كتاب : ذيل مرآة الزمان
المؤلف : اليونيني

وبمهجتي رشأ أطالت عذلى ... فيه الملام وقد حوى ما قد حوى
ما أبصرته الشمس إلا واكتست ... خجلاً ولا غصن النقا إلا التوى
قالوا فعيه سوى رشاقة قده ... وفتور عينيه وهل موتى سوى
وروى الأراك محاسناً عن ثغره ... يا طيب ما نقل الأراك وما روى
ولقد يعز علي موتي ضامياً ... لمقبل منه الأراك قد التوى
وله رحمه الله:
قد رأيناك والغزالة تسنح ... فرأينا حلاك أحلى واملح
وترنحت والقضيب ولكن ... لم يدع ناظراً إلى الغصن يطمح
ولقد غض ناظر النرجس الغض ... حياء من مقلتيك وأفلح
أي عين ترى له عيني ... ك فترنو من بعد ذاك وتفتح
وادعى الورد أنه لون خدي ... ك ولا شك أنه كان يمزح
فلهذا صبا بحسنك قلب ... كان يدعى إلى الغرام فيجمح
وعهدت الرقاد يألف جسمي ... فرأى جفنك المليح فرجح
وله أيضاً رحمه الله:
عانقته فسكرت من طيب الشذا ... غصن رطيب بالنسيم قد اغتذى
نشوان ما شرب المدام وإنما ... أضحى بخمر رضابه متنبذا
يا ناظري أما وقد عاينته ... والله لا رمدا تخاف ولا قذا
مهما اكتحلت بخده وعذاره ... لم تلق إلا عسجدا وزمردا
جاء العذول يلومني من بعد ما ... أخذ الغرام علي فيه مأخذا
لا أرعوى لا انثنى لا انتهى ... عن حبه فليهذ فيه من هذا
والله لا خطر السلو بخاطري ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا
إن عشت عشت على هواه وأن أمت ... وجدا به وصبابة ياحبذا
وقصد جمال الدين المذكور الأجتماع بالصاحب معين الدين ابن الشيخ فقيل له أنه يزور الشافعي رحمة الله عليه فقصده واجتمع به في قبة الشافعي فقال.
زرت الإمام الشافعي ولم أكن ... لزيارتي يوماً له بالتارك
فوجدت مولانا الوزير يزوره ... فظفرت عند الشافعي بمالك
وقال
حلفتم لنا أن لا تخونوا فخنتم ... وأن لا تميلوا للوشاة فملتم
فإن كان هذا الغدر فيكم سجية ... فمن كان الجأكم إلى أن حلفتم
عفا الله عنكم ما أقل وفاكم ... ومن كرمى قولي عفا الله عنكم
فيا ساكني قلبي المعنى بحبهم ... أما لكم قلب يرق ويرحم
بحقكم ألا جنحتم إلى الرضا ... وقد طال هذا العتب منا ومنكم
أحبكم في حالة السخط والرضا ... وأهواكم أحسنتم أو أسأتم
ولي عاذل في حبكم ليس ينثني ... ولكنني عنه أصم وأبكم
وله أيضا رحمه الله:
ولما جفاني من أحب وخانني ... حفظت له الود الذي كان ضيعا
ولو شئت قابلت الصدود بمثله ... ولكنني أبقيت للصلح موضعا
وقد كان ما قد كان بيني وبينه ... أكيداً وكنت رعيت وما رعى
سعى بيننا الواشي ففرق بيننا ... ذلك الذنب يا من خانني لا لمن سعى
وله أيضا رحمه الله:
يا قلب جاءك من تحبه ... وحنا ورقّ عليك قلبه
فاغفر له ما قد جنا ... ه وإن تعاظم منه ذنبه
حب الحبيب إذا متفضلا ... يا قلب حسبه
مستسلما بيساره ... كفن وفي يمناه عضبه
أرضى وزاد على الرضا ... فحسيب من أغراه ربه
وكتب إلى بهاء الدين زهير رحمه الله من آمد وهو محصور بها يقول
سطرتها والسمهرية شرع ... من حولنا والمشرفية تلمع
وعلى مكافحة العدو ففي الحشى ... شوق إليك تضيق عنه الأضلع
؟ومن الصبا وهلم جرا شيمتي هذا الوفاء فكيف عنه أرجع وله في المعنى:
أصدرتها والعو إلى شرع ترد ... في موقف فيه ينسى الوالد الولد

وما نسيتك والأرواح سائلة ... على السيوف ونار الحرب تتقد
وله أيضاً: ؟هي رامة فخذوا يمين الوادي وذروا السيوف تقر في الأغماد
وحذار من لحظات أعين عينها ... فلكم صرعن بها من الآساد
من كان منكم واثق بفؤاده ... فهناك ما أنا واثق بفؤادي
ياصاحبي ولي بجرعاء الحمى ... قلب أسير ماله من فادي
سلبته من يوم رامة مقلة ... مكحولة أجفانها بسواد
وبحي من أنا في هواه ميت ... عين على العشاق بالمرصاد
وأغن مسكي اللمى معسوله ... لولا الرقيب بلغت منه مرادي
كيف السبيل إلى وصال محجب ... ما بين بيض قنا وسمر صعاد
في بيت شعر نازل من شعره ... فالحسن منه عاكف في بادي
حرسوا مهفهف قده بمثقف ... فتاشبه المياس بالمياد
قالت لنا ألف العذار بخده ... في ميم مبسمه شفاء الصادي
وله أيضاً:
علقته من آل يعرب لحظه ... أمضى وأفتك من سيوف عريبه
أسكنته بالمنحني من أضلعي ... شوقا لبارق ثغره وعذيبه
يا عائبي ذاك الفتور بلحظه ... خلوه لي أنا قد رضيت بعيبه
لدن وما مر النسيم بعطفه ... أرج وما نفح العبير نجيبه
وقال وهو متمرض
يا رب إن عجز الطبيب فداوني ... بلطيف صنعك واشفني يا شافي
أنا من ضيوفك قد حسبت وإن من ... شيم الكرام البر بالأضياف
وله أيضا رحمه الله:
من لي بغصن باللحاظ ممنطق ... حلو الشمائل واللمى والمنطق
مثرى الروادف مملق من خصره ... أسمعت في الدنيا بمثر مملق
وغريرة زارت على بخل بها ... لما بعثت لها زيارة مشفق
لم أدر ما قالت وقد لمست يدي ... ماذا لقينا منه أو ماذا لقي
خافت عواقب محنتي من أجلها ... فبكت لشمل دموعي المتفرق
لا شيء أكتم من دجنة شعرها ... لو أن صامت حليها لم ينطق
حتى الحنى لحسنها متوسوس ... فاعجب لحنى الجماد المنطق
خد توقد إذ ترقرق ماؤه ... لهفي على المتوقد المترقرق
ويروقني منها أخضرار خضابها ... والغصن ليس يروق ما لم يورق
فبحسنها هي زهرة للمشتري ... وبطيبها هي زهرة المستنشق
ونظيرها الغصن النضير إذا انثنت ... في حلة حضراء من استبرق
تعصى العذول عن الهوى وتطيعني ... فأنا السعيد بها وعاذلي الشقي
فلكم بها من حلوه كرضا بها ... كعتا بها كتملقي
وأقول يا أخت الغزالة ملاحة ... فتقول لا عاش الغزال ولا بقي
يا شمس قلبي في هواك عطارد ... لولا تعلقه بها لم تحرق
وأجل ذنبي عندها عدم الغنى ... فكأنه شيب ألم بمفرقي
قالت سل الأملاك قلت أنا امرؤ ... يأبى السؤال خلائقي وتخلقي
وإذا سألت سألت رباً رازقاً ... قطعت يد مدت إلى مسترزق
لا كلفن الجرد ما لم تستطع ... صبراً عليه بيعملات الأنيق
من كل ضامرة إذا سرت الصبا ... في إثرها عادت بسعي مخفق
إن لم أنل بالمغرب الأقصى المنى ... حاولت ذلك ولو بأرض المشرق
وكيف وكفى يسيرا من حسامك أن يرى ... قدم الفوارس وهو جد مخلق
من معشر نسقوا سطوراً في العلى ... وغدا سواهم مثل دف ملحق
وإذا الحديد حمي عليهم أبردوا ... بالمسح في بحر الحديد الأزرق
لولا تكذبني قوائم بيضهم ... أقسمت أن أكفهم لم تطبق
لم تقتطع يد السارق من مالهم ... إذ كان بيت المال ليس بمغلق

وقال وأمر أن تكتب على قبره
أصبحت بعقر حفرة مرتهنا ... لا أملك من دنياي إلا كفنا
يا من وسعت عباده رحمته ... من بعض عبادك المسيئين أنا
وقال يمدح الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن العادل رحمه الله.
وافي وأقبل في الغلالة ينثني ... فأراك خط المجتلى والمجتنى
ورنا فما تغنى التمائم والرقي ... وأبيك من فتكات تلك الأعين
رشأ من الإعراب مسكنه الفلا ... ولكم له في مهجتي من موطن
أغناه ذابل قده عن ذابل ... وبشعره عن بيت شعر قد غنى
قل للعواذل في هواه ألا انتهوا ... لاأرعوى لا انتهى لاانثنى
يا لائمي في العشق غير مجرب ... أنا في الصبابة قدوة فاستفتني
لا يخدعنك لفظ طرف فاتر ... أبداً ولا تأمن لعطف لين
فالخمر وهي كما علمت لطيفة ... ولها من الألباب أي تمكن
وبليتي من صائد لي نافر ... ومتى ينال الوصل من متلون
ألبستني يا سالبي ثوب الضنى ... وأخذتني يا تاركي من مأمني
حتى فؤادي خانني ووفى له ... وكذا الرقاد صبا إليه وملني
سيا قلب ماآنست بعدك راحة ... فمتى أراك ويا كرى أوحشتني
عهدي به ويدي مكان وشاحه ... والوجد باق والتجلد قد فنى
وشدا بشعري فافتتنت ويالها ... من فتنة شنعاء لو لم افتن
شعري ومحبوبي يعنيني به ... فهناك تحسن صبوة المتدين
لا شيء يطرب سامعاً لحديثه ... إلا الثناء على علام شاه أرمن
الأشرف الملك الكريم المصطفى ... موسى وتمم بالكريم المحسن
ملك إذا أنفقت عمرك كله ... في نظرة من وجهه لم تغبن
ومتى انتخبت له دعاء صالحاً ... لم تلق غير مشارك ومؤمن
يا أيها الملك الذي من فاته ... نظرإليه فما أراه بمؤمن
أفنيت خيلك و الصوارم والقنا ... وعداك والآمال ماذا تقتني
أبقت ذلك الذكر الجميل مخلداً ... شيم لها الأملاك لم تتفطن
وشجاعة رجف العدو لذكرها ... وشهامةً وبلاد عبد المؤمن
ولى الخوادذمي منها هارباً ... وخلم جراً قلبه لم يسكن
ودعاؤه في ليله ونهاره ... يا رب من سطوات موسى نجني
ما كان أشوقني للثم بنانه ... ولقد ظفرت بلثمها فليهنني
ودخلت من أبوابه في جنة ... يا ليت قومي يعلمون بأنني
يا مكثري الدعوى أخفضوا أصواتكم ... ما كل رافع صوته بمؤذن
أنا من تحدث عنه في أقطارها ... من كان في شك فليتقن
هذا مقام لا الفرزدق ماهر ... فيه ولا نظراؤه لكنني
إن شئت نظماً فالذي أمليته ... أو شئت نثراً فاقترح واستمحن
عاشت عداك ولا أشح عليهم ... عمى النواظر عنك خرس الألسن
وله قصيدة يمدحه بها رحمهما الله تعالى
يا شمس قلبي في هوا ... ك عطارد وقد احترق
يثنى عليه عدو ... ه فيقول حاسده صدق
وقال عند اجتماعه بشمس الدين صواب العادلي بحران.
ولماتيممناك قال رفاقنا ... إلىأين تبغي قلت خير جناب
وقلت لصبحي شرقوا تبلغوا المنى ... فغير صواب قصد غير صواب
وقال أيضاً في كتاب ورد عليه من أبيات .
ولم ترى عيناي من قبله ... كتاباً حوى بعض ما قد حوى
كأن المباسم ميماته ... ولاماته الصدغ لما التوى
وأعينه كعيون الحسان ... تغازلنا عند ذكر الهوى

كتاب نسينا بألفاظه ... زود وذكر الحمى واللوى
وقال في دارا والشهاب ابن قاضيها المشهور
ولا سقيت داراً ولا أهلها ... ولا ابن قاضيها الوقاح البذي
ولا رعى الله له ذمة ... أعنى شهاب الدين ذاك الذي
وقال وقد أمر بالسفر من دمشق.
يقولون سلفر من دمشق ولا تقم ... وذلك أمر ما علي به بأس
فقلت على عيني وسمعا وطاعة ... فما جلق الدنيا ولا أنتم الناس
وقال من جملة أبيات.
فنعم فتى الأحيا ومستنبط الندى ... ومفرغ محزون وملجأ لاهث
عباد بن عمرو بن الحليس بن صالح بن ... زيد بن منظور بن زيد بن وارث
وله أيضاً رحمه الله
خذوا قودى من أسير الكلل ... ويا عجبا لاسير قتل
وقولوا على إذا نحتم ... طعين القدود جريح المقل
وما كان يعلم أن العيون ... وأن القدود الظبا والاسل
ولي جلد عند بيض الظبا ... وبالأعين السود مالي قبل
وبي قمر ما بدا في الدجى ... وقابله البدر إلا أفل
يضل بطرته من يشا ... ويهدي بغرّته من أضل
وقد أخجل الشمس من حسنه ... ألم تر فيها اصفرار الخجل
ويا فرحة الظبي لما غدا ... شبيهاً له في اللّمى والكحل
لقد عدل الحسن في خلقه ... على أنه جار لما عدل
فعمّ معاطفه بالنشاط ... وخص روادفه بالكسل
وجاد الزمان به ليلة ... وعما جرى بيننا لا تسل
فانحلت قامته بالعنا ... ق وذبلت مرشفه بالقبل
وما أثرالمسك في راحتي ... وهذا فمي فيه طعم العسل
وكم تهت في غور خصر له ... وأشرفت في نجد ذاك الكفل
وأذنت حين تجلّى الصبا ... ح بحى على خير هذا العمل
وقد علم الناس أني امرؤ ... أحب الغزال وأهوى الغزل
على . . قدرة الله سبحانه ... بإيجاد مثلك فليُستدل
وله رحمه الله
أجبتكم من قبل رؤياكم ... لطيب ذكر عنكم قد جرى
كذلك الجنة محبوبة ... بوصفها من قبل أن تبصرا
وله أيضاً
بابي غزال تائه متصلف ... لانت معاطفه ولا يتعطف
حلو الشمائل والتثنى واللمى ... من يجتلى من يجتنى من يرشف
سكران لا يصحو وليس بمنكر ... قد صح أن الريق منه قرقف
شاكي السلاح وما تكلف حمله ... اللحظ سيف والقوام مثقف
هجر الكرى جفنى وواصل جفنه ... يا قوم حتى النوم لي يستضعف
وسرى إلى جسدي ضنى أجفانه ... لا ياضنى جسدي أرق وأضعف
لما بدا للغانيات وقد بدا ... من حسنه للعين ما لا يوصف
قطعن أيديهن حين رأينه ... لما افتتن وقلن هذا يوسف
اشكو إليه وما عسى أن اشتكي ... هو بالذي ألقاه مني أعرف
كبد يفيض نجيعها من أدمعي ... حتى كأني من جفوني أرعف
ووحقه لم يبق في بقية ... ولقلما يلقى الكئيب المدنف
ولربما أخلو به متعففاً ... والنفس من وجد به تتلهف
وإذا سمعت بعاشق متعفف ... فاعلم باني العاشق المتعفف
وله أيضاً
ما زلت نحو لقا ... ئه متشوفا
اذكى العيون عليه ... حتى زارني متخوفا
فظفرت منه بزورة ... يوماً وقد برح الخفا
وشكوت ما ألقى إل ... يه فرقّ لي وتعطّفا
وعتبته حتى استقال ... وقال مثلك من عفا
وغدا يلاطفني ولم ... أر مثله متلطفا
يومى الى بخده ... فإذا هممت تصلّفا
ويهز نحوى عطفه ... فإذا عزمت تأففا
إني لعف في هوا ... ه وأعشق المتعففا
وقال في غرض عرض

سمعتها تشتكي لدايتها شكوى ... تذيب القلوب والمهجا
تقول يا دايتي بليت به ... وما أرى من هواه لي فرجا
ومثل ما بي به ولا عجب ... هوى بقلبي وقلبه امتزجا
أهل سبيل إلى الوصول له ... ولو ركبت القفار واللججا
وان درى والدي بقصتنا ... أراق يا دايتي دمى حرجا
فُرحت بما سمعت في طرب ... كشارب الراح راح مبتهجا
وله رحمه الله
أهواه أسمر في اعتدال الأسمر ... يختال في روق الشباب الأخضر
مترنح كالغض أو متألق ... كالبدر أو متلفت كالجؤذر
من لم يشاهد شعره وجبينه ... ما فاز ناظره بليل مقمر
لعبت ذوائبه على أردافه ... كالأقحوان على كثيب أعفر
صدقت أن بوجنية جنة ... لما وجدت رضا به من كوثر
ولقد غنيت بخده وبثغره ... ما شئت من ذهب وقل من جوهر
ويقال أن الطرف مني فاسق ... صدقوا ولكني عفيف المئزر
وقال واظنها في الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح.
يا بعيد الليل من سحره ... دائماً يبكي على قمره
خل ذا واندب معي ملكاً ... ولّت الدنيا على أثره
كانت الدنيا تطيب لنا ... بين باديه ومحتضره
سلبته الملك أسرته ... واستووا غدراً على سُرره
حسدوه حين فاتهم ... في الشباب الغض من عمره
وله أيضاً
سيف بجفنيك إذا ما انتضى ... فلّ شبا الأسمر والأبيض
قتلاه من أكبر عشاقه ... والحب من أعجب شتى قضى
من عجب الدنيا وما تنتهي ... عجائب الدنيا ولا تنقضي
توفر الرغبة في زاهد ... وشدة الميل إلى معرض
تغاير الورد على خده ... فامتزج الأحمر بالأبيض
وله في الملك الناصر داود
ثلاثة ليس لهم رابع ... عليهم معتمد الجود
الغيث والبحر وعززهما ... بالملك الناصر داود
وله في بدر الدين صاحب الموصل وقد ركب في شبارة
لله شبارة حوت ملكاً ... كأنما الأرض في يديه كره
فاعجب لها اذجرت به ... وبها انمله وهي أبحر عشره
وله أيضاً
انتبه من نوم سكرك ... واسقني من خمر ثغرك
فإذا ما شئت فانبذ ... ني ولكن خلف ظهرك
وله رحمه الله
بات في أثناء صدري ... غصن نيط ببدر
بدوى نازل من شع ... ره في بيت شعر
حامل نجداً وغورا ... منه في ردف وخصر
ما رنا واهتزالا ... كان في بيض وسمر
حبذا ليلة وصل منه ... بل ليلة قدر
أشرفت عن نور وجه ... وسنا كأس وثغر
وتعانقنا فما ظن ... ك في ماء وخمر
وتعاتبنا فقل ما ... شئت من ذل وسحر
ثم لما أدبر اللي ... يل وجاء الفجر يجري
قال إياك رقيبي بك يدري قلت يدري
وله رحمه الله:
وافي كتابك بعد فتره ... فنفى المساءة بالمسره
وفضضته فلثمته ... لما غدا في الحسن نُدره
واوية الأصداغ والألفات ... قامات به والسين طرّه
فطربت حين قرأته ... وسكرت لكن ألف سكره
فحسبت أن الطرس من ... ه زجاجة واللفظ خمره
وله رحمه الله
قسماً بفيك وما حوى ... قسمٌ عظيم في الهوى
ما ضلّ صاحب مهجةٍ ... ذابت عليك وما غوى
يا أيها القمر الذي ... نجم السلوبه هوى
ماذا أثرت على القلوب ... من الصبابة والجوى
واغن في أعطا فه ... هزوء بأغصان اللوى
أفدى الذي فاديته ... وركابه بيد النوى
مولاي حبّك نيتي ... ولكل عبد مانوى
وله رحمه الله

ما كنت أحسب أني بين أظهركم ... أني وأهلي مع مالي من الخدم
وكان عهدي بسيف الدين يذكرني ... والسيف يقطر حدّاه عبيط دم
فما له اليوم والأيام تخدمه ... أضاع حقي على ما فيه من كرم
وله أيضاً
وما للجمال بوجنتيك معين ... لو كان لي عندا الورود مُعين
لكن حمته أسنّة واعنّة ... فلكم قتيل حولها وطعين
كيف الورود حولها من تغلب ... أسدٌ لها زرق النصال عيون
سقط الجياد تحاورت أجسادهم ... وتراحمت أسد الشرى والعين
يفرى المهاة وما يليها ضيغم ... وترى الكناس وما يليه عرين
فهناك فوق الأرض أقمار الدجى ... يسعى بها تحت البرود غصون
فالليل ثم عبارة عن طرة ... إن كنت تفهم والصباح جبين
من كل ضاربة اللثام وإنما ... تحت اللثام محاسن وفنون
في خدها ورد ونسرينٌ ولا ... ورد حقيقي ولا نسرين
ولقد يلين لي الصفا وفؤادها ... كالصخرة الصماء ليس تلين
يا قلب ويحك ما تفيق من الجوى ... أمع الزمان توله وجنون
ذلك كل يوم صبوة عذرية ... أعليك نذر أم عليك يمين
وبكل قلب أنت صبٌ هائم ... وبكل خد مغرم مفتون
سُئل الضرائر عن حقيقة ثغرها ... يوماً فقلن اللؤلؤ المكنون
وأفادني المسواك أن رضا بها ... شهد ومسك والأراك أمين
وإذا تساقطك الحديث فإنما ... سحرواى نهُى هناك يكون
محجوبة في خدرها محبوبة ... إن الجمال يُحب وهو مصون
قارنت معترك المنايا فاتئد ... ودع التصابي عنك يا مسكين
ودنا رحيلك فاتخذ زاداً ولا ... تقلل فإن الشوط منك بطين
وبباب مولاك الكريم فقف ولا ... تسأم فإنك بالنجاح قمين
وله رحمه الله
هزوا القدود ورهّفوا سمر القنا ... واسترهفوا بدل السيوف الأعينا
وتقدموا للعاشقين فكل من ... أخذ الضمان لنفسه إلا أنا
لا إن لي جلداً ولكني أرى ... في الحب كل دقيقة ان افتنا
لا خير في جفن إذا لم يكتحل ... أرقاً ولا جسم تحاماه الضنى
وأنا الفد البابلي لحظه ... لا تستطيع الأسد تثبت إن دنا
إن البدور هوت من أفقها ... حتى يرى منها أتمّ وأحسنا
لما انثنى في حُلة من سندس ... قالت غصون البان ما أبقى لنا
هذا على إن الغصون تعلمت ... منه الرشاقة بينها لما أنثنى
وبخده وبثغره وعذاره ... عرف العقيقى وبارق والمنحنى
أقسى علي من الحديد فؤاده ... ومن الحرير تراه خدا إلينا
شبهته بالبدر قال ظلمتني ... يا عاشقي والله ظلما بيننا
وهذه القصيدة النونية وازن بها قصيدة القاضي ناصح الدين أبي بكر أحمد بن محمد بن الحسين الأرجاني رحمه الله وتلك من غرر القصائد فلا بأس بإيراد شيء منها ومن غيرها من شعر الأرجاني فإنه من جيد الشعر وأول القصيدة النونية المذكورة.
وردُ الخدود ودونه شوك القنا ... فمن المحدث نفسه أن يجتنى
لا تمدد الأيدي إليه فطالما ... شنّوا الحروب لأن مددنا الأعينا
ورد تخيّر من مخافة نهبه ... باللحظ من ورق البراقع مكمنا
يُلقى الكمام مع الظلام إذا دجا ... ويعود فيه مع الصباح إذا دنا
ولطالما وجد الخلاف وإلفه ... دينا لعمرك للحسان وديدنا
قل للتي ظلمت وكانت فتنة ... ولو أنها عدلت لكانت أفتنا
لما سألت الثغر عنها لؤلؤاً ... قالت أما يكفيك جفنك معدنا
إيراد صونك بالتبرقع ضلة ... وأرى السفور لمثل حسنك أصونا

كالشمس تمتنع اجتلاؤك وجههافإن اكتست برقيق غيم امكنا
غدت البخيلة في حمى من بخلها ... فسلوا حماة الحيّ عمّ صدّنا
رأيت طروق خيالها قالت متى ... جرّ الرماح من الفوارس نحونا
هل عند حيّ العامرية قدرةٌ ... أن يفعلوا فوق الذي فعلت بنا
ما هم بأعظم فتكة أو بارزوا ... من طرف ذات الخال إن برزت لنا
إن كان قتلى قصدهم فليرفعوا ... كل الضغائن وليخلوا بيننا
ماذا لقونا من لقاء فواتن ... لولا مراقبة العيون اربننا
في ليلة حسدت مصابيح الدجى ... كلمى وقد كانت لها هي ازينا
قلمى بها حتى الصباح وشمعتي ... بتنا ثلاثتنا ومدحك شغلنا
حتى هزمنا للظلام جنوده ... لما تشاهرنا عليه الا اسنا
أفناهما قطى وأفنيت الدجى ... سهراً وأصبحنا وأسعدهم أنا
زرع الطعان فسنبلت في ساعة ... من هامهم وشعورهم سمر القنا
أما الرجاء فلم يزل متغرباً ... حتى إذا وافى ذراك استوطنا
يا ماجداً عبق الزمان بذكره ... والذكر في الأيام نعم المقتنى
يزداد عندك حسن ما نثني به ... كمزيد ما توليه حسناً عندنا
فبلغت قاصية المدى وملكت نا ... صية العُلى وحويت عاصية المنى
وبقيت من غير انقطاع ماضياً ... وبلا تغير آخر متمكناً
وقال أيضاً على هذه القافية
قف يا خيال وإن تساوينا ضنى ... أنا منك أولى بالزيارة موهنا
وعقلت ناجيتي بفضل زمامها ... لما رأيت خيامهم بالمنحنى
وتطلعت فأضاء غرة وجهها ... بالليل أيسر منهجي والإيمنا
لما طرقت الحي قالت خيفة ... لا أنت إن علم الغيور ولا أنا
فدنوت طوع مقالها متخفياً ... ورأيت خطب القوم عندي أهونا
ومعي وليس معي سواه صاحب ... عضب أذود به الخميس الأرعنا
حتى رفعت عن المليحة سجفها ... يا صاحبي فلو أن عينك بيننا
سترت محياها مخافة فتنتي ... بنقابها عني فكانت أفتنا
وتكاملت حسناً فلو قرنت لنا ... بالحسن إحساناً لكانت أفتنا
قسماً بما زار الحجيج وما سعوا ... زُمراً وما نحروا على شطي منى
ما اعتاد قلبي ذكر من سكن الحمى ... إلا استطار وملّ صدري مسكناً
أما الشباب فقد تعاهدنا على ... أن لا نزال معافكان الإخونا
وتلون الأيام علّم مفرقيفعل الأحبة في الهوى فتلونا
يا طالب الثأر المنيم وسيفه ... في الغمد لا تحسب مرامك هينا
أتراك تملأ من غرار أجفنا ... حتى تفرغ من غرار أجفنا
أوما رأيت السيف هو مُصلت ... ما زالت يحكم بالمنايا والمنى
لما ادعى الأقلام فضلاً عنده ... غضب الحديد فشق منها الألسنا
حتى إذا زادت بذاك فصاحة ال ... أقلام حار النصل لما إن دنا
وأراد أن يُضحى لسانا كله ... حتى يقر بفضله فتلسّنا
ولقلما غرى الحسود بفاضل ... متيقضاً الأوزيد تمكنا
ولقد نزلت من الملوك بماجد ... فقر الرجال إليه مفتاح الغنى
وله أيضاً:
صوتُ حمام الأيك عند الصباح ... جدد تذكاري عهد الصباح
علمننا الشجو فيامن رأى ... عُجما يعلمن رجالاً فصاح
ألحان ذات الطوق في غصنها ... تذكرني أزمان ذات الوشاح
لا أشكر الطائر إن شاقني ... على نوى من سكنى وانتزاح
وإنما أشكر لو أنه ... أعارني أيضاً إليه جناح
أكلما اشتقت الحمى شفني ... لاح إذا برق من الغو لاح
يريد اغرائي إذا لامني ... وربما أفسد باغي الصلاح

ماذا عسى الواشون أن يصنعوا ... إذا تراسلنا بإيدي الرياح
وربّ ليلٍ قد تدرّعته ... رهين شوق نحوكم وارتياح
يروي غليل الأرض من عبرتي ... وبي إليكم ضماً والتياح
حتى بدت تطلق طير الدجى ... من شرك الأنجم كفّ الصباح
لا غرو إن فاضت دماً مقلتي ... فقد غدت ملأ فؤادي جراح
بل يا أخا الحي إذا زرته ... فحيّ عني ساكنات البطاح
وارم بطرف من بعيد فمن ... دون صفاح اليبض يبضُ الصفاح
وآخر العهد بأضعانهم ... يوم حدوا تلك المطى الطلاح
وعارض الركب على رقبة ... مدير الحاظ مراض صحاح
لما جلا لي عند توديعه ... رياض حسن لم تكن لي تباح
جعلت مما هاج بي شوقها ... وجهي وقاحاً وجنيت الأقاح
فكيف ألقى الدهر قرناً وقد ... أصبحت لا أملك ذاك السلاح
يا كعبة للمجد ما هولة ... إذا غدا الوفد إليها وراح
يفديك قوم حاولوا ضلة ... تناولوا المجد بأيدٍ شحاح
معاشر أموالهم في حمى ... وعرضهم من لؤمهم مستباح
امّلتهم ثم تأملتهم ... فلاح لي أن ليس فيهم فلاح
لولاك يا شمس ملوك الوري ... لم يبق في طرق الرجا انفاح
إلى ذراك الرحب وجهتها ... وقد براها السير برى القداح
من بلد ناء ولم اعتد ... بعد المدى إلا لقرب النجاح
فاسمع ثناءً ذلك أبدعته ... كأنه المسك إذا المسك فاح
من كلماتٍ كلما نُظمت ... فللآلئ عند هن افتضاح
وسوف أهدى لك أمثالها ... إن كان في مدة عمري انفساح
فدم لأهل الفضل تغنيهم ... فواضلاً ما شعشعت كأس راح
لا عرفو غيرك مولىً لهم ... ما اتصلت منهم بنانٌ براح
وقال:
لولا رجائي للقائه ... ما كنت أحيا ساعة في نائه
ومقرطق لو مدّ حلقة صدغه ... من قبله نمّت بعقد قبائه
غصنٌ إذا ما ماد في ميدانه ... أسدٌ إذا ما هاج في هيجائه
في جفن ناظره وجفن حسامه ... سيفان مختلفان في أنحائه
فبواحد يسطو على أحبابه ... وبواحد يسطو على أعدائه
قمر غدا روحي وراح مفارقي ... والجسم والروح امتساك بقائه
فتعجبي إن عشت بعد فراقه ... وتحسُّري إن مُت قبل لقائه
وقال:
إذا الحمام على الأغصان غنانا ... في الصبح هيّج للمشتاق أحزانا
وُرق يُرددن لحناً واحداً أبداً ... من الغناء ولا يُحسن ألحاناً
ظلم من الإلف ينسانا ونذكره ... حتام نذكر إلفا وهو ينسانا
قل للبخيلة أن تهدي على عجل ... تحيّة حين نلقاها وتلقانا
ما ذا عليك وقد أصبحت مالكةً ... أن تخرجي من زكاة الحسن إحساناً
استودع الله قوماً كيف أبعدنا ... تقلب الدهر عنهم حين أدنانا
يمناه بعد من التسليم ما فرغت ... اذمدّ يسراه للتوديع عجلانا
لم يملأ العين من أحبابه نظراً ... إذ غادر الدمع منه الجفن ملآنا
جيراننا رحلوا والله جارهم ... مستبدلين بحكم الدهر جيرانا
وإن نسر فدواعي الشوق تأمرنا ... وإن نقم فعوادي الدهر تنهانا
يا من غدا مبدئاً شكوى أحبته ... لما رأى حيث يرجى الوصل هجراناً
ما إن أرى سحب هذا الدمع مقلعة ... حتى تغادر في خديك غدرانا
تخاله الشمس وجهاً والسماء ندىً ... والغيث عند الرضا والليث غضباناً

تعلو فناك نسور الجو آلفة ... إلف الحمام علت للأيك أغصاناً
حيث الغبار يسد الجو ساطعه ... والخيل تحمل للأقران أقراناً
والطعن يحفر في لبّاتها قُلُبا ... تظل فيها رماح القوم اشطانا
غرٌّ تظل تبارى في أعنتها ... يحملن أغلمة في الروح غرّانا
تفل كتبك إن سارت كتائبهم ... إذا العدى عاينوا منهن عنواناً
وقال:
وعدت باستراقة للقاء ... وبإهداء زورة في خفاء
ثم غارت من أن يماشيها الظ ... ل فزارت في ليلة ظلماء
ثم خافت لما رأت أنجم اللي ... ل شبيهات أعين الرقباء
فاستعارت طيفاً يلمّ ومن ... يملك طرفاُ يهمّ بالإغفاء
هكذا نيلُها إذ نوّلتنا ... وعناء تسمّح البخلاء
يهدم ألا نتهاء باليأس منها ... ما بناه الرجاء في الابتداء
وأرت أنها من الوجد مثلى ... ولها للفراق مثل بكائي
قتباكت ودمعها كسقيط الط ... ل في الجلنارة الحمراء
وحكى كل هدبة لي فتاة ... انهرت فتق طعنة نجلاء
فترى الدمعتين في حمرة الل ... ون سواء وما هما بسواء
خدها يصبغ الدموع ودمعي ... يصبغ الخد قانيا بالدماء
خضب الدمع خدّها باحمرار ... كاختضاب الزجاج بالصهباء
وقال:
قلبُ المشوق بان يساعد اجدر ... فإذا عصاه فالأحبّة اعذر
لا طالب الله الأحبة أنهم ... ناموا عن الصب الكئيب واسهروا
هجروا وقد وصّوا بهجري طيفهم ... يا طيف حتى أنت ممن يهجر
دون الخيال ودون من تشتاقه ... ليلٌ يطول على جفون تقصر
ومخيمون مع القطيعة إن دنوا ... هجروا وإن راحوا إلينا هجروا
فصروا الزمان على صدود أو نوىً ... والعمر من هذا وذاك أقصر
وغدوا ومن عيني لهن منيحة ... تُمرى ومن قلبي وطيس يسعر
أعقيلة الحي المطنب بيتها ... حيث القنا من دونها تتكسر
كالبدر إلا أنها لا تجتلى ... والظبي إلا أنها لا تذعر
أخفى إذا فارقت وجهك من ضنى ... فادق عن درك العيون فاصغر
وأرى بنورك كل ما ادنيتني ... وكذا السُها ببنات نعش يبصر
وغدت مودعة فقلبُ يلتظىحتى تعود ومقلة تستعبر
وكأنما تركت بخدي عقدها ... ليكون تذكرة به تتذكر
وقال رحمه الله:
إلى خيالٍ خيالٌ في الظلام سرى ... نظيره في خفاء الشخص إن نظرا
سارْ ألمّ بسارٍ كامنين معاً ... عن النواظر في ليل قد اعتكرا
كلاهما غاب هذا في حجاب ضنى ... عن العيون وهذا في حجاب كرى
تشابها في نحول وادراع دجى ... وخوض أهوال بيدو اعتياد سُرى
فليس بينهما إلا بواحدة ... فرق إذا ما أعاد الناظر النظرا
بإنه ما درا الطيف الطروق بما ... لاقى من الليل والصبر المشوق درى
سرى إلى ولم يشتق ومن عجب ... إلى المشوق إذا غير المشوق سرى
ظبي من الإنس مجبول على خُلُق ... للوحش فهو إذا آنسته نفرا
معقرب الصدغ يحكي نور غرّته ... بدراً بدا بظلام الليل مُعتجرا
مذ سافر القلب من صدري إليه هوى ... ما عاد قط ولم أعرف له خبرا
وهواً لمسيء اختيار اذنوى سفراً ... وقد رأى طالعاً في العقرب القمرا
وله يقول:
أقول وقد ذم الوزير زمانه ... من العجز ذمّ العاجز المتحير
تذم زمان السوء يا صدر ظالماً ... ولو لا زمان السوء لم تتصدر
وقال أيضاً:
حيث انتهيت من الهجران بي فقف ... ومن وراء دُمى سمر القنا فخف

يا عابثاً بعدات الوصل يُخلفها ... حتى إذا جاء ميعاد الفراق يفي
إعدل كفاتن قدّ منك معتدل ... واعطف كسائل غصن منك منعطف
ويا عذول ومن يصغي إلى عذل ... إذا رنا أحمر العينين ذوهيف
تلوم قلبي إن أصماه ناظره ... فيم اعتراضك بين السهم والهدف
سلوا عقائل هذا الحي أي دم ... للأعين البخل عند الأعين الذرف
يستوصفون لساني عن محبتهم ... وأنت أصدق يا دمعي لهم فصف
ليست دموعي لنار الشوق مطفيئة ... فكيف والماء بادٍ والحريق خفى
لم إنس يوم رحيل الحيّ وقفتنا ... والعيس تطلع أولاها على شرف
والعين من لفتة الغيران ما حظيت ... والدمع من رقبة الواشين لم يكف
وفي الحدوج الغوادي كل آنسة ... إن ينكشف سبحفها للشمس تنكسف
تبين عن معصم بالوهم ملتزم ... منها وعن مبسم باللحظ مرتشف
في ذمة الله ذاك الركب إنهم ... ساروا وفيهم حياة المغرم الدنف
فإن أعش بعدهم فرداً يا عجبي ... وإن أمت هكذا وجدا فيا أسفي
قل للذين رمت بي عن ديارهم ... أيدي الخطوب إلى هذا النوى القذف
إن أبق ارجع إلى العهد القديم وإن ... الق الوزير من الأيام انتصف
ملك تطوف البرايا حول سدته ... ومن يجد للأماني كعبة يطف
ظل من الله ممدود سرادقه ... مدّا من الطرف الأقصى إلى الطرف
تطعية الشهب في الأفلاك دائرة ... والبيض في الهام والأقلام في الصحف
تلوح بين بني الدنيا فضائله ... كما تبرجت الأقمار في السدف
بادى التواضع للزوار من كرم ... أن التواضع أقصى غاية الشرف
في كفّه قلمٌ يعنو الزمان له ... ويسمن الخطب منه وهو ذو عجف
الدين والملك منه كوكبا أفقوالجود والبأس منه درتا صدف
ومن ورائي أصحاب تركتهم ... في منزل بخطوب الدهر مكتنف
لاذوا بستر رقيق من تجملهم ... إن لم ينلهم وشيك الغوث ينكشف
وقد رأوني بسعد الأرض متصلاً ... وينظرون بما ذاعنه منصرفى
فابسط يميناً كصوب المزن ماطرةً ... واسمع ثناءً كنشر الروضة الأنف
ما في بني زمني الآك ذو كرم ... يظل يأوي الفتى منه إلى كنف
فاسلم ففيك لنا ممن مضى خلف ... وليس عنك فلا نعدمك من خلف
في ظل عمر كعمر الدهر متصل ... وشمل ملك كنظم العقد مؤتلف
وله دوبيت:
مني قلقٌ ومن سيلمى ملق ... من مفرقها دجى وفرق فلق
لا غرو إذا رأيتنا نفترق ... الليل مع النهار لا يتفق
وقال:
هم نازلون بقلبي أيةً سلكوا ... لو أنهم رفقوا يوما؟ً بمن ملكوا
ساقوا فؤادي وابقوا في الحشا حرقاً ... حزني لما أخذوا مني وما تركوا
لما بكوا لا بكوا والركب مرتحل ... من لوعة ضحك الواشون لاضحكوا
زمّوا وقد سفكوا دمعي ركائبهم ... فكدت أغرق ما زمّوا بما سفكوا
وراغى يوم تشييعي هوادجهم ... والعيس من عجل في السير ترتبك
ستران ستر على الأقمار منفرج ... يبدو وآخر للعشاق منهتك
أضمّ جفى عليه حين يطرقني ... كما يضم على وحشية شرك
ما روضة اضحكت صبحا مباسمها ... دموع قطر عليها الليل ينسفك
فالنرجس الغض عينٌ كلها نظر ... والاقحوانة ثغر كله ضحك
وللشقائق ذي وسطها عجب ... إذا تمايلن والأرواح تأتفك
حمر الثيات تطير الريح شائلة ... إذيالها وهي بالأزرار تمتسك

إذا الصبّا نبهت أحداقها سحرا؟ً ... حسبت مسكاً على الآفاق ينفرك
أنمّ طيبا؟ً وحلياً من ترائبها ... إذا اعتنقنا وخيل الليل تعترك
وللسماء نطاق من كواكبها ... عقدن منه على أعطافها حبك
قد أشعل الشيب رأسي للبلى عجلاًوالشمع عند اشتعال الرأس ينسبك
فإن يكن راعها من لونه يققٌ ... فطالما راقها من قبله حلك
يظل ينفح من أعراضهم عبق ... وللحديد على أثوابهم سهك
كأن أوجههم والروع يبذلها ... غرا دنانير لم تنقش لها سكك
من كل أزهر مثل النجم يحمله ... طودٌ له الليل مسك والضحى مسكُ
حتى رأها أسودا ما بها عزل ... برزن فوق جياد ما بها صكك
طرقن حي العدى في عقر دارهم ... والنوم ملء جفون القوم لو تركوا
والطعن ينسج أشطان القنا ظللا ... يلقى على فرج الحجب التي هتكوا
إلى ذراك قوام الدين سار بنا ... خوص كما اصطف من نخل القرى سكك
قد ثوروهن أدنى خطوها سفر ... شوقا إليك وأبطأأمرها رتك
تسري طوالب أيديها بأرجلها ... مد الليالي فلا فوت ولا درك
حتى ترى ملكا يشفي بروئيته ... من الزمان صدوراً كلها حسك
وهاكها توقر الحساد من كمد ... كأنما هي في أسماعهم سكك
قوافيا بدويات وما بعثت ... بها من البدو لاعرض ولا أرك
جاءت بهن يد بيضاء فانتظمت ... زهرا تلقف للأقوام ما أفكو
سحر من الشعر اعجزت الفحول به ... وأعجزتني حتى بعتها الرمك
لما دفعت إلى دهر تنمر لي ... برائعات فأمري بينها لبك
العقل فيه عقال والسداد سدى ... والفضل فيه فضول والنهى نهك
قد بعت طرفي وهذا مطرفي وغدا ... ابيعه ولطرفي أدمع سفك
مدحي الملوك وأكلي الكف مقتنعا ... هذا لعمرك في أبائكم هتك
فاعطف فإن حمى العلياء منتهب ... إن لم تغث وحريم المجد منهتك
وله يقول:
هو ما علمت فاقصري أو فاعذلي ... وترقبي عن أي عقبى تنجلي
لا عار إن عطلت يداي من الغنى ... كم سابق في الخيل غير محجل
صان اللئيم وصنت وجهي ماله ... دوني فلم يبذل ولم أتبذل
أبكي لهم صافني متأدبا ... إن الدموع قرى الهموم النزل
لا تنكري شيبا ألم بمفرقي ... عجلاً كأن سناه سلة منصل
فلقد دفعت إلى الهموم تنوبني ... منها ثلاث شدائد جمعن لي
أسف على ماضي الزمان وحيرة ... في الحال منه وخشيةالمستقبل
ما إن وصلت إلى زمان آخر ... إلا بكيت على الزمان الأول
لله عهد بالحمى لم أنسه ... أيام أعصى في الصبابة عذلي
ومدلة بالحسن لا تبدي الرضا ... حتى أحكم سهمها من مقتلي
رحلت وناب خيالها في ناظري ... عن وجهها فكأنها لم ترحل
وآبى خلاصي من طويل عذابها ... قلب متى يعد التسلي يمطل
يعفو عن الجاني وإن لم يعتذر ... ويجود للعافي وإن لم يسال
وقال:
أهلا بوجهك من صباح مقبل ... وبجود كفك من سحاب مسبل
وإذا الصباح مع السحاب ترافقا ... متسايرين إلى معالم منزل
سعدت فأشرق كل ناد مظلم ... منها وأخصب كل واد ممحل
قل للعيون وللشفاه من الورى ... لما بدا كالعارض المتهلهل
السعد في ذاك الجبين فطالعي ... واليمن في تلك اليمين فقبلي
أضحى قرار الدولتين بسعيه ... وبعزمه الماضي مضاء المنصل

والارض ساكنة لدور دائم ... يعتاده فلك عليه يعتلي
وذراه مزدحم الوفود تؤمه ... أبدا لأن نداه غدب المنهل
فإذا أتى الممتاح حقق بالندى ... منه الأماني ثم قال له أسأل
تلك البقية بعد باقية كما ... كانت وعقدة أمرها لم تحلل
ولقد كلفت بها ورأيك وحده ... حسبي به سببا وإن لم تكفل
فاعدلها نظر الكرام فليس في ... تحصيلها إلى عليك معولي
فإذا أردت الجاه كنت مناولي ... وإذا أردت المال كنت منولي
وأنا الذي مالي سواك ذخيرة ... ولقد خبرتك في الزمان الأول
من أي وجه كنت أقبل راغبا ... قابلت تطويلي بفرط تطولي
لازلت تخطر في عراص سعادة ... وتجر أذيال البقاء الأطول
وقال:
هم منعوا مني الخيال المسلما ... فلا وصل إلا أن يكون توهما
إذا ما سرى ركب النسيم أعترضته ... لأخبار من أحببته متنسما
فياليل نجد ما صباحك عاندا ... ولكن من في الغور فيك تبسما
تمزقت الظلماء عن ثغر غادة ... أضاء من الآفاق ما كان مظلما
إذا وجهها والبدر لاحا بليلة ... فما أحد يدري من البدر منهما
فاقسم لو لم يدن من برد ريقها ... لاوشك جمر الخد أن يتضرما
وقد نسجت كف الثريا على الثرى ... من الروض وشيا بالاقاحي منمنما
ورقرق فيه دمعها كل ديمة ... ولو أنه من مقلتي كان أدوما
وما الجود في صوب السحاب سجية ... ولكنه من دمع عيني تعلما
فياليت لا ينفك طرفي وخاطري ... مدى الدهر يلقي الدر فذاو توأما
لملاك قلبي بالهوى ولمالكي ... بسالفة النعمى التي كان أنعما
فاذرى لهم در البكاء مبددا ... وأهدي لهم در المديح منظما
لأعلى الورى في قنة المجد مطلعا ... وأكثرهم في قنية الحمد مغنما
هلال بدا نجم سما قدر سطا ... سحاب همي طود رسا أسد حمى
لاوسعت أنعاما فلا زلت منعما ... وبالغت إكراما فلا زلت مكرما
ولا خفض الأقدار ما كنت رافعا ... ولا نقض الأيام ما كنت مبرما
وقال رحمه الله:
يامودع السرسرا عند أجفاني ... ومتبع السر إيصاء بكتماني
لله بدر وأطراف القنا شهب ... يجلوه فيهن من صدغيه ليلان
تقول للبدر في الظلماء طلعته ... بأي وجه إذا أقبلت تلقاني
وجه السماء مرآة لي أطالعها ... والبدر وهنا خيالي فيه لا قاني
لم أنسه يوم أبكاني وأضحكه ... وقوفنا حيث أرعاه ويرعاني
كل رأى نفسه في عين صاحبه ... فالحسن أضحكه والحزن أبكاني
قد قوس القد توديعا وقربني ... سهما فابعدني من حيث أدناني
وكنت والعشق مثل الشمع معتلقا ... بالنار أبقيته جهلا فأفناني
يامن بطرف وقد منه غادرني ... متعتعا بين مخمور وسكران
كم فتل صدغيك طول الدهر تلبسه ... أذنيك قيدا وقلبي عندك العاني
والساحران هما العينان منك لنا ... فكم تعاقب بالتنكيس قرطان
أغر يمتاح من قلب القلوب له ... خمر المياه دراك اسمر أشطان
تكل إن سار عين الشمس عنه سنىً ... حتى تود لو انصانت بأجفان
لكن مظلته تضحي مسدتها ... فيتقي نورها منه بأكنان
إذا بدا طالعا في سرج سابقه ... في يوم هيجاء أو في يوم ميدان
فالطرف حاكى رياح أربع حملت ... قصرا وفارسه حاكى سليمان
يقرى الولي ويقرى بالعدو إذا ... ما ضافه جائعاً نسر وسرحان

كم يفتدي كلما شاء القنيص له ... غر على الغر من خيل وغلمان
وفي الكنائن منهم وفي الأكف معا ... إلى وحوش الفلا جندا خليطان
من كل سهم وسهم طائر بهمامن مستعار ومملوك جناحان
زرق جوارح أو زرق جوارح قد ... علقن منهم بأيسار وأيمان
وكل مستردف يعدو الحصان به ... مثل السبايا قعودا خلف فرسان
يقول خاطت له ثوبا أديم نقي ... من فار مسك فتيق أدم غزلان
كأن في كل عضو منه من شره ... إلى التقنص مفتوحات أعيان
واغضف مثل نجم القذف من سرع ... إذا عدا لاحق الأحشاء طيان
يعود في كفه خطفا وسيقته ... كأنها قبسة في كف عجلان
ما بال تصوير أسد في سرادقه ... وليس يملأ خوفا منه عينان
ليس السعادة إلا كالكتاب ولا ... حسن أختيار الفتى إلا كعنوان
كان ناصح الدين الأرجاني ناظم هذه المقطعات من الفضلاء الأعيان تولى قضاء تستر وعسكر مكرم وسلفه من الأنصار رضي الله عنهم ومولده سنة ستين وأربعمائة وتوفي بتستر في شهور ربيع الأول سنة أربع وأربعين وخمسمائة رحمه الله تعالى وقد تقدم ذكر ابن حيوس في صدر هذه الترجمة وهو محمد بن سلطان بن محمد بن حيوس بن محمد بن مرتضى بن محمد بن الهيثم بن عثمان الغنوي الملقب مصطفى الدولة ولد بدمشق سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وتوفي بحلب في شعبان سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة رحمه الله تعالى.
سليمان بن عبد المجيد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن عبد الرحمن أبو المظفر عون الدين بن أبي القاسم بهاء الدين بن أبي علي بن غالب الكرابيسي الأديب الكاتب المعروف بابن العجمي الحلبي الشافعي ناظر الجيوش في الأيام الناصرية، مولده بحلب ليلة الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة ست وقيل سنة خمس وستمائة سمع من القاضي بهاء الدين بن أبي المحاسن يوسف بن رافع بدمشق تميم المعروف بابن شداد وغيره، وحدث وتولى بحلب الأوقاف الدينية ثم حظي عند الملك الناصر رحمه الله تعالى فقربه وأدناه وكان رئسياً عالماً فاضلاً جليل القدر كريم الأخلاق حسن العشرة لطيف الشمائل جيد الكتابة خبيراً بقوانينها متأهلاً للوزارة وغيرها من الرتب الجليلة وبيته مشهور بالعلم والحديث والرياسة والكتابة والتقدم والسنة والجماعة وتوفي عون الدين المذكور بدمشق في نصف ربيع الأول ودفن من الغد بعد المغرب بسفح قاسيون رحمه الله تعالى، وله نظم جيد.
حضر مجلس مخدومه الملك الناصر يوماً وأدار ظهره إلى الطراحة فقال له أستاذ الدار السترة وراءك فقال الملك الناصر سليمان من أهل البيت فأنشد عون الدين في الحال لنفسه.
رعى الله ملكاً ماله من مشابه ... يمن على العافي ولم يك منانا
لأحسانه أمسيت حسان مدحه ... وكنت سليمانا فاصبحت سلمانا
ومن شعره:
لهيب الخد حين بدا لعيني ... هفا قلبي عليه كالفرش
فأحرقه فصار عليه خالا ... وها أثر الدخان على الحواشي
ومن شعره:
يا سائقا يقطع البيداء متعسفاً ... بظامر لم يكن في سيره وإني
إن جزت بالشام شم تلك البروق ولا ... تعدل بلغت المنى عن دير مران
وأقصد علالي قلاليه تلاق بها ... ما تشتهي النفس من حور وولدان
من كل بيضاء هيفاء القوام إذا ... ماست فواخجلة المران والبان
وكل أسمر قد دان الجمال له ... وكمل الحسن فيه فرط إحسان
ورب صدغ بدا في الخد مرسله ... في فترة فتنت من حسن أجفان
فليت ريقته وردى ووجنته ... وردى ومن صدغه آسى وريحاني
وعج على دير متى ثم حيي به ال ... ربان بطرس فالربان رباني
فهمت منه إشارات فهمت بها ... وصنت منشورها في طي كتمان
واعبر بدير حنينا وانتهز فرص ال ... لذات ما بين قسيس ومطران
واستجل راحا بها تحيا النفوس إذا ... دارت براح شماميس ورهبان

حمراء صفراء بعد المزج كم قذفت ... بشهبها من همومي كل شيطان
كم رحت في الليل اسقيها وأشربها ... حتى أنقضى ونديمي غير ندمان
سألت توماس عمن كان عاصرها ... أجاب رمزاً ولم يسمح بتبيان
وقال أخبرني شمعون ينقله ... عن ابن مريم عن موسى بن عمران
بأنها سفرت بالطور مشرقة ... أنوارها فكفوا عنها بنيران
وهي المدام التي كانت معتقة ... من عهد هرمس من قبل ابن كنعان
وهي التي عبدتها فارس فكنى ... عنها بشمس الضحى في قومه ماني
سكرت منها فلا صحو وجدت بها ... على الندامى وليس الشح من شأني
وسوف أمنحها أهلا وأنشده ... ما قيل فيها بترجيع وألحان
حتى تميل لها أعطافه طربا ... وينتشي الكون من أوصاف نشوان
خير الملوك صلاح الدين ليس له ... في الجود ثان ولا عن جوده ثاني
كان والده بهاء الدين من الأجواد المشهورين والأعيان المتمولين بحلب رحمه الله.
عبد الرحمن بن عوض بن محبوب أبو البركات عفيف الدين الكلبي المعري روى عن أبي المعالي محمد بن عبد الواحد بن المهذب وغيره توفي رحمه الله في بعض شهور سنة ست وخمسين وستمائة، وكان أديباً فاضلاُ رئيساً ذا مكارم من بيت كبير نظم الشعر صغيراً وله فيه اليد الطولى فمنه.
جميع حديثي عنكم حين أنطق ... وجملة فكري فيكم حين أطرق
وعهدكم عندي على ما عهدتم ... وموثقكم في حبة القلب موثق
فكل صباح لي إليكم تشوف ... وكل مساء لي إليكم تشوق
وإن نحت في أفنان وجدي يحق لي ... لاني بما أوليتموني مطوق
قطعتم ولم أسرقكم الود كتبكم ... وكيف يجازي القطع من ليس يسرق
صلوا واقصدوا واقربوا وتباعدوا ... وأولوا وقولوا واعتقوا وترفقوا
فقلبي قلب لم يشنه تغير ... وودي ود لم يشه تملق
وله أيضاً
ودوحة بات بدري تحت أنجمها ... من العشاء نديما لي إلى السحر
تخبر بورد ورد طول ليلته ... من خده ولماه البارد الخصر
حتى إذا اسكرتني خمر ريقته ... غنى بشجو فأغناني عن الوتر
ما العيش إلا اصطباح الراح أوشنب ... يغني عن الراح من سلسال ذي أشر

عبد الرحمن بن نصر بن يوسف أبو محمد صدر الدين الشافعي قاضي بعلبك كان فقيهاً عالماُ فاضلاً زاهداً عابداً ورعاً جواداً ممدحاً لا يقدم بعلبك قادم إلا ويكرمه ويضيفه وكان كثير البر والصدقة وإطعام الفقراء والمساكين مقتصراً في ملبسه ولم يقتن في عمره دابة قط إلا مرة واحدة اشترى بغلة فماتت قبل أن يركبها فكان إذا أضاف أحداً من أرباب الدنيا جعل من ذلك الطعام جزءاً وافراً يتصدق به على الفقراء فإن ضاق الطعام عن ذلك استأنف طعاماً للفقراء كأنه يكفر بذلك ما أنفقه لغير الله تعالى وكان يقوم الليل كثيراً ويصلي من المغرب إلى العشاء الآخرة نافلة ويتلو القرآن الكريم في غالب أوقاته ويصوم نافلة في كثير من الأوقات وكان متواضعاً حتى أنه كان يحمل طبق العجين من منزله إلى الفرن بنفسه في بعض الأوقات ويلقاه من يسأله حمله عنه فيأبى ذلك ويشتري الحاجة بنفسه ويحملها إلى منزله وكانت له الحرمة الوافرة في الدولة وإذا خلع عليه كان في خلعته طيلسان وكان لا يخلع بطيلسان الأعلى قاضي القضاة وآحاد الأكابر وله المكانة العالية عند الخاص والعام وبقي في القضاء مدة إلى حين وفاته لم يؤخذ عليه في حكم وكان متحرياً عفيفاً شديد التقوى سريع الدمعة وكان لرقة حاشية طبعه يميل إلى الصور الجميلة مع شدة العفاف والشح بدينه ولا ينال من ذلك إلا الرؤية مع جمع من غير خلوة فكان من لا يعلم باطن حاله ينتقد عليه ذلك ولعل الذي يناله من الأجر بوقوع بعض الناس فيه بسبب ذلك على ما يلحقه من الإثم بسببه - وحكى لي أنه قال مرة لزوجته اعملي لي صحناً من قطائف فعملته على ما أراد وتوهمت أنه يريد إطعامه لأحد من الشباب وكانت ليلة ثالجة شديدة البرد فجاء إلى منزله بعد العشاء الآخرة وأخذ الصحن ومضى فسيرت بعض الزامها في أثره ليخبرها حقيقة الحال فذكر لها بعد عوده أنه لا زال يمشي وراءه على بعد إلى أن وصل إلى مسجد مهجور داخل باب حمص من مدينة بعلبك ففتحه وإذا فيه ثلاثة نفر فقراء غرباء من أثر مرض وهم في الظلمة فجعل الصحن بين أيديهم وبيده طوافة يريد بها الضوء عليهم وهم يأكلون إلى أن أتوا على ما في الصحن فأخذه وعاد إلى منزله - وبالجملة فكانت مكارمه كثيرة وغالب أفعاله لله تعالى وكان صحب والدي رحمه الله من حال صغره إلى أن توفي إلى رحمة الله فوجد والدي عليه كثيراً وحزن لفقده وسمعته يثني عليه غير مرة في حال حياته وبعد وفاته وكان للقاضي صدر الدين رحمه الله يد في النظم والنثر واشتغل بالفقه على الشيخ تقي الدين بن الصلاح رحمه الله وغيره وفي العربية على والدي رحمه الله وعلى غيره وسمع على الشيخ تاج الدين الكبدي وغيره ولم يخلف شيئاً من الدنيا سوى دار عمرها وكان يسكنها وحصة يسيرة في حوانيت ورثها من أبيه ولعل مجموع ذلك مع ثياب بدنه وفى بما عليه من الديون وفضل مقدار يسير لورثته رحمه الله وكانت وفاته ببعلبك في تاسع ذي القعدة ودفن ظاهر بعلبك في مقبرة الأمير شمس الدين محمود رحمه الله بباب شطجا وهو في عشر السبعين تقريباً ورثاه غير واحد من أصحابه ومعارفه فمنهم الشيخ شرف الدين أحمد بن أحمد بن نعمة المقدسي رحمه الله تعالى قال:
لفقدك صدر الدين أضحت صدورنا ... تضيق وجاز الوجد غاية قدره
ومن كان ذا قلب على الدين منطو ... تفتت أشجانا على فقد صدره
وكتب إليه الصاحب شرف الدين عبد العزيز رحمه الله وكان بينهما مودة عظيمة:
رب الندى عبد الرحيم استمع ... مقالةً من مغرم صب
لولا بعادي عنك ما كان لي ... على صروف الدهر من عتب
والقلب في الصدر علمنا به ... وأنت صدر حل في القلب
ومن شعر القاضي صدر الدين في مدح بعلبك:
لله عيش في بعلبك قد مضى ... قضيت فيه مع الصبا غرضا
أيام جفن السرور منتبه ... مني وجفن الهموم قد غمضا
أسعى إلى رأس عينها طرباً ... أركض طرفاً للهوما ركضا
ومدّ لهم الشباب يُونس ما ... أوحش مني سناه حين أضا
وروضة في لجوجها أنف ... لو مُقعدٌ حلّ أرضها نهضا
قصدتها والحبيب في غلس ... وبارق الثغر منه قد ومضا

وسقم جفن قد صح منه لمحزو ... ن كئيب في حبه مرضا
لقيت من هجره وفرقته ... ما راح جسمي به لقى حرضا
ولا ثم لي محرقي رمضا ... على هواه مجرعى مضضا
فقلت أنى اسلوه في زمن ... عادته السخط للأنام رضا
وللأشراف الملك من به بسط الخص ... ب لدينا والجذب قد قبضا
وأصبح عن مساءتنا منحرفاً ... والسرور . . . معترضا
وآض ما غاض من مسرتنا ... وإيجاب غيم الغموم واندحضا
ووقفت على ورقة بخطه إلى شخص من الفقهاء كان يميل إليه وفي صدرها أبيات وغالب ظني أنها من نظمه وهي:
يا حبيباً جار لما ان منك ... لا تخيب قصد من قد أملك
كنت لا تصبر عنا ساعة ... علموك الهجر حتى لذلك
أيها البين الذي فرّقنا ... أي ثار كان عند الصب لك
لا تزدني فوق هذا ألماً ... قد بلغت اليوم فيه أملك
يا لمأسور هوىً صيّره ... مع من قد مات شوقاً وهلك
مستهام لم يزل يتبع ... تابع من حبكم أني سلك
لم يصغ سمعاً إلى العذل فلا ... تسمع اليوم به من عذلك
ما تبدّ لنا بخل بعدكم ... أترى أي خليل بدّلك
ثم وقفت على مجموع بخط بعض الفضلاء وفيه مصاريع من مخمس ونسبه إلى الباسلوى منها:
يا حبيبي بالذي قد أرسلك ... بشر الناس في زي ملك
ساو بالوصل محباً سالك ... أيها المالك لي فيما ملك
من إلى تعذيب قلبي ميّلك
يا عصيّا ليس ينوي طاعة ... كنت لا تصبر عنا ساعة
لا يرى لي أذناً علك سماعه ... فيك للعواذل ولأمر تاعه
علموك الهجر حتى لذلك
عبد الرشيد بن محمد بن أبي بكر النها وندى الصوفي ويسمى مسعود توفي بدمشق في رابع وعشرين شهر رمضان ودفن من يومه بمقابر الصوفية عن مائة وأربع عشرة سنة كما ذكر رحمه الله تعالى.
عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة بن سعد بن سعيد أبو محمد زكي الدين المنذري الإمام الحافظ الشامي الأصل المصري المولد والدار والوفاة الفقيه الشافعي مولده بمصر في غرة شعبان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، قرأ القرآن الكريم بالروايات على أبي الثناء حامد بن أحمد بن حمد الارتاحي وتفقه في مذهب الشافعي رحمة الله عليه على الإمام أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل القرشي وقرأ العربية على ابي الحسين يحيى بن عبد الله النحوي وسمع منهم ومن خلق كثير وحج وسمع بمكة شرفها الله تعالى وبمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ورحل إلى دمشق فسمع ومشائخه مذكورون في معجمه الذي خرجه لنفسه في ثمانية عشرة جزأً ودرس بالجامع الظافري بالقاهرة مدة وعلق على التنبيه في مذهب الشافعي كتاباً نفيساً يدخل في أحد عشر مجلداً وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية التي بين القصرين بالقاهرة وانقطع بها نحو العشرين سنة عاكفاً على التصنيف والتاريخ والإفادة وصنف تصانيف مفيدة وخرج تخاريج حسنة وأملى وحدث بالكثير إلى حين وفاته واختصر صحيح مسلم ابن الحجاج والسنن لأبي داود وتكلم على أحاديثها وكان عديم النظير في معرفة الحديث على اختلاف فنونه عالماً بصحيحه وسقيمه ومعلوله وطرق مسانيده متبحراً في معرفة أحكامه ومعانيه ومشكله قيماً بمعرفة عربيه وإعرابه واختلاف ألفاظه ماهراً في معرفة رواية جرحهم وتعديلهم ووفياتهم ومواليدهم وإخبارهم إماماً حجة ثتا ورعا متحرياً فيما يقوله وينقله متثبتاً فيما يرويه ويتحمله عدلاً ورعا طاهر اللسان مأمون الجانب سمحاً كثير الإيثار وكانت وفاته في رابع ذي القعدة بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله قال أنشدني الأديب الفاضل أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي النحوي الكاتب لنفسه.
لعمرك ما أبكى على رسم منزل ... ودار خلت من زينب ورباب
ولكنني أبكي على زمن مضى ... تسود فيه بالذنوب كتابي
وأعجب شيء أنه لا يصدني ... عن اللهو شيب حال دون شبابي

وقد حل بازي المشيب بعارضي ... وما طار عن وكر الذنوب غرابي
فيا رب جد بالعفو منك فإنني ... مريض حريص بالذنوب لما بي
ولا لي أهل في بلاد ومعشر ... يغدون أيامي لوقت إيابي
وإن سرت عن دار فما من مشيّع ... ولا ملتق إن جئتها لركابي
ولا سكن اعتدّه لملمة ... ولا أحد يرجى لدفع مصابي
وقد رثى الشيخ زكي الدين رحمه الله صاحبنا الموفق عبد الله ابن عمر الأنصاري رحمه الله.
بالصحيحين مذ فقدت صحاح ... صحّ معنى ولفظه . . . الام
درست بعدك الدروس وصارت ... نكراتٍ لفقدك الاعلام
والمواعيد بعد ما غبت عنها ... ليس فيها كما عهدت ازدحام
من سواك السماع لا يطرب السم ... ع وفيه بعد السرور وجام
من لكشف النقاب عن غررال ... الفاب يجلو الوجوه وهي وسام
من لضبط الأعراب جزماً عرا ... ب فصيح أن أبهم الإعجام
من لفصل الخطاب يجلو به الخط ... ب ويجلو بالسمع منه كلام
من لحفظ الأنساب ضاع بنوها ... يا أباها فكلهم أيتام
هذه أعين المحاير تبكي ... بدموع جرت بها الأقلام
يا لها من رزية ذهب الفضل ... بحذ الطروس منها سحام
فالمعالي عيونهن دوام ... حيث لم يهنها لديك دوام
والمواليد بعد موتك أمست ... وولود التاريخ منها عقام
ووفاة الرجال بعدك فأتت ... فجدير بها البكى و اللطام
والفتاوى حلت عليك فروعاً ... فإنها منك حلّها والحرام
والأماني مذغبت ملّت بقاها ... وهي أن تفن حسرةً ما تلام
وعليك الصحاح تبدى انكساراً ... وكذا العين وحشة ما تنام
وإليك الغريب زاد حنيناً ... أغراه بالفراق الغرام
ولدار الحديث عهد قديم ... مستجد على البلى مستدام
كم بها قد قعدت مقعد صدق ... قمت فيه يا حبذاك القيام
حرباً لمحراب أصبح يشكو ... من أماليك وحشة يا إمام
لك مني الصلاة يا جامع الفض ... ل كما عن سواك عندي صيام
أسند الحزن بعد موتك عني ... من رجال الحديث قوم كرام
طوقتهم منك الأيادي فلولا ... نوحهم معرب لقلت حمام
يا رجاي القطوع منه برغمي ... مرسل الدمع من جفوني سجام
دمع عيني إن جرح الجفن جوراً ... فهو عدل وما عليه أثام
وكذا اضلعي إذا أورت اليا ... رفعنها يورى اللهيب الغرام
يا زكياً عقلاً ونقلاً وأصلاً ... ليس يأتي بمثله الأيام
يا طراز الزهاد يا عالي الإسن ... اد يا من له الأيادي الجسام
يا ظليلاً له بقلبي نار ... وهي برد بأدمعي وسلام
لو أفاد الفدى فدتك نفيس ... ات نفوس لها عليك هيام
إن نمتُ صورةً فذكرك حيّ ... لملم الأملا به المام
طبت ذكراً وطاب تربك حتى ... حسدت مصرنا عليك الشآم
كيف استمطر الغمام لقبر ... حلّ فيه يا بحر منك الغمام
باكرتك الصّبا بنشر سلام ... لك تهديه في النسيم السلام
ورثاه أيضاً الأديب أبو القاسم بقصيدة أولها:
مصاب زكي الدين ليس يهون ... لقد سكبت فيه العيون عيون
مصاب به الأجفان قرحى من البكى ... وكل كلام فيه فهو أنين
لقد اقفرت منه المدارس وانفضت ... مجالس منها للحديث شجون
لك الله يا علم الحديث فقدته ... فكم لك شوق نحوه وحنين
وكم حسرات للبخاري بعده ... وما مسلم إلا عليه حزين

يميناً لقد ساء القلوب مصابه ... اليّة برٍ ليس فيه يمين
على بعده وجدٌ بحر زفيره ... يعلم صخر الصم كيف يلين
لقد حملوه والأمانات والتقى ... تزف على نعش له وتبين
وراح وللإسلام في كل مهجة ... بمصرعه داء عليه دفين
وقد كان للأنوار فيه طليعة ... وللمجد منه طلعة وجبين
ويا حسرات للنفوس تأكدت ... لقد كان ما خفناه أن سيكون
ويا عبرات للعيون اذرفي دماً ... فما كل طرف في البكاء طعين
ظناه للأيام يبقى ذخيرةٌ ... على أن جود الدهر فيه ضنين
لإن لم أقم حقاً بواجب حقه ... بقية عمري إنني لخؤون
سقى الله صوب الغاديات ضريحه ... ورواه غيث للسحاب هتون
ولو بخلت عنه السحائب بالحيا ... لروته منا بالبكاء جفون

عبد الله الإمام المستعصم بالله أبو أحمد أمير المؤمنين بن المستنصر بالله أبي جعفر المنصور ابن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي بأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله بن الأمير الذخيرة أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر ابن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الأمير الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الرشيد أبي محمد هارون بن المهدي بالله أبي عبد الله محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رحمه الله مولده سنة تسع وستمائة وبويع له بالخلافة لما توفي والده في العشرين من جمادى الأول سنة أربع وستمائة فكانت الخلافة خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأياماً ومقدر عمره سبع وأربعون سنة واستجاز له ولجماعة من أهله أبو عبد الله بن النجار في رحلته إلى خراسان جماعةً كثيرة منهم أبو روح عبد المعز بن محمد الهروى وأبو الحسن المؤيد بن محمد الطوسي وأبو بكر القاسم بن عبد الله ابن الصفار وأم المؤيد زينب بنت عبد الرحمن الشعري وغيرهم وحدث فسمع منه صدر الدين شيخ الشيوخ أبو الحسن علي بن محمد وحدث عنه وأجاز الإمام محي الدين أبي المظفر يوسف بن الإمام أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي والشيخ نجم الدين أبي محمد عبد الله بن محمد البادرائي وحدثا عنه بهذه الإجازة وكان المستعصم بالله متديناً متمكناً متمسكا؟ً بمذهب أهل السنة والجماعة على ما كان عليه والده وجده رحمهما الله تعالى ولم يكن على ما كانا عليه من التيقظ وعلو الهمة فإن والده المستنصر بالله كان ذا همة عالية وشجاعة وافرة ونفس أبية وعنده إقدام عظيم واستخدم من العساكر ما يزيد على مائة ألف وقصدت التتر بلاد العراق في أيامه فلقيهم عسكره وانتصف منهم وهزمهم وكان للمستنصر بالله أخ يعرف بالخفاجي يزيد عليه في الشهامة والشجاعة وكان يقول إن ملكني الله تعالى أمر الأمة لاعبرن بالعساكر نهر جيحون وأنتزع البلاد من يد التتر وأفنيهم قتلاً واسراً وسبياً فلما توفى المستنصر بالله لم ير الدوادار والشرابي وكانا غالبين على الأمر ولا بقية أرباب الدولة تقليده الخلافة خوفاً منه ولما يعلمون منه أستقلاله بالأمر واستبداده بالتدبير دونهم وآثروا أن يليها المستعصم بالله لما يعلمون من لينه وأنقياده ليكون الأمر إليهم فاتفق رأي أرباب الدولة على تقليد المستعصم بالله الخلافة بعد أبيه فتقلدها وأستبدوا بالتدبير ثم ركن إلى وزيره مؤيد الدين العلقمي فأهلك الحرث والنسل وحسن له جمع الأموال والأقتصار على بعض العساكر وقطع الباقين فوافقه على ذلك وكان فيه شح وحب لجمع المال فوافق ما أشار به الوزير وغيره عليه من ذلك ما في نفسه فأجابهم وبذل الوزير جهده في بوار الإسلام فبلغ قصده كما ذكرنا وكان المستعصم بالله قليل التدبير والتيقظ نازل الهمة محباً لجمع المال مهملاً للأمور يتكل فيها على غيره ويقدم على فعل ما يستقبح ولا يناسب منصبه ولو لم يكن من ذلك إلا ما فعله مع الملك الناصر داود في أمر الوديعة لكفاه ذلك عاراً وشناراً حتى لو كان الملك الناصر من بعض الشعراء وقد قصده وتردد إليه على بعد المسافة وامتدحه بعدة قصائد كان يتعين عليه أن ينعم عليه بقريب من قيمة وديعته من ماله فقد كان في أجداد المستعصم بالله من أستفاد منه آحاد الشعراء أكثر من ذلك إلى غير ذلك من الأمور التي كانت تصدر عنه مما لا يناسب منصب الخلافة ولم تتخلق به الخلفاء قبله فكانت هذه الأسباب كلها مقدمات لما أراد الله تعالى بالخليفة والعراق وأهله وإذا اراد الله أمراً هيأ أسبابه ومن الأتفاقات العجيبة أن أول الخلفاء من آل سفيان أسمه معاوية وآخرهم معاوية وأول الخلفاء من آل الحكم ابن أبي العاص اسمه مروان وآخرهم مروان والخلفاء العلويين بالغرب والديار المصرية اسمه عبد الله وآخرهم اسمه عبد الله وأول الخلفاء من بني العباس عبد الله السفاح وآخرهم عبد الله المستعصم

بالله وعددهم سبعة وثلاثون خليفة ومدة ملكهم خمسمائة وأربع وعشرون سنة منذ بويع السفاح بالخلافة إلى هذه السنة فسبحان من لا يزول ملكه ولا يحول سلطانه وقال القاضي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن واصل رحمه الله أخبرني من أثق بنقله يوم ورود الخبر بتملك التتر بغداد أنه وقف على كتاب عتيق فيه ما صورته عن علي بن عبد الله بن العباس بلغ بعض خلفاء بني أمية عنه أنه يقول أن الخلافة تصير إلى ولده فأمر به فحمل على جمل وطيف به وضرب وكان يقال عند ضربه هذا جزاء من يفتري ويقول أن الخلافة تكون في ولده فكان علي بن عبد الله رحمه الله يقول أي والله لتكون الخلافة في ولدي ولا تزال فيهم حتى يأتيهم العلج من خراسان فينتزعها منهم فوقع مصداق ذلك وهو ورود هولاكو ملك التتر من خراسان وإزالة ملك بني العباس.له وعددهم سبعة وثلاثون خليفة ومدة ملكهم خمسمائة وأربع وعشرون سنة منذ بويع السفاح بالخلافة إلى هذه السنة فسبحان من لا يزول ملكه ولا يحول سلطانه وقال القاضي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن واصل رحمه الله أخبرني من أثق بنقله يوم ورود الخبر بتملك التتر بغداد أنه وقف على كتاب عتيق فيه ما صورته عن علي بن عبد الله بن العباس بلغ بعض خلفاء بني أمية عنه أنه يقول أن الخلافة تصير إلى ولده فأمر به فحمل على جمل وطيف به وضرب وكان يقال عند ضربه هذا جزاء من يفتري ويقول أن الخلافة تكون في ولده فكان علي بن عبد الله رحمه الله يقول أي والله لتكون الخلافة في ولدي ولا تزال فيهم حتى يأتيهم العلج من خراسان فينتزعها منهم فوقع مصداق ذلك وهو ورود هولاكو ملك التتر من خراسان وإزالة ملك بني العباس.
يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور بن المعمر بن عبد السلام أبو زكريا جمال الدين الصرصري الشيخ الصالح الحنبلي كان من العلماء الفضلاء الزهاد العباد وله اليد الطولى في نظم الشعر وشعره في غاية الجودة رحمة الله عليه.
امدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشعار كثيرة قيل أن مدائحه فيه صلوات الله عليه وسلامه تقارب عشرين مجلداً وأضر في آخر عمره وأستشهد ببغداد في واقعة التتار بها في أوائل هذه السنة اعني سنة ست وخمسين ووستمائة وأظنه قد نيف على السبعين من العمر والله أعلم وسأذكر من مديحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التبرك وتشريف هذا الكتاب ما يتيسر إن شاء الله تعالى فمن ذلك قوله.
زار وهنا ونحن بالزوراء ... في مقام خلا من الرقباء
من حبيب القلوب طيف خيال ... فجلا نوره دجى الظلماء
يا لها زورة على غير وعد ... بت منها في ليلة سراء
نعمت عيشتي وطابت حياتي ... في دجاها يا طلعة الغراء
يا طراز الجمال يا حلة المج ... د وتاج الكمال للعلياء
يا هلال السرور ياقمر الأن ... س نجم الهدى وشمس البهاء
يا ربيع القلوب يا قرة العي ... ن وباب الإحسان والنعماء
يا لباب المعنى ونور المعاني ... يا شفاء الصدور من كل داء
إن يوماً أراك فيه ليوم ... آرج النشر ساطع اللألاء
كم إلى كم أخفي الإشارة فيمن ... فضله ظاهر بغير خفاء
سيد حبه فخار وتشري ... ف وعز باق لأهل الصفاء
أحمد الممصطفى السراج المنير ال ... فاتح الخير خاتم الأنبياء
ولعمري لولا تقدمه الأشر ... ف يرويه سادة العلماء
إنه واجب على الكامل الإيم ... ان تقديم حبه والولاء
لعلى الأنفس العزيزة والما ... ل جميعا والأهل والأبناء
ارعدت دونه الفرائض إج ... لالا حبيب الرحمن رب السماء
أكرم العالمين أصلاً وفصلاً ... وجلالا وسيد البطحاء
خص بالخاتم العزيز وشرح ال ... صدر والقرب ليلة الإسراء
والكتاب المبين والنصر بالرع ... ب وريح الصبا على الأعداء
ثم بالحوض والشفاعة في الح ... شر لكل الورى ورفع اللواء

والمقام المحمود والسبق للنا ... س دخولاً في الجنة الفيحاء
ثم يعطى وسيلة هي أعلى ... درجات الجنان دار البقاء
يا نبي الهدى عليك سلام ... يبقى غضاً على الأناء
وعلى صاحبيك ثمة صهري ... ك وعميك السادة النبلاء
والصحاب الكرام خير صحاب ... ناصري الدين بالقنا النجباء
والحسين الشهيد والحسن المس ... موم والبضعة الرضا الزهراء
وجميع الأزواج والتابعين ال ... غر أهل الهداية النصحاء
انت جاري وعدتي ونصيري ... وعمادي في شدتي ورخائي
فاعى علي زمان فظيع الخ ... طب في أهله شديد العناء
وأسأل الله حين تعرض أعما ... لي عليك الغفران لي يا رجائي
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
يا سائق الركب لا تعجل فلي إرب ... فوق الرواحل حالت دونه الحجب
لعل بدر الدجى يرخى اللثام لنا ... عن عارضيه فيشفىالواله الوصب
ماذا على ظاعن شط المزار به ... لو أنه في الدجى يدنو ويقترب
فربما وجدت بردابه كبد ... جرى بنار الجوى والشوق تلتهب
أحبابنا إن تكن أيدي النوى عبثت ... بشملنا فهو بالتفريق منتهب
فإن حبكم وسط الحشاشة لا ... تناله غير الأيام والنوب
أولا عطفتم على صب بكم فعلت ... به سطا البين ما لا تفعل القضب
فؤاده نازح مستأنس بكم ... وجسمه وهو بين الأهل مغترب
ما هب من نحوكم في الصبح ريح صبا ... إلا وهز إليكم عطفه الطرب
ولا ترنم قمري على فنن ... إلا وظل من الأشواق ينتحب
يحن نحو الحمى إذ تنزلون به ... وليس بينهما لولاكم نسب
وإن جرى ذكر سلع في مسامعه ... فإنه لدواعي وجده سبب
سحت غمائم أنوار المزيد على ... فبابه البيض سحا دونه السحب
فهي الشفاء لاسقامي وساكنها ... هو الحبيب الذي أبغى وأطلب
هل تبلغني إليها جسرة أجد ... يحلو لها في الفلا الإرقال والخبب
يا ناقتي لا يغشاك الضلال ولا ... مس القوائم منك الأين والنصب
وأمتد خصبك من ورد ومن كلأ ... ولا تمكن من أخفافك النقب
سيري إلى ان تحلي أرض أفضل من ... في الأرض شد إلى أقطاره القتب
محمد خير مبعوث بمرحمة ... من خير بيت عليه أجمع العرب
مهذب طاهر طابت أرومته ... وطاب بين الورى أم له وأب
هدى به الله قوماً صدهم سفهاً ... عن الهدى الخمر والأزلام والنّصُب
أتاهم بكتاب صدّق الصحف ال ... أولى كما صدقت آياته الكتب
فيه بيان وإيجاز وموعظة ... وهو الشفاء لقلب شفّه الوصب
فاخرج الناس من ليل الضلال به ... إلى صباح رشاد ليس يحتجب
دعا إلى الله رب العرش وهو على ... بصيرة لا تغطّي نورها الريب
فمن أجاب فقد حاز الرضا ولمنأبى وصدّ الوها والويل والحرب
وجاهد المعتدين الناكثين عن الح ... ق المبين بعزم ليس ينقضب
وجنده السابقون الأولون أولو ... البأس الذي رهبته البيض واليلب
وأصبحت زمر الأملاك نازلة ... لنصره والصبا الحرقاء والرعب
حتى استقل عماد الدين وارتفعت ... أعلامه وانجلت عن أهله الكرب
صلى عليه آله العرش ثم على ... أصحابه فهم الأعيان والنجب
أزكى صلاة وأنماها وأدومها ... وأجر ذلك عند الله احتسب
وارتجى بمديحي فيه مكرمة ... من دونها الفضة البيضاء والذهب

لكنني لو قطعت الدهر ممتدحاً ... للمصطفى ما قضى بعض الذي يجب
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم وكان يومئذ متوجهاً إلى زيارة سلمان الفارسي رضي الله عنه فعرّض بذكره وبذكر حذيفة رضي الله عنه.
خذ للحجاز إذا مررت بركبه ... مني تحيّة مخلص في حبّه
واسأله هل حيّا مرابعه الحيا ... وكسا الربيع شعابه من عشبه
واستمل من خير الصبالاخ الهوى ... ما صحّ من إسناده عن هضبه
فلنشر أنفاس النسيم عبارةٌ ... في رمزها معنىً يلذ لقلبه
يغريه مسراها بأيام الحمى ... إذ كان منشأ عرفها من تربه
ولعمرها لولا تذكر عهده ... فيها لما عبث النسيم بلبه
هل لي إلى ليلات مجتمع المنى ... بمنىً رجوعٌ استلذ بقربه
ويضمني وبني الوداد بجوّه ... سربال وصل لا أراع بسلبه
حلو الجنى فيه الأمان لمن جنى ... وبه الكرامة والرضا لمحبه
بدر الكمال على بروج قبابه ... سامٍ يجل عن المحاق وحجبه
يزداد نوراً كلما طال المدى ... بمحمد فلك الجمال وقطبه
نالت يداه من المراتب منصباً ... يعلو على عجم الزمان وعربه
جمعت له متفرق الفضل الذي ... في المرسلين عنايةً من ربه
وله الخصائص حازها من دونهم ... فاستمل من لفظي مقال منبه
منها نبوته وآدم طينةٌ ... فازداد نوراً حين حلّ بصلبه
ورأى بعينيه على العرش اسمه ... فدعا به حين استقل بذنبه
وله المقام المرتضى وشفاعة ... تنجي المحرق من بوائق كسبه
وله اللواء وحوضه العذب الذي ... يروي جميع المؤمنين بشربه
وله الوسيلة ما لخلق فوقها ... نزل تفرد في علاه وقربه
لما علا عن مشبه مختاره ... أضحى وليس لفضله من مشبه
هو خاتم للأنبياء وفاتح ... للأولياء وشربهم من شربه
من أين للأمم الذين تقدموا ... طرّا كأمته الكرام وصحبه
ما كان منهم سيد في موطن ... إلا وكان هو الزعيم لحزبه
منهم حذيفة ذو الأمانة والرضا ... سليمان حلا بالعراق وشعبه
فهما به نور لمن رام الهدى ... وحمىً من الحدث الملم وخطبه
يا سيد البشر الذي هو غوثنا ... في حالتي جدب الزمان وخصبه
زرنا صحابتك الكرام تعرضا ... لننال من فضل خصصتهم به
فافض علينا نعمة من ذاقها ... أضحى معافىً آمناً في سربه
وأتم عقباها بخاتمة الرضا ... والأمن في يوم يصول برعبه
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
ما بال أنفاس النسيم إذا سرت ... سحراً على ميتٍ الصبابة انشرت
ما ذاك إلا أنها مرت ... على رند الحجاز وبانه فتعطرت
حملت إلى المشتاق منه رسالةً ... عن عرف من تهوى بصدق اخبرت
نفت الأسى عنه فيالك نفحة ... دأرت ثقيل الخطب عنه وما درت
واهاً لأيام يفوق نهارها ... ليلاتها اللاتي بحيي أقمرت
قضيتها بحمى تهامة آمنا ... تهم العواذل عارفاً ما أنكرت
ولّت على عجل فكم قلب سها ... بوداع جيرتها وكم عين جرت
لو أنها ردت عليّ لأبرأت ... جسدا باسقام الفراق له برت
أ الاء في شغفى بمن شرفي بها ... جبرت بعطف أم بحتف أخبرت
أوبي جناح إن سمحت بعبرة ... عما تضمنت الحوانح عبّرت
وإذا القلوب أتت بصدق لم تبل ... بمقال واشٍ أظهرت أو اضمرت
يا سائق البكرات ما حنّت إلى ... تحصيل بكر المجد إلا بكرت

تعتاض في طلب العلى عن ريفها ... بمهامه أغبرت وبيدٍ أقفرت
تتجشم الأهوال لو لا نُور من ... جعلته غاية قصدها لتخيّزت
تهوى إلى الحرم الشريف ركابها ... عند الصباح هوى ربد نفرت
إما حللت بذلك المغنى الذي ... فيه عيون المكرمات تفجرت
فقل السلام عليك يا حرم الهدى ... من مهجة بك أفلحت وتبصرت
يا منزلاً عكفت به غرر النهى ... وبقدس ساكنه القلوب تطهرت
هل لي بحضرتك العزيزة وقفةً ... تحيي الذي بالبعد مني اقبرت
أحرزت غاية كل مجد كامل ... وزكت أصول الفضل فيك وأثمرت
بمكرم شهد الملائك فضله ... هذا وطنة آدم ما صورت
وتكور الشمس المنيرة جهرةً ... وشموس شرعة دينه ما كُورت
وهو الذي ينشق عنه ضريحة ... وقبور سكان الثرى ما بعثرت
وهو المشفع يوم محتبس الورى ... وإذا الجحيم على بنيها سعرت
هو أحمد الآتي بخير شريعة ... بيضاء عن وجه الهداية أسفرت
عبدا تخيره المهيمن مرسلاً ... بشراً بطلعته السماء استبشرت
تالله لو أن الوجوه بأسرها ... نظرت بإيمان إليه أبصرت
لكنه من ذي المعارج رحمة ... عظمى لأمته الكرام تيسرت
رأت اليهود صفاته ثم امتروا ... فيه وأمته رأته فما امترت
عين رأته وما اهتدت لرشادها ... لبياض سنة وجهه ما أبصرت
ومحاجر اكتحلت بنور وذاده ... قرت بنيل مرادها وتظفرت
يا من ظلال المكرمات به صفت ... وصفت مشارب بالضلال تكدرت
وبنور بهجته انجلى غسق الهوى ... وبه السحائب في الجدائب أمطرت
والماء أصبح من أصابع كفه ... يهمى فأوردت الظلماء وأصدرت
وله لواء الحمد والحوض الروى ... وله المقام ومعجزات أغزرت
عطفاً على نفس إلى خلاقها ... بك في الخطوب توجهت واستنصرت
ليست تشك بأن مدحك قربة ... بسناه أوزان القريض تنورت
ولقد درت وتيقنت أن لو بغت ... حصراً لبعض الفصل فيك لقصرت
لكنها لعظيم جاهك ترتجى ... في حالتيها أقبلت أو أدبرت
فكن الشفيع لها لتنجيها ... إذا علمت غداة معادها ما أحضرت
فلأنت من أقسامها العظمى إذا ... ما نابها قتر وأما اقترت
فجزيت أفضل ما يُجازى مرسل ... عن أمة رشدت به وتبررت
حيت جنابك نفحة قدسية ... في كل يوم أين حلت عطرت
ونمت به من ذي العلا بركاته ... وزكت به صلواته وتكررت
وقال رحمه الله يمدحه صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه وأزواجه.
لمن طللٌ دون الربا والتنائث ... يُعفى بأيدي العاصفات العوائث
ومنخرق السربال يخترق الفلا ... ويقدم أقدام الشجاع الدلاهث
حسام طويل الساعدين شرنبثله بطش دلاهث هصور شرابث
جريء إذا لاقى يُرى خصمه الردى ... إذا صال في أنيابه والمضابث
تساوت وحوش البر في الأنس عنده ... فصيرها كالعاويات العوابث
يخوض أهاويل الدجى بجلاعد ... أمون السرى بادي النشاط جثاجث
يحثحثه حتى ينال مراده ... فطالب أسباب العلى ذو حثاحث
نصحت له نصحاً بريئاً من القذى ... إذا شاب قوم نصحهم بالعبائث
فقلت له إن رمت أمناً وعزةً ... فعذ من عوادي النائبات الكوارث
بأفضل مبعوث إلى خير أمةٍ ... بخير كتاب جاء من خير باعث

وأيمن مولود وأبرك مرضع ... يدر له ثدي وأنجب مارث
وأكرم مأمول لرفد توجهت ... إليه نجيبات المطايا الحثائث
أبي القاسم الهادي البشير محمد ... سليل الكرام الأطيبين الملاوث
أعز الورى بيتاً وأشرف عنصراً ... وأطهر عرضاً من عميرة ماعث
بني لبني سام منار سموا به ... حمى آل حام في الفخار ويافث
تسنم من غر المناقب ذروة ... أبى شاؤها أن يستكن لضابث
تخيّره الرحمن من آل هاشم ... صفياً نبياً وارثاً خير وارث
وأنزل أملاك السماء لنصره ... على كل خوان السريرة ناكث
وآزره في كل هيجاء بسلةٍ ... بأصحابه الشوس الكماة الممارث
بكل كريم الأصل شهم مهاجر ... وأنصاره الموفين عند النكائث
هم حفظوا ميثاقه في حياته ... وفي موته لم ينقضوا عهد والث
ولما أتى الأحزاب بدد شملهم ... بريح وجند باهر للولايث
ويوم حنين حين جاءت هوازن ... بكل غوى ذى شذاة ملايث
فولوا على الأعقاب حين رماهم ... فأغشاهم من قبضة من كثاكث
هو الأول المختار أفضل مرسل ... هو الآخر المبعوث خير المباعث
أتى بصراط مستقيم من الهدى ... له نبأ بادي البيان لباحث
فصادف عمياً يعمهون قلوبهم ... من الغي غلفٌ تابعي كل عائث
يتيهون في ديمومة مدلهمة ... يطوفون بالأحجار تطواف عابث
فاخرجهم من ظلمة الجهل نوره ... وأنقذهم من موبقات الهثاهث
أحلّ لهم ما طاب من كل مطعم ... وخص بتحريم جميع الخبائث
وعلّمهم سبعاً مثانى آذنت ... بمحق مثاني لهوهم والمثالث
ونزّه رب العرش عن والد وعن ... قرين ومولود وثانٍ وثالث
وبلغ تبليغ النصيح وجاهد ال ... عداة أولى التكذيب مأوى العثائث
وأطفأ نيران الضلالة وامتحت ... معالمها وانجاب ليل الهنابث
وأضحت شموس الحق مشرقة السنا ... قد اتضحت آثارها للمباحث
ومازال محفوظاً رضيعاً وناشئاً ... إلى أن وقاه الله كيد النوافث
وقبلُ وقاه الله في أرض مكة ... أذى كل حلاف من القوم حانث
إلى أن رماهم يوم بدراً ذلة ... بقعر قليب للأساود مائث
وأقبل يوم الفتح نحو ديارهم ... بجيش لا كباد المعادين فارث
سقى قبره الرحب الشريف وجاده ... سحائب للرضوان غير دثائث
وزفت رياض الأنس في عرصاته ... فاربت على نبت الرياض الحثاحث
وصبّحه الرحمن في كل بكرة ... بنور رضابين الصفائح ماكث
وعمّ قبور الأكرمين صحابه ... بكل غمام بالمواهب غائث
وعترته والطاهرات نساءه ال ... لواتي جميعاً كن غير خبائث
وتابعهم من كل ازهر طاهر ... لنفع الورى والاخفياء الأشاعث
وقال رحمة الله عليه يسبح الله تعالى ويمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويثني على الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
سبح لربك في الظلام الداجي ... واذكره ذكر مواظب لهاج
سبحان من رفع السموات العلى ... سبعا وزان السقف بالأبراج
وأطاح بالقمر المنير ظلامها ... وأضاءها بسراجها الوهاج
وأحلها زمر الملائك خضعاً ... لجلاله من ساجد ومناجي
والأرض مهدّها وأرسى فوقها ال ... اطواد تمنعها من الإزعاج
فتذللت سُبُلاً فجاجا منةً ... منه على السّلاك بين فجاج

وبدت شواهد صنعة فيها بما ... أبداه من مستحسن الأزواج
والبحر سخره ولولا لطفه ... لطغا بفرط تلاطم الأمواج
وبأمره البحران يلتقيان لا ... يبغي على عذب مرور أجاج
والفلك سخرها لمنفعة الورى ... فجرين فوق المُزبد العجاج
والليل يخلفه النهار ويخلف ال ... ليل النهار بغيهب متداج
ويطول هذا ثم يقصر ضده ... متعاقبين بحكمة الإيلاج
فهما وتصريف الرياح ومنشأ ال ... سحب الثقال أدلةٌ لمناجي
أعظم بها آياتٌ انقطعت بها ... أسباب كل معاند محجاج
والله أحيا الأرض بعد مماتها ... بجدوبها بالوابل الثجاج
فاهتز هامدها فأخرجت الذي ... قد أودعت من نبتها البهّاج
فكسا الربيع بقاعها من نشره ... حللا تفوق ملابس الديباج
من أحمر قانٍ وأصفر فاقعٍ ... نضرٍ وأبيض ناصع كالعاج
فتبارك الله المهيمن مخرج ال ... أموات منها أحسن الإخراج
واختار آدم من تراب بارئاً ... أولاده من نطفة أمشاج
ثم اصطفى منهم عباداً خصّهم ... بنبوة هي عصمة للآجي
واختار منهم أجمعين محمداً ... لظهور دين واضح المنهاج
وكأن كل الأنبيان لسره ... تاجٌ وأحمد درة للتاج
وهو المسمى في القرآن بشاهدٍ ... وبمنذر ومبشر وسراج
أسرى من البيت الحرام به إلى ... أقصى مساجده بليل ساج
فعلا على ظهر البراق معظماً ... ورأى عجائب ليلة المعراج
كشف الحجاب له وكلمه فما ... اشقى معارض فضله بحجاج
لا زال ممتد المزيد مواصلاً ... بصلاته صلة بغير خداج
فلقد شفا سقم الصدور وعالج ال ... ادواء بالتبليغ خير علاج
واختار أمته وفضلها على ... ماضي القرون وسالف الأفواج
واختار منها آله وصحابه ... للنصر عند كريهة وهياج
واختار أربعة هم خلفاؤه ... فحموا شريعته من الأعلاج
منهم أبو بكر عتيق سيد ال ... أصحاب أفضل مخبت نشاج
صديقه الأتقى الوقور ومنفق ال ... مال الجزيل عليه عند الحاج
واختار عائشة الطهور لوصله ... بكراً سمت شرفاً على الأزواج
وأنيسه في الغار عند تتبع ال ... أعداء بالطلبات والإرهاج
وأقام في يوم اليمامة دينه ... بقواضب وبعامل وزجاج
وخليفة الصدق الإمام المرتضى ... عمر المفتح قفل كل رتاج
جمّاع كل خليقةٍ مرضيه ... قماع كل مجاهر ومداجي
ولطالما نزل الكتاب بوفق ما ... يقضيه فيما يعتر ويفاجى
وبحفصة اختص النبي المصطفى ... صوامة قوامة بدياج
والبر عثمان الذي في ركعة ... لله بالقرآن كان يناجي
لصابر الثبت الشهيد قتيل أهل ... البغي في الإلجام والإسراج
هجموا عليه وما رعوا في قتله ... الآفاصيح شاخب الأوداج
ولقد رآه لابنتيه محمد ... كفؤاً حليماً لم يعب بلجاج
ثم الإمام علي العلم الرضا ... حلال مشكل كل أمر داج
كشاف كل ملمة بحسامه ... أكرم به من كاشف فرّاج
وسقته كفّ وداده كأس العلى ... بإخائه صرفاً بغير مزاج
وحباه بالطهر البتول فزاده ... شرفاً على شرف بخير زواج
وكفاه بالحسنين فخراً لم يخب ... راجيهما ولنعم ذخر الراجي
ومن الصحابة ستة لم تعترض ... شبه الشكوك مقامهم بخلاج

سعد وطلحة والزبير وباذل الب ... كرات بالأحمال والأحداج
وأبو عبيدة وابن زيد واعتقد ... فضل ابن صخر واعص ذا ارهاج
ولأهل بدر والحديبية أعترف ... بالفضل واحذر من يسيء ويداجي
والفضل في كل الصحابة فاعتقد ... فلأنت إن أضمرت ذلك ناجي
ثم الذي اعتقد ابن حنبل اتبع ... تأمن غداً من الحشر من إزعاج
حبرٌ تمسك بالحديث فلم يزغ ... عنه إلى من عاج شر معاج
واستخرج الأخبار في السنن التي ... ثبتت وصحت أحسن استخراج
نصر الآله به القرآن فلم يكن ... في نصره بالعاجز اللجاج
هو في الحياة وسيلتي وذخيرتي ... لهجوم موت للأنام مفاجي
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم .
ربع المنى بمنى نعمت صباحاً ... وتبلجت فيك الوجوه صباحاً
وسقتك أخلاف الغمام عشية ... دراً يروي من حماك بطاحاً
وعلا سحيق المسك نشرك كلما ... نشر الربيع على ثراك جناحاً
ولبست من زهر الرياض ملأه ... وعقدت فوق الجيد منه وشاحاً
قد طالما سامرت في جنح الدجى ... أقمار حسنك لا أخاف جناحاً
وحلبت من رياك روح حشاشتي ... وشربت فيك من المحبة راحاً
لله أيام مضت محمودة ... طابت بجوك غدوةً ورواحاً
آنست فيها نور عطف أحبتي ... ونشقت عطر رضاهم النفاحا
يا موسم الأحباب يا عيد المنى ... وهلال سعد بالبشارة لاحا
هل لي عليك مع الأحبة وقفة ... وجه النهار تجدد الأفراحا
بالله يا من عزمه أهدى لنا ... طرفاً إلى نيل العلى طماحا
فصل السرى بعد السرى بنجائب ... يطوين أكناف الحجاز مراجا
بلغ إلى ذات الستور رسالة ... عمن إذا ذكرت صبا وارتاحا
يا ربة الحرم الممنع كم دمٍ ... لبني الأماني دون وصلك طاحا
كيف السبيل إلى لقائك والفلا ... قد حف دونك ذبلا وصفاحا
وإذا وصلت قباب سلع جادها ... صوب المواهب هاطلاً سحاحا
فاجلس بإشراف موطن علقت به ... غرر المعالي لا تروم براحا
فلقد نزلت من البسيطة منزلاً ... رحب الجوانب للوفود فساحا
جمع المفاخر كلها بمحمد ... أوفى الورى حلماً وأكرم راحا
أضحى به علماً لكل هداية ... ولباب كل فضيلة مفتاحا
طابت بأحمد طيبة فأريجها ... أذكى وأطيب من عبير فاحا
وسمت به أنوارها فلقد غدت ... لمن استضاء بنورها مصباحا
هو سابق الأعيان إذ كتب اسمه ... بالعرش ثمت أودع الألواحا
وهو الذي ختم النبوة فهي عن ... اكتافه العطرات كن سراحا
ودعا إليها الخلق لا يألوهم ... نصحاً وأوضحها لهم إيضاحا
فمن استجاب له فقد حاز الرضا ... والأمن والتأييد والاصلاحا
ومن اعتدى ظلماً وخالف أمره ... كانت عقوبته ظبا ورماحا
ماضي الأوامر لا مردّ لحكمه ... فيما نهى عن فعله وإباحا
هو طاهر الأنساب لما يجتمع ... أبوان في وقت عليه سفاحا
من عهد آدم لم يكن آباؤه ... يرضون إلا بالعقود نكاحا
أكرم به بشراً نبياً مرسلاً ... طلق المحيا بالندى نفاحا
ثبتا قوياً في الجهاد مؤيداً ... ثقة أميناً في البلاغ نصاحا
يسمو على الشمس المنيرة وجهه ... والبدر يحسد ثغره الوضاحا
ولبعض معجزه لتسبيح الحصا ... والماء من بين الأصابع ساحا
والشرح والمعراج والذكر الذي ... أعيا الباء القلوب فصاحا

وله اللواء وحوضه وشفاعة ... تكفي المرهق جماحاً لواحا
ولسوف يعطيه الآله مقامه ال ... محمود جل مهيمناً مناحا
يا خير من وقف المطى به ولو ... جعل الوجى أجسامها أشباحا
وأحق من بذل الورى في حبه ... ومزاره الأموال والأرواحا
إني وإن بعد المدى اشتاقه ... أهدي السلام عشية وصباحا
وأود لو أني بحضرتك التي ... شرفت فامنحك السلام كفاحا
أعددت مدحك في الحوادث جُنّة ... وعلى الذنوب الموبقات سلاحا
فامنن عليّ بنظرة يحيي بها ... قلبي ويصبح راضياً مرتاحا
فلأنت ملجؤنا الذي ما أمّه ... منا فتىً إلا ونال نجاحا
وسأل لي الرحمن ثم لعترتي ... صوناً وجاهاً شاملاً وفلاحا
وسلامة طول الحياة وراحة ... بعد الممات وفي المعادر باحا
واسأل لأمتك الحيا غدقا فقد ... فقد المزارع ماءها السحاحا
والأمن والعيش الرغيد ونضرةً ... كاماقهم ومعونة وصلاحا
واسأل الهك أن يكون بقهره ... لعدوهم مستأصلا مجتاحا
فلكم تملك جيشك المنصور من ... ملك وجدك فارساً جحجاحا
صلى عليك الله ما سرت الصبا ... وشدا حمام في الغصون وناحا
وقال يمدحه صلوات الله عليه وسلم.
وقال يمدحه صلوات الله عليه وسلم.
لمن المطايا في رباها تنفخ ... كالفلك تعلو في السراب وترسخ
فسل الذي لا ينثني إخفافها ... عن سريخ ألا تعوض سريخ
حملت على الأكوار كل مشمر ... للمجد عن طلب العلى لا يربخ
بلغت به أسباب همته إلى ... ما دونه يقف الأعز الأبلخ
من دون موماة الفراة وبابل ... والقادسية والعذيب ومربخ
لكن رامة والعقيق وبانة ... وقباب سلع قصده المترسخ
فبماله شجن تملك قلبه في ... مثله ذو الشجو ليس يوبخ
مأواه جنات القلوب فلا أبٌ ... يحتل موضعه العزيز ولا أخ
هو حاكم الحسن المطاع وعنده ... للمحبة ثابت لا ينسخ
شمخ الملاح جميعهم بجماله ... وجماله على الورى لا يشمخ
من كل معنى عنده لذوي الحجى ... عين بمكنون الحقائق تنضخ
علم وجود كالخضم عن أمره ... وتقي وحلم من ئبير أرسخ
سامي المرام عزيزة أنصاره ... وافي الذمام عقوده لا تفسخ
رحب الجناب نسيمه متوضع ... فكأن ثراه بالعبير مضمخ
ربع يجود على العفاة برفده ... وبه يغاث العائذ المستصرخ
ولعزه التيجان تخضع ذلةً ... وبعطفه روع المخوف يفرخ
يا سيد البشر الكريم نجاره ... يا من بنسبته سما متوشلخ
أصبحت في رأس النبوة تاجها ... وطراز حلتها التي لا تسلخ
وبجاهك الجاه المديد على المدى ... ولك المقامات التي لا تبذخ
يشكو إليك مروّع قلق له ... بأدناس الهموم ملطخ
يمسي ويصبح وهو يخشى فتنة ... صماء للصعب اللواتي تدنخ
إذ كنت ضراماً محمود قده ... يغشى تلهبها القلوب فتطخ
قد حومت منها على أهل القرى ... للعرب عقبان كواسر فنخ
إبليس ملتهج بها مستبشر ... بوعيدها في كل وادٍ يصرخ
هجمت على أرض العراق فأصبحت ... كالسيل يذهب بالغثاء ويلدخ
قد شتت شمل الأنام فبين من ... قد كنت لكفه وبيني برزخ
لولا جنودك قابلوها حجرة ... فكأنهم صبراً جبالٌ رسخ
لوهت عرى الإسلام لكن وعدك ال ... ميمون واضح رسمه لا يمسخ
والبيت بيتك والحريمي حريمك ال ... منصور يعلو من بغاه ويشمخ

فاعطف علينا واسئل الرحمن في ... عفوٍ به عنا الذنوب تسبخ
ويكف عنا فتنة كادت لها ... منا عرى إيماننا تتفسخ
أصبحت فرداً في الديار مروعاً ... وحليلتي عني نأت والأفرخ
فأجز مديحي بالرضا وكفاية ... لهم ولي في كل عام يرضخ
لا تلقني من بعد صوني واقفاً ... بجنابه بادي القطوب موبخ
واسأل لي الله العظيم سلامة ... ولهم وستراً شاملاً لا يسلخ
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم.
ما ذا أثار بقلبي السائق الغرد ... لما غدت عيسه نحو الحمى تخد
وددت لو أنني أصبحت متبعاً ... آثارها أرد الماء الذي ترد
أهوى الحجاز ولولا حب ساكنه ... لما حلا لي به التهجير واللحد
ولا لهاني برق في أبارقه ... كأنه صارم في متنه زبد
هل من سبيل إلى ذات الستور ولو ... أن القنا والظبا من دونها رصد
ففي هواها قليل أن يطل دمي ... وكم لها من قتيل ماله قود
وبالعقيق حبيب لو بذلت له ... روحي لكان يسيراً في الذي أجد
تراب مربعه الرحب المنير به ... شفاء عيني إذا ما شفها الرمد
يا راكباً تطس البيد القفار به ... هو جاء عيس أمون جسرة أجد
إذا وصلت حمى سلع وطاب به ... لك المقيل وزال الأين والعند
فقف بتلك القباب البيض دام لها ... من ذي الجلال السنا والقرب والمدد
وأد بعد سلام نشره عطر ... عني قصيدة مثن وهو مقتصد
وقل فقد أمكن التبليغ في وطن ... ما خاب عبد إليه قاصداً يفد
أشكو إليك رسول الله ما أجد ... من الخطوب التي أعيا بها الجلد
عمر أناف على الستين خالطه ... سقم لأعبائه وسط الحشى كمد
ضعف أضيف إلى ضعف وبعضهما ... يوهي قوى الجسم مني وهو منفرد
شهدت أنك خير الناس ما ولدت ... انثى نظيرك في الدنيا ولا تلد
ولم ينافسك في أصل سما بشرٌ ... ولم ينل رتبة نالت يداك يد
نقلت من كل صلب طاب محتده ... إلى بطون زكت ما شأنها نكد
حللت صلب أبينا عند مهبطه ... وصلب نوح وقد غشي الورى الزبد
وكنت في صلب إبراهيم مستتراً ... ونار نمرود أشقى الخلق تتقد
وحاز نورك إسماعيل يودعه ... أبناءه الغرّ حتى حازه أدد
ونال عدنان في الأنساب منزلة ... علياً بذكرك لم يخفض لها عمد
ولم يزل في معد ثم في مضر ... وهاشم بك تاج الفخر ينعقد
حتى تسلم عبد الله منصبه ... من شيبة الحمد لما استوسق الأمد
ومذ حملت بدا في وجه آمنة ال ... أنوار وهي لثقل الحمل لا تجد
وأشرقت مذ ولدت الأرض وابتهج ال ... بيت الحرام وحاز الجنة المرد
وكنت خير نبي عند خالقنا ... وروح آدم لم ينهض بها الجسد
فابصر اسمك فوق العرش مكتتباً ... وتلك منزلة لم يعطها أحد
فحين تاب دعا رب العباد به ... فتاب حقاً عليه الواحد الأحد
وأنت يوم نشور الناس سيدهم ... أتباعك الغر لا يحصي لهم عدد
وأنت فيه بشير القوم إن يئسوا ... وأنت فيه خطيب القوم إن وفدوا
وفي يديك لواء الحمد ثم لك ال ... حوض الروي إذا ما أعوز الثمد
لك الشفاعة عند الكرب والعرق الط ... اغي وعند جحيم حرها يقد
وبالوسيلة تحظى وهي منزلة ... علياً حباك بها ذو العزة الصمد

وإن حبك من إيماننا سبب ... من دونه النفس والأموال والولد
فبالذي أجزل النعما عليك إلى ... يوم المعاد فلا نقص ولا بدد
أنعم عليّ برؤيا منك تنعشني ... وتنقذ القلب مني فهو مضطهد
واشفع إلى الله في إحسان خاتمتي ... فإنني بك بعد الله اعتضد
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
قفا بحمى سلع فساكنه الذي ... من الحادث المرهوب أصبح مُنقذي
حبيب إذا ما جاد منه بنظرة ... نعمت برؤياه وطال تلذذي
وإن غاب عن عيني أنكرت عيشتي ... وضاق علي الرحب من كل منفذ
وكيف اصطبار القلب عن وجه سيد ... جميل بآيات الكتاب معوذ
بنفسي شموس الصحو في رونق الضحى ... على غصن بالسلسل العذب قد غذى
رضيت بأن يرضى بأني عبده ... وليس على ذي الصدق هذا بمأخذ
وما فخر عبد لا يكون ولاؤه ... لأكرم خلق الله حافٍ ومحتذى
وأحسنهم وجهاً وأحلى شمائلاً ... إذا ما تثنى في رداء ومشوذ
أبي القاسم المختار أفضل مرسل ... وأزكى أمين للأوامر منفذ
هو الرحمة المهداة والنعمة التي ... بها حبر الرحمن كل موقذ
وذو النقمات الموبقات عدوه ... بكل حسام ذي غرار مشحذ
تعطفه برد وروح وراحة ... على كبد حرى وقلب مفلذ
وأغراضه ترمى فتصمى حشى الفتى ... من الضر والبلوى بسهم مقذذ
ومشربه عذب لوراده روى ... تقدس واستعلى عن المشرب القذى
له الحوض يوم الحشر يفضل ماؤه ... على عسل للشارب المتلذذ
وأكوابه مثل النجوم وسبقه ... لكل حفى متق متبذذ
ويخرج من نار الجحيم بجاهه ... من العصب العاصين كل محنذ
به سعدوا بعد الشقاء وكم له ... من النار من مستخلص متنقذ
ويسكن من أضحى مطيعاً لأمره ... قباباً من الياقوت أو من زمرذ
بطاعته حازوا وحسن اتباعه ... عطاءً من الرحمن غير مجذذ
هو المصطفى من ولد آدم كلهم ... برغم عمٍ عن رشده حائر بذى
تنقل من شيث إلى متوشلخ ... ونوح وسام نجله وارفخشذ
إلى صلب إبراهيم والصادق ابنه ... وأصبح من عدنان في خير أفخذ
وخيم في علياء كنانة وانتهى ... إلى هاشم جار الفتى المتعوذ
إلى شيبة الحمد المعظم وابنه ال ... ذبيح الكريم بن الكريم المنجذ
مناسب في العلياء طاب نجارها ... ومن يبتذر ذا اللحد بالسبق يبذذ
له معجزات ليس يدرك شأوها ... تتابع فيها كل أزهر أوحذ
أتى بصريح الحق ليس بكاهن ... وليس بسحّار ولا بمؤخّذ
بدعوته في المحل حُلت حيا الحيا ... فجاد بغيث مغدق غر مشحذ
ولما دعا بالصحو أقلع غيها ... وأجفل أجفال النعام المفذد
ولاح لكسرى القهر عند ولاده ... ومن حوله من مرزبان وهربذ
فيا قلب إن رمت الغداة سلامة ... من الفتن الصم الصلاب به عذ
وإن رمت عزاً شاملاً وصيانة ... وعوناً على الدنيا بجانبه لُذ
وإن شئت أن تحيى سعيداً مهذباً ... بسنته الزهراء ذات الهدى خُذ
عليك بها فاشدد يديك بحبلها ... ومن يطرحها نابذاً فله انبذ
وذر كل شيطان يخالف أمرها ... غوى على أحزابه متحوذ
وتابع على تحصيلها كل ناقد ... بصير بآفات الكلام مجرذ

يؤم أحاديث الرسوم فيهتدي ... بأنوارها نحو الرشاد ويحتذى
وكن مستقيماً للجماعة تابعاً ... ومن لم يتابع سنة الله يشذذ
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم.
حيتك السنة الحيا من دار ... وكستك حلتها يد الأزهار
وتعطرت نفحات تربك كلما ... فض النسيم لطيمة الأسحار
لله ما أبقى الأحبة مودعاً ... بثراك للمشتاق من آثار
لا صرّحن اليوم فيك بلوعة ... كفلت بما في الطول ونار
ما كنت بدعا في الصبابة والأسى ... حتى أواري زفرتي وأواري
ما الحب إلا حرقة تلج الحشى ... أو مدمع جار لفرقة جار
ومصونة حوت البهاء ستورها ... سمراء يُطرب وصفها سماري
عرببية الأنساب قام بحسنها ... عذرى وطاب عليه خلع عذاري
زارت على بعد المسافة بعدما ... هوت النجوم ولات حين مزار
إني طوت شعب الفلا وديارها ... بحمى الحجاز وبالعراق دياري
أهلاً بطيف زائر أهدى لنا ... ريا ممنعة الحمى معطار
جادت بوصل وانثنت ومحبها ... عاري المعاطف من ملابس عاري
هل وقفة للركب في عرصاتها ... وله جوار في أعز جوار
فأقبل الحصباء منها مطفياً ... جمر الجوى مني برمي جمار
فهناك لا حجر ولا عارٌ على ... ذي الحجر في التقبيل للأحجار
أم عائد زمني بأجدر تربة ... بالقصد في أكناف خير جدار
ربعاً؟ به غرر العلى مبذولة ... للمشتري واللاري للمشتار
وبه تبين للقلوب حقائق ال ... أسرار بدر لم يُشن بسرار
هو أحمد المختار أحمد مرسل ... قتّال كل معاند ختار
ندب إذا بث الجياد مغيرة؟ ... علقت بحبل للثبات مغار
بيمينه في الحرب حتف الممترى ... وحياتها في السلم للممتار
غمر الندى بجلاء أعمار الورى ... متكفل وهداية الأغمار
جعل المهيمن في مسامع خصمه ... وقراً وزان صحابه بوقار
وهو المظل بالغمائم من أذى ال ... أسفار والمنعوت في الأسفار
وبه تنشر حين سار مهاجراً؟ ... للغار ذكر فاق نشر الغار
وانهل إكراماً له صوب الحيا ... والقطر محتبس عن الأقطار
فضل البرية كلها وسار به ... طود العلى في هاشم ونزار
يا هادياً شد الإله بدينه ... أزرى وشدّ على العفاف أزاري
يا من به إن عذت من سنة حمى ... أو زار في سنة محا أوزاري
يا من حباء يديه محلول الحُبا ... لسناء سارٍ أو لفك إساري
لو لم يكن مدحك من عددي لما ... أضحى شعاري صنعة الأشعار
نشر الثناء عليك أطيب نفحة ... من مسك داري يضوع بداري
ملأ المهيمن مذ قصدتك مادحاً ... يساره يمناي ثم يساري
ونفى بجاهك يا أعز وسائلي ... قتر الهوى عني مع الأقتار
وغدوت محروس الحمى من صفقة ال ... إعسار عند تواتر الأشعار
حسبي رجاءً أنني من أمة ... بك أصبحت موضوعة الآصار
أنت الزعيم لها وأنت سفيرها ... إن أقبلت من أطول الأسفار
ويزيد فيك رجاء قلبي قوةً ... أن صار بي نسب إلى الأنصار
قوم حللت بدارهم فتدرعوا ... ببدارهم لرضاك ثوب فخار
فاسأل الهك لي بعشر محرم ... جبراً لقلب واجف الأعشار
وشهادتي حق عقيب شهادة ... فيها الوفاق لأهلك الإطهار
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم.
سلوان مثلك للمحب عزيز ... وعليك لوم الصب ليس يجوز

قلبي ذلول في هواك ومسمعي ... فله عن العذال فيك نشوز
يا من شأى بجماله شمس الضحى ... ولقدّه دان القنا المهزوز
هل للمتيم في وصالك مطمع ... فلعله بالقرب منك يفوز
أنا عبدك الراضي برقي فارضني ... عبداً فلي في ذلك التمييز
لا أبتغي مولى سواك من الورى ... إني وجانب من ملكت حريز
لا عار يلحق في هواك لعاشق ... ومحب غيرك عرضه مغموز
لا أدعي فيك الغرام مغمغماً ... في مثل حبك يكُشف المرموز
يا سيد الأشراف يا من حبه ... في كل قلب صادر مغروز
يا خاتم الرسل الكرام ومن به ... حلل النبوة زانها التطريز
ذل الخلاف على عداتك ظاهر ... ومطيع أمرك بالقبول عزيز
أبداً وليك لا يزال مقمصاً ... عزا وضدك داحض معروز
نظم القريض بمدح غيرك نقده ... زيفٌ ونظم مديحك الأبريز
كل العروض بحسن مدحك كامل ... يحلى به المقصور والمهموز
أنت المصفى من قبائل هاشم ... بك أصبحت للمكرمات تحوز
أنت الذي رفع المهيمن قدره ... وعدوك الواهي العرى الملموز
أنت الذي بصرتنا بعد العمى ... فبنور رشدك نهتدي ونميز
أنت المخصص بالشفاعة للورى ... طراً وأنت على الصراط مجيز
برزت في نيل المقامات العلى ... ولمثل مجدك يثبت التبريز
ولقد خشيت الله أعظم خشية ... فلصدرك العطر الرحيب أزيز
ونصحت إذا بلغت نصحاً شافياً ... ما فيه لا وهن ولا تعجيز
حتى استقام الدين وارتفعت له ... عمدٌ لها في الخافقين بُروز
فأجاب واقترب المنيب المتقي ... ونأى وصد الخاسر المحجوز
كسرت جنودك قاهراً سلطانها ... كسرى وأُنفق ماله المكنوز
ولحزبك الأعلون حتى يخرج ال ... طاغي ويمنع درهم وقفيز
ولسوف يبعثك المهيمن مقعداً ... فيه لك التقريب والتعزيز
أشكو إليك جماح نفس ترتمى ... في الغي وهي عن الرشاد ضموز
مخدوعة بخداع دنيا شهدها ... سمٌ وتبدي الدر وهي عزوز
فتنت قلوب الخلق وهي فتيةً ... ودهتهم بالخدع وهي عجوز
أنا في حبائلها رهين الأسراذ ... أنا للضرورة نحوها مكزوز
فأعن ضعيفاً يتقي بك كيدها ... فلنبلها وسط القلوب حزوز
بك أستجير وأستغيث وأرتجي ... أني بجاهك في المعاد أفوز
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم.
طال في شرك المضايق حبسي ... واستقالت من العوائق نفسي
إن أرادت إلى المعالي نهوضاً ... نكستها حظوظها أي نكس
وبعيني للحقيقة شرب ... عز ورداً على حوائم خمس
ونفيس فمن الجواهر غال ... سومه جلّ أن يباع ببخس
وأرى عنه كل شيء حجاباً ... لي ولو ناظري وسمعي وحسي
أي وقت تدور كأس المعاني ... في رياض البشرى بنفحة قدس
ويهب القبول من جوه الرح ... ب لمستوحش بروح وأنس
وتجول الأسرار في حلبة العل ... م فتجلو من الهوى كل لبس
ما إلى ما وصفته من سبيل ... لأخي فطنة بحذق وحس
بل بماضي عناية وبعزم ... صادق واجتناب غير الجنس
واقتداء بشيخ صدق عليم ... سالك قد بنى على خير أس
قلدته أيدي الولاية سيفاً ... لم تباشره كف قينٍ بمس
بعد أن ألبسته من خلع القر ... ب ملأ تعلو ملأ الدمقس
هو عين السعد التي أين حلت ... من عراص الدنيا نفت كل بخس
تابع سنة الرسول بها يصبح مستمسك اليدين ويمسي

هي في صنجة الرجال محل ... لا يضاهي الدنيا نقداً بفلس
نقد من بهرجته زيفٌ ولو كا ... ن كبشرٍ زهداً ونطقاً كقس
سنة المصطفى سراج أضاءت ... فعلى نورها ضياء الشمس
جاء بالنور والطهارة والشر ... ع المصفى من كل غش ورجس
إن أردت الزهد الصريح فمنه ... يقبس المتقي عفاف النفس
حين رد الكنوز علما بأن ال ... مال يلهي عن المعاد ويُنسي
أو أردت الصبر الجميل ففيه ... للصبور الشكور حسن التأسي
حين آذاه أقربوه وأقصو ... ه وهموا بقتله أو بحبس
لو جزاهم بفعلهم فلقد كا ... ن عليهم جبال مكة يرس
وهو الأصل في التقى لم يباشر ... أيدياً للمبائعات بلمس
وله الصوم والوصال ولا يف ... تر في الليل عن قيام ودرس
وله الحلم والندى وندى القطر ... ضنينٌ في عام محل ويبس
وله الفقر والتوكل إذلاً ... يوجد اليوم عنده زاد أمس
معدن الخوف والرعاية الخش ... ية والشكر والرضا والأنس
وهو المؤثر الوجيه إذا قا ... ل كرام الأنام نفسي نفسي
غرس الخير للورى فلقد فا ... ز محبٌ جنى ثمار الغرس
فعليه من المهيمن أزكى ... صلوات برمسه خير رمس
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
قم فبادر قبيل رفع النعوش ... حلبة السبق ذا إزار كميش
وتدبر خلق السماء ففيها ... عبرٌ جمةً لذي التفتيش
كيف قامت بلا عماد وفكر ... في معاني ديباجها المنقوش
زُينت بالنجوم تزهر فيها ... كالقناديل أو كخط رقيش
جل من شادهن سبعاً طباقاً ... ليس في خلقهن من تشويش
جعل النيرين فيها سراجاً ... وحماها من الرجيم الغشيش
وتفكر في خلقه الأرض تنظر ... عجباً في مهادها المفروش
بث فيها من كل زوج من النا ... س وما طار من ذوات الريش
وصنوف الأنعام من رائحات ... سارحات ونافرات الوحوش
وضروب الزروع والنخل والأعناب من مهمل ومن معروش
ثم أرسا الجبال فيها إلى يو ... م تراها كعهنك المنفوش
وهو المرسل اللواقح بشرىً ... بسحاب بادي الوميض خشيش
وكسا الأرض بعد محل بروداً ... من أزاهير غضةٍ وحشيش
وأعدّ الفلك المواخر تجرين بنا فوق زاخر مستجيش
وهدانا بعد العمي فانتعشنا ... بالنبي المبجل المنعوش
والمصفى من الخليل ومن سام ... بن نوح وقينن بن أنوش
وهو عند الطوفان صاحب نوح ... والخليل الرضا بنار بن كوش
وله في المعاد رفع لواء الح ... مد إذ أنه زعيم الجيوش
وهو للأمة المجيز على متن الصراط مزلة المخدوش
كل من لم تنشه ثم يداه ... زل في النار وهو غير منوش
وهو الشافع المنجي ذوي العص ... يان من قعر جاحم مخشوش
أحمد الهاشمي أفضل خلق الل ... ه عبد صفا من التغشيش
جامع المنقبات ذو الخلق المح ... مود من بعضه حديث الجيوش
فاتح الخير والمؤيد بالأم ... لاك وهو العزيز فوق العريش
جاهد الجاحدين حتى أنابوا ... واستكانوا كالأنف المخشوش
فاستنب الإسلام في الشرق والغر ... ب إلى أن علا جبال شريش
يا غياث الملهوف يا كاشف الكر ... ب ويا مرشد البليد الدهيش
قيدتني فأوثقتني الخطايا ... ورماني الهوى بسهم مريش
حصر الكاتبان قولي وفعلي ... في كتاب محبّر مرقوش
ثم مالي وجه إليك سواه ... فاجعلن التقوى لباسي وريشي

وارزقني الإخلاص في ساعة المو ... ت وأنساً في لحد قبر نبيش
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
إلام على الآثام أنت حريص ... وعن طاعة الرحمن فيك نكوص
أغداً إذا أحضرتُ عريان حافياً ... وأرعد مني للحساب فريص
ولائي للهادي البشير محمد ... معاداً إليه في المعاد أحيص
أبي القاسم المختار أفضل من غدت ... تخب به نحو الحجيج قلوص
وخير مزور في البسيطة أرقلت ... إليه تجيبات ضوامر خوص
نبيٌّ له من ربه بكلامه ... ورؤيته في المرسلين خصوص
وأيده الله المهيمن بالصبا ... ورعب له في الدار عين أصيص
حليم عن الجاني رؤف مؤلف ... رحيم على نفع الأنام حريص
سراج منير ذو بلاغ وحكمة ... لما فتقت أيدي الضلال يخوص
وجاء الورى من ربه بشهادة ... فكان عليها للأنام بليص
إلى أن سمعت أنوارها مستطيلة ... فكان لها في الخافقين نشوص
ألا يا رسول الله يا من زكت له ... مناقب في العصر القديم وعيص
فيا ليتني عاينت طيفك في الكرى ... أو اقتادني سير إليك بصيص
مديحي موقوف عليك فما له ... إلى أحد إلا إليك خلوص
إذا قيل فيك الشعر جاء مهذّباً ... جلّى المعاني ليس فيه عويص
ووصفك يعطي الفهم نوراً كأنه ... على الدّر في البحر الخضّم يغوص
وذكرك يا مولاي ينفع غُلتي ... وللقلب من رجس الشكوك يموص
ويؤنسني في وحدتي وتفردي ... إذا ضمني لحد علّي لحيص
اغثني فإني في زمان خطوبه ... لها بين أحناء الرجال كصيص
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
نعم إن للبرق اليماني لوعةً ... لها بين أحناء الضلوع غموض
وإن لخفاق النسيم إذا سرى ... على الزهر المطول وهو مريض
لروحاً يهز الصب حتى كأنه ... يطير اشتياقاً والجناح مهيض
سألتك يا من أصبحت عزماته ... لها في طلاب المكرمات نهوض
تسامت مراميه فأصبحت عزماته لها ... ركاب به تجوب بحر الفلا وتخوض
إذا ما وردت الماء ماء مجنة ... وطلت عليه المطى تخوض
فعرض لأهليه بصبّ غرامه ... طويل بسكان الحجاز عريض
وقل هل لمشتاق يهيم بذكركم ... تمادت به الأيام فهو حريض
سبيل إلى عيش يقضي بقربكم ... وماضي شباب فات ليس يئيض
لقد شف قلبي الوجد نحو أحبتي ... ومالي عنهم عائض فيعوض
فليت المطايا كن يممن أرضهم ... ولو بسطت دون الفلاة أروض
لمن رفعت ما بين سلع إلى قبا ... قباب تغشتها المهابة بيض
بها منهل يروي به كل عارف ... وروض لأرباب القلوب أريض
ألا أيها الأعلام من أرض يثرب ... بها زمر الأملاك ليس تجيض
حمى رسول الله أضحى معطر ال ... عراص كأن المسك فيه يميض
نبي أجدّ الدين بعد دروسه ... وسدد سهم الرشد فهو رميض
ولاقى الأذى من قومه فهو صابر ... ومرّ إلى ذات النخيل يُفيض
فحلّ بثور غاره وعداتُه ... بكل سبيل إلى الفلاة تنوض
فعمّى عليه العنكبوت بنسجه ... وظل على الباب الحمام يبيض
أتى بالهدى والناس في سكرة الهوى ... وعندهم الأمر الحميد بغيض

بهم لغط لا يفقهون كأنهم ... لضعف العقول الواهيات بعوض
له في جهاد القوم درع حصينة ... وأجرد مأمون العثار ركوض
وأسمر عسّال وأبيض قاضب ... صقيل وقوس بالسهام مروض
فكم في عراص المعركات لخيله ... صريع بأطراف الرماح دحيض
إلى أن ذوى الطغيان بعد شبابه ... وأصبحج روض الدين وهو غضيض
كريم عظيم المعجزات بجاهه ... نمى الغيث خصباً والزمان عضوض
وأصبح ماء البئر من فضل ريقه الرضا ... نهراً يجري فليس يغيض
والجيش حقاً من أصابع كفه ... تدفق ماء في الإناء غريض
روى الصدى من درّ عجفاء حائل ... تمكن منها الهزل فهي رفيض
وذلت له الآساد حتى أوبسا ... على باب البقيع ربوض
فيا كاسر العدوى وجابر من سطت ... به غير الأيام فهو وهيض
تجمع فيك الفضل والفقر كله ... فلم يغلُ في وصف لديك قريض
صفاتك عقدٌ في القوافي مفصل ... تحلى به ضرب وزين عروض
مديحك ذخر في حياتي وعدةٌ ... إذا حال من دون القريض جريض
علوت به في رأس أرعن شامخ ... فلا يطبيني بعد ذاك حضيض
وكن لي مجيراً من خطوب لذي الحجى ... الكريم إلى العمر اللئيم تؤض
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
إن بان من تهوى وأنت مثبط ... وصبرت لا تبكي فأنت مفرّط
فاحلل عقود الدمع في دار الهوى ... فلها البكاء عليك حقاً يُشرط
طلّ الدموع على ثرى الأطلال في ... شرع الغرام فريضةٌ لا تسقط
دار عكفت بها وفودك فاحمٌ ... افتنتني عنها ورأسك اشمط
وإذا تمكنت الصبابة من فتىً ... لم يلو عطفيه مزارٌ يشحط
كيف التسلي عن هوى قمر له ... في القلب مني منزل متوسط
أرضي بما يختاره طوعاً ... ولو أضحى بما أرضى به يتسخّط
لم أنسه يوم التقينا بأسما ... والصدر بالأشجان مني ينحط
ففهمت من ذُلي لديه وعزّه ... أن الجمال على القلوب مسلّط
والحسن جند لا يفكّ أسيره ... وقتيله بدم الجوى متشحط
ومبكّر جدّت به عزماته ... نحو العلى فاغذ لا يتثبط
ورفيقه الأدنى الموازر صعدةٌ ... يرمه أو صارم يتأبط
يطوى به شعب السباسب جلعد ... أجُدُ القرى عبل السنام عملّط
مرح يمور ويرتمى في سيره ... مور السحاب مرعد متخمّط
يطفو به آل الضحى فكأنه ... فلك على متن الخضمّ مجلفط
وإذ بدا عند الصباح لعينه ... قصرٌ بذات النخل أبيض أعيط
ورأى القباب البيض دام سناؤها ... وانحلّ عنه سيره المخروط
أرسى بطيبة للإقامة كلكلاً ... فلنعم مرساه ونعم المربط
حلّت مطيته بأشرف منزل ... منه المكارم والتقى يستنبط
فضل البقاع وشادها بمحمد ... فضلاً كبيراً سامياً لا يضبط
هو أفضل الرسل الكرام وأنه ... لخطيبهم وهو الإمام المقسط
هو خير مأمول وأكرم شافع ... يوم القيامة جاره لا يهمط
نصبت عيون الشرك والطغيا به ... وغدا به بحر الهدى يتغطمط
وافى وشيطان الغواية فاتح ... باب الضلال لحزبه متخبط
يلقي زخارفه على أشياعه ... ويلفق القول الهراء ويلغط

فكأنه ولفيفه في غيّهم ... عشواء في غسق الدجنة تخبط
فمحا بنور الرشد ظلمة مكره ال ... واهي فأدبر خاسيئاً يتلبط
وعلا بقهر النصر شامخ كيده ... فهوى وذلّ فرينه المتحمط
كم قدّ بالبتار من قدوكم ... شحطت بسهم نحو طاغ شوحط
فسما به الإيمان بعد خموله ... حتى تسم ذروة لا تهبط
وحباه مرسله بأزكى أمة ... اختارها النمط الأغر الأوسط
ما فيهم الأولى عارف ... أو زاهد أو عالم مستنبط
وغداً يكون بحوضه فرطاً لهم ... وشفيع عاص يعتدي ويفرط
وهم الشهود على عيوب سواهم ... يوم المعاد وعرضهم لا يهبط
وهم غداً ثلثا صفوف الجنة ال ... فيحاء في سند صحيح يُضبط
أزكى الورى نسباً وأكرم عنصراً ... وأمد كفاً بالنوال وأبسط
وأنمّ حلماً لا يجازي من أتى ... بالسوء عدل منصف لا يفرط
ولقد تعمّق في أذاه وكاده ... بالسحر خبٌ من يهود عشنط
فأعيذ من كيد النوافث فأنثني ... فكأنما هو من عقال ينشط
هذا ولم يعبس له وجهاً ولم ... يُسمع له يوماً كلام يسخط
وأبثّ بعض المعجرات فنظمها ... درٌّ ثمين بالمسامع يلقط
شرح الملائك صدره في أربع ... يا حبذا ما ضم منه المخيط
وكذلك في عشر وفي معراجه ... نقل الثلاثة حافظ لا يغلط
وانشق إكراماً له قمر الدجى ... وجموع مكة بالبطاح تعطعط
بقعيقعان النصف منه ونصفه ... بأبي قبيس لا محالة يسقط
ولقد شكا يوم الحديبية الصدى ... جيش فتاه صريخهم لا يوهط
فسقاهم حتى رووا وتطهّروا ... بالماء من بين الأصابع ينبط
وأتاه وفد فزارةٍ وبلادهم ... بالجدب أضحت تقشعر وتقحط
فنفى قنوطهم بدعوته ومن ... كان الرسول سفيره لا يقنط
ودعا فسحت ديمة حتى دعا ... بالصحو فانجابت كثوب تكشط
وله الشفاعة في المعاد وحوضه ال ... عذب الروا وله اللواء الأحوط
وله المقام الأكبر المحمود والز ... لفى به يوم القيامة تغبط
هذا لعمر آلهك الفضل الذي لا ... ريب فيه والثناء الأقسط
يا صفوة الرحمن من كل الورى ... يا من به في الخطب جاشى يُربط
إني إلى رب العلى متوجه ... بك عند كل ملمة تتمغط
بك أستجير ومن يلوذ من الورى ... بعظيم جاهك قدره لا يُغمط
فسأل لأمتك الضعيفة نصرة ... ورخاء عيش ثم أمناً يبسط
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
عُدّتي للحياة والموت والحشر ونار سوداء ذات شواظ
أحمد الشافع الوجيه أبو القا ... سم ذو الحظ فوق كل الأحاظي
من به بشّر المتوّج سيفٌ ... وتلاه قسٌ بسوق عكاظ
وأتاهم بمحكم الذكر منه ... فنسا الوعظ حاذق الوعاظ
هو محي القلوب ماحي الخطايا ... قرّة العين روضة الحفّاظ
جاء بالحق والشيطان تسعى ... بين حزب الضلالة الأوشاظ
دخل الشرك في قلوبهم الغلب دخول النصول في الأرعاظ
فأراهم ليهتدوا معجزاتٍ ... كافيات للصبر والأيقاظ
وهداهم إلى صراط سوى ... مورث زينة القلوب الفظاظ
فدنا منه كل عبد منيب ... ونأى كل فاجر خواظ
فلقد فاز من أناب وطالت ... حسرات المنافق الجعاظ
لم يزل يحسن البلاغ إلى أن ... عُبد الله في الذرى والشناظ
وشسوع الفلاة والسيف والري ... ف وبث الصفاء بعد الكظاظ

فسما الدين مقبلاً وتولى ال ... كفر حيران رامقاً بلحاظ
يا حبيب الرحمن يا شامخ البنيان في المجد يا منيع الحفاظ
يا جميل الأخلاق يا حسن آلاء ... راض والصفح عن ذوي الأحفاظ
يا كريم الأعراق يا أفصح النا ... س لساناً يا أعذب الألفاظ
يا رؤوفاً بالمؤمنين رحيماً ... ولأهل الفجور ذا إغلاظ
يا شفيع الأنام يا منقذ العا ... صين من بطشه الشداد الغلاظ
يا مغيث العطاش في الظمأ الأك ... أخبرنا والناس في صدىً وكظاظ
في مقام فيه الحجيم اكفهرت ... ثم أبدت تنفس المغتاظ
يا نبي الهدى أغث مستجيراً ... بك في الخطب دائم الألظاظ
من زمان فيه القبول لذي الجه ... ل ووقتٍ لذي الحجى لفاظ
فيه للغمر نعمة وثراء ... وأخو العلم عاجز عن لماظ
حمل العارفون فيه كما حمّل مستوثق البُرى والشظاظ
واسأل الله لطفه في حباء ... فإليه صبابتي وحفاظي
وإذا ملا قبرت فرداً وحيداً ... غائب الشخص عن حديد اللحاظ
وإذا النفس بالمنية فاظت ... بانتهاء الحياة أي فواظ
لا عداك السلام في كل يوم ... من حبيب مواصل ملظاظ
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم ويذكر عقيدته، وكان قد رآه صلى الله عليه وسلم في النوم، وقال فقبلّت فاه وقلت أشهد أن هذا الفم الذي أنزل عليه الوحي، وقال لي عليه أفضل الصلاة والسلام: وأنا أشهد أنك مت على الكتاب والسنة، ذكره صلى الله عليه وسلم بلفظ الماضي.
تواضع لرب العرش علّك تُرفع ... لقد فاز عبد للمهيمن يخضع
وداو بذكر الله قلبك إنه ... لأعلى دواء للقلوب وأنفع
وخذ من تقى الرحمن أمناً وعُدّةً ... ليوم به غير التقى مروّع
وبالسنة المثلى فكن متمسكاً ... فتلك طريق للسلامة مهيع
هي العروة الوثقى وحجة مقتد ... نبُّت بها أسباب من هو مبدع
رأيت رسول الله أنصح مرشد ... وأنجح ذي جاه كريم يشفع
وأصدق رؤيا المرء رؤياه إنها ... لمن شبه الشيطان تُحمى وتمنع
فقبّلت فاه العذب تقبيل شيّق ... وما كنت في تقبيل ممشاه أطمع
وقلت له هذا الفم الصادق الذي ... بوحي آله العرش كان يمتّع
فبشّرني خير الأنام بميتتي ... على سنة بيضاء بالحق تشرع
فها أنا تصديقاً لبشراه ثابت ... عليها بحمد الله لا أتتعتع
بمعتقد الثبت الإمام ابن حنبل ... أدين فهو الناقل المتورع
لئن لم أتابع زهده وتقاءه ... فإني له في صحة العقد اتبع
أمرّ أحاديث الصفات كما أتت ... على رغم غمر يعتدى ويشنع
فلا يلج التعطيل قلبي ولا إلى ... زخارف ذي التأويل ما عشت أرجع
أقرّ بأن الله جلّ ثناؤه آله ... قديم قاهر مترفع
سميع بصير ما له في صفاته ... شبيه يرى من فوق سبع ويسمع
وخُلق الطباق السبع والأرض واسعٌ ... وكرسيّه منهن في الخلق أوسع
قضى خلقه ثم استوى فوق عرشه ... ومن علمه لم يخل في الأرض موضع
ومن قال إن الله جلّ بذاته ... بكل مكانٍ جاهلٌ متسرع
إليه الكلام الطيب الصدق صاعدٌ ... وأعمال كل الخلق تُحصى وترفع
فما لم يشاه الله ليس بكائن ... وما شاءه في خلقه ليس يدفع
يُضلُّ ويهدي والقضاء بأمره ... مضى نافذاً فيما يضرّ وينفع

وللشر والخير المهيمن خالق ... وإبليس من أن يخلق الشرّ أوضع
ولكنه للشر أخبثُ محدث ... بوسواسه في موبق الإثم يُوقع
علا عن مُعين ربُنا ومظاهر ... على الملك أو كفوا على الغيب يُطلع
لقد برأ الخلق ابتداء من الثرى ... بلا مسعد فيما يسوّى ويصنع
وقال لهم ذرّاً ألست بربكم ... فقال بلى منهم عصىً وطيع
وسوف يناديهم جميعاً إذا أتوا ... حفاةً عراةً في المعاد فيسمعوا
ويسمع سكان السموات وحيه ... فهم لسماع القول صرعى وخضّع
وكلم موسى والكلام حقيقة ... بتوكيده بالمصدر الخصم يقطع
ومعتقدي أن القرآن كلامه ... قديم كريم في المصاحف مودع
وقد سبق الوعد المصدّقُ أنه ... إذا جاءت الأشراط منها سيرفع
وأودع حفظاً في الصدور وإنه ... لبالعين مرئٌ وبالأذن يُسمع
بالسنة القراء يُتلى وإنه ... بحرف وصوت ضلّ من يتنطع
هو السور الهادي إلى الحق نورها ... وآيات صدق للمنيبين تنفع
به نزل الروح الأمين مصدقاً ... على قلب عبد كان بالحق يصدع
وليس بمخلوق ومن قال عكس ما ... ذكرتُ له في الناس بالكفر يقطع
ولا محدث قد جاء عن سيد الورى ... حديث لمعناه أسوق وأوضع
لقد قرأ الرحمن طه جميعها ... ويس أيضاً والملائك تسمع
ولم يخلق السبع الطباق ولا الثرى ... وهذا دليل ما لهم عنه مدفع
وقولهم خلق فظيع وقول من ... يشير إليه بالعبارة أفظع
ومن كان فيه واقفياً محيراً ... فذلك واللفظي كل مبدّع
وفي كتب الله القديمة كلها ... أقول بهذا القول لا أتفزّع
ومعتقدي أن الحروف قديمة ... وإن حار في قولي غويٌّ متعتع
تبارك ربي ذو الجلال صفاته ... تجلّ عن التأويل إن كنت تتبع
يداه هما مبسوطتان تعالياً ... عن المثل يعطى من يشاء ويمنع
وألواح موسى خطّها بيمينه ... مواعظ تشفى من ينيب ويخشع
وكلتا يديه جلّ عن مشبه له ... يمين إلى خير البرية يرفع
وينزل في الأسحار في كل ليلة ... كما جاء في الأخبار والناس هجّع
ينادي أولي الحاجات والتوب طالباً ... فهل راهب أو راغب متضرع
ومن قال إثبات الصفات شناعة ... فجرأته إذ عارض النصّ أشنع
وينظره الأبرار يوم معادهم ... ويحجب عنه من إلى النار يوزع
كما ينظرون الشمس لا غيم دونها ... لقد خاب محجوب هناك ممنّع
ولم يرفى الدنيا من الناس ربّه ... بعينيه إلا الهاشمي المشّفع
محمد المخصوص بالرؤية التي ... غدا الطور إجلالاً لها يتقطّع
وإن نعيم القبر ثم عذابه ... لحق فمسرور به ومروّع
يخالف ضيقاً بين أضلع من طغى ... ويفسح فيه للتقى ويوسع
ويسأل فيه الميت الملكان عن ... هداه فمرحوم وآخر يُقمع
ويعرف من في القبر من زاره وإن ... يُسلم على الأموات في القبر يسمعوا
ومن يقرأ القرآن للميت مهدياً ... يصله وبالإطعام والبر يُنفع
وقد يسأل الأموات من مات بعدهم ... عن الأهل من منهم مقيم ومقلع

وربي أحصى خلقهم ويميتهم ... ويبعثهم بعد الممات ويجمع
وينفخ إسرافيل في الصور نفخةً ... فكل من الأجداث للحشر مُهطع
وتدعى البرايا للحساب جميعهم ... فلا ظلم والميزان للعدل يوضع
وذلك يوم فيه نور نبينا ... برفع لواء الحمد يعلو ويسطع
ويظهر فيه جاهه بشفاعة ... إليها لكرب الموقف الخلق يهرع
وينقذ في يوم القيامة من لظى ... من الأمة العاصين إذ هو يشفع
وينصب فيه حوضه كاشف الصدى ... وذلك حوض بالروا العذب مُترع
وإن له فيه مقاماً مقرباً ... ومقعد صدق نوره يتشعشع
ويسبق كل العالمين مبادراً ... لحلقة باب المنزل الرحب يقرع
فيدخل والشعث الخماص كأنما ... وجوههم شمس الضحى حين تطلع
وينزله الله الوسيلة رتبةً ... له ليس فيها للخلائق مطمع
وقد خلق الله الجنان معدة ... لأربابها فيها ظلال ومرتع
وحور حسان ناعمات كواعب ... بها كل أوّابٍ حفيظ ممتع
وقد خلق الله الجحيم لأهلها ... لبأس أذاها عنهم ليس ينزع
لهم ظلل منها عليهم وتحتهم ... لأمعائهم شرب الحميم يقطع
وبعد التقاضي يّبح الموت بينهم ... فمستبشر زاض وآخر يجزع
وأعتقد الإيمان قولاً مسدداً ... وأعمال صدق في الصحائف تودع
يزيد بفعل الخير من كل مؤمن ... وينقص بالعصيان فهو ممزع
وإيماننا بضع وسبعون شعبةً ... حديث صحيح النقل لا يتضعضع
وإني إذا ما قلت إني مؤمن ... ولا شك عندي بالمشيئة اتبع
وليس كبير الذنب مخلد مؤمن ... بنار بلى فيه النبي مشفع
ولست أرى رأي الخوارج بل إذا ... رعى أمرنا والٍ أطيع وأسمع
وإن جهاد المسلمين عدوهم ... لفرض وقرن الشمس في الغرب يطلع
وأمسح فوق الخفّ والمسحُ سنة ... إلى مدة معلومة ثم اخلع
وللسحر تأثير ولا باس بالرقى ... بأم الكتاب أو دعاء يرفع
ولست لميت المسلمين بشاهد ... أيُسقى رحيقاً أم حميماً يُجرع
بلى أرتجي للمحسنين سلامة ... وأخشى على من يعتدي أو يضيّع
ولا ريب عندي في ثبوت كرامة ال ... ولي ولي ولواضحي على الماء يُسرع
وبالحمد لله افتتاح صلاتنا ... لما صح من نقل المحقين اتبع
ولا أر في الفجر القنوت ولا أرى ... عليّ إذا أذنتُ أني أرجّع
وإن مرّ في شعبان عشرون ليلة ... وتسع وغُمّ البرج بالصوم أقطع
ومذهبنا الوسطى هي العصر فاستفد ... مسائل خمساً من فروع تفرّع
ولست لمن فيها يخالف مانعاً ... ولكن خلاف في الأصول ممنّع
وما شاع فيه من خلاف لمسلم ... فإني لمن يُفتى به لا أبدّع
وأشهد أن الأنبياء جميعهم ... ومعجزهم حقٌ وذلك يُقنع
وأن رسول الله أحمد خيرهم ... وأفصحهم عند البلاغ وأبرع
على عرشه خطّ اسمه ولقد عفا ... لآدم إذا أضحى به يتضرع
وكان صفي الله آدم طينة ... وفيه لأقمار النبوة مطلع
وأودعت التوراة غرّ صفاته ... فمن نعته الأحبار آمن تبع
وأودعت الرهبان سلمان وصفه ... فكان إلى أخباره يتطلع

فأبصر برهان العلامات عنده ... فأضحي بجلبات الهدى يتلفع
وقد كان حملاً والجباه منيرةٌ ... به وسمت أنواره وهو مرضع
تنكّست الأصنام عند ولاده ... كما نكّستها منه في الفتح إصبع
وشبّ شباباً للنواظر ناضراً ... وفيه لسر المجد مرأىً ومسمع
لقد شرحت منه الملائك صدره ... وكان له من أبرك العمر أربع
وكان ابن خمس والغمام تظله ... وفي العشر نور الشرح في الصدر يلمع
وفي الخمس والعشرين سافر تاجراً ... بمال رزان للمفاوز يقطع
رأه بحيرا والغمامة فوقه ... ومسيرةٌ والحرّ للوجه يسفع
وأبصرت الكبرى فتاة خويلد ... ومن فوقه ظلل الغمام مرفع
إلى أن أرته الأربعون أشدّه ... فأضحى بسربال الهدى يتدرّع
ولما تحلّى بالنبوة وانتهى ... إلى مستوٍ عنه الملائك توزع
أتى وعلى عطفيه أفخر حلة ... وتاجٌ بدرّ المكرمات مرصّع
رأى ليلة المعراج أمراً محققاً ... ومنكر هذا الأمر يخفى ويردع
وفيها قُبيل الرفع أكمل صدره ... بشرح منير نشره متضوّع
به أظهر الله المهيمن دينه ... فأصبح وجه الدين لا يتبرقع
وأحكامه في الأمر والنهي والشرى ... وفي البيع تبقى والجبال تصدّع
ومعجزة القرآن ظلت لحسنه ... وترتيله في نخلة الجن تخضع
وللقمر المنشق نصفين معجزٌ ... عزيز على من رامه متمنع
ونادى فلبته بمكة دوحةٌ ... تخد إليه الأرض خداً وتسرع
ولما دنا منه سراقةُ طالباً ... على فرس كادت له الأرض تبلع
فعاذ به مستأمناً فأجاره ... وأطلقها حتى غدت تتقلع
وحنّ إليه الجذع عند فراقه ... كما حنّ مسلوب القرين مفجع
وخرّ له الناب المهدّدُ ساجداً ... وأجفانه خوفاً من النحر تدمع
فأطلقه من أهله فبجاهه ... نجا من اليم الذبح هذا الجلنقع
فكيف بنا إذ نحن عذنا بجاهه ... من الحادث المغرى بنا فهو مرجع
وخرّ له ساني الأباعر ساجداً ... وكان شروداً فانثنى وهو طيّع
وعاذت به ريمٌ فقّك إسارها ... فمرت على الخشفين تحنو وتُرضع
ومدّ يديه والرّبى مقشعرّة ... فما رام إلا والسحائب تهمع
فدام الحيا سبعاً فمدّ لكشفها ... يداً غمرت جوداً فظلت تقشّع
ودرّت له في الجدب عجفاء حائلٌ ... وبكل على نزل الفحول تمنع
وقد كان من مدّ من التمر أو من الش ... عير بجوع الجحفل الجم يشبع
ومن لبن في القعب أشبع كل من ... حوت صُفة الإسلام والقوم جوّع
وآض أبو هرٍ وقد كان آيساً ... من الرّي وهو الشارب المتضلع
ولما اشتكوا يوم الحديبية الصدى ... غدا الماء من بين الأصابع ينبع
وقد أصبح الماء الأجاج بريقه ... يروي غليل الظامئين وينقع
وساحت به بئر ومقلة حيدر ... شفاها فلم يرمد لها الدهر مدمع
وكلّمة الصم الصوامت مثلما ... يكلمه بادي الفصاحة مصقع
وكان على شهر له الرعب ناصر ... وريح الصبا للنصر هو جاء زعزع
وإن رُمت من أخلاقه ذكر بعضها ... فتلك من المسك المعنبر أضوع

اتته مقالي الكنوز فردّها ... وقال أجوع اليوم والغد أشبع
فصحّ له الزهد الصريح بقدرة ... وعلم فمن ذا منه أغنى وأقنع
وفي الحلم ما جاز مسيئاً بفعله ... ألم يعف عمن للسّمام تُجرع
وعن ساحر جزيان رام بكيده ... أذاه فلم يجزه بما كان يصنع
فقال لقوم عند دركلة لهم ... رؤوه ففروا آل أرفدة أرجعوا
ليعلم أعداء الهدى أن ديننا ... هو الحق فيه الأمر سهل موسع
ويستنشد الأشعار مستحسناً لها ... وقد كان من حسّان للمدح يسمع
ولابن أبي سُلمى أجاز وقد دعا ... على المدح للعباس نعم المشرع
وكان له حسن التواضع شيمةً ... حباه به الرحمن لا يتصنع
ففي بيته قد كان يخصف نعله ... وكان إذا ما انهج الثوب يرقع
ويجلس فوق الأرض لا فرش تحته ... ومطعمه أيضاً على الأرض يُوضع
دعاه يهوديٌّ أجاب دعاءه ... وعن دعوة الملوك لا يتمنّع
وفي الجود فاسئل عن خباء يمينه ... أئمة أهل النقل يا متتبع
ألم يهب الشاء الكثيرة عدادها ... لعافٍ أتاه يعتريه ويقنع
أما فضّها سبعين ألفاً بمجلس ... فلم يبق منها درهم يتوقع
وفي البأس فاسأل عنه يوم هوزان ... أما انهزموا وهو الكمّى السميدع
وما التقت الأقران يوم كريهة ... على الطعن إلا وهو أقوى وأشجع
لهم منه يوم السلم شرع وسنة ... وفي الحرب نصر والأسنة تشرع
وأمته خير القرون وخيرهم ... صحابته أزكى الأنام وأورع
وخيرهم الصدّيق إذ هو منهم ... إلى السبق في الإسلام والبرّ أسرع
وفي ليلة الغار افتداه بنفسه ... حذاراً عليه من أراقم تلسع
وقاه من الرقش العوادي برجله ... فبات يعاني السم والطرف تدمع
واتحفه بالبكر عائشة التي ... براءتها في سور النور تُسمع
وكان له صهراً وصلّى وراءه ال ... نبي صلاة الصبح والصحب أجمع
وردّ فريق الردّة الزائغ الذي ... لفرض زكاة المال أصبح يمنع
إلى أن أقام الدين بعد اعوجاجه ... وأضحى حمى التقوى به وهو ممرع
رضينا به بعد النبي خليفة ... على عقده كل الصحابة أجمعوا
ومن بعده الفاروق مظهر ديننا ... بإسلامه والأمر خافٍ مبرقع
هو العدويّ العبقريّ المفهّم المبصر والباب الحديد الممنع
خلافته صحت بعقد خليفة ... على فضله حزب الصحابة مجمع
ورؤيا النبي المصطفى أنه على ... قليب غزير الماء بالغرب ينزع
وتأويل هذا ما سمعت فتوحه ... وعدل له بين الأنام موزع
له العلم والحكم السديد وصحة التوكل وصف والتقى والتورّع
وعن زهده فاسأل خبيراً ألم يقم ... خطيباً عليهم والأزار مرقّع
ومن بعده عثمان من كان في الدجى ... يرتّل آيات الكتاب ويركع
يرتله في ركعة وهو الذي ... له كان في رقّ المصاحف يجمع
وزوجه الهادي ابنتيه كرامةً ... ولو كنّ عشراً لم يكن بعد يمنع
وأعطاه سهماً يوم بدر ولم يكن ... وبايع عنه نائباً حين بُويعوا
وسبّل بئراً ماؤها ينقع الصدى ... وجهّز جيشاً وهو بالعسر مدقع
وقمّصه الرحمن ثوب خلافة ... بوعد النبي المصطفى ليس يخلع
ومن بعده الهادي علي بقوله السديد إذا ما أشكل الأمر يقطع

إذا ذكر الراوون صحب محمد ... يكون له فيهم خصائص أربع
إخاءٌ مع المختار وهو ابن عمه ... وسبطاه والزهراء فضل منوّع
وأعطاه خير الناس أشرف رأية ... وكان له بالفتح والنصر مرجع
ولو شاء أن يرقى السموات إذ له ... على كتف الهادي البشير ترفع
أمام بطين في العوم وإنه ... من الشك والشرك الخفي لأنزع
ومن بعدهم خير الصحابة ستة ... لهم بالجنان المصطفى كان يقطع
فذكرك منهم طلحة الخير شائع وقولك فيه طلحة الجود أشيع
ويعرف بالفياض إذ جود كفه ... أعمّ من البحر الخضم وأنفع
فكم مائتي ألف على الناس فضّها ... عليهم بها في الضائقات يوسّع
ويمناه شلت يوم أحد لدفعه ... بها عن نبي الله لا يتزعزع
وإن الزبير الفاتك الشهم منهم ... أشد رجال الحرب بأساً وأمنع
وفارس بدر وابن عمة سيد ال ... ورى والجواد المنفق المتطوّع
حواريّه وهو الذي باختياره ... لرأيته العلياء في الفتح يرفع
ومنهم أمير الحرب سعد بن مالك ... وأفضل من رامٍ عن القوس ينزع
وثلث أرباب الهدى ودعاؤه ... إليه من الله الإجابة تسرع
وكان له خالاً وأول من رمى ... بسهم له في عصبة الشرك موقع
ومنهم سعيد خصّه سيد الورى ... وآخّره عذر عن الغزو يمنع
بسهمٍ وأجرٍ يوم بدر وقد غدا ... كمن هو في بدر كمتىٌ مدرّع
وإن ابن عوف منهم المنفق الذي ... بأنفس مال لم يزل يتبرع
ومنهم أمين الأمة الثبت عامر ... فيا لفتىً فيه غناء ومقنع
وأبطال بدر فضلهم غير منكر ... بأفخر ثوب في الجهاد تدرّعوا
وفي بيعة الرضوان فضل لأهلها ... وتفضيل أهل البيت ما ليس يُدفع
وأزواجه في جنة الخلد عنده ... بهن مع الحور الحسان يمتع
وللفضل أيضاً في معاوية أعتقد ... ردافته تفضيلها لا يضيع
هو الكاتب الوحي الحليم وأخته ... مع المصطفى في جنة الخلد ترتع
وكل صحابي رآه ففضله ... على غيره في نيله ليس يُطمع
ولا أبتغي التفتيش في ذكر ما جرى ... لأصحابه خاب الغوى المشنع
فيا طالباً أرض الحجاز إذا انطوى ... له أجرعٌ منها تعرّض أجرع
يحاول أسباب العلى في طلابه ... فيوجف في البيد الركاب ويوضع
إذا بلغت سلعاً مطاياك غدوةً ... ولاح لها من أرض طيبة مرتع
فذلك مأوى العلم والحلم والهدى ... وفيه لمكنون الحقائق منبع
لأن به خير الأنام محمداً ... له كل الفضائل تجمع
فقل يا رسول الله أنت نصيرنا ... على فتن في وقتنا تتقرع
بك السنة المثلى عرفنا وأنكرت ... قلوب عليها بالغباوة يطبع
بتسليمنا فيها وعينا وفرقة ال ... هوى قلّدوا فيها العقول فلم يعوا
فسل ربك الرحمن أن لا يزيلنا ... عن السنة المثلى وأنت مشفع
عليك سلام الله ما أعقب الدجى ... صباح وما لاحت بوارق تلمع
وقال رحمه الله يمدحه صلى الله عليه وسلم بالإشارة:
نفسي الفداء لبدر تمّ بازغ ... سامٍ عل غصن الجمال النابغ
لا يعترى نقصُ المحاق كماله ... كلاً وليس قوامه بالزائغ
يهتز في حلل المواهب مائساً ... في ظل قرب للجلالة سابغ
غصن النضارة نشره متعطر ... ريّان من ورد المزيد السائغ
أهدى له الرحمن أحسن صبغة ... فتبارك الرحمن أحسن صابغ

بلغت عنايته به ما لم يكن ... أحد إليه من الأنام ببالغ
صفت القلوب بوده إذ أطفأت ... أنواره نار العدول النازغ
قمعت جيوش النصر تحت لوائه ... بالقهر كلّ مبارز ومرواغ
يا من تجمعت المناقب كلها ... فيه فلم يدركه وصف مبالغ
ومن اكتسى ثوب البهاء محبةً ... تباً لقلب من ودادك فارغ
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
إليك رسول الله أشكو تخلّفي ... وشدّة تقصير بقلبي مُجحف
وفقد خشوع للفوائد جالب ... وأعظم من فقديه فقد تأسفي
إذا لمعت للرشد في القلب لمعةٌ ... تغمدها سدفٌ الحجاب فتختفي
إلام وقد أكملت ستين حجةً ... الوث على ذل النقيصة مطرفي
وحتّام أنهى النفس عن شهواتها ... وتضمن لي أن لا تعود فلا تفي
وأزجرها عن غيّها وجماحها ... فتخدعني منها بوعدٍ مسوّف
أغالي بها في سومها فتردني ... إلى ثمنٍ بخسٍ زهيد مطفف
اغثني فقد ضاقت عليّ مذاهبي ... وأنت ملاذ للمروع المخوّف
أجرني أجرني يا حمى كل عائذ ... ويا ملجأ الجاني وغوث الملهّف
قصدتك يا خير البرية كلها ... وأفضل مبعوث وأعدل منصف
وأكرم مقصود وأنجح شافع ... وأرحم خلق الله بالمتعطف
لتسأل فيّ الله فارحم تضرعي ... وذلّ خضوعي واستعار تلهفي
قصدتك علماً أن جاهك كأنف ... لجارك قصد الهاتف المتخطّف
فخذ بيدي يا عُدّتي عند شدتي ... وصل وتعطف يا كريم التعطف
وكن لي في الدنيا شفيعاً فإنني ... لأرجوك في الأخرى لحشري وموقفي
ألست سليل الغرّ من آل هاشم ... أولى الكرم الهامي على كل معتفي
بك اكتست الآباء فوق فخارهم ... فخاراً ومن يفخر بمثلك يكتف
وكنت نبياً قبل آدم مصطفى ... كريماً لحقٌ أنت خيرٌ من اصطفى
ومنك اكتست أعطاف طيبة حلّة ... من الفخر لا أهداب برد مفوّف
فقاقت جميع الأرض نوراً وبهجةً ... وعرفاً به لولاك لم تتعرّف
ولولاك ما حنّت إليها على الوجى ... ركائب تطوى نفنفاً بعد نفنف
ضوامر من طول السرى برّحت بها ... البرى وبراها الحثّ من كل موجف
عليا رجال فارقوا خفض عيشهم ... فما صدفتهم عنك زهرة زخرف
يؤمون ربعاً منك بالنور آهلاً ... يرومون منك الفضل يا خير مُسعف
وأدركت الأنصار أوسٌ وخزرج ... بك النصر لا بالسمهريّ المثقّف
لك المنّة العظمى عليهم إذ اهتدوا ... بنورك للدين القويم المخفّف
بدت ليلة السبعين أنجم سعدهم ... ببدر تمامٍ منك غير مكسّف
وحاز بك الأعيان من نقبائهم ... مناقب عزٍّ نورها ليس يختفي
دعوتهم نحو الرشاد فبادروا ... سراعاً لما تدعو بغير توقف
فأضحوا جميعاً قد تألف شملهم ... على طاعة الرحمن خير تألف
وأمتك المرحومة الوسط التي ... سمت قبل اجتازت كمال التشرف
أتيتك يا خير البرايا بمدحة ... أطاعت قوافيها بغير تكلّف
عليها بهاءٌ من ثنائك باهر ... شهيّ إلى قلب المحب المشغف
ولو لم تكن جاءت بمدحك سنةٌ ... لقصّر عنه هيبةّ نظمُ وُصف
مدحتك أبغى الفضل منك وأجتدي ... نوالك فأجبر كسر يحيى بن يوسف
فلي حرمة الإسلام والشيب والذي ... أدين به من سنّة لم تحرّف
ورؤياك في الدنيا وأخراي يا لها ... مني إن أنل أسبابها أتشرف

وحج إلى البيت المعظم في غنىً ... وعافية وأضمم عيالي وأكنف
وتجديد تسليمي عليك مواجهاً ... وتعفير خدي في الثرى المترشف
وخاتمة الأعمال بالفوز والرضا ... ومن يُكف عقبي السوء فيها فقد كفى
عليك سلام الله غضّاً مجدداً ... منوطاً بتسليم جديد مضعّف
لعترتك الغرّ الكرام وصحبك ال ... أفاضل أهل السبق في كل موقف
وأزواجك اللاتي كملن طهارةً ... وبرأهن الله من إفك مُرجف
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
لولا شذاً من نشركم ينشق ... ما حنّ نحو المُهتم المُعرق
ولا صبا في الصبح نحو الصبا ... ولا ثارت شجوه الأينق
ما للربوع بعدكم بهجة ... ولا لروض ناضر رونق
أنتم معانيها فإن غبتموا ... فليس فيها حسن يُرمق
لولاكم ما هاجني بارق ... ولا شجاني بالحمى أبرق
ولا لوى لي عنقاً في الفلا ... عيسٌ إذا جدّ السرى العنق
ما عرّض الحادي بذكراكم ... إل اوسمعي نحوه يسبق
ولا سرى ركبٌ إلى أرضكم ... إلا تلاه قلبي الشيّق
فُكّوا أسيراً لكمُ مُوثقاً ... عليه في حفظ الهوى موثق
فؤاده قيّده حبّكم ... وجسمه بين الورى مطلق
قد كنت من قبل النوى إن جرى ... فراقكم في خاطري أفرق
وكنت نُصباً لعيني فهل ... طيفُ خيال منكمُ يطرق
أحببتكم طفلاً وقد أخلقت ... شبيبتي والود لا يخلق
أنّي أشوب الآن صفو الهوى ... وعارضي قد شاب والمفرق
يليق بي صبري على حكمكم ... ولكن العطف بكم اليق
هل عائد لي والمُنى ضلّةٌ ... ظلٌ وورد سائغ ريّق
يا أرض نعمان ووادي مِنى ... والخيف لو أن المنى تصدق
وهل بذاك الشعب لي وقفةً ... في حرم أنواره تُشرق
وربّة الستر لنا تُجلتلى ... وعوُد وصلي مثمرٌ مورق
وأكبر الآمال لو ضمّني ... بسفح سلع مربع مونق
فبالقباب البيض لي مطلب ... عرف الرضا من تربه يُنشق
محجب بالعزّ لا بالظُبا ... به سناه لا القنا مُحدق
تقطع بالأشواق أرواحُنا ... إليه ما لا تقطع السبّق
حاز كنوز الفضل بالمصطفى ... ذاك الجناب العطر المشرق
وكلّ فجٍّ أرجٍ بالتقى ... فإنه من طيبه يعبق
أتى بدين قيّم واضحٍ ... بين ضلال وهدى يَفُرق
يَنمى ويزداد ودينُ العدى ... أئمة الزيغ به تمحق
كذلك الحق إذا ما علا ... على محالٍ باطل يزهق
طوى الطباق السبع حتى انتهى ... إلى مقام قطّ لا يُلحق
قام مقاماً لودنا غيره ... منه لأضحى بالسنا يُحرق
وعاد ليلاً وأساريره ... بنظرةٍ قدسيةٍ تُبرق
يا ويل من كذبه بعد ما ... كان أميناً فيهم يصدق
لو لم يقل إني رسول أما ... شاهدُه في وجهه يَنطق
سبحان من صوّره صورةً ... أكمل معناها الذي يَخلق
كأن فاه باسماً ناطقاً ... بجوهر الغوّاص مستحدق
فالشفة الياقوت والؤلؤ ال ... رطب الثمين الثغر والمنطق
جبينه الصبحُ ومن فوقه ... الفرع الدجى والفلك المفرق
كأنما قد صيغ من فضّة ... بنانه والكفّ والمرفق

وخصّه بالخُلُق المرتضى ... سمحٌ حليم خاشع مُشفق
يسمو ويعلوها بهاء إذا ... ما قال والتوقير إذ يطرق
كان على الأعداء ذا قوّة ... وبالذي يبغي الهُدى يَرفق
في صلب نوح كان مستودعاً ... فهو على الأمواج لا يغرق
وصلب إبراهيم من أجله ... له ضرام النار لا تحرق
وكان من معجزه أن غدا ... ماء رواً من كفه يدفق
كما حوى كفّاه تمراً به ... أشبع جيشاً ضمّه الخندق
ومرود الدوسيّ فأعجب له ... إذ زودت من تمره الأوسق
فرسانه أخنت على فارسٍ ... فزال عنها التاج والمنطق
وجاهه متصلٌ بعد ما ... يصعق بالنفخة من يصعق
غداً له الحوض وفي كفّه ... لواء حمدٍ شاملٍ يخفق
وهو شفيع منقذ في غدٍ ... مَن بالخطايا في لظىً موثق
يا من له في منصّات العُلى ... وفي البرايا نسبٌ مُعرق
وتعرف الخضراء آثاره ... وتعرف الغبراء والمشرق
ووصفُه يعجز عن حصره ... نظماً ونثراً ماهرٌ مُفلق
قد مسني الضرّ وما لي سوى ... جاهك أسباب بها أعلق
كن لي مجيراً في زمانٍ به ... قوارع أسهمها ترشق
واسأل لي الرحمن روحاً إذا ... ضمّ عظامي برزخ ضيّق
ورحمةً توصلني جنّة ... لبأسها الفاخر استبرق
لا زال في ربعك أملاكه ... سبعون ألفاً حوله تحدق
تهدي إلى تربك طول المدى ... توافحُ المسك به تفتق
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
يا ربة الستر لا انجابت غواديكي ... عن جو مغناك أو يخضرّ واديكي
وزدت في كل صبح عزةً وسناً ... ولا خلا من رجال الحيّ ناديكي
لا زال مربعك الداني الظلال حمىً ... رحباً لعاكفك الناوي وباديكي
وأنت يا عذبات الباني لا برحت ... تهيج أشواقنا ألحانُ شاديكي
وماس من كل غصن منك من طرب ... عطف وتهت دلالاً في تهاديك
ويا مياه الحمى لا زلت طيبة ... يروي بشرب الزلال العذب صاديكي
ويا نسيم صبا بجد لقد عرفت ... روحي بمسراك وهناً عرف مهديكي
وياليالينا لله عيش هوىً ... معى البدور تقضي في دياريكي
ويا فوارط أيامي بخيف منىً ... لو كان يُفدى زمانٌ كنت أفديكي
ويا رسائل وجدٍ لا أبوح بها ... إلى الأحبة عنّي من يؤديكي
أخفيك من عّذلي صوناً ومكرمة ... بل المدامع والأنفاس تبديكي
ويا ركاب الحجاز القُود لا نقبت ... من السرى أبداً أخفافُ أيديكي
ولا عدلت عن النهج القويم ولا ... مالت إلى غير أحبابي هواديكي
كم ذا التمادي دعى التعليل وابتدرى ... إلى الحمى فعنائي في تماديكي
ويا قباب حمى سلع حويت على ... رقى بما أسلفت عندي أياديكي
فتحت بالرشد لي عيني بعد عمىً ... واسمع السر من قلبي مناديكي
حق علي أوالي من بك اعتقلت ... أسبابه وأعادي من يعاديكي
أني وإن تكن أضحت عنك نازحة ... داري لأرعى بظهر الغيب واديكي
لا زال سكانك القطان في دعة ... وفاز رائحك الساري وغاديكي
وأنت لا تجزعي يا نفس من بدع ... مضلة ورسول الله هاديكي
أجارك الله لولا درع سنته ... لكان سهم الهوى الفتان مرديكي

لا تخلفي موعدي في حفظ منهجها ... فلست أخلف في حفظيه وعديكي
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم
يا حداة الركب الحجازي ميلوا ... فبنعمان للركاب مقيل
فأريحوا فيها المطايا قليلاً ... من وجاها فقد براها النحول
وانزلوا الخفيف من منىً فيه ظل ... للأماني للنازلين ظليل
واستقلوا نحو الأباطح إن كا ... ن إلى ربة الستور سبيل
بأبي ذلك الجناب فوجدي ... وغرامي به عريض طويل
داره طال ما تبلج فيها ... للمحبين وجه عطف جميل
عشت فيها مع الأحبة حيناً ... لم يرع مسمعي لديها عزول
ثم غارت يد الجلال فصانت ... عزة ربعها فعز الوصول
غير أني على المودة لا الطر ... ف نسئ ولا الفؤاد ملول
أتمنى الدنو منها وقد حا ... ل عن القرب وعرها والسهول
أين منا سمراء دون حماها ... ذبل السمر شرعاً والنصول
ذات خدر لها البهاء وشاح ... ولها العز والسنا أكليل
ليس في تربها لذي العز والسل ... طان إلا الخضوع والتقبيل
هل لظمأن نحو منهلها العذ ... ب ورد به يبل الغليل
يوم تضحي وللنياق حنين ... في رباها وللجياد صهيل
وإذا ما سرت لها نحو سلع ... خبب تارةً وطوراً ذميل
ترتمي في الفلا لها الشوق حاد ... ولها نشرمن تحب دليل
فلها اليمن والسعادة والنص ... رة والبشر والرضا والقبول
بجناب رحب حوى كل فضل ... وفخار مذ حل فيه الرسول
أحمد الهاشمي أكرم خلق ال ... له أصلاً إذا تعد الأصول
شيبة الحمد جده هطل الغي ... ث به والربيع وإن كان كليل
سل من هاشم بن عبد مناف ... كاسر الجوع والجدوب تصول
نسب حل في قريش ذراها ... دون مرساه شامة وطفيل
حاز فيه بنو كنانة من عد ... نان مجداً بناه أسمعيل
ولقد طاب والمهيمن ربي ... منبت أصله الخليل الجليل
ولعمري به قريش استفادت ... شرفاً لم ينله قبل قبيل
وصفع المرتضى لموسى وعيسى ... بينته التوراة والإنجيل
وبه أحسن البشارة شعياً ... وعزيز وبعده حزقيل
واهتدى تبع بما بين الأح ... بار من نعته الذي لا يحول
وتصدى كعب لآل لؤي ... ولديه شبانها والكهول
قبل خلق النبي بالحقب الخم ... س خطيباً وهو اللبيب النبيل
ذاكراً مبعث النبي وود الن ... صر لو كانت الحياة تطول
وجلاه لشيبة الحمد سيف ... لحلاه وما إليه يؤل
ولقد قام في المواسم قس ... شاهداً أنه نبي رسول
ورأى الراهب النبوة قد لا ... حت عليه كأنها قنديل
إذ رأى فوقه الغمامة ظلاُ ... ويميل الظلال أنى يميل
ولنعت الرهبان أفضل هاد ... كان سلمان في البلاد يجول
فرأى عنده العلامات حقاً ... فاغتدى وهو قابل مقبول
وكفاه من الفخار مقام ... كان في القرب دونه جبريل
وهو الخاتم المخصص بالتك ... ليم والرؤية الحبيب الجليل
يا حبيب الرحمن أنت المرجى ... والوجيه المشفع المأمول
قد قصدناك في حوايج فاسأل ... ربك اليسر فهو نعم الوكيل
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
ألا يارسول الله يا خير مرسل ... تخيرك الرحمن للرسل خاتما
ويا من إذا المشتاق أبصر وجهه ... فأن له البشرى وإن كان نائما

تعطف على ضعفي برؤية وجهك ال ... كريم فرؤياه تحط المأثما
ولست بأهل لاجتلاء جماله ... ولكن فقير يسأل البر راحما
وهذا ربيع أبرك الأشهر الذي ... ظهرت به في مطالع السعد قادما
كساك به الله المهيمن حلة ال ... جمال وقلدت المهابة صارما
فهب لي فيه خلعة الفوز والرضا ... برؤياك يامن كان بالحق حاكما
وسل لي رب العرش منه معونة ... من الله تغنيني إذا كنت عادما
وسل لعيالي صونهم وصلاحهم ... عسى أن يكونوا صالحين أكارما
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
إذا صار قلب العبد للسر معدنا ... تلوح على أعطافه بهجة السنا
وإن فاته المعنى علته كثافة ... وأصبح في أفعاله متلونا
وعدت بأمر ليس عندي ريبة ... ولا شك فيمن قاله متيقنا
وكنت أظن الأربعين مظنة ... لوعدي فجازتني ولم أبلغ المنى
وأربت على الستين مدة عيشتي ... كذلك لم أعرف لنفسي موطنا
فإن كان ما أرجو قد أصبح واقعاً ... فكل الذي لاقيت أصبح هينا
وإلا فيا حزني وطول ندامتي ... وحق لمثلي أن يهيم ويحزنا
وما عاقني إلا هوىً يحجب الفتى ... عن الخطة المثلى ويورثه العنا
فإن كان يمحو العذر زلتي التي ... حرمت بها الأمر الذي لي عينا
فها أنا منها تائب متنصل ... إلى الله ذو السلطان والعز والغنى
وإني إليه خاضع متوجه ... بأحمد أزكى شافع لفتىً جنى
محمد المختار من آل هاشم ... نبياً رسولاً للصواب مبينا
له الجاه والزلفى إذا قيل من لها ... فقال مجيباً دون كل الورى أنا
فينجي جميع الخلق من كرب موقف ... به كل وجه للمهيمن قد عنا
وتنقذ من نار الجحيم عصاتنا ... شفاعته ممن أسر وأعلنا
وفي هذه الدنيا فإن بجاهه ... علينا لظلاً شاملاً طيب الجنى
وفي كل يوم اثنين يعرض كسبنا ... عليه وفي يوم الخميس مدونا
فما كان من خير فيحمد ربه ... وما كان من سوء فيسأله لنا
فيا خير مبعوث إلى خير أمةً ... به أصبحت في الخلق شامخة إلينا
أجرني فما لي غيرك اليوم ناصر ... على كيد غاو شره قد تبينا
طليعته نفسي وسلطان جيشه ... على هوىً يلقى اللبيب مفتنا
فخذ بيدي يا أمنع الناس معقلا ... وأعظمهم جاهاً وأقوى تمكنا
ولا تدعني نهبة لجنوده ... وكن لي بحسن الحفظ منه محصنا
فأنت عمادي في حياتي وعدتي ... لموتي وذخري في المعاد إذا دنا
سقى جدثاً رحباً حللت بجوه ... فأصبح للإحسان والحسن معدنا
غمائم قرب تكسب الروح الرضا ... فينبت روض الأنس فيه فيجتني
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
ألا يا رسول الله المليك الذي ... هدانا به الله من كل تيه
سمعت حديثاً من المسندا ... ت يسر فؤاد الفقيه النبيه
رواه ابن إدريس شيخي الذي اس ... تقام على منهج يرتضيه
باسناده عن شيوخ ثقا ... ت نفوا عن حديثك زور السفيه
ومعنا أنك قلت أطلبوا ال ... حوايج عند حسان الوجوه
ولم أر أحسن من وجهك ال ... كريم فجد لي بما أرتجيه
فجاهك جاه عظيم ولم ... يخب من رجا جاه مولى وجيه
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
أقل عثراتي واعف يا حسن العفو ... عن عمدي من مسطور ذنبي والهفو
وصف من الأكدار قلبي واهدني ... من البر والتقوى إلى المورد الصفو

فكم لي من سوء اجتراح نسيته ... واحصاه محروس الحفاظ من السهو
شقيت به أيام أمرح في الصبا ... وأسحب أذيال البطالة واللهو
فيا ملكاً زان السماء بأنجم ... على الفلك الأعلى طفت أحسن الطفو
وسخر ما بين السماء وأرضه ... سحائب يخفو برقها أحسن الخفو
وأبقى على شمس النهار ضياؤها ... وخص بنقص آية الليل بالمحو
ولما دحى الأض اقتداراً وحكمةً ... على الماء أرسى الشم في اثر الدحو
أغثني بتوفيق ينور باطني ... وينحو إلى الخيرات في أرشد النحو
فأني مقر أنك الله ربنا ... تعاليت عن شرك الغطاة أولى العدو
بأات جميع الكائنات بقدرة ... على غير أمثال تضاهى ولا حذو
وله لغز في فهد:
ومتصف بالفتك يوم اكتسابه ... على ظفره أثر الدماء ونابه
كأن مهاة الفلك لما انتهى بها ... مداه إلى سرب المها وأنتهابه
رمته بشهب الجو خوف انتقامه ... فأطفأها في عسجد من إهابه
الصاحب مؤيد الدين إبراهيم بن يوسف بن إبراهيمالمقدسي الشافعي تفقه وبرع ودرس وكان أحد الفقهاء المشهورين بدمشق سمع من أبي عبد الله الحسين بن المبارك الزبيدي وغيره وحدث وتوفي بدمشق ليلة السادس عشر من شهر ربيع الآخر ودفن من الغد بمقابر الصوفية وكانت له جنازة حفله رحمه الله تعالى.
عيسى بن طاهر بن نصر الله بن جهبل بن أحمد الشيباني المعروف بابن القفطي الحلبي الوزير كان من الرؤساء الأكابر الفضلاء مولده ببيت المقدس سنة أربع وتسعين وخمسمائة وسمع من الافتخار الهاشمي وغيره وحدث وتولى نظر حران في أيام وزارة أخيه القاضي الأكرم جمال الدين
عفر الخد وقبل تربة ... حل فيها أكرم الناس قبيلا
حجة الرحمن مفتاح الهدى ... أحمد المبعوث بالحق رسولا
جدد الأيمان اضحت جدداً ... بسنا أنواره بيضاً سهولا
ونجوم الدين زهراً لا ترى ... أبد الدهر لساريها أفولا
هديه يهدي التقى للمهتدي ... وهداه يورث العلم الجهولا
لم تزل أنسابه ساميةً ... في قرون سلفت جيلاً فجيلا
من لدن آدم حتى حتى هاشم ... فهو خير الناس إن عدوا الأصولا
خصه الله بأصحاب فنوا ... بالقنا في نصرة المجد الأثيلا
ذبحوا الكفر فأضحى بهم ... كل صعب من بني الشرك ذلولا
لبسوا درع التقى سابغة ... وانتضوا للمجد صمصاماً ثقيلا
غرر الأحياء ضاهوا بالنوا ... ل الحيا طولاً وجازوا النجم طولا
منهم الصديق أولاهم به ... إذ هو السابق قوالاً فعولاً
لو أراد المصطفى من صحبه ... خلا اختار أبا بكر خليلاً
ثم لو كان نبياً بعده ... أصبح الفاروق بالأمر كفيلا
وارتضى عثمان من أصحابه ... لابنتيه كفؤاً براً نبيلا
وكسى عطفي على حلة ... لا تضاهى حين أعطاه البتولا
ولأهل البيت منه شرف ... وهو في الآيات باق لن يزولا
وبه آمنة نالت من الفض ... ل والفخر منالاً مستطيلا
يا رسول الله يا من مدحه ... في القوافي أقوم الألفاظ قيلا
مسني ضر غطاء ساتر ... من ذنوب غادرت قلبي كليلا
أنا منها تائب مستغفر ... فاسأل الرحمن لي صفحاً جميلا
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
سرى صوب الحيا إلهامي فأحيا ... مرابع بالحمى غزت عليا
مررت على رباها بالعشايا ... فيكسوها من الأزهار وشيا
إذا نشرت مطارفه عليها ... طوت عنها برود الجدب طيا
تعلق حبها قلبي فأضحت ... أحب الأرض في الدنيا إليا

وساكنها أحب الناس طرا ... إلى قلبي وأحظاهم لديا
فقل لعيشة قضيت فيها ... فداء كل شيء في يديا
شربت بها من المعنى كؤوساً ... يصول بها الوقار على المحيا
إذا ما خالطت سراً مصوناً ... سمت عزماته فوق الثريا
وما حيا نديم الشرت ميتاً ... بها إلا غدا في الحال حيا
مبرقعة المحاسن ما اجتلاها ... بخيل عد رشد الجود غيا
وتأنف أن يلم بها جبان ... يرى أحجامه في الحرب بقيا
ولكن من رأى الأمساك فقراً ... وعد الموت في العلياء محيا
حقائق ليس فيها من نصيب ... لمن لم يتبع السنن المهيا
شرائع سنها خير البرايا ... وأحكم عقدها أمراً ونهيا
فكيف يزيغ عنها ذو تقاة ... وقد نزلت من الرحمن وحيا
على المختار أحمد خير هاد ... وأزكى الناس أخلاقاً وهديا؟
حوى قصب السباق إلى المعالي ... فرتبة فضله في السبق عليا
تبين فضله والناس ذر ... إلى أن شاع عن موسى وشعيا
وقلد فخره مضراً وأعطى ... لواء المنصب السامي لؤيا
وأعلى كعب كعب في البرايا ... وأقصى الفخر بلغه قصيا
وشاد لهاشم أعلى مناراً ... فأضحوا أشرف الأحياء حيا
وأشرق نوره إذ كان حملاً ... على الجبهات للإبصار رئيا
وزاد البيت ذو الحرمات نوراً ... به لما بدا يمتص ثديا
وتم شبابه الريان يجري ... إلى حلبات أقصى الفخر جريا
وسلم كل مخلوق صموت ... عليه عند مبعثه وحيا
ونال بليلة المعراج شأوا ... لمن رام المصير إليه أعيا
أبر الناس ف قول وفعل ... وأثبت عزمةً وتقىً ورأيا
وأطول بالحسام العضب باعاً ... وأطعن بالقنا وأشد رميا
حليم صابر راض وفي ... جواد باسم طلق المحيا
فلم يحدث لأمر فات لوا ... ولم يمزج بوعد منه ليا
كريم طيب الأعراق سهل ... يذيق محبه بالبشر أريا
فإن ظهرت بسالته لقوم ... تجرع خصمه بالبأس شريا
له كف على العافين غيث ... وصاعقة على من صد بغيا
وقلب من قلوب الأسد أقوى ... ووجه من ذوات الخدر أحيا
يموت ببأسه في الحرب حزب ... وآخر بالندى في السلم يحيى
أتى بالحق والشيطان يسعى ... بباطل كيده في الناس سعيا
فاسمع بالهدى والذكر صماً ... وقاد إلى سبيل الحق عميا
وأوجب طاعة ونفى خلافاً ... فتم الأمر إيجاباً ونفيا
وأضحى الدين مذكوراً شهيراً ... به من بعد ما قد كان نسيا
ألا يا فاتح الخيرات فتحاً ... وباني قاعدات الشرع بنيا
ومن نرجوه في سر وجهر ... لكل أمورنا ديناً ودنيا
سل الرحمن في يسر وحج ... أموت على تقاضيها وأحيا
زيارة ربعك المعمور سقياً ... له من مربع رحب ورعيا
ورؤية وجهك الميمون طوبى ... لمشغوف جلتك عليه رؤيا
وخاتمة متوجةً بحسنى ... يفوز بها عبيد البر يحيى
يرى نظم المدايح فيك ذخراً ... إذا حثي التراب عليه حثيا
فذكرك في قريض الشعر مسك ... ووصفك يلبس الأوزان حليا
عليك من المهيمن كل وقت ... سلام لا يحاول عنك نأيا
ولا زالت لك الأنوار تهدى ... وفي الآخرى لك الزلفى تهيا
وقال رحمه الله وكتب بها إلى والدي رحمه الله
ألا يا حليف البيد يخترق الفلا ... يخوض نواح الأحتيناب المفاوز
إذا جئت أرض الشام أبرك بقعةً ... وأفتك جند بالعدو المناجز

فقف بالفقيه الحنبلي محمد ... حليف المعالي والخلال والغرائر
أمام الحسن البشر والبر باذل ... وللزهد والإخلاص والذكر كانز
فبلغ سلام العبد يحيى بن بوسف ... ولاتك عن حمل السلام بعاجز
وسلم عليه من قديم وداده ... علي بن وضاح تكن خير فائز
وقال وقد بلغه أن والدي رحمه الله قد حصل له مرض وبرئ فكتب إليه:
يا من غدا فهمه بالعلم مدرعاً ... وعقله برداء الحلم مقتنعا
وقلبه بشمال الدين مشتملاً ... وصدره بالها والرحب متسعا
ووجهه بسنا الأنوار مبتهجاً ... وكفه باللهى والجود مترعا
إن ألتقى والحجى والعلم والعمل ال ... مبرور والزهد والخيرات والورعا؟
من بعض أوصاف من أخفيت ... سنن وأبديت بدع قد أخفا البدعا
وأبدأ السنة الغراء مجتهداً ... لله حين أضحى الحق منقشعا
بمنصل كان شرع الله صيقله ... وما انتضى بدعة إلا لها قطعا
لما سمعت بداء قد عراك إذا ... وجدته في حشائي مولماً وموجعا
خوفاً على المذهب الهادي لمرتشد ... أن لا يرى بعد أهليه قد انصدعا
فشتت البدعة الظلماء حين ترى ... نجماً من السنة الغراء قد وقعا؟
لأنها قمر سار وأنت لها ... فلك ومنك سنا أنوارها طلعا
كذلك العلم روض زهره ثمر ... وأنت تجني المعاني منه ممترعا
قد كنت من قبل نظم الشعر فيك إذا ... يممت نظماً أراني مفتحاً لكعا
فحين ما جال فكري فيك خلت بأ ... ن كل نظم ونثر قد حويت معا
يوسف بن عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن جمادي بن أحمد بن محمد بن جعفرالجوزي بن عبد الله بن القاسم بن نصر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضوان الله عليه أبو المظفر محي الدين القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي المعروف بابن الجوزي مولده في يوم ليلة السبت ثاني عشر ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة تفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وسمع من أبيه الإمام أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن ومن أبي القاسم يحيى بن أسعد بن بوش وأبي الفرج عبد المنعم بن كليب وجماعة آخرين وترسل عن الديوان إلى مصر والروم والشام والشرق والموصل والجزيرة وغير ذلك عدة دفوع في الأيام المستنصرية والأيام المستعصمية وتولى أستاذية الدار ببغداد مدة وكان إماماً عالماً فاضلاً رئيسا أحد صدور الإسلام وفضلائهم وأكابرهم أجلائهم ومن بيت الفضيلة والرواية والدراية وحدث ببغداد ومصر وغيرهما من البلاد والده الإمام جمال الدين أوحد علماء المسلمين وحفاظ المحدثين صاحب التصانيف المشهورة والفضائل المذكورة في فنون العلم وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره.
وكان وصل محي الدين المذكور رسولاً من المستنصر بالله إلى حلب سنة أربع وثلاثين وملكها يومئذ الملك العزيز فتوفي في شهر ربيع الأول من السنة ثم توجه إلى الروم رسولاً فمات الملك علاء الدين سلطان الروم في شوال من السنة ثم توجه رسولا إلى الملك الأشرف ابن العادل وأخيه الملك الكامل فتوفي الأشرف في المحرم سنة خمس وثلاثين وتوفي الكامل في شهر رجب منها فعمل الأمير أبو القاسم بن محمود بن الأرشح بن الحسين بن محمود بن إبراهيم السنجاري المولد الحنفي المذهب
قل الخليفة رفقاً ... لك البقاء الطويل
أرسلت فيهم رسولاً ... سفيره عزرئيل
لم يبق من رعا البلاد ... إلا القليل
تلقاه حيث استقلت ... به الركاب عويل
فليت شعري هذا ... مغسل أم رسول
سموه باسمين كانا ... صديق فيما يقول
محيي تصدى مميتاً ... ويوسفاً وهوغول
وللملك الناصر داود بن المعظم عيسى في هذه الواقعة:

يا إمام الهدى أبا جعفر المن ... صور يا من له الفخار الطويل
ما جرى من رسولك الشيخ محي ال ... دين في هذه البلاد قليل
جاء والأرض بالسلاطين تزهو ... وانثنى والقصور منهم طلول
أقفر الروم والشآم ومصر ... أفهذا مغسل أم رسول
كان محي الدين المذكور قد ولاه الإمام الناصر لدين الله حسبة بغداد وأنعم عليه إنعاماً عظيماً ورزق منه حظا ولم يزل في عرق إلى أن ولي أستاذية الدار للخليفة وترسل عنه إلى ملوك الأقاليم وحصل له الوجاهة التامة ووعظ وله علم بالتفسير والحديث والفقه ونظم الشعر وله المدايح في الخلفاء خاصة قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان في قلائد الفرائد قدم إربل رسولاً من ديوان الخلافة إلى خوارزم شاه منكيرني بن محمد بن تكش فاجتمعت به بعد عوده من الرسالة بأربل في أواخر شعبان سنة سبع وعشرين وستمائة وذكر لي أن مولده في ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة وأن له عدة تصنيفات في الخلاف والجدل والمذهب والوعظ وأنه قرأ القرآن الكريم بالقراآت على أبي بكر الباقلاني وله كتاب سماه معادن الأبريز في تفسير الكتاب العزيز ومما قرأت عليه لنفسه من قصيدة مدح بها الناصر لدين الله رحمه الله:
وإذا طرف المشوق كبا ... لك تقل والله عثرته
وممات الصب صدكم ... وغداة الوصل بغيته
قصة المحزون سطرها ... في ظلام الليل غصته
صفحة الخدين رقعتها ... ودواة الصب مقلته
ويراع الوجد يعربها ... من مداد الشوق مدته
وإلى المحبوب يحملها ... من صبا الأسحار نسمته
وإذا حن الحزين أسى ... كحنين العيس حنته
وسلاف الحب تطربه ... فتذيع السر نشرته
مثل ما في النظم يطربني ... لإمام العصر مدحته
لوفود الجود قد كفلت ... بالأماني أريحته
من ندى كفيه تابعه ... حجة الإحسان عمرته
فعلت بالحق دولته ... فعلت في الخلق دعوته
يخجل الوطفاء هاميةً ... حين تهمى الجود مزنته
وأسود الغاب خاسئة ... قد كساها الخوف سطوته
فإذا ما البحر قيس به ... أشبه الغدران لجته
ومن الطين الورى خلقوا ... ومن العلياء طينته
ولنا منه الندى وله ... من إله العرش نصرته
وله رق الورى وله ... من رسول الله بردته
ومنانا أن يدوم لنا ... لتنال السول دولته
إن ميت الجود عاش به ... بعد ما ضمته حفرته
وإذا ما الله عمره ... كملت للجود بغيته
فلمن عاداه نار لظىً ... ولمن والاه جنته
وقال أيضاً:
يا نفس ويحك قد دهاك ... قهر الغير هداك حين دهاكي
فكأنني بك قد أنال ... يلقاك منه الذل إذ يلقاكي
فلئن ركنت إلى سرور زائل ... فلقد رضيت بخادع أفاك
ولئن نظرة مرة لمسرةً ... فلتنظرن غداً بمقلة باكي
أتراك مالك عبرة في من مضى ... ممن علمت من الورى أتراكي
إن الذين بنوا مشيداً وانثنوا ... يسعون سعي القاهر الفتاك
من كل من ضاق الفضاء بجيشه ... وسمته همته على الأفلاك
نقلوا إلى ضيق اللحود وقد غدوا ... في الأسر ليس لهم سبيل فكاك
ولقد علمت بأن سبلك سبلهم ... فعلام لا تتأهبين فما أشقاك
جدي فأيام الحياة قصيرة ... وكأنني بالموت قد فاجأكي
العز ذل والحياة منية ... والقرب بعد هكذا دنياكي
لا تحسبي المأخوذ في يوم الجزا ... أخذاً بما كسبت يداك سواك
فتزودي ما شئت من حسن ومن ... سوء فذلك كله يلقاك

ويلاه من نصب الصراط ووضعه ... وشهادة الأعضاء والأملاك
قد طال ما وافقت رأيك في الهوى ... وعصيت عقلي طائعاً لرضاكي
ورأيت أعدا صاحب لي ناصحاً ... وأخي الموافق لي على بلواك
فالآن حين مضى الشباب بشرخه ... وأتى المشيب مبادراً ينعاكي
وأبيض من فودي ما لو يفتدى ... لفديته بكرائم الأملاك
أدعوك للأمر الرشيد فتنفري ... بدلت غيرك قبل يوم هلاكي
لا تجعليني قائلاً لك في غد ... كم كنت من هذا البلا أنهاكي
وأرى شقياً من أطاعك جاهلاً ... ولو أهتدى لرشاده لعصاك
فاستغفري بالله العظيم لما مضى ... وعليك فيما فات باستدراك
وذكر ابن المستوفي في تاريخ أربل أن محي الدين المذكور تولى حسبة بغداد وعقد بها مجالس الوعظ وقيل أنه كان يعمل في كل أسبوع قصيدة يمدح بها الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين.
وقال قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن خلكان رحمه الله تعالى في كتابه الموسوم بوفيات الأعيان حكى لي الوجيه أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن سويد التاجر التكريتي قال كان الشيخ محي الدين أبو المظفر يوسف بن الجوزي رحمه الله قد توجه رسولاً من بغداد إلى الملك العادل بن الكامل بن العادل بن أيوب سلطان مصر في ذلك الوقت وكان أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محبوساً في قلعة الكرك يومئذ فلما عاد محي الدين راجعاً إلى بغداد وقدم دمشق وكنت بها فدخلت عليه أنا والشيخ أصيل الدين أبو الفضل عباس بن عثمان بن نبهان الأربلي وكان رئيس التجار في عصره وجلسنا نتحدث معه فقال حلفت الملك الناصر داود صاحب الكرك أن لا يخرج الملك الصالح نجم الدين من الحبس إلا بأمر أخيه الملك العادل قال فقال له الأصيل يا مولانا هذا بأمر الديوان العزيز فقال محي الدين وهل هذا يحتاج إلى أذن؟ هذا أقتضته المصلحة لكن أنت تاريخ يا أصيل الدين فقال يعني مولانا أني قد كبرت وما أدري ما أقول وأنا أحكي لمولانا حكاية في هذا المعنى أعرفها من غرائب الحكايات قال هات فقال كان ابن رئيس الرؤساء ناظر واسط يحمل في كل شهر حملاً من واسط وهو ثلاثون ألف دينار لا يمكن أن يتأخر يوماً عن العادة فتعذر في بعض الأشهر كمال الحمل فضاق صدره لذلك وذكره لنوابه فقالوا له يا مولانا هذا ابن زيادة عليه من الحقوق أضعاف ذلك ومتى حاسبته قام بما يتم الحمل وزيادة فاستدعاه وقال له أنت لم لا تؤدي كما يؤدي الناس فقال أنا معي خط الإمام المستنجد بالمسامحة قال فهل معك خط مولانا الإمام الناصر قال لا قال قم واحمل ما يجب عليك قال ما ألتفت إلى أحد وما أحمل شيئاً ونهض من المجلس فقال النواب لابن رئيس الرؤساء أنت صاحب الوسادتين وناظر النظار وما علي يدك يد ومن هو هذا حتى يقابلك بمثل هذا القول ولو كسبت داره وأخذت ما فيها لما قال لك أحد شيئاً وحملوه عليه حتى ركب بنفسه وأجناده وكان ابن زيادة يسكن قبالة واسط وقدموا لابن رئيس الرؤساء السفن حتى يعبر إليه وإذا بزبزب قد قدم من بغداد فقال ما قدم هذا إلا في مهم ننظر ماهو ثم نعود إلى ما نحن بسببه فلما دنا من الزبزب فإذا فيه خدم من خدام الخليفة فصاحوا به الأرض الأرض فقبل الأرض وناولوه مطالعة وفيها قد بعثنا خلعة ودواة لابن زيادة فتحمل الخلعة على رأسك والدواة على صدرك وتمشي إليه راجلاً وتلبسه الخلعة وتجهزه إلينا وزيراً فحمل الخلعة على رأسه والدواة على صدره ومشى إليه راجلاً فلما رأه ابن زبادة انتشده ابن رئيس الرؤساء
إذا المرء حي فهو يرجى ويتقى ... وما يعلم الإنسان ما في المغيب
وأخذ يعتذر إليه فقال له ابن زبادة لا تثريب عليكم اليوم وركب في الزبزب إلى بغداد وما علم أن أحداً أرسلت إليه الوزارة غيره فلما وصل إلى بغداد أول ما نظر فيه أن عزل ابن رئيس الرؤساء عن واسط وقال هذا ما يصلح لهذا المنصب ثم قال الأصيل المصلحة يا مولانا أن تخرج الملك الصالح وتملك وتعود إليه ويقع وجهك في وجهه وتستحي منه فأنشده محي الدين:

وحتى يؤب القارظان كلاهما ... وينشر في الموتى كليب لوائل
فما كان إلا مديدة حنتى خرج الملك الصالح من حبس الكرك وملك مصر وقبض على العادل فخرج محي الدين للقائه وكان بها رسولاً إلى العادل.
قلت ومولد قوام الدين أبو طالب يحيى بن سعيد بن هبة الله بن علي بن زبادة الشيباني يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة وتوفي ليلة الجمعة السابع والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وتسعين وخمسمائة ببغداد رحمه الله.
وأما جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن محي الدين يوسف المذكور فمولده سنة ست وستمائة سمع ووعظ وترسل عن الديوان إلى مصر وولي الحسبة ببغداد ودرس بالمدرسة المستنصرية على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى وكان رئيساً معظماً من أعيان الدولة وأماثلها وله ديوان شعر حدث بمصر وببغداد وقتل ببغداد شهيداً في صفر سنة ست وخمسين وكان والده بكر به فأسمعه من الشيخ أبي محمد عبد العزيز وغيره من شيوخ بغداد ومن شعره في النبي صلى الله عليه وسلم من أبيات:
فضل النبيين الرسول محمد ... شرفا يزيد وزادهم تعظيما
در يتيم في الفخار وإنما ... خير اللآلي ما يكون يتيما
ولقد شاي الرسل الكرام فكلهم ... قد سلموا لجلاله تسليما
وأما أخوه شرف الدين فهو الذي كان أرسله المستعصم بالله إلى هولاكو لما قصد بغداد يبذل له الأموال وكان من الرؤساء الأعيان الفضلاء وأما أخوه تاج الدين فكان رئيساً فاضلاً عالماً متديناً من أعيان رؤساء بغداد فقتل الجميع شهداء على يد التتر ببغداد في شهر صفر رحمهم الله.
السنة السابعة والخمسين وستمائةدخلت هذه السنة والملك الناصر صاحب الشام وغيره ففي أوائلها رحل بالعساكر متتبعاً آثار البحرية فاندفعوا بين يديه إلى الكرك فنزل بركة زيزاء ليحاصر الكرك وصحبته الملك المنصور صاحب حماة فجاء إلى الملك الناصر رسل المغيث ودار القطبية ابنة الملك المفضل قطب الدين بن العادل يتضرعون إليه ويطلبون رضاه عن المغيث فشرط عليه أن يقبض على من معه من البحرية فأجاب إلى ذلك وقبض عليهم وجهزهم إلى الملك الناصر على الجمال وهو نازل ببركة زيزاء فحملوه إلى حلب واعتقلوا بها ولما أحس الأمير ركن الدين البندقداري بما وقع عليه الإتفاق هرب من الكرك في جماعة من البحرية ووصل إلى خدمة الملك الناصر فتلقاهم وأحسن إليهم وعفا عنهم ولما تم الصلح رجع الملك الناصر إلى دمشق وصحبته الأمير ركن الدين البندقداري وتوجه صاحب حماة إليها.

وفيها دخل هولاكو ديار بكر قاصداً حلب ونزل على آمد وبعث رسله إلى الملك السعيد نجم الدين أيلغازي صاحب ماردين يستدعيه فسير إليه الملك المظفر قرا أرسلان وقاضي القضاة مهذب الدين محمد بن مجلي والأمير سابق الدين بلبان وكان أكبر أمرائه وعلى أيديهم هدية وحملهم رسالة تتضمن الإعتذار عن الحضور بمرض منعه من الحركة ووافق وصولهم إليه أخذه لقلعة اليمانية وإنزاله من بها من حريم الملك صاحب ميافارقين رحمه الله وأولاده وأقاربه وهم ولده الملك الناصر صلاح الدين يوسف جفتاي والملك السعيد عمر وابن أخيه الملك الأشرف أحمد وابن تاج الملوك علي بن الملك العادل وينعت بالصالح نجم الدين أيوب فلما رأوهم هلعوا وجزعوا وأدوا الرسالة فقال ليس مرضه بصحيح وإنما هو متمارض مخافة الملك الناصر فإن انتصرت عليه اعتذر إلى بزيادة المرض وإن انتصر على كانت له اليد البيضاء عنده إذ لم يجتمع بي فلو كان للملك الناصر قوة يدفعني لم يمكني من دخول بلاده وقد بلغني أنه بعث حريمه وحريم أمرائه وكبراء رعيته إلى مصر ولو نزل صاحبكم إلى رعيت له ذلك ثم أمر برد القاضي وحده فعاد وأخبر الملك السعيد بصورة الحال وعرفه أنه رأى عند هولاكو عز الدين وركن الدين ملوك الروم فتألم وندم على إرسال ولده وبعث رسلاً إلى البرية إلى الملك الناصر يستحثه على الحركة إلى حلب ويعرفه أنه متى وصل إليها رحل إليه برجاله وماله وسير الأمير عز الدين يوسف السماع رسولاً في الظاهر إلى هولاكو بهدية وإلى ولده وإلى ولدي غياث الدين صاحب الروم باطناً يحرض ولده على الهروب وينكر على ولدي صاحب الروم في مجيئهما فيكما فأوسعا الحيلة في الإنفصال عنه والحذر منه فشكراه وقال عز الدين والله ما خرجت البلاد عن أيدينا إلا بتخاذل بعضنا عن بعض فلو كانت الكلمة مجتمعة لم يجر علينا ما جرى.
وفيها توفي محمد بن ملي بن محمد بن الحسن بن عبد الله أبو عبد الله بهاء الدين القرشي الدمشقي العدل المعروف بابن الدجاجية الصالحي مولده في ثاني شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وتوفي في ثاني المحرم وقيل في رابعه من هذه السنة بدمشق ودفن من الغد بمقابر الباب الصغير كان فاضلاً شاعراً حسناً مطبوع الشعر ووالده يلقب حفظ الدين كان فقيهاً شافعياً نظم المهذب قصيدة ودرس ببصرى ومولده ثامن المحرم سنة ثمان وخمسين وخمسمائة بدمشق ومات لها ليلة الخميس ثاني عشر ذي الحجة سنة خمس وعشرين وستمائة رحمه الله وللبهاء المذكور يقول:
عن حبكم قط لا أحول ... ولو برى جسمي النحول
جمالكم قال أني ... مهما فعلتم بي هو الجميل
دلالكم ما خفي علينا ... بأنه للجفا دليل
يا كاحلاً بالسهاد طرفي ... يتمنى طرفك الكحيل
تنكسف الشمس حين تبدو ... ويخجل الغصن إذ تميل
لا تسمعوا في المحب قولاً ... زوره المبغض العذول
واحيرتي وانقطاع ظهري ... إن لم يكن لي بكم وصول
وله أيضاً:
من أين لقدك ذا الهيف ... قد حار الواصف ما يصف
الرمح الأسمر يحسده ... والغصن الأخضر والألف
فتبارك من أنشاك لقد ... في الخلق تفاضلت الطيف
قسماً بهواك وما أحلا ... قسم العشاق إذا حلفوا
وبمن خاضوا غمرات منىً ... وحصى الجمرات بها حذفوا
لا حلت عن المشتاق ولو ... أودى بحشاشتي التلف
يلحاني قوم ما فهموا ... ما شأني فيك ولا عرفوا
وله يمدح الملك الناصر يوسف:
دعوا دماً ضيعه أهله ... لا ستمر الجزع ولا أثله
ولا لبيناه ولا مية ... ولا سليماه ولا جمله
لو غض طرفاً ما ارتقت ... له ثم دماً ورى قتله
أحبابنا لئن توسعوا ... عذراً لمن ضاقت به سبله
وطرفه إن كان لما رنا ... جنى فقد حاق به فعله
ويلاه يا أهل الحمى لم يكن ... يعهد منكم ذا الجفا كله
صار طفيلياً على وصلكم ... من شاب في حبكم طفله

لم يك يوم الضال جمعي بكم ... إلا خيالاً زائلاً ظله
حلو التثني والتجني لوى ... عني ديناً لم يجز مطله
إن كان قد أحزنني هجره ... فطالما أفرحني وصله
كفرحة الدينا بسلطانها ال ... ناصر من عم الورى عدله
وله دوبيت:
بالله قفوا بعيسكم في الربع ... كي نسأل عن سكان وادي الجزع
إن لم أرهم أو أستمع ذكرهم ... لا حاجة لي في بصري أو سمعي
وقال:
يا أيها الصاحب الصدر الكبير ومن ... إليه قد طال إيرادي وإصداري
تركت قولي ومحض الشرع فهو معي ... وملت عني إلى قول ابن بندار
ما أنت إلا كما قد قال بعضهم ... وما علي بهذا القول من عار
المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
وله دوبيت:
ما عذر فتىً ما مد للهو يداً ... والروح قد اكتسى ثيابا جددا
مالت طرباً أغصانه راقصةً ... لما صدح الطير عليها وشدا
عرته غرته لما سرى ... ظن بأن الصبح قد أسفرا
اقبل يسعى خفراً خائفاً ... على ذمام الوعد أن يخفرا
زار محبا بات مستطولاً ... من ليله ما راح مستصغرا
يحق يا قوم لمن قده ال ... خطاران لا يرهب إلا خطرا
ضمته إذ قد نام سماره ... كما يضم البطل الأسمرا
بتنا وما في ليلنا من كرى ... كأنما النوم غدا مسكرا
وقال:
إلى سلم الجرعاء أهدى سلامه ... فماذا علي من قد لحاه ولامه
غريم الأسى أمسى فلا تمنعوه أن ... يبث إذ ذكر الحبيب غرامه
تجلد حتى لم يدع معظم الجوى ... لرائيه إلا جلده وعظامه
ولا عجب من فرط سقم بجسمه ... وصحة ود المرء يبدي سقامها
أاحبابنا الشاكين جدب وهادهم ... وعهدي به يروي العهاد إكامه
إذا لم يجد قطراً على منحناكم ... دمعا يقوم مقامه
ترى هل يعيد الله للصب وصلكم ... بذاك الحمى من قبل يلقى حمامه
ليهدي بكم قلب أطلتم خفوقه ... وينظركم طرف سلبتم منامه
وبي ظالم في الحكم لو أن وجهه ... تجلى بجنح الليل جلى ظلامه
يقوم بعذري فيه عند عواذلي ... إذا ما انثنى تيهاً يهز قوامه
تزرد خوفاً سالفاه للحظه ... بأنهما لا يِأمنان سهامه
وقال:
إلا مالقى قلبي وياما بكم لقي ... فيا ليتني ما عشت لم أعرف العشقا
نأت داركم من بعد قرب عن الغضا ... فلي دمع عين لا يفيض ولا يرقى
وقال الأعادي إنني قد سلوتكم ... لعمري لقد قال العدو وما أبقا
هوى من كساني السقم غير هواكم ... وفرقه من قد شبيت منى الفرقا
ووالله لو لم ينزلوا برق الحمى ... لما شمت من تلقاء ساحته برقا
المظفر بن محمد بن ألياس بن علي بن أحمد بن عبد الله بن علي أبو غالب نجم الدين الأنصاري الدمشقي المعروف بابن الشيرجي مولده بدمشق في شهر رمضان سنة سبع وثمانين وخمسمائة وسمع من أبي طاهر الخشوعي وابن طبرزد وحنبل وغيرهم وحدث وكان من العدول الأكابر الأعيان الرؤساء ولي الحسبة بدمشق ونزل الجامع بها وتوفي ليلة سلخ ذي الحجة رحمه الله وبيته مشهور بالرئاسة والتقدم والعدالة.

يوسف القميني كان مأواه القمامين والمزابل بدمشق وغالب أوقاته يكون بقمين حمام نور الدين رحمه الله بسوق القمح ويلبس ثيابا طوالا تكنس الأرض وهو حاف مكشوف الرأس طويل الصمت قليل استعمال الماء ولكثير من الناس فيه عقيدة جميلة ويحكون عنه أنه كان يكاشفهم في كثير من الأوقات وكان بعض من يعتقد فيه يحضر له شيئاً من المأكول والمشروب ويجتهد به فيتناول منه قدراً يسيراً ولازم هذه الطريقة الشاقة إلى أن توفي في سادس شعبان بدمشق ودفن بسفح قاسيون في تربة المولعين رحمه الله، وكانت له جنازة حافلة لم يتخلف عنها إلا القليل وكان من غرائب العالم يترنح في مشيته ولا يلتفت إلى أحد ولا يعبأ به.
أبو بكر بن الملك الأشرف أبي الفتح محمد بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الدين شاذي رحمه الله مولده بمصر في النصف الآخر من شعبان سنة سبع وتسعين وخمسمائة سمع من حلب من ابن طبرزد وحنبل ودخل بغداد وسمع بها من أصحاب أبي الوقت السجزي وحدث بدمشق وغيرها وكانت وفاته في الثاني والعشرين من ذي الحجة بالياروقية بحلب رحمه الله.
؟؟

السنة الثامنة والخمسون والستمائة
أولها يوم الخميس فيها كثر الإرجاف بوصول التتار إلى البلاد العربية فجفل الناس من بين أيديهم إلى الديار المصرية والجبال والأماكن المتوعرة وفي منتصف صفر ورد الخبر إلى دمشق باستيلاء التتار على بلاد حلب بالسيف وكان نزولهم على حلب في ثاني صفر واستولوا عليها في تاسعه وأمنوا أهلها ثم غدروا بهم فقتلوهم ولما اتصل ذلك بالملك الناصر رحمه الله سار عن دمشق بأمرائه نحو القبلة وكان رسل التتار بقرية حرستا فدخلوا دمشق ليلة الأثنين سابع عشر صفر وقرئ في يوم الأثنين بعد صلاة الظهر فرمان جاء من عند ملكهم يتضمن الأمان لأهل دمشق وما حولها وشرع أكابر البلد في تدبير أمرهم معهم وفي سابع عشر ربيع الأول وصل إلى دمشق نواب التتار فلقيهم كبراء البلد أحسن ملتقى وقرئ ما معهم من الفرمان المتضمن الأمان بالميدان الأخضر ووصلت عساكرهم من جهة الغوطة مارين وراء الضياع إلى جهة الكسوة وأهلكوا في ممرهم جماعة كانوا قد تجمعوا وتخرموا وعدم بسبب ذلك جماعة من غيرهم وفي السادس والعشرين منه جاء منشور من هولاكو للقاضي كمال الدين عمر بن العديم بتفويض قضاء القضاة إليه بمدائن الشام والموصل ومارين وميافارقين والأكراد وغير ذلك وتفويض جميع الأوقاف إلى نظيره ووقف الجامع وغيره وكان القاضي قبله صدر الدين أحمد بن سنى الدولة من جمادى سنة ثلاث وأربعين وكان كمال الدين ينوب عنه في الحكم بدمشق وفي ربيع الآخر رجعت عساكر التتار التي كانت عبرت على دمشق بعد ما عاثت في بلاد حوران وأرض نابلس وما حولها وكان الأمير محي الدين إبراهيم بن أبي زكري بنابلس فقاتلهم قتالاً شديداً وأبلى بلاء حسناً بحيث قتل بيده منهم عشرة نفر ثم قتل رحمه الله فلما بلغ الملك الناصر رحمه الله ذلك وهو بغزة توجه نحو الديار المصرية فنزل العريش ثم قطيا ثم تفرق عسكره عنه فتوجه معظم العسكر إلى الديار المصرية مع الأثقال وعاد الملك الناصر في طائفة من خواصه لشئ بلغه عم ملك مصر ونزل بوادي موسى ثم نزل بركة زيزاء فكبسه التتار بها وتفرق عنه معظم أصحابه ثم أستأمن له بعض أصحابه وصار إليهم فكان معهم في ذل وهوان إلى أن قتل على ما نذكر إن شاء الله تعالى.

وأما العساكر التترية فبلغت غارتهم أرض غزة وبلد الخليل صلوات الله عليه والصلت وبركة زيزاء وموجب الكرك ونحو ذلك فقتلوا الرجال وسبوا النساء والصبيان واستاقوا من الأسرى والأبقار والأغنام والمواشي شيئاً كثيراًَ وأخذوا من الأسلاب والأثاث ما لا يحصى فلما وصلوا دمشق اشترى من الأسرى شئ كثير وأطلقوا وهرب بعضهم واستصحبوا معهم من بقي وقد كانت قلعة دمشق امتنع بها الأمير بدر الدين محمد بن فريجار واليها وجمال الدين بن الصيرفي نقيبها في جمع كثير بها واحتيج إلى حصارها فجاءها من التتر خلق كثير وصلوا يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى فما يأتوا تلك الليلة حتى قطعوا من الأخشاب ما احتاجوا إليه فكانوا أستصحبوا معهم أكثر من عشرين منجنيقاً تجرها الخيل وهم ركاب عليها وقدموا قبل ذلك بأسلحة تجرها البقر على العجل وأصبحوا يوم الاثنين يجمعون الحجارة لرمي المجانيق فاخربوا حيطاناً كثيرةً وأخذوا حجارتها من أساسها وأخربوا طرفاً من القنوات بسبب الحجارة وهيؤها للرمي ونصبت المجانيق ليلة الثلاثاء وأصبحوا يرمون بها رمياً فأخربوا كثيراً من القلعة من غربيها فما أمسوا حتى طلبوا الأمان فأمنوهم وخرجوا من الغد ونهب ما في القلعة وأحرق فيها مواضع كثيرة وهدم من أبراجها وأعاليها ثم ساروا إلى بعلبك وكان قبل ذلك حضر عند هولاكو تقي الدين الحديثي الحشائشي وكان هذا تقي الدين أصله من قرية حديثا من بقاع بعلبك وربي ببعلبك بين أهلها كأحدهم ثم سافر إلى الديار المصرية وفاق أهل عصره في معرفة الحشائش والأعشاب وخواصها ومنافعها ومضارها وتقدم عند الملك المعز أيبك التركماني وأعطاه أقطاعاً جيداً ثم جهزه إلى الملك الناصر في بعض مهماته فاتفق قتل الملك المعز وهو بالشام فأقام بدمشق فورد كتاب هولاكو على الملك الناصر رحمه الله يطلب جماعة التقى أحدهم فسيرهم إليه فحصل له منه إقبال فلما حصل الإستيلاء على حلب سأل من هولاكو فرمان لأهل بعلبك وشحنة من التتر فأجابه إلى ذلك فوصل المذكور ومعه الفرمان والشحنة ودخل بعلبك واجتمع به أهلها وكلهم معارفه ومعظم أصحابه وتحدث معهم في الدخول في الطاعة وقبول الأمان وكان سائر أهل البلاد إلا القليل قد صعدوا إلى القلعة بأموالهم وحريمهم مصممين على العصيان وكان نائب السلطنة بالأعمال البعلبكية الأمير ناصر الدين محمد بن البتيني رحمه الله فعندما بلغ أهل البلد منازلة التتر لحلب سألوه المقام عندهم والذب عنهم وتدبير أمورهم فأجابهم وأصعد إلى القلعة شيئاً كثيراً فلما بلغه أخذ حلب وتوجه إلى الملك الناصر من دمشق رجع عن الصعود إلى القلعة وسافر من جهة بانياس والصبيبة وكانت تحت نظره وولايته وسافر معه جماعة من أهل بعلبك فلما اتفق بعد ذلك قدوم التقى تحللت العزائم وجنحت إلى قبول الأمان فقال لهم ينزل معي جماعة من أعيان البلد إلى دمشق لأحضرهم عند نواب الملك وأعرفهم بدخولهم في الطاعة فتعوجه صحبته جماعة من الأعيان قريب خمسة عشر نفراً فلما وصلوا دمشق أنزلوا في مدرسة الأمير ناصر الدين القيمري ورتب لهم راتب متوفر من الطعام والحلواء والفاكهة وغير ذلك وأحسن إليهم غايةالإحسان وخلع عليهم خلع سنية وهذا لم يجر لغيرهم مع التتر فرجعوا إلى بعلبك صحبة التقى على أن تسلموا القلعة وينزل الناس إلى بيوتهم فاتفق يوم وصولهم إلى بعلبك وصول بدر الدين يوسف الخوارزمي إلى بعلبك من عند هولاكو ومعه فرمان بولاية بعلبك وأعمالها، وكان هذا بدر الدين رحمه الله قد ولي مدينة بعلبك في الأيام الناصرية ورفق بأهلها وعاملهم أجمل معاملة وصادق كثيراً منهم وعاشرهم ثم عزل وولي ولايات أخر ثم عزل عنها واعتقل بدمشق وأنقضت الدولة الناصرية وهو بالاعتقال فخرج من الحبس وقصد هولاكو وكان عنده وتوصل ومعرفة بسائر الألسن، وهو مقبول الصورة وله معرفة بابن كشلوخان وكان ابن كشلوخان مع التتر وله صورة عندهم فلما حضر بدر الدين المذكور عند هولاكو ذكر معرفته ببعلبك وأهلها وتكفل بتسهيل ما تعسر منها وكان لبعلبك عند التتر صورة كبيرة لحصانة قلعتها ونجدة رجالها فكتب له فرمان بولايتها واتفق وصوله على ما تقدم فتحلل لقدومه معظم العزائم ودخل البلد وأمر ونهى وأنس به الناس لقديم المعرفة وتمسك بالعصيان شجاع الدين إبراهيم والي القلعة ومن عنده من المستخدمين وقريب نصف أهل البلد

وقد كتب شجاع الدين إلى الملك الناصر رحمه الله يعرفه صورة الحال واستأذنه في ما يفعل وسير الكتاب مع شخص يعرف بالمقرئ إبراهيم فوجده ببركة زيزاء فأعطاه المطالعة فقرأها وقال داروا عن أنفسكم وكتب الجواب بمثل ذلك. كتب شجاع الدين إلى الملك الناصر رحمه الله يعرفه صورة الحال واستأذنه في ما يفعل وسير الكتاب مع شخص يعرف بالمقرئ إبراهيم فوجده ببركة زيزاء فأعطاه المطالعة فقرأها وقال داروا عن أنفسكم وكتب الجواب بمثل ذلك.
حكى لي المقرئ إبراهيم المذكور قال لما قرأ المطالعة وأمر بكتب الجواب حصل له في خلال ذلك رعاف يسير فمسح أنفه بمنديل كان في يده ورماه وطلب غيره فلم يكن عنده غيره فغسل بيده موضع الدم منه وحمله قال ولم أجد معه إلا نفراً يسيراً جداً إن في ذلك لعبرة.
وأما أهل القلعة فتمسكوا بالعصيان وأنتظار ما يرد به جواب الملك الناصر فعاد كتبغا نوين بالعساكر وكان عند توجهه إلى دمشق اجتاز بعلبك ولم يتعرض لقتالها فلما عاد بعد أخذ قلعة دمشق أحضر معه بدر الدين محمد بن قريجار وجمال الدين بن الصيرفي ليتحدثا مع أهل القلعة فتحدثوا فلم يفد وحضر إبراهيم بجواب الملك الناصر فحلل ما بقي من العزائم غير أن الوثوق بأمان التتر غير محقق فلما رأى كتبغا أصرارهم نازل القلعة ونصب عليها عدة مجانيق في يوم الأحد وجميعها تضرب في برج واحد لعله من أحصن الأبراج بحيث فتحت فيه المجانيق طاقة كبيرة كالباب الكبير فِأذعن أهل القلعة بتسليمها وطلبوا الأمان فأمنهم كتبغا على أنفسهم وأن يخرج كل أنسان بما يستطيع أن يحمله من ماله فخرجوا على هذه الصورة بعد عصيان يوم واحد ووفي لهم بذلك ولم يرق لأحد محجمة دم ثم بعد خروج الناس من القلعة دخلها كتبغا فرآها وصعد قلتها ونهبها التتر وأخذوا ما وجدوا فيها ورحلوا وقد بقي فيها من القمح والشعير والحبوب والدبس واللبن وغير ذلك من الطعومات شئ كثير فتلطف بدر الدين يوسف الخوارزمي وأحسن السياسة فيه بحيث شاور كتبغا وتلطف به حتى أجاب إلى أن يقرر عن هذا الطعم درهم معلوم فقرر على ذلك قريب خمسين ألف درهم بحيث ناب غرارة القمح عشرين درهما وغرارة الشعير عشرة دراهم وقنطار الدبس الشديد عشرين وقنطار اللبن ثلاثون درهما فحصل للناس بذلك رفق كثير.
ثم أن كتبغا أمر باعتقال شجاع الدين إبراهيم والي القلعة ببعلبك وديوانها فاعتقلوا خلا شاهد القلعة فإنه كان خرج منها قبل حصرها وطلع إلى جبل الكسروانيين فاعتقلوا ثم أستدعوا إلى مرج يرغوث وضربت رقابهم وضربت رقبة ولد الشجاع وصهره معه ولذلك ضرب هناك رقبة بدر الدين محمد بن فريجار وابن الصيرفي نقيب قلعة دمشق وجرى بألطاف الله تعالى بأهل بعلبك ما لم يكن في الحساب فلله الحمد على ذلك.
وفي غرة شعبان حضر الملك الأشرف موسى بن صاحب حمص إلى بعلبك وقد استقر نائب هولاكو في الشام وسلم إليه حمص والرحبة وتدمر وتل باشر بقلاعها فأقام بظاهر بعلبك يومين فتوجه إلى دمشق.
وفيها توجه قاضي القضاة محي الدين يحيى بن الزكي وأولاده وأخوه لأمه شهاب الدين وقاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سنى الدولة إلى أرد وهولاكو فأدركوه دون الفرات قبل قطعها ثم عادوا إلى طريق بعلبك فوصلوها سادس جمادى الآخرة أو سابعها بكرة الخميس ومحي الدين في تجمل عظيم وهو راكب في محفة ومعه من الحشم والغلمان والأولاد والحاشية ما لا مزيد عليه وصلى الجمعة في شباك قبة المدرسة الأمينية المجاورة جامع بعلبك وأحضر منبر إلى صحن الجامع قبالة الشباك المشار إليه وقرأ عليه تقليده وهو تقليد عظيم جدا بسط فيه القول والمبالغة في تفحيم القاضي محي الدين بحيث لا يخاطب فيه إلا بمولانا وهو يتضمن فيه تفويض القضاء إليه بسائر البلاد والشامية من قنسرين إلى العريش ونائبه أخوه لأمه شهاب الدين اسماعيل بن أسعد بن وحيس وكذلك الأوقاف وغيرها وأن يشارك النواب في أمورهم بحيث لا يخرج عن رأيه ولا يستبدون دونه بأمر وكان عليه حال قعوده في الشباك فرجية عظيمة سوداء منسوجة بالذهب قيل أنها الخلعة التي خلعت على الملك الناصر يوسف رحمه الله من جهة الخليفة أخذت من قلعة حلب وعلى رأسه بقيار صوف بغير طيلسان ثم توجه إلى دمشق وأقام القاضي صدر الدين ببعلبك في منزل إلى حين توفي رحمه الله وسنذكره إن شاء الله تعالى.

ثم وصل محي الدين إلى دمشق وقرأ الفرمان بتوليته يوم الأربعاء أربع عشر جمادى الآخرة تحت النسر بجامع دمشق وحضر قرائته إيلبان نائب ملك التتر وكان من المغل وحضرت زوجته معه وقعدت على طراحة بسطت لها بين زوجها والقاضي إلى جانب العمود الشرقي في الباب الكبير الأوسط من باب أبواب النسر بالجامع ثم أضاف القاضي محي الدين إلى نفسه وأولاده عدة مدارس كالعذراوية والسلطانية والفلكية والركنية والقيمرية والكلاسية والصالحية وولاها عماد الدين بن عزى والأمينية ولاها ولده عماد الدين عيسى مع مشيخة الشيوخ وباشر أخوه شهاب الدين عنه نيابة الحكم مع التدريس الرواحية والشامية البرانية مع أن شرطها لا يجمع المدرس بينها وبين غيرها وبقي الأمر كذلك إلى أن ملك المسلمون في أواخر شهر رمضان من هذه السنة فبذل أموالاً جليلة على أن يستمر على حاله فأجيب إلى ذلك نحو شهر ثم أمر بالسفر مع السلطان الملك المظفر رحمه الله إلى مصر فتولى القاضي أبو بكر محمد بن سنى الدولة وقرئى تقليده تقليده بشباك الحكم بالجامع بدمشق يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي القعدة.
وفيها لما استولى التتر على القلاع أبقوا بلاطنس على ابن واليها نجم الدين بن قايماز الظاهري فلما كسروا أستفسد مظفر الدين عثمان بن منكورس صاحب صهيون من كان بها من الأجناد على نجم الدين واليها فسلموه إليه في العشر الأول من ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وبقيت في يده إلى أن سلمها لولده عز الدين أحمد فبقيت في يده مدة حياة أبيه إلى أن سلمها إلى نواب الملك الظاهر في سنة سبع وستين وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
وفيها وصل الخبر باستيلاء التتر على عدة قلاع منها الصلت وعجلون وصرخد وبصرى والصبيبة وهدموا الجميع حسب ما أمكنهم.
وفيها وصل الخبر أن طائفة التتار وقعوا على العرب عند زيزاء وحسبان فهزموهم وغنموا من أولادهم ونسائهم وأنعامهم شيئاً كثيراً واستاقوا الجميع وهرب الملك الناصر إلى البراري فساقوا خلفه فأخذوه وقد بلغ شربة الماء نحو مائة دينار وأتوا به إلى كتبغانوين فوقفه بين يديه وأهانه وقرعه ثم أتوا به دمشق مع من قدم من الكرك من الدمشقيين الذين كانوا هربوا إليها وكان كتبغا سير القاضي كمال الدين التفليسي رحمه الله برسالة منه إلى الملك المغيث صاحب الكرك يلتمس منه الدخول في الطاعة فأجاب بجواب ظاهره الطاعة وباطنه المراوغة وانتظار ما تجري به المقادير فلما عاد القاضي كمال الدين إلى الكرك صحبه جماعة ممن كان ألتجأ إليها من الدمشقيين بعد مشقة شديدة وجدوها من تنردهم مع التتار كيف ما داروا نحو من خمسة وثلاثين يوما وكان وصولهم سادس شهر رجب وسار الملك الناصر رحمه الله مع جماعة من التتار إلى هولاكو في رابع عشر شهر رجب ومعه ابنه الملك العزيز وأخوه الملك الظاهر علي والصاحب إسماعيل بن صاحب حمص وغيرهم.
وفيها في يوم الاثنين السابع والعشرين من جمادى الأولى طيف بدمشق برأس مقطوع مرفوع على رمح قصير معلق بشعره وهو في قطعة شبكة زعموا أنه رأس الملك الكامل محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب رحمه الله صاحب ميافارقين وتلك النواحي ودام في حصار التتار أكثر من سنة ونصف ولم يظاهر عليهم إلى أن فني أهل البلد لفناء زادهم فوجد مع من بقي من أصحابه موتى أو مرضى فقطع رأسه وطيف به البلاد ثم علق على باب الفراديس الخارج فقال قائل في ذلك:
ابن غاز غزا وجاهد قوماً ... أثخنوا في العراق والمشرقين
ظاهراً غالباً ومات شهيداً ... بعد صبر عليهم عامين
لم يشنه أن طيف بالرأس منه ... فله أسوة برأس الحسين
وافق السبط في الشهادة والحم ... ل لقد حاز أجره مرتين
جمع الله حسن ذي الشهدي ... ن على فتح ذينك القلعتين
ثم واروا في مشهد الرأس ذلك ال ... رأس فاستعجبوا من الحالين
وارتجوا أنه يجئ لدى البع ... ث رفيق الحسين في الجنتين
ثم وقع من الأتفاق العجيب أن دفن في مسجد الرأس داخل باب الفراديس في المحراب في أصل الجدار وغربي المحراب في طاقة يقال أن رأس الحسين رضي الله عنه دفن بها.

وفي نصف شعبان أغارت العرب على جشارات التتر بتل راهط وما حوله فاستاقوها وخرج الملك الأشرف صاحب حمص ومن بدمشق من التتار ثم رجعوا ولم يقعوا عليها وكان الملك الأشرف قد وصل قبل ذلك إلى دمشق ونزل في داره وقرئ فرمانه بأن تكون البلاد تحت نظره وفي ثاني رمضان وصل الخبر إلى دمشق باستيلاء التتار على صيداء من بلاد الفرنج ونهبها وخلاص ثلاثمائة أسير منها.
وفيها خرج الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله بعساكر الديار المصرية ومن انضاف منهم من عساكر الشام إلى لقاء التتار ودفعهم عن البلاد الشامية وكان كتبغانوين بالبقاع فبلغه الخبر فاستدعى الملك الأشرف وقاضي القضاة محي الدين واستشارهم في ذلك فمنهم من أشار بعدم الملتقى والاندفاع بين يدي الملك المظفر ومن معه من العساكر إلى حيث يجيئه مدد من هولاكو ليقوى على ملتقى العساكر الإسلامية ومنهم من أشار بغير ذلك وتفرقت الآراء فاقتضى رأي كتبغانوين الملتقى وتوجه من فوره على كره ممن أشار عليه بالأندفاع لما أراد الله تعالى من إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه فحصل التقاء العساكر على عين جالوت في يوم الجمعة خامس وعشرين شهر رمضان فانكسرت ميسرة المسلمين كسرة شنيعة فحمل الملك المظفر رحمه الله في طائفة عظيمة من المسلمين أول البصائر فكسرهم كسرة عظيمة أتت على معظم أعيانهم وأصيب كتبغانوين قيل قتله الأمير جمال الدين آقوش الشمسي فولوا الأدبار لا يلوون على شئ واعتصم منهم طائفة بالتل المجاور لمكان الوقعة فأحدقت بهم العساكر وصابروهم حتى أفنوهم قتلاً وأسراً ونجا من نجا بحشاشته وأهل البلاد يتخطفونهم وفي حال الفراغ من المصاف حضر السعيد حسن ابن الملك العزيز عماد الدين بن الملك العادل بين يدي الملك المظفر رحمه الله تعالى وكان التتار لما ملكوا قلعة البيرة وجدوه فيها معتقلاً فأطلقوه وأعطوه بانياس وقلعة الصبيبة وبقي معهم وقاتل يوم المصاف المسلمين قتالاً شديداً فلما أيد الله المسلمين بنصره وحضر الملوك عند الملك المظفر فحضر المذكور فلم يقبله الملك المظفر رحمه الله وأمر به فضربت عنقه صبراً وورد كتاب المظفر إلى دمشق في سابع وعشرين شهر رمضان يخبر بالفتح وكسرة العدو ويعدهم بوصوله إليهم ونشر المعدلة فيهم فثاروا العوام بدمشق وقتلوا الفخر محمد بن يوسف ابن محمد الكنجي في جامع دمشق وكان المذكور من أهل العلم لكنه كان في شر وميل إلى مذهب الشيعة وخالطه الشمس القمي الذي كان حضر إلى دمشق من جهة هولاكو ودخل معه في أخذ أموال الغياب عن دمشق فقتل ومن نظمه في علي رضوان الله عليه:
وكان علي أرمد العين يبتغي ... دواء فلما لم يحس مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلة ... فبورك مرقياً وبورك راقيا
وقال سأعطي الراية اليوم فارساً ... كمياً شجاعاً في الحروب محاميا
يحب الإله والإله يحبه ... به يفتح الله الحصون كما هيا
فخص دون البرية كلها ... علياً وسماه الوصي المواخيا

وقتل بدمشق أيضاً من أعوان التتار الشمس ابن الماكسيني وابن البغيل وغيرهما وكان النصارى بدمشق قد شمخوا وتجرؤا على المسلمين واستطالوا بتردد إيلبان وغيره من كبار التتار إلى كنائسهم وذهب بعضهم إلى هولاكو وجاؤا من عنده بفرقان يتضمن الوصية بهم والاعتناء بأمرهم ودخلوا به البلد من باب توما وصلبانهم مرتفعة وهم ينادون حولها بارتفاع دينهم واتضاع دين الإسلام ويرشون الخمر على الناس وفي أبواب المساجد فحصل عند ذلك من المسلمين هم عظيم فلما هرب نواب التتر حين بلغهم خبر الكسرة أصبح الناس إلى دور النصارى ينهبونها ويخربون ما استطاعوا منها واخربوا كنيسة اليعاقبة وأحرقوا كنيسة مريم حتى بقيت كوما والحيطان حولها تعمل النيران في أخشابها وقتل منهم جماعة واختفى الباقون ولما عبر النصارى من باب توما قاصدين درب الحجر وقفوا عند رباط الشيخ أبي البيان رحمه الله ونادوا بشعارهم ورشوا الخمر في باب الرباط وفعلوا مثل ذلك على باب مسجدي الحجر الكبير والصغير وألزموا الناس في دكاكينهم بالقيام للصليب ومن لم يقم أخرقوا به وأهانوه وشقوا السوق على هذا الوجه على عند القنطرة آخر سويقة كنيسة مريم فقام بعضهم على الدكان الوسطى من الصف الغربي بين القناطر وخطب وفضل دين النصارى ووضع من دين الإسلام ثم عطفوا من خلف السوق إلى الكنيسة التي خربها الله تعالى وكان ذلك في ثاني وعشرين شهر رمضان وفي الغد صعد المسلمون مع قضاتهم وشهودهم إلى إيلبان بالقلعة فأهانوهم ورفعوا قسيس النصارى عليهم وأخرجوهم من القلعة بالضرب والإهانة وفي هذه حضر إيلبان إلى الكنيسة وفي غده كانت الكسرة ولله الحمد والمنة.
وهم بعض الناس بنهب اليهود فنهب شيء يسير ثم كفوا عنهم وفي يوم الجمعة ثاني شوال خطب بجامع دمشق الأصيل الأسعردي فبقي متوليا الخطابة والإمامة بجامع دمشق إلى سلخ شوال من سنة ثمان وخمسين وستمائة.
وحكى ابن الجزري في تاريخه عن والده إبراهيم بن أبي بكر الجزري رحمه الله قال خرجت من جامع دمشق بعد صلاة الجمعة وهي ثاني جمعة مرت من شهر رمضان من تحت الساعات ودخلت في الخضراء إلى نحو دكاني بسوق الرماحين فوجدت جميع دكاكين الخضراء فيها الخمور والنصارى فيها يبيعون الخمر وبعض المسلمين القليلين الذين معهم وهم يشربون ويرشون الخمر على من عبر عليهم من المصلين وغيرهم قال فما ملكت نفسي إلا والدموع تسيل على خدي وحصل لي نحيب وبكاء كثير وما زلت كذلك إلى حيث وصلت دكاني بسوق البر بالرماحين وأنا على ذلك في البكاء والنحيب إذا قد جاء شخص يقال له الحاج عبد العزيز من أهل دمشق وقد جاء من المكان الذي جئت منه وقد حصل له حال مثل الحال الذي قد حصل لي فقعد كل واحد منا في ناحية وأخذ المنديل على وجهه يبكي وينتحب قال فبينا نحن نبكي وإذا بالشيخ محمد الخالدي قدس الله روحه قد عبر علينا وقال لي يا مليح لأجل أي شئ تبكي الذي رأيت يزول الساعة أبعث إليك محمد العطار يبشرك وأنا فما أقدر أقف ثم مشى وتركني وكان الشيخ محمد مدة مقام التتر بدمشق ليس للشيخ محمد الخالدي شغل سوى أنه يمشي من باب الجابية إلى الباب الشرقي قال فلما كان بعد ساعة إذا بالحاج محمد العطار قد جاءيني وقال لي الشيخ محمد يبشرك والمسلمين ويخبرك أن في أول ليلة الجمعة مرت من هذا الشهر وهو رمضان اجتمعت أشباح الأنبياء والأولياء جميعهم وإبراهيم الخليل وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين على صخرة بيت المقدس وسألوا الله تعالى أن يكشف عن المسلمين ما هم فيه من أمر التتار فلم يجبهم فلما كان البارحة وهي ليلة الجمعة أجتمعوا ثانية وسألوا الله تعالى فأجابهم وما يخرج شهر رمضان إلا وهم مكسورين وما تعيد أنت والمسلمين بدمشق إلا بسلطان جديد مسلم قال والدي رحمه الله فكان الواقع كما قال الشيخ محمد قدس الله روحه.

وفيها فارق الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري الملك الناصر من دمشق مهاجراً إلى مصر إلى خدمة الملك المظفر سيف الدين قطز فلما وصل إلى غزة اتفق هو والشهرزورية وتزوج منهم وبعث الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري إلى الملك المظفر لتحليفه له فأجابه المظفر إلى ما طلبه منه واقترحه عليه فسار إليه ودخل القاهرة يوم السبت ثاني وعشرين ربيع الأول سنة ثمان وخمسين فركب المظفر للقائه وأنزله في دار الوزارة وأقطعه قصبة قيلوب لخاصته وأشار عليه بملاقاة التتار وقوي جأشه وحرك عزائمه وحرضه على التوجه للقائهم وتكفل له بحصول الظفر من تلقائه فخرج يوم الأثنين خامس عشر شعبان بجميع عساكر مصر مع ما انضاف إليهم من العرب وغيرهم لقصد التتار الذين بالشام فلما وصل إلى مرج عكا أتصل بكتبغانوين مقدم عسكر التتر بالشام خروج الملك المظفر وكان في بلد حمص فتوجه إلى الغور وبعث الملك المظفر للأمير ركن الدين البندقداري في عسكر ليتجسس خبر التتر فلما وقعت عينه عليهم كتب إلى الملك المظفر ليعلمه بوصولهم ثم أنتهز الفرصة في مناوشتهم ليكون له اليد البيضاء عند الإسلام فلم يزل يستدرجهم تارة بالأقبال وتارة بالإحجام حتى وافى بهم إلى الملك المظفر على عين جالوت فكانت الوقعة التي أيد الله بها المسلمين على التتر وأخذ بها منهم ثأر أهل الوير والمدر وحاق بهم مكر السيف وحكم فيهم الحتف بالحيف وقتلوهم وأخذوهم ومعهم ملكهم كتبغانوين فقتل وأخذ رأسه وأسر أبنه وكانت الوقعة بين المسلمين والتتر على عين جالوت يوم الجمعة خامس وعشرين من شهر رمضان المعظم ووصل الخبر إلى دمشق في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان فانهزم بتلك الليلة من كان بدمشق من التتار وأيل سبان نائب الملك وأتباعهم وتبعهم الناس وأهل الضياع ينهبونهم يقتلون من ظفروا به فلله الحمد والشكر وجرد الملك المظفر خلف التتر الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري فتبعهم إلى حمص وقتل وأسر منهم خلقا كثيراً ورجع إلى دمشق ودخل السلطان الملك المظفر إلى دمشق يوم الأحد رابع شوال فأقام بها إلى أن خرج منها طالبا للديار المصرية ووصل إلى دمشق إلى خدمة الملك المظفر الملك الأشرف صاحب حمص والملك المنصور صاحب حماة فأنعم عليهما وأكرمهما غاية الإكرام وممن قتل بعد المعركة الملك السعيد حسن بن الملك العزيز عثمان ابن العادل صاحب الصبيبة وبانياس بقي محبوساً بقلاع الشام بعد موت الملك الصالح أيوب وابنه المعظم توران شاه وكسرت الفرنج بالديار المصرية سنين كثيرة آخرها بقلعة البيرة على الفرات فلما وصل التتر إليها أخرجوه وصار معهم ثم قدم مع مقدمهم كتبغانوين إلى دمشق وحضر فتح قلعتها وتسلم بلاده فلما قدم العسكر المصري في هذه الكرة قاتل مع التتار فلما وقعت الكسرة عليهم جاء إلى الملك المظفر فلم يقبله وقال له لولا الكسرة ما جئت إلي وأمر به فقتل ووصل كتاب السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز إلى دمشق من طبرية تاريخه يوم الأحد السابع والعشرين من شهر رمضان وهو أول كتاب وصل منه إلى أهل دمشق يخبرهم بهذه الكسرة الميمونة العظيمة وبوصوله إليهم بعدها.
ومن العجائب أن التتار كسروا وأهلكوا بأبناء جنسهم من الترك وعمل الشيخ شهاب الدين أبو شامة في ذلك شعراً:
غلب التتار على البلاد فجاءهم ... من مصر تركي يجود بنفسه
بالشام بددهم وفرق شملهم ... ولكل شيء آفة من جنسه
ولبعض شعراء دمشق أيضاً:
هلك الكفر في الشآم جميعاً ... واستجد الإسلام بعد دحوضه
بالمليك المظفر الملك الأر ... وع سيف الإسلام عند نهوضه
ملك جاءنا بعزم وحزم ... فاعتززنا بسمره وببيضه
أوجب الله شكر ذاك علينا ... دائماً مثل واجبات فروضه

ومما حكى ابن الجزري في تاريخه عن الملك المظفر قطز قال لما كان في رق ابن الزعيم بدمشق بالقصاعين اتفق أن أستاذه بعض الأيام غضب عليه ولطمه على وجهه ولعن واليه وأبوه وجده فقعد يبكي وينتحب كثيراً وحضر الطعام فلم يأكل منه شيئاً وبقي ذلك اليوم طول نهاره يبكي ثم أن استاذه ركب بين الصلاتين إلى الخدمة وأوصى به إلى الفراش وقال له أطعم قطز واعتبه واسترضه هذه صورة ما حكى الحاج على الفراش قال فجئت إليه بعد ركوب أستاذه فقلت له ما هذا البكاء العظيم من لطمة أو لطشة تعمل هذا كله لو ضربت ألف عصاة أو ألف دبوس أو جرحت بالسيف ما عملت هذا كله ولا بعضه فقال والله ما بكائي وغيظي من أجل لطشة إنما غيظي من لعنته أبواي وجدي وأبواي خير منه ومن أبوه وجده فقلت له من أنت ومن أبيك قطعة مملوك تركي كافر بن كافرين فقال والله ما أنا إلا مسلم ابن مسلمين أنا محمود بن ممدود ابن اخت خوارزم شاه من أولاد الملوك قال فسكت وطايبته وتقلبت به الأحوال إلى أن ملك مصر والشام ولما ملك دمشق أحسن إلى الحاج على الفراش وأعطاه خمسمائة دينار مصرية.
وحكى المذكور أيضاً قال حكى لي الحاج أبو بكر المعروف بابن الدريهم الأسعردي الحاج زكي الدين إبراهيم الجزري المعروف بالجيلي استاذ الفارس أقطاي قال كنا عند الأمير سيف الدين قطز لما ملك أستاذه المعز فقد حضر عنده منجم ورد من بلاد الغرب وهو موصوف بالحذاقة والمعرفة في علم الرمل وعلم الفلك فأمر أكثر حاشيته بالإنصراف فانصرفوا وكنا نحن من أكابر أصحابه وأتباعه فجئنا حتى نقوم فأمرنا بالقعود وما ترك عنده إلا من يثق إليه في خواصه ....... أنه صرف أكثر مماليكه وقال للمنجم أضرب فضرب وعمل صناعته وحدثه بأكثر ما كان في نفسه ثم آخر ما قال له أضرب وأبصر من يملك بعد أستاذي ومن يكسر التتر ومن يكون هلاكهم على يديه قال فضرب وبقي زماناً يحسب وهو مفكر يعد على أصابعه فقال ياخوند يطلع معي خمس حروف بلاب نقط وأبو هذا أيضاً خمس حروف بلاب نقط وأسمك يا خوند ثلاث حروف وكذلك ولد السلطان علي وفي الضرب خمسة بلا نقط فقال له لما لا تقول محمود بن ممدود فقال له المنجم يا خوند ولا يقع غير هذا الإسم فقال له أنا محمود ابن ممدود وأنا الذي أكسر التتر وآخذ بثأر خالي خوارزم شاه قالوا فتعجبنا من كلامه وفرحنا وقلنا إن شاء الله تعالى يكون هذا يا خوند ثم أننا استكتمنا هذا الأمر وأعطى المنجم ثلاث مائة درهم وصرفه ثم قدر الله تعالى تملكه وكسره للتتر خذلهم الله تعالى.

وفيها توجه الملك المظفر إلى مصر وترك الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائباً بدمشق وبحلب الملك المظفر علي بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ثم رجع طالب الديار المصرية في يوم الثلاثاء سادس عشرين شوال وقد نقل الصاحب عز الدين بن شداد في سيرة الملك الظاهر أن الملك المظفر لما ملك دمشق كان عازماً على التوجه إلى بلد حلب ليغسل عنها بالتفقد لها وضر التتر فوشى إليه واش أن الملك الظاهر تنكر له...... عليه وأنه عازم على مسكه فصرف وجه توجهه عن قصده وعزم للتوجه إلى مصر مضمرا للظاهر سوءاً أسره الى بعض خواصه فأطلع عليه الأمير ركن الدين البندقداري فخرجوا من دمشق يوم الثلاثاء سادس عشر من شوال ولم تزل الضغائن والحقود تتراءى في صفحات العيون والخدود وكل منهما يحترس من صاحبه بجنة الخداع ويترقب فرصة تقف الروح من الجسد بانتهازها على سنية الوداع إلى أن جمع رأي الظاهر على قتله واتفق مع الأمير سيف الدين بهادر المعزي والأمير بدر الدين بكتوت الجوكنداري المعزي والأمير سيف الدين بيدغان الركني والأمير سيف الدين بلبان الهاروني والأمير علاء الدين أنس الأصبهاني فلما قارب القصير بين الغرابي والصالحية انحرف عن الدرب للصيد فلما قضى وطره وعاد إلى الدهليز سايره الظاهر وأصحابه وطلب منه إمرأة من سبي التتر فأنعم له بها فأخذ يده ليقبلها وكنت تلك إشارة بينه وبين من اتفق معه فلما رآه قد قبض على يده بادره الأمير بدر بن بكتكوت على عاتقه بالسيف فأبانه ثم أختطفه الأمير علاء الدين أنس وألقاه عن فرسه ثم رماه الأمير سيف الدين بهادر بسهم أتى على روحه وذلك يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة ثم ساروا إلى الدهليز فأجالوا قداح الرأي بينهم فيمن يملكوه عليهم ويسلموا إليه قيادتهم ويصونوا بمواضي عزمه حريمهم وأولادهم فوقع اتفاقهم على الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري فتقدم الأمير فراس الدين أقطاي المعروف بالأتابك فبايعه وحلف له ثم الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي ثم الأمراء على طبقاتهم ونعت بالملك القاهر ثم في الحالة الراهنة قال له الأمير فارس الدين الأتابك لا يتم لك الملك إلا بدخولك الى قلعة الجبل فركب هو والأمير فارس الدين الأتابك والأمير بدر الدين بيسري الشمسي والأمير سيف الدين قلاوون الألفي والأمير بدر الدين بيليك الخزندار وجماعة من خواصه وقصد قلعة القاهرة ليسبق إليها من يطمع نفسه بالملك ورتب في مسيرة إلى القاهرة الأمير جمال الدين آقوش التجيبي أستاذ دار والأمير عز الدين الأفرم أمير جندار والأمير حسام الدين لاجين الدرفيل والأمير سيف الدين بلبان الرومي في الدوادارية وأقر بهاء الدين على عادته أمير أخور ولقيه في طريقه الأمير عز الدين الحلي نائب السلطنة عن الملك المظفر وكان قد خرج للقاء الملك المظفر فأعلمه بصورة الحال وعرض عليه أن يحلف له فحلف ثم تقدم بين يديه إلى القلعة فلم يزل على بابها ينتظره حتى وصل إليها فدخلها وتسلمها والطالع السرطان وكانت القاهرة قد زينت لقدوم الملك المظفر والناس في جذل وسرور وفرح وحبور فلما أسفر الصبح وطلع النهار لم يشعر الناس إلا والمنادي ينادي يا معشر الناس رحمكم الله ترحموا على الملك المظفر وادعوا لسلطانكم الملك القاهر ركن الدين بيبرس فوجموا الناس لما به دهموا خوفاً من عود دولة البحرية إليهم وإلقاء كلكلها عليهم ثم سرى عنهم ما لحقهم بمواعيد برزت إليهم لأن الملك المظفر كان قد أحدث على أهل مصر حوادث كثيرة في هذه السنة سنة ثمان وخمسين منها تسقيع الأملاك وتقويمها وزكاتها وأخذ ثلث الزكاة وأخذ ثلث الترك ودينار عن كل إنسان ومضاعف الزكاة ومبلغ ذلك في السنة ستمائة ألف دينار فأطلقه لهم الملك الظاهر وكتب بذلك توقيع وفرحوا غاية الفرح ولما اسفرت الليلة التي وصل فيها عن يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة جلس في إيوان القلعة حيث تجلس الملوك وكان الوزير يومئذ زين الدين ابن زبير وكان فاضلاً في الأدب والترسل وعلم التاريخ وغيره فأشار بتغيير هذا اللقب وقال ما لقب به أحد فأفلح لقب به القاهر ابن المعتضد فلم تطل إمامته وخلع وسمل ولقب به الملك القاهر بن صاحب الموصل فسم ولم تزد أيامه في المملكة على سبع سنين فأبطل اللقب الأول الملك القاهر ولقب نفسه بالملك الظاهر وكتب إلى الملك الأشرف صاحب حمص وإلى الملك المنصور صاحب

حماة وإلى الامير مظفر الدين عثمان بن منكوس صاحب صهيون وإلى الإسماعيلية وإلى المظفر علاء الدين علي بن لؤلؤبن بدر الدين بحلب وإلى الأمير علم الدين الحلبي النائب بدمشق ولما بلغ الأمير علم الدين سنجر الحلبي قتل المظفر وتملك الظاهر للبلاد رغبت نفسه عن الأنقياد فجمع من كان عنده من الأمراء الذين رتبهم معهم الملك المظفر وأعيان دمشق من ذوي الحل والعقد وألزمهم بالحلف له على أن يكونوا في طاعته فأجابه بعض الأمراء ظاهراً ووافقه الباقون فلما استتب له مراده نعت نفسه بالملك المجاهد فكتب إلى النواب المسلمين القلاع الشامية وطلب تسليمها منهم إليه فمنهم من أجاب ومنهم من أبى وبعث إلى الأشرف صاحب حمص و إلى المنصور صاحب حماة والي الأمراء العزيزية بحلب يستميلهم إليه ويرغبهم في طاعته .ماة وإلى الامير مظفر الدين عثمان بن منكوس صاحب صهيون وإلى الإسماعيلية وإلى المظفر علاء الدين علي بن لؤلؤبن بدر الدين بحلب وإلى الأمير علم الدين الحلبي النائب بدمشق ولما بلغ الأمير علم الدين سنجر الحلبي قتل المظفر وتملك الظاهر للبلاد رغبت نفسه عن الأنقياد فجمع من كان عنده من الأمراء الذين رتبهم معهم الملك المظفر وأعيان دمشق من ذوي الحل والعقد وألزمهم بالحلف له على أن يكونوا في طاعته فأجابه بعض الأمراء ظاهراً ووافقه الباقون فلما استتب له مراده نعت نفسه بالملك المجاهد فكتب إلى النواب المسلمين القلاع الشامية وطلب تسليمها منهم إليه فمنهم من أجاب ومنهم من أبى وبعث إلى الأشرف صاحب حمص و إلى المنصور صاحب حماة والي الأمراء العزيزية بحلب يستميلهم إليه ويرغبهم في طاعته .
وفي العشر الأخير من ذي القعدة رسم الأمير علم الدين الحلبي بتجديد عمارة قلعة دمشق وزفت بالمغاني والطبول والبوقات وفرح أهل دمشق بذلك وحضر أمراء الدولة وخلع على الصناع والنقباء وعمل الناس في البناء حتى النساء وكان يوم الشروع في تجديد عمارتها يوما مشهوداً وفرحاً عظيماً لأهل دمشق.
وفي سادس ذي الحجة من هذه السنة خطب على منابر الجوامع بدمشق للملك الظاهر ركن الدين بيبرس وذكر بعده الذي تولى دمشق الملك المجاهد علم الدين سنجر الحلبي وضربت الدراهم باسمهما على الوجه الواحد الملك الظاهر ركن الدنيا والدين والآخر الملك المجاهد علم الدنيا والدين.
ذكر ما جرى بحلبلما ملك الظاهر مصر والملك المظفر ابن صاحب الموصل متول حلب أساء السيرة وظلم وعسف الرعية واستجبى من أهلها خمسين ألف دينار أجحفت بهم ولما وصلت الأخبار بوفاته كان بحلب الأمير حسام الدين لاجين الجوكنداري العزيزي فاتفق من بها من العزيزية والناصرية والمصرية على قبض الملك المظفر ابن صاحب الموصل وأحذ ما أخذه في المصادرة وحبسوه في قلعة الثغر وقدم الأمير حسام الدين الجوكنداري وفوضوا إليه نيابة السلطنة وذلك في سابع ذي الحجة.
وكان الأمير حسام الدين المذكور قد أخذ إذناً من الملك المظفر وتوجه إلى حلب لاستخلاص ما تبقى له من الإقطاع والودائع والذخائر من الأيام الناصرية فلما اتفق بحلب ما اتفق أجمعوا على تقدمته فلما صار إليه ما صار من أمر حلب كتب إليه الأمير علم الدين سنجر الحلبي يرغب إليه على أن يقطعه إقطاعاً عينه له زيادة على ما كان في يده من الأيام الناصرية فأبى إلا القيام على طاعة صاحب الديار المصرية.
وفيها وصلت التتر إلى حلب يوم الخميس سادس وعشرين ذي الحجة ظهراً فخرج منها الأمير حسام الدين لاجين ومن كان فيها من الأمراء بكرة اليوم المذكور وكان مقدم التتر بيدرة ونادوا في شوارع البلد وعلى المأذنة بالأمن والسلامة ونادوا في ظاهرها كذلك وأقروا أهلها في منازلهم ثم خرجوا منها وشحنوا في بلادها ولما وصلت الأمراء الذين كانوا بحلب إلى حماة بعثوا إلى الملك المنصور صاحبها فحذروه من التتر ويشيروا عليه بالخروج وموافقتهم فظن ذلك حيلة منهم عليه فلما تحقق أمرهم وما قالوه صحيح خرج إليهم ولحق بهم وسار معهم إلى حمص ووصلت غارة التتر إلى حماة وسنذكر ما تجدد من أخبارهم في حوادث سنة تسع وخمسين وستمائة.

وفيها في هذه السنة كثر تغير الدول ومتولي الحكم بالشام فكان من أول السنة إلى نصف صفر في مملكة الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب وهو آخر من ملك من بني أيوب رحمهم الله وأيانا ثم صار في مملكة التتار إلى الخامس والعشرين من شهر رمضان المعظم ثم صار في مملكة الملك المظفر سيف الدين قطز المعزى صاحب الديار المصرية إلى أن قتل في ذي القعدة ثم صار في مملكة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري وعلم الدين سنجر الحلبي وهي أول سنة صار أمر الشام إلى ملوك الديار المصرية فلأجل ذلك عملت الخطبة في أول سنة ثمان وخمسين وستمائة وكان القضاء في أول السنة تولاه بدمشق صدر الدين بن سني الدولة مستقلاً به من خمسة عشر سنة إلى أن ملكوا التتار فولوا كمال الدين عمر التفليسي ثم سافر محي الدين بن زكي والقاضي صدر الدين بن سني الدولة إلى هولاكو فولاهما القضاء وتوفي صدر الدين ببعلبك فاستقل محي الدين بالقضاء وحده إلى تولى الملك المظفر سيف الدين قطز الشام فولى القاضي نجم الدين بن صدر الدين بن سني الدولة.
وفيها أبتلى الناس بالشام بغلاء شديد عام في جميع الأشياء منم المأكول والملبوس وغيرهما وبلغ رطل الخبز درهمين ورطل اللحمة خمسة عشر درهماً وأوقية القيبريس درهماً والجبن درهماً ونصفاً والثوم أوقية بدرهم والعنب رطلاً بدرهمين ومن أكثر أسبابه ما أحدثه الفرنج من ضرب الدراهم المعروفة باليافية وكانت كثيرة الغش قيل أنه كان في المائة نحو خمسة عشر درهماً فضة والباقي نحاس وكثرت في أيدي الناس وتحدث في إبطالها مراراً فبقي كل من عنده شيء حريص على إخراجها خوفاً من بطلانها فتراه يدب في شراء أي شيء كان فيتزايد في السلع بسبب ذلك إلى أن بطلت في آواخر هذه السنة فعادت تباع كل أربعة دراهم منها بدرهم ناصري مغشوش وافتقر لسببها خلق كثير وأنتفع آخرون.
ولما ملكوا التتار دمشق كان الملك الأشرف بن صاحب حمص توجه صحبة الملك الناصر فخلاه من بعض البلاد وراح إلى التتار إلى حلب إلى خدمة هولاكو أخذ منه فرمان فرسم له أن يكون من جملة نوابه بالشام المحروسة وأقطعه مائة فارس ومن جملة ما أقطعوه معربا والتل ومنين من حبه عسال التي كانت أقطاع الملك المجاهد جده وبقي مقيما بدمشق يعمل النيابة مع نواب التتار إلى أن كسروا فهرب مع نواب التتار إلى الرحبة فلما ملك الملك المظفر دمشق سير الملك الأشرف صارم الدين أزبك وحسام الدين لؤلؤ وطلبوا له الأمان وحلفوه أنه ما يؤذيه فحضر إليه فركب للقائه وأحسن إليه وأعطاه حمص والرحبة وزاده تل باشر وتوجه الأشرف إلى حمص وطلع القلعة وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله في الأيام الظاهرية وعند وفاته سير الأمير جمال الدين التجيبي الأمير بدر الدين بيليك العلائي الكبير وشرف الدين ابن الوزان إلى حمص احتاطوا على حواصلها وحملوا المال والجوهر والقماش الذي خلفه والخيل والبغال والجمال إلى الديار المصرية وأقاموا بها إلى أن حضر إليها الأمير علم الدين سنجر الباش قردي نائبا بها فحضروا المذكورون إلى دمشق المحروسة.

وفيها توفي السلطان الملك السعيد نجم الدين ايلغازي ابن الملك المنصور ناصر الدين أرتق أرسلان بن نجم الدين أيلغازي بن أبي تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق السلطان أبو الفتح صاحب ماردين وأعمالها وذلك في سادس عشر صفر وقيل في ذي الحجة وهو الأصح نقله الله إلى رضوانه ووفر حظه من غفرانه بسبب وباء وقع في أهل القلعة فأهلك أكثرهم ووصل الخبر إلى التتر بموته من رجل يسمى أحمد بن فارس علي الشافصني رمى بنفسه من القلعة إلى التتر وهم على حصار القلعة كما تقدم ذكره ولما أتصل بهم وفاته بعثوا رسلا إلى ولده الملك المظفر وطلبوا منه الدخول في الطاعة فبعث إليهم عز الدين يوسف بن السماع ليتعرف له منهم ما أضمرت نفوسهم فلما اجتمع بمقدميهم وهما قطزنوين وجرمون قالا له إن بين الملك المظفر قرا أرسلان وبين أيل خان يعنون ملكهم هولاكو وعداً أن والده متى مات وتسلم الملك بعده دخل في طاعته فقال لهم عز الدين هذا صحيح لكن أنتم أخربتم بلاده وقتلتم رعيته فبأي شئ يدخل في طاعته حتى يداري عنه فقالا قد علمنا ذلك ونحن نضم له أن أيل خان متى أتصل به وفات الملك السعيد وأن ولده الملك المظفر دخل تحت طاعته على ما كان تقرر بينهما عوضه عما خرب من بلاده بلادا عامرة مما تجاوزه فلما عاد عز الدين إلى الملك المظفر وأخبره بما دار بينهما وبينه رده إليهم برسالة مضمونها إن أردتم أن أسير رسلي إلى أيل خان فابعثا لي رهائن من جهتكما تكون عندي إلى أن يرجعون وترددت الرسل بينه وبينهم إلى أن استقر الحال بينهم أن بعث قطزنوين ولده وبعث جرمون ابن أخيه فلما صعدا القلعة إلى عند الملك المظفر بعث نور الدين محمود بن كاجار أخا الملك السعيد لأمه وأصحبه قطزنوين من جهته الأمير سابق الدين بلبان فوصلا إلى هولاكو وهو بمراغه فأديا الرسالة وكان مضمونها ما تقدم فأجاب إلى ما ضمناه قطزنوين وجرمون وكتب لهم بذلك بفرامين وبعث بها مع قصاد من جهته وأبقى الرسل عنده وأمرهما بالرحيل عن ماردين فرحلا في شهر رجب الفرد من سنة تسع وخمسين وستمائة ثم بعث هولاكو الرسولين وأصحبهما كوهداي من أكابر أمرائه ومقدميه فوصلوا إلى ماردين وانتظم الصلح والهدنة بين هولاكو والملك المظفر وأسلم بعد ذلك المقدم كوهداي على يد الملك المظفر وأزوجه أخته من أبيه كان الملك السعيد شهماً بطلاً جواداً كريماً حازماً أمره وعنده حسن سياسة واحتراز وافر.
وفيها قتل الملك المظفر سيف الدين قطز بن عبد الله مملوك الملك المعز عز الدين أيبك بن عبد الله الصالحي التركماني بين الغرابي والصالحية كما تقدم ذكره كان بطلاً شجاعاً هماماً وله سطوة وعنده بطش وجرأة وإقدام في جميع الأمور كان مدة ملكه منذ قبض على ابن أستاذه الملك المنصور علي بن الملك المعز إلى أن قتل نحو من سنة حكى أنه لما سافر من القاهرة إلى الشام كان في درجة سيره حيث أتجه يفتح عليه وينتصر لكنه لا يرجع إلى مستقر ملكه أبداً وتصديق ذلك ما حكاه النجم النحاس المنجم بدمشق في شهور سنة خمس وثمانين وستمائة قال كنت بالقاهرة لما أراد الملك المظفر الخروج إلى لقاء التتر قال فجمعونا فكنا خمسة عشر منجماً قال فبقينا في قلعة الجبل ثمانية أيام والراتب يجيئنا وقالوا لنا أبصروا طالع سعيد لسلامة السلطان ورجوعه سالماً قال فاتفقنا جميعاً على أن نأخذ طالعاً يكون فيه سلامة المسلمين والنصر على العدو المخذول ولم نفكر بسلامة الملك المظفر ولا رجوعه فكان من أمره ما كان.

وقال الشيخ قطب الدين اليونيني كان الملك المظفر سيف الدين قطز بطلاً شجاعاً ولم يكن يوصف بكرم ولا شح بل كان متوسطاً وأول من أجترأ على التتر وكسرهم بعد علاء الدين خوارزم شاه كسرة عظيمة جبر بها الإسلام وذكر أيضاً قال حكى عنه أنه قتل يوم المصاف جواده بعين جالوت ولم يصادف في تلك الساعة أحد من الأوشاقية الذين معهم جنائبه فبقي راجلا ورأه بعض الأمراء الشجعان فترجل عن حصانه وقدمه له ليركبه فامتنع وقال ما معناه ما كنت لآخذ حصانك في هذا الوقت وأمنع المسلمين الأنتفاع بك وأعرضك للقتل وحلف عليه أن يركب فرسه فامتثل أمره ووافاه الوشاقية بالجنائب فركب فلامه بعض خواصه على ذلك وقال يا خوند لو صادفك والعياذ بالله بعض المغل وأنت راجل كنت رحت وراح الإسلام فقال أما أنا فكنت أروح إلى الجنة إن شاء الله تعالى وأما الإسلام فما كان الله ليضيعه فقد مات الملك الصالح نجم الدين أيوب وقتل الملك المعظم والأمير فخر الدين بن الشيخ مقدم العساكر يوم ذاك ونصر الله الإسلام بعد اليأس من نصره يشير إلى نوبة المنصورة ولما قدم إلى دمشق بعد الكسرة أجرى الناس كافة على ما كانوا آخر الأيام الناصرية في رواتبهم ومقرراتهم وإطلاقاتهم ولم يتعرض إلى مال أحد ولا إلى ملكه ثم توجه بعد تقرير قواعد الشام وترتيب أحواله على أجمل نظام إلى الديار المصرية فرزقه الله الشهادة فقتل مظلوماً.
وحكى الشيخ قطب الدين اليونيني عن المولى علاء الدين علي بن غانم حرسه الله قال حكى لي في غرة شوال سنة إحدى وتسعين وستمائة ببعلبك قال حدثني المولى تاج الدين أحمد بن الأثير الحلبي ما معناه أن الملك الناصر صلاح الدين يوسف لما كان مقيماً على برزة في أواخر سنة سبع وخمسين وستمائة وصله قصاد من مصر بكتب يخبرونه فيها أن قطز تسلطن بالديار المصرية وقبض على ابن أستاذه قال تاج الدين فطلبني السلطان قرأت عليه الكتب وقال لي خذ هذه الكتب ورح بها إلى الأمير ناصر الدين القيمري والأمير جمال الدين يغمور وأوقف كلاً منهما عليها قال فأخذتها فخرجت فلما بعدت عن الدهليز لقيني حسام الدين البركة خاني فسلم علي وقال جاءكم بريد أو قصاد من الديار المصرية فوريت عنه فقلت ما عندي علم بشئ من هذا قال قطز تسلطن وتملك الديار المصرية ويكسر التتر قال المولى تاج الدين فبقيت متعجبا من حديثه فقلت أيش هذا القول ومن أين لك هذا القول قال والله هذا قطز هو خشداشي كنت أنا وأياه عند الهيجاوي من أمراء مصر ونحن صبيان وكان عليه قمل كثير فكنت أسرح رأسه على أنني كلما أخذت منه قملة أخذ منه فلساً أو صفعته فلما كان في بعض الأيام أخذت عنه قملاً كثيراً وشرعت أصفعه ثم قلت في غصون ذلك والله ما أشتهي إلا أن الله يرزقني أمرة خمسين فارساً فقال لي طيب خاطرك أنا أعطيك إمرة خمسين فارساً قال فصفعته وقلت مالك أنت تعطيني إمرة خمسين قال نعم فصفعته فقال لي والك علة أيش يلزم لك إلا إمرة خمسين فارساً أنا والله أعطيك قلت والك كيف تعطيني قال أنا أملك الديار المصرية فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي أنت تملك الديار المصرية وتكسر التتر وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا شك فيه قال فسكت وكنت أعرف منه الصدق في حديثه وعدم الكذب وتنقلت به الأحوال وارتفع شأنه إلى أن صار هو المتحكم في الدولة وما أشك أنه يملك الديار المصرية ويكسر التتر كما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قال المولى تاج الدين فلما قال لي هذا قلت له والله قد وردت الأخبار أنه تسلطن في الديار المصرية قال لي والله يكسر التتر فما مضى عن هذا الأمر إلا مدة يسيرة حتى خرج وكسر التتر على ما تقدم ذكره قال المولى تاج الدين رحمه الله فرأيت حسام الدين البركة خاني الحاكي لي ذلك بالديار المصرية بعد كسرة التتر فسلم علي وقال يا مولانا تاج الدين تذكر ما قلت لك في الوقت الفلاني قلت نعم قال والله حال ما عاد الملك الناصر من قطيا ودخلت أنا الديار المصرية أعطاني إمرة خمسين فارساً كما قال رحمه الله لا زائداً على ذلك قال المولى تاج الدين فتعجبت من هذه الصورة.

وذكر أيضاً قال حكى لي الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء ما معناه أن الأمير سيف الدين بلقاق رحمه الله حدثه أن الأمير بدر الدين بكتوت الأتابكي حكى له قال كنت أنا والملك المظفر قطز والملك الظاهر بيبرس ركن الدين رحمهما الله في حال الصبا كثيراً ما نكون مجتمعين في ركوبنا وغير ذلك فاتفق إن رأينا منجماً في بعض الطرق بالديار المصرية فقال له الملك المظفر أبصر نجمي فضرب بالرمل وحسب وقال له أنت تملك هذه البلاد وتكسر التتار فشرعنا نهزأ به ثم قال له الملك الظاهر فأبصر نجمي فضرب بالرمل وحسب وقال له وأنت أيضاً تملك الديار المصرية وغيرها فزاد الاستهزاء ثم قالا لي لابد تبصر نجمك فقلت له أبصر لي فضرب وحسب فقال لي وأنت يحصل لك أمرة مائة فارس يعطيك هذا وأشار إلى الملك الظاهر فاتفق أن الأمر وقع كما لم يخرم منه شيء وهذا من عجيب الاتفاق.
الأمير حسام الدين أبو علي بن محمد باساك بن أبي علي الهذباني كان من أكابر الأمراء وله المنزلة العلية عند ملوك بني أيوب وولي مرتين نيابة السلطنة بدمشق زمن الملك الصالح نجم الدين أيوب كان شجاعاً مهيباً وقوراً وكانت وفاته في شهر رمضان بمصر ودفن بتربة والده بالرصد بمصر مولده سنة اثنين وسبعين وخمسمائة وله نظم حسن فمن ذلك قوله:
أهوى رشأ من خالص الترك رشيق ... في الصحو معربد وفي السكر مفيق
في فيه لعاشقيه در وعقيق ... ما أحسنه عندي عدو وصديق
وله أيضاً:
لبيت داعي هواكم حين ناداني ... وقلت شأن الهوى العذري من شأني
حفظي لعهد الهوى ديني مع إيماني ... وحبكم صاحبي في طي الفاني
رحمه الله وإيانا.
صدر الدين التغلبي أبو العباس أحمد بن قاضي القضاة شمس الدين أبو البركات يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة الشافعي المعروف بابن سنى الدولة توفي بعلبك يوم الجمعة ثامن جمادى الآخرة وعمل عزاؤه يوم الثلاثاء ثالث عشرجمادى الآخرة بدمشق بجامعها مولده سنة تسعين وخمس مائة سمع من الخشوعي وابن طبرزد وحنبل والكندي والحرستاني وغيرهم وحدث ودرس في عدة مدارس بدمشق وأفتى وكان عالماً بعلوم شتى وعنده مكارم أخلاق ورياسة وعنده مداراة ويصفح عمن يسيء إليه وولي وكالة بيت المال بدمشق ثم ناب في الحكم عن قاضي القضاة محي الدين مدة ثم ولي مستقلاً قاضي القضاة بدمشق وأعمالها لما فتح ابن الشيخ دمشق للملك الصالح نجم الدين أيوب في جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة ولم يزل مستقلاً في الحكم إلى أوائل دولة التتر سنة ثمان وخمسين وستمائة .
الشيخ مخلص الدين المبارك بن يحيى بن معقل الغساني الحمصي كان فاصلاً أديباً وله معرفة تامة بالأنساب وهو أحد مشايخ الشيعة توفي في ربيع الآخر بجبل لبنان وكان قد هرب من حمص من التتر فأدركه أجله وله معرفة بالأدب وله نظم فمنه:
بدا لي وقد خط العذار بوجهه ... حبيب له مني علي رقيب
كمثل هلال العيد وقد دنا ... من الأفق مرماه وحان مغيب
وله في غلام أهدى له تفاحة من يده:
أتى يهز قضيب البان حين مشى ... من تحت طلعة البدرفوق جيد رشا
حيا بتفاحة من خده اكتسبت ... لوناً ومن ريقه طعماً وطيب نشا
لا تعجبوا وهي من أوصافه خلقت ... إن العليل إذا ما شمها انتعشا
وله غير ذلك وكان في العلماء في فنون كثيرة رحمه الله وإيانا.

الشيخ نجيب الدين محمد بن العلي الخلاطي كان عالماً بتعبير الرؤيا وغيرها من علوم شتى وتواريخ الناس وأخبارهم حكى ابن الجزري عن والده قال حكى لي الشيخ نجيب الدين حكاية عن سفيان الثوري قال دخل سفيان على جعفر بن محمد الصادق فقال يا سفيان ما جاء بك؟ فقال يا ابن رسول الله جئت أتعلم منك فقال يا سفيان أنت رجل يطلبك السلطان وأنا أهل بيت أعين الناس إلينا سراع فإذا أنعم الله عليك بنعمة فقل الحمد لله وإذا استبطأت الرزق فقل أستغفر وإذا خفت شيئاً فقل لا حول ولا قوة إلا بالله أرجع راشداً قال سفيان فلما وليت اتبعني بصره ثم قال يا سفيان ثلاثاً وأي ثلاث وروى أيضاً أنه خرج سليمان بن داود عليه السلام يستسقي فمر بنملة مستلقية رافعة قوائمها إلى السماء تقول اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقيك ورزقك فلا تهلكنا بذنوب بني آدم فقال سليمان أرجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم وفي رواية قائمة على رجليها رافعة يديها تقول فأنزل علينا غيثك ولا تؤاخذنا بذنوب عبادك فرجعوا يخوضون الماء إلى الركب وتوفي في شهور سنة ثمان وخمسين وستمائة رحمه الله وإيانا ودفن بقاسيون.
الأمير مجير الدين إبراهيم بن أبي بكر بن أبي زكرى توفي مقتولاً بنابلس كان من أكابر الأمراء وشجعانهم بطلاً هماماً مريناً كثير الإحسان إلى الناس وله المنزلة العلية عند الملك الصالح نجم الدين أيوب قدم في صحبته إلى الشام وترقى عند الملك الناصر وكان حظياً عنده وكلمته مسموعة وشفاعته لا ترد وعنده كرم وفضيلة وله نظم فمنه قوله:
جعل العتاب إلى الصدود سبيلا ... لما رأى سقمي عليه دليلا
فظللت أورده حديث مدامعي ... عن شرح جفني مسنداً منقولا
وله أيضاً:
قضى البارق النجدي في حالة اللمح ... بفيض دموعي إذ تراءى على السفح
ذبحت الكرى ما بين جفني وناظري ... فمحمر دمعي الآن من ذلك الذبح
قيل أنه لم يقتل حتى قتل من التتر سبعة عشر نفراً وانكسر سيفه فقاتل بدبوس فتكاثروا عليه فقتلوه رحمه الله وإيانا.
الصدر شرف الدين عثمان بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي بن المطهر بن أبي عصرون التميمي الدمشقي الشافعي مولده بدمشق في ثامن عشر ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة كان رئيساً جواداً كبير الهمة مفرطاً في الكرم يستقل الكثير في العطاء وأنفق من الأموال جملاً عظيمة وتوفي وهو فقير من فقراء المسلمين.
يحكى عنه في كرمه وسعة صدره غرائب كثيرة من جملتها أنه توجه إلى الديار المصرية معه هدية نفيسة لأولاد شيخ الشيوخ وغيرهم وكان بينه وبين أولاد شيخ الشيوخ قرابة فإن والدتهم أبنة عمه فلما سير للأمير فخر الدين نصيبه من الهدية استعظمها وقال بما نقابل هذا الرجل واتفق حضور الهدية سكر عال مكرر للأمير فخر الدين بالقصد من بعض اقطاعاته فسير له منه حملاً وقال هذا يشربوه غلمان الشيخ شرف الدين فلما جاء السكر عمله حلوى منوعة وكان في خدمته حلاوي من الشام ماهر في صناعته وسير الحلوى للأمير فخر الدين فلما أكل منه أعجبته أعجاباً كثيراً ورأى لها طعماً غريباً لم يعهده في غيرها فأحضر الحلاوي الذي في مطبخ نفسه وأطعمه من تلك الحلوى ورام منه أن يعمل مثلها فقال ما أدري ما هذه ولا أعرف كيف عملت ثم سال الحلاوي لمن ساعد حلاوي شرف الدين على عملها عن كيفيتها فذكر أنها ليست بشيرج وإنما هي بدهن لوز استخرج وطبخت به مع كثرة الفستق والمسك وغيره ولعلها أرادت أرادب عدة قلب لوز فأخبر الحلاوي الأمير فخر الدين بذلك فستهالها وقال هذا جنون.
حكى الشيخ قطب الدين عن المذكور قال حكى لي الجمال نصر الله وكان في خدمته قال خلف له والده من الأموال والأثاث والقماش والخيول والبغال والجمال والمماليك والجواري والخدام ما لا يحصى كثرة ومن الأملاك كذلك إلى وخلف له والده سطل بلور أكبر من المد الشامي له طوق ذهب وعلاقة ذهب وهو ملآن جواهر نفيسة لو وضع عليها حبة واحدة سقطت فأذهب الجميع بيعاً وهبة كانت وفاته في العشرين من صفر بديار مصر مغتالاً لأنه كان قد اجتمع بالملك المظفر وأراه كتاباً أن بمصر دفائن وأنها لا تحصل إلا بخراب أماكن كثيرة وأصغى إليه السلطان فكأن بعض من كان يتحصل له الضرر بخراب ملكه اغتاله والله أعلم.

الشيخ الصالح محمد بن خليل بن عبد الوهاب بن بدر أبوعبد الله البيطار المعروف بالأكال أصله من جبل بني هلال مولده بقصر حجاج خارج دمشق سنة ستمائة وتوفي بها خامس شهر رمضان في هذه السنة وكان رجلاً صالحاً ديناً كثير الإيثار للأرامل والأيتام والفقراء وعمارة المساجد وبنى منارة مسجد قصر حجاج وكان لا يدخر شيئاً ولا يأكل لأحد شيئاً إلا بإجرة وكان ضريبة الصحن الحلوى خمسة دراهم وقدح الشراب خمسة دراهم والطعام فعلي مقداره عشرين درهما وثلاثين درهما إلى المائة وكذلك الملبوس.
حكى ابن الجزري عن والده عن الشيخ محمد الأكال قال حكى لي الأمير فخر الدين بن ملكيشو وزين الدين محمود الخيمي قال كنا في سماع قد عمله النقيب بهاء الدين نقيب الأشراف بداره وعنده الأمير السيفي والأمير ركن الدين البندقداري وأكثر البحرية الذين كانوا في خدمة الملك الناصر فجرى حديث الشيخ محمد الأكال فقال السيفي أنا أحضره وأطعمه فلما حضر أحضر له صحن حلاوة وقال له كل فقال ما آكل إلا بخمسين درهماً فشرع السيفي يبربس عليه فقال له الشيخ محمد والله لا أكله إلا بخمسين درهماً لك وللفقراء بخمسة دراهم فأحضر له خمسين درهماً وأكل من الصحن ثم طلب منه أن يطعمه شيئاً آخر فلم يقبل واشتغل أهل السماع به ولم يزالوا حواليه يسألوه فما أنقضى السماع حتى أخذ من السيوفي نحو ثلاثمائة درهم ومن الملك الظاهر خمسين درهما ومن باقي البحرية وأهل السماع تكملة ستمائة درهم وبقي السيفي وأكثر البحرية بعد ذلك يترددون إليه ويطلبون بركته وكان يتفقد الجيوش فوقتاً يبرهم ووقتاً يخلص بعضهم ويرضي غرمائهم ولا يبقي أحداً يبوس يده إلا بشئ وكان في شهر رجب وشعبان ورمضان يطلق يديه يبوسها الناس بلاش فيجئ بعض الناس فيكثر التقبيل فيقول أغبن وكان كثير الحج والسفر إلى الحجاز وكان إذا قدم من الحج يطلق يديه للناس يبوسوها بلاش وكان أكثر الناس ينكر على من يعامله بهذه المعاملة وينسبه إلى التهور فإذا اجتمع به أنفعل له في كل ما يختار ولا يكاد يخالفه فيما يطلب منه وكان مجاورا لابن الجزري في درب الأسدية.
حكى ابن الجزري عن والده قال لما تزوجت بوالدتك أولمت وطلبت أصحابي وأهل الحارة فحضروا فقيل لي عنه فقلت للجماعة أنا ما أعطيه شيئاً وأنا جاره ونزيله وأنا رجل غريب فإن حضر فلا كلام وإن لم يحضر فلا حيلة فراح إليه زين الدين الخيمي وذكر له ما قلت فقام وحضر وقال لي أنت مشرقي غلبتني كنت أريد أن أحمل لك شيئاً لأجل أنك جاري والآن قد أطلقتك أيش عندك قلت ثلاث براني شراب فقال ثلاثين درهماً قلت والله ثلاث فلوس حمر ما أعطيك فقال هات من كل واحدة قدحاً فشرب ولعق منهم بالملعقة ثم أحضرت الحلاوة وهريسة فستق فقال والله هذا مأكول خشن يا مشرقي والله ما غلبني أحد غيرك فلا تخبر على مشتري قال وبقي بعد ذلك كل واحد يهادي صاحبه إلى أن مات رحمه الله قال وكان دائماً يبعث إلى مما يجيئه وأنا أبعث له من عير أجرة وكان لا يقبل لأحد هدية إلا بشئ فكان كثير من الناس يبعث له شيئاً فيضعوه في أسفل داره أو في الباب ويهربون فلا يدخل منه شيئاً إلى داره بل يفرقه للفقراء الحاضرين وجواره في الدرب رباطين فيسيره إليهم وإلى غيرهم من المحاجين وكان من عجائب الدهر وغرائبه لم يسبقه أحد قبله بهذا الفعل ولا جاء بعده مثله رحمه الله وإيانا والمسلمين أجمعين.
الفخر محمد بن يوسف الكنجي كان رجلاً فاضلاً أديباً وله نظم حسن قتل في جامع دمشق بسبب دخوله مع نواب التتر ومن شعره في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعلى آله:
وكان على أرمد العين يبتغي ... دواء فلما لم يحس مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلة ... فبورك مرقياً وبورك راقيا
وقال سأعطي الراية اليوم فارساً ... كمياً شجاعاً في الحروب محاميا
يحب الآله والآله يحبه ... به يفتح الله الحصون كما هيا
فخص به دون البرية كلها ... عليا وسماه الوصي المواخيا
رحمه الله وإيانا:

الشيخ الإمام الناسك الرباني العارف القدوة الزاهد العابد الورع القطب أبو بكر بن علي بن قوام بن منصور بن معلي بن حسن بن هارون بن قيس بن ربيعة بن عامر بن هلال بن قصي بن كلاب الراسبي الزاهد أحد مشايخ الشام رضي الله عنهم أجمعين ولد بمشهد صفين سنة أربع وثمانين وخمسمائة ثم أنتقل إلى بالس وبها ربي وكان شيخاً زاهداً عابداً قانتاً لله تعالى عارفاً بالله عديم النظير أماماً عالماً عاملاً له كرامات وأحوال حسن الأخلاق لطيف الصفات وافر الأدب والعقل دائم البشر مخفوض الجناح كثير التواضع شديد الحياء متمسكاً بالآداب الشرعية معظماً لأهل العلم والدين كثير المتابعة للسنة محباً لسالكي طريق الآخرة مع دوام المجاهدة ولزوم المراقبة إلى أن توفاه الله تعالى في سنة ثمان وخمسين وستمائة بقرية يقال لها علم بالقرب من مدينة حلب المحروسة ودفن هناك في تابوت ثم نقل منها إلى دمشق المحروسة في شهر ذي الحجة سنة تسع وستين وخمسمائة وقدموا به إلى دمشق في يوم الخميس ثامن شهر المحرم سنة سبعين وستمائة ودفن من الغد بالزاوية المعروفة به بسفح قاسيون.

وقد جمع له حفيده هو شيخنا الجليل أبو عبد الله محمد بن عمر بن الشيخ الجليل الكبير أبو بكر بن قوام المذكور جزأ كبيراً ذكر فيه أشياء نذكر منها بتسير إن شاء الله تعالى قال شيخنا أبو عبد الله محمد بن عمر أخبرني والدي رحمه الله قال أوصاني الشيخ قدس الله روحه أن أدفنه في تابوت وقال لي يا بني أنا لابد لي أن أنقل إلى الأرض المقدسة وكان كما قال فإنه نقل بعد موته بأثنتي عشر سنة إلى جبل قاسيون وكنت في من حضر خروجه من قبره وسرت معه إلى دمشق وشهدت دفنه وذلك صبيحة يوم الجمعة تاسع المحرم سنة سبعين وستمائة ورأيت في سفري معه عجائب منها أنّا كنا لا نستطيع الليل أن نجلس عنده لكثرة تراكم الجن عليه وزيارتهم له وقدمنا في الطريق على قرية بعلاه المعرة يقال له شمسين فخرج أهلها إلى زيارته وفيهم رجل كبير فقال من هذا فقلنا الشيخ أبو بكر بن قوام فحصل له اضطراب كثير وأنزعاج فلما أفاق قال له والدي أي شئ أوجب هذا الأنزعاج قال كنت أتردد إلى زيارة الشيخ في بلده فدعوته مرة إلى قريتي هذه فقال لا بد أن أزورك في قريتك وتوفي رحمه الله وبقي عندي من قوله شيء فلما قلتم أنه هذا ذكرت بقوله ووفاه بعهده بعد موته وقدمنا حماة فتلقانا خلق كثير من العلماء والمشايخ وجاء الناس إلى زيارته إرسالاً وقدمنا بعلبك فتلقاه جماعة من المشايخ والصالحين منخ الشيخ الإمام عبد الله بن الشيخ الجليل محمد بن الشيخ العارف القدوة عبد الله اليونيني وأنزلوه في مكان وعزموا أن يقيم عندهم أياماً وصنعوا طعاماً فلما أكل الطعام حضر قوال وأستأذن أن يقول شيئاً فلما قال قام المشايخ رضي الله عنهم قال ابن الجزري فحصل لوالدي انزعاج كثير فلما خرج ليتوضأ لصلاة العصر قال له بعض من حضر يا سيدي رأينا اليوم منك شيئ لم نره منك ولا نعرفه فقال رأيت الشيخ وهو واقف مع المشايخ وتقدم إلي وقال يا ولدي عجل بنا إلى الصالحية فقمنا وسافرنا من ساعتنا ولم يشعر بنا أحد من الجماعة حتى صرنا بقرية فصه فأدركنا منهم جماعة وقالوا كيف سافرتم ولم نشعر بكم فأخبرهم والدي بما رأى من الشيخ فتعجبوا لذلك وقدمنا دمشق ثامن المحرم قال وأخبرني الصاحب محي الدين بن النحاس رحمه الله قال كنت بحلب في سنة ثمان وخمسين وستمائة وبها الشيخان أبو بكر بن فتيان وأبو بكر بن قوام فسير الشيخ أبو بكر بن فتيان إلى الشيخ أبي بكر بن قوام أن اخرج بنا من هذا البلد إلى بعض القرى فإن متنا دفنا في البر فقال للرسول قل له تربتنا في أرض دير مران فكان كما قال دفن أحدهما شرقي الدير وهو الشيخ أبو بكر بن فتيان والآخر غربي الدير وهو أبو بكر بن قوام رحمهما الله وإيانا وحضر دفنه خلق كثير من المشايخ والعلماء والصالحين منهم الشيخ مجد الدين بن الخليلي والصاحب محي الدين بن النحاس والشيخ قطب الدين ابن عصرون وخلق كثير لم أعرف أسماءهم وقبل أن يوضع في قبره كشف عنه ورآه الحاضرون وحصل وقت عجيب من الرقة والبكاء وحضر في الجماعة رجل من أهل حماة حال قدومه منها وقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأنا في حماة وقال لي يا فلان قم وامض إلى دمشق واحضر دفن رجل من الأولياء فحضر دفنه وعاد على عقبه إلى حماة ولم يدخل دمشق.
ذكر بداية أمره قال رضي الله عنه كانت الأحوال تطرقني في بداية أمري فكنت أخبر بها شيخي رضي الله عنه فينهاني عن الكلام فيها وكان عنده سوط يقول متى تكلمت في شيء من هذا ضربتك بهذا السوط ويأمرني بالعمل ويقول لا تلتفت إلى شيء من هذه الأحوال فما زلت معه كذلك حتى كنت عنده في بعض الليالي وكانت لي أم ضريرة وكنت باراً بها ولم يكن لها من يخدمها غيري فاستأذنت الشيخ في المضي إليها فأذن لي وقال أنه سيحدث لك في هذه الليلة أمر عجيب فاثبت له ولا تجزع فلما خرجت من عنده وأن مار إلى جهة أمي سمعت صوتاً من جهة السماء فرفعت رأسي فإذا نور كأنه سلسلة متداخل بعضه في بعض فالتفت على ظهري حتى أحسست ببردها في صدري فرجعت إلى الشيخ فأخبرته بما وقع لي فقال الحمد لله وقبلني بين عيني وقال يا بني الآن تمت النعمة عليك أتعلم يا بني ما هذه السلسلة فقلت لا فقال هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن لي في الكلام وكان قبل ينهاني عنه.

وسمعنا نحن من غير واحد من صحبه أنه كان يقول أذن لي في الكلام ولو لم يؤذن لي ما تكلمت بشيء ولا في شيء.
ذكر ما أظهره الله تعالى له من الكرامات والأحوال: سمعته يوماً وقد دخل إلى البيت وهو يقول لزوجته ولدك قد أخذه قطاع الطريق في هذه الساعة وهم يريدون قتله وقتل رفاقه فراعها قول الشيخ رضي الله عنه فسمعته يقول لها لا بأس عليك فإني قد حجبتهم عن أذاه وأذى رفاقه غير أن مالهم يذهب وغداً إن شاء الله تعالى يصل هو ورفاقه فلما كان من الغد وصلوا كما ذكر الشيخ وكنت فيمن تلقاهم وأنا يومئذ ابن ست سنين وذلك سنة ست وخمسين وستمائة.
قال وسمعت الشيخ الصالح إسماعيل بن أبي سالم بن أبي الحسن المعروف بابن الكردي يقول حججت مع أبواي فلما كنا بأرض الحجاز وسار الركب في بعض الليالي وكان أبواي راكبين في مجادة وكنت أمشي تحتها فحصل لي شيء من القولنج فعدلت إلى مكان وقلت لعلي أستريح ثم ألحق الركب فنمت فلم أشعر بنفسي إلا والشمس قد طلعت ولم أدر كيف أتوجه ففكرت في نفسي وفي أبواي فإنهلم يكن معهما من يخدمهما ولامن يقوم بشأنهما غيري فبكيت عليهما وعلى نفسي فبينما أنا أبكي إذ سمعت قائلاً يقول ألست من أصحاب الشيخ أبي بكر بن قوام فقلت بلى والله قال سل الله تعالى به فإنه يستجاب لك قال فسألت الله تعالى به كما قال فوالله ما استتم الكلام إلا وهو واقف عندي وقال لا بأس عليك ووضع يده في عضدي وسار بي يسيراً وقال هذا جمل أبويك فسمعتهما وهما يبكيان علي فقلت لا بأس عليكما وأخبرتهما بما وقع لي.
قال وحدثني أيضاً قال كنا جلوساً مع الشيخ في تربة الشيخ رافع رضي الله عنهما ونحن ننظر إلى الفرات إذ لاح على شاطئ الفرات رجل فقال الشيخ أترون ذلك الرجل الذي على شاطئ الفرات فقلنا نعم قال إنه من أولياء الله تعالى وهو من أصحابي وقد قصد زيارتي من بلاد الهند وقد صلى العصر في منزله وقد توجه إلي وقد زويت له الأرض فخطا من منزله خطوة إلى شاطئ الفرات إلى ههناتأدباً منه معي وعلامة ما أقول لكم أنه يعلم أني في هذا المكان فيقصده ولا يدخل البلد فلما قرب من البلد عرج عنه وقصد المكان الذي فيه الشيخ والجماعة فجاء وسلم وقال يا سيدي أسألك أن تأخذ على العهد أن أكون من أصحابك فقال له الشيخ وعزة المعبود أنت من أصحابي فقال الحمد لله لهذا قصدتك واستأذن الشيخ في الرجوع إلى أهله فقال له الشيخ وأين أهلك؟ قال في الهند قال متى خرجت من عندهم؟ قال صليت العصر وخرجت لزيارتك فقال له الشيخ أنت الليلة ضيفنا فبات عند الشيخ وبتنا عنده فلما أصبحنا من الغد طلب السفر فخرج الشيخ وخرجنا في خدمته لوداعه فلما سرنا في وداع الشيخ وضع الشيخ يده بين كتفيه ودفعه فغاب عنا ولم نره فقال الشيخ وعزة المعبود في دفعتي له وضع رجله في باب داره بالهند أو كما قال.
قال وسمعت الأمير الكبير المعروف بالأخضري وكان قد أسن يحكى قال كنت مع الملك الكامل لما توجه إلى الشرق فلما نزلنا بالس قصدنا زيارة الشيخ مع فخر الدين عثمان وكنا جماعة من الأمراء فبينما نحن عنده اذ دخل رجل من الجند فقال يا سيدي كان لي بغل وعليه خمسة آلاف درهم فذهب مني وقد دليت عليك فقال له الشيخ اجلس وعزة المعبود قد حصرت على آخذه الأرض حتى ما بقي له مسلك إلا باب هذا المكان وهو الآن يدخل فغذا دخل وجلس ليشير إليك بالقيام فقم وخذ بغلك وما لك فلما سمعنا كلام الشيخ قلنا لا نقوم حتى يدخل هذا الرجل فبينما نحن جلوس إذ دخل الرجل فأشار إليه الشيخ فقام وقمنا معه فوجدنا البغل والمال بالباب فأخذه صاحبه فلما حضرنا عند السلطان أخبرناه بما رأينا من الشيخ فقال أحب أن أزوره فقال فخر الدين عثمان أن البلد لا يحمل دخول مولانا السلطان فسير إليه فخر الدين عثمان فقال له إن السلطان يحب أن يراك وأن البلد لا يحمل دخوله فهل يرى سيدي الشيخ أن يخرج إليه ليراه فقال له الشيخ يا فخر الدين إذا رحت أنت إلى عند صاحب الروم يطيب للملك الكامل فقال لا فقال فكذلك أنا إذا رحت على عند الملك الكامل لا يطيب لأستاذي ولم يخرج إليه.

قال وحدثني الشيخ الإمام الخطيب شمس الدين الخابوري قال سألت الشيخ عن قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون وقد عبد عزيز وعيسى بن مريم فقال تفسيرها إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون فقلت له يا سيدي أنت لا تعرف تكتب ولا تقرأ فمن أين لك هذا فقال يا أحمد وعزة المعبود لقد سمعت الجواب فيها كما سمعت سؤالك.
قال وحدثني بعض التجار من أهل بلدنا قال خرجنا مسافرين إلى حماة وكان قد بلغنا أن الطريق مخيف ووافينا الشيخ في خروجنا فقلت له يا سيدي قد بلغنا أن الطريق مخيف ونشتهي أن لا تغفل عنا ولا تنام وتدعو لنا فقال إن شاء الله تعالى فلما بلغنا حماة وأنا راكب على دابة وقد أخذني النعاس وإذا أنا بشخص قد وضع يده في عضدي وقال نحن ما نمنا فلا تنام أنت ففتحت عيني فإذا بالشيخ فسلم علي ومشى معي وقال قد بلغنا حماة وتركني ومضى وحدثني الشيخ تمام بن أبي غانم قال كنا جلوساً مع الشيخ ظاهر البلد في زمن الربيع وحوله جماعة من الناس فقال وعزة المعبود أني لأنظر إلى ساق العرش كما أني أنظر إلى وجوهكم.
وسمعت الحاج مسلم بن حامد قال سئل الشيخ مرة عن الشيخ حياه وكان من خواص أصحابه وهو بمصر فقال ها هو جالس بخان مسرور وقد طبخ ليمونية وهو يأكل ورفاقه وهذه يدي معه في القصعة وهو قد أحس بها وعلم أنها يدي وسئل عنه مرة أخرى وكان بمصر فقال ها هو راكب على دابته ويتلو في سورة كذا وهذه يدي في عضده وقد رميته عن الدابة وقد علم أني أنا الذي فعلت به هذا.
ذكر ما كان عليه من المجاهدة والعمل الدائم كان كثير العمل دائم المجاهدة في نفسه ويأمر أصحابه بذلك ويلزمهم بقيام الليل وتلاوة القرآن والذكر دأبه لا يفتر عنه وفي كل ليلة جمعة يجعل لكل إنسان منهم وظيفة من الجمعة إلى الجمعة وكان يحثهم على الإكتساب وأكل الحلال ويقول أصل العبادة أكل الحلال والعمل لله في سننه شديد الإنكار على أهل البدع لا يأخذه في الله لومة لائم.
قال وأخبرني الشيخ إبراهيم بن الشيخ أبو طالب البطائحي قال قدمت على الشيخ فوجدته يعمل في النهر الذي استخرجه لأهل بالس ووجدت عنده خلقاً كثيرين يعملون معه فقال لي يا إبراهيم أنت لا تطيق العمل معنا ولا أحب أن تقعد بلاب عمل فإني لا أحب أن أرى الفقير بطالاً من شغل الدنيا فاذهب إلى الزاوية وصل ما قدر لك فهو خير لك من قعودك عندنا بلا عمل ولا من عمل الآخرة وكان يحث أصحابه علىالتمسك بالسنة ويقول ما أفلح من أفلح ولا سعد من سعد إلا بالمتابعة فإن الله تعالى يقول (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقال وما آتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وكان يقول ما اتخذ الله ولياً صاحب بدعة قط قيل له فإن اتخذه؟ قال يصلحه، وكان يقول رجال الشام أمكن من رجال العراق وأعرف وكان لا يمر على أحد إلا ناداه بالسلام حتى على الصبيان وهم يلعبون ويداعبهم ويتنازل إليهم ويحدثهم وكنت أكون فيهم وكان يتفقد أصحابه ويعود المرضى ويسأل أصحابه من عنده مريض حتى يعوده فيتفقد الأرامل بنفسه ويقضي حوائجهم ويحمل ما عنده من نفقة وكسوة وغيرها وكان يسرع إلى إجابة دعوة الفقراء والمساكين أكثر من إجابة دعوة الأغنياء والأمراء وكان دأبه جبر قلوب الضعفاء من الناس قال وسمعت والدي رحمه الله يقول كان إذا عطش الشيخ وهو جالس في المجلس مع الناس قام فشرب بنفسه يريد بذلك تربية المريدين وكان عنده في الزاوية رجل كبير مسن وكان به قطار البول فأتخذ تحته شيئاً يقطر فيه البول فكان يقوم ويريقه بنفسه ويغسل ما أصاب الحصير منه وكان يعلم المريدين كيفية الدخول على المشايخ والجلوس بين يديهم وكان لا يمكن أحداً من تقبيل يده ويقول إذا مكن الشيخ أحداً من تقبيل يده نقص من حاله شيء.

وكان شديد الحياء لا يقطع على أحد كلامه ولا يخجل أحداً بما يقول وإذا جلس على طعام طأطأ رأسه لئلا ينظر إلى أحد ولا ينظر أحد إليه وكان كثير الورع يتحرى في مطعمه وملبسه ويقول الدين الورع وهو أصل العبادة وكان يتورع عن أموال السلاطين والجند وكان عن مال العرب أشد تورعاً لا يأكل لهم طعاماً ولا يقبل لهم هدية وكان للعرب عادة يمرون كل سنة بأرضنا مرتين فإذا مروا لا يأكل مما يباع في السوق لا لحماً ولا لبناً ولا غيرهما بل يتأدم بالزيت وما كان من الأدم في البيت وكان في بدو أمره لا يأكل إلا من المباح يجمع الأشنان بيده وتارة يحصد فلما كبر وأسن كان يأمر من حوله من الفقراء والأصحاب فيخرجون إلى الصحراء فيزرعون زرعاً ويحصدونه فإذا حصل قال لهم لا ترفعوه حتى تدفعوا إلى السلطان نصيبه منه وكانوا يفعلون ذلك قال وأخبرني الشيخ أبو المجد بن أبي الثناء قال حدثني الشيخ طالب الحلي قال حضرت مع الشيخ في وليمة فلما حضر الطعام قدم بين يدي قصعة طعام وكان لي بصيرة فنظرت فإذا الطعام الذي فيها حرام فتوقفت عن أكله فقال الشيخ للخادم يا فلان امض إلى ذلك الفقير وارفع القصعة التي بين يديه فإن بينه وبينها خصومة فجاء الخادم ورفع القصعة من بين يدي وجاء بقصعة غيرها.
وصنع له بعض أصحابه في بعض الأيام طعاماً فيه جزر فلما وضعه بين يديه قال له الشيخ من أين اشتريت هذا الجزر فإنه حرام فقال من السوق فقال امض إليه واسأل عنه من أين اشتروه فمضى وسأل عنه فوجده قد اشترى من طعمة المكاسين.
قال وأخبرني الشيخ معالي بن رسلان كنت عند الشيخ فدخل عليه رجل فقال له الشيخ أي شيء أكلت فذكر طعاماً فقال الشيخ إنه حرام إني أرى يخرج من فيك دخان فذهب الرجل وسأل عن ذلك الطعام فوجده كما قال الشيخ فاستغفر الله تعالى منه.
وكان رضي الله عنه زاهداً في الدنيا كثير التقلل منها بكل ممكن فمن ذلك ما حدثني الشيخ أبو المجد بن أبي الثناء قال حضرت عند الشيخ في المرض الذي مات فيه فقال يا بني أنا في هذا المرض أموت فبكيت فقال ما يبكيك أتظن أني أجزع من الموت لا والله يا بني وذلك أني عاهدت الله عهداً وأنا ألقاه به فقلت يا سيدي ما هو؟ فقال أن لا أموت وعندي من الدنيا شيء وكان كما قال رضي الله عنه فإنه مات وليس عليه زيق ولا عمامة لكن ملتحف بعباءه وكان عندنا بعضها نتبرك به ونجد أثر بركته ولم تزل عندنا إلى فتنة التتار فذهبت فيما أذهبه الله تعالى قال وسمعت والدي رحمه الله يقول قدم على الشيخ جماعة ولم يكن عنده ما يقدم لهم وكان بعض أخوتي صغيراً وفي يده شيء من السكر يعلل به كما جرت به عادة الصغار فأخذه وذقه ووضعه بين أيديهم وقال هذا الذي حضر عندنا في الوقت وكان من عادته لابد أن يضع للضيف ما تيسر إحضاره.
قال وحمل إليه مرة الملك الكامل على يد فخر الدين عثمان خمسة عشر ألف درهم فلم يقبلها ولكن قال لا حاجة لنا بها أنفقها في جند المسلمين.
وحكى لي بعض الفقراء قال حضرت مع شيخي في زاوية الشيخ إبراهيم التيمي بحلب وحضر عنده صاحب شيزر وأحضر معه أربعة آلاف درهم فلم يقبلها الشيخ قال وكنت قد أملكت على إمرأة وأمرها موقوف على ستين درهماً فمد الشيخ يده وعد ستين درهماً وقال قم يا فلان وخذ هذه الستين ودفع إلى آخر ثلاثين درهماً كانت عليه دين وقال لصاحب المال خذ مالك.
قال وسمعت والدي يقول حمل بعض الأغنياء إلى الشيخ ثلاثة آلاف درهم فدعاني وقال يا بني فرقها على الفقراء والضعفاء من الناس ففرقتها كما قال ولم يبق منها شيئاً لأهله وكانوا على حاجة رضي الله عنه يؤثر الخشن من اللباس والطعام ويقول ما للفقير الطيب من الطعام واللباس إنما ذلك للأغنياء المترفهين وكان غالب قوته خبز الشعير.
قال وأخبرني الشيخ عمر بن مريريك الجعبري قال عزمت على الحج ولم يكن معي شيء

فجئت إلى الشيخ لأودعه فقال لي عزمت على الحج فقلت نعم يا سيدي غير أن وقتي فقير فقال لي خذ هذين الدرهمين واجعلهما معك ولا تنفقهما فاخذتهما وفعلت كما قال وجئت إلى دمشق ففتح الله تعالى علي فيها بزاد وراحلة وبمائتي درهم فلما حججت وعدت إلى بالس بدأت بالسلام على الشيخ فلما سلمت عليه قال ما فعلت بالدرهمين فأخبرته بما فتح الله تعالى علي ببركتهما فقال قد قضيت بهما حاجتك فهاتهما فقلت لاوالله لا أدفعهما إلى أحد فتبسم وتركهماوما زالا معي ألتمس بركتهما حتى أذهبهما الله مني.
قال وحدثني الشيخ سيف الدين أبو بكر الجرديكي من أصحاب الشيخ أبي الفتح الكناني قال خرجنا مع شيخنا الشيخ أبي الفتح إلى زيارة الشيخ فلما قدمنا عليه أقمنا عنده شهراً وكنا ثمانية عشر رجلاً فلما أردنا السفر استأذناه فلم يأذن لنا وقال لنا لم نجد لكم ثقلاً ولا كلفةً إنه من حين قدمتم علينا وضعت تحت السجادة فلوساً هي ثلاثة دراهم ونحن ننفق منها وهي إلى الآن لم تفرغ أو كما قال.
قال وأخبرنا الصاحب محيي الدين بن النحاس قال كان لي بستان وكان فيه تين ماسوني كبار وكنت أؤخره إلى آخر السنة فقدم علينا الشيخ في آخر السنة فأهديت له من ذلك أربعين تينة وكان وزنها أربعة أرطال بالحلبي وحملها معي إليه ولدي يوسف وكان الشيخ في مشهد قرية علم والناس عنده وهم خلق كثير فقال يا محمد ما هذه الهدية؟ فقلت له تين فقال هذا اليوم طرفة وهو يشتهي وقال للخادم عد الناس كم هم فعدهم فإذا هم مائتان وأربعون رجلاً فقال للخادم أعط كل واحد منهم واحدة ولا ترفع المنديل عن الطبق فاستحييت منه لعلمي أن التين أربعون واحدة فمد يده ووضعها على فخذي قال طيب قلبك لو كانوا ما عسى أن يكونوا لكفاهم ففرقه الخادم على الناس واحدة واحدة ودفع إلى الشيخ واحدة وأخذ الخادم واحدة ودفع إلي واحدة وإلى ولدي واحدة فلم أر أكثر بركة منه.
وعنه أيضاً قال بلغني أن الشيخ في قرية تريدم فخرجت إلى زيارته فمررت بسوق الفاكهة فوجدت بطيخة باكورة السنة تباع فيه فاشتريتها بسبعة دراهم وقلت لعل الشيخ يراها فيدعو لنا وللمسلمين بالبركة فلما جئت بها ورأها قال اللهم بارك لنا وللمسلمين في سنتنا وبلدنا وصاعنا ومدنا الحديث وطلب سكيناً فحزها فكنت أراها تربو بين يديه وتزيد وفرقها على أهل القرية كلهم الرجال والنساء والولدان وفضل منها وكان لا يضع يده في شيء إلا أكل منه الجم الغفير رضي الله عنه قال وحدثني الشيخ عبد الله الكفربلاطي قال دعونا الشيخ إلى قريتنا وجاء معه خلق كثير ولم يكن عندنا ما يكفي الناس فاجتمع جماعة القرية يفكرون في أمرهم فبينما هم مجتمعون في المسجد إذ جاء خادم الشيخ فقال الشيخ يدعوكم فجئنا إليه وهو في المسجد فقال امضوا وأحضروا ما عندكم فإن فيه بركة وكفاية ويكفي الناس وفضل إن شاء الله تعالى.
فأحضرنا الذي كان عندنا فأكل الناس وفضل منه كما قال رضي الله عنه قال وحدثني غير واحد من أصحابه أنهم شهدوا غير مرة الطعام يوضع بين يديه فيأكل منه الخلق الكثير ثم يرفع وهو كما كان أو أزيد مما كان وكان عندنا نحن عكازته فكنا نضعها في الشيء اليسير من مؤنتنا فنأكل منه نحن ومن يرد علينا من الفقراء وغيرهم السنة الكاملة ويفضل منه ولم تزل عندنا نلتمس بركتها إلى أن أذهبها الله تعالى في فتنة التتار سنة تسع وتسعين وست مائة.

قال وأخبرني والدي قال سمعت الشيخ يقول كنت معتكفاً في مسجد في شهر رمضان فدخل علي بعض أولياء الله تعالى فلم أعرفه لعلو مقامه فلما كان وقت الإفطار لم يكن سوى خبز من شعير ولبن حامض أفطر عليه، فقلت في نفسي إذا صليت مغرب أتركع بعدها لعل بعض الجماعة يعزم عليه فيطعمه أصلح من طعامي قال فتركت طويلاً ثم إلتفت فلم أجد أحد في المسجد غيري وغيره فقلت فما بقي إلا أن أعزم عليه فقلت له يا سيدي قد حضر ههنا شيء نفطر عليه عن أذنك نحضره فقال بل أنت في ضيافتي، فلما تكلم كشف لي عن مقامه وإذا هو القطب، فنهضت وتمثلت بين يديه فقال أجلس فجلست فمد يده وتناول شيء من الغيب ووضعه بين يدي وقال كل فأكلت فإذا هو خبز حار وسمن وعسل فأكلنا وفضل منه شيء كثير خذه فقال أذهب به إلى أهلك وعد إلي بسرعة ففعلت ما قال وعدت إليه فقال لي قد أمرت في هذه الساعة بالمسير إلى العراق فقام وقمت معه فلما أقبلنا على باب البلد انفتح وخرجت معه وودعني وقال لي يا أبا بكر أبشر إنه لن تموت حتى تبلغ هذا المقام وغاب عني فلم أره رضي الله عنه.
ومما أظهره الله تعالى له من الكرامة بعد موته أن بعض التجار من أصحابه خرج مسافراً إلى مصر للتجارة في أوائل سنة اثنتين وتسعين وستمائة فقتله قطاع الطريق فبلغنا الخبر بدمشق ولم نعلم له قاتلاً فبينما نحن كذلك إذ رأى بعض الفقراء من أصحابه الشيخ في المنام فقال له يا فلان الذين قتلوا فلاناً قد جمعناهم بمكان كذا وكذا بدمشق فامضوا وخذوهم وهم أربعة نفر فمضينا إلى ذلك المكان فوجدنا منهم اثنين فأخذوا وأحضروا بين يدي نائب السلطان وهو يومئذ الأمير علم الدين الشجاعي فقال لهم أين رفاقكم قالوا دخلنا في هذا اليوم إلى هذا البلد ونحن أربعة فمضى منا اثنان إلى الصالحية وهم في مكان كذا وكذا فمضينا نحن إلى ذلك المكان فوجدنا فيه واحداً فأخذناه وكانت هذه الواقعة يوم السبت ثمان صفر من السنة المذكورة فلما كانت ليلة الأحد من الأسبوع الثاني رأى بعض الفقراء أيضاً الشيخ وهو يقول يا فلان قد جئنا بالغريم الرابع وقد حصرناه في بئر في جبل الصالحية في مكان كذا وكذا معروف بالصالحية فمضينا نحن وأعوان السلطان إلى ذلك المكان وأخذناه من البئر كما قال الشيخ رضي الله عنه وصلب الغرماء الأربعة يوم الأثنين، وكان يوماً مشهوداًمشهوراً بدمشق وكانت قصته طويلة فأختصرنا منها هذا القدر خشية التطويل وفي هذه القصة أنشد الشيخ الإمام العالم المفيد شمس الدين محمد بن عبد القوي المقدسي لنفسه:
إن كنت تهوى أن تعيش مسلماً ... وتفوز في الأخرة بدار سلام
فدع التعرض للرجال ذوي النهى ... والجد والأحوال كابن قوام
أو ما ترى كيف أستقص لواحد ... من صحبه من أربع بتمام
لا تحسبن الموت يوهن جاههم ... كلا ولكن زيد في الإعظام
ومن ذلك أن بعض أصحابه التجار كان بدمشق وقد اجتمع عنده ثلاثون ألف درهم في قيسارية فرآه بعض السراق وكان في أعلى القيسارية فأخذ حبلاً وتدلى به من أعلى المكان إلى أسفله ومعه ما يقطع به القفل فقطعه وفتح الباب وأخذ المال وربطه بحبل وصعد إلى دائر المكان وأراد أن يتقيه فانقطع الحبل بالمال وقصر عن المكان وعجز السارق عن النزول فرأى بعض أصحاب الشيخ في الساعة وهو نائم في القيسارية أن الشيخ دخل عليه وقال له يا فلان قم إلى الحاج أحمد بن صالح وقل له أن السارق قد أخذ ماله وأني تعلقت في الحبل حتى قطعته فليقم وليأخذ ماله وليتصدق منه بكذا وكذا وقال أيضاً للرائي وأنت يا فلان قد سقط منك مائة دينار منذ أيام في قيسارية المعتمد قدام دابتك ولي أيام أحجب عنها الناس لكيلا يأخذوها فقم وخذ مالك فقام الرجل من ساعته وأخبر بالرؤيا فقام الجماعة فوجدوا الأمر كما أخبر به رضي الله عنه.

ومن ذلك أن بعض أصحابه سافر من مصر إلى دمشق فانقطع له جمل بوادي نجمة وعليه حمل قماش ومضى الرفقة وتركوه فجعل يسأل الله تعالى بالشيخ فقام الجمل وسار حتى لحق بالقافلة فسألوه عن سبب قيامه فقال ما عملت غير أني سألت الله تعالى بالشيخ فقام فرأى بعض أصحاب الشيخ وهو بدمشق الشيخ في منامه وقال له يا فلان قل لفلان أنه لما سأل الله تعالى بي أوجدني الله عنده فأقمت الجمل بإذن الله تعالى وألحقت به القافلة.
قال ومن ذلك ما أخبرني به الحاج علي بن حامد بن مسلم قال كنا في البحر وهاج حتى أشرفنا على الغرق فسألت الله تعالى ببركة الشيخ فبينما أنا أسأل الله تعالى إذ رأيت الشيخ وهو مار في الهواء فسكن البحربإذن الله تعالى وسلمنا والحمد لله فهذا ما شهد منه بعد الموت رحمه الله تعالى.
//بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر سلطنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البند قداريلما وصل الملك المظفر إلى القيصر وبينه وبين الصالحة مرحلة واحدة ورحل العسكر طالباً الصالحية وضرب الدهليز السلطاني بها وكان جماعة قد اتفقوا مع الأمير ركن الدين على قتله منهم سيف الدين أنص من غلمان الرومي الصالحي وعلم الدين صنغلي وسيف الدين بلبان الهاروني وغيرهم وكان الأمير ركن الدين قد طلب من الملك المظفر لما ملك الشام أن يستنيبه بحلب فلم يجبه فأثر ذلك عنده واتفق عند القصير أن ثارت أرنب فساق الملك المظفر عليها وساق هؤلاء المتفقون على قتله معه، فلما بعدوا ولم يبق معه غيرهم تقدم إليه الأمير ركن الدين وشفع إليه في إنسان فأجابه فأهوى ليقبل يده وقبض عليها وحمل أنص عليه وقد اشغل الأمير ركن الدين يده وضربه أنص بالسيف وحمل الباقون عليه ورموه عن فرسه ورشقوه بالنشاب فقتلوه ثم حملوا على العسكر وهم شاهرون سيوفهم حتى وصولا إلى الدهليز السلطاني فنزلوا ودخلوا والأتابك على باب الدهليز فأخبروه بما فعلوا فقال من قتله منكم فقال الأمير ركن الدين أنا فقال يا خوند اجلس في مرتبة السلطنة فجلس واستدعيت العساكر للحلف وكان القاضي برهان الدين قد وصل إلى العسكر ملتقياً للملك المظفر فاستدعي وحلف العسكر للملك الظاهر ركن الدين واستقرت قدمه في السلطنة وأطاعته العساكر ثم ركب وساق في جماعة من أصحابه ووصل إلى القلعة ففتحت له واستقر ملكه وأحسن إلى الأمير جمال الدين ايدغدي العزيزي وكان البلدان قد زينا لمقدم الملك المظفر فاستمرت الزينة وأحسن إلى خشداشيته البحرية وأمر أعيانهم، و كانت هذا الواقعة في ذي القعدة ولما استقر في المملكة نفى الملك المنصور نور الدين على بن المعزو أمه وأخاه نصر الدين قاآن إلى بلد الأشكرى وكانوا معتقلين بالقلعة.
وكان الملك الظاهر لما ملك لقب نفسه الملك القاهر وكان الوزير بمصر زين الدين بن الزبير وكان فاضلاً في الأدب والترسل وعلم التاريخ فأشار بتغيير هذا اللقب وقال ما لقب به أحد فأفلح لقب به القاهر بن المعتضد فلم تطل أيامه وخلع وسمل ولقب به الملك القاهر ابن صاحب الموصل فسم فلم تزد أيامه في المملكة على سبع سنين فأبطل الملك الظاهر اللقب الأول ولقب نفسه الملك الظاهر.
وأما حوادث الشام ففي العشر الآخر من ذي القعدة أمر الأمير علم الدين الحلبي بتجديد عمارة قلعة دمشق وزفت بالمغاني والطبول والبوقات وفرح أهل دمشق بذلك وحضر كبراء الدولة وخلع على الصناع والنقباء وعمل الناس في البناء حتى النساء وكان يوم الشروع في تجديد عمارتها يوماً مشهوداً.
وفي العشر الأول من ذي الحجة دعا الأمير علم الدين الحلبي الناس بدمشق إلى الحلف له بالسلطنة فأجابوه وحضر الجند والأكابر وحلفوا له ولقب الملك المجاهد وخطب له على المنابر وضربت السكة باسمه وكاتب الملك المنصور صاحب حماة ليحلف له فامتنع وقال أنا مع من يملك الديار المصرية كائنا من كان.
؟

ذكر دخول التتر إلى الشام
؟
واندفاع عسكر حلب وحماة بين أيديهم

ولما صح عند التتر قتل الملك المظفر رحمه الله وكان النائب بحلب ابن صاحب الموصل وقد أشرنا إلى سوء سيرته مع الجند والرعية فأجمع رأي الأمراء بحلب على قبضه وإخراجه من حلب وتحالفوا على ذلك وعينوا للقيام بالأمر الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي فبينا هم على ذلك وردت عليهم بطاقة وإلى البيرة يخبر أن التتر قد قاربوا البيرة لمحاصرتها واستصرخ بهم لينجدوه بعسكر وكان التتر قد هدموا أبراج البيرة وأسوارها وهي مكشوفة من جميع جهاتها فجرد الملك السعيد عسكراً إليها وقدم عليهم الأمير سابق الدين أمير مجلس الناصري فحضر الأمراء عنده وقالوا له هذا العسكر الذي جردته لا يمكنه رد العدو ونخاف أن يحصل النشب بيننا وبين العدو وعسكرنا قليل فيصل العدو إلى حلب ويكون ذلك سبباً لخروجنا منها فلم يقبل فخرجوا من عنده وهم غضبانون وسار العسكر المسير إلى البيرة من حلب فلم وصلوا إلى عمق البيرة صادفوا التتر بجموعهم فوقع النشب معهم فتراءت الفئتان فلم يمكن سابق الدين لقاءهم فقصد البيرة واتبعه التتر وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة وما سلم منهم إلا القليل، وورد الخبر بذلك إلى حلب فجفل أهل حلب إلى جهة القبلة ولم يبق بها إلا القليل من الناس وندم الملك السعيد على مخالفة الأمراء فيما أشاروا به عليه وقوى بسبب ذلك غضبهم عليه وقاطعوه وباينوه ووقعت بطاقة من البيرة فيها أن طائفة من التتر توجهوا إلى جهة منبج وهم على عزم كبس العسكر بحلب فانثنى عزم الأمراء عن القبض عليه لئلا يطمع العدو فيهم وأخذ يتبذلك للأمراء ويعتذر إليهم مخالفتهم وطلب أن يشيروا عليه بما يعتمده فأشاروا عليه بالخروج إلى جهة التتر وأن يضرب دهليزه ببابلا وهي شرقي حلب وأن يكون العسكر حوله وأن يجمع إليه العرب والتركمان ويكون على أهبة لقائهم فأجابهم إلى ذلك وضرب دهليزه ببابلا ونزل العسكر حوله وأخذ في تجهيز عصية وهو أحد أمراء العرب إلى منبج للكشف واستطلاع أخبار العدو فوقع التتر عليه وقاتلوه فقتلوه وورد الخبر بذلك إلى حلب فاشتد خوف الملك السعيد من غائلة هذا الأمر وبعد يومين وصل الأمير بدر الدين أزدمر الدوادار العزيزي.

وكان قطز رحمه الله قد رتبه نائباً باللاذقية وجبلة فقصد خشداشيته بحلب فلما قرب منها ركبت العزيزية والناصرية والتقوه فأخبرهم أن الملك المظفر قتل وأن ركن الدين البندقداري ملك الديار المصرية وتلقب بالملك الظاهر وإن الأمير علم الدين الحلبي قد خطب له بالسلطنة في دمشق وصار مالكاً لها ولبلادها قال ونحن نعمل أيضاً مثل عمل أولئك ونقيم واحداً من الجماعة مقدماً ونقبض على هذا المدبر يعني ابن صاحب الموصل ونقتصر على حلب وبلادها مملكة أستاذنا فأجابوه إلى ذلك وتقرر بينهم أن حال وصولهم إلى المخيم تمضي إليه الأمراء حسام الدين الجوكندار وسيف الدين بكتمر الساقي وبدر الدين أزدمر الدوادار وكان الملك السعيد نازلاً ببابلا في دار القاضي بهاء الدين ابن الأستاذ قاضي حلب وهو فوق سطحها والعساكر حوله وكانت الإشارة بين هؤلاء الأمراء وبين باقي الأمراء أنهم متى شاهدوا هؤلاء المذكورين معه على السطح يشرعون في نهب وطاقه والذين عنده يقبضون عليه، فلما حضر المذكورون بابه وطلبوا الإذن للدخول عليه أذن لهم فلما حضروا عنده على السطح وأعين الباقين من الخشداشية ممتدة إليهم شرعوا في نهب وطاقه وخيله وأصحابه فسمع الضجة فاعتقد أن التتر قد كبست العسكر ثم شاهد نهب العزيزية والناصرية لوطاقه ووثب الأمراء الذين عنده ليقبضوا عليه فطلب منهم الأمان على نفسه فأمنوه وشرطوا عليه أن يسلم إليهم جميع ما حصله من الأموال ثم نزلوا به إلى الدار وقصدوا الخزانة فما وجدوا فيها طائلاً فتهددوه وقالوا أين الأموال التي حصلتها وطلبوا قتله أو المال فقام إلى ساحة بستان في الدار المذكورة وحفر تحت أشجار نارنج هناك وأخرج أموالاً كثيرة ذكر أنها كانت تزيد على أربعين ألف دينار ففرقت على الأمراء على قدر منازلهم ورسموا عليه جماعة من الجند وسيروه إلى شغر وبكاس معتقلاً وبقي في الاعتقال أياماً ثم أخرجوه بعد أن اندفعوا بين يدي التتر كما سنذكره إن شاء الله، وبعد أيام دهم العدو حلب فاندفع الأمير حسام الدين الجوكندار المقدم بمن معه من العسكر إلى جهة دمشق فلما اندفعوا دخلت التتر حلب وملكوها وأخرجوا من فيها من المسلمين إلى قرنبيا قهراً بعيالاتهم وأولادهم وأحاط التتر بهم في ذلك المكان ووضعوا السيف في بعضهم فأبادوهم وأطلقوا الباقين فدخلوا حلب في أسوأ حال.
ووصل الأمير حسام الدين الجوكندار ومن معه من العسكر إلى حماة وبها صاحبها الملك المنصور فنزلوا ظاهرها من جهة القبلة وقام بضيافتهم وهو مستشعر منهم ثم تقدم التتر إلى جهة حماة فلما قربوا منها رحل الجوكندار والملك المنصور بعسكريهما إلى حمص ووصلت التتر إلى حماة ونازلوها فغلقت أبوابها فطلبوا منهم فتح الأبواب وأنهم يؤمنوهم كالمرة الأولى فلم يجيبوهم ولم يكن مع التتر خسروشاه ولم يكن أهل حماة يثقون إلا إليه وأخرجوا لهم شيئاً من المأكول واندفعوا عن حماه طالبين لقاء العسكر وجفل الناس بين أيديهم وخاف أهل دمشق خوفاً شديداً.
فصل

فيها توفي إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد بن موسى ابن حمد بن محمد بن إسحاق بن محمد أبو إسحاق الشيباني الوزير مؤيد الدين المعروف بن القفطي ومولده بالقدس في رابع عشر المحرم سنة أربع وتسعين خمسمائة سمع من أبي هاشم عند المطلب بن الفضل الهاشمي وغيره حدث بحلب ودمشق ووزر بحلب بعد أخيه القاضي الأكرم مدة إلى أن انقضت الدولة الناصرية وملك التتر حلب فأمروه بالاستمرار في تنفيذ الأشغال وهو متمرض فباشر على كره منه وتوفى عقيب ذلك في أحد الربيعين بحلب وكان من الصدور الرؤساء الفضلاء الأعيان رحمه الله إبراهيم بن أبي بكر بن زكرى الأمير مجير الدين كان من أعيان الأمراء الأكابر كثير الخير والدين والمعروف عظيم القدر جواداً شجاعاً ممدحاً من بيت كبير في الأكراد خدم الملك الصالح نجم الدين وهو بالشرق وقدم معه إلى الشام واعتقله الملك الصالح عماد الدين إسماعيل لما أمسك الملك الصالح نجم الدين واعتقل بالكرك ثم أفرج عنه فكان في خدمة الملك الصالح نجم الدين بالديار المصرية وغيرها إلى أن توفي وقتل ولده الملك المعظم ثم اتصل بخدمة الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وحج بالناس من دمشق سنة ثلاث وخمسين وفعل من البر والمعروف والإنفاق في سبيل الله تعالى في تلك الحجة ما هو مشهور ومذكور، ولما ضرب البحرية وعسكر الملك المغيث فتح الدين عمر صاحب الكرك المصاف مع بعض عسكر الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله أمسكوه وأمسكوا معه الأمير نور الدين علي بن الشجاع الأكتع فاعتقلا بالكرك مدة ثم أفرج عنهما عند ما تقرر الصلح بين الملك الناصر والملك المغيث وجعله الملك الناصر بعد ذلك بنابلس وأمر تلك الناحية وما حولها من البلاد عائد إليه، ثم جعل عنده قطعة من العسكر بنابلس منهم الأمير نور الدين علي بن الشجاع الأكتع عند ما رحل الملك الناصر رحمه الله عنها إلى غزة في هذه السنة فقدم عليه جمع عظيم من التتر فهجموا نابلس فتلقاهم بوجهه وقاتلهم قتالاً شديداً وقتل منهم بيده جماعة كثيرة وأنكى فيهم نكاية عظيمة واستشهد رحمه الله تعالى مقبلاً غير مدبر وكذلك استشهد معه الأمير نور الدين علي بن الشجاع الأكتع وكان بينهما اشتراك في الكردية والإمرة وخدمة الملك الناصر والدين والفضيلة والكرم والشجاعة وأمسكا جميعاً واعتقلاً بالكرك وأفرج عنهما معاً وجردا في نابلس واستشهدا في يوم واحد وكان بينهما مصافاة واتحاد جمع الله بينهما في الفردوس الأعلى وتغمدهما برحمته ورضوانه.
وكان الأمير مجير الدين من حسنات الدهر وعلى ذهنه جملة كثيرة من الشعر وعنده فضيلة حسن المحاضرة والمذاكرة كريم العشرة كثير الأدب يصل بره إلى الفقراء والأغنياء، قال القاضي جمال الدين بن واصل أنشدني في الديار المصرية مقطعات حسنة لبعض الشعراء فمنها:
دنف نأى عن من يحب فشاقه ... أطلاله سحراً على أطلاله
سأل الحمى عنه وأصغى للصدى ... كيما يجيب فقال مثل مقاله
ناداه أين ترى محط رحاله ... فأجاب أين ترى محط رحاله
قلت أنشدني الفقيه نجم الدين موسى بن إبراهيم بن يحيى بن إبراهيم الشقراوي للأمير مجير الدين إبراهيم المذكور رحمه الله:
جعل العتاب إلى الصدود سبيلاً ... لما رأى سقمي عليه دليلا
ظللت أورده حديث مدامعي ... عن شرح جفني مسنداً منقولا
من أبيات وأنشدني نجم الدين للأمير مجير الدين المذكور رحمه الله:
قضى البارق النجدي في حالة اللمح ... بفيض دموعي إذا تراءى على السفح
ومنها:
ذبحت الكرى ما بين جفني وناظري ... فمحمر دمعي الآن من ذلك الذبح
من أبيات وكان مقتله رحمه الله في أحد الربيعين من هذه السنة بنابلس شهيداً على أيدي التتر.

أحمد بن يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة بن الخياط أبو العباس صدر الدين التغلبي الدمشقي الشافعي قاضي القضاة بدمشق وأعمالها المعروف بابن سني الدولة وسني الدولة هو الحسن ابن يحيى الكاتب كان كاتب درج لملك دمشق في ذلك الوقت وله نعمة ظاهرة وقف من عرضها أوقافاً على ذريته وهي مشهورة بدمشق وأعمالها يبيد أربابها إلى الآن وتاريخ وقفه الأوقاف المذكورة في العشر الأول من شهر ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، والشاعر المشهور المعروف بابن الخياط وهو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن علي بن يحيى أن صدقة التغلبي هو عم سني الدولة أخو والده كان كاتباً شاعراً طاف البلاد وامتدح الناس ودخل بلاد العجم ولما اجتمع بأبي الفتيان بن حيوس الشاعر المشهور بحلب وعرض عليه شعره قال قد نعاني هذا الشاب إلى نفسي فقلما نشأ ذو صناعة ومهر فيها إلا وكان دليلاً على موت الشيخ من أبناء جنسه ودخل مرة حلب وهو رقيق الحال فكتب إلى ابن حيوس المذكور:
لم يبق عندي ما يباع بحبة ... وكفاك مني منظري عن مخبري
ألا بقية ماء وجه صنتها ... عن أن تباع وأين أين المشتري
فلما وقف عليهما ابن حيوس قال لو قال وأنت نعم المشتري لكان أحسن وديوانه مشهور، ومن مشهور شعره قوله:
خذا من صبا نجد أماناً لقلبه ... فقد كاد رياها يطير بلبه
وإياكما ذاك النسيم فإنه ... إذا هب كان الوجد أيسر خطبه
خليلي لو أحببتما لعلمتما ... محل الهوى من مغرم القلب صبه
تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المزار وقربه
وفي الركب مطوى الضلوع على جوى ... متى يدعه داعي الغرام يلبه
إذا خطرت من جانب الرمل نفحة ... تضمن منها داؤه دون صحبه
ومحتجب بين الأسنة معرض ... وفي القلب من إعراضه مثل حجبه
أغار إذا آنست في الحي أنةً ... حذارا وخوفاً أن تكون لحبه
وهي طويلة ومن شعره أيضاً:
سلوا سيف ألحاظه الممتشق ... أعند القلوب دم للحدق
أما من معين ولا عاذر ... إذا عنف الشوق يوماً رفق
تجلى لنا صارم المقلت؟ ... ين مضنى الموشح والمنتطق
من الترك ما سهمه إذ رمى ... بأفتك من طرفه إذ رمق
وليلة وافيته زائراً ... سمير السهاد ضجيع القلق
دعتني المخافة من فتكه ... إليه وكم مقدم من فرق
وقد راضت الكأس أخلاقه ... ووقر بالسكر منه النزق
وحق العناق فقبلته ... شهي المقبل والمعتنق
وبت أخالج فكري به ... أزور طرا أم خيال طرق
أفكر في الهجر كيف انقضى ... وأعجب للوصل كيف اتفق
وللحب ما عز مني وهان ... وللحسن ما جل منه ودق
وقال يعتب على أهله وأصحابه:
يا من بمجتمع الشطين إن عصفت ... بكم رياحي فقد قدمت أعذاري
لا تنكرن رحيلي عن دياركم ... ليس الكريم على ضيم بصبار
وله أيضاً:
أتظنني لا أستطي؟ ... ع أحيل عنك الدهر ودي
من ظن أن لا بد من؟ ... ؟ه فإن منه ألف بد
وله من جملة قصيدة:
وبالجزع حي كلما عن ذكرهم ... أمات الهوى مني فؤاداً وأحياه
تمنيتهم بالرقمتين ودارهم ... بوادي الغضا يا بعد ما أتمناه

كانت ولادته سنة خمسين وأربعمائة بدمشق وتوفي بها في حادي عشر شهر رمضان المعظم سنة سبع عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى وقيل مات سابع عشر شهر رمضان ومولد القاضي صدر الدين سنة تسع وثمانين وخمسمائة وقيل تسعين وخمسمائة سمع من أبي طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي وابن طبرزد وحنبل وأبي المعالي محمد بن علي القرشي وأبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وأبي الفضل عبد الصمد ابن محمد الحرستاني وغيرهم وأجاز له جماعة كثيرة من بلاد عديدة وحدث ودرس في عدة مدارس وأفتى وكان فقيهاً إماماً عالماً عارفاً بالمذهب مشكور السيرة في ولاياته لين الجانب دمث الأخلاق كثير المداراة والصفح والاحتمال تنقلت به الأحوال فولى وكالة بيت المال بدمشق ثم ناب في الحكم بها مدة ثم ولي القضاء بها وبأعمالها استقلالاً لما فتح عماد الدين بن شيخ الشيوخ دمشق للملك الصالح نجم الدين ولم ينتقد عليه في حكم من أحكامه في جميع ولاياته ولم يزل مستمراً في الحكم إلى حيث انقضت الدولة الناصرية ففوض هولاكو الحلم بالشام وغيره إلى القاضي كمال الدين التفليسي رحمه الله وكان ينوب عن قاضي القضاة صدر الدين المذكور بدمشق فتوجه صدر الدين صحبة القاضي محي الدين أبي الفضل يحيى بن الزكي إلى هولاكو واجتمعوا به ففوض هولاكو القضاء بالشام إلى القاضي صدر الدين صحبته على غير شيء من الولايات فلما وصل حماة تمرض فركب في محفة ووصل إلى بعلبك وهو مثقل بالمرض فأنزلته في منزلي لقرابة كانت بينه وبين والدتي فإنه ابن عمها وابن خالتها وزوج أختها فبقي يومين في منزلي وتوفي إلى رحمة الله تعالى وحضر والدي رحمه الله غسله فغسله الشيخ زكي الدين إبراهيم بن المعري وصلى عليه والدي ودفن بالقرب من ضريح الشيخ عبد الله اليونيني الكبير قدس الله روحه قبلي مدينة بعلبك وكانت وفاته يوم الأحد عاشر جمادى الآخرة وكان الملك الناصر صلاح الدين يوسف يحبه ويثني عليه كثيراً وكذلك الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك العادل يثني على والده قاضي القضاة شمس الدين أبي البركات يحيى لما كان متولياً القضاء بالشام في أيامه ويقول عنه ما ولي دمشق مثله رحمهم الله أجمعين.
الملك السعيد نجم الدين أيل غازي بن الملك المنصور ناصر الدين أبي المظفر أرتق أرسلان بن نجم الدين أيل غازي بن ألبى بن تمرتاش ابن أيل غازي بن أرتق أبو الفتح صاحب ماردين كان ملكاً جليلاً كبير المقدار شجاعاً جواداً حازماً ممدحاً وتوفي في ذي الحجة من هذه السنة وقيل في سادس عشر صفر سنة تسع وخمسين والأول أصح وسبب موته وباء وقع في أهل القلعة فأهلك أكثرهم ووصل الخبر إلى التتر بموته من رجل يسمى أحمد بن الفارس علي الشافصني رمى بنفسه من القلعة إليهم فبعثوا إلى ولده الملك المظفر رسولاً وطلبوا منه الدخول في الطاعة وكان قد قام مقام أبيه فأجابهم جواباً أرضاهم وأظهر لهم الدخول في طاعتهم والعمل على مداراتهم.
توران شاه بن يوسف بن أيوب بن شاذي أبو المفاخر وقيل أبو منصور فخر الدين الملك المعظم بن السلطان الكبير الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله يعظمه ويحترمه ويثق به ويسكن إليه كثيراً لعلمه بسلامة جانبه وأنه لا تحدثه نفسه بالتوثب عليه فكان عنده في أعلى المنازل يتصرف في قلاعه وخزائنه وعساكره وغلمانه، ولما استولى التتر على مدينة حلب اعتصم بقلعتها ثم نزل منها بالأمان على ما شرحنا ومولده بالديار المصرية في شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين وخمسمائة سمع من أبي عبد الله محمد بن علي بن صدقة الحراني وغيره وحدث وخرج له الحافظ أبو محمد التوني مشيخة في جزء حديثي وكانت وفاته بحلب في السابع والعشرين من ربيع الأول ودفن بدهليز داره رحمه الله تعالى.

الحسن بن عثمان بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذي الملك السعيد بن الملك العزيز بن الملك العادل كان والده الملك العزيز عماد الدين عثمان قد توفي في سنة ثلاثين وستمائة وملك بانياس والصبيبه وما معها مما كان بيده من البلاد ولده الملك الظاهر فلم تطل مدته وتوفي بعد أشهر يسيرة دون السنة فملك بلاده أخوه الملك السعيد حسن المذكور ولم تزل في يده إلى أن ملك الملك الصالح نجم الدين الديار المصرية والشام فانتزعها من يده وأعطاه خبزاً بالديار المصرية وبقي في خدمته إلى أن مات وملك ولده الملك المعظم وقتل على ما هو مشهور فلا حاجة إلى شرحه فعند ذلك هرب الملك السعيد إلى غزة وأخذ ما فيها من المال وقصد قلعة الصبيبه فسلمها إليه نواب الملك الصالح نجم الدين فملكها ولما وصل الخبر بذلك إلى القاهرة احتيط على داره بها وما فيها من الأثاث الذي لم يمكنه استصحابه معه فلما ملك الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر رحمه الله وقد تكرر ذكره في مواضع من هذا الكتاب وكان قد بقي كبير البيت الأيوبي وكان الملك الناصر صلاح الدين يوسف الشام أخذ منه الصبيبه وجرت منه أسباب أوجبت اعتقاله في بعض القلاع ثم نقله إلى قلعة البيرة فلما ملكها التتر في هذه السنة أخرجوه من الاعتقال وحضر عند هولاكو يقيده فرق له وأفرج عنه وخلع عليه قباء زربفت وسراقوج ومن عادة التتر أنهم إذا خلعوا سراقوج على أحد من غيرهم يلبسه يومه ثم يقلعه ويلبس العمامة فامتنع الملك السعيد من قلعه ولزم لبسه دائماً ومال إليهم بظاهره وباطنه وكان يقع في الملك الناصر صلاح الدين يوسف عندهم ويحرضهم عليه وعلى استئصال شأفته فأمر هولاكو لكتبغا نوين باستصحابه معه إلى الشام وتسليم بلاده إليه فاستصحبه معه وسلم إليه بلاده وبقي مع كتبغا لا يفارقه وشهد معه سائر وقائعه وحصاراته في هذه السنة ورأيته معه ظاهر بعلبك وعليه السراقوج وحضر معه المصاف بعين جالوت وقاتل قتالاً شديداً وكان شجاعاً مقداماً، فلما من الله تعالى بنصرة الإسلام أحضر بين يدي الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله فأمر به فضربت رقبته صبراً بين يديه ولم يقله عثاره وأخذت بلاده وحواصله، وكان قتله يوم المصاف بعين جالوت وهو نهار الجمعة خامس عشري شهر رمضان المعظم أو ثاني يوم المصاف.
الحسين بن علي بن القاسم بن علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله ابن الحسين أبو حامد الدمشقي الشافعي المعروف بابن عساكر الملقب بالحافظ ومولده في ليلة الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة عشر وستمائة بدمشق وسمعه أبوه الكثير من جماعة كثيرة واستجاز له في رحلته إلى العجم الجم الغفير وحدث بدمشق ومصر وأبوه سمع الكثير ببلده ورحل إلى بلاد عديدة وحصل كثيراً وكان فضلاً حافظاً وتوفي ولم يبلغ الأربعين وجده القاسم سمع الكثير وحدث به وكان حافظاً مشهوراً وله تخاريج وجموع وجد أبيه على أحد الأئمة المشهورين صاحب التصانيف والفوائد من جملتها تاريخ دمشق الذي لم يسبق إلى مثله وله الرحلة الواسعة والتصانيف النافعة وكانت وفاة أبي حامد المذكور في شهر شعبان من هذه السنة بنابلس وهو متوجه من مصر إلى دمشق رحمه الله.
رسلان شاه بن داود بن يوسف بن أيوب بن شاذي الأمير أسد الدين كان جميل الأوصاف حسن الشكل شجاعاً كريماً واسع الصدر عالي الهمة ووالده الملك الزاهر مجير الدين داود كان صاحب البيرة وجده السلطان الملك الناصر صلاح الدين الكبير رحمه الله واستشهد الأمير أسد الدين المذكور بأيدي التتر في ثاني صفر من هذه السنة ببواشير حلب رحمه الله تعالى، وكان والده الملك الزاهر مجير الدين داود يحب الفضلاء وأهل العلم ويقصدونه من البلاد ولما ولد بالقاهرة لسبع بقين من ذي القعدة أو ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة كان والده السلطان صلاح الدين رحمه الله بالشام وكان الثاني عشر من أولاده فكتب إليه القاضي الفاضل رحمه الله رسالة يبشره بولادته من جملتها، وهذا المولود المبارك هو الموفى لاثني عشر ولداً بل لاثني عشر نجماً متقداً فقد زاد الله سبحانه في أنجمه عن أنجم يوسف عليه السلام نجماً ورآهم المولى يقظة ورأى تلك الأنجم حلماً ورآهم المولى ساجدين له ورأينا الخلق لهم سجوداً، وهو تعالى قادر أن يزيد في حدود المولى إلى أن يراهم آباء وجدوداً.

وحكى عن الملك الزاهر جماعة أنه كان يقول من أراد أن يبصر صلاح الدين فليبصرني فأنا أشبه أولاده به وكان الزاهر شقيق الملك الظاهر صاحب حلب رحمه الله وتوفي بالبيرة في ليلة التاسع من صفر سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ولما وصل نعيه إلى حلب توجه الملك العزيز ابن الملك الظاهر إلى قلعة البيرة وملكها.
عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن ابن طاهر بن محمد بن محمد بن الحسين بن علي بن أبي طالب شرف الدين الكرابيسي الحلبي الشافعي المعروف بابن العجمي سمع من ابن طبرزد وغيره وكان من الرؤساء المشهورين معروف بجلالة القدر ومكارم الأخلاق وله بر ومعروف وأنشأ بحلب مدرسة حسنة ووقف عليها وقفاً جيداً ودفن بها لما مات وكانت وفاته في الرابع والعشرين من صفر بعد وقعة التتر، قال قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله لما هجم التتر حلب عذبوه في الشتاء بأن صبوا عليه الماء البارد ليدفع لهم المال فتشنج وأقام أياماً ثم مات رحمه الله، وكان يدرس بالمدرسة الظاهرية خارج حلب ومولده في سنة تسع وستين وخمسمائة بحلب وبيته مشهور بالتقدم والجلالة والسنة والعلم والحديث رحمه الله.
عبد العزيز بن عبد القوي بن عبد العزيز بن الحسين بن عبد الله أبو المعالي محي الدين ابن القاضي الأسعد أبي البركات بن القاضي الجليس أبي المعالي التميمي السعدي الأعلى المصري المعروف بابن الحباب مولده سلخ شهر رمضان سنة خمس وتسعين وخمسمائة سمع من جماعة من الشيوخ وكتب بخطه وحصل جملة من الكتب وحدث وكانت وفاته في تاسع عشر ذي القعدة بمنية ابن خصيب من صعيد مصر رحمه الله وبيته مشهور بالرياسة والتقدم.
عبد الله بن بركات بن إبراهيم بن طاهر بن بركات بن إبراهيم ابن علي بن محمد بن أحمد بن ابن العباس بن هاشم أبو محمد القرشي الدمشقي المعروف بابن الخشوعي سمع جماعة وحدث هو وأبوه وجده وجد أبيه وهو من بيت الحديث والرواية وأبوه أبو طاهر بركات ابن إبراهيم أحد مشايخ الشام وعنه يروي معظم المحدثين والطلبة وكان عالي السند رحمه الله وكانت وفاة أبي محمد عبد الله المذكور بدمشق في الثامن والعشرين من صفر رحمه الله.
عثمان بن محمد بن عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن المطهر بن أبي عصرون أبو عمرو شرف الدين التميمي الدمشقي الشافعي مولده بدمشق في ثامن عشر ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة كان رئيسا جواداً كبير الهمة مفرط الكرم يستقل الكثير من العطاء وأنفق من الأموال جملاً عظيمة طائلة وتوفي وهو فقير من فقراء المسلمين لم يخلف إلا ما قام بمؤونة تجهيزه ودفنه وهو مركوبه وثيابه بدنه لا غير، وكانت وفاته في العشر الأول من صفر هذه السنة وهو في عشر الثمانين ولما حضر نعشه إلى جامع دمشق للصلاة عليه وضع شمالي مقصورة الخطابة واتفق في ذلك الوقت حضور نواب التتر إلى الجامع لقراءة الفرامين الواردة من هولاكو المتضمنة الأمان لأهل دمشق فقرئت وجنازته موضوعة ثم صلى عليه ودفن رحمه الله سمع من أبي الفضل محمد بن يوسف الغزنوي وغيره وأجاز له جماعة من الشيوخ البغداديين وحدث ويحكى عنه في تكرمه وسعة صدره غرائب من جملتها أنه توجه إلى الديار المصرية مرة ومعه هدية جليلة نفيسة لأولاد شيخ الشيوخ ولغيرهم وكان بينه وبين أولاد شيخ الشيوخ قرابة فإن والدتهم ابنة عمه فلما سير للأمير فخر الدين نصيبه من الهدية استعظمها وقال بما نقابل هذا الرجل واتفق حضور سكر مكرر غال عمل للأمير فخر الدين بالقصد من بعض الأماكن الجارية في إقطاعه فسير له منه حملاً وقال هذا يشربوه غلمان الشيخ شرف الدين فلما جاءه السكر عمله جميعه حلوى منوعة وكان في خدمته حلاوي من الشام ماهر في صناعته وسير الحلوى للأمير فخر الدين فلما أكل منها أعجبته إعجاباً كثيراً ورأى لها طعماً غريباً لم يعهد في غيرها فأحضر الحلاوي الذي في مطبخ نفسه وأطعمه من تلك الحلوى ورام منه أن يعمل مثلها فقال ما أدري ما هذه ولا أعرف كيف عملت ثم سأل لمن ساعد حلاوي شرف الدين على عملها عن كيفيتها فذكر أنها ليست بشيرج وإنما هي بدهن لوز استخرج وطبخت به مع كثرة الفستق والمسك وغيره ولعلها أرادت أرادب عدة قلب لوز فأخبر الحلاوي الأمير فخر الدين بذلك فاستهالها وقال هذا جنون.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8