابن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية ( (783) انظر : المجموع ( 4 / 251 ) ، المغني ( 3 / 17 ) ، مجموع الفتاوى ( 23 / 345 ) . 783)، وغيرهم .
وأما إذا كان الخطيب مبتدعاً بدعة لا تخرجه من الملة، فإليك أقوال أهل العلم في هذا المسألة:
قال الشافعي رحمة الله : ومن صلى صلاة من بالغ مسلم يقيم الصلاة أجزأته ومن خلفه صلاتهم ، وإن كان غير محمود الحال في دينه ، أي غاية بلغ يخالف الحمد في الدين ، وقد صلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خلف من لا يحمدون فعاله من السلطان وغيره( (784) انظر : الأم ( 1 / 284 ) . 784) .ا هـ
قال الماوردي معلقاً على كلام الشافعي السابق : وهذا صحيح ، وقد نص الكلام عليه ، وذكرنا أن من ائتم بفاسق لم يعد وأجزأته صلاته إذا لم يخرج نفسه من الملة...؛ ولأن كل من صحت إمامته في النافلة صحت في الفريضة كالعدل. وروى جعفر بن محمد أنه قيل له : أكان الحسن والحسين إذا صليا خلف مروان بن الحكم يعيدان الصلاة ؟ فقال: لا، ما كانا يزيدان على الصلاة معه غير النوافل( (785) انظر : الحاوي الكبير ( 2 / 353 ) . 785) .ا هـ

وروى النسائي بسنده عن أبي العالية قال : أخَّر زياد الصلاة فأتاني ابن صامت فألقيت له كرسيّاً فجلس عليه ، فذكرت له صنع زياد فعضَّ على شفتيه وضرب على فخذي وقال : إني سألت أبا ذركما سألتني فضرب فخذي كما ضربت فخذك وقال: إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فضرب فخذي كما ضربت فخذك، فقال عليه الصلاة والسلام : ((صلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركت معهم فصلِّ ، ولا تقل إني صليت فلا أصلي)) ( (786) انظر : سنن النسائي : الإمام ، باب الصلاة مع أئمة الجور رقم ( 779 ) . 786).
وقد روى البيهقي في باب الصلاة خلف من لا يحمد فعله بسنده عن عبد الكريم البكاء قال : " أدركت عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يصلي خلف أئمة الجور( (787) انظر : السنن الكبرى ( 3 / 174 ) . 787) " .
وقد بوَّب ابن المنذر في كتابه الأوسط باباًً فقال : ذكر وجوب حضور الجمعة الأئمة الجور والصلاة خلفهم، ثم قال: قال جلَّ ذكره: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } الآية ، سورة الجمعة ، آية ( 9 ) . فظاهر هذه الآية توجب السعي إذا نودي للصلاة من الجمعة في كل وقت وزمان، ليس لأحد أن يستثني وقتاً دون وقت ، ولا إماماً دون إمام إلا بحجة، وقال عثمان بن عفان وهو محصور: إن الصلاة من أحسن ما عمل الناس فإذا أحسنوا فأحسن، وإذا أساءوا فلا تسئ، وقال أبو عبيد: شهدت العيد مع علي وعثمان محصور ، واعتزل ابن عمر منى في قتال ابن الزبير، فصلى مع الحجاج، وقال ابن عمر: الصلاة حسنة لا أبالي من يشاركني فيها. والأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن التابعين في هذا الباب تكثر.( (788) الأوسط ( 4 / 113 ) . 788) ا هـ

وقال النووي : ولم يزل السلف والخلف يرون الصلاة وراء المعتزلة ونحوهم، ومنا كحتهم ، وموارثتهم ، وإجراء سائر الأحكام عليهم ... قال ابن المنذر: أجاز الشافعي الصلاة خلف من أقامها- يعني من أهل البدع - وإن كان غير محمود في دينه، وأن حاله أبلغ في مخالفة حد الدين . هذا لفظه. قال ابن المنذر : إن كفر ببدعة لم تجز الصلاة وراءه ، وإلا فتجوز وغيره أولى ( (789) انظر : المجموع ( 4 / 254 ) . 789) . اهـ
وقال في نهاية المحتاج : والعدل أولى بالإمامة من الفاسق ... وإنما صحت - أي إمامة الفاسق-لخبر الشيخين أن ابن عمر كان يصلي خلف الحجاج، قال الإمام الشافعي: وكفى به فاسقاً . وتكره - أي الصلاة - خلفه وخلف مبتدع لا يكفر ببدعته ( (790) انظر : نهاية المحتاج ( 2 / 179 ) . 790). اهـ
قال ابن قدامة : فأما الجمع والأعياد فإنها تصلى خلف كل بر وفاجر . وقد كان أحمد يشهدها مع المعتزلة، وكذلك العلماء الذين في عصره... قال أحمد : أما الجمة فينبغي شهودها، فإن كان الذي يصلي منهم أعاد ، وروي عنه أنه قال: من أعاد فهو مبتدع . وهذا يدل بعمومه على أنها لا تعاد خلف فاسق ولا مبتدع ؛ لأنها صلاة أمر بها ، فلم تجب إعادتها كسائر الصلوات( (791) انظر : المغني ( 3 / 22 ) . 791) .اهـ
قلت : وأما ما عدا الجمعة والأعياد فقد فرَّق ابن قدامة فيها بين منْ يظهر بدعته ويدعو إليها فعليه الإعادة، وبين من لم يظهر ذلك فلا إعادة على المؤتم به... الخ ( (792) انظر : المغني ( 3 / 17 ) .792) . اهـ.
وقال المرداوي : لو غلب الخوارج على بلد ، فأقاموا فيه الجمعة، فنصَّ أحمد على جواز. اتباعهم . قاله ابن عقيل . قال القاضي : ولو قلنا : من شرطها الإمام ، إذا كان خروجهم بتأويل سائغ . وقال ابن أبي موسى : إذا غلب الخارجي على بلد وصلى فيه الجمعة ، أعيدت ظهراً .( (793) انظر : الإنصاف ( 5 / 247 ) . 793) اهـ

وذكر المرغيناني في الهداية أن المذهب عند الحنفية هو صحة الصلاة خلف الفاسق مطلقاً( (794) انظر : الهداية ( 1 / 57 ) . 794) . اهـ
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الصلاة خلف المبتدع ، فأجاب قائلاً: ولو علم المأمون أن الإمام مبتدع يدعو إلى بدعته ، أو فاسق ظاهر الفسق ، وهو الإمام الذي لا تمكن الصلاة إلا خلفه، كإمام الجمعة والعيدين ، والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك ، فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف ، وهو مذهب أحمد ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وغيرهم . ولهذا قالوا في العقائد : إنه يصلي الجمعة والعيد خلف كل إمام برّاً كان أو فاجراً .
وقال شيخ الإسلام أيضاً : ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة .. فإن الصحابة كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون ، كما كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج ، وابن مسعود وغيره يصلون خلف الوليد ابن عقبة ، وكان يشرب الخمر ، حتى إنه صلى بهم مرة الصبح أربعاً ثم قال : أزيدكم ؟ فقال ابن مسعود : ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة ، ولهذا رفعوه إلى عثمان . وفي صحيح البخاري ( (795) انظر : صحيح البخاري : كتاب الأذان باب ( 56 رقم 695 ) . 795) أن عثمان رضي الله عنه لما حُصر صلى بالناس شخص فسأل سائل عثمان فقال : إنك إمام عامة وهذا الذي يصلي بالناس إمام فتنة ؟ فقال : يا ابن أخي ، إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس ، فإذا أحسنوا فأحسن معهم ، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم ، ومثل هذا كثير ( (796) انظر : مجموع الفتاوى ( 23 / 353 ) . 796) . اهـ .
وسئل أيضاً عن خطيب قد حضر صلاة الجمعة فامتنعوا عن الصلاة خلفه لأجل بدعة فيه ... ؟

فأجاب : ليس لهم أن يمنعوا أحداً من صلاة العيد والجمعة وإن كان الإمام فاسقاً ، وكذلك ليس لهم ترك الجمعة ونحوها لأجل فسق الإمام ، بل عليهم فعل ذلك خلف الإمام وإن كان فاسقاً ، وإن عطلوها لأجل فسق الإمام كانوا من أهل البدع ، وهذا مذهب الشافعي ، وأحمد ، وغيرهما . وإنما تنازع العلماء في الإمام إذا كان فاسقاً أو مبتدعاً وأمكن أن يصلي خلف عدل . فقيل : تصح الصلاة خلفه وإن كان فاسقاً . وهذا مذهب الشافعي ، وأحمد في إحدى الروايتين ، وأبي حنيفة ، وقيل : لا تصح خلف الفاسق إذا أمكن الصلاة خلف العدل ، وهو إحدى الروايتين عن مالك وأحمد ( (797) انظر : مجموع الفتاوى ( 23 / 360 ) . 797) . والله أعلم . اهـ .
قال أبو جعفر الطحاوي في معتقده : (( ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم )) اهـ .
قلت : وقد شرح ابن أبي العز الحنفي هذا الكلام بنفس كلام شيخ الإسلام السابق فارجع إليه في شرحه للطحاوية ( (798) انظر : العقيدة الطحاوية لأبي العز الحنفي ص ( 357 ) . 798) .
وقد روى ابن أبي شيبة بسنده عن الأعمش قال : كان أصحاب عبدالله يصلون مع المختار الجمعة ويحتسبون بها .
وروى بسنده أيضاً : أن أبا وائل جمع مع المختار ( (799) انظر : مصنف ابن أبي شيبة ( 2 / 148 ) . 799) . اهـ .
65-

إذا كان الخطيب من مذهب غير مذهب المأمومين
لقد تكلم بعض أهل العلم عن هذه المسألة في كتبهم ، وأسهبوا في ذكرها مع نقل الأدلة وأقوال السلف في ذلك ، ولعل من المناسب هنا أن أختصر ما ذكره أهل العلم في ذلك من خلال نقل كلام شيخ الإسلام حول هذه المسألة ، فقد جمع فيها فأوعى حيث قال بعد سؤاله عن مثل هذا ؟ أي عن صلاة الرجل خلف إمام من مذهب غير مذهبه .

فأجاب بما حاصله : الحمد لله . نعم تجوز صلاة بعضهم خلف بعض ، كما كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، ومن بعدهم من الأئمة الأربعة ، يصلي بعضهم خلف بعض ، مع تنازعهم في هذه المسألة المذكورة وغيرها ، ولم يقل أحد من السلف : إنه لا يصلي بعضهم خلف بعض ، ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة ، وإجماع سلف الأمة وأئمتها ، وقد كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم : منهم من يقرأ البسملة ومنهم من لا يقرؤها ، ومنهم من يجهر بها ومنهم من لا يجهر بها ، وكان منهم من يقنت في الفجر ومنهم من لا يقنت ، ومنهم من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ... ومع هذا كان يصلي بعضهم خلف بعض مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سرّاً ولا جهراً ، وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ ، فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد .
وكان أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الحجامة والرعاف ، فقيل له : فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ تصلي خلفه ؟ فقال : كيف لا ؟! أصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك ( (800) انظر : مجموع الفتاوى ( 23 / 373 ) . 800) . اهـ .
ثم قال أيضاً : وبالجملة فهذه المسائل لها صورتان :
إحداهما : ألا يعرف المأموم أن إمامه فعل ما يبطل الصلاة ، فهنا يصلي المأموم خلفه باتفاق السلف والأئمة الأربعة وغيرهم . وليس في هذا خلاف متقدم ، وإنما خالف بعض المتعصبين من المتأخرين فزعم أن الصلاة خلف الحنفي لا تصح وإن أتي بالواجبات ، لأنه أداها وهو لا يعتقد وجوبها .. ولهذا لا يعتد بخلاف مثل هذا فإنه ليس من أهل الاجتهاد .

الصورة الثانية : أن يتيقن المأموم أن الإمام فعل ما لا يسوغ عنده ، مثل أن يمس ذكره ، أو النساء بشهوة ، أو يحتجم أو يفتصد ، أو يتقيأ ، ثم يصلي بلا وضوء ، فهذه الصورة فيها نزاع مشهور : فأحد القولين : لا تصح صلاة المأموم ، لأنه يعتقد بطلان صلاة إمامه كما قال ذلك من قاله من أصحاب أبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد .
والقول الثاني : تصح صلاة المأموم ، وهو قول جمهور السلف وهو مذهب مالك ، وهو القول الآخر في مذهب الشافعي وأحمد بل وأبي حنيفة ، وأكثر نصوص أحمد على هذا ، وهذا هو الصواب لما ثبت في الصحيح ( (801) انظر : صحيح البخاري : الأذان ، باب ( 55 رقم 694 ) . 801) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم ، وإن أخطأوا فلكم وعليهم )) ( (802) انظر : الفتاوى ( 23 / 373 ) . 802) . اهـ .
66-

حكم النعي على المنبر
النعي هو : خبر الموت يقال : نعاه نعياً بالضم ، والناعي هو الذي يأتي بخبر الموت فيذيع به ويخبر به ويندبه ، والمشهور في العربية أن العرب كانوا إذا مات منهم شريف أو قتل بعثوا راكباً إلى القبائل ينعاه إليهم يقول : نعاءِ فلاناً أو يا نعاء العرب : أي هلك فلان ( (803) انظر : الصحاح ( 5 / 994 مادة نعى ) ، النهاية ( 5 / 73 ) . 803) .
ثم اعلم أن هذه المسألة - أي النعي على المنبر - متفرعة عن أصلها وهي حكم النعي في الإسلام ، وحاصل كلام أهل العلم حول النعي هو كالتالي :
روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة من حديث حذيفة رضي الله عنه: (( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن النعي )) ( (804) انظر : مسند أحمد ( 5 / 406 ) جامع الترمذي ( 3 / 313 رقم 986 ) سنن ابن ماجه ( 1 / 474 رقم 1476 ) . 804) قال الحافظ ابن حجر : إسناده حسن ( (805) انظر : الفتح ( 3 / 453 ) . 805) .

وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إياكم والنعي ، فإن النعي عمل الجاهلية )) . رواه الترمذي ( (806) انظر : جامع الترمذي ( 3 / 312 رقم 984 ) . 806) مرفوعاً هكذا ، ورواه موقوفاً وذكر أنه أصح .
قال الشوكاني : " حديث ابن مسعود في إسناده أبو حمزة ميمون الأعور وليس بالقوى عند أهل الحديث ، وقد اختلف في رفعه ووقفه ، ورجَّح الترمذي وقفه وقال : إنه حديث غريب ( (807) انظر : نيل الأوطار ( 4 / 62 ) . 807) .
ثم إن الترمذي قد فسر النعي بأنه عندهم أن ينادي في الناس أن فلاناً مات ليشهدوا جنازته . وقال بعض أهل العلم : " لا بأس أن يعلم الرجل أهل قرابته " ، وروي عن إبراهيم أنه قال : " لا بأس بأن يعلم الرجل قرابته ( (808) انظر : جامع الترمذي المصدر السابق . 808) . اهـ .
قال الحافظ ابن حجر : " إنما نهى عما كان أهل الجاهلية يصنعونه ، فكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق " ( (809) انظر : الفتح ( 3 / 453 ) . 809) . اهـ .
قلت : هذا فيما يخص المنع من العني . وهناك ما يدل على الإذن فيه ، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه ، خرج إلى المصلى فصف بهم وكبَّر أربعاً))( (810) صحيح البخاري : الجنائز ، باب 4 ( رقم 1245 ) ، صحيح مسلم ( 2 / 656 رقم 951 ) . 810).
وأخرج البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم (( أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذها جعفر فأصيب ، ثم أخذها عبدالله بن رواحة فأصيب - وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان ( (811) تذرفان : ذَرَفت العين تذْرف إذا جرى دمعها . النهاية ( 2 / 159 ) . 811) - ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له )) ( (812) صحيح البخاري المصدر السابق رقم ( 1246 ) . 812) .

وللجمع بين أحاديث المنع وأحاديث الإذن يقول الحافظ ابن حجر : (( ليس ممنوعاً كله " ، ثم ذكر عن ابن المرابط قوله : " إن النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح وإن كان فيه إدخال الكرب والمصائب على أهله ، لكن في تلك المفسدة مصالح لما يترتب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته وتهيئة أمره ، والصلاة عليه ، والدعاء له ، والاستغفار ، وتنفيذ وصاياه ، وما يترتب على ذلك من الأحكام .
وأما نعي الجاهلية فقال سعيد بن منصور أخبرنا ابن علية عن ابن عون قال : قلت لإبراهيم : " أكانوا يكرهون النعي ؟ قال : نعم . قال ابن عوف : كانوا إذا توفي الرجل ركب رجل دابة ثم صاح في الناس : أنعي فلاناً " .
قال الحافظ ابن حجر: وحاصله أن محض الإعلام بذلك لا يكره . فإن زاد على ذلك فلا .
قال ابن العربي : يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات :
الأولى : إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح ، فهذا سنة .
الثانية : دعوة الحفل للمفاخرة فهذه تكره .
الثالثة : الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يحرم ( (813) انظر : الفتح ( 3 / 453 ) سبل السلام ( 2 / 189 ) نيل الأوطار ( 4 / 62 ) . 813) .
وقال الصنعاني رحمه الله : " ومنه النعي من أعلى المنارات كما يعرف في هذه الأعصار في موت العظماء ( (814) انظر : سبل السلام ( 2 / 190 ) ، الإبداع ص ( 167 ) . 814) " . اهـ .
وقال سماحة شيخنا العلامة عبدالعزيز بن باز حينما سئل عن حكم النعي في الجرائد فأجاب : " هو محل نظر ؛ لما فيه من التكلف غالباً ، وقد يباح إذا كان صدقاً وليس تكلفاً ، وتركه أولى وأحوط ( (815) انظر : فتاوى ابن باز ( 13 / 408 ) . 815) . اهـ .
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز وعضوية الشيخ عبدالله بن غديان والشيخ عبدالله بن قعود عن حكم الإعلان بوفاة ميت على سبورة موضوع في المسجد .

فأجابت اللجنة : " لا ينبغي اتخاذ لوحة في المسجد للإعلان فيها عن الوفيات وأشباهها ، ذلك لأن المساجد لم تبن لهذا ( (816) فتاوى اللجنة الدائمة ( 9 / 142 ) . 816) . اهـ .
وقال العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية رحمه الله حينما سئل : " إذا وقف على أهل المسجد وقال : فلان مات . فقال : هذا من نعيه ( (817) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم ( 3 / 184 ) . 817) " . اهـ .
وقد تحدث الشيخ الألباني معدداً ما يحرم على أهل الميت ، فذكر من ذلك : الإعلام عن موته على رؤوس المنابر ونحوها ، لأنه من النعي ... ( (818) انظر : أحكام الجنائز ص ( 44 ) . 818) .
قلت : هذا خلاصة حاصل هذه المسألة حول النعي عموماً ، ويفهم من ذلك أن المساجد ليست محلاً للنعي فضلاً عن أن يكون في الخطبة أيضاً والتي هي الحمد والثناء والوعظ والتذكير . فالذي يظهر - والله أعلم - أنه لا يجوز الإعلان عن الوفاة من قبل الخطيب للأدلة الماضية وأقوال أهل العلم فيها ، ولئلا تكون ذريعة إلى صيرورة المنابر محلاً لنعي الموتى فيتسع الأمر إلى أن يصبح عادة ، فتطغي على ما شرعت الخطبة لأجله ، وإن كان ثم استثناء للنعي في هذه المسألة فإنه يكون لموت العظماء كالسلاطين والعلماء ممن لهم بين المسلمين عموماً فضل ولاية أو إمامة علم ، كما قالوا مثل ذلك في الصلاة على الغائب، والعلم عند الله تعالى.
67-

رثاء الميت على المنبر
هذه المسألة تختلف عن مسألة النعي السابقة ؛ لأن النعي هو الإخبار بالوفاة ، وأما الرثاء فهو تعداد محاسن المتوفى وذكر فضائله . والرثاء من رثيت الميت مرثية ورثوته أيضاً ، إذا بكيته وعددت محاسنه ، وكذلك إذا نظمت فيه شعراً ( (819) انظر : الصحاح ( 5 / 1876 مادة رثى ) النهاية ( 2 / 180 ) . 819) .

ثم إن طبيعة العربي تميل إلى كونه حساساً إلى درجة أن ألم الفَقْدِ يدفعه فينطق لسانه ببيان محامد من فقده ، وموضع الآلام في نفسه ، والرثاء ميدان واسع للقول البليغ ، يكشف فيه اللسان عن ألم اللوعة وحزها في النفس ، إذ ينفتق بما انفطر به القلب ، وانشقت المرائر لاسيما إذا كان المتوفى من العظماء المخلصين من الولاة والعلماء ممن تثلب الأمة بوفاتهم .
والواقع أنني لم أقف على ما يكون شافياً كافياً من كلام أهل العلم حول هذه المسألة التي هي رثاء الميت ، غير أنها قد تندرج في كلامهم بعض الأحيان من خلال حديثهم عن مسألة النياحة والحديث عنها . وسأذكر هنا ما وقفت عليه من كلام أهل العلم على وجه الاختصار للإفادة ؛ فأقول وبالله التوفيق :
قال البخاري في صحيحه: باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد ابن خولة ( (820) انظر : صحيح البخاري : الجنائز ، باب ( 36 رقم 1295 ) . 820) .
وذكر بسنده عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي ، فقلت : إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة ، أ فأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : لا . فقلت: بالشطر ؟ فقال : لا . ثم قال : الثلث والثلث كبير - أو كثير - إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها ، حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك ، فقلت : يا رسول الله ، أخلف بعد أصحابي ؟ قال : (( إنك لن تخلف فتعمل عملاً صالحاً إلا ازددت به درجة ورفعة ، ثم لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ، اللهم امض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم ، لكن البائس سعد ابن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة " .

قال الحافظ ابن حجر : " الرثاء بكسر الراء وبالمثلثة بعدها مدة ، مدح الميت وذكر محاسنه . قال الإسماعيلي معترضاً على البخاري : " ليس هذا من مراثي الموتى ، وإنما هو من التوجع ، يقال : رثيته إذا مدحته بعد موته ، ورثيت له إذا تحزنت عليه " ( (821) انظر : الفتح ( 3 / 513 ) . 821) . اهـ .
قال الحافظ : " ويمكن أن يكون مراد البخاري هذا بعينه كأنه يقول ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو من التحزن والتوجع وهو مباح ، وليس معارضاً نهيه عن المراثي ، التي هي ذكر أوصاف الميت الباعثة على تهيج الحزن وتجديد الولعة " وهذا هو المراد بما أخرجه أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم من حديث عبدالله بن أبي أوفى قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي " ( (822) انظر : مسند أحمد ، ( 4 / 356 ) ، سنن ابن ماجة ( 1 / 507 رقم 1592 ) المستدرك ( 1 / 360 ) . 822) وهو عند ابن أبي شيبة بلفظ : " نهانا عن المراثي " ( (823) مصنف ابن أبي شيبة ( 3 / 392 ) . 823) . ولا شك أن الجامع بين الأمرين التوجع والتحزن ( (824) انظر : الفتح ( 3 / 513 ) . 824) . اهـ .
ونقل ابن الجوزي عن ابن عقيل قال : " حضرنا عزاء رجل قد مات له ولد ، فقرأ المقرئ { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } ، فقلت له : هذه نياحة بالقرآن ( (825) انظر : صيد الخاطر ص ( 107 ) . 825) . اهـ .
وقال جمال الدين القاسمي : " جاء في الفصول من كتب الحنابلة تحريم النحيب وتعداد المحاسن والمزايا وإظهار الجزع ، لأن ذلك يشبه التظلم من الظالم وهو عدل من الله تعالى . وقال الشيخ تقي الدين : وما هيج المصيبة من وعظ أو إنشاد شعر فمن النياحة " . نقله في شرح الإقناع .

وفي فتاوى ابن حجر : إن المراثي التي تبعث على النوح وتجديد الحزن - كما يصنعه الشعراء في عظماء الدنيا ، وينشد في المحافل عقب الموت - فهي نياحة محرمة بلا شك نقله الأذرعي . وقال ابن عبدالسلام : بعض المراثي حرام كالنواح ؛ لما فيه من التبرم بالقضاء ، إلا إذا ذكر مناقب عالم ورع أو صالح للحث على سلوك طريقته وحسن الظن به ( (826) انظر : إصلاح المساجد ص ( 162 ) . 826) " . اهـ.
وفي مسائل أبي داود قال : قلت لأحمد : " أولياء الميت يقعدون في المسجد يعزون ؟ قال : أما أنا فلا يعجبني ، أخشى أن يكون تعظيماً للميت أو قال للموت ( (827) انظر : المسائل والرسائل المرورية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة جمع عبدالله الأحمدي ( 2 / 165 ) . 827) " .
قلت : يفهم من كلام أحمد أن ما كان سبيلاً إلى تعظيم الميت فإنه يتحرج منه ، ومن ذلك التعزية في المسجد ، فمن باب أولى الحديث عنه في المسجد ، أو على المنبر بجامع خشية التعظيم .
وقال سماحة شيخنا العلامة عبدالعزيز بن باز حينما سئل عن القصائد التي فيها رثاء للميت هل هي من النعي المحرم ؟ .
فأجاب : " ليست القصائد التي فيها رثاء للميت من النعي المحرم ، ولكن لا يجوز لأحد أن يغلو في أحد ويصفه بالكذب كما هي عادة كثير من الشعراء ( (828) انظر : فتاوى ابن باز ( 13 / 410 ) . 828) . اهـ .
وقال العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم : "النياحة أنواع: منها تعديد فضائل الميت على وجه التفجع ، ومنها الصراخ والصوت بالبكاء ، ومنه شق الجيوب ، وجعل الرماد على الرأس ، أو حثو التراب أو التخبيط على الجسد ، ونحو ذلك مما يظهر منه الجزع على المصيبة ( (829) انظر : فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم ( 3 / 246 ) . 829) " . اهـ .

وقد تحدث الحافظ ابن حجر حول حديث البخاري في قصة وفاته صلى الله عليه وسلم وقول فاطمة رضي الله عنها : " يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه .. الحديث " ( (830) انظر : صحيح البخاري : المغازي ، باب 83 ( رقم 4462 ) . 830) ، فقال: " ويؤخذ من قول فاطمة .. الخ جواز ذكر الميت بما هو متصف به إن كان معلوماً . قال الكرماني : " ليس هذا من نوح الجاهلية من الكذب ورفع الصوت وغيره ، إنما هو ندبة مباحة ( (831) انظر : الفتح ( 8 / 149 الطبقة السلفية ) وشرح الكرماني ( 16 / 249 ) . 831). اهـ.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن قول فاطمة رضي الله عنها : يا أبتاه .. الخ : استدل به بعض أهل العلم على أن القليل من الندب إن كان على سبيل الحقيقة جاز ( (832) انظر : فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم ( 3 / 246 ) . 832) . اهـ .
قال الشوكاني رحمه الله : " وعلى فرض صدق اسم النوح في لسان الشارع على مثل هذا ، فليس في فعل فاطمة وأبي بكر ( (833) يشير إلى ما رواه أحمد ( 6 / 31 ) عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه ووضع يديه على صدغيه وقال : " وانبياه واخليلاه واصفياه " 833) دليل على جواز ذلك ، لأن فعل الصحابة لا يصلح للحجية كما تقرر في الأصول ، ويحمل ما وقع منهما على أنهما لم يبلغهما أحاديث النهي عن ذلك الفعل ، ولم ينقل أن ذلك وقع منهما بمحضر جميع الصحابة حتى يكون كالإجماع منهم على الجواز لسكوتهم عن الإنكار : والأصل أيضاً عدم ذلك ( (834) انظر : نيل الأوطار ( 4 / 114 ) . 834) " . اهـ .
وقال الشيخ صالح الفوزان : " أما الإعلام بموت الميت على صفة الجزع وتعداد مفاخره ، فذلك من فعل الجاهلية ، ومنه حفلات التأبين وإقامة المآتم ( (835) انظر : الملخص الفقهي د / صالح الفوزان ( 1 / 205 ) . 835) " . اهـ .

قلت : هذا مختصر حول ما يتعلق برثاء الميت ، وهو غير مخصوص بما يكون على المنبر بل هو عام كما ترى .
والذي يظهر لي - والله أعلم - من خلال ما سبق ذكره ، أنه يفرق بين من يرثى بعد وفاته مباشرة على وجه الجزع والتحزن والتضجر ، وذلك يتضح من خلال معاني المراثي سواء ما كان منها شعراً أو نثراً . هذا في الأوقات الاعتيادية ، أما إذا كان على المنابر فيتضح ذلك من خلال عرض الخطيب وأسلوبه في تعداد محاسن الميت ، وذلك برفع الصوت مثلاً أو الصراخ أو البكاء أو الإيضاح بهلاك الناس ، أو ضعيف الدين بعد وفاته ونحو ذلك ، فيحتمل أن يكون هذا النوع من الرثاء أقرب إلى المنع ، وإلى أنه هو المقصود في الحديث ، لاسيما إذا كان فيه مغالاة أو تعظيم خارج عن المقصود كما مرَّ معنا .
وأما إذا كان الرثاء غير متصل بوفاته مباشرة بحيث ليس المراد منه تهييج المصيبة أو إثارة الحزن كما قال شيخ الإسلام ، وإنما المراد منه ذكر فضائله ومحاسنه من باب الدعاء له والتأسي به ، فعلى هذا يحمل قول من أجاز ذلك بهذه الشروط ، ولا شك أن هذه المسألة من الأمور المنتشرة في هذا الوقت . والذي أراه هو المنع من المبالغة في ذلك ، أو اتفاق الخطباء في الخطبة عن أحد الموتى في وقت واحد ، أو أوقات متقاربة خشية الوقوع في الغلو ، لاسيما وأن الخطبة عبادة محضة منع بعض أهل العلم فيها من الدعاء لمعين كسلطان ونحوه . وما ذاك إلا لما يرون من أن الخطبة ليست محلاً للحديث عن أشخاص بأعينهم إذ لم تكن عادة السلف على هذا ، مع ما يكون من وفيات لعظماء الإسلام من خلفاء وأئمة علماء ، فالنعي حينئذ يكون من باب أولى . والله أعلم .
68-

التعريض في الخطبة ومفهومه
التعريض في اللغة من عرَّض ، وهو خلاف التصريح ، يقال : عرَّضت لفلان وبفلان إذا قلت قولاً وأنت تعنيه ، ومنه المعاريض في الكلام ، وهي التورية بالشيء عن الشيء ( (836) انظر : الصحاح ( 3 / 913 مادة عرض ) . 836).

وقال القرطبي في تفسيره : " هو إفهام المعنى بالشيء المحتمل له ولغيره ، وهو من عرض الشيء وهو جانبه ، فكأنه يحوم به على الشيء ولا يظهره " ( (837) انظر : تفسير القرطبي ( 3 / 178 ) . 837) . اهـ .
قلت : المعلوم من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعرض في خطبه ولا يصرح ، والأدلة على هذا متوافرة ، فمنها على سبيل المثال ما رواه البخاري ومسلم من حديث الإفك ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يا معشر المسلمين ، من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، والله ما علمت في أهلي إلا خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً ، وما يدخل على أهلي إلا معي )) الحديث ( (838) انظر : صحيح البخاري كتاب الشهادات ( رقم 2661 ) ، صحيح مسلم : ( 2 / 2129 رقم 2770 ) . 838) .
ومنه ما رواه الشيخان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وفيه (( فقام خطيباً فقال : بلغني أن أقواماً يقولون كذا وكذا ، والله لأنا أبر وأتقى لله منهم .. )) الحديث ( (839) انظر : صحيح البخاري : كتاب الشركة حديث ( رقم 2505 - 2506 ) صحيح مسلم ( 2 / 883 رقم 1216 ) . 839) .
وقد عقد البخاري باباً في صحيحه فقال : باب من لم يواجه الناس بالعتاب . وذكر بسنده عن عائشة قالت : صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً رخص فيه ، فتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ثم قال : (( ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ؟ فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية )) ( (840) انظر : صحيح البخاري : كتاب الأدب ، باب ، 72 ( رقم 6101 ) .840) .

قال الحافظ ابن حجر : " ما بال أقوام " في رواية جرير " ما بال رجال " قال ابن بطال : هذا لا ينافي الترجمة ، لأن المراد بها المواجهة مع التعيين كأن يقول : ما بالك يا فلان تفعل كذا ، وما بال فلان يفعل كذا ، فأما مع الإبهام فلم تحصل المواجهة وإن كانت صورتها موجودة وهي مخاطبة من فعل ذلك ، لكنه لما كان من جملة المخاطبين ولم يميز عنهم صار كأنه لم يخاطب . اهـ( (841) فتح الباري ( 10 / 513 ) . 841) .
قلت : وبهذا يتضح أن التعريض أبلغ من التصريح وأعظم تأثيراً في القلب ، وأدعى إلى التنبيه للخطأ مع ما فيه من مراعاة حرمة المخاطب بترك المجاهرة بالتوبيخ ، بخلاف التصريح فإنه قد يورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ، ويهيج الحرص على الإصرار ، والبقاء على ما لام عليه الموبخ، لاسيما إذا كانت نفس المعرض به منطوية على الكبر، وعدم قبول النصيحة .
تنبيه :
قد يقول قائل : إن البعض يذهب مذهباً بعيداً ، ويرى أن التعريض لابد أن يكون بصورة لا يفهمها إلا المعني بالأمر فقط دون غيره من المستمعين ، فهل هذا المفهوم يعدُّ صحيحاً ؟

فالجواب : أن هذا المفهوم ليس بصحيح ، ولم أر من قال بهذا من أهل العلم ، بل إن الأدلة الشرعية دلَّت على خلافه . ففي حديث الإفك يعلم كثير من الصحابة أن الذي تولى كبر القضية هو عبدالله بن أبي بن أبي سلول ؛ حيث إن الأمر قد استفاض بينهم على أنه ابن سلول ، وكذلك في مسألة حجة الوداع وامتناع من امتنع حتى قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، فالذين عرَّض بهم النبي صلى الله عليه وسلم هنا إنما هم معرفون في الواقع ، وبعض المستمعين لكلام النبي صلى الله عليه وسلم في هذا من الصحابة كانوا يعلمون من هو المقصود بهذا الكلام حال خطبته صلى الله عليه وسلم ، غير أنه لم يصرح بأسمائهم ، ويؤكد هذا أيضاً قول ابن بطال السابق : " فأما مع الإبهام فلم تحصل المواجهة وإن كانت صورتها موجودة وهي مخاطبة من فعل ذلك " اهـ .
ويؤيد هذا أيضاً صور التعريض التي ذكرها الفقهاء فيما يتعلق بالمعتدة ، حيث أجازوا التعريض بخطبتها دون التصريح ، فكان من أمثلة ذلك قولهم : " كان يقول الرجل للمعتدة : إني في مثلك لراغب " ( (842) انظر : المغني ( 9 / 572 ) . 842) .
فالحاصل أنه لا ينبغي أن يفهم التعريض على أنه لا يكون إلا بصورة لا يعرفها إلا نفس المقصود ، وبناء على هذا لو عرف كاتب أو متكلم مشهور قد أخطأ في مسألة ما ، واشتهر خبره بين الناس ، بحيث إنه أوقع فساداً أو ضلالاً أو نحو ذلك بينهم ، ثم عرَّض به الخطيب في الجمعة فقال : " ما بال رجال يفعلون كذا وكذا ، أو يقولون كذا وكذا ... الخ " . فإن هذا لا يعد تصريحاً ولو كان جمهور المستمعين يعلمون من هو المعرض به وإن لم يصرح الخطيب باسمه ، فهذا هو التعريض بعينه كما دلت على ذلك الأدلة ، وعلى ذلك فقس ، ليتضح لك الأمر ، وهو يقع كثيراً في هذه الأزمنة ؛ لكثرة الأخطاء والمنكرات التي يجهر بها عبر وسائل متعددة كالتلفاز والمذياع ، والصحافة والمطبوعات . والله هو المستعان وعليه التكلان .

69-

حكم التعريض بالأمير أو السلطان في الخطبة ؟
إن من المقرر عند أهل السنة والجماعة السمع والطاعة لولاة الأمر الشرعيين المبايعين بالبيعة الشرعية وإن جاروا وظلموا ، أو كذبوا وجروا ، كما أنه يجب إجلالهم وتقديرهم والدعاء لهم ، وإن وجد منهم فسق ظاهر ، ولذلك حرم الخروج عليهم وقتالهم كما ذكر ذلك كثير من أهل العلم ، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول : " والأئمة لا يقاتلون بمجرد الفسق ، وإن كان الواحد المقدور قد يقتل لبعض أنواع الفسق كالزنا وغيره . فليس كل ما جاز فيه القتل جاز أن يقاتل الأئمة لفعلهم إياه ، إذ فساد القتال أعظم من فساد كبيرة يرتكبها ولي الأمر ، ولهذا نصَّ من نصَّ من أصحاب أحمد وغيره على أن النافلة تصلى خلف الفساق ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها ، وهؤلاء الأئمة فساق وقد أمر بفعلها خلفهم نافلة " ( (843) مجموع الفتاوى ( 22 / 61 ) . 843) . اهـ .
قلت : ويقال مثل ذلك في كل ما من شأنه إثارة الفتنة ، وبعث ما لا تحمد عقباه ، وإذكاء ما مفسدته أرجح من مصلحته ، فضلاً عما جاء من النهي عن سبِّ الأمير والإنكار عليه علناً ، ففي المصنف لابن أبي شيبة قال طاوس : قلتُ لابن عباس : أنهى أميري عن المعصية ؟ قال : لا ، تكون فتنة ؟ قال : قلت : فإن أمرني بمعصية ؟ قال : " فحينئذ " ( (844) مصنف ابن أبي شيبة ( 8 / 622 ) . 844) .
وروى الترمذي عن زياد بن كُسَيْب العدوي قال : كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق فقال أبو بلال : انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق . فقال أبو بكرة : اسكت . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله )) قال الترمذي : حسن غريب ( (845) جامع الترمذي الفتن ( 4 / 502 رقم 2224 ) وحسنه الألباني كما في السلسلة الصحيحة ( 5 / 376 ) . 845) .

وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على حديث علي رضي الله عنه : " حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ( (846) انظر : فتح الباري ( 1 / 304 ) . 846) . اهـ .
وقال الشوكاني رحمه الله : ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يُنَاصحه ، ولا يُظهر الشّناعة عليه على رؤوس الأشهاد ، بل كما ورد في الحديث : أنه يأخذ بيده ويخلو به ويَبْذُل له النَّصيحة ، ولا يُذِل سلطان الله ( (847) انظر : السيل الجرار للشوكاني ( 4 / 556 ) . 847) . اهـ .
قلت : يشير الشوكاني رحمه الله إلى ما رواه ابن أبي عاصم في السنة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أراد أن ينصح لذي سلطان في أمراً فلا يبدِه علانية ، ولكن ليأخذ بيده فيخلوا به ، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه له" ( (848) السنة لابن أبي عاصم ( 2 / 522 ) . 848) .
ويدل لذلك ما رواه البخاري ومسلم عن الأعمش قال : سمعت أبا وائل قال : قيل لأسامة : ألا تكلّم هذا ؟ قال : قد كلمته ما دون أن أفتح باباً أكونُ أول من يَفتحه ، وما أنا بالذي أقول لرجل - بعد أن يكون أميراً على رجلين - أنت خير .. الحديث " وفي لفظ لمسلم " ألا تدخل على عثمان فتكلمه " ( (849) صحيح البخاري : بدء الخلق ، باب ( 10 رقم 3267 ) والفتن ( 17 رقم 7098 ) ، صحيح مسلم ( 4 / 2290 رقم 2989 ) . 849) .

قال الحافظ ابن حجر : قال المهلب : أرادوا من أسامة أن يكلم عثمان وكان من خاصته وممن يخف عليه في شأن الوليد بن عقبة ؛ لأنه كان ظهر عليه ريح نبيذ وشهر أمره ، وكان أخاً لعثمان لأمه وكان يستعمله . فقال أسامة : قد كلمته سرّاً دون أن أفتح باباً ، أي باب الإنكار على الأئمة علانية ؛ خشية أن تفترق الكلمة ، ثم عرفهم أنه لا يداهن أحداً ولو كان أميراً ، بل ينصح له في السر جهده ( (850) انظر : فتح الباري ( 14 / 554 ) . 850) .... اهـ .
وقال القاضي عياض : " مراد أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك ، بل يتلطف به وينصحه سرّاً فذلك أجدر بالقبول " ( (851) انظر : المصدر السابق . 851) . اهـ .
قلت : وهذا الأمر بعدم الإنكار علانية ليس من باب المداهنة ، وإنما هو من باب المداراة ، فقد قال الحافظ : فيه ذم مداهنة الأمراء في الحق وإظهار ما يبطن خلافه كما المتملق بالباطل ، وضابط المداراة ألا يكون فيها قدح في الدين ، والمداهنة المذمومة أن يكون فيها تزيين القبيح وتصويب الباطل ونحو ذلك ( (852) انظر : المصدر السابق .852). اهـ .
وقال أيضاً : وفي الحديث تعظيم الأمراء والأدب معهم ، وتبليغهم ما يقول الناس فيهم ؛ ليكفوا ويأخذوا حذرهم بلطف وحسن تأدية ، بحيث يبلغ المقصود من غير أذية للغير ( (853) انظر : المصدر السابق .853) . اهـ .
ونقل ابن عبدالبر عن أيوب بن القرية : " أحق الناس بالإجلال ثلاثة : العلماء ، والإخوان ، والسلطان ، فمن استخف بالعلماء أفسد مروءته ، ومن استخف بالسلطان أفسد دنياه ، والعاقل لا يستخف بأحد . اهـ ( (854) انظر : جامع بيان العلم ( 1 / 146 ) . 854).

وقال العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية : " ونصيحة الأمير والمأمور بالسر ، وبنية خالصة تعرف فيها النتيجة النافعة للإسلام والمسلمين ... بل في السر قم بواجب النصيحة ، وفي العلانية أظهر وصرح بما أوجب الله من حق الإمارة والسمع والطاعة لها ، وأنها لم تأت لجباية أموال وظلم دماء وأعراض من المسلمين ، ولا يظهر عليك عند الرعية ولاسيما المتظلمين بالباطل عتبك على الأمير وانتقاده إياه ، لأن ذلك غير نافع الرعية بشيء ( (855) انظر : فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم ( 12 / 182 ) . بتصرف يسير . 855) " .. اهـ .
وقال سماحة شيخنا العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز : " ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر ؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى ، وعدم السمع والطاعة في المعروف ، ويفضي إلى الخوض في الذي يضر ولا ينفع ، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان ، والكتابة إليه ، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير ، وإنكار المنكر من دون ذكر الفاعل ، فينكر الزنى وينكر الخمر وينكر الربا من دون ذكر من فعله ، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير ذكر أن فلاناً يفعلها لا حاكم ولا غير حاكم ( (856) هي فتوى لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز أضيفت إلى آخر الرسالة التي هي بعنوان حقوق الراعي والرعية ص ( 27 ) . 856) " . اهـ .
قلت : وبحاصل ما مضى ذكره تتضح أهمية معرفة هذا الأمر ، وأنه باب عظيم ينبغي أن يتنبه إليه جميع الخطباء ، وأن يراعوا أصل المسألة في ذلك . والله المستعان .
70-

تحريك الخطيب يديه حال الخطبة أو الإشارة بهما
اعتاد بعض الخطباء - لاسيما المرتجل منهم - على أن تحريك اليدين أو إحداهما حال الخطبة ، ويشير بهما يمنة ويسرة ، وربما اشتد هذا التحريك عند الانفعال .

وقد دلَّ على منع رفع اليدين وتحريكهما للخطيب أثناء التكلم في الخطبة ، وأنه لا يكون إلا برفع السبابة فقط ، ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عمارة بن رؤيبة قال : (( إنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال : قبَّح الله هاتين اليدين ، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا ، وأشار بإصبعه المسبحة )) ( (857) انظر : صحيح مسلم ( 2 / 595 رقم 874 ) . 857) .
وقد فهم العلامة الطيبي من هذا الحديث : أنه يدل على منع اليدين عند التكلم في الخطبة فقد قال : قوله " رافعاً يديه ، يعني عند التكلم كما هو دأب الوعاظ إذا حموا ، ويشهد له قوله : (( أشار بأصبعه المسبحة )) ، قوله ( أن يقول ) أي يشير عند التكلم في الخطبة بأصبعه يخاطب الناس وينبههم على الاستماع . اهـ( (858) انظر : مرقاة المفاتيح ( 3 / 230 ) . 858) .
قلت: ومما يؤيد فهم الطيبي هذا أن النسائي بوَّب لذلك فقال : باب الإشارة في الخطبة( (859) انظر : سنن النسائي حديث رقم ( 1413 ) . 859).
وبوَّب ابن أبي شيبة باباً فقال : " الرجل يخطب يشير بيده " ( (860) انظر : مصنف ابن أبي شيبة ( 2 / 25 ) . 860) .
وعلى مثل هذا سار صاحب عون المعبود فقد قال : " أراد الراوي أن رفع اليدين كلتيهما لتخاطب السامعين ليس من دأب النبي صلى الله عليه وسلم ، بل إنما يشير النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه السبابة ( (861) انظر : عون المعبود ( 3 / 319 ) . 861) . اهـ .
وقال الشافعي : وإن لم يعتمد على عصا أحببت أن يسكن جسده ويديه ، إما بأن يضع اليمنى على اليسرى ، وإما أن يقرهما في موضعهما ساكنتين ( (862) انظر : الأم ( 1 / 177 ) . 862) . اهـ .

وتحدث ابن قدامة في المغني بعد أن استحب الاعتماد على قوس أو سيف أو عصا ، وذكر الدليل على ذلك قائلاً : ولأن ذلك أعون له ، فإن لم يفعل فيستحب أن يسكن أطرافه ، إما أن يضع يمينه على شماله ، أو يرسلهما ساكنتين إلى جنبيه ( (863) انظر : المغنى ( 3 / 179 ) . 863) . اهـ .
وقال النووي في المجموع بعد ذكر العصا أو السيف : قال أصحابنا : ويستحب أن يشغل يده الأخرى بأن يضعها على حرف المنبر . قالوا : فإن لم يجد سيفاً أو عصا ونحوه سكن يديه بأن يضع اليمنى على اليسرى أو يرسلهما ولا يحركهما ، ولا يعبث بواحدة منهما ، والمقصود : الخشوع والمنع من العبث ( (864) انظر : المجموع ( 4 / 357 ) . 864) . اهـ .
وقال الشوكاني عن الحكمة من اتخاذ العصا أو السيف حال الخطبة ما نصه : قيل : والحكمة في ذلك الاشتغال عن العبث ، وقيل : إنه أربط للجأش( (865) الجأش : النفْس ، وقيل : القلب ، وقيل : رباطه وشدته عند الشيء تسمعه لا تدري ما هو . قال الليث : جأش النفس رواع القلب إذا اضطرب عند الفزع . يقال : إنه لواهي الجأش ، فإذا ثبت قيل : إنه لرابط الجأش . لسان العرب ( مادة جأش ) . 865) . اهـ ( (866) انظر : نيل الأوطار ( 3 / 305 ) . 866).
قلت : وبمثل ما ذكر الشوكاني رحمه الله قال شيخنا العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ، كما تقدم ذكر ذلك عند الكلام عن اتخاذ العصا للخطيب .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة ، وهو أصح الوجهين لأصحابنا ؛ النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يشير بأصبعه إذا دعا ، وأما في الاستسقاء فرفع يديه لما استسقى على المنبر " ( (867) انظر : الاختيارات ص ( 80 ) . 867) . اهـ .
وقال ابن القيم رحمه الله : وكان صلى الله عليه وسلم يشير بأصبعه السبابة في خطبته عند ذكر الله تعالى ودعائه ( (868) انظر : زاد المعاد ( 1 / 428 ) . 868) . اهـ .

وقال شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين ما نصه : " ليس من السنة أن يحرك يديه ، وإن كان بعض الخطباء بلغني أنهم يفعلون ذلك .. إلى أن قال : أما خطبة الجمعة فإن المغلب فيها التعبد ؛ ولهذا أنكر الصحابة على بشر بن مرواه ، حيث رفع يديه في الدعاء ، مع أن الأصل في الدعاء رفع اليدين ، فلا يشرع فيها إلا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم "( (869) انظر : الشرح الممتع ( 5 / 85 ) . 869) . اهـ .
قلت : يتضح مما سبق أن الأصل في اليدين عدم الحركة ، وأنه لا يشغلهما أو يشغل إحداهما إلا في الأمور التالية :
أن يشير بالسبابة ( (870) السَّبَّابة : الأصبعُ التي بين الإبهام والوسطى ، صفة غالبة ، وهي المُسبِّحةُ عند المصلين . انظر لسان العرب ( 1 / 456 مادة سبب ) . 870) كما مرَّ سابقاً .
أن يمسك العصا - على القول بسنيتها - بإحدى اليدين ، ويمسك بالأخرى الورقة إن كان غير مرتجل ، أو يمسك بحرف المنبر كما مرَّ في مبحث اتخاذ العصا للخطيب ، فارجع إليه .
إذا أراد الخطيب أن يمثل بيديه عن شيء ما ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل حينما قرن بين السبابة والوسطى في خطبته ، كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وفيه : ( .. ويقول : بعثت أنا والساعة كهاتين ) ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ... الحديث ( (871) صحيح مسلم ( 2 / 592 رقم 867 ) . 871) .
أو كما في الحديث الآخر الذي رواه الشيخان عن زينب بنت جحش (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً يقول : لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم ( (872) الردْم : السد الذي بناه ذو القرنين . فتح البري ( 13 / 107 ) . 872) يأجوج ومأجوج مثل هذه ، وحلق بأصبعْيه الإبهام والتي تليها ... الحديث ( (873) صحيح البخاري : الأنبياء ( حديث 3346 ) ، صحيح مسلم ( 4 / 2207 رقم 2880 ) . 873) .

أو كما في الحديث الذي رواه البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وقال بأصبعْيه السّبَّابة والوسطى )) ( (874) صحيح البخاري ، كتاب الطلاق رقم ( 5304 ) . 874) .
وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : (( كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة )) ( (875) صحيح مسلم ( 4 / 2287 رقم 2983 ) . 875) .
أو كما في الحديث الآخر الذي رواه الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن المؤمِن للمؤْمنِ كالبنيانِ يَشُدُّ بعضُهُ بعضاً وشبَّك أصابعهُ )) ( (876) صحيح البخاري الصلاة ، باب 88 رقم ( 481 ) . 876) وهذا لفظ البخاري .
قلت : قد يقول قائل : إن حديث (( بعثت أنا والساعة كهاتين )) قد ورد في خطبة الجمعة ، بخلاف الأحاديث الأخرى التي مضت ، فإنها كانت في غير خطبة ، فلماذا لا نقتصر على النص ونأخذ بالذي فعله صلى الله عليه وسلم في الخطبة بخلاف غيره ؟
فالجواب أن يقال : لا بأس بالاستعانة باليدين أو إحداهما إذا احتاج الخطيب إلى ذلك من جهة بيان الشيء الذي لا يتضح إلا بالإشارة كما في الحديث الأول ، وأما حديث زينب وغيره وهو وإن كان خارج الخطبة إلا أن الخطيب إذا رواه وأشار بيده كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنما هو في الحقيقة يروي رواية ، وتكون هذه الإشارة جزءاً من الرواية ، فلا حرج حينئذ في ذلك ، ولا يعدُّ مثل هذا من الحركات التي لا ينبغي للخطيب أن يفعلها بيديه أو إحداهما حال الخطبة . والعلم عند الله تعالى .
فوائد :
الأولى : قد يقول قائل : لقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم (( كان يشير بمخصرة إذا خطب )) . والمخصرة شيء يتوكأ عليه كالعصا .

فالجواب : أن الحديث رواه البزار من حديث عبدالله بن الزبير عن أبيه . وقال : لا نعلمه إلا عن ابن الزبير ، ولا له عنه إلا هذا الطريق ( (877) انظر : كشف الأستار عن زوائد البزار ( 1 / 306 رقم 639 ) . 877) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد : رواه البزار وفيه ابن لهيعة وفيه كلام ( (878) مجمع الزوائد ( 2 / 187 ) . 878) .
الثانية : أورد ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده عن شعبة عن سماك بن حرب قال : قلت له : كيف كان يخطب النعمان ؟ قال : كان يلمّع بيده . قال : وكان الضحاك بن قيس إذا خطب ضمَّ يده على فيه .
وروى أيضاً عن مجاهد قال : إذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده .
وروى أيضاً عن ابن سيرين قال : كانوا يستأذنون الإمام وهو على المنبر ، فلما كان زياد وكثر ذلك قال : من وضع يده على أنفه فهو إذنه ( (879) انظر : مصنف ابن أبي شيبة ( 2 / 25 ) . 879) . اهـ .
الثالثة : روى الإمام أحمد عن غضيف بن الحارث الثمالي قال : بعث إليَّ عبدالملك بن مروان فقال : يا أبا أسماء ، إنا قد أجمعنا الناس على أمرين قال : وما هما ؟ قال : رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة ، والقصص بعد الصبح والعصر ، فقال : أما إنهما أمثل بدعتكم عندي ، ولست مجيبك إلى شيء منهما ، قال : لم ؟ قال : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ما أحديث قوم بدعة ، إلا رفع مثلها من السنة ، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة )) ( (880) مسند أحمد ( 4 / 105 ) . 880) .
ذكر هذا الحديث المنذري وأشار إلى ضعفه ( (881) انظر : الترغيب والترهيب ( 1 / 64 ) . 881) .
وقال الهيثمي : رواه أحمد والبزار ، وفيه أبو بكر بن عبدالله بن أبي مريم وهو منكر الحديث ( (882) مجمع الزوائد ( 1 / 447 ) . 882)

71-

الجمع بين النهي عن تشبيك الأصابع في المسجد وتشبيك الخطيب يديه للتمثيل
قد يحتاج الخطيب في خطبته إلى تحريك يديه للتمثيل كما مرَّ معنا سابقاً، فقد يشبك بين أصابعه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :((إن المؤمن للؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) وشبَّك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه ( (883) صحيح البخاري : الصلاة ، باب 88 رقم ( 481 ) . 883).
ولكن قد يشكل على هذا ما جاء من النهي عن تشبيك الأصابع في المسجد ، كما في مسند أحمد عن مولى لأبي سعيد الخدري قال :((بينما أنا مع أبي سعيد الخدري وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخلنا المسجد فإذا رجل جالس في وسط المسجد محتبياً مشبك أصابعه بعضها في بعض ، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يفطن الرجل لإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي سعيد فقال : (( إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن ، فإن التشبيك من الشيطان ، وإن أحدكم لا يزال في صلاة مادام في المسجد حتى يخرج منه))( (884) انظر : مسند أحمد ( 3 / 43 ) . 884) . قال الهيثمي : رواه أحمد وإسناده حسن .( (885) انظر : مجمع الزوائد ( 2 / 140 ) . 885) اهـ
وعن كعب بن عجزة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إذا توضأ أحدكم ، ثم خرج عامداً إلى الصلاة فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان ( (886) مسند أحمد ( 4 / 244 ) ، سنن أبي داود ( 1 / 380 رقم 562 ) جامع الترمذي ( 2 / 228 رقم 386 ) صحيح ابن حبان ( 2 / 242 رقم 2034 ) . 886).
فالجواب عن هذا الإشكال من وجوه :
الوجه الأول :
أن أحاديث النهي لا تصح بل هي ضعيفة . فقد قال ابن بطال : هي مراسيل ومسندة من طرق غير ثابتة( (887) انظر : فتح الباري ( 2 / 144 ) . 887) .اهـ

وقال الحافظ ابن حجر عن حديث أبي سعيد : في إسناده ضعيف ومجهول . وقال عن حديث كعب بن عجزة : في إسناده اختلاف ضعفه بعضهم بسببه ( (888) انظر : المصدر السابق . 888).اهـ
الوجه الثاني :
ما ذكره الشوكاني من أن ظاهر أحاديث النهي عن التشبيك للتحريم لولا حديث ذي اليدين( (889) انظر : نيل الأوطار ( 2 / 335 ) . 889) . اهـ
قلت : وحديث ذي اليدين رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشاء ، فصلى بنا ركعتين ثم سلم ، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ، ووضع يده اليمنى على اليسرى ، وشبك بين أصابعه ... الحديث)) ( (890) صحيح البخاري : الصلاة ( باب 88 رقم 482 ) صحيح مسلم ( 1 / 403 رقم 573 ) . 890)
قال الحافظ ابن حجر : حديث أبي هريرة دالٌّ على جوازه - أي التشبيك - في المسجد( (891) انظر : فتح الباري ( 2 / 143 ) .891) . اهـ
قال صاحب النتقي : وقد ثبت في خبر ذي اليدين أنه عليه الصلاة والسلام شبك أصابعه في المسجد، وذلك يفيد عدم التحريم ، ولا يمنع الكراهة لكونه فعله نادراً ( (892) انظر : نيل الأوطار ( 2 / 335 ) .892). اهـ.
الوجه الثالث :
أنه ليس بين الأحاديث تعارض ، إذا المنهي عنه هو فعله على وجه العبث ، والذي في الحديث إنما هو لمقصود التمثيل وتصوير المعنى في النفس بصورة الحس . ويجاب عن حديث ذي اليدين بأن تشبيكه إنما وقع بعد انقضاء الصلاة في ظنه ، فهو في حكم المنصرف من الصلاة ( (893) انظر : فتح الباري ( 2 / 144 ) ، انظر : نيل الأوطار ( 2 / 336 ) .893). والله أعلم .

72-

حكم التغني بالآيات القرآنية في الخطبة ؟
هناك أمر يلفت انتباهي كثيراً عند سماع خطب يوم الجمعة في أماكن متفرقة ألا وهو : ما يفعله بعض الخطباء حين استشهادهم في خطبهم ببعض الآيات حيث يقومون بالتغني بها وترتيلها ولو كانت آيتين فأقل ، بل إن بعضهم لا يكاد يمرُّ بآية إلا ويتغنى بها ، ومحط السؤال هنا هو : هل لهذا الفعل أصل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو فعل الصحابة أم لا ؟
والواقع أنني لم أجد حسب بحثي القاصر ما يدل على هذا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا من فعل الصحابة، بل إنني وجدت أحاديث كثيرة يستشهد فيها النبي صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ولم يأت فيها ما يدل على أنه كان يتغنى بها ،كما جاء عن الشيخين في صحيحيهما عن عبدالله بن مسعود قال : لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } سورة الأنعام ، آية ( 82 ) . شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: " أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( إنه ليس بذلك ، ألا تسمع إلى قول لقمان :{ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}سورة لقمان ، آية ( 13 ) . ( (894) انظر : صحيح البخاري برقم ( 4776 ) صحيح مسلم برقم ( 124 ) . 894)
قلت : فأنت ترى في هذا الحديث أنه لم يذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم تغني بهذا الآية ولا ابن مسعود كذلك . ومثل هذا كثير في السنة ولو فعله صلى الله عليه وسلم لنقل إلينا .
بل إنه قد جاءت أحاديث تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ شيئاً من القرآن في خطبته، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر قول الله تعالى : {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} ( (895) رواه البخاري ، كتاب بدء الخلق ، حديث رقم ( 3058 ) رواه مسلم ، كتاب الجمعة ، حديث رقم ( 871 ) . 895)

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ وهو على المنبر سورة (ص) ( (896) رواه أبو داود ( 2 / 124 رقم 1410 ) ، وابن خزيمة ( 2 / 354 رقم 1455 ) ، والحاكم ( 1 / 284 ) . 896).
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة (ق) على المنبر ، كما مرَّ معنا سابقاً في مبحث مستقل بهذا الخصوص .
ومع ذلك فإن كل من رووا هذا الأحاديث لم يذكروا أن لنبي صلى الله عليه وسلم تغني بتلك الآيات التي قرأها على المنبر ، مع عدا سورة (ق) فإنها لا تدخل ضمن هذا المسألة في نظري ، لأنه لم يأت بها على وجه الاستشهاد ، وإنما قرأها قراءة كاملة متصلة ، ومثل هذا يتحمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قد رتلها وتغني بها.
ومع ذلك فإنني لازلت أبحث جاهداً للوصول إلى نتيجة مقنعة تؤكد ما يذكره البعض من أن فعل هذا في الخطب بدعة ، إلا أن صعوبة التبديع تجعلني أتقاصر عن هذا البحث ، ولكنني أقول : إن هذا خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم المعروفة عنه بالاستقراء سواء كانت في أثناء الخطبة أو في أثناء حديثه للصحابة رضي الله عنهم ، ولا أعلم بعد التتبع ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يتغنى بالآية الواحدة أو الآيتين في الاستشهاد. والعلم عند الله تعالى .
تنبيه :
قد يقول قائل : إن الله أمر نبيه بقوله {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} سورة المزمل ، آية (4) ولم يقيد ذلك بأكثر من آيتين أو نحوهما ؟.
فالجواب : أن يقال : هناك فرق بين الترتيل والتغني ، فأنا أقول : لا بأس للخطيب إذا استشهد بآية أو آيتين أن يرتل ، لكنه لا يتغنى ؛ لأن هناك فرقاً بينهما ، وهو أن التغني كما قال في النهاية : ترتيل القراءة : التأني فيها والتمهل وتبيين الحروف والحركات( (897) انظر : النهاية ( 2 / 178 ) . 897) . اهـ.

وأما التغني فقد جاء ما يدل عليه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :((ما أذن الله لشيء كإذنه لنبيِّ يتغنى بالقرآن يجهر به)) ( (898) انظر : صحيح البخاري فضائل القرآن ( باب 19 رقم 5023 ) صحيح مسلم ( 1 / 545 رقم 792 ) . 898).
قال الشافعي : معناه تحسين القراءة وترقيقها ( (899) انظر : النهاية ( 3 / 351 ) .899) . اهـ .
وقال ابن كثير عن قوله تعالى { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} أي: اقرأه على تمهل( (900) انظر : تفسير ابن كثير ( 8 / 250 ) . 900) . اهـ
وبهذا يتضح الفرق بين التغني والترتيل ، وأن التأني لا بأس به في الخطب بخلاف التغني ، فأنني لم أقف على ما يدل عليه من فعله صلى الله عليه وسلم . والله أعلم .
فائدة :
قال الشيخ بكر أبو زيد : مما أحدثه الوعاظ ، وبعض الخطباء في عصرنا ، مغايرة الصوت عند تلاوة الآيات من القرآن لنسق صوته في وعظه أو الخطابة .
وهذا لم يعرف عن السالفين ، ولا الأئمة المتبوعين ، ولا تجده لدى أجلاء العلماء في عصرنا ، بل يتنكبونه ، وكثير من السامعين لا يرتضونه ، والأمزجة مختلفة ، ولا عبرة بالفاسد منها ، كما أنه لا عبرة بالمخالف لطريقة صدر هذه الأمة وسلفها ، والله أعلم ( (901) انظر : تصحيح الدعاء ص ( 320 ) . 901).
73-

التزام كثير من الخطباء ببعض الألفاظ في الخطبة على الديمومة
إن المتتبع لكثير من خطباء المسلمين اليوم ليكاد يجدهم متفقين على التزام بعض الألفاظ في الخطب على الديمومة ، وقلَّ أن يتركوا هذا العادة ، بل ربما ظن كثير من العامة أن مثل هذه الألفاظ يعد من صلب الخطبة ، أو أن الخطبة تكون ناقصة من دون إيرادها ، أو أن يحصل النكير من بعض العامة إذا تركت ، وما ذاك إلا لكثرة مداومة الخطباء عليها ، وأذكر على سبيل المثال بعض الألفاظ كقولهم مثلاً :

اختتام آخر الخطبة الأولى بآية ، وقبل أن يختم بهذه الآية يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، في حين إنه لا يستعيذ بالله في إيراد غيرها من الآيات .
المواظبة على ختم الخطبة بقول بعضهم : أقول قولي هذا وأستغفر الله... الخ. وإن كان بعض أهل العلم يذكرها في كتبهم إلا أنه لا دليل على ما ذكروه ، فمن ذلك ما قاله البغوي: "ويستحب أن يختم خطبته بقوله : أستغفر الله لي ولكم . وبمثل ذلك قال النووي ( (902) انظر : التهذيب ( 2 / 343 ) ، المجموع ( 4 / 359 ) . 902) .
قول بعضهم على سبيل الديمومة : هذا وصلوا رحمكم الله ... الخ في آخر الخطبة الثانية. أو جعل محل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع دائماً.
قول بعضهم في آخر الخطبة الثانية على سبيل الديمومة :عباد الله ، اذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ... الخ .
وهناك ألفاظ أخرى كثيرة منها ما يتفق عليه كثير من خطباء العالم ، ومنها ما اتفق عليه خطباء أقطار معينة بحسب عرفهم وعادتهم في هذه الخطب.
وهذه الألفاظ قلَّ أن تختفي لدى كثير من الخطباء ، وقد عدَّ بعض أهل العلم التزام ذلك من البدع ، وإن كنت أستثقل إطلاق التبديع في مثل هذا ، غير أن الذي ينبغي للخطيب أن ينوِّع في مثل هذا ، لئلا يظن الناس أن هذا من الواجب ، بل إن ترك الشيء لتوضيح الحقيقة قد يجب على المسلم الذي يقتدى به ، بل ترك السنة أحياناً إذا ظن بعض الناس من خلال المواظبة عليها أنها واجبة ، فإن هذا الترك يكون مستحباً ، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :" فإنه إذا ظن العامة أن المواظبة على قراءة السجدة والإنسان في فجر الجمعة من الواجب ؛ فإنه يستحب تركها أحياناً لإزالة هذا اللبس " ( (903) انظر : مجموع الفتاوى ( 24 / 206 ) . 903) . اهـ .

وقد قال ابن القيم رحمه الله في مثل هذا أيضاً : ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة ، يعني سورة السجدة دفعاً لتوهم الجاهلين ( (904) انظر : زاد المعاد ( 1 / 375 ) . 904) . اهـ .
وقال شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين : " وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع فإنه ينبغي تجنبه " ( (905) انظر : الشرح الممتع ( 5 / 87 ) . 905) . اهـ .
74-

التزام صورة واحدة في الخطبة الثانية
جرت عادة بعض الخطباء -وفقهم الله- التزامهم صورة واحدة في الخطبة الثانية، وذلك من وجهين :
الوجه الأول :
أنهم يجعلون الخطبة الثانية قصيرة جدّاً على شبه الديمومة .
الوجه الثاني :
أن الخطبة تكاد تكون منفصلة عن الأولى بحيث يغلب عليها وضع معين لا يتغير ويسمونها ( خطبة النعت ) .
وهذان الوجهان لا يعرف لهما أصل شرعي ولا أثر واضح عن السلف ، بل قد يظن كثير من المستمعين أن ما يفعل بهذه الصورة هو السنة ، والواقع خلاف ذلك . فالذي ينبغي للخطيب أن يتنبه لهذه المسألة ، وينوِّع في الأمر ، فيجعلها تارة مكملة للخطبة الأولى ، وتارة مساوية لها ، وتارة أنقص منها ، وتارة بموضوع آخر . كل هذا لا بأس به ، وإنما الذي يخشى هو التزام طريقة واحدة يفهم عامة الناس من خلالها أنها هي السنة ، وما عداها مخالف لها . وهذا في غاية الخلط .
وقد عدَّ بعض أهل العلم هذا الالتزام من البدع . والعلم عند الله تعالى .
75-
التشريك بين ضمير الله ورسوله في الخطبة
المراد بالتشريك هنا كأن يقول الخطيب عن الله ورسوله : " ومن يعصهما " " ومن يطعهما" ، أو " من يغضبهما " وهكذا .

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على وقوع ذلك في خطبته صلى الله عليه وسلم ، فقد روى أبو داود من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال : (( الحمد الله ، نستعينه ونستغفره ، من يُطع الله تعالى ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ، ولا يضر الله تعالى شيئاً )) ( (906) انظر : سنن أبي داود ( 1 / 659 رقم 1097 ) . 906) صحيح إسناد هذا الحديث النووي في شرح مسلم ( (907) انظر : شرح النووي ( 6 / 160 ) . 907) .
وقد أخذ بعض أهل العلم من هذا الحديث جواز التشريك بين ضمير الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أثناء الخطبة ومطلقاً أيضاً ( (908) انظر : فتح الباري ( 8 / 244 ) ، نيل الأوطار ( 3 / 277 ) . 908) .
ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث : (( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما )) ( (909) انظر : صحيح البخاري : الإيمان ( حديث رقم 16 ) صحيح مسلم : ( 1 / 66 رقم 43 ) . 909) .
وما ثبت عنه في تحريم لحوم الحمر الأهلية ، حيث أمر منادياً ينادي (( إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية )) ( (910) انظر : أخرجه من حديث أنس البخاري في صحيحه كتاب المغازي ( حديث رقم 4199 ) ، ومسلم ( 3 / 1540 رقم 1940 ) . 910) .

وقد أشكل هذا الأمر على بعض أهل العلم ، حيث أوردوا عليه ما جاء عند مسلم وأبي داود والنسائي من حديث عدي بن حاتم أن خطيباً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من يطع الله تعالى ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى( (911) الغَيُّ : الضَّلال والانهماك في الباطل . غوى : قال القاضي : وقع في روايتي مسلم بفتح الواو وكسرها ، والصواب بالفتح وهو من الغي ، وهو الانهماك في الشر . شرح النووي على مسلم ( 6 / 160 ) والنهاية ( 3 / 397 ) . 911) فقال له صلى الله عليه وسلم : (( بئس الخطيب أنت ، قل : ومن يعص الله تعالى ورسوله فقد غوى )) ( (912) انظر : صحيح مسلم ( 2 / 594 رقم 870 ) وسنن أبي داود ( 1 / 660 رقم 1099 ) ، وسنن النسائي ( 6 / 74 ) . 912).
قال الشافعي عن هذا الحديث : " فبهذا نقول . ومن قال : ومن يعصهما كرهت ذلك القول له حتى يفرد اسم الله عز وجل ، ثم يذكر بعده اسم رسوله صلى الله عليه وسلم ، لا يذكره إلا منفرداً " ( (913) انظر : الأم ( 1 / 346 ) . 913) . اهـ .
وقد حمل النووي هذا على أن سبب الإنكار عليه : " أن الخطبة شأنها البسط والإيضاح واجتناب الإرشادات والرموز ... ، قال : وإنا ثنى الضمير في مثل قوله : (( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما )) ، لأنه ليس خطبة وعظ وإنما هو تعليم حكم ، فكل ما قلَّ لفظه كان أقرب إلى حفظه ، بخلاف خطبة الوعظ فإنه ليس المراد حفظها ، وإنما يراد الاتعاظ بها " ( (914) انظر : شرح النووي ( 6 / 159 - 160 ) . 914) . اهـ .
وأجيب عن قول النووي هذا : بأنه قد وقع الجمع بين الضميرين منه صلى الله عليه وسلم في الخطبة لا في تعليم الأحكام كما في رواية أبي داود السابقة .

وقال القاضي عياض وجماعة من العلماء ( (915) انظر : إكمال المعلم ( 3 / 275 ) . 915) : إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنكر على الخطيب لتشريكه في الضمير المقتضي للتسوية ، وأمره بالعطف تعظيماً لله تعالى بتقديم اسمه ، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر : (( لا يقل أحدكم : ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن ليقل : ما شاء الله ثم شاء فلان ))( (916) انظر : شرح النووي على صحيح مسلم ( 6 / 159 ) حديث (( لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان )) أخرجه من حديث حذيفة بن يمان رضي الله عنه أبو داود ( 5 / 259 رقم 4980 ) ، وأحمد ( 5 / 384 ) والنسائي في عمل اليوم والليلة ( ص 544 ) . 916) . اهـ .
وأجيب عن هذا القول: بأن النبي صلى الله عليه وسلم شرك بين الضميرين كما سبق.
وقد نقل السندي عن العز بن عبدالسلام قوله : " من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه كان يجوز له الجمع في الضمير بينه وبين ربه تعالى ، وذلك ممتنع على غيره . قال : وإنما يمتنع من غيره دونه ؛ لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاقه التسوية ، بخلافه هو ، فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك " ( (917) انظر : حاشية السندي على النسائي ( 6 / 92 ) . 917) . اهـ .
وقال بعض أهل العلم : يمكن أن يقال : أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنكر على ذلك الخطيب التشريك ، لأنه فهم منه اعتقاد التسوية ، فنبهه على خلاف معتقده ، وأمره بتقديم اسم الله تعالى على اسم رسوله صلى الله عليه وسلم تعظيماً لله تعالى ؛ ليعلم بذلك فساد ما اعتقده ( (918) انظر : نيل الأوطار ( 3 / 277 ) . 918) .
وقد ذكر القرطبي وغيره توجيهاً لبعض القراء حول قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } حيث جمع هنا بين ضمير اسم الله وملائكته في قوله ( يُصَلُّون ) .

فبناءً على ذلك وجه بعض القراء هذا الذم الذي جاء في الحديث إلى أن هذا الخطيب وقف على قوله ( ومن يعصهما ) بمعنى أنه قال ( فقد رشد ومن يعصهما ) فكأنه يوهم أنه من يعصهما فقد رشد أيضاً ؛ فلذلك أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم .
وتوجيه القراء هذا لم تساعده الرواية ، فإن الرواية الصحيحة أنه أتى باللفظين في مساق واحد ، وأن آخر كلامه إنما هو ( فقد غوى ) ( (919) انظر : تفسير القرطبي ( 14 / 205 ) ، حاشية السندي على النسائي ( 6 / 90 ) . 919) . اهـ .
قلت : ويؤكد هذا أنه صلى الله عليه وسلم قال مصححاً للخطيب : ( قل : ومن يعص الله ورسوله) ومعلوم أن هذا لا يحل الإشكال بناء على توجيه بعض القراء . والله أعلم.
هذا حاصل قول أهل العلم في هذه المسألة ، والعلم عند الله تعالى .
76-

كلام الخطيب أثناء الخطبة بكلام خارج عنها
لا بأس للخطيب أن يخرج عن خطبته بكلام يحتاج إليه في نصح أو إنكار منكر أو نحو ذلك ، ويدل على هذا ما رواه الشيخان من حديث جابر رضي الله عنه قال : جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال : (( أصليت يا فلان ؟ )) قال : لا ، قال : (( قم فاركع )) ( (920) صحيح البخاري : الجمعة ( حديث رقم 930 ) ، صحيح مسلم ( 2 / 596 رقم 875 ) . 920) وفي رواية : (( فصل ركعتين )) .
ويدل عليه أيضاً ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث بريدة في قصة نزوله صلى الله عليه وسلم من المنبر لما رأى الحسن والحسين وفيه : ثم قال : (( صدق الله { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } سورة التغابن ، آية : 15 . رأيت هذين فلم أصبر )) ثم أخذ في خطبته ( (921) سنن أبي أو داود ( 1 / 663 رقم 1190 ) ، والترمذي ( 5 / 658 رقم 3774 ) ، والنسائي ( 3 / 88 ) وابن ماجة ( 2 / 1190 رقم 3600 ) . 921) .

ويدل على ذلك أيضاً ما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما " أن عمر بن الخطاب بينا هو يخطب الناس يوم الجمعة ، دخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فناداه عمر : أية ساعةٍ هذه ؟ فقال : إني شُغِلت اليوم ، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النّداء ، فلم أزد على أن توضأت . قال عمر : والوضوء أيضاً ؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل " ( (922) انظر : صحيح البخاري الجمعة ( حديث رقم 878 ) ، صحيح مسلم ( 2 / 580 رقم 845 ) . 922) واللفظ لمسلم .
قال مالك : لا بأس أن يتكلم الإمام في الخطبة على المنبر إذا كان في أمر أو نهي ، ولا نراه لا غيّاً ، ولقد استشارني بعض الولادة في ذلك فأشرت عليه ( (923) انظر : المدونة ( 1 / 231 ) . 923) . اهـ .
وقال الشافعي رحمه الله : "ولا بأس أن يتكلم الرجل في خطبة الجمعة وكل خطبة فيما يعنيه ويعني غيره بكلام الناس ، ولا أحب أن يتكلم فيما لا يعنيه ولا يعني الناس ، ولا بما يقبح من الكلام، وكل ما أجزت له أن يتكلم به أو كرهته فلا يفسد خطبته ولا صلاته"( (924) انظر : الأم ( 1 / 179 ) . 924).اهـ
قال النووي : " وفي تحريم الكلام على الخطيب طريقان : أحدهما على القولين . والثاني وهو الصحيح ، وبه قطع الجمهور يستحب ولا يحرم ؛ للأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم في الخطبة . والأول أن يجاب عن ذلك بأن كلامه صلى الله عليه وسلم كان لحاجة . ثم قال النووي أيضاً : " هذا كله في حال الخطبة ، أما قبل الشروع فيها وبعد فراغها فيجوز الكلام بلا خلاف لعدم الحاجة إلى الاستماع ، فأما في الجلوس بين الخطبتين فطريقان ... الخ " ( (925) انظر : المجموع ( 4 / 352 ) ، وانظر : التهذيب للبغوي ( 2 / 341 ) . 925) .

وأشار الكاساني في الحنفية إلى كراهة تكلم الخطيب حال الخطبة في غير الأمر بالمعروف فقال : " ويكره للخطيب أن يتكلم في حالة الخطبة ، ولو فعل لا يفسد الخطبة ، لأنها ليست بصلاة ، فلا يفسدها كلام الناس لكنه يكره ، لأنها شرعت منظومة كالأذان ، والكلام يقطع النظم إلا إذا كان الكلام أمراً بالمعروف فلا يكره لما روى عن عمر ... وهذا لأن الأمر بالمعروف يلتحق بالخطبة ، لأن الخطبة فيها وعظ فلم يبق مكروهاً " ( (926) انظر : بدائع الصنائع ( 2 / 202 ) . 926) . اهـ .
قلت : استدل من منع الخطيب من الكلام بما رواه الشيخان ( (927) صحيح البخاري : الجمعة باب 36 رقم 934 ) ، صحيح مسلم ( 2 / 583 رقم 851 ) . 927) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب أنصت فقد لغوت ( (928) لغوت : لَغَا الإنسان يَلْغُو ، ولَغَى يلْغَي ، إذا تكلَّم بالمطْرح من القول وما لا يعني . النهاية ( 4 / 257 ) . 928) ..... )) .
ونقل ابن الجوزي في التحقيق التسوية بين الخطيب والمستمع عن الأكثرين ( (929) انظر : تنقيح التحقيق لابن عبدالهادي ( 2 / 1216 ) . 929) .
قال أبو زرعة العراقي عن كلام ابن الجوزي هذا : فيه نظر ( (930) انظر : طرح التثريب ( 3 / 196 ) . 930) . اهـ .
وقال ابن القيم رحمه الله واصفاً خطب النبي صلى الله عليه وسلم : " ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي كما أمر الداخل وهو يخطب أن يصلي ركعتين ، ونهى المتخطي رقاب الناس عن ذلك ، وأمره بالجلوس وكان يقطع خطبته للحاجة تعرض ، أو السؤال لأحد من أصحابه فيجيبه ، ثم يعود إلى خطبته فيتمها " ( (931) انظر : زاد المعاد ( 1 / 427 ) . 931) . اهـ .

وقال الخطابي : فيه جواز الكلام في الخطبة لأمر يحدث ، وأن ذلك لا يفسد الخطبة . وقال بعض الفقهاء : إذا تكلم أعاد الخطبة . والسنة أولى ما اتبع ( (932) انظر : معالم السنن ( 1 / 249 ) ، طرح التثريب ( 3 / 190 ) . 932) . اهـ .
قال في الإنصاف : وتبطل الخطبة بكلام يسير محرم على الصحيح من المذهب . وقيل : لا تبطل كالأذان وأولى وأطلقهما في الفروع ( (933) انظر : الإنصاف ( 5 / 225 ) . 933) . اهـ .
وقال ابن حزم : " فإن أدخل الخطيب في خطبته ما ليس من ذكر الله تعالى ولا من الدعاء المأمور به فالكلام مباح حينئذ " ( (934) انظر : المحلي ( 5 / 62 ) . 934) . اهـ .
وقال أيضاً : " وأما إذا أدخل الإمام في خطبته مدح من لا حاجة بالمسلمين إلى مدحه ، أو دعاءً فيه بغي وفضول من القول ، أو ذم من لا يستحق ، فليس من الخطبة ، فلا يجوز الإنصات لذلك بل تغييره واجب إن أمكن ( (935) انظر : المصدر السابق ( 5 / 64 ) . 935) . اهـ .
وقال ابن قدامة : " ويحتمل أنه إن كان دعاءً مشروعاً كالدعاء للمؤمنين والمؤمنات والإمام العادل ، أنصت له ، وإن كان لغيره لم يلزم الإنصات ، لأنه لا حرمة له ( (936) انظر : المغني ( 3 / 201 ) . 936) . اهـ.

وتحدث أبو زرعة العراقي في شرحه على تقريب الأسانيد حول الحديث عن تكلم الإمام في الخطبة بما هو خارج عن الموعظة وأصل الخطبة قائلاً : " قال ابن المنذر : كان النخعي وسعيد بن جبير وإبراهيم بن مهاجر والشعبي وأبو بردة يتكلمون والحجاج يخطب ( (937) انظر : مصنف عبدالرزاق ( 3 / 226 رقم 5432 - 5433 ) . 937)، وقال بعضهم : إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا .. قلت - أي أبو زرعة - : ويحتمل أن تكون الإشارة إلى كلام بعينه أتى به الحجاج لا ينبغي سماعه ، لما فيه من سبِّ الصحابة رضي الله عنهم ، أو الأمر بالظلم وما لا يجب امتثاله ، أو عند قراءة كتب وردت عليه من الخليفة فيها ما لا ينبغي فعله ( (938) انظر : طرح التثريب ( 3 / 193 ) . 938) . اهـ .
وقد قال ابن حزم : روينا من طريق سفيان الثوري عن مجالد قال : رأيت الشعبي وأبا بردة بن أبي موسى الأشعري يتكلمان والحجاج يخطب حين قال : لعن الله ولعن الله . فقلت : أتتكلمان في الخطبة ؟ فقالا : لم نؤمر بأن ننصت لهذا .... قال ابن حزم : كان الحجاج وخطباؤه يلعنون عليّاً وابن الزبير رضي الله عنهما ( (939) انظر : المحلى ( 5 / 94 - 95 ) . 939) . اهـ .
وذكر ابن عبدالبر أن عبدالله بن عروة كان ينصت للخطيب ، فإذا شتم عليّاً تكلم ويقول : إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا ( (940) انظر : التمهيد ( 19 / 34 ) . 940) . اهـ .
وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن الشعبي ومحمد بن علي بن الحسين أنه لا بأس بالكلام والصحف تقرأ يوم الجمعة ( (941) انظر : مصنف ابن أبي شيبة ( 2 / 32 ) . 941) .
وروى أيضاً عن أبي بردة وعمر بن عبدالعزيز أنهما كانا يتكلمان في هذه الحالة ( (942) انظر : المصدر السابق ( 2 / 32 - 33 ) . 942) .
وروى أيضاً عن حماد بن أبي سليمان : إنما كان السكوت قبل اليوم إذا وعظوا بكتاب الله وقالوا فيه ، فنسكت لصحفهم هذه ( (943) انظر : المصدر السابق .943)

وروي أيضاً عن الحسن البصري أنه كان يكره الكلام والصحف تقرأ ( (944) انظر : المصدر السابق .944) . وروى أيضاً عن إبراهيم النخعي أنه قيل له : إن الكتب تجيء من قبل قتيبة فيها الباطل والكذب ، فأكلم صاحبي أو أنصت ؟ قال : بل انصت - يعني في الجمعة .
قال أبو زرعة : فطرد النخعي والحسن منع الكلام في الخطبة وسدا الباب في ذلك . قال ابن بطال : وروى ابن وهب وابن قانع وعلي بن زياد عن مالك أن الإمام إذا لغى وشتم الناس فعلى الناس الإنصات ولا يتكلمون . وروى عنه إذا خطب في أمر ليس من الخطبة من أمر كتاب يقرؤه أو نحو ذلك فليس على الناس الإنصات ، ورأى الليث إذا أخذ الإمام في غير ذكر الله والموعظة أن يتكلم ولا ينصت . انتهى .
وقال ابن حزم : فإن أدخل الخطيب في خطبته ما ليس من ذكر الله تعالى ولا من الدعاء المأمور به فالكلام مباح حينئذ ( (944) انظر : طرح التثريب في شرح التقريب ( 4 / 193 ) ، المحلى ( 5 / 64 ) . 944) . اهـ .
77-

تبسم الخطيب وضحكه
قال أهل اللغة : التبسم مبادئ الضحك ، والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور ، فإن كان بصوت وكان بحيث يُسمع من بعد فهو القهقهة وإلا فهو الضحك ، وإن كان بلا صوت فهو التبسم ، وتسمى الأسنان في مقدم الفم الضواحك وهي الثنايا والأنياب ، وما يليها تسمى النواجذ ( (945) انظر : الصحاح ( 4 / 1522 مادة بسم ) ، الفتح ( 12 / 131 ) . 945) .

وقد أخرج البخاري في صحيحه( (946) انظر : صحيح البخاري : كتاب الأدب ، باب 68 ( رقم 6093 ) . 946) من حديث أنس رضي الله عنه : (( أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب بالمدينة فقال : قحط المطر ، فاستسق ربَّك . فنظر إلى السماء ، وما نرى من سحاب ، فاستسقى ، فنشأ السحاب بعضه إلى بعض ، ثمّ مُطروا حتى سالت مثاعب( (947) مثعب : أي مسيل . غريب الحديث لابن حجر ص ( 49 ) . لسان العرب ( مادة ثعب ) . 947) المدينة ، فما زالت إلى الجمعة المقبلة ما تُقِلع ، ثم قام ذلك الرجل - أو غيره - والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال : غَرِقْنا فادع ربَّك يحبسها عنا ، فضحك ثم قال : (( اللهمَّ حوالينا ولا علينا )) - مرتين أو ثلاثاً - فجعل السحابُ يتصدَّع ( (948) تصدع السحاب صدِْعاً : أي تقطَّع وتفَّرق . النهاية ( 3 / 16 ) . 948) عن المدينة يميناً وشمالاً يمطر ما حوالينا ، ولا يمطر فيها شيء يريهم الله كرامة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجابة دعوته )) . اهـ .
قلت : الشاهد من حديث أنس قوله " فضحك " .
قال الحافظ ابن حجر : " وفي رواية قتادة في الأدب (( فادع ربك أن يحبسها عنا فضحك)). وفي رواية ثابت ((فتبسم)) زاد في رواية حميد ((لسرعة ملال ابن آدم))( (949) انظر : الفتح ( 3 / 196 ) . 949).اهـ
وقال الحافظ أيضاً : وفيه جواز تبسم الخطيب على المنبر تعجباً من أحوال الناس( (950) انظر : الفتح ( 3 / 198 ) .950). اهـ .
78- إذا أغمي على الخطيب :
إذا أغمي على الخطيب أثناء الخطبة فإن وضوءه ينتقض يسيراً كان الإغماء أو كثيراً ، وذلك بالإجماع كما حكاه ابن المنذر بقوله : " أجمع العلماء على وجوب الوضوء على المغمى عليه ؛ لأن حسه أبعد من حس النائم بدليل أنه لا ينتبه بالإنباه( (951) انظر : المغني ( 1 / 234 ) وبمعناه في الإجماع لابن المنذر ص ( 31 ) . 951) . اهـ .

وأما صحة الخطبة من عدمها فمبني على مسألة اشتراط الطهارة لها ، وفي ذلك خلاف بين أهل العلم سبق ذكره مفصلاً في مبحث " الطهارة للخطبة " .
فمن قال بشرطيه الطهارة كأبي يوسف والشافعي في الجديد وأحمد في رواية عنه ( (952) انظر : البدائع ( 2 / 197 ) ، المجموع ( 4 / 344 ) ، المغني ( 3 / 177 ) . 952)، فإنها تبطل ؛ لأن الإغماء ينقض الوضوء عندهم .
ومن قال بعدم اشتراطها كأبي حنيفة ومالك والشافعي في القديم وأحمد في رواية ( (953) انظر : البدائع ( 2 / 197 ) ، المدونة ( 1 / 235 ) . المجموع ( 4 / 344 ) ، المغني ( 3 / 177 ) .953) ، فإن الخطبة صحيحة مع قولهم بأن الإغماء ينقض الوضوء .
قال صاحب الفتاوى التاتار خانية الحنفي : ولو خطب ثم مات أو جن أو أغمي عليه أو ارتد هل يعيد الخطبة؟ قال القاضي بديع الدين: لا رواية لهذا ، وينبغي أن يعيد( (954) انظر : الفتاوى التاتار خانية ( 2 / 60 ) . 954). اهـ.
وقال النووي : " لو أغمي على الخطيب في أثنائها أو أحدث - وشرطنا الطهارة - فهل يبني عليها غيره ؟ ، فيه طريقان أصحهما وبه قطع البغوي وصححه المتولي أن فيه قولين بناء على الاستخلاف في الصلاة ، والثاني القطع بالمنع حكاه المتولي ( (955) انظر : المجموع ( 4 / 351 ) . 955) " . اهـ .
79-

أكل الخطيب وشربه حال الخطبة
قال ابن المنذر : لا بأس به ، لأن الأشياء على الإباحة ، ولا تمنع حجة منه ، والوقوف عنه أحسن في الأدب ( (956) انظر : الأوسط ( 4 / 74 ) . 956) . اهـ .
قلت : وبه قال طاوس كما في مصنف ابن أبي شيبة ( (957) انظر : مصنف ابن أبي شيبة ( 2 / 66 ) . 957) .
وقال ابن الهمام : يحرم في الخطبة الأكل والشرب والكتابة . ( (958) انظر : فتح القدير ( 2 / 66 ) . 958) . اهـ .

وذكر ابن عابدين : " أنه يكره الفصل في الخطبة بأمر الدنيا ما عدا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكذا الوضوء أو الغسل لو ظهر أنه محدث أو جنب ، بخلاف ما إذا أكل أو شرب فإنه يستأنف الخطبة ( (959) انظر : حاشية ابن عابدين ( 3 / 36 ) . 959) " . اهـ .
وقال أبو الحسين العمراني الشافعي : " يجوز شرب الماء في حال الخطبة للعطش أو للتبرد . وقال مالك وأحمد والأوزاعي : " لا يجوز " . قال الأوزاعي : " فإن فعل ذلك بطلت جمعته " .
دليلنا : أن الكلام إذا لم يبطلها فشُرْب الماء أولى ( (960) انظر : البيان ( 2 / 580 ) . 960) . اهـ .
وقال النووي : " قال أصحابنا : يكره لهم شرب الماء للتلذذ ، ولا بأس بشربه للعطش للقوم والخطيب ، هذا مذهبنا ، قال ابن المنذر : رخص في الشرب طاوس ومجاهد والشافعي ، ونهى عنه مالك والأوزاعي وأحمد ( (961) انظر : المجموع ( 4 / 358 ) . 961) " . اهـ .
وقال أبو زرعة العراقي : " يجوز أن يتكلم الخطيب في أثنائها وينزل عن المنبر ويمشي ويشرب ويأكل اليسير الذي لا يحصل به التفريق " ( (962) انظر : طرح التثريب ( 3 / 185 ) . 962) . اهـ .
قلت : هذا هو حاصل أقوال أهل العلم في هذه المسألة . فلا أعلم حجة لمن منع من ذلك ، ولا دليل مع من شبَّه الخطبة بالصلاة . لأنها لو كانت صلاة لافتقرت إلى تكبير واستقبال قبلة وتسليم وغير ذلك . ومعلوم أن القول الصحيح هو أن الحدث لا يبطل الخطبة كما مرَّ معنا . فمن باب أولى الأكل والشرب . ولذلك فإن الصحيح إن شاء الله هو جواز الأكل والشرب حال الخطبة إلا أنه يكره ؛ لما يسببه من انشغال وإذهاب لهيبة المقام . والعلم عند الله تعالى .
80-

إذا قرأ الخطيب آية فيها سجدة
لابد قبل الشروع فيما يتعلق بهذه المسألة ، أن أتحدث عن حكم سجود التلاوة باختصار شديد ، فأقول :
اختلف أهل العلم في سجود القرآن على قولين :

فعند الحنفية ، ورواية عن الإمام أحمد أن سجود التلاوة واجب ( (963) انظر : حاشية ابن عابدين ( 2 / 503 ) ، الإنصاف ( 4 / 210 ) . 963) ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ( (964) انظر : الإنصاف ( 4 / 210 ) . 964) رحمه الله .
وذهب الجمهور إلى أن سجود التلاوة سنة وليس واجباً ( (965) انظر : الإفصاح ( 1 / 144 ) ، عقد الجواهر الثمينة ( 1 / 178 ) ، الأم ( 1 / 252 ) ، المغني ( 2 / 364 ) . 965) .
والذي يظهر أن الجمهور هم أحظ بالدليل من غيرهم ، وكان مما استدلوا به على ما ذهبوا إليه ما روى البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت قال : " قرأتُ على النبي صلى الله عليه وسلم { وَالنَّجْمِ } فلم يسجد فيها " ( (966) انظر : صحيح البخاري كتاب سجود القرآن ( رقم 1073 ) . 966) . فلو كان السجود واجباً لأمره النبي صلى الله عليه وسلم ولو بعد ذلك .
ويدل لذلك أيضاً : ما رواه البخاري في صحيحه بسنده في قصة قراءة عمر بسورة النحل وستأتي بعد قليل .
ومما يتعلق بهذه المسألة أيضاً باختصار أن سجود التلاوة يكون في حق القارئ والمستمع على ما دلَّت عليه السنة ؛ لما جاء في صحيح البخاري أن ابن عمر رضي الله عنهما قال : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته )) ( (967) انظر : صحيح البخاري كتاب سجود القرآن ( رقم 1075 ) . 967) .
وأما السامع وهو غير المستمع فلا يؤكد في حقه السجود مثلها يؤكد على المستمع كما قال الشافعي رحمه الله .
وقد روى عبدالرزاق بسند صحيح " أن عمران بن الحصين مَّ بقاص فقرأ القاص السجدة فمضى عمران ولم يسجد معه " ( (968) انظر : مصنف عبدالرزاق ( 3 / 345 رقم 5910 ) . 968) .

وصحَّ مثل ذلك عند عبدالرزاق عن سلمان ( (969) انظر : المصدر السابق ( رقم 5909 ) . 969) . وروى مثله عن عثمان رضي الله عنه " أنه مرَّ بقاص فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان فقال عثمان : إنما السجود على من استمع ثم مضى ولم يسجد " ( (970) انظر : المصدر السابق ( رقم 5906 ) .970) . اهـ .
بقي معنا ما يتعلق بسجود الخطيب على المنبر إذا مرَّ بآية سجدة . فالذي وقف عليه هو أن مالكاً رحمه الله يرى أن يمرّ على آية السجود ولا يسجد ( (971) انظر : المدونة ( 1 / 200 ) ، والمغني ( 3 / 181 ) ، فتح الباري ( 3 / 266 ) . 971) .
ولكن المتأمل في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يجد خلاف ما ذهب إليه مالك رحمه الله .
فقد أخرج أبو داود وابن خزيمة والحاكم من حديث أبي سعيد : ((قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ( ص ) ، فلما بلغ السجد نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأها ، فلما بلغ السجدة تشزَّن ( (972) التّشزُّن : التّأهُّب والتَّهيُّؤُ للشيء والاسْتعداد له . النهاية ( 2 / 471 ) . 972) الناس للسجود ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود فنزل وسجد وسجدوا))( (973) انظر : سنن أبي داود ( 2 / 124 رقم 1410 ) ، صحيح ابن خزيمة ( 2 / 354 رقم 1455 ) المستدرك ( 1 / 284 ) . 973) .
قال الشوكاني : رجال إسناده رجال الصحيح ( (974) انظر : نيل الأوطار ( 3 / 105 ) . 974) . اهـ .
ومن ذلك ما ثبت عند البخاري في صحيحه عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل ، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس ، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال : يا أيها الناس ، إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه ، ولم يسجد عمر رضي الله عنه ( (975) انظر : صحيح البخاري كتاب سجود القرآن ( رقم 1077 ) . 975) .

قال الحافظ ابن حجر : للخطيب إذا مرَّ بآية سجدة أن ينزل إلى الأرض ليسجد بها إذا لم يتمكن من السجود فوق المنبر ، وإن ذلك لا يقطع الخطبة ، ووجه ذلك فعل عمر مع حضور الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم ، وعن مالك يمرُّ في خطبته ولا يسجد ، وهذا الأثر وارد عليه ( (976) انظر : فتح الباري ( 3 / 266 ) . 976) . اهـ .
قلت : فيثبت بذلك مشروعية سجود التلاوة ولو على المنبر ، وهذا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
قال النووي : " قال أصحابنا : ولو قرأ سجدة نزل وسجد إن لم يمكنه السجود على المنبر ، فإن أمكنه ، لم ينزل بل يسجد عليه ، فإن لم يمكن السجود عليه وكان عالياً وهو بطيء الحركة بحيث لو نزل لطال الفصل ترك السجود ولم ينزل ، وهو موافق لنص الشافعي في المختصر " ( (977 انظر : المجموع ( 4 / 349 ) . 77 . اهـ .
وقال ابن قدامة : " وإن قرأ السجدة في أثناء الخطبة ، فإن شاء نزل فسجد ، وإن أمكن السجود على المنبر سجد عليه . وإن ترك السجود فلا حرج ، فعله عمر وترك . وبهذا قال الشافعي . وترك عثمان ، وأبو موسى ، وعمار ، والنعمان بن بشير ، وعقبة بن عامر . وبه قال أصحاب الرأي ؛ لأن السجود عندهم واجب . وقال مالك : لا ينزل ؛ لأنه صلاة تطوع ، فلا يشتغل بها في أثناء الخطبة ، كصلاة ركعتين . ولنا فعل عمر وتركه ، وفعل من سمينا من الصحابة ، رحمة الله عليهم ، ولأنه سنة وجد سببها ، لا يطول الفصل بها ، فاستٌحب فعلها ، كحمد الله تعالى إذا عطس ، وتشميت العاطس ، ولا يجب ذلك ؛ لما قدمنا من أن سجود التلاوة غير واجب " ( (978) انظر : المغني ( 3 / 180 ) . 978) . اهـ .
تنبيه :
ذهب الماوردي من الشافعية إلى أن الأولى للخطيب ألا يقرأ في خطبته آية سجدة ، ولو قرأ فالأولى ألا يسجد لئلا ينشغل بالسنة عن الواجب ( (979) انظر : الحاوي الكبير ( 2 / 444 ) . 979) . اهـ .

قلت : قوله بأن الأولى ألا يقرأ آية سجدة فيه نظر ، لورود الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سجدة وسجد ، وكذلك عن عمر رضي الله عنه كما مرَّ سابقاً .
فائدة :
كيفية نزول الخطيب من المنبر لأجل السجود .
قال الخطابي : " إذا قرأ الإمام السجدة وهو يخطب يوم الجمعة فإنه إذا أراد النزول لم يقهقر( (980) لبقَهْقَرى : هو المشي إلى خلْف من غير أن يعيد وجهه إلى وجهة مشيه . النهاية ( 4 / 129 ) . 980) ، ونزل مقبلاً على الناس بوجهه حتى يسجد . وقد فعله عمر بن الخطاب " ( (981) انظر : معالم السنن ( 1 / 248 ) . 981) . اهـ .
قلت : ولا يشكل على هذا ما جاء عند البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي في قصة صناعة المنبر وفيه : (( ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها - أي أعواد المنبر - وكبَّر وهو عليها ، ثم ركع وهو عليها ، ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ... الحديث )) ( (982) انظر : صحيح البخاري : كتاب الجمعة باب ( 26 حديث رقم 917 ) . 982) .
فلا يصح أن يقول قائل : إنه إذا أراد أن يسجد للتلاوة فإنه ينزل من المنبر القهقرى ؛ لأن الذي في حديث سهل كان في الصلاة ، وأما حديث السجود للتلاوة فهو أثناء الخطبة ، ولا يقاس هذا على هذا .
وقد ذكر الخطابي والحافظ ابن حجر : أن علة نزوله صلى الله عليه وسلم القهقرى لأجل أنه كان في صلاة ، ولئلا يولي القبلة قفاه محافظة على استقبال القبلة ( (983) انظر : معالم السنن ( 1 / 248 ) فتح الباري ( 3 / 62 ) . 983) .

81- إذا كان الخطيب والمأمومون كلهم خرساً أو كانوا كذلك دون الخطيب :
ذكر في الإنصاف أنه إذا كان المأمومون كلهم صمّاً فعلى قولين : قيل : تصح الخطبة وقيل : لا تصح . وإن كانوا كلهم خرساً مع الخطيب فالصحيح من المذهب أنهم يصلون ظهراً لفوات الخطبة صورة ومعنىً . قلت - أي صاحب الإنصاف - : فيعايى بها ( (984) قال في الصحاح ( 5 / 1944 مادة عيى ) : المعاياة : أن تاتي بشيء لا يهتدى له . قلت : هو ما يسمى الآن بالألغاز . 984) . وفيه وجه ، يصلون جمعة ، ويخطب أحدهم بالإشارة ، فيصبح كما تصح جميع عباداته ، من صلاته ، وإمامته ، ولعانه ، ويمينه ، وتلبيته ، وشهادته ، وإسلامه ، وردته ، ونحو ذلك . قلت - أي صاحب الإنصاف - : فيعايى بها أيضاً ( (985) انظر : الإنصاف ( 5 / 227 ) ، الفروع ( 2 / 117 ) . 985) . اهـ .
قلت : وهذا هو الصحيح . ومعنى يعايى بها أي : أن الفقهاء يجعلونها لغزاً .
82-

قول الخطيب : (( قال الله تعالى : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ))
يقع بعض الخطباء في خطأ ظاهر ، وذلك حينما يقول بعضهم : يقول الله تعالى في محكم التنزيل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. ثم يورد الآية ووجه الخطأ في ذلك هو إيراد الاستعاذة بعد قوله : يقول الله تعالى ، فيكون المعنى أن الاستعاذة هي مما قاله الله تعالى وهذا ليس بصحيح ، فالأولى أن يستعيذ فقط دون أن يسبقها بقوله : قال الله تعالى ، أو أن يكتفي بقوله : يقول الله تعالى ، ثم يورد الآية دون أن يستعيذ .

قال ابن عابدين الحنفي في حاشيته : " جرت العادة إذا قرأ الخطيب الآية أنه يقول : قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : " { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً } سورة الجاثية ، آية : 15 . الخ ، وفيه إيهام أن أعوذ بالله من مقول الله تعالى ، وبعضهم يتباعد عن ذلك فيقول : قال الله تعالى كلاماً أتلوه بعد قولي أعوذ بالله ... الخ ، ولكن في حصول سنة الاستعاذة بذلك نظر ، لأن المطلوب إنشاء الاستعاذة ، ولم تبق كذلك بل صارت محكية مقصوداً بها لفظاً ، وذلك ينافي الإنشاء كما لا يخفى ، فالأولى أن لا يقول : قال الله تعالى ، ولشيخ مشايخنا العلامة إسماعيل الجراحي شارح البخاري في رسالة في هذه المسألة لا يحضرني الآن ما قاله فيها ، فراجعها ( (986) انظر : حاشية ابن عابدين على الدر المختار ( 3 / 20 ) . 986) . اهـ .
83-

حكم استعاذة الخطيب وبسملته عند قراءة آيات في الخطبة
في هذه المسألة أمران : الأول : حكم الاستعاذة . والثاني : حكم البسملة .
الأمر الأول :
حكم الاستعاذة ، الكلام حول هذه المسألة من وجوه .
الوجه الأول :
قال الله تعالى : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} سورة النحل، آية: 98 . قد اختلف أهل العلم في المراد بهذه الآية على قولين :
القول الأول :
قالوا : محل الاستعاذة بعد القراءة تمسكاً بظاهر هذه الآية . وممن قال بهذا حمرة وهو أحد القراء وأبو حاتم السجستاني كما ذكر ذلك ابن كثير ( (987) انظر : تفسير ابن كثير ( 4 / 602 ) . 987) . وروي أيضاً عن أبي هريرة ومحمد بن سيرين والنخعي ، وكان أبو هريرة يتعوذ بعد فراغ الفاتحة لظاهر الآية . كما نقل ذلك النووي عنهم ( (988) انظر : المجموع ( 3 / 282 ) . 988) . اهـ . وهو قول داود الظاهري ( (989) انظر : تفسير القرطبي ( 1 / 123 ) . 989) .

قال ابن العربي عن هذا القول : انتهى العي بقوم إلى أن قالوا : إن القارئ إذا فرغ من قراءة القرآن حينئذٍ يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ( (990) انظر : أحكام القرآن ( 3 / 157 ) . 990) . اهـ .
القول الثاني :
قالوا : إن محل الاستعاذة قبل القراءة ، وأن معنى الآية : أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله كقوله تعالى :{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ..الآية}سورة المائدة ، آية: 6 أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة . وأمثال هذا في القرآن كثير . قال القرطبي : فأوقع الماضي مكان المستقبل كقول الشاعر :
وإني لآتيكم لذكر الذي مضى *** من الود واستئناف ما كان في غد
أي ما يكون في غد ( (991) انظر : تفسير القرطبي ( 1 / 212 ) . 991) . اهـ .
وسار على هذا القول جمهور العلماء ، وهو الصحيح كما بيَّن ذلك ابن العربي والقرطبي وابن كثير وغيرهم ، وحكى الجصاص بأن القول الأول قول شاذ ( (992) انظر : أحكام القرآن للجصاص ( 3 / 191 ) . 992) ، وضعَّف ابن الجزري صحة ما يروى عن أصحاب القول الأول ( (993) انظر : النشر في القراءات العشر ( 1 / 254 ) . 993) .
الوجه الثاني :
حكم الاستعاذة عند القراءة خارج الصلاة :
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين :
القول الأول :
قال أصحاب هذا القول بوجوب الاستعاذة عند القراءة خارج الصلاة . وممن قال بذلك عطاء ، واختاره ابن حزم ( (994) انظر : المصنف لعبدالرزاق ( 2 / 83 ) المحلى ( 3 / 250 ) . 994) .
ودليل هذا القول هو ظاهر الآية ، حيث إنه أمر ، والأمر يقتضي الوجوب .
القول الثاني :
قال أصحابه : إن الاستعاذة هنا مستحبة ، وهو قول جمهور أهل العلم ( (995) انظر : المجموع ( 3 / 281 ) ، المغني ( 2 / 145 ) . 995) ، وحكى السرخسي وابن عطية الإجماع على أنها سنة ، وذكر السرخسي أن قول عطاء مخالف للإجماع ( (996) انظر : المبسوط ( 1 / 13 ) ، المحرر الوجيز ( 1 / 48 ) . 996) .

قال الطبري : " ليس بالأمر اللازم وإنما هو إعلام وندب . وذلك لا خلاف بين الجميع أن من قرأ القرآن ولم يستعذ بالله من الشيطان الرجيم قبل قراءته أو بعدها أنه لم يضيع فرضاً واجباً ( (997) انظر : تفسير الطبري ( 17 / 293 ) . 997) . اهـ .
ودليل من قال بالاستحباب هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يورد كثيراً من الآيات في الخطب وفي غير الخطب ، وما نقل عنه أنه كان يفتتحها بالبسملة أو الاستعاذة .
الوجه الثالث :
وهو الجهر بها :
ذهب جمهور القراء إلى القارئ يجهر بها في غير الصلاة ، كما ذكر ذلك الإمام مكي ( (998) انظر : التبصرة ص ( 146 ) . 998) ، وذهب آخرون إلى الإسرار بها ؛ لئلا يظن ظان أو يتوهم متوهم أنه من القرآن أو أنه فرض لازم ، وهو مروي عن حمزة ونافع ( (999) انظر : التبصرة ص ( 245 ) ، النشر ( 1 / 252 ) . 999) .
الوجه الرابع :
اتفق القراء على مشروعية التعوذ قبل البسملة وذلك في ابتداء السور ، وأما إذا ابتدأ القارئ من وسط السورة أو نحو ذلك فقد اختلفوا هل يتعوذ أو يبسمل ، أو يجمع بينهما ؟ وصحح بعضهم أنه يتعوذ فقط ويقف بعد الاستعاذة ثم يقرأ القرآن ، ويجوز له أن يصل الاستعاذة بالقراءة مباشرة دون توقف ( (1000) انظر : التبصرة ص ( 246 وما بعدها ) ، النشر ( 1 / 157 وما بعدها ) .1000)
الأمر الثاني :
حكم قراءة البسملة في غير الصلاة :
أجمع العلماء على مشروعية التسمية عند القراءة خارج الصلاة عند قراءة أول السورة ما عدا سورة براءة ( (1001) انظر : التبصرة ص ( 249 ) ، النشر ( 1 / 263 ) .1001).
أما عند وسط السورة فيتعوذ فقط ولا يبسمل عند أكثر أهل العلم ( (1002) انظر : التبصرة ص ( 249 ) ، النشر ( 1 / 265 )1002) .
واختلفوا في الجهر بها أو الإسرار على قولين ( (1003) انظر : المصادر السابقة . 1003) .

قلت : والأظهر والأقرب هو القول بالجهر بها ؛ لموافقته لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد أخرج الإمام أحمد ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أنزلت عليَّ آنفاً سورة فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم . { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ{1} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ{2} إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ{3} } .. الحديث )) ( (1004) صحيح مسلم ( 1 / 300 رقم 400 ) مسند أحمد ( 3 / 102 ) . 1004) .
وهذا الحديث دليل واضح في أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بها في غير الصلاة ، وإلا لما نقلها الراوي كما سمعها . والعلم عند الله تعالى .
84-

تخصيص الخطيب الآية التي يقرآها في آخر الخطبة أو نحو ذلك بالاستعاذة أو البسملة دون غيرها من الآيات
ما يلتزمه بعض الخطباء في خطبهم من التغاير اللافت عند الاستشهاد بالآيات هو محل نظر ، حيث إن بعض الخطباء لا يزيد على قوله : قال الله تعالى ، ثم يقرأ الآية أو يقول نحو ذلك ، ولكنه إذا أراد أن يختم الخطبة بآية قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم يقرأ الآية فتجده يخصص الآية الأخيرة بالاستعاذة دون سواها، ولاشك أن هذا لا وجه له لأمور ثلاثة .
أحدها : أن هذا ليس بقراءة ، وإنما هو استشهاد بآية ، والله يقول : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} سورة النحل، آية: 98 . والمراد بالقراءة هنا التلاوة .
وثانيها : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل ذلك حسب الاستقراء في استشهاداته بالآيات ، فلم يرد أنه كان يستعيذ بالله إذا استشهد بآية ، إلا في حالة واحدة وهي التي ذكرناها سابقاً في سورة الكوثر ، حيث بدأها بالبسملة .

وثالثها : أن مثل هؤلاء الخطباء يلتزم الاستعاذة في الآية الأخيرة ، دون ما يسبقها من آيات ، ولا شك أن هذا تخصيص بدون مخصص ، وهنا مثار الإشكال والنقص ، فالأولى أن يأتي بالاستعاذة فيها كلها ، أو يترك الاستعاذة فيها كلها .
قال صاحب الفتاوى التاتار خانية الحنفي : " إذا أراد - أي الخطيب - أن يقرأ سورة تامة يتعوذ في أولها ويسمي ، وإن قرأ آية من القرآن اختلف المشايخ فيه ، قال بعضهم : " يتعوذ ويسمي ، وأكثرهم قالوا : " يتعوذ ولا يسمي " ، ولهذا تعارف الخطباء ترك التسمية أحياناً والإتيان بالتعوذ على كل حال يقولون : " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وقد يسمون وقد لا يسمون " . وأصل الاختلاف في القراءة في غير الخطبة إذا أراد أن يقرأ سورة يتعوذ ويسمي ، وإذا أراد أن يقرأ آية هل يسمي ؟ فعلى الاختلاف ( (1005) انظر : الفتاوى التاتار خانية ( 2 / 62 ) ، رد المختار ( 3 / 20 ) . 1005) : . اهـ .
فائدة :
حكى أبو الحين السخاوي إجماع المسلمين على أن الاستعاذة قبل القراءة ، وقال داود الظاهري : " الاستعاذة بعد الفراغ من القراءة عملاً بالآية { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ }( (1006) انظر : جمال القراء وكمال الإقراء ( 2 / 580 ) ، أحكام القرآن للقرطبي ( 10 / 156 ) والآية 98 من سورة النحل . 1006)
وممن قال بهذا حمزة وهو أحد القراء ، وأبو حاتم السجستاني ( (1007) انظر : تفسير ابن كثير ( 4 / 602 ) . 1007) ، وروي أيضاً عن أبي هريرة ومحمد بن سيرين والنخعي ( (1008) انظر : المجموع ( 3 / 282 ) . 1008) . وذلك تمسكاً بظاهر الآية .
قال ابن العربي : انتهى العي بقوم إلى أن قالوا : إن القارئ إذا فرغ من قراءة القرآن حينئذ يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ( (1009) انظر : أحكام القرآن ( 3 / 157 ) . 1009) . اهـ .

قلت : ينبغي أن لا يكون كلام ابن العربي هذا موجهاً إلى ما روي عن أبي هريرة وابن سيرين والنخعي ، لما في عبارته من الغلظة والفظاظة ، ولأن هذا القول منقول عنهم بصيغة التمريض ، فلعله إذن يشير بقوله هذا إلى داود الظاهري . والله أعلم .
85-

هل يزيد الخطيب في الخطبة حتى يفرغ الداخل من تحية المسجد ؟
جرت العادة على تخلف بعض المصلين عن التكبير يوم الجمعة ، فقد يأتي بعضهم وقد قارب الخطيب من نهاية خطبته ، فإذا دخل هذا المتأخر مع نهاية خطبة الخطيب ثمَّ شرع هذا المتأخر بتحية المسجد بحيث إن الخطيب سينتهي من خطبته قبل أن يتم هذا المتأخر ركعتي التحية ، فما موقف الخطيب حينئذ ؟ .
الواقع أنه ليس في هذه المسألة نص شرعي يمكن التمسك به ، غير أن هناك أقوالاً لبعض أهل العلم أورد بعضها :
فقد قال الشافعي رحمه الله تعالى متحدثاً عن المأموم إذا دخل المسجد والإمام يخطب بما نصه : " فإذا دخل والإمام في آخر الكلام ولا يمكنه أن يصلي ركعتين خفيفتين قبل دخول الإمام في الصلاة ... إلى أن قال : وأرى للإمام أن يأمره بصلاتهما ويزيد في كلامه بقدر ما يكملهما ، فإن لم يفعل الإمام كرهت ذلك ولا شيء عليه ( (1010) انظر : الأم ( 1 / 175 ) . 1010) . اهـ .
وقال النووي : "قال صاحب العدة : يستحب للإمام أن يزيد في الخطبة قدراً يمكنه أن يأتي بالركعتين فيه ، وهذا موافق لنص الإمام الشافعي ، فإنه قال في الأم .. الخ ( (1011) انظر : المجموع ( 4 / 384 ) . 1011). اهـ .
86-
هل نزول الخطيب من المنبر عند الحاجة إلى ذلك
هذا المسألة تنبني على الخلاف فيما يتعلق بالموالاة في الخطبة وعدم قطعها بفاصل يطول . ولا شك أن نزول الخطيب من المنبر ثم العودة إليه يعد من الفاصل ، ولكن هذا الفاصل هل يبطل الموالاة على قول من يشترط الموالاة ؟! فإنه إن طال الفاصل بطلت وعليه أن يعيد ، وإن لم يطل الفاصل لم تبطل ؟

قال الشافعي رحمه الله : " ولا بأس أن ينزل عن المنبر للحاجة قبل أن يتكلم ثم يعود إلى المنبر ، وإن نزل عن المنبر بعدما تكلم استأنف الخطبة ، لا يجزئه غير ذلك ، لأن الخطبة لا تعد خطبة إذا فصل بينها بنزول يطول أو بشيء يكون قاطعاً لها " ( (1012) انظر : الأم ( 1 /176 ) .1012) . اهـ .
وقد أخرج الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عبدالله بن بريدة عن أبيه قال : (( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان ، فنزل فأخذهما فصعد بهما المنبر ، ثم قال : (( صدق الله : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } سورة التغابن آية :15 . رأيت هذين فلم أصبر ، ثم أخذ في خطبته )) واللفظ لأبي داود ( (1013) انظر : جامع الترمذي ( 2 / 658 رقم 3774 ) ، سنن أبي داود ( 1 / 663 رقم 1109 ) ، النسائي ( 3 / 88 ) ، وابن ماجة ( 2 / 1190 رقم 3600 ) . 1013) .
وقد أخرج أبو داود وابن خزيمة والحاكم ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ على المنبر ( ص ) وبلغ السجدة نزل فسجد ( (1014) انظر : سنن أبي داود ( 2 / 124 رقم 1410 ) ، صحيح ابن خزيمة ( 2 / 354 رقم 1455 ) ، المستدرك ( 1 / 284 ) 1014) .
وقد أخرج البخاري في صحيحه عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل ، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد .. الخ ( (1015) انظر : صحيح البخاري ، كتاب سجود القرآن ، حديث رقم ( 1077 ) . 1015) .
ففي هذه الأحاديث دليل على جواز النزول للخطيب إذا احتاج لذلك ، وظاهره أنه لم يطل الفصل .

قال أبو زرعة العراقي : " قد يستدل بهذه القصة من لا يوجب الموالاة في الخطبة ، لكنه زمن يسير لا يقطع الموالاة عند من يشترطها ، فليست هذه الصورة في موضع النزاع .. والمرجع فيما يقطع الموالاة من كلام أم فعل إلى العرف ، وحيث انقطعت الموالاة استأنف الأركان . وقد يقال : لم تكن هذه الخطبة خطبة الجمعة ، لكن النسائي بوَّب عليه نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة يوم الجمعة . وقال الحاكم : هو أصل في قطع الخطبة والنزول من المنبر عند الحاجة " ( (1016) انظر : طرح التثريب ( 3 / 204 ) ، وانظر : سنن النسائي ( 3 / 88 ) . 1016) . اهـ .
وقد استدل الحافظ ابن حجر بهذه الأحاديث على أن النزول لا يقطع الخطبة ( (1017) انظر : فتح الباري ( 3 / 66 ) . 1017) .
وأما النووي فإنه قد فرَّق في ذلك بين النزول الذي يطول بسببه الفصل ، وبين الذي لا يطول به الفصل ، فذهب إلى أنه إذا كان مما يطول به الفصل فإنه يترك السجود ولا ينزل ، ويرى أن هذا هو الموافق لنص الشافعي ( (1018) انظر : المجموع ( 4 / 349 ) . 1018) .

إشكال وردُّه :
قال أبو زرعة العراقي عن حديث الحسن والحسين السابق ذكره : " إن قلت ظاهر الحديث أن قطع الخطبة والنزول لأخذهما فتنة دعا إليها محبة الأولاد ، وكان الأرجح تركه والاستمرار في الخطبة وهذا لا يليق بحال النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا يقطعه عن العبادة أمر دنيوي ، ولا يفعل إلا ما هو الأرجح والأكمل . قلت : قد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم جواز مثل ذلك بفعله فكان راجحاً في حقه لتضمنه بيان الشريعة التي أرسل بها ، وإن كان مرجوحاً في حق غيره ، لخلوه عن البيان ، وكونه نشأ عن إيثار مصلحة الأولاد على القيام بحق العبادة ، ونبَّه عليه الصلاة والسلام بما ذكره في ذلك على حال غيره في ذلك لا على حال نفسه ، فإنه عليه الصلاة والسلام لا يفعل ذلك إلا لمصلحة راجحة على مصلحة الخطبة ، وبتقدير أن يكون لمصلحة مرجوحة فذلك الفعل في حقه راجح على الترك ، لكونه بيَّن به جواز تقديم المصلحة المرجوحة على الأمر الراجح الذي هو فيه ، والله أعلم " ( (1019) انظر : طرح التثريب ( 3 /205 ) .1019)
87-

حكم قيام الخطيب أثناء الخطبة
اختلف أهل العلم في اشتراط قيام الخطيب حال الخطبة على قولين :
القول الأول :
وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنهما ، قالوا : إن القيام ليس شرطاً في صحة الخطبة ( (1020) انظر : البدائع ( 2 / 196 ) ، إكمال المعلم ( 3 / 256 ) ، المغني ( 3 / 171 ) . 1020) ، لأنه ذكر ليس من شرطه الاستقبال ، فلم يجب له القيام كالأذان ، فإن تركه صحت الخطبة .
واستبدل بعضهم لهذا القول بما أخرجه البخاري وغيره من حديث أبي سعيد (( أن النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله ... )) ( (1021) انظر : صحيح البخاري : الجمعة ، ( حديث رقم 921 ) . 1021) .

وبما أخرجه البخاري وغيره أيضاً من حديث سهل وفيه (( مُري غلامك يعمل لي أعواداً أجلس عليها )) ( (1022) انظر : صحيح البخاري : الجمعة ، ( حديث رقم 917 ) . 1022) .
وأجيب عن الدليل الأول : بأنه كان في غير خطبة الجمعة ، وعن الدليل الثاني : باحتمال أن تكون الإشارة إلى الجلوس أول ما يصعد وبين الخطبتين ( (1023) انظر : فتح الباري ( 3 / 63 ) . 1023) .
القول الثاني :
وهو قول مالك في إحدى الروايتين عنه والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين ، على أن القيام حال الخطبة شرط لابد منه ( (1024) انظر : إكمال المعلم ( 3 / 256 ) ، فتح الباري ( 3 / 63 ) ، الأم ( 1 / 342 ) ، المغني ( 3 / 171 ) . 1024) .
واحتج هؤلاء بما رواه مسلم وغيره عن جابر بن سمرة قال : (( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً ، ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائماً فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب ، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة )) ( (1024) انظر : صحيح مسلم ( 2 / 889 رقم 862 ) . 1024) .
قال النووي : المراد الصلوات الخمس لا الجمعة ( (1025) انظر : شرح النووي ( 6 / 150 ) . 1025) . اهـ .
وقال الشوكاني : ولابد من هذا ، لأن الجمع التي صلاها صلى الله عليه وسلم من عند افتراض صلاة الجمعة إلى عند موته لا تبلغ ذلك المقدار ولا نصفه ( (1026) انظر : نيل الأوطار ( 3 / 305 ) . 1026) . اهـ .
واحتجوا كذلك بما رواه البخاري وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً ثم يقعد ، ثم يقوم كما تفعلون الآن )) ( (1027) انظر : صحيح البخاري : الجمعة ، ( حديث رقم 920 ) .1027) .

وبما رواه مسلم عن كعب بن عجرة قال : دخل المسجد وعبدالرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً فقال : انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً ، وقد قال الله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً } ( (1028) انظر : صحيح مسلم برقم ( 864 ) ، والآية : 11 من سورة الجمعة . 1028) .
قال القاضي عياض : هذا الذم وإطلاق الخبيث عليه يشير إلى أن القيام عندهم كان واجباً ، وأما ظاهر الآية فلا دليل فيها إلا من جهة إثبات القيام للنبي صلى الله عليه وسلم ، ويحمل ذلك على أن المراد به أنه كان قائماً يخطب ، وأن أفعاله على الوجوب ، مع اتفاقهم على كونه مشروعاً( (1029) انظر : إكمال المعلم ( 3 / 257 ) . 1029) . اهـ .
وقال ابن المنذر : والذي عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار ، ما يفعله الأئمة إذا فرغ المؤذن من الأذان قام الإمام فخطب خطبة ... الخ ( (1030) انظر : الأوسط ( 4 / 59 ) . 1030) . اهـ .
وقال النووي : ودليلنا أنه صلى الله عليه وسلم قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي )) . مع الأحاديث الصحيحة المشهورة أنه صلى الله عليه وسلم (( كان يخطب خطبتين قائماً يجلس بينهما )) ( (1031) انظر : المجموع ( 4 / 344 ) . 1031) . اهـ .
وقال ابن قدامة : قال الأثرم : سمعت أبا عبدالله يُسْئَل عن الخطبة قاعداً ، أو يقعد في إحدى الخطبتين ؟ فلم يعجبه ، وقال : قال الله تعالى : { وَتَرَكُوكَ قَائِماً } . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً . فقال له الهيثم بن خارجة : كان عمر بن عبدالعزيز يجلس في خطبته . فظهر منه إنكار ( (1032) انظر : المغني ( 3 / 171 ) . 1032) . اهـ .

فائدتان :
الأولى :
قال الحافظ ابن حجر : أخرج ابن أبي شيبة عن طاوس " خطب رسول الله قائماً ، وأبو بكر قائماً ، وعمر قائماً ، وعثمان قائماً ، وأول من جلس على المنبر معاوية " ( (1033) انظر : مصنف ابن أبي شيبة ( 2 / 112 ) . 1033) .
وعنده من طريق الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعداً لما كثر شحم بطنه ولحمه ( (1034) انظر : مصنف ابن أبي شيبة ( 2 / 113 ) . 1034) . وهذا مرسل يعضده ما روى سعيد بن منصور عن الحسن قال : " أول من استراح في الخطبة عثمان ، وكان إذا أعيى جلس ولم يتكلم حتى يقوم، وأول من خطب جالساً معاوية " ( (1035) انظر : فتح الباري ( 2 / 401 ) . 1035).
وذكر الهيثمي عن موسى بن طلحة قال : شهدت عثمان يخطب على المنبر قائماً ، وشهدت معاوية يخطب قاعداً ، فقال : أما إني لم أجهل السنة ، ولكن كبرت سني ورقَّ عظمي ، وكثرت حوائجكم ، فأردت أن أقضي بعض حوائجكم قاعداً ، ثم أقوم فآخذ نصيبي من السنة .
قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير ، وفيه قيس بن الربيع وقد وثقه شعبة والثوري ، وضعَّفه غيرهما ( (1036) انظر : مجمع الزوائد ( 2 / 187 ) . 1036) . اهـ .
وروى عبدالرزاق عن معمر عن قتادة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة قياماً ، ثم فعل ذلك عثمان حتى شقَّ عليه القيام ، فكان يخطب قائماً ، ثم يجلس ثم يقوم أيضاً فيخطب ، فلما كان معاوية خطب الأولى جالساً ثم يقوم فيخطب الآخرة قائما " ( (1037) انظر : مصنف عبدالرزاق ( 3 / 187 رقم 5258 ) . 1037) .
قال الحافظ ابن حجر : ولا حجة في ذلك لمن أجاز الخطبة قاعداً ، لأنه تبين أن ذلك للضرورة . اهـ ( (1038) انظر : فتح الباري ( 3 / 64 ) . 1038) . والعلم عند الله تعالى .

الثانية :
أخرج عبدالرزاق عن محمد بن راشد قال : حدثنا سليمان بن موسى أن رسول الله وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة قياماً لا يقعدون إلا في الفصل بين الخطبتين ، وأول من جلس معاوية ، فلما كان عبدالملك خطب قائماً وضرب برجله على المنبر وقال : هذه السنة ، فلما طال عليه الأمر جلس بعد ( (1039) انظر : مصنف عبدالرزاق ( 3 / 188 ) . 1039) . اهـ .
قلت : وقد رأيت أن هذا الحديث مرسل ، فسليمان بن موسى ليس صحابيّاً .
88-

حكم جلوس الخطيب بين الخطبتين
روى الشيخان عن ابن عمر قال : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما )) ( (1040) انظر : صحيح البخاري الجمعة ( حديث رقم 928 ) ، صحيح مسلم : ( 2 / 889 رقم 861 ) . 1040) وقد تقدم من حديث جابر بن سمرة عند مسلم .
وقد اختلف أهل العلم في حكم هذه الجلسة على قولين :
القول الأول :
ذهبوا إلى عدم وجوب هذه الجلسة وأنها مستحبة ، لأنها جلسة ليس فيها ذكر مشروع فلم تكن واجبة كالجلسة الأولى . وبهذا قال جمهور أهل العلم ( (1041) انظر : البدائع ، ( 2 / 196 ) ، إكمال المعلم ( 3 / 257 ) ، المغني ( 3 / 176 ) ، فتح الباري ( 3 / 70 ) . 1041) .
قال ابن عبدالبر : ذهب مالك والعراقيون وسائر فقهاء الأمصار إلا الشافعي إلى أن الجلوس بين الخطبتين لا شيء على من تركه ( (1042) انظر : فتح البر ( 5 / 306 ) . 1042) . اهـ .
القول الثاني :
وهو قول الشافعي ، وحكى أنه رواية عن مالك على أن الجلوس بين الخطبتين واجب( (1043) انظر : الأم ( 1 / 342 ) ، المجموع ( 4 / 344 ) ، فتح الباري ( 3 / 70 ) . 1043) .
قال الحافظ ابن حجر : وزعم الطحاوي أن الشافعي تفرد بذلك وتعقب بأنه محكي عن مالك أيضاً في رواية، وهو المشهور عن أحمد، نقله شيخنا في شرح الترمذي( (1044) انظر : فتح الباري ( 3/ 70 ) ، إكمال المعلم ( 3 / 257 ) ، المجموع ( 4 / 344 ) . 1044) اهـ .

واستدل الشافعي فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومواظبته على ذلك مع قوله ((صلوا كما رأيتموني أصلي ))( (1045) انظر : البخاري ، ( حديث رقم 631 ) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه . 1045) .
وأجاب ابن دقيق العيد عن قول الشافعي هذا بقوله : يتوقف ذلك على ثبوت أن إقامة الخطبتين داخل تحت كيفية الصلاة ، وإلا فهو استدلال بمجرد الفعل ( (1046) انظر : فتح الباري ( 3 / 70 ) . 1046) . اهـ .
وحكى ابن المنذر أن بعض العلماء عارض الشافعي بأنه صلى الله عليه وسلم واظب على الجلوس قبل الخطبة الأولى ، فإن كانت مواظبته دليلاً على شرطية الجلسة الوسطى فلتكن دليلاً على شرطية الجلسة الأولى ( (1047) انظر : الأوسط ( 4 / 62 ) . 1047) . اهـ .
وتعقب الحافظ ابن حجر ابن المنذر بقوله : وهذا متعقب بأن جلَّ الروايات عن ابن عمر ليست فيها هذه الجلسة الأولى ، وهي من رواية عبدالله العمري المضعف فلم تثبت المواظبة عليها ، بخلاف التي بين الخطبتين ( (1048) انظر : فتح الباري ( 3 / 70 ) .1048) . اهـ .
وقد نصر قول الشافعي هذا النووي في المجموع ، واستدل له بقوله صلى الله عليه وسلم((صلوا كما رأيتموني أصلي )) ( (1048) صحيح البخاري ، الأذان ( حديث رقم 631 ) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه .1048) مع الأحاديث المشهورة أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين قائماً يجلس بينهما ( (1049) انظر : المجموع ( 4 / 344 ) . 1049) . اهـ .
قلت : والقول بالوجوب هو ظاهر صنيع البخاري في صحيحه حيث بوَّب لذلك باباً فقال : باب العقدة بين الخطبتين يوم الجمعة .
قال الحافظ ابن حجر : وظاهر صنيعه أنه يقول بوجوبها كما يقول به في أصل الخطبة( (1050) انظر : فتح الباري ( 3 / 70 ) .1050) . اهـ .

قال ابن المنذر : والذي عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار ما يفعله الأئمة ، وهو جلوس الإمام على المنبر أول ما يرقى إليه ، ويؤذن المؤذن والإمام جالس ، فإذا فرغ المؤذن من الأذان قام الإمام فخطب خطبة ثم جلس وهو في حال جلوسه غير خاطب ولا يتكلم ، ثم يقوم فيخطب الخطبة الثانية ثم ينزل عند فراغه ( (1051) انظر : الأوسط لابن المنذر ( 4 / 59 ) . 1051) . اهـ .
فوائد :
الأولى: اختُلف في الحكمة من هذه الجلسة بين الخطبتين :
قال الحافظ ابن حجر : قيل : للفصل بين الخطبتين ، وقيل : للراحة . وعلى الأول وهو الأظهر يكفي السكوت بقدرها . ويظهر أثر الخلاف أيضاً فيمن خطب قاعداً لعجزه عن القيام . وقد ألزم الطحاوي من قال بوجوب الجلوس بين الخطبتين أن يوجب القيام في الخطبتين ، لأن كلاً منهما اقتصر على فعل شيء واحد( (1052) انظر : الفتح ( 3/ 70 ) . 1052) .اهـ
الثانية : لم يرد نصٌّ صريحٌ في تحديد مقدار هذه الجلسة ، غير أن بعض الفقهاء قد تكلموا عن ذلك :
فقد قال في التاتار خانية : قال السرخسي : إذا تمكن في موضع جلوسه واستقر كل عضو منه في موضعه قام من غير مكث ولبث .
وكان ابن أبي ليلى يقول : إذا مسَّ الأرض في موضع جلوسه أدنى مسة قام إلى الخطبة الأخرى . وقال بعض الحنفية : مقدار ثلاث آيات ( (1053) انظر : الفتاوى التاتار خانية ( 2 / 61 ) . 1053).اهـ
وقال الطحاوي : " بقدر ما يمس موضع جلوسه من المنبر " ( (1054) انظر : حاشية ابن عابدين ( 3 / 19 ) . 1054).اهـ
وقال النووي : " قال أصحابنا : وهذا الجلوس خفيف جداً قدر سورة الإخلاص تقريباً ، والواجب منه قدر الطمأنينة " ( (1055) انظر : المجموع ( 4 / 344 ) . 1055) . اهـ .
وقال في الإنصاف : تكون الجلسة خفيفة جداً . قال جماعة : بقدر سورة الإخلاص ( (1056) انظر : الإنصاف ( 5 / 238 ) . 1056). اهـ .

وقال الحافظ ابن حجر : " وقدرها من قال بوجوبها بقدر جلسة الاستراحة ، وبقدر ما يقرأ سورة الإخلاص " ( (1057) انظر : الفتح ( 3 / 70 ) . 1057) . اهـ .
الثالثة : ما يقال في الجلسة بين الخطبتين :
لم أقف على ما يدل شرعاً على أن الخطيب يقوم شيئاً في هذه الجلسة . وقد قال ابن قدامة : " ولنا أنها جلسة ليس فيها ذكر مشروع " ( (1058) انظر : المغني ( 3 / 176 ) . 1058) . اهـ .
وأورد الحافظ ابن حجر الحديث الذي رواه أبو داود بلفظ : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين ، كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن ، ثم يقوم فيخطب ، ثم يجلس فلا يتكلم ، ثم يقوم فيخطب )) ( (1059) انظر : سنن أبي داود ( 1 / 657 رقم 1092 ) . 1059) .
قال الحافظ ابن حجر : واستفيد من هذا أن حال الجلوس بين الخطبتين لا كلام فيه ، لكن ليس فيه نفي أن يذكر الله أو يدعوه سرّاً ( (1060) انظر : الفتح ( 3 / 70 ) . 1060)
89-

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر أو الأمر بها
جرت عادة كثير من الخطباء على أن يختموا الخطبة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو الأمر بذلك ، وهذا لا دليل عليه في هذا الموضع ، والأولى ألا يقتصر على موضع واحد إن كان ، فتارة يصلي عليه في أولها ، وأخرى في أوسطها ، ولا يلتزم موضعاً واحداً يوهم أن ذلك هو السنة .
وهل يأمر المصلين بذلك ؟ .
الجواب : لا دليل على الأمر بها ، ولا مانع من ذلك أحياناً للتذكير بفضلها لاسيما في يوم الجمعة ، لأن الخطبة للموعظة والتذكير والإرشاد ، وأما الديمومة فلا دليل عليها . ولكن عمل الناس من قديم الزمن على ذلك ، غير أني لا أعلم مستنداً لهذا بل إنني وقفت على أثر ضعف يمنع من ذلك ، فقد روى الطبراني في الكبير عن عبدالله بن الزبير قال : " ليس من السنة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر " .

قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير وفيه ليث بن أبي سليم ، وهو مدلس ( (1061) انظر : مجمع الزوائد ( 2 / 188 ) . 1061) . اهـ .
قلت : فعلى قول ابن الزبير هذا يكون الأمر بها من باب أولى . ولكن الأثر هذا ضعيف كما ترى .
وأقدم ما وقفت عليه من الأقوال في هذه المسألة هو قول الأوزاعي رحمه الله ، والذي توفي سنة مائة وسبع وخمسين . فقد قال رحمه الله : " إذا صلى الإمام على النبي سكت حتى يصلي الناس ، فإن لم يسكت أنصت الناس ، وأمنوا على دعائه " ( (1062) انظر : مختصر اختلاف العلماء ( 1 / 333 ) . 1062) . اهـ .
ثم يليه في القدم قول أبي يوسف رحمه الله حيث توفي سنة ثنتين وثمانين ومائة من الهجرة
فقد قال رحمه الله : "إن الإمام إذا قرأ في خطبته { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } أنه ينبغي للناس أن يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال " ( (1063) انظر : الأصل ( 1 / 351 ) ، المبسوط ( 2 / 29 ) ، مختصر اختلاف العلماء ( 1 / 333 ) . 1063) . اهـ .
وكان أبو جعفر الطحاوي يقول : " على القوم أن يستمعوا إلى أن يبلغ الخطيب إلى قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } سورة الأحزاب، آية: 56.( (1064) انظر : الفتاوى التاتار خانية ( 2 / 67 ) . 1064) . اهـ.
وقال ابن المنذر - وهو من أهل القرن الثالث-: واختلفوا فيما يفعله المستمع للخطبة إذا قرأ الإمام {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ }الآية, فقالت طائفة : يصلون عليه في أنفسهم ويسلمون تسليماً ...الخ( (1065) انظر : الأوسط ( 4 / 81 ) . 1065) . اهـ

وقد ذكر ابن حزم في معرض حديثه عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة قائلاً : "والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر الخطيب في الصلاة عليه والتأمين على دعائه"( (1066) انظر : المحلى ( 5 / 62 ) . 1066) . اهـ
وقال النووي : " قال في البيان : إذا قرأ الإمام في الخطبة : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } جاز للمستمع أن يصلي على النبي ويرفع بها صوته " ( (1067) انظر : البيان : ( 2 / 600 ) ، والمجموع ( 4 / 412 ) . 1067) . اهـ .
وتحدث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مشيراً إلى مثل هذا ، فلم ينكره حيث قال : " وذلك أن الله تعالى أمر في كتابه بالصلاة والسلام عليه مخصوصاً بذلك فقال : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } سورة الأحزاب ، آية : 56. فهنا أخبر وأمر . وأما في حق عموم المؤمنين فأخبر ولم يأمر ، فقال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ } سورة الأحزاب ، آية : 43. ولهذا إذا ذكر الخطباء ذلك قالوا : إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه ، وثنى بملائكته ، وأيَّه بالمؤمنين من بريته أي قال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } اهـ( (1068) انظر : مجموع الفتاوى ( 27 / 408 ) . 1068) .
قلت : فدلَّ هذا على شهرة هذه المقولة منذ زمن متقدم أي في القرن الثاني الهجري . والعلم عند الله تعالى .
ثم إنني وقفت على كلام للشيخ الطنطاوي رحمه الله وهو من المعاصرين وقد قال فيه بما نصه : " وما يلتزمه الخطباء فيها - أي في الخطبة الثانية - من الصلاة الإبراهيمية ، والترضي عن الخلفاء والتابعين بأسمائهم ، لم يلتزمه أحدٌ من السلف ( (1069) انظر : فصول إسلامية ص ( 125 ) . 1069) . اهـ .

تنبيه :
ذكر فضيلة شيخنا الدكتور صالح الفوزان أن أمر الخطيب للحضور بأن يصلوا على النبي صلى الله وسلم من الابتداع والجهل ، فقد قال بما نصه : وربما أن بعض الخطباء يأمر الحاضرين بذلك - أي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا جهل وابتداع لا يجوز فعله ( (1070) انظر : انظر الملخص الفقهي للشيخ صالح الفوزان ( 1 / 175 ) . 1070) . اهـ .
وقد تحدث معي بعض طلبة العلم عن هذه المسألة ورأى بعضهم أنها بدعة ونسبوا ذلك إلى شيخ الإسلام رحمه الله .
قلت : ولا يثبت عن شيخ الإسلام أنه وصف أمر الخطباء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالبدعية حسب اطلاعي وبحثي . بل إنه أوردها في كلامه على هيئة المقر لها إذ لم يتعرض لها بشيء . فلعل هؤلاء الذين نقلوا عن شيخ الإسلام هذه المسألة قد وهموا والتبس عليهم الأمر بكلام آخر ذكره شيخ الإسلام لكنه يخص المؤذنين والحضور ولا يتعلق بالخطيب ، فلعلَّ من قرأ ذلك قد قاس الخطيب عليه ، أو ظن أن كلام شيخ الإسلام عام يشمل حتى الخطيب . وإليك نص كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة .
فقد قال رحمه الله : "جهر المؤذن بذلك -أي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم- كجهره بالصلاة والترضي عند رقي الخطيب المنبر ، أو جهزه بالدعاء للخطيب والإمام ، ونحو ذلك: لم يكن على عهد رسول الله صلى الله وسلم، وخلفائه الراشدين ، ولا استحبه أحد من الأئمة. وأشد من ذلك الجهر بنحو ذلك في الخطبة، وكل ذلك بدعة والله أعلم( (1071) انظر : مجموع الفتاوى ( 24 / 218 ) . 1071). اهـ .
قلت : قول شيخ الإسلام ( وأشد من ذلك الجهر بنحو ذلك في الخطبة ، وكل ذلك بدعة ) هذه العبارة هي محل وهم من ظن أن شيخ الإسلام يرى أن الأمر بالصلاة من قبل الخطيب بدعة ، وهذا الوهم باطل من وجوه :

الوجه الأول : أنه قال ( الجهر بنحو ذلك في الخطبة ) معلوم أن الخطبة ليست سرية بل هي جهرية ، فدلَّ على أن مراد شيخ الإسلام هو الجهر بها من قبل المؤذن أو الحضور .
الوجه الثاني : أنه مرَّ معنا أن شيخ الإسلام أورد قول الخطباء بالأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإقرار بذلك ، ولم ينكر بشيء من صور الإنكار ، فدلَّ على أنه لا يقول بالبدعية .
الوجه الثالث : أن مما يؤيد أن مراد شيخ الإسلام هو ما يفعله المؤذنون وقت الخطبة من الجهر بالأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، هو كلامه في موضع آخر أصرح من الوضع السابق حيث قال : " وأما رفع المؤذنين أصواتهم وقت الخطبة بالصلاة وغيرها ، فهذا مكروه باتفاق الأئمة " ( (1072) انظر : مجموع الفتاوى ( 24 / 218 ) .1072) . اهـ ، فدلَّ على أن قوله هنا ( وقت الخطبة ) هو قوله هناك في ( الخطبة ) وكلاهما يرجعان إلى فعل المؤذن . والله أعلم .
90-

إذا أغلق على الخطيب
قد يتلعثم الخطيب أو يغلق عليه في خطبته كما يغلق عليه في صلاته . فقد ذكر ابن قتيبة جملة من الذين أرتج ( (1073) أرتج على القارئ ، إذا لم يقدر على القراءة ، كأنه أطبق عليه . ولا تقل أرتجَّ بالتشديد . انظر الصحاح ( 1 / 279 مادة رتج ) ، النهاية ( 2 / 177 ) . 1073) عليهم وهم على المنبر ، كاليربوعي ، وعبدالله بن عامر ، وخالد بن عبدالله القسري ، ومعن بن زائدة ، وعبدربه اليشكري، وروح بن حاتم ، وغيرهم.
كما أنه ذكر عن ثابت قطنة أنه صعد منبراً بسجستان فحمد الله ثم أرتج عليه ، فنزل وهو يقول :
فإلا أكن فيكم خطيباً فإنني *** بسيفي إذا جدَّ الوغى الخطيب
فقيل له : لو قلتها على المنبر كنت أخطب الناس ( (1074) انظر : عيون الأخبار ( 2 / 641 ) . 1074) . اهـ .

وليس ذلك ببعيد ، إذ خطبة الجمعة أمرها عظيم ، فإن المنبر له هيبة لا يمكن إنكارها ، وقد ذكر ابن مفلح ما يدل على ذلك بقوله : وذكر ابن عبدالبر عن جماعة منهم عثمان ، وعبدالرحمن بن خالد بن الوليد ، وعبدالملك بن مروان ، ومعن بن زائدة ، وخالد القسري ، أنهم خطبوا فأرتج عليهم ، وعن بعضهم قال : هيبة الزلل تورث حصراً ، وهيبة العافية تورث جبناً . وذكر أبو جعفر النحاس أنه أرتج على يزيد بن أبي سفيان( (1075) قصة يزيد بن أبي سفيان ذكرها ابن قتيبة في عيون الأخبار ( 2 / 641 ) .1075) فعاد إلى الحمد ثلاثاً ، فأرتج عليه فقال : يا أهل الشام ، عسى الله أن يجعل بعد عسر يسراً ، وبعد عيّ بياناً ، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل ، ثم نزل ، فبلغ ذلك عمر بن العاص فاستحسنه . وقيل لعبدالملك بن مروان : عجل عليك الشيب ، فقال : كيف لا يعجل وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين ! ( (1076) قصة عبدالملك بن مروان ذكرها ابن قتيبة في عيون الأخبار ( 2 /643 ) .1076) وخطب عبدالله بن عامر في يوم أضحى فأرتج عليه ، فقال : لا أجمع عليكم لوماً وعياً ، من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها علي. وأرتج على معن بن زائدة فقال - وضرب برجله المنبر - فتى حروب لا فتى منابر ( (1077) انظر : الفروع ( 2 / 117 ) . 1077) . اهـ .
وقد خطب خالد بن عبد الله القسري مرة ، فعندما أرتج عليه اعتذر قائلا: أيها الناس ، إن الكلام يجيء أحيانا فيتسبب سببه ،و يعزب أحياناً فيعز طلبه، فربما طولب فأبى ،و كوبر فعصى ، فالتأني لمجيبه أصوب من التعاطي لآبيه( (1078) انظر : الخطابة لمحمد أبي زهرة ص ( 311 ) . 1078) . اهـ .

قلت : وقد نسب بعض أهل العلم عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : الحمد لله فأرتج عليه فقال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالاً ، وأنتم إلى إمام فعَّال أحوج منكم إلى إمام قوَّال ، وستأتيكم الخطب بعد ، وأستغفر الله لي ولكم ، ونزل وصلى بهم ولم ينكر عليه أحد ( (1079) انظر : بدائع الصنائع ( 2 / 196 ) ، الهداية شرح البداية للمرغيناني ( 1 / 89 ) . 1079)0
قال في فتح القدير عن قصة عثمان هذه : " إنها لم تعرف في كتب الحديث بل في كتب الفقه ( (1080) انظر : فتح القدير ( 2 / 57 ) . 1080) " . اهـ .
وذكر الزيعلي أنها لم ترو مسندة وإنما ذكرها القاسم بن ثابت السرقسطي في كتاب غريب الحديث من غير سند . وأقره ابن حجر في الدراية ( (1081) انظر : نصب الراية ( 2 / 197 ) ، الدراية ( 1 / 215 ) . 1081) .
وقال عبيد الله بن زياد : نعم الشيء الإمارة لولا قعقعة البريد ، والتشرف للخطيب . اهـ . ( (1082) انظر : عيون الأخبار ( 2 / 642 ) . 1082) .
وقد قال الشافعي رحمه الله : وإذا حُصر الإمام لقن .
قال النووي في المجموع : " قال الشيخ أبو حامد والأصحاب: ونص - أي الشافعي - في مواضع أخر أنه لا يلقن . قال القاضي أبو الطيب : قال أصحابنا : ليست على قولين بل على حالين فقوله : " يلقنه " أراد إذا استنطقة التلقين بحيث سكت ولم ينطق بشيء، وقوله "لا يلقنه" أراد ما دام يردد الكلام ويرجو أن ينفتح عليه فيترك حتى ينفتح عليه، فإن لم ينفتح عليه لقن، واتفق الأصحاب على أن مراد الشافعي هذا التفصيل، وأنها ليست على قولين( (1083) انظر : المجموع ( 4 / 359 ) ، الحاوى ( 2 / 444 ) . 1083)اهـ
وقال البغوى : " يلقن إن كانت الخطبة معهودة يعرفونها كما يفتح على الإمام القراءة .. وإن لم تكن الخطبة معروفة لا يلقن " ( (1084) انظر : التهذيب ( 2 / 343 ) . 1084) . اهـ .

قلت : وهو قول جمهور أهل العلم في الفتح على الإمام في الصلاة وتلقينه ، ولاشك أن الخطبة أقل شأناً من الصلاة ، ويدل على جواز تلقين الإمام ما رواه أبو داود وغيره من حديث المسور بن يزيد الأسدي رضي الله عنه قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة فترك شيئاً لم يقرأه ، فقال له رجل : يا رسول الله ، تركت آية كذا وكذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((هلا أذكرتنيها)) قال : كنت أراها نسخت ( (1085) سنن أبي داود ( 1 / 558 رقم 907 ) ، وانظر : صحيح ابن خزيمة ( 2 / 73 رقم 1648 ) . 1085).
ولأبي داود أيضاً من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه ، فلما انصرف قال لأُبي رضي الله عنه : (( أصليت معنا )) قال : نعم . قال : (( فما منعك ؟ )) ( (1086) سنن أبي داود ( 1 / 558 رقم 907 ) .1086) .
إشكال ودفعه :
قد يشكل على هذين الحديثين السابقين ما رواه أبو داود أيضاً من حديث علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا علي ، لا تفتح على الإمام في الصلاة )) ( (1087) سنن أبي داود ( 1 / 559 رقم 908 ) .1087) .
فالجواب على هذا : هو أن الإشكال يزول بأن حديث علي ضعيف لا يقاوم الحديثين السابقين فلا معارضة حينئذ .
قال الخطابي عن حديث علي هذا : إسناد حديث أُبيّ رضي الله عنه جيد ، وحديث علي رضي الله عنه من رواية الحارث وفيه مقال ( (1088) معالم السنن للخطابي المطبوع على هامش سنن أبي داود ( 1 / 559 ) . 1088) . اهـ .
91-

ذكر الخلفاء الراشدين وغيرهم في الخطبة
جرت عادة بعض أهل السنة من قديم الزمن على ذكر الخلفاء الأربعة الراشدين وغيرهم - كالعشرة المبشرين بالجنة والعمين والبسطين - في خطبهم ، وذلك بالدعاء لهم والثناء عليهم حتى لقد عدَّ بعض أهل العلم ذلك من شعار أهل السنة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية على ما سيأتي .

ولعل أول من سنَّ ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة هو عمر بن عبدالعزيز لما كان بعض بني أمية يسبون عليّاً ، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( (1089) انظر : مختصر منهاج السنة النبوية للغنيمان ( 1 / 216 ) . 1089) .
وقد خالف في ذلك بعض أهل العلم كالمقبلي ، ورأى أن هذا من الأمور المبتدعة . فقد قال بما نصه : " وأما ذكر الخلفاء عدلهم وجائرهم فما هو إلا بدعة ، والتعلق بالعوائد الذي لا شاهد لأهلها ، ولا صدرت عن محلها ، إنما هي من أرباب الملوك ... فليس فيها متشبث للمتقي " ( (1090) انظر : المنار في المختار ص ( 235 ) . 1090) . اهـ .
ثم إن الشيعة قد خالفوا أهل السنة في ذلك فأنكروا ذكر الخلفاء الأربعة وابتدعوا مكانها ذكر الأئمة الاثنى عشرية ( (1091) انظر : مختصر منهاج السنة ( 1 / 213 ) . 1091) .
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى التومرتية الذين كانوا يدعون لابن التومرت مع تركهم لذكر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فقال : " ووصفوه بالصفات التي تُعلم أنها باطلة ، وجعلوا حزبه هم خواص أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتركوا مع ذلك ذكر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين .... الخ " ( (1092) انظر : مختصر منهاج السنة ( 1 /217 ) .1092) . اهـ .
ويمكن أن يرد على من أنكر ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة بما ذكره شيخ الإسلام راداً على هذا الزعم الباطل بما خلاصته :
الوجه الأولى :
أن ذكر الخلفاء على المنبر كان على عهد عمر بن عبدالعزيز ، بل قد روي أنه كان على عهد عمر بن الخطاب ، وحديث ضبة بن محصن رضي الله عنه من أشهر الأحاديث في قصة أبي موسى الأشعري الذي كان يدعو في خطبته لعمر بن الخطاب .
الوجه الثاني :
أنه قد قيل : إن عمر بن عبدالعزيز ذكر الخلفاء الأربعة لما كان بعض بني أمية يسبون عليّاً ، فعوَّض عن ذلك بذكر الخلفاء والترضي عنهم ليمحو تلك السنة الفاسدة .

الوجه الثالث :
أن أهل السنة لا يقولون إن ذكر الخلفاء في الخطبة فرض ، بل يقولون إن الاقتصار على علي وحده أو الأئمة الاثنى عشر هو البدعة المنكرة التي لم يفعلها أحد ، لا من الصحابة ، ولا من التابعين ، ولا من بني أمية ، ولا من بني العباس ، وإن كان ذكر علي لكونه أمير المؤمنين مستحب ، فذكر الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدين أولى بالاستحباب .
الوجه الرابع :
أن ذكر الخلفاء الراشدين على المنبر يوم الجمعة إنما هو تعويض عن سبِّ من يسبهم ويقدح فيهم ، ليكون ذلك حفظاً للإسلام بإظهار موالاتهم والثناء عليهم ، ومنعهم ممن يريد عوراتهم والطعن عليهم . ولو ترك الخطيب ذكر الأربعة جميعاً لم ينكر عليه ، وإنما المنكر الاقتصار على واحد دون الثلاثة السابقين كما أنكر على أبي موسى ذكره لعمر دون أبي بكر ، مع أن عمر كان هو الحي خليفة الوقت ( (1093) انظر : مختصر منهاج السنة ( 1 / 216 وما بعدها ) . 1093) . اهـ .
وحاصل كلام شيخ الإسلام في هذا هو أن ذكر الخلفاء الراشدين لا يجب في كل زمان ومكان إلا إذا قدر أن الواجبات الشرعية لا تقوم إلا بإظهار ذكر الخلفاء فإنه يكون مأموراً به في هذه الحال بحيث إذا ترك ظهر شعار أهل البدع والضلال كالاثني عشرية والتومرتية( (1094) انظر : المصدر السابق ( 1 / 217 ) . 1094) .
وقال ابن نجيم الحنفي : وذكر الخلفاء الراشدين مستحسن . بذلك جرى التوارث . وبذكر العمين( (1095) انظر : البحر الرائق ( 2 / 148 ) . 1095) . اهـ .
قلت : يعني بالعمين : حمزة والعباس رضي الله عنهما .
وذكر ابن عابدين مثل قول ابن نجيم ( (1096) انظر : رد المحتار ( 3 / 20 ) . 1096) .

وقال الزبيدي : " وذكر الخلفاء الراشدين عموماً ، والعمين ، والسبطين ، وأمهما ، وجدتهما ، مستحسن ، وإن احتاج إلى ذكر الأربعة الخلفاء على الخصوص بأن كان في بلدٍ فيه الرافضة ، فلا بأس أن يطيل بذكرهم كل واحد باسمه مع الأوصاف اللائقة بهم ، ثم يعطف عليهم بالباقين من العشرة " ( (1097) انظر : إتحاف السادة المتقين ( 3 / 231 ) . 1097) . اهـ .
وقال الشيخ محمد رشيد رضا : " الترضي عن الخلفاء الراشدين ، وسائر العشرة من الصحابة المبشرين بالجنة - رضي الله عنهم - حسن ، وقد شرع الله لنا أن ندعوا لأنفسنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، وهؤلاء العشرة خيارهم " ( (1098) انظر : مجلة المنار ( 31 / 54 ) . 1098). اهـ .
92-

حكم الدعاء في الخطبة الجمعة
لم أقف على نص صحيح يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا في خطبة الجمعة بدعاء معين سوى ما جاء عنه في دعاء الاستسقاء وهو في خطبة الجمعة على المنبر كم سيأتي بيانه إن شاء الله .
ولأهل العلم أقوال حول هذه المسألة حيث ذهب جمهورهم إلى مشروعية الدعاء في خطبة الجمعة واستحبابه للمؤمنين والمؤمنات ، وفي مصالح المسلمين الدنيوية والأخروية . وإليك بعض أقواله في هذا :
فقد قال الكاساني الحنفي: من سنن الخطبة أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات اهـ ( (1099) انظر : البدائع ( 2/ 196 ) ، الفتاوى التاتار خانية ( 2 / 61 ) .1099) .
وقد حكى النووي عن الشافعية قولين أحدهما : أنه مستحب . والثاني : أنه ركن لا تصح الخطبة إلا به وهو الصحيح المختار . اهـ . ( (1100) انظر : المجموع ( 2 / 390 ) ، البيان ( 2 / 572 ) .1100) .
وقال ابن قدامة : ويستحب أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات ولنفسه والحاضرين ( (1101) انظر : المغني ( 3 / 181 ) 1101) . اهـ .

قال المرداوي : بلا نزاع . وأشار بعض أهل العلم أنه باتفاق الأربعة ، لأن الدعاء لهم مسنون في غير الخطبة ففيها أولى ( (1102) انظر : الإنصاف ( 5 / 243 ) . 1102) . اهـ .
وقال الرملي : يسن الدعاء للمؤمنين بأخروي لا دنيوي ، لاتباع السلف والخلف ، ولأن الدعاء يليق بالخواتيم ( (1103) انظر : نهاية ( 2 / 316 ) . 1103) . اهـ .
وقد ذهب ابن حزم إلى مشروعية دعاء الخطيب في الخطبة ( (1104) انظر : المحلى ( 5 / 62 ) . 1104) .
وقد ذكر شيخ الإسلام وابن القيم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا أشار بأصبعه . اهـ ( (1105) انظر : الاختيارات ( كتاب الجمعة ، باب 35 رقم ( 933 ) ، زاد المعاد ( 1 / 428 ) .1105) فهذا يدل على أنهما يقولان بمشروعية الدعاء في الخطبة .
قلت : ويستدل لأصحاب هذا القول بدليلين : أحدهما : حينما استسقى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يوم الجمعة كما في الصحيحين وغيرهما ( (1106) انظر : صحيح البخاري ( حديث رقم 1021 ) ، صحيح مسلم ( 2 / 612 رقم 897 ) . 1106) .
وثاني الدليلين : هو ما رواه أحمد عن حصين بن عبدالرحمن السلمي عن عمارة بن روبية (( أنه رأى بشر بن مروان رافعاً يديه يشير بأصبعه يدعو ، فقال : لعن الله هاتين اليدين ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلمعلى المنبر يدعو وهو يشير بأصبع )) وفي رواية لأحمد (( بأصبعه السبابة )) ( (1107) انظر : مسند أحمد ( 4 / 135 ، 261 ) . 1107) وأصل هذه القصة عند مسلم بلفظ آخر .
وقد ذهب البيهقي والشوكاني إلى مشروعية الدعاء في الخطبة عملاً بهذا الحديث( (1108) انظر : السنن الكبرى ( 3 / 210 ) ، نيل الأوطار ( 3 / 283 ) . 1108).
قلت : وفي كلام بعض أهل العلم ما يشير إلى التردد في القول بمشروعية الدعاء حال الخطبة .

فظاهر كلام الشافعي يدل على أنه لا يقوم بذلك فإنه قد نصَّ قائلاً : وأحب أن يخلص الإمام ابتداءً النقص في الخطبة بحمد الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم والعظة والقراءة ولا يزيد على ذلك ( (1109) انظر : الأم ( 1 / 347 ) . 1109) . اهـ .
قلت : يؤكد ذلك إيراده رحمه الله لأثر عطاء حين سأله ابن جريج : ما الذي أرى الناس يدعون به في الخطبة يومئذ ، أبلغك عن النبي عليه الصلاة والسلام أو عمن بعد النبي عليه الصلاة والسلام ؟ قال : لا إنما أحدث ، إنما كانت الخطبة تذكيراً . اهـ ( (1110) انظر : المصدر السابق . 1110).هذا ظاهر كلام الشافعي ، والله أعلم .
وقال المقبلي : وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فتحتاج إلى نقل ، ولا نعلمه ، وكذلك التزام الدعاء بل أكثريته لم ينقل ( (1111) انظر : المنار في المختار ص ( 235 ) . 1111) . اهـ .

وقال شيخنا العلامة الشيخ محمد بن عثيمين : " ينبغي أيضاً في الخطبة أن يدعو للمسلمين الرعية والرعاة ... الخ " ثم قال : " لكن قد يقول قائل : كون هذه الساعة مما ترجى فيها الإجابة ، وكون الدعاء للمسلمين فيه مصلحة عظيمة موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وما وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله ، فتركه هو السنة ، إذ لو كان شرعاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم ، فلابد من دليل خاص يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمسلمين ، فإن لم يوجد دليل خاص فإننا لا نأخذ به ، ولا نقول إنه من سنن الخطبة ، وغاية ما نقول : إنه من الجائز لكن قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ((كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات في كل جمعة)) فإن صحَّ هذا الحديث فهو أصل في الموضوع ، وحينئذ لنا أن نقول : إن الدعاء سنة . أما إذا لم يصح فنقول : إن الدعاء جائز ، وحينئذ لا يتخذ سنة راتبة يواظب عليه ، لأنه إذا اتخذ سنة راتبة يواظب عليه فهم الناس أنه سنة، وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع فإنه ينبغي تجنبه( (1112) انظر : الشرح الممتع ( 5 / 87 ) . 1112) .اهـ
قلت : قول شيخنا ابن عثيمين : " كل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع فإنه ينبغي تجنبه " !!! . اهـ قد قال بمثله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حول ترك قراءة سورتي السجدة والإنسان فجر الجمعة أحياناً بما نصه : " ولا ينبغي المداومة على ذلك ، لئلا يظن الجاهل أن ذلك واجب ، بل يقرأ أحياناً غيرهما من القرآن " ( (1113) انظر : انظر مجموع الفتاوى ( 24 / 206 ) . 1113) . اهـ .
وبمثل قول شيخ الإسلام قد قال ابن القيم رحمه الله بما نصه : " ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السور في فجر الجمعة ، دفعاً لتوهم الجاهلين ( (1114) انظر : زاد المعاد ( 1 / 375 ) . 1114) " . اهـ .

قلت : والحديث الذي ذكره شيخنا أخرجه البزار والطبراني في معجمه الكبير عن سمرة بن جندب رضي الله عنه ، ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات كل جمعة( (1115) انظر : كشف الأستار عن زوائد البزار ( 1 / 307 رقم 641 ) المعجم الكبير ( 7 / 318 ) . 1115) قال البزار : لا نعلمه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد . وفي إسناد البزار يوسف بن خالد السمتي ، وهو ضعيف كما ذكر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد( (1116) انظر : مجمع الزوائد ( 2 / 190 ) . 1116) ، وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام : رواه البزار بإسناد فيه لين ( (1117) انظر : بلوغ المرام ( ص 101 ) . 1117).
قلت : وهناك حديث آخر لم يذكره شيخنا ، وقد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج عن ابن شهاب قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على المنبر يوم الجمعة ، فيؤمن الناس ، قال ؛ وقد قال عطاء : هو حدث وهو حسن ( (1118) انظر : مصنف عبدالرزاق ( 3 / 216 ) . 1118). اهـ
قلت : وهذا حديث مرسل من قبل الزهري .
وقد يؤكد كلام شيخنا ما ذكره ابن قدامة بقوله : " إذا بلغ الخطيب إلى الدعاء فهل يسوغ الكلام ؟ فيه وجهان : أحدهما الجواز لأنه فرغ من الخطبة وشرع في غيرها فأشبه ما لو نزل... إلى أن قال : ويحتمل أنه إن كان دعاءً مشروعاً كالدعاء للمؤمنين والمؤمنات وللإمام العادل ، أنصت له، وإن كان لغيره لم يلزم الإنصات ، لأنه لا حرمة له( (1119) انظر : المغني ( 3 / 200 ) . 1119) ".
قلت : لاحظ قول ابن قدامة " لأنه فرغ من الخطبة " فدلَّ على أن الدعاء ليس من الخطبة على الاحتمالين . والله أعلم .

وقال الشيخ محمد رشيد رضا عن الدعاء في خطبة الجمعة :" ولا ينبغي أن يلتزم دائماً ، لئلا يظن العوام أنه واجب ، وإذا كان ملتزماً في بلد وخشي من سوء تأثير تركه في العامة فينبغي للخطيب أن يتقي سوء هذا التأثير بأن يذكر على المنبر أن هذا دعاء مستحب على إطلاقه ، ولم يطلبه الشرع في الخطبة فهو ليس من أركانها ولا من سننها . وإلا بقي مواظباً عليه( (1120) انظر : مجلة المنار الجزء ( 31 / 54 ) . 1120) . اهـ
وقد قال الشيخ علي الطنطاوي :" والدعاء الذي يكون في آخر الخطبة ليس شرطاً ولا كان السلف يواظبون عليه( (1121) انظر : فصول إسلامية ص ( 126 ) . 1121) ".اهـ
فائدة :
قال في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج": وجزم ابن عبد السلام في الأمالي والغزالي تحريم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات بمغفرة جميع ذنوبهم وبعدم دخولهم النار ، لأنا نقطع بخبر الله تعالى وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم من يدخل النار ، وأما الدعاء بالمغفرة في قوله تعالى حكاية عن نوح : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} سورة نوح ، آية : 28 . ونحو ذلك ، فإنه ورد بصيغة الفعل في سياق الإثبات ، وذلك لا يقتضي العموم ، لأن الأفعال نكرات ، والجواز قصد ومعهود خاص وهو أهل زمانه مثلاً ( (1122) انظر : نهاية المحتاج ( 2 / 3165 ) . 1122).اهـ .
93-

الدعاء للسلطان في الخطبة
الدعاء للسلطان أو ولاة أمور المسلمين مسألة لا تخلو من حيث القسمة من حالين :
الحال الأولى : أن يدعى له مطلقاً دون تقييد بخطبة أو نحوها .
أما الحال الثانية : فهي أن يدعى له حال الخطبة .
فأما الحال الأولى :
فإن من اعتقاد أهل السنة والجماعة : طاعة ولاة الأمر بالمعروف ، وأن ذلك فريضة ما لم يأمروا بمعصية ، والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق للخير والسداد .

يقول الطحاوي رحمه الله في متنه في الاعتقاد عن الأئمة والولاة : ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية ، وندعو لهم بالصلاة والمعافاة..الخ( (1123) انظر : شرح الطحاوية . ( ص 364 ) . 1123).اهـ .
قال بعض أهل العلم : وأما الدعاء مطلقاً لولي أمر المسلمين منهم فهو مستحب( (1124) انظر : الإنصاف ( 5 / 243 ) . 1124) . ومن ذلك ما ثبت عن الفضيل بن عياض رحمه الله أنه قال : " لو أن لنا دعوة مستجابة ما صيرناها إلا للإمام " ونسب بعض أهل العلم ذلك للإمام أحمد أيضاً كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره .
وفي كتاب " السنة " للخلال بسنده عن الإمام أحمد : " وإني لأدعو له - الإمام - بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار والتأييد ، وأرى ذلك واجباً علي " ( (1125) انظر : السنة للخلال ( 1 / 83 ) ، البداية والنهاية ( 10 / 310 ) . 1125) اهـ .
وقد ذكر أبو عبدالله الإمام أحمد رحمه الله الخليفة المتوكل رحمه الله فقال : إني لأدعو له بالصلاح والعافية ( (1126) انظر : المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة ( 2 / 3 ) . 1126) . اهـ .
وقد ثبت عنه أيضاً أنه دعا للمتوكل وقال : " أيده الله : ثم قال : " وإني أسأل الله أن يديم توفيق أمير المؤمنين أعزه الله بتأييده ، ثم قال : فأسأل الله أن يستجيب في أمير المؤمنين صالح الدعاء ، وأن يتم ذلك لأمير المؤمنين أدام الله عزه ، وأن يزيد في نيته ويعينه على ما هو عليه " ( (1127) انظر : المصدر السابق ( 1 / 199 ) . 1127) . اهـ .

وأخرج البيهقي في الشعب حديث((الدين النصيحة..))الحديث ثم قال: قال أبو عثمان الزاهد : " فانصح للسلطان وأكثر من الدعاء له بالصلاح والرشاد بالقول والعمل والحكم ، فإنهم إذا صلحوا صلح العباد بصلاحهم ، وإياك أن تدعو عليهم باللغة فيزدادوا شرّاً ، ويزداد البلاء على المسلمين ، ولكن ادع لهم بالتوبة فيتركوا الشر فيرتفع البلاء من المؤمنين " ( (1128) انظر : الجامع لشعب الإيمان للبيهقي ( 13 / 99 ) . 1128) .
قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري : " وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى ، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله " .
ويقول فضيل بن عياض : "لو كانت لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان" قيل له: يا أبا علي، فسِّر لنا هذا ؟ قال: "إذا جعلتها في نفسي لم تتعدني ، وإذا جعلتها في السلطان صلح بصلاحه العباد والبلاد" .فأمرنا أن ندعوا لهم بالصلاح ، ولم نؤمر أن ندعوا عليهم وإن ظلموا وإن جاروا ، لأن ظلمهم وجورهم على نفسهم ، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين ( (1129) انظر : شرح السنة للبربهاري ص ( 116 ) . 1129) .
وقال المناوي متحدثاً عن السلطان : " وقد حذر السلف من الدعاء عليه ، فإنه يزداد شرّاً ويزداد البلاء على المسلمين " ( (1130) انظر : فيض القدير ( 6 / 449 ) . 1130) .
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته " الجواب الباهر في زوار المقابر " التي وجهها إلى السلطان فكان مما قال فيها : إني لما علمت مقصود ولي الأمر السلطان - أيده الله وسدده - فيما رسم به ... الخ " .
ثم قال أيضاً : " فأنا أعلم أن الحق ظاهر مثل الشمس يعرفه أقل غلمان السلطان الذي ما رئي في هذه الأزمان سلطان مثله - زاده الله علماً وتسديداً وتأييداً ... " ( (1131) انظر : مجموع الفتاوى ( 27 / 314 وما بعدها ) .1131) . اهـ .

قلت : ومن تتبع كلام أهل السنة والجماعة علم أن الدعاء مطلقاً لولاة الأمر بالصلاح والهداية أمر مبذول ومطروق ؛ لأن الدعوة بالصلاح للسلطان متعدية المصلحة بحيث إنه إذا صلح صلَح بصلاحه العباد والبلاد ، ومما يستأنس به فيما يتعلق بالدعاء لولاة الأمر ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، ويصلون عليكم وتصلون عليهم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم )) الحديث رواه مسلم ( (1132) انظر : صحيح مسلم ( 3 / 1481 رقم 1855 ) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه . 1132) .
المقصود بالصلاة هنا : ( الدعاء ) على أحد التفاسير .
هذا حاصل ما يخص الدعاء للسلطان مطلقاً دون تقييد .
وأما الحال الثانية :
وهي التي تعنينا هنا ، حيث تخص الدعاء للسلطان أثناء الخطبة ، فللعلماء في ذلك آراء أسرد وقفت عليه منها وهي على ثلاثة آراء :
الرأي الأول :
وهم الذين منعوا من الدعاء للسلطان أثناء الخطبة دون غيرها وقالوا : " إن هذا محدث لا أصل له " .
وممن قال بذلك عطاء ، كما روى الشافعي في الأم بسنده عن ابن جريج قال : قلت لعطاء: ما الذي أرى الناس يدعون به في الخطبة يومئذ أبلعك عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عمن بعد النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ، إنما أحدث، إنما كانت الخطبة تذكيراً))( (1133) الأم ( 1 / 180 ) . 1133)
قال النووي عن رواية الشافعي هذه : إسنادها صحيح إلا عبدالمجيد فوثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، وضعفه أبو حاتم الرازي والدار قطني ( (1134) انظر : المجموع ( 4 / 346 ) . 1134) . اهـ .
قال الشافعي في الأم : " فإن دعا لأحد بعينه أو على أحد كرهته ، ولم تكن عليه إعادة ( (1135) انظر : الأم ( 1 / 181 ) .1135) " .

وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : " باب ما يكره من الدعاء لأحد بعينه أو على أحد بعينه في الخطبة " . ، ثم أورد أثر عطاء ، ثم أسند عن ابن عون قال : نبئت أن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه كتب ألا يسمى أحد في الدعاء ( (1136) انظر : السنن الكبرى ( 3 / 217 ) .1136) " .
وقال البغوي : " ولا يستحب الدعاء للوالي على التخصيص في الخطبة . سئل عطاء عن ذلك فقال : " إنه محدث ، وإنما كانت الخطبة تذكيراً ( (1137) انظر : التهذيب ( 2 / 342 ) . 1137) " .
وقد استدل القاضي أبو يعلي على أنه لا يستحب بأثر عطاء السابق( (1138) انظر : الشرح الكبير ( 5 / 243 ) . 1138) .
وقد ذكر الشاطبي في كتابه " الاعتصام " عن العز بن عبدالسلام : " أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة ... لم يكن عليه من تقدم .. الخ ( (1139) انظر : فتاوى العز بن عبدالسلام ( ص 48 ) . 1139) " اهـ .
قال الشيرازي صاحب المهذب : " وأما الدعاء للسلطان فلا يستحب - يعني في الجمعة - لما روي أنه سئل عطاء عن ذلك فقال : إنه محدث ، وإنما كانت الخطبة تذكيراً ( (1140) انظر : المهذب ( 1 / 368 ) . 1140) ".
وقال صاحب " الدر المختار " الحنفي : " ويندب ذكر الخلفاء الراشدين والعمين حمزة والعباس - لا الدعاء للسلطان ، وجوَّزه القهستاني ، ويكره تحريماً وصفه بما ليس فيه( (1141) انظر : الدر المختار ( 3 / 20 ) . 1141)" .
وقال في " البحر الرائق " للحنفية : "إنه لا يستحب، واستدل بقول عطاء ..( (1142) انظر : البحر الرائق ( 2 / 148 ) . 1142)".

وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : " وقد استثنى من الإنصات في الخطبة ما إذا انتهى الخطيب إلى كلام لم يشرع في الخطبة مثل : الدعاء للسلطان مثلاً ، بل جزم صاحب " التهذيب " بأن الدعاء للسلطان مكروه " اهـ ( (1143) انظر : فتح الباري ( 3 / 81 ) . 1143) . واستثني الحافظ ابن حجر ما إذا خشي الخطيب على نفسه فيباح له ، وأما إذا لم يخف الضرر فلا ( (1144) انظر : المصدر السابق . 1144) .
ونقل الفتوحي من الحنابلة عن القاضي أبي يعلي أنه قال عن الدعاء للسلطان : لا يستحب لأنه لم ينقل عن السلف ( (1145) انظر : الممتع في شرح المقنع للفتوحي ( 1/ 649 ) . 1145) . اهـ .
وقال المقبلي : وأما ذكر الخلفاء عدلهم وجائرهم فما هو إلا بدعة ، والتعلق بالعوائد الذي لا شاهد لأهلها ، ولا صدرت عن محلها ، إنا هي من أرباب الملوك وخطباء السوء ، وعلماء الحطام ، فليس فيها متشبث للمتقي ، كيف وأكثر ما يجري منها الكذب والزور كما تجدهم ... الخ ( (1146) انظر : المنار في المختار ( 1 / 235 ) . 1146) . اهـ .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية : " وها هنا مسألة بحث : وهي الدعاء للسلطان ، وتسميته في الخطبة . والمعول عليه منذ سنين أنه وإن كان مباحاً أصله ، لكن له شرط ، فتركه أولى " ( (1147) انظر : فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم ( 3 / 21 ) . 1147) . اهـ .
وقال الشيخ علي الطنطاوي : والدعاء للسلاطين بأسمائهم بدعة ( (1148) انظر : فصول إسلامية ص ( 126 ) . 1148) . اهـ .
الرأي الثاني :
قد ذهب أصحاب هذا الرأي إلى المنع من المجازفة في وصف السلطان أثناء الدعاء له ، ولم يمنعوا من مجرد الدعاء المقتصد الخالي من المجازفة في الوصف والثناء .
فقد قال النووي : " ويكره المجازفة في أوصاف السلاطين في الدعاء لهم ، وكذبهم في كثير من ذلك كقولهم : السلطان العالم العادل ونحوه ( (1149) انظر : المجموع ( 4 / 359 ) . 1149) " . اهـ .

وذهب شمس الدين الرملي من الشافعية إلى أن الدعاء للسلطان لا بأس به إذا لم يكن هناك مجازفة في وصفه وإلا فإنه يكون ممنوعاً ، ويسن الدعاء للأئمة المسلمين ولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق والقيام بالعدل ونحو ذلك ( (1150) انظر : نهاية المحتاج ( 2 / 316 ) . 1150) . اهـ .
وقد عاب شيخ الإسلام ابن تيمية على من كانوا يدعون لابن التومرت ويجازفون في وصفه والثناء عليه ، فقد قال رحمه الله : " ووصفوه بالصفات التي تعلم أنها باطلة ، وجعلوا حزبه عم خواص أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتركوا مع ذلك ذكر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ... الخ " ( (1151) انظر : مختصر السنة النبوية ( 1 / 217 ) . 1151) اهـ .
وقد قال الزبيدي شارح الإحياء : " وكرهوا الإطناب في مدح الجائرين من الملوك بأن يصفه عادلاً وهو ظالم ، أو يصفه بالغازي وهو لم يوجف على العدو بخيل ولا ركاب ، ولكن مطلق الدعاء لهم بالصلاح لا بأس به ، وكذا لا بأس بأن يصفه ببعض الألقاب اللائقة بحاله ، فإن تعظيم الملوك شعار أهل الإسلام ، وفيه إرهاب على الأعداء ( (1152) انظر : إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين . للزبيدي ( 3 / 231 ) . 1152) . اهـ .
وقال أيضاً: "ومما يكره للخطيب المجازفة في أوصاف السلاطين بالدعاء لهم( (1153) انظر : المصدر السابق . 1153).اهـ
وقد ذهب الشيخ عبدالله أبو بطين أيضاً إلى المنع من المجازفة في وصف السلطان وقال : " إنما يُدعى له لا يمدح لاسيما بما ليس فيه .... " ( (1154) انظر : الدرر السنية ( 5 / 41 ) . 1154)اهـ .
وقال الشيخ محمد رشيد رضا : " وكذلك الدعاء لولي أمر المسلمين فهو ليس من أركان الخطبة ولا من سننها ، ويراعى فيه أن لا يكون متضمناً لمنكر ، كإقرار الظلم أو الفسق ومدح أهلهما ، ولا لألفاظ من الإطراء في المدح والتعظيم الذي لا يليق أن يوجه إلا إلى الله تعالى ( (1155) انظر : مجلة المنار ( 31 / 55 ) . 1155) . اهـ .

وقال في موضع آخر : وما قط قصد الشارع أن تكون خطبة الجمعة فصيدة محشوة بألقاب الإطراء والتعظيم ، وارتكاب الكذب على خد قولهم ( أعذب الشعر أكذبه ) ، ولا دوراً أو موالاً يتوخى فيه حسن الإيقاع وموافقة أصول الأنغام ، وتكون للأمة بمثابة ( نشيدٍ وطني ) كما عند سائر الأمم ( (1156) انظر : مجلة المنار ( 9 / 617) .1156) . اهـ .
وقد ذكر الشيخ محمد أبو زهرة أن من الأشياء التي اشتهر بها خطباء بني أمية على وجه الذم والكراهة هي المبالغة والإغراق ؛ لكثرة النفاق ، والخداع والملق والمدح ، فإن هذه الأمور يكون صوت الصدق فيها خافتاً ، وصوت الكذب عالياً ، والمبالغات والغلو ترد من أبواب الكذب ، حيث تختفي الصراحة ، هذا إلى أن تسابق الخطباء في مدح الخلفاء جعل كلاً يجتهد في المعاني ، والغوص فيها ، ليصلوا إلى قصب السبق قبل غيرهم ، وذلك يدفعهم حتماً إلى الإغراق . اقرأ خطبة عمرو بن سعيد التي مدح فيها يزيد بن معاوية عند العهد له ، فقد جاء فيها : أما بعدلا ، فإن يزيد بن معاوية أمل تأملونه ، وأجل تأمنونه ، إن استضفتم إلى حلمه وسعكم ، وإن افتقرتم لذات يده أغناكم ، جذع قارح سوبق فسبق ، وموجد فمجد ، وقورع ففاز سهمه ، فهو خلف أمير المؤمنين ولا خلف منه ( (1157) انظر : الخطابة لمحمد أبي زهرة ص ( 308 ) . 1157) . اهـ
قلت : وقد يستأنس لأصحاب هذا الرأي بما رواه الترمذي في جامعه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الحياء والعيُّ شعبتان من الإيمان ، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق )) قال الترمذي عن البيان الذي في الحديث : هو كثرة الكلام ، مثل هؤلاء الخطباء الذين يخطبون فيتوسعون في الكلام ، ويتفصحون فيه من مدح الناس فيما لا يرضي الله ( (1158) انظر : جامع الترمذي ، كتاب البر حديث رقم ( 2027 ) . 1158) . اهـ .

الرأي الثالث :
ذهب أصحاب هذا الرأي إلى الإذن بالدعاء للسلطان أثناء الخطبة ، غير أنهم اختلفوا في عباراتهم حول هذه المسألة . فمنهم من عبر باستحسان ذلك ، ومنهم من قال إنه يسن ، ومنهم من عبر بالجواز ، بل إن بعضهم قد عبر بالوجوب كالقهستاني من الحنفية على ما سيأتي ، مع أنهم كلهم متفقون على اشتراط أن يكون هذا الدعاء معتدلاً وليس فيه مجازفة أو وصفة بما ليس فيه .
وإليك عبارات أهل العلم في هذا القول :
قال ابن قدامة : " وإن دعا لسلطان المسلمين بالصلاح فحسن . واستدل بدعاء أبي موسى الأشعري لأبي بكر وعمر أثناء الخطبة " ( (1159) انظر : المغني ( 3 / 181 ) . 1159) .
قلت : ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن فعل أبي موسى هذا رواه الطلمنكي من حديث ميمون بن مهران قال : " وهو من أشهر الأحاديث " ( (1160) انظر : مختصر منهاج السنة النبوية ( 1 / 213 ) . 1160) اهـ .
قال ابن قدامة : ولأن سلطان المسلمين إذا صلح كان فيه صلاح لهم ، ففي الدعاء له دعاء لهم ، وذلك مستحب غير مكروه ( (1161) انظر : المصدر السابق . 1161) .
وقال أيضاً في معرض كلام له : " إن كان دعاءً مشروعاً كالدعاء للمؤمنين والمؤمنات والإمام العادل أنصت له ، وإن كان لغيره لم يلزم الإنصات ، لأنه لا حرمة له ( (1162) انظر : المغني ( 3 / 201 ) . 1162).
وقال الفتوحي من الحنابلة عن الدعاء للسلطان : يسن ؛ لأن صلاحه صلاح للمسلمين ، ولأن أبا موسى الأشعري كان إذا خطب يدعو لعمر ( (1163) انظر : الممتع في شرح المقنع للفتوحي ( 1 / 649 ) . 1163) . اهـ .
وقال الحافظ العراقي متحدثاً عن الدعاء للسلطان في خطبة الجمعة : " إنما يُدعى للسلطان بالصلاح والتوفيق وعز الإسلام به ، وقد كان يُدعى للأئمة في زمن عمر رضي الله عنه ( (1164) انظر : طرح التثريب ( 3 / 187 ) . 1164) "

وجوَّز الدعاء للسلطان في الخطبة القهستاني من الحنفية ، وتبعه ابن عابدين في حاشيته ، فقال هذا الكلام بتمامة : " ثم يدعو لسلطان الزمان بالعدل والإحسان ، متجنباً في مدحه عما قالوا إنه كفر وخسران " ، كما في الترغيب وغيره ( (1165) انظر : حاشية ابن عابدين ( 3 / 20 وما بعدها ) 1165) .
وقال أيضاً : بل لا مانع من استحبابه فيها كما يُدعى لعموم المسلمين ، فإن في صلاحه العالم . وما في البحر من أنه محدث لا ينافيه ، فإن سلطان هذا الزمان أحوج إلى الدعاء له ولأمرائه بالصلاح والنصر على الأعداء ( (1166) انظر : المصدر السابق . 1166) .
وقال أيضاً : فإن الدعاء للسلطان على المنابر قد صار الآن من شعار السلطنة ، فمن تركه يخشى عليه ولذا قال بعض العلماء : لو قيل : إن الدعاء له واجب لما في تركه من الفتنة غالباً لم يبعد ، كما قيل به في قيام الناس بعضهم لبعض . والظاهر أن منع المتقدمين مبني على ما كان في زمانهم من المجازفة في وصفه ، مثل السلطان العادل الأكرم شاهنشاه الأعظم مالك رقاب الأمم . ( (1167) انظر : حاشية ابن عابدين ( 3 /21 ) . 1167) . اهـ .
قلت : ولذلك قال ابن نجيم : " ومنهم من اختار التباعد حتى لا يسمع مدح الظلمة في الخطبة ، ولهذا اختار بعضهم أن الخطيب ما دام في الحمد والمواعظ فعليهم الاستماع ، فإذا أخذ في مدح الظلمة والثناء عليهم فلا بأس بالكلام حينئذ ( (1168) انظر : البر الرائق ( 2 / 148 ) . 1168) " .
ويؤيد كلام ابن نجيم ما قاله ابن عابدين أيضاً بما نصه : قال في البزازية : فلذا كان أئمة خوارزم يتباعدون عن المحراب يوم العيد والجمعة ( (1169) انظر : حاشية ابن عابدين ( 3 /21 ) .1169) .

وأعود إلى كلام ابن عابدين في الدعاء للسلطان حيث يقول : " وأما ما اعتيد في زماننا من الدعاء للسلاطين العثمانية أيدهم الله تعالى كسلطان البرين والبحرين وخادم الحرمين الشريفين ، فلا مانع منه ، والله تعالى أعلم ( (1170) انظر : المصدر السابق .1170) . اهـ " .
وقال شمس الدين الرملي من الشافعية : " بل يسن ولا بأس كما في الروضة والمجموع بالدعاء للسلطان بعينه إن لم يكن في وصفه مجازفة ( (1171) انظر : نهاية المحتاج ( 2 / 316 ) . 1171) " .
وقال النووي في " المجموع " : " وأما الدعاء للسلطان - يعني في الجمعة - فاتفق أصحابنا على أنه لا يجب ولا يستحب ، وظاهر كلام المصنف وغيره : أنه بدعة إما مكروه ، وإما خلاف الأولى . هذا إذا دعا له بعينه ، فأما الدعاء لأئمة المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق والقيام بالعدل ونحو ذلك ، ولجيوش الإسلام فمستحب بالاتفاق . والمختار أنه لا بأس بالدعاء للسلطان بعينه إذا لم يكن مجازفة في وصفه ونحوها " والله أعلم ( (1172) انظر : المجموع ( 4 / 350 ) . 1172) . اهـ .
وقال صاحب حدائق الأزهار : " وندب في الأولى الوعظ وسورة ، وفي الثانية الدعاء للإمام صريحاً أو كناية ثم للمسلمين ( (1173) انظر : السيل الجرار ( 1 / 294 ) . 1173) " .
قال الشيخ عبدالله أبو بطين : الدعاء حسن ، يُدعى بأن الله يصلحه ويسدده ويصلح به ، وينصره على الكفار وأهل الفساد ، بخلاف ما في بعض الخطب من الثناء والمدح بالكذب ، وولي الأمر إنما يُدعى له لا يمدح لاسيما بما ليس فيه ، وهؤلاء الذين يمدحون في الخطب هم الذين أماتوا الدين ، فمادحهم مخطئ ، فليس في الولاة اليوم من يستحق المدح ، ولا أن يثنى عليه ، وإنما يُدعى لهم بالتوفيق والهداية ( (1174) انظر : الدرر السنية ( 5 / 41 ) . 1174) . اهـ .

وفي فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما نصه:"الأفضل إذا دعا الخطيب أن يعم بدعوته حكام المسلمين ورعيتهم ، وإذا خصَّ إمام بلاده بالدعاء بالهداية والتوفيق فذلك حسن ، لما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين إذا أجاب الله الدعاء ( (1175) انظر : فتاوى اللجنة الدائمة ( 8 / 232 ) . 1175) ". اهـ .
قلت : ولابن عابدين كلام جيد في توجيه كلام من منع الدعاء للسلطان من المتقدمين حيث قال : والظاهر أن منع المتقدمين مبني على ما كان من المجازفة في وصفه ، مثل السلطان العادل الأكرم شاهنشاه الأعظم مالك رقاب الأمم . ( (1176) انظر : حاشية ابن عابدين ( 3 /21 ) .1176) اهـ .
ويؤيد كلام ابن عابدين هذا ما جاء في أصول الصفار حيث سئل عن الخطباء الذين يخطبون على المنابر يوم الجمعة ما قالوا في ألقاب السلاطين : السلطان العادل الأعظم ، شاهنشاه الأعظم ، مالك رقاب الأمم .. الخ هل يجوز ذلك ؟ فقال : لا ، لأن بعض ألفاظه كفر وبعضها كذب . وقال أبو منصور : من قال للسلطان الذي بعض أفعاله ظلم : عادل ، فهو كافر . وأما شاهنشاه فهو من خصائص الله تعالى بدون وصف الأعظم لا يجوز وصف العباد به ، وأما مالك رقاب الأمم فهو كذب . ( (1177) انظر : الفتاوى التاتار خانية ( 5 / 523 ) . 1177) . اهـ .
وقد تحدث الشيخ محمد أبو زهرة واصفاً بعض معايب الخطباء الأمويين فقال : " منها المبالغة والإغراق ، لكثرة النفاق والخداع والملق والمدح ، فإن هذه الأمور يكون صوت الصدق فيها خافتاً ، وصوت الكذب عالياً ، والمبالغات والغلو ترد من أبواب الكذب ، حيث تختفي الصراحة ، هذا إلى أن تسابق الخطباء في مدح الخلفاء جعل كلاً يجتهد في المعاني والغوص فيها ، ليصلوا إلى قصب السبق قبل غيرهم وذلك يدفعهم حتماً إلى الإغراق ( (1178) انظر : الخطابة ص ( 308 ) . 1178). اهـ .
هذا حاصل ما وقفت عليه في هذا المسألة . والعلم عند الله تعالى .

قلت : ولعل الأمر في ذلك واسع فهو لا يخرج عن دائرة أهل السنة والجماعة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن ذكر الخلفاء في الخطبة : إنه ليس كل خطباء السنة يذكرون الخلفاء في الخطبة ، بل كثير من خطباء السنة بالمغرب وغيره لا يذكرون أحداً من الخلفاء باسمه ، وكان كثير من خطباء المغرب يذكرون أبا بكر وعمر عثمان ، فإن كان ذكر الخلفاء بأسمائهم حسناً فبعض أهل السنة يفعله ، وإن لم يكن حسناً فبعض أهل السنة يتركه ، فالحق على التقديرين لا يخرج عن أهل السنة ( (1179) انظر : مختصر منهاج السنة ( 1 / 216 ) . 1179) . اهـ .
قلت : وذكر السلاطين من باب أولى . والعلم عند الله تعالى .
فائدة :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " الكلام في ذكر الخلفاء الراشدين على المنبر ، وفي الدعاء لسلطان الوقت ، ونحو ذلك : إذا تكلم في ذلك العلماء أهل العلم والدين ، الذين يتكلمون بموجب الأدلة الشرعية ، كان كلامهم في ذلك مقبولاً ، وكان للمصيب منهم أجران ، وللمخطئ أجر على ما فعله من الخير ، وخطؤه مغفور له " ( (1180) انظر : مختصر منهاج السنة ( 1 / 217 ) .1180) . اهـ .
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة شيخنا العلامة عبدالعزيز بن باز بما نصه : " هل يصح للخطيب أن يمدح سلطان البلد أثناء الخطبة ؟ .
فأجابت اللجنة بما نصه : " الأصل في خطبة الجمعة تعليم أمور دينهم ، ووعظهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، وتوجيههم إلى ما فيه مصلحتهم في الدنيا والأخرة . لكن إذا دعت الحاجة إلى ذكر ما فيه من محاسن الإسلام درءاً لفتنة الخروج عليه ، وترغيباً للناس في موالاته ولزوم الجماعة ، وتشجيعاً له على فعل الخير فلا حرج في ذلك ، بل هو حسن لعظم المصلحة في ذلك . وبالله التوفيق ( (1181) انظر : فتاوى اللجنة الدائمة ( 8 / 234 ) . 1181) .

وقال الشيخ علي الطنطاوي : يكره ذكره السلطان بالتعظيم ، فإن قال عنه ما ليس فيه كما كان بعض الخطباء في مصر يقولون عن فاروق .. فكذبٌ وافتراء ( (1182) انظر : فصول إسلامية ص ( 126 ) . 1182) . اهـ .
94-

رفع اليدين للدعاء في الخطبة
اختلف أهل العلم في رفع اليدين للدعاء في الخطبة على قولين :
القول الأول :
قالوا : إن رفع اليدين للدعاء جائز حال الخطبة ، وهو أحد الوجهين للحنابلة كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ( (1183) انظر : الاختيارات : ص ( 148 ) .1183) وهو قول بعض المالكية كما ذكر ذلك القاضي عياض( (1184) انظر : إكمال المعلم ( 3 / 277 ) . 1184) .
وقد بوَّب البخاري لذلك باباً وأطلق فقال : ( باب رفع اليدين في الخطبة ) ( (1185) انظر : صحيح البخاري كتاب الجمعة باب رقم ( 34 ) . 1185) . فلعله يرى جواز رفع اليدين في الخطبة بدليل أنه لم يقيد الرفع بشيء في تبويبه رحمه الله .
ودليل أصحاب هذا القول ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم حين استسقى في يوم الجمعة مدَّ يديه ودعا )) ( (1186) انظر : صحيح البخاري ، كتاب الاستسقاء ، حديث رقم ( 1031)، صحيح مسلم ، كتاب الاستسقاء ، حديث رقم ( 895 ) . 1186) .
القول الثاني :
قالوا : إن رفع اليدين في الجمعة غير مشروع إلا في الاستسقاء ، وهو قول مالك( (1187) انظر : إكمال المعلم ( 3 / 277 ) .1187) والشافعية( (1188) انظر : شرح مسلم للنووي ( 3 / 428 ) . 1188) ونقل شيخ الإسلام أنه أصح الوجهين عند الحنابلة( (1189) انظر : الاختيارات : ص ( 148 ) .1189) .
ودليلهم في ذلك حديث عمارة بن رؤيبة عند مسلم أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يده فقال : قبح الله هاتين اليدين ، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا ، وأشار بأصبعه المسبحة( (1190) انظر : صحيح مسلم ( 2/ 595 رقم 874 ) ، سنن أبي داود ( 1 / 662 رقم 1104 ) . 1190) .

وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهري قال : " رفع الأيدي يوم الجمعة محدث " .
وأخرج أيضاً عن طاوس قال : " كان يكره دعاءهم الذي يدعونه يوم الجمعة ، وكان لا يرفع يديه " ( (1191) انظر : مصنف ابن أبي شيبة ( 2 / 55 ) . 1191) . اهـ .
وقال البيهقي : " من السنة ألا يرفع يديه في حال الدعاء في الخطبة ، ويقتصر أن يشير بأصبعه " ( (1192) انظر : السنن الكبرى ( 3 / 210 ) . 1192) . اهـ .
وقال شيخ الإسلام : ويكره للأمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة ، وهو أصح الوجهين لأصحابنا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يشير بإصبعه إذا دعا . وأما في الاستسقاء فرفع يديه لما استسقى على المنبر ( (1193) انظر : الاختبارات ص ( 148 ) . 1193) . اهـ .
وقال ابن القيم : وكان يشير بإصبعه السبابة في خطبته عند ذكر الله تعالى ودعائه ( (1194) انظر : زاد المعاد ( 1 / 428 ) . 1194) . اهـ .
وذهب الشوكاني إلى كراهة رفع الأيدي على المنبر حال الدعاء ، وأنه بدعة ( (1195) انظر : نيل الأوطار ( 3 / 283 ) . 1195) . اهـ .
قلت : الصواب في هذا أن اليدين لا ترفع للدعاء في الخطبة ، إلا إذا استسقى الإمام في خطبته ، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري ( (1196) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه كتاب الجمعة ( حديث 933 ) . 1196) ، وأما إذا لم يستسق فإنه لا يرفع يديه في الدعاء ، وإنما يشير بأصبعه السبابة إذا دعا وإذا ذكر الله ؛ لما مرَّ ذكره . والله أعلم .

95-

متى يقول الخطيب عن المطر (( اللهم حوالينا ولا علينا ))
من المعلوم أن للخطيب أن يستسقي في الجمعة كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير أن بعض الخطباء لا يفرقون بين طلب نزول المطر وبين رفعه ، وذلك من حيث إن بعضهم يجمع الأمرين في دعائه فيقول الدعاء المشهور في طلب السقيا (( اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً .. الخ )) ثم يتبع ذلك بقوله : (( اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الضراب والآكام ... الخ )) .
والصواب في هذه المسألة هو التفريق بين الأمرين ، فلا يجعل قوله : (( اللهم حوالينا ولا علينا )) إلا فيما إذا كثر المطر عليهم وخشوا ضرره ، وأما إذا لم يكن كذلك فإن هذه الصيغة لا شرع حينئذٍ .
وقد بوَّب البخاري في صحيحه باباً في ذلك فقال : باب الدعاء إذا كثر المطر (( حوالينا ولا علينا ))( (1197) انظر : فتح الباري ( 3 / 205 ) . 1197) . اهـ .
فقيد هذه المقولة بما إذا كثر المطر ، فمفهومه أنه لا يقال ابتداء ، ولا بعد نزول المطر إذا لم يكن كثيراً يخشى ضرره .
وأورد البخاري في هذا الباب حديث الأعرابي المشهور في طلب السقيا والنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة وفيه (( فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب صاحوا إليه : تهدمت البيوت ، وانقطعت السبل فادع الله يحبسها عنا ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال (( اللهم حوالينا ولا علينا )) ( (1198) انظر : صحيح البخاري برقم ( 1021 ) . 1198) . اهـ .
إذا علمت ذلك أيها القارئ فاعلم أن لأهل العلم حول هذه المسألة كلاماً أورد بعضه للتأكيد على هذه المسألة :
فقد قال الشافعي : " وإذا خاف الناس غرقاً من سيل أو نهر دعوا الله بكفِّ الضرر عنهم ، وأن يجعل حيث ينفع ، ولا يضر البيوت من الشجر والجبال والصحاري إذا دعا بكف الضرر " ( (1199) انظر : الأم ( 1 / 411 ) . 1199) . اهـ .

وقال ابن قدامة : " وإذا كثر المطر أو مياه العيون بحيث يضرهم ، دعوا الله تعالى أن يخففه ويصرف عنهم مضرته ، ويجعله في أماكن تنفع ولا تضر ، كدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولأن الضرر بزيادة المطر أحد الضررين ، فيستحب الدعاء لإزالته كانقطاعه ( (1200) انظر : المغني ( 3 / 349 ) . 1200) . اهـ .
وقال النووي : " قال الشافعي والأصحاب : وإذا كثرت الأمطار وتضرر الناس بها فالسنة أن يدعو برفعها (( اللهم حوالينا ولا علينا ))( (1201) انظر : المجموع ( 5 / 90 ) . 1201) . اهـ .
وقال ابن الهمام : " فإن زاد المطر حتى خيف الضرر قالوا : (( اللهم حوالينا ولا علينا ... الخ ))( (1202) انظر : فتح القدير ( 2 / 95 ) . 1202) . اهـ .
وقال الحافظ ابن حجر عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " وفيه الأدب في الدعاء حيث لم يدع برفع المطر مطلقاً لاحتمال الاحتياج إلى استمراره ، فاحترز فيه بما يقتضى رفع الضرر وإبقاء النفع " ( (1203) انظر : فتح الباري ( 3 / 198 ) . 1203) . اهـ .
تنبيه :
ذكر الشيرازي صاحب المهذب في كتابه التنبيه : أن الإمام يقول ذلك مع جملة الدعاء ، ولا يشترط أن يكون إذا خشى الضرر( (1204) انظر : التنبيه ص ( 66 ) . 1204) . اهـ .
قال النووي معقباً على كلام الشيرازي : " وأما قول المصنف في التنبيه في أثناء دعاء الاستسقاء لطلب المطر : (( اللهم حوالينا ولا علينا )) فمما أنكروه عليه ، وإنما يقال هذا عند كثرة الأمطار وحصول الضرر بها ، كما صرح به في الحديث ونصَّ عليه الشافعي والأصحاب رحمهم الله ( (1205) انظر : المجموع ( 5 / 90 ) . 1205) . اهـ .

فائدة :
قال الحافظ الطيبي : " (( ولا علينا )) عطف على جملة ، أي امر حوالينا ولا تمطر علينا ، ولو لم يكن بالواو لكان حالاً ، أي أمطر على المزارع ولا تمطر على الأبنية ، وأدمج في قوله (( ولا علينا )) معنى المضرة ، كأنه قيل : أجعل لنا لا علينا ( (1206) انظر : شرح مشكاة المصابيح ( 5 / 90 ) . 1206) . اهـ .
قلت : وقد ذكر الحافظ ابن حجر كلام الطيبي هذا على وجه الاستحسان له ( (1207) انظر : فتح الباري ( 3 / 196 ) . 1207) .
96-

اختتام الخطيب خطبته بالاستغفار أو بقوله (( والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ))
الحديث عن هذه المسألة من شقين :
الشق الأول :
اختتام الخطبة بالاستغفار . وهذا يحتمل اختتام الخطبة الأولى أو اختتام الخطبة الثانية ، ويحتمل الأمرين معاً .
ولم أقف على نص حديث صحيح يدل اختتام الخطبة بالاستغفار كما سيأتي ذكر ذلك بعد قليل . ولكنني وقفت على كلام لابن القاسم نقله عن الإمام مالك قائلاً : " وسمعته - أي مالك - يقول : من سنة الإمام ومن شأن الإمام أن يقول إذا فرغ من خطبته : يغفر الله لنا ولكم . فقلت : يا أبا عبدالله ، فإن الأئمة يقولون اليوم : اذكروا الله يذكركم ، قال : وهذا حسن ، وكأني رأيته يرى الأول أصوب ( (1208) انظر : المدونة ( 1 / 231 ) . 1208) .
وقال الشافعي : " يقرأ في الخطبة الثانية آية أو أكثر منها ، ثم يقول : استغفر الله لي ولكم " اهـ( (1209) انظر : الأم ( 1 / 345 ) . 1209) . وللبغوي من الشافعية كلام نقله عنه النووي ، فقد قال النووي : يستحب للخطيب أن يختم خطبته بقوله : استغفر الله لي ولكن . ذكره البغوي ( (1210) انظر : المجموع ( 4 / 359 ) . 1210) .
ووقفت كذلك على كلام لابن القيم في وصف خطبته صلى الله عليه وسلم قال فيه : وكان يختم خطبته بالاستغفار ( (1211) انظر : زاد المعاد ( 1 / 187 ) . 1211) . اهـ .

ووقفت كذلك على كلام لابن شاس المالكي ، قال فيه : ويختم بأن يقول : استغفر الله لي ولكم ، فإن قال : اذكروا الله يذكركم فحسن( (1212) انظر : عقد الجواهر الثمينة ( 1 / 228 ) . 1212) . اهـ .
وأما الأحاديث فقد وقفت على حديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات كلّ جمعة دون تحديد لآخر الخطبة أو أولها ، فقد أخرج البزار والطبراني في معجمه الكبير ( (1213) انظر : كشف الأستار عن زوائد البزار ( 1 / 307 رقم 641 ) ، والمعجم الكبير ( 7 / 318 ) . 1213) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات كل جمعة )) وفي إسناد هذا الحديث يوسف بن خالد السمتي ، وهو ضعيف كما ذكر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد ( (1214) انظر : مجمع الزوائد ( 2 / 190 ) . 1214) .
وقال الحافظ ابن حجر : رواه البزار بإسناد فيه لين ( (1215) انظر : بلوغ المرام ص ( 101 ) . 1215) .
وأخرج أبو داود في مراسيله من طريق ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبدأ فيجلس على المنبر ، فإذا سكت المؤذن قام فخطب الخطبة الأولى ، ثم جلس شيئاً يسيراً ثم قام فخطب الثانية ، حتى إذا قضاها استغفر الله ثم نزل فصلى( (1216) انظر : مراسيل أبي داود ص ( 9 ) . 1216) .
فيتضح من خلال ما سبق أنه لم يثبت في هذه المسألة شيء بعينه من الاستغفار ، ولعل الأمر في ذلك واسع . وإنما استشكل من استشكل المواظبة عليه والالتزام به في موضع بعينه .
أما الشق الثاني :
وهو اختتام الخطبة بقوله (( والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته )) .

فإن غاية ما وقفت عليه حسب البحث والتتبع هو ما ذكره ابن هشام عن ابن إسحاق قال : وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني عن أبي سلمة بن عبدالرحمن - ونعوذ بالله أن نقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل - أنه قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ... الحديث ، إلى أن قال : فإن بها تجزئ الحسنة عشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ( (1217) انظر : السيرة النبوية لابن هشام ( 1 / 500 ) ، زاد المعاد ( 1 / 373 ) . 1217) . اهـ .
قلت : ابن إسحاق رأى أبا سلمة بن عبدالرحمن ولم يرو عنه ، وأبو سلمة بن عبدالرحمن يروي عن بعض الصحابة ولم يدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه قد توفي سنة 94 هـ ( (1218) وقيل : سنة أربع ومائة وهو ابن اثنتين وسبعين سنة . انظر : تهذيب التهذيب ( 12 / 116 ) . 1218) .
وقال ابن إسحاق أيضاً : ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال : (( إن الحمد الله أحمده وأستعينه ... إلى أن قال : إن الله يغضب أن ينكث عهده ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ( (1219) انظر : السيرة النبوية ( 1 / 501 ) زاد المعاد ( 1 / 374 ) . 1219) . اهـ .
قلت : وهذه الرواية والتي قبلها أوردها البيهقي في دلائل النبوة ( (1220) انظر : دلائل النبوة ( 2 / 524 ) .1220) بسنده من طريق ابن إسحاق إلى أبي سلمة . وقال ابن كثير رحمه الله : وهذه الطريق أيضاً مرسلة ، إلا أنها مقوية ما قبلها ، وإن اختلفت الألفاظ ( (1221) انظر : البداية والنهاية ( 4 / 529 ) . 1221) . اهـ .
هذا حاصل ما وقفت عليه في هذه المسألة . والعلم عند الله تعالى .

97-

وقت نزول الخطيب من المنبر
لأهل العلم كلام حول هذه المسألة وسوف أورد شيئاً مما وقفت عليه فيها فمن ذلك :
قول ابن المنذر : والذي عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار ما يفعله الأئمة .. إلى أن قال : ثم ينزل عند فراغه ( (1222) انظر : الأوسط ( 4 / 59 ) . 1222) . اهـ .
فمفهوم كلامه أن وقت نزول الخطيب من المنبر يكون حين فراغه من الخطبة .
وقال ابن عابدين الحنفي : " فإذا أتم الإمام الخطبة أقيمت الصلاة بحيث يتصل أول الإقامة بآخر الخطبة ، وتنتهي الإقامة بقيام الخطيب مقام الصلاة " ( (1223) انظر : حاشية ابن عابدين ( 3 / 36 ) . 1223) . اهـ .
وقال الشافعية : ويستحب له أن يأخذ في النزول من المنبر عقب فراغه ، ويأخذ المؤذن في الإقامة ، ويبلغ المحراب مع فراغ الإقامة ( (1224) انظر : المجموع ( 4 / 359 ) . 1224) . اهـ .
وقال البغوي : " فإذا فرغ من الخطبة أخذ في النزول ، وأخذ المؤذن في الإقامة ، ثم يتقدم فيصلي بهم " ( (1225) انظر : التهذيب ( 2 / 243 ) . 1225) . اهـ .
وقال الحافظ ابن حجر: ويستنبط من حديث السائب بن يزيد في البخاري: أن الخطبة بعد الزوال ، لأنه ذكر فيه أن التأذين كان حين يجلس على المنبر ، فإذا نزل أقام ( (1226) انظر : التخليص الحبير ( 2 / 59 ) . 1226). اهـ.
وقال المرداوي : إذا فرغ من الخطبة نزل ، وهل ينزل عند لفظ الإقامة ، أو إذا فرغ بحيث يصل إلى المحراب عند قولها ؟ يحتمل وجهين . قاله في التلخيص ، وتبعه في الفروع ، وابن تميم في أول صفة الصلاة : أحدهما ينزل عند لفظ الإقامة . قدمه في الرعايتين والحاويين . والثاني : ينزل عند فراغه ( (1127) انظر : الإنصاف ( 5 / 248 ) . 1127) . اهـ .
قلت : لا أعلم دليلاً يدل على ما ذكره أهل العلم في هذه المسألة ، بل ثبت ما يدل على خلافه ، ولعل الأمر في ذلك واسع . وإن نزل بعد فراغه من الخطبة فهو أولى لعدم الحاجة إلى بقائه على المنبر ، لموافقة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في نزوله من المنبر قبل الإقامة . والعلم عند الله تعالى .

98-

هل يجوز أن يتولى الصلاة من لم يتولى الخطبة ؟
السنة أن يتولى الصلاة من يتولى الخطبة . لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتولاهما بنفسه ، وكذلك خلفاؤه من بعده .
ولهذه المسألة عند أهل العلم صورتان :
الصورة الأولى :
أن يخطب رجل ويصلي آخر . فللإمام أحمد في هذه المسألة ثلاث روايات :
الرواية الأولى : جواز ذلك للعذر ، نصَّ عليه لأنه إذا جاز الاستخلاف في الصلاة الواحدة للعذر ففي الخطبة مع الصلاة أولى .
الرواية الثانية : أنه إذا لم يكن هناك عذر فقد قال أحمد : لا يعجبني من غير عذر . وهذا يحتمل المنع ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتولاهما ، وقد قال : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) ( (1228) رواه البخاري الأذان ، باب 18 رقم ( 361 ) . 1228) ، ولأن الخطبة أقيمت مقام ركعتين . ويحتمل الجواز ، لأن الخطبة منفصلة عن الصلاة فأشبهتا صلاتين .
والرواية الثالثة : أنه لا يجوز الاستخلاف لعذر ولا لغيره ، لأن هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه . لكن الرواية الأولى هي المقدمة في المذهب ( (1229) انظر : المغني ( 3 / 178 ) ، الإنصاف ( 5 / 233 ) . 1229) .
وبالجواز والصحة قال شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين ( (1230) انظر : الشرح الممتع ( 5 / 76 ) . 1230) .
وهو قول جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ( (1231) انظر : البدائع ( 2 / 203 ) ، المدونة ( 1 / 235 ) ، المجموع ( 4 / 402 ) ، الشرح الكبير ( 5 / 231 ) . 1231) . لكنهم اختلفوا : هل يشترط أن يكون المصلي ممن حضر الخطبة أو لا ؟ . فيه روايتان عند الحنابلة :

إحداهما : أنه يشترط ، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي وأبي ثور وهو أحد القولين عند الشافعية ، وهو المذهب لدى جمهورهم ( (1232) انظر : المغني ( 3 / 178 ) ، انظر : البدائع ( 2 / 203 ) ، المجموع ( 4 / 402 ) . 1232) ، لأنه إمام في الجمعة فاشترط حضوره الخطبة كما لو لم يستخلف .
والرواية الثانية : لا يشترط ، وهو قول الأوزاعي والشافعي ( (1233) انظر : الإنصاف ( 5 / 233 ) ، المجموع ( 4 / 402 ) ، الأم ( 1 / 354 ) . 1233) ، لأنه ممن تنعقد به الجمعة فجاز أن يؤم فيها كما لو حضر الخطبة .
الصورة الثانية :
أن يحدث الخطيب في الصلاة ويستخلف من لم يحضر الخطبة .
فعند الحنفية والمالكية وهو قول الشافعي ، وأصح الوجهين عند أصحابه ، وأصح الروايتين عند الحنابلة ، أنها تصح وتكون جمعة ولو لم يحضر المستخلف الخطبة ( (1234) انظر : البدائع ( 2 / 203 ) ، المدونة ( 1 / 235 ) ، الأم ( 1 / 354 ) ، المجموع ( 4 /401 ) ، الإنصاف ( 5 / 234 ) .1234) ؛ لأن تحريم الأول انعقدت للجمعة لوجود شرطها وهو الخطبة .
هذا حاصل الكلام عن هذه المسألة ، والله تعالى أعلم .
تنبيه :
قال شيخنا العلامة محمد بن عثيمين : " هل يشترط أن يتولى الخطبة الواحدة واحد ؟ أي : لو أن رجلاً خطب الخطبة الأولى في أولها ، وفي أثنائها تذكر أنه على غير وضوء مثلاً فنزل ، ثم قام آخر وأتم الخطبة ؟ لم أر حتى الآن من تكلم عليها ، ولكنهم ذكروا في الأذان أنه لا يصح من رجلين أي : لا يصح أن يؤذن الإنسان أول الأذان ، ثم يكمله الآخر ؛ لأنه عبادة واحدة ، فكلما أنه لا يصح أن يصلي أحد ركعة ، ويكمل الثاني الركعة الثانية ، فكذلك لا يصح أن يؤذن شخص أول الأذان ويكمله آخر ، أما الخطبة فقد يقال : إنها كالأذان أي : لابد أن يتولى الخطبة الواحدة واحد ، فلا تصح من اثنين ، سواء لعذر أو لغير عذر ، فإن كان لغير عذر فالظاهر أن الأمر واضح ؛ لأن هذا شيء من التلاعب .

وإذا كان لعذر : مثل أن يذكر الإمام الذي بدأ الخطبة أنه على غير وضوء ، ثم ينزل ليتوضأ ، فهنا نقول الأحوط أن يبدأ الثاني الخطبة من جديد ، حتى لا تكون عبادة واحدة من شخصين " ( (1235) انظر : الشرح الممتع ( 5 / 76 ) . 1235) . اهـ .
99-

القراءة في صلاة الجمعة
يحرص بعض الخطباء عن حسن نية أن يقرأ في صلاة الجمعة آيات تتناسب مع موضوع خطبة الجمعة ، وهذا خلاف السنة ، وهو وإن كان عن حسن نية فإن الأكمل اتباع سنته صلى الله عليه وسلم ، وقد جاءت قراءته صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة على عدة وجوده .
الوجه الأول :
قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم عند مسلم أنه كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة في الركعة الأولى ، وسورة المنافقين في الركعة الثانية ( (1236) كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه . صحيح مسلم ( 2 / 598 رقم 877) . 1236).
الوجه الثاني :
أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأولى سبح ، وفي الثانية الغاشية ( (1237) كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه . صحيح مسلم ( 2 / 598 رقم 878 ) . 1237) .
الوجه الثالث :
ثبت عنه عند مسلم أنه كان يقرأ فيها بالجمعة و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } ( (1238) انظر : المصدر السابق . 1238) وهذا الأخيرة سنة مهجورة ، فيتبين من هذا أن ما يفعله بعض الخطباء من ترك ذلك فإنه خلاف السنة ، وكذلك الاقتصار على بعض السورة ، أو يقرأ إحداهما في الركعتين ، وهذا خلاف السنة أيضاً .
قال ابن القيم رحمه الله : " وجهال الأئمة يداومون على ذلك " ( (1239) انظر : زاد المعاد ( 1 / 381 ) . 1239) . يقصد بذلك من يقرأ بعض السورة أو يقرأ إحداهما في الركعتين .

قلت : إذا علمت ذلك فاعلم أن لأهل العلم كلاماً حول هذه المسألة ، فمن ذلك : أن أبا حنيفة وأصحابه لا يحددون شيئاً معيناً في قراءة صلاة الجمعة إلا فاتحة الكتاب ولو قرأ سورة الجمعة وسورة المنافقين ؛ فحسن لفعله صلى الله عليه وسلم ، ولكن لا يواظب على قراءتها بل يقرأ غيرها في بعض الأوقات حتى لا يؤدي إلى هجر بعض القرآن ، ولئلا تظنه العامة حتماً ( (1240) انظر : البدائع ( 2 / 213 ) . 1240) . اهـ .
وعند مالك أنه يستحب أن يقرأ الإمام في الجمعة { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } مع سورة الجمعة .
وقال مرة أخرى : أما الذي جاء به الحديث ، فـ { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } مع سورة الجمعة ، والذي أدركت عليه الناس { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } .
قال ابن عبدالبر : تحصيل مذهب مالك أن كلتا السورتين قراءتهما حسنة مستحبة مع سورة الجمعة في الركعة الثانية ، وأما الأولى فسورة الجمعة ، ولا ينبغي للإمام عنده أن يترك سورة الجمعة ولا سورة { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } و { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } في الثانية ، فإن فعل وقرأ بغيرهما فقد أساء ، وبئس ما صنع ، ولا تفسد بذلك عليه صلاته إذا قرأ بأم القرآن وسورة معها في كل ركعة منها( (1241) انظر : فتح البر ( 5 / 309 ) . 1241) . اهـ .
وعند الشافعي أن الأفضل قراءة الجمعة والمنافقين ؛ لثبوت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بهما ، وتواليهما في التأليف ، وإذا كان من يحضر الجمعة بفرض الجمعة ، وما نزل في المنافقين ، وإن قرأ بسبح والغاشية فحسن عنده لكن الأول أفضل ، وما قرأ به الإمام يوم الجمعة وغيرها من أم القرآن وآية أجزأه ، وإن اقتصر على أم القرآن أجزأه ولا يحب له ذلك ( (1242) انظر : الأم ( 1 / 351 ) . 1242) . اهـ ، وعند أحمد مثل الشافعي .

وقال ابن قدامة بعد ذكر ذلك : " ومهما قرأ فهو جائز حسن إلا أن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ، ولأن سورة الجمعة تليق بالجمعة لما فيها من ذكرها والأمر بها والحث عليها " ( (1243) انظر : المغني ( 3 / 183 ) . 1243) . اهـ .
قال الشافعي رحمه الله : " وإن بدأ الإمام يوم الجمعة فقرأ بسورة المنافقين في الركعة الأولى قبل أم القرآن ، عاد فقرأ أم القرآن قبل أن يركع ، أجزأه أن يركع بها ولا يعيد سورة المنافقين ، ولو قرأ معها بشيء من الجمعة كان أحب إليَّ ، ويقرأ في الركعة الثانية بسورة الجمعة " ( (1244) انظر : الأم ( 1 / 351 ) . 1244) .
وقال النووي : " قال الشافعي : فإن قرأ في الأولى المنافقين قرأ في الثانية الجمعة ، قال المتولي وغيره : ولا يعيد المنافقين ، ولو قرأ في الأولى غير الجمعة والمنافقين قال أصحابنا : قرأ في الثانية السورتين ، بخلاف ما لو ترك الجهر في الأوليين من العشاء لا يجهر في الأخريين ؛ لأن السنة الإسرار في الأخريين ، ولا يمكنه تدارك السنة الفائية إلا بتفويت السنة المشروعة الآن ، وأما هنا فيمكنه جمع السورتين بغير إخلال بسنة ( فإن قيل : ) هذا يؤدي إلى تطويل الركعة الثانية على الأولى ، وهذا خلاف السنة ( فالجواب : ) أن ذلك الأدب لا يقاوم فضيلة السورتين . والله أعلم ( (1245) انظر : المجموع ( 4 / 403 ) . 1245) .
فائدة :
قال الشيخ بكر أبو زيد : وقد فشا في عصرنا العدول من بعضهم عن هذا المشروع - أي في صلاة الجمعة - إلى ما يراه الإمام من آيات أو سور القرآن الكريم متناسباً مع موضوع الخطبة ، وهذا التحري لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يعرف عن سلف الأمة ، فالتزام ذلك بدعة ، وهكذا قصد العدول من المشروع إلى سواه على سبيل التسنن ، فيه استدراك على الشرع وهجر المشروع واستحباب ذلك ، ولإيهام العامة به ، والله أعلم ( (1246) انظر : تصحيح الدعاء ص ( 319 ) . 1246) . اهـ

100-

القنوت للنوازل في الجمعة
ثبت في لصحيحين صلى الله عليه وسلم ((كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب))( (1247) أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك في كتاب الوتر ( حديث رقم 1004 ) ومسلم من حديث البرآء ( 1 / 470 رقم 678 ) . 1247)
وعند أحمد وأبي داود من حديث ابن عباس (( قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح )) ( (1248) انظر : مسند أحمد ( 1 / 301 ) . سنن أبي داود ( 2 / 143 رقم 1443 ) . 1248) .
فهل الجمعة تدخل في هذا أم لا ؟ الجواب : أنه مبني على مسألة الجمعة هل هي ظهر مقصورة أو صلاة مستقلة بذاتها ؟ .
والأحاديث لم تشر إلى الجمعة ، وقد لا يصح قياس هذه المسألة على مسألة الجمع بين الصلاتين ، فالعلة موجودة في الظهر والجمعة ، ولكن الجمعة تفارق الظهر بكونها فيها خطبة والقنوت إنما هو دعاء .
فلعل الأظهر أنه يكتفي بالدعاء أثناء الخطبة لحصول المقصود ، لكن هناك حديث رواه الطبراني في الأوسط عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها ( (1249) انظر : مجمع البحرين في زوائد المعجمين ( 2 / 146 رقم 859 ) . 1249) . اهـ .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد : رجاله موثقون ( (1250) انظر : مجمع الزوائد ( 2 / 138 ) . 1250) .
وقال ابن القيم في الزاد عن إسناد هذا الحديث ما نصه : وهذا الإسناد وإن كان لا تقوم به حجة ، فالحديث صحيح من جهة المعنى ، لأن القنوت هو الدعاء ، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل مكتوبة إلا دعاء فيها . اهـ( (1251) انظر : زاد المعاد ( 1 / 72 ) طبعة ( المطبعة المصرية ومكتبتها ) . 1251) .
وقال الشافعي : " حكى عدد صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ما علمت أحداً قنت فيها إلا أن تكون دخلت في جملة قنوته في الصلوات كلهن حين قنت على قتلة أهل بئر معونة...( (1252) انظر : الأم ( 1 / 182 ) . 1252) " .

قلت : روى عبدالرزاق عن معمر عن الزهري وقتادة قالا : ليس في الجمعة قنوت ، قال معمر : وأخبرني من سمع الحسن يقول مثل ذلك ( (1253) انظر : مصنف عبدالرزاق ( 3 / 194 رقم 5287 ) . 1253).
وروى أيضاً عن جرير عن عطاء قال : قلت له : القنوت في ركعتي الجمعة ؟ قال : لم أسمع بالقنوت في المكتوبة إلا في الصبح ، وأنكر أن يكون في الجمعة قنوت ( (1254) انظر : مصنف عبدالرزاق ( 3 / 194 رقم5288 ) .1254) . اهـ .
وعند عبدالرزاق عن إسرائيل بن يونس قال : أخبرني أبو إسحاق قال : خرجت مع أبي إلى الجمعة وأنل غلام ، فلما خرج علي فصعد المنبر ، قال أبي : أي عمرو ؟ قم ، فانظر إلى أمير المؤمنين ، قال : فقمت فإذا هو قائم على المنبر ، وإذا هو أبيض الرأس واللحية عليه إزار ورداء ، ليس عليه قميص ، قال : فما رأيته جلس على المنبر حتى نزل عنه ، قلت : لأبي إسحاق : فهل قنت ؟ قال : لا ( (1255) انظر : مصنف عبدالرزاق ( 3 /190 ) .1255) . اهـ .
وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم وطاوس قالا : القنوت يوم الجمعة بدعة .
وروى أيضاً عن مكحول أنه كان يكره القنوت يوم الجمعة .
وروى أيضاً عن يحيى بن أبي بكير قال : حدثني أبي بكير قال : حدثني أبي قال : أدركت الناس قبل عمر بن عبدالعزيز يقنتون في الجمعة فلما كان زمن عمر بن عبدالعزيز ترك القنوت في الجمعة ( (1256) انظر : مصنف ابن أبي شيبة ( 2 / 46 ) . 1256) . اهـ .
وقال ابن المنذر : اختلف أهل العلم في القنوت في الجمعة ، فكرهت طائفة القنوت في الجمعة ، وممن كان لا يقنت في صلاة الجمعة علي بن أبي طالب ، والمغيرة بن شعبة ، والنعمان بن بشير ، وبه قال عطاء ، والزهري ، وقتادة ، ومالك ، وسفيان الثوري ، والشافعي ، وإسحاق ، وقال أحمد : بنو أمية كانت تقنت . قال أبو بكر : بالقول الأول أقول ( (1257) انظر : الأوسط ( 4 / 122 ) . 1257) . اهـ .

101-

الجمع بين الجمعة والعصر للمطر
الأصل في هذه المسألة هو الخلاف في الجمع بين الصلاتين لعذر المطر ، وحاصل الأقوال في ذلك هو عدم جواز الجمع بين الصلاتين مطلقاً إلا يوم عرفة عند الحنفية ، وأما عند المالكية فيجوز التقديم في المطر لمن يصلي المغرب والعشاء ، دون غيرهما الظهر والعصر .
وعند الشافعية يجوز الجمع بين الصلاتين ، سواء بين الظهر والعصر أو المغرب والعشاء ، وعند الحنابلة روايتان : إحداهما : لا يجوز إلا بين المغرب والعشاء ، وحكى ابن قدامة أن أحمد سئل عن الجمع بين الظهر والعصر في المطر قال : لا ، ما سمعت .
وذكر صاحب الإفحاص أنه يجوز الجمع بين الظهر والعصر للمطر ، وذكر أنها رواية عن أحمد ، وقال : إنها هي المذهب ( (1258) انظر : فيما مضى : المبسوط ( 1 / 149 ) ، المجموع ( 4 / 233 ) ، المغني ( 3 / 132 ) المعونة للقاضي المالكي ( 1 / 260 ) . 1258) .
قلت : وبالنظر إلى علة الجمع وهي رفع المشقة ، فإنها دالة على وجودها في الظهر والعصر ، والمشقة تجلب التيسير ، لاسيما وأن لهذه المسألة أصلاً وهو حديث ابن عباس في الصحيحين ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً ، والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا سفر )) ( (1259) صحيح مسلم ( 1 / 489 رقم 705 ) ، صحيح البخاري مواقيت الصلاة ( باب 12 رقم 543 ) . 1259) قيل لابن عباس : لِمَ فعل ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أمته . وصحَّ من حديثه : (( من غير خوف ولا مطر )) ( (1260) صحيح مسلم ( 1 / 491 رقم 407 ) ، سنن أبي داود ( 2 / 14 رقم 12111 ) . 1260) .
قلت : والعجب هنا أن مالكاً رحمه الله قال بعد حديث ابن عباس : أرى ذلك في المطر ، ومع ذلك فهو لا يرى الجمع للمطر إلا بين العشاءين فقط دون الظهرين فتنبه .

خلاصة المسألة : أن الصحيح فيها إن شاء الله تعالى ، الذي دلَّت عليه النصوص ، ودلَّ عليه النظر : هو جواز الجمع بين الظهر والعصر للمطر ، لأن تجويزنا الجمع بينهما بدون مطر ولا سفر ولا خوف كما في الحديث السابق يلزمنا أن نجيزها لواحد من هذه الأعذار . فما موجب التفريق بين الظهرين والعشاءين ؟
أما حجة من قصرها على العشاءين بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ذلك ، فإن هذا لا يعني أن حديث ابن عباس لم يدل عليها .
قال شيخ الإسلام عن حديث ابن عباس السابق : وبهذا استدل أحمد على الجمع لهذه الأمور بطريق الأول ، فإن هذا الكلام يدل على أن الجمع لهذه الأمور أولى ، وهذا من باب التنبيه بالفعل ، فإنه إذا جمع ليرفع الحرج الحاصل بدون الخوف والمطر والسفر ، فالحرج الحاصل بهذه أولى أن يرفع ، والجمع لها أولى من الجمع لغيرها .
قلت : بقي عندنا حكم جمع صلاة الجمعة مع العصر للمطر ، وقد جوز ذلك الشافعية كقولهم في الظهر ، بخلاف الأئمة الثلاثة ، فقد قال النووي : " يجوز الجمع بين الجمعة والعصر في المطر ، ذكره ابن كج وصاحب البيان وآخرون ( (1261) انظر : المجموع ( 4 / 237 ) البيان ( 2 / 494 ) ، تحفة المحتاج للهيثمي ( 2 / 294 ) نهاية المحتاج ( 2 / 280 ) . 1261) " اهـ .
ولابن القاسم من المالكية كلام قد يدل على شيء مقارب لقول الشافعية ، فقد سئل : أرأيت لو أن إماماً لم يصل بالناس الجمعة حتى دخل وقت العصر ؟ قال : يصلي بهم الجمعة ما لم تغيب الشمس ، وإن لا يدرك بعض العصر إلا بعد الغروب ( (1262) انظر : المدونة ( 1 / 239 ) . 1262) . اهـ .
فمفهوم كلام ابن القاسم أنه إذا صلى الجمعة بعد دخول وقت العصر فإنه سيصلي بعدها العصر . وهذه صورة من صور الجمع بينهما بقطع النظر عن وجاهة ما ذكره ابن القاسم ، إلا أن مبدأ الجمع بين الجمعة والعصر وارد عنده في مثل هذه الحال ، فيوافق بذلك ما اختاره الشافعية .

أقسام الكتاب
1 2 3