كتاب : الروضتين في أخبار النورية و الصلاحية
المؤلف : أبو شامة المقدسي

قال ابن الأثير: سار نور الدين إلى بلاد جوسلين وهي القلاع التي شمالي حلب منها تل باش. وعين تاب، وعزاز، وغيرها من الحصون. فجمع جوسلين الفرنج فارسهم وراجلهم، ولقوا نور الدين. وكانت بينهم حرب شديدة انجلت عن انهزام المسلمين وظفر الفرنج، وأخذ جوسلين سلاح دار كان لنورالدين أسيرا، أخذ مامعه من السلاح فأنفذه إلى السلطان مسعود بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب قونية وأقصرا وغيرهما من تلك الأعمال، وكان نرر الدين قد تزوج ابنته وأرسل مع السلاح إليه يقول: قد أنفذت لك بسلاح صهرك، وسيأتيك بعد هذا غيره. فعظمت هذه الحادثة على نور الدين وأعمل الحيلة على جوسلين، وعلم أنه إن هو جمع العساكر الإسلامية لقصده جمع جوسلين الفرنج وحذر وامتنع فاحضر نور الدين جماعة من التركمان وبذل لهم الرغائب من الإقطاع والأموال إن هم ظفروا بجوسلين، إما قتلا وإما أسرا. فاتفق أن جوسلين خرج في عسكره وأغار على طائفة من التركمان فنهب وسبى، فاستحسن من السبي امرأة منهم خلا معها تحت شجرة؛ فعاجله التركمان، فركب فرسه ليقاتلهم فأخذو. أسيرا، فصانعهم على مال بذله لهم؛ فرغبوا فيما واجابو إلى ذلك، وأخفوا أمره عن نور الدين. فأرسل جوسلين في إحضار المال، فأتى بعض التركمان إلى نائب نور الدين بحلب فأعلمه الحال، فسير معه عسكراً أخذوا جوسلين من التركمان قهرا؛ وكان نور الدين حينئذ بحمص. وكان أسره من اعظم الفتوح على المسلمين، فإنه كان شيطانا عاتيا من شياطين الفرنج، شديد العداوة للمسلمين. وكان هو يتقدم على الفرنج في حروبهم لما يعلمون من شجباعته وجودة رأيه، وشدة عداوة للملة الإسلامية، وقسوة قلبه على أهلها. وأصيبت النصرانية كافة بأسره، وعظمت المصيبة عليهم بفقده؛ وخلت بلادهم من حاميها، وثغورهم من حافظها؛ وسهل أمرهم على المسلمين بعده. وكان كثير الغدر والمكر، لا يقف على ي ين، ولا يفي بعهد. طالما صالحه نور الدين وهادنه، فإذا أمن جانبه بالعهود والمواثيق نكث وغدر؛ فلقيه غدره، وحاق به بكره، (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). فلما أسر تيسر فتح كثير من بلادهم وقلاعهم. فمنها عين تاب، وعزاز، وقورس، والراوندان، وحصن البارة، وتل خالد، وكفر لاثا، وكفر سود، وحصن بسرفوث بجبل بني عليم، ودوك، ومرعش، ونهر الجوز، وبرخ الرصاص.
قال: وكان نور الدين، رحمه الله، إذا فتح حصنا لا يرحل عنه حتى يملأه رجالا وذخائر تكفيه عشر سنين، خوفا من نصرة تتجدد للفرنج على المسلمين، فتكون الحصون مستعدة غير محتاجة إلى شيء. وقال الشعراء في هذه الحادثة فأكثروا؛ منهم القيسراني. قال يمدح نور الدين بعد صدوره عن دمشق واستقرار أمرها، ويذكر قتل البرنز وأسر جوسلين وأخذ بلاده:
دعا ما ادعى مَن غره النهى والأمر ... فما الملك إلا ما حباك به القهر
ومن ثنت الدنيا الييما عنانها ... تصرف فيما شاء عن إذنه الدهر
ومن راهن الأقدار في صهوة العلا ... فلن تدرك الشعري مداه ولا الشعر
إذا الجد أمسى دون غايته المنى ... فماذا عسى أن يبلغ النظم والنثر
ولم لا يلي أسنى الممالك مالك ... زعيم بجيش من طلائعه النصر
ليهن دمشقا أن كرسي ملكها ... حبي منك صدراً ظاق عن همه الصدر
وأنك نور الدين، مُذْ زرت أرضها ... سمت بك حتى انحط عن نسرها النسر
خطبت، فلم يحجبك عنها وليها ... وخطب العلا بالسيف ما دونه ستر
جلاها لك الإقبال حورية السنا ... عليها من الفردوس أردية خضر
خلوب، أكَنّت من هواك محبة ... نمت فاتمت جهرا، وسر الهوى جهر
فسقت إليها الأمن والعدل نحلة ... فأمست ولا أسر تخاف ولا إصر
فإن صافحت يمناك من بد هجرها ... فأحلى التّلاقي ما تقدمه هجر
وهل هي إلا كالحَصان تمنعت ... دلالاً، وإن عز الحيا وغلا المهر
ولكن إذا ما قستها بصداقها ... فليس له قدر وليس لها قدر
هي الثغر أمسى بالكراديس عابساً ... وأصبح عن باب الفراديس يفترّ

على أنها لو لم تجبك إنابة ... لأرهقها من بأسك الخوف والذعر
فإما وقَفْت الخيل ناقعة الصّدى ... على بردى من فوقها الورق النّضر
فمن بعد ما أوردتها حومة الوغى ... وأصدرتها والبيض من عَلَقٍ حُمْر
وجللتها نقعا أضاع شِيَاتها ... فلا شُهبها شُهبٌ ولا شُقرها شُقر
علا النهر لما كاثر القصب القنا ... مكاثرةً في كل نحرٍ لها نحر
وقد شرقت أجرافه بدم العدا ... إلى ألغ جرى العاصي وضَحْضَاحُه غمر
صدعتهم صدع الزجاجة لا يد ... لجابرها، ما كل كسر له جبر
فلا ينتحل من بعدها الفخر دائل ... فمن بارز الإبرنز كان له الفخر
ومن بز أنطاكية من مليكها ... أطاعته ألحاظ المؤلَّلة الخزرُ
أخو الليث لولا غدره، نزعت به ... إلى الذئب أن الذئب شيمته الغدر
أتي رأسه ركضا وغُودر شِلْوه ... وليس سوى عافي النسور له قبر
وقد كان في استبقائه لك منة ... هي الفتك لو لم تغضب البيض والسمر
كما أهدت الأقدار للقمص أسره ... وأسعد قِرْنٍ مَنْ حواه لك الأسر
طغى وبغى عدوا على غُلوائه ... فأوبقه الكفران عدواه والكفر
وألقت بأيديها إليك حصونه ... ولو لم تُجب طوعاً لَجَاه بها القسر
وأمست عزاز كاسمها بك عزة ... تشق على النسرين لم أنها الوكر
فسِرْ، وَاملأ الدنيا ضياء وبهجة ... فبالأفق الداجي إلى ذا السنا فقر
كأني بهذا العزم، لا فل حده ... وأفصاه بالأقصى وقد قضى الأمر
وقد أصبح البيت المقدس طاهراً ... وليس سوى جارى الدماء له طُهر
وقد أدت البيض الحداد فروضها ... فلا عهدة في عْنق سيف ولا نذر
وصلت بمعراج النبي صوارم ... مساجدها شفع وساجدها وتر
وإن يتَيَمّم ساحل البحر مالكاً ... فلا عجب أن يملك السّاحلَ البحر
سللت سيوفا أثكلت كل بلدة ... بصاحبها،حتى تَخوَّفك البدر
إذا سار نور الدين في عزماته ... فقولا لليل الإفك: قد طلع الفجر
ولم لم يَسِر في عسكر من جنوده ... لكان له من نفسه عسكر مَجْر
مليك سمت تم المنابر باسه ... كما زُهيت تِيهاً به الأنجم الزُّهر
فيا كعبة ما زال في عرصاتها ... مواسم حج لا يروّعها النفر
خلعت على الأيام من حلل العلا ... ملابس من أعلامها الحمد والشكر
وتوَجت ثغر الشام منك جلالة ... تمنّت لها بغدادُ أنها ثغر
فلا تفتخر مصر علينا بنيلها ... فُيمناك نيلٌ، كل مصر بها مصر
رددت الجهاد الصعب سهلا سبيله ... ويا طالما أمسى ومسلكة وعر
وأطمعت في الإفرنج من كان بأسه ... تخوف أن يعتاده منهم فكر
وأقحمت جُرد الخيل أعلى حصونها ... ولولاك لم يهجم على كافر كفر
ومن يدعى في قتلك الشرك شركة ... إذا لم يكن عند القوافي له ذكر
هي القانتات الحافظات فروجها ... فشاهدها عدل وراثقها سحر
ولو لم يكن في فضلها وكمالها ... سوى أنها من بعد عمر الفتى عمر
وله من قصيدة يصف فيه وقائعه أولها:
أما وخيال زار ممن أحبه ... لقد هاج من ذكراه مالا أغّبه
إذا ما صبا قلب المحب إلى الصّبا ... ذكرت نسيما بالثغور مهُّبهُ
فيا نفحات الشام، رفقا بمهجة ... يحامى عليها مدنف القلب صّبه
فلا تسألن الصب أين فؤاده ... فإن فؤاد المرء مع من يحبه

وفي شعب الأكوار من هو عالم ... غداة استطار البرق من طار لبه
يشيم ثغور المزن تهمى، كأنها سنا ... بشر نور الدين تنهل سُحبه
إذا ما سما في مُبهم الخطب وجهه ... تمزق عن بدر الدُّجٌنَّة حُجبه
تولد بين الغيث والليث والتقى ... منافسه أي الثلاثة تربه
يعد مضاء في الظبا، لا، وضربه ... بها قلل للأعداء ما السيف ضربه
مكين الحجا،أرضى الزمان بنفسه ... إلى الآن، حتى لان وانقاد صعبه
حمى قّبة الإسلام بالخليل، فاغتدت ... وأوتادها جرد الطعان وقبه
فكم هبوة أوقعن بالكفر تحتها ... فما انقشعت إلا وللذل جنبه
كيوم الرّها الورهاء والهامُ يانع ... ملى برعي الهندوَانىّ خصبه
وشهباء هاجتها وغى صرخدية ... ثناها وليل الحرب تنقضن شهبه
وعارم يوما بالعُريمة فاغتدت ... كوادي ثمود إذ رغا فيه سَقْبُه
وعاصي على العاصي بأرْعن خاطب ... دم الإفك حتى أنكح النصل خطبه
بإنب لما أكسب المال وانثنى ... يصاحب أنطاكية وهو كسبه
غداة هوى شطرين: للسيف رأسه ... وللرمح حتى توج الرأس قلبه
على حين النصر للخطى فيه عوامل ... يعاقبه خفض الحسام ونصبه
وقائع محمودية النصر لم تزل ... غريباً بها عن موطن السّيف غربه
يقوم مقاًم الجيش فيها وعيده ... ويَفعل أفعال الكتائب كتبه
وحين انتضته عزمةُ من قرابه ... مضى وهو نصل، والمالك قربه
إلى أن دعته ربها كل بلدة ... فليس من الأمصار ما لا يربه.
ولما نزا بالقمص عُجب، هوى به ... على أم رأس البغى والغدر عُجبه
فاصبح في الحجلين ينكر خطوه ... بعيد على الرجلين في السعي قربه
تعاقبه البشرى بأخذ حصونه ... فياعانياً ضرب البشائر ضربه
تناجي عزاز باسمه تل باشرِ ... فيلعنه لعن الصريح وسبّه
فإن يكن المقهور من ثل عرشه ... فهذا عمود الكفر قد طاح طُنبه
فقل لملوك الخافقين نصيحة ... كذا عن طريق الليث يزأر غلبه
وخلوا عن الآفاق، فالشرق شرقه ... بحكم الرّدينتات، والغرب غربه
ولا يعتصم بالدرب طاغ على القنا ... فإن القنا في ثغرة النحر دربه
رحيب فضاء الحلم عن ذات قدره ... إذا ضاق من صدر المملك رحبه
عفو عن الجاني، يكاد الذي جنى ... يكرًّ به شوقا إلى العفو ذنبه
أمُتخذ الإخلاص الله جُنّة ومن يعتصم بالله فالله حسبه
أبوك استرد الشام بالسيف عنوة ... وللروم بأس طالما غال خطبه
إذا ذب عن أضغاث دنياه مالك ... فأنت الذي عن حوزة الدين ذبه
رأيت اتباع الحق خيراً مغبة ... فأفرجت عن رأى يسرك غٍبُّة
وأوضحت ما بين الفريقين سنة ... بهاً عرف المربوب من هو ربه
وبينت ما قد كان من كان يبتغي ... دليلا بان الله من.أنت حزبه
وقال ابن منير يمدح نور الدين بظاهر حمص:
هيهات يعصم من أردت حِذارُ ... أني، ومن أوهاقك الأقدار
طلعت عيك بجوسلين ذريعة ... لا سحل انشاها ولا إمرار
وسعادة مازلت تمرى خلفها ... فيشف، وهو الناتق المدرار
فأرتك مايجنى الوفى وفاؤه ... وأرته كيف يُحًّين الغدار
عود أمر على أبارك طلعه ... فأحيل ذاك البر وهو بوار
مازلت تنعم وهو يكفر عاتيا ... والله يهدم مابنى الكفار
حتى أتاح لقومه ما جره ... لثمود من عقر الفصيل قدار
أسرى فأصبح في براثن آسرٍ ... مازال يدُمى ظفره الأظفار

سام، كقرن الشمس، يُقبس نوره ... وتغض عون محله الأبصار
يهب التلاد من البلاد وما حوت ... إن السماحة للبحار بحار
يقظان، يخشى الله في خلواته ... لا مُترف لاه، ولا جبار
نصب المراقب العواقب ناظرا ... فيها، كذلك تربأ الأبرار
لا كالذين تعجلوا حسوأتها ... وتفلسوها بعد وهي خسار
درجوا وأدرج في ملف رفاتهم ... سوءى تساء لذكرها الآثار
والمرء من يُطوى فيَنشر طيه ... ما أودعته صدورها الأخيار
قل للأولى ناموا على نأماته ... ما كلُّ هبة بارخ إعصار
لا تأمنوا في الله بطشة ثائر ... لله، ملء سريره أسرار
صاف إذا كدر المعادن، عادل ... إن خاف حكام الملوك وجاروا
أعلى أبو له النجاد، وشيد في ... صهواتها مما ابتناه منار
محمود المحمود آثاراً إذا ... نظمت على جيد الدجى الأسمار
دانت له الأيام صاغرة،كما ... دانت له في ظله الأمصار
وله من أخرى أولها:
ما الملك إلاّ ما حواهُ نجادُه
يقول فيها:
وتدين حُسده لمحكم آيه والفضل ما شهدت به حسّاده
شمس إذا ما الحربُ زَر جيوبها ... حل المعاقد كَرُّه وطِراده
ألوى، ألد، حمى الشريعة جهده ... وأذل ناصية الضلال جهاده
صعق البرنس وقد تلألأ برقه ... وأطار ساكن جأشه إرعاده
ولى وقد سُلَّت فَسَلَّت ضغنه ... زُبر تلقى فودهن فؤاده
مستلئما مستسلما، لاعدة ... رد المى عنه ولا استعداده
ولجوسلين احتثهن فأصبحت نهبى لهن: بلاده وتلاده
جاءت به بعد الشماس عوابس ... قود يلين لعُنفهن قياده
وتصيدته لك السّعود، وقلما ... ينجو بخيرٍ من أردت مصاده
داني له قينا أدهم كلما غناه ... طار شماتة عوّاده
سلبت عزاز عزاءه، وِبقُورس ... محجوبة فرشت له أقتاده
وبتل خالد يوم تل جبينها ... خلط الثرى بجبينه إخلاده
وغدا يباشر تل باشر قلُبه ... بأحر ما حمل القلوب عداده
منّت أمانيه في بشائرك التي ... عادت لهن ما تما أعياده
وحبوت ملكك من نظيم ثغوره ... حَلْياً تَتَايَه تحته أجبادُه
لا يخدعتك، فإنما إصلاح من ... يخُشى انتشاط خناقه إفساده
أنزله حيث قضت له غدراته ... وأحلّه طُغيانه وعناده
في حيث لا يأوى له سجّانه ... حنقا ويكشط جلده جلاده
وثن هدمت بني الضلال بهدمه ... وعدت عبادك عنوة عباده
فتكت به آيات مَن لمحمد ... ولدينه ابداؤه وعواده
او أنشط البلد الحرام تواءمت ... تُثْننى عليه تلاعه ووهاده
ولو ان منبره أطاق تكالما ... نطقت بباهر فضله أعواده
نام الخليفة، واستطال لذَبّه ... عن سذنيه واستطير رقاده
رجعت لك العز القديم سيوفه ... ما زان رونق مائها أغماده
من بعد ما نعق الصليب لحزبه ... ورأيت زرع الملك حان حصاده
أني تميل الحادثات رواقه ... بهبوبها، وابنُ العماد عماده!
فصلقال ابن الأثير: لما سار نور الدين إلى قلاع جوسلين ملك بعضا وأبق بعضا. فاجتمعت الفرانج، فالتقوا مع نور الدين بدُلُوك، فهزمهم واستولى على دلوك وغيرها. ففيها يقول أحمد بن منبر قصيدة منها:
هي الخبرل خير عتاد الكريم ... يحضر للهم إحضارها
ضغنت فأدررت أفواها ... وسرت فقلمت أظفارها
إلام، ولم تُبق مما غزوت ... قلوبا تكابد إذعارها
اما في مفصل آى القرا ... ع أن تضع الحرب أوزارها

عسى أن يُحم لهذا الحما ... م أن يتوكر أو كارها
وما يوم من غلته واحد ... فتودعه الّلسْنُ أشعارها
واين المَقَاول مما فعلت ... ولو شفع القطر إكثارها
فكم أجلبت خلفك الجافحات ... فصلصل فخرك فخارها
أعدت بعصرك هذا الأنيق ... فتوح النبي وأعصارها
وكان مهاجرها تابعيك ... وأنصارُ رأيك أنصارها
فجددت إسلام سلمانها ... وعمر جدَّك عّمارها
وما يوم إنب إلا كتي ... ك، بل طال بالبوع أشبارها
وأيامك الغرّ من بعده ... تُعيد إلى إلى الطيّ أغرارها
ولما، هببت ببصرى سمكت ... بأهباء خيلك أبصارها
ويوم على الجؤن جون السرا ... ة عز فسعَّطها عارها
صدمت عُريمتها صدمة ... أذابت مع الماء أحجارها
وفى تل باشر باشرتهم ... بزحف تسور أسوارها
وإن دالكتهم دُلُوك فقد ... شددت فصدقت أخبارها
وشب التدامُر حتى طلعت ... عليها فولتك أدبارها
مشاهد مشهورة نمنمت ... على صفحة الدهر أسطارها
يلذ الأغاني ترجيعها ... وتستسفرالسَّفْرُ أسفارها
بنيت لوفد المنى كعبة ... تُجيرالمعلق أستارها
ملكت الأراضي مُغْتبرَّة ... تكاد تُحَدِّثُ أخْبَارَها
فما زلت تدجن حتى محوت ... دجاها وشعشت أنوارها
وَصَلْتَ فأعززت مسكينها ... وَصُلْتَ فأذلت جبارها
وصغت حلى من علا أحكمت ... على عنق الدهر أزرارها
قال أبو يعلى: وفى رجب وردت الأخبار من ناحية نور الدين بظفره بعسكر الإفرنج النازلين بإزائه قريبا من تل باشر، وعظيم النكاية فيهم والفتك بهم؛ وامتلأت الأيدي من غنائمهم وسبيهم واستولى على حصن خلد الذي كان مضايقه ومنازله. قال: وفي أيام من المحرم وصل جماعة من حجاج العراق وخراسان المأخوذين في طريق الحج عند عودهم بجماعة من كفار العربان، وحكوا مصيبة ما نزل مثلها بأحد في السنين الخالية، ولا يكون أبشع منها. وذكر أنه كان في هذا الحاج من وجوه خراسان و تُنَّائها، وفقائها وعلمائها، وقضاتها، وخواتين أمراء العساكر السلطانية والحرم العسد الكثير، والأموال الجمة، والأمتعة الوافرة. فأخذ جميع ذلك وقتل الأكثر، وسلم الأقل؛ وهتكت النساء وسُلبن، وهلك من هلك بالجوع والعطش؛ فضاقت الصدور لهذه النازلة. فكسي العارى منهم وأطلق لهم ما استعانوا به على عودهم إلى أوطانهم من أصحاب المروءة بدمشق. ذَلِكَ تَقْدِيُر الْعَزِيِز الْعَلِيم.
فصلقال: وكان مجاهد الدين بزان قد توجه إلى حصنه صرخد ليتفقد أحواله، فعرضت نُفرة بين مجير الدين والرئيس بسعابات أصحاب الأغراض والفساد، واقتضت الحال استدعاء مجاهد الدين لإصلاح الحال، فوصل وتم ذلك بوساطته على شريط إبعاد الحاجب يوسف، صاحب مجير الدين، عن البلد مع أصحابه. وتوجهوا ولم يعْرض لشيء من أموالهم؛ وقصد بعلبك فأكرمه وإليها.
قال: ووردت الأخبار من مصر بالخُلف المستمر بين وزيرها ابن مصال وبين الأمير المظفر ابن السلار ووقوع الحرب وسفك الدماء، إلى أن أسفرت الحال عن، قتل ابن مصال الوزير وانتصاب ابن السلار موضعه في الوزارة.
قال: وفيها في سابع عشير رجب توفى القاضي بهاء الدين عبد الملك ابن الفقيه عبد الوهاب الحنبلي. وكان إماما فاضلا، مناظرا مستقلا، مفتيا على مذهب الإمامين أحمد وأبى حنيفة، بحكم ماكان عليه عند إقامته بخراسان لطلب العلم والتقدم. وكان يعرف اللسان الفارسي مع العربي؛ وهو حسن الحديث في الجدّ والهزل. وكان له يوم مشهود، ودفن في جوار أبيه، وجده في مقابر الشهداء. قال: وتوفى عقيب وفاته الشريف القاضي النقيب أبو الحسن فخر الدولة ابن أبى، الجن، وتفجع الناس لخيريته وشرف بيته.
ودخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة

ففيها خاصر نور الدين رحمه الله دمشق لمعاضدة اهلها الفرنج واستنصارهم بهم. ومدحه ابن منير بقصيدة يحرضه فيها عليهم، وكتبها إليه من حماة وهو محاصر دمشق، وقد تخلف عن الخدمة لمرض عرض له. منها:
أخليفة الله الذي ضمنت له ... تصديق واصفه سراة المنبر
لا المسطيل بمصر ظل قصوره ... والمستطال إليه شقة صرصر
يانور دين الله وابن عماده والكوثر ابن الكوثر ابن الكوثر
صفّر بحد السيف دار أشائب ... عقلوا جيادك عن بنات الأصفر
هم شيدوا صرح النفاق، وأوقدوا ... نارا تخشى بهم غدا في المحشر
اذكوا بجلق حرّها، واستشعرت ... لفحاتها بين الصفا والمشعر
شردتهم من خلفهم مستنجدا ... ماظاهر الكفار من لم يكفر
لاتعف، بل شق الهدى نفس الذي اد ... رع الضّلال على أغرّ مشهر
قلده ما اهدى على لمرحب ... فلقد تهكم في الخداع الخيبري
ما الغش ممن أمه نصرانة ... لم تختن كالغش من متنصر
أذكت لنا هذي العزائم، لاخبت ... ماغار من سنن الملوك الغببر
إثقاب آراء المعز، وخفق رايات ... العزيز، ويقظة المستنصر
شمر، فقد مدت إليك رقابها ... لايدرك الغايات خير مشمر
أوَلَسْت من ملأ البسيطة عدلُه ... واجتب بالمعروف أنف المنكر
حدب الأب البر الكبير، ورأفة الْ ... أم الحفية باليتيم الأصغر
يا هضبة الإسلام، من يعصم بها ... يُؤمن، ومن يتول عنها يكفر
كانوا على صلب الصليب سرادقا ... أنبت بنيته بكل مذكر
آثارهم نجس أذال المسجد الْ ... أقصى، فضن ما دنسوه وطهر
جار الخليل ومن بغزة هاشم ... بلهامك الْمُتَدَمْشق المتمصر
بعرمرم صلمت وعاوعه عرى ... أسماع جيحون وسيف البربر
يفتر عن ملك الملوك منحل ال ... أنواء، بل سعد السعود الأكبر
عن طاعن الفرسان غير مكذب ... ومتمم الإحسان غير مكدر
بدرالجحافل والمحافل، فارس الآ ... ساد في غاب الوشيج الأسمر
ملك تساوي الناس في أوصافه ... غذر المقل وبان عجز المكثر
يأيها الملك المنادي جوده ... في سائر الآفاق: هل من مُعسر
إن القصائد أصبحت أبكارها ... في ظل ملكك غاليات الأمهر
إن كنت أحييت ابن حمدان لها ... فأنا الذي غبرت في وجه السرى
ولأنت أكرم من أناس نوّهوا ... باسم ابن وستخصوا البحترى
ذلت لدوتك الرقاب، ولا تزل ... إن تَغْزُ فُتغنم، أو تقاتل تظفر
وكتب إليه من حماة أيضا، وهو محاصر دمشق، ينال فيها من صاحبها منها:
أبوك أب ركان للناس كلهم ... أبا ورضوا وطء النجوم لفندوا
وما مات حتى سد، ثلمة ملكه ... بك الله، ترمى ما رماه فتصرد
صدمت ابن ذي الّلغدين فانحل عقده ... وكالسلك قد أمسى يحل ويعقد
يقلب خلف السّجف عينا سخينة ... ويبكى بأخرى ذات شتر ويسهد
ولا غَرْوَ، قد أبقى أبوه وجده ... له كل يوم ثوب عجز يجدد
فيارا كبا إما عرضت فبلغن ... يبوتا على جَيْرُون بالذّلّ تعمد
وقل لمبير الدين وهو مجيره ... بزعم له وجه الحقيقة ازبد
حملت الصليب باغيا، ونبذته ... وثغرك مطووس النبات وأدرد
وحاربت حزب الله، والله ناصر ... لناصره، ودين أحمد أحمدُ
تنصرت حينا، والبلاء موكل ... ولابُد من يوم به تتهوّد

وأقسم ماذاق اليهود بإيليا ... وموضعها من بختنصر أسود
كبعض الذي جرعته فسرطته ... وايد فيه من عماك المؤيد
ولايته عزل إليك موجه ... وتصحيفه قتل عليك مؤبد
رماك باقلاّ دمشق، فلم تكن ... سوى بقلة حمقاء، بالحق تحصد
وجالدت جَلاّدًّ وأنت مؤنث ... تذكرت، والجلاد أدهى وأجلد
تطاولت لانفس تسمى ولا أب ... وراءك زحفا، إنما أنت مقعد
أمسعاة نور الدين تبغى ودونها ال ... أسنة بُتر والعوامل تعضد!
بمخمود المحمود سيفا وساعدا ... حملت لقد ناجتك صما مؤيد
وهل يستوي سار تأمد طاويا ... ونشوان يُعْلَى معصما ويؤيد
تنصرت أما، بل تمجَّسْت والدًا ... وعمًّا، فعِرق الكفرفيك مردد
تخذت بني الصوفي أسراً واسرة ... لكي يصلحوا مافي يديك فأفسدوا
لعمرى لَنِعْم العبد أنت، تجيعه ال ... موالى وتوليه هواناً فيحمد
إليكم بني العلاّت عن متُشاوس ... له الشام مرفا والعراق مرفد
وما مصر إلا بعض أمصاره التي ... إلى أمره تسعى قماءً وتَحفد
انيبوا إليه فهو أرحم قادرٍ ... له الصفح دينٌ واقبلوا النصح تَرْشُدوا
ولا ترشفوا نفث المؤيد إنه ... عن الخير يزوي أو إلى المْين يسند
وفرّوا إلى مولاكم والذي له ... عليكم أياد وَسْمُها ليس يجحد
ولا تكفروه، إنما أنتم له ... ومنه، ويوم عند حوران يشهد
غداة على الجولان جول، وللظبا ... رُعود، فربص الموت منهنّ يرعد
ولما اكفهر اليوم واربد وجهه ... وعوّذ مرهون وفر مزيد
وأيقن من بين السُّدَيْر وجاسم ... بأن الجرار السود بالجرد تجرد
رَدَتهم على بصرى وصرخد خيله ... وقد أبصرت بصرى رَداها وصرخد
وطاروا تهز المرهفات طِلابهم ... كما انصاع من أسد نعام مشرد
وليلة ألقى الشرك. بالمرج بركهُ ... ومارج نيران الوغى تتوقد
رمى وأخوه مغرب الشمس دونكم ... بمشرقها غضبان يعْدو ويسئد
فمذ وردت ماء الأرنط مُغِذَّةً ... أثارت بثَوْرَا غة ليس تبرد
أيا سيف شامته يد الملك صارما ... فيمهد إذ يسرى، ويسرى فيهمد
دمشقَ دمشقَ: إنما القدس سرحة ... مركزها صرح عليها ممرّد
حموها لكي يحهوا وقد بلغ المدى ... بهم أجل حتم وعمر محدّد
متى أنارَاءٍ طائر فتح صادجا ... يرفرف في أرجائها ويغرد؟!
وله، من قصيدة أخرى:
نذرك بالغوطتين قد ضمنت ... ربوتها ربعه مقراها
أطلع لها الشمس، من جبينك لم ... ترج سواها في النوم جفناها
فالخيل صور إلى تساهم سهمي ... ها وملهى في بيت لهياها
دولة من دانت البلاد له ... وعمّها ظلّه فأغناها
لاَ بِسِواها تليق بهجتها ولا سواه تبغى رعاياها

قال أبر يعلى: وفى عاشر المحرم نزلت أوائل عسكر نور الدين على أرض عذراء من عمل دمشق وما والاها. وفي الغد قصد فريق وافر منهم ناحية السهم والنيرب؛ وكمنوا عند الجبل لعسكر، دمشق. فلما خرج منها إليهم أسرع النذير إليهم فحذرهم وقد ظهر الكمين، فانهزموا إلى البلد. وفي الغد نزل نور الدين بعسكره على عيون فاسريا بين عذراء ودومة، وامتدوا إلى تلك الجهات، ونزلوا من الغد في أراضي حجيرا وراو ية في الخلق الكثير والجم الغفير، وانبثت أيدى المفسدين من العكر الدمشقي والأوباش، من أهل العيث والفساد، في زروع الناس، فحصدوها، وفي الثمار فأفنوها، بلا مانع ولا دافع. وتحرك السعر وانقطعت السابلة، ووقع التأهب للحصار. ووافت رسل نور الدين إلى ولاة البلد يقول: أناما أوثر إلاّ صلاح أمر المسلمين، وجهاد المشركين، وخلاص من في أيديهم من الأسارى. فإن ظهرتم معي في عسكر دمشق وتعاضدنا على الجهاد، فذلك المراد. فلم يعد الجواب إليه بما يرضاه، فنزل في أرض مسجد القدم وما والاه من الشرق والغرب، و بلغ منتهى الخيم إلى المسجد الجديد قبلى البلد. قلت: هو الذي يسمى في زماننا بمقبرة المعتمد، بين مسجد القدم ومسجد فلوس. فال: وهذا منزل ما نزله أحد من مقدمى العساكر فيما سلف من السنين. وأهمل الزحف إلى البلد إشفاقا من قتل النفوس. ووصلت الأخبار باحتشاد الفرنج واجتماعهم لإنجاد أهل دمشق، فضاقت صدور أهل الصلاح، وزاد إنكارهم لمثل هده الأحوال المنكرة؛ والمناوشات في كل يوم متصلة من غير مزاحمة ولا محاربة. فلم يزل ذلك إلى ثالث عشر صفر؛ فرحل العسكر النورى من هذه المنزلة ونزل في أراضي فذايا وحلفبلتين والخامسين المصاقبة للبلد، وما عرف فى قديم الزمان من أقدم على الدنو منها. ثم رحل في العشرين من صفر إلى ناحية دَارَايّا لتواصل الإرجاف بقرب عساكر الإفرنج من البلد لقوة عزمه على لقائهم. وصار العسكر النورى في عدد لا يحصى، وفي كل يوم يزداد بما يتواصل من الجهات وطوائف التركمان. ونور الدين هذه الحال لا يأذن لأحد من عسكره في التسرع إلى قتال أحد من المسلمين؛ وكانوا، يعني أهل البلد، يحملهم الجهل والغرور، على التسرع والظهور، ولا يعودون إلا خاسرين مغلولين. وأقام على هذه الصورة، ثم رحل إلى ناحية الأعوج لقرب عسكر الإفرنج وعزمهم على قصده. واقتضى رأيه الرحيل إلى جهة الزبداني اسجراراً لهم. وأفرق من عسكره فريقاً يناهز أربعة آلاف فارس مع جمإعة من المقدمين، ليكونوا في أعمال حَوْرَان مع العرب لقصد الإفرنج ولقائهم، وترقبا لوصولهم، وخروج العسكر الدمشقي إليهم، واجتماعهم بهم، ثم يقاطع عليهم. واتفق أن عسكر الفرنج رحل عقيب رحيله إلى الأعوج، ونزل به في ثالث ربيع الأول، ودخل منهم خلق كثير إلى البلد لقضاء حوائجهم. وخرج مجير الدين ومؤيد الدين في خواصهما وجماعة وافرة من الرعية، واجتمعوا بملكهم وخواصه، وما صادفا نحده شيئا مما هجس في النفوس من كثرة ولا وقوة. وتقرر بينهم النزول بالعسكرين على حصن بصرى لتملكه واستغلال اعماله. ثم رحل عسكر الإفرنج إلى رأس الماء، ولم يتهيأ خروج العسكر الدمشقي إليهم، لعجزهم واختلافهم. وقصد من كان بحوران من العسكر النوري، ومن انضاف إليهم من العرب في خلق كثير، ناحية الإفرنج للايقاع بهم والنكاية فبهم. والتجأ عسكر الإفرنج إلى لجأة حوران الاعتصام بها، ونمى الخبر إلى نور الدين فرحل ونزل على عين الجر من البقاع، عائدا إلى دمشق، وطالبا قصد الفرنج والعسكر الدمشقي. وكان الإقرنج حين اجتمعوا مع العسكر الدمشقي قد قصدوا بصرى لمضايقتها ومحاربتها فلم يتهيا ذلك لهم، وظهر إليهم سرخاك واليها في رجاله، وعادوا عنها خاسرين. وانكفأ عسكر الإفرنج إلى أعماله، وراسلوا مجير الدين ومؤيده يلتمسون باقي القطيعة المبذولة لهم على ترحيل نور الدين عن دمشق، وقالوا لولا نحن نَدفعه ما رحل عنكم.

قال أبو يعلى: وفي هذه الأيام ورد الخبر بوصول الأسطول المصري إلى ثغور الساحل في غايٍة من القوة، وكثرة من العِدّة والعُدّة. وذكر أن عدة مراكبه سبعون مركبا حربية مشحنة بالرّجال، ولم يخرج مثله في السنين الخالية؛ وقد أنفق عليه فيما حكى وقرب ثلثمائة ألف دينار، وقرب من يافا من ثغور لإفرنج، فقتلوا وأسروا وأحرقوا ما ظفروا به، واستولوا على عدة وافرة من مراكب الروم والإفرنج. ثم قصدوا ثغر عكا ففعلوا فيه مثل ذلك؛ وحصل في أيديهم عدة وافرة من المراكب الحربية الفرنجية؛ وقتلوا من حجّاجهم وغيرهم خلقا عظيما. وقصدوا ثغر صيدا وبيروت وطرابلس، وفعلوا في الكل مثل ذلك. ووعد نور الدين بمسيره إلى ناحية الأسطول المذكور لإعانته على تدويخ الفرنجية. فاتفق اشتغاله بامر دمشق وعوده إليها لمضايقتها. وحدث نفسه بملكها، لعلمه بضعفها، وميل الأجناد والرعية إليه، و إشارتهم لولايته وعدله.
قال: وذكر أن نور الدين أمر بعرض عسكره فبلغ كمال ثلاثين ألفاً مقاتلةً. ثم رحل ونزل بالدلهمية من عمل البقاع، ثم نزل، بأرض كوكبا غربي دارَيّا، ثم نزل بارض دارَيّا إلى جسر الخشب، ونودى في البلد بخروج الأجناد والأحداث إليه، فلم يظهر منهم إلا اليسير ممن كان يخرج أولا. ثم تقدم ونزل القطيعه وما والاها ودنا منها بحث قرب من البلد، ووقعت المناوشة بين الفريقين من غير زحف ولا شد في محاربة، تحرجا من قتل المسلمين، وقال لاحاجة إلى قتل المسلمين بايدى بعضهم بضعا، وأنا أرفُههم ليكون بذل نفوسهم. في مجاهدة المشركين.
قال: وورد الخبر إلى نور الدين بتسلم نائبه الأمير حسن المنبيى مدينة تل باشر بالأمان في الخامس والعشرين من ربيع الأول، وورد مع المبشر جماعة من أعيان تل باشر لتقرير الأحوال. وترددت المرسلات في عقد الصلح ثم أهل دمشق على شررط واقتراحات، وتردد فيها الفقيه برهان الدين على البلخي والأمير أسد الدين سيركوه، وأخوه نجم الدين أيوب. وتقارب الأمر في ذلك إلى أن استقرت الحال على قبول الشروط المقترحة ووقعت الأيمان من الجهتين على ذالك والرضا به في عاشر ربيع الآخر. ثم رحل نور الدين من الغد طالبا ناحية بصرى للنزول عليها، والتمس من دمشق ما تدعو إليه الحاجة من آلات الحرب، لأن واليها سرخاك كان قد شاع خلافه وعصيانه، ومال إلى الإفرنج فاعتضد بهم؛ فأنكر نور الدين ذالك عليه وأنهض إليه فريقا وافراً من عسكره.
قلت: ولابن منير في نور الدين يذكر وقعة الجولان وغيرها قصيدة أولها:
ما برقت بيضك في غمامها ... إلا وغيث الدين لابتسامها
يقول فيها: محمود المحمود جدا وجداً أرخص جلد الأرض حكم عامها
ملك أزال الرّوم عن صلبابها ... دفاعُه وكبَّ من أصنامها
جال على الجولان أمس جولة ... صفّرت الأدحىّ من نعامها
والجون قد جرعها أجونه ... وفَلّ مشحوذاً من اعتزامها
وشد في القد له مليكها ... قود عتود القوط في شبامها
وفي الرّها صابت له سحابة ... صاروا جُفَاء خف في التطامها
وهب في هاب له عواصف ... تجهمتها الهفّ من جهامها
كفرُ لاَثا لاث في جبينهالثم ظبا أبت على أشامها
وقائع يرفضُّ تحت وقعها ... نظم الثريا في فضا مصامها
فساعة البيض إذا عدّدها ... سوط عذاب صب في أيامها
وَاعجبا لعُصب الشرك التي ... لم يصعب الرشد على أحلامها
حكمة استواؤها في غيّها ... في نقص ما أحصد من إبرامها
مظفر الرّايات والرأي والرأى إذا ... الحربُ مشت تعثر في خطامها
عدت به حد العلاءهمهن النجوم أو نواصي هامها
جلت له الدنيا على زبرْجها ... عفوا فلم تلو على خطامها
رأته وهو اللّيث يدمى ظفره ... أنفذ في المشاكل من حكامها
فتوّجتْه العزّ في في مرتبة ... تمنطق الجوزاء في نظامها
غضبان للإسلام لا يغيظه اسْ ... تسلامها للقسر من إسلامها
خط على مثل أب طاعت له الْ ... آفاق واستشرف لاغتشامها

تصرف الذّنيا على إيثاره ... عراقَها مُستردفا بشامها
لو لم يكن دون منى فات المنى ... واقعد الفائز من قوامها
وامتك ماء مكة رواضع ... يقصر باع الدّهر ش فطامها
وصار كالجمر الجمار وخلا ... من أهله الأشرف من مقامها
ودونها لازلت ترقى في حمى ... من مؤلم الأرواء أو لمامها
تُلْبس بيت الله وشى يَمَن ... يقرأ آياتك من أعلامها
فإنما الدّين رحى قطّبتَها ... وبازل مُكّنت من زمامها
أمّت بنا الآمال منك كعبة ... سلم الليالى آية استسلامها
وأرشفَتنا بك ثغر نعمة ... لانسال الله سوى دوامها
وقال أيضاً يمدحه:
بجدك أصحب الجد الحزون ... وأطلع فجره الفتح المبين
وفي كنفيك سولمت الليالي ... وفارق طبعه الزمن الخؤون
ومنك تعلم القطع المواضي ... وقد زبنت بها الحرب الزّبون
وأنت السيف لم تمسه نار ... ولا شحذت مضاربه القيون
ترَقْرقُ فوق صفحته الأماني ... ويقطر من غراريه المنون
وقبلك ما سمعت بذى فقار ... يبُير الفقر كان ولا يمكن
ولا غيث سماوته سرير ... ولا ليث وسادته عرين
ولا قمر له الهيجاء هال ... ولاتاج له الدنيا جبين
جُبلتَ ندى وعفواً وانتقاما ... وماءُ كلُّ مجبول وطين
وملكك عمم الأقطار قَطْراً ... فأمرعت الأواعث والحزون
تَلألأ تحته غررُ الليالي ... إذا الأيام عند سواك جون
وأنت أقمت للجدوى مناراً ... يبين لشائميه ولا يبين
وعندك مشرب النّعمى زلال ... إذا عبقت مشاربها الأجون
تحكم في عطائك كل عاط ... وقد شيدت من الُمنع الحصون
لقد أشعرت دين الله عزا ... تتيه له المشاعر والحجون
وقام بنصره والناس فوضى ... قوى منك في الجلى أمين.
رجعت ملوكهم وهم خيوف ... أسير في صفادك أو كنين
فبرنست البرنس لفاع خسف ... وجُرّع مرّ جوسك جوسلين
إذا ما الفعل عُلَّ تلاه حذف ... يتاح لمنتهاهُ أو سكون
غنوا حتى غزوتهم فغنى الصَّ ... دى في أرضهم حف القطين
وكم عبر الصليب بهم صليبا ... فردته قناك وفيه لين
وما خطرت بدار الشّرك إلا ... هوى الناقوس وارتفع الأذين
ملأت عظام ساحِهُم عظاما ... فكل ملأ لقوك به جرين
بإنب في القنا تجرى تجيعا ... كأن عيون أكعُبِها عيون
وبين حِرار صرخد ذُبْنَ حَرًّا ... له في كل حبحبة كمين
وَفين من العُرَيْمة في عَرام ... له في جونها الأقصى وجون
وكم حرم لحارم غادرته ... ودارته لمنسفها درين
وفي شعراء قُورُس صغن شعرا ... تدار على غراريه اللجون
وقائع صِرْن في صنعاء طيرا ... يوقعها على عدن عدون
نماك أب إذا عد انتسابا ... تراقي مصعدا والناس دون
شِمالاً كان أملاك البرايا ... وقد قيسوا به وهو اليمين
قضى وقضاؤه في اللأرض حتم ... وطاعة أهلها لبنيه دين
لهذا اليوم تُنشخب القوافي ... ويذخر نفسه الدُّرُّ المصون
ونحن أحق منك بأن نهنا ... إذا قرّت برؤَيِتك العيون
سلمت لنا، فإئا كلُّ صعب ... نوازيه بأن تبقى يهون
ترابطنا بعقوتك التهاتي ويغبطنا بدولتك القرون
فل في باقي حوادث هذه السنة

قال أبو يعلى: وورد الخبر من ناحية ديار مصر بأن أهل دمياط حدث فيهم فناء ما عهد مثله في حديث ولا قديم، بحيث أحصى المففود منهم في سنة خمس واربعين فبلغ سبعة آلف شخص، وفي سنة ست وأربعين مثلهم، فصار الجميع اربعة عشر ألفا. وخلت دور كثيرة من أهلها، وبقيت مغلقة لا ساكن فيها ولا طالب لها.
قال،: وفيها في ثاني جمادى الآخرة توفى القاضي السديد الخطيب أبو الحسين ابن أبى الحديد خطيب دمشق، وكان خطيبا بليغا صيِّتا عفيفا، ولم يكن له من يقوم مقامه في منصبه سوى أبى الحسن الفضل، ولد ولده، وهو حدث السن، فنصب مكانه وخطب وصلى بالناس، واستمر الأمر له ومضى فيه.
قال: ووردت الحكايات بحدوث زلزلة وأفت الليلة الثالثة عشرة من جمادى الاخرة اهتزت الأرض لها ثلاث رجفات في أعمال بُصرى وحَوْران وما والاها من سائر الجهات، وهدمت عدّة وافرة من حيطان المنازل ببصرى وغيرها، ثم سكنت بقدرة من حركها سبحانه وتعالى.
قال: وفي ثاني عشر رجب توجه مجير الدين صاحب دمشق إلى حلب في خواصه ووصل إليها، ودخل على نور الدين صاحبها فأكرمه، وبالغ في الفعل الجميل في حقه، وقرر معه تقريرات اقترحها عليه بعد أن بذل له الطاعة وحسن النيابة عنه في دمشق، ورجع إلى دمشق مسروراً سادس شعبان.
قلت: وفي ذلك يقول القيسراني:
وفت لك الدنيا بميعادها ... ياذلة أفلاذ أكبادها
وأوفدت غرّ سلاطينها ... عليك في همة أنجادها
تبغى سناء اقصدت قصده ... طائعة طاعة أجنهادها
خاضعة تعتد أعمارها ... يوم التلاقي يوم ميلادها
شامت دمشق بك بَرْق العلا ... فأرسلت أصدق روّادها
رأتك نور الدين نار الهدى ... قد أشرق الأفق بإقادها
فيممت منك حيا مزنة ... بيض الأيادي ورد ورّادها
فاسأل مجير الدين عن خُبره ... أوردها محمود إيرادها
تبوأت من عزها ة قبة ... سُمر القنا أطناب أوتادها
تنافس الناس على دولة ... فت بها أعين حسادها
يغدو المعُادي كالموالى لها ... فوالها إن شئت أو عادِها
يا ملكا تُزههى بأسمائه ... منابر تسمو بأعوادها
وتأخذ السماع أوصافه ... عن جُمع الدنيا وأعيادها
كمْ للمعالي فيك من رغبةٍ ... تفنى الأماني دُون تعدادها
لك المساعي الغر، ياجا معاً ... من طرفيها بين أضدادها
يغْشى الوغى أفرس فرسانها ... وفي التقى أزْهد زهادها
فأنت نُسْكاً غيث أبدالها ... وأنت فتكا ليث آسادها
في أمّة أنت حِمَى دِينها ... حينا،وحينا شمس عبادها
يطوى بك العمرُ إلى غايةٍ ... حسُبك تقوى الله من زادها
هذا، وَكم مِنْ سسنةٍ بدعةٍ ... أعدمْتها من بعد إيجادها
مآثرٌ لو عَدِمت راوياً ... تكفَّل النّظم بإسنادها
قال أبو يعلى: وفي أواخر شعبان أغار بعض التّركمان على ظاهر بانياس، فخرج إليهم واليها من الإفرنج في أصحابه، وظهر التركمان عليهم فقتلوا وأسروا. وفي رمضان قصد بعض الفرنج ناحية من البقاع وأغاروا، فأنهض إليهم والى بعلبك رجاله، فلحِقُوهم وقد أرسل الله عليهم من الثلوج المتداركة ما ثبطّهم؛ فاستخلصوامنهم الغنيمة.
قلت: والى بعلبك هذا هو نجم الدين أيّوب، والد صلاح الدّين يوسف.

قال ابن أبي طي: في سنة ست واربعين أغار التركمان على بانياس، فخرج أهل بانياس من الفرنج، واستنقذوا ما أخذو؛ فعاد التركمان عليهم فكسروهم واتصل ذلك بصاحب دمشق فأغضبه فعل التركمان لِمَكان الهُدنة المنعقدة بينه وبين الفرنج؛ فأنفذ عسكراً إلى التركمان استعاد منهم ما أخذوه. واتصل خبر التركمان بالفرنج فجيشوا وخرجوا في جيش عظيم، وشنوا الغارة على البقاع والناس غافلون؛ فامتلأت أيديهم من الغَنائم والأسارى. واتصل خبر غارة الفرنج بنجم الدين أيوب وهو في بعلبك وعنده جماعة من عسكر دمشق وأصحابه، فقدم عليهم ولد شمس الدولة، فخرج وأوقع بالفرنج. واتفق أنه كان قد أصاب الفرنج ثلج عظيم فهلك أكثرهم، وجاء شمس الدّولة وهم متورّطون فقتل فيهم مقْتَلةً عظيمة، وخلص من كان عند الفرنج من الأسارى.
قال: وفى هذه السنة فارق صلاح الدين والدَه، وصار إلى خدمة عمه أسد الدين، بحلب، فقدّمه بين يدىْ نور الدّين، فقبله وأقطعه إقطاعاً حسناً.
قال أبو يغلى: وفي ثاني شوّال، وهو الثّاني من شباط، وافت قُبيل الظهر زلزلة اهتزت لها الأرض ثلاث هزّات هائلة، وتحركت الدور والجُدران، ثم سكنت.
قلت: وفي هذه السنة، في غرة جمادى الأولى، كتب أحمد بن منير من حماة إلى نورالدين قصيدة يهنئه بوصول الخلع إليه من بغداد من عند الخليفة، على يد الشيخ شرف الدين ابن أبى عصرون، ويصف الفرس الأصفر، الأسود القوائم والمعارف، والسّيف العربيّ. أولها:
لِعَلائك التّأييدُ والتأميل ... ولمُلكك التّأبيد والتّكميل
أبداً تهم وتقتفى، فتنال ما ... عز الورى إدراكُه، وتُنيل
إما كتاب يستقل به الكتا ... ئب، أو رسول للنجاح رسيل
لك من أبى سعد زعيم سعادة ... قمن تفاءل فيك ليس يفيل
نعم الحسامُ، جلوته وبلوته يرضيك حين يصل ثم يصول
سهم تُعّود في الكنانة عودُه ... ويقصّر المطلوب وهو طويل
سددته فمضى وقرطس صادراً ... كالنّجم، لاوَهْلٌ وَلاَ تهليل
فثنا القلوب إلى ولائك حُوَّلٌ ... منه بكا يجنى رضاك كفيل
وأقام ينشر في العراق ودجلةٍ ... آياً تأولها لمصر النّيل
وكساك من رأى الخليفة جبة ... لا النّقص يُوهيها ولا التقليل
كنت الشريف، أفضت في تشريفه ... ماء عليه من سَناك دليل
ألِيُوسف لما طلعت مقرطقا ... طمئت حصانٌ واستخف أبيل
أم عن سليمان يفرج ضاحكاً ... سجف الرواق وضعضع الكّيول
ومُملّكٌ في السرّج، أم ملك سطت ... لبهائه عقلٌ وتاه عقول!
وبرزت في لبس الخلافة كالهلا ... ل، جلاه في حلل الدجا التهليل
خِلَعٌ خَلعْن عل القلوب مسرّةً ... سد كاتها التعظيم والتَّبْجيل
نثرت نُضاراً جامدا أعلامها ... وتكاد تجرى رقة وتسسل
لقضى لها أن لا عديل لِفَخرها ... رب براك فما تلاك عديل
أنت المهَّند، مُنذ سَّلتْهُ العُلا ... لم يخلُ من مهج عليه تسيل
مذهر قائمَهُ الإمامُ تألقت ... غررٌ شُدخن لمُلكه وحجول
والَيْت دولَته فتِهتَ بدولةٍ ... متُكلل بصعيدها الإكليل
ونصرتَهُ، فحَلاك أبيض، دونه ... صَرْف الزمان إذا استكل كليل
قُلِّدتَه، وكِلاَ كما مُتَلَهْذِمٌ ... عَضْب، فَزَانَ المغمد المسلولُ
وحَبار كابك حين قرّ بزحفه ال ... قرآن واستخْذَى لهُ الإنجيل
بأَقب أصفر مشرف الهادي، له الت ... حجيل لون واللّما تحجيل
قسم الدجابين الغدائر والشوى ... واعْنام رونقَه الأصيلَ أصيل
وتقاسم الراؤُوه تحتك إنه ... حيزوم يصرف عطفُه جبريل
تختال في حبك الحُلىّ مخيلا ... أن الشّوامخ للبدور خيول

مُرْخَى الذوائب كالعروس، يزينُه ... طرف بأطراف الرّماح كحيل
تتصاعق النعرات تحت لبانه ... إن شب زفْرٌ واستجشَّ صهيل
لم يَحْبُ مثلك مثله مُهد، ولم ... يشلل على سرق سواه شليل
وأنشده في هذه السّنة أيضاً بحمص قصيدة منها:
الدّهر أنت، ودارُك الدُّنْيا، ومَنَ ... في العَدِّ بعدُ مؤمِّل وحَسُود
وأزمَّةُ الأقدار طوعُ يديك، وال ... أيامُ جندُك، والأنام عبيد
فُتَّ الورى، وعقدت ناصية المدى ... بذمرّ الشعري، فأين تريد؟!
تال أباك، فهل سليمانٌ يُرى ... في الدَّست مهد مُلكه داود
جَلَّى وسُدْتَ مصلِّيًا،لايرفع ال ... معدُومُ ما لم يشفع المدجود
لم يخُترم جدٌّ نماك ولا أب ... إن النباهة في الخليف خلود
شمخت منارُك في اليفاع، وأمها ... من لم يسُدْ، فَأَرتْه كيف يسود
وهَبَبْت للإسلام وهو مصوّح ... فاهتز أهضاب ورقّ نجود
وفثأت جمرة صالميه بصيلم ... نَصَع الأجنةَ يومُها المشهود
خطمتهم فوق الخطيم لوافح ... نفس الأرين لوأرهنّ برود
ورُمُوا على الجولان منك بجولة ... توئيدها نسر الضلال وثيد
وَلَحَا عظامهم بِعَرْقةَ عارق ... ما زلتَ تمحض جوّه فتجود
وشللت بالرّوح السروج وفوقها ... زرعٌ تحصدُه الرماح حصيد
وعلى عنوْا وثل عروشهم ... ملك مقيد من عصاه مقيد
وَبِتَلِّ باشِرَ باشُروك فعافسوا ... أهب الأساود حشوهنّ أسود
أوْدَوْا كما أوْدى بِعادٍ غَيَّها ... وعقوا كما استغوى الفصيل ثمود
إن آلموا عقراً فإنك صالح ... أو آلموا غدراً فإنك هود
وزَّعتهم، فبكُلّ مهِبط تَلْعَةٍ ... خدٌّ به من وازع أخدود
وعصبتهم بعصائب ملء الملا ... شَتَّى، وإن خل البسالة عو
آثارها محمودة، وأثارها ... مشهودة، وشعارها محمود
لَبست من سمك في الكريهة ملبسا ... يَبْلَى جديدُ الدّهر وهو جديد
وقصيرة الآجال طول باعها ... بوع يسامي هامها وقدود
مطرورة الأسلاب مُذ هزَّعتها ... تاه الهدى وتبخَتَر التّوحيد
أشرعتها، فعلي شريعة أحمد ... مما جنته بوارق وعقود
ولكم نثرت نطيمها في موقف ... تغريد صالى حره التغريد
يجلو سناك ظلامَهُ، ويحل ما ... قدت قناهُ لواؤك المعقود
في هبوة زحم السماء رواقُها ... والأرض ترجُف تحته وتَميد
ضربت مُخَيَّمها، فكان كُمَاتُها ... أو تادَهُ القُصوى وأنْت عمود
في كل، يوم من فتوحك صادِحٌ ... هزِجُ الغِناء، وطائرٌ غِرِّيد
تهدى لعانة كأسه فرغانة ... وتسيع زبدة ما شداه زبيد
فغِرار سيفك للأحابش محبس ... ومُثار نقعك للصعيد صعيد
لا تَعْدَ من هذا المقلد أمنة ... مُلقى إليه لرعْيها القليد
الورد قمور، والمسارح رَحبةٌ ... والرّفْد مد، والظّلال مديد
والعيش أبلجُ مشرق القَسَمات، وال ... أشجار غرٌّ، والأصَائِل غيد
والملك مدود الرّواق، منور ال ... آفاق، وضاء المنى، محسود
في دولة مُذْ هَبّ نشر ربيعها ... نُشِر الرَفاتُ وأثمر الجُلمود
محمودة الآثار، محمودية ... كل المواسم عندها تعييد
وقال يهنئه بليلة الميلاد ويصف النازلين في الجبل من قلعة حلب قصيدة منها:

هُنيت روزى فذاك صومك وال - ميلاد جا والعيد في نسق
فذاك أنحلت فيه كل يد ... وذاك أخملت فيه كل نقي
وجه كصدر الحسام تصبُوله ال ... عَيْن وينقد القلب من فَرَق
ومقلة شوقها ليَقْظتها ... شوقٌ لحسّادها إلى الأرق
ومُرتقًى تَعْجبُ السماء له ... إذا استطالت إليه: كيف رُقى
توّجت شهباءَها بمُشرقة ... مشرقة شهْبُها على الأفُق
جوّتهاوى منه كوكبه ... طرفه طرف رجوم مُسترق
فوارس تذْهلُ الفوارس أن ... تهافتت من أرشاقها الرّشق
من راكضٍ في الهواء أهوى من ال ... فتح مجر من تحته لبق
شاو من الخصر لو تحاوله ال ... خُضر لزلت عن موطئ رُلَق
يقول من دينه الفروسة: ما ... لاقك إلا ضرب من الإلق
بَدائعٌ تغبط السماء بها ال ... أرض وتُذكى الإشفاق في الشفق
في دولة جمعت إيالتها ... من بدد الحسن كل مفترق
تَزَّر أطواقُها على ملِك ... مكتفلٍ رزقَ كلّ مرتزق
محمود اسماً وَميسما وندى ... واعتصب الدم كل مرتفق
طبّق طوفانُه، فلسْت ترى ... إلا مغيثا مشفٍ على غرق
مابحرُ، لاَ خلق تدعى شبها ... فات المدى ما حَويتَ من خُلُق
ملكك هذا الذي تملأه ... صباه يجرى والدهر في طلق
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائةقال أبو يعلى: وورد الخبر في المحرم بنزول نور الدين على حِصْن أنطرسوس في عسكره وافتتاحه له وقتل من كان فيه من الإفرنج. وطلب الباقون الأمان على النفوس فأجيبوا إلى ذلك؛ ورتب فيه الحفظة، وعاد عنه، وملك عدّة من الحصون بالسبي والسيف والإخراب والإحراق والأمان قال: وورد أيضا ظفر رجال عسقلان بالإفرنج المجاورين لهم بغَزة، بحيث هلك منهم العدد الكثير وانهزم الباقون.
قلت: وقرأت في ديوان ابن منير يمدح نور الدين ويهنّئُه بفتح أنطرسوس ويحمور وعوْده عنهما قصيدة منها:
أبداً تباشر وجه غزوك ضاحكا ... وتؤوب منه مؤيداً منصورا
تدني لك الأمل البعيدَ سَوَاهِمٌ ... محقت أهلتها وَكُنّ بدورا
مثل السهام، لو ابتغى ذو أرْبع ... في الجؤ مُطلباً لكن طيورا
نبذت علائقها بحمص وأعلقت ... سحراً بمعرق عرقه الأضفورا
وعَدوْن صافيثاء لاح شوارها ... قد أتلعت عُنقاً إليك مشيرا
القلب أنت، فإن تعامى عن هدى ... عُضْوٌ أهَابَ بِه فعاد بصيرا
عرفوا مكانك والظهيرة بينهم ... يغُرى بياض أديمها الديجورا
أين الذّبالُ من الغزالة، أشرقت ... وجهاً وطبَّقت البسيطة نورا
غضبانُ اقسم لا يَشيم حسامه ... والارض تحعل في الكُفور كَفورا
غسل العواصم أمس من أدرانهم ... واليوم رد به السواحل بورا
لم يُبْقِ بين الحولتين وآميد ... وثراً لِمُضْطغنٍ، ولاَ مَوتورا
أخلى ديار الشرك من أوثانها ... حتى غدا ثلوثُهن نكيرا
رفع القصور على نضَائد هامِهِم ... من بعد ما جعل القصور قبورا
بشواحِب الألياط تقطو في الظَّلا ... م قطاً، وتهوى في الصباح نشورا
غادرت أنطرسوس كالطرس امحى ... رسماً وحّمر درعها يحمورا
وهي الرماد لفتنة كانت عل ال ... إسلام أحكم كسره إكسيرا
هتمت طرابلسا فأصبح ثغرها ال ... بَسامُ من الثُّغور ثَغِيرا
إقليدها كانت وقد أنطيته ... واسأل به ممن دهَتْه خبيرا
إن الأولى أمنوا وقاعك بعدها ... غُروا وقد ركبوا الأغَرّ غرورا

ألق العصا فيمن أطاع، ومن عصى ... منهم، ودمرْ أرضهم تذميرا
لا يُلهِهِم أن قد مَنَنْتَ، وشنها ... شعواء تُصلى الكافرين سعيرا
باكر برَكز قناً تُنسّف أسها ... والخيل صوّر كي تزُيرك صُورا
وتُريك لامعة التريك بساحة ال ... أقصى مُطهرة لها تطهيرا
أولَستَ من قوم إذا هزموا القنا ... فتلوا معاصمهم لها تسويرا!
وإذا هم خطبوا اليراع عزيزة ... ساقوا الشفار على المهار مهورا
الق قسيماهم إليك أزمَّة ال ... مُلك المطل على السُّها تأثيرا
ضحكت لك الأيام، واكتاب العدا ... قلقاً، فجئت مبشراً ونذيرا
لامُلك إلاّ ملكُ حمود الّذي ... تَخِذَ الكتاب مُظاهراً ووزيرا
تمشى وراء حدوده أحكامُه ... تأتمُّهن فيحكم التقديرا
يقظان، ينشر عدله في دولةٍ ... جاءت لِمَطْوِىَّ السّماح نُشورا
خلف الخلائف قائماً عنهم بما ... عَيُّوا به، ألْوى، الدَّ، غيورا
البرّ، والمعصوم، والمهدى، وال ... مأمون، والسفاح، والمنصورا
بشروابه به فعهودهم وعهادهم ... يَمْتَحن تحت لوائه منشورا
وأنشده بحلب في هذه السنة قصيدة أوّلها:
المجدُ ما ادّرعت ثراك هضابُه ... وتثقفتك شعوبه وشعابه
ملك تكنّفَ دين أحمد كنه فأضاء نِّيرهُ وصاب شهابه
فالعدل حيث تصرّفتْ أحكامه ... والأمن حيث تصرّمَتْ أشرابه
متهلل والموتُ في نبراته ... يُرجى ويرهب خوفه وعقابه
عقد الّلواء وسار يَقدهه، وما ... حلت عقودَ تَميمِها أترابه
أسد، فرائسه الفوارس، والظبا ... أظفاره، والسَّمهرية غابه
طبع الحديد فكان منه جنانه ... وسِنانه، وإهابه، وثيابه
وتهش ان كثب الوجوهُ، كانما ... أعداؤه تحت الوغى أحبابه
نشرت بمحمودٍ شريعة أحمدٍ ... وأرى الصّحابة ما احتذاه صحابه
ما غاب أصلع هاشم فيها ولا ال ... فاروق باء بخطبه خطّابه
أبناء قيلة قائمون بنصره ... إن أجلبت من قاسط أحزابه
صَبَحوا مُحلّقة البرنس يحالق ... حرش الضباب من القلوب ضبابه
ما زال يغلب من بغاه ضلاله ... حتى أتيح من الهدى غلابه
ملق بوحش الأصرمين، تزايلت ... آراؤه وتزايلت آلابه
دون الأرنظ سخت به نجداته ... ونجاده وقِرابه وقُرابه
سلبته دُرّةَ تاجه يدُ ضيغم ... لم تنْجه من بأسه أسلابه
وأتته تجلب جُوسلين جنائبٌ ... هّبت فقلّ إلى القتال هبابه
أسرته لا منعت سراه وعزه ... بالقاع إن رام الورود سرابه
يمشي فيسمعه وقائع قيده ... هزجا تقى دماً له أندابه
لا تل باشره، ولا كيسونه ... صدت منّى عنه ولا عنتابه
ضمنت شقاوته سعادة صافحٍ ... غطى على إعناته إعتابه
ما زال يغدر ثم يغدر قادراً ... حتى أتاه بجامحٍ أصحابه
قصر الأماني أن يملأ عصرك ال ... إسلامُ مضروبا عليه حجابه
مجر يجر إلى الغنائم قَبَّه ... وحمى يزار على الفتوح قبابه
وأنشده بحلب أيضا في شوال من هذه السنة قصيدة منها:
لقد أوطأت دين الله عزَّا ... أديمُ الشعرَيْين له رغام
دعاك وقد تناوشت الرزايا ... له اهًباً يوزعها العذام
فقمت بنصره والنّاس فوضى قيامٌ ذمّ ما اقترفت فئام
جذبت بضْبِعه من قعر يّمٍ ... له من فوق مقسمه التطام
صببت على الصليب صليب بأسٍ ... قواه تحت كلكاه خطام

وملت على معاقلهم فخرت ... ولاء مثل ما انتقض النّظام
بصرخد والخطيم، وفي عزاز ... وقائع هز مشهدها الأنام
ولو لم تعترف وتشم لأمسى ... وأصبح لا عراق ولا شآم
ويوم بالعُرَيْمة كان حتفاً ... على الإشراك أمقره العرام
لُقوك كأن ما سلّوه سيح ... وما اعتقلوه من خور ثمام
وهاب وقُورس وبكفرلاثا ... ذممت وأنت للجلىّ ذمام
صدمتهمُ بأرعنَ مُرجحَنّ ... كأن مطار أنسُره غمام
وأية ليلة لم تلف فيها ... لهم طيفاً يروع به منام
بنور الدين أنشر كل عدل ... تعفت في الثرى منه الرمام
وعاد الحق بعد كلال حدٍ ... حمى من أن تراع له سُوام
تألقّ عدله وذكت سطاه ... فَلاَ حيف يخاف ولا اهتضام
بقأؤك خيرُ ما يرجوه راجٍ ... وأنفع ما يُبلّ به أوام
فصلوفي هذه السنة ولد بحمص نور الدين ابن سماه أحمد، وهنأه به ابن منير في بعض قصائده، ثم توفى بدمشق، وقبره خلف قبر معاوية رضي الله عنه إذا دخل الحظيرة في مقابر الباب الصغير. وقصيدة ابن منير قد تقدم بعضها في أول الكتاب، ومنها في ذكر المولود:
توالت الأعيادُ، لا زلت لها ... تُبلى دبابيج البقاء وتُجِد:
الفطر، والميلاد، والمولود لو ... قابله بدر التّمام لسجد
ثلاثة تعرب عن ثلاثة ... لمثلها يذكر حمداً من حمد:
فتح مبين، وطلاب مُدْرك ... ودولة ما تنتهى إلى أمد
وله من أخر يقول:
وجئت بأحمدٍ فملأت حمداً ... موارد كان معدنُها عذابا
تهلل وجه ملكك يوم أهدت ... قوابلُه لك الملك الّلبابا
شبيهك، لا يغادر منك شيئا ... سَنا، وحيا، و بدلآ، واسْتلابا
قسيم الحمد، إلا أن حرفاً ... من اسمك زاد للمعنى منابا
ألا لله يوم فَرَّ عنه ... وركْبٌ نصّ بالبشرى الرّكابا
قال أبو يعلى: في أواخر صفر توجه مجير الدين في العسكر ومعه مؤيد الدين الوزير إلى ناحية حصن بُصرى، ونزل عليه محاصراً لسرخاك واليه لمخالفته وجَوْره. وأراد مجير الدين المصير إلى حصن صرخد لمشاهدته، فاستأذن مجاهد الدّين واليه في ذلك، فقال له هذا المكان بحكمك، وأنا فيه والٍ من قِبَلِك وأنفذ إلى ولده سيف الدين محمد النائب فيه بإعداد مايحتاج إليه، وتَلَقى مجير الدين بما يجب له. فخرج إليه في أصحابه ومعه المفاتيح، وأخلى الحصن من الرجال، ودخل إليه في خواصه، وسر بذلك مجير الدين وتعجب، وشكره على ذلك. وعاد إلى مُخيَّمه على بُصرى وحاربها عدة أيام إلى أن استقر الصلح والدخول فيما أراد، وعاد إلى دمشق.
قال: وفي شوال توفى الأمير سعد الدولة أبو عبد الله محمد بن الحسن بن الملحى ودفن في مقابر الكهف؛ وكان فيه أدبٌ وافر وكتابه حسنة ونَظْم جيّد وتقدم والده في حلب في التدبير والسّياسة وعرض الأجناد.
قال ابن الأثير: وفيها توفي السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بههذان وعهدإلى ابن أخيه ملكشاه بن السلطان محمود بن محمد وخطب له ببلاد الجبل. وكان الغالب على البلاد والعساكر أيام السلطان مسعود خاصبك بن بلنكرى، فقام بامر ملكشاه، ولم يمهله غير قليل حتى قبض عليه، وكتب إلى أخيه الملك محمد بن محمود، وهو بخوزستان، يستد عيه إليه ليخطب له بالسلطنة وكان غرض خاصبك أن يقبض عليه أيضاً قيخلو وجهه من منازع من السلجوقية، وجنئذ يطلب السلطنة لنفسه. فلما كاتب محمداً أجابه إلى الحضور عنده، وسار إليه، وهو بهمذان، واجتمع به وخدم خاصّبك خدمة عظيمة فلما كان الغد دخل عليه خاصبك فقتله محمد وألقى رأسه إلى أصحابه، فتفرقوا، واستقر محمد وثبتت قدمه، واستولى على بلاد الجبل جميعها.

وكان قتل خاصبك سنة ثمان وأربعين، وبقى مطروحاً حتى أكلته الكلاب. وكان ابتداء أمره أنه كان من بعض أولاد التركمان، فخدم السلطان فمال إليه وقدمه حتى فاق سائنر الأمراء، واستولى على أكثر البلاد. وهو كان السبب في أكثر الحوادث الشاغلة للسلطان مسعود، فإن الأمراء الأكابر كانوا يأنفون من اتّباعه لما كان يُقابلهم به من الهوان والاحتشام عليهم.
وذكر الوزير يحيى بن هبيرة في كتاب الإفصاح، أنه لما تطاول على الخليفة المقتفي أصحاب مسعود وأساءوا الأدب، ولم يمكن المجاهرة بالمحاربة، اتفق الرأى على الدعاء على مسعود بن محمد شهراً، كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رِعْل وذَكْوان شهرا. فابتدأ هو والخليفة سِرّا،كل واحد في موضعه، يدعو سحراً، من ليلة تسع وعشرين من جمادى الأولى سنة وأربعين وخمسمائة؛ واستمر الأمر على ذلك كل ليلة. فلما كان ليلة تسع وعشرين من جمادى الآخر،كان موت مسعود على سريره، لم يزد عن الشهر يوما ولم ينقص يوماً. ووصل القُصّادُ بذلك من همذان إلى بغداد في ستة أيام؛ فأزال الله يده ويد أتباعه عن العراق، وأورثنا أرضهم وديارهم. فتبارك الله رب العالمين، مجيب دعوة الداعين. قال: وكان الشيخ محمد بن يحيى يقول لا أدل على وجود موجود أعظم من إن يُدعى فيجيب.
ثم دخلت سفة ثمان وأربعين وخمسمائة
ففيها أخذت الفرنج، خذ لهم الله، عسقلان وبقيت في أيديهم إلى أن فتحها صلاح الدين يوسف بن أيوب، رحمه الله سنة ثلاث وثمانين، كما سيأتي إن شاء الله تعلى.
قال الرئيس أبو يعلى التميمي: وتواصلت الأخبار من ناحية نور الدين وبقوة عزمه على جمع العساكر والتركمان، من سائر الأعمال والبلدان، للغزو في أحزاب الشرك والطّغيان، ولِنُصرة أهل عسقلان على الإفرنج النازلين عليها، وقد ضايقوها بالزحف إليها بالبرج المخذول، وهم في الجمع الكثير. واقتضت الحال توجه مجير الدين صاحب دمشق إلى نور الدين في جمهور عسكره للتعاضد على الجهاد في ثالث عشر محرم، واجتمع معه في ناحية الشّمال، وقد ملك نور الدين الحصن المعروف بإفليس بالسيف، وهو على غاية المنعة والحصانة، وقتل من كان فيه من الإفرنج والأرمن وحصل العسكر من المال والسبي الشيء الكثير. ونهضوا طالبين ثغر بانياس، ونزلوا عليه في آخر صفر وقد خلا من حماته، وتسهلت أسباب ملكته. وقد تواصلت استغاثه أهل عسقلان واستنصارهم بنور الدين، فقضى الله تعإلى بالخلف بينهم والقتل، وهم في تقدير عشرة آلاف فارس وراجل، فأجفلوا عنها من غير طارق من الإفرنج طرقهم، ولا عسكر رهقهم، ونزلوا على المنزل المعروف بالأعوج، وعزموا على معاودة النزول على بانياس وأخذها، ثم أحجموا عن ذلك من غير سبب ولا موجب، وتفرقوا. وعاد مجيرالدين إلى دمشق ودخلها سالما في نفسه وجملته حادي عشر ربيع الأول، وعاد نور الدين إلى حمص ونزل بها في عسكره.
ووردت الأخبار بوصول أسطول مصر إلى عسقلان فقويت نفوس من بها بالمال والرجال والغلال، وظفروا بعدة وافرة من مراكب الفرنج في البحر، وهم على حالهم في محاصرتها ومضايقتها، والزحف بالبرج اليهم. واستمر ذلك إلى أن تيسرت لهم أسباب الهجوم عليها من بعض جوانب سورها، فهدموه، وهجموا البلد؛ وقتل من الفريقين الخلق الكثير، وألجأت الضرورة والغلبة إلى طلب الأمان، فأجيبوا إليه، وخرج من أمكنه الخروج في البر والبحر إلى ناحية مصر وغيرها. وقيل إن في هذا الثغر المفتتح من العُدد الحربية والأموال والميرة والغلال مالا يحصر فيذكر. ولما شاع هذا الخبر في الأقطارساء سماعه،، وضاقت الصّدور، وتضاعفت الأفكار بحدوث مثله فسبحان من لا يُردُّ نافذ قضائه، ولا يُدفع محتوم أمره عند نفوذه ومضائه.

قال وعرض بين الرئيس ابن الصّوفي وبين أخويه عزّ الدولة وزينها مشاحنات ومشاجرات، اقتضت المساعاة إلى مجير الدين في جمادى الأولى، فأنفذ مجير الدين إلى الرئيس يستدعيه للإصلاح بينهم في القلعة، فامتنع من ذلك وجلس في داره، وهم بالتّحصِن عنه بأحداث البلد والغوغاء. وآلت الحال إلى تمكُّن زين الدولة منه بمعاونة مجير الدين عليه، وتقرر بينهما إخراج الرئيس من البلد وجماعة إلى حصن صرخد مع مجاهد الدين بزان واليه بعد أن قرر له بقاء داره وبستانه وما يخصة ويخص أصحابه. وتقلد أخوه زين الدولة مكانه، وأمر ونهى، ونفذ الأشغال على عادته في العجز والتقصير، وسوء الأفعال، والتماس الرشا على أقل الأعمال. ورأى مجير الدين عقيب ذلك التوصل إلى بعلبك لتطيب نفس واليها عطاء الخادم واستصحابه معه إلى دمشق لينوب عنه في تدبيرالأمور، وعاد وهو معه. واستشعر مجاهد الدين بزان أن نية مجير الدين قد تغترت فيه، فاستوحش من عَوْده إلى البلد بغير يمين يخلف له بها على أمانه في نفسه، فوعد بالإجابة، فعاد إلى داره بدمشق.
ثم هجس في خاطره من مجير الدين وأصحابه ما أوحشه منهم، فدعاه ذالك إلى الخروج من البلد سرا طالبا صرخد. فحين عرف خبره أنهض في طلبه وقص أثره، فأدرك وقد قرب من صرخد، ففبض عليه وأعيد إلى القلعة بدمشق، واعتقل بها اعتقالا جميلا.
ثم تجدد من الرئيس الوزير حيدرة المقدم ذكره اشياء ظهرت عنه، مع ما في نفس الملك مجير الدين منه ومن أخيه المسيب من المعرفة بالسعي والفساد، فاقتضت الحال استدعاءه إلى القلعة على حين غفلة عن القضاء النازل به، لسوء أفعاله، وقبح ظلمه، وخبثه. ثم عدل به الجانْدَارِية إلى الحمام بالقلعة، مستهل ذي القعدة، وضُربت عنفه صبراً، واخرج رأسه ونصب على حافة الخندق، ثم طيف به، والناس يلعنونه ويصفون أنواع ظلمه، وتفنُّنه في الفساد، ومقاسمة الّلصوص وقطاع الطريق على أموال الناس المستباحة، بتقديره وتدبيره وحمايته، وكثر السرور بمصرعه، وابتهج به. ثم زحفت العامة والغوغاء ومن كان من أعوانه على الفساد من أهل العَيْث إلى منازله وخزائنه.، ومخازن غلاته، وأثاثه وذخائره، فانتهبوا منها مالا يحصى، وغلبوا أعوان السلطان وجنده عليها بالكثرة، فلم يحصل السلطان من ذالك إلا النزر اليسير. ورد أمر الرئاسة والنظر في البلد إلى الرئيس رضىّ الدين أبى غالب عبد المنعم بن محمد بن أسد بن علي التميمي في اليوم المقدم ذكره، فطاف في البلد مع أقاربه وأهله، وسكنت الدّهماء، و بولغ في إخْراب منازل الظالم ونقل أخشابها.
قال: وكان عطاء الخادم قد استبد بتدبير الأمور، ومدّيده في الظلم، وأطلق لسانه بالهجو، وأفرط في الاحتجاب، وقصر في قضاء الأشغال؛ فتقدم مجير الدين باعتقاله وتقييده، والاستيلاء على ما في داره ومطالبته بتسليم بعلبك وما فيها من مال وغلال ثم ضربت عنقه، ونهبت العوام والغوغاء بيوت أسبابه وأصحابه.
قال: وورد الخبر من ناحية مصر بأن العادل المعروف بابن السّلار، الذي كانت رتبته قد علت، ومنزلته في الوزارة قد تمكنت، كان لزوجته ولد يعرف بالأمير عّباس قد قدمه واعتمد عليه في الأعمال؛ ولعّباس هذا ولد قدمه الوزير وأنعم عليه، وأذن له في الدخول بغير إذن إليه فدخل عليه وهو نانماً في فراشه، فقطع رأسه، وحصل عّباس في منصب العادل، ثم كان من أمره ما سيأتي ذكره.
قلت: هو أبو الحسن علي بن السّلار وزير خليفة مصر وهو الذي بنى مدرسة الشّافعية بالاسكندرية للحافظ أبى طاهر السّلفى، رحمه الله. كان قتله في سادس المحرم بمواطأةٍ من الخليفة الملقب بالظّافر بن الحافظ.
قال: وفيها في آخر شعبان توفى الفقيه برهان الدين أبو الحسن علي البخلي رئيس الحنفية، ودفن في مقابر الباب الصغير الجاورة لقبور الشهداء. وكان من التفقه على مذهبه ماهو مشهور شائع، مع الورع والدين، والعفاف والتّصوّف، وحفظ ناموس العلم، والتّواضع، والتّودّد إلى الناس على طريقة مرضية وسجّية محمودة.

قال: وورد الخبر من ناحية حلب بوفاة الأديب أبى الحسين أحمد بن منير الشاعر في جمادى الاخرة. ووصل في ثاني عشر شعبان إلى دمشق الأديب الشاعر، أبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير القيسراني، ومن حلب، باستدعاء مجير الدين له، ومات بعد عشرة أيام، وفي الثاني والعشرين من شعبان. قلت: هما شاعراً الشام في وقتهما. وقد شبههما العماد الكتاب في كتاب الخريدة بالفرزدق وجرير، وكذلك كان اتفق موتهما في سنة واحدة، ومات جرير بعد الفرزدق بقليل. وقد سبق من شعرهما في مدح نور الدين رحمة الله قصائدة حسنة، وسيأتي غير ذلك في موضعه لغرض سنذكره.
ومما قاله ابن منير من قصصيدة له:
أيَا سيفاً أغر الدين منه ال ... غرارُ العضْبُ والنوم الغرار
ملأت جوانح الاقطار رجفاً ... كأن الأرض خامرها دُوار
علاك حلى شمس عدلك في دجاها ... بمفرقها، وفي يدها سوار
أضاءت شمس عدلك في دجاها ... فكلُّ زمان ساكنها نهار
تُحرق من عصاك وأنت ماء ... وتغرق من رجاك وأنت نار
ألا لله وجهك والمنايا ... مكحلة، وللبيض افترار
هتكت حجابه والنصر غيب ... وللهبوات طيٌّ وانتشار
بطعن للقلوب يه انتظام ... وضرب للرءوس به انتثار
تبادره، وكأن الموت غتم ... وما من عادة البدر الدار
أنخت على الصليب مطا صليبا ... به من صك مبركه هذار
بمشرفة المتاكب مقرابات ... لهن بمنتن كل وغى حضار
جبين بإنب أنب العناصي ... وإضن وللقنا منها ثمار
وفي هاب أهْبت بها، فجاءت ... كما أجلى من الكسم الصوار
وكم في فج حارم من حريمٍ ... عفته، فلا جدير ولا جدار
وأنطاكية أسْنَّتْ إليها ... فأجفل خيطها وله عرار
وصبح في عزاز بها عزاز ... فأمسى وهو وَعْثٌ أو خبار
يشق بها دُجا الغمرات عسفا ... جواد لا يُشق له غبار
وله من أخرى:
وما يرم الفرنجة مك فذٌّ ... فتحر عدّهُ خطط الحساب
أجاش الأربعاء لهم خميساً ... بعيد الغور ملتطم العباب
وأحكم بالخطيم لهم خطاما ... أمر بريمه مرّ الضراب
مشوا متساندين إلى صليب ... يبرقع هبوة الصمّ الصلاب
تُلفُّهم المنايا في الثنايا ... وتفجؤهم شَعوبُ من الشّعاب
أطاشت سهم كبشهم هناة ... فكنت ذباب طائشة الذّباب
حللت التّاج عنه وحل تاجا ... مكان العقد من عقد الكعاب
أناف على العقاب فكان أشهى ... وأبهى منه في ظل الُعقاب
فأشرف وهو عن شرفٍ معوق ... وأصعد وهو غاية الانصباب
تكاشره الشوامت وهو مغض ... ثناه مناه عن رجع الجواب
بعيداً من قراع واقتراع ... يؤوب له إلى يوم المآب
وكم سوط بخيلك أقبلوه الص ... دور فكان سوطا من عذاب
تركتهم بأرض الشام شاما ... لِظُفٍر تتقيه، أو لِنَاب
هتكت حجابه والشمس وَسْنَى ... بشمس لا توارى بالحجاب
بأبيض من حَبِيك الهند صافٍ ... مَصُون المتن مبتذل الذّباب
له سمةُ الشيوخ صفاء شيب ... وفي خطراته نزق الشباب
ألاَ يا ناظر الدنيا بعين ... أرته علابها خدع السراب
تبطنها فطّلقَها ثلاثاً ... على عزّ التملق والخلاب
فلا يأوى إلى رأى شَعاعٍ ... ولا يثنى إلى أمل خراب
ترفع عن مجاوزة الأماني ... وحلق عن محاضرة التصابي
صلاة الله كل درور شمس ... على مثوى أبيك من التّراب
فقد ألقى إلى الإسلام عضباً ... يطّبق في النوائب غيرنا بي

تجيس له رَوَاسٍ كالرّواسي ... تمد لها جِفان كالجوابي
وله من أخرى:
مُظفر العزم، ممدود الرواق على ... معالم الدين، يرفيها ويبنيها
رد الكنائس كُنسا للهدى، فخبت ... نار الظلال ووارتها أثافيها
وأورد العلم عدا من ايالته ... فاستن وافتنّ عبّا في صوافيها
وبث للشرك أشراكاً فما درجت ... طريدة منه إلا استوهقت فيها
يا بدرُ مُذْ أشرقت في الدّست غُرتهُ ... غِيثَ الرّعيةُ واخضلت مراعيها
أقام أحمد من محمودها علما ... به استقام على البيضاء ساريها
محيى شريعته من بعد ما انهدمت ... واستعجمت بعد إفصاح معانيها
شابت مواهبه فيها مهابته ... حتى استقرت على سمت سواريها
وله من أخرى
عزت سيوفك، فالعراق عراقها ... والشام غير مدافعات شامهاً
إن اغمدت حل العزائم حلها ... أوجردت حرم الكرى إحرامها
شخبت عداك بها، فلا إشراقها ... بمفازة منها، ولا إعتامها
سربت فصبحها بها يقظانُها ... هدأت فمستها بها أحلامها
كالماء، إلا أن في رشفاته ... ناراً حشاشات النّفوس ضِرامها
خفت على أيمانكم أوزانها ... يوم الوغى، واستثقلتها هامُها
حتى أحلن الشام شاما صرصرت ... فيه جنادبها وصدح هامها
وَرَحَضْنَ أدْران الجزيرة بعد ما ... غمرت بها وهداتها وإكامها
شطرا أبرت، ومثله أنظرته ... وقع الخطوب تكرها، أيامها
بالخابطات الغاب، تزأر أسده ... والمجفلى الحي اللقاًح صيامها
أوردتها أجمات أنطاكية ... عنقا وقد شبب الصدا اجمامها
تلقى المشافر في مراشف، كلما ... بردت بها الأكباد زاد هيامها
فغدت وقد عز السراح سراحها ... وتوزعت في كنسها آرامها
ومشى الضلال القهقرى واستأصل ال ... آذان من رجع الأذان صلامها
وغدا يخللها الخليل سواحبا ... عذبا يمر لها العذاب غمامها
غضبا لدين الله خص جناحه ... بغيا وادمى صفحتيه لدامها
فالان رد النور فيه نوره ... وانجاب من تلك الهنات ظلامها
محمود المحمود اقداما إذا ... خام الكماة زلزلت اقدامها
الفارج الكرب العظام تضاجمت ... اشداقها وفرى القلوب ضغانها
وله من أخرى:
اما الرعايا فإنها رشفت ... لديك نعمى عذبا ثنايها
سلكت نهج العدل القويم بها ... فاحمدت دينها ودنياها
وكم امنيت خوفا فامنتها ... متالف الخوف خوفك الله
لله اقطارك التي قطرت ... لها مناها إلى مناياها
أنب في إنب فوارسها ... تردى فتردى أولادك إخراجها
أشجت لهاة البرنس هبوتها ... وكم عتا عاتيا فاشجاها
وجوسلين استساغ نطفتها ... فاحتلب الذل تحت مغداها
ردته صفرا من كل ما ملكت ... يداه ايد ما ضل مسراها
جويس جاستك اوجه لا رأت ... بؤسا وجاد الحيا محياها
سرية لوتكون فارسها ... يومئذ ما انبعثت اشقاها
لا زال ظل النعماء عن ملك ... ما الشمس كفئا له إذا باها
والله جازيه عن مقيدة ... اعزها الله مذ تولاها
محمود المعتلى إلى فلك ال ... حمد وثسيرا له ولاياها
اعطاكه جدك المتوج بالجد ... ونفس لله مغزاها
نفس عزوف وعن الخنا طبعت ... نزهها الله يوم سواها
أنت الذي سلم الأنام له ... يمنى طباق العلا ويسراها

وأنت مولى الملوك قاطبة ... من كان فنا خسرو شاهنشاها
والشعر هذا لا قول أحمده ... أوه بديل من قولتي واها
وله من أخرى:
يابن الذي لم يأل في نجدة ال ... اسلام إدلاجا وتهجيرا
تكتنف الشام وقد شام بر ... ق الخوف إنجادا وتغويرا
وكف كلب الروم من بعد أن ... أنشبه نابا وأظفورا
فأهله رقك إن أنصفوا ... رقا بحد السيف مسطورا
بدر هوى واستخلف الشمس في ... دستك إشراقا وتأثيرا
وله من أخرى:
ملك كسا الإسلام من ذبه ... بردا بتدبيج الظّبا معلما
من أصبح الشام به شامة ... يقطر من قتل عداه دما
لو لم يقم منصلتا دونه ... لم نلق في أقطارها مسلما
وله يمدحه بعد مصالحة صاحب حماة واهتمامه بالعرس وعوده إلى حلب
الدهر ما رضته بالجود والباس ... مقسم بين أغراس وأعراسى
فتح تعاقبه فتح، ومطلب ... داني المنال، وملك ثابت راسي
نصرا بُبصرى، وصفحا عن حماة لقد ... أحسنت للداء حسما أيها الآسي
يابن الذي عنت الدنيا لدولته ... من فاطمي أعز به وعباس
وله فيه أيضا:
غدا الذين باسمك سامي العلم ... أمين العماد، مكين القدم
لذلك لقبت نورا له ... وقد أغطش الظلم فيه الظلم
أضاءت بعدلك آفاقه ... وفضت عرى الدين لما ادْلهم
ولم تمش زهواً لِنَصر الرّها ... ومثلك أدرك غزم
ويوم بسوطا، بسطت الحمام ... على الهضب من ركنها فانهدم
وبصرى وصرخد، لو لم تثر ... دراكا لكانا رَديَفْى إرم
ومذ فض جيشك في الغوطتي ... ن فض الصليب له ما نظم
وفي كفر لاثا، وهاب، حَلَل ... ت عقد البرنس، ببيض خذم
معودة أنها لا تسل ... إلا مقمقمة للقمم
ويوم بَسَرْفُود جرعتهم ... أجابا أغصهم واصْطلم
وفوق العريمة غشاهم ... عرام حيوشك سيل العرم
وأنت بكلبهم في الكبول ... مباح الحريم مذال الحرم
وبارتهم أذنت أنها ... أبارتهم، فليبؤوا بذم
بنوهاً وأعلوا، ولم يعلموا ... بما خط في اللوح منك القلم
وأنك خارم ما أحكمو ... ومن ديننا راقع ما انحزم
فترفع من بعد خفض هدى ... وتخفض من بعد رفع صنم
سمكت المدارس فوق النجوم ... فكم منجم تحتها قد نجم
وعاش الحنيفي والشافعي ... بما شدت منها وكانا رمم
وإن لم تكن هاشمي الأصول ... فإنك فرع الهزبر الهشم
ومن يدعى في العلا ما ادعيت ... وأنت ابن من عز لما احتكم
واقسم ما غاب سيف سقت ... مغارسه عين هذى الشيم
قلت: وقصائد ابن منير في مدح نور الدين فيكثرة، ونفسه فيها طويل. ولم يبق بعد موت القيسراني وابن منير فحل من الشعراء يصف مناقب نور الدين كما ينبغي إلا ابن أسعد الموصلى، وسيأتي شيء من شعره؛ إلى أن قدم العماد الكاتب الشام في سنة اثنتين وستين، فتسلم هذا الأمر، وعبر عن أوصاف نور الدين ومناقبه وغزواته بأحسن العبارات وأتمها نظما ونثرا. وسيأتي كل ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال ابن الأثير: وفيها توفى صاحب ماردين حسام الدين تمرناش، ووليها بعده نجم الدين إلى بن تمرناش ارتق قلت: وقد مدحه القيسراني والعرقلة وغيرهما من الشعراء
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة

قال ابن الأثير: ففيها ملك نور الدين دمشق وأخذها من صاحبها مجير الدين آبق بن محمد وكان الذي حمل نور الدين على الجد في ملكها أن الفرنج ملكوا في السنة الخالية عسقلان، وهي مدينة فلسطين حسنا وحصانة. ولما كانوا يحاصرونها كان نور الدين يتلهف ولا يقدر على إزعاجهم عنها، لأن دمشق في طريقه وليس له على غيرها معبر، لاعتراض بلاد الإفرنج في الوسط. وقوى الفرنج بملكها حتى طمعوا في دمشق، واستضعفوا مجير الدين، وتابعوا الغارة على أعماله وأكثروا الفتك بها والنهب والسبي. وزاد الأمر بالمسلمين بها إلى أن جعل الفرنج على أهل المدينة قطيعه كل سنة، وكان رسولهم يجئ إلى دمشق ويجبيها من أهل البلد. ثم اشتد البلاء على أهلها حين أرسل الفرنج عبيدهم وامائهم الذين نهبوا من سائر بلاد النصرانية، وخيروهم من المقام عند مواليهم والعود إلى أوطانهم، فمن أحب المقام تركوه، ومن أحب وطنه سار إليه. وزالت طاعة مجير الدين عن أهل البلد إلى أن حصروه في القلعة مع إنساًن منهم كان يقال له مؤيد الدين، ابن الصوفي. فلما كانت الأمور بها هكذا خاف أهلها وأشفقوا من العدو، فلجأوا إلى الله تعالى ودعوه أن يكشف ما بهم من الخوف، فاستجاب لهم وأذن في خلاصم مما هم فيه، على يد أحب عباده إليه، وأحسنهم طريقة، وأمثلهم سيرة، وهو الملك العادل حقا نور الدين محمود؛ فحسن له السعي ملك البلدة وألقاه في روعه. فلما خطر له ذلك أفكر فيه فعلم أنه أن رام ملكه بالقوة والحصار تعذر عليه، لأن صاحبه متى رأى شيئا من ذلك راسل الفرنج واستعان بهمم واستمالهم. قلت: وقد كان سبق له بذلك سوابق قد تقدم ذكر شيء منها. ولذلك قال العرقلة يمدح أتابكه معين الدين أثر من قصيدة:
يظن صلاح الدين فرسان جلق ... كفرسانه، ما الأسد مثل الثعاًلب
رجال إذا قام الصليب تصلبت ... رماحهم في كل ماش وراكب
غدا يطلع الشام الفرنج بفيلق ... معؤدة أبطاله للمصائب
لها الليل تقع والأسنة أنجم ... فما غير أبطال وغير جنائب
وصلاح الدين هذا المذكور ليس هو يوسف بن أيوب المشهور، فإن ذلك لم يكن حينئذ ملكا يقود الجيوش، وإنما هذا صلاح الدين محمد بن أيوب الياغبساني صاحب حماة، أحد أصحاب زنكي، وقد تقدم ذكره مرارا، وكأنه كان في مقدمة الجيش النوري لما قصد دمشق في المرتين الأوليين، أوفي إحداهما، أوفى زمن حصار زنكي لهاً، والله أعلم.
قال ابن الأثير: وكان أبغض الأشياء إلى الفرنج أن يملك نور الدين دمشق، لأنه، كان، يأخذ حصونهم ومعاقلهم وليست له دمشق، فكيف إذا أخذها وقوى بها. وانضاف إلى ذلك كراهيته لسفك دماء المسلمين، فإن الدم كان عنده عظيما، لما كان قد جبل عليه من الرأفة والرحمة والعدل. فلما رأى الحال هكذا عمد إلى إعمال الحيلة، فراسل مجير الدين صاحبها واستماله، وواصلة بالهدايا، وأظهر له المودة حتى وثق إليه. ثم صار بكاتبه في بعض الأوقات ويقول له: إن فلانا، ويذكر بعض الأمراء الذين لجير الدين، قد كاتبني في المخامرة عليك فاحذره. فتارة يأخذ إقطاع أحدهم، وتارة يقبض عليه. فلما خلت دمشق من الأمراء، قدم أميرا كان عنده يسمى عطاء بن حفاظ السلمي الخادم، وكان شهما شجاًعا، وفوض إليه أمر دولته، وكان نور الدين لا يتمكن من دمشق معه. فقبض عليه مجير الدين وقتله، فقال له عند قتله: إن الحيلة قد تمت عليك فلا تقتلني، فإنه سيظهر لك ما أقول. فلم يصغ إلى قوله، وقتله.
قلت: وفى بعض قصائد ابن منير ما يدل على أن عطاء هذا كان له مع نور الدين في دمشق حديث فإنه قال:
ودمشق في دمشق رجال سلم ... لحور نسائهم منهم نساء
هي الفردوس أصبح وهو عاف ... من العالي ومن خال خلاء
جنان ان تعرف الجنات فيها ... ولا رأى هناك، ولا رواء
لأسمح صعبها ودنت قصاها ... وأمكنك اقتياد وامتطاء
ويانعم العطاء عطاء رب ... توسطه فانشطه عطاء
تفاءل بإسمه فالفال وعد ... يكون على ظباك به الوفاء
هو السبب الذي شزرت قوله ... وهذبه بخدمتك الصفاء
وسيف إن نشمه تشم حساما ... وإن يغمد فنار بل ذكاء

جنتة لك السعادة قطف رأى ... لنقب الخادعيك به هناًء
ويجوز أنه لم يكن لعطاء في ذلك حديث، وإنما هذه الأبيات أو ما في معناها كانت سبب قتله لما بلغ مجير الدين ذلك. وعطاء هذا هو الذي ينسب إليه مسجد عطاء خارج الباب. الشرقي بدمشق؛ وجورة عطاء ببيت أبيات، وهي أرض فيها أخشاب كباًر من الحور تربى أوتاراً لجامع دمشق، وهي وقف عليه. وقد مدحه العرقلة وغيره من الشعراء.
قال ابن الأثير: فلما قتل عطاء قوى طمع نور الدين في دمشق فراسل أحداث البلد وزناطرته، واستمالهم، فأجابوه إلى تسليم البلد، فسار إليهم وحاصرهم عشرة أيام. فكاتب مجير الدين الفرنج وبذل لهم الأموال وقلعة بعلبك إن رحلوا نور الدين عنه. فإلى أن اجتمعوا وجاءوا بلغهم أخذ نور الدين دمشق، فعادوا بخفي حنين. وأما نور الدين فإنه لما حاصرهم وضيق علي من به، ثار الأحداث الذين كاتبهم نور الدين وسلموا إليه البلد من الباب الشرقي، فدخله بالأمان عاشر صفر، وحصر مجير الدين في القلعة، وراسله وبذل له. الإقطاع الكثير، من جملته مدينة حمص، فأجاب إلى تسليم القلعة وسار إلى حمص.
وقال ابن أبى طي: أنفذ نور الدين شيركوه رسولا إلى صاحب دمشق، فخرج في تجمل عظيم ومعه ألف فارس، فعظم على مجير الدين ذلك وقال: ما هذه رسالة، هذه مكيدة؛ ولم يتجاسر على الخروج إلى لقائه ولا أحد من أمراء دمشق. فاستوحش أسد الدين، ونزل بمرج القصب، وأغلظ لصاحب دمشق في المقال وأنقذ إلى نور الدين يعرفه بما جرى عليه. فسار نور الدين في عساكره، وزحف إلى البلد من شرقية، وكانت الحرب في عاشر صفر، وتولى أسد الدين القتال، وأبلى الجهد، فكر عساكر دمشق إلى الأسوار من قبلي البلد؛ ولم يكن أحد من المقاتلة على السور من ذلك الجانب، لأن نور الدين كان من شرقها وجل العسكر مقابله. ورأى من كان مع نور الدين من الجاندريه والحلبيين خلو السور من المقاتلة، فتسرعوا إلى السور وتسلقوا به وحصلوا في الحال على الأسوار. ويقال إن امرأة كانت على السور، فدلت حبلا فصعدوا فيه، وصار على السور جماعة ونصبوا السلالم، وصعد جماعة أخرى ونصبوا علما وصاحوا بشعار نور الدين. فوقع على أهل البلد الخذلان، وكسر باب البلد ودخلت الخيالة منه وملك نور الدين دمشق. وكان لأسد الدين اليد الطولي في فتحها، فولاه نور الدين أمرها، ورد إليه جميع أحوالها. وفي هذه السنة أقطعه نور الدين الرحبة.

وقال الرئيس أبو يعلى: في العشر الثاني من المحرم وصل الأمير أسد الدين شيركوه رسولا من نور الدين إلى ظاهر دمشق، وخيم بناحية القصب من المرج في عسكر يناهز الألف.، فأنكر ذلك ووقع الاستخوان منه، وإهمال الخروج إليه لتلقيه والاختلاط به، وتكررت المراسلات فيما اقتضته الحال، ولم تسفر عن سداد ولا نيل مراد، وغلا سعر الأقوات لانقطاع الواصلين بالغلات. ووصل نور الدين في عسكر. إلى شيركوه. ثالث صفر وخيم بعيون الفاسريا، عند دومة، ورحل في الغد ونزل بيت الآبار من الغوطة، وزحف إلى البلد من شرقيه وزحف إليه من عسكره وأحداثه الخلق الكثير؛ ووقع الطراد بينهم، ثم عاد كل من الفريقين إلى مكانه. ثم زحف يوما بعد يوم، وتأكد الزحف يوم الأحد عاشر صفر، وظهر العسكر الدمشقي فاندفع بين أيديهم حتى قربوا من سور باب كيسان والدباغة من قبلي البلد، وليس على السور أحد من العسكرية والبلدية لسوء تدبير صاحب الأمر غير نفر يسير لا يوبه لهم. فسرع بعض الرجالة إلى السور، وعليه امرأة يهوديه، فأرسلت إليه حبلا فصعد فيه وحصل على السور، ولم يشعر به أحد؛ وتبعه من تبعه وأطلعوا علما نصبوه على السور، وصاحوا: نور الدين يامنصور وامتنع الأجناد والرعية من الممانعة لما هم عليه من المحبة لنور الدين وعدله، وحسن ذكره وبادر بعض قطاعي الخشب بفأسه إلى الباب الشرقي فكسر إغلاقه وفتحه، فدخل منه العسكر وسعوا في الطرقات، ولم يقف أحد بين أيديهم. وفتح باب توما أيضا ودخل الناس. منه. ثم دخل نور الدين وخواصه، وسُر كافة الناس من الأجناد والعسكرية، لما هم عليه من الجوع وغلاء الأسعار والخوف من منازلة الفرنج. الكفار. وكان مجد الدين لما أحس بالغلبة والقهر قد انهزم في خواصه إلى القلعة وأنفذ إليه، فأومن على نفسه وماله، وخرج إلى نور الدين، فطيب نفسه ووعده الجميل. ودخل نور الدين القلعة في يوم الأحد المقدم ذكره، وأمر بالمناداة بالأمان للرعية، والمنع من انتهاب شيء من دورهم. وتسرع قوم من الرعاع والأوباش إلى سوق على وغيره، فعاثوا ونهبوا، وانفذ نور الدين إلى أهل البلد بما طيب نفوسهم وأزال نقرتهم. وأخرج مجير الدين ما كان له في دوره بالقلعة والخزائن من المال والآلات والأثاث على كثرته إلى الدار الأتابكية، دار جده، وأقام أياما. ثم تقدم إليه بالمسير إلى حمص في خواصه ومن أراد السكون معه من أسبابه وأتباعه، بعد أن كتب له المنشور بإقطاعه عدة ضياع بأعمال حمص، برسمه ورسم جنده؛ وتوجه إلى حمص على القضيه المقررة. ثم أحضر نور الدين غد ذلك اليوم أماثل الرعية من القضاة والفقهاء والتجار وخوطبوا بما زاد في إيناسهم وسرور نفوسهم، وحسن النظر لهم بما يعود بصلاح أحوالهم تحقيق آمالهم؛ فأكثروا الدعاء له، والثناء عليه، والشكر لله تعالى على ما أصارهم إليه. ثم تلا ذلك أبطال حقوق دار البطيخ وسوقي البقل، وضمان الأنهار، وأنشأ بذلك المنشور، وقرئ على المنبر بعد صلاة الجمعة. فاستبشر الناس بصلاح الحال، وأعلن الناس برفع الدعاء، إلى الله تعالى بدوام أيامه، ونصرة أعلامه.
وقال ابن الأثير: لما استقر نور الدين في البلد عمل مع أهله مكرمة عظيمة، وأظهر فيهم عدلا عاما. قلت: قد تقدم ذكره في أول الكتاب، وسيأتي منه أشياء مفرقة فيما بعد.
قال: وألق الإسلام جرانه بدمشق، وثبتت أوتاده؛ وأيقن الكفار بالبوار، ووهنوا واستكانوا؛ وصار جميع ما بالشام من البلاد الإسلامية بيد نور الدين. وأما مجير الدين فإنه أقام بحمص وراسل أهل دمشق في إثارة الفتنة فانتهى الأمر إلى نور الدين، فخاف أن يحدث ما يشق تلاقيه، بل ربماً تعذر، لا سيما مع مجاورة الإفرنج. فأخذ حمص من مجير الدين وعوضه عنها مدينة بالس، فلم يرضها؛ وسارعن الشام إلى العراق، فأقام ببغداد وابنى داراً تجاور المدرسة النظامية، وتوفى بها.
قال: ولما ملك نور الدين دمشق خافه الفرنج كافة، علموا أنه لا يقعد عنهم وعن غزو بلادهم، والمبادرة إلى قتالهم؛ فراسله كل كند وقمص وتقربوا إليه. ثم إن من بتل باشر راسلوه وبذلوا له تسليما فأرسل إلى الأمير حسان المنبجي، وهو من أكابر أمراء نور الدين، وإقطاعه منبج، فأمره أن يتسلمها منهم. فسار إليها، وتسلمها، وحصتها، ورفع إليها ذخائر كثيرة.
فصل

قال الرئيس أبو يعلى: وقد كان مجاهد الدين بزان أطلق يوم الفتح من الاعتقال وأعيد إلى داره. ووصل الرئيس مؤيد الدين المسّيب إلى دمشق، مع ولده النائب عنه في صرخد، إلى داره، معوّلا على لزومها، وترك التعرض لشيء من التصرفات والأعمال. فبدا منه من الأسباب المعربة عن إضمار الفساد، والعدول إلى خلاف مناهج السداد، والرشاد، ما كان داعيا إلى فساد النية فيه. وكان في إحدى رجليه فتح قد طال به ونسيه. ثم لحقه مرض وانطلاق متدارك أفرط عليه، واسقط قوته، مع فهاق متصل وقُلاع في فيه زائد. فقضى نحبه في رابع ربيع الأول، ودفن في داره، واستبشر الناس بهلاكه، والراحة من سوء أفعاله.
قال: ووردت الأخبار بقتل خليفة مصر الملقب بالظافر بن الحافظ، وأقيم ولده عيسى مقامه، وهو صغير يناهز ثلاث سنين، ولقبوه بالفائز، وعباس الوزير. ثم ورد الخبر بأن الأمير فارس الدين طلائع بن رزيك، وهو من أكابر الأمراء المقدمين، والشجعان المذكورين لما انتهى إليه الخبر وهو غائب عن مصر قلق لذلك وامتعض، وجمع واحتشد، وقصد العود إلى مصر. فلما عرف عباس بما جمع خاف الغلبة، فتأهب للهرب في خواصه وأسبابه وحرمه، وما تهيأ من ماله، وسار بهذا. فلما قرب من أعمال عسقلان وغزة خرج إليه جماعة من خيالة الإفرنج، فاغتر بكثرة من معه وقلة من قصده فلما حملوا عليه فشل أصحاًبه وأعانواعليه، وانهزم أقبح هزيمة، هو وابنه الصغير واسر ابنه الكبير، الذي قتل العادل ابن السلار، مع ولده وحرمه، وماله وكراعه، وحصلوا في أيدى الفرنج؛ ومن هرب لقي من الجوع والعطش شدة؛ ومات العدد الكثير من الناس والدواب ووصل في اثر هروبهم فارس الدين فوضع السيف فيمن ظفر به من أصحاب عباس، وانتصب في الوزارة وتدبير الأمور موضعه. ووصل إلى دمشق منهم من أنجاه الهرب على أشنع صفة من العدم والعرى، في آخر ربيع الآخر.
قلت: وفي ذلك يقول عمارة اليمنى من قصيدة له:
لكم يا بنى رزيك، لازال ظلكم ... مواطن، سحب الموت فيها مواطر
سللتم على عباس بيض صوارم ... قهرتم بها سلطانه وهو قاهر

وذكر الأمير أسامة بن منقذ في كتاب الاعتبار أن نصر بن عباس لما قتل ابن السلار وتوزر أبوه عباس كان نصر يعاشر الخليفة الظافر ويخالطه، وعباس كاره لذلك مستوحش من ابنه، لعلمه بمذهب القوم وضرب بعض الناس ببعض حتى يفنوهم وشرع الظافر مع ابن عباس في حمله على أبيه ومواصلته بالعطايا الكثيرة؛ ففاتحني في ذلك فنهيته. فأطلع والده على الأمر، فاستماله أبوه ولطف به، وقرر معه قتل الظافر، وكانا يخرجان متنكرين، وهما تربان سنهما واحد. فدعاه إلى داره ورتب من أصحابه معه في جانب الدار نفراً؛ ثم لما استقر به المجلس خرجوا عليه فقتلوه؛ وذلك سلخ محرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة، ورماه بجنب الدار وأصبح عباس جاء إلى القصر ضحوة نهار للسلام، فجلس في مجلس الوزارة ينتظر جلوس الظافر. فلما تجاوز وقت جلوسه استدعى، صاحب زمام القصر وقال: ما لمولانا ما جلس للسلام؟ فتبلد الأستاذ في الجواب؛ فصاح عليه وقال: مالك لا تجاوُبني قال: يامولاي؟ مولانا ما ندري أين هو. قال: مثل مولانا يضيع! ارجع واكشف الحال. فمضى ورجع؛ فقال: ما وجدنا مولانا. فقال يبقى الناس بلا خليفة! ادخل إلى الموالى إخوته يخرج منهم واحد لنبايعه. فمض وعاد، وقال: الموالى يقولون لك مالنا في الأمر شيء، والدنا عزله عنا وجعله في الظافر، والأمر لولده بعده. قال: أخرجوه حتى نبايعه. قال: وعباس قد قتل الظافر وعزم على ان يقول لإخوته أنتم قتلتموه ويقتلهم. فخرج ولد الظافر، ولعل عمره خمس سنين، يحمله الأستاذ؛ فأخذه عباس فحمله وبكى، وبكى الناس، ثم دخل به إلى مجلس أبيه، وهو حامله، وفيه أولاد الحافظ. قال ابن منقذ: ونحن في الرواق جلوس وفى القصر أكثر من ألف رجل من المصريين، فما راعنا إلا قوم قد خرجوا من المجلس مجتمعين إلى القاعة، فإذا السيوف تختلف على إنسان؛ فقلت لغلام لي أرْمَنِيّ: انظر من هذا المقتول. فمضى وعاد وقال: ما هؤلاء مسلمين هذا مولاي أبو الأمانة جبريل بن الحافظ قد قتلوه، وواحد قد شق بطنه يجذب مصارينه. ثم خرج عباس وهو اخذ برأس الأمير يوسف تحت إبطه وفي رأسه ضربة سيف، والذم، يفور منها، وأبو البقاء ابن أخيهم مع ابنه نصر. ثم أدخلوهما خزانة في القصر فقتلوهما، وفي الخزانة ألف سيف مجرد قال،: وكان ذلك اليوم من أشد الأيام التي جرت عليّ لأني رأيت من الفساد والبغي ما ينكره الله سبحانه وجميع خلقه.
وذكر الأمير أسامة بن منقذ في ديوانه قال كان لعباس أربعمائة جمل تحمل أثقاله، ومائتا بغل، ومائتا جنيب. فلما أراد الخروج من مصر يوم الجمعة رابع عشر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وقد قام عليه أهل مصر وعسكريتها، فارسهم وراجعهم، تقدم بشد خيله وجماله لتحمل ويخرج. فلما صار الجميع على باب داره، وقد ملأت ذلك الفضاء إلى قصر السلطان إلى الايوان، خرج غلام يقال له عنبر كان على أشغاله، وغلمانه كلهم تحت يده، فقال للجمالين والخَربَنْديّة والرّكابية: روحوا إلى بيوتكم وسيبوا الدواب. ففعلوا ذلك، وانحازوا إلى المصرين يقاتله معهم. وكان ما جرى، من تهميك الدواب لطفا من الله تعالى به، فإنها سدت الطريق بينه وبين المصريين. ومنعتهم من الوصول إليه، وهم في خلق كثير، ونحن في قلة ما نبلغ خمسين أرجلا؛ وغلمان عباس ومماليكه في ألف ومائتي غلام بالخيول الجياد والسلاح التام، وثمانمائة فارس من الأتراك؛ خرجوا كلهم من باب النصر ووقفوا في الفضاء الذي بينه وبين رأس الطابية فرارا من القتال. فشرع المصريون في نهب الخيل والجمال والبغال.فلما فتحوا طريقهم إليه خرج عباس من باب القصر وجاءوا في أثره حتى أقفلوا الباب وعادوا إلى نهب دوره. وكان عباس قد أحضر من العرب نحوا من ثلاثة آلاف فارس يتقوى بهم على المصريين، واستحلفهم، ووهبهم هبات عظيمة. فلما خرج من باب مصر غدروا به وقاتلوه أشد قتال ستة أيام، يقاتلهم من الفجر إلى الليل؛ فإذا نزل أمهلوه إلى نصف الليل، ثم يركبون ويهدون خيلهم على جانب الناس، ويصيحون صيحة واحدة، فتجفل الخيل وتقطع، ويخرج إليهم منها ما فيه منة وقوة فيأخذونه، فكان ذلك سبب هلاك خيله، وتمكن الإفرنج منه، واشتغاله عن سلوك طريق لا يقصد الفرنج إليه.

قال:ودامت الحرب بينه وبينهم من يوم الجمعة ضحى نهاره إلى آخر يوم الخميس، ثم جاءوا إليه وأخذوا منه حسبا على أموالهم وأنفسهم وبيوتهم ظنا أن له عودة إليهم؛ وانصرفرا عنه وهم أكثر من ثلاثة آلاف فارس. ويوم الأحد صبحتهم الإفرنج وقد هلك الناس من الجوع والعطش وماتت خيلهم، فقتلوا عباسا وابنه الأوسط، وأسروا ابنه الأكبر وقتلوا خلقا كثيرا؛ وأخذوا نساء عباس وخزائنه، وأسروا أولادا له صغارا وانصرفوا.
قلت: عباس هذا هو عباس ابن أبى الفتوح بن تميم بن المعز بن باديس الحميري ويلقب بالأفضل ركن الدين، ويكنى بأبى الفضل. ورأيت علامته في الكتب أيام وزارته: الحمد لله وبه أثق. وفيه يقول أسامة بن منقذ:
لقد عم جود الأفضل السيد الورى ... وأغنى غناء الغيث حيث يصوب
ومن أبيات لابن أبى أسعد فيه لما قتل الظافر:
وأنفق من أنعامهم في هلاكهم ... وأظهر ما قد كان عنه ينافق
ومد يدا هم طولوها إليهم ... وحلت بأهل القصر منه البوائق
سقى ربه كاس المنايا، وما انقضى ... له الشهر إلا وهو للكأس ذائق
وكان عباس قد تخيل من أسامة عند خروجه من مصر، يا يعلمه بينه وبين الملك الصالح من الودة والمصافاة، فأحضره واستحلفه أنه لا يفصل عنه. ثم لم يقنعه ذلك حتى أنقذ من أستاذى داره من يدخل على حرمه إلى داره، فأخذ أهله ؤأولاده، فتركهم عند أهله وأولاده، وقال قد حملت ثقلهم عنك، لهم أسوة بوالدة ناصر الدين، يعنى ولده ناصر الدين، وبأخواته. فلما خرجوا ونهبت دورهم ودوابهم عجز عن حمل من يخصه، فأعادهم أسامة من بلبيس، وانفذ إلى الملك الصالح يقول له: قد أنفذت أهلي وأولادي اليك، وأنت ولى ما تراه فيهم. فأنزلهم في دار، وأجرى عليهم الجاري الواسع، وأحسن إليهم غاية الإحسان. وكان يكاتبه في الرجوع إلى مصر وهو بلطف الأمر معه قصدا لخلاص أهل. وأولاده؛ فلما عرف ذلك منه نسبه إلى وحشة قلبه من القصور، ونفوره من المصريين. فأنفذ إليه يقول له: تصل إلى مكة في الموسم ويلقاك رسولي إليها يسلم إليك مدينة أسوان، وأنفذ إليك أهلك؛ وأمدك بالأموال؛ وهي كما علمت، الثغر بيننا وبين السودان، وما يسد الثغر مثلك. واكثر من الوعد وذكر رغبته في قربه ورعايته، وما بين وبينه من قديم الصحبة. فاستأذن أسامة في ذلك الملك العادل نور الدين، وكان في خدمته. فقال: يافلان ما تساوي الحياة الشتات، والرجوع إلى الأخطار، والبعد عن الأوطان. ومنعة من ذلك بإحسانه ووعده أن يستخلص أهله. فكتب أسامة إلى الملك الصالح يعتذر ويسأله تسيير أهله. وترددت بينهما مكاتبات، وأشعار متصلات، إلى أن سيرهم، وهم نيف وخمسون نسمة، في الإكرام والاحترام إلى آخر ولايته. وذكر أن أهل القصور والأمراء أنكروا تسييرهم، وقالوا نكون أهله رهائن عندنا لنأمن ما يكون منه. ووصله بعض أصحابه من دمشق، وهو في العسكر النوري بحلب، فأخبره أن من كان له بمصر من الأهل والأولاد والأصحاب وصلوا، وأن المراكب انكسرت بهم في ساحل عكا، ونهب الفرنج كل ما فيه، ولم يصلوا إلي دمشق إلا بأنفسهم. وأن تملك الإفرنج أعطاهم خمسمائة دينار أصلحوا منها حالهم واكتروا ظهرا إلى دمشق، فقال أسامة.
إلى الله أشكو فرقة دميت لها ... جفوني، وأذكت في بالهموم ضميري
تمادت إلى أن لاذت النفس بالمنى ... وطارت بها الأشواق كل طير
فلما قضى الله اللقاء تعرضت ... مساءة دهري في طريق سروري
فصلقال أبو يعلى: وفي آخر ربيع الأول وصل الأمير مجد الدين أبو بكر محمد نائب نور الدين في حلب إلى دمشق عقيب عوده من الحج، وأقام أياما وعاد إلى منصبه في حلب وتدبير أعمالها.قلت مجد الدين هذا هو ابن الداية؛ وكان نور الدين كثير الاعتماد عليه وعلى اخوته، وسيتكرر ذكرهم في هذا الكتاب. ومجد الدين أكبر إخوته، وقد مدحه الشعراء. قال القيسراني من بعض ما قاله فيه:
دعوا ما مضى من قبل هذا لما بعد ... فأقسم لولا المجد ما عرف المجد
كريم سمت أوصافه لعفاته ... قرائن كل اثنين بينهما عقد
محيّاه والبشرى، ويمناه والندى ... ونجواه والدنيا، وتقواه والزهد

ففي قربه الزلفى، وفي وعده الغنى ... وفي نيله الحسنى، وفى رأيه الرشد
إذا وجه نور الدين قابل مجده ... فقل في كمال البدر قابله السعد
وفى موسم هذه السنة توفى أمير الحرمين هاشم بن فليتة، وولى الحرمين ولده قاسم ابن هاشم، وهو الذي أرسل عمارة اليمنى الفقيه الشاعر إلى الديار لمصري، وسيأتي ذكره.
قال أبو يعلى: وفي ثامن جمادى الأولى ورد الخبر من ناحية مصر بان عدة وافرة من مراكب الفرنج من صقلية وصلت إلى مدينة تنيس على حين غفلة من أهلها، فهجمت عليها وقتلت وأسرت، وسبت ونهبت، وعادت بالغنائم بعد ثلاثة أيام، وتركتها صفرا. وبعد ذلك عاد من كان هرب منها في البحر بعد الحادثة، ومن سلم واختفى؛وضاقت الصدور عند استماع هذا الخبر المكروه.
قال: وفي شهر رمضان ورد الخبر من ناحية حلب بوفاة القاضي فخر لدين أبى منصور محمد بن عبد الصمد بن الطرسوسي؛ وكان ذاهمة ماضية، ويقظة ومروءة ظاهرة في داره وولده، ومن يلم به من غريب ووافد؛ وقد نفذ أمره وتصرفه في أعمال حلب في الأيام النورية، وأثر في الوقوف أثرا حسنا توفر به ارتفاعها، ثم اعتزل عن ذلك أجمل اعتزال.
ثم دخلت سنة خمسين وخمسمائةففيها تسلم نور الدين بعلبك من واليها ضحاك. ذكر ابن الأثير أن ذلك كان في سنة اثنتين وخمسين، وقال: كان ضحاك البقاعي ينوب ببعلبك عن، صاحب دمشق؛ فلما ملك نور الدين دمشق امتنع بها، ولم يمكن نور الدين محاصرتها لقربه من الفرنج؛ فلطف الحال معه إلى ذلك الوقت، فملكها، واستولى عليها.
وقال ابن أبى طي: لما فتح نور الدين دمشق اتصل ذلك بنجم الدين أيوب، فكاتب نور الدين في تسليم بعلبك، فانقذ إليه وتسلمها منه، وألحقه بأصحابه. قال: ورأيت بعض المؤرخين قد ذكر إن مجير الدين صاحب دمشق أنزل نجم الدين من القلعة وجعله في البلد: وولى القلعة رجلا يقال له ضحاك. فلما ملك نور الدين دمشق خرج إلى بعلبك واستنزل منها ضحاكا. وتوسط أسد الدين في امر أخيه نجم الدين مع نور الدين، فأقطعه إقطاعا وسيره إلى دمشق، فأقام فيها، ورد نظر دمشق إليه، وولى ولده تور انشاه شحنكية دمشق فساسها أحسن سياسة، ولم يزل بها إلى أن توفي، فولى صلاح الدين شحنكية .
قلت: هذا وهم تور انشاه هو الملك المعظم شمس الدولة الذي فتح اليمن في أيام أخيه صلاح الدين. فكيف يقول انه مات قبل أن يلي صلاح الدين شحنكية دمشق؟ وأما كونه ولى الشحنكية بدمشق قبل صلاح الدين فهذا قريب، وقد رأيت ما يؤكده. قرأت في ديوان العرقلة: وقال يهنئه بالشحنكية بدمشق وهو في دار عمه أسد الدين شيركوه ابن شاذى:
قلت لحسادك: زيدوافي الحسد ... قد سكن الدار، وقد حاز البلد
لا تعجبوا. إن حل دار عمه ... أماتحل الشمس في برج الأسد
وقال في صلاح الدين لما ولى الشحنكية:
لصوص الشام توبوامن ذنوب ... تكفرها العقوبة والصفاد
لئن كان الفساد لكم صلاحا ... فمولاي الصلاح لكم فساد
وله فيه:
رويدكم يالصوص الشّآم ... فإني لكم ناصح في مقالي
واياكم وسمى النبيّ ... يوسف رب الحجا والحجال
فذاك مقطع أيدي النساء ... وهذا مقطع أيدي الرجال
قال ابن أبى طي: وولى صلاح الدين شحنكية مشق والديوان، فأقام فيه أياما، ثم تركه وصار إلى حلب لأجل واقعة جرت بينه وبين صاحب الديوان، أبى سالم بن همام0 فأنفذ نور الدين وأخذ ابن همام وحلق لحيته، وطيف به في دمشق. قلت وابن همام هذا هو الذي ذكره الشنباشي في قصيدته وأشار إلى حلق لحيته بقوله:
كابى سالم بن همام لما ... قام للنصح عاد يمشي ملثم
قال ابن أبى طي واستخص نور الدين صلاح الدين وألحقه بخواصّه، فكان لا يفارقه في سفر ولا حضر. وكان يفوق الناس جميعا في لعب الكرة، وكان نور الدين يحب لعب الكرة.

قال أبو يعلى: ونزل نور الدين بعسكره بالأعمال المختصة بالملك قليج أرسلان ابن الملك مسعود بن سليمان بن قتلمش ملك قونية وما والاها، فملك عدة من قلاعها وحصونها بالسيف والأمان. وكان الملك قليج أرسلان وأخواه ذو النون ودولات. مشتغلين بمحاربة أولاد الدّانِشَمْند ونصروا عليهم في وقعة كانت بأقصرا في شعبان. فلما عاد قليج أرسلان وعرف ما كان من نور الدين في بلاده، عظم عليه هذا الأمر واستبشعه، مع ما بينهما من الموادعة والمهادنة والصهر. وراسله بالمعاتبة والإنكار، والوعيد. والتهديد، فأجابه نور الدين بحسن الاعتذار وجميل المقال. وبق الأمر بينها مستمرا على هذه الحال، وعاد نور الدين من حلب إلى دمشق.
قال: وولى الأسطول المصري مقدم شديد الباس، بصير باشتغال البحر. فاختار جماعة من رجال البحر يتكلمون بلسان الفرنج، وألبسهم ثيابهم، ونهض بهم في عدة من المراكب الأسطولية، وأقلع في البحر لكشف الأماكن والمكامن، والمسالك المعروفة بمراكب الروم فتعرف أحوالها. ثم قصد ميناء صور، وقد ذكر له أن فيه شختورة رومية كبيرة فيها رجال كثير، ومال وافر. فهجم عليها وملكها، وقتل من فيها، واستولى على ما حوته، وأقام ثلاثة أيام، ثم احرقها وعاد عنها في البحر، فظفر بمراكب حجاج الفرنج، فقتل وانتهب وأسر وعاد إلى مصر بالغنائم والأسرى.
قلت:وفي هذه السنة ورد أمر الخليفة بغداد، وهو المقتفي، إلى أمير الحرمين، قاسم ابن هاشم، يأمره أن يركب على باب الكعبة المكرمة باب ساج جديدا قد ألبس جميع خشبه فضة وطلى بذهب، وأن يأخذ أمير الحرمين حلية الباب القديم لنفسه، ويسير إليه، خشب الباب القديم مجردا ليجعله تابوتا يدفن فيه عند موته. ذكر ذلك الفقيه عمارة الشاعر وقال: سألني أمير الحرمين أن أبيع له الفضة التي أخذها من الباب في اليمن، ومبلغ وزنها. خمسة عشر ألف درهم، فتوجهت إلى زبيد وعدن من مكة، في صفر سنة إحدى وخمسين، وحججت في الموسم منها، فدفعت لأمير الحرمين ماله، وألزمني الترسل عنه إلى مصر، يعنى مرة ثانية، بسبب جناية جناها خدمه على حاج مصر والشام.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائةقال ابن الأثير: فيها حاصر نور الدين قلعة حارم، وهي حصن غربي حلب بالقرب من أنطاكية، وضيق على أهلها؛ وهي من أمنع الحصون وأحصنها في نحور المسلمين. فاجتمعت الفرنج، من قرب منها ومن بعد، وساروا نحوه لمنعه. وكان بالحصن شيطان من شياطين الفرنج يرجعون إلى رأيه، فأرسل إليهم يعرفهم قوتهم، وأنهم قادرون على حفظ الحصن والذب عنه، بما عندهم من العدد والعدد، وحصانة القلعة، ويشير عليهم بالمطاولة وترك اللقاء؛ وقال لم إن لقيتموه هزمكم وأخذ حارم وغيرها، وإن حفظتم أنفسكم منه أطقنا الامتناع عليه. ففعلوا ما أشار به عليهم، وراسلوا نور الدين في الصلح على أن يعطوه حصة من حارم، فأبى أن يجيبهم إلا على مناصفة الولاية، فأجابوه إلى ذلك، فصالحهم وعاد. وفى ذلك يقول بعض الشعراء من قصيدة؛ وذكر أبياتا من قصيدة لابن منير. وقد سبق أن ابن منير توفى سنة ثمان وأربعين. فإما أن يكون ابن منير قال هذا الشعر في غير هذه الغزاة، واما أن تكون هذه الغزاة في غير هذه السنة.
وقد قرأت في ديوان ابن منير: وقال يمدحه ويهنئه بالعود من غزاة حارم:
مافوق شأوك في العلا مزداد ... فعلام يقلق عزمك الإجهاد
هم ضربن على السماء سرادقا ... فالشهب اطنابٌ لها وعماد
أنت الذي خطبت له حساده ... والفضل ما اعترفت به الحساد
قام الدليل وسلم الخصم اليلن ... دَدُ وانجلى للآئر الإسناد
زهرت لدولتك البلاد، فروحه ... أرج المهب، ودوحها مياد
أحيا ربيع العدل ميت ربوعها ... فالبرض نجم والهشيم مراد
فالعيش إلا في جنابك ميتة ... والنوم إلا في حماك سهاد
وإذا العِدا زرعوا النفاق وأحصدوا ... كيدا فعزمك ناقض حصاد
بالمقربات كان فوق متونها ... جن الملا، وكأنها أطواد
تداى ومن وحى الكماة صفورها ... فالزحر قيد والندى قياد

سحب إذا سحبت بأرض ذيلها ... فالحزن سهل والهضاب وهاد
يهدى النواظر في دُجُنّة نقعها ... بدر بسرجك نير وقَّاد
أليست دين محمد، يانوره ... عزا له فوق السماء إساد
مازلت تسمكه بمياد القنا ... حتى تثقف عوده المّياد
لم يبق مذ أرهفت عزمك دونه ... عدد يراع به ولا استعداد
إن المنابر لو تطيق تكلما ... حمدتك عن خطبائها الأعواد
ولئن حمت منك الأعادي مهلة ... فلهم إلى المرعى الوبى معاد
وَلَكَمْ لَكُمْ في أرضهم من مشهد ... قامت به لِظُباكمُ الأشهاد
مُلقٍ بأطراف الفرنجة كلكلا ... طرفاه ضرب صادق وجلاد
حاموا، فلما عاينوا حوض الردى ... حاموا برائش كيدهم أو كادوا
ورجا البرنس وقد تبرنس ذلة ... حرما بحارم، والمصاد مصاد
ضجت ثعالبه فأخرس جرسها ... بيض تناسب في الحديد حداد
وسواعد ضربت بهن وبالقنا ... من دون ملة أحمد الأسداد
يركزن في حلب ومن أفنانها ... تجنى فواكه أمنها بغداد
يامن إذا عصفت زعازع بأسه ... خمدت جحيم الشرك فهي رماد
عجبا لقوم حأولوك وحاولوا ... عودا فواتاهم إليه مراد
ورأوا لواء النصر فوقك خافقا ... فأقام منهم في الضلوع فؤاد
من منكر ان ينسف السيل الربا ... وأبوه ذاك العارض المداد
أو أن يعيد الشمس كاسفة السنا ... نار لها ذاك الشهاب زناد
لا ينفع الآباء ما سمكوا من الْ ... علياء حتى ترفع الأولاد
ملك يقيد خوفه ورجاؤه ... ولقلما تتظافر الأضداد
وقال يهنئه بالنصر يوم حارم قصيدة أولها:
لملكك ما نشاء من الدوام
حظيت من المعالي بالمعاني ... ولاذ الناس بعدك بالأسامي
عزيز المنتمى عالى المراق ... بعيد المرتمى غالى المسامي
فما أحد إلى العلياء يدلى ... بمحتدك القسيمى القسامى
أبوك المعتلى قمم الأعادي ... إذا استعرت مذامرة القمام
زكا عرق العراق وقد تكنى ... به وأطال من شمم الشام
وجدك جد حتى قال قوم ... على الفلك ابتنى عمد الخيام
فخرت ففت آباء عظاما ... إذا فخر المنافر بالعظام
وقفنا والنواظر مسجدات ... وروح العز ذارىّ الختام
أساطر كالزبور مقصلات ... كانا من صلاة في نظام
لدى ملك سجاياه سجال ... تعاقب بين عفو وانتقام
فأهلنا لسالفتي هلال ... وكفرنا لضاحكتي حسام
ذهلنا والسماط يخال سمطا ... وقد سجد المقاول للسلام
هل الدَّست استقل بليث غاب ... أم الفلك ارتدى بدر التمام
كريم، أكثرت يده أيادي الْ ... عفاة، وقللت عدد الكرام
وخير سماعه ضرب مدام ... إذا طرب الملوك إلى المُدام
تطير به إلى العلياء نفس ... غروب عن ملاءمة الملام
سقي الله العوامل من جبال ... سعفن النقع عن نقع الأوام
فكم أنتجت من أمل عقيم ... بها، وحسنت من داء عقام
بإنب والرعال، كأن ثول ... تطاوح تحت عير من أيام
وأيدي الخيل تذرع لج بحر ... من الدم مزيد الثَّجَّيْن طامى
مقام كنت قطب رحاه، ارجي ... مقام بين زمزم والمقام
أحلت الدين فيه، وكان هما ... عزيز القوم، معتدل القوام

رميتهم بأرعن مرجحن ... أبارهم، وكنت أبر رامى
وفى شجراء حارم شاجرتهم ... سواهم كالسهام بكالسهام
فطائر حممت لهم حماما ... تطاير تحته، مثل الحمام
فلو قد مثل الإسلام شخصا ... لرشف ما وطئت من السلام
حماه وقد تناعس كل راع ... وقام وقد تقاعس كل حام
فأكذب مدعين هفوا وغروا ... بأن الأرض تخلو من إمام
أولى الأبصاركم هذا التعاشي ... عن النور المبين بل التعامي
عن القمر الذي يجلوه ظل ال ... عواصم في ضيا الليل التهامي
هو المهدى لامن ضل فيه ... كثيرا واستخف سوى هشام
وقائم عصرنا لا ما يمنى ... به من صوغ أضغاث المنام
بنور الدين انشر كل حق ... أطيل ثواؤه تحت الرجام
وطالت قية الإسلام حتى اس ... توت بين الفوارس والنعام
تطابق لاسمه لفظ ومعنى ... أحلاه الطباق على الأنام
جرى قدامه ابن سبكتكين ... وقبل الوبل هينمة الرهام
وكان من النجوم بحيث تومى ... إليه من غيابات التكامى
وجئت فصار أشمخ ما بناه ... لما شيدت الطأ من رغام
أطاعك إذ أطعت الله جد ... ركبت به الزمان بلا زمام
ألا يارُ بما اتفق الأسامي ... وفاضل. بينها درج التسامي
جنى شرفا من استغواه حتف ... إليك، وكم حياة من حمام
ترشفك الكماة وأنت موت ... كأنك من طعان في طعام
فصلقال الرئيس أبو يعلى: توجه نور الدين إلى ناحية حلب في بعض عسكره في الرابع والعشرين من صفر عند انتهاء خبر الفرنج إليه بعيثهم في أعمال حلب وإفسادهم. وصادفه في طريقه المبشر بظفر عسكره الحلبي بالإفرنج المفسدين على حارم، وقتل جماعة منهم وأسرهم. ووصل مع المبشر عدة وافرة من رءوس الإفرنج المذكورين وطيف بها في دمشق.
قال: وعاد نور الدين إلى دمشق. في بعض أيام رمضان سالما بعد تهذيب حلب وأعمالها، وتفقد أحوالها واستقرت الموادعة بينه وبين ولد السلطان مسعود صاحب، قونية وزال ما كان حدث بينهما.
وفى شوال تقررت الموادعة والمهادنة بينه وبين ملك الإفرنج مدة سنة كاملة، أولها شعبان، وأن المقاطعة المحمولة إليهم من دمشق ثمانية آلاف دينار صورية؛ وكتبت المواصفة بذلك بعد تأكيدها بالأيمان والمواثيق المشددة.
قال: وفى العشر الآخر من ذي الحجة غدر الفرنج ونقضوا ما كان استقر من الموادعة والمهادنة بحكم وصول عدة وكفرة من الفرنج في البحر، وقوة شوكتهم بهم؛. ونهضوا إلى ناحية الشعراء المجاورة لبانياس، وقد اجتمع فيها من جشارات خيول العسكرية والرعية وعوامل فلاحى الضياع ومواشي الحلابين والعرب والفلاحين الشيء الكثير الذي لا يحص فيذكر، للحاجة إلى الرعي بها والسكون إلى الهدنة المستقرة، ووقع للمندوبين بحفظها تقصير؛ فانتهزوا الفرصة واستاقوا جميع ما وجدوه، وأفقروا أهله منه، مع من أسروه من تركمان وغيرهم، وعادوا ظافرين آمنين. والله عادل في حكمه، يتولى المكافأة لهم، والإدالة منهم. وقد فعل سبحانه ذلك على ما سيأتي في حوادث السنة الآتية.
وفيها توفي القاضي أبو الفتح محمود بن إسماعيل بن قادوس، كاتب الإنشاء بالحضر. المصرية، وأصله من دمياط، ذكره العماد الكاتب في الخريدة وأثنى عليه. ومن شعره، في رجل كان يكثر التكبير في آخر الصلاة:
وفاتر النية عنينها ... مع كثرة الرعدة والهزه
مكبر سبعين في مرة ... كأنه صلى على حمزه
وله في وصف كتاب
مداده في الطرس لما بدا ... قبله الصب ومن يزهد
كأنما قد حل فيه اللّمى ... أو ذاب فيه الحجر الأسود
وبلغني أن القاضي الفاضل كان يعظمه كثيرا ويسميه ذا البلاغتين، وهو أحد من اشتغل الفاضل عليه، وكان لا يتمكن من اقتباس فوائده غالبا إلا في ركوبه من القصر إلى منزله بمصر، ومن منزله إلى القصر، فيسايره الفاضل ويجاريه في فنون الكتابة والأدب والشعر.

قال: وفي يوم الثلاثاء الثالث من ربيع الأول من هذه، السنة توفى الفقيه الزاهد أبو البيان نبا أبن محمد المعروف بابن الحوراني؛ وكان حسن الطريقة مذ نشأ صبيا إلى أن قض، متدينا نقيا، عفيفا سخيا، محبا للعلم والأدب، والمطالعة للغة العرب. وكان له عند خروج سريره لقبره في مقابر الباب الصغير المجاورة لقبور الصحابة من الشهداء، رض الله عنهم، يوم مشهود، من كثرة المتأسفين له. والمثنين عليه.
قلت: وفي هذه السنة والتي بعدها كثرت الزلازل بالشام.
قال أبو يعلى: في ليلة الثاني والعشرين من ربيع الأول وافت زلزلة هائلة، وجاءت قبلها وبعدها مثلها في النهار وفي الليل، ثم جاء بعد ذلك ثلاث دونهن، بحيث أحصين ست مرات. وفي ليلة الخامس والعشرين منه جاءت زلزلة ارتاع الناس منها في أول النهار وآخره وتواصلت الأخبار من ناحية حلب وحماة بانهدام مواضع كثيرة وانهدام برج من أبراج أفامية بهذه الزلازل المباركه. وذكر أن الذي أحصى عدده منها تقدير الأربعين؛ وما عرف مثل ذلك في السنين الماضية، والأعصار الخالية. وفى التاسع والعشرين من الشهر بعينه وافت زلزلة آخر النهار، وبالليل ثانية في آخره؛ وفى أول شهر رمضان زلزلة مروعة، وثانيهآ، وثالثة؛ وفى ثالث رمضان ثلاث زلازل، وأخرى وقت الظهر، وأخرى هائلة أيقظت النيام وروعت القلوب انتصاف الليل. وفي ليلة نصف رمضان زلزلة هائلة أعظم مما سبق؛ وعند الصباح أخرى، رفي الليلة التي تليها زلزلتان أولها وآخرها، وفى اليوم الذي بعد يومها، وفي ليلة الثالث والعشرين زلزلة مزعجة. وفى ثاني شوال زلزلة أعظم مما تقدم، وفي سابعه، وسادس عشره، وفي اليوم الذي جاء بعده، أربع زلازل، وليلة الثاني والعشرين منه. ودفع الله تعالى عن دمشق وضواحيها ما خافه أهلها من توالى ذلك وتتابعه، برأفته بهم، ورحمته لهم؛ فله الحمد والشكر. لكن وردت الأخبار من ناحية حلب بكثرة ذلك فيها، وأنهدام مساكنها. وأما شيزر فإن الكثير من مساكنها انهدم على سكانه بحيث قتل منهم العدد الكثير. وأما كفر طاب فهرب أهلها منها خوفا، على أرواحهم. واما حماة فكانت كذلك. وأما باقي الأعمال الشامية فما عرف ما حدث فيها من هذه القدرة الباهرة.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وخمسمائةففي ليلة تاسع عشر صفر وافت زلزلة عظيمة، وتلاها أخرى. وكذا في ليلة العشرين واليوم بعدها. وتواصلت الأخبار من الشام بعظيم تأثير هذه الزلازل.
وفي ليلة الخامس والعشرين من جمادى الأولى وافت أربع زلازل، وضج الناس بالتهليل والتسبيح والتقديس. وفى ليلة رابع جمادى الآخرة وافت زلزلتان. وتواصلت الأخبار من ناحية الشمال بأن هذه الزلازل أثرت في حلب تأثيرا أزعج أهلها وأقلقهم، وكذا في حمص وهدمت مواضع فيها وفي حماة وكفر طاب وأفامية، وهدمت ما كان بنى من مهدوم الزلازل الأولى وحكى. أن تيماء أثرت فيها هذه الزلازل تأثيرا مهولا.

وفى رابع رجب نهارا وافت بدمشق زلزلة عظيمة لم ير مثلها فيما تقدم ودامت رجفاتها حتى خاف الناس على أنفسهم ومنازلهم، وهربوا من الدور والحوانيت والسقائف، وانزعجوا، وأثرت في مواضع كثيرة، ورمت من فص الجامع الشيء الكثير الذي يعجز عن إعادة مثله؛ ثم وافت عقيبها زلزلة في الحال، ثم سكنتا بقدرة من حركهما. ثم تبع ذلك في أول ليلة اليوم المذكور زلزلة، وفى وسطه زلزلة، وفى آخره زلزلة، وفي ليلة الجمعة ثامن رجب زلزلة مهولة أزعجت الناس وتلاها في النصف منها ثانية، وعند انبلاج الصبح ثالثة، وكذلك في ليلة السبت، وليلة الأحد، وليلة الاثنين؛ وتتابعت بعد ذلك بما يطول به الشرح. ووردت الأخبار من ناحية. الشمال بما يسوء سماعه ويرعب النفوس ذكره، بحيث انهدمت حماة. وقلعتها، وسائر دورها ومنازلها، على أهلها من الشيوخ والشبان، والأطفال والنسوان، وهم العدد الكثير والجم الغفير، بحيث لم يسلم منهم إلا القليل اليسر وأما شيزر فإن ربضها سلم إلا ما كان خرب أولا. وأما حصنها المشهور فإنه انهدم على واليها، تاج الدولة بن أبى العساكر بن منقذ ومن تبعه، إلا اليسير ممن كان خارجا. وأما حمص فإن أهلها كانوا قد اختلفوا منها إلى ظاهرها فسلموا وتلفت مساكنهم وتلفت قلعتها. وأما حلب فهدمت بعض دورها وخرج أهلها منها إلى ظاهر البلد وكفر طاب وأفاميه وما والاها ودنا منها وبعد عنها من الحصون والمعاقل إلى جبلة وجبيل. وأتلفت سلمية وما اتصل بها إلى ناحية الرحبة وما جاورها. ولو لم يدرك العباد، والبلاد رحمة الله تعالى ولطفه ورأفته لكان الخطب أقطع. وقد نظم في ذلك من قال.
روعتنا زلازل حادثات ... بقضاء قضاهُ رب السماء
هدمت حصن شيرز، وحماة ... أهلكت أهله بسوء القضاء
وبلادا كثيرة وحصونا ... وثغورا موثقات البناء
فإذا ما رنت عيون إليها ... أجرت الدمع عندها بالدماء
وإذا قض من الله أمر ... سابق في عباده بالمضاء
حار قلب اللبيب فيه ومن كا ... ن له فطنة وحسن ذكاء
وتراه مسبحا باكَي العين ... مَرُوعاً من سخطة وبلاء
جل ربي في ملكة، وتعالى ... عن مقال الجُهّال والسفهاء
قال: وأما أهل دمشق، فلما وافتهم الزلزلة في ليلة الاثنين التاسع والعشرين من رجب ارتاع الناس من هولها، واجفلوا من منازلهم والمسقف إلى الجامع والأماكن الخالية. من البنيان خوفا على أنفسهم. ووافت بعد ذلك أخرى، ففتح البلد وخرج الناس إلى ظاهره والبساتين والصحراء، وأقاموا عدة ليال وأيام عل الخوف والجزع، يسبحون ويهللون، ويرغبون خالقهم ورازقهم في الطف بهم والعفو عنهم.
قال: وفى الرابع والعشري من رمضان وافت دمشق زلزلة عظيمة روعت الناس وأزعجتهم، لما وقع في نفوسهم مما قد جرى على بلاد الشام من تتابع الزلازل فيها. ووافت الأخبار من ناحية حلب بان هذه الزلزلة جاءت فيها هائلة فقلقلت من دورها وجدرانها العدد الكثير؛ وأنها كانت بحماة أعظم مما كانت في غيرها، وأنها هدمت ما كان عمر فيها من بيوت يلتجأ إليها. وأنها دامت فيها أياما كثيرة في كل يوم هذه وافرة من الرجفات الهائله، يتبعها صيحات مختلفات توفى على أصوات الرعود القاصفة المزعجة. فسبحان من له الحكم والأمر. وتلا ذلك ردفات. متوالية أخف من غيرهن. فلما كان ليلة السبت العاشر من شوال وافت زلزلة هائلة بعد صلاة العشاء الاخرة، أزعجت وأقلقت، وتلاها في أثرها هزة خفيفة. وكذا، في ليلة العاشر من ذي القعدة وفي غدها زلازل، وليلة الثالث والعشرين، والخامس والعشرين منه أيضا زلازل، نفر الناس من هولها إلى الجامع والأماكن المنكشفة، وضجوا بالتكبير والتهليل، والتسبيح والدعاء، والتضرع إلى الله تعالى. وفى يوم الجمعة، انسلاخ ذي القعدة، وافت زلزلة رجفت لها الأرض، وانزعج لها الناس.

وقال ابن الأثير: في سنة اثنتين وخمسين كان بالشام زلزلة شديدة ذات رجفات عظيمة متتابعة أخربت البلاد وأهلكت العباد، وكان أشدها بمدينة حماة وحصن شيزر، فانهما خربا بمرة وكذا ما جاورهما كحصن بارين والمعرة، وغيرهما من البلاد والقرايا وهلك تحت الهدم من الخلق ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وتهدمت الأسوار والدور والقلاع. ولولا أن الله تعالى من على المسلمين بنور الدين، جمع وحفظ البلاد، وإلا كان دخلها الإفرنج بغير حصار ولا قتال. قال: ولقد بلغني من كثرة الهلكى أن بعض المعلمين بحماة ذكر أنه فارق لمهم، فجاءت الزلزلة فأخربت الدور وسقط المكتب على الصبيان جميعهم قال المعلم فلم يأت أحد يسأل عن صبي كان له في المكتب.
قلت: وقرأت في ديوان الأمير الفاضل مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن منقذ: وقال في الزلازل التي أهلكت كثيرا من أهل الشام، وكان ابتداؤها في شهر الله رجب سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وهلك بها من ملك من الخلق، وكان نحوا من عشرة آلاف نسمة، قال: وكتب هذا المكتوب والزلازل إلى الآن تتعهد البلاد:
نمنا عن الموت والمعاد، وأصبح ... نا نظن اليقين احلاما
فحركتنا هذى الزلازل أي ... تيقظوا كم ينام من ناما
وقال أيضا:
أيها الغافلون عن سكرة المو ... ت واذ لا يسوع في الحلق ريق
كم إلى هذا التشاغل والغف ... لة، حار الساري وضل الطريق
إنما هزت الزلازل هذى ال ... أرض بالغافلين كي يستفيقوا
وقال في الزلازل أيضا، وقد سكن الناس بعد الدور والنزهة في أكواخ عملوها بالأخشاب لئلا تهدها الزلازل:
يا أرحم الراحمين ارحم عبادك من ... هذى الزلازل فهي الهُلْك والعطب
ماجت بهم أرضهم حتى كأنهم ... ر كاب بحر مع الأنفاس تضطرب
" فنصفهم هلكوا فيها، ونصفهم لمصرع السلف الماضين يرتقب
تعوضوا من مشيدات المنازل بال ... أكواخ فهي، قبور سقفها خشب
كأنها سفن قد أقبلت وهم ... فيها، فلا ملجأ منها ولا هرب
وقال يرثى أهله الذين هلكوا بالزلازل بحصن شيزر قصيدة منها:
ما استدرج الموت قومي في هلاكهم ... ولا تخرمهم مثنى ووحدانا
فكنت أصبر عنهم صبر محتسب ... وأحمد الخطب فيهم عز أوهانا
وافتدى بالورى قبلى، فكم فقدوا ... أخا، كم فأرقوا أهلا وجيرانا
لكن سقيت المنايا وسط جمعهم ... رغا، فخروا على الأذقان إذعانا
وفاجأتهم من الأيّام قارعة ... سقتهم بكئوس الموت ذيفانا
ماتوا جميعا كرجع الطرف، وانقرضوا ... هل ما ترى تارك للعين إنسانا
أعزز على بهم من معشر صبروا ... على الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لم يترك الدهر لي من بعد فقدهم ... قلبا أجشمه صبر أو سلوانا
فلو رأوني لقالوا مات اسعدنا ... وعاش للهم والأحزان أشقانا
لم يترك الموت منهم من يخبرني ... عنهم، فيوضح ما قالوه تبيانا
بادوا جميعا وما شادوا، فواعجبا ... للخطب أهلك عمارا وعمرانا
هذى قصورهم أمست قبورهم ... كذاك كانوا بها من قبل سكانا
ويح الزلازل، افنت معشري فإذا ... ذكرتهم خلتني في القوم سكرانا
لا ألتقي الدهر من بعد الزلازل، ما ... حييت، إلا كسير القلب حيرانا
أخنت على معشري الأدنْين فاصطلمت ... منهم كهولا وشبانا وولدانا
لم يحمهم حصنهم منها، ولا رهبت ... بأسا تناذره الأقران أزمانا
إن أقفرت شيزر منهم فهم جعلوا ... منيع أسوارها بيضا وخرصانا
هم حموها، فلو شاهدتهم وهم ... بها، لشاهدت آسادا وخفانا
تراهم في الورى اسدا، ويوم ندى ... غيثاُ مغيثا، وفي الظلماء رهبانا
بنو أبي وبنو عمي، دمي دمهم ... وإن أروني منأواة وشنانا

يطيب النفس عنهم انهم رحلوا ... وخلقوني على الآثار عجلانا
وكتب إليه الصالح بن رزيك قصيدة يعزيه عن أهله منها:
بابي شخصك الذي لا يغيب ... عن عياني، فهو البعيد القريب
يا أخلاى بالشام لئن غب ... تم فشوقي إليكم لا يغيب
غصبتنا الأيام قربكم من ... ا ولا بد أن ترد الغصوب
كره الشام أهله، فهو محقو ... ق بألا يقيم فيه لبيب
إن تجلت عنه الحروب قليل ... خلفتها زلازل وخطوب
رقصت أرضه عشية غنى الر ... عد في الجو، والكريم طروب
وتثذت حيطانه إذ أمالت ... ها شمال بزمرها وجنوب
لا هبوب لنائم من أمانيه ... وللعاصفات فيها هبوب
وأرى البرق شامتا ضاحك السن ... وللجو بالغمام قطوب
ذكروا أنه تذوب به السح ... ب فما للصخور أيضا تذوب
أبذنب أصابها قدر الل ... ه فالأرض، كالأنام، ذنوب
إن ظني، والظن مثل سهام الر ... مي، منها المخطي ومنها المصيب
أن هذا لأن غدت ساحة القد ... س وما للإسلام فيها نصيب
منزل الوحي قبل بعث رسول الل ... ه، فهو المحجوج والمحجوج
نزلت وسطه الخنازير والخم ... ر، وبارى الناقوس فيه الصليب
لوراه المسيح لم يرض فعلا ... ذكروا أنه له منسوب
أبعد الناس عن عبادة رب الن ... اس قوم إلهم مصلوب
لهف نفسي على ديار من السك ... ان أقوت، فليس فيها عريب
فاحتسب ما اصاب قومك مجد الد ... ين، واصبر، فالحادثات ضروب
إن تخصصكم نوائب مازا ... لت لكم دون من سوامكم ننوب
فكذاك القناة، يكسر يوم الر ... وع منها صدر وتبقى الكعوب
وقرأت في ديوان العرقلة: كان المولى صلاح الدين يوسف بن أيوب مع عبيد غلام المولى، وكان عيد هذا موصوفا بالثقل، في بيت بمدينة حماة يوم الزلزلة فوقعت المدينة بأسرها سوى ذلك البيت الذي هما فيه. فقال العرقلة:
قل لصلاح الدين رب الندى ... بلغ عبيدا كل ما امله
بثقه لما تصا حبتما ... سلمك الله من الزلزلة
وقرأت في بعض كتب أبى الحسين الرازي عن شيوخه وقع بدمشق في ذي القعدة سنه خمس وأربعين ومائتين زلازل عظيمة حكى نحو مما مض ذكره وأكثر؛ نسأل الله تعالى تمام العافية.
فصلقال الرئيس أبو يعلى: في ثالث عشر ربيع الأول توجه نور الدين إلى ناحية بعلبك لتفقد أحوالها وتقرير أمر المستحفظين لها. وتواصلت الأخبار إليه من ناحية حمص، وحماة بإغارة الفرنج الملاعين على تلك الأعمال.
وفي خامس عشر ربيع الأول ورد المبشر من العسكر المنصور برأس الماء بأن ناصر الدبن أمير أميران لما انتهى إليه خبر الفرنج أنهم قد أنهضوا سرية وافرة العدد إلى ناحية بانياس لتقويتها، أسرع النهضة إليهم، وعدتهم سبعمائة فارس سوى الرجالة. فأدركهم قبل الوصول إلى بانياس وقد خرج إليهم من كان فيها من حماتها، فأوع بهم وقد كان كمن لهم في مواضع كمناء من شجعان الاتراك، واندفع المسلمون بين أيديهم في أول المجال، وظهر عليهم الكمناء، فأنزل الله نصره على المسلمين، بحيث لم ينج منهم إلا القليل؛ وصاروا بأجمعهم بين قتيل وجريح، ومسلوب وأسير. وحصل في أيدي المسلمين من خيولهم وسلاحهم، وأموالهم وأسراهم، ورءوس قتلاهم، ما لا يحدُ كثرة ومحقت السيوف عامة رجالتهم من الإفرنج ومسلمي جبل عاملة المضافين إليهم. ووصلت الأسرى ورءوس القتلى والعدد إلى دمشق، وطيف بهم، وقد اجتمع لمشاهدتهم الخلق، وكان يوما مشهودا وانفذ إلى نور الدين إلى بعلبك جماعة من أسرى المشركين فأمر بضرب أعناقهم صبرا.

قال: وتبع هذا الفتح ورود البشرى الثانية من أسد الدين باجتماع العدد الكثير إليه من شجعان التركمان، وافي قد ظفر من المشركين بسريه وافرة ظهرت في معاقلهم من ناحية الشمال، فانهزمت، وتخطف التركمان منهم من ظفروا به. قال: ووصل أسد الدين، إلى بعلبك في العسكر من مقدمي التركمان وأبطالهم للجهاد، وهم في العدد الكثير والجم الغفير، واجتمعوا بنور الدين. وتقررت الحال على قصد بلاد المشركين لتدويخها، والابتداء بالنزول على بانياس. وقدم نور الدين دمشق في إخراج آلات الحروب وتجهيزه إلى العسكر بحيث يقيم أياما يسيرة ويتوجه. وأمر بالنداء بدمشق في الغزاة والمجاهدين؛ فتبعه من الأحداث والمطوعة، والفقهاء والصوفية والمتدينين خلق كثير؛ وخرج يوم السبت انسلاخ شهر ربيع الأول.
وفي سابع ربيع الآخر، عقيب نزول نور الدين على بانياس ومضايقته لها بالمنجنيقات والحرب، سقط بدمشق الطائر من العسكر المنصور بظاهر بانياس، يتضمن كتابة الإعلام لورود المبشر من معسكر أسد الدين بناحية هونين في التركمان والعرب بأن الفرنج، خذلهم الله تعالى.، أنهضوا سرية من أعيان مُقدَّميم وأبطالهم تزيد على مائة فارس، سوى أتباعهم، لكبس المذكورين، ظّنامنهم بأنهم في قل، ولم يعلموا انهم في ألوف. فلما دنوا منهم وثبوا إليهم كالليوث إلى فرائسها فأطبقوا عليهم بالقتل والسمر، والسلب، ولم يبق منهم إلا اليسير. ووصلت الأسرى ورءوس القتلى وعددهم من الخيول المنتخبة، والطوارق، والقنطاريات، إلى دمشق وطيف بهم فيه يوم الاثنين تالي اليوم المذكور.
قال: وتلا هذه الموهبة المتجددة سقوط الطائر من المعسكر المحروس ببانياس، في يوم الثلاثاء تلو المذكور، يذكر افتتاح مدينة بانياس بالسيف قهرا، على مض أربع ساعات من يوم الثلاثاء المذكور، عند تناهي النقب وإطلاق النار فيه، وسقوط البرج المنقوب وهجوم الرجال فيه، وبذل السيف في قتل من فيه، ونهب ما حواه، وانهزام من سلم إلى القلعة وانحصارهم بها، وأن أخذهم بمشيئة الله تعالى لا يبطىء، والله يسهله ويعجله.
قال: وانفق بعد ذاك أن الفرنج تجمعوا من معَاقلهم عازمين على استنقاذ الهنفري صاحب بانياس ومن معه من أصحابه المحصورين بقلعة بانيس، وقد أشرفوا على الهلاك وبادروا وبالغوا في سؤال نور الدين الأمان ويسلمون ما في أيديهم من القلعة وما حوته لينجوا سالمين؛ فلم يجبهم إلى ما سألوه ورغبوا فيه. فلما وصل ملك الفرنج في جمعه من الفارس والراجل من ناحية الجبل على حين غفله من العسكرين، النازل على بانياس لحصارها، . والنازل على الطريق لمنع الواصل إليها، اقتضت السياسة الاندفاع عنها بحيث وصلوا إليها واستخلصوا من كان فيها. وحين شاهدوا ماعم بانياس من إخراب سورها ومنازل سكانها يئسوا من عمارتها بعد خرابها.

قال: وفي تاسع جمادى الأولى سقطت الأطيار بالكتب من المعسكر النوري تتضمن الإعلام بأن الملك العادل نور الدين، أعز الله نصره، لما عرف أن معسكر الكفرة الإفرنج على الملاحة، بين طبرية وبانياس، نهض في عسكره المنصور من الأتراك والعرب وجد في السير. فلما شارفهم وهم غازون، وشاهدوا راياته قد أظلتهم، بادروا بلبس السلاح والركوب وافترقوا أرع فرق؛ وحملوا على المسلمين. فعند ذلك ترجل الملك العادل نور الدين، فترجلت معه الأبطال وأرهقوهم بالسهام وخرصان الرماح، حتى زلزت بهم الأقدام، ودهمهم البوار والحمام. فأنزل الله نصره على المسلمين، وتمكنوا من فرسانهم قتلا وأسرا، واستأصلت السيوف الرجالة، وهم العدد الكثير، فلم يفلت منهم غير عشرة نفر وقيل إن ملكهم لعنه الله فيهم، وقيل إنه في جملة القتلى، ولم يعرف له خبر. ولم يفقد من عسكر الإسلام سوى رجلين أحدها من لأبطال المذكورين قتل أربعة من شجعان الكفرة، وقتل عند حضور أجله إلى رحمة الله والآخر غريب لا يعرف؛ وكل منهما مض شهيدا، مثابا مأجورا، رحمهما الله وامتلأت أيدي العساكر من خيولهم وعددهم، وكُراعهم وأثاث سوادهم، وحصلت كنيستهم في يد الملك نور الدين بالاتها المشهورة وكان فتحا مبينا، ونصرا عزيزا. ووصلت الأسرى ورءوس القتلى إلى دمشق يوم الأحد تالي يوم الفتح، وقد رتبوا على كل جمل فارسين من أبطالهم ومعهما راية من راياتهم منشورة، وفيها من جلود رءوسهم بشعرها عدة. والمقدمون منهم وولاة المعاقل والأعمال كل واحد منهم على فرس، وعليه الزردية والخوذة، وفى يده رأيه. والرجالة كل ثلاثة وأربعة، وأقل وأكثر في حبل وخرج من أهل البلد الخلق الذي لا يحص لهم عدد، من الشيوخ والشبان، والنساء والصبيان، لمشاهدة ما منح الله تعالى ذكره، كافة المسلمين من هذا النصر المبين، وأكثروا شكر الله تعالى، والدعاء لنور الدين المحامي عنهم، والرامي دونهم، والثناء على مكارمه، والوصف لمحاسنه ونظم في ذلك أبيات في هذا المعنى:
ما رأينا فيما تقدم يوما ... كامل الحسن غاية في البهاء
مثل يوم الفرنج لاحين علتهم ... ذلة الأسر والبلا والفناء
وبراياتهم على العيس زفوا ... بين ذل وحسرة وعناء
عد عز لهم وهيبة ذكر ... في مصاف الحروب والهيجاء
هكذا هكذا، هلاك الأعادي ... عند شن الإغارة الشعواء
شؤم أخذ الجشار كان وبالا ... عمهم في صباحهم والمساء
نقضوا هدنة الصلاح بجهل ... بعد تأكيدها بحسن الوفاء
فلقوا بينهم بما كان منهم ... من فساد يجهلهم واعتداء
لا حمى الله شملهم من شتهات ... بمواض تفوق حد المضاء
فجزاء الكفور قتل وأسر ... وجزاء الشكور خير الجزاء
ولرب العباد حمد وشكر ... دائم مع تواصل النعماء
قال: وشرع نور الدين في قصد أعمالهم لتملكها وتدويخها، والله المعين والموفق.
وقال. ابن أبى طي: في سنة اثنتين وخمسين أغارت الفرنج على بلد حمص وحماة، وأفسدوا، وأكثروا العبث؛ واتصل ذلك بنور الدين فأنهد إليهم عسكرا كثيفا، فأوقع بهم وهزمهم إلى أرض بانياس. وخرج نور الدين حتى نزل على بانياس وحاصرها، أشد حصار، حتى افتتحها في الثامن والعشرين من ربيع الأول، وأخذ جميع ما كان للفرنج فيها، وأنقذ الغنيمة والأساري مع أسد الدين إلى دمشق، وأنفذ معه مقدار ألف رأس. واتصل ذلك بالفرنج، فأنهضت إلى معارضة أسد الدين قطعة من خيالتها، واتصل هذا بأسد الدين، وقد دهمته الفرنج، قلبي لأمته، وتقدم في جماعة من مماليكه بين يدي العسكر، وأمر الرجال بلقاء الفرج، وناجزهم الحرب، فلم يتماسكوا بين يديه، ورجعوا على أدبارهم؛ وتبعهم مقدار فرسخين بقتل وبأسر؛ وغنم منهم غنيمة حسنة، وعاد. إلى أصحابه ظافرا، وتوجه في وجهته مؤيدا.
فصل

قال الرئيس أبو يعلى: وفى العشر الثاني من جمادى الآخر تواصلت الأخبار بوصول ولد السلطان مسعود في خلق كثير للنزول على أنطاكية. وأوجبت الصورة تقرير المهادنة بين نور الدين وملك الإفرنج؛ وتكررت المراسلات بينهما والاقتراحات والمشاجرات، بحيث فسد الأمر ولم يستقر على مصلحة، ووصل نور الدين إلى مقر عزه في بعض عسكره، وأقر باقيه ومقدميه مع العرب بإزاء أعمال المشركين.
قال: وفى ثالث رجب توجه نور الدين إلى ناحية حلب وأعمالها لتجديد مشاهدتها، وإمعان النظر في حمايتها عندما عاث المشركون فيها، وقربت عساكر الملك ابن مسعود منها. قال بعد ذلك: وقد تقدم من ذكر نور الدين ونهوضه في عساكره من دمشق إلى بلاد الشام عند انتهاء الخبر إليه بتجميع أحزاب الفرنج، خذلهم الله تعالى، وقصدهم لها وطمعهم، يحكم ما حدث من الزلازل والرجفات المتتابعة لها، وما هدمت من الحصون والقلاع والمنازل في أعمالها وثغورها لحمايتها والذب عنها إيناس من سلم من أهل حمص وشزر، وكفر طاب، وحماة، وغيرها، بحيث اجتمع إليهم العدد الكثير والجم الغفير، من رجال المعاقل والأعمال والتركمان. وخيم بهم بإزاء جمع الفرنج بالقرب مزن أنطاكية، وحصرهم، بحيث لم يقدر فارس منهم على الإقدام على الفساد. فلما مضت أيام من شهر رمضان عرض لنور الدين ابتداء مرض حماد؛ فلما اشتد به، وخاف منه على نفسة، استدعى أخاه نصرة الدين أمير أميران، وأسد الدين !شيركوه، وأعيان الأمراء والمقدمين، وأوصى إليهم ما اقتضاه رأيه، واستصوبه، وقرر معهم كون أخيه نصرة الدين القائم في منصبه من بعده، والساد لثلمة فقده، لاشتهاره بالشهامه وشدة البأس، ويكون مقيما بحلب؛ ويكون أسد الدين في دمشق في نيابة نصرة الدين واستحلف الجماعة على هذه القاعدة فلما تقررت اشتد به المرض، فتوجه في محفة إلى حلب وحصل في قلعتها، وتوجه أسد الدين إلى دمشق لحفظ أعمالها من فساد الإفرنج وتواصلت الأراجيف نور الدين فقلقت النفوس، وأزعجت القلوب، فتفرقت جموع المسلمين، واضطربت الأعمال وطمع الفرنج فقصدوا مدينة شيزر وهاجموها وحصلو فيها فقتلوا، وأسروأ، ونهبوا. وتجمع من عدة جهات خلق وكثير من رجال الاسماعيليه وغيرهم، وظهرو عليهم، فقتلوا منهم وأخرجوهم من شيزر. واتفق وصول نصرة الدين إلى حلب فأغلق والى القلعة، مجدالدين، في وجهه الأبواب وعص عليه. فثارت أحداث حلب، وقالوا هذا صاحبنا وملكنا بعد أخيه فزحفوا في. السلاح إلى بابا لبلد وكسروا أغلفة؛ ودخل نصرة الدين في أصحابه وحصل في البلد. وقامت لأحداث على وإلى القلعة باللوم والنكار والوعيد، واقترحوا على، نصرة الدين اقتراحات من جملتها إعادة رسمهم في التأذين بحى عَلَى خَيْرَ العَمَل، مُحَمَّدٌ وعَلِىُّ خَيْرُ البشر. فأجابهم إلى ما رغبوا فيه، وأحسن القول لهم والوعد، ونزل في داره. وأنقذ والى القلعة إليه والى الحلبيين يقول: موله نور الدين حي في نفسه وما كان إلى ما فعل حاجة. فقيل الذنب في ذلك للوالي؛ وصعد إلى القلعة من شاهد نور الدين حيا يفهمه، ما يقول وما يقال له. فأنكر ما جرى وقال: أنا أصفح للأحداث عن هذا الفعل الخطل ولا أؤاخذهم بالزلل؛ وما طلبوا لصلاح حال اخى وولى عهدى من بعدى وشاهد الأخبار وانتشرت البشائر في الأقطار بعافيته فأنست القلوب، بعد الاستيحياش، وابتهجت النفوس بعد القلق والانزعاج؛ وتزايدت العافيه، وصرفت الهممم إلى مكانات المقدمين، بالعود إلى جهاد الملاعين وكان نصرة الدين قد ولى مدينة حران وما أضيف إليها، وتوجه نحوها ولما تناصرت إلأخبار بالبشائر إلى أسد الدين بدمشق بعافية نور الدين واعتزامه على استدعاء العساكر الإسلامية للجهاد، سارع بالنهوض من دمشق إلى حلب؛ ووصل إليها في خيله، فاجتمع بنور الدين فأكرم لقيا، وشكر مسعاه وشرعوا في حماية الأعمال، من شر عصب الكفر والضلال.
قال: ونظمت هذه الأبيات في هذا المعنى:
لقد حسنت صفاتك يا زمانى ... وفزت بما رجوت من الأماني
فكم أصبحت مرتاعا لخوف ... فبدّلت المخالفة بالأمان
وجاءتنا أراجيف بملك ... عظيم الشأن، مسعود الزّمان
فروعت القلوب من البرايا ... وصار شجاعُها مثل الجبان

وثارت فتنة يٌخشى أذاها ... على الإسلام في قاصٍ ودان
ووافى بعد ذاك بشير صدق بعافية المليك مع التهاني
فولى الخوف منهدم المباني ... وعاد الأمن معمور المغاني
قال ابن أبى طي: وفي هذه السنة كانت الزلزلة التي هدمت شيزر، فخرج نور الدين وأخذها من بني منقذ وسلمها إلى مجد الدين ابن لداية، وسار إلى سرمين، لأنه بلغه حركة الفرنج، فاعترضه هناك مرض أشفى من؛ فأخضر شيركوه، وأوصاه بالعساكر، وأن يكون الامر بهذه لأخيه نرة الدين أمير أميران. فسار أسد الدين إلى دمشق وأقام بمرج الصفر أن يتحرك الفرنج إلى جهة دمشق أو غيرها؛ ولم يزل هناك حتى تعافى نور الدين فعاد إلى خدمته، منئا له بالعافيه. وكان أوخوه نصرة الدين قد حاصر قلعة حلب في مدة مرض نور الدين من مرضه سيرة إلى حران وجعل ولى عهدع أخاه قطب صاحب الموصل.
قال: ومان مجد الدين طمع في الملك لنفسه، فتحزم لأمره، وتقترب إلى الناس، زجعل له أصحاب أخبار، وشَحَن الطرقات والسبل بالرجال لتفتيش الخارجين من حلب وغيرهما والداخلين إليها.
قلت: ولابن منير تهنئة لنور الدين بالعافية من مرض غير هذا:
يا شمس لا كسف ولا تكدار ... ولا خلت من نورك الأنوار
البدر منقوص وأنت كامل ... لك السرايا وله السرار
برؤك الإسلام من أدوائه ... برء، وفي أعدائه بوار
ما أنت إلا السيف صد صدأ ... عن متنه مضربه البتار
لو كان محمولا أذى عن منفس ... لحملته دونك الأبصار
ولوفدت أرض سماء، ساقت ال ... ملوك في فدائك الأمصار
انت غياث محلهم إن أجدبوا ... وخيرهم إن ذكر الخيار
وفى سرير الملك منها ملك ... لله في سرائه اسرار
خير ملوك الأرض جدا وأبا ... إن هز عطفي ما جد نجار
مد على الدين رواق دولة ... تنازعت أسمارها للسمار
علت بنا، وحلت في يده ... فهى عليه السور والسوار
محمود المحمود عصر ملكه ... فلحيا من مزنها عتصار
يانور دين أظلمت آفاقه ... لو لم تبلج هذه الآثار
لله أيامك، ما تخطه ... بالمسك من إسفارها الأسفار
سلمت للإسلام، ترعى سرحه ... إذا ولى رعاته وجاروا
شكوت فالدنيا على سكانها ... قرارة جانبها القرار
كادت تموت الأرض من إشفاقها ... لولا شفاء ردها تمار
زرت عليك الترك جيب نسب ... يحسدها بزيه نزار
لا عَدِمت منك الأماني ربها ... معطى من الإقبال ما يختار
ما سمح الدهر بأن تبق لنا ... فكل جرح مسنا جبار
وله في قصيدة أخرى:
لا نؤدي لأنعم، الله شكرا ... بك يا أعظم البرية قدرا
زور عشر وافي لإقلاع ذا ... جعلا المنة الممناة عشرا
ام مغناك ضامنا أن ايا ... مك تغنى الأحقاب عصرا فعصرا
في محل له السما كان سمك ... وجدود لها المجرة مجرى
أيها العادل المظفر، لاقص ... ت شبا الدهر من شباتك ظفرا
جعل الله ما استهل من الأش ... هر ينهل في مغازيك نصرى
أبدا ينشر التهاني على سا ... حاتك الزهر في المواسم نشرا
أنت أسرى الملوك نفسا وفلسا ... وإلى أسرهم من الطيف أسرى
ملك عنده المشارب تستم ... رى وأخلاف الجود تمرى فتفرى
فلك الله من.مثمر بذر ... يصطفى صالحا ويحصد أجرا
عش لملك أصبحت في الدست منه ... فوق كسرى عدلاً وشعبا وكسرا
تفطر الطيبات للقطر فطرا ... وتعم الأعداء في النحر نحرا
يقتنى من كساك أنفس ملبو ... س يفنيك منه أطول عمرا
أنت تملى ونحن ننظم ماتن ... ثره الغر من مساعيك نثرا
صرف الله عنك عين زمان ... بك صارت بعد الإصابة عبرى

وتوالت لك الفتوح إلى أن ... تملاء الخافقين نهيا وأمرا
كلما أبهجت ملابس نعمى ... وتمليتهن، جددت أخرى
وقال القيسراني من قصيدة:
أشرق البهو ياجبين الهلال ... فحلاه لوجهك المتلالي
عن ليال حجبن عنا سناها ... إنما غيبة الهلال ليالي
لم يكن ما ألم بالجسم شكوى ... فتهنا توافد إلإقبال
لا ، ولا كان زائرا من سقام ... إنما كان طائفا من خيال
وعكة أقلعت وأنت صحيح ... ويصح النسيم بالاعتلال
أوما هذه السماء سرار ال ... بدر فيها على طريق الكمال
نعمة الله لايخص بها الخا ... لق إلأمن كان منه ببال
ولباس من المثوبة والغف ... ران ألبست ضافى الأذيال
فهنيئا لك البقاء وإن كا ... ن هناء يخص فيه المعالي
والتق، والندى، ومعربة الخي ... ل، وبيض الظبا، وسمر العوالي
والخلال التي إذا ما تحلت ... صدرت منك عن كريم الخلال
إن وقتك النفوس ما تتوقى ... فحقيق فدا الموالى الموالي
أو تحصنت في شعار من التق ... وى فما زلت منه في سربال
فشفى الله من أجل دوائي ... ه صريح الدعاء والإبتهال
ملك أبدل المخافة بالأم ... ن وأضحى بعد في الإبدال
وهو تاج الملوك، فالملك العا ... طال حال به على كل حال
وإذا النيران غابا، فنور الد ... ين شمس فجرية الآصال
قد أرت وجهك العلاما يريها ... وهى مرآة صالح الأعمال
وقض الله أن نجمك في الا ... نجم سام، وان جدك عال
كل يوم هذا المحيا محيى ... بالتهاني على يد الإقبال
فصل في ذكر حصن شيزر وولاية بني مُنْقذ
فال ابن الأثير وهو حصن قريب من حماة، بينهما نحو نصف نهار. وهو من أمنع القلاع واحصنها، على حجر عال، له طريق منقور في طرف الجبل، وقد قطع الطريق في وسطه وجعل عليه جسر من خشب؛ فإذا قطع ذلك الجسر تعذر الصعود ود إليه وكان لآل منقذ الكنانيين، يتوارثونه من أيام صالح بن مرداس إلى أن انتهى الأمر إلى الأمير أبى المرهف نصر بن علي بن المقلد بن نصر بن منقذ بن نصر بن هاشم، بعد أبيه أبى الحسن علي، فبقى به مدة طويلة إلى أن مات بشيزر سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وكان شجاعا كريما، صؤاما قواما. فلما حضره الموت استخلف أخاه الأمير أبا سلامه مرشد بن على، وهو والد أسامة، فقال والله لا وليتها، ولا خرجن من الدنيا كما دخلتها وكان عالما بالقرآن والأدب، كثير الصلاح؛ فولاها اخاه أبا العساكر سلطان بن علي وكان أصغر منه، فاصطحبا أجمل صحبة من الزمان.فولد أبو سلامة مرشد عدة أولاد ذكور، فكبروا وسادوا. منهم عز الدولة أبو الحسن على، ومؤيد الدولة أسامة بن مرشدا. وغيرهما ولم يولد لخيه سلطان ولد ذكر إلى أن كبر فجاءه أولاد، فحسد أخاه على ذلك؛ فكان كلما رأى صغر أولاده وكبر أولاد أخيه وسيادتهم ساءه ذلك وخافهم على أولاده وسعى المفسدون بينهما فغيروا كلا منهما على أخيه فكتب الأمير سلطان إلى أخيه شعرا يعاتبه على أشياء بلغته عنه، فأجابه بأبيات جيدة في معناها وكلهم كان أديبا شاعراً، فمنها:
ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا ... وفي الصد والهجران إلا تناهيما
شكت هجرنا في ذاك، والذنب ذنبها ... فيا عجبا من ظالم جاء شاكيا
وطاوعت الواشين في، وطالما ... عصيت عذولاً في هواها وواشيا
ومال بِهاَتِيهُ الجمال إلى القلى ... وهيهات أن أمسى لها الدهر قاليا
ولا ناسيا ما أودعت من عهودها ... وإن هي أبد ت جفوة وتناسسيا
ولما أتاني من قريضك جوهر ... جمعت المعالي فيه لي والمعانيا
وكنت هجرت الشعر حينا لأنه ... تولى برغمى حين ولى شبابيا

وأين من الستين لفظ مفوف ... إذا رمت أدْني القول منه عصانيا
وقلت أخي يرعى بنى وأسرتي ... ويحفظ عهدي فهم وذماميا
ويجزيهم ما لم أكلفه فعله ... لنفسي، فقد أعددته من تراثيا
فمالك أن جنى الدهر صعدتي ... وثلم مني ما كان ماضيا
تنكرت حتى صار بِرٌّك قسوة ... وقربك منى جفوة وتنائيا
فأصبحت صفر الكف مما رجوته ... كذا اليأس قد عفى سبيل رجائيا
على أنني ما حلت عما عهدته ... ولا غيرت هذى السنون وداديا
فلا غَزْوَ عند الحادثات فإنني ... أراك يميني والأنام شماليا
تهن بها عذراء، لو قُرنت بهما ... نجوم السماء لم تعد دراريا
تحلت بد رمن صفاتك، زانها ... كما زان منظوم اللآلي الغوانيا
وعش بانيا للْجُود ما كان واهنا ... مُشيدا من الإحسان ما كان واهيا
قال: وكان الأمر فيه في حياة الأمير بض إلستر، فلما مات، سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، قلب أخوه لأولاده ظهر المجن، وبادأهم بما يسوءهم وتمادت الأيام بينهم إلى أن قوى عليهم فأخرجهم من شيزر. وكان أعظم الأسباب في إخراجهم ما حدثت به عن مؤيد الدولة أسامة بن مرشد قال: كنت من الشجاعة والإقدام على ما قد علمه الناس فبينما أنا بشيزر وإذا قد أتاني إنسان أخبرني أن بدجلة، يقاربها، أسدا ضاريا فركبت فرسي وأخذت سيفي وسرت إليه لأقتله، ولم أعلم أحدا من الناس. لئلا أمنع من ذلك. فلما قربت من الأسد نزلت عن فرسي وربطته، وسثيت نحوه. فلما رآني قصدني ووثب فضربته بالسيف عل رأسه فانفلق، ثم أجهزت عليه، وأخذت رأسه في مخلاة فرسي وعدت إلى شيزر؛ ودخلت على والدتي، وألقيت الرأس بين يديها، وحدثتها الحال فقالت: يا بنى: تجهز الخروج من سيزر، فو الله يمكنك عمك من المقام، ولا أحداً من إخوتك، وأنتم على هذه الحال من الإقدام والجرأة. فلما كان الغد أمر عمي بإخراجنا من عنده، وألزمنا به إلزاما لا مهلة فيه، فتفرقنا في البلاد. فقصدوا الملك العادل نور الدين وشكوا إليه ما لقوا من عمهم، فلم يمكنه قصده ولا الأخذ بثأرهم وإعادتهم إلى أوطانهم، لاشتغاله بجهاد الفرنج، ولخوفه من أن تسلم شيزر إلى الفرنج؛ وبقي لي في نفسه وتوفى الأمير سلطان وولى بعده أولاده فبلغ نور الدبن عنهم مراسلة الفرنج، فاشتد ما في نفسه وهو ينتظر الفرصة. فلما خربت القلعة بالزلزلة ولم يسلم منها أحد كان بالحصن، بادر إليها. وملكها، وأضافها إلى بلاده، وعمرها واسوارها، وأعادها كان لم تخرب. كذلك أيضا. فعل بمدينه حماة، وكل ما خرب بالشام بهذه الزلزلة، فعادت البلاد كأحسن ما كانت قلت: وسيأتي ذكر أسامة بن مر شد في أخبار سنة اثنتين وسبعين، وهى السنة التي قدم فيها دمشق من بلاد الشرق. وذلك أنه لما خرج من شيزر استوطن دمشق ثم فارقها، إلى الديار المصرية، وكتب إلى معين الدين أثر، أتابك صاحب دمشق، يعانيه في أسباب المفارقة قصيدة أولها:
وَلُوا، فلما رجونا عدلهم ظلمو ... فليتهم حكموا فينا بما علموا
ما مر يوما بفكري ما يريبهم ... ولا سعت بي إلى ما ساءهم قدم
ولا أضعتُ لهم عهدا، ولا اطلعت ... على ودائعهم في صدري التهم
فَلَيْت شعري! بم استوجبتُ هجرهمُ ... ملوا قصدهم عن وصلى السَّأم
حفظت ما ضيعوا، أغضبت حين جنوا ... وفَيْتُ إذ غدروا،واصلت إذ صرموا
حُرِمتُ ما كنت أرجو من ودادهم ... ما الرزق إلا الذي تجرى به القسم
وبعدُ لَوْ قيل لي ماذا تحب، وما ... تختار من زبنَة الدُّنيا؟ لقلت هم
لهم مجال الكرى من مقلتي، ومن ... قلبي محل المنى، جاروا أو اجترموا
تبدّلُوا بي، ولا أبغى بهم بدل ... حسبي هم أنصفوا في الحكم أو ظلموا
بلغ أميري معين الدين مالكه ... من نازح الدار، لكن وده أمم
وقل له: أنت خير الترك فضلك ال ... حياء والدين، والإقدام، والكرم

هلاَّ أنفت حياء أو محافظة ... من فعل ما أنكرته العرب والعجم
أسلمتنا وسيوف الهند مغمدة ... ولم يرو سنان السمهري دم
وكنت أحسب من والاك في حرم ... لا يعتريه به شيب ولا هرم
وما طُمانُ بأولى من أسامة بال ... وفاء، لكن جرى بالكائن القلم
هبنا جنينا ذنوبا لا يكفرها ... عذر، فماذا جنى الأطفال والحرم
ألقيتهم في رضا الإفرنج متبعا ... رضا عداً يسخط الرحمن فعلهم
جرّبهمُ مثل تجريبي لتخبرهم ... فللرجاًل إذا ما جربوا قيم
وهي طويلة. وطمان المذكور خادم تركي كان لأتابك ملك الأمراء زنكي بن آق سنقر، هرب من خدمته إلى دمشق، فطلبه ولج فيه؛ فاشتمل عليه معين الدين للجنسية، وحماه. فلما لج فيه سيره إلى العرب.وقام له بما يحتاج إلى أن رده لخدمته بدمشق.
وبقي أسامة بمصر إلى أن خرج منها مع عباس، كما سبق ذكره، وأسر الفرنج أخاه نجم الدولة محمد بن مرشد، وطلب من ابن عمه ناصر الدين محمد بن سلطان، صاحب شيزر، الإعانة في فكاكه فلم يفعل. قال: وادخر الله سبحانه أجر خلاصه وحسن ذكره للملك العادل نور الدين، رحمه الله، فوهبه فارسا من مقدمي الدّاوية، يقال له المشطوب، قد بذل الإفرنج فيه عشرة آلاف دينار، فاستخلص به أخاه من الأسر وبلغ أسامة أن القاضي كمال الدين ابن الشهرزوري أنشد نور الدين:
ملكُ بنى منقذ تولى ... وكان فوق السِّماك سمكة
فاعتبروا، وانظروا، وقولوا ... سبحان من لا يزول ملكه
والمعروف ملك بني برمك، فغيره المنشد لما تمثل به في غرضه. فأجازهما أسامة، بهذه الأبيات:
وكل ملك إلى زوال ... لا يعتري ذا اليقين شكه
إن لم يزل بانتقال حال ... أزال ذا الملك عنه هلكه
والله رب العباد باق ... وهالك نده وشركه
فقل لمن يظلما البرايا ... غرك إمهاله وتركه
تنس ذنوبا عليك تحمى ... يحصرها نقده وحكه
كم ناسك نسكه رياء ... أوبقَه في المعاد نسكه
فاحذر فما يختفي عليه ... من عبده صدقه وافكه
وما أحسن ما قال أسامة في كبره:
مع الثمانين عاث الضعف في جَلَدي ... وساءني ضعف رجلي واضطراب يدى
إذا كتبت فخطى جد مضطرب ... كخط مرتعش الكفين مرتعد
فاعجب لضعف يدي عن حملها قلماً ... من بعد حطم القنا في لبة الأسد
وإن مشيت وفي كفى العصا، ثفلت ... رجلي، كأني أخوض الوحل في الجلد
فقل لمن يتمنا طول مدته ... هذى عواقب طول العمر والعدد
فصل في باقي حوادث سنه اثنتين وخمسينقال الرئيس أبو يعلى: تناصرت الأخبار بظهور أمير المؤمنين المقتفي على عسكر السلطان المخالف لأمره ومن انظم إليه من عسكري الموصل وغيره، بحيث قتل منهم العدد الكثير، ورحلوا عن بغداد مفرقين مغلولين خاسرين، بعد المضايقه والتناهي في المحاصرة والمصابرة.
قال: ووردت الأخبار في أوائل رجب بوفاة السلطان غياث الدين أبى الحارث سنجر بن الفتح بن ألب أرسلان، سلطان خراسان، عقيب خلاصه من الشدة التي وقع فيها، والأسر الذي حصل فيه وكان يحب العدل والإنصاف للرعايا، حسن السيرة، جميل الفعل؛ وقد علت سنه وطال عمره وكان قد ورد كتابها في أواخر صفر من هذه السنة إلى نور الدين بالتشوق إليه والإحماد لخلاله، وما ينتهي إليه من جميل أفعاله، وإعلامه ما من الله عليه به من خلاصه من الشدة التي وقع فيها، والأسر الذي بلى به في أيدي الأعداء الكفرة، من ملوك التركمان، بحيلة دبرها، وسياسة أحكمها وقررها، بحيث عاد إلى منصبه من السلطة المشهورة، واجتماع العساكر المتفرقة عنه إليه.

قال: وفي شهر رمضان ورد الخبر من ناحية حلب بوفاة الشيخ مخلص الدين أبى البركات عبد القاهر بن على بن أبى جرادة الحلبي، وهو الأمين على خزائن مال نور الدين وكان كاتبا بليغا، حسن البلاغة نظما ونثرا، مستحسن الفنون من التذهيب البديع، وحسن الخط المحرر على الأصول القديمة المستظرفة، مع صفاء الذهن وتوقد الفطنة والذكاء وقال: وفيها رابع عشر شوال ورد الخبر من ناحية بصري بأن واليها فخر الدين سرخاك قتل غيلة بموافقة من أعيان خاصته. وكان فيه افراط في التحرر واستعمال التيقظا. ولكن القضاء لا يغالب ولا يدافع قال: وفي أوائل ذي القعدة ورد الخبر من حمص بوفاة واليها الأمير الملقب بصلاح. الدين وكان في أيام شبيبته قد حظي في خدمة عماد الدين زنكي، وتقدم عنده بالمناصحة وسداد التدبير، وحسن السفارة وصواب الرأى؛ ولما علت سنه ضعف عن ركوب الخيل، وألجأته الضرورة إلى الحمل في المحفة لتقرير الأحوال، والنظر في الأعمال؛ ولم ينقص من حسنه وفهمه ما ينكر عليه إلى حين وفاته. وحلفه من بعده أولاده في منصبه وولايته قال: وورد إلى دمشق إماًم من أئمة فقهاء بلخ في عنفوان شبابه وغضارة عوده، ما رأيت أفصح من لسانه في ببلاغَتْيه العربية والفارسية، ولا أسرع من جوابه ببراعته، ولا أطيش منه قلما في كتابته: أبو الحياة محمد بن أبى القاسم بن عمر السلمي ووعظ في جامع دمشق عدة أيام والناس يستحسنون وعظه، ويستظرفون فنه، وسلاطة لسانة، وسرعة جوابه، وحدة خاطرة، وصفاء حسة.
قال ابن الأثير: وفيها في ذي الحجة توفى الأمير عز الذين أبو بكر الدبيسى صاحب جزيرة ابن عمر؛ وكان من أكابر الأمراء، ياخذ نفسه ماخذ الملوك وكان عاقلا حازما، ذا رأى وكيد ومكر. وملك الجزيرة قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، أخو نور الدين.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائةقال الرئيس أبو يعلى: في أوائل المحرم تناصرت الأخبار من ناحية الفرنج المقيمين بالشام، خذلهم الله تعالى، بمضايقتهم لحصن صارم ومواظبتهم على رميه بحجارة المجانيق إلى ان ضعف وملك بالسيف. وتزايد طمعهم في شن الغارات في الأعمال الشامية وايطلاق ألايدى في العبث والفساد في معاقلها وضياعها، بحكم تفرق العسكر الإسلامية والخلف الواقع بينهم باشتغال نور الدين بعقابيل المرض العارض له. ولله المشيئة التي لا تدافع والأقضية التي لا تمانع0 وقال: وفي صفر ورد الخبر، والمبشر بنزول نور الدين من حلب للتوجه إلى دمشق. واتفق للكفرة الملاعين تواتر الطمع في شن الغارات على أعمال حوران والإقليم، وإطلاق أيدى الفساد والعيث والإحراق والإخراب في الضياع، والنهب والسبي والأسر؛ وقصد داريا والنزول عليها في انسلاخ صفر، واحراق منازلها وجوامعها، والتناهي في إخرابها. وظهرإليهم العسكرية والأحداث، وهموا بقصدهم والإسراع إلى لقائهم وكفهم؛ فمنع من ذلك بعد أن قربوا منهم. وحين شاهد الكفار، خذلهم الله تعالى، كثرة العدد الظاهر إليهم رحلوا في آخر النهار المذكور إلى ناحية الإقليم. ووصل نور الدين إلى دمشق وحصل في قلعته، سادس ربيع الأول، سالما في نفسه وجملته ولقي باحسن زي وترتيب وتجمل، واستبشر العالم بمقدمة المسعود وابتهجوا، وبالغوا في شكراللة تعالى على سلامتة وعافيتة والدعاء لة بدوام ايامة. وشرع في امر الاجتهاد والتاهب للجهاد.
قال: وفي أوائل ربيع الأول ورد الخبر من ناحية مصر بخروج فريق وافر من عسكرها إلى غزة وعسقلان، وأغاروا على أعمالها وخرج إليهم من كان بها من الفرنج الملاعين، فأظهر الله تعالى المسلمين عليهم قتلا وأسرا، بحيث لم يفلت منهم إلا اليسير، وغنموا ما ظفروا به وعادوا سالمين ظافرين. وقيل إن مقدم الغزاة في البحر ظفر بعدة من مراكب المشركين وهي مشحونة بالفرنج، فقتل وأسر منهم العدد الكثير، وحاز من أموالهم وعددهم وأثاثهم مالايحصى، وعاد ظافرا غانما.
قلت: وأرسل إلى مؤيد الدولة أسامة بن منقذ من وزيرها الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك قصيدة يشرح فيها هذة الغزاة ويحرص فيها نور الدين على قتال المشركين، ويذكرة بما من الله تعالى عليه من العافيه والسلامة من تلك المرضة المقدم ذكرها. وكان كثيرا ما يكاتبه طالبا منه بالغزاة لحثه عليها. واول هذه القصيدة:

إلا هكذا في الله تمضى العزائم ... وتُنضى لدى الحرب السيوف الصوارم
ويُستنزل الاعداء من طَوْد عزهم ... وليس سوى سُمْر الرماح سلالم
وتغزى جيوش الكفر في عقر دارها ... ويوطا حماها والانوف رواغم
ويوفى الكرام الناذرون بنذرهم ... وان بذلت فيها النفوس الكرائم
نذرنا مسير الجيش في صفرٍ، فما ... مضى نصفة حتى انثنى وهو غانم
بعثناه من مصر إلى الشام قاطعا ... مفاوز وخد العيش فيهن دائم
فما هاله بعد الديار، ولا ثنى ... عزيمته جهد الظما والسمائم
يهجر والعصفور في قعر وكره ... ويسرى إلى الاعداء والليل نائم
يبارى خيولا ما تزال كانها ... إذا ما هي انقضت نسور قشاعم
يسير بها ضرغام في كل مازق ... وما يصحب الضرغام إلا الضراغم
ورفقته عين الزمان، وحاتم ... ويحيى، وان لاقى المنية حاتم
وواجههم جمع الفرنج بحملة ... يهون على الشجعان فيها الهزائم
فلقوهم زرق الاسنة، وانطووا ... عليهم، فلم يرجع من الكفر ناجم
وما زالت الحرب العوان اشدها ... إذا ما تلاقي العسكر المتضاجم
يشبههم من لاح جمعهمُ له ... بلجَّة بحر موجها متلاطم
وعادوا إلى سل السيوف، فقطعت ... رءوس، وحزّت للفرنج غَلاَصِم
فلم ينج منهم يوم ذاك مخبر ... ولاقيل هذا وحده اليوم سالم
نقتلهم بالرأي طورا، وتارة ... تدوسهم منا المذاكى الصلادم
فقولوا لنور الدين، لا قل حده ... ولا حكمت فيه الليالي الغواشم
تجهز إلى ارض العدو، ولا تهن ... وتظهر فتورا إن مضت منك حازم
فما مثلها تبدى احتفالا به ولا ... يعض عليها للملوك الاباهم
فعندك من الطاف ربك مابه ... علمنا يقينا انه بك راحم
اعادك حيا إن زعم الورى ... بانك قد لاقيت ما الله حاتم
بوقت اصاب الأرض ما اصابها ... وححلت بها تلك الدواهى العظائم
وخيم جيش الكفر في الض شيزر ... فسيقت سبايا واستحلت محارم
وقد كان تاريخ الشام وهلكه ... ومن يحتويه انه لك عادم
فقم،واشكر الله الكريم بنهضه ... إليهم،فشكر الله للخلق لازم
فنحن ىلى ما عهدت،نروعهم ... ونحلف جهدا اننا لا نسالم
وغاراتناليست تفتر عنهم ... وليس ينجى القوم منا الهزائم
فاسطولنا اضعاف ما كان سائرا ... إليهم،فلا حصن لهم منه عاصم
ونرجو بان يجتاح باقيهم به ... وتحوى الاسارى منهم والغنائم
وكتب إليه أيضاً:
يا سيدا يسمو بهم ... ته إلى الرتب العليه
فينال منها حين يح ... رم غيره اوفى مزيه
انت الصديق وان بعد ... ت،وصاحب الشيم الرضيه
ننبيك إن جيوشنا ... فعلت فعال الجاهليه
سارت إلى الاعداء من ... ابطالها مائتا سريه
فتغير هذى بكرة ... وتعاود الاخرى عشيه
فالويل منها للفر ... نج فقد لقوا جهد البليه
جاءترءوسهم تلو ... ح على رءوس السمهريه
وقلائع قد قسمت ... بين الجنود على السويه
وخلائق كسرت من ال ... أسرى تقاد إلى المنيه
فانهض فقد أنبيت مَجْ ... د الدين بالحال الجليّه
والمم بنور الدين واع ... امه بهاتيك القضيه
فهو الذي ما زال يخ ... لص منه أفعالاً ونيه
ويبيد جمع الكفر بال ... بيض الرّقاق المشرفيه

فعساه ينهض نهضه ... يفنى بها تلك البقيه
إما لنُصرة دينه ... أو مُلكه، أو للحميه
وكتب إليه أيضاً:
أيها المفتدي، لأنت على البُع ... د صديق لنا، ونعم الصّديق
ليس فيما تأتيه من بر أفعا ... لك للطالب الحقوق عقوق
فلهذا نرى مواصلة الكت ... ب تباعاً إليك خليق
ونناجيك بالمهات، اذ أنْ ... ت بالقائها إليك خليق
وأهم المهم أمر جهاد ال ... كفر، فاسمع فعندنا التحقيق
واصلتهم منا السرايا، فأشجا ... هُم بُكُورٌ منا لهم وطرق
وأباحت ديارهم، فأباد ال - قوم قتل ملازم وحريق
وانتظرنا بزحفنا برءُ نور الد ... ين، علماً منّا بأن سيُفيق
وهو الآن في أمان من الل ... ه، وما يعتريه أمر يعوق
ماً لهذا المهم مثلك مجد الد ... ين، فانهض به فانت حقيق
قل له، لا عداء رأى، ولازا ... ل له بكل خير طريق
أنت في جسم داء طاغية الكف ... ار ذاك المرجو والمرموق
فاغتنم بالججهاد أجرك كي تل ... قى رفيقا له ونعم الرفيق
فاجبه اسامه بقصية منها:
يا أمير الجيوش ما زال للاس ... لام والدين منك ركن وثيق
أسمعت دعوة الجهاد، فلبا ... ها مليك بالمكرمات خليق
ملك عادل أنار به الدي ... ن، فعم الإسلام منه للشروق
ماله عن جهاده الكفر، والعد ... ل، وفعل الخيرات شغل يعوق
هومثل الحسام: صدر صقيل ... لين منه، وحد ذليق
ذوانة بجمالها الغر اهما ... لا، وفيها حتف الأعادى المحيق
فاسلما للإسلام كهفين ما طر ... ز ثوب الظلام برق خفوق
وكتب الصالح إليه أيضاً:
قل لابن منقذ الذي ... قد حاز في الفضل الكمالا
فلذاك قد أضحى الأنا ... م علىمكارمه عيال
كم قدبعثنا نحوك ال ... ا شعارمسرعة عجالا
وصددت عنها حين را ... مت من محاسنك اوصال
هلآ بذلت لنا مقا ... لأ، حين لم تبذل فعالا
مع أننا نوليك صب ... را في المودة، واحتمال
ونبثك الأخبار إن ... أضحت قصاراً أو طوالا
سارت سرايانا لقص ... د الشام تعتسف الرمالا
نزجي إلى الأعداء جر ... د الخيل اتباعا توالى
تمضى خفافا للمغا ... ر بها، وتاتينا ثقالا
حتى لقد رام الأعا ... دى من ديارهم ارتحال
وعلى الوعيرة معشر ... لم يعهدوا فيها القتالا
لما نأت عمن يحف ... بها يمينا أو شمالا
نهضت إليها خيلنا ... من مصر تحتهمل الرجالا
والبيض لامعة، وبي ... ض الهند، والأسل النهالا
فغدت كان لم يعهدوا ... في أرضها حيا حلالا
هذا، وفي تل العجا ... ل ملأن بالقتلى التلالا
اذ مر مرى ليس يد ... وى نحو رفقتها اشتغالا
واستق عسكرنا له ... أهلا يحبهم ومالا
وسرية ابن فرنج الطا ... ئي طال بها وصالا
سارت إلى أرض الخلي ... ل فلم تدع فيها خلال
فلو إن نور الدين يج ... عل فعلنا فيهم مثالا
ويسير الأجناد جه ... را، كي ينازلهم نزال
ووفى لنا، ولأهل دو ... لته، بما قد كان قالا
لرأيت للافرنج طرا ... في معاقلها اعتقالا

وتجهزوا للسير نح ... و الغرب، أو قصدوا الشمالا
واذا أبى إلآ اطرا ... حا للنصيحة واعتزالا
عدنا بتسليم الأمو ... ر لحكم خالقنا تعالى
فأجاب ابن منقذ بقصيدة منها:
يا اشرف الوزراء اخ ... لاقا، واكرمهم فعال
نبهت عبدا طالما ... نبهته قدرا وحالا
وعتبته، فانلته ... فخرا، وحمدا، لن ينالا
لكن ذاك العتب يش ... عل في جوانبه اشتعالا
اسفا لجد مال عن ... ه إلى مساءته ومالا
اما السرا ياحين تر ... جع بعد خفتها ثقالا
فكذاك عاد وفود با ... بك مثقلين ثنا ومالا
ومسيرها في كل ار ... ض تبتغي فيها المجالا
فكذاك فضلك مثل عد ... لك في الدنا سارا وجالا
فاسلم لنا حتى نرى ... لك في بنى الدنيا مثالا
واشدد يديك بود نو ... ر الدين والق به الرجالا
فهو المحامي عن بلا ... د الشام جمعا إن تذالا
ومُبيد أملاك الفرن ... ج وجمعهم حالا فحالا
ملك يتيه للدهر والد ... نيا بدولته اختيالا
جمع الخلال الصالحا ... ت فلم يدع منها خلالا
فإذا بدا للناظري ... ن رأت عيونهم الكمالا
فبقيم للمسلمي ... ن حمى وللدنيا جمالا
وكتب إليه الصالح من قصيدة تقدم ذكرها فىا لزلازل:
ولعمرى ان المناصح في الدي ... ن على الله أجره محسوب
وجهاد العدو بالفعل والقو ... ل على كل مسلم مكتوب
ولك الرتبة العلية في الأم ... رين مذ كنت إذ تشب الحروب
أنت فيها الشجاع، مالك في الطع ... ن ولا في الضراب يوماً ضريب
وإذا ما حرضت، فالشاعر المف ... لق فيما يقوله، والخطيب
وإذا ما أشرت فالحزم لاين ... كر ان التدبير منك نصيب
لك رأى يقظان إن ضعف الرا ... ئ، على حاملى الصليب صليب
فانهض الآن مسرعا، فبأمثا ... لك مازال يدرك المطلوب
الق منا رسالة عند نور الد ... ين مافي إلقائها مايريب
قل له، دام ملكه، وعليه ... من لباس الإقبال برد قشيب
أيها العادل الذي هو للدي ... ن شباب، وللحروب شيب
والذي لم يزل قديما عن الإس ... لام بالعزم منه تجلى الكروب
وغداً منه للفرنج، إذالا ... قوه، يوم من الزمان عصيب
إن يرم نزف حقدهم فلا شطا ... ن قناة في كل قلب قليب
غيرنا من يقول ما ليس يمضي ... ه بفعل، وغيرك المكذوب
قد كتبنا إليك ما وضح الا ... ن، بماذا عن الكتاب تجيب؟
قد قصدنا أن يكون منا ومنكم ... أجل في مسيرنا مضروب
فلدينا من العساكر ما ضا ... ق بأدناهم الفضاء الرحيب
وعلينا أن يستهل على الشا ... م مكان الغيوث مال صبيب
أو تراه مثل العروس، نراها ... كله من دم العدا مخضوب
لطنين السيوف في فلق الصب ... ح على هام أهلها تطريب
ولجمع الحشود من كل حصن ... سلب لهم ونهوب
ويحول الإله ذاك، ومن غا ... لب ربى فإنه مغلوب
وكتب إليه أيضاً:.
أيها السائر المجد إلى الشا ... م، تبارى ركابة والخيول
خذ على بلدة بها دار مج ... د الدين، لأربع ريعها المأهول
وتعرف أخباره واقره من ... ا سلاما فيه العتاب يجول

قل له: أنت نعم ذخر الصديق ال ... يوم، لكنك الصديق الملول
ما ظننا بأن حالك في القر ... ب ولا البعد بالملال يحول
لا كتاب، ولا جواب، ولا قو ... ل به لليقين منا حصول
غير أنا نواصل الكتب إذ أق ... صر منك البر الكريم الوصول
ذاكرين الفتح الذي فتح الل ... ه علينا، فالفضل منه جميل
جاءنا بصد ما ذكرناه في كت ... ب أتاكم بهن منا رسول
أن بعض الأسطول نال من الإف ... رنج مالا يناله التأميل
سار في قلة، وما زال بالل ... ه وصدق النيات ينمى القليل
وبقايا الأسطول ليس له بع ... د إلى جانب الشام وصول
فحوى من عكآ وأنطرسوس ... عدة لم يحط بها التحصيل
جمع د يوية، بهم كانت الإف ... رنج تسطو على الورى وتصول
قيد في وسطهم. مقدمهم، يه ... دى إلينا، وجيده مغلول
بعد مثوى جماعة هلكوا بال ... سيف، منها الغريق والمفلول
هذه نعمة الإله، وتعدي ... د أيادي الإله شيء يطول
بلغوا قولنا إلى الملك الع ... ادل، فهو المرجو والمأمول
قل له: كم تماطل الدين في الكف ... ار، فأحذر أن يغضب الممطول
سر إلى القدس، واحتسب ذلك في الل ... ة، فبالسير منك يشفى الغليل
وإذا ما أبطا مسيرك، فالل ... ة إذا حسبنا ونعم الوكيل
فأجابه أسامة بقصيدة منه:
يا أمير الجيوش، يا أعدل الحك ... ام في فعله وفي ما يقول
أنت حليت بالمكارم أهل العص ... ر حتى تعرف المجهول
وقسمت الفرنج بالغزو شطري ... ن: فهذا عان، وهذا قتيل
بالغ العبد في النّيابة والتح ... ريض، وهو المفوه المقبول
فرأى من عزيمة الغزو ما كا ... دت له الأرض والجبال تميل
وإذا عاقت المقادير فالل ... ة إذا حسبنا ونعم الوكيل
وكتب الصالح إليه جواباً قصيدته الطائية التي أولها:
هي البدر، لكن الثريا لها قرط ... ومن أنجم الجوزاء في نحرها سمط
ثم قال بعد وصف السيوف:
ذخرنا سطاها للفرنج، لأنها ... بهم دون أهل الأرض أجدر أن تسطو
وقد كاتبوا في الصلح، لكن جوابهم ... بحضرتنا ما تكتب الخط لا الخط
سطور خيول لا تغب ديارهم ... لها بالمواضى والقنا الشكل والنقط
إذا أرسلت فرعا من النقع فاحما ... أثيثا، فأسنان الرماح لها مشط
رددنا به ابن الفنش عنا، وإنم ... ا يثبته في سرجه الشد والربط
فقولوا لنور الدين: ليس لخائف ال ... جراحات إلا الكي في الطب والبط
وحسم أصول الداء أولى بعاقل ... لبيب إذا استولى على المدنف الخلط
فدع عنك ميلاً للفرنج وهدنة ... بها أبداً يخطى سواهم ولم يخطوا
تأمل، فكم شرط شرطت عليهم ... قديما، وكم غدر به نقص الشرط
وشمر فإنا قد اعنا بكل ما ... سألت، وجهزنا الجيوش ولن يبطوا
قال العماد في كتاب الخريدة: الصالح أبو الغارات بن رزيك سلطان مصر في زمان الفائز وأول زمان العاضد. ملك مصر، واستولى على أمر صاحب القصر، ونفق في زمانه النظم والنثر، وقرب الفضلاء، واتخذهم جلساء، ورحل إليه ذوو الرجاء، وأفاض على القاصي والداني العطاء. وله قصائد كثيرة مستحسنة أنفذها إلى الشام، يذكر فيها بنصر الإسلام، وما يصدق أحد أن ذلك شعره، لجودته، وإحكام مباني حكمته، وأقسام معاني بلاغته، فيقال إن للمهذب ابن الزبير كان ينضم له، وان الجليس ابن الحباب كان يعينه وله ديوان كبير وإحسان كثير.
ولما جلس في دست الوزارة نضم هذه الأبيات بديهة:

انظر إلى ذي الدار، كم ... قد حل ساحته وزير
ولكم تبختر آمنا ... وسط الصفوف بها أمير
ذهبوا، فلا والله ما يبقى ... الصغير ولا الكبير
ولمثل ما صاروا إلي ... ه من الفناء غدا نصير
فصلقال أبو يعلى: ورد الخبر في خامس عشر ربيع الأول من ناحية حلب بحدوث زلزله هائله روعت أهلها وأزعجتهم، وزعزعت مواضع مساكنها، ثم سكنت بقدرة محركها سبحانه وتعالى. وفي ليلة الخامس والعشرين من ربيع الأول وافت زلزلة في دمشق روعت وأقلقت، ثم سكنت.
وفى التاسع من ربيع الآخر برز نور الدين من دمشق إلى جسر الخشب في العسكر المنصور بآلات الحرب لجهاد الكفرة. وقد كان أسد الدين قبل ذلك، عند وصوله، فيمن جمعه فرسان التركمان، أغارتهم على أعمال صيدا وما قرب منها، فغنموا أحسن غنيمة وأوفرها؛ وخرج إليهم من كان بها من خيالة الفرنج ورجالتها، وقد كمنوا لهم، فغنموهم، وقتل أكثرهم، وأسر الباقون؛ وفيهم ولد المقدم المتولي حصن حارم، وعادوا سالمين بالأسرى ورءوس القتلى والغنيمة، ولم يصب منهم غير فارس واحد.
قال: وفي أوائل في شهر تموز، الموافق الأول جمادى الآخرة من السنة، وافى البقاع مطر هطال بحيث حدث منه سيل أحمر كما جرت به العادة في تنبوك للشتاء، ووصل إلى بردى، ووصل إلى دمشق؛ وكثر التعجب من اثار قدرة الله تعالى بحدوث مثل ذلك في هذا الوقت.
قال: وفى ليلة الثالث والعشرين من رجب وافت زلزلة عند تأذين الغداة، ثم أخرى في الليلة بعدها وقت صلاة الغداة. وورد الخبر من العسكر بأن الفرنج تجمعوا وزحفوا إلى العسكر المنصور وأن المولى نور الدين نهض في الحال في العسكر، والتقى الجمعان. واتفق إن عسكر الإسلام حدث فيه فشل لبعض المقدمين، فاندفعوا وتفرقوا بعد الاجتماع، و بقى نور الدين ثابتا مكانه، في عدة يسيرة من شجعان غلمانه وأبطال خواصه، في وجوه الفرنج،واطلوا فيهم السهام، فقتلوا منهم ومن خيولهم العدد الكثير، ثم ولوا منهزمين خوفا من كمين يظهر عليهم من عسكر الإسلام ونجى الله، وله الحمد، نور الدين من بأسهم بمعونة الله تعالى، وشدة باسه، وثبات جأشه. ومشهور شجاعته؛ وعاد إلى مخيمه سالما في جماعته، ولام من كان السبب في اندفاعه بين يدي الفرنج. وتفرق جمع الفرنج إلى أعمالم، وراسل ملكهم نور الدين في طلب الصلح والمهادنة، وحرض على ذلك. وترددت بين الفريقين مراسلات، ولم يستقر بينهما حال؛ وعاد نور الدين إلى دمشق سالم.

قلت. وذكر أبو الفتح بنجه بن أبى الحسن بن بنجه الأشترى، المعيد كان بالمدرسة النظامية، في سيرة مختصرة جمعها لنور الدين، وقد تقدم شيء منها، رحمهما الله. قال: وبلغنا أن نور الدين خرج إلى الجهاد، في سنة ست وخمسين وخمسمائة، فقضى الله بانهزام عسكر المسلمين، وبق الملك العادل، مع شرذمة قليلة، وطائفة يسيرة، واقفا على تل يقال له تل حبيش، وقد قرب عسكر الكفار بحيث اختلط رجالة المسلمين. مع رجالة الكفار فوقف الملك العادل بحذائهم موليا وجهه إلى قبلة الدعاء، حاضرا بجميع قلبه، مناجيا ربه يقول: يارب العباد، أنا العبد الضعيف، ملكتني هذه الولاية وأعطيتني هذه النهابة؛ عمرت بلادك، ونصحت عبادك، وأمرتهم بما أمرتني به، ونهيتهم عما نهيتني عنه؛ فرفعت المنكرات من بينهم، وأظهرت شعار دينك في بلادهم؛ وقد انهزم المسلمون، وأنالا أقدر على دفع هؤلاء الكفار أعداء دينك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أملك إلا نفسي هذه، وقد سلمتها إليهم ذابا عن دينك وناصرا لنبيك. فاستجاب الله تعالى دعاءه، وأوقع في قلوبهم الرعب، وأرسل عليهم الخذلان؛ فوقفوا مواضعهم وما جسروا على الإقدام عليه، وضنوا أن الملك العادل عمل عليهم الحيلة، وأن عسكر المسلمين في الكمين، فإن أقدموا عليه يخرج عساكر المسلمين من الكمين فلا ينفلت منهم أحد فوقفوا وما أقدموا علية. قال ولولا أن ذلك إلهام من الله تعالى لكانوا قد استأجروا المسلمين وما كان ينفلت واحد من المسلمين. فوقف عسكر الكفار وبرز اثنان منهم يحولان بين الصفين يطلبان البراز من المسلمين؛ فأمر الملك العادل لخطلخ الزاهد، مولى الشهيد بالخروج إليهما، فخرج، وجال بينهما ساعة، وحمل على واحد منهما فقتله؛ ثم جال ساعة وعمل حيلة وخدعة، ورجع إلى قريب صف الكفار، وحمل على الآخر فقتله، ورجع إلى الصف.
قال: وحدثنا الشيخ داود القدسي خادم قبر شعيب، على نبينا وعليه السلام، قال: كان أعطاني ملك القدس بغلة كنت راكبا عليها، يعني في ذلك اليوم، واقفا مع الملك العادل؛ فلما وصل الكفار وقربوا منا شمت بغلتي رائحة خيل الكفار، فصهلت تطلب خيلهم، فسمعوا صهيل بغلتي، فقالوا هذا داود راكب على البغلة مع نور الدين واقف، ولولا الحيلة والكمين من المسلمين لما وقفوا مع هذه الشرذمة القليلة، والطائفة اليسيرة. فتحقق ذلك في قلوبهم فوقفوا وما جهروا على الإقدام عليه. قال: فترجل كل من كان مع الملك العادل وتتشفعوا إليه، وباسوا الأرض بين يديه، وقالوا: أيها الملك أنت بجميع المسلمين في هذا الموضع وفي هذا الإقليم؛ فإن جرى، والعياذ بالله، وهن وضعف من استيلاء الكفار على المسلمين فمن الذي يقدر على تداركه ؟! قال: وحلف هذا الشيخ داود أنهم بعنان فرسه كرها ورحلوا من ذلك الموضع، وما كان في عزم الملك العادل أن يرحل من ذلك الموضع. فلما علم الكفار ذلك، وأنه ما كان عليهم حيلة ولا كمين، ندموا على ذلك ندامة عظيمة. قال: وكان قبل هذه الوقعة بسنة كسر الملك العادل الكفار وقتل منهم مقتله عظيمة وأسر منهم خلقا كثيرا، على ما حكى عن صلاح الدين صاحب حمص أنه قال: قد جاز التركمان علينا، فحصل في الجريدة ألف أسير مع التركمان. هذا ما جاز على بلد حمص وحده. وكان قد انفلت ملك القدس ودخل إلى قليعة؛ فلما جن عليه الليل خرج من القلعة ومضى.
فصل

قال أبو يعلى: في رجب تجمع قوم من السفهاء العوام وعزموا على التحريض لنور الدين على إعادة ما كان أبطل وسامح به أهل دمشق من رسوم دار البطيخ وعرصة البقل والأنهار، وصانهم من إعنات شرار الضمان وحوالة الأجناد. وكرروا لسخف عقولهم الخطاب، وضمنوا القيام بعشرة آلاف دينار بيض؛ وكتبوا بذلك حتى أجيبوا إلى ما راموا. وشرعوا في فرضها على أرباب الأملاك من المقدمين والأعيان والرعايا، فما اهتدوا إلى صواب، ولا نجح لهم قصد في خطاب ولا جواب وعسفوا الناس بجهلهم بحيث تألموا وأكثروا الضجيج والاستغاثة إلى نور الدين؛ فصرف همة إلى النظر في هذا الأمر، فنتجت له السعادة وإيثار العدل في الرعية الإعادة إلى ما كان عليه. فأمر في عاشر رمضان بإعادة الرسوم المضادة إلى ما كانت عليه، من إماتتها وتعفية أثر ضمانها؛ وأضاف إلى ذلك، تبرعا من نفسه، إبطال ضمان الهريسة والجبن واللبن. ورسم بكتابة منشور يقرأ على كافة الناس بإبطال هذه الرسوم جمعها وتعفية ذكرها، فبالغ العالم عند ذلك في مواصلاً الأدعية والثناء عليه، والنشر لمحاسنه.
قال: وفي الحادي والعشرين من رمضان وصل الحاجب محمود المستر شدي من ناحية مصر بجواب ما تحمله من المراسلات من الملك الصالح متولي أمرها، ومعه رسول. من مقدمي أمرائها، ومعه المال المنفذ برسم الخزانة الثورية، وأنواع الثياب المصرية، والجياد العربية. وكانت فرقة من الفرنج، خذلهم الله، قد ضربوا لهم في المعابر، فأظفر الله بهم، فلم يفلت منهم إلا القليل النزر. ثم تلا ذلك ورود الخبر من العسكر المصري بظفره بجملة وافرة من الفرنج ناهز أربعمائة فارس، وتزيد على ذلك، في ناحية العريش من الجفار، بحيث استولى عليهم القتل والأسر والسلب.
قال: وقد كانت الأخبار تناصرت من ناحية القسطنطينية في ذي الحجة يبروز ملك الروم منها بالعدد الكثير لقصد الأعمال والمعاقل الإسلامية، ووصوله إلى مروج الديباج وتخييمه فيها، و بث سرايا. للإغارة على أعمال أنطاكية وما والاها. وأن قوما من التركمان ظفروا بجماعة منهم، هذا بعد أن افتتح من أعمال لا وين، ملك الأرمن، عدة من حصونه ومعاقله. ولما عرف نور الدين هذا شرع في مكاتبة الولاة بالأعمال والمعاقل بإعلامهم ما حدث من الروم، وبعثهم على استعمال التيقظ، والتأهب للجهاد فيهم، والاستعداد للنكاية بمن يظهر منهم.
قال ابن الأثير: وفي سنة ثلاث وخمسين سار الملك محمد بن محمود، فحصر بغداد، و بها الخليفة المقتفى لأمر الله، ومعه وزيره عون الدين ابن هبيرة. فكاتب أصحاب الأطراف فتحركوا؛ ووصل الخبر إلى الملك محمد بأن أخاه ملكشاه قصد همدان ودخلها في عسكر كبير ونهبها، وأخذ نساء الأمراء الذين معه، وأولادهم. فاختلط العسكر وتفرقوا، وعاد محمد نحو همدان. وخرج أهل بغداد فنهبوا أواخر العسكر المنقطعين، وشعثوا دار السلطان.
قلت: وفي هذه السنة توفى أبو الوقت عبد الأول المحدث المنفرد يعلو رواية كتاب الجامع الصحيح للبخاري، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة

قال أبو يعلى: في أول يوم منها وافت زلزلة عظيمة ضحى نهار، وتلاها ثنتان دونها. وكان قد عرض لنور الدين مرض تزايد به بحيث أضعف قوته، ووقع الإرجاف به من حساد دولته، والمفسدين من عوام رعيته. وارتاعت الرعايا وأعيان الأجناد، وضاقت صدور قطان الثغور والبلاد، خوفا عليه واشفاقا من سوء يصل إليه، لا سيما مع أخبار الروم والفرنج ولما أحس من نفسه بالضعف تقدم إلى خواص أصحابه وقال لهم: إنني قد عزمت على وصيه إليكم بما وقع في نفسي فكونوا لها سامعين مطيعين، وبشروطها عاملين إني مشفق على الرعايا وكافة المسلمين ممن يكون بعدى من الولاة الجاهلين، والظلمة الجائرين؛وإن آخي نصرة الدين أعرف من أخلاقه وسؤ أفعاله ما لا أرتضى معه توليته أمرا من أمور المسلمين. وقد وقع اختياري على أنني الأمير قطب الدين مودود، متولي الموصل، لما يرجع إليه من عقل وسداد، ودين وصحة اعتقاد. فحلفوا له، وأنفذ رسله إلى أخيه بإعلامه صورة الحال ليكون لها مستعدا. ثم تفضل الله تعالى بإبلاله من المرض وتزايد القوه في النفس والحس؛ وجلس للدخول إليه والسلام عليه. وكان الأمير محمد الدين النائب في حلب قد رتب في الطرقات من يحفظ السالكين فيها؛ فظفر المقيم في منبج برجل حمال من أهل دمشق ومعه كتب، فأنفذ بها إلى مجد الدين متولي حلب. فلما وقف عليها أمر بصلب متحملها، وأنفذها في الحال إلى نور الدين، فوجدها من أمين الدين زين الحاج أبى القاسم، متولي ديوانه، ومن عز الدين والى القلعة، مملوكله، ومن محمد بن جفرى، أحد حجابه، إلى أخيه نصرة الدين أمير أميران صاحب حران بإعلامه بوقوع اليأس من أخيه، و يحضونه على المبادرة والإسراع إلى دمشق لتسلم إليه. فلما عرف نور الدين ذلك عرض الكتب على أربابها فاعترفوا بها، فأمر باعتقالهم، وكان رابعهم سعد الدين عثمان، وكان قد خاف فهرب قبل ذلك بيومين. وورد في الحال كتاب صاحب قلعة جعبر يخبر بقطع نصرة. الدين الفرات مجدا إلى دمشق فأنهض أسد الدين في العسكر المنصور لرده ومنعه من الوصول، فاتصل به خبر عوده إلى مقره عند معرفته بعافية أخيه، فعاد أسد الدين إلى دمشق ووصلت رسل الملك العادل من ناحية الموصل بجواب ما تحملوه إلى أخيه قطب الدين، وفارقوه وقد برز في عسكره، متوجها إلى ناحية دمشق. فلما فصل عن الموصل اتصل به خبر عاقبته، فأقام بحيث هو وأنفذ وزيره. جمال الدين أبا جعفر محمد بن علي لكشف الحال. فوصل إلى دمشق يوم السبت الثامن صفر في أحسن زي وأبها تجمل، وخرج إلى لقائه الخلق الكثير.
قال: وهذا الوزير قد ألهمه الله تعالى من جميل الأفعال وحميد الخلال، وكرم النفس، و أنفاق أمواله في أبواب البر والصلات والصدقات، ومستحسن الآثار في مدينة الرسول عليه السلام، ومكة ذات الحرم والبيت المعظم، شرفه الله تعالى، ما قد شاع ذكره، وتضاعف عليه حمده وشكره. واجتمع مع نور الدين وجرى بينهما من المفاوضات والتقريرات ما انتهى إلى عوده إلى جهته، بعد الإكرام له، وتوفيتة حقه من الاحترام؛ وأصحبه برسم قطب الدين أخيه وخواصه من الملاطفة ما اقتضته الحال الحاضرة؛ وتوجه معه الامير أسد الدين.
وقال ابن أبى طي: لما وصل الوزير جمال الدين إلى حلب تلقاه موكب نور الدين، وفيه وجوه الدولة وكبراء المدينة، وانزل في دار ابن الصوفي وأكرم غاية الإكرام؛ وأعيدة إلى صاحبه شاكرا عن نور الدين، وسير معه الأمير أسعد الدين شيركوه رسولا إلى قطب الدين بالشكر له والثناء عليه؛ وأخذت معه هدايا سنية. فسار وعاد إلى حلب مكرما، فوجد نور الدين عازما على الخروج إلى دمشق لما بلغته من إفساد الفرنج في بلد حوران، فسار في صحابته ووصل نور الدين إلى دمشق، فأمر الناس بالتجهز لقتال الفرنج، ثم أنهض أسد الدين في قطعة من العسكر للإغارة على بلد صيدا فسار وسار معه أخوه نجم الدين أيوب وأولاده. ولم يشعر الفرنج وهو قد عاث في بلد صيدا وقتل وأسر عالم عظيما، وغنم غنيمة جليلة؛ وعاد فاجتمع بنور الدين على جسر الخشب.
قلت: وهذا هو ما تقدم ذ كره بعد المرضة الأولى، وكأن ابن أبى طي جعل المرضتين واحدة بحلب؛ وأبو يعلى ذكر أن الأولى بحلب والثانية بدمشق، وهو الأصح. والله أعلم.
فصل

قال أبو يعلى: وكان قد وصل من ملك الروم رسول من معسكر. ومعه هدية أتحف بها الملك العادل من أثواب ديباج وغير ذلك، وجميل خطاب وفعال؛ وقوبل بمثل ذلك. وحكى عن ملك الفرنج، خذله الله، إن المصالحة بينه وبين ملك الروم تقررت، والمهادنة انعقدت؛ والله يرد باس كل واحد منهما إلى نحره، و يذيقه عاقبة غدره ومكره.
قال: ووردت أخبار من ناحية، ملك الروم باعتزامه على أنطاكية وقصد المعاقل الإسلامية؛ فبادر نور الدين بالتوجه إلى البلاد الشامية لإيناس أهلها بن استيحاشهم من شر الروم والإفرنج، خذلهم الله تعالى، فسار في العسكر صوب حمص وحماة وشيزر.
قال: وفي ثالث ربيع الأول وافت زلزلة هائلة ماجت أربع موجات وأيقظت النيام وأزعجت اليقظى، وخاف كل ذي مسكن مضطرب على نفسه وعلى مسكنه.
قال: وفي تاسع جمادى الأولى هبت ريح عاصف شديدة أقامت يومها وليلتها، فأتلفت أكثر الثمار، صيفيها وشتويها، وأفسدت بعض الأشجار، ثم وافت آخر الليل زلزلة هائلة ماجت موجتين أزعجت وأقلقت.
قال وتجددت المهادنة المؤكدة لنور الدين مع ملك الروم، بعد تكرر المراسلات والاقتراحات في التقريرات؛ وأجيب ملك الروم إلى ما التمسه من إطلاق مقدمي الإفرنج المقيمين في حبس نور الدين، فأنفذهم بأسرهم. وقابل الروم هذا الفضل بما يضاهيه من الإتحاف بأثواب الديباج الفاخرة، المختلفة الأجناس، الوافرة العدد؛ ومن. الجوهر النفيس، وخيمة من الديياج لها قيمة وافرة، وما استحسن من الخيول الجبلية ثم رحل عقيب ذلك في عساكره من منزله عائدا إلى بلاده مشكورا محمودا، ولم يؤذ أحدا من المسلمين، في العشر الأوسط من جمادى الأولى؛ فاطمأنت القلوب بعد انزعاجها وقلقها.
قال: وورد بعد ذلك الخبر بأن نور الدين صنع لأخيه قطب الدين، والعسكر، ولمن ورد معه من المقدمين والولاة وأصحابهم، الواردين لجهاد الروم والإفرنج، سماطاً عظيما هائلا، تناهىفيه، وفرق من الحصن العربية والخيول والبغال العدد الكثير؛ ومن الخلع من أنواع الديباج المختلف وغيره، والتخوت الذهب، الشيء الكثير الزائد على الكثرة؛وكان يوما مشهودا في الحسن والتجمل. وانفق أن جماعة من غرباء التركمان وجدوا من الناس غفلة باشتغالهم بالسماط وانتهابه، فأغاروا على العرب من بنى أسامة وغيرهم، واستاقوا مواشيهم فلما ورد الخبر بذلك أنهض. نور الدين في أثرهم فريقا وافرا من العسكر، فأدركوهم. واستخلصوا منهم، جميع ما أخذوه، وأعيد إلى أربابه.
قال: وتقرر الرأي النورى على التوجه إلى مدينة حران لمنازلتها واستعادتها من يد أخيه نصرة الدين، حسبما رآه في ذلك من الصلاح؛ فرحل في عسكره. أول جمادى الآخرة. فلما نزل عليها وأحاط بها، وقعت المراسلات، إلى أن تقرر الحال على أمان من بها؛ وسلمت في يوم السبت الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، وقررت أحوالها، وأحسن النظر في أحوال أهلها، وسلمها للأمير زين الدين على سبيل الإقطاع، وفوض إليه تدبير أمورها
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائةقال الرئيس أبو يعلى: في صفر توفى الأمير مجاهد الدين بزان بن مامين أحد مقدمي أمراء الأكراد. وهو من ذوى الوجاهة في الدولة، موصوف بالشجاعة والبسالة والسماحة مواظب على بث الصلات والصدقات، في المساكين والضعفاء والفقراء مع الزمان، في كل عصر ينقضي وأوان؛ جميل المحيا، حسن البشر في اللقاء. وحمل من داره بباب الفراديس إلى الجامع للصلاة عليه ثم إلى المدرسة المشهورة باسمه، فدفن فيها في اليوم، ولم يخل من باك عليه، ومؤبن له، ومتأسف على فقده؛ لجميل أفعاله وحميد خلاله.
قلت: وله أوقاف على أبواب البر منها المدرستان المنسوبتان إليه إحداهما التي دفن فيها، وهي لزيق باب الفراديس المجدد، والأخرى قبالة باب دار سيف الغربى، في صف مدرسة نور الدين، رحمه الله. وله وقف على من يقرأ السبع كل يوم بمقصورة الخضر بجامع دمشق؛ وغير ذلك. وقد مدحه العرقلة وغيره.

قال أبو يعلى: وفي مستهل صفر رفع القاضي زكى الدين أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى بن علي القرشي، قاضي دمشق، إلى الملك العادل نور الدين، رقعة يسأله فيها الإعفاء من القضاء، والاستبدال به، فأجاب سؤاله وولى قضاء دمشق القاضي كمال الدين ابن الشهرزورى، وهو المشهور بالتقدم ووفور العلم، وصفاء الفهم، والمعرفة بقوانين الأحكام، وشروط استعمال الإنصاف، والعدل، والنزاهة، وتجنب الهوى والظلم. واستقام له الأمر على ما يهواه، ويؤثره. ويرضاه، على أن القضاء من بعض أدواته. واستقر أن يكون النائب عنه، عند اشتغاله، ولده.
قلت: ولكمال الدين رحمه الله تعالى الصدقة الجارية بعده على الفقراء كل جمعة؛ وإليه ينسب الشباك الكمالي بجامع دمشق من الغرب، وهو الذي حكمت فيه القضاة مدة، ويصلون فيه الجمعة في زماننا.
وإلى ههنا أنتها ما نقلناه من كتاب الرئيس أبي يعلى التميمي، فإنه آخر كتابه. وفي هذه السنة توفي رحمه الله. وقال ابن الأثير: وفيها توفي أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله. بن المستظهر بأمر الله، ومولد سنة تسع وثمانين وأربعمائة؛ وكانت خلافته أربعا وعشرين سنة وشهرين. وبويع ولده أبو المظفر يوسف، ولقب بالمستنجد بالله فأقر ابن هبيرة على وزارته.
قال: وفيها حج زين الدين على وأحسن إلى الناس في طريق مكة، وأكثر الصدقات. فلما وصل بغداد أكرمه المستنجد بالله؛ فلما لبس الخلعة كانت طويلة، وكان قصيرا جدا، فمد يده إلى كمراته وأخرج ما شد به، وقصر الجبة. فنظر المستنجد إليه واستحسن ذلك منه، وقال لمن عنده: مثل هذا يكون الأمير والجندي لا مثلكم.
قلت: وفيها توفى المستخلف بمصر، الملقب بالفائز بن الظاهر بن الحافظ، وولى بعده. بن عمه العاضد بن يوسف بن الحافظ؛ وهو أخر خلفاء مصر. ووصل من الصالح بن رزيك كتاب إلى ابن منقذ أسامة بذلك فكتب إليه:
هناء بنعمى قل عن قدرها الشكر ... وصبرا لرزء لا يقوم به الصبر
مض الفائز الطهر الإمام، وقام بال ... إمامة فينا بعده العاضد الطهر
إماما هدىالله، في نقل ذا إلى ... كرامته، وفي إقامة ذا سر
فعش أبدا، واسلم لهم يا كفيلهم ... تدافع عنهم كل حادثة تعرو
ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائةقال ابن أبى علي: في هذه السنة حج أسد الدين من الشام وخرج في محمل عظيم وشارة رائقة؛ واستصحب معه من الأزواد والكسى أشياء عظيمة. ويقال إنه كان معه ألف نفس يجرى عليهم الطعام والشراب. وحج على كوجك المعروف بزين الدين من العراق؛ وحج ملهم أخو ضرغام وزير مصر؛ فكان الموسم بهؤلاء الثلاثة كثير الخير، واستغنى بسببهم أهل الحجاز وعاد أسد الدين سالما وخرج نور الدين إلى لقائه، وكان يوم وروده يوما عظيما.
وقال أيضاً: وفيها قتل الصالح ابن رزيك بمصر وكان سبب قتله إن عمة العاضد عملت على قتله، وأنفذت الأموال إلى الأمراء فبلغ ذلك الصالح، فاستعاد الأموال، واحتاط على عمة العاضد. قال: وإنما كرهته عمة العاضد لاستيلائه على الأمور والدولة، وحفظه للأموال وقتل الصالح بسببها جماعة من الأمراء ونكبهم، وتمكن من الدولة تمكنا حسنا. ثم إن عمة العاضد عادت وأحكمت الحيلة عليه، وبذلت لقوم من السودان مالا جزيلا حتى أوقعوا به الفعل: جلسوا له في بيت في دهليز القصر مختفين فيه. فلما كان يوم تاسع عشر رمضان ركب إلى القصر ودخله، وسلم على العاضد، وخرج من عنده، فخرج عليه الجماعة، ووقعت الصيحة. فعثر الصالح بأذياله، فطعنه أحدهم بالسيف في ظاهررقبته، فقطع أحد عمودي الرقبة، وحمل إلى باب القصر، وأصيب ولده رزيك في كتفه. ولما حصل الصالح في داره أوصى ولده رزيك، ومات بعد ساعة من ذلك اليوم.
قال العماد: وانكسفت شمس الفضائل، ورخص سعر الشعر، وانخفض علم العلم، وضاق قضاء الفضل؛ وعم رزء ابن رزيك، وملك صرف الدهر ذلك المليك. فلم تزل مصر بعد منحوسة الحظ، منجوسة الجد، منكسوة الراية، معكوسة الآية، إلى أن ملكها يوسفها الثاني، وجعلها مغاني المعاني، وأنشررميمها، وعطر نسيمها، وتسلم قصرها، والتزم خصرها. قال زين الدين الواعظ: عمل فارس المسلمين، أخو الصالح، دعوة في شعبان من السنة التي قتل فيها فعمل هذه الأبيات وسلمها إلى:

أنست بكم دهرا، فلما ظعنتم اس ... تقرت بقلبي وحشة للتفرق
وأعجب شيء أنني يوم بينكم ... بقيت، وقلبي بين جنبي ما بقى
أرى البعد ما، بيني وبين أحبتي ... كبعد المدى ما بين غرب ومشرق
ألا جددى يانفس وجدا وحسرة ... فهذا فراق بعده ليس نلتقي
قال: فلم يبق بعدها لهم اجتماع في مسرة، وقتل في شهررمضان.
قلت: ولعمارة اليمنى ولغيره مدائح في الصالح ومراث جليلة، وقد أثنى عليه كثيراً في كتاب الوزراء المصرية وقال: لم يكن يجلس أنه ينقطع إلا بالمذاكرة في أنواع العلوم الشرعية والأدبية، وفي مذاكرة وقائع الحروب مع أمراء دولته. قال: وكان مرتاضا، قد شم أطراف المعارف، وتميز عن أجلاف الملوك. وكان شاعرا يحب الأدب وأهله، . يكرم. جليسه، و يبسط أنيسه، ولكنه كان مفرط العصبية في مذهب الأمامية. وكان مرتاضا. حصيفا قد لقي في ولايته فقهاء السنة وسمع كلامهم.
قال: ودخلت عليه قبل أن يموت بثلاث ليال، وفي يده قرطاس وقد كتب فيه بيتين من شعره عملهما في تلك الساعة
نحن في غفلة ونوم، وللمو ... ت عيون يقظانة لا تنام
قد رحلنا إلى الحمام سنينا ... ليت شعري؛ متى يكون الحمام
قال: ومن عجيب الاتفاق أني أنشدت ابنه مجد الإسلام، في دار سعيد السعداء، ليله السادس عشر من شهر رمضان، أو السابع عشر، قصيدة أقول فيها:
أبوك الذي تسطو الليالي بحده ... وأنت يمين، إن سطا، وشمال
لرتبته العظمى، وإن طال عمره ... إليك مصير واجب ومآل
تخالسك الّلحظ المصون، ودونها ... حجاب شريف، لا انقضى، وحجال
قال: فانقل الملك بعد ثلاث إليه: قال: ومما رثيته به قولي:
أفى أهل ذا النادي عليم أسائله ... فأني لما بي ذاهب اللب ذاهله
سمعت حديثا أحسد الصم عنده ... ويذهل واعيه ويخرس قائله
فقد رابني من شاهد الحال أنني ... أرى الدست منصوبا وما فيه كافله
وأني أرى فوق الوجوه كآبة تدل ... على أن الوجوه ثواكله
دعوني، فما هذا بوقت بكائه ... سيأتيكم طل البكاء ووابله
ولم لا تبكيه وتندب فقده ... وأولادنا ايتامه وأرامله
فياليت شعري بعد حسن فعاله ... وقد غاب عنا، ما بنا الدهر فاعله
أيكرم مثوى ضيفكم وغريبكم ... فيسكن، أم تطوى ببين مراحله
وله من أخرى يرثيه ويذكر ولاية ابنه:
طمع المرء في الحياة غرور ... وطويل الآمال فيها قصير
ولكم قدر الفتى فأتته ... نوب لم يحط بها التقدير
فض ختم الحياة عنك حمام ... لا يراعى إذنا ولا يستشير،
ما تخطى إلى جلالك إلا ... قدر أمره علينا قدير
يا أمير الجيوش، هل لك علم ... أن حر الأسى علينا أمير
إن قبرا حللته لغنى ... إن دهرا فارقته لفقير
انطوى ذلك البساط، وعهدي ... وهو بالعلم والندى معمور
لا تظن الأيام أنك ميت ... لم يمت من ثناوه منشور
إن مضى كافل فهذا كفيل ... أو وزير يغب فهذا وزير
دولة صالحية، خلفتها ... دولة عادلية لا تجور
ما شكونا كسر النوائب حتى ... قيل في الحال كسركم محبور
نصر الناصر الملا بالعوالي ... ونعم المولى ونعم النصير
وقال أيضاً يرثيه، و يذكر ا لظفر بقاتله، ويصف نقل تابوته إلى مشهده قصيدة طويلة منها: قد كنت أشرق من ثماد مدامعي أسفا، فكف وقد طي التيار
عم الورى يوم الخميس، وخصتني ... خطب بأنف الدهر منه صغار
ما أوحش الدنيا غدية فارقت ... قطبا رحى الدنيا عليه تدار
خربت ربوع المكرمات لواحد ... عمرت به الأحداث وهي قفار
نعش الجدود العاثرات مشيع ... عشيت برؤية نعشه الأبصار

نعش يود بنات نعش لو غدت ... ونظامها أسفا عليه نثار
شخص الأنام إليه تحت جنازة ... خفضت لرفعة قدرها الأقدار
صار الإمام أمامها، فعلمت إن ... قد شيعتها الخمسة الأبرار
ومشى الملوك بها حفاة، بعدما ... حفت ملائكة بها أطهار
فكأنها تابوت موسى أودعت ... في جانبيه سكينة ووقار
لكنه ماضم غير بقية ال ... اسلام وهو الصالح المختار
أقطنته دار الوزارة ريثما ... بنيت لنقلته الكريمة دار
وتغاير الهرمان والحرمان في ... تابوته، وعلى الكريم يغار
آثرت مصرا منه بالشرف الذي ... حدت قرافتها له الأمصار
وجعلتها أمنا به ومثابة ... ترجو مثابة قصدها الزوار
قد قلت إذ نقلوه نقلة ظاعن ... نزحت به دار وشط مرار
ما كان إلا السيف جدد غمده ... بسواه، وهو الصارم البتار
والبدر فارق برجه متبدلا ... برحابه تتشعشع الأنوار
والغيث روى بلدة ثم انتحى ... أخرى، فنوء سحابه مدرار
يا مُسبل الأستار دون جلاله ... ماذا الذي رفعت له الأستار
مالي أرى الزوار بعد مهانة ... فوضى، ولا إذن ولا استثمار
غضب الإله على رجال أقدموا ... جهل عليك، وآخرين أشاروا
لا تعجبا لقدار ناقة صالح ... فلكل دهر ناقة وقدار
ؤاخجلتا للبيض كيف تطاولت ... سفها بأيدي السود وهي قصار
واحسرنا: كيف انفردت لأعبد ... وعبيدك السادات والأحرار
رصدوك في ضيق المجال بحيث لا ال ... سخطى متسع ولا الخطار
ما كان أقصر باعهم عن مثلها ... لو كنت متروكا وما تختار
ولقدت ثبت ثبات مقتدر على ... خذلانهم لو ساعد المقدار
وتعثرت أقدامهم، بك هيبة ... لو لم يكن لك بالذيول عثار
أحللت دار كرامة لا تنقضي ... أبدا، وحل بقاتليك بوار
ياليت عينك شاهدت أحوالهم ... من بعدها، ورأت إلى ما صاروا
وقع القصاص بهم، وليسوا مقنعا ... يرضى، وأين من السماء غبار
ضاقت بهم سعة الفجاج، وربما ... نام العدو ولا ينام الثار
وتوهموا ان الفرار مطية ... تنجى، وأين من القضاء فرار
طاروا فمد أبو الشجاع لصيدهم ... شرك الردى، فكأنهم ما طاروا
فتهن بالأجر الجزيل وميتة ... درجت عليها قبلك الأخبار
مات الوصي بها، وحمزة عمه ... وابن البتول، وجعفر الطيار
نلت السعادة والشهادة والعلا ... حيا وميتا، إن ذا لفخار
ولقد أقر العين بعدك أروع ... لولاه لم يك للعلا استقرار
الناصرالهادى، الذي حسناته ... عن سيئات زماننا أعذار
لما استقام لحفظ أمة أحمد ... عمرت به الأوطان والأوطار
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وخمسمائةفال ابن الأثير: فيها جمع نور الدين العساكر وسار إلى قلعة حارم وحصرها وجد في قتالها، فامتنعت عليه، لحصانتها وكثرة من بها من فرسان الفرنج وشجعاتهم. واجتمع الفرج من سائر البلاد وساروا نحوه ليرحلوه عنها؛ فلما قاربوه طلب منهم المصاف، فلم يجيبوه الىذلك، وراسلوه وتلطفوا الحال معه فعاد إلى بلاده. وممن كان معه في هذه الغزاة الأمير مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن منقذ، وكان من الشجاعة في الغاية التي، لا مزيد عليها. فلما عاد إلى حلب دخل إلى مسجد سيرين، وكان قد دخله في العام الماضي، سائرا إلى الحج؛ فلما دخله عامئذ كتب على حائطه:
لك الحمد يا مولاي، كم لك منة ... على، وفضل لا يحيط به شكري
نزلت بهذا المسجد العام قافلا ... من الغزو، موفور النصيب من الأجر

ومنه رحلت العيس في عامي الذي ... مض نحو بيت الله ذي الركن والحجر
فاديت مفروضي، وأسقطت ثقل ما ... تحملت من وزر الشبيبة عن ظهري
قلت: أذكرني هذا ما كتبه أسامة أيضاً بمدينة صور وقد دخل دار ابن أبى عقيل فرآها وقد تهدمت وتغيرت زخرفتها، فكتب على لوح من رخام هذه الأبيات:
احذر من الدنيا، ولا ... تغتر بالعمر القصير
وانظر إلى آثار من ... سرعته منا بالغرور
عمروا وشادوا ماترا ... ه من المنازل والقصور
وتحولوا من بعد سُك ... ناها إلى سكني القبور
قلت:ابن أبى عقيل هذا هو أبو الحسن محمد بن عبد الله بن عياض بن أبى عقيل صاحب صور، ويلقب عين الدولة. مات سنة خمس وستين وأربعمائة، واستولى على صور ابنه النفيس. والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائةقال ابن الأثير: فيها جمع نور الدين عساكره ودخل بلاد الفرنج، فنزل بالبقيعة تحت حصن الأكراد، وهو للفرنج، عازما عل دخول بلادهم ومنازلة طرابلس. فبينما الناس في بعض الأيام في خيامهم في وسط النهار، لم يرعهم إلا ظهور صلبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه الحصن فكسبوهم. فأراد المسلمون دفعهم فلم يطيقوا، فانهزموا. ووضع الفرج السيف، وأكثروا القتل والأسر، وقصدوا خيمة الملك العادل، فخرج عن ظهر خيمته عجلا بغير قباء، فركب فرسا هناك للنوبة، ولسرعته ركبه وفي رجليه شبحة، فنزل إنسان من الأكراد فقطعها، فنجا نور الدين وقتل الكردي؛ فسأل نور الدين عن مخلفي ذلك الكردي فأحسن إليهم، جزاء لفعله. وكان أكثر القتل في السوقة والغلمان وسار نور الدين إلى مدينة حمص، فأقام بظاهرها، وأحضر منها ما فيها من الخيام ونصبها على بحيرة قدس على فرسغ من حمص، وبينها وبين مكان الواقعة أربعة فراسخ؛ وكان الناس يظنون أنه لا يقف دون حلب، وكان رحمه الله أشجع من ذلك وأقوى عزماً ولما نزل على بحيرة قدس اجتمع إليه كل من نجا من المعركة، فقال له بعض أصحابه: ليس من الرأي أن نقيم ههنا، فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا ونحن على هذه الحال. فوبخه وأسكته، وقال: إذا كان معي ألف فارس فلا أبالي بهم قلوا وكثروا؛ وَوَالله لا أستظل بجدار حتى اخذ بثأر الإسلام وثأرى، ثم إنه أرسل إلى حلب ودمشق وأحضر الأموال والدواب والأسلحة والخيام، وسائر ما يحتاج إليه الجند؛ فأكثر، وفرق ذلك جميعه على من سلم. وأما من قتل فانه أقر إقطاعه على أولاده، فإن لم يكن له ولد فعلى بعض أهله. فعاد العسكر كأنه لم يفقد منه أحد.
وأما الفرنج فكأنهم كانوا عازمين على قصد حمص بعد الهزيمة، لأنها أقرب البلاد إليهم. فلما بلغهم مقام نور الدين عندها قالوا إنه لم يفعل هذا إلا وعنده من القوة أن يمنعنا. وكان نور الدين رحمه الله قد أكثر الخرج إلى أن قسم في يوم واحد مائتي ألف دينار، سوى غيرها من الدواب والخيام والسلاح وغير ذلك. وتقدم إلى ديوانه أن يحضروا الجند ويسألوا كل واحد منهم عن الذي أخذ منه، فكل من ذكر شيئا أعطوه عوضه، فحضر بعض الجند وادعى شيئا كثيرا علم بعض النواب كذبه فيما ادْعاه لمعرفتهم بحاله. فأرسلوا إلى نور الدين ينهون إليه القضية، و يستأذنونه في تحليف الجندي على ما ادعاه. فأعاد الجواب:لا تكدروا عطاءنا، فإني أرجو الثواب والأجر على قليلة وكثيرة. وقال له أصحابه إن لك في بلادك إدرارتٍ كثيرة وصلات عظيمة للفقهاء والفقراء وللصوفية والقراء، فلو استعنت بها.
الآن لكان أمثل، فغضب من هذا وقال: والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم. كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عنى وأنا نائم في فراشي، بسهام لا تخطيء، وأصرفها إلى من يقاتل عنى إذا رآني بسهام قد تخطيء وتصيب؟! ثم هؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال أصرفه إليهم، كيف أعطيه غيرهم فسكتوا.
ثم إن الفرنج أرسلوا إلى نور الدين في المهادنة فلم يجبهم إليها؛ فتركوا عند الحصن من يحميه، وعادوا إلى بلادهم وتفرقوا.
قلت: وفى هذه الحادثة تحت حصن الأكراد يقول، أبو الفرج عبيد الله بن أسعد الموصلي تزيل حمص، من جملة قصيدة فائقة يمدح بها نور الدين رحمه الله تعالى أولها:

ظُبا المواضي وأطراف القنا الذبل ... ضوا من لك ما جازوه من نفل
وكافل لك كاف ما تحاوله ... عز، وعزم، و بأس غير منتحل
وما يعيبك ما حازوه من سلب ... بالختل، قد تؤسر الآساد بالحيل
وإنما أخلدوا جبنا إلى خدع ... إذا لم يكن لهم بالجيش من قبل
واستيقظوا وأراد الله غفلتكم ... لينقذ القدر المحتوم في الأزل
حتى أتوكم ولا الماذى من أمم ... ولا الضبا كثب من مرهق عجل.
قَنًا لِقًا، وقسى غير موترة ... والخيل عازبة ترعى مع الهمل
ما يصنع الليث لا ناب ولا ظفر ... بما حواليه من عفر ومن وعل
هلا، وقد ركب الأسد الصقور وقد ... سلوا الظبا تحت غابات من الأسل
وإنما هم أضاعوا حزمهم ثقة ... يجمعهم، ولكم من واثق خجل
بنى الأصافر ما نلتم بمكركم ... والكر في كل إنسان أخو الفشل
وما رجعتم بأسرى، خاب سعيكم ... غير الأراذل والاتباع والسفل
سلبتم الحرد مُعراة بلا لجم ... والسّمر مركوزةً، والبيض في الخلل
هل اخذ الخيل قد أردى فوارسها ... مثال آخذها في الشكل والطول
أم سالب الرمح مركوزا، كسالبه ... والحرب دائرة من كف معتقل
جيش أصابتهم عينا الكمال وما ... يبخلوا من العين إلا غير مكتمل
لهم بيوم حنين أسوة، وهم ... خير الانام، وفيهم خاتم الرسل
سيقتضيكم بضرب عند أهونه ... البيض كالبيض، والأدراع كالحلل
ملك بعيد من الأدناس، ذو كلف ... بالصدق في القول والإخلاص في العمل
ومنها:
فالسمر ما أصبحت، والشمس ما أفلت ... والسيف ما فل، والأطواد لم تزل
كم قد تجلت بنور الدين من ظُلم ... للظلم، وإنجاب للإضلال من ظلل
قل لِلْمُولّين: كفوا الطرف من جبن ... عند القاء، وغضوا الطرف من خجل
طلبتم السهل تبغون النجاة، ولو ... لذتم بملككم لذتم إلى جبل
أسلمتموه ووليتم، فأسلمكم ... بثبتة، لو بغاها الطود لم ينل
فقام فردا وقد ولت جحافله ... فكان من نفسه في جحفل زجل
في مشهد، لَوْ ليوث الغيل تشهده ... خرت لأذقانها من شدة الوهل
وسط الندى وحده ثبت الجنان، وقد ... طارت قلوب على بعد من الوجل
يعود عنهم رويدا غير مكترث ... بهم، وقد كرفيهم غير محتفل
يزداد قدما إليهم من تيقنه ... أن التأخر لا يحمى من الأجل
ما كان أقربهم من أسر أبعدكم ... لم أنهم لم يكونوا منه في شغل
ثباته في صدور الخيل أنقذكم ... لا تحسبوا وثبات الضمّر الذلّل
ما كل حين تصاب الأسد غافلة ... ولا يصيب الشديد البطش ذو الشلل
والله عونك فيما أنت مز معه ... كما أعانك في أيامك الأول
كم قد ملكت لهم ملكا بلا عوض ... وحزت من بلد منها بلا بدل
وكم سقيت العوالي من طلى مثلك ... وكم قريت العوافي من قرى بطل
لا نكبت ملكت الأقدار عن غرض ... ولا ثنت يدك الأيام عن أمل
قلت: حاول ابن أسعد في هذه القصيدة ما حاوله المتنبي في قوله:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع
فإن كل واحد منهما اعتذر عن أصحابه ومدحهم وهم المنهزمون؛ وقد احسنا معا عفا لله عنهم.
وعبيد الله بن أسعد هذا فقيه فاضل وشاعر مفلق، كان مدرسا بحمص يعرف بابن الدهان، وله ترجمة في تاريخ دمشق. وقد ذكره العماد الكاتب في خريدته، فاحسن ذكره وأكثر الثناء على علمه وشعره؛ وسيأتي ذكره أيضاً في هذا لكتاب في أخبار سنة سبعين، وست وسبعين، وثمان وسبعين، إن شاء الله تعالى.

وفي هذه السنة، أعنى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، توفى عبد المؤمن بن علي، خليفة المهدي محمد بن تومرت صاحب المغرب؛ وولى بعده ابنه يوسف.
كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية تأليف شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي المعروف بأبى شامه الجزء الأول - القسم الثاني
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمسمائةففيها سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى مصر المرة الاولى، وهو من أكابر الأمراء الذين في الخدمة النورية، عازماً على ملك الديار المصرية واستضافتها إلى المملكة النورية.
وكان أسد الدين وأخوه نجم الدين أيوب، وهو الأكبر، ابنا شاذي، من بلد دَوِين وهي بلدة من آخر بلاد أذْرَبِيجان مما يلي بلاد الروم؛ وأصلهما من الأكراد الرواذية، وهذا القبيل من أشرف الأكراد، وقدما العراق، وخدما مجاهد الدين بهروز الخادم، وهو شِحنة العراق؛ فرأى من نجم الدين عقلاً ورأياً وحسن سيرة فجعله دزداراً بتكريت، وهي له، فسار إليها ومعه أخوه أسد الدين.
فلما انهزم أتابك زنكي الشهيد، والد نور الدين، بالعراق من قراجه الساقي، وهو أتابك داود بن السلطان محمود، وذلك من المسترشد بالله، سنة ست وعشرين وخمسمائة، وصل إلى تكريت. فخدمه نجم الدين أيوب وأقام له السفن، فعبر دجلة هناك وتبعه أصحابه، فأحسن نجم الدين صحبتهم وسيَّرهم.
ثم إن أسد الدين قتل إنساناً نصرانياً بتكريت لملاحاة جرت بينهما؛ فأرسل مجاهد الدين إليه وإلى أخيه نجم الدين، فأخرجهما من تكريت. وقيل إن أيوب كان يحسن الرماية فرمى شخصاً من مماليك بهروز بسهم فقتله، فخشى على نفسه، فتوجه نحو الشام وخدم مع زنكي. وقيل لما قتل أسد الدين شيركوه النصراني، وكان عزيزاً عند بهروز، هرب إلى الموصل، والتحق أيوب به. وسنوضح هذه القضية إن شاء الله تعالى عند ذكر وفاة أيوب في أخبار سنة ثمان وستين.
ثم إن أيوب وشيركوه قصدا أتابك الشهيد فأحسن إليهما، وعرف لهما خدمتهما، وأقطعهما إقطاعاً حسناً، وصارا من جملة جنده. فلما فتح حصن بعلبك جعل نجم الدين دزداراً فيه. فلما قُتل الشهيد عند قلعة حعبر حّصر عسكر دمشق نجم الدين، فأرسل إلى سيف الدين غازي، وقد قام بالملك بعد والده في الموصل، يُنهي الحال إليه، فلم يتفرغ لبعلبك وضاق الأمر على من بها، وخاف نجم الدين أن تؤخذ عنوةً ويناله أذى؛ فأرسل في تسليم القلعة وطلب إقطاعاً ذكره، فأجيب إلى ذلك. وحلف له صاحب دمشق عليه، وسلم القلعة، ووفى له بما حلف عليه من الإقطاع والتقدم، وصار عنده من أكابر الأمراء.
واتصل أخوه أسد الدين شيركوه بالخدمة النورية، بعد قتل الشهيد، وكان يخدمه في أيام والده، فقربه نور الدين وأقطعه، ورأى منه في حروبه ومشاهده آثاراً يعجز عنها غيره لشجاعته وجرأته، فزاده إقطاعاً وقرباً حتى صارت له حمص والرحبة وغيرهما؛ وجعله مقدم عسكره.
فلما تعلقت الهمة النورية بملك دمشق أمر أسد الدين فراسل أخاه نجم الدين، وهو بها، في ذلك، فطلب منه المساعدة على فتحها، فأجاب إلى ما يراد منه؛ وطلب هو وأسد الدين من نور الدين كثيراً من اٌقطاع والأملاك ببلد دمشق وغيرها، فبذل لهما ما طلبا منه، وحلف لهما عليه، فوفى لهما لما ملكها، وصارا عنده في أعلى المنازل، لاسيما نجم الدين، فإن جميع الأمراء كانوا لايقعدون عند نور الدين إلا أن يأمرهم أو أحدهم بذلك، إلا نجم الدين، فإنه كان إذا دخل إليه قعد من غير أن يؤمر بذلك.
فلما كان سنو تسع وخمسين عزم نور الدين على إرسال العساكر إلى مصر، ولم ير هذا الأمر الكبير أقوم ولاأشجع من أسد الدين، فسيَّره.
وكان سبب ذلك أن شاور بن مجير أبا شجاع السعدي، وهو الملقب أمير الجيوش الذي يقول فيه عُمارة من قصيدة:
ضجر الحديد من الحديد، وشاور ... في نصر آل محمد لم يضجر
حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكفر

وهو وزير الملقب بالعاضد لدين الله آخر المستخلفين بمصر، كان قد وصل إلى دمشق في سنة ثمان وخمسين، سادس ربيع الأول، إلى نور الدين مستنجداً به على من أخذ منه منصبه قهراً. وكانت عادة المصريين أنه إذا غلب شخص صاحب المنصب وعجز صاحب المنصب عن دفعه، وعرفوا عجزه، وقعّوا للقاهر منهم ورتبوه ومكنوه، فإن قوتهم إنما تكون بعسكر وزيرهم، وهو الملقب عندهم بالسلطان، وما كانوا يرون المكاشفة، وأغراضهم مستتبة وقواعدهم مستقرة من أول زمانهم على هذا المثال.
وكان شاور قد غلب على الوزارة وانتزعها من بني رزيك وقتل العادل بن الصالح ابن رزيك الذي وزر بعد أبيه، واسمه رزيك، ويلقب بالناصر أيضاً، وهو الذي استحضر القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني من الاسكندرية واستخدمه بحضرته وبين يديه في ديوان الجيش، على ما ذكره عمارة اليمني، في كتاب الوزراء المصرية. وقال: غرس منه للدولة، بل للملة، شجرة مباركة متزايدة النماء، أصلها ثابت وفرعها في السماء. ثم خرج على شاور نائب الباب، وهو أمير يقال له ضرغام بن سوار ويلقب بالمصور، فجمع له جموعاً كثيرة لم يكن له بها قِبل، فغلبه وأخرجه من القاهرة وولده طيَّاً، واستولى على الوزارة. فرحل شاور إلى الشام قاصداً خدمة نور الدين مستصرخاً به ومستنصراً، فأحسن نور الدين لقاءه وأكرم مثواه، فطلب منه شاور إرسال العساكر إلى مصر ليعود إليها، ويكون له فيها حصة، ذكرها له، ويتصرف على أمره ونهيه، واختياره. ونور الدين يقدم في ذلك رجلا ويؤخر أخرى، تارة تحمله رعاية قصد شاور وطلب الزيادة في الملك والتقَّوى على الفرنج، وتارة يمنعه خطر الطريق وكون الفرنج فيه، إلا أن يوغلوا في البر فيتعرضوا لخطر آخر مع الخوف من الفرنج أيضاً.
ثم استخار الله تعالى وأمر أسد الدين بالتجهز للمسير معه قضاءً لحق الوافد المستصرخ، وجَسَّا للبلاد، وتطلعاً على أحوالها. وكان هوى أسد الدين في ذلك؛ وكان عنده من الشجاعة وقوة النفس ما لايبالي معه بمخافة. فتجهز وسار مع شاور، في جمادى الآخرة من سنة تسع وخمسين. هكذا ذكر ابن الأثير والعماد الكاتب. وقال القاضي ابن شداد: كان ذلك سنة ثمان وخمسين؛ والقول في ذلك قولهما، فقد بينا أن قدوم شاور إلى الشام كان في سنة ثمان وخمسين، وإرسال نور الدين العسكر كان في جمادى سنة تسع وخمسين.
وأمر نور الدين أسد الدين بإعادة شاور إلى منصبه والانتقام ممن نازعه في الوزارة. وساروا جميعاً، وسار معهم نور الدين إلى أطراف بلاد الإسلام مما يلي الفرنج بعساكره ليشغلهم عن التعرض لأسد الدين، فكان قصارى الفرنج حفظ بلادهم من نور الدين. ووصل أسد الدين سالماً إلى مصر هو ومن معه، فهرب المنازع لشاور في الوزارة، وقتل، وطيف برأسه؛ وعاد شاور وزيراً وتمكن من منصبه.
وكان عمارة قد مدح ضرغاماً بقصيدة منها:
وأحق من وزر الخلافة من نشا ... في حضرة الإكرام والإجلال
واختص بالخلفاء، وانكشفت له ... أسرارها بقرائن الأحوال
وتصرف الوزراء عن أفعاله ... كتصرف الأسماء بالأفعال
قال عمارة: ولما جازوا برأسه على الخليج، وكنت أسكن صف الخليج بالقاهرة، قلت ارتجالا:
أرى حنك الوزارة صار سيفاً ... يَحُدُّ بحدِّه صيد الرقاب
كأنك رائد البلوى، وإلا ... بشير بالمنية والمصاب
ولعمارة اليمني من قصيدة مدح بها شاور وذكر وزارتيه:
فنُصرت في الأولى بضرب زلزل ال ... أقدام وهي شديدة الإقدام
ونُصرت في الأخرى بضرب صادق ... أضحى يطير به غراب الهام
أدركت ثأراً، وارتجعت وزارة ... نزعاً بسيفك من يدي ضرغام
وكان ضرغام أولا من أصحاب شاور وأتباعه. وقد أشار إلى ذلك عمارة في قوله من قصيدة له:
كانت وزارتك القديمة مشرعاً ... صفواً، ولكن كُدرت غدرانها
غصبت رجالٌ تاجه وسريره ... من بعد ما سجدت له تيجانها
وله من قصيدة أخرى في شاور:
وزير تمنته الوزارة أولا ... وثانية، عفواً بغير طلاب
فخانته في الأولى بطانة وده ... ورب حبيب في قميص حُباب

وجاءته تبغى الصلح ثاني مرة ... فلم يرض إلا بعد ضرب رقاب
ولم يُغلب وزير لهم وعاد غير شاور. وكان مدة أخذ الوزارة منه إلى أن عادت إليه تسعة أشهر سواء، وهي مدة الحمل. نص عمارة على ذلك، وقال: قتل ولده طيّ يوم الجمعة الثامن والعشرين من رمضان، وجاز رأسه على رمح تحت الطيقان، والنساء يولولن بالصراخ، وكان فيهن واحدة تحفظ قولي في الصالح:
أُينْسى وفي العينين صورة وجهه ال ... كريم، وعهد الإنتقال قريب
فما زالت تكرره حتى رأت رأس ضرغام.
قال: وأدرك شاور ثأره في يوم الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، فيكون بينهما تسعة أشهر.
قال: وقلت في ذلك:
ونزعت ملكك من رجال نازعوا ... فيه، وكنت به أحقَّ وأقعدا
جذبوا رداءك غاصبين، فلم تزل ... حتى كسوت القوم أردية الردى
وبردت قلبك من حرارة حرمة ... أمرت نسيم الليل ألا يبردا
تاريخ هذا قلتُه في مثله ... يوماً بيوم، عبرةً لمن اهتدى:
حملت به الأيام تسعة أشهر ... حتى جعلن له جمادى مولدا
وله أيضاً في ذلك:
لله ردُّك موتوراً أقضّ به ... دستٌ، وسرجٌ، وأجفانٌ، ومضطجع
ما غبت إلا يسيراً، ثم لحت لنا ... والثأر مستدرك، والمُلك مرتجع
قضية لم ينل منها ابن ذي يزنٍ ... إلا كما نلت، والآثار تتُبع
فافخر على الحيّ من قيسٍ ومن يمنٍ ... أبا شجاع، فليس الحق يندفع
قال ابن الأثير: وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، وغدر به شاور. وعاد عما كان قرره لنور الدين من البلاد المصرية، ولأسد الدين أيضاً. فأرسل إليه يأمره بالعودة إلى الشام، فأنف أسد الدين من هذا الحال، وأعاد الجواب يطلب ما كان استقر؛ فلم يجبه شاور إليه. فلما رأى ذلك أرسل نوابه فتسلموا مدينة بلبيس، وحكم على البلاد الشرقية، فأرسل شاور إلى الفرنج يستمدهم ويخوفهم من نور الدين إن ملك مصر. وكان الفرنج قد أيقنوا بالهلاك إن ملكها نور الدين، فهم خائفون. فلما أرسل شاور إليهم يستنجدهم ويطلب منهم أن يساعدوه إلى إخراج أسد الدين من البلاد جاءهم فرج لم يحتسبوه، وسارعوا إلى تلبية دعوته، والمبادرة إلى نصرته؛ وطمعوا في ملك ديار مصر. وكان قد بذل لهم مالا على المسير إليه، فتجهزوا وساروا.
فلما بلغ نور الدين خبر تجهيزهم للمسير سار بعساكره في أطراف بلاده مما يلي الإفرنج ليمتنعوا من المسير، فلم يمتنعوا، لعلمهم أن الخطر في مقامهم إذا ملك أسد الدين مصر أشد من الخطر في مسيرهم. فتركوا في بلادهم من يحفظها، وسار ملك القدس في الباقين إلأى مصر. وكان قد وصل إلأى الساحل جمع كبير من الفرنج في البحر لزيارة البيت المقدَّس، فاستعان بهم ملك الفرنج، فأعانوه؛ وسار بعضهم معه، وأقام بعض في البلاد لحفظها.
فلما قارب الفرنج مصر فارقها أسد الين وقصد مدينة بلبيس، وأقام بها هو وعسكره وجعلها ظهراً يتحصن به. فاجتمعت العساكر المصرية والفرنجية، ونازلوا أسد الدين بمدينة بلبيس، وحصروه بها ثلاثة أشهر؛ وقد امتنع أسد الدين بها وسوُرها من طين، قصير جداً، وليس له خندق ولافصيل يحميها، وهو يغاديهم القتال ويراوحهم؛ فلم يبلغوا منه غرضاً، ولا نالوا منه شيئاً. فبينما هم كذلك أتاهم الخبر بهزيمة الفرنج بحارم، وملك نور الدين الحصن، ومسيره إلأى بانياس. فحينئذ سُقط في أيديهم وأرادوا العود إلأى البلاد ليحفظوها، ولعلهم يدركون بانياس قبل أخذها، فلم يدركوها إلا وقد ملكها، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وراسلوا أسد الدين في الصلح، والعود إلى الشام، ومفارقة مصر، وتسليم ما بيده منها إلى المصريين؛ فأجابهم إلى ذلك لأنه لم يعلم بما فعله نور الدين بالفرنج في الساحل.

قال ابن الأثير: فحدثني من رأى أسد الدين حين خرج من بلبيس، قال: رأيته وقد أخرج أصحابه بين يديه، وبقي في آخرهم وبيده لتّ من حديد يحمي ساقتهم، والمسلمون والفرنج ينظرون. قال: فأتاه فرنجي من الفرنج الغرباء فقال له: أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المسلمون والفرنج وقد أحاطوا بك وبأصحابك، فلا يبقى لك معهم بقية!! فقال شيركوه: ياليتهم فعلوا!! كنت ترى مالم تر مثله، كنت والله أضع سيفي، فلا أُقتل حتى أقتُل رجالا، وحينئذ يقصدهم الملك العادل نور الدين وقد ضعفوا وفنى أبطالهم، فيملك بلادهم، ويفني من بقي منهم. ووالله لو أطاعني هؤلاء، يعني أصحابه، لخرجت إليكم أول يوم، لكنهم امتنعوا. فصلّب الفرنجي على وجهه وقال: كنا نعجب من فرنج هذه الديار ومبالغتهم في صفتك وخوفهم منك، والآن قد عذرناهم؛ ثم رجع عنه. وسار شيركوه إلى الشام وعاد سالماً.
وقال العماد الكاتب: وصل شاور إلى نور الدين ملتجئاً، فألفاه على عدوه مقدماً مشكياً، وسيّر معه أسد الدين على قرار عيّنه، وأمر بينّه، وبُغية يدركها، وخطة يملكها، ومَحجَّة واضحة في الملك يسلكها؛ فمضى معه ونصره، وأصفى له مشرعه، واسترد له موضعه، وأظهره بعلّوه، وأظفره بعدوع؛ فلما باد خصمه، بدا وصمه، وغدر بعهده، وأخلف في وعده.
وكان قد راسل الفرنج وهاداهم في حرب الإسلام، فوصلوا؛ فتحصن شيركوه ومن معه بمدينة بلبيس، فحاصره شاور بدنود مصر والفرنج ثلاثة أشهر، من مستهل رمضان إلى ذي الحجة. فبذلوا له قطيعة فانصرف عنهم، وعاد إلى الشام وفي قلبه من شر شاور الإحن، وكيف تمت بغدره تلك المحن.
قلت: وقد أشار إلى ذلك عُمارة في قوله في مدح شاور، وذكر الإفرنج، فقال:
وأنفذت من مصر عدواًّ بمثله ... فلله من ظفر فللت وناب
صدمت جموع الكفر والشام صدمة ... أقمت بها للقوم سوق ضراب
وقد جرّدت أجناد مصر عزائماً ... مضاربها في الصخر غير نوابي
تولّوا عن الإفرنج فادح ثقلها ... ودارت رحاها منهم بهضاب
أقامت دروع الجند تسعين ليلة ... ثياباً لهم، ما بدُلت بثياب
وهم بين مطروح هناك وطارح ... وبين مصيب خصمه ومصاب
وقال القاضي ابن شداد: سار أسد الدين إلى مصر، واستصحب معه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، وجعله مقدم عسكره وصاحب رايه وكان لايفصل أمراُ ولايقرر حالا إلا بمشورته ورأيه، لما لاح له منه من آثار الإقبال والسعادة، والفكرة الصحيحة، واقتران النصر بحركاته وسكناته. فساروا حتى وصلوا مصر، وشاور معهم؛ وكان لوصولهم إلى مصر وقع عظيم؛ وخافه أهل مصر، ونصر شاوراً على خصمه، وأعاده إلى منصبه ومرتبته، وقرر قواعده، وشاهد البلاد وعرف أحوالها، وعلم أنها بلاد بغير رجال، تمشي الأمور فيها بمجرد الإيهام والمحال.
وكان ابتداء رحيله عنها متوجهاً إلى الشام في السابع من ذي الحجة، فأقام بالشام مدبراً لأمره، مفكراً في كيفية رجوعه إلى البلاد المصرية، محدثاً بذلك نفسه، مقرراً لقواعد ذلك مع نور الدين، إلى سنة اثنتين وستين.
قلت: ولفعل شاور ما فعل مع أسد الدين وصفه الشعراء بالغدر، ووقعوا فيه قبل قتله وبعده، على ما سنذكره؛ وبقي متخوفاً من أسد الدين. فقال عرقلة الكلي من جملة قصيدة له:
وهل همّ يوماً شيركوه بِجلِّق ... إلأى الصّيد إلا ارتاع في مصر شاور
هو الملك المنصور، والأسد الذي ... شذى ذكره في الشرق والغرب سائر
وفيها في ذي الحجة احترقت جيرون بعد رجوع أسد الدين إلى دمشق، فقال العرقلة يمدحه ويذكر ذلك:
جار صرف الردى على جيرون ... وسقى أهلها كئوس المنون
أصبحت جنة وأمست جحيماً ... تتلَّظى بكل قلب حزين
حبذا حصنُها الحصين، لقد كا ... ن جمالا لكل حصن حصين
أي سيف سطا على دار سيفٍ ... وزبون أتى بحرب زبون
خِلتُ نيرانها وكلَّ ظلامٍ ... نار ليلى تلوح للمجنون
كم غنيِّ أمسى فقيراً ... وفقير أمسى غنيَِّ اليمين
كل حين لها حريق جديد ... ليت شعري، ماذا لها بعد حين!

كل هذا البلاء عاقبة الفس ... ق، وشرب الخمور، والتلحين
ولقد ردها بعزم وحزم ... أسد الدين غاية المسكين
وحمى الجامع المقدس والمش ... هد من جمرها بماء معين
ملك فعله بدَلْجَة والبا ... ب فعال الإمام في صفين
فصل في فتح حارمقال العماد الكاتب: وفي تلك السنة، يعني سنة تسع وخمسين، اغتنم نور الدين خلو الشام من الفرنج وقصدهم، واجتمعوا على حارم، فضرب معهم المصاف، فرزقه الله تعالى الانتقام منهم؛ فأسرهم، وقتلهم، ووقع في الأسار إبرنس أنطاكية، وقومص طرابلس، وابن لجوسلين، ودوك الروم؛ وذلك في رمضان.
وقل في الخريدة: كانت نوبة البقيعة نوبة عظيمة على المسلمين، وأفلت نور الدين في أقل من عشرة من عسكره، ثم كسر الفرنج بعد ثلاثة أشهر على حارم، وقُتل في معركة واحدة منهم عشرون ألفاً، وأُسر من نجا؛ وأخذ القومص والإبرنس والدوقس وجميع ملوكهم. وكان منحاً عظيماً، وفتحاً مبيناً.
قال ابن الأثير: والسبب في هذا الفتح أن نور الدين لما عاد منهزماً، على ما سبق، من غزوة ناحية حصن الأكراد، أقبل على الجد والاجتهماد، والاستعداد للجهاد، والأخذ بثاره، وغزو العدو في عقر داره؛ وليرتق ذاك الفتق، ويمحو سمة الوهن، ويعيد رونق الملك. فراسل أخاه قطب الدين بالموصل، وفخر الدين قرا أرسلان بالحصن ونجم الدين ألب بماردين، وغيرهم من أصحاب الأطراف.
أما قطب الدين أتابك فإنه جمع عساكره وسار مجداً، وعلى مقدمة عسكره زين الدين نائبه.
وأما فخر الدين قرا أرسلان فإنه بلغني عنه أنه قال له لخواصه: على أي شئ عزمت؟ فقال: على القعود، فإن نور الدين قد تحشّف من كثرة الصوم والصلاة، فهو يلقي نفسه والناس معه في المهالك؛ وكلهم وافقه على ذلك. فلما كان الغد أمر بالنداء في العسكر بالتجهز للغزاة؛ فقال له أولئك: ماعدا مما بدا! فارقناك بالأمس على حال ونرى الآن ضدها! فقال: إن نور الدين قد سلك معي طريقاً إن لم أنجده خرج أهل بلادي عن طاعتي، وأخرجوا البلاد عن يدي، فإنه كاتب زُهَّادها وعبَّادها والمنقطعين عن الدنيا، يذكر لهم مالقي المسلمون من الفرنج، وما نالهم من القتل والأسر والنهب، ويستمد منهم الدعاء، ويطلب منهم أن يحثُّوا المسلمين على الغزاة. فقد قعد كل واحد من أولئك ومعه أتباعه وأصحابه وهم يقرءون كتب نور الدين ويبكون، ويلعنونني ويدعون عليّ؛ فلابد من إجابة دعوته. ثم تجهز أيضاً وسار إلى نور الدين بنفسه.
وأما نجم الدين ألب فإنه سيّر عسكراً.
فلما اجتمعت العساكر سار نحو حارم فنزل عليها وحصرها؛ وبلغ الخبر إلى من بقي من الفرنج بالساحل أنه لم يسر إلى مصر، فحشدوا وجاءوا، ومقدم الفرنج البرنس صاحب أنطاكية، والقمص صاحب طرابلس وأعمالها، وابن جوسلين وهو من مشاهير الفرنج وأبطالها، والدُّوك وهو رئيس الروم ومقدمها. وجمعوا من الراجل ما لايقع عليه الإحصاء، قد ملأوا الأرض وحجبوا بقسطلهم السماء؛ فحرّض نور الدين أصحابه، وفرق نفائس الأموال على شجعان الرجال.
فلما قاربه الفرنج رحل عن حارم إلى أرْتاح وهو إلى لقائهم مرتاح؛ وإنما رحل طمعاً أن يتبعوه، ويتمكن منهم إذا لقوه. فساروا حتى نزلوا علم عِمَّ، وهو على الحقيقة تصحيف مالقوه من الغم؛ ثم تيقنوا أنه لاطاقة لهم بقتاله، ولاقدرة لهم على نزاله؛ فعادوا إلى حارم وقد حرمتهم كل خير، وتبعهم نور الدين.

فلما تقربوا اصطفوا للقتال؛ وبدأت الفرنج بالحملة على ميمنة المسلمين، وبها عسكر حلب وفخر الدين، فبددوا نظامهم، وزلزلوا أقدامهم، وولوا الأدبار، وتبعهم الفرنج. وكانت تلك الفرَّة من الميمنة عن اتفاق ورأي دبروه، ومكر بالعدو مكروه، وهو أن يبعدوا عن راجلهم فيميل عليهم من بقي من المسلمين، ويضعوا فيهم السيوف، ويرغموا منهم الأنوف، فإذا عاد فرسانهم من أثر المنهزمين لم يلقوا راجلا يلجئون إليه، ويعود المنهزمون في آثارهم، وتأخذهم سيوف الله من بين أيديهم ومن خلفهم. فكان الأمر على مادبروا؛ فإن الفرنج لما تبعوا المنهزمين عطف زيد الدين في عسكر الموصل على راجلهم، فأفناهم قتلاً وأسراً، وعادت خيّالهم ولم يمعنوا في الطلب، خوفاً على راجلهم من العطب، فصادفوا راجلهم على الصعيد معفَّرين، وبدمائهم مضرجين؛ فَسُقِط في أيْديِهْم وَرَأَوْا أَنَّهْم قدْ ضلُّوا، وخضعت رقابهم وذلوا. فلما رجعوا عطف المنهزمون أعنتهم، وعادوا، فبقي العدو في الوسط وقد أحدق بهم المسلمون من كل جانب. فحينئذ حمى الوطيس، وباشر الحرب المرؤس والرئيس، وقاتلوا الفرنج قتال من يرجو بإقدامه النجاة، وحابوا حرب من أيس من الحياة. وانقضت العساكر الإسلامية عليهم انقضاض الصقور على بغاث الطيور، فمزقوهم بدداً، وجعلوهم قدداً. فألقى الفرنج بأيديهم إلى الأسار، وعجزوا عن الهزيمة والفرار، وأكثر المسلمون فيهم القتل، وزادت عدة القتلى على عشرة الآف. وأما الأسرى فلم يحصوا كثرة، ويكفيك دليلاً على كثرتهم أن ملوكهم أسروا، وهم الذين من قبل ذُكروا.
وسار نور الدين بعد الكسرة إلى حارم، فملكها في الحادي والعشرين من شهر رمضان. وأشار أصحابه عليه بالمسير إلى أنطاكية ليملكها، لخلوها ممن يحميها ويدفع عنها، فلم يفعل، وقال: أما المدينة فأمرها سهل، وأما القلعة التي لها فهي منيعة لاتؤخذ إلا بعد طول حصار، وإذا ضيقنا عليهم أرسلوا إلى صاحب القسطنطينية وسلموها 'ليه؛ ومجاورة بيمند أحب إليّ من مجاورة ملك الروم.
وبثَّ سراياه في تلك الأعمال والولايات فنهبوا وسبوا، وأوغلوا في البلاد حتى بلغوا اللاذقية والسويداء وغيلا ذلك، وعادوا سالمين.
ثم إن نور الدين أطلق بيمند أنطاكية بمال جزيل أخذه منه، وأسرى كثيرة من المسلمين أطلقهم.
وقال الحافظ أبو القاسم: كسر نور الدين الروم والأرمن والفرنج على حارم، وكان عدتهم ثلاثين ألفاً. قال: ووقع بيمند في أسره في نوبة حارم، وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد.
قلت: وبلغني أن نور الدين رحمه الله تعالى لما التقى الجمعان، أو قبيله، انفرد تحت تل حارم وسجد لربه عز وجل، ومرغ وجهه وتضرع، وقال: يارب! هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهوؤلاء عبيدك وهم اعداؤك؛ فانصر أولياءك على اعدائك. إيش فضول محمود في الوسط؟ يشير إلى أنك يارب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر.
وبلغني أنه قال: اللهم انصر دينك ولاتنصر محموداً. من هو محمود الكلب حتى يُنصر! وجرى بسبب ذلك منام حسن نذكره في أخبار سنة خمس وستين عند رحيل الفرنج عن دمياط بعد نزولهم عليها؛ وهذا فتح عظيم ونصر عزيز أنعم الله به على نور الدين والمسلمين، مع أن جيشه عامئذ كان منه طائفة كبيرة بمصر مع شيركوه كما سبق؛ وهذا من عجيب ما وقع وانفق.
فصلفي ذكر وزير الموصل جمال الدين، الجواد الممدح، ووفاته في هذه السنة رحمه الله. وقد ذكره العماد الكاتب في مواضع من مصنفاته واثنى عليه ثناء عظيما حسناً.

فمما ذكره في كتابه الموسوم بنصرة الفترة وعُصرة الفطرة، في أخبار الوزراء السلجوقية أن قال: ذكر جمال الدين أبي جعفر محمد بن علي بن أبي منصور. كان والده من أصفهان يدعى الكامل علي، وهو صاحب الوزير شمس المُلك بن نظام الملك، وكان أبوه أبو منصور فهّاداً في عهد السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان، وابنه الكامل أديب لبيب، وزادت أيامه في السمو وأيامنه في النمو حتى تنافس في استخدامه الملوك والوزراء، واستضاءت برأيه في الحوادث الآراء. وقد كان زوّج بنتا له ببعض أولاد أخوال جمال الدين أبي جعفر محمد، وخرّجه في الأدب ودرّجه في الرتب؛ فأول ما رتبه في ديوان العرض السلطاني المحمودي وغلب في تحليته ذكر الأبلج، فنعته الأتراك بالأبلج، الأمير كيدغدي وولدها خاص بك بن كيدغدى من أمراء الدولة وأبناء المملكة وهو يسر معها، فرتبه العزيز لخاص بك وزيراً، فسار في الصحبة، وكان مقبل الوجاهة، مقبول الفكاهة، شهي الهشاشة، بهي البشاشة؛ فتوفرت مُنى زنكي على منادمته، وقصر صباحه ومساءه على مساهمته، وعول عليه آخر عمره في إشراف ديوانه، وزاد المال وزان الحال بتمكينه ومكانه. فلم يظهر لجمال الدين في زمان زنكي جود، ولاعرف له موجود، فإنه كان يقتنع بأقواته، وتزجية أوقاته، ويرفع جميع ما يحصل له إلى خزانة زنكي استبقاء لجاهه، واستعلاء به على اشباهه. فمكنه زنكي من أصحاب ديوانه، فمنهم من استضر بإساءته ومنهم من انتفع بإحسانه.
ولما قُتل زنكي صار للدولة الأتابكية ملاذاً، وللبيت الآق سنقري معاذاً؛ واستوزره الأمير غازي بن زنكي وآزره علي كوجك على وزارته، وحلف له على مظاهرته ومظافرته.
وجرى بين جمال الدين الوزير، وبين زين الدين علي كوجك، وبين سيف الدين غازي التعاقد على التعاضد، والتعاهد على التساعد. وتولى جمال الدين وزارة الموصل واستولى، فعاش بنداه الجود، وعشا إلى ناديه الوفود، وعادت به الموصل قبلة الإقبال، وكعبة الآمال، فأنارت مطالع سعوده، وسارت في الآفاق صنائع جوده. وعمر الحرمين الشريفين وشمل بالبر أهلهما، وجمع بالأمن شملهما، وأجرى بحر السماح، ونادى: حيّ على الفلاح، فصاحت بأفضاله ألفاظ الفصاح، وأتوا إليه من كل فج عميق، وقُصد من كل بلد سحيق؛ فقصده العظماء، ومدحه الشعراء.
وممن وفد إليه أبو الفوارس سعد بن محمد الصفي، المعروف بحيص بيص. قال: وأنشدني لنفسه فيه قصيدة أولها:
ياللصوارم والرماح الذبل ... نُصرا، ومن أنجدتما لم يُخذل
لو شئتما، ومشيئة بمشيئة ... جاد الزمان وبالعلا لم يبخل
فاقني فخارك يا مُجاشع، واعلمي ... أني لكم من همتي في جحفل
أنا فارس اليومين، يوم مقالة ... ووغى، أصول بصارمي وبمقولى
ظلمت فضائلي المقاول مثل ما ... ظلمت جمال الدين مأوى العُيَّل
مدحوه كي يحووا مناقب نفسه ... فَطَمَتْ، فسالت بالمدائح من عل
فأتيت أبذل ما استطعت، ومن يرد ... نقل الخضم إلى المزادة يخجل
شمس من الإحسان، عم ضياؤها ... بل آية جاءت بحجة مرسل
يعطي الجزيل لسائلي معروفه ... ويجود بالنُّعمى إذا لم يُسأل
وتزيده شوس الخطوب طلاقة ... فيكون أبسم ما يرى في المعضل
ثقُلت به الأعناق من منن الفدا ... فالهام مطرقة لذاك المثقل
فإذا تلاقي الناس كان حديثهم ... عن كل جفن بالحجالة مسدل
أسراء معروف الوزير، فكلهم ... عاف تراه مطلقاً كمكبل
من سنرقند إلى تهامة شاهد ... فضل الجمال على الحيا المتهلل
السحب تمطر ما تظل، وجوده ... يسري ودار مُقامه بالموصل
وتقرّ عين محمد بمحمد ... محيي دَرِيسىْ علمه والمنزل
معمار مرقده، وحافظ دينه ... ومعين أمته بجود مسبل
جعل المدينة مصر ربعاً آهلا ... نشوان يمرح بالنعيم المُحصل
فكأنها بالخصب من قربانه ... بلد على شط الفرات السلسل

فلو انه في عصره نزلت له ... في مدحه سُور الكتاب المنزل
عبد أخٌ في ضيفه ووداده ... لايستحيل، وسيد في المحفل
خرق نياط قميصه ورداؤه ... بعباب زخار وهضبة يذبل
قال العماد: وكنت أنا في ذلك العهد متفقها ببغداد، واتفق حضوري بالموصل سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، فحضرت عند جمال الدين بالجامع في جمعتين، وتكلمت عنده مع الفقهاء في مسألتين. ومما مدحته به قصيدة أولها:
أظنهم وقد عزموا ارتحالا ... ثنوا عنا جَمالا لاجِمالا
سروا والصبح مبيضٌ الحواشي ... فلما حال عهد الوصل حالا
هم اعتادوا الملال، فكيف ملّوا ... وصالهم وماملوا الملالا
أحادي ديسهم، بالله رفقاً ... فإن السير اورثها الكلالا
وعُج نحو الأراك بها، فإني ... أراه لاجتماع الشمل فالا
سقى صوب الحيا تلعات نجد ... وحيَّا بالحمى تلك التلالا
أخلائي، وهل في الناس خل ... به أُخْلي من الأحزان بالا
لئن لم أشف صدري من حسودي ... ولم أذق العدا داءً عضالاً
فلا أدركت من أدبي مرادا ... ولا صادفت من حسبي منالا
ولاوخدت إليكم بي جِمال ... ولا واليت مولانا الجَمالا
هو المغنى إذا ما المرء أقوى ... هو المنجي إذا ما الخطب هالا
وقائلة: أفي الدنيا كريم ... سواه، فقلت: لا وأبي العلا، لا
أطَلْت على الورى كرما وفخراً ... كذلك من حوى هذين طالا
وحزت المجد عن كسب وإرث ... فيا صدر الورى حزت الكمالا
خُصصِت بكل منقبة وفضل ... تعالى من حباك به، تعالى
قلت: وقد أكثر الشعراء في مدحه، منهم العرقلة، له من قصيدة:
يهوى تجنَّيه والصدود كما ... يهوى المعالي محمد بن علي
جمال دين اإله خير فتى ... للرزق أقلامه وللأجل
معطى القرِى والقُرى لقاصده ... من غير مَنْ، والخيلُ، والخول
مثل فتوح الفاروق نائله ... شرقاً وغرباً، في السهل والجبل
من قال لم يَحو ذا ويسكن ذا ... أصبح مما يقول في خجل
محمد خاتم الكرام، كما ... سميُّه كان خاتم الرسل
وفيه يقول أحمد بن منير من قصيدة:
كسا الحرمين لبسة عبد شمس ... وهاشم غُرَّتي نسل الخليل
وللبلد الأمين أجدَّ أمناً ... تكنَّف مثله جدث الرسول
عشيتم ياولاة الأمر عمَّا ... أتيح له من الأثر الجميل
وطار لها وأشفقتم فشَّد ال ... يدين على عُرى المجد الأثيل
بيوت بالحجاز مقدسات ... رماها الدهر بالخطب الجليل
وكان أذالَهُنَّ فصاب صونا ... لمن آوته من ولد البتول
مآثرُ باقيات يوم يجنى ال ... مقال ويُجتنى طيب المقيل
وكم للموصل الحدباء مما ... تُنيل يداه من ريف ونيل
بَرُود الصفح، ملتهب الحواشي ... مهيب البطش، فرَّاس الدخول
ولأبي المجد قسيم الحموي فيه من قصيدة:
أغرَّ يبصر منه الناس في رجل ... والليث في بشر، والبدر في غصن
سما بهمتَّه في المكرمات إلى ... علياء تقصر عنها همة الزمن
يلقاك واضحَ ليل الفكر، راجح نَي ... ل الكف، طاهرَ ذيل السر والعلن
ماضي العزيمة، ميمون النقيبة، رئ ... بال الكتيبة، عين القائل اللَّسن
إذا تكلم واستمليت غُرَّته ... في محفل رُحت حالي العين والأذن
كأن في الدست منه حين تنظره ... شمس النهار وصوب العارض الهتن

قال ابن الأثير: وفي شعبان من هذه السنة، وهي سنة تسع وخمسين وخمسمائة، توفي الوزير جمال الدين محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني. كان قد خدم الشهيد فولاه نصيبين؛ وظهرت كفايته، فأضاف إليه الرحبة، فأبان عن كفايته وعفة. وكان من خوّاصه فجعله مشرف مملكته كلها، وحكمّه تحكيماً لامزيد عليه، حتى كان وزير الشهيد والحاكم في بلاده ضياء الدين بن الكَفَرْتُوثي يحكي عن جمال الدين قال: كان يدخل إلى أتابك قبلي ويخرج بعدي. ولم يزل كذلك إلى أن قتل الشهيد، ثم وزر لولدي الشهيد سيف الدّين ثم قطب الدين. وكان بينه وبين زين الدين علي كوجك عهود ومواثيق على المصافاة والاتفاق؛ وكان أصحاب زين الدين يكرهونه ويقعون فيه عند زين الدين فنهاهم.
وكانت الموصل في أيامه ملجأ لكل ملهوف، ومأمناً لكل خائف؛ فسعى به الحساد إلى قطب الدين حتى أوغروا صدره عليه وقالوا له: إنه يأخذ أموالك فيتصدق بها؛ فلم يمكنه أن يغيِّر عليه شيئاً بسبب اتفاقه مع زين الدين. فوضع علي زبن الدين من غيَّره من مصافاته ومؤاخاته. فقبض عليه قطب الدين وحبسه بقلعة الموصل. ثم ندم زيد الدين على الموافقة على قبضه لأن خواص قطب الدين وأصحابه كانوا يخافون جمال الدين، فلما قُبض تبَّسطوا في الأمر والنهي على خلاف غرض زين الدين. فبقي جمالُ الدين في الحبس نحواً من سنة، ثم مرض؛ ومضى لسبيله عظيم القدر والخطر، كريم الوِرد والصَدر، عديم النظير، في سعة نفس، لم يُروْ في كتب الأولين أن أحداً من الوزراء اتسعت نفسه ومروءته لما اتسعت له نفس جمال الدين، فلقد كان عظيم الفتوة كامل المروة.
قال ابن الأثير: حكى لي جماعة عن الشيخ أبي القاسم الصوفي، وهو رجل من الصالحين كان يتولى خدمة جمال الدين في محبسه، قال: لم يزل الجمال مشغولا بأمر آخرته مدة حبسه؛ وكان يقول: كنت أخشى أن أُنقل من الدست إلى القبر. قال: فلما مرض قال لي بعض الأيام: يا أبا القاسم، إذا جاء طائر أبيض إلى الدار فعرِّفني، فقلت في نفسي: قد اختلط الرجل. فلما كان الغد أكثر السؤال عن ذلك الطائر، وإذا طائر أبيض لم يُر مثله قد سقط؛ فقلت له: قد جاء الطائر، فاستبشر، ثم قال: جاء الحق؛ وأقبل على الشهادة وذِكر الله تعالى، وتُوفي؛ فلما توفي طار ذلك الطائر. قال: فعلمت أنه رأى شيئاً في معناه.
ودفن بالموصل نحو سنة؛ وكان قد قال للشيخ أبي القاسم: إن بيني وبين أسد الدين شيركوه عهداً: من مات منا قبل صاحبه حمله الحي إلى المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فدفنه بها في التربة التي عملها؛ فإن أنا متُّ فامض إليه وذكِّره. فلما توفي سار الشيخ أبو القاسم إلى أسد الدين في هذا المعنى؛ فأعطاه مالا صالحاً ليحمله به إلى مكة والمدينة، وأمر أن يحج معه جماعة من الصوفية ومن يقرأ بين يدي تابوته عند النزول والرحيل، وقدوم مدينة تكون في الطريق، وينادون في البلاد: الصلاة على فلان. ففعلوا ذلك؛ فكان يصلى عليه في كل مدينة خلق كثير. فلما كان في الْحِلَّة اجتمع الناس للصلاة عليه، فإذا شاب قد ارتفع على موضع عال ونادى بأعلى صوته:
سَرَى نعشهُ فوق الرقاب، وطالما ... سَرى بِرُّه فوق الركاب ونائله
يمر على الوادي، فتثُنى رماله ... عليه، وفي النادي فتبكي أرامله
فلم ير باكياً أكثر من ذلك اليوم. ثم وصلوا به إلى مكة فطافوا به حول الكعبة وصلوا عليه بالحرم، وحملوه إلى المدينة فصلوا عليه أيضاً، ودفنوه بالرباط الذي أنشأه بها، وبينه وبين قبر النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ذراعاً.
قلت: كذا قال ابن الأثير. ولقد رأيت المكان ولعله أراد الحائط الشرقي من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لانفس القبر الشريف، زاده الله شرفاً وصلى على ساكنه.

ثم قال: كان جمال الدين رحمه الله أسخى الناس وأكثرهم عطاء وبذلا للمال، رحيماً بالناس متعطفاً عليهم عادلا فيهم. فمن أعماله الحسنة أنه جدد بناء مسجد الخيف بمنى، وغرم عليه أموالا عظيمة، وبنى الحجر بجنب الكعبة ورأيت اسمه عليه، ثم غُير وبنُى غيره سنة ست وسبعين وخمسمائة. وزخرف الكعبة بالذهب والنُّقْرة، فكل ما فيها من ذلك فهو عمله إلى سنة تسع وستمائة. ولما أراد ذلك أرسل إلى الإمام المقتفي لأمر الله هدية جليلة حتى أذن فيه، وأرسل إلى أمير مكة عيسى بن هاشم خلعاً سنية وهدية كثيرة حتى مكنه منه. وعمر أيضاً المسجد الذي على جبل عرفات، وعمل الدرج الذي يصعد فيها إليه، وكان الناس يلقون شدة في صعودهم. وعمل بعرفات مصانع للماء وأجرى الماء إليها من نعمان في طريق معمولة تحت الجبل مبنية بالكلس، فغرم على ذلك مالا كثيراً.
وكان يعطي أهل نعمان كل سنة مالا كثيراً ليتركوا الماء يجري إلى المصانع أيام مقام الحجاج بعرفات؛ فكان الناس يجدون به راحة عظيمة.
قال: ومن أعظم الأعمال التي عملها نفعاً أنه بنى سوراً على مدينة النبي عليه السلام فإنها كانت بغير سور ينهبها الأعراب، وكان أهلها في ضنك وضر معهم. رأيت بالمدينة إنساناً يصلي الجمعة، فلما فرغ ترحم على جمال الدين ودعا له، فسألناه عن سبب ذلك، فقال: يجب على كل من بالمدينة أن يدعو له، لأننا كنا في ضر وضيق ونكد عيش مع العرب، لايتركون لأحد منا ما يواريه ويشبع دوعته، فبنى علينا سوراً احتمينا به ممن يريدنا بسوء، فاستغنينا؛ فكيف لاندعو له! قال: وكان الخطيب بالمدينة يقول في خطبته: اللهم صُنْ حريم من صان حرم نبيك بالسور، محمد بن علي بن أبي منصور. قال: فلو لم يكن له إلا هذه المكرمة لكفاه فخراً، فكيف وقد كانت صدقاته تجوب مشرق الأرض وغربها! وسمعت عن متولي ديوان صدقاته التي يخرجها على باب داره للفقراء، سوى الإدرارات والتعهدات، قال: كان له كل يوم مائة دينار أميرية يتصدق بها على باب داره. قال: ومن أبنيته العجيبة التي لم ير الناس مثلها الجسر الذي بناه على دجلة عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكلس؛ إلا أنه لم يفرغ لأنه قُبض قبل فراغه. وبنى أيضاً جسراً على نهر الأرياد عند الجزيرة أيضاً. وبنى الرُّبط بالموصل، وسنجار، ونصيبين، وغيرها؛ وقصده الناس من أقطار الأرض. ويكفيه أن صدر الدين الجخندي رئيس أصحاب الشافعي، رضي الله عنه، بأصبهان، وابن الكافي قاضي قضاة همدان، قصداه، فأخرج عليهما مالا جزيلا، وكذلك غيرهما من الصدور والعلماء ومشايخ الصوفية. وصارت الموصل في أيامه مقصداً وملجأ.
وكان أحب الأشياء إليه إخراج المال في الصدقات، وكان يضيِّق على نفسه وبيته ليتصدق. حكى لي والدي قال: كنت يوماً عنده وقد أحضر بين يديه قندز، ليُعمل على وبر ليلبسه، بخمسة دنانير، فقال: هذا الثمن كثير، اشتروا لي قندزاً بدينارين وتصدقوا بثلاثة دنانير. قال: فراجعناه غير مرة فلم يفعل. قال: وحكى لي من أثق إليه من العدول بالموصل أن الأقوات تعذرت في بعض السنين بها وغلت الأسعار، وكان بالموصل رجل من الصالحين يقال له الشيخ عمر الملا، فأحضره جمال الدين وسلم إليه مالا، وقال له: تخرج هذا على مستحقيه؛ وكلما فرغ أرسل إليَّ لأتفذ غيره؛ فلم يمض إلا أيام يسيرة حتى فرغ ذلك المال لكثرة المحتاجين، فأنفذ له شيئاً آخر ففنى؛ ثم أرسل يطلب ما يخرجه، فقال جمال الدين للرسول: والله ما عندي شئ، ولكن خذوا هذه المحافر التي في داري فبيعوها وتصدقوا بثمنها إلى أن يأتيني شئ آخر إلى الشيخ عمر. فبيعت المحافر وتصدقوا بثمنها وعرفوه ذلك، فلم يكن عنده ما يرسله، فأعطاه ثيابه التي كان يلبسها مع العمامة التي كانت على رأسه، وأرسل الجميع، وقال للرسول: قل للشيخ لايمتنع من الطلب فهذه أيام مواساة. فلما وصلت الثياب إلى الشيخ عمر بكى وباعها وتصدق بثمنها.

وقال: وحكى لي بعض الصوفية ممن كان يصحب الشيخ عمر النسائي شيخ الشيوخ بالموصل قال: أحضرني الشيخ فقال لي: انطلق إلى مسجد الوزير، وهو بظاهر الموصل، واقعد هناك، فإذا أتاك شئ فاحفظه إلى أن أحضر عندك؛ ففعلت. وإذا أقبل جمع من الحمالين يحملون أحمالا من النَّصافي والخام، وإذا قد جاء نائب جمال الدين مع الشيخ ومعهما قماش كثير، وثمانية عشر ألف دينار، وعدة كثيرة من الجمال. فقال لي تأخذ هذه الأحمال وتسير إلى الرحبة، فتوصل هذه الرزمة وهذا الكتاب إلى متوليها فلان، فإذا أحضر لك فلاناً العربي فتوصل إليه الرزمة الأخرى وهذا الكتاب وتسير معه، فإذا أوصلك إلى فلان العربي فتوصل إليه هذه الرزمة وهذا الكتاب؛ وهكذا إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، توصَل إلى وكيلي فلان هذه الأحمال وهذه الكسوات والمال الذي عليه اسم المدينة ليخرجها يمقتضى هذه الجريدة، ثم يأخذ الباقي الذي عليه اسم مكة ويسير إليها فيتصدق به وكيلي بها بموجب الجريدة الأخرى. قال: فسرنا كذلك إلى وادي القُرى فرأيناه به نحو مائة جمل تحمل الطعام إلى المدينة وقد منعهم خوف الطريق، فلما رأونا ساروا معنا إليها، فوصلناها والحنطة بها كل صاعين بدينار مصري، والصاع خمسة عشر رطلا بالبغدادي. فلما رأوا الطعام والمال اشتروا كل سبعة آصع بدينار. فانقلبت المدينة بالدعاء له. ثم سرنا إلى مكة ففعلنا ما أمرنا.
قال: وحكى لي والدي قال: رأيت جمال الدين وقد حضر عنده رجل فقيه قبل أن يصير وزيراً فطلب منه شيئاً، وتردد إليه عدة أيام، ثم انقطع، فسأل عنه، فقيل إنه سافر، فشق ذلك عليه، ثم قال: هكذا تنصرف الأحرار عن دور الكلاب، وردد ذلك غير مرة؛ ثم سأل عنه فقيل إنه سار نحو ماردين، فأرسل إليه خلعة ونفقة إلى ماردين.
قال: ولو رُمت شرح مفردات أعماله لأطلت وأضجرت، وهي ظاهرة لاتحتاج إلى بيان، فلهذا تركنا أكثرها.
وقد ذكره الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ في كتاب الاعتبار فقال: اجتمعت بجمال الدين الموصلي سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وأنا متوَّجه إلى الحج، وكانت بيني وبينه مودة قديمة وعشرة ومؤانسة؛ فعرض عليّ الدخول إلى دار في الموصل فامتنعت، ونزلت بخيمتي على الشط، فكان مدة مقامي كل يوم يركب يجوز على الجسر نحو نينوى وأتابك قد ركب إلى الميدان، وينفذ إليّ يقول: أركب فأنا واقف أنتظرك، فأركب فأسير أنا وهو فنتحدث. فوجدت يوماً منه خلوة من أصحابي، فقلت له: في نفسي شئ يتردد من حيث اجتمعنا أشتهي أن أقوله لك وما يتفق لي خلوة، وقد خلونا الساعة. قال: قل: قلت: أقول ما قاله الشريف الرضي:
ما ناصحتك خفايا الود من أحد ... مالم يصبك بمكروه من العذل
مودتي لك تأبى أن تسامحني ... بأن أراك على شئ من الزلل
وقد بسطت يدك في إنفاق المال في الصدقات ووجوه البر والمعروف، والسلاطين ما يحتملون إخراج المال، ولاتصبر نفوسهم عليه، ولو أن الإنسان يخرجه من ميراثه؛ وهذا الذي أهلك البرامكة؛ فانظر لنفسك كيف المخرج مما قد دخلت فيه. فأطرق ساعة وقال: جزالك الله خيراً، لكن الأمر قد عَبَر عما تخافه. ففارقته وسرت إلى الحجاز، وعدت من مكة على طريق الشام، ونُكب جمال الدين ومات في الحبس.
قلت: ولعلم الدين الحسن بن سعيد الشاتاني في هذا الوزير الجواد لما نكب:
ماحطّ قدرك من أوج العلا القدر ... كلا، ولا غيرت أفعالك الغير
أنت الذي عم أهل الأرض نائله ... ولم ينل شأوه من سؤدد بشر
سارت صفاتك في الآفاق واتضحت ... وصدّق السمع عنها ما رأى البصر
فاصبر لصرف زمان قد منيت به ... فآخر الصبر، ياطود النُّهى، الظفر
فما ترى أحداً في الخلق يسلم من ... صروف دهر له في أهله غير
سعوا بقصدك سرَّا، واستتب لهم ... ولو سعوا نحوه جهراً لما قدروا
لولا الأماني التي تحيا النفوس بها ... لمتّ من لوعة في القلب تستعر
ومنها في ذكر الشيخ عمر الملا:
وأصدق الناس في حفظ العهود، إذا ... ميزت بالفكر أحوال الورى، عُمَر
الزاهدُ، العابدُ، البَرُّ، التقي، ومن ... يزوره ويقويّ أزره الخضِر

وقال العرقلة يرثى جمال الدين الوزير والصالح بن رزيك:
لاخير في الدنيا و لا أهلها ... بعد جمال الدين والصالح
بحران، لولا دمع باكيهما ... ماكان ماء البحر بالمالح
قال ابن الأثير: قال والدي: كنت أرى من الوزير جمال الدين في الأيام الشهيدية من الكفاية والنظر في صغير الأمور وكبيرها، والمحاققة فيها، ما يدل على تمكنه من الكفاية. فلما وصل الأمر إلى الملك قطب الدين مودود بن أتابك الشهيد، وجمال الدين وزيره حينئذ، وقد تمكن زين الدين عليّ بن بكتكين في الدولة تمكناً عظيماً، وتقدم عند قطب الدين جماعة من أصحابه؛ فكان جمال الدين مع تمكنه وعلو محله يهمل بعض الأمور؛ قال: فقلت له يوماً: أين تلك الكفاية التي كنا نراها منك في الأيام الشهيدية؟ ما أرى الآن منها شيئاً!! فقال لي: والآن ما عندي كفاية؟ فقلت: ما هذا العمل من ذلك بشئ. فقال: أنت صبي غرٌّ. ليست الكفاية عبارة عن فعل واحد في كل زمان، إنما الكفاية أن يسلك الإنسان في كل زمان ما يناسبه ذلك الوقت. كان لنا صاحب متمكن قوي العزم لايتجاسر أحد على الاعتراض عليه، ولايَتَلَّون بأقوال أصحابه، فحفظناه؛ فكان ما أفعله هو الكفاية. وأما الآن فلنا سلطان غير متمكن، وهو محكوم عليه؛ فهذا الذي أفعله هو الكفاية.
ثم دخلت سنة ستين وخمسمائةقال ابن الأثير: فيها فتح نور الدين قلعة بانياس من الفرنج. وكان قد سار إليها بعد عوده من فتح حارم، وأذن لعسكر الموصل وديار بكر بالعودة إلى بلادهم، وأظهر أنه يريد طبرية؛ فجعل من بقي من الفرنج همهم حفظها وتقويتها. فسار نور الدين مجداً إلى بانياس لعلمه بقلة من فيها من الحماة الممانعين عنها؛ ونازلها، وضيق عليها وقاتلها. وكان في جملة عسكره أخوه نصرة الدين أمير أميران، فأصابه سهم أذهب إحدى عينيه؛ فلما رآه نور الدين قال له: لو كُشف لك عن الأجر الذي أعد لك لتمنيت أن تذهب الأخرى. وجدّ في حصارها، وسمع الفرنج بذلك فجمعوا، فلم تتكامل عدتهم حتى فتحه الله تعالى. على أن الفرنج كانوا قد ضعفوا بقتل رجالهم بحارم أوسرهم، فملك القلعة وملأها ذخائر وعُدة، ورجالا عدة.
وعاد نور الدين إلى دمشق وفي يده خاتم بفص ياقوت من أحسن الجوهر، فسقط من يده في شعراء بانياس، وهي كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان. فلما أبعد من المكان الذي ضاع فيه الفص علم به، فأعاد بعض أصحابه في طلبه ودلهم على مكانه، وقال أظنه هناك صاع. فعادوا إليه فوجدوه، فقال بعض الشعراء الشاميين، وأظنه أحمد بن منير، من جملة قصيدة يمدحه بها ويهنيه بهذه الغزاة وعود الفص الياقوت:
إن يِمتر الشكاك فيك، فإنك ال ... مهديّ مطفئُ جمرة الدجال
فلعودة الجبل الذي أظللته ... بالأمس بين عناطيل وجبال
مسترجعاً لك بالسعادة آية ... ردت مطال الفال غير مُطال
لم يُعْطَها إلا سليمان، وقد ... نلت الرقاء بموشك الإعجال
زجر جرى لسرير ملكك أنه ... كسريره عن كل جدر عال
فلو البحار السبعة استهوينه ... وأمرتهن قذفنه في الحال
قلت: هذه الأبيات لابن منير بلا شك، ولكن في غير هذه الغزاة، فإن ابن منير قد سبق أنه توفي سنة ثمان وأربعين، وفتح بانياس كما تراه في سنة ستين. وقد قرأت في ديوان ابن منير: وقال يمدحه، يعني نور الدين، ويهنئه بالعود من غزاة وضياع فص ياقوت جبل من يده لاشتغاله بالصيد شراؤه ألأف ومائة دينار. وفي نسخة: ووجد أن خاتماً ضاع منه في الصيَّد قيمته ألف ومائة دينار، وأنشده إياه بقلعة حمص. فذكر القصيدة أولها:
*يوماك يوم ندىً ويوم نزال*
يقول فيها:
أخرست شقشقة الضلال، وقدته ... قود الذَّلول أطاع بعد صيال
ورميت دار المشركين بصليم ... ألفحت فيها الحرب بعد حيال
وسَعَرْتَ بين تربيهم وترابهم ... ذعراً يشيبُ نواصي الأطفال
فوق الخطيم، وقد خطمت زعيمهم ... ضرباً سوابقه بغير توالي
ضرباً ملأت فرنجةً من حرِّه ... رهباً، به سيف الصقالب صالي

وبفَجِّ حارم أحرمت لقراعهم ... هيم أحلن النوم غير حلال
عجموا على الجسر الحديد حديدها ... نبعاً يعاذمه أدير دُصال
زلزلت أرضهم بوقع صواعق ... أعطيننا أمناً من الزلزال
في مأزق شمرت ذيلك تحته ... والنصر فوقك مسبل الأذيال
في دولة غراء محمودية ... سحبت رداء الحمد غير مذال
تنسى الفتوح بها الفتوح، وتجتني ... زُهر المقال بباهر الأفعال
لبست بنور الدين نور حدائق ... ثمراتهن غرائب الأفضال
ملك تحجبّ في السرير بزأرة ... زرّت حواشيها على رئبال
تنجاب عن ذي لبدتين شذاته ... في بردتي بدل من الأبدال
رفع الرواق بروق أنطاكية ... فرمى الخليج بمرهق البلبال
بدر لأربع عشرة اقتبس السنا ... من خمس عشرة سورة الأنفال
فوز المآل أخاضه ماءً الطلي ... وسواه يُقعده احتيازُ المال
متقسم بين القسيمين العلا ... عن همِّ عمٍ أو مخايل خال
لازلت تطلع من ثنايا جحفل ... يقفو لواءك كاللوى المنهال
لك أن تطل على الكواكب راقياً ... ولحاسديك بكاً على الأطلال
ومما يناسب هذه السعادة في وجدان الخاتم بعد وقوعه في مظنة الهلاك والضياع ما بلغني أن موسى الهادي لما ولي الخلافة سأل عن خاتم عظيم القيمة كان لأبيه المهدي، فبلغه أن أخاه الرشيد أخذه، فطلبه منه فامتنع، فألح عليه، فحنق الرشيد ومر على جسر بغداد فرماه في دجلة. فلما مات الهادي وولي الرشيد الخلافة أتى ذلك المكان بعينه ومعه خاتم من رصاص فرماه ثَمَّ، وأمر الغطاسين أن يلتمسوه، ففعلوا، فاستخرجوا الخاتم الأول، فعُد ذلك من سعادة الرشيد وبقاء ملكه.
قال ابن الأثير: ولما فتح نور الدين حصن بانياس كان ولد معين الدين أنر الذي سلم بانياس إلى الإفرنج قائماً على رأسه، فالتفت إليه وقال له: للناس بهذا الفتح فرحة واحدة، ولك فرحتان، فقال: كيف ذلك؟ قال: لأن الله تعالى اليوم برّد جلدة والدك من جهنم. وقد تقدم أنه كان صانع بها عن دمشق ولما نزل الفرنج عليها.
وفيها توفي وزير بغداد عون الدين أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الشيباني، من بني ذهل بن شيبان بن ثعلبة ن الحصن. وكان عالماً ديناً مدبرا حنبلي المذهب؛ وزر للمقتفي ثم للمستنجد بعده، وله عدة مصنفات، منها: الإفصاح في شرح الأحاديث الصحاح. وكان يجمع في مجلسه أفاضل الوقت من أعيان المذاهب الأربعة والنحاة وغيرهم، ويجري بحضرتهم فوائد كثيرة. ثم توفي وهو ساجد في صلاة الصبح من يوم الأحد ثالث عشر جمادي الأولى سنة ستين وخمسمائة. ورئيت له منامات حسنة، ومدحه جماعة من الفضلاء. ومولده في ربيع الآخر سنة سبع وتسعين وأربعمائة بقرية من أعمال دُجَيْل تعرف بالدُّور، وهو الذي محا رسوم سلاطين العجم من العراق وأجلاهم عن خطتها بحسن تدبيره. ومن كلامه لبعض من كان يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائةففيها توفي فتح الدين بن أسد الدين شيركوه، أخو ناصر الدين؛ وقبره بالمقبرة النجمية إلى جانب قير ابن عمه شاهنشاه بن أيوب في قبة فيها أربعة قبور، هما الأوسطان منها. وفي هذين الأخوين، ناصر الدين وفتح الدين، يقول العرقلة حسان:
لله شبلا أسد خادر ... ما فيهما جبن ولا شح
ما أقبلا إلا وقال الورى ... قد (جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَاْلفَتْحُ)

وفيها سار نور الدين أيضاً إلى حصن المنيطرة، وهو للفرنج، ولم يحشد له ولا جمع عساكره، إنما سار إليه على غرة من الفرنج، وعلم أنه إن جمع العساكر حذروا وجمعوا؛ فانتهز الفرصة وسار إلى المنيطرة وحصرها، وجدّ فيؤ قتالها، وأخذها عنوة وقهراً، وقتل من بها، وسبى، وغنم غنيمة كثيرة لأَمِنْ من به، فأخذتهم خيل الله بغتة وهم لايشعرون؛ ولم يقدر الفرنج على أن يجتمعوا لدفعه إلا وقد ملكه. ولو علموا أنه جرد جريدة لأسرعوا، وإنما ظنوا أن نور الدين في جمع كثير، فلما ملكه تفرقوا وأيسوا منه.
هذا قول ابن الأثير. وذكر القاضي ابن شداد أن ذلك في سنة اثنتين وستين كما سيأتي، والله أعلم.
وفيها توفي الجليس بن الحباب بمصر. قال العماد في الخريدة: القاضي الجليس أبو المعالي عبد العزيز بن الحسين بن الحباب الأغلبي السعدي التميمي، جليس صاحب مصر، ففضله مشهور، وشعره مأثور. وكان أوحد عصره في مصر نظماً ونثراً، وترسلا وشعرا؛ ومات بها في سنة إحدى وستين، وقد أناف على السبعين. انشدني له الأمير نجم الدين بن مصال من قصيدة يقول فيها:
ومن عجب أن السيوف لديهُم ... تحيض دماءً، والسيوف ذكور
وأعجب من ذا أنها في أكفهم ... تأججُ ناراً، والأكف بحور
قال: وأنشدني له الشريف إدريس الإدريسي قصيدة سيَّرها إلى الصالح بن رزيك قبل وزارته، يحرضه على إدراك ثأر الظافر، وكان عباس وزيرهم قتله وقتل أخويه يوسف وجبريل، يقول فيها:
أصادفهُم قولا وغيباً ومشهداً ... نحوهم على عمد بفعل أعادي
فأين بنو رزيك عنها ونصرهم ... وما لهم من منعة وذياد
تدارك من الإيمان قبل دثُورِه ... حشاشة نفس آذنت بنفاد
فلو عاينت عيناك بالقصر يومهم ... ومصرعهم لم تكتحل برقاد
فمزق جموع المارقين، فإنها ... بقايا زروع آذنت بحصاد
وله فيه من أخرى في هذه الحادثة:
ولما ترامى البربري بجهله ... إلى فتكة ما رامها قط رائم
ركبت إليه متن عزمتك التي ... بأمثالها تُلقى الخطوب العظائم
أعدت إليهم ملكهم بعد ما لوى ... به غاصب حق الإمامة ظالم
وأنفذ إليه في المعنى:
أعدت إلى جسم الوزارة روحها ... وماكان يرجى بعثها ونشورها
أقامت زماناً عند غيرك طامثاً ... فهذا الأوان قرؤها وطهورها
من العدل أن يحيا بها مستحقُّها ... ويخلعها مردودةً مستعيرها
إذا ملك الحسناء من ليس كفئها ... أشار عليه بالطلاق مشيرها
وله يشكو طبيباً:
وأصل بليتي من قد غزاني ... من السَّقَم الملحّ بعسكرين
طبيب طبُّه كغراب بين ... يفرق بين عافيتي وبيني
أني الحمى وقد شاخت وباخت ... فرد لها الشباب بنسختين
ودبرها بتدبير لطيف ... حكاه عن سسنان أو حنين
وكانت نوبةً في كل يوم ... فصيّرها بحذق نوبتين
قلت: الأبيات الرائية تمثل بها الجليس، وهي لصُرد، وقرأتها في ديوانه؛ وهي من قصيدة مدح بها وزير الخليفة ببغداد فخر الدين أبا نصر محمد بن جهير ويهنيه بعوده إلى الوزارة؛ وأول القصيدة:
لجاجةُ قلب ما يفيق غرورها ... وحاجة نفس ليس يُقضي يسيرها
وهي طويلة يقول فيها متغزلا:
وقفنا صفوفاً في الديار، كأنها ... صحائف ملقاة ونحن سطورها
يقول خليلي، والظباء سوانح: ... أهذي التي تهوى؟ فقلت: نظيرها
وقد قلتما لي ليس في الأرض جنة ... أما هذه فوق الركائب حورُها؟
أراكَ الحْمى، قل لي بأي وسيلة ... وصلت إلى ان صادقتك ثغورها!
ويقول في مديحها:
وما لي بها علم، فهل أنت عالم ... أأفواهها أولى بها أم نحورها
على رسلكم في الهجر، إنَّا عصابة ... إذا ظفرت في الحب عف ضميرها
فقل لليالي: كيف شئت تقلبَّي ... ففي يد عبل الساعدين أمورها

أمانيُّ في نفس الوزارة بُلِّغت ... به كنهها حتى استحقت نذورها
لوَتْ وجهها عن كل طالب متعة ... إلى خاطبٍ حلُّ عليه سفورها
إذا مثل الأقوام دون عرينه ... تساوى به ذو طيشها ووقورها
تكاد لما قد أُلبسْت من سكينة ... ترف على تلك الرؤس طيورها
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وخمسمائةففيها عاد أسد الدين إلى مصر تاسع ربيع الآخرة! وقد كان بعد رجوعه من مصر لايزال يحدث نفسه بقصدها ومعاودتها، حريصاً على الدخول إليها، يتحدث به مع كل من يثق إليه. وكان مما يهيجه على العود زيادة حقده على شاور وما عمل معه. فلما كان هذه السنة تجهز وسار إليها، وسير نور الدين معه جماعة من الأمراء وابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب. وفي ذلك يقول العرقلة:
أقول والأتراك قد ازمعت ... مصرَ إلى حرب الأعاريب:
ربّ، كما ملكتها يوسف الص - ديق من اولاد يعقوب
يملكها في عصرنا يوسف الص ... ادق من أولاد أيوب
من لم يزل ضرّاب هامِ العدا حقاً ... وضرّاب العراقيب
ثم إن أسد الدين جدَ في السير على البرّ، وترك بلاد الإفرنج عن يمينه، فوصل إلى الديار المصرية وقصد إطفيح، وعبر النيل عندها إلى الجانب الغربي، ونزل بالجزيرة مقابل مصر، وتصرّف في البلاد الغربية وأقام بها نيفاً وخمسين يوماً.
وكان شاور لما بلغه مجئ أسد الدين قد راسل الفرنج يستغيث بهم ويستصرخهم؛ فأتوه على الصعب والذلول، فتارة يحثهم طمعهم في ملك مصر على الجد والتشمير، وتارة يحدوهم خوفهم من أن يملكها العسكر النُّوري على الإسراع في المسير؛ فالرجاء يقودهم والخوف يسوقهم. فلما وصلوا إلى مصر عبروا إلى الجانب الغربي؛ وكان أسد الدين والعسكر النُّوري قد ساروا إلى الصعيد فبلغوا مكاناً يعرف بالبابين، وسارت العساكر المصرية، والفرنج وراءهم، فأردركوهم به في الخامس والعشرين من جمادي الأولى.
وكان شيركوه قد أرسل إليهم جواسيس، فعادوا وأخبروه بكثرة عددهم وعددُهم، وجدهم في طلبه؛ فعزم على قتالهم ولقائهم، وأن تحكم السيوف بينه وبينهم.
إلا أنه خاف من أصحابه أن تضعف نفوسهم عن الثبات في هذا المقام الخطير الذي عطبهم فيه أقرب من السلامة، لقلة عددهم وبعدهم عن بلادهم؛ فاستشارهم، فكلهم أشار عليه بعبور النيل إلى الجانب الشرقي والعود إلى الشام، وقالوا له: إن نحن انهزمنا، وهو الذي لاشك فيه، فإلى أين نلتجئ وبمن نحتمي، وكل من في هذه الديار من جندي وعامي وفلاح عدوُّ لنا، ويودون لو شربوا دمتءنا؛ وحق لعسكر عدتهم ألفا فارس قد بعدُوا عن ديارهم وقل ناصرهم أن يرتاع من لقاء عشرات ألوف، مع أن كل أهل البلاد عدو لهم فلما قالوا ذلك قام إنسان من المماليك النُّورية يقال له شرف الدين بزغش، وكان من الشجاعة بالمكان المشهور، وقال: من يخاف القتل والجراح والأسر فلا يخدم الملوك بل يكون فلاحاً أو مع النساء في بيته؛ والله لئن عدتم إلى الملك العادل من غير غلبة وبلاء تعُذرون فيه ليأخذن إقطاعاتكم وليعودنَّ عليكم بجميع ما أخذتموه إلى يومنا هذا، ويقول لكم: أتأخذون أموال المسلمين وتفرون عن عدوهم، وتسلمون مثل هذه الديار المصرية يتصرف فيها الكفار؟! قال أسد الدين: هذا رأيي وبه أعمل، ووافقهما صلاح الدين يوسف بن أيوب، ثم كثر الموافقون لهم على القتال، فاجتمعت الكلمة على اللقاء. فأقام بمكانه حتى أدركه المصريون والفرنج وهو على تعبئة، وقد جعل الأثقال في القلب يتكثر بها، ولأنه لم يمكنه أن يتركها بمكان آخر فينهبها أهل البلاد.

ثمَّ إنه جعل صلاح الدين ابن أخيه في القلب، وقال له ولمن معه: إن الفرنج والمصريين يظنون أنني في القلب فهم يجعلون جمرتهم بإزائه وحملتهم عليه، فإذا حملوا عليكم فلا تصدقوهم القتال ولاتهلكوا نفوسكم، واندفعوا بين أيديهم؛ فإذا عادوا عنكم فارجعوا في أعقابكم. واختار من شجعان أصحابه جمعاً يثق إليهم ويعرف صبرهم وشجاعتهم، ووقف بهم في الميمنة. فلما تقابل الطائفتان فعل الفرنج ما ذكره أسد الدين وحملوا على القلب ظناً منهم أنه فيه، فقاتلهم من به قتالا يسيراً، ثم انهزموا بين أيديهم، فتبعوهم. فحينئذ حمل أسد الدين فيمن معه على من تخلف عن الفرنج الذين حملوا على القلب من المسلمين فهزموهم، ووضع السيف فيهم فأثخن، وأكثر القتل والأسر، وانهزم الباقون. فلما عاد الفرنج من أثر المنهزمين الذين كانوا في القلب رأوا مكان المعركة من أصحابهم بلقعاً ليس بها منهم ديار، فانهزموا أيضاً. وكان هذا من أعجب ما يؤرخ: أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر وفرنج الساحل.
ثم سار أسد الدين إلى ثغر الإسكندرية وجبى ما في طريقها من القرايا والسواد من الأموال، ووصل إلى الإسكندرية فتسلمها من غير قتال: سلمها إليه أهلها؛ فاستناب بها صلاح الدين ابن أخيه، وعاد إلى الصعيد وتمَّلكه، وجبى أمواله، وأقام بها حتى صام رمضان.
وأما المصريون والفرنج فإنهم عادوا إلى القاهرة وجمعوا أصحابهم، وأقاموا عوض من قتل منهم، واستكثروا، وحشدوا، وساروا إلى الإسكندرية، وبها صلاح الدين في عسكر يمنعونها منهم، وقد أعانهم أهلها خوفاً من الفرنج، فاشتد الحصار وقل الطعام بالبلد، فصبر أهله على ذلك. ثم إن أسد الدين سار من الصعيد نحوهم، وكان شاور قد أفسد بعض من معه من التركمان، ووصله رسل المصريين والفرنج يطلبون الصلح، وبذلوا له خمسين ألف دينار سوى ما أخذه من البلاد؛ فأجابهم إلى ذلك وشرط أن الفرنج لايقيمون بمصر، ولا يتسلمون منها قرية واحدة، وأن الإسكندرية تعاد إلى المصريين. فأجابوا إلى ذلك واصطلحوا؛ وعاد إلى الشام، فوصل دمشق ثامن عشر ذي القعدة؛ وتسلم المصريون الإسكندرية في النصف من شوال.
وأما الفرنج فإنهم استقر بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم ليمتنع الملك العادل من إنفاذ عسكر إليهم، ويكون للفرنج من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار. هذا كله يجري بين الفرنج وشاور؛ وأما العاضد صاحب مصر فليس إليه من الأمر شئ، ولايعلم بشئ من ذلك: قد حكم عليه شاور وحجبه. وعاد الفرنج إلى بلادهم، وتركوا جماعة من فرسانهم ومشاهيرهم وأعبانهم بمصر والقاهرة على القاعدة المذكورة.
ثم إن الكامل شجاع بن شاور راسل نور الدين مع شهاب الدين محمود الحارمي، وهو من أكابر أمراء الملك العادل، وهو خال صلاح الدين يوسف، ينهى محبته وولاءه، ويسأله أن يأمر بإصلاح الحال وجمع الكلمة بمصر على طاعته، ويجمع كلمة الإسلام، وبذل مالاً يحمله كل سنة. فأجابه إلى ذلك، وحملوا إلى نور الدين مالا جزيلا. فبقي الأمر على ذلك إلى أن قصد الفرنج مصر لتملكها، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخبار سنة أربع وستين.
قال القاضي أبو المحاسن يوسف بن شداد: ذكر عود أسد الدين إلى مصر في المرة الثانية، وهي المعروفة بوقعة البابيْن: لم يزل أسد الدين يتحدث بذلك بين الناس حتى بلغ شاوراً ذلك وداخله الخوف على البلاد من الأتراك، وعلم أن أسد الدين قد طمع في البلاد، وأنه لابد له من قصدها. فكاتب الفرنج وقرر معهم أنهم يجيئون إلى البلاد ويمكنونه فيها تمكيناً كلياً، ويعينونه على استئصال أعدائه، بحيث يستقر قدمه فيها. وبلغ ذلك نور الدين وأسد الدين، فاشتد خوفهما على مصر أن يملكها الكفار فيستولون على البلاد كلها. فتجهز أسد الدين، وأنفذ نور الدين معه العسكر، وألزم صلاح الدين رحمه الله بالمسير معه على كراهة منه لذلك، وذلك في اثناء ربيع الأول. وكان وصولهم إلى البلاد المصرية مقارناً لوصول الفرنج إليها. واتفق شاور مع الفرنج على أسد الدين، والمصريون بأسرهم، وجرى بينهم حروب كثيرة ووقعات شديدة، وانفصل الفرنج عن الديار المصرية، وانفصل أسد الدين.

وكان سبب عود الفرنج أن نور االدين، قدس الله روحه، جرد العساكر إلى بلاد الإفرنج وأخذ المنيطرة؛ وعلم الفرنج ذلك فخافوا على بلادهم وعادوا. وكان سبب عود أسد الدين ضعف عسكره بسبب مواقعة الفرنج والمصريين، وما عانوه من الشدائد وعاينوه من الأهوال. وما عاد حتى صالح الفرنج على أن ينصرفوا كلهم عن مصر، وعاد إلى الشام في بقية السنة، وقد انضم إلى قوة الطمع في البلاد شدة الخوف عليها من الفرنج، لعلمه بأنهم قد كشفوها كما كشفها، وعرفوها من الوجه الذي عرفها. فأقام بالشام على مضض وقلبه مقلقل والقضاء يجره إلى شئ قد قُدر لغيره وهو لايشعر بذلك.
قال: وفي اثناء سنة اثنتين وستين ملك نور الدين قلعة المنيطرة بعد مسير أسد الدين في رجب، وخرب قلعة اكاف بالبرية.
وفي رمضان منها اجتمع نور الدين وأخوه قطب الدين وزين الدين بحماة للغزاة، وساروا إلى بلاد الفرنج، فخربوا هُونين في شوال منها.
وفي ذي القعدة منها كان عود أسد الدين إلى مصر.
وفيه مات قرا أرسلان بديار بكر.
فصلوفي شعبان من هذه السنة قدم دمشق عماد الدين الكاتب ابو حامد محمد بن محمد الاصفهاني، مصنف كتابي الفتح والبرق، فأنزله قاضي القضاة كمال الدين ابو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم بن الشهرزوري بالمدرسة النورية الشافعية عند حمام القصير بباب الفرج، المنسوبة الان الى العماد. وانما نسبت اليه لان نور الدين رحمه الله تعالى ولاه اياه في رجب سنة سبع وستين بعد الشيخ الفقيه بن عبد الحارثي.
وكان العماد له معرفة بنجم الدين ايوب واسد الدين شيركوه ابني شاذي من تكريت، بسبب ان عمه العزيز احمد بن حامد اعتقله السلطان محمود بن ملشكاه بقلعة تكريت، ونجم الدين ايوب اذ ذاك واليها، فانتسجت المودة بينهم من هناك. فلما سمع نجم الدين بوصوله ، بكر الى منزله لتبجيله، وكان صلاح الدين وشيركوه حينئذ بمصر، فمدح العماد نجم الدين ايوب بقصيدة اولها:
يوم النوى ليس من عمري بمحسوب ... ةلا الفراق الى عيشي بمنسوب
ما اخترت بعدك، لكن الزمان اتى ... كرها بما ليس، يا محبوب، محبوبي
ارجو ايابي اليكم ظافراً عجلا ... فقد ظفرت بنجم الدين ايوب
موفق الرأي، ماضي العزم، مرتفع ... على الاعاجم مجداً والاعاريب
احبك الله اذ لازمت نجدته ... على جبين بتاج الملك معصوب
اخوك وابنك، صدقاً منهما، اعتصما ... بالله، والنصر وعد غير مكذوب
هما همامان في يومي وغى وقرى ... تعودا ضرب هام او عراقيب
داً يشبان في الكفار نار وغى ... بلفحها يصبح الشبان كالشيب
بملك مصر ونصر المؤمنين غداً ... تحظى النفوس بتأنيس وتطييب
ويستقر بمصر يوسف، وبه ... تقر بعد التنائي عين يعقوب
ويلتقي يوسف فيها بأخوته ... والله يجمعهم من غير تثريب
وكان انشاده هذه القصيدة في اخر شوال سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وتم ملكهم مصر بعد سنتين فنظمت ما في الغيب تقديره.

قال: وكان اسد الدين قد جمع وسار الى مصر في الرمل في النصف من ربيع الاول، ووصل في سادس ربيع الاخر الى اطفيح وعبر منها الى الجانب الغربي ، واناخ بالجيزة محاذاة مصر، فأقام عليها نيفاً وخمسين يوماً، واستعان شاور بالفرنج ورتبوا لهم سوقاً بالقاهرة، وعبروا بهم من البلاد الشرقية الى الغرب، وعلم اسد الدين فسار امامهم، فالتقوا بموضع يعرف بالبابين، فكسرهم اسد الدين واصحابه، وقتلوا من الفرنج وممن تبعهم من المصريين الوفا، وحصل منهم في الاسار سبعون فارساً من بارونيتهم. فلما تمت لهم هذه الكسرة رحلوا إلى الإسكندرية، فوجدوا مساعدة من أهلها فدخلوها. ثم قال أسد الدين: أنا لايمكنني أن أحصر نفسي؛ فأخذ العسكر وسار به إلى بلاد الصعيد فاستولى عليها، وجبى خراجها. وأقام صلاح الدين بالإسكندرية فسار إليه شاور والرنج، فحاصروه أربعة أشهر، وصدق أهل الإسكندرية القتال مع صلاح الدين، وقوى أسد الدين بقوص، واستنهض لقصد القوم العموم والخصوص. فسمع الفرنج أنه جاء يقصدهم فرحلوا عن الحصار. وكان شاور قد استمال جماعة من التركمان الذين مع أسد الدين بالذهب، فلما راسلوه في المهادنة أجاب، وطلب منهم عوض ماغرمه؛ فبذلوا له خمسين ألف دينار، فخرجوا من الإسكندرية في النصف من شوال، ووصلوا إلى دمشق ثامن عشر ذي القعدة، وعادوا إلى الخدمة النورية. فاجتمع العماد بأسد الدين وأنشد هذه القصيدة:
بلغت بالجد مالا يبلغ البشر ... ونلت ماعجزت عن نيله القُدر
من يهتدي للذي أنت اهتديت له ... ومن له مثل ما أثرّته أثر!
أسرِت أم بِسُراك الأرضُ قد طويت ... فأنت إسكندرٌ في السير أم خَضِر
أوردت خيلا بأقصى النيل صادرةً ... عن الفرات يقاضي وِرْدَها الصَّدَر
تناقلت ذكرك الدنيا، فليس لها ... إلا حديثك ما بين الورى سمر
فأنت مَنْ زانت الأيام سيرته ... وزاد فوق الذي جاءت به السيِّر
لو في زمان رسول الله كنت، أتت ... في هذه السيرة المحمودة السور
أصبحت بالعدل والإقدام منفرداً ... فقل لنا: أعليٌّ أنت أم عمر
إسكندرٌ ذكروا أخبار حكمته ... ونحن فيك رأينا كل ماذكروا
ورُسْتُمٌ خبرونا عن شجاعته ... وصار فيك عياناً ذلك الخبر
اِفخر؛ فإن ملوك الأرض أذهلهم ... ماقد فعلت، فكلٌ فيك مفتكر
سهرت إذرقدوا، بل هجت إذ سكنوا ... وصُلت إذ جبنوا، بل طُلت إذ قُصروا
يستعظمون الذي أدركته عجباً ... وذاك في جنب مانرجوه محتقر
قضى القضاء بما نرجوه عن كثب ... حتما، ووافقك التوفيق والقدر
شكت خيولك إدمان السرى، وشكت ... من فَلِّها البيضُ، بل من حَطْمها السُّمر
يسرت فتح بلاد كان أيسرها ... لغير رأيك قفلاً فتحه عسر
قرنت بالحزم منك العزم، فاتسقت ... مآرب لك عنها أسفر السفر
ومن يكون بنور الدين مهتدياً ... في أمره، كيف لايقوى له المرر
يرى برأيك مافي الملك يبرمه ... فأنت منه بحيث السمع والبَصر
لقد بغت فئةُ الإفرنج فانتصفت ... منها، بإقدامك، الهندية البتر
غرست في أرض مصرٍ من جسومهمُ ... أشجار خط لها من هامهم ثمر
وسال بحر نجيع في مقام وغي ... به الحديد غمامٌ، والدم المطر
أنهرت منهم دماءً بالصعيد، جرى ... منها إلى النيل في واديهمُ نَهَر
رأوا إليك عبور النيل إذ عدموا ... نصراً فما عبروا حتى قد اعتبروا
تحت الصوارم هامُ المشركين، كما ... تحت الصوالج يوماً خفتّ الأكر
أفنت سيوفك من لاقت، فإن تركت ... قوماً فهم نفر من قبلها نفروا

لم ينج إلا الذي عافته من خبث ... وحش الفلا، وهو للمحذور منتظر
والساكنون القصور القاهرية قد ... نادى القصورُ عليهم أنهم قُهروا
وشاورٌ شاوروه في مكائدهم ... فكادوه الكيد لما خانه الحذر
كانوا من الرعب موتى في جلودهم ... وحين أمنتهم من خوفهم نُشروا
وإن من شيركوه الشرك منخزلٌ ... والكفرَ منخذل، والدين منتصر
عوِّل على فئةٍ عند اللقاء وفت ... وعدِّ عن تركمان قبله غدروا
وكيف يُخذل جيش أنت مالكه ... والقائدان له التأييد والظفر
أجاب فيك إله الخلق دعوة من ... يطيب بالليل من أنفاسه السَّحر
وقال العماد: واتصلت بيني وبين صلاح الدين يوسف ابن أخيه مودة، تمت لي بها على الزمان عُدة؛ ولم يزل يستهديني نظمي ونثري، ويشعرني أنه يميل إلى شعري. فأول ما خدمته به هذه الكلمة:
كيف قلتم بمقلتيه فتور ... وأراها بلا فتور تجور
ومنها:
مستجيزٌ جوري، وإنيَّ منه ... بابن أيوب يوسفٍ مستجير
فضله في يدي الزمان سوار ... مثلها رأيه على الملك سور
كرمٌ سابغ، وجودٌ عميم ... وندىً سائغ، وفضل غزير
أنت من لم يزل يحن إليه، ... وهو في المهد، سرجه والسرير
من دم الغادرين غادرت بالأم ... س صعيد الصعيد وهو غدير
ولكلٍ مما تطاولت فيهم ... أمل قاصر وعمر قصير
لاذ بالنيل شاورُ مثل فرعو ... ن، فذل اللاجيّ وعز العُبور
شارك المشركين بغياُ، وقدماً ... شاركتها قريظةٌ والنضير
والذي يدعى الإمامةَ بالقا ... هرة ارتاع أنه مقهور
وغدا الْمَلْك خائفاً من سُطاكم ... ذا ارتعاد كأنه مقرور
وبنو الهنفري هانوا ففروا ... ومن الأسد كلُّ كلب فرور
إنما كان للكلاب عواء ... حيث ماكان للأسود زئير
قليب عند الفرار سليب ... فهو بالرعب مطلق مأسور
لم يبقوا سوى الأصاغر للسب ... ي فودوا أن الكبير صغير
وحميت الإسكندرية عنهم ... ورحى حربهم عليهم تدور
حاصروها وما الذي بان من ذَبَّ ... ك عنها وحفظها محصور
كحصار الأحزاب طيبةً قدماً ... ونبيُّ الهدى بها منصور
فاشكر الله حين أولاك نصراً ... فهو نعم المولى ونعم النصير
ولكم أرجف الأعادي، فقلنا ... مالما تذكرونه تأثير
ورقبنا كالعيد عودك فاليو ... م به للأنام عيد كبير
عاد من مصر يوسفٌ وإلى يع ... قوب بالتهنئات جاء البشير
فلأيوب من إياب صلاح الدِّ ... ين يوم به توفيَّ النذور
ولكم عودة إلى مصر بالنص ... ر على ذكرها تمر العصور
فاستردوا حق الإمامة ممن ... خان فيها فإنه مستعير
وافترعها بكراً، لها في مدى الده ... ر رواح في مدحكم وبكور
أنا سيرت طالع العزم مني ... وإلى قصدك انتهى التسيير
وأرى خاطري لمدحك إلفاً ... إنما يألف الخطير الخطير
وهي والتي قبلها طويلتان جداً. فانتظمت معرفة العماد بصلاح الدين وكان له مساعداً عند نور الدين.
وقرأت في ديوان العرقلة: وقال يمدح أسد الدين شيركوه، وقد أخذ الشقيف ورحل طالباً حصناً يقال له الغراق:
رحلت من الشقيف إلى الغراق ... بعزم كالمهندة الرقاق
ونكست الأعادي منه قهراً ... ومجدك في ذرا الجوزاء باقي
بجأشك لا بجيشك نلت هذا ... وبالتوفيق لا بالإتفاق

فداؤك من مضى بالحصن قبلي ... إلى دار الخلود من الرفاق
وما نخشى على الإسلام بؤساً ... إذا هلك الجميع وأنت باقي
أشاوركم تُشاور كل خب ... وتنفق عند مثلك بالنفاق
أتصبر إن أتتك بحار خيل ... وقدماً ما صبرت على السواقي
متى رفعت لك السودان رأساً ... وقد خلاهم مثل الزقاق
وعيشك ماله من مصر بد ... ومن عندي ثلاثاً بالطلاق
هو الأسد الذي مازال حتى ... بنى مجداً على السبع الطباق
فصلقال ابن الأثير: وفي هذه السنة أرسل نور الدين إلى أخيه قطب الدين يطلب أن يعبر الفرات إليه بعساكره؛ فتجهز وسار هو وزين الدين في العساكر الكثيرة، فاجتمعوا بنور الدين على حمص. فدخل بالعساكر الإسلامية بلاد الفرنج واجتاز على حصن الأكراد، فأغاروا ونهبوا وأسروا، وقصدوا عَرْقَةَ ونزلوا عليها وحصروها، وحصروا جَبَلَة وأخربوها. وتوجهت عساكر المسلمين يميناً وشمالاً تغير وتخرب البلاد، وفتح العَرِيمة وصافيثا. وعاد إلى حمص، فصام بها شهر رمضان. ثم سار إلى بانياس وقصد قلعة هُونين، وهي للفرنج ايضاً، من قلاعهم المنيعة، فانهزم الفرنج عنها وأحرقوها، فقصدها نور الدين فوصلها من الغد، وخرب سورها جميعه. وأراد الدخول إلى بيروت فتجدد في العسكر خُلف أوجب التفرق، فعاد. وسار قطب الدين إلى الموصل وأقطعه مدينة الرَّفَّة فأخذها في طريقه.
قال: وفي هذه السنة عصى الأمير غازي بن حسان المنبجي صاحب مَنْبِج على نور الدين، وهو كان أقطعه إياها، فأرسل إليه نور الدين عسكراً حصره بها وأخذها منه، وأقطعها أخاه قطب الدين ينال بن حسان، وكان عاقلاً خيراً، حسن السيرة، فبقى بها إلى أن أخذها منه صلاح الدين سنة اثنتين وسبعين كما سيأتي.
وفي هذه السنة توفي القاضي الرشيد أحمد بن علي بن الزبير صاحب كتاب الجنان. قال العماد في الخريدة: كان ذا علم غزير وفضل كثير، قتله شاورَ صبراً في سنة اثنتين وستين، ونسب إليه أنه شارك أسد الدين شيركوه في قصده. وأخوه المهذب أبو علي الحسن بن علي بن الزبير أشعر منه وتوفي قبله بسنة، لم يكن في زمانه أشعر منه. وله شعر كثير، منه قصيدة غراء في مدح الصالح بن رزيك، وذكر فيها نور الدين، أولها:
أعلمت حين تَجاور الحيان ... أن القلوب مواقد النيران
يا كاسر الأصنام قم فانهض بنا ... حتى تصير مكسِّر الصلبان
فالشام ملكك قد ورثت بلاده ... عن قومك الماضين من غسان
وإذا شككت بأنها أوطانهم ... قدماً فسل عن حارث الجولان
أورمُت أن تتلو محاسن ذكرهم ... فاسند روايتها إلى حسان
مازلزلت أرض العدا، بل ذاك ما ... بقلوب أهليها من الخفقان
وأقول إن حصونهم سجدت لما ... أوتيت من ملك ومن سلطان
ولقد بعثت إلى الفرنج كتائباً ... كالأسد حين تصول في خّفَّان
لبسوا الدروع، ولم نخل مِنْ قبلهم ... أن البحار تحل في غُدران
عجلت في تل العَجُول قراهم ... وهم لك الضيفان بالذِّيفان
وثللت في يوم العريش عروشهم ... بشبا ضراب صادق وطعان
ألجأتهم للبحر لما أن جرى ... منه ومن دمهم معاً بحران
ولقد أتى الأسطول حين غزا بما ... لم يأت في حين من الأحيان
وأعدت رُسل ابن القسيم إليه في ... شعبان كي يتلاءم الشَّعبان
والفال يشهد في اسمه أن سوف يغ ... دو الشام وهو عليكما قسمان
وأراك من بعد الشهيد أباً له ... وجعلته من أقرب الإخوان
وهو الذي مازال يفعل في العدا ... مالم يكن لِيُعَدَّ في الإمكان
قتل البرنس ومن عساه أعانه ... لما عتا في البغي والعدوان
وأرى البرية حين عاد برأسه ... مُرَّ الجنى يبدو على المران

وتعجبوا من زرقة في طرفه ... وكأن فوق الرمح نصلاً ثاني
عجباً لجود يديه إذ يبني العلا ... والسيل يهدم ثابت الأركان
قلدت أعناق البرية كلها ... منناً تحمل ثقلها الثقلان
حتى تساوى الناس فيك وأصبح ال ... قاصي بمنزلة القريب الداني
وفي هذه السنة ذكر القاضي كمال الدين بن الشَّهْرَزَوْرِي للسلطان نور الدين رحمه الله حال العماد الكاتب وعرفه به، وعرض عليه قصيدة له في مدحه مطلعها:
لو حفظت يوم النوى عهودها ... ما مُطلت بوصلكم وعودها
ومنها:
محمد يحمد عيش بلدة ... مالكها بعدله محمودها
مؤيد أموره بعزمة ... من السموات العلا تأييدها
آثاره حميدة، وإنما ... للمرء من آثاره حميدها
إن الورى بحبه وبغضه ... يعرف من شقيها سعيدها
قد جاءكم نور من الله، فمن ... به اهتدى فإن رشيدها
جلا ظلام الظلم نور الدين عن ... أرض الشآم، فله تحميدها
إن الرعيا منه في رعاية ... ونعمة مستوجب مزيدها
لنومها يسهر، بل لأمنها ... يخاف، بلْ يخصبها بجودها
بالدين والملك له قيامه ... وللملوك عنهما قعودها
ودأبه ثلم ثغور الكفر، لا ... لثم ثغور ناقع برودها
قد أسبغ الله لنا بعدله ... ظلال أمن وارف مديدها
غدا ملوك الروم في دولته ... وهم على رغمهم عبيدها
لما أبت هاماتهم سجودها ... لله، أضحى للظُّبا سجودها
إن فارقت سيوفه غمودها ... فإن هاماتهم غمودها
كم مغلقات، من حصون عزمه ... مفتاحها، وسيفه إقليدها
قد ودَّت الفرنج لو فرَّت نجتْ ... منك، ولكن روعها يبيدها
قهرتها حتى لودَّ حيُّها ... من ذلة لو أنه فقيدها
أماتها رعبك في حصونها ... كأنما حصونها لحودها
وإن مصراً لك تعنو بعدما ... لسيفك العضب عنا صعيدها
والملة الغراء اخالٍ بالها ... عال سناها، بك حالٍ جيدها
مفترة ثغورها، ممنوعة ... ثغورها، محفوظة حدودها
وإن بغى جالوتها ضلالةً ... فأنت في إهلاكه داودها
ياابن قسيم الدولة الملك الذي ... خرّضت له من الملوك صيدها
دع العدا بغيظها، فإنما ... يذيب أكباد العدا حقودها
يادولة نوريةً أمن الورى ... وخصبها، وجودها، وُجودها
مامثلُ الدنيا لمن يجمعها ... بالحرص إلا قَزَّة ودودها
أنت الذي يرفضها عن قدرة ... فلا يشوب زهده زهيدها
فابق لنا ياملكا، بقاؤه ... في كل عام للرعايا عيدها
في نعمة جديدة سعودها ... ودولة سعيدة جدودها
وهي طويلة. فرتبه نور الدين في ديوانه منشئاً لاستقبال سنة ثلاث وستين.
قال: ووجدت على الأيام منه الإعزاز والتمكين. قلت: وذلك بعد أن استعفى أبو اليُسر شاكر بن عبد الله من الخدمة في كتابة الإنشاء وقعد في بيته. كذا ذكر العماد في الخريدة.
وقال: تولى ديوان الإنشاء بالشام سنين كثيرة، وله مقاصد حسنة في الكتب، وهو حميد السيرة، جميل السريرة.
وفيها توفي الحافظ أبو سعد عبد الكريم محمد السمعاني المروزي رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائةفذكر العماد أن نور الدين رحل إلى حمص، ثم مضى إلى حماة، ثم شتَّى بقلعة حلب ومعه الأسد والصّلاح. ونزل العماد بمدرسة ابن العجمي وكتب إلى صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقد عثر فرسه في الميدان وهو يلعب بالكرة مع نور الدين رحمه الله تعالى:

لاتنُكرنَّ لسابح عثرت به ... قدم وقد حمل الخضم الزاخرا
ألقى على السلطان طرِفك طرفه ... فهوى هنالك للسلام مبادرا
سبق الرياح بجريه، وكففته ... عنها، فليس على خلافك قادرا
ضعفت قواه إذ تذكر أنه ... في السرج منك يُقل ليثاً خادراً
ومتى تطيق الريح طوداً شامخاً ... أو يستطيع البرق جوناً ماطرا
فاعذر سقوط البرق عند مسيره ... فالبرق يسقط حين يخطف سائرا
وأّقِلْ جوادك عثرة ندرت له ... إن الجوادَ لَمَن يُقيل العاثرا
وتوقّ من عين الحسود وشرها ... لاكان ناظرها بسوء ناظرا
واسلم لنور الدين سلطان الورى ... في الحادثات معاضدا ومؤازرا
وإذا صلاح الدين دام لأهله ... لم يحذروا للدهر صَرفاً ضائرا
وجرت بين العماد وبين الإمام شرف الدين أبي سعد عبد الله بن أبي عصرون مكاتبات. كتب إليه العماد:
أيا شرف الدين إن الشتا ... بكافاته كفّ آفاته
وكفك من كرم كافها ... لقد كفلت لي بكافاته
وإنك مَن عرفه شكرنا ... غدا عاجزا عن مكافاته
قال: فكتب إليَّ شرف الدين في جوابها:
إذا ما الشتاءُ وأمطاره ... عن الخبر حابسة رادعه
فكافاته الست أُعطيتها ... وحوشيتَ من كافه السابعه
وكف المهابة والإحتشام ... لكفِّيَ عن بره مانعه
وهمة كل كريم النِّجار ... بميسور أحبابه قانعه
ونفسي في بسط عذري إليه، ... جعلت الفداء له، طامعه
وشوقي إلى قربه زائد ... ومعذرتي إن جفا واسعه
قال: فكتبت إليه جوابها:
أيا من له همة في العلا ... لذروتها أبدا فارعه
ومن كفه ديمة ماتزا ... ل بالعرف هامية هامعه
وللفضل في سوق أفضاله ... بضائع نافقة نافعه
وهل كابن عَصْرون في عصرنا ... إمام أدلته قاطعه
فحبر فوائده جمة ... وبحر موارده واسعه
أيا شرف أوامرك الساميات ... وما برحتْ همتي طائعه
أرى كل جارحة لي تودّ ... لو أنها أذن سامعه
وأما الشتاء وكافاته ... وكفُّك عن كافه الرابعه
فنفسي منزهة بالعفا ... ف عنها، وفي غيرها طامعه
وماذا تُطيق إذا لم تكن ... بميسور سيدنا قانعه
وهي أكثر من هذا.
قال: وكان ابن حسان صاحب منبج قد ساءت أفعاله، فبعث إليه نور الدين من حاصره وانتزعها منه؛ ثم توجّه نور الدين إليها لتهذيب أحوالها، ومدحه العماد بقصيدة منها:
بشرَى الممالك فتح قلعة منبج ... فلْيَهْنِ هذا النصر كل متوج
أُعطيت هذا الفتح مفتاحاً، به ... في الملك يفتح كل باب مرتج
وافي يبشر بالفتوح وراءه ... فانهض إليها بالجيوش وعرِّج
أبشِر، فبيت القدس يتلو منبجاً ... ولَمَنبج لسواه كالأنموذج
ما أعجزتك الشهب في أبراجها ... طلباً، فكيف خوارج في أبرُج
ولقدرُ من يعصيك أحقر أن يرى ... أثر العبوس بوجهك المتبلج
لكن تهذب من عصاك سياسة ... في ضمنها تقويم كل معوَّج
فانهد 'لى البيت المقدس غازياً ... وعلى طرابلسٍ ونابلسٍ عج
قد سرت في الإسلام أحسن سيرة ... مأثورة، وسلكت أوضح منهج
وجميع ما استقريت من سنن الهدى ... جددت منه كل رسم مبهج
قال العماد: وسار نور الدين من منبج إلى قلعة نجم، وعبر الفرات إلى الرُّها، وكان ينال صاحب مَنْبِج، وهو سديد الرأي رشيد المنهج، فنقله إليها مٌقْطَعاً ووالياً. وأقام نور الدين بقلعة الرهامدة، فمدحه العماد بقصيدة، وتحجَّب له صلاح الدين في عرضها، وهي:

أدركت من أمر الزمان المشتهى ... وبلغت من نيل الأماني المنتهى
وبقيت في كنف السلامة آمناً ... متكرماً بالطبع لا متكرهّا
لازلت نور الدين في فلك الهُدى ... ذا غرة للعالمين بها الْبها
يا محييَ العدل الذي في ظله ... مِن عَدْله رَعَت الأسودُ مع المها
محمودٌ المحودُ من أيامه ... لبهائها ضحك الزمان وقهقها
مولى الورى، مُولى الندى، معلى الهدى ... مُرْدى العدا، مسدى الجدا، معطى اللها
ارؤه بصوابها مقرونة ... وبمقتضاها دائرُ فلك النهى
متلِّبس بحصافة وحصانة ... متقِّدس عن شَوْب مكر أودها
يامن أطاع الله في خلواته ... متأوباً من خوفه متأوها
أبداً تقدم في المعاش لوجهه ... عملاً يبيض في المعاد الأوجها
كل الأمور وهي، وأمرك مبرم ... مستحكم لا نقض فيه ولاوها
ما صين عنك الصّين لَِوْ حاولتها ... والمشرقان، فكيف منبجُ والرُّها
ما للملوك لدى ظهورك رونق ... وإذا بَدْت شمس الضحى خَفَى السُّها
إن الملوك لَهْوا وإنك من غدا ... وبماله والملك منه مَاَلَها
شرهت نفوسهُم إلى دنياهم ... وأبى لِنَفسِك زهدها أن تشرها
ما نمت عن خير ولم يك نائماً ... من لايزال على الجميل منبّها
أخملت ذكر الجاهلين، ولم تزل ... ملكا بذكر العالمين منوها
ورأيت إرعاء الرعايا واجباً ... تغنى فقيراً أو تجير مدلها
لرضاهمُ متحفظا، ولحالهم ... متفقداً، ولدينهم متفقها
وبما به أمرَ الإله أمرتهم ... من طاعة ونهيتهم عما نهى
عن رحمة لصغيرهم لم تشتغل ... عن رأفة لكبيرهم لن تُشدها
باليأس عندك آمل لم يُمتحن ... بالرد دونك سائل لن يُجْبها
أتعبت نفسك كي تنال رفاهة ... من ليس يتعب لايعيش مرفهّا
فقت الملوك سماحة وحماسة ... حتى عدمنا فيهُم لك مشبها
ولك الفخار على الجميع، فدونهم ... أصبحت عن كل العيوب منزها
وأراك تحلمُ حين تصبح ساخطا ... ويكاد غيرك ساخطاً أن يسفها
قلت: رحم الله العماد، فقد نظم أوصاف نور الدين الجليلة بأحسن لفظ وأرقه؛ وهذا البيت الأخير مؤكد لما نقلناه في أول الكتاب من قول الحافظ أبي القاسم رحمه الله تعالى في وصف نور الدين رحمه الله تعالى، إنه لم يستمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وقلَّ من الملوك من له حظ من هذه الأوصاف الفاضلة والنعوت الكاملة.
قال العماد: ثم عاد نور الدين إلى حلب في شهر رجب، وضربت خيمته في رأس الميدان الأخضر.
قال: وكان مولعاً بضرب الكرة وربما دخل الظلام فلعب بها بالشموع في الليلة المُسْفرة، ويركب صلاح الدين مبكراً كل بكرة، وهو عارف بآدابها في الخدمة، وشروطها المعتبرة.
قال: وأقطعه في تلك السنة ضيعتين إحداهما من ضياع حلب والأخرى من ضياع كفرطاب. قال: وكتبت إليه في طلب كنبوش:
أصبحت بغلتي تشكيَّ من العُرْ ... ى، وأسراجها بلا كنبوش
قلت: كُفى. فخير يومك عندي ... أن تفوزي بالتبن أو بالحشيش
وافرجي ليلة الشعير كما يف ... رح قوم بليلة الماشوش
لو تبصرت حالتي لتصبر ... ت، فإياك عندها أن تطيشي
أوَما مات في الشتاء من البر ... د، ومن فرط جوعه، إكديشي
فثقي واسكني بجود الد ... ين غرس الملوك مَلْك الجيوش

أقسام الكتاب
1 2 3 4