كتاب:جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم
تأليف : زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ

وقال مُوَرِّق العجلي : أمرٌ أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة لم أقدِرْ عليه ولستُ بتاركٍ طلبه أبداً ، قالوا : وما هو ؟ قالَ : الكفُّ عما لا يعنيني . رواه ابن أبي الدنيا(1) .
وروى أسدُ بن موسى ، حدثنا أبو معشر(2) ، عن محمد بن كعب قالَ : قالَ
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أوَّل من يَدخُلُ عليكم رَجُلٌ من أهل الجنة ) فدخل عبدُ الله بنُ
سلام ، فقامَ إليه ناسٌ ، فأخبروه ، وقالوا له : أخبرنا بأوثق عَمَلِكَ في نَفسِكَ ، قال : إنَّ عملي لضعيف ، أوثقُ ما أرجو به سلامةُ الصدر ، وتركي ما لا يعنيني .
وروى أبو عبيدة ، عن الحسن قال : مِنْ علامة إعراض الله تعالى عن العبد أنْ يجعل شغله فيما لا يعنيه . وقال سهل بنُ عبد الله التُّسترِي : من تكلم فيما لا يعنيه حُرِم الصدق(3) ، وقال معروف : كلام العبد فيما لا يعنيه(4) خذلان من اللهِ
- عز وجل -(5) .
وهذا الحديث يدلُّ على أنَّ تركَ ما لا يعني المرء من حسن إسلامه ، فإذا ترك ما لا يعنيه ، وفعل ما يعنيه كله ، فقد كَمُلُ حُسْنُ إسلامه ، وقد جاءت الأحاديثُ بفضل من حسن إسلامُه وأنَّه تضاعف حسناته ، وتُكفر سيئاته ، والظاهر أنَّ كثرة المضاعفة تكون بحسب حسن الإسلام ، ففي " صحيح مسلم " (6)
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في "حلية الأولياء" 2/235 ، وابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/140 .
(2) وهو ضعيف .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 10/169 .
(4) من قوله : ( وقال سهل بن عبد الله ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/361 .
(6) الصحيح 1/81 ( 129 ) ( 205 ) .

وأخرجه : أحمد 2/317 ، والبخاري 1/17 ( 42 ) ، وابن حبان ( 228 ) ، وابن منده في
" الإيمان " ( 373 ) ، وابن حزم في " المحلى " 1/99 ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 7046 ) ، والبغوي ( 4148 ) .

عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا أحْسَنَ أَحَدُكُم إسلامَهُ ، فكُلُّ حَسَنةٍ يَعْمَلُها تُكتَبُ بِعَشرِ أَمْثالِها إلى سبعِ مئة ضعفٍ ، وكلُّ سَيِّئةٍ يعملها تُكتَبُ بمثلِها حتَّى يَلقى الله - عز وجل - ) فالمضاعفةُ للحسنة بعشر أمثالها لابدَّ منه ، والزيادةُ على ذلك تكونُ بحسب إحسّان الإسلام ، وإخلاصِ النية والحاجة إلى ذلك العمل وفضله ، كالنفقة في الجهاد ، وفي الحج ، وفي الأقارب ، وفي اليتامى والمساكين ، وأوقات الحاجة إلى النفقة ، ويشهد لذلك ما رُوي عن عطية ، عن ابن عمر قال : نزلت : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } (1) في الأعراب ، قيل له : فما للمهاجرين (2) ؟ قال : ما هو أكثرُ ، ثم تلا قوله تعالى : { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً
عَظِيماً } (3) (4) .
وخرَّج النسائي(5)
__________
(1) الأنعام : 160 .
(2) في ( ص ) : ( فما بال المهاجرين والأنصار ) ، وزيادة : ( والأنصار ) غير صحيحة لعدم ورودها في مصادر التخريج .
(3) النساء : 40 .
(4) أخرجه : سعيد بن منصور ( 636 ) طبعة الحميد ، والطبري في " تفسيره " ( 7542 ) ، وطبعة التركي 7/36 ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 3/955 ( 5338 ) .
(5) في " المجتبى " 8/105-106 .
وأخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 24 ) ، وإسناده لا بأس به .

وعلقه البخاري 1/17 ( 41 ) مختصراً بصيغة الجزم .

من حديث أبي سعيد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا أسلمَ العبدُ فحَسنُ إسلامُهُ ، كَتبَ الله له كُلَّ حَسنةٍ كان أزلَفَها ، ومُحِيتْ عنه كُلُّ سيئة كان أزلَفَها(1) ، ثم كان بَعْدَ ذلك القِصَاصُ ، الحسَنَةُ بِعَشْر أمثالِها إلى سَبع مئةِ ضِعفٍ ، والسَّيِّئَةُ بمِثلِها إلا أنْ يتجاوَزَ الله ) ، وفي رواية أخرى : ( وقيلَ له : استأنفِ
العمل ) .
والمراد بالحسنات والسيئات التي كان أزلفها : ما سبق منه قبل الإسلام ، وهذا يدلُّ على أنَّه يُثاب بحسناته في الكفر إذا أسلم وتُمحى عنه سيئاته إذا أسلم ، لكن بشرط أنْ يَحْسُنَ إسلامُه ، ويتقي تلك السيئات في حال إسلامه ، وقد نص على ذلك الإمام أحمد ، ويدلُّ على ذلك ما في " الصحيحين " (2) عن ابن مسعود قال : قلنا : يا رسول الله ، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ قال : ( أمَّا مَنْ أحسَنَ منكم في الإسلام فلا يُؤَاخَذُ بها ، ومن أساءَ أُخِذَ بعمله في الجاهلية والإسلام ) .
وفي " صحيح مسلم " عن عمرو بن العاص قال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما أسلم : أريدُ أنْ أَشْتَرطَ ، قال : ( تشترط ماذا ؟ ) قلتُ : أنْ يُغْفَرَ لي ، قال : ( أما عَلمتَ أنَّ الإسلامَ يَهدِمُ ما كان قبله ؟ )(3)
__________
(1) من قوله : ( ومحيت عنه كل ... ) إلى هنا لم ترد في ( ص ) .
(2) صحيح البخاري 9/17 ( 6921 ) ، وصحيح مسلم 1/77 ( 120 ) ( 189 ) و( 190 ) و( 191 ) . =
= ... وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 19686 ) ، والحميدي ( 108 ) وأحمد 1/379 و409 و429 و431 و462 ، وابن ماجه ( 4242 ) ، وأبو يعلى ( 5071 ) و( 5113 ) ، وابن حبان ( 396 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/125 ، والبيهقي 9/123 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 23 ) .
(3) في " صحيحه " 1/78 ( 121 ) ( 129 ) .

وأخرجه أيضاً: ابن خزيمة ( 2515 ) ، وابن منده في "الإيمان" ( 270 ) ، والبيهقي 9/98 .

. وخرَّجه الإمام أحمد ولفظه : ( إنَّ الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله من الذنوب )(1) وهذا محمولٌ على الإسلام الكامل الحسن جمعاً بينه وبين حديث ابن مسعودٍ الذي قبله .
وفي " صحيح مسلم " (2) أيضا عن حكيم بن حزامِ قال : قلتُ : يا رسول الله
أرأيتَ(3) أموراً كنت أصنعها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم ، أفيها أجرٌ ؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أَسْلَمْتَ على ما أَسْلَفْتَ من خيرٍ ) وفي رواية له : قال : فقلتُ : والله لا أدعُ شيئا صنعتُه في الجاهلية إلا صنعتُ في الإسلام مثله ، وهذا يدلّ على أنَّ حسنات الكافر إذا أسلم يُثابُ عليها كما دلَّ عليه حديث أبي سعيد المتقدِّم .
__________
(1) في " مسنده " 4/198 و204 و205 .
وأخرجه أيضاً : البخاري في " التاريخ الكبير " 2/299 ( 2587 ) ، والبيهقي 9/123 ، وفي
" دلائل النبوة " ، له 4/343 و346-348 .
(2) في " صحيحه " 1/78-79 ( 123 ) ( 194 ) و( 195 ) و( 196 ) .
وأخرجه أيضاً : معمر في " جامعه " ( 19685 ) ، والحميدي ( 554 ) ، وأحمد 3/402 ، والبخاري 2/141 ( 1436 ) و3/107 ( 2220 ) و3/193 ( 2538 ) و8/7 ( 5992 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 70 ) ، وابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " ( 594 ) ، وابن حبان ( 329 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3084 ) و( 3085 ) و( 3086 ) و( 3087 ) و( 3088 ) و( 3089 ) ، والحاكم 3/483-484 ، والبيهقي 9/123 و10/316 ، والبغوي ( 27 ) .
(3) سقطت من ( ص ) .

وقد قيل : إنَّ سيئاته في الشرك تبدَّل حسنات ، ويُثابُ عليها أخذاً من قوله تعالى : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } (1) ، وقد اختلف المفسرون في هذا التبديل على قولين :
فمنهم مَنْ قال : هو في الدنيا بمعنى أنَّ الله يُبَدِّلُ من أسلم وتاب إليه بَدَلَ ما كان عليه من الكفر والمعاصي : الإيمان والأعمال الصالحة ، وحكى هذا القول إبراهيم الحربي في " غريب الحديث " عن أكثر المفسرين ، وسمى منهم : ابنَ عباس ، وعطاء ، وقتادة ، والسُّدي ، وعِكرمة ، قلت : وهو المشهورُ عن الحسن .
قال : وقال الحسن وأبو مالك وغيرهما : هي في أهل الشرك خاصة ليس هي في أهل الإسلام . قلت : إنَّما يصحُّ هذا القول على أنْ يكونَ التبديلُ في الآخرة كما سيأتي ، وأما إنْ قيل : إنَّه في الدنيا ، فالكافرُ إذا أسلم والمسلمُ إذا تاب في ذلك سواء ، بل المسلم إذا تاب ، فهو أحسنُ حالاً من الكافر إذا أسلم .
__________
(1) الفرقان : 68-70 .

قال : وقال آخرون : التبديلُ في الآخرة : جعلت لهم مكان كلِّ سيئةٍ حسنة ، منهم : عمرو بن ميمون ، ومكحول ، وابن المسيب ، وعلى بن الحسين قال : وأنكره أبو العالية ، ومجاهد ، وخالد سبلان(1) ، وفيه مواضع إنكار ، ثم ذكر ما حاصلهُ أنَّه يلزمُ من ذلك أنْ يكونَ مَنْ كثرت سيئاته أحسنَ حالاً ممن قلَّت سيئاته(2) حيث يُعطى مكان كلّ سيئة حسنة ، ثم قال : ولو قال قائل : إنَّما ذكر الله أنْ يُبدل السيئات حسنات ولم يذكر العدد كيف تبدل ، فيجوز أنَّ معنى تبدل : أنَّ من عمل سيئةً واحدةً وتاب منها تبدل مئةَ ألفِ حسنةٍ ، ومنْ عمل ألف سيئة أنْ تبدَّل ألف حسنةٍ ، فيكون حينئذ من قلت سيئاتُهُ أحسن حالاً .
__________
(1) في ( ص ) : ( خالد بن معدان ) .
(2) عبارة : ( أحسن حالاً ممن قلت ) سقطت من ( ص ) .

قلت : هذا القول - وهو التبديل في الآخرة - قد أنكره أبو العالية ، وتلا قوله تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً } (1) وردَّه بعضهم بقوله تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } (2) ، وقوله تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } (3) ولكن قد أجيب عن هذا بأنَّ التائبَ يُوقف على سيئاته ، ثم تبدَّل حسنات ، قال أبو عثمان النَّهدي(4) : إنَّ المؤمن يُؤتى كتابَه في ستر من الله - عز وجل - ، فيقرأ سيئاته ، فإذا قرأ تغيَّر لها لونُه حتّى يمرَّ بحسّناته، فيقرؤها فيرجع إليه لونه ، ثم ينظر فإذا سيئاتُه قد بُدِّلت حسّناتٍ، فعند ذلك يقول : { هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ } (5) ورواه بعضهم عن أبي عثمان ، عن ابن مسعود ، وقال بعضهم : عن أبي عثمان ، عن سلمان (6) .
وفي " صحيح مسلم " (7)
__________
(1) آل عمران : 30 .
(2) الزلزلة : 8 .
(3) الكهف : 49 .
(4) أخرجه : ابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" : 1914 ، والخطيب في " تاريخه " 11/6 ، وطبعة دار الغرب 12/251 .
(5) الحاقة : 19 .
(6) أخرجه : ابن أبي حاتم كما في " تفسير ابن كثير " : 1366 .
(7) الصحيح 1/121 ( 190 ) ( 314 ) و( 315 ) .

وأخرجه : وكيع في " الزهد " ( 367 ) ، وأحمد 5/157 و170 ، والترمذي ( 2596 ) وفي " الشمائل " ، له ( 229 ) بتحقيقي ، وابن حبان ( 7375 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 847 ) و( 848 ) و( 849 ) ، والبيهقي 10/190 ، والبغوي ( 4360 ) .

من حديث أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنِّي لأعْلَمُ آخِرَ أهلِ الجنَّةِ دُخولاً الجنَّة ، وآخِرَ أهلِ النار خروجاً منها ، رجلٌ يُؤتَى به يوم القيامةِ فيقال : اعرضُوا عليه صِغارَ ذنوبه ، وارفَعُوا عنه كِبارَهَا ، فيعْرِضُ الله عليه صِغَارَ ذنوبهِ(1) ، فيقال له : عَمِلْتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا ، وعَمِلْتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا ، فيقول : نعم ، لا يستطيعُ أنْ يُنكر وهو مشفقٌ من كبار ذنوبه أنْ تعرض عليهِ ، فيقال له : فإنَّ لك مكانَ كُلِّ سيئةٍ حسنةً ، فيقول : يا ربِّ قد عمِلْتُ أشياء لا أراها هاهنا ) قال : فلقد رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حتَّى بدتْ نواجذه .
فإذا بُدِّلَت السيئاتُ بالحسّنات في حقِّ من عوقِبَ على ذنوبه بالنار ، ففي حقِّ من مَحى سيئاته بالإسلام والتوبة النصوح أولى ؛ لأنَّ مَحْوَها بذلك أحبُّ إلى الله من محوها بالعقاب .
__________
(1) من قوله : ( وأرفعوا عنه كبارها ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .

وخَرَّج الحاكم(1) من طريق الفَضْل بن موسى ، عن أبي العَنْبس ، عن أبيه ، عن أبي هُريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ليتَمنَّينَّ أقوامٌ أنَّهم أكثَرُوا من
السيِّئاتِ ) ، قالوا : بِمَ يا رسولَ الله ؟ قالَ : ( الذين بَدَّل الله سيئاتهم حسّنات ) ، وخرَّجه ابنُ أبي حاتم(2) من طريق سليمان أبي داود(3) الزهري ، عن أبي العَنْبس ، عن أبيه(4) ، عن أبي هريرة موقوفاً ، وهو أشبهُ مِن المرفوع(5) ، ويروى مثلُ هذا عن الحسن البصري أيضاً يُخالف قولَه المشهور : إنَّ التبديل في الدنيا(6) .
وأمَّا ما ذكره الحربي في التبديل ، وأنَّ من قلَّت سيئاتُه يُزاد في حسناته ، ومن كثرت سيئاتُه يُقَلَّلُ من حسناته ، فحديثُ أبي ذرٍّ صريحٌ في ردِّ هذا ، وأنَّه يُعطى مكان كلّ سيئة حسنة .
وأما قوله : يَلْزَمُ من ذلك أنْ يكون مَنْ كَثُرَت سيئاتُه أحسنَ حالاً ممن
قلَّتْ سيئاتُهُ ، فيقال : إنَّما التبديلُ في حقِّ مَنْ نَدِمَ على سيئاته ، وجعلها نصبَ
عينيه ، فكلما ذكرها ازداد خوفاً ووجلاً ، وحياء من الله ، ومسارعة إلى الأعمال الصالحة المكفرة كما قال تعالى : { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } (7) وما ذكرناه كله داخل في العمل الصالح ومن كانت هذه حاله ، فإنَّه يتجرَّعُ من مرارة الندم والأسف على ذنوبه أضعافَ ما ذاق من حلاوتها عندَ فعلها ، ويصيرُ كلُّ ذنبٍ من ذنوبه سبباً لأعمال صالحةٍ ماحية له ، فلا يُستنكر بعد هذا تبديل هذه الذنوب حسنات .
__________
(1) في " المستدرك " 4/252 .
(2) كما في " تفسير ابن كثير " : 1366 .
(3) تحرف في ( ص ) : ( إلى سليمان بن داود ) .
(4) عن أبيه ) سقطت من ( ص ) .
(5) على أنَّ الشيخ الألباني أورده في السلسلة الصحيحة ( 2177 ) .
(6) انظر : تفسير القرطبي 13/78 .
(7) الفرقان : 70 .

وقد ورَدَت أحاديثُ صريحةٌ في أنَّ الكافرَ إذا أسلم ، وحَسُنَ إسلامُه ، تبدَّلت سيئاتُه في الشِّرْك حسنات ، فخرَّج الطبراني(1) من حديث عبد الرحمان بن جبير بن نفير ، عن أبي فروة شطب : أنَّه أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : أرأيتَ رجلاً عَمِلَ الذنوب كُلَّها ، ولم يترك حاجةً ولا داجةً ، فهل له مِنْ توبة ؟ فقالَ : ( أسلمتَ ؟ ) قال : نَعَمْ ، قال: ( فافعلِ الخيراتِ ، واترك السيئاتِ ، فيجعلها الله لك خيراتٍ كلّها(2) )، قال : وغَدَرَاتي وفَجَرَاتي ؟ قال : ( نعم ) ، قال : فما زال يُكبِّرُ حتّى توارَى . وخرَّجه من وجه آخر بإسناد ضعيف عن سلمة بن نفيل ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
وخرَّج ابنُ أبي حاتم نحوه من حديث مكحول مرسلاً ، وخرَّج البزارُ(3) الحديثَ الأوَّل وعنده : عن أبي طويل شطب الممدود(4) : أنَّه أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكره
بمعناه ، وكذا خرَّجه أبو القاسم البغوي في " معجمه " ، وذكر أنَّ الصوابَ عن
عبد الرحمان بن جُبير بن نفير مرسلاً : أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - طوي(5) شَطْب ، والشطب في اللغة : الممدود ، فصحفه بعض الرواة ، وظنه اسم رجل .
__________
(1) في " الكبير " ( 7235 ) .
وأخرجه : ابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " ( 2718 ) ، وأبو نعيم في " معرفة الصحابة " ( 3809 ) ، والخطيب في " تاريخه " 3/352 وطبعة دار الغرب 4/559 ، والحديث صححه ابن منده كما في " الإصابة " 2/152 .
(2) في ( ص ) : ( حسنات ) .
(3) في زوائده كما في " كشف الأستار " ( 3244 ) .
(4) انظر كتاب : تسمية من لقب بالطويل : 62-64 ليحيى بن عبد الله الشهري .
(5) في ( ص ) : ( طويل ) .

الحديث الثالث عشر
عَنْ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأَخيهِ ما يُحِبُّ لِنَفسه ) . رواهُ البُخاريُّ ومُسلِمٌ(1) .
هذا الحديث خرَّجاه في " الصحيحين " (2) من حديث قتادة ، عن أنسٍ ، ولفظُ مسلم : ( حَتَّى يُحِبَّ لجاره أو لأخيه ) بالشَّكِّ(3) .
وخرَّجه الإمام أحمد ، ولفظه : ( لا يبلغُ عبدٌ حقيقةَ الإيمان حتَّى يحبَّ للناس ما يُحِبُّ لنفسه من الخِير )(4) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 1/10 ( 13 ) ، ومسلم 1/49 ( 45 ) ( 71 ) .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 677 ) ، والطيالسي ( 2004 ) ، وأحمد 3/176 و206 و251 و272 و278 و289 ، وعبد بن حميد ( 1175 ) ، والدارمي ( 2743 ) ، وابن ماجه ( 66 ) ، والترمذي ( 2515 ) ، والنسائي 8/115 ، وأبو عوانة 1/33 ، وابن حبان ( 234 ) و( 235 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 294 ) و( 295 ) و( 296 )
و( 297 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 889 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) صحيح البخاري 1/10 ( 13 ) ، وصحيح مسلم 1/49 ( 45 ) ( 71 ) من طريق قتادة ، عن أنس بن مالك ، به .
(3) الصحيح 1/49 ( 45 ) ( 72 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(4) لم أره بهذا اللفظ عند أحمد ، والذي عنده هو لفظ الشيخين ، ولفظ : ( والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير ) .
انظر : مسند الإمام أحمد 3/206 .
وأما لفظ : ( لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان …. ) فهو عند ابن حبان ( 235 ) من رواية ابن عدي ، عن حسين المعلم ، عن قتادة ، عن أنس ، به .

وهذه الرواية تبيِّنُ معنى الرِّواية المخرجة في " الصحيحين " ، وأنَّ المرادَ بنفي الإيمان نفيُّ بلوغِ حقيقته ونهايته ، فإنَّ الإيمانَ كثيراً ما يُنفى لانتفاءِ بعض أركانِهِ وواجباته(1) ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يزني الزَّاني حِينَ يَزني وهو مؤمن ، ولا يسرقُ السارقُ حين يسرقُ وهو مؤمنٌ ، ولا يشربُ الخمرَ حين يشربها وهو مؤمنٌ )(2) ، وقوله : ( لا يُؤْمِنُ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بوائِقَه )(3) .
وقد اختلف العلماءُ (4) في مرتكب الكبائر : هل يُسمَّى مؤمناً ناقصَ الإيمان ، أم لا يُسمى مؤمناً ؟ وإنَّما يُقالُ : هو مسلم ، وليس بمؤمنٍ على قولين ، وهما روايتان عن الإمام أحمد(5) .
__________
(1) انظر : الإيمان لابن تيمية : 30 .
(2) سبق تخريجه عند الحديث الثاني .
قال الحسن : يجانبه الإيمان ما دام كذلك ، فإن راجع راجعه الإيمان .
وقال أحمد : حدثنا معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن الأوزاعي ، قال : وقد قلت للزهري حين ذكر هذا الحديث : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن … ) فإنَّهم يقولون : فإنْ لم يكن مؤمناً فما هو ؟ قال : فأنكر ذلك ، وكره مسألتي ، انظر : الإيمان لابن تيمية : 30 .
(3) سبق تخريجه عند الحديث الثاني .
(4) لم ترد في ( ص ) .
(5) انظر : الإيمان لابن تيمية : 190 ، والعقيدة الطحاوية :65-66 ، والتبصير بقواعد التكفير : 16-17 ، وشرح العقيدة الطحاوية : 321-322 .
قال محمد بن نصر المروزي : وحكى غير هؤلاء أنَّه سأل أحمد بن حنبل عن قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
: ( لا يزني الزاني ….. ) فقال : من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم ، ولا أُسميه مؤمناً ؟ ومن أتى دون ذلك - يريد : دون الكبائر - أُسميه مؤمناً ناقص الإيمان .
انظر : الإيمان لابن تيمية : 199 .

فأمَّا من ارتكبَ الصَّغائرَ ، فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية ، بل هو مؤمنٌ ناقصُ الإيمان ، ينقص من إيمانه بحسب ما ارتكبَ من ذلك(1) .
والقولُ بأنَّ مرتكب الكبائر يقال له : مؤمنٌ ناقصُ الإيمانِ مرويٌّ عن جابرِ بنِ
عبد الله ، وهو قولُ ابنِ المبارك وإسحاق وأبي عُبيد وغيرهم ، والقول بأنَّه مسلمٌ ، ليس بمؤمنٍ مرويٌّ عن أبي جعفر محمد بن علي ، وذكر بعضُهم أنَّه المختارُ عندَ أهلِ السُّنَّةِ .
وقال ابنُ عباس : الزاني يُنزَعُ منه نورُ الإيمان(2) . وقال أبو هريرة : يُنْزَعُ منه الإيمانُ ، فيكون فوقَه كالظُّلَّةِ ، فإذا تابَ عاد إليه(3) .
وقال عبدُ الله بن رواحة وأبو الدرداء : الإيمانُ كالقميصِ ، يَلبَسُه الإنسانُ تارةً ، ويخلعه أخرى ، وكذا قال الإمام أحمد - رحمه الله - وغيره(4) ، والمعنى : أنَّه إذا كمَّل خصالَ الإيمان لبسه ، فإذا نقصَ منها شيئاً نزعه ، وكلُّ هذا إشارةٌ إلى الإيمان الكامل التَّام الذي لا يَنْقُصُ من واجباته شيء .
__________
(1) انظر : الإيمان لابن تيمية : 199 ، والتبصير بقواعد التكفير : 17 ، والوجيز في عقيدة السلف الصالح : 121 .
(2) ذكره : الآجري في " الشريعة " : 115 ، وابن تيمية في " الإيمان " : 30 .
(3) ذكر : ابن تيمية في " الإيمان " : 30 نحوه .
(4) ورد نحو هذا القول عن أبي هريرة . انظر : الإيمان لابن تيمية : 30 .
وورد نحوه أيضاً من قول سفيان الثوري . انظر : حلية الأولياء 7/32 .
وورد من قول الإمام أحمد . انظر : المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة 1/92 .

والمقصودُ أنَّ مِن جملة خِصال الإيمانِ الواجبةِ أنْ يُحِبَّ المرءُ لأخيه المؤمن ما يحبُّ لنفسه ، ويكره له ما يكرهه لنفسه ، فإذا زالَ ذلك عنه ، فقد نَقَصَ إيمانُهُ بذلك . وقد رُوِيَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي هريرة : ( أَحِبَّ للنَّاسِ ما تُحبُّ لنفسِك تكن مسلماً ) خرَّجه الترمذي وابن ماجه(1) .
وخرَّج الإمام أحمد(2) من حديث معاذٍ : أنَّه سألَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن أفضلِ الإيمان ، قال : ( أفضلُ الإيمانِ أنْ تُحِبَّ للهِ وتُبغِضَ للهِ ، وتُعْمِلَ لسانَك في ذكر الله ) ، قال : وماذا يا رسول الله ؟ قال : ( أنْ تُحِبَّ للنَّاس ما تُحبُّ لنفسك ، وتكرَه لهم ما تكرهُ لنفسك ، وأنْ تقول خيراً أو تَصْمُت ) .
وقد رتَّب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دخولَ الجنَّة على هذه الخَصْلَةِ ؛ ففي " مسند الإمام
أحمد " (3) - رحمه الله - عن يزيد بن أسدٍ القَسْري ، قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أتحبُّ الجنَّةَ ) قلت : نعم ، قال : ( فأحبَّ لأخيكَ ما تُحبُّ لنفسك ) .
وفي " صحيح مسلم " (4) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ أحبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عن النَّارِ ويُدخَلَ الجنة فلتدركه منيَّتُه وهو يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ ، ويأتي إلى الناسِ الذي يحبُّ أنْ يُؤْتَى إليه ) .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) في" مسنده " 5/247 من حديث معاذ بن أنس الجهني ، به ، وإسناده ضعيف لضعف رشدين ابن سعد ولضعف زبان بن فائد .
(3) المسند 4/70 . وأخرجه : الحاكم 4/168 ، وإسناده ضعيف لضعف روح بن عطاء بن أبي ميمونة .
(4) الصحيح 6/18-19 ( 1844 ) ( 46 ) و( 47 ) .
وأخرجه : أحمد 2/161 و191 و192 ، وابن ماجه ( 3956 ) ، والنسائي 7/152-153، وابن حبان ( 5961 ) من حديث عبد الله بن عمرو ، به .

وفيه أيضاً عن أبي ذرٍّ ، قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا أبا ذرٍّ ، إني أراكَ ضعيفاً ، وإني أحبُّ لك ما أُحبُّ لنفسي ، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين ، ولا تولَّينَّ مالَ
يتيم ) (1) .
وإنَّما نهاه عن ذلك ، لما رأى من ضعفه ، وهو - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ هذا لكلِّ ضعيفٍ ، وإنَّما كان يتولَّى أمورَ النَّاسِ ؛ لأنَّ الله قوَّاه على ذلك ، وأمره بدعاء الخَلْقِ كلِّهم إلى طاعته ، وأنْ يتولَّى سياسةَ دينهم ودنياهم(2) .
وقد رُوِيَ عن عليٍّ قال : قال لي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنِّي أرضى لك ما أرضى لِنفسي ، وأكره لك ما أكرهُ لنفسي ، لا تقرأ القرآن وأنتَ جنبٌ ، ولا وأنتَ
راكعٌ ، ولا وأنت ساجد )(3)
__________
(1) صحيح مسلم 6/7 ( 1826 ) ( 17 ) . وأخرجه : أبو داود ( 2868 ) ، والنسائي 6/255 ، وابن حبان ( 5564 ) من حديث أبي ذر ، به .
(2) انظر : شرح السيوطي لسنن النسائي 6/255-256 .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 2836 ) ، وأحمد 1/146 ، والدارقطني 1/125 ( 420 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، مرفوعاً . وهو ضعيف .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 2833 ) ، ومسلم 2/48 ( 480 ) ( 209 ) ، وابن حبان
( 1895 ) عن علي بلفظ : ( نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ راكعاً أو ساجداً ) .

وأخرجه : الطيالسي ( 101 ) ، والحميدي ( 57 ) ، وأحمد 1/83 و84 و107 و124 و134 ، وأبو داود ( 229 ) ، وابن ماجه ( 594 ) ، والترمذي ( 146 ) ، والنسائي 1/144 ، وابن الجارود ( 94 ) ، وأبو يعلى ( 287 ) و( 348 ) و( 406 ) و( 524 )
و( 579 ) و 623 ) ، وابن خزيمة ( 208 ) ، وابن حبان ( 799 ) ، والدارقطني 1/125
( 419 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والحاكم 4/107 ، والبيهقي 1/88-89 ، والبغوي في " شرح السنة " ( 273 ) ، عن علي . بلفظ : كان رسول الله يأتي الخلاء فيقضي الحاجة ثم يخرج فيأكل معنا الخبز واللحم ويقرأ القرآن ، ولا يحجبه ، وربما قال : ولا يحجزه عن القرآن شيء إلا الجنابة .

.
وكان محمَّدُ بنُ واسعٍ يبيع حماراً له ، فقال له رجل : أترضاه لي ؟ قال : لو رضيته لم أبعه(1) ، وهذه إشارةٌ منه إلى أنَّه لا يرضى لأخيه إلاَّ ما يرضى لنفسه ، وهذا كلُّه من جملة النصيحة لعامة المسلمين التي هي مِنْ جملة الدين كما سبق تفسيرُ ذلك في موضعه(2) .
وقد ذكرنا فيما تقدَّم حديثَ النعمان بنِ بشير ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثلُ الجسدِ ، إذا اشتكى منه عُضوٌ ، تداعى له سائرُ الجسدِ بالحُمى والسَّهر ) خرَّجاه في " الصحيحين " (3) ، وهذا يدلُّ على أنَّ المؤمنَ يسوؤه ما يسوءُ أخاه المؤمن ، ويُحزِنُه ما يُحزنه .
وحديثُ أنس الذي نتكلَّمُ الآن فيه يدلُّ على أنَّ المؤمن يَسُرُّهُ ما يَسرُّ أخاه المؤمن ، ويُريد لأخيه المؤمن ما يُريده لنفسه من الخير ، وهذا كُلُّه إنَّما يأتي من كمالِ سلامةِ الصدر من الغلِّ والغشِّ والحسدِ ، فإنَّ الحسدَ يقتضي أنْ يكره الحاسدُ أنْ يَفوقَه أحدٌ في خير ، أو يُساوَيه فيه ؛ لأنَّه يُحبُّ أنْ يمتازَ على الناسِ بفضائله ، وينفرِدَ بها عنهم ، والإيمانُ يقتضي خلافَ ذلك ، وهو أنْ يَشْرَكَه المؤمنون كُلُّهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أنْ ينقص عليه منه شيء(4) .
__________
(1) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 2/349 .
(2) انظر : الحديث السابع .
(3) سبق تخريجه .
(4) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/98 ، وفتح الباري 1/80 .

وقد مدح الله تعالى في كتابه من لا يُريد العلوَّ في الأرض ولا الفساد ، فقال :
{ تلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً } (1) . وروى ابنُ جريرٍ بإسنادٍ فيه نظرٌ(2) عن عليٍّ - رضي الله عنه - ، قال : إنَّ الرَّجُلَ ليُعْجِبهُ مِن
شِراكِ نعله أنْ يكونَ أجود من شراكِ صاحبه فَيدْخُلُ في قوله : { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (3) (4) . وكذا رُوي عن الفضيل بنِ عياض في هذه الآية ، قال : لا يُحِبُّ أنْ يكونَ نعلُه أجودَ من نعل غيره ، ولا شِراكُهُ أجودَ مِنْ شراك غيره (5).
__________
(1) القصص : 83 .
(2) وذلك أنَّ في إسناده أشعث بن سعيد البصري السمان، قال عنه أبو حاتم : ( ضعيف الحديث، منكر الحديث، سيء الحفظ، يروي المناكير عن الثقات ) . الجرح والتعديل 2/199 ( 980 ).
(3) القصص : 83 .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 21060 ) وطبعة التركي 18/344 ، وابن أبي حاتم في
" تفسيره " 9/3023 ( 17181 ) ، وأبو حيان في " تفسيره " 7/131 ، وأورده ابن كثير في " تفسيره " : 1427 ( طبعة دار ابن حزم ) ، والسيوطي في " الدر المنثور " 5/265 .
(5) عبارة : ( ولا شراكه أجود من شراك غيره ) سقطت من ( ص ) .

وقد قيل : إنَّ هذا محمولٌ على أنَّه إذا أراد(1) الفخر على غيره لا مجرَّد التجمل(2)، قال عكرمةُ وغيرُه من المفسرين في هذه الآية : العلوُّ في الأرض : التكبُّر، وطلبُ الشرف والمنْزلة عند ذي سلطانها ، والفساد : العمل بالمعاصي(3) .
وقد ورد ما يَدُلُّ على أنَّه لا يأثم مَنْ كره أنْ يفوقَه من الناسِ أحدٌ في الجمال ، فخرَّج الإمامُ أحمدُ - رحمه الله -(4) والحاكم في " صحيحه "(5) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - ، قال : أتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعنده مالكُ بن مرارةَ الرَّهَاوِيُّ ، فأدركتُه وهو يقول : يَا رسولَ الله ، قد قُسِمَ لي من الجمال ما ترى ، فما أحبُّ أحداً من النَّاس فضلني بشِراكَيْن فما فوقهما ، أليس ذلك هو من البَغي ؟ فقال : ( لا ، ليس ذلك بالبغي ، ولكن البغي من بَطِرَ – أو قال : سفه - الحقَّ وغَمط الناس ) .
وخرَّج أبو داود(6) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معناه ، وفي حديثه : ( الكبر ) (7) بدل : ( البغي ) .
__________
(1) إذا أراد ) سقطت من ( ص ) .
(2) ذكره : ابن كثير في " تفسيره " : 1427 ( طبعة دار ابن حزم ) .
(3) ذكره : الطبري في " تفسيره " ( 21056 ) و( 21059 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 9/3022 ( 17176 ) و9/3023 ( 17185 ) ، وابن الجوزي في " تفسيره " 6/248 ، والقرطبي في " تفسيره " 13/320 ، وابن كثير في " تفسيره " : 1427 طبعة دار ابن حزم ، والسيوطي في " الدر المنثور " 5/264-265 .
(4) في " المسند " 1/385 ، وهو حديث صحيح .
(5) " المستدرك " 4/182 .
(6) في " سننه " ( 4092 ) وهو صحيح .
(7) سقطت من ( ص ) .

فنفى أنْ تكونَ كراهتُه ؛ لأنْ يَفوقَهُ أحدٌ في الجمال بغياً أو كبراً ، وفسَّر الكبر والبغي ببطر الحقِّ وغمط الناس(1) ، وهو التكبُّر عليه ، والامتناع مِن قبوله كِبراً إذا خالف هواه . ومن هنا قال بعض السَّلف : التَّواضُعُ أنْ تَقْبَلَ الحقَّ مِن كلِّ من جاء به ، وإنْ كان صغيراً ، فمن قَبِلَ الحقَّ ممَّن جاء به ، سواء كان صغيراً أو كبيراً ، وسواء كان يحبُّه أو لا يحبه ، فهو متواضع ، ومن أبى قَبُولَ الحقِّ تعاظُماً عليه ، فهو متكبِّرٌ .
وغمط الناس : هو احتقارُهم وازدراؤهم ، وذلك يحصُل مِنَ النَّظرِ إلى النَّفس بعينِ الكمالِ ، وإلى غيره بعينِ النَّقص(2) .
وفي الجملة : فينبغي للمؤمن أنْ يُحِبَّ للمؤمنينَ ما يُحبُّ لنفسه ، ويكره لهم ما يكره لِنفسه ، فإنْ رأى في أخيه المسلم نقصاً في دينه اجتهدَ في إصلاحه . قال بعضُ الصالحين مِن السَّلف : أهلُ المحبة لله نظروا بنور الله ، وعطَفُوا على أهلِ معاصي الله ، مَقَتُوا أعمالهم ، وعطفوا عليهم ليزيلوهُم بالمواعظ عن فِعالهم ، وأشفقوا على أبدانِهم من النار ، لا يكون المؤمنُ مؤمناً حقاً حتى يرضى للناسِ ما يرضاه لنفسه ، وإنْ رأى في غيره فضيلةً فاق بها عليه فيتمنى لنفسه مثلها ، فإنْ كانت تلك الفضيلةُ دينية ، كان حسناً ، وقد تمنى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لنفسه منْزلةَ الشَّهادة(3).
__________
(1) عبارة ( وغمط الناس ) سقطت من ( ج ) .
(2) انظر : النهاية 3/1014-1015 ، ومجمل اللغة 3/686 ، وأساس البلاغة 1/713 ، ولسان العرب 10/125 ، ومختار الصحاح : 481-482 .
(3) حديث تمني النبي - صلى الله عليه وسلم - الشهادة أخرجه : البخاري 1/15 ( 36 )، ومسلم 6/33 ( 1876 )
( 103 ) و6/64 ( 1876 ) ( 106 ) من حديث أبي هريرة .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا حسدَ إلاَّ في اثنتين : رجل آتاهُ الله مالاً ، فهو يُنفقهُ آناءَ الليلِ وآناءَ النَّهارِ ، ورجُلٌ آتاهُ الله القرآن ، فهو يقرؤهُ آناءَ الليل وآناءَ النهار )(1) .
وقال في الذي رأى مَنْ(2) ينفق مالَه في طاعة الله ، فقال : ( لو أنَّ لي مالاً ، لفعلتُ فيه كما فعل ، فهما في الأجر سواءٌ )(3) وإنْ كانت دنيويةً ، فلا خيرَ في تمنيها ، كما قال تعالى : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } (4) . وأما قول الله - عز وجل -
: { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } (5) ، فقد فُسِّرَ ذلك بالحسد ، وهو تمنِّي الرجل نفس ما أُعطي أخوه من أهلٍ ومال ، وأنْ ينتقل ذلك إليه ، وفُسِّرَ بتمني ما هو ممتنع شرعاً أو قدراً ، كتمني النِّساءِ (6) أنْ يكنَّ رجالاً ، أو يكون لهن مثلُ ما للرجالِ من الفضائلِ الدينية كالجهاد ، والدنيوية كالميراثِ والعقلِ والشهادةِ
ونحو ذلك ، وقيل : إنَّ الآية تشمل ذلك كُلَّه(7) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 1/28 ( 73 ) و2/134 ( 1409 ) ، ومسلم 2/201 ( 816 )
( 268 ) ، من حديث عبد الله بن مسعود .
(2) عبارة : ( رأى من ) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : البخاري 6/236 ( 5026 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(4) القصص : 79-80 .
(5) النساء : 32 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) انظر : تفسير مجاهد : 154 ، وتفسير الطبري ( 7319 ) و( 7320 ) و( 7321 )
و( 7322 ) ، وتفسير ابن أبي حاتم 3/935 ( 5226 ) ، وتفسير القرطبي 5/162-163 ، والبحر المحيط 1/609 ، وأسباب النزول عن الصحابة والمفسرين : 66 .

ومع هذا كُلِّه ، فينبغي للمؤمن أنْ يحزنَ لفواتِ الفضائل الدينية ، ولهذا أُمِرَ أنْ ينظر في الدين إلى مَنْ فوقَه ، وأنْ يُنافِسَ في طلب ذلك جهده وطاقته ، كما قال تعالى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمتَنَافِسُونَ } (1) ولا يكره أنَّ أحداً يُشارِكُه في
ذلك ، بل يُحِبُّ للناس كُلِّهم المنافسةَ فيه ، ويحثُّهم على ذلك ، وهو من تمام أداءِ النَّصيحة للإخوان(2) .
قال الفضيلُ : إنْ كُنتَ تحبُّ أنْ يكونَ الناسُ مثلَك ، فما أديتَ النَّصيحة لأخيك(3) ، كيف وأنت تحبُّ أنْ يكونوا دونك ؟!(4) يشير إلى أنَّ أداء النَّصيحة لهم أنْ يُحبَّ(5) أنْ يكونوا فوقَه ، وهذه منزلةٌ عالية ، ودرجةٌ رفيعةٌ في النُّصح ، وليس ذَلِكَ بواجبٍ ، وإنَّما المأمورُ به في الشرع أنْ يُحبَّ أنْ يكونوا مثلَه ، ومع هذا فإذا فاقه أحدٌ في فضيلة دينية اجتهد على لَحاقه ، وحزن على تقصير نفسه ، وتخلُّفِهِ عن لحاق السابقين ، لا حسداً لهم على ما آتاهُم الله من فضله - عز وجل - (6)، بل منافسةً لهم ، وغبطةً وحزناً على النَّفس بتقصيرها وتخلُّفها عن درجات السابقين .
__________
(1) المطففين : 26 .
(2) انظر ما ذكره الطبري في " تفسيره " 15/134 ، والقرطبي في " تفسيره " 19/266 ؛ والبغوي في " تفسيره " 5/266 ، وابن عطية في " تفسيره " 15/366 ، وابن الجوزي في
" تفسيره " 9/59 .
(3) في ( ج ) : ( لربك ) .
(4) انظر : حلية الأولياء 8/87 نحوه .
(5) أن يحب ) سقطت من ( ص ) .
(6) عبارة : ( من فضله - عز وجل - ) لم ترد في ( ج ) .

وينبغي للمؤمن أنْ لا يزال يرى نفسَه مقصِّراً عن الدَّرجات العالية ، فيستفيد بذلك أمرين نفيسين : الاجتهاد في طلب الفضائل ، والازدياد منها ، والنظر إلى نفسه بعينِ النَّقص ، وينشأ مِنْ هذا أنْ يُحِبَّ للمؤمنين أنْ يكونوا خيراً منه ؛ لأنَّه لا يرضى لَهم أنْ يكونوا على مثلِ حاله ، كما أنَّه لا يرضى لنفسه بما هي عليه ، بل يجتهد في إصلاحها ، وقد قالَ محمدُ بنُ واسع لابنه : أمَّا أبوكَ ، فلا كثَّرَ الله في المسلمين مثلَه(1) .
فمن كان لا يرضى عن نفسه ، فكيف يُحبُّ للمسلمين أنْ يكونوا مثلَه مع نصحه لهم ؟ بل هو يحبُّ للمسلمين أنْ يكونوا(2) خيراً منه ، ويحبُّ لنفسه أنْ يكونَ خيراً ممَّا هو عليه .
وإنْ عَلِمَ المرءُ أنَّ الله قد خصَّه على غيره بفضل ، فأخبر به لمصلحة دينية ، وكان إخباره على وجه التحدُّث بالنِّعمِ ، ويرى نفسه مقصراً في الشُّكر ، كان جائزاً ، فقد قال ابنُ مسعود : ما أعلم أحداً أعلمَ بكتاب الله مني ، ولا يمنع هذا أنْ يُحِبَّ للنَّاسِ أنْ يُشاركوه فيما خصَّهُ الله به ، فقد قال ابنُ عبَّاسٍ : إني لأمرُّ على الآية من كِتاب الله ، فأودُّ أنَّ النَّاسَ كُلَّهم يعلمُون منها ما أعلم ، وقال الشافعيُّ : وددتُ أنَّ النَّاسَ تعلَّموا هذا العلمَ ، ولم يُنْسَبْ إليَّ منه شيء(3) ، وكان عتبةُ الغلامُ إذا أراد أنْ يُفطر يقول لبعض إخوانه المطَّلِعين على أعماله : أَخرِج إليَّ ماءً أو تمراتٍ أُفطر عليها ؛ ليكونَ لك مثلُ أجري(4) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/350 .
(2) من قوله : ( مثله مع نصحه ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/119 .
... وانظر : سير أعلام النبلاء 10/55 ، وآداب الشافعي : 92 ، وتهذيب الأسماء واللغات 1/540 ، والمناقب للبيهقي 1/173 ، والانتقاء : 84 ، ومعرفة السنن والآثار 1/129 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/235 .

الحديث الرابع عشر
عَنْ عبدِ الله بن مَسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ : قالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلِمٍ إلاَّ بِإحْدَى ثَلاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي ، والنَّفسُ بالنَّفسِ ، والتَّارِكُ لِدينِهِ المُفارِقُ لِلجماعَةِ ) . رواهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ(1) .
هذا الحديث(2) خرّجاه في " الصحيحين " (3) من رواية الأعمش ، عن
عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، وفي رواية لمسلم : ( التارك للإسلام ) بدل قوله : ( لدينه )(4) .
وفي هذا المعنى أحاديثُ متعددة : فخرَّج مسلم(5) من حديث عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ حديثِ ابن مسعود .
__________
(1) أخرجه : البخاري 9/6 ( 6878 ) ، ومسلم 5/106 ( 1676 ) ( 25 ) و( 26 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 289 ) ، وعبد الرزاق ( 18704 ) ، والحميدي ( 119 ) ، وأحمد 1/382 و428 و444 و465، والدارمي ( 2303 ) و( 2451 ) ، وأبو داود ( 4352 ) ، وابن ماجه ( 2534 ) ، والترمذي ( 1402 ) ، والنسائي 7/90-91 و8/13 ، وابن الجارود ( 832 ) ، وأبو يعلى ( 5202 ) ، وابن حبان ( 4408 ) ، والدارقطني 3/67
( 3071 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والبيهقي 8/19 و194 و202 و213 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 5331 ) من حديث عبد الله بن مسعود ، به .
(2) عبارة : ( هذا الحديث ) سقطت من ( ص ) .
(3) صحيح البخاري 9/6 ( 6878 ) ، وصحيح مسلم 5/106 ( 1676 ) ( 25 ) .
(4) صحيح مسلم 5/106 ( 1676 ) ( 26 ) .
(5) في " صحيحه " 5/106 ( 1676 ) ( 26 ) .

وخرَّج الترمذيُّ(1) ، والنسائي(2) ، وابنُ ماجه(3) من حديث عثمان ، عن
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (4) ، قال : ( لا يَحلُّ دمُ امرئٍ مُسلمٍ إلاَّ بإحدى ثلاثٍ : رجلٍ كفر بعد إسلامه ، أو زَنى بعد إحصانهِ(5) ، أو قتلَ نفساً بغير نفسٍ ) . وفي روايةٍ للنَّسائي
: ( رجلٌ زنى بعد إحصانه ، فعليه الرجمُ ، أو قتل عمداً ، فعليه القَوَدُ ، أو ارتدَّ بعدَ إسلامِهِ ، فعليه القتلُ )(6) .
وقد رُوي هذا المعنى عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من روايةِ ابن عبَّاس(7) وأبي هريرة وأنس وغيرهم(8) ، وقد ذكرنا حديثَ أنسٍ فيما تقدَّم ، وفيه تفسير أنَّ هذه الثلاث خصال هي حقُّ الإسلام التي يُستباح بها دَمُ مَنْ شهد أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، والقتلُ بكلِّ واحدةٍ مِنْ هذه الخصالِ الثَّلاثِ متَّفقٌ عليه بين المسلمين(9) .
أما زنى الثَّيِّبِ ، فأجمع المسلمون على أنَّ حَدَّه الرجمُ حتَّى يموتَ ، وقد رجم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً والغامدية(10)
__________
(1) في " جامعه " ( 2158 ) ، وقال : ( هذا حديث حسن ) .
(2) في " المجتبى " 7/104 .
(3) في " سننه " ( 2533 ) .
(4) من قوله : ( مثل حديث ابن مسعود ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(5) في ( ص ) : ( كفر بعد إسلام ، أو زنى بعد إحصان ) .
(6) أخرجه : النسائي في " المجتبى " 7/103 من حديث عثمان بن عفان ، به .
(7) نسبه الحافظ ابن حجر إلى النسائي . انظر : فتح الباري 12/251 ، وانظر : مجمع الزوائد 1/25 .
(8) انظر : مجمع الزوائد 1/25-26 .
(9) تقدم تخريجه عند الحديث الثامن .
(10) أخرجه : أحمد 3/61-62، ومسلم 5/118 ( 1694 ) ( 20 ) ، وأبو داود ( 4431 )، وابن حبان ( 4438 ) ، والحاكم 4/362-363 ، والبيهقي 8/220-221 من حديث أبي سعيد الخدري ، به .

وللحديث طرق أخرى ، وانظر : المغني 10/119 .

، وكان في القرآن الذي نسخ لفظه : ( والشَّيخُ
والشَّيخَةُ إذا زَنيا فارجُموهُما البتة نكالاً من الله ، والله عزيز حكيم )(1) .
وقد استنبط ابنُ عباسٍ الرَّجمَ مِنَ القرآن من قوله تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ
كَثِيرٍ } (2) ، قال : فمن كفر بالرَّجم ، فقد كفر بالقرآن من حيثُ لا يحتسب ، ثمَّ تلا هذه الآية ، وقال : كان الرجمُ مما أخفوا . خرَّجه النَّسائي(3) ، والحاكم(4) ، وقال : صحيحُ الإسناد .
ويُستنبط أيضاً من قوله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } إلى قوله : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله } (5) . وقال الزهري : بلغنا أنَّها نزلت في اليهوديَّيْن اللذيْن رجمهما النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنِّي أحكم بما في التوراة ) وأمر بهما فرُجما(6) .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 13363 ) ، وابن حبان ( 4428 ) و( 4429 ) ، والحاكم 2/415 من حديث أبي بن كعب ، به ، وإسناده لا بأس به ، وانظر : المغني
10/118-119 .
(2) المائدة : 15 .
(3) في " الكبرى " ( 7162 ) وفي " التفسير " ، له ( 159 ) .
وأخرجه : الطبري في "تفسيره" ( 9057 )، وطبعة التركي 8/262 ، وابن حبان ( 4430 )، والحاكم 4/359 من حديث عبد الله بن عباس ، به . وهو صحيح .
(4) في " المستدرك " 4/359 .
(5) المائدة : 44-49 .
(6) أخرجه : عبد الرزاق في " تفسيره " 1/189 - 190 وفي مصنفه ( 13330 ) ، وأبو داود ( 4450 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 9387 ) ، وطبعة التركي 8/451 ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 6401 ) .

وخرَّج مسلم في " صحيحه " (1) من حديث البراء بن عازب قصة رجم اليهوديين ، وقال في حديثه : فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر } (2) وأنزل : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (3) في الكفار كلها .
وخرَّجه الإمام أحمد(4) وعنده : فأنزل الله : { لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر } إلى قوله : { إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ } (5) ، يقولون : ائتوا محمداً (6)، فإنْ أفتاكم بالتَّحميم والجلدِ ، فخُذوه ، وإنْ أفتاكم بالرجم ، فاحذروا ، إلى قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (7) ، قال : في
اليهود .
ورُوِيَ من حديث جابر قصَّةُ رجم اليهوديين ، وفي حديثه قال : فأنزل الله :
{ فَإِنْ جَاءوكَ فَاحْكُمْ بَينهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُم } إلى قوله : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْط } (8) .
__________
(1) الصحيح 5/122 ( 1700 ) ( 28 ) ، وأبو داود ( 4448 ) .
(2) المائدة : 41 .
(3) المائدة : 44 .
(4) في " مسنده " 4/286 .
وأخرجه : مسلم 5/122-123 ( 1700 ) ( 28 )، وأبو داود ( 4447 ) و( 4448 ) ، وابن ماجه ( 2327 ) و( 2558 ) ، والنسائي في "الكبرى" ( 11144 ) وفي " التفسير " ، له ( 164 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 9316 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل
الآثار " ( 4541 ) ، وفي " شرح معاني الآثار " ، له 4/142 من حديث البراء بن عازب ،
به .
(5) المائدة : 41 .
(6) في ( ص ) : ( يعني : الجلد ) .
(7) المائدة : 44 .
(8) المائدة : 42 .
والحديث أخرجه : الحميدي ( 1294 ) ، وإسناده ضعيف لضعف مجالد بن سعيد .

وكان الله تعالى قد أمر أوَّلاً بحبسِ النِّساء(1) الزَّواني إلى أنْ يتوفَّاهنَّ الموت ، أو يجعل الله لهنَّ السبيل ، ثم جعل الله (2) لهنَّ سبيلاً ، ففي " صحيح مسلم " (3) عن عبادة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( خُذوا عنِّي خُذوا عنِّي قد جعل الله لهنَّ سبيلاً : البكرُ بالبكِر جلدُ مئة وتغريبُ عامٍ ، والثيبُ بالثيب جلدُ مئة والرجمُ ) .
وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جماعةٌ من العلماء ، وأوجبوا جلدَ الثيب مئة ، ثم رجمه كما فعل عليٌّ بشُراحة الهَمْدَانيَّةِ ، وقال : جلدتُها بكتاب الله ، ورجمتُها بسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(4) . يشير إلى أنَّ كتاب الله فيه جلدُ الزَّانيين من غير تفصيلٍ بين ثيِّبٍ وبِكرٍ ، وجاءت السُّنةُ برجم الثيب خاصة مع استنباطه من القرآن أيضاً ، وهذا القول هو المشهور عن الإمام أحمد رحمه الله وإسحاق ، وهو قول الحسن وطائفة من السَّلف(5) .
وقالت طائفة منهم : إنْ كان الثَّيِّبان شيخين رُجمَا وجُلِدا ، وإنْ كانا شابَّين ، رُجِما بغيرِ جلدٍ؛ لأنَّ ذنبَ الشيخِ أقبحُ ، لا سيما بالزنى ، وهذا قولُ أبيِّ بنِ كعبٍ ، وروي عنه مرفوعاً ، ولا يصحُّ رفعه ، وهو رواية عن أحمد وإسحاق أيضاً(6) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) لفظ الجلالة لم يرد في ( ص ) .
(3) الصحيح 5/115 ( 1690 ) ( 12 ) .
(4) أخرجه : أحمد 1/93 ، والبخاري 8/204 ( 6812 ) ، والدارقطني 3/95 ( 3206 ) ، والحاكم 4/364-365 ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/329 ، والبيهقي 8/220 من حديث علي بن أبي طالب ، به . وانظر : المغني 10/119 .
(5) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/978 ، والمغني 10/119 .
(6) انظر : المغني 10/117 .

وأما النَّفسُ بالنفسِ ، فمعناه : أنَّ المكلَّف إذا قتل نفساً بغير حق(1) عمداً ، فإنَّه يُقْتَلُ بها ، وقد دلَّ القرآن على ذلك بقوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس } (2) وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى } (3) .
ويُستثنى من عُموم قوله تعالى : { النَّفْسَ بالنَّفْسِ } صُورٌ :
منها : أنْ يقتل الوالدُ ولدَه ، فالجمهورُ على أنَّه لا يُقْتَلُ به ، وصحَّ ذلك عن عُمر . وروي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ مُتعدِّدَةٍ ، وقد تُكُلِّمَ في أسانيدها(4)
__________
(1) في ( ص ) : ( نفس ) .
(2) المائدة : 45 .
(3) البقرة : 178 .
(4) أخرجه : أحمد 1/22 و49 ، وعبد بن حميد ( 41 ) ، وابن ماجه ( 2662 ) ، والترمذي
( 1400 ) ، وابن الجارود ( 788 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 8901 ) ، والبيهقي 8/38 و72 من حديث عمر بن الخطاب ونصه : قال : سمعت رسول الله يقول : ( لا يُقاد الوالد بالولد ) .
وأخرجه: أحمد 1/16 من طريق مجاهد، عن عمر وهو منقطع ؛ لأنَّ مجاهداً لم يسمع من عمر.
ورواه من حديث عبد الله بن عباس :
الدارمي ( 2362 ) ، وابن ماجه ( 2661 ) ، والترمذي ( 1401 ) ، وأبو نعيم في "الحلية" 4/18، والحاكم 4/369، والبيهقي 8/39، وإسناده ضعيف لضعف إسماعيل بن مسلم المكي.
ونصه : عن عبد الله بن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل الوالد بالولد ) .

وأخرجه : عبد الرزاق ( 1710 ) من طريق طاووس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً .

، وقال مالك : إنْ تَعمَّدَ قتله تعمداً لا يشكُّ فيه ، مثل أنْ يذبحه ، فإنَّه يُقتل به ، وإنْ
حذفه بسيفٍ أو عصا، لم يقتل . وقال البتِّي : يقتل بقتله بجميع وجوه العَمدِ للعمومات(1).
ومنها : أنْ يقتل الحرُّ عبداً ، فالأكثرون على أنَّه لا يُقتل به(2) ، وقد
وردت في ذلك أحاديثُ في أسانيدها مقالٌ(3) . وقيل : يقتل بعبدِ غيره دُون
عبدِه(4) ، وهو قولُ أبي حنيفة وأصحابه ، وقيل : يقتل بعبده وعبدِ غيره ، وهي رواية عن الثوري ، وقول طائفةٍ من أهل الحديث(5) ؛ لحديث سمرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( من قَتَلَ عبدهُ قتلناهُ ، ومن جَدَعَهُ جدَعْناهُ )(6) وقد طعن فيه الإمام أحمد
وغيره .
__________
(1) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/912 ، وبداية المجتهد 2/710-711 .
(2) انظر : الهداية للكلوذاني 2/230 بتحقيقنا ، وبداية المجتهد 2/706 .
(3) أخرجه : البيهقي 8/35 . ونصه : عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يقتل حر بعبد ) .
وأخرجه : البيهقي 8/34 . ونصه : قال علي - رضي الله عنه - : ( من السنة أن لا يقتل حر بعبد ) .
وانظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/911 و912 .
(4) عبارة : ( دون عبده ) سقطت من ( ص ) .
(5) انظر : بداية المجتهد 2/706-707 .
(6) أخرجه : أحمد 5/10 و11 و12 و18 و19، والدارمي ( 2363 ) ، وأبو داود ( 4515 ) و( 4516 ) و( 4517 ) ، وابن ماجه ( 2663 ) ، والترمذي ( 1414 ) وفي " العلل
الكبير " ، له ( 238 ) ، والنسائي 8/20 و21 و26 ، وابن عدي في " الكامل " 3/156 و8/417 من حديث الحسن ، عن سمرة بن جندب ، به ، وإسناده ضعيف فإنَّ الحسن لم يسمع كل أحاديث سمرة ، وهذا الحديث جاء التصريح بأنه لم يسمعه الحسن من سمرة كما في " مسند الإمام أحمد " 5/10 .

وقد أجمعوا على أنَّه لا قصاص بين العبيدِ والأحرار في الأطراف ، وهذا يدلُّ على أنَّ هذا الحديث مطَّرَحٌ لا يُعمل به ، وهذا مما يُستدلُّ به على أنَّ المراد بقوله تعالى : { النَّفْسَ بالنَّفْسِ } (1) الأحرار ؛ لأنَّه ذكر بعده القصاص في الأطراف ، وهو يختصُّ بالأحرار(2) .
ومنها : أنْ يَقتُلَ المسلم كافراً ، فإنْ كان حربياً ، لم يقتل به بغير خلافٍ(3) ؛ لأنَّ قتل الحربيِّ مباحٌ بلا ريب ، وإنْ كان ذمياً أو معاهَداً ، فالجمهور على أنَّه لا
يقتل به أيضاً(4) ، وفي " صحيح البخاري " (5)
__________
(1) المائدة : 45 .
(2) انظر : بداية المجتهد 2/710 .
(3) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/911 ، والهداية للكلوذاني 2/230 بتحقيقنا ، وبداية المجتهد 2/708 .
(4) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/911 ، وبداية المجتهد 2/708 .
اختلف العلماء في قتل المؤمن بالكافر الذمي ، فقال الإمام ابن رشد - رحمه الله - :
وأما قتل المؤمن بالكافر الذمي فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال :
فقال قوم : لا يقتل مؤمن بكافر ، وممن قال به الشافعي والثوري وأحمد وداود وجماعة .
وقال قوم : يقتل به ، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى .
وقال مالك والليث ، لا يقتل به إلا أن يقتله غيلة وقتل الغيلة أن يضجعه فيذبحه وبخاصة على ماله .
انظر : بداية المجتهد 2/708 .
(5) الصحيح 1/38 ( 111 ) و4/84 ( 3047 ) و9/13 ( 6903 ) و9/16 ( 6915 ) .

وأخرجه : الشافعي في " المسند " ( 1625 ) و( 1626 ) بتحقيقي ، والطيالسي ( 91 ) ، وعبد الرزاق ( 18508 ) ، والحميدي ( 40 ) ، وابن أبي شيبة ( 27471 ) ( ط الحوت ) ، وأحمد 1/79 ، والدارمي ( 2361 ) ، وابن ماجه ( 2658 ) ، والترمذي ( 1412 ) ، والبزار ( 486 ) ، والنسائي 8/23-24 وفي " الكبرى " ، له ( 6946 ) ، وأبو يعلى
( 451 ) ، وابن الجارود ( 794 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 3/192 ، والبيهقي 8/28 ، والبغوي في " شرح السنة " ( 2530 ) .

عن علي ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا
يُقتلُ مسلمٌ بكافرٍ ) .
وقال أبو حنيفة وجماعةٌ من فقهاء الكوفيين : يُقتل به(1) ، وقد روى ربيعةُ ، عن ابن البيلماني، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه قتل رجلاً من أهل القبلة برجل من أهل الذمةِ ، وقال : ( أنا أحقُّ من وفَّى بذمَّته )(2) وهذا مرسل ضعيف قد ضعَّفه الإمام أحمد ، وأبو عبيد ، وإبراهيمُ الحربي ، والجوزجاني ، وابنُ المنذر ، والدارقطني ، وقال : ابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث ، فكيف بما يرسله ؟ وقال الجوزجاني : إنَّما أخذه ربيعةُ ، عن إبراهيمَ بن أبي يحيى ، عن ابنِ المنكدر ، عن ابن البيلماني ، وابن أبي يحيى : متروك الحديث . وفي " مراسيل أبي داود " حديث آخر مرسل : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَتَلَ يوم خيبر مسلماً بكافرٍ ، قتله غيلةً ، وقال : ( أنا أولى وأحقُّ من وفى بذِمَّته )(3) . وهذا مذهبُ مالك وأهل المدينةِ : أنَّ القتلَ(4) غيلة لا تُشترط له المكافأة ، فَيُقْتَلُ فيه المسلمُ بالكافرِ ، وعلى هذا حملُوا حديثَ ابن البيلماني أيضاً على تقدير صحَّته(5) .
__________
(1) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/911 ، وبداية المجتهد 2/708 .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 18514 ) ، وأبو داود في " المراسيل " : 155 ، والدارقطني 3/101 ( 3234 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والبيهقي 8/30 ، وهو ضعيف كما أشار إليه المصنف .
(3) أخرجه : أبو داود في " المراسيل " : 155 وطبعة الرسالة ( 250 ) و( 251 ) ، وهو في
" مسند الشافعي " ( 1622 ) بتحقيقي ، وانظر هناك تمام تخريجه والتعليق عليه .
(4) من قوله : ( وقال : أنا أولى ... ) إلى هنا سقط ( ص ) .
(5) انظر : بداية المجتهد 2/708 .

ومنها : أنْ يقتل الرجل امرأةً ، فيُقتل بها بغيرِ خلاف(1) ، وفي كتاب عمرو ابن حزمٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّ الرَّجُلَ يقتل بالمرأة(2) . وصحَّ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قتل يهودياً قتلَ جارية(3) وأكثرُ العلماء على أنَّه لا يدفع إلى أولياء الرجل شيءٌ . وروي عن عليّ أنَّه يدفع إليهم نصف الدية ؛ لأنَّ ديةَ المرأة نصفُ ديةِ الرجل وهو قولُ طائفةٍ مِنَ السَّلف وأحمد في رواية عنه(4) .
__________
(1) انظر : بداية المجتهد 2/710 .
(2) أخرجه : ابن حبان ( 6559 ) ، والحاكم 1/395-397 ، والبيهقي 4/89-90 من حديث عمرو بن حزم ، به . وهو ضعيف من حيث الصناعة الإسنادية .
(3) عن أنس - رضي الله عنه - : أنَّ يهودياً قتل جارية على أوضاح ، فقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
... أخرجه : أحمد 3/170 و203 ، والبخاري 9/5-6 ( 6877 )، ومسلم 5/103 ( 1672 ) ( 15 ) ، وأبو داود ( 4529 ) ، وابن ماجه ( 2666 ) ، والنسائي 8/35-36 ، وابن حبان ( 5992 ) ، والدارقطني 3/118 ( 3315 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والبيهقي 8/42 من حديث أنس بن مالك ، به .
(4) انظر : بداية المجتهد 2/710 . وهو قول : عثمان البتي ، وحكى القاضي أبو الوليد الباجي في " المنتقى " عن الحسن البصري وعطاء : أنَّه لا يقتل الذكر بالأنثى وحكاه الخطابي في " معالم السنن " وهو شاذ . انظر : معالم السنن 4/14 .

وأمَّا التَّاركُ لِدينه المفارق للجماعة ، فالمرادُ به من ترك الإسلام ، وارتدَّ عنه ، وفارقَ جماعة المسلمين(1) ، كما جاء التصريحُ بذلك في حديث عثمان ، وإنَّما استثناه مع من يحلُّ دمه من أهل الشهادتين باعتبارِ ما كان عليه قبل الرِّدَّة وحكم الإسلام لازم له بعدها ، ولهذا يُستتاب ، ويُطلب منه العود إلى الإسلام(2) ،
وفي إلزامه بقضاء ما فاته في زمن الرِّدَّة من العبادات اختلافٌ مشهورٌ بَيْنَ
العلماء(3) .
وأيضاً فقد يتركُ دينَه ، ويُفارِقُ الجماعة ، وهو مقرٌّ بالشَّهادتين ، ويدَّعي الإسلام ، كما إذا جحد شيئاً مِنْ أركان الإسلام ، أو سبَّ(4) الله ورسولَه ، أو كفرَ ببعضِ الملائكة أو النَّبيِّينَ أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم(5) بذلك(6) ،
وفي " صحيح البخاري " (7)
__________
(1) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/381 ، والمغني 10/72 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/597-598 .
(2) انظر : الإشراف على نكت مسائل الخلاف 2/848 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/382 ، والهداية للكلوذاني 2/284 بتحقيقنا ، والمغني 10/74 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/600 .
(3) انظر : الهداية للكلوذاني 2/286 بتحقيقنا .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) عبارة : ( مع العلم ) سقطت من ( ص ) .
(6) انظر : الهداية للكلوذاني 2/286 بتحقيقنا ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/600 .
(7) الصحيح 4/75 ( 3017 ) و9/18 ( 6922 ) .

وأخرجه : عبد الرزاق ( 9413 ) و( 18706 ) ، والحميدي ( 533 ) ، وأحمد 1/217 و282 ، وأبو داود ( 4351 ) ، وابن ماجه ( 2535 ) ، والترمذي ( 1458 ) ، والنسائي 7/104 ، وأبو يعلى ( 2532 ) ، وابن الجارود ( 843 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل "
( 2865 ) و( 2866 ) و( 2867 ) ، وابن حبان ( 4476 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 11835 ) و( 11850 ) ، والدارقطني 3/85 ( 3157 ) و3/90 ( 3175 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والحاكم 3/538-539 ، والبيهقي 8/195 و202 و9/71 ، والبغوي
( 2560 ) و( 2561 ) .
قال ابن قدامة : وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد ، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم ، ولم ينكر ذلك فكان إجماعاً .
انظر : المغني 10/72 ، والشرح الكبير على متن المقنع 10/72 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/381 .

عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من بدَّل دينَهُ فاقتلوه ) .
ولا فرق في هذا بين الرجلِ والمرأة عندَ أكثر العلماء(1) ، ومنهم من قال : لا
تُقتل المرأةُ إذا ارتدَّت كما لا تُقتل نساء أهلِ دارِ(2) الحربِ في الحرب ، وإنَّما تُقتل رجالُهم ، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه(3) ، وجعلوا الكفر الطارئ كالأصلي ، والجمهور فرَّقوا بينهما ، وجعلوا الطارئ أغلظ من الأصلي(4) لما سبقه من الإسلام ، ولهذا يقتل بالرِّدَّة عنه من لا يقتل من أهل الحرب ، كالشَّيخ الفاني والزَّمِن(5) والأعمى ، ولا يُقتلون في الحرب(6) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( التارك لدينه المفارق للجماعة(7) ) يدلُّ على أنَّه لو تاب ورجع إلى الإسلام لم يقتل ؛ لأنَّه ليس بتاركٍ لدينه بعد رجوعه ، ولا مفارقٍ للجماعة(8) .
__________
(1) انظر : الإشراف على نكت مسائل الخلاف 2/847 ، ورؤوس المسائل في الخلاف 2/972 ، والهداية للكلوذاني 2/285 بتحقيقنا ، والمغني 10/72 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 5/381 ، ومنتهى الإرادات 2/499 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) انظر : الإشراف على نكت مسائل الخلاف 2/847 ، وتحفة الفقهاء 3/309 ، والمغني 10/72 .
(4) عبارة : ( من الأصلي ) سقطت من ( ج ) .
(5) أي : المبتلى ، والزَّمانة : العاهة . لسان العرب 6/87 .
(6) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/972 ، والمهذب 5/208 ، وتحفة الفقهاء 3/309 .
(7) سبق تخريجه .
(8) انظر : الإشراف على نكت مسائل الخلاف 2/848 ، والمغني 10/76 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/384 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/600 .

فإنَّ قيل : بل استثناء هذا ممَّن يعصم دَمُه من أهل الشهادتين يدلُّ على أنَّه يقتل ولو كان مقراً بالشهادتين ، كما يقتل الزاني المُحصَن ، وقاتل النفس ، وهذا يدلُّ على أنَّ المرتدَّ لا تُقبل توبتُه(1) ، كما حُكي عن الحسن ، أو أنْ يحمل ذلك على منِ ارتدَّ ممَّن وُلِدَ على الإسلام ، فإنَّه لا تُقبل توبتُه(2) ، وإنَّما تقبل توبةُ مَنْ كانَ كافراً ، ثم أسلم ، ثم ارتدَّ على قول طائفةٍ من العلماء ، منهم : الليثُ بنُ سعدٍ ، وأحمد في رواية عنه ، وإسحاق . قيل : إنَّما استثناه من المسلمين باعتبار ما كان عليه قبْلَ مفارقة دينه كما سبق تقريره ، وليس هذا كالثيبِ الزَّاني ، وقاتل النفس ؛ لأنَّ قتلَهُما وَجب عقوبةً لجريمتهما الماضية ، ولا يُمكن تلافي ذلك(3) .
وأمَّا المرتدُّ ، فإنَّما قُتِلَ لوصفٍ قائمٍ به في الحال ، وهو تركُ دينه ومفارقةُ الجماعة ، فإذا عاد إلى دينِهِ ، وإلى موافقته الجماعة ، فالوصف الذي أُبيح به دمُه قدِ انتفى ، فتزولُ إباحةُ دمِهِ ، والله أعلم(4) .
فإنْ قيل : فقد خرَّج النَّسائي(5) من حديث عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَحلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ إلاَّ بإحدى ثلاث خصالٍ : زانٍ محصن يُرجَمُ ، ورَجُلٍ قتل متعمداً فيُقتل ، ورجلٍ يخرجُ من الإسلام فحارب الله ورسوله فيقتل ، أو يُصلب ، أو يُنفى من الأرض ) . وهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ من جمع بين الردَّة والمحاربة .
قيل : قد خرَّج أبو داود(6)
__________
(1) انظر : المغني 10/76 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/384 .
(2) من قوله : ( كما حكي عن الحسن ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) انظر : المغني 10/76 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/394 .
(4) انظر : المغني 10/76 .
(5) في " المجتبى " 7/101-102 ، وفي " الكبرى " ( 3511 ) ، وهو صحيح .
(6) في " سننه " ( 4353 ) .

وأخرجه : النسائي 7/101-102 و8/23 وفي " الكبرى " ، له ( 3511 ) و( 6945 ) ، وهو حديث صحيح .

حديث عائشة بلفظ آخر ، وهو أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يحلُّ دَمُ امرئٍ مسلمٍ يشهد أنْ لا إله إلاَّ الله ، وأنَّ محمداً رسولُ الله إلا في إحدى(1) ثلاث : [ رجل ](2) زنى بعد إحصانٍ فإنَّه يُرجم ، ورجل خرج محارباً لله ورسوله فإنَّه يقتل أو يُصلب أو يُنفى من الأرض ، أو يقتل نفساً فيقتل بها ) .
وهذا يدلُّ على أنَّ مَنْ وُجِدَ منه الحِراب من المسلمين، خُيِّرَ الإمامُ فيه مطلقاً ، كما يقوله علماءُ أهلِ المدينة مالك وغيره(3)، والرواية الأولى قد تُحمل على أنَّ المرادَ بخروجه عن الإسلام خروجُه عن أحكام الإسلام(4) ، وقد تُحمل على ظاهرها ، ويستدلُّ بذلك مَنْ يقول : إنَّ آيةَ(5) المحاربة تختصُّ بالمرتدين(6)
__________
(1) في " سنن أبي داود " : ( بإحدى ) .
(2) ما بين المعكوفتين زيادة من " سنن أبي داود " .
(3) انظر : بداية المجتهد 2/816 .
(4) انظر : نيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/597-598 .
(5) لم ترد في ( ص ) .
(6) انظر : تفسير البغوي 2/43 ، والدر المنثور 2/492 .

قال ابن قدامة في " المغني " 10/297 : ( وهذه الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين ، وبه يقول مالك والشافعي ، وأبو ثور وأصحاب الرأي ، وحكي عن ابن عمر أنَّه قال : نزلت هذه الآية في المرتدين ، وحكي ذلك عن الحسن وعطاء وعبد الكريم ؛ لأنَّ سبب نزولها قصة العرنيين ، وكانوا ارتدوا عن الإسلام وقتلوا الرعاة ، فاستاقوا إبل الصدقة ، فبعث النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من جاء بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ، وألقاهم في الحرة حتىّ ماتوا ، قال أنس : فأنزل الله تعالى في ذلك { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ } المائدة : 33 .

، فمن ارتدَّ وحارب فُعِل به ما في الآية ، ومن حارب من غيرِ رِدَّةٍ ، أقيمت عليه أحكامُ المسلمين مِنَ القِصاص والقطع في السرقة ، وهذا رواية عن أحمد لكنَّها غيرُ مشهورةٍ عنه ، وكذا قالت طائفة من السَّلف : إنَّ آية المحاربة تختصُّ بالمرتدين ، منهم : أبو قِلابة
وغيرُه(1) .
وبكلِّ حالٍ فحديث عائشة ألفاظُه مختلفةٌ ، وقد روي عنها مرفوعاً، وروي عنها موقوفاً ، وحديثُ ابنِ مسعودٍ لفظه لا اختلاف فيه ، وهو ثابت متفق على صحته ، ولكن يُقال على هذا : إنَّه قد ورد قتلُ المسلم بغير إحدى هذه الخصال الثلاث :
__________
(1) انظر : الهداية للكلوذاني 2/278 بتحقيقنا ، والمغني 10/303 ، ومنتهى الإرادات 2/491 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/587-588 .

فمنها : في اللواط ، وقد جاء من حديثِ ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( اقتُلوا الفاعِلَ والمفعولَ به ) (1) ، وأخذ به كثيرٌ من العلماء كمالكٍ وأحمد ، وقالوا : إنَّه موجبٌ للقتل بكلِّ حالٍ ، محصناً كان أو غير محصن(2) ، وقد رُوي عن عثمان أنَّه قال : لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم إلا بأربع ، فذكر الثلاثة المتقدمة ، وزاد : ورجل عمِلَ عمَلَ قوم لوط(3) .
ومنها من أتى ذات محرم ، وقد روي الأمر بقتله ، وروي أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قتل من تزوَّجَ بامرأة أبيه(4)
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 13492 ) ، وأحمد 1/300 ، وعبد بن حميد ( 575 ) ، وأبو داود ( 4462 ) ، وابن ماجه ( 2561 ) ، والترمذي ( 1456 ) وفي " العلل الكبير " ، له
( 251 ) ، وأبو يعلى ( 2463 ) و( 2743 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار "
( 3834 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 11568 ) و( 11569 ) ، والدارقطني 3/96
( 3207 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والحاكم 4/355 ، والبيهقي 8/231-232 وفي
" معرفة السنن والآثار " ، له ( 5087 ) ، وإسناده ضعيف ، وانظر تعليق الترمذي عقب الحديث في " جامعه " .
(2) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/316 ، والجواب الكافي لمن سئل عن الدواء الشافي : 210 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 3/553 .
(3) أخرجه: ابن أبي شيبة ( 27905 ) و(28350 ) وطبعة الرشد ( 28362 ) و( 28816 ).
(4) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 33607 ) و( 36149 ) ( ط الحوت ) ، وأحمد 4/290 و295 ، وابن ماجه ( 2607 ) ، والترمذي ( 1362 ) ، والنسائي 6/109 ، والبغوي في " شرح السنة " ( 2592 ) عن البراء بن عازب ، عن خاله ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 10804 ) ، وأحمد 4/292 و297 ، وأبو داود ( 4457 ) ، والنسائي 6/109-110 ، والبيهقي 7/162 عن البراء بن عازب ، عن عمه ، به .

وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 28866 ) ( ط الحوت ) عن البراء بن عازب ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، به .

، وأخذ بذلك طائفةٌ من العلماء ، وأوجبوا قتله مطلقاً محصناً كان أو غير محصن(1) .
ومنها الساحر : وفي " الترمذي " (2) من حديث جُندب مرفوعاً(3) : ( حدُّ السَّاحر(4) ضربةٌ بالسَّيف ) ، وذكر أنَّ الصحيح وقفه على جندب(5) ، وهو مذهبُ جماعةٍ من العلماء ، منهم : عُمَرُ بنُ عبد العزيز ومالك وأحمد وإسحاق ، ولكن هؤلاء يقولون : إنَّه يكفر بسحره ، فيكون حكمُه حكمَ المرتدين(6) .
ومنها : قتلُ من وقع على بهيمة ، وقد ورد فيه حديث مرفوع(7)
__________
(1) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/318-319 ، وشرح السنة 10/305 .
(2) في " جامعه " ( 1460 ) ، وضعّف المرفوع ثم أعله بالوقف .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 1665 ) و( 1666 ) ، وابن عدي في " الكامل " 1/462 ، والدارقطني 3/90 ( 3179 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والحاكم 4/360 ، والبيهقي 8/136 من حديث جندب ، به .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 18752 ) من طريق الحسن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مرسلاً .
(3) عبارة : ( من حديث جندب مرفوعاً ) لم ترد في ( ص ) .
(4) في ( ص ) : ( حده ) .
(5) انظر : جامع الترمذي ( 1460 ) ، والرواية الموقوفة أخرجها : البيهقي في السنن الكبرى 8/136 .
(6) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/303 ، والمغني 10/106 و111 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/601 .
(7) ونصه : قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : ( من وقع على ذات محرم فاقتلوه ، ومن وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة ) .

أخرجه : عبد الرزاق ( 13492 ) ، وأحمد 1/269 و300 ، وأبو داود ( 4464 ) ، والترمذي (1455)، والدارقطني 3/96 (3210) (ط دار الكتب العلمية)، والحاكم 4/355، والبيهقي 8/231 و232 من حديث عبد الله بن عباس ، به ، وقد أعله الترمذي بالوقف .

، وقال به
طائفةٌ من العلماء(1) .
ومنها : من ترك الصَّلاة ، فإنَّه يُقتل عندَ كثيرٍ من العُلماء مع قولهم : إنَّه ليس
بكافرٍ ، وقد سبق ذكرُ ذلك مستوفى .
ومنها قتلُ شاربِ الخمر في المرَّة الرابعة ، وقد ورد الأمرُ به عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من
وُجوهٍ متعدِّدَةٍ(2)
__________
(1) انظر : الجواب الكافي لمن سئل عن الدواء الشافي : 218 .
(2) حديث صحيح نصه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من شرب الخمر فاجلدوه ، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه ) .
... أخرجه : عبد الرزاق ( 17087 ) ، وأحمد 4/95 و96 و101 ، وأبو داود ( 4482 ) ، وابن ماجه ( 2573 ) ، والترمذي ( 1444 ) وفي " العلل الكبير " ، له ( 246 ) ، وأبو يعلى ( 7363 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 3/159 ، وابن حبان ( 4446 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 767 ) و( 768 ) ، والحاكم 4/372 ، والبيهقي 8/313 من حديث معاوية بن أبي سفيان ، به .
وأخرجه : أبو داود ( 4483 ) ، والنسائي 8/313 ، والحاكم 4/371 من حديث عبد الله ابن عمر ، به .
وأخرجه : أحمد 2/291 ، وأبو داود ( 4484 ) ، وابن ماجه ( 2572 ) ، والنسائي 8/314 ، وابن حبان ( 4447 ) ، والحاكم 4/371 من حديث أبي هريرة ، به .

وأخرجه : ابن حبان ( 4445 ) من حديث أبي سعيد ، به .

، وأخذَ بذلك عبدُ الله بنُ عمرو بن العاص وغيره ، وأكثر العلماء على أنَّ القتل انتسخ ، وروي أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتي بالشَّارب في المرَّةِ الرَّابعة، فلم يقتُله(1). وفي " صحيح البخاري " (2) : أنَّ رجلاً كان يُؤتى به النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الخمر ، فلعنه رجلٌ ، وقال : ما أكثرَ ما يُؤتى به ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تلعنه ؛ فإنَّه يُحِبُّ الله ورسوله ) ولم يقتله بذلك .
وقد روي قتلُ السارق في المرة الخامسة(3) ، وقيل : إنَّ بعضَ الفُقهاء ذهبَ

إليه(4) .
ومنها : ما رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( إذا بُويِعَ لِخَلِيفَتين ، فاقتلوا الآخرَ
منهما ) خرَّجه مسلم (5) من حديث أبي سعيد ، وقد ضعف العقيلي أحاديثَ هذا الباب كلها(6) .
ومنها : قولُه - صلى الله عليه وسلم - : ( من أتاكم وأمرُكُم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ ، فأراد
أنْ يشقَّ عصاكم ، أو يفرِّقَ جماعَتَكُم فاقتلوه ) (7) ، وفي رواية : ( فاضربوا
رأسه بالسيف كائناً من كان ) . وقد خرَّجه مسلم(8) أيضاً من رواية
عرفجة .
__________
(1) أخرجه : أبو داود ( 4485 ) من حديث قبيصة بن ذؤيب ، وهو مرسل . انظر : تهذيب الكمال 6/94 ( 5431 ) .
(2) في " صحيحه " 8/197 ( 6780 ) من حديث عمر بن الخطاب ، به .
(3) أخرجه : أبو داود ( 4410 ) ، والنسائي 8/90-91 من حديث جابر بن عبد الله ، وهو ضعيف كما سيأتي وضعفه النسائي .
وأخرجه : النسائي 89-90 من حديث الحارث بن حاطب ، وهو ضعيف كما سيأتي .
(4) انظر : شرح الزركشي على متن الخرقي 4/73-74 .
(5) في " صحيحه " 6/23 ( 1853 ) ( 61 ) .
(6) انظر : الضعفاء الكبير للعقيلي 3/457 .
(7) أخرجه : مسلم 6/23 ( 1852 ) ( 60 ) .
(8) في " صحيحه " 6/22-23 ( 1852 ) ( 59 ) .
وأخرجه : أحمد 4/261 و341 و5/24 ، وأبو داود ( 4762 ) ، والنسائي 7/92-93 من حديث عرفجة ، به .

ومنها : من شَهَرَ السِّلاحَ ، فخرَّج النسائيُّ(1) من حديث ابن الزبير ، عن النَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ شَهَرَ السِّلاحَ ثم وضعه ، فدمه هدرٌ ) ، وقد روي عن ابن الزبير
مرفوعاً وموقوفاً ، وقال البخاري : إنَّما هو موقوف(2) .

وسئل أحمد عن معنى هذا الحديث ، فقال : ما أدري ما هذا . وقال إسحاق ابن راهويه : إنَّما يريد من شهر سلاحه ثمَّ وضعه في النَّاس حتّى استعرض النَّاس ، فقد حل قتله ، وهو مذهب الحرورية يستعرضون الرجال والنِّساء والذرية .
وقد رُوِيَ عن عائشة ما يخالف تفسير إسحاق ، فخرَّج الحاكم(3) من رواية علقمة ابن أبي علقمة ، عن أمِّه : أنَّ غلاماً شهر السَّيف على مولاه في إمرةِ سعيدِ بن
العاص، وتفلَّت به عليه ، فأمسكه النَّاسُ عنه ، فدخل المولى(4) على عائشة ، فقالت : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( من أشارَ بحديدةٍ إلى أحدٍ من المسلمين يريد قتله ، فقد وجب دمه ) فأخذه مولاه فقتله ، وقال : صحيح على شرط الشيخين (5) .
وقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه قال : ( من قُتِلَ دون ماله ، فهو شهيد ) (6)
__________
(1) في " المجتبى " 7/117 ، وأخرجه : الحاكم 2/159 من حديث عبد الله بن الزبير ، وتفصيل الكلام عليه في كتابي " الجامع في العلل " .
(2) انظر : علل الترمذي 1/327 .
(3) في " مستدركه " 2/158-159 .
... وأخرجه : أحمد 6/266 ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 1287 ) و( 1288 ) ، وهو حديث ضعيف ، فإنَّ في إسناده أم علقمة مرجانة مقبولة حيث تتابع ولم تتابع ، بل قد انفردت ، وهي ممن لا يحتمل تفرده .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) انظر : المستدرك 2/159 .
(6) أخرجه : عبد الرزاق ( 18566 ) و( 18567 ) ، وأحمد 2/163 و206 و221 ، والبخاري 3/179 ( 2480 ) ، ومسلم 1/87 ( 141 ) ( 226 )، والترمذي ( 1419 ) ، والنسائي 7/114-115 من حديث عبد الله بن عمرو ، به .

وللحديث طرق أخرى .

، وفي رواية : ( ومن قتل دون دمه ، فهو شهيد )(1) .
فإذا أريد مالُ المرء أو دمُه ، دافع عنه بالأسهل . هذا مذهب الشافعي(2) وأحمد ، وهل يجب أنْ ينوي أنَّه لا يريد قتله أم لا ؟ فيه روايتان عن الإمام
أحمد(3) .
وذهب طائفة إلى أنَّ مَنْ أراد مالَه أو دمَه ، أُبيح له قتلُه ابتداء ، ودخل على ابن عمرَ لِصٌّ ، فقام إليه بالسيف صلتاً ، فلولا أنَّهم حالوا بينه وبينه ، لقتله(4) . وسئل الحسنُ عن لصٍّ دخل بيت رجلٍ ومعه حديدة ، قال : اقتله بأيِّ قتلة قدرتَ عليه ، وهؤلاء أباحوا قتله وإنْ ولَّى هارباً من غير جناية(5) ، منهم : أيوبُ السَّختياني .
وخرَّج الإمام أحمد(6) من حديث عبادة بن الصامت ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( الدَّارُ حرمك ، فمن دخل عليك حَرَمَكَ ، فاقتله ) ولكن في إسناده ضعف .
__________
(1) أخرجه : الطيالسي ( 233 ) ، وأحمد 1/190 ، وأبو داود ( 4772 ) ، والترمذي
( 1421 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 342 ) ، والبيهقي 3/266 و8/335 من حديث سعيد بن زيد ، به .
(2) لم يرد في ( ص ) .
(3) عبارة : ( عن الإمام أحمد ) لم ترد في ( ص ) ، وانظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/476-477 .
(4) أخرجه : عبد الرزاق ( 18557 ) و( 18818 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به .
وانظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/476-477 .
(5) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/477 .
(6) في " مسنده " 5/326 .
وأخرجه : العقيلي في " الضعفاء الكبير " 4/130 ، وابن عدي في " الكامل " 7/498 ، والبيهقي 8/341 من حديث عبادة بن الصامت ، به .

ومنها : قتلُ الجاسوسِ المسلم إذا تجسَّسَ للكفار على المسلمين ، وقد توقَّف فيه أحمد(1) ، وأباح قَتْلَهُ طائفة من أصحاب مالِك ، وابنُ عقيل من
أصحابنا(2) ، ومن المالكية مَنْ قال : إنْ تكرَّر ذلك منه ، أُبِيحَ قتله(3) ، واستدلَّ من أباحَ قتله(4) بقولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حقِّ حاطب بن أبي بلتعة لما كتب الكتابَ إلى أهلِ مكَّةَ يخبرهم بسير النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم(5)، ويأمرهم بأخذ حذرهم، فاستأذن عمرُ في قتله ، فقال : ( إنَّه شهدَ بدراً ) (6) ، فلم يقل : إنَّه لم يأتِ ما يُبيحُ دمه ، وإنَّما علَّل بوجود مانعٍ مِنْ قتله ، وهو شهودُه بدراً ومغفرةُ الله لأهل بدر ، وهذا المانعُ منتفٍ في حقِّ مَنْ بعدَه .
ومنها : ما خرَّجه أبو داود في " المراسيل " (7)
__________
(1) انظر : السياسة الشرعية : 123 ، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1158 ، والولاء والبراء في الإسلام : 301 .
(2) انظر : منح الجليل على مختصر سيدي خليل 3/163 ، والشرح الكبير للدردير 2/182 ، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1159 ، والولاء والبراء في الإسلام : 301 .
(3) انظر : أحكام القرآن لابن العربي 4/1771 ، والجامع لأحكام القرآن 18/53 .
... وممن قال بذلك : عبد الملك بن الماجشون إذ قال : إن كانت تلك عادته قُتل ؛ لأنَّه جاسوس . انظر : الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1159 .
... قال القرطبي في تفسيره : ( ولعل ابن الماجشون إنَّما اتخذ التكرار في هذا ؛ لأنَّ حاطباً أُخذ في أول فعله ، والله أعلم ) . الجامع لأحكام القرآن 18/53 .
(4) عبارة : ( واستدل من أباح قتله ) لم ترد في ( ص ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) أخرجه : البخاري 4/72 ( 3007 ) ، ومسلم 7/167 ( 2494 ) ( 161 ) .
(7) المراسيل : 234 .

وأخرجه أيضاً : ابن عدي في " الكامل " 2/210 .

من رواية ابن المسيَّب : أنَّ
النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من ضرب أباه فاقتلوه ) ورُويَ مسنداً من وجهٍ آخرَ لا
يصحُّ(1) .
وأعلم أنَّ من هذه الأحاديث المذكورة ما لا يصحُّ ولا يُعرف به قائلٌ معتبر ، كحديث : ( مَنْ ضرب أباه فاقتلوه ) ، وحديث : ( قتل السارق في المرة
الخامسة ) (2) . وباقي النصوص كلُّها يمكن ردُّها إلى حديث ابن مسعود ، وذلك أنَّ حديثَ ابنِ مسعودٍ تضمَّن أنَّه لا يُستباح دمُ المسلم إلاَّ بإحدى ثلاث خصالٍ : إمَّا أنْ يترك دينه ويفارق جماعة المسلمين ، وإمَّا أنْ يزني وهو محصن ، وإمَّا أنْ يقتل نفساً بغير حقٍّ (3) .
فيؤخذ منه أنَّ قتل المسلم لا يُستباح إلاَّ بأحد ثلاثة أنواع : تركِ الدين ، وإراقةِ الدم المحرَّم ، وانتهاك الفرج المحرَّم ، فهذه الأنواع الثلاثة هي التي تُبيح دم المسلم دون غيرها .
فأما انتهاكُ الفرج المحرّم ، فقد ذكر في الحديث أنَّه الزنا بعد الإحصان ، وهذا - والله أعلم - على وجه المثال ، فإنَّ المحصن قد تمَّت عليه النعمة بنيل هذه الشهوة
بالنِّكاح(4) ، فإذا أتاها بعد ذلك مِنْ فرجٍ محرَّمٍ عليه ، أُبيح دمه(5) ، وقد ينتفي شرط
الإحصان ، فيخلفه شرط آخر ، وهو كون الفرج لا يُستباحُ بحال ، إمَّا مطلقاً كاللواط ، أو في حقِّ الواطئ ، كمن وطىء ذاتَ محرم بعقد أو غيره ، فهذا الوصف هل يكون قائماً مقامَ الإحصان وخلفاً عنه ؟ هذا هو محلُّ النِّزاع بين العلماء ، والأحاديثُ دالَّةٌ على أنَّه يكون خلفاً عنه ، ويُكتفى به في إباحة الدم(6) .
__________
(1) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 2/209-210 من حديث أبي هريرة ، به . وسنده ضعيف جداً .
(2) سبق تخريجه .
(3) في ( ص ) : ( نفس ) .
(4) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/400-401 .
(5) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/318-319 .
(6) انظر : تحفة الفقهاء 3/138-139 .

وأما سفك الدَّم الحرام ، فهل يقومُ مقامه إثارة الفتن المؤدية إلى سفك الدماء ، كتفريق جماعة المسلمين(1) ، وشقِّ العصا(2) ، والمبايعةِ لإمامٍ ثانٍ(3) ، ودلِّ الكُفَّارِ على عورات المسلمين(4) ؟ هذا هو محلُّ النزاع . وقد روي عن عمر ما يَدُلُّ على
إباحة القتل بمثل هذا(5) .
وكذلك شهرُ السلاح لطلب القتل : هل يقومُ مقامَ القتل في إباحة الدم أم
لا ؟ فابنُ الزبير وعائشة رأياه قائماً مقام القتل الحقيقي في ذلك(6) .
__________
(1) من قوله : ( الفتن المؤدية ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) سبق تخريجه .
(4) سبق تخريجه .
(5) انظر : الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1156 و1160 و1161 .
(6) انظر : المجتبى للنسائي 7/117 ، والمستدرك 2/159 ، والنهاية 2/515 ، وشرح السيوطي لسنن النسائي 7/117 .

وكذلك قطعُ الطَّريق بمجرَّده : هل يبيحُ القتلَ أم لا ؟ لأنَّه مظِنَّةٌ لسفك
الدِّماء المحرَّمة ، وقول الله - عز وجل - : { مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي
الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } (1) ، يدلُّ على أنَّه إنَّما يُباحُ قتل النفس
بشيئين : أحدهما : بالنفس(2) ، والثاني : بالفساد في الأرض ، ويدخل في
الفساد في الأرض : الحراب(3) والرِّدَّة ، والزنى ، فإنَّ ذلك كلَّه فساد في
الأرض(4)، وكذلك تكرُّر شرب الخمر والإصرار عليه هو مظنةُ سفكِ الدِّماء المحرمة. وقد اجتمع الصحابة في عهد عمر على حدِّه ثمانينَ ، وجعلوا السكر مَظِنَّة الافتراءِ والقذفِ الموجب لجلد الثمانين(5) ، ولمَّا قدِمَ وفدُ عبدِ القيس على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ونهاهُم عن الأشربة والانتباذِ في الظُّروف قال : ( إنَّ أَحَدَكُم ليقومُ إلى ابن عمه - يعني : إذا شرب - فيضربه بالسَّيف ) ، وكان فيهم رجلٌ قد أصابته جراحةٌ مِنْ ذلك (6) ، فكان يخبؤها حياءً من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(7) فهذا كلُّه يرجِعُ إلى إباحة الدَّم بالقتل إقامة لمظان القتل مقامَ حقيقته ، لكن هل نسخ ذلك أم حكمه باق وهذا هو محلُّ النِّزاع .
__________
(1) المائدة : 32 .
(2) انظر : تحفة الفقهاء 3/99 .
(3) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/456 ، ومنتهى الإرادات 2/491 .
(4) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/397 .
(5) انظر : مستدرك الحاكم 4/375-376 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/462 .
(6) من ذلك ) سقطت من ( ص ) .
(7) أخرجه : مسلم 1/36 ( 18 ) ( 26 ) من حديث أبي سعيد الخدري ، به .

وأما تركُ الدين ، ومفارقةُ الجماعة ، فمعناه : الارتدادُ عن دين الإسلام ولو أتى بالشهادتين ، فلو سبَّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مقرٌّ بالشهادتين ، أُبيح دمُه ؛ لأنَّه قد ترك بذلك دينه(1) .
وكذلك(2) لو استهان بالمُصحف ، وألقاه في القاذورات ، أو جحد ما يُعلم من الدِّين بالضَّرورة كالصلاة ، وما أشبه ذلك ممَّا يُخرج منَ الدِّين(3) .
وهل يقومُ مقامَ ذلك تركُ شيء مِنْ أركان الإسلام الخمس ؟ وهذا ينبني على أنَّه هل يخرج من الدِّين بالكُلِّيَّة بذلك أم لا ؟ فمن رآه خروجاً عنِ الدِّين ، كان عنده كتركِ الشَّهادتين وإنكارهما ، ومن لم يره خروجاً عن الدِّين ، فاختلفوا هل يلحقُ بتارك الدِّين في القتل ، لكونه ترك أحدَ مباني الإسلام أم لا ؟ لكونه لم يخرج عن الدِّين .
__________
(1) انظر : المغني 10/103 ، ومنتهى الإرادات 2/498 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/597-598 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) انظر : المغني 10/82-83 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/386 ، ومنتهى الإرادات 2/498-499 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/598 .

ومِنْ هذا الباب ما قاله كثيرٌ من العلماء في قتل الدَّاعية إلى البدع ، فإنَّهم نظروا إلى أنَّ ذلك شبيهٌ بالخروج عَنِ الدِّين ، وهو ذريعةٌ ووسيلة إليه ، فإن استخفى بذلك ولم يَدْعُ غيرَه ، كان حُكمُه حكمَ المنافقين إذا استخفَوا ، وإذا دعا إلى ذلك ، تَغَلَّظ جرمُه بإفساد دين الأمة(1) . وقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الأمر بقتال الخوارج وقتلهم(2) . وقد اختلف العلماء في حكمهم .
فمنهم من قال : هم كفَّارٌ ، فيكون قتلُهم لكفرهم(3) .
ومنهم من قال : إنَّما يُقتلون لفسادهم في الأرض(4) بسفكِ دماءِ المسلمين وتكفيرهم لهم ، وهو قولُ مالكٍ وطائفة من أصحابنا ، وأجازوا الابتداء بقتالهم ، والإجهازَ على جريحهم .
ومنهم من قال : إن دَعَوْا إلى ما هُمْ عليه ، قوتلوا ، وإنْ أظهروه ولم يدعوا إليه لم يُقاتلوا ، وهو نصُّ أحمد وإسحاق ، وهو يرجع إلى قتال من دعا إلى بدعة مغلظة .
ومنهم من لم يرَ البداءة بقتالهم حتّى يبدءوا بقتالٍ يُبيح قتالَهم مِنْ سفك دماءٍ
ونحوه ، كما رُوِيَ عن عليٍّ ، وهو قولُ الشافعي وكثيرٍ من أصحابنا(5) .
__________
(1) الإيمان لابن تيمية : 225-226 ، والولاء والبراء في الإسلام : 308 .
(2) أخرجه : الطيالسي ( 168 ) ، وأحمد 1/81 و113 و131 و156 ، والبخاري 4/244
( 3611 ) و6/243 ( 5057 ) و9/21 ( 6930 ) ، ومسلم 3/113-114 ( 1066 ) ( 154 ) ، وأبو داود ( 4767 ) ، والنسائي 7/119 ، وأبو يعلى ( 261 ) و( 324 ) ، وأبو القاسم البغوي في " الجعديات " ( 2595 ) ، وابن حبان ( 6739 ) ، والبيهقي 8/187-188 وفي " دلائل النبوة " ، له 6/430 ، والبغوي ( 2554 ) من حديث علي بن أبي طالب ، به .
(3) انظر : فتح الباري 6/755 ، والمسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة 2/352 .
(4) في الأرض ) سقطت من ( ص ) .
(5) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 4/161-163 .

وقد روي من وجوه متعددة أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل رجلٍ كان يُصلي ، وقال : ( لو قتل ، لكان أوَّلَ فتنةٍ وآخرها ) (1) ، وفي رواية : ( لو قُتِلَ ، لم يختلف
رجلان من أمتي حتى يخرجَ الدَّجَّالُ ) ، خرّجه الإمام أحمد رحمه الله وغيره(2) . فيستدلَّ بهذا على قتل المبتدع إذا كان قتله يكف شرَّه عن المسلمين ، ويحسم مادة الفتن(3) .
وقد حكى ابنُ عبد البر وغيرُه عن مذهبِ مالكٍ جوازَ(4) قتل الدَّاعي إلى البدعة .
فرجعت نصوصُ القتل كلُّها إلى ما في حديث ابن مسعود(5) بهذا التقدير ، ولله الحمد .
وكثيرٌ من العلماء يقولُ في كثير من هذه النصوص التي ذكرناها هاهنا : إنَّها منسوخةٌ (6) بحديث ابنِ مسعودٍ ، وفي هذا نظرٌ من وجهين :
أحدهما : أنَّه لا يُعلم أنَّ حديثَ ابنِ مسعود كان متأخراً عن تلك النصوص كلِّها ، لا سيما وابن مسعود من قدماء المهاجرين . وكثير من تلك النصوص يرويها من تأخَّر إسلامُه كأبي هريرة ، وجريرِ بنِ عبد الله ، ومعاوية ، فإنَّ هؤلاء كلهم
رووا حديثَ(7) قتل شارب الخمر في المرة الرابعة(8) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/42 من حديث أبي بكرة ، به .
وأخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 1851 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/52 و53 و226 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/287-288 من حديث أنس بن مالك ، به .
وانظر : مجمع الزوائد 6/225-226 ، وفتح الباري 12/299 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في" الحلية " 3/52-53 و226 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/287-288 من حديث أنس بن مالك ، به .
(3) انظر : الولاء والبراء في الإسلام : 308 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) زاد بعدها في ( ص ) : ( من قدماء المهاجرين ) .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) سقطت من ( ص ) .
(8) انظر : شرح السيوطي لسنن النسائي 8/90-91 .

والثاني : أنَّ الخاصَّ لا يُنْسَخُ بالعامِّ ، ولو كان العامُّ متأخراً عنه في الصحيح الذي عليه جمهور العلماء ؛ لأنَّ دلالة الخاصِّ على معناه بالنصِّ ، ودلالة العام عليهِ بالظاهر عندَ الأكثرين ، فلا يُبطِلُ الظاهرُ حكمَ النص(1) . وقد روي أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل رجل كذَب عليهِ في حياته ، وقال لحيٍّ من العرب : إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلني وأمرني أنْ أحكمَ في دمائِكم وأموالكم ، وهذا رُوي من وجوهٍ متعدِّدةٍ كلها ضعيفة(2) ، وفي بعضها أنَّ هذا الرجل كانَ قد خطب امرأةً منهم في الجاهلية ، فأبوا أنْ يُزوِّجوه ، وأنَّه لمَّا قالَ لهم هذه المقالة صدَّقوه ، ونزل على تلك المرأة ، وحينئذٍ
فهذا الرَّجُلُ قد زنى(3)، ونسب إباحةَ ذَلِكَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (4)، وهذا كفرٌ وردَّة عن الدِّين .
وفي " صحيح مسلم " (5)
__________
(1) انظر : التقريب والإرشاد الصغير 3/11-12 ، وقواطع الأدلة 1/200 ، والبحر المحيط 2/393 .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 6215 ) من حديث عبد الله بن محمد بن الحنيفة ، به .
وأخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 2112 ) من حديث عبد الله بن عمرو ، به .
انظر : مجمع الزوائد 1/145 .
(3) عبارة : ( قد زنى ) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 5/81-82 من حديث بريدة ، به .
(5) الصحيح 8/119 ( 2771 ) ( 59 ) .
... وأخرجه : أحمد 3/281 ، وأبو عوانة كما في " إتحاف المهرة " 1/498 ، والحاكم 4/39-40 من حديث أنس بن مالك ، به .

وأخرجه : الطحاوي في" شرح المشكل " ( 4953 ) من حديث علي ، به .

: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر علياً بقتل القبطي الذي كان
يدخل على أمِّ ولده مارية ، وكان الناسُ يتحدثون بذلك ، فلما وجده عليٌّ مجبوباً تركه . وقد حمله بعضُهم على أنَّ القبطيَّ لم يكن أسلمَ بعدُ ، وأنَّ المعاهَدَ إذا فعل ما يُؤذي المسلمين انتقض عهدُه ، فكيف إذا آذى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ وقال بعضهم : بل كان مسلماً ، ولكنَّه نُهي عن ذلك فلم ينته ، حتَّى تكلَّم الناسُ بسببه في فراش النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وأذى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في فراشه(1) مبيحٌ للدم ، لكن لما ظهرت براءتُه بالعيان ، تبيَّن للناس براءةُ مارية ، فزال السببُ المبيح للقتل(2) .
وقد رُوي عن الإمام أحمد : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان له أنْ يَقْتُلَ بغير هذه الأسباب الثلاثة التي في حديث ابن مسعود ، وغَيْرُهُ ليس له ذلك ، كأنَّه يُشير إلى أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان له أنْ يُعَزِّرَ بالقتل إذا رأى ذلك مصلحةً ؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من التعدِّي والحَيْفِ ، وأما غيرُه فليس لهُ ذَلِكَ ؛ لأنَّه غير مأمون عليهِ التعدِّي بالهوى . قالَ أبو داود : سمعتُ أحمد سُئِلَ عن حديث أبي بكر ما كانت لأحدٍ بعد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : لم يكن لأبي بكر أنْ يقتل رجلاً إلا بإحدى ثلاثٍ(3)
__________
(1) عبارة : ( في فراشه ) سقطت من ( ص ) .
(2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 9/103 .
(3) أخرجه : أبو داود ( 4363 ) .
وانظر : مسائل الإمام أحمد : 226-227 برواية أبي داود .

، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان له ذَلِكَ أنْ يقتل ، وحديث أبي بكر المشار إليه هو أنَّ رجلاً كلم أبا بكر فأغلظ له ، فقال له أبو برزة : ألا أقتلُه يا خليفةَ رسولِ الله ؟ فقال أبو بكر : ما كانت لأحدٍ بعدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(1) .
وعلى هذا يتخرَّجُ حديثُ الأمرِ بقتل هذا القبطي ، ويتخرَّجُ عليه أيضاً حديثُ الأمر بقتل السارق إنْ كان صحيحاً ، فإنَّ فيه أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتله في
أوَّلِ مرةٍ ، فراجعوه فيه فقطعه ، ثم فعل ذلك أربع مرات وهو يأمر بقتله ،
فيُراجع فيه ، فيُقطع حتَّى قُطعت أطرافُه الأربع ، ثمَّ قتل في الخامسة ، والله تعالى أعلم(2) .
__________
(1) أخرجه : الحميدي ( 6 ) ، وأحمد 1/9، وأبو داود ( 4363 ) ، والنسائي 7/109-110 ، والحاكم 4/354 من حديث أبي برزة ، به ، وهو صحيح .
(2) أخرجه : أبو داود ( 4410 ) ، والنسائي 8/90-91 من حديث جابر بن عبد الله ، به .
وأخرجه : النسائي 8/89-90 من حديث الحارث بن حاطب ، به .
وانظر : معالم السنن 3/270-271 .

الحديث الخامس عشر
عَنْ أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - عن رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بالله واليَومِ
الآخرِ ، فَلْيَقُلْ خَيراً أَوْ لِيَصْمُتْ ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ ، فَليُكْرِمْ جَارَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَومِ الآخرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ) رواه البخاريُّ ومُسلمٌ(1).
هذا الحديث خرَّجاه من طُرُقٍ عن أبي هريرة ، وفي بعض ألفاظها : ( فلا يؤذ جاره ) وفي بعض ألفاظها : ( فليُحسن قِرى ضيفِه ) ، وفي بعضها : ( فليَصِلْ رحمه ) بدل ذكر الجار .
وخرَّجاه أيضاً بمعناه من حديث أبي شريح الخزاعي ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(2) .
__________
(1) صحيح البخاري 8/13 ( 6018 ) و8/39 ( 6136 ) ، 8/125 ( 6475 ) ، وصحيح مسلم 1/49 ( 47 ) ( 74 ) و( 75 ) و( 76 ) .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 368 ) و( 372 ) ، والطيالسي ( 2347 ) ، وأحمد 2/267 و269 و433 و463 ، وابن ماجه ( 3971 ) ، وأبو داود ( 5154 ) ، والترمذي ( 2500 )، وابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 324 ) ، وفي " الصمت " ، له ( 40 )، والبزار ( 2031 ) ، وأبو يعلى ( 6218 ) ، وأبو عوانة ( 94 ) ، وابن حبان ( 506 )
و( 516 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 298 ) و( 299 ) و( 300 ) و( 301 ) ، والحاكم 4/164 ، والقضاعي ( 469 ) ، والبيهقي في " الكبرى " 8/164 ، وفي " شعب الإيمان " ، له ( 9532 ) و( 9533 ) ، والبغوي ( 4121 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
(2) أخرجه : البخاري 8/13 ( 6019 ) و8/39 ( 6135 ) و8/125 ( 6476 ) ، ومسلم 5/137 ( 48 ) ( 15 ) و( 16 ) .

وقد رُوي هذا الحديثُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة(1) وابن مسعود(2)
وعبد الله بن عمرو(3)، وأبي أيوب الأنصاري(4) وابن عباس(5) وغيرهم مِنَ
الصَّحابة .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ كان يؤمِنُ باللهِ واليوم الآخر ) فليفعل كذا وكذا ، يدلُّ على أنَّ هذه الخصال مِنْ خصال الإيمان ، وقد سبق أنَّ الأعمال تدخلُ في الإيمان ، وقد فسَّر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بالصبر والسماحة(6) ، قال الحسن : المراد(7) : الصبر عن المعاصي ، والسماحة بالطَّاعة(8) .
وأعمال الإيمان تارة تتعلَّق بحقوق الله ، كأداءِ الواجبات وترك المحرَّمات ، ومِنْ ذلك قولُ الخير ، والصمتُ عن غيره .
__________
(1) أخرجه : أحمد 6/69 ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 3575 ) من طرق عن عمرة ، عن عائشة رضي الله عنها .
(2) أخرجه: الطبراني في "الكبير" ( 10442 ) و22/( 1024 ) من طرق عن شقيق ، عنه ، به .
(3) أخرجه : أحمد 2/174 من طريق أبي عبد الرحمان الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو ، به .
(4) أخرجه : ابن حبان ( 5597 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3873 ) ، والحاكم 4/289 ، والبيهقي في " الكبرى " 7/309 من طرق عن عبد الله بن يزيد الخطمي ، عن أبي أيوب الأنصاري ، به .
(5) أخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 1926 )، والطبراني في " الكبير " ( 10843 ) من طرق عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، به .
(6) أخرجه : أحمد 4/385 ، وعبد بن حميد ( 300 ) من طريق شهر بن حوشب ، عن عمرو ابن عبسة ، به ، وشهر ضعيف ولم يسمع من عمرو بن عبسة .
(7) سقطت من ( ص ) .
(8) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/156 .

وتارةً تتعلق بحقوق عبادِه كإكرامِ الضيف ، وإكرامِ الجارِ ، والكفِّ عن أذاه ، فهذه ثلاثة أشياء يؤمر بها المؤمن : أحدها : قولُ الخير والصمت عما سواه ، وقد روى الطبراني من حديث أسودَ بنِ أصرم المحاربي ، قال : قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : ( هل تملك لسانكَ ؟ ) قلت : ما أملك إذا لم أملك لساني ؟ قال : ( فهل تملك يدك ؟ ) قلت : فما أملك إذا لم أملك يدي ؟ قال : ( فلا تَقُلْ
بلسانك إلا معروفاً ، ولا تبسُط يدَك إلاَّ إلى خير )(1) .
وقد ورد أنَّ استقامة اللسانِ من خصالِ الإيمان ، كما في " المسند " (2) عن أنس(3) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَستَقيمُ إيمانُ عبدٍ حتَّى يستقيمَ قلبُه ، ولا يستقيم قلبُه حتَّى يستقيمَ لسانُه ) .
وخرَّج الطبراني(4)
__________
(1) أخرجه : البخاري في " التاريخ الكبير " 1/444 ، الطبراني في " الكبير " ( 818 ) من حديث أسود بن أصرم المحاربي ، به . وقال البخاري : ( في إسناده نظر ) .
(2) المسند 3/198 .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 9 ) ، والقضاعي ( 887 ) ، وإسناده ضعيف لضعف علي بن مسعدة .
(3) عبارة : ( عن أنس ) لم ترد في ( ص ) .
(4) في " الأوسط " ( 6563 ) ، وفي " الصغير " ، له ( 944 ) .

وأخرجه : القضاعي ( 893 )، والبيهقي في "شعب الإيمان" ( 5005 ) و( 5006 ) ، وإسناده ضعيف .

من حديث أنسٍ (1) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَبْلُغُ عبدٌ حقيقةَ الإيمانِ حتَّى يَخْزِنَ من لسانه )، وخرَّج الطبراني(2) من حديث معاذ بن جبل، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّكَ لن تزالَ سالماً ما سكتَّ ، فإذا تكلَّمتَ ، كُتِبَ لك أو عليك ) . وفي " مسند الإمام أحمد " (3) ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من صمت نجا ) .
وفي " الصحيحين " (4) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الرَّجُلَ لَيَتكلَّمُ بالكلمة ما يتبيَّنُ ما فيها ، يزِلُّ بها في النَّارِ أبعدَ ما بين المشرقِ والمغرب ) .
__________
(1) تحرف في ( ص ) إلى : ( علي ) .
(2) في " الكبير " 20/( 137 ) من طرق عبد الرحمان بن غنم ، عن معاذ ، به . قال الهيثمي في
" المجمع " 10/300 : ( رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقات ) .
(3) المسند 2/159 و177 .
وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 385 ) ، وعبد بن حميد ( 345 ) ، والدارمي
( 2716 ) ، والترمذي ( 2501 ) ، وابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 10 ) ، وابن أبي عاصم في " الزهد " ( 1 ) ، وأبو الشيخ في " الأمثال " ( 207 ) ، والقضاعي ( 334 ) ، =
= ... والبغوي ( 4129 ) ، ومداره على ابن لهيعة ، وهو ضعيف لكن سمعه منه من هو قديم السماع عنه ؛ لذا قواه بعضهم لذلك .
(4) صحيح البخاري 8/125 ( 6477 )، وصحيح مسلم 8/223 ( 2988 ) ( 49 ) و( 50 ).
وأخرجه : أحمد 2/379 ، وابن حبان ( 5707 ) و( 5708 ) ، والبيهقي 8/164 ، وفي
" شعب الإيمان " ، له ( 4956 ) من طرق عن عيسى بن طلحة ، عن أبي هريرة ، به .

وخرَّج الإمامُ أحمد ، والترمذي(1) من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الرجلَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار )(2) .
وفي " صحيح البخاري " (3) عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال(4) : ( إنَّ الرَّجُلَ ليتكلمُ بالكلمةِ مِنْ رضوان الله لا يُلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجاتٍ ، وإنَّ العبدَ ليتكلم بالكلمة من سَخَطِ الله لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جهنَّم ) .
وخرَّج الإمام أحمد(5) من حديث سليمان بن سُحيم ، عن أمِّه ، قالت : سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : ( إنَّ الرجلَ ليدنو من الجنة حتَّى ما يكونَ بينه وبينَها إلا ذراعٌ فيتكلم بالكلمة ، فيتباعد منها أبعدَ مِن صنعاء ) .
__________
(1) لم يرد في ( ص ) .
(2) حديث صحيح أخرجه : أحمد 2/236 و355 و533 ، والترمذي ( 2314 ) .
وأخرجه : ابن ماجه ( 3971 ) ، وأبو يعلى ( 6235 ) ، وابن حبان ( 5706 ) ، والحاكم 4/597 من طرق عن أبي هريرة ، به .
(3) الصحيح 8/125 ( 1478 ) .
وأخرجه : أحمد 2/334 ، والبيهقي 8/165 ، وابن عبد البر في " التمهيد " 7/143-144 من طرق عن أبي هريرة ، به .
(4) من قوله : ( إن الرجل ليتكلم ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) المسند 4/64 و5/377 .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 429 ) ، وابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني "
( 3458 ) ، وإسناده ضعيف محمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن .

وخرَّج الإمام أحمد ، والترمذي ، والنَّسائي من حديث بلالِ بنِ الحارث
قال : سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ أحدكم ليتكلَّمُ بالكلمة مِن رضوان الله ما يَظُنُّ أنْ تَبْلُغ ما بلغت ، فيكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يلقاه ، وإنَّ أحدَكُم ليتكلَّمُ بالكلمة من سخط الله ما يظنُّ أنْ تَبْلُغَ ما بلغت ، فيكتب الله عليه بها سَخطه إلى يوم يلقاه )(1) .
وقد ذكرنا فيما سبق حديثَ أمِّ حبيبة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كلامُ ابنِ آدم عليه لا له ، إلا الأمرَ بالمعروف ، والنهيَ عن المنكر ، وذكر الله - عز وجل - )(2) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فليقل خيراً أو ليصمُت ) أمر بقول الخير، وبالصمت عمَّا عداه، وهذا يدلُّ على أنَّه ليس هناك كلام يستوي قولُه والصمت عنه ، بل إمَّا أنْ يكون خيراً ، فيكون مأموراً بقوله، وإمَّا أنْ يكون غير خير، فيكون مأموراً بالصمت عنه ، وحديث معاذ وأم حبيبة يدلان على هذا .
__________
(1) أخرجه : أحمد 3/469 ، والترمذي ( 2319 ) ، والنسائي كما في " تحفة الأشراف " 2/126 ( 2028 ) .
وأخرجه : مالك ( 2818 ) برواية الليثي ، وعبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 1394 ) ، والحميدي ( 911 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 81 ) ، وهناد في " الزهد " ( 1141 ) ، والبخاري في " التاريخ الكبير " 2/92 ( 1852 ) وفي " التاريخ الصغير " ، له 1/94-95 ، وابن ماجه ( 3969 ) ، وابن حبان ( 280 ) و( 281 ) و( 287 ) ، والطبراني في "الكبير" ( 1129 ) و( 1130 ) و( 1131 ) و( 1132 ) و( 1133 ) و( 1134 ) و( 1135 ) و( 1136 ) و( 1137 )، والحاكم 1/45 و46 ، والبيهقي 8/165 ، وفي "شعب الإيمان" ، له ( 4957 ) ، وابن عبد البر في " التمهيد " 13/50 ، والبغوي ( 4124 ) و( 4125 ) ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(2) تقدم تخريجه .

وخرَّج ابنُ أبي الدنيا حديث معاذ بن جبل ولفظه : إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له
: ( يا مُعاذُ ثكلتك أُمُّكَ وهَلْ تقول شيئاً إلاَّ وهو لك أو عليك )(1).
وقد قال الله تعالى : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } (2) وقد أجمع السَّلفُ الصَّالحُ على أنَّ الذي عن يمينه يكتُبُ الحسناتِ ، والذي عن شِماله يكتبُ السيئات ، وقد رُوي ذلك مرفوعاً من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف(3) . وفي " الصحيح " (4) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا كان أحدُكُم يُصَلِّي ، فإنَّه يُناجي ربَّه والملك عن يمينه(5) ) . ورُوي من حديث حُذيفة مرفوعاً : ( إنَّ عن يمينه كاتب الحسنات )(6) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 6 ) ، وسنده منقطع .
(2) ق : 17-18 .
(3) أخرجه : الطبراني في " الكبير " 8/( 7765 ) و( 7787 ) و( 7971 ) ، وفي " مسند الشاميين " ، له ( 468 ) و( 526 ) ، والبيهقي في "شعب الإيمان" ( 7049 ) و( 7050 ) و( 7051 ) .
(4) صحيح البخاري 1/113 ( 416 ) .
وأخرجه : همام بن منبه في " صحيفته " ( 119 ) ، وعبد الرزاق ( 1686 ) ، وابن حبان
( 2269 ) ، والبغوي في " شرح السنة " ( 490 ) ، والبيهقي في " الكبرى " 2/293 من طرق عن أبي هريرة ، به .
وأخرجه : الحميدي ( 729 ) ، وابن أبي شيبة ( 7449 ) ، وأحمد 3/24 ، وأبو داود
( 480 )، وأبو يعلى ( 993 ) ، وابن خزيمة ( 880 ) و( 926 ) ، وابن حبان ( 2270 ) ، والحاكم 1/257 من طرق عن أبي سعيد الخدري ، به .
(5) زاد في ( ص ) : ( يكتب الحسنات والذي عن شماله يكتب السيئات ) .
(6) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 7455 ) .

واختلفوا : هل يكتب كلَّ ما تكلَّم به ، أو لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عِقاب ؟ على قولين مشهورين . وقال عليُّ بنُ أبي طلحة ، عن ابن عباس : يكتب كل ما تكلم به من خيرٍ أو شرٍّ حتى إنَّه ليكتب قوله : أكلتُ وشربتُ وذهبتُ وجئتُ ، حتّى إذا كان يوم الخميسِ عُرِضَ قوله وعمله فأقرَّ ما كان فيه من خير أو شرٍّ(1) ، وألقي سائره ، فذلك قولُه تعالى : { يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } (2) .
وعن يحيى بن أبي كثير ، قال : ركب رجل الحمارَ ، فعثر به ، فقال : تَعِسَ
الحمارُ ، فقال صاحب اليمين : ما هي حسنة أكتبها ، وقال صاحبُ الشمال : ما هي من السيئات فأكتبها ، فأوحى الله إلى صاحب الشمال : ما ترك صاحبُ اليمين من شيء ، فاكتبهُ ، فأثبت في السيئات : ( تَعِسَ الحمارُ )(3) .
وظاهر هذا أنَّ ما ليس بحسنةٍ فهو سيئة ، وإنْ كان لا يُعاقب عليها ، فإنَّ بعضَ السيئات قد لا يُعاقب عليها (4) ، وقد تقع مكفرةً باجتناب الكبائر ، ولكن زمانها قد خسره صاحبُها حيث ذهب باطلاً ، فيحصل له بذلك حسرةٌ في القيامة
وأسف عليه ، وهو نوعُ عقوبة .
وخرَّج الإمامُ أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَا مِنْ قوم يقومون مِنْ مجلس لا يذكُرون الله فيه ، إلاَّ قاموا عن مثلِ جِيفة حمار ، وكان لهم حسرة )(5)
__________
(1) من قوله : ( حتى إنه ليكتب ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) الرعد : 39 .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35480 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/76 ، والحسين المروزي في " زياداته على الزهد لابن المبارك " ( 1013 ) .
(4) من قوله : ( فإن بعض السيئات ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) أخرجه : أحمد 2/389 و494 و515 و527 ، وأبو داود ( 4855 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 10241 ) ، وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 403 ) و( 408 ) ، وهو حديث قويٌّ .

وأخرجه : ابن حبان ( 590 ) و( 592 ) و( 853 ) ، وابن السني في " عمل اليوم
والليلة " ( 446 ) وأبو الشيخ في " طبقات المحدّثين بأصبهان " 3/448 ، والحاكم 1/491-492 و492 ، وأبو نعيم في " الحلية " 7/207 ، وفي " تاريخ أصبهان " ، له 2/224 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 541 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .

.
وخرَّجه الترمذي(1) ولفظه : ( ما جلسَ قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ، ولم يُصَلُّوا على نبيهم ، إلاَّ كان عليهم تِرَة (2) ، فإنْ شاء عذبهم ، وإنْ شاء غفر لهم ) .
وفي رواية لأبي داود والنَّسائي : ( من قَعَدَ مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه
من الله ترة ، ومن اضطجع مضطجعاً لم يذكر الله فيه ، كانت عليه من الله ترة ) زاد النَّسائي : ( ومَنْ قام مقاماً لم يذكر الله فيه ، كانت عليه من اللهِ تِرة ) (3) . وخرَّج أيضاً من حديث أبي سعيدٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما مِنْ قوم يجلسون مجلساً لا يذكُرونَ الله فيه إلا كانت عليهم حسرةً يوم القيامة ، وإنْ دخلوا الجنَّة )(4) .
__________
(1) في " الجامع الكبير " ( 3380 ) وقال : ( هذا حديث حسن ، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 2311 ) ، وأحمد 2/446 و453 و481 و484 و495 ، وأبو داود
( 4856 ) و( 5059 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 404 ) و( 405 )
و( 406 ) ، وابن حبان ( 853 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 1923 ) و( 1924 )
و( 1925 ) ، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " ( 450 ) ، والحاكم 1/496 و550 ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/130، والبيهقي 3/210 ، وفي " شعب الإيمان " ، له ( 1569 ) ، والبغوي ( 1254 ) و( 1255 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
(2) أي : حسرة وندامة يوم القيامة .
(3) أخرجه : أبو داود ( 4856 ) ، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" ( 404 ) وفي " الكبرى " ، له ( 10236 ) عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، به ، وهو حديث صحيح .
(4) أخرجه : النسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 409 ) و( 410 ) وفي " الكبرى " ، له
( 10242 ) و( 10243 ) مرفوعاً وموقوفاً ، والرواية المرفوعة أقوى .

وقال مجاهد : ما جلس قومٌ مجلساً ، فتفرَّقوا قبل أنْ يذكُرُوا الله ، إلا تفرَّقوا عن أنتنِ من ريح الجيفة ، وكان مجلسُهم يَشهدُ عليهم بغفلتهم ، وما جلس قومٌ مجلساً ، فذكروا الله قبل أنْ يتفرَّقوا ، إلاَّ تفرَّقوا عن أطيب من ريحِ المسك ، وكان مجلسهم يشهدُ لهم بذكرهم .
وقال بعضُ السَّلف : يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعاتُ عمره ، فكلُّ ساعة تمرُّ بابنِ آدمَ (1)لم يذكر الله فيها تتقطَّعُ نفسه عليها(2) حسراتٍ .
وخرَّجه الطبراني(3) من حديث عائشة مرفوعاً : ( ما مِنْ ساعة تمرُّ بابن آدم لم
يذكرِ الله فيها بخيرٍ ، إلا حسرَ عندَها يومَ القيامةِ ) .
فمن هنا يعلم أنَّ ما ليس بخيرٍ مِنَ الكلامِ، فالسُّكوتُ عنه أفضلُ من التكلم به، اللَّهمَّ إلا ما تدعو إليه الحاجةُ مما لابدَّ منه . وقد روي عن ابن مسعود قال : إيَّاكم وفضولَ الكلام ، حسبُ امرئ ما بلغ حاجته(4) ، وعن النَّخعي قال : يَهلِكُ الناسُ في فضول المال والكلام .
وأيضاً فإنَّ الإكثارَ من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجبُ قساوةَ القلب كما في " الترمذي "(5) من حديث ابن عمر مرفوعاً : ( لا تُكثِرُوا الكلامَ بغيرِ ذكر الله ، فإنَّ كثرةَ الكلامِ بغيرِ ذكرِ الله يُقسِّي القلب ، وإنَّ أبعدَ الناس عن الله القلبُ
القاسي ) .
__________
(1) عبارة : ( تمرّ بابن آدم ) لم ترد في ( ج ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) في " الأوسط " ( 8316 ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/361-632 ، وإسناده ضعيف جداً ؛ عمرو بن الحصين العقيلي متروك ، وقد تفرد به كما نص عليه الطبراني .
(4) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 8507 ) موقوفاً .
(5) الجامع الكبير ( 2411 ) ، وقال : ( حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن
عبد الله بن حاطب ) ، وقوله : ( غريب ) يعني ضعيف .

وقال عمر : مَنْ كَثُرَ كلامُه ، كَثُرَ سَقَطُهُ ، ومَنْ كَثُرَ سَقَطُه ، كَثُرَتْ ذُنوبهُ ، ومَن كَثُرَتْ ذنوبُه ، كانت النارُ أولى به(1) . وخرَّجه العقيلي من حديث ابن عمر مرفوعاً بإسنادٍ ضعيفٍ(2) .
وقال محمد بن عجلان : إنَّما الكلام أربعة : أنْ تذْكُرَ الله ، وتقرأ القرآن ، وتسأل عن علم فتخبر به ، أو تكلَّم فيما يعنيك من أمر دنياك .
وقال رجل لسلمان : أوصني ، قال : لا تكلَّم ، قال : ما يستطيعُ من عاش في الناس أنْ لا يتكلم ، قال : فإنْ تكلَّمت ، فتكلم بحقٍّ أو اسكُت(3) .
وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يأخذ بلسانه ويقول : هذا أوردني الموارد(4) .
__________
(1) أخرجه : ابن حبان في " روضة العقلاء " : 36 ، والطبراني في " الأوسط " ( 6541 ) ، والقضاعي ( 374 ) .
(2) أخرجه : العقيلي في " الضعفاء " 3/384 ، وفي إسناده عيسى بن موسى : مجهول ،
وفيه عمر ، قال عنه : ( إن كان هذا عمر بن راشد فهو ضعيف ، وإن كان غيره
فمجهول ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/74 ، والقضاعي ( 372 ) و( 373 ) و( 374 ) .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 44 ) .
(4) أخرجه : مالك ( 2825 ) برواية يحيى الليثي ، وعبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 369 ) ، ووكيع بن الجراح في " الزهد " ( 287 ) ، وابن أبي شيبة ( 26500 ) و( 37047 ) ، وفي " الأدب " ، له ( 222 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 562 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/33 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4947 ) .

وقال ابن مسعود : والله الذي(1) لا إله إلا هو ، ما على الأرض أحقُّ بطول سجنٍ مِنَ اللِّسانِ(2) . وقال وهب بن منبه : أجمعت الحكماءُ على أنَّ رأسَ الحكمِ الصمتُ(3) .
وقال شميط بن عجلان : يا ابن آدم ، إنَّك ما سكتَّ ، فأنت سالمٌ ، فإذا تكلمت ، فخذ حِذرَك ، إمَّا لك وإمَّا عليك(4) . وهذا بابٌ يطول استقصاؤه .
والمقصود أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بالكلام بالخير ، والسُّكوتِ عمَّا ليس بخيرٍ ، وخرَّج الإمام أحمدُ وابنُ حبان(5) من حديث البراء بن عازب: أنَّ رجلاً قال : يا رسولَ الله، علمني عملاً يُدخلُني الجنَّة ، فذكر الحديثَ ، وفيه قال : ( فأطعم الجائع ، واسقِ الظمآن ، وأْمُر بالمعروف ، وانْهَ عَنِ المُنكر ، واسكت عن الشَّرِ(6) ، فإنْ لم تُطِقْ ذلك ، فكفَّ لسانك إلاَّ مِن خيرٍ )(7)
__________
(1) في ( ص ) : ( والذي ) .
(2) أخرجه : وكيع بن الجراح في " الزهد " ( 285 ) ، وابن أبي شيبة ( 26499 ) ، وفي
" الأدب " ، له ( 221 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 162 ) ، وابن حبان في " روضة العقلاء " : 39 ، والطبراني في " الكبير " ( 8744 ) و( 8745 ) و( 8746 ) و( 8747 ) ، وأبو الشيخ في " الأمثال " ( 244 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/134 .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 619 ) .
(4) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 623 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/129 .
(5) تحرف في ( ص ) إلى : ( ابن ماجه ) .
(6) عبارة : ( واسكت عن الشر ) سقطت من ( ج ) .
(7) أخرجه : أحمد 4/299 ، وابن حبان ( 374 ) .

وأخرجه : الطيالسي ( 739 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 69 ) ، والطحاوي في
" شرح مشكل الآثار " ( 2743 ) و( 2744 ) ، والدارقطني 2/135 ، والحاكم 2/217 ، والبيهقي 10/272-273 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 4335 ) ، والبغوي ( 2419 ) من طرق عن عبد الرحمان بن عوسجة ، عن البراء بن عازب ، به ، وهو حديث صحيح .

.
فليس الكلامُ مأموراً به على الإطلاق ، ولا السُّكوتُ كذلك ، بل لابدَّ منَ الكلامِ بالخير ، والسكوت عنِ الشرِّ ، وكان السَّلفُ(1) كثيراً يمدحُون الصَّمتَ عن الشَّرِّ ، وعمَّا لا يعني ؛ لِشِدَّته على النفس ، ولذلك يقع فيه النَّاسُ كثيراً ، فكانوا يُعالجون أنفسهم ، ويُجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم .
قال الفضيلُ بن عياض : ما حجٌّ ولا رِباطٌ ولا جهادٌ أشدَّ مِنْ حبس اللسان ، ولو أصبحت يهمُّكَ لسانُك ، أصبحتَ في غمٍّ شديد ، وقال : سجنُ اللسان سجنُ المؤمن ، ولو أصبحت يهمُّك لسانُك ، أصبحت في غمٍّ شديد(2) .
وسئلَ ابنُ المبارك عن قولِ لقمان لابنه : إنَّ كان الكلامُ من فضَّةٍ ، فإنَّ الصَّمتَ من ذهبٍ ، فقال : معناه : لو كان الكلامُ بطاعة الله من فضة ، فإنَّ الصَّمتَ عن معصيةِ الله من ذهبٍ(3) . وهذا يرجعُ إلى أنَّ الكفَّ عن المعاصي أفضلُ من عمل الطاعات ، وقد سبق القولُ في هذا مستوفى .
وتذاكروا عندَ الأحنفِ بنِ قيس ، أيُّما أفضل الصمتُ أو النطقُ ؟ فقالَ قوم : الصمتُ أفضلُ ، فقالَ الأحنفُ : النطقُ أفضل ؛ لأنَّ فضلَ(4) الصمت لا يعدو صاحبَه ، والمنطق الحسن ينتفع به مَنْ سَمِعَهُ(5) .
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) من قوله : ( ولو أصبحت يهمك ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
والأثر أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 651 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/110 .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 47 ) من قول نبي الله سليمان - عليه السلام - .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 712 ) .

وقال رجلٌ من العلماء عند عمرَ بنِ عبد العزيز رحمه الله : الصَّامت على علمٍ كالمتكلم على علمٍ ، فقال عمر : إنِّي لأرجو أنْ يكونَ المتكلمُ على علم أفضلهما يوم القيامة حالاً ، وذلك أنَّ منفعته للناس ، وهذا صمتُه لنفسه ، فقال له : يا أمير المؤمنين وكيف بفتنة المنطق (1) ؟ فبكى عمرُ عند ذلك(2) بكاءً شديداً .
ولقد خطب عمر بن عبد العزيز يوماً فرقَّ الناسُ وبكَوا ، فقطع خطبته ، فقيل له : لو أتممتَ كلامك رجونا أنْ ينفعَ الله به ، فقال عمر : إنَّ القولَ فتنة والفعل أولى بالمؤمن من القول .
وكنت من مدَّةٍ طويلةٍ قد رأيتُ في المنام(3) أميرَ المؤمنين عمرَ بنَ عبد العزيز - رضي الله عنه - ، وسمعته يتكلَّمُ في هذه المسألة ، وأظنُّ أنِّي فاوضتُه فيها ، وفهمتُ من كلامِه أنَّ التكلُّم بالخير أفضلُ من السُّكوتِ ، وأظُنُّ أنَّه وقع في أثناء الكلام ذكرُ سليمان ابن عبد الملك ، وأنَّ عمر قال ذلك له ، وقد رُويَ عن سليمانَ بن عبد الملك أنَّه قال : الصمت منامُ العقل ، والمنطقُ يَقظَتُهُ (4) ، ولا يتمُّ حالٌ إلا بحالٍ ، يعني : لابدَّ من الصَّمت والكلام .
وما أحسنَ ما قال عُبيدُ الله بن أبي جعفر فقيه أهل مصر في وقته ، وكان أحدَ الحكماء : إذا كان المرءُ يحدِّث في مجلسٍ ، فأعجبه الحديثُ فليسكتْ ، وإذا كان ساكتاً ، فأعجبه السكوتُ ، فليُحدِّث(5) ، وهذا حسنٌ فإنَّ من كان كذلك ، كان سكوتُه وحديثُه لمخالفة هواه وإعجابه بنفسه ، ومن كان كذلك ، كان جديراً بتوفيق الله إيَّاه وتسديده في نطقه وسكوته ؛ لأنَّ كلامَه وسكوتَه يكونُ لله - عز وجل - .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) عبارة : ( عند ذلك ) سقطت من ( ص ) .
(3) عبارة : ( في المنام ) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : ابن الدنيا في " الصمت " ( 696 ) .
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 97 ) و( 269 ) .

وفي مراسيل الحسن ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربِّه - عز وجل - قالَ : ( علامة الطُّهر أنْ يكونَ قلبُ العبد عندي معلَّقاً ، فإذا كانَ كذلك لم ينسني على حال ، وإذا كانَ كذلك مننتُ عليهِ بالاشتغال بي كي لا ينساني ، فإذا نسيني حرَّكتُ قلبهُ ، فإنْ تكلّم، تكلّم لي ، وإن سكتَ، سكتَ لي، فذلك الذي تأتيه المعونةُ من عندي ) خرَّجه إبراهيمُ بنُ الجنيد .
وبكلِّ حالٍ ، فالتزامُ الصمت مطلقاً ، واعتقاده قربة إمَّا مطلقاً ، أو في بعض العبادات ، كالحجِّ والاعتكاف والصيام منهيٌّ عنه . ورُوي من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه نهى عن صيامِ الصَّمت(1) . وخرَّج الإسماعيلي من حديث عليٍّ قال : نهانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصمت في العُكوفِ ، وفي " سنن أبي داود " (2) من حديث عليٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا صُماتَ يَومٍ إلى الليلِ ) . وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لامرأة حَجَّتْ مُصمتَةً : إنَّ هذا لا يَحلُّ هذا من عمل الجاهلية(3) . وروي عن عليِّ بنِ الحسين زين العابدين أنَّه قال : صومُ الصَّمْتِ حرام(4) .
__________
(1) أخرجه: أبو حنيفة كما في "جامع المسانيد" للخوارزمي 1/476 من حديث أبي هريرة ، به .
(2) السنن ( 2873 ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 11450 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 658 ) ، والبيهقي 6/57 و7/461 ، وفي إسناده مقال .
وأخرجه : أبو حنيفة كما في " جامع المسانيد " للخوارزمي 1/474 من حديث النَزال بن سبرة ، به .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 13899 ) و( 15919 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به .
(3) أخرجه : الدارمي ( 212 ) ، والبخاري 5/52 ( 3834 ) ، موقوفاً عليه .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/142 .

الثاني مما أمر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث المؤمنين : إكرامُ الجار ، وفي بعض الرِّوايات : ( النهي عن أذى الجار ) فأمَّا أذى الجار ، فمحرَّمٌ ، فإنَّ الأذى بغيرِ حقٍّ محرَّمٌ لكلِّ أحدٍ ، ولكن في حقِّ الجار هو أشدُّ تحريماً ، وفي " الصحيحين " (1) عن ابن مسعودٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سُئِلَ : أيُّ الذَّنبِ أعظمُ ؟ قالَ : ( أنْ تجعل للهِ ندَّاً وهو خلقك ) ، قيل : ثُمَّ أي ؟ قالَ : ( أنْ تقتُلَ ولدَكَ مخافة أنْ يَطْعَمَ معك ) ، قيل : ثُمَّ أي ؟ قال : ( أن تُزَانِي حليلةَ جارك ) . وفي " مسند الإمام أحمد " (2)
__________
(1) صحيح البخاري 6/22 ( 4477 ) ، و9/186 ( 7520 ) ، وصحيح مسلم 1/63
( 441 ) ( 86 ) .
وأخرجه : الحميدي ( 103 ) ، وسعيد بن منصور ( 2302 ) ، وأحمد 1/380 و431، والنسائي في " الكبرى " ( 3478 ) و( 10987 ) و( 11368 ) ، وفي " التفسير " ، له
( 388 ) و( 389 ) ، وأبو يعلى ( 5098 ) و( 5130 ) و( 5167 ) ، والطبري في
" تفسيره " ( 20123 ) ، والشاشي ( 486 ) و( 487 ) و( 493 ) و( 775 ) و( 776 ) و( 778 ) ، وابن حبان ( 4414 ) و( 4415 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 9811 )
و( 9819 ) و( 9820 ) و( 9821 ) ، والدارقطني في " العلل " 5/223 ، والبيهقي في
" الكبرى " 8/18 من طرق عن عبد الله بن مسعود ، به .
(2) المسند 6/8 .

وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 103 ) ، وفي " التاريخ الكبير " ، له 7/361
( 2126 ) والطبراني في " الكبير " 20/( 605 ) ، وفي " الأوسط " ، له ( 6333 ) من طرق عن المقداد بن الأسود ، به ، وإسناده لا بأس به .

عن المقداد بنِ الأسود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( ما تقولون في الزنى؟ ) قالوا :
حرام حرَّمه الله ورسوله ، فهو حرامٌ إلى يوم القيامة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لأنْ يزني الرَّجلُ بعشرِ نسوةٍ أيسرُ عليه من أنْ يزنيَ بامرأةِ جاره ) ، قال : ( فما تقولون في السَّرقة ؟ ) قالوا : حرَّمها الله ورسوله ، فهي حرام ، قال : ( لأنْ يَسرِقَ الرجلُ من عشرة أبياتٍ أيسرُ عليه من أنْ يسرق من جاره ) .
وفي " صحيح البخاري " (1) عن أبي شُريح ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( والله لا يُؤْمِنُ ، والله لا يُؤْمِنُ ، واللهِ لا يؤمنُ ) قيل : وَمَنْ يا رسولَ الله ؟ قالَ : ( مَنْ لا يأْمَنُ جارهُ بوائِقَهُ ) . وخرَّجه الإمامُ أحمد(2) ، وغيره من حديث أبي هُريرة .
وفي " صحيح مسلم " (3) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَدخُلُ الجنَّة مَنْ لا يَأْمَنُ جارُه بوائقهُ ) .
__________
(1) الصحيح 8/12 ( 6016 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 1340 ) ، وأحمد 4/31 ، و6/385 ، والطبراني في " الكبير "
22/( 487 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 9534 ) وفي " الآداب " ، له ( 77 ) من طرق عن سعيد المقبري ، عن أبي شريح ، به .
(2) المسند 2/288 و336 .
وأخرجه : البخاري عقيب الحديث ( 6016 ) ، والحاكم 1/10 ، و4/165 من طرق عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، به .
(3) الصحيح 1/49 ( 46 ) ( 73 ) .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 121 ) من طريق العلاء بن عبد الرحمان، عن أبيه، عن أبي هريرة ، به .

وخرَّج الإمامُ أحمد ، والحاكم من حديث أبي هُريرة ، قال : قيلَ :
يا رسولَ الله إنَّ فُلانةَ تُصلي الليلَ ، وتصومُ النهار وفي لسانها شيءٌ تؤذي جيرانها سليطة ، قال : ( لا خير فيها ، هي في النار ) ، وقيل له : إنَّ فلانة تُصلي المكتوبةَ ، وتصومُ رمضانَ ، وتتصدَّقُ بالأثوارِ ، وليس لها شيء غيره ، ولا تؤذي أحداً ، قال : ( هي في الجنة ) ولفظ الإمام أحمد : ( ولا تؤذي بلسانها جيرانها ) (1) .
وخرَّج الحاكمُ(2) من حديث أبي جُحيفة قال : جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يشكو جارَه ، فقال له : ( اطرح متاعَك في الطَّريق ) ، قال: فجعل النَّاسُ يمرُّون به فيلعنونه ، فجاء إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسولَ الله ، ما لقيتُ من الناس ، قال
: ( وما لقيتَ منهم ؟ ) قال : يلعنوني ، قال : ( فقد لعنك الله قبلَ النَّاسِ ) ، قال : يا رسولَ الله ، فإني لا أعود . وخرَّجه أبو داود (3)
__________
(1) أخرجه : أحمد 2/440 ، والحاكم 4/166 .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 119 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار "
( 1902 )، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" ( 385 ) و( 616 )، وابن حبان ( 5764 )، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 9545 ) و( 9546 ) ، وفي إسناده أبو يحيى ، مولى آل جعدة مقبول حيث يتابع ولم يتابع .
(2) المستدرك 4/166 .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 125 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار "
( 1903 ) ، وفي إسناده شريك القاضي ضعيف عند التفرد .
(3) السنن ( 5153 ) .

وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 124 ) ، وابن حبان ( 520 ) ، والحاكم 4/165-166 من طرق عن محمد بن عجلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، به ، ومحمد بن عجلان قال عنه الحافظ في " التقريب " ( 6136 ) : ( صدوق إلاَّ أنَّه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة ) .

بمعناه من حديث أبي هريرة ، ولم يذكر فيه : ( فقد لعنك الله قبل الناس ) .
وخرَّج الخرائطي من حديث أمِّ سلمة ، قالت : دخلت شاةٌ لجارٍ لنا ، فأخذت قرصةً لنا ، فقمت إليها فاجتذبتها من بين لحْيَيْهَا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
: ( إنَّه لا قليلَ من أذى الجار ) (1).
وأمَّا إكرامُ الجارِ والإحسانُ إليه ، فمأمورٌ به ، وقد قال الله - عز وجل - : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } (2) ، فجمع الله تعالى في هذه الآية بين ذكرِ حقِّه على العبد وحقوقِ العباد على العبد أيضاً ، وجعل العبادَ الذين أمرَ بالإحسّان إليهم خمسة أنواع :
أحدها : من بينَه وبينَ الإنسان قرابةٌ ، وخصَّ منهمُ الوالدين بالذِّكر ؛ لامتيازهما عن سائر الأقارب بما لا يَشْرَكونهما فيه ، فإنَّهما كانا السببَ في وجود الولد ولهما حقُّ التربية والتأديب وغير ذلك .
الثاني : مَنْ هو ضعيفٌ محتاجٌ إلى الإحسَّان ، وهو نوعان : من هو محتاج لضعف بدنه ، وهو اليتيم ، ومن هو محتاج لِقِلَّةِ ماله ، وهو المسكين .
والثالث: مَنْ له حقُّ القُرب والمخالطة ، وجعلهم ثلاثة أنواع : جارٌ ذو قربى ، وجار جُنبٌ ، وصاحبٌ بالجنب .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " 23/( 535 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 10/27 من حديث أم سلمة رضي الله عنها ، به . قال الهيثمي في " المجمع " 8/170 : ( ورجاله ثقات ) .
(2) النساء : 36 .

وقد اختلف المفسرون في تأويل ذلك ، فمنهم مَن قال : الجارُ ذو القربى : الجارُ الذي له قرابةٌ ، والجارُ الجُنب : الأجنبيُّ(1) ، ومنهم من أدخل(2) المرأةَ في الجارِ ذي القربى ، ومنهم من أدخلها في الجار الجُنب(3) ، ومنهم من أدخل الرَّفيقَ في السَّفر في الجارِ الجُنب(4) ، وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يقول في دعائه : ( أعوذُ بكَ من جارِ السُّوءِ في دار الإقامة ، فإنَّ جار البادية يتحوَّلُ )(5) .
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7485 ) و( 7486 ) و( 7487 ) ( 7494 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 5296 ) و( 5299 ) .
(2) عبارة : ( من أدخل ) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7512 ) و( 7515 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره "
( 5297 ) .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7502 ) و( 7503 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره "
( 5300 ) .
(5) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 25421 ) ، وأحمد 2/346 ، والبخاري في " الأدب المفرد "
( 117 ) ، والنسائي 8/274 ، وأبو يعلى ( 6536 ) ، وابن حبان ( 1033 ) ، والحاكم 1/532 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 9553 ) ، وهو حديث قويٌّ .

ومنهم من قال : الجارُ ذو القربى : الجار المسلم ، والجارُ الجنب : الكافر(1) ، وفي " مسند البزار " (2) من حديث جابر مرفوعاً : ( الجيرانُ ثلاثةٌ : جارٌ له حقٌّ واحدٌ ، وهو أدنى الجيران حقاً(3) ، وجارٌ له حَقَّان ، وجار له ثلاثةُ حقوق وهو أفضلُ الجيران حقاً ، فأمَّا الذي له حقٌّ واحدٌ ، فجارٌ مشرك ، لا رَحِمَ له ، له حقُّ الجوار ، وأمَّا الذي له حقَّان ، فجارٌ مسلمٌ ، له حقُّ الإسلام وحقُّ الجوار ، وأمَّا الذي له ثلاثةُ حقوقٍ ، فجار مسلمٌ ذو رحم ، له حقُّ الإسلام ، وحقُّ الجوار ، وحقُّ الرحم ) . وقد روي هذا الحديثُ من وجوه أُخر متصلة ومرسلة(4) ، ولا تخلو كلُّها مِنْ مقالٍ .
وقيل: الجار ذو القربى : هو القريبُ الملاصق ، والجار الجُنُب: البعيد الجوار(5).
وفي " صحيح البخاري " (6)
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7492 ) و( 7501 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره "
( 5298 ) .
(2) كما في " كشف الأستار " ( 1896 ) من طريق الحسن ، عن جابر بن عبد الله ، به ، والحسن لم يسمع من جابر .
(3) عبارة : ( وهو أدنى الجيران حقاً ) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/207 من طريق الحسن ، عن جابر بن عبد الله ، به .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 341 ) من طريق سعيد بن أبي هلال ، وإسناده معضل .
(5) انظر : المحرر الوجيز 4/51 ، وتفسير البغوي 1/616 ، وتفسير القرطبي 5/184 .
(6) الصحيح 3/115 ( 2259 ) و3/208 ( 2595 ) و8/13 ( 6020 ) .

وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " مسنده " ( 10 ) وفي " الزهد " ، له ( 720 ) ، والطيالسي ( 1529 ) ، وإسحاق بن راهويه ( 1367 ) ، وأحمد 6/175 و187 و193 و239 ، والحسين المروزي في زياداته على " البر والصلة " لابن المبارك ( 244 ) و( 259 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 107 ) و( 108 ) ، وأبو داود ( 5155 ) ، وابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 336 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 2797 ) ، والخرائطي في " مكارم الأخلاق " : 39 ، والحاكم 4/167 ، والبيهقي في " الكبرى " 6/275 و7/28 ، والخطيب في " تاريخه " 7/275 من طرق عن طلحة بن عبد الله ، عن عائشة رضي الله عنها ، به .

عن عائشة ، قالت : قلت : يا رسولَ الله ، إنَّ لي جارين ، فإلى أيهما أُهدي ؟ قال : ( إلى أقربهما منك باباً ) .
وقال طائفة من السَّلف : حَدُّ الجوارِ أربعون داراً ، وقيل : مستدار أربعين داراً من كلِّ جانب(1) .
وفي مراسيل الزهري (2) : أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يشكو جاراً له ، فأمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعضَ أصحابه(3) أنْ يُنادي : ( ألا إنَّ أربعين داراً جار ) . قال الزهري(4) : أربعونَ هكذا، وأربعون هكذا، وأربعون هكذا ، وأربعون هكذا ، يعني : بين يديه ، ومِن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله(5) .
وسئل الإمام أحمد عمَّن يطبخ قدراً(6) وهو في دارِ السبيل ، ومعه في الدار نحو ثلاثين أو أربعين نفساً ، يعني : أنَّهم سكان معه في الدار ، فقال : يبدأ بنفسه ، وبمن يعولُ ، فإنْ فضلَ فضلٌ أعطى الأقرب إليه ، وكيف يُمكنه أنْ يُعطِيَهم كلَّهم ؟ قيل له : لعلَّ الذي هو جاره يتهاون بذلك القدر ليس له عنده موقع ؟ فرأى أنَّه لا يبعث إليه(7) .
__________
(1) ذكره : ابن عطية في " تفسيره " 4/51 ، والقرطبي في " تفسيره " 5/185 . والقول الثاني للأوزاعي .
(2) ومراسيله من أضعف المراسيل ، وهو ومن في طبقته فإنَّ مراسيلهم ألصق بالمعضل من المرسل من أجل أنَّ أكثر حديثهم حملوه عن التابعين ، والله أعلم .
(3) عبارة : ( بعض أصحابه ) سقطت من ( ص ) .
(4) لم يرد في ( ص ) .
(5) أخرجه : أبو داود في " المراسيل " ( 350 ) وورد موصولاً أخرجه : الطبراني في " الكبير " 19/( 143 ) من طريق الزهري ، عن عبد الرحمان بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، به ؛ لكن إسناده ضعيف جداً ؛ فإنَّ فيه يوسف بن السفر متروك .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) أخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 109 ) عن الحسن ، به .

وأمَّا الصَّاحبُ بالجنب ، ففسره طائفةٌ بالزَّوجة(1) ، وفسره طائفةٌ منهم : ابن عباس بالرَّفيق في السفر(2) ، ولم يريدوا إخراجَ الصاحب الملازم في الحضر إنَّما أرادوا أنَّ صحبة السفر تكفي ، فالصحبة الدائمة في الحضر أولى ، ولهذا قالَ سعيدُ بن جبير : هوَ الرفيق الصالحُ(3) ، وقال زيدُ بن أسلم : هوَ جليسُك في الحضر ، ورفيقُك في السَّفر(4) ، وقال ابنُ زيدٍ : هوَ الرَّجلُ يعتريك ويُلِمُّ بك لتنفعه(5) . وفي " المسند " والترمذي عن عبد الله بنِ عمرو بن العاص ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( خيرُ الأصحابِ عندَ الله خيرُهُم لصاحبه ، وخير الجيرانِ عندَ الله خيرُهم لجاره ) (6)
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7512 ) - ( 7515 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره "
( 5301 ) .
(2) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7502 ) – ( 7506 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره "
( 5305 ) .
(3) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7510 ) ، وابن أبي حاتم " تفسيره " ( 5307 ) .
(4) أخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 5305 ) .
(5) ذكره : ابن عطية في " تفسيره " 4/53 ، وابن الجوزي في " زاد المسير " 2/80 ، وأبو حيان في " البحر المحيط " 3/255 .
(6) أخرجه : أحمد 2/168 ، والترمذي ( 1944 ) ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .

وأخرجه : سعيد بن منصور ( 2388 ) ، وعبد بن حميد ( 342 ) ، والدارمي ( 2437 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 115 ) ، وابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 281 )
و( 330 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 7519 ) ، وابن خزيمة ( 2539 ) ، والطحاوي في
" شرح مشكل الآثار " ( 2800 ) و( 2801 ) ، وابن حبان ( 518 ) و( 519 ) ، والحاكم 1/443 و2/101 و4/164 ، والقضاعي ( 1235 ) ، والبيهقي في "شعب الإيمان" ( 9541 ) و( 9542 ) ، والخطيب في " تاريخه " 12/28 من طرق عن أبي عبد الرحمان
عبد الله بن يزيد الحبلي ، عن عمرو بن العاص ، به .
إلا أن في "مستدرك الحاكم" 4/164، من طريق شرحبيل بن مسلم، عن عمرو بن العاص، به.

.
الرابع : من هو واردٌ على الإنسان ، غيرُ مقيم عندَه ، وهو ابن السبيل يعني : المسافر إذا ورد إلى بلدٍ آخر(1) ، وفسَّره بعضُهم بالضَّيف ، يعني : به ابنَ السبيل إذا نزل ضيفاً(2) على أحد(3) .
والخامس : ملكُ اليمين، وقد وصَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بهم كثيراً وأمر بالإحسانِ إليهم ، وروي أنَّ آخرَ ما وصَّى به عند موته : ( الصلاة وما ملكت أيمانكم )(4)، وأدخل
بعضُ السَّلف في هذه الآية : ما يملكُهُ الإنسان من الحيوانات والبهائم(5) .
ولنرجع إلى شرح(6) حديث أبي هريرة في إكرام الجار ، وفي "الصحيحين" (7) عن عائشة وابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما زال جبريل يُوصيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنَّه سيورِّثُه ) .
فمن أنواع الإحسَّان إلى الجارِ مواساتُه عندَ حاجته ، وفي " المسند " (8)
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7520 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 5309 ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7522 ) و( 7523 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره "
( 5308 ) .
(4) أخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 2/195 ، وأحمد 3/117 ، وعبد بن حميد ( 1214 ) ، وابن ماجه ( 2697 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7094 ) و( 7095 ) و( 7096 ) ، وأبو يعلى ( 2933 ) و( 2990 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 3201 )
و( 3202 ) ، وابن حبان ( 6605 ) ، والحاكم 3/57 ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 8552 ) ، وفي " دلائل النبوة " ، له 7/205 ، والخطيب في " تاريخه " 4/239 ، والضياء في " المختارة " ( 2155 ) و( 2156 ) و( 2157 ) ، وفي إسناده مقال .
(5) ذكره : ابن الجوزي في " زاد المسير " 2/80 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) أخرجه : البخاري 8/12 ( 6014 ) ، ومسلم 8/36 ( 2624 ) ( 140 ) .
(8) مسند الإمام أحمد 1/55 .

وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 513 ) و( 514 ) و( 515 ) ، والحاكم 4/167 ، وأبو نعيم في "الحلية" 9/27 من طريق عباية بن رفاعة ، عن عمر ، به ، وفي إسناده اختلاف .
وقد ورد عند أبي نعيم : ( عباية ، عن رفاعة ) وهو خطأ ، والصواب : ( عباية بن رفاعة ) انظر : تهذيب الكمال 4/80 ( 3137 ) .

عن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَشْبَعُ المؤمنُ دُونَ جارِه ) ، وخرَّج الحاكم من حديث ابنِ عباس عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لَيْسَ المؤمن الذي يشبعُ وجارُه جائعٌ ) (1) ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما آمن مَنْ بات شبعاناً وجارُهُ طاوياً ) (2) .
وفي " المسند " (3) عن عقبة بن عامر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أوَّل خصمينِ يومَ القيامةِ جاران ) .
وفي كتاب " الأدب " (4) للبخاري عن ابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كم من جارٍ متعلِّقٌ بجاره يوم القيامة ، فيقول : يا ربِّ هذا أغلقَ بابه دوني فمنع
معروفه ) .
__________
(1) أخرجه : الحاكم 4/167 ، وقال : ( صحيح الإسناد ) ، ولم يتعقبه الذهبي . =
= ... وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 112 ) ، وابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق "
( 347 ) ، وأبو يعلى ( 2699 ) ، والطبراني في " الكبير " 12/( 12741 ) .
(2) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 2/512 ، وإسناده ضعيف لضعف خكيم بن جبير وأخرجه : البزار كما في "كشف الأستار" ( 119 ) من طريق علي بن زيد ، عن أنس ، به . وعلي بن زيد ضعيف . وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 751 ) من طريق ثابت عن أنس ؛ لكن قال أبو حاتم : ( منكر جداً ) . علل الحديث ( 2294 ) .
(3) مسند الإمام أحمد 4/151 .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " 17/( 836 ) و( 852 ) ، وهو حديث قويٌّ .
(4) الأدب المفرد ( 111 ) .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 346 ) ، والأصبهاني في " الترغيب والترهيب " ( 848 ) ، وهو حديث قويٌّ .

وخرَّج الخرائطي(1) وغيرُه بإسنادٍ ضعيف من حديث عطاءٍ الخراساني ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن ، جدِّه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( من أغلقَ بابَه دونَ جارِه مخافةً على أهله ومالِه ، فليس ذلك بمؤمنٍ ، وليس بمؤمن من لم يأمنْ جارُه بوائقه . أتدري ما حقُّ الجار ؟ إذا استعانك أعنته ، وإذا استقرضك أقرضته ، وإذا افتقر ، عُدْتَ عليهِ ، وإذا مَرِضَ عُدته ، وإذا أصابه خير هنأته ، وإذا أصابته مُصيبةٌ عزَّيته ، وإذا ماتَ اتبعتَ جنازته ، ولا تستطل عليه بالبناء ، فتحجبَ عنه الرِّيح إلا بإذنه ، ولا تؤذيه بقُتار قدرك إلاَّ أنْ تَغرفَ له منها ، وإنِ اشتريتَ فاكهةً ، فاهد له ، فإنْ لم تفعل ، فأدخلها سرَّاً، ولا يخرج بها ولدُك ليغيظَ بها ولدَه ) ورَفْعُ هذا الكلام مُنكرٌ ، ولعلَّه من تفسير عطاء الخراساني .
وقد روي أيضاً عن عطاء ، عن الحسن ، عن جابر مرفوعاً : ( أدنى حقِّ الجوار أنْ لا تُؤذي جارَك بقتارِ قِدْرِك إلاَّ أنْ تَقدَحَ له منها ) (2) .
وفي " صحيح مسلم " (3)
__________
(1) في " مكارم الأخلاق " ( 104 ) .
(2) والحسن لم يسمع من جابر ، والحديث أخرجه : البزار كما في " كشف الأستار "
( 1901 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 3591 ) من طريق أبي سفيان ، عن جابر ، به ، وإسناده ضعيف أيضاً .
(3) الصحيح 8/37 ( 2625 ) ( 142 ) و( 143 ) .

وأخرجه : الطيالسي ( 450 )، والحميدي ( 139 )، وأحمد 5/149 و156 و161 و171 ، والدارمي ( 2079 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 113 ) و( 114 ) ، وابن ماجه
( 3362 )، والترمذي ( 1833 )، وأبو عوانة ( 1526 )، وابن حبان ( 513 ) و( 514 ) و( 523 ) ، والبغوي ( 1689 ) من طرق عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر ، به .

عن أبي ذرٍّ قال : ( أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - : إذا طبختَ مرقاً ، فأكثِر ماءهُ ، ثم انظُر إلى أهلِ(1) بيتِ جيرانِك ، فأصِبْهُم منها بمعروفٍ ) . وفي رواية أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يا أبا ذرٍّ إذا طبخت مرقةً(2) ، فأكثِر ماءها ، وتعاهد جيرانَك ) .
وفي " المسند " والترمذي(3) عن عبد الله بن عمرو بن العاص : أنَّه ذبح شاةً ، فقال : هل أهديتُم منها لجارنا اليهودي ثلاثَ مرَّات ، ثم قال : سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ما زال جبريلُ يوصيني بالجار حتَّى ظننت أنه سَيُورِّثُه ) .
وفي " الصحيحين " (4) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَمنَعَنَّ أحدُكم جَارَه أن يَغْرِزَ خَشبَةً في جداره ) ، ثم يقول أبو هريرة : مالي أراكم عنها مُعرِضين ، والله لأرمِيَنَّ بها بين أكتافكم .
ومذهبُ الإمامِ أحمد أنَّ الجار يلزمه أنْ يُمَكِّنَ جاره من وضع خشبه على جداره إذا احتاجَ الجارُ إلى ذلك ولم يضرَّ بجداره ، لهذا الحديث الصحيح ، وظاهرُ كلامه أنَّه يجب عليه أنْ يُواسِيهَ من فضل ما عندَه بما لا يضرُّ به إذا علم حاجته(5) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : أحمد 2/160 ، والترمذي ( 1943 ) ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
وأخرجه : الحميدي ( 593 ) ، وابن أبي شيبة ( 25417 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 105 ) و( 128 )، وأبو داود ( 5152 ) ، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" ( 321 )، والخرائطي في " مكارم الأخلاق " : 36-37 ، والطبراني في " الأوسط " ( 2424 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/306 من طرق عن مجاهد بن جبر ، عن عبد الله بن عمرو ، به .
(4) صحيح البخاري 3/173 ( 2463 ) و7/145 ( 5627 ) ، وصحيح مسلم 5/57
( 1609 ) ( 136 ) .
(5) انظر : المغني 5/37 .

قال المروذي : قلتُ لأبي عبد الله : إني أسمع السائل في الطريق يقول : إنِّي جائع ، فقال : قد يَصدُق وقد يَكذِبُ . قلت : فإذا كان لي جار أعلم أنَّه يجوعُ ؟ قال : تواسيه ، قلت : إذا كان قوتي رغيفين ؟ قال : تُطعمه شيئاً ، ثم قال : الذي جاء في الحديث إنَّما هو الجارُ .
وقال المروذي : قلتُ لأبي عبد الله : الأغنياءُ يجبُ عليهمُ المواساة ؟ قال : إذا كان قوم يضعون شيئاً على شيءٍ كيف لا يجبُ عليهم ، قلت : إذا كان للرجل قميصان ، أو قلت : جُبَّتان ، يجب عليه المواساة ؟ قال : إذا كان يحتاج إلى أنْ يكون فضلاً .
وهذا نصٌّ منه في وجوب المواساة من الفاضل ، ولم يخصَّه بالجار ، ونصُّه الأوَّل(1) يقتضي اختصاصه بالجار .
وقال في رواية ابن هانئ في السُّؤال يكذِبُون أحبُّ إلينا لو صدقوا ما وَسِعَنا إلا مواساتُهم ، وهذا يدلُّ على وجوب مواساة الجائع مِنَ الجيران ، وغيرهم .
وفي " الصحيح " عن أبي موسى ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أطعِموا الجائع ، وعُودُوا المريضَ ، وفُكُّوا العاني ) (2) .
وفي " المسند " و" صحيح الحاكم " عن ابن عمرَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( أيُّما أهل عَرَصةٍ أصبحَ فيهم امرؤٌ جائع ، فقد برئت منهم ذِمَّةُ الله - عز وجل - )(3)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) صحيح البخاري 4/83 ( 3046 ) و7/31 ( 5174 ) و7/87 ( 5373 ) و7/150
( 5649 ) و9/88 ( 7173 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 489 ) ، وعبد الرزاق ( 333 ) و( 6763 ) ، وأحمد 4/394 و406 ، وعبد بن حميد ( 554 ) ، والدارمي ( 2465 ) ، وأبو داود ( 3105 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7492 ) و( 8666 ) ، من طرق عن أبي وائل ، عن أبي موسى الأشعري ، به .
(3) أخرجه : أحمد 2/33 ، والحاكم 2/11-12 ، وإسناده ضعيف لجهالة أحد رواته ، ومتنه لا يخلو من نكارة .

وأخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 1311 ) ، وأبو يعلى ( 5746 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 8426 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/101 .

.
ومذهب أحمدَ ومالكٍ أنَّه يمنع الجار أنْ يتصرَّف في خاصِّ ملكه بما يضرُّ
بجاره ، فيجبُ عندهما كفُّ الأذى عن الجار بمنعِ إحداث الانتفاع المضرِّ به ، ولو كان المنتفعُ إنَّما ينتفعُ(1) بخاصِّ ملكه، ويجب عندَ أحمد أنْ يبذُلَ لجاره ما يحتاجُ إليه، ولا ضررَ عليه في بَذله(2)، وأعلى مِنْ هذين أنْ يصبر على أذى جاره، ولا يُقابله بالأذى .
قال الحسن : ليس حسنُ الجوار كفَّ الأذى ، ولكن حسن الجوار احتمالُ الأذى ، ويُروى من حديث أبي ذرٍّ يرفعه : ( إنَّ الله يحبُّ الرَّجل يكونُ له الجارُ يؤذيه جِوارُه ، فيصبر على أذاه حتى يُفرِّقَ بينهما موتٌ أو ظعنٌ ) خرَّجه الإمام أحمد(3) . وفي مراسيل أبي عبد الرحمان الحبلي : أنَّ رجلاً جاء إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يشكو إليه جارَه ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( كفَّ أذاكَ عنه ، واصبِرْ لأذاه ، فكفى بالموت مفرِّقاً ) خرَّجه ابن أبي الدنيا(4) .
الثالث ممَّا أمر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين : إكرامُ الضيف ، والمرادُ : إحسّانُ ضيافته ، وفي "الصحيحين" (5)
__________
(1) عبارة : ( إنما ينتفع ) سقطت من ( ص ) .
(2) انظر : المغني 37-38 .
(3) في " المسند " 5/151 من طريق ابن الأحمس ، عن أبي ذر ، به .
وأخرجه : ابن المبارك في " الجهاد " ( 47 ) ، والطيالسي ( 468 ) ، والبزار ( 3908 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 1637 ) من طرق عن أبي ذر ، به .
(4) في " مكارم الأخلاق " ( 328 ) ، وإسناده ضعيف لضعف رشدين بن سعد ولإرساله .
(5) صحيح البخاري 8/13 ( 6019 ) و8/39 ( 6135 ) ، وصحيح مسلم 5/137-138
( 48 ) ( 14 ) .

وأخرجه : مالك ( 2687 ) برواية الليثي ، والحميدي ( 576 ) ، وأحمد 4/31 و6/385 ، وعبد بن حميد ( 482 ) ، وأبو داود ( 3748 ) ، والترمذي ( 1967 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 12056 ) .

من حديث أبي شُريح ، قال : أبصَرَتْ عيناي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وسمعتهُ أذنايَ حينَ تكلَّم به قال : ( مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليوم الآخر ، فليُكْرِمْ ضيفَه جائزته ) قالوا : وما جائزته ؟ قال : ( يَومٌ وليلة ) قال : ( والضيافةُ ثلاثةُ أيام ، وما كان بعد ذلك ، فهو صدقة ) .
وخرَّج مسلم من حديث أبي شُريح أيضاً ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الضيافة ثلاثةُ أيَّام ، وجائزتُه يومٌ وليلةٌ ، وما أنفق عليه بعد ذلك ، فهو صدقةٌ ، ولا يَحِلُّ له أنْ يَثْوِي عندَه حتى يُؤْثِمهُ ) ، قالوا : يا رسول الله وكيف يُؤثِمُهُ ؟ قالَ : ( يُقيم عنده ولا شيءَ لهُ يقرِيه به )(1) .
وخرَّج الإمام أحمد من حديث أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال :
( مَنْ كان يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليُكرِمْ ضَيفهُ ) . قالها ثلاثاً ، قالوا : وما كرامة الضيف يا رسولَ الله ؟ قالَ : ( ثلاثةُ أيام ، فما جلس بعد ذَلِكَ فهوَ صدقة )(2) .
ففي هذه الأحاديث أنَّ جائزة الضيف يومٌ وليلةٌ ، وأنَّ الضيافة ثلاثةُ أيام ، ففرَّق بين الجائزة والضيافة ، وأكَّدَ الجائزة ، وقد ورد في تأكيدها أحاديثُ أخرُ ، فخرَّج أبو داود(3)
__________
(1) أخرجه : مسلم 5/138 ( 48 ) ( 15 ) .
(2) أخرجه : أحمد 3/76 من طريق أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، به .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 33476 ) ، وأحمد 3/8 و21 و64 ، وعبد بن حميد ( 870 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 1931 ) و( 1932 ) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 4/240 ، وفي " شرح مشكل الآثار " ، له ( 2824 ) ، وابن حبان ( 5281 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/99 و6/203-204 ، والبيهقي في " الكبرى " 9/197 ، وهو حديث قويٌّ .
(3) السنن ( 3750 ) من طريق الشعبي ، عن المقدام بن معدي كرب ، به ، وهو صحيح .

وأخرجه : الطيالسي ( 1151 ) ، وأحمد 4/130 و132-133 و133 ، والطحاوي في
" شرح مشكل الآثار " ( 1839 ) و( 2812 ) و( 2813 ) ، وفي " شرح معاني الآثار " ، له 4/242 ، والطبراني في " الكبير " 20/( 621 ) و( 622 ) و( 623 ) و( 624 ) ، والبيهقي 9/197 من طرق عن المقدام بن معدي كرب ، به .

مِنْ حديث المقدام بن(1) معدي كرب ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( ليلة الضيف حقٌّ على كلِّ مسلم ، فمن أصبحَ بِفِنائه ، فهو عليه دَيْنٌ ، إنْ شاءَ اقتضى ، وإنْ شاءَ ترك ) . وخرَّجه ابن ماجه(2) ولفظه : ( ليلةُ الضيفِ حقٌّ على كُلِّ
مسلمٍ ) .
وخرَّج الإمامُ أحمد ، وأبو داود من حديث المقدام ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( أيُّما رجلٍ أضاف قوماً ، فأصبح الضيفُ محروماً ، فإنَّ نَصْرَهُ حقٌّ على كُلِّ مسلمٍ حتَّى يأخذ بِقِرَى ليلةٍ من زرعه وماله )(3) .
وفي " الصحيحين " (4) عن عُقبة بن عامر ، قال : قلنا يا رسول الله ، إنَّك تبعثُنا ، فننزلُ بقوم لا يُقرونا ، فما ترى(5) ؟ فقال لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنْ نزلتُم بقومٍ فأمَرُوا لكم بما ينبغي للضَّيف ، فاقْبَلُوا ، فإنْ لم يفعلوا فخذُوا منهم حق الضَّيف الذي ينبغي لهم ) .
__________
(1) المقدام بن ) لم ترد في ( ص ) .
(2) السنن ( 3677 ) من طريق الشعبي ، عن المقدام بن معدي كرب ، به .
وأخرجه : الدارمي ( 2037 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 744 ) ، وأبو داود
( 3751 ) ، وهو حديث صحيح .
وانظر التخاريج التي قبله .
(3) سبق تخريجه .
(4) صحيح البخاري 3/172 ( 2461 ) و8/39 ( 6137 ) ، وصحيح مسلم 12/31
( 1727 ) ( 17 ) .
وأخرجه : أحمد 4/149 ، والبخاري في "الأدب المفرد" ( 745 ) ، وابن ماجه ( 3676 ) ، وأبو داود ( 3752 ) ، والترمذي ( 1589 ) ، وأبو عوانة ( 6487 ) و( 6488 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 1840 ) و( 2814 ) وفي " شرح معاني الآثار " ، له 4/242 ، وابن حبان ( 5288 ) ، والطبراني في " الكبير " 17/( 766 ) ، والبيهقي 9/197 و10/270 ، والبغوي ( 3003 ) من طرق عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر ، به .
(5) عبارة : ( فما ترى ) سقطت من ( ص ) .

وخرَّج الإمام أحمد والحاكم من حديث أبي هُريرة(1) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( أيُّما ضيفٍ نزلَ بقومٍ ، فأصبح الضَّيفُ محروماً ، فله أنْ يأخُذَ بقدرِ قراهُ ، ولا حَرَجَ عليه )(2) .
وقال عبد الله بن عمرو : مَنْ لم يُضِف ، فليس مِن محمَّدٍ ، ولا من إبراهيم .
وقال عبد الله(3) بن الحارث بن جَزْء : من لم يُكرِمْ ضيفَه ، فليس من محمد ، ولا من إبراهيم(4) .
وقال أبو هريرة لِقوم نزل عليهم ، فاستضافهم ، فلم يُضَيِّفوهُ ، فتنحَّى ونزل ، فدعاهم إلى طعامه ، فلم يُجيبوه ، فقال لهم : لا تُنزلون الضيف ولا تجيبون الدعوة ما أنتُم من الإسلام على شيء ، فعرفه رجل منهم ، فقال له : انْزِل عافاك الله ، قال : هذا شرٌّ وشرٌّ ، لا تنزلون إلاَّ مَنْ تَعرِفُون .
ورُوي عن أبي الدرداء نحو هذه القضية إلاّ أنَّه قال لهم : ما أنتُم مِنَ الدِّين إلا على مثلِ هذه ، وأشار إلى هُدبةٍ في ثوبه .
وهذه النُّصوصُ تدلُّ(5) على وجوب الضِّيافة يوماً وليلة ، وهو قولُ الليث وأحمد(6) ، وقال أحمد : له المطالبةُ بذلك إذا منعه ؛ لأنَّه حقٌّ له واجب ، وهل يأخذُ بيده من ماله إذا منعه ، أو يرفعه إلى الحاكم ؟ على روايتين منصوصتين عنه(7) .
__________
(1) في ( ص ) : ( وخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة ) .
(2) أخرجه : أحمد 2/380 .
وأخرجه : الطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 2816 ) و( 2817 ) ، وفي " شرح معاني الآثار " ، له 4/242 ، وهو حديث صحيح .
(3) تحرف ( ص ) إلى : ( محمد بن عبد الله ) .
(4) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " 1/218 ، وسعيد بن منصور في " سننه " ( 2437 ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) انظر : التمهيد 21/43 ، والمغني 11/91 ، وشرح صحيح مسلم للنووي 6/227 .
(7) انظر : المغني 11/91 ، والشرح الكبير 11/119 .

وقال حُميدُ بن زَنجويه : ليلةُ الضَّيف واجبةٌ ، وليس له أنْ يأخذَ قِراه منهم قهراً ، إلاَّ أنْ يكونَ مسافراً في مصالح المسلمين العامَّة دونَ مصلحة نفسه .
وقال الليثُ بن سعد : لو نزل الضَّيفُ بالعبد أضافه من المال الذي بيده ، وللضيف أنْ يأكلَ ، وإنْ لم يعلم أنَّ سيِّده أذِنَ له ؛ لأنَّ الضيافة واجبة(1) . وهو قياسُ قول أحمد ؛ لأنَّه نصَّ على أنَّه يجوز إجابةُ دعوة العبد المأذون له في التجارة وقد روي عن جماعة من الصحابة أنَّهم أجابوا دعوة المملوك ، ورُويَ ذلك عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أيضاً(2)، فإذا جاز له أنْ يدعوَ الناس إلى طعامه ابتداءً وجازَ إجابةُ دعوته ، فإضافتُه لمن نزل به أولى .
ومنع مالكٌ والشافعيُّ وغيرُهما مِنْ دعوة العبد المأذون له بدون إذن سيِّده(3)، ونقل عليُّ بن سعيدٍ ، عن أحمدَ ما يدلُّ على وجوب الضيافة للغُزاة خاصَّةً بمن مرُّوا بهم ثلاثةَ أيَّامٍ (4)، والمشهور عنه الأولُ ، وهو وجوبُها لكلِّ ضيفٍ نزلَ بقومٍ .
واختلف قوله : هل تجبُ على أهلِ الأمصار والقُرى أم تختصُّ بأهلِ القُرى ومَنْ كان على طريقٍ يمرُّ بهم المسافرون ؟ على روايتين منصوصتين عنه(5) .
__________
(1) انظر : التمهيد 21/43 .
(2) أخرج الترمذي في " جامعه " ( 1017 ) من حديث أنس بن مالك أنه قال : ( ثم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعود المريض ويشهد الجنازة ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد … ) .
وأخرجه : الدارقطني في " العلل " 6/226 ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/63 ، والبيهقي 1/370 ، والخطيب في " تاريخه " 12/32 ، وفيه مقال .
(3) انظر : التمهيد 21/43 .
(4) انظر : المغني 10/569-570 .
(5) انظر : التمهيد 21/43-44 ، والمغني 11/91 ، وشرح صحيح مسلم للنووي 6/227 .

والمنصوص عنه : أنَّها تجبُ للمسلمِ والكافرِ ، وخصَّ كثيرٌ من أصحابه الوجوبَ للمسلم ، كما لا تجبُ نفقةُ الأقارب مع اختلاف الدِّين على إحدى الروايتين عنه(1) .
وأمَّا اليومان الآخران ، وهما الثاني والثالث ، فهما تمامُ الضِّيافة ، والمنصوصُ عن أحمد أنَّه لا يجبُ إلا الجائزةُ الأولى ، وقال : قد فرَّق بين الجائزة والضيافة ، والجائزة أوكدُ ، ومِنْ أصحابنا مَنْ أوجَبَ الضيافة ثلاثة أيام ، منهم : أبو بكر بن عبد العزيز ، وابنُ أبي موسى ، والآمدي ، وما بعدَ الثَّلاث ، فهو صدقة ، وظنَّ بعضُ النَّاسِ أنَّ الضيافة ثلاثة أيام(2) بعد اليوم والليلة الأولى ، وردَّه أحمد بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الضيافة ثلاثة أيام ، فما زاد فهو صدقة ) (3)، ولو كان كما ظنَّ هذا لكان أربعة(4) .
قلتُ : ونظيرُ هذا قوله تعالى : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ } إلى قوله : { وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } (5) والمراد : في تمام الأربعة .
وهذا الحديث الذي احتجَّ به أحمد قد تقدَّم(6) من حديث أبي شُريح ، وخرَّجه البخاري من حديث أبي هريرة(7) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فَلْيُحسن قِرى ضَيفه ) ، قيل : يا رسول الله ، وما قِرى الضيف ؟ قال : ( ثلاث ، فما كان بعدُ فهو صدقة )(8) .
__________
(1) انظر : المغني 11/91 .
(2) من قوله : ( منهم أبو بكر ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) سبق تخريجه .
(4) انظر : المغني 11/91 .
(5) سورة فصلت : 9-10 .
(6) عبارة : ( قد تقدم ) سقطت من ( ص ) .
(7) تحرف في ( ص ) إلى : ( أبي ذر ) .
(8) أخرجه : البخاري 8/39 ( 6136 ) ؛ ولكن بغير هذا اللفظ .

قال حُميد بن زنجويه : عليه أنْ يتكلَّف له في اليوم والليلة من الطعام أطيب ما يأكله هو وعيالُه ، وفي تمام الثلاث يطعمه من طعامه ، وفي هذا نظر . وسنذكر حديثَ سلمان بالنَّهي عنِ التَّكلُّف للضَّيف ، ونقل أشهبُ عن مالكٍ ، قال : جائزتُه يومٌ وليلةٌ يُكرمه ويُتحفه ويخصه يوماً وليلةً وثلاثة أيَّام ضيافة(1) ، وكان ابنُ عمر يمتنع مِن الأكل مِنْ مالِ مَنْ نزل عليه فوق ثلاثة أيامٍ ، ويأمر أنْ يُنْفَقَ عليه من ماله(2) .
ولصاحب المنْزل أن يأمر الضيف بالتحوّل عنه بعد الثلاث ؛ لأنَّه قضى ما
عليهِ ، وفعل ذَلِكَ الإمام أحمد .
__________
(1) انظر : التمهيد 21/42 .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 33477 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/311 من طريق نافع عن ابن عمر ، به . وهو قريب من هذا اللفظ .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يَحِلُّ لهُ أنْ يَثوِيَ عندَه حتَّى يُحْرِجَه ) يعني : يُقيم عندَه حتَّى يُضَيِّقَ عليهِ ، لكن هل هذا في الأيام الثلاثة أم فيما زاد عليها ؟ فأما فيما ليس بواجبٍ ، فلا شك في تحريمه ، وأما في ما هو واجب وهو اليوم والليلة فينبني على أنَّه هل تجب الضيافة على من لا يجد شيئاً أم لا تجب إلا على من وجد ما يضيف به ؟ فإنْ قيل : إنَّها لا تجب إلا على من يجد ما يضيف به – وهو قولُ طائفةٍ من أهلِ الحديث ، منهم : حُميدُ بنُ زنجويه – لم يحل للضيف أنْ يستضيف من هُوَ عاجز عن ضيافته . وقد رُوِيَ من حديث سلمان قال : ( نهانا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ نتكلَّفَ للضيفِ(1) ما ليسَ عندنا ) (2) فإذا نهي المضيف أنْ يتكلَّفَ للضيف ما ليس عنده دلَّ على أنَّه لا تَجِبُ عليه المواساةُ للضيف إلا مما عنده ، فإذا لم يكن عنده فَضلٌ لم يلزمه شيءٌ ، وأما إذا آثَرَ على نفسه ، كما فعل الأنصاريُّ(3) الذي نزل فيه
: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (4) فذلك مقامُ فضلٍ
وإحسّان ، وليس بواجب .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 1404 ) و( 1405 ) و( 1406 ) و( 1407 )
و( 1408 ) ، وأحمد 5/441 ، والبخاري في " التأريخ الكبير " 2/375 ( 2867 ) ، والبزار ( 2514 ) و( 2515 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 6083 ) و( 6084 )
و( 6085 ) ، والحاكم 4/123 ، وأبو نعيم في " تأريخ أصبهان " 1/56 ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " ( 9598 ) و( 9599 ) و( 9600 ) و( 9601 ) وفي " الآداب " ، له
( 84 ) ، والخطيب في " تأريخه " 8/45 .
(3) أخرجه : البخاري 6/185 ( 4889 ) ، ومسلم 6/127 ( 2054 ) ( 172 ) عن أبي حازم الأشجعي ، عن أبي هريرة ، به .
(4) الحشر : 9 .

ولو علم الضيف أنَّهم لا يُضيفونه إلا بقوتِهم وقوت صبيانهم ، وأنَّ الصبية يتأذَّوْنَ بذلك ، لم يجز له استضافتُهم حينئذ عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يَحِلُّ له أنْ يُقيمَ عندَه حتَّى يُحرجه )(1) .
وأيضاً فالضيافة نفقة واجبة ، فلا تجب إلا على مَنْ عنده فضلٌ عن قوته وقوتِ عياله ، كنفقة الأقارب ، وزكاةِ الفطر . وقد أنكر الخطابي تفسيرَ تأثيمه بأنْ يُقيمَ عندَه ولا شيءَ له يَقريه ، وقال : أراه غلطاً ، وكيف يأثم في ذلك وهو لا يتسع لِقراه ، ولا يجد سبيلاً إليه ؟ وإنَّما الكلفة على قَدرِ الطاقة ، قال : وإنَّما وَجْهُ الحديثِ أنَّه كَرِهَ له المقام عندَه بعدَ ثلاث لِئلا يضيقَ صدرُه بمكانه ، فتكون الصدقة منه على وجه المنِّ والأذى فَيَبْطُلُ أجرُه(2) ، وهذا الذي قاله فيه نظر ؛ فإنَّه قد صحَّ تفسيرُه في الحديث بما أنكره ، وإنَّما وجهه أنَّه إذا أقامَ عندَه ولاشيءَ له يقريه به ، فربما دعاه ضيقُ صدره به ، وحرجه إلى ما يأثم به في قول ، أو فعل ، وليس المرادُ أنَّه يأثم بترك قِراه مع عجزه عنه ، والله أعلم .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) انظر : معالم السنن 4/221 .

الحديث السادس عشر
عَنْ أَبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - أنَّ رَجُلاً قالَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أوصِني ، قال : ( لا تَغْضَبْ ) فردَّد مِراراً قال : ( لا تَغْضَبْ ) . رواهُ البُخاريُّ(1) .
هذا الحديثُ خرَّجه البخاري من طريق أبي حَصين الأسدي (2) ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، ولم يُخرجه مسلم ؛ لأنَّ الأعمشَ رواه عن أبي صالح ، واختلف عليه في إسناده فقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هُريرة ، كقول أبي حَصين ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، وعند يحيى بن معين أنَّ هذا هو الصحيحُ ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة وأبي سعيد(3) ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أو جابر ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن رجل من الصحابة غير مسمى .
وخرَّج الترمذي(4) هذا الحديثَ من طريق أبي حصين أيضاً ولفظُه : جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله علِّمني شيئاً ولا تُكثر عليَّ لَعَلِّي أعيه ، قال : ( لا تَغْضَب ) ، فردد ذلك مراراً كلُّ ذلك يقول : ( لا تغضب ) وفي رواية أخرى(5) لغير الترمذي قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، دلني على عمل يُدخلني الجنَّة ولا
تُكثِرْ عليَّ ، قال : ( لا تَغْضَب ) .
__________
(1) في " صحيحه " 8/35 ( 6116 ) .
وأخرجه : أحمد 2/362 و466 ، وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " 1/340 ، والبيهقي 10/105 .
(2) هو عثمان بن عاصم بن حُصين الأسدي ، الكوفي ، أبو حَصين بفتح المهملة . تقريب التهذيب ( 4484 ) .
(3) جملة : ( وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة وأبي سعيد ) سقطت من ( ص ) .
(4) في " جامعه " ( 2020 ) ، وقال : ( حسن صحيح غريب ) .
وأخرجه : أبو يعلى ( 1593 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 1731 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(5) أخرجه : أحمد 2/362 ، والبغوي ( 3580 ) من حديث أبي هريرة ، به .

فهذا الرجلُ طلب مِن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُوصِيهَ وصيةً وجيزةً جامعةً لِخصال الخيرِ ، ليحفظها عنه خشيةَ أنْ لا يحفظها ؛ لكثرتها ، فوصَّاه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا يغضب ، ثم ردَّد هذه المسألة عليه مراراً ، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يردِّدُ عليه هذا الجوابَ ، فهذا يدلُّ على أنَّ الغضب جِماعُ الشرِّ ، وأنَّ التحرُّز منه جماعُ الخير(1) .
ولعلَّ هذا الرجلَ الذي سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هو أبو الدرداء ، فقد خرَّج الطبراني(2) من حديث أبي الدرداء قال : قلتُ : يا رسولَ الله دلني على عمل يدخلني الجنَّة ، قال : ( لا تَغْضَبْ ولكَ الجَنَّةُ ) .
وقد روى الأحنفُ بنُ قيسٍ ، عن عمه جارية(3) بن قدامة : أنَّ رجلاً قال :
يا رسولَ اللهِ قُلْ لي قولاً ، وأقْلِلْ عليَّ لعلي أعقِلُهُ ، قال : ( لا تغضبْ ) ، فأعاد عليه مراراً كُلُّ ذلك يقول : ( لا تَغضَبْ ) خرَّجه الإمام أحمد(4) ، وفي رواية(5)
__________
(1) انظر : فتح الباري 10/638 .
(2) في " الأوسط " ( 2374 ) ، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 8/70 : ( رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " وأحد إسنادي الكبير رجاله ثقات ) .
(3) تصحف في ( ص ) : إلى : ( حارثة ) .
(4) في " مسنده " 3/484 و5/34 .
وأخرجه : ابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " ( 1168 ) ، وابن حبان ( 5690 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 2095 ) و( 2097 ) و( 2099 ) و( 2105 ) وفي " الأوسط " ، له ( 7491 ) ، والخطيب في " تاريخه " 3/108 عن جارية بن قدامة ، عن رجل ، به ، وانظر ماسيأتي .
(5) مسند الإمام أحمد 5/34 و370 و372 . =

= ... وأخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 7/40 ، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" ( 1167 )، وابن حبان ( 5689 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 2093 ) و( 3094 ) و( 2096 )
و( 2098 ) و( 2100 ) و( 2101 ) و( 2102 ) و( 2103 ) و( 2104 ) و( 2106 ) و( 2107 ) ، والحاكم 3/615 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 8279 ) و( 8280 ) من حديث جارية بن قدامة ، به . وجارية بن قدامة مختلف في صحبته .

له
أنَّ جارية بن قُدامة قال : سألت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكره .
فهذا يغلب على الظنِّ أنَّ السائلَ هو جارية بنُ قدامة ، ولكن ذكر الإمامُ أحمد(1) عن يحيى القطان أنَّه قال : هكذا قال هشام ، يعني : أنَّ هشاماً ذكر في الحديث أنَّ جارية سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال يحيى : وهم يقولون : لم يُدرك النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وكذا قال العجليُّ وغيرُه : إنَّه تابعيٌّ وليس بصحابي .
وخرَّج الإمامُ أحمد(2) من حديث الزهري ، عن حُميد بنِ عبد الرحمان ، عن رجلٍ من أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : قلتُ : يا رسولَ الله أوصني ، قال : ( لا
تَغْضَبْ ) قال الرجل : ففكرتُ حين قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ما قال ، فإذا الغَضَبُ يجمع الشرَّ كُلَّه ، ورواه مالك في " الموطأ " (3) عن الزهري ، عن حُميد ، مرسلاً .
وخرَّج الإمامُ أحمد(4) من حديث عبد اللهِ بن عمرو : أنَّه سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - : ماذا يُبَاعِدُني مِنْ غَضَبِ اللهِ - عز وجل - ؟ قال : ( لا تَغْضَب ) .
__________
(1) في " مسنده " 3/484 .
(2) في " مسنده " 5/373 .
وأخرجه : معمر في "جامعه" ( 20286 ) - ومن طريقه البيهقي 10/105 عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمان ، عن رجل ، به . وإسناده صحيح وهو صحيح موصولاً ، وقد توبع معمر تابعه سفيان بن عيينة عند ابن أبي شيبة 8/535 ، وأحمد 5/408 ، وأبي نعيم
في " معرفة الصحابة " 5/92 فلا يضره إرسال مالك ؛ إذ اتفق معمر وسفيان على
وصله ، وقد قال ابن المبارك : ( الحفاظ عن ابن شهاب ثلاثة : مالك ومعمر وابن عيينة فإذا اجتمع اثنان على قول أخذنا به وتركنا قول الآخر ) السنن الكبرى للنسائي عقيب
( 2072 ) .
(3) الموطأ ( 2636 ) برواية يحيى الليثي .
(4) في "مسنده" 2/175 وفي إسناده عبد الله بن لهيعة ؛ لكن هذا الحديث له شواهد يتقوى بها .

وقول الصحابي : ففكرتُ فيما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فإذا الغضبُ يجمع الشرَّ كلَّه يشهد لما ذكرناه أنَّ الغضبَ جماعُ الشرِّ ، قال جعفر بنُ محمد : الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ . وقيل لابنِ المبارك : اجْمَعْ لنا حسنَ الخلق في كلمة ، قال : تركُ الغضبِ .
وكذا فسَّر الإمام أحمد ، وإسحاقُ بنُ راهويه حسنَ الخلق بتركِ الغضب ، وقد رُوي ذلك مرفوعاً ، خرَّجه محمدُ بن نصر المروزي في كتاب " الصلاة " (1) من حديث أبي العلاء بنِ الشِّخِّير : أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِن قِبَلِ وجهه ، فقالَ : يا رسولَ الله أيُّ العملِ أفضلُ ؟ قالَ : ( حُسْنُ الخلق ) ثُمَّ أتاه عن يمينه ، فقالَ : يا رسول الله ، أيُّ العمل أفضل ؟ قال : ( حسنُ الخُلُقِ ) ، ثم أتاه عن شِماله ، فقال : يا رسول الله ، أيُّ العمل أفضل ؟ قال : ( حسنُ الخُلُقُ ) ، ثم أتاه من بعده ، يعني : من خلفه ، فقال : يا رسولَ الله أيُّ العملِ أفضلُ ؟ فالتفت إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( مالك لا تَفْقَهُ ! حسْنُ الخُلُقِ هو أنْ لا تَغْضَبَ إنِ استطعْتَ ) . وهذا مرسل .
فقولُه - صلى الله عليه وسلم - لمن استوصاه : ( لا تَغْضَبْ ) يحتَمِلُ أمرين :
أحدُهما : أنْ يكونَ مرادُه الأمرَ بالأسباب التي توجب حُسْنَ الخُلُقِ من الكرم والسخاء والحلمِ والحياء والتواضع والاحتمال وكفِّ الأذى، والصفح والعفو، وكظم الغيظ ، والطَّلاقةِ والبِشْرِ ، ونحوِ ذلك من الأخلاق الجميلة ، فإنَّ النفسَ إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق ، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه .
__________
(1) في " تعظيم قدر الصلاة " ( 878 ) مرسلاً .

والثاني : أنْ يكونَ المرادُ : لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حَصَل لك ، بل جاهد نفسَك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به ، فإنَّ الغضب إذا ملك ابنَ آدم كان كالآمر والناهي له(1) ، ولهذا المعنى قال الله - عز وجل - : { وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ } (2) فإذا لم يمتثل الإنسانُ ما يأمره به غضبُه ، وجاهد نفسه على ذلك ، اندفع عنه شرُّ الغضب ، وربما سكن غَضَبُهُ ، وذهب عاجلاً ، فكأنَّه حينئذٍ لم يغضب ، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارةُ في القرآن بقوله - عز وجل - : { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } (3) ، وبقوله - عز وجل - : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (4) .
وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ من غضبَ بتعاطي أسبابٍ تدفعُ عنه الغضبَ ، وتُسَكِّنُهُ ، ويمدح من ملك نفسَه عند غضبه ، ففي " الصحيحين " (5)
__________
(1) انظر : فتح الباري 10/639 .
(2) الأعراف : 154 .
(3) الشورى : 37 .
(4) آل عمران : 134 .
(5) صحيح البخاري 18/19 ( 6048 ) و34 ( 6115 ) و150 ( 3282 ) ، وصحيح مسلم 8/30-31 ( 2610 ) ( 109 ) و( 110 ) .

وأخرجه : أحمد 6/394 ، وأبو داود ( 4781 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 10224 )
و( 10225 ) من حديث سليمان بن صرد ، به .

عن سليمانَ بن صُرَد قال : استَبَّ رجلانِ عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ عنده جلوسٌ ، وأحدُهما يَسُبُّ صاحبهُ مغضباً قد احمرَّ وجهُهُ ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إني لأعْلَمُ كلمةً لو قالها لذهبَ عنه ما يجد ، لو قال : أعوذُ بالله من الشَّيطان الرجيم ) فقالوا للرجل : ألا تسمعُ ما يقولُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : إني لَسْتُ بِمجنونٍ(1) .
وخرَّج الإمامُ أحمد(2) والترمذيُّ(3) من حديث أبي سعيد الخُدري : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في خُطْبته : ( ألا إنَّ الغَضَبَ جَمْرَةٌ في قلبِ ابنِ آدمَ ، أفما رأيتُم إلى حُمرة عينيه ، وانتفاخ أوداجه ، فمن أحسَّ من ذلك شيئاً فليَلْزَقْ بالأرضِ ) .
وخرَّج الإمامُ أحمدُ(4) ، وأبو داود(5) من حديث أبي ذرٍّ : أنَّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( إذا غَضِبَ أحدُكُم وهو قائِمٌ ، فَلْيَجْلِسْ ، فإنْ ذَهَبَ عَنه الغضبُ وإلا فليَضطجعْ ) .
__________
(1) يحتمل أنْ هذا الرجل كان من المنافقين ، أو من جُفاة العرب ، فهو لم يتهذب بأنوار الشريعة المكرمة ، وتوهم أن الاستعاذة مختصة بالمجنون ، ولم يعلم أن الغضب من نزغات الشيطان .
انظر : شرح صحيح مسلم للنووي 8/336 .
(2) في " مسنده " 3/19 و61 .
وأخرجه : معمر في "جامعه" ( 20720 ) ، والحميدي ( 752 ) ، وعبد بن حميد ( 864 )، وأبو يعلى ( 1101 ) ، والحاكم 4/505-506 ، والبيهقي في "شعب الإيمان" ( 8289 ) ، والبغوي ( 4039 ) من حديث أبي سعيد الخدري ، به ، وهو جزء من حديث طويل .
(3) في " جامعه " ( 2191 ) وقال : ( حسن ) ، وإسناد الحديث ضعيف لضعف علي بن زيد ابن جدعان .
(4) في " مسنده " 5/152 .
وأخرجه : الخرائطي في " مساوئ الأخلاق " ( 346 ) ، وابن حبان ( 5688 ) ، والبغوي
( 3584 ) وقد اختلف في إسناده ورجح أبو داود إرساله .
(5) السنن ( 4782 ) و( 4783 ) .

وقد قيل : إنَّ المعنى في هذا أنَّ القائم متهيِّئ، للانتقام والجالس دونَه في ذلك ، والمضطجع أبعدُ عنه ، فأمره بالتباعد عن حالةِ الانتقام(1) ، ويَشْهَدُ لذلك أنَّه رُوي من حديث سِنان بنِ سعد ، عن أنسٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ومن حديث الحسن مرسلاً عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (2) قال : ( الغَضَبُ جَمرةٌ في قَلبِ الإنسانِ تَوَقَّدُ ، ألا ترى إلى حُمرةِ عَيْنَيهِ وانْتِفَاخِ أوداجِهِ ، فإذا أحس أحدُكُم مِنْ ذلك شيئاً ، فليَجْلِسْ ، ولا يَعْدُوَنَّه الغَضَبُ )(3) .
والمرادُ : أنَّه يحبسه في نفسه ، ولا يُعديه إلى غيره بالأذى بالفعلِ ، ولهذا المعنى قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الفتن : ( إنَّ المضطجِعَ فيها خَيْرٌ من القَاعِدِ ، والقَاعِدَ فيها خيرٌ من القَائِم ، والقائمَ خَيرٌ مِنَ المَاشِي ، والمَاشِي خَيرٌ مِنَ السَّاعي )(4) ، وإنْ كان هذا على وجه ضرب المثالِ في الإسراع في الفتن ، إلا أنَّ المعنى : أنَّ من كان أقرب إلى الإسراع فيها ، فهو شرٌّ ممن كان أبعد عن ذلك .
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديث ابنِ عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا غَضِبَ
أحَدُكُمْ ، فليَسْكُتْ ) ، قالها ثلاثاً(5)
__________
(1) انظر : معالم السنن 4/100-101 .
(2) من قوله : ( ومن حديث الحسن ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) حديث أنس لم أعثر عليه فيما بين يدي من الكتب الحديثية .
أما رواية الحسن المرسلة فقد أخرجها : معمر في " جامعه " ( 20289 ) ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " ( 8290 ) عن الحسن ، مرسلاً .
(4) أخرجه : البخاري 4/241 ( 3601 ) و9/64 ( 7081 ) و( 7082 ) ، ومسلم 8/168 - 169 ( 2886 ) ( 10 ) و( 11 ) و( 12 ) ، وأبو داود ( 4256 ) ، والبيهقي 8/190 من حديث أبي هريرة ، به .
(5) في " مسنده " 1/239 و283 و365 .

وأخرجه : الطيالسي ( 2608 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 245 ) ، والبزار كما في
" كشف الأستار " ( 152 ) و( 153 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 10951 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 764 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 8287 ) و( 8288 ) ، وفي إسناده ليث بن أبي سليم ضعيف .

.
وهذا أيضاً دواء عظيم للغضب ؛ لأنَّ الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليهِ في حال زوال غضبه كثيراً من السِّباب وغيره مما يعظم ضَرَرُهُ ، فإذا سكت زال هذا الشرّ كله عنه ، وما أحسنَ قولَ مورق العجلي - رحمه الله - : ما امتلأتُ غيضاً قَطُّ ولا تكلَّمتُ في غضبٍ قطُّ بما أندمُ عليهِ إذا رضيتُ(1) . وغضب يوماً عمرُ بن عبد العزيز فقالَ لهُ ابنُه : عبدُ الملكِ – رحمهما الله - : أنتَ يا أميرَ المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضَّلك به تغضبُ هذا الغَضبَ ؟ فقال له : أو ما تغضبُ يا عبدَ الملك ؟ فقال عبد الملك : وما يُغني عني سعةُ جوفي إذا لم أُرَدِّدْ فيه
الغضبَ حتى لا يظهر(2) ؟ فهؤلاء قوم ملكوا أنفسهم عند الغضب - رضي الله عنهم - .
وخرَّج الإمامُ أحمد(3) ، وأبو داود(4) من حديث عُروة بنِ محمد السَّعدي : أنَّه كلَّمه رجل فأغضبه ، فقام فتوضأ ، ثم قال : حدثني أبي عن جدِّي عطيةَ ، قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الغَضَبَ مِنَ الشَّيْطانِ ، وإنَّ الشيطانَ خُلِقَ من النَّارِ ، وإنَّما تُطفَأُ النار بالماءِ ، فإذا غَضِبَ أحَدُكُم فَليَتوضَّأ ) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/235 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/358 .
(3) في " مسنده " 4/226 .
وأخرجه : ابن قانع في " معجم الصحابة " 2/307 ، والطبراني في " الكبير " 17/( 443 ) ، والبغوي ( 3583 ) ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 42/234 و43/81 و57/172 ، وإسناده ضعيف .
(4) السنن ( 4784 ) ، وينظر التخريج المتقدم ذكره .

وروى أبو نعيم(1) بإسناده عن أبي مسلم الخولاني : أنَّه كلَّم معاوية بشيءٍ وهو على المنبر ، فغضب ، ثم نزل فاغتسل ، ثم عاد إلى المنبر ، وقال : سمعتُ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ الغضبَ مِن الشيطان ، والشيطانَ من النار ، والماءُ يُطفئُ النار ، فإذا غَضِبَ أحدكم فليغتسل ) .
وفي " الصحيحين " (2) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لَيْسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يَملِكُ نَفْسَهُ عندَ الغَضَبِ ) .
وفي " صحيح مسلم " (3) عن ابن مسعودٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما تَعُدُّوَن الصُّرَعَةَ فيكم ؟ ) قلنا : الذي لا تَصْرَعُهُ الرِّجالُ ، قال : ( ليس ذلك ، ولكنَّه الذي يَملِكُ نَفْسَهُ عندَ الغضبِ ) .
وخرَّج الإمامُ أحمد(4) ، وأبو داود(5) ، والترمذي(6) ، وابن ماجه(7) من حديث معاذ بن أنس الجهني ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ كَظَمَ غَيظاً وهو يَستطيعُ
أنْ يُنفذه ، دعاه الله يومَ القيامة على رؤوس الخلائق حتَّى يخيره في أيِّ الحورِ
شاء ) .
وخرَّج الإمامُ أحمد(8)
__________
(1) في " الحلية " 2/130 ، وإسناده ضعيف .
(2) صحيح البخاري 8/34 ( 6114 )، وصحيح مسلم 8/30 ( 2609 ) ( 107 ) و( 108 ).
وأخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2637 ) برواية الليثي ، وأحمد 2/268 و517 ، والنسائي في " الكبرى " ( 10226 ) و( 10227 ) و( 10228 ) ، والبيهقي 10/235 و241 .
(3) الصحيح 8/30 ( 2608 ) ( 106 ) .
وأخرجه : أحمد 1/382 ، وأبو داود ( 4779 ) ، وأبو يعلى ( 5162 ) من حديث عبد الله ابن مسعود ، به .
(4) في " مسنده " 3/438 و440 .
(5) السنن ( 4777 ) .
(6) في " جامعه " ( 2021 ) و( 2493 ) ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) على أنَّ في إسناده سهل بن معاذ ضعفه بعض الأئمة .
(7) السنن ( 4186 ) .
(8) في " مسنده " 2/128 . =

= ... وأخرجه : ابن ماجه ( 4189 ) ، والطبراني في " مكارم الأخلاق " ( 51 ) ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " ( 8305 ) و( 8306 ) و( 8307 ) وفي " الآداب " ، له ( 160 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به ، مرفوعاً ، وإسناده صحيح .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 1318 ) ، موقوفاً .
وأخرجه : البيهقي في" شعب الإيمان " ( 8308 ) وفي " الآداب " ، له ( 161 ) ، مرسلاً .

من حديث ابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما تَجَرَّع عبدٌ جُرعَةً أفضلَ عندَ اللهِ من جُرعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُها ابتغاءَ وجهِ الله - عز وجل - ) ومِن حديث ابن عباسٍ(1) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَا مِنْ جُرْعَةٍ أحبَّ إلى اللهِ من جُرعةِ غَيظٍ يَكظِمُها عبد ، ما كظم عبدٌ لله إلا ملأ الله جوفَه إيماناً ) . وخرَّج أبو
داود(2) معناه من رواية بعضِ الصحابة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقال : ( ملأه الله أمناً وإيماناً(3) ) .
وقال ميمون بن مِهران: جاء رجلٌ إلى سلمان، فقال : يا أبا عبدِ الله أوصني ، قال : لا تغضب ، قال : أمرتني أنْ لا أغضب وإنَّه ليغشاني ما لا أملِكُ ، قال : فإنْ غضبتَ ، فامْلِكْ لِسانك ويَدَك . خرَّجه ابن أبي الدنيا(4) ، وملكُ لسانه ويده هو الذي أشار إليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأمره لمن غَضِبَ أنْ يجلس ، ويضطجع وبأمره له أنْ يسكت(5) .
قال عمرُ بنُ عبد العزيز : قد أفلحَ مَنْ عُصِمَ من الهوى ، والغضب ، والطمع(6) .
وقال الحسن : أربعٌ من كُنَّ فيه عصمه الله من الشيطان ، وحرَّمه على النار : مَنْ ملك نفسَه عندَ الرغبة ، والرهبة ، والشهوةِ ، والغضبِ(7) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 1/327 ، وفي إسناده نوح بن جعونة مجهول ، ولعله نوح بن أبي مريم الكذاب فيكون إسناد الحديث تالفاً .
(2) السنن ( 4778 ) وإسناده ضعيف لجهالة أحد رواته .
(3) من قوله : ( وخرج أبو داود ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) أخرجه : ابن عساكر في " تأريخ دمشق " 23/314 .
(5) سبق تخريجة .
(6) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/290 .
(7) أخرجه : أبو نعيم في " الحيلة " 2/144 .

فهذه الأربع التي ذكرها الحسن هي مبدأ الشرِّ كُلِّه ، فإنَّ الرغبةَ في الشيء هي ميلُ النفس إليه لاعتقاد نفعه ، فمن حصل له رغبةٌ في شيءٍ ، حملته تلك الرغبة على طلب ذلك الشيء من كل وجه يَظُنُّه موصلاً إليه(1) ، وقد يكون كثير منها محرماً ، وقد يكون ذلك الشيءُ المرغوبُ فيه مُحرَّماً .
والرهبة : هي الخوفُ من الشيء(2) ، وإذا خاف الإنسان من شيء تسبب في دفعه عنه بكلِّ طريق يظنه دافعاً له ، وقد يكون كثير منها محرَّماً .
والشهوة : هي ميلُ النفس إلى ما يُلائمها ، وتلتذُّ به(3) ، وقد تميل كثيراً إلى ما هو محرَّم كالزنا والسرقة وشرب الخمر ، بل وإلى الكفر والسحر والنفاق والبدع .
والغضب : هو غليانُ دم القلب طلباً لدفع المؤذي عندَ خشية وقوعه ، أو طلباً للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعدَ وقوعه(4) ، وينشأ من ذلك كثيرٌ من الأفعال المحرمة كالقتل والضربِ وأنواعِ الظلم والعُدوان ، وكثيرٍ من الأقوال المحرَّمة كالقذفِ والسبِّ والفحش ، وربما ارتقى إلى درجة الكفر ، كما جرى لجبلة بن الأيهم(5)
__________
(1) انظر : لسان العرب 5/254 .
(2) انظر : العين : 372 ، وأساس البلاغة 1/399 ، ولسان العرب 5/237 .
(3) انظر : المفردات في غريب القرآن : 279 ، ولسان العرب 7/231 .
(4) انظر : المفردات في غريب القرآن : 375 ، والتعريفات : 162 .
(5) هو ابن الحارث بن أبي شعر ، واسمه المنذر بن الحارث ، روي في أحاديث دخل بعضها في بعض ، قالوا : وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام ، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهدى له هدية ، ثم لم يزل مسلماً حتى كان زمن =

= ... عمر بن الخطاب ، فبينا هو في سوق دمشق إذ وطيء رجلاً من مزينة ، فوثب المزني فلطمه ، فأخذ فانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح ، فقالوا : هذا لطم جبلة . قال : فليلطمه . قالوا : أو ما يقتل ؟ قال : لا ، فقالوا : أفما تقطع يده ؟ قال : لا ، إنَّما أمر الله بالقود ، قال جبلة : أترون أني جاعل وجهي نداً لوجه جدي جاء من عمق ؟ بئس الدين هذا ! ثم ارتد نصرانياً ، وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم . انظر : تاريخ دمشق 11/19 .

، وكالأيمان التي لا يجوزُ التزامُها شرعاً ، وكطلاق الزوجة الذي يُعقب الندمَ .
والواجبُ على المؤمن أنْ تكون شهوتُه مقصورةً على طلب ما أباحه الله له ، وربما تناولها بنيةٍ صالحةٍ ، فأثيب عليها ، وأنْ يكونَ غضبه دفعاً للأذى في الدين له أو لغيره وانتقاماً ممن عصى الله ورسولَه ، كما قال تعالى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } (1) .
__________
(1) التوبة : 14-15 .

وهذه كانت حالَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فإنَّه كان لا ينتقِمُ لنفسه ، ولكن إذا انتهكت حرماتُ الله لم يَقُمْ لِغضبه شيء(1) ولم يضرب بيده خادماً ولا امرأة إلا أنْ يجاهِدَ في سبيل الله(2) . وخدمه أنس عشرَ سنين ، فما قال له : ( أفٍّ ) قط ، ولا قال له لشيء فعله : ( لم فعلت كذا )(3) ، ولا لشيء لم يفعله : ( ألا فعلت كذا ) . وفي رواية أنَّه كان إذا لامه بعضُ أهله قال - صلى الله عليه وسلم - : ( دعوه فلو قُضي شيءٌ كان )(4) . وفي رواية للطبراني(5) قال أنس : خدمتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين ، فما دَرَيْتُ شيئاً قطُّ وافقه ، ولا شيئاً قط خالفه رضي من الله بما كان .
__________
(1) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2627 ) برواية الليثي ، والحميدي ( 258 ) ، وأحمد 6/31-32 و115-116 و181-182 و229 و232 و262، وعبد بن حميد ( 1481 ) ، والبخاري 4/230 ( 3560 ) و8/36 ( 6126 ) و8/216 ( 6853 ) وفي " الأدب
المفرد " ، له ( 274 ) ، ومسلم 7/80 ( 2327 ) ( 77 ) و7/80 ( 2328 ) ( 79 ) ، وأبو داود ( 4785 ) من حديث عائشة ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 17942 ) ، وأحمد 6/31-32 و206 و229 و232 و281 ، وعبد بن حميد ( 1481 ) ، والدارمي ( 2224 ) ، ومسلم 7/80 ( 2328 ) ( 79 ) ، وأبو داود ( 4786 ) ، وابن ماجه ( 1984 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 9165 ) من حديث عائشة ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 17946 ) ، وأحمد 3/101 ، وعبد بن حميد ( 1361 ) ، والبخاري 4/13 ( 2768 ) و8/17 ( 6038 ) و9/15 ( 6911 ) ، ومسلم 7/73
( 2309 ) ( 51 ) و( 52 ) و( 53 ) ، وأبو داود ( 4774 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(4) أخرجه : عبد الرزاق ( 17947 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(5) في " الأوسط " ( 9152 ) وفي " الصغير " ، له ( 1072 ) .
وانظر : مجمع الزوائد 9/16 .

وسئلت عائشةُ عن خُلُقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : كان خُلُقُه القُرآن(1) ، تعني : أنَّه كان تأدَّب بآدابه ، وتخلَّق بأخلاقه ، فما مدحه القرآن ، كان فيه رضاه ، وما ذمه القرآنُ ، كان فيه سخطه(2) ، وجاء في رواية عنها ، قالت : كان خُلُقُه القُرآن يَرضى لِرضاه ويَسخَطُ لسخطه(3) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - لِشدَّةِ حيائه لا يُواجِهُ أحداً بما يكره، بل تعرف الكراهة في وجهه ، كما في " الصحيح " (4) عن أبي سعيد الخدري قال : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حياءً من العذراءِ في خِدْرها ، فإذا رأى شيئاً يكرهه ، عرفناه في وجهه ، ولما بلَّغَه ابنُ مسعودٍ قَولَ القائل : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، شقَّ عليه - صلى الله عليه وسلم - ، وتَغيَّر وجهه ، وغَضِبَ ، ولم يَزِدْ على أنْ قال : ( قد أوذِيَ موسى بأكثر من هذا فصبر )(5) .
__________
(1) أخرجه : أبو عبيد في " فضائل القرآن " : 51-52 ، وأحمد 6/54 و91 و111 و188 و216 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 308 ) ، ومسلم 2/169 ( 746 ) ( 139 ) ، وأبو داود ( 1342 ) ، وابن ماجه ( 2333 ) ، والنسائي 3/199-200 وفي " الكبرى " ، له ( 11350 ) وفي " التفسير " ، له ( 158 ) و( 370 ) ، وابن خزيمة ( 1127 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 1963 ) ، والبيهقي 3/30 وفي " دلائل النبوة " ، له 1/308-309 من حديث عائشة ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 3/226 .
(3) أخرجه : أبو عبيد في " فضائل القرآن " : 51 من حديث عائشة ، به .
(4) صحيح البخاري 4/230 ( 3562 ) و8/31 ( 6102 ) ، وصحيح مسلم 7/77
( 2320 ) ( 67 ) .
(5) أخرجه : البخاري 4/115 ( 3150 ) و5/202 ( 4336 ) ، ومسلم 3/109 ( 1062 ) ( 140 ) و( 141 ) من حديث عبد الله بن مسعود ، به .

وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ، أو سَمِعَ ما يكرهه الله ، غَضِبَ لذلك ، وقال فيه ، ولم يَسْكُتْ ، وقد دخل بيتَ عائشة فرأى ستراً فيه تصاويرُ ، فتَلَوَّنَ وجهُهُ وهتكه ، وقال : ( إنَّ مِنْ أَشدِّ النَّاسِ عذاباً يومَ القيامةِ الَّذينَ يُصوِّرُونَ هذه الصُّورَ )(1) . ولما شُكِيَ إليه الإمامُ الذي يُطيل بالناس صلاته حتى يتأخرَ بعضهم عن الصَّلاة معه ، غَضِبَ ، واشتد غضبُه ، ووَعَظَ النَّاسَ(2) ، وأمر بالتَّخفيف(3) .
ولما رأى النُّخامَةَ في قبلة المسجد ، تَغَيَّظ ، وحكَّها ، وقال : ( إنَّ أحدَكُمْ إذا كان في الصَّلاةِ ، فإنَّ الله حِيالَ وَجْهِهِ ، فلا يَتَنخَّمَنَّ حِيال وجهه في الصَّلاةِ )(4) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 7/215 ( 5954 ) ، ومسلم 6/158 ( 2107 ) ( 91 ) و6/159
( 2107 ) ( 92 ) ، والنسائي 8/214 ، وابن حبان ( 5847 ) ، والبيهقي 7/267 و269 من حديث عائشة ، به .
(2) لم ترد في ( ص ) .
(3) أخرجه : مسلم 2/42 ( 466 ) ( 182 ) من حديث أبي مسعود الأنصاري ، به .
(4) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 522 ) برواية الليثي ، والبخاري 1/112 ( 406 ) و1/191 ( 753 ) و2/82 ( 1213 ) و8/33 ( 6111 ) ، ومسلم 2/75 ( 547 )
( 50 ) ، وأبو داود ( 479 ) ، والنسائي 2/51 من حديث عبد الله بن عمر ، به .

وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : ( أسألك كَلِمَة الحقِّ في الغضب والرِّضا ) (1) وهذا عزيز جداً ، وهو أنَّ الإنسان لا يقول سوى الحقِّ سواء غَضِبَ أو رضي ، فإنَّ أكثرَ الناس إذا غَضِبَ لا يَتوقَّفُ فيما يقول .
وخرَّج الطبراني(2) من حديث أنس مرفوعاً : ( ثلاثٌ من أخلاقِ الإيمان : مَنْ إذا غَضِبَ ، لم يُدخله غضبُهُ في باطلٍ ، ومن إذا رَضِيَ ، لم يُخرجه رضاه من حقٍّ ، ومن إذا قَدَرَ ، لم يتعاطَ ما ليسَ له ) .
وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أنَّه أخبر عن رجلين ممن كان قبلنا كان
أحدُهما عابداً ، وكان الآخرُ مسرفاً على نفسه ، فكان العابدُ(3) يَعِظُهُ ،
فلا ينتهي ، فرآه يوماً على ذنبٍ استعظمه ، فقال : والله لا يَغفِرُ الله لك ،
فغفر الله للمذنب ، وأحبط عملَ العابد ) . وقال أبو هريرة : لقد تكلَّم
بكلمة أوبقت دنياه وآخِرتَه ، فكان أبو هريرة يُحَذِّرُ الناسَ أنْ يقولوا
مثلَ هذه الكلمة(4) في غضب . وقد خرَّجه الإمامُ أحمد(5)
__________
(1) أخرجه : أحمد 4/264 ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " ( 467 ) و( 1190 ) ، والبزار
( 1392 ) و( 1393 ) ، والنسائي 3/54-55 وفي " الكبرى " ، له ( 1229 ) ، وابن خزيمة في "التوحيد": 12، وابن حبان ( 1971 )، والطبراني في "الدعاء" ( 624 ) و( 625 ) من حديث عمار بن ياسر ، به . وهو جزء من حديث طويل ، وهو حديث صحيح .
(2) في "الصغير" ( 158 ) ، وإسناده ضعيف جداً فيه بشر بن الحسين ، قال عنه البخاري : ( فيه نظر ) ، وقال الدارقطني : ( متروك ) ، وقال ابن عدي : ( عامة حديثه ليس بمحفوظ ) ، وقال أبو حاتم : ( يكذب على الزبير ) الميزان 1/315 .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في " مسنده " 2/323 و363 .

وأخرجه : ابن حبان ( 5712 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 6689 ) ، والمزي في
" تهذيب الكمال " 3/487-488 ( 2927 ) من حديث أبي هريرة ، به . والروايات مطولة ومختصرة ، وإسناده لا بأس به .

وأبو
داود(1) ، فهذا غَضِبَ لله ، ثم تكلَّم في حال غضبه لله بما لا يجوزُ ، وحتم على الله بما لا يعلم ، فأحبط الله(2) عمله ، فكيف بمن تكلَّم في غضبه لنفسه ، ومتابعة هواه بما لا يجوز .
وفي " صحيح مسلم "(3) عن عِمران بن حُصين : أنَّهم كانوا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره وامرأةٌ من الأنصار على ناقةٍ ، فضَجِرَتْ ، فلعَنَتها فسَمِعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ( خذُوا مَتَاعَها ودَعُوها ) .
وفيه أيضاً عن جابر قال : سِرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ورجلٌ من الأنصارِ على ناضحٍ له ، فتلدَّنَ عليه بعض التلدُّن ، فقال له : سِرْ ، لَعنَك الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( انْزِلْ عنه ، فلا تَصْحَبْنا بملعونٍ ، لا تدعوا على أنفُسِكُم ، ولا تدعوا على أولادكم ، ولا تَدْعوا على أموالكم ، لا تُوافِقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاء ، فيستجيب لكم )(4) .
فهذا كله يدلُّ على أنَّ دعاء الغضبانِ قد يُجاب إذا صَادف ساعةَ إجابةٍ ، وأنَّه ينهى عن الدعاء على نفسه وأهله وماله في الغضب .
__________
(1) السنن ( 4901 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(2) عبارة : ( فأحبط الله ) لم ترد في ( ص ) .
(3) الصحيح 8/23 ( 2595 ) ( 80 ) و( 81 ) .
وأخرجه : أبو داود ( 2561 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 8816 ) من حديث عمران بن حصين ، به .
(4) الصحيح 8/233 ( 3009 ) .
وأخرجه : ابن حبان ( 5742 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به .

وأما ما قاله مجاهد(1) في قوله تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } (2) ، قال : هو الواصِلُ لأهله وولده وماله إذا غَضِبَ عليه ، قال : اللهمَّ لا تُبارِكْ فيه ، اللهم العنه ، يقول : لو عجل له ذلك ، لأهلك مَنْ دعا عليه ، فأماتَه . فهذا يدلُّ على أنَّه لا يُستجاب جميعُ ما يدعو به الغضبانُ على نفسه وأهله وماله ، والحديثُ دلَّ على أنَّه قد يُستجابُ لمصادفته ساعة إجابة .
وأما ما رُوي عن الفُضيل بنِ عياض قال : ثلاثةٌ لا يُلامون على غضبٍ : الصائمُ والمريضُ والمسافرُ ، وعن الأحنف بن قيس قال : يوحي الله إلى الحافظين اللذين مع ابن آدم : لا تكتبا على عبدي في ضجره شيئاً ، وعن أبي عمران الجوني قال : إنَّ المريضَ إذا جزع فأذنب ، قال المَلَكُ الذي على اليمين للملك الذي على الشمال : لا تكتب . خرَّجه ابن أبي الدنيا ، فهذا كلُّه لا يُعرف له أصلٌ صحيحٌ من الشرع يدلُّ عليه ، والأحاديثُ التي ذكرناها من قبل تدلُّ على خلافه .
وقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا غضبتَ فاسكت ) (3) يدلُّ على أنَّ الغضبانَ مُكَلَّفٌ في حال غضبه بالسكوت ، فيكون حينئذٍ مؤاخذاً بالكلام ، وقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه أمر من غضب أنْ يتلافى غضبَه بما يُسكنه من أقوال وأفعال ، وهذا هو عينُ التكليف له بقطع الغضب ، فكيف يقال : إنَّه غيرُ مكلَّف في حال غضبه بما يصدر منه .
وقال عطاءُ بنُ أبي رباح : ما أبكى العلماءَ بكاء آخرِ العمرِ من غضبة يغضبُها أحدُهُم فتهدِمُ عملَ خمسين سنة ، أو ستين سنة ، أو سبعين سنة ، وربَّ غضبة قد أقحمت صاحبها مقحماً ما استقاله . خرَّجه ابن أبي الدنيا .
__________
(1) في " تفسيره " : 292 . وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 13625 ) و( 13626 ) .
(2) يونس : 11 .
(3) سبق تخريجه .

ثم إنَّ من قال مِن السَّلف : إنَّ الغضبان إذا كان سببُ غضبه مباحاً، كالمرض، أو السفرِ ، أو طاعةٌ كالصَّوْم لا يُلام عليه إنَّما مرادُه أنَّه لا إثمَ عليه إذا كان مما يقع منه في حال الغضب كثيراً من كلام(1) يُوجِبُ تضجراً أو سباً ونحوه كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّما أنا بَشَرٌ أرضى كما يرضي البَشَرُ ، وأغْضَبُ كما يَغْضَبُ البشر ، فأيُّما مسلم سببتُه أو جلدتُه ، فاجعلها له كفارةً )(2) .
فأما ما كان من كفر ، أو ردَّةٍ ، أو قتل نفس ، أو أخذ مالٍ بغير حقٍّ ونحو ذلك ، فهذا لا يشكُّ مسلم أنَّهم لم يُريدوا أنَّ الغضبانَ لا يُؤاخذُ به ، وكذلك ما يقعُ من الغضبان من طلاقٍ وعَتاقٍ، أو يمينٍ، فإنَّه يُؤاخَذُ بذلك كُلِّه بغيرِ خلافٍ(3) . وفي " مسند الإمام أحمد " (4)
__________
(1) عبارة : ( من كلام ) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : أحمد 2/316-317 ، والبخاري 8/96 ( 6361 ) ، ومسلم 8/25 ( 2601 )
( 89 ) ، وابن حبان ( 6516 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(3) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/22-23 ، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/399 .
(4) المسند 6/410-411 .

وأخرجه : أبو داود ( 2214 ) و( 2215 )، وابن الجارود ( 746 ) ، والطبري في "تفسيره" ( 26109 ) ، وابن حبان ( 4279 ) ، والطبراني في " الكبير " 24/( 633 ) و( 634 ) ، والبيهقي 7/389-390 و391-392 و392 من حديث خولة بنت ثعلبة . والروايات مطولة ومختصرة ، والحديث قويٌّ بشواهده .

عن خويلة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أنَّها راجعت زوجَها ، فغَضِبَ ، فظاهر منها ، وكان شيخاً كبيراً قد ساء خُلُقُه وضَجِرَ ، وأنَّها جاءت إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فجعلت تشكو إليه ما تلقى من سوء خلقه ، فأنزل الله آيةَ(1) الظهار ، وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكفارة الظِّهار في قصة طويلة ، وخرَّجها ابن أبي حاتم(2) من وجه آخر ، عن أبي العالية : أنَّ خُويلة غضب زوجها فظاهر منها ، فأتت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبرته بذلك ، وقالت : إنَّه لم يُرِدِ الطلاقَ ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أراكِ إلا حَرُمْتِ عليه ) ، وذكر القصةَ بطولها ، وفي آخرها ، قال : فحوَّل الله الطلاقَ ، فجعله ظهاراً .
فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يرى حينئذ أنَّ الظهارَ طلاق ، وقد قال : إنَّها حَرُمَتْ عليه بذلك ، يعني : لزمه الطلاق ، فلما جعله الله ظهاراً مكفراً ألزمه بالكفارة ، ولم يُلغه .
وروى مجاهد عن ابنِ عباس : أنَّ رجلاً قال له : إني طلقت امرأتي ثلاثاً وأنا غضبان ، فقال : إنَّ ابنَ عباس لا يستطيع أنْ يُحِلَّ لك ما حرَّم الله عليك ، عصيتَ ربَّك وحرمت عليك امرأتك . خرَّجه الجوزجاني والدارقطني(3) بإسناد على شرط مسلم .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في " تفسيره " 10/3342 ( 18840 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 26108 ) .
(3) في " سننه " 4/13 ( 3882 ) .
وأخرجه : أبو داود ( 2197 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 11139 ) .

وخرَّج القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب " أحكام القرآن " بإسنادٍ صحيح عن عائشة قالت : اللغو في الأيمان ما كان في المراءِ والهزل والمزاحة ، والحديث الذي لا يعقد عليه القلب ، وأيمانُ الكفارة على كُلِّ يمينٍ حلفت عليها على جدٍ من الأمر في غضب أو غيره : لَتَفْعَلنَّ أو لَتَترُكنَّ ، فذلك عقدُ الأيمان فيها الكفارة . وكذا رواه ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة وهذا من أصحِّ الأسانيد(1) ، وهذا يدلُّ على أنَّ الحديث المروي عنها مرفوعاً : ( لا طلاقَ ولا عتاق في إغْلاقٍ ) (2)
__________
(1) انظر : فتح الباري 11/668 عقب الحديث ( 6663 ) .
(2) أخرجه : أحمد 6/276 ، والبخاري في " التاريخ الكبير " 1/172 ( 514 ) ، وأبو داود
( 2193 ) ، وابن ماجه ( 2046 ) ، وأبو يعلى ( 4444 ) و( 4570 ) ، والطحاوي في =

= ... " شرح المشكل " ( 655 )، والدارقطني 4/36 ( 3943 ) و( 3944 )، والحاكم 2/198 ، والبيهقي 7/357 و10/61 من حديث عائشة ، به . وإسناده ضعيف لضعف محمد بن عبيد ؛ لكن انظر تعليق أخي الفاضل عبد الرحمان حسن قائد على رسالة اغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان لابن القيم : 4 و5 .

إما أنَّه غير صحيح ، أو إنَّ تفسيرَه بالغضب غيرُ صحيح(1) . وقد صحَّ عن غير(2) واحد من الصحابة أنَّهم أفْتَوا أنَّ يمينَ الغضبان منعقدة وفيها الكفارةُ(3) ، وما روي عن ابن عباسٍ مما يُخالِفُ ذلك فلا يصحُّ إسنادُه(4) ، قال الحسنُ : طلاقُ السنة أنْ يُطلقها واحدة طاهراً من غير جماعٍ ، وهو بالخيار ما بينه وبينَ أنْ تحيضَ ثلاث حيض ، فإنْ بدا له أنْ يُراجِعَهَا كان أملكَ بذلك ، فإنْ كان غضبان ، ففي ثلاثِ حيض ، أو في ثلاثة أشهر إنْ كانت لا تحيضُ ما يذهب غضبَهُ . وقال الحسن : لقد بَيَّن الله لئلا يندم أحدٌ في طلاق كما أمره الله، خرَّجه القاضي إسماعيل .
وقد جعل كثيرٌ من العلماء الكناياتِ معَ الغضبِ كالصريح في أنَّه يقعُ بها الطلاقُ ظاهراً ؛ ولا يقبل تفسيرُها مع الغضبِ بغير الطلاق ، ومنهم مَنْ جعل الغضب مع الكنايات كالنية ، فأوقع بذلك الطلاق في الباطن أيضاً ، فكيف يجعل الغضب مانعاً من وقوع صريحِ الطلاق(5) .
__________
(1) انظر : معالم السنن 3/209 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/17 ، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/391 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/24-25 .
(4) سبق تخريجه .
(5) انظر : المغني 8/268-269 ، والشرح الكبير 8/293-294 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/22-23 ، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/399-400 ، والمفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم للدكتور عبد الكريم زيدان 7/460-461 .

الحديث السابع عشر
عَنْ أَبي يَعْلَى شَدَّاد بنِ أوسٍ ، عَنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله كَتَبَ الإحسّانَ على كُلِّ شيءٍ، فإذَا قَتَلْتُم فَأَحْسِنُوا القِتْلَة ، وإذا ذَبَحْتُم فَأَحْسِنُوا
الذِّبْحَةَ (1) ، وليُحِدَّ أحدُكُمْ شَفْرَتَهُ ، ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ) . رواهُ مُسلم(2) .
هذا الحديث خرَّجه مسلم دونَ البخاري من رواية أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن شدَّادِ بنِ أوس(3) ، وتركه البخاري ؛ لأنَّه لم يخرِّج في " صحيحه " لأبي الأشعث شيئاً وهو شاميٌّ ثقة . وقد روي نَحوهُ من حديث سَمُرُةَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله - عز وجل - محسِنٌ فأحسنوا ، فإذا قَتَلَ أحدكُم ، فليُكْرِم مقتولَه ، وإذا ذبح ، فليحدَّ شفرته ، وليُرِحْ ذبيحته ) خرَّجه ابن عدي(4) .
وخرَّج الطبراني(5)
__________
(1) بكسر الذال والهاء كالقتلةِ ، وهي الهيئة ، ويروى : ( الذَّبح ) بفتح الذال بغير هاء . انظر : شرح النووي على صحيح مسلم 7/95 ( 1955 ) ( 57 ) .
(2) في " صحيحه " 6/72 ( 1955 ) ( 57 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 1119 ) ، وعبد الرزاق ( 8603 ) و( 8604 ) ، وعلي بن الجعد
( 1262 ) ، وأحمد 4/123 و124 و125، والدارمي ( 1976 ) ، وأبو داود ( 2815 )، وابن ماجه ( 3170 ) ، والترمذي ( 1409 ) ، والنسائي 7/227 و229 و230 ، وابن الجارود ( 839 ) و( 899 ) ، والطبراني في " الصغير " ( 1035 ) ، والبيهقي 8/60-61 و9/68 و280 ، والخطيب في " تاريخه " 5/278 ، والبغوي ( 2783 ) من حديث شداد بن أوس ، به .
(3) في " صحيحه " 6/72 ( 1955 ) ( 57 ) من حديث شداد بن أوس ، به .
(4) في " الكامل " 8/175 من حديث الحسن ، عن سمرة بن جندب ، به ، وإسناده ضعيف لضعف مجاعة بن الزبير فقد ضعفه الدارقطني كما في " الميزان " 3/437 ، والحسن لم يسمع جميع ما رواه عن سمرة .
(5) في " الأوسط " ( 5735 ) .

وأخرجه : ابن أبي عاصم في "الديات" : 94 ، وإسناده ضعيف من أجل عمران بن داور القطان .

من حديث أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا حكمتُمْ فاعْدِلُوا ،
وإذا قَتَلتُم فأَحْسِنُوا ، فإنَّ الله مُحْسِنٌ يُحِبُّ المحسنين ) .
فقولُه - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله كتب الإحسّانَ على كُلِّ شيء ) ، وفي رواية لأبي إسحاق الفزاري في كتاب " السير " عن خالدٍ ، عن أبي قِلابة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله كتبَ الإحسّانَ على كلِّ شيءٍ ) ، أو قال : ( على كلِّ خلقٍ ) هكذا خرَّجها مرسلةً ، وبالشكِّ في : ( كُلِّ شيءٍ ) ، أو : ( كلِّ خلق ) ، وظاهرُهُ يقتضي أنَّه كتب على كلِّ مخلوق الإحسّان ، فيكون كُلُّ شيءٍ ، أو كُلُّ مخلوق هو المكتوبَ عليه ، والمكتوب هو الإحسّانُ(1) .
وقيل : إنَّ المعنى : أنَّ الله كتب الإحسّانَ إلى كلِّ شيء ، أو في كلِّ شيء ، أو كتب الإحسّانَ في الولاية على كُلِّ شيءٍ ، فيكون المكتوبُ عليه غيرَ مذكور ، وإنَّما المذكورُ المحسن إليه(2) .
__________
(1) من قوله : ( فيكون كل شيء ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 7/94-95 .

ولفظ : ( الكتابة ) يقتضي الوجوب عندَ أكثرِ الفقهاء والأصوليين خلافاً
لبعضهم ، وإنَّما يعرف(1) استعمالُ لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجب حتمٌ إمَّا شرعاً، كقوله تعالى : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً } (2) ، وقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } (3) ، { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } (4) ، أو فيما هو واقع
قدراً لا محالة ، كقوله : { كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } (5) ، وقوله : { وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } (6) ، وقوله
: { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَان } (7) . وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قيام شهر رمضانَ
: ( إنِّي خشيتُ أنْ يُكْتَبَ عَلَيكُمْ )(8)
__________
(1) يعرف ) سقطت من ( ج ) .
(2) النساء : 103 .
(3) البقرة : 183 .
(4) البقرة : 216 .
(5) المجادلة : 21 .
(6) الأنبياء : 105 .
(7) المجادلة : 22 .
(8) أخرجه : البخاري 1/186 ( 729 ) من حديث عائشة ، به .

وأخرجه : أحمد 5/182 و184 و187 ، والبخاري 9/117 ( 7290 ) ، ومسلم 2/188
( 781 ) ( 213 ) ، والنسائي 3/197-198 ، والطبراني في " الكبير " ( 4892 ) ، والبيهقي 3/109 من حديث زيد بن ثابت ، به .

، وقال : ( أُمِرْتُ بالسِّواكِ حتَّى خشيتُ أنْ يُكتَبَ عليَّ )(1) ، وقال : ( كُتِبَ على ابنِ آدمَ حظُّه من الزِّنى ، فهو مُدرِكٌ ذلك لا محالة )(2) .
وحينئذٍ فهذا الحديث نصٌّ في وجوب الإحسّان ، وقد أمر الله تعالى به ،
فقال : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } (3) ، وقال : { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (4) .
وهذا الأمرُ(5) بالإحسّان تارةً يكونُ للوجوب كالإحسّان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به البرُّ والصِّلَةُ والإحسّانُ إلى الضيف بقدر ما يحصل به قِراه على ما سبق ذكره .
وتارةً يكونُ للندب كصدقةِ التطوعِ ونحوها(6) .
وهذا الحديثُ يدلُّ على وجوب الإحسّانِ في كل شيء من الأعمال ، لكن إحسانُ كُلِّ شيء بحسبه ، فالإحسّانُ في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنةِ : الإتيانُ بها على وجه كمال واجباتها ، فهذا القدرُ من الإحسّان فيها واجب ، وأمَّا الإحسانُ فيها بإكمالِ مستحباتها فليس بواجب .
والإحسّانُ في ترك المحرَّمات : الانتهاءُ عنها ، وتركُ ظاهرها وباطنها ، كما
قال تعالى : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } (7) . فهذا القدرُ من الإحسّان فيها
واجب(8) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 3/490 ، والطبراني في " الكبير " 22/( 189 ) و( 190 ) من حديث واثلة بن الأسقع ، به ، وإسناده ضعيف لضعف ليث بن أبي سليم ، وانظر : مجمع الزوائد 2/98 .
(2) أخرجه : أحمد 2/317 و343 و379 و536 ، والبخاري 8/156 ( 6612 ) ، ومسلم 8/52 ( 2657 ) ( 20 ) ، وأبو داود ( 2152 ) و( 2153 ) و( 2154 ) من حديث أبي هريرة ،
به .
(3) النحل : 90 .
(4) البقرة : 195 .
(5) من قوله : ( وقال : فأحسنوا ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(6) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 2/94 .
(7) الأنعام : 120 .
(8) انظر : تفسير البغوي 2/155 ، وزاد المسير 3/114 .

وأما الإحسّانُ في الصبر على المقدورات ، فأنْ يأتي بالصبر عليها على وجهه من غير تَسَخُّطٍ ولا جَزَع .
والإحسّانُ الواجبُ في معاملة الخلق ومعاشرتهم : القيامُ بما أوجب الله من حقوق ذلك كلِّه، والإحسّانُ الواجب في ولاية الخلق وسياستهم ، القيام بواجبات الولاية كُلِّها، والقدرُ الزائد على الواجب في ذلك كلِّه إحسانٌ ليس بواجب .
والإحسّانُ في قتل ما يجوزُ قتله من الناس والدواب : إزهاقُ نفسه على أسرعِ الوجوه وأسهلِها وأَوحاها من غير زيادةٍ في التعذيب ، فإنَّه إيلامٌ لا حاجة إليه . وهذا النوعُ هو الذي ذكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ، ولعله ذكره على سبيلِ المثال ، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال فقال : ( إذا قتلتُم فأحسِنوا القِتلة ، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة ) والقِتلة والذِّبحة بالكسر ، أي : الهيئة ، والمعنى : أحسنوا هيئة الذبح ، وهيئة القتل . وهذا يدلُّ على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يُباحُ إزهاقُها على أسهلِ الوجوه(1) . وقد حكى ابنُ حَزمٍ الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة(2) ، وأسهلُ وجوه(3) قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق ، قال الله تعالى في حقِّ الكفار : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } (4) ، وقال تعالى : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ } (5) . وقد قيل : إنَّه عيَّن الموضع الذي يكونُ الضربُ فيه أسهلَ على المقتول وهو فوقَ العظام دونَ الدماغ ، ووصى دريدُ بنُ الصِّمة قاتله أنْ يَقْتُلَهُ كذلك .
__________
(1) انظر : عون المعبود 8/10 .
(2) انظر : المحلى 12/31-32 .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) محمد : 4 .
(5) الأنفال : 12 .

وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سريةً تغزوا في سبيل الله قال لهم : ( لا تُمَثِّلُوا ولا تقتلوا
وليداً )(1) .
وخرَّج أبو داود ، وابن ماجه من حديثِ ابنِ مسعود ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( أَعَفُّ الناسِ قِتلةً أهلُ الإيمانِ )(2) .
وخرَّج أحمد وأبو داود من حديث عمران بنِ حُصينٍ وسَمُرَة بنِ جُندبٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن المُثْلةِ(3) .
وخرَّجه البخاري(4) من حديث عبد الله بن يزيد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه : نَهى عن

المُثلَةِ(5) .
وخرَّج الإمامُ أحمدُ من حديث يعلى بنِ مُرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( قال الله تعالى : لا تُمَثِّلوا بِعِبادي(6) )(7)
__________
(1) أخرجه : مسلم 5/139-140 ( 1731 ) ( 3 ) من حديث بريدة ، به .
(2) أخرجه : أبو داود في " سننه " ( 2666 ) ، وابن ماجه ( 2681 ) و( 2682 ) .
وأخرجه : أحمد 1/393 ، وابن الجارود ( 840 ) ، وابن حبان ( 5994 ) ، والبيهقي 8/61 و9/71 من حديث عبد الله بن مسعود ، به . وإسناده معلول بالوقف ، وقد حصل فيه اختلاف كبير بيانه في كتابي " الجامع في العلل " .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 18232 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 9737 ) من حديث عبد الله بن مسعود ، موقوفاً .
(3) أخرجه : أحمد 4/439 و440 و445 ، والطبراني في " الكبير " 18/( 325 ) من حديث عمران بن حصين ، به .
وأخرجه : أحمد 5/12 ، وأبو داود ( 2667 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 6945 ) من حديث سمرة بن جندب ، به .
(4) في " صحيحه " 3/177 ( 2474 ) و7/122 ( 5516 ) .
وأخرجه : أحمد 4/307 من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري ، به .
(5) من قوله : ( وخرجه البخاري ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(6) متن الحديث لم يرد في ( ص ) .
(7) في " مسنده " 4/172 و173 .

وأخرجه : الطبراني 22/( 697 ) و( 698 ) و( 699 ) ، وإسناده ضعيف لجهالة عبد الله بن حفص ، وقد سقط من بعض الروايات .

.
وخرَّج أيضاً من حديث رجلٍ من الصحابة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من مَثَّلَ بذي روحٍ ، ثم لم يَتُبْ مثَّلَ الله به يومَ القيامة )(1) .
واعلم أنَّ القتلَ المباحَ يقع على وجهين : أحدُهما أنْ يكون قصاصاً ، فلا يجوزُ التمثيلُ فيه بالمقتص منه ، بل يُقتَلُ كما قَتَلَ ، فإنْ كان قد مَثَّلَ بالمقتولِ ، فهل يُمثَّلُ به كما فعل أمْ لا يُقتل إلا بالسيف ؟ فيهِ قولان مشهوران للعلماء :
أحدُهما(2) : أنَّه يُفعَلُ به كما فَعَلَ ، وهو قولُ مالك والشافعي(3) وأحمد في المشهور عنه(4) ، وفي " الصحيحين " (5) عن أنسٍ قالَ : خَرَجَتْ جاريةٌ عليها أوضاحٌ بالمدينة ، فرماها يهودي بحجر ، فجيء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبها رَمَقٌ ، فقالَ لها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( فلانٌ قتلك ؟ ) فرفعت رأسها، فقال لها في الثالثة : ( فلان قتلك ؟ ) فخفضت رأسها ، فدعا به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فرضخ رأسه بَيْنَ الحَجَرَين . وفي روايةٍ لهما : فَأُخِذَ فاعترفَ ، وفي روايةٍ لمسلم : أنَّ رجلاً من اليهود قتلَ جاريةً من الأنصار على حليٍّ لها ، ثم ألقاها في القَلِيب ، ورضَخَ رأسَها بالحجارة ، فأُخِذَ ، فأُتي به النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر به أنْ يُرجَمَ حتّى يموت ، فرُجِمَ حتى ماتَ(6) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 2/92 و115 من حديث رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإسناده ضعيف لضعف شريك النخعي .
وأخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 7297 ) عن عبد الله بن عمر ، به ؛ لكن سنده ضعيف .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) لم يرد في ( ص ) .
(4) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/259 .
(5) سبق تخريجه .
(6) صحيح مسلم 5/104 ( 1672 ) ( 16 ) من حديث أنس ، به .

والقول الثاني : لا قَوَدَ إلاَّ بالسيف ، وهو قولُ الثوري ، وأبي حنيفة ، ورواية عن
أحمد(1) .
وعن أحمد رواية ثالثة : يُفعل به كما فعل إلا أنْ يكونَ حرَّقه بالنار أو مَثَّلَ به ، فيُقْتَلُ بالسيف للنهي عن المُثلة وعن التحريق بالنار نقلها عنه الأثرمُ(2) ، وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا قَودَ إلاَّ بالسيف ) خرَّجه ابن ماجه وإسناده ضعيف(3) ، قال أحمد : يُروى : ( لا قَوَدَ إلاَّ بالسيف ) وليس إسنادُه بجيدٍ(4) ، وحديث أنس ، يعني : في قتل اليهودي بالحجارة أسندُ منه وأجودُ(5) .
ولو مَثَّلَ به ، ثم قتله مثلَ أنْ قطّع أطرافَه ، ثم قتله ، فهل يُكتفى بقتله أم يُصنع به كما صنع ، فَتُقطع أطرافُه ثم يُقتل ؟ على قولين :
أحدهما : يُفعل به كما فعل سواء ، وهو قولُ أبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وإسحاق وغيرهم(6) .
والثاني : يُكتفى بقتله ، وهو قولُ الثوري وأحمد في رواية وأبي يوسف ومحمد(7) ، وقال مالك : إنْ فعل به ذلك على سبيل التمثيلِ والتعذيبِ ، فُعِلَ به كما فَعَلَ ، وإنْ لم يكن على هذا الوجه اكتفي بقتله(8) .
__________
(1) انظر : الهداية للكلوذاني 2/235 بتحقيقنا ، والمغني 9/387 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/259 .
(2) انظر : المغني 9/392 .
(3) السنن ( 2668 ) .
وأخرجه : البيهقي 8/63 من حديث أبي بكرة ، به . وللحديث طرق أخرى .
(4) انظر : المغني 9/388 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/260 .
(5) المغني 9/387-388 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/260 .
(6) انظر : المغني 9/387 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/259-260، وبداية المجتهد 2/716.
(7) انظر : المصادر السابقة .
(8) انظر : بداية المجتهد 2/716 .

الوجه الثاني : أنْ يكون القتلُ(1) للكفر ، إما لكفر أصلي ، أو لردَّة عن الإسلام ، فأكثرُ العلماء على كراهة المُثلة فيه أيضاً ، وأنَّه يُقتل فيه بالسيف ، وقد رُوي عن طائفةٍ من السَّلف جوازُ التمثيل فيه بالتحريق بالنار وغير ذلك ، كما فعله خالدُ بن الوليد وغيره(2) .
ورُوي عن أبي بكر : أنَّه حرَّق الفجاءة بالنَّار(3) .
ورُوي أنَّ أم قِرْفة الفزارية ارتدت في عهد أبي بكر الصديق ، فأمر بها ، فشدَّت ذوائِبُها في أذناب قَلُوصَيْنِ أو فرسين ، ثم صاح بهما فتقطعت المرأة ، وأسانيد هذه القصة منقطعة . وقد ذكر ابنُ سعد في " طبقاته " بغير إسناد : أنَّ زيدَ بن حارثة قتلها هذه القتلة على عهد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأخبر النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك(4) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) انظر : الطبقات الكبرى 7/278 ، والمغني 10/76 ، والشرح الكبير 10/80 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/384 ، وفتح الباري 6/182 .
(3) انظر : تاريخ الطبري 3/264 .
(4) انظر : الطبقات الكبرى 2/69 .

وصحَّ عن عليٍّ أنَّه حرَّق المرتدين ، وأنكر ذلك ابنُ عباس عليه(1) ، وقيل : إنَّه لم
يُحرّقهم ، وإنَّما دَخَّنَ عليهم حتى ماتوا(2) ، وقيل : إنَّه قتلهم ، ثم حَرَّقَهُم ، ولا يصحُّ ذلك . وروي عنه أنَّه جيء بمرتدٍّ ، فأمر به فوطئ بالأرجل حتَّى مات .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 18706 ) ، والحميدي ( 533 ) ، وأحمد 1/217 و220 و282 ، والبخاري 4/75 ( 3017 ) و9/18 ( 6922 )، وأبو داود ( 4351 )، والترمذي ( 1458 )، والنسائي 7/104 ، وأبو يعلى ( 2532 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 2865 )
و( 2866 ) و( 2867 ) و( 2868 ) ، وابن حبان ( 4476 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 11850 ) ، والدارقطني 3/85 ( 3157 ) ، والحاكم 3/538-539 ، والبيهقي 8/195 و202 و9/71 ، والبغوي ( 2561 ) من حديث عبد الله بن عباس ، به .
(2) ذكره : البيهقي 9/71 .

واختار ابنُ عقيلٍ - من أصحابنا - جوازَ القتل بالتمثيل للكفر لاسيما إذا تغلَّظ ، وحمل النهي عن المُثلةِ على القتل بالقصاص ، واستدلَّ من أجاز ذلك بحديثِ العُرنيين ، وقد خرَّجاه في " الصحيحين " من حديث أنس : أنَّ أناساً من عُرينة قَدِمُوا على
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فاجْتَوَوْهَا ، فقال لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنْ شئتم أنْ تَخْرُجُوا إلى إبل الصدقة، فتشربوا من ألبانها وأبوالها ، فافعلوا ) ففعلوا فصحُّوا، ثم مالوا على الرعاء ، فقتلوهم ، وارتدُّوا عن الإسلام ، وساقوا ذَودَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبلغ ذلك النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث في أثرهم ، فأُتي بهم ، فقطع أيديهم وأرجُلَهم ، وسَمَلَ أعينَهم ، وتركهم في الحرة حتى ماتوا(1) ، وفي روايةٍ : ثم نُبِذُوا في الشمس حتى ماتوا(2) ، وفي روايةٍ : وسمرت أعينُهم ، وألقوا في الحرَّةِ(3) يَستسقونَ فلا يُسقون(4) ، وفي رواية للترمذي : قطع أيديَهم وأرجلهم من خلافٍ(5)
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 17132 ) و( 18538 ) ، وأحمد 3/170 و177 و233 و290 ، والبخاري 5/164 ( 4192 ) و7/159 ( 5685 ) و7/160 ( 5686 ) و7/167
( 5727 ) ، ومسلم 5/102 ( 1671 ) ( 9 ) ، وأبو داود ( 4364 ) ، والترمذي ( 72 ) ، والنسائي 1/158 و7/96-97 وفي " التفسير " ، له ( 163 ) ، وابن حبان ( 1388 )
و( 4472 ) ، والبيهقي 9/69 و10/4 من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) أخرجه : أحمد 3/177 ، ومسلم 5/102 ( 1671 ) ( 10 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(3) عبارة : ( وألقوا في الحرة ) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : عبد الرزاق ( 18538 ) ، وأحمد 3/170 ، والبخاري 7/167 ( 5727 ) ، ومسلم 5/102 ( 1671 ) ( 11 ) ، والترمذي ( 72 ) ، والنسائي 7/97 ، وابن حبان ( 1388 )
و( 4472 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(5) الجامع الكبير ( 72 ) من حديث أنس بن مالك ، به .

، وفي رواية للنسائي : وصَلَبَهُم(1) .
وقد اختلف العلماء في وجه عقوبة هؤلاء ، فمنهم من قال : من فعل مِثلَ فعلهم
فارتدَّ ، وحارب ، وأخذ المالَ ، صنع به كما صنع بهؤلاء ، وروي هذا عن طائفة ، منهم : أبو قِلابة(2) ، وهو روايةٌ عن أحمد .
ومنهم مَنْ قال : بل هذا يدلُّ على جواز التمثيل بمن تغلَّظَتْ جرائمُهُ في
الجملة ، وإنَّما نهي عن التمثيل في القصاص ، وهو قول ابنِ عقيل من
أصحابنا .
ومنهم من قال : بل نسخ ما فعل بالعرنيين بالنهي عن المُثلةِ(3) .
ومنهم من قال : كان قبلَ نزولِ الحدود وآيةِ المحاربة(4) ، ثم نُسخ بذلك(5) ، وهذا قولُ جماعة منهم : الأوزاعي وأبو عُبيد .
ومنهم من قال : بل ما فعله النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بهم إنَّما كان بآية المحاربة ، ولم ينسخ شيء من ذلك ، وقالوا : إنَّما قتلهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وقَطَعَ أيديهم ؛ لأنَّهم أخذوا المالَ ، ومن أخذ المالَ وقَتَلَ(6) ، قُطِعَ وقُتِلَ ، وصُلِبَ حتماً ، فيُقتَلُ لقتله(7) ويُقطع لأخذه المال يَدُه ورجلُه من خِلاف ، ويُصلَبُ لجمعه(8) بين الجنايتين وهما : القتلُ وأخذُ المال ، وهذا قول الحسن، ورواية عن أحمد(9) .
وإنَّما سَمَلَ أعينهم ؛ لأنَّهم سملوا أعينَ الرعاة كذا خرَّجه مسلم من حديثِ أنس(10)
__________
(1) في " المجتبى " 7/96 من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) ذكره : أبو داود ( 4364 ) ، وانظر : معالم السنن 3/256-257 .
(3) انظر : المحلى 12/29-30 .
(4) ذكره : أحمد 3/290 ، وأبو داود ( 4371 ) ، والترمذي ( 73 ) ، وانظر : معالم السنن 3/258 ، والمحلى 12/30-31 .
(5) انظر : المحلى 12/31 و13/154 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) سقطت من ( ص ) .
(8) سقطت من ( ص ) .
(9) انظر : المغني 10/299-300 ، والشرح الكبير 10/300 .
(10) في " صحيحه " 5/103 ( 1671 ) ( 14 ) .

وأخرجه : الترمذي ( 73 ) ، والبيهقي 9/70 ، وانظر : المحلى 12/29 و13/155 ، وتحفة الأحوذي 1/246 .

، وذكر ابنُ شهابٍ أنَّهم قتلوا الراعي(1) ، ومَثَّلوا به(2) ، وذكر ابن سعد أنَّهم قطعوا يدَه ورجله ، وغرسوا الشوكَ في لسانه وعينيه حتّى مات(3) ، وحينئذ فقد يكونُ قطعُهم ، وسملُ أعينهم ، وتعطيشُهم قصاصاً(4) ، وهذا يتخرَّجُ على قول مَنْ يقولُ : إنَّ المحاربَ إذا جنى جنايةً توجبُ القصاصَ استُوفِيت منه قبل قتله ، وهو مذهب أحمد . لكن هل يستوفى(5) منه تحتماً كقتله أم على وجه القصاص ، فيسقط بعفو الولي ؟
على روايتين عنه(6) ، ولكن رواية الترمذي أنَّ قطعَهُم من خلاف يدلُّ على أنَّ
قطعهم للمحاربة إلا أنْ يكونوا قد قطعوا يدَ الراعي ورجلَه من خلاف ، والله
أعلم(7) .
وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه كان أَذِنَ في التحريق بالنار(8) ، ثم نهى عنه كما في
" صحيح البخاري " (9)
__________
(1) انظر : المحلى 13/155 .
(2) ذكره : البيهقي 9/70 .
(3) في " الطبقات " 2/71 .
(4) انظر : معالم السنن 3/258 ، وتحفة الأحوذي 8/246-247 .
(5) عبارة : ( لكن هل يستوفى ) سقطت من ( ص ) .
(6) انظر : الشرح الكبير على المغني 10/303 .
(7) من قوله : ( يدل على أن قطعهم ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(8) سقطت من ( ص ) .
(9) الصحيح 4/60 ( 2954 ) و4/74 ( 3016 ) .
وأخرجه : أحمد 2/307 و338 و453 ، وأبو داود ( 2674 ) ، والترمذي ( 1571 ) وفي
" العلل " ، له ( 278 ) ، والنسائي في "الكبرى " ( 8613 ) و( 8804 ) و( 8832 ) ، وابن الجارود ( 1057 ) ، والبيهقي 9/71 .

عن أبي هريرة قال : بعثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث(1)
فقال : ( إنْ وَجَدتُم فلاناً وفلاناً - لرجلين من قريشٍ - فاحرقوهما بالنار ) ،
ثمَّ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروجَ : ( إني كنتُ أمرتُكم أنْ تحرِقوا فُلاناً
وفُلاناً بالنار ، وإنَّ النارَ لا يُعذِّبُ بها إلا الله ، فإنْ وجدتموهما فاقتلوهما ) .
وفيه أيضاً عن ابن عبَّاسٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تُعذِّبُوا بعذاب الله - عز وجل - )(2) .
وخرَّج الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنَّسائي من حديث ابن مسعودٍ قال : كُنَّا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فمَرَرنا بقريةِ نملٍ قد أُحرقَت ، فغَضِب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقال : ( إنَّه لا ينبغي لِبشرٍ أنْ يعذِّبَ بعذاب الله - عز وجل - )(3) .
وقد حرَّقَ خالدٌ جماعة في الرِّدة(4) ، وروي عن طائفة من الصحابة تحريقُ من عَمِل عمل قومِ لوطٍ(5) ، ورُوي عن عليٍّ أنَّه أشار على أبي بكر أنْ يقتلَه ثم يحرقه
بالنار(6) ، واستحسن ذلك إسحاق بن راهويه(7) لئلا يكون تعذيباً بالنار(8).
__________
(1) عبارة : ( في بعث ) سقطت من ( ص ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) أخرجه : أحمد 1/423 ، وأبو داود ( 2675 ) و( 5268 ) ، والنسائي في " الكبرى "
( 8614 ) ، وهو حديث صحيح .
(4) انظر : المغني 10/6 ، والشرح الكبير 10/80 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/384 .
(5) انظر : المغني 10/156 ، والشرح الكبير 10/170 .
(6) انظر : المغني 10/156 ، والشرح الكبير 10/170-171 .
(7) انظر : الجواب الكافي لمن سئل عن الدواء الشافي : 210 .
(8) من قوله : ( واستحسن ذلك إسحاق ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .

وفي " مسند الإمام أحمد " (1) : أنَّ علياً لما ضربه ابنُ مُلجم ، قال : افعلوا به كما أرادَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يفعلَ برجل أراد قتلَه ، قال : ( اقتلوه ثم حرِّقوه ) .
وأكثرُ العلماء على كراهةِ التحريق بالنار حتى للهوام ، وقال إبراهيم النَّخعيُّ : تحريقُ العقرب بالنار مُثلةٌ . ونهت أمُ الدرداء عن تحريق البرغوث بالنار . وقال أحمد : لا يُشوى السمكُ في النار وهو حيٌّ ، وقال : الجرادُ أهونُ ؛ لأنَّه لا دم لهُ(2) .
وقد ثبت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه نهى عن صَبرِ البهائم ، وهو : أنْ تحبس البهيمة ، ثُمَّ تُضرب بالنبل ونحوه حتَّى تموتَ(3) . ففي " الصحيحين " (4) عن أنسٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أنْ تُصبر البهائم .
وفيهما أيضاً عن ابن عمر : أنَّه مرَّ بقوم نصبوا دجاجةً يرمونها ، فقال ابنُ عمر : من فعل هذا ؟ إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن من فعل هذا (5) .
وخرَّج مسلم من حديث ابنِ عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه نهى أنْ يُتخذ شيء فيه الروح غرضاً(6)
__________
(1) المسند 1/92-93 ، وإسناده ضعيف لضعف شريك بن عبد الله النخعي .
(2) انظر : المغني 11/43 ، والشرح الكبير 11/48 .
(3) انظر : النهاية 3/8 ، وشرح السيوطي لسنن النسائي 7/238 .
(4) صحيح البخاري 7/121 ( 5513 ) ، وصحيح مسلم 6/72 ( 1956 ) ( 58 ) .
وأخرجه : أحمد 3/117 و171 و180 و191، وأبو داود ( 2816 )، وابن ماجه ( 3186 )، والنسائي 7/238 وفي " الكبرى " ، له ( 4528 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(5) صحيح البخاري 7/122 ( 5515 ) ، وصحيح مسلم 6/73 ( 1958 ) ( 59 ) . =
= ... وأخرجه : أحمد 1/338 و2/13 و43 و60 و86 و103 و141 ، والدارمي ( 1979 ) ، والنسائي 7/238 وفي " الكبرى " ، له ( 4530 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به .
(6) في " صحيحه " 6/73 ( 1957 ) ( 58 ) .

وأخرجه: أحمد 1/274 و280 و285 و340 و345، والنسائي 7/238-239 وفي "الكبرى"، له ( 4532 ) و( 4533 ) ، وابن حبان ( 5608 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 12262 )
و( 12263 ) ، والبيهقي 9/70 ، والبغوي ( 2784 ) من حديث عبد الله بن عباس ، به .

، والغرض : هو الذي يرمى فيه بالسهام(1) .
وفي " مسند الإمام أحمد " (2) عن أبي هُريرة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الرَّمِيَّةِ : أنْ ترمى الدابة ثم تُؤكلُ ولكن تُذبح ، ثم يرموا (3) إنْ شاؤوا . وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة .
فلهذا أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإحسانِ القتلِ والذبح ، وأمر أنْ تُحَدَّ الشفرةُ ، وأنْ تُراح الذبيحة ، يشير إلى أنَّ الذبح بالآلة الحادة يُرِيحُ الذبيحة بتعجيل زهوق نفسها(4) .
وخرَّج الإمام أحمد ، وابنُ ماجه من حديث ابنِ عمر ، قال : أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بحَدِّ الشفارِ ، وأنْ تُوارى عن البهائم ، وقال : ( إذا ذَبَحَ أَحَدُكُم ، فليُجْهِزْ )(5) يعني :
فليسرع الذبح(6) .
وقد ورد الأمر بالرفق بالذبيحة عندَ ذبحها ، وخرَّج ابنُ ماجه(7) من حديث أبي سعيد الخدري قال : مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - برجل وهو يجرُّ شاة بأُذنها ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( دع أُذنَها وخُذْ بِسالِفَتِها ) والسالفة : مقدَّمُ العنق(8) .
__________
(1) انظر : النهاية 3/360 ، وشرح السيوطي لسنن النسائي 7/238 .
(2) المسند 2/402 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(3) في ( ج ) : ( ليرموا ) ، وهو يخالف ما في المسند و( ص ) .
(4) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 7/95 .
(5) أخرجه : أحمد 2/108 ، وابن ماجه ( 3172 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 13144 ) ، والبيهقي 9/280 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(6) انظر : لسان العرب 2/400 .
(7) السنن ( 3171 ) ، وإسناده ضعيف جداً ؛ فإنَّ موسى بن محمد بن إبراهيم منكر الحديث .
(8) انظر : النهاية في غريب الحديث 2/390 .

وخرَّج الخلالُ والطبرانيُّ من حديث عكرمة ، عن ابن عباس قال : مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - برجلٍ واضع رجلَه على صفحة شاةٍ وهو يحدُّ شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها ، فقال : ( أفلا قبْلَ هذا ؟ تريدُ أنْ تُميتها موتتان(1) ؟ )(2) . وقد روي عن عكرمة مرسلاً خرَّجه عبدُ الرزاق(3) وغيره ، وفيه زيادة : ( هلاَّ حددت شفرتك قبل أنْ تُضْجِعها ) .
وقال الإمام أحمد : تُقاد إلى الذبح قوداً رفيقاً ، وتُوارى السكينُ عنها ، ولا تُظهر السكين إلا عندَ الذبح ، أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك : أنْ تُوارى الشفار(4) . وقال : ما أبهمت عليه البهائم فلم تبهم أنَّها تعرف ربها ، وتعرف أنَّها تموت . وقال : يُروى عن ابن سابط أنَّه قال : إنَّ البهائم جُبِلَتْ على كلِّ شيءٍ إلاَّ على أنَّها تعرف ربها ، وتخافُ الموتَ .
وقد وردَ الأمرُ بقطع الأوداج عندَ الذبح ، كما خرَّجه أبو داود من حديث عِكرمة ، عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه نهى عن شريطة الشيطان ، وهي التي تذبح فتقطع الجلد ، ولا تفري الأوداج ، وخرَّجه ابن حبان في " صحيحه " وعنده : قال عكرمة : كانوا يقطعون منها الشيء اليسيرَ ، ثم يدعونها حتى تموتَ ، ولا يقطعون الودجَ ، فنهى عن ذلك(5)
__________
(1) في ( ج ) : ( موتات ) ، والمثبت من ( ص ) ، و" المعجم الكبير " للطبراني .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 11916 ) وفي " الأوسط " ، له ( 3590 ) ، وذكر الطبراني في " الأوسط " أنَّ عبد الرحيم بن سليمان تفرد بوصله .
وأخرجه : الحاكم 4/233 من حديث عبد الله بن عباس ، به ، وصححه . انظر : مجمع الزوائد 4/33 .
(3) المصنف ( 8608 ) .
(4) انظر : المغني 11/47 ، والشرح الكبير 11/61-62 .
(5) أخرجه : أبو داود ( 2826 ) ، وابن حبان ( 5888 ) .

وأخرجه : أحمد 1/289 ، والحاكم 4/113 ، والبيهقي 9/278 ، وإسناده ضعيف لضعف عمرو ابن عبد الله اليماني .

.
وروى عبدُ الرزاق في " كتابه " (1) عن محمد بن راشدٍ ، عن الوضين بنِ عطاء ، قال : إنَّ جزَّاراً فتح باباً على شاةٍ ليذبحها فانفلتت منه حتَّى جاءت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فاتبعها ، فأخذ يَسْحَبُها برجلها ، فقال لها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( اصبري لأمرِ الله ، وأنتَ يا جزَّارُ فسُقْها إلى الموتِ سَوقاً رفيقاً ) .
وبإسناده عن ابن سيرين : أنَّ عُمَرَ رأى رجلاً يسحب شاةً برجلها ليذبحها ، فقال له : وَيْلَكَ قُدْها إلى الموت(2) قوداً جميلاً(3) .
وروى محمدُ بنُ زيادٍ : أنَّ ابن عمر رأى قصَّاباً يجُرُّ شاةً ، فقال : سُقها إلى الموت سوقاً جميلاً ، فأخرج القصابُ شفرة ، فقال : ما أسوقها سوقا جميلاً وأنا أريد أنْ أذبحها الساعة ، فقال : سقها سوقاً جميلاً(4) .
وفي " مسند الإمام أحمد " (5) عن معاوية بنِ قُرة ، عن أبيه : أنَّ رجلاً قال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : يا رسولَ اللهِ إني لأذبحُ الشاةَ وأنا أرحمها ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( والشاة إنْ رحمتها رَحِمَكَ الله ) .
__________
(1) المصنف ( 8609 ) ، وإسناده ضعيف لإرساله فإنَّ الوضين بن عطاء متأخر من الطبقة السادسة مات سنة ( 149 ه‍ ) وقد تكلم فيه بعضهم .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( قوداً رفيقاً ) .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 8605 ) .
(4) من قوله : ( فأخرج القصاب شفرة ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) المسند 3/436 و5/34 .
وأخرجه : البخاري في "الأدب المفرد" ( 373 ) ، والبزار كما في "كشف الأستار" ( 1221 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 44 ) و( 45 ) و( 46 ) و( 47 ) وفي " الصغير " ، له ( 293 ) ، والحاكم 3/586-587 و4/231 ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/302 و6/343 ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " ( 11067 ) و( 11069 ) ، وهو حديث صحيح .

وقال مطرف بنُ عبد الله : إنَّ الله ليرحم برحمة العصفور(1) .
وقال نوفٌ البكالي : إنَّ رجلاً ذبح عِجَّوْلاً (2) له بين يدي أمه ، فخُبِّلَ ، فبينما هو تحتَ شجرة فيها وكْرٌ فيه فَرْخٌ ، فوقع الفرخُ إلى الأرض ، فرحمه فأعاده في مكانه ، فردَّ الله إليه قوَّته(3) .
وقد رُوي من غير وجه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه نهى أنْ تُولَّه والدة عن ولدها ، وهو
عام في بني آدم وغيرهم(4) .
وفي " سنن أبي داود " (5) : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن الفَرَعِ ، فقال : ( هو حَقٌّ وإنْ تتركوه حتّى يكونَ بكراً ابنَ مخاض ، أو ابنَ لَبُون ، فتُعطيه أرملة ، أو تحمل عليه في سبيل الله خيرٌ من أنْ تَذْبَحَهُ فيلصقَ لحمُه بوبره ، وتُكفئ إناءك وتُولِّه ناقتك ) .
__________
(1) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 2/210 .
(2) هو الأنثى من ولد البقرة . انظر : لسان العرب ( عجل ) .
(3) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 6/52 .
(4) أخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 382 ) ، وأبو داود ( 2675 ) و( 5268 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 10375 ) و( 10376 ) ، والحاكم 4/239 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/32-33 من حديث عبد الله بن مسعود ، به بهذا المعنى .
وأخرجه : أحمد 1/404 ، مرسلاً من حديث عبد الرحمان بن عبد الله ، به بمعناه .
(5) السنن ( 2842 ) .
وأخرجه : أحمد 2/182-183 ، والحاكم 4/236 ، والبيهقي 9/312 عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، به ، ورواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده من نوع الحسن .
وأخرجه : النسائي 7/168 وفي " الكبرى " ، له ( 4551 ) عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده وزيد بن أسلم .

والمعنى : أنَّ ولد الناقة إذا ذبح وهو صغير عندَ ولادته لم يُنتفع بلحمه ، وتضرَّر صاحبُه بانقطاع لبنِ ناقته ، فتُكفِئ إناه وهُوَ المِحْلَبُ الذي تُحلَب فيه الناقة ، وتولَّه الناقة على ولدها بفقدها إيَّاه(1) .
__________
(1) انظر : معالم السنن 4/266 ، وحاشية السندي على سنن النسائي 7/168-169 ، وعون المعبود 8/45 .

الحديث الثامن عشر
:
عَنْ أَبي ذَرٍّ ومعاذِ بن جَبَلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما - : أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال :
( اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا ، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ
حَسَنٍ ) .
رواه التِّرمِذيُّ وقال : حَديثٌ حَسنٌ ، وفي بعضِ النُّسَخِ : حَسَنٌ صَحيحٌ .
هذا الحديث خرَّجه الترمذي(1)(2) من رواية سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن أبي ذرٍّ، وخرَّجه أيضاً بهذا الإسناد عن ميمون، عن معاذ(3) ، وذكر عن شيخه محمود بن غيلان أنَّه قال : حديثُ أبي ذرٍّ أصحُّ(4) .
فهذا الحديثُ قد اختلف في إسناده وقيل فيه : عن حبيب(5) ، عن ميمون : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وصَّى بذلك ، مرسلاً ، ورجَّحَ الدارقطني هذا المرسل(6) .
__________
(1) من قوله : ( وقال : حديث حسن ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) في " الجامع الكبير " ( 1987 ) و( 1987 م1 ) .
وأخرجه : أحمد 5/153 و158 و177 ، والدارمي ( 2794 ) ، والحاكم 1/54 ، وأبو نعيم في "الحلية" 4/378 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 8026 ) من طرق عن سفيان الثوري ، بهذا الإسناد .
(3) في " الجامع الكبير " ( 1987 م2 ) .
وأخرجه : أحمد 5/228 و236 ، والطبراني في "الكبير" 20/( 296 ) و( 297 ) و( 298 ) وفي " الصغير " ، له ( 521 ) ، والحاكم 1/54 و4/244 ، وأبو نعيم في "الحلية" 4/376 ، وابن عبد البر في " التمهيد " 24/301 من طرق عن معاذ ، به .
(4) ذكره في " الجامع الكبير " عقيب حديث ( 1987م2 ) ، وانظر : تحفة الأشراف
( 11989 ) .
(5) عبارة : ( فيه : عن حبيب ) سقطت من ( ص ) .
(6) انظر : علل الدارقطني 6/72 – 73 .

وقد حسَّن الترمذي هذا الحديثَ ، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه(1) ،
فبعيد ، ولكن الحاكم خرَّجه ، وقال : صحيح على شرطِ الشيخين(2) ، وهو وهم مِن وجهين :
أحدُهما : أنَّ ميمونَ بنَ أبي شبيب ، ويقال : ابنُ شبيب لم يخرج له البخاري في " صحيحه " شيئاً ، ولا مسلم إلا في مقدمة كتابه حديثاً عن المغيرة بن شعبة(3) .
والثاني : أنَّ ميمون بن أبي شبيب لم يصحَّ سماعه من أحدٍ من الصحابة ، قال الفلاس(4) : ليس في شيء من رواياته عن الصحابة : ( سمعتُ ) ، ولم أخبر أنَّ أحداً يزعم أنَّه سمع من أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(5) . وقال أبو حاتم الرازي : روايته عن أبي ذرٍّ وعائشة غير متصلة(6) . وقال أبو داود : لم يدرك عائشة(7) ، ولم يَرَ علياً(8) ، وحينئذٍ فلم يُدرك معاذاً بطريق الأولى .
__________
(1) في المطبوع من جامع الترمذي : ( حسن صحيح ) وكذا في تحفة الأحوذي ، وأما المزي فلم ينقل شيئاً من حكم الترمذي .
(2) المستدرك 1/54 .
(3) نعيم لم يخرج له البخاري في " صحيحه " ، وإنَّما أخرج له في كتاب " الأدب المفرد " .
انظر : تهذيب الكمال 7/291 ( 6930 ) .
(4) هو عمرو بن علي بن بحر بن كنيز ، حفيد الحافظ بحر بن كنيز ، توفي سنة ( 249ه‍ )‍ .
انظر: تهذيب الكمال 5/445 – 446 ( 5005 ) ، وسير أعلام النبلاء 11/470 – 472.
(5) انظر : تهذيب الكمال 7/291 ( 6930 ) وتهذيب التهذيب 10/347 .
(6) انظر : الجرح والتعديل 8/266 – 267 ( 1054 ) .
(7) انظر : ميزان الاعتدال 4/233 ، وتهذيب التهذيب 10/347 .
(8) ذكره أبو داود في " سننه " عقب حديث ( 2696 ) .

ورأْيُ البخاري وشيخِه عليّ بن المديني ، وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم أنَّ الحديثَ لا يَتَّصِلُ إلا بصحة اللقيِّ ، وكلامُ الإمام أحمد يدلُّ على ذلك ، ونصَّ عليه الشافعي في " الرسالة " (1) وهذا كُلُّه خلاف رأي مسلم - رحمه الله -(2) .
وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه وصَّى بهذه الوصية معاذاً وأبا ذرٍّ من وجوهٍ أخَر ، فخرّج البزارُ(3) من حديث ابن لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى قوم ، فقال : يا رسول الله أوصني ، فقال (4) : ( أفش السَّلام ، وابذل الطعام ، واستحي من الله استحياء رجل ذا هيئةٍ من أهلك ، وإذا أسأتَ فأحسن ، وليحسن خلقك ما استطعت ) .
وخرّج الطبراني والحاكم من حديث عبد الله بنِ عمرو بن العاص : أنَّ معاذَ ابن جبل أراد سفراً ، فقال : يا رسولَ الله أوصني ، قال : ( اعبد الله ، ولا تشرك به شيئاً ) قال : يا رسول الله زِدني ، قال : ( إذا أسأتَ فأحسنْ ) ، قال :
يا رسول الله زدني ، قال : ( استقم ولْتُحْسِنْ خلقك )(5) .
__________
(1) 378 – 379 ( 1032 ) .
(2) انظر : مقدمة صحيح مسلم 1/22 – 23 ، والمحدّث الفاصل : 450 ، والتمهيد 1/12 ، وإكمال المعلم 1/164 ، والاقتراح : 206 ، ومحاسن الاصطلاح : 155 ، والنكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر 2/583 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/221 بتحقيقنا .
(3) كما في " كشف الأستار " ( 1972 ) ، وكذلك هو في " مسنده " ( 2642 ) ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(4) في ( ج ) : ( قال ) ، والمثبت من ( ص ) وكشف الأستار والبحر الزخار .
(5) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 8747 ) ، والحاكم 1/54 ، وإسناده ضعيف من أجل عبد الله بن صالح .

وخرّج الإمامُ أحمدُ(1) من حديث درَّاج ، عن أبي الهيثم(2) ، عن أبي ذرٍّ : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( أُوصيك بتقوى الله في سِرِّ أمرك وعلانيته ، وإذا أسأتَ فأحسِنْ ، ولا تسألنَّ أحداً شيئاً وإنْ سقط سوطُك ، ولا تَقبضْ أمانةً ، ولا تقضِ بين اثنين ) .
وخرَّج أيضاً من حديث آخر عن أبي ذرٍّ قال : قلتُ : يا رسول الله علِّمني عملاً يقرِّبني من الجنة ويُباعدني من النار ، قال : ( إذا عملتَ سيئةً ، فاعْمَلْ حسَنَةً ، فإنَّها عشرُ أمثالها ) قال : قلتُ : يا رسول الله ، أمِنَ الحسناتِ لا إله إلاَّ الله ؟ قال : ( هي أحسنُ الحسناتِ )(3) .
وخرّج ابن عبد البرّ في " التمهيد "(4) بإسناد فيه نظر عن أنسٍ قال : بعث النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى اليمن ، فقال : ( يا معاذ اتَّق الله ، وخالِقِ النَّاس بخُلُقٍ حَسَنٍ ، وإذا عملتَ سيئةً ، فأَتْبِعْهَا حسنةً ) فقال : قلتُ : يا رسولَ الله لا إله إلا الله مِن الحسنات ؟ قالَ : ( هي من أكبرِ الحسناتِ ) . وقد رويت وصية النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ من حديثِ ابنِ عمر وغيره بسياق مطول من وجوه فيها ضعف .
__________
(1) المسند 5/181 ، وإسناده ضعيف درَّاج هو ابن سمعان أبو السمح ضعيف صاحب مناكير ، وكذا في السند ابن لهيعة ضعيف أيضاً .
(2) تحرف في ( ص ) إلى : ( ابن لهيعة ) .
(3) مسند الإمام أحمد 5/169 ، وإسناده ضعيف لجهالة أشياخ شِمْر بن عطية .
(4) التمهيد 3/28 ، والنظر الذي في إسناده هو جهالة أحد رواة السند ، وهو محمد بن حفص ابن عائشة . قال ابن حجر في " التقريب " ( 5824 ) : ( مجهول ) .

ويدخل في هذا المعنى حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سُئِلَ : ما أَكْثَرُ(1) ما يُدخِلُ الناسَ الجنة ؟ قالَ : ( تقوى الله وحسنُ الخُلُقِ ) خرَّجه الإمام أحمد وابن
ماجه والترمذي وصححه ، وابن حبان في " صحيحه "(2) .
فهذه الوصية وصيةٌ عظيمةٌ جامعة لحقوق الله وحقوق عباده ، فإنَّ حقَّ الله على عباده أنْ يتقوه حقَّ تقاته ، والتقوى وصيةُ الله للأوّلين والآخرين . قال تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ } (3) .
وأصلُ التّقوى(4) : أنْ يجعل العبدُ بينَه وبينَ ما يخافُه ويحذره وقايةً تقيه منه ، فتقوى العبد لربه أنْ يجعل بينه وبينَ ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك وهو فعلُ طاعته واجتنابُ معاصيه .
__________
(1) ما أكثر ) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : أحمد 2/291 و392 و442 ، وابن ماجه ( 4246 ) ، والترمذي ( 2004 ) .
(3) النساء : 131 .
(4) من قوله : ( وصية الله للأولين ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .

وتارة تُضافُ التقوى إلى اسم اللهِ - عز وجل - (1)، كقوله تعالى : { وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } (2) ، وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (3) ، فإذا أضيفت التقوى إليه - سبحانه وتعالى -، فالمعنى : اتقوا سخطه وغضبه ، وهو أعظم ما يتقى ، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي ، قال تعالى : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ } (4) ، وقال تعالى : { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } (5) ، فهو سبحانه أهل أنْ يُخشى ويُهاب ويُجلَّ ويُعَظَّمَ في صدورِ عباده حتَّى يعبدوه ويُطيعوه ، لما يستحقُّه من الإجلالِ والإكرامِ ، وصفاتِ الكبرياءِ والعظمة وقوَّةِ البطش ، وشِدَّةِ البأس . وفي الترمذي (6) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } قال : ( قال الله تعالى : أنا أهل أنْ أُتَّقى، فمن اتَّقاني فلم يَجْعَل معي إلهاً آخر، فأنا أهْلٌ أنْ أغفِرَ له ).
__________
(1) من قوله : ( من ذلك وهو فعل ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(2) المائدة : 96 .
(3) الحشر : 18 .
(4) آل عمران : 28 .
(5) المدثر : 56 .
(6) في " الجامع الكبير " ( 3328 ) ، وقال : ( هذا حديث غريب ، وسهيل ليس بالقوي في الحديث وقد تفرد سهيل بهذا الحديث عن ثابت ) .
وأخرجه : أحمد 3/142 و143 ، والدارمي ( 2727 ) ، وابن ماجه ( 4299 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 11630 ) وفي " التفسير " ، له ( 650 ) ، وأبو يعلى ( 3317 ) ، والحاكم 2/508 ، والبغوي في " تفسيره " 4/420 .

وتارةً تُضافُ التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه ، كالنار ، أو إلى زمانه ، كيوم القيامة ، كما قال تعالى : { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } (1) ، وقال تعالى : { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } (2) ، وقال تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ } (3) ، وقال تعالى : { وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } (4)، { وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا } (5) .
ويدخل في التقوى الكاملة فعلُ الواجبات ، وتركُ المحرمات والشبهات ، وربما دَخَلَ فيها بعد ذلك فعلُ المندوبات ، وتركُ المكروهات ، وهي أعلى درجات التقوى(6) ، قال الله تعالى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } (7) .
__________
(1) آل عمران : 131 .
(2) البقرة : 24 .
(3) البقرة : 281 .
(4) هذه الآية لم ترد في ( ج ) ، وهي في سورة المجادلة : 9 .
(5) البقرة : 48 و123 .
(6) في ( ص ) : ( وهي درجات ) فقط .
(7) البقرة : 1 – 4 .

وقال تعالى : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ } (1) .
قال مُعاذُ بنُ جبل : يُنادى(2) يوم القيامة : أين المتقون ؟ فيقومون في كَنَفٍ من الرحمان لا يحتجِبُ منهم ولا يستترُ ، قالوا له : مَنِ المتَّقون ؟ قال : قومٌ اتَّقوا الشِّركَ وعبادةَ الأوثان ، وأخلصوا للهِ بالعبادة (3) .
وقال ابنُ عباس : المتَّقون الذين يَحْذَرون من الله عقوبتَه في ترك ما يعرفون من الهدى ، ويَرجون رحمَته في التصديق بما جاء به (4) .
وقال الحسن : المتقون اتَّقَوا ما حُرِّم عليهم ، وأدَّوا ما افْتُرِض عليهم (5) .
وقال عُمَر بن عبد العزيز : ليس تقوى الله بصيام النهار ، ولا بقيام الليل ، والتخليطِ فيما بَيْنَ ذلك ، ولكن تقوى اللهِ تركُ ما حرَّم الله ، وأداءُ ما افترضَ الله ،
فمن رُزِقَ بعد ذلك خيراً ، فهو خيرٌ(6) إلى خير (7) .
__________
(1) البقرة : 177 .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( منادٍ ) .
(3) أخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " 1/35 .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " 1/77 ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 1/35 .
(5) ذكره ابن كثير في " تفسيره " 1/40 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) أخرجه : ابن أبي الدنيا كما في " الدر المنثور " 1/58 .

وقال طلقُ بنُ حبيب : التقوى أنْ تعملَ بطاعةِ الله ، على نورٍ من الله ، ترجو ثوابَ الله ، وأنْ تتركَ معصيةَ الله على نورٍ من الله تخافُ عقابَ الله (1) .
وعن أبي الدرداء قال : تمامُ التقوى أنْ يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه من مثقال
ذرَّةٍ ، حتى يتركَ بعضَ ما يرى أنَّه حلالٌ خشيةَ أنْ يكون حراماً يكون حجاباً بينه وبينَ الحرام (2) ، فإنَّ الله قد بَيَّن للعباد الذي يُصيرهم إليه فقال : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } (3) ، فلا تحقرن شيئاً من الخير أنْ تفعله ، ولا شيئاً من الشرِّ أنْ تتقيه .
وقال الحسنُ : ما زالت التقوى بالمتقين حتَّى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام(4) .
وقال الثوري : إنَّما سُمُّوا متقينَ ؛ لأنَّهم اتقوا ما لا يُتقى(5) .
وقال موسى بنُ أَعْيَن : المتقون تنزَّهوا عن أشياء من الحلال مخافة أنْ يقعوا في الحرام ، فسماهم الله متقين .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا ، وابن أبي حاتم كما في " الدر المنثور " 1/57 .
(2) أخرجه : نعيم بن حماد في " زياداته على الزهد " لعبد الله بن المبارك ( 79 ) ، وابن أبي الدنيا كما في " الدر المنثور " 1/58 .
(3) الزلزلة : 7 – 8 .
(4) أخرجه : ابن أبي الدنيا كما في " الدر المنثور " 1/58 .
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا كما في " الدر المنثور " 1/58 .

وقد سبق حديثُ : ( لا يَبلغُ العبدُ أنْ يكونَ من المتقين حتَّى يدعَ ما لا بأس
به حذراً مما به بأس ) (1) . وحديث : ( من اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لِدينه
وعِرْضِه)(2) .
وقال ميمونُ بنُ مِهران : المُتَّقي أشدُّ محاسبةً لنفسه من الشريكِ الشحيحِ لِشريكه(3) .
وقال ابن مسعود في قوله تعالى : { اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } (4) ، قال : أنْ يُطاع فلا يُعصى ، ويُذكر فلا ينسى ، وأن يُشكر فلا يُكفر . وخرَّجه الحاكم مرفوعاً والموقوف أصحّ(5) ، وشكرُه يدخلُ فيه جميعُ فعل الطاعات .
ومعنى ذكره فلا ينسى : ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها ، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها .
__________
(1) أخرجه : عبد بن حميد ( 484 ) ، وابن ماجه ( 4215 ) ، والترمذي ( 2451 ) وقال
: ( هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ) .
(2) جزء من حديث طويل . أخرجه : الحميدي ( 918 ) ، وأحمد 4/267 و269 و270 و271 ، والدارمي ( 2245 ) و( 2534 ) ، والبخاري 1/20 ( 52 ) و3/9 ( 2051 ) ، ومسلم 5/50 ( 1599 ) ( 107 ) ، وابن ماجه ( 3984 ) ، والترمذي ( 1205 ) ، والنسائي 7/241 و8/327 وفي " الكبرى " ، له ( 5219 ) و( 6040 ) ، وابن
الجارود ( 555 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 749 ) و( 750 )
و( 751 ) و( 752 ) ، وابن حبان ( 721 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 2285 )
و( 2493 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 5740 ) و( 5741 ) وفي
" الآداب " ، له ( 485 ) وفي " الزهد الكبير " ، له ( 863 ) من طرق عن النعمان بن
بشير ، به .
(3) أخرجه : أبو نعيم كما في " الدر المنثور " 1/57 .
(4) آل عمران : 102 .
(5) أخرجه : الطبراني ( 8501 ) و( 8502 ) ، والحاكم 2/294 ، ولم أقف فيه على المرفوع .

وقد يغلِبُ استعمالُ التقوى على اجتناب المحرَّمات كما قال أبو هريرةَ وسئل عن التقوى، فقال : هل أخذتَ طريقاً ذا شوكٍ ؟ قالَ: نعم ، قالَ : فكيف صنعتَ ؟ قال : إذا رأيت الشوكَ عدلْتُ عنه ، أو جاوزته ، أو قصرت عنه ، قال : ذاك
التقوى(1) . وأخذ هذا المعنى ابنُ المعتز فقال :
خلِّ الذُّنوبَ صَغِيرَها

وكَبِيرَها فَهْوَ التُّقَى

واصْنَعْ كماشٍ فَوْقَ أَرْ

ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ ما يَرَى

لا تَحْقِرَنَّ صغيرةً

إنَّ الجِبَالَ مِنَ الحَصَى

وأصلُ التقوى : أنْ يعلم العبدُ ما يُتَّقى ثم يتقي ، قال عونُ بنُ عبد الله : تمامُ التقوى أنْ تبتغي علمَ ما لم يُعلم منها إلى ما عُلِمَ منها(2) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " كتاب التقوى " كما في " الدر المنثور " 1/57 .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34959 ) ، وابن أبي الدنيا كما في " الدر المنثور " 1/58 .

وذكر معروفٌ الكرخيُّ(1) عن بكر بن خُنيسٍ ، قال : كيف يكون متقياً من لا يدري ما يَتَّقي ؟ ثُمَّ قالَ معروفٌ : إذا كنتَ لا تُحسنُ تتقي أكلتَ الربا ، وإذا كنتَ لا تُحسنُ تتقي لقيتكَ امرأةٌ فلم تَغُضَّ بصرك ، وإذا كنت لا تُحسن تتقي وضعتَ سيفك على عاتقك ، وقد قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن مسلمة : ( إذا رأيتَ أُمَّتِي قد اختلفَتْ ، فاعمد إلى سيفِكَ فاضْرِبْ به أُحُداً(2) )(3) ، ثُمَّ قالَ معروف : ومجلسي هذا لعله كانَ ينبغي لنا أنْ نتَّقِيَهُ ، ثم قال : ومجيئكم معي من المسجد إلى هاهنا كان ينبغي لنا أنْ نتقيه ، أليس جاء في الحديث : ( إنَّه فتنة للمتبوع مذلة
للتابع ؟ )(4) يعني : مشيُ الناس خلف الرجل(5) .
__________
(1) هو معروف بن فيروز ، وقيل الفيرُزان الكرخي ، أبو محفوظ البغدادي، توفي سنة ( 200ه‍ ) ، وقيل : ( 204ه‍ ) . انظر : سير أعلام النبلاء 9/339 ، وشذرات الذهب 1/360 .
(2) معنى ذلك : أن الفتن يجب اعتزالها وعدم الخوض فيها ، فجاءت الوصية النبوية – إن صح الخبر - بضرب جبل أحد عند حصول الفتن، أي : كسره ؛ لئلا يضرب به أحداً من المسلمين.
(3) جزء من حديث طويل . أخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 3/235 ، وابن أبي شيبة
( 37198 ) ، وأحمد 3/493 و4/225 ، وابن ماجه ( 3962 ) ، والطبراني في "الكبير" 19/( 513 ) و( 517 ) و( 518 ) و( 523 ) و( 524 ) وفي "الأوسط"، له ( 1311 ) ، والحاكم 3/117 ، والبيهقي في " الكبرى " 8/191 ، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد ابن جدعان ، وجاء في بعض الطرق غير ذلك .
(4) أخرجه : نعيم بن حماد في " زياداته على الزهد " لعبد الله بن المبارك ( 48 ) ، وهو موقوف على عمر بن الخطاب .
(5) انظر : الحلية 8/365 .

وفي الجملة ، فالتقوى : هي وصيةُ الله لجميع خلقه ، ووصيةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته ، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا بَعَثَ أميراً على سَرِيَّةٍ أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ، وبمن معه من المسلمين خيراً(1) .
ولما خطبَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوداع يومَ النحر وصَّى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم(2) .
ولما وَعَظَ الناسَ ، وقالوا له : كأنَّها موعِظَةُ مودِّع فأوصنا ، قال :
( أُوصيكم بتقوى اللهِ والسَّمْعِ والطَّاعة )(3) .
وفي حديث أبي ذرٍّ الطويل الذي خرَّجه ابنُ حبان وغيره : قلتُ :
يا رسولَ الله أوصني ، قال : ( أوصيكَ بتقوى الله ، فإنَّه رأسُ الأمرِ كله )(4) .
__________
(1) جزء من حديث طويل ، أخرجه : مسلم 5/139 ( 1731 ) من حديث بريدة ، به .
(2) أخرجه : أحمد 5/251 ، والترمذي ( 616 ) ، وابن حبان ( 4563 ) ، والطبراني في
" الكبير " ( 7617 ) و( 7664 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 834 ) و( 1967 ) ، والحاكم 1/9 و389 و473 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7348 ) من طرق عن أبي أمامة ، به .
(3) أخرجه : أحمد 4/126 – 127 ، وأبو داود ( 4607 ) ، وابن ماجه ( 42 ) و( 43 )
و( 44 ) ، والترمذي ( 2676 ) ، وابن حبان ( 5 ) ، والطبراني في " الكبير " 18/( 617 ) و( 618 ) و( 619 ) و( 620 ) وفي "مسند الشاميين"، له ( 437 ) و( 438 ) و( 697 ) و( 786 ) و( 1180 ) و( 1379 ) ، والحاكم 1/95 – 97 ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/220 و10/115 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7515 ) و( 7516 ) . من طرق عن العرباض بن سارية ، به ، قال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(4) أخرجه : ابن حبان ( 361 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 1651 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/166-168 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 740 ) ، وإسناده ضعيف جداً ؛ فإنَّ إبراهيم بن هشام بن يحيى كذاب .

وخرَّج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : قلتُ : يا رسولَ الله أوصني ، قال : ( أوصيك بتقوى الله ، فإنَّه رأسُ كُلِّ شيء ، وعليكَ بالجهاد ، فإنَّه رهبانيةُ الإسلام )(1) ، وخرَّجه غيرُه ولفظه : قال : ( علَيكَ بتقوى الله فإنَّها جِماع كُلِّ خيرٍ ) .
وفي الترمذي(2) عن يزيد بن سلمة : أنَّه سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إني سمعتُ منك حديثاً كثيراً فأخافُ أنْ ينسيني أوَّلَه آخرُه ، فحدثني بكلمة تكون جماعاً ، قال : ( اتَّق الله فيما تَعْلَمُ ) .
ولم يزل السَّلفُ الصالح يتَواصَوْنَ بها ، وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول في خطبته : أما بعد ، فإني أُوصيكم بتقوى الله ، وأنْ تُثنوا عليه بما هو أهلُه ، وأنْ تَخلِطُوا الرغبةَ بالرهبة ، وتجمعوا الإلحافَ بالمسألة ، فإنَّ الله - عز وجل - أثنى على زكريا وأهل بيته ، فقال : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } (3) (4) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 3/82 .
وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 840 ) ، وأبو يعلى ( 1000 ) ، والطبراني في
"الصغير" ( 949 ) ،والبيهقي في "الآداب" ( 1014 ) من طرق عن أبي سعيد الخدري ، به ، وهو حديث ضعيف .
(2) في" الجامع الكبير " ( 2683 ) ، وقال : ( هذا حديث ليس إسناده بمتصل ، وهو عندي مرسل ولم يدرك عندي ابن أشوع يزيد بن سلمة ) .
وذكره المزي في " تهذيب الكمال " 8/128 ( 7591 ) .
وأخرجه أيضاً : عبد بن حميد ( 436 ) ، والطبراني في " الكبير " 22/( 633 ) .
(3) الأنبياء : 90 .
(4) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34431 ) ، والحاكم 2/383 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/35 .

ولمَّا حضرته الوفاةُ ، وعهد إلى عمر ، دعاه ، فوصَّاهُ بوصيةٍ ، وأوَّلُ ما قالَ له : اتَّقِ الله يا عمر(1) .
وكتب عُمَرُ إلى ابنه عبد الله: أما بعدُ، فإني أُوصيك بتقوى الله - عز وجل -، فإنَّه من اتقاه وقاه، ومَنْ أقرضه جزاه، ومَنْ شكره زاده، فاجعل التقوى نصبَ عينيك وجلاء قلبك.
واستعمل عليُّ بن أبي طالب رجلاً على سَريَّة ، فقال له : أُوصيك بتقوى الله الذي لابُدَّ لك من لقائه ، ولا منتهى لك دونَه ، وهو يَملِكُ الدنيا والآخرة(2) .
وكتب عُمَرُ بنُ عبد العزيز إلى رجلٍ : أُوصيك بتقوى الله - عز وجل - التي لا يقبلُ
غَيرَها ، ولا يَرْحَمُ إلاَّ أهلَها ، ولا يُثيبُ إلا عليها ، فإنَّ الواعظين بها كثير ، والعاملين بها قليل ، جعلنا الله وإيَّاك من المتقين(3) .
ولما وُلِّي خطب ، فحَمِد الله ، وأثنى عليه ، وقال : أُوصيكُم بتقوى الله - عز وجل - ، فإنَّ تقوى الله - عز وجل - خَلفٌ من كلِّ شيءٍ ، وليس من تقوى الله خَلَفٌ(4) .
وقال رجل ليونس بن عُبيد: أوصني ، فقال : أُوصيك بتقوى الله والإحسّان ، فإنَّ الله مَعَ الذين اتَّقَوا والَّذينَ هُمْ مُحسِنُون .
وقال له رجل يُريدُ الحجَّ : أوصني ، فقال له : اتَّقِ الله ، فمن اتقى الله ، فلا وحشة عليه .
وقيل لرجل(5) من التابعين عندَ موته : أوصنا ، فقال : أوصيكم بخاتمة سورةِ النحل : { إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } (6).
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة 8/145 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/36 .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34499 ) .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/267 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/297 .
(5) الرجل هو : هرم بن حيان ، وكلامه أخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 7/95 ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/121 .
(6) النحل : 128 .

وكتب رجلٌ من السَّلف إلى أخٍ له : أوصيكَ بتقوى الله ، فإنّها أكرم ما أسررتَ ، وأزينُ ما أظهرتَ ، وأفضلُ ما ادَّخرتَ ، أعاننا الله وإيَّاكَ عليها ، وأوجب لنا ولك ثوابَها .
وكتب رجلٌ منهم إلى أخٍ له : أُوصيكَ وأنفسَنا بالتقوى ، فإنَّها خيرُ زادِ الآخِرَةِ والأُولى ، واجعلها إلى كلِّ خيرٍ سبيلَك ، ومِن كلِّ شرٍّ مهرَبك ، فقد توكل الله - عز وجل - لأهلها بالنجاة مما يحذرون ، والرزق من حيث لا يحتسبون .
وقال شعبة : كنتُ إذا أردتُ الخروجَ ، قلتُ للحكم : ألك حاجةٌ ، فقال أوصيك بما أوصى به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معاذَ بنَ جبل : ( اتَّقِ الله حيثُما كُنتَ ، وأتْبِعِ السَّيِّئة الحَسَنة تَمحُها ، وخَالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ )(1) . وقد ثبت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه كان يقولُ في دعائه : ( اللَّهُمَّ إني أسألُك الهُدى والتُّقى والعِفَّةَ والغِنَى )(2) .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) أخرجه : الطيالسي ( 1270 ) ، وابن أبي شيبة ( 29192 ) ، وأحمد 1/343 و389 ، و411 و416 و434 و437 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 674 ) ، ومسلم 8/80
( 2721 ) ( 72 )، والترمذي ( 3489 ) ، وابن ماجه ( 3832 ) ، وابن حبان ( 900 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 10096 ) ، والبغوي ( 1373 ) من طرق عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، به .

وقال أبو ذرٍّ : قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ
لَهُ مَخْرَجاً } (1) ، ثم قال : ( يا أبا ذرٍّ لو أنَّ النَّاسَ كُلَّهم(2) أخذوا بها
لَكَفَتهم )(3) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( اتَّق الله حيثما كُنت ) مراده في السرِّ والعلانية حيث يراه الناسُ وحيث لا يرونه ، وقد ذكرنا من حديث أبي ذرٍّ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( أُوصيك بتقوى الله في سرِّ أمرك وعلانيته(4) )(5) ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه : ( أسألك خشيتَك في الغَيبِ والشَّهادة )(6) وخشية الله في الغيب والشهادة هي من
المنجيات .
__________
(1) الطلاق : 2 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : أحمد 5/178-179 ، وابن ماجه ( 4220 ) ، والنسائي في " الكبرى "
( 11539 ) ، وابن حبان ( 6669 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 2495 ) ،
والحاكم 2/492 من طرق عن كهمس بن الحسن ، عن أبي السليل ضريب بن نقير ،
عن أبي ذر مختصراً ، وإسناده ضعيف ؛ لانقطاعه فإنَّ أبا السليل ضريب بن نقير لم يدرك
أبا ذر .
(4) عبارة : ( في سر أمرك وعلانيته ) سقطت من ( ص ) .
(5) سبق تخريجه .
(6) جزء من حديث طويل .
أخرجه : ابن أبي شيبة ( 39348 ) ، وأحمد 4/264 ، والنسائي 3/54-55 ، وفي
" الكبرى " ، له ( 1229 ) و( 1230 ) من طرق عن عمار بن ياسر ، به ، وهو حديث صحيح .

وقد سبق من حديث أبي الطفيل ، عن معاذ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( استحي من الله استحياءَ رجل ذي هيبةٍ من أهلك )(1) وهذا هو السببُ الموجب لخشية الله في السر ، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الله يراه حيث كان ، وأنَّه مُطَّلعٌ على باطنه وظاهره ، وسرِّه وعلانيته، واستحضر ذلك في خلواته ، أوجب له ذلك تركَ المعاصي في السِّرِّ ، وإلى هذا المعنى الإشارةُ في القرآن بقوله - عز وجل - : { وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (2) .
كان بعضُ السَّلف يقولُ لأصحابه : زهَّدنا الله وإيَّاكم في الحرام زهد مَنْ قَدَرَ عليه في الخلوة ، فَعَلِم أنَّ الله يراه ، فتركه من خشيته ، أو كما قال(3) .
وقال الشافعي : أعزُّ الأشياء ثلاثة : الجودُ من قِلَّة ، والورعُ في خَلوة ، وكلمةُ الحقِّ عند من يُرجى ويُخاف .
وكتب ابنُ السَّماك الواعظ إلى أخٍ له : أما بعدُ ، أُوصيكَ بتقوى الله الذي هو نَجِيُّكَ في سريرتك ورقيبُك في علانيتك ، فاجعلِ الله من بالك على كُلِّ حالك في ليلك ونهارك ، وخفِ الله بقدر قُربه منك ، وقُدرته عليك ، واعلم أنَّك بعينه ليس تَخرُجُ من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى مُلك غيره، فليعظم منه حَذَرُك، وليكثر منه وَجَلُكَ والسلام(4) .
__________
(1) أخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 1972 ) وقال : ( لا نعلمه بهذا اللفظ إلا عن معاذ ) .
(2) النساء : 1 .
(3) أخرجه : الدينوري في " المجالسة " ( 2078 ) و( 2376 ) ، وهو قول بكر بن عبد الله
المزني .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/206 .

وقال أبو الجلد : أوحى الله تعالى إلى نبيٍّ من الأنبياء : قُلْ لقومك : ما بالكم تسترون الذنوبَ من خلقي ، وتُظهرونها لي ، إنْ كنتم ترون أني لا أراكم ، فأنتم مشركون بي ، وإنْ كنتم تَرَونَ أني أراكم(1) فلم جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم ؟
وكان وهيبُ بن الورد يقول : خَفِ الله على قدر قدرته عليك ، واستحي منه على قدر قُربه منك(2) ، وقال له رجل : عِظني ، فقال : اتَّقِ الله أنْ يكونَ أهونَ الناظرين إليك(3) . وكان بعضُ السَّلف يقول : أتراك ترحم مَنْ لم تقرَّ عينيه بمعصيتك حتَّى علم أنْ لا عين تراه غيرك ؟
وقال بعضُهم : ابنَ آدم إنْ كنتَ حيث ركبتَ المعصية لم تَصْفُ لك مِن عينٍ ناظرةٍ إليك ، فلما خلوتَ بالله وحده صَفَتْ لك معصيتُهُ ، ولم تستحي منه حياءك من بعض خلقه ، ما أنت إلا أحدُ رجلين : إنْ كنت ظننتَ أنَّه لا يراك ، فقد كفرتَ ، وإنْ كنت علمتَ أنَّه يراك فلم يمنعك منه ما منعك مِن أضعف خلقه لقد اجترأت عليه (4) .
دخل بعضُهم غَيضةً(5) ذات شجر ، فقال : لو خلوتُ هاهنا بمعصيةٍ مَنْ كان يراني ؟ فسمع هاتفاً بصوت ملأ الغَيْضَةَ : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ } (6) (7).
راود بعضُهم أعرابيةً ، وقال لها : ما يرانا إلا الكواكبُ ، قالت : فأين مُكوكِبُها ؟
رأى محمد بن المنكدر رجلاً واقفاً مع امرأة يُكلمها فقال : إنَّ الله يراكما سترنا الله وإياكما .
__________
(1) من قوله : ( فأنتم مشركون بي ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/140 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/142 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) غَيْضَة : مجمع الشجر في فيض الماء والشجر الكثير الملتف .
انظر : تاج العروس 18/471 ( غيض ) .
(6) الملك : 14 .
(7) انظر : تفسير القرطبي 18/214 بمعناه .

قال الحارثُ المحاسبي : المراقبةُ علمُ القلب بقرب الربِّ(1) . وسُئِل الجنيد بما يُستعانُ على غضِّ البصر ، قال : بعلمك أنَّ نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظره . وكان الإمامُ أحمد يُنشِدُ :
إذا ما خَلَوْتَ الدَّهرَ يوماً فلا تَقُلْ :
ولا تَحْسَبَنَّ الله يَغْفُلُ سَاعةً

خَلَوتُ ولكِنْ قُلْ : عَلَيَّ رَقِيبُ
ولا أنَّ ما يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ(2)

وكان ابنُ السَّماك ينشد :
يا مُدمِنَ الذَّنْبِ أما تَستَحِي
غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إمْهَالُهُ

والله في الخَلْوَةِ ثَانِيكَا
وستْرُهُ طولَ مَساوِيكَا

والمقصود : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما وصَّى معاذاً بتقوى الله سِرَّاً وعلانيةً ، أرشده إلى ما يُعينه على ذلك وهو أنْ يستحييَ من الله كما يستحيي من رجلٍ ذي هيبةٍ من قومه . ومعنى ذلك : أنْ يستشعِرَ دائماً بقلبه قُرْبَ الله منه واطلاعه عليه فيستحيي من نظره إليه .
وقد امتثل معاذٌ ما وصَّاه به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وكان عمر قد بعثه على عَمَلٍ ، فقدم وليس معه شيء، فعاتبته امرأتُه ، فقال : كان معي ضاغط ، يعني : من يُضيق عليَّ ، ويمنعني من أخذ شيءٍ ، وإنَّما أراد معاذ ربَّه - عز وجل - ، فظنت امرأتُه أنَّ عُمَر بعث معه
رقيباً ، فقامت تشكوه إلى النَّاس .
ومن صار له هذا المقام حالاً دائماً أو غالباً ، فهو من المحسنين الذين يعبدون الله كأنَّهم يرونه ، ومن المحسنين الذين يجتنبون كبائرَ الإثم والفواحِشَ إلا اللممَ .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 10/94 بمعناه .
(2) الأبيات من قصيدة لأبي العتاهية .

وفي الجملة فتقوى الله في السرِّ هو علامةُ كمالِ الإيمانِ ، وله تأثيرٌ عظيم في إلقاء الله لصاحبه الثناءَ في قلوب المؤمنين . وفي الحديث : ( ما أَسَرَّ عبدٌ سَريرةً إلا ألبسه الله رِدَاءها علانيةً إنْ خيراً فخيرٌ ، وإنْ شراً فشرٌّ )(1) رُوي هذا مرفوعاً ، ورُوي عن ابن مسعودٍ من قوله .
وقال أبو الدرداء : لِيَتَّقِ أحدُكم أنْ تلعنه قلوبُ المؤمنين وهو لا يشعر ، يخلو بمعاصي الله ، فيلقي الله له البغضَ في قلوب المؤمنين(2) .
قال سليمانُ التيميُّ : إنَّ الرجل لَيُصيب الذنبَ في السرِّ فيصبح وعليه مذلتُه(3)، وقال غيره(4) : إنَّ العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبينَ الله ، ثم يجيءُ إلى إخوانه ، فيرون أَثَرَ ذلك عليه ، وهذا مِن أعظم الأدلة على وجودِ الإِله الحقِّ المجازي بذرَّات الأعمال في الدنيا قبل الآخرة(5) ، ولا يضيع عندَه عملُ عاملٍ ، ولا ينفع من قدرته حجاب ولا استتار، فالسعيدُ مَنْ أصلح ما بينَه وبينَ الله(6)، فإنَّه من أصلح ما بينه وبينَ الله أصلح الله ما بينه وبين الخلق، ومن التمس محامدَ الناسِ بسخط الله ، عاد حامده من النَّاس له ذاماً .
قال أبو سليمان : الخاسرُ من أبدى للناس صالح عمله ، وبارز بالقبيح من هو أقربُ إليه من حبل الوريد .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " 2/( 1702 ) وفي " الأوسط " ، له ( 7906 ) عن جندب ابن سفيان ، به ، وهو حديث ضعيف جداً لا يصح .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/215 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/31 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في ( ص ) : ( الدنيا والآخرة ) .
(6) من قوله : ( ولا يضيع عنده عمل ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .

ومِنْ أعجب ما رُوي في هذا ما رُوي عن أبي جعفر السائح قال : كان حبيبٌ أبو محمد تاجراً يَكْرِي الدراهمَ ، فمرَّ ذات يوم ، فإذا هو بصبيان يلعبون ، فقال بعضهم لبعض : قد جاء آكِلُ الربا ، فنكس رأسه ، وقال : يا ربِّ ، أفشيت سرِّي إلى الصبيان ، فرجع فجمع ماله كُلَّه ، وقال : يا ربِّ إنِّي أسيرٌ ، وإني قد اشتريتُ نفسي منك بهذا المال فاعتقني ، فلما أصبح ، تصدَّق بالمال كلّه وأخذ في العبادة ، ثم مرَّ ذات يوم بأولئك الصبيان ، فلما رأوه قال بعضهم لبعض(1) : اسكتوا فقد
جاء حبيبٌ العابد ، فبكى وقال : يا ربّ أنتَ تذمّ مرَّةً وتحمد مرَّةً ، وكله من
عندك .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وأتْبِع السَّيِّئة الحَسنَة تَمحُها ) لما كان العبدُ مأموراً بالتقوى
في السرِّ والعلانية مع أنَّه لابُدَّ أنْ يقع منه أحياناً تفريط في التقوى ، إما بترك
بعض المأمورات ، أو بارتكاب بعض المحظورات ، فأمره أنْ يفعل(2) ما يمحو به
هذه السيئة وهو أنْ يتبعها بالحسنة ، قال الله - عز وجل - : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ
النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى
لِلذَّاكِرِينَ } (3) .
وفي " الصحيحين " (4) عن ابنِ مسعود : أنَّ رجلاً أصاب من امرأة قُبلَةً ، ثم أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر ذلك له ، فسكت النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت هذه الآية ، فدعاه فقرأها عليه ، فقال رجل : هذا له خاصة ؟ قال : ( بل للناس عامة ) .
__________
(1) عبارة : ( قال بعضهم لبعض ) سقطت من ( ص ) .
(2) عبارة : ( أن يفعل ) سقطت من ( ص ) .
(3) هود : 114 .
(4) صحيح البخاري 6/94 ( 4687 ) ، وصحيح مسلم 8/100-101 ( 2763 ) ( 39 ) .

وقد وصف الله المتقين في كتابه بمثل ما وصَّى به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه الوصية في قوله - عز وجل - : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } (1) .
فوصف المتقين بمعاملة الخلق بالإحسّان إليهم بالإنفاق ، وكظمِ الغيظ ، والعفو عنهم ، فجمع بين وصفهم ببذل النَّدى ، واحتمال الأذى ، وهذا هو غايةُ حسن الخلق الذي وصى به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ ، ثم وصفهم بأنَّهم : { إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } ولم يُصرُّوا عليها ، فدلَّ على أنَّ المتقين قد يَقَعُ منهم أحياناً كبائر وهي الفواحش ، وصغائر وهي ظُلمُ النفس ، لكنَّهم لا يُصرُّون عليها ، بل يذكرون الله عَقِبَ وقوعها ، ويستغفرونه ويتوبون إليه منها ، والتوبة : هي تركُ الإصرار على الذنبِ (2).
__________
(1) آل عمران : 133-136 .
(2) عبارة : ( على الذنب ) سقطت من ( ج ) .

ومعنى قوله : { ذَكَروا الله } أي : ذكروا عظمته وشِدَّة بطشه وانتقامِه ، وما توعد به على المعصية من العقابِ ، فيوجب ذلك لهم الرجوعَ في الحال والاستغفارَ وتركَ الإصرار ، وقال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } (1) .
وفي " الصحيحين " (2) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أَذْنَبَ عبدٌ ذنباً ، فقال : رَبِّ إنِّي عملتُ ذنباً فاغْفِر لي فقال الله : عَلِمَ عبدي أنَّ له رباً يغفر الذنب ، ويأخذ بالذنب ، قد غفرتُ لعبدي ، ثم أذنب ذنباً آخر - إلى أنْ قال في الرابعة : - فليعمل ما شاء ) يعني : ما دام على هذه الحال كلما أذنب ذنباً استغفر منه . وفي الترمذي(3) من حديث أبي بكر الصِّديق - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما أصرَّ من استَغْفَر ولو عادَ في اليومَ سَبْعِينَ مرَّة ) .
وخرَّج الحاكم(4) من حديث عُقبة بنِ عامر : أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال :
يا رسولَ الله أحدُنا يُذنب ، قال : ( يُكتب عليه ) ، قال : ثم يستغفرُ منه ، قال
: ( يغفر له ، ويُتاب عليه ) ، قال : فيعود فيذنب ، قال : ( يكتب عليه ) ، قال : ثم يستغفر منه ويتوب ، قال : ( يغفر له ، ويتاب عليه ، ولا يَمَلُّ الله حتَّى
تملُّوا ) .
__________
(1) الأعراف : 201 .
(2) صحيح البخاري 9/178 ( 7507 ) ، وصحيح مسلم 8/98 ( 2758 ) ( 29 ) عن أبي هريرة ، به .
(3) في " الجامع الكبير " ( 3559 ) ، وقال : ( وهذا حديث غريب ، إنَّما نعرفه من حديث أبي نصيرة ، وليس إسناده بالقوي ) .
وأخرجه : أبو داود ( 1514 ) ، وأبو يعلى ( 137 ) و( 138 ) و( 139 ) .
(4) في " المستدرك " 1/58-59 ، وقال : ( صحيح ) ، ولم يتعقبه الذهبي .

وخرَّج الطبراني(1) بإسنادٍ ضعيفٍ عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : جاء حبيبُ بنُ الحارث إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله إنِّي رجل مِقْرافٌ للذنوب ، قال : ( فتب إلى اللهِ - عز وجل - ) ، قال : أتوبُ ، ثم أعودُ ، قال : ( فكلما أذنبتَ ،
فتُبْ ) ، قال : يا رسول الله إذاً تكثرُ ذنوبي ، قال : ( فعفو الله أكثرُ من ذنوبك
يا حبيب بن الحارث ) . وخرَّجه بمعناه من حديث أنس مرفوعاً(2) بإسناد ضعيفٍ . وبإسناده عن عبد الله بن عمرو ، قال : من ذكر خطيئةً عَمِلَها ، فوَجِلَ قلبُه منها ، واستغفر الله ، لم يحبسها شيءٌ حتى يمحاها .
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عليٍّ قال : خيارُكم كُلُّ مُفَتَّنٍ توَّاب ، قيل : فإنْ عاد ؟ قال : يستغفر الله ويتوب ، قيل : فإنْ عاد ؟ قال : يستغفر الله ويتوب ، قيل : فإنْ عاد ؟ قال : يستغفر الله ويتوب(3) ، قيل : حتى متى ؟ قال : حتى يكون الشيطان هو المحسور .
وخرَّج ابن ماجه من حديث ابن مسعود مرفوعاً : ( التائبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنبَ لَهُ )(4) .
__________
(1) في " الأوسط " ( 4854 ) و( 5257 ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) عبارة : ( قيل : فإن عاد ؟ قال : يستغفر الله ويتوب ) لم ترد في ( ص ) .
(4) أخرجه : ابن ماجه ( 4250 ) .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 10281 ) وأبو نعيم في " الحلية " 4/210 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 108 ) من حديث أبي عبيدة ، عن أبيه ابن مسعود ولم يسمع منه .

وقيل للحسن(1) : ألا يستحيي أحدُنا من ربه يستغفِرُ من ذنوبه ، ثم يعود ، ثم يستغفر ، ثم يعود ، فقال : ودَّ الشيطانُ لو ظَفِرَ منكم بهذه، فلا تملُّوا من الاستغفار . وروي عنه أنَّه قال : ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين(2) ، يعني : أنَّ المؤمن كلما أذنب تاب ، وقد رُوي ( المؤمن مُفَتَّنٌ توَّاب )(3) . وروي من حديث جابر بإسنادٍ ضعيفٍ مرفوعاً : ( المؤمن واهٍ راقعٌ فسعيدٌ من هلك على رقعه )(4) .
وقال عمرُ بنُ عبد العزيز في خطبته : من أحسن منكم فليَحْمَدِ الله ، ومن أساء فليستغفر الله وليتب(5) ، فإنَّه لابُدَّ لأقوامٍ من أنْ يعملوا أعمالاً وظَّفها الله في رقابهم ، وكتبها عليهم . وفي رواية أخرى عنه أنَّه قال : أيُّها الناسُ مَنْ ألمَّ بذنبٍ فليستغفرِ الله وليتب ، فإنْ عاد فليستغفر الله وليتب ، فإنْ عادَ فليستغفر الله وليتب ، فإنَّما هي خطايا مطوَّقة في أعناقِ الرجال ، وإنَّ الهلاك كُلَّ الهلاك في الإصرار
عليها(6) .
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 1609 ) .
(3) أخرجه : أحمد 1/80 و103 ، وأبو يعلى ( 483 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/178-179 من حديث علي ، به ، وإسناده ضعيف جداً ، والمتن منكر .
(4) أخرجه : الطبراني في " الصغير " ( 179 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7123 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به ، وهو كذلك مع ضعف سنده فمتنه منكر باطل .
(5) لم ترد في ( ج ) .
(6) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35082 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/296 .

ومعنى هذا أنَّ العبدَ لابُدَّ أنْ يفعل ما قُدِّرَ عليه من الذنوب كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( كُتِبَ على ابنِ آدم حَظُّهُ من الزنى ، فهو مُدركٌ ذلك لا محالةَ )(1) . ولكنَّ الله جعل للعبد مخرجاً مما وقع فيه من الذنوب(2) بالتوبة والاستغفار ، فإنْ فعل ، فقد تخلص من شرِّ الذنب ، وإنْ أصرَّ على الذنب ، هلك .
وفي " المسند " من حديث عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال :
( ارحَمُوا تُرْحَموا ، واغْفِروا يُغْفَرْ لكُم ، وَيلٌ لأقْماعِ القولِ ، وَيلٌ للمُصِرِّين الذين يُصرون على ما فعلوا وهُمْ يَعْلَمون )(3) وفسر أقماعُ القول بمن كانت أذناه كالقمع لما يسمع من الحكمة والموعظة الحسنة ، فإذا دخل شيء من ذلك في أذنه(4) خرج من الأخرى ، ولم ينتفع بشيء مما سمع .
__________
(1) أخرجه : البخاري 8/67 ( 6243 ) و8/156 ( 6612 ) ، ومسلم 8/51 ( 2657 )
( 20 ) ، وأبو داود ( 2152 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(2) زاد بعدها في ( ج ) : ( ومحاه ) .
(3) أخرجه : أحمد 2/165 و219 ، وعبد بن حميد ( 320 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد "
( 380 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7236 ) و( 11052 ) عن حبان بن زيد ، عن عبد الله بن عمرو ، به ، وإسناده لا بأس به .
(4) عبارة : ( في أذنه ) سقطت من ( ص ) .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنة ) قد يُراد بالحسنة التوبة من تلك السيئة ، وقد ورد ذلك صريحاً في حديث مرسَلٍ (1) خرَّجه ابنُ أبي الدنيا من مراسيل محمد بن جُبيرٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن قال : ( يا معاذ اتَّقِ الله ما استطعتَ ، واعمل بقوَّتِكَ لله - عز وجل - ما أطقت ، واذكرِ الله - عز وجل - عند كلِّ شجرةٍ وحجر ، وإن أحدثت ذنباً ، فأحدث عنده توبة ، إنْ سرَّاً فسر ، وإنْ علانيةً فعلانية )(2) . وخرَّجه أبو نعيم(3) بمعناه من وجهٍ آخرَ ضعيف عن معاذ . وقال قتادة : قال سلمان : إذا أسأتَ سيئةً في سريرةٍ، فأحسن حسنة في سريرةٍ ، وإذا أسأتَ سيئةً في علانية ، فأحسن حسنةً في علانية ، لكي تكونَ هذه بهذه . وهذا يحتمِلُ أنَّه أراد بالحسنة التوبة أو أعمَّ منها .
__________
(1) المرسل أحد أنواع الضعيف .
(2) أخرجه : الطبراني كما في "مجمع الزوائد" 10/74 ، وقال عنه الهيثمي : ( إسناده حسن ) .
(3) في " الحلية " 1/240-241 ، وضعفه بسبب إسماعيل بن رافع . قال أبو حاتم
: ( منكر الحديث ) ، وقال أحمد بن حنبل : ( ضعيف ) . الجرح والتعديل 2/110
( 566 ) .

وقد أخبر الله في كتابه أنَّ من تاب من ذنبه ، فإنَّه يُغفر له ذنبه أو يتاب عليه في مواضع كثيرةٍ ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ } (1) ، وقوله : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } (2) ، وقوله : { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } (3) ، وقوله : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } (4) ، وقوله : { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً } (5) ، وقوله : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ } (6) . الآيتين .
قال عبدُ الرازق : أخبرنا جعفرُ بنُ سليمان ، عن ثابت ، عن أنس قال : بلغني أنَّ إبليسَ حين نزلت هذه الآية { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } ، بكى(7)
__________
(1) النساء : 17 .
(2) النحل : 119 .
(3) الفرقان : 70 .
(4) طه : 82 .
(5) مريم : 60 .
(6) آل عمران : 135 .
(7) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 6229 ) .

وانظر : الدر المنثور 2/137 .

. ويُروى عن ابن مسعودٍ قال : هذه الآية(1) خيرٌ لأهل الذنوب من الدنيا وما فيها(2) . وقال ابنُ سيرين : أعطانا الله هذه الآية مكان ما جعل لبني إسرائيل في كفارات ذنوبهم .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال : قال رجلٌ : يا رسولَ الله لو كانت(3) كفاراتُنا ككفاراتِ بني إسرائيل ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
: ( اللهمَّ لا نبغيها - ثلاثاً - ما أعطاكم الله خيرٌ مما أعطى بني إسرائيل ، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة ، وجدها مكتوبةً على بابه وكفارَتها ، فإنْ كفَّرها كانت خزياً في الدنيا ، وإنْ لم يكفِّرها كانت له خزياً في الآخرة ، فما أعطاكم الله خيرٌ مما أعطى بني إسرائيل قال : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً } (4) (5) .
وقال ابن عباس في قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (6)، قال : هو سعةُ الإسلامِ ، وما جعل الله لأمة محمد من التوبة والكفارة(7) .
وظاهر هذه النصوص تدلُّ على أنَّ من تاب إلى الله توبةً نصوحاً ، واجتمعت شروطُ التوبة في حقه، فإنَّه يُقطع بقبولِ الله توبته ، كما يُقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلاماً صحيحاً ، وهذا قولُ الجمهور ، وكلامُ ابن عبدِ البرِّ يدلُّ على أنَّه إجماع(8) .
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) أخرجه : ابن المنذر كما في " الدر المنثور " 2/137 .
(3) من قوله : ( في كفارات ذنوبهم ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) النساء : 110 .
(5) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 1477 ) .
(6) الحج : 78 .
(7) انظر : تفسير ابن أبي حاتم 8/2506 ( 14034 ) .
(8) انظر : التمهيد 6/340 ( ط دار إحياء التراث العربي ) .

ومِنَ الناسِ مَنْ قال : لا يقطع بقبول التوبة ، بل يُرجى ، وصاحبُها تحت المشيئة وإنْ تاب(1) ، واستدلوا بقوله : { إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء } (2) فجعل الذنوبَ كُلَّها تحت مشيئته ، وربما استدلَّ بمثل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } (3) ، وبقوله : { فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ } (4) ، وقوله : { وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (5) ، وقوله : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } (6) .
والظاهر أنَّ هذا في حقِّ التائبِ ؛ لأنَّ الاعترافَ يقتضي الندم ، وفي حديث عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ العبد إذا اعترف بذنبه ، ثم تابَ تاب الله
عليه )(7) ، والصحيح قولُ الأكثرين .
__________
(1) انظر : المفهم 5/269 . والمحرر الوجيز 4/33 .
(2) النساء : 48 .
(3) التحريم : 8 .
(4) القصص : 67 .
(5) النور : 31 .
(6) التوبة : 102 ، وهذه الآية لم ترد في ( ص ) .
(7) أخرجه : عبد الرزاق ( 9748 ) ، وأحمد 6/196 ، والبخاري 3/227 ( 2661 ) و5/152 ( 4141 )، و6/127 ( 4750 ) ، ومسلم 8/112-116 ( 2770 ) ( 56 ) ، وابن حبان ( 4212 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7028 ) من طرق عن عائشة ، به .

وهذه الآيات لا تدلُّ على عدم القطع ، فإنَّ الكريمَ إذا أطمع ، لم يقطع
من رجائه المطمع ، ومِنْ هنا قال ابنُ عباس : إنَّ ( عسى ) من الله واجبة(1) ،
نقله عنه عليُّ بن أبي طلحة . وقد ورد جزاءُ الإيمان والعمل الصالح بلفظ
: ( عسى ) أيضاً ، ولم يدلَّ ذلك على أنَّه غيرُ مقطوع به ، كما في قوله
: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ
وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ } (2) .
وأما قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (3) ، فإنَّ التائب ممن شاء أنْ يغفرَ له ، كما أخبر بذلك في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه .
وقد يُراد بالحسنة في قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أتبع السَّيِّئة الحسنة ) ما هو أعمُّ من التوبة ، كما في قوله تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } (4) ، وقد رُوي من حديث معاذ أنَّ الرجل الذي نزلت بسببه هذه الآية أمره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يتوضَّأ ويُصلِّي(5) .
__________
(1) انظر : تفسير ابن أبي حاتم 6/1766 . وتفسير القرطبي 8/91 .
(2) التوبة : 18 .
(3) النساء : 48 .
(4) هود : 114 .
(5) أخرجه : أحمد 5/244 ، والترمذي ( 3113 ) ، وقال : ( هذا حديث ليس إسناده متصل ، عبد الرحمان بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ ) .
... والنسائي في " الكبرى " ( 7287 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 14376 ) ، والطبراني
في " الكبير " 20/ ( 277 ) ، ( 278 ) ، والدارقطني 1/134 ، والحاكم
1/135 .

وخرَّج الإمامُ أحمدُ(1) ، وأبو داود(2) ، والترمذي(3) ، والنسائي(4) ، وابنُ ماجه(5) من حديث أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَا مِنْ رَجُلٍ يُذنِبُ ذنباً ، ثمَّ يقومُ فيتطهَّر ، ثمَّ يُصلِّي ، ثمَّ يستغفر الله إلاَّ غَفَرَ الله له ) ثم قرأ هذه الآية : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } (6).
وفي " الصحيحين " (7) عن عثمانَ : أنَّه توضأ ، ثم قال : رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال : ( مَنْ توضَّأ نحو وضوئي هذا ثم صلَّى ركعتين لا يُحدِّثُ فيهما نفسَه ، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه ) .
وفي " مسند الإمام أحمد " (8) عن أبي الدرداء قال : سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( مَنْ توضَّأ فأحسنَ الوضوءَ ، ثمَّ قام فصلَّى ركعتين أو أربعاً يُحسِنُ فيهما الركوعَ والخشوعَ ، ثمَّ استغفرَ الله غُفِرَ له ) .
__________
(1) في " مسنده " 1/2 و10 .
(2) في " سننه " ( 1521 ) .
(3) الترمذي ) لم ترد في ( ص ) والحديث في " الجامع الكبير " ( 406 ) و( 3006 ) ، وقال : ( حديث علي حديث حسن ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، من حديث عثمان بن المغيرة ) .
(4) في " عمل اليوم والليلة " ( 414 ) و( 417 ) .
(5) في " سننه " ( 1395 ) .
(6) آل عمران : 135 .
(7) صحيح البخاري 1/51 ( 159 ) و( 164 )، وصحيح مسلم 1/141 ( 227 ) و( 228 ) و( 229 ) .
(8) المسند 6/443 و450 ، وإسناده ضعيف لجهالة ميمون أبي محمد المرائي .

وفي " الصحيحين " (1) عن أنس قال : كُنتُ عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فجاء رجل ، فقال : يا رسولَ الله إني أصبتُ حداً ، فأقمه عليَّ ، قال : ولم يسأله عنه ، فحضرتِ

الصلاةُ فصلى مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قضى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ قام إليه الرجلُ فقال : يا رسول الله إنِّي أصبت حداً ، فأقم فيَّ كتاب الله ، قال : ( أليس قد صلَّيت معنا ؟ ) قال : نعم ، قال : ( فإنَّ الله قد غَفَرَ لك ذنبك - أو قال : - حدَّك ) ، وخرَّجه مسلم(2) بمعناه من حديث أبي أمامة ، وخرَّجه ابنُ جرير الطبري(3) من وجه آخر عن أبي أُمامة ، وفي حديثه قال : ( فإنَّك مِنْ خطيئتك كما ولدتك أمُّك فلا تَعُدْ ) ، وأنزل الله : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } (4) .
وفي " الصحيحين " (5) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أرأيتُم لو أنَّ نهراً ببابِ أحدكم يَغْتَسِلُ فيه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ هل يبقى من درنه شيء ؟ ) قالوا : لا يبقى من درنه شيء ، قال : ( فذلك مَثَلُ الصَّلواتِ الخمس يمحو الله بهنَّ
الخطايا ) .
وفي " صحيح(6) مسلم " (7) عن عثمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من تَوضَّأَ فأحسنَ الوضوءَ ، خرجت خطاياه من جسده حتى تَخرجَ من تحت أظفاره ) .
__________
(1) صحيح البخاري 8/206 ( 6823 ) ، وصحيح مسلم 8/102 ( 2764 ) .
(2) في " صحيحه " 8/102 ( 2765 ) .
(3) في " تفسيره " ( 14378 ) .
(4) هود : 114 .
(5) صحيح البخاري 1/140 ( 528 ) ، وصحيح مسلم 2/130-131 ( 667 ) ( 283 ) .
(6) في ( ص ) : ( وفي الصحيح ) .
(7) صحيح مسلم 1/148 ( 245 ) ( 33 ) .

وفيه(1) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال(2) : ( ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدَّرجات ؟ ) قالوا : بلى يا رسولَ الله ، قالَ : ( إسباغُ الوضوءِ على المكارهِ ، وكَثرةُ الخُطا إلى المساجد ، وانتظارُ الصَّلاة بعد الصَّلاة ، فذلكُم الرباطُ ، فذلكُمُ الرباط ) .
وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ صَامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً ، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً ، غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه ، ومَنْ قَام لَيلةَ القدرِ إيماناً واحتساباً ، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه(4) ) .
وفيهما(5) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ حَجَّ هذا البيتَ ، فلم يَرفُثْ ، ولم يَفسُقْ ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُّهُ ) .
وفي " صحيح مسلم " (6) عن عمرو بن العاص ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الإسلام يَهدِمُ ما كان قبله ، وإنَّ الهِجرةَ تَهدِمُ ما كان قبلها ، وإنَّ الحجَّ يَهدِمُ ما كانَ قبله ) .
__________
(1) صحيح مسلم 1/150 ( 251 ) ( 41 ) .
(2) من قوله : ( من توضأ فأحسن ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) صحيح البخاري 3/33 ( 1901 ) و3/58 ( 2008 ) و( 2009 ) و3/59 ( 2014 ) ، وصحيح مسلم 2/176 ( 759 ) ( 173 ) ( 174 ) .
(4) من قوله : ( ومن قام ليلة القدر ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) صحيح البخاري 3/14 ( 1819 ) و( 1820 ) ، وصحيح مسلم 4/106 ( 1350 )
( 438 ) .
(6) الصحيح 1/77 ( 121 ) ( 192 ) .

وفيه (1) من حديث أبي قتادة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال في صوم عاشوراء :
( أحتسبُ على الله أنْ يُكفِّر السنة التي قبله ) ، وقال في صوم يوم عرفة
: ( أحتسِبُ على اللهِ أنْ يُكفِّر السنة التي قبله والتي بعده ) .
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديث عُقبة بن عامر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَثَلُ الذي يعمل السيئاتِ ، ثم يعمل الحسناتِ ، كمثل رجلٍ كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ، ثم عَمِلَ حسنة فانفكت حلقة ، ثم عَمِلَ حسنة أخرى ، فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض )(2) .
ومما يُكفِّرُ الخطايا ذكرُ الله - عز وجل - ، وقد ذكرنا فيما تقدَّم أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ
عن قول : ( لا إله إلاَّ الله ) أمِنَ الحسنات هي ؟ قالَ : ( هي أحسن
الحسنات ) .
وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من قال : سبحان اللهِ وبحمده في يومه مئة مرة ، حُطَّتْ خطاياه وإنْ كانت مِثلَ زَبَدِ
البَحرِ ) .
__________
(1) صحيح مسلم 3/166 ( 1162 ) ( 196 ) .
(2) أخرجه : أحمد 4/145. وأخرجه أيضاً : نعيم بن حماد في " زياداته على كتاب الزهد "
لعبد الله بن المبارك ( 170 ) ، والطبراني في " الكبير " 17/( 783 ) و( 784 ) ، والبغوي
( 4149 ) ، وهو حديث قويٌّ .
(3) صحيح البخاري 8/107 ( 6405 ) ، وصحيح مسلم 8/68 ( 2692 ) ( 29 ) .

وفيهما(1) عنه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ قالَ : لا إله إلا الله وحده لا شَريكَ له ، له الملكُ ، وله الحمدُ يُحيي ويُميت وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ في يوم مئة مرَّة ، كانت له عِدْل عشرِ رقابٍ ، وكتبت له مئةُ حسنةٍ ، ومُحيت عنه مئةُ سيئة ، وكانت له حِرزاً من الشيطان يومَه ذلك حتى يُمسيَ ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضَلَ مما جاء به إلا أحدٌ عمل أفضلَ مِنْ ذلك ) .
وفي " المسند " وكتاب ابن ماجه عن أمِّ هانئ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا إله إلا الله لا تترك ذنباً ، ولا يسبقها عمل )(2) .
وخرَّج الترمذيُّ(3) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه مرَّ بشجرةٍ يابسة الورق ، فضربها بعصاه ، فتناثر الوَرَقُ ، فقال : ( إنَّ الحمدَ للهِ ، وسبحان الله ، ولا إله إلاَّ الله ، والله أكبر لتساقط من ذنوبِ العبد كما يتساقط ورقُ هذه الشجرة ) .
وخرَّجه الإمام أحمد(4) بإسنادٍ صحيح عن أنسٍ : أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( إنَّ سبحانَ اللهِ ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر تَنفُضُ الخطايا كما تنفُضُ الشَّجرةُ ورقَها ) .
__________
(1) صحيح البخاري 4/153 ( 3293 ) ، و8/106 ( 6403 ) ، وصحيح مسلم 8/68
( 2191 ) ( 28 ) .
(2) أخرجه : أحمد 6/425 ، وابن ماجه ( 3797 ) ، وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر : نجيح ابن عبد الرحمان السندي ولجهالة صالح مولى وجزة ، وسند ابن ماجه ضعيف أيضاً لضعف زكريا بن منظور ومحمد بن عقبة مجهول الحال .
(3) في " الجامع الكبير " ( 3533 ) ، وقال : ( هذا حديث غريب ، ولا نعرف للأعمش سماعاً من أنس إلا أنه قد رآه ونظر إليه ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/55 ، والذهبي في " سير أعلام النبلاء " 6/240 .
(4) في " مسنده " 3/152 .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 634 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 1688 ) .

والأحاديث في هذا كثيرة جداً يطولُ الكتاب بذكرها .
وسئل الحسن عن رجل لا يتحاشى عن معصية إلا أنَّ لسانه لا يفتر من ذكر الله ، قال : إنَّ ذلك لَعَوْنٌ حَسَنٌ .
وسُئِلَ الإمام أحمد عن رجلٍ اكتسب مالاً من شبهةٍ : صلاتُه وتسبيحُهُ يَحُطُّ عنه شيئاً من ذلك ؟ فقالَ : إنْ صلَّى وسبَّح يريد به ذَلِكَ ، فأرجو ، قالَ الله تعالى :
{ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } (1) .
وقال مالكُ بنُ دينارٍ : البكاءُ على الخطيئة يحطُّ الخطايا كما تحطُّ الريحُ الورقَ اليابسَ .
وقال عطاء : من جلس مجلساً من مجالس الذِّكر ، كَفَّر به عشرة مجالس من مجالس الباطل(2) .
وقال شويس العدوي(3) - وكان من قدماء التابعين - إنَّ صاحبَ اليمين أمير - أو قال : أمين - على صاحب الشمال ، فإذا عَمِلَ ابنُ آدم سيئة ، فأراد صاحبُ الشمال أنْ يكتبها ، قال له صاحبُ اليمين : لا تَعْجَلْ لعلَّه يعمل حسنة ، فإنْ عَمِلَ حسنةً ، ألقى واحدةً بواحدة ، وكتبت له تسع حسنات ، فيقول الشَّيطانُ : يا وَيلَه من يدرك تضعيف ابن آدم(4) .
وخرَّج الطبراني(5)
__________
(1) التوبة : 102 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/313 .
(3) هو شويس بن حياش العدوي ، أبو الرقاد البصري . انظر : تهذيب الكمال 3/412
( 2768 ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/255 .
(5) في " الكبير " ( 3451 ) . وفي إسناده محمد بن إسماعيل بن عياش ضعيف ، وحدّث عن أبيه ولم يسمع منه ، قال أبو حاتم : ( لم يسمع من أبيه شيئاً ) .
انظر : الجرح والتعديل 7/258 ( 1078 ) ، وتهذيب الكمال 6/241 ( 5656 ) .

بإسنادٍ فيه نظر عن أبي مالك الأشعري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا نام ابنُ آدمَ ، قال الملك للشيطان : أعطني صحيفَتك ، فيعطيه إيَّاها ، فما وجد في صحيفته من حسنةٍ ، محى بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان ،
وكتبهنَّ حسناتٍ ، فإذا أراد أنْ ينامَ أحدُكم ، فليكبر ثلاثاً وثلاثين تكبيرة ويحمد أربعاً وثلاثين تحميدة ، ويسبح ثلاثاً وثلاثين تسبيحة ، فتلك مئة ) وهذا غريبٌ منكر .
وروى وكيع(1) : حدَّثنا الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ،
قال : قال عبدُ الله ، يعني : ابنَ مسعود : وددتُ أني صُولحت على أنْ أعمل
كُلَّ يوم(2) تسع خطيئات وحسنة(3). وهذا إشارة منه إلى أنَّ الحسنة يُمحى بها
التسع خطيئات ، ويَفضُلُ له ضعفٌ واحدٌ من ثواب الحسنة ، فيكتفي به ، والله
أعلم .
وقد اختلفَ الناسُ في مسألتين :
إحداهما : هل تُكفِّرُ الأعمالُ الصالحةُ الكبائرَ والصغائرَ أم لا تكفر
سوى الصغائر ؟ فمنهم من قال : لا تُكفر سوى الصغائر(4) ، وقد رُوي هذا
عن عطاء وغيره من السَّلف في الوضوء أنَّه يُكفر الصغائر ، وقال سلمان الفارسيُّ
في الوضوء : إنَّه يكفر الجراحات الصِّغار ، والمشي إلى المسجد يُكفر أكبرَ
من ذلك ، والصلاة تكفر أكبرَ من ذلك . خرَّجه محمد بن نصر
المروزي(5) .
__________
(1) هو وكيع بن الجراح بن مليح أبو سفيان الرؤاسي الكوفي ، توفي سنة ( 197 ه‍ ) .
انظر : تهذيب الكمال 7/461 ( 7290 ) ، وسير أعلام النبلاء 9/140 .
(2) عبارة : ( كل يوم ) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : وكيع بن الجراح في " الزهد " ( 277 ) ، وابن أبي شيبة ( 34543 ) .
(4) عبارة : ( فمنهم من قال : لا تكفر سوى الصغائر ) سقطت من ( ص ) .
(5) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 99 ) .

وأما الكبائر ، فلابدَّ لها من التوبة ؛ لأنَّ الله أمر العباد بالتوبة ، وجعل من لم يتب ظالماً، واتفقت الأمةُ على أنَّ التوبة فرض ، والفرائضُ لا تُؤدى إلا بنيةٍ وقصدٍ ، ولو كانت الكبائرُ تقع مكفرةً بالوضوء والصلاة ، وأداء بقية أركان الإسلام ، لم يُحْتَجْ إلى التوبة ، وهذا باطلٌ بالإجماع .
وأيضا فلو كُفِّرَت الكبائرُ بفعل الفرائض لم يبق لأحدٍ ذنبٌ يدخل به النار إذا أتى بالفرائض ، وهذا يشبه قولَ المرجئة وهو باطل ، هذا ما ذكره ابن عبد البرِّ في كتابه " التمهيد " (1) وحكى إجماع المسلمين على ذلك ، واستدلَّ عليه
بأحاديث :
منها : قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الصَّلواتُ الخمسُ ، والجمعَةُ إلى الجُمُعَةِ ، ورمضانُ إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بَينَهُنَّ ما اجتُنِبت الكبائرُ ) وهو مخرَّج في " الصحيحين " (2) من حديث أبي هريرة ، وهذا يدلُّ على أنَّ الكبائرَ لا تكفرها هذه الفرائضُ .
وقد حكى ابنُ عطية في " تفسيره " في معنى هذا الحديث قولين : أحدُهما
- وحكاه عن جمهور أهل السُّنة - : أنَّ اجتنابَ الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض للصغائر ، فإنْ لم تُجتنب ، لم تُكفر هذه الفرائض شيئاً بالكلية .
__________
(1) انظر : التمهيد 2/181 ( طبعة دار إحياء التراث العربي ) .
(2) أخرجه : مسلم 1/143 ( 233 ) ( 14 ) – ( 16 ) ، ولم يخرجه البخاري .
وأخرجه : الطيالسي ( 2470 ) ، وأحمد 2/229 و359 و400 و414 و484 ، وابن ماجه
( 1086 ) ، والترمذي ( 214 ) ، وابن خزيمة ( 314 ) و( 1814 ) ، وأبو عوانة 2/20 ، والحاكم 1/119-120 ، و4/259 ، والبيهقي في " الكبرى " 2/466-467 و10/187 ، والبغوي ( 345 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .

والثاني : أنَّها تُكفر الصغائر مطلقاً ، ولا تُكفر الكبائر وإنْ وجدت ، لكن بشرط التوبة من الصغائر ، وعدمِ الإصرار عليها ، ورجَّحَ هذا القول ، وحكاه عن الحذاق(1) .
وقوله : بشرط التوبة من الصغائر ، وعدمِ الإصرار عليها ، مرادُه أنَّه إذا أصرَّ
عليها ، صارت كبيرةً ، فلم تكفرها الأعمالُ . والقولُ الأوَّلُ الذي حكاه غريب ، مع أنَّه قد حُكِيَ عن أبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا مثلُه .
وفي " صحيح مسلم " (2) عن عثمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَا مِن امرئ مسلمٍ تحضُرُه صلاةٌ مكتوبة ، فيُحسِنُ وضوءها وخُشوعَها ورُكوعها إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب ما لم يُؤْتِ كبيرةً ، وذلك الدهر كُلَّه ) .
وفي " مسند الإمام أحمد " (3) عن سلمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يتطهَّرُ الرجلُ -يعني: يوم الجمعة- فيحسن طهوره، ثم يأتي الجمعة فَيُنْصِتَ حتى يقضيَ الإمامُ صلاته ، إلا كان كفَّارة ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما اجتنبت الكبائر
المقتلة ) .
__________
(1) انظر : التمهيد 2/181 ( طبعة دار إحياء التراث العربي ) ، وتفسير ابن عطية 4/33 .
(2) الصحيح 1/141 ( 228 ) ( 7 ) .
(3) المسند 5/439 و440 .
وأخرجه : النسائي ( 1665 ) و( 1725 ) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 1/368 والطبراني في " الكبير " ( 6089 ) و( 6090 ) ، والخطيب في " موضح أوهام الجمع
والتفريق " 1/164 ، وهو حديث قويٌّ .

وخرَّج النسائي ، وابنُ حبان(1) ، والحاكمُ من حديث أبي سعيدٍ وأبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( والَّذي نفسي بيده ما مِنْ عبدٍ يُصلِّي الصلواتِ الخمس ،
ويصومُ رمضان ، ويُخرج الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبعَ ، إلا فُتِحَتْ له أبوابُ الجنَّة ، ثم قيل له : ادخل بسلام ) (2) . وخرَّج الإمامُ أحمد والنَّسائي من حديث أبي أيوب ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معناه أيضاً(3) . وخرَّج الحاكم(4) معناه من حديث عبيد بن
عمير ، عن أبيه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
ويُروى من حديث ابن عمر مرفوعاً : ( يقولُ الله - عز وجل - : ابنَ آدمَ اذكُرني من أوَّلِ النهار ساعةً ومن آخرِ النهار ساعةً ، أَغْفِر لك ما بَينَ ذلك ، إلا الكبائر ، أو تتوب منها )(5) .
وقال ابن مسعود: الصلواتُ الخمس كفَّاراتٌ لما بينهن ما اجتنبت الكبائر(6).
وقال سلمان : حافظوا على هذه الصلوات الخمس ، فإنَّهنَّ كفَّارات لهذه الجراح ما لم تُصب المقتلة(7) .
__________
(1) تحرف في ( ص ) إلى : ( ابن ماجه ) .
(2) أخرجه : النسائي 5/8 ، وابن حبان ( 1748 ) ، والحاكم 1/200 و2/240 ، وإسناده ضعيف لجهالة صهيب مولى العتواري فقد تفرد بالرواية عنه نعيم المجمر .
(3) أخرجه : أحمد 5/413 ، والنسائي 7/88 .
وأخرجه : ابن حبان ( 3247 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3885 ) و( 3886 ) وفي
" مسند الشاميين " ، له ( 1144 ) من طرق عن أبي أيوب ، به .
(4) في " المستدرك " 1/59 و4/259 عن عبيد بن عمير ، عن أبيه ، به .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/213 من حديث الحسن ، عن أبي هريرة . والحسن لم يسمع من أبي هريرة .
(6) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 206 ) .
(7) أخرجه : عبد الرزاق ( 148 ) و( 4737 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 6051 ) .

قال ابنُ عمر لرجل : أتخاف النارَ أنْ تدخلها ، وتحبُّ الجنَّةَ أنْ تدخلها ؟ قال : نعم ، قال : برَّ أمَّك فوالله لَئِنْ ألنتَ لها الكلام وأطعمتها الطَّعام ، لتدخلن الجنَّة ما اجتنبت الموجبات(1) . وقال قتادة : إنَّما وعد الله المغفرةَ لمن اجتنب الكبائر(2) ، وذكر لنا أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( اجتنبوا الكبائرَ وسدِّدوا وأبشروا )(3) .
وذهب قومٌ من أهل الحديث وغيرهم إلى أنَّ هذه الأعمالَ تُكفِّرُ الكبائرَ ، ومنهم : ابن حزم الظاهري ، وإيَّاه عنى ابنُ عبد البرّ في كتاب " التمهيد " بالردِّ عليه وقال : قد كنتُ أرغبُ بنفسي عن الكلام في هذا الباب ، لولا قولُ ذلك القائل ، وخشيتُ أنْ يغترَّ به جاهلٌ ، فينهمِكَ في الموبقاتِ ، اتِّكالاً على أنَّها تكفِّرُها الصلواتُ دونَ الندم والاستغفار والتوبة ، والله نسألُه العصمة والتوفيقَ(4) .
__________
(1) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 19705 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " 1/17 ، والطبري في " تفسيره " 5/39 . والروايات مطولة والمختصرة ، متباينة اللفظ متفقة المعنى .
(2) من قوله : ( وقال قتادة ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) أخرجه : أحمد 3/394 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(4) انظر : التمهيد 2/183 ( طبعة دار إحياء التراث العربي ) .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8