كتاب : الروضتين في أخبار النورية و الصلاحية
المؤلف : أبو شامة المقدسي

ولم يزل يتُوسم من جند مصر ومن أهل القصر بعد ما أزال الله من بدعتهم، ونقض من عُرى دولتهم، وخفض من مرفوع كلمتهم، أنهم أعداء وإن تعدت بهم الأيام، وأضداد وإن وقعت عليهم كلمة الإسلام. وكان لايحتقر منهم حقيرا ولا يستبعد منهم شرا كبيرا، وعيونه لمقاصدهم موكلة، وخطراته في التحرز منهم مستعملة، لاتخلو سنة تمر، ولاشهر يكرّ، من مكر يجتمعون عليه، وفساد يتسرعون إليه، وحيلة يبرمونها، ومكيدة يتمممونها. وكان أكثر ما يتعللون به ويستريحون إليه المكاتبات المتوارترة، والمراسلات المتقاطرة، إلى الفرنج خذلهم الله تعالى، التي يوسعون لهم فيها سبل المطامع، ويحملونهم فيها على العظائم والفظائع، ويزينون لهم الإقدام والقدوم، ويخلعون فيها ربقة الإسلام خلع المرتد المخصوم؛ ويد الفرنج بحمد الله قصيرة عن إجابتهم، إلا أنهم لايقطعون حبل طمعهم على عادتهم. وكان ملك الفرنج كلما سوّلت له نفسه الاستتار في مراسلتهم، والتحيل في مفاوضتهم، سير جرج كاتبه رسولا إلينا ظاهراً وإليهم باطناً، عارضا علينا الجميل الذي ما قبلته قط أنفسنا، وعاقداً معهم القبيح الذي يشمل عليه في وقته علمنا. ولأهل القصر والمصريين في أثناء هذه المدد رسل تتردد، وكتب إلى الفرنج تتجدد.
ثم قال والمولى عالم أن عادة أوليائه المستفادة من أدبه ألا يبسطوا عقاباً مؤلما، ولا يعذبوا عذابا محكما؛ وإذا طال لهم الاعتقال، ولم ينجع السؤال، أطلق سراحهم، وخلى سبيلهم، فلا يزيدهم العفو إلا ضراوة، ولا الرقة عليهم إلا قساوة. وعند وصول جرج في هذه الدفعة الأخيرة رسولا إلينا بزعمه، ورد إلينا كتاب ممن لانرتاب به من قومه، يذكرون أنه رسول مخاتلة، لارسول مجاملة، وحامل بليّة، لاحامل هدية؛ فأوهمناه الإغفال عن التيقظ لكل ما يصدر منه وإليه، فتوصل مرة بالخروج ليلاً، ومرة بالركوب إلى الكنيسة وغيرها نهارا، إلى الاجتماع بحاشية القصر وخدامه، وبأمراء المصريين وأسبابهم، وجماعة من النصارى واليهود وكلابهم وكتابهم. فدسسنا إليهم من طائفتهم من داخلهم، فصار ينقل إلينا أخبارهم، ويرفع إلينا أحوالهم. ولما تكاثرت الأقوال، وكاد يشتهر علمنا بهذه الأحوال، استخرنا الله تعالى وقبضنا على جماعة مفسدة، وطائفة من هذا الجنس متمردة، قد اشتملت على الاعتقادات المارقة، والسرائر المنافقة، فكلاًّ أخذ الله بذنبه، فمنهم من أقر طائعاً عند إحضاره، ومنهم من أقر بعد ضربه، فانكشفت أمور أخر مكتومة، ونوب غير التي كانت عندنا معلومة، وتقريرات مختلفة في المراد، متفقة في الفساد.
ثم ذكر تفصيلا حاصله أنهم عينوا خليفة ووزيرا مختلفين في ذلك، فمنهم من طلب إقامة رجل كبير السن من بني عم العاضد، ومنهم من جعل ذلك لبعض أولاد العاضد وإن كان صغيرا؛ واختلف هؤلاء في تعيين واحد من ولدين له. وأما بنو رزيك وأهل شاور فكل منهم أراد الوزارة لبيتهم من غير أن يكون لهم غرض في تعيين الخليفة.
ثم قال: وكانوا فيما تقدم، والملوك على الكرك والشوبك بالعسكر، قد كاتبوهم وقالوا لهم إنه بعيد والفرصة قد أمكنت، فإذا وصل الملك الفرنجي إلى صدر أو إلى أيلة ثارت حاشية القصر وكافة الجند وطائفة السودان وجموع الأرمن وعامة الاسماعيلية وفتكت بأهلنا وأصحابنا بالقاهرة.
ثم قال: ولما وصل جرج كتبوا إلى الملك الفرنجي أن العساكر متباعدة في نواحي إقطاعهم، وعلى قرب من موسم غلاتهم، وأنه لم يبق في القاهرة إلا بعضهم وإذا بعثت أسطولا إلى الثغور أنهض فلانا من عنده وبقي في البلد وحده، ففعلنا ما تقدم ذكره من الثورة.
ثم قال: وفي اثناء هذه المدة كاتبوا سنانا صاحب الحشيشية بأن الدعوة واحدة والكلمة جامعة، وأن مابين أهلها خلاف إلا فيما لايفترق به كلمة، ولايجب به قعود عن نصرة؛ واستدعوا منه من يُتمم على المملوك غيلة، أو يبيت له مكيدة وحيلة، وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيْطٌ وكان الرسول إليهم عن المصريين خال ابن قرجلة المقيم الآن هو وابن أخته عند الفرنج.

ولما صح الخبر وكان حكم الله أولى ماأخذ به، وأدب الله فيمن خرج عن أدبه، وتناصرت من أهل العلم والتقوى، وتوالت من أهل المشورة بسبب تأخير القتل فيهم المراجعات والشكاوى، قتل الله بسيف الشرع المطهر جماعة من الغواة الغلاة، الدعاة إلى النار، الحاملين لأثقالهم وأثقال من أضلوه من الفجّار؛ وشنقوا على باب قصورهم، وصلبوا على الجذوع المواجهة لدورهم؛ ووقع التتبع لأتباعهم، وشردت طائفة الاسماعيلية ونفوا، ونودى بأن يرحل كافة الأجناد وحاشية القصر وراجل السودان إلى أقصى بلاد الصعيد. فأما من في القصر فقد وقعت الحوطة عليهم إلى أن ينكشف وجه رأي يمضى فيهم، من تطيب النفس بتقليده، وتمضي الحدود بتحديده. ورأى المملوك إخراجهم من القصر فإنهم مهما بقوا بقيت مادة لا تنحسر الأطماع عنها، فإنه حبالة للضلال منصوبة، وبيعة للبدع محجوبة. قال المؤلف لعلها محجوبة.
ومما يطرف به المولى أن ثغر الإسكندرية على عموم مذهب السنة فيه، أطلع البحث أن فيه داعية خبيثا أمره، محتقرا شخصه، عظيما كفره، يسمى قديد القفاص، وأن المذكور مع خموله في الديار المصرية، قد فشت في الشام دعوته، وطبقت عقول أهل مصر فتنته، وأن أرباب المعايش فيه يحملون إليه جزءاً من كسبهم، والنسوان يبعثن إليه شطرا وافيا من أموالهن؛ ووجدت في منزلته بالإسكندرية عند القبض له، والهجوم عليه، كُتب مجررة فيها خلع العذار، وصريح الكفر الذي ماعنه اعتذار، ورقاع يخاطب بها فيها ما تقشعر منه الجلود وكان يدعى النسب إلى أهل القصر، وأنه خرج منه صغيرا ونشأ على الضلالة كبيرا. وبالجملة فقد كفى الإسلام أمره، وحاق به مكره، وصرعه كفره.
قلت: وفي قضية عُمارة هذه يقول العلاّمة تاج الدين الكندي رحمه الله تعالى، ونقلته من خطه:
عُمارة في الإسلام أبدى جناية ... وبايع فيها بيعة وصليبا
وأمسى شريك الشرك في بُغض أحمد ... فأصبح في حب الصليب صليبا
وكان خبيث الملتقى إن عجمته ... تجد منه عوداً في النفاق صليبا
سيلقى غدا ماكان يسعى لأجله ... ويسقى صديدا في لظى وصليبا
قلت الصليب الأول النصارى والثاني بمعنى مصلوب والثالث من الصلابة والرابع ودك العظام، وقيل هو الصديد أي يسفى ما يسيل من أهل النار نعوذ بالله منها.
وكان عُمارة مستشعراً من الغز وهم أيضاً منه، لأنه كان من أتباع الدولة المصرية وممن انتفع بها واختل أمره بعدها، فلم تصف القلوب بعضها لبعض، وصار يظهر في فلتات لسانه، في نظمه ونثره، مايقتضي التحرز منه وإبعاده، وهو يرى ذلك منهم فيزداد فساداً في نيته، وإن مدحهم تكلف ذلك، وصرّح وعرّض فيه بما في ضميره.
وقد قال في كتاب الوزراء المصرية: ذكر الله أيامهم بحمد لايكلّ نشاطه، ولايطوى بساطه، فقد وجدت فقدهم، وهنت بعدهم.
وقال من قصيدة مدح بها نجم الدين أيوب:
وكان لي في ملوك النيل قبلكمُ ... مكانة عرفتها العرب والعجم
وكان بيني وبين القوم ملحمة ... في حربها ألسُن الأديان تختصم
وماتزال إلى داري عوارفهم ... يسعى إلىّ بها الإنعام والكرم
تركت قصدك لماّ قيل إنك لا ... تجود إلا على من مسه العدم
ولست بالرجل المجهول موضعه ... ولا لنزز من الإحسان أغتنم
ولا إلى صدقات المال أطابها ... ولا عميً نال أعضائي ولاصمم
وإنما أنا ضيف للملوك، ولى ... دون الضيوف لسان ناطق وفم
وقال من قصيدة مدح بها صلاح الدين رحمه الله:
قرّرت لي أبناء رزيك زرقا ... كان في عصرهم مسنيًّ مهنا
وأتت بعدهم ملوك فسّنوا ... فيّ ماكان صالحُ القوم سنّا
ورعوني، إما اقتداء بماض ... أو لمعنىً، فكلهم بي يُعنى
وله فيه من أخرى:
فقد صارت الدنيا إليكم بأسرها ... فلا تشبعوا منها ونحن جياع
إذا لم تزيدونا فكونوا كمن مضى ... ففي الناس أخبار لهم وسماع
وليس على مُرَّ العظام إقامة ... فهل في ضروع المكرمات رضاع
وقال في قصيدة مدح بها تقيّ الدين:
هل تأذنون لمن أراد عتابكم ... أم ليس في أعتابكم من مطمع

ضيعتّم من حق ضيفكم الذي ... مازال قبل اليوم غير مضيع
وتغافل السلطان عنيّ حين لم ... أكشف قناع مذلة وتضرّع
ورجوت نفعك بالشفاعة عنده ... فسمحت لي بشفاعة لم تنفع
وإذا نطاق الرزق ضاق مجاله ... أمسى مجال النطق غير موسع
وقال أيضا:
تيممت مصراً أطلب الجاه والغنى ... فنلتها في ظل عيش ممنع
وزرت ملوك النيل أرتاد ميلهم ... فأحمد مرتادي وأخصب مربعي
وفزت بألف من عطية فائز ... مواهبه للصنُع لا التصنيع
وجاد ابن رزيك من الجاه والغنى ... بما زاد عن مرمى رجائي ومطمعي
وأوحى إلى سمعي ودائع شعره ... فخيرته منى بأكرم مودع
وليست أيادي شاور بذميمة ... ولاعهدها عندي بعهد مضيع
ملوكٌ رَعَوا لي حرمة صار نبتها ... هشيما رعته النائبات وما رعى
مذاهبهم في الجود مذهب سنّة ... وإن خالفوني باعتقاد التشيع
فقل لصلاح الدين، والعدل شأنه ... من الحاكم المصغى إلىّ فأدعى
أقمت لكم ضيفاً ثلاثة أشهر ... أقول لصدري كلما ضاق؛ وسع
وكم في ضيوف الباب ممن لسانه ... إذا قطعوه لايقوم بأصبعي
فيا راعي الإسلام، كيف تركتنا ... فريقي ضياع من عرايا وجوع
دعوناك من قرب وبعدٍ، فهب لنا ... جوابك، فالباري يجيب إذ دعى
وقال أيضا:
أسفى على زمن الإمام العاضد ... أسف العقيم على فراق الواحد
جالست من وزرائه وصحبت من ... أمرائه أهل الثناء الخالد
لهفي على حجرات قصرك إذ خلت ... يابن النبيّ من ازدحام الوافد
وعلى انفرادك من عساكرك الذي ... كانوا كأمواج الخضم الراكد
قلّدت مؤتمن الخلافة أمرهم ... فكبا وقصر عن صلاح الفاسد
فعسى الليالي أن تردّ إليكم ... ماعودتكم من جميل عوائد
وقال أيضاً:
قست رأفة الدنيا، فلا الدهر عاطف ... عليّ، ولا عبد الرحيم رحيم
عفا الله عن آرائه كل فترة ... كلام العدا فيها عليّ كلوم
وسامحه في قطع رزق بفضله ... وصلت إليه، والزمان ذميم
ألا هل له عطف عليّ، فإنني ... فقير إلى مت اعتدت منه عديم
عبد الرحيم هو القاضي الفاضل رحمه الله.
وبلغني أن عمارة لما مروا به ليُصلب به على جهة دار الفاضل، فطلب الاجتماع به، فقيل ليس إليه طريق. فقال:
عبد الرحيم قد احتجب ... إن الخلاص هو العجب
قال: وهذه القصيدة تحقق ما رُمى به من الاجتماع على مكاتبة الفرنج والخوض في فساد الدولة بل الملة، وتوضح عذر السلطان في قتله وقتل من شاركه في ذلك، وهي:
رميت يادهر كف المجد بالشلل ... وجيده بعد حلى الحسن بالعطل
سعيت في منهج الرأي العثور، فإن ... قدرت من عثرات البغي فاستقل
جدعت نارنك الأقنى، فأنفك لا ... ينفك مابين نقص الشين والخجل
هدمت قاعدة المعروف عن عجل ... سُقيت مُهْلاً، أما تمشى على مَهَل!
لهفي ولهف بني الآمال قاطبة ... على فجيعتنا في أكرم الدول
قدمت مصر فأولتني خلائفها ... من المكارم ما أربي على الأمل
قوم عرفت بهم كسب الألوف، ومن ... كما لها أنها جاءت ولم أسل
وكنت من وزراء الدّست حيث سما ... رأس الحصان بهاديه على الكفل
ونلت من عظماء الجيش تكرمة ... وخلّة حرست من عارض الخلل
ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصَّرت في عذلي
بالله زُر ساحة القصرين، وابك معي ... عليهما، لا على صفين والجمل
وقل لأهلهما: والله مالتحمت ... فيكم قروحي، ولاجُرحى بمندمل

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة ... في نسل آل أمير المؤمنين علي
هل كان في الأمر شئ غير قسمة ما ... مُلِّكتم بين حكم السبّي والنفل
وقد حصلتم عليها واسم جدكم ... محمد، وأبيكم، غير منتقل
مررت بالقصر والأركان خالية ... من الوفود وكانت قبلة القبل
فملت عنها بوجهي خوف منتقد ... من الأعادي، ووجه الودّ لم يمل
أسبلت من أسف دمعي غداة خلت ... رحابكم وغدت مهجورة السبل
أبكي على مأثراتٍ من مكارمكم ... حال الزمان عليها وهي لم تحل
دار الضيافة كانت أنس وافدكم ... واليوم أوحش من رسم ومن طلل
وفطرة الصوم إن أصغت مكارمكم ... تشكو من الدهر حيفا غير محتمل
وكسوة الناس في الفصلين قد درست ... ورث منها جديد عنهم وبلي
وموسم كان في كسر الخليج لكم ... يأتي تجمّلكم فيه على الجمل
وأول العام والعيدان كان لكم ... فيهن من وبل جود ليس بالوشل
والأرض تهتز في عيد الغدير لما ... يهتز مابين القصرين من الأسل
والخيل تعرض من وشيٍ ومن شية ... مثل العرائس في حلي ةفي حلل
ولاحملتم قرى الإضياف من سعة ال ... أطباق إلا على الأعناق والعجل
وما خصصتم ببرٍ أهل ملتكم ... حتى عممتم به الأقصى من الملل
كانت رواتبكم للذمتين وللض ... يف المقيم وللطاري من الرسل
وللجوامع من أحباسكم نعم ... لمن تصّدر في علم وفي عمل
وربما عادت الدنيا لمعقلها ... منكم، وأضحت بكم محلولة العقل
وقال العماد في الخريدة: أبو القاسم هبة الله بن عبد الله بن كامل كان داعي الدعاة بمصر للأدعياء، وقاضي القضاة لأولئك الأشقياء، يلقبونه بفخر الأمناء، وهو عندهم في المحلة العليا والمرتبة الشماء، والمنزلة التي في السماء، حتى انكدرت نجومهم، وتغيرت رسومهم، وأقيم قاعدهم، وعضد عاضدهم، وأخليت منهم مصرهم، وأجلى عنهم قصرهم؛ فحرّك ابن كامل ناقص الذب عنهم، والشدّ منهم، فمالأ قوما على البيعة لبعض أولاد العاضد، ليبلغوا به ما تخيلوه من المقاصد، وسوّلوه من المكايد؛ فأثمرت بجثثهم الجذوع، وأقفرت من جسومهم الرّبوع، وأحكمت في حلومهم النسوع، وهذا أوّل من ضمه حبل الصلب، وأمه فافرة الصلب؛ وهذا صنع الله فيمن ألحد، وكفر النعمة وجحد؛ وذلك غرة رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة. سمعت الملك الناصر صلاح الدين يذكره، وقد ذكروه عنده بالفضل والأدب، ونسبوا إليه هذين البيتين في غلام رفاء، وأنشدهما الملك الناصر وذكر أنه كان ينكرهما:
يارافيا خرق كلّ ثوب ... ويارشاً حُبّه اعتقادي
عسى بكف الوصال ترفو ... مامزق الهجر من فؤادي
فصل في التعريف بحال عمارة ونسبه وشعرهقال العماد: وقد أوردت شعر عمارة بن أبي الحسن اليمني في كتاب خريدة القصر وجريدة العصر، ونقلت إلى هذا الكتاب، يعني كتاب البرق الشامي، لمعاً من ذلك. فمن ذلك ما أنشدنيه نجم الدين أبو محمد بن مصال:
لو أن قلبي يوم كاظمة معي ... لملكته وكظت غيظ الأدمع
قال العماد: إنما أنشدني فيض الأدمع فرأيت غيظ الأدمع أليق بالكظم.
قلب كفاك من الصبابة أنه ... لبى نداء الظاعنين ومادعى
ومن الظنون الفاسدات توهميّ ... بعد اليقين بقاءه في أضلعي
ما القلب أوّل غادر فألومه ... هي شيمة الأيام، مُذْ خلقت، معي
قال: وأنشدني لعمارة أيضا:
ملك إذا قابلت بشر جبينه ... فارقته والبشر فوق جبيني
وإذا لثمت يمينه وخرجت من ... أبوابه لثم الملوك يميني
قال: وأنشدني له عضد الدين أبو الفوارس موهف بن أسامة بن منقذ يقول:
لي في هوى الرشأ العذري أعدار ... لم يبق لي مذ أقر الدمع إنكار
لي في القدود، وفي لثم الخدود، وفي ... ضم النهدو، لبانات وأوطار

هذا اختياري فوافق إن رضيت به ... أولا، فدعني وما أهوى وأختار
لمُنى جزافا وسامحني مصارفة ... فالناس في درجات الحب أطوار
وخلِّ عذلي، ففي داري ودائري ... من المها دُرَّة قلبي لها دار
قلت ويُروى:
وغُرَّ غيري ففي أسرى ودائرتي
والأبيات العينية من قصيدة في مدح تقيّ الدين، والنونية في مدح نجم الدين أيوب، والرائية في مدح شمس الدولة بن أيوب.
وكان عمارة هذا عربيا فقيهاً أديباً، وله كتاب صغير ذكر فيه أخباره وأحواله باليمن ثم بمصر، فذكر أنه أقام بزبيد ثلاث سنين يقرأ عليه مذهب الشافعي رضي الله عنه. قال: ولى في الفرائض مصنف يقرأ باليمن.
وفي سنة تسع وثلاثين زارني والدي، وخمسة من إخوتي، في زبيد، فأنشدته شيئا من شعري فاستحسنه، ثم قال تعلَّم والله أن الأدب نعمة من نعم الله عليك فلا تكفرها بذم الناس؛ واستحلفني ألا أهجو مسلماً ببيت شعر، فحلفت له على ذلك، ولطف الله بي فلم أهج أحدا ماعدا إنساناً هجاني بحضرة الملك الصالح، يعمي ابن رزيك، ببيتي شعر فأقسم الصالح عليّ أن أجيبه ففعلت متأولا قول الله عز وجل: (وَلَمَن انْتَصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئِكَ مَاعَلَيْهِم مِنْ سَبيِل)، وقوله تعالى: (فَمَن اعتَدى عَلَيْكُم فاعْتَدوا عَلَيْه بِمِثِل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم). قال ولم يكن شئ غير هذا.
وحججت مع الملكة أم فاتك ملك زبيد، وكانت تقوم لأمير الحرمين بجميع ما يتناوله من حاجّ اليمن برا وبحرا، وبجميع خفارات الطريق، فذكر أنه حصل له وجاهة عندها فانتفع بها حتى أثرى وكثر ماله وجاهه. ثم طرأت أمورٌ اقتضت أن هرب من اليمن وحج سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
قال: وفي موسم هذه السنة توفي أمير الحرمين هاشم بن فليتة، وولى الحرمين ولده قاسم بن هاشم، فألزمني السّفارة عنه والرسالة منه إلى الدولة المصرية، فقدمتها في شهر ربيع الأول سنة خمسين، والخليفة بها يومئذ الفائز بن الظافر، والوزير له الملك الصالح طلائع ابن رزّيك. فلما حضرت للسلام عليهما في قاعة الذهب من قصر الخليفة أنشدتهما:
الحمد للعيس بعد العزم والهمم ... حمدا يقوم بما أولت من النعم
لا أجحد الحق، عندي للركاب يد ... تمنت اللجم فيها رتبة الخطم
قرّبن بعد مزار العز من نظري ... حتى رأيت إمام العصر من أمم
ورُحن من كعبة البطحاء والحرم ... وفداً إلى كعبة المعروف والكرم
فهل دري البيت أني بعد زورته ... ماسرت من حرم إلا إلى حرم
حيث الخلافة مضروب سرادقها ... بين انقيضين من عفو ومن نقم
وللإمامة أنوارٌ مقدسة ... تجلو البغيضين من ظلم ومن ظُلَم
وللنبوّة آيات تضئ لنا ... على الخفيين من حكم ومن حكم
وللمكارم أعلام تعلما ... مدح الجزيلين من بأس ومن كرم
وللعلا ألْسُنٌ تثنى محامدها ... على الحميدين من فعل ةمن شيم
وراية الشرف البذاخ ترفعها ... يد الرفيعين من مجد ومن همم
أقسمت بالفئز المعصوم معتقدا ... فوز النجاة وأجر البّر في القسم
لقد حمى الدِّين والدّنيا وأهلهما ... وزيره الصالح الفراج للغمم
اللاّبس الفخر لم تنسج غلائله ... إلا يد الصنعتين السيف والقلم
وُجُوده أوجد الأيام مااقترحت ... وَجُوده أعدم الشاكين للعدم
قد ملكته العوالي رقّ مملكة ... تعير أنف الثريا عزّة الشمم
أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني ... في يقظتي أنها من جملة الحُلم
يوم من العمر لم يخطر على أمل ... ولاترقت إليه رغبة الهمم
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضى لكم كلمي
ترى الوزارة فيه وهي باذلة ... عند الخلافة نصحا غير متهم
عواطف أعلمتنا أن بينهما ... قرابة من جميل الرأي لا الرحم

خليفة ووزير مدّ عَدْلُهما ... ظلاًّ على مفرق الإسلام والأمم
زيادة النيل نقص عند فيضهما ... فما عسى يتعاطى منة الديم
قال: وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارا، والأستاذون والأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب. ثم أفيضت عليّ خلع من ثياب الخلافة مذهبة، ودفع إليّ الصالح خمسمائة دينار؛ وإذا بعض الأستاذين قد خرج لي من عند السيدة بنت الإمام الحافظ بخمسمائة دينار أخرى، وحمل المال معي إلى منزلي وأُطلق لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة، ونظمني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت عليّ صلاته، وغمرني برّه.
ووجدت بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ أبا المعالي بن الحباب، والموفق أبا الحجاج يوسف بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء، وأبا الفتح محمود بن قادوس، والمهذب أبا محمد بن الزبير، وغيرهم. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانية، والرياسة الإنسانية، بأوفر نصيب. ومازلت أحذو على طرائقهم حتى نظموني في سلك فرائدهم. وقلت:
لياليّ بالفسطاط من شاطئ مصر ... سقى عهدك الماضي عهاد من القطر
ليالٍ هي العمر اسعيد، وكلّ ما ... مضى في سواها لايعدّ من العمر
أفادتني الأقدار فيها مواياً ... صفت بهم الأيام من كدر الغدر
تواصوا على ألا تردّ إرادتي ... ولو سمتهم نثر الكواكب في حجري
وله في الصالح من قصيدة:
ولو لم يكن أدري بما جهل الورى ... من الفضل لم تنفق لديه الفضائل
لئن كان منا قاب قوسٍ فبيننا ... فراسخ من إجلاله ومراحل
قال وأنشدت الصالح وهو بالقبو من دار الوزارة قصيدة منها:
دعُوا كل برق شممتم غير بارق ... يلوح على الفسطاط صادق بشره
وزروا المقام الصالحيَّ فكل من ... على الأرض ينسى ذكره عند ذكره
ولا تجعلوا مقصودكم طلب الغنى ... فتجنوا على مجد المقام وفخره
ولكن سلوا منه العلا تظفروا بها ... فكل امرئ يرجى على قدر قدره
قال: ولما جلس شاور في دار الذهب قام الشعراء والخطباء ولفيف الناس إلا الأقل ينالون من بني رزيك وضرغام نائب الباب ويحيى بن الخياط الأسفهسلار، فأنشدته:
صحّت بدولتك الأيام من سقم ... وزال ما يشتكيه الدهر من ألم
ومنها:
زالت ليالي بني رزيك وانصرمت ... والحمد والذم فيها غير منصرم
كأن صالحهم يوما وعاد لهم ... في صدر ذا الدست لم يقعد ولم يقم
كنا نظن، وبعض الظن مأثمة ... بأن ذلك جمع غير منهزم
فمذ وقعت وقوع النسر خانهم ... من كان مجتمعا من ذلك الرّخم
ولم يكونوا عدوَّا ذل جانبه ... وإنما غرقوا في سيلك العرم
وما قصدت بتعظيمي عداك سوى ... تعظيم شأنك، فاعذرني ةلاتلم
ولو شكرت لياليهم محافظة ... لعهدها لم يكن بالعهد من قدم
ولو فتحت فمي يوماً بذمهم ... لم يرض فضلك إلا أن يسدّ فمي
والله يأمر بالإحسان عارفة ... منه، وينهى عن الفحشاء في الكلم
قال: فشكرني شاور وأبناؤه على الوفاء لبني رزيك.
قلت: وشعر عمارة كثير حسن، وعندي من قوله: الحمد للعيس، وإن كانت القصيدة فائقة، نفرة عظيمة، فإنه أقام ذلك مقام قولنا الحمد لله؛ ولا ينبغي أن يفعل ذلك مع غير الله تعالى عزّ وجل، فله الحمد وله الشكر، فهذا اللفظ كالمتعين لجهة الربوبية المقدسة، وعلى ذلك اطرد استعمال السلف والخلف رضي الله عنهم.
فصل في وفاة نور الدين رحمه الله تعالىقال العماد: وأمر نور الدين رحمه الله تعالى بتطهير ولده الملك الصالح اسماعيل يوم عيد الفطر، واحتفلنا لهذا الأمر وغلقت محال دمشق أياما.
قال: ونظمت للهناء بالعيد والطهور قصيدة منها:
عيدان: فطر وطهر ... فتح قريب ونصر

كلاهما لك فيه ... حقا هناء وأجر
وفيهما بالتهاني ... رسم لنا مستمر
طهارة طاب منها ... أصل وفرع وذكر
نجل على الطهر نامٍ ... زكا له منك نجر
محمود الملك العا ... دل الكريم الأغر
وبابنه الملك الصا ... لح العيون تقر
مولى به اشتد للدي ... ن والشريعة أزر
نور تجلى عيانا ... مادونه اليوم ستر
أضحت مساعيك غرا ... كما أياديك غزر
وكل قصدك رشد ... وكل فعلك بر
وإن حبك دين ... وإن بغضك كفر
لنا بيمناك يمن ... كما بيسراك يسر
وللموالين نفع ... وللمُعادين ضر
وللسماء سحاب ... وسحب كفيك عشر
وناديك بالرفد رحب ... نداك للوفد بحر
للبحر مدّ وجزر ... وما لجودك جزر
عدل عميم وجود ... غمر ويسر وبشر
وفي العطية حلو ... وفي الحمية مر
قد استوى منك تقوى ال ... له سرّ وجهر
تقاك والملك عند ... القياس عقد ونحر
ياأعظم الناس قدرا ... وهل لغيرك قدر!
وساهر حين ناموا ... وقائما حين قروا
مااعتدت إلا وفاء ... وعادة القوم غدر
وفعلك الدهر غزو ... للمشركين وقهر
وفعل غيرك ظلم ... للمسلمين وقسر
يفتر من كل ثغر ... إلى ابتسامك ثغر
روم به وفرنج ... في شفعهم لك وتر
حرب عوان وفتح ... على مرادك بكر
بنو الأصافر من خشي ... ية انتقامك صفر
لم يبق للكفر ظفر ... لاكان للكفر ظفر
ومادجى ليل خطب ... إلا وعزمك فجر
أصبحت بالغزو صبا ... وعنه مالك صبر
لكسر كل يتيم ... إسعاف برك جبر
في كل قلب حسود ... من حر بأسك جمر
تملَّ تطهير مَلْكَ ... له الملوك تخر
يزهى سرير وتاج ... به ودست وصدر
وكيف يعمل للطا ... هر المطهر طهر
هذا الطهور ظهور ... على الزمان وأمر
وذا الختان ختام ... بمسكه طاب نشر
رزقت عمرا طويلا ... ماطال للدهر عمر
قال: وفي يوم العيد يوم الأحد ركب نور الدين على الرسم المعتاد، محفوفا من الله بالإسعاد، مكنونا من السماء والأرض بالأجناد، والقدر يقول له هذا آخر الأعياد. ووقف في الميدان الأخضر الشمالي لطعن الحلق، ورمى القبق، وكان قد ضرب خيمته في الميدان القبلي الأخضر، وأمر بوضع المنبر؛ وخطب له القاضي شمس الدين محمد بن الفراش قاضي العسكر، بعد أن صلى به وذكّر، وعاد إلى القلعة، طالع البهجة بهيج الطلعة وأنهب سماطه العام على رسم الأتراك، وأكابر الأملاك. ثم حضرنا على خوانه الخاص، وله عقد كمال مصون من الانتقاض والانتقاص؛ وما أوضح بشره، وأضوع نشره، وأضحك سنه، وأيرك يمنه.

وفي يوم الأثنين ثاني العيد بكر وركب وجمل الموكب، وكأن الفلك بنيره جار، والطود الثابت يمرّ مرّ السحاب في وقار؛ وكأنه القمر في هالته، والقدر في جلالته، والبدر في دائرته، سائرين سيارته؛ ودخل الميدان والعظماء يسايرونه، والفهماء يحاورونه، وفيهم همام الدين مودود، وهو في الأكابر معدود، وكان قديما في أول دولته والى حلب، وقد جرب الدهر بحنكته ولأشطره حلب، فقال لنور الدين في كلامه، عظة لمن يغتر بأيامه، هل نكون ههنا في مثل اليوم في العام القابل؟ فقال نور الدين قل هل نكون بعد شهر، فإن السنة بعيدة! فجرى على منطقهما ماجرى به القضاء السابق، فإن نور الدين لم يصل إلى الشهر والهمام لم يصل إلى العام.
ثم شرع نور الدين في اللعب بالكرة مع خواصه البررة، فاعترضه في حاله أمير آخر اسمه برتقش وقال له باش، فأحدث له الغيظ والاستيحاش، واغتاظ على خلاف مذهبه الكريم، وخلقه الحليم، فزجره وزبره، ونهاه ونهره، وساق ودخل القلعة ونزل، واحتجب واعتزل؛ فبقي أسبوعا في منزله، مشغولا بنازله، مغلوبا عن عاجله بحديث آجله، والناس من الختان، لاهون بأوطانهم في الأوطان، فهذا يروح بجوده، وذاك يجود بروحه؛ فما انتهت تلك الأفراح إلا بالأتراح وما صلح الملك بعده إلا بمكل الصلاح.
قال: واتصل مرض نور الدين وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيبا فما روجع؛ وانتقل حادي عشر شوال يوم الأربعاء من مربع الفناء، إلى مرتع البقاء. ولقد كان من أولياء الله المؤمنين، وعباده الصالحين، وصار إلى جنات عدن أعدت للمتقين.
وكانت له صُفَّة في الدار التي على النهر الداخل إلى القلعة من الشمال، وكان جلوسه عليهما في جميع الأحوال؛ فلما جاءت سنة الزلزلة بنى بإزاء تلك الصفّة بيتا من الأخشاب، مأمون الاضطراب، فهو يبيت فيه ويصبح، ويخلو بعبادته ولايبرح؛ فدفن في ذلك البيت الذي اتخذه حِميً من الحمام، وأذن بناؤه لبانيه بالانهدام.
قال العماد: وقلت في ذلك:
عجبت من الموت، كيف اهتدى ... إلى ملك في سجايا مَلَك!
وكيف ثوى الفلك المستدي ... رُ في الأرض، والأرض وسط الفلك!
ولهه فيه رحمهما الله تعالى:
يا ملكا أيامه لم تزل ... بفضله فاضلة فاخرة
غاصت بحار الجود مذ غيبت ... أنملك الفائضة الزاخرة
ملكت دنياك وخلفتها ... وسرت حتى تملك الآخرة
قال ابن شداد. وكانت وفاة نور الدين رحمه الله تعالى بسبب خوانيق اعترته عجز الأطباء عن علاجها. ولقد حكى لي صلاح الدين قال: كان يبلغنا عن نور الدين أنه ربما قصدنا بالديار المصرية، وكانت جماعة أصحابنا يشيرون بأن نكاشف وونخالف ونشق عصاه، ونلقى عسكره بمصاف يرده، إذا تحقق قصده؛ قال: وكنت وحدي أخالفهم وأقول: لايجوز أن يقال شئ من ذلك ولم يزل النزاع بيننا حتى وصل الخبر بوفاته رحمه الله تعالى، ورضي عنه.
قال ابن الأثير: وكان نور الدين قد شرّع بتجهيز السير إلى مصر لأخذها من صلاح الدين لأنه رأى منه فتورا في غزو الفرنج من ناحيته، فأرسل إلى الموصل وديار الجزيرة وديار بكر. يطلب العساكر ليتركها بالشام لمنعه من الفرنج، ليسير هو بعساكره إلى مصر. وكان المانع لصلاح الدين من الغزو، الخوف من نور الدين، فإنه كان يعتقد أن نور الدين متى زال عن طريقه الفرنج أخذ البلاد منه؛ فكان يحتمي بهم عليه، ولايؤثر استئصالهم، وكان نور الدين لايرى إلا الجدّ في غزوهم بجهده وطاقته، فلما رأى إخلال صلاح الدين بالغزو، وعلم غرضه تجهز بالمسير إليه، فأتاه أمر الله الذي لايرد.
قلت: ولو علم نور الدين ماذا ذخر الله تعالى للإسلام من الفتوح الجليلة على يدي صلاح الدين من بعده لقرَّت غينه، فإنه بنى على ما أسسه نور الدين من جهاد المشركين، وقام بذلك على أكمل الوجوه وأتمها، رحمهما الله تعالى.

قال: وحكى لي طببيب بدمشق، يعرف بالرحبي، وهو من حذاق الأطباء، قال: استدعاني نور الدين في مرضه الذي توفي فيه مع غيري من الأطباء، فدخلنا عليه وهو في بيت صغير بقلعة دمشق، وقد تمكنت الخوانيق منه وقارب الهلاك، فلا يكاد يسمع صوته، وكان يخلو فيه للتعبد في أكثر أوقاته، فابتدا به المرض فيه فلم ينتقل عنه. فلما دخلنا عليه ورأينا مابه قلت: كان ينبغي أن لايؤخَّر إحضارنا إلى أن يشتد بك المرض إلى هذا الحد، فالآن ينبغي أن تنتقل إلى مكان فسيح فله أثر في هذا المرض. وشرعنا في علاجه فلم ينفع فيه الدواء، وعظم الداء، ومات عن قريب رضي الله عنه.
قال ابن الأثير: وكان أسمر طويل القامة، ليس له لحية إلا في حنكه. وكان واسع الجبهة، حسن الصورة، حلو العينين. وكان قد اتسع ملكهه جدا فملك الموصل وديار الجزيرة، وأطاعه أصحاب ديار بكر، وملك الشام والديار المصرية واليمن، وخُطب له بالحرمين الشريفين مكة والمدينة، وطبّق الأرض ذكره لحسن سيرته وعدله. ولم يكن مثله إلا الشاذ النادر. رحمة الله تعالى عليه.
قال الحافظ أبو القاسم، بعد ماذكر أوصاف نور الدين الجليلة المتقدمة مفرقة ومجموعة في هذا الكتاب: هذا مع جمع الله له من العقل المتين، والرأي الثاقب الرصين، والاقتداء بسيرة السلف الماضين، والتشبه بالعلماء والصالحين؛ والاقتداء بسيرة من سلف منهم في حسن سمتهم، والاتباع لهم في حفظ حالهم ووقتهم، حتى روى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وأسمعه؛ وكان قد استجيز له ممن سمعه وجمعه، حرصا منه على الخير في نشر السنة بالأداء والتحديث، ورجاء أن يكون ممن حفظ على الأمة أربعين حديثاً كما جاء في الحديث. فمن رآه شاهد من خلال السلطنة وهيبة الملك مايبهره، فإذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه مايحيره؛ يحب الصالحين ويؤاخيهم، ويزور مساكهنم لحسن ظنه فيهم. وإذا احتلم مماليكه أعتقهم، وزوّج ذكرانهم بإناثهم ورزقهم؛ ومتى تكررت الشكاية إليه من أحد من ولاته، أمره بالكف عن اذى من تظلم بشكاته، فمن لم يرجع منهم إلى العدل، قابله بإسقاط المنزلة والعزل. فلما جمع الله له من شريف الخصال، تيسر له جميع مايقصده من الأعمال، وسهل على يديه فتح الحصون والقلاع، ومُكن له في البلدان والبقاع.
ثم قال بعد كلام كثير: زمناقبه خطيرة، وممادحه كثيرة؛ ومدحه جماعة من الشعراء فأكثروا، زلم يبلغوا وصف الآئه بل قصروا؛ وهو قليل الابتهاج بالشعر، زيادة في تواضعه لعلّو القدر.
ومولده على ماذكر لي كاتبه أبو اليسر شاكر بن عبد الله، وقت طلوع الشمس من يوم الأحد سابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وتوفي يوم الأربعاء الحادي عشر من شوال سنة تسع وستين وخمسمائة، ودفن بقلعة دمشق، ثم نقل إلى تربة تجاور مدرسته التي بناها لأصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه جوار الخواصين في الشارع الغربي رحمه الله.
قلت: وفي هذه المدرسة يقول العرقلة:
ومدرسة سيدرس كل شئ ... وتبقى في حمى علم ونسك
تضوع ذكرها شرقا وغربا ... بنور الدين محمود بن زنكي
يقول، وقوله حقٌّ وصدق ... بغير كنايةٍ وبغير شكّ
دمشق في المدائن بيت مُلكي ... وهذي في المدارس بيت مِلكي
ولما اشتهر به من قلة ابتهاجه بالمدح لما علم من تزايد الشعراء، وهي طريقة عمر بن عبد العزيز زاهد الخلفاء، قال يحيى بن محمد الوهراني في مقامة له، وقد سئل في بغداد عن نور الدين: هو سهم للدولة سديد، وركن للخلافة شديد، وأمير زاهد، وملك مجاهد، تساعده الأفلاك، وتعضده الجيوش والأملاك، غير أنه عرف بالمرعى الوبيل، لابن السبيل، وبالمحل الجديب، للشاعر الأديب، فما يُرزى ولايُعزى، ولا لشاعر عنده من نعمة تجزى.
وإيَّاه عني أسامة ابن منقذ بقوله:
سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا ... له، فكلُّ على الخيرات منكمش
أيَّامه مثل شهر الصوم: طاهرة ... من المعاصي، وفيها الجوع والعطش

قلت: رحمه الله، ماكان يبذل أموال المسلمين إلا في الجهاد، ومايعود نفعه على العباد؛ وكان كما قيل في حق عبد الله بن محيريز، وهو من سادات التابعين بالشام، قال يعقوب بن سفيان الحافظ، حدّثنا ضمرة الشيباني، قال: كان ابن الديلمي من أنصر الناس لأخوانه، فذكر ابن محيريز في مجلسه، فقال: رجل كان بخيلا. فغضب ابن الدّيلمي وقال: كان جوادا حيث يحب الله وبخيلا حيث تحبون.
وأما شعر ابن منقذ فلا اعتبار به فهو القائل في ليلة الميلاد يمدح نور الدين رحمه الله تعالى:
في كل عام للبرية ليلة ... فيها تشب النار بالإيقاد
لكن لنور الدين من دون الورى ... ناران نار قرى ونار جهاد
أبداً يصرّفها نداه وبأسه ... فالعام أجمع ليلة الميلاد
ملك له في كل جيد منّة ... أبهى من الأطواق في الأجياد
أعلى الملوك يدا، وأمنعهم حمى ... وأمدهم كفَّا ببذل تلاد
يعطى الجزيل من النوال تبرعا ... من غير مسألة ولا ميعاد
لازال في سعد وملك دائم ... مادامت الدنيا بغير نفاد
وقد تقدم من شعر ابن منير وابن القيسراني والعماد الكاتب وغيرهم من مدح نور الدين بالكرم والجود ماقليل منه يرّد قول الوهراني وابن منقذ. على أنّ ابن منقذ قد رددنا شعره كما تراه، وإنما الشعراء وأكثر الناس كما قال الله تعالى في وصف قوم (فإنْ أُعْطُوا مِنْها رّضُوا، وَإنْ لَمْ يُعْطَوا مِنْها إذَا هم يَسْخَطون) وما كلّ وقت ينفق العطاء ويفعل الله ما يشاء.
فصلقال ابن الأثير: لما توفي نور الدين جلس ابنه الصالح اسماعيل في الملك وحُلِف له ولم يبلغ الحُلم، وحلف له الأمراء والمقدمون بدمشق، وأقام بها، وأطاعه الناس في سائر بلاد الشام، وصلاحُ الدين بمصر، وخطب له بها، وضرب السكة باسمه فيها. وتولّى تربيته الأمير شمس الدين محمد بن المقدم.
قال العماد: وأخرجوا يوم وفاة نور الدين ولده الملك الصالح اسماعيل، وقد أبدى الحزن والعويل، وهو مجزوز الذوائب مشقوق الجيب، حاسر، حافٍ مما فجأه وفجعه من الرّيب، وأجلسوه في الأيوان الشمالي من الدّست والتخت الباقي من عهد تاج الدولة تتش، فاستوحى كل قلب حزنه واستوحش، فوقف الناس يظطرمون ويضطربون، ويلتهفون ويتلهبون. ولما كفّن بحلة الكرامة، ودفن في روضة بابها إلى باب رضوان من دار المقامة، وقضوا الجزع، وقوضوا الفزع، وغيبوا الدمعة، وأحضروا الرّبعة، حضر القاضي كمال الدين، وشمس الدين بن المقدم، وجمال الدين ريحان، وهو أكبر الخدم. والعدل أبو صالح بن العجمي أمين الأعمال، والشيخ اسماعيل خازن بيت المال، وتحالفوا على أن تكون أيديهم واحدة، وعزائمهم متعاقدة، وأن ابن المقدم مقدم العسكر، وإليه المرجع والمصدر.
قال: وأنشأت في ذلك اليوم كتابا عن الملك الصالح إلى صلاح الدين في تعزيته بنور الدين، ترجمته: إسماعيل بن محمود وفيه: أطال الله بقاء سيدنا الملك الناصر وعظم أجرنا وأجره في والدنا الملك العادل ندب الشام، بل الإسلام، حافظ ثغوره، وملاحظ أموره، ومقدام الجهاد مقتني فضيلته، ومؤدي فريضته، ومحيي سنته؛ وأورثنا بالاستحقاق ملكه وسريره، على أنه يعزّ أن يرى الزمان نظيره. وما ههنا ما يشغل السر، ويقسم الفكر، إلا أمر الفرنج خذلهم الله؛ وما كان اعتماد مولانا الملك العادل عليه وسكونه إليه إلا لمثل هذا الحديث الجلل، والصرف الكارث المذهل؛ فقد ادخره لكفايات النوائب، وأعده لحسم أدواء المعضلات اللوازب، وأمله ليومه ولغده، ورجاه لنفسه ولولده، ومكنّه قوة لعضده. فما فقد رحمه الله تعالى إلا صُورة والمعنى باق، والله تعالى حافظ لبيته واق؛ وهل غيره، دام سموه، من مؤازر، وهل سوى السيّد الأجل النّاصر من ناصر؛ وقد عرفناه المقترح، ليروض برأيه من الأمر ماجمح. والأهم شغل الكفار، عن هذه الديار، بما كان عازما عليه من قصدهم والنكاية فيهم على البدار؛ ويجري على العادة الحسنة في إحياء ذكر الوالد هناك بتجديد ذكرنا، راغبا في اغتنام ثنائنا وشكرنا.

قلت: وكان قد بلغ صلاح الدين خبر نور الدين فأرسل كتابا بالمثال الفاضل فيه: ورد خبر من جانب العدو اللعين، عن المولى نور الدين، أعاذ الله تعالى فيه من سماع المكروه، ونور الدين بعافيته القلوب والوجوه؛ فاشتد به الأمر، وضاق به الصدر، وانقصم بحادثه الظهر، وعزّ فيه التثبت وأعوز الصبر. فإن كان والعياذ بالله قد تم، وخصّه الحكم الذي عم، فللحوداث تدخر النصال، وللأيام تصطنع الرجال؛ وما رتب الملوك ممالكها إلا لأولادها، ولا استودعت الأرض الكريمة البذر إلا لتؤدي حقها يوم حصادها؛ فالله الله أن تختلف القلوب والأيدي، فتبلغ الأعداء مرادها، وتعدم الآراء رشادها، وتنتقل النعم التي تعبت الأيام فيها، إلى أن أعطت قيادها. فكونوا يداً واحدة، وأعضاداً متساعدة، وقلوبا يجمعها ودّ، وسيوفا يضمها غمد؛ ولاتختلفوا فتنكلوا، ولاتنازعوا فَتَفْشَلوا، وقوموا على أمشاط الأرجل، ولاتأخذوا الأمر بأطراف الأنمل؛ فالعداوة محدقة بكم من كل مكان، والكفر مجتمع على الأيمان. ولهذا البيت منّا ناصر لانخذله، وقائم لانسلمه. وقد كانت وصيته إلينا سبقت، ورسالته عندنا تحققت، بأن ولده القائم بالأمر وسعد الدين كمشتكين الأتابك بين يديه؛ فإن كانت الوصية ظهرت وقبلت، والطاعة في الغيبة والحضور أديت وفعلت، وإلا فنحن لهذا الولد يدُ على من ناواه، وسيف على من عاداه. وإن أسفر الخبر عن معافاة فهو الغرض المطلوب، والنذر الذي يحل على الأيدي والقلوب.
قال العماد: وورد كتاب صلاح الدّين بالمثال الفاضل معزيا لابن نور الدين وفي آخره: وأما العدو خذله الله تعالى فوراءه من الخادم من يطلبه طلب ليلٍ لنهار، وسيل لقرار، إلى أن يزعجه من مجاثمه، ويستوقفه عن مواقف مغانمه؛ وذلك من أقلّ فروض البيت الكريم وأيسر لوازمه. أصدر هذه الخدمة يوم الجمعة رابع ذي القعدة، وهو اليوم الذي أقيمت فيه الخطبة بالاسم الكريم، وصرح فيه بذكره في الموقف العظيم، والجمع الذي لالغو فيه ولا تأثيم؛ وأشبه يوم الخادم أمسه في الخدمة ووفى مالزمه من حقوق النعمة وجمع كلمة الإسلام عالماً أن الجماعة رحمة. والله تعالى يخلد ملك المولى الصالح، ويصلح به وعلى يديه، ويؤكد عهود النَّعْماء الراهنة لديه، ويجعل للإسلام واقية باقية عليه، ويوفق الخادم لما ينويه من توثيق سلطانه وتشييده، ومضاعفة ملكه ومزيده، وييُسر منال كل أملٍ صالح وتقريب بعيده، إن شاء الله تعالى.
ومن كتاب آخر: الخادم مستمر على بدأته من الاستشراف لأوامرها، والتعرض لمراسمها، والرفع لكلمتها، والإيالة لعسكرها، والتحقق بخدمتها، في بواطن الأحوال وظواهرها، والتّرقب لأن يؤمر فيمتثل، ويكلف فيحتمل، وأن يُرمى به في نحر عدوه فيتسدد بجهده، ويوفى أيام الدولة العالية يوما يكشف الله فيه للمولى ضمير عبده.
قال العماد: ولما توفي نور الدين أختل أمري، واعتل سرّي، وعلت حسادي، وبلغ مرادهم أضدادي. وكان الملك الصالح صغيرا، فصار العدل ابن العجمي له وزيرا؛ وتصرف المتحالفون في الخزانة والدولة كما أرادوا، وولَّوْا وصرفوا ونقصوا وزادوا؛ واقتصروا لي على الكتابة، محروم الدعوة من الإجابة.
ومما نظمته في مرثية نور الدين قصيدة منها.
لفقد الملك العاد ... ل يبكي الملك والعدل
وقد أظلمت الآفا ... ق: لا شمس ولاظل
ولما غاب نور الدي ... ن عنا أظلم الحفل
وزال الخصب والخير ... وزاد الشر والمحل
ومات البأس والجود ... وعاش اليأس والبخل
وعز النقص لمّا ها ... ن أهل الفضل والفضلُ
وهل ينفق ذو علم ... إذا ما نفق الجهل
وما كان لنور الدي ... ن، لولا نجلُه، مثل
فصلقال العماد: واتفق نزول الفرنج بعد وفاة نور الدين رحمه الله تعالى على الثغر وقصدهم بانياس، ورجوا أن يتم لهم الأمر ثم ظهرت خيبتهم وبان الياس. وذلك أن شمس الدّين ابن المقدم خرج وراسل الفرنج وخوّفهم بقصد صلاح الدين لبلادهم، وأنه قد عزم على جهادهم؛ وتكلموا في الهدنة، وقطع مواد الحرب والفتنة، وحصلوا بقطيعة استعجلوها، وعدة من أساراهم استطلقوها؛ وتمّت المصالحة.

وبلغ ذلك صلاح الدين فأنكره ولم يعجبه، وكتب إلى جماعة الأعيان كتُباً دالّة على التوبيخ والملام. ومن جملتها كتاب بالمثال الفاضلي إلى الشيخ شرف الدّين بن أبي عصرون يخبره فيه أنه أتاه كتاب الملك الصالح بقصد الفرنج تجهّز وخرج وسار أربع مراحل، ثم جاءه الخبر بالهدنة المؤذنة بذُل الإسلام من دفع القطيعة وإطلاق الأسارى؛ وسيدنا الشيخ أول من جرّد لسانه الذي تُغمد له السيوف وتُجرّد، وقام في سبيل الله قيام من يقطّ عادية من تعدّى وتمرّد.
وفي آخره: كتب من المنزل بفاقوس والفجر قَدْ هَمّ أنْ يشقّ ثوب الصباح، لولا أن الثّريا تعرضت تعرض أثناء الوشاح. وهذه الليلة سافرة عن نهار يوم الجمعة ثاني عشر ذي الحجة، بلغه الله فيه أمله، وقبل عمله، بالغاً أسنى المراد وأفضله.
وقال ابن الأثير: لما توفي نور الدين قال الأمراء، منهم شمس الدين بن المقدم وحسام الدين الحسين بن عيسى الجراحي، وغيرهما من أكابر الأمراء: قد علمتم أن صلاح الدين من مماليك نور الدين ونوّابه، والمصلحة أن تشاوره فيما نفعله ولانخرجه من بيننا، فيخرج عن طاعة الملك الصالح، ويجعل ذلك حجة علينا؛ وهو أقوى منا لأن له مثل مصر، وربما أخرجنا وتولى هو خدمة الملك الصالح. فلم يوافق أغراضهم هذا القول، وخافوا أن يدخل صلاح الدين ويخرجوا.
قال: فلم يمض غير قليل حتى وصلت كتب صلاح الدين إلى الملك الصالح، يهنيه بالملك ويعزيه بأبيه، وأرسل دنانير مصريه عليها اسمه، ويعرفه أن الخطبة والطاعة له كما كانت لوالده. فلّما سار سيف الدين غازي، ابن عمه قطب الدين، وملك الديار الجزرية، ولم يرسل من مع الملك الصالح من الأمراء إلى صلاح الدين ولا أعلموه الحال، كتب إلى الملك الصالح بعتبه حيث لم يُعْلِمه قصد سيف الدين بلاده ليحضر في خدمته ويمنعه. وكتب إلى الأمراء يقول إن الملك العادل لو علم أن فيكم من يقوم مقامي أو يثق إليه مثل ثقته بي، لَسَلَّم إليه مصر التي هي أعظم ممالكه وولاياته، ولو لم يعجل عليه الموت لم يعهد إلى أحد بتربية ولده والقيام بخدمته سواي. وأراكم قد تفردتم بخدمة مولاي وابن مولاي دوني، فسوف أصلُ إلى خدمته وأجازي إنعام والده بخدمة يظهر أثرها، وأقابل كلاًّ منكم على سوء صنيعه، وإهمال أمر الملك الصالح ومصالحه، حتى أخذت بلاده.
فأقام الصالح بدمشق ومعه جماعة من الأمراء لم يمكنوه من المسير إلى حلب لئلا يغلبهم عليه شمس الدين على بن الدّاية فإنه كان أكبر الأمراء النُّورية، وإنما تأخر عن خدمة الملك الصالح بعد وفاة نور الدين لمرض لحقه؛ وكان هو وإخوته بحلب وأمرها إليهم، وعسكرها معهم في حياة نور الدين وبعده. ولما عجز عن الحركة أرسل إلى الملك الصالح يدعوه إلى حلب ليمنع البلاد من سيف الدين ابن عمه؛ وأرسل إلى الأمراء يقول لهم: إن سيف الدين قد ملك إلى الفران ولئن لم ترسلوا الملك الصالح إلى حلب حتى يجمع العساكر ويسترد ما أخذ منهم، وإلا عبر سيف الدين الفرات إلى حلب ولانقوى على منعه. فلم يرسلوه ولا مكنوه من قصد حلب.
قال: وكان نور الدين قبل أن يمرض قد أرسل إلى البلاد الشرقية كالموصل وغيرها، واستدعى العساكر منها، فسار سيف الدين غازي بن أتابك قطب الدين صاحب الموصل في عساكره، فلما كان ببعض الطريق أتاه الخبر بموت عمّه نور الدين، فعاد إلى نصيبين فملكها، وأرسل الشحن إلى الخابور فاستولوا عليها، وسار هو إلى حران فحصرها عدة أيام ثم أخذها، وملك الرّها والرّقة وسَرُوج واستكمل ملك ديار الجزيرة سوى قلعة جعبر. فقال له فخر الدين عبد المسيح - وكان قد فارق سيواس بعد وفاة نور الدين وقصد سيف الدين، ظنَّا منه أن سيف الدّين يرعى له خدمته، وقيامه في أخذ الملك له من والده قطب الدين، على ماذكرناه أولا، فلم يجن ثمرة ماغرس، وكان عنده كبعض الأمراء - ليس بالشام من يمنعك فاعبر الفرات واملك البلاد. فأشار أمير آخر معه وهو أكبر أمرائه: قد ملكت أكثر من والدك، والمصلحة أن تعود؛ فرجع إلى الموصل.
فصل

قال ابن الأثير: قد سبق أن نور الدين كان قد جعل بقلعة الموصل لمّا ملكها دُزْداراً له وهو سعد الدين كمشتكين بعض خدمه الخصيان؛ فلما سار سيف الدين إلى الشام كان في مقدمته على مرحلة. فلما أتاه خبر وفاة نور الدين هرب، وأرسل سيف الدين في أثره فلم يدركه، فنهب بَرْكه ودوابه وسار إلى حلب، وتمسك بخدمة شمس الدين بن الداية وإخوته، واستقر بينهم وبينه أن يسير إلى دمشق ويحضر الملك الصالح. فسار إلى دمشق، فأخرج ابن المقدم عسكراً لينهبوا فعاد مُنهزما إلى حلب؛ فأخلف عليه شمس الدين بن الداية ما أخذ منه وجهزه وسيره إلى دمشق، وعلى نفسها تجني براقش. فلما وصلها سعد الدين دخلها واجتمع بالملك الصالح والأمراء، وأعلمهم مافي قصد الملك الصالح إلى حلب من المصالح، فأجابوه إلى تسييره، فسار إليها. فلما وصلها وصعد إلى قلعتها قبض الخادم سعد الدين على شمس الدين بن الداية وإخوته وعلى ابن الخشاب رئيس حلب.
قال ابن الأثير: ولولا مرض شمس الدين لم يُتمكن منه ولاجرى من ذلك الخلف والوهن شئ. وكان أمر الله قدراً مقدوُراً.
واستبد سعد الدين بتدبير أمر الملك الصالح، فخافه ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق، فكاتبوا سيف الدين ليسلموا إليه دمشق، فلم يفعل وخاف أن تكون مكيدة عليه ليعبر الفرات ويسير إلى دمشق فيمنع عنها، ويقصده ابن عمه من وراء ظهره، فلايمكنه الثبات. فراسل الملك الصالح وصالحه على إقرار ما أخذه بيده، وبقي الملك الصالح بحلب وسعد الدين بين يديه يدبر أمره، وتمكّن منه تمكناً عظيماً يقارب الحجر عليه.
وقال العماد: كان كمشتكين الخادم النائب بالموصل قد سمع بمرض نور الدين فأخفاه، واستأذن في الوصول إلى الشام، فطلب سيف الدين غازي رضاه؛ فخرج وسار مرحلتين وسمع النّعْي، فأغذ السير والسعي، ونجا بماله وبحاله، وندم صاحب الموصل على الرضا بترحاله. وكانت عنده بوفاة عمه بشارة، وظهرت على صفحاته منها أمارة، فإنه لم يزل من كمشتكين متشكياً فإنه كان لحجر الأمر عليه مّذْكيا. وكان المرحوم قد أمر بإراقة الخمور، وإزالة المحظور، وإسقاط المكوس، وإعدام أقساط البوس؛ فنودي في الموصل يوم ورود الخبر بالفسحة في الشرب جهاراً، ليلاً ونهاراً، وزال العرف، وعاد النكر؛ وأنشد قول ابن هاني:
*ولا تسقني سرا فقد أمكن الجهر*
وقيل: أخذ المنادي على يده دنّا وعليه قدح وزمر، وزعم أنه خرج بهذا أمر، فلا حرج على من يغنى ويشرب؛ وعادت الضرائب وضربت العوائد.
فأما كمشتكين فإنه وصل إلى حلب بعد عبور القرى، وتمثل عند الصباح بحمد القوم السّري، واجتمع هناك بالأمير شمس الدين عليّ بن الداية وإخوته، إخوة مجد الدين، وأظهر أنه لهم من المخلصين.
وكان مجد الدين أبو بكر أخوهم رضيع نور الدين وقد ترّبى معه، ولزمه وتبعه إلى أن ملك الشام بعد والده، ففّوض إلى مجد الدين جميع مقاصده، من طريفه وتالده، وحكّمه في الملك، ونظمه في السلك، فلا يُحلّ ولا يُعقد إلا برأيه. وكانت حصونه محصّنة، وهو يسكن عنده في قلعة حلب، والحاضر عنده صباحا ومساءً إذا طُلب؛ وشيرز مع أخيه شمس الدين علي، وقلعة جعبر وتلّ باشر مع سابق الدين عثمان، وحارم مع بدر الدين حسن، وعين تاب وعزاز وغيرهما نوّابه فيها، وهو يصونها ويحميها.
ولمّا توفّي جرت إخوته في القرب والانبساط على عادته، وهم أعيان الدولة وأعضادها، وأبدال أرضها وأوتادها، وأمجادها وأجوادها. فلما توفي نور الدين لم يشكوا في أنهم يكفلون ولده ويرّبونه، ويحبهم لأجل سابقتهم ويحبونه؛ فأقام شمس الدين عليّ، وهو أكبرهم وأوجههم، ودخل قلعة حلب، وبها والياً شاذ بخت، وسكنها، وأسرَّ مصلحة الدولة وأعلنها. وعرف ماجرى بدمشق من الاجتماع، واتفاق ذوى الأطماع، فكاتبهم وأمرهم بالوصول إليه في خدمة الملك الصالح. وأنفذ أخاه سابق الدين عثمان، وكان قليل الخبرة بعيدا من التحرُّز والدّهاء، فاستقرّ الأمر على أن يحملوا الملك الصالح إليه، ويقدموا به عليه، وهو يتسلم ممالكه، ويكون أتابكه.

ووصل كمشتكين إلى دمشق في تلك الأيام، فوافقهم على مادبروه من المرام، وسار الصالح ومعه كمشتكين، والعدل ابن العجمي، واسماعيل الخازن، فبغُتوا إخوة مجد الدين الثلاثة فقبضوهم واعتقلوهم؛ وجاء ابن الخشاب أبو الفضل، مقدّم الشيعة، فسفكوا دمه. وأقام شمس الدين بن المقدم بدمشق على عساكرها مقدما، وفي مصالحها محكّما؛ وجمال الدين ريحان والي القلعة والشِّحن من قبله، والأمر إليه بتفصيله وجمُله، والقاضي كمال الدين الشهرزوري الحاكم النافذ حكمه، الصائب سهمه، الثاقب نجمه.
وكان مسير الملك الصالح من دمشق في الثالث والعشرين من ذي الحجة؛ وغاظ صلاح الدين ما فُعل بأخوة مجد الدين.
وقال ابن أبي طي الحلبي: لما مات نُور الدين اجتمع أمراء دولته واتفقوا على أن يكونوا في خدمة الملك الصالح، ابن نور الدين، وكان يومئذ صبيا، وحلفوا له على منابذة الملك الناصر وقبض أصحابه الذين بالشام، ومصالحة الفرنج وجعلوا ابن المقدم شمس الدين مقدم العساكر؛ وتم ذلك واستقر، وركب الملك الصالح بدمشق وخطب له.
وكانت الفرنج قد تحركت إلى قصد دمشق فخرج ابن المقدم ونزل على بانياس في عساكر نور الدين، وراسل الفرنج في الهدنة، فأجابوه بعد أن قطعوا قطيعة على المسلمين، فعجل حملها إليهم. وتم أمر الصلح وعادت الفرنج إلى بلادها وابن المقدم إلى دمشق.
واتصل خبر هذه الهدنة بالملك الناصر، وكان قد خرج من مصر أربع مراحل، فأعظم أمرها وأكبره، واستصغر أمر أهل الشام وعلم ضعفهم. فراسل ابن المقدم وغيره من الأمراء بإنكار ذلك والتوبيخ عليه، وقال في كتابه إلى ابن عصرون: ورد الخبر بصلح بين الفرنج والدمشقيين، وبقيةُ بلاد المسلمين ما دخلت في العقد، ولا انتظمت في سلك هذا القصد، والعدو لهما واحد؛ وصرف مال الله الذي أُعد لمغنم الطّاعة، ومصلحة الجماعة، في هذه المعصية المغضبة لله ولرسوله ولصالحي الأمة، وكان مذخوراً لكشف الغمة، فصارعَوْنا؛ وأن أسارى من طبرية وفرسانها كانت وطأتهم شديدة، وشوكتهم حديدة، دُفعوا في القطيعة، وجعلوا إلى السلم السبب والذريعة. فلما بلغنا هذا الخبر، وقفنا به بين الورود والصدر، وإن أتممنا ظُنَّ بنا غير مانريد، وإن قعدنا فالعودّ من بقية الثغور التي لم تدخل في الهدنة غير بعيد، وإن فرّقنا العساكر لدينا فاجتماعها بعد افتراقها شديد. فرأينا أن سيرنا إلى حضرة الأمير شمس الدين أبي الحسن علي وإخوته من يعرفهم قدر خطر هذا الارتباك، وأنه ربما عُجز عن الاستدراك، وأن العدوّ طالب لايغفل، وجادٌّ لاينكل، وليث لايضيع الفرصة، مجدٌ لايميل إلى الرخصة. فإن كانت الجماعة ساخطين فيظهر أماراتن السخط والتغيير، ولايمسك في الأول فيعجز عن الأخير، لاسيما ونحن نغار لله ونُغير، ونقصد للمسلمين مانجمع به صلاح الرأي وصواب التدبير. وقد منعنا عساكرنا أن تفترق خوفا أن يقصد العدو ناحية حارم بالمال الذي قويت به قوته، وثرت به ثروته، وانبسطت به خطوته؛ فإنه مادام يعلم أنا مجتمعون، وعلى طلبه مجمعون، لايمكنه أن يزايل مراكزه، ولايبادر مناهزه.
قال: وكان متولي قلعة حلب شاذ بخت الخادم النّوري، وكان شمس الدين علي، أخو مجد الدين بن الداية، إليه أمور الجيش والديوان، وإلى أخيه بدر الدين حسن الشحنكية؛ وكان بيده ويد إخوته جميع المعاقل التي حول حلب. فلما بلغ عليا موت نور الدين صعد إلى القلعة، وكان مُقْعَداً، واضطرب البلد، ثمّ سكنه ابن الخشاب، وكوتب ابن الخشاب من دمشق بحفظ البلد، وعول أولاد الداية على الاستيلاء على حلب، وحلف لهم جماعة من القلعيين والحلبيين وأنفذوا خلف أبي الفضل بن الخشاب، فامتنع من الصعود إليهم وترددت بينهم الرسالة؛ وتحزب الناس بحلب، السنة مع بني الداية والشيعة مع أبن الخشاب؛ وجرت أسباب اقتضت أن أنزل حسن بن الداية جماعة من القلعيين وأهل الحاضرة وزحفوا إلى دار ابن الخشاب فملكوها ونهبوها، واختفى ابن الخشاب.
وأتصلت هذه الأخبار بمن في دمشق فأخذوا الملك الصالح وساروا إلى حلب، في الثالث والعشرين من ذي الحجَّة، وسار مع الملك الصَّالح سعد الدين كمشتكين، وجُرديك، وإسماعيل الخازن، وسابق الدّين عثمان بن الدّاية، وقد وكلت الجماعة به وهو لايعلم. وساروا إلى حلب وخرج الناس إلى لقائهم.

وكان حسن قد رتّب في تلك الليلة جماعة من الحلبيين ليصبح ويصلبهم؛ فلمَّا خرج إلى لقاء الملك الصالح ووقعت عينه عليه ترجَّل ليخدم هو وجماعة من أصحابه، فتقدم جرديك وأخد بيده، وشتمه وجذبه، فأركبه خلفه رديفاً، وقُبض سابق الدّين أخوه في الحال، وتُخُطَّفت أصحابهم جميعهم، واحتيط عليهم وساروا مجدّين حتى سبقوا الخبر إلى القلعة وصعدوا إليها، وقبضوا على شمس الدّين علي ابن الداية من فراشه، وحمل إلى بين يدي الملك الصالح؛ فاستقبله أحد مماليك نور الدين المعروف بالجفنية، فركله برجله ركلة دحاه بها على وجهه، فانشقت جبهته. ثم صفدوا جميعا وحبسوا في جُبّ القلعة، وقبضوا على جميع الأجناد الذين حلفوا لأولاد الداية، وأُخرجوا جميعاً من القلعة.
قلت: وفي آخر هذه السنة توفي مرّي الفرنجي الملك الّي كان حاصر القاهرة وأشرف على أخذ الديّار المصرّية.
وفي كتاب فاضلي: ورد كتاب من الدّاروم يذكر أنه لما كان عشية الخميس تاسع ذي الحجة هلك مرّي ملك الفرنج، لعنه الله، ونقله إلى عذاب كاسمه مشتقا وأقدمه على (نارٍ تَلَظَّى، لاَيَصْلاَهاَ إلاَّ الأشْقى).
ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائةقال ابن أبي طيّ: ففي أولّها ضمن القطب ابن العجمي وأبو صالح وابن أمين الدّولة لجرديك إن قتل ابن الخشاب ردُّوا عليه جميع مانهب له في دار ابن أمين الدولة. فدخل على الملك الصالح وتحدّث معه وأخذ خاتمه أماناً لابن الخشاب، ونودي عليه، فحضر وركب إلى القلعة، فقتل وعلّق رأسه على أحد أبراج القلعة.
وبقي الملك الصالح في قلعة حلب ومضى العماد الكاتب إلى الموصل. قال: وعزمت على خدمة سيف الدّين صاحبها وقد أخذ من بلاد الجزيرة إلى حدّ الفرات، ومضى إليه ابن العجمي للإصلاح فأصلح بين ابني العمّ وعلق رهن إخوة مجد الدين في الاعتقال، وضيّقوا عليهم في القيود والأغلال، وألزموهم بتسليم الحصون، وتقديم الرهون، إلى أن غصبوا دورهم، وخربوا معمورهم.
قال: وكان المّوفق خالد بن القيسراني قد وصل، ونحن بدمشق، من مصر فلزم داره ولم يدخل مع القوم.
فأما صلاح الدين فإنه اعتقد أن نور الدين يتولاه بعده إخوة مجد الدين، فلما جرى ماجرى ساءه ذلك وقال: أنا أحقّ برعى العهود، والسعيّ المحمود، فإنه إن استمرت ولاية هؤلاء تفرقت الكلمة المجتمعة، وضاقت المناهج المتسعة، وانفردت مصر عن الشام، وطمع أهل الكفر في بلاد الإسلام. وكتب إلى ابن المقدّم ينكر ما أقدموا عليه من تفريق الكلمة، وكيف اجترءوا على أعضاء الدّولة وأركانها، بل أهلها وإخوانها، وأنه يلزمه أمرهم وأمرها، ويضره ضرهم وضرها. فكتب ابن المقدم إليه يردعه عن هذه العزيمة، ويقبح له استحسان هذه الشيمة، ويقول له: " لا يقال عنك إنك طمعت في بيت من غرسك، وربّاك وأسسك، وأصفى مشربك، وأضفى ملبسك، وأجلى سكونك لملك مصر وفي دسته أجلسك، فما يليق بمالك، ومحاسن أخلاقك وخلالك، غير فضلك وأفضالك.
فكتب إليه صلاح الدين بالإنشاء الفاضلي: " إنا لانؤثر للإسلام وأهله إلا ماجمع شملهم وألف كلمتهم، وللبيت الأتابكي أعلاه الله تعالى إلا ماحفظ أصله وفرعه، ودفع ضرّه وجلب نفعه؛ فالوفاء إنما يكون بعد الوفاة، والمحبة إنما تظهر آثارها عند تكاثر أطماع العداة. وبالجملة إنا في واد، والظانون بناظن السوء في واد، ولنا من الصلاح مراد، ولمن يبعدنا عنه مراده، ولا يقال لمن طلب الصلاح إنك قادح، ولمن ألقى السلاح إنك جارح " .
فصلقال العماد: ثم عزم السلطان على أن يسارع إلى تلافي الأمر، فاعترضه أمران: أحدهما وصول أسطول صقلية إلى الإسكندرية وإدراكه، والثاني نوبة الكنز ونفاقه وهلاكه. أما وصول الأسطول فكان يوم الأحد السادس والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وستين، وانهزم في أول المحرم سنة سبعين.

ثم ذكر كتابا وصل من صلاح الدين إلى بعض الأمراء بالشام يشرح الحال، وحاصله أن أول الأسطول وصل وقت الظهر، ولم يزل متواصلا إلى وقت العصر، وكان ذلك على حين غفلة من المتوكلين بالنظر، لا على حين خفاء من الخبر، فأمر ذلك الأسطول كان قد أشتهر؛ ورُوع به ابن عبد المؤمن في البلاد المغربية، وهدد به في الجزائر الرومية صاحب قسطنطينية. فشوهد في الثغر من وفور عُدّته، وكثرة عدَّته، وعظيم الهمّة به، وفرط الاستكثار منه، ما ملأ البحر، واشتد به الأمر، فحمى أهل الثغر عليهم البّر؛ ثم أشير عليهم أن يقربوا من السّور، فأمكن الأسطول النزول، فاستنزلوا خيولهم من الطرائد، وراجلهم من المراكب، فكانت الخيل ألفا وخمسمائة رأس، وكانوا ثلاثين ألف مقاتل، مابين فارس وراجل. وكانت عدة الطرائد ستة وثلاثين طريدة تحمل الخيل، وكان معهم مائتا شيني في كل شيني مائة وخمسون راجلا. وكانت عدة السّفن التي تحمل الآت الحرب والحصار من الأخشاب الكبار وغيرها ست سفن، وكانت عدة المراكب الحمالة برسم الأزواد والرجال أربعين مركبا؛ وفيها من الراجل المتفرق، وغلمان الخيّالة، وصناع المراكب وأبراج الزحف ودباباته المنجنيقية، مايتمم خمسين ألف رجل.
ولما تكاملوا نازلين على البر، خارجين من البحر، حملوا على المسلمين حملة أوصلوهم إلى السور، وفقد من أهل الثغر في وقت الحملة مايناهز سبعة أنفس. واستشهد محمود بن البصار وكان بسهم جرح، وجدفت مراكب الفرنج داخلة إلى الميناء وكان به مراكب مقاتلة ومراكب مسافرة، فسبقهم أصحابنا إليها فخسفوها وغرقوها، وغلبوهم على أخذها وأحرقوا ما احترق منها. واتصل القتال إلى المساء، فضربوا خيامهم بالبر وكان عدتها ثلثمائة خيمة.
فلما أصبحوا زحفوا وضايقوا وحاصروا، ونصبوا ثلاث دبابات بكباشها، وثلاث مجانيق كبار المقادير، تضرب بحجارة سود استصحبوها من صقلية، وتعجب أصحابنا من شدة أثرها وعظم حجرها. وأما الدبابات فإنها تشبه الأبراج في جفاء أخشابها، وارتفاعها، وكثرة مقاتلتها واتساعها، وزحفوا بها إلى أن قاربت السّور، ولجّوا في القتال عامة النهار المذكور.
وورد الخبر إلى منزلة العساكر بفاقوس يوم الثلاثاء ثالث يوم نزول العدوّ على جناح الطائر، فاستنهضنا العساكر إلى الثغرين اسكندرية ودمياط، احترازا عليهما، واحتياطا في أمرهما، وخوفا من مخالفة العدوّ إليهما. واستمر القتال، وقدمت الدبابات وضربت المنجنيقات وزاحمت السّور، إلى أن صارت منه بمقدار أماج البحر وأُهاج الدُّور.
فاتفق أصحابنا على أن يفتحوا أبواباً قبالتها من السّور ويتركوها معلقة بالقشور؛ ثم فتحوا الأبواب وتكاثر صالح أهل الثغر من كل الجهات، فأحرقوا الدبابات المنصوبة وصدقوا عندها من القتال، وأنزل الله على المسلمين النّصر، وعلى الكفار الخذلان والقهر.
واتصل القتال إلى العصر من يوم الأربعاء وقد ظهر فشل الفرنج ورعبهم، وقصرت عزائمهم، وفتر حزبهم، وأحرقت آلات قتالهم، واستمر القتل والجراح في رجالهم؛ ودخل المسلمون إلى الثغر لأجل قضاء فريضة الصلاة، وأخذ مابه قوام الحياة، وهم على نيّة المباكرة، والعدوّ على نية الهرب والمبادرة. ثم كر المسلمون عليهم بغتة وقد كاد يختلط الظلام، فهاجموهم في الخيام، فتسلموها بما فيها، وفتكوا في الرّجالة أعظم فتك، وتسلموا الخيالة ولم يسلم منهم إلا من نزع لبسه، ورمى في البحر نفسه. وتقحم أصحابنا في البحر على بعض المراكب فخسفوها وتلفوها، فولت بقية المراكب هاربة. وجاءتها أحكام الله الغالبة. وبقي العدوّ بين قتل وغرق، وأسر وفَرَق، واحتمى ثلثمائة فارس في رأس تلّ، فأخذت خيولهم ثم قتلوا وأسروا، وأخذ من المتاع والآلت والأسلحة مالا يملك مثله. وأقلع هذا الاسطول عن الثغر يوم الخميس.
وذكر ابن شداد أن نزول هذا العدو كان في شهر صفر وكانوا ثلاثين ألفا في ستمائة قطعة مابين شيني وطرادة وبطشة وغير ذلك.
فصل

وأما نوبة الكنز، فقال ابن شداد: الكنز إنسان مقدم من المصريين كان انتزح إلى أسوان فأقام بها، ولم يزل يدبّر أمره ويجمع السودان عليه ويُخِّيل لهم أنه يملك البلاد ويعيد الدولة المصرية. وكان في قلوب القوم من المهاواة للمصريين ما تستصغر هذه الأفعال عنده، فاجتمع عليه خلق كثير وجمع وافر من السودان، وقصد قوص وأعمالها. فانتهى خبره إلى صلاح الدين، فجرد له عسكرا عظيما شاكين في السلاح من الذين ذاقوا حلاوة ملك الديار المصرية وخافوا على فوت ذلك منهم، وقدّم عليهم أخاه سيف الدين وسار بهم حتى أتى القوم، فلقيهم بمصاف فكسرهم، وقتل منهم خلقا عظيما، واستأصل شأفتهم، وأخمد ثائرتهم؛ وذلك في السّابع من صفر سنة سبعين، واستقرت قواعد الملك.
قال العماد: وفي أول سنة سبعين، مستهلها، قام المعروف بالكنز في الصعيد، وجمع من كان في البلاد من السودان والعبيد، وعدا ودعا القريب والبعيد. وكان عنده من الأمراء أخ لحسام الدين بن أبي الهيجاء السّمين، ففتك به وبمن هناك من المقطعين، فغارت حمية أخيه وثارت للثأر، وساعده أخو السلطان سيف الدين وعز الدين موسك ابن خاله، وعدة من أمرائه ورجاله، وجاءوا إلى مدينة طود فاحتمت عليهم، وامتنعت، فأسرعت البلية إليها وبها وقعت، وأتى السيف على أهلها، وباءت بعد عزها بذّلها.
ثم قصد الكنز وهو في طغيانه وعدوانه، وسوئه وسودانه، فسُفك دمه، وظهر بعد ظهور وجوده عدمه، وارتقب دماء سوده، وهجم غابه على أسوده؛ ولم يبق للدولة بعد كنزها كنز، وطلّ دمه ولم ينتطح فيه عنز. وارتدع المارقون فما رقوا بعده سلم نفاق، والله لناصري دينه ناصر وواق.
وقال ابن أبي طيّ: واتفق أيضا أن خرج بقرية من قرى الصعيد يقال لها طود رجل يعرف بعباس بن شادي، وثار في بلاد قوص ونهبها وخربها، وأخذ أموال الناس؛ واتصل ذلك بالملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، وكان السلطان قد استنابه بمصر، فجمع له العساكر وأوقع به، وبدّد شمله، وفض جموعه وقتله، ثم قصد بعده كنز الدولة الوالي بأسوان وكان قصد بلد طود، فقتل أكثر عسكره وهوب فأدركه بعض أصحاب الملك العادل فقتله.
فصلفي توّجه صلاح الدين إلى دمشق ودخوله إليها في يوم الاثنين آخر شهر ربيع الأول.
قال العماد: لمّا خلا باله مما تقدم ذكره تجهز لقصد الشام، فخرج إلى البركة مستهل صفر، وأقام حتى اجتمع العسكر؛ ثم رحل إلى بلبيس ثالث عشر ربيع الأول. وكانت رسل شمس الدِّين صاحب بصرى صديق ابن جاولي وشمس الدّين بن المقدم عنده، تَسْتَورى في الحث والبعث زنده، وتستقدمه وجنده؛ وسار على صَدْر وأيْلة ووصل السيّر بالسُّرى، حتى أناخ على بصرى، بصيراً بالعلا نصيرا للهدى، فاستقبله صاحب بصرى وشد أزره، وسدّد أمره؛ واستضاف إلى بصرى صرخد، وتفرد بالسبق إلى الخدمة وتوَّحد.
وسار في الخدمة معه إلى الكسوة، وبكر صلاح الدّين يوم الاثنين انسلاخ الشهر وسار في موكب قوى بالعدد والعدد، وحسب أن يمتنع عليه البلد، وأن الأطراف توثق، والأبواب تغلق، فأقبل وهو يسوق، وإقباله يشوق، حتى دخل دمشق وخرقها، وكان الله تعالى له خلقها؛ ودخل إلى دار العقيقي مسكن أبيه، وبقي جمال الدين ريحان الخادم في القلعة على تأبِّيه، فراسله حتى استماله، وأغزر له نواله، وتملك المدينة والقلعة. ونزل بالقلعة سيف الإسلام أخو السّلطان صلاح الدين، وملك ابن المقّدم داره وكل ما حواليها، وبذل له طلبته التي أشار إليها ونص عليها؛ وأظهر صلاح الدين أنه جاء لتربية الملك الصالح، وحِفْظ مَالَه من المصالح، وتدبير ملكه، فهو أحقّ بصيانة حقّه.
واجتمع به أعيانها، وخلص لولاية إسرارها وإعلانها، وأصبح وهو سلطانها. وزاره القاضي كمال الدين بن الشهرزوري فوفاه حقّه من الاحترام، ووفّر له حظ التبجيل والإعظام.

ونفذت الكتب بالأمثلة الفاضلية إلى مصر، بهذا الفتح والنصر، وفي بعضها: " يوم وصولنا إلى بصرى وقبله وفدت وهاجرت، وتزاحمت وتكاثرت، وتوافت، الأمراء، والأجناد الأتراك، والأكراد، والعربان، ورجال الأعمال، وأعيان الرجال. وورد كتاب من دمشق بعد كتاب، وكلٌّ مخبر وذاكر، وهو غائب بكتابه حاضر، يذكر أن البلاد ممكنة القياد، مذعنة إلى المراد. وأمّا الفرنج، خذلهم الله، فإنا في هذه السفرة المباركة نزلنا في بلادهم نزول المتحكم، وأقمنا بها إقامة الحاضر المتخير، وأدلجنا وعيونهم متناومة، وحُزْنا وأنوفهم راغمة، ووطئنا ورقابهم صغر، ومررنا وعيشهم مر؛ والله يزيدهم ذلاً، ويجعل عداوة الإسلام في صدورهم غِلاًّ، وفي أعناقهم غُلاًّ " .
وفي كتاب آخر: " وكان رحيلنا من بصرى يوم الأربعاء الرابع والعشرين من ربيع الأول، وقد توجه صاحبها بين أيدينا قائما بشروط الخدمة ولوازمها. ثم لقينا الأجل ناصر الدين، ابن المولى أسد الدين شيركوه رحمة الله عليه وأدام نعمته، والأمير سعد الدين ابن أثر، في يوم السبت السابع والعشرين. ونزلنا يوم الأحد بجسر الخشب والأجناد الدمشقية إلينا متوافية، والوجوه على أبوابنا مترامية، ولم يتأخر إلا من أبقى وجهه وراقب صاحبه، ومن اعتقد بالقعود أنه قد نظر لنفسه في العافية. ولما كان يوم الاثنين الناسع والعشرين من الشهر ركبنا على خيرة الله تعالى، وعرض دون الدخول عدد من الرجال فدعستهم عساكرنا المنصورة وصدمتهم، وعرفتهم كيف يكون اللقاء وعلمتهم. ودخلنا البلد واستقرت بنا دار والدنا رحمة الله عليه قريرة عيوننا، مستقرا سكون الرعية وسكوننا، وأذعنا في أرجاء البلد النداء بإطابة النفوس وإزالة المكوس. وكانت الولاية فيهم قد ساءت وأسرفت، واليد المتعدية قد امتدت إلى أحوالهم وأجحفت، فشرعنا في امتثال أمر الشرع برفعها، وإعفاء الأمة منها بوضعها.
قال ابن الأثير: لما خاف من دمشق من الأمراء أن يقصدهم كمشتكين والملك الصالح من حلب فيعاملهم بما عامل به بني الداية راسلوا سيف الدين غازي ليسلموها إليه فلم يجبهم، فحملهم الخوف على أن راسلوا صلاح الدين يوسف بن أيوب بمصر؛ وكان كبيرهم في ذلك شمس الدين بن المقدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. فلما أتته الرسل لم يتوقف وسار إلى الشام، فلما وصل دمشق سلمها إليه من بها من الأمراء، ودخلها وايتقرّ بها، ولم يقطع خطبة الملك الصالح، وإنما أظهر " أني إنما جئت لأخدمه واسترد له بلاده التي أخذها ابن عمه " . وجرت أمور آخرها أنه اصطلح هو وسيف الدّين والملك الصالح على ما بيده.
وقال القاضي ابن شداد: لما تحقق صلاح الدين وفاة نور الدين وكون ولده طفلا لاينهض بأعباء الملك ولا يستقل بدفع عدو الله عن البلاد، تجهّز للخروج إلى الشام، إذ هو أصل بلاد الإسلام؛ فتجهزّ بجمع كثير من العساكر، وخلّف بالديار المصرية من يستقل بحفظها وحراستها، ونظم أمورها وسياستها؛ وخرج هو سائرا مع جمع من أهله وأقاربه وهو يكاتب أهل البلاد وأمراءها. واختلف كلمة اصحاب الملك الصالح واختلت تدبيراتهم، وخاف بعضهم من بعض، وقبض البعض على جماعة منهم، وكان ذلك سبب خوف الباقين ممن فعل ذلك وسببا لتنفير قلوب النّاس عن الصبي. فاقتضى الحال أن كاتب ابنُ المقدم صلاح الدين، فوصل إلى البلاد مطالبا بالملك الصالح ليكون هو الذي يتولى أمره ويربّ حاله. فدخل دمشق يوم الثلاثاء سلخ ربيع الآخر، وكان أوّل دخوله إلى دار أبيه. واجتمع الناس إليه، وفرحوا به، وأنفق في ذلك اليوم في النّاس مالا طائلا، وأظهر الفرح والسرور بالدمشقيين وأظهروا الفرح به. وصعد القلعة واستقرّ قدمه في ملكها، فلم يلبث أن سار في طلب حلب، فنازل حمص وأخذ مدينتها في جمادى الأولى، ولم يشغل بقلعتها، وسار حتى أتى حلب ونازلها سلخ جمادى المذكور وهي الدفعة الأولى.

وقال ابن أبي طيّ: بلغ السلطان أن ابن المقدم نقض عهد الملك الصالح وهو كان السبب في خروج سيف الدّين صاحب الموصل واسيلائه على البلاد الشرقية ومضايقته للملك الصالح في ممالكه. وقيل إن ابن المقدم كاتب السلطان ودعاه إلى الخروج. وقيل إنما خرج إلى الشام خوفا من حركة تنشأ من جانب الفرنج بسبب اختلاف أمراء الشام وشغل بعضهم ببعض، وبجواب ممُض ورد من ابن المقدم إليه. ولما تيقن ابن المقدم خروج السّلطان إلى جهة دمشق أشفق من ذلك واستدرك مابدا منه، وتذلل له، ووعده تسليم دمشق إليه.
قال: ولما حصل على دمشق وقلعتها، واستوطن بُقعتها، نشر علم العدل والإحسان، وعّفى أثار الظلم والعدوان، وأبطل ماكان الولاة استجدوه بعد موت نور الدين من القبتئح والمنكرات، والمؤن والضرائب المحرمات.
قلت: وكان قد كتب إليه أسامة بن منقذ قصيدة بعد مصاف عسقلان أولها:
تهنّ ياأطول الملوك يداً ... في بسط عدلٍ وسطوةٍ وندى
أجراً وذكرا من ذلك الشكرُ في الدّ ... نيا، ومن ذلك الجنانُ غدا
لاتستقلَّ الذي صنعت، فقد ... قمت بفرض الجهاد مجتهدا
وجستُ أرض العدا، وأفنيت من ... أبطالهم ما يجاوز العددا
وما رأينا غزا الفرنج من ال ... ملوك في عقر دارهم أحدا
فسر إلى الشام فالملائكة ال ... أبرارُ تلقاك جَمْعهم مددا
فهو فقير إليك، يأملُ أنْ ... تُصلح بالعدل منه ما فسدا
والله يعطيك فيه عاقبة الن ... صر كما في كتابه وعدا
فما حباك الورى، وألهمك ال ... عْدل، وأعطاك ماملكت سدى
ومدح وحيش الأسدي صلاح الدّين عند أخذه دمشق بقصيدة أولها:
قد جاءك النصر والتوفيق فاصطحبا ... فكن لأضعاف هذا النصر مرتقبا
لله أنت صلاح الدين من أسد ... أدنى فريسته الأيام إن وثبا
رأيت جلّق ثغراً لانظير له ... فجئتها عامراً منها الذي خربا
نادتك بالذل لما قلّ ناصرها ... وأظمع الخلق من أوطانها هربا
أحييْتها مثل ما أحييت مصر، فقد ... أعدت من عدلها ماكان قد ذهبا
هذا الذي نصر الإسلام فاتضحت ... سبيله، وأهان الكفر والصُّلبا
ويوم شاور، والإيمانُ قد هزمت ... جيوشه، كان فيه الجحفل اللجبا
أبت له الضيم نفس مرّة ويد ... فعالة، وفؤاد قطّ ماوَجَبا
يستكثر المدح يتلى في مكارمه ... زهدا، ويستصغر الدّنيا إذا وهبا
ويوم دمياط و الإسكندرية قد ... أصارهم مثلاً في الأرض قد ضربا
والشام لو لم يدارك أهله اندرست ... آثاره وعفت آياته حقبا
فصل فيما جرى بعد فتح دمشق من فتح حمص وحصار حلبقال ابن أبي طيّ: لما أتصل بمن في حلب حصول دمشق للملك الناصر وميل الناس إليه، وانعكافهم عليه، خافوا وأشفقوا وأجمعوا على مراسلته، فحّملوا قطب الدين ينال بن حسان رسالة أرعدوا فيها وأبرقوا، وقالوا له: هذه السيوف التي ملكّتك مصر بأيدينا، والرماح التي حويت بها قصور المصريين على أكتافنا، والرّجال التي ردّت عنك تلك العساكر هي ترّدك، وعمّا تصديت له تصدّك؛ وأنت فقد تعدّيت طورك، وتجاوزت حدك، وأنت أحد غلمان نور الدين وممن يجب عليه حفظه في ولده.

قال: ولما بلغ السلطان وُرُود ابن حسان عليه رسولاً تلّقاه بموكبه وبنفسه، وبالغ في إكرامه والإحسان إليه؛ ثم أحضره بعد ثالثة لسماع الرسالة منه. فلما فاه ابن حسان بتلك الشقاشق الباطلة، وقعقع بتلك التمويهات العاطلة، لمُ يُعره السّلطان رحمه الله طرفاً ولاسمعا، ولارد عليه خفضاً ولارفعا، بل ضرب عنه صفحا وتغاضيا، وترك جوابه إحسانا وتجافيا، وجرى في ميدان أريحيته، واستن في سنن مرؤته، وخاطبه بكلام لطيف رقيق، وحياطة الجمهور، وسدّ الثغور، وتربية ولد نور الدين، وكف عادية المعتدين. فقال له ابن حسان: إنك إنما وردت لأخذ الملك لنفسك، ونحن لانطاوعك على ذلك، ودون ماترونه خرط القتاد، وفتّ الأكباد، وإيتام الأولاد. فتبسم السلطان لمقاله، وتزايد في احتماله، وَأَوْمى إلى رجاله بإقامته من بيد يديه، بعد أن كاد يسطو عليه.
ونادى في عسكره بالاستعداد لقصد الشام الأسفل، ورحل متوجها إلى حمص فتسلم البلد، وقاتل القلعة ولم ير تضييع الزمان عليها، فوكل بها من يحصرها؛ ورحل إلى جهة حماة، فلما وصل إلى الرَّسْتَن خرج صاحبها عز الدين جرديك، وأمر من فيها من العسكر بطاعة أخيه شمس الدّين على وأتباع أمره. وسار جرديك حتى لقي السلطان واجتمع به بالرَّسْتَن وأقام عنده يوما وليلة؛ وظهر من نتيجة اجتماعه به أنه سلم إليه حماة وسأله أن يكون السّفير بينه وبين من بحلب، فأجابه السلطان إلى مراده؛ وسار إلى حلب وبقي أخو جرديك بقلعة حماة.
قال: وسار جرديك إلى حلب وهو ظانّ أنه فعل شيئا وحصّل عند من بحلب يدا، فاجتمع بالأمراء والملك الصالح، وأشار عليهم بمصالحة الملك الناصر؛ فاتهمه الأمراء بالمخامرة، وردوّا مشورته، وأشاروا بقبضه؛ فامتنع الملك الصالح. ولجّ سعد الدين كمشتكين في القبض عليه، فقبض وثقل بالحديد، وأخذ بالعذاب الشديد، وحمل إلى الجب الذي فيه أولاد الداية.
قال: ولما قدم جرديك وشدّ في وسطه الحبل وأدلى إلى الجب وأحس به أولاد الداية قام إليه منهم حسن وشتمه أقبح شتم، وسبه ألأم سب، وحلف بالله إن أنزل إليهم ليَقْتُلنه فامتنعوا من تدليته، فأُعلم سعد الدين كمشتكين فحضر إلى الجبّ وصاح على حسن وشتمه وتوّعده، فسكن حسن وأمسك، وأنزل جرديك الجبّ، فكان عند أولاد الداية، وأسمعه حسن كل مكروه.
قال: وكتب أبي إلى حلب حين أتصل به قبض أولاد الداية وجرديك، وكانوا تعصّبوا عليه حتى نفاه نور الدين من حلب، قصيدة منها:
بُنو فلانة أعوان الضّلالة قد ... قضى بذلهم الأفلاك والقدر
وأصبحوا بعد عزّ الملك في صفد ... وقعر مظلمة يغشى لها البصر
وجرّد الدهر في جرديك عزّمته ... والدهر لا ملجاٌ منه ولاوزر
قال: ولم يزل السلطان مقيما على الرَّسْتَن، ثم طال عليه الأمر، فسار إلى جباب التركمان، فلقيه أحد غلمان جرديك وأخبره بما جرى على جرديك من الاعتقال والقهر، فرحل السلطان من ساعته عائداً إلى حماة، وطلب من أخي جرديك تسليم حماة إليه، وأخبره بما جرى على أخيه، ففعل؛ وصعد السلطان إلى قلعة حماة واعتبر أحوالها، وولاها مبارز الدين عليّ بن أبي الفوارس، وذلك مستهل جمادى الآخر.

وسار السلطان إلى حلب ونزل على أنف جبل جوشن فوق مشهد الدكة ثالث جمادى وامتدت عساكره إلى الخناقية وإلى السعدى. وكان من بحلب يظنون أن السلطان لايقدم عليهم، فلم يرعهم إلا وعساكره قد نازلت حلب، وخيمته تضرب على جبل جوشن، وأعلامه قد نشرت؛ فخافوا من الحلبيين أن يسلموا البلد كما فعل أهل دمشق، فأرادوا تطييب قلوب العامة، فأشير على ابن نور الدين أن يجمعهم في الميدان ويقبل عليهم بنفسه ويخاطبهم بلسانه أنهم الْوَزَرُ والملجأ. فأمر أن ينادى باجتماع الناس إلى ميدان باب العراق، فاجتمعوا حتى غصّ الميدان بالناس، فنزل الصالح من باب الدرجة وصعد من الخندق، ووقف في رأس الميدان من الشمال وقال لهم: ياأهل حلب أنا ربيبكم ونزيلكم، واللاّجئ إليكم، كبيركم عندي بمنزلة الأب، وشابكم عندي بمنزلة الأخ، وصغيركم عندي يحل محل الولد. قال: وخنقته العبرة، وسبقته الدمعة، وعلا نشيجه؛ فافتتن الناس وصاحوا صيحة واحدة، ورموا بعمائمهم، وضجوا بالبكاء والعويل، وقالوا: نحن عبيدك وعبيد أبيك، نقاتل بين يديك، ونبذل أموالنا وأنفسنا لك؛ وأقبلوا على الدعاء له والترحم على ابيه.
وكانوا قد اشترطوا على الملك الصالح أنه يعيد إليهم شرقية الجامع يصّلون فيها على قاعدتهم القديمة وأن يُجهر بحيّ على خير العمل والأذان والتذكير في الأسواق؛ وقدّام الجنائز بأسماء الأئمة الاثنى عشر، وأن يصلوا على أمواتهم خمس تكبيرات، وأن تكون عقود الأنكحة إلى الشريف الطاهر أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسني، وأن تكون العصبية مرتفعة، والناموس وازع لمن أراد الفتنة؛ وأشياء كثيرة اقترحوها مما كان قد أبطله نور الدين رحمه الله. فأجيبوا إلى ذلك.
قال ابن أبي طيّ: فأذن المؤذنون في منارة الجامع وغيره بحيّ على خير العمل وصلى أبي في الشرقية مسبلاً، وصلى وجوه الحلبيين خلفه، وذكروا في الأسواق وقدّام الجنائز بأسماء الأئمة، وصلوا على ألموات خمس تكبيرات، وأذن للشريف في أن تكون عقود الحلبيين من الإمامية إليه، وفعلوا جميع ما وقعت الأيمان عليه.
فصلقال ابن أبي طيّ: وكانت هذه السنة شديدة البرد كثيرة الثلوج عظيمة الأمطار هائجة الأهوية؛ وكان السلطان قد جعل أولاد الداية عُلالة له وسببا يقطع به ألسنة من ينكر عليه الخروج إلى الشام وقصد الملك الصالح، ويقول: أنا إنما أتيت لاستخلاص أولاد الداية وإصلاح شأنهم.
وأرسل السلطان إلى حلب رسولا يعرّض بطلب الصلح، فامتنع كمشتكين، فاشتد حينئذ السلطان في قتال البلد.
وكانت ليالي الجماعة عند الملك الصالح لاتنقضي إلا بنصب الحبائل للسلطان والفكرة في مخاتلته وإرسال المكروه إليه. فأجمعوا آراءهم على مراسلة سنان صاحب الحشيشية في إرصاد المتالف للسلطان ولإرسال من يفتك به، وضمنوا له على ذلك أموالا جمة وعدة من القرى. فأرسل سنان جماعة من فتاك أصحابه لاغتيال السلطان، فجاءوا إلى جبل جوشن واختلطوا بالعسكر، فعرفهم صاحب بوقبيس لأنه كان مثاغراً لهم، فقال لهم: يا ويلكم: كيف تجاسرتم على الوصول إلى هذا العسكر ومثلي فيه! فخافوا غائلته فوثبوا عليه فقتلوه في موضعه، وجاء قوم للدفع عنه فجرحوا بعضهم وقتلوا البعض. وبدر من الحشيشية أحدهم وبيده سكينة مشهورة ليقصد السلطان ويهجم عليه، فلما صار إلى باب الخيمة اعترضه طغريل أمير جاندار، فقتله، وطُلب الباقون فقتلوا بعد أن قتلوا جماعة.
قال: ولما فات من بحلب الغرض من السلطان بطريق الحشيشية كاتبوا قمص طرابلس وضمنوا له أشياء كثيرة متى رحلَّ السلطان عن حلب. وكان لعنه الله في أسر نور الدين منذ كسرة حارم، وكان قد بذل في نفسه الأموال العظيمة فلم يقبلها نور الدين. فلما كان قبل موت نور الدين سعى له فخر الدين مسعود بن ازعفراني حتى باعه نور الدين بمبلغ مائة وخمسين ألف دينار وفكاك ألف أسير.

واتفق في أول هذه السنة موت ملك الفرنج صاحب القدس وطبرية وغيرهما، فتكفل هذا القمص بأمر ولده المجذوم فعظم شأنه وزاد خطره. فأرسل إلى السلطان في أمر الحلبيين، وأخبره الرّسول أنّ الفرنج قد تعاضدوا وصاروا يدا واحدة، فقال السلطان: لست ممن يرهب بتألب الفرنج وها أنا ا سائر إليهم. ثم أنهد قطعة من جيشه وأمرهم بقصد أنطاكية، فغنموا غنيمة حسنة وعادوا؛ فقصد القمص جهة فرحل السلطان من حلب إليها، فسمع الملعون فنكص راجعا إلى بلاده، وحصل الغرض من رحيل السلطان عن حلب، ووصل إلى حمص فتسلم القلعة ورتب فيها واليا من قبله.
قال: وفي فتح قلعة حمص يقول العماد الكاتب من قصيدة، وستأتي:
إياب ابن أيوب نحو الشآم ... على كلّ ما يرتجيه ظهور
بيوسف مصر وأيامه ... تقرّ العيون وتشفى الصّدور
رأت منك حمص لها كافيا ... فواتاك منها القويّ العسير
ومن كتاب فاضليّ عن السلطان إلى زين الدين بن نجا الواعظ يقول في وصف قلعة حمص: والشيخ الفقيه قد شاهد ما يشهد به كونها نجما في سحاب، وعُقابا في عقاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال منها قلامة، عاقدة حبوة صالحها الدهر على ألا يحلها بقرعه، عاهدة عصمة صافحها الزمن على ألا يروعها بخلعه. فاكتنفت بها عقارب منجنيقات لاتطبع طبع حمص في العقارب، وضربت حجارة بها الحجارة فأظهرت فيها العداوة المعلومة بين الأقارب؛ فلم يكن غير ثالثة من الحد إلا وقد أثرت فيها جدريا بضربها، ولم تصل السابع إلا والبحران منذرٌ بنقبها. واتسع الخرق على الراقع، وسقط سعدها عن الطالع، إلى مولد من هو إليها الطالع؛ وفُنحت الأبراج فكانت أبوابا، وسيُرت الجبال بها فكانت سرابا. فهنالك بدت نُقوب يرى القائم من دونها ما وراءها، وحُشيت فيها النار فلولا الشعاع من الشعاع أضاءها.
ومن كتاب آخر فاضلي عن السلطان إلى أخيه العادل: قد اجتمع عندنا إلى هذه الغاية ما يزاحم سبعة آلاف فارس، وتكاثفت الجموع إلى الحدّ الذي يخرج عن العَّدَّ. وبَعْد أن نُرَتِّب أحوال حمص، حرسها الله تعالى، نتوجه إلى حماة؛ والله المعين على ماننويه من الرّشاد، وننظفه من طرق الجهاد.
وقال العماد: لما سمع المدبّرون للملك الصالح بإقبال صلاح الدين المؤذن بإدبارهم، سُقط في أيديهم، وراسلوا المواصلة وكاتبوهم، وأرسلوا إلى صلاح الدين بالإغلاظ والإحفاظ. وكان الواصل منهم قطب الدّين ينال بن حسان، وقد تجنب في قوله الإحسان، وقال له هذه السيوف التي ملكتك مصر، وأشار إلى سيفه، إليها تردُّك، وعمَّا تصدّيت له تصدك. فحلم عنه السلطان واحتمله، وتغافل كرماً وأغفله، وخاطبه بما أبى أن يقبله، وذكر أنه وصل لترتيب الأمور، وتهذيب الجمهور، وسدّ الثغور، وتربية ولد نور الدين، واستنقاذ إخوة مجد الدين. فقال له: أنت تريد الملك لنفسك، ونحن لاننزع في قوسك، ولانأنس بأنسك، ولانرتاع لجرسك، ولانبنى على أُسِّك؛ فارجع حيث جئت، أو أجهد واصنع ماشئت؛ ولاتطمع فيما ليس فيه مطمع، ولاتطلع حيث مالسعودك فيه مطلع. ونال من تقطيب القطب ينال، كلّ ما أحال الحال، وأبلى البال، وأبدى له التبسم وأخفى الاحتمال.
ثم إنه استناب أخاه سيف الإسلام طغتكين بدمشق، وسار بالعسكر ونزل على حمص، فأخذها يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى، وامتنعت القلعة فأقام عليها من يحصرها. ورحل إلى حماة، فأخذها مستهلّ جمادى الآخرة.
ثم مضى ونزل على حلب، فحصرها ثالث الشهّر؛ فلمَّا اشتد على الحلبيين الحصار، وأعوزهم الانتصار، استغاثوا بالاسماعيلية وعيّنوا لهم ضياعا، وبذلوا لهم من البذول أنواعا، فجاء منهم في يوم شات، من فُتاكهم كل عات؛ فعرفهم الأمير ناصح الدّين خمارتكين صاحب بوقبيس، وكان مثاغرا للاسماعيلية، فقال لهم: لأي شئ جئتم، وكيف تجاسرتم على الوصول وماخشيتم! فقتلوه، وجاء من يدفع عنه فأثخنوه، وعدا أحدهم ليهجم على السلطان في مقامه، وقد شهر سكين انتقامه، وطغريل أمير جاندار واقف ثابت، ساكن ساكت، حتى وصل إليه، فشمل بالسيَّف رأسه، وما قتل الباقون حتى قتلوا عدة، ولاقى من لاقاهم شدة.

وعصم الله حشاشته في تلك النوبة من سكاكين الحشيشية، فأقام إلى مستهل رجب، ثم رحل إلى حمص بسبب أن الحلبيين كاتبوا قومص طرابلس، وقد كان في أسر نور الدين مذ كسرة حارم، وبقي في الأسر أكثر من عشر سنين، ثم فدى نفسه بمبلغ مائة ألف وخمسين ألف دينار، وفكاك ألف أسير، فتوجه في الإفرنجية إلى حمص، فلما سمع بالسلطان رجع ناكصا على عقبيه،خوفا مما يقع فيه ويتم عليه.
ومن كتاب فاضلي عن السلطان إلى العادل: " قد أعلمنا المجلس أن العدوَّ، خذله الله، كان الحلبيون قد استنجدوا بصلبانهم، واستطالوا على الإسلام بعدوانهم، وأنه خرج إلى بلد حمص؛ فوردنا حماة، وأخذنا في ترتيب الأطلاب لطلبه ولقاه. فسار إلى حصن الأكراد متعلقا بحبله مفتضحاً بحيله. وهذا فتح تفتح له أبواب القلوب، وظفر وإن كان قد كفى الله تعالى فيه القتال المحسوب، فإن العدو قد سقطت حشمته، وانحطت فيه همته، وولى ظهراً كان صدره يصونه، ونكسّ صليبا كانت ترفعه شياطينه " .
وقال العماد في الخريدة: لما خيّم السلطان بظاهر حمص قصده المهذب بن أسعد بقصيدة أولها:
مانام بعد البين يستحلى الكرى ... إلا ليطرقه الخيال إذا سرى
كَلِف بقربكم، فلما عاقه ... بعد المدى سلك الطريق الأخضرا
ومودع أمر التفرُّقُ دمعه ... ونهته رقبُة كاشح فتحيرا
ومنها في المديح:
تُردى الكتائب كتبُه، فإذا غدت ... لم يُدْرَ: أنفذ أسطراً أم عسكرا!
لم يحسن الإتراب فوق سطورها ... إلا لأن الجيش يعقد عثيرا
فقال القاضي الفاضل لصلاح الدّين: هذا الذي يقول:
*والشعر مازال عند الترك متروكا*
فعجَّل جائزته لتكذيب قوله وتصديق ظنِّه، فشرِّفه وجمع له بين الخلعة والضَّيْعة. وعني الفاضل ماقاله في قصيدته في مدح الصالح بن رزيك التي أولها:
*أما كفاك تلافي في تلافيكا*
يقول فيها:
ياكعبة الجود، إن الفقر أقعدني ... ورقّة الحال عن مفروض حجيكا
من أرتجى، ياكريم الدَّهر، ينعشني ... جدواه، إن خاب سعيي في رجائيكا
أأمدح التُّرك أبغى الفضل عندهم ... والشِّعر مازال عند التُّرك متروكا!
أم أمدح السُّوقة النوكي لرفدهم ... وَاضَيْعَتَا إن تخطتني أياديكا!
لاتتركني، وما أملَّت في سفري ... سواك، أقفلُ نحو الأهل صعلوكا
قلت: وقد مضى ذكر ابن أسعد هذا في أخبار سنة ثمان وخمسين، وسيأتي من شعره أيضا في أخبار سنة ست وسبعين، وثمان وسبعين.
وما أحسن ما خرج ابن الدهان من الغزل إلى مدح ابن رزيك في قوله من قصيدة أولها:
إذا لاح برق من جنابك لامع ... أضاء لواشٍ ماتُجنُّ الأضالع
يقول فيها:
تمادى بنا في جاهلية نحلها ... وقد قام بالمعروف في الناس شارع
وتحسب ليل الشحّ يمتدّ بعدما ... بدا طالعا شمس السخاء طلائع
فصلثم أرسل السلطان الخطيب شمس الدّين بن الوزير أبي المضاء إلى الديوان العزيز برسالة ضمنها القاضي الفاضل كتابا طويلا رائقا فائقا، يشتمل على تعداد ماللسلطان من الأيادي من جهاد الإفرنج في حياة نور الدين، ثم فتح مصر واليمن، وبلادٍ جمةٍ من أطراف المغرب، وإقامة الخطبة العباسية بها. يقول في أوله للرسول: فإذا قضى التسليم حق اللقاء، واستدعى الإخلاص جهد الدعاء، فلْيُعد وليعدّض حوادث ماكانت حديثاً يفترى، وجواري أمور إن قال فيها كثيرا فأكثر منه ماقد جرى؛ وليشرح صدرا منها لعله يشرح منا صدرا، وليوضح الأحوال المستسرة فإن الله لايعبد سرا:
ومن الغرائب أن تسير عرائب ... في الأرض لم يعلم بها المأمول
كالعيس: أقتل مايكون لها الصدى ... والماء فوق ظهورها محمول

فإنا كنا نقتبس النار بأكفنا وغيرنا يستنير، ونستنبط الماء بأيدينا وسوانا يستمير؛ ونلقى السهام بنحورنا وغيرنا يعتمد التصوير، ونصافح الصفاح بصدورنا وغيرنا يدعى التصدير. ولابد أن نسترد بضاعتنا بموقف العدل الذي تُرد به الغصوب، وتظهر طاعتنا فنأخذ بحظ الألسن كما أخذنا بحظ القلوب. وما كان العائق إلا أنا كنّا ننتظر ابتداءً من الجانب الشريف بالنعمة، يضاهي ابتداءنا بالخدمة، وإنجاباً للحق، يشاكل إنجابنا للسبق. كان أول أمرنا أنا كنا في الشام نفتتح الفتوح مباشرين بأنفسنا، ونجاهد الكفار مُتقدمين لعساكرنا، نحن ووالدنا وعمنا. فأي مدينة فُنحت، أو معقل مُلك، أو عسكر للعدو كُسر، أو مصاف للإسلام معه ضرب ولم نكن فيه. فما يجهل أحد صنعنا، ولايجحد عدونا أنا نصطلي الجمرة ونمك الكرة، ونتقدم الجماعة، ونُرتب المقاتلة، وندبر التعبئة، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها، ولايضرنا أن يكون لغيرنا ذكرها.

وكانت أخبار مصر تتصل بنا بما الأحوال عليه فيها من سوء تدبير، وبما دولتها عليه من غلبة صغير على كبير، وأن النظام بها قد فسد، والإسلام بها قد ضعف عن إقامته كل من قام وقعد. والفرنج قد احتاج من يدبرها إلى أن يقاطعهم بأموال كثيرة، لها مقادير خطيرة؛ وأن كلمة السنة بها وإن كانت مجموعة فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسماة فإنها متحاماة. وتلك البدع بها على مايعلم، وتلك الضلالات فيها على مايفتى فيه بفراق الإسلام ويحكم؛ وذلك المذهب قد خالط من أهله اللحم والدم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة تُعبد من دون الله وتعظم وتفخم؛ فتعالى الله عن شبه العباد، وويل لمن غرّه تَقَلُّبُ الذَيِنَ كَفَرُوا في البلادِ. فسمت همتنا دون همم أهل الأرض إلى أن نستفتح مُقفلها، ونسترجع للإسلام شاردها، ونعيد على الدين ضالته منها. فسرنا إليها في عساكر ضخمة، وجموع جمة،وبأموال انتهكت الموجود، وبلغت منا المجهود، أنفقناها من حاصل ذممنا وكسب أيدينا، وثمن اسارى الفرنج الواقعين في قبضتنا؛ فعرضت عوارض منعت، وتوجهت للمصريين رسل باستنجاد الفرنج قطعت، ولكلّ أجلٍ كتابُ، ولكلّ أمل باب. وكان في تقدير الله تعالى أنا نملكها على الوجه الأحسن، ونأخذها بالحكم الأقوى الأمكن، غدر الفرنج بالمصريين غدرة في هدنة عظم خطبها وخبطها، وعلم أن استئصال كلمة الإسلام محطها. فكاتبنا المسلمون من مصر في ذلك الزمان، كما كاتبنا المسلمون في الشم في هذا الأوان، بأنا إن لم ندرك الأمر وإلا خرج عن اليد، وإن لم ندفع غريم اليوم لم نمهل إلى الغد. فسرنا بالعساكر المجموعة، والأمراء الأهل المعروفة، إلى بلاد قد تمهد لنا بها أمران، وتقرر لنا في القلوب وُدان: الأول ماعلموه من إيثارنا للمذهب الأقوم، وإحياء الحقّ الأقدم؛ والآخر مايرجونه من فك أسارهم؛ وإقالة عثارهم. ففعل الله ماهو أهله، وجاء الخبر إلى العدو فانقطع حبله، وضاقت به سبله، وأفرج عن الديار بعد أن كانت ضياعها ورساتيقها، وبلادها وأقاليمها، قد نفذت فيها أوامره، وخفقت عليها صلبانه، ونصبت بها أوثانه، وأُيس من أن يسترجع ماكان بأيديهم حاصلا، وأن يُستنقذ ماصار في ملكها داخلا. ووصلنا البلاد وبها أجناد عددهم كثير، وسوادهم كبير، وأموالهم واسعة، وكلمتهم جامعة، وهم على حرب الإسلام أقدر منهم على حرب الكفر، والحيلة في السّر فيهم أنفذ من العزيمة في الجهر؛ وبها راجل من السودان يزيد على مائة ألف، كلهم أغنام أعجام، إنْ هُمْ إلا كَاْلأَنْعَام، لايعرفون ربَّا إلا ساكن قصره، ولاقبلة إلا مايتوجهون إليه من ركنه، وامتثال أمره؛ وبها عسكر من الأرمن باقون على النصرانية، موضوعة عنهم الجزية، كانت لهم شوكة وشكة، وحمة وحمية؛ ولهم حواشٍ لقصورهم من بياع داعٍ تتلطف في الضلال مداخله، وتصيب القلوب مخاتله، ومن بين كُتاب تفعل أقلامهم أفعال الأسل، وخُدام يجمعون إلى سواد الوجوه سواد النحل؛ ودولة قد كبر نملها الصغير، ولم يعرف غيرها الكبير، ومهابة تمنع من خطرات الضمير فكيف بخطوات التدبير. هذا إلى استباحة للمحارم ظاهرة، وتعطيل للفرائض على عادةٍ جاريةٍ جائرة، وتحريفٍ للشريعة بالتأويل، وعدول إلى غير مُراد الله بالتنزيل، وكفر سُمي بغير اسمه، وشرعٍ يتستر به ويحكم بغير حكمه. فما زلنا نسحتهم سحت المبادر للشفار، ونتحيفهم تحيُّف الليل والنهار، بعجائب تدبير لاتحتملها المساطير، وغرائب تقدير لا تحملها الأساطير، ولطيف توصّل ماكان من حيلة البشر ولاقدرتهم لولا إعانة المقادير. وفي أثناء ذلك استنجدوا علينا الفرنج، دفعة إلى بلبيس ودفعة إلى دمياط، وفي كلّ دفعة منهما وصلوا بالعدد المجهر، والحشد الأوقر، وخصوصا في نوبة دمياط، فإنهم نزلوها بحراً في ألف مركب، مقاتل وحامل، وبرَّا في مائتي ألف فارس وراجل، وحصروها شهرين يباركونها ويراوحونها، ويماسونها ويصابحونها، القتال الذي يصلبه الصليب، والقراع الذي ينادى به الموت من كلّ مكان قريب. ونحن نقاتل العدوين الباطن والظاهر، ونصابر الضَّررين المنافق والكافر، حتى أتى الله بأمره، وأيدنا بنصره، وخابت المطامع من المصريين والفرنج، وشرعنا في تلك الطوائف من الأرمن والسودان والأجناد، فأخرجناهم من القاهرة، تارةً بالأوامر المرهقة لهم، وتارةً بالأمور الفاضحة منهم، وطوراً بالسيوف المجردة، وبالنار

المحرقة، حتى بقي القصر ومن به من خدم ومن ذرّية قد تفرّقت شيعه، وتمزقت بدعه، وخفتت دعوته، وخَفِيت ضلالته؛ فهنالك تم لنا إقامة الكلمة، والجهر بالخطبة، والرفع للواء الأسود المعظم، وعاجل الله الطاغية الأكبر بهلاكه وفنائه، وبرأنا من عُهدة يمين كان إثم حنثها أيسر من إثم إبقائه، لأنه عوجل لفرط روعته، ووافق هلاك شخصه هلاك دولته. ولما خلا درعنا، ورحب وسعنا، نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكفار، فلم تخرج سنة إلا عن سنة أقيمت فيها برا وبحرا، مركبا وظهرا، إلى أن أوسعناهم قتلا وأسرا، وملكنا رقابهم قهرا وقسرا، وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها منذ أُخذت من أيديهم، ولا أُوجفت عليها خيلهم ولاركابهم مذملكها أعاديهم. فمنها ما حكمت فيه يد الخراب، ومنها ما أستولت عليه يد الاكتساب، ومنها قلعة بثغر أيلة كان العدوّ قد بناها في بحر الهند، وهو المسلوك منه إلى الحرمين واليمن، وغزا ساحل الحرم، فساء منه خلقا، وخرق الكفر في هذا الجانب خرقا، فكادت القبلة أن يستولى على أصلها، ومشاعر الله أن يسكنها غير أهلها، ومقام الخليل عليه السلام؛ أن يقوم به من ناره غيرُ برْدٍ وسلام، ومضجع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتطرقه من لايدين بما جاء به من الإسلام. فأخذت هذه القلعة وصارت معقلا للجهاد، وموئلا لسُفار البلاد، وغيرهم من عبّاد العبا).رقة، حتى بقي القصر ومن به من خدم ومن ذرّية قد تفرّقت شيعه، وتمزقت بدعه، وخفتت دعوته، وخَفِيت ضلالته؛ فهنالك تم لنا إقامة الكلمة، والجهر بالخطبة، والرفع للواء الأسود المعظم، وعاجل الله الطاغية الأكبر بهلاكه وفنائه، وبرأنا من عُهدة يمين كان إثم حنثها أيسر من إثم إبقائه، لأنه عوجل لفرط روعته، ووافق هلاك شخصه هلاك دولته. ولما خلا درعنا، ورحب وسعنا، نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكفار، فلم تخرج سنة إلا عن سنة أقيمت فيها برا وبحرا، مركبا وظهرا، إلى أن أوسعناهم قتلا وأسرا، وملكنا رقابهم قهرا وقسرا، وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها منذ أُخذت من أيديهم، ولا أُوجفت عليها خيلهم ولاركابهم مذملكها أعاديهم. فمنها ما حكمت فيه يد الخراب، ومنها ما أستولت عليه يد الاكتساب، ومنها قلعة بثغر أيلة كان العدوّ قد بناها في بحر الهند، وهو المسلوك منه إلى الحرمين واليمن، وغزا ساحل الحرم، فساء منه خلقا، وخرق الكفر في هذا الجانب خرقا، فكادت القبلة أن يستولى على أصلها، ومشاعر الله أن يسكنها غير أهلها، ومقام الخليل عليه السلام؛ أن يقوم به من ناره غيرُ برْدٍ وسلام، ومضجع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتطرقه من لايدين بما جاء به من الإسلام. فأخذت هذه القلعة وصارت معقلا للجهاد، وموئلا لسُفار البلاد، وغيرهم من عبّاد العبا).
ثم قال: وكان باليمن ماعلم من ابن مهدي الضال الملحد، المبدع المتمّرد، وله آثار في الإسلام، وثأر طالبه النبيّ عليه الصلاة والسلام، لأنه سبى الشرائف الصالحات، وباعهن بالثمن البخس، واستباح منهن كل مالا يقر لمسلم عليه نفس؛ ودان ببدعة، ودعا إلى قبر أبيه وسماه كعبة، وأخذ أموال الرّعايا المعصومة وأجاحها، وأحلّ الفروج المحرّمة وأباحها. فأنْهَضْنا إليه أخانا بعسكرنا بعد أن تكلفنا نفقات واسعة، وأسلحة رائعة؛ وسار فأخذناه ولله الحمد، وأنجح الله فيه القَصْد؛ والكلمة هنالك بمشيئة الله إلى الهند سامية، وإلى ما يفْتَضّ الإسلام عذرته متمادية.
ولنا في الغرب أثر أغرب، وفي أعماله أعمال دون مطلبها مهالك كما يكون المهلك دون المطلب؛ وذلك أن بنى عبد المؤمن قد اشتهر أنّ أمْرَهم قد أَمِر، وملكهم قد عُمِر، وجيوشهم لاتطاق، وأمرهم لايشاقّ، ونحن بحمد الله قد تملكنا مما يجاورنا منه بلادا تزيد مسافتها على شهر، وسيرنا إليها عسكرا بعد عسكر، فرجع بنصر بعد نصر. ومن البلاد المشاهير، والأقاليم الجماهير: برقة، قَفْصة، قسطيلية، تَوْزَر؛ كلّ هذه تقام فيها الخطبة لمولانا الإمام المستضئ بأمر الله، أمير المؤمنين، سلام الله عليه؛ ولاعهد للإسلام بإقامتها، وينفذ فيها الأحكام بعلمها المنصور وعلامتها.

وفي هذه السنة كان عندنا وفْدُ قد شاهده وفود الأمصار، ورموه بأسماع وأبصار، مقداره سبعون راكبا، كلّهم يطلب لسلطان بلده تقليدا، ويرجو منا وعدا ويخاف وعيدا؛ وقد صدرت عنا بحمد الله تقاليدها، وألقيت إلينا مقاليدها، وسيَّرنا الخلع والمناشير والألوية، بما فيها من الأوامر والأقضية. فأما الأعداء المحدقون بهذه البلاد، والكفار الذين يقاتلوننا بالممالك العظام والعزائم الشّداد، فمنهم صاحب قسطنطينية، وهو الطاغية الأكبر، والجالوت الأكفر، وصاحب المملكة التي أكلت على الدّهر وشربت، وقائم النصرانية الذّي حكمت دولته على ممالكها وغلبت، جَرَت لنا معه غزوات بحرية، ومناقلات ظاهرة وسّرية، ولم نخرج من مصر إلى أن وصلتنا رسله في جمعة واحدة نَوْبتين، بكتابين، كلّ واحدٍ منهما يظهر فيه خفض الجناح، وإلقاء السلاح، والانتقال من معاداة إلى مهاداة، ومن مفاضحة إلى مناصحة، حتى إنه أنذر بصاحب صقلية وأساطيله التي ترّدد ذكرها، وعساكره التي لم يخف أمرها.
ومن هؤلاء الكفار هذا صاحب صقلية، كان حين علم بأن صاحب الشام وصاحب قسطنطينية قد اجتمعا في نوبة دمياط فغلبا وقُسرا، وهزما وكُسرا، أراد أن يظهر قوته المستقلة، فعمر أسطولا استوعب فيه ماله وزمانه، فله الآن خمس سنين تكثُر عِدّته، وتنتحب عُدّته، إلى أن وصل منها في السنة الحالية إلى الإسكندرية أمر رائع، وخطب هائل، مااثقل ظهر البحر مثل حمله، ولا ملأ صدره مثل خيله ورَجْله؛ وماهو إلا إقليم، بل أقاليم، وجيش ما احتفا ملك قط بنظيره لولا أن الله خذله.
ومن هؤلاء الجيوش البنادقة، والباشنة، والجنوبية كلّ هؤلاء تارةً يكونون غزاةً لاتُطاق ضراوة ضرّهم، ولاتُطفأ شرارة شرّهم، وتارةً يكونون سُفّاراً يحتكمون على الإسلام في الأموال المجلوبة، وتقصر عنهم يد الأحكام المرهوبة، ومامنهم إلا من هو الآن يجلب إلى بلدنا آلة قتاله وجهاده، ويتقرب إلينا بإهداء طرائف أعماله وتلاده؛ وكلهم قد قُرّرت معهم المواصلة، وانتظمت معهم المسالمة، على ما نريد ويكرهون، وعلى مانؤثرُ وَهُمْ لايؤثرون.
ولما قضى الله سبحانه بالوفاة النورية، وكنا في تلك السنة على نيّة الغزاة، والعساكر قد تجهزت، والمضارب قد برزت، ونزل الفرنج على بانياس، وأشرفوا على اجتيازها ورأوها فرصة مدُّوا يَدَ انتهازها، استصرخ بنا صاحبها، فسرنا مراحل اتصل بالعدوّ أمرها، وعوجل بالهدنة الدمشقية التي لولا مسيرنا ما انتظم حكمها.
ثم عدنا إلى البلاد وتوافت إلينا الأخبار بما المملكة النورية عليه من تشعُّب الآراء وتوزعها، وتشتُّت الأمور وتقطعها، وأن كلّ قلعة قد حصل فيها صاحب، وكلّ جانب قد طمح إليه طالب، والفرنج قد بنوا قلاعا يتحيفون بها الأطراف الإسلامية، ويضايقون بها البلاد الشامية، وأمراء الدولة النورية قد سجن كبارهم، وعُوقبوا وصودروا، والمماليك الأعماد الذين خدموا الأطراف لا الصدور، وجعلوا للقيام لا للقعود في المجلس المحضور، قد مدُّوا الأيدي والأعين والسيوف، وسارت سيرتهم في الأمر بالمنكر والنهيّ عن المعروف، وكلّ واحد يتخذ عند الفرنج يداً، ويجعلهم لظهره سندا. وعلمنا أن البيت المقدس إن لم تتيسرّ الأسباب لفتحه، وأمر الكُفر إن لم يُجرد العزم في قلعه، وإلا نبتت عروقه، واتسعت على أهل الدين خُروقه؛ وكانت الحجة لله قائمة، وهمم القادرين بالقعود آثمة. وإنا لانتمكن بمصر منه مع بعد المسافة، وانقطاع العمارة، وكلال الدواب التي بها على الجهاد القوة، وإذا جاورناه كانت المصلحة بادية، والمنفعة جامعة، واليد قادرة، والغزوة ممكنة، والميرة متسعة، والخيل مستريحة، والعساكر كثيرة الجموع، والأوقات مساعدة. وأصلحنا ما في الشام من عقائد معتّلة، وأمور مختلة، وأراء فاسدة، وأمراء متحاسدة؛ وأطماع غالبة، وعقول غائبة، وحفظنا الولد القائم بعد أبيه، فأنا به أولى من قوم يأكلون الدّنيا باسمه، ويُظهرون الوفاء في خدمته، وهم عاملون بظلمه.

والمراد الآن هو كلّ ما يقوّي الدولة، ويؤكد الدعوة، ويجمع الأمة، ويحفظ الألفة، ويضمن الرأفة، ويفتح بقية البلاد؛ وأن يطبق بالاسم العباسي كل ما تطيقه العهاد، وهو تقليد جامع بمصر، واليمن، والمغرب، والشام، وكل ما تشتمل عليه الولاية النورية، وكلّ ما يفتحه الله تعالى للدولة العباسية بسيوفنا وسيوف عساكرنا، ولمن نقيمه من أخ أو ولد من بعدنا، تقليدا يضمن للنعمة تخليدا، وللدعوة تجديدا، مع ما ينعم به نمن السّمات التي فيها الملك. وبالجملة فالشام لاينتظم أموره بمن فيه، والبيت المقدس ليس له قرنٍ يقوم به ويكفيه، والفرنج فهم يعرفون منا خصما لايملّ الشر حتى يملّوا، وقرناً لايزال محرم السيف حتى يحلوا. وإذا شد رأينا حسن الرأي ضربنا بسيف يقطع في غمده، وبلغنا المنى بمشيئة الله تعالى ويّدُ كلّ مؤمن تحت برده، واستنقذنا أسيراً من المسجد الذي أسرى الله إليه بعبده.
ومن كتاب آخر فاضليّ عن السلطان إلى الدّيوان في تعداد ماله من الأيادي؛ قال: " والذي أجراه الله على يد المملوك من الممالك التي دوخها، وسنن الضلال التي نسخها، وعقود الإلحاد التي فسخها، ومنابر الباطل التي رَحَضَها، وحجج الزندقة التي دحضها؛ فلله عليه المنة فيه إذْ أهلَّه لشرف مشهده، ومافعله إلا لوجهه، ويدُ الله كانت عون يده؛ وإلا فقد مضت الليالي والأيام على تلك الأمور وما تحركت للفلك في قلعها نابضة، وغبرت الأحوال على تلك البدعة وما ثرت لأفراسها رابضة. فشكر يد الله تعالى فيما أجراه على يده منها، أن يجتهد في أخرى مثلها في الكفار، وقد عاد الإسلام إلى وطنه، وصوّحت من الكفر خضراء دمنه " .
ومن كتاب آخر للفاضل يذكر فيه إعادة صلاح الدين الخطبة بمصر للدولة العباسية يقول فيه: " حتى أتى الدّنيا ابن بجدتها، فقضى من الأمر ماقضى، وأسخط من الله في سُخطه رضا، وجعل وجه لابس السواد مُبيضا، فأدرك لهم بثأرٍ نامت عنه الهمم، ودوّخت عليه الأمم، وشفى الصدور، وجاء بالحق إلى من غره بالله الغرور، واستبضع إلى الله تعالى تجارة لن تبور " .
ومن كتاب آخر: قد بورك للخادم في الطاعة التي لبس الأولياء شعارها، وأمضى في الأعداء شغارها، وجمع عليها الدين وكان أديانا، واستقامت بها القلوب على صبغة التكلف وكانت ألوانا.
ومن كتاب آخر: لم يكن سبب خروج المملوك من بيته إلا وعد كان انعقد بينه وبين نور الدين رحمه الله تعالى في أن يتجاذبا طرفي الغزاة من مصر والشام، المملوك بعسكري برّه وبحره، ونور الدين من جانب سهل الشام ووعره. فلما قضى الله بالمحتوم على أحدها، وحدثت بعد الأمور أمور، اشتهرت للمسلمين عورات وضاعت ثغور، وتحكمت الآراء الفاسدة، وفُورقت المحاج القاصدة، وصارت الباطنية بطانة من دون المؤمنين، والكفار محمولة إليها جزى المسلمين؛ والأمراء الذين كانوا للإسلام قواعد، وكانت سيوفهم للنصر موارد، يشكون ضيق حلقات الأسار، وتطرق الكفار بالبناء في الحدود الإسلامية. ولاخفاء أن الفرنج بعد حلولنا بهذه الخطة قاموا وقعدوا، واستنجدوا أنصار النصرانية في الأقطار، وسيروا الصليب ومن كسى مذابحهم بقمامة، وهددوا طاغية كفرهم بأشراط القيامة، وأنفذوا البطارقة والقسيسين، برسائل صور من يصورّونه ممن يسمونهم القديسين؛ وقالوا إن الغفلة إن وقعت فيما لايستدرك فارطه. وإن كلا من صاحب قسطنطينية، وصاحب صقلية، وملك الألمان، وملوك ما وراء البحر، وأصحاب الجزائر، كالبندقية، والبشانية، والجنوبية، وغيرهم، قد تأهبوا بالعمائر البحرية، والأساطيل القوية. وللإسلام بأمير المؤمنين أعزُّ ناصر، لاسيما وهم ينصرون باطلا وهوينصر حقا، وهو يعبد خالقاً وهم يعبدون خلقا
فصلقال العماد: وكنت بالموصل فسئلت نظم مرثية في نور الدين، فنظمت بعد عوْدي إلى دمشق في رجب:
الدّين في ظُلَم لغيبة نوره ... والدهر في غُمم لفقد أميره
فليندبُ الإسلامُ حامي أهله ... والشام حافظ ملكه وثغوره
ما أعظم المقدار في أخطاره ... إذ كان هذا الخطب في مقدوره!!
ماأكثر المتأسفين لفقد مَنْ ... قَرَّتْ نواظرهم بفقد نظيره
ماأعوص الإنسان في نسيانه ... أو ماكفاه الموت في تذكيره؟

مَن للمساجد والمدارس بانيا ... لله طوعا عن خلوص ضميره
من ينصر الإسلام في غزواته ... فلقد أصيب برُكنه وظهيره
مَنْ للفرنج، ومن لأسر ملوكها ... من للْهُدى يبغي فكاك أسيره
من للخطوب مذلِّلاً لجماحها ... من للزمان مُسَهّلا لوعوره
من كاشفُ للمعضلات برأيه ... من مشرقٌ في الداجيات بنوره
من للكريم، و من لنعش عثاره ... منْ لليتيم، ومن لجبْر كسيره
من للبلاد، و من لنصر جيوشها ... من للجهاد، ومن لحفظ أموره
منْ للفتوح محاولا أبكارها ... برَواحه في غزوه وبُكوره
منْ للعلا وعُهودها، منْ للندى ... ووفوده، منْ للحِجا ووفوره
ماكنت أحسب نور الدين دين محمد ... يخبو وليل الشّرك في ديجوره
أعْزِزْ عليّ بليث غابٍ للهدى ... يخلو الشرى من زوره وزئيره
أعْزِزْ عليّ بأنْ أراه مُغّيباً ... عنْ محفل متشرف بحضوره
لهفي على تلك الأنامل، إنها ... مُذْ غّيبت غاض النّدى ببحوره
ولقد أتى منْ كنت تُجري رسمه ... فضع العلامة منك في منشوره
ولقد أتى منْ كنت تُؤمن سربه ... وقِّع له بالأمن مِنْ محذوره
ولقد أتى منْ كنت تؤثر قربه ... فأدم له التّقريب في تقريره
والجيش قد ركب الغداة لعرضه ... فاركب لتُبْصِرَه أوَانَ عبوره
أنت الذَّي أحييت شرع محمد ... وقضيت بعد وفاته بنشُوره
كم قد أقمت من الشريعة مَعْلما ... هو مُنْذ غبت معرّضٌ لِدثُوره
كم قد أمرت بحفر خندق معقلٍ ... حتى سكنت اللّحد في محفوره
كم قيصرٍ للرُّوم رُمت بقسره ... إرْواء بيض الهند من تاموره
أُوتيت فتح حصونه، ومَلَكتَ عُقْ ... رَ بلاده، وسبيت أهل قصوره
أزَهِدت في دار الفناء وأهلها ... ورَغبت في الخلد المقيم وحُوره
أوَ ماوعدت القدس أنك منْجزٌ ... ميعاده في فتحه وظهوره
فمتى تجير القدس من دنس العِدا ... وتقدِّس الرّحمن في تطهيره
ياحاملين سريره: مهلاً، فمن ... عجبٍ نهوضُكم بحمْل ثبيره؟
ياعابرين بنعشه: أَنَشَقْتُمُ ... من صالح الأعمال نشر عبيره؟
نزلت ملائكة السّماء لدفنه ... مستجمعين على شفير حفيره
ومن الجفاء له مُقامي بعده ... هلاّ وفيت وسرت عند مسيره
حيّاك معتّل الصِّبا بنسيمه ... وسَقاك مُنْهلُّ الحَيْا بدُروره
ولبست رضوان المهْيمن ساحباً ... أذيال سُنْدس خزّه وحريره
وسكنت عِّلِّيين في فردوسه ... حلْف المسّرة ظافرا بأجوره
قال العماد: وجاء نجاب إلى الموصل وذكر أنه فارق صلاح الدين بقرب دمشق بالكسوة وهو الآن يستكمل من ملك دمشق الحُظوة؛ فهاجني الطرب لقصده، لسابق معرفته وقديم ودّه؛ فقدمت دمشق على طريق البرية، والسلطان على حلب.
وكان العماد في عقابيل ألم، فلما شُفي وعاد السّلطان إلى حمص قصده فيها وقد تسلم قلعتها في شعبان، في الحادي والعشرين منه.
قال: وكنت نظمت قصيدة في الشوق إلى دمشق والتأسف عليها، ثم جعلت مدح السّلطان مخلصها، وهي طويلة، أولها:
أجيران جيرون مالي مجير ... سوى عطفكم، فاعدلوا أوْ فَجُورا
ومالي سوى طيفكم زائر ... فلا تمنعوه إذا لمْ تزوروا
يعزّ علي بأن الفؤاد ... لديكم أسيرٌ وعنكم أسير
وماكنت أعلم أني أعي ... شُ بعد الأحبة، إني صَبُور!
وفتْ أدمعي، غير أنّ الكرى ... وقلبي، وصبري، كلُّ غَدُور

إلى ناس باناس لي صبوةٌ ... لها الوجد داعٍ وذكرى مثير
يزيد اشياقي وينمو، كما ... يزيد يزيد، وَ ثَوْرا يثور
ومن بردى بَرْدُ قلبي المشوق ... فها أنا من حره مستجير
و بالمرج مرْجُوُّ عْيشي الذي ... على ذكره العذْب عيشي مرير
فقدتكم ففقدت الحياة ... ويوم اللقاء يكون النّشور
تطاول لسؤالي عند القصير ... فعن نيله اليوم باعي قصير
وكن لي بريداً بباب البريد ... فأنت بأخبار شوقي خبير
متى تجد الرى بالقريتين ... خوامص أثر فيها الهجير
ونحو الجليجل أُزْجى المطيَّ ... لقد جلّ هذا المرام الخطير
تراني أُنيخ بأدنى ضمير ... مطايا براها الوجا والضمور
وعند القطيفة المشتهاة ... قُطوف بها للأماني سفور
ومنها بُكوري نحو القُصَير ... ومنية عمري ذاك البكور
ويا طِيب بُشراي من جلق ... إذا جاءني بالنجاح البشير
ويستبشر الأصدقاء الكرامُ ... هنالك بي، وتُوفي النذور
ترى بالسلامة يوما يكون ... بباب السلامة منّي عبور
وإن جوازي بباب الصغير ... لَعَمْري من العُمر حظّ كبير
وما جنة الخلد إلا دمشق ... وفي القلب شوق إليها سعير
ميادينها الخضر فيحّ الرّحاب ... وسلسالها العذب صافٍ نمير
وجامعها الرّحب والقُبّة الْ ... مُنيفة والفلك المستدير
وفي قبّة النسر لي سادة ... بهم للمكارم أفق منير
وباب الفراديس فرْدوسها ... وسُكانها أحسن الناس حور
والارزة فالسّهم فالنيربان ... فجنات مزتها فالكفور
كأن الجواسق مأهولةً ... بروجٌ تَطَّلعُ منها البدور
بنيربها تستبير الهموم ... بربوتها يتربى السّرور
وماغرّ في الرّبوة العاشقي ... ن بالحسن إلاّ الرّبيب الغرير
وعند المغارة يوم الخميس ... أغار على القلب منيّ مغير
وعند المنْيبع عين الحياة ... مدى الدهر نابعة ماتفور
بجسر ابن شواش ثمَّ السكون ... لنفس، بنفسي تلك الجسور
وما أنسَ لاأنْس أُنْس العبور ... على جسر جسرين إني جسور
وكمْ بتّ ألْهو بقرب الحبي ... ب في بيت لِهْيا ونام الغيور
فأين اغتباطيَ بالغوطتين ... وتلك الليالي وتلك العصور
وأشجار سطرا بدت كالسطو ... ر، نمقَهُنّ البليغ البصير
وأيْن تأملْت فُلكٌ يدور ... وعينٌ تفورُ، وبحرٌ يمور
وأين نظرت نسيمٌ يرِقّ ... وزهرٌ يروق، وروضٌ نضير
إلا القساوة يا قاسيون ... وبين السّنا يتجلّى سَنير
ومُنْذُ ثَوى نوُ دين الإل ... ه لم يبق للدّين والشّام نور
وللنّاس بالملك النّاصر الصَّ ... لاح صلاحٌ ونصرٌ وخير
هو الشمس، أفلاكه في البلاد ... ومطلعه سرجه، والسّرير
إذا ماسطا، أو حبا، واحتبى ... فما الليث، من حاتمٌ، ماثبير
بيوسف مصر وأيامه ... تقر العيون وتُشفى الصّدور
ملكت فأسْجح، فما للبلاد ... سواك مجيرٌ ومولى نصير
وفي مِعْصم الملك للعزّ منك ... سوارٌ، ومنك علي الديِّن سُور
لك الله في كل ما تبتغيه ... بحقٍ ظهيرٌ، ونعم الظّهير
أما المفسدون بمصر عصْوك ... وهذي ديارهم اليوم قور

أما الأدعياء بها إذ نشطت ... لإبعادهم زال منك الفتور
ويوم الفرنج إذا ما لقوك ... عبُوس برغمهم قمطرير
نهوضاً إلى القديس يشفى الغليل ... بفتح الفتوح، وماذا عسير
سَلِ الله صعب الخطوب ... فهو على كل شئ قدير
إليك هجرت ملوك الزمان ... فمالك، والله، فيهم نظير
وفجرك فيه القرا والقُران ... جميعاً، وفجر الجميع الفجور
وأنت تريق دماء الفرنج ... زعندهم لاتراق الخمور
فصل في فتح بعلبكقال العماد: ولما فرغ السلطان من حمص وحصنها سار إلى بعلبك، فتسلمها في رابع شهر رمضان.
قال ابن أبي طيّ: وكان بها خادم يقال له يمن، فلما شاهد كثرة عساكر السّلطان اضطرب في أمره وراسل مَنْ بحلب على جناح طائر، فلم يرجع إليه منهم خبر؛ فطلب الأمان، وسلم بعلبك إلى السلطان.
قال العماد: وهنأته بأبيات منها:
بفتوح عصرك يَفْخر الإسلام ... وبنُور نصرك تُشرق الأيام
وبفتح قلعة بعلبك تهذّبت ... هذي الممالك واستقام الشّام
وبكى الْحسُود دماً، وثغر الثّغر، من ... فرح بنصرك للهدى، بَسَّام
فتح تَسنّى في الصيّام، كأننا، ... شكرا لما منح الإله، صيام
من ذا رأى في الصّوم عيد سعادة ... حلّت لنا والفطر فيه حرام
أسدي صلاح الدّين والدّنيا يداً ... بنوالها سوقُ الرّجاء تقام
فتملّ فتحك، واقصد الفتح الَّذي ... بحصوله لفتُوحك الإتمام
دُمْ للعُلا حتى يدوم نظامها ... واسلْم يعزَّ بنصرك الإسلام
قال: ولزمت خدمته أرحل برحيله وأنزل بنزوله. وكنت ليلةً عنده وهو يذكر جماعة من شعراء الزمان، وعنده ديوان الأمير مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن سديد الملك علي بن منقذ، وهو به مشغوف، وخاطره على تأمله موقوف، وإلى استحسانه مصروف. وقد استحسن قصيدة له طائية لو عاش الطائيان لأقرَّا بفضلها، وإن خواطر المبتكرين لتقصر عن مثلها. على أنّ الشّعراء المحدثين مامنهم إلا من نظم على رويّها ووزنها، واستمد خصب خاطره من مُزنها، فمنهم المعري، وابن أبي حصينة، والأرَّجاني، والصالح ابن رزيك. وقد أوردت جميعها في كتاب الخريدة. ومطلع قصيدة المعرّي:
لمن جيرة سيموا النوال فلم ينطوا
فنظمت في السلطان ونحن على بعلبك بتاريخ انسلاخ شعبان قصيدة طائية، منها:
عفا الله عنكم، مالكم أيها الرّهط ... قسطتم، ومن قلب المحبّ لكم قسط!
شرطتم لنا حفظ الوداد وخنتم ... حنانيكم؛ ماهكذا الودّ والشرط!
جعلتم فؤاد المُسْتهام بكم لكم ... محطا، فعنه ثقل همكم حُطّوا
ملكتم فأنكرتم قديم موَّدتي ... كأن لم يكن في البين معرفة قطّ
فدت مهجتي من لايذّم لمهجتي ... إذا حاكمته، وهو في الحكم مشتط
وما كنت أدري قبل سطوة طرفه ... بأن ضعيفاً فاترا مثله يسطو
وأهيف للإشفاق من ضعف خصره ... يحلُّ نطاقا للقلوب به ربط
يلازم قلبي في الهوى القبض، مثلما ... يلازم كفَّ النَّاصر الملك البسط
مليكٌ حوى الملك العقيم بضبطه ... كريمٌ، وما للمال في يده ضبط
إذا لُثمت أيدي الملوك، فعنده ... مدى الدَّهر، إجلالاً له، ثلم البسط
عنا لك طويا نيلُ مصر، ودجلةُ الْعِراق، ودان العُرب، والعُجم، والقبط
وللنيل شطٌ ينتهي سيبه به ... ونَيْلُك للرَّاجين نِيلٌ ولا شطُّ
عدوُّك مثل الشّمع، في نار حقده ... له عنق إصلاح فاسده القط
وهي ثمانية وثمانون بيتا.
ولسعادة الأعمى قصيدة طائية في السلطان سيأتي ذكرها.

قال العماد: ولما وصلتُ إلى السلطان، ورغبت منه في الإحسان، وجدته لأمري مُغْفلا، ولشُغلي مهمى؛ ثم عرفت أنّ حسّادي قالوا له: متى أعدت ديوان الكتابة إلى العماد، وهو لاشكّ بمحل الوثوق والاعتماد، وهذا منصب الأجل الفاضل، وهو عنده في أجل المنازل، ربما ضاق صدره، وتشعّث سرّه. فلما عرفت هذا المعنى، لجأت إلى الفضل الفاضليّ لأنه به يعنى؛ فقام بأمري، ونوّه بقدري، وأراح سرّي، وشدّ أزري.
فصل فيما جرى للْمَوَاصلة والحلبييّن مع السُّلطان في هذه السّنة
قال ابن شداد: ولما أحسّ سيف الدين صاحب الموصل بما جرى، علم أن الرّجل قد استفحل أمره، وعظم شأنه، وعَلَت كلمته، وخاف أنه إن غفل عنه استحوذ على البلاد واستقرّ قدمه في الملك وتعدّى الأمر إليه. فجهز عسكرا وافراً وجيشاً عظيماً، وقدّم عليهم أخاه عز الدين مسعوداً، وساروا يريدون لقاء السلطان وضرب المصاف معه وردّه عن البلاد. فوصل إلى حلب والسلطان بحمص، وانضم إليه من كان بحلب من العسكر وخرجوا في جمع عظيم. ولما عرف السّلطان بمسيرهم سار حتى وافاهم بقرون حماة، وراسلهم وراسلوه، واجتهد أن يُصالحم فما صالحوه، ورأوا أنّ المصاف ربما نالوا به الغرض الأكبر، والمقصود الأوفر، والقضاء يجرّ إلى أمورٍ وهم بها لايشعرون. وقام المصاف بين العسكرين، فقضى الله تعالى أن انكسروا بين يديه، وأَسر جماعة منهم، ومنّ عليهم وأطلقهم؛ وذلك عند قرون حماة في تاسع عشر شهر رمضان.
ثمّ سار عقيب انكسارهم ونزل على حلب، وهي المدافعة الثانية وصالحوه على أن أخذ المعرّة، وكفر كاب، وبارين.
وقال العماد: لما تسلم السلطان قلعة بعلبك عاد إلى حمص وقد وصل عز الدين مسعود، أخو صاحب الموصل، إلى حلب نجدة. ولما عرفوا أن السلطان مشغول بالحصون جاءوا إلى حماة فحصروها وراسلوا في الصلح؛ فقدم السلطان في خف من اصحابه، وجاء كُمُشتكين وابن العجمي وغيرهما، وأجابهم السلطان إلى ماطلبوا، وأن يردّ عليهم الحصون، وأن يقنع بدمشق نائباً عن الملك الصالح وله خاطباً، وعلى الانتماء إليه مواظباً، وأن يردّ كلّ ما أخذه من الخزانة، وأن يسلك فيه سبيل الأمانة. فلّما رأوه مجيباً لكلّ ما يلتمس منه وهو في عسكر خفيف قالوا ما خبره صحيح، فشرعوا في الاشتطاط، وطلبوا الرّحبة وأعمالها؛ فقال هي لابن عمي ناصر الدّين محمد بن شيركوه، وكيف أُلحق به في رضاكم المكروه. فنفروا وجفلوا وأصبحوا على الرحيل إلى جانب العاصي قريبا من شيرز، وجمعوا العسكر وأظهروا أنهم على المصاف وعزم الانتصاف. فعبَّر السّلطان إلى سفح قرون حماة خيامه، وركز على مقابلتهم أعلامه؛ ووصل العسكر المصريّ في عشرة من المقدّمين منهم فرخشاه، وأخوه تقيّ الدّين. والتقوا، فهزمهم السلطان ونزل في منزلتهم.
قال العماد: ومما نظمت في هذه الوقعة في مدح ناصر الدين محمد بن شيركوه قصيدة، فقد كان له فيها عناء وبلاء حسن، منها:
ولَقَدْ ألِفتُ نِفارها وهَوَيْتها ... إذ ليس يُنكر للظبّاء نفار
ياجارةً للقلب جائرة: دَعِى ... ظُلمي، وإلاّ قلتُ: جار الجار
قلبي كطرفي مايفقي إفاقة ... سكران، مادارت عليه عقار
صَبُّ بصب الدمع، محترق الحشا ... خطرت ببال بلائه الخطار
لم يخْش من خطر الهوى حتى حمى ... ذاك القوام شبيه الخطار
يذرى الدموع كأنهنّ عوارفٌ ... لاِبْن المملّك شيركوه غزار
من آل شادي الشائدين بنا العلا ... أركانهن لهاذمٌ وشفار
حسنت بهم للدولة الأيام وال ... أعمال، والأحوال، والآثار
قد حاز ملك الشام يوسفٌ الذّي ... في مصر تغبط عصره الأعصار
نصرَ الهُدى فتوطد الإسلام في ... أيامه، وتضعضع الكفار
لما لقيت جموعهم منظومة ... صيرت ذاك النظم وهو نثار
في حالتي جُودٍ وبأسٍ لم يزل ... للتّبر والأعداء مِنْك تبار
تهبَ الألوف ولاتهاب ألوفهم ... هان العدوّ عليك والإنْبار
لما جرى العاصي هنالك طائعا ... بدمائهم فخرت به الأنهار

وتحطمت عند القرون قرونهم ... بل كلّت الأنياب والأظفار
عبروا المعر مالكين معرّة ... والعار يملك تارة ويعار
أو ماكفاهم يوم حمص وكفّهم ... في بعلبك بمثلها الإنذار
قال: وهنأت الملك المظفر تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب بقصيدة، منها:
لاتُفن من فرق الفراق الأدمعا ... فهي الشهود على الغرام المدّعى
واستبق صبرك ما استطعت، فإنه ... عون لقلبك إن هُما ثبتا معا
قلبٌ أصابته العيون، ولم يزل ... من مسّها بالهاجسات مرّوعا
ماباله قد صدّ عند صدودهم ... عنّي، ولما ودّعوني ودعا
ومن التحيّر أنني أبصرته ... في ظعنهم، وسألت عنه الأضلعا
أصبحت إذ شيّعتهم لثلاثة ... صبري، وغمضي، والفؤاد، مشيعا
ومنها:
أو ما أتقيتم حين رُعْتُم سربه ... فيه تقيّ الدين، ذاك الأروعا
عمر بن شاهنشاه من هو عامرٌ ... أركان ملك الشام حين تضعضعا
خضع العدوّ وذلّ بعد تعزز ... لكم، وحق عدوكم أن يخضعا
من معشر غر يرون جميع ما ... لم يبذلوه في السَّماح مضيعا
في مصر واليمن اجتلينا منهم ... في عصرنا تبعا ليوسف تُبعا
الحاويان بملك مصر ومكةٍ ... والشام واليمن الحظايا الأربعا
لما عصى الأعداء بالعاصي جرى ... بدمائهم طوعا سيولا دُفَّعا
وقال ابن أبي طي: لما نسلم السلطان بعلبك وأزاح عللها، عاد إلى حمص ونزل بها، فاتصل به ورود عزّ الدين مسعود، أخي سيف الدين صاحب الموصل، نجدةً للملك الصالح. وكان سبب وروده أن جماعة من أمراء حلب لما كان السلطان نازلا على حلب أجمعوا آراءهم وكاتبوا سيف الدين وألزموه نجدة ابن عمه، وأخبروه أن السلطان متى ملك حلب لم يكن له قصد إلا الموصل؛ وأرسلوا بذلك أمين الدين هاشماً خطيب حلب، وقطب الدين ينال بن حسان وغرس الدين قليج.
وكان سيف الدين منازلا لسنجار وفيها أخوه عماد الدين بن زنكي، وكان عماد الدين قد أظهر الانتماء إلى السلطان، فأنجده السلطان بقطعة من جيشه فكسرهم، ونهبهم عماد الدين بهم وبعسكره.
فلما وصلت رسالة الحلبيين إلى سيف الدين صالح أخاه عماد الدين وحشد عسكره وأنفذ يجيبهم مع أخيه عز الدين مسعود، فورد حلب بعد رحيل السلطان عنها إلى بعلبك؛ فاغتنم الحلبيون بُعد السلطان عنهم فاحتشدوا وخرجوا جميعاً حتى خيموا على حماة وأخذوا في حصارها. واتصل بالسلطان ذلك فرحل من بعلبك إلى حمص، وبلغ عز الدين فعاد عن حماة ونزل قريبا من جباب التركمان إلى جهة العاصي إلى قريب من شيزر. وأرسل النائب بحماة، علي بن أبي الفوراس، يقول له إنما وصلت في إصلاح الحال ووضع أوزار القتال، وسأله مكاتبة السلطان فيما يجمع الكلمة ويلم شعب الفرقة. فكتب ابن أبي الفوارس بذلك إلى السلطان وحَسَّن له الصُّلح، وتلطف في ذلك غاية التلطف.
وقدم أبو صالح بن العجمي وسعد الدين كمشتكين لطلب الصلح، فأجابهما السلطان إلى ما أرادا، وتقرر الأمر على أنه يرد إليهم جميع الحصون والبلاد، ويقنع بدمشق وحدها، ويكون نائبا للملك الصالح. فلما عاين سعد الدين إجابة السلطان إلى الصلح والنزول عن جميع الحصون التي أخذها: حمص وحماة وبعلبك، طمع في جانب السلطان وتجاوز الحد في الاقتراح، وطلب الرحبة وأعمالها. فقال: هي لابن عمي ولاسبيل إلى أخذها. فقام سعد الدين من بين يديه نافرا، وكان ذلك برأي أبي صالح ابن العجمي لأنه كان معه، فاجتهد السلطان به أن يرجع فلم يفعل، وخرج إلى عز الدين مسعود، وكان بعدُ نازلا على حماة، وحدثه مادار بينه وبين السلطان وهون عليه أبو صالح أمر السلطان وأخبره بقلّة من معه.

وكان السلطان لما كوتب في أمر الصلح سار في خفّ من أصحابه، فلما علموا بذلك طمعوا في جانبه وعوّلوا على لقائه وانتهاز الفرصة في أمره؛ فكاتب باقي أصحابه واستعدّ لحربهم، وسار إلى أن نزل على قرون حماة، وأخذ في مدافعة الأيام حتى يقدم عليه باقي عسكره. ورسلهم في التلطف للأحوال، فلم ينجح فيهم حال. وكانوا في كلّ يوم يعزمون على لقائه وقتاله، فيبطل عزيمتهم بمراسلة يفتعلها، تسويفا للأوقات وتقطيعا للزمان، حتى يقدم عليه عسكره. وكانت هيبته قد ملأت صدور القوم، ولولا ذلك لكانوا قد ناهزوا الفُرصة ونالوا منه الغرض.
قال: وفي يوم الأحد تاسع عشر رمضان التقوا، ولم يكن بعد وصل السلطان من عسكره أحد؛ فتجمع أصحاب السلطان كردوسا واحدا، وأخذوا يحملون يمنة ويسرة ويدافعون الأوقات رجاء أن يتصل بهم بعض العسكر. وضرى عسكر حلب والعسكر الموصليّ على أصحاب السلطان حين شاهدوا قلتهم واجتماعهم، وكاد أصحاب السلطان يولون الإدبار، فوصل تقي الدين عمر عند الحاجة إليه لتمام سعادة السلطان، فإنه لو تأخر ساعة انكسر عسكره؛ فوصل تقيّ الدين في عسكر مصر وجماعة من الأمراء وهم غير عالمين بأن الحرب قائمة. فلما رأوا الناس في الكرّ، والضرب الهبر، حملوا جميعا بعد أن افترقوا في اليمنة واليسرة، فصدموا عسكر الموصل صدمة ضعضعتهم.
وكان السلطان في هذه المدة قد كاتب جماعة من عسكرهم واستفسدهم إليه، وحمل إليهم الأموال. وهذا هو الذي أبطأ بهم إلى أن وصلت عساكره، وإلا لو كان عسكر حلب نصح لم يقدر السلطان على الثبوت ساعة. فلما اشتد القتال لم ينصح الجماعة التي كاتبها السلطان بل كانوا مثبطين مخوفين لمن قرُب منهم. ثم إنهم بعد ذلك انهزموا وتبعهم عسكر السلطان واستباحوا أموالهم وخيامهم، وأمر السلطان أصحابه ألا يوغلوا في طلبهم ولايقتلوا من رأوه منهزما ولا يذففوا على جريح. ورحل حتى نزل في منزلتهم.
ثم سار من وقته مجداً حتى نزل بمرج قرا حصار، ولم يزل هناك حتى عيّد عيد الفطر، فجاءته رسل الملك الصالح يسألونه المهادنة وأن يُقرّر الملك الصالح على ما في يده وماهو جارٍ تحت حكمه من الشام الأسفل إلى بلد حماة، فلم يرض بذلك، فجعلوا له مع حماة المعرة وكفر طاب، فرضى بذلك وحلف على نسخة رأيتها وعليها خطه.
قال: وكان في جماعة اليمين أنه متى قصد الملك الصالح عدوٌّ حضر بنفسه وجيوشه ودافع عنه، وألا يغَّر الدّعاء له من جميع منابر البلاد التي تحت يد السلطان وولايته وولاية أصحابه، وأن تكون السكة باسمه.
ولما حلف السلطان والملك الصالح وأمراؤه عاد السلطان قاصدا دمشق. فلما وصل إلى حماة وصلت إليه رسل الخليفة المستضئ ومعهم التشريفات الجليلة والأعلام السود، وتوقيعٌ من الديوان بالسلطنة ببلاد مصر والشام.
وفي هذه الخلع يقول ابن سعدان الحلبي:
يأيها الملك الغزير فضله ... لقد غدوت بالعُلا مليا
كفى أمير المؤمنين شرفا ... أنك أصبحت له وليّا
طارحك الودّ على شحط النّوى ... فكنت ذاك الصّادق الوّفيا
أوْلاكَ من لباسه زخرفة ... لم يولها قبلك آدميا
ناسبت الرّوض سناً وبهجة ... حتى حكته رونقاً وزيّا
قال: ورحل السلطان من حماة إلى بعرين، وكان فيها فخر الدين مسعود بن الزّعفراني، وكان خرج إلى السلطان لما وصل إلى الشام وتطارح عليه وخدمه، وظنّ أن السلطان يقدمه على عساكره، فلم يلتفت إليه، فترك السلطان وعاد إلى حصن بعرين، فأغضب السلطان ذلك وسار إليه وحاصره حتى تسلم حصنه.
وقال العماد: نزل السلطان قراحصار، بنيَّة الحصار، فجاءت رسلهم بالانقياد، وأجابوا إلى المراد، وقالوا اقنعوا بما أخذتموه إلى حماة، ولاتُشْمِتُوا بنا العداة. فاستزدناه عليهم كفر طاب والمعرّة، واستوفينا عليهم الأيمان المستّقرة؛ وسألهم في المعتقلين، إخوة مجد الدين، فأجابوا وأفرجوا عنهم، وتمّ الصلح، وعمّ النجح.

ورحلنا ظاهرين ظافرين، ونزلنا حماة يوم الاثنين ثاني عشر شوال، وبها وصلت إليه رسل الديوان العزيز بالتشريفات، والتقليد بما أراد من الولايت؛ وأفاضوا على السلطان وأقاربه الخلع، وخص ناصر الدين محمد بن شيركوه بمزيد تفضيل على أقارب السلطان، وكأنه رعاية لحق والده أسد الدين، رحمه الله تعالى.
ثم تسلم السلطان حصن بعرين، وكان بيد الأمير فخر الدين مسعود بن الزعفراني، وهو من أكابر أمراء نور الدين، وذلك في أواخر شوّال. وأقطع مدينة حماة لابن خاله وصهره الأمير شهاب الدين محمود، وأنعم بحمص على ابن عمه ناصر الدين.
قال العماد: وأذكر أنَّا عبرنا نهر العاصي عائدين وقد انكشف الشمس وادلّهم النهار، وغلب على القلوب الاستشعار، وطاحت الأنوار، وخفيت الرّسوم، وظهرت النجوم؛ وجئنا حمص، ثم بعلبك، ثم البقاع، ووصلنا دمشق في ذي القعدة.
فصلقال العماد: قد سبق ذكر ماقرّره حُسّادي في خاطر السلطان، وقالوا: شُغله المكاتبة وهي منصب الأجل الفاضل، وهو يستنيب فيه من رآه من الأفاضل، وهذا تَصْرفُه برِفدٍ جزيل، ووجهٍ جميل. والسلطان مع شدّة رغبته متوقف، وإلى ظهور وجه النّجاح في أمري متشوف.
وكنت قد أنست مدّة مقامي بالعسكر بذي المجد والمفخر، ومورد الكرم والمصدر، الأميلا نجم الدين بن مصال؛ وهو ذو فضل وإفضال، وقبول وإقبال، وله من السلطان ومن الفاضل لجلالة قدره إجلال؛ وقد مال إلى فضله، ونباهته ونبله. وكان أبوه قد وزر للحافظ في آخر عهده، متفرّدا بسؤدده ومجده؛ وكان من أهل السنة والجماعة، والتّقى والورع والعفاف والطاعة؛ وله يدٌ عند السلطان في النُّوب التي قصدوا فيها مصر، وأجزل عنده الإحسان والبّر، لاسيما عند كونه بالإسكندرية محصورا؛ وكان إحسانه مشكورا، واعتناؤه لحفظه مشهورا. فلما ملك أحبّه، واختار قربه، فلزْمت له التودد، وإليه التردد، وجعلته الوسيط بيني وبين الأجل الفاضل، واتخذته من الحجج والوسائل، ووقفت خاطري على تقاضيه نظما ونثرا، ورسالة وشعرا. فمن ذلك ماكتبته إليه:
لعلّ نجم الدين ذا الفضل ... يُذكر الفاضل في شُغلي
إنّ أجلّ الناس قدراً فتىً ... بفضله يتْعب من أجلي
ومثلُه من يعتنى بالعلا ... ويستديم الحمد من مثلي
قال: وأول ما أهديته للفاضل مدحة حين لقيته بحمص في شعبان منها:
عاينت طود سكينة، ورأيت شم ... س فضيلة، ووردت بحر فواضل
ورأيت سحبان البلاغة ساحبا ... ببيانه ذيل الفخار لوائل
أبصرت قُسّا في الفصاحة معجزا ... فعرفت أني في فهاهة باقل
حلِف الحصافة، والفصاحة، والسّما ... حة، والحماسة، والتّقى، والنائل
بحرٌ من الفضل العزيز، خِضّمُّه ... طامي العُباب، وماله من ساحل
وجميعُ مافي الأرض سبعة أبحر ... وبحوره تُسْمى بعشر أنامل
في كفه قلمٌ يعجّل جريه ... ماكان من أجل ورزق آجل
يجري ولاجرى الحسام إذا جرى ... حدّاه، بل جرْى القضاء النازل
نابت كتابته مناب كتيبة ... كفلت بهزم كتائب وجحافل
فَعدُوّه في عدوه، ووليّه ... في عدله؛ أكرمْ بِعادٍ عادل
ريّان من ماء التّقي، صادٍ إلى ... كسب المحامد، وهي خير مناهل
ياواحد العصر الذي بزّ الورى ... فضلا بغير مشابه ومشاكل
مالي وجاه الجاهلين، فأغنني ... عنهم، كفيتهم، وَجُدْ بالجاه لي
أرجوك معتنيا لدى السلطان بي ... كرماً، فمثُلك يْعتنى بأماثلي
قرّر لي الشغل المبجل، مُخليا ... بالي من الهمّ المقيم الشاغل
قال: فدخل الفاضل إلى السلطان وعرّفه أنه فيّ راغب، وقال لايمكنني الملازمة الدائمة في كل سفرة، وغداً يكاتبك ملوك الأعاجم، ولاتستغني في الملك عن عقد الملطفات وحلّ التّراجم؛ والعماد يفي بذلك ولك أختاره، وقد عُرف في الدولة النّورية مقداره. وأخذ لي خط السلطان بما قرره لي من شغلي وقد عرف أن الأجل ّ الفاضل قد أجلّ فضلي.

قال: وخدمت أمير المؤمنين المستضئ بالله في ذي القعدة مع الرّسل بهذه القصيدة:
أصحّ عقود الغانيات مريضها ... وأفتْكُ ألحاظ الحِسان غضيضها
ومِنْ عجبٍ صلّت لقبلة بأسهم ... رؤس أعادٍ من ظباهم محيضها
قال ابن أبي طيّ: وظهر في مشغرا، قرية من قرى دمشق، رجل ادعى النّبوة وكان من أهل المغرب، وأظهر من التخاييل والتمويهات مافتُن به الناس، واتبّعه عالم عظيم من الفلاحين وأهل السواد، وعصى على أهل دمشق، ثم هرب من مشغرا في اليل وصار إلى بلد حلب، وعاد إلى إفساد عقول الفلاحيّن بما يريهم من الشعبذة والتخاييل؛ وهوى امرأةً وعلّمها ذلك، وادعّت أيضا النبّوة.
قال: وفيها توفي شهاب الدين إلياس الأرتقي صاحب البيرة، وأوصى إلى الملك الناصر صلاح الدين بولده شهاب الدين محمد.
ثم دخلت إحدى وسبعين وخمسمائةقال العماد: والسلطان نازل بمرج الصفر من دمشق، فجاءه رسول الفرنج يطلب الهدنة، فأجابهم السلطان بعد أن اشترط عليهم أموراً، فالتزموها.
وكان الشام ذلك العام جدباً، فأذن السلطان للعساكر المصرية في الرحيل إلى بلادهم وإذا استغلوها خرجوا إليه، وسار معهم الفاضل، واعتمد على العماد فيما كان بصدده.
وواظب السلطان على الجلوس في دار العدل، وعلى الصيد، ومدحه العماد بقصيدة، منها:
سواك لسهم العلا لن يريشا ... فنسأل رب العلا أن تعيشا
من الناس بالبّرِ صِدْت الكرام ... وبالبأس في البِّر صدت الوحوشا
وكمْ سرت من مصر نحو العريش ... فهدّمت للمشركين العُروشا
سراياك تبعث قُدّامها ... من الرعب نحو الأعادي جيوشا
ويوم حماة تركت العداة ... كما طيرت بالفلا الرِّيحُ ريشا
قال: ومدحت، مستهل ربيع الأول، تقيّ الدّين بقصيدة موسومة، وكان قد فوض إليه ولاية دمشق، ومنها بيتان ابتكرت المعنى فيهما ولم أُسبق إليهما، وهما:
يفيد العاقل اليقظ التّغابي ... ليدرك في الغنى حظّ الغبيّ
ولم تصب السّهام على اعتدال ... بها لولا اعوجاجٌ في القسيّ
فقل للدهر يقصر عن عنادي ... أما هو يتّقي بأس التّقيّ
حلفت برب مكة والمصلى ... وثاوى تُرب طيبة والفرىّ
لأّنتم يابني أيوبَ خير ال ... ورى بعد الإمام الستضئّ
قال: وفي أول هذه السنة وصل إلى دمشق الجماعة الذين خرجوا من بغداد موافقة قطب الدين قايماز، فأخذوا لأنفسهم بالالتجاء إلى السلطان والاحتراز.
وكان قايماز هذا مُحكَّما في الدولة الإمامية من أول الأيام المستنجدية، وقوى في الأيام المستضيئية على وزير الخليفة عضد الدين بن رئيس الرؤساء، وسامه أنواع البلاء، وأخافه، ورام إتلافه، حتى استعاذ منه برباط صدر الدين شيخ الشيوخ فسلم به.
ثم إنّ قايماز حالف الخليفة وشقّ العصا، وعنّ له حصار الداّر، فأمر الخليفة بالقبض عليه، فلم ينج لما أحيط بداره، إلا بفتح باب في جداره. وانهزم فوصل إلى الحلة في اوائل ذي القعدة سنة سبعين، وهو في موسم الحجّ؛ فجمع رجاله وتوّجه إلى الموصل وخانه إخوانه، وخذله أصحاب، فتوفي في بعض قرى الموصل، وتفرق أصحابه في البلاد، فمنهم من رجع إلى بغداد، ومنهم من أتى إلى الشام؛ منهم حسام الدّين ثميرك وعز الدين أقبوري ابن ازغش، وكان صهر السلطان قديما، وعنده كريما، فأقطعه في الديار المصرّية، وكتب في حقّه إلى الدّيوان شفاعة في تخليص مال÷نس واستقامة حاله؛ وكان ذا خزائن مملوة، وخيْلٍ مسَّومة؛ فلم يكن ذنبه عندهم في متابعة قايماز مما يقبل الصفح. وكان أقبوري زوج أخت السلطان، والسلطان خال بنته، وهي زوجة عز الدين فرخشاه ابن أخي السلطان.

قلت: وفي بعض الكتب عن السلطان إلى وزير بغداد بالمثال الفاضليّ: وما نحسب أنا مع الموالاة المشتهرة، والنصرة المتناصرة المستظهرة، والمساعي التي كانت لثارات هذه الدولة بالغة، ولأعدائهم دامغة، ولمازعيهم الأمر قاصمة، ولمجاذبيهم الحقَّ واقمة، وبحقوق الله تعالى الواجبة لهم قائمة، وكوننا ما أعنَّا منها بنجدة من رجال، ولا بمادة من مال، ولا بإعانة بحال من الأحوال - يردّ سؤالنا من الدّولة، أعلاها الله، في ذي قربى لانستطيع دفعه، ولايقبل أسباب النفع إذا أردنا نفعه، فالأخبار عندنا واسعة، والأعواض لدينا غير متعذرة، والولايات التي نفوضها إليه عن كفايته غير مستغنية؛ ولكنّه ماباع بمكانه من الخدمة مكانا، ولاآثر غير سلطانه سلطانا؛ وله أعذار لابأس أن نُعيره فيها لسانا وبيانا.
ثم ذكرها، ثم قال: وهذا الأمير جزء منَّأ فكيف يُعّد جزء منا عاصياً، وبألستنا وسيوفنا يُدْعى الخلق إلى الطاعة، وكيف تخلو دار الخلافة من واحد من أهلنا ينوب عنا وعن بقية الجماعة. فنحن في أنفسنا نشفع، وعن جاهنا ندفع، وفي مكاننا نسأل، وبخطّنا الَّي لانسمح به للإسلام نبخل. وأنت أيها الأمير السَّائر ثالث رسول سواك ندب في أمر هذا الأمير، والله وليّ التّدبير.
وقال العماد في الخريدة: كنت جالساً بين يدي الملك الناصر صلاح الدِّين بدمشق في دار العدل، أنفذُ ما يأمر به من الشغل، فحضر سعادة الأعمى من أهل حمص، وكان مملوكا لبعض الدمشقيين مولدا، ويكتب على قصائده سعيد بن عبد الله، فوقف ينشد هذه القصيدة في عاشر شعبان سنة إحدى وسبعين:
حيّتك أعطاف القدود ببابها ... لما انثنت تيهاً على كثبانها
ثم ذكر القصيدة وغزلها في وصف دمشق، ثم قال:
سلطانها الملك ابن أيوب، الذّي ... كفّاه لاتنكف عن هطلانها
بمواهبٍ، لوْ لمْ أكنْ نُوحاً لما ... نُجيّت يوم نداه من طوفانها
سمحٌ يروح إلى الندىّ براحة ... قد أعشب المعروف بين بنانها
وفتىً، إذا زخرت بحارُ نواله ... غرقت بحار الأرض في خلجانها
تلك السيوف المرهفات بكفه ... أمضى على الأيام من حدثانها
ملك إذا جليت عرائس ملكه ... رصعت فريد العدل في تيجانها
فاسلم صلاح الدين، وابْق لدولة ... ذلّت لدولتها ملوك زمانها
وانهض إلى فتح السّواحل نهضة ... قادت لك الأعداء بعد حرانها
وهي طويلة.
قال: وقام اليوم الذّي يليه، وقد جلس السلطان للعدل، فأنشده قصيدة، منها:
هل بعد جِلِّق إلا أن ترى حَلَبا ... وقد تحللّ منها مشكل عقد
وقد أتتك كما تختار طائعةً ... وقد عَنَا لك منها الحصن والبلد
قال: وكان سعادة سافر إلى مصر في أول غارته على غزّة، وعوده من ذلك الغزو بالعزة:
فتىً مُذْغزا بالخيل والرَّجل غزة ... نأى عن نواحيها الرّضا ودنا السخط
رماها بأُسد مالهن مَرابضٌ ... ولا أُجُمٌ إلاّ الذي تُنْبت الخط
وعاث ضواحيها ضحى بكتائب ... من الترك لانوب طغام ولاقبط
وله في السلطان قصائد أخر. قال: وقام البهاء السنجاري وأنشد الملك النّاصر قصيدة في دار العدل بدمشق سنة إحدى وسبعين في شعبان، منها:
ياظبية الْهَرَمْين من مصرٍ، على الرَّ ... بْع السَّلام وإن تقوض أو عفا
أصبْو إلى عصر تقادم عهده ... فأزيدُ مِنْ وَلَهٍ عليه تلُّهفا
أحبابنا بالقصر، لو قصرتمُ ... في الهجر ماشمت الحسُود ولاأشتفى
ومنها:
أشكو إلى الوادي، فيحنو بانهُ ... من رقة الشكوى عليّ تعطفا
وجرى بي الأملُ الطَّموح، فأقام بي ... سلطانَ أرض الله طرًّا، يُوسفا
الناهب الأرواح في طلب العلا ... والواهب الآجال في حسن الوفا
فصل فيما تجدد للمواصلة والحلبيين

قد سبق ذكر الصلح الذي جرى بين السلطان والحلبيين. فلما سمع به المواصلة عتبوا عليهم ووبخوهم، ونسبوهم إلى العجلة في ذلك وسلوك غير طريق الحزم؛ فحملوهم على النقْض والنّكث، وأنفذوا من أخذ عليهم المواثيق، وتوجه ذلك الرسول منهم إلى دمشق ليأخذ للمواصلة من السلطان عهده، ويكشف أيضا ماعنده. فلما خلا به طالبه السلطان بنسخة الرأي، فغلط وأخرج من كمه نسخة يمين الحلبيين لهم، وناولها إياه، فتأملها وأخفى سرّه وما أبداه، واطلع على ما اتفقوا عليه، وردها إليه، وقال: لعلّها قد تبدلت؛ فعرف الرّسول أنه قد غلط، ولم يمكنه تلافي مافرط. وقال السلطان كيف حلف الحلبيون للمواصلة، ومن شرط أيمانهم، أنهم لايعتمدون أمراً إلا بمراجعتهم لنا واستئذانهم. وعرف من ذلك اليوم أن العهد منقوض، والوفاء مرفوض.
وشاع الخبر عن المواصلة بالخروج في الرّبيع، فكتب السلطان إلى أخيه العادل وهو نائبه بمصر، يُعلمه بذلك، ويأمره أن يأمر العساكر بالاستعداد للخروج في شعبان.
قلت: وفي كتاب طويل فاضلي جليلٍ إلى بغداد عن السلطان: يطالع بأن الحلبيين والموصليين لما وضعوا السلاح، وخفضوا الجناح، اقتصرنا، بعد أن كانت البلاد في أيدينا، على استخدام عسكر الحلبيين في البيكارت إلى الكفر، وعرضنا عليهم الأمانة فحملوها، والأيمان فبذلوها؛ وسار رسولنا وحلف صاحب الموصل بمحضر من فقهاء بلد وأمراء مشهده، يميناً جعل الله فيها حكما، وضيق في نكثها المجال على من كان حنيفا مسلما، وعاد رسوله ليسمع منا اليمين، فلما حضر وأحضر نسختها، أومى بيده ليخرجها، فأخرج نسخة يمين كانت بين الموصليين والحلبيين مضمونها الاتفاق على حزبنا، والتداعي إلى حربنا، والتساعد على إزالة خطبنا، والاستنفار لمن هو على بعدنا وقربنا؛ وقد حلف بها كمشتكين الخادم بحلب وجماعة معه يمينا نقضت الأولى. فرددنا اليمين إلى يمين الرسول وقلنا هذه يمين عن الأيمان خارجة، وأردت عمرا وأراد الله خارجة.
وانصرف الرَّسول عن بابنا وقد نزّهنا الله أن يكون اسمه معرضا للحنث العظيم، والنّكث الذّميم، وعلمنا أنّ الناقد بصير، والآخذ قدير. والمواقف الشرّيفة النبوية، أعلاها الله، مستخرجة الأوامر إلى الموصليّ إماّ بكتاب مؤكد بأن لاينقض عهد الله من بعد ميثاقه، وإما أن تكون الفسحة واقعة لنا في تضييق خناقه.
ثم ذكر أمر الفرنج، ثمّ قال: والمملوك بين عدوّ إسلام يشاركونه في هذا الاسم لفظا، ولاينووُن لما استحفظوا حفظا، وعدوّ كفر فما يجاورهم إلاّ بلادُه، ولايقارعهم إلاّ أجناده.
ثم طلب خروج الأمر بخطاب جميع ملوك الأطراف أن يكونوا للمملوك على المشركين أعوانا، وأن يُتثل أمر نبينا صلى الله عليه وسلم، في أن يكونوا بنيانا، فيعضوده إذا سعى، ويلّبوه إذا دعا، ولايقعدوا عن المعاضدة في فتح البيت المقدّس الذي طابت النّفوس عن ثاره، وطأطأت الرّؤس تحت عاره، وصارت القلوب صخرة لاترق على صخرته، والعزائم قاصية عن تطهير أقصاه من رجس الشرك ومعرّته. فإن قعدت بهم العزائم، وأخذتهم في الله لومةُ لائم، فلا أقلّ من ألا يكونوا أعوانا عليه يلفتونه عن قصده، حريصين على اتصال المكروه إليه.
قال ابن شداد: لمّا وقعت الوقعة الأولى مع الحلبيين والمواصلة، كان سيف الدّين، صاحب الموصل، على سنجار يُحاصر أخاه عماد الدين بقصد أخذها منه ودخوله في طاعته؛ وكان أخوه قد أظهر الانتماء إلى السّلطان صلاح الدين واعتصم بذلك. واشتد سيف الدين في حصار المكان وضربْه بالمنجنيق حتّى استُهدم من سوره ثلُم كثيرة؛ وأشرف على الأخذ. فبلغه وقوع هذه الواقعة فخاف أن يبلغ ذلك أخاه فيشتّد أمره ويقوى جأشه، فرسله في الصّلح، فصالحه.
ثم سار من وقته إلى نصيبين واهتمّ بجمع العساكر والإنفاق فيها؛ وسار حتى أتى الفرات وعبر بالبيرة، وخيّم على جانب الفرات الشامي، وراسل كمشتكين والملك الصالح حتى تستقر قاعدة يصل عليها إليهم. فوصل كمشتكين إليه وجرت مراجعات كثيرة عزم فيها على العوّد مرارا، حتى أستقرّ اجتماعه بالملك الصالح وسمحوا به، وسار ووصل حلب وخرج الصالح إلى لقائه بنفسه، فالتقاه قريب القلعة، واعتنقه، وضمه إليه وبكى؛ ثم أمر بالعود إلى القلعة فعاد إليها، وسار هو حتى نزل بعين المباركة وأقام بها مدّة وعسكر حلب يخرج إلى خدمته في كل يوم.

وصعد القلعة جريدةً وأكل خبزاً ونزل، وسار راحلا إلى تل السّلطان ومعه جمع كبير وأهل ديار بكر، والسلطان رحمه الله تعالى قد أنفذ في طلب العساكر من مصر وهو يرقب وصولها، وهؤلاء يتأخرون في أمورهم وتدابيرهم، وهم لايشعرون أنّ في التأخير تدميراً، حتى وصل عسكر مصر، فسار رحمه الله حتى أتى قرون حماة، فبلغهم أنه قد قارب عسكرهم فأخرجوا اليزك، ووجهّوا من كشف الأخبار، فوجدوه قد وصل جريدة إلى جباب التركمان، وتفرّق عسكره يسقى، فلو أراد الله نُصْرتهم لقصدوه في تلك الساعة، لكنْ صبروا عليه حتى سقى خيله هو وعسكره، واجتمعوا، وتعبّوا تعبئة القتال.
وأصبح القوم على مصاف، وذلك بكرة الخميس العاشر من شوّال، فالتقى العسكران وتصادما، وجرى قتال عظيم، وانكسرت ميسرة السلطان بابن زين الدين بن مظفر الدين، فإنه كان في ميمنة سيف الدين. وحمل السلطان بنفسه، فانكسر القوم، وأسر منهم جمعاً عظيماً من كبار الأمراء، منهم الأمير فخر الدين عبد المسيح، فمنّ عليهم وأطلقهم.
وعاد سيف الدين إلى حلب فأخذ منها خزانته، وسار حتى عبر الفرات وعاد إلى بلاده. وأمسك هو رحمه الله عن تتبع العسكر، ونزل في بقيّة ذلك اليوم في خيم القوم، فإنهم كانوا قد أبقْوا الثّقل على ماكان عليه، والمطابخ قد عملت، ففرّق الاصبطلات، ووهب الخزائن، وأعطى خيمة سيف الدين عزّ الدين فرخشاه.
وقال العماد: رحلنا في شهر رمضان من دمشق مستأنفين، فعبْرنا العاصي لله طائعين، وإلى المسِّار مسارعين، فما عرّجنا على بلد، ولاانتظرنا ما وراءنا من مدد؛ ونزلنا الغّسُولة وجُزنا حماة، وخيّمنا في مرج بوقبيس. وجاء الخبر أنهم في عشرين ألف فارس سوى سوادهم، وماوراءهم من أمدادهم، وأنهم موعودون من الفرنج بالنجدة، وأنهم يزيدون في كلّ يوم قوّة وشدّة، وماكان اجتمع من عسكرنا سوى ستة آلاف فارس. فرتّب السلطان عسكره، وقوى بقوّة قلبه لْلَبه، وأمد الله بحزب ملائكته حزبه.
ولما وصل المواصلة إلى حلب، أطلقوا من كان في الأسر من ملوك الفرنج، منهم أرناط إبرنس الكرك، وجوسلين خال الملك، وقرّروا معهم أن يدخلوا من مساعدتهم في الدّرك. فلما عيّدنا وصل إلى السلطان الخبر بوصولهم إلى تلّ السلطان، فعبرْنا العاصي عند شَيْزَر، ورتّبنا العسكر، وأعدنا الأثقال إلى حماة.
ثم وصف الوقعة إلى أن قال: وركب السلطان أكتافهم فشل مِئِيِهْم وآلافهم، حتى أخرجهم عن خيامهم، وأشْرَقهم بمائهم. ووكل بسرادق سيف الدين غازي ومضاربه ابن أخيه فرخشاه، وركض وراءه حتى علم أنه تعدّاه. ووقع في الأسر جماعة من الأمراء المقدمين، ثم مَنَّ عليهم بالخلع بعد أن نقلهم إلى حماة وأطلقهم. ثمّ نزل في السرادق السيفي فتسلمه بخزائنه ومحاسنه، واصطبلاته ومطابخه، وَرَواسي عِزّه ورواسخه، فبسط في جميع ذلك أيدي الجُود، وفرّقها على الحضور والشهود، وأبقى منها نصيباً للرُّسل والوفود. ورأى في بيت الشّراب، بل في السّرادق الخاصّ، طيوراً من القماري، والبلابل، والهزار، والببغاء، في الأقفاص، فاستدعى أحد النّدماء مظفر الأقرع فآنسه، وقال: خُذْ هذه الأقفاص، واطلب بها الخلاص، واذهب بها إلى سيف الدّين فأوصلها إليه وسلّم منّا عليه، وقل له عدْ إلى اللعب بهذه الطيور، فهي سليمة لاتوقعك في مثل هذا المحذور.
قال: ولما كسر القوم ولوا مدبرين إلى حلب، فلم يقف بعضهم على بعض، وظنوا أن العساكر وراءهم ركضا وراء ركض؛ فتبعجت خيولهم، وتموّجت سيولهم، وما صدّقوا كيف يصلون إلى حلب ويغلقون أبوابها، ويسكنون اضطرابها. وأما سيف الدّين فإنه ركض في يومه من تلّ السلطان إلى بزاعة، وجاوز في سَوْقه الاستطاعة، وفرق وفارق الجماعة.
وفي كتاب ابن أبي طيّ أن ميسرة سيف الدين انكسرت، فتحرّك إلى جانبها ليكون ردْءًا لها ومدداً، فظن باقي العسكر أنه قد انهزم فانهزموا، فحقق ماكان وهما، فسار على وجهه لايلوى على شئ؛ وتبعهم السلطان، فهلك منهم جماعة قتْلاً وغرقا، وأُسر جماعة كبيرة من وجوههم وأمرائهم؛ ثم رجع وأمر أصحابه برفع السيف عن الناس، وترْك التّعرّض لمن وُجد منهم بقتل أو نهب.

وفرّق ماوجد في خزائن سيف الدين وسيَّر جواريه وحظاياه إلى حلب، وأرسل إليه بالأقفاص وقال له: عد إلى اللعب بهذه الطيور، فإنها ألذّ من مقاساة الحرب. ووجد السلطان عسكر الموصل كالحانة من كثرة الخمور والبرابط والعيدان والجنوك والمغنين والمغنيات.
قال: واشتهر أنه كان مع سيف الدين أكثر من مائة مغنيّة، وأن السلطان ا{ى ذلك لعساكره واستعاذ من هذه البلية. وكان أنفذ الأمراء الذّين أسرهم إلى حماة ثم ردّهم، وخلعّ عليهم وأرسلهم إلى حلب.
وهنأ العماد السّلطان رحمه الله تعالى بقصيدة، منها:
فالحمد لله الذي إفضالهُ ... حلْوُ الجنا، عالي السَّنا، وضاحه
عاد العدوّ بظلمة من ظلمه ... في ليل ويلٍ قد خبا مصباحه
وجنى عليه جهله بوقوعه ... في قبضة البازي فَهِيضَ جناحه
حمل السلاح إلى القتال، ومادرى ... أن الذي يجنى عليه سلاحه
أضحى يريد مواصليه صدوده ... وغدا يجيد رثاءه مدّاحه
إن أفسد الدين الغلاة بحنثهم ... فالناصر الملك الصلاح صلاحه
قد كان عزمك للإله مصمما ... فيهم، فلاح، كما رأيت، فلاحه
وكأنني بالساحل الأقصى، وقد ... ساحت بنحر دم الفرنجة ساحه
فاعبُر إلى القوم الفرات، ليشربوا ال ... َمْوت الأُجاج، فقد طمى طفّاحه
لتفتك من أيديهم رهن الرُّها ... عجلاً، ويدرك ليلها إصباحه
وابغوا لحرَّان الخلاص، فكم بها ... حرّان قلبٍ نحوكم ملتاحه
نجوا البلاد من البلاءِ بعدلكم ... فالظلم بادٍ في الجميع صراحه
واستفتحوا ماكان من مستغلق ... فيها، فرّبكم لكم فتاحه
أنتم رجال الدّهر، بل فرسانه ... ولذي الحلوم الطائشات رجاجه
فُتَّاكه، نُسّاكه، ضُرّاره ... نُفّاعه، مُنّاعه، مُنّاحه
وأبو المظفر يوسف مطعامه ... مِطْعانُه، مِقْدامُه، جَحْجَاحه
وإذا انتدى في محفل فحيِيُّه ... وإذا غدا في جحفل فوقاحه
قال: وكان لعزّ الدين فرخشاه في هذه الوقعة يد بيضاء، وهو محب للفضل وأهله باعثُ للخواطر على مدحه ببذله؛ فنظمت فيه قصيدة، منها:
نصرٌ أنار لملككُمْ بُرهانه ... وعلا لذلة شانئيكم شانه
ما أسعد الإسلام وهو مظفر ... وأبو المظفّر يوسفٌ سلطانه
الملكُ مرفوعٌ لكم مقداره ... والعدل موضوعٌ بكم ميزانه
والدهسر لايأتي بغير مرادكم ... فهل القضاء لأجلكم جريانه
وكأنما لله في أحكامه ... فلكٌ على إيثاركم دورانه
فخراً بني أيوب، إن فخاركم ... بذَّ الملوك السابقين رهانه
يكفى حسودكم اعتقالا همة ... فكأنما أشجانه أسجانه
الدّين، عزّ الدين، عزّ بنصركم ... والكفر ذلّ بعونكم أعوانه
قد كان جيشكم كبحرٍ زاخر ... واللابسون جواشناً حيتانه
فطمى لهلكهم عليهم بحركم ... بأساً وغرّق فلكهم طوفانه
فضل الملوك الأكرمين بفضله ... فعلا زمانهم البهيج زمانه
في فضله، في عدله، في حلمه ... صديقّه، فاروقه، عثمانه
هو في السماح، وفي اللقاء، عليّه ... هو في العفاف وفي التقى سلمانه
من آل شادي الشائدين لمجده ... ببنيه بيتاً عالياً بنيانه
بيت من العلياء، سامٍ، سامقٌ ... يبنى على كيوانها إيوانه
ياسالب التِّيجان من أربابها ... ومن الثناء مصوغةٌ تيجانه

والحمد مالٌ أنتم بُذَّاله ... والمال حمدٌ أنتم خزانه
قال: ثم إن صاحب الموصل أسرع عودته، وواصل لذّته، والحلبيون أوثقوا الأسباب، وغلقوا الأبواب، وسُقط في أيديهم، حين أفرطوا في تعديهم، وتهيئوا للحصار، وخافوا من البوار، وتبلدوا وتلددوا، وتجادلوا ثم تجلدوا.
وقال ابن سعدان الحلبي من جملة قصيدة: يهنئ بها السلطان بهذه الكسرة:
وما شك قوم حين قمت عليهم ... غداة التقى الجمعان أنك غالب
ولو لم تقد تلك المقانب لاغتدى ... لنفسك في نفس العدو مقانب
قال ابن أبي طيّ: وأما سيف الدين فإنه امتدت به الهزيمة إلى بزاعا، فأقام بها حتى تلاحق به من سلم من أصحابه، ثم خرج منها حتى قطع الفرات وصار إلى الموصل. وصار باقي عسكر حلب إلى حلب، في سابع شوال، في أقبح حال وأسوئه، عراةً حفاةً فقراء، يتلاومون على نقض الأيمان والعهود.
وخاف أهل حلب من قصد السلطان لهم، فأخذوا في الاستعداد للحصار؛ وجاء السلطان وخيّم عليها أياماً، ثم قال: الرأي أن نقصد ماحولها من الحصون والمعاقل والقلاع فنفتحها، فإنا إذا فعلنا ذلك ضعف حلب وهان أمرها. فصوّبوا رأيه، فنزلوا على بزاعة، فتسلّمها بالأمان، وولاها عز الدين خشترين الكردي.
فصل في فتح جملة من البلاد حوالي حلبقال العماد: ثم نزل السلطان على حصن بُزاعة وتسلّمه في الثاني والعشرين من شوال، ثم فتح منبج في التاسع والعشرين منه، وكان فيها الأمير قطب الدين ينال بن حسَّان، والسلطان لايناله به إحسان، بل كان في جرّ عسكر الموصل إليه أقوى سبب، ولايحاذقه ولايحفظ معه شرط أدب، ويواجهه بما يكره. فسلّم القلعة بما فيها، وقوّم ما كان سلمه بثلاثمائة ألف دينار، منها عين ونقود، ومصوغ، ومطبوع، ومصنوع، ومنسوج، وغلات؛ وسامه على أن يخدم، فأبى وأنف، وكبرت نفسه، فتعب سرُّه، وذهب ماجمعه. ومضى إلى صاحب الموصل فأقطعه الرَّقة، فبقى فيها إلى أن أخذها السلطان منه مرة ثانية في سنة ثمان وسبعين.
وقال العماد:
نزولك في منبج ... على الظفر المبهج
ونجحك في المرتجى ... وفتحك للمرتج
دليل على كلّ ما ... تحاول أو ترتجي
أمورك فيما ترو ... مُ واضحة المنهج
وشانيك دامي الشئو ... ن منك، شقيّ، شجى
ومن كان في حصنه ... ومن قبل لم يخرج
يقال له: ليس ذا ... بعُشّك، قم فادرج
فرأيك يستنزل النُّ ... جومُ من الأبرُج
فعجِّل عبور الفرات ... وأسرِ، وَسِر، وادْلُج
وعُجْ نحو تلك البلاد ... وعن غيرها عرّج
فحران، والرّقتا ... ن تاليتا منبج
وجَلَّ عن المسلمي ... ن ليلهم المّدجى
قال ابن أبي طيّ: لما ملك السلطان منبج وتسلم الحصن صعد إليه وجلس يستعرض أموال ابن حسان وذخائره؛ فكان في جملة أمواله ثلاثمائة ألف دينار، ومن الفضة والآنية الذهبية والأسلحة والذخائر ما يناهز ألفي ألف دينار. فحان من السلطان التفاتة فرأى على الأكياس والآنية مكتوبا يوسف، فسأل عن هذا الاسم، فقيل له: ولدٌ يحبُّه ويؤثره اسمه يوسف كان يدخر هذه الأموال له. فقال السُّلطان: أنا يوسُف وقد أخذت ماخُبئ لي. فتعجب الناس من ذلك.
قال: ولمَّا فرغ من منبج نزل على عزاز ونصب عليها عدّة مجانيق، وجدّ في القتال وبذل الأموال.
قال العماد: ثمَّ نزل السُّلطان على حصن عزاز وقطع بين الحلبيين وبين الفرنج الجواز. وهو حصن منيع رفيع، فحاصره ثمانية وثلاثين يوما. وكان السُّلطان قد أشفق على هذا الحصن من موافقة الحلبيين للفرنج، فإن الغيظ حملهم على مهادنة الفرنج وإطلاق ملوكهم الذّين تعب نور الدين رحمه الله تعالى في أسرهم، فرأى السُّلطان أن يحتاط على المعاقل، ويصُونها صون العقائل؛ فتسلّمها حادي عشر ذي الحجة بعد مدة حصارها المذكورة.
وقال العماد قصيدة، منها:
أعطاه ربّ العالمين دولة ... عزّةُ أهل الدّين في إعزازها
حاز العُلا ببأسه وجوده ... وهو أحق الخلق باجتيازها

بجده أفنى كنوزاً فني ال ... ملوك في الجدّ على اكتنازها
مهلك أهل الشِّرك طرًّا: رُومها ... أرمنها إفرنجها، إنجازها
تفاخر الإسلام من سلطانه ... تفاخر الفرس بابراوازها
تَهَنَّ من فنح عزازٍ نصرة ... أوقعت العداة في اعتزازها
واليوم ذلت حلب، فإنها ... كانت تنال العزَّ من عزازها
وحلب تنفي كمشتكينها ... كما انتفت بغداد من قيمازها
برزت في نصر الهدى بحجَّة ... وضوحُ نهج الحقّ في إبرازها
كم حاملٍ للرمح عاد مبديا ... عجز عجوز الحيّ عن عكازها
ارفع حظوظي من حضيض نقصها ... وعدِّ عَنْ هُمّازِها لُمّازها
والشعر لابد له من باعث ... كحاجة الخيل إلى مهمازها
قال: وأغار عسكر حلب على عسكرنا في مدة مقامنا على عزاز، فأخذوا على غرّة وغفلة ما تعجلّوه، وعادوا؛ فركب أصحابنا في طلبهم فما أدركوا إلا فارساً واحدا، فأمر السلطان بقطع يده بحكم حرده. فقلت للمأمور، وذلك بمسمع من السلطان، تمهّل ساعة لعلّه يقبل مني شفاعة. ثم قلت: هذا لايحلّ، وقدرّك بلْ دينك عن هذه يجل. ومازلت أكرر عليه الحديث حتى تبسم، وعادت عاطفته ورحم، وأمر بحبسه، وسرّني سلامة نفسه.
ودخل ناصر الدين بن أسد الدين، وقال: ما هذا الفشل والوني، وإن سكتم أنت فما أسكت أنا. ودمدم وزمجر، وغضب وزأر، وقال: لِمَ لايُقتلُ هذا الرّجل ولماذا اعتقل! فوعظه السّلطان واستعطفه، وسكنَّ غيظه وتعطفه، وتلا عليه: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرى). وأُطلق سراحه، وتمَّ في نجاته نجاحه.
فصل في وثوب الحشيشية على السلطان مرّة ثانية على عزاز، وكانت الأولى على حلب
قال العماد: وفي حادي عشر ذي القعدة قفز الحشيشية على السلطان ليلة الأحد وهو نازل على عزاز. وكان للأمير جاولي الأسدي خيمة قريبة من المنجنيقات، وكان السلطان يحضر فيها كلّ يوم لمشاهدة الآلات وترتيب المهمات، وحضّ الرّجال، والحث على القتال؛ وهو بارٌ ببث أياديه، قارٌ على الدهر بكف عواديه؛ والحشيشية في زي الأجناد وقوف، والرّجال عنده صفوف، إذ قفز واحدٌ منهم فضرب رأسه بسكينه، فعاقته صفائح الحديد المدفونة في لمته عن تمكينه، ولفحت المدية خدّه فخدشته. فقوّى السّلطان قلبه، وحاش رأس الحشيش إليه وجذبه، ووقع عليه وركبه، وأدركه سيف الدين يازكزج فأخذ حشاشة الحشيشي وبضعه، وقطعه؛ وجاء آخر، فاعترضه الأمير داود بن منكلان فمنعه، وجرحه الحشيشي في جنبه، فمات بعد أيام، وجاء آخر، فعانقه الأمير علي بن أبي الفوارس وضمه من تحت إبطيه، وبقيت يدُ الحشيشي من ورائه لايتمكن من الضرب، ولايتأتى له كشف ماعراه من الكرب؛ فنادى: عليّ اقتلوني معه فقد قتلني، وأذهب قوّتي وأذهلني؛ فطعنه ناصر الدين بن شيركوه بسيفه. وخرج آخر من الخيمة منهزما، وعلى الفتك بمن يعارضه مُقْدما، فثار عليه أهل السوق فقطعوه.
وأما السلطان فإنه ركب وجاء إلى سرادقه وقد خرعه الحادث، وفزعه الكارث، وصوته جهوري، وزئيره قسوّري، ودم خده سائل، وعطف روعه مائل، وطوق كزاغنهد بتلك الضربة مفكوك، ونهج سلامته مسلوك. وكان سلا سلامته وأقام القوم قيامته، ومن بعد ذلك رعب ورهب، واحترز واحتجب، وضرب حول سرادقه على مثال خشب الخركاة تأزيرا، ووقفه تحجيرا؛ وجلس في بيت الخشب، وبرز للناس كالمحتجب، وماصرف إلا من عرفه، ومن لم يعرفه صرفه، وإذا ركب وأبصر مَنْ لايعرفه في موكبه أبعده ثم سأله عنه، فإن كان مستسعفا أو مستسعدا أسعفه وأسعده.
ومن كتاب فاضل إلى العادل: السلامة شاملة، والرّاحة بحمد الله للجسم الشريف الناصري حاصلة، ولم ينله من الحشيشي الملعون إلا خدش قطرت منه قطرات دم خفيفة، انقطعت لوقتها، واندملت لساعتها؛ والركوب على رسمه، والحصار لأعزاز على حكمه؛ وليس في الأمر بحمد الله ما يضيق صدرا، ولا ما يشغل سراً.

وقال ابن أبي طيّ: لما فتح السلطان حصن بزاعة ومنبج أيقن من بجلب بخروج مافي أيديهم من المعاقل والقلاع، فعادوا إلى عادتهم في نصب الحبائل للسلطان. فكاتبوا سناناً صاحب الحشيشية مرة ثانية، ورغبوه بالأموال والمواعيد، وحملوه على إنفاذ من يفتك بالسلطان. فأرسل، لعنه الله، جماعة من أصحابه فجاءوا بزي الأجناد، ودخلوا بين المقاتلة وباشروا الحرب وأبلوا فيها أحسن البلاء، وامتزجوا بأصحاب السلطان لعلهم يجدون فرصة ينتهزونها. فبينما السلطان يوماً جالس في خيمة جاولي، والحرب قائمة والسلطان مشغول بالنظر إلى القتال، إذ وثب عليه أحد الحشيشية وضربه بسكينة على رأسه، وكان رحمه الله محترزاً خائفاً من الحشيشية، لاينزع الزردية عن بدنه ولاصفائح الحديد عن رأسه؛ فلم تصنع ضربة الحشيشي شيئا لمكان صفائح الحديد وأحس الحشيشي بصفائح الحديد على رأس السلطان فسبح يده بالسكينة إلى خد السلطان فجرحه وجرى الدم على وجهه؛ فتتعتع السلطان بذلك.
ولما رأى الحشيشي ذلك هجم على السلطان وجذب رأسه، ووضعه على الأرض وركبه لينحره؛ وكان من حول السلطان قد أدركهم دهشة أخذت عقولهم.
وحضر في ذلك الوقت سيف الدين يازكوج، وقيل إنه كان حاضرا، فاخترط سيف وضرب الحشيشي فقتله. وجاء آخر من الحشيشية أيضا يقصد السلطان، فاعترضه الأمير داود بن منكلان الكردي وضربه بالسيف، وسبق الحشيشي إلى ابن منكلان فجرحه في جبهته، وقتله ابن منكلان، ومات ابن منكلان من ضربة الحشيشي بعد أيا. وجاء آخر من الباطنية فحصل في سهم الأمير علي بن أبي الفوارس فهجم على الباطني ودخل الباطني فيه ليضربه فأخذه علي تحت إبطه، وبقيت يد الباطني من ورائه لايتمكن من ضربه، فصاح علي: اقتلوه واقتلوني معه، فجاء ناصر الدين محمد بن شيركوه فطعن بطن الباطني بسيفه، ومازال يُخضخضه فيه حتى سقط ميتا ونجا ابن أبي الفوارس. وخرج آخر من الحشيشية منهزما، فلقيه الأثير شهاب الدين محمود، خال السلطان فتنكب الباطني عن طريق شهاب الدين فقصده أصحابه وقطعوه بالسيوف.
وأما السلطان فإنه ركب من وقته إلى سرادقه ودمه على خده سائل، وأخذ من ذلك الوقت في الاحتراس والاحتراز، وضرب حول سرادقه مثال الخركاه، ونصب له في وسط سرادقه برجا من الخشب كان يجلس فيه وينام، ولايدخل عليه إلا من يعرفه، وبطلت الحرب في ذلك اليوم، وخاف الناس على السلطان.
واضطرب العسكر وخاف الناس بعضهم من بعض، فألجأت إلى ركوب السلطان ليشاهده الناس، فركب حتى سكن العسكر، وعاد إلى خيمته.س وأخذ في قتال عزاز فقاتلها مدة ثمانية وثلاثين يوماً حتى عجز من كان فيها وسألوا الأمان، فتسلمها حادي عشر ذي الحجة، وصعد إليها وأصلح ماتهدّم منها، ثم أقطعها لابن أخيه تقيّ الدين عمر.
وكانت عزاز أولا للجفينة غلام نور الدين، فلما ملك السلطان منبج أخذها منه الملك الصالح وقوّاها لعله يحفظها من الملك الناصر، فلم يبلغ ذلك.
ولما فرغ السلطان من أمر عزاز حقد على من بحلب لما فعلوه من أمر الحشيشية، فسار حتى نزل حلب، خامس عشر ذي الحجة، وضربت خيمته على رأس الياروقية فوق جبل جوشن وجبى أموالها وأقطع ضياعها، وضيق على أهلها، ولم يفسح لعسكره في مقاتلتها، بل كان يمنع أن يدخل إليها شئ أو يخرج منها أحد.
وكان سعد الدين كمشتكين في حارم، وكانت إقطاعه في يد نوابه، وكان انتزعها من يد أولاد الداية بعد أن عصى نائبها.
وكان سبب خروجه إليها أنّ السلطان لما نزل على عزاز خاف كمشتكين أن ينتقل منها إلى حارم، فخرج إليها، فلما نزل السلطان على حلب ندم كمشتكين على كونه خارجا في حارم، وخاف أن يجري بين السلطان وبين الأمراء الحلبيين صلح فلا يكون له فيه ذكر ولااسم. فراسل السلطان يتلطف معه الحال ويقول: لو فسح لي في الدخول إلى حلب لسارعت في الخدمة وأصلحت الأمر على مايرومه السلطان. وراسل أيضا الملك الصالح والأمراء بحلب يقول لهم: قد حصلت خارجاً وقد بلغتني أمورٌ ولابدّ من طلبي من الملك الناصر ليأذن لي في الصيرورة إليكم، فإن الذي قد حصل عندي لايمكنني الكلام فيه. فراسل الملك الصالح السلطان في الأذن له في الدخول إلى حلب، فأذن له؛ وطلبوا الرهائن منه، فأنفذ السلطان إليهم رهينة شمس الدين بن أبي المضاء الخطيب والعماد كاتب الإنشاء، وأنفذوا من حلب إلى السلطان رهينةً نصرة الدين ابن زنكي.

وحكى العماد الكاتب قال: لما حصلنا داخل حلب أُخذنا برأي العدل ابن العجمي وجعلنا في بيت ومنع منا غلماننا، ولم يُحضر لنا طعام ولامصباح، وبتنا في أنكد عيش.
وفي تلك الليلة دخل كمشتكين إلى حلب، فلما أصبحوا أُحضرت أنا وابن أبي المضاء إلى الملك الصالح، وكان عنده ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود وجماعة من أرباب الدولة، وكان صاحب الكلام العدل ابن العجمي، فأخذ يتحدث بلثغته، ويترجم بلكنته، ويضرب صفحا عني، ويوهم الجماعة أني وأني.
وما درى الغِمرُ بأني امرؤ ... أُميّز التبر من الترب
قد عارك الأهوال حتى غدا ... بين الورى كالصارم العضب
قد راضه الدّهر، فَلْو أمَّه ... بخطبه ما ريع للخطب
قال: وعرضت نسخة اليمين علينا، وصرفنا ولم يلتفت إلينا.
فلما صار إلى السلطان وأخبراه بما جرى في حقهما من الهوان، علم أن ذلك كان حيلة عليه حتى دخل كمشتكين إلى حلب، فأطلق نصرة الدين وقاتل أهل حلب.
ولم يزل منازلا لحلب إلى انسلاخ سنة إحدى وسبعين وخمسمائة؛ ثم كان ما سيأتي ذكره.
فصل في بواقي حوادث هذه السنة ودخزل قرقوش إلى المغربقال العماد: وفي سابع شوّال وصل أخو السلطان شمس الدولة من اليمن إلى دمشق.
وذكر ابن شداد أنه قدم في ذي الحجة.
قلت: ولمّا سمع السلطان بقدُومه أرسل إليه بالمثال الفاضليّ كتابا أوّله: (أَنا يُوسُفُ وَهَذا أَخي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلْنَا). وقال في آخره: ولقد أحسن عدنان المبشر إذْ طلع علينا طلوع الفجر قبل شمسه، وغرس في القلوب ما يسرّنا ويسرّه جنى غرسه.
قال ابن أبي طيّ: كان سبب خروجه من اليمن كراهية البلاد، والشّوق إلى أخيه الملك الناصر، وأن يرى ملوك الشام وغيرها. وأمر للعساكر بما أنعم الله به عليه من النّعم والأموال.
قال: وحكى أنه لما تحدّث الناس بخروج شمس الدّولة من اليمن كان باليمن رجل يقال له عباس، وكان صهر ياسر بن بلال الحبشي صاحب عدن، وكان بين عباس وياسر عداوة، فافتعل عباس كتاباً على لسان ياسر وزوّر عليه علامته إلى زيد بن عمرو بن حاتم صاحب صنعاء يقول فيه: إن شمس الدولة سائر إلى أخيه الملك الناصر إلى الشام، وسبب خروجه ضعفه عن اليمن؛ فأمسكوا ما كنتم تحملون إليه من الأتاوة والرشوة ويبقى لكم. واحتال حتّى وصل الكتاب إلى شمس الدولة، وكان نازلا على حصن يعرف بالخضراء يحاصره.
فلما وقف شمس الدولة على الكتاب استدعى ياسراً وقال له: هذا خطك وعلامتك؟ قال: كأنه هو. قال: فبأي شئ استحققت منك هذا وقد قرّبت منزلتك، وأبقيت عليك بلادك، ورفعت بضبعك على أهل إقليمك. وأراه الكتاب. فلما وقف عليه ياسر حلف أنه ماكتبه، ولايعرفه، ولااملاه لأحد، ولم يعلم خبره. فلم يصدقه شمس الدولة، وأمر به فقتل صبراً بين يديه. فهاب شمس الدولة ملوك اليمن وحملوا إليه الأموال وحلفوا له على الطاعة.
ثم إن شمس الدولة خرج إلى تهامة وتوجه إلى الشام واستخلف على تهامة سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ؛ وعثمان بن علي الزنجيلي على عدن؛ وتوجه إلى حضرموت ففتحها، واستناب عنه بها رجلا كرديا يسمى هارون، وكان مقامه بشبام واستمرّ الكردي بها مدة.
ثم أن صاحب حضرموت تحرّك وجمع، فقتل، وعاث هارون في تلك البلاد واستقام أمره. ووليّ شمس الدولة ثغر تعزّ مملوكه وجعل إليه أمر الجند، وولىّ قلعة بعكر مملوكه قايماز.
قال: وكان وصول شمس الدولة إلى السلطان قبل وقعة المواصلة وكسرتهم، وكان شمس الدولة سبب الظفر، وأعطاه السلطان سرادق سيف الدين صاحب الموصل بما فيه من الفرش والأثاث والالات، وولاه دمشق وأعمالها والشَّام، وأمره أن يكون في وجه الفرنج لأن السلطان خاف من الحلبيين أن يكاتبوا الفرنج كعادتهم.
قال: وفيها قتل صدّيق بن جولة صاحب بُصرى وصَرْخد، قتله ابنُ أخيه، وملك بعدهُ بُصْرى وصرخد شهورا، فكاتبه شمس الدولة أخو السلطان وحلف له على مايريده من إقطاع؛ واقترح شمس الدولة أن يكتب هو مايريده ليحلف عليه، فأنفذ من بُصْرى نسخة يمين كتبها قاضي بصرى، وكان قليل المعرفة بالفقه والتصرّف في القول، فلم يستقص فيها وجوه التأويل. فلما استوثق بها من شمس الدولة وخرج إليه تأوَّل عليه شمس الدولة في اليمين وقبضه، ثم أقطعه عشرين ضيعة، ثم أخذها منه بعد أيام.

قال: وفيها عصى الأمير غرس الدّين قليج بتلّ خالد بسبب كلام جرى بينه وبين كمشتكين، فأنهد إليه من حلب عسكرا فحاصروه أياما، وسلم الحصن، وصلحت حاله.
قال ولما ملك شمس الدّولة اليمن سمت نفس ابن أخيه تقيِّ الدِّين إلى الملك وجعل يرتاد مكانا يحتوى عليه، فأُخبر أنَّ قلعة ازبري هي فم درب المغرب، وكانت خرابا فأشير عليه بعمارتها، وقيل له متى عمرت وسكنها أجنادٌ أقوياء شجعان مُلِكَت برقة، وإذا ملكت برقة مُلك ماوراءها. فأنفذ مملوكه بهاء الدِّين قراقوش وقدّمه على جماعة من أجناده ومماليكه، فصاروا إلى القلعة المذكورة وشرعوا في عمارتها.
واجتمع بقراقوش رجل من المغرب فحدّثه عن بلاد الجريد وفزّان، وذكر له كثرة خيرها، وغزارة أموالها، وضعف أهلها، ورغبّه في الدخول إليها. فأخذ جماعة من أصحابه وسار في حادي عشر المحرّم من هذه السّنة، فكان يكمن النَّهار ويسير الليل مدّة خمسة أيام، وأشرف على مدينة أوجلة فلقيه ملكها وأكرمه واحترمه، وسأله المقام عنده ليعتضد به ويزوّحه بنته ويحفظ البلاد من العرب، وله ثلث ارتفاعها. ففعل قراقوش ذلك فحصل له من ثلث الارتفاع ثلاثون ألف دينار، فأخذ عشرة آلاف لنفسه وفرّق على رجاله عشرين ألفا.
وكان إلى جانب أوجلة مدينة يقال لها الأرزاقية، فبلغ أهلها صنيع قراقوش في أوجلة وأنه حرس غلالهم، فصاروا إليه ووصفوا له بلدهم وكثرة خيره وطيب هوائه، ورغبّوه في المصر إليهم على أنهم يملكونه عليهم. فأجاب على ذلك، واستخلف على أوجلة رجلا من أصحابه يقال له صباح ومعه تسعة فوارس من أصحابه، فحصل لقراقوش أموال كثيرة.
واتفق أنّ صاحب أوجلة مات، فقتل أهل أوجلة أصحاب قراقوش، فجاء قراقوش وحاصرها حتى افتتحها عنوة وقتل من أهلها سبعمائة رجل، وغنم أصحابه منها غنيمة عظيمة، واستولى على البلاد.
ثمّ إن أصحابه رغبوا في الرّجوع إلى مصر وخشى قراقوش أن يقيم وحده فرجع معهم. فلمّ حصل بمصر طاب له المقام وثقل عليه العود، وزوّجه تقيّ الدّين بإحدى جواريه. وكان استناب بأوجلة وقال لأهلها أنا أمضى إلى مصر لتجديد رجال وأعود إليكم.
قال ابن الأثير: وفي ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين استوزر سيف الدّين صاحب الموصل جلال الدين أبا الحسن علي بن جمال الدّين الوزير، رحمهما الله تعالى، ومكنّه في ولايته، فظهرت منه كفاية لم يُظَّنها النَّاس، وبدا منه معرفة بقواعد الدّول وأوضاع الدّواوين، وتقرير الأمور والاطلاع على دقائق الحسبانات، والعلم بصناعة الكتابة الحسابية والإنشاء حيّرت العقول، ووضع في كتابة الإنشاء وضعا لم يعرفوه.
وكان عمره حين ولي الوزارة خمسا وعشرين سنة؛ ثمّ قبض عليه في شعبان سنة ثلاث وسبعين وشفع فيه كمال الدين بن ينسان وزير صاحب آمد وكان قد زوجه بنته، فأُطلق وسار إليه. وبقي بآمد يسيرا مريضا، ثم فارقها، وتُوفي بدنيسر سنة أربع وسبعين، وحُمل إلى الموصل فدفن بها، ثمّ حُمل منها في موسم الحجّ إلى المدينة ودفن عند والده. وكان من أحسن الناس صورة ومعنىً، رحمه الله تعالى.
قال: ثمّ إن سيف الدين استناب دُزْدَاراً بقلعة الموصل الأمير مجاهد الدّين قايماز في ذي الحجة سنة إحدى وسبعين، وردّ إليه أزمة الأمور في الحلّ والعقد، والرفع والخفض وكان بيده قبل هذه الولاية مدينة إربل وأعمالها ومعه فيها ولدٌ صغير لزين الدَّين على، لقبه أيضا زين الدِّين، فكان البلد لولد زين الدِّين اسماً لامعنى تحته، وهو لمجاهد الدِّين صورة ومعنىً.
قلت: وفيها في حادي عشر رجب توفيّ حافظ الشام أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر صاحب التاريخ الدمشقي رحمه الله تعالى، وحضر السلطان صلاح الدين جنازته ودفن في مقابر باب الصغير.
وفيها قدم دمشق أبو الفتوح عبد السَّلام بن يوسف بن محمد بن مقلد الدّمشقي الأصل البغدادي المولد التنوخي الجماهري الصوفي ابن الصوفي؛ ذكره العماد في الخريدة وقال: كان صديقي، وجلس للوعظ وحضر عنده صلاح الدين وأحسن إليه، وعاد إلى بغداد.
وذكر العماد من أشعاره مقطعات، منها في الحقائق، وأنشدها في مجلسه:
يامالكاً مُهجتي، يامنُتهى أملي ... ياحاضراً شاهداً في القلب والفكر
خلقتني من تراب أنت خالقه ... حتى إذا صرتُ تمثالاً من الصُّور

أجريت في قالبي رُوحاً منورة ... تمرُّ فيه كَجَرْي الماء في الشجر
جمعت بين صفا رُوحٍ منوّرة ... وهيكلٍ صنعته من معدنٍ كدر
إن غبت فيك فيا فخري وياشرفي ... وإن حضرت فيا سمعي ويابصري
أو احتججت فسري منك في ولهٍ ... وإنْ خطرتُ فقلبي منك في خطر
تبدو فتمحوُ رسومي ثم تثبتُها ... وإن تغيبت عنّي عشتُ بالأثر
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائةقال العماد: والسّلطان مقيم بظاهر حلب، فعرف أهلها أنّ العقُوبة أليمة، والعاقبة وخيمة. فدخلوا من باب التذلل، ولاذوا بالتوسل وخاطبوا في التّفّضل، وطلبوا الصُّلح؛ فأجابهم، وعفا وعفّ، وكفى وكفّ؛ وأبقى للملك الصالح حلب وأعمالها، واستقرى كل عثرة لهم وأقالها؛ وأراد له الإعزاز، فرد عليه عزاز.
وقال ابن شداد: أخرجوا إليه ابنةً لنور الدين صغيرة سألت منه عزاز فوهبها إياها.
قال ابن أبي طيّ. لما تمّ الصلح وانعقدت الأيمان، عوّل الملك الصالح على مراسلة السلطان وطلب عزاز منه، فأشار الأمراء عليه بإنفاذ أخته، وكانت صغيرة، فأُخرجت إليه؛ فأكرمها السلطان إكراماً عظيماً، وقدم لها أشياء كثيرة، وأطلق لها قلعة عزاز وجميع مافيها من مال وسلاح وميرة وغير ذلك.
وقال غيره: بعث الملك الصالح أخته الخاتون بنت نور الدين إلى صلاح الدين في الليل فدخلت عليه، فقام قائماً وقبّل الأرض وبكى على نور الدين؛ فسألت أن يردّ عليهم أزاز فقال سمعا وطاعة، فأعطاها إياها وقدّم لها من الجواهر والتحف والمال شيئا كثيرا. واتفق مع الملك الصالح أنّ له من حماة وما فتحه إلى مصر، وأن يطلق الملك الصالح أولاد الداية.
قال العماد: وحلفوا له على كلّ ماشرطه، واعتذروا عن كلّ ما أسخطه. وكان الصُّلح عاماً لهم وللمواصلة وأهل ديار بكر؛ وكُتب في نسخة اليمن أنه إذا غدر منهم واحدٌ وخالف، ولم يفِ بما عليه حالف، كان الباقون عليه يداً واحدة، وعزيمة متعاقدة، حتى يفئ إلى الوفاء والوفاق، ويرجع إلى مرافقة الرّفاق.
فلما انتظم الصلح ذكر السلطان ثأره عند الاسماعيلية وكيف قصدوه بتلك البلية؛ فرحل يوم الجمعة لعشر بقين من المحرّم، فحصر حصنهم مصياث ونصب عليه المجانيق الكبار، وأوسعهم قتلاً وأسراً، وساق أبقارهم، وخرّب ديارهم، وهدم أعمارهم، وهتك أستارهم، حتّى شفع فيهم خاله شهاب الدين محمود بن تكش صاحب حماة، وكانوا قد راسلوه في ذلك لأنهم جيرانه، فرحل عنهم وقد انتقم منهم.
قال: وكان الفرنج قد أغاروا على البقاع، فخرج إليهم شمس الدّين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم، وهو متولي بعلبك ومقطع أعمالها، ومدبّر أحوالها، والمتحكم في أموالها، فقتل منهم وأسر أكثر من مائتي أسير، وأحضرهم عند السلطان وهو على حصار مصياث، فجدّد منه إلى غزو الفرنج الانبعاث.
قال ابن أبي طيّ: وهذا أكبر الدواعي في مصالحة السلطان لسنان وخروجه من بلاد الاسماعيلية، لأن السلطان خاف أن تهيج الفرنج في الشام الأعلى وهو بعيد عنه، فرُبما ظفروا من البلاد بطائل؛ فصالح سناناً وعاد إلى دمشق.
قال العماد: وكان قد خرج شمس الدولة أخو السلطان من دمشق حين سمع أن الفرنج على الخروج، وباسطهم عند عين الجر في تلك المروج؛ ووقع من أصحابه عدّة في الأسار، منهم سيف الدين أبو بكر بن السلار.
ووصل السلطان إلى حماة وقد استكمل الظَّفر، واجتمع فيها بأخيه شمس الدولة ثاني صفر، وهو أول لقائه بعدما أزمع عنه إلى اليمن السفر؛ وتعانق الأخوان في المخيّم بالميدان، وتحدّثا في الحدثان، وروعات الفراق، ولوعات الأشواق.
وكان قد وصل إلى السلطان من أخيه هذا عند مفارقته بلاد اليمن كتاب ضمنّه أبياتا أظنها من شعر ابن المنجم المصري، أولها:
الشوق أولع بالقلوب وأوجع ... فَعَلاَمَ أدفع منه مالا يُدفع
منها:
وحملتُ من وَجد الأحبة مفرداً ... ماليس تحمِلهُ الأحبّة أجمع
لايَسْتَقرّ بيَ النّوى في موضع ... إلا تقاضاني التَّرَّحلَ موضع
فإلى صلاح الدين أشكو أنني ... من بعده مُضْنى الجوانح موجع
جزعا لبعد الدار منه، ولم أكن ... لولا هواه، لبعد دارٍ أجزع

فلأركبنَّ إليه متن عزائمي ... ويُخبّ بي ركبُ الغرام ويوضع
حتّى أشاهد منه أسعد طلعة ... من أفقها صبح السعادة يطلع
قال العماد: فسألني السلطان أن أكتب له في جوابها على رَوِيها ووزنها، فقلت. فذكر قصيدة، منها:
مولاي شمس الدولة الملك الذي ... شمس السيادة من سناه تطلع
مالي سواك من الحوداث ملجأُ ... مالي سواك من النّوائب مفزع
وَلأَنت فخر الدين فخري في العلا ... وملاذُ آمالي، ورُكني الأمنع
إلا بخدمتك المجلة موقعي ... والله ما للملك عندي موقع
وبغير قُربك كلُّ ما أرجوه من ... درك المُنى متعذر متمنع
للنَصَّرُ إن أقبلت نحوي مُقْبل ... واليمنُ إن أسرعت نحوي مسرع
قال: ثمّ سرنا إلى دمشق ووصلنا إليها سابع عشر صفر، وفوّض ملك دمشق إلى أخيه الملك المعظم شمس الدولة، وعزم إلى مصر السّفر.
فصل في ذكر جماعة من الأعيان تجدّد لهم ما أقتضى ذكرهُ في هذه السنة
قال العماد: في السادس من المحرّم توفيّ بدمشق القاضي كمال الدين بن الشهروزري، وعمره ثمانون سنة، لأن مولده في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. وكان في الأيام النُّورية بدمشق هو الحاكم المتحكم، وصلاح الدين إذ ذاك يتولى الشحنكية بدمشق، وكمال الدين يعكس مقاصده بتوخيّه الأحكام الشرّعية، وربما كسر أغراضه، وأبدى عن قبوله إعراضه، ويقصد في كلّ مايعرض له اعتراضه، وكم صبر على جماعة بحلمه وراضه، إلى أنْ نقله الله سبحانه من نيابة الشحنكية إلى المُلك، وصار كمال الدين من قضاة ممالكه المنتظمة في السلك، وكان في قلبه منه مافيه، وما فرط منه فات وقت تلافيه. فلما ملك دمشق أجراه على حكمه، ولمْ يؤاخذه بحرُمه، واحترم نوّابه، وأكرم أصحابه، وفتح للشرّع بابه، وخاطبه واستحسن جوابه، ولم يزل يستفتيه ويستهديه، ويعرض على رأيه ما يعيده ويبديه.
وكان ابن أخيه ضياء الدين بن تاج الدين الشهرزوري قد هاجر إلى صلاح الدين بمصر في ريعان ملكه، وأذنت هجرته في درك إرادته بإدارة فلكه، وأنعم عليه هناك بجزيرة الذهب، ومن دار الملك بمصر بدار الذهب، ووفرَّ حظه من الذهب، وملكه داراً بالقاهرة نفيسةً جميلةً، جليَّة جليلة، ورتّب له وظائف، وخصّه بلطائف؛ ووصل مع صلاح الدين إلى الشام، وأمره جارٍ على النظام.
ولما أشتد بكمال الدين المرض، وكاد يفارق جوهره العرض، أراد أنْ يبقى القضاء في ذويه، فوّصى مع حضور ولده بالقضاء لضياء الدين ابن أخيه، علماً منه بأن السلطان يُمضي حُكمه لأجل سوالفه، ويجعله عنده من عوائد عوارفه. ومات ولم يخلف مثله، ومن شاهده شاهد العقل والفضل كلّه، بارًّا بالأبرار، مختاراً للأخيار، مكرما للكرام، ماضيا في الأحكام. وقد قوّاه نور الدين رحمه الله وولده في أيامه، وسدد مرامي مرامه.
وهو الذي سن دار العدل لتنفذ أحكامه بحضرة السلطان، فلا يبقى عليه مغمز ولا ملمز لذوي الشنآن. وهو الذي تولى له أبناء أسوار دمشق، ومداسها، والبيمارستان. فاستمرت عادته واستقرت قاعدته في دولة السلطان. وتوفي ونحن بحلب محاصرون.
وذكر العماد في الخريدة لابنه محييّ الدّين قصيدة في مرثيته منها:
ألِمُّوا بِسَفْحِي قاسيون فسلموا ... على جدثٍ بادي السنا، وترحموا
وبالرغم مني أن أناجيه بالمنى ... وأسأل مع بعد المدى من يُسلم
لقد عدمت منك البرية والداً ... أحنّ من الأم الرؤف وأرحم
ولاسيما إخوان صدق بجلق ... همُ في سماء المجد والجود أنجم
نشرت لواء العدل فوق رؤسهم ... فما كان فيهم من يضام ويظلم
لقيت من الرّحمن عفوا ورحمة ... كما كنت تعفو، ماحييتَ، وترحم
قال العماد: وجلس ابن أخيه ضياء الدين مكانه، وأحسن إحسانه، وأبقى نُوّاب عمه، وأنفذ أحكامه بنافذ حكمه.

وكان الفقيه شرف الدين أبو سعد عبد الله بن أبي عصرون قد هاجر من حلب إلى السلطان، وقد أنزله عنده بدمشق في ظل الإحسان، وهو شيخ مذهب الشافعي رضي الله عنه، والأقوم بالفتيا، وأعرفهم بما تقتضيه الشريعة من أمر الدين والدُّنيا، والسلطان يؤثر أن يفوّض إليه منصب القضاء، ولايرى عزل الضياء؛ فأفضى بسرّ مراده إلى الأجل الفاضل، وكان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري يتعصب لشيخه، فاستشعر الضياء من العزل، وأشير عليه بالاستعفاء، ففعل، فأعفى وبقيت عليه الوكالة الشرعية عنه في بيع الأملاك.
قال العماد: وأول ما أشتريت منه بوكالة السلطان الأرض التي ببستان بقر الوحش التي بنيت فيها المواضع من الحمام والدور والاصطبل والخان، وكنت قد احتكرتها في الأيام النورية فملكتها في الأيام الصلاحية.
قلت: قد خرجت هذه الأماكن في سنة ثلاث وأربعين وستمائة بسبب الحصار، واستمرّ خرابها، وعفت آثارها، وصارت طريقاً على حافة بردى وأنت خارج من جسر الصفيّ خارج باب الفرنج مارًّا إلى ناحية الميدان.
قال: فلما استعفى ضياء الدين بن الشهرزوري من القضاء لم يبق في منصب القضاء إلا فقيه يعرف بالأوحد داود بن إبراهيم بن عمر بن بلال الشافعي وكان ينوب عن كمال الدين، فأمره السلطان أن يجري على رسمه، ويتصّرف في حكمه.
وكان السلطان لإحياء القضاء في البيت الزَّكوي مؤثرا، ولذكر مناقبه مكثر، وقد سبق منه الوعد للشيخ شرف الدّين بن أبي عصرون وهو راج، وبطلب نجاز عِدَته مناج، ففوض إليه القضاء والحكم والإنفاذ والإمضاء، على أن يتولى محيي الدين أبو المعالي محمد بن زكي الدين، والأوحد، قاضيين في دمشق، يحكمان، وهما عن نيابته يوردان ويصدران؛ وتوليتهما بتوقيع من السلطان. ولم يزل الشيخ شرف الدين ابن أبي عصرون متولياً للقضاء، منفرداً بالحكم والإمضاء، سنة اثنتين وثلاث وسبعين في ولاية أخي السلطان الملك المعظم فخر الدين.
فلما عدنا إلى الشام تكلم الناس في ذهاب نور بصره، وأنه لايقوم في القضاء بورده وصدره، ففوض السلطان القضاء بالإشارة الفاضلية إلى ابنه محيي الدين أبي حامد محمد، كأنه نائب أبيه، ولا يظهر للناس صرفه عما هو متوليه. واستمر القضاء له إلى انقضاء أشهر من سنة سبع وثمانين، ثم صُرف واستقلّ به ابن زكي الدين، فأقام في مدّة ولايته للشرع القواعد والقووانين، وفوّض ديوان الوقوف بجامع دمشق وغيره من المساجد والمشاهد إلى أخيه مجد الدين بن الزكي، فتولاه إلى أن انتقل من أعمال الوقوف إلى موقف اعتبار الأعمال، وتوّلاها بعده أخوه محيي الدّين على الاستقلال، إلى آخر عهد السلطان وبعده.
قلت: وفيها في صفر وقف السلطان قرية حزم باللوى من حوران على الجماعة الذين يشتغلون بعلم الشريعة أو بعلم يحنتاج إليه الفقيه، أو من يحضر لسماع الدروس بالزاوية الغربية من جامع دمشق المعروفة بالفقيه الزاهد نصر المقدسي رحمه الله تعالى، وعلى من هو مدرّسهم بهذا الموضع من أصحاب الإمام الشافعي رضي الله عنه؛ وجعل النظر لقطب الدين النيسابوري رحمه الله.
ورأيت كتاب الوقف بذلك على هذه الصورة، وعليه علامة السلطان رحمه الله: " الحمد لله، وبه توفيقي " .
قال العماد: وفيها في ليلة الجمعة الثاني عشر من صفر، ونحن في طريق الوصول إلى دمشق، توفي شمس الدين ابن الوزير أبي المضاء بدمشق، وهو أول خطيب بالديار المصرية للدولة العباسية. وكان يتولى الرسالة إلى الديوان العزيز، ويقصده الشعراء ويحضره الكرماء، فيكثر خلعهم وجوائزهم، ويبعث على مدحه غرائزهم. فحمل السلطان همه وقرّب ولده، وجبر بِتْربيته يُتْمه.
ثم تعين ضياء الدين بن الشهرزوري بعده للرسالة إلى الديوان، وصارت منصبا له ينافس عليه، واستتب له هذه السفارة إلى آخر العهد السلطاني، وذلك بعد المضي إلى مصر والعود إلى الشام، فإنه بعد خاطب في هذا المرام؛ فأما في هذه السنة فإنه كان في مسيرنا إلى مصر في الصحبة، وهو متردد إلىّ بصفاء المحبة.

وفيها في آخر صفر تزوّج السلطان بالخاتون المنعوته عصمة الدين بنت الأمير معين أنر، وكانت في عصمة نور الدين رحمه الله تعالى، فلما توفي أقامت في منزلها بقلعة دمشق، رفيعة القدر، مستقلة بأمرها، كثيرة الصدقات، والأعمال الصالحات. فأراد السلطان حفظ حرمتها، وصيانتها وعصمتها، فأحضر شرف الدين بن أبي عصرون وعُدُوله، وزوجه إياها بحضرتهم أخوها لأبيها الأمير سعد الدّين مسعود بن أنر بإذنها، ودخل بها وبات عندها، وقرن بسعده سعدها؛ وخرج بعد يومين إلى مصر.
وذكر العماد بعد وفاة ابن الشهرزوري وابن أبي المضاء الأمير مؤيد الدولة أبا الحارث أسامة بن مرشد بن سديد الملك أبي الحسن عليّ بن منقذ، وعوده إلى الشام عند علمه بوصول السلطان، فقال: هذا مؤيد الدولة من الأمراء الفضلاء، والكرماء الكبراء، والسادة القادة العظماء، وقدمتعه الله بالعمر وطول البقاء؛ وهو من المعدودين من شجعان الشام، وفرسان الإسلام.
ولم تزل بنو منقذ ملاّك شيزر، وقد جمعوا الشيّادة والمفخر، ولما تفرّد بالمعقل منهم من تولاه، لم يرد أن يكون معه فيه سواه، فخرجوا منه في سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وسكنوا دمشق وغيرها من البلاد، وكلهم من الأجواد الأمجاد، وما فيهم إلا ذو فضل وبذل، وإحسان وعدل، وما منهم إلا من له نظمٌ مطبوع، وشعر مصنوع، ومن له قصيدة وله مقطوع.
وهذا مؤيد الدّولة أعرقهم في الحسب، وأعرفهم بالأدب؛ وكانت جرت له نبوة في أيام الدمشقين، وسافر إلى مصر وأقام هناك سنين، في أيام المصريين، فتمت نوبة قتل المنعوت بالظافر، وقتل عباس وزيرهم إخوته، وإقامة المنعوت بالفائز، وما صادف ذلك من الهزاهز. فعاد مؤيد الدوّلة إلى الشام، وسار إلى حصن كيفا وتوطن بها. ولما سمع بالملك الصلاحيّ جاء إلى دمشق، وذلك في سنة سبعين، وقال:
حمدت على طول عمري المشيبا ... وإن كنت أكثرت فيه الذنوبا
لأني حييتُ إلى أن لقي ... تُ بعد العدو صديقاً حبيبا
قال: وكنت أسمع بفضله وأنا بأصبهان في أيام الشبيبة. وأنشدني له مجد العرب العامري بأصفهان في سنة خمس وأربعين هذين البيتين، وهما من مبتكرات معانيه، في سنّ قلعها:
وصاحبٍ لم أَملَّ الدّهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سَعي مجتهد
لم ألقه مُذْ تصاحبنا، فحين بدا ... لناظري افترقنا فُرقة الأبد
قال: فلما لقيته بدمشق في سنة سبعين أنشدنيها لنفسه؛ مع كثير من شعره المبتكر من جنسه.
قلت: ومن عجيب مااتفق أني وجدت هذين البيتين مع بيتين آخرين، والمجموع أربعة أبيات، في ديوان أبي الحسين أحمد بن منير الأطرابلسي؟ ومات ابن منير سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. قرأت في ديوانه: وقال في الضرس:
وصاحب لا أمل الدهر صحبته ... يسقى وأجنى ضرّه بيدي
أدنى إلى القلب من سمعي ومن بصري ... ومن تلادي، ومن مال، ومن ولدي
ثم قال:
أخلُو ببِثِّي من خالٍ بوجنته ... مداده زايد النقصير للمدد
لم ألقه مذ تصاحبنا.... البيت فالأشبه أنّ ابن منير أخذهما وزارد عليهما، ولهذا غير فيهما كلمات. وقد وجدت هذا البيت الأول على صورة أخرى حسنة:
وصاحب ناصح لي في معاملتي
ويجوز أن يكون أسامة أنشدهما متمثلاً فنسبا إليه لما كان مظنة ذلك. ويجوز أن يكون اتفاقا، والله أعلم.
قال العماد: وشاهدت ولده عضد الدّين أبا الفوارس مرهفا وهو جليس صلاح الدّين وأنيسه وقد كتب ديوان شعر أبيه لصلاح الدّين، وهو لشغفه به يفضله على جميع الدوّاوين. ولم يزل هذا الأمير العضد مرهف مصاحباً له بمصر والشام، وإلى آخر عصره، وتوطن بمصر؛ فلما جاء مؤيد الدولة أبوه، أنزله أرحب منزل، وأورده أعذب منهل، وملكه من أعمال المعرّة ضيعة زعم أنها كانت قديما تجري في أملاكه، وأعطاه بدمشق داراً وإدراراً. وإذا كان بدمشق جالسه وآنسه، وذاكره في الأدب ودارسه.
وكان ذا رأي وتجربة، وحنكة مهذبة، فهو يستشيره في نوائبه، ويستنير برأيه في غيهبه؛ وإذا غاب عنه في غزواته، كاتبه وأعلمه بواقعاته ووقعاته، واستخرج رأيه في كشف مهماته، وحلّ مشكلاته. وبلغ عمره ستّا وتسعين سنة، فإن مولده سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وتوفي سنة أربع وثمانين وخمسمائة.

وقد تقدم من أخباره في قتل الأسد في شيبته أيام كونه بشيزر، وذكرت له أيضا ترجمة حسنة في تاريخ دمشق.
فصل في رجوع السلطان إلى مصروخرج من دمشق يوم الجمعة، رابع شهر ربيع الأول.
قال العماد: ولما استتمت للسلطان بالشام أمور ممالكه، وأمن على مناهج أمره ومسالكه، أزمع إلى مصر الإياب، وقد أمحلت من بعده من جود جَود السحاب، وتقدمه الأمراء والملوك. وخرج بكرة الجمعة ونزل بمرج الصّفّر، ثم رحل عنه قبْل العْصر إلى قريب الصنمتين، وخرجت معه وقلبي مروع إلى أهلي، فما نزلت منزلا إلا نظمت أبياتاً. فقلت يوم المسير وقد عبرت بالخيارة:
أقول لِركبٍ بالخيارةٍ نُزَّل ... أثيروا؛ فما لي في المقام خيار
همُ رحلُوا عنك الغداة ومادَرَوْا ... بأنهم قد خلفوك وساروا
حليف اشتياق لاترى من تحبّه ... وفي القلب من نار الغرام أُوار
أجيروا من البلوى فؤادي فعندكم ... ذمام له ياسادتي وجوار
وقلت وقد نزلنا بالفقيع:
رأيتني بالفقيع منفرداً أضْ ... يع من فقع قاعها الضائع
بعت بمصر دمشق عن غرر ... مني، فياغبن صفقة البائع
صبْري والقلبُ عاصيان، وما ... غير همومي وأدمعي طائعي
وقلت بالفوّار:
تحّدر بالفوّار دمعي على الفوْر ... فقلتُ لجيراني أجيروا من الجور
وأصعب مالاقيتُ أني قانع ... من الطيف مذ بنتم بزور من الزور
وقلت بالزرقاء:
ولمَ أنسَ بالزرقاء يوم وداعنا ... أنامل تدمى حيْرةً للتندم
أعدتُك يازرقاء حمراءَ، إنني ... بكيتك حتى شيب ماؤك بالدم
تأخر قلبي عندهم مُتخلفا ... وخالفتهمُ في عزْمتي والتقدم
فيا ليت شعري هل أعود إليهم ... وهل ليت شعري نافعٌ للمتيم
قال: وقلت وقد عبرنا على مسالك قريبة من قلعة الشوبك، وفيها تخطف الإفرنجُ القاصدين إلى مصر:
طريق مصر ضيّق المسْلك ... سالكهُ لاشك في مهلك
وحب مصر صار جبا لمن ... أوقعه في شبك الشوبك
لكنما من دونها كعبة ... محجوجة مبرورة المنسك
بها صلاح الدين يُشكى الذي ... إليه من أيامه يشتكى
قال: ونظمت في طريق مصر قصيدة مشتمله على ذكر المنازل بالترتيب، وإيراد البعيد منها والقريب. واتفق أن السلطان سير إلى مصر الملك المظفر تقي الدين، وكان لايستدعي من شاديه، إلا إنشادها في ناديه، ويطرب لسماعها، ويعجب بإبداعها، وكان قد فارق أهله بدمشق كما فارقت بها أهلي، وجمع الله بهم بعد ذلك شملي. وهي هذه.
هجرتكمُ لاعَنْ ملالٍ ولاغّدْر ... ولكن لمقْدُور أُتيح منَ الأمر
وأعلم أني مخطئ في فراقكم ... وعّذري في ذنبي، وذنبي في عذري
أرى نُوباً للدّهر تُحصى ولا أرى ... أشد من الهجران في نُوب الدهر
بعيني إلى لُقيا سةكم غشاوةٌ ... وسمعي عنْ نجوْى سواكم لذو وقر
وقلبي وصبري فارقاني لبُعدكم ... فلا صبر في قلبي، ولاقلب في صدري
وإني على العهد الذي تعهدونه ... وسرّي لكم سرّي، وجهري لكم جهري
تجرعت صرف الهمّ من كأس شوقكم ... وها أنا في صحوي تريف من السّكر
وإن زماناً ليس يعْمر موْطني ... بسُكناكمُ فيه فليس من العمر
وأقسم لو لم يقسم البين بيننا ... جوى الهمّ ما أمسيت مقتسم الفكر
أسير إلى مصر وقلبي أسيركمُ ... ومِنْ عجبٍ أسري وقَلبيَ في أسر
أخلايَ قد شطّ المزار، فأرسلوا ال ... خيال وزورُوا في الكرى واربحوا أجري
تذكرت أحبابي بجلق بعدما ... ترحلت، والمشتاق يأنسُ بالذكر
وناديت صبري مستغيثاً فلم يجب ... فأسبلت دمْعي للبكلء عَلَى صَبْري

ولمّا قصدنا من دمشق غباغبا ... وبتنا من الشوق المُمِضِّ على الجمر
نزلنا برأس الماء عند وداعنا ... موارد من ماء الدموع التي تجري
نزلنا بصحراء الفقيع وغودرت ... فواقع من فيض المدامع في الغدر
ونهنهت بالفوّار فيض مدامعي ... ففاضت وباحت بالمكتَّم من سرّي
سرينا إلى الزرقاء، منها، ومن يصب ... أواماً يَسِرْ حتى يرى الْوِرد أو يسري
تذكرت حمّام القُصير وأهله ... وقد جزت بالحمام في البلد القفر
وبالقريتين القرْيتَين، وأين من ... مغاني الغواني منزل الأدم والعفر
وَرْدنا من الزيتون حسمي وأيلة ... ولم نسترح حتى صدرنا إلى صدر
غشينا الغواشي وهي يابسة الثّرى ... بعيدة عهد القطر بالعهد والقطر
وضنّ علينا بالنّدى ثمد الحصا ... ومن يرتجى ريَّاً من الثمد النّزْر
فقلت اشرحي بالخمس صدراً مطيّتي ... بصدر وإلا جادك النّيل للعشر
رأينا بها عيْن المواساة، إننا ... إلى عين موسى نبذل الزّاد للسّفر
وما حسرت عيني على فيض عبرةٍ ... أكفكفها حتى عبرنا على الجسر
ومِلْنا إلى أرض السّدير وجنّة ... هنالك من طلحٍ نضيدٍ ومن سدر
وجبنا الفلا حتى أصبنا مباركا ... على بركة الجبّ المبشر بالقصر
ولمّا بدا الفسطاط بشرت رفقتي ... بمن يتلقي الوفد بالوفر والبشر
بكت أمّ عمرو من وشيك ترَّحلي ... فيا خجلتي من أمّ عْمرو وَمِنَ عمرو
تقول إلى مصر تصير! تعجبَّا ... وماذا الذي تبغي، ومنْ لك في مصر؟!
فقلت: ملاذي، الناصر، الملك الذي ... حصلت بجداوه على الملك والنّصر
فقالت: أقم لاتعدم الخير عندنا ... فقلت: وهل تغني السّواقي عن البحر
ثقي برجوع يضمن الله نجحه ... ولاتقتضي أنْ نُبْدل العُسر باليسر
عطيَّته قد ضاعفت مُنَّة الرّجا ... ونعمته قد أضعفت مُنَّة الشكر
قال: وكان الدخول إلى القاهرة يوم السبت سادس عشر ربيع الأول بالزي الأجمل والعزّ الأكمل.
وتلّقى السلطان أخوه ونائبه الملك العادل سيف الدين إلى صدر، وعبر إلينا عند بحر القلزم الجسر، وتلقانا خير مصر ووصلت إلينا ثمراتها، وجليت علينا زهراتها، فظهر بنا نشاطها، وزاد اغتباطها، ودخل السلطان داره، ووفق الله في جميع الأمور إيراده وإصداره.
وكانت قد صعبت عليّ مفارقة دمشق وأهلها، لقلة الوثوق بأني أحصل بمثلها؛ فنظمت يوم خروجي منها أبياتا إلى ناصر الدين محمد بن شيركوه، منها:
بمهجتي خنث العط ... ف مستلذ الدّلال
يقول لي بانكسارٍ ... ورقّةٍ واعتلال
معاتباً بحديثٍ ... أصفى من السلسال
ما مصر مثل دمشقٍ ... بعتَ الهدى بالضلال
فقلت عنّت أمورٌ ... عجيبة الأشكال
أسيرُ في طلب العزّ ... مثل سيْر الهلال
لم يبلغ البدرُ لولا ال ... مَسيرُ أوجَ الكمال
وكيف أترك شغلي ... وإنه رأس مالي
صلاح الدين حالي صلاح الدّ ... ين الغزير النّوال
مالي أفارق مَلْكاً ... ملكته آمالي
ياناصر الدّين: قلبي ... عليه في بلبال
ثم ذكر العماد المحسنين إليه بالقاهرة، وسيّدهم المولى الأجل الفاضل؛ وقد مدحه بقصيدة منها:
كيف لايفتدى لي الدهر عبدا ... وأنا عبدُ عبِدْ عَبِدْ الرّحيم
بدوام الأجل سيّدنا الفا ... ضل يادولة الأفاضل دومي
إذ أراه ينوب عني لدى المل ... ك مناب الأرواح عند الجسوم

مالك الحلّ في الممالك والعق ... د وحكم التحليل والتحريم
مُعْمِلٌ للنفاذ في كلّ قطر ... قلماً حاكماً على إقليم
يتلقى الملوكُ في كل أرض ... كتبه القادمات بالتعظيم
ناحل الجسم، ذو خطاب به يصغ ... ر للدهر كلُّ خطب جسيم
ثم ذكر الأخوين تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه، وهما أبنا أخي السلطان، وهو شاهنشاه بن أيوب، وهمام الدين بزغش الشنباشي والى القاهرة. ومدح فرخشاه بقصيدة حسنة، منها:
شادنٌ كالقضيب لدْن المهزه ... سلبت مقلتاه قلبي بغمزه
كلّما رُمْت وصله رام هجري ... وإذا زدتُ ذلة زاد عزه
للصبا من عذاره نسج حُسن ... رقم المسك في الشقائق طرزه
وعزيزٌ عليّ أن أصطباري ... فيه قد عزه الغرام وبزه
مارأى ما رأيت مجنونُ ليلى ... في هواه، ولا كثير عَزّه
ما ذكرنا الفسطاط إلا نسينا ... ما رأينا بالنيْربين والاَرزْه
ونصيري عليه نائل عز الد ... ين ذي الفضل، خلّد الله عزه
فرّغ الكنز من ذخائر مالٍ ... مالئاً من نفائس الحمد كنزه
همةٌ مستهامة بالمعالي ... للدَِّنايا أبيّة مشمئزه
قال العماد: وتوفرنا على الاجتماع في المغاني لاستماع الأغاني، والتنزه في الجزيرة والجيزة، والأماكن العزيزة، ومنازل العزّ والروضة، ودار الملك والنيل والمقياس، ومراسي السفن، ومجاري الفلك والقصور بالقرافة، وربوع الضيافة، ورواية الأحاديث النبوية، والمباحثة في المسائل الفقهية، والمعاني الأدبية.
قال: واقترحنا على القاضي ضياء الدين بن الشهرزوري أن يفرجنا في الأهرام، فقد كنا شغفنا بأخبارها في الشام؛ فخرج بنا إليها، ودرنا تلك البرابي والبراري، والرمال والصحاري، وأحمدنا المقارَّ والمقاري؛ وهالنا أبو الهول، وضاق في وصفه مجال القول؛ ورأينا العجائب، وروينا الغرائب، واستصغرنا في جنب الهرمين كلَّ ما استعظمناه، وتداولنا الحديث في الهرم ومن بناه، فكلٌ يأتي في وصفهما بما نقله، لابما عقله، واجتهدوا في الصعود إليه فلم يوجد من توقله، وحارت العقول في عقوده، وطارت الأفكار عن توَّهم حدوده؛ فياله من مولود للدهر قبل الطوفان، انقرضت القرون الخالية على آبائه وجدوده، وسمار الأخبار يسمرون بذكر حديث أحداث عاده وثموده، ويُدل إحكامه وعلّوه على همة بانيه في بأسه وجوده. وإن في الأرض الهرمين كما أن في السماء الفرقدين، وهما كالطودين الراسخين، وكالجبلين الشامخين؛ قد فنيت الدُّهور وهما باقيان، وتقاصرت القصور وهما راقيان، وكأنهما لأُمّ الأرض ثديان، وعلى ترائب التراب نهدان، ولسلطان العالم علمان، وإلى مراقي الأملاك سُلمان، وهما لليل والنهار رقيبان، ولرضوي ولشمام نسيبان، ومن زحل والمريخ قريبان، ولعوادي الخطوب خطيبان، ولثور الفلك روقان، ولشخص الكرة الترابية سافان.
قلت: ثم ذكر العماد جماعة ممن كان يقيم الضيافة له ولمثله من الفضلاء والأعيان؛ فذكر منهم الناصح مؤدب أولاد السلطان، وله دارٌ مشرفة على النيل، وذكر منهم اللسان الصوفي البلخي، وكان له صحبة قديمو بنجم الدين أيوب والد السلطان، وله دارٌ أيضا على شاطئ النيل برسم ضيافة من نزل به.
قال: ثم وقف السلطان داره على الصوفية من بعده، وانتقل بعد سنين إلى النَّعيم وخُلده.
فصل في بيع الكتب وعمارة القلعة والمدرسة والبيمارستانقال العماد: وكان لبيع الكتب في القصر كلّ أسبوع يومان، وهي تباع بأرخص الأثمان وخزائنها في القصر مرتَّبة البيوت، مقسمة الرّفوف، مفهرسة بالمعروف. فقيل للأمير بهاء الدين قراقوش، متولي القصر، والحالّ والعاقد للأمر: هذه الكتب قد عاث فيها إلى أرضها؛ وهو تركيّ لاخبرة لهى بالكتب، ولادربة له بأسفار الأدب. وكان مقصود دلالي الكتب أن يكسوها، ويخرموها ويعكسوها. فأخرجت، وهي أكثر من مائة ألف، من أماكنها، وغُربت من مساكنها، وخرّبت أوكارها، وأذهبت أنوارها وشتت شملها، وبتُ حبلها، واختلط أدبيُّها بنجوميتها، وشرعيُّها بمنطقيها، وطبيُّها بهندسيِّها، وتواريخها بتفاسيرها، ومجاهيلها بمشاهيرها.

وكان فيها من الكتب الكبار، وتواريخ الأمصار، ومصنفات الأخبار، ما يشتمل كل كتاب على خمسين أو ستين جزءاً مجلدا، إذا فقد منها جزءٌ لايخلف أبدا. فاختلطت واختبطت، فكان الدلال يخرج عشرة عشرة من كل فن كتباً مبترة، فتسام بالدون، وتباع بالهُون؛ والدلال يعرف كلّ شدة، وما فيها من عدة، ويعلم أن عنده من أجناسها وأنواعها، وقد شارك غيره في ابتياعها، حتى إذا لفق كتاباً قد تقوم عليه بعشرة، باعه بعد ذلك لنفسه بمائة.
قال: فلما رأيت الأمر حضرت القصر، واشتريت كما أشتروا، ومريت الأطباء كما مروا، واستكثرت من المتاع المبتاع، وحويت نفائس الأنواع. ولما عرف السلطان ما ابتعته، وكان بمئتين، أنعم عليَّ بها، وأبرأ ذمَّتى من ذهبها؛ ثم وهب لي أيضا من خزانة القصر ما عينت عينه من كتبها.
ودخلت عليه يوماً وبين يديه مجلدات كثيرة انتقيت له من القصر، وهو ينظر في بعضها، ويبسط يدي لقبضها، وقال: كنت طلبت عينتها، فهل في هذه منها شئ؟ فقلت: كلها، وما أستغنى عنها، فأخرجتها من عنده بحمال، وكان هذا منه بالإضافة إلى سماحه أقل نوال.
قال: وكان السلطان لما تملك مصر رأى أن مصر والقاهرة لكلّ واحدة منهما سور لايمنعها، فقال: إن أفردت كلّ واحدة بسور احتاجت إلى جند مفرد يحميها، وإني أرى أن أدير عليهما سوراً واحداً من الشاطئ إلى الشاطئ.
وأمر ببناء قلعة في الوسط عند مسجد سعد الدولة على جبل المقطم، فابتدأ من ظاهر القاهرة ببرج في المقسم، وانتهى به إلى أعلى مصر ببروج وصلها بالبرج الأعظم. ووجدت في عهد السلطان بيتاً رفعه النواب، وأكمل فيه الحساب، ومبلغه، وهو دائر البلدين مصر والقاهرة بما فيه من ساحل البحر والقلعة بالجبل، تسعة وعشرون ألفا وثلاثمائة ذراع وذراعان؛ من ذلك ما بين قلعة المقسم على شاطئ النيل والبرج بالكوم الأحمر بساحل مصر عشرة آلاف وخمسمائة ذراع، ومن القلعة بالمقسم إلى حائط القلعة بالجبل بمسجد سعد الدوة ثمانية آلاف وثلاثمائة واثنان وتسعون ذراعا، ومن جانب حائط القلعة من جهة مسجد سعد الدولة إلى البرج بالكوم الأحمر سبعة آلاف ومائتا ذراع، ودائر القلعة بجبل مسجد سعد الدولة ثلاثة آلاف ومائتان وعشرة أذرع. وذلك طول قوسه في أبدانه وأبراجه من النيل إلى النيل، على التحقيق والتعديل، وذلك بالذراع الهاشمي بتولي الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي.
وبنى القلعة على الجبل، وأعطاها حقها من إحكام العمل، وقطع الخندق وتعميقه وحفر واديه وتضييق طريقه. وهناك مساجد يعرف أحدها بمسجد سعد الدولة، فاشتملت القلعة عليها ودخلت في الجملة. وحفر في رأس الجبل بئراً ينزل فيها بالدرج المنحوتة من الجبل إلى الماء المعين، ولم يتأت له هذا كله في سنين متقاربة لولا أعانه ربُّه المعُين.
وتوفي السلطان وقد بقي من السور مواضع والعمارة فيه مستمرة، ووظائف نفقاتها مستدرة.
قال: وأمر ببناء المدرسة بالتربة المقدسة الشلفعية ورتب قواعدها بفرط الألمعية، وتولاها الفقيه الزاهد نجم الدين الخبوشاني، وهو الشيخ الصالح الفقيه الورع، التقيّ النقيّ.
قال: وأمر باتخاذ دارٍ في القصر بمارستاناً للمرضى، واستغفر الله تعالى بذلك واسترضى؛ ووقف على البيمارستان والمدرسة وقوفاً، وقد أبطل منكراً وأشاع معروفاً؛ وأضرب عن ضرائب فمحاها، وهبّ إلى مواهب فأسداها، واهتم بفرائض ونوافل فأداها.
فصل في خروج السلطن إلى الإسكندرية وغير ذلك من بواقي حوادث هذه السنةقال العماد: ثمَّ خرج من القاهرة يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان، واستصحب ولديه الأفضل عليَّاً والعزيز عثمان، وجعل طريقه على دمياط، ورأى في الحضور بالثغر ومشاهدته الاحتياط، وكان له بها سبيّ كثير جلبه الأسطول، فامتد مقامه بظاهر البلد يومين، ووهب لي منه جارية.
ثمَّ وصلنا إلى ثغر الإسكندرية وترددنا مع السلطان إلى أخيه الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي، وداومنا الحضور عنده، واجتلينا من وجهه نور الايمان وسعده؛ وسمعنا عليه ثلاثة أيام، الخميس والجمعة، والسبت، رابع شهر رمضان، واغتنمنا الزمان، فتلك الأيام الثلاثة هي التي حسبناها من العمر، فهي آخر ما اجتمعنا به في ذلك الثغر.
وشاهدنا ما استجده السلطان من السُّور الدائر، وما أبقاه من حسن الآثار والمآثر؛ وما انصرف حتى أمر بإتمام وتعمير الأسطول.

قال ابن أبي طيّ: ولما نوى السُّلطان المقام بالإسكندرية ليصوم فيها رأى أنه لايخلي نفسه من ثواب يقوم له مقام القصد إلى بلاد الكفار والجهاد في المشركين، فرأى الأسطول وقد أخلقت سفنه وتغيرت آلاته، فأمر بتعمير الأسطول وجمع له من الأخشاب والصَّناع أشياء كثيرة. ولما تمَّ عملُ المراكب أمر بحمل الآلآت، فنقل من السلاح والعدد ما يحتاج إليه، وشحنه بالرجال، وولىّ فيه أحد أصحابه، وأفرد له إقطاعا مخصوصا وديوانا مفردا، وكتب إلى سائر البلاد يقول، القولُ قولُ صاحب الأسطول، وأن لايمنُع من أخذ رجاله وما يحتاج إليه، وأمر صاحب الأسطول أن لايبارح البحر، ويغرى إلى جزائر البحر.
قال العماد: وقلت في معنى تنقلي في البلاد:
يوماً بحيّ، ويوماً في دمشق، وبال ... فُسطاط يوماً، ويوماً بالعراقين
كأن جسمي وقلبي الصبّ ما خلقا ... إلا ليُقتسما بالشوق والبين
وقلت يوم الخروج من القاهرة:
يا باخلاً عند الوداع بوقفة ... لو سامني روحي بها لم أبخل
ماكان ضرك لو وقفت لسائل ... ترك الفؤاد بدائه في المنزل
هلاّ وقفت لقلب من أحرقته ... مقدار إطفاء الحريق المشعل
إن أسر مرتجلاً ففي أسر الهوى ... قلبي لديك، مقيداً لم يرحل
عذب العذاب لدى فؤاد المبتلي ... إذ كنت أنت معذبي والنبتلى
وقلت وقد نزلنا بين منية غمر ومنية سمنود:
نزلت بأرض المنيتين ومنيتي ... لقاؤكم الشافي ووصبكم المجدي
سأبلي ولاتبلي سريرة ودكم ... وتؤنسني إن مت في وحشة اللحد
قال: وعدنا من ىالإسكندرية في شهر رمضان، فصمنا بقية الشهر بالقاهرة، والسلطان متوفر في ليله ونهاره، على نشر العدل وإنشاره، وإفاضة الجود واغزاره، وسماع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأخباره، وإشاعة العلم والإعلان بأسراره، وإبداء شعار الشرع وإظهاره، وإبقاء المعروف على قراره، وإعدام أعلام الباطل وإنكاره.
وقال: ومن مدائحي في السلطان ما أنشدته إياه سادس شوال:
فديتك من ظالم منصف ... وناهيك من باخل مسرف
أيبلغ دهري قصدي وقد ... قصدت بمصر ذرا يوسف
ويوسف مصر بغير التقى ... وبذل الصنائع لم يوصف
فسر وافتح القدس واسفك به ... دماءً متى تجرها ينظف
وأهد إلى الأسبتار البتا ... ر وهدّ السقوف على الأسقف
وخلّص من الكفر تلك البلاد ... يخلصك الله في الموقف
قال: وفيها وصل رُسُل المواصلة وصاحبي الحصن وماردين إلى دمشق فاستوثقوا بتحليف أخي السلطان شمس الدولة تورانشاه بن أيوب، ثم قصدوا مصر، ووقع رسول صاحب حصن كيفا في الأسر.
قال ابن أبي طيّ: وصل رسول الموصل القاضي عماد الدين بن كمال بن الشهرزوري بهدية قود، فخرج الموكب إلى لقائه، وأكرمه السلطان واحترمه؛ وقدم بعده رسول نور الدين قرا أرسلان ورسول صاحب ماردين، بهدايا، واجتمعوا في دمشق، وخرجوا إلى السلطان بمصر، فاعترضهم الفرنج، فأسر رسول صاحب الحصن، ولم يزل في الأسر حتى فتح السلطان بيت الأحزان فأطلقه وأحسن إليه: قال: وفيها رجع قراقوش إلى أوجلة وتلك البلاد، فجمع أموالاً ورجع إلى مصر، ثم أراد الرجوع فمنعه العادل، ثم خلصه فرخشاه فرجع وفتح بلاد فزّان بأسرها.
قال العماد: ثم خرج السلطان إلى مرج فاقوس، من اعمال مصر الشرقية، لإرهاب العدوّ وهو يركب للصيد والقنص، والتطلع إلى أخبار الفرنج لانتهاز الفرص. واقترح عليّ أن أمدح عز الدين فرخشاه بقصيدة موسومة، ألزم فيها الشين قبل الهاء؛ فعملت ذلك في أواخر ذي الحجة، فقلت:
مولاي عزَّ الدين فرخشه ... الدهر من يَرْجُك لايخشه
تلقاه سمح الكف، دفاقها ... طلق المحيَّا كرماً، بشه
إن شئت فوتاً بالرّدى فالقه ... أو شئت فوزاً بالعلا فاغشه
يديم بالأيدي وبالأيد في ... خزى لهاه والعدا بطشه
كم ملكٍ عاداكم لم يبت ... إلا جعلتم عرشه نعشه

خوفتم الشرك، فلا قمصه ... أمنتَّم يوما ولا فنشه
اورثك السؤدد ياابن العلا ... والداك السيد شاهنشه
وقال في الخريدة. كنا مخيمين بمرج فاقوس مصممين على الغزاة إلى غزة، وقد وصلت أساطيل ثغرى دمياط والإسكندرية بسبي الكفار، وقد أوفت على ألف رأس عدة من وصل في قيد الأسار؛ فحضر ابن رواحة منشداً مهنئاً بعيد النحر، سنة اثنتين وسبعين، ومعرضا بما وهبه الملك الناصر من الإماء والعبيد، قصيدة، منها:
لقد خبر التجارب منه حزم ... وقلبّ دهره ظهراً لبطن
فساق إلى الفرنج الخيل برا ... وأدركهم على بحر بسفن
وقد جلب الجواري بالجواري ... يمدن بكل قدٍ مرجحن
يزيدهم اجتماع الشمل بؤساً ... فمرنان تنوح على مرن
زهت إسكندرية يوم سيقوا ... ودمياط، فما منيا بغبن
يرون خياله كالطيف يسري ... فلو هجعوا أتاهم بعد وهن
أبادهم تخوفه، فأمسى ... مناهم لو يبيتهم بأمن
تملك حولهم شرقا وغربا ... فصاروا لاقتناص تحت رهن
أقام بآل أيوبٍ رباطا ... رأت منه الفرنجة ضيق سجن
رجا أقصى الملوك السلم منهم ... ولم ير جهده في البأس يغني
وفيها أبطل السلطان المكس الذي كان بمكة على الحاج، وسيأتي ذكره في أخبار سنة أربع وسبعين.
قال أبن الأثير: وفي سنة اثنتين وسبعين شرع مجاهد الدين، يعنى قايماز دزدار قلعة الموصل، في عمارة جامعه بظاهر الموصل بباب الجسر، وهو من أحسن الجوامع. ثم بني بعد ذلك الرباط، والمدرسة والبيمارستان، وكلها متجاورات.
قال: وتوفي في شهر ربيع الأول من سنة خمس وتسعين بقلعة الموصل، وهو متوليهل، والحاكم في الدولة الأتابكية النورية. وكان ابتداء ولايته القلعة في ذي الحجة، سنة إحدى وسبعين، ثم قبض عليه سنة تسع وثمانين، وأعيد إلى ولايتها بعد الإفراج عنه، وبقي إلى الآن. وكان أصله من أعمال شبختان وأخذ منها وهو طفل. وكان عاقلا خيّرا، ديّنافاضلاً، تعلم الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وكان يحفظ من الأشعار والحكايات والنوادر والتواريخ شيئاً كثيرا، إلى غير ذلك من المعارف الحسنة. وكان يكثر الصوم، وله ورد يصليه كل ليلة ويكثر الصدقة. وبنى عدة جوامع منها الذي بظاهر الموصل، وبنى خانقاهات منها التي بالموصل، ومدارس وقناطر على الأنهار، إلى غير ذلك من المصالح؛ ومناقبه كثيرة.
قال العماد في الخريدة: نزلنا ببركة الجب لقصد فرض الجهاد، وعرض الأجناد؛ فكتب الأسعد بن مماتي إلى قصيدة في الملك الناصر، ويعرض بالشطرنج فإنه كان يشتغل به، وذلك في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين:
ياكريم الخيم في الخيم ... أهيف كالريم ذو شمم
عجبي للشمس إذ طلعت ... منه في داج من الظلم
كيف لاتطمى لواحظه ... ورماة الطرف في العجم
لاتصد قلب المحب لكم ... لايحل الصيد في الحرم
ياصلاح الدين ياملكا ... قد براه الله للأمم
أضحت الكفار في نقم ... وغدا الإسلام في نعم
إن يك الشطرنج مشغلة ... لعليّ القدر والهمم
فهي في ناديك تذكرة ... لأمور الحرب والكرم
فلكم ضاعفت عدّتها ... بالعطاء الجمّ لاالقلم
ونصبت الحرب نصبتها ... فانثنت كفاك بالقمم
فابق للأقدار ترفعها ... وأمر الأقدار كالخدم
وفيها توفي بالإسنكدرية القاضي الشريف أبو محمد عبد الله العثماني الديباجي من ولد الديباج محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنهم، ويعرف بابن أبي إلياس، من بيت القضاء والعلم. وكان واسع الباع في علم الأحاديث، كثير الرواية، قيما بالأدب، متصرفا في النظم والنثر، إلا أنه مقلّ من النظم، أوحد عصره في علم الشروط، وقوله المقبول على كل العدول. ذكر ذلك العماد رحمه الله في الخريدة.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة

والسلطان مخيم بمرج فاقوس، فنظم العماد في الأجل الفاضل قصيدة ميمية في منتصف المحرم، وخدمه بها هناك في المخيم أولها:
ريم هضيم يروم هضمي ... من سقم عينيه عين سقمي
ان رمت يا عاذلي صلاحي ... فخلني والهوى وزعمي
لومك يذكي الغرام قل لي ... انت نصيحي ام انت خصمي!
ايازماني الغشوم اقصر ... انك لا تستطيع غشمي
عبد الرحيم الرحيم اضحى ... عوني على خطبك الملم
الفاضل، الافضل، الاجل ... المفضل، الاشرف، الاشم
غيث غياث، وجود جود ... وبحر علم، وطود حلم
يرعاه في اليمين منه ... تستخرج الدر من خضم
قال: وكان عندنا بالمخيم بالعباسة، في المحرم علم الدين الشتاني، وهو من ادباء الموصل وشعرائها، وفصئاحها وظرفائها، وفد سنة اثنين وسبعين الى مصر، واهدى النظم والنثر، واصطنعه عز الدين فرخشاه، وانزله في جواره، وجمع له من رفده ومن الامراء الف دينار، فمدح السلطان بالمخيم بكلمة، مطلعها:
غدا النصر معقوداً برايتك الصفراء ... فسر وافتح الدنيا، فأنت بها احرى
قلت: لم يذكر العماد من هذه القصيدة غير هذا البيت، وانه لقائم مقام قصائد كثيرة.
والشاتاني هو ابو على الحسن بن سعيد له ترجمة في تاريخ دمشق. وذكر العماد في الخريدة، وذكر فيها من هذه القصيدة:
يمينك فيها اليُمن واليُسر في اليُسرى ... فبُشرى لمن يرجو النّدى منهما بُشرى
قال العماد: وكانت الأعلام السلّطانية صُفراً، لايفارق نشرها نصراً.
قلت: وفيها يقول بعض الفضلاء:
إذا اسود خطب دونه الموت أحمر ... أتت بالأيادي البيض أعلامه الصّفر
وقد ظهرت منصوبة جزمت بها ... ظهور العدا من رفعها الخفض والجرّ
وأضحت تجوز الأرض شرقاً ومغربا ... ولله في إعلاءِ رتْبته سِرّ
وقال العماد: عاد السلطان إلى القاهرة وأقام بها، ثم اهتمت بالغزاة همتّه إلى غزة وعسقلان، فخرج يوم الجمعة ثالث جمادى الأولى بعد الصلاة، وخيم بظاهر بلبيس في خامسه، وبخميسه. ثم تقدمنا منه إلى السدير، وخيمنا بالمبرز، ثم نُودي: خذوا زاد عشرة أيام أخرى زيادة للاستظهار، ولإعواز ذلك عند توسط ديار الكفار.
قال: العماد: فركبت إلى سوق العسكر للابتياع، وقد أخذ السّعر في الارتفاع، فقلت لغلامي: قد بدا لي، وقد خطر الرّجوع من الخطر ببالي، فاعرض للبيع أحمالي وأثقالي، وانتهز فرصة هذا السّعر الغالي، وأنا صاحب قلم لاصاحب علم، وقد استشعرت نفسي في هذه الغزوة من عاقبة ندم؛ والمدى بعيد، والخطب شديد؛ وهذه نوبة السيّوف لانوبة الأقلام، وفي سلامتنا سلامة الإسلام؛ والواجب على كل منا أن يلزم شغله، ولايتعدّى حدّه، ولايتجاوز محلّه، لاسيما ونواب الدّيوان قد استأذنوا في العودة، وأظهروا قلّة العِدّة. وأظهرت سرّي للمولى الأجل الفاضل، فسرّه ذلك، إشفاقاً عليّ، وإحساناً إلىّ. وكان السّلطان أيضا يؤثر إيثاري، ويختار اختياري؛ فقال لي: أنت معنا أو عزمت أن تدعنا ولاتتبعنا؟ فقلت: الأمر للمولى، وما يختاره لي فهو أولى، فقال: تعّود وتدعو لنا، وتسأل الله أنْ يبلغنا من النّصر سؤلنا.
وكنت قد كتبت أبياتا إلى المخدوم الفاضل ونحن بالمبرز في العشرين من الشهر:
قيَل في مصر نائلٌ عدد الرّم ... لِ، ووفرْ كنيلها الموفور
فاغتررنا بها وسرّنا إليها ... ووقعنا، كما ترى، في الغرور
وحظينا بالرّمل والسيّر فيه ... ومنعنا من نيلها الميسور
وبرزنا إلى المبرز نشكو ... سدرا من نزولنا بالسدير
قيل لي: سِر إلى الجهاد. وماذا ... بالغٌ في الجهاد جهدُ مسيري؟
ليس يقوى في الجيش جأشي، ولاقو ... سي موتورا إلى موتور
أنا للكتُب لاالكتائب إقدا ... مي، وللصُّحف لا الصفاح حضوري
كاد فضلي يضيع لولا اهتمامُ ال ... فاضل الفائض النّدى بأموري
فأنا منه في ملابس جاهٍ ... رافلاً منه في حبير حبور

فهو رقيّ من الحضيض حظوظي ... وسما بي إلى سرير السُّرور
وقال: وما انقطعت عن السلطان في غزواته إلافي هذه الغزوة، وقد عظَّم الله فيها من النبوة؛ وكانت غزوات السلطان بعدها مؤيدة، والسّعادات فيها مجددة.
وكنت لما فارقت القاهرة استوحشت، وتشوقت إلى أصدقائي وتشوشت، وكتبت من المخيم ببلبيس إلى القاضي شمس الدين محمد بن موسى المعروف بابن الفرّاش، وقد أقام بالقاهرة، وكان صاحباً لي من الأيام النورية، واستشرته في التأخر عن السلطان. فكتب في الجواب: رافقه ولاتفارقه، فكرهت رأيه، فكتبت إليه:
إذا رأيتم بمكروهي فذاك رضاً ... لاأبتغي غير ما تبغون لي غرضا
وإن رأيتم شفاء القلب في مرضي ... فإنني مُستطيبٌ ذلك المرضا
أنتم أشرتم بتعذيبي، فصرت له ... مُسْتعذباً، أسْتّلِذّ الْهمّ والمضضا
أصبحت ممتعظاً بي في محبتكم ... فحاش لله أن أبغى بكم عوضا
لله عيشٌ تقضَّى عندكم ومضى ... وكان مثل سحابٍ برْقهُ ومضا
العيش دان جناه الغضّ عندكم ... والقلبُ محترقُ منيّ بجمر غضا
ماكنت أعهد منكم ذا الجفاء ولا ... حسبت أنّ ودادي عندكم رُفضا
قد أظلم الأفق في عيني لغيبتكم ... فإن أذنت لشخصي في الحضور أضا
ولست أول صبّ من أحبتَّه ... لمَّا جفوا ماقضى أو طاره، وقضى
مُروا بما شئتم من محنة وأذىً ... فقد رأيت امتثال الأمر مُعترضا
طوبى لكم مصرُ، والدارّ التي قضيت ... فيها المآرب، والعيش الذي خُفضا
بعيشكم إن خلوتم بانبساطكم ... تذكروا ضجراً بالعيش منقبضا
رضيتم سفري عنكم؛ وأعهد كم ... بسفرتي عنكم لاتظهرون رضا
هلا تكلَّفتم قولاً أُسرُّ به ... هيهات جوهركم قد عاد لي عرضا
تفضلوا واشرحوا صدري بقربكم ... أو فاشرحوا لي ذا المعنى الذَّي غمضا
فكتب إليَّ في جوابها أبياتاً، منها:
لاتنسبوني إلي إيثار بُعْدكم ... فلست أرضى إذا فاقتكم عوضا
ولي ودادٌ تولَّى الصّدق عقدته ... فما تراه على الأيام منتقضا
يلقاك قلبي على سبل العتاب له ... بصحَّةٍ ليس يخشى بعْدما مرضا
وصرت كالدَّهر يجنى أهله أسفاً ... ويلتقي من عتاب المذنب المضضا
قال: ثمّ ودّعت وعُدْت، ونهضوا وقعدت.
فصل في نوبة كسرة الرَّملة
وكانت على المسلمين بالجملة، وذلك يوم الجمعة غرَّة جمادى الآخرة أو ثانية.
ورحل السلطان بعساكره فنزل على عسقلان يوم الأربعاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى، فسبى وسلب، وغنم وغلب، وأسر وقسر، وكسب وكسر، وجمع هناك من كان معه من الأسرى فضرب أعناقهم، وتفرَّق عسكره في الأعمال مغيرين ومبيدين، فلما رأوا أن الفرنج خامدون استرسلوا وانبسطوا.
وتوَّسط السُّلطان البلاد، واستقبل يوم الجمعة، مستهلّ جمادى الآخرة، بالرّملة، راحلاً لقصد بعض المعاقل، فاعترضه نهرٌ عليه تلّ الصافية فازدحمت على العبور أثقال العساكر المتوافية، فما شعروا إلا بالفرنج طالبةً بأطلابها، حازبةً بأحزابها، ذابَّةً بذئابها، عاويةً بكلابها، وقد نفر نفيرهم، وزفر زفيرهم؛ وسرايا المسلمين في الضياع مغيرة، ولرِحا الحرب عليهم في دورهم مديرة. فوقف الملك المظفرّ تقيّ الدّين وتلقاهم وباشرهم ببيضه وسُمره، فاستشهد من أصحابه عدَّة من الكرام، انتقلوا إلى نعيم دار المقام؛ وهلك من الفرنج أضعافها.
وكان لتقي الدين ولدٌ يقال له أحمد، أول ماطرّ شاربه، فاستشهد بعد أن أردى فارسا.

قال: وكان لتقي الدين أيضا ولد آخر، اسمه شاهنشاه، وقع في أسر الفرنج. وذلك أن بعض الفرنج بدمشق خدعه وقال له: تجئ إلى الملك وهو يعطيك الملك؛ وزّور كتابا فسكن إلى صدقه وخرج معه، فلما تفرد به شدّ وثاقه، وغلّه وقيَّده، وحمله إلى الداوية، وأخذ به مالاً، وجدد عندهم له حالا وجمالا؛ وبقي في الأسر أكثر من سبع سنين حتى فكّه السلطان بمال كثير، وأطلق للداوّية كلّ من كان لهم عنده من أسير؛ فغلط القلب التقوّى على ذلك الولد جرّ هلاك أخيه، ولما عاد من الغزوة زرناه للتعزية فيه.
قال: ولو أن لتقيّ الدين رداءًا لأردى القوم، لكن النّاس تفرقوا وراء أثقالهم، ثم نجوا برحالهم، وصوّب العدوّ بجملتهم حملتهم إلى السلطان، فثبت ووقف على تقدمه من تخلف. وسمعته يوماً يصف تلك النوبة، ويشكر من جماعته الصحبة، ويقول: رأيت فارساً يحثّ نحوي حصانه، وقد صوّب إلى نحري سنانه، فكاد يبلغني طعانه، ومعه آخران قد جعلا شأنهما شانه. فرأيت ثلاثة من أصحابي خرج كلّ واحد إلى واحد منهم فبادروه وطعنوه، وقد تمكن من قربي فما مكَّنوه؛ وهم إبراهيم بن قنابر، وفضل الفيضي، وسويد بن غشم المصري، وكانوا فرسان العسكر وشجعان المعشر. وأتفق لسعادة السلطان أنّ هؤلاء الثلاثة رافقوه وما فارقوه، وقارعوا العدوّ دونه وضايقوه؛ فما زال السلطان يسير ويقف، حتى لم يبق من ظنّ أنه يتخلف.
ودخل الليل وسلك الرمل ولاماء ولادليل، ولاكثير من الزاد والعلف ولاقليل، وتعسفوا السلوك في تلك الرمال وأوعاث والأوعار، وبقوا أياماً وليالي بغير ماء ولازادٍ حتى وصلوا إلى الديار. وأذن ذلك بتلف الدّواب وترجل الركاب ولُغوب الأصحاب، وفقد كثير ممن لم يعرف له خبر، ولم يظهر له أثر. وفقد الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري وأخوه الظهير، ومن كان في صُحبتهم، فضّل الطريق عنهم، وكانوا سائرين إلى وارء، فأصبحوا بقرب الأعداء، فأكمنوا في مغارة، وانتظروا من يدلهم من بلد الإسلام على عمارة. فدّل عليهم الفرنج من زعم أنه يدل بهم، وسعى في أسرهم وعطبهم، فأسروا، وماخلص الفقيه عيسى وأخوه إلا بعد سنين؛ بستين أو سبعين ألف دينار، وفكاك جماعة من الكفار.
قال: وما اشتدت هذه النوبة بكسرة، ولاعدم نُصرة، فإن النكاية في العدوّ وبلاده بلغت منتهاها، وأدركت كلُّ نفسٍ مؤمنة مُشتهاها. لكن الخروج من تلك البلاد شتت الشمل، وأوعر السّهل، وسُلك مع عدم الماء والدليل والرمل.
ومما قدره الله تعالى من أسباب السّلامة، والهداية إلى الاستقامة، أن الأجل الفاضل استظهر في دخول بلاد الأعداء باستصحاب الكنانية والأدلاء، وأنهم ماكاونوا يفارقونه في الغداء والعشاء؛ فلما وقعت الواقعة خرج بدوابه، وغلمانه وأصحابه، وأدلائه وأثقاله، وبث أصحابه في تلك الرمال، والوهاد والتلال، حتى أخذ خبر السلطان وقصده، وأوضح بأدلائه جدده، وفرّق ماكان معه من الأزواد على المنقطعين، وجمعهم في خدمة السلطان أجمعين؛ فسُهل ذلك الوعر، وأنس بعد الوحشة القفر، وجبر الكسر.
وكان الناس في مبدأ توجُّه السلطان إلى الجهاد، ودخول الأجل الفاضل معه إلى البلاد، ربما تحدثوا وقالوا لو قعد وتخلف كان أولى به، فإن الحرب ليست من دأبه. ثمّ عُرف أنّ السَّلامة والبركة والنجاة كانت في استصحابه.
وجاء الخبر إلى القاهرة مع نجابين فخلع عليهم وأركبوا، وأُشيع بأن السلطان نصره الله، وانّ الفرنج كسروا وغلبوا. فركبت لأسمع حديث النجّابين وكيف نصر الله المسلمين، وإذا هم يقولون: أبشروا فإن السلطان وأهله سالمون، وإنهم واصلون غانون. فقلت لرفيقي ما بُشر بسلامة السلطان إلا وقد ثمت كسرة، وما ثمَّ سوى سلامته نُصرة.
ولما قرب خرجنا لتَّلقيه، وشكرنا الله على مايسره من ترقيه وتوقيه. ودخل القاهرة يوم الخميس منتصف الشهر، ونابت سلامته مناب الدّهر، وسيرنا بها البشائر، وأنهضنا ببطاقتها الطائر، لإخراس ألسنة الأراجيف، وإبدال التأمين من التخويف، فقد كانت نوبتها هائلة، ووقعتها غائلة.

وقال القاضي ابن شداد: خرج السلطان يطلب الساحل حتى وافى الفرنج على الرّملة، وذلك في أوائل جمادى الأولى، وكان مقدم الفرنج البرنس أرناط، وكان قد بيع بحلب فإنه كان أسيراً بها من زمن نور الدين رحمه الله تعالى؛ وجرى خللٌ في ذلك اليوم على المسلمين. ولقد حكى السلطان، قدّس الله روحه، صورة الكسرة في ذلك اليوم، وذلك أنّ المسلمين كانوا قد تعَبَّوا تعبئة الحرب، فلما قارب العدوّ رأى بعض الجماعة أن تغير الميمنة إلى جهة الميسرة والميسرة إلى جهة القلب، ليكون حال اللقاء وراء ظهرهم تلٌ معروف بأرض الرّملة. فبينما اشتغلوا بهذه التعبئة هجم الفرنج، وقدّر اله كسرهم، فانكسروا كسرةً عظيمة؛ ولم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه، فطلبوا جهة الديار المصرية وضلوا في الطريق وتبددوا، وأُسر منهم جماعة منهم الفقيه عيسى. وكان وَهَناً عظيماً جبره الله تعالى بوقعة حطين المشهورة؛ ولله الحمد.
قلت: وذلك بعد عشر سنين؛ فكسرة الرّملة هذه كانت في سنة ثلاث وسبعين، وكسرة حطين كانت في سنة ثلاث وثمانين.
قال العماد الكاتب: وحيث كانت للملك المظفر تقي الدين في هذه الغزوة اليد البيضاء، أنشدته قصيدة، منها:
سقى الله العراق وساكنيه ... وحيّاه حيا الغيث الهتون
وجيراناً أمنت الجور منهم ... ومافيهم سوى وافٍ أمين
صفوا والدهر ذو كدرٍ، وقدما ... وفوا بالعهد في الزمن الخئون
بنو أيوب زانوا الملك منهم ... بحليةِ سؤودٍ وتُقى ودين
ملوكٌ أصبحوا خير البرايا ... لخير رعيةٍ في خير دين
أسانيد السيادة عن علاهم ... مُعَنْعَنَةٌ مصححةُ المتون
بنو أيوب مثلُ قريش مجداً ... وأنت لها كأنزعها البطين
أخفت الشرك حتى الذّعر منهم ... يُرى قبل الولادة في الجنين
ويومَ الرّملة المرهوبَ بأساً ... تركت الشرك منزعج القطين
وكنتَ لعسكر الإسلام كهفاً ... أوى منه إلى حصن حصين
وقد عرف الفرنج لما ... رأوا آثارها عين اليقين
وأنت ثبت دون الدّين تحمى ... حماه أوان ولى كلُّ دين
قال: واهتم السلطان بعد ذلك بإفاضة الجود، وتفريق الموجود، وافتقاد الناس بالنقود، والسنايا الصادقة الوعود، وجبر الكسير، وفك الأسير، وتوفير العدد، وتكثير المدد، وتعويض مانفق من الدواب؛ فسلوا مانابهم، ولم يأسوا على ما أصابهم.
قال ابن أبي طيّ: وقال ابن سعدان الحلبيّ يمدح السلطان، ويذكر ما فعله على عسق لان، ويهوّن عليه أمر هذه الكسرة، من قصيدة:
قرَّبت من عسقلان كلّ نائبة ... باتت تقل بوكاف من الأسل
فاض النجيع عليها وهي ممُحلة ... فأصبحت موتعا للخيل والإبل
قل للفرنجية الخذلى: رويدكم ... بالثأر أو تخرج الشعري من الحمل
ترقبوها من الفوار طالعةً ... خوارق الأرض تمحور رونق الأصل
كأنني بنواصيهنّ يقدمها ... كاسٍ من الجود عريان من النجل
حَسِب العدا ياصلاح الدين حسبهم ... أن يقرفوك بجرح غير مندمل
وهل يخاف لسان النحل ملتمسٌ ... مرّت على أصبعيه لذة العسل
فصل في وفاة كمشتكين وخروج السلطان من مصر بسبب حركة الفرنجقال العماد: وقعت المنافسة بين الحلبيين مدبري الملك الصالح، واستولى على أمره العدل ابن العجمي أبو صالح. وكان سعد الدّين كمشتكين الخادم مقدم العسكر، وأمير المعشر، وهو صاحب حصن حارم، وقد حسده أمثاله من الأمراء والخدام، فسلموا لابن العجمي الاستبداد بتدبير الدولة، فقفز عليه الاسماعيلية يوم الجمعة بعد الصلاة في جامع حلب فقتلوه.

واستقل كمشتكين بالأمر، فتكلم فيه حسّاده وقالوا للملك الصالح: ما قتل وزيرك ومشيرك ابن العجمي إلا كمشتكين فهو الذي حسن ذلك للاسماعيلية. وقالوا له: أنت السلطان وكيف يكون لغيرك حُكمٌ أو أمر! فما زالوا به حتى قبض عليه وطالبوه بتسليم قلعة حارم، وأوقعوا بها لأجله العظائم. فكتب إلى نوابه بها فنبوا وأبو، فحملوه ووقفوا به تحت القلعة، وخوّفوه بالصرعة، فلما طال أمره، قصر عمره، واستبد الصغار بعده بالأمور الكبار، وامتنعت عليه قلعة حارم، وجرد إليها العزائم. ونزل عليه الفرنج ثم رحلوا بقطيعةٍ بذلها لهم الملك الصالح واستنزل عنها أصحاب كمشتكين وولىّ بها ملوكاً لأبيه يقال له سرخك.
وقال ابن الأثير: سار الملك الصالح من حلب إلى حارم ومعه كمشتكين، فعاقبه ليأمرَ من بها بالتسليم، فلم يجب إلى ماطلب منه، فعُلق منكوساً ودُخن تحت أنفه فملت؛ وعاد الملك الصالح عن حارم ولم يملكها. ثم أنه أخذها بعد ذلك.
قال ابن شداد: أما الملك الصالح فإنه تخبط أمره، وقبض كمشتكين صاحب دولته، وطلب منه تسليم حارم إليه، فلم يفعل، فقتله. ولما سمع الفرنج بقتله نزلوا على حارم، طمعاً فيها، وذلك في جمادى الآخرة، وقاتل عسكر الملك الصالح العساكر الفرنجية. ولما رأى أهل القلعة خطرها من جانب الفرنج سلموها إلى الملك الصالح في العشر الأواخر من شهر رمضان. ولما عرف الفرنج بذلك رحلوا عن حارم طالبين بلادهم، ثمّ عاد الصالح إلى حلب، ولمْ يزلْ أصحابه على اختلاف يميل بعضهم إلى جانب السلطان قدّس الله روحه.
قال العماد: ووصل في هذه السنة إلى الساحل من البحر كند كبير يقال له اقلندس، أكبر طواغيت الكفر، واعتقد خلو الشام من ناصري الإسلام. ومن جملة شروط هدنة الفرنج أنهم إذا وصل لهم ملك أو كبير، مالهم في دفعه تدبير، أنهم يعاونونه ولايباينونه، ويحالفونه ولايخالفونه، فإذا عاد عادت الهدنة كما كانت، وهانت الشدة ولانت. وبحكم هذا الشرط حشدوا الحشود، وجندواا الجنود، ونزلوا على حماة، في العشرين من جمادى الأولى، وصاحبها، شهاب الدّين محمود الحارمي، مريض، ونائب السلطان بدمشق يؤئذ أخوه الأكبر توانشاه، وهو والأمراء مشغولون بذاتهم. وكان سيف الدين عليّ بن أحمد بن المشطوب بالقرب، فدخلها وخرج للحرب، واجتمع إليها رجال الطعن والضرب، وجرت ضروبٌ من الحروب، وكاد الفرنج تهجم البلد فأخرجوهم من الدروب. ونصر الله أهل الإسلام، بعد حصارهم لهم أربعة أيام، فانهزم الملاعين ونزلوا على حصن حارم، كما تقدم ذكره، فرحلهم عنه الملك الصالح بعد حصاره أربعة أشهر.
ومن كتاب فاضليّ إلى بغداد: " خرج الكفّار إلى البلاد الشَّامية فاسخين لعقد كان محكماً، غادرين غدرا صريحاً، مقدرين أن يجهروا على الشَّام لما كان بالجدب جريحا. ونزلوا على ظاهر حماة يوم الاثنين الحادي والعشرين من جمادى الأولى، وزحفوا إليها في ثانية فخرج إليهم أصحابنا. وتضَّمن كتاب سيف الدين - يعنى المشطوب - أن القتلى من الفرنج تزيد على ألف رجل مابين فارس وراجل، شفى الله منهم الصدور ورزق عليهم النصر والظُّهور. ثم انصرفوا محموعا لهم بين تنكيس الصُّلُب وتحطيم الأصلاب، مفرّقة أحزابهم عن المدية المحروسة كما افترقت عن المدينة الشريفة النبوية الأحزاب " .
قال العماد: وتسامع الحلبيون بيوم رحيلنا من مصر لقصد الشَّام، لنُصْرة الإسلام، وقالوا أوّل ما يصل صلاح الدين نسلم حارم. فراسلوا الفرنج وقاربوهم، وأرغبوهم وأرهبوهم، وقالوا لهم صلاح الدين واصل، ومالكم بعد حصوله عندكم حاصل. فرحل الفرنج بقطيعة من المال أخذوها، وعدّة من الأسارى خلَّصوها.
ثم تُوفى خال السُّلطان شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي، في جمادى الآخرة، وتوفي ولده تكش، ابن خال السُّلطان، قبله بثلاثة أيَّام وذلك أوان وقعة الرملة.
ولما سمع السُّلطان بنزول الفرنج على حارم رحل من البركة يوم عيد الفطر بعساكره، ووصل أيلة في عاشر الشهر، واستناب بمصر أخاه العادل؛ وأقام بها أيضا القاضي الفاضل بنيَّة الحج في السنة القابلة. ووصل السُّلطان إلى دمشق في الرابع والعشرين من شوّال. ومما نظمه العماد في التَّشويق إلى مصر قوله:
ساكني مصر، هناكم طيبها ... إن عيشي بعدكم لمْ يطب
لاعدمتم راحةً من قربها ... فأنا من بعدها في تعب

بعد العهد بأخباركم ... فابعثوا أخباركم في الكتب
ليت مصراً عرفت أني وإن ... غبتُ عنها فالهوى لم يغب
ومن ذلك قوله:
تذكرت في جلَّقٍ داركم ... بمصر، ويا بُعْد مابيننا
وما أتمنى سوى قُربكم ... وذلك والله كلُّ المنى
لكم بالجنان وطيب المقام ... وحسن النعيم بمصر الهنا
ومن ذلك أيضا:
ياساكني مصر، قد فقتم بفضلكم ... ذوي الفضائل من سكان أمصار
لله درّكمُ من عُصْبة كرُمت ... ودرُّ مصركم الغناء من دار
ومن ذلك أيضا:
ياحبذا مصرٌ وبْرِ ... كتها وصدْرٌ والعريش
فهناك أملاكي الذَّي ... نَ سَمَتْ بعزّهم العُروش
قال: ووصل كتاب من الفاضل يذكر فيه أنّ العدوّ، خذله الله تعالى نهض ووصل إلى صدر، وقالت القلعة ولم يتم له أمر، فصرف الله شره وكفى أمره.
ووصل من الفرنج مستأمن وذكر أنَّهم يريدون الغارة على فاقوس، فاستقلوا أنفسهم وعرّجوا، وذكر أنهم مضوا بنية تجديد الحشد، ومعاودة القصد.
قال: وأما نوبة العدوّ في الرّملة فقد كانت عثرةً، علينا ظاهرها، وعلى الكفَّار باطنها، ولزمنا مانسي من اسمها، ولزمهم مابقي من عزمها؛ ولادليل أدلّ على القوّة من المسير بعد شهرين من تاريخ وقعتها إلى الشَّام، نخوض بلاد الفرنج بالقوافل الثَّقيلة، والحشود الكبيرة، والحريم المستور، والمال العظيم الموفور.
قال العماد: ولما دخلنا دمشق وجدنا رُسُل دار الخلافة، قد وصلوا بأسباب العاطفة والرأفة؛ وكان حينئذ صاحب المخزن ظهير الدّين أبو بكر منصور بن نصر العطَّار، وهو من ذوي الأخطار، وله التحكم في الإيراد والإصدار، وقد توفَّر على محبَّة السُّلطان وتربية رجائه، وتلبية كتابهُ ورسوله بكلّ ماسَرَ السَّرائر، ونوّر البصائر.
فصل في ذكر أولاد السلطانقال العماد: وفي هذه السَّنة ولد بمصر للسُّلطان ابنه أبو سليمان داود.
وكتب الفاضل إلى السلطان يهنئه به ويقول: " إنه وُلد لِسَبْع بقين من ذي القعدة. وهذا الولدُ المُبارك هو المُوفى لاثني عشر ولداً، بل لاثني عشر نجماً متوقداً، فقد زاد الله في أنجمه على أنجم يوسف عليه السلام نجماً، ورآهم المولى يقظة ورأى تلك الأنجم حلما، ورآهم ساجدين له، ورأينا الخلق سجوداً، وهو قادرٌ سبحانه أن يزيد جدود المولى إلى أن يراهم أباءً وجدوداً " .
قال العماد: وكنت في بعض الليالي عند السُّلطان في آخر عهده، وجرى ذكر أولاده، واعتضاده بهم واعتداده؛ فقلت له: لو عرفت أيام مواليدهم في أعوامها، لأنشأت رسالةً على نظامها. فذكر لي ما أثبته على ترتيب اسنانهم وماصورته: الملك الأفضل نور الدين أبو الحسن عليّ؛ ولدُ بمصر ليلة عيد الفطر عند العصر سنة خمس وستين وخمسمائة.
العزيز أبو الفنح عثمان عماد الدِّين؛ ولد بمصر ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين.
الظافر أبو العباس خضر مظفر الدِّين؛ ولد بمصر في خامس شعبان سنة ثمان وستين، وهو أخو الأفضل لأبويه.
الظاهر أبو منصور غازي غياث الدين؛ ولد بمصر منتصف رمضان سنة ثمان وستين.
المقرّ أبو يعقوب إسحاق فتح الدِّين؛ وُلد بمصر في ربيع الأول سنة سبعين.
المؤيد أبو الفتح مسعود نجم الدين؛ وُلد بدمشق في ربيع الأول سنة إحدى وسبعين، وهو أخو العزيز لأبويه: الأعزُّ أبو يوسف يعقوب شرف الدِّين؛ وُلد بمصر في ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين، لأم العزيز.
الزَّاهر أبو سليمان داود مجير الدِّين؛ ولد بمصر في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين، لأم الظاهر.
المفضّل أبو موسى قطب الدِّين، ثم نعت بالمظفَّر؛ ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين، وهو أخو الأفضل لأمه.
الأشرف أبو عبد الله محمَّد عزيز الدِّين؛ وُلد بالشَّام سنة خمس وسبعين وخمسمائة.
المحسن أبو العباس أحمد ظهير الدِّين؛ وُلد بمصر في ربيع الأول سنة سبع وسبعين، وهو لأم الأشرف.
المعظَّم أبو منصور تورانشاه فخر الدين؛ ولد بمصر في ربيع الأول سنة سبع وسبعين أيضا. قلت: ومات سنة ثمان وخمسين وهي السنة التي أخرب العدو من التتار، خذلهم الله تعالى فيها، مدينة حلب وغيرها، والله أعلم.
الجواد أبو سعيد أيوب ركن الدِّين؛ ولد في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين، وهو لأم المعز.

الغالب أبو الفتح ملكشاه نصر الدِّين؛ مولده بالشَّام في رجب سنة ثمان وسبعين، وهو لأم المعظم.
المنصور أبو بكر، وهو أيضا أخو المعظم لأبويه، ولد بحرّان بعد وفاة السلطان.
قلت: فهذه خمسة عشر ولداً ذكرهم العماد في هذا الموضع.
وقال في آخر كتاب الفتح القُدسي، على ماسنذكره في آخر هذا الكتاب: لما توفي خلَّف سبعة عشر ولداً وابنةً صغيرة. فقد فاته هنا ذكر اثنين، وهما عماد الدين شاذي، لأم ولد، ونصرة الدين مروان، لأم ولد. وأما البنت فهي مؤنسة خاتون، تزوجها الملك الكامل محمد، على ماسنذكره إن شاء الله تعالى، وهو ابن عمها الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
وللسلطان غير هؤلاء الأولاد ممن درج في حياته، كالملك المنصور حسن، وسيأتي ذكر وفاته؛ والأمير أحمد وهو الذي رثاه العرقلة بقوله:
أيّ هلال كُسفا ... وأي غصنٍ قصفا
كان سراجاً قد طفا ... على الورى، ثمّ انطفا
لم يركب الخيل، ولم ... يقلدوه مرهفاً
قل للنحاة: ويحكم ... أحمدكم قد صرفا
صبراً صلاح الدين يا ... ربّ السماح والوفا
قال العماد: وورد من الفاضل كتاب تاريخه منتصف ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ذكر فيه فصولا متعددة. منها: للمولى أولادٌ وقد صاروا رجالاً، ويجب أن تستجدّ للقلاع رجالا، كما فعل السابقون أعماراً وأعمالا، وقيل: القلاع أنوفٌ من حلها شمخ بها. مافي الرجال على النساء أمين.
ومنها أبيات في ذكر السلام:
مملوك مولانا، ومملوكُ ابنه ... وأخيه، وابن أخيه، والجيران
طيّ الكتاب إليه منه إجابة ... لسلام مولانا ابنه عثمان
والله قد ذكر السلام وأنه ... يجزي بأحسن منه في القرآن
وغريبة قد جئت فيها أوّلا ... ومن اقتفاها كان بعدي الثاني
فرسولي السلطان في إرسالها ... والناس رسلهم إلى السلطان
قلت ووصف الفاضل الملك المؤيد في كتاب آخر فقال: " وقد تمطت به وامتدت، وتأهبت السعادة لخطبته واعتدت، ولاحظته العيون بالوقار وطرفت دون جلالته وارتدت " .
وفي بعض كتب الفاضل عن السلطان إلى ولده الأفضل: إعزازه لأهل الفضل دليلٌ على فضله، وأنّ الأولى أن تكون كتب الأدب عند أهله. وما أبهجنا إذ جال في فضاء الفضائل، وخطب من أبكار المعاني كرائم العقائل، وآخى بين السيف والقلم، وصار في موكبه العلمُ والعلم.
ومن كتاب آخر في المعنى: فلقد زادت هذه المنقبة في مناقبه، ونظمت عقود سؤدد في ترائبه.
فما ترجم الإنسان عن سرّ فضله ... بأفضل من تقريبه لأولى الفضل
قال العماد: وخرج السلطان للصيد في ذي الحجة نحو قارا، فشكوت ضرسي، وعدمت أنسي، فرجعت مع عزّ الدين فرخشاه لحميّ عرته، فشكا منها، ألا تزور إلا نهاراً جهاراً، ولاتفارق بعرق، بالضد من الحمي التي وصفها أبو الطيب المتنبي. فنظمت فيه كلمة طويلة أولها:
يمينك دأبها بذل اليسار ... وكفك صوبها بدر النطار
وإنك من ملوك الأرض طُرَّا ... بمنزلة اليمين من اليسار
وأنت البحر في بث العطايا ... وأنت الطود في بادي الوقار
ومنها في وصف الحمى:
وزائرة وليس بها حياء ... فليس تزور إلا في النهار
ولو رهبت لدى الإقدام جوري ... لما رغبت جهاراً في جواري
ولو عرفت لظى في وهج اشتياق ... ليظهر ماأورى من أواري
ولو عرفت لظى سطوات عزمي ... لكانت من سطاي على حذار
تقيم، فحين تبصر من أناتي ... ثبات الطود تسرع في الفرار
تفارقني على غير اغتسال ... فلم أحلل لزورتها إزاري
أيا شمس الملوك، بقيت شمساً ... تنير على الممالك والديار
أحماك استعارت لفح نار ... لعزمك لم تزل ذات استعار
فصل

قال العماد: وفي العشر الأول من ذي القعدة قتل عضد الدين بن رئيس الرؤساء، وزير الخليفة ببغداد، على أيدي الملاحدة. وكان قد توجه إلى الحج، فوقف له في مضيق قطفتا، غربي دجلة، كهلٌ في يده قصّة يزعم أنه يريد رفعها إلى الوزير من يده إلى يده؛ فأومأ ليوصل قصته، فانتهز فيه فرصته، فقتله؛ وبدر كمال الدين أبو الفضل بن الوزير فقتل قاتل أبيه بسيفه. وكان مع ذلك الجاهل الملحد رفقيان له، فجرح أحدهما صاحب الباب أبو المعوج فمات، وجرح آخر ولد قاضي القضاة، وقطع الملاحدة وأحرقوا. واستقلَّ ظهير الدين أبو بكر منصور بن نصر المعروف بابن العطار صاحب المخزن بالدولة، وكان للسلطان خدنا مصافيا.
قلت: وابن العطار هذا هو المرجوم المسحوب بعد موته ببغداد، كما سيأتي ذكره في آخر حوادث سنة خمس وسبعين.
قال ابن الأثير: وكنت حينئذ ببغداد عازما على الحد، فعبر عضد الدين دجلة في شبارة، فلما ركب دابته والناس معه مابين راكب وراجل، تقدم إليه بعض العامة ليدعو له، فمنعه أصحابه، فزجرهم وأمرهم ألا يمنعوا أحداً عنه؛ فتقدم إليه الباطنية فقتلوه بالجانب الغربي وقُتل الباطنية وأحرقوا، وحمل من موضعه إلى دار له بقطفتا في الجانب الغربي فتوفي بها.
قال العماد: ووردت مطالعة الفاضل إلى السلطان تتضمن التوجع لقتل الوزير عضد الدين، وفيها: (ومارَبُّكَ بِظَلاَّمٍ للعْبيِد)، فقد كان عفا الله عنه قتل ولدي الوزير ابن هبيرة وأزهق أنفسهما وجماعة لاتحصى:
من يرَ يوماً يُرَ به ... والدهر لايغتر به
وهذا البيت بيت ابن المسلمة عريق في القتل، وجدّه هو المقتول بيد اليساسيري في وقت إخراج الخليفة القائم في أيام الملقب بالمستنصر بمصر، فهو من ذرية لم تزل قالتة مقتولة، ومازالت السيوف عليها ومنها مسلولة؛ فهم في هذه الحادثة المسمعة المصمة كما قال دريد:
*أبى الموت إلا آل صمه*
والأبيات المولى يحفظها، وهي في الحماسة، وقد ختت له السعادة بما ختمت به له الشهادة، لاسيما وهو خارج من بيته إلى بيت الله. قال الله سبحانه: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجراً إلى اللهِ وَرَسُولهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقْد وَقَع أجْرُه على الله).
إن المساءة قد تسرّ وربما ... كان السرور بما كرهت جديرا
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا
وهذان البيتان قيلا في أبي سلمة الخلال أول وزير لبني العباس.
قلت: وبلغني أنّ الفاضل كان ينشد:
وأحسن من نيل الوزارة للفتى ... حياة تريه مصرع الوزراء
قال العماد: وكان ضياء الدين بن الشَّهْرَزوْري قد سار في الرسالة إلى بغداد وتوقف في الموصل لحادثة الوزير؛ ووافق وصوله إلى الموصل وفاة ابن عمه القاضي عماد الدين أحمد ابن القاضي كمال الدين بن الشهرزوري، وكان شاباً. وجاء كتاب الفاضل يذكر ذلك وفيه:
يدلى ابن عشرين في لحده ... وتسعون صاحبها راتع
اعتبط الولد مع نضارة الشباب المقتبل، ... وعُمرّ الوالد مع ذبول المشيب المشتمل.
ليُعْلم أن الشيب ليس بمسلم ... وأن الشباب الغض ليس بمانع
وليكون العبد حذراً من بغتات الآجال، في كلّ الأحوال. والله يطيل للمولى العمر، كما أطال له في القدر، ونسمع منه ولانسمع فيه، ويبقيه سنداً للدين الحنيفي فإن بقاءه يكفيه.

أقسام الكتاب
1 2 3 4