كتاب : تفسير ابن عبد السلام
المؤلف : عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)

{ أَطِيعُواْ اللَّهَ } في أمره ونهيه . { وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } في حياته ، أو باتباع سنته . { وَأُوْلِى الأَمْرِ } نزلت في الأمراء بسبب عبد الله بن حذافة بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية أو في عمار بن ياسر بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية ، أو نزلت في العلماء والفقهاء ، أو في الصحابة ، أو في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وإنما طاعة الولاة في المعروف . { إِلَى اللَّهِ } كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم { تَأْوِيلاً } أحمد عاقبة ، أو أبيّن صواباً ، وأظهر حقاً ، أو أحسن من تأويلكم الذي لا يرجع إلى أصل ، ولا يفضي إلى حق .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)

{ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ } نزلت في يهودي وأنصاري منافق اختصما فطلب اليهودي المحاكمة إلى أهل الإسلام ، لعلمه أنهم لا يرتشون وطلب المنافق المحاكمة إلى اليهود لعلمه أنهم يرتشون ، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة { يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } أي المنافق ، { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } اليهودي ، أو نزلت في اليهود ، تحاكموا إلى أبي بردة الأسلمي الكاهن . { ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } في الحال { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } حين كانوا يهوداً { الطَّاغُوتِ } الكاهن .

فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)

{ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } لما قتل عمر رضي الله تعالى عنه منافقاً لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إخوانه المنافقون يطلبون دمه ، يقولون ما أردنا بطلب دمه إلا أحساناً إلينا ، وما يوافق الحق في أمرنا ، فنزلت ، أو اعتذروا في عدولهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم أرادوا التوفيق بين الخصوم بتقريب في الحكم دون الحمل على مُر الحق . فنزلت . . . .

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)

{ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ } من النفاق { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } بالعداوة { فَأَعْرِضْ } فيما أبدوه ، أو { فَأَعْرِضْ } عن عقابهم { وَعِظْهُمْ } أو { فَأَعْرِضْ } عن قبول عذرهم { وَعِظْهُمْ } . { قَوْلاً بَلِيغاً } أزجرهم أبلغ زجر ، أو قبل إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلتكم ، فإنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ .

فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)

{ شَجَرَ بَيْنَهُمْ } المشاجرة : المنازعة ، والاختلاف لتداخل الكلام بعضه في بعض كتداخل الشجر بالتفافها . { حَرَجًا } شكاً ، أو إثماً . نزلت في المنافق واليهودي اللذين إحتكما إلى الطاغوت ، أو في الزبير والأنصاري لما اختصما في شراج الحرة .

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)

{ وَالصِّدِّيقِينَ } أتباع الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه ، [ والصديق ] « فعيل » من الصدق ، أو من الصدقة ، والشهيد لقيامه بشهادة الحق حتى قُتل ، أو لأنه من شهيد الآخرة ، والصالح : من صلح عمله ، أو من صلحت سريرته وعلانيته ، والرفيق : من الرفق في العمل أو من الرفق في السير . توهم قوم أنهم لا يرون الأنبياء في الجنة ، لأنهم في أعلى عليين فحزنوا وسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)

{ حِذْرَكُمْ } احذروا عدوكم ، أو خذوا سلاحكم ، سماه حذراً لأنه يُتقى به الحذر . { ثُبَاتٍ } جمع ثُبَة ، وهي العصبة ، قال :
لقد أغدو على ثُبَةٍ كرام ... نشاوى واجدين لما نشاء

وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)

{ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا } مكة إجماعاً .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)

{ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } نزلت في قوم من الصحابة ، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة أن يأذن لهم في القتال فيقاتلون فلما فرض القتال بالمدينة قالوا ما ذكر الله في هذه الآية ، أو في اليهود أو المنافقين ، أو هي صفة المؤمنين لما طبع عليه البشر من الخوف .

أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)

{ بُرُوجٍ } قصور في السماء معينة ، أو القصور [ أو ] البيوت التي في الحصون ، أخذ البروج من الظهور ، تبرجت المرأة : أظهرت نفسها .
{ مًّشَيَّدَةٍ } مجصصة ، والشيد : الجص ، أو مطولة ، شاد بناءه وأشاده رفعه ، أشدت بذكر الرجل : رفعت منه ، أو المشيد « بالتشديد » المطول ، « وبالتخفيف » المجصص . { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنةٌ } أراد اليهود ، أو المنافقين ، والحسنة والسيئة : البؤس ، والرخاء ، أو الخصب والجدب ، أو النصر والهزيمة . { مِنْ عِندِكَ } بسوء تدبيرك ، أو قالوه على جهة التطير به ، كقوله [ تعالى ] { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] .

مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)

{ مَّآ أَصَابَكَ } أيها الإنسان ، أو أيها النبي ، أو خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره . الحسنة النعمة في الدين والدنيا . والسيئة المصيبة فيهما ، أو الحسنة ما أصابه يوم بدر والسيئة ما أصابه بأُحد من شج وجهه ، وكسر رباعيته ، أو الحسنة : الطاعة والسيئة : المعصية قاله أبو العالية : { فَمِن نَّفْسِكَ } فبذنبك ، أو بفعلك .

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)

{ حَفِيظًا } حافظاً لهم من المعاصي ، أو حافظاً لأعمالهم التي يجازون بها .

وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)

{ طَاعَةٌ } أَمْرنا لَطَاعة . { بَيَّتَ } التبييت : كل عمل دبر بليل لأن الليل وقت المبيت ، أو وقت البيوت وتبييتهم إضمارهم مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه ، أو تقديرهم غير ما قال على جهة التكذيب . { يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } في اللوح المحفوظ ليجازيهم عليه ، أو يكتبه بأن ينزله عليك في الكتاب .

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)

{ يَتَدَبَّرُونَ } من الدبور لأنه النظر في عواقب الأمور . { اخْتِلافًا } تناقضاً من جهة حق وباطل ، أو من جهة بليغ ومرذول . أو اختلافاً في تخبر الأخبار عما يسرون .

وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)

{ وَإِذاَ جَآءَهُمْ } أراد المنافقين ، أو ضعفة المسلمين . { أُوْلِى الأَمْرِ } العلماء ، أو الأمراء ، أو أمراء السرايا . { الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أولو الأمر ، أو المنافقون ، أو ضعفة المسلمين . { يَسْتَنبِطُونَهُ } يستخرجونه من استنباط الماء ، والنبط ، لاستنباطهم العيون . { فَضْلُ اللَّهِ } الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو القرآن العزيز ، أو اللطف . { إِلاَّ قَلِيلاً } من الأتباع ، أو لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلاً ، أو أذعوا به إلا قليلاً ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .

مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)

{ شَفاعَةً حَسَنَةً } الدعاء للمؤمنين والسيئة : الدعاء عليهم كانت اليهود تفعله فتوعدهم الله - تعالى - عليه ، أو هو سؤال الرجل لأخيه أن ينال خيراً أو شراً بمسألته . { كِفْلٌ } وزر وإثم ، أو نصيب { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] { مُّقِيتاً } مقتدراً ، أو حفيظاً ، أو شهيداً ، أو حسيباً ، أو مجازياً أخذ المقيت من القوت فسمي به المقتدر لقدرته على إعطاء القوت وصار لكل قادر على قوت أو غيره . وقال :
وذي ضغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتاً

وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)

{ بِتَحِيَّةٍ } الدعاء بطول الحياة ، أو السلام ، ورده فرض عام المسلم والكافر ، أو يختص به المسلم . { بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } الزيادة في الدعاء { أَوْ رُدُّوهَآ } بمثلها ، أو { بِأَحْسَنَ } منها على المسلم ، وبمثلها على الكافر قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { حَسِيباً } حفيظاً ، أو محاسباً على العمل ليجزي عليه ، أو كافياً .

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)

{ يَوْمِ الْقِيَامَةِ } لقيام الناس فيه من قبورهم ، أو لقيامهم فيه للحساب .

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)

{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } نزلت فيمن تخلف بأُحُد وقال : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَبَعْنَاكُمْ } ، أو في قوم قدموا المدينة فأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك ، أو فيمن أظهر الإسلام بمكة ، وأعان المشركين على المسلمين ، أو في قوم من أهل المدينة ، أرادوا الخروج عنها نفاقاً ، أو في قوم من أهل الإفك . { أَرْكَسَهُم } ردهم ، أو أوقعهم ، أو أهلكهم ، أو أضلهم ، أو نكسهم . { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ } تريدون أن تسموهم بالهدى ، وقد سماهم الله تعالى بالضلال ، أو تهدوهم إلى الثواب بمدحهم ، وقد أضلهم الله تعالى بذمهم .

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)

{ يَصِلُونَ } يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان ، نزلت في بني مدلدج كان بينهم وبين قريش عقد فحرم الله تعالى من بني المدلج ما حرم من قريش . { حَصِرَتْ } ضاقت ، وحصر العدو تضييقه ، وهو خبر ، أو دعاء . { لَسَلَّطَهُمْ } بتقوية قلوبهم ، أو أذن لهم في القتال ليدفعوا عن أنفسهم . { السَّلَمَ } الصلح ، أو الإسلام ، نسختها آية السيف .

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)

{ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ } قوم أظهروا الإسلام ، ليأمنوا المسلمين ، وأظهروا موافقة قومهم ، ليأمنوهم ، وهم من أهل مكة ، أو من أهل تهامة ، أو من المنافقين ، أو نعيم بن مسعود الأشجعي . { الْفِتْنَةِ } كلما ردوا إلى المحنة في إظهار الكفر رجعوا فيه .

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)

{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } نزلت في عياش بن أبي ربيعة ، قتل الحارث بن يزيد وكان يعذب عياشاً ثم أسلم الحارث وهاجر فقتله عياش بالحرة وهو لا يعلم بإسلامه ، أو قتله يوم الفتح خارج مكة ، وهو لا يعلم إسلامه { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } أي ما أذن الله له لمؤمن { إِلاَّ خَطَئًا } استثناء منقطع . { رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } بالغة قد صَلَّت ، وصامت ، لا يجزي غيرها ، أو تجزى الصغيرة المتولدة من مسلمين . { وَدِيَةٌ } كانت معلومة معهودة ، أو هي مجملة أخذ بيانها من السنة . { مِن قَوْمٍ عَدُوٍ لَّكُمْ } كان قومه كفاراً فلا دية فيه ، أو كان في أهل الحرب فقتله من لا يعلم إيمانه فلا دية فيه مسلماً كان وارثه أو كافراً فيكون « مِنْ » بمعنى « في » قاله الشافعي رضي الله تعالى عنه { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } أهل الذمة من أهل الكتاب ، فيهم الدية والكفارة ، أو أهل عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من العرب خاصة ، أو كل من له أمان بذمة أو عهد ففيه الدية والكفارة . { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الرقبة ، صام بدلاً من الرقبة وحدها عند الجمهور ، أو الصوم عند العدم بدل من الدية والرقبة قاله مسروق .

وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)

{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا } نزلت في مقيس بن صبابة قتل أخاه رجل فهري فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم ديته ، وضربها على بني النجار ، فقبلها مقيس ثم أرسله النبي صلى الله عليه وسلم مع الفهري لحاجة فاحتمل الفهري وضرب به الأرض ، ورضخ رأسه بين حجرين ، فأهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دمه ، فقُتل عام الفتح ، قال زيد بن ثابت : نزلت الشديدة بعد الهيّنة بستة أشهر ، الشديدة { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا } ، والهيّنة : { والذين لاَ يَدْعُونَ } [ الفرقان : 68 ] ، وقيل للرسول في الشديدة : « وإن تاب وآمن وعمل صالحاً » فقال : وأنى له التوبة ، رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)

{ إِذَا ضَرَبْتُمْ } لقيت سرية للرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً معه غنيمات ، فسلم عليهم ، وآتى بالشهادتين ، فقتله أحدهم ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : « لم قتلته ، وقد أسلم؟ » فقال : إنما قالها متعوذاً ، قال : « هلا شققت عن قلبه؟ » ثم وداه الرسول صلى الله عليه وسلم ورد على أهله غنمه ، قتله أُسامة بن زيد ، أو المقداد ، أو أبو الدرداء أو عامر بن الأضبط ، أو محلم بن جثامة ، ويقال : لفظت الأرض قاتله ثلاث مرات ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « إن الأرض لتقبل من هو شر منه ، ولكن الله تعالى جعله لكم عبرة » ، وأمر أن تُلقى عليه الحجارة { كَذَلِكَ كُنتمُ } كفاراً فَمَنَّ الله تعالى عليكم بالإسلام .

وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)

{ مُرَاغَمًا } مُتحولاً من أرض إلى أرض ، أو مَطلباً للمعيشة ، أو مُهَاجَراً ، أو مندوحة عما يكره ، أو ما يرغم به قومه ، لأن من هاجر راغباً عن قومه ، فقد راغمهم ، أخذ ذلك من الرغم وهو الذل ، والتراب رَغام لذلته ، والرَّغام ما يسيل من الأنف .
{ وَسَعَةً } في الرزق ، أو في إظهار الدين ، أو من الضلالة إلى الهدي ، ومن العيلة إلى الغنى .

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)

{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ } سرتم ، لضربهم الأرض بأرجلهم في السير . { أَن تَقْصُرُواْ } الأركان بالإيماء عند التحام القتال مع بقاء عدد الصلاة ، أو تقصروا من أربع إلى اثنتين في الخوف دون الأمن ، أو تقصروا في الخوف إلى ركعة وفي الأمن إلى ركعتين ، أو في الأمن والخوف إلى ركعتين لا غير .

وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)

{ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بصلاة الخوف ، وهي خاص به ، أو عامة لأمته عند الجمهور . { وَلْيَأْخُذُوَاْ أَسْلِحَتَهُمْ } يعني المصلين ، قاله الشافعي رضي الله تعالى عنه أو الحارسين . { فَإِذَا سَجَدُواْ } المصلون ركعة واحدة عند من رأى صلاة ركعة فليكن المصلون من ورائكم بإزاء العدو . أو إذا صلوا بعد مفارقة الإمام ركعة أخرى فليكونوا من ورائكم ، أو لا يتمون الركعة الثانية إلا بعد وقوفهم بإزاء العدو ، { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى } وهم الذين كانوا بإزاء العدوا فيصلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم الركعة الباقية عليه ، ثم يسلمون معه عند من جعلها ركعة ، أو تتم الركعتين وتفارقه قبل التشهد ، أو بعده وتركع الركعة الثانية قبل وقوفها بإزاء العدو . أو تقف بإزائه وتنصرف الطائفة الأولى ، فتأتي بركعة ثم ترجع إلى مواجهة العدو ، ثم تخرج الثانية فتكمل صلاتها ، وهذه الصلاة نحو صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع .

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)

{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ } في خوف ، أو أمنٍ { فَاذْكُرُواْ اللَّهَ } تعالى عقبها بالتعظيم والتسبيح والتقديس . { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ } أقمتم فأتموها من غير قصر ، وإذا أمنتم من الخوف فأتموا الركوع والسجود بغير إيماء . { مَّوْقُوتًا } فرضاً واجباً ، أو مؤقَتة بنجومها كلما مضى نجم جاء نجم .

وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)

{ وَلا تَهِنُواْ } لا تضعفوا في طلبهم للحرب . { وَتَرْجُونَ } من نصر الله ما لا يرجون ، أو من ثوابه ما لا يرجون ، أو تخافون منه ما لا يخافون { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] .

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)

{ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } نزلت في طعمة بن أُبيرق أُودع درعاً وطعاماً فجحد ولم تقم عليه بينة ، فهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالدفع عنه ، فبين الله تعالى أمره ، أو سرق درعاً وطعاماً ، فأنكره واتهم به أنصارياً ، أو يهودياً ، وألقاه في منزله .

وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)

{ ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا } أراد الذي اتهمه طعمة فلما نزلت فيه الآية ، ارتد طعمة ، ولحق بمشركي مكة ، فنزلت ، { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ } [ النساء : 115 ] .

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)

{ إِنَاثاً } اللات والعزى ومناة ، أو الأوثان ، وفي مصحف عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها « إلاَّ أوثاناً » ، أو الملائكة ، لزعمهم أنهم بنات الله تعالى ، أو موات لا روح فيه ، لأن إناث كل شيء أرذله ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما .

وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)

{ وَلأُضِلَّنَّهُمْ } عن الإيمان ، { وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } بطول الأمل ، ليؤثروا الدنيا على الآخرة . { فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الانْعَامِ } ليقطعنها نسكاً لآلهتهم كالبحيرة والسائبة . { خَلْقَ اللَّهِ } دينه ، أو أراد خصاء البهائم ، أو الوشم .

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)

{ لَّيْسَ } الثواب { بِأَمَانِيِّكُمْ } يا أهل الإسلام ، أو يا عبدة الأوثان ، { وَلآ أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ } لا يستحق بالأماني بل بالأعمال الصالحة . { سُوَءًا } شركاً ، أو الكبائر ، أو ما ينال المسلم من الأحزان والمصائب في الدنيا فهو جزاء عن سيئاته ، ولما نزلت شقت على المسلمين فشكوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : « قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة ، حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها » وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : ما أشد هذه ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « يا أبا بكر إن المصيبة في الدنيا جزاء » .

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)

{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ } كانوا لا يورثون النساء ولا الأطفال فلما نزلت المواريث شق عليهم فسألوا فنزلت { لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } من الميراث ، او كانوا لا يؤتون النساء صدقاتهن بل يتملكه الأولياء فلما نزل { وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } [ النساء : 4 ] سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت فقوله { لا تُؤُتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } أراد به « الصداق » { وَتَرْغَبُونَ } عن نكاحهن لقبحهن وتمسكوهن رغبة في أموالهن ، أو { وَتَرْغَبُونَ } في نكاحهن رغبة في أموالهن ، أو جمالهن .

وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)

{ نُشُوزًا } ترفعاً عها لبغضها { أَوْ إِعْرَاضًا } انصرافاً عن الميل إليها لموجدة أو أثَرَة ، لما هم الرسول صلى الله عليه وسلم بطلاق سودة جعلت يومها لعائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها على أن لا يطلقها ، فنزلت ، أو هي عامة في كل أمرأة خافت النشوز أو الإعراض . { صُلْحًا } بترك مهر ، أو إسقاط قسم . { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } من الفرقة ، أو من النشوز والإعراض . { وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ } أنفس النساء عن حقوقهن على الأزواج وعن أموالهن ، أو نفس كل واحد من الزوجين بحقه على صاحبه .

وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)

{ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ } في المحبة . { وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أن تعدلوا في المحبة ، أو لو حرصتم في الجماع ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { كُلَّ الْمَيْلِ } أن يميل بفعله كما مال بقلبه . { كَالْمُعَلَّقَةِ } لا أيِّماً ولا ذات بعل .

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)

{ وَيَأْتِ بِأخَرِينَ } لما نزلت ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمان ، فقال : « قوم هذا » يعني عجم الفرس .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)

{ ثَوَابَ الدُّنْيَا } الغنيمة ، وثواب { وَالأَخِرَةِ } الجنة .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)

{ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } بالعدل . { شُهَدَآءَ لِلَّهِ } بالحق { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } بالإقرار . { فَلا تَتَّبِعُواْ الْهَوَى } اختصم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم غني وفقير فكان ضَلْعه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني ، فنزلت ، أو نزلت في الشهادة . لهم وعليهم .
{ وإن تلوا } أمور الناس ، أو تتركوا ، خطاب للولاة والحكام . { تَلْوُاْ } من لي اللسان بالشهادة ، فيكون الخطاب للشهود قاله ابن عباس رضي الله عنهما .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)

{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ } بمن تقدم من الأنبياء . { ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } خطاب لليهود ، أو للمنافقين ، يا أيها الذين آمنوا بأفواههم آمنوا بقلوبكم ، أو للمؤمنين يا أيها الذين آمنوا دوموا على إيمانكم .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)

{ ءَامَنُواْ } بموسى { ثُمَّ كَفَرُواْ } بعبادة العجل { ثُمَّ ءَامَنُواْ } بموسى بعد عوده { ثُمَّ كَفَرُواْ } بعيسى { ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً } بمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين أو المنافقون آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ، ثم ارتدوا ثم ماتوا على كفرهم ، أو قوم من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المؤمنين فأظهروا الإيمان ثم الكفر ثم ازدادوا كفراً بثبوتهم عليه فيستتاب المرتد ثلاث مرات فإن عاد قُتل بغير استتابة ، لأجل هذه الآية قاله علي رضي الله تعالى عنه ، أو يستتاب كلما ارتد عند الجمهور .

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)

{ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } فأعطونا من الغنيمة . { نَسْتَحْوِذْ } نستولي عليكم بالنصر والمعونة . { وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } بالتخذيل عنكم ، أو ألم نبيّن لكم أنا على دينكم ، أو ألم نغلب عليكم ، أصل الاستحواذ : الغلبة . { عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } في الآخرة ، أو حجة .

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)

{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ } جعل خداعهم للرسول صلى الله عليه وسلم بما أظهره من الإيمان خداعاً له . { خَادِعُهُمْ } يجزيهم على خداعهم ، سمي الجزاء باسم الذنب ، أو أمر فيهم كعمل الخادع؛ بأمره بقبول إيمانهم ، أو ما يعطيهم في الآخرة من نور يمشون به من المؤمنين ثم يطفأ عند الصراط فذلك خدعه إياهم . { إِلاَّ قَلِيلاً } أي ذكر الرياء حقيراً يسيراً ، لاقتصارهم على ما يظهر من التكبير دون ما يخفى من القراءة والتسبيح .

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)

{ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } فيدعو على ظالمه ، أو يخبر بظلمه إياه ، أو فينتصر منه ، أو ينزل برجل فلا يحسن ضيافته فله أن يجهز بذمه .

إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)

{ إِن تُبْدُواْ خَيْرًا } بدلاً من السوء ، أو تخفوا السوء وإن لم تبدوا خيراً { عَفُوًّا } عن السوء ، كان أولى ، وإن كان ترك العفو جائزاً .

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)

{ كِتَابًا مِّنَ السَّمَآءِ } سأله اليهود أن ينزل كتاباً مكتوباً ، كما نزلت الألواح على موسى صلى الله عليه وسلم ، أو سألوه نزول ذلك عليهم خاصاً تحكماً في طلب الآيات ، أو سألوه أن ينزل على طائفة من رؤسائهم كتاباً بتصديقه { جَهْرَةً } معاينة ، أو قالوا جهرة أرنا الله ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . { بِظُلْمِهِمْ } لأنفسهم ، أو بظلمهم في سؤالهم .

وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)

{ الْبَابَ } باب الموضع الذي عبدوا فيه العجل ، وهو باب من أبواب بيت المقدس ، أو باب حطة . { لا تَعدَّوا } بارتكاب المحظورات ، { لا تَعْدُواْ } الواجب . { مِّيثَاقَاً غَلِيظًا } هو ميثاق آخر غير الميثاق الأول ، { غَلِيظاً } العهد بعد اليمين ، أو بعض العهد ميثاق غليظ .

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)

{ غُلْفٌ } أوعية للعلم ، ومع ذلك فلا تفهم حجتك ولا إعجازك ، أو محجوبة عن فهم دلائل صدقك كالمحجوب في غلافه . { طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا } ذمهم بأن قلوبهم كالمطبوع عليها فلا تفهم أبداً ، أو جعل عليها علامة تدل الملائكة على كفرهم كعلامة المطبوع . { إِلاَّ قَلِيلاً } منهم ، أو إلاَّ بقليل وهو إيمانهم ببعض الأنبياء دون بعض .

وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)

{ رَسُولَ اللَّهِ } في زعمه ، من قول اليهود ، أو هو من قول الله تعالى لا على جهة الحكاية . { شُبِّهَ لَهُمْ } كانوا يعرفونه ، فَأُلقي شَبَهه على غيره فقتلوه ، أو لم يكونوا يعرفونه بعينه ، وإن كان مشهوراً بينهم بالذكر فارتشى منهم مرتشي ثلاثين درهماً وَدَلَّهم على غيره ، أو كانوا يعرفونه فخاف الرؤساء فتنة العوام بأن الله منعهم فقتلوا غيره إيهاماً أنه المسيح ليزول افتتانهم به . { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ } قبل القتل فقال بعضهم : هو إله ، وقال آخرون : هو ولد ، وقال آخرون : ساحر . { إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ } الشك الذي حدث فيهم بالاختلاف ، أو ما لهم بحاله من علم هل كان رسولاً ، أو غير رسول؟ إلا اتباع الظن . { يَقِيناً } وما قتلوا ظنهم يقيناً كقولك : ما قتلته علماً ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو ما قتلوا أمره يقيناً ، إن الرجل هو المسيح أو غيره ، أو ما قتلوه حقاً .

بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)

{ رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } إلى سمائه ، أو إلى موضع لا يجري فيه حكم أحد من العباد .

وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)

{ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي ، أو بالمسيح قبل موت المسيح إذا نزل من السماء ، أو قبل موت الكتابي يؤمن بما نزل من الحق وبالمسيح . { شَهِيداً } على نفسه بالعبودية وتبليغ الرسالة ، أو بتكذيب المكذب وتصديق المصدق من أهل عصره .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)

{ لا تَغْلُواْ } لليهود ، أو لليهود والنصارى غلوا في المسيح ، فقالت النصارى هو الرب ، وقالت اليهود لغير رِشدة ، والغلو : مجاوزة الحد ، غلا السعر : جاوز الحد في الزيادة ، وغلا في الدين : أفرط في مجاوزة الحق . { إِلاَّ الْحَقَّ } لا تقولوا المسيح إله ولا لغير رشدة . { وَكَلِمَتُهُ } ، لأن الله تعالى كلمه حين قال له : « كن » ، أو لأنه بشارة بشر الله بها ، أو لأنه يُهتدى به كما يُهتدى بكلام الله . { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أضافه إليه تشريفاً ، أو لأن الناس يحيون به كما يحيون بالأرواح ، أو لأن جبريل عليه السلام نفخ فيه الروح بإذن الله تعالى والنفخ في اللغة : يسمى روحاً . { ثَلاثَةٌ } أب وابن وروح القدس ، أو قول من قال : آلهتنا ثلاثة .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)

{ بُرْهَانٌ } النبي صلى الله عليه وسلم لما معه من المعجز . { نُوراً } القرآن ، لإظهاره للحق كما تظهر المرئيات بالنور .

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)

{ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ } بالقرآن ، أو بالله تعالى . { وَيَهْدِيهِمْ } يعطيهم في الدنيا ما يؤديهم إلى نعيم الآخرة ، أو يأخذ بهم في الآخرة إلى طريق الجنة .

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)

{ يَسْتَفْتُونَكَ } آخر سورة أُنزلت كاملة سورة براءة ، وآخر آية نزلت { يَسْتَفْتُونَكَ } ولما عاد الرسول صلى الله عليه وسلم جابراً رضي الله تعالى عنه في مرضه ، سأله كيف يصنع بماله ، وكان له تسع أخوات فنزلت .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)

{ بِالْعُقُودِ } عهود الله التي أخذ بها الإيمان على عباده فيما أحلّ وحرّم ، أو ما أخذ على أهل الكتاب أن يعلموا بما في التوراة والإنجيل من [ تصديق ] صفة محمد صلى الله عليه وسلم أو العهد والحلف الذي كان في الجاهلية أو عهود الدِّين كلها ، أو عقود الناس كالبيع والإجارة وما يعقده على نفسه من نذر أو يمين . { بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } الإبل والبقر والغنم ، أو أجنة الأنعام إذا ذكيت فوجد الجنين ميتاً ، أو بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء وبقر الوحش ولا يدخل فيها الحافر لأنه مأخوذ من نَعمة الوطء .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)

{ شَعَآئِرَ اللَّهِ } معالم الله من الإشعار وهو الإعلام : مناسك الحج ، أو محرمات الإحرام ، أو حَرَم الله ، أو حدوده في الحلال والحرام المباح ، أو دينه كله { وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله } [ الحج : 32 ] أي دين الله . { الشَّهْرَ الْحَرَامَ } لا تقاتلوا فيه وهو رجب أو ذو القعدة أو الأشهر الحرم . { الْهَدْىَ } كل ما يهدى إلى البيت من شيء ، أو ما لم يقلد من النعم وقد جعل على نفسه أن يهديه ويقلده . { الْقلآئِدَ } قلائد الهدى ، أو كانوا إذا حجوا تقلّدوا من لحاء الشجر ليأمنوا في ذهابهم وإيابم ، أو كانوا يأخذون لحاء شجر الحرم إذا خرجوا منه فيتقلدون ليأمنوا فنهوا عن نزع شجر الحرم . { ءَآمِّينَ } : قاصدين أممت كذا قصدته . { فَضْلاً } أجراً ، أو ربح تجارة { وَرِضْوَاناً } من الله تعالى عنهم بنسكهم . { يَجْرِمَنَّكُمْ } : يحملنكم ، جرمني فلان على بغضك حملني ، أو يكسبنكم ، جرمت على أهلي : كسبت لهم . { شَنَئَانُ } : بغض ، أو عداوة .
أتى الحُطم بن هند الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : إلامَ تدعو؟ فأخبره ، فخرج فمرّ بسرح من سرح المدينة فاستاقه ، ثم أقبل من العام المقبل حاجّاْ مقلداً الهدى فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه فنزلت فقال ناس من الصحابة يارسول الله خَلِّ بيننا وبينه فإنه صاحبنا فنزلت . ثم نسخ جميعها ، أو نسخ منها ولا الشهر الحرام ، ولا آمين البيت الحرام ، أو نسخ التقلد بلحاء الشجر فاتفقوا على نسخ بعضها .

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

{ الْمَيْتَةُ } كل ما له نفس سائلة من دواب البَرِّ وطيره ، أو كل ما فارقته الحياة من دواب البرّ وطيره . { وَالدَّمُ } محرم إذا كان مفسوحاً ، فلا يحرم دم السمك ، [ أو ] المسفوح وغيره حرام إلا ما خصّته السنّة من الكبد والطحال فحرم دم السمك . { وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ } يخصّه التحريم عند داود ويعم باقي أجزائه عند الجمهور ، ولا فرق بين الأهلي والوحشي . { وَمَآ أُهِلَّ } ذبح لغير الله من صنم أو وثن ، استهل الصبي صاح ، ومنه إهلال الحج . { وَالْمُنْخَنِقَةُ } بحبل الصائد وغيره حتى تموت ، أو التي توثق فيقلتها خناقها . { وَالْمَوْقُوذَةُ } المضروبة بالخشب حتى تموت . وقذه وقذاً : ضربه حتى أشفى على الهلاك . { وَالْمُتَرَدِّيَةُ } من رأس جبل أو بئر .
{ وَالنَّطِيحَةُ } التي تنطحها أخرى فتموت . { إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ } من المنخنقة ، وما بعدها عند الجمهور أو مما أكل السبع خاصة ، والأكيلة التي تحلها الذكاة هي التي فيها حياة قوية لا كحركة المذبوح ، أو يكون لها عين تطرف وذنب يتحرك . { تَسْتَقْسِمُواْ } تطلبوا علم ما قسم لكم من رزق أو حاجة . { بِالأَزْلامِ } قداح مكتوب على أحدها أمرني ربي ، وعلى الآخر نهاني ربي ، والآخر غُفل ، كانوا إذا أرادوا أمراً ضربوا بها ، فإن خرج أمرني ربي فعلوه ، وإن خرج نهاني تركوه ، وإن خرج الغفل أعادوه ، سمي ذلك استقساماً لطلبهم على ما قسم لهم ، أخذ من قسم اليمين لأنهم التزموا بالقداح ما يلتزمونه باليمين . { ذَلِكُمْ } الذي نهيتم عنه فسق وخروج عن الطاعة . { يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } من دينكم أن ترتدوا عنه ، أو أن يبطلوه أو يقدحوا في صحته ، وكان ذلك يوم عرفة في حجة الوداع بعد دخول العرب في الإسلام حين لم يرَ الرسول صلى الله عليه وسلم مشركاً { فَلا تَخْشَوْهُمْ } أن يظهروا عليكم واخشوا مخالفتي . { الْيَوْمَ اكْمَلْتُ } يوم عرفة في حجة الوداع ، ولم يعش بعد ذلك إلا أحدى وثمانين ليلة ، أو زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كله إلى أن نزل ذلك يوم عرفة . وأكماله بإكمال فرائضه ، وحلاله وحرامه فلم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها شيء من الفرائض من تحليل ولا تحريم ، أو بإكمال الحج فلا يحج معكم مشرك . { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى } بإكمال الدين { وَرَضِيتُ لَكُمُ } الاستسلام لأمري { دِيناً } أي طاعة . { فَمَنِ اضْطُرَّ } أصابه ضر من الجوع . { مَخْمَصَةٍ } مفعلة كمبخلة ومجبنة ومجهلة ومحزنة ، من الخمص وهو اضطمار البطن من الجوع { مُتَجَانِفٍ } متعمد أو مائل . جنف القوم مالوا ، وكل أعوج فهو أجنف . نزلت هذه السورة والرسول صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة ، أو في مسير له من حجة الوداع ، أو يوم الاثنين بالمدينة .

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)

{ الطَّيِّبَاتُ } : الحلال وإن لم يكن مستلذاً تشبيهاً بالمستلذ ، قلت وهو بعيد إذ لا جواب فيه . { وَمَا عَلَّمْتُم } وصيد ما عَلَّمتم { الْجَوَارِحِ } الكواسب ، فلان جارحة أهله أي كاسبهم { مُكَلِّبِينَ } بالكلاب وحدها فلا يحل إلا صيد الكلب ، أو بالكلاب وغيرها أي مُضَرِّين على الصيد كما تُضَرَّى الكلاب ، أو التكليب من صفة الجارح المعلَّم { تُعَلِّمُونَهُنَّ } من طلب الصيد { مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ } من تأديبه فإن أَكَلَ الجارحة من الصيد فيحل ، أو لا يحل ، أو يحل في جوارح الطير دون السباع . لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب قالوا : يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فسكت فنزلت ، أو سأله زيد الخير فقال يا رسول الله فينا رجلان يقال لأحدهما ذَريح والآخر يكنى أبا دجانة لهما أكلب خمسة تصيد الظباء فما ترى في صيدها؟ فنزلت .

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)

{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } ذبائحهم وطعامهم . { وَالْمُحْصَنَاتُ } حرائر الفريقين عفيفات أو فاجرات ، أو العفائف من الحرائر والإماء ، ومحصنات أهل الكتاب المعاهدات دون الحربيات ، أو المعاهدات والحربيات عند الجمهور . { مُحْصِنِينَ } أعفّاء { مُسَافِحِينَ } زناة { مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ } : ذات خليل تقيم معه على السفاح .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)

{ إِذَا قُمْتُمْ } إذا أردتم القيام إلى الصلاة مُحدِثين ، أو يجب على كل قائم إلى الصلاة أن يتوضأ ولا يجوز أن يجمع فريضتين بوضوء واحد يروى عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما ، أو كان واجباً على كل قائم إلى الصلاة فنسخ إلاَّ عن المُحدِث « وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة ثم جمع الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد » . وكان قد أُمر بالوضوء لكل صلاة فلما شق عليه أُمر بالسواك ورُفع الوضوء .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)

{ بِالْقِسْطِ } بالعدل شهداء لحقوق الناس أو بما يكون من معاصيهم ، أو شهداء لأمر الله بأنه حق .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

{ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ } بعثت قريش رجلاً ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم فأطلعه الله تعالى على ذلك فنزلت هاتان الآيتان أو خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعين بهم في دية فهمّوا بقتله فنزلت تذكرهم نعمته عليهم بخلاص نبيهم صلى الله عليه وسلم .

وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)

{ مِيثَاقَ بَنِىَ إِسْرَآءِيلَ } : بإخلاص العبادة ولزوم الطاعة . { نَقِيباً } أخذ من كل سبط منهم نقيب وهو الضمين ، أو الأمين ، أو الشهيد على قومه ، والنقب في اللغة الواسع . فنقيب القوم هو الذي ينقب عن أحوالهم ، بُعثوا ضمناء لقومهم بما أخذ به ميثاقهم ، أو بُعثوا إلى الجبارين ليقفوا على أحوالهم ، فرجعوا ينهون عن قتالهم لما رأوا من شدّة بأسهم وعظم خلقهم إلا اثنين منهم . { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } نصرتموهم ، أو عظمتموهم ، مأخوذ من المنع عزرته عزراً رددته عن الظلم .

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)

{ قَاسِيَةً } من القسوة وهي الصلابة و { قَسِيَّة } أبلغ من قاسية ، او بمعنى فاسدة { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ } بالتغيير والتبديل وسوء التأويل { حَظّاً } نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم . { خَآئِنَةٍ } خيانة ، أو فرقة خائنة { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } نسختها { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } [ التوبة : 29 ] أو { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } [ الأنفال : 58 ] أو هي محكمة في العفو والصفح إذا رآه .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)

{ تُخْفُونَ } من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ورجم الزانيين . { نُورٌ } محمد صلى الله عليه وسلم أو القرآن العزيز .

يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)

{ السَّلامِ } : هو الله ، أو السلامة من المخاوف { الظُّلُمَاتِ } : الكفر ، و { النُّورِ } : الإيمان { صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } طريق الحق ودين الحق ، أو طريق الجنة في الآخرة .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)

{ أَبْنَآؤُاْ اللَّهِ } « خَوَّف الرسول صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود فقالوا : لا تخوفنا نحن أبناء الله وأحباؤه » أو قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد ، أو زعمت اليهود أنّ الله تعالى أوحى إلى إسرائيل [ أنّ ولدك بِكْري من الولد ] فقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه . وقالته النصارى لما رأوا الإنجيل من قوله : « أذهب إلى أبي وأبيكم » أو لأجل قولهم : « المسيح ابن الله » وهم يرجعون إليه فجعلوا أنفسهم أبناء الله وأحباؤه ، فردّ عليهم بقوله { فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } لأن الأب المشفق لا يعذب ولده ولا المحب حبيبه .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)

{ أَنبِيَآءَ } الذين جاءوا بعد موسى صلى الله عليه وسلم أو السبعون الذين اختارهم موسى صلى الله عليه وسلم . { مُّلُوكاً } لأنفسكم بالتخليص من استبعاد القبط ، أو كل واحد ملك لنفسه وأهله وماله ، أو كانوا أول من ملك الخَدم من بني آدم ، أو جُعلوا ملوكاً بالمنّ والسلوى والحجر ، أو كل من ملك داراً وزوجة وخادماً فهو ملك من سائر الناس . { مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً } المنّ والسلوى والغمام والحجر ، أو كثرة الأنبياء والآيات التي جاءتهم .

يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)

{ الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ } بيت المقدس ، أو الشام ، أو دمشق وفلسطين وبعض الأردن . المقدسة : المطهرة . { كَتَبَ [ اللَّهُ ] لَكُمْ } هبة منه ثم حَرَّمها عليهم بعصيانهم { وَلا تَرْتَدُّواْ } عن طاعة الله تعالى أو عن الأرض التي أُمِرتم بدخولها .

قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)

{ جَبَّارِينَ } الجبار الذي يجبر الناس على ما يريد ، وجبر العظم لأنه كالإكراه له على الصلاح ، نخلة جبارة : فاتت اليد طُولاً لامتناعها كامتناع الجبار من الناس .

قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)

{ الَّذِينَ يَخَافُونَ } الله ، أو يخافون الجابرين فلم يمنعهم خوفهم من قول الحق . { أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا } بالإسلام ، أو بالتوفيق للطاعة ، كانا من الجبارين فأسلما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو كانا في مدينة الجبارين على دين موسى صلى الله عليه وسلم ، أو كانا من النقباء يُوشع بن نون وكلاب بن يوقنا . { فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } قالوا ذلك لعلمهم أنّ الله تعالى كتبها لهم ، أو لعلمهم أنّ الله تعالى ينصرهم على أعدائه .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)

{ ابْنَىْ ءَادَمَ } رجلان من بني إسرائيل قاله الحسن ، أو قابيل وهابيل ابنا آدم عليه الصلاة والسلام لصلبه . { قُرْبَاناً } بِراً يقصد به التقرب من رحمة الله تعالى قرباه لغير سبب ، أو لسبب على الأشهر ، كانت حواء تضع في كل عام غلاماً وجارية فيتزوج الغلام بالجارية من البطن الآخر ، ولم يزل بنو آدم في نكاح الأخوات حتى مضت أربعة آباء فنكح ابنة عمه وذهب نكاح الأخوات ، فلما أراد هابيل أن يتزوج بتوأمة قابيل منعه لأنه وتوأمته أحسن من هابيل وتوأمته ، أو لأنهما من ولادة الجنة وهابيل وتوأمته من ولادة الأرض ، فكان هابيل راعياً فقرب سخلة سمينة من خيار ماله ، وكان قابيل حراثاً فقرب جُرْزَة سنبل من شر ماله فنزلت نار بيضاء فرفعت قربان هابيل علامة لقبوله ، وتركت قربان قابيل ولم يكن لهم مسكين يتصدّق عليه وتقبل قربان هابيل لتقربه بخيار ماله قاله الأكثرون ، أو لأنه أتْقَى من قابيل ولذلك قال { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } والتقوى ها هنا الصلاة وكانت السخلة المذكورة ترعى في الجنة حتى فُدي بها إسحاق أو إسماعيل ، وقربا ذلك بأمر آدم عليه الصلاة والسلام لما اختصما إليه ، أو من قبل أنفسهما ، وكان آدم عليه الصلاة والسلام قد توجه إلى مكة بإذن ربه زائراً ، فلما رجع وَجَده قد قتله ، وكان عند قتله كافراً ، أو فاسقاً .

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)

{ مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ } كان قادراً على دفعه مع إباحته له ، أو لم يكن له الامتناع ممن أراد قتله .

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)

{ تَبُوأَ } ترجع { بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ } بإثم قتلي ، وإثم ذنوبك التي عليك ، أو بإثمي بخطاياي وإثمك قتلك لي .

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)

{ فَطَوَّعَتْ } فعلت من الطاعة فزينت ، أو فشجعت ، أو فساعدت ، ولم يدرِ كيف يقتله فظهر له إبليس فعلمه فقتله غيلة ، فألقى عليه وهو نائم صخرة فشدخه بها ، فكان أول قتيل في الأرض .

فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

{ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الأَرْضِ } على غراب آخر ، أو مَلَكاً على صورة غراب يبحث على سوأة أخيه ليعرف كيف يدفنه . { سَوْءَةَ أَخِيهِ } عورته أو جيفته لأنه تركه حتى أنتن . { يَاوَيْلَتَى } الويل : الهلكة { النَّادِمِينَ } قيل : لو ندم على الوجه المعتبر لقبلت توبته لكنه ندم على غير الوجه .

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)

{ مِنْ أَجْلِ } قتله أخاه كتبنا { بِغَيْرِ نَفْسٍ } بغير قَوَد { أَوْ فَسَادٍ } كحرب لله ورسوله وأخافة للسبيل . { قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } من قتل نبياً أو إمام عدل فكأنما قتل الناس ، ومن شدّ على يد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو كأنما قتل الناس عند المقتول . ومن استنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس عند المستنقذ أو يصلَى النار بقتل الواحد كما يصلاها بقتل الكل ، وإن سَلِم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعاً ، أو يجب بقتل الواحد من القصاص ما يجب بقتل الكل . ومن أحيا القاتل بالعفو عنه فله مثل أجر من أحيا الناس جميعاً ، أو على الناس ذم القاتل كما لو قتلهم جميعاً ومن أحياها بإنجائها من سبب مهلك فعليهم شكره كما لو أحياهم جميعاً ، أو عظم الله تعالى أجرها ووزرها فأحْيِها بمالك أو بعفوك .

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)

{ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ } نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهداً كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم فأفسدوا في الأرض ، أو في العرنيين المرتدّين ، أو فيمن حارب وسعى بالفساد . والمحاربة : الزنا والقتل والسرقة ، أو المجاهرة بقطع الطريق والمكابرة باللصوصية في المصر وغيره ، أو المجاهرة بقطع الطريق دون المكابر في المصر . فيتخير الإمام فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي ، أو يعاقبهم على قدر جناياتهم ، فيقتل إن قتلوا ، أو يصلب إن قتلوا وأخذوا المال ، ويقطع من خلاف إذا اقتصروا على أخذ المال قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن الرسول صلى الله عليه وسلم « إنه سأل جبريل ، عليه السلام ، عن قصاص المحارب فقال : من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده لسرقته ورجله لإخافته ، ومن قتل فاقتله ، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه » { أَوْ يُنفَوْاْ } من بلاد الإسلام إلى أرض الشرك أو من مدينة إلى مدينة ، أو بالحبس ، أو بطلبهم لإقامة الحد حتى يبعدوا .

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

{ تَابُواْ } من الشرك والفساد بإسلامهم ، ولا يسقط حد المسلم بالتوبة قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو التائب من المسلمين من المحاربين بأمان الإمام دون التائب بغير أمان ، أو من لحق بدار الحرب وإن كان مسلماً ثم جاء تائباً قبل القدرة عليه أو من كان في دار الإسلام في منعة وله فئة يلجأ إليها قبلت توبته قبل القدرة وإن لم يكن له فئة فلا تضع توبته شيئاً من عقوبته ، أو تسقط عنه حدود الله تعالى دون حقوق العباد ، أو تسقط عنه سائر الحدود والحقوق سوى الدماء .

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)

{ وَالسَّارِقُ } قدم السارق على السارقة والزانية على الزاني لان الرجل أحرص على المال من المرأة والمرأة أحرص على الاستمتاع منه ، وقطعت يد السارق لوقوع السرقة بها ، ولم يقطع الذكر وإن وقعت الخيانة به لأن في قطعه فوات النسل ، أو لأن الزجر لا يحصل به لخفائه بخلاف اليد فإنها ظاهرة ، أو لأن السارق إذا انزجر بقي له مثل يده بخلاف الزاني إذا انزجر فإنه لا يبقى له ذكر آخر . قيل نزلت في طعمة بن أبيرق وفي وجوب الغرم مع القطع مذهبان .

فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)

{ فَمَن تَابَ } التوبة الشرعية أو بقطع اليد .

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)

{ يُعَذِّبُ } من مات كافراً { وَيَغْفِرُ } لمن تاب من كفره ، أو يعذب في الدنيا على الذنوب بالقتل والآلام والخسف وغير ذلك من العذاب ، ويغفر لمن شاء في الدنيا بالتوبة .

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)

{ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ } المنافقون . { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } يسمعون كلامك ليكذبوا عليك { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ } ليكذبوا عليك عندهم إذا أتوا بعدهم ، أو قابلون الكذب عليك { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ } في قصة الزاني المحصن من اليهود ، حكم الرسول صلى الله عليه وسلم برجمه فأنكروه . { يُحَرِّفُونَ } كلام محمد صلى الله عليه وسلم إذا سمعوه غيَّروه أو تغيير حكم الزاني وإسقاط القَوَد عند وجوبه . { إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا } أي الجلد ، أرسلت اليهود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بزانيين منهم ، وقالوا : إن حكم بالجلد فاقبلوه ، وإن حكم بالرجم فلا تقبلوه . فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ابن صوريا هل في التوراة الرجم؟ فأمسك فلم يزل به حتى اعترف ، فرجمهما الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أنكر ابن صوريا بعد ذلك فنزلت فيه هذه الآية ، أوإن أوتيتم الدية ، قتلت بنو النضير رجلاً من قريظة وكانوا يمتنعون من القَوَد بالدية إذا جنى النضيري ، وإذا جنى القرظي لم يقنع النضيري إلاَّ بالقود ، فقالت النضير : إن أفتاكم الرسول بالدية فاقبلوها وإن أفتى بالقود فردوه . { فِتْنَتَهُ } عذابه ، أو ضلاله ، أو فضيحته . { يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } من الكفر ، أو من الضيق والحرج عقوبة لهم .

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)

{ لِلسُّحْتِ } الرشوة ، أو رشوة الحكم ، أو الاستعجال على المعاصي ، أو ما فيه العار من الأثمان المحرمة كثمن الكلب والخنزير والخمر وعَسْب الفحل وحلوان الكاهن . والسحت من الاستئصال ، لأنه يستأصل الدين والمررءة . { فَإِن جَآءُوكَ } اليهوديان الزانيان ، خُيّر الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن يحكم بينهما بالرجم ، أو يدع ، أو قرظي ونضيري قتل أحدهما الآخر فخير في الحكم بينهما بالقود والتخيير محكم ، أو منسوخ بقوله تعالى : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } [ المائدة : 49 ] قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .

وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)

{ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ } بالرجم ، أو بالقَوَد . { مِن بَعْدِ ذَلِكَ } بعد حكم التوراة ، أو بعد حكمك . { وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } في تحكيمك أنه من عند الله تعالى مع جحدهم نبوتك ، أو في توليهم عن حكم الله غير راضين به .

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)

{ هُدىً } دليل . { وَنُورٌ } بيان . { النَّبِيُّونَ } جماعة أنبياء منهم محمد ، أو محمد وحده صلى الله عليه وسلم وإن ذكر بلفظ الجمع ، والذي حكم به رجم الزاني ، أو القود ، أو الحكم بكل ما فيها ما لم يرد نسخ ، أو تخصيص . { لِلَّذِينَ هَادُواْ } اللام بمعنى « على » وفي الحكم بها على غير اليهود خلاف . { وَالأَحْبَارُ } العلماء واحدهم ، « حبر » بالكسر والفتح من التحبير وهو التحسين ، لأن العالم يحسن الحسن ، ويقبح القبيح ، أو يحسن العلم . { اسْتُحْفِظُواْ } استودعوا ، أو حفظوا . { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } على حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة . فلا تخشوهم في كتمان ما أُنزلت أو في الحكم به . { ثَمَناً قَلِيلاً } أجراً على كتمانها ، أو أجراً على تعليمها . { وَمَن لَّمْ يَحْكُم } نزلت والآيتان التي بعدها في اليهود دون المسلمين ، أو نزلت في أهل الكتاب ، وهي عامة في سائر الناس ، أو أراد بالكافرين المسلمين ، وبالظالمين : اليهود ، وبالفاسقين : النصارى ، أو من لم يحكم به جاحداً كفر ، وإن كان غير جاحد ظلم وفسق .

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)

{ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } نزلت في القرظي والنضيري قتل أحدهما الآخر . { كَفَّارَةٌ } للمجروح ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم « من جرح في جسده جراحة فتصدّق بها كفّر عنه من ذنوبه بمثل ما تصدّق به » أو للجارح لقيامه مقام أخذ الحق ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)

{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ } القرآن . { مُصَدِّقاً } بما قبله من الكتب ، أو موافقاً لها . { وَمُهَيْمِناً } أميناً ، أو شاهداً ، أو حفيظاً . { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ } فيه دليل على وجوب الحكم بالقرآن دون التوراة والإنجيل . { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ } يا أمة محمد ، أو جميع الأمم { شِرْعَةً } طريقة ظاهرة ، ومنه شريعة الماء ، لأنها أظهر طرقه إليه وأشرعت الأسنة أظهرت ، والمنهاج الطريق الواضح فمعنى قوله تعالى { شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } سنّةً وسبيلاً . { أُمَّةً وَاحِدَةً } جمعكم على ملة واحدة ، أو على حق .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)

{ لا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ } لما ظهرت عداوة اليهود تبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم ، وقال : أتولى الله ورسوله ، وقال عبد الله بن أُبي : لا أتبرأ من حلفهم أخاف الدوائر ، وأنزلت في أبي لبابة [ بن ] عبد المنذر لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة ، وقد نزلوا على حكم سعد فنصح لهم ، وأشار إلى أنه الذبح ، أو في أنصاريين خافا من وقعة أحدٍ فأراد أحدهما التهود ، والآخر التنصر ليكون لهما أماناً ، حذراً من إدالة الكفار . { فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } مثلهم في الكفر ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .

فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)

{ مَّرَضٌ } شك ، أو نفاق ، نزلت في ابن أُبي ، وعبادة ، أو في قوم منافقين . { فِيهِمْ } في موالاتهم . { دَآئِرَةٌ } هي الدولة ترجع عمّن انتقلت إليه إلى من كانت لهم سميت بذلك ، لأنها تدور إليه إلى بعد زوالها عنه . { بِالْفَتْحِ } فتح مكة ، او فتح بلاد المشركين ، أو الحكم والقضاء . { أَوْ أمْرٍ } دون الفتح الأعظم ، أو موت من تقدّم ذكره من المنافقين أو إظهار نفاقهم ، والأمر بقتلهم ، أو الجزية .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)

{ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ } أبو بكر وأصحابه ، الذين قاتلوا أهل الردة ، أو قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن فكان لهم في نصرة الإسلام أثر حسن ، ولما نزلت « أومأ الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء في يده إلى أبي موسى ، وقال : هم قوم هذا » ، أو هم الأنصار . { أَذِلَّةٍ } ذوي رقة . { أَعِزَّةٍ } ذوي غلظة .

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)

{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ } نزلت في عبادة لما تبرأ من حلف اليهود أو في عبدالله بن سلام ومن أسلم معه شكوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما أظهرته اليهود من عداوتهم . { وَهُمْ رَاكِعُونَ } نزلت في علي رضي الله تعالى عنه تصدّق ، وهو راكع ، أو عامة في المؤمنين { وَهُمْ رَاكِعُونَ } نزلت فيهم ، وهم ركوع ، أو فعلوا ذلك في ركوعهم ، أو أراد بالركوع النافلة ، وبإقامة الصلاة الفريضة .

وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)

{ فِى الإثْمِ } معصية الله . { وَالْعُدْوَانِ } ظلم الناس . { السُّحْتَ } الرشا ، أو الربا .

لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)

{ لَوْلا } هلاَّ { الرَّبَّانِيُّونَ } علماء الإنجيل { وَالأَحْبَارُ } علماء التوراة { لَبِئْسَ } ما كان العلماء يصنعون من ترك النكير ، ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

{ مَغْلُولَةٌ } عن عذابهم ، أو مقبوضة عن العطاء على جهة البخل . { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } الزموا البخل ليتطابق الكلام ، أو { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } في النار حقيقة { وَلُعِنُواْ } بتعذيبهم بالجزية قال الكلبي . { يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } نعمة الدنيا ونعمة الدِّين ، لفلان عندي يد أي نعمة ، أو قوتاه بالثواب والعقاب ، واليد القوة { أُوْلِى الأيدى والأبصار } [ ص : 45 ] أو ملك الدنيا والآخرة ، واليد الملك ، من قولهم عنده ملك يمينه ، أو التثنية للمبالغة في صفة النعمة ، كلبيك وسعديك ، قال :
يداك يدا مجد وكف مفيدة ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{ طُغْيَاناً وَكُفْراً } بحسدهم وعنادهم { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ } يريد ما بين اليهود من الخلاف ، أو ما بين اليهود والنصارى ، لتباين قولهم في المسيح .

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)

{ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } بالعمل بما فيهما من غير تحريف ولا تبديل ، أو أقاموهما نصب أعينهم حتى إذا نظروا ما فيها من حكم الله تعالى لم يزلوا . { مِن فَوْقِهِمْ } بالمطر ، ومن تحتهم بإنبات الثمر ، أو عَبَّر به عن التوسعة كما يقال : فلان من الخير من قَرنه إلى قدمه . { مُّقْتَصِدَةٌ } على أمر الله تعالى أو عادلة .

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)

{ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ } ألزمه أن يبلغ ما أنزل من القرآن أحكامه وجدله ، وقصصه ، ولا يلزمه تبليغ غيره من الوحي إلا ما تعلق بالأحكام . { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } إن كتمت أية { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } . { يَعْصِمُكَ } أستظلّ الرسول صلى الله عليه وسلم بشجرة في سفره ، فأتاه أعرابي ، فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ، فقال : الله ، فرعدت يده وسقط السيف وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فنزلت ، أو « كان يهاب قريشاً فنزلت ، وكان يُحرس فلما نزلت أخرج رأسه من القبة ، وقال : أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله تعالى » { لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } إلى بلوغ غرضهم ، أو إلى الجنة .

لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)

{ مِيثَاقَ } أيمان أخذها عليهم أنبياءهم أن يعلموا بها ، وأُمروا بتصديق الرسل ، أو آيات ظاهرة تقرّر بها علم ذلك عندهم . { وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ } بعد أخذ الميثاق { رُسُلاً } . { تَهْوَى } أخذ الهوى من هواء الجو لاستمتاع النفس بكل واحد منهما . { فَرِيقاً كَذَّبُواْ } اقتصروا على تكذيبه . { فَرِيقاً } كذبوه وقتلوه .

وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)

{ فِتْنَةٌ } عقوبة من السماء ، أو ما ابتلوا به من قتل الأنبياء وتكذيبهم ، أو ما ابتلوا به ممن تغلب علهيم من الكفار . { فَعَمُواْ } عن الرشد { وَصَمُّواْ } عن الوعظ حتى قتلوا الأنبياء ظناً أن لا تكون فتنة . { ثُمَّ تَابَ اللَّهُ } تعالى عليهم بعد معاينة الفتنة . { ثُمَّ عَمُواْ } عادوا إلى ما كانوا عليه قبل التوبة وكان العود من أكثرهم .

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)

{ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارى } خاص بالنجاشي وأصحابه الذين أسلموا ، أو بقوم كانوا على دين عيسى عليه الصلاة والسلام فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به .

وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)

{ الشَّاهِدِينَ } الذين يشهدون بالإيمان ، أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)

{ لا تُحَرِّمُواْ } الأموال بالغضب فتصير حراماً ، أو نزلت . . . . .
[ قوله عزّ وجلّ { يَآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ لَكُمْ } فيه تأويلان ، أحدهما : أنه اغتصاب الأموال المستطابة فتصير بالغصب حراماً وقد كان يمكنهم الوصول إليها بسبب مباح قاله بعض البصريين ، والثاني : أنه تحريم ما أُبيح لهم من الطيبات ، وسبب ذلك أنّ جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علي عليه السلام وعثمان بن مظعون وابن مسعود وابن عمر همّوا بصيام الدهر وقيام الليل واعتزال النساء وجبّ أنفسهم وتحريم الطيبات من الطعام عليهم فأنزل الله تعالى فيهم .
{ لا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } فيه أربعة تأويلات ، أحدها : لا تعتدوا بالغصب للأموال التي هي عليكم حرام ، والثاني : أنه أراد بالاعتداء ما هَمَّْ به عثمان بن مظعون من جَبِّ نفسه قاله السدي ، والثالث : أنه ما كانت الجماعة همت به من تحريم النساء والطعام واللباس والنوم قاله عكرمة ، والرابع : هو تجاوز الحلال إلى الحرام قاله الحسن .

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

-قوله عزّ وجلّ { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ } قد ذكرنا خلاف المفسرين والفقهاء في لغو اليمين { وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُمُ الأَيْمَانَ } اختلف في سبب نزولها قولين :
أحدهما : أنها نزلت في عثمان بن مظعون حين حرّم على نفسه الطعام والنساء بيمين حلفها فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالحنث فيها قاله السدي ، والثاني : أنها نزلت في عبد الله بن رواحة وكان عنده ضيف فأخرت زوجته قِراه فحلف لا يأكل من الطعام شيئاً ، وحلفت الزوجة لا تأكل منه إن لم يأكل ، وحلف الضيف لا يأكل منه إن لم يأكلا ، فأكل عبد الله وأكلا معه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : أحسنت ونزلت فيه هذه الآية قاله ابن زيد .
قوله { وَلكِن يؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ } وعقدها هو لفط باللسان وقصد بالقلب لأن ما لم يقصده من أيمانه فهو لغو لا يؤاخذه به ثم في عقدها قولان : أحدهما : أن تكون على فعل مستقبل ولا تكون على خبر ماض ، والفعل المستقبل نوعان : نفي وإثبات ، فالنفي أن يقول : « والله لا فلعت كذا » والإثبات أن يقول « والله لأفعلن » أما الخبر الماضي فهو أن يقول : « والله ما فلعت » وقد فعل ويقول : « والله لقد فعلت كذا » وما فعل فينعقد يمينه بالفعل المستقبل في نوعي إثباته ونفيه . وفي انعقادها بالخبر الماضي قولان أحدهما : أنها لا تنعقد بالخبر الماضي قاله أبو حنيفة وأهل العراق ، والقول الثاني : أنها تنعقد على فعل مستقبل وخبر ماضٍ يتعلق الحنث بهما قاله الشافعي وأهل الحجاز .
ثم قال { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } فيه قولان : أحدهما : أنها كفارة ما عقدوه من الأيمان قالته عائشة والحسن والشعبي وقتادة ، والثاني : أنها كفارة الحنث فيما عقدوه منها وهذا أشبه أن يكون قول ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم . والأصح من إطلاق هذين القولين أن يعتبر حال اليمين في عقدها وحَلها فإنها لا تخلوا من ثلاثة أحوال : أحدها : أن يكون عقدها طاعة وحَلها معصية كقوله : « والله لا قتلت نفساً ولا شربت خمراً » فإذا حنث بقتل النفس وشرب الخمر كانت الكفارة لتكفير مأثم الحنث دون عقد اليمين ، الحال الثاني : أن يكون عقدها معصية وحلها طاعة كقوله « والله لا صليت ولا صمت » فإذا حنث بالصلاة والصوم كانت الكفارة لتكفير مأثم العقد دون الحنث والحال الثالث : أن يكون عقدها مباحاً وحلها مباحاً كقوله : « والله لا لبست هذا الثوب » فالكفارة تتعلق بهما وهي بالحنث أخص .
ثم قال { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ } فيه قولان ، أحدهما : من أوسط أجناس الطعام قاله ابن عمر و الحسن وابن سيرين ( والأسود وعبيدة السلماني ، والثاني : من أوسطه في القدر قاله علي وعمر وابن عباس ) ومجاهد ، وقرأ سعيد بن جبير ( من وسط ما تطعمون أهليكم ) ثم اختلفوا في القدر على خمسة أقاويل : أحدها : أنه نصف صاع من سائر الأجناس قاله « علي وعمر وهو مذهب أبي حنيفة ، والثاني : مد واحد من سائر الأجناس قاله » ابن عمر وزيد بن ثابت وعطاء وقتادة وهو مذهب شافعي ، والثالث : أنه غداء وعشاء قاله علي في رواية الحارث عنه وقول محمد بن كعب القرظي والحسن البصري ، والرابع : أنه على ما جرت به عادة المكفر في عياله إن كان يشبعهم أشبع المساكين وإن كان لا يشبعهم فعلى قدر ذلك قاله ابن عباس وسعيد ابن جبير ، والخامس : أنه أحد الأمرين من غداء وعشاء قاله بعض البصريين .

ثم قال { أَو كِسْوَتُهُمْ } وفيها خمسة أقاويل : أحدها : كسوة ثوب واحد قاله ابن عباس ومجاهد وطاووس وعطاء [ الخراساني ] والشافعي . والثاني : كسوة ثوبين قاله أبو موسى الأشعري وابن المسيب والحسن وابن سيرين ، والثالث : كسوة ثوب جامع كالملحفة والكساء قاله إبراهيم ، والرابع : كسوة إزار ورداء وقميص قاله ابن عمر والخامس : كسوة ما تجزىء فيه الصلاة قاله بعض البصريين .
ثم قال { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } يعني او فك رقبة من أسر العبودية إلى حال الحرية والتحرير والفك : الفتق ، قال الفرزدق :
أبني غدانة إنني حررتكم ... فوهبتكم لعطية بن جعال
وتجزئ صغيرها وكبيرها وذكرها وأنثاها وفي استحقاق إيمانها قولان : أحدهما : أنه مستحق ولا تجزئ الكفارة قاله الشافعي ، والثاني : أنه غير مستحق قاله أبو حنيفة .
ثم مقال : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ } فجعل الله الصوم [ له ] بدلاً من المال عند العجز عنه وجعله مع اليسار مخيراً بين التكفير بالإطعام والكسوة والعتق ، وفيها قولان : أحدهما : أنّ الواجب منها أحدها لا بعينه عند جمهور الفقهاء والثاني : أن جميعها واجب وله الاقتصار على أحدها قاله بعض المتكلمين وشاذ من الفقهاء ، وهذا إذا حُقّق خلف في العبارة دون المعنى واختلف فيما إذا لم يجده صام على خمسة أقاويل : أحدها : إذا لم يجد قوته وقوت من يقوم [ صام ] قاله الشافعي ، والثاني : إذا لم يجد ثلاثة دراهم صام قاله سعيد بن جبير ، والثالث : إذا لم يجد درهمين صام قاله الحسن ، والرابع : إذا لم يجد مائتي درهم صام قاله أبو حنيفة ، والخامس : إذا لم يجد ذلك فاضلاً عن رأس ماله الذي يتصرف به لمعاشه صام . وفي تتابع صيامه قولان : أحدهما : يلزمه قاله مجاهد وإبراهيم وكان أبيّ بن كعب وعبدالله بن مسعود يقرءان فصيام ثلاثة أيام متتابعات ، والثاني : إن صامها متفرقاً جاز . قاله مالك وأحد قولي الشافعي { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } يعني وحنثتم ، فإن قيل : لم لم يذكر مع الكفارة التوبة؟ قيل : لأنه ليس كل يمين حنث فيها كانت مأثماً توجب التوبة ، فإن اقترن بها المأثم لزمت التوبة بالندم وترك العزم [ على المعاودة ] { وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ } يحتمل وجهين : أحدهما : يعني احفظوها أن تحلفوا والثاني : احفظوها أن تحنثوا .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)

قوله عزّ وجلّ { يَآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوَاْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } الآية اختلف في سبب نزولها على ثلاثة أقاويل : أحدها : ما روى ابن إسحاق عن أبي ميسرة قال : قال عمر بن الخطاب : اللهمّ بَيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية في البقرة { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } [ البقرة : 219 ] فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهمّ بَيِّن لنا في الخمر بياناَ شافياً فنزلت الآية التي في سورة النساء { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] وكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضرت الصلاة ينادي لا يقربنّ الصلاة سكران فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت التي في المائدة { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } الآية إلى قوله { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } فقال عمر : انتهينا انتهينا والثاني : أنها نزلت في سعد بن أبي وقّاص وقد لاحى رجلاً على شراب فضربه الرجل بلحي جمل ففرز أنفه قاله مصعب بن سعد ، والثالث : أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار ثملوا من الشراب فعبث بعضهم ببعض فأنزل الله فيهم هذه الآية قاله ابن عباس فلما حرمت الخمر قال المسلمون « يا رسول الله كيف بأخواننا الذين شربوها وماتوا قبل تحريمها فأنزل الله تعالى { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا } [ المائدة : 93 ] يعني من الخمر قبل التحريم { إِذَا مَا اتَّقَواْ } يعني في أداء الفرائض و { وءَامَنُواْ } يعني بالله ورسوله ، { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } يعني البرّ والمعروف ، { ثُمَّ اتَّقَواْ وَأَحْسَنُواْ } يعني بعمل النوافل فالتقوى الأول عمل الفرائض ، والتقوى الثاني عمل النوافل ، فأما الميسر : فهو القمار ، وأما الأنصاب ففيها وجهان : أحدهما : أنها الأصنام تعبد قاله الجمهور ، والثاني : أنها أحجار [ حول ] الكعبة يذبحون لها قاله مقاتل وأما الأزلام فهي قداح من خشب يستقسم بها على ما قدّمناه وقوله { رِجْسٌ } يعني حراماً ، وأصل الرجس : المستقذر الممنوع منه فعبّر به عن الحرام لكونه ممنوعاً منه ثم قال { مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } أي مما يدعوا إليه الشيطان ويأمر به لأنه [ لا ] يأمر إلا بالمعاصي ولا ينهي إلا عن الطاعات .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)

قوله عزّ وجلّ : { يَآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ } في قوله ليبلونكم تأويلان : أحدهما : معناه ليكلفنكم ، والثاني : ليختبرنكم قاله قطرب والكلبي . وفي قوله { مِّنَ الصَّيْدِ } قولان : أحدهما : أن « من » للتبعيض في هذا الموضع لأن الحكم يتعلق بصيد البردون البحر ، وبصيد الحرم والإحرام دون الحل والإحلال ، والثاني : أن « من » في هذا الموضع داخلة للتجنيس نحو قوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] قال الزجاج .
{ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } فيه تأويلان ، أحدهما : ما تناله [ أيدينا ] البيض ، ورماحنا الصيد قاله مجاهد ، والثاني : ما تناله أيدينا الصغار ورماحنا الكبار قاله ابن عباس .
{ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } فيه أربعة تأويلات أحدها : أنّ معنى ليعلم ليرى فعبّر عن الرؤية بالعلم لأنها تؤول إليه قاله الكلبي ، والثاني : معناه ليعلم أولياء الله من يخافه بالغيب ، « والثالث : معناه ليعلموا أنّ الله يعلم من يخافه بالغيب » والرابع : معناه ليخافوا الله بالغيب والعلم مجاز .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

قوله عزّ وجلّ : { يَآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } فيه ثلاثة أقاويل أحدها : يعني الإحرام بحج أو عمرة قاله الأكثرون ، والثاني : بالمحرم الداخل إلى الحرم ، يقال أحرم إذا دخل الحرم ، ( وأتهم إذا دخل تهامة ، وأنجد إذا دخل نجدا ، ويقال أحرم لمن دخل في الأشهر الحرم قاله بعض أهل البصرة ، والثالث : أنّ اسم المحرم يتناول الأمرين معاً على وجه الحقيقة دون المجاز من أحرم بحج أو عمرة أو دخل المحرّم ) وحكم قتل الصيد فيهما على [ حد ] سواء بظاهر الآية قاله أبو علي بن أبي هريرة .
{ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً } فيه قولان : أحدهما : متعمداً لقتله ناسياً لإحرامه قاله مجاهد وإبراهيم وابن جريج ، والثاني : متعمداً لقتله ذاكراً لإحرامه قاله ابن عباس وعطاء الزهري واختلفوا في الخاطىء في قتله الناسي لإحرامه على قولين : أحدهما : لا جزاء عليه قاله داود ، والثاني : عليه الجزاء قاله [ مالك و ] أبو حنيفة والشافعي .
{ فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } يعني أنّ جزاء القتل في الحرم أو الإحرام مثل ما قتل من النعم ، وفي مثله قولان : أحدهما : أنّ قيمة الصيد مصروفة في مثله من النعم قاله أبو حنيفة والثاني : أنّ عليه مثل الصيد من النعم في الصورة والشبه قاله الشافعي .
{ يَحْكُمُ بِهِ ذّوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } يعني بالمثل من النعم لا يستقر المثل فيه إلا بحكم عدلين فقيهين ، ويجوز أن يكون القاتل أحدهما { هَدْيَاً بَالِغَ الْكَعْبَةِ } يريد أي مثل الصيد من النعم يلزمه إيصاله إلى الكعبة وعني بالكعبة جميع الحرم لأنها في الحرم ، واختلفوا هل يجوز أن يهدي في الجزاء ما لا يجوز في الأضحية من صغار الغنم على قولين : أحدهما : لا يجوز قاله أبو حنيفة ، والثاني : يجوز قاله الشافعي .
{ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } فيه قولان : أحدهما : أنه يُقَوَّمُ المثل من النعم ويشتري بالقيمة طعاماً قاله عطاء والشافعي ، والثاني : يُقَوَّم الصيد ويشتري بقيمة الصيد طعاماً قاله قتادة وأبو حنيفة .
{ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً } يعني عدل الطعام صياماً ، وفيه ثلاثة أقاويل : أحدها : أنه يصوم عن كل مد يوماً قاله عطاء والشافعي ، والثاني : يصوم عن كل مد ثلاثة أيام [ إلى عشرة أيام ] قاله سعيد بن جبير والثالث : يصوم عن كل صاع يومين قاله ابن عباس . واختلفوا في التكفير بهذه الثلاثة هل هو على الترتيب أو التخيير على قولين : أحدهما : أنه على الترتيب إن لم يجد المثل فالإطعام فإن لم يجد الطعام فالصيام قاله ابن عباس ومجاهد وعامر وإبراهيم والسدي ، والثاني : أنه على التخيير في التكفير بأي الثلاثة شاء قاله عطاء وأحد قولي ابن عباس وهو مذهب شافعي .
{ لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } يعني في التزام الكفارة ووجوب التوبة { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } يعني قبل نزول التحريم .
{ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } فيه قولان : أحدهما : يعني ومن عاد بعد التحريم فينتقم الله منه بالجزاء عاجلاً وعقوبة [ المعصية ] آجلاً ، والثاني : ومن عاد بعد التحريم في قتل الصيد ثانية بعد أوله .
{ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } « فيه على هذا التأويل قولان ، أحدهما : فينتقم الله منه » بالعقوبة في الآخرة دون الجزاء قاله ابن عباس وداود ، والثاني : بالجزاء مع العقوبة قاله الشافعي والجمهور .

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

قوله عزّ وجلّ { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } يعني صيد الماء سواء كان من بحر أو نهر أو عين أو بئر فصيده حلال للمحرم والحلال في الحرم والحل . { وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } في طعامه قولان : أحدهما : طافيه وما لفظه البحر قاله أبو بكر وقتادة ، والثاني : مملوحه قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقوله { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } يعني منفعة المسافر والمقيم وحكى الكلبي : أنّ هذه الآية نزلت في بني مدلج وكانوا ينزلون بأسياف البحر سألوا عمّا نضب عنه الماء من السمك فنزلت هذه الآية فيهم .

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)

قوله عزّ وجلّ { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ } في تسميتها كعبة قولان : أحدهما : سميت بذلك لتربيعها قاله مجاهد ، والثاني : سميت بذلك لعلوها ونتوئها من قولهم قد كعب ثدي المرأة إذ علا ونتأ وهو قول الجمهور ، وسيمت الكعبة حراماً لتحريم الله تعالى لها أن يصاد صيدها أو يختلى خلاها أو يعضد شجرها .
وفي قوله { قِيَاماً لِّلنَّاسِ } ثلاثة تأويلات ، أحدها : يعني صلاحاً لهم قاله سعيد بن جبير والثاني : تقوم به أبدانهم لأمنهم به في التصرف لمعايشهم ، والثالث : قياماً في مناسكهم ومتعبداتهم .

قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)

قوله عزّ وجلّ { قُل لا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالْطَّيِّبُ } فيه ثلاثة تأويلات أحدها : يعني الحلال والحرام قاله الحسن ، والثاني : المؤمن والكافر قاله السدي ، والثالث : الرديء والجيد .
أو المؤمن والكافر . .
{ وَلَوْ أعْجَبَكَ } الحلال والجيد مع القلّة خير من الحرام والرديء مع الكثرة قيل لما همَّ المسلمون بأخذ حجاج اليمامة نزلت .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)

{ لا تَسْئَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ } لما أحفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسألة صعد المنبر يوماً ، فقال : « لا تسألوني عن شيء إلا بيّنته » فلف كل أنسان منهم ثوبه في رأسه يبكي ، فقاله رجل كان يدعى إذا لاحى لغير أبيه : يا رسول الله من أبي قالوا : أبوك حذافة فأنزل الله { لا تَسْئَلُواْ } ، أو لما قال : كتب الله عليكم الحج فقيل له أفي كل عام؟ فقال : لو قلت نعم لوجبت ، اسكتوا عني ما سكت عنكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، أو في قوم سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة ، والوصيلة والحامي . { وَإِن تَسْئَلُواْ } نزول القرآن عند السؤال موجب لتعجيل الجواب { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } المسألة ، أو الأشياء التي سألوا عنها .

قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)

{ قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ } قوم عيسى عليه الصلاة والسلام سألوا المائدة ثم كفروا بها ، أو قوم صالح عليه الصلاة والسلام سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها ، أو قريش سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُحَوِّل لهم الصفا ذهباً ، أو الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم مَنْ أَبِي ونحوه فلما أخبرهم به أنكروه وكفروا به .

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)

{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ } ما بحر ، ولا سيَّب ولا وصل ، ولا حمى حامياً . { بَحِيرَةٍ } الناقة تلد خمسة أبطن فإن كان الخامس ذكراً ذبحوه وأكلوه وإن كان رُبَعة بتكوا أذنيها فلم يشرب لبنها ولم يوقر ظهرها ، أو إذا ولدت خمسة أبطن ، وكان أخرها ذكراً شقوا إذن الناقة وخلوها فلا تُحلب ولا تُركب ، أو البحيرة : بنت السائبة . { سَآئِبَةٍ } مسيبة ، كعيشة راضية أي مرضية ، كانت تفعله العرب ببعض مواشيها فتحرم الانتفاع بها تقرباً إلى الله تعالى ، وكان بعض أهل الإسلام يعتق العبد سائبة لا ينتفع به ولا بولائه ، كان أبو العالية سائبة فمات فلم يأخذ مولاه ميراثه ، وقال : هو سائبة ، فإذا تابعت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ، ولم يُجَز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف ، فما نتجت بعد ذلك من أنثى بُحرت أذنها وسميت بحيرة وسيبت مع أمها ، أو كانوا ينذرون السائبة عند المرض فيسيب البعير فلا يركب ولا يجلأ عن ماء . { وَصِيلَةٍ } الوصيلة من الغنم اتفاقاً إذا ولدت الشاة سبعة أبطن فإن كان السابع ذكراً ذبحوه وأحلوه للرجال دون النساء ، وإن كان عناقاً سرحت في غنم الحي ، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها فسميت وصيلة ، او كانت الشاة إذا أتأمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن لا ذكر فيهن جعلت وصيلة وكان ما تلده بعد ذلك للذكور دون الإناث . أو كانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه لآلهتهم قرباناً ، وإن ولدت أنثى قالوا : هذه لنا ، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه لأجلها . { وَلا حَامٍ } إذا نتج البعير من ظهره عشرة أبطن قالوا : حمى ظهره ويخلى ، أجمعوا على هذا .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)

{ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } الشهادة بالحقوق عند الحكام ، أو شهادة الحضور للوصية ، أو أيمان عبّر عها بلفظ الشهادة كما في اللعان { عَدْلٍ مِّنكُمْ } أيها المسلمون ، أو من حي الموصي ، وهما وصيان أو شاهدان يشهدان على وصيته . { مِنْ غَيْرِكُمْ } من غير أهل ملتكم من أهل الكتاب ، أو من غير قبيلتكم . { أَوْ ءَاخَرَانِ } « أو » هنا للتخيير في المسلم والكتابي ، أو الكتابي مرتب على [ عدم ] المسلم ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . { تَحْبِسُونَهُمَا } توقفونهما للأيمان ، خطاب للورثة . { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ } تقديره فأصابتكم مصيبة وقد أوصيتم إليهما . { الصَّلاةِ } العصر ، أو الظهر والعصر ، أو صلاة أهل دينهما من أهل الذمّة قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { إِنِ ارْتَبْتُمْ } بالوصيين في الخيانة ، أحلفهما الورثة ، أو إن ارتبتم بعدالة الشاهدين أحلفهما الحاكم لتزول ريبته ، وهذا إنما يجوز في السفر دون الحضر . { ثَمَناً } رشوة أو لا نعتاض عليه بحقير .

فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)

{ عُثِرَ } اطلع على أنهما كذبا وخانا ، عبّر عنهما بالإثم لحدوثه عنهما . { اسْتَحَقَّآ } الشاهدان ، أو الوصيان . { فَآخَرَانِ } من الورثة . { يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } في اليمين . { الأَوْلَيَانِ } بالميت من الورثة ، أو الأوليان بالشهادة من المسلمين : نزلت بسبب خروج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدَّاء فمات السهمي بأرض لا مسلم بها فلما قدما تركته فقدوا جام فضة مخوص بالذهب ، فأحلفهما الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم وُجد الجام بمكة فقالوا : اشتريناه من تيم وعدي بن بداء ، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم ، وفيهم نزلت الآيتان ، وهم منسوختان عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال ابن زيد : لم يكن الإسلام إلا بالمدينة فجازت شهادة أهل الكتاب واليوم طبق الإسلام الأرض ، أو محكمة عند الحسن .

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)

{ لا عِلْمَ لَنَآ } ذهلوا عن الجواب للهول ثم أجابوا لما ثابت عقولهم ، أو لا علم لنا إلا ما علمتنا ، أو لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا ، أو لا علم لنا ببواطن أُممنا فإن الجزاء على ذلك يقع قاله الحسن ، أو { مَاذَآ أُجِبْتُمْ } بمعنى ماذا علموا بعدكم . { عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } للمبالغة ، أو لتكثير المعلوم ، وسؤاله بذلك مع علمه إنما كان ليعلمهم ما لم يعلموه من كفر أممهم ، ونفاقهم ، وكذبهم عليهم من بعدهم أو ليفضحهم بذلك على رؤوس الأشهاد .

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)

{ اذْكُرْ نِعْمَتِى } ذكره بها وإن كان لها ذاكراً ليتلو على الأمم ما خصه به من الكرامات والمعجزات ، أو ليؤكد حجته ، ويرد به جاحده . { أَيَّدتُّكَ } قويتك من الأيد ، ليدفع عنه ظلم اليهود والكافرين به ، أو قوّاه على أمر دينه . { بِرُوحِ الْقُدُسِ } جبريل عليه السلام والقدس هو الله تعالى { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ } تعرفهم بنبوتك ، ولم يتكلم في المهد من الأنبياء غيره ، وبعث إليهم لما ولد وكان كلامه معجزة له ، وكلمهم كهلاً بالدعاء إلى الله تعالى وإلى الصلاة ، والزكاة ، وذلك لما صار ابن ثلاثين سنة ثم رفع . { الْكِتَابَ } الخط ، أو جنس الكتب . { وَالْحِكْمَةَ } العلم بما في تلك الكتب ، أو جميع ما يحتاج إليه في دينه ودنياه { تَخْلُقُ } تصور . { فَتَنفُخُ فِيهَا } الروح ، والروح : جسم تولى نفخها في الجسم المسيح ، أو جبريل عليهما السلام { فَتَكُونُ طَيْراً } تصير بعد النفخ لحماً ودماً ، ويحيا بإذن الله لا بفعل المسيح . { وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ } تدعو بإبرائهما ، وبإحياء الموتى فأُجيب دعاءك ، نسبه إليه لحصوله بدعائه ، ويجوز أن يكون إخراجهم من قبورهم فعلاً للمسيح عليه الصلاة والسلام بعد إحياء الله تعالى لهم ، قال ابن الكلبي : والذين أحياهم رجلان وامرأة .

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)

{ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّنَ } ألهمتهم كالوحي إلى النحل ، أو ألقيت إليهم بما أريتهم من آياتي أن يؤمنوا بي وبك فكان إيمانهم إنعاماً عليهم وعليه لكونهم أنصاره .

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)

{ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله أو هل تستطيع سؤال ربك { يَسْتَطِيعُ } يقدر ، أو يفعل ، أو يجيبك ويطيعك . ( المائدة ) ما عليها طعام فإن لم يكن فهي خوان سميت مائدة ، لأنها تميد ما عليها أي تعطيه . { اتَّقُواْ اللَّهَ } معاصيه ، أو أن تسألوا الأنبياء الآيات عنتاً ، أو طلباً لاستزادتها . { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي مصدقين بهم أغناكم دلائل صدقهم عن آيات أُخر .

قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)

{ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا } لعلهم طلبوا ذلك لحاجة بهم ، أو لأجل البركة . { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } تحتمل بإرسالك ، أو بأنه قد جعلنا من أعوانك . { وَنَعْلَمَ } علماً لم يكن لنا بناء على أنّ سؤالهم كان قبل استحكام معرفتهم ، أو نزداد علماً ويقيناً إلى علمنا ويقيننا .

قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)

{ الَّلهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ } سأل ذلك لإظهار صدقه عند من جعله قبل استحكام المعرفة ، أو تفضل بالسؤال بعد معرفتهم . { عِيداً } نتخذ يوم أنزالها عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا ، أو عائدة من الله تعالى علينا وبرهاناً لنا ولمن بعدنا ، أو نأكل منها أوَّلنا وآخرنا { وَءَايَةً مِّنكَ } على صدق أنبيائك ، أو على توحيدك . { وَارْزُقْنَا } ذلك من عندك ، أو الشكر على إجابة دعوتنا .

قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)

{ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } لما شرط عليهم العذاب إن كفروا بها استعفوا منها فلم تنزل ، قاله الحسن أو نزلت تحقيقاً للوعد ، وكان عليها ثمار الجنة ، أو خبز ولحم ، أو سبعة أرغفة ، وسبع جفان ، أو سمكة فيها طعم كل طعام ، أو كل طعام إلاّ اللحم ، أُمروا أن يأكلوا ولا يخونوا ولا يدخروا فخانوا وادخروا فرُفعت ، قال مجاهد : ضُربت مثلاً للناس لئلا يقترحوا الآيات على الأنبياء . { عَذَاباً } بالمسخ ، أو عذاباً لا يعذب به غيرهم ، لأنهم رأوا من الآيات ما لم يره غيرهم ، وذلك العذاب في الدنيا ، أو في الآخرة . { الْعَالَمِينَ } عالمي زمانهم ، أو جميع الخلق ، فيعذبون بجنس لا يعذب به غيرهم .

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)

{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى } قاله لما رفعه إلى السماء في الدنيا ، أو يقوله يوم القيامة فيكون { إذ } بمعنى { إذا } وهذا أصح لقوله : { هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ } [ المائدة : 119 ] { ءَأَنتَ قُلْتَ } سؤال توبيخ لقومه ، أو ليعرف المسيح عليه الصلاة والسلام أنهم غيروا وقالوا عليه ما لم يقل . { إِلهَيْنِ } لما قالوا إنها ولدت الإله لزمهم أن يقولوا بإلاهيتها للبعضية فصاروا بمثابة القائل بإلاهيتها .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ } خبر بمعنى الأمر ، وهو أولى من قوله { احمدوا } لما فيه من تعليم اللفظ ، ولان البرهان يشهد للخبر دون الأمر . { السَّمَاوَاتِ } جمعها تفخيماً لها ، لأن الجمع يقتضي التفخيم { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } [ الحجر : 9 ] قدّم السموات والظلمات في الذكر لتقدم خلقهما على خلق الأرض والنور . { يَعْدِلُونَ } به الأصنام ، أو إلهاً لم يخلق كخلقه .

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)

{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً } لصورناه بصورة رجل ، لأنهم لا يقدرون على رؤية الملك على صورته . { مَّا يَلْبِسُونَ } ما يخلطون ، أو يشبهون ، قال الزجاج : كما يشبهون على ضعفائهم .

وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)

{ سَكَنَ } من السكنى ، أو السكون خص السكون لأن الإنعام به أبلغ من الإنعام بالحركة .

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)

{ فَاطِرِ } خالق ومبتدىء ، ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : « كنت لا أدري ما فاطر حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها » أصل الفَطر : الشق ، { مِن فُطُورٍ } [ الملك : 3 ] شقوق . { يُطْعِمُ } يَرْزُق ولا يُرْزَق . { أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } من هذه الأمة .

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)

{ فَوْقَ عِبَادِهِ } أي القاهر لعباده ، وفوق : صله ، أو علا على عباده بقهره لهم { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] أعلى من أيديهم قوة .

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)

{ أَىُّ شَىْءٍ } نزلت لما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم من يشهد لك بالنبوّة فشهد الله تعالى له بالنبوّة ، أو أمره أن يشهد عليهم بتبليغ الرسالة ، فقال لهم ذلك ليشهده عليهم .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)

{ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } القرآن ، أو التوراة ، والإنجيل { يَعْرِفُونَهُ } محمداً صلى الله عليه وسلم بصفته في كتبهم ، أو يعرفون القرآن الدال على صحة نبوّته . { خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } غبنوها وأهلكوها بالكفر ، أو خسروا منازلهم وأزواجهم في الجنة ، إذ لكلٍّ منازل وأزواج في الجنة ، فإن آمن فهي له ، وإن كفر فهي لمن آمن من أهلهم ، وهذا معنى { الذين يَرِثُونَ الفردوس } [ المؤمنون : 11 ] .

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)

{ فِتْنَتُهُمْ } معذرتهم سماها بذلك لحدوثها عن الفتنة ، أو عاقبة فتنتهم وهي الشرك ، أو بليتهم التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)

[ { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } ] يستمعون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته ليلاً ، ليعرفوا مكانه فيؤذوه ، فصُرفوا عنه بالنوم وإلقاء الوقر ، والأكنة : الأغطية ، واحدها كنان ، كننت الشيء غطيته ، وأكننته في نفسي أخفيته ، والوقر : الثقل . { كُلَّ ءَايَةٍ } كل علامة معجزة لا يؤمنوا بها لحسدهم وبغضهم . { يُجَادِلُونَكَ } بقولهم أساطير الأولين التي سطروها في كتبهم ، أو قالوا : كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم ، قاله ابن عباس ، رضي الله تعالى عنهما .

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)

{ يَنْهَوْنَ } عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ويتباعدون فراراً منه ، أو ينهون عن العمل بالقرآن ويتباعدون عن سماعه لئلا يسبق إلى قلوبهم العلم بصحته ، أو ينهون عن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم ويتباعدون عن اتباعه ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في أبي طالب نهى عن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم ويتباعد عن الإيمان به مع علمه بصحته ، قال :
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ... فلقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا قد علمت بأنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الذمامة أو أحاذر سُبَّةً ... لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)

{ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ } عاينوها ومن عاين الشيء وقف عليه ، أو وقفوا فوقها ، أو عرفوها بدخولها ومن عرف شيئاً وقف عليه ، أو حبسوا عليها .

بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)

{ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ } وبال ما أخفوه ، أو ما أخفاه بعضهم من بعض ، أو بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء . { لَكَاذِبُونَ } فيما أخبروا به من الإيمان لو ردوا ، أو خبر مستأنف يعود إلى ما تقدّم .

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)

{ لَعِبٌ وَلَهْوٌ } ما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو بخلاف العمل للآخرة ، أو ما أهل الدنيا إلا أهل لعب ولهو لاشتغالهم بها عما هو أولى منها ، أو هم كأهل اللعب لانقطاع لذتهم وفنائها بخلاف الآخرة فإن لذاتها دائمة .

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)

{ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ } من تكذيبك والكفر بي . { لا يُكَذِّبُونَكَ } بحجة بل بهتاً وعناداً لا يضرك ، [ أو ] لا يكذبونك لعلمهم بصدقك ولكن يكذبون ما جئت به ، أو لا يكذبونك سراً بل علانية لعداوتهم لك ، أو لا يكذبونك لأنك مبلغ وإنما يكذبون ما جئت به .

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)

{ نَّبَإِىْ الْمُرْسَلِينَ } في صبرهم ونصرهم .

وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)

{ إِعْرَاضُهُمْ } عن سماع القرآن ، أو عن اتباعك . { نَفَقاً } سَرَباً ، وهو المسلك النافذ مأخوذ من نافقاء اليربوع { سُلَّماً } مصعداً ، أو درجاً ، أو سبباً . { فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ } أفضل من آيتك فافعل فحذف الجواب . { مِنَ الْجَاهِلِينَ } لا تجزع في مواطن الصبر فتشبه الجاهلين .

إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)

{ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ } طلباً للحق ، أو يعقلون ، والاستجابة القبول والجواب يكون قبولاً وغير قبول . { وَالْمَوْتَى } الكفار ، أو الذين فقدوا الحياة .

قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)

{ خَزَآئِنَ اللَّهِ } من الرزق فلا أقدر على إغناء ولا إفقار ، أو خزائن العذاب لأنه لما خوّفهم به استعجلوه استهزاء . { وَلآ أَعْلَمُ الْغَيْبَ } في نزول العذاب ، أو جميع الغيوب . { إِنِّى مَلَكٌ } تفضيل للملك ، أي لا أدّعي منزلة ليست لي ، أو لست ملكاً في السماء فأعلم الغيب الذي تشاهده الملائكة ولا يعلمه البشر ، فلا تفضيل فيه للملك على النبيّ .

وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)

{ وَلا تَطْرُدِ } نزلت لما جاء الملأ من قريش فوجدوا عند الرسول صلى الله عليه وسلم عماراً وصهيباً وخباباً وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أجميعن فقالوا اطرد عنا موالينا وحلفاءنا ، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ، فقال عمر رضي الله تعالى عنه : لو فعلت ذلك حتى ننظر ما يصيرون ، فَهمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك ، ونزل في الملأ { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } [ الأنعام : 53 ] فاعتذر عمر رضي الله تعالى عنه عن مقالته ، فأنزل { وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 54 ] . { يَدْعُونَ } الصلوات الخمس ، أو ذكر الله تعالى أو عبادته ، أو تعلم القرآن . { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } يريدون طاعته بقصدهم الوجه الذي وجههم إليه ، أو يريدونه بدعائهم ، وقد يعبّر عن الشيء بالوجه كقولهم : « هذا وجه الصواب » . { حِسَابِهِم } حساب عملهم بالثواب والعقاب ، وما من حساب عملك عليهم شيء ، كل مؤاخذ بحساب عمله دون غيره ، أو ما عليك من حساب رزق هم وفقرهم من شيء .

وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)

{ فَتَنَّا } اختبرناهم باختلاف في الأرزاق والأخلاق ، أو بتكليف ما فيه مشقة على النفس مع قدرتها عليه . { مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم } باللطف في إيمانهم ، أو بما ذكره من شكرهم على طاعته .

وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } ضعفاء المسلمين ، وما كان من شأن عمر رضي الله تعالى عنه { فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ } مني ، أو من الله تعالى قاله الحسن والسلام : جمع السلامة ، أو هو الله ذو السلام . { كَتَبَ } أوجب ، أو كتب في اللوح المحفوظ . { بِجَهَالَةٍ } بخطيئة ، أو ما جهل كراهة عاقبته .

قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)

{ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى } معجز القرآن ، أو الحق الذي بانَ له . { وَكَذَّبْتُم بِهِ } بربكم ، أو بالبينة . { تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } من العذاب ، أو من اقتراح الآيات ، لأنه طلب الشيء في غير وقته . { الْحُكْمُ } في الثواب والعقاب ، أو في تمييز الحق من الباطل . { يَقُصُّ الْحَقَّ } يتممه . { يَقُصُّ } يخبر .

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)

{ يَتَوَفَّاكُم } بالنوم . { جَرَحْتُم } كسبتم بجواركم ، جوارح الطير : كواسبها . { يَبْعَثُكُمْ } في النهار باليقظة . { أَجَلٌ مُّسَمّىً } استكمال العمر . { مَرْجِعُكُمْ } بالبعث .

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)

{ الْقَاهِرُ } الأقدر ، فوقهم : في القهر كما يقال فوقه في العلم إذا كان أعلم ، أو علا بقهره . { حَفَظَةً } الملائكة . { لا يُفَرِّطُونَ } لا يؤخرون ، أو لا يضيعون .

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)

{ رُدُّواْ } ردتهم الملائكة الذين يتوفونهم ، أو ردّهم الله بالبعث والنشور ، أي ردّهم إلى تدبيره وحده ، لأنه دبرهم عند النشأة وحده ، ثم مكنهم من التصرف فدبروا أنفسهم ، ثم ردّهم إلى تدبيره وحده بموتهم ، فكان ذلك ردّاً إلى الحالة الأولى ، أو ردّوا إلى الموضع الذي لا يملك الحكم عليهم فيه إلا الله . { أَلا لَهُ الْحُكْمُ } بين عباده يوم القيامة وحده ، أو له الحكم مطلقاً لأن من سواه يحكم بأمره فصار حكماً له .

قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)

{ مِّن فَوْقِكُمْ } أئمة السوء { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } عبيد السوء قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو من فوقهم : الرجم ، ومن تحتهم : الخسف ، أو من فوقهم : الطوفان ، ومن تحتهم : الريح . { يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } الأهواء المختلفة ، أو الفتن والاختلاف . { بَأْسَ بَعْضٍ } بالحروب والقتل ، نزلت في المشركين ، أو في المسلمين وشق نزولها على الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : « إني سألت ربي أن يجيرني من أربع فأجارني من خصلتين ، ولم يجرني من خصلتين ، سألته أن لا يهلك أمتي بعذاب من فوقهم كما فعل بقوم نوح عليه الصلاة والسلام وبقوم لوط ، فأجابني ، وسألته أن لا يهلك أمتي بعذاب من تحت أرجلهم كما فعل بقارون فأجابني ، وسألته أن لا يفرقهم شيعاً فلم يجبني ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يجبني » ، ونزل { الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا } [ العنكبوت : 1 ، 2 ] .

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)

{ وَكَذَّبَ بِهِ } بالقرآن ، أو بتصريف الآيات . { وَهُوَ الْحَقُّ } أي ما كذبوا به ، والفرق بينه وبين الصواب : أنّ الصواب لا يدرك إلا بطلب ، والحق قد يدرك بغير طلب . { بِوَكِيلٍ } بحفيظ أمنعكم من الكفر ، أو بحفيظ لأعمالكم حتى أجازيكم عليها ، أو لا آخذكم بالإيمان إجباراً كما يأخذ الوكيل بالشيء .

لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)

{ لِّكُلِّ نَبَإٍ } أخبر الله تعالى به من وعد أو وعيد مستقر في المستقبل أو الماضي أو الحاضر ، أو مستقر في الدنيا أو الآخرة ، أو هو وعيد للكفار بما ينزل بهم في الآخرة ، أو وعيد بما يحلّ بهم في الدنيا .

وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)

{ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ } الله في أمره ونهيه من حساب استهزاء الكفار وتكذيبهم مأثم لكن عليهم تذكرهم بالله وآياته لعلهم يتقون الاستهزاء والتكذيب ، أو ما على الذين يتّقون من تشديد الحساب والغلظة ما على الكفار ، لأن محاسبتهم ذكرى وتخفيف ، ومحاسبة الكفار غلظة وتشديد ، لعلهم يتقون إذا علموا ذلك ، أو ما على الذين يتّقون فيما فعلوه من ردّ وصد حساب ولكن اعدلوا إلى تذكيرهم بالقول قبل الفعل لعلهم يتقون .

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)

{ وَذَرِ الَّذِينَ } منسوخة ، أو محكمة على جهة التهديد ، كقوله { ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ } [ المدثر : 11 ] . { دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً } استهزاؤهم بالقرآن إذا سمعوه ، أو لكل قوم عيد يلهون فيه إلا المسلمون فإن أعيادهم صلاة وتكبير وبرّ وخير . { أَن تُبْسَلَ } تُسْلَم ، أو تُحبس ، أو تُفضح ، أو تؤخذ بما كسبت أو تجزى ، أو ترتهن ، أسد باسل : يرتهن الفريسة بحيث لا تفلت ، وأصل الإبسال : التحريم ، شراب بسيل : حرام . قال :
بَكَرت تلومك بَعْدَ وَهنٍ في الندى ... بَسْلٌ عليكِ ملامتي وعتابي
{ وَإِن تَعْدِلْ } تفتدِ بكل مال ، أو بالإسلام والتوبة .

قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)

{ أَنَدْعُواْ } أنطلب النجاح ، أو أنعبد . { اسْتَهْوَتْهُ } دعته إلى قصدها واتباعها ، كقوله { تهوى إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] أي تقصدهم وتتبعهم ، أو تأمره بالهوى ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في أبي بكر وامرأته لما دعوا ابنهما « عبد الرحمن » أن يأتيهما إلى الإسلام .

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ بِالْحَقِ } بالحكمة ، أو الإحسان إلى العباد ، أو بكلمة الحق ، أو نفس خلقهما حق . { كُن فَيَكُونُ } يقول ليوم القيامة كن فيكون لا يثني إليه القول مرة أخرى ، أو يقول للسماوات كوني قرناً ينفخ فيه لقيام الساعة فتكون صوراً كالقرن وتبدل سماء أخرى . { الصُّورِ } قرن ينفخ فيه للإفناء والإعادة ، أو جمع صورة ينفخ فيها أرواحها . { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي الذي خلق السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، أو الذي ينفخ في الصور عالم الغيب .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)

{ ءَازَرَ } اسم أبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان من أهل « كوثى » قرية من سواد الكوفة ، أو آزر ليس باسم بل سب وعيب معناه : « معوج » ، كأنه عابه باعوجاجه عن الحق ، وضاع حق أبوته بتضييعه حق الله تعالى ، أو آزر اسم صنم وكان اسم أبيه « تارح » .

وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)

{ وَكَذَلِكَ } « ذا » إشارة لما قرب ، و « ذاك » لما بعد ، و « ذلك » لتفخيم شأن ما بعد . { مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ } آياتهما ، أو خلقهما ، أو ملكها ، والملكوت : الملك نبطي ، أو عربي ، ملك وملكوت : كرهبة ورهبوت ، ورحمة ورحموت ، وقالوا : رهبوت خير من رحموت أي ترهب خير من أن ترحم ، أو الشمس والقمر والنجوم ، أو { مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ } الشمس والقمر والنجوم ، وملكوت الأرض الجبال والثمار والشجر .

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)

{ جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ } ستره ، الجِن والجَنين لاستتارهما ، والجنة والجنون والمجن لسترها . { رَءَا كَوْكَباً } قيل هو الزهرة طلعت عشاء . { هَذَا رَبِّى } في ظني ، قاله حال استدلاله ، أو اعتقد أنه ربه ، أو قال ذلك وهو طفل ، لأن أمه جعلته في غار حذراً عليه من نمروذ فلما خرج قال : ذلك قبل قيام الحجة عليه ، لأنه في حال لا يصح منه كفر ولا إيمان ، ولا يجوز أن يقع من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين شرك بعد البلوغ ، أو قاله على وجه التوبيخ والإنكار الذي يكون مع ألف الاستفهام أو أنكر بذلك عبادته [ الأصنام ] إذ كانت الكواكب لم تضعها يد بشر ولم تعبد لزوالها فالأصنام التي هي دونها أجدر . { لآ أُحِبُّ الأَفِلِينَ } حب الربّ المعبود ، أفل : غاب .

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)

{ بَازِغاً } طالعاً بزغ : طلع .

الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)

{ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ } من قول الله تعالى ، أو من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أو من قول قومه قامت به الحجة عليهم { بِظُلْمٍ } بشرك لما نزلت شق على المسلمين ، وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « ليس كما تضنون ، وإنما هو كقول لقمان لابنه » { لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] أو المراد جميع أنواع الظلم فعلى هذا هي عامة ، أو خاصة بإبراهيم عليه الصلاة والسلام وحده ، قاله علي رضي الله تعالى عنه ، أو خاصة فيمن هاجر إلى المدينة .

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)

{ حُجَّتُنَآ } قوله فأي الفريقين أحقّ بالأمن؟ عبادة إله واحد أو آلهة شتى ، فقالوا : عبادة إله واحد فأقرّوا على أنفسهم ، أو قالوا له : [ ألا ] تخاف [ أن ] تخبلك آلهتنا؟ فقال : أما تخافون أن تخبلكم بجمعكم الصغير مع الكبير في العبادة؟ أو قال لهم : أتعبدون ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً أم من يملك الضرّ والنفع؟ ، فقالوا : ما لك الضرّ والنفع أحق . وهذه الحجة استنبطها بفكره ، أو أمره بها ربه .

أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)

{ فَإِنَ يَكْفُرْ بِهَا } قريش { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا } الأنصار ، أو إن يكفر بها أهل مكة فقد وكلنا أهل المدينة ، أو إن يكفر بها قريش فقد وكلنا بها الملائكة ، أو الأنبياء الثمانية عشر المذكورين من قبل { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } [ الأنعام : 84 ] ، أو جميع المؤمنين . { وَكَّلْنَا بِهَا } أقمنا لحفظها ونصرها يعني الكتب والشرائع .

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

{ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ما عظموه حقّ عظمته ، أو ما عرفوه حقّ معرفته ، أو ما آمنوا أنه على كلّ شيء قدير . { إِذْ قَالُواْ } قريش ، أو اليهود فردّ عليهم بقول { مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى } لاعترافهم به . { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم .

وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)

{ مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب ، أو من البعث . { أُمَّ الْقُرَى } أهل أم القرى مكة لاجتماع الناس إليها كاجتماع الأولاد إلى الأم ، أو لانها أول بيت وضع فكأن القوى نشأت عنها ، أو لأنها معظمة كالأم قاله الزجاج . { وَمَنْ حَوْلَهَا } أهل الأرض كلها قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { يُؤْمِنُونَ بِهِ } بالكتاب ، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومن لا يؤمن به من أهل الكتاب فلا يعتد بإيمانه بالآخرة .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)

{ مِمَّنِ افْتَرَى } نزلت في مسيلمة ، أو فيه وفي العَنْسي { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ } مسيلمة ، أو مسيلمة والعنسي ، أو عبد الله بن سعد بن أبي السرح كان يكتب للرسول صلى الله عليه وسلم فإذا قال له : غفور رحيم ، كتب سميع عليم ، أو عزيز حليم ، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم هما سواء حتى أملى عليه { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ } [ المؤمنون : 12 ] إلى قوله { خَلْقاً آخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] ، فقال ابن أبي السرح : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } تعجباً من تفصيل خلق الإنسان ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا أُنزلت ، فشك وارتدّ . { بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ } بالعذاب ، أو لقبض الأرواح . { أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ } من العذاب ، أو من الأجساد { الْهُونِ } الهوان ، والهَوْن : الرفق .

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

{ خَوَّلْنَاكُمْ } التخويل : تمليك المال . { شُفَعَآءَكُمُ } آلهتكم ، أو الملائكة الذين اعتقدتم شفاعتهم . { فِيكُمْ شُرَكَآؤُاْ } شفعاء ، أو يتحملون عنكم تحمل الشريك عن شريكه .

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)

{ فَالِقُ } الحبة عن السنبلة ، والنواة عن النخلة ، أو خالق أو هو الشقاق الدائر فيها ، { يُخْرِجُ الْحَىَّ } السنبلة الحية من الحبة الميتة والنخلة الحية من النواة الميتة ، والحبة والنواة الميتتين من السنبلة والنخلة الحيتين ، أو الإنسان من النطفة والنطفة من الإنسان ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن . { تُؤْفَكُونَ } تصرفون عن الحق .

فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)

{ الإصْبَاحِ } الصبح ، أو إضاءة الفجر ، أو خالق نور النهار ، أو ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { سَكَناً } يسكن فيه كل متحرك بالنهار ، أو لأن كل حي يأوي إلى مسكنه { حُسْبَاناً } يجريان بحساب أدوار يرجعان بها إلى زيادة ونقصان ، أو جعلهما ضياء قاله قتادة ، كأنه أخذه من قوله تعالى { حُسْبَاناً مِّنَ السمآء } [ الكهف : 40 ] قال : ناراً .

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)

{ فَمُسْتَقَرٌّ } في الأرض ، { وَمُسْتَوْدَعٌ } في الأصلاب ، أو مستقر في الرحم ، ومستودع في القبر ، أو مستقر في الرحم ، ومستودع في صلب الرجل ، أو مستقر في الدنيا ومستودع في الآخرة ، أو مستقر في الأرض ومستودع في الذر ، أو المستقر ما خلق ، والمستودع ما لم يخلق ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

{ نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ } رزق كل شيء من الحيوان ، أو نبات كل شيء من الثمار . { خَضِراً } زرعاً خضراً . { مُّتَرَاكِباً } سنبلاً تراكب حبه . { قِنْوَانٌ } جمع قنو وهو الطلع ، أو العذق . { دَانِيَةٌ } من مجتنيها لقصرها ، أو قرب بعضها من بعض . { مُشْتَبِهاً } ورقه مختلفاً ثمره ، أو { مُشْتَبِهاً } لونه ، مختلفاً طعمه . { ثَمَرِهِ } الثُّمر جمع ثمار ، والثَّمر جمع ثمرة ، أو الثُّمُر المال ، والثَمَر ثمر النخل ، قرىء بهما . { وَيَنْعِهِ } نضجه وبلوغه .

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)

{ شُرَكَآءَ الْجِنَّ } قولهم : « الملائكة بنات الله » سماهم الله جناً ، لاستتارهم ، أو أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان حتى جعلوهم شركاء لله في العبادة . { وَخَرَقُواْ } كذبوا ، أو خلقوا ، الخرق والخلق واحد . { بَنِينَ } المسيح وعزير . { وَبَنَاتٍ } الملائكة جعلهم مشركو العرب بنات الله .

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

{ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } لا تحيط به ، أو لا تراه ، أو لا تدركه في الدنيا وتدركه في الآخرة ، أو لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة وتدركه أبصار المؤمنين ، أو لا تدركه بهذه الأبصار بل لا بدّ من خلق حاسّة سادسة لأوليائه يدركونه بها .

وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)

{ نُصَرِّف الأَيَاتِ } بتصريف الآية في معانٍ متغايرة مبالغة في الإعجاز ومباينة لكلام البشر ، أو بأن يتلو بعضها بعضاً فلا ينقطع التنزيل ، أو اختلاف ما نضمنها من الوعد والوعيد والأمر والنهي . { وَلِيَقُولُواْ } ولئلا يقولوا { دَرَسْتَ } قرأت وتعلمت ، قالته قريش ، ودارستَ : ذاكرت وقارأت ، ودرستْ : انمحت وتقادمت ، ودُرستْ تُليت ، وقُرئت ودَرَسَ محمد صلى الله عليه وسلم وتلا ، فهذه خمس قراءات .

وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)

{ وَلا تَسُبُّواْ } الأصنام فيسبوا من أمركم بسبها ، أو يحملهم الغيظ على سبّ معبودكم كما سببتم معبودهم . { كَذَلِكَ زَيَّنَّا } كما زينا لكم الطاعة كذلك زينا لمن تقدمكم من المؤمنين الطاعة ، أو كما أوضحنا لكم الحجج كذلك أوضحناها لمن تقدّم ، أو شبهنا لأهل كل دين عملهم بالشبهات ابتلاء حين عموا عن الرشد .

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)

{ لَئِن جَآءَتْهُمْ } لما نزل { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً } [ الشعراء : 4 ] قالوا : للرسول صلى الله عليه وسلم أنزلها حتى نؤمن بها إن كنت من الصادقين ، فقال المؤمنون : أنزلها عليهم يا رسول الله ليؤمنوا ، فنزلت هذه ، أو أقسم المستهزئون إن جاءتهم آية اقترحوها ليؤمنن بها وهي أن يحول الصفا ذهباً ، أو قولهم { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ } [ الإسراء : 90 ] إلى قوله : { نَّقْرَؤُهُ } [ الإسراء : 93 ] ولا يجب على الله إجابتهم إلى اقتراحهم إذا علم أنهم لا يؤمنون ، وإن علم ففي الوجوب قولان .

وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

{ وَنُقَلِّبُ أَفئِدَتَهُمْ } في النار في الآخرة ، أو الدنيا بالحيرة { أَوَّلَ مَرَّةٍ } جاءتهم الآيات ، أو أول أحوالهم في الدنيا كلها .

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)

{ قِبَلاً } جهرة ومعاينة ، { قُبُلاً } : جمع قبيل وهو الكفيل أي كفلاء ، أو قبيلة قبيلة وصنفاً صنفاً ، أو مقابلة . { إِلآ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } أن يعينهم ، أو يجبرهم . { يَجْهَلُونَ } في اقتراحهم الآيات ، أو يجلهون أن المقترح لو جاء لم يؤمنوا به .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا } لمن قبلك من الأنبياء أعداء كما جعلنا لك أعداء ، أو جعلنا للأنبياء أعداء كما جعلنا لغيرهم من الناس أعداء ، جعلنا : حكمنا بأنهم أعداء ، أو مكنّاهم من العداوة فلم نمنعهم منها ، { شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ } مردتهم ، أو شياطين الإنس الذين مع الإنس وشياطين الجن الذين مع الجنّ ، أو شياطين الجن الذين الدجنّ ، أو شياطين الإنس كفارهم ، وشياطين الجن كفارهم . { يُوحِى بَعْضُهُمْ } يوسوس ، أو يشر ، { فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ } [ مريم : 11 ] أشار { زُخْرُفَ الْقَوْلِ } ما زينوه من شبه الكفر ، وارتكاب المعاصي .

وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)

{ وَلِتَصْغَى } تميل تقديره « ليغرُّوهم غروراً ولتصغى » ، أو اللام للأمر ، ومعناها الخبر ، قلت للتهديد أحسن .

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)

{ أَبْتَغِى حَكَماً } لا يجوز لأحد أن يعدل عن حكمه حتى أعدل عنه ، أو لا يجوز لأحد أن يحكم مع الله حتى أحاكم إليه ، والحكم من له أهلية الحكم ولا يحكم إلاَّ بالحق ، والحاكم قد يكون من غير أهله فيحكم بغير الحق . { مُفَصَّلاً } تفصيل آياته لتمتاز معانيه ، أو تفصيل الصادق من الكاذب ، أو تفصيل الحق من الباطل والهدى من الضلال ، أو تفصيل الأمر من النهي ، أو المستحب من المحظور والحلال من الحرام .

وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)

{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } القرآن تمت حججه ودلائله ، أو تمام أحكامه وأوامره ، أو تمام إنذاره بالوعد والوعيد ، أو تمام كلامه واستكمال سوره . { صِدْقاً } فيما أخبر به { وَعَدْلاً } فيما قضاه .

وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)

{ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } سره وعلانيته ، أو ظاهره : ما حرم من النكاح ذوات المحارم ، وباطنه : الزنا ، أو ظاهره : ذوات الرايات من الزواني ، وباطنه : ذوات الأخدان ، كانوا يستحلون الزنا سراً ، أو ظاهره : الطواف بالبيت عراة ، وباطنه : الزنا .

وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

{ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } الميتة ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو ذبائح كانوا يذبحونها لأوثانهم ، أوما لم يسم الله عليه عند ذبحه ، ولا يحرم أكله بتركها ، أو يحرم ، أو إن تركها عامداً حرم وإن تركها ناسياً فلا يحرم . { لَفِسْقٌ } معصية ، أو كفر . { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ } قوم من أهل فارس بعثوا إلى قريش أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم يزعمون أنهم يتبعون أمر الله تعالى ولا يأكلون ما ذبح الله يعنون الميتة ويأكلون ما ذبحوه لأنفسهم ، أو الشياطين قالوا ذلك لقريش ، أو اليهود قالوا ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم . { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } في استحلال الميتة { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } .

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)

{ مَيْتاً } كافراً { فَأَحْيَيْنَاهُ } بالإيمان . { نُوراً يَمْشِى بِهِ } القرآن ، أو العلم الهادي إلى الرشد . { الظُّلُمَاتِ } الكفر ، أو الجهل شبه بالظلمة لتحيّر الجاهل كتحيّر ذي الظلمة ، وهي عامة في كل مؤمن وكافر ، أو نزلت في عمر وأبي جهل ، أو في عمار وأبي جهل .

وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)

{ صَغَارٌ } ذل ، لأنه يصغر إلى الإنسان نفسه عند الله في الآخرة فحذف أو أنفتهم من الحق صغار عند الله وإن كان عندهم عزاً وتكبراً .

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)

{ أَن يَهْدِيَهُ } إلى أدلَة الحق ، أو إلى نيل الثواب والكرامة { يَشْرَحْ } يوسع . { ضَيِّقاً } لا يتسع لدخول الإسلام إليه { حَرَجاً } شديداً لا يثبت فيه . { أَن يُضِلَّهُ } عن أدلة الحق ، أو عن نيل الثواب والكرامة ، { يَصَّعَّدُ } كأنما كلف صعود السماء لامتناعه عليه وبعده منه أو لا يجد مسلكاً لضيق المسالك عليه إلا صعوداً إلى السماء يعجز عنه ، أو كأن قلبه يصعد إلى السماء لمشقته عليه وصعوبته ، أو كأن قلبه بالنفور عنه صاعداً إلى السماء . { الرِّجْسَ } العذاب ، أو الشيطان ، أو ما لا خير فيه ، أو النجس .

وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)

{ صِرَاطُ رَبِّكَ } الإسلام ، أو بيان القرآن .

لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)

{ دَارُ السَّلامِ } الجنة دار السلامة من الآفات ، أو السلام اسم الله تعالى فالجنة داره . { عِندَ رَبِّهِمْ } في الآخرة ، لأنها أخص به ، أولهم عنده أن ينزلهم دار السلام .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)

{ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ } بإغوائكم لهم ، أو استكثرتم من إغواء الإنس . { اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } في التعاون والتعاضد أو فيما زينوه من اتباع الهوى وارتكاب المعاصي ، أو التعوّذ بهم { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ } [ الجن : 6 ] { أَجَلَنَا } الموت ، أو الحشر . { مَثْوَاكُمْ } منزل إقامتكم . { إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ } من بعثهم في القبور إلى مصيرهم إلى النار ، أو إلا ما شاء الله من تجديد جلودهم وتصريفهم في أنواع العذاب وتركهم على حالهم الأول فيكون استثناء في صفة العذاب لا في الخلود ، أو جعل مدّة عذابهم إلى مشيئته ولا ينبغي لأحد أن يحكم على الله تعالى في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا ناراً قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .

وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)

{ نُوَلِّى } نكل بعضهم إلى بعض فلا نعينهم فيهلكوا ، أو يتولى بعضهم بعضاً على الكفر ، أو يتولى بعضهم عذاب بعض في النار ، أو يتبع بعضهم بعضاً في النار من الموالاة بمعنى المتابعة ، أو تسلط بعضهم على بعض بالظلم والتعدي .

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)

{ رُسُلٌ } الجن من الجن ، قاله الضحاك ، أو يبعث رسول من الجن وإنما جاءهم رسل الإنسن فقوله { مِّنكُمْ } كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا } [ الرحمن : 22 ] يريد من أحدهما ، أو رسل الجن هم الذين لما سمعوا القرآن وَلَّوْا إلى قومهم منذرين .

ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)

{ بِظُلْمٍ } في إهلاكهم ، أو لا يهلكهم بظلمهم إلا أن يخرجهم عن الغفلة بالإنذار .

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)

{ وَلِكُلٍّ } لكل عامل بطاعة أو معصية منازل سميت { دَرَجَاتٌ } لتفاضلها كتفاضل الدرج في الارتفاع يريد به الأعمال المتفاضلة ، أو الجزاء المتفاضل .

قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)

{ مَكَانَتِكُمْ } طريقتكم ، أو حالتكم ، أو ناحيتكم ، أو تمكنكم ، أو منازلكم .

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)

{ ذَرَأَ } خلق ، من الظهور ، ملح ذرآني لبياضه ، وظهور الشيب ذرأة . { الْحَرْثِ } الزرع { وَالأَنْعَامِ } الإبل والبقر والغنم من نعمة الوطء . كان كفار قريش ومتابعوهم يجعلون الله تعالى في زرعهم ومواشيهم نصيباً ، ولأوثانهم نصيباً ، يصرفون نصيبها من الزرع إلى خدامها وفي الإنفاق عليها ، وكذلك نصيبهم من الأنعام ، أو يتقربون بذبح الأنعام للأوثان ، أو البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي . { فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ } سماهم شركاءهم ، لأنهم أشركوهم في أموالهم ، كان إذا اختلط بأموالهم شيء مما للأوثان ردّوه ، وإن اختلط بها ما جعلوه لله لم يردّوه ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو إذا هلك ما لأوثانهم غرموه وإذا هلك ما لله تعالى لم يغرموه ، أو صرفوا بعض ما لله تعالى على أوثانهم ولا عكس ، أو ما جعلوه لله تعالى من ذبائحهم لا يأكلونه حتى يذكروا عليه اسم الأوثان ولا عكس .

وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)

{ شُرَكَآؤُهُمْ } الشياطين ، أو خدّام الأوثان ، أو شركاؤهم في الشرك ، أو غواة الناس ، { قَتْلَ أَوْلادِهِمْ } وأد البنات ، أو كان أحدهم يحلف إن وُلد له كذا وكذا غلاماً أن ينحر أحدهم كما حلف عبد المطلب في نحر ابنه عبد الله . { لِيُرْدُوهُمْ } لامها لام « كي » ، لأنهم قصدوا إرداءهم وهو الهلاك أو لام « العاقبة » لأنهم لم يقصدوه .

وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)

{ هَذِهِ أَنْعَامٌ } ذبائح الأوثان ، أو البحيرة ، والحام خاصة . { وَحَرْثٌ } ما جعلوه لأوثانهم . { حِجْرٌ } حرام ، قال :
فبت مرتفقاً والعين ساهرة ... كأن نومي على الليل محجور
{ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا } السائبة ، أو التي لا يحجون عليها . { لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا } قربان أوثانهم . { افْتِرَآءً عَلَيْهِ } بإضافة تحريمها إليه ، أو بذكر أسمائها عند الذبح بدلاً من أسمه .

وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)

{ مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ } الأجنة ، أو الألبان ، أو الأجنة والألبان . خصوا به الذكور ، لأنهم خدم الأوثان ، أو لفضلهم على الإناث ، والذَّكَر مأخوذ من الشرف ، لأنه أشرف من الأنثى ، أو من الذّكِر ، لأنه أذكر وأبين في الناس .

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)

{ مَّعْرُوشَاتٍ } تعريش الكروم وغيرها برفع أغصانها أو برفع حظارها وحيطانها ، أو المرتفعة لعلو شجرها فلا يقع ثمرها على الأرض مأخوذ من الارتفاع ، السرير : عرش لارتفاعه { على عُرُوشِهَا } [ البقرة : 259 ] على أعاليها . { كُلُواْ } قدم الأكل تغليباً لحقهم وافتتاحاً لنفعهم بأموالهم ، أو تسهيلاً لإيتاء حقه . { حَقَّهُ } الزكاة المفروضة عند الجمهور ، أو صدقة غير الزكاة ، إطعام من حضر ، وترك ما تساقط من الزرع والثمر ، أو كان هذا فرضاً ثم نسخ بالزكاة ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . { وَلا تُسْرِفُواْ } بإخراج زيادة على المفروض تجحف بكم ، أو لا تدفعوا دون الواجب ، أو أن يأخذ السلطان فوق الواجب ، أو يراد به ما أشركوا آلهتهم فيه من الحرث والأنعام .

وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)

{ حَمُولَةً وَفَرْشاً } الحمولة : ما حُمِل عليه من الإبل ، والفرش : ما لم يحمل عليه من الإبل لصغره لافتراش الأرض بها على استواء كالفرش ، أو الفرش : الغنم ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . { خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } طريقه في الكفر ، أو في تحليل الحرام وتحريم الحلال . { مُّبِينٌ } يريد ما بان من عداوته لآدم عليه الصلاة والسلام ، أو لأوليائه من الشياطين .

ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)

{ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ } ذكر وأثنى { ءَآلذَّكَرَيْنِ } إبطال لما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وما اشتملت عليه أرحام الأنثيين قولهم : { مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا } [ الأنعام : 139 ] لما جاء عوف بن مالك فقال للرسول صلى الله عليه وسلم أحللت ما حرّمه آباؤنا يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فنزلت ، فسكت عوف لظهور الحجة عليه .

قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

{ مَيْتَةً } زهقت نفسها بغير ذكاة فتدخل فيها الموقوذة والمتردية وغيرها . { مَّسْفُوحاً } مهراقاً مصبوباً ، وأما غير المسفوح فإن كان ذا عروق يجمد عليها كالكبد والطحال فهو حلال ، وإن لم يكن له عروق يجمد عليها وإنما هو مع اللحم فلا يحرم لتخصيص التحريم بالمسفوح . قالته عائشة وقتادة ، قال عكرمة لولا هذه الآية لتتبع المسلمون عروق اللحم كما تتبعها اليهود ، وقيل يحرم لأنه بعض من المسفوح وإنما ذكر المسفوح لاستثناء الكبد والطحال منه . { رِجْسٌ } نجس { أَوْ فِسْقاً } ما ذبح للأوثان سماه فسقاً لخروجه عن أمر الله تعالى .

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)

{ كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } ما ليس بمنفرج الأصابع كالنعام والأوز والبط قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو كل ما يصطاد بظفره من الطير . { شُحُومَهُمَآ } الثروب خاصة ، أو كل شحم لم يختلط بعظم ولا على عظم أو الثروب وشحم الكلى . { مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ } شحم الجنب وما علق بالظهر { الْحَوَايَآ } المباعر أو بنات اللبن ، أو الأمعاء التي عليها الشحم من داخلها ، أو كل ما تَحوَّى في البطن فاجتمع واستدار . { مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } شحم الجنب ، أو شحم الجنب والإلية ، لأنها على العصعص .

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)

{ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } أداء الحقوق وترك العقوق { إِمْلاقٍ } الفقر ، أو الفلس من الملق ، لأن المفلس يتملق للغني طمعاً في نَائِلِه . { الْفَوَاحِشَ } عموماً ، أو خاص بالزنا فما ظهر ذوات الحوانيت وما بطن ذوات الاستسرار ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو ما ظهر نكاح المحرمات وما بطن الزنا ، أو ما ظهر الخمر وما بطن الزنا . { الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ } المسلم ، أو المعاهد . { بِالْحَقِّ } كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس .

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)

{ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } حفظه ماله [ إلى ] أن يكبر فيسلم إليه ، أو التجارة به ، أو لا يأخذ من ربح التجارة به شيئاً ، أو الأكل إذا كان فقيراً والترك إن كان غنياً ولا يتعدى من الأكل إلى لباس ولا غيره ، وخصّ مال اليتيم بالذكر وإن كان غيره محرماً لوقوع الطمع فيه إذ لا حافظ له ولا مراعي . { أَشُدَّهُ } الأشد : استحكام قوّة الشباب عند نشوئه وحَدُّه بالاحتلام ، أو بثلاثين سنة . ثم نزل بعده { حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } [ النساء : 6 ] ، أو لثماني عشرة سنة . { لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا } عفا عما لا يدخل تحت الوسع من إيفاء الكيل والوزن . { وَبِعَهْدِ اللَّهِ } كل ما ألزمه الإنسان نفسه لله من نذر أو غيره ، أو الحلف بالله تعالى يجب الوفاء به إلا في المعاصي .

وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

{ صِرَاطِى } شرعي سماه صراطاً ، لأنه طريق يؤدي إلى الجنة . { السُّبُلَ } البدع والشبهات . { عَن سَبِيلِهِ } عن طريق دينه .

ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)

{ تَمَاماً عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ } تماماً على إحسان موسى عليه الصلاة والسلام بطاعته ، أو تماماً على المحسنين ، أو تماماً على إحسان الله تعالى إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، أو تماماً لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)

{ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ } لقبض أرواحهم ، أو تأتيهم رسلاً لأنهم لم يؤمنوا مع ظهور الدلائل . { يَأْتِىَ رَبُّكَ } أمره بالعذاب ، أو قضاؤه في القيامة . { بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ } طلوع الشمس من مغربها ، أو طلوعها والدجال والدابة . { أَوْ كَسَبَتْ } يعتد بالإيمان قبل هذه الآيات ، وأما بعدها فإن لم تكسب فيه خيراً فلا يعتدّ به وإن كسبت فيه خيراً ففي الاعتداد به قولان ، وظاهر الآية أنه يعتد به ، ومن قال : لا يعتدّ به كان المعنى لم تكن آمنت وكسبت قاله السدي . { خَيْراً } أداء الفروض على أكمل الأحوال ، أو التنفل بعد الفروض .

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)

{ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } اليهود ، أو النصارى واليهود أو جميع المشركين ، أو أهل الضلالة من هذه الأمة . { دِينَهُمْ } الذي أمروا به فرقوه بالاختلاف ، أو الكفر الذي اعتقدوه ديناً . { شِيَعاً } فرقاً يتمالؤون على أمر واحد مع اختلافهم في غيره من الظهور ، شاع الخبر : ظهر ، أو من الاتباع ، شايعه على الأمر : تابعه عليه . { لَّسْتَ مِنْهُمْ } من قتالهم ثم نسخ بآية السيف ، أو لست من مخالطتهم ، أمَرَه بالتباعد منهم .

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)

{ بِالْحَسَنَةِ } بالإيمان ، والسيئة : الكفر ، أو عامة في الحسنات والسيئات . { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } عام في جميع الناس ، أو خاص بالأعراب لهم عشر ولغيرهم من المهاجرين سبعمائة ، قاله ابن عمر ، وأبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما ، ولما فرض عشر أموالهم ، وكانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر كان العشر كأخذ جميع المال ، والثلاثة كصوم الشهر ، والسبعمائة من سنبلة أنبتت سبع سنابل .

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)

{ صَلاتِى } ذات الركوع لله تعالى دون غيره من وثن أو بشر . { وَنُسُكِى } ذبح الحج والعمرة ، أو ديني ، أو عبادتي ، والناسك العابد .

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)

{ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ } لا يحمل أحد ذنب غيره ، أخذ الوزر من الثقل ، وزير الملك يتحمل الثقل عنه ، أو من الملجأ { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } [ القيامة : 11 ] ، وزير الملك لإلجاء أموره إليه .

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

{ خَلآئِفَ الأَرْضِ } أهل كل عصر يخلفون من تقدمهم { وَرَفعَ بَعْضَكُمْ } بالغنى والشرف في النسب وقوّة الأجساد . { سَرِيعُ الْعِقَابِ } كل آتٍ قريب ، أو لمن استحقّ تعجيل العقاب في الدنيا .

المص (1)

{ المص } أنا الله أفصل ، أو هجاء « المصور » ، أو اسم القرآن ، أو للسورة ، أو اختصار كلام يفهمه الرسول صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو حروف الاسم الأعظم ، أو حرف هجاء مقطعة ، أو من حساب الجُمَّل ، أو حروف تحوي معاني كثيرة دلّ الله تعالى خلقه بها على مراده من كل ذلك .

كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)

{ حَرَجٌ } ضيق ، أو شك ، أو لا يضيق صدرك بتكذيبهم .

وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)

{ أَهْلَكْنَاهَا } حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا ، أو أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها فجاءها بأسنا بوقوع العذاب بهم ، أون أهلكناها بالخذلان عن الطاعة فجاءتهم العقوبة ، أو وقوع الهلاك والبأس معاً فتكون الفاء بمعنى « الواو » كقوله : « أعطيت فأحسنت » وكان الإحسان مع العطاء لا بعده . البَأس : شدة العذاب ، والبُؤْس : شدة الفقر . { بَيَاتاً } في نوم الليل . { قَآئِلُونَ } نوم النهار ووقت القائلة لأن وقوع العذاب في وقت الراحة أفظع .

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)

{ وَالْوَزْنُ } القضاء بالعدل ، أو موازنة الحسنات والسيئات بميزان له كفَّتان توضع الحسنات في إحداهما والسيئات في الأخرى أو توزن صحائف الأعمال إذ لا يمكن وزن الأعمال وهي أعراض قاله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أو يوزن الإنسان فيؤتى بالرجل العظيم الجثة فلا يزن جناح بعوضة ، قاله عبيد بن عمير رضي الله تعالى عنهما { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } قضي له بالطاعة ، أو زادت حسناته على سيئاته ، أو ثقلت كفة حسناته .

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)

{ وَلَقَدْ خَلَقَناكُمْ } في أصلاب الرجال { ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ } في أرحام النساء أو خلقناكم « إدم » ثم صورناكم في ظهره ، أو خلقناكم نطفاً في أصلاب الرجال وترائب النساء ثم صورناكم في الأرحام ، أو خلقناكم في الأرحام ثم صورناكم فيها بعد الخلق بشق السمع والبصر . { ثُمَّ قُلْنَا } صورناكم في صلبه ثم قلنا ، أو صورناكم ثم أخبرناكم بأنا قلنا ، أو فيه تقديم وتأخير تقديره ثم قلنا للملائكة اسجدوا ثم صورناكم ، أو يكون ثم بمعنى « الواو » قاله الأخفش ، وأنكره بعض النحويين .

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)

{ فَأْهْبِطْ مِنْهَا } من السماء ، أو من الجنة ، قاله ربه له على لسان بعض الملائكة ، أو أراه آية دلَّته على ذلك .

قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)

{ أَنظِرْنِى } طلب الإنظار بالعقوبة إلى يوم القيامة فأنظر بها إلى يوم القيامة ، أو طلب الإنظار بالحياة إلى القيامة فأنظره إلى النفخة الأولى ليذوق الموت بين النفختين ، وهو أربعون سنة ، ولا يصح أجابة العصاة لأنها تكرمة ولا يستحقونها فقوله : { إِنَّكَ مِنَ المنظرين } [ الأعراف : 15 ] ابتداء عطاء جعل عقيب سؤاله ، أو يصح إجابتهم ابتلاءً وتأكيداً للحجة .

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)

{ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى } الباء للقسم ، أو للمجازاة ، أو التسبب . { أَغْوَيْتَنِى } أضللتني ، أو خيبتني من جنتك ، أو أهلكتني باللعن ، غوى الفصيل : أشفى على الهلاك . { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ } على صراطك : طريق الحق ، ليصدهم عنه ، أو طريق مكة ليمنع من الحج والعمرة .

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)

{ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } من بين أيديهم : أشككهم في الآخرة { وَمِنْ خَلفِهِمْ } أرغبهم في الدنيا { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } حسناتهم ، { وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } سيئاتهم . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أو « من بين أيديهم » : الدنيا « وخلفهم » الآخرة ، « وأيمانهم » : الحق يشككهم فيه ، وشمائلهم « الباطل » يرغبهم فيه ، أو « بين أيديهم وعن أيمانهم » من حيث يبصرون ، « ومن خلفهم وعن شمائلهم » من حيث لا يبصرون ، أون أراد من كل جهة يمكن الاحتيال عليهم منها . { شَاكِرينَ } ظنَّ أنهم لا يشكرون فصدق ظنه ، أو يمكن أن علمه من بعض الملائكة بإخبار الله تعالى .

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)

{ مَذْءُوماً } مذموماً ، أو أسواْ حالاً من المذموم ، أو لئيماً ، أو مقيتاً ، أو منفياً . { مَّدْحُوراً } مدفوعاً ، أو مطروداً .

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)

{ فَوَسْوَسَ } الوسوسة : إخفاء الصوت بالدعاء ، وسوس له : أوهمه النصح ، ووسوس إليه : ألقى إليه المعنى ، كان في الأرض وهما في الجنة في السماء فوصلت وسوسته إليهما بقوة أعطيها قاله الحسن ، أو كان في السماء ، وكانا يخرجان إليه فيلقاهما هناك ، أو خاطبهما من باب الجنة وهما فيها . { مَا نَهَاكُمَا } هذه وسوسته : رغَّبهما في الخلود وشرف المنزلة ، وأوهمهما أنهما يتحولان في صور الملائكة ، أو أنهما يصيران بمنزلة الملك في علو منزلته مع علمهما أن صورهما لا تتحول .

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

{ فَدَلاَّهُمَا } حطهما من منزلة الطاعة إلى منزلة المعصية . { وَطَفِقَا } جعلا { يَخْصِفَانِ } يقطعان من ورق التين .

قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)

{ اهْبِطُواْ } آدم وحواء وإبليس ، أخبر أنه أمرهم وإن وقع أمره في زمانين لأن إبليس أخرج قلبهما . { مُسْتَقَرٌّ } استقرار ، أو موضع استقرار { وَمَتَاعٌ } ما انتفع به من عروض الدنيا . { حِينٍ } انقضاء الدنيا .

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)

{ قَدْ أَنزَلْنَا } لما كانوا يطوفون بالبيت عراة ويرونه أبلغ في التعظيم بنزع ثياب عصوا فيها ، أو للتفاؤل بالتعرِّي من الذنوب نزلت وجُعل اللباس مُنزلاً ، لنباته بالمطر المنزَل ، أو لأنه من بركات الله تعالى والبركة تنسب إلى النزول من السماء { وَأَنزْلْنَا الحديد } [ الحديد : 25 ] { سَوْءَاتِكُمْ } عوراتكم ، لأنه يسوء صاحبها انكشافها . { وَرِيشاً } المعاش ، أو اللباس والعيش والنعيم ، أو الجمال ، أو المال .
فريشي منكم وهواي معكم ... وإن كانت زيارتكم لماما
{ وَلِبَاسُ التَّقْوَى } الإيمان ، أو الحياء ، أو العمل الصالح ، أو السمت الحسن ، أو خشية الله تعالى أو ستر العورة . { ذَلِكَ خَيْرٌ } لباس التقوى خير من الرياش واللباس ، أو يريد أن ما ذكره من اللباس والرياش ولباس التقوى ذلك خير كله فلا يكون خير للتفضيل .

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)

{ لِبَاسَهُمَا } من التقوى والطاعة ، أو كان لباسهما نوراً ، أو أظفاراً تستر البدن فنُزعت عنهما وتُركت زينة وتذكرة ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)

{ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ } توجَّهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة ، أو اجعلوا سجودكم خالصاً لله تعالى دون الأصنام . { كَمَا بَدَأَكُمْ } شقياً وسعيداً كذلك تبعثون يوم القيامة ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو كما تبعثون ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « يُحشر الناس حفاة عراة غُرلاً » ثم قرأ { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } [ الأنبياء : 104 ] .

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

{ خُذُواْ زِينَتَكُمْ } ستر العورة في الطواف ، أو في الصلاة أو التزين باجمل اللباس في الجمع والإعياد ، أو أراد المشط لتسريح اللحية وهو شاذ . { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } ما أحلَّ لكم { وَلا تُسْرِفُواْ } في التحريم ، أو لا تأكلوا حراماً ، أو لا تأكلوا ما زاد على الشبع .

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

{ زِينَةَ اللَّهِ } ستر العورة في الطواف . { وَالطَّيِّبَاتِ } الحلال ، أو المستلذ كانوا يحرِّمون السمن والألبان في الإحرام ، أو البحيرة والسائبة . { خَالِصَةً } لهم دون الكفر ، أو خالصة من مأثم أو مضرّة .

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)

{ نَصِيبُهُم } العذاب ، أو الشقاء والسعادة ، أو ما كتب عليهم مما عملوه في الدنيا ، أو ما وُعدوا في الكتاب من خير أو شر ، أو ما كتب لهم من الأجل والرزق والعمل . { يَتَوَفَّوْنَهُمْ } بالموت ، أو بالحشر إلى النار .

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)

{ لا تُفَتَّحُ } لأرواحهم ، وتفتح لأرواح المؤمنين ، أو لدعائهم وأعمالهم أو لا تفتح لهم لدخول الجنة لأنها في السماء . { الْجَمَلُ } البعير ، وسم الخياط : ثقب الإبرة ، أو السم القاتل الداخل في مسام الجسد الخفية .

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)

{ مِهَادٌ } المهاد : الوطاء ، ومنه مهد الصبي . { غَوَاشٍ } لحف ، أو لباس ، أو ظلل .

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

{ وَنَزَعْنَا } الحقد من صدورهم لطفاً بهم ، أو انتزاعه من لوازم الإيمان الذي هدوا إليه ، وهو أحقاد الجاهلية ، أو لا تحاقد ولا عداوة بعد الإيمان .

وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)

{ الأَعْرَافِ } جمع « عرف » ، وهو سور بين الجنة والنار ، مأخوذ من الارتفاع ، منه عرف الديك ، وأصحابه فضلاء المؤمنين ، قاله الحسن ومجاهد ، أو ملائكة في صور الرجال ، أو قوم بطأت بهم صغائرهم إلى آخر الناس ، أو قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فجعلوا هنالك حتى يقضي الله تعالى فيهم ما شاء ثم يدخلون الجنة ، قاله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أو قوم قُتلوا في سبيل الله تعالى عصاة لآبائهم ، سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال : « قوم قُتلوا في سبيل الله تعالى بمعصية آبائهم فمنعهم القتل في سبيل الله تعالى عن النار ، ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة » { بِسِيمَاهُمْ } علامات في وجوههم وأعينهم ، سواد الوجه وزرقة العين لأهل النار ، وبياضه وحسن العين لأهل الجنة .

وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)

{ وَنَادَى } وينادي ، أو تقديره : إذا كان يوم القيامة نادى .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)

{ تَأْوِيلَهُ } تأويل القرآن : عاقبته من الجزاء ، أو البعث والحساب . { نَسُوهُ } أعرضوا عنه فصار كالمنسِي ، أو تركوا العمل به .

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)

{ سِتَّةِ أَيَّامٍ } من الأحد إلى الجمعة . { اسْتَوَى } أمره على العرش ، قاله الحسن ، أو استولى . { الْعَرْشِ } عبَّر به عن الملك لعادة الملوك الجلوس على الأَسرَّة ، أو السموات كلها ، لأنها سقف وكل سقف عرش { خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } [ البقرة : 259 ، الكهف : 42 ] سقوفها أو موضع هو أعلى ما في السماء وأشرفه محجوب عن الملائكة . { يُغْشِى } ظلمة الليل ضوء النهار . { يَطْلُبُهُ } عبَّر عن سرعة التعاقب بالطلب .

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)

{ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } رعبة ورهبة ، أو التضرع : التذلل ، والخفية : الإسرار . { لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } في الدعاء برفع الصوت ، أو بطلب ما لا يستحقه من منازل الأنبياء ، أو باللعنة والهلاك على من لا يستحقهما .

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)

{ وَلا تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا } [ لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها ] بالإيمان ، أو بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة ، أو بتكذيب الرسل بعد إصلاحها بالوحي ، أو بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه . { رَحْمَتَ اللَّهِ } أتت على المعنى لأنها « إنعام » ، أو « مكان رحمة الله » .

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } القلب النقي { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ } من الإيمان والطاعات { بِإِذْنِ رَبِّهِ } بما أمر به ذلك { وَالَّذِى خَبُثَ } من القلوب { لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا } بالكفر والمعاصي ، قاله بعض أرباب القلوب ، والجمهور على أنه من بلاد الأرض الطيِّب التربة والرخيص السعر ، أو الكثير العلماء ، أو العادل سلطانه . ضرب الله تعالى الأرض الطيبة مثلاً للمؤمن ، والخبيثة السبخة مثلاُ للكافر { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ } زرعه وثماره { بِإِذْنِ رَبِّهِ } بلا كد على قول التربة ، أو صلاح أهله على قول الطيب بالعلماء { بِإِذْنِ رَبِّهِ } بدين ربه ، أو كثرة أمواله وحسن أحواله على قول عدل السلطان { بِإِذْنِ رَبِّهِ } بأمر ربه { وَالَّذِى خَبُثَ } في تربته ، أو بغلاء أسعاره ، أو بجور سلطانه ، أو قلّة علمائه . { نَكِداً } بالكد والتعب ، أو قليلاً لا ينتفع به ، أو عسراً لشدّته مانعاً من خيره .

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)

{ بَسطَةً } قوة ، أو بسط اليدين وطول الجسد ، كان أقصرهم طوله اثنا عشر ذراعاً . { ءَالآءَ اللَّهِ } نعمه ، أو عهوده .
أبيض لا يرهب الهزال ... ولا يقطع رحماً ولا يخون إلاَّ

قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)

{ رِجْسٌ } عذاب ، أو سخط ، أو هو الرجز أًبدلت زايه سيناً . { سَمَّيْتُمُوهَآ } آلهة ، أو سموا بعضاً بأن يسقيهم المطر والآخر أن يأتيهم بالرزق والآخر أن يشفي المرضى والآخر أن يصحبهم في السفر ، قيل ما أمرهم هود إلا بالتوحيد والكف عن ظلم الناس فأبوا { وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] .

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)

{ ءَايَةً } فريضة ، { وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [ النور : 1 ] فروضاً ، فرض عليهم أن لا يعقروها ولا يمسوها بسوء ، أو علامة على قدرته ، لأنها تمخَّضت بها صخرة ملساء كما تتمخَّض المرأة فانفلقت عنها على الصفة التي طلبوها ، وكانت تشرب في يومها ماء الوادي كله وتسقيهم اللبن بدله ، ولهم يوم يخصهم لا تقرب فيه ماءهم .

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)

{ وَبَوَّأَكُمْ } أنزلكم ، أو مكَّنكم فيها من منازل تأوون إليها . { الأَرْضِ } أرض الحجر بين الشام والمدينة . { قُصُورًا } تصيِّفون فيه ، وتشتُّون في بيوت الجبال لأنها أحصن ، وأبقى وأدفأ ، وكانوا طوال الأعمار والآمال ، والقصر : ما شُيِّد وعلا من المنازل . { ءَالآءَ اللَّهِ } تعالى نعمه ، أو عهوده . { تَعْثُوْاْ } العيث : السعي في الباطل ، أو الفعل المؤذي لغير فاعله . { مُفْسِدِينَ } بالمعاصي ، أو بالدعاء أو عبادة غير الله تعالى .

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)

{ الرَّجْفَةُ } زلزلة الأرض ، أو الصيحة ، قال السدي : « كل ما في القرآن من دارهم فالمراد به مدينتهم ، وكل ما فيه من ديارهم فالمراد به عساكرهم » . { جَاثِمِينَ } أصبحوا كالرماد الجاثم ، لاحتراقهم بالصاعقة أو الجاثم : البارك على ركبتيه ، قيل : كان ذلك بعد العصر .

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

{ فَتَوَلَّىَ عَنْهُمْ } خرج عن أرضهم بمن آمن معه وهم مائة وعشرة ، قيل خرج [ إلى ] فلسطين ، وقيل : لم تهلك أمة ونبيهم بين أظهرهم .

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)

{ يَتَطَهَّرُونَ } من إتيان الأدبار ، أو بإتيان النساء في الأطهار .

قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)

{ نَّعُودَ فِيهَآ } حكاية عن أتباع شعيب الذين كانوا قبل اتباعه على الكفر ، أو قاله تنزُّلاً لو كان عليها لم يعد إليها ، أو يطلق لفظ العود على منشىء الفعل وإن لم يسبق منه فعل مثله { فِيهَآ } في القرية ، أو ملّة الكفر عند الجمهور . { إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } علّق العود على المشيئة تبعيداً كقوله : { حتى يَلِجَ الجمل } [ الأعراف : 40 ] ، أو لو شاء الله تعالى عبادة الوثن كانت طاعة لأنه شاءها كتعظيم الحجر الأسود . { افْتَحْ } اكشف؛ أو احكم ، وأهل عُمان يسمون الحاكم ، « الفاتح » و « الفتاح » ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : « كنت لا أدري ما معنى قوله : { رَبَّنَا افْتَحْ } حتى سمعت بنت ذي يزن تقول : تعالَ أفاتحك تعني أقاضيك وسمي بذلك ، لأنه يفتح باب العلم المنغلق على غيره ، وحكم الله تعالى لا يكون إلا بالحق ، فقوله بالحق أخرجه مخرج الصفة لا أنه طلبه ، أو طلب أن يكشف الله تعالى لمخالفه أنه على الحق ، أو طلب الحكم في الدنيا بنصر المحق .

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)

{ يَغْنَواْ } يقيموا ، أو يعيشوا ، أو ينعموا ، أو يُعَمَّروا ، { هُمُ الْخَاسِرِينَ } بالكفر ، أو بالهلاك .

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)

{ بِالْبَأْسَآءِ } بالقحط { وَالضَّرَّآءِ } الأمراض والشدائد ، أو البأساء : الجوع ، والضراء : الفقر ، أو البأساء : البلاء ، والضراء : الزمانة ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو البأساء : الشدائد في أنفسهم ، والضراء : الشدائد في أموالهم .

ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)

{ السَّيِّئَةِ } الشدة و { الْحَسَنَةَ } الرخاء ، أو السيئة : الشر ، والحسنة : الخير . { عَفَواْ } كثروا ، أو أعرضوا ، أو سمنوا ، أو سُرُّوا . { مَسَّ ءَابَآءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ } يريدون ليس عقوبة على التكذيب بل ذلك عادة الله تعالى في خلقه .

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)

{ لَفَتَحْنَا } لرزقنا أو لوسعنا . { بَرَكَاتٍ } السماء القطر ، وبركات الأرض النبات والثمار .

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)

{ لا يَسْمَعُونَ } لا يقبلون ، ومنه سمع الله لمن حمده .

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)

{ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } وقت أخذ الميثاق يوم الذر أو لم يؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق عليهم أنهم يكذبون به يوم الذر ، أو لو أحييناهم بعد هلاكهم لم يؤمنوا بما كذبوا قبل هلاكهم كقوله تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ } [ الأنعام : 28 ] .

وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)

{ مِّنْ عَهْدٍ } من طاعة للأنبياء ، أو من وفاء بعهد عهده إليهم مع الرسل أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، أو عهد يوم الذر ، أو ما ركز في عقولهم من معرفته ووجوب شكره . { لَفَاسِقِينَ } الفسق : الخروج عن الطاعة ، أو خيانة العهد .

حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)

{ حَقِيقٌ } حريص ، أو واجب ، أخذ من وجوب الحق . { إِلاَّ الْحَقَّ } الصدق ، أو ما فرضه عليَّ من الرسالة .

قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)

{ أَرْجِهْ } أخره ، أو احبسه . { حَاشِرِينَ } أصحاب الشُّرَط ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)

{ عَصَاكَ } هي أول آيات موسى عليه الصلاة والسلام من آس الجنة ، طولها عشرة أذرع بطول موسى عليه الصلاة والسلام ، فضرب بها باب فرعون ففزع فشاب فخضب بالسواد حياء من قومه ، وكان أول من خضب بالسواد ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . { تَلْقَفُ } التلقُف : التناول بسرعة ، يريد ابتلاعها بسرعة . { يَأْفِكُونَ } يقلبون ، المؤتفكات : المنقلبات ، أو يكذبون من الإفك .
{ ألْقُواْ } تقديره « إن كنتم محقين » ، أو أَلقوا على ما يصح ويجوز دون ما لا يصح .

فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)

{ فَوَقَعَ الْحَقُّ } ظهرت العصا على حبال السحرة ، أو ظهرت نبوة موسى عليه الصلاة والسلام على ربوبية فرعون .

وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)

{ سَاجِدِينَ } لله إيماناً بربوبيته ، أو لموسى عليه الصلاة والسلام تسليماً له وإيماناً بنبوّته ، أُلهموا السجود لله تعالى أو رأوا موسى عليه الصلاة والسلام وهارون سجدا شكراً عند الغلبة فاقتدوا بهما .

وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)

{ الْمَلأُ } الأشراف ، أو الرؤساء ، أو الرهط ، والنفر : « الرجال الذين لا نساء معهم » ، والرهط أقوى من النفر وأكبر ، والملأ : المليئون بما يراد منهم ، أو تملأ النفوس هيبتهم ، أو يملؤون صدور المجالس ، وإنما أنكروا على فرعون ، لأنهم رأوا منه خلاف عادة الملوك في السطوة بمن أظهر مخالفتهم ، وكان ذلك لطفاً من الله تعالى بموسى عليه الصلاة والسلام . { لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ } بعبادة غيرك ، أو بالغلبة عليها وأخذ قومه منها . { وَءَالِهَتَكَ } كان يعبد الأصنام وقومه يعبدونه ، أو كان يعبد ما يستحسن من البقر ولذلك أخرج السامري العجل وكان معبوداً في قومه ، أو أصنام كان يعبدها قومه تقرباً إليه ، قاله الزجاج ، قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { وءَالهتَك } أي وعبادتك وقال : كان فرعون يُعْبَد ولا يَعْبُد . { سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ } عدل عن قتل موسى إلى قتلهم ، لأنه علم أنه لا يقدر على قتل موسى عليه الصلاة والسلام إما لقوته ، أو لأنه مصروف عن قتله فأراد استئصال بني إسرائيل ليضعف عنه موسى . { وَنَسْتَحْىِ نِسَآءَهُمْ } نفتش حياءهن عن الولد ، والحياء : الفرج ، والأظهر أنه نبقهن أحياء لضعفهن عن المنازعة والمحاربة .

قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)

{ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ } أعلمهم أن الله تعالى يورثهم أرض فرعون ، أو سلاهم بأن الأرض لا تبقى على أحد حتى تبقى لفرعون .

قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)

{ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا } بالاستبعاد وقتل الأبناء { وَمِن بَعْدِ } بالوعيد بإعادة ذلك عليهم ، أو بالجزية من قبل مجيئه وبعده ، أو كانوا يضربون اللَّبِنَ ويُعطون التبن فلما جاء صاروا يضربون اللَّبِنَ وعليهم التبن أو كانوا يسخرون في الأعمال نصف النهار ويكسبون لأنفسهم في النصف الآخر فلما جاء سخَّرهم جميع النهار بغير طعام ولا شراب { مِن قَبْلِ أَن تَأَتِيَنَا } بالرسالة { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } بها ، أو من قبل أن تأتينا بعهد الله تعالى أنه يخلِّصنا ، ومن بعد ما جئتنا به شكوا ذلك استغاثة منهم بموسى عليه الصلاة والسلام أو استبطاء لوعده . { عَسَى } في اللغة طمع وإشفاق ، وهي من الله تعالى إيجاب ويقين ويحتمل أن يكون رجاهم ذلك . { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ } يجعلكم خلفاً من فرعون ، أو يجعلكم خلفاً لنفسه لأنكم أولياؤه . { الأَرْضِ } أرض مصر ، أو الشام . { فَيَنظُرَ } فيرى ، أو فيعلم أولياؤه . وعدهم بالنصر ، أو حذّرهم من الفساد ، لأن الله تعالى ينظر كيف تعملون في طاعته أو خلافته .

وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)

{ بِالسِّنِينَ } الجوع ، أو الجدوب ، أخذتهم السنة : قحطوا ، قال الفراء : بالسنين : القحط عاماً بعد عام ، قيل قحطوا سبع سنين .

فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)

{ الْحَسنَةُ } الخصب ، والسيئة : الجدب ، أو الحسنة : السلامة والأمن ، والسيئة : الأمراض والخوف . { لَنَا هَذِهِ } أي كانت هذه حالنا في أوطاننا قبل اتباعنا لك . { يَطَّيَّرُواْ } يتشاءموا ، يقولون : هذه بطاعتنا لك . { طَآئِرُهُمْ } حظهم من العقاب ، أو طائر البركة ، والشؤم من الخير والشر والنفع والضر من عند الله تعالى لا صنع فيه لمخلوق .

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)

{ الطُّوفَانَ } الغرق بالماء الزائد ، أو الطاعون ، أو الموت ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « الطوفان : الموت » أو أمر من الله تعالى طاف بهم ، أو المطر والريح ، أو عذاب ، « قيل : دام بهم ثمانية أيام من السبت إلى السبت ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : فما زال الطوفان حتى خرج زرعهم حسناً ، فقالوا : هذه نعمة فأرسل الله تعالى عليهم الجراد بعد شهر فأكل جميع نبات الأرض وبقي من السبت إلى السبت ، ثم طلع بعد الشهر من الزرع ما قالوا هذا يكفينا فأرسل الله تعالى عليهم القُمَّل فسحقها » ، وهو الدبا صغار الجراد لا أجنحة له ، أو سوس الحنطة ، أو البراغيث ، أو القردان ، أو ذوات سود صغار . { وَالدَّمَ } الرعاف ، أو صار ماء شربهم دماً عبيطاً . { مُّفَصَّلاتٍ } مبينات لنبوة موسى عليه الصلاة والسلام أو انفصل بعضها عن بعض فكان بين كل آيتين شهر . { فَأسْتَكْبَرُواْ } عن الإيمان بموسى عليه الصلاة والسلام ، أو عن الاتعاض بالآيات .

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)

{ الرِّجْزُ } العذاب ، أو طاعون أهلك من القبط سبعين ألفاً { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } الباء للقسم ، أو بما أوصاك أن تفعله في قومك ، أو بما عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك .

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)

{ مَشَارِقَ الأَرْضِ } الشرق والغرب ، أو أرض الشام ومصر ، أو الشام وحدها شرقها وغربها . { بَارَكْنَا فِيهَا } بالخصب ، أو بكثرة الثمار والأشجار والأنهار . { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } بإهلاك عدوهم واستخلافهم او بما وعدهم به بقوله تعالى : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ } الآيتين [ القصص : 5 ، 6 ] { الْحُسْنَى } لأنها وعد بما يحبون . { بِمَا صَبَرُواْ } على طاعة الله تعالى أو على أذى فرعون .

إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)

{ مُتَبَّرٌ } باطل أو ضلال ، أو مُهلك ، والتبر : الذهب ، لأن معدنه مهلك ، أو لكسره ، وكل إناء مكسور متبر ، قاله الزجاج .

وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

{ بَلآءٌ } في خلاصكم ، أو فيما فعلوه بكم ، والبلاء : الاختبار بالنعم ، أو النقم .

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)

{ ثَلاثِينَ لَيْلَةً } أمر بصيامها ، والعشر بعدها أجل المناجاة ، أو الأربعون كلها أجل الميقات للمناجاة ، قيل ذو القعدة وعشر من ذي الحجة . تأخر عنه قومه في الأجل الأول فزادهم الله تعالى العشر ليحضروه ، أو لأنهم عبدوا العجل بعده فزاد الله تعالى العشر عقوبة لهم ، { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } تأكيد ، أو لبيان أن العشر ليالي وليست بساعات ، أو لبيان أن العشر زائد على الثلاثين غير داخل فيها ، لأن تمام الشيء يكون بعضه .

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

{ أَرِنِى } سأل الرؤية ليجاب بما يحتج به على قومه إذ قالوا { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] مع علمه أنه لا يجوز أن يراه في الدنيا ، أو كان يعلمه باستدلال فأحبَّ أن يعلمه ضرورة ، أو كان يظن ذلك حتى ظهر له ما ينفيه . { تَجَلَّى } ظهر بآياته التي أحدثها في الجبل لحاضري الجبل ، أو ظهر من ملكوته للجبل ما تدكدك به ، لأن الدنيا لا تقوم لما يظهر من ملكوت السماء ، أو ظهر قدر الخنصر من العرش ، أو أظهر أمره للجبل ، والتجلَّي : الظهور ، ومنه جلاء المرآة وجلاء العروس . { دَكّاً } مستوياً بالأرض ، ناقة دكاء لا سنام لها ، أو ساخ في الأرض أو صار تراباً ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو صار قطعاً . { صَعِقاً } ميتاً ، أو مغشياً عليه ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخذته العشية عشية الخميس يوم عرفة فأفاق عشية الجمعة يوم النحر وفيه نزلت عليه التوراة ، فيها عشرة آيات نزلت في القرآن في ثماني عشرة آية من بني إسرائيل . { تُبْتُ } من السؤال قبل الإذن ، أو من تجويز الرؤية في الدنيا ، أو ذكر ذلك على جهة التسبيح ، لأن المؤمن يسبِّح عند ظهور الآيات . { أَوَّلُ الْمؤْمِنِينَ } أنه لا يراك شيء من خلقك في الدنيا ، أو باستعظام سؤال الرؤية .

وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)

{ وَكَتَبْنَا } فرضنا ك { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] أو خططنا بالقلم . { الأَلْوَاحِ } زمرد أخضر ، أو ياقوت ، أو بُرد ، أو خشب ، أًخذ اللوح من أن المعاني تلوح بالكتابة فيه . { مِن كُلِّ شَىْءٍ } يحتاج إليه في الدين من حرام ، أو حلال ، أو مباح ، أو واجب ، أو غير واجب ، أو كل شيء من الحِكم والعِبر . { مَّوْعِظَةً } بالنواهي { وَتَفْصِيلاً } بالأوامر ، أو موعظة : بالزواجر ، وتفصيلاً : بالأحكام ، وكانت سبعة ألواح . { بِقُوَّةٍ } بجد واجتهاد ، أو بطاعة ، أو بصحة عزيمة ، أو بشكر . { بِأَحْسَنِهَا } الفرائض أحسن من المباح ، أو بناسخها دون منسوخها أو المأمور أحسن من ترك المنهي وإن كانا طاعة . { دَارَ الْفَاسِقِينَ } جهنم ، أو منازل الهلكى ليعتبروا بنكالهم ، أو مساكن الجبابرة والعمالقة بالشام ، أو مصر دار فرعون .

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)

{ سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِىَ } أمنع عن فهم القرآن ، أو أجزيهم على كفرهم بإضلالهم عما جاء به من الحق ، أو أصرفهم عن دفع الانتقام عنهم { يَتَكَبَّرُونَ } عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم أو يحقرون الناس ويرون لهم عليهم فضلاً . { الرُّشْدِ } الإيمان ، والغي : الكفر ، أو الرشد : الهدى ، والغي : الضلال . { غَافلِينَ } عن الإيمان ، أو عن الجزاء .

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)

{ أَسِفاً } حزيناً ، أو شديد الغضب ، أو مغتاظاً ، أو نادماً . والأَسِف : المتأسف على فوت ما سلف ، غضب عليهم لعبادة العجل أسفاً على ما فاته من المناجاة ، أو غضب على نفسه من تركهم حتى ضلُّوا أسفاً على ما رآهم عليه من المعصية ، قال بعض المتصوفة : أغضبه الرجوع عن مناجاة الحق إلى مخالطبة الخلق . { أَمْرَ رَبِّكُمْ } وعده بالأربعين ، ظنوا موت موسى عليه الصلاة والسلام لما لم يأتهم على رأس الثلاثين ، أو وعده بالثواب على عبادته فعدلتم إلى عبادة غيره ، والعجلة : التقدم بالشيء قبل وقته ، والسرعة : عمله في أول أوقاته . { وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ } غضباً لما رأى عبادة العجل ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو لما رأى فيها أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرُ أمة أُخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويؤمنون بالله ، قال : رب اجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد فاشتدّ عليه فألقاها ، قاله قتادة . فلما ألقاها تكسرت ورفعت إلا سبعها ، وكان في المرفوع تفصيل كل شيء ، وبقي الهدى والرحمة في الباقي ف { أَخَذَ الآَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ } [ الأعراف : 154 ] وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تكسرت الألواح ورُفعت إلا سدسها . { بِرَأْسِ أَخِيهِ } بأذنه ، أو شعر رأسه ، كما يقبض الرجل منا على لحيته ويعض على شفته ، أو يجوز أن يكون ذلك في ذلك الزمان بخلاف ما هو عليه الآن من الهوان . { أبْنَ أُمَّ } كان أخاه لأبويه ، أو استعطفه بالرحمة كما في عادة العرب قال :
يا ابن أمي ويا شُقَيِّقَ نفسي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } لا تغضب عليَّ كما غضبت عليهم ، فَرَقَّ له ، ف { قَالَ رَبِّ أغْفِرْ لِي وَلأَخَى } [ الأعراف : 151 ] .

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)

{ لِّمِيقَاتِنَا } الميقات الأول الذي سأل فيه الرؤية ، أو ميقات آخر للتوبة من عبادة العجل . { أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } لسؤالهم الرؤية أو لأنهم لم ينهوا عن عبادة العجل ، والرجفة : زلزلة ، أو موت أُحيوا بعده ، أو نار أحرقتهم فظنّ موسى عليه الصلاة والسلام أنهم هلكوا ولم يهلكوا . { أَتُهْلِكُنَا } نفى أن يعذب إلا من ظلم ، أو الاستفهام على بابه ، خاف من عموم العقوبة ، كقوله : { لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [ الأنفال : 25 ] { فِتْنَتُكَ } عذابك ، أو اختبارك .

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)

{ حَسَنَةً } نعمة ، سميت بذلك لحسن وقعها في النفوس ، أو ثناءً صالحاً ، أو مستحقات الطاعة . { هُدْنَآ } تُبنا ، أو رجعنا بالتوبة إليك ، هاد يهود : رجع ، أو تقرَّبنا بالتوبة إليك ، ما له عندي هوادة سبب يقربه { مَنْ أَشَاءُ } من من خلقي ، أو من أشاء في التعجيل والتأخير . { وَرَحْمَتِى } توبتي ، أو الرحمة خاصة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو تسع رحمته في الدنيا البر والفاجر وتختص في والاخرة بالمتقين ، قاله الحسن - رضي الله تعالى عنه - { يَتَّقُونَ } الشرك ، أو المعاصي { الزَّكَاةَ } من أموالهم عند الجمهور ، أو يتطهَّرون بالطاعة ، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - { فَسَأكْتُبُهَا } لما انطلق موسى - عليه الصلاة والسلام - بوفد من بني إسرائيل ، قال الله - تعالى : قد جعلت لهم الأرض طهوراً ومساجد يصلَّون حيث أدركتهم الصلاة إلا عند مرحاض ، أو قبر أو حمام ، وجعلت السكينة في قلوبهم ، وجعلتهم يقرؤون التوراة عن ظهر قلب ، فذكره موسى عليه الصلاة والسلام لهم فقالوا : لا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا فاجعلها في تابوت ، ولا نقرأ التوراة إلا نظراً ، ولا نصلي إلا في الكنيسة ، فقال الله - تعالى - فسأكتبها - يعني السكينة والقراءة والصلاة لمتَّبعي محمد صلى الله عليه وسلم .

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

{ الأُمِّىَّ } لأنه لا يكتب ، أو لأنه من أم القرى مكة أو لأنه من أمة أمية هي العرب . { بِالْمعْرُوفِ } بالحق ، لأن العقول تعرف صحته . { الْمُنكَرِ } الباطل لإنكارها صحته . { الطَّيِّبَاتِ } الشحوم المحرمة عليهم ، أو ما حرمته الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصية والحام . { الْخَبَائِثَ } لحم الخنزير والدماء . { إِصْرَهُمْ } العهد على العمل بما في التوراة ، أو تشديدات دينهم كتحريم السبت والشحوم والعروق وغير ذلك . { وَالأَغْلآَلَ } قوله : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } [ المائدة : 64 ] أو عهده فيما حرمه عليهم سماه غلاًّ للزومه . { وَعَزَّرُوهُ } عظَّموه ، أو منعوه من عدوه . { النُّورَ } القرآن ، يسمون ما ظهر ووضح نوراً . { أُنزِلَ مَعَهُ } عليه ، أو في زمانه ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه : « أي الخلق أعجب إليكم إيماناً » قالوا : الملائكة؟ فقال : « هم عند ربهم فما لهم لا يؤمنون؟ » فقالوا : النبيون ، فقال : « النبيون يُوحى إليهم فما لهم لا يؤمنون؟ » قالوا : نحن ، فقال : « أنا فيكم فما لكم لا تؤمنون » قالوا : فمَن ، قال : « قوم يكونون بعدكم فيجدون كتاباً في ورق فيؤمنون به » هذا معنى قوله { وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ } .

وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)

{ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ } الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم كابن لاسم وابن صوريا ، أو قوم وراء الصين لم تبلغهم دعوة الإسلام ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو الذين تمسكوا بالحق لما قُتلت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)

{ الْقَرْيَةَ } لاجتماع الناس إليها ، أو الماء ، قَرَى الماء في حوضه جمعه ، بيت المقدس ، أو الشام .

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)

{ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } أيلة ، أو ساحل مدين ، أو مدين ، قرية بين إيلة والطور ، أو مقنا بين مدين وعينونا ، أو طبرية { وَسْئَلْهُمْ } توبيخاً على ما سلف من الذنوب . { شُرَّعًا } طافية على الماء ظاهرة ، شوارع البلد لظهروها ، أو تشرع على أبوابهم كأنهم الكباش البيض رافعة رؤوسها ، أو تأتيهم من كل مكان فتعدَّوا بأخذها في السبت .

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)

{ نَسُواْ } تركوا { مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر . { ظَلَمُواْ } بترك المعروف وإيتان المنكر . { بَئِيس } شديد ، أو رديء ، أو عذاب مقترن بالبؤس هو الفقر ، هلك المعتدون ، ونجا المنكرون ، ونجت التي لم تَعْتَدِ ولم تنكر ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا أدري ما فعلتْ .

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)

{ تَأَذَّنَ } أعلم ، أو أقسم ، قاله الزجاج . { لَيَبْعَثَنَّ } على اليهود العرب ، و { سُوءَ الْعَذَابِ } الصغار والجزية ، قيل : أول من وضع الخراج من الأنبياء موسى عليه الصلاة والسلام جباه سبع سنين ، أو ثلاثة عشرة سنة ثم أمسك .

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)

{ وَقَطَّعْنَاهُمْ } فرقناهم ليذهب تعاونهم ، أو ليتميز الصالح من المفسد ، أو انتقاماً منهم . { بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } الثواب والعقاب ، أو النعم والنقم ، أو الخصب والجدب .

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)

{ خَلْفٌ } وخَلَف واحد ، أو بالسكون للذم ، وبالفتح للحمد ، وهو الأظهر ، والخلف : القرن ، أو جمع خالف ، وهم أبناء اليهود ورثوا التوراة عن آبائهم ، أو النصارى خلفوا اليهود وورثوا الإنجيل لحصوله معهم . { عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى } الرشوة على الحكم إجماعاً ، سمي عرضاً لقلة بقائه ، الأدنى : لأنه من المحرمات الدنية ، أو لأخذه في الدنيا الدانية . { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } عبّر به عن إصرارهم على الذنوب ، أو أراد لا يشبعهم شيء فهم لا يأخذونه لحاجة ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } تركوه ، أو تلوه وخالفوه على علم .

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

{ نَتَقْنَا } زحزحنا ، أو جذبنا ، النتق : الجذب ، والمرأة الولود ناتق لاجتذابها ماء الفحل ، أو لأن ولادها كالجذب ، أو رفعناه عليهم من أصله لما أبوا قبول فرائض التوراة لمشقتها ، وعظهم موسى عليه الصلاة والسلام فلم يقبلوا فرفع الجبل فوقهم ، وقيل : إن أخذتموه بجد واجتهاد وإلا أُلقي عليكم ، فأخذوه بجد ثم نكثوا بعده ، وكان نتقه نقمة بما دخل عليهم من رعبة وخوفه ، أو نعمة لإقلاعهم عن المعصية . { وَظَنُّواْ } على بابه ، أو أيقنوا { مَآ ءَاتَيْنَاكُم } التوراة .

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)

{ أَخَذَ رَبُّكَ } أخرج الأرواح قبل الأجساد في الجنة ، أو بعد هبوط آدم إلى الأرض ، وخلق فيها المعرفة فعرفت من خاطبها ، أو خلق الأرواح والأجساد معاً في الأرض مكة والطائف فأخرجهم كالذر في الدور الأول مسح ظهره ، فخرج من صفحة ظهره اليمنى أصحاب الميمنة بيضاً كالذر ، وخرج أصحاب المشأمة من اليسرى سوداً كالذر وألهمهم ذلك ، فلما شهدوا على أنفسهم مؤمنهم وكافرهم أعادهم ، أو أخرج الذرية قرناً بعد قرن وعصراً بعد عصر . { وَأَشهَدَهُمْ } بما شهدوه من دلائل قدرته ، أو بما اعترفوا به من ربوبيته ، فقال للذرية لما أخرجهم على لسان الأنبياء { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } بعد كمال عقولهم . قاله الأكثر ، أو جعل لهم عقولاً علموا بها ذلك فشهدوا به ، أو قال للآباء بعد إخراج ذريتهم كما خلقت ذريتكم فلكذلك خلقتكم فاعترفوا بعد قيام الحجة ، والذرية من ذرأ الله تعالى الخلق أحدثهم وأظهرهم ، أو لخروجهم من الأصلاب كالذر .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)

{ الَّذِى ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا } بلعم بن باعورا من أهل اليمن ، أو من الكنعانيين ، أو من بني صاب بن لوط ، أو أمية بن أبي الصلت الثقفي ، أو من أسلم من اليهود والنصارى ونافق . { ءَايَاتِنَا } الاسم الأعظم الذي تُجاب به الدعوات ، أو كتاب من كتب الله تعالى قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو أُتي النبوة فرشاه قومه على أن يسكت عنهم ففعل ولا يصح هذا . { فَانسَلَخَ } سُلب المعرفة بها لأجل عصيانه ، أو انسلخ من الطاعة مع بقاء علمه بالآيات ، حُكي أن بلعم رُشي على أن يدعو على قوم موسى عليه الصلاة والسلام بالهلاك فسها فدعا على قوم نفسه فهُلكُوا . { فأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ } صيَّره لنفسه تابعاً لما دعاه فأجابه ، أو الشيطان متبعه من الإنس على كفره ، أو لحقه الشيطان فأغواه ، اتبعت القوم : لحقتهم وتبعتهم : سرت خلفهم . { الْغَاوِينَ } الهالكين ، أو الضالَّين .

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)

{ لَرَفَعْنَاهُ } لأمتناه ولم يكفر ، أو لحلنا بينه وبين الكفر فارتفعت بذلك منزلته . { أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ } ركن إلى أهلها في خدعهم إياه ، أو ركن إلى شهواتها فشغلته عن الطاعة . { كَمَثَلِ الْكَلْبِ } اللاهث في ذلته ومهانته ، أو لأن لهثه لا ينفعه .

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)

{ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ } عام ، أو يراد به أولاد الزنا ، لمسارعتهم إلى الكفر لخبث نطفهم . { لاَّ يَفْقَهُونَ } الحق بقلوبهم و { لاَّ يُبْصِروُنَ } الرشد بأعينهم ، و { لاَّ يَسْمَعُونَ } الوعظ بآذانهم . { كَالأَنْعَامِ } همهم الأكل والشرب ، أو لا يعقلون الوعظ . { هُمْ أَضَلُّ } لعصيانهم ، أو لتوجه الأمر إليهم دونها .

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)

{ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى } كل أسمائه حسنى والحسنى هاهنا ما مالت إليه القلوب من وصفة بالعفو والرحمة دون الغضب والنقمة ، أو أسماؤه التي يستحقها لذاته وأفعاله . { فَادْعُوهُ بِهَا } عظَّموه بها تعبداً له بذكرها ، أو اطلبوا بها وسائلكم { يُلْحِدُونَ } بتسمية الأوثان آلهة والله أبا المسيح ، أو اشتقاقهم اللات من الله ، والعزى من العزيز ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويلحدون : يكذبون ، أو يشركون ، أو يجورون .

وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)

{ أُمَّةٌ يَهْدُونَ } الأنبياء والعلماء ، أو هذه الأمة مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم يهدون إلى الإسلام بالدعاء إليه ثم بالجهاد عليه .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)

{ سَنَسْتَدْرِجُهُم } الاستدراج : أن يأتي الشيء من حيث لا يعلم ، أو أن ينطوي منزلة بعد منزلة من الدرج لانطوائه على شيء بعد شيء ، أو من الدرجة لانحطاطه عن منزلة بعد منزلة ، يستدرجون إلى الكفر ، أو إلى الهلكة بالإمداد بالنعم ونيسان الشكر ، أو كلما أحدثوا خطيئة جدد لهم نعمة ، والاستدراج بالنعم الظاهرة ، والمكر بالباطنة . { لا يَعْلَمُونَ } بالاستدراج ، أو الهلكة .

مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)

{ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ } يحكم بضلاله في الدين ، أو يضله عن طريق الجنة إلى النار . { طُغْيانِهِمْ } الطغيان : إفراط العدوان . { يَعْمَهُونَ } يتحيَّرون ، العمه في القلب كالعمى في العين ، أو يتردَّدون .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)

{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاَعَةِ } اليهود ، أو قريش . { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } : متى ، { مُرْسَاهَا } : قيامها ، أو منتهاها ، أو ظهورها . { حَفِىُّ عَنْهَا } عالم بها ، أو تقديره : يسألونك عنها كأنك حفي بهم .

قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

{ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ } لو علمت متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح ، أو لو علمت سنة الجدب لادخرت لها من سنة الخصب ، أو لو علمت الكتب المنزَلة لاستكثرت من الوحي ، أو لاشتريت في الرخص وبعت في الغلاء ، وهو شاذ ، أو لو علمت أسراركم وما في قلوبكم لأكثرت لكم من دفع الأذى واجتلاب النفع . { وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ } ما بي جنون ، أو ما مسني الفقر لاستكثاري من الخير ، أو ما دخلت عليَّ شبهةٌ .

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)

{ نَّفْسٍ وَاحِدةٍ } آدم { زَوْجَهَا } حواء { لِيَسْكُنَ } ليأوي ، أو ليألفها ويعطف عليها . { خَفِيفاً } النطفة ، { فَمَرَّتْ بِهِ } استمرت إلى حال الثقل ، أو شكت هل حملت أم لا؟ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . { دَّعَوَا } آدم وحواء . { صَالِحاً } غلاماً سويّاً ، أو بشراً سويّاً ، لأن إبليس أوهمها أنه بهيمة ، { جَعَلا لَهُ شُرَكَآءَ } كان اسم إبليس في السماء « الحارث » فلما ولدت حواء ، قال : سميه « عبد الحارث » فسمّته « عبدالله » فمات فلما ولدت ثانياً قال لها ذلك فأبت ، فلما حملت ثالثاً قال لها ولآدم عليه الصلاة والسلام أتظنان أن الله تعالى يترك عبده عندكما لا والله ليذهبن به كما ذهب بالأخوين ، فسمياه بذلك فعاش فكان إشراكهما في الاسم دون العبادة ، أو جعل ابن آدم وزوجته لله شركاء من الأصنام فيما آتاهما ، قاله الحسن .

أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)

{ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } في مصالحهم { أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ } في الدفاع عنكم { أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ } منافعكم ومضاركم { ءَاذَانٌ يَسْمَعونَ بِهَا } دعاءكم . فكيف تعبدون من أنتم أفضل منه وأقدر؟

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)

{ الْعَفْوَ } من أخلاق الناس وأعمالهم ، أو من أموال المسلمين ، ثم نسخ بالزكاة ، أو العفو عن المشركين ثم نسخ بالجهاد { بِالْعُرْفِ } بالمعروف ، أو لما نزلت قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « يا جبريل ما هذا؟ » قال : لا أدري حتى أسأل العالِم ، ثم عاد فقال : يا محمد إن الله تعالى يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك .

وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)

{ نَزْغٌ } انزعاج ، أو غضب ، أو فتنة ، أو إغواء ، أو عجلة { فَاسْتَعِذْ } فاستجر . { سَمِيعٌ } لجهل الجاهل { عَلِيمٌ } بما يزيل النزغ .

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)

{ طيف } و { طَآئِفٌ } واحد وهو لمم كالخيال يلم بالإنسان ، أو وسوسة ، أو غضب ، أو نزغ ، أو الطيف : الجنون ، والطائف : الغضب ، أو الطيف اللمم ، والطائف كل شيء طاف بالإنسان . { تَذَكَّرُواْ فإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } علموا فانتهوا ، أو اعتبروا فاهتدوا .

وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

{ اجْتَبَيْتَهَا } أتيت بها من قِبَلِك ، أو اخترتها لنفسك ، [ أو ] تقبلتها من ربك ، أو طلبتها لنا قبل مسألتك .

وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)

{ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ } لا تقابلوه بكلام واعتراض ، نزلت في المأموم ينصت ولا يقرأ ، أو في الإنصات لخطبة الجمعة ، أو نسخت جواز الكلام في الصلاة .

وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)

{ وَاذْكُر رَّبَّكَ } خلف الإمام بالقراءة سراً ، او عند سماع الخطبة ، أو في عموم الأحوال اذكره بقلبك أو بلسانك في دعائك وثنائك { تَضَرُّعاً } الخشوع والتواضع . { وَدُونَ الْجَهْرِ } إسرار القول بالقلب ، أو اللسان . { بِالْغُدُوِّ وَالأَصَالِ } بالبُكَر والعشيات ، أو الغدو : آخر الفجر صلاة الصبح ، والآصال : آخر العشي صلاة العصر .

إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)

{ عِبَادَتِهِ } الصلاة والخضوع فيها ، أو امتثال الأوامر اجتناب النواهي ، قاله الجمهور { وَلَهُ يَسْجُدُونَ } نزلت لما قالوا أنسجد لما تأمرنا ، إذا كانت الملائكة مع شرفها تسجد فأنتم أولى .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)

{ الأَنفَالِ } الغنائم ، أو [ أنفال ] السرايا التي تتقدم أمير الجيش ، أو ما شذْ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من عبد أو دابة ، أو خمس الفيء والغنائم الذي لأهل الخمس ، أو الزيادة يزيدها الإمام لبعض الجيش لما يراه من الصلاح ، والنفل : العطية ، والنوفل : الكثير العطايا ، أو النفل : الزيادة من الخير ومنه صلاة النافلة ، سألوا عن الأنفال لجهلهم بِحِلها لأنها كانت حراماً على الأمم فنزلت ، أو نزلت فيمن شهد بدراً من المهاجرين والأنصار [ واختلفوا ] وكانوا أثلاثاً فملكها الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقسمها كما أراه ، أو لما قتل سعد بن أبي وقاص سعيد بن أبي العاص يوم بدر وأخذ سيفه وقال للرسول صلى الله عليه وسلم : هبه لي ، فقال : « اطرحه في القبض » فشقّ عليه فنزلت ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « أذهب فخذ سيفك » أو قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر « مَن صنع كذا فله كذا وكذا » فسارع الشبان وبقي الشيوخ تحت الرايات فلما فُتح عليهم طلبوا ما جعل لهم ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم ، فنزلت ، وهي محكمة ، أو منسوخة بقوله تعالى { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } [ الأنفال : 41 ] { الأَنفَالُ لِلَّهِ } مع الدنيا والآخرة ، وللرسول صلى الله عليه وسلم يضعها حيث أُمر . { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ } برد أهل القوة على أهل الضعف ، أو بالتسليم لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ليحكما في الغنيمة بما شاءا .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)

{ وَجِلَتْ } خافت ، أو رقت . { إِيمَاناً } تصديقاً ، أو خشية .

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)

{ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ } بمكة إلى المدينة مع كراهية فريق من المؤمنين ، كذلك ينجز نصرك ، أو من بيتك بالمدينة إلى بدر كذلك جعل لك غنيمة بدر . { بِالْحَقِّ } ومعك الحق ، أو بالحق الذي وجب عليك . { لَكَارِهُونَ } خروجك ، أو صرف الغنيمة عنهم ، لأنهم لم يعلموا أن الله تعالى جعله لرسوله صلى الله عليه وسلم دونهم .

يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)

{ يُجَادِلُونَكَ } بعض المؤمنين خرجوا لطلب العير ففاتهم فأمروا بالقتال فقالوا : ما تأهَّبنا للقاء العدو ، فجادلوا بذلك طلباً للرخصة ، أو المجادل المشركون قاله ابن زيد . { فِى الْحَقِّ } القتال يوم بدر .

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)

{ إِحْدَى الطَّآئِفَتَيْنِ } عِير أبي سفيان أو قريش الذين خرجوا لمنعها . { الشَّوْكَةِ } كنى بها عن الحرب ، وهي الشدة لما في الحرب من الشدة ، أو الشوكة من قولهم : رجل شاكٍ في السلاح . { يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } يظهر الحق بإعزاز الدين بما تقدّم من وعده ، أو يحق الحق في أمره بالجهاد ، نزلت هذه الآية قبل قوله : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ } [ الأنفال : 5 ] قاله الحسن رضي الله تعالى عنه « فقيل للرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء فقال : العباس وهو أسير ليس لك ذلك ، قال : لمَ؟ قال : لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك » .

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)

{ تَسْتَغِيثُونَ } تستنصرون ، أو تستجيرون ، فالمستجير : طالب الخلاص ، والمستنصر : طالب الظفر ، والمستغيث : المسلوب القدرة ، والمستعين : الضعيف القدرة . { فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } أغاثكم ، الاستجابة ما تقدمها امتناع ، والإجابة ما لم يتقدمها امتناع وكلاهما بعد السؤال . { مُرْدِفِينَ } مع كل ملك ملك فهم ألفان ، أو متتابعين ، أو ممدين للمسلمين ، والإرداف : الإمداد .

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)

{ إِلاِّ بُشْرَى } الإمداد هو البشرى ، أو بشَّرتهم الملائكة بالنصر فكانت هي البشرى المذكورة ، وقاتلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو نزلوا بالبشرى ولم يقاتلوا ، { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ } لا من الملائكة .

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)

{ النُّعَاسَ } غشيهم النعاس ببدر فهوَّم الرسول صلى الله عليه وسلم وكثير من أصحابه رضي الله تعالى عنهم فناموا ، فبشَّر جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم بالنصر ، فأخبر به أبا بكر رضي الله تعالى عنه مَنَّ عليهم به لما فيه زوال رعبهم ، والأمن مُنيم والخوف مُسهر ، أو منَّ به لما فيه من الاستراحة للقتال من الغد . والنعاس محل الرأس مع حياة القلب ، والنوم يحل القلب بعد نزوله من الرأس ، قاله سهل بن عبدالله التُّسْتَري . { أَمَنَةً } من العدو ، أو من الله تعالى ، والأمنة : الدعة وسكون النفس . { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً } لتلبيد الرمل ويطهرهم من وساوس الشيطان التي أرعبهم بها ، أو من الأحداث والأنجاس التي أصابتهم ، قاله الجمهور ، أنزل ماء طهر به ظواهرهم ، ورحمة نَوَّر بها سرائرهم ، قاله ابن عطاء ، ووصفه بالتطهير ، لأنها أخص أوصافه وألزمها . { رِجْزَ الشَّيْطَانِ } [ قوله ] : إن المشركين قد غلبوهم على الماء ، أو قوله : ليس لكم بهؤلاء طاقة . { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ } لتلبيده الرمل الذي لا يثبت عليه قدم ، أو بالنصر الذي أفرغه عليهم حتى يثبتوا لعدوهم .

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)

{ إِنِّى مَعَكُمْ } معينكم . { فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } بحضوركم الحرب ، أو بقتالكم يوم بدر ، أو بقولكم لا بأس عليكم من عدوكم . { سَأُلْقَى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ } قال ذلك للملائكة إعانة لهم ، أو ليثبتوا به المؤمنين . { فَوْقَ الأَعْنَاقِ } فوق صلة ، أو الرؤوس التي فوق الأعناق أو على الأعناق ، أو أعلى الأعناق ، أو جلدة الأعناق . { بَنَانٍ } مفاصل أطراف الأيدي والأرجل ، والبنان أطراف أصابع اليدين والرجلين .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)

{ زَحْفاً } الدنو قليلاً قليلاً . { فَلا تُوَلُّوهُمُ } ولا تنهزموا ، عام في كل مسلم لاقى العدو ، أو خاص بأهل بدر ، ولزمهم في أول الإسلام أن لا ينهزم المسلم عن عشرة بقوله تعالى { لاَّ يَفْقَهُونَ } [ الأنفال : 65 ] ما فرض الله تعالى عليهم من الإسلام ، أو لا يعلمون ما فرض عليهم من القتال ، فلما كثروا واشتدت شوكتهم نسخ ذلك بقوله تعالى : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ [ وعلم أن فيكم ] ضَعْفاً } [ الأنفال : 66 ] و { ضَعْفاً } واحد ، أو بالفتح في الأموال وبالضم في الأحوال ، أو بالضم في النيات وبالفتح في الأبدان ، أو بالعكس فيهما . { مَعَ الصَّابِرينَ } على القتال بإعانتهم على أعدائهم أو الصابرين على الطاعة بإجزال ثوابهم .

وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)

{ بَآءَ بِغَضَبٍ } بالمكان الذي استحق به الغضب ، من المبوَّأ وهو المكان .

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)

{ وَمَا رَمَيْتَ } أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب يوم بدر فرماهم بها ، وقال شاهت الوجوه ، فألقى الله تعالى القبضة في أبصارهم فشغلوا بأنفسهم وأظهر الله تعالى المسلمين عليهم فذلك قوله تعالى : { وَمَا رَمَيْتَ } ، أو ما ظفرت إذ رميت ولكن الله تعالى أظفرت إذ رميت ولكن الله تعالى أضفرك ، أو { وَمَا رَمَيْتَ } قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب ولكن الله تعالى ملأ قلوبهم رعباً ، أو وما رمى أصحابك السهام ولكن الله رمى بإعانة الريح لسهامهم حتى تسددت وأصابت أضاف رميهم إليه لأنهم رموا عنه . { بَلآءً حَسَناً } الإنعام بالظفر والغنيمة .

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)

{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ } أيها المشركون تستقضوا { فَقَدْ جَآءَكُمُ } قضاؤنا بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم عليكم . أو الفتح : النصر ، فقد جاء نصر الرسول صلى الله عليه وسلم عليكم ، قالوا يوم بدر : اللهم أقطعنا للرحم وأظلمنا لصاحبه فانصر عليه فنصر المسلمون . { وَإِن تَعُودُوا } إلى الاستفتاح { نَعُدْ } إلى نصر الرسول صلى الله عليه وسلم أو إن تعودوا إلى التكذيب نعد إلى مثل هذا التصديق . أو إن تستفتحوا أيها المسلمون فقد جاءكم النصر لأنهم استنصروا فنصروا . { وَإِن تَنتَهُواْ } عما فعلتموه في الأسرى والغنيمة ، { وَإِن تَعُودُواْ } إلى الطمع { نَعُدْ } إلى المؤاخذة ، أو إن تعودوا إلى ما كان منكم في الأسرى والغنيمة نعمد إلى الأنكار عليكم .

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

{ شَرَّ الدَّوَآبِّ } نزلت في بني عبدالدار . { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } الحجج والمواعظ سماع تفهيم ، أو لأسمعهم كلام الذي طلبوا إحياءه من قصي بن كلاب وغيره يشهدون بنبوتك ، أو لأسمعهم جواب كل ما يسألون عنه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)

{ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ } بطاعته لما كانت في مقابلة الدعاء سماها إجابة { لِمَا يُحْيِيكُمْ } الإيمان ، أو الحق . أو ما في القرآن ، أو الحرب وجهاد العدو ، أو ما فيه دوام حياة الآخرة ، أو كل مأمور { يَحُولُ بَيْنَ } الكافر والإيمان وبين المؤمن والكفر ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو بين المرء وعقله فلا يدري ما يعمل ، أو بين المرء وقبله أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه ، أو هو قريب من قلبه يحول بينه وبين أن يخفي عليه سره أو جهره . فهو { أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } [ ق : 16 ] وهذا تحذير شديد قاله قتادة ، أو يفرق بينه وبين قلبه بالموت فلا يقدر على استدراك فائت ، أو بينه وبين ما يتمنى بقلبه من البقاء وطول العمر والظفر والنصر ، أو بينه وبين ما في قلبه من رعب وخوف وقوة وأمن ، فيأمن المؤمن بعد خوفه ويخاف الكافر بعد أمنه .

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)

{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً } أُمروا أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب ، قاله « ع » ، أو الفتنة : ما يبتلى به الإنسان ، أو الأموال والأولاد ، أو نزلت في النكاح بلا ولي ، قاله بشر بن الحارث { لاَّ تُصِيبَنَّ } الفتنة ، أو عقابها ، أو دعاء للمؤمن ألا تصيبه فتنة قاله الأخفش .

وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

{ قَلِيلٌ } بمكة تستضعفكم قريش ، ذّكَّرهم نعمه ، أو أخبرهم بصدق وعده . { يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ } كفار قريش ، أو فارس والروم . { فَآوَاكُمْ } إلى المدينة ، أو جعل لكم مأوى تسكنونه آمنين { وَأَيَّدَكُم } قوَّاكم بنصره يوم بدر . { الطَّيِّبَاتِ } الحلال من الغنائم ، أو ما مكنوا فيه من الخيرات ، قيل نزلت في المهاجرين خاصة بعد بدر .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)

{ لا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ } كما صنع المنافقون ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه ، أو لا تخونوا فيما جعله لعباده في أموالكم . { أَمَانَاتِكُمْ } ما أخذتموه من الغنيمة أن تحضروه إلى المغنم ، أو ما ائتمنكم الله عليه من الفرائض والأحكام [ أن ] تؤدوها بحقها ، ولا تخونوا بتركها ، أو عام في كل أمانه { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنها أمانة بغير شبهة ، أو ما في الخيانة من المأثم . قيل نزلت في أبي لبابة بن عبدالمنذر لما أُرسل بني قريظة لينزلوا على حكم سعد فاستشاروه ، وكان أحرز أمواله وأولاده عندهم ، فأشار بأن لا يفعلوا ، وأومأ بيده إلى حلقه إنه الذبح فنزلت إلى قوله : { واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [ الأنفال : 28 ] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

{ فُرْقَاناً } هداية في القلوب تفرِّقون بها بين الحق والباطل ، أو مخرجاً من الدنيا والآخرة ، أو نجاة ، أو فتحاً ونصراً .

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)

{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ } لما تآمرت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الندوة ، فقال عمرو بن هشام : قيِّدوه واحبسوه في بيت نتربَّص به رَيْب المنون ، وقال أبو البختري : أخرجوه عنكم على بعير مطروداً تستريحون من أذاه ، فقال أبو جهل : ما هذا برأي ، ولكن لجتمع عليه من كل قبيلة رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فيرضى حينئذ بنو هاشم بالدية ، فأعلم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك فخرج إلى الغار ثم هاجر منه إلى المدينة . { لِيُثْبِتُوكَ } في الوثاق « ع » أو في الحبس ، أو يجرحوك ، أثبته في الحرب : جرحه . { أَوْ يُخْرِجُوكَ } نفياً إلى طرف من الأطراف ، أو على بعير مطروداً حتى تهلك ، أو يأخذك بعض العرب فيريحهم منك .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)

{ لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا } نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة ، ونزلت فيه { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا } [ الأنفال : 32 ] { سَأَلَ سَآئِلٌ } [ المعارج : 1 ] و { رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } [ ص : 16 ] قال عطاء : نزلت فيه بضع عشرة آية .

وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)

{ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا } قاله عناداً وبغضاً للرسول صلى الله عليه وسلم أو اعتقاداً أنه ليس بحق .

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)

{ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ } وقد بقي فيهم من المسلمين من يستغفر ، أو لا يعذبهم في الدنيا وهم يقولون غفرانك في طوافهم ، أو الاستغفار : الإسلام ، أو هو دعاء إلى الاستغفار معناه لو استغفروا لم يُعذَّبوا ، أو ما كان الله مهلكهم وقد علم أن لهم ذرية يؤمنون ويستغفرون .

وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)

{ مُكَآءً } إدخال أصابعهم في أفواههم ، أو أن يشبك بين أصابعه ويُصفِّر في كفه بفمه ، والمكاء الصفير ، قاله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تمكو فريصته كشدق الأعلم
{ وَتَصْدِيَةً } التصفيق ، أو الصد عن البيت الحرام ، أو تصدى بعضهم لبعض ليفعل مثل فعله ويُصفِّر له إن غفل عنه ، أو من صد يصد إذا ضج ، أو الصدى الذي يجيب الصائح فيرد عليه مثل قوله ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا صلّى في المسجد الحرام قام رجلان من بني عبدالدار عن يمينه يصفران صفير المكاء وهو طائر ورَجُلان عن يساره يصفقان بأيديهما ليخلطوا على الرسول صلى الله عليه وسلم القراءة والصلاة ، فنزلت ، وسماها صلاة لأنهم أقاموها مقام الدعاء والتسبيح ، أو كانوا يعملون كعمل الصلاة . { فَذُوقُواْ } فالقوا ، أو فجربوا عذاب السيف ببدر ، أو يقال لهم ذلك في عذاب الآخرة .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)

{ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } نفقة قريش في القتال ببدر ، أو استأجر أبو سفيان يوم أُحُد ألفين من الأحابيش من كنانة .

لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)

{ الْخَبِيثَ } الحرام ، والطيب : الحلال ، أو الخبيث : ما لم تُخرج منه حقول الله تعالى والطيب : ما أُخرجت منه حقوقه . { بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ } يجمعه في الآخرة وإن تفرقا في الدنيا . { فَيَرْكُمَهُ } يجعل بعضه فوق بعض . { فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } يعذبون به { يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ } [ التوبة : 35 ] أو يجعلها معهم في النار ذلاًّ وهواناً كما كانت في الدنيا نعيماً وعزّاً .

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)

{ وَإِن يَعُودُواْ } إلى الحرب { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ } قتلى بدر وأسرارهم ، أو إن يعودوا إلى الكفر فقد مضت سنة الله تعالى بإهلاك الكفرة ، ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح فقال : ما في ظنكم وما ترون أني صانع بكم ، فقالوا : ابن عم كريم فإن تعفُ فذاك الظن بك ، وإن تنتقم فقد أسأنا ، فقال : بل أقول كما قال يوسف لإخوته : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم } [ يوسف : 92 ] فنزلت ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم « اللهم كما أذقت أول قريش نكالاً فأذق أخرهم نوالاً » .

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)

{ غَنِمْتُم } ذكر الغنيمة هاهنا والفيء في الحشر وهما واحد ، ونسخت آية الحشر بهذه ، أو الغنيمة ما أُخذ عَنوة ، والفيء ما أُخذ صلحاً ، أو الغنيمة ما ظهر عليه المسلمون من الأموال ، والفيء ما ظُهِر عليه من الأرضي . { لِلَّهِ خُمُسَهُ } افتتاح كلام ، وله الدنيا والآخرة ، المعنى للرسول خمسه أو الخمس لله ورسوله يصرف سهم الله في بيته ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ الخمس فيضرب فيه بيده فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة وهو سهم الله . { وَلِلرَّسُولِ } افتتاح كلام أيضاً ولا شيء له من ذلك فيقسم الخمس على أربعة « ع » ، أو للرسول الخمس عند الجمهور ، ويكون سهمه للخليفة بعده ، أو يورث عنه ، أو يرد على السهام الباقية فيقسم الخمس على أربعة ، أو يصرف إلى الكراع والسلاح فعله أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ، أو إلى المصالح العامة . { وَلِذِى الْقُرْبَى } بنو هاشم ، أو قريش ، أو بنو هاشم وبنو المطلب ، وهو باقٍ لهم أبداً ، أو لقرابة الخليفة القائم بأمور الأمة ، أو للإمام وضعه حيث شاء ، أو يرد سهمهم وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم على باقي السهام فتكون ثلاثة . { وَالْيَتَامَى } من مات أبوه من الأطفال بخلاف البهائم فإنه من ماتت أمه ، ويشترط الإسلام والحاجة ، ويختص بأيتام أهل الفيء أو يعم { وَابْنِ السَّبِيلِ } المسافر المسلم المحتاج من أهل الفيء ، أو يعم . { الْفُرْقَانِ } يوم بدر فرق فيه بين الحق والباطل .

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)

{ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا } شفير الوادي الأدنى إلى المدينة .
{ الْقُصْوَى } الأقصى منها إلى مكة . { وَالرَّكْبُ } عير أبي سفيان أسفل الوادي على شط البحر بثلاثة أميال { وَلَوْ تَوَاعَدتُمْ } ثم بلغكم كثرتهم لتأخرتم ونقضتم الميعاد ، [ أ ] و لو تواعدتم من غير معونة من الله تعالى لاختلفتم في الميعاد بالقواطع والعوائق ، أو لو تواعدتم أن تتفقوا مجتمعين لاختلفتم بالتقدم والتأخر والزيادة والنقصان من غير قصد لذلك . { لِّيَهْلِكَ } ليقتل منهم ببدر من قتل عن حجة ، وليبقى منهم من بقي عن قدره ، أو ليكفر من قريش بعد الحجة من كفر ببيان ما وعدوا ، ويؤمن من آمن بعد العلم بصحة إيمانهم .

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)

{ فِى مَنَامِكَ } موضع النوم وهي العين فرأى قلتهم عياناً ، أو ألقى عليه النوم فرأى قتلهم في نومه ، قاله الجمهور : وكان ذلك لطفاً بهم . { لَّفَشِلْتُمْ } لجبنتم وانهزمتم ، أو لاختلفتم في لقائهم ، أو الكف عنهم .

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)

{ فَتَفْشَلُواْ } هو التقاعد عن القتال جبناً ، { رِيحُكُمْ } قوتكم ، أو دولتكم ، أو الريح المرسلة لنصر أولياء الله وخذلان أعدائه ، قاله قتادة .

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)

{ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ } قريش لحماية العير فنجا بها أبو سفيان ، فقال أبو جهل : لا نرجع حتى نردَ بدراً وننحر جزوراً ونشرب خمراً وتعزف علينا القينات فكان من أمرهم ما كان .

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)

{ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ } ظهر لهم في صورة سراقة بن جعشم من بني كنانة . { نَكَصَ } هرب ذليلاً خازياً . { مَا لا تَرَوْنَ } من إمداد الملائكة .

إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)

{ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } المشركون ، أو قوم تكلموا بالإسلام وهم بمكة ، أو قوم مرتابون لم يظهروا عداوة النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف المنافقين ، والمرض في القلب : هو الشك .

وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)

{ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ } عند قبض أرواحهم . { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ } يوم القيامة ، أو القتل ببدر .

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)

{ تَثْقَفَنَّهُمْ } تصادفهم ، أو تظفر بهم . { فَشَرِّدْ } أنذر ، أو نَكِّل ، أو بَدِّد .

وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)

{ خِيَانَةً } في نقض العهد . { فَانبِذْ إِلَيْهِمْ } ألقِ إليهم عهدهم كي لا ينسبوك إلى الغدر بهم ، والنبذ : الإلقاء . { عَلَى سَوَآءٍ } مهل ، أو مجاهرة بما تفعل بهم ، أو على استواء في العلم به حتى لا يسبقوك إلى فعل ما يردونه بك ، أو عدل من غير تحيف ، أو وسط . قيل : نزلت في بني قريظة .

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)

{ قُوَّةٍ } السلاح ، أو التظافر واتفاق الكلمة ، أو الثقة بالله تعالى والرغبة إليه ، أو الرمي مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو ذكور الخيل . { رِّبَاطِ الْخَيْلِ } إناثها ، أو رباطها : الذكور والإناث عند الجمهور { عَدُوَّ اللَّهِ } بالكفر { وَعَدُوَّكُمْ } بالمباينة ، أو عدو الله : هو عدوكم ، لأن عدو الله تعالى عدو لأوليائه . { لا تَعْلَمُونَهُمُ } بنو قريظة ، أو المنافقون ، أو أهل فارس ، أو الشياطين ، أو من لا تعرفون عداوته على العموم .

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)

{ لِلسَّلْمِ } المواعدة ، أو إن تَوقفوا عن الحرب مسالمة فتوقف عنها مسالمة ، أو إن أظهروا الإسلام فاقبله وإن لم تعلم بواطنهم ، عامة في كل من سأل الموادعة ثم نسختها آية السيف أو خاصة بالكتابيين يبذلون الجزية ، أو في مُعيَّنين سألوا الموادعة فَأُمر بإجابتهم .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)

{ حَسْبُكَ اللَّهُ } أن تتوكل عليه ، والمؤمنون : أن تقاتل بهم ، أو حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين الله ، قيل : نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)

{ عِشْرُونَ } أُمروا يوم بدر أن لا يفر أحدهم عن عشرة فشقَّ عليهم فنسخ بقوله تعالى { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } [ الأنفال : 66 ] ، أو وُعدوا أن يُنْصر كل رجل على عشرة .

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)

{ مَا كَانَ لِنَبِىٍّ } أن يفادي ، نزلت لما استقر رأي الرسول صلى الله عليه وسلم بعد مشاورة أصحابه على أخذ الفداء بالمال عن كل أسير من أسرى بدر أربعة آلاف درهم ، فنزلت إنكاراً لما فعلوه . { يُثْخِنَ } بالغلبة والاستيلاء ، أو بكثرة القتل لِيُعَزَّ به المسلمون ويُذَلَّ الكفرة . { عَرَضَ الدُّنْيَا } سماه بذلك لقلة بقائه . { يُرِيدُ الأَخِرَةَ } العمل بما يوجب ثوابها .

لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)

{ أَخَذْتُمْ } من الفداء ، { لَّوْلا كِتَابٌ } سبق لأهل بدر أن لا يعذبوا لمسهم في أخذ الفداء عذاب عظيم ، أو سبق في إحلال الغنائم لمسهم في تعجلها من أهل بدر عذاب عظيم ، أو سبق بأن لا يعذب من أتى عملاً على جهالة ، أو الكتاب القرآن المقتضي لغفران الصغائر ، ولما شاور الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال : قومك وعشيرتك فاستبقتم لعل الله تعالى أن يهديهم ، وقال عمر رضي الله تعالى عنه : أعداء الله تعالى ورسوله كذبوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم ، فمال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قول أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، وأخذ الفداء ليقوى به المسلمون ، وقال : أنتم عالة يعني للمهاجرين فلما نزلت هذه الآية قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه : « لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر لما نجا غيرك » ثم ، أحل الغنائم ، بقوله تعالى { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ } [ الأنفال : 69 ] .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)

{ يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّآ أُخِذّ مِنكُمْ } لما أُسر العباس يوم بدر أخذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم فداء نفسه وابني أخيه عقيل ونوفل ، قال : يا رسول الله كنت مسلماً وأخرجت مكرهاً ولقد تركتني فقيراً أتكفف الناس ، فقال : « فأين الأواقي التي دفعتها سراً لأم الفضل عند خروجك؟ » فقال : إن الله تعالى ليزيدنا ثقة بنبوتك ، قال العباس : فصدق الله تعالى وعده فيما أتاني ، وإن لي لعشرين مملوكاً يضرب كل مملوك منهم بعشرين ألفاً في التجارة ، فقد أعطاني الله تعالى خيراً مم أخذ من يوم بدر .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)

{ ءَامَنُواْ } بالله { وَهَاجَرُواْ } من ديارهم في طاعته { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ } بإنفاقيها { وَأَنفُسِهِمْ } بالقتال ، أراد المهاجرين مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة { وَالَّذِينَ ءَاوَواْ } المهاجرين في منازلهم { وَّنَصَرُوَاْ } النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه ، يريد الأنصار . { أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } أعوان بعض عند الجمهور [ أو ] أولى بميراث بعض ، جعل الله تعالى الميراث للمهاجرين والأنصار دون الأرحام . { وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ } من ميراثهم من شيء { حَتَّى يُهَاجِرُواْ } . فعملوا بذلك حتى نسخت بقوله تعالى { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } [ الأنفال : 75 ] يعني في الميراث ، فصار الميراث لذوي الأرحام .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)

{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ } أنصار بعض ، أو بعضهم وارث بعض « ع » { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } إلا تتناصروا أيها المؤمنون { تَكُن فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ } بغلبة الكفرة { وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } بضعف الإيمان ، أو إلا تتوارثوا بالإسلام والهجرة { تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ } باختلاف الكلمة { وَفسَادٌ كَبِيرٌ } بتقوية الخارج عن الجماعة « ع » .

بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)

{ بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } انقطاع للعصمة منهما ، أو انقضاء عهدهما .

فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)

{ فَسِيحُواْ } أمان { فِى الأَرْضِ } تصرفوا كيف شئتم ، أو سافروا حيث أردتم ، والسياحة : السير على مَهل ، أو البعد على وَجل . { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } أمان لمن له عهد مطلق ، أو أقل من الأربعة ، ومن لا أمان له فهو حرب ، أو من كان له عهد أكثر من الأربعة حُط إليها ، ومن كان دونها رفع إليها ومن لا عهد له فله أمان خمسين ليلة من يوم النحر إلى سلخ المُحرم لقوله تعالى { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ } « ع » ، أو الأربعة لجميع الكفار من كان له عهد ، أو لم يكن ، أو هي أمان لمن لا عهد له ، ومن له عهد فأمانه إلى مدة عهده . وأول المدة يوم الحج الأكبر يوم النحر إلى انقضاء العاشر من ربيع الآخر ، او شوال وذو القعدة وذو الحجة و المحرم ، أو أولها يوم العشرين من ذي القعدة وآخرها يوم العشرين من ربيع الأول لأن الحج وقع تلك السنة في ذلك اليوم من ذي القعدة لأجل النسيء كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقره حتى نزل تحريم النسيء ، فقال : « ألا إن الزمان قد استدار » .

وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)

{ وَأَذَانٌ } قصص ، أو نداء بالأمن يسمع بالأذن ، أو إعلام عند الكافة . { يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ } يوم عرفة خطب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : « هذا يوم الحج الأكبر » ، أو النحر ، وهو مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أيام الحج كلها كيوم صفين ويوم الجمل عبَّر باليوم عن الأيام . { الأَكْبَرِ } القِرآن والأصغر الإفراد ، أو الأكبر الحج والأصغر العمرة ، أو سمي به لأنه اجتمع فيه حج المسلمين والمشركين ووافق عيد اليهود والنصارى ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه .

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

{ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ } رجب وذو القعده وذو الحجة والمحرم عند الجمهور ، أو أشهر السياحة عشرون من ذي الحجة إلى العشر من ربيع الآخر ، قاله الحسن رضي الله عنه { وَجَدتُّمُوهُمْ } في حل أو حرم ، أو في أشهر الحرم وغيرها . { وَخُذُوهُمْ } الواو بمعنى « أو » خذوهم أو تقديره : « فخذوا المشركين حيث وجدتموهم واقتلوهم » مقدم ومؤخر . { وَاحْصُرُوهُمْ } بالاسترقاق ، أو بالفداء . { كُلَّ مَرْصَدٍ } اطلبوهم في كل مكان ، فالقتل إذا وجدوا والطلب إذا بعدوا ، أو افعلوا بهم كل ما أرصده الله لهم من قتل أو استرقاق أو مَنٍّ ، أو فداء . { تَابُواْ } أسلموا { وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ } أدّوها ، أو اعترفوا بها { وَءَاتَوُاْ الزَّكَاةَ } اعترفوا بها لا غير إذ لا يُقتل تاركها لا بل تُؤخذ منه قهراً .

وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)

{ اسْتَجَارَكَ } استعانك ، أو استأمنك . { كَلامَ اللَّهِ } القرآن كله ، أو براءة خاصة ليعرف ما فيها من أحكام العهد والسيرة مع الكفار .

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)

{ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ } خزاعة ، أو بنو ضمرة ، أو قريش « ع » ، أو قوم من بكر بن كنانة . { فَمَا اسْتَقَامُواْ } دُوموا على عهدهم ما داموا عليه .

كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)

{ يَظْهَرُواْ } يقووا عليكم بالظفر . { لا يَرْقُبُواْ } لا يخافوا ، أو لا يراعوا { إِلاَّ } عهداً ، أو قرابة ، قال :
فأقسم إنَّ إلَّكَ من قريش .
أو جواراً ، أو يميناً ، أو هم اسم لله عز وجل . { ذِمَّةً } عهداً ، أو جواراً ، أو التذمم ممن لا عهد له . { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } بنقض العهد ، أو فاسق في دينه وإن كان دينهم فسقاً .

اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)

{ بِآيَاتِ اللَّهِ } دلائله وحججه ، أو التوراة التي فيها صفة الرسول صلى الله عليه وسلم { قَلِيلاً } ، لأنه حرام ، أو لأنه من عرض الدنيا وبقاؤها قليل نزلت في الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه ، أو في قوم اليهود عاهدوا ثم نقضوا .

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

{ نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم } نفضوا العهد الذي عقدوه بأيمانهم . { أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } رؤساء المشركين ، أو زعماء قريش « ع » ، أو الذين هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم . { لآ أَيْمَانَ لَهُمْ } بارة و { لا إيمان } من الأمان ، أو التصديق .

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)

{ وَلِيجَةً } خيانة ، أو بطانة ، أو دخولاً في ولاية المشركين ، ولج في كذا : دخل فيه .

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)

{ يعمروا مساجد الله } بالزيارة والدخول إليه ، أو بالكفر ، لأ ، المسجد إنما يعمر بالإيمان . { شَاهِدِينَ } لما دلت أموالهم وأفعالهم على كفرهم تنزل ذلك منزلة شهادتهم على أنفسهم ، أو شهدوا على رسولهم بالكفر لأنهم كذبوه وكفروه وهو من أنفسهم ، أو إذا سُئل اليهودي ما أنت يقول : يهودي ، وكذلك النصارى [ و ] المشركون وكلهم كفرة وإن لم يقروا بالكفر .

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

{ مَسَاجِدَ اللَّهِ } مواضع السجود من المصلي ، أو البيوت المتخذة للصلوات . { فَعَسَى أُوْلَئِكَ } كل عسى من الله واجبة « ع » ، أو ذكره ليكونوا على خوف ورجاء .

أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)

{ سِقَايَةَ الْحَآجَّ وَعِمَارَةَ الْمسجِدِ } بسدانته والقيام به ، لما فضلت قريش ذلك على الإيمان بالله تعالى نزلت ، أو نزلت في العباس صاحب السقاية ، وشيبة بن عثمان صاحب السدانة ، وحاجب الكعبة ، لما أُسرا ببدر عيرهما المهاجرون بالكفر والإقامة بمكة فقالا نحن أفضل أجراً منكم بعمارة المسجد وحجب الكعبة وسقي الحاج .

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)

{ قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ } نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا ميلاً إلى ما ذكر في هذه الآية . { اقْتَرَفْتُمُوهَا } اكتسبتموها . { وَتِجَارَةٌ } أموال التجارة تكسد سوقها وينقص سعرها ، أو البنات الأيامى يكسدن على أبائهن فلا يخطبن . { بِأَمْرِهِ } بعقوبة عاجلة أو آجلة ، أو بفتح مكة .

ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)

{ سَكِينَتَهُ } الوقار ، أو الطمأنينة ، أو الرحمة . { جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } الملائكة ، أو بتكثيرهم في أعين أعدائهم ، وهو محتمل { وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } بالخوف ، أو بالقتل والسبي .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

{ نَجَسٌ } نجاسة الأبدان كالكلب والخنزير ، قاله عمر بن عبدالعزيز والحسن رضي الله تعالى عنهما وأوجب الوضوء على من صافحهم ، أو لأنهم لا يغتسلون من الجنابة فصاروا كالأنجاس ، أو عبّر عن اجتنابنا لهم ومنعهم من المساجد بالنجس كما يفعل ذلك بالأنجاس ، أو نجاستهم خبث ظواهرهم بالكفر وبواطنهم بالعدواة . { الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } الحرم كله . { عَامِهِمْ هَذَا } سنة تسع ، أو سنة عشر ، ويمنع منه الحربي والذمي عند الجمهور ، أو يمنعون إلا الذمي والعبد المملوك لمسلم . { عَيْلَةً } فقراً وفاقة ، أو ضيعة من يقوته من عياله . { يُغْنِيكُمُ اللَّهُ } تعالى بالمطر في النبات ، أو بالجزية المأخوذة منهم ، أو عام في كل ما يغني .

قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)

{ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } دخل فيه أهل الكتاب وإن آمنوا باليوم الآخر إذ لا يعتد بإمانهم فصار كالمعدوم ، أو ذمهم ذم من لا يؤمن به ، { وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } بنسخه من شرائعهم ، أو ما حرمه وأحله لهم . { دِينَ الْحَقِّ } الإسلام عند الجمهور ، أو العمل بما في التوراة من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والحق هنا هو الله { مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ } من أبناء الذين أوتوا ، أو الذي أوتوه بين أظهرهم . { يُعْطُواْ الْجِزْيَةً } يضمنوها ، أو يدفعوها ، والجزية مجملة ، أو عامة تجري على العموم إلا ما خصه الدليل . { عَن يَدٍ } غنى وقدرة ، أو لا يقابلها جزاء ، أو لنا عليهم يد نأخذها لما فيه من حقن دمائهم ، أو يؤدونها بأيديهم دون رسلهم كما يفعل المتكبرون { صَاغِرُونَ } قياماً وآخذها جالس ، أو يمشوا بها كارهين « ع » أو أذلاء مقهورين ، أو دفعها هو الصغار ، أو إجراء أحكام الإسلام عليهم .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } لمّا حرق بختنصر التوارة ولم يبق بأيديهم شيء منها ولم يكونوا يحفظونها ساءهم ذلك وسألوا الله ردها فقذفها في قلب عُزير فقرأها عليهم فعرفوا ، فلذلك قالوا : إنه ابن الله . وكان ذلك قول جميعهم « ع » ، أو قول طائفة من سلفهم ، أو من معاصري الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنحاص وحده ، أو جماعة سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف « ع » ، وأضيف إلى جميعهم لمَّا لم ينكروه . { وَقَالَتِ النَّصَارَى } بأجمعهم { الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } لأنه ولد من غير أب ، أو لأنه أحيا الموتى ، وأبرأ من الأسقام . { بِأَفْوَاهِهِمْ } لما لم يكن عليه دليل قيده بأفواهم لا يتجاوزها { يُضَاهِئُونَ } يشابهون ، والتي لم تحض « ضهياء » لشبهها بالرجل . يضاهون بقولهم عبدة الأوثان وفي اللات والعزى ومناة وأن الملائكة بنات الله ، أو ضاهت النصارى بقولهم المسيح ابن الله قول اليهود عُزير ابن الله ، أو ضاهوا في تقليد أسلافهم من تقدمهم . { قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } لعنهم « ع » ، أو قتلهم ، أو هو كالمقاتل لهم بما أعده من عذابهم وأبانه من عداوتهم . { يُؤْفَكُونَ } يصرفون عن الحق إلى الإفك وهو الكذب .

اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)

{ أَحْبَارَهُمْ } جمع حبر ، لتجبيره المعاني ، وهو التحسين بالبيان عنها ، والرهبان : جمع راهب ، من رهبة الله وخشيته ، وكثر استعماله في نُسَّاك النصارى . { أَرْبَاباً } آلهة يطيعونهم فيما حرموه وأحلوه دون العبادة وهو مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم .

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)

{ نُورَ اللَّهِ } القرآن والإسلام ، أو دلائله التي يُهتدى بها كما يُهتدى بالنور .

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

{ بِالْهُدَى } الهدى البيان ، { وَدِينِ الْحَقِّ } الإسلام ، أو كلاهما واحد ، أو الهدى الدليل ، ودين الحق المدلول ، أو بالهدى إلى دين الحق . { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } عند نزول عيسى عليه السلام فلا يعبد الله تعالى إلا بالإسلام ، أو يطلعه على شرائع الدين كله ، أو يظهر دلائله وحججه ، أو يرعب المشركين من أهله ، أو لما أسلمت قريش انقطعت رحلتاهم إلى الشام واليمن لتباينهم في الدين فذكروا ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ } في الشام واليمن وقد أظهره الله تعالى أو الظهور : الاستعلاء ، والإسلام أعلى الأديان كلها .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)

{ بِالْبَاطِلِ } جميع الوجوه المحرمة ، أو الرِّشا في الحكم . { يَكْنِزُونَ } الكنز الذي توعد عليه كل ما لم تؤدَّ زكاته مدفوناً أو غير مدفون ، أو ما زاد على أربعة آلاف درهم أُديت زكاته أو لم تؤدَّ ، والأربعة آلاف فما دونها ليست بكنز ، قاله علي رضي الله تعالى عنه ، أو ما فضل من المال عن الحاجة ، ولما نزلت قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « تباً للذهب والفضة » ، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه : إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا فأي المال نتخذ ، فقال : « لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً ، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه » ومات رجل من أهل الصُّفة فوجد في مئزره دينار ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « كَيَّة » ومات آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال « كيَّتان » والكنز في اللغة كل مجموع بعضه إلى بعض ظاهراً كان أو مدفوناً ، ومنه كنز التمر . { وَلا يُنفِقُونَهَا } الكنوز ، أو الفضة اكتفى بذكر أحدهما ، قال :
إن شرخ الشباب والشعر الأسود ... ما لم يُعَاصَ كان جنونا
ولم يقل : يعاصيا .

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)

{ حُرُمٌ } لعظم انتهاك الحرمات فيها ، { الدِّينُ الْقَيِّمُ } الحساب المستقيم ، أو القضاء الحق . { فَلا تَظْلِمُواْ [ فِيهِنَّ ] أَنفُسَكُمْ } بالمعاصي في الإثني عشر ، أو في الأربعة ، أو فلا تظلموها في الأربعة بعد تحريم الله تعالى لها ، أو لا تظلموها بترك قتل عدوكم فيها .
{ النَّسِىءُ } كانوا يؤخرون السنة أحد عشر يوماً حتى يجعلوا المحرم صفراً أو كانوا يؤخرون الحج في كل سنتين شهراً ، قال مجاهد : حج المشركون في ذي الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين ثم في ذي القعدة عامين الثاني منهما حجة أبي بكر ، ثم حج الرسول صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة ، وقال : « إن الزمان قد استدار كهيئته » وكان ينادي بالنسيء في الموسم بنو كنانة قال شاعرهم :
ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما
وأول من نسأ الشهور [ سرير ] بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ، أو القلمس الأكبر ، وهو عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث ، وآخر من نسأها إلى أن نزل تحريمها سنة عشر أبو ثُمامة جُنادة بن عوف ، وكان ينادي إذا نسأها في كل عام إلا إن أبا ثمامة لا يحاب ولا يعاب . { لِّيُوَاطِئُواْ } ليوافقوا عدة الأربعة فيحرموا أربعة كما حرم الله تعالى أربعة . { سُوءُ أَعْمَالِهِمْ } من تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم ، أو الربا .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)

{ انفِرُواْ } لما دعوا لى غزوة تبوك تثاقلوا ، فنزلت . { الأَرْضِ } الإقامة بأوطانكم وأرضكم ، دعوا إلى ذلك في شدة الحر وإدراك الثمار ، أو اطمأنوا إلى الدنيا فسماها [ أرضاً ] { أَرَضِيتُم } بمنافع الدنيا بدلاً من ثواب الآخرة .

إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

{ عَذَاباً أَلِيماً } احتباس القطر « ع » ، ولا تضروا الله بترك النفير ، أو لا تضروا الرسول ، لأن الله تعالى تكفل بنصره .

إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ } إن لا تنصروا الرسول بالنفير معه فقد نصره الله بالملائكة ، أو بإرشاده إلى الهجرة حتى أغناه من إعانتكم . { أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } من مكة أعلمهم أنه غني عن نصرهم ، دخل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه الغاز فأقاما فيه ثلاثاً وجعل الله تعالى على بابه ثمامة وهي شجيرة صغيرة ، وألهمت العنكبوت فنسجت على بابه ، ولما ألم الحزن قلب أبي بكر رضي الله تعالى عنه بما تخيله من وهن الدين بعد الرسل صلى الله عليه وسلم قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : « لا تحزن إن الله معنا بالنصر عليهم » { سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أنه منصور ، والسكينة الرحمة ، أو الطمأنينة ، أو الوقار ، أو شيء سَكَّنَ الله تعالى به قلوبهم . { بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } الملائكة ، أو الثقة بوعده واليقين بنصره وتأييده بإخفاء أثره في الغار لما طلب ، أو بمنعهم من التعرض له لما هاجر .

انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)

{ خِفَافاً وثِقَالاً } شباباً وشيوخاً ، أو فقراء وأغنياء ، أو مشاغيل وغير مشاغيل ، أو نشاطاً وغير نشاط « ع » أو ركباناً ومشاة ، أو ذا ضيعة وغير ذي ضعية ، أو ذوي عيال وغير ذوي عيال ، أو أصحاء ومرضى ، أو خفة النفير وثقله ، أو خفافاً إلى الطاعة ثقالاً عن المخالفة . { وَجَاهِدُواْ } الجهاد بالنفس فرض كفاية متعين عند هجوم العدو . وبالمال بالزاد والراحلة إذا قدر بنفسه ، وإن عجز لزمه بذل المال بدلاً عن نفسه ، أو لا يلزمه ذلك عند الجمهور ، لأن المال تابع للنفس . { خَيْرٌ لَّكُمْ } الجهاد خير من القعود المباح ، أو الخير في الجهاد لا في تركه { تَعْلَمُونَ } صدق وعد الله تعالى بثواب الجهاد ، أو أن الخير في الجهاد .

لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)

{ لَوْ كَانَ } الذي دُعوا إليه { عَرَضاً } غنيمة ، أو أمراً سهلاً . { قَاصِدًا } سهلاً مقتصداً . { لاَّتَّبَعُوكَ } في الخروج . { الشُّقَّةُ } القطعة من الأرض يشق ركوبها لبعده .

وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)

{ عُدَّةً } صحة عزم ونشاط نفس ، أو الزاد والراحلة ونفقة الحاضرين من الأهل . { كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ } لوقوع الفشل بتخاذلهم كابن أُبي ، والجد بن قيس . { وَقِيلَ اقْعُدُواْ } قاله بعضهم لبعض ، أو قاله الرسول صلى الله عليه وسلم غضباً عليهم لعلمه بذلك منهم . { الْقَاعِدِينَ } بغير عذر ، أو بعذر كالنساء والصبيان .

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)

{ خَبَالاً } فساداً « ع » ، أو اضطراباً استثناء منقطع ، لأن المسلمين لم يكونوا في خبال فيزدادوا منه . { وَلأَوْضَعُواْ } الإيضاع : سرعة السير ، والخِلال : الفُرج ، المعنى ولأسرعوا في اختلالكم ، أو لأوقعوا الخلف بينكم . { الْفِتْنَةَ } الكفر ، أو اختلاف الكلمة وتفريق الجماعة . { سَمَّاعُونَ } مطيعون ، أو عيون منكم ينقلون أخباركم إليهم ، أو « عيون منهم ينقلون أخباركم إلى المشركين » .

لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)

{ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ } الاختلاف وتفريق الكلمة . { وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ } بمعاونتهم ظاهراً وممالأة المشركين باطناً ، أو قالوا بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، أو توقعوا الدوائر وانتظروا الفرص ، أو حلفهم لو استطعنا لخرجنا . { جَآءَ الْحَقُّ } النصر { وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ } دينه { وَهُمْ كَارِهُونَ } لهما .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)

{ وَلا تَفتِنِّى } لا تكسبني الإثم بمخالفتي في القعود ، أو لا تصرفني عن شغلي ، أو نزلت في الجد بن قيس قال : { ائْذَن لِّى وَلا تَفْتِنِّى } ببنات الأصفر فإني مستهتر بالنساء . { فِي الْفِتْنَةِ } جهنم ، أو محبة النفاق والشقاق .

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)

{ حَسَنَةٌ } نصر ، أو النصر ببدر ، والمصيبة : النكبة يوم أُحد { أَمْرَنَا } حِذرنا وسَلمنا { فَرِحُونَ } بمصيبتك وسلامتهم .

قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)

{ كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } في اللوح المحفوظ من خير ، أو شر ، وليس ذلك بأفعالنا فنذم أو نحمد ، أو ما كتب لنا في نصرنا في العاقبة وإعزاز الدين بنا . { مَوْلانَا } مالكنا وحافظنا وناصرنا . { وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } في معونته وتدبيره .

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)

{ الْحُسْنَيَيْنِ } النصر والشهادة في النصر ظهور الدين وفي الشهادة الجنة .

فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)

{ أَمْوَالُهُمْ وَلآ أَوْلادُهُمْ } في الحياة الدنيا { إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا } في الآخرة ، فيه تقديم وتأخير « ع » ، أو يعذبهم بالزكاة فيها ، أو بمصائبهم فيهما ، أو بسبي الأبناء وغنيمة الأموال ، يعني المشركين ، أو يعذبهم بجمعها وحفظها والبخل بها والحزن عليها . { وَتَزْهَقَ } تهلك ، { وَزَهَقَ الباطل } [ الأسراء : 81 ] .

لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)

{ مَلْجَئاً } حرزاً « ع » ، أو حصناً ، أو موضعاً حزناً من الجبل ، أو مهرباً . { مَغَارَاتٍ } غارات في الجبال « ع » ، أو مدخل يستر من دخله . { مُدَّخَلاً } سرباً في الأرض ، أو المدخل الضيق الذي يدخل فيه بشدة . { لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ } هرباً من القتال ، وخذلاناً للمؤمنين . { يَجْمَحُونَ } يهربون ، أو يسرعون .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)

{ يَلْمِزُكَ } يغتابك ، أو يعيبك ، نزلت في ثعلبة بن حاطب كان يتكلم بالنفاق ويقول : إنما يعطي محمد من شاء فإن أعطي رضي وإن لم يعط سخط ، أو في ذي الخويصرة لما أتى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً فقال : اعدل يا محمد فقال : « ويلك فمن يعدل إن لم أعدل » ، فاستأذن عمر رضي الله تعالى عنه في ضرب عنقه ، فقال : « دعه » فنزلت .

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

{ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ } الفقير المحتاج العفيف عن السؤال ، والمسكين المحتاج السائل « ع » ، أو الفقير المحتاج الزَّمِن ، والمسكين المحتاج الصحيح ، أو الفقراء هم المهاجرون ، والمساكين غير المهاجرين ، أو الفقراء من المسلمين والمساكين من أهل الكتاب ، أو الفقير الذي لاشيء له لانكسار فقاره بالحاجة والمسكين له ما لا يكفيه لكن يسكن إليه ، أو الفقير له ما لا يكفيه والمسكين لا شيء له يسكن إليه . { وَالْعَامِلِينَ } السعاة لهم ثُمْنها ، أو أجر مثلهم . { وَالْمُؤَلَّفَةِ } كفار ومسلمون ، فالمسلمون منهم ضعيف النية في الإسلام فيتألف تقوية لنيته كعيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس ، ومنهم من حسن إسلامه لكنه يعطى تألفاً لعشيرته من المشركين كعدي بن حاتم ، والمشركون منهم من يقصد أذى المسلمين فيتألف بالعطاء دفعاً لأذاه كعامر بن الطفيل ، ومنهم من يميل إلى الإسلام فيتألف بالعطاء ليؤمن كصفوان بن أمية ، فهذه أربعة أصناف ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي هؤلاء ، وبعد هل يعطون؟ فيه قولان : لأن الله تعالى قد أعز الدين { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] . { الرِّقَابِ } المكاتبون ، أو عبيد يشترون ويعتقون . { وَالْغَارِمِينَ } من لزمه غرم ديْن . { سَبِيلِ اللَّهِ } الغزاة الفقراء والأغنياء . { وَابْنِ السَّبِيلِ } المسافر لا يجد نفقة سفره وإن كان غنياً في بلده ، قاله جمهور ، أو الضيف .

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)

{ أُذُنٌ } يصغي إلى كل أحد فيسمع قوله ، كان المنافقون يقولون فيه ما لا يجوز ثم عابوه بأنه أُذن يسمع جميع ما يقال له ، أو عابوه ، فقال أحدهم : كفوا فإني أخاف أن يبلغه فيعاقبنا ، فقالوا : هو أُذن إذا جئناه وحلفنا له صدقنا فنسبوه إلى قبول العذر في الحق والباطل .

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)

{ يُحَادِدِ } يخالف ، أو يجاوز حدودهما ، أو يعاديهما مأخوذ من حد السلاح لاستعماله في المعاداة . { جَهَنَّمَ } لبعد قعرها ، بئر جهنام بعيدة القعر .

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)

{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ } خبر ، أو أمر بصيغة الخبر ، { بِمَا فِى قُلُوبِهِمْ } من النفاق ، أو قولهم في غزوة تبوك : أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات ، فأطلع الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه . { اسْتَهْزِءُوَاْ } تهديد .

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)

{ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ } في الدين { بِالْمُنكَرِ } كل ما أنكره العقل من الشر . والمعروف : كل ما عرفه العقل من الخير ، أو المعروف في كتاب الله كله الإيمان ، والمنكر في كتاب الله كله الشرك قاله أبو العالية . { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } عن الفقة في سبيل الله ، أو عن كل خير ، أو عن الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عن رفعها إلى الله تعالى في الدعاء . { فَنَسِيَهُمْ } تركوا أمره فترك رحمتهم ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كان المنافقون ثلاثمائة رجل ومائة وسبعين امرأة .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7