كتاب : تفسير ابن عبد السلام
المؤلف : عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)

{ بسمِ اللَّهِ } أبدأ بسم الله ، أو بدأت بسم الله ، الاسم صلة ، أو ليس بصلة عند الجمهور ، واشتق من السمة ، وهي العلامة ، أو من السمو .
( الله ) أخص أسماء الرب لم يتسم به غيره { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] تسمى باسمه ، أو شبيهاً . أبو حنيفة : « هو الاسم الأعظم » وهو علم إذ لا بد اللذات من اسم علم يتبعه أسماء الصفات ، أو هو مشتق من الوله لأنه يأله إليه العباد : أي يفزعون إليه في أمورهم ، فالمألوه إليه إله ، كما أن المأموم [ به ] إمام أو اشتق من التأله وهو التعبدن تأله فلان : تعبد ، واشتق من فعل العبادة فلا يتصف به في الأزل ، أو من استحقاقها على الأصح فيتصف به أزلاً { الرَّحْمَن الرَّحِيمِ } الرحمن والرحيم الراحم ، أو الرحمن أبلغ ، وكانت الجاهلية تصرفه للرب سبحانه وتعالى ، الشنفري :
إلا ضربت تلك الفتاة هجينها ... ألا هدر الرحمن ربي يمينها
ولما سُمي مسيلمة بالرحمن قُرِن لله تعالى الرحمن الرحيم ، لأن أحداً لم يتسم بهما ، ، واشتقا من رحمة واحدة ، أو الرحمن من رحمته لجميع الخلق ، والرحيم من رحمته لأهل طاعته ، أو الرحمن من رحمته لأهل الدنيا ، والرحيم من رحمته لأهل [ الآخرة ] ، أو الرحمن من الرحمن التي يختص بها ، والرحيم من الرحمن التي يوجد في العباد مثلها .

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)

{ الْحَمْدُ } الثناء بجميل الصفات والأفعال والشكر والثناء بالإنعام ، فالحمد أعم ، الرب : المالك كرب الدار أو السيد ، أو المدبر كربة البيت ، الربانيون يدبرون الناس بعلمهم ، أو المربى ، ومنه الربيبة ابنة الزوجة ، ( العالمين ) جمع عالم لا واحد له من لفظه ، كرهط وقوم ، أُخذ من العلم ، فيعبر به عمن يعقل من الجن والإنس والملائكة ، أو من العلامة ، فيكون لكل مخلوق ، أو هو الدنيا وما فيها ، أو كل ذي روح من عاقل وبهيم ، وأهل كل زمان عالم .

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)

{ مُلْكِ } { مالك } أُخذا من الشدة ، ملكت العجين عجنته بشدة ، أو من القدرة .
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
فالمالك من اختص ملكه ، والملك من عمَّ ملكه ، وملك يختص بنفوذ الأمر ، والمالك يختص بملك الملوك ، والملك أبلغ لنفوذ أمره على المالك ، ولأن كل ملك مالك ولا عكس ، أو المالك أبلغ لأنه لا يكون إلا على ما يملكه ، والملك يكون على من لا يملكه كملك الروم والعرب ، ولأن الملك يكون على الناس وحدهم والمالك يكون مالكاً للناس وغيرهم ، أو المالك أبلغ في حق الله تعالى من ملك ، إذ المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك بخلاف الرب سبحانه وتعالى . { يَوْمَ } أوله الفجر ، وآخره غروب الشمس ، أو هو ضوء يدوم إلى انقضاء الحساب . { الدِّينِ } الجزاء أو الحساب ، ويستعمل الدين في العادة والطاعة ، وخص المُلْك بذلك اليوم إذ لا مَلِك فيه سواه ، أو لأنه قصد ملكه للدنيا بقوله { رَبِّ الْعَالَمِينَ } فذكر ملك الآخر ليجمع بينهما .

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

{ إِيَّاكَ } الخليل : إيا : اسم مضاف إلى الكاف ، الأخفش إياك : كلمة واحدة ، لأن الضمير لا يضاف . { نَعْبُدُ } العبادة : أعلى مراتب الخضوع تقرباً ، ولا يستحقها إلا الله تعالى ، لإنعامه بأعظم النعم ، كالحياة والعقل والسمع والبصر ، أو هي لزوم الطاعة ، أو التقرب بالطاعة ، أو المعنى « إياك نؤمل ونرجوا » مأثور والأول أظهر { نَسْتَعِينُ } على عبادتك أو هدايتك أمروا بذلك كما أمروا بالحمد له ، أو أخبروا .

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)

{ اهْدِنَا } : دلنا ، أو وفقنا { الصِّرَاطَ } السبيل المستقيم أو الطريق الواضح ، مأخوذ من مسرط الطعام وهو ممره في الحلق ، طلبوا دوام الهداية ، أو زيادتها ، أو الهداية إلى طريق الجنة في الآخرة ، أو طلبوها إخلاصاً للرغبة ، ورجاء ثواب الدعاء ، فالصراط : القرآن ، أو الإسلام أو الطريق الهادي إلى دين الله ، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر [ رضي الله عنهما ] أو طريق الحج أو طريق الحق . { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } الملائكة أو الأنبياء ، أو المؤمنون بالكتب السالفة أو المسلمون أو النبي ومن معه .

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)

{ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } : اليهود ، والضالون ، النصارى . اتفاقاً خُصت اليهود بالغضب لشدة عداوتها ، والغضب هو المعروف من العباد ، أو إرادة الانتقام ، أو ذمه لهم ، أو نوع من العقاب سماه غضباً كما سمى نعمته رحمة .

الم (1)

{ الم } اسم من أسماء القرآن ، كالذكر ، والفرقان ، أو اسم للسورة أو اسم الله الأعظم ، أو اسم من أسماء الله أقسم به ، وجوابه ذلك الكتاب ، أو افتتاح للسورة يفصل به ما قبلها ، لأنه يتقدمها ولا يدخل في أثنائها ، أو هي حروف قطعت من أسماء ، أفعال ، الألف من أنا ، اللام من الله ، الميم ، من أعلم ، معناه « أنا الله أعلم » ، أو هي حروف لكل واحد منها معاني مختلفة ، الألف مفتاح الله ، أو آلاؤه ، واللام مفتاح لطيف ، والميم مجيد أو مجده ، والألف سنة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون سنة ، آجالا ذكرها ، أو هي حروف من حساب الجُمَّل ، لما روى جابر قال : مر أبو ياسر بن أخطب بالنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ { الم } ، فأتى أخاه حُيي بن أخطب في نفر من اليهود ، فقال : سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يتلو فيما أُنزل عليه { الم } ، قالوا : أنت سمعته قال : نعم ، فمشى حُيي في أولئك النفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : يا محمد ، ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أُنزل عليك { الم } ، قال : « بلى » فقال : أجاءك بها جبريل عليه السلام من عند الله تعالى قال : « نعم » ، قالوا : لقد بعث قبلك أنبياء ، ما نعلمه بُين لنبي منهم مدة ملكه ، وأجل أمته غيرك . فقال حُيي لمن كان معه : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، ثم قال : يا محمد هل كان مع هذا غيره قال : « نعم » ، قال : ماذا ، قال : { المص } قال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحدة واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه إحدى وستون ومائة سنة ، وهل مع هذا غيره قال : « نعم » فذكر { المر } فقال : هذه أثقل ، وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومئتا سنة ، ثم قال : لقد التبس علينا أمرك ، ما ندري أقليلاً أُعطيت أم كثيراً : ثم قاموا عنه . فقال لهم أبو ياسر؟ ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة ، قالوا : قد التبس علينا أمره . فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب } [ آل عمران : 7 ] أو أعلم الله تعالى العرب لما تحدوا بالقرآن أنه مؤتلف من حروف كلامهم ، ليكون عجزهم عن الإتيان بمثله أبلغ في الحجة عليهم ، أو الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد صلى الله عليه وسلم ، أو افتتح به الكلام كما يفتتح بألا . . . . . . . .
أبجد : كلمات أبجد حروف أسماء من أسماء الله تعالى مأثور أو هي أسماء الأيام الستة التي خلق الله [ تعالى ] فيها الدنيا أو هي أسماء ملوك مدين قال :

ألا يا شعيب قد نطقت مقالة ... سَببْت بها عمرا وحي بني عمرو
ملوك بني حطي وهواز منهم ... وسعفص أصل في المكارم والفخر
هم صبحوا أهل الحجاز بغارة ... كمثل شعاع الشمس أو مطلع الفجر
أو أول من وضع الكتاب العربي ستة أنفس « أبجد ، هوز ، حطي ، كلمن ، سعفص ، قرشت » ، فوضعوا الكتاب على أسمائهم ، وبقي ستة أحرف لم تدخل في أسمائهم ، وهي الضاء ، والذال ، والشين ، والغين ، والثاء ، والخاء ، وهي الروادف التي تحسب بعد حساب الجُمَّل ، قاله عروة بن الزبير ، ابن عباس « أبجد » أبى آدم الطاعة ، وجد في أكل الشجرة ، « هوز » فزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض ، « حطي » ، فحطت عنه خطيئته ، « كلمن » فأكل من الشجرة ، ومَنَّ عليه بالتوبة « سعفص » فعصى آدم فأُخرج من النعيم إلى النكد « قرشت » فأقر بالذنب ، وسلم من العقوبة .

ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)

{ ذّلِكَ الْكِتَابُ } : إشارة إلى ما نزل من القرآن قبل هذا بمكة أو المدينة ، أو إلى قوله { إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ] أو ذلك بمعنى هذا إشارة إلى حاضر ، أو إشارة إلى التوراة والإنجيل ، خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم : أي : الكتاب الذي ذكرته لك التوراة والإنجيل هو الذي أنزلته عليك ، أو خوطب به اليهود والنصارى : أي الذي وعدتكم به هو هذا الكتاب الذي أنزلته على محمد ، أو إلى قوله : { إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ، أو قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : الكتاب الذي ذكرته في التوراة والأنجيل هو هذا الذي أنزلته عليك [ أو المراد ] بالكتاب : اللوح [ المحفوظ ] { لا رَيْبَ فِيهِ } : الريب التهمة أو الشك . { لِلْمُتَّقِينَ } الذين أقاموا الفرائض واجتنبوا المحرمات ، أو الذين يخافون العقاب ويرجون الثواب ، أو الذين اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق .

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

{ يُؤْمِنُونَ } يصدقون أو يخشون الغيب ، أصل الإيمان التصديق { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [ يوسف : 17 ] أو الأمان ، فالمؤمن يؤمن نفسه بإيمانه من العذاب ، والله تعالى مؤمِّن لأوليائه من عذابه ، أو الطمأنينة ، فالمصدق بالخبر مطمئن إليه ، ويُطلق الإيمان على اجتناب الكبائر ، وعلى كل خَصلة من الفرائض ، وعلى كل طاعة . { بِالْغَيْبِ } بالله ، أو ما جاء من عند الله ، أو القرآن ، أو البعث والجنة والنار ، أو الوحي . { وَيُقِيمُونَ } يديمون ، كل شيء راتب قائم ، وفاعله يقيم ، ومنه فلان يقيم أرزاق الجند ، أو يعبدون الله بها ، إقامتها : أداؤها بفروضها ، أو إتمام ركوعها وسجودها وتلاوتها وخشوعها « ع » ، سُمي ذلك إقامة لها من تقويم الشيء ، قام بالأمر أحكمه ، وحافظ عليه ، أو سمى فعلها إقامة لها لاشتمالها على القيام . { رَزَقْنَاهُمْ } أصل الرزق الحظ ، فكان ما جعله حظاً من عطائه رزقاً . { يُنفِقُونَ } وأصل الإنفاق الإخراج ، نفقت الدابة خرجت روحها ، والمراد الزكاة « ع » ، أو نفقة الأهل ، أو التطوع بالنفقة فيما يقرب إلى الله تعالى . نزلت هاتان الآيتان في مؤمني العرب خاصة ، واللتان بعدهما في أهل الكتاب « ع » ، أو نزلت الأربع في مؤمني أهل الكتاب ، أو نزلت الأربع في جميع المؤمنين ، فتكون الأربع في المؤمنين ، وآيتان بعدهن في الكافرين ، وثلاث عشرة في المنافقين .

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

{ مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } القرآن . { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } : التوراة ، والإنجيل وسائر الكتب . { وَبِالأَخِرَةِ } : النشأة الآخرة ، أو الدار الآخرة لتأخرها عن الدنيا ، أو لتأخرها عن الخلق ، كما سميت الدنيا لدنوها منهم { يُوقِنُونَ } : يعلمون ، أو يعلمون بموجب يقيني .

أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

{ هُدىً } بيان ورشد ، { الْمُفْلِحُونَ } الناجون من عذاب الله ، والفلاح : النجاة أو الفائزون السعداء ، أو الباقون في الثواب ، الفلاح : البقاء ، أو المقطوع لهم بالخير ، الفلح : القطع ، الأكَّار : فلاح لشقه الأرض ، شعر :
لقد علمت يا ابن أم صحصح ... أن الحديد بالحديد يفلح
والمراد بهم جميع المؤمنين ، أو مؤمنو العرب ، أو المؤمنون من « العرب » وغير العرب ممن آمن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى من قبله من الأنبياء .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)

{ الَّذِينَ كَفَرُواْ } : نزلت في قادة الأحزاب ، أو في مشركي أهل الكتاب ، أو في معينين من اليهود حول المدينة أو مشركو العرب ، والكفر : التغطية ، شعر :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في ليلة كفرَ النجومَ غمامُها
والزارع ، كافر ، لتغطيته البذر في الأرض ، فالكافر مغطي نعم الله تعالى بجحوده .

خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

{ خَتَمَ اللَّهُ } حفظ ما في قلوبهم ليجازيهم عنه ، كأنه مأخوذ من ختم ما يُراد حفظه ، الختم : الطبع ، ختمت الكتاب . وذلك علامة تعرفهم الملائكة بها من بين المؤمنين ، أو القلب كالكف إذا أذنب العبد ذنباً ختم منه كالإصبع ، فإذا أذنب آخر ختم منه كلإصبع الثانية حتى ينختم جميعه ، ثم يطبع عليه بطابع ، أو هو إخبار عن كفرهم ، وإعراضهم عن سماع الحق شبهة بما سد وختم عليه فلا يدخله خير ، أو شهادة من الله عليها أنها لا تعي الحق ، وعلى أسماعهم أنها لا تصغي إليه ، كما يختم الشاهد على الكتاب { غِشَاوَةٌ } والغشاوة الغطاء الشامل ، أراد بذلك تعاميهم عن الحق . سمى القلب قلباً ، لتقلبه بالخواطر .
ما سمى القلب إلا من تقلبه ... والرأي يصرف والإنسان أطوار

يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)

{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ } أصل الخدع : الإخفاء ، مخدع البيت يخفي ما فيه ، جعل خداع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين خداعاً له ، لأنه دعاهم برسالته . { وَمَا يَخْدَعُونَ } لما رجع وبال خداعهم عليهم قال ذلك . { وَمَا يَشْعُرُونَ } وما يفطنون .

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)

{ مَّرَضٌ } أصله الضعف أي شك ، أو نفاق ، أو غم بظهور النبي صلى الله عليه وسلم على أعدائه . { فَزَادَهُمُ } دعاء ، أو إخبار عن الزيادة عند نزول الفرائض والحدود { أَلِيمُ } مؤلم .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)

{ لا تُفْسِدُواْ } بالكفر ، أو بفعل ما نهيتم عنه ، وتضييع ما أمرتم به ، أو بممايلة الكفار . نزلت في المنافقين ، أو في قوم لم يكونوا موجودين حنيئذٍ بل جاءوا فيما بعد قاله سلمان : { مُصْلِحُونَ } ظنوا ممايلة الكفار صلاحاً لهم ، وليس كذلك ، لأن الكفار لو ظفروا بهم لم يبقوا عليهم ، أو مصلحون في اجتناب ما نهينا عنه إنكاراً لممايلة الكفار ، أو نريد بممايلتنا الكفار الإصلاح بينهم وبين المؤمنين ، أو إن ممايلة الكفار صلاح وهدى ليست بفساد ، عرَّضوا بهذا ، أو قالوه لمن خلوا به من المسلمين .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

{ كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ } الناس : الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين { السُّفَهَآءُ } الصحابة عند عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنه ، أو النساء والصبيان عند عامة المفسرين ، والسفه خفة الأحلام ثوب سفيه خفيف النسج .

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)

{ خَلَوْاْ إِلَى } إلى بمعنى « مع » أو خلوت إليه : إذا جعلته غايتك في حاجتك ، أو صرفوا خلاءهم إلى شياطينهم . { شَيَاطِينِهِمْ } رؤوسهم في الكفر ، أو اليهود الذي يأمرونهم بالتكذيب ، شيطان : فيعال من شطن إذا بعد نوىً شطون سمى به لبعده عن الخير ، أو لبعد مذهبه في الشر ، نونه أصلية ، أو من شاط يشيط إذا هلك زائد النون ، أو من التشيط وهو الاحتراق سمى ما يؤول إليه أمره . { إِنَّا مَعَكُمْ } على التكذيب والعداوة . { مُسْتَهْزِءُونَ } بإظهار التصديق .

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

{ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } يجزيهم على استهزائهم ، سمى الجزاء باسم الذنب { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أو نجزيهم جزاء المستهزئين ، أو إظهاره عليهم أحكام الإسلام مع ما أوجبه لهم من العقاب فاغتروا به كالأستهزاء بهم ، أو هو كقوله تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] للاستهزاء به ، أو يُفتح لهم باب جهنم فيريدون الخروج على رجاء فيزدحمون فإذا انتهوا إلى الباب ضُربوا بمقامع الحديد حتى يرجعوا فهذا نوع من العذاب على صورة الاستهزاء . { وَيَمُدُّهُمْ } يملي لهم ، أو يزيدهم ، مددت وأمددت أو مددت في الشر وأمددت في الخير ، أو مددت فيما زيادته منه ، وأمددت فيما زيادته من غيره . { طُغْيَانِهِمْ } غلوهم في الكفر ، الطغيان : مجاوزة القدر . { يَعْمَهُونَ } يترددون أو يتحيرون ، أو يعمون عن الرشد .

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)

{ اشْتَرَوُاْ } الكفر بالإيمان على حقيقة الشراء ، أو استحبوا الكفر على الإيمان إذ المشتري محب لما يشتريه ، إذ لم يكونوا قبل ذلك مؤمنين ، أو أخذوا الكفر وتركوا الإيمان . { فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } في اشتراء الضلالة ، أو ما اهتدوا إلى تجارة المؤمنين ، أو نفى عنهم الربح والاهتداء جميعاً ، لأن التاجر قد لا يربح مع أنه على هدى في تجارته ، فلذلك أبلغ في ذمهم .

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)

{ اسْتَوْقَدَ } أوقد ، أو طلب ذلك من غيره للاستضاءة { أَضَآءَتْ } ضاءت النار في نفسها ، وأضاءت ما حولها . قال :
أضاءت لهم أحسابُهم ووجوهُهم ... دُجَى الليل حتى نظَّمَ الجَزعَ ثاقبُه
{ بِنُورِهِمْ } أي : المُستوقد ، لأنه في معنى الجمع ، أو بنور المنافق عند الجمهور ، فيذهب في الآخرة فيكون ذهابه سمة يعرفون بها ، أو ذهب ما أظهروه للنبي صلى الله عليه وسلم من الإسلام { فِى ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } لم يأتهم بضياء يبصرون به ، أو لم يخرجهم من الظلمات ، وحصول الظلمة بعد ضياء أبلغ ، لأن من صار في ظلمة بعد ضياء أقل إبصاراً ممن لم يزل فيها ، ثم الضياء دخولهم في الإسلام ، والظلمة خروجهم منه ، أو الضياء تعززهم بأنهم في عداد المسلمين ، والظلمة زواله عنهم في الآخرة .

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)

{ صُمُّ } أصل الصم : الانسداد ، قناة صماء أي غير مجوفة ، وصممت القارورة سددتها ، فالأصم : المسند خروق المسامع . { بُكْمٌ } البكم : آفة في اللسان تمنع معها اعتماده على مواضع الحروف ، أو الأبكم الذي يولد أخرس ، أو المسلوب الفؤاد الذي لا يعي شيئاً ولا يفهمه ، أو الذي جمع الخرس ، وذهاب الفؤاد ، صموا عن سماع الحق ، فلم يتكلموا به ، ولم يبصروه ، فهم لا يرجعون إلى الإسلام .

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)

{ كَصَيِّبٍ } الصيب : المطر ، أو السحاب . { الرَّعْدُ } ملك ينعق بالغيث نعيق الراعي بالغنم ، سمى ذلك الصوت باسمه ، أو ريح تختنق تحت السماء قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو اصطكاك الأجرم . { الْبَرْقُ } ضرب الملك الذي هو الرعد السحاب بمخراق من حديد قاله علي رضي الله عنه : أو ضربه بسوط من نور قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو ما ينقدح من اصطكاك الأجرام .
{ الصَّاعِقَةُ } الشديد من صوت الرعد تقع معه قطعة نار . شبه المطر بالقرآن ، وظلماته بالابتلاء الذي في القرآن ، ورعده بزواجر القرآن ، وبرقه ببيان القرآن ، وصواعقه بوعيد القرآن في الآجل ، ودعائه إلى الجهاد عاجلاً قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو شبه المطر بما يخافونه من وعيد الآخرة ، وبرقه بما في إظهارهم الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وإرثهم ، وصواعقه بزواجر الإسلام بالعقاب عاجلاً وآجلاً ، أو شبه المطر بظاهر إيمانهم ، وظلمته بضلالهم ، وبرقه بنور الإيمان ، وصواعقه بهلاك النفاق .

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

{ يَكَادُ } يقارب ، الخطف : الاستلاب بسرعة . { أَضَآءَ لَهُم } الحق . { مَّشَوْاْ فِيهِ } تبعوه { وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ } بالهوى تركوه ، أو كلما غنموا وأصابوا خيراً تبعوا المسلمين ، وإذا أظلم فلم يصيبوا خيراً قعدوا عن الجهاد . { لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } أسماعهم .
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

{ أَندَاداً } أكفاء أو أشباهاً ، أو أضداداً . { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أن الله خلقكم ، أو لأنه لا ند له ولا ضد ، أو وأنتم تعقلون .

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)

{ عَبْدِنَا } العبد مأخوذ من التعبد ، وهو التذلل ، فسُمي به المملوك من جنس ما يعقل لتذلُلِه لمولاه . { مِّن مِّثْلِهِ } من مثل القرآن ، أو من مثل محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه بشر مثلكم . { شُهَدَآءَكُم } أعوانكم ، أو آلهتكم ، لاعتقادهم أنها تشهد لهم ، أو ناساً يشهدون لكم .

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

{ وَقُودُهَا } الوقود : الحطب ، والوُقود : التوقد . { وَالْحِجَارَةُ } من كبريت أسود ، فالحجارة وقود للنار مع الناس . هول أمرها بإحراقها الأحجار كما تحرق الناس ، أو أنهم يعذبون فيها بالحجارة مع النار التي وقودها الناس . { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ } إعدادها مع اتحادها لا ينفي أن تعد لغيرهم من أهل الكبائر أو هذه نار أعدت لهم خاصة ، ولغيرهم نار آخرى .

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)

{ وَبَشِّرِ } البشارة : أول خبر يرد عليك بما يسرّ ، أو هي أول خبر يسرّ أو يغم ، وإن كثر استعمالها فيما يسرّ ، أُخذت من البشرة ، وهي ظاهر الجلد ، لتغيرها بأول خبر . { جَنَّاتٍ } سمي البستان جنة لأن شجره يستره ، المفضل : الجنة : كل بستان فيه نخل وإن لم يكن فيه شجر غيره ، فإن كان فيه كَرْم فهو فردوس سواء كان فيه شجر غير الكَرْم ، أو لم يكن . { مِن تَحْتِهَا } من تحت الأشجار ، قيل تجري أنهارها في غير أخدود . { رُزِقُواْ مِنْهَا } أي من ثمر أشجارها . { هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا } أي الذي رزقنا من ثمار الجنة كالذي رزقنا من ثمار الدنيا ، أو إذا استخلف مكان جَنى الجنة مثله فرأوه فاشتبه عليهم بالذي جنوه قبله فقالوا هذا الذي رزقنا من قبل . { مُتَشَابِهاً } يشبه بعضه بعضاً في الجودة لا رديء فيه ، أو يشبه ثمار الدنيا في اللون دون الطعم ، أو يشبه ثمار الدنيا في اللون والطعم ، أو يشبهها في الأسم دون اللون والطعم ، وليس بشيء { مُّطَهَّرَةٌ } في الأبدان ، والأخلاق ، والأفعال ، فلا حيض ، ولا ولاد ، ولا غائط ، ولا بول ، إجماعاً .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)

{ لا يَسْتَحْىِ } لا يترك ، أو لا يخشى ، أو لا يمنع ، أصل الاستحياء : الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح . { بَعُوضَةً } صغار البق لأنها كبعض بقة كبيرة { فَمَا فَوْقَهَا } ما : صلة ، أو بمعنى الذي ، أو ما بين بعوضة إلى ما فوقها { فَوْقَهَا } في الكبر ، أو في الصغر . نزلت في المنافقين لما ضرب لهم المثل بالمُستوقد والصيب قالوا : الله أعلى أن يضرب هذه الأمثال ، أو ضربت مثلاً للدنيا وأهلها فإن البقة تحيا ما جاعت فإذا شبعت ماتت ، فكذا أهل الدنيا إذا امتلئوا منها أُخذوا . أو نزلت في أهل الضلالة لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب قالوا ما بالهما يذكران فنزلت . { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً } بالمثل كثيراً { وَيَهْدِى بِهِ كَثِيراً } أو يضل بالتكذيب بالأمثال المضروبة كثيراً ، ويهدي بالتصديق بها كثيراً ، أو حكاه عمن ضل منهم ، ومن اهتدى .

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)

{ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ } النقض : ضد الإبرام ، والميثاق : ما وقع التوثق به ، والعهد : الوصية ، أو الموثق ، فعهده : ما أنزله في الكتب من الأمر والنهي ، ونقض ذلك ، مخالفته ، أو العهد : ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب ، ونقضه : جحودهم له بعد إعطائهم ميثاقهم { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [ آل عمران : 187 ] ، أو العهد : ما جعل في العقول من حجج التوحيد ، وتصديق الرسل صلوات الله تعالى عليهم وسلامه بالمعجزات ، أو العهد : الذي أُخذ عليهم يوم الذر إذ أخرجوا من صلب آدم عليه الصلاة والسلام ، والضمير في ميثاقه عائد على اسم الله تعالى ، أو على العهد . عُني بهؤلاء المنافقين ، أو أهل الكتاب ، أو جميع الكفار . { مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } هو الرسول ، قطعوه بالتكذيب والعصيان ، أو الرحم والقرابة ، أو هو عام في كل ما أمر بوصله . { وَيُفْسِدُونَ فِى الأَرْضِ } بإخافة السبيل ، وقطع الطريق ، أو بدعائهم إلى الكفر . { الْخَاسِرُونَ } الخسار : النقصان ، نقصوا حظوظهم وشرفهم ، أو الخسار : الهلاك ، أو كل ما نسب إلى غير المسلم من الخسار فالمراد به الكفر ، وما نسب إلى المسلم فالمراد به الذنب .

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ } توبيخ ، أو تعجب ، عجَّبَ المؤمنين من كفرهم { وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } أمواتاً : عَدَماً ، فأحياكم : خلقكم { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند الأجل { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } في القيامة ، أو أمواتاً في القبور ، فأحياكم فيها للمساءلة ، ثم يميتكم فيها ، ثم يحييكم للبعث ، لأن حقيقة الموت ما كان عن حياة ، أو أمواتاً في الأصلاب ، فأحياكم أخرجكم من بطون الأمهات ، ثم يميتكم في الأجل ، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة ، أو كنتم أمواتاً بعد أخذ الميثاق يوم الذر ، فأحياكم خلقكم في بطون أمهاتكم ، ثم يميتكم عند الأجل ، ثم يحييكم يوم القيامة ، أو أمواتاً نطفاً . فأحياتكم بنفخ الروح ، ثم يميتكم في الأجل ، ثم يحييكم يوم القيامة ، أو كنتم أمواتاً خاملي الذكر ، فأحياكم بالظهور والذكر ، ثم يميتكم في الأجل ، ثم يحييكم يوم القيامة . { تُرْجَعُونَ } إلى مجازاته على أعمالكم ، أو إلى الموضع الذي يتولى الله تعالى فيه الحكم بينكم .

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

{ اسْتَوَى إِلىَ السَّمَآءِ } أقبل عليها ، أو قصد إلى خلقها ، أو تحول فعله إليها ، أو استوى أمره وصنعه الذي صنع به الأشياء إليها ، أو استوت به السماء ، أو علا عليه وارتفع ، أو استوى الدخان الذي خلقت منه السماء وارتفع .

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

{ وَإِذْ قَالَ } « إذ » صلة ، أو أصلية مقصودة ، لما ذكر نعمه لخلقه بما خلق لهم في الأرض ذكَّرهم نعمه على أبيهم آدم صلى الله عليه وسلم أو أنه ذكر ابتداء الخلق كأنه قال وابتدأ خلقكم إذ قال ربك . { لِلْملآئِكَةِ } الملك مأخوذ من ألك يألك إذا أرسل [ والألوك : الرسالة ] سميت بذلك ، لأنها تولك في الفم ، يقال : الفرس يألك اللجام ويعلكه ، ألكنى إليها : أرسلني إليها ، والملك : أفضل الحيوان ، وأعقل الخلق ، لا يأكل ، ولا يشرب ولا ينكح ، ولا ينسل ، وهو رسول لا يعصي الله تعالى في قليل ولا كثير ، له جسم لطيف لا يرى إلا إذا قوّى الله تعالى أبصرنا . { جَاعِلٌ } خالق ، أو فاعل . { فِى الأَرْضِ } قيل إنها مكة . { خَلِيفَةً } الخليفة من قام مقام غيره ، خليفة : يخلفني في الحكم بين الخلق ، هو آدم صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من ذريته ، أو بنو آدم يخلفون آدم ، ويخلف بعضهم بعضاً في العمل بالحق ، وعمارة الأرض ، أو آدم وذريته خلفاء من الذين كانوا فيها فأفسدوا ، وسفكوا الدماء . { أَتَجْعَلُ } استفهام لم يجبهم عنه ، أو إيجاب قالوه ظناً لما رأوا الجن قد أفسدوا في الأرض ألحقوا الإنس بهم في ذلك ، أو قالوه عن إخبار الله تعالى لهم بذلك ، فذكروا ذلك استعظاماً لفعلهم مع أنعامه عليهم ، أو قالوه تعجباً من استخلافه لهم مع إفسادهم . { وَيَسْفِكُ } السفك : صب الدم خاصة ، والسفح : مثله إلا أنه يستعمل في كل مائع على وجه التضييع ولذلك قيل للزنا سفاح . { نُسَبِّحُ } التسبيح : التنزيه من السوء على وجه التعظيم ، فلا يُسبَّح غير الله تعالى ، لأنه قد صار مستعملاً في أعلى مراتب التعظيم التي لا يستحقها سواه ، نسبح لك نصلي لك ، أو نعظمك ، أو التسبيح المعروف ، أو هو رفع الصوت بالذكر . { وَنُقَدِّسُ لَكَ } التقديس : التطهير ، الأرض المقدسة : المطهرة . نقدس : نصلي لك ، أو نطهرك من الأدناس ، أو التقديس المعروف . { مَا لا تَعْلَمُونَ } ما أضمره إبليس من المعصية ، أو من ذرية آدم صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المصلحين ، أو ما اختص بعلمه من تدبير المصالح .

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)

{ ءَادَمَ } سُمي به ، لأنه خلق من أديم الأرض : « وهو وجهها الظاهر » ، أو أُخذ من الأُدمة . { الأَسْمَآءَ } أسماه الملائكة ، أو أسماء ذريته ، أو أسماء كل شيء ، عُلم الأسماء وحدها ، أو الأسماء والمسميات ، وعلى الأول علمها بلغته التي كان يتكلم بها ، أو علمها بجميع اللغات ، وعلمها آدم صلى الله عليه وسلم ولده فلما تفرقوا تكلمت كل طائفة بلسان ألفوه منها ، ثم نسوا الباقي بتطاول الزمان ، أو أصبحوا وقد تكلمت كل طائفة بلغة ، ونسوا غيرها في ليلة واحدة ، وهذا خارق . { عَرَضَهُمْ } الأسماء ، أو المسمين على الأصح ، وعرضهم بعد أن خلقهم ، أو صورهم لقلوب الملائكة ثم عرضهم قبل خلقهم . { أَنبِئُونِى } أخبروني ، مأخوذة من الإنباء ، وهو الإخبار على الأظهر ، أو الإعلام . { صَادِقِينَ } أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه ، لأنه وقع لهم ذلك ، أو فيما زعتمم أن الخليفة يفسد في الأرض ، أو أني إن استخلفتكم سبحتم ، وقدستم ، وإن أستخلف غيركم عصى ، أو أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أفضل منه ، أو صادقين : عالمين .

قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

{ الْعَلِيمُ } العالم من غير تعليم { الْحَكِيمُ } المحكم لأفعاله ، أو المصيب للحق ، ومنه الحاكم لإصابته ، أو المانع من الفساد ، وحكمة اللجام تمنع الفرس من شدة الجري . قال :
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا

قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

{ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } ما تبدون من قولكم { أَتَجْعَلُ فِيهَا } والمتكوم : ما أسرَّه إبليس من الكِبْرِ ، والعصيان ، أو ما أضمروه من أن الله تعالى لا يخلق خلقاً إلا كانوا أكرم عليه منهم .

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

{ اسْجُدُواْ } أصل السجود : الخضوع ، والتطامن ، أُمروا بذلك تكريماً لآدم صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لشأنه ، أو جُعل قِبلة لهم ، وأُمروا بالسجود إليه . { إِلآ إِبْلِيسَ } امتنع حسداً ، وتكبراً ، وكان أبا الجن كما آدم صلى الله عليه وسلم أبو البشر ، أو كان من الملائكة فيكون قوله تعالى : { كَانَ مِنَ الجن } [ الكهف : 50 ] وهم حي من الملائكة يسمون جِنّاً ، أو كان من خزان الجنة ، فاشتق اسمه منها ، أو لانه جن عن الطاعة ، أو الجن اسم لكل مستتر مجتنن . قال :
براه إلهي واصطفاه لدينه ... وملكه ما بين توما إلى مصر
وسخر من جن الملائك تسعة ... قياماً لديه يعملون بلا آجر
واشتق من الإبلاس ، وهو اليأس من الخير ، أو هو اسم أعجمي لا اشتقاق له .
{ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } صار منهم أو كان قبله كفار هو منهم ، أو كان من الجن وإن لم يكن قبله جن ، كما كان آدم صلى الله عليه وسلم من الإنس وليس قبله إنس .

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

{ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ } خلقت حواء من ضلع آدم صلى الله عليه وسلم وهو نائم ، ولهذا يقال لها ضلع أعوج ، وسميت امرأة لأنها خلقت من المرء ، وسمت حواء لأنها خلقت من حي ، أو لأنها أم كل حي ، وخلقت قبل دخوله الجنة ، أو بعد دخوله إليها . { الْجَنَّةَ } جنة الخلد ، أو جنة أعدها الله تعالى لهما . { رَغَداً } الرغد : العيش الهنيء ، أو الواسع ، أو الحلال الذي لا حساب فيه . { الشَّجَرَةَ } البر ، أو الكرم ، أو التين ، أو شجرة الخلد التي كانت الملائكة تَحنَك منها . { الظَّالِمِينَ } لأنفسهما ، أو المعتدين بأكل ما لم يبح ، وأكلها ناسياً فحكم عليه بالمعصية ، لترك التحرز ، لأنه يلزم الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه من التحرز ما لا يلزم غيرهم أو أكل منها وهو سكران ، قاله ابن المسيب : أو أكل عالماً متعمداً ، أو تأول النهي على التنزيه دون التحريم ، أو على عين الشجرة دون جنسها ، أو على قوله تعالى { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } [ الأعراف : 20 ] .

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)

{ فَأَزَلَّهُمَا } أزالهما : نَحَّاهما ، وأزلهما : من الزلل وهو الزوال عن الحق . والشيطان : إبليس ، وسوس لهما من غير مشاهدة ، ولا خلوص إليهما ، أو خلص إليهما وشافههما بالخطاب ، وهو الأظهر ، وقول الأكثر . { فَأَخْرَجَهُمَا } نسب الخروج إليه ، لأنه سببه . { اهْبِطُواْ } الهُبوط : الزوال ، والهبوط : موضع الهَبوط ، المأمور به آدم ، وحواء ، وإبليس ، والحية ، أو آدم ، وإبليس وذريتهما ، أوآدم ، وحواء والوسوسة . { عَدُوٌّ } بنو آدم وبنو إبليس أعداء ، أو الذي أُمروا بالهبوط بعضهم لبعض أعداء ، { مُسْتَقَرٌّ } مقامهم عليها ، أو قبورهم . { وَمَتَاعٌ } كل ما انتفع به فهو متاع . { إِلَى حِينٍ } الموت ، أو قيام الساعة ، أو أجل .

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)

{ كَلِمَاتٍ } الكلام من التأثير ، لتأثيره في النفس بما يدل عليه من المعاني ، والجرح كلم لتأثيره في الجسد . والكلمات قوله تعالى : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ } الآية [ الأعراف : 23 ] أو قول آدم صلى الله عليه وسلم لربه تبارك وتعالى « أرأيت إن تبت وأصلحت » فقال : إني راجعك إلى الجنة ، أو قوله : « لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين ، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، ربي إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين ، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إي ظلمت نفسي فتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم » { فَتَابَ عَلَيْهِ } توبة العبد الرجوع عن المعصية ، وتوبة الرب عليه قبول ذلك ، ورجوعه له إلى ما كان عليه ، والتوبة واجبة عليه وعلى حواء ، وأفرد بالذكر ، لقوله تعالى { فَتَلَقَّى ءَادَمُ } أفرده بالذكر فرد الإضمار إليه ، أو استغنى باذكر أحدهما عن الآخر لاشتراكهما في حكم واحد { وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] { انفَضُّوَاْ إِلَيْهَا } { التَّوَّابُ } الكثير القبول للتوبة . { الرَّحِيمُ } الذي لا يخلي عباده من نعمه . ولم يهبط عقوبة ، لأن ذنبه صغير ، وهبوطه وقع بعد قبول توبته ، وإنما أُهبط تأديباً ، أو تغليظاً للمحنة . الحسن « خلق آدم للأرض ، فلو لم يعص لخرج على غير تلك الحال » أو يجوز أن يخلق لها إن عصى ولغيرها إن لم يعص .

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)

{ إِسْرَآءِيلَ } يعقوب ، إسرا بالعبرانية عبد ، وإيل هو الله تعالى فهو عبد الله . { أذْكُرُواْ } الذّكِر باللسان وبالقلب ، والذُّكر بالشرف بضم الذال وكسرها في القلب واللسان . أو بالضم في القلب وبالكسر في اللسان ، ومراد الآية ذكر القلب ، يقول : لا تتناسوا نعتمي . { نِعْمَتىَ } إنعامي العام على خلقي ، أو أنعامي على آبائكم بما ذكر في هذه السورة ، فالإنعام على الآباء شرف للأبناء . { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى } أوفوا بما أمرتكم به { أوف } بما وعدتكم ، أو أوفوا بما أنزلته في كتابكم ، « أن تؤمنوا بي وبرسلي » أوف لكم بالجنة ، سماه عهداً ، لأنه عهد به إليهم في الكتب السالفة ، أو جعل الأمر كالعهد الذي هو يمين لاشتراكهما في لزوم الوفاء بهما .

وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)

{ بِمَآ أَنزَلْتُ } على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } من التوراة في التوحيد ولزوم الطاعة ، أو مصدقاً لما فيها من أنها من عند الله ، أو لما فيها من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . { أَوَّلَ كَافِرِ } بالقرآن من أهل الكتاب ، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو بما في التوراة والإنجيل من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . { ثَمَناً قَلِيلاً } لا تأخذوا عليه أجراً ، وفي كتابهم « يا ابن آدم عَلم مجاناً كما عُلمت مجاناً » ، أو لا تأخذوا على تغييره وتبديله ثمناً ، أو لا تأخذوا ثمناً على كتم ما فيه من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن .

وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

{ وَلا تَلْبِسُواْ } ولا تخلطوا الصدق بالكذب ، اللبس : الخلط ، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام ، أو التوراة المنزلة بما كتبوه بأيديهم { وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ } نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه في كتبكم .

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

{ الزَّكَاةَ } من النماء والزيادة ، لأنها تثمر المال ، أو من الطهارة بأدائها يطهر المال فيصير حلالاً ، أو تطهر المالك من إثم المنع . { الرَّاكِعِينَ } الركوع من التطامن والانحناء ، أو من الذل والخضوع ، عُبِّر عن الصلاة بالركوع ، أو أراد ركوعها إذ لا ركوع في صلاتهم .

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)

{ بِالْبِرِّ } بالطاعة ، أُمروا بها وعصوا ، أو أُمروا بالتمسك بكتابهم ، وتركوه بجحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو أُمروا بالصدقة وضنوا بها .

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)

{ بِالصَّبْرِ } على الطاعة ، وعن المعصية ، أو بالصوم ، ويسمى صبراً لأنه يحبس نفسه عن الطعام والشراب ، والصبر : حبس النفس عما تنازع إليه . « كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر استعان بالصلاة والصوم » { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } وإن الصلاة لثقيلة إلا على المؤمنين ، أو إن الصبر والصلاة أرادهما وأعاد الضمير إلى أحدهما ، أو أن إجابة محمد صلى الله عليه وسلم لشديدة { إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } الخشوع والخضوع : التواضع ، أو الخضوع في البدن ، والخشوع في الصوت والصبر .

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)

{ يَظُنُّون أَنَّهُم مُّلاقُواْ رَبِّهِمْ } بذنوبهم لإشفاقهم منها أو يتيقنون عند الجمهور . { رَاجِعُونَ } بالموت ، أو بالإعادة ، أو إلى أن لا يملك لهم أحد غيره ضراً ولا نفعاً كما كانوا في بدو الخلق .

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

{ لاَّ تَجْزِى } لا تغني ، أو لا تقضي ، جزاه الله خيراً : قضاه . { شَفَاعَةٌ } لا يقدر على شفيع تقبل شفاعته ، أو لا يجيبه الشفيع إلى الشفاعة ، إن كان مشفعاً لو شفع . { عَدْلٌ } فدية ، وعِدْل : مثل « لا يقبل منه صرف ولا عدل » الصرف : العمل ، والعدل : الفدية . أو الصرف : الدية ، والعدل : رجل مكانه . أو الصرف : التطوع ، والعدل : الفرض أو الصرف : الحيلة ، والعدل : الفدية ، قاله أبو عبيدة .

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

{ ءَالِ فِرْعَوْنَ } آل الرجل : هم الذين تؤول أمروهم إليه في نسب أو صحبة ، والآل والأهل سوا [ أ ] و الآل يضاف إلى المُظهر دون المضمر والأهل يضاف إليهما ، أهل العلم وأهل البصرة ولا يقال آل العلم ولا آل البصرة . { فِرعَوْنَ } اسم رجل معين ، أو فرعون لملوك العمالقة ، كقيصر للروم وكسرى للفرس ، واسم فرعون « الوليد بن مصعب » { يَسُومُونَكُمْ } يولونكم « سامه خطة خسفٍ » : أولاه ، أو يجشمونكم الأعمال الشاقة ، أو يزيدونكم على ذلك سوء العذاب ومساومة البيع : مزايدة كل واحد من العاقدين . { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } يبقونهم أحياء للاسترقاق والخدمة فلذلك كان من سوء العذاب . والنساء يقع على الكبار والصغار ، أو تسمى به الصغار ، اعتباراً بما يصرن إليه { وَفِى ذَلِكُم } إنجائكم ، أو في سومهم إياكم سوء العذاب . والذبح والإبقاء ، والبلاء : يستعمل في الاختبار بالخير والشر . والأكثر في الخير : أبليته أبليه إبلاء ، وفي الشر : بلوته أبلوه بلاء .

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

{ فَرَقْنَا } فصلنا « أو ميزنا » وسمى البحر بحراً لسعته وانبساطه ، تبحر في العلم اتسع فيه . { تُنظُرُونِ } إلى سلوكهم البحر ، وانطباقه عليهم .

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)

[ { وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى } ] ووجد موسى [ عليه السلام ] في اليم بين الماء والشجر فمسى لذلك موسى ، مو : هو الماء ، وساء : هو الشجر . { الْعِجْلَ } قال الحسن : صار لحماً ودماً له خوار ومنع غيره ذلك لما فيه من الخرق المختص بالأنبياء ، وإنما جعل فيه خروقاً تدخلها الريح فتصوت كالخوار . وعلى طريق الحسن فالخرق يقع لغير الأنبياء في زمن الأنبياء ، لانهم يبطلونه . وقد قال السامري : { هاذآ إلهكم وإله موسى } [ طه : 88 ] فأبطل أن يدعي بذلك أعجاز الأنبياء ، وسمي عجلاً ، لأنه عجل بأن صار له خوار ، أو لانهم عجلوا بعبادته قبل رجوع موسى .

وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)

{ الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ } الكتاب : التوراة ، وهي الفرقان ، أو الفرقان ما في التوراة من الفرق بين الحق والباطل ، أو فرقة سبحانه وتعالى بين موسى وفرعون بالنصر ، أو انفراق البحر .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)

{ بَارِئِكُمْ } خالقكم والبرية : الخلق متروك همزها من برأ الله الخلق ، أو من البري وهو التراب ، أو من بريت العود ، أو من تبرى شيء من غيره إذا انفصل منه ، كالبراءة من الدَّيْن والمرض . { فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } مكنوا من قتلها ، أو ليقتل بعضكم بعضاً . والقتل إماتة الحركة قتلت الخمر بالماء إذا مزجتها به ، فسكنت حركتها ، ابن جريج ، جُعلت توبتهم بالقتل ، لأن الذين لم ينكروا خافوا القتل فجعلت توبتهم به .

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)

{ جَهْرَةً } علانية ، أو عياناً ، وأصل الجهر : الظهور ، ومنه جهر بالقراءة ، وجاهر بالمعاصي . { الصَّاعِقَةُ } الموت .

ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)

{ بَعَثْنَاكُم } أحييانكم ، أو سألوا أن يبعثوا بعد الإحياء أنبياء . والبعث هو الإرسال ، أو إثارة الشيء من محله ، وهؤلاء هم السبعون المختارون للميقات .

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

{ الْغَمَامَ } ما غطى السماء من السحاب ، غُم الهلال : غطاه السحاب ، وكل مُغطى مغموم . وهذا الغمام هو السحاب ، أو الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر . { الْمَنَّ } ما سقط على الشجر فأكله الناس أو صمغة ، أو شراب كانوا يشربونه ممزوجاً بالماء . أو عسل ينزل عليهم أو الخبز الرقاق ، أو الزنجبيل . أو الترنجبين . { وَالسَّلْوَى } السماني أو طائر يشبهه . كانت تحشره عليهم ريح الجنوب . { طَيِّبَاتِ } اللذيذة ، أو الحلال .

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)

{ الْقَرْيَةَ } بيت المقدس ، أو قرية بيت المقدس ، أو أريحيا . { الْبَابَ } باب القرية المأمور بدخولها ، أو باب حِطة ، وهو الثامن من بيت المقدس . { سُجَّداً } ركعاً ، أو متواضعين خاضعين ، أصل : السجود الانحناء تعظيماً وخضوعاً . { حِطَّةٌ } لا إله إلا الله ، أو أُمروا بالاستغفار أو حط عنا خطايانا ، أو قولوا : هذا الأمر حق كما قيل لكم . [ { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } ] نغفرها بسترها عليكم فلا نفضحكم ، من الغفر وهو الستر ، ومنه بيضة الحديد : مغفر .

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)

{ فَبَدَّلَ } دخلوا الباب يزحفون على أستاههم ، وقالوا حنطة في شعيرة استهزاء منهم . { رِجْزاً } عذاب ، أو غضب أو طاعون أهلكهم كلهم ، وبقي الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه .

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

{ اسْتَسْقَى } طلب السقيا ، سقيته وأسقيته ، أو سقيته بسقى شفته ، وأسقيته دللته على الماء . { فَانفَجَرَتْ } الانفجار : الانشقاق ، والانبجاس أضيق منه . { عَيْناً } شبهت بعين الحيوان ، لخروج الماء منها كما يخرج الدمع . { كُلُّ أُنَاسٍ } لكل سبط عين عرفها لا يشرب من غيرها . { تَعْثَوْاْ } تطغوا ، أو تسعوا « العيث » : شدة الفساد . .

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

{ وَفُومِهَا } الحنطة ، أو الخبز ، أو الثوم . { مِصْراً } مبهماً ، أو مصر فرعون ، والمصر من القطع لانقطاعه بالعمارة ، أو من الفصل ، قال :
وجاعل الشمس مصراً لاخفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا
{ الذِّلَّةُ } الصغار ، أو ضرب الجزية . { وَالْمَسْكَنَةُ } الفقر ، أو الفاقة . { وَبَآءُو } نزلوا من المنزلة ، قال رجل للرسول صلى الله عليه وسلم : هذا قاتل أخي [ قال ] : فهو بواء به : أي ينزل منزلته في القتل ، أو أصله التسوية أي تساووا في الغضب : عبادة بن الصامت : جعل الله تعالى الأنفال إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقسمها بينهم على بواء : أي سواءَ ، أو رجعوا . والبواء الرجوع لا يكون إلا بشر أو خير . { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّنَ } مكنهم من قتل الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه ليرفع درجاتهم ، أو كل نبي أمره بالحرب نصره ، ولم يمكن من قتله قاله الحسن : والنبي من النبأ ، وهو الخبر لإنبائه عن الله تعالى أو من النبوة المكان المرتفع ، لارتفاع منزلته ، أو من النبي وهو الطريق ، لأنه طريق إلى الله تعالى .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

{ هَادُواْ } من هاد يهود هودا وهيادة إذا تاب . أو من قولهم { هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أو نسبوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب عليه الصلاة والسلام فعربته العرب بالدال . { وَالنَّصَارَى } جمع نصراني ، أو نصرانِ عند سيبويه وعند الخليل نصري . لنصرة بعضهم لبعض ، أو لقوله تعالى : { مَنْ أنصارى إِلَى الله } [ آل عمران : 52 ] أو كان يقال لعيسى عليه الصلاة والسلام الناصري لنزوله الناصرة فنُسب إليه النصارى . { وَالصَّابِئِينَ } جمع صابىء ، من الطلوع والظهور ، صبأ ناب البعير : طلع ، أو من الخروج من شيء إلى آخر ، لخروجهم من اليهودية إلى النصرانية ، أو من صبا يصبو إذا مال إلى شيء وأحبه على قراءة نافع بغير الهمز ، ثم هم قوم بين اليهود والمجوس ، أو قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى القبلة ، ويقرؤون الزبور ، أو دينهم شبيه بدين النصارى ، قبلتهم نحو مهب الجنوب حيال منتصف النهار ، يزعمون أنهم على دين نوح عليه الصلاة والسلام { مَنْ ءَامَنَ } نزلت في سلمان ، والذين نَصَّروه وأخبروه بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم أو هي منسوخة بقوله تعالى { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام } [ آل عمران : 85 ] والمراد بالنسخ التخصيص .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)

{ الطُّورَ } جبل التكليم ، وإنزال التوراة ، أو ما أنبت من الجبال دون ما لم ينبت ، أو اسم كل جبل بالسرياني ، أو بالعربي ، قال :
داني جناحيه من الطور فمرَّ ... تَقضِّيَ البازي إذا البازي كسر
{ بِقُوَّةٍ } بجد واجتهاد ، أو بطاعة الله تعالى ، أو بالعمل بما فيه .

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)

{ اعْتَدَوْاْ } بأخذ الحيتان استحلالاً ، أو حبسوها يوم السبت ، وأخذوها يوم الأحد . { السَّبْتِ } من القطع ، فهو القطعة من الدهر ، أو سبت فيه خلق كل شيء : قطع وفرغ منه ، أو تسبت فيه اليهود عن العمل ، أو من الهدوء والسكون ، لأنهم يستريحون فيه { نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } [ النبأ : 9 ] والنائم مسبوت . { قِرَدَةً } صاروا في صورها ، أو لم يمسخوا بل مثلوا بالقردة ، كقوله { كَمَثَلِ الحمار } [ الجمعة : 5 ] قاله مجاهد . { خَاسِئِينَ } مطرودين مبعدين ، أو أذلاء .

فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

{ فَجَعَلْنَاهَا } العقوبة ، أو القرية ، أو الأمة ، أو الحيتان ، أو القردة الممسوخ على صورهم .
{ نَكَالاً } عقوبة ، أو عبرة يَنْكُل بها من رآها ، أو النكال الاشتهار بالفضيحة . { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } من القرى ، أو ما بين يديها من يأتي بعدهم ، وما خلفها الذين عاصروهم . أو ما بين يديها من الذنوب ، وما خلفها عبرة لمن يأتي بعدههم . أو ما بين يديها ذنوبهم ، وما خلفها للحيتان التي أصابوها ، أو ما بين يديها ما مضى من ذنوبهم ، وما خلفها ذنوبهم التي أُهلكوا بها .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)

{ هُزُواً } اللعب والسخرية ، قالوه استبعاداً لما بين السؤال والجواب .

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)

{ بَقَرَةً } من البَقْرِ وهو الشق ، لأنها تشق الأرض ، والذكر : ثور . { فَارِضٌ } ولدت بطوناً كثيرة فاتسع جوفها ، لأن الفارض في اللغة : الواسع ، أو الكبيرة الهرمة عند الجمهور . { بِكْرٌ } صغيرة لم تحمل ، البكر من البهائم والناس : ما لم يفتحله الفحل ، والبكر بفتح الباء : فتى الإبل . { عَوَانٌ } النَّصَف ، قد ولدت بطناً أو بطنين .

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

{ صَفْرَآءُ } اللون المعروف لقوله تعالى ، { فَاقِعٌ } [ يقال ] أسود حالك ، وأحمر قاني ، وأبيض ناصع ، وأخضر ناضر ، وأصفر فاقع ، وقال الحسن وحده : سوداء شديدة السواد ، كما قالوا : ناقة صفراء أي سوداء ، قال :
تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفرٌ أولادها كالزبيبِ
وأُريد بالصفرة قرنها وظلفها ، أو جميع لونها . { فَاقِعٌ } شديد الصفرة ، أو خالصها ، أو صافيها .

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)

{ ذَلُولٌ } أذلها العمل . { تُثِيرُ الأَرْضَ } والإثارة تفريق الشيء { مُسَلَّمَةٌ } من العيوب ، أو من الشية : وهي لون يخالف لونها من سواد أو بياض من وشي الثوب : وهو تحسين عيوبه بألوان مختلفة ، الواشي : الذي يحسِّن كذبه عند السلطان ليقبله . { جِئْتَ بِالْحَقِّ } بينت الحق ، أو قالوا : هذه بقرة فلان جئت بالحق فيها . { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } لغلاء ثمنها ، لأنه كان بملء مَسْكها ذهباً أو بوزنها عشر مرات ، أو خوفاً من الفضيحة بمعرفة القاتل ، وكان ثمنها ثلاثة دناير .

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)

{ فَادَّارَءْتُمْ } تدافعتم واختلفتم . { تَكْتُمُونَ } تسرون من القتل .

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

{ بِبَعْضِهَا } بفخذها ، أو ذنبها ، أو عظم من عظامها ، أو بعض آرابها ، أو البعضة التي بين الكتفين . فلما حيي القتيل قال : قتلني ابن أخي ، ثم مات فحلف بنو أخيه بالله ما قتلناه .

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

{ قَسَتْ قُلُوبُكُم } في ابن أخي الميت لما أنكر قتله بعد سماعه منه ، أو في جملة بني إسرائيل قست قلوبهم من بعد جميع الآيات التي أظهرها الله تعالى على موسى . { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } أو ها هنا وفيما أشبهه للإبهام على المخاطب . أبو الأسود الدؤلي :
أحب محمداً حباً شديداً ... وعباساً وحمزة أو علياً
فلما قيل له في ذلك استشهد بقوله تعالى : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً } ، أو تكون بمعنى « الواو » قال جرير :
نال الخلافة أو كانت له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر
أو تكون بمعنى « بلى » أو تكون لإباحة التشبيه بكل واحد منهما . أو هي كالحجارة أو أشد قسوة عندكم . { يَهْبِطُ } هبوطه تفيؤ ظلاله أو هو لجلالة الله سبحانه أو [ يُرى ] كأنه هابط خاشع لعظم أمر الله تعالى .
لما أتى خبرُ الزبير تواضعت ... سورُ المدينة والجبالُ الخشعُ
أو كل حجر تردى من رأس جبل فمن خشية الله تعالى ، أو يعطي بعض الجبال المعرفة [ فيعقل طاعة الله تعالى ] وقد حن الجذع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسَلِّم عليه حجرٌ بمكة .

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)

{ يُحَرِّفُونَهُ } نزلت فيمن حرّف التوراة فحرّم حلالها وأحل حرامها . أو في السبعين سمعوا كلام الله تعالى ثم حرّفوه لقومهم .

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)

{ فَتَحَ اللَّهُ } ذكركم الله تعالى به ، أو أنزله في التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو قول بني قريظة للرسول صلى الله عليه وسلم لما قال لهم : « يا إخوة القردة » من حدثك بهذا ، أو أسلم منهم ناس ، ثم نافقوا وحدثوا العرب بما عُذبوا به ، فقال بعضهم لبعض { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي بما قضى وحكم ، والفتح : القضاء والحكم .

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)

{ أُمِّيُّونَ } قوم لم يصدقوا رسولاً ، ولا كُتباً وكتبوا كتاباً بأيديهم وقالوا لجهالهم هذا من عند الله ، والأظهر أن الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب ، نسب إلى أصل ما عليه الأمَّة من أنها لا تكتب ابتداء ، أو أنه على ما ولدته أمه ، أو نسب إلى أمه ، لأن المرأة لا تكتب غالباً . { أمَانِىَّ } تلاوة ، أو كذباً ، أو أحاديث ، أو يتمنون على الله تعالى ما ليس لهم .

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

{ فَوَيْلٌ } عذاب ، أو تقبيح ، أو حزن ، أو وادٍ في النار ، أو جبل فيها أو وادٍ من صديد في أصلها . { يَكْتُبُونَ } يغيرون ما في التوراة من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم { بِأَيْدِيهِمْ } تحقيق للإضافة إليهم ، أو من تلقاء أنفسهم . { ثَمَناً قَلِيلاً } حراماً ، أو { مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ } [ النساء : 77 ] .

وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)

{ مَّعْدُودَةً } سبعة أيام ، زعموا أن عمر الدنيا سبعة آلاف وأنهم يعذبون على كل ألف يوماً واحداً من أيام الآخرة ، وهو ألف سنة من أيام الدنيا ، أو أربعون يوماً التي عبدوا فيه العجل ، أو زعموا أن في التوراة أن مسيرة ما بين طرفي [ جهنم ] أربعون سنة يسيرون كل سنة في يوم فإذا انقطع السير هلكت النار وانقطع عذابهم فتلك أربعون .

بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)

{ بَلَى } إيجاب للنفي : إذا قال مالي عليك شيء فقال بلى [ كان رداً لقوله وتقديره « بلى لي عليك » ] . { سَيِّئَةً } شركاً ، أو ذنوباً وعد عليها بالنار . { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } مات عليها ، أو سدت عليه مسالك النجاة .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)

[ { لا تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ } ] لا تقتلون أنفسكم لا يقتل بعضكم بعضاً أو لا تقتلوا أحداً فيقتص منكم به ، فتكونوا قاتلين لأنفسكم بالتسبب ، والنفس من النفاسة ، لأنها أنفس ما في الإنسان . { دِيَارِكُمْ } الخليل : كل موضع حله قوم فهو دار وإن لم يكن فيه أبنية ، أو الدار موضع فيه أبنية المقام .

ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)

{ تَظَاهَرُونَ } تتعاونون . { الإِثْمِ } الفعل الذي يستحق عليه الذم . { العدوان } مجاوزة الحق ، أو الإفراط في الظلم . { أُسَارَى } أَسري جمع أسير ، وأُساري جمع أَسرى ، أو الأُساري : الذين في الوثاق ، والأَسرى : الذين في اليد وإن لم يكونوا في وَثاق ، قاله ابن العلاء .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)

{ وَقَفَّيْنَا } أتبعنا ، التقفية : الإتباع . { الْبَيِّنَاتِ } الحجج ، أو الإنجيل أو إحياء الموتى ، وخلق الطير ، وإبراء الأسقام . { بِرُوحِ الْقُدُسِ } الاسم الذي كان يحيي به الموتى ، أو جبريل عليه السلام على الأظهر سمي به ، لأنه كالروح للبدن يحيا بما يأتي به من الوحي ، أو لأن الغالب على جسده الروحانية ، أو لأنه وجد قوله { كن } من غير ولادة القدس : البركة ، أو الطهر لبراءته من الذنوب ، والقدس والقدوس واحد .

وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)

{ غُلْفُ } في أغطية لا تفقه ، أو هي أعية للعلم . { لَّعَنَهُمُ } طردهم وأبعدهم . { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } قليلاً من يؤمن منهم ، لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من أهل الكتاب ، أو لا يؤمنون إلا بالقليل من كتابهم ، و « ما » صلة .

وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)

{ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } القرآن . { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } من التوراة والإنجيل أنه من عند الله تعالى ، أو مصدق لما فيهما من الأخبار { يَسْتَفْتِحُونَ } يستنصرون .

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)

{ اشْتَرَوُاْ } باعوا { بَغْياً } حسداً ، والبغي : شدة الطلب للتطاول ، أصله الطلب ، الزانية بغي ، لطلبها الزنا . { بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } الاول : كفرهم بعيسى صلى الله عليه وسلم ، والثاني كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أو الأول : قولهم : عزير ابن الله ، ويد الله مغلولة ، وتبديلهم الكتاب ، والثاني : كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو عبّر بذلك عن لزوم الغضب لهم . { مَهِينٌ } مذل ، عذاب الكافر مهين ، لأنه لا يمحص دينه بخلاف عذاب المؤمن ، لأنه محمص لدينه .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

{ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ } القرآن . { بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا } التوارة { بِمَا وَرَآءَهُ } بما بعده . { مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ } من التوراة ، وكتب الله تعالى يصدق بعضها بعضاً . { فَلِمَ تَقْتُلُونَ } فَلِمَ قتلتم ، أو فَلِمَ ترضون بقتلهم .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

{ وَاسْمَعُواْ } اعملوا بما سمعتم ، أو اقبلوا ما سمعتم ، سمع الله لمن حمده قبل حمده . { سَمِعْنَا } قولك { وَعَصَيْنَا } أمرك ، قالوه سراً ، أو فعلوا ما دل عليه ، ولم يقولوه فقام فعلهم مقام قولهم :
امتلأ الحوض وقال : قطني ... مهلاً رويداً قد ملأتُ بطني
{ وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ } حب العجل . أو بَرَده موسى عليه الصلاة والسلام وألقاه في اليم فمن شرب ممن أحب العجل ظهرت سُحَالة الذهب على شفتيه .

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)

{ مِّن دُونِ النَّاسِ } كلهم ، أو محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم « لو تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار » فلم يتمنوه علماً منهم أنهم لم تمنوه لماتوا كما قال : أو صرفوا عن إظهار تمنيه آية للرسول صلى الله عليه سلم .

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)

{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ } اليهود . و { الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } المجوس . { يَوَدُّ } أحد المجوس { لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } { بِمُزَحْزِحِهِ } بمباعده .

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)

{ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } نزلت لما قال ابن صوريا للرسول صلى الله عليه وسلم : أي ملك يأتيك بما يقول الله تعالى قال : « جبريل عليه السلام » قال : ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة ، وميكائيل يأتي باليسر والرخاء . فلو كان هو الذي يأتيك آمناً بك فنزلت . وجبر : عبد ، وميكا : عُبيد ، وأيل : هو الله تعالى ، وهما عبد الله وعُبيد الله ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ولم يخالف فيه أحد ، وخُصا بالذكر وإن دخلا في عموم الملائكة تشريفاً وتكريماً ، أو نص عليهما لأنهم يزعمون أنهم ليسوا بأعداء الله تعالى ولملائكته أجمع بل هم أعداء لجبريل وحده فأبطل مثل هذا التأويل بذكر جبريل عليه السلام .

مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)

{ عَدُوٌ لِّلْكَافِرِينَ } لم يقل عدو لهم لجواز انتقالهم عن العداوة بالإيمان .

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

{ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ } نزلت ، لأن كاتب سليمان « آصف بن برخيا » واطأ نفراً من الجن على أن دفنوا كتاب سحر تحت كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام ثم أخرجوه بعد موت سليمان عليه الصلاة والسلام وقالوا : هذا سحر سليمان ، فبرأه الله تعالى من ذلك ، أو استرقت الشياطين السمع ، واستخرجت السحر ، فاطلع عليه سليمان عليه الصلاة والسلام فنزعه منهم ودفنه تحت كرسيه ، فلم يقدر الشياطين أن يدنوا إلى الكرسي في حياته ، فلما مات قالت : للإنس : إن العلم الذي سخر به سليمان الريح والجن تحت كرسيه فأخرجوه ، وقالوا : كان ساحراً ، ولم يكن نبياً ، فتعلموه وعلموه ، فبرأه الله تعالى من ذلك . { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ } بنسبتهم سليمان عليه الصلاة والسلام إلى السحر « أو بما استخرجوه من السحر » { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } بإلقائه في قلوبهم « أو بدلالتهم عليه حتى أخرجوه » . { وَمَآ أُنزِلَ } « ما » بمعنى الذي ، أو نافيه . { الْمَلَكَيْنِ } بالكسر علجان من علوج بابل ، والقراءة المشهورة بالفتح ، زعمت سحرة اليهود أن جبريل وميكائيل أُنزل السحر على لسانهما إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فأكذبهم الله ، والتقدير : وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس { بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } وهم رجلان ببابل ، أو هاروت وماروت ملكان أُهبطا إلى الأرض في زمن إدريس عليه الصلاة والسلام فلما عصيا لم يقدرا على الرقي إلى السماء فكانا يعلمان السحر . { السِّحْرَ } خدع ومعانٍ تحول الإنسان حماراً وتُقلَب بها الأعيان وتنشأ بها الأجسام ، أو هو تخييل ولا يقدر الساحر على قلب الأعيان ولا إنشاء الأجسام ، قال الله تعالى { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ طه : 66 ] ، ولما سحر الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يكن فعله قال الشافعي رضي الله تعالى عنه « الساحر يوسوس ويمرض ويقتل » ، إذ التخيل بدو الوسوسة ، والوسوسة بدو المرض ، والمرض بدو التلف . { بِبَابِلَ } الكوفة وسوادها ، سميت بذلك لتبلبل الألسن بها ، أو من نصيبين إلى رأس عين ، أو جبل نهاوند . { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } على هاروت وماروت أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر بما تتعلمه من السحر . { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا } من هاروت وماروت ، أو من السحر والكفر أو من الشياطين والملكين السحر من الشياطين ، وما يفرق بين الزوجين من الملكين . { بِإِذْنِ } ما يضرون بالسحر أحداً { إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } بأمره ، أو بعلمه . { مَا يَضُرُّهُمْ } في الآخرة { وَلا يَنفَعُهُمْ } في الدنيا ، { مِنْ خَلاقٍ } لا نصيب لمن اشترى السحر ، أو لا جهة له ، أو الخلاق : الدين . { شَرَوْاْ } باعوا { بِهِ أَنفُسَهُمْ } من السحر والكفر بفعله وتعليمه ، أو من إضافتهم السحر إلى سليمان عليه الصلاة والسلام .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)

{ رَاعِنَا } لا تقولوا : خلافاً ، أو أرعنا سمعك أي اسمع منا ونسمع منك . كانت الأنصار تقولها في الجاهلية فنهوا عنها في الإسلام ، أو قالتها اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الاستهزاء والسب ، أو قالها رفاعة بن زيد وحده فنهي المسلمون عنها . { انظُرْنَا } أفهمنا وبيّن لنا ، أو أمهلنا ، أو أقبل علينا وانظر إلينا ، { وَاسْمَعُواْ } ما تؤمرون به .

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)

{ مَا نَنسَخْ } نسخها : قبضها ، أو تبديلها ، أو تبديل حكمها مع بقاء رسمها . { أَوْ نُنسِهَا } ننسكنها ، كان يقرأ الآية ثم ينسى وترفع ، أو يريد به الترك : أي ما نرفع من آية ، أو نتركها فلا نرفعها قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، « قلت : وفيه إشكال ظاهر » ، أو يريد به نمحها { نَنْسَأَها } نؤخرها أنسأت أخرت ، ومنه بيع النسيئة . { بِخَيْرٍ مِّنْهَآ } أنفع ، وأرفق ، وأخف ، فيكون الناسخ أكثر ثواباً آجلاً ، كنسخ صوم أيام معدودات برمضان ، أو أخف عاجلاً ، كنسخ قيام الليل . { أَوْ مِثْلِهَا } مثل حكمها في الخفة والثقل والثواب ، كنسخ التوجه إلى القدس بالتوجه إلى الكعبة ، فإنه مثله في المشقة والثواب . { أَلَمْ تَعْلَمْ } بمعنى أما علمت ، أو هو تقرير وليس باستفهام ، أو خوطب به والمراد أمته ، ولذلك أردفه بقوله : { وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ } .

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)

{ وَدَّ كَثِيرٌ } دعا فنحاص وزيد بن قيس حذيفة وعماراً إلى دينها فأبيا عليهما فنزلت . { تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } صحة الإسلام ، ونبوة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام . { فَاعْفُواْ } اتركوا اليهود ، { وَاصْفَحُواْ } عن قولهم . { بِأَمْرِهِ } بإجلاء بني النضير . وقتل بني قريظة وسبيهم . .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)

{ مَسَاجِدَ اللَّهِ } المساجع المعروفة ، أو جميع الأرض التي تقام فيها العبادة « جعلت لي الأرض مسجدا » . أُنزلت في بختنصر وأصحابه المجوس خربوا بيت المقدس ، أو في النصارى الذي أعانوا بختنصر على خرابه ، أو في قريش لصدهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن الكعبة عام الحديبية ، أو عامة في كل مشرك منع من مسجد . { خَرَابِهَآ } هدمها ، أو منعها من ذكر الله تعالى فيها . { خَآئِفِينَ } من الرعب إن قُدِرَ عليهم عوقبوا . { خِزْىٌ } الجزية ، أو فتح مدائنهم ، عمورية ، وقسطنطينية ، ورومية .

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)

{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ } لما حولت [ القبلة إلى ] الكعبة تكلمت اليهود فيها فنزلت ، أو أذن لهم قبل فرض الاستقبال أن يتوجهوا حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب ، أو في صلاة التطوع في السفر ، وللخائف أيضاً ، أو في قوم من الصحابة خفيت عليهم القبلة فصلوا على جهات مختلفة ثم أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت ، أو في النجاشي فإنه كان يصلي إلى غير القبلة ، أو قالوا لما نزل قوله تعالى : { ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] قالوا : إلى أين؟ فنزلت ، أو أين ما كنتم من شرق أو غرب فلكم قبلة هي الكعبة . { فَثَمَّ } إشارة إلى المكان البعيد . { وَجْهُ ا للَّهِ } قبلته ، أو فثم الله كقوله تعالى : { ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ } [ الرحمن : 27 ] .

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)

{ وَلَداً } نزلت في النصارى ، لقولهم في المسيح صلى الله عليه وسلم ، أو في العرب ، قالوا : الملائكة بنات الله . { قَانِتُونَ } مطيعون أو مقرون بالعبودية ، أو قائمون يوم القيامة ، والقنوت : القيام .

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

{ بَدِيعُ } منشئهما على غير مثال سبق ، وكل منشىء ما لم يسبق إليه فهو مبدع . { قَضَى } أحكم وفرغ .
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داودُ صَنَعُ السَّوابغ تُبعُ
{ كُن } هذا أمر للموجودات بالتحول من حال إلى أخرى كقوله تعالى : { كُونُواْ قِرَدَةً } [ البقرة : 65 ] وليس إنشاء للمعدوم ، أو هو لإنشاء المعدوم ، لأنه لما علم بها جاز أو يقول لها : « كن » لتحققها في علمه ، أو عبر عن نفوذ قدرته وإرادته في كل شيء بالقول ولا قول .
قد قالت الأنساع للبطن الحق .

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

{ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } اليهود ، أو النصارى ، أو مشركو العرب { الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم } اليهود أو اليهود والنصارى . { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } شابهت قلوب النصارى قلوب اليهود ، أو قلوب مشركي العرب لقلوب اليهود والنصارى .

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)

{ بَشِيراً } لمن أطاع بالجنة ، { وَنَذِيراً } لمن عصى بالنار . { وَلا تُسْئَلُ } لا تؤاخذ بكفرهم { وَلا تُسْئَلُ } نزلت لما قال : « ليت شعري ما فعل أبواي » .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)

{ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والكتاب : القرآن ، أو علماء اليهود ، والكتاب : التوراة ، { يَتْلُونَهُ } يقرؤونه حق قراءته ، أو يتبعونه حق اتباعه بإحلال حلاله ، وتحريم حرامه ، قاله الجمهور . { يُؤْمِنُونَ بِهِ } بمحمد صلى الله عليه وسلم .

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

{ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ } بالسريانية آب رحيم . { بِكَلمَاتٍ } شرائع الإسلام ، ما ابتلى أحد بهذا الدين فقام به كله سواه ، فكتب الله تعالى له البراءة ، فقال تعالى : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } [ النجم : 37 ] وهي ثلاثون سهماً ، عشر في براءة { التائبون العابدون } [ التوبة : 112 ] وعشر في « الأحزاب » { إِنَّ المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] وعشر في المؤمنين [ 1-9 ] ، { سَأَلَ سَآئِلٌ } [ المعارج : 1 ] إلى قوله { عَلَى صَلاتِهمْ يُحَافِظُونَ } [ المعارج : 34 ] ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو هي عشر من سنن الإسلام : خمس في الرأس ، قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الرأس ، وفي الجسد ، تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والختان ، ونتف الإبط ، وغسل أثر البول والغائط بالماء ، أو هي عشر : ست في الإنسان ، حلق العانة والختان ، ونتف الإبط ، وتقليم الإظفار ، وقص الشارب ، وغسل الجمعة ، وأربع في المشاعر : الطواف والسعي بين الصفا والمروة ، ورمي الجمار ، والإفاضة ، أو مناسك الحج خاصة ، أو الكواكب ، والقمر ، والشمس؛ والنار والهجرة والختان ، ابتُلي بهن فصبر ، أو ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله { الذي وفى } ؟ [ النجم : 37 ] لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] إلى قوله تعلى { تُظْهِرُونَ } ، أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم « أتدرون ما { وَفَّيَ } ؟ » قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : « وفيَّ عمل يومه أربع ركعات في النهار » ، أو قاله له ربه : « إني مبتليك ، قال : أتجعلني للناس إماماً ، قال : نعم : قال : ومن ذريتي قال : لا ينال عهدي الظالمين ، قال : تجعل البيت مثابة للناس قال : نعم ، قال : وأمنا قال : نعم ، قال : وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك . قال : وترينا مناسكنا وتتوب عليها قال : نعم ، قال : وتجعل هذا البيت آمناً ، قال : نعم ، قال : وترزق أهله من الثمرات ، قال : نعم ، فهذه الكلمات التي أبتُلى بها . { إمَاماً } متبوعاً . { عَهْدِى } النبوة ، أو الإمامة ، أو دين الله ، أو الأمان ، أو الثواب ، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمة ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

{ مَثَابَةً } مجمعاً يجتمعون عليه في النسكين ، أو مرجعاً ، ثابت العلة : رجَعَت . أي : يرجعون إليه مرة بعد أخرى ، أو يرجعون إليه في كلا النسكين من حل إلى حرم . { وَأَمْناً } لأهله في الجاهلية ، أو للجاني من إقامة الحد عليه فيه . { مَّقامِ إِبْرَاهِيمَ } عرفة ومزدلفة والجمار ، أو الحرم كله ، أو الحج كله . أو الحجر الذي في المسجد على الأصح . { مُصَلَّى } مُدَّعَى يُدْعَى فيه ، أو الصلاة المعروفة وهو أظهر { وَعَهِدْنَآ } أمرنا ، أو أوحينا . { طَهِّرَا بَيْتِيَ } من الأصنام ، أو الكفار ، أو الأنجاس ، أُمرا ببنائه مطهراً ، أو يُطهرا مكانه . { لِلطَّآئِفِينَ } الغرباء الذي يأتونه من غربة ، أو الذين يطوفون به . { وَالْعَاكِفِينَ } أهل البلد الحرام ، أو المصلون ، أو المعتكفون ، أو مجاورو البيت بغير طواف ولا اعتكاف ولا صلاة . { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } المصلون .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

{ مَنْ ءَامَنَ } إخبار من الله تعالى ، أو من دعاء إبراهيم ، ولم تزل مكة حرماً آمناً من الجبابرة والخوف والزلازل ، فسأل إبراهيم أن يجعله آمناً من الجدب والقحط ، وأن يرزق أهله من الثمرات ، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « إن الله حرم مكة يوم خلق الله السموات والأرض » ، أو كانت حلالاً قبل دعوة إبراهيم ، وإنما حرمت بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، كما حرم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة فقال : « وإن إبراهيم قد حرم مكة وإني قد حرمت المدينة » .

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)

{ الْقَوَاعِدَ } جمع قاعدة وهي كالأساس لما فوقها . { إِسَمَاعِيلَ } معناه أسمع يا إيل أي اسمع يا الله ، لما دعا بالولد فأجيب سُمي الولد بما دعا به .

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)

{ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } المسلم : الذي استسلم لأمر الله وخضع له . { وَأَرِنَا } عرفنا { مَنَاسِكَنَا } مناسك الحج ، أو الذبائح والنسك : العبادة ، والناسك : العابد ، أو من قولهم لفلان منسك أي مكان يعتاد التردد إليه بخير أو شر ، فسميت مناسك ، لأنه يتردد إليها في الحج والعمرة .

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

{ رَسُولاً مِّنْهُمْ } محمداً صلى الله عليه وسلم { ءَايَاتِكَ } الحجج ، أو يبيّن لهم دينك . { الْكِتَابُ } القرآن . { وَالْحِكْمَةَ } السنة ، أو معرفة الدين ، والتفقه فيه ، والعمل به . { وَيُزَكِّيهِمْ } يطهرهم من الشرك ، أو يزكيهم بدينه إذا تابعوه ، فيكونون عند الله تعالى أزكياء .

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)

{ سَفِهَ نَفْسَهُ } فعل بها ما صار به سفيهاً ، أو سفه في نفسه فحذف الجار كقوله تعالى { وَلا تعزموا عُقْدَةَ النكاح } [ البقرة : 235 ] أو هلك نفسه وأوبقها ، قال المبرد وثعلب : سفه بالكسر يتعدى وبالضم لا يتعدى . { اصْطَفَيْنَاهُ } من الصفوة ، اخترناه للرسالة .

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

{ وَوَصَّى بِهَآ } بالملة لتقدم ذكرها . { إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي لا تفارقوا الإسلام عند الموت .

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

{ كُونُواْ هُوداً } قالت اليهود : « كونوا هوداً » وقالت النصارى : كونوا نصارى . { بَلْ مِلَّةَ } بل نتبع ملة ، أو نهتدي بملة . أو الملة من الإملال يُملونها من كتبهم . { حَنِيفاً } مخلصاً ، أو متبعاً ، أو حاجاً ، أو مستقيماً ، أخذ الحنيف ، من الميل ، رجل أحنف : مالت كل واحدة من قدميه إلى الأخرى ، سمى به إبراهيم ، لأنه مال إلى الإسلام أو أخذ من الاستقامة ، وقيل للرجل أحنف تفاؤلاً بالاستقامة ، وتطيراً من الميل ، كالسليم للديغ ، والمفازة للمهلكة .

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

{ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم } بما آمنتم به . { شِقَاقٍ } عداوة من البعد ، أخذ فلان في شق ، وفلان في شق تباعدا وشق فلان عصا المسلمين : خرج عليهم وتباعد منهم .

صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)

{ صِبْغَةَ اللَّهِ } دين الله لظهوره كظهور الصبع على الثوب ، وكانت النصارى يصبغون أولادهم في مائهم تطهيراً لهم كالختان ، فرد الله تعالى عليهم بأن الإسلام أحسن ، أو صبغة الله تعالى خلقة الله لإحداثها كحدوث اللون على الثوب .

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)

{ وَالأَسْبَاطَ } الجماعة الذين يرجعون إلى آب واحد ، من السبط وهو الشجر الذي يرجع بعضه إلى بعض . { شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ } هم اليهود كتموا ما في التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)

{ السُّفَهَآءُ } اليهود ، أو المنافقون ، أو كفار قريش . { وَلاهُمْ } صرفهم ، والقبلة التي كانوا عليها بيت المقدس « صلى إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة وبعد الهجرة ستة عشر شهراً ، أو سبعة عشر شهراً » أو ثلاثة عشر ، أو تسعة أشهر ، أو عشرة « ثم نسخت بالكعبة والرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة قد صلى من الظهر ركعتين فانصرف بوجهه إلى الكعبة » . وقال البراء : « كان في صلاة العصر بقباء ، فمر رجل على أهل المسجد فقال : أشهد لقد صليت مع الرسول صلى الله عليه وسلم قِبَل مكة فداروا كما هم قِبَل البيت » وقبلة كل شيء ما قابل وجهه ، واستقبل بيت المقدس بأمر الله تعالى ووحيه لقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ } ، أو استقبله برأيه واجتهاده تأليفاً لأهل الكتاب ، أو أراد [ الله تعالى ] أن يمتحن العرب بصرفهم عن البيت الذي ألفوه للحج إلى بيت المقدس . { لِّلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ } فحيثما أمر باستقباله فهو له .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)

{ وَسَطاً } خياراً ، رجل واسط الحسب رفيعه قال :
هم وسَطٌ يرضى الإله بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
أو لتوسطهم بين اليهود والنصارى في الدين ، غَلَتْ النصارى في المسيح وترهبوا ، وقصرت اليهود بتبديل الكتاب ، وقتل الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه والكذب على الله تعالى ، أو عدلاً بين الزيادة والنقصان . { شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ } بتبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم الرسالة ، أو تشهدون على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالة اعتماداً على إخبار الله تعالى وهذا مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو محتجين فعبّر عن الاحتجاج بالشهادة . { شَهِيداً } لكم بالإيمان فتكون « على » بمعنى « اللام » ، أو يشهد أنه بلغكم الرسالة ، أو محتجاً . { لِنَعْلَمَ } ليعلم رسولي وحزبي ، والعرب تضيف فعل الأتباع إلى الرئيس والسيد ، فتح عمر رضي الله تعالى عنه سواد العراق ، وجبى خراجها أي أتباعه أو لنرى بوضع الرؤية موضع العلم وبالعكس ، أو لنميز أهل اليقين من أهل الشك ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو ليعلموا أننا نعلم . { يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } لما حولت ارتد جماعة من المسلمين . { وَإِن كَانَتْ } التولية لكبيرة ، أو القبلة التي هي بيت المقدس ، أو الصلاة إلى بيت المقدس . { إِيمَانَكُمْ } صلاتكم إلى بيت المقدس ، سماها إيماناً ، لاشتمالها على نية وقول وعمل . نزلت لما سألوا عمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس { لَرَءُوفٌ } الرأفة : أشد الرحمة ، قال أبو عمرو بن العلا : الرأفة أكثر من الرحمة .

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

{ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } تحول وجهك نحو السماء ، أو تقلب عينيك في النظر إليها . { تَرْضَاهَا } تختارها وتحبها ، لأنها قبلة إبراهيم ، أو كراهة لموافقة اليهود لما قالوا : « يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا » { شَطْرَ المَسْجِدِ } نحوه ، والشطر في الأضداد ، شطر إلى كذا أقبل نحوه ، وشطر عنه أعرض عنه وبَعُدَ ، رجل شاطر ، لأخذه في نحو غير الاستواء . والمسجد الحرام : الكعبة ، أمر بالتوجه إلى حيال الميزاب ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما « البيت كله قبلة ، وقبلة البيت الباب » { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ } من الأرض ، واجه الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر الأول وواجه الأمة بالأمر الثاني ، وكلاهما يعم . { أُوتُواْ الكِتَابَ } اليهود والنصارى { لَيَعلَمُونَ أَنَّهُ } تحويل القبلة إلى الكعبة .

وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم } خوطب به والمراد أمته ، أو بيّن حكم ذلك لو وقع وإن كان غير واقع .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)

{ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } اليهود والنصارى . { يَعرِفُونَهُ } يعرفون التحويل ، أو يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة { فَرِيقاً } علماءهم وخواصهم . { الحَقَّ } استقبال الكعبة ، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

{ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ } استقبال الكعبة ، لا ما ذكرته اليهود من قبلتهم { المُمْتَرِينَ } الشاكِّين ، خوطب به والمراد أمته ، امترى بكذا : اعترضه اليقين تارة والشك أخرى يدافع أحدهما بالآخر .

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)

{ وَلِكُلٍّ } أهل ملة { وِجْهَةُ } قبلة ، أو صلاة { هُوَ مُوَلّيهَا } أي المصلي ، أو الله يوليه إليها ، ويأمره باستقبالها . { فَاسْتَبِقُواْ الخَيرَاتِ } سارعوا إلى الأعمال الصالحة ، أو لا تغلبكم اليهود على قبلتكم بقولهم : « إن اتبعتم قبلتنا اتبعناكم » . { يَأتِ بِكُمُ } يوم القيامة جميعاً . { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ } من إعادتكم بعد الموت والبلى .

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)

{ وَمِن حَيْثُ } لما حرضت اليهود وقالوا : « ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتابعك ، أكد الله تعالى الأمر باستقبالها بقوله : ثانياً { وَمِن حَيْثُ خَرَجتَ } ، ثم أكده ثالثاً ليخرج من قلوبهم ما أنكروه من التحويل فالأوامر الثلاثة ملزمة للتوجه إلى الكعبة إلا أن الأول : أفاد النسخ ، والثاني : أفاد التحويل إلى الكعبة لا ينسخ بقوله : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } والثالث : أفاد أنه لا حجة لأحد عليهم .

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

{ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } فإنهم يحتجون بحجة باطلة كقوله تعالى { حُجَّتُهُهمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ } [ الشورى : 16 ] فسماها حجة ، أو إلاَّ بمعنى « بعد » كقوله : { إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] وكقوله تعالى : { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] بمعنى « بَعْد فيهما » ، والذين ظلموا : قريش واليهود ، قالت قريش بعد التحويل : « قد علم أنا على الهدى » ، وقالت اليهود : « إن يرجع عنها تابعناه » . { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } في المباينة ، { وَاخْشَوْنِى } في المخالفة .

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)

{ ءَايَاتِنَا } القرآن . { وَيُزَكِّيكُمْ } يطهركم من الشرك ، أو يأمركم بما تصيرون به عند الله تعالى أزكياء . { وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ } القرآن ، أو ما في الكتب السالفة من أخبار القرون . { وَالْحِكْمَةَ } السنة ، أو مواعظ القرآن . { مَّا لَمْ تَكُونُوا } تعلمون من أمر الدين والدنيا .

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)

{ فَاذْكُرُونِى } بالشكر . { أَذكُرْكُمْ } بالنعمة ، أو { اذكروني } بالقبول { أَذْكُرْكُمْ } بالجزاء .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)

{ بِالصَّبْرِ } على أوامر الله تعالى « أو الصوم » .

وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)

{ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَآءٌ } النفوس عند الله تعالى منعمو الأجسام وإن كانت أجسامهم كأجسام الموتى أو ليسوا أمواتاً بالضلال بل أحياء بالهدى . نزلت لما قالوا في قتلى بدر وأُحُد مات فلان وفلان .

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم } لما دعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف عليه الصلاة والسلام أجابه بقوله { وَلَنَبْلُوَنَّكُم } يا أهل مكة . { الْخَوْفِ } الفزع في القتال . { وَالْجُوعِ } والجدب ، ونقص الأنفس : بالقتل والموت .

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)

{ إذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } في نفس ، أو أهل ، أو مال . { إِنَا لِلَّهِ } ملكه فلا يظلمنا بما يصنع بنا . { رَاجِعُونَ } بالبعث .

أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

{ صَلَوَاتٌ } يتلو بعضها بعضا ، والصلاة من الله تعالى الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، ومن الناس الدعاء وعطف الرحمة على الصلوات لاختلاف اللفظ .

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

{ الصَّفَا } جمع صفاة ، وهي الحجارة البيض . { وَالْمَرْوَةَ } حجارة سود ، والأظهر أن الصفا : الحجارة الصلبة التي لا تنبت والمروة : الحجارة الرخوة ، وقد قيل ذُكِّر الصفا باسم إساف ، وأُنثت المروة بنائلة . { شَعَآئِرِ اللَّهِ } التي جعلها لعبادته معلماً ، أو أنه أشعر عباده وأخبرهم بما عليهم من الطواف بهما . { حَجَّ } الحج : القصد ، أو العود مرة بعد أخرى ، لأنهم يأتون البيت قبل عرفة وبعدها للإفاضة ، ثم يرجعون إلى منى ، ثم يعودون إليه لطواف الصَّدَر ، والعمرة : القصد ، أو الزيارة . { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أّن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } لما كانوا يطوفون بينهما في الجاهلية تعظيماً لإساف ونائلة تحرجوا بعد الإسلام أن يضاهوا ما كانوا يفعلونه في الجاهلية فنزلت . وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن مسعود رضي الله عنه { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أّن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } فلذلك أسقط أبو حنيفة رحمة الله تعالى السعي ، ولا حجة في ذلك ، لأن « لا » صلة مؤكدة ك { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] { وَمَن تَطَوَّعَ } بالسعي بينهما عند من لم يوجبه ، أو من تطوع بالزيادة على الواجب ، أو من تطوع بالحج والعمرة بعد أدائهما .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)

{ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } رؤساء اليهود : كعب بن الأشرف وابن صوريا ، وزيد بن التابوه . { الْبَيِّنَاتِ } الحجج الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . { وَالْهُدَى } الأمر باتباعه ، أو كلاهما واحد يراد بهما ما أبان نبوته وهدى إلى اتباعه . { بَيَّنَاهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ } أي القرآن . { الَّلاعِنُون } ما في الأرض من جماد وحيوان إلاَّ الثقلين ، أو المتلاعنان إذا لم يستحق اللعنة واحد منهما رجعت على اليهود ، وإن استحقها أحدهما رجعت عليه ، أو البهائم إذا يبست الأرض قالوا : هذا بمعاصي بني آدم . أو المؤمنون من الثقلين والملائكة فإنهم يلعنون الكفرة .

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

{ تَابُوا } أسلموا . { وَبَيَّنُواْ } نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . { أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أقبل توبتهم .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)

{ لَعْنَةُ اللَّهِ } عذابه ، واللعنة من العباد : الطرد . { وَالْنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أراد به غالب الناس ، لأن قومهم لا يعلنونهم ، أو أراد يوم القيامة إذ يكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضاً .

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)

{ وَإِِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } لا ثاني له ولا نظير ، أو إله جميع الخلق واحد بخلاف ما فعلته عبدة الأصنام فإنهم جعلوا لكل قوم إلهاً غير إله الآخرين . { الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } رَغَّبهم بذكر ذلك في طاعته وعبادته .

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

{ إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ } بغير عمد ولا عَلاَّقة ، وشمسها وقمرها ونجومها ، { وَالأَرْضِ } بسهلها ، وجبلها ، وبحارها ، وأنهارها ، ومعادنها ، وأشجارها { وَاخْتِلافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } بإقبال أحدهما ، وإدبار الآخر . { وَالْفُلْكِ } باستقلالها وبلوغها إلى مقصدها ، وجمع الفلك ومفردها بلفظ واحد ، ويذكَّر ويؤنَّث . { مِن مَّآءٍ } مطر يجيء [ غالباً ] عند الحاجة إليه ، وينقطع إذا استُغني عنه . { فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ } بإنبات أشجارها وزروعها ، أو بإجراء أنهارها وعيونها ، فيحيا بذلك الحيوان الذي عليها . { دَآبَّةٍ } سمي الحيوان بذلك لدبيبه على وجهها ، والآية بعد القدرة على إنشائها فيها تباين خلقها ، واختلاف منافعها ، ومعرفتها بمصالحها . { وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } جمع ريح أصلها « أرواح » .
إذا هبت الأرواح من نحو جانب ... به آلُ مي هاج شوقي هبوبُها
وتصريفها : انتقال الشمال جنوباً والصبا دَبورا ، أو ما فيها من الضر والنفع ، شريح : ما هاجت ريح قط إلا لسقم صحيح ، أو شفاء سقيم . { الْمُسَخَّرِ } المذلل . وآيته ابتداء نشوءه وتلاشيه ، وثبوته بين السماء والأرض ، وسيره إلى حيث أراده منه .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)

{ أَندَاداً } أمثالاً يراد بها الأصنام . { يُحِبُّونَهُمْ } مع عجزهم كحبهم لله مع قدرته . { وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } من حب أهل الأوثان لأوثانهم .

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)

{ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ } وهم السادة والرؤساء من تابعيهم على الكفر ، أو الذين اتبعوا : الشياطين ، وتابعوهم الإنس ، ورأى التابع والمتبوع العذاب . { الأَسْبَابُ } تواصلهم في الدنيا ، أو الأرحام ، أو الحلف الذي كان بينهم في الدنيا ، أو أعمالهم التي عملوها فيها ، أو المنازل التي كانت لهم فيها .

وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

{ كَرَّةً } رجعة إلى الدنيا . { أَعْمَالَهُمْ } التي أحبطها كفرهم ، أو ما انقضت به أعمارهم من المعاصي أن لا يكون مصروفاً إلى الطاعة ، الحسرة : شدة الندامة على فائت .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

{ كُلُواْ } نزلت في خزاعة وثقيف وبني مدلج لما حرموه من الأنعام والحرث . { خُطُوَاتِ } جمع خطوة؛ أعماله ، أو خطاياه ، أو طاعته ، أو النذر في المعاصي .

إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

{ بِالسُّوءِ } بالمعاصي لمساءة عاقبتها . { وَالْفَحْشَآءِ } الزنا ، أو المعاصي أو كل ما فيه حد لفحشه وقبحه . { وَأّن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } من تحريم ما لم يرحمه ، أو أن له شريكاً .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)

{ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ } في تحليل ما حرمتموه { قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ } آباءنا في تحريمه .

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } فيما يوعظون به كمثل البهيمة التي تُنَعق فتسمع الصوت ولا تفهم معناه ، أو مثلهم في دعائهم آلهتهم كمثل راعي البهيمة تسمع صوته ولا تفهمه . { صُمُّ } عن الوعظ . { بُكْمٌ } عن الحق . { عُمْىٌ } عن الرشد ، والعرب تسمي من سمع ما لم يعمل به أصم ، قال :
أصم عما ساءه سميع ...

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

{ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ } قصّر داود بن علي التحريم على اللحم ، وعداه الجمهور إلى سائر أجزائه . { أُهِلَّ بِهِ } سمى الذبح إهلالاً ، لأنه كانوا يجهرون عليه بأسماء آلهتهم ، فسمي كل ذبح إهلالاً ، كما سمي الإحرام إهلالاً للجهر للتلبية وإن لم يجهر بها { لِغَيْرِ اللَّهِ } ذبح لغيره من الأصنام . أو ذكر عليه اسم غيره . { اضْطُرَّ } أكره ، أو خاف على نفسه لضرورة دعته إلى أكله قاله الجمهور . { غَيْرَ بَاغٍ } على الإمام { وَلاَ عَادٍ } على الناس بقطع الطريق ، أو { غَيْرَ بَاغٍ } بأكله فوق حاجته . أو بأكله مع وجود غيره ، أو { غَيْرَ بَاغٍ } بأكله تلذذاً { وَلاَ عَادٍ } بالشبع ، وأصل البغي طلب الفساد ، ومنه البغي للزانية .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)

{ الِّذِينَ يَكْتُمُونَ } علماء اليهود ، كتموا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، ونبوته . { ثَمَناً } الرشا التي أخذوها على كتم رسالته ، وتغيير صفته ، وسماه قليلاً ، لانقطاع مدته ، وسوء عاقبته ، أو لقلته في نفسه . { إِلاَّ النَّارَ } سمى مأكولهم ناراً ، لأنه سبب عذابهم بالنار ، أو لأنه يصير يوم القيامة في بطونهم ناراً ، فسماه بما يؤول إليه . { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ } ولا يُسمعهم كلامه ، أو لا يُرسل إليهم بالتحية مع الملائكة ، أو عبَّر بذلك عن غضبه عليهم ، فلان لا يكلم فلاناً إذا غضب عليه { وَلا يُزَكِّيهِمْ } لا يثني عليهم ، أو لا يصلح أعمالهم الخبيثة .

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)

{ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } فما أجرأهم عليها ، أو على عمل يؤدي إليها ، أو أي شيء أصبرهم عليها ، أو ما أبقاهم عليها ، ما أصبر فلاناً على الحبس ما أبقاه فيه .

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

{ لَّيْسَ الْبِرَّ } الصلاة وحدها ، أو خاطب به اليهود والنصارى ، لصلاة اليهود إلى الغرب ، والنصارى إلى الشرق . { وَلكِنَّ الْبِرَّ } إيمان من آمن ، أو برّ من آمن بالله ، فأقر بوحدانيته { وَالْمَلآئِكَةِ } بما أُمروا به من كَتْب الأعمال . { وَالْكِتَابِ } القرآن { وَالنَّبِيِّنَ } فلا يكفر ببعضهم ويؤمن ببعض . { عَلَى حُبِّهِ } حب المال فيكون صحيحاً شحيحاً . ذهب الشعبي والسدي إلى وجوب ذلك خارجاً عن الزكاة ، فروى الشعبي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : « إن في المال حقاً سوى الزكاة وتلا هذه الآلية » ، والجمهور على ان الآية محمولة على الزكاة ، أو على التطوع ، وأنه لا حق في المال سوى الزكاة . { ذَوِى الْقُرْبَى } إن حُمل على الزكاة شَرَط فيهم الأوصاف المعتبرة في الزكاة وإن حُمل على التطوع فلا . { وَالْيَتَامَى } كل صغير لا أب له ، وفي اعتبار فقرهم قولان . { وَالْمَسَاكِينَ } مَنْ عُدِم قدر الكفاية . وفي اعتبار إسلامهم قولان . { وَابْنَ السَّبِيلِ } فقراء المسافرين . { وَالسَّآئِلِينَ } الذين ألجأهم الفقير إلى السؤال . { وَفِى الرِّقَابِ } المكاتبون أو عبيد يُعتقون . { وَأَقَامَ الصَّلاَةَ } إلى الكعبة بواجباتها في أوقاتها . { وَءَاتَى الزَّكاةَ } لمستحقها . { بِعَهْدِهِمْ } بنذرهم لله تعالى ، أو العقود التي بينهم وبين الناس . { الْبَأْسَآءِ } الفقر . { وَالضَّرَّآءِ } السقم . { وَحِينَ الْبأْسِ } القتال . وهذه الأوصاف مخصوصة بالأنبياء لتعذرها فيمن سواهم . أو هي عامة في الناس كلهم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)

{ كُتِبَ } فرض .
يا بنت عمي كتاب الله أخرجني ... عنكم فهل أمنعن الله ما فعلا
{ الْقِصَاصُ } مقابلة الفعل بمثله من قص الأثر . نزلت في قبيلة من العرب أعزاء لا يقتلون بالعبد منه إلا السيد ، وبالمرأة إلا الرجل ، أو في فريقين اقتتلا فقتل منهما جماعة ، فقصاص الرسول صلى الله عليه وسلم دية الرجل بدية الرجل ، ودية المرأة بدية المرأة ، ودية العبد بدية العبد ، أو فرض في ابتداء الإسلام قتل الرجل بالرجل ، والمرأة بالمرأة ، ثم نسخ بقوله تعالى : { النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو هو أمر بمقاصة دية الجاني من دية المُجنى عليه ، فإذا قتل الحر عبداً فلسيده القصاص ، ثم يقاصص بقيمة العبد من دية الحر ويدفع إلى ولي الحر باقي ديته ، وإن قتل العبد حراً فقتل به قاصص ولي الحر بقيمة العبد وأخذ باقي دية الحر ، وإن قتل الرجل امرأة فلوليها قتله ويدفع نصف الدية إلى ولي الرجل ، وإن قتلت المرأة رجلاً فقتلت به أخذ ولي الرجل نصف الدية قاله علي رضي الله تعالى عنه { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } هو أن يطلب الولي الدية بالمعروف ، ويؤديها القاتل بإحسان { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ } أي فضل . إذا قلنا نزلت في فريقين اقتتلا ، وتقاصا ديات القتلى ، فمن بقيت له بقية فليتبعها بمعروف وليؤد من عليه بإحسان ، وعلى قول علي رضي الله عنه يؤدي الفاضل بعد مقاصصة الديات بمعروف ، فالاتباع بمعروف عائد إلى ولي القتيل ، والأداء بإحسان عائد إلى ولي الجاني ، أو كلاهما عائد إلى الجاني الدية بمعروف وإحسان { تَخْفِيفٌ } تخير ولي الدم بين القود والدية والعفو ، ولم يكن ذلك لأحد قبلنا ، كان على أهل التوراة القصاص أو العفو ولا أرش ، وعلى أهل الإنجيل الأرش أو العفو ولا قود . { فَمَنِ اعْتَدَى } فقتل بعد أخذ الدية { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بالقصاص ، أو يقتله الإمام حتماً ، أو يعاقبه السلطان ، أو باسترجاع الدية منه ولا قود عليه .

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } إذا ذكره الظالم كف عن القتل ، أو وجوب القصاص على القاتل وحده حياة له وللمعزوم على قتله فيحييان جميعاً وهذا أعم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أن تقلتوا فيقتص منكم .

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

{ خَيْراً } مالاً اتفاقاً ها هنا ، قال مجاهد : « الخير المال في جميع القرآن { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] { أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير } [ ص : 32 ] { إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } [ النور : 33 ] أراد المال في ذلك { إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } [ هود : 84 ] بغنى ومال » . كانت الوصية للوالدين والأقربين واجبة قبل نزول المواريث ، فلما نزلت المواريث نسخ وجوبها عند الجمهور ، أو نسخ منها الوصية لكل وارث وبقي الوجوب فيمن لا يرث من الأقارب . والمال الذي يجب عليه أن يوصي منه ألف درهم ، أو من ألف إلى خمسمائة ، أو يجب في كل قليل وكثير ، فلو أوصى بثلثه لغير قرابته رُد الثلث على قرابته ، أو يُرد ثلث الثلث على القرابة وثلثا الثلث للمُوصى له ، أو ثلثاه للقرابة وثلثه للمُوصى له . { عَلَى الْمُتَّقِينَ } التقوى في أن يقدم الأحوج فالأحوج من أقاربه .

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)

{ فَمَن بَدَّلَهُ } غَيَّرَ الوصية بعد ما سمعها . إنما ذكِّر ، لأن الوصية قول .

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

{ جَنَفاً أَوْ إِثْماً } الجنف الخطأ ، والإثم : العمد ، أو الجنف : الميل ، والإثم : أَثَرة بعضهم على بعض ، أصل الجنف الجور والعدول عن الحق { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ } فمن حضر موصياً يجور في وصيته خطأ أو عمداً فأصلح بينه وبين ورثته بإرشاده إلى الحق فلا إثم عليه ، أو خاف الوصي جنف المُوصي فأصلح بين ورثته وبين المُوصَى له بردّ الوصية إلى العدل ، أو من خاف من جنف الموصي على ورثته بإعطاء بعض ومنع بعض في مرض موته فأصلح بين ورثته ، أو من خاف جنفه فيما أوصى به لآبائه وأقاربه على بعضهم لبعض فأصلح بين الآباء والقرابة ، أو من خاف جنفه في وصيته لغير وارثه بما يرجع نفعه إلى وارثه فأصلح بين ورثته فلا إثم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

{ الصِّيَامُ } الصوم عن كل شيء الإمساك عنه ، ويقال عند الظهيرة صام النهار ، لإبطاء سير الشمس حتى كأنها أمسكت عنه . { كَمَا كُتِبَ } شبّه صومنا بصومهم في حكمه وصفته دون قدره ، كانوا يصومون من العتمة إلى العتمة ولا يأكلون بعد النوم شيئاً ، وكذا كان في الإسلام حتى نسخ ، أو في شبه عدده ، فرض على النصارى شهر مثلنا فربما وقع في القيظ فأخروه إلى الربيع وكفروه بعشرين يوماً زائدة ، أو شبّه بعدد صوم اليهود ثلاثة أيام من كل شهر وعاشوراء ، فصامهن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة سبعة عشر شهراً ثم نسخن برمضان . { الَّذِينَ من قَبْلِكُمْ } جميع الناس ، أو اليهود ، أو أهل الكتاب . { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } محظورات الصوم ، أو الصوم سبب التقوى لكسره الشهوات .

أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

{ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } هي شهر رمضان عند الجمهور ، أو الأيام البيض عند ابن عباس رضي الله عنهما ثم نسخت برمضان ، وهي الثاني عشر وما يليه ، أو الثالث عشر وما يليه على الأظهر . { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } يجب القضاء عند داود على المسافر والمريض سواء صاما أو أفطرا ، وعند الجمهور لا يجب القضاء إلا على من أفطر .
{ يُطِيقُونَهُ } كانوا مخيّرين بين الصوم والفطر مع الإطعام بدلاً من الصوم ، ثم نسخ بقوله تعالى { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ } ، أو بقوله تعالى { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أو وعلى الذين كانوا يطيقونه شباباً ثم عجزوا بالكبر أن يفطروا ويفتدوا ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { يُطِيقُونَهُ } يُكلفونه فلا يقدرون عليه كالشيخ والشيخة والحامل والمرضع الفدية ولا قضاء عليهم لعجزهم . { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } بالصوم مع الفدية ، أو بالزيادة على مسكين واحد .

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

{ شَهْرُ رَمَضَانَ } الشهر من الشهرة ، شهر سيفه أخرجه . { رَمَضَانَ } قيل أُخذ من الرمضاء لما كان يوجد فيه من الحر حتى يرمض الفصال ، وكره مجاهد أن يقال « رمضان » ، قائلاً لعله من أسماء الله تعالى . { أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ } في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، ثم نَزَلَ منجماً بعد ذلك ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « نزلت صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول ليلة من رمضان ، والتوراة لست مضين منه والإنجيل لتسع عشرة خلت منه ، والفرقان لأربع وعشرين منه » أو { أُنزِلَ فِيهِ } في فرض صومه . { هُدىً لِّلنَّاسِ } رشاداً . { وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى } بينات من الحلال والحرام ، وفرقان بين الحق والباطل . { فَمَن شَهِدَ } أول الشهر مقيماً لزمه صومه وليس له أن يفطر في بقيته ، أو فمن شهده مقيماً فليصم ما شهد منه دون ما لم يشهده إلا في السفر ، أو فمن شهده عاقلاً مكلفاً فليصمه ولا يسقط صوم بقيته بالجنون . { مَرِيضاً } مرضاً لا يطيق الصلاة معه قائماً ، أو ما يقع عليه أسم المرض ، أو ما يزيد بسبب الصوم زيادة غير متحملة { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } يبلغ يوماً وليلة ، أو ثلاثة أيام ، أو ما يقع عليه الإسم ، والفطر مباح عند الجمهور ، وواجب عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقال : « اليسر الإفطار في السفر ، والعسر الصوم فيه » { وَلِتُكْمِلُواْ } عدة ما أفطرتم منه بالقضاء من غيره . { وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ } تكبير الفطر حين يهل شوال . { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } من صوم الشهر .

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى } قيل للرسول صلى الله عليه وسلم : « أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه » أو سئل عن أي ساعة يدعون فيها ، أو سئل كيف ندعوا ، أو قال قوم : لما نزل : { ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] إلى أين ندعوا فنزلت . { قَرِيبٌ } الإجابة ، أو من سماع الدعاء . { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ } اسمع فعبّر عن السماع بالإجابة ، أو أُجيبه إلى ما سأل إذا كان مصلحة مستكملاً لشروط الطلب ، وتجب إجابته كثواب الأعمال ، فالدعاء عبادة ثوابها الإجابة ، أو لا تجب . وإن قصّر في شروط الطلب فلا تجب إجابته وفي جوازها قولان ، وإن كان سؤاله مفسدة لم تجز إجابته . { فَلْيَسْتَجِيبُواْ } فليجيبوني ، أو الاستجابة طلب الموافقة للإجابة ، أو فليستجيبوا لي بالطاعة ، أو فليدعوني .

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

{ الرَّفَثُ } من فاحش القول ،
عن اللغا ورفث التكلم ... عبّر به عن الجماع اتفاقاً ، لأن ذكره في غير موضعه فحش . { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } بمنزلة اللباس لإفضاء كل واحد منهما ببشرته إلى صاحبه ، أو لاستتار أحدهما بالآخر ، أو سكن { الليل لِبَاساً } [ النبأ : 10 ] سكناً . { تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ } بالجماع والأكل والشرب ، أُبيحا قبل النوم وحرِّما بعده . فطلب عمر زوجته فقالت : قد نمت فظنها تعتل فواقعها ، وجاء قيس بن صرمة من عمله في أرضه فطلب الأكل فقالت زوجته نسخن لك شيئاً فغلبته عيناه ، ثم قدمت إليه الطعام فامتنع ، فلما أصبح لاقى جهداً وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما جرى لهما فنزلت . . . . { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } لما كان من مخالفتكم . { وَعَفَا } عن ذنوبكم ، أو عن تحريم ذلك بعد النوم . { بَاشِرُوهُنَّ } جامعوهن . { مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } الولد ، أو ليلة القدر ، أو ما رخص فيه . { الْخَيْطُ الأَبْيَضُ } قال علي رضي الله تعالى عنه : « الخيط الأبيض الشمس » . قال حذيفة « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسحر وأنا أرى مواقع النبل . فقيل لحذيفة بعد الصبح فقال : هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمس » والإجماع على خلاف هذا ، أو الأبيض الفجر الثاني والأسود سواد الليل قبل الفجر الثاني ، كان عدي يراعي خيطاً أبيض وخيطاً أسود جعلهما تحت وسادته فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : « إنك لعريض الوساد ، إنما هو بياض النهار وسواد الليل ، أو كان بعضهم يربط في رجليه خيطاً أبيض وخيطاً أسود ولا يزال يأكل حتى يتبينا له فأنزل الله عز وجل { مِنَ الْفَجْرِ } ، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار » { الْفَجْرِ } لانبعاث ضوئه : من فجر الماء يفجر فجراً : انبعث وجرى { تُبَاشِرُوهُنَّ } بالقبل واللمس ، أو بالجماع عند الأكثرين .

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

{ بِالْبَاطِلِ } بالغصب والظلم ، أو القمار والملاهي . { وَتُدْلُواْ } تصيروا ، أدليت الدلو أرسلته . { أَمْوَالَكُم } أموال اليتامى ، أو الأمانات والحقوق التي إذا جحدها قُبِلَ قوله فيها .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

{ الأَهِلَّةِ } من الاستهلال برفع الصوت عند رؤيته . « وهو هلال إلى ليلتين ، أو إلى ثلاث ، أو إلى أن يحجر بخطة دقيقة ، أو إلى أن يبهر ضوءه سواد الليل فيسمى حنيئذٍ قمراً » .
{ مَوَاقِيتُ } مقادير لأوقات الديون ، والحج . { تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } كنى به عن إيتان النساء في أدبارهن ، لأن المرأة يأوى إليها كما يأوى إلى البيت ، أو هو مثل لإتيان البيوت من وجهها ولا يأتونها من غير وجهها ، أو كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطاً من بابه فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار رفاعة الأنصاري فجاء فتسور الحائط على الرسول صلى الله عليه وسلم فلما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الباب خرج معه رفاعة ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « ما حملك على هذا » فقال : « رأيتك خرجت منه » ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « إني رجل أحمس » ، فقال رفاعة : « إن تكن رجلاً أحمس فإن ديننا واحد فنزلت . . . . . » وقريش يُسمون الحمس لتحمسهم في دينهم ، والحماسة : الشدة .

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)

{ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } هذه أول آية نزلت بالمدينة في قتال من قاتل خاصة { وَلا تَعْتَدُوَاْ } بقتال من لم يقاتل . ثم نسخت ب { بَرَآءَةٌ } أو نزلت في قتال المشركين كافة { وَلا تَعْتَدُواْ } بقتل النساء والصبيان ، أو لا تعتدوا بالقتل على غير الدين .

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)

{ ثَقِفْتُمُوهُمْ } ظفرتم بهم . { وَالْفِتْنَةُ } الكفر ها هنا اتفاقاً لأنه يؤدي إلى الهلاك كالفتنة . { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } نهوا عن قتال أهل الحرم إلا أن يبدءوا بالقتال ثم نسخ بقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ البقرة : 193 ] ، أو هي محكمة فلا يُقَاتل أهل الحرم ما لم يبدءوا بالقتال .

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } لما اعتمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فَصُدًّ ، فصالح على القضاء في العام المقبل ، فقضى في ذي القعدة نزل { الشَّهْرُ الْحَرَامُ } وهو ذي القعدة المقضي فيه { بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } المصدود فيه ، أُخذ ذو القعدة من قعودهم عن القتال فيه لحرمته ، { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } لما فخرت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم حين صدته اقتص الله تعالى له ، أو نزلت لما قال المشركون : « أَنُهِيتَ عن قتالنا في الشهر الحرام ، فقال : » نعم « . فأرادوا قتاله في الشهر الحرام فقيل له : إن قاتلوك في الشهر الحرام فاستحل منهم ما استحلوا منك .

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

{ سَبِيلِ اللَّهِ } الجهاد . { وَلا تُلْقُوأ بِأَيْدِكُمْ } الباء زائدة ، أو غير زائدة أي لا تُلقوا أنفسكم بأيديكم . { التَّهْلُكَةِ } الهلاك لا تتركوا النفقة في الجهاد فتهلكوا بالإثم ، أو لا تخرجوا بغير زاد فتهلكوا بالضعف ، أو لا تيأسوا من المغفرة عن المعصية فلا تتوبوا ، ولا تتركوا الجهاد فتهلكوا ، أو لا تقتحموا القتال من غير نكاية في العدو ، أو هو عام محمول على ذلك كله . { وَأَحْسِنُواْ } الظن بالقدر ، أو بأداء الفرائض أو عودوا بالإحسان على المعدم .

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ } أتموا كل واحد منهما بمناسكه وسننه ، أو الإحرام بهما إفراد من دويرة الاهل ، أو أن يخرج من دويرة أهله لأجلهما لا يريد غيرهما من كسب ولا تجارة ، أو إتمامهما واجب بالدخول فيهما ، أو إتمام العمرة الإحرام بها في غير أشهر الحج ، وإتمام الحج الإتيان بمناسكه بحيث لا يلزمه دم جبران نقص . { أُحْصِرْتُمْ } بالعدو دون المرض ، أو كل حابس من عدو أو مرض أو عذر { فَمَا اسْتَيْسَرَ } بدنة صغيرة أو كبيرة ، أو هو شاة عند الأكثرين . { الْهَدْى } من الهدية ، أو من هديته إذا سقته إلى الرشاد . { مَحِلَّهُ } محل الحصر حيث أُحصر من حل أو حرم ، أو الحرم ، أو مَحِله : تحلله بأداء نسكه ، فليس لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحلل من إحرامه فإن كان إحرامه عمرة لم يفت ، وإن كان حجاً ففاته قضاه بالفوات بعد تحلله منه . { صٍيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ } صيام ثلاثة أيام ، صدقة : إطعام ستة مساكين ، أو صيام عشرة أيام ، والصدقة أطعام عشرة ، والنسك شاة . { أَمِنتُمْ } من الخوف ، أو المرض ، { تَمَتَّعَ } بفسخ الحج ، أو فعل العمرة في أشهر الحج ثم حج في عامه ، أو إذا تحلل الحاج بالإحصار ثم عاد إلى بلده متمتعاً ثم قضى الحج من قابل فقد صار متمتعاً بإحلاله بين الإحرامين . { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } شاة أو بدنة . { ثلاَثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ } بعد الأحرام به وقبل يوم النحر ، أو في أيام التشريق . ولا يجوز تقديمها على الإحرام بالحج أو يجوز في عشر ذي الحجة ولا يجوز قبله ، أو يجوز في أشهر الحج ولا يجوز قبلها . { رَجَعْتُمْ } من حجكم ، أو إلى أهلكم في أمصاركم . { كَامِلَةٌ } تأكيد ، أو كاملة من الهدي ، أو كملت أجره كمن أقام على الإحرام فلم يتحلل منه ولم يتمتع ، أو هو خبر بمعنى الأمر أي أكملوا صيامها . { حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أهل الحرم ، أو من بين مكة والمواقيت ، أو أهل الحرم ومن قرب منه كأهل عُرنة وعَرفة والرجيع ، أو من كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة .

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } شوال وذو القعدة وذو الحجة ، أو شوال ، وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة ، أو شوال وذو القعدة وعشر ليالي من ذي الحجة إلى طلوع الفجر يوم النحر . { فَرَضَ } أحرم ، أو أَهَلَّ بالتلبية . { رَفَثَ } الجماع ، أو الجماع والتعرض له بمواعدة ومداعبة أو الإفحاش بالكلام كقوله : « إذا حللت فعلت بكِ كذا من غير كناية » . { وَلا فُسُوقَ } منهيات الإحرام ، أو السباب ، أو الذبح للأصنام ، أو التنابز بالألقاب أو المعاصي كلها . { وَلا جِدَالَ } السباب ، أو المِراء والاختلاف أيهم أتم حجاً ، أو أن يجادل صاحبه حتى يغضبه ، أو اختلاف كان يقع بينهم في اليوم الذي يكون فيه حجهم ، أو اختلافهم في مواقف الحج أيهم أصاب موقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أو لا جدال في وقته لاستقراره وبطلان النسيء الذي كانوا ينسئونه فربما حجوا في صفر أو ذي القعدة . { وَتَزَوَّدُوأ } الأعمال الصالحة ، أو نزلت في قوم من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ، ويقولون نحن المتوكلون ، فنزل { وَتَزَوَّدُواْ } الطعام فإن خيراً منه التقوى .

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

{ فَضْلاً } كانت ذو المجاز وعكاظ متجراً في الجاهلية فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزلت { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } . { أَفَضْتُم } أسرعتم ، أو رجعتم من حيث بدأتم . { عَرَفَاتٍ } جمع عرفة ، أو اسم واحد وإن كان بلفظ جمع ، قاله الزجاج سميت به ، لأن آدم عليه الصلاة والسلام عرف بها حواء بعد هبوطهما ، أو عرفها عند رؤيتها إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما تقدم له من وصفها ، أو لتعريف جبريل عليه الصلاة والسلام مناسكهم ، أو لعلو الناس على جبالها ، لأن ما علا عرفة وعرفات ، ومنه عرف الديك . { الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } سمي به لأن الدعاء فيه والمقام من معالم الحج .

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

{ أَفَاضَ النَّاسُ } إبراهيم عليه الصلاة والسلام عبّر عن الواحد بلفظ الجمع ، كقوله { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } [ آل عمران : 173 ] يعني نُعيم بن مسعود ، أو أمر قريشا أن يفيضوا من حيث أفاض الناس وهم العرب كانوا يقفون بعرفة ، لأن قريشاً كانوا يقفون بمزدلفة ، ويقولون نحن أهل الحرم فلا نخرج منه فنزلت { وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ } من ذنوبكم ، أو من مخالفتكم في الوقوف والإفاضة .

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)

{ مَّنَاسِكَكُمْ } الذبائح ، أو ما أُمرتم به في الحج ، والمناسك المتعبدات . { فاذْكُرُواْ اللَّهَ } بالتكبير أيام منى ، أو بجميع ما سُّن من الأدعية بمواطن الحج كلها . { كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ } كانوا إذا فرغوا من الحج جلسوا بمنى وافتخروا بمناقب آبائهم فنزلت ، أو كذكر : الصغير لأبيه إذا قال : يا بابا ، أو كان أحدهم يقول : اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة عظيم القبة كثير المال فاعطني مثل ما أعطيته فلا يذكر غير أبيه .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)

{ حَسَنَةً } العافية في الدنيا الآخرة ، أو نعيمهما قاله : الأكثر ، أو المال في الدنيا والجنة في الآخرة ، أو العلم والعمل في الدنيا والجنة في الآخرة .

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

{ مَّعْدُودَاتٍ } أيام منى إجماعاً وإن شرك بعضهم بين بعضها وبين الأيام المعلومات . { تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ } النَّفْر الأول . { وَمَن تَأَخَّرَ } النَّفْر الثاني . { فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ } في تعجله ولا تأخره ، أو يغفر لكل واحد منهما ، أو لا إثم عليه إن أتقى فيما بقي من عمره ، أو لا إثم عليه إن اتقى قتل الصيد في الثالث من أيام التشريق ، أو إن اتقى ما نُهِي عنه غُفر له ما تقدم من ذنبه . { وَاذْكُرُواْ اللَّهَ } بالتكبير في الأيام المعدودات من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق ، أو من الفجر يوم عرفة إلى العصر يوم النحر ، أو من الظهر يوم النحر إلى بعد العصر آخر أيام التشريق ، أو بعد صلاة الصبح من آخر التشريق .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)

{ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } من الجميل والخير ، أو من حب الرسول صلى الله عليه وسلم والرغبة في دينه . { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ } يقول اللهم اشهد عليَّ به ، أو في قلبه ما يشهد الله أنه بخلافه ، أو يستشهد الله على صحة ما في قلبه والله يعلم أنه بخلافه . { أَلَدُّ } الألد : الشديد الخصومة . { الْخِصَامِ } مصدر ، أو جمع خصيم أي ذو جدال ، أو كذاب ، أو شديد القسوة في المعصية ، أو غير مستقيم الخصومة . نزلت في الأخنس بن شَرِيق ، أو هي صفة للمنافقين .

وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)

{ تَوَلَّى } تصرف ، أو غضب . { لِيُفْسِدَ فِيهَا } بالكفر ، أو الظلم . { وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } بالقتل والسبي ، أو بالإضلال المفضي إلى القتل والسبي .

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)

{ أَخَذتْهُ الْعِزَّةُ } دعته إلى فعل الإثم ، أو يعز نفسه أن يقولها للإثم المانع منها .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

{ يَشْرِى } يبتع ، نزلت فيمن أمر بمعروف ونهى عن منكر فقتل ، أو في صهيب اشترى نفسه من المشركين بجميع ماله ولحق بالمسلمين ، وقال الحسن : العمل الذي باع به نفسه الجهاد .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)

{ السِّلْمِ } والسَّلم واحد أو بالكسر الإسلام ، وبالفتح المسالمة . ادخلوا في الإسلام ، أو الطاعة . { كَآفَّةً } عائد إلى الطاعة ، أو إلى تأكد الداخل فيها . { مُّبِينٌ } أبان عداوته بامتناعه من السجود ، أو بقوله { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ } [ الإسراء : 62 ] أُمر بها المسلمون أن يدخلوا في شرائع الإسلام كلها ، أو في أهل الكتاب آمنوا بمن سلف من الأنبياء ، فأُمروا بالدخول في الإسلام ، أو نزلت في ابن سلام وجماعة من اليهود لما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم « السبت يوم كنا نعظمه ونَسْبُت فيه ، والتوراة كتاب الله تعالى فدعنا فلنقم بها بالليل » .

فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

{ زَلَلْتُم } عصيتم أو كفرتم ، أو ضللتم . { الْبَيِّنَاتِ } القرآن أو الحجج ، أو محمد صلى الله عليه وسلم ، أو الإسلام .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

{ فِى ظُلَلٍ } بظلل ، أوأمرُ الله تعالى في ظلل .

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)

{ سَلْ بَنِى إِسْرَآءِيلَ } توبيخاً لهم ، أراد علماءهم ، أو أنبياهم ، أو جميعهم . { ءَايَةٍ بَيِّنَةٍ } فلق البحر ، وتظليل الغمام وغيرهما . { نِعْمَةَ اللَّهِ } العلم برسوله صلى الله عليه وسلم .

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } زينها الله بخلق الشهوات فيها ، أو زينها الشيطان ، أو المُغوي من الثقلين . { وَيَسْخَرُونَ } من ضعفاء المسلمين ، يوهمونهم أنهم على حق ، والمراد بذلك علماء اليهود ، أو مشركو العرب . { وَالَّذِينَ اتَّقَوْاْ } فوق الكفار . { بِغَيْرِ حِسَابٍ } عبّر بذلك عن سعة ملكه الذي لا يفنيه عطاء ولا يقدر بحساب ، أو هو دائم لا يفنى ، أو رزق الدنيا بغير حساب لأنه يعم المؤمن والكافر ، ولا يُعطى المؤمن على قدر إيمانه ، أو رزق المؤمن في الآخرة لا يحاسب عليه ، أو التفضل بغير حساب ، والجزاء بالحساب ، أو كفايتهم بغير حساب ولا تضييق .

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

{ أُمَّةً وَاحِدَةً } على الكفر ، أو على الحق ، أو آدم عليه الصلاة والسلام كان إمام ذريته فبعث الله تعالى النبيين في ولده . أو يوم الذر لما خرجوا من صلب آدم أقروا بالعبودية ثم اختلفوا ، وهم عشرة قرون كانوا بين آدم ونوح على الحق ثم اختلفوا .

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

{ مَاذَا يُنفِقُونَ } سألوا عن أموالهم اين يضعونها فنزلت ، أو نزلت في إيجاب نفقة الأهل والصدقة ثم نسخت بالزكاة .

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } أراد به الصحابة رضي الله تعالى عنهم خاصة ، أو الناس عامة إلى حصول الكفاية ، أو هو فرض متعين على كل مسلم أبداً ، قاله ابن المسيب . { كُرْهٌ لَّكُمْ } الكُره : إدخال المشقة على النفس من غيره إكراه أحد ، والكَره : إدخال المشقة بإكراه غيره ، كره : ذو كره ، أو مكروه لكم فأقام المصدر مقامه . مكروه قبل الأمر به وأما بعده فلا ، أو كره الطباع قبل الأمر وبعده . { وَعَسَى } بمعنى « قد » ، أو طمع المشفق مع دخول الشك ، { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً } من القتال ، { وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } بالظفر والغنيمة والأجر والثواب ، { وَعَسَى أَن تُحِبًّواْ شَيْئاً } من [ ترك ] القتال ، { وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } بظهور عدوكم ، ونقصان أجوركم ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } مصلحتكم ، { وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ } .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)

{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } خرج عبد الله بن جحش بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في سبعة نفر فلقوا ابن الحضرمي في عِير فَقُتل ابنُ الحضرمي وأسروا آخر ، وغنموا العير ، وذلك أول ليلة من رجب ، فلامه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون فنزلت فسأله المشركون عن ذلك ليعيّروه ويستحلوا قتاله فيه ، قاله الأكثرون . أو سأله المسلمون ليعرفوا حكمه ، سألوا عن القتال في الشهر الحرام ، فأخبرهم أن الصد عن سبيله وإخراج أهل الحرم والفتنة أكبر من القتل في الشهر ، أو سألوا عن القتل في الحرم والشهر الحرام فأخبرهم بأن الصد والإخراج والفتنة أكبر من القتل في الحرم والشهر الحرام ، وتحريم ذلك محكم عند عطاء ، منسوخ على الأصح ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم غزا هوازن وثقيفاً ، وأرسل أبا عامر إلى أوطاس في بعض الأشهر الحرم ، وبايع على قتال قريش بيعة الرضوان في ذي القعدة . { حَبِطَتْ } أصل الحبوط : الفساد ، فإذا بطل العمل قيل حبط لفساده .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } قال قوم من المسلمين في سرية أبن جحش : « إن لم يكونوا أصابوا وزراً فليس لهم في سفرهم أجر » . فنزلت { هَاجَرُواْ } دورهم كراهة المقام مع المشركين . { وَجَاهَدُواْ } جهد فلاناً كذا : إذا أكربه وشق عليه { سَبِيلِ اللَّهِ } طريقه وهي دينه . { يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ } إنما رجوها لأنهم لا يدرون الخواتيم ، أو لأنهم لم يتيقنوا آداء كل ما وجب عليهم .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)

{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } الخمر : ما خامر العقل فيستره ، والميسر : القمار . { إِثْمٌ كَبِيرٌ } سكر الشارب وإيذاؤه الناس؛ وإثم الميسر بالظلم ومنع الحق ، أو إثم الخمر : زوال العقل حتى لا يعرف خالقه ، وإثم الميسر : صده عن ذكر الله وعن الصلاة ، وإيقاع العداوة والبغضاء . { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } منافع أثمانها ، وربح تجارتها ، والالتذاذ بشربها .
ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأُسداً ما ينهنهنا اللقاء
ومنافع الميسر : كسب المال بغير كد ، أو ما كانوا يصيبون به من أنصباء الجزور . { وَإِثْمُهُمَآ } بعد التحريم { أُكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } قبل التحريم ، أو كلاهما قبل التحريم . { الْعَفْوَ } ما فضل عن الأهل ، أو ما لا يبين على من أنفقه أو تصدق به ، أو الوسط من غير إسراف ولا إقتار ، أو أخذ ما آتوه من قليل أو كثير ، أو الصدقة عن ظهر غنى ، أو الصدقة المفروضة ، وهي محكمة ، أو نُسخت بالزكاة ، وحُرمت الخمر بهذه الآية ، أو بآية « المائدة » على قول الأكثر .

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } لما نزل { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأسراء : 34 ] و { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] تحرجوا من خلط طعامهم بأطعمة اليتامى فعزلوا أطعمة اليتامى حتى ربما فسدت عليهم ، فنزلت { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ } في الطعام والشراب ، والسكنى ، والدابة ، واستخدام العبيد . { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ } الذي يخلط ماله بمال اليتيم ، ليفسد مال اليتيم . والمصلح : الذي يريد بذلك إصلاح مال اليتيم . { لأَعْنَتَكُمْ } لشدد عليكم ، أو يجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً { عَزيزٌ } في سلطانه قادر على الإعنات . { حَكِيمٌ } في تدبيره بترك الإعنات .

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

{ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ } محكم في كل مشركة كتابية ، أو غير كتابية ، أو خُصِّصَ منه أهل الكتاب ، أو كانت عامة في كل مشركة فنسخ منها أهل الكتاب ، ومراده التزويج ، والنكاح : حقيقة في العقد مجاز في الوطء . { مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن } حرة { مُّشْرِكَةٍ } وإن شرف نسبها ، أو نزلت في عبد الله ابن رواحة ، كانت له أَمَة ، فخطب عليه حرة مشركة شريفة فلم يتزوجها فأعتق أمته وتزوجها ، فطعن عليه ناس من المسلمين فنزلت { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } بجمالها وحسبها ومالها . { وَلا تُنكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ } هذا على عمومه إجماعاً .

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

{ وَيَسْئَلُونكَ عَنِ الْمَحِيضِ } كانوا يجتنبون مساكنة الحائض والأكل والشرب معها ، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت ، أو سأله ثابت بن الدحداح الأنصاري ، أو كانوا يعتزلون الوطء في الفرج ويأتونهن في أدبارهن مدة الحيض فنزلت ، قاله مجاهد : { أَذىً } بِنَتَنِه وقذره ونجاسته . { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ } فلا تباشروهن بشيء من أبدانكم ، أو ما بين السرة والركبة ، أو الفرج وحده . { يَطْهُرْنَ } ينقطع دمهن . { تَطَهَّرْنَ } اغتسلن بالماء : بالوضوء وبالغسل ، أو بغسل الفرج وحده . { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } في القُبُل ، أو بالنكاح دون السفاح ، أو من قُبُل الطهر لا من قُبُل الحيض ، أو لا تقربوها صائمة ولا محرمة ولا معتكفة { الْمُتَطَهِّرينَ } بالماء ، أو من أدبار النساء ، أو من الذنوب بالتوبة .

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

{ حَرْثٌ لَّكُمْ } مزدرع لنسلكم { أَنَّى شِئْتُمْ } زعمت اليهود أن من أتى امرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول فأكذبهم الله تعالى بقوله { أَنَّى شِئْتُمْ } أو كيف شئتم عازلين أو غير عازلين ، أو حيث شئتم من قُبُل أو دُبُر روي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما وبه قال ابن أبي مُلكية ، ويروى عن مالك رحمه الله تعالى وقد أُنكرت هذه عن ابن عمر ، أو من أي وجه شئتم من دبرها في قبلها ، أو من قبلها ، أو قال بعض الصحابة : إني لآتي امرأتي مضطجعة ، وقال آخر : إني لآتيها قائمة ، وقال آخر : إني لآتيها على جنبها ، وقال آخر : إني لآتيها باركة ، فقال يهودي بقربهم : ما أنتم إلا أمثال البهائم ، ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة فنزلت . . . . { وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ } الخير ، أو ذكر الله تعالى عند الجماع قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)

{ عُرْضَةً } من القوة والشدة ، فالعرضة أن يحلف في كل حق وباطل فيبتذل اسم الله تعالى ويجعله عرضة ، أو العرضة : علة يعتل بها فيمتنع من فعل الخير ، والإصلاح معتدلاً بأن حلفت ، أو يحلف في الحال فيعتل بيمينه في ترك الخير ، أو يحلف ليفعلن البر والخير فيقصد بفعله برّ يمينه دون الرغبة في فعل الخير . { أَن تَبَرُّواْ } في أيمانكم ، أو تبروا أرحامكم { وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } . { سَمِيعٌ } لأيمانكم { عَلِيمٌ } باعتقادكم .

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

{ بِاللَّغْوِ } كل كلام مذموم ، لغا فلان : قال قبيحاً ، فلغو اليمين : ما سبق إليه اللسان من غير قصد ، كلا والله ، وبلى والله ، مَّر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوم يتناضلون فرمى رجل فقال : اصبت والله ، أخطأت والله ، فقال رجل مع الرسول صلى الله عليه وسلم حنث الرجل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « كلا إن أيمان الرماة [ لغو ] لا كفارة ولا عقوبة » أو الحلف على شيء ظاناً ثم تبين بخلافه ، أو الحلف في حال الغضب من غير عقد ولا عزم بل صلة في الكلام وعن الرسول صلى الله عليه وسلم : « لا يمين في غضب » ، أو الحلف على معصية فلا يؤاخذ بترك المعصية ويكفِّر ، وعن الرسول صلى الله عليه وسلم « من حلف على معصية فلا يمين له » أو دعاء الحالف على نفسه ، كقوله : « إن لم أفعل فأعمى الله بصري ، او أخرجني من مالي ، أو أنا كافر بالله ، قاله زيد بن أسلم » أو اللغو : الأيمان المكفَّرة ، أو ما حنث فيه ناسياً { كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } عمدتم ، أو الحلف كاذباً ، أو على باطل ، أو اعتقاد الشرك بالله تعالى والكفر ، عند زيد بن أسلم . { غَفُورٌ } للغو { حَلِيمٌ } بترك معاجلة العصاة .

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)

{ يُؤْلُونَ } يقسمون ، والأليَّة : القسم ، يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم فترك لدلالة الكلام عليه ، ويختص باليمين بالله تعالى ، أو يعم في كل ما يُلزم الحانث ما لم يكن يلزمه . يختص بالجماع وبحال الغضب وقصد الإضرار ولا يجري في حال الرضا وبغير قصد الإضرار ، أو يعم الأحوال إذا حلف على الجماع ، أو يعم فيما يسوء به زوجته من جماع ، أو غيره ، كقوله : لأسوأنك أو لأغيظنك ، قاله الشعبي وابن المسيب والحكم . { فَآءُو } رجعوا إلى الجماع ، أو الجماع لغير المعذور ، والفيئة باللسان للمعذور ، أو الفيئة باللسان وحده عند من جعله عاماً في غير الجماع . { غَفُورٌ } بإسقاط الكفارة ، أو بإسقاط الإثم دون الكفارة .

وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

{ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاقَ } بأن لا يطلقوا حتى تمضي الأشهر الأربعة فتطلق بائنة ، أو رجعية ، أو يوقف بعد مضي الأشهر ، فإن فاء وإلا طلق قاله : اثنا عشر من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، أو الإيلاء ليس بشيء قاله ابن المسيب : { سَمِيعٌ } لإيلائه ، أو لطلاقه ، { عَلِيمٌ } بنيته ، أو بضره .

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

{ وَالْمُطَلَّقَاتُ } الطلاق : التخلية ، النعجة المهملة بغير راعٍ طالق وبه سميت المرأة . { ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } مدة ثلاثة قروء ، وهي الحيض ، أو الأطهار ، أخذ من الاجتماع ، لاجتماع الدم في الرحم عند من رآها الحيض ، أو لاجتماعه في البدن عند من رأها الأطهار ، قرأ الطعام في شدقه والماء في حوضه جمعهما ، أو القَرء : الوقت لمجىء ما يعتاد مجيئه ، أو لإدباره ، أقرأ النجم جاء وقت طلوعه أو أفوله . قال :
إذا ما الثريا وقد أقرأت ... أحس السِّما كان منها أفولاً
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . هبت لقارئها الرياح
فالقرء : وقت لخروج الدم ، أو لاحتباسه . { مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ } الحيض أو الحمل ، أو كلاهما ، توعدها لأنها تمنع بالكتمان رجعة الزوج ، أو لإلحاق نسب الولد بغيره كفِعل الجاهلية . { وَبُعُولَتُهُنَّ } سموا بذلك لعلوهم عليهن ، بعلا : ربًّا ، لعلوه بالربوبية . { بِرَدِّهِنَّ } برجعهن . { وَلَهُنَّ } من حسن الصحبة مثل الذي للرجال عليهن من حسن الصحبة ، أو لهن على الأزواج من التصنع مثل ما لأزواجهن عليهن قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو لهن من ترك المضارة مثل ما عليهن . { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } بالميراث والجهاد ، أو بالإمرة والطاعة ، أو إعطاء الصداق والملاعنة إذا قذفها ، أو بالإفضال عليها وأداء حقها والصفح عن حقوقه عليها ، أو بأن جعل له لحية قاله حميد .

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

{ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } بيان لسنة الطلاق أن يوقع في كل قرء طلقة ، أو بيان لعدد ما ثبت فيه الرجعة ، ولتقديره بالثلاث كان أحدهم يطلق ما شاء ثم يراجع ، فأراد رجل المضارة بزوجته بطلاقها ثم ارتجاعها كلما قرب انقضاء عدتها ولا يقربها فشكت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت . . . .
{ فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ } الرجعة بعد الثانية ، والتسريح بالإحسان الطلقة الثالثة . قيل للرسول صلى الله عليه وسلم الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ قال : « إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان » ، أو التسريح بإحسان : ترك الرجعة حتى تنقضي العدة ، والإحسان : أداء حقها وكف الأذى عنها . { يَخَافَآ } يظنا . { أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } بظهور نشوزها وسوء الخلق ، أو لا تطيع أمره ولا تبر قسمه ، أو تصرح بكراهتها له ، أو يكره كل واحد منهما صاحبه فلا يؤدي حقه ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « المختلعات هن المنافقات » وهي التي تختلع لميلها إلى غير زوجها . { فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } من الصداق من غير زيادة ، أو يجوز أن تفتدي بالصداق وبجميع مالها . وجواز الخلع محكم عند الجمهور ، ومنسوخ عند بكر بن عبد الله . بقوله تعالى : { وَءَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } [ النساء : 20 ] .

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

{ فَإِن طَلَّقَهَا } الثالثة ، أو هو تفسير لقوله تعالى { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } { تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } الدخول شرط عند الجمهور خلافاً لابن المسيب .

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)

{ فَبَلَغْنَ أَجَلهُنَّ } قاربن انقضاء العدة ، بلغ البلد إذا قاربه { فَأَمْسِكُوهُنَ } ارتجعوهن . { سَرِّحُوهُنَّ } بتركهن حتى تنقضي العدة { وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } بالارتجاع كلما طلق ليطول العدة ، { وَلا تَتَّخِذُواْ ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } كان أحدهم يطلق ، أو يعتق ثم يقول « كنت لاعباً » فقال الرسول صلى الله عليه وسلم « من طلق لاعباً ، أو أعتق لاعباً فقد جاز عليه » ، ونزلت { وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ } .

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } بانقضاء العدة . { تَعْضُلُوهُنَّ } العضل المنع ، داء عضال : ممتنع أن يداوي ، فلان عضلة : داهية ، لامتناعه بدهائه ، أو العضل : التضييق ، أعضل بالجيش الفضاء ، وقال عمر رضي الله تعالى عنه : « أعضل رأيي في أهل العراق لا يرضون عن والٍ ولا يرضى عنهم والٍ » . نزلت في معقل بن يسار لما طُلقت أخته ، رغب مطلقها في نكاحها فعضلها ، أو نزلت في جابر بن عبد الله طُلقت بنت عم له ثم رغب زوجها في نكاحها فعضلها ، أو تعم كل ولي عاضل . { تَرَاضَواْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ } بالزوج الكافي ، أو بالمهر .

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

{ حَوْلَيْنِ } من حال الشيء إذا انقلب ، لانقلابه عن الوقت الأول واستحالة الكلام انقلابه عن الصواب ، أو من التحول عن المكان ، لانتقاله من الزمن الأول . { كَامِلَيْنِ } قيدهما بالكمال ، لأنهم يطلقون الحولين يريدون أحدهما وبعض الآخر ، ومنه { فَمَن تَعَجَّلَ فَي يَوْمَيْنِ } [ البقرة : 203 ] ، أَمرٌ بإكمالها لمن كان حملها ستة أشهر لقوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] ، فإن كان حملها تسعاً أرضعت إحدى وعشرين شهراً ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أو هو عام في كل مولود طالت مدة حمله ، أو قصرت . { الْمَوْلُودِ لَهُ } الأب ، عليه رزق الأم المطلقة إذا أرضعت ولدها ومؤنتها { بِالْمَعْرُوفِ } بأجرة مثلها ، أو رزق الأم المنكوحة وكسوتها بالمعروف لمثلها على مثله من يسار ، أو إعسار . { لا تُضَآرَّ وَالدِةٌ } لا تمتنع من الإرضاع إضراراً بالأب عند الجمهور ، أو الوالدة هي الظئر ، ولا ينتزع الأب المولود له الولد من أمه إضراراً { وَعَلَى الْوَارِثِ } وهو المولود ، أو الباقي من أبويه بعد موت الآخر ، أو وارث الوالد ، أو وارث الابن من عصبته كالعم وابنه ، والأخ وابنه دون الوارث من النساء ، أو ذوي الرحم المَحْرم من الورثة ، أو الأجداد ثم الأمهات . { مِثْلُ ذَلِكَ } ما كان على الأب من أجرة رضاعه ونفقته ، أو من أن لا تضار والدة بولدها { فِصَالاً } فطاماً بفصل الولد من ثدي أمه ، فاصلت : فلاناً فارقته [ { وَتَشَاوُرٍ } ] التشاور : استخراج الرأي بالمشاورة . والفصال بالتراضي قبل الحوليين ، أو قبلهما وبعدهما . { تَسْتَرْضِعُواْ } لأولادكم بحذف [ اللام اكتفاء بأن الاسترضاع لا يكون إلا للولد ] وهذا عند امتناع الأم من رضاعه { سَلَّمْتُم } إلى الأمهات أجر رضاعهن قبل امتناعهن ، أو سلمتم الأولاد إلى المرضعة برضى الأبوين ، أو سلمتم إلى الظئر أجرها .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

{ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } زيدت العشر لأن الروح تنفخ فيها قاله ابن المسيب ، وأبو العالية ، وفي وجوب الإحداد فيها قولان : قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأسماء بن عميس لما أصيب جفعر بن أبي طالب : « تسلبي ثلاثاُ ثم أصنعي ما شئت » { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ } أي في تزوجكم بهن ، أو سقط عنكم الإنكار عليهن إذا تزوجن بعد الأجل . { بِالْمَعْرُوفِ } بالنكاح المباح ، أو بالطيب والزينة والانتقال من المسكن نَسخت هذه لقوله تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ } [ 240 ] وتقدم الناسخ على المنسوخ ، لأن القارىء إذا وصل إلى الناسخ واقتصر عليه أجزأه .

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

{ عَرَّضْتُم } الإشارة بالكلام إلى ما ليس له فيه ذكر ، كقوله ما عليكِ أيمة ، ورغب راغب فيك ، ولعل الله أن يسوق إليكِ خيراً { خِطْبَةِ } طلب النكاح ، والخُطْبة : الكلام الذي يتضمن الوعظ والإبلاغ { أَكْنَنتُمْ } سترتم . { سِرّاً } زنا ، أو الجماع ، أو قوله : « لا تفوتيني نفسك » أو نكاحها في العدة سِراً ، أو أخذه ميثاقها أن لا تنكح غيره . { قَوْلاً مَّعْرُوفاً } هو التعريض . { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ } على عقدة يريد التصريح { الْكِتَابُ أَجَلَهُ } فرض الكتاب ، أو أراد بالكتاب الفرض تشبيهاً بكتاب الدَّين .

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)

{ أَوْ تَفْرِضُواْ } بمعنى « ولم تفرضوا » أو « فرضتم أو لم تفرضوا » فحذف فرضتم . { فَرِيضَةً } صداقاً ، سمي بذلك ، لأنه أوجبه على نفسه ، وأصل الفرض الواجب { وَمَتِّعُوهُنَّ } بمال ينتفعن به بقدر نصف صداق المثل ، أو يقدرها الحاكم باجتهاده ، أو خادم ودون ذلك الوَرِق ، ودون ذلك الكسوة وهي واجبة لكل مطلقة ، أو لغير المدخول بها إذا لم يسمِّ لها صداقاً ، أو لكل مطلقة إلا غير المدخول بها ، أو هي مندوب إليها .

وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

{ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } فلكم استرجاعه ، أو فهو لهن ليس عليكم غيره . { إِلآ أَن يَعْفُونَ } ليكون مرغباً للأزواج في خطبتها . { الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِكَاحِ } الولي ، أو الزوج ، أو أبو البكر . { وَأَن تَعْفُواْ } أيها الأزواج أو الأزواج والزوجات . { لِلتَّقْوَى } إلى اتقاء المعاصي ، أو إلى أن يتقي كل واحد منهما ظلم الآخر .

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)

{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ } بذكرها ، أو تعجيلها . { الْوُسْطَى } خُصت بالذكر لانفرادها بالفضل ، وهي العصر ، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « حبسونا عن الصلاة الوسطى . صلاة العصر » ، أو الظهرُ ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصيلها بالهاجرة فلم يكن على الصحابة أشد منها فنزلت ، لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين ، أو المغرب لتوسط عددها ، وأنها لا تقصر ، أو الصبح ، لقوله تعالى { وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ } ولا قنوت في غيرها ، أو هي مبهمة في الخمس غير معينة ليكون أبلغ في المحافظة على جميعها . { قَانِتِينَ } القنوت من الدوام على أمر واحد ، أو من الطاعة ، أو من الدعاء يريد طائعين ، أو ساكتين عن منهي الكلام ، أو خاشعين عن العبث والتلفت ، أو داعين ، أو طول القيام ، أو القراءة .

فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

{ فَرِجَالاً } جمع راجل كقائم وقيام ، ولا يغير الخوف عدد الصلاة عند الجمهور ، وقال الحسن : « صلاة الخوف ركعة » وفي وجوب قضائها مذهبان { فَاذْكُرُواْ اللَّهَ } فصلوا كما علمكم ، أو فاذكروه بحمده ، والثناء عليه { كَمَا عَلَّمَكُم } من أمر دينكم { مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

{ وَالَّذِينَ يُتَوفَّوْنَ } نسخت الوصية بآية المواريث ، والحول بأربعة أشهر وعشر .

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)

{ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعُ } كل مطلقة ، أو الثيب المجامعة ، أو لما نزل { حَقّاً عَلَى المحسنين } [ البقرة : 236 ] قال رجل : « إن أحسنت فعلت وإن لم أرَ ذلك لم أفعل فنزل { حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } وخُصوا بالذكر تشريفاً .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)

{ أُلوُفٌ } مؤتلفو القلوب ، أو ألوف في عددهم أربعة آلاف أو ثمانية آلاف أو بضعة وثلاثون ألفاً ، أو أربعون ألفاً ، والألوف تستعمل فيما زاد على عشرة آلاف . { حَذَرَ الْمَوْتِ } فروا من الجهاد ، أو من الطاعون إلى أرض لا طاعون بها فلما خرجوا ماتوا ، فمر بهم نبي فدعا أن يُحيوا فأُجيب . { فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ } عبّر عن الإماتة بالقولن كما يقال : قالت السماء فمطرت ، أو قال قولاً سمعته الملائكة ، وإحياؤهم معجزة لذلك النبي .

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

{ قَرْضاً حَسَناً } في الجهاد ، أو أبواب البر . { أَضْعَافًا كَثِيرةً } سبعمائة ضعف ، أو ما لا يعلمه إلا الله . { يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ } في الرزق ، أو { يَقْبِضُ } الصدقات { وَيَبْصُطُ } الجزاء .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

{ الْمَلإِ } الأشراف . { لِنَبِىٍّ لَّهُمُ } سمويل ، أو يوشع بن نون ، أو سمعون ، سمته أمه بذلك لأن الله تعالى سمع دعاءها فيه ، طلبوا ذلك لقتال العمالقة ، أو الجبارين الذي استذلوهم .

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

{ طَالُوتَ } لم يكن من سبط النبوة ولا المملكة . { بَسْطَةً } زيادة في العلم ، وعظماً في الجسم ، كانا قبل الملك ، أو زاده ذلك بعد الملك . { وَاسِعٌ } الفضل ، أو موسع على خلقه ، أو ذو سعة .

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

{ سَكِينَةٌ } ريح هفافة لها جه كوجه الإنسان ، أو طست ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء ، أو روح من الله تتكلم ، أو ما تعرفونه من الآيات فتسكنون إليه ، أو الرحمة ، أو الوقار . { وَبَقِيَّةٌ } عصا موسى عليه الصلاة والسلام ، ورضاض الألواح ، أو العلم ، أو التوراة ، أو الجهاد في سبيل الله تعالى ، أو التوراة وشيء من ثياب موسى عليه الصلاة والسلام ، كان قدر التابوت ثلاثة أذرع في ذراعين { تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ } بين السماء والأرض يرونه عياناً ، ويقال نزل آدم عليه الصلاة والسلام بالتابوت والركن . وكان التابوت بأيدي العمالقة غلبوا عليه بني إسرائيل ، أو كان ببرية التيه خلفه بها يُوشع بن نون ، وقيل إن التابوت وعصا موسى عليه الصلاة والسلام في بحيرة الطبرية ، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة .

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

{ بِنَهَرْ } نهر بين الأردن وفلسطين ، أو نهر فلسطين ابتلوا به لشكايتهم قلة الماء وخوف العطش . { مِنِّى } من أهل ولايتي . { غُرْفَةَ } الفعل والغُرفة اسم المغروف . { قَليلآً } ثلاثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر ، ومن استكثر منه عطش . { جَاوَزَهُ } مع المؤمنين والكافرين ثم انخزلوا عن المؤمنين ، وقالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت ، أو لم يجاوزه إلا مؤمن . { قَالُواْ لا طَاقَةَ } قاله الكفار المنخزلون ، أو من قلّت نصرته من المؤمنين . { يَظُنُّونَ } يوقنون ، أو يتوقعون { أَنَّهُم مُّلاَقُواْ اللَّهِ } بالقتل في تلك الواقعة . { مَعَ الصَّابِرِينَ } بالنصر والمعونة .

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)

{ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ } بنصر الله ، أضاف الهزيمة إليهم تجاوزاً لأنهم بالإلجاء إليها صاروا سبباً لها . { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } رماه بحجر بين عينيه فخرج من قفاه فقتل جماعة من عسكره ، وكان نبياً قبل قتله لوقوع هذا الخارق على يديه ، أو لم يكن نبياً ، لأنه لا يجوز أن يولى على النبي من ليس بنبي . { الْمُلْكَ } السلطان . { وَالْحِكْمَةَ } النبوة . { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } قيل صنعة الدروع ، والتقدير في السرد . { دَفْعُ اللَّهِ } الهلاك عن البر الفاجر ، أو يدفع باللطف للمؤمن وبالرعب في قلب الكافر . { لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ } لعم فسادها .

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

{ الْحَىُّ } ذو الحياة ، أو تسمى به لتصريفه الأمور وتقديره الأشياء ، أو اسم تسمى به فيقبل تسليماً لأمره . { الْقَيُّومُ } القائم بتدبير الخلق ، أو القائم على كل نفس بما كسبت فيجزيها بما علمه منها ، أو القائم الموجود ، أو العالم بالأمور ، قام فلان بالكتاب إذا كان عالماً به ، أو أخذ من الاستقامة . { سِنَةٌ } نعاس ، والنعاس ما كان في العين ، فإذا صار في القلب صار نوماً . { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } الدنيا { وَمَا خَلْفَهُمْ } الآخرة . { كُرْسِيُّهُ } علمه ، أو العرش ، أو سرير دون العرش ، أو موضع القدمين ، أو الملك وأصل الكرسي : العلم ومنه الكراسة ، والعلماء كراس ، لأنه يُعْتَمد عليهم كما قيل : أوتاد الأرض . { وَلا يَؤُدُهُ } لا يثقله إجماعاً ، والضمير عائد إلى الله تعالى أو إلى الكرسي . { الْعَلِىُّ } بالاقتدار ، ونفوذ السلطان ، أو العلي : عن الأشباه والأمثال .

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } في الكتابي إذا بذل الجزية ، أو نسخت بفرض القتال ، أو كانت المقلاة من الأنصار تنذر إن عاش لها ولد أن تهوّده رجاءً لطول عمره ، وذلك قبل الإسلام ، فلما أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم بني النضير وفيهم أولاد الأنصار ، قالت الأنصار كيف نصنع بأبنائنا فنزلت قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { بِالطَّاغُوتِ } الشيطان ، أو الساحر ، أو الكاهن ، أو الأصنام ، أو مردة الإنس والجن ، أو كل ذي طغيان على الله تعالى عبده مَنْ دُونه بقهر منه أو بطا [ عة ] إنساناً كان أو صنماً . { بِالْعُرْوَةِ } الإيمان بالله تعالى . { لا انفِصَامَ } لا انقطاع ، أو لا انكسار ، أصل الفصم الكسر .

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

{ مِّنَ الظُّلُمَاتِ } الضلالة إلى الهدى . { مِّنَ النُّورِ إِلى الظُّلُمَاتِ } نزلت في مرتدين ، أو في كافر أصلي ، لأنهم بمنعهم من الإيمان كأنهم أخرجوهم منه .
{ الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ } عليه الصلاة والسلام : النمرود بن كنعان أو من تجبر في الأرض وأدّعى الربوبية . { ءَاتَاهُ اللَّهُ الُمُلْكَ } الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أو لنمرود . { أُحْىِ وَأُمِيتُ } أترك من لزمه القتل ، وأقتل بغير سبب يوجب القتل . عارض اللفظ بمثله ، وعدل عن اختلاف الفعلين ، فلذلك عدل إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى حجة أخرى لظهور فساد ما عارض به ، أو عدل عما شغب به إلى ما لا إشغاب فيه ، استظهاراً عليه . { فَأًتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } لم يعارضه نمرود بأن يأتي بها ربه ، لأن [ الله ] خذله بالصَّرفة عن ذلك ، أو علم أنه لو طلب ذلك لفعل لما رآه من الآيات فخاف ازدياد الفضيحة . { فَبُهِتَ } تحيّر ، أو انقطع .

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

{ كَالِّذِى مَرَّ } عُزير ، أو أرميا ، أو الخضر . { قَرْيَةٍ } بيت المقدس لما خربه بختنصر ، أو القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت . { خَاوِيَةٌ } خراب ، أو خالية من الخواء وهو الخلو ، ومنه خوت الدار ، والخواء الجوع لخلو البطن . { عُرُوشِهَا } العروش البناء . { يُحْىِ هَذِهِ اللَّهُ } بالعمارة { بَعْدَ مَوْتِهَا } بالخراب . { يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } قال ذلك ، لأنه مات أول النهار ، وعاش بعد المائة آخر النهار فقال : يوماً ، ثم رأى بقية الشمس فقال : أو بعض يوم . { لَمْ يَتَسَنَّهْ } لم يأتِ عليه السنون فيتغير ، أو لم يتغير بالأسن . { نُنِشزُهَا } نحييها ، من نشر الثوب ، لأن الميت كالثوب المطوي ، لانقباضه عن التصرف فإذا عاش فقد انتشر بالتصرف . { نُنِشزُهَا } نرفع بعضها إلى بعض ، النشز المكان المرتفع ، نشزت المرأة لارتفاعها عن طاعة زوجها ، قاله ملك ، أو نبي ، أو بعض المعمرين ممن شاهد موته وحياته .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنىِ } لما حاجه نمرود في الإحياء ، أو رأى جيفة تمزقها السباع . { أَوَلَمْ تُؤْمِن } ألف إيجاب .
ألستم خير من ركب المطايا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{ لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } بعلم المشاهد بعد علم الاستدلال من غير شك . { أَرْبَعَةً } ديك وطاووس ، وغراب ، وحمام . { فَصُرْهُنَّ } بالضم والكسر واحد ضمهن إليك ، أو قطعهن فيتعلق إليك بخذ . { عَلَى كُلِّ جَبَلٍ } أربعة أجبال ، أو سبعة ، أو كل جبل .

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

{ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الجهاد ، أو أبواب البر كلها ، فالنفقة في الجهاد بسبعمائة ضعف ، وفي غيره بعشرة أمثاله ، أو تجوز مضاعفتها بسبعمائة . { وَاسِعٌ } لا يضيق عن الزيادة { عَلِيمٌ } بمستحقها ، أو { وَاسِعٌ } الرحمة لا يضيق عن المضاعفة { عَلِيمٌ } بالنفقة .

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

{ مَنّاً } كقوله : أحسنت إليك ونعشتك . { أَذىً } كقوله : من أبلاني بك وأنت أبداً فقير . { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } في ثواب الآخرة ، أو من أهوالها .

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)

{ قَوْلٌ مَّعْروفٌ } حسن { وَمَغْفِرَةٌ } وعفو عن أذى السائل ، أو سلامة عن المعصية .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)

{ لا تُبْطِلُواْ } فضل صدقاتكم دون ثوابها ، بخلاف المرائي فإنه لا ثواب له ، لانه لم يقصد وجه الله تعالى . { صَفْوَانٍ } جمع صفوانة وهي حجر أملس . والوابل : المطر الشديد الواقع . والصلد : من الحجارة ما صلب ، ومن الأرض : ما لم ينبت تشبيهاً بالحجر . { شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ } أنفقوا ، لما طلبوا بها الكسب سميت كسباً ، وهو مثل المرائي في بطلان ثوابه ، والمانَّ في بطلان فضله .

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

{ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ } أين يضعون الصدقة ، أو توطيناً لها بالثبوت على الطاعة ، أو بقوة اليقين ، ونصرة الدين . { بِرَبْوَةٍ } مكان مرتفع ، نبتها أحسن ، وريعها أكثر . { أُكُلَهَا } الأكل للطعام . { ضِعْفَيْنِ } مثلين ، ضعف الشيء : مثله زائداً عليه ، وضعفاه : مثلاه زائداً عليه عند الجمهور ، أو ضعف الشيء : مثلاه .

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

{ إِعْصَارٌ } ريح تهب من الأرض إلى السماء كالعمود ، لأنها تلتف كالتفاف الثوب المعصور ، وتسميها العامة « الزوبعة » قال :
إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً ... مثل لانقطاع أجر المرائي عند حاجته ، أو مثل للمفرط في الطاعة بملاذ الدنيا ، أو للذي يختم عمله بفساد . قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

{ أَنفَقُواْ } الزكاة المفروضة ، أون التطوع . { كَسَبْتُمْ } من الذهب والفضة ، أو من التجارة . { أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ } من الزروع والثمار { وَلا تَيَمَّمُواْ } الخليل : « أممته : قصدت أمامه ، ويممته : تعمدته من أي جهة كان » ، أو هما سواء . { الْخَبِيثَ } حشف كانوا يجعلونه في تمر الصدقة ، أو الحرام ، والخبيث : الرديء من كل شيء . { تُغْمِضُواْ } تتساهلوا ، أو تحطوا في الثمن أو إلاَّ أن يُوكَسَ .

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)

{ الْحِكْمَةَ } الفقه في القرآن ، أو العلم بالدين ، أو الفهم أو البنوة ، أو الخشية ، أو الإصابة ، أو الكتابة .

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

{ فَنِعِمَّا هِىَ } ليس في إبدائها كراهة . { وَإِن تُخْفُوهَا } صدقة التطوع ، أو الفرض والتطوع . { مِّن سَيِّئَاتِكُمْ } من « زائدة » أو للتبعيض ، لأن الطاعة بغير التوبة لا تُكَفِّر إلا الصغائر .

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

{ لِلْفُقَرَآءِ } فقراء المهاجرين . { أُحْصِرُواْ } امتنعوا من المعاش خوف الكمفار ، أو منعهم الكفار بخوفهم منهم . { ضَرْباً } تصرفاً أو تجارة . { بِسِيمَاهُمْ } بخشوعهم ، أو فقرهم ، { إِلْحَافاً } إلحاحاً في السؤال .

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ } نزلت في علي رضي الله عنه كان معه أربعة دنانير فأنفقها على هذا الوجه ، أو في النفقة على خيل الجهاد ، أو في كل نفقة طاعة .

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)

{ يَأْكُلُونَ } يأخذون عبّر به عن الأخذ ، لانه الأغلب والربا : الزيادة على الدَّيْن لمكان الأجل ، رَبَا السويق زاد . { لا يَقُومُونَ } من قبورهم يوم القيامة . { يَتَخَبَّطُهُ } يتخنقه الشيطان في الدنيا . { مِنَ الْمَسِّ } وهو الجنون ، وذلك لغلبة السوداء ، فنسب إلى الشيطان تشبيهاً بما يفعله من إغوائه به ، أو هو فعل للشيطان ، لجوازه عقلاً ، وهو ظاهر القرآن . { إِنَّمَا الْبَيْعُ } قالته ثقيف ، وكانوا من أكثر العرب رِباً . { مَا سَلَفَ } ما أَكل من الربا لا يلزمه رده .

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)

{ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَوَاْ } ينقصه شيئاً بعد شيء ، من محاق الشهر ، لنقصان الهلال فيه . { وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ } يضاعف أجرها وعداً منه واجباً ، أو ينمي المال الذي أخرجت منه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)

{ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ } نزلت في بقية من الربا للعباس ، ومسعود ، وعبد يا ليل ، وحبيب ، وربيعة . { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } على ظاهره ، أو من كان مؤمناً فهذا حكمه .

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)

{ لا تَظْلِمُونَ } بأخذ زيادة على رأس المال . { وَلا تُظْلَمُونَ } بنقص رأس المال .

وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)

{ فَنَظِرَةٌ } يجب الإنظار في دَين الربا خاصة ، أو في كل دَين ، أو الإنظار في دَين الربا بالنص وفي غيره بالقياس . { مَيْسَرَةٍ } أن يوسر عند الأكثر ، أو الموت عند إبراهيم { وَأَن تَصَدَّقُواْ } على المعسر بالإبراء خير من الإنظار .

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

{ إِلَى اللَّهِ } إلى جزائه ، أو ملكه . { مَّا كَسَبَتْ } من الأعمال ، أو الثواب والعقاب . { لا يُظْلَمُونَ } بنقص ما يستحقونه من الثواب ، ولا بالزيادة على ما يستحقونه من العقاب ، هذه آخر آية نزلت ، وقال ابن جريج : « مكث الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها تسع ليالٍ » .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

{ تَدَايَنتُم } تجازيتم ، أو تعاملتم ، { فاكْتُبُوهُ } ندب ، أو فرض . { فَلْيَكْتُبْ } فرض كفاية على الكاتب ، أو واجب في حال فراغه ، أو ندب ، أو نُسِخَ بقوله تعالى { وَلا يُضَآرَّ كَاتِبٌ } { وَلا يَبْخَسْ } لا ينقص . { سَفِيهاً } لا يعرف الصواب في إملاء ما عليه ، أو الطفل ، أو المرأة والصبي ، أو المبذر لماله المفسد لدينه . { ضَعِيفاً } أحمق ، أو عاجزاً عن الإملاء لِعَيٍّ ، أو خرس . { لا يَسْتَطِيعُ } لِعَيِّه وخرسه ، أو لجنونه ، أو لحبسه ، أو غيبته . { وَلِيُّهُ } ولي الحق ، أو ولي من عليه الدَّيْن . { وَاسْتَشْهِدُواْ } ندب ، أو فرض كفاية . { تَرْضَوْنَ } الأحرار المسلمون العدول ، أو المسلمون العدول وإن كانوا أرقاء . { فَتُذَكِّرَ } من الذكر ، أو بجعلها كَذَكَر من الرجال { دُعُواْ } لتحملها وكتابتها ، أو لأدائها ، أو لهما وذلك ندب ، أو فرض كفاية ، أو فرض عين . { وَلا تَسْئَمُوَاْ } لا تملوا { صَغِيراً } لا يراد به التافه الحقير كالدانق لخروجه عن العرف . { أَقْسَطُ } أعدل . { وَأَقْوَمُ } وأصح من الاستقامة . { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } فرضن أو ندب . { وَلا يُضَآرَّ كَاتِبٌ } بأن يكتب ما لم يُمل عليه ، ولا يشهد الشاهد بما لم يُستشهد ، أو يمنع الكاتب أن يكتب والشاهد أن يشهد ، أو يدعيان وهما مشغولان . { فُسُوقٌ } معصية ، أو كذب .

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

{ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ } فاجر ، أو مكتسب لإثم الكتمان .

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)

{ لِّلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ } له تدبير ذلك ، أو ملكه { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } كتمان الشهادة ، أو ما حَدَّث به نفسه من سوء أو معصية ، فنسخت بقوله تعالى { رَبَّنَا لا تُوَاخِذْنَآ } إلى { الْكَافِرِينَ } ، أو هي محكمة فيؤاخذ الإنسان بما أضمره إلا أن [ الله ] يغفره للمؤمن فيؤاخذ به الكافر ، أو هي عامة في المؤاخذة بما أضمره ، أو هي عامة ومؤاخذة المسلم بمصائب الدنيا .

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

{ وَكُتُبِهِ } القرآن ، أو جنس الكتب . { لا نُفَرّقُ } لا نؤمن ببعض ونكفر ببعَ . { غُفْرَانَكَ } نسألك غفرانك ، وإلى جزائك المصير .

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

{ وُسْعَهَا } طاقتها { كَسَبَتْ } من الحسنات { اكْتَسَبَتْ } من السيئات . { نَسِينَآ } أمرك أو تركناه . { أَخْطَأْنَا } أصبنا من المعاصي بالشبهات ، أو تعمدنا . { إِصْراً } عهداً نعجز عن القيام به ، أو لا تمسخنا قردة وخنازير ، أو الذنب الذي لا توبة له ولا كفارة ، أو الثقل العظيم . { الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } بنو إسرائيل فيما حُمِّلوه من قتل أنفسهم . { لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } من العذاب ، أو مما كُلِّفته بنو إسرائيل . { مَوْلانَا } وليّنا وناصرنا .

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)

{ بِالْحَقِّ } بالصدق { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يخبر عما قبله خبر صدق دال على إعجازه ، أو يخبر بصدق الأنبياء فيما أتوا به .

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)

{ مًّحْكَمَاتٌ } المحكم : الناسخ ، والمتشابه : المنسوخ ، أو المحكم : ما أحكم بيان حلاله وحرامه فلم يشتبه ، والمتشابه : ما اشتبهت معانيه ، أو المحكم : ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً والمتشابه : ما احتمل أوجهاً ، أو المحكم : ما لم يتكرر لفظه ، والمتشابه ما تكرر لفظه ، أو المحكم : ما فهمه العلماء ، المتشابه ما لا طريق لهم إلى فهمه ، كقيام الساعة ، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ، وطلوع الشمس من مغربها ، وجعله محكماً ومتشابهاً استدعاء للنظر من غير اتكال على الخبر . { أُمُّ الْكِتَابِ } آيات الفرائض والحدود ، أو فواتح السور التي يستخرج منها القرآن . { زَيْغٌ } ميل عن الحق ، أو شك . { مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } الأجل الذي أرادت اليهود [ أن ] تعرفه من حساب الجُمَّل ، أو معرفة عواقب القرآن في العلم بورود النسخ قبل وقته ، أو نزلت في وفد نجران حاجوا الرسول صلى الله عليه وسلم في المسيح عليه الصلاة والسلام فقالوا للرسول : أليس هو كلمة الله تعالى وروحه ، فقال : « بلى » فقالوا : حسبنا . { الْفِتْنَةٍ } الشرك ، أو اللبس ، أو الشبهة التي حاج بها وفد نجران . { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } تأويل جميع المتشابه ، لأن في الناس من يعلم تأويل بعضه ، أو يوم القيامة لما فيه من الوعد والوعيد . { الرَّاسِخُونَ } الثابتون العاملون .

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

{ كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ } كعادتهم في تكذيب الحق ، أو في العقوبة على ذنوبهم .

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)

{ سَتُغْلَبُونَ } نزلت في قريش قبل بدر بسنة فأنجز الله تعالى وعده بمن قُتل ببدر ، أو في يهود بني قينقاع لما حذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما نزل بأهل بدر ، قالوا : لسنا بقريش الأغمار ، أو نزلت في عامة الكفار . { الْمِهَادُ } ما مهدوه لأنفسهم ، أو القرار .

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

{ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ } المؤمنون ببدر . { وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } قريش . { يَرَوْنَهُم } كان المؤمنون ثلاثمائة وبضعة عشر ، والكفار ألف ، أو ما بين تسعمائة إلى ألف ، فرأى المؤمنون الكافرين مثلي عدد المؤمنين تقوية من الله لقلوبهم ، أو رأى الكافرون المؤمنون مثلي عددهم إضعافاً من الله تعالى لقلوبهم .

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ } حُسِّن . والشهوة : من خلق ا لله تعالى ضرورية لا يقدر العبد على دفعها ، زينها الشيطان ، لأن الله تعالى ذمها ، أو زينها الرب بما جعله في الطبع من المنازعة إليها ، أو زين الله تعالى ما حَسُنَ وزين الشيطان ما قَبُحَ . { وَالْقَنَاطِيرٍ } القنطار : ألف ومائتا أوقية وهو مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الف دينار ومائتا دينار ، عن الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً ، أو اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار ، أو ثمانون ألفاً ، من الدراهم ، أو مائة رطل من الذهب ، أو سبعون ألفاً ، أو ملْ مسك ثور ذهباً ، أو المال الكثير . { الْمُقَنطَرَةِ } المقنطرة : المضاعفة ، أو تسعة قناطر ، أو المضروبة دراهم أو دنانير ، أو المجعولة كذلك ، لقولهم : « دراهم مدرهمة » . { الْمُسَوَّمَةِ } الراعية ، أو الحسنة ، أو المعلمة ، أو المعدة للجهاد ، أو من السيما مقصور وممدود . { وَالأَنْعَامِ } الإبل ، والبقر والغنم ، ولا يفرد بعضها اسم النَّعم إلا الإبل . { وَالْحَرْثِ } الزرع .

الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)

{ الصَّابِرِينَ } عن المعاصي ، أو الصائمين . { وَالْقَانِتِينَ } المطيعون ، أو القائمون على العبادة . { وَالْمُنافِقِينَ } في الجهاد ، أو جميع البر . { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ } المصلون ، أو سائلوا المغفرة بقولهم ، أو الذين يشهدون الصبح في جماعة ، والسحر من الليل : قبل الفجر .

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

{ شَهِدَ اللَّهُ } أخبر ، أو فعل ما يقوم مقام الشهادة . وشهادة الملائكة ، وأولو العلم بما شاهدوه من دلائل الوحدانية { بِالْقِسْطِ } العدل .

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)

{ الدِّينَ } هنا الطاعة أي طاعته هي الإسلام ، من السلامة ، لأنه يقود إليها ، أو من التسليم ، لأمره في العمل بطاعته . { الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } اليهود ، أو النصارى ، أو أهل الكتب كلها . { بَغْيَا } عدول عن الحق بغير عناد .

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)

{ أَسْلَمْتُ } انقدت . { وَجْهِىَ } نفسي ، انقدت بإخلاص التوحيد . { وَالأُمِّيِّنَ } الذين لا كتاب لهم ، من الأمي الذي لا يكتب ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما « هم مشركوا العرب » . { ءَأَسْلَمْتُمْ } أمر ليس باستفهام .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)

{ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّنَ } قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عُبَّادهم فأمروا القاتلين بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً آخر ذلك اليوم » .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

{ نَصِيباً } حظاً ، لأنهم لم يعلموا الكل . { إِلَى كِتَابِ اللَّهِ } التوراة ، أو القرآن لموافقته التوراة . { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو إن الإسلام دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أو في حد من الحدود .

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)

{ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } الأربعون التي عبدوا فيها العجل ، أو سبعة أيام ، أو أيام منقطعة لانقضاء العذاب فيها . { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } بقولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] أو قولهم : { لن تَمَسَّنا النَّارُ } .

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)

{ مَالِكَ } مالك الدنيا والآخرة ، أو مالك العباد وما ملكوه ، أو مالك النبوة { تُؤْتِى الْمُلْكَ } النبوة ، أو السطان . دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجعل الله تعالى ملك فارس والروم في أمته فنزلت { بِيَدِكَ الْخَيْرُ } خص بالذكر ، لأنه المعروف من فعله .

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)

{ تُولِجُ الَّيلَ فِى النَّهَارِ } تجعل كل واحد منهما بدلاًَ من الآخر ، أو تدخل نقصان كل واحد منهما في زيادة الآخر . { وَتُخْرِجُ الْحَىَّ } الحيوان من النطفة ، والنطفة من الحيوان ، أو المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، الميْت والميّت واحد ، أو الميْت الذي مات وبالتشديد الذي لم يمت .

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)

{ وَءَالَ عِمْرَانَ } موسى وهارون ، أو المسيح عليهم الصلاة والسلام لأن أمه بنت عمران ، اصطفاهم بالنبوة ، أو بتفضيلهم على أهل زمانهم ، أو باختيار دينهم لهم .

ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)

{ بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } بالتناصر دون النسب ، أو بالنسب ، لأنهم من ذرية آدم ثم من ذرية نوح ثم ذرية إبراهيم عليهم الصلاة والسلام .

إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)

{ مُحَرَّرًا } مُخلَصاً للعبادة ، أو خادماً للبيعة ، أو عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله تعالى .

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)

{ وَضَعْتُهَا أُنثَى } اعتذرت بذلك لعدوله عن نذرها . { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى } إذ لا تصلح لخدمة بيت المقدس ، ولصيانتها عن التبرج . { وَإِنِّى أُعِيذُهَا } من طعن الشيطان الذي يستهل به المولود ، أو من إغوائه { الرَّجِيمِ } المرجوم بالشهب .

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

{ فَتَقَبَّلَهَا } رضيها في النذر . { وَأَنبَتَهَا } أنشأها إنشاء حسناً في غذائها وحسن تربيتها . { الْمِحْرَابَ } أكرم موضع في المجلس . { رِزْقًا } فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، أو لم تُلقم ثدياً حتى تكلمت في المهد ، وكان يأتيها رزقها من الجنة ، وكان ذلك بدعوة زكريا عليه الصلاة والسلام ، أو توطئة لنبوة المسيح عليه الصلاة والسلام { مِنْ عِندِ اللَّهِ } يأتيها الله تعالى به أو بعض الأولياء ، بتسخير الله تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } من قول الله تعالى ، أو من قول مريم عليها السلام .

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)

{ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } بإذنه له في ذلك ، لأنه معجز فلا يطلب إلا بإذن ، أو لما رأى خرق العادة في رزق مريم طمع في الولد من عاقر فدعا { طَيِّبةَ } مباركة . { سَمِيعُ الدُّعَآءِ } مجيب الدعاء ، لأن الإجابة بعد السماع .

فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)

{ الْمَلائِكَةُ } جبريل عليه السلام ، أو جماعة من الملائكة . { بِيَحْيَىَ } سماه الله تعالى « يحيى » قبل ولادته ، قيل : لأنه حَيَا بالإيمان { بِكَلِمَةٍ } كتاب ، أو بالمسيح ، سمي بالكلمة ، لأنه يُهتدى به كما يُهتدى بكلام الله تعالى ، أو لأنه خلق بالكلمة من غير أب . { وَسَيِّدًا } حليماً ، أو تقياً ، أو شريفاً ، أو فقيهاً عالماً ، أو رئيساً على المؤمنين . { وَحَصُورًا } عنينا لا ماء له ، أو لا يأتي النساء ، أو لم يكن له ما يأتي به النساء لأنه كان كالنواة .

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)

{ بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ } ، لأنه بمنزلة الطالب له . { عَاقِرٌ } لا تلد ، وإنما قال ذلك بعد البشارة تعجباً من قدرة الله تعالى وتعظيماً لأمره ، أو أراد [ أن ] يعلم على أي حال يكون؟ بأن يردا إلى شبابهما ، أو على حال الكبر .

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)

{ ءَايَةً } علامة لوقت الحمل لتعجيل السرور به . { رَمْزًا } تحريك الشفتين ، أو الإشارة أو الإيماء . { وَاذْكُر رَّبَّكَ } منع من الكلام ولم يمنع من الذكر . { بِالْعَشِيَ } أصله الظلمة فسمي ما بعد الزوال عشياً لاتصاله بالظلام . والعشا : ضعف البصر . { وَالإِبْكَارِ } من الفجر إلى الضحى أصله التعجيل ، لأنه تعجيل للضياء .

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)

{ اصْطَفَاكِ } لولادة المسيح ، أو على عالمي زمانك . { وَطَهَّرَكِ } من الكفر ، أو أدناس الحيض النفاس . { وَاصْطَفَاكِ } تأكيد للأصطفاء [ أو ] الأول للعبادة ، والثاني لولادة المسيح عليه الصلاة والسلام .

يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

{ اقْنُتِى } أَخلصي لربك ، أو أديمي طاعته ، أو أطيلي القيام في الصلاة . { وَاسْجُدِى } كان السجود في شرعهم مقدماً على الركوع ، أو « الواو » لا ترتيب فيها ، فكلمتها الملائكة معجزة لزكريا عليه الصلاة والسلام ، أو توكيداً لنبوة المسيح عليه الصلاة والسلام ، أصل السجود : الانخفاض الشديد ، والركوع : دونه . { مَعَ الرَّاكعِينَ } افعلي كفعلهم ، أو صلي في جماعة .

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

{ أَنبَآءِ الْغَيْبِ } البشارة بالمسيح عليه الصلاة والسلام أصل الوحي : إلقاء المعنى إلى صاحبه ، فيلقى إلى الرسل بالإنزال ، وإلى النحل بالإلهام ، ومن بعض إلى بعض بالإشارة { فأوحى إِلَيْهِمْ } [ مريم : 11 ] .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أوحى لها القرار فاستقرت
{ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ } قالوا نحن أحق بكفالتها ، لأنها ابنة إمامنا وعالمنا وقال زكريا : « أنا أحق لأن خالتها عندي » ، فاقترعوا على ذلك بأقلامهم وهي القداح فأُصعد قلم زكريا في جرية الماء ، وانحدرت أقلامهم مع الجرية ، فقرعهم فكفلها ، أو كفلها زكريا بغير قرعة ، ثم أصابتهم أزمة ضعف بها عن مؤنتها فقال : ليأخذها أحدكم فتدافعوها فاقترعوا فقرعهم زكريا عليه الصلاة والسلام .

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)

{ الْمَسِيحُ } ، لأنه مسح بالبركة ، أو مسح بالتطهير من الذنوب .

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)

{ الْمَهْدِ } من التمهيد ، تكلم فيه تبرئة لأمه ، أو لظهور معجزته ، وكان في المهد نبياً ، لظهور المعجزة ، أو لم يكن حينئذ نبياً وكان كلامه تأسيساً لنبوته . { وَكَهْلاً } حليماً ، أو كهلاً في السن ، والكهولة أربع وثلاثون سنة ، أو فوق حال الغلام ودون حال الشيخ ، أخذ من القوة ، اكتهل النبت إذا طال وقوي ، يريد يكلمهم كهلاً بالوحي ، أو يتكلم صغيراً بكلام الكهل في السن .

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)

{ أَنصَارِى إِلَى اللهِ } مع الله ، أو في السبيل إلى الله ، أو من ينصرني إلى نصر الله . { الْحَوَارِيُّونَ } لبياض ثيابهم ، أو كانوا قَصَّارين يبيّضون الثياب ، أو هم خواص الأنبياء ، لنقاء قلوبهم من الحور ، وهو شدة البياض ، ومنه الحواري من الطعام ، استنصرهم ليمنعوه من قتل الذين أرادوا قتله ، أو ليتمكن من إقامة الحجة وإظهار الحق ، أو ليميز المؤمن من الكافر .

رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)

{ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } ثبت أسماءنا مع أسمائهم لننال مثل كرامتهم ، أو صل ما بيننا وبينهم بالأخلاص على التقوى .

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)

{ وَمَكَرُواْ } بالمسيح عليه الصلاة والسلام ، ليقتلوه فمكر الله تعالى بهم بالخيبة بإلقاء شَبَهه على غيره ، أو مكروا بإضمار الكفر ومكر الله لمجازاتهم بالعقوبة ، وذكر ذلك للازدواج ، كقوله تعالى { فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] وأصل المكر الالتفاف ، الشجر المتلف مكر ، فالمكر احتيال على الإنسان ، لإلقاء المكروه به ، والفرق بينه وبين الحلية أنه لايكون إلا لقصد الإضرار ، والحيلة قد تكون لإظهار ما يعسر من غير قصد إضرار .

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

{ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ } الضمير لعيسى عليه الصلاة السلام ، أو للحق [ { فَقُلْ تَعَالَوْاْ } ] المدعو للمباهلة نصارى نجران . { نَبْتَهِلْ } نلتعن ، أو ندعو بالهلاك .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نظر الدهر إليهم فابتهل
أي دعا عليهم بالهلاك ، لما نزلت أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بيد علي وفاطمة وولديها رضي الله تعالى عنهم ثم دعاهم إلى المباهلة فقال بعضهم لبعض : « إن باهلتموه اضطرم عليكم الوادي ناراً فامتنعوا » .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

{ تَعَالَوْاْ } خطاب لنصارى نجران ، أو ليهود المدينة ، { أرْبَابًا } هو سجود بعضهم لبعض ، أو طاعة الأتباع للرؤساء .

هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)

{ حَاجَجْتُمْ } فيما وجتموه في كتبكم ، { فَلِمَ تُحَآجُّونَ } في شأن إبراهيم { وَاللهُ يَعْلَمُ } شأنه وأنتم لا تعلمونه .

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)

{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ } لما اجتمعت اليهود والنصارى عند الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت النصارى : لم يكن إبراهيم إلا نصرانياً ، وقالت اليهود : لم يكن إلا يهودياً فنزلت . . .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)

{ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } بما يدل على صحة الآيات من كتابكم المبشر بها ، أو تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء ، أو تشهدون بما عليكم في الحجة .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)

{ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } الإيمان بموسى وعيسى والكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام ، أو تحريف التوراة والأنجيل ، أو الدعاء إلى إظهار الإسلام أول النهار والكفر آخره ، طلباً لتشكيك الناس فيه . { وَتَكْتُمُونَ } صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تعلمونها من كتبكم .

وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)

{ وَلا تُؤْمِنُوَاْ إِلآَّ } قاله اليهود بعضهم لبعض ، أو قاله يهود خيبر ليهود المدينة ، نهوا عن ذلك لئلا يكون طريقاً لعبدة الأوثان إلى تصديقه ، أو لئلا يعرفوا به فيلزمهم الدخول فيه . { الْهُدَى هُدَى اللهِ } أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أيها المسلمون فحذف « لا » ، أو { الْهُدَىَ هُدَى اللهِ } فلا تجحدوا أ [ ن ] يؤتى { أَوْ يُحَآجُّوكُمْ } ولا تؤمنوا أن يحاجوكم إذ لا حجة لهم ، أو يكون « أو » بمعنى حتى تبعيداً كقولك « لا يلقاه أو تقوم الساعة » قاله الكسائي والفراء .

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

{ بِرَحْمَتِهِ } النبوة ، أو القرآن والإسلام ، وهل تكون النبوة جزاء على عمل ، أو تفضلاً؟ فيه مذهبان .

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)

{ بِقِنطَارٍ } « الباء » فيه ، وفي الدينار لإلصاق الأمانة به ، أو بمعنى « على » { قَآئِمًا } بالاقتضاء ، أو ملازماً ، أو قائماً على رأسه . { الأُمِّيِّنَ } العرب ، قالوا لا سبيل علينا في أموالهم لإشراكهم ، أو لتحولهم عن الدين الذي عاملناهم عليه ، ولما نزلت قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « كذب أعداء الله ما شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البرّ والفاجر » .

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)

{ بِعَهْدِ اللَّهِ } أمره ونهيه ، أو ما جعل في العقل من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق . { لا خَلاقَ } من الخَلْق وهو التقدير أي لا نصيب ، أو من الخُلُق أي لا نصيب لهم مما يوجبه الخلق الكريم . { وَلا يُكَلِّمُهُمُ } بما يسرهم بل بما يسوؤهم عند الحساب ، لقوله تعالى : { عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } [ الغاشية : 26 ] أو لا يكلمهم أصلاً بل يكل حسابهم إلى الملائكة . { وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ } لا يراهم ، أو لا يمن عليهم . { وَلا يُزَكِّيهِمْ } لا يقضي بزكاتهم ، نزلت فيمن حلف يميناً فاجرة لينفق بيع سلعته ، أو في الأشعث نازع خصماً في أرض فقام ليحلف فنزلت فنكل الأشعث واعترف بالحق ، أو في أربعة من أحبار اليهود ، كتبوا كتاباً وحلفوا أنه من عند الله فيما ادّعوا أنه ليس عليهم في الأميين سبيل .

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)

{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ } قالت طائفة من اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم : أتدعونا إلى عبادتك كما دعا المسيح النصارى؟ فنزلت { رَبَّانِيِّنَ } فقهاء علماء ، أو حكماء أتقياء ، أو الولاة الذين يربون أمور الناس ، أخذ الرباني ممن يرب الأمور بتدبيره ولذلك قيل للعالم رباني ، لأنه يدبر الأمور بعلمه ، أو الرباني مضاف إلى علم الرب .

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)

{ مِيثَاقَ النَّبيِّنَ } أن يؤمنوا بالآخرة ، أو يأخذوا على قومهم تصديق محمد صلى الله عليه وسلم { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } محمد صلى الله عليه وسلم { مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ } من التوراة والإنجيل . { وَأَخَذْتُمْ عَلَى } قبلتم عهدي ، [ أ ] و وأخذتم على متبعكم عهدي { فَاشْهَدُواْ } على أممكم ، وأنا من الشاهدين عليكم وعليهم .

أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

{ وَلَهُ أَسْلَمَ } أسلم المؤمن طوعاً ، والكافر عند الموت كرهاً ، أو أقروا بالعبودية وإن كان فيهم المشرك فيها ، أو سجود المؤمن طوعاً وسجود ظل الكافر كرهاً ، أو طوعاً بالرغبة في الثواب ، وكرهاً لخوف السيف ، أو إسلام الكاره يوم أخرج الذر ظهر آدم ، أو استسلم بالانقياد والذلة .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)

{ الَّذِينَ كَفَرُواْ } اليهود كفروا بالمسيح . { ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا } بمحمد صلى الله عليه وسلم . { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } عند الموت ، أو أهل الكتاب لا تقبل توبتهم من ذنوبهم مع إصرارهم على كفرهم ، أو هم مرتدون عزموا على إظهار التوبة تورية فأطلع الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم على سرهم أو اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل بعثه ، ثم ازدادوا كفراً إلى حضور آجالهم .

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

{ الْبِرَّ } ثواب الله تعالى ، أو فعل الخير الذي يستحق به الثواب ، أو الجنة . { تُنفِقُواْ } الصدقة المفروضة ، أو الفرض والتطوع ، أو الصدقة وغيرها من وجوه البر .

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)

{ كُلًّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ } لما أنكرت اليهود تحليل النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الإبل أخبر الله تعالى أنه أحلها إلى أن حرمها إسرائيل على نفسه ، لما أصابه وجع النسا نذر تحريم العروق على نفسه وأحب الطعام إليه ، وكانت لحوم الإبل من أحب الطعام إليه ، ونذر ذلك بإذن الله تعالى ، أو باجتهاده ، فحرمت اليهود ذلك تباعاً لإسرائيل على الأصح ، أو نزلت التوراة بتحريمها .

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)

{ أُوَّلَ بَيْتٍ } اتفقوا أنه أول بيت وضع للعبادة ، وهل كانت قبله بيوت؟ أو لم تكن قبله؟ مذهبان . { بِبَكَّةَ } ومكة واحد ، أو بكة المسجد ، ومكة الحرم كله ، أو بكة بطن مكة ، أخذت بكة من الزحمة ، تَبَاكَّ القوم ازدحموا ، أو تَبُك أعناق الجبابرة ، إذا ظلموا فيها لم يمهلوا . { مُّبَارَكاً } بحصول الثواب لقصاده ، أو يأمن داخله حتى الوحش .

فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

{ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ } أثر قدمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في المقام : وهو حجر صلد في غير المقام أمن الخائف ، وهيبة البيت ، وتعجيل عقوبة من عتا فيه وقصة أصحاب الفيل . { وَمَن دَخَلَهُ } في الجاهلية من الجناة أمن ، وفي الإسلام يأمن من النار ، أو من القتال ، فإنه محظور على داخليه ، ويقام الحد على من جنى [ فيه ] وإن دخله الجاني ففي إقامة الحد عليه مذهبان؟ { مَنِ اسْتَطَاعَ } بالزاد والراحلة ، أو بالبدن وحده ، أو بالمال والبدن . { وَمَن كَفَرَ } بفرض الحج ، أو لم يَرَ حَجَّهُ بِراً وتركه [ إثماً ] ، أو نزلت في اليهود لما نزل قوله تعالى { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] قالوا نحن مسلمون ، فأُمروا بالحج فامتنعوا فنزلت . . .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)

{ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ } هم اليهود أغَروْا بين الأوس والخزرج بتذكيرهم حروباً كانت بينهم في الجاهلية ، ليفترقوا بذلك ، أو هم اليهود والنصارى صدوا الناس بإنكارهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم . { شُهَدَآءُ } على صدكم ، أو على عنادكم ، أو عقلاء .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)

{ يَاأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ } الأوس والخزرج . { إِن تُطِيعُواْ } اليهود . { يَرُدُّوكُم } إلى الكفر بإغرائهم بينكم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)

{ حَقَّ تُقَاتِهِ } أن يطاع فلا يُعصى ، ويُذكر ولا يُنسى ، ويشكر ولا يكفر ، أو اتقاء جميع المعاصي ، أو الاعتراف بالحق في الأمن والخوف ، أو طاعته فلا يُتَّقَى في تركها أحد سواه ، وهي محكمة ، أو منسوخة بقوله تعالى { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] .

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

{ بِحَبْلِ اللَّهِ } القرآن ، أو الإسلام ، أو العهد ، أو الإخلاص له بالتوحيد ، أو الجماعة ، سمي ذلك حبلاً؛ لنجاة المتمسك به كما ينجو المتمسك بالحبل من بئر أو نحوها . { وَلا تَفَرَّقُواْ } عن دين الله تعالى ، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم { كُنتُمْ أَعْدَآءً } للأوس والخزرج لحروب تطاولت بهم مائة وعشرين سنة إلى أن تآلفوا بالإسلام ، أو لمشركي العرب لما كان بينهم من الطوائل .

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)

{ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } المؤمنين لإسفارها بالثواب . { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } أهل النار لانكسافها بالحزن . { أَكَفَرْتُم بَعْدَ } إظهار الإيمان بالنفاق ، أو الذين ارتدوا بعد الإسلام ، أو الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثه ، وكانوا قبل ذلك به مؤمنين ، أو جميع من كفر بعد الإيمان يوم الذر .

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)

{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ } أي كنتم في اللوح المحفوظ ، أو خلقتم ، أو أراد التأكيد لأن المتقدم مستصحب بخلاف المستأنف ، أو أشار إلى ما قدمه من البشارة بأنهم خير أمة .

لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)

{ لَيْسُواْ سَوَآءً } لما أسلم عبد الله بن سلام مع جماعة قالت أحبار اليهود : ما آمن بمحمد إلا شرارنا فنزلت . { قَآئِمَةٌ } عادلة أو قائمة بطاعة الله ، أو ثابتة على أمره . { ءَانَآءَ الَّيْلِ } ساعاته ، أو جوفه ، يريد صلاة العتمة ، أو الصلاة بين المغرب والعشاء . { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } في الصلاة أو عبّر عن الصلاة بالسجود ، أو أراد وهم مع ذلك يسجدون .

مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)

{ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ } نزلت في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر ، أو في نفقة المنافقين في الجهاد رياء وسمعة . { صِرٌّ } برد شديد ، أو صوت لهيب النار التي تكون في الريح قاله الزجاج ، وأصل الصِّر : الصوت من الصرير . { ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بزرعهم في غير موضع الزرع ، وفي غير وقته ، أو أهلك ظلمهم زرعهم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)

{ بِطَانَةً } نزلت في بعض المسلمين صَافَوا بعض اليهود والمنافقين لصحبة كانت بينهم في الجاهلية ، فنهوا عن ذلك ، والبطانة : خاصتك الذين يستبطنون أمرك من البطن ، وبطانة الثوب ، لأنها تلي البطن . { لا يَأْلُونَكُمْ } لا يقصرون في أمركم . { خَبَالاً } أصله الفساد ، ومنه الخبل للجنون . { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } أي : ضلالكم عن دينكم ، أو أن تعنتوا في دينكم فتحملوا فيه على المشقة ، وأصل العنت : المشقة . { مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } بدا منها ما يدل على البغضاء .

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)

{ وإِذْ غَدَوْتَ } يوم أُحُد ، أو يوم الأحزاب . { تُبَوِّئُ } تتخذ منزلاً ترتبهم في مواضعهم . { سَمِيعٌ } لقول المنافقين . { عَلِيمٌ } بما أضمروه من التهديد أو { سَمِيعٌ } لقول المؤمنين ، { عَلِيمٌ } بإخلاص نياتهم ، أو { سَمِيعٌ } لقول المشيرين { عَلِيمٌ } بنصح المؤمن وغش الغاوي .

إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)

{ طَّآئِفَتَانِ } بنو سَلَمة ، وبنو حارثة ، أو قوم من المهاجرين والأنصار همتا بذلك لان ابن أُبي دعاهما إلى الرجوع عن القتال ، أو اختلفوا في المقام والخروج إلى العدو حتى هموا بالفشل والجبن .

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)

{ بِبَدْرٍ } اسم ماء سمي باسم صاحبه « بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة » أو سمي بذلك من غير إضافة إلى صاحب . { أَذِلَّةٌ } ضعفاء عن مقاومة العدو ، أو قليل عددكم ضعيف حالكم ، كان المهاجرون يومئذ سبعة وسبعين ، وكانت الأنصار مائتين وستة وثلاثين ، والمشركون ما بين تسعمائة وألف .

إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)

{ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ } يوم بدر . { أَلَن يَكْفِيَكُمْ } الكفاية : قدر سد الخَلَّة ، والاكتفاء : الاقتصار عليه . { يُمِدَّكُمْ } الإمداد : إعطاء الشيء حالاً بعد حال ، من الإمداد : وهو الزيادة ، ومنه مد الماء .

بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)

{ فَوْرِهِمْ } وجههم ، أو غضبهم من فور القِدْر وهو غليانها ، ومنه فور الغضب . { مُسَوِّمِينَ } بالفتح أرسلوا خيلهم في المرعى ، وبالكسر سوموها بعلائم في نواصيها وأذنابها ، أو نزلوا على خيل بلق وعليهم عمائم صفر . وكانوا خمسة آلاف عند الحسن ، وعند غيره ثمانية آلاف قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر .

لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)

{ لِيَقْطَعَ } يوم بدر { طَرَفاً } منهم بقتل صناديدهم وقادتهم إلى الكفر ، أو يوم أُحد قُتل منهم ثمانية عشر رجلاً ، وقال : { طَرَفاً } ، لأنهم كانوا أقرب إلى المؤمنين من الوسط . { يَكْبِتَهُمْ } يخزيهم ، أو الكبت : الصرع على الوجه قاله الخليل { خَآئِبِينَ } الخيبة لا تكون إلا بعد أمل ، واليأس قد يكون قبل الأمل .

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)

{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ } في عقابهم واستصلاحهم ، او فيما نفعله في أصحابك وفيهم ، بل إلى الله تعالى التوبة عليهم ، أو الانتقام منهم ، أو قال قوم بعد كسر رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يفلح من فعل هذا بالرسول صلى الله عليه وسلم مع حرصه على هدايتهم فنزلت أو استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعاء عليهم فنزلت بمنعه ، لان في علمه سبحانه وتعالى أن فيهم من يؤمن .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)

{ أَضْعَافًا مًّضَاعَفَةً } أن يقول عند الأجل : « إما أن تعطي ، وإما أن تُربي » فإن لم يعطه ضاعف عليه ، ثم يفعل ذلك عند حلول أجله من بعد فيتضاعف بذلك .

وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)

{ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } نار آكل الربا كنار الكفرة عملاً بالظاهر ، أو نار الربا والفجرة أخف من نار الكفرة لتفاوتهم في المعاصي .

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)

{ فَاحِشَةً } الكبائر ، أو الزنا . { ظَلَمُوَاْ } بالصغائر . { ذَكَرُواْ اللَّهَ } بقلوبهم فحلمهم ذكره على التوبة والاستغفار ، أو ذكروه بقولهم ، اللهم اغفر لنا ذنوبنا . { يُصِرُّواْ } الثبوت على المعصية ، أو مواقعتها إذا هَمَّ بها ، أو ترك الاستغفار منها ، { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم قد أتوا معصيته ، أو يعلمون الحجة في أنها معصية .

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)

{ سُنَنٌ } من الله بإهلاك من سلف ، أو أهل سنن في الخير والشر ، وأصل السُّنة : الطريقة المتبعة في الخير والشر ، ومنه سُّنة الرسول صلى الله عليه وسلم .

هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)

{ هَذَا } القرآن { بَيَانٌ } ، أو المذكور من قوله { قدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } نور وأدب .

إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

{ إِن يَمْسَسْكُمْ } يوم أُحُد { قَرْحٌ } فقد مسهم يوم بدر مثله ، واللمس : مباشرة وإحساس ، والمس : مباشرة بغير إحساس . { قَرْحٌ } وقَرح : واحد ، أو بالفتح الجراح ، وبالضم : ألم الجراح قاله الأكثر { نُدَاوِلُهَا } مرة لقوم ، ومرة لآخرين ، والدولة : الكرة ، أدال الله فلاناً من فلان جعل له الكرة عليه .

وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)

{ وَلِيُمَحِّصَ } وليبتلي ، أو يخلصهم من الذنوب ، وأصل التمحيص : التخليص ، أو وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا . { وَيَمْحَقَ } ينتقص .

وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

{ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ } تمنى الجهاد من لم يحضر بدراً ثم أعرض كثير منهم عنه يوم أحد فعوتبوا . { رَأَيْتُمُوهُ } علمتموه ، أو رأيتم أسبابه .

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)

{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } لما شاع يوم أُحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قُتل قال أناس : لو كان نبياً ما قُتل ، وقال آخرون : نقاتل على ما قاتل عليه حتى نلحق به . { انقَلَبْتُمْ } رجعتم كفاراً .

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

{ وَمَن يُرِدْ } بجهاده { ثَوَابَ الدُّنْيَا } الغنيمة ، أو من عمل للدنيا لم نحرمه ما قسمنا له منها من غير حظ في الآخرة ، أو من أراد ثواب الدنيا بالتعرض لها بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي بها في الدنيا دون الآخرة .

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)

{ رِبِّيُّونَ } يعبدون الرب واحدهم رِبَّي ، أو جماعات كثيرة ، أو علماء كثيرون ، أو الرِّبيون : الأتباع والرعية ، والرَّبانيون : الولاة ، قال الحسن : ما قتل نبي قط في المعركة . { فَمَا وَهَنُواْ } الوهن : الانكسار بالخوف ، والضعف : نقص القوة ، والاستكانة : الخضوع « لم يهنوا بقتل نبيهم ، ولا ضعفوا عن عدوهم ، ولا استكانوا لما أصابهم » ، قاله أبن إسحاق .

فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)

{ ثَوَابَ الدُّنْيَا } النصر على العدو ، أو الغنيمة . { ثَوَابِ الأَخِرَةِ } الجنة إجماعاً .

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)

{ تَحُسُّونَهُم } تقتلونهم اتفاقاً ، حسه يحسه حساً ، قتله لأنه أبطل حسه . { بِإِذْنِهِ } بلطفه ، أو بمعونته .

إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)

{ تُصْعِدُونَ } الإصعاد يكون في مستوىً من الأرض ، والصعود في ارتفاع ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم صعدوا إلى الجبل فراراً . { يَدْعُوكُمْ } يقول يا عباد الله أرجعوا . { غَمَّا بِغَمٍ } على غم ، أو مع غم ، الغم الأول : القتل والجرح ، والثاني : الإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم أو غم يوم أُحد بغم يوم بدر . { مَا فَاتَكُمْ } من الغنيمة وما أصابكم من الهزيمة .

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)

{ أَمَنَةً نُعَاسًا } لما توعد الكفار المؤمنين يوم أُحُد بالرجوع تأهب للقتال أبو طلحة ، والزبير ، وعبدالرحمن بن عوف ، وغيرهم ، تحت حُجَفهم فناموا حتى أخذتهم الأَمنة . { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُم } بالخوف فلم يناموا ، لظنهم { ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } في التكذيب بوعد الله . { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ } ما خرجنا أي أُخرجنا كَرْهاً ، أو الأمر : النصر أي ليس لنا من الظفر شيء كما وعدنا تكذيباً منهم بذلك . { لَبَرَزَ } لخرج { الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ } منكم ولم ينجهم قعودهم ، أو لو تخلفتم لخرج المؤمنون ولم يتخلفوا بتخلفكم . { وَلِيَبْتَلِىَ اللهُ } يعاملكم معاملة المبتلي ، أو ليبتلي أولياؤه فأضافه إليه تفخيماً .

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

{ تَوَلَّوْاْ } عن المشركين بأُحد ، أو من قرب من المدينة وقت الهزيمة . { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } محبة الغنائم والحرص على الحياة ، أو استزلهم بذكر خطايا أسلفوها فكرهوا القتل قبل أن يتوبوا منها . { عَفَا اللهُ عَنْهُمْ } لم يعاجلهم بالعقوبة ، أو غفر خطيئتهم ليدل على إخلاصهم التوبة ، وقيل الذين بقوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينهزموا ثلاثة عشر .

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)

{ فَظًّا } الفظ : الجافي ، والغليظ : القاسي القلب ، معناهما واحد ، فجمع بينهما تأكيداً . { وَشَاوِرْهُمْ } في الحرب ، لتسفر عن الرأي الصحيح فيه ، أو أمر بالمشاورة تأليفاً لقلوبهم ، أو أَمَره بها لما علم فيها من الفضل ، أو أُمر بها ليقتدي به المؤمنين ، وكان غنياً عن المشاورة .

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)

{ يَغُلَّ } فقدت قطيفة حمراء يوم بدر فقال قوم : أخذها الرسول فنزلت ، أو وجَّه الرسول صلى الله عليه وسلم طلائع في جهة ثم غنم الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يقسم للطلائع فنزل ما كان لنبي أن يخون في القسم فيعطي فرقة ويدع أخرى ، أو ما كان لنبي أن يكتم الناس ما أرسل به لرغبة ولا رهبة قاله ابن إسحاق . { يَغُلَّ } يتهمه أصحابه ويُخَوِّنونه ، أو أن يغله أصحابه ويَخُونُونه ، والغلول من الغلل ، وهو دخول الماء خلال الشجر فسميت الخيانة غلولاً لوقوعها خفية ، والغِل : الحقد ، لجريانه في النفس مجرى الغلل .

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)

{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمؤْمِنِينَ } بكون الرسول صلى الله عليه وسلم { مِّنْ أَنفُسِهِمْ } لما فيه من شرفهم ، أو لتسهيل تعلم الحكمة عليهم لأنه بلسانهم ، أو ليظهر لهم علم أحواله بالصدق والأمانة والعفة والطهارة . { ويُزَكِّيهِمْ } يشهد بأنهم أزكياء في الدين ، أو يدعوهم إلى ما يتزكون به ، أو يأخذ زكاتهم التي تطهرهم .

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)

{ مُّصِيبَةٌ } التي أصابتهم يوم أُحُد ، والتي أصابوها يوم بدر . { هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ } بخلافكم في الخروج يوم أُحد « لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتحصنوا بالمدينة » ، أو بأختياركم الفداء يوم بدر ، وقد قيل لكم إن فعلتم ذلك قُتِلَ منكم مثلهم ، أومخالفة الرماة للرسول صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد في ملازمة موضعهم .

وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)

{ فَبِإِذْنِ اللَّهِ } بتمكينه ، أو بعلمه . { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } ليراهم ، أو ليميزهم من المنافقين .

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)

{ أَوِ ادْفَعُواْ } بتكثير السواد إن لم تقاتلوا ، أو بالمرابطة على الخيل إن لم تقاتلوا . { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً } قال عبد الله بن عمرو بن حرام : علام نقتل أنفسنا ارجعوا بنا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم . { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } يظهرون من الإسلام ما ليس في قلوبهم ، { بِأَفْوَاهِهِم } تأكيد ، أو لأن القول ينسب إلى الساكت تجوزاً إذا رضي به .

الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)

{ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ } لما انخذل ابن أُبي وأصحابه وهم نحو من ثلاثمائة وتخلف عنهم من قُتل منهم قالوا لو أطاعونا وقعدوا معنا ما قُتلوا . { صَادِقِينَ } في أنهم لو أطاعوكم ما قُتلوا ، أو محقين في تثبيطكم عن الجهاد فراراً من القتل .

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)

{ أمْوَاتاً بَلْ أَحْيَآءٌ } أحياء في البرزخ ، وأما في الجنة فإن حالهم معلومة لجميع المؤمنين . { عِندَ رَبِّهِمْ } بحيث لا يملك أحد لهم ضراً ولا نفعاً سوى ربهم ، أو يعلم أنهم أحياء دون غيره .

فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)

{ وَيَسْتَبْشِرُونَ } يقولون إِخواننا يُقتلون كما قُتلنا فيُكرمون بما أُكرمنا ، أو يؤتى الشهيد بكتاب يذكر فيه من يقدم عليه من إخوانه بشارة فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه .

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)

{ النَّاسُ } الأول : أعرابي جعل له على ذلك جُعْل ، أو نعيم بن مسعود الأشجعي ، { النَّاسَ } الثاني : أبو سفيان وأصحابه أراد ذلك بعد رجوعه من أُحد سنة ثلاث فوقع في قلوبهم الرعب فكفوا ، أو في بدر الصغرى سنة أربع بعد أُحد بسنة .

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

{ يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَهُ } يخوف المؤمنين من أوليائه الكفار ، أو يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن الجهاد .

وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)

{ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فَى الْكُفْرِ } المنافقون ، أو قوم من العرب ارتدوا عن الإسلام . { يُرِيدُ اللَّهُ أَلآَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًا } أي يحكم ، أو سيريد في الآخرة أن يحرمهم الثواب لكفرهم ، أو يريد إحباط أعمالهم بذنوبهم .

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

{ يَمِيزَ الْخَبِيثَ } المنافق ، أو الكافر ، و { الطَّيِّبِ } المؤمن غير المنافق بتكليف الجهاد ، والكافر بالدلالات التي يستدل بها عليهم . { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } قال قوم من المشركين : إن كان محمد صادقاً فليخبرنا بمن يؤمن ومن يكفر فنزلت ، السدي : ما أَطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على الغيب ، ولكن اجتباه فجعله رسولاً .

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } مانعو الزكاة ، أو أهل الكتاب بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم . { سَيُطَوَّقُونَ } بطوق من نار ، أو شجاعاً أقرع .

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

{ لَتُبْلَوُنَ فِى أَمْوَالِكُمْ } بالزكاة والنفقة في الطاعة { وَأَنفُسِكُمْ } بالجهاد والقتل . { أَذًى كَثِيرًا } الكفر كقولهم عُزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، أو هجو كعب بن الأشرف للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وتحريضه عليهم للمشركين ، أو قول فنحاص اليهودي لما سئل الإمداد قال : احتاج ربكم إلى أن نمده .

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)

{ مِيثَاقَ } هو اليمين . { الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } اليهود ، أو اليهود والنصارى ، أو كل من أوتي علم شيء من الكتب ، أخذ أنبياؤهم ميثاقهم لتبيننه للناس . { لَتُبَيِّنُنَّهُ } لتبينن الكتاب الذي فيه ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، أو لتبينن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)

{ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ } اليهود فرحوا باتفاقهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم ، وإخفاء أمره ، وأحبوا { أن يُحْمَدُواْ } بأنهم أهل علم ونسك ، أو المنافقون فرحوا بقعودهم عن الجهاد ، وأحبوا { أَن يُحْمَدُواْ } بما ليس فيهم من الإيمان به .

رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)

{ مُنَادِيًا } النبي صلى الله عليه وسلم ، أو القرآن ، لأن كل الناس لم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم { لِلإِيمَانِ } إلى الإيمان { الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا } [ الأعراف : 43 ] وقال :
أوحى لها القرار فاستقرت ... وشدها بالراسيات الثبت

رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)

{ وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا } المقصود منه مع العلم بأنه لا يخلف وعده الخضوع بالدعاء والطلب ، أو طلبوا التمسك بالعمل الصالح ، أو طلبوا تعجيل النصر وإنجاز الوعد ، أو معناه اجعلنا ممن وعدته ثوابك .

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)

{ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } قالت أم سلمة : يا رسول الله ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء فنزلت { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } الإناث من الذكور والذكور من الإناث .

لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)

{ لا يَغُرَّنَّكَ } تأديباً له وتحذيراً ، أو هو خطاب لكل من سمعه أي لا يغرنك أيها السامع . { تَقَلُّبُ } تقلبهم في نعم البلاد ، أو تقلبهم غير مأخوذين .

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)

{ وَإِنَّ مِنْ أهْلِ } عبد الله بن سلام ومسلمي أهل الكتاب أو نزلت في النجاشي لما صلى عليه الرسول صلى الله عليه سلم قال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

{ اصْبِرُواْ } على طاعة الله تعالى { وَصَابِرُواْ } أعداءه { وَرَابِطُواْ } في سبيله ، أو { اصْبِرُواْ } على دينكم { وَصَابِرُواْ } الوعد الذي وعدتكم { وَرَابِطُواْ } عدوكم ، أو { اصْبِرُواْ } على الجهاد { وَصَابِرُواْ } العدو { وَرَابِطُواْ } بملازمة الثغر ، من ربط النفس ، ومنه ربط الله على قلبه بالصبر ، أو { رابطوا } بانتظار الصوات الخمس واحدة بعد واحدة قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « ألا أدلكم على ما يمحوا الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات » قالوا : بلى يا رسول الله ، قال « إسباغ الوضوء عند المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط » .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)

{ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } آدم عليه الصلاة والسلام . { زَوْجَهَا } حواء ، خلقت من ضلعه الأيسر ، ولذا قيل للمرأة : « ضلع أعوج » ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزلت : « خلقت المرأة من الرجل فهمها الرجل ، وخلق الرجل من التراب فهمه في التراب » . { تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } كقوله : أسألك بالله وبالرحم ، [ أو ] والأرحام صلوها ولا تقطعوها ، أخبر أنه خلقهم من نفس واحدة ليتواصلوا ويعلموا أنهم إخوة . { رَقِيبًا } حفيظاً ، أو عليماً .

وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)

{ وَلا تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } الحرام بالحلال ، أو أن تجعل الزايف بدل الجيد ، والمهزول بدل السمين ، وتقول : درهم بدرهم ، وشاة بشاة ، أو استعجال أكل الحرام قبل مجيء الحلال ، أو كانوا لا يورثون الصغار والنساء ويأخذ الرجل الأكبر فيتبدل نصيبه الطيب من الميراث بأخذه الكل وهو خبيث . { إِلَىَ أَمْوَالكُِمْ } مع أموالكم ، وهو أن يخلطوها بأموالهم فتصير في ذمتهم فيأكلوا ربحها . { حُوبًا } إثماً ، تحوب من كذا توقى إثمه .

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)

{ وَإِنّ خِفْتُمْ } أن لا تعدلوا في نكاح اليتامى { فَانكِحُواْ } ما حل لكم من غيرهن ، أو كانوا يخافون ألا يعدلوا في أموالهم ، ولا يخافون أن لا يعدلوا في النساء فقيل لهم : كما خفتم أن لا تعدلوا في أموال اليتامى فكذلك خافوا أن لا تعدلوا في النساء ، أو كانوا يتوقون أموال اليتامى ولا يتوقون الزنا فأُمروا أن يخافوا الزنا كخوف أموال اليتامى فيتركوا الزنا وينكحوا ما طاب ، أو كانت قريش في الجاهلية تكثر التزوج بلا حصر فإذا كثرث عليهم المؤن وقل ما بأيديهم أكلوا ما عندهم من أموال اليتامى فقيل لهم : إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا إلى الأربع حصراً لعددهن . { مَا طَابَ } من طاب ، أو انكحوا نكاحاً طيباً . { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعدِلُواْ } في الأربع . { تَعُولُواْ } تكثر عيالكم ، أو تضلوا ، أو تجوروا والعول : من الخروج عن الحق ، عالت الفريضة لخروجها عن السهام المسماة ، وعابت أهل الكوفة عثمان رضي الله عنه تعالى ، في شيء فكتب إليهم « إني لست بميزان قسط لا أعول » .

وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)

{ وَءَاتُواْ النِّسآءَ } أيها الأزواج عند الأكثرين ، أو أيها الأولياء ، لأن الولي في الجاهلية كان يتملك صداق المرأة . { نِحْلَةً } النحلة : العطية بغير بدل ، الدِّين نحلة ، لأنه عطية من الله تعالى ومنه النَّحْل لإعطائه العسل ، أو لأن الله تعالى نحله عباده ، [ الصداق ] أي نحلة من الله تعالى لهن بعد أن كان ملكاً لآبائهن ، أو فريضة مسماة ، أو نهى عما كانوا عليه من خطبة الشغار والنكاح بغير صداق ، أو أراد طيب نفوسهم بدفعه إليهم كما يطيبون نفساً بالهبة . { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ } أيها الأزواج عند من جعله للأزواج ، أو أيها الأولياء عند من رآه لهم . { هَنِيئًا } الهني : ما أعقب نفعاً وشفاء منه هنأ البعير لشفائه .

وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)

{ السُّفَهَآءَ } النساء ، أو الصبيان ، أو كل مستحق للحَجْر ، أو الأولاد المفسدين ، نهى أن يقسم ماله بينهم ثم يصير عيالاً عليهم ، والسَّفَه : خِفَّة الحُلم ، ولذا وصف به الناقص العقل ، والمفسد للمال لنقصان تدبيره ، والفاسق لنقصانه عند أهل الدين . { أَمْوَالَكُمُ } أيها الأولياء ، أو أموال السفهاء . { قِيَامًا } و { قياماً } قوام معايشكم . { وَارْزُقُوهُمْ } أنفقوا من أموالكم على سفهائكم أو لينفق الولي مال السفيه عليه . { قَوْلاً مَّعْرُوفًا } وعداً جميلاً ، أو دعاء كقوله : « بارك الله فيك » .

وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)

{ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى } اختبروهم في عقولهم وتمييزهم وأديانهم . { النِّكَاحَ } الحلم اتفاقاً . { ءَانَسْتُم } علمتم { رُشْدًا } عقلاً ، أو عقلاً وصلاحاً في الدين ، أو صلاحاً في الدين والمال ، أو صلاحاً وعلماً بما يصلح . { إِسْرَافاً } تجاوز المباح ، فإن كان إفراطاً قيل أسرف إسرافاً ، وإن كان تقصيراً قيل سرف يسرف . { وَبِدَارًا } هو أن يأكله مبادرة أن يكبر فيحول بينه وبين ماله . { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } قرضاً ثم يرد بدله ، أو سد جوعه وستر عورته ولا بدل عليه ، أو يأكل من ثمره ويشرب من رِسْل ما شيته ولا يتعرض لما سوى ذلك من أمواله ، أو يأخذ أجره بقدر خدمته ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « كُلْ من مالِ يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالك بماله » { حَسِيبًا } شهيداً ، أو كافياً من الشهود .

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)

{ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ } نزلت بسبب أن الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث .

وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)

{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } منسوخة بآية المواريث ، أو محمولة على وصية الميت لمن ذكر في الآية وفيمن حضر ، أو محكمة فلو كان الوارث صغيراً فهل يجب على وَليِّه الإخراج من نصيبه؟ فيه قولان : أحدهما : لا يجب ، ويقول الولي لهم قولاً معروفاً . { وَقُولُواْ } أمر الآخذ أن يدعو للدافع بالغنى والزرق ، أو أمر الوارث والولي أن يقول للآخذين عند إعطائهم المال قولاً معروفاً .

وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)

{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ } يحضرون الموصي أن يأمروه بالوصية بماله فيمن لا يرثه بل يأمرونه بإبقاء ماله لورثته كما يؤثرون ذلك لأنفسهم ، أو أمر بذلك الأوصياء أن يحسنوا إلى الموصى عليه كما يؤثرون ذلك في أولادهم ، أو من خاف الأذى على ذريته بعده وأحب أن يكف الله تعالى عنهم الأذى فليتق الله تعالى في قوله وفعله ، أو مر به الذين ينهون الموصي عن الوصية لأقاربه ليبقى ماله لولده ، وهم لو كانوا أقرباء الموصي لآثروا أن يوصي لهم .

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)

{ نَارًا } يصيرون به إلى النار ، أو تمتلىء بها بطونهم عقاباً يوجب النار ، وعَبَّر عن الأخذ بالأكل ، لأنه المقصود الأغلب منه ، والصلا : لزوم النار .

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)

{ يُوصِيكُمُ } كانوا لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ، ولا يورث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال ، فمات عبد الله أخو حسان الشاعر وترك خمس أخوات فأخذ ورثته ماله فشكت زوجته ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت . { فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } فرض الاثنتين الثلثان كالأختين ، وخالف فيه ابن عباس فجعل لهما النصف ، { وَلأَبَوَيْهِ [ لكل واحد منهما ] السُّدُسُ } نسخت كان [ المال ] للولد وكانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ من ذلك فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، ولكل واحد من الأبوين السدس ، واتفقوا على أن ثلاثة من الإخوة يحجبون الأم إلى السدس ، والباقي للأب ، وقال طاوس يأخذ الإخوة ما حجبوها عنه وهو السدس ، والأخوان يحجبانها إلى السدس خلافاً لابن عباس . وقدّم الدَّيْن والوصية على الإرث ، لأن الدِّيْن حق على الميت ، والوصية حق له فقدما ، وقد قضى الرسول صلى الله عليه وسلم بتقديم الدَّيْن على الوصية إذ لا ترتيب في « أو » { لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ } أنفع لكم في الدين أو الدنيا .

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

{ كَلالَةً } الكلالة : من عدا الولد ، أو من عدا الوالد ، أو من عداهما ، والمسمى بالكلالة هو الميت ، أو وارثه ، أو كلاهما ، والكلالة من الإحاطة لإحاطتها بأصل النسب الذي هو الولد والوالد ، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس .

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)

{ حُدُودُ اللَّهِ } شروطه ، أو طاعته ، أو سننه وأمره ، أو فرائضه التي حدها للعباد ، أو تفصيله لفرائضه .

وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)

{ الْفَاحِشَةَ } الزنا . { فَأَمْسِكُوهُنَ } إمساكهن في البيوت حد منسوخ بآية النور ، أو وعد بالحد لقوله تعالى { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَ سَبِيلاً } وهو الحد ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم » ، فنسخ جلد الثيب عند الجمهور خلافاً لقتادة وداود .

وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)

{ وَالَّذاَنِ } في الأبكار ، أو في الثيب والأبكار ، والمراد باللذين الرجل والمرأة ، أو البكران من الرجال والنساء . { فَأَذُوهُمَا } بالتعيير والتوبيخ ، أو بالتعيير والضرب بالنعال ، وكلاهما منسوخ ، أو الأذى مجمل فسره آية النور في الأبكار ، والسنة في الثيب . ونزلت هذه الآية قبل الأولى فيكون الأذى أولاً ثم الحبس ثم الجلد أو الرجم ، أو الأذى للأبكار والحبس للثيب . { تَابَا } من الفاحشة . { وَأَصْلَحَا } دينهما . { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ } بالصفح والكف عن الأذى .

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)

{ بِجَهَالَةٍ } كل عاص جاهل ، أو الجهالة : العمد ، أو عمل السوء في الدنيا { قَرِيبٍ } في صحته قبل مرضه ، أو قبل موته ، أو قبل معاينة ملك الموت . والدنيا كلها قريب .

وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)

{ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } عصاة المسلمين عند الجمهور أو المنافقون ، سَوَّى بين من لم يتب وبين التائب عند حضور الموت .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)

{ تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهًا } كان أهل المدينة في الجاهلية إذا مات [ أحدهم ] عن زوجه كان ابنه وقريبه أولى بها من نفسها ومن غيرها ، إن شاء نكحها بالصداق الأول ، وإن شاء زوجها وملك صداقها ، وإن شاء عضلها عن النكاح حتى تموت فيرثها ، أو تفتدي منه بصداقها ، فمات أبو القيس بن الأسلت عن زوجته « كبشة » فأراد ابنه أن يتزوجها فأتت الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت : لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فنزلت . . . { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ } نهى ورثة الزوج أن يمنعوهن من التزوج كما ذكرنا ، أو نهى الأزواج أن يعضلوهن بعد الطلاق كما كانت قريش تفعله في الجاهلية ، أو نهى الأزواج عن حبسهن كرهاً ليفتدين أو يتمن فيرثوهن ، أو نهى الأولياء عن العضل . { بِفَاحِشَةٍ } بزنا ، أو نشوز ، أو أذىً وبذاءة . { خَيْرًا كَثِيرًا } الولد الصالح .

وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)

{ بُهْتَانًا } ظلماً بالبهتان ، أو يبهتها أنه جعل ذلك لها ليستوجبه منها .

وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)

{ أَفْضَى } بالجماع ، أو الخلوة . { مِّيثَاقاً } عقد النكاح ، أو إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان ، أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « أخذتموهن بأمانة الله تعالى ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله » ، وهي محكمة ، أو منسوخة بآية الخلع ، أو محكمة إلا عند خوف النشوز .

وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)

{ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } كانوا يخلفون الآباء على النساء فحرمه الإسلام ، وعفا عما كان منهم في الجاهلية إذا اجتنبوه في الإسلام ، أو لا تنكحوا كنكاح آبائكم في الجاهلية على الوجه الفاسد إلا ما سلف في الجاهلية فإنه معفو عنه إذا كان مما يجوز تقريره ، أو لا تنكحوا ما نكح آباؤكم بالنكاح الجائز إلا ما سلف منهم بالسفاح فإنهن حلال لكم لأنهن غير حلائل وإنما كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا ، أو إلا ما قد سلف فاتركوه فإنكم مؤاخذون به ، والاستثناء منقطع ، أو بمعنى « لكن » { وَمَقْتًا } المقت شدة البغض لارتكاب قبيح ، وكان يقال للولد من زوجة الأب « المقتي » .

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)

{ وَالْمُحْصَنَاتُ } ذوات الأزواج { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } بالسبي ، لما سبى الرسول صلى الله عليه وسلم أهل أوطاس ، قالوا : كيف نقع على نساء قد عرفنا أزواجهن فنزلت أو { وَالْمُحْصَنَاتُ } ذوات الأزواج { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } إذا اشترى الأمة بطل نكاحها وحلت للمشتري قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو المحصنات العفائف ، { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } بعقد نكاح ، أو ملك ، أو نزلت في مهاجرات تزوجهن المسلمون ، ثم قدم أزواجهن مهاجرين فنهي المسلمون عن نكاحهن ، والإحصان : من المنع ، حصن البلد لمنعه من العدو ، ودرع حصينة : منيعة ، وفرس حصان : لامتناع راكبه من الهلاك ، وامرأة حصان : لامتناعها عن الفاحشة . { كِتَابَ اللَّهِ } الزموا كتاب الله ، أو حرم ذلك كتاباً من الله ، أو كتاب الله قيم عليكم فيما تحرمونه وتحلونه . { مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ } ما دون الخمس ، أو ما دون ذوات المحارم ، أو مما وراءه مما ملكت أيمانكم . { أَن تَبْتَغُواْ } تلتمسوا بأموالكم بشراء ، أو صداق . { مُسَافِحِينَ } زناة ، السفح : من الصب ، سفح الدمع : صبه ، وسفح الجبل : أسفله لانصباب الماء فيه . { فَمَا اسْتَمْتَعْتُم } قلت تكون « ما » ها هنا بمعنى « من » فما نكحتم منهن فجامعتموهن ، أو المتعة المؤجلة ، كان أُبَي وابن عباس يقرآن { فما استمتعتم به منهن إلى أ جل مسمى } { أُجُورَهُنَّ } الصداق . { فَرِيضَةً } أي معلومة .
{ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ } من تنقيص أو إبراء عند إعسار الزوج ، أو فيما زدتموه في أجل المتعة بعد انقضاء مدتها وفي أجرتها قبل استبرائهن أرحامهن ، أو لا جناح عليكم فيما دفعتموه وتراضيتم به أن يعود إليكم تراضياً . { كَانَ عَلِيمًا } ، بالأشياء قبل خلقها . { حَكِيماً } في تدبيره لها ، قال سيبويه : « لما شاهدوا علماً وحكمة قيل لهم : إنه كان كذلك لم يزل » ، أو الخبر عن الماضي يقوم مقام الخبر عن المستقبل قاله الكوفيون .

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

{ طَوْلاً } سعة موصلة إلى نكاح الحرة ، أو يكون تحته حرة ، أو أن يهوي أمة فيجوز له تزوجها إن كان ذا يسار وكان تحته حرة قاله جابر وجماعة ، والطَّوْل : من الطُّول ، لأن الغنى ينال به معالي الأمور ، ليس فيه طائل أي لا ينال به شيء من الفوائد ، وإيمان الأمة شرط ، أو ندب . { غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } محصنات عفائف ، والمسافحات : المعلنات بالزنا ، ومتخذات الأخدان : أن تتخذ صديقاً تزني به دون غيره ، وكانوا يحرمون ما ظهر من الزنا ويحلون ما بطن فنزل { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأنعام : 151 ] . { أَحْصَنَّ } أسلمن ، و { أُحْصِنَّ } تزوجن ، ونصف عذاب الحرة : نصف حدها .
{ الْعَنَتَ } الزنا ، أو الإثم ، أو الحد ، أو الضرب الشديد في دين أو دنيا . { وَأَن تَصْبِرُواْ } عن نكاح الأمة خير من إرقاق الولد .

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)

{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } الزناة ، أو اليهود والنصارى أو كل متبع شهوة غير مباحة .

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)

{ يُخَفِّفَ عَنكُمْ } في نكاح الإماء ، { وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا } عن الصبر عن الجماع .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)

{ بِالْبَاطِلِ } القمار والربا والبخس والظلم ، أو العقود الفاسدة ، أو نُهوا عن أكل الطعام قِرىً وأُمروا بأكله شراء ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } الآية [ النور : 61 ] { تَرَاضٍ } تخاير للعقد ، أو تخاير بعد العقد . { أَنفُسَكُمْ } بعضكم بعضاً ، جُعلوا كنفس واحدة لاتحاد دينهم ، أو نُهوا عن قتل أنفسهم في حال الضجر والغضب .

وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)

{ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } أكل المال وقتل النفس ، أو كل ما نهوا عنه عن أول هذه السورة ، أو وراثتهم النساء كَرْهاً . { عُدْوَانًا وَظُلْمًا } جمع بينهما تأكيداً لتقارب معناهما ، أو فعلاً واستحلالاً .

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)

{ كَبَآئِرَ } ما نهيتم عنه من أول هذه السورة إلى رأس الثلاثين منها ، أو هي سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس المحرمة ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار يوم الزحف ، والتعرب بعد الهجرة أو تسع : الشرك ، والقذف ، وقتل المؤمن ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين المسلمين ، وإلحاد بالبيت الحرام . أو السبعة المذكورة مع العقوق والزنا والسرقة وسب أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما أو الإشراك بالله ، والقنوط من رحمته ، واليأس من روحه ، والأمن من مكره ، أوكل ما وعد الله تعالى عليه النار ، أو كل ما لا تصلح معه الأعمال . { سَيّئَاتِكُمْ } مكفرة إذا تركتم الكبائر فإن لم تتركوها أُخذِتم بالصغائر والكبائر .

وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)

{ وَلا تَتَمَنَّوْاْ } كقوله : « ليت لي مال فلان » ، نهوا عنه نهي تحريم ، أو كراهية ، وله أن يقول : « ليت لي مثله » والأشهر أنها نزلت في نساء تمنين أن يكن كالرجال في الفضل والمال ، أو قالت أم سلمة : يا رسول الله يغزوا الرجال ولا نغزوا وإنما لنا نصف الميراث فنزلت . . . . { لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ } من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وكذلك النساء ، الحسنة لهما بعشر أمثالها ، أو للرجال نصيب من الميراث وللنساء نصيب منه ، لأنهم كانوا لا يورثون النساء . { فَضْلِهِ } نعم الدنيا ، أو العبادة المكسبة لثواب الآخرة .

وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)

{ مَوَالِىَ } عصبة ، أو ورثة وهو أشبه كقوله تعالى : { خِفْتُ الموالى } [ مريم : 5 ] { عاقدت } مفاعلة من عقد الحلف حلف الجاهلية توارثوا به في الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } [ الأنفال : 75 ] ، أو الأخوة التي آخاها الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار توارثوا بها ثم نسخت بقوله : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ } ، أو نزلت في أهل العقد بالحلف يؤتون نصيبهم من النصر والنصيحة دون الإرث قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « لا حلف في الإسلام وما كان من حلف الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة » أو نزلت في ابن التبني ، أمروا أن يوصوا لهم عند الموت ، أو فيمن أوصي لهم بشيء ثم هلكوا فأمروا أن يدفعوا نصيبهم إلى ورثتهم .

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)

{ قَوَّامُونَ } عليهن بالتأديب ، والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن الله تعالى ولأزواجهن . { بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ } الرجال عليهن في العقل والرأي . { وَبِمَآ أَنفَقُواْ } من الصداق والقيام بالكفاية ، أو لطم رجل امرأته فأتت الرسول صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص فأجابها الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن } [ طه : 114 ] ونزلت هذه الآية ، قال الزهري لا قصاص بين الزوجين فيما دون النفس .
{ فَالصَّالِحَاتُ } في دينهن { قَانِتَاتٌ } مطيعات لربهن وأزواجهن { حَافِظَاتٌ } لأنفسهن في غيبة أزواجهن ، ولحق الله عليهن { بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } بحفظه إياهن صرن كذلك ، أو بما أوجبه لهن من مهر ونفقة فصرن بذلك محفوظات . { تَخَافُونَ } تعلمون .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
أو تظنون .
أتاني عن نُصَيْب كلام يقوله ... وما خفت يا سلام أنكِ عائبي
يريد الاستدلال على النشوز بما تبديه من سوء فعلها ، والنشوز من الارتفاع لترفعها عن طاعة زوجها . { فَعِظُوهُنَّ } بالأمر بالتقوى ، والتخويف من الضرب الذي أذن الله تعالى فيه . { وَاهْجُرُوهُنَّ } بترك الجماع ، أو لا يكلمها ويوليها ظهره في المضجع ، أو يهجر مضاجعتها ، أو يقول لها في المضجع هُجراً وهو الإغلاظ في القول ، أو يربطها بالهجار وهو حبل يربط به البعير قاله الطبري ، أصل الهجر : الترك عن قلى ، وقبيح الكلام هجر ، لأنه مهجور ، فإذا خاف نشوزها وعظها وهجرها فإن أقامت عليه ضربها ، أو إذا خافه وعظها فإن أظهرته هجرتها فإن أقامت عليه ضربها ضرباً يزجرها عن النشوز غير مبرح ولا منهك . { سَبِيلاً } أذى ، أو يقول لها : « لست محبة لي وأنت تبغضيني فيضربها » على ذلك مع طاعتها له .

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)

{ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } بنشوزها وترك حقه ، وبعدوله عن إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، والشقاق : مصدر شاق فلان فلاناً إذا أتى كل واحد منهما ما يشق على الآخر ، أو لأنه صار في شق بالعداوة والمباعدة . { فَابْعَثُواْ حَكَمًا } خطاب للسلطان إذا ترافعا إليه ، أو خطاب للزوجين ، أو لأحدهما . { إِن يُرِيدَآ } الحكمان ، فإن رأى الحكمان الفرقة بغير إذن الزوجين فهل لهما ذلك؟ فيه قولان .

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)

{ وَبِذِى الْقُرْبَى } المناسب ، { وَالْيَتَامَى } جمع يتيم وهو الذي مات أبوه ولم يبلغ الحلم ، والمسكين : الذي ركبه ذل الفاقة حتى سكن لذلك ، { وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَىَ } المناسب ، أو القريب في الدين أراد به المسلم { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } الأجنبي لا نسب بينك وبينه ، أو البعيد في دينه ، والجنب في كلامهم : البعيد ، ومنه الجنب لبعده عن الصلاة .
{ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ } رفيق السفر ، أو زوجة الرجل تكون إلى جنبه ، أو الذي يلزمك ويصبحك رجاء نفعك . { وَابْنِ السَّبِيلِ } المسافر المجتاز ، أو الذي يريد السفر ولا يجد نفقة ، أو الضيف ، والسبيل : الطريق فقيل لصاحب الطريق : ابن السبيل كما قيل لطير الماء : « ابن ماء » . { مُخْتَالاً } من الخيلاء خال يخول خالاً وخولاً . { فَخُورًا } يفتخر على العباد بما أنعم الله به عليه من رزق وغيره .

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)

{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } بالإنفاق في الطاعة { وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ } بمثل ذلك ، أو نزلت في اليهود بخلوا بما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموها ، وأمروا الناس بذلك ، والبخل : أن يبخل بما في يده ، والشح : أن يشح بما في يد غيره يحب أن يكون له .

وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)

{ وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ } اليهود ، أو المنافقون . { قَرِينًا } والمراد به الشيطان بقرن به في النار ، أو يصاحبه في فعله ، والقرين : الصاحب المؤالف من الاقتران ، القِرن : المثل لاقترانه في الصفة ، والقَرن : أهل العصر ، لاقترانهم في الزمان ، وقَرْن البهيم لاقترانه بمثله .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)

{ مِثْقَالَ } الشيء : مقداره في الثقل ، والذرة : دودة حمراء قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ويقال : إن هذه الدودة لا وزن لها .

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)

{ بِشَهِيدٍ } يشهد أنه بلغها ما تقوم به الحجة عليها ، أو يشهد بعملها .

يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)

{ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ } يُجعلون مثلها ، كقوله تعالى { ياليتني كُنتُ تُرَاباً } [ النبأ : 40 ] أو تمنوا أن يدخلوا فيها حتى تعلوهم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)

{ سُكَارَى } من النوم ، أو من الخمر ، « ثمل جماعة عند عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه فقدموا من صلى بهم المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد ، وأنا عابد ما عبدتم ، لكم دينكم ولي دين » فنزلت والسَّكر يسد مجرى الماء فأخذ منه السكر لسده طرق المعرفة ، وخاطبه للسكران نهي عن التعرض للسُّكر ، لأن السكران لا يفهم ، أو قد يقع السكر بحيث لا يخرج عن الفهم . { عَابِرِى سَبِيلٍ } أراد المسافر الجنب لا يصلي حتى يتيمم ، أو أراد مواضع الصلاة لا يقربها إلا ماراً . { مَّرْضَى } بما ينطلق عليه اسم مرض وإن لم يضر معه استعمال الماء ، أو بشرط أن يَضُر به استعمال الماء ، أو ما خيف فيه من استعمال الماء التلف . { سَفَرٍ } ما وقع عليه الاسم ، أو يوم وليلة ، أو ثلاثة أيام . { الْغَآئِطِ } الموضع المطمئن كُني به عن الفضلة ، لأنهم كانوا يأتونه لأجلها . الملامسة : الجماع ، أو باليد والإفضاء بالجسد ، ولامستم أبلغ من لمستم ، أو لامستم يوجب الوضوء على اللامس والملموس ولمستم يوجبه على اللامس وحده . { فَتَيَمَّمَوُاْ } تعمدوا وتحروا ، أو اقصدوا ، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فأتوا صعيداً . { صَعِيداً } أرض ملساء لا نبات بها ولا غرس ، أو أرض مستوية ، أو التراب ، أو وجه الأرض ذات التراب والغبار . { طّيِّبًا } حلالاً ، أو طاهراً ، أو تراب الحرث ، أو مكان جَرْد غير بَطِح . { وَأَيْدِيكُمْ } إلى الزندين ، أو المرفقين ، أو الإبطين : ويجوز التيمم للجنابة عند الجمهور ومنعه عمر وابن مسعود والنخعي . وسبب نزولها قوم من الصحابة أصابتهم جراح ، أو نزلت في إعواز الماء في السفر .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)

{ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ } كأنهم بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم اشتروا الضلالة بالهدى ، أو أعطوا أحبارهم [ أموالهم ] على ما صنعوا من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو كانوا يأخذون الرشا .

مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)

{ غَيْرَ مُسْمَعٍ } غير مقبول منك ، أو اسمع لا سمعت . { وَرَاعِنَا } كانت سبّاً في لغتهم ، أو أجروها مجرى الهزء . أو مجرى الكبر .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)

{ أُوتُواْ الْكِتَابَ } اليهود والنصارى . { نَّطْمِسَ وُجُوهًا } نمحو آثارها فتصير كالأقفاء ونجعل أعينها في أقفائها فتمشي القهقرى ، أو نطمسها عن الهدى فنردها في الضلالة فلا تفلح أبداً { نَلْعَنَهُمْ } نمسخهم قردة .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)

{ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم } اليهود قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، أو قدموا أطفالهم لإمامتهم زعماً أنه لا ذنوب لهم ، أو قالوا : آباؤنا يستغفرون لنا ويزكوننا ، أو زكى بعضهم بعضاً ، لينالوا شيئاً من الدنيا . { فَتِيلاً } ما انفتل بين الأصابع من الوسخ ، أو الفتيل الذي في شق النواة ، والنقير ما في ظهرها ، والقطمير قشرها .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)

{ بِالْجِبْتِ وَالْطَّاغُوتِ } صنمان كان المشركون يعبدونهما ، أو الجبت : الأصنام والطاغوت « تراجمة » الأصنام ، أو الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان ، أو الجبت : الساحر ، والطاغوت : الكاهن ، أو الجبت : حيي بن أخطب والطاغوت : كعب بن الأشرف .

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)

{ نَقِيراً } الذي في ظهر النواة ، أو الخيط الذي يكون في وسط النواة ، أو نَقْرُك الشيء بطرف إبهامك .

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)

{ يَحْسُدُونَ النَّاسَ } اليهود حسدت العرب ، أو محمداً صلى الله عليه وسلم عبر عنه بالناس ، أو محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . { فَضْلِهِ } النبوة كيف جعلت في العرب ، أو ما أبيح للرسول صلى الله عليه وسلم من النكاح بغير حصر ولا عد قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . { مًّلْكاً عَظِيماً } ملك سليمان عليه الصلاة والسلام ، أو النبوة ، أو ما أيدوا به من الملائكة . أما ما أبيح لداود وسليمان عليهما الصلاة والسلام من النكاح ، فنكح سليمان مائة ، وداود تسعاً وتسعين .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)

{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } ، لان المقصود إيلام الأرواح بواسطة الجلود واللحم فتحرق الجلود لإيلام الأرواح واللحم والجلد لا يألمان فإذا احترق الجلد فسواء أُعيد بعينه أو أُعيد غيره ، أو تعاد تلك الجلود الأول جديدة غير محترقة ، أو الجلود المعادة هي سرابيل القطران سميت جلوداً لكونها لباساً لهم ، لأنها لو فنيت ثم أُعيدت لكان ذلك تخفيفاً للعذاب فيما بين فنائها وإعادتها ، وقد قال [ تعالى ] : { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } [ البقرة : 162 ، وآل عمران : 88 ] .

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)

{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ } في ولاة أمور المسلمين ، أو السطان أن يعظ النساء أو للرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد مفاتيح الكعبة إلى عثمان بن طلحة ، أو لكل مؤتمن على شيء .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7