كتاب:جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم
تأليف : زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبِ

وكان بعضهم جالساً مع أصحابه فسمِعوا صوتاً يقول : يا فلان أجِبْ ، فهذه والله آخرُ ساعاتِك مِنَ الدُّنيا ، فوثب وقال : هذا والله حادي الموت ، فودَّع أصحابه ، وسلَّم عليهم ، ثمَّ انطلق نحو الصوت ، وهو يقول : سلامٌ على المرسلين ، والحمد لله ربِّ العالمين ، ثم انقطع عنهم الصوتُ ، فتتبَّعوا أثره ، فوجدوه ميتاً .
وكان بعضهم جالساً يكتب في مصحف ، فوضع القلمَ من يده ، وقال : إنْ كان موتُكم هكذا ، فوالله إنَّه لموتٌ طيِّبٌ ، ثم سقط ميتاً . وكان آخر جالساً يكتب الحديثَ ، فوضع القلم من يده ، ورفع يديه يدعو الله ، فمات .

الحديث التاسع والثلاثون
عَنِ ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : ( إنَّ الله تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ والنِّسيانَ ، وما استُكْرِهُوا عليهِ ) . حديثٌ حسَنٌ رَواهُ ابنُ ماجهْ والبَيَهقيُّ وغيرهما .
هذا الحديثُ خرَّجه ابن ماجه (1) من طريق الأوزاعي ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وخرَّجه ابنُ حبَّان في " صحيحه " (2) والدارقطني (3) ، وعندهما : عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن عُبيد بن عمير ، عن ابنِ عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا إسناد صحيح في ظاهر الأمر ، ورواتُه كلهم محتجٌّ بهم في " الصحيحين " وقد خرَّجه الحاكم (4) ، وقال : صحيح على شرطهما . كذا قال ، ولكن له علة ، وقد أنكره الإمام أحمد (5) جداً ، وقال : ليس يُروى فيه إلاَّ عن الحسن ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً . وقيل لأحمد : إنَّ الوليد بن مسلم روى عن مالك ، عن نافع ، عن ابن
عمر مثله (6) ، فأنكره أيضاً (7) .
__________
(1) في " سننه " ( 2045 ) .
وأخرجه : العقيلي في " الضعفاء الكبير " 4/145 ، والطبراني في " الأوسط " ( 8273 ) ، والبيهقي 6/84 و7/156 - 157 .
(2) الحديث ( 7219 ) .
(3) في " السنن " 4/170 - 171 .
وأخرجه : الطحاوي في " شرح المعاني " 3/95 ، وابن حبان ( 7219 ) ، والطبراني في
" الصغير " ( 752 ) ، وابن عدي في " الكامل " 3/209 و212 و213 ، والحاكم 2/198 ، والبيهقي 7/156 و10/61 .
(4) في " المستدرك " 2/198 .
(5) في " العلل " ، له 1/205 .
(6) أخرجه : العقيلي في " الضعفاء الكبير " 4/145 ، والطبراني في " الأوسط " ( 8274 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/352 ، والبيهقي 6/84 .
(7) انظر : العلل لأحمد بن حنبل 1/205 .

وذكر لأبي حاتم الرازي حديثُ الأوزاعي ، وحديث مالك ، وقيل له : إنَّ الوليد روى أيضاً عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان ، عن عقبة بن عامر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مثله (1) ، فقال أبو حاتم : هذه أحاديث منكرة كأنَّها موضوعة ، وقال : لم يسمع الأوزاعيُّ هذا الحديث من عطاءٍ ، وإنَّما سمعه من رجل لم يسمه ، أتوهَّمُ أنّه عبدُ الله بن عامر ، أو إسماعيل بن مسلم ، قال : ولا يصحُّ هذا الحديث ، ولا يثبت إسنادُه (2) .
قلت : وقد رُوي عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن عُبيد بن عُمَير مرسلاً من غير ذكر ابن عباس (3) ، وروى يحيى بنُ سليم ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء : بلغني أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله تجاوزَ لأمَّتي عَنِ الخطأ والنِّسيان ، وما استُكرهوا عليه ) (4) خرَّجه الجوزجاني ، وهذا المرسلُ أشبه .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 8276 ) ، والبيهقي 7/357 .
(2) انظر : العلل لابن أبي حاتم 1/431 .
(3) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 3/212 .
(4) أخرجه : ابن أبي شيبة 4/172 .

وقد ورد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعاً رواه مسلم بن خالد الزنجي ،
عن سعيد العلاف ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( تُجُوِّزَ لأمَّتي عن
ثلاث : عن الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه ) (1) خرَّجه الجوزجاني . وسعيد
العلاف : هو سعيد بن أبي صالح ، قال أحمد : وهو مكيٌّ ، قيل له : كيف حالُه ؟
قالَ : لا أدري وما علمتُ أحداً روى عنه غير مسلم بن خالد (2) ، قالَ أحمد : وليس هذا مرفوعاً ، إنَّما هوَ عن ابن عباس قوله . نقل ذَلِكَ عنه مهنا ، ومسلم بن خالد ضعفوه (3) .
وروي من وجه ثالثٍ من رواية بقية بن الوليد ، عن عليٍّ الهمداني ، عن أبي جمرة عن ابن عباس مرفوعاً ، خرَّجه حرب ، ورواية بقية عن مشايخه المجاهيل لا تُساوي شيئاً .
ورُوي من وجه رابع خرَّجه ابن عدي (4) من طريق عبد الرحيم بن زيد العَمِّي ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وعبد الرحيم هذا ضعيف (5)
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 11274 ) .
(2) انظر : الجرح والتعديل 4/77 ( 5443 ) .
(3) قال ابن معين : ( ليس به بأس ) ، وقال مرة : ( ثقة ) ، وقال مرة : ( ضعيف ) ، وقال البخاري : ( منكر الحديث ) ، وقال أبو حاتم : ( لا يحتج به ) ، وضعفه أبو داود ، وقال ابن المديني : ( ليس بشيء ) ، وقال النسائي : ( ضعيف ) .
انظر : التاريخ الكبير 7/138 ( 10435 ) ، والكامل لابن عدي 8/6 ، وميزان الاعتدال 4/102 ( 8485 ) .
(4) في " الكامل " 6/494 .
(5) قال عنه يحيى بن معين : ( ليس بشيء ) ، وقال مرة : ( تركوه ) ، وقال البخاري
: ( تركوه ) ، وقال أبو زرعة : ( واهي ، ضعيف الحديث ) ، وقال العقيلي : ( لا يتابع عليه ولا على كثير من حديثه ) .

انظر : التاريخ الكبير 5/368 ( 7915 ) ، والجرح والتعديل 5/402 ، والضعفاء للعقيلي 3/79 ، والكامل لابن عدي 9/493 .

.
وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ أُخَر ، وقد تقدَّم أنَّ الوليد بن مسلم رواه عن مالك، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعاً ، وصححه الحاكم وغرَّبه (1) ، وهو عند حُذَّاق الحفّاظ باطل على مالك ، كما أنكره الإمامُ أحمد وأبو حاتم ، وكانا يقولان عن الوليد : إنَّه كثيرُ الخطأ . ونقل أبو عبيد الآجري عن أبي داود ، قال : روى الوليدُ بن مسلم عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصلٌ ، منها : عن نافع أربعة (2).
قلت : والظاهر أنَّ منها هذا الحديث ، والله أعلم .
وخرَّجه الجوزجاني من رواية يزيد بن ربيعة سمعتُ أبا الأشعث يُحدث عن ثوبان عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله - عز وجل - تجاوز عن أمتي عن ثلاثة : عن الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه ) (3) . و يزيد بن ربيعة ضعيف جداً (4) .
وخرَّج ابن أبي حاتم (5)
__________
(1) انظر : التلخيص الحبير 1/673 .
(2) سؤالات أبي عبيد الآجري 2/183 ( 1543 ) ، وانظر : تهذيب الكمال 3/444
( 2847 ) ، وميزان الاعتدال 4/347 ، وتهذيب التهذيب 4/380 و11/136 .
(3) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 1430 ) .
(4) قال عنه البخاري : ( عنده مناكير ) ، قال مرة : ( حديثه مناكير ) ، وقال أبو حاتم
: ( ضعيف الحديث ، منكر الحديث ، واهي الحديث ) ، وقال النسائي : ( متروك ) ، وقال السعدي : ( أحاديث يزيد بن ربيعة أباطيل ، أخاف أن تكون موضوعة ) .
انظر : التاريخ الكبير 8/213 ، والجرح والتعديل 9/322 ، والضعفاء للعقيلي 4/376 ، والكامل لابن عدي 9/133 ، وميزان الاعتدال 4/422 .
(5) في " التفسير " ( 3092 ) ، والطبراني كما في " نصب الراية " 2/65 .

وأخرجه : ابن عدي في " الكامل " 4/343 عن الحسن مرسلاً .

من رواية أبي بكر الهذلي ، عن شهر بن حوشب ، عن أمِّ الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله تجاوزَ لأمَّتي عن ثلاث : عن الخطأ والنسيان والاستكراه ) . قال أبو بكر : فذكرت ذلك للحسن ، فقال : أجل ، أما تقرأ بذلك قرآنا : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } (1) . وأبو بكر الهذلي متروك الحديث (2) .
وخرَّجه ابن ماجه (3) ، ولكن عنده عن شهر ، عن أبي ذرٍّ الغفاري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكر هوا عليه ) ولم يذكر كلام الحسن .
__________
(1) البقرة : 286 .
(2) ذكر أبو بكر الهذلي لشعبة ، فقال : ( دعني لا أقيء ) ، وقال ابن معين : ( ليس بثقة ) ، وقال غندر : ( كان أبو بكر الهذلي كذاباً ) ، وقال البخاري : ( ليس بالحافظ عندهم ) ، وقال النسائي : ( متروك الحديث ) ، وقال أيضاً : ( ليس بثقة ) .
انظر : الكامل لابن عدي 4/340 - 341 ، وميزان الاعتدال 4/497 .
(3) في " سننه " ( 2043 ) .

وأما الحديث المرسل عن الحسن ، فرواه عنه هشام بن حسّان (1) ، ورواه منصور ، وعوف عن الحسن (2) من قوله ، لم يرفعه . ورواه جعفر بن جسر بن فرقد ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن أبي بكرة مرفوعاً (3) ، وجعفر وأبوه
ضعيفان (4) .
قال محمدُ بن نصر المروزي (5) : ليس لهذا الحديث إسنادٌ يحتجُّ به حكاه البيهقي .
وفي " صحيح مسلم " (6) عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال لما نزل قولُه تعالى { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } (7) قال الله : قد فعلتُ .
__________
(1) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20588 ) ، وعبد الرزاق ( 11416 ) ، وسعيد بن منصور في " السنن " ( 1145 ) .
(2) أخرجه : سعيد بن منصور في " السنن " ( 1144 ) .
(3) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 2/390 ، وأبو نعيم في " أخبار أصفهان " 1/90 - 91 و251 - 252 .
(4) قال البخاري : ( جسر ليس بذاك عندهم ) ، وقال : ( ليس بقوي ) ، وقال ابن معين
: ( جسر ليس بشيء ) ، وقال النسائي : ( جسر ضعيف ) ، وقال أبو حاتم : ( جسر ليس بالقوي كان رجلاً صالحاً ) ، وقال ابن عدي : ( لجعفر مناكير وأبيه مضعِّف ) ، وقال أيضاً : ( جسر من الضعفاء وابنه مثله ) . =
= ... انظر : التاريخ الكبير 2/226، والجرح والتعديل 2/472 ، والكامل لابن عدي 2/390 و421 و425 ، وميزان الاعتدال 1/398 و404 .
(5) في الاختلافات كما في " التلخيص الحبير " 1/672 .
(6) 1/81 ( 126 ) ( 200 ) .
وأخرجه : الترمذي ( 2992 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 11059 ) وفي " التفسير " ، له ( 79 ) ، والطبراني في " تفسيره " ( 5130 ) ، وابن حبان ( 5069 ) ، والواحدي في
" أسباب النْزول " ( 116 ) بتحقيقي .
(7) البقرة : 286 .

وعن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أنَّها لما نزلت ، قال : نعم (1) ، وليس واحدٌ منهما مصرّحاً برفعه .
وخرّج الدارقطني (2) من رواية ابن جُريج ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، عن
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ، وما أكرهوا عليه ،
إلاَّ أنْ يتكلَّموا به أو يعملوا ) ، وهو لفظ غريب . وقد خرَّجه النسائي (3) ولم يذكر الإكراه . وكذا رواه ابنُ عُيينة عن مِسعَرٍ ، عن قتادة ، عن زُرارة بن أوفى ، عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وزاد فيه : ( وما استكرهوا عليه ) خرَّجه ابن
ماجه (4) . وقد أنكرت هذه الزيادة على ابن عيينة ، ولم يُتابعه عليها أحد . والحديث مخرَّجٌ من رواية قتادة في " الصحيحين " والسنن والمسانيد بدونها .
ولنرجع إلى شرح حديث ابن عباس المرفوع ، فقوله : ( إنَّ الله تجاوز لي عن أُمَّتي الخطأ والنِّسيان ) إلى آخره تقديره : إنَّ الله رفع لي عن أُمَّتي الخطأ ، أو ترك ذلك عنهم ، فإنَّ ( تجاوز ) لا يتعدّى بنفسه .
وقوله : ( الخطأ والنسيان ، وما استُكرِهُوا عليه ) .
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 5131 ) ، وأبو عوانة 1/75 – 76 .
(2) في " السنن " 4/171 .
وأخرجه : البخاري 8/168 ( 6664 ) عن زرارة بن أبي أوفى ، عن أبي هريرة ، مرفوعاً ، بلفظ : ( إنَّ الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم ) فلفظ الصحيح يعل لفظ رواية الدارقطني ، وكتاب الدارقطني وإن سمي بالسنن إلا أنَّ مؤلفه قصد بيان غرائب وعلل أحاديث الأحكام ، وقد نصّ على ذلك جمع من أهل العلم ، منهم : أبو علي الصدفي وابن تيمية وابن عبد الهادي والزيلعي ، وبيان ذلك في " الجامع في العلل " يسر الله إتمامه وطبعه .
(3) في " المجتبى " 6/156 .
(4) في " سننه " ( 2044 ) .

فأما الخطأ والنسيان ، فقد صرَّح القرآن بالتَّجاوُزِ عنهما قال الله تعالى :
{ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } (1) ، وقال : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } (2) .
وفي " الصحيحين " (3) عن عمرو بن العاص سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إذا حكمَ الحاكمُ ، فاجتهد ، ثم أصابَ ، فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ ، فله أجر ).
وقال الحسن : لولا ما ذَكَر الله من أمر هذين الرجلين - يعني : داود وسليمان - لرأيت أنَّ القُضاةَ قد هلكوا، فإنَّه أثنى على هذا بعلمه ، وعَذَرَ هذا باجتهاده (4) : يعني : قوله : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ } (5) الآية .
وأما الإكراه فصرَّح القرآن أيضاً بالتجاوز عنه ، قال تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ } (6) ، وقال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } (7) الآية .
__________
(1) البقرة : 286 .
(2) الأحزاب : 5 .
(3) البخاري 9/132 ( 7352 ) ، ومسلم 5/131 ( 1716 ) ( 15 ) و132 ( 1716 )
( 15 ) .
وأخرجه : أحمد 4/198 و204 ، وأبو داود ( 3574 ) ، وابن ماجه ( 2314 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 5918 ) و( 5919 ) ، وابن حبان ( 5061 ) .
(4) أخرجه : ابن حجر في " تغليق التعليق " 5/291 – 292 .
وقد ذكره البخاري 9/84 معلقاً .
(5) الأنبياء : 78 .
(6) النحل : 106 .
(7) آل عمران : 28 .

ونحن نتكلم إنْ شاء الله في هذا الحديث في فصلين : أحدهما في حكم الخطأ والنسيان ، والثاني في حكم الإكراه .

الفصل الأول
في الخطأ والنسيان
الخطأ : هو أن يَقصِدَ بفعله شيئاً ، فيُصادف فعلُه غير ما قصده ، مثل : أنْ يقصد قتلَ كافرٍ ، فيصادف قتله مسلماً .
والنسيان : أنْ يكون ذاكراً لشيءٍ ، فينساه عندَ الفعل ، وكلاهما معفوٌّ عنه ، بمعنى أنَّه لا إثمَ فيه ، ولكن رفعُ الإثم لا يُنافي أنْ يترتَّب على نسيانه حكم .
كما أنَّ من نسيَ الوضوء ، وصلَّى ظانّاً أنَّه متطهِّرٌ ، فلا إثم عليه بذلك ، ثم إنْ تبيَّنَ له أنَّه كان قد صلَّى محدِثاً فإنَّ عليه الإعادة .
ولو ترك التسميةَ على الوضوء نسياناً ، وقلنا بوجوبها ، فهل يجبُ عليه إعادةُ الوضوء ؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد (1) .
وكذا لو ترك التسمية على الذبيحة نسياناً ، فيه عنه روايتان (2) ، وأكثرُ الفقهاء على أنَّها تؤكل .
ولو ترك الصلاة نسياناً ، ثم ذكر ، فإنَّ عليه القضاء ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من نامَ عن صلاةٍ أو نسيها ، فليُصَلِّها إذا ذكرها ، لا كفَّارةَ لها إلا ذلك ) (3) ثمَّ تلا : { أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } (4) .
__________
(1) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلى 1/69 - 70 .
(2) انظر : المصدر السابق 3/10 .
(3) أخرجه : البخاري 1/155 ( 597 ) ، ومسلم 2/142 ( 684 ) ( 314 ) ، والبيهقي 2/218 و456 من حديث أنس بن مالك مرفوعاً بهذا اللفظ .
(4) طه : 14 .

ولو صلَّى حاملاً في صلاته نجاسةً لا يُعفى عنها ، ثم علم بها بعد صلاته ، أو في أثنائها ، فأزالها فهل يُعيدُ صلاته أم لا ؟ فيه قولان ، هما روايتان عن أحمد (1) ، وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه خلع نعليه في صلاته وأتمَّها ، وقال : ( إنَّ جبريل أخبرني أنَّ فيهما أذى ) (2) ولم يُعد صلاته .
ولو تكلَّم في صلاته ناسياً أنَّه في صلاة ، ففي بطلان صلاته بذلك قولان
مشهوران ، هما روايتان عن أحمد (3) ، ومذهبُ الشافعي : أنَّها لا تَبطُلُ بذلك (4) .
__________
(1) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلى 1/153 .
(2) أخرجه : أحمد 3/20 و92 ، وأبو داود ( 650 ) ، وابن خزيمة ( 1017 ) ، وابن حبان
( 2185 ) ، والحاكم 1/260 ، والبيهقي 2/402 و431 من حديث أبي سعيد الخدري ، وهو حديث صحيح .
وروي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن مسعود .
(3) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلى 1/138 .
(4) انظر : المجموع للنووي 4/15 .

ولو أكل في صومه ناسياً ، فالأكثرون على أنَّه لا يَبطُلُ صيامه ، عملاً
بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ أَكل ، أو شرب ناسياً ، فليتمَّ صومه ، فإنَّما أطمعه الله
وسقاه ) (1) . وقال مالك : عليه الإعادة ؛ لأنَّه بمنزلة من ترك الصلاة ناسياً (2) ، والجمهور يقولون : قد أتى بنيَّةِ الصيام ، وإنَّما ارتكب بعض محظوراته ناسياً ، فيُعفى عنه (3) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 2/395 و425 و489 و491 و493 و513 ، والبخاري 3/40 ( 1933 ) و8/170 ( 6696 ) ، ومسلم 3/160 ( 1155 ) ( 171 ) ، وأبو داود ( 2398 ) ، وابن ماجه ( 1673 ) ، والترمذي ( 721 ) و( 722 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 3275 ) من حديث أبي هريرة .
(2) انظر : المدونة الكبرى 1/334 وما ذهب إليه المصنف من هذا التعليل غير صحيح ، بل حجتهم في ذلك أنَّ هذا الحديث خبر آحاد وقد عارض القاعدة العامة التي تقول : النسيان لا يؤثر في باب المأمورات ، أي لا يؤثر من ناحية براءة ذمة المكلف قال ابن العربي في "عارضة الأحوذي" 3/197 : ( أصل مالك في أنَّ خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد لم يعمل به ) فما يفسد الصوم بعدمه على وجه العمد ، فإنَّه يفسده على وجه النسيان ، كما في النية ، والصيام ركنه الإمساك ، فإذا فات الركن في العبادة وجب الإتيان به ، وقد تعذر هنا ، فاقتضى الحكم بفساد صومه ، وانظر : أثر اختلاف الأسانيد والمتون في اختلاف الفقهاء : 219-220 .
(3) انظر : المفصل لعبد الكريم زيدان 2/72 .

ولو جامع ناسياً ، فهل حكمه حكم الآكل ناسياً أم لا ؟ فيهِ قولان : أحدهما : - وهو المشهور عن أحمد – أنَّه يَبطُلُ صيامُه بذلك وعليه القضاء ، وفي الكفارة عنه روايتان (1) . والثاني : لا يبطل صومه بذلك ، كالأكل ، وهو مذهب الشافعي (2) ، وحُكي رواية عن أحمد (3) . وكذا الخلاف في الجماع في الإحرام ناسياً : هل يبطُل به النُّسُكُ أم لا ؟
ولو حلف لا يفعل شيئاً ، ففعله ناسياً ليمينه ، أو مخطئاً ظانّاً أنّه غير المحلوف عليه ، فهل يحنث في يمينه أم لا ؟ فيه ثلاثةُ أقوالٍ هي ثلاث روايات عن أحمد (4) :
أحدها : لا يحنث بكلِّ حال ، ولو كانت اليمينُ بالطَّلاق والعتاق ، وأنكر هذه الرواية عن أحمد الخلالُ ، وقال : هي سهو من ناقلها ، وهو قولُ الشافعي في أحد قوليه ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وابن أبي شيبة ، ورُوي عن عطاء ، قال إسحاق : ويُستحلف أنَّه كان ناسياً ليمينه .
والثاني : يحنث بكلِّ حال ، وهو قولُ جماعة مِنَ السَّلف ومالك .
والثالث : يفرَّق بين أنْ يكونَ يمينُه بطلاقٍ أو عتاقٍ ، أو بغيرهما ، وهو المشهورُ عن أحمد ، وقول أبي عُبيدٍ ، وكذا قال الأوزاعيُّ في الطلاق ، وقال : إنَّما الحديثُ الذي جاء في العفو عن الخطأ والنسيان ما دام ناسياً ، وأقام على امرأته ، فلا إثم عليه ، فإذا ذكر ، فعليه اعتزالُ امرأته ، فإنَّ نسيانَه قد زال . وحكى إبراهيم الحربي إجماعَ التابعين على وقوع الطلاق بالناسي .
ولو قتل مؤمناً خطأً ، فإنَّ عليه الكفَّارةَ والدِّيَة بنصِّ الكتاب ، وكذا لو أتلف مالَ غيره خطأً يظنُّه أنَّه مالُ نفسه .
__________
(1) انظر : التمهيد لابن عبد البر 7/181 ، والمسائل الفقهية من كتاب الروايتين والواجهين 1/260 .
(2) انظر : التمهيد لابن عبد البر 7/179 ، والمجموع 6/228 .
(3) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلى 1/291 .
(4) انظر : المغني لابن قدامة 11/175 – 176 .

وكذا قال الجمهورُ في المُحرِم يقتل الصَّيدَ خطأً ، أو ناسياً لإحرامه أنَّ عليه جزاءه (1) ، ومنهم من قال : لا جزاءَ عليه إلاَّ أنْ يكونَ متعمداً لقتله تمسُّكاً
بظاهر (2) قوله - عز وجل - : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } (3) الآية ، وهو رواية عن أحمد ، وأجاب الجمهورُ عن الآية بأنَّه رتَّب على قتله متعمداً الجزاء وانتقامَ الله تعالى ، ومجموعُهما يختصُّ بالعامد ، وإذا انتفى العمدُ ، انتفى الانتقامُ ، وبقي الجزاءُ ثابتاً بدليل آخر .
والأظهر - والله أعلم - أنَّ الناسي والمخطئ إنَّما عُفي عنهما بمعنى رفع الإثم
عنهما ؛ لأنَّ الإثم مرتَّبٌ على المقاصد والنيَّات ، والناسي والمخطئ لا قصدَ لهما ، فلا إثم عليهما ، وأمَّا رفعُ الأحكام عنهما ، فليس مراداً منْ هذه النصوص ، فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليلٍ آخر .

الفصل الثاني
في حكم المكره
وهو نوعان :
أحدهما : من لا اختيارَ له بالكلِّيَّة ، ولا قُدرةَ له على الامتناع ، كمن حُمِلَ
كَرْهاً وأدخل إلى مكانٍ حلف على الامتناع من دخوله ، أو حُمِل كَرْهاً ، وضُرب
به غيرُه حتّى مات ذلك الغيرُ ، ولا قُدرة له على الامتناع ، أو أُضْجعت ، ثم زُنِي بها
من غيرِ قُدرةٍ لها على الامتناع ، فهذا لا إثم عليه بالاتفاق ، ولا يترتَّب عليه حِنْثٌ
في يمينه عند جمهور العلماء . وقد حُكي عن بعض السَّلف - كالنَّخعي - فيه
خلاف ، ووقع مثلُه في كلام بعض أصحاب الشَّافعي وأحمد ، والصحيح عندهم أنَّه لا يحنث بحال .
__________
(1) كذا قال ابن عباس والحسن ومجاهد . انظر : تفسير الطبري ( 9782 ) و( 9784 )
و( 9790 ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) المائدة : 95 .

وروي عن الأوزاعي في امرأة حلفت على شيء ، وأحنثها زوجُها كُرهاً أنَّ كفارَتها عليه ، وعن أحمد روايةٌ كذلك ، فيما إذا وطئ امرأتهُ مُكرهةً في صِيامها أو إحرامها أنَّ كفارتها عليه . والمشهور عنه أنَّه يفسدُ بذلك صومها وحجُّها .
والنوع الثاني : من أُكره بضربٍ أو غيره حتَّى فعل ، فهذا الفعلُ يتعلق به
التَّكليفُ ، فإنَّه يمكنه أنْ لا يفعل فهو مختارٌ للفعل ، لكن ليس غرضُه نفسَ الفعل ، بل دفع الضَّرر عنه ، فهو مختارٌ مِنْ وجه ، غيرُ مختارٍ من وجهٍ ، ولهذا اختلف الناسُ : هل هو مكلَّفٌ أم لا ؟
واتفق العلماءُ على أنّه لو أُكرِه على قتل معصومٍ لم يُبَحْ لهُ أن يقتُله ، فإنَّه إنَّما يقتُله باختياره افتداءً لنفسه من القتل (1) ، هذا إجماعٌ مِنَ العلماء المعتدِّ بهم ، وكان في زمن الإمام أحمد يُخالِف فيهِ مَنْ لا يُعتدُّ به ، فإذا قتله في هذه الحال ، فالجمهور على أنَّهما يشتركان في وجوب القَوَدِ : المكرهِ والمكرَه ؟ لاشتراكهما في القتل ، وهو قول مالك والشافعي في المشهور وأحمد ، وقيل : يجب على المكرِه وحده ؛ لأنَّ المكرَه صارَ كالآلة ، وهو قولُ أبي حنيفة وأحدُ قولي الشَّافعيِّ ، ورُوي عن زفرَ كالأوَّل ، ورُوي عنه أنَّه يجبُ على المكرَه لمباشرته ، وليس هو كالآلة ؛ لأنَّه آثمٌ بالاتِّفاق ، وقال أبو يوسف : لا قَودَ على واحدٍ منهما ، وخرَّجه بعضُ أصحابنا وجهاً لنا من الرِّواية لا توجب فيها قتل الجماعة بالواحد ، وأولى (2) .
__________
(1) قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي : ( انعقد الإجماع على أنَّ المكره على القتل مأمور باجتناب القتل والدفع عن نفسه ، وإنَّه يأثم إنْ قتل من أكره على قتله ) . فتح الباري 12/390 ، وقال عبد بن حميد : ( لا يعذر من أكره على قتل غيره لكونه يؤثر نفسه على نفس غيره ) . فتح الباري 12/395 .
(2) انظر : تفسير الطبري 1/385 - 386 ، والمبسوط للسرخسي 24/72 – 73 و88 – 89 .

ولو أكره بالضَّرب ونحوه على إتلاف مالِ الغير المعصوم ، فهل يُباحُ له ذلك ؟ فيهِ وجهان لأصحابنا : فإنْ قلنا : يُباحُ لهُ ذَلِكَ ، فضمنه المالك ، رجع بما ضمنه على المكره ، وإنْ قلنا : لا يُباح له ذلك ، فالضمانُ عليهما معاً كالقود . وقيل : على المكره المباشر وحدَه وهو ضعيف .
ولو أُكره على شرب الخمر أو غيره من الأفعال المحرّمة ، ففي إباحته بالإكراه قولان :
أحدُهما : يُباحُ له ذلك استدلالاً بقوله تعالى : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (1) ، وهذه نزلت في عبد الله بن أبيِّ بن سلول ، كانت له أمتانِ يُكرههما على الزنى ، وهما يأبيان ذلك(2) ، وهذا قول الجمهور كالشافعي ، وأبي حنيفة ، وهو المشهورُ عن أحمد ، ورُوي نحوه عن الحسن ، ومكحولٍ ، ومسروقٍ ، وعن عمر بن الخطاب ما يدلُّ عليه .
وأهلُ هذه المقالة اختلفوا في إكراه الرَّجُلِ على الزِّنى ، فمنهم من قال : يصحُّ إكراهُه عليه ، ولا إثمَ عليه ، وهو قولُ الشافعي ، وابن عقيلٍ من أصحابنا ، ومنهم من قال : لا يصحُّ إكراهه عليه ، وعليه الإثمُ والحدُّ ، وهو قول أبي حنيفة ومنصوصُ أحمد ، ورُوي عن الحسن .
والقولُ الثاني : إنَّ التقية إنَّما تكون في الأقوال ، ولا تقية في الأفعال ، ولا إكراهَ عليها ، رُوي ذلك عن ابنِ عباس ، وأبي العالية ، وأبي الشَّعثاء ، والربيع بن أنس ، والضَّحَّاك (3) ، وهو روايةٌ عن أحمد ، ورُوي عن سُحنون أيضاً .
وعلى هذا لو شرب الخمرَ ، أو سرق مكرهاً ، حُدَّ .
__________
(1) النور : 33 .
(2) انظر : تفسير الطبري ( 19749 ) و(19752 ) .
(3) انظر : تفسير الطبري ( 5371 ) و( 5374 ) و( 5375 ) و( 5376 ) .

وعلى الأول لو شرب الخمر مكرهاً ، ثم طلَّق أو أعتق ، فهل يكون حكمُه حكمَ المختارِ لشُربِها أم لا ؟ بل يكونُ طلاقُه وعِتاقه لغواً ؟ فيه لأصحابنا وجهان (1) ، ورُوي عن الحسن فيمن قيل له : اسجُد لصنمٍ وإلاَّ قتلناك ، قال : إنْ كان الصَّنمُ تجاهَ القبلة ، فليسجُد ، ويجعل نيَّته لله ، وإنْ كان إلى غير القبلة ، فلا يفعل وإنْ
قتلوه ، قال ابنُ حبيب المالكي : وهذا قولٌ حسنٌ ، قال ابن عطية : وما يمنعه أنْ يجعلَ نيته لله ، وإن كان لغير القبلة (2) ، وفي كتاب الله : { فَأَيْنَمَا تُولُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } (3) ، وفي الشرع إباحةُ التنفُّل للمسافر إلى غير القبلة ؟
وأما الإكراه على الأقوال ، فاتَّفق العلماء على صحته ، وأنَّ من أُكره على قولٍ محرَّم إكراهاً معتبراً أنَّ لهُ أنْ يفتديَ نفسه به ، ولا إثمَ عليهِ ، وقد دلَّ عليهِ قولُ الله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ } (4) . وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعمار :
( إنْ عادوا فَعُدْ ) (5) . وكان المشركون قد عذَّبوه حتَّى يوافقهُم على ما يُريدونه
من الكفر ، ففعل .
وأما ما روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه وصَّى طائفةً من أصحابه ، وقال : ( لا تُشركوا بالله وإن قُطِّعتُم وحُرِّقتم ) (6)
__________
(1) انظر : المغني لابن قدامة 8/256 – 257 .
(2) انظر : المحلى لابن حزم 9/130 .
(3) البقرة : 115 .
(4) النحل : 106 .
(5) أخرجه : عبد الرزاق في " تفسيره " ( 1509 ) ، وابن سعد في " الطبقات " 3/189 ، والطبري في " تفسيره " ( 16563 ) وطبعة التركي 14/374 ، والحاكم 2/357 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/140 ، وهو مرسل .
(6) أخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 18 ) ، وابن ماجه ( 4034 ) عن أبي الدرداء .

وعن عبادة بن الصامت عند المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 920 ) ، واللالكائي في
" أصول الاعتقاد " 2/822 .
وعن معاذ بن جبل عند أحمد 5/238 ، والطبراني في " الكبير " 20/( 156 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 2204 ) وأسانيدها كلها ضعيفة .

، فالمرادُ الشِّركُ بالقُلوب ، كما قال تعالى : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا } (1) ، وقال تعالى : { وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ } (2) .
وسائر الأقوال يُتصوَّر عليها الإكراه ، فإذا أكره بغيرِ حقٍّ على قولٍ من الأقوال ، لم يترتب عليه حكمٌ مِنَ الأحكام ، وكانَ لغواً ، فإنَّ كلامَ المكرَه صدرَ منه وهو غيرُ راضٍ به ، فلذلك عُفيَ عنه ، ولم يُؤاخَذْ به في أحكام الدُّنيا والآخرة . وبهذا فارق النَّاسي والجاهل ، وسواء في ذلك العقود : كالبيع ، والنكاح ، أو الفسوخ : كالخُلع والطَّلاق والعتاق ، وكذلك الأيمان والنُّذور ، وهذا قولُ جمهور العلماء ، وهو قولُ مالك والشافعي وأحمد .
وفرَّق أبو حنيفة بين ما يقبل الفسخ عندَه ، ويثبت فيه الخيارُ كالبيع ونحوه ،
فقال : لا يلزمُ مع الإكراه ، وما ليس كذلك ، كالنِّكاح والطلاق والعتاق والأيمان ،
فألزم بها مع الإكراه (3) .
ولو حلف : لا يفعلُ شيئاً ، ففعله مكرهاً ، فعلى قول أبي حنيفة يَحنَثُ (4) ، وأمَّا على قول الجمهور ، ففيه قولان :
أحدُهما : لا يحنَثُ ، كما لا يَحنَثُ إذا فُعِلَ به ذلك كرهاً ، ولم يقدر على الامتناع كما سبق ، وهذا قولُ الأكثرين منهم .
والثاني : يَحنَثُ هاهنا ؛ لأنَّه فعله باختياره بخلافِ ما إذا حُمِلَ ، ولم يُمكنه الامتناعُ ، وهو رواية عن أحمد وقول للشافعي ، ومن أصحابه - وهو القفَّال - من فرَّق بين اليمين بالطَّلاق والعَتاق وغيرهما كما قلنا نحن في النَّاسي ، وخرَّجه بعض أصحابنا وجهاً لنا .
__________
(1) لقمان : 15 .
(2) النحل : 106 .
(3) انظر : المبسوط 24/135 باب الخيار في الإكراه
(4) انظر : المبسوط 24/105 .

ولو أُكره على أداءِ ماله بغيرِ حقٍّ ، فباع عقارَه ليؤدِّي ثمنه ، فهل يصِحُّ الشِّراءُ
منه أم لا ؟ فيهِ روايتان عن أحمد ، وعنه رواية ثالثة : إنْ باعه بثمن المثل ، اشتُري منه ، وإنْ باعه بدُونه ، لم يشتر منه ، ومتى رضي المكرَهُ بما أُكْرِهَ عليهِ لحُدوثِ رغبةٍ لهُ فيهِ بعدَ الإكراه ، والإكراه قائمٌ ، صحَّ ما صدرَ منه من العقود وغيرها بهذا القصد . هذا هو المشهورُ عند أصحابنا ، وفيه وجهٌ آخر : أنَّه لا يَصِحُّ أيضاً ، وفيه بُعد .
وأما الإكراه بحقٍّ ، فهو غيرُ مانعٍ مِنْ لُزوم ما أكره عليه ، فلو أُكره الحربيُّ على الإسلام فأسلم ، صحَّ إسلامه ، وكذا لو أكرهَ الحاكم أحداً على بيع ماله ليوفي دينه ، أو أُكره المؤلي بعد مدَّة الإيلاء وامتناعه مِنَ الفيئة على الطلاق ، ولو حلف لا يُوفِّي دينَه ، فأكرهه الحاكمُ على وفائه ، فإنَّه يَحنَثُ بذلك ؛ لأنَّه فعل ما حلف عليه حقيقةً على وجهٍ لا يُعذَرُ فيه . ذكره أصحابنا بخلاف ما إذا امتنع من الوفاء ، فأدَّى عنه الحاكمُ ، فإنَّه لا يحنَثُ ؛ لأنَّه لم يُوجَدْ منه فعلُ المحلوف عليه .

الحديث الأربعون
عَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قالَ : أَخَذَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَنكِبي ، فقال :
( كُنْ فِي الدُّنيا كأَنَّكَ غَريبٌ ، أو عَابِرُ سَبيلٍ ) وكانَ ابنُ عَمَر يَقولُ : إذا أَمسيتَ ، فَلا تَنتَطِر الصَّباح ، وإذا أَصْبَحْتَ فلا تَنتَظِرِ المساءَ ، وخُذْ مِنْ صِحَّتِك لِمَرضِكَ ، ومنْ حَياتِكَ لِمَوتِكَ . رواهُ البُخاريُّ .
هذا الحديث خرَّجه البخاري (1) عن عليِّ بن المديني ، حدَّثنا محمدُ
ابنُ عبد الرحمان الطفاوي ، حدثنا الأعمش ، حدثني مجاهد ، عن ابن عمر ،
فذكره ، وقد تكلم غيرُ واحد من الحفّاظ في لفظة : ( حدثنا مجاهد ) وقالوا : هي غيرُ ثابتة ، وأنكروها على ابن المديني وقالوا : لم يسمع الأعمش هذا الحديث من مجاهد ، إنما سمعه من ليث بن أبي سُليم عنه ، وقد ذكر ذلك العقيليُّ (2) وغيره ، وخرَّجه الترمذي (3) من حديث ليثٍ عن مجاهد ، وزاد فيه : ( وعُدَّ نفسك من
أهل القبور ) وزاد في كلام ابن عمر : فإنَّك لا تدري يا عبد الله ما اسمُك
غداً . وخرَّجه ابنُ ماجه (4) ولم يذكر قولَ ابن عمر . وخرَّج الإمام أحمد (5) والنَّسائي (6) من حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لُبابة ، عن ابن عمر ، قال : أخذ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ببعض جسدي ، فقال : ( اعبدِ الله كأنَّك تراه ، وكُنْ في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ ، أو عابرُ سبيل ) . وعبدة بن أبي لُبابة أدرك ابنَ عمر ، واختلف في سماعه
منه (7)
__________
(1) في " صحيحه " 8/110 ( 6416 ) .
(2) في " الضعفاء " 3/239 .
(3) في " جامعه " ( 2333 ) .
(4) في " سننه " ( 4114 ) .
(5) في " مسنده " 2/132 و441 .
(6) كما في " تحفة الأشراف " 5/278 ( 7304 ) .
(7) قال الإمام أحمد : ( لقي ابن عمر بالشام ) ، وقال أبو حاتم : ( عبدة رأى ابن عمر رؤية ) . انظر : العلل لابن أبي حاتم 2/116 ( 1845 ) ، وتهذيب الكمال 5/26 ( 4206 ) .

.
وهذا الحديث أصلٌ في قِصَر الأمل في الدنيا ، وأنَّ المؤمنَ لا ينبغي له أن يتَّخذ الدُّنيا وطناً ومسكناً ، فيطمئنّ فيها ، ولكن ينبغي أنْ يكونَ فيها كأنَّه على جناح سفر : يُهَيِّئُ جهازَه للرحيل .
وقد اتَّفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم ، قال تعالى حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنّه قال : { يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } (1) .
وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( مالي ولِلدُّنيا إنَّما مَثَلي ومَثَلُ الدُّنيا كمثل راكبٍ قالَ(2) في ظلِّ شجرةٍ ثم راحَ وتركها ) (3) .
ومن وصايا المسيح - عليه السلام - لأصحابه أنَّه قال لهم : اعبُروها ولا تَعمُرُوها (4) ، ورُوي عنه أنَّه قال : من ذا الذي يبني على موجِ البحر داراً ، تلكُمُ الدُّنيا ، فلا تتَّخذوها قراراً (5) .
ودخل رجلٌ على أبي ذرٍّ ، فجعل يُقلِّب بصره في بيته ، فقال : يا أبا ذرٍّ ، أين متاعُكم ؟ قالَ : إنَّ لنا بيتاً نوجه إليه ، قالَ : إنَّه لابدَّ لك من مَتاع مادمت هاهنا ، قالَ : إنَّ صاحب المنْزل لا يدعُنا فيه (6) .
__________
(1) غافر : 39 .
(2) قال : من القيلولة ، وهي الاستراحة نصف النهار ، وإنْ لم يكن معها ، يقال : قال يقيل قيلولة فهو قائل .
(3) أخرجه : الطيالسي ( 277 ) ، وأحمد 1/391 و441 ، وابن ماجه ( 4109 ) ، والترمذي ( 2377 ) من حديث ابن مسعود ، وهو حديث صحيح .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/145 عن وهيب المكي قال : ( بلغني أنَّ عيسى - عليه السلام - ، … ) فذكره .
(5) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 325 ) عن مكحول ، قال : ( وقال عيسى ، … ) فذكره .
(6) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 10651 ) .

ودخلوا على بعض الصالحين ، فقلبوا بصرهم في بيته ، فقالوا له : إنَّا نرى بيتَك بيتَ رجلٍ مرتحلٍ ، فقال : أمرتحلٌ ؟ لا ، ولكن أُطْرَدُ طرداً .
وكان عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه - يقول : إنَّ الدُّنيا قدِ ارتحلت مدبرةً ، وإنَّ الآخرة قدِ ارتحلت مقبلةً ، ولكُلٍّ منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب ، وغداً حسابٌ ولا عمل (1) .
قال بعضُ الحكماء : عجبتُ ممَّنِ الدُّنيا موليةٌ عنه ، والآخرة مقبلةٌ إليه يشغتلُ بالمدبرة ، ويُعرِض عن المقبلة (2) .
وقال عُمرُ بنُ عبد العزيز في خطبته : إنَّ الدُّنيا ليست بدارِ قرارِكُم ، كتب الله عليها الفناء ، وكتب على أهلها منها الظَّعَن ، فكم من عامرٍ موثَّق عن قليلٍ يَخْرَبُ ، وكم من مقيمٍ مُغتَبطٍ عما قليل يَظعَنُ ، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرِّحلة بأحسن ما بحضرتكم مِن النقلة ، وتزوَّدوا فإنَّ خيرَ الزَّاد التقوى (3) .
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ، ولا وطناً ، فينبغي للمؤمن أنْ يكون حالُه فيها على أحد حالين : إما أنْ يكونَ كأنَّه غريب مقيمٌ في بلد غُربةٍ ، هَمُّه التزوُّد للرجوع إلى وطنه ، أو يكون كأنَّه مسافرٌ غير مقيم البتَّة ، بل هو ليله ونهارَه ، يسيرُ إلى بلدِ الإقامة ، فلهذا وصّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنَ عمر أنْ يكونَ في الدُّنيا على أحد هذين الحالين .
__________
(1) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 255 ) ، وابن أبي شيبة ( 34495 ) .
(2) أخرجه : البيهقي في " الزهد الكبير " ( 504 ) ، ولم ينسبه .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/292 .

فأحدهما : أنْ ينْزِل المؤمن نفسه كأنَّه غريبٌ في الدنيا يتخيَّلُ الإقامةَ ، لكن في بلد غُربةٍ ، فهوَ غيرُ متعلِّقِ القلب ببلد الغربة ، بل قلبُه متعلِّقٌ بوطنه الذي يَرجِعُ إليه ، وإنّما هو مقيمٌ في الدنيا ليقضي مَرَمَّةَ جهازه إلى الرجوع إلى وطنه ، قال الفضيلُ بن عياض : المؤمن في الدنيا مهمومٌ حزين ، همُّه مَرَمَّةُ جهازه (1) .
ومن كان في الدنيا كذلك ، فلا همَّ له إلا في التزوُّد بما ينفعُه عندَ عودِه إلى وطنه ، فلا يُنافِسُ أهلَ البلدِ الذي هو غريبٌ بينهم في عزِّهم ، ولا يَجْزَعُ من الذلِّ عندهم ، قال الحسن : المؤمن في الدُّنيا كالغريب لا يجزع من ذُلها ، ولا يُنافِسُ في عِزِّها ، له شأنٌ ، وللناس شأن (2) .
لما خُلِق آدم أُسكِنَ هو وزوجتُه الجنّة ، ثم أُهبطا منها ، ووعُدا الرجوع إليها ، وصالح ذرِّيَّتهما ، فالمؤمن أبداً يَحِنُّ إلى وطنه الأوَّل (3) ، وكما قيل :
كمْ مَنْزِلٍ للمَرءِ يَألفُهُ الفتى

وحنينُه أبداً لأوَّل مَنْزِل

ولبعض شيوخنا (4) :
فحيَّ على جنَّاتِ عدنٍ فإنَّها
...
منازِلُكَ الأولى وفيها المُخَيَّم

ولكنَّنا سَبيُ العدوِّ فَهلْ تَرَى
...
نَعودُ إلى أوطاننا ونُسلِّمُ
...
وقَدْ زَعَموا أنَّ الغَريبَ إذا نَأى
...
وشَطَّتْ به أوطانُه فهو مُغرَمُ

وأيُّ اغْترابٍ فوق غُربتنا التي

لها أضحَت الأعداءُ فينا تَحَكَّمُ
__________
(1) أخرجه : ابن عساكر في " تأريخ دمشق " 51/306 .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35210 ) ، وابن أبي عاصم في " الزهد " : 262 ( ط . دار الريان للتراث ) .
(3) جاء بعد هذا في النسخ المطبوعة : ( وحب الوطن من الإيمان ) ، وقد حذفته لعدم ورودها في النسخة الخطية ؛ ولأنَّ هذا الكلام غير مستقيم .
(4) عزاه ابن كثير لابن القاسم . انظر : تفسير ابن كثير 1/82 .

كان عطاء السَّلِيمي يقول في دعائه : اللهمَّ ارحم في الدُّنيا غُربتي ، وارحم في القبر وحشتي ، وارحم موقفي غداً بين يديك (1) .
قالَ الحسنُ : بلغني أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : ( إنَّما مثلي ومثلُكم ومَثلُ الدُّنيا ، كقوم سلكوا مفازةً غبراءَ ، حتّى إذا لم يَدْرُوا ما سلكوا منها أكثر ، أو ما بقي ، أنفدوا الزَّادَ ، وحَسَروا الظَّهر ، وبقُوا بين ظهراني المفازة لا زادَ ولا حَمُولة ، فأيقنوا بالهَلَكة ، فبينما هم كذلك ، إذ خرج عليهم رجلٌ في حُلَّةٍ يقطُرُ رأسُه ، فقالوا : إن هذا قريبُ عهدٍ بريفٍ ، وما جاءكم هذا إلاّ من قريبٍ ، فلما انتهى إليهم ، قال : علام أنتم ؟ قالوا : على ما ترى ، قالَ : أرأيتُكم إنْ هديتُكم إلى ماءٍ رواء ، ورياضٍ خُضر ، ما تعملون ؟ قالوا : لا نعصيك شيئاً ، قال : عُهودَكم ومواثيقكم بالله ، قال : فأَعْطَوهُ عهودَهُم ومواثيقهُم بالله لا يَعصُونَه شيئاً ، قال : فأوردهم ماءً ، ورياضاً خُضراً ، فمكث فيهم ما شاء الله ، ثم قال : يا هؤلاء الرحيلَ ، قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى ماءٍ ليس كمائكم ، وإلى رياضٍ ليست كرياضِكُم ، فقال جُلُّ القوم - وهم أكثرهم - : والله ما وجدنا هذا حتّى ظننّا أنْ لن نَجِدَهُ ، وما نصنع بعيشٍ خيرٍ من هذا ؟ وقالت طائفة - وهم أقلهم - : ألم تُعطوا هذا الرَّجُلَ عهودكم ومواثيقكم بالله لا تَعصونه شيئاً وقد صدقكم في أوّل حديثه ، فوالله ليصدقنَّكم في آخره ، قال : فراح فيمن اتبعه ، وتخلَّف بقيتهم ، فنذر بهم عدوٌّ ، فأصبحوا من بين أسيرٍ وقتيل ) خرَّجه ابنُ أبي الدنيا (2) ، وخرجه الإمام أحمد (3) من حديث عليّ بنِ زيد بن جُدْعان ، عن يوسف بن مِهران ، عن ابن
عباس ، عن
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/224 .
(2) في " ذم الدنيا " ( 88 ) ، وهو ضعيف لإرساله .
(3) في " مسنده " 1/267 ، وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف .

النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمعناه مختصراً .
فهذا المثل في غاية المطابقة بحال النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مع أمته ، فإنّه أتاهم والعرب حينئذٍ أذلُّ الناس ، وأقلُّهم ، وأسوؤهم عيشاً في الدنيا وحالاً في الآخرة ، فدعاهم إلى سلوك طريق النجاة ، وظهر لهم من براهين صدقِه ، كما ظهر من صدق الذي جاء إلى القوم الذين في المفازة ، وقد نَفِدَ ماؤهم ، وهَلَك ظهرهم برؤيته في حُلة مترجلاً يقطر رأسه ماءً ، ودلهم على الماء والرياضِ المُعشِبة ، فاستدلُّوا بهيئته وحاله على صدق مقاله ، فاتبعوه ، ووعدَ من اتَّبعه بفتح بلاد فارس والروم ، وأخذِ كنوزهما ، وحذَّرهم من الاغترار بذلك ، والوقوف معه ، وأمرهم بالتجزي من الدُّنيا بالبلاغ ، وبالجدِّ والاجتهاد في طلب الآخرة والاستعداد لها ، فوجدُوا ما وعدهم به كلَّه حقاً ، فلما فُتِحتْ عليهم الدُّنيا - كما وعدهم - اشتغل أكثرُ الناسِ بجمعها واكتنازها ، والمنافسة فيها ، ورَضُوا بالإقامة فيها ، والتمتُّع بشهواتها ، وتركوا الاستعداد للآخرة التي أمرهم بالجدِّ والاجتهاد في طلبها ، وقبلَ قليلٌ من الناس وصيَّته في الجدِّ في طلب الآخرةِ والاستعداد لها . فهذه الطائفةُ القليلة نجت ، ولحقت نبيَّها في الآخرة حيث سلكت طريقه في الدُّنيا ، وقبلت وصيتهُ ، وامتثلت ما أمر به . وأما أكثر الناس ، فلم يزالوا في سكرة الدنيا والتكاثر فيها ، فشغلهم ذلك عن الآخرة حتّى فاجأهم الموتُ بغتةً على هذه الغِرة ، فهلكوا وأصبحوا ما بين قتيل وأسير .
وما أحسن قولَ يحيى بن معاذ الرازي : الدنيا خمرُ الشيطان ، من سَكِرَ منها لم يُفِقْ إلا في عسكر الموتى نادماً مع الخاسرين (1) .
__________
(1) ذكره : ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 4/67 .

الحال الثاني : أن يُنْزِلَ المؤمنُ نفسَه في الدنيا كأنَّه مسافرٌ غيرُ مقيم البتة ، وإنَّما هو سائرٌ في قطعِ منازل السَّفر حتّى ينتهي به السفرُ إلى آخره ، وهو الموت . ومن كانت هذه حالَه في الدنيا ، فهمَّتُه تحصيلُ الزاد للسفر ، وليس له هِمَّةٌ في الاستكثار من متاع الدنيا ، ولهذا أوصى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من أصحابه أن يكونَ بلاغُهم من الدُّنيا كزادِ الرَّاكب .
قيل لمحمد بن واسع : كيف أصبحتَ ؟ قال : ما ظَنُّك برجل يرتَحِلُ كلَّ يومٍ مرحلةً إلى الآخرة (1) ؟
وقال الحسن : إنَّما أنت أيامٌ مجموعة ، كلّما مضى يومٌ مضى بعضُك (2) . وقال : ابنَ آدم إنَّما أنت بين مطيتين يُوضعانِكَ ، يُوضِعُك النهار إلى الليل ، والليل إلى النهار ، حتى يُسلِمَانِك إلى الآخرة ، فمن أعظم منك يا ابنَ آدم خطراً (3) ، وقال : الموتُ معقود في نواصيكم والدنيا تُطوى مِن ورائكم .
قال داود الطائي : إنَّما الليلُ والنهارُ مراحلُ يَنْزِلُها الناسُ مرحلةً مرحلةً حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم ، فإنِ استطعت أن تُقدِّم في كلِّ مرحلة زاداً لِما بَينَ يديها ، فافعل ، فإنَّ انقطاع السَّفر عن قريب ما هو ، والأمر أعجلُ من ذلك ، فتزوَّد لسفرك ، واقض ما أنتَ قاضٍ من أمرك ، فكأنَّك بالأمر قد بَغَتك (4) .
وكتب بعضُ السَّلف إلى أخٍ له : يا أخي يُخيَّلُ لك أنَّك مقيم ، بل أنتَ دائبُ السَّيرِ ، تُساق مع ذلك سوقاً حثيثاً ، الموت موجَّهٌ إليك ، والدنيا تُطوى من ورائك ، وما مضى من عمرك ، فليس بكارٍّ عليك حتى يَكُرَّ عليك يوم التغابن .
سبيلُكَ في الدُّنيا سبِيلُ مُسافرٍ
...
ولابُدَّ من زادٍ لكلِّ مسافِر
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/348 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/148 .
(3) أخرجه : البيهقي في " الزهد الكبير " ( 512 ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/345 .

ولابدَّ للإنسان من حملِ عُدَّةٍ

ولاسيما إنْ خافَ صولَة قاهِر

قال بعضُ الحكماء : كيف يفرحُ بالدنيا من يومُه يَهدِمُ شهرَه ، وشهرُه يهدِمُ
سنَتَه ، وسنته تَهدِمُ عُمُرَه ، وكيف يفرح من يقوده عمرُه إلى أجله ، وتقودُه حياتُه إلى موته .
وقال الفضيلُ بنُ عياض لرجلٍ : كم أتت عليك ؟ قال : ستون سنة ، قال فأنت منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربِّك يُوشِكُ أنْ تَبلُغَ ، فقال الرجل : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فقال الفضيلُ : أتعرف تفسيرَه تقول : أنا لله عبد وإليه راجع ، فمن عَلِمَ أنَّه لله عبد ، وأنَّه إليه راجع ، فليعلم أنَّه موقوفٌ ، ومن علم أنَّه موقوف ، فليعلم أنَّه مسؤول ، ومن عَلِمَ أنَّه مسؤولٌ ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً ، فقال الرجل : فما الحيلةُ ؟ قال : يسيرة ، قال : ما هي ؟ قال : تُحسِنُ فيما بقي يُغفَرُ لك ما مضى فإنّك إنْ أسأتَ فيما بقي ، أُخِذْتَ بما مضى وبما بقي (1) ، وفي هذا يقول بعضُهم :
وإنَّ امرءاً قد سارَ سِتِّينَ حِجَّةٍ

إلى مَنهَلٍ من وِرده لقَريبُ

قال بعضُ الحكماء : من كانت الليالي والأيام مطاياه ، سارت به وإنْ لم
يسر (2) ، وفي هذا قال بعضهم :
وما هذه الأيامُ إلاَّ مراحِلُ

يحثُّ بها داعٍ إلى الموتِ قاصدُ

وأعجَبُ شَيءٍ - لو تأمَّلت - أنَّها

مَنازِلُ تُطوى والمُسافِرُ قَاعِدُ (3)

وقال آخر :
أيا ويحَ نفسي من نهارٍ يقودُها

إلى عسكر الموتى ولَيلٍ يذودُها
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/113 .
(2) بنحوه أخرجه : أبو بكر الدينوري في " المجالسة " ( 1029 ) عن الحسن .
(3) ذكر ابن القيم هذين البيتين في " مدارج السالكين " 3/201 إلا أنَّه لم ينسبهما .

قال الحسن : لم يزل الليلُ والنهار سريعين في نقص الأعمار ، وتقريبِ الآجال ، هيهات قد صحبا نوحاً وعاداً وثمودَ وقروناً بين ذلك كثيراً ، فأصبحوا قَدِموا على ربِّهم ، ووردوا على أعمالهم ، وأصبح اللَّيلُ والنَّهارُ غضَّيْنِ جديدين ، لم يُبلِهُما ما مرَّا به ، مستعدِّين لمن بقي بمثل ما أصابا به من مضى .
وكتب الأوزاعيُّ إلى أخٍ له : أما بعد ، فقد أُحيطَ بك من كلّ جانب ، واعلم أنَّه يُسارُ بك في كلِّ يومٍ وليلةٍ ، فاحذرِ الله ، والمقام بين يديه ، وأنْ يكونَ آخر عهدك به ، والسَّلام (1) .
نَسيرُ إلى الآجالِ في كلِّ لحظةٍ

وأيّامُنا تُطوى وهُنَّ مَراحِلُ

ولم أرَ مثلَ الموتِ حقاً كأنَّه

إذا ما تخطَّتْهٌ الأمانيُّ باطِلُ

وما أقبحَ التَّفريطَ في زمنِ الصِّبا

فكيف به والشَّيبُ للرَّأس شامِلُ

ترحَّل من الدُّنيا بزادٍ من التُّقى

فعُمْرُكَ أيامٌ وهُنَّ قَلائِلُ

وأما وصيةُ ابن عمر رضي الله عنهما ، فهي مأخوذةٌ مِنْ هذا الحديث الذي رواه ، وهي متضمنة لنهاية قِصَرِ الأمل ، وأنَّ الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصّباحَ ، وإذا أصبح ، لم ينتظر المساء ، بل يظنُّ أنَّ أجلَهُ يُدركُه قبل ذلك ، وبهذا فسّر غيرُ واحدٍ مِنَ العُلماء الزُّهدَ في الدنيا ، قال المروذي : قلتُ لأبي عبد الله - يعني : أحمد - أيُّ شيءٍ الزُّهد في الدنيا ؟ قال : قِصَرُ الأمل (2) ، من إذا أصبحَ ، قال : لا أُمسي ، قال : وهكذا قال سفيان (3) . قيل لأبي عبد الله : بأيِّ شيء نستعين على قِصَرِ الأمل ؟ قال : ما ندري إنَّما هو توفيق .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/140 .
(2) أخرجه : البيهقي في " الزهد الكبير " ( 73 ) .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35683 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/386 .

قال الحسن : اجتمع ثلاثةٌ من العلماء ، فقالوا لأحدهم : ما أَمَلُكَ ؟ قال : ما أتى عليَّ شهرٌ إلا ظننتُ أنِّي سأموتُ فيه ، قال : فقال صاحباه : إنَّ هذا لأمل ، فقالا لأحدهم : فما أَمَلُكَ ؟ قال : ما أتت عليَّ جمعة إلا ظننتُ أنِّي سأموتُ فيها ، قال : فقال صاحباه : إنَّ هذا لأمل ، فقالا للآخر : فما أملُك ؟ قال : ما أَمَلُ من نفسُه في يد غيره (1) ؟
قال داود الطائي : سألتُ عطوان بنَ عمر التميمي ، قلتُ : ما قِصَرُ الأمل ؟ قال : ما بين تردُّدِ النَّفَسِ ، فحدِّث بذلك الفضيل بن عياض ، فبكى ، وقال : يقول : يتنفس فيخاف أنْ يموتَ قبل أنْ ينقطعِ نفسُه ، لقد كان عطوان مِنَ الموت على
حذرٍ (2) .
وقال بعضُ السَّلف : ما نمتُ نوماً قط ، فحدثتُ نفسي أنِّي أستيقظ منه .
وكان حبيبٌ أبو محمد يُوصي كُلَّ يومٍ بما يوصي به المحتضِرُ عند موته من تغسيله ونحوه ، وكان يبكي كلَّما أصبح أو أمسى ، فسُئِلَت امرأته عن بكائه ، فقالت : يخاف - والله - إذا أمسى أنْ لا يُصبح ، وإذا أصبح أنْ لا يُمسي (3) .
وكان محمد بن واسع إذا أراد أنْ ينام قال لأهله : أستودعكم الله ، فلعلَّها أنْ تكون منيتي التي لا أقوم منها فكان هذا دأبه إذا أراد النوم .
وقال بكر المزني : إنِ استطاع أحدُكم أن لا يبيت إلا وعهدُه عند رأسه مكتوبٌ ، فليفعل ، فإنَّه لا يدري لعله أنْ يبيتَ في أهلِ الدُّنيا ، ويُصبح في أهلِ الآخرة .
وكان أويسٌ إذا قيل له : كيف الزمانُ عليك ؟ قال : كيف الزمانُ على رجل إنْ أمسى ظنَّ أنَّه لا يُصبحُ ، وإنْ أصبح ظنَّ أنَّه لا يمسي فيبشر بالجنة أو النار ؟ (4)
__________
(1) أخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 253 ) .
(2) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/62 .
(3) أخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 13/43 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/83 .

وقال عونُ بنُ عبد الله : ما أنزل الموتَ كُنْهَ منْزلته مَنْ عدَّ غداً من أجله . كم من مستقبل يوماً لا يستكمِلُه ، وكم من مؤمِّل لغدٍ لا يُدرِكُه ، إنَّكم لو رأيتم الأجلَ ومسيرَه ، لأبْغَضتُم الأمل وغُرورَه (1) ، وكان يقولُ : إنَّ من أنفع أيام المؤمن له في الدنيا ما ظن أنَّه لا يدرك آخره .
وكانت امرأةٌ متعبدة بمكة إذا أمست قالت : يا نفسُ ، الليلةُ ليلتُك ، لا ليلةَ لكِ غيرها ، فاجتهدت ، فإذا أصبحت ، قالت : يا نفس اليومُ يومك ، لا يومَ لك
غيره فاجتهدت (2) .
وقال بكرٌ المزنيُّ : إذا أردت أنْ تنفعَك صلاتُك فقل : لعلِّي لا أُصلِّي غيرها ، وهذا مأخوذٌ مما رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( صلِّ صلاة مودِّع ) (3) .
وأقام معروفٌ الكرخيّ الصّلاةَ ، ثم قال لرجل : تقدَّم فصلِّ بنا ، فقال الرجل : إنِّي إنْ صليتُ بكم هذه الصلاة ، لم أُصلِّ بكم غيرَها ، فقال معروف : وأنتَ تحدِّث نفسك أنّك تُصلِّي صلاةً أخرى ؟ نعوذُ بالله من طولِ الأمل ، فإنَّه يمنع خيرَ العمل (4) .
وطرق بعضُهم بابَ أخٍ له ، فسأل عنه ، فقيل له : ليس هو في البيت ، فقال : متى يرجع ؟ فقالت له جارية من البيت : من كانت نفسُه في يد غيره ، من يعلم متى يرجِعُ ، ولأبي العتاهية من جملة أبيات :
وما أدري وإن أَمَّلْتُ عُمراً

لَعَلِّي حِينَ أُصبحُ لَستُ أُمسِي

ألم تَرَ أنَّ كلَّ صباحِ يومٍ
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34963 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/243 .
(2) أخرجه : وكيع في " الزهد " ( 9 ) .
(3) أخرجه : أحمد 5/412 ، وابن ماجه ( 4171 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3987 )
و( 3988 ) عن أبي أيوب الأنصاري ، به ، وسنده ضعيف .
وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأنس بن مالك قواه بعضهم بها ، والله أعلم .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/361 .

وعُمرُكَ فيه أَقصَرُ مِنهُ أَمسِ

وهذا البيت الثاني أخذه مما روي عن أبي الدرداء (1) والحسن (2) أنَّهما قالا : ابنَ آدم ، إنَّك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطتَ من بطن أمك ، ومما أنشد بعضُ السَّلف :
إنَّا لنفرحُ بالأيَّامِ نقطعُها

وكُلُّ يومٍ مضى يُدني من الأجل

فاعمَلْ لِنَفسِكَ قبلَ الموتِ مُجتهداً

فإنَّما الرِّبْحُ والخُسرانُ في العَمَلِ

قوله : ( وخُذْ من صحتك لسقمك ، ومن حياتك لموتك ) ، يعني : اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أنْ يحولَ بينك وبينها السقمُ ، وفي الحياة قبل أنْ يحول بينك وبينها الموتُ ، وفي رواية : ( فإنَّك يا عبدَ الله لا تدري ما اسمُك غداً ) يعني : لعلّك غداً مِنَ الأموات دونَ الأحياء .
وقد رُوي معنى هذه الوصيةِ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه ، ففي "صحيح البخاري" عن ابن عباسٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاس : الصِّحَّةُ والفراغ ) (3) .
وفي " صحيح الحاكم " (4) عن ابن عباس : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل وهو يَعِظُه : ( اغتنم خمساً قبلَ خمسٍ : شبابّك قبل هَرَمِك ، وصحَّتَك قبل سَقَمك ، وغِناك قبل فقرِك ، وفراغَكَ قبل شغلك ، وحياتَك قبل موتك ) .
وقال غنيم بن قيس : كنا نتواعظُ في أوَّل الإسلام : ابنَ آدم ، اعمل في فراغك قبل شُغلك ، وفي شبابك لكبرك ، وفي صحتك لمرضك ، وفي دنياك لآخرتك . وفي حياتك لموتك (5) .
__________
(1) أخرجه : البيهقي في " الزهد الكبير " ( 511 ) ، وذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 1/282 .
(2) أخرجه : عبد الله بن المبارك ( 852 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/155 .
(3) سبق تخريجه .
(4) 4/306 .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/200 .
تنبيه : وقع في مطبوع " حلية الأولياء " : ( غنم ) خطأ .

وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( بادِروا بالأعمال ستاً : طلوع الشمس من مغربها ، أو الدخان ، أو الدجال ، أو الدابة ، أو خاصَّةَ أحدكم ، أو أمر العامة ) .
وفي " الترمذي " (2) عنه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( قال بادِروا بالأعمال سبعاً : هل تنظُرون إلا إلى فقرٍ مُنْسٍ ، أو غِنًى مُطغٍ ، أو مرض مُفْسدٍ ، أو هَرَمٍ مُفنِّدٍ ، أو موتٍ مُجهِزٍ ، أو الدجَّال ، فشرُّ غائبٍ ينتظر ، أو الساعة فالسَّاعة أدهى وأمرُّ ؟ )
والمرادُ من هذا أنَّ هذه الأشياء كلَّها تعوقُ عن الأعمال ، فبعضُها يشغل عنه ، إمَّا في خاصّة الإنسان ، كفقره وغناه ومرضه وهرمه وموته ، وبعضُها عامٌّ ، كقيام الساعة ، وخروج الدجال ، وكذلك الفتنُ المزعجةُ ، كما جاء في حديث آخر :
( بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم ) (3) .
وبعضُ هذه الأمور العامّة لا ينفع بعدها عملٌ ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } (4) .
وفي " الصحيحين " (5) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تقومُ السَّاعةُ حتّى تطلع الشمسُ من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس ، آمنوا أجمعون ، فذلك حينَ لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ) .
__________
(1) 8/207 ( 2947 ) ( 128 ) .
(2) في " جامعه " ( 2306 ) ، وقال : ( هذا حديث حسن غريب ) .
(3) أخرجه : أحمد 2/303 و523 ، ومسلم 1/76 ( 118 ) ، والترمذي ( 2195 ) .
(4) الأنعام : 158 .
(5) أخرجه : البخاري 6/73 ( 4636 ) ، ومسلم 1/95 ( 157 ) ( 248 ) .

وفي " صحيح مسلم " (1) عنه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ثلاثٌ إذا خرجنَ ، لم ينفع نفساً إيمانُها لم تَكُن آمنت من قبل ، أو كسبت في إيمانها خيراً : طلوعُ الشمس من مغربها ، والدجالُ ، ودابةُ الأرض ) .
وفيه أيضاً (2) عنه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ تابَ قبل أنْ تَطلُعَ الشمسُ من مغربها تابَ الله عليه ) .
وعن أبي موسى ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله يبسُطُ يده بالليل ليتوبَ مسيءُ النَّهار ، ويبسُطُ يده بالنَّهار ليتوب مُسيءُ الليل حتى تَطلُعُ الشمس من
مغربها ) (3) .
وخرّج الإمام أحمد (4) ، والنَّسائي (5) ، والترمذي (6) ، وابن ماجه (7) من حديث صفوان بن عسال ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله فتح باباً قِبَلَ المغرب عرضه سبعون عاماً للتوبة لا يُغلَقُ حتى تطلع الشمس منه ) .
وفي " المسند " (8) عن عبد الرحمان بن عوف وعبد الله بن عمرو ، ومعاوية ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تزالُ التوبةُ مقبولةً حتّى تطلُعَ الشمسُ من المغرب ، فإذا طَلَعَت طُبِعَ على كلِّ قلبٍ بما فيه ، وكُفِي الناسُ العمل ) .
__________
(1) 1/195 ( 158 ) .
(2) 8/73 ( 2703 ) ( 43 ) .
(3) أخرجه : أحمد 4/395 و404 ، ومسلم 8/99 ( 2759 ) ( 31 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 11180 ) .
(4) في " مسنده " 4/240 و241 .
(5) في " الكبرى " ( 11178 ) .
(6) في " جامعه " ( 3535 ) و( 3536 ) ، وقال : ( حسن صحيح ) .
(7) في " سننه " ( 4070 ) .
(8) مسند الإمام أحمد 1/192 ، وإسناده لا بأس به .

وروي عن عائشة قالت : إذا خرج أوَّلُ الآيات ، طُرِحَتِ الأقلامُ وحُبِسَت
الحفظةُ ، وشهدت الأجساد على الأعمال . خرّجه ابن جرير الطبري (1) ، وكذا قال كثيرٌ ابن مرّة ، ويزيدُ بن شريح ، وغيرهما من السَّلف : إذا طلعت الشمس من مغربها طُبِع على القلوب بما فيها ، وتُرفع الحفظة والعمل ، وتؤمرُ الملائكة أنْ لا يكتبوا عملاً (2) ، وقال سفيان الثوري : إذا طلعت الشمسُ من مغربها ، طوت الملائكةُ صحائِفَها ووضعت أقلامَها (3) .
فالواجبُ على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أنْ لا يقدِرَ عليها ويُحال بينه وبينها ، إمَّا بمرضٍ أو موت ، أو بأنْ يُدركه بعضُ هذه الآيات التي لا يُقبل معها عمل . قال أبو حازم : إنَّ بضاعةَ الآخرة كاسدة ويوشِكُ أنْ تَنفَقَ ، فلا يُوصل منها إلى قليلٍ ولا كثيرٍ . ومتى حِيلَ بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرةُ والأسفُ عليه ، ويتمنى الرجوع إلى حالة يتمكن فيها من العمل ، فلا تنفعُهُ الأمنية (4) .
قال تعالى : { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } (5) .
__________
(1) في " تفسيره " ( 11076 ) .
(2) أخرجه : نعيم بن حماد في " الفتن " ( 1370 ) و( 1838 ) .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/15 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/242 .
(5) الزمر : 54 – 58 .

وقال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ } (1) .
وقال - عز وجل - : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ
اللهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (2) .
وفي " الترمذي " (3) عن أبي هريرة مرفوعاً : ( ما مِنْ ميِّتٍ يموتُ إلا نَدِمَ ) ، قالوا : وما ندامتُه ؟ قال : ( إنْ كان محسناً ، ندِم أنْ لا يكون ازدادَ ، وإنْ كان مسيئاً ، ندم أنْ لا يكون استعتب ) .
فإذا كان الأمرُ على هذا فيتعيَّنُ على المؤمن اغتنامُ ما بقي من عمره ، ولهذا قيل : إنَّ بقية عمر المؤمن لا قيمة له . وقال سعيدُ بن جُبير : كلّ يوم يعيشه المؤمن غنيمة (4) ، وقال بكر المزني : ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول : يا ابنَ آدم ، اغتنمني لعلَّه لا يومَ لك بعدي ، ولا ليلة إلا تنادي : ابنَ آدم ، اغتنمني لعلَّه لا ليلة لك بعدي (5) ، ولبعضهم :
اغتَنِمْ في الفراغ فَضْلَ رُكوعٍ

فعسى أنْ يكونَ موتُك بَغتة

كم صَحيحٍ رأيتَ من غيرِ سُقم

ذهَبتْ نفسُهُ الصحيحة فلتَة

وقال محمود الورّاق (6) :
__________
(1) المؤمنون : 99 – 100 .
(2) المنافقون : 10 – 11 .
(3) في " جامعه " ( 2403 ) ، وهو حديث ضعيف جداً ؛ فإنَّ في إسناده يحيى بن عبيد الله بن موهب ، وهو متروك .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/276 .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/330 بنحوه عن الحسن بن صالح .
(6) انظر : كتاب الزهد الكبير للبيهقي 2/235 .

مَضَى أَمسُكَ الماضي شَهيداً مُعدّلاً
...
وأَعْقَبَهُ يَومٌ عَليكَ جَديدُ

فإنْ كُنتَ بالأمسِ اقترفتَ إساءةً

فَثَنِّ بإحسَانٍ وأنتَ حَميدُ

فيومُكَ إنْ أعتَبتَهُ عادَ نَفعُهُ

عَليكَ وماضي الأمسِ لَيسَ يَعودُ

ولا تُرجِ فِعلَ الخيرِ يوماً إلى غَدٍ

لَعلَّ غَداً يَأتِي وأَنْتَ فَقِيدُ

الحديث الحادي والأربعون
عَنْ عبدِ الله بن عَمرو بنِ العاص رضي الله عنهما ، قال : قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يُؤمِنُ أَحدُكُم حتّى يكونَ هَواهُ تَبَعاً لِما جِئتُ بِهِ ) (1) قال الشيخ
رحمه الله : حديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ ، رَويناهُ في كِتابِ " الحُجَّة " بإسنادٍ صحيح ! .
يريد بصاحب كتاب " الحجة " الشيخ أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق (2) ، وكتابه هذا هو كتاب " الحجة على تارك المحجة " يتضمن ذكرَ أصولِ الدين على قواعدِ أهل الحديث والسُّنة .
وقد خرَّج هذا الحديث الحافظ أبو نعيم في كتاب " الأربعين " وشرط في أوَّلها أنْ تكونَ من صحاح الأخبار وجياد الآثار مما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه ، وخرَّجته الأئمة في مسانيدهم ، ثم خرَّجه عن الطبراني : حدثنا أبو زيد عبد الرحمان ابن حاتم المرادي ، حدثنا نُعيم بن حمادٍ ، حدثنا عبد الوهَّاب الثقفي ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عُقبة بن أوس ، عن عبد الله بن عمرٍو ، قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يُؤمِنُ أَحدكم حتّى يكونَ هواه تبعاً لما جئتُ به لا يزيغُ عنه ) . ورواه الحافظ أبو بكر بن عاصم الأصبهاني (3) عن ابنِ واره ، عن نُعيم بن حماد ، حدثنا عبدُ الوهَّاب الثقفي حدثنا بعضُ مشيختنا هشامٌ أو غيره عن ابن سيرين ، فذكره . وليس عنده ( لا يزيغ عنه ) ، قال الحافظ أبو موسى المديني : هذا الحديث مُختلفٌ فيه على نعيم ، وقيل فيه : حدثنا بعضُ مشيختنا ، حدثنا هشام أو غيره .
__________
(1) أخرجه : البيهقي في " المدخل " 1/188 ( 209 ) ، والخطيب في " تأريخه " 6/21 ، والبغوي ( 104 ) .
(2) انظر : سير أعلام النبلاء 19/136 .
(3) أخرجه : ابن أبي عاصم في " السنة " ( 15 ) .

قلت : تصحيحُ هذا الحديث بعيدٌ جداً من وجوه ، منها : أنَّه حديثٌ يتفرد به نُعيمُ بنُ حماد المروزي ، ونُعيم هذا وإنْ كان وثَّقه جماعةٌ مِنَ الأئمة ، وخرَّج له البخاري ، فإنَّ أئمةَ الحديث كانوا يُحسنون به الظنَّ ، لِصلابته في السُّنة ، وتشدُّده في الرَّدِّ على أهل الأهواء ، وكانوا ينسبونه إلى أنَّه يَهِمُ ، ويُشبّه عليه في بعض الأحاديث ، فلمَّا كُثرَ عثورُهم على مناكيره ، حكموا عليه بالضَّعف ، فروى صالح ابن محمد الحافظ عن ابن معين أنَّه سئل عنه فقال : ليس بشيء ولكنَّه صاحب سنة ، قال صالح : وكان يُحدِّث من حفظه ، وعنده مناكير كثيرة لا يُتابع عليها . وقال أبو داود : عند نعيم نحوُ عشرين حديثاً عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ليس لها أصل (1) ، وقال النَّسائي : ضعيف (2) . وقال مَرَّةً : ليس بثقة . وقال مرة : قد كثر تفرُّدُه عن الأئمة المعروفين في أحاديث كثيرةٍ ، فصار في حدِّ مَنْ لا يُحتجُّ به . وقال أبو زرعة الدمشقي : يَصِلُ أحاديث يُوقِفُها الناسُ (3) ، يعني : أنَّه يرفع الموقوفات ، وقال أبو عروبة الحراني : هو مظلمُ الأمر ، وقال أبو سعيد بن يونس : روى أحاديث مناكير عن الثقات ، ونسبه آخرون إلى أنّه كان يضعُ الحديثَ ، وأين كان أصحاب
عبد الوهَّاب الثقفي ، وأصحاب هشام بن حَسّان ، وأصحاب ابن سيرين عن هذا الحديث حتى يتفرَّد به نعيم ؟
__________
(1) انظر : ميزان الاعتدال 4/268 .
(2) انظر : تهذيب الكمال 7/352 .
(3) انظر : تهذيب الكمال 7/351 .

ومنها : أنَّه قد اختلف على نُعيم في إسناده ، فروي عنه ، عن الثقفي ، عن
هشام ، ورُوي عنه عن الثقفي ، حدَّثنا بعضُ مشيختنا هشام أو غيره ، وعلى هذه
الرواية ، فيكون شيخ الثَّقفيِّ غيرَ معروف عينه ، ورُوي عنه عن الثقفي ، حدّثنا بعض مشيختنا ، حدَّثنا هشام أو غيره ، فعلى هذه الرواية ، فالثقفيُّ رواه عن شيخٍ مجهولٍ ، وشيخه رواه عن غير مُعَيَّن ، فتزدادُ الجهالةُ في إسناده .
ومنها : أنَّ في إسناده عُقبةَ بن أوس السَّدوسي البصري ، ويقال فيه : يعقوب ابن أوس أيضاً (1) ، وقد خرَّج له أبو داود والنَّسائي وابن ماجه حديثاً عن عبد الله ابن عمرو ، ويقال : عبد الله بن عمر ، وقد اضطرب في إسناده ، وقد وثقه العجلي ، وابن سعد ، وابن حبان (2) ، وقال ابنُ خزيمة : روى عنه ابن سيرين مع جلالته ، وقال ابنُ عبد البرِّ : هو مجهول .
وقال الغلابي في " تاريخه " : يزعمون أنَّه لم يسمع من عبد الله بن عمرو ، وإنَّما يقول : قال عبد الله بن عمرو ، فعلى هذا تكون رواياتُه عن عبد الله بن عمرو منقطعة ، والله أعلم .
وأما معنى الحديث ، فهو أنَّ الإنسان لا يكون مؤمناً كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعةً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأوامر والنَّواهي وغيرها ، فيحبُّ ما أمر به ، ويكره ما نهى عنه .
وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع . قال تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (3) .
وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (4) .
__________
(1) انظر : تهذيب التهذيب 7/205 .
(2) انظر : تهذيب الكمال 5/193 .
(3) النساء : 65 .
(4) الأحزاب : 36 .

وذمَّ سبحانه من كره ما أحبَّه الله ، أو أحبَّ ما كرهه الله ، قال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } (1) ، وقال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } (2) .
فالواجب على كلِّ مؤمن أنْ يُحِبَّ ما أحبَّه الله محبةً توجِبُ له الإتيان بما وجب عليه منه ، فإنْ زادت المحبَّةُ ، حتّى أتى بما ندب إليه منه ، كان ذلك فضلاً ، وأنْ يكره ما كرهه الله تعالى كراهةً توجِبُ له الكفَّ عمَّا حرَّم عليه منه ، فإنْ زادت الكراهةُ حتَّى أوجبت الكفَّ عما كرهه تنْزيهاً ، كان ذلك فضلاً . وقد ثبت في
" الصحيحين " (3) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( لا يؤمن أحدُكُم حتّى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وولده وأهله والنّاس أجمعين ) فلا يكون المؤمن مؤمناً حتى يُقدم محبة الرسول على محبة جميع الخلق ، ومحبة الرسول تابعة لمحبة مرسله .
والمحبة الصحيحةُ تقتضي المتابعةَ والموافقةَ في حبِّ المحبوبات وبغضِ المكروهات ، قال - عز وجل - : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ } (4) .
__________
(1) محمد : 9 .
(2) محمد : 28 .
(3) صحيح البخاري 1/10 ( 15 ) ، وصحيح مسلم 1/49 ( 44 ) ( 69 ) و( 70 ) عن أنس ابن مالك ، به .
وأخرجه : أحمد 3/177 و275 ، وابن ماجه ( 67 ) ، والنسائي 8/115 وفي " الكبرى " ، له ( 11744 ) .
وفي الباب عن أبي هريرة .
(4) التوبة : 24 .

وقال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ } (1) قال الحسن (2) : قال أصحابُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ، إنّا نُحبُّ ربنا حبّاً شديداً ، فأحبَّ الله أنْ يجعل لحبه علماً ، فأنزل الله هذه الآية .
وفي " الصحيحين " (3) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان : أنْ يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهُما ، وأنْ يُحبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله ، وأنْ يكره أنْ يَرجِعَ إلى الكُفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أنْ يُلقى في
النار ) .
فمن أحبَّ الله ورسوله محبةً صادقة من قلبه ، أوجب له ذلك أنْ يُحبَّ بقلبه ما يُحبُّه الله ورسولُه ، ويكره ما يكرهه الله ورسوله ، ويرضى بما يرضى الله ورسوله ، ويَسخط ما يَسْخَطُهُ الله ورسوله ، وأنْ يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحبِّ والبغض ، فإنْ عمل بجوارحه شيئاً يُخالِفُ ذلك ، فإن ارتكبَ بعضَ ما يكرهه الله ورسولُه ، أو ترك بعضَ ما يُحبه الله ورسوله ، مع وجوبه والقدرة عليه ، دلَّ ذلك على نقص محبَّته الواجبة ، فعليه أنْ يتوبَ من ذلك ، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة .
__________
(1) آل عمران : 31 .
(2) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 5385 ) وطبعة التركي 5/325 ، وابن أبي حاتم في
"تفسيره" 2/633 ( 3402 ) ، والآجري في " الشريعة " ( 254 ) ، وهو ضعيف لإرساله .
(3) صحيح البخاري 1/10 ( 16 ) ، وصحيح مسلم 1/48 ( 43 ) ( 67 ) و( 68 ) عن أنس، به.
وأخرجه : أحمد 3/103 و174 و230 و288 ، وعبد بن حميد ( 1328 ) ، والترمذي
( 2624 ) .

قال أبو يعقوب النَّهْرُجُوريُّ : كلُّ مَنِ ادَّعى محبة الله - عز وجل - ، ولم يوافِقِ الله في أمره ، فدعواه باطلة ، وكلُّ محبٍّ ليس يخاف الله ، فهو مغرورٌ (1) .
وقال يحيى بنُ معاذ : ليس بصادقٍ من ادّعى محبَّة الله - عز وجل - ولم يحفظ حدودَه .
وسئل رُويم عن المحبة ، فقال : الموافقة في جميع الأحوال ، وأنشد :
ولو قُلتَ لي مُتْ مِتُّ سَمعاً وطاعةً

وقُلتُ لداعِي الموتِ أهلاً ومرحبا (2)

ولبعض المتقدمين (3) :
تَعصِي الإله وأنت تَزعُمُ حُبَّه

هذا لعمري في القِياس شَنيعُ

لَو كان حُبُّك صادِقاً لأطعتَه

إنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحبُّ مُطيعُ

فجميعُ المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله ، وقد وصف اللهُ المشركين باتِّباع الهوى في مواضع من كتابه ، وقال تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ } (4) .
وكذلك البدعُ ، إنَّما تنشأ من تقديم الهوى على الشَّرع ، ولهذا يُسمى أهلُها أهل الأهواء .
وكذلك المعاصي ، إنَّما تقعُ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يُحبه .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 10/356 .
(2) انظر : حلية الأولياء 10/301 ، وشعب الإيمان للبيهقي 1/383 ، وتأريخ بغداد 8/430 .
(3) عزاه البيهقي في " شعب الإيمان " 1/386 إلى أبي العتاهية .
(4) القصص : 50 .

وكذلك حبُّ الأشخاص : الواجب فيه أنْ يكون تَبعاً لما جاء به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - . فيجبُ على المؤمن محبةُ الله ومحبةُ من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموماً ، ولهذا كان مِنْ علامات وجود حلاوة الإيمان أنْ يُحِبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله ، ويُحرمُ موالاةُ أعداءِ الله . ومن يكرهه الله عموماً ، وقد سبق ذلك في موضع آخر ، وبهذا يكونُ الدِّينُ كلُّه لله . و ( من أحبَّ لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله ، فقد استكمل الإيمان ) (1) ، ومن كان حُبُّه وبُغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه ، كان ذلك نقصاً في إيمانه الواجب ، فيجب عليه التَّوبةُ من ذلك ، والرُّجوع إلى اتِّباع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تقديم محبة الله ورسوله ، وما فيه رضا الله ورسوله على هوى النفوس ومراداتها كلها .
قال وُهيب بنُ الورد (2) : بلغنا - والله أعلم - أنَّ موسى - عليه السلام - ، قال : يا ربِّ أوصني ؟ قال : أوصيك بي ، قالها ثلاثاً حتى قال في الآخرة : أوصيك بي أن لا يعرض لك أمرٌ إلا آثرت فيه محبتي على ما سواها ، فمن لم يفعل ذلك لم أُزكِّه ولم أرحمه .
والمعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق : أنَّه الميلُ إلى خلاف الحقِّ ، كما في قوله - عز وجل - : { وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ } (3) ، وقال : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } (4) .
__________
(1) أخرجه : أبو داود ( 4681 ) عن أبي أمامة الباهلي ، به مرفوعاً ، وهو صحيح .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/141 - 142 .
وأخرجه : أحمد في " الزهد " : 59 عن كعب بن علقمة .
(3) ص : 26 .
(4) النازعات : 40 - 41 .

وقد يُطلق الهوى بمعنى المحبة والميل مطلقاً ، فيدخل فيه الميل إلى الحقِّ وغيره ، وربما استُعمِل بمعنى محبة الحقِّ خاصة والانقياد إليه ، وسئل صفوانُ بن عسّال : هل سمعتَ منَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يذكر الهوى ، فقال : سأله أعرابيٌّ عن الرجل يُحبُّ القومَ ولم يلحق بهم ، فقال : ( المرءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ ) (1) . ولمَّا نزل قوله - عز وجل - : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } (2) ، قالت عائشة للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ما أرى ربَّك إلا يُسارعُ في هواك (3) . وقال عمر في قصة المشاورة في أسارى بدر : فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ، ولم يهوَ ما قلتُ (4) ، وهذا الحديثُ مما جاء استعمال الهوى فيهِ بمعنى المحبة المحمودة ، وقد وقع مثلُ ذلك في الآثار الإسرائيلية كثيراً ، وكلامُ مشايخ القوم وإشاراتُهم نظماً ونثراً يكثُر في هذا الاستعمال ، ومما يُناسبُ معنى الحديثِ من ذلك قولُ بعضهم :
إنَّ هواكَ الَّذي بقلبي

صَيَّرني سامعاً مُطيعا

أخذت قلبي وغَمضَ عيني

سَلَبتني النَّومَ والهُجوعا

فَذَرْ فؤادي وخُذ رُقادي

فقال : لا بل هُما جميعا
__________
(1) أخرجه : الطيالسي ( 1167 ) ، والترمذي ( 2387 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 7358 ) ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(2) الأحزاب : 51 .
(3) أخرجه : أحمد 6/134 و158 و261 ، والبخاري 6/147 ( 4788 ) و7/15 ( 5113 ) ، ومسلم 4/174 ( 1464 ) ( 49 ) و( 50 ) ، وابن ماجه ( 2000 ) ، والنسائي 6/54 وفي " الكبرى " ، له ( 5306 ) و( 8927 ) وفي " التفسير " ، له ( 434 ) .
(4) أخرجه : أحمد 1/30 - 31 ، وعبد بن حميد ( 31 ) ، ومسلم 5/156 - 157 ( 1763 ) ( 58 ) ، وأبو داود ( 2690 ) ، والترمذي ( 3081 ) .

الحديث الثاني والأربعون
عَنْ أَنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه - ، قَالَ : سَمِعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ : ( قالَ اللهُ تَعالى : يا ابنَ آدَمَ ، إنَّكَ ما دَعَوتَني ورَجَوتَني غَفَرتُ لك على ما كانَ مِنكَ ولا أُبالي ، يا ابن آدمُ لَوَ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنانَ السَّماءِ ، ثمَّ استَغفَرتَني ، غَفَرْتُ لكَ ، يا ابنَ آدم إنَّك لو أَتَيتَني بِقُرابِ الأرضِ خَطايا ، ثمَّ لَقِيتَني لا تُشركُ بي شَيئاً ، لأتيتُكَ بِقُرابها مغفرةً ) . رواهُ التِّرمذيُّ (1) وقالَ : حديثٌ حَسَن .
هذا الحديثُ تفرَّد به الترمذيُّ خرّجه من طريق كثير بن فائد ، حدَّثنا سعيدُ ابن عبيد ، سمعتُ بكر بن عبد الله المزني يقولُ : حدثنا أنسٌ ، فذكره ، وقال : حسنٌ غريبٌ ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه . انتهى .
وإسناده لا بأس به ، وسعيدُ بنُ عبيد هو الهُنائي ، قال أبو حاتم : شيخ . وذكره ابن حبان في " الثقات " (2) ، ومن زعم أنَّه غيرُ الهنائي ، فقد وهِمَ ، وقال الدارقطني : تفرَّد به كثيرُ بن فائد ، عن سعيد مرفوعاً ، ورواهُ سَلْم بنُ قتيبة ، عن سعيد بن عبيد ، فوقفه على أنس .
قلت : قد روي عنه مرفوعاً وموقوفاً ، وتابعه على رفعه أيضاً أبو سعيد مولى بني هاشم ، فرواه عن سعيد بن عُبيد مرفوعاً أيضاً ، وقد روي أيضاً من حديث ثابت ، عن أنس مرفوعاً ، ولكن قال أبو حاتم : هو منكر (3) .
__________
(1) 3540 ) مرفوعاً .
(2) انظر : الثقات لابن حبان 6/352 .
(3) أخرجه : في " العلل " 2/128 .

وقد رُوي أيضاً من حديث أبي ذَرٍّ خرَّجه الإمامُ أحمد (1) من رواية شهر بنِ حوشب ، عن معد يكرب ، عن أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربه - عز وجل - فذكره بمعناه ، ورواه بعضُهم عن شهر ، عن عبد الرحمان بن غَنْم، عن أبي ذرّ(2) ، وقيل : عن شهر ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يصحُّ هذا القول (3) .
ورُوي من حديث ابن عباس خرَّجه الطبراني (4) من رواية قيس بن الربيع ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابنِ عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
ورُوي بعضه من وجوهٍ أُخر ، فخرَّج مسلم في " صحيحه " (5) من حديث المعرور بن سُويد ، عن أبي ذرٍّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يقول الله تعالى : مَن تقرَّب منِّي شبراً تقرَّبت منه ذراعاً ، ومن تقرَّب منِّي ذراعاً تقرَّبت منه باعاً ، ومن أتاني يمشي ، أتيته هرولة ، ومن لقِيَني بقُرابِ الأرض خطيئةً لا يُشرِكُ بي شيئاً لقيتُه بقُرابها مغفرةً ) .
وخرَّج الإمام أحمد (6) من رواية أخشن السَّدوسي ، قال : دخلتُ على أنس ، فقال : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( والَّذي نفسي بيده ، لو أخطأتم حتّى تملأ خطاياكُم ما بَيْنَ السماءِ والأرض ، ثم استغفرتُمُ الله ، لغَفَرَ لكُم ) .
فقد تضمن حديث أنس المبدوء بذكره أنَّ هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة :
__________
(1) في " مسنده " 5/167 و172
(2) أخرجه : أحمد 5/154 ، وفي إسناده مقال من أجل أخشن السدوسي فيه جهالة إذ لم يرو عنه غير عبد المؤمن بن عبيد .
(3) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 1040 ) .
(4) في " الكبير " ( 12346 ) وفي " الأوسط " ( 5483 ) وفي " الصغير " ، له ( 807 ) .
(5) 8/67 ( 2687 ) ( 22 ) .
(6) في " مسنده " 3/238 ، وأخشن فيه جهالة كما تقدم قبل قليل .

أحدها : الدعاءُ مع الرجاء ، فإنَّ الدعاء مأمورٌ به ، وموعودٌ عليه بالإجابة ،
كما قال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (1) .
وفي " السنن الأربعة " (2) عن النعمان بن بشير ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الدُّعاء هو العبادة ) ثم تلا هذه الآية .
وفي حديث آخر خرَّجه الطبراني (3) مرفوعاً : ( مَنْ أُعطي الدُّعاء ، أُعطي الإجابة ؛ لأنَّ الله تعالى يقول : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ) (4) .
وفي حديث آخر : ( ما كان الله لِيفتَحَ على عبدٍ بابَ الدُّعاء ، ويُغلقَ عنه بابَ الإجابة ) (5) .
لكن الدعاء سببٌ مقتضٍ للإجابة معَ استكمال شرائطه ، وانتفاء موانعه ، وقد تتخلَّف إجابته ، لانتفاءِ بعض شروطه ، أو وجود بعض موانعه ، وقد سبق ذكرُ بعض شرائطه وموانعه وآدابه في شرح الحديث العاشر .
__________
(1) غافر : 60
(2) " سنن أبي داود " ( 1479 ) ، و" سنن ابن ماجه " ( 3828 ) ، و" جامع الترمذي "
( 2969 ) و( 3247 ) و( 3372 ) ، و" السنن الكبرى " للنسائي ( 11464 ) وفي
" التفسير " ، له ( 484 ) وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(3) في " الأوسط " ( 7023 ) وفي " الصغير " ، له ( 1000 ) ، ومن طريقه الخطيب في " تأريخه " 1/247-248 ، وطبعة دار الغرب 3/56 ، وابن الجوزي في " العلل المتناهية " 2/839 . وهو حديث منكر كما قال الذهبي في " الميزان " 4/77 ، وقال ابن الجوزي
: ( هذا حديث لا يصح عن رسول الله تفرد به محمود بن العباس ، وهو مجهول ) .
(4) غافر : 60 .
(5) أخرجه : العقيلي في " الضعفاء " 1/242 ، وابن عدي في " الكامل " 3/166 عن أنس ، به ، وهو حديث ضعيف جداً ، في سنده الحسن بن محمد البلخي ، وهو منكر الحديث .

ومن أعظم شرائطه : حضور القلب ، ورجاءُ الإجابة من الله تعالى ، كما خرَّجه الترمذي (1) من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، فإنَّ الله لا يَقبلُ دُعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ ) .
وفي " المسند " (2) عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ هذه القلوب أوعيةٌ ، فبعضُها أوعى من بعض ، فإذا سألتم الله ، فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة ، فإنَّ الله لا يستجيبُ لعبدٍ دعاءً من ظهرِ قلبٍ غافلٍ ) .
ولهذا نهي العبد أنْ يقول في دعائه : اللهمَّ اغفر لي إنْ شئت ، ولكنْ لِيَعزِم المسأَلَة ، فإنَّ الله لا مُكرهَ له (3) .
ونُهي أنْ يستعجل ، ويتركَ الدعاء لاستبطاء الإجابة (4) ، وجعل ذلك من موانع الإجابة حتّى لا يقطع العبدُ رجاءه من إجابة دُعائه ولو طالت المدة ، فإنَّه سبحانه يُحبُّ المُلحِّين في الدعاء (5)
__________
(1) 3479 ) ، وفي إسناده مقال .
(2) مسند الإمام أحمد 2/177 ، والحديث حسنه المنذري في " الترغيب والترهيب " 2/491-492 ، والهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/148 .
(3) أخرجه : أحمد 2/243 و463 – 464 ، والبخاري 8/92 ( 6339 ) ، ومسلم 8/63
( 2679 ) ( 9 ) من حديث أبي هريرة ، به مرفوعاً .
(4) أخرجه : مسلم 8/87 ( 2735 ) ( 90 ) ( 91 ) عن أبي هريرة مرفوعاً .
... نص الحديث : ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول : قد دعوتُ فلا ، أو فلم يستجب
لي ) .
(5) أخرجه : العقيلي في " الضعفاء " 4/452 ، وابن أبي حاتم في " العلل " 2/199 ، وابن عدي في " الكامل " 8/500 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 1069 ) عن عائشة مرفوعاً .

... ونص الحديث : ( إن الله - تبارك وتعالى - يحب الملحين في الدعاء ) ، وهو حديث باطل لا يصح .

. وجاء في الآثار : إنَّ العبد إذا دعا ربَّه وهو يحبُّه ، قال : يا جبريلُ ، لا تَعْجَلْ بقضاءِ حاجة عبدي ، فإنِّي أُحبُّ أن أسمعَ
صوتَه (1) ، وقال تعالى : { وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } (2) فما دام العبدُ يُلحُّ في الدُّعاء ، ويَطمعُ في الإجابة من غير قطع
الرّجاء ، فهو قريبٌ من الإجابة ، ومَنْ أَدمن قرعَ الباب ، يُوشك أنْ يُفتح له ، وفي " صحيح الحاكم " (3) عن أنسٍ مرفوعاً : ( لا تَعجزوا عن الدُّعاء ، فإنَّه لن يَهلِكَ مع الدُّعاء أَحدٌ ) .
ومن أهمِّ ما يسألُ العبد ربَّه مغفرةُ ذنوبه ، أو ما يستلزم ذلك كالنجاة من النار ، ودخول الجنة ، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( حولَها نُدنْدِن ) (4) يعني : حول سؤال الجنة والنجاة من النار (5) . وقال أبو مسلم الخَولاني : ما عَرَضت لي دعوةٌ فذكرتُ النار إلا صرفتُها إلى الاستعاذة منها .
ومن رحمة الله تعالى بعبده أنَّ العبدَ يدعوه بحاجةٍ من الدنيا ، فيصرفها عنه ، ويعوِّضه خيراً منها ، إما أنْ يَصرِفَ عنه بذلك سوءاً ، أو أنْ يدَّخِرَها له في الآخرة ، أو يَغفِر له بها ذنباً ، كما في " المسند " (6) و" الترمذى " (7) من حديث جابر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما مِنْ أَحَدٍ يَدعُو بدُعاءٍ إلا آتاه الله ما سألَ أو كَفَّ عنه من السُّوء مثلَه ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم ) .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 8442 ) عن جابر بن عبد الله مرفوعاً .
(2) الأعراف : 56 .
(3) 1/493 – 494 ، وهو حديث ضعيف .
(4) أخرجه : ابن ماجه ( 910 ) و( 3847 )، وابن حبان ( 868 ) من حديث أبي هريرة، به ، وهو حديث صحيح .
(5) انظر : النهاية 2/137 .
(6) مسند الإمام أحمد 3/360 ، وسنده فيه ضعف ، ولعله يتقوى ببعض الشواهد .
(7) 3381 ) .

وفي " المسند " (1) و" صحيح الحاكم " (2) عن أبي سعيدٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما مِنْ مُسلمٍ يَدعو بدعوةٍ ليس له فيها إثمٌ أو قطيعةُ رحمٍ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاثٍ : إما أنْ يُعجِّلَ له دعوته ، وإما أنْ يدَّخرها له في الآخرة ، وإما أنْ يكشِفَ عنه من السُّوءِ مثلها ) ، قالوا : إذاً نُكثر ؟ قال : ( الله أكثرُ ) .
وخرَّجه الطبراني (3) ، وعنده ( أو يغفِرَ له بها ذنباً قد سَلَف ) بدل قوله :
( أو يكشف عنه من السوء مثلها ) .
وخرَّج الترمذي (4) من حديث عبادة مرفوعاً نحوَ حديث أبي سعيد أيضاً .
وبكلِّ حالٍ ، فالإلحاحُ بالدعاء بالمغفرة مع رجاء الله تعالى موجبٌ للمغفرة ، والله تعالى يقول : ( أنا عندَ ظنِّ عبدي بي ، فليظنَّ بي ما شاء ) (5) وفي رواية
: ( فلا تظنُّوا بالله إلا خيراً ) (6) .
ويُروى من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر مرفوعاً : ( يأتي الله تعالى
بالمؤمن يومَ القيامة ، فيُقرِّبُه حتى يجعلَه في حجابه من جميع الخلق ، فيقول له : اقرأ
صحيفتك ، فيُعرِّفُه ذنباً ذنباً : أتعرفُ أتعرفُ ؟ فيقول : نعمْ نعمْ ، ثم يلتفتُ العبدُ يمنة ويسرة ، فيقول الله تعالى : لا بأسَ عليك ، يا عبدي أنت في ستري من جميع خلقي ، ليس بيني وبينك اليومَ أحدٌ يطَّلعُ على ذنوبك غيري ، اذهب فقد غفرتُها لك بحرفٍ واحدٍ من جميع ما أتيتني به ، قال : ما هو يا ربِّ ؟ قال : كنت لا ترجو
العفو من أحدٍ غيري ) (7) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 3/18 ، وإسناده جيد .
(2) 1/493 .
(3) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " كما في " مجمع الزوائد " 10/148 .
(4) في " جامعه " ( 3573 ) ، وقال : ( حسن صحيح غريب ) .
(5) تقدم تخريجه .
(6) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 909 ) ، وأحمد 3/491 ، وابن حبان ( 633 ) .
(7) أخرجه : الطبراني كما في " مجمع الزوائد " 7/37 .

فمن أعظم أسباب المغفرة أنَّ العبد إذا أذنب ذنباً لم يرج مغفرته من غير ربِّه ، ويعلم أنه لا يغفر الذنوبَ ويأخذ بها غيرُه ، وقد سبق ذكرُ ذلك في شرح حديث
أبي ذرٍّ : ( يا عبادي إنِّي حرَّمت الظُّلم على نفسي ) (1) ... الحديث .
وقوله : ( إنَّك ما دعوتني ورجوتني ، غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي ) يعني : على كثرة ذنوبك وخطاياك ، ولا يتعاظمني ذلك ، ولا أستكثره ، وفي
" الصحيح " (2) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إذا دعا أَحدُكم فليُعظِم الرَّغبَةَ ، فإنَّ الله لا يَتعاظَمهُ شيءٌ ) .
فذنوب العباد وإنْ عظُمَت فإنَّ عفو الله ومغفرته أعظم منها وأعظم ، فهي صغيرةٌ في جنب عفوِ الله ومغفرته .
وفي " صحيح الحاكم " (3) عن جابر أنَّ رجلاً جاء إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : واذنوباه واذنوباه مرَّتين أو ثلاثاً ، فقال له النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( قل : اللهمَّ مغفرتُك أوسَعُ من ذنوبي ، ورحمتُك أرجى عندي من عملي ) ، فقالها ، ثم قال له : ( عُدْ ) ، فعاد ، ثم قال له : ( عُدْ ) ، فعاد ، فقال له : ( قُمْ ، فقد غفر الله لك ) . وفي هذا يقول بعضهم :
يا كَبير الذَّنب عفوُ الـ

ـلَّه مِن ذنبك أكبرُ

أعظَمُ الأشياء في

جَنب عفوِ الله يَصغُرُ (4)

وقال آخر :
يا ربِّ إن عَظُمَت ذُنوني كَثرةً

فلقَد علِمتُ بأنَّ عَفوكَ أعظَمُ

إن كان لا يرجوك إلا مُحسنٌ

فمَن الذي يَرجو ويدعُو المُجرمُ

مالي إليك وسيلةٌ إلاَّ الرجا

وجَميلُ عفوك ثم إنِّي مُسلِمُ (5)

وقال آخر :
ولما قسى قلبي وضاقتْ مذاهبي
جعلتُ رجائي نحو عفوك سُلماً
__________
(1) سبق تخريجه في الحديث الرابع والعشرين .
(2) صحيح مسلم 8/64 ( 2679 ) ( 8 ) .
(3) المستدرك 1/543 - 544 .
(4) انظر : ديوان أبي نؤاس : 620 .
(5) انظر : ديوان أبي نؤاس : 618 .

تعاظمني ذنبي فلما قرنتُهُ

بعفوكَ ربي كانَ عفوك أعضما(1)

السبب الثاني للمغفرة : الاستغفار ، ولو عظُمت الذُّنوب ، وبلغت الكثرة عَنان السماء ، وهو السَّحاب . وقيل : ما انتهى إليه البصر منها ، وفي الرواية الأخرى : ( لو أخطأتُم حتَّى بلغت خطاياكم ما بين السماء والأرض ، ثم استغفرتم الله لَغفر لكم ) (2) ، والاستغفارُ : طلبُ المغفرة ، والمغفرة : هي وقاية شرِّ الذنوب مع سترها .
وقد كثر في القرآن ذكرُ الاستغفار ، فتارةً يؤمر به ، كقوله تعالى :
{ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (3) ، وقوله : { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } (4) .
وتارةً يمدحُ أهلَه ، كقوله : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } (5) ، وقوله :
{ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } (6) ، وقوله : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ } (7) .
وتارةً يذكر أن الله يغفر لمن استغفره ، كقوله تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً } (8) .
وكثيراً ما يُقرن الاستغفارُ بذكر التوبة ، فيكون الاستغفارُ حينئذٍ عبارةً عن طلب المغفرة باللسان ، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب والجوارح .
__________
(1) هذان البيتان سقطا من ( ج ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) البقرة : 199 .
(4) هود : 3 .
(5) آل عمران : 17 .
(6) الذاريات : 18 .
(7) آل عمران : 135 .
(8) النساء : 110 .

وتارة يفرد الاستغفار ، ويُرتب عليه المغفرة ، كما ذكر في هذا الحديث وما
أشبهه ، فقد قيل : إنَّه أريد به الاستغفارُ المقترن بالتوبة ، وقيل : إنَّ نصوص الاستغفار المفردة كلّها مطلقة تُقيَّدُ بما ذكر في آية ( آل عمران ) من عدم الإصرار ؛ فإنَّ الله وعد فيها المغفرة لمن استغفره من ذنوبه ولم يُصر على فعله ، فتُحْمَلُ النُّصوص المطلقة في الاستغفار كلّها على هذا المقيد ، ومجرَّدُ قولِ القائل : اللهمَّ اغفر لي ، طلبٌ منه للمغفرة ودعاءٌ بها ، فيكون حكمه حكمَ سائرِ الدعاء ، فإنْ شاء الله أجابه وغفر لصاحبه ، لاسيما إذا خرج عن قلبٍ منكسرٍ بالذنب أو صادف ساعةً من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصلوات .
ويُروى عن لُقمان - عليه السلام - أنَّه قال لابنه : يا بنيَّ عَوِّدْ لسانك : اللهمَّ اغفر لي ، فإنَّ لله ساعاتٍ لا يرُدُّ فيها سائلاً (1) .
وقال الحسن : أكثِروا من الاستغفار في بيوتكم ، وعلى موائدكم ، وفي طُرقكم ، وفي أسواقكم ، وفي مجالسكم أينما كُنتم ، فإنَّكم ما تدرون متى تنْزل المغفرة (2) .
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا في كتاب " حسن الظن " (3) من حديث أبي هريرة
مرفوعاً : ( بينما رجلٌ مستلقٍ إذ نظر إلى السَّماء وإلى النجوم ، فقال : إني لأعلم أنَّ لك رباً خالقاً ، اللهمَّ اغفر لي ، فغفر له ) .
وعن مورِّق قال : كان رجل يعملُ السَّيئات ، فخرج إلى البرية ، فجمع تراباً ، فاضطجع عليه مستلقياً ، فقال : ربِّ اغفر لي ذنوبي ، فقال : إنَّ هذا ليعرِفُ أنَّ له رباً يغفِرُ ويُعذِّب ، فغفر له .
__________
(1) ذكره حكيم الترمذي في " نوادر الأصول " 2/294 .
(2) انظر الذي قبله .
(3) 107 ) ، وإسناده ضعيف .

وعن مُغيث بن سُميٍّ ، قال : بينما رجلٌ خبيثٌ ، فتذكر يوماً ، فقال : اللهمَّ غُفرانَك ، اللهمَّ غُفرانك ، اللهمَّ غُفرانك ، ثم مات فغُفِر له (1) .
ويشهد لهذا ما في " الصحيحين " (2) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ عبداً أذنب ذنباً ، فقال : ربِّ أذنبتُ ذنباً فاغفر لي ، قال الله تعالى : عَلِمَ عبدي أنَّ له رباً يغفر الذنب ، ويأخذُ به ، غفرتُ لعبدي ، ثمَّ مكث ما شاء الله ، ثم أذنب ذنباً آخر ، فذكر مثل الأوَّل مرتين أخريين ) وفي رواية لمسلم (3) : أنَّه قال في الثالثة : ( قد غفرتُ لعبدي ، فليعمل ما شاء ) . والمعنى : ما دام على هذا الحال كلَّما أذنب استغفر . والظاهر أنَّ مرادهُ الاستغفارُ المقرون بعدم الإصرار ، ولهذا في حديث أبي بكر الصديق ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما أصرَّ من استغفر وإنْ عاد في اليوم سبعين مرةً ) خرَّجه أبو داود والترمذي (4) .
وأمّا استغفارُ اللسان مع إصرار القلب على الذنب ، فهو دُعاء مجرَّد إنْ شاء الله أجابه ، وإنْ شاء ردَّه .
وقد يكون الإصرار مانعاً من الإجابة ، وفي " المسند " (5) من حديث عبد الله ابن عمرو مرفوعاً : ( ويلٌ للذينَ يُصرُّون على ما فعلوا وهُم يَعلَمون ) .
__________
(1) أخرجه : هناد في " الزهد " ( 942 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/68 .
(2) صحيح البخاري 9/178 ( 7507 ) ، وصحيح مسلم 8/99 ( 2758 ) ( 29 ) .
(3) صحيح مسلم 8/99 ( 2758 ) ( 30 ) .
(4) 1514 ) ، والترمذي ( 3559 ) ، وهو ضعيف ، وقال الترمذي : ( ليس إسناده
بالقوي ) .
(5) مسند الإمام أحمد 2/165 و219 ، وهو حديث قوي .

وخرَّج ابنُ أبي الدنيا (1) من حديث ابن عباس مرفوعاً : ( التائبُ مِنَ الذَّنب كمن لا ذنب له ، والمستغفر من ذنب وهو مقيمٌ عليه كالمستهزيء بربِّه ) ورفعُه منكرٌ ، ولعلَّه موقوف (2) .
قال الضحاك : ثلاثةٌ لا يُستجابُ لهم ، فذكر منهم : رجل مقيم على امرأة زنى كلما قضى شهوته ، قال : ربِّ اغفر لي ما أصبتُ من فلانة ، فيقول الربُّ : تحوَّل عنها ، وأغفر لك ، فأما ما دمت مقيماً عليها ، فإنِّي لا أغفر لك ، ورجلٌ عنده مالُ قوم يرى أهله ، فيقول : ربِّ اغفر لي ما آكل من مال فلان ، فيقول تعالى : ردَّ إليهم مالهم ، وأغفر لك ، وأما ما لم تردَّ إليهم ، فلا أغفر لك .
وقول القائل : أستغفر الله ، معناه : أطلبُ مغفرته ، فهو كقوله : اللهمَّ اغفر لي ، فالاستغفارُ التامُّ الموجبُ للمغفرة : هو ما قارن عدمَ الإصرار ، كما مدح الله أهله ، ووعدهم المغفرة ، قال بعض العارفين : من لم يكن ثمرةُ استغفاره تصحيح توبته ، فهو كاذب في استغفاره ، وكان بعضُهم يقول : استغفارُنا هذا يحتاج إلى استغفارٍ كثير ، وفي ذلك يقولُ بعضهم :
أستغْفِرُ الله مِنْ أستغفرُ الله

من لَفظةٍ بَدَرَتْ خالفْتُ معناها

وكيفَ أرجو إجاباتِ الدُّعاء وقد

سَدَدْتُ بالذَّنب عندَ الله مَجراها

فأفضل الاستغفار ما اقترن به تركُ الإصرار ، وهو حينئذ توبةٌ نصوح ، وإنْ قال بلسانه : أستغفر الله وهو غيرُ مقلع بقلبه ، فهو داعٍ لله بالمغفرة ، كما يقول : اللهمَّ اغفر لي ، وهو حسن وقد يُرجى له الإجابة ، وأما من قال : توبةُ الكذابين ، فمرادُه أنَّه ليس بتوبة ، كما يعتقده بعضُ الناس ، وهذا حقٌّ ، فإنَّ التَّوبةَ لا تكون مَعَ الإصرار .
وإن قال : أستغفر الله وأتوبُ إليه فله حالتان :
__________
(1) في " التوبة " : 85 .
(2) وبنحو هذا المعنى قال البيهقي في " السنن الكبرى " 10/154 .

إحداهما : أن يكونَ مصرّاً بقلبه على المعصية ، فهذا كاذب في قوله :
( وأتوب إليه ) لأنَّه غيرُ تائبٍ ، فلا يجوزُ له أن يخبر عن نفسه بأنَّه تائبٌ وهو غير تائب .
والثانية : أنْ يكون مقلعاً عن المعصية بقلبه ، فاختلف الناس في جوازِ قوله : وأتوب إليه ، فكرهه طائفةٌ من السَّلف ، وهو قولُ أصحاب أبي حنيفة حكاه عنهم الطحاوي ، وقال الربيع بن خثيم : يكونُ قولُه : ( وأتوب إليه ) كذبةً وذنباً ، ولكن ليقل : اللهمَّ تُبْ عليَّ ، أو يقول : اللهمَّ إنِّي أستغفرك فتُب عليَّ ، وهذا قد يُحمل على من لم يقلع بقلبه وهو بحاله أشبه . وكان محمد بن سوقة يقول في استغفاره : استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم وأسأله توبة نصوحاً .
ورُوي عن حذيفة أنَّه قال : بحسب المرءِ من الكذب أنْ يقول : أستغفر الله ، ثم يعود . وسمع مطرِّفٌ رجلاً يقول : أستغفر الله وأتوب إليه ، فتغيظ عليه ، وقال : لعلك لا تفعل .
وهذا ظاهره يدلُّ على أنَّه إنَّما كره أنْ يقول : وأتوب إليه ؛ لأنَّ التوبة النصوحَ أنْ لا يعودَ إلى الذنب أبداً ، فمتى عاد إليه ، كان كاذباً في قوله : ( أتوب إليه ) .
وكذلك سُئِل محمدُ بن كعب القُرظِيُّ عمَّن عاهد الله أنْ لا يعود إلى معصية أبداً ، فقال : من أعظم منه إثماً يتألَّي على الله أنْ لا ينفذ فيه قضاؤه ، ورجَّح قوله في هذا أبو الفرج ابنُ الجوزي ، ورُوي عن سُفيان بن عُيينة نحو ذلك .

وجمهورُ العلماء على جواز أنْ يقول التائب : أتوبُ إلى الله ، وأنْ يُعاهِدَ العبدُ ربَّه على أنْ لا يعود إلى المعصية ، فإنَّ العزم على ذلك واجبٌ عليه ، فهو مخبر بما عزم عليه في الحال ، لهذا قال : ( ما أصرَّ من استغفر ، ولو عاد في اليوم سبعين
مرة ) (1) . وقال في المعاود للذنب : ( قد غفرتُ لعبدي ، فليعمل ما شاء ) (2) . وفي حديث كفارة المجلس : ( أستغفرك اللهمَّ وأتوب إليك ) (3) ، وقطع النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سارقاً ، ثم قال له : ( استغفر الله وتُب إليه ) ، فقال : أستغفر الله وأتوب إليه ، فقال : ( اللهمَّ تُب عليه ) خرَّجه أبو داود (4) .
واستحبَّ جماعة من السَّلف الزيادة على قوله : ( أستغفر الله وأتوب إليه ) فرُوي عن عمر أنَّه سمع رجلاً يقول : أستغفر الله وأتوب إليه ، فقال له : يا حُميق ،
قل : توبة من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً .
وسئل الأوزاعيُّ عن الاستغفار : أيقول : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم وأتوبُ إليه ، فقال : إنَّ هذا لحسن ، ولكن يقول : ربِّ اغفر لي حتى يتمَّ الاستغفار .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) سبق تخريجه .
(3) أخرجه : أحمد 2/369 و494 ، وأبو داود ( 4858 ) ، والترمذي ( 3433 ) عن أبي هريرة ، به ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح غريب ) .
(4) في " سننه " ( 4380 ) .
... وأخرجه: أحمد 5/293 ، والدارمي ( 2308 ) ، وابن ماجه ( 2597 ) ، والنسائي 8/67 ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 2/97 ، وإسناده ضعيف لجهالة أحد رواته .

وأفضل أنواع الاستغفار : أنْ يبدأ العبدُ بالثَّناء على ربِّه ، ثم يثني بالاعتراف بذنبه ، ثم يسأل الله المغفرة كما في حديث شدَّاد بن أوس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( سيِّدُ الاستغفار أنْ يقول العبدُ : اللهمَّ أنت ربِّي لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ ، وأبوءُ بذنبي ، فاغفر لي ، فإنَّه لا يغفرُ الذُّنوبَ إلاَّ أنتَ ) خرَّجه البخاري (1) .
وفي " الصحيحين " (2) عن عبد الله بن عمرو أنَّ أبا بكرٍ الصديق - رضي الله عنه - قال :
يا رسولَ الله ، علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي ، قال : ( قل : اللهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظُلماً كثيراً ، ولا يغفرُ الذُّنوب إلاَّ أنتَ ، فاغفر لي مغفرةً من عندك ، وارحمني إنَّك أنت الغفورُ الرحيم ) .
ومن أنواع الاستغفار أنْ يقولَ العبدُ : ( أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيُّوم وأتوب إليه ) . وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ من قاله ، غُفِر له وإنْ كان فرَّ من الزَّحف ؛ خرجه أبو داود والترمذي (3) .
__________
(1) في " صحيحه " 8/83 ( 6306 ) و8/88 ( 6323 ) .
(2) صحيح البخاري 1/211 ( 834 ) ، وصحيح مسلم 8/74 ( 2705 ) ( 48 ) .
(3) 1517 ) ، والترمذي ( 3577 ) من حديث بلال بن يسار بن زيد ، عن أبيه ، عن جده ، به مرفوعاً ، وقال الترمذي : ( غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه ) ، وبلال وأبوه مجهولان ، وزيد جد بلال لا يعرف له إلاّ هذا الحديث .

وفي كتاب " اليوم والليلة " (1) للنسائي ، عن خَبَّاب بن الأرتِّ ، قال : قلت يا رسول الله ، كيف نستغفر ؟ قال : ( قل : اللهمَّ اغفر لنا وارحمنا وتُبْ علينا ، إنك أنت التَّوابُ الرحيم ) ، وفيه عن أبي هريرة ، قال : ما رأيت أحداً أكثر أنْ
يقولَ : أستغفر الله وأتوب إليه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وفي " السنن الأربعة " (3) عن ابن عمر ، قال : إنْ كنَّا لنَعُدُّ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مئة مرَّة يقول : ( ربِّ اغفر لي وتُب عليَّ ، إنَّك أنتَ التوَّابُ
الغفور ) .
وفي " صحيح البخاري " (4) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( واللهِ إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) .
وفي " صحيح مسلم " (5) عن الأغرِّ المزني ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّه لَيُغانُ على قلبي ، وإنِّي لأستغفرُ الله في اليوم مئة مرة ) .
__________
(1) برقم ( 461 ) ، وهو في " السنن الكبرى " ( 10295 ) ، وعنه أخرجه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " ( 372 ) ، وهذا حديث معلول بالإرسال ، والمرسل هو الصواب كما ذكر ذلك المزي في " تحفة الأشراف " 3/46 ( 3521 ) .
(2) أخرجه : عبد بن حميد ( 1465 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 10288 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 454 ) ، وفي إسناده مقال .
(3) أخرجه : أبو داود ( 1516 ) ، وابن ماجه ( 3814 ) ، والترمذي ( 3434 ) ، والنسائي في " الكبرى " ، له ( 10292 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 458 ) ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح غريب ) .
(4) 8/83 ( 6307 ) .
(5) 8/72 ( 2702 ) ( 41 ) .

وفي " المسند " (1) عن حُذيفة قال : قلتُ : يا رسول الله إنِّي ذَرِبُ اللسان وإنَّ عامة ذلك على أهلي ، فقال : ( أين أنتَ مِن الاستغفار ؛ إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مئة مرة ) .
وفي " سنن أبي داود " (2) عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من أكثرَ من الاستغفارِ جعل الله له من كلِّ همٍّ فرجاً ، ومن كلِّ ضيق مخرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسبُ ) .
قال أبو هريرة : إنِّي لأستغفرُ الله وأتوب إليه كلَّ يوم ألف مرَّة ، وذلك على قدر ديتي (3) .
وقالت عائشة : طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً (4) .
قال أبو المِنهال : ما جاور عبدٌ في قبره من جارٍ أحبَّ إليه من استغفار كثير .
وبالجملة فدواءُ الذنوب الاستغفارُ ، وروينا من حديث أبي ذرٍّ مرفوعاً : ( إنَّ لكلِّ داء دواءً ، وإنَّ دواء الذنوب الاستغفار ) (5) .
قال قتادة : إنَّ هذا القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم ، فأما داؤكم : فالذُّنوب ، وأما دواؤكم : فالاستغفار (6) . قال بعضهم : إنَّما مُعوَّلُ المذنبين البكاء والاستغفار ، فمن أهمته ذنوبه ، أكثر لها من الاستغفار .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 5/396 ، وإسناده ضعيف ، إلا أنَّ قوله : ( إني لأستغفر الله … ) صحيح كما في الحديث السابق .
(2) 1518 ) ، وسنده ضعيف .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/383 .
... وجاءت فيه لفظة أثنى عشر ألف مرة .
(4) أخرجه : هناد في " الزهد " ( 921 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 646 ) موقوفاً .
... وأخرجه : ابن ماجه ( 3818 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 455 ) ، والخطيب في " تأريخه " 10/160 من حديث عبد الله بن بسر مرفوعاً ، وسنده صحيح .
(5) أخرجه : الحاكم 4/242 موقوفاً .
(6) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 7146 ) .
... وانظر : الفردوس بمأثور الخطاب 1/136 ، والترغيب والترهيب 2/309 .

قال رياح القيسي : لي نيِّفٌ وأربعون ذنباً ، قد استغفرتُ الله لكلِّ ذنب مئة ألف مرّة (1) .
وحاسب بعضهم نفسه من وقت بلوغه ، فإذا زلاتُه لا تُجاوز ستاً وثلاثين
زلةً ، فاستغفر الله لكل زلةٍ مئة ألف مرّة ، وصلَّى لكلِّ زلَّة ألف ركعة ، ختم في كلِّ ركعة منها ختمة ، قال : ومع ذلك ، فإنّي غير آمن سطوة ربي أنْ يأخذني بها ، وأنا على خطرٍ من قَبولِ التوبة .
ومن زاد اهتمامُه بذنوبه ، فربما تعلَّق بأذيالِ من قَلَّت ذنوبُه ، فالتمس منه
الاستغفار . وكان عمر يطلب من الصبيان الاستغفار ، ويقول : إنَّكم لم تُذنبوا ، وكان أبو هريرة يقول لغلمان الكُتّاب : قولوا اللهمَّ اغفر لأبي هُريرة ، فيؤمن على دعائهم .
قال بكرٌ المزني : لو كان رجلٌ يطوف على الأبواب كما يطوف المسكين يقول : استغفروا لي ، لكان نوله أنْ يفعل .
ومن كَثُرت ذنوبه وسيئاته حتى فاتت العدَّ والإحصاء (2) ، فليستغفر الله مما علم الله ، فإنَّ الله قد علم كل شيءٍ وأحصاه ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ } (3) ، وفي حديث شداد بن أوسٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أسأَلُكَ من خيرِ ما تَعلَمُ . وأعوذُ بكَ مِنْ شرِّ ما تعلمُ ، وأستغفركُ لما تعلم ، إنَّك أنت علاّمُ الغيوب ) (4) . وفي هذا يقول بعضهم :
أستغفِرُ الله ممّا يَعلمُ الله

إنَّ الشَّقيَّ لَمَن لا يَرحَمُ الله

ما أحلمَ الله عمن لا يُراقبُه

كُلٌّ مُسيءٌ ولكن يَحلمُ الله

فاسْتَغفِرُ الله مما كان من زَللٍ

طُوبى لمن كَفَّ عما يَكرهُ الله
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/194 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) المجادلة : 6 .
(4) أخرجه : أحمد 4/123 و125 ، والترمذي ( 3407 ) ، والنسائي 3/54 وفي " الكبرى " ، له ( 10648 ) ، والحاكم 1/508 ، وفي أسانيده مقال واختلاف .

طُوبى لمَن حَسُنَت فيه سَريرتُه

طُوبى لمَن يَنتهي عمَّا نهى الله

السبب الثالث من أسباب المغفرة : التوحيدُ ، وهو السببُ الأعظم ، فمن فقده ، فَقَدَ المغفرة ، ومن جاء به ، فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة ، قال
تعالى : { إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (1) فمن جاء مع التوحيد بقُراب الأرض - وهو ملؤها أو ما يُقارب ملأها - خطايا ،
لقيه الله بقُرابها مغفرة ، لكنَّ هذا مع مشيئة الله - عز وجل - ، فإنْ شاء غَفَرَ له ، وإنْ
شاء أخذه بذنوبه ، ثم كان عاقبته أنْ لا يُخلَّد في النار ، بل يخرج منها ، ثم يدخل الجنَّة .
قال بعضُهم : الموحِّد لا يُلقى في النار كما يُلقى الكفار ، ولا يَلقى فيها ما يَلقى الكفار ، ولا يبقى فيها كما يبقى الكفار ، فإنْ كمُلَ توحيدُ العبد وإخلاصُه لله فيه ، وقام بشروطه كلِّها بقلبه ولسانه وجوارحه ، أو بقلبه ولسانه عندَ الموت ، أوجبَ ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلِّها ، ومنعه من دخول النَّار
بالكلية .
فمن تحقَّق بكلمة التوحيد قَلبُه ، أخرجت منه كلَّ ما سوى الله محبةً وتعظيماً وإجلالاً ومهابةً ، وخشيةً ، ورجاءً وتوكُّلاً ، وحينئذ تُحْرَقُ ذنوبه وخطاياه كلُّها ولو كانت مِثلَ زبد البحر ، وربما قلبتها حسناتٍ ، كما سبق ذكره في تبديل السيئات حسنات ، فإنَّ هذا التوحيدَ هو الإكسيرُ الأعظمُ ، فلو وضع ذرَّة منها على جبالِ الذنوب والخطايا ، لقلبها حسناتٍ كما في " المسند "(2) وغيره ، عن أم هانئ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا إله إلا الله لا تترُك ذنباً ، ولا يسبِقها عمل ) .
وفي " المسند " (3)
__________
(1) النساء : 48 .
(2) مسند الإمام أحمد 6/425 ، والطبراني في " الكبير " 24/( 1061 ) بلفظ مقارب له .
... وأخرجه : ابن ماجه ( 3797 ) بهذا اللفظ ، وهو حديث ضعيف .
(3) مسند الإمام أحمد 4/124 .
... وأخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 10 ) ، والدولابي في" الكنى " 1/93 ، والطبراني في " الكبير " ( 7163 ) ، والحاكم 1/501 ، وهو حديث ضعيف لضعف راشد ابن داود .

عن شدَّاد بن أوس ، وعبادة بن الصامت : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : ( ارفعُوا أيدِيَكم ، وقولوا : لا إله إلا الله ) ، فرفعنا أيدينا ساعة ، ثم وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده ، ثم قال : ( الحمدُ لله ، اللهمَّ بعثتني بهذه الكلمة ، وأمرتني بها ، ووعدتني الجنَّة عليها ، وإنَّك لا تُخلِفُ الميعاد ) ، ثم قال : ( أبشروا ، فإنَّ الله قد غفر لكم ) .
قال الشِّبلي : من ركن إلى الدنيا أحرقته بنارها ، فصار رماداً تذروه الرياحُ ، ومن ركن إلى الآخرة أحرقته بنورها ، فصار ذهباً أحمر يُنتفع به ، ومن ركن إلى الله ، أحرقه نورُ التوحيد ، فصار جوهراً لا قيمة له .
إذا علِقت نارُ المحبة بالقلب أحرقت منه كلَّ ما سوى الربِّ - عز وجل - ، فطهُرَ القلبُ حينئذ من الأغيار ، وصلح عرشاً للتوحيد : ( ما وسعني سمائي ولا أرضي ،
ولكن وسعني قلبُ عبدي المؤمن ) (1) .
غصَّنِي الشوقُ إليهم بريقي

فَوَا حَريقي في الهوى وا حريقي

قَد رماني الحُبُّ في لُجِّ بَحرٍ

فخُذوا باللهِ كفَّ الغريق

حلَّ عندي حُبُّكم في شِغافي

حلَّ مِنِّي كُلَّ عَقدٍ وَثِيقِ

فهذا آخر ما ذكره الشيخ رحمه الله من الأحاديث في هذا الكتاب ، ونحن بعون الله ومشيئته نذكر تتمة الخمسين حديثاً من الأحاديث الجامعة لأنواع العلومِ والحكم والآداب الموعود بها في أوّل الكتاب ، والله الموفق للصواب .
__________
(1) سبق أنَّه من الإسرائيليات ، وأنه ليس بحديث .

الحديث الثالث والأربعون
عَنِ ابن عبَّاسَ رضي الله عنهما قالَ : قَال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألحِقُوا الفَرائِضَ بأَهلِها ، فَمَا أَبقتِ الفَرائِضُ ، فَلأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ ) . خرَّجه البُخاريُّ (1) ومُسلمٌ (2) .
هذا الحديث الذي زعم بعضُ شرَّاح هذه الأربعين أنَّ الشيخ - رحمه الله تعالى
- أغفله ، فإنَّه مشتمل على أحكام المواريث وجامع لها ، وهذا الحديث خرَّجاه من رواية وهيب ، وروح بن القاسم ، عن ابن طاووس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وخرَّجه مسلم (3) من رواية معمر ، ويحيى بن أيوب ، عن ابن طاووس أيضاً . وقد رواه الثوري (4) ، وابنُ عيينة ، وابن جريج وغيرهُم عن ابن طاووس عن أبيه مرسلاً من غير ذكر ابنِ عباس ، ورجَّح النَّسائيُّ (5) إرساله .
وقد اختلف العلماء في معنى قوله : ( ألحقوا الفرائض بأهلها ) :
__________
(1) 8/187 ( 6732 ) و190 ( 6746 ) .
(2) 5/59 ( 1615 ) ( 2 ) و( 3 ) .
(3) 5/59 - 60 ( 1615 ) ( 4 ) .
(4) أخرجه : سعيد بن منصور ( 288 ) عن طاووس مرسلاً .
(5) في " الكبرى " عقيب ( 6332 ) ، إذ قال : ( سفيان الثوري أحفظ من وهيب ، ووهيب ثقة مأمون ، وكأنَّ حديث الثوري أشبه بالصواب ) .

فقالت طائفة : المرادُ بالفرائض الفروضُ المقدرة في كتاب الله تعالى ، والمراد : أعطوا الفروض المقدرة لمن سمَّاها الله لهم ، فما بقي بعدَ هذه الفروض ، فيستحقّه أولى الرجال ، والمراد بالأوْلى : الأقربُ ، كما يقال : هذا يلي هذا ، أي : يَقرُبُ منه (1) ، فأقربُ الرجال هو أقربُ العصبات ، فيستحقُّ الباقي بالتعصيب ، وبهذا
المعنى فسر الحديث جماعة من الأئمة ، منهم الإمام أحمد ، وإسحاق بن راهويه ، نقله عنهما إسحاق بن منصور ، وعلى هذا ، فإذا اجتمع بنت وأختٌ وعمٌّ أو ابنُ عم أو ابنُ أخ ، فينبغي أنْ يأخذَ الباقي بعدَ نصف البنتِ العصبة ، وهذا قولُ ابنِ عباس ، وكان يتمسَّكُ بهذا الحديث ، ويقرُّ بأنَّ الناسَ كلَّهم على خلافه ، وذهبت الظاهرية إلى قوله أيضاً .
وقال إسحاق : إذا كان مع البنتِ والأختِ عصبةٌ ، فالعصبةُ أولى ، وإنْ لم يكن معهما أحدٌ ، فالأخت لها الباقي ، وحُكي عن ابن مسعود أنَّه قال : البنتُ عصبةُ من لا عصبة له ، وردَّ بعضهم هذا ، وقال : لا يصحُّ عن ابن مسعود .
وكان ابنُ الزبير ومسروق يقولان بقول ابن عباس ، ثم رجعا عنه .
وذهب جمهورُ العلماء إلى أنَّ الأخت مع البنتِ عصبة لها ما فَضَلَ ، منهم عمر ، وعليٌّ ، وعائشة ، وزيد ، وابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وتابعهم سائر العلماء (2) .
__________
(1) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 6/47 عقيب ( 1615 ) ، وفتح الباري 12/15 عقيب ( 6732 ) .
(2) انظر : المغني 7/7 .

وروى عبدُ الرزاق (1) : أخبرنا ابنُ جريج : سألتُ ابنَ طاووس عن ابنة وأخت ، فقال : كان أبي يذكر عن ابن عباس ، عن رجل عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيها شيئاً ، وكان طاووس لا يرضى بذلك الرجل ، قال : وكان أبي يشكُّ فيها ، ولا يقول فيها شيئاً ، وقد كان يُسأل عنها . والظاهر - والله أعلم - أنَّ مرادَ طاووس هو هذا الحديث ، فإنَّ ابنَ عباس لم يكن عنده نصٌّ صريح عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ميراثِ الأخت مع البنت ، إنَّما كان يتمسك بمثلِ عموم هذا الحديث .
وما ذكر طاووس أنَّ ابنَ عباس رواه عن رجل وأنَّه لا يرضاه ، فابنُ عباس أكثرُ رواياته للحديث عن الصحابة ، والصحابة كلُّهم عدول قد رضي الله عنهم ،
جوأثنى عليهم ، فلا عبرةَ بعد ذلك بعدم رضا طاووس .
وفي " صحيح البخاري " (2) عن أبي قيسٍ الأودي ، عن هُزيلِ بنِ شُرحبيل ، قال : جاء رجلٌ إلى أبي موسى ، فسأله عن ابنةٍ وابنةِ ابنٍ ، وأختٍ لأبٍ وأم ، فقال : للابنة النصفُ ، وللأخت ما بقي وائت ابنَ مسعود فسيُتابعني ، فأتى ابنَ مسعود ، فذكر ذلك له ، فقال : لقد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين أقضي فيها بقضاء
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : للابنة النِّصفُ ، ولابنةِ الابن السُّدس تكملة الثلثين ، وما بقي ، فللأخت ، قال : فأتينا أبا موسى ، فأخبرناه بقول ابن مسعود ، فقال : لا تسألوني مادام هذا الحبرُ فيكم .
__________
(1) في " المصنف " ( 19038 ) .
(2) 8/188 ( 6736 ) .

وفيه (1) أيضاً عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود بن يزيد ، قال : قضى فينا معاذُ بنُ جبل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النصف للابنة ، والنصف للأخت ، ثم ترك الأعمش ذكرَ عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يذكره . وخرَّجه أبو داود (2) من وجهٍ آخر عن الأسود ، وزاد فيه : ونبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ حيٌّ .
واستدلَّ ابنُ عباس لقوله بقول الله - عز وجل - : { قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } (3) وكان يقول : أأنتم أعلم أم الله ؟! يعني : أنَّ الله لم يجعل لها النصفَ إلا مع عدمِ الولد ، وأنتم تجعلون لها النصف مع الولد وهو البنت (4) .
__________
(1) صحيح البخاري 8/189 ( 6741 ) .
(2) برقم ( 2893 ) .
(3) النساء : 176 .
(4) أخرجه : عبد الرزاق ( 19023 ) ، والحاكم 4/339 ، والبيهقي 6/233 .
وانظر : المغني 7/7 .

والصوابُ قولُ عمر والجمهور ، ولا دلالةَ في هذه الآية على خلاف ذلك (1) ؛ لأنَّ المراد بقوله : { فَلَها نِصفُ ما تَركَ } (2) بالفرض ، وهذا مشروطٌ بعدم الولد بالكلية ، ولهذا قال بعده : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } (3) يعني بالفرض ، والأخت الواحدة إنَّما تأخذ النصفَ مع عدمِ وجود الولد الذكر والأنثى ، وكذلك الأُختان فصاعداً إنَّما يستحقون الثُّلثين مع عدم وجودِ الولد الذكر والأنثى ، فإنْ كان هناك ولدٌ ، فإنْ كان ذكراً ، فهو مقدَّمٌ على الإخوة مطلقاً ذكورهم وإناثهم ، وإنْ لم يكن هناك ولدٌ ذكرٌ ، بل أنثى ، فالباقي بعد فرضها يستحقُّه الأخُ مع أخته بالاتفاق ، فإذا كانتِ الأختُ لا يُسقِطُها أخوها ؛ فكيف يُسقطها من هو أبعدُ منه من العصبات كالعمِّ وابنه ؟ وإذا لم يكن العصبة الأبعد مسقطاً لها ، فيتعيَّنُ تقديمُها عليه ، لامتناع مشاركته لها ، فمفهوم الآية أنَّ الولد يمنع أنْ يكونَ للأختِ النصفُ بالفرضِ ، وهذا حقٌّ ليس مفهومها أنَّ الأخت تسقطُ بالبنت ، ولا تأخذ ما فضل من ميراثها ، يَدُلُّ عليه قوله تعالى : { وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَد } (4) ، وقد أجمعتِ الأمة على أنَّ الولد الأنثى لا يمنع الأخ أنْ يرثَ من مال أخته ما فضلَ عن البنت أو البنات ، وإنَّما وجودُ الولد الأنثى يمنع أنْ يَحُوزَ الأخُ ميراثَ أخته
كلَّه ، فكما أنَّ الولد إنْ كان ذكراً ، منع الأخ من الميراث ، وإنْ كان أنثى ، لم يمنعه الفاضل عن ميراثها ، وإنْ منعه حيازة الميراثِ ، فكذلك الولد إنْ كان ذكراً مَنَع الأخت الميراثَ بالكليَّة ، وإنْ كان أنثى ، منعت الأخت أنْ يفرض لها النصف ،
ولم يمنعها أنْ تأخذ ما فَضَلَ عن فرضها ، والله أعلم (5) .
__________
(1) انظر : المغني 7/7 .
(2) النساء : 176 .
(3) النساء : 176 .
(4) النساء : 176 .
(5) انظر : المغني 7/7 - 8 .

وأما قوله : ( فما أبقتِ الفرائض ، فلأولى رجُلٍ ذكر ) ، فقد قيل : إنَّ المرادَ به العصبةُ البعيدُ خاصَّة ، كبني الإخوة والأعمام وبنيهم ، دونَ العصبة القريب ؛ بدليلِ أنَّ الباقي بعدَ الفروض يشترك فيه الذكر والأنثى إذا كان العصبةُ قريباً ، كالأولاد والإخوة بالاتفاق ، فكذلك الأختُ مع البنت بالنص الدالِّ عليه (1) .
وأيضاً فإنَّه يخص منه هذه الصور بالاتفاق ، وكذلك يُخص منه المعتقة مولاة النعمة بالاتفاق ، فتخصَّ منه صورةُ الأخت مع البنت بالنصّ .
وقالت طائفة آخرون : المرادُ بقوله : ( ألحقوا الفرائضَ بأهلها ) (2) ما يستحقه ذوو الفروض في الجملة ، سواءٌ أخذوه بفرض أو بتعصيبٍ طرأ لهم ، والمراد بقوله : ( فما بقي ، فلأولى رجل ذكر ) العصبةُ الذي ليس له فرضٌ بحال ، ويدلُّ عليه أنَّه قد رُوي الحديث بلفظ آخر ، وهو : ( اقسِموا المالَ بينَ أهلِ الفرائضِ على كتاب الله ) (3) ، فدخل في ذلك كلُّ من كان مِنْ أهل الفروض بوجهٍ من الوجوه ، وعلى هذا ، فما تأخذه الأختُ مع أخيها ، أو ابنِ عمها إذا عصبها هو داخلٌ في هذه القسمة ؛ لأنَّها مِنْ أهل الفرائض في الجملة ، فكذلك ما تأخذه الأخت مع البنت .
__________
(1) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 6/47 - 48 عقيب ( 1615 ) ، وفتح الباري
12/15 - 17 عقيب ( 6732 ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) أخرجه : أحمد 1/313 ، ومسلم 5/59 - 60 ( 1615 ) ( 4 ) ، وابن ماجه ( 2740 ) ، وأبو عوانة 3/437 من حديث عبد الله بن عباس .

وقالت فرقة أخرى : المرادُ بأهلِ الفرائض في قوله : ( ألحقوا الفرائض
بأهلها ) ، وقوله : ( اقسموا المال بين أهل الفرائض ) جملة من سمَّاه الله في كتابه (1) من أهل المواريث من ذوي الفروض والعصبات كلِّهم ، فإنَّ كلَّ ما يأخذه الورثة ، فهو فرضٌ فرضه الله لهم ، سواء كان مقدراً أو غير مقدر ، كما قال بعدَ ذكر ميراث الوالدين والأولاد : { فَريضَةً مِنَ الله } (2) ، وفيهم ذو فرض وعصبة ، وكما قال : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً } (3) ، وهذا يشملُ العَصَباتِ وذوي الفروض ، فكذلك قولُه : ( اقسِموا الفرائضَ بين أهلها على كتاب الله ) يشمل قسمته بين ذوي الفروض والعصبات على ما في كتاب الله (4) ، فإنْ قسم على ذلك ثُمَّ فضَلَ منه شيء ، فيختصُّ بالفاضل أقربُ الذكور مِنَ الورثة ، وكذلك إنْ لم يُوجَد في كتاب الله تصريحٌ بقسمته بين من سماه الله من الورثة ، فيكون حينئذٍ المال لأوْلَى رجلٍ ذكرٍ منهم .
فهذا الحديث مبيِّنٌ لكيفية قسمةِ المواريث المذكورة في كتاب الله بين أهلها ومُبيِّنٌ لقسمة ما فضلَ من المال عن تلك القسمة ممَّا لم يُصرَّحْ به في القرآن مِنْ أحوال أولئك الورثة وأقسامهم ، ومبيِّنٌ أيضاً لكيفية توريث بقية العصبات الذين لم يصرَّح بتسميتهم في القرآن ، فإذا ضُمَّ هذا الحديثُ إلى آيات القرآن ، انتظم ذلك كلُّه معرفةَ قسمةِ المواريث بين جميع ذوي الفروض والعصبات .
__________
(1) انظر : فتح الباري 12/15 عقيب ( 6732 ) .
(2) النساء : 11 .
(3) النساء : 7 .
(4) انظر : فتح الباري 12/15 عقيب ( 6732 ) .

ونحن نذكر حكمَ توريث الأولاد والوالدين كما ذكره الله في أوَّل سورة النساء ، وحكم توريث الإخوة من الأبوين ، أو من الأب ، كما ذكره الله في آخر السورة المذكورة .
فأما الأولاد ، فقد قال الله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } (1) ، فهذا حكم اجتماع ذكورهم وإناثهم أنّه يكونُ للذكر منهم مثل حظ الأنثيين ، ويدخل في ذلك الأولادُ ، وأولادُ البنين باتِّفاق العلماء ، فمتى اجتمع الأولاد إخوةٌ وأخوات ، اقتسموا الميراث على هذا الوجه عند الأكثرين ، فلو كان هناك بنتٌ للصُّلب أو ابنتان ، وكان هناك ابنُ ابنٍ مع أخته اقتسما الباقي أثلاثاً ؛ لدخولهم في هذا العموم . هذا قولُ جمهور العلماء ، منهم عمر وعليٌّ وزيدٌ وابنُ عباس ، وذهب إليه عامَّة العلماء ، والأئمة الأربعة (2) .
وذهب ابنُ مسعودٍ إلى أنَّ الباقي بعدَ استكمال بناتِ الصُّلب الثلثين ، كلُّه لابن الابن ، ولا يُعصِّبُ أخته ، وهو قولُ علقمة وأبي ثور وأهل الظاهر ، فلا يُعصِّبُ عندهم الولدُ أختَه إلاّ أنْ يكونَ لها فريضةٌ لو انفردت عنه ، فكذلك قالوا فيما إذا كان هناك بنتٌ وأولادُ ابنٍ ذكور وإناث : أنَّ الباقي لجميع ولد الابن ، للذكر منهم مثلُ حظ الأنثيين (3) .
وقال ابنُ مسعود في بنت وبنات ابن وبني ابن : للبنتِ النصفُ ، والباقي بين ولد الابن ، للذكر مثلُ حظ الأُنثيين إلاّ أنْ تزيدَ المقاسمةُ بنات الابن على السدس ، فيفرض لهنَّ السدسُ ، ويجعلُ الباقي لبني الابن (4) ، وهذا قول أبي ثور .
__________
(1) النساء : 11 .
(2) انظر : المغني 7/8 و10 .
(3) انظر : المغني 7/11 .
(4) انظر : المغني 7/13 .

وأمَّا الجمهور ، فقالوا : النصفُ الباقي لولدِ الابنِ ، للذكر مثلُ حظ الأنثيين عملاً بعموم الآية ، وعندهم أنَّ الولد وإنْ نَزَلَ يُعصِّبُ من في درجته بكلِّ حال ، سواء كان للأنثى فرض بدونه أو لم يكن ، ولا يُعصِّبُ من أعلى منه من الإناث إلاَّ بشرط أنْ لا يكون لها فرضٌ بدونه ، ولا يُعصب من أسفلَ منه بكلِّ حالٍ .
ثم قال تعالى : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } (1) . فهذا حكمُ انفرادِ الإناث من الأولاد أنَّ للواحدة
النصفَ ، ولِما فوقَ الاثنتين الثلثان ، ويدخلُ في ذلك بناتُ الصلب وبناتُ الابن عند عدمهن ، فإنِ اجتمعنَ ، فإنِ استكملَ بناتُ الصلب الثلثين ، فلا شيءَ لبنات الابن المنفردات ، وإنْ لم يستكمل البناتُ الثُّلثين ، بل كان ولدُ الصلب بنتاً واحدة ، ومعها بناتُ ابنِ ، فللبنتِ النِّصفُ ، ولبناتِ الابن السدسُ تكملةَ الثلثين ؛ لئلا يزيدَ فرضُ البنات على الثلثين ، وبهذا قضى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكرُه، وهو قولُ عامَّة العلماء، إلا ما رُوي عن ابن مسعود وسلمان بن ربيعة: أنَّه لا شيءَ لبناتِ الابن، وقد رجع أبو موسى إلى قول ابن مسعود لمَّا بلغه قولُه في ذلك (2).
__________
(1) النساء : 11 .
(2) أخرجه : أبو داود ( 2890 ) .

وإنَّما أشكل على العلماء حكمُ ميراث البنتين ، فإنَّ لهما الثلثين بالإجماع كما حكاه ابنُ المنذر (1) وغيره ، وما حُكي فيه عن ابن عباس أنَّ لهما النِّصفُ ، فقد قيل : إنَّ إسنادَه لا يَصِحُّ ، والقرآن يدلُّ على خلافه ، حيث قال : { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } (2) ، فكيف تُورث أكثر من واحدة النصف ؟ وحديثُ ابن مسعود في توريث البنت النصف وبنت الابن السدس تكملة الثلثين يدلُّ على توريث البنتين الثلثين بطريق الأولى . وخرَّج الإمامُ أحمد (3) ، وأبو داود (4) ، والترمذي (5) من حديث جابر أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ورَّث ابنتي سعد بن الربيع الثلثين ، ولكنْ أشكل فهمُ ذلك من القرآن لقوله تعالى : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } (6) ، فلهذا اضطربَ الناسُ في هذا ، وقال كثيرٌ من الناس فيه أقوالاً مستبعدةً .
ومنهم من قال : استُفيد حكم ميراث الابنتين من ميراث الأختين ، فإنَّه قال تعالى : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } (7) ، واستُفيد حكمُ ميراث أكثر من الأختين من حكم ميراث ما فوق الاثنتين .
__________
(1) في " الإجماع " : 79 .
(2) النساء : 11 .
(3) في " مسنده " 3/352 .
(4) برقم ( 2891 ) و( 2892 ) .
(5) في " جامعه " ( 2092 ) ، وقال : ( حسن صحيح ) .
(6) النساء : 11 .
(7) النساء : 176 .

ومنهم من قال : البنتُ مع أخيها لها الثلثُ بنصِّ القرآن ، فلأَنْ يكونَ لها الثلثُ مع أختها أولى ، وسلك بعضُهم مسلكاً آخر ، وهو أنَّ الله تعالى ذكر حُكمَ توريث (1) اجتماع الذكور والإناث من الأولاد ، وذكر حُكمَ توريثِ الإناث إذا انفردنَ عن الذُّكور ، ولم ينصَّ على حكم انفراد الذكور منهم عن الإناث ، وجعل حُكمَ الاجتماع أنَّ الذكرَ له مثلُ حظِّ الأنثيين ، فإنِ اجتمع مع الابن ابنتان فصاعداً ، فله مثلُ نصيب اثنتين منهن ، وإنْ لم يكن معه إلا ابنة واحدة ، فله الثلثان ولها الثلث ، وقد سمَّى الله ما يستحقه الذكرُ حظَّ الأنثيين مطلقاً ، وليس الثلثان حظّ الأنثيين في حال اجتماعهما مع الذكر ؛ لأنَّ حظَّهما حينئذ النِّصفُ ، فتعيَّن أنْ يكونَ الثُّلثان حظهما حالَ الانفراد .
وبقي هاهنا قسمٌ ثالث لم يُصرِّح القرآنُ بذكره ، وهو حكمُ انفراد الذكور من الولد ، وهذا مما يُمكن إدخاله في حديث ابن عباس : ( فما بقي فلأَوْلى رجلٍ ذكرٍ ) ، فإنَّ هذا القسم قد بقي ولم يُصرَّح بحكمه في القرآن ، فيكون المالُ حينئذ لأقرب الذكور مِنَ الولد والأمرُ على هذا ، فإنَّه لو اجتمع ابنٌ وابنُ ابنٍ ، لكان المال كُلُّه للابن ، ولو كان ابنُ ابنٍ وابنُ ابنِ ابنٍ ، لكان المال كلُّه لابنِ الابن على مقتضى حديث ابن عباس ، والله أعلم (2) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 6/48 عقيب ( 1615 ) ، وفتح الباري 12/15 و18 عقيب ( 6732 ) .

ثم ذكر تعالى حُكم ميراث الأبوين ، فقال : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } (1) ، فهذا حكم ميراث الأبوين إذا كان الولد المتوفَّى ولد ، وسواءٌ في الولد الذكر والأنثى ، وسواء فيه ولدُ الصُّلب وولدُ الابن ، هذا كالإجماع من العلماء وقد حكى بعضهم عن مجاهدٍ فيه خلافاً ، فمتى كان للميت ولدٌ ، أو ولدُ ابن ، وله أبوان ، فلكلِّ واحدٍ من أبويه السدسُ فرضاً ، ثم إنْ كان الولد ذكراً ، فالباقي بعد سدسي الأبوين له ، وربما دخل هذا في قوله - صلى الله عليه وسلم -
: ( ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي ، فلأوْلَى رجل ذكر ) .
وأقرب العصباتِ الابنُ ، وإنْ كان الولد أنثى ، فإن كانتا اثنتينِ فصاعداً ، فالثُّلثان لهنَّ ، ولا يَفضُلُ من المال شيءٌ ، وإنْ كانت بنتاً واحدةً ، فلها النِّصفُ (2) ، ويفضلُ مِنَ المالِ سدسٌ آخر ، فيأخذُه الأبُ بالتَّعصيب ، عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فلأولى رجل ذكر ) (3) ، فهو أولى رجل ذكر عندَ فقدِ
الابن ؛ إذ هو أقربُ من الأخ وابنه والعم وابنه .
ثم قال تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } (4) ، يعني : إذا لم يكن للميت ولد ، وله أبوان يرثانه ، فلأُمِّه الثلث ، فيُفهم من ذلك أنَّ الباقي بعدَ الثلث للأب ؛ لأنه أثبت ميراثه لأبويه ، وخصَّ الأم من الميراث بالثلث ، فعلم أنَّ الباقي للأب ، ولم يقل : فللأب - مثلاً - ما للأم ، لئلا يُوهم أنَّ اقتسامَهُما المالَ هو بالتَّعصيبِ كالأولاد والإخوة ، إذا كان فيهم ذكورٌ وإناثٌ .
__________
(1) النساء : 11 .
(2) انظر : المغني 7/12 – 13 .
(3) سبق تخريجه .
(4) النساء : 11 .

وكان ابنُ عبّاس يتمسَّك بهذه الآية بقوله في المسألتين الملقبتين بالعمريتين وهما : زوجٌ وأبوان ، وزوجةٌ وأبوان ، فإنَّ عمر قضى أنَّ الزوجين يأخذان فرضَهُما من المال ، وما بقي بعد فرضهما في المسألتين ، فللأم ثلثُه ، والباقي للأب (1) ، وتابعه على ذلك جمهور الأمة (2) .
وقال ابن عباس : بل للأم الثلثُ كاملاً (3) ، تمسُّكاً بقوله : { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } (4) .
وقد قيل في جواب هذا : إنَّ الله إنَّما جعل للأم الثلث بشرطين : أحدُهما : أنْ لا يكونَ للولد المتوفَّى ولدٌ ، والثاني : أنْ يرِثَه أبواه ، أي : أنْ ينفرِدَ أبواه بميراثه ،
فما لم ينفرد أبواه بميراثه ، فلا تستحقُّ الأمُّ الثلث ، وإنْ لم يكن للمتوفَّى ولدٌ .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 19015 ) ، وسعيد بن منصور ( 6 ) و( 8 ) ، والدارمي
( 2872 ) ( ط . دار الحديث ) ، والبيهقي 6/228 .
(2) انظر : المغني 7/21 .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 19018 ) ، والدارمي ( 2878 ) ( ط . دار الحديث ) ، والبيهقي 6/228 .
وانظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/717 ، والمغني 7/22 .
(4) النساء : 11 .

وقد يقال - وهو أحسن - : إنَّ قوله : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } (1) أي : ممَّا ورثه الأبوان ، ولم يقل : فلأمه الثلث مما ترك كما قال في السُّدس ، فالمعنى : أنَّه إذا لم يكن له وَلَدٌ ، وكان لأبويه مِن ماله ميراثٌ ، فللأُمِّ ثُلُثُ ذلك الميراثِ الذي يختصُّ به الأبوان ، ويبقى الباقي للأب . ولهذا السرِّ والله أعلم حيث ذكر الله الفروض المقدَّرة لأهلها ، قال فيها : { مِمَّا تَرَكَ } ، أو ما يدلُّ على ذلك ، كقوله : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } (2) ، ليبين أنَّ ذا الفرضِ حَقُّه ذلك الجزء المفروض المقدَّر له من جميع المال بعد الوصايا والديون ، وحيث ذكر ميراثَ العصبات ، أو ما يقتسِمُه الذُّكورُ والإناث على وجه التَّعصيب ، كالأولاد والإخوة لم يقيِّده بشيءٍ من ذلك ، ليبيِّنَ أنَّ المالَ المقتسم بالتَّعصيب ليس هو المالَ كُلَّهُ ، بل تارةً يكونُ جميع المال ، وتارةً يكونُ هو الفاضلَ عن الفروض المفروضة المقدَّرة ، وهُنا لمَّا ذكر ميراثَ الأبوين من ولدهما الذي لا ولدَ له ، ولم يكن اقتسامهما للميراث بالفرض المحضِ ، كما في ميراثهما مع الولد ، ولا كان بالتَّعصيب المحض الذي يُعصب فيه الذَّكر الأنثى ، ويأخذ مِثلَي ما تأخذُهُ الأنثى ، بل كانت الأُمُّ تأخذُ ما تأخذُهُ بالفرض ، والأب يأخذُ ما يأخذُهُ بالتَّعصيب ، قال : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } (3) يعني : أنَّ القدر الذي يستحقُّه الأبوان من ميراثه تأخذُ الأُم ثلثه فرضاً ، والباقي يأخذُه الأب بالتَّعصيب (4) ، وهذا ممَّا فتح الله به ، ولا أعلم أحداً سبق إليه ، ولله الحمد والمنَّة .
__________
(1) النساء : 11 .
(2) النساء : 11 .
(3) النساء : 11 .
(4) انظر : المغني 7/22 .

ثم قال تعالى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } (1) يعني : للأمِّ السُّدس مع الأخوة من جميع التركة الموروثة التي يقتسمها الورثة ، ولم يذكر هنا ميراثَ الأب مع الأم ، ولا شكَّ أنَّه إذا اجتمع أمٌّ وإخوةٌ ليس معهم أبٌ ، فإنَّ للأمِّ السدسَ ، والباقي للإخوة ، ويحجبها الأخوانِ فصاعداً عند الجمهور (2) .
وأما إن كان مع الأُمِّ والإخوة أبٌ ، فقال الأكثرون : يحجب الإخوة الأم ولا يرثون ، ورُوي عن ابن عباس أنهم يرثُون السُّدسَ الذي حجبوا عنه الأم بالفرض كما يَرِثُ ولدُ الأم مع الأم بالفرض .
وقد قيل : إنَّ هذا مبنيٌّ على قوله : إنَّ الكلالةَ مَنْ لا ولدَ له خاصَّة ، ولا يُشترط للكَلالةِ فَقْدُ الوالدِ ، فيرثُ الإخوةُ مع الأب بالفرض (3) .
ومن العلماء المتأخِّرين من قال : إذا كان الإخوةُ محجوبينَ بالأب ، فلا يَحجُبُون الأمَّ عن شيءٍ ، بل لها حينئذٍ الثُّلثُ ، ورجَّحه الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمة الله عليه ، وقد يُؤخذ من عموم قولِ عمر وغيره من السَّلف : من لا يَرثُ لا يَحجُبُ (4) ، وقد قال نحوه أحمدُ والخِرَقي ، لكن أكثر العلماء يحملون ذلك على أنَّ المرادَ مَنْ ليس له أهليَّةُ الميراث بالكلِّيَّة ، كالكافر والرقيق ، دون من لا يرثُ ، لانحجابه بمن هو أقرب منه ، والله أعلم .
__________
(1) النساء : 11 .
(2) انظر : المغني 7/17 ، والشرح الكبير على متن المقنع 7/26 .
(3) انظر : المغني 7/4 .
(4) أخرجه : عبد الرزاق ( 19104 ) ، وابن أبي شيبة ( 31147 ) ( ط . الحوت ) ، والدارمي
( 2997 ) ( ط . دار الحديث ) من قول عمر بن الخطاب .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 19108 ) من قول علي بن أبي طالب .

وقد يَشهَدُ للقولِ بأنَّ الإخوة إذا كانوا محجوبين لا يَحجُبونَ الأمَّ أنَّ الله تعالى قال : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } (1) ولم يذكر الأب ، فدلَّ على أنّ ذلك حكمُ انفراد الأم مع الإخوة ، فيكون الباقي بعد السدس كلّه لهم ، وهذا ضعيفٌ ، فإنَّ الإخوة قد يكونون من أمٍّ ، فلا يكونُ لهم سوى الثلث ، والله تعالى أعلم .
واعلم أنَّ الله تعالى ذكر حُكمَ ميراث الأبوين ، ولم يذكر الجدَّ ولا الجدَّة ، فأما الجدَّةُ ، فقد قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما : إنه ليس لهما في كتاب الله شيءٌ (2) ، وقد حكى بعض العلماء الإجماع على ذلك ، وأنَّ فرضها إنَّما ثبت بالسُّنَّة . وقيل : إنَّ السُّدس طعمةٌ أطعمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس بفرضٍ ، كذا روي عن ابن مسعود (3) وسعيد بن المسيب (4) .
__________
(1) النساء : 11 .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 19083 ) ، وأحمد 4/225 ، وأبو داود ( 2894 ) ، وابن ماجه
( 2724 ) ، والترمذي ( 2101 ) ، وابن الجارود ( 959 ) ، وابن حبان ( 6031 ) ، والحاكم 4/338 ، والبيهقي 6/234 ، والبغوي في " شرح السنة " ( 2221 ) .
(3) أخرجه : الترمذي ( 2102 ) ، والبيهقي 6/226 عن عبد الله بن مسعود ، مرفوعاً .
وأخرجه: سعيد بن منصور ( 99 ) و( 110 ) ، والدارمي ( 2932 ) ( ط . دار الحديث ) ، والبيهقي 6/226 عن عبد الله بن مسعود ، موقوفاً .
وانظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 3/283 .
(4) أخرجه : الدارمي ( 2934 ) ( ط . دار الحديث ) ، والبيهقي 6/226 .

وقد رُوي عن ابن عباس من وجوهٍ فيها ضعفٌ أنها بمنْزلة الأم عندَ فقد الأم ترث ميراثَ الأم ، فترث الثلثَ تارةً ، والسدس أخرى ، وهذا شذوذ (1) ، ولا يصحُّ إلحاق الجدة بالجدِّ ؛ لأنَّ الجدَّ عصبة يُدلي بعصبة ، والجدَّة ذاتُ فرض تُدلي بذات فرض فضعفت ، وقد قيل : إنَّه ليس لها فرض بالكلية ، وإنما السدسُ طعمة أطعمها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولهذا قالت طائفة ممن يرى الردَّ على ذوي الفروض : إنَّه لا يُرَدُّ على الجدة ، لضعف فرضها ، وهو رواية عن أحمد .
وأما الجدُّ ، فاتَّفق العلماءُ على أنَّه يقوم مقامَ الأب في أحواله المذكورة من
قبلُ (2) ، فيرثُ مع الولدِ السُّدُسَ بالفرض ، ومع عدمِ الولد يرثُ بالتعصيب ، وإن بقي شيء مع إناث الولد أخذه بالتعصيب أيضاً عملاً بقوله : ( فما أبقتِ الفرائضُ ، فلأَولى رَجُلٍ ذكر ) .
ولكنِ اختلفوا إذا اجتمع أمٌّ وجدٌّ مع أحد الزوجين ، فرُوي عن طائفةٍ من الصَّحابة أنَّ للأم ثُلُث الباقي ، كما لو كان معها الأبُ كما سبق ، رُوي ذلك عن عمر ، وابن مسعود كذا نقلهُ بعضُهم ، ومنهم من قال : إنَّما رُوي عن عمر ، وابن مسعود في زوج وأم وجدٍّ أنَّ للأمِّ ثلث الباقي .
ورُوي عن ابن مسعود روايةٌ أخرى : أنَّ النَّصفَ الفاضلَ بين الجدِّ والأم نصفان (3) ، وأمَّا في زوجة وأمٍّ وجدٍّ ، فرُوي عن ابن مسعود رواية شاذةٌ : أنَّ للأمِّ ثلثَ الباقي ، والصَّحيحُ عنه ، كقول الجمهور : إنَّ لها الثُّلثَ كاملاً ، وهذا يشبه تفريقَ ابنِ سيرين في الأمِّ مع الأب أنَّه إنْ كان معهما زوج فللأمِّ ثلث الباقي ، وإنْ كانَ معهما زوجة ، فللأمِّ الثُّلُث .
__________
(1) انظر : المغني 7/53 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 3/278 .
(2) انظر : المغني 7/19 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 3/285 .
(3) انظر : المهذب 4/107 .

وجمهورُ العلماء على أنَّ الأم لها الثلثُ مع الجدِّ مطلقاً ، وهو قولُ عليٍّ وزيدٍ ، وابنِ عباس ، والفرق بين الأم مع الأب ومع الجدِّ أنَّها مع الأب يشملُها اسمٌ واحدٌ ، وهما في القُرب سواءٌ إلى الميت ، فيأخذ الذكرُ منهما مثلَ حظِّ الأنثى مرتين كالأولاد والإخوة ، وأما الأم مع الجد ، فليس يشملها اسمُ واحد ، والجدُّ أبعدُ من الأب ، فلا يلزمُ مساواته به في ذلك .
وأما إنِ اجتمع الجدُّ مع الإخوة ، فإنْ كانوا لأُمٍّ سقطوا به ؛ لأنَّهم إنَّما
يرثون مِنَ الكَلالة ، والكلالةُ : مَنْ لا وَلَدَ له ولا والد ، إلا رواية شذَّتْ عن ابنِ عباسٍ .
وأما إن كانوا لأبٍ أو لأبوين ، فقد اختلفَ العلماءُ في حكم ميراثهم قديماً
وحديثاً ، فمنهم من أسقط الإخوة بالجدِّ مطلقاً ، كما يسقطون بالأب وهذا قولُ
الصديق ، ومعاذٍ ، وابن عباس وغيرهم ، واستدلُّوا بأنَّ الجدَّ أبٌ في كتاب الله - عز وجل - ، فيدخلُ في مسمَّى الأب في المواريث ، كما أنَّ ولدَ الولدِ ولدٌ ، ويدخُل في مسمّى الولد عندَ عدم الولد بالاتفاق ، وبأنَّ الإخوةَ إنَّما يرثون مع الكَلالة ، فيحجبُهُم الجدُّ كالإخوة من الأب ، وبأنَّ الجدَّ أقوى من الإخوة ، لاجتماعِ الفَرضِ والتَّعصيب له من جهةٍ واحدةٍ ، فهو كالأب ، وحينئذٍ ، فيدخلُ في عمومِ قوله - صلى الله عليه وسلم - (1) : ( فما بقي ، فلأَوْلَى رجلٍ ذكرٍ ) (2) .
ومنهم من شرَّك بَينَ الإخوة والجدِّ وهو قولُ كثيرٍ من الصحابة ، وأكثرُ الفقهاء بعدهم على اختلاف طويل بينهم في كيفية التشريك بينهم في الميراث ، وكان مِنَ السَّلف مَنْ يتوقَّف في حكمهم ولا يُجيب فيهم بشيءٍ ؛ لاشتباه أمرهم وإشكاله ، ولولا خشيةُ الإطالة لبسطنا القولَ في هذه المسألة ، ولكن ذلك يؤدِّي إلى الإطالة جداً .
__________
(1) انظر : المغني 7/65 – 66 ، والشرح الكبير على متن المقنع 7/9 – 10 .
(2) سبق تخريجه

وأما حكمُ ميراث الإخوة للأبوين أو للأب ، فقد ذكره الله تعالى في آخر سورة النساء في قوله تعالى : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ
هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } (1) والكَلالةُ مأخوذة من تكلُّلِ النسب وإحاطته بالميت (2) ، وذلك يقتضي انتفاءَ الانتساب مطلقاً من العمودين الأعلى والأسفل ، وتنصيصُه تعالى على انتفاء الولد تنبيهٌ على انتفاء الوالد بطريق الأولى ؛ لأنَّ انتسابَ الولد إلى والده أظهرُ من انتسابه إلى ولده ، فكان ذكرُ عدم الولد تنبيهاً على عدم الوالد بطريق الأولى ، وقد قال أبو بكر الصديق : الكلالةُ : مَنْ لا وَلَدَ له ولا والد (3) ، وتابعه جمهورُ الصحابة والعلماء بعدهم ، وقد رُوي ذلك مرفوعاً من مراسيل أبي سلمة بن عبد الرحمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، خرَّجه أبو داود في " المراسيل " (4) ، وخرَّجه الحاكم (5) من روايةٍ عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة مرفوعاً ، وصححه ، ووصلُه بذكر أبي هريرة ضعيفٌ .
__________
(1) النساء : 176 .
(2) انظر : لسان العرب 12/143 ( كلل ) .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 19190 ) و( 19191 ) ، وابن أبي شيبة ( 31600 )
( ط . الحوت ) ، والدارمي ( 2972 ) ( ط . دار الحديث ) ، والطبري في " تفسيره "
( 8549 ) ، والبيهقي 6/223 – 224 .
وانظر : المغني 7/6 ، والشرح الكبير على متن المقنع 7/57 .
(4) : 194 .
(5) في " المستدرك " 4/336 ، وقد صححه الحاكم فتعقبه الذهبي في " التلخيص " بقوله
: ( الحماني ضعيف ) .

فقوله : { إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } (1) ،
يعني : إذا لم يكن للميت ولدٌ بالكلِّيَّةِ لا ذكرٌ ولا أنثى ، فللأخت - حينئذٍ - النِّصفُ مما ترك فرضاً ، ومفهوم هذا أنَّه إذا كان له ولدٌ فليس للأخت النِّصفُ فرضاً ، ثمَّ إنْ كان الولدُ ذكراً ، فهو أولى بالمالِ كلِّه لِما سبقَ تقريرُه في ميراث الأولاد الذُّكور إذا انفردوا ، فإنَّهم أقربُ العصبات ، وهم يُسقِطُون الإخوة ، فكيف لا يُسقِطون الأخوات ؟ وأيضاً ، فقد قالَ تعالى : { وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } (2) ، وهذا يدخلُ فيهِ ما إذا كانَ هناك ذو فرضٍ كالبنات وغيرهنَّ ، فإذا استحقَّ الفاضلُ ذكورَ الإخوة مع الأخوات ، فإذا انفردوا ، فكذلك يستحقُّونه وأولى ، وإنْ كانَ الولدُ أنثى ، فليس للأختِ هنا النِّصفُ
بالفرض ، ولكن لها الباقي بالتَّعصيب عندَ جمهور العلماء ، وقد سبق ذكرُ ذَلِكَ والاختلافُ فيهِ ، فلو كانَ هناك ابنٌ لا يستوعِبُ المالَ وأختٌ ، مثلُ ابنٍ نصفُه حر عندَ من يُوَرِّثه نصفَ الميراث ، وهو مذهبُ الإمام أحمد وغيره من العلماء ، فهل يقال : إنَّ الابن هنا يُسقِطُ نصفَ فرض الأخت ، فترثَ معه الرُّبعَ فرضاً ، أم يقال : إنَّه يصيرُ كالبنت ، فتصيرُ الأختُ معه عصبة ، كما تصير مع الأخت ، لكنَّه يسقط نصفَ تعصيبها فتأخذ معه النِّصف الباقي بالتعصيب هذا محتمل ، وفي هذه المسألة لأصحابنا وجهان .
__________
(1) النساء : 176 .
(2) النساء : 176 .

وقوله تعالى : { وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ } (1) ، يعني أنَّ الأخ يستقلُّ بميراث أخته إذا لم يكن لها ولدٌ ذكرٌ أو أنثى ، فإنْ كان لها ولدٌ ذكرٌ ، فهو أولى مِنَ الأخ بغير إشكالٍ ، فإنَّه أولى رجل ذكرٍ ، وإنْ كان أنثى ، فالباقي بعد فرضها يكونُ للأخ ؛ لأنّه أولى رجلٍ ذكرٍ ، ولكن لا يستقلُّ بميراثها حينئذٍ ، كما إذا لم يكن لها ولَدٌ .
وقوله : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } (2) يعني : أنَّ فرضَ الثِّنتين الثلثان ، كما أنّ فرض الواحدةِ النِّصفُ ، فهذا كلُّه في حكم انفرادِ الإخوة والأخوات (3) .
وأما حكم اجتماعهم ، فقد قال تعالى : { وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } (4) فيدخلُ في ذلك ما إذا كانوا منفردين ، وأما إذا كان هناك ذو فرضٍ مِنَ الأولاد أو غيرهم ، كأحد الزوجين أو الأم أو الإخوة من الأم ، فيكون الفاضلُ عن فروضهم للإخوة والأخوات بينهم للذَّكر مثلُ حظِّ الأنثيين .
فقد تبيَّن بما ذكرناه أنَّ وجودَ الولد إنما يُسقط فرضَ الأخوات مِنَ الأبوين أو
الأب ، ولا يُسقط توريثَهُن بالتَّعصيب مع أخواتهنَّ بالإجماع ، ولا تَعْصِيبُهُنَّ بانفرادهنَّ مع البناتِ عند الجمهور ، فالكلالةُ شرطٌ لثبوت فرض الأخوات ، لا لثبوت ميراثهنّ، كما أنَّه ليس بشرطٍ لميراثِ ذكورهم بالإجماع، وهذا بخلافِ ولدِ الأمِّ، فإنَّ انتفاءَ الكلالة أسقطت فروضَهم ، وإذا أسقطت فروضَهم ، سقطت مواريثُهُم ؛ لأنَّه لا تعصيبَ لهم بحالٍ ، لإدلائهم بأنثى ، وللأخوات للأبوين أو للأب يُدلون بذكرٍ، فيرثنَ بالتَّعصيبِ مع إخوتهن بالاتفاق، وبانفرادهن مع البنات عند الجمهور .
__________
(1) النساء : 176 .
(2) النساء : 176 .
(3) انظر : المهذب 4/87 ، والمغني 7/9 .
(4) النساء : 176 .

وإذا كان الولد مسقطاً لفرض ولد الأبوين ، أو الأب دونَ أصل توريثهم بغير الفرض ، فقد يقال : إنَّ الله تعالى إنّما خصَّ انتفاءَ الولد في قوله : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } ولم يذكر انتفاء الوالد ، أو الأب ؛ لأنَّه كان يدخلُ فيه الجدّ ، والجدُّ لا يُسقط ميراث الإخوة بالكليَّة ، وإنَّما يشتركون معه في ميراث ، تارةً بالفرض ، وتارةً بغيره ، وهذا على قول من يقول : إنَّ الجدَّ لا يُسقِطُ الإخوة - وهُمُ الجمهورُ - ظاهرٌ ، وهذا كلُّه في انفرادِ ولدِ الأبوين أو الأب ، فإن اجتمعوا ، فإنَّ العصبات مِنْ ولد الأبوين يُسقطون ولدَ الأب كلهم بغير خلافٍ حتى في الأخت مِنَ الأبوين مع البنت عند من يجعلُها عصبةً يُسقط بها الأخ من الأبوين .
وفي "المسند " (1) و" الترمذي " (2) و" ابن ماجه " (3) عن عليٍّ قال : قضى
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أعيانَ بني الأم يرثُون دونَ بني العَلاَّتِ ، يَرِثُ الرَّجُلُ أخاه لأبيه وأمه دونَ أخيه لأبيه .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 1/79 و131 و144 .
وأخرجه : الطيالسي ( 179 ) ، والحميدي ( 55 ) ، وابن أبي شيبة ( 29054 )
و( 31556 ) ( ط . الحوت ) ، وأبو يعلى ( 625 ) ، والبيهقي 6/232 – 233 و267 عن علي بن أبي طالب ، به .
(2) في " جامعه " ( 2094 ) و( 2095 ) جميعهم من حديث الحارث الأعور ( وهو ضعيف ) عن علي ، وقال الترمذي : ( هذا حديث لا نعرفه إلاّ من حديث أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، وقد تكلم بعض أهل العلم في الحارث ، والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم ) ، ومما ينبغي التنبيه إليه أن ابن كثير قد عقب على قول الترمذي بقوله : ( لكن ( يعني الحارث ) كان حافظاً للفرائض معتنياً بها وبالحساب ) ، تفسير ابن كثير 2/199 .
(3) في " سننه " ( 2715 ) .

وقال عمرو بنُ شعيب : قضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الأخ للأب والأم أولى بالكلالةِ بالميراث ، ثم الأخ للأب (1) ، وهذا أيضاً مما يدخل في قوله - عليه السلام - : ( فما بقي فلأَوْلى رجلٍ ذكرٍ ) .
والتحقيقُ في ذلك : أنَّ كلَّ ما دلَّ عليه القرآن ، ولو بالتَّنبيه ، فليس هو ممَّا أبقته الفرائض ، بل هو من إلحاق الفرائض المذكورة في القرآن بأهلها ، كتوريثِ الأولاد ذكورهم وإناثهم الفاضل عن الفُروض ، للذَّكر مثلُ حظِّ الأنثيين ، وتوريث الإخوة ذكورهم وإناثهم كذلك ، ودلَّ ذلك بطريق التَّنبيه على أنَّ الباقي يأخذُه الذَّكرُ منهم عند الانفراد بطريق الأولى ، ودلَّ أيضاً بالتَّنبيه على أنَّ الأخت تأخذُ الباقي مع البنت كما كانت تأخذُه مع أخيها ، ولا يُقدَّمُ عليها من هو أبعدُ منها ، كابن الأخ والعم وابنه ، فإنَّ أخاها إذا لم يُسقطها فكيف يُسقِطها من هو أبعدُ منه ؟ فهذا كلُّه من باب إلحاق الفرائض بأهلها ، ومن باب قسمة المال بين أهلِ الفرائض على كتاب الله .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 19002 ) عن عمرو بن شُعيب ، به .
وهو جزء من حديث طويل .

وأمَّا مَنْ لم يذكر باسمه مِنَ العصبات في القرآن ، كابن الأخ والعم وابنه ، وإنَّما دخل في عمومات مثل قوله تعالى : { وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ } (1) ، وقوله : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالأَقْرَبُونَ } (2) ، فهذا يحتاج في توريثهم إلى هذا الحديث ، أعني حديث ابن عباس ، فإذا لم يُوجَدْ للمال وارثٌ غيرهم ، انفردوا به ، ويقدَّم منهمُ الأقربُ فالأقربُ ؛ لأنَّه أولى رجلٍ ذكرٍ (3) ، وإنْ وُجِدَت فروضٌ لا تستغرقُ المالَ ، كأحدِ الزوجين أو الأم ، أو ولد الأمِّ ، أو بناتٍ منفردات ، أو أخوات منفردات ، فالباقي كلُّه لأولى ذكر من هؤلاء . ولهذا لو كان هؤلاء إخوةً رجالاً ونساءً ، لاختصَّ به رجالُهم دون نسائهم ، بخلاف الأولاد والإخوة ، فإنَّه يشترك في الباقي ، أو في المال كلِّه ذكورهم وإناثهم بنص القرآن ، والحديث إنَّما دلَّ على توريث العصبات الذين يختصّ ذكورهم دون إناثهم ، وهم مَنْ عدا الأولاد والإخوة ، فهذا حكمُ العصبات المذكورين في كتاب الله ، وفي حديث ابن عباس .
وأما ذوو الفروضِ ، فقد ذكرنا حكمَ مواريثهم ، ولم يبقَ منهم إلاَّ الزوجان والإخوة للأمِّ ، فأمَّا الزوجان ، فيرثان بسبب عقد النكاح . ولمَّا كان بين الزوجين من الألفة والمودَّة والتَّناصُر والتعاضُدِ ما بينَ الأقارب ، جعل ميراثهما كميراث الأقارب ، وجُعل للذَّكر منهما مِثْلا ما للأنثى ؛ لامتياز الذكر على الأنثى بمزيد النَّفع بالإنفاق والنصرة .
__________
(1) الأنفال : 75 .
(2) النساء : 33 .
(3) انظر : المغني 7/20 – 21 .

وأما ولدُ الأمِّ ، فإنَّهم ليسوا من قبيلةِ الرَّجُلِ ، ولا عشيرته ، وإنَّما هم في المعنى من ذوي رحمِهِ ، ففرضَ الله لواحدهم السُّدُسَ ، ولجماعتهم الثُّلث صلةً ، وسوَّى بين ذكورهم وإناثهم ، حيث لم يكن لذكرهم زيادةً على أنثاهم في الحياة من المعاضدة والمناصرة ، كما بين أهلِ القبيلة والعشيرة الواحدة ، فسوَّى بينهم في الصِّلة ، ولهذا لم تُشرع الوصيَّةُ للأجانب بزيادة على الثلث ، بل كان الثُّلثُ كثيراً في حقِّهم ؛ لأنَّهم أبعدُ من ولدِ الأمِّ ، فينبغي أنْ لا يُزادوا على ما يُوصل به ولدُ الأم ، بل ينقصون منه .
واستدلَّ بعضُهم بقوله : ( فما بقي فلأولى رجلٍ ذكرٍ ) (1) على أنْ لا ميراثَ لذوي الأرحام ؛ لأنَّه لم يجعل حقَّ الميراثِ لمن لم يُذكر في القرآن إلا لأقربِ الذكور ، وهذا الحكمُ يختصُّ بالعصبات دون ذوي الأرحام ، فإنَّ مَنْ ورَّث ذوي الأرحام ، ورث ذكورهم وإناثهم .
وأجاب من يرى توريثَ ذوي الأرحام بأنَّ هذا الحديثَ دلَّ على توريث
العصبات ، لا على نفي توريث غيرهم ، وتوريثُ ذوي الأرحام مأخوذٌ من أدلةٍ أخرى ، فيكون ذلك زيادةً على ما دلَّ عليه حديثُ ابن عباس .
وأما قوله : ( لأولى رجلٍ ذكرٍ ) مع أنَّ الرجلَ لا يكونُ إلاّ ذكراً ، فالجوابُ الصحيحُ عنه أنَّه قد يُطلَقُ الرجل ، ويرادُ به الشخص ، كقوله : من وجد ماله عند رجلٍ قد أفلس ، ولا فرقَ بينَ أنْ يجده عند رجلٍ أو امرأةٍ ، فتقييدُه بالذَّكر ينفي هذا الاحتمال ، ويُخلصه للذكر دونَ الأنثى وهو المقصودُ ، وكذلك الابنُ : لمَّا كان قد يُطلق ، ويُراد به أعمُّ من الذكر ، كقوله : ابن السبيل ، جاء تقييدُ ابنِ اللبون في نصب الزكاة بالذكر . وللسهيلي كلامٌ على هذا الحديث فيه تكلُّفٌ وتَعسُّفٌ شديدٌ ولا طائلَ تحته ، وقد ردَّه عليه جماعة ممن أدركناهم ، والله أعلم (2) .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) انظر : فتح الباري 12/16 – 17 عقيب ( 6732 ) .

الحديث الرابع والأربعون
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ ما تحرِّمُ
الولادةُ ) خرَّجه البُخاريُّ (1) ومُسلمٌ (2) .
هذا الحديث خرَّجاه في ( الصحيحين ) من رواية عمرة عن عائشة ، وخرّج مسلم (3) أيضاً من رِواية عروة ، عن عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يَحرُمُ مِنَ الرَّضاعَةِ ما يَحرُمُ مِنَ النَّسبِ ) ، وخرَّجاه (4) أيضاً من رواية عروة عن عائشة من قولها ، وخرَّجاه (5) من حديث ابنِ عباس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وخرَّجه الترمذي (6) من حديث عليٍّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
وقد أجمع العلماء على العمل بهذه الأحاديث في الجملة ، وإنَّ الرضاع يُحرِّمُ ما يُحرِّمه النَّسب (7) ، ولنذكرِ المحرَّماتِ مِنَ النَّسب كلهن حتّى يعلم بذلك ما يحرم من الرضاع ، فنقول : الولادة والنَّسب قد يؤثِّران التحريمَ في النكاح ، وهو على قسمين :
أحدُهما : تحريمٌ مؤبَّدٌ على الانفراد ، وهو نوعان :
__________
(1) في " صحيحه " 3/222 ( 2646 ) و4/100 ( 3105 ) و7/11 ( 5099 ) .
وأخرجه : أحمد 6/44 و51 و66 ، وأبو داود ( 2055 ) ، والترمذي ( 1147 ) ، والنسائي 6/99 ، وابن حبان ( 4223 ) .
(2) في " صحيحه " 4/162 ( 1444 ) ( 1 ) و( 2 ) .
(3) في " صحيحه " 4/164 ( 1445 ) ( 9 ) .
(4) صحيح البخاري 7/15 ( 5111 ) ، وصحيح مسلم 4/163 ( 1445 ) ( 5 ) .
(5) صحيح البخاري 3/222 ( 2645 )، وصحيح مسلم 4/164 - 165 ( 1447 ) ( 12 ).
(6) في " جامعه " ( 1146 ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 13946 ) ، وأحمد 1/131 - 132 .
(7) انظر : المغني 9/192 .

أحدهما : ما يحرم بمجرَّد النَّسب ، فيحرم على الرجل أصولُه وإنْ عَلَون ، وفروعه وإنْ سَفَلْنَ ، وفروعُ أصله الأدنى وإنْ سفَلْن ، وفروع أصوله البعيدة دون فروعهن ، فيدخل في أصوله أمهاتُه وإنْ عَلَوْنَ من جهة أبيه وأمه ، وفي فروعه بناتُه وبناتُ أولاده وإنْ سَفَلْنَ ، وفي فروع أصله الأدنى أخواتُه من الأبوين ، أو من أحدهما ، وبناتهن وبنات الإخوة وأولادهم وإنْ سَفَلْنَ ، ودخل في فروع أصوله البعيدة العماتُ والخالاتُ وعماتُ الأبوين وخالاتهما وإنْ عَلَوْنَ ، فلم يبق من الأقارب حلالاً للرجل سوي فروع أصوله البعيدة ، وهُنَّ بناتُ العم وبناتُ العمات ، وبنات الخال ، وبناتُ الخالات (1) .
والنوع الثاني : ما يحْرُمُ بالنسب مع سبب آخر ، وهو المصاهرة ؛ فيحرم على الرجل حلائل آبائه ، وحلائلُ أبنائه ، وأمهات نسائه ، وبناتُ نسائه المدخول بهنَّ ؛ فيحرم على الرجل أمُّ امرأته وأمهاتُها من جهة الأم والأب وإنْ عَلَونَ ، ويحرُم عليه بناتُ امرأته ، وهنَّ الرَّبائب وبناتهن وإنْ سفلن ، وكذلك بناتُ بني زوجته وهن بناتُ الربائب نصَّ عليه الشافعي وأحمد ، ولا يُعلم فيه خلافٌ (2) .
ويحرم عليه أنْ يتزوَّج بامرأة أبيه ، وإنْ علا ، وامرأة ابنه وإن سَفَلَ ، ودخول هؤلاء في التحريم بالنسب ظاهرٌ ؛ لأنَّ تحريمَهُنَّ من جهة نسبِ الرجل مع سبب
المصاهرة (3) .
__________
(1) انظر : الأم 6/63 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 3/424 - 425 ، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/148 .
(2) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 3/425 - 427 ، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/151 .
(3) انظر: الأم 6/68 - 69 ، وبداية المجتهد 2/56 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 3/427، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/151 .

وأما أمهات نسائه وبناتهن ، فتحريمهن مع المصاهرة بسبب نسبِ المرأة ، فلم يخرجِ التحريمُ بذلك عن أنْ يكونَ بالنَّسبِ مع انضمامه إلى سبب المصاهرة ، فإنَّ التحريم بالنَّسب المجرد ، والنَّسب المضاف إلى المصاهرة يشترك فيه الرجال والنساءُ ؛ فيحرمُ على المرأة أنْ تتزوَّج أصولها وإنْ علَوا ، وفروعها وإنْ سفَلُوا ، وفروعَ أصلها الأدنى وإنْ سفَلُوا من أخوتها ، وأولادِ الإخوة وإنْ سفلوا ، وفروعَ أصولها البعيدة وهم الأعمامُ والأخوالُ وإنْ عَلوا دونَ أبنائهم ، فهذا كله بالنَّسب المجرَّد (1) .
وأما بالنَّسب المضاف إلى المصاهرة ، فيحرم عليها نكاحُ أبي زوجها وإنْ علا ، ونكاحُ ابنه وإنْ سَفَل بمجرّد العقد ، ويحرم عليها زوجُ ابنتها وإنْ سَفَلَتْ بالعقد ، وزوجُ أمها وإنْ علت ، لكن بشرط الدخول بها (2) .
والقسم الثاني : التحريم المؤبَّد على الاجتماع دونَ الانفراد ، وتحريمُه يختصُّ الرجال لاستحالة إباحةِ جمع المرأة بينَ زوجين ، فكلُّ امرأتين بينهما رَحِمٌ محرم يحرِّم الجمع بينهما بحيث لو كانت إحداهما ذكراً لم يجز له التزوُّج بالأخرى ، فإنَّه يحرم الجمعُ بينهما بعقد النكاح . قال الشعبي : كان أصحابُ محمد - صلى الله عليه وسلم - يقولون : لا يجمعُ الرجلُ بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلاً لم يصلح له أنْ يتزوَّجها . وهذا إذا كان التحريم لأجل النَّسب ، وبذلك فسَّره سفيان الثوري وأكثرُ العلماء ، فلو كان لغير النسب مثل أنْ يجمع بينَ زوجة رجل وابنته من غيرها ، فإنَّه يُباحُ عند الأكثرين ، وكرهه بعضُ السَّلف .
__________
(1) انظر : بداية المجتهد 2/56 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 3/425 – 426 ،
وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/151 .
(2) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 3/429 .

فإذا علم ما يحرم من النَّسب ، فكلّ ما يحرم منه ، فإنَّه يحرم من الرضاع نظيرُه ، فيحرم على الرجل أنْ يتزوَّج أمهاتِه من الرضاعة وإنْ عَلَونَ ، وبناته من الرضاعة وإنْ سَفَلن ، وأخواته من الرضاعة ، وبنات أخواته من الرضاعة وعماته وخالاته من
الرضاعة ، وإنْ علون دون بناتهن .
ومعنى هذا أنَّ المرأة إذا أرضعت طفلاً الرَّضاع المعتبرَ في المدَّة المعتبرة ، صارت
أمّاً له بنصِّ كتاب الله ، فتحرمُ عليه هي وأمَّهاتُها ، وإنْ علون من نسبٍ أو رضاعٍ ، وتصيرُ بناتُها كلُّهن أخواتٍ له من الرضاعة ، فيحرمن عليه بنصِّ القرآن (1) ؛ وبقيةُ
التحريم من الرضاعة استفيدَ مِن السُّنَّةِ ، كما استفيدَ من السُّنَّة أنَّ تحريم الجمع لا يختصُّ بالأختين ، بل المرأةُ وعمَّتها ، والمرأة وخالتها كذلك (2) ، وإذا كانَ أولادُ
المرضعة من نسب أو رضاعٍ إخوةً للمرتضع ، فيحرُم عليهِ بناتُ إخوته أيضاً ، وقدِ امتنع النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من تزويج ابنة حمزة وابنة أبي سلمة ، وعلل بأنَّ أبويهما كانا أخوين له من الرَّضاعة (3) .
__________
(1) انظر : الأم 6/70 – 71 .
(2) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 3/428 .
(3) أخرجه : البخاري 3/222 ( 2645 ) ، ومسلم 4/164 – 165 ( 1447 ) ( 12 ) من حديث عبد الله بن عباس .

ويحرمُ عليه أيضاً أخواتُ المرضعة ؛ لأنهنَّ خالاتُه ، ويَنتشِرُ التحريمُ أيضاً إلى الفحل صاحب اللبن الذي ارتضع منه الطفلُ ، فيصيرُ صاحبُ اللبن أباً للطِّفلِ ، وتصيرُ أولاده كلُّهم من المرضعة ، أو من غيرها من نسبٍ أو رضاع إخوة للمرتضع ويصير إخوته أعماماً للطفل المرتضع ، وهذا قولُ جمهور العلماء من السَّلف ، وأجمع عليه الأئمة الأربعة ومن بعدهم (1) . وقد دلَّ على ذلك من السنَّة ما روت عائشة أنَّ أفلحَ أخا أبي القُعَيسِ استأذنَ عليها بعدَ ما أُنزل الحجابُ ، قالت عائشةُ : فقلتُ : والله لا آذنُ له حتّى أستأذنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ أبا القُعيس ليس هو أرضعني ، ولكن أرضعتني امرأته ، قالت : فلما دخلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ذكرتُ ذلك له ، فقال
: ( ائذني له ؛ فإنَّه عَمُّك تَرِبَت يمينُك ) ، وكان أبو القعيس زوجَ المرأة التي أرضعت عائشة . خرَّجاه في " الصحيحين " (2) بمعناه .
وسئل ابن عباس عن رجل له جاريتان ، أرضعت إحداهما جاريةً والأُخرى غلاماً أيحلُّ للغلام أنْ يتزوَّج الجارية ، فقال : لا ، اللقاحُ واحد (3) .
ولو كان اللبن الذي ارتضع به الطفلُ قد ثاب للمرأة من غير وطءِ فَحلٍ بأنْ تكون امرأة لا زوجَ لها قد ثاب لها لبن أو هي بكرٌ أو آيسةٌ ، فأكثرُ العلماء على أنّه يحرم الرضاعُ به ، وتصيرُ المرضعةُ أُمّاً للطفل ، وقد حكاه ابن المنذر إجماعاً عمن يُحفظ عنه من أهل العلم ، وهو قولُ أبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق
وغيرهم (4) .
__________
(1) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 3/427 – 428 .
(2) صحيح البخاري 6/150 ( 4796 ) ، وصحيح مسلم 4/162 ( 1445 ) ( 3 ) و4/163 ( 1445 ) ( 4 ) و( 5 ) و( 6 ) و( 7 ) و4/164 ( 1445 ) ( 8 ) و( 9 )
و( 10 ) عن عائشة ، به .
(3) انظر : الأم 6/65- 66 ، والمغني 9/201 ، والشرح الكبير على متن المقنع 9/194 .
(4) انظر : المغني 9/207 .

وذهب الإمامُ أحمد في المشهور المنصوص عنه إلى أنَّه لا ينتشِرُ التَّحريمُ به بحالٍ حتى يكونَ له فحلٌ يدرُّ اللبن من رضاعه . وحُكي للشَّافعيِّ قولٌ مثله (1) .
ولو انقطع نسبه من جهة صاحبِ اللبن ، كولد الزِّنى ، فهل تَنْتَشر الحرمة إلى الزاني صاحب اللبن ؟ هذا ينبني على أنَّ البنتَ من الزنى هل تحرم على الزَّاني ؟ ومذهبُ أبي حنيفة وأحمد ومالك في رواية عنه تحريمها عليه خلافاً للشافعي ، وبالغ الإمام أحمد في الإنكار على من خالف في ذلك ، فعلى قولهم : هل ينتشر التَّحريمُ إلى الزاني صاحب اللبن ، فيكون أباً للمرتضع أم لا ؟ فيه قولان هما وجهان
لأصحابنا (2) ، واختار ابنُ حامد أنَّ التحريمَ لا ينتشرُ إليه ، واختار أبو بكر ، والقاضي أبو يعلى أنَّ التَّحريم ينتشر إلى الزاني ، وهو نصُّ أحمد ، وحكاه عن ابنِ عباس ، وهو قول إسحاق بن راهويه ، نقله عنه حرب .
__________
(1) انظر : المغني 9/207 ، والشرح الكبير على متن المقنع 9/197 .
(2) انظر : الأم 6/69 - 70 ، والمغني 9/204 - 205 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 3/430 - 431 ، والشرح الكبير على متن المقنع 9/195 .

وينتشرُ التحريمُ بالرضاع إلى ما حَرُمَ بالنَّسب مع الصهر : إمّا من جهة
نسب الرجل ، كامرأة أبية وابنه ، أو من جهة نسب الزوجة ، كأمها وابنتها ، وإلى
ما حرم جمعه لأجل نسب المرأة أيضاً ، كالجمع بين الأختين والمرأة وعمتها
أو خالتها ، فيحرم ذلك كلُّه من الرضاع كما يحرم من النَّسب (1) ، لدخوله في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يَحرُمُ مِن الرضاع ما يَحرُمُ من النَّسب ) (2) . وتحريم هذا كلِّه للنسب ، فبعضه لنسب الزوج ، وبعضه لنسب الزوجة ، وقد نصَّ على ذلك أئمة السَّلف ، ولا يُعلم بينهم فيه اختلافٌ (3) ، ونصَّ عليه الإمام أحمد ، واستدلَّ بعموم قوله :
( يَحرُمُ من الرضاعِ ما يَحرمُ مِن النَّسب ) .
وأما قوله - عز وجل - : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } (4) ، فقالوا : لم يُردْ بذلك أنّه لا يحرم حلائل الأبناء من الرضاع ، إنَّما أراد إخراجَ حلائل الذين
تُبُنُّوا ، ولم يكونوا أبناءً من النَّسب كما تزوَّج النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زوجةَ زيد بن حارثة بعد أنْ كان قد تبنّاه (5) .
__________
(1) انظر : الأم 6/68 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 3/425 - 428 .
(2) سبق تخريجه .
(3) انظر : المغني 9/192 ، والشرح الكبير على متن المقنع 9/192 .
(4) النساء : 23 .
(5) أخرجه : البخاري 6/148 ( 4791 ) من حديث أنس بن مالك ، به .

وهذا التحريمُ بالرضاع يختصُّ بالمرتضع نفسه ، وينتشر إلى أولاده ، ولا ينتشر تحريمه إلى من في درجة المرتضع من إخوته وأخواته ، ولا إلى من هو أعلى منه من آبائه وأمهاته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته ، فتُباحُ المرضعة نفسها لأبي المرتضع مِنَ النَّسب ولأخيه ، وتباح أمُّ المرتضع من النَّسب وأخته منه لأبي المرتضع من الرضاع ولأخيه . هذا قولُ جمهور العلماء ، وقالوا : يُباح أنْ يتزوَّج أختَ أخيه من الرَّضاعة ، وأخت ابنته من الرضاعة (1) ، حتى قال الشعبي : هي أحلُّ من ماء
قَدَس (2) ، وصرَّح بإباحتها حبيبُ بن أبي ثابت وأحمد .
وروى أشعث عن الحسن أنَّه كره أنْ يتزوَّج الرجل بنتَ ظِئر ابنه ، ويقول : أخت ابنه ، ولم ير بأساً أنْ يتزوّج أمها ، يعني : ظئر ابنه ، وروى سليمان التيمي عن الحسن : أنَّه سئل عن الرجل يتزوج أخت أخيه من الرضاعة ، فلم يقل فيه شيئاً ، وهذا يقتضي توقُّفَه فيه ، ولعلَّ الحسن إنَّما كان يكره ذلك تنْزيهاً ، لا تحريماً ، لمشابهته للمحرم بالنَّسب في الاسم ، وهذا بمجرَّده لا يُوجِبُ تحريماً .
وقد استثنى كثيرٌ من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم مما يحرم من النسب صورتين ، فقالوا : لا يحرم نظيرُهما مِنَ الرَّضاع :
إحداهما : أمُّ الأخت ، فتحرم مِنَ النَّسب ، ولا تحرم من الرضاع .
__________
(1) انظر : الهداية للكلوذاني 2/217 – 218 بتحقيقي ، والمغني 9/202 ، والشرح الكبير على متن المقنع 9/194 – 195 ، والمفصل في أحكام المرأة والبيت 6/241 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/484 .
(2) قَدَسُ : بالتحريك والسين المهملة أيضاً . بلد بالشام قُرب حمص من فتوح شرحبيل بن حسنة وإليه تُضاف بُحيرة قَدَس .
انظر : معجم البلدان 7/22 ، ومراصد الاطلاع 3/1068 .

والثانية : أخت الابن ، فتحرم من النَّسب دونَ الرضاع ، ولا حاجة إلى
استثناء هذين ، ولا أحدهما (1) .
أما أمُّ الأخت فإنَّما تحرم من النسب ، لكونها أماً أو زوجةَ أب ، لا لمجرَّد كونها أم أخت ، فلا يُعلق التحريم بما لم يُعلقه الله به ، وحينئذ ، فيوجد في الرضاع من هي أم أخت ليست أماً ولا زوجة أب ، فلا تحرم ؛ لأنَّها ليست نظيراً لذاتِ النسب ، وأما أخت الابن ، فإنَّ الله تعالى إنَّما حرَّم الربيبة المدخول بأمها ، فتحرم لكونها ربيبة دُخِلَ بأمها ، لا لكونها أخت ابنه ، والدخول في الرضاع منتفٍ فلا يحرم به أولادُ المرضعة .
ومما قد يدخُلُ في عموم قوله : ( يحرُم من الرضاع ما يحرمُ من النَّسب ) (2) : لو ظَاهَرَ مِن امرأته فشبَّهها بمحرمة من الرَّضاع ، فقال لها : أنت عليَّ كأمي من الرضاع ، فهل يثبتُ بذلك تحريمُ الظِّهار أم لا ؟ فيهِ قولان :
أحدُهما : أنَّه يثبت به تحريم الظهار ، وهو قول الجمهور ، منهم مالك ،
والثوري ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي ، والحسن بن صالح ، وعثمان البتِّي ، وهو المشهور عن أحمد .
والثاني : لا يثبت به التَّحريمُ ، وهو قول الشافعيِّ (3) ، وتوقف أحمد فيهِ في رواية ابن منصور .
__________
(1) انظر : بدائع الصنائع 4/4 ، والمفصل أحكام المرأة والبيت المسلم 6/241 .
(2) سبق تخريجه .
(3) انظر : الأم 6/697 – 698 ، والإشراف على نكت مسائل الخلاف 2/767 – 768 ، ورؤوس المسائل في الخلاف 2/847 ، والمغني 8/558 ، والشرح الكبير على متن المقنع 8/556 – 557 .

الحديث الخامس والأربعون
عَنْ جابر بن عبد الله أنَّه سَمِعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الفَتحِ وهُوَ بمكَّةَ يَقُولُ :
( إنَّ الله ورَسُولَهُ حرَّمَ (1)
__________
(1) قال ابن حجر : ( قوله : ( إنّ الله ورسوله حرم ) هكذا وقع في الصحيحين بإسناد الفعل إلى ضمير الواحد وكان الأصل ( حرما ) فقال القرطبي : إنَّه - صلى الله عليه وسلم - تأدب فلم يجمع بينه وبين اسم الله في ضمير الاثنين ؛ لأنَّه من نوع مارد به على الخطيب الذي قال : ( ومن يعصهما ) كذا قال ، ولم تتفق الرواة في هذا الحديث على ذلك فإن في بعض طرقه في الصحيح ( إن الله
حرم ) ليس فيه و( رسوله ) ، وفي رواية لابن مردويه من وجه آخر عن الليث ( إن الله ورسوله حرما ) ، وقد صح حديث أنس في النهي عن أكل الحُمر الأهلية ( إن الله ورسوله ينهيانكم ) ووقع في رواية النسائي في هذا الحديث ( ينهاكم ) والتحقيق جواز الإفراد في مثل هذا ، ووجه الإشارة إلى أنّ أمر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ناشيء عن أمر الله ، وهو نحو قوله : { وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوه } [التوبة: 62] والمختار في هذا أن الجملة الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها ، والتقدير عند سيبويه : والله أحق أن يرضوه ، ورسوله أحق أن يرضوه وهو كقول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما عنـ

ـدك راض والرأي مختلف

وقيل : أحق أن يرضوه خبر عن الاسمين ؛ لأنَّ الرسول تابع لأمر الله ) . انظر : فتح الباري 4/536 عقيب ( 2236 ) .

بَيعَ الخَمْرِ والمَيتَةِ والخِنْزِيرِ والأصنامِ ) فقيلَ : يا رَسولَ الله أرأيتَ شُحومَ المَيتَةِ ، فإنَّهُ يُطلَى بِها السُّفُنُ ، ويُدهَنُ بِها الجُلُودُ ، ويَستَصبِحَ بِها النَّاسُ ؟ قَالَ : ( لا ، هُوَ حَرامٌ ) ، ثمَّ قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذلك : ( قَاتَل الله اليَهودَ ، إنَّ الله حَرَّمَ عليهِمُ الشُّحومَ ، فأَجْمَلوهُ ، ثمَّ باعُوه ، فأَكَلوا ثَمَنَه ) خرَّجه البُخاريُّ (1) ومُسلمٌ (2) .
هذا الحديث خرّجاه في " الصحيحين " من حديث يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء ، عن جابر . وفي رواية لمسلم (3) أنْ يزيد قال : كتب إليَّ عطاء ، فذكره ، ولهذا قال أبو حاتم الرازي (4) : لا أعلم يزيدَ بن أبي حبيب سمع من عطاء شيئاً ، يعني أنَّه إنَّما يروي عنه كتابَه ، وقد رواه أيضاً يزيدُ بنُ أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد بن عبدة ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بنحوه .
وفي " الصحيحين " (5) عن ابن عباس قال : بلغ عمرَ أنَّ رجلاً باع خمراً ، فقال : قاتله الله ، ألم يعلم أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( قاتلَ الله اليهودَ ، حُرِّمَتْ عليهمُ الشُّحومُ ، فجَمَلوها فباعُوها ) ، وفي رواية : ( وأكلُوا أثمانها ) .
__________
(1) في " صحيحه " 3/110 ( 2236 ) و5/190 ( 4296 ) و6/72 ( 4633 ) .
وأخرجه : أبو داود ( 3486 ) ، وابن ماجه ( 2167 ) ، والترمذي ( 1297 ) ، والنسائي 7/177 و309 - 310 ، والروايات مطولة ومختصرة .
(2) في " صحيحه " 5/41 ( 1581 ) ( 71 ) .
(3) تقدم تخريجها .
(4) في " العلل " 2/51 عقيب ( 1140 ) .
(5) صحيح البخاري 3/107 ( 2223 ) ، وصحيح مسلم 5/41 ( 1582 ) ( 72 ) .

وخرَّج أبو داود (1) من حديث ابن عباسٍ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نحوه ، وزاد فيه :
( وإنَّ الله إذا حرَّم أكلَ شيءٍ ، حرَّم عليهم ثمنه ) ، وخرَّجه ابن أبي شيبة (2) ، ولفظه : ( إنَّ الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه ) .
وفي "الصحيحين" (3) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( قاتَلَ الله يهوداً، حُرِّمَت عليهمُ الشُّحومُ ، فباعُوها وأكلوا أثمانها ) .
وفي " الصحيحين " (4) عن عائشة ، قالت : لما أُنزِلَت الآياتُ من آخر سورة البقرة ، خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاقترأهُنَّ على الناس ، ثم نهى عن التِّجارة في الخمر ، وفي رواية لمسلم (5) : لمَّا نزلتِ الآياتُ من آخر سورة البقرة في الرِّبا ، خرج
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد ، فحرَّم التجارة في الخمر .
وخرَّج مسلم (6) من حديث أبي سعيد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله حرَّم الخمر ، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيءٌ ، فلا يشرب ولا يبع ) . قال : فاستقبل الناسُ بما كان عندهم منها في طريق المدينة ، فسفكوها .
__________
(1) برقم ( 3488 ) ، وهو حديث صحيح .
(2) في " مصنفه " 5/46 .
(3) صحيح البخاري 3/107 ( 2224 )، وصحيح مسلم 5/41 ( 1583 ) ( 73 ) و( 74 ).
(4) صحيح البخاري 1/124 (459) و3/77 ( 2084 ) ، وصحيح مسلم 5/40 ( 1580 ) ( 69 ) .
(5) في " صحيحه " 5/40 ( 1580 ) ( 70 ) عن عائشة ، به .
(6) في " صحيحه " 5/39 ( 1578 ) ( 67 ) .

وخرَّج أيضاً (1) من حديث ابن عباس أنَّ رجلاً أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر ، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هل عَلِمْت أنَّ الله قد حرَّمها ؟ ) قال : لا ، قال : فسارَّ إنساناً ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( بِما سَارَرْتَه ؟ ) قال : أمرتُه ببيعها ، قال : ( إنَّ الذي حَرَّمَ شُربها حَرَّمَ بيعها ) ، قال : ففتح المزاد حتّى ذهب ما فيها .
فالحاصل من هذه الأحاديث كُلِّها أنَّ ما حرَّم الله الانتفاعَ به ، فإنَّه يحرم بيعُه وأكلُ ثمنه ، كما جاء مصرحاً به في الراوية المتقدمة : ( إنَّ الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه ) (2) ، وهذه كلمةٌ عامَّةٌ جامعة تَطَّرِدُ في كُلِّ ما كان المقصودُ من الانتفاع به حراماً ، وهو قسمان :
أحدهما : ما كان الانتفاعُ به حاصلاً مع بقاء عَينِه ، كالأصنامِ ، فإنَّ منفعتها المقصودة منها هوَ الشرك بالله ، وهو أعظمُ المعاصي على الإطلاق (3) ، ويلتحِقُ بذلك ما كانت منفعته محرَّمة ، ككتب الشِّركِ والسِّحر والبِدعِ والضَّلالِ ، وكذلك
الصورُ المحرمةُ ، وآلات الملاهي المحرمة كالطنبور ، وكذلك شراءُ الجواري للغناء (4) .
وفي " المسند " (5)
__________
(1) في " صحيحه " 5/40 ( 1579 ) ( 68 ) عن عبد الله بن عباس ، به .
(2) سبق تخريجه .
(3) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 6/7 - 8 عقيب ( 1581 ) ، وفتح الباري 4/537 عقيب ( 2236 ) .
(4) انظر : كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار : 330 - 331 .
(5) مسند الإمام أحمد 5/257 .

وأخرجه : أحمد بن منيع كما في " إتحاف الخيرة " ( 5107 ) ، والطيالسي ( 1134 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 7803 ) جميعهم من طريق فرج بن فضالة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، به مرفوعاً ، وإسناد الحديث ضعيف جداً لضعف فرج بن فضالة وعلي بن يزيد الألهاني .

عن أبي أُمامة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله بعثني رحمةً وهُدى للعالمين ، وأمرني أنْ أمحق المزاميرَ والكنَّارات - يعني : البرابط والمعازف - والأوثان التي كانت تُعبد في الجاهلية ، وأقسم ربي بعزَّته لا يشرب عبدٌ من عبيدي جرعةً من خمر إلا سقيته مكانَها من حميم جهنم ، معذباً أو مغفوراً له ، ولا يسقيها صبياً صغيراً إلا سقيته مكانَها من حميم جهنم ، معذباً أو مغفوراً له ، ولا يدعها عبدٌ من عبيدي من مخافتي إلاَّ سقيتها إيَّاه في حظيرةِ القُدُس ، ولا يحلُّ بيعُهُنَّ ولا شراؤُهُنَّ ، ولا تعليمُهُنَّ ، ولا تجارة فيهن ، وأثمانهم حرام ) يعني : المغنِّيات .
وخرَّجه الترمذي (1) ، ولفظه : لا تبيعوا القيناتِ ولا تشتروهن ، ولا تُعلِّموهُنَّ ، ولا خَيرَ في تِجارةٍ فيهن ، وثمنُهُنَّ حرام ، في مثل ذلك أنزل الله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } (2) الآية ، وخرَّجه ابنُ ماجه (3) أيضاً ، وفي إسناد الحديث مقال ، وقد رُوي نحوه من حديث عمر (4) وعليٍّ (5) بإسنادين فيهما
ضعفٌ أيضاً .
__________
(1) في "جامعه" ( 1282 ) و( 3195 ) واستغربه . وهو ضعيف لضعف علي بن يزيد الألهاني .
(2) لقمان : 6 .
(3) برقم ( 2168 ) في إسناده أبو المهلب مطرح بن يزيد الكناني ضعيف وشيخه عبيد الله بن زحر الإفريقي كذلك وأيضاً فهو منقطع .
(4) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 87 ) ، وانظر : مجمع الزوائد 4/91 .
(5) أخرجه : أبو يعلى ( 527 ) .

ومن يحرم الغناءَ كأحمد ومالك ، فإنَّهما يقولان : إذا بيعت الأمةُ المغنية ، تُباع على أنَّها ساذجةٌ ، ولا يُؤخذُ لغنائها ثمنٌ ، ولو كانت الجاريةُ ليتيمٍ ، ونصَّ على ذلك أحمد ، ولا يمنعُ الغناءُ من أصل بيع العبد والأمة ؛ لأنَّ الانتفاع به في غير الغناء حاصلٌ بالخدمة وغيرها ، وهو من أعظم مقاصدِ الرَّقيق (1) . نعم ، لو علم أنَّ المشتري لا يشتريه إلاّ للمنفعة المحرمة منه ، لم يجز بيعُه لهُ عندَ الإمام أحمد وغيره من العلماء ، كما لا يجوزُ عندهم بيعُ العصير ممن يتخذه خمراً ، ولا بيعُ السِّلاح في الفتنة ، ولا بيع الرَّياحين والأقداح لمن يعلم أنَّه يشربُ عليها الخمر ، أو الغلام لمن يعلم منه الفاحشة (2) .
القسم الثاني : ما ينتفع به مع إتلاف عينه ، فإذا كان المقصود الأعظم منه
محرماً ، فإنَّه يحرم بيعُه ، كما يحرمُ بيعُ الخنزير والخمر والميتة ، مع أنَّ في
بعضها منافع غيرَ محرمة ، كأكل الميتة للمضطرِّ ، ودفع الغصَّة بالخمر ،
وإطفاءِ الحريق به . والخرْز بشعر الخنْزير عند قوم ، والانتفاع بشعره وجلده عند
من يرى ذلك ، ولكن لمَّا كانت هذه المنافعُ غيرَ مقصودة ، لم يعبأ بها ، وحرم
البيعُ بكون المقصودِ الأعظم من الخنزير والميتة أكلَهما ، ومن الخمر شربَها ،
ولم يلتفت إلى ما عدا ذلك ، وقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى لمَّا قيل له : أرأيتَ شحومَ الميتةِ ، فإنَّه يُطلى بها السُّفُن ، ويُدهن بها الجُلودُ ، ويَستصبِحُ بها الناسُ ، فقال
: ( لا ، هو حرام ) (3) .
__________
(1) انظر : المغني 4/307 .
(2) انظر : المغني 4/307 .
(3) سبق تخريجه .

وقد اختلفَ الناسُ في تأويلِ قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( هو حرامٌ ) فقالت طائفة : أراد أنَّ هذا الانتفاعَ المذكور بشحوم الميتة حرام ، وحينئذٍ فيكونُ ذلك تأكيداً للمنع من بيع الميتة ، حيث لم يجعل شيئاً من الانتفاع بها مباحاً (1) .
وقالت طائفة : بل أرادَ أنَّ بيعها حرامٌ ، وإنْ كان قد ينتفع بها بهذه الوجوه ، لكن المقصود الأعظم من الشحوم هو الأكل ، فلا يُباحُ بيعُها لذلك .
وقد اختلفَ العلماءُ في الانتفاع بشحوم الميتة ، فرخَّص فيه عطاءٌ ، وكذلك نقل ابنُ منصورٍ عن أحمد وإسحاق ، إلاّ أنَّ إسحاقَ قال : إذا احتيجَ إليه ، وأمَّا إذا وُجِدَ عنه مندوحةٌ ، فلا ، وقال أحمد : يجوزُ إذا لم يمسه بيده ، وقالت طائفة : لا يجوزُ ذلك ، وهو قولُ مالك والشافعي وأبي حنيفة ، وحكاه ابن عبد البرّ إجماعاً عن غير عطاء .
وأمَّا الأدْهانُ الطاهرة إذا تنجَّست بما وقع فيها من النجاسات ، ففي جواز الانتفاع بها بالاستصباح ونحوه اختلافٌ مشهور في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما ، وفيه روايتان عن أحمد (2) .
وأما بيعُها ، فالأكثرون على أنَّه لا يجوزُ بيعُها ، وعن أحمد رواية : يجوز بيعُها من كافرٍ ، ويُعلم بنجاستها ، وهو مروىٌّ عن أبي موسى الأشعري ، ومن أصحابنا من خرَّج جوازَ بيعها على جواز الاستصباح بها وهو ضعيفٌ مخالفٌ لنصِّ أحمد بالتفرقة ، فإنَّ شحومَ الميتة لا يجوزُ بيعُها وإنْ قيل بجواز الانتفاع بها ، ومنهم من خرَّجه على القول بطهارتها بالغسل ، فيكون - حينئذٍ - كالثوب المتمضّخ بنجاسة . وظاهر كلام أحمد منعُ بيعها مطلقاً ؛ لأنَّه علل بأنَّ الدُّهنَ المتنجس فيهِ ميتة ، والميتة
لا يُؤكل ثمنها (3) .
__________
(1) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 6/7 عقيب ( 1583 ) ، وفتح الباري 4/536 عقيب
( 2236 ) .
(2) انظر : الشرح الكبير على متن المقنع 4/17 - 18 .
(3) انظر : الشرح الكبير على متن المقنع 4/17 - 18 .

وأما بقية أجزاءِ الميتة ، فما حُكِمَ بطهارته منها ، جاز بيعُه ، لجواز الانتفاع به ، وهذا كالشَّعر والقَرنِ عندَ من يقول بطهارتهما ، وكذلك الجلدُ عندَ من يرى أنَّه طاهر بغيرِ دباغ ، كما حُكي عن الزهري ، وتبويبُ البخاري يدلُّ عليهِ (1) ، واستدلَّ بقولِهِ : ( إنَّما حَرُم من الميتة أكلُها ) (2) . وأما الجمهور الذين يرون نجاسة الجلدِ قبل الدباغ ، فأكثرهم منعوا من بيعه حينئذٍ ؛ لأنَّه جزءٌ من الميتة (3) ، وشذَّ بعضهم ، فأجاز بيعه كالثوب النجس ، ولكن الثوب طاهر طرأت عليه النجاسةُ ، وجلد الميتة جزءٌ منها ، وهو نجسُ العين . وقال سالمُ بنُ عبد الله بن عمر : هل بيعُ جلودِ الميتة إلاَّ كأكل لحمها ؟ وكرهه طاووس وعكرمة ، وقال النخعي : كانوا يكرهون أنْ يبيعوها ، فيأكلوا أثمانها .
وأما إذا دبغت ، فمن قال بطهارتها بالدبغ ، أجاز بيعها ، ومن لم ير طهارتها
بذلك ، لم يُجِزْ بيعها . ونصَّ أحمد على منع بيعِ القمح إذا كان فيه بولُ الحمار حتى يُغسل ، ولعلَّه أراد بيعه ممَّن لا يعلم بحاله ، خشية أنْ يأكله ولا يعلم نجاسته .
وأما الكلب ، فقد ثبت في " الصحيحين " (4) عن أبي مسعود الأنصاري أنَّ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب .
وفي " صحيح مسلم " (5) عن رافع بن خديج سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( شرُّ الكسب مَهْرُ البغيّ ، وثمن الكلب ، وكسب الحجام ) .
__________
(1) انظر : فتح الباري 4/537 عقيب ( 2236 ) .
(2) أخرجه : البخاري 2/158 ( 1492 ) ، ومسلم 1/190 ( 363 ) ( 100 ) و( 101 ) ، والنسائي 7/172 وفي " الكبرى " ، له ( 4561 ) و(4562 ) ، وابن حبان ( 1282 )
و( 1284 ) عن عبد الله بن عباس ، به .
(3) انظر : الشرح الكبير على متن المقنع 1/99 .
(4) صحيح البخاري 3/110 ( 2237 ) ، وصحيح مسلم 5/35 ( 1567 ) ( 39 ) .
(5) 5/35 ( 1568 ) ( 40 ) .

وفيه عن معقل الجزري عن أبي الزبير ، قال : سألت جابراً عن ثمن الكلب
والسِّنور ، فقال : زجر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (1) . وهذا إنّما يُعرف عن ابن لهيعة عن أبي الزبير . وقد استنكر الإمامُ أحمد رواياتِ مَعْقِلٍ عن أبي الزبير ، وقال : هي تشبه أحاديثَ ابنِ لهيعة ، وقد تُتُبِّعِ ذلك ، فوُجِدَ كما قاله أحمد رحمه الله .
وقد اختلف العلماءُ في بيع الكلب ، فأكثرهم حرَّموه ، منهم الأوزاعي ، ومالك في المشهور عنه ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق ، وغيرهم (2) ، وقال أبو هريرة : هو سحت (3) ، وقال ابن سيرين : هو أخبثُ الكسب (4) . وقال
عبدُ الرحمان بنُ أبي ليلى : ما أُبالي ثمن كلب أكلت أو ثمنَ خنْزير (5) . وهؤلاء لهم مآخذ :
أحدها : أنَّه إنّما نُهي عن بيعها لنجاستها (6) ، وهؤلاء التزموا تحريمَ بيع كلِّ نجسِ العين ، وهذا قولُ الشافعي ، وابن جرير ، ووافقهم جماعةٌ من أصحابنا ، كابنِ عقيل في " نظرياته " وغيره ، والتزموا أنَّ البغلَ والحمارَ إنَّما نجيز بيعهما إذا لم نقل بنجاستهما ، وهذا مخالفٌ للإجماع .
والثاني : أنَّ الكلبَ لم يُبح الانتفاعُ به واقتناؤه مطلقاً كالبغل والحمار ، وإنَّما أُبيحَ اقتناؤُه لحاجاتٍ مخصوصةٍ ، وذلك لا يُبيح بيعه كما لا تبيحُ الضرورةُ إلى الميتة والدم بَيعَهُما ، وهذا مأخذُ طائفةٍ من أصحابنا وغيرهم .
__________
(1) أخرجه : مسلم 5/35 ( 1569 ) ( 42 ) عن جابر بن عبد الله ، به .
(2) انظر : المغني 4/324 – 325 .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة 4/347 .
(4) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 36231 ) .
(5) أخرجه : ابن أبي شيبة 4/348 .
(6) انظر : المغني 4/325 .

والثالث : أنَّه إنَّما نُهي عن بيعه لخسَّته ومهانته ، فإنَّه لا قيمةَ له إلاَّ عند ذوي الشُّحِّ والمهانَةِ ، وهو متيسِّرُ الوجودِ ، فنُهي عن أخذ ثمنِه ترغيباً في المواساة بما يفضل منه عن الحاجة ، وهذا مأخذُ الحسن البصري وغيره من السَّلف ، وكذا قال بعضُ أصحابنا في النَّهي عن بيع السِّنَّورِ .
ورخَّصت طائفةٌ في بيع ما يُباح اقتناؤُه مِنَ الكلاب ، ككلب الصَّيد ، وهو قولُ عطاء والنَّخعي وأبي حنيفة وأصحابه ، ورواية عن مالك ، وقالوا : إنَّما نهي عن بيع ما يحرُمُ اقتناؤُه منها (1) . وروى حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن جابر أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب والسنور ، إلا كلب صيد ، خرَّجه النَّسائي (2) ، وقال : هو حديثٌ منكر ، وقال أيضاً : ليس بصحيح ، وذكر الدارقطني (3) أنَّ الصحيحَ وقفُه على جابر ، وقال أحمد : لم يصحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رخصةٌ في كلب الصيد ، وأشار البيهقي (4) وغيره إلى أنَّه اشتبه على بعض الرواة هذا الاستثناء ، فظنه من البيع، وإنَّما هو مِنَ الاقتناء ، وحماد بن سلمة في رواياته عن أبي الزبير ليس بالقوي، ومن قال : إنَّ هذا الحديث على شرط مسلم - كما ظنَّه طائفةٌ من المتأخرين - فقد أخطأ ؛ لأنَّ مسلماً لم يخرِّج لحمَّاد بن سلمة ، عن أبي الزبير شيئاً ، وقد بيَّن في
كتاب " التمييز " (5) أنَّ رواياته عن كثير من شيوخه أو أكثرهم غيرُ قوية .
__________
(1) انظر : المغني 4/324 ، والشرح الكبير على متن المقنع 4/15 ، وفتح الباري 4/538 عقيب ( 2238 ) .
(2) في " المجتبى " 7/309 عن جابر بن عبد الله ، به .
(3) في " سننه " 3/73 .
(4) في " سننه " 6/6 - 7 .
(5) 170 - 171 .

فأمَّا بيعُ الهرِّ ، فقد اختلف العلماءُ في كراهته ، فمنهم من كرهه ، ورُوي ذلك عن أبي هريرة وجابر وعطاء وطاووس ومجاهد ، وجابر بن زيد ، والأوزاعي ، وأحمد في رواية عنه ، وقال : هو أهونُ من جلود السِّباع ، وهذا اختيارُ أبي بكر من أصحابنا ، ورخص في بيع الهرِّ ابن عباس وعطاء في رواية والحسن وابن سيرين والحكم وحماد ، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه (1) ، وعن إسحاق روايتان ، وعن الحسن أنَّه كره بيعها ، ورخَّصَ في شرائها للانتفاع بها .
وهؤلاء منهم من لم يصحِّح النهي عن بيعها ، قال أحمد : ما أعلم فيه شيئاً يثبت أو يصحُّ ، وقال أيضاً : الأحاديث فيه مضطربةٌ .
ومنهم من حمل النهي على ما لا نفع فيه كالبرِّيِّ ونحوه (2) .
ومنهم من قال : إنَّما نهى عن بيعها ؛ لأنَّه دناءة وقلة مروءة ، لأنَّها متيسرة الوجود والحاجة إليها داعية ، فهي من مرافِق الناس التي لا ضررَ عليهم في بذل فضلها ، فالشُّحُّ بذلك مِنْ أقبحِ الأخلاق الذميمة ، فلذلك زجر عن أخذ ثمنها .
وأما بقية الحيوانات التي لا تُؤكل ، فما لا نفع فيه كالحشرات ونحوه لا يجوزُ بيعُه (3) ، وما يُذكر من نفع في بعضها ، فهو قليلٌ ، فلا يكون مبيحاً للبيع ، كما لم يبح النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيعَ الميتة لما ذكر له ما فيها من الانتفاع ، ولهذا كان الصحيحُ أنَّه لا يُباحُ بيعُ العلق لِمَصِّ الدم ، ولا الدِّيدان للاصطياد ونحو ذلك .
__________
(1) انظر : المغني 4/328 ، والشرح الكبير على متن المقنع 4/10 .
(2) انظر : المغني 4/328 ، والشرح الكبير على متن المقنع 4/10 ، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 3/678 .
(3) انظر : الشرح الكبير على متن المقنع 4/15 .

وأما ما فيه نفعٌ للاصطياد منها ، كالفهد والبازيِّ والصَّقر ، فحكى أكثرُ الأصحاب في جواز بيعها روايتين عن أحمد ، ومنهم من أجازَ بيعَها ، وذكر الإجماعَ
عليه (1) ، وتأوَّل رواية الكراهة كالقاضي أبي يعلى في " المجرد " (2) ، ومنهم من قال : لا يجوزُ بيع الفهد والنّسر ، وحكى فيه وجهاً آخر بالجواز ، وأجاز بيع البُزاة والصُّقور ، ولم يحكِ فيه خلافاً ، وهو قولُ ابن أبي موسى (3) .
وأجاز بيع الصقر والبازي والعُقاب ونحوه أكثرُ العلماء ، منهم : الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق ، والمنصوص عن أحمد في أكثر الروايات عنه جوازُ بيعها ، وتوقف في رواية عنه في جوازه إذا لم تكن معلَّمة ، قال الخلاَّل : العمل على ما رواه الجماعة أنَّه يجوزُ بيعُها بكلِّ حالٍ .
وجعل بعضُ أصحابنا الفيلَ حكمه حكم الفهد ونحوه (4) ، وفيه نظر ، والمنصوص عن أحمد في رواية حنبل أنَّه لا يحِلُّ بيعه ولا شراؤه ، وجعله كالسَّبُع ، وحُكي عن الحسن أنَّه قال : لا يُركب ظهره ، وقال : هو مسخ ، وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّه لا منفعةَ فيه .
__________
(1) انظر : شرح الزركشي على مختصر الخرقي 3/675 – 676 .
(2) هو: المجرد في الأصول للقاضي أبي يعلى محمد بن محمد بن الفراء الحنبلي المتوفى سنة 458 ه‍ . انظر : كشف الظنون 2/1593 .
(3) انظر : شرح الزركشي على مختصر الخرقي 3/675 – 676 .
(4) انظر : الشرح الكبير على متن المقنع 4/10 .

ولا يجوزُ بيعُ الدُّبِّ ، قاله القاضي في " المجرد " ، وقال ابن أبي موسى : لا
يجوزُ بيعُ القردِ (1) ، قال ابن عبد البرِّ : لا أعلمُ في ذلك خلافاً بين العلماء ، وقال
القاضي في " المجرد " : إنْ كان ينتفع به في موضع ، لحفظ المتاع ، فهو كالصَّقر والبازيِّ (2) ، وإلا ، فهو كالأسد لا يجوزُ بيعه ، والصحيح المنعُ مطلقاً ، وهذه المنفعة يسيرةٌ ، وليست هي المقصودة منه ، فلا تُبيح البيعَ كمنافعِ الميتة .
ومما نُهي عن بيعه جيفُ الكفار إذا قُتِلوا ، خرّج الإمام أحمد (3) من حديث ابن عباس قال : قتل المسلمون يوم الخندق رجلاً من المشركين ، فأعطوا بجيفته مالاً ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ادفعوا إليهم جيفَته ، فإنَّه خبيثُ الجيفة ، خبيثُ الدِّيةِ ) ، فلم يقبل منهم شيئاً . وخرَّجه الترمذي (4) ، ولفظه : إنَّ المشركين أرادوا أنْ يشتروا جَسَد رجلٍ من المشركين فأبى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يبيعهم . وخرَّجه وكيع في كتابه من وجه آخر عن عكرمة مرسلاً ، ثم قال وكيع : الجيفة لا تُباع .
__________
(1) انظر : المغني 4/328 ، والشرح الكبير على متن المقنع 4/11 .
(2) قال ابن قدامة : فأما بيعه لمن ينتفع كحفظ المتاع والدكان ونحوه فيجوز لأنَّه كالصَّقَر
والبازي ، وهذا مذهب الشافعي . انظر : المغني 4/328 ، والشرح الكبير على متن المقنع 4/11 .
(3) في " مسنده " 1/248 ، وهو حديث ضعيف لضعف نصر بن باب ، وفيه عنعنة الحجاج بن أرطاة ، وهو مدلس .
(4) في " جامعه " ( 1715 ) ، وهو ضعيف أيضاً ؛ فإنَّ في إسناده محمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى ، وهو ضعيف الحفظ جداً ، وهو منقطع أيضاً .

وقال حرب : قلت لإسحاق ، ما تقول في بيع جيف المشركين من
المشركين(1) ؟ قال : لا . وروى أبو عمرو الشيباني أنَّ علياً أتي بالمستورد العجلي وقد تنصّر ، فاستتابه فأبى أنْ يتوبَ ، فقتله ، فطلبت النصارى جيفته بثلاثين ألفاً ، فأبى عليٌّ فأحرقه (2) .
__________
(1) في ( ص ) : ( أناخذ ثمنها ) بدل : ( من المشركين ) .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 18710 ) ، والبيهقي 6/254 ، وصحح إسناده ابن التركماني في
" الجوهر النقي " 6/254 .

الحديث السادس والأربعون
عَنْ أَبي بُردَةَ ، عن أَبيه أَبي مُوسى الأَشعَريِّ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ إلى اليَمَنِ ، فسأَلَهُ عَنِ أَشربةٍ تُصنَعُ بها ، فقال : ( ومَا هِي ؟ ) قالَ : البِتْعُ والمِزْرُ ، فقيل لأبي بُردَةَ : وما البِتْعُ ؟ قال : نَبيذُ العسلِ ، والمِزْرُ نَبيذُ الشَّعير ، فقال : ( كُلُّ مُسكرٍ حَرامٌ ) خرَّجه البُخاريُّ (1) .
وخرَّجه مسلم (2) ، ولفظه قال : بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنا ومعاذٌ إلى اليمنِ ، فقلتُ : يا رسولَ الله ، إنَّ شراباً يُصنع بأرضنا يقال له : المِزْرُ مِنَ الشَّعير ، وشرابٌ يقالُ له : الِبتع من العسل ، فقال : ( كلُّ مسكرٍ حرامٌ ) . وفي رواية لمسلم (3) : فقال : ( كُلُّ ما أسكر عن الصَّلاةِ فهو حرامٌ ) ، وفي رواية له (4) قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُعطِيَ جوامعَ الكلم بخواتمه ، فقال : ( أنهى عن كلِّ مسكر أسكر عن الصَّلاةِ ) .
__________
(1) في " صحيحه " 5/204 ( 4343 ) .
(2) في " صحيحه " 6/99 ( 1733 ) ( 70 ) .
(3) في " صحيحه " 6/99 ( 1733 ) ( 70 ) .
(4) في " صحيحه " 6/100 ( 1733 ) ( 71 ) .

هذا الحديثُ أصلٌ في تحريم تناول جميع المسكرات ، المغطِّيةِ للعقل ، وقد ذكر الله في كتابه العلَّةَ المقتضية لتحريم المسكرات ، وكان أوَّل ما حُرِّمتِ الخمرُ عند حضورِ وقتِ الصلاة لما صلَّى بعضُ المُهاجرين ، وقرأ في صلاته ، فخلط في
قراءته (1) ، فنَزل قولُه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } (2) ، فكان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي : لا يقرب الصَّلاةَ سكران (3) ، ثم إنَّ الله حرَّمها على الإطلاق بقوله تعالى : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } (4) .
__________
(1) انظر : تفسير الطبري ( 7554 ) و( 7555 ) .
(2) النساء : 43 .
(3) أخرجه : أحمد 1/53 ، وأبو داود ( 3670 ) ، والترمذي ( 3049 ) ، والبزار ( 334 ) ، والنسائي 8/286 - 287 ، والطبري في " تفسيره " ( 9763 ) ، وهذا الحديث حصل اختلاف في إسناده انظر التعليق على " الجامع الكبير " 5/141 .
(4) المائدة : 90 - 91 .

فذكر سبحانه علَّة تحريم الخمر والميسر ، وهو القمار ، وهو أنَّ الشيطان يُوقعُ بهما العداوةَ والبغضاء ، فإنَّ مَنْ سَكِرَ اختلَّ عقلُه ، فربَّما تَسَلَّط على أذى الناسِ في أنفسهم وأموالهم ، وربما بَلَغَ إلى القتل ، وهي أمُّ الخبائث ، فمن شَربها ، قتلَ النفس وزنى ، وربما كفر . وقد روي هذا المعنى عن عثمان (1) وغيره (2) ، وروي مرفوعاً أيضاً (3) .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 17060 ) ، والنسائي 8/315 و316 وفي " الكبرى " ، له
( 5176 ) و( 5177 ) ، والبيهقي 8/287 - 288 و288 موقوفاً .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 11372 ) و( 11498 ) عن ابن عباس .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " ذم السكر " كما في " نصب الراية " 4/297 ، وابن حبان
( 5348 ) عن عثمان بن عفان مرفوعاً ، وسنده ضعيف ، والصواب وقفه .

ومن قامر ، فربما قُهرَ ، وأُخذ ماله منه قهراً ، فلم يبق له شيء ، فيشتدُّ حِقدُه على من أخذ ماله . وكلُّ ما أدى إلى إيقاع العداوة والبغضاء كان حراماً ، وأخبر سبحانه أنَّ الشيطان يصدُّ بالخمر والميسر عن ذكر الله وعنِ الصَّلاةِ ، فإنَّ السَّكران يزولُ عقلُه ، أو يختلُّ ، فلا يستطيعُ أنْ يذكرَ الله ، ولا أنْ يُصلِّي ، ولهذا قال طائفة مِنَ السَّلف (1) : إنَّ شاربَ الخمر تمرُّ عليه ساعة لا يعرف فيها ربَّه ، والله سبحانه إنَّما خلق الخلق ليعرفوه ، ويذكروه ، ويعبدوه ، ويُطيعوه (2) ، فما أدَّى إلى الامتناعِ من ذلك ، وحال بين العبد وبين معرفة ربه وذكره ومناجاته ، كان محرَّماً ، وهو السكر ، وهذا بخلاف النَّوم ، فإنَّ الله تعالى جَبَل العباد عليه ، واضطرهم إليه ، ولا قِوام لأبدانهم إلا به ، إذ هو راحة لهم من السعي والنصب ، فهو من أعظم نِعَمِ الله على عباده ، فإذا نام المؤمن بقدر الحاجة ، ثم استيقظ إلى ذكر الله ومناجاته ودعائه ، كان نومُه عوناً له على الصلاة والذكر ، ولهذا قال من قال من الصحابة : إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي .
وكذلك الميسرُ يَصُدُّ عن ذكر الله وعنِ الصَّلاة ، فإنَّ صاحبه يَعْكُفُ بقلبه
عليه ، ويشتغل به عن جميع مصالحه ومهماته حتى لا يكاد يذكرها لاستغراقه فيه ، ولهذا قال عليٌّ لما مرَّ على قوم يلعبون بالشطرنج : ما هذه التماثيلُ التي أنتم لها عاكفون (3) ؟ فشبههم بالعاكفين على التماثيل . وجاء في الحديث : ( إنَّ مدمِنَ الخمرِ كعابدِ وثنٍ ) (4) ، فإنَّه يتعلق قلبُه بها ، فلا يكادُ يُمكنه أنْ يدعَها كما لا يدعُ عابدُ الوثنِ عبادتَه .
__________
(1) منهم السديّ . انظر : تفسير الطبري عقيب ( 3295 ) .
(2) انظر : التخويف من النار للمصنف 1/5 .
(3) أخرجه : البيهقي 10/212 .
(4) أخرجه : ابن ماجه ( 3375 ) من حديث أبي هريرة ، وإسناده ضعيف لضعف محمد بن سليمان الأصبهاني .

وهذا كلُّه مضادٌّ لِما خَلَق اللهُ العبادَ لأجله مِنْ تفريغِ قلوبهم لمعرفته ، ومحبَّته ، وخشيته ، وذكره ، ومناجاتِه ، ودعائِه ، والابتهال إليه ، فما حالَ بين بالعبد وبين
ذلك ، ولم يكن بالعبد إليه ضرورةٌ ، بل كان ضرراً محضاً عليه ، كان محرماً ، وقد رُوي عن عليٍّ أنّه قال لمن رآهم يلعبون بالشِّطرنج : ما لهذا خُلقتم (1) . ومن
هنا يعلم أنَّ الميسرَ محرَّمٌ ، سواء كان بِعوَضٍ أو بغيرِ عوضٍ ، وإنَّ الشطرنج
كالنَّرد أو شرٌّ منه ؛ لأنَّها تشغلُ أصحابَها عن ذكر الله ، وعن الصَّلاةِ أكثر مِنَ
النَّرد .
والمقصودُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كلُّ مسكر حرامٌ ، وكلُّ ما أسكر عن الصلاة فهو حرام ) .
وقد تواترت الأحاديثُ بذلك عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فخرَّجا في " الصحيحين " (2) عن ابنِ عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كلُّ مسكرٍ خمرٌ ، وكلُّ خمر حرام )
ولفظ مسلم : ( وكل مسكر حرام ) . وخرّجا أيضاً (3) من حديث عائشة أنَّ
النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سئل عن البِتع ، فقال : ( كلّ شراب أسكر فهوَ حرام ) ، وفي رواية
لمسلم : ( كل شراب مسكر حرام ) وقد صحَّح هذا الحديث أحمد ويحيى بن
معين (4) ، واحتجا به ونقل ابن عبد البرّ (5) إجماعَ أهل العلم بالحديث على صحته ، وأنَّه أثبت شيء يُروى عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في تحريم المسكر .
__________
(1) أخرجه : البيهقي 10/212 .
(2) مسلم فقط 6/100 ( 2003 ) ( 73 ) و( 74 ) و101 ( 2003 ) ( 75 ) .
(3) صحيح البخاري 1/70 ( 242 ) و7/137 ( 5585 ) و( 5586 ) ، وصحيح مسلم 6/99 ( 2001 ) ( 67 ) و( 68 ) .
(4) أسند أبو جعفر النحاس عن يحيى بن معين أنَّ حديث عائشة : ( كل شراب أسكر فهو
حرام ) أصح حديث في هذا الباب ، فتح الباري 10/56 .
(5) انظر : الاستذكار 7/13 - 15 .

وأمَّا ما نقله بعضُ فقهاء الحنفية عن ابن معينٍ من طعنه فيه ، فلا يثبت ذلك عنه (1) . وقد خرَّج مسلم (2) من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال :
( كلّ مسكر حرام ) .
وإلى هذا القول ذهب جمهورُ علماء المسلمين مِنَ الصَّحابة والتابعين ومن بعدهم من عُلماء الأمصار ، وهو مذهبُ مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن وغيرهم ، وهو ممَّا اجتمع على القول به أهلُ المدينة كلهم .
__________
(1) قال الزيلعي : ( قيل : إن ابن معين طعن في ثلاثة أحاديث منها هذا ، وحديث من مس ذكره فليتوضأ ، وحديث لا نكاح إلا بولي ، وهذا الكلام لم أجده في شيء من كتب الحديث ، والله أعلم ) . نصب الراية 4/295 ، وانظر : فتح الباري 10/56 .
(2) في " صحيحه " 6/100 ( 2002 ) ( 72 ) .

وخالف فيه طوائفُ مِنْ عُلماء أهل الكوفة ، وقالوا : إنَّ الخمرَ إنَّما هو خمرُ العنب خاصّةً (1)، وما عداها ، فإنَّما يحرم منه القدرُ الذي يُسكر ، ولا يحرم ما دُونَه ، وما زال علماءُ الأمصار يُنكرون ذلك عليهم ، وإنْ كانوا في ذلك مجتهدين مغفوراً لهم ، وفيهم خَلقٌ مِنْ أئمَّة العلمِ والدين . قال ابنُ المبارك : ما وجدتُ في النبيذ رخصةً عن أحد صحيح إلاّ عن إبراهيم ، - يعني : النَّخعي (2) - ، وكذلك أنكر الإمامُ أحمد أنْ يكونَ فيه شيءٌ يصحُّ ، وقد صنف كتاب " الأشربة " ولم يذكر فيه شيئاً من الرخصة ، وصنَّف كتاباً في المسح على الخفين ، وذكر فيه عن بعض السَّلف إنكاره ، فقيل له : كيف لم تجعل في كتاب " الأشربة " الرخصة كما
جعلت في المسح ؟ فقال : ليس في الرخصة في المسكر حديثٌ صحيح (3) .
ومما يدلُّ على أن كُلَّ مسكر خمر أنَّ تحريم الخمر إنَّما نزل في المدينة بسبب سؤال أهل المدينة عمّا عندهم من الأشربة ، ولم يكن بها خمرُ العنب ، فلو لم تكن آية تحريم الخمر شاملةً لِما عِندهم ، لما كان فيها بيانٌ لِما سألوا عنه ، ولكانَ محلُّ السبب خارجاً مِنْ عُموم الكلام ، وهو ممتنع ، ولمَّا نزل تحريمُ الخمر أراقوا ما عندهم من الأشربة ، فدلَّ على أنَّهم فَهِمُوا أنَّه منَ الخمر المأمور باجتنابه .
وفي " صحيح البخاري " (4) عن أنسٍ قال : حُرِّمت علينا الخمرُ حين حرمت وما نَجِدُ خمرَ الأعناب إلاّ قليلاً ، وعامة خمرنا البسرُ والتمرُ .
__________
(1) قال ابن عبد البر : ( قال الكوفيون : إنَّ الخمر من العنب لقوله تعالى : { أَعْصِرُ خَمْراً } .
" فتح الباري " 10/61 ، وانظر : المغني لابن قدامة 10/322 .
(2) أخرجه : النسائي في " الكبرى " ( 5261 ) ، وانظر : نصب الراية 4/301 ، وفتح الباري 10/56 .
(3) انظر : المغني لابن قدامة 10/323 .
(4) 7/136 ( 5580 ) .

وعنه أنَّه قال : إنِّي لأسقي أبا طلحة ، وأبا دُجانة ، وسهيلَ بن بيضاءَ خليطَ بُسرٍ وتمرٍ إذ حرمَتِ الخمر ، فقذفتها ، وأنا ساقيهم وأصغرُهم ، وإنا نَعُدُّها يومئذ الخمر (1) .
وفي " الصحيحين " (2) عنه قال : ما كان لنا خمرٌ غير فَضِيخِكُم هذا الذي تسمونه الفَضيخَ .
وفي " صحيح مسلم " (3) عنه قال : لقد أنزل الله الآية التي حرَّم فيها الخمرَ ، وما بالمدينة شرابٌ يشرب إلاَّ من تمر .
وفي " صحيح البخاري " (4) عن ابنِ عمر ، قال : نَزَلَ تحريمُ الخمر وإنَّ بالمدينة يومئذ لخمسة أشربةٍ ما منها شراب العنب .
وفي " الصحيحين " (5) عن الشعبي ، عن ابنِ عمر ، قال : قام عمر على المنبر ، فقال : أما بعدُ ، نزل تحريمُ الخمرِ وهي من خمس : العنب والتمرِ والعسلِ والحنطةِ والشعيرِ . والخمرُ : ما خامر العقل . وخرَّجه الإمامُ أحمد ، وأبو داود ،
والترمذي (6) من حديث الشعبي عن النعمان بن بشير ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - . وذكر الترمذي أنَّ قولَ من قال : عن الشعبي عن ابن عمر ، عن عمر أصحّ ، وكذا قال ابنُ المديني (7) .
وروى أبو إسحاق عن أبي بُردة قال : قال عُمَرُ : ما خمرته فعتقته ، فهو خمر ، وأنّى كانت لنا الخمر خمر العنب (8) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 7/140 ( 5600 ) ، وأبو عوانة 5/93 ، والبيهقي 8/290 .
(2) صحيح البخاري 6/67 ( 4617 ) ، وصحيح مسلم 6/87 ( 1980 ) ( 4 ) .
(3) 6/89 ( 1982 ) ( 10 ) .
(4) 6/67 ( 4616 ) .
(5) صحيح البخاري 6/67 ( 4619 ) و7/136 ( 5581 ) ، وصحيح مسلم 8/245
( 3032 ) ( 32 ) و( 33 ) .
(6) أحمد 4/287 ، وأبو داود ( 3676 ) ، والترمذي ( 1872 ) .
(7) انظر : جامع الترمذي عقيب ( 1874 ) .
(8) أخرجه : عبد الرزاق ( 17051 ) ، وابن الجعد في " مسنده " ( 2531 ) ، وابن أبي شيبة (23751 ) .

وفي " مسند " الإمام أحمد (1) عن المختار بن فُلفل قال : سألت أنسَ بنَ
مالك عن الشرب في الأوعية فقال : نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزفتة وقال : ( كُلُّ مسكر حرام ) قلتُ له : صدقت السكر حرام ، فالشربةُ والشربتان على طعامنا ؟ قال : المسكر قليلُه وكثيرُه حرامٌ وقال : الخمر من العنب والتمر والعسل
والحنطة والشعير والذرة ، فما خمرتَ من ذلك فهو الخمر ، خرَّجه أحمد عن عبد الله ابن إدريس : سمعتُ المختار بن فلفل يقول فذكره ، وهذا إسنادٌ على شرط
مسلم .
وفي " صحيح مسلم " (2) ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الخمرُ مِنْ
هَاتَينِ الشَّجرتين : النخلة والعِنبة ) ، وهذا صريح في أنَّ نبيذ التمر خمر .
وجاء التصريحُ بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره ، كما خرَّجه أبو داود ، وابنُ ماجه ، والترمذي (3) ، وحسّنه من حديث جابرٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما أسكرَ كَثيرُهُ فَقَليلُهُ حَرامٌ ) .
__________
(1) 3/112 ، وهو كذلك في " الأشربة " ( 190 ) و( 191 ) للإمام أحمد ، وهو حديث صحيح .
(2) 6/89 ( 1985 ) ( 13 ) و( 14 ) و( 15 ) .
(3) أبو داود ( 3681 ) ، وابن ماجه ( 3393 ) ، والترمذي ( 1865 ) .

وخرَّج أبو داود ، والترمذي (1) ، وحسّنه من حديث عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كُلُّ مُسكرٍ حَرَامٌ ، وما أسكر الفَرقُ ، فملءُ الكَفِّ منه حَرام ) ، وفي رواية ( الحسوة منه حرام ) ، وقد احتجَّ به أحمد ، وذهب إليه . وسئل عمن قال : إنَّه لا يصحُّ ؟ فقال : هذا رجلٌ مُغْلٍ ، يعني أنَّه قد غلا في مقالته . وقد خرَّج النَّسائي (2) هذا الحديث من رواية سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ كثيرةٍ يطولُ ذكرُها .
وروى ابنُ عجلان ، عن عمرو بن شعيب ، حدثني أبو وهب الجيشاني ، عن وفد أهلِ اليمن أنَّهم قَدِموا على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فسألوه عن أشربة تكون باليمن ، قال : فسَمَّوا له البِتْعَ مِن العسَل ، والمِزْرَ من الشعير ، قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( هل تسكرون
منها ؟ ) قالوا : إنْ أكثرنا سكِرنَا ، قال : ( فحرام قليل ما أسكر كثيره ) (3) خرَّجه القاضي إسماعيل .
وقد كانت الصحابةُ تحتجُّ بقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( كُلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ ) على تحريم جميع أنواع المسكرات ، ما كان موجوداً منها على عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وما حدثَ بعده ، كما سُئِلَ ابن عباس عن الباذق ، فقال : سبق محمّدٌ الباذقَ ، فما أسكر ، فهو حرام ، خرَّجه البخاري (4) ، يشير إلى أنَّه إنْ كان مسكراً ، فقد دخل في هذه الكلمة الجامعة العامة .
__________
(1) أبو داود ( 3687 ) ، والترمذي ( 1866 ) .
(2) في " المجتبى " 8/301 عن سعد بن أبي وقاص و8/300 عن عبد الله بن عمرو .
(3) ذكره ابن سعد في " الطبقات " 1/369 ، وفي إسناده مقال ؛ فإنَّ أبا وهب الجيشاني مقبول عند المتابعة ولم يتابع ، وهو يحدث عن غيرمعروفين .
(4) في " صحيحه " 7/140 ( 5598 ) .

واعلم أنَّ المسكرَ المزيل للعقل نوعان :
أحدهما : ما كان فيه لَذَّةٌ وطربٌ ، فهذا هو الخمر المحرَّم شربه ، وفي
" المسند " (1) عن طلق الحنفيِّ أنَّه كان جالساً عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له رجل : يا رسولَ الله ، ما ترى في شراب نصنعُه بأرضنا من ثمارنا ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من سائلٌ عَنِ المسكر ؟ فلا تشربه ، ولا تسقه أخاك المسلم ، فوالذي نفسي بيده - أو بالذي يُحلف به - لا يشربه رجلٌ ابتغاءَ لذَّة سُكره ، فيسقيه الله الخمر يومَ القيامة ) .
قال طائفة من العلماء : وسواءٌ كان هذا المسكرُ جامداً أو مائعاً ، وسواءٌ
كان مطعوماً أو مشروباً ، وسواءٌ كان من حبٍّ أو ثمرٍ أو لبنٍ ، أو غير ذلك ، وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تُعمل من ورق القِنَّب ، وغيرها ممَّا يُؤْكَلُ لأجل لذَّته وسكره (2) ، وفي " سنن أبي داود " (3) من حديث شهر بن حوشب ، عن أمِّ سلمة ، قالت : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلِّ مُسكرٍ ومُفتِّرٍ ) والمفتر : هو المخدر للجسد ، وإنْ لم ينته إلى حدِّ الإسكار (4) .
__________
(1) لم أجده في المسند ، ولعل الاختلاف في نسخ المسند لهذا الحديث كان قديماً ؛ فهذا الحديث من رواية الإمام أحمد ذكره ابن كثير في " جامع المسانيد " 6/547 وكذا عزاه له الهيثمي في
" مجمع الزوائد " 5/70 أما ابن حجر فلم يذكره في أطراف المسند 2/622 ( 2939 ) - 626 ( 2950 ) ، واختصر في " الإصابة " 9/39 ( 4041 ) بعزوه لكتاب
" الأشربة " .
أخرجه : أحمد في " الأشربة " ( 32 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 8259 ) ، وإسناده قويٌّ .
(2) انظر : عون المعبود 10/126 .
(3) الحديث ( 3686 ) ، وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب ، وقوله : ( نهى عن كل مسكر ) له شواهد صحيحة .
(4) قال ابن الأثير : المفتر : الذي إذا شُرِبَ أحْمَى الجَسَدَ وصار فيه فتور ، وهو ضعف وانكسار . النهاية 3/408 .

والثاني : ما يُزيلُ العقلَ ويسكر ، ولا لذَّة فيه ولا طرب ، كالبنج ونحوه ، فقال أصحابنا : إنَّ تناوله لحاجة التداوي به ، وكان الغالبُ منه السلامة جاز ، وقد رُوي عن عُروة بن الزُّبير أنَّه لمَّا وقعت الأكِلَة في رجله ، وأرادوا قطعَها ، قال له الأطباء : نسقيك دواءً حتى يغيبَ عقلُك ، ولا تُحِسَّ بألم القطع ، فأبى ، وقال : ما ظننتُ أنَّ خلقاً يشربُ شراباً يزولُ منه عقلُه حتّى لا يعرف ربّه (1) .
وروي عنه أنَّه قال : لا أشرب شيئاً يحولُ بيني وبين ذكر ربي - عز وجل - .
وإنْ تناول ذلك لغير حاجة التداوي ، فقال أكثرُ أصحابنا كالقاضي ، وابنِ عقيل ، وصاحب " المغني " : إنَّه محرم ؛ لأنَّه تسبب إلى إزالة العقل لغير حاجة ، فحرم كشرب المسكر ، وروى حنش الرحبي - وفيه ضعف (2) - عن عكرمة ، عن ابن عباس مرفوعاً : ( مَنْ شرب شراباً يَذهَبُ بعقلِه ، فقد أتى باباً مِنْ أبواب
الكبائر ) (3) .
وقالت طائفة منهم ابنُ عقيل في " فنونه " : لا يَحرُمُ ذلك ؛ لأنَّه لا لذَّة فيه ، والخمرُ إنَّما حرِّمت لِما فيها مِنَ الشِّدَّةِ المطرِبَة ، ولا اطراب في البنج ونحوه ولا شدَّة .
__________
(1) أخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 42/211 ، وذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 4/430 .
(2) هو حسين بن قيس الرحبي. قال عنه أحمد بن حنبل : ( متروك الحديث ، ضعيف الحديث ) ، وقال : يحيى بن معين : ( ضعيف ، ليس بشيء ) ، وقال البخاري : ( ترك أحمد حديثه ،
لا يكتب حديثه ) ، وقال النسائي : ( متروك الحديث ، ليس بثقة ) ، وقال الدارقطني
: ( متروك ) . انظر: التاريخ الكبير 2/382 ( 2892 ) ، والضعفاء الكبير للعقيلي 1/247 ، والكامل لابن عدي 3/218 – 219 وميزان الاعتدال 1/546 .
(3) أخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 1356 ) ، وأبو يعلى ( 2348 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 11538 ) .

فعلى قولِ الأكثرين : لو تناول ذلك لِغير حاجة ، وسكر به ، فطلَّق ، فحكمُ طلاقه حكمُ طلاق السَّكران ، قاله أكثرُ أصحابنا كابن حامد والقاضي ، وأصحاب الشافعي ، وقالت الحنفية : لا يقعُ طلاقه ، وعلَّلوا بأنَّه ليس فيه لذَّة ، وهذا يدلُّ على أنَّهم لم يُحرِّموه . وقالت الشافعية : هو محرَّم ، وفي وقوع الطلاق معه وجهان ، وظاهرُ كلام أحمد أنّه لا يقعُ طلاقُه بخلافِ السَّكران ، وتأوله القاضي ، وقال : إنَّما قال ذلك إلزاماً للحنفية ، لا اعتقاداً له ، وسياق كلامه محتمل لذلك (1) .
وأمَّا الحدُّ ، فإنَّما يجبُ بتناول ما فيه شِدَّة وطربٌ مِنَ المسكراتِ ؛ لأنّه هو الذي تدعو النفوس إليه ، فجُعِلَ الحدُّ زاجراً عنه .
فأمَّا ما فيه سكرٌ بغيرِ طربٍ ولا لذَّة ، فليس فيه سوى التعزير ؛ لأنَّه ليس في النفوس داع إليه حتّى يحتاج إلى حدٍّ مقدَّر زاجرٍ عنه ، فهو كأكل الميتة ولحم الخنزير ، وشرب الدم .
__________
(1) انظر : المغني لابن قدامة 8/255 – 256 .

وأكثرُ العلماء الذين يرونَ تحريمَ قليلِ ما أسكر كثيرُه يرونَ حدَّ مَنْ شربَ
ما يُسكر كثيره ، وإنِ اعتقد حِلَّه متأولاً ، وهو قولُ الشافعي وأحمد ، خلافاً لأبي ثور ، فإنَّه قال : لا يحدُّ لتأوُّله ، فهو كالنَّاكح بلا وليٍّ . وفي حدِّ الناكح بلا
وليٍّ خلاف أيضاً ، ولكنَّ الصحيح أنَّه لا يُحَدُّ ، وقد فرَّق من فرَّق بينه وبين شرب النبيذ متأوِّلاً بأنَّ شرب النبيذ المختلف فيه داعٍ إلى شرب الخمر المجمع على
تحريمه بخلاف الناكح بغير وليٍّ ، فإنَّه مغنٍ عن الزنى المجمع على تحريمه ، وموجب للاستعفاف عنه . والمنصوصُ عن أحمد أنَّه إنَّما حدَّ شارب النبيذ متأوِّلاً ؛ لأنَّ تأويلَه ضعيف لا يُدرأُ عنه الحدُّ به ، فإنَّه قال في رواية الأثرم : يُحدُّ من شرب النبيذ متأوِّلاً ، ولو رُفِعَ إلى الإمام من طَلَّق البتة ، ثم راجعها متأوِّلاً أنَّ طلاق البتة
واحدة ، والإمام يرى أنَّها ثلاث لا يُفرق بينهما ، وقال : هذا غيرُ ذاك ، أمره بيِّنٌ في كتاب الله ، وسنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ونزل تحريم الخمر وشرابهم الفضيخ ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( كلُّ مسكرٍ خمر ) ، فهذا بيِّن ، وطلاق البتة إنَّما هو شيءٌ اختلفَ النَّاسُ
فيه (1) .
__________
(1) انظر : تحفة الأحوذي 4/344 - 345 .

الحديث السابع والأربعون
عَنِ المِقدامِ بنِ مَعدِ يكرِبَ قالَ : سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ : ( ما مَلأ آدميٌّ وِعاءً شَرّاً مِنْ بَطْنٍ ، بِحَسْبِ ابنِ آدمَ أَكَلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ ، فإنْ كَانَ لا مَحالَةَ ، فَثُلُثٌ لِطعامِهِ ، وثُلُثٌ لِشَرابِهِ ، وثُلُثٌ لِنَفسه ) رواهُ الإمامُ أحمَدُ والتِّرمِذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَهْ ، وقَالَ التِّرمِذيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
هذا الحديثُ خرَّجه الإمام أحمد (1) والترمذيُّ (2) من حديث يحيى بن جابر الطائي عن المقدام ، وخرَّجه النَّسائي (3) من هذا الوجه ومن وجه آخر من رواية صالح بن يحيى بن المقدام عن جدّه (4) ، وخرّجه ابنُ ماجه (5) من وجه آخر عنه وله طرق أخرى (6) .
__________
(1) في " مسنده " 4/132 .
(2) في " جامعه " ( 2380 ) .
(3) في " الكبرى " ( 6769 ) و( 6770 ) .
(4) في " الكبرى " ( 6868 ) .
(5) في " سننه " ( 3349 ) .
(6) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 662 ) عن حبيب بن عبيد ، عن المقدام ، به .

وقد رُوي هذا الحديث مع ذكر سببه ، فروى أبو القاسم البغوي في
" معجمه " من حديث عبد الرحمان بن المُرَقَّع ، قال : فتح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر وهي مخضرةٌ من الفواكة ، فواقع الناسُ الفاكهةَ ، فمغثتهمُ الحُمَّى ، فشَكَوْا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنّما الحمى رائدُ الموت وسجنُ الله في الأرض ، وهي قطعةٌ من النار ، فإذا أخذتكم فبرِّدوا الماء في الشِّنان ، فصبُّوها عليكم بين الصَّلاتين ) يعني المغرب والعشاء ، قال : ففعلوا ذلك ، فذهبت عنهم ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - :
( لم يخلُقِ الله وعاءً إذا مُلِئَ شرّاً من بطن ، فإن كان لابدَّ ، فاجعلوا ثُلُثاً للطَّعام ،
وثُلثاً للشَّراب ، وثُلثاً للرِّيح ) (1) .
__________
(1) أخرجه : الطبراني كما في " مجمع الزوائد " 5/95 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/160-161 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 59 ) من طريق المحبر بن هارون ، عن أبي يزيد المقرئ ، عن عبد الرحمان بن المرقع ، وفي إسناده مقال ، ولبعض فقراته شواهد .

وهذا الحديثُ أصلٌ جامعٌ لأصول الطب كُلِّها . وقد رُوي أنَّ ابنَ أبي
ماسويه (1) الطبيبَ لمَّا قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة ، قال : لو استعملَ الناسُ هذه الكلمات ، سَلِموا مِنَ الأمراض والأسقام ، ولتعطَّلت المارستانات (2) ودكاكين الصيادلة ، وإنَّما قال هذا ؛ لأنَّ أصل كلِّ داء التُّخَم ، كما قال بعضهم : أصلُ كُلِّ داء البردةُ ، وروي مرفوعاً ولا يصحُّ رفعه (3) .
وقال الحارث بن كَلَدَة طبيبُ العرب : الحِمية رأسُ الدواء ، والبِطنةُ رأسُ الداء ، ورفعه بعضهم ولا يصحُّ أيضاً (4) .
وقال الحارث أيضاً : الذي قتل البرية ، وأهلك السباعَ في البرية ، إدخالُ الطعام على الطعام قبل الانهضام .
وقال غيره : لو قيل لأهل القبور : ما كان سببُ آجالكم ؟ قالوا : التُّخَمُ (5) .
فهذا بعض منافع تقليلِ الغذاء ، وتركِ التَّمَلِّي من الطَّعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته .
__________
(1) هو أبو زكريا يحيى بن ماسويه الحراني ، كان مسيحياً طبيباً حاذقاً ، له من المصنفات ( إصلاح الأدوية المفردة تدبير الأصحاء ) توفي في سر من رأى سنة ثلاث وأربعين ومئتين . انظر : كشف الظنون 6/515 .
(2) هي دار المرضى ، انظر : لسان العرب ( مرس ) .
(3) أخرجه : ابن حبان في " المجروحين " 1/204 ، وابن عدي في " الكامل " 2/279 ، وأبو أحمد العسكري في " أخبار المصحفين " : 64 عن الحسن ، عن أنس مرفوعاً .
قال الدارقطني : الأشبه بالصواب أنه من قول الحسن . انظر : " كشف الخفاء " ( 380 ) .
وقال ابن عدي : ولعل البلاء في هذا الحديث من محمد بن جابر الحلبي لأنه مجهول ولا يعرف حاله . انظر : الكامل 2/280 .
(4) قال السخاوي : ( لا يصح رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب أو غيره ) المقاصد الحسنة ( 1035 ) ، وانظر : كشف الخفاء ( 2320 ) .
(5) ذكره المناوي في " فيض القدير " 1/67 .

وأما منافِعُه بالنسبة إلى القلب وصلاحه ، فإنَّ قلةَ الغذاء توجب رِقَّة القلب ، وقوَّة الفهم ، وانكسارَ النفس ، وضعفَ الهوى والغضب ، وكثرةُ الغذاء توجب ضدَّ ذلك .
قال الحسن : يا ابنَ آدم كُلْ في ثلث بطنك ، واشرب في ثلثٍ ، ودع ثُلُثَ بطنك يتنفَّس لتتفكر .
وقال المروذي : جعل أبو عبد الله : يعني : أحمدَ يُعظِّمُ أمر الجوع والفقر ، فقلت له : يُؤجر الرجل في ترك الشهوات ، فقال : وكيف لا يؤجر ، وابنُ عمر يقول : ما شبعت منذ أربعة أشهر ؟ قلت لأبي عبد الله : يجد الرجلُ مِنْ قلبه رقَّة وهو يشبع ؟ قال : ما أرى (1) .
وروى المروذي عن أبي عبد الله قول ابن عمر هذا من وجوه ، فروى بإسناده عن ابن سيرين ، قال : قال رجل لابن عمر : ألا أجيئك بجوارش ؟ قال : وأيُّ شيء هو ؟ قال : شيءٌ يَهضِمُ الطعامَ إذا أكلته ، قال : ما شبعتُ منذ أربعةِ أشهر ، وليس ذاك أني لا أقدر عليه ، ولكن أدركت أقواماً يجوعون أكثرَ مما يشبعون (2) .
وبإسناده عن نافع ، قال : جاء رجل بجوارش إلى ابن عمر ، فقال : ما هذا ؟ قال : جوارش : شيءٌ يُهضَمُ به الطعامُ ، قال : ما أصنع به ؟ إنِّي ليأتي عليَّ الشهرُ
ما أشبع فيه من الطعام (3) .
__________
(1) انظر : الورع للإمام أحمد : 120 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/300 ، وذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 3/222 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/300 .

وبإسناده عن رجلٍ قال : قلتُ لابنِ عمر : يا أبا عبد الرحمان رَقَّتْ مضغتك ، وكَبِرَ سِنُّكَ ، وجلساؤك لا يعرفون لك حَقَّك ولا شَرَفَك ، فلو أمرتَ أهلك أنْ يجعلوا لك شيئاً يلطفونك إذا رجعتَ إليهم ، قال : وَيْحَكَ ، واللهِ ما شبعتُ منذ إحدى عشرة سنة ، ولا اثنتي عشرة سنة ، ولا ثلاث عشرة سنة ، ولا أربع عشرة سنة مرَّة واحدة ، فكيف بي وإنَّما بقي مني كظِمْءِ الحمار (1) .
وبإسناده عن عمرو بن الأسود العنسي أنَّه كان يدعُ كثيراً من الشبع مخافة الأشر (2) .
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب " الجوع " (3) بإسناده عن نافع ، عن ابنِ عمر ، قال : ما شبعتُ منذُ أسلمت .
وروى بإسناده (4) عن محمد بن واسع ، قال : مَنْ قلَّ طُعْمُه فهم ، وأفهم ، وصفا ، ورقَّ ، وإنَّ كَثرةَ الطَّعام ليُثقل صاحبه عن كثير مما يُريد .
وعن أبي عبيدة الخَوَّاص ، قال : حَتْفُكَ في شبعك ، وحَظُّك في جوعك ، إذا أنت شبعتَ ثقلتَ ، فنِمْتَ ، استمكن منك العدوُّ ، فجثم عليك ، وإذا أنت تجوَّعت كنت للعدو بمرصد (5) .
وعن عمرو بن قيس ، قال : إيَّاكُمْ والبِطنة فإنَّها تُقسِّي القلب (6) .
وعن سلمة بنِ سعيد قال : إنْ كان الرجلُ لَيُعيَّر بالبِطنة كما يُعير بالذنب يَعمَلُهُ (7) .
وعن بعض العلماء قال : إذا كنت بطيناً ، فاعدد نفسك زمناً حتى تخمص (8) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/298 – 299 .
(2) أخرجه : ابن أبي عاصم في " الآحاد المثاني " ( 2828 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/156 .
(3) رقم ( 58 ) .
(4) رقم ( 59 ) .
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 42 ) .
(6) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 84 ) .
(7) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 83 ) .
(8) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 85 ) ولم ينسبه .

وعن ابن الأعرابي قال : كانت العربُ تقول : ما بات رجلٌ بطيناً فتمَّ
عزمُه (1) .
وعن أبي سليمان الداراني قال : إذا أردتَ حاجةً من حَوائجِ الدُّنيا والآخرة ، فلا تأكل حتَّى تقضيها ، فإنَّ الأكلَ يُغير العقل (2) .
وعن مالك بن دينار قال : ما ينبغي للمؤمن أنْ يكونَ بطنه أكبرَ همه ، وأنْ تكونَ شهوته هي الغالبة عليه (3) .
قال : وحدثني الحسنُ بن عبد الرحمان ، قال : قال الحسن أو غيره : كانت بلية أبيكم آدم - عليه السلام - أكلةً ، وهي بليتُكم إلى يوم القيامة (4) . قال : وكان يُقال : من ملك بطنه ، ملك الأعمالَ الصالحة كلها (5) ، وكان يُقال : لا تَسكُنُ الحِكمةُ معدة ملأى (6) .
وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال : كان يُقال : قِلة الطعام عونٌ على التسرُّع إلى الخيرات (7) .
وعن قثم العابد قال : كان يُقال : ما قلَّ طعمُ امرئٍ قطُّ إلا رقَّ قلبه ، ونديت عيناه (8) .
وعن عبد الله بن مرزوق قال : لم نَرَ للأشر مثل دوام الجوع ، فقال له أبو
عبد الرحمان العمري الزاهد : وما دوامه عندك ؟ قالَ : دوامُه أنْ لا تشبع أبداً . قالَ : وكيف يقدر من كانَ في الدنيا على هذا ؟ قال : ما أيسرَ ذلك يا أبا عبد الرحمان على أهل ولايته ومن وفَّقه لطاعته ، لا يأكل إلا دونَ الشبع هو دوامُ الجوع (9) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 86 ) .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 87 ) .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 105 ) .
(4) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 97 ) .
(5) لم أقف على قول الحسن ، وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 99 ) عن مالك بن دينار .
(6) انظر : كتاب الجوع ( 102 ) .
(7) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 107 ) .
(8) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 124 ) .
(9) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 136 ) .

ويشبه هذا قول الحسن لما عرض الطعامَ على بعض أصحابه ، فقال له : أكلتُ حتى لا أستطيع أنْ آكل ، فقال الحسن : سبحان الله ويأكل المسلم حتى لا يستطيع أن يأكل ؟! (1) .
وروى أيضاً بإسناده عن أبي عمران الجوني ، قال : كان يقال : من أحبّ أن يُنوَّرَ لهُ قلبُه ، فليُقِلَّ طُعمَه (2) .
وعن عثمان بن زائدة قال : كتب إليَّ سفيان الثوري : إنْ أردت أنْ يصحَّ
جسمك ، ويَقِلَّ نومك ، فأقلَّ من الأكل (3) .
وعن ابن السَّماك قال : خلا رجل بأخيه ، فقال : أي أخي ، نحن أهونُ على الله من أنْ يُجيعنا ، إنَّما يُجيع أولياءه .
وعن عبد الله بن الفرج قال : قلت لأبي سعيد التميمي : الخائف يشبعُ ؟ قالَ : لا ، قلت : المشتاق يشبع ؟ قالَ : لا .
وعن رياح القيسي أنه قُرِّبَ إليه طعامٌ ، فأكل منه ، فقيل لهُ : ازدد فما أراك شبعتَ ، فصاح صيحة وقال : كيف أَشبَعُ أيام الدنيا وشجرةُ الزقوم طعامُ الأثيم بين
يدي ؟ فرفع الرجلُ الطعام من بين يديه ، وقال : أنت في شيء ونحن في شيء (4) .
قال المروذي : قال لي رجل : كيف ذاك المتنعمُ ؟ يعني : أحمد ، قلتُ له : وكيف هو متنعم ؟ قال : أليس يجد خبزاً يأكل ، وله امرأة يسكن إليه ويطؤها ، فذكرتُ ذلك لأبي عبد الله ، فقال : صدق ، وجعل يسترجِعُ ، وقال : إنا لنشبع .
وقال بشر بنُ الحارث : ما شبعت منذ خمسينَ سنة ، وقال : ما ينبغي للرجل أنْ يشبع اليوم من الحلال ؛ لأنَّه إذا شبع من الحلال ، دعته نفسُه إلى الحرام ، فكيف من هذه الأقذار ؟ (5)
__________
(1) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 1523 ) .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 142 ) .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 150 ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/194 .
(5) أخرجه : أحمد في " الورع " : 123 .

وعن إبراهيم بن أدهم قال : من ضبط بطنه ، ضبط دينَه ، ومن ملك جُوعَه ، ملك الأخلاق الصالحة ، وإنَّ معصية الله بعيدةٌ من الجائع ، قريبةٌ من الشبعان ، والشبعُ يميت القلبَ ، ومنه يكونُ الفرحُ والمرح والضحك .
وقال ثابت البناني : بلغنا أنَّ إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السّلام ، فرأى عليه معاليق من كلِّ شيءٍ ، فقال له يحيى : يا إبليس ، ما هذه المعاليقُ التي أرى عليك ؟ قال : هذه الشهواتُ التي أُصيبُ من بني آدم ، قال : فهل لي فيها شيءٌ ؟ قال : ربما شبعت ، فثقَّلناك عن الصَّلاة وعنِ الذِّكر ، قال : فهل غيرُ هذا ؟ قال :
لا ، قال : لله عليَّ أنْ لا أملأ بطني من طعام أبداً ، قال : فقال إبليس : ولله عليَّ أنْ لا أنصحَ مسلماً أبداً (1) .
وقال أبو سليمان الداراني : إنَّ النفس إذا جاعت وعطشت ، صفا القلب ورقَّ ، وإذا شبعت ورويت ، عمي القلبُ (2) ، وقال : مفتاحُ الدنيا الشبع ، ومفتاح الآخرة الجوع ، وأصلُ كلِّ خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله - عز وجل - ، وإنَّ الله ليُعطي الدنيا من يُحبُّ ومن لا يُحبُّ ، وإنَّ الجوع عنده في خزائن مُدَّخَرة ، فلا يُعطي إلا من أحبَّ خاصة ؛ ولأنْ أدعَ من عشائي لقمةً أحبُّ إليَّ من أن آكلها ثم أقوم من أوَّل الليل إلى آخره (3) .
وقال الحسن بن يحيى الخشني : من أراد أن تَغْزُرَ دموعه ، ويرِقَّ قلبه ، فليأكل ، وليشرب في نصف بطنه ، قال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت بهذا أبا سليمان ، فقال : إنَّما جاء الحديث : ( ثلثٌ طعام وثلثٌ شراب ) ، وأرى هؤلاء قد حاسبوا أنفسَهم ، فربحوا سدساً (4)
__________
(1) أخرجه : ابن الجعد في " مسنده " ( 1386 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/328 - 329 .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الجوع " ( 319 ) .
(3) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 5715 ) ، والخطيب في " تأريخه " 10/248 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/318 .

قلت : والخير والهدى والسداد في اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما نصح في حديثه - صلى الله عليه وسلم - ففيه الغاية في الورع والزهد ، أما المبالغة في الأمر فقد يخرج بالمرء إلى حيز التنطع والتشدد المنهي عنه .

.
وقال محمد بن النضر الحارثي : الجوعُ يبعث على البرِّ كما تبعثُ البِطنة على
الأشر (1) .
وعن الشافعي ، قال : ما شبعتُ منذ ستَّ عشرةَ سنة إلا شبعة اطرحتها ؛ لأنَّ الشبع يُثقِلُ البدن ، ويُزيل الفطنة ، ويجلب النوم ، ويضعف صاحبه عن العبادة (2) .
وقد ندب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى التقلل من الأكل في حديث المقدام ، وقال : ( حسبُ ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه ) (3) . وفي " الصحيحين " (4) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال :
( المؤمنُ يأكل في مِعًى واحدٍ ، والكافرُ يأكل في سبعة أمعاء ) والمراد أنَّ المؤمن يأكلُ بأدبِ الشَّرع ، فيأكل في مِعًى واحدٍ ، والكافر يأكل بمقتضى الشَّهوة والشَّرَهِ والنَّهم ، فيأكلُ في سبعة أمعاء .
وندب - صلى الله عليه وسلم - مع التقلُّل منَ الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار بالباقي منه ، فقال : ( طعامُ الواحدِ يكفي الاثنين ، وطعامُ الاثنين يكفي الثَّلاثة ، وطعامُ الثلاثة يكفي الأربعة ) (5) .
فأحسنُ ما أكل المؤمن في ثُلُثِ بطنه ، وشرِبَ في ثلث ، وترك للنَّفَسِ ثُلثاً ، كما ذكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث المقدام ، فإنَّ كثرة الشرب تجلِبُ النوم ، وتفسد الطعام . قال سفيان : كُلْ ما شئتَ ولا تشرب ، فإذا لم تشرب ، لم يجئك النوم (6) .
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/80 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 9/127 .
(3) سبق تخريجه .
(4) صحيح البخاري 7/92 ( 5393 ) ، وصحيح مسلم 6/132 ( 2060 ) ( 182 ) من حديث ابن عمر .
(5) أخرجه : مسلم 6/132 ( 2059 ) ( 179 ) و( 181 ) ، وابن ماجه ( 3254 ) ، والترمذي ( 1820 م ) من حديث جابر .
(6) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/18 .

وقال بعض السَّلف : كان شبابٌ يتعبَّدون في بني إسرائيل ، فإذا كان عند
فطرهم ، قام عليهم قائم فقال : لا تأكلوا كثيراً ، فتشربوا كثيراً ، فتناموا كثيراً ،
فتخسروا كثيراً (1) .
وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجوعون كثيراً ، ويتقلَّلون من أكل الشَّهوات ، وإنْ كان ذلك لِعدم وجود الطَّعام ، إلاَّ أنَّ الله لا يختارُ لرسوله إلا أكملَ الأحوال وأفضلها . ولهذا كان ابنُ عمر يتشبه بهم في ذلك ، مع قدرته على الطَّعام ، وكذلك كان أبوه من قبله .
ففي " الصحيحين " (2) عن عائشة ، قالت : ما شبع آلُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - منذ قَدِمَ المدينة من خبز بُرٍّ ثلاث ليال تباعاً حتى قُبض ، ولمسلم (3) : قالت : ما شبع
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض .
وخرَّج البخاري (4) عن أبي هريرة قال : ما شَبِعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طعام ثلاثة أيام حتى قُبض .
وعنه قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير (5) .
وفي " صحيح مسلم " (6) عن عمر أنَّه خطب ، فذكر ما أصابَ الناسُ من الدنيا ، فقال : لقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظلُّ اليوم يلتوي ما يجد دَقَلاً يملأ به بطنه .
__________
(1) انظر : الزهد : 104 لابن أبي عاصم ( ط . دار الريان للتراث ) .
(2) صحيح البخاري 7/98 ( 5423 ) و7/102( 5438 ) و8/174 ( 6687 ) ، وصحيح مسلم 8/218 ( 2970 ) ( 20 ) .
(3) 8/218 ( 2970 ) ( 22 ) .
(4) في " صحيحه " 7/87 ( 5374 ) .
(5) أخرجه : البخاري 7/97 ( 5414 ) .
(6) 8/220 ( 2978 ) ( 36 ) .

وخرَّج الترمذي (1) ، وابن ماجه (2) من حديث أنس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( لقد أوذيت في الله وما يُؤذى أحد ، ولقد أُخِفْتُ في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت عليَّ ثلاث مِنْ بين يومٍ وليلةٍ وما لي طعامٌ إلا ما واراه إبط بلال ) .
وخرَّج ابنُ ماجه (3) بإسناده عن سليمان بن صُرَد ، قال : أتانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فمكثنا ثلاث ليالٍ لا نَقدِرُ - أو لا يقدر - على طعام .
وبإسناده (4) عن أبي هريرة ، قال : أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطعامٍ سُخْن ، فأكل ، فلما فرغ ، قال : ( الحمدُ لله ، ما دخل بطني طعامٌ سخن منذ كذا وكذا ) .
وقد ذم الله ورسوله من اتَّبع الشهواتِ ، قال تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً إِلاَّ مَنْ تَابَ } (5) .
وصحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( خيرُ القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يأتي قوم يشهدون ولا يُستشهدون ، ويَنذِرُون ولا يُوفون ، ويظهر فيهم السِّمَنُ ) (6) .
وفي " المسند " (7) أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً سميناً ، فجعل يومئُ بيده إلى بطنه ويقول : ( لو كان هذا في غير هذا ، لكان خيراً لك ) .
__________
(1) في " جامعه " ( 2472 ) ، وقال : ( حسن صحيح ) .
(2) في " سننه " ( 151 ) .
(3) في " سننه " ( 4149 ) ، وإسناده ضعيف .
(4) في " سننه " ( 4150 ) ، وفي إسناده مقال من أجل سويد بن سعيد ، وفي القلب من المتن .
(5) مريم : 59 - 60 .
(6) أخرجه : البخاري 3/224 ( 2651 ) و5/2 – 3 ( 3650 ) و8/113 ( 6428 ) و8/176 ( 6695 ) ، ومسلم 7/185 ( 2535 ) ( 214 ) من حديث عمران بن حصين .
(7) مسند الإمام أحمد 3/471 و4/339 ، وإسناده ضعيف لجهالة أبي إسرائيل الجشمي فقد تفرد بالرواية عنه شعبة .

وفي " المسند " (1) عن أبي برزة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم شهواتُ الغي في بطونكم وفروجكم ، ومُضلات الهوى ) .
وفي " مسند البزار " وغيره (2) عن فاطمة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( شرارُ أمتي الذين غذوا بالنَّعيم يأكلون ألوان الطعام ، ويلبسون ألوان الثياب ، ويتشدّقون في الكلام ) .
وخرَّج الترمذي (3) وابن ماجه (4) من حديث ابن عمر ، قال : تجشأ (5) رجلٌ عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ( كفّ عنا جُشاءك ، فإنَّ أكثرهم شبعاً في الدنيا أطولُهم جوعاً يوم القيامة ) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 4/420 و423 ، وإسناده منقطع .
(2) لم أقف عليه في " مسند البزار " من حديث فاطمة ، وأورده من حديث أبي هريرة برقم
( 3616 ) ، وأما حديث فاطمة فأخرجه : ابن أبي الدنيا في " ذم الغيبة " ( 10 ) وفي
" الصمت " ، له ( 15 ) ، وابن عدي في " الكامل " 7/4 .
(3) في " جامعه " ( 2478 ) ، وقال : ( حسن غريب ) على أن سند الحديث مسلسل بالضعفاء : محمد بن حميد الرازي ضعيف ، وشيخه عبد العزيز بن عبد الله القرشي منكر الحديث ، وشيخه يحيى البكاء ضعيف ، لذا قال أبو زرعة كما في " علل ابن أبي حاتم " ( 1910 )
: ( هذا حديث منكر ) .
(4) في " سننه " ( 3350 ) .
(5) التجشؤ : تنفس المعدة عند الامتلاء . لسان العرب 2/285 ( جشأ ) .

وخرَّجه ابنُ ماجه (1) من حديث سلمان أيضاً بنحوه ، وخرَّجه الحاكم (2)
من حديث أبي جُحيفة وفي أسانيدها كلِّها مقال .
وروى يحيى بنُ منده في كتاب " مناقب الإمام أحمد " بإسنادٍ له عن الإمامِ أحمد أنَّه سئل عن قولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( ثُلث للطَّعام ، وثُلثٌ للشراب ، وثلث للنفس ) فقال : ثلث للطعام : هو القُوتُ ، وثلث للشراب : هو القوى ، وثلث للنفس : هو الروح ، والله أعلم .
__________
(1) في " سننه " ( 3351 ) ، في إسناده سعيد بن محمد الثقفي ضعيف ، وعطية بن عامر الجهني مجهول .
(2) في " المستدرك " 4/121 ، وصححه على طريقته في التساهل فرده الذهبي في " التلخيص " فقال : ( فيه فهد بن عون كذاب ، وعمر ( وهو ابن موسى ) هالك ) ، ومن قبل رد المنذري في " الترغيب والترهيب " 3/137 على الحاكم فقال : ( بل واه جداً ، فيه فهد بن عون وعمر بن موسى ) .

الحديث الثامن والأربعون
عَنْ عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قالَ : ( أَربعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنافِقاً ، وإنْ كَانَتْ خَصلةٌ مِنهُنَّ فِيهِ كَانَتْ فِيهِ خَصلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حتَّى يَدَعَها : مَنْ إذا حَدَّثَ كَذَبَ ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وإذا خَاصم فَجَر ، وإذا عَاهَد غَدَرَ ) خرَّجه البُخاريُّ (1) ومُسلمٌ (2) .
هذا الحديث خرَّجاه في " الصحيحين " من رواية الأعمش ، عن عبد الله بن مُرَّةَ ، عن مسروق ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وخرَّجا في " الصحيحين " (3) أيضاً من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( آيةُ المنافق ثلاثٌ : إذا حدَّث كَذَبَ ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتُمِن خَانَ ) . وفي رواية لمسلم (4) : ( وإن صام وصلَّى وزَعَمَ أنَّه مُسلمٌ ) وفي رواية له أيضاً (5) : ( من علامات المنافق ثلاثة ) . وقد رُوي هذا عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أخر .
__________
(1) في " صحيحه " 1/15 ( 34 ) و3/172 ( 2459 ) و4/124 ( 3178 ) .
(2) في " صحيحه " 1/56 ( 8 ) ( 106 ) .
(3) صحيح البخاري 1/15 ( 33 )، وصحيح مسلم 1/56 ( 59 ) ( 107 ) عن أبي هريرة،به.
(4) في " صحيحه " 1/56 ( 59 ) ( 109 ) عن أبي هريرة ، به .
(5) مسلم في " صحيحه " 1/56 ( 59 ) ( 108 ) عن أبي هريرة ، به .

وهذا الحديث قد حمله طائفةٌ ممَّن يميل إلى الإرجاء على المنافقين الذين كانوا على عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فإنَّهم حدَّثوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فكذَّبوه ، وائتمنهم على سرِّه فخانوه ، ووعدُوه أن يخرُجوا معه في الغزو فأخلفوه ، وقد روى محمَّدٌ المُحْرِمُ هذا التأويلَ عن عطاءٍ ، وأنَّه قال : حدثني به جابرٌ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر أنَّ الحسنَ رجع إلى
قول عطاء هذا لما بلغه عنه (1) . وهذا كذب ، والمحرم شيخ كذابٌ معروف
بالكذب (2) .
وقد رُوي عن عطاء من وجهين آخرين ضعيفين أنَّه أنكر على الحسن قوله : ثلاثٌ من كنَّ فيه ، فهو منافق ، وقال : قد حدَّث إخوةُ يوسف فكذبوا ، ووعدوا فأخلفوا ، وائتمنوا فخانوا ولم يكونوا منافقين (3) ، وهذا لا يصح عن عطاء ، والحسن لم يقل هذا من عنده وإنَّما بلغه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - . فالحديث ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - لا شكَّ في ثبوته وصحته والذي فسره به أهلُ العلم المعتبرون أنَّ النفاقَ في اللغة هو من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير ، وإبطان خلافه ، وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين :
__________
(1) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 7/323 - 324 .
(2) قال عنه البخاري : منكر الحديث ، وقال عنه يحيى بن معين : ليس بشيء . انظر : التاريخ الكبير للبخاري 1/248 ترجمة ( 790 ) ، والكامل لابن عدي 7/322 .
(3) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 7/323 – 324 .
وأخرجه : أبو نعيم في " صفة النفاق ونعت المنافقين " ( 56 ) .

أحدهما : النفاقُ الأكبرُ ، وهو أنْ يظهر الإنسانُ الإيمانَ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ويُبطن ما يُناقض ذلك كلَّه أو بعضه ، وهذا هو النِّفاق الذي كان على عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ونزل القرآن بذمِّ أهله وتكفيرهم ، وأخبر أنَّ أهله في الدَّرْكِ الأسفل من النار (1) .
والثاني : النفاق الأصغر ، وهو نفاق العمل (2) ، وهو أنْ يُظهر الإنسانُ علانيةً
صالحةً ، ويُبطن ما يُخالف ذلك .
وأصولُ هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث ، وهي خمسة :
أحدها : أن يُحدِّث بحديث لمن يصدِّقه به وهو كاذب له ، وفي " المسند " (3) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كَبُرَت خيانةً أنْ تحدِّث أخاك حديثاً هو لك مصدِّقٌّ ، وأنت به كاذب ) .
قال الحسنُ : كان يقال : النفاقُ اختلاف السِّرِّ والعلانية ، والقول
والعمل ، والمدخل والمخرج ، وكان يقالُ : أُسُّ النفاق الذي بني عليه النفاق
الكذبُ (4) .
__________
(1) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/256 – 257 عقيب ( 59 ) ، وفتح الباري 1/123 عقيب ( 34 ) .
(2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/256 عقيب ( 59 ) .
(3) مسند الإمام أحمد 4/183 .
وأخرجه : هناد في " الزهد " ( 1384 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 495 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/99 ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 4820 ) عن النواس بن سمعان ، به ، وإسناده ضعيف جداً من أجل عمر بن هارون بن يزيد بن جابر البلخي - وقد تابعه عليه الوليد بن مسلم ، وهو وإن كان ثقة إلاّ أنه يدلس تدليس التسوية ، وقد عنعنه فلا يفرح بهذه المتابعة ، فقد يكون سمعه من عمر بن هارون ثم دلسه عنه ، لاسيما وقد قال أبو نعيم : ( تفرد به عمر بن هارون ) .
(4) أخرجه : الفريابي في " صفة المنافق " ( 50 ) ، وأبو نعيم في " صفة النفاق ونعت المنافقين "
( 128 ) و( 129 ) .

الثاني : إذا وَعَدَ أخلف ، وهو على نوعين :
أحدُهُما : أنْ يَعِدَ ومِنْ نيته أنْ لا يفي بوعده ، وهذا أشرُّ الخلف ، ولو قال : أفعل كذا إنْ شاء الله تعالى ومن نيته أنْ لا يفعل ، كان كذباً وخُلفاً ، قاله الأوزاعيُّ .
الثاني : أنْ يَعِدَ ومن نيته أنْ يفي ، ثم يبدو له ، فيُخلِفُ من غير عذرٍ له في
الخلف .
وخرَّج أبو داود (1) ، والترمذي (2) من حديث زيد بنِ أرقم ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إذا وعَد الرَّجُلُ ونَوى أنْ يفي به ، فلم يَفِ ، فلا جُناحَ عليه ) . وقال الترمذي (3) : ليس إسنادُه بالقوي .
وخرّجه الإسماعيلي وغيره من حديث سلمان أنَّ علياً لقي أبا بكر وعمر ،
فقال : ما لي أراكما ثقيلين ؟ قالا : حديثٌ سمعناه من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذكر خلالَ المنافق :
( إذا وَعَدَ أخلَفَ ، وإذا حَدَّثَ كَذَب ، وإذا اؤتُمِنَ خَانَ ) فأيُّنا ينجو من هذه
الخصالِ ؟ فدخل عليٌّ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر ذلك له ، فقال : ( قد حدَّثتهما ، ولم
أضعه على الموضع الذي تضعونَه ، ولكن المنافق إذا حدَّث وهو يحدِّث نفسه أنْ
يكذبَ ، وإذا وَعَدَ وهو يحدِّث نفسه أنْ يُخلِفَ ، وإذا اؤتمِنَ وهو يُحدث نفسه أنْ
يخونَ ) (4) .
وقال أبو حاتم الرازي (5) في هذا الحديث من رواية سلمان وزيد بن أرقم : الحديثان مضطربان وفي الإسنادين مجهولان. وقال الدارقطني (6) : الحديث غير ثابت ، والله أعلم .
__________
(1) برقم ( 4995 ) .
(2) في " جامعه " ( 2633 ) .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 5080 ) ، والبيهقي 10/198 .
(3) في " جامعه " عقيب ( 2633 ) .
(4) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 6186 ) ، وفي إسناده مجهولان ، وانظر : مجمع الزوائد 1/108 .
(5) في " العلل " 3/72 – 73 عقيب ( 2321 ) .
(6) في " العلل " 1/186 عقيب ( 11 ) .

وخرَّج الطبراني (1) والإسماعيلي من حديث عليٍّ مرفوعاً : ( العِدَةُ دَينٌ ، ويلٌ
لمن وعد ثم أخلف ) قالها ثلاثاً ، وفي إسناده جهالة ، ويُروى من حديث ابن مسعود ، قال : لا يَعِدْ أحدكُم صَبِيَّه ، ثم لا يُنجِزُ له ، فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( العِدَةُ
عطية ) (2) وفي إسناده نظر ، وأوَّله صحيح عن ابن مسعود من قوله .
وفي مراسيل الحسن عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( العِدَةُ هِبَةٌ ) (3) . وفي " سنن أبي داود" (4) عن مولى لِعبد الله بن عامر بن ربيعة، عن عبدِ الله بن عامر بن ربيعة ، قال : جاء النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بيتنا وأنا صبيٌّ ، فخرجتُ لألعب ، فقالت أمي : يا عبد الله تعالَ أُعطِك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أردتِ أن تعطيه ؟ ) قلت : أردت أن أعطيه تمراً ، فقال : ( أما إنْ لم تفعلي كُتبت عليك كذبة ) . وفي إسناده من لا يُعرف .
وذكر الزهريُّ عن أبي هُريرة ، قال : من قال لِصبيٍّ : تَعَالَ هاك تمراً ، ثم لا يُعطيه شيئاً فهي كذبة (5) .
__________
(1) في " الأوسط " ( 3513 ) و( 3514 ) عن علي وعبد الله بن مسعود ، به .
(2) أخرجه : أبو الشيخ في " الأمثال " ( 249 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/259 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 6 ) عن عبد الله بن مسعود ، به ، وإسناده ضعيف بقية بن الوليد يدلس تدليس التسوية ، وعقد عنعن .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 455 ) بنحوه ، وهو ضعيف لإرساله .
(4) برقم ( 4991 ) .
وأخرجه : أحمد 3/447 ، والنسائي 6/124 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4822 ) وإسناده ضعيف لإبهام مولى عبد الله بن عامر .
(5) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 375 ) عن أبي هريرة موقوفاً .
وأخرجه : أحمد 2/452 ، وابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 150 ) عن أبي هريرة مرفوعاً .

وقد اختلف العلماء في وجوب الوفاء بالوعدِ ، فمنهم من أوجبه مطلقاً ، وذكر البخاري في "صحيحه" (1) أنَّ ابن أشوع قضى بالوعد ، وهو قولُ طائفة من أهل الظاهر وغيرهم ، منهم من أوجب الوفاء به إذا اقتضى تغريماً للموعود ، وهو المحكيُّ عن مالك ، وكثيرٌ من الفقهاء لا يوجبونه مطلقاً .
والثالث : إذا خاصم فجر ويعني بالفجور أنْ يخرج عن الحقِّ عمداً حتى يصير الحقُّ باطلاً والباطلُ حقاً ، وهذا مما يدعو إليه الكذبُ (2) ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إيَّاكم والكَذِبَ ، فإنَّ الكذِبَ يهدي إلى الفُجور ، وإنَّ الفجور يهدي إلى النارِ ) (3) .
وفي " الصحيحين " (4) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ أبغضَ الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِمُ ) .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّكم لتَختَصمون إليَّ ولعلَّ بعضَكُم أنْ يكونَ ألحنَ بحُجَّته من بعض ، وإنَّما أقضي على نحو مما أَسْمَعُ ، فمن قضيتُ له بشيءٍ من حقِّ أخيه ، فلا يأْخُذْهُ ، فإنَّما أقطع له قِطعةً مِنَ النَّار ) (5) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ مِنَ البيانِ سِحراً ) (6) .
__________
(1) في باب من أمر بإيجاز الوعد . انظر : صحيح البخاري 3/236 عقيب ( 2680 ) .
(2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/257 عقيب ( 59 ) .
(3) أخرجه : البخاري 8/30 ( 6094 ) ، ومسلم 8/29 ( 2607 ) ( 103 ) و( 104 )
و( 105 ) عن عبد الله بن مسعود ، به .
(4) صحيح البخاري 3/171 ( 2457 ) ، وصحيح مسلم 8/57 ( 2668 )
( 5 ) عن عائشة ، به .
(5) أخرجه : البخاري 3/235 ( 2680 ) ، ومسلم 5/128 – 129 ( 1713 ) ( 4 ) عن أمِّ سَلَمة ، به .
(6) أخرجه : البخاري 7/178 ( 5767 ) عن عبد الله بن عمر ، به ، وأخرجه : مسلم 3/12 ( 869 ) ( 47 ) عن عمار بن ياسر ، به .

فإذا كان الرجلُ ذا قدرةٍ عند الخصومة - سواء كانت خصومتُه في الدِّين أو في الدنيا - على أنْ ينتصر للباطل ، ويُخيل للسَّامع أنَّه حقٌّ ، ويوهن الحقَّ ، ويخرجه في صورة الباطل ، كان ذلك مِنْ أقبحِ المحرَّمات ، ومن أخبث خصال النفاق ، وفي
" سنن أبي داود " (1) عن ابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ خَاصَمَ في باطلٍ وهو يعلَمُهُ لم يَزَلْ في سَخَطِ الله حتى يَنزِعَ ) .
وفي رواية له (2) أيضاً : ( ومَنْ أعانَ على خصومةٍ بظلم ، فقد باء بغضب من الله ) .
الرابع : إذا عاهد غدر ، ولم يفِ بالعهد ، وقد أمر الله بالوفاء بالعهد ، فقال : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } (3) ، وقال : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } (4) ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ } (5) .
__________
(1) برقم ( 3597 ) ، وإسناده لا بأس به .
(2) برقم ( 3598) .
وأخرجه : ابن ماجه ( 2320 ) ، والحاكم 4/99 ، وإسناده لا بأس به في المتابعات .
(3) الإسراء : 34 .
(4) النحل : 91 .
(5) آل عمران : 77 .

وفي " الصحيحين "(1) عن ابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لِكُلِّ غادرٍ لواءٌ يومَ القيامَةِ يُعرف به ) ، وفي رواية : ( إنَّ الغادرَ يُنصبُ له لواءٌ يومَ القيامة ، فيقال : ألا هذه غَدرةُ فلان ) (2)، وخرَّجاه (3) أيضاً من حديث أنس بمعناه .
وخرَّج مسلم (4) من حديث أبي سعيدٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لِكلِّ غادرٍ لواء عندَ استه يومَ القِيامة ) .
والغدرُ حرامٌ في كلِّ عهدٍ بين المسلم وغيره ، ولو كان المعاهَدُ كافراً ، ولهذا في حديث عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ قَتلَ نفساً مُعاهداً بغير حقها لم يَرَحْ(5) رائحةَ الجنة، وإنَّ ريحها ليوجَدُ من مسيرة أربعين عاماً ) خرّجه البخاري (6).
وقد أمر الله تعالى في كتابه بالوفاء بعهود المشركين إذا أقاموا على عهودهم ولم ينقُضوا منها شيئاً .
وأما عهودُ المسلمين فيما بينهم ، فالوفاء بها أشدُّ ، ونقضُها أعظم إثماً .
__________
(1) صحيح البخاري 4/127 ( 3188 ) و9/32 ( 6966 ) و9/72 ( 7111 ) ، وصحيح مسلم 5/142 ( 1735 ) ( 11 ) .
(2) أخرجه : البخاري 8/51 ( 6177 ) و( 6178 ) ، ومسلم 5/142 ( 1735 ) ( 10 ) .
(3) البخاري 4/124 ( 3186 ) و( 3187 ) ، ومسلم 5/142 ( 1737 ) ( 14 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(4) في " صحيحه " 5/142 ( 1738 ) ( 15 ) .
(5) قال ابن حجر في " الفتح " عقيب ( 3166 ) : ( يرح : بفتح الياء والراء ، وأصله يراح أي وجد الريح ، وحكى ابن التبن ضم أوله وكسر الراء ، قال : والأول أجود ، وعليه الأكثر ، وحكى ابن الجوزي ثالثة وهو فتح أوله وكسر ثانيه من راح يريح ) .
(6) في " صحيحه " 4/120 ( 3166 ) و9/16 ( 6914 ) .
ولفظ البخاري لم يذكر فيه ( بغير حقها ) .

ومِنْ أعظمها : نقضُ عَهدِ الإمام على مَنْ بايعه ، ورضِيَ به ، وفي
" الصحيحين " (1) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهُم الله يومَ القيامةِ ولا يُزكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ ، فذكر منهم : ورجلٌ بايع إماماً لا يُبايعه إلاَّ لدنيا ، فإنْ أعطاه ما يريد ، وفَّى له ، وإلا لم يفِ له ) .
ويدخل في العُهود التي يجب الوفاءُ بها ، ويحرم الغَدْرُ فيها : جميعُ عقود المسلمين فيما بينهم ، إذا تَرَاضَوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب الوفاءُ بها (2) ، وكذلك ما يجبُ الوفاء به لله - عز وجل - ممَّا يعاهدُ العبدُ ربَّه عليه من نذرِ التَّبرُّرِ ونحوه .
__________
(1) صحيح البخاري 3/233 ( 2672 ) ، وصحيح مسلم 1/72 ( 108 ) ( 173 ) .
وأخرجه : أبو داود ( 3474 ) ، وابن ماجه ( 2207 ) و( 2870 ) ، والترمذي
( 1595 ) ، والنسائي 7/246 - 247 .
(2) المقصود بالمبايعات والمناكحات والعقود التي توجب الوفاء هي التي على شرعة الله ومنهاجه لا التي على خلاف ذلك ، وفي ذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من اشترط شرطاً ليس في كتاب فهو باطل شرط الله أحق وأوثق ) .
أخرجه : البخاري 3/198 ( 2560 ) ، ومسلم 4/213 ( 1504 ) ( 7 ) .

الخامس : الخيانةُ في الأمانة ، فإذا اؤتمِنَ الرجلُ أمانةً ، فالواجبُ عليه أنْ يُؤدِّيها ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } (1) ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أدِّ الأمانة إلى من ائتَمَنَكَ ) (2) ، وقال في خطبته في حجة الوداع : ( مَنْ كانَت عندَه أمانةٌ ، فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها ) (3) وقال - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (4) فالخيانة في الأمانة من خصال النفاق .
__________
(1) النساء : 58 .
(2) أخرجه : الدارمي ( 2597 ) ، وأبو داود ( 3535 ) ، والترمذي ( 1264 ) ، والدارقطني 3/35 ( 2913 ) ، والحاكم 2/46 ، والبيهقي 10/271 وفي " شعب الإيمان " ، له
( 5252 ) من حديث أبي هريرة ، به ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) ؛ لكن شيخه البخاري جعل هذا الحديث من منكرات طلق بن غنام كما في " التاريخ الكبير " 4/ الترجمة
( 3142 ) ، وكذا قال أبو حاتم الرازي كما في " العلل " لابنه ( 1114 ) ، وللحديث طرق أخرى ضعيفة .
(3) أخرجه : أحمد 5/73 عن عمِّ أبي حُرَّة الرَّقاشي ، به مطولاً ، وإسناده ضعيف لضعف علي ابن زيد بن جدعان .
(4) الأنفال : 27 .

وفي حديث ابن مسعودٍ من قوله ، وروي مرفوعاً : ( القتلُ في سبيل الله يُكفِّر كلَّ ذنب إلا الأمانة، يُؤتى بصاحب الأمانةِ فيقال له: أدِّ أَمانتكَ، فيقول: أنّى يا ربِّ وقد ذهبتِ الدُّنيا ؟ فيقالُ: اذهبوا به إلى الهاوية، فيهوي فيها حتَّى ينتهيَ إلى قعرها ، فيَجِدُها هناك كهيئتها، فيحمِلُها، فيضعها على عنقه فيَصْعَدُ بها في نار جهنم حتّى إذا رأى أنَّه قد خرج منها ، زلَّت فهوت ، وهو في إثرها أبد الآبدين ) قال : والأمانة في الصلاة ، والأمانة في الصوم ، والأمانة في الحديث ، وأشدُّ ذلك الودائع (1) .
__________
(1) الرواية الموقوفة : أخرجها : ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 5512 ) ، والبيهقي 6/288 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 5266 ) ، وطبعة الرشد ( 4885 ) .
والرواية المرفوعة : أخرجها : ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 5513 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 10527 ) .

وقد روي عن محمد بن كعب القرظي أنَّه استنبط ما في هذا الحديث - أعني حديث : ( آية المنافق ثلاث ) (1) - من القرآن ، فقال : مصداق ذلك في كتاب الله تعالى : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ } إلى قوله :
{ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } (2) ، وقال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ } إلى قوله : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ } (3)، وقال: { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ } إلى قوله: { لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ } (4) ورُوي عن ابن مسعود نحوُ هذا الكلام ، ثم تلا قوله : { فَأَعْقَبَهُمْ
نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ } (5) الآية .
وحاصلُ الأمرِ أنَّ النفاق الأصغر كُلَّه يرجِع إلى اختلاف السريرة والعلانية قاله الحسن (6) ، وقال الحسن أيضاً : من النفاق اختلافُ القلب واللسان ، واختلاف السِّرِّ والعلانية ، واختلاف الدخول والخروج (7) .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) المنافقون : 1 .
(3) التوبة : 75 - 77 .
(4) الأحزاب : 72 - 73 .
(5) التوبة : 77 .
وكلام عبد الله بن مسعود أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 9075 ) ، وانظر : مجمع الزوائد 1/108 ، والدر المنثور 3/468 .
(6) أخرجه : أبو نعيم في " صفة النفاق ونعت المنافقين " ( 128 ) بنحوه .
(7) أخرجه : الفريابي في " صفة المنافق " ( 49 ) ، وابن بطة في " الإبانة " ( 910 ) ، وأبو نعيم في " صفة النفاق ونعت المنافقين " ( 128 ) .

وقال طائفة من السَّلف : خشوعُ النفاق أنْ ترى الجسدَ خاشعاً ، والقلب ليس بخاشع ، وقد رُوي معنى ذلك عن عمر ، وروي عنه أنَّه قال على المنبر : إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم المنافقُ العليم ، قالوا : كيف يكون المنافق عليماً ؟ قال : يتكلم بالحكمةِ ، ويعمل بالجور (1) ، أو قال : المنكر . وسُئل حذيفة عن المنافق ، فقال : الذي يصف الإيمان ولا يعمل به (2) .
وفي " صحيح البخاري " (3) عن ابن عمر أنَّه قيل له : إنا نَدخُلُ على سلطاننا ، فنقول لهم بخلاف ما نتكلَّمُ إذا خرجنا من عندهم ، قال : كُنَّا نعدُّ هذا نفاقاً .
وفي " المسند " (4) عن حُذيفة ، قال : إنَّكم لتكلِّمون كلاماً إنْ كُنّا لنعدُّه
على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النفاقَ ، وفي رواية (5) قال : إنْ كان الرجلُ ليتكلَّمُ بالكلمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيصير بها منافقاً ، وإنِّي لأسمعها من أحدِكم في اليوم في المجلس عشر مرارٍ .
قال بلالُ بنُ سعد : المنافق يقولُ ما يَعرِفُ ، ويعمل ما يُنكِرُ .
ومن هنا كان الصحابة يخافون النفاقَ على أنفسهم ، وكان عمرُ يسأل حُذيفة عن نفسه .
__________
(1) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 685 ) عن عمر بن الخطاب موقوفاً .
(2) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 682 ) ، وابن بطة في " الإبانة " ( 914 )
و( 928 ) .
(3) 9/89 ( 7178 ) .
(4) مسند الإمام أحمد 5/384 ، وهو أثر قويٌّ بطرقه .
(5) أخرجها : أحمد 5/386 .
وأخرجه : ابن بطة في " الإبانة " ( 915 ) ، وأبو نعيم في " صفة النفاق ونعت المنافقين "
( 118 ) ، وهو أثر قويٌّ بطرقه .

وسئل أبو رجاء العطاردي : هل أدركتَ من أدركتَ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخشون النفاقَ ؟ فقال : نَعَمْ إني أدركتُ منهم بحمد الله صدراً حسناً ، نعم شديداً ، نعم شديداً (1) .
وقال البخاري في " صحيحه " (2) : وقال ابنُ أبي مُليكة : أدركتُ ثلاثين من أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهم يخافُ النفاقَ على نفسه .

ويُذكر عن الحسن قال : ما خافه إلاَّ مؤمِنٌ ، ولا أمنه إلا منافق (3) . انتهى .
وروي عن الحسن أنَّه حَلَفَ : ما مضى مؤمِنٌ قطُّ ولا بقي إلا وهو من النفاق مُشفِق ، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن . وكان يقول : من لم يخفِ النفاق ، فهو منافق (4) .
وسَمِعَ رجل أبا الدرداء يتعوَّذُ من النفاق في صلاته ، فلما سلَّم ، قال له : ما شأنك وشأنُ النفاق ؟ فقال : اللهمَّ غفراً – ثلاثاً – لا تأمن البلاءَ ، واللهِ إنَّ الرجل ليُفتَنُ في ساعةٍ واحدة ، فينقلِبُ عن دينه (5). والآثار عن السَّلف في هذا كثيرة جداً . قال سفيان الثوري : خلافُ ما بيننا وبين المرجئة ثلاث ، فذكر منها قال : نحن نقول : النفاق ، وهم يقولون : لا نفاق(6) .
__________
(1) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 686 ) ، والفريابي في " صفة المنافق " ( 81 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/307 .
(2) ذكره البخاري 1/19 معلقاً ، وأخرجه في " التأريخ الكبير " 5/43 ( 6482 ) موصولاً .
(3) ذكره البخاري 1/19 معلقاً ، وأخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 859 ) موصولاً .
(4) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 687 ) ، والفريابي في " صفة المنافق " ( 87 ) .
(5) أخرجه : الفريابي في " صفة المنافق " ( 73 ) و( 74 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 857 ) .
(6) أخرجه : الفريابي في " صفة المنافق " ( 93 ) ، ومن طريقه الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 11/162 .

وقال الأوزاعي : قد خاف عمر النفاقَ على نفسه ، قيل له : إنَّهم يقولون :
إنَّ عمر لم يَخَفْ أنْ يكونَ يومئذ منافقاً حتى سأل حُذيفة ، ولكن خاف أنْ يُبتلى
بذلك قبل أنْ يموت ، قال : هذا قولُ أهل البدع ، يشير إلى أنَّ عمر كان يخاف
النفاقَ على نفسه (1) في الحال ، والظَّاهر أنَّه أراد أنَّ عمر كان يخاف على نفسه في الحال من النفاق الأصغر ، والنفاق الأصغر وسيلةٌ وذريعةٌ إلى النفاق الأكبر ، كما أنَّ المعاصي بريدُ الكفر ، فكما يخشى على من أصرَّ على المعصية أنْ يُسلَبَ الإيمانَ عندَ
الموت ، كذلك يخشى على مَنْ أصرَّ على خصالِ النفاق أنْ يُسلَبَ الإيمانَ ، فيصير
منافقاً خالصاً .
وسُئِلَ الإمامُ أحمد : ما تقولُ فيمن لا يخاف على نفسه النفاق ؟ فقال : ومن يأمنُ على نفسه النفاق ؟ وكان الحسن يُسمي من ظهرت منه أوصافُ النفاق العملي منافقاً ، وروي نحوه عن حذيفة .
وقال الشعبي : من كذب ، فهو منافق (2) ، وحكى محمد بن نصر المروزي هذا القول عن فرقةٍ من أهل الحديث ، وقد سبق في أوائل الكتاب ذكرُ الاختلاف عن الإمام أحمد وغيره في مرتكب الكبائر : هل يسمي كافراً كفراً لا يَنقلُ عن الملة أم لا ؟ واسمُ الكفر أعظم من اسم النفاق ، ولعلَّ هذا هوَ الذي أنكره عطاءٌ عن الحسن إن صحَّ ذلك عنه (3) .
__________
(1) سأل أبان الحسن فقال: هل تخاف النفاق قال : وما يؤمنني وقد خاف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .
وأخرجه : الفريابي في " صفة المنافق " ( 84 ) .
وقال معاوية بن قرة : أن لا أكون فيّ نفاق أحب إليّ من الدنيا وما فيها كان عمر - رضي الله عنه - يخشاه وآمنه أنا .
أخرجه : الفريابي في " صفة المنافق " ( 86 ) .
(2) أخرجه : الفريابي في " صفة المنافق " ( 22 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4892 ) .
(3) سبق بيانه .

ومِنْ أعظم خِصال النفاق العملي : أنْ يعملَ الإنسان عملاً ، ويُظهرَ أنَّه قصد به الخيرَ ، وإنَّما عمله ليتوصَّل به إلى غرض له سيِّئٍ ، فيتمّ له ذلك ، ويتوصَّل بهذه الخديعةِ إلى غرضه ، ويفرح بمكره وخِداعه وحَمْدِ النَّاس له على ما أظهره ، وتوصل به إلى غرضه السيِّئِ الذي أبطنه ، وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود ، فحكى عن المنافقين أنَّهم : { اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } (1) ، وأنزل في اليهود : { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (2) وهذه الآية نزلت في اليهود ، سألهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ فكتموه ، وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أنَّهم قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك، وفرِحُوا بما أُوتوا من كتمانهم وما سُئِلوا عنه ، قال ذلك ابن عباس ، وحديثُه مخرج في " الصحيحين " (3) .
وفيهما (4)
__________
(1) التوبة : 107 .
(2) آل عمران : 188 .
(3) صحيح البخاري 6/50 ( 4568 ) ، وصحيح مسلم 8/122 ( 2778 ) ( 8 ) .
وأخرجه : الترمذي ( 3014 ) ، والنسائي في " تفسيره " ( 106 ) ، والطبري في " تفسيره "
( 6653 ) ، والواحدي في " أسباب النزول " ( 157 ) بتحقيقي ، من حديث عبد الله بن عباس ، به .
(4) صحيح البخاري 6/50 ( 4567 ) ، وصحيح مسلم 8/121 ( 7 ) .

وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 6643 ) ، والواحدي في " أسباب النزول " ( 156 ) بتحقيقي ، من حديث أبي سعيد الخدري ، به .

أيضاً عن أبي سعيد أنَّها نزلت في رجال من المنافقين كانوا إذا خرج النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو تخلَّفوا عنه ، وفَرِحُوا بمقعدهم خلافَه فإذا قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الغزو ، اعتذروا إليه ، وحلفوا ، وأحبُّوا أنْ يُحمدوا بما لم يفعلوا .
وفي حديث ابن مسعود ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ غَشَّنا ، فَلَيسَ مِنّا ، والمّكْرُ والخّديعةُ في النَّارِ ) (1) .
وقد وصف الله المنافقين بالمخادعة ، وأحسن أبو العتاهية في قوله (2) :
لَيسَ دُنيا إلاّ بدينٍ وليسَ الدِّ

ينُ إلاَّ مكارمَ الأخلاقِ

إنَّما المكر والخديعةُ في النَّا

رِ هُما مِنْ خِصالِ أَهْلِ النِّفاق
__________
(1) أخرجه : ابن حبان ( 5559 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 10234 ) وفي " الصغير " ، له
( 725 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/188 - 189 ، والقضاعي في " مسند الشهاب "
( 253 ) و( 254 ) ، وهو حديث قويٌّ بطرقه .
(2) انظر : مكارم الأخلاق لأبي بكر القرشي : 30 ، والتمهيد لابن عبد البر 24/334 .

ولما تقرَّر عند الصحابة - رضي الله عنهم - أنَّ النفاق هو اختلافُ السرِّ والعلانية خشي
بعضهم على نفسه أنْ يكونَ إذا تغير عليه حضورُ قلبه ورقتُه وخشوعه عندَ سماع
الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أنْ يكونَ ذلك منه نفاقاً ، كما في " صحيح مسلم " (1) عن حنظلة الأسيدي (2) أنَّه مرَّ بأبي بكر وهو يبكي ، فقال : ما لك ؟ قالَ : نافق حنظلةُ يا أبا بكر ، نكون عندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُذكِّرُنا بالجنة والنار كأنّا رأيُ عين ، فإذا رجعنا ، عافَسنا (3) الأزواج والضيعة (4) فنسينا كثيراً ، قالَ أبو بكر : فوالله إنّا لكذلك ، فانطلقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالَ : ( ما لك يا حَنْظَلة ؟ ) قال : نافق حنظلة يا رسولَ الله ، وذكر له مثلَ ما قال لأبي بكر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو تَدُومونَ على الحال التي تقومون بها من
عندي ، لصَافَحَتكُم الملائكة في مجالسكم وفي طُرُقِكم ، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً ) .
__________
(1) 8/94 ( 2750 ) ( 12 ) .
(2) هو حنظلة بن الربيع بن صيفي بن رياح بن معاوية بن مجاشع ، ويقال : مُخاشِن بن معاوية ابن شُرَيْف بن جَرْوة بن أسَيِّد بن عمرو بن تميم التميمي ، أبو رِبْعي الأُسَيِّديّ المعروف بحنظلة الكاتب . انظر : تهذيب الكمال 2/318 ( 1544 ) .
(3) عافس : هو بالفاء والسّين المهملة ، قال الهروي وغيره : معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به أي عالجنا معايشنا وحظوظنا .
... وروى الخطابي هذا الحرف ( عانسنا ) بالنون ، قال : ومعناه : لاعبنا ، ورواه ابن قتيبة بالشّين المعجمة قال : ومعناه عانقنا ، والأول هو المعروف ، وَهو أعم ، انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 9/59 عقيب ( 2750 ) .
(4) الضيعة : بالضاد المعجمة ، وهي معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة ، انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 9/59 عقيب ( 2750 ) .

وفي " مسند البزار " (1) عن أنس قال : قالوا : يا رسول الله ، إنا نكونُ عندك على حالٍ ، فإذا فارقناك كُنّا على غيره ، قال : ( كيف أنتم وربكم ؟ ) قالوا : الله
ربُّنا في السرِّ والعلانية ، قال : ( ليس ذاكم النفاق ) .
ورُوي من وجه آخر عن أنس (2) قال : غدا أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : هلكنا ، قال : ( وما ذاك ؟ ) قالوا : النفاق ، النفاق ، قال : ( ألستم تَشهدون أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً رسول الله ؟ ) قالوا : بلى ، قال : ( فلَيسَ ذلك بالنِّفاق ) ثم ذكر معنى حديث حنظلة كما تقدَّم .
__________
(1) كما في " كشف الأستار " ( 52 ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/332 ، وقال في " مجمع الزوائد " 1/32 : ( رجاله رجال الصحيح ) .
(2) هو حديث منكر كما قال الذهبي في " الميزان " 3/333 - 334 .

الحديث التاسع والأربعون
عَنْ عُمرَ بن الخطَّابِ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : ( لَو أَنَّكُم تَوكَّلُون على اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَما يَرزُقُ الطَّيرَ ، تَغدُو خِماصاً ، وتَروحُ بِطاناً ) رواهُ الإمام أحمدُ (1) والتِّرمذيُّ (2) والنَّسائيُّ (3) وابنُ ماجه (4) وابنُ حبَّان في " صحيحه " (5) والحاكِمُ (6) ، وقال التِّرمذيُّ : حَسَنٌ صَحيحٌ .
هذا الحديث خرَّجه هؤلاء كلهم من رواية عبد الله بن هُبيرة ، سمع أبا تميم الجيشاني ، سمع عمر بن الخطاب يُحدثه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو تميم وعبد الله بن هبيرة خرَّج لهما مسلم ، ووثقهما غيرُ واحد (7) ، وأبو تميم ولد في حياة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وهاجر إلى المدينة في زمن عمر - رضي الله عنه - (8) .
وقد رُوي هذا الحديثُ من حديث ابنِ عمر عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (9) ، ولكن في إسناده من لا يُعرف حاله . قاله أبو حاتم الرازي (10) .
__________
(1) في " مسنده " 1/30 و52 .
(2) في " جامعه " ( 2344 ) .
(3) كما في " تحفة الأشراف " 7/263 ( 10586 ) .
(4) في " سننه " ( 4164 ) .
(5) برقم ( 730 ) .
(6) في " المستدرك " 4/318 .
(7) أبو تميم ذكره ابن حبان في " الثقات " 5/49 وقال عنه يحيى بن معين : ( ثقة ) . انظر : تهذيب الكمال 4/256 ( 3502 ) .
وأبو هبيرة ذكره ابن حبان في " الثقات " 5/54 ووثقه أحمد بن حنبل ، انظر : تهذيب الكمال 4/310 ( 3616 ) .
(8) انظر : سير أعلام النبلاء 4/73 .
(9) أخرجه : أبو نعيم في " تأريخ أصبهان " 2/297 .
(10) قال عقب تخريج هذا الحديث : ( فيه سعيد بن إسحاق بن الحمار مجهول لا أعرفه ) . انظر : العلل 2/380 ( 1832 ) .

وهذا الحديثُ أصل(1) في التوكُّل ، وأنَّه من أعظم الأسباب التي يُستجلب بها الرزقُ ، قال الله - عز وجل - : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (2) ، وقد قرأ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية على أبي ذرٍّ ، وقال له : ( لو أنَّ الناسَ كُلَّهم أخَذوا بها لَكَفتهم ) (3) يعني : لو أنهم حقَّقوا التَّقوى والتوكل ؛ لاكتَفَوا بذلك في مصالح دينهم ودنياهم . وقد سبق الكلامُ على هذا المعنى في شرح حديثِ ابن عباس : ( احفَظِ اللهَ يَحفَظْكَ ) (4) .
قال بعضُ السلف : بِحَسبِكَ من التوسل إليه أن يَعلَمَ من قلبك حُسنَ توكُّلك
عليه ، فكم من عبدٍ من عباده قد فوَّضَ إليه أمره ، فكفاه منه ما أهمّه (5) ، ثم قرأ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } ، وحقيقة التوكّل : هو صدقُ اعتماد القلب على الله - عز وجل - في استجلاب المصالح ، ودفعِ المضارِّ من أمور الدنيا والآخرة كُلِّها ، وكِلَةُ الأمور كلّها إليه ، وتحقيق الإيمان بأنه لا يُعطي ولا يمنعُ ولا يَضرُّ ولا ينفع سواه .
قال سعيدُ بنُ جبير : التوكل جِماع الإيمان (6) .
وقال وهب بن مُنبِّه : الغاية القصوى التوكل (7) .
قال الحسن : إنَّ توكلَ العبد على ربِّه أنْ يعلمَ أن الله هو ثقته (8) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) الطلاق : 2 – 3 .
(3) أخرجه : أحمد 5/178 ، وابن ماجه ( 4220 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 11603 ) ، وفي إسناده انقطاع .
(4) سبق عند الحديث ( 19 ) .
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " التوكل " ( 5 ) .
(6) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 29589 ) و( 35342 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/274 .
(7) أخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 66/288 .
(8) أخرجه : ابن أبي الدنيا ( 18 ) .

وفي حديث ابنِ عباس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ سرَّه أنْ يكونَ أقوى الناس ، فليتوكل على الله ) (1) .
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يقول في دعائه : ( اللهم إنِّي أسألُك صدقَ
التوكُّل عليك ) (2) ، وأنَّه كان يقول : ( اللهمَّ اجعلني ممن توكَّل عليك
فكَفَيتَه ) (3) .
واعلم أنَّ تحقيق التوكل لا يُنافي السَّعي في الأسباب التي قدَّر الله سبحانه المقدورات بها ، وجرت سُنَّته في خلقه بذلك ، فإنَّ الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكُّل ، فالسَّعيُ في الأسباب بالجوارح طاعةٌ له ، والتوكُّلُ بالقلب عليه إيمانٌ به ، كما قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ } (4) ، وقال : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } (5) ، وقال : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ } (6) .
وقال سهل التُّستَرِي : من طعن في الحركة - يعني : في السعي
والكسب - فقد طعن في السُّنة ، ومن طعن في التوكل ، فقد طعن في الإيمان (7) ، فالتوكل حالُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، والكسب سنَّتُه ، فمن عمل على حاله ، فلا يتركنّ
سنته .
ثم إنَّ الأعمال التي يعملها العبدُ ثلاثةُ أقسام :
__________
(1) أخرجه : عبد بن حميد ( 675 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 367 ) ، وسنده ضعيف .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/224 ، عن الأوزاعي يرفعه ، ، وهو ضعيف لاعضاله .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " التوكل " ( 4 ) ، وذكره الديلمي في " مسند الفردوس " 1/472 ( 1924 ) من حديث أنس ، وسنده ضعيف جداً .
(4) النساء : 71 .
(5) الأنفال : 60 .
(6) الجمعة : 10 .
(7) أخرجه : أبو نعيم " حلية الأولياء " 10/195 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 1289 ) .

أحدُها : الطاعات التي أمر الله عباده بها ، وجعلها سبباً للنَّجاة مِنَ النَّار ودخولِ الجنَّة ، فهذا لابُدَّ من فعله مع التوكُّل على الله فيه ، والاستعانة به عليه ، فإنَّه لا حولَ ولا قُوَّة إلا به ، وما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فمن قصَّرَ في شيءٍ ممَّا وجب عليه من ذلك ، استحقَّ العقوبة في الدنيا والآخرة شرعاً وقدراً . قال يوسف بنُ أسباط : كان يُقال : اعمل عمل رجل لا يُنجيه إلا عملُه ، وتوكَّلْ توكُّلَ رجلٍ لا يُصيبه إلا ما كُتِبَ له (1) .
والثاني : ما أجرى الله العادة به في الدُّنيا ، وأمر عباده بتعاطيه ، كالأكلِ عندَ الجوعِ ، والشُّرب عندَ العطشِ ، والاستظلال من الحرِّ ، والتدفؤ من البرد ونحو ذلك ، فهذا أيضاً واجب على المرء تعاطي أسبابه ، ومن قَصَّر فيه حتى تضرَّر بتركه مع القُدرة على استعماله ، فهو مُفرِّطٌ يستحقُّ العقوبة ، لكن الله سبحانه قد يقوِّي بعضَ عباده من ذلك على مالا يَقوى عليه غيرُه ، فإذا عَمِلَ بمقتضى قوَّته التي اختص بها عن غيره ، فلا حرجَ عليه ، ولهذا كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُواصلُ في صيامه ، وينهى عَنْ ذلك أصحابه ، ويقول لهم : ( إنِّي لستُ كهيئتكم ، إني أُطْعَمُ وأُسقى ) (2) ، وفي رواية : ( إنِّي أظلُّ عند ربي يُطعمني ويسقيني ) (3) ، وفي رواية : ( إنَّ لي مُطْعِماً يُطعمني ، وساقياً يسقيني ) (4) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/239 - 240 .
(2) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 827 ) برواية الليثي ، والبخاري 2/37 ( 1922 ) ، ومسلم 3/133 ( 1102 ) ( 55 ) و( 56 ) ، وأبو داود ( 2360 ) من حديث ابن عمر .
(3) أخرجه : البخاري 3/48 ( 1961 ) و3/134 ( 1104 ) ( 60 ) ، والترمذي ( 778 ) من حديث أنس .
(4) أخرجه : البخاري 3/48 ( 1963 )، وأبو داود ( 2361 ) من حديث أبي سعيد الخدري .

والأظهر أنَّه أراد بذلك أنَّ الله يُقوِّيه ويُغذيه بما يُورده على قلبه من الفتوح
القدسية ، والمنحِ الإلهية ، والمعارف الربانية التي تُغنيه عن الطعام والشراب بُرهةً مِنَ
الدَّهر ، كما قال القائل (1) :
لها أَحاديثُ مِنْ ذِكراكَ تَشغَلُها

عَنِ الشَّرابِ وتُلهيهَا عَنِ الزَّادِ

لها بِوجْهِكَ نُورٌ تَستَضِيءُ به

وقْتَ المَسيرِ وفي أَعقابها حَادي

إذا اشتَكَتْ من كلالِ السَّيرِ أوْعَدها

رَوْحُ القدوم فتحيى عندَ مِيعادِ

فلا تجوع ولا تظمأ وما ضعفت
ولا تظل إذا كانت لها هادِ(2)

وقد كان كثيرٌ من السَّلف لهم مِن القُوَّة على ترك الطعام والشراب ما ليس
لغيرهم ، ولا يتضرَّرونَ بذلك . وكان ابنُ الزبير يُواصل ثمانية أيام (3) . وكان أبو الجوزاء يُواصل في صومه بين سبعة أيام ، ثم يَقبِضُ على ذراع الشاب فيكَادُ
يَحطِمُها (4) . وكان إبراهيم التيمي يمكث شهرين لا يأكلُ شيئاً غير أنَّه يشرب شربة حلوى (5) . وكان حجاج ابنُ فرافصة يبقي أكثر من عشرة أيام لا يأكل ولا يشرب ولا ينام (6) ، وكان بعضهم لا يُبالي بالحرِّ ولا بالبرد كما كان عليٌّ - رضي الله عنه - يلبس لباس الصَّيف في الشتاء ولباس الشتاء في الصيف ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دعا له أنْ يُذهب الله عنه الحرَّ والبرد (7) .
__________
(1) انظر : تفسير ابن كثير 1/224 ، وسبل السلام 2/156 .
(2) هذا البيت سقط من النسخ المطبوعة .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/325 بلفظ : كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/79 - 80 .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/214 .
(6) أخرجه : أبو نعيم 3/108 عن سفيان الثوري قال : بت عند الحجاج بن فرافصة إحدى وعشرين يوماً فما أكل ولا شرب ولا نام .
(7) أخرجه : أحمد 1/99 و133 ، وابن ماجه ( 117 ) ، وهو ضعيف .

فمن كان له قوَّةٌ على مثل هذه الأمور ، فعمل بمقتضى قوَّته ولم يُضعفه عن
طاعة الله ، فلا حرج عليه ، ومن كلَّفَ نفسه ذلك حتى أضعفها عن بعض الواجبات ، فإنَّه يُنكر عليه ذلك ، وكان السَّلف يُنكرون على عبد الرحمان بن أبي نُعم ، حيث كان يترك الأكل مدة حتى يُعاد من ضعفه (1) .
القسم الثالث : ما أجرى الله العادة به في الدنيا في الأعمِّ الأغلب ، وقد يخرِقُ العادة في ذلك لمن يشاء من عباده ، وهو أنواع :
منها ما يخرقه كثيراً ، ويغني عنه كثيراً من خلقه كالأدوية بالنسبة إلى كثيرٍ من البلدان وسكان البوادي ونحوها . وقد اختلف العلماءُ : هل الأفضل لمن أصابه المرض التداوي أم تركه لمن حقَّق التوكل على الله ؟ وفيه قولان مشهوران ، وظاهر كلام أحمد أنَّ التوكلَ لمن قوي عليه أفضلُ ، لِمَا صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال :
( يَدخُلُ مِنْ أُمَّتي الجنَّة سبعون ألفاً بغير حساب ) ثم قال : ( هم الذين لا يتطيَّرون ولا يَسترقون ولا يَكتوون وعلى ربِّهم يتوكَّلون ) (2) .
ومن رجح التداوي قال : إنَّهُ حال النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يُداوم عليه ، وهو لا يفعلُ إلاّ الأفضلَ ، وحمل الحديثَ على الرُّقى المكروهة التي يُخشى منها الشركُ
بدليل أنَّه قرنها بالكي والطِّيرة وكلاهما مكروه .
__________
(1) انظر : حلية الأولياء 4/69 .
(2) أخرجه : مسلم 1/137 ( 218 ) ( 371 ) و( 372 ) .

ومنها ما يَخرِقُهُ لِقليلٍ من العامة ، كحصول الرِّزق لمن ترك السعي في
طلبه ، فمن رزقه الله صدق يقين وتوكل ، وعَلِمَ من الله أنَّه يَخرِقُ له العوائد ، ولا يُحوجه إلى الأسباب المعتادة في طلب الرزق ونحوه ، جاز له تَركُ الأسباب ، ولم يُنكر عليه ذلك ، وحديث عمر هذا الذي نتكلم عليه يدلُّ على ذلك ، ويدلُّ على أنَّ النَّاس إنَّما يُؤتون مِنْ قلَّة تحقيق التوكُّل ، ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها ، فلذلك يُتعبون أنفسَهم في الأسباب ، ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد ، ولا يأتيهم إلاّ ما قُدِّر لهم ، فلو حَقَّقوا التوكُّلَ على الله بقلوبهم ، لساقَ الله إليهم أرزاقهم مع أدنى سببٍ ، كما يسوقُ إلى الطَّير أرزاقها بمجرَّدِ الغدوِّ والرواح ، وهو نوعٌ من الطَّلب والسَّعي ، لكنه سعيٌ يسيرٌ .
وربما حُرِمَ الإنسانُ رزقَهُ أو بعضَه بذنب يُصيبه ، كما في حديث ثوبان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ العبدَ ليُحرَمُ الرِّزق بالذَّنب يُصيبه ) (1) .
وفي حديث جابر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ نفساً لن تموتَ حتى تستكمل رزقها ، فاتَّقوا الله وأجملوا في الطَّلب ، خُذوا ما حلَّ ودعوا ما حَرُم ) (2) .
وقال عمر : بين العبد وبين رِزقه حِجاب ، فإن قنع ورضيت نفسه ، آتاه
رزقُه ، وإنِ اقتحم وهتك الحجاب ، لم يزد فوقَ رزقه (3) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/277 و282 ، وابن ماجه ( 4022 ) ، وفي إسناده مقال ، وقد حسن بعضهم هذا الحديث بطرقه منهم: الحافظ العراقي كما نقله البوصيري في " مصباح الزجاجة ".
(2) أخرجه : ابن ماجه ( 2144 ) ، وابن حبان ( 3239 ) ، والحاكم 2/4 ، وهو حديث صحيح .
(3) ذكره الديلمي في " مسند الفردوس " 2/26 ( 2162 ) عن جابر بلفظ : ( بين العبد وبين رزقه حجاب فإن صبر خرج إليه رزقه وإن عجل مزق عنه جلد ولا يأخذ إلا ما قدر له جلده ودينه ) .

وقال بعض السَّلف : توكل تُسَقْ إليك الأرزاق بلا تعب ، ولا تَكَلُّف .
قال سالم بن أبي الجعد : حُدِّثْتُ أنَّ عيسى - عليه السلام - كان يقول : اعملوا للهِ ولا تعملوا لبطونكم ، وإيَّاكم وفضولَ الدُّنيا ، فإنَّ فضولَ الدُّنيا عند الله رجز ، هذه طَيرُ السماء تغدو وتروح ليس معها من أرزاقها شيء ، لا تحرث ولا تحصد الله يرزقها ، فإنْ قلتُم : إنَّ بطوننا أعظم من بطون الطير ، فهذه الوحوش من البقر والحمير وغيرها تغدو وتروح ليس معها من أرزاقها شيءٌ لا تحرث ولا تحصد ، الله
يرزقها (1) . خرَّجه ابن أبي الدُّنيا .
وخرّج بإسناده عن ابن عباس قال : كان عابدٌ يتعبد في غارٍ ، فكان غرابٌ يأتيه كلَّ يوم برغيف يجد فيه طَعْمَ كلِّ شيءٍ حتى مات ذلك العابد (2) .
وعن سعيد بن عبد العزيز ، عن بعض مشيخة دمشق ، قال : أقامَ إلياسُ هارباً من قومه في جبل عشرين ليلة ، - أو قال : أربعين - تأتيه الغربان برزقه .
وقال سفيان الثوري : قرأ واصلٌ الأحدب هذه الآية : { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } (3) ، فقال : ألا إنَّ رزقي في السماء وأنا أطلبُه في الأرض ؟ فدخل خَرِبَةً ، فمكث ثلاثاً لا يُصيب شيئاً ، فلمَّا كان اليومُ الرابع ، إذ هو بدَوخَلةٍ من رُطَبٍ ، وكان له أخٌ أحسن نيةً منه ، فدخل معه ، فصارتا دوخلتين ، فلم يزل ذلك دأبهما (4) حتى فرق الموتُ بينهما (5) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34232 ) ، والحسين المروزي كما في زوائده على " الزهد "
لعبد الله بن المبارك ( 848 ) .
(2) أخرجه : أبو الشيخ في " العظمة " ( 1292 ) .
(3) الذاريات : 22 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 24915 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 1336 ) .

ومن هذا الباب من قَوِي توكُّله على الله ووثوقه به ، فدخل المفاوزَ بغير زاد ،
فإنَّه يجوزُ لمن هذه صفته دونَ من لم يبلغ هذه المنْزلة ، وله في ذلك أسوة بإبراهيم الخليل - عليه السلام - ، حيث ترك هاجرَ وابنها إسماعيل بوادٍ غير ذي زرعٍ ، وترك عندهما جراباً فيه تمرٌ وسِقاءً فيه ماء ، فلمَّا تبعته هاجر ، وقالت له : إلى من تَدعنا ؟ قال
لها : إلى الله ، قالت : رضيتُ بالله ، وهذا كان يفعله بأمر الله ووحيه ، فقد يَقذِفُ الله في قلوب بعض أوليائه من الإلهام الحقِّ ما يعلمون أنَّه حقٌّ ، ويثقون به . قال المروذي : قيل لأبي عبد الله : أيّ شيءٍ صِدقُ التوكل على الله ؟ قال : أنْ يتوكَّل على الله ، ولا يكون في قلبه أحدٌ من الآدميين يطمع أنْ يجيئه بشيءٍ ، فإذا كان كذا ، كان الله يرزقه ، وكان متوكِّلاً (1) .
قال : وذكرتُ لأبي عبد الله التوكُّل ، فأجازه لمن استعملَ فيه الصِّدق (2) .
قال : وسألت أبا عبد الله عن رجلٍ جلس في بيته ، ويقول : أجلِسُ وأصبر ولا أُطلع على ذلك أحداً ، وهو يقدِرُ أنْ يحترف ، قال : لو خرَجَ فاحترفَ كان أحبَّ إليَّ ، وإذا جلس خفت أنْ يُخرجه إلى أنْ يكون يتوقع أنْ يرسل إليه بشيء . قلت : فإذا كان يبعث إليه بشيءٍ ، فلا يأخذ ؟ قالَ : هذا جيد (3) .
وقلت لأبي عبد الله : إنَّ رجلاً بمكة قالَ : لا آكلُ شيئاً حتَّى يطعموني ، ودخل في جبل أبي قبيس ، فجاء إليه رجلان وهو متَّزِرٌ بخرقةٍ ، فألقيا إليه قميصاً ، وأخذا بيديه ، فألبساه القميص ، ووضعا بين يديه شيئاً ، فلم يأكل حتَّى وضعا مفتاحاً من حديد في فيه ، وجعلا يدُسَّان في فمه ، فضحك أبو عبد الله ، وجعل يعجب .
__________
(1) انظر : الفروع 4/41 .
(2) انظر : الفروع 4/41 .
(3) انظر : الورع لأحمد بن حنبل : 48 .

وقلت لأبي عبد الله : إنَّ رجلاً ترك البيع والشراء ، وجعل على نفسه أنْ لا يقع في يده ذهبٌ ولا فضَّةٌ ، وترك دُورَه لم يأمر فيها بشيءٍ وكان يمرُّ في الطريق ، فإذا رأى شيئاً مطروحاً ، أخذه ممّا قد أُلقي . قال المروذي : فقلت للرجل : مالك حجة على هذا غير أبي معاوية الأسود ، قال : بل أويس القرني ، وكان يمرُّ بالمزابل ، فيلتقط الرِّقاع ، قال : فصدَّقه أبو عبد الله ، وقال : قد شدَّد على نفسه . ثم قال : قد جاءني البَقْلِيُّ ونحوه ، فقلت لهم : لو تعرضتُم للعمل تُشهِرون أنفسَكم ، قال : وإيشٍ نُبالي من الشُّهرة ؟ (1)
وروى أحمدُ بنُ الحسين بن حسّان عن أحمد أنَّه سئل عن رجل يخرج إلى مكة بغير زادٍ ، قال : إنْ كنتَ تُطيقُ وإلا فلا إلاّ بزادٍ وراحلةٍ ، لا تُخاطر (2) . قال أبو بكر الخلال : يعني : إنْ أطاق وعلم أنَّه يقوى على ذلك ، ولا يسأل ، ولا تَستشرفُ نفسه لأنْ يأخذَ أو يُعطى فيقبل ، فهو متوكل على الصدق ، وقد أجاز العلماء التوكل على الصدق . قال : وقد حجَّ أبو عبد الله وكفاه في حجته أربعة عشر درهماً .
__________
(1) انظر : الورع لأحمد : 48 بنحوه مختصراً .
(2) انظر : تفسير القرطبي 2/411 - 412 بلفظ قال رجل لأحمد بن حنبل : أريد أن أخرج إلى مكة على التوكل بغير زاد ، فقال أحمد : أخرج في غير القافلة فقال : لا ، إلا معهم ، قال : فعلى جرب الناس توكلت ؟
قوله : جرب جمع جراب وهو الوعاء .

وسئل إسحاق بن راهويه : هل للرجل أنْ يدخل المفازة بغير زاد ؟ فقال : إنْ كان الرجلُ مثل عبد الله بن منير ، فله أنْ يدخل المفازة بغير زاد (1) ، وإلا لم يكن له أنْ يدخل ، ومتى كان الرجل ضعيفاً ، وخشي على نفسه أنْ لا يصبر ، أو يتعرَّض للسؤال ، أو أنْ يقعَ في الشَّكِّ والتسخُّط ، لم يُجز له ترك الأسباب حينئذٍ ، وأنكر عليه غايةَ الإنكار كما أنكر الإمامُ أحمد وغيره على من ترك الكسب وعلى من دخل المفازة بغير زادٍ ، وخشي عليه التعرُّض للسؤال . وقد روي عن ابن عباس ، قال : كان أهل اليمن يَحُجُّون ولا يتزوَّدون ويقولون : نحن متوكِّلون ، فيحجُّون ، فيأتون مكة ، فيسألون الناس ، فأنزل الله هذه الآية : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } (2) (3) ، وكذا قال مجاهدٌ (4) ، وعكرمة (5) ، والنخعي (6) ، وغيرُ واحد من السَّلف (7) ، فلا يُرخَّصُ في ترك السبب بالكلية إلا لمن انقطع قلبُه عن الاستشراف إلى المخلوقين بالكُلية .
وقد رُوي عن أحمد أنَّه سُئل عن التوكُّل ، فقال : قطعُ الاستشراف باليأس من الخلق ، فسُئِلَ عن الحُجة في ذلك ، فقال : قول إبراهيم - عليه السلام - لما عرض له جبريلُ وهو يُرمى في النار ، فقال له : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك ، فلا (8) .
__________
(1) ذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 12/317 .
(2) البقرة : 197 .
(3) أخرجه : الطبري قي " تفسيره " ( 2967 ) .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 2976 ) .
(5) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 2970 ) .
(6) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 2974 ) .
(7) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 2978 ) عن الحسن .
(8) ذكره : ابن مفلح في " المقصد الأرشد " 3/122 ، ولا يخفى أنَّ هذا من الإسرائيليات ، ولم يرد في المرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وظاهر كلام أحمد أنَّ الكسبَ أفضلُ بكلِّ حالٍ ، فإنَّه سُئِل عمَّن يقعدُ ولا يكتسِبُ ويقول : توكَّلت على الله ، فقال : ينبغي للناس كُلِّهم يتوكَّلون على الله ، ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب (1) .
وروى الخلال بإسناده عن الفُضيل بن عياض أنَّه قيل له : لو أنَّ رجلاً قعد في
بيته زعم أنَّه يثق بالله ، فيأتيه برزقه ، قال : إذا وثق بالله حتى يعلم منه أنَّه قد وثق
به ، لم يمنعه شيءٌ أراده ، ولكن لم يفعل هذا الأنبياء ولا غَيرُهم ، وقد كان الأنبياء يؤجرون أنفسهم ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُؤجِّرُ نفسه وأبو بكر وعمر ، ولم يقولوا : نقعد حتى يرزقنا الله - عز وجل - ، وقال الله - عز وجل - : { وَابْتَغُوْا مِنْ فَضْلِ اللهِ } (2) ، ولابُد من طلب المعيشة .
وقد رُوي عن بشر ما يُشعر بخلاف هذا ، فروى أبو نعيم في " الحلية " (3) أنَّ بشراً سُئِل عن التوكُّل ، فقال : اضطرابٌ بلا سكون ، وسكون بلا اضطراب ، فقال له السائل : فسِّره لنا حتى نفقهَ ، قال بشر : اضطراب بلا سكون ، رجل يضطربُ بجوارحه ، وقلبُه ساكن إلى الله ، لا إلى عمله ، وسكون بلا اضطراب فرجل ساكنٌ إلى الله بلا حركة ، وهذا عزيزٌ ، وهو من صفات الأبدالِ .
وبكل حال ، فمن لم يصل إلى هذه المقامات العالية ، فلابُدَّ له من معاناة الأسباب لاسيما من له عيال لا يصبرون ، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( كَفى بالمرءِ إثماً أنْ يُضيِّعَ من يَقُوتُ ) (4) . وكان بشرٌ يقول : لو كان لي عيالٌ لعملتُ واكتسبتُ .
__________
(1) انظر : فتح الباري لابن حجر 11/276 .
(2) الجمعة : 10 .
(3) 8/351 .
(4) أخرجه : أحمد 2/160 و193 و194 و195 ، والنسائي في " الكبرى " ( 9177 ) ، وابن حبان ( 4240 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص .
وأخرجه : مسلم 3/78 ( 996 ) ، ولفظه : ( كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته ) .

وكذلك من ضيَّع بتركه الأسباب حقاً له ، ولم يكن راضياً بفوات حقه ، فإنَّ هذا عاجزٌ مفرِّطٌ ، وفي مثل هذا جاء قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف ، وفي كُلٍّ خير ، احرص على ما ينْفَعُك ، واستعن بالله ولا تَعْجز ، فإنْ أصابك شيءٌ ، فلا تقولنَّ : لو أنِّي فعلتُ كان كذا وكذا ، ولكن قُلْ : قَدَرُ الله وما شاء فعل ، فإنَّ الَّلو تفتحُ عمل الشيطان ) خرَّجه مسلم (1) بمعناه من حديث أبي هريرة .
وفي " سنن أبي داود " (2) عن عوف بن مالك : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قضى بين رجلين ، فقال المقضي عليه لمَّا أدبر : حسبُنا الله ونِعم الوكيل ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله يلومُ على العجز ، ولكن عليك بالكيسِ ، فإذا غلبك أمرٌ ، فقل : حسبي الله ونعم
الوكيل ) .
وخرَّج الترمذي (3) من حديث أنس ، قال : قال رجل : يا رسول الله ، أعقلها وأتوكَّل ، أو أُطلقها وأتوكَّل ؟ قال : ( اعقلها وتوكَّل ) . وذكر عن يحيى القطان أنَّه قال : هو عندي حديث منكر (4) ، وخرَّجه الطبراني (5) من حديث عمرو بن أمية ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) في " صحيحه " 8/56 ( 2664 ) ( 34 ) .
(2) 3627 ) ، وإسناده ضعيف بقية بن الوليد يدلس تدليس التسوية وقد عنعن ، وفي الإسناد أيضاً سيف الشامي مجهول تفرد بالرواية عنه خالد بن معدان، وقال النسائي : ( لا أعرفه ) .
(3) في " جامعه " ( 2517 ) .
(4) انظر : علل الترمذي الكبير 1/448 ، وأيضاً نقله في " الجامع " عقب الحديث وعلة الحديث المغيرة بن أبي قرة السدوسي فهو مجهول .
(5) كما في " مجمع الزوائد " 10/291 و303 .

وروى الوضين بن عطاء عن محفوظ بن علقمة عن ابن عائذ (1) : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ التوكلَ بَعدَ الكَيْسِ ) (2) وهذا مرسل ، ومعناه أنَّ الإنسان يأخذ بالكَيْس ، والسعي في الأسباب المباحة ، ويتوكَّلُ على الله بعد سعيه ، وهذا كله إشارة إلى أنَّ التوكل لا يُنافي الإتيان بالأسباب بل قد يكون جمعهما أفضلَ . قال معاوية بن قرة : لقي عمرُ بن الخطَّاب ناساً من أهل اليمن ، فقال : من أنتم ؟ قالوا : نحن المتوكِّلون ، قال : بل أنتم المتأكلون ، إنَّما المتوكل الذي يُلقي حبَّه في الأرض ، ويتوكَّل على الله - عز وجل - (3) .
قال الخلال : أخبرنا محمد بن أحمد بن منصور قال : سأل المازني بشرَ بنَ الحارث عن التوكل ، فقال : المتوكل لا يتوكَّلُ على الله ليُكفى ، ولو حلَّت هذه القصة في قلوب المتوكلة ، لضجُّوا إلى الله بالندم والتوبة ، ولكن المتوكل يَحُلُّ بقلبه الكفاية من الله تبارك وتعالى فيصدق الله - عز وجل - فيما ضمن . ومعنى هذا الكلام أنَّ المتوكل على الله حقَّ التوكل لا يأتي بالتوكل ، ويجعله سبباً لحصول الكفاية له من الله بالرِّزق وغيره ، فإنَّه لو فعل ذلك ، لكان كمن أتى بسائر الأسباب لاستجلاب الرزق والكفاية بها ، وهذا نوعُ نقص في تحقيق التوكُّل .
__________
(1) هو الربيع بن خثيم يكنى أبا يزيد الثوري الكوفي أحد الأعلام ، أدرك زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرسل عنه ، كان يعد من عقلاء الرجال ، توفي قبل سنة خمس وستين . انظر : " سير أعلام النبلاء " 4/258 .
(2) ذكره : الديلمي في " مسند الفردوس " 2/77 ( 2435 ) .
(3) ذكره الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " 1/405 .

وإنَّما المتوكلُ حقيقة من يعلم أنَّ الله قد ضَمِنَ لعبده رزقه وكفايته ، فيصدق الله فيما ضمنه ، ويثق بقلبه ، ويحققُ الاعتماد عليه فيما ضمنه من الرِّزق من غير أنْ يخرج التوكُّل مخرج الأسباب في استجلاب الرزق به ، والرزق مقسومٌ لكلِّ أحدٍ من برٍّ وفاجرٍ ، ومؤمنٍ وكافرٍ ، كما قال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا } (1) ، هذا مع ضعف كثيرٍ من الدواب وعجزها عن السَّعي في
طلب الرزق ، قال تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا
وَإِيَّاكُمْ } (2) .
فما دام العبدُ حيّاً ، فرزقُه على الله ، وقد يُيسره الله له بكسب وبغير كسب ، فمن توكَّل على الله لطلب الرزق ، فقد جعل التوكُّل سبباً وكسباً ، ومن توكَّل عليه لثقته بضمانه ، فقد توكَّل عليه ثقة به وتصديقاً ، وما أحسنَ قول مثنَّى الأنباري وهو من أعيان أصحاب الإمام أحمد : لا تكونوا بالمضمون مهتمِّين ، فتكونوا للضامن متَّهمين ، وبرزقه غير راضين (3) .
واعلم أنَّ ثمرة التوكل الرِّضا بالقضاء ، فمن وَكَلَ أموره إلى الله ورضي بما يقضيه له ، ويختاره ، فقد حقق التوكل عليه (4) ، ولذلك كان الحسنُ والفضيلُ وغيرهما يُفسِّرون التوكل على الله بالرِّضا .
قال ابنُ أبي الدنيا (5) : بلغني عن بعض الحكماء قال : التوكلُ على ثلاثِ درجاتٍ : أولها : تركُ الشِّكاية ، والثانية : الرضا ، والثالثة : المحبة ، فترك الشكاية درجة الصبر ، والرضا سكون القلب بما قسم الله له ، وهي أرفع من الأولى ، والمحبَّةُ أنْ يكون حُبُّه لما يصنع الله به ، فالأولى للزاهدين ، والثانية للصادقين ، والثالثة للمرسلين . انتهى .
__________
(1) هود : 6 .
(2) العنكبوت : 60 .
(3) ذكره : ابن مفلح في " المقصد الأرشد " 3/19 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في " التوكل " ( 46 ) .

فالمتوكل على الله إنْ صبر على ما يُقدِّرُه الله له من الرزق أو غيره ، فهو صابر ، وإنْ رضي بما يُقدر له بعد وقوعه ، فهو الراضي ، وإنْ لم يكن له اختيارٌ بالكليَّة ولا رضا إلا فيما يقدر له ، فهو درجة المحبين العارفين ، كما كان عمر بنُ عبد العزيز يقول : أصبحتُ وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر .

الحديث الخمسون
عَنْ عبدِ الله بن بُسْرٍ قال : أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجلٌ ، فقالَ : يا رَسولَ اللهِ إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كَثُرَتْ علينا ، فبَابٌ نَتَمسَّكُ به جامعٌ ؟ قال : ( لا يَزالُ لِسانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكر الله - عز وجل - ) خرَّجه الإمامُ أحمدُ (1) بهذا اللَّفظِ .
وخرَّجه الترمذي ، وابنُ ماجه ، وابنُ حبان في " صحيحه " (2) بمعناه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وكُلُّهم خرَّجه من رواية عمرو بن قيس الكندي ، عن عبد الله بن بُسر .
وخرَّج ابنُ حبان في " صحيحه " (3) وغيره (4) من حديث معاذ بن جبل ، قال : آخِرُ ما فارقتُ عليه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ قلتُ له : أيُّ الأعمال خيرٌ وأقربُ إلى الله ؟ قال : ( أنْ تموتَ ولِسانُكَ رَطْبٌ من ذكر الله - عز وجل - ) .
وقد سبق في هذا الكتاب مفرقاً ذكرُ كثيرٍ من فضائل الذكر ، ونذكر هاهنا فضل إدامته ، والإكثار منه .
__________
(1) في " مسنده " 4/188 و190 .
(2) ابن ماجه ( 3793 ) ، والترمذي ( 3375 ) ، وابن حبان ( 814 ) .
(3) برقم ( 818 ) .
(4) أخرجه : البخاري في " خلق أفعال العباد " : 72 ، والطبراني في " الكبير " 20/( 181 )
و( 208 ) و( 212 ) و( 213 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 2035 ) و( 3521 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 516 ) .

قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأنْ يذكروه ذكراً كثيراً ، ومَدَحَ من ذكره كذلك ؛ قالَ تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلاً } (1)، وقال تعالى : { وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (2)، وقال تعالى : { وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } (3) ، وقال تعالى : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } (4) .
وفي " صحيح مسلم " (5) عن أبي هريرة : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على جبلٍ يقالُ له : جُمْدَان ، فقال : ( سِيروا هذا جُمدان (6) ، قد سبق المُفرِّدونَ ) . قالوا : ومن المفرِّدون يا رسول الله ؟ قالَ : ( الذاكرون الله كثيرا والذَّاكرات ) .
وخرَّجه الإمام أحمد (7) ، ولفظه : ( سبقَ المفَرِّدونَ ) قالوا : وما المفردون ؟ قال : ( الذينَ يُهْتَرونَ(8) في ذكرِ اللهِ ) .
وخرَّجه الترمذي (9) ، وعنده : قالوا : يا رسول الله ، وما المفرِّدون ؟ قالَ :
( المُستَهتَرونَ في ذِكرِ الله يَضعُ الذِّكر عنهم أثقالهم ، فيأتون يومَ القيامة خِفافاً ) .
__________
(1) الأحزاب : 41 - 42 .
(2) الجمعة : 10 .
(3) الأحزاب : 35 .
(4) آل عمران : 191 .
(5) 8/63 ( 2676 ) ( 4 ) .
(6) جمدان : هو جبل بين ينبع والعيص ، على ليلة من المدينة ، وهو بضم الجيم ، ثم سكون الميم . مراصد الاطلاع 1/345 .
(7) في " مسنده " 2/323 و411 من حديث أبي هريرة .
(8) أي : يولعون .
(9) في " جامعه " ( 3596 ) من حديث أبي هريرة .

وروى موسى بنُ عبيدة عن أبي عبد الله القَرَّاظ ، عن معاذ بن جبل قال : بينما نَحنُ مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَسيرُ بالدّفِّ من جُمْدان إذ استنبه ، فقال : ( يا مُعاذُ ، أينَ السابقون ؟ ) فقلت : قد مَضَوا ، وتخلَّف ناسٌ . فقال : ( يا معاذ إنَّ السابقين الذين يُستَهتَرون بذكر الله - عز وجل - ) (1) خرّجه جعفر الفِرياني .
ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث ، فإنَّه لمَّا سبق الركب ، وتخلف بعضهم ، نبه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ السابقين على الحقيقة هم الذين يُديمون ذكرَ الله ، ويُولَعون به ، فإنَّ الاستهتار بالشيء : هو الولوعُ به ، والشغفُ ، حتى لا يكاد يُفارِق ذكره ، وهذا على رواية من رواه ( المستهترون ) ورواه بعضُهم ، فقال فيه : ( الذين أُهتِروا في ذكرِ الله ) وفسّر ابنُ قتيبة الهترَ بالسَّقْطِ في الكلام (2) ، كما في الحديث : ( المستبان شيطانان يتكاذبان ويتهاتَران ) (3) .
قال : والمرادُ من هذا الحديث من عُمِّر وخَرِفَ في ذكر الله وطاعته ، قال : والمراد بالمفرِّدين على هذه الرواية من انفرد بالعمر عن القَرنِ الذي كان فيه ، وأما على الرواية الأولى ، فالمراد بالمفرِّدين المتخلين من الناس بذكر الله تعالى ، كذا قال ، ويحتمل - وهو الأظهر - أنَّ المرادَ بالانفرادِ على الروايتين الانفراد بهذا العمل وهو كثرةُ الذكرِ دونَ الانفراد الحسي ، إما عن القَرنِ أو عن المخالطة ، والله أعلم .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " 20/( 326 ) ، وموسى بن عبيدة ضعيف ، وانظر : مجمع الزوائد 10/75 .
(2) في غريب الحديث 1/321 – 322 بهذا المعنى .
(3) أخرجه : أحمد 4/162 و266 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 427 ) و( 428 ) ، وابن حبان ( 5726 ) و( 5727 ) ، والطبراني في " الكبير " 17/( 1001 ) و( 1002 ) عن عياض بن حمار .

ومن هذا المعنى قولُ عمرَ بنِ عبد العزيز ليلةَ عرفة بعرفة عندَ قرب الإفاضة : ليس السابقُ اليوم من سبق بعيرُه ، وإنَّما السابق من غُفر له (1) .
وبهذا الإسناد عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من أحبَّ أنْ يرتع في رياض الجنَّة ، فليُكثر ذكرَ الله - عز وجل - ) (2) .
وخرَّج الإمام أحمد والنَّسائي ، وابنُ حبان في " صحيحه " (3) من حديث أبي سعيد الخدري : أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( استكثروا منَ الباقياتِ الصَّالحات ) قيل : وما هُنَّ يا رسولَ الله ؟ قالَ : ( التكبيرُ والتسبيحُ والتَهليلُ والحمدُ لله ، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله ) .
وفي " المسند " و" صحيح ابن حبان " (4) عن أبي سعيد الخدري أيضاً عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أكثروا ذِكرَ الله حتّى يقولوا : مجنون ) .
وروى أبو نعيم في " الحلية " (5) من حديث ابن عباس مرفوعاً : ( اذكروا الله ذكراً يقول المنافقون : إنَّكم تُراؤون ) .
__________
(1) انظر : فتح الباري 3/660 .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 29457 ) و( 35059 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 326 ) ، وفيه موسى بن عبيدة ضعيف ، وانظر : مجمع الزوائد 10/75 .
(3) أحمد 3/75 ، وابن حبان ( 840 ) وبهذا اللفظ لم يخرجه النسائي حيث لم أجده في المطبوع من " السنن الكبرى " ولا " عمل اليوم والليلة " ، وكذا قال محقق تحفة الأشراف 3/340 هامش ( 3 ) ، وساقه الهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/87 ونسبه إلى أحمد وأبي يعلى ، وهذا دليل على عدم وجوده عند النسائي لكن المزي في " التحفة " 3/340 ( 4066 ) عزاه للنسائي فلعله في بعض النسخ ، والحديث ضعيف لضعف دراج أبي السمح في روايته عن أبي الهيثم .
(4) أحمد 3/68 و71 ، وابن حبان ( 817 ) ، وهو حديث ضعيف لضعف دراج أبي السمح في روايته عن أبي الهيثم .
(5) 3/80 - 81 ، وهو ضعيف .

وخرَّج الإمام أحمد والترمذي (1) من حديث أبي سعيد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سئل : أيُّ العباد أفضلُ درجةً عندَ الله يوم القيامة ؟ قالَ : ( الذاكرون الله كثيراً ) ، قيل : يا رسول الله ، ومِنَ الغازي في سبيل الله ؟ قال : ( لو ضربَ بسيفه في الكفَّار والمشركين حتّى ينكسر ويتخضَّب دماً ، لكان الذاكرون للهِ أفضلَ منه درجةً ) .
وخرَّج الإمام أحمد (2) من حديث سهلٍ بن معاذ ، عن أبيه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّ رجلاً سأله فقال : أيُّ الجهاد أعظمُ أجراً يا رسول الله ؟ قال : ( أكثرُهم للهِ ذِكراً ) ، قال : فأيُّ الصَّائمين أعظمُ ؟ قال : ( أكثرهم لله ذِكراً ) ، ثم ذكر لنا الصَّلاة والزَّكاة والحجَّ والصدقة كلٌّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( أكثرهم لله ذكراً ) ، فقال أبو بكر : يا أبا حفص ، ذهب الذاكرون بكلِّ خيرٍ ، فقال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :
( أجل ) .
وقد خرَّجه ابنُ المبارك (3) ، وابنُ أبي الدنيا من وجوه أُخَر مرسلة بمعناه .
وفي " صحيح مسلم " (4) عن عائشة ، قالت : كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كلِّ أحيانِهِ .
__________
(1) أحمد 3/75 ، والترمذي ( 3376 ) ، وهو ضعيف لضعف ابن لهيعة ، ولضعف دراج في روايته عن أبي الهيثم .
(2) في " مسنده " 3/438 ، وهو ضعيف لضعف ابن لهيعة وزبان بن فائد .
(3) في " الزهد " ( 1429 ) عن أبي سعيد المقبري .
(4) 1/194 ( 373 ) ( 117 ) .

وقال أبو الدرداء : الذين لا تزال ألسنتهم رطبةً من ذكر الله ، يدخل أحدهم الجنَّةَ وهو يضحك (1) ، وقيل له : إنَّ رجلاً أعتق مئة نسمة ، فقال : إنَّ مئة نسمة من مالِ رجلٍ كثيرٌ ، وأفضلُ من ذلك إيمانٌ ملزومٌ بالليل والنَّهار ، وأنْ لا يزالَ لسانُ أحدكم رطباً مِنْ ذِكر الله - عز وجل - (2) .
وقال معاذ : لأن أذكر الله من بكرة إلى الليل أحبُّ إليَّ من أنْ أحملَ على جياد الخيل في سبيل الله من بكرة إلى الليل (3) .
وقال ابن مسعود في قوله تعالى : { اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } (4) قال : أنْ يُطاعَ فلا يُعصى ، ويُذكر فلا يُنسى ، ويُشكر فلا يكفر (5) ، وخرَّجه الحاكم (6) مرفوعاً وصحَّحه ، والمشهورُ وقفُه .
وقال زيدُ بنُ أسلم : قال موسى - عليه السلام - : يا ربِّ قد أنعمتَ عليَّ كثيراً ، فدُلني على أنْ أشكرك كثيراً ، قال : اذكُرني كثيراً ، فإذا ذكرتني كثيراً ، فقد شكرتني ، وإذا نسيتني فقد كفرتني (7) .
وقال الحسن : أحبُّ عبادِ الله إلى اللهِ أكثرهم له ذكراً وأتقاهم قلباً .
__________
(1) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 1126 ) ، وابن أبي شيبة ( 29459 ) و( 34587 ) و( 35052 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 726 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/219 .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 29464 ) و( 35057 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 730 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/219 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 627 ) .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 29458 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/235 .
(4) آل عمران : 102 .
(5) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 22 ) ، وابن أبي شيبة ( 34553 ) ، وعبد بن حميد كما في " الدر المنثور " 2/105 ، والطبري في " تفسيره " ( 5947 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 7/238 و238 - 239 .
(6) في " المستدرك " 2/294 .
(7) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 711 ) .

وقال أحمد بنُ أبي الحواري : حدَّثني أبو المخارق ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( مررتُ ليلة أُسري بي برجل مُغيَّبٍ في نور العرش ، فقلتُ : من هذا ؟ مَلَكٌ ؟ قيل : لا ، قلت : نبيٌّ ؟ قيل : لا ، قلتُ : من هو ؟ قال : هذا رجل كان لسانه رطباً من ذكر الله ، وقلبُه معلَّق بالمساجد ، ولم يستسبَّ لوالديه قطّ ) (1) .
وقال ابن مسعود : قال موسى - عليه السلام - : ربِّ أيُّ الأعمال أحبُّ إليك أنْ أعملَ به ؟ قالَ : تذكرني فلا تنساني (2) .
وقال أبو إسحاق عن ميثم : بلغني أنَّ موسى - عليه السلام - ، قالَ : ربِّ أيُّ عبادكَ أحبُّ إليكَ ؟ قال : أكثرُهم لي ذكراً (3) .
وقال كعب : من أكثر ذكر الله ، برئ من النفاق (4) ، ورواه مؤمَّل ، عن حماد بن سلمة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعاً (5) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الأولياء " ( 95 ) .
(2) أخرجه : محمد بن فضيل الضبي في " الدعاء " ( 102 ) .
(3) أخرجه : محمد بن فضيل الضبي في " الدعاء " ( 103 ) .
(4) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 29292 ) عن رجل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - .
(5) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 6931 ) وفي " الصغير " ، له ( 954 ) ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " ( 576 ) ، وإسناده ضعيف جداً لا يصح ، محمد بن سهل ، عن مؤمل بن إسماعيل يروي الموضوعات ، وانظر : لسان الميزان 7/189 ( 6891 ) .

وخرَّج الطبراني (1) بهذا الإسناد مرفوعاً : ( مَنْ لَمْ يُكثِرْ ذِكْرَ الله فقد برئ من الإيمان ) . ويشهد لهذا المعنى أنَّ الله تعالى وصف المنافقين بأنَّهم لا يذكرون الله إلا قليلاً ، فمن أكثر ذكرَ الله ، فقد بايَنَهُم في أوصافهم ، ولهذا ختمت سورة المنافقين بالأمر بذكر الله ، وأنْ لا يُلهي المؤمنَ عن ذلك مالٌ ولا ولدٌ ، وأنَّ من ألهاه ذلك عن ذكر الله ، فهو من الخاسرين .
قال الربيعُ بنُ أنس ، عن بعض أصحابه : علامةُ حبِّ الله كثرةُ ذكره ، فإنَّك لنْ تحبَّ شيئاً إلا أكثرت ذكره (2) .
قال فتح الموصِلي : المحبُّ لله لا يَغفُلُ عن ذكر الله طرفةَ عين ، قال ذو النون : من اشتغل قلبُه ولسانُه بالذِّكر ، قذف الله في قلبه نورَ الاشتياق إليه (3) .
قال إبراهيم بن الجنيد : كان يُقال : من علامة المحبِّ للهِ دوامُ الذكر بالقلب واللسان ، وقلَّما وَلعَ المرءُ بذكر الله - عز وجل - إلا أفاد منه حبَّ الله . وكان بعضُ السَّلف يقول في مناجاته : إذا سئم البطالون من بطالتهم ، فلنْ يسأم محبوك من مناجاتك
وذكرك .
__________
(1) انظر التعليق السابق ، وسلسلة الأحاديث الضعيفة ( 890 ) .
(2) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 744 ) عن الربيع بن أنس عن بعض أصحابه موقوفاً .
... وأخرجه : ابن عدي في " الكامل " 4/128 عن أنس .
وأخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 409 ) عن أنس بن مالك معلقاً .
وفي ( 419 ) عن أحمد بن أبي الحواري ، موقوفاً .
ورواه أيضاً في ( 501 ) عن مالك بن دينار ، موقوفاً .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 9/378 – 379 ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 885 ) .

قال أبو جعفر المحَوَّلي : وليُّ الله المحبُّ لله لا يخلو قلبُه من ذكر ربِّه ، ولا يسأمُ من خدمته (1) . وقد ذكرنا قولَ عائشة : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كلِّ
أحيانه (2) ، والمعنى : في حال قيامه ومشيه وقعوده واضطجاعه ، وسواء كان على طهارةٍ أو على حدث .
وقال مِسعر : كانت دوابُّ البحر في البحر تَسكُنُ ، ويوسفُ - عليه السلام - في السجن لا يسكن عن ذكر الله - عز وجل - .
وكان لأبي هريرة خيطٌ فيه ألفا عُقدة ، فلا يُنام حتّى يُسبِّحَ به (3) .
وكان خالد بنُ معدان يُسبِّحُ كلَّ يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ من
القرآن ، فلما مات وضع على سريره ليغسل ، فجعل يُشير بأصبعه يُحركها
بالتسبيح (4) .
وقيل لعمير بن هانئ : ما نرى لسانَك يَفتُرُ ، فكم تُسبِّحُ كلَّ يوم ؟ قال : مئة ألف تسبيحة ، إلا أنْ تُخطئ الأصابع ، يعني أنَّه يَعُدُّ ذلك بأصابعه (5) .
وقال عبد العزيز بنُ أبي رَوَّاد : كانت عندنا امرأةٌ بمكة تُسبح كلّ يوم اثني عشرة ألف تسبيحة ، فماتت ، فلما بلغت القبر ، اختُلِست من بين أيدي الرجال (6) .
كان الحسن البصري كثيراً ما يقول إذا لم يُحدث ، ولم يكن له شغل : سبحان الله العظيم ، فذكر ذلك لبعض فقهاء مكة ، فقال : إنَّ صاحبكم لفقيه ، ما قالها أحدٌ سبعَ مرَّاتٍ إلاّ بُني له بيتٌ في الجنَّة .
وكان عامةُ كلام ابن سيرين : سبحان الله العظيم ، سبحان الله وبحمده .
__________
(1) قال العارفون : ومن علامات صحة القلب أن لا يغتر عن ذكر ربه ولا يسأم من خدمته ولا يأنس بغيره . فيض القدير 1/2 - 7 .
(2) سبق تخريجه وهو عند أحمد 6/70 و153 ، والترمذي ( 3384 ) .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/383 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/210 .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/157 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 719 ) .
(6) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 720 ) .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8