كتاب : ذيل مرآة الزمان
المؤلف : اليونيني

اعددت لليل الطويل همه ... عوناً أخوه إن نسيت عمّه
إذ كان منه جسمه وقسمه ... ومنتج أم أبيه أمه
لم يتخون جسمه مسّ الضوى
عنت له في الفرعين أو عنت ... أن يتوطا مع القرين أو طنت
فعند ما أسرّ ما قد أعلنت ... أفرشته بنت أخيه فانثنت
عن ولد يورى به ويشتوى
ورب واد كمنت أحشاؤه ... أفاعياً دانت له حصباؤه
سلكته ليلاً إذ ردى أرداؤه ... ومرقب مخلولق أرجاؤه
مستصعب الأقذاف وعر المرتقى
في شقة قد اطلعت شقيقها ... وما عرب فارقت فريقها
لا عقّ أن يودى الندا عقيقها ... أوفيت والشمس تمج ريقها
والظل من تحت الحذاء محتذى
كم خائف أوسعه الدهر إذا ... ملّ على الذل البقا فانتبذا
رأى طريق الصبر وعراً فاحتذى ... وطارق يؤنسه الذئب إذا
تضوّر الذئب عشاء وعوى
دارت به في الليل طرف يقنف ... جرت عليه الليل ريح صفصف
حتى إذا لاح منار يعرف ... أوى إلى ناري وهي مألف
يدعو العفاة ضوءها إلى القرى
في ليلة طافت بنشر عابق ... فأسكرت بصائح وعائق
أدنت فأنشدت بها مفارقي ... لله ما طيف خيال طارق
تزفه للقلب أحلام الردى
عجبت منه كيف أهداه السرى ... والنجم قد بات به محيرا
وبيننا بحر وبرّ أقفرا ... يجولها جواز الفلا محتقرا
هول دجى الليل إذا الليل انبرى
يا ناظراً متع في إعفائه ... لئلا يطيف ضامن لألائه
ها قد بلغت السول من لقائه ... سائله إن أفصح عن انبائه
أنىّ تسدى الليل أم أنى اهتدى
وهل ترى تخيل الوساوس ... ونفسه في مثلها ينافس
إن غزال حاجرى آنس ... أو كان يدرى قبلها ما فارس
وما مواميها القفار والقرى
ومجتنىً ذاق لذوق مجتن ... فارقته من سكن ومسكن
وأحزنني لفقد من حزن ... وسائلي بمزعجي عن وطني
ما ضاق بي جنابه ولا نبا
يسائلني وحقه أن يسكتا ... لم ولما وكيف حتى ومتى
كان له عند الجواب مسكتاً ... قلت القضاء مالك أمر الفتى
من حيث لا يدري ومن حيث درى
يا عاذلاً عن شرعه الحق عذل ... دع عنك عذلاً سبق السيف العذل
يسائلني لم أعتصم من الزلل ... لا تسألني واسأل المقدار هل
يعصم منه وزر ومذدرى
سعى الفتى بتعلّي قسطه ... أبداً رضاه عنده أو سخطه
فلا تطيل قبضه أو بسطه ... لا بد أن يلقى امرؤ ما خطّه
ذو العرش مما هو لاق ووحى
إذ عاد نفع الدهر وهو ضائر ... فانفطرت من دونه مرائر
وراح بعد الجبر وهو كاسر ... لا غرو إن لجّ زمان جائر
فاعترق العظم الممخ وانتقى
فلا يغرنك انطفاء نور قد وقد ... يوماً لا نور إذا الحلّ انعقد
في كل عين لو نظرت منتقد ... فقد يرى القاحل مخضراً وقد
تلقى أخا الاقتار يوماً قد نما
قل للذين قد أباحوا قتلنا ... واستحسنوا على الرماح حملنا
في السبي سرب ظبية أصلنا ... يا هؤلي هل نشدتن لنا
رافعة البرقع عن عيني طلا
راحت بخشفين مما بحشرتي ... فراح بعضي معها بل جملتي
لامت من ريقها بغضتي ... ما انصفت أم الصبيين التي
أصبت أخا الحلم ولما يصطبي
يا صاحبي ومن له سرى علن ... كم بيع حر في الهوى بلا ثمن
وانقاد طوعاً جامح كالممتهن ... استحى بيضاً بين أفوادك أن
يقتادك البيض اقتياد المهتدي
لئن جلوت للشباب حلة ... يحتمل العاقل فيها جهلة
فخذ بذا التفصيل مني جملة ... هيهات ما أشنع هاتا زلة
أطربا بعد المشيب والجلا

رجعت في الغزلان عن تغزلي ... إلى رثاء السيد الطهر الولي
به مستشفعاً توسلي ... يا رب ليل جمعت قطريه لي
بنت ثمانين عروساً تجتلي
عذراً في قتلي قبلت عذرها ... شمطاً لكن ما تعد عمرها
بشيعة الأكباد وقعاً حرها ... لم يملك الماء عليها أمرها
ولم يدنسها الضرام المحتضى
بكر إذا ما شق عن جذورها ... يستتر الأنوار من ظهورها
أما ترى البدر اختفى من نورها ... كأن قرن الشمس في ذرورها
بفعلها في الصحن والكأس اقتدى
من كأسها الملآن ما الدهر حلا ... من عدها بأول فأولا
قد شبه يثرب مع اهل الولا ... نازعتها أروع لا تسطو على
نديمه شرّته إذا انتشى
بات يراعى خاطري بلحظه ... حتى أفاد ذا الرقى من حظه
غيث ندى في ندبه ووعظه ... كأن نور الروض نظم لفظه
مرتجلاً أو منشداً أو إن شدا
أمطرت وادي الحزن وأسبلته ... فحطّ عني بعض ما حملته
مقالة فانقضت ما نقلته ... من كل ما نال الفتى قد نلته
والمرء يبقى بعده حسن النثا
لا تجز عن بصري رفقتي ... إني فرحت راضياً بقتلتي
خذوا تفاصيل النهى من جملتي ... فإن أمت فقد تناهت لذتي
وكل شيء بلغ الحد انتهى
ما إثمي قد رجعت مواسماً ... وذا بلى قد اهتز غصناً ناعما
بجنّة فيها البقاء دائماً ... وإن أعش صاحبت دهري عالما
بما انطوى من صرفه وما انتشى
أليس من قربي أعلام الهدى ... الطاهرين مولداً ومشهدا
فكيف أرضى بأضاليل العدى ... حاشا لما سأره فيّ الحجا
والحلم أن أتبع روّاد الخنا
لا تحسبن دهر قضى بغربة ... إني إليه شاكياً من كربه
أو شاكراً لرفعه في ركبه ... أو أن أرى مختضعاً لنكبه
أو لابتهاج فرحاً ومزدهى
تمت بحمد الله

علي بن محمد بن سليم أبو الحسن بهاء الدين الصاحب الوزير المعروف بابن حنّاء وزير الملك الظاهر ركن الدين وولده بعده إلى حين وفاته. مولده بمصر في سنة ثلاث وست مائة، وتوفي بها وقت العصر نهار الخميس سلخ ذي القعدة، وصلي عليه يوم الجمعة قبل الصلاة، ودفن بتربته بالقرافة الصغرى - رحمه الله - ومات وهو جد كان من رجالة الدهر حزماً وعزماً ورأياً وتدبيراً، تنقلت به الأحوال، وتنقل في المناصب الجليلة، وظهرت كفايته ودرايته وحسن تأنّيه، فاستوزره الملك الظاهر - رحمه الله - في أوائل دولته، وفوّض إليه أمور مملكته مما يتعلق بالأموال والولايات والعدل لا يعارض في ذلك، ولا يشارك بل هو المتصل بأعباء ذلك، والمرجع إليه فيه، ولم يزل مستمراً على ذلك إلى حين وفاة الملك الظاهر - رحمه الله - فدبّر الأمور أحسن تدبير، وساس الأحوال في سائر المملكة، واحمل خلقاً كثيراً ممن ناوله، وكان عنده حسن ظن بالفقراء والمشايخ يحسن إليهم - نفع الله بهم - ويقضي حوائجهم ويبالغ في إكرامهم وكان أرباب الحوائج يتوسلون بهم إليه فلا يرد لهم شفاعة. حكي لي أن بعض الصلحاء المتورعين قدم القاهرة في أواخر شعبان فكلف بالاجتماع به لسبب شخص مصادر فاجتمع به وحدثه في ذلك فأجابه ثم قال له: هذا شهر رمضان قد أقبل، واشتهى أن تصومه هنا وتفطر عندي وأقضي لك في كل ليلة عشر حوائج كائنة ما كانت، فنظر ذلك الرجل على ما يترتب في إجابته من المصالح فصام عنده شهر رمضان وأفطر عنده فوفى له بوعده، وكان كلّ ليلة يقضي له عشر حوائج من إطلاق محبوس وولاية بطال ومسامحة من عليه ماله وهو عاجز عنه إلى غير ذلك. وكان واسع الصدر لا يدري مقدار ما يلزمه من الكلف للأمراء والرؤساء ومن يلوذ بخدمته، وأما عفته من الأموال فإليها المنتهى لا يقبل لأحد هدية إلا أن يكون من المشايخ الصلحاء، ويهدي له ما لا قيمة له فقبله تبركاً ويبرّ الذي سيّره إليه، وقصده جماعة من أكابر الأمراء وغيرهم من أرباب الدولة فلم يبلغوا منه مقصودهم، ولم يجدوا ما يتعلقوا عليه به، ولما توفي الملك الظاهر استمرّ به ولده الملك السعيد - رحمه الله - وبالغ في إكرامه وإعظامه ولم تزل حرمته وافرة تامة ومكانته عالية، وكلمته نافذة، وأوامره مطاعة إلى حين وفاته، وله برّ وأوقاف وكان يتصدق بالجمل الكثيرة سراً وجهراً، وله متاجر تعود نفقتها إليه فمنها معظم نفقاته وصدقاته، ولما ابتلاه الله تعالى بفقد ولديه الصاحب فخر الدين والصاحب محيي الدين - رحمهما الله تعالى، وقد تقدم ذكرهما وحاز لأجر فقدهما، عوضه الله من ذريتهما بأولاد نجباء صدور رؤساء تقرّ بهم عينه وبهم في المعروف وفعل الخير طرائق لم يسبقوا إليها، وفيهم الأهلية التامة والوزارة وغيرها، غير أنهم كانوا يختارون العزلة، وكان الصاحب بهاء الدين - رحمه الله - ممدّحاً مدحه جماعة كثيرة من الشعراء بغرر القصائد، وكان يهش لذلك، ويجزيهم الجوائز السنية، عمل فيه الحاج رشيد الدين الفارقي الآتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله.
وقائل قال لي نبّه لها عمراً ... فقلت إن علي قدر تنبه لي
مالي إذا كنت محتاجاً إلى عمر ... من حاجة فليتم حتى انتباه علي
ولسعد الدين سعد الله بن مروان الفارقي كاتب الدرج المختص بملازمته فيه:
يمّم علياً فإنه يمّ الندى ... وناده في المضلع المعظل
فرفده مجد على مجدب ... ووفده مفض إلى مفضل
يسرع أن سيل نداه وهل ... أسرع من سيل أتى من علي

محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي شاكر أبو عبد الله مجد الدين. ولد سنة اثنتين وست مائة بإربل وتوفي بدمشق القيمازية ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر، ودفن يوم الجمعة بمقابر الصوفية - رحمه الله تعالى. كان إماماً في علم الأدب ونقد الشعر ومعرفته، وله اليد الطويلة في النظم، فاق به نظراءه، وكان فقيهاً جيداً، درّس بالمدرسة القيمازية بدمشق مدة سنين، وكان وافر الديانة، كريم الأخلاق، واسع الصدر، محتملاً للأذى، يتصدق دائماً، يحسن إلى معارفه وتلامذته، ويكارم أصحابه وإخوانه. صحبته في طريق الحجاز في سنة ثلاث وسبعين، ورأيت من مكارمه وحسن عشرته وجميل أوصافه ما لم يجمع في غيره - رحمه الله تعالى ورضي عنه، وكان رقيق الحاشية دمث الأخلاق علوّ النادرة، قال شهاب الدين محمود كاتب الدرج أنشدني الشيخ مجد الدين لنفسه:
أواصل فيه لوعتي وهو هاجر ... ويؤنسني تذكاره وهو نافر
ويعدى هواه ناظري بأدمع ... يوردها ورد بخديه ناضر
ويغتر في تيه الملاحة خاطراً ... فكلّ خليّ في هواه مخاطر
ويزوّر سخطاً ثاني العطف معرضاً ... فلا عطفه يرجى ولا الطيف زائر
محياه زاه بالمحاسن زاهر ... فقلبي فيه ساهر وساهر
يحيل على القد المهفهف معجباً ... جبالة شعركم بها صيد شاعر
غزال منيع الحذر دون مزاره ... مطللة بالبيض قدّ جؤاذر
جلا طلعة كالروض دبجه الحيا ... ترفّ بماء الحسن فيها أزاهر
وشهّر خدّا بالعذار مطرزاً ... فما لفؤاد لم يهم فيه غادر
فإن صاد قلبي طرفه فهو جارح ... وإن فتنت آياته فهو ساحر
وكم راح دلّ في الهوى لي شافعاً ... فعوضت عما ارتجى ما أحاذر
إذا كان صبري في الصبابة خاذلاً ... فما لي سوى دمعي على الشوق ناصر
على أن فيض الدمع لم يرو غلة ... من الوجد إذ كتمها العيون الفواتر
وقال - رحمه الله تعالى:
لولا الهوى اعدوا أصالي هاجر ... بسؤول منّاع ومرضى مسخط
ألف الجفاء وباع ودي مرخصاً ... فكتبت منه بمفرّط ومفرط
وقال أيضاً رحمه الله:
كل حي إلى الممات مآبه ... ومدى عمره سريع ذهابه
معه سائق له وشهيد ... وعلى الحرص ويحه أكبابه
تخرب الدار وهي دار بقاء ... وهو يثني ما عن قليل خرابه
هو ضرب من الطيب كالخلوق كي ... ف يلّهيه طيبه وملابه
كل يوم يزيد نقصاً وإن عمّ ... ر خلت أو صابه وأصابه
والورى في مراحل الدهر ركب ... دائم السير لا يرجي إيابه
فتزود إن التقى خير زاد ... ويصيب اللبيب منه لبابه
وأخو العقل من يقضي يصدق ... شيبه في صلاحه وشبابه
وأخو الجهل يستلذ هوى الن ... فس فيغدو شهداً لديه أصابه
كم سلبت مني عقولاً وكم أو ... جب نقضاً لفاضل إعجابه
وأحال الهوى الحقائق حتى ... صار عذباً عند المحب عذابه
أجمل الفكر في الزمان وأهله ... اعتباراً في الكون جماً عجابه
وتحام الأقدار نطقاً وفكراً ... فهي في شاهق يشق عقابه
وإذا ما الجهول أغرق فيها ... أغرقته بالسيل فيه شعابه
رب أمر يريب العقل صعب ... بالتروي فيه يزول ارتيابه
لا تكن حاكماً بأول رأى ... فكثير بين الأمور التشابه
رب كأس من الجمال كما يؤ ... ثر عار من الجميل إهابه

وعزيز بمنع ضيم حتى ... أصبحت كالوهاد ذلاً هضابه
ودني علا به الجد حتى ... أوطئت هامة الثريا ركابه
وسعيد يحظى بكسب سواه ... وشقي لغيره اكسابه
وغني صلاحه في غناه ... وفقير إعطاؤه أعطا به
وجواد بماله نال ذكراً ... كان ذاك الذكر الجميل ثوابه
وكريم يقتر للرزق من ك ... ف لئيم أمواله أربابه
وعدو يفيدك القرب منه ... وصديق من الصواب اجتنابه
وملولة بحاضر مثمن ... لخيال من غائب تنتابه
لا يغرنك قرب خلّ ولا يؤ ... نسك من خلة العدو جنابه
فلكم مصحب عزاه حزان ... وحزون أتى له أصحابه
وجهول مع الرضى وحكيم ... ليس يغني أعضاؤه أعضابه
ومقيم في السوق غير حريص ... وإمام شوق له محرابه
ومحل ثوى به غير بانيه ... وعلم أضاعه أربابه
وغريق في الجهل مستحسن ... اللحن وخير مستهجن أعرابه
موجز القول من أخي الفقر مملو ... ك وذو الجد مؤثر انتهابه
لا يضع قدر ذي النباهة إن ... قدّر إعساره ورثّت ثيابه
وتأمل فالبدر لانقص بعدوة ... إذا كان بالسحاب احتجابه
زين ذي الفضل فضله وهو عار ... وأخو النقص زينه أثوابه
ومعاداة كل حر كريم ... ديدن الأخرق اللئيم ودابه
وإذا صادف الوضيع وضيعاً ... ليس يلقى إلا إليه أنصابه
ليس بدعا فوز الأراذل بالما ... ل وفوت الغنى الكريم نصابه
وبعيد من التوسع في الرز ... ق أذيبت من رزقه إذا به
كن قنوعاً بما تيسر فالطا ... مع عند ما ينقضي أرا به
وغنياً وأنت في غاية الف ... قر برب طاعاته أبوابه
وإذا كان خوفه لك دأباً ... لم تجد في الوجود شيئاً تهابه
إن رزقاً طلابه لك مكتوب ... من العجز والشقاة طلابه
ولقد يرزق المقيم ويكدي ... من سعي دهره وطال اغترابه
ولكم فارق الدنيّة مثر ... ووفى عرض مملق أحدابه
إن امرءاً لم يمضه القدر الما ... ضي لتعدو عوائقاً أسبابه
إن طول الحياة داء وما نف ... ع حياة لمن قضت أترابه
إذا المرء طال عمره أذاقه ... المنايا بفقدها أصحابه
وانتهى نقصه وعشش بازي ... المشيب في رأسه وطار غرابه
وإذا كان آخر الأمر هذا ... فلما ذا على الحياة اكتئابه
أيها السائر المقيم على حرص ... مقيم ما يستقل ركابه
إن حيل الأعمال والحرص كالأعم ... ار طولاً فبالغنا انقضابه
بالفاقد أوبق النفس لم يكثر ... عليها عويله وانتحابه
أمامنا موقف الحساب ولا أح ... سابه جنة ولا أنسابه
ولملك أمد في العمر والرز ... ق ومدت من ملكه أطنابه
يوسع الخطو في الخطاب أوا ... ن ضاق عليه ضاقت عليه رحابه
هل لعبت لاه على ظهر أرض ... وطويل في بطنها ألبابه
وغريق من لم يوفق لإقلا ... ع وبحر الذنوب طام عبابه
لم لا يعتدي بقلب سليم ... من إلى حضرة يحول انقلابه

لم لا تجزع النفوس منها ... رهينة رمس بيد المشفقين يحثى ترابه
وبأمر يخلو به كل دار ... من دونها يخلو من الليث غابه
يا مطيلاً آفال عمر قصير ... وخطيب الردى فصيح خطابه
مغرب معرب وليس بمجد ... فيه إغرابه ولا إعرابه
أنت ضعيف في الأهل فارتقب ... الرحلة والصيف لا يدوم سحابه
نحن في دار قلعة فاز منها ... من كان لدار المقام اكتسابه
دار حزن مريض عقل فتى ... عادته فيها مسرة أطرابه
لا تضيقن ذرعاً بعاجل مكرو ... ه توافي حميدة أعقابه
وإذا علمت عاقبة الصب ... ر عليه هانت عليك صعابه
ولكم قرب البعيد لك الصب ... ر وكم بعد القريب ارتقابه
وإذا لم يكن من الأمر بد ... فارتكبه ولا يرعك ارتكابه
ينصب الذلة الجبان ولا يد ... فع عنه المقدار استصعابه
يفرج الضيق باللطف في الأمر ويؤ ... دي بالعمر فيه اضطرابه
أومأ الماء وهو في باطن الصخ ... رة باللطف رشحه وانسيابه
وإذا ما أحس بالشرك الصي ... د دهاه نفوره وانجذابه
ومن الحزم أن يشاور في الأم ... ر فكم فات ذا صواب صوابه
ولقد يخرق اللبيب وقد يح ... سن من قد أخرق جهول مثابه
وينال الضعيف بالعجز أمراً ... يئست من حصوله أخطابه
وعسى أن يجر يوماً إليك ال ... رفع من طال العناد انتصابه
ولقد تحسن المجاور صنعاً ... وهو يؤذي من زاد منه اقترابه
أو ما النصل كافل لك بالنص ... ر شقي بالحد منه قرابه
والسر في الطباع ولي ولا ... عنه عز في الورى أعبابه
ومن الناس عاد بالشم والش ... مخ حزماً نسر الملا وعقابه
ومن الناس من يرضى بأوشا ... ل مياه من القطا أسرابه
ومن الناس مشبه الليث لا ير ... ضيه إلا عدوانه واغتصابه
ومن الناس عاقر الضيف كالكل ... ب ومنهم من لا تهر كلابه
حكم قدر......... عدلاً ... عم معروفه فخل جنابه
فاستعذ بالإله من شر عاف ... في حبال الشيطان طال اختطابه
لم يرعه الإرهاب شرعاً ولا ... ألبسه ثوب طاعة أرغابه
يوحش الجاهل الإقامة في الأه ... ل ولا يوحش اللبيب اغترابه
والحليم الرشيد يخجله العت ... ب ولا يخجل السفيه سبابه
ويجد الفتى يعود وداداً ... وولاء من العدو ضبابه
وإذا ولت السعادة خانت ... ه وصارت أعداؤه أحبابه
وإذا ما القضاء عاند عبداً ... حاربته سيوفه وحرابه
وغدا شمله شتيتاً واحزا ... ناً عليه لضده أحزابه
يعجل المنفى ويبقى سليباً ... من توالي طعناته وضرابه
لا يغرنك الوجوه فما كل ... سحاب يروق يرجى ذهابه
وتجنب عتب الملوك فما يج ... لب أعتابه إليك عتابه
وأصحب نصحاً من استشا ... ر فما أنكر في مشروع قلة إيجابه
وإذا قابل النصيحة بالعس ... ر فدعه فما عليك حسابه
وإذا اغتابك اللئيم فشكراً ... حيث أضحى جهل اللئيم اغتيابه
وإذا سال السفيه بما شا ... ء فترك الجواب عنه جوابه

وإذا الخطب ناب فاصبر فقد ... يفرج غماؤه ويكهم نابه
وافعل الخير ما استطعت فقد يع ... جز عن فعله ويغلق بابه
واخشين كاتب الشمال فيا خس ... ر امرئ في الشمال منه كتابه
واغتنم لذة الخمول اختياراً ... فهنئ طعامه وشرابه
واجعل البأس للمطامع شرباً ... فكفيل برئهن شرابه
عش وحيداً ولو دعاك إلى صح ... بته مخلص الدعاء مجابه
وانظر الجمر وهو يطفي بالما ... أتجده به يزيد التهابه
وانتسب طائعاً إلى باب مولا ... ك فما خاب من إليه انتسابه
كيف يرجو الوفاء من أهل دهر ... قد تساوت أبناؤه وذبابه
طاف فيه العدول عن سنن العد ... ل وطالت رؤوسه أذنابه
كم قرب بإتيانه الهم قلباً ... وفرّت همام أهله أنيابه
وأباحت ملكاً منيعاً حماه ... وأذلت ملكاً عزيزاً جنابه
وأعادت حسن الثناء أخا قب ... ح ملاء من العيوب عتابه
وأعادت سعوده لاثم الت ... رب مهيباً ملثومه أعتابه
هذه سنّة الزمان قديماً ... وعلى مثلها مضت أحقابه
فقرين التوفيق من ذاته في ... كل ما شاء صبره واحتسابه
يا أسير الذنوب بت عائداً من ... ها بغفّارها المخوف عقابه
وخليق بعاجل الفوز من كا ... ن إلى الخالق الكريم مثابه
وقال رحمه الله تعالى: وكتب بها من العلاء عند عوده من الحجاز الشريف في سنة أربع وسبعين وستمائة إلى المولى شهاب الدين محمود كاتب الدرج رحمه الله تعالى:
بلغنا العلى والشوق يحدو ركابنا ... وذكركم زاد لنا وسمير
لعل النوى ينجاب عنا ظلامها ... فيدنو ويبدو للعيون ستير
وتروى أحاديث الغرام صحيحة ... وتروى بكم بعد القليل صدور
ويحدث في اللقيا أمور عجيبة ... ويحدث من بعد الأمور أمور
وكتب إلى شهاب الدين محمود ملغزاً:
أيها العالم الذي يهز العا ... لم فضلاً وفاق طبعاً وذهنا
ابن أسماء مؤنثاً مفرداً وض ... عا ويعدو مذكراً إذا يثنى
وإذا شئت حال فعلاً وحرفاً ... وعن الجملتين في اللفظ أعني
وإذا ما تركته كان لفظاً ... وإذا ما عكسته صار معنى
فأجابه شهاب الدين رحمه الله تعالى:
يا إماماً أضحى حماه لأهل ال ... فضل مأوى من الضلال وحصنا
كلما قلت قد سلوت هوى الش ... عر بدت لي بروق نظمك وهنا
أنا من معشر إذا ما حبا الفك ... ر استبقنا إليك ثم اقتبسنا
لم يكن مغرماً بنعم فإني ... بمعانيك مستهام معنّى
أنت لغزت في اسم زنة حذر ... خذها مثل ما حماه المثنى
وأجبنا عما ذكرت سريعاً ... غير أنا على الأمور اقتصرنا
ولمجد الدين بن الظهير رحمه الله يقول:
أما والمطايا في الأزمة تمرح ... وقد شفها طول السرى فهي طلّح
تيمم من أرض الحجاز منازلاً ... لها دونها مسرىً فسيح ومسرح
قسى عليها كالسهام سواهم ال ... وجوه كما أمسوا على النوق أصبحوا
يحجون من بطحاء كعبة مكة ... تحط بها الأوزار عنهم وتطرح
يميل بهم سكر السهاد....... ... على كل كور غصن بان مرنح
أضاء لهم من بارق لمع بارق ... فألحاظهم تدنو إليه وتطمح
لاسم منى الصب الكثيب وأنتم ... ملكتم أبيّاً من قيادي فاسجحوا

فصيح لساني أعجم جيرة بكم ... وأعجم دمعي بالصبابة مفصح
فإن لك بالشكوى إليكم معرضاً ... فشأني بشأني في هواكم مصرح
إذا لم يكن ذنباً سوى الحب فاعذروا ... وإن كان ذنباً فرط حي فأصفحوا
بمرتاح قلبي لوعة مطمئنة ... وأعلاق وجد برحها ليس يبرح
يلح عزيم في غرامي كلما ... لحاني عليكم عادل مستنصح
ومن بإخفاء الهوى مذيعة صبىً ... لنائلكم بالحزن يقرى ويفرح
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
غش المفند كامل في نصحه ... فاطلب وقوفك بالغوير وسفحه
واخلع عذارك في محل رأيه ... يزداد دمع العاشقين وشحه
وإذا أسرى سحراً طليع نسيمه ... مالت به سكراً ذوائب طلحه
ودع الوقار بحب ساكنه ولا ... تحفل بذم أخي الوقار ومدحه
ما صادق في الحب من هو عالم ... فيه بحسن صنيعه أو قبحه
جهل الهوى قوم فراموا شرحه ... حل الهوى وحبابه عن شرحه
وبي الذي يغنيه فاتر طرفه ... عن سيفه وقوامه عن رمحه
صب يؤنس بالغرام نفاره ... ويجد في نهب القلوب بمدحه
ذو حبة شرقت بماء نعيمها ... كالورد أشرقه نداه برشحه
وكأن طرته ونور جبينه ... ليل تألق فيه بارق صبحه
استعذب التعذيب من كلفي به ... والحب لذة طعمه في برحه
يا ساهياً من جفنه غصناً غدا ... ماء المنية بادياً في صفحه
ومعربداً في صبحه ومباعداً ... في قربه ومحارباً في صلحه
ثم لا جناح عليك في سهري وما ... ألقاه في ليلي الطويل وجنحه
وسعى إليك بي العذول وإنني ... لأجيب أن ظفر العذول بنجحه
طرفي وقلبي ذا يفيض دماً وذا ... دون الورى أنت العليم بقرحه
وهنا يحبك شاهدان وإنما ... تعديل كل منهما في جرحه
والقلب منزلك القديم فإن تجد ... فيه سواك من الأنام لفتحه
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
إذا حان من شمس النهار غروب ... تذكر مشتاق وحن غريب
وإن صدعت أبكيه صدعت حبيباً ... بها من تباريح الغرام يذوب
أأحبابنا والدار منكم قريبة ... هل الوصل يوماً إن دعوت مجيب
وهل عندكم حفظ بعهد متيم ... حليفاه منكم لوعة ونحيب
يحنّ إليكم والخطوب تنوشه ... ويشتاقكم والنائبات تنوب
لم أنه لا يملك الحلم ردهاً ... إذا هب من ذاك الجناب جنوب
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
طاف بدر الدجى بشمس النهار ... في رياض أنيقة الأزهار
مشرقات يضم شمل الأماني ... في رباها بفتحة النوار
وأتانا بها يقد أديم الل ... يل منها صوارم الأنوار
بنت كرم حفت بكأس زجاج ... ثم زفّت بنغمة الأوتار
جاء يسعى بها إلينا وقد حا ... طت يد النوم أعين السمار
وكأن النجوم نور رياض ... وكأن المريخ شعلة نار
ذو دلال ما زال يحيى ويجني ... زهر الحسن منه بالأبصار
رقّ جسماً حتى لقد كان يدمي ... ه هبوب النسيم بالأسحار
خاف ألحاظنا فحط سباجاً ... حول ورد الخدين أس العذار
شنآن راضته لي سورة الرا ... ح وقد كان آنساً بالثغار
لابس حلتي جمال وتيه ... في هواه خلقت ثوب الوقار
كنت ذا عفة ونسك فآثر ... ت افتضاحي في حبه واشتهاري
وإذا رمت سلوة عن هواه ... خل عزمي بعقدة الزنار
مسكر باللحاظ يحسب في عين ... يه كأنها حانة الخمار
ما رأينا من قبله بدر تم ... بادياً نوره من الأزرار

وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أنس الطرف بالرقاد مآقناً ... وأطعت العذول واللواما
وتناسيتكم وأقصر قلب ... لم يزل مغرماً بكم مستهاما
هدأت مني الضلوع فلا أت ... لف وجداً ولا أذوب غراما
والمحب الذي عهدتم جزوعاً ... خيّم الصبر عنده وأقاما
كم جنيتم وكم تجنيتم ظلماً ... وحلّلتم الدماء الحراما
لا دنا نازح الديار ولا ... قدّر الطيف أن يزور لماما
كان قربي بكم يزيد أوامي ... فغدا بعدكم يزيل الأواما
وقال من أبيات:
ما شأنه الألم الملم ولم يزل ... لأليم أدواء القلوب طبيبا
فالريح تزداد اعتلالاً كلما ... هبّت ولا تزداد إلا طيبا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قلة الحصن مانعي قصد أرض ... أنت فيها وكثرة الإفلاس
ولو أني ملكت أمري لوافي ... تك سعياً على قدمي وراسي
لو ترق بعدكم دمشق ولا ... ما يزيد كلاّ ولا بانياس
ولو أن النسيم يحمل شكري ... لأتاكم معطر الأنفاس
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قد دفعنا إلى زمان لئيم ... لم تنل منه غير غلّ الصدور
وبلينا من الورى بأناس ... تركتهم أعجازهم في الصدور
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أكثر اللوم في الحبيب أناس ... عيّروني ببذله بعد منع
قلت شمس الضحى أشد ابتذالا ... وهي محبوبة إلى كل طبع
وكان مجد الدين المذكور قد كتب إلى محي الدين بن زيلاق قصيدة رأئقة صدر كتاب فأجابه على وزنها يقول:
يا أيها المولى الذي ما ونى ... عن حبه القلب ولا قصرا
ومن صحبنا العيش في قربه ... طلق المحيا ضاحكاً مسفرا
وافى كتاب منك وفيته ... غاية الفضل جلّ أن يحصرا
حلّ محل الوصل من عاشق ... شرّد عنه الهجر طيب الكرا
يميل في إنشاد ألفاظه ... كأنما ضمنته مسكرا
زيد من التقبيل حتى غدت ... شفاهنا مرقومة أسطرا
إذا أحال الشيء تكراره ... أعطاك حسناً كلما كررا
كأنه روض سقاه الندى ... ريّاً فأضحى بيته مزهرا
وما رأينا قبله روضة ... نمقها الحبر ولا خبرا
يخبرنا عن مثل أشواقنا ... أكرم به مستخبراً مخبرا
يذكرنا والعهد لم ننسه ... فيوجب النسيان أن يذكرا
وكيف لا يرعى عهود امرئ ... ما شأنها شين ولا كدرا
لله أيام تدان غدا ... ليل المنى في ظلها مقمرا
أيام تدنو بك أفراحنا ... إذ اتقاها الهم أو نفرا
إذا وردنا مورداً للضنى ... لم يرض إلا مثله مصدرا
ما ينسى لا ينسى حمى جلّق ... مطرد إلا مواه رطب الثرى
كأنما الأسباط حلّوا بها ... ففجروا أحجاره أنهرا
في أي فصل زرت أوطانها ... قلت الربيع الطلق قد أخضرا
يقصر الواصف عن حسنها ... وإن غدا في وصفه مكثرا
ترى صباها نشراًعطرها ... كأنما قد ضمّنت عنبرا
والطير في مزهر عيدانها ... تحسب في ترجيعها مزهرا
يا حبذا الربوة من موطن ... الأنس ما أبهى وما أنضرا
وحبذا أخضر ميدانها ... حبت بصيد الصبي أسد الشرا
والشرف العلى الذي حسنه ... مستوقف ناظر من أبصرا
أرض دمشق لا أعب الحيا ... رياك إن راح وإن بكرا
لو لا صروف الدهر ما خلتني ... للبعد عن أوطانها مؤثرا
يا مجدنا إن قيل مجد و يا ... سيدنا المستعظم الأكبرا
أمتى أخذ الدهر أمنية ... كنت المنى الصادق دون الورى

وقال المولى شهاب الدين محمود أعزه الله يرثي الشيخ مجد الدين محمد بن الظهير رحمه الله:
تمكن ليلي واطمأنت كواكبه ... وسدت على صبحي فغاب مذاهبه
و ولي بأنسي من أتى لطفه به ... ونازعني ثوب المسرة واهبه
إلا في سبيل من ضيم بعده ... حمى لي حتى لان للجهل جانبه
وفي ذمة الرضوان بحر ندي غدت ... مشرّعة للواردين مشاربه
ولله من فاق المجارين سعيه ... وإن أدرك المجد المؤثل طالبه
إمام مضى بالفضل والجود والحجي ... وكل إلى الميقات يرجع ذاهبه
بكته معاليه ومن ير قبله ... كريماً مضى والمكرمات نوادبه
ولا غرو أن تبكي المعالي بشجوها ... على المجد إذ أودي وهنّ صواحبه
فأي إمام في الهدى والندي عدت ... ولاملّه آرابه ومآربه
وأي كريم الأصل والنفس ينتمي ... إلى شرف العلم النسيب شاسبه
أظن الردى نشر السماء وأنه ... علا فوقه فاستنزلته مخالبه
أما والذي أرسى تيسر حكمه ... لقد طاش حلمي يوم رست ركائبه
وقد كدت أن أقضي غراماً كما قضى ... فؤادي الذي قد أدرك الفرض واجبه
سوى فوق أعواد المنايا وإنها ... وإن كرهت نحو النجاة نجائبه
وأمّ ثرى ما كان لولا حلوله ... به يكتسي ثوب السماء سباسبه
ثوى منه في روض أريض أنيسه ... تقى كان في كل الأمور مصاحبه
مضى وينأى كالنجوم لأنه ... مدى الدهر لا ينفك يطلع غاربه
وولي ودمعي مثل جود يمينه ... وفيض إياديه سواد سواربه
أمرّ عليّ إيثاره ودياره ... فيلعب بي حزناً عليه ملاعبه
وترفع حجب الهدب عن ماء أدمعي ... ويخفض طرفي عن سواه مناصبه
ألا يا فؤادي دم حبيساً على الأسى ... فقد حقق الدهر الذي أنت راهبه
وقد أوجد الوجد المبرح فقده ... وشابت هنى العيش فيه شوائبه
وأصلى فؤادي فقده النار فالذي ... ترفّقه أجفان عينيّ ذائبه
تضعضع طود العلم والحلم بعده ... وحدّت عليه يوم مات ذوائبه
وأضحى أخياً إذ أتاه نعيه ... ودكت أعاليه ورجت جوانبه
وأصبح بحر الفضل ملحاً نميره ... وطاميه الطامي سواء وناضبه
إليه انتهى علم البلاغة وانتمى ... ومنه استعاد به فعاد أعاربه
وحين عذت عز الفضائل بعده ... يتامى علمنا أنهن ربائبه
وقفنا وقد جد الوداع عشية ... فممسك دمعاً يوم ذاك وساكبه
ليودع نفس المجد بيتاً مصرعاً ... طويلاً على زواره متقاربه
تولى وهل يلوى علينا وقد غدت ... تلقاه من حور الجنان حبائبه
ظننت باني مخلص في وداده ... وأخطأت لا بل أسوأ الذنب كاذبه
رجعت وأمسي الجود يصحب نفسه ... إلى رمسه فالجود لا أنا صاحبه
وقد كان لي منه إذا الخطب أظلمت ... أوائله رأى رضىً عواقبه
وكنت إذا ما تهت في الجهل والصبى ... هداني لرشدي علمه وتجاربه
فمن لي بجفن مسعد لي في الأسى ... عليه فجفني عليه والجفن خاضبه
أمولاي مجد الدين دعوة مفرد ... غدوت على قرب المزار مجانبه
سلكت سبيلاً عشت خوف سلوكها ... وأنت خميص البطن بالصوم شاحبه
وعمرت داراً لم تزل لتحلّها ... تحن إلى يوم النوى وتراقبه
وخلّفت علماً يستضاء بنوره ... إذا الجهل سارت في الوجود غياهبه
ليهنك خير كنت قدماً تسره ... وتستره عنا ويحصبه كاتبه

وسر في سنا الذكر الذي كنت دائماً ... تحثّ على تكراره وتواظبه
وزر سيداً قد كنت إن رمت مدحه ... هدتك إلى النظم البديع مناقبه
ودونك ما أملته من رغائب ... فمدحك فيه باهرات غرائبه
إذا جئته تسعى إلى الحوض طامياً ... وطوبى لك العذب الذي أنت شاربه
ولا زال وفد العفو نحوك والرضى ... تفوض عادته وينزل آئبه
وقال إن مجد الدين محمد بن الظهير رحمه الله اجتاز بحماة ومعه بضاعة فطلب منه المكس، فكتب إلى الصاحب شرف الدين عبد العزيز رحمه الله وزير صاحب حماة، إذ ذاك يقول:
يا أيها الصدر الذي أضحى بإن ... كار العلى كلفاً بغير تكلّف
هل يعذروا النواب في تكليفهم ... حق الجوار لشاعر متصوف
متسربل حلل الظلام مشمّر ... في جمعه الرزق الشتيت يطوف
صوناً لها لأحبابه عن بذله ... في ردّه أو في إجابة مسعف
يطرى ويطرب في الحديث كأنما ... في كل قافية عتيق القرقف
والألمعية وهي فيك خليقة ... تغني عن التعريف من لم يعرف
أنا واثق وجميل ظني فيك مه ... ديّ فكن بجميل شكري مكتف
ومتى توقف عنه أمرك ساعة ... بذل الذي طلبوا بغير توقف
فكن الكفيل بمنع باغ معتد ... عمر الزمان ومنح باغ معتف
محمد بن سوار بن إسرائيل بن الخضر بن إسرائيل بن الحسن بن علي بن الحسين أبو المعالي نجم الدين الشيباني الدمشقي. مولده بدمشق في الساعة الرابعة من نهار الاثنين ثاني عشر ربيع الأول سنة ثلاث وستمائة، و توفي بدمشق ليلة الأحد رابع عشر ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن خارج باب توما عند قبر الشيخ رسلان رحمة الله عليه. ذكر نجم الدين المذكور، أن أهله قدموا الشام مع خالد بن الوليد رضي الله عنه، واستوطنوا دمشق، وأنه صحب الشيخ أبا الحسن بن منصور اليسري الحريري رحمه الله سنة ثماني عشرة وستمائة بعد أن لبس الخرقة من الشيخ شهاب الدين أبي حفص عمر بن محمد السهروردي رحمة الله عليه وأجلسه في ثلاث خلوات، وكان المذكور أديباً فاضلاً قادراً على نظم الشعر مكثراً منه، نفع الله به الأبيات الجيدة والمعاني النادرة، ومدح الأمراء والكبراء وغيرهم، وأشعاره كثيرة منها مادحاً فيه جده والشيخ شرف الدين عمر بن الفارض رحمه الله تعالى، ومنها غير ذلك، فمن شعره يقول:
لقد عادني من لاعج الشوق عائد ... فهل عهد ذات الخال بالسفح عائد
وهل نارها بالأجرع الفرد يعتلي ... لمنفرد ساب الدجى وهو ساهد
نديميّ من سعد أديراً حديثها ... فذكر هواها والمدامة واحد
منعمة الأطراف دقت محاسنا ... كما جلّ في حبي لها ما أكابد
فللبدر ما لانت عليه خمارها ... وللغصن ما حالت عليه القلائد
فديتك هل المامة من خيالكم ... تعود لفاقد مل منه العوائد
وكيف يزور الطيف والليل عاكر ... عليه ولا الطرف المسهد راقد
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
رفقاً حنانيك بي يا أيها الحادي ... وأنزل بنجد متى ما رمت إيجادي
وأبلغ تحية من أودي الغرام به ... أهل الكثيب والإبانة الوادي
وقل لها يا فدتك النفس كيف بأن ... يغيب أعناك قلب الهائم الصادي
أطلت مدة هذا الهجر ظالمة ... ما كان أغناك عن صدي وأبعادي
قد ملّ صحبي ثوائي في منازلكم ... وطال في عرصات الدار تردادي
وشاع في الحي أني مغرم بكم ... فصرت فيكم حديث الرائح والغادي
يا هذه وأحاديث المنى صدع ... هل ينجز الدهر من لقياك ميعادي
غادرت بالليل دمعي جعفراً فمتى ... أرى ولو بمنامي وجهك الهادي
وقال أيضاً:
يا من ثنائي وفؤادي داره ... مضناك قد أقلقه تذكاره
صددت عنه قبل ما وصلته ... وكان قبل سكره خماره

ما كان يا بدر الدجى أسعده ... لو هتكت في حبكم أستاره
لي غصن يحمل بستاناً غدت ... ناضره في ناظري أزهاره
نرجسه لحاظه وورده ... وجنته وآسسه عذاره
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
منكم إليكم مهربي ومآلي ... وبكم عليكم في الهوى إدلالي
يا من أردت بذلتي في حبهم ... وأخو لهوي من لد بالإذلال
إني أجلّ محبكم عن أن يرى ... مستوسلاً بسواكم بسؤالي
وأكاد أكتم عنكم وجدي بكم ... لولا أطالعكم على أحوالي
لا تحسبوني خائفاً من هجركم ... أو راجياً منكم دوام وصال
هيهات لي وحياتكم بهواكم ... شغل عن الأعراض والإقبال
لم تنعموا كرماًعليّ بودكم ... إلا لينعم بالمحبة بالي
أهلاً بأدواء الغرام وحبّذا ... برح الهوى ولواعج البلبالي
ما كان فيه رضاكم فهو المنى ... والقصد وهو نهاية الآمال
وله مما نقلته من خطه:
من لي ببرق من حماك لموع ... يقضي لبانة قلبي الموجوع
يا شاكياً بمحل سرى من حمى ... قلبي ومن طرفي مكان هجوعي
مالي أذاد عن الورود وحوض ... كم عن وارد به ليس بالممنوع
أحبابنا لم أستمح مباخلاً ... منكم ولا ناديت غير سميع
عودوا تعود سقم من أو ... دعتم أعضاءه الأسقام بالتوديع
وصلوا محبكم فليس نوالكم ... عن طالبي الإحسان بالمقطوع
أيجوز أن أقضي وقد أحببتكم ... بالبعض من ذاتي وبالمجموع
منكم عليكم مهربي وترحلي ... عنكم بحكم الدهر غير رجوعي
مذ أشرقت في أفق ذاتي شمسكم ... أضحى غروبي عنكم كطلوعي
وله، مما نقلته من خطه:
يا رب من ليل خيال مسلم ... يجوب إلى البيداء والليل مظلم
فيا حبذا الوداد طرفاً مهوماً ... ومن أين للمشتاق طرف مهوم
وبي جيرة جاروا فأجروا مدامعي ... وبانوا ولكن في فؤادي خيموا
أشاهدهم حتى كان لقاؤهم ... يقين ومصدوق الفراق توهم
وأسمر معسول اللمى رمح قده ... يميل على العشاق وهو مقوّم
حوى خده وطرفى معينه ... وناراً ولكن في فؤادي تضرم
أموت به عشقاً وأنكر حبه ... وأسأل عن أخباره فأجمجم
وأحجم إجلالاً عن وصاله ... ويغلبني صدق الرجاء فأقدم
وأكتم حبي عنه ما بي تصرفاً ... فيا من رأى حباً عن الحب يكتم
وأبخل عن غيري بأسرار حبه ... ويحلى بأسرار الغرام تكرم
وله مما نقلته بخطي منه:
صد تيهاً وأعقب الصد وصلاً ... ظالم رق لي فأحدث عدلا
إن من سفرة الصدود منيباً ... من ذنوب الجفا فأهلاً وسهلا
وثنى عطفه الرضى دون صب ... مال عنه مع الوشاة وملا
فأعاد السرور بل عاد مضناً ... مذ رآه من عائديه وبلا
ذو خيال الحبيب حلو ولكن ... هو من بعد روعة الصد أحلى
يا قضيب الأراك إذ يتثنى ... وهلال في السماء إذ يتجلى
كيف عادرني لديك دليلاً ... يا أعز الورى لدي وأجلى
وأطعت العذال في مستهام ... لم يطع فيك مذ أحبك عذلا
لا يليق الصدود وهو كثيف ... بك يا ألطف البرية شكلا
إن حالي في الحب يعجب منها ... كل من كان للمحبة أهلا
ربع جسمي بغيث دمع محيل ... من رأى الغيث فذا واجب محلا
يا عزيز الذات بالذل فيه ... وعزيز من في المحبة ذلا
حسدت مقلتي الثرى إن تطاها ... فتمنت لو أصبحت لك نعلا
وله مما نقلته من خطه أيضاً:
إن أم صحبي سمراً أو أراك ... فإنما مقصودهم أن أراك

وإن ترنمت بذكر الحما ... فإنما عقد ضميري حماك
وإن دعا غيرك داع فما ... عندي إلا أنه قد دعاك
وإن بكى صب حبيب فما ... أحسب إلا أنه قد بكاك
يا جملة الحسن وتفضيله ... أجملت إذ قرعتني سواك
ويا غنياً عن غرامي به من لي ... بأن يرحم فقري غناك
أحبيت باللطف موات الهوى ... وجدت حتى عم كلا جداك
ما أعرضتك نعماك عن سائل ... في كل ناد عارض من نداك
وقد ملأت الكون عشقاً فما ... أعرف قلباً خالياً من هواك
وله مما نقلته من خطه أيضاً:
لعرفكم في كل شارقة نفح ... لنار اشتياقي منه في كبدي لفح
وبالسفح منكم بارق متألق ... لسحب جفوني كلما شمته سفح
وبالمنحنى ربع قديم يد البلى ... يجدد أحزاني عليه ما يمحو
ومنها أيضاً:
علام ترى للبين عيساً طلائحاً ... ولما يلح لي منكم البان والطلح
أبيت أشيم البرق من نحو أرضكم ... فمن ومضه لمع ومن ناظري لمح
واستشرح النكباء عنكم صبابة ... رموز حديث عند قلبي لها شرح
وحقكم ما قرح الدمع ناظري ... ولامسني للبين من بعدكم قرح
وكيف ولم يبرح فؤادي بعدكم ... يحلّ بدار قد أقمتم بها برح
وحبكم كالشمس في أفق باطني ... فمغربة ليلاً ومقبوضة صبح
فحتام استسقى الحيا لدياركم ... وفي سحبه شح وفي ناظري سمح
وله، مما نقلته من خطه أيضاً:
أقوت معالمهم وخف قطين ... ونأوا فطار فؤاده المحزون
صب يلوم العيس في قطع الفلا ... بهم وحاديهم منه حنين
يا برق إن أهلّ شأن ربوعهم ... هملت لها من ناطريه شؤون
ما قيّد الأظعان مهجة نفسه ... إلا ليطلق دمعه المسجون
ظعن هتكن الليل حين سرينه ... وحبابهن عن العيون مصون
حجبن بالاشباه وهي ذوابل ... ومعاطف وصوارم وجفون
وجرعن نقب المنحني فتأرجت ... بنسيمهن أجارع وحزون
ولقد وقفنا للوداع عشية ... وعلى ملاحظة العيون عيون
أبكي الدما بين الذوابل شرعاً ... وكأنني في ناظري طعين
يا حيرتي بلوى الأراك دنا النوى ... وعليكم للمستهام ديون
ما كنت أعلم أن عهد فتاتكم ... مين ولا أن الفراق منون
بنتم فأخفاني الأسى من بعدكم ... سقماً فما أنا لا أكاد أبين
عجباً لطرفي كيف لم يجئ الكرى ... فيه وماء الدمع منه معين
وقال أيضاً رحمه الله:
أما آن أن تبدو لعينك نارها ... وهذي المطايا قد براها سفارها
شققت بها وهنا على الأين والوجا ... بطون موام كالظلام نهارها
وجئت بها والآل يلمع بالضحى ... ظهور فياف لا تجاب قفارها
إذا العتب قد أنكرتها بطويلع ... مرابع يزهو شيحها وعرارها
وإن ظمئت منيتها ماء وحرة ... ومن دونه أدلاجها وابتكارها
طلائع دار العامرية قصدها ... وأين من البزل المصاعيب دارها
وهل قربتك العيس منها أترتجي ... زيارتها هيهات منه مزارها
ما هي إلا الشمس تحسب ضوءها ... قريباً وفي الأوج الرفيع منارها
ممنعة أشجار ساحتها الفنا ... يظل الأماني والمنايا ثمارها
تحف بها تحت العجاج كتائب ... إلى مضر الحمراء ينمى نجارها
تعيد الرجا صبحاً بلمع خدودها ... وتجعل ضوء الصبح ليلاً غبارها

فعد لا يمنيك الأماني غرورها ... فقد طال ما بالنفس أودي اعتبارها
يميناً بعهد سالف كان بيننا ... وأسرار حب لا يحل خمارها
لأقتحمن الهول فيها بعزمة ... إلى الفلك الأعلى يطير شرارها
فإن حان ميقاتي لديها ولم أفز ... بتقريبها فليهن نفسي افتخارها
وفيمن أخاف الموت فيها أهل لنا ... سواها وهل غيري تكن ديارها
وما الوصل إلا الفصل عن رسم منزل ... متى فارقته العيش قرّ قرارها
وهل حاجب عنها سواك فإن يبن ... عن المنزل الأدنى يزول استتارها
متى بان ما فارقت بعد فراقه ... بكتها بلا شك وجادك جارها
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
عسى الطيف بالزوار منك يزور ... فقد غاب عنه كاشح وغيور
وكيف يزور الطرف طرفاً مسهداً ... له النجم بعد الظاعنين سمير
ظعائن تغزو الجيش وهي رديفة ... عليهن من سمر الرماح ستور
إذا نزلوا أرضاً تولّت محولها ... وأصبح فيها روضة وغدير
وإن فارقوا أرضاً غدت رمالها ... من الطيف مسك والتراب عبير
أأحبابنا النأون أدعوا بيننا ... سهول وغور قطعهن عسير
وداركم بالبان عن أيمن الحمى ... يلوح عليها نضرة وسرور
قريبة عهد بالخليط رسومها ... مواثل ما محت لهن سطور
كأن مواطي الخيل فيها أهلة ... وآثار أخفاف المطي بدور
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا هاجري وله خيال واصل ... أتراك تسمع بعض ما أنا قائل
ما كان ذنبي حين خنت مودتي ... وهجرتني ظلماً وهجرك قاتل
أصبحت تظلمني وظلمك بارد ... وتميل عن وصلي وقدك مائل
وأراك مقترب المزار وبيننا ... يخفاك يا أمل النفوس مراحل
أصبحت من ذهبي خدك في عنا ... عما سواه فلم عذارك سائل
ديوان حبك فيه طرفك ناظر ... والصبر مصروف وسقمي حاصل
وعذار خدك بالغرام موقع ... وهواك مستوف وقدك عامل
أذكي الصبي نار الجمال بخده ... فلذاك نرجس ناظريه ذابل
وله وكتب بها إلى كحّال:
يا سيد الحكماء هذي سنة ... أفنيتها في الطب أنت سننتها
أو كلما كلت سيوف جفون من ... سفكت لواحظه الدماء سننتها
وقال أيضاً من أبيات:
أنت الأمير على الملاح بأسرهم ... وعليك من قلبي لواء خافق
وله أيضاً رحمه الله تعالى:
ما سر ناظره مذ غبتم نظر ... ففيم حكم فيه الدمع والسهر
قد كان يكفيه هجران الخيال له ... لكن قدرتم فلم تبقوا ولم تذروا
يا راحلين في أعقاب ظعنهم ... قلب يقلبه الأشواق والفكر
ما الدار بعدكم داري وإن حسنت ... مغنىً ولا أهلها أهلي وإن كثروا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أيها المعتاض بالنوم السهر ... ذاهلاً تسبح في بحر الفكر
سلم الأمر إلى مالكه ... واصطبر فالصبر عقباه الظفر
لا تكونن آيساً عن فرج ... إنما الأيام تأتي بالغير
كدر يحدث في وقت الصفا ... وصفا يحدث في وقت الكدر
وإذا ما شاء ذهن مرة ... سرّ أهليه ومهما شاء سر
فارض عن ربك في أقداره ... إنما أنت أسير للقدر
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
كتم الغرام ولج في كتمانه ... زمناً فخر بشأنه عن شانه
والصب من نصحي بجمر غرامه ... ثملاً يفوح الطيب من أردانه
لا ترتجي فوزاً بجنة وصل من ... تهوى ولا تخشى لظى نيرانه
متلذذاً بالذل مغتبطاً بها ... يلقاه من إهماله وهوانه
وبمهجتي ريان من ماء الصبا ... نشوان لا يلوى على نشوانه

حلو الشمائل والمعاطف مطمع ... مضناه بعد الناس في إحسانه
شاكي السلاح ورمحه من قده ... وسنانه المفتاك من وسنانه
متلثم بعذاره متقلد ... بالصارم المصقول من أجفانه
بستان حسن في قضيب مائس ... ولقد عهدنا الغصن في بستانه
يدنو ويبعد رقة وتغررا ... ويظل يمزح حرفه بأمانه
وإمام ظعن الحي مهروب الشظى ... لا يتقي السطوات من سلطانه
يجلو تبسمه الدجى وجبينه ... فعلى تبسمه هدى ركبانه
ويميس في ظل الإراك قوامه ... فتخاله للبين من أغصانه
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
لصرف الليالي عندي الحمد والشكر ... وقد صار يعموراً بك السرّ والجهر
ظهرت وسيرت الوجود مظاهراً ... وكان الذي يجلو محاسنك الستر
ومعتذر بالحسن أمسيت عبده ... وأصبح لي مولى له النهي والأمر
معاطفه بالعطف تطمع صبّه ... وخط عذاريه لعاشقه عذر
وقامته النشوى وعيناه واللوى ... ثلاث خمور عال عقلي بها السكر
فعذبه يحلو..... لديه عذابه ... وما سورة العاني يلذ له الأسر
ونشوان من سكر الشباب قوامه ... يقر له الخطى والغصن النضر
على غصنه بدر وفي فرعه دجى ... وفي ثغره خمر وفي طرفه سحر
وفي قربه بعد وفي وصله جفا ... وفي ظلمه جور وعندي له شكر
ومطرورة ترضى بوحشة طرده ... ومهجورة ظلماً يطيب لها الهجر
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وحقك ما عنك لي مذهب ... وحبك لي أبداً مذهب
وفيك يلّذ لجسمي الضنا ... ويرتاح قلبي بما يتعب
ومحتلم الطرف في بهجتي ... يجور وفي عدله أرغب
غرير غريز له ناضر ... يقر له الصارم المقتضب
ونشوان من مسكرات الدلا ... ل توهم أن الحفي يحجب
ترى أنني راغب في رضاه ... وإني من صده أرهب
وإني إذا فاه لي منطق ... بذكر فضائله أخطب
ومن راح سكران من حبه ... فليس يصح له مطلب
ولي معرض لدى إعراضه ... وكل الذي يرتضى طيّب
وكم ليلة نلت من كفه ... مداماً ومن طرفه أشرب
صبرت على ما ساءني ... وأعتبه وهو لا يعتب
ويختلف الطرف والقلب فيه ... فيصدق هذا وذا يكذب
وبالمنحنى عرب بيضهم ... إلى أسود أجفانهم ينسب
نسيمهم يستتر الهوى ... وبرقهم للجوى يلهب
وعن كل غارة جيش لهم ... قدود غدائرهم تغرب
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وفي لي من أهواه جهراً بموعدي ... وأرغم عذالي عليه وحسّدي
وراد على شحط المزار تطولا ... على مغرم بالوصل لم يتعود
فيا حسن ما أبدي لعيني جماله ... ويا برد ما أهدى إلى قلبي الصدى
ويا صدق أحلامي ببشري وصاله ... ويا نيل آمالي ويا نجح مقصدي
تجلى وجودي إذ تجلى لباطني ... بجد سعيد وبسعد مجدد
لقد حق لي عشق وأهله وقد ... علقت بكفي جميعاً بموجدي
نديميّ من سعد أريحا ركائبي ... فقد أمنت من أن تروح وتغتدي
ولا تلزماني النسك فالحب شاغلي ... ولا تذكرا لي الورد فالراح موردي
ولا تقفاني في الرسوم التي عفت ... فقد طال حبسي بين نوء وموقد
ومرّا على حيّ بمنعرج اللوى ... فقولا لغزلان الصريم ألا ابعدي
ولا تسعداني بعدها لكما البقا ... فما لي بعد اليوم فقر لمسعدي
أمن بعد ما قد برّد الوصل غلتي ... وزاد الكرى أجفان طرفي المسهد

وهامت بي الصهباء وجداً فكل من ... سقاها له قلب إلى رؤيتي صدي
وأمسيت والكأسات شمى وأصبحت ... عروس حمياً الحان تجلّى على يدي
ونادمت في دير الخنيس غزالة ... وزخرف لي في هيكل الدير مقعدي
وأضحت ظباء الحي صيد خلاعتي ... وإن صدن من أهل النهى كل أصيد
وصارت لقلبي قوة نبوية ... مميزة بين الهدى والتهود
أضلّ وفي نور الجمال تقلبي ... وأخشى وفي ظل الحلال ترددي
ويدركني نقص ومعنى كماله ... إذا سرت في بيداء قصدي مزودي
وأرضى بدين المانوية ملّة ... وديني في حييه دين موحد
ودأبي وعزمي والدجى وقراره ... فقد أبت العلياء إلا تفردي
وجدا وحدا في العلاء كل عائق ... ولا تصغيا يوماً لعذل مفند
ولا تيأسا من روحه وتأسيا ... فكم معرض في اليوم يقبل في غد
فتى الحي صبّ باع مهجة نفسه ... لجيرة ذاك الحي نقداً بموعد
هو الحب إما منية أو منية ... ودون العلى حدّ الحسام المهند
ألم تريا أني وجدت تلذذي ... برؤياه عقى جيرتي وتلددي
وقد عشت دهراً والجمال يهزني ... ويطربني الإلحان من كل منشد
وأغزو وفي ليل الغدائر دائباً ... أضلّ ومن صبح المباسم أهتدي
ويسقم جفني كل جفن وتارة ... يورّد دمعي كل خدّ مورّد
فطوراً أرى في الربع يبدو تولهي ... وطوراً وراء الظعن يوهن تجلدي
أحنّ للمع النار شبّ ضرامها ... بنعمان في ظل الطراف المعمّد
وأصبو متى هبّت صباحاً جدية ... يخبرني عن منجد غير منجّد
ويخجل أجفاني السحاب بوبلها ... حتى لاح برق برقة ثهمد
أحال حضيض السكر أوج ترفعي ... وأحسب وادي الفوق مطلع فرقد
فلما تجلى لي على كل شاهد ... ساقرني بالرمز في كل مشهد
تجنبت تقييد الجمال ترفعاً ... وطالعت أسرار الجمال المبدد
وصار سماعي مطلقاً منه بدؤه ... وحاش لمثلي من سماع مقيد
ففي كل مشهود لقلبي شاهد ... وفي كل مسموع له لحن معيّد
فصل في المشاهد الجمالية:أراه بأوصاف الجمال جميعها ... بغير اعتقاد للحلول المعبّد
ففي كل هيفاء المعاطف غادة ... وفي كل مصقول السوالف أغيد
وفي كل بدر لاح في ليل شعره ... على كل غصن مائس العطف أملد
وعند اعتناقي فيه قد مهفهف ... ورشفي رضاباً كالرحيق المبرّد
وفي الدر والياقوت والطيب والحلي ... على كل شاجى الطرف لدن المقلد
وفي حلل الأثواب راقت لناظري ... بزبرجها من مذهب ومعمد
وفي الراح والريحان والسمع والغنا ... وفي سجع ترجيع الحمام المغرد
وفي الدوح والأنهار والروح والندى ... وفي كلّ بستان وقصر مشيد
وفي الروضة الغنّاء غبّ سمائها ... تضاحك نور الشمس نوارها الندي
وفي صفو رقراق الغدير إذا حكى ... وقد جعلته الريح صفحة مبرد
وفي اللهو والأفراح والغفلة التي ... تمكن أهل الفرق من كل مقصد
وعند انتشاء الشرب في كل مجلس ... بهيج بأنواع الثمار منضّد
وعند اجتماع الناس في كل جمعة ... وعيد وإظهار الرياش المجدد
وفي لمعان المشرفيات بالوغى ... وفي ميل أعطاف الفتى المتأود
وفي الأعوجيات العتاق إذا انبرت ... تسابق وفد الريح في كل مطرد
فصل في المظاهر العلوية:وفي الشمس تجلى في تبرج نورها ... لدى الأفق الشرقي مرآة عسجد

وفي البدر بدر الأفق ليلة تمّه ... حلته سماء مثل صرح ممرد
وفي أنجم زانت دجاها كأنها ... فتار لآل في بساط زبرجد
وفي الغيث روى الأرض بعد همودها ... قبال نداه متهم بعد منجد
وفي البرق يبدو موهناً في سحابة ... كباسم ثغراً أو حسام محدّد
فصل في المظاهر المعنوية:وفي حسن تنميق الخطاب وسرعة الجواب وفي الخط الأنيق المجرّد
وفي رقة الأشعار رقت لسامع ... بدائعها من مقصر ومقصّد
وفي عود عيد الوصل من بعد جفوة ... وفي أمن أحشاء الطريد المشرّد
وفي رحمة المعشوق شكوى محبّه ... وفي رقة الألفاظ عند التودد
وفي أريحيات الكريم إلى الندى ... وفي عاطفات العفو من كل سيد
وحالة بسط العارفين وإنسهم ... وتحريكهم عند المساع المقيّد
وفي لطف آيات الكتاب التي بها ... تبسم روح الوعد بعد التوعد
فصل في المظاهر الجلالية:كذلك أوصاف الجلال مظاهر ... أشاهده فيها بغير تردد
ففي صولة القاضي الجليل وسمته ... وفي سطوة الملك الشديد التمرد
وفي جلدة الغضبان حالة طيشه ... وفي نخوة القرم المهيب المسوّد
وفي سورة الصهباء حار مديرها ... وفي يبس أخلاق النديم المعربد
وفي الحر والبرد الذين تقسما الزمان وفي إيلام كل مجسد
وفي سر تسليط النفوس ونشرها ... عليّ وتحسين التعدي لمعتد
وفي عثر الغارات يستعرف الفضا ... ويكحل عين الشمس منه بإثمد
وعند اضطرام الخيل في كل مأزق ... يعثر فيه بالوشيج المقصد
وفي شدة الليث الهصور وبأسه ... وشدة عيش بالسقام منكد
وفي جفوة المحبوب عند وصاله ... وفي عذره من بعد عهد موكد
وفي روعة البين المشيب وموقف الوداع لحران الجوانح مكمد
ومن فرقة الألاف بعد اجتماعهم ... وفي كل تشتيت وشمل مبدد
وفي كل دار أقفرت بعد إنسها ... وفي ليل ناد أو دراس معهد
وفي هول أمواج البحار ووحشة القفار وسيل بالمذاهب مزبد
وعند قيامي بالفرائض كلها ... وحالة تسليم لسر التعبد
وعند خشوعي في الصلاة لعزة المناجى وفي الأطواف عند التشهد
وحالة إهلال الحجيج وحجهم ... وإعمالهم للعيس في كل فدفد
وفي عسر تخليص الحلال وفرّة الملال لقلب الناسك المتزهد
ويبدو بأوصاف الكمال فلا أرى ... برؤيته شيئاً قبيحاً ولا ردى
فكلّ مسيء بي إليّ كمحسن ... وكل مضلّ إليّ كمرشد
ولا فرق عندي بين أنس ووحشة ... ونور وإظلام ومدن مبعد
وسيان إفطاري وصومي وفترتي ... وجهدي ونومي وادعاً وتهجدي
أرى تارة في حانة الخمر خالعاً ... عذارى وطوراً في حنية معبد
تجلى فسرى بالحقيقة مشرب ... ووقتي ممزوج بكشف سرمد
وقلبي مع الأشياء أجمع قلب ... وسرّى مقسوم على كلّ مورد
تعمرت الأوطان بي وتحققت ... كظاهرها عندي بعيني ومشهدي
فهيكل أوثان ودين لراهب ... وبيت لنيران وقبلة مسجد
ومسرح غزلان وخانة قهوة ... وروضة أزهار ومطلع أسعد
ومنبع عرفان وإسراج حكمة ... وأنفاس وجدان وقيظ تبلد
وجيش لضرغام وحذر لكاعب ... وظلمة حيران ونور لمهتدي
تقابلت الأضداد عندي جميعها ... كمحبة مجهود ومنحة مجتدي
وأحكمت تقرير المراتب صورة ... ومعنىً ومن عين التفرد موردي
فما موطن إلا ولي فيه مقصد ... على قدم قامت بحق التفرد
ولا غرو إن فتّ الأنام غلاّ وقد ... علقت بحبل من حبال محمد
عليه صلاة الله يشفع دائماً ... بروح تحيات السلام المسّود

وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
جهد المحبة لوعة وغرام ... وكآبة وصبابة وسقام
ومدامع مسفوحة وأضالع ... مقروحة وتولّه وهيام
وتذكره إن لاح برق بالغضا ... أو ناح في هدب الغصون حمام
ورضىً يزور رياضة طيفية ... يأتي بها وكفاك ذاك مقام
ومتى عدت للمرء من قضائه ... حجب فموطن كشفه الأحلام
وتذلّل وتصبّر وتجلّد ... إن عزّ مطلوب وشطّ مرام
ورضىً بأحكام الحبيب وإن جفا ... ونأى وعزّ من الخيال لمام
أوصاف باق لم تبن عن اسمه ... وبقاء أبناء الغرام حرام
والعاشقون على اختلاف شؤونهم ... عما تحققه الفناء نيام
كل تسيّر إلى سواه ولا سوى ... إلا إذا ما ظلت... الأفهام
وذروا المعارف ما يكون لأهلها ... تجنى لهم بثمارها الأيام
وقوم بهم قام الوجود لأنهم ... قعدوا بعرفان الإله وقاموا
ظهروا وقد خفيت صفات نفوسهم ... فهم لأعلام الورى أعلام
وردوا بعين الجمع فاجتمعت لهم ... صور العوالم فالشتات نظام
وجهاتهم في العلم وجه واحد ... سيّان خلف عندهم وإمام
وحقائق الأشياء في ميزانهم ... ....فما بين الأنام خصام
فظلامهم عين الصباح حقيقة ... وصباح أبناء الرسوم ظلام
والعارفون بفضلهم وراثهم ... والجاحد إنعامهم إنعام
ووراءهم قوم معارفهم إلى ... حدّ الصفات تردّها الإعظام
وهم على رتب تفاوت قدرها ... وكذاك تقسّم فضله القسام
فصل:فمن اجتلى صفة الجمال فدهره ... عشق وقصف والغرام ملام
وتشوقه الريحان والأغصان والكثبان والغزلان والآرام
وبروقه غصن غلالة خدّه ... ورد وآس عذاره تمام
ولذلك يعجبه فتاة فضلها ... شمس عليها للسحاب لثام
ويحب إخبار الغرام وأهله ... وتهزّه الأوتار والأنغام
هش تراه للخلاعة باسماً ... كالبدر جلى عن سناه غمام
يرتاح عند وجود كل لطيفة ... في الكون فهو متى بدا بسّام
ويرى المليحة في القبيح فما له ... لسوى الجمال على المدى إلمام
فصل:ومن انتحى صفة الجمال فإنه ... قبض وكل زمانه إحجام
ولديه عن كل اللطائف نفرة ... وله على أضدادها إقدام
ويلذه الإنعاب والأوصاب وال ... إنصاب والآلام والأسقام
وجميع آثار الجلال مظاهر ... لعلومه بظهورها إتمام
فترى على ضد فمن هو قبله ... فالوقت مزن والدموع سجام
أنى يرى شيئاً يلايم طبعه ... فلطرفه بدموعه إستحمام
فصل:والسالكون أمان من يسرى على ... أثر الدليل فما عليه ملام
بل حقه أن لا يقيم بمنزل ... إلا إذا ما الركب فيه أقاموا
ومعذر ركب المهابة راجياً ... بالجهد أن تبدو له الآرام
فلعل ذلك في خفارة قصده ... ولكل قصد حرمة وذمام
فصل:والزاهدون بأسرهم صنف وفي ... إثبات زهد الزاهدين كلام
والزهد في ترك الفتى بحظوظه ... أولى فكيف تفوته الأقسام
فصل:والعابدون عداد أربعة فمن ... عيد له...إمام
ثاني عبادته عليها ينبغي ... التطهير والأركان والأحكام
وله وقد تمت ظواهر أمره ... بالعلم عن علل النفوس فطام
فتراه ليس يرى الرياء ولا له ... بالخلق إشراك وذاك همام
ويرى العبادة... ... وفعالها من ربه إكرام
هذا للذي وفي العبادة حقها ... وله دلائل تقتفى وترام

منها إنارة وجهه وحصول ما ... يقضي بها الإخلاص وهو لزام
ومتى أتى بعبادة في مشهد ... أرضى بها من عقّد الاسلام
فصل:ومثمر العلم لكن سرّه ... دنس وكل قصوده آثام
ومقصر في ظاهر من علمه ... والجهل مع لقيا التعلم ذام
ولربما أهدى له إخلاصه ... بقبيض من يهدي به الإفهام
ومقصر في الحالتين فذاك من ... أربت عليه بفضلها الأنعام
صلى بلا علم وصام لأنه ... عظمت صلاة عنده وصيام
فتراه كالغضبان يشمخ أنفه ... ويقول كل العالمين عوام
ويقوم في الليل الطويل وربما ... أضحى بوجه قد علاه سخام
قد أنشدت رؤيا العبادة لبّه ... وكذاك رؤياها أذى وسمام
فافهم رسالة سرّ لاهوت أثر ... قد أنهكت ناسوته الأسقام
جاءت تقاد مطيعة فكأنما ... في كلّ قافية إليّ زمام
ما ظنها سن الشباب وربما ... قد كان كهل الحلم وهو غلام
حذرتها في بعض ليلة جمعة ... والفجر ما نشرت له أعلام
وعلام لا تعنوا المعارف لي ولي ... بمقام سيدنا الجليل مقام
صلّى عليه الله ما متع الضحى ... ومتع الصلاة تحية وسلام
على نبيه ومن هو على الهدى ... الهادي نبيّ الرحمة القوّام
من ليس ينقض ما تولى برمّه ... أبداً وليس لنقضه إبرام
وقال يمدح الشيخ علي الحريري - رحمه الله - نقلته من خطه:
حيّا الديار على علياء حورانا ... مستهزم الرعد تسكباً وتهتانا
وكيف أحمل فيها للسحاب يداً ... وربما عمّ كل الأرض إحسانا
داراً يلاقي بها العافون رحمة ... كما يلاقى بها الجانون غفرانا
تهوى القلوب لها شوفاً فلو قدرت ... طارت إليها زرافات ووحدانا
حيث المواعيد لا تفضي المواهب لا ... تحصى وعين الرضى لم يعص إنسانا
ويورد الوصل مشروع لوارده ... لم يلق من دونه سداً وهجرانا
فطائر المدح غريد على فنن العلياء مورد أسجاعاً وألحانا
والمشرفيات لا تنبو مضاربها ... والسمر تحمل رايات وخرصانا
وللقرى النار على بالعلياء مضرمة ... يعشو إلى ضوءها من جاء عريانا
وكل غير أن يخشى الموت سطوته ... ويلبس الدهر ثوب الذل ألوانا
دار إذا حل ذو منّ بساحتها ... رأى غرائب لا تحصى وأفنانا
إن حلّها عابد الغيّ بساحتها ... ديراً يضمن تسبيحاً وتحيانا
حفت بهيكله العباد قد لبسوا ... تحت المسوح من الأحزان قمصانا
فعابد قد أسال الفقر مهجته ... دمعاً وأصلاه خوف النار نيرانا
وعابد يرتجي حيث الجزاء غداً ... فما يدين به حور وولدانا
فذاك في قبض خوف لا انبساط له ... وذا تروحه الآمال أحيانا
أو حلها مسالك ألقى بجانبها ... وكائب العزم لا يسأمن وجدانا
يحملن كل بعيد إليهم قد بذل القرار والنوم للعلياء إيمانا
كالسيف يقطع من تلقاه شفرته ... والنجم يهدي لدى الظلماء ركبانا
أو حلّها عارف مذلّ بمعرفته ... رأى معارفه جهلاً ونكرانا
حتى إذا ما ارعوى أهدى نسيم ريّا ... ذاك الحباب له عرفاً وعرفانا
وقابتله بمعنى منه ناطقة ... بسرها بجوى وجداً ووجدانا
أو حلها عائق والخان مرتعه ... يلقى الندامى بها شيباً وشبانا
فواحد في رياض الإنس منبسط ... يجرّ للتيه أذيالاً وأردانا
بادي الخلاعة لا يرجو النعيم ولا ... يخشى الجحيم ولا تلقاه محزانا

وفاقد أرعشت كفيه مقلته ... وولته وهدّت منه أركانا
وصيرت بطشه عجزاً وصحته ... سقماً ووجدانه محواً وفقدانا
وصاحب لم يؤثر فيه قهوتها ... قد صار...قصفاً وإدمانا
يقول رائيه إعجاباً بيقظته ... في السكر هل تسكر الصهباء نهلانا
خان حدسها حدثت عن عجب ... تمد تغازل آراماً وغزلانا
ونشوة لو بدت في الكون ما نزلت ... في عالم الكون لا إنساً ولا جانا
وإلى كؤوس عتيق الراح دائرة ... لما يصر بعدها الندمان ندمانا
راح لو أن ابن نوح شام بارقها ... لم يخش إذ نبع التنور طوفانا
ملك التي تلبس الأقداح شاربها ... حقاً وباباتها هما وأحزانا
يسعى بها مائس الأعطاف تحسبه ... قد ركب السحر في عينيه أجفانا
بادي الجمال ترى في كل جارحة ... منه شموساً وإقماراً وأغصانا
تبدو فتحسب بدر التمّ مقتبلاً ... وينثني فخيال الغصن ريّانا
يجلو عليك بما يحوي الوشاح وما ... يحوي المآزر... ونعمانا
مؤثر الخصر مطبوع على صلف ... تريك رؤيته روحاً وريحانا
يا مالكي والذي لا شيخ أعرفه ... سواه أدعوه إسراراً وإعلانا
أجللت مدحك عن ان أقوم به ... فعجت أبعث آثاراً وأوطانا
لا يقدر المرء أن يثني عليك ولو ... أعيت بلاغته قساً وسحبانا
أنت الذي يقحم التقصير مادحه ... إلا إذا أنزل الرحمن قرآنا
أنت الذي ما له ابن فنعرفه ... وليس يملك عنه الحرف بنيانا
سرادق العز مبنى عليك وهل ... يرضى لك الله غير العز تبيانا
أنت الذي تنزل الخيرات دعوته ... لنا ويعلم ما يخفي طوايانا
أنت تنشر الأموات قدرته ... لطفاً وينطق الصمت خرسانا
أنت الذي جزت صحو الجمع متنصحاً ... بالاتحاد مراداً للذي كانا
كم رمت كائن ما أوليت مجتهداً ... فما استطعت لنور الله كتمانا
أنت الذي كلّ ما في الكون مظهره ... حقاً أقيم على ما قلت برهانا
وأنت... في موله فلا عجب ... إن فات إدراك نور الشمس عميانا
خفيت لبساً على أهل الرقاد كما ... ظهرت كشفاً لمن يلقاك يقظانا
مصداق قولي أن قد صرت محتجباً ... في عزنا وكفاني ذاك عنوانا
أنت الذي لم ينل ما نلته أحد ... ولا أحاشى من الأشياخ إنسانا
أنت الذي من حفت يمناك بعد رضى ... يمناه ألبسته يمناً وإيمانا
أنت الذي من رأى مغناك واحده ... لم يخش الدهر إملاقاً وخسرانا
منحتها ليلاً إسعافاً لطالبنا ... بما يروم وعفواً عن خطايانا
ألبستنا وصف عزّ لا نفاد له ... فأصبح الدهر يرجونا ويخشانا
أحللتنا حيث لا ترمى لمرتفع ... إذ صرت.... برّاً وترعانا
ولا يزال الذي غلا بنا أبداً ... يعمّ بالفضل أقصانا وأدنانا
فالوقت يسعدنا والوصل يسعفنا ... والسمع والراح والألحان تهوانا
والمجد يصحبنا والعز يخطبنا ... وموجد الكلّ يرضينا ويرضانا
والعلم والكشف والأحوال أجمعها ... لمن يؤصلنا أدنى عطايانا
وكل عارفة من فيض أنعمنا ... وكل فضل يعار من سجايانا
فمن يفاخرنا أو من يساجلنا ... قد قلّ أكفاءنا قصرت مولانا
وتاه والحق لا يخفى لوائحه ... على أئمة هذا الشأن أدنانا

مكاشفون بأسرار الوجود يرى ... في كل كائنة في الكون معنانا
ونحن فرسان بيد القصد يقطعها ... عسفاً ويقبلها خيراً مطايانا
أنت الذي جئت عرض البيد معتسفاً ... إليك أحمل أشواقاً وأحزانا
وكيف لا يعسف الأخطار في مهل ... وأنت قائد مرآنا ومغدانا
يا واحد كلّ ما نلناه موهبة ... من فضله أنت محياها ومحيانا
رجاك لم تبق أشواقي على أذىً ... وهل يطيق النهي للشوق سلطانا
أم هل يلام محب فيك مصطبح ... خمر المحبة إن وافاك سكرانا
قدمت نفسي علىأن لست ما قدمت ... ...بين يدي نجواك قربانا
فاغفر لجرمي وهب لي العفو عن زللي ... عما أتيت فقد فارقت طغيانا
أهوى المقام بجسمي في حماك كما ... معناي فيه فألقى منك حرمانا
ولي علائق آمال حضائضها ... السبع العلى وأعالي برج كيوانا
فارحم فتى في انتهاء الأوج همته ... قد أكرمته بقايا الحظ نقصانا
حتام أطوى الفلا عسفاً على قدم ... تحدىإذا احمرت الرمضاء صوانا
أخوض لجّ سراب القفر ذا ظما ... مود وأطوي ملاء البيد طيانا
ولا يراح فؤادي عن مفارقتي ... داراً وأهلاً وأحباباً وجيرانا
طوراً أرى لسفين البحر ممتشطاً ... إذ يرعش الرعيب ثوبنا وربّانا
وتارة يرتمي في كل مقفرة ... يهماء يستوقف الحريب حيرانا
أرخى قلائص عزم لا يعجن على ... ورود صدىً ولا يرعين سعدانا
كأنما أخذت أيدي الخطوب على ... عزمي بذرع بساط الأرض إيمانا
فتم إغرابي أسعى في اكتساب على ... أمر هل يشهد أمصاراً وبلدانا
أم هل لأطلب لا مهدي سواك إذاً ... فلا برحت عميد القلب حيرانا
حاشاي أرضى وقد وجدت حبك أن ... أشرك بحبك أنصاباً وأوثانا
أوردتني لجة البحر الخضيم فهل ... أرضى لوردي أنهاراً وخلجانا
لولاك لم أشم لبرق الشآم ولم ... أودّ بالمنحنى أثلاً ولا بانا
ولا تمنيت من بطحاء خيف منى ... حزن الديار الذي غربي نجرانا
ولم يبق لي في نوى نعماك من أمل ... ففيم أستوثق الركبان نشدانا
الكلّ أنت وبرّ الأرض أجمعها ... وكأس فضلك لا يجتاز حمانا
فهب لتفرقتي جمعاً أعيش بها ... حباً لديك وهب لي منك رضوانا
أنت السلام فإن يهدي السلام إلى ... مهدي السلام مجازا صار مهدانا
كان نجم الدين، ناظم هذا القطع لا شك في جودة شعره ومعرفته بالأدب، لكنه أطلق لسانه في هذه القصيدة النونية بما ينبو عنه السمع، ورده الشرع، ولا يحتمل التأويل. والعجب أن مدحه بما لا ينبغي في حق بشر، ثم قال:
مصداق قولي أن قد صرت محتجباً ... في عزنا وكفاني ذاك عنوانا
وكان الشيخ عليّ الممدوح - رحمه الله تعالى - صاحب دمشق في ذلك الوقت بحصن عزتا قريب وادي بردا وبقي محبوساً به مدة سنين، فجعل الدليل على صحة ما ذكره من الصفات العظيمة المنسوبة إلى حبسه، وهذا في غاية التناقض والقبح، والعجب منه كونه خفي عنه ذلك، وإنه استشهاد ساقط لا مناسبة له ولا في غير هذه القصيدة ألفاظه ينقد عليه فيها غير أنها محتملة لها تأويل يحمل عليه، وكان مع هذه المبالغة يقول عنه، إذا ذكره صاحبنا كأنه يترفع أن يقول شيخنا ماذا قيل له في ذلك يقول: شيخي شهاب الدين السهروردي وإنما الشيخ صحبته بعد ذلك مدة زمانية إلى حين وفاته، هذا سمع منه وما هو في معناه غير مرة في آخر عمره - رحمه الله أجمعين.

محمد بن عبد القادر بن عبد الكريم بن عطايا أبو عبد الله شرف الدين القرشي الزمري المصري الشافعي الفقيه العدل. كان من أعيان المصريين وهو ناظر الخزانة بالديار المصرية، وكان عنده ديانة وافرة وعبادة وتعاني الرياضة والمجاهدة، والذكر، ومحبة الفقراء وبرّهم ومخالطتهم، فتوفي في هذه السنة ودفن بالقرافة الصغرى، وقد نيف على ثمانين سنة - رحمه الله تعالى.
محمد بن عربشاه بن أبي بكر أبو عبد الله ناصر الدين الهمداني الدمشقي. كان رجلاً فاضلاً له معرفة بالحديث، سمع الكثير على مشائخ عصره، واسمع وكتب من كتب الحديث شيئاً كثيراً، وكان متقناً متفنّناً محرراً لما يكتبه. كتب صحيح البخاري في ثلاث مجلدات، وقابلها، وحررها، وسمعها على المشائخ، وصارت من الأصول المعتمد عليها بعد وفاته إلى الشيخ علاء الدين علي بن غانم - أعزه الله - فوقفها بدار الحديث المعيدية ببعلبك المحروسة على الشرط المكتوب بخطه عليها. وكانت وفاة ناصر الدين المذكور يوم الجمعة رابع جمادى الأولى من هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن يوسف بن شاهنشاه المنعوت بالتاج المعروف بابن المصري. كان فاضلاً، صنف تاريخاً للقضاة، وتوفي يوم السبت ثامن عشر المحرم بمصر، ودفن بسفح المقطم - رحمه الله.
محمد بن محمد بن بيدار أبو الثناء عز الدين المعروف بابن النوري. كان فقيهاً فاضلاً، دمث الأخلاق، عنده كرم وسعة صدر، واحتمال، وحسن عشرة، وحسن المحاضرة، ناب عن القاضي صدر الدين ببعلبك مدة طويلة إلى حين وفاة صدر الدين، فتولى الحكم بعجلون وغيرها، وتوفي ببعض بلاد الاسماعيلية، وقد تولى الحكم بها بحصن الكريف وهو في عشر الثمانين - رحمه الله تعالى.
أبو بكر بن عبد الله بن مسعود جمال الدين اليزدي البغدادي التاجر المقيم بدمشق. يعرف بالأمير جمال الدين أقوش النجيبي - رحمه الله - إذ كان نائب السلطنة بالشام المحروس، فولاه نظر الجامع الأموي، والمارستان النوري، والخوانك بدمشق، وجعله شيخ الشيوخ، ورفع من قدره فبقي على ذلك مدة. وفي مباشرته للجامع أذهب رؤوس العمد ورخّم الحائط الشمالي، وأعجله العزل فلم يتمه، وأصلح كثيراً من المواضع المتشعثة. وكذلك فعل في غيره، وكان عنده نهضة في ذلك، ثم صرف بعد عزل الأمير جمال الدين وسفره إلى الديار المصرية، وغرم مبلغاً، ولزم بيته إلى أن توفي ليلة الخميس سابع صفر، ودفن يوم الخميس بسفح قاسيون، وهو في عشر الثمانين - رحمه الله تعالى.
أبو القاسم بن الحسين بن العود نجيب الدين الأسدي الحنبلي الفقيه على مذهب الشيعة. كان إماماً يقتدى به في مذهبهم، ويرجع إلى قوله عندهم، وعنده فضيلة ومشاركة في علوم شتى، وحسن عشرة، ومحاضرة بالأشعار والحكايات والنوادر، رافقته من ظاهر بعلبك إلى ظاهر دمشق فوجدته نعم الرجل، يقوم كثيراً من الليل في السفر على صعبه، وصار بيني وبينه إنسة شديدة، وكانت وفاته ليلة الاثنين نصف شعبان بقرية جزين، وبها دفن في المجلس الذي كان يجلس فيه بداره، وجدت بخط الفقيه شمس الدين محمد الأنصاري المقيم بنحوسية ما كتب به إلى أن وفاة المذكور كانت ليلة الاثنين سادس عشر شعبان سنة سبع وسبعين وستمائة، ومولده في سنة إحدى وثمانين وخمس مائة، ورثاه الفقيه جمال الدين إبراهيم بن الحسام أبي الغيث العاملي بقوله:
عرس بجزين يا مستعبد النجف ... ففضل من حلها يا صاح غير خفي
نور ثوى في ثراها فاستنار به ... وأصبح الترب فيها معدن الشرف
نجل الحسين الذي فاق العلى شرفا ... وطود علم هوى من حيرة السلف
حتى إذا عبثت أيدي المنون به ... فأوردته سريعاً مورد التلف
لا تلزموني وإن خفتم على كبدي ... صبراً ولو أنها ذابت من الكهف
لمثل يومك كان الدمع مدخراً ... بالله يا مقلتي سحي لا تقف
لا تحسبن جود عيني بالبكا سرفا ... بل سحّ عيني محسوب من السرف
سارى مصابك بين الناس في حزن ... كان يساق له قسط من الأسف
ما زلت تهدي لهم ما عشت مجتهداً ... نوراً فما لك من فضل لمعترف
فأظلمت بعدك الأيام قاطبة ... لما اعترى شمسها خطب من الكسف

وقد يبقى لنا من بعده خلف ... يا حبذا لك من أصل ومن خلف
كأنهم حين طافوا حول تربته ... بدور تم بدت من مطلع السدف
صلى الإله على ترب تضمنه ... لقد تبوأ أنواعاً من التحف
ترب تناكره الآمال زائرة ... من وارد نحوه يهوى ومنصرف
ولما بلغت هذه الأبيات جمال الدين محمد بن يحيى بن مبارك بن مقبل الغساني الحمصي قال:
لقد تجاوز حل الكفر والسحب ... من قاس مقبرة ابن العود بالتحف
ما راقب الله أن يرمي بصاعقة ... من السموات أو يهوي بمنسخف
واعجب بجزين ما ساحت بساكنها ... مجاهل لعظيم الوزر مقترف
وقد تحيرت فيما فاه من سفه ... ومن ضلال وإلحاد ومن سرف
أتيت ويك يقول لا يفارقه ... مقال مفترش الحراء ملتحف
جهلت مقدار ما فاقت فضائله ... على النبيين والأملاك في الصحف
وقال ما ازددت إتقاناً ولو كشف ... الغطاء ورفع مسدول من السجف
وما أنت إلا كمن قد قاس منطقه ... البيت المحرم ذا الأستار بالكنف
ولا أقول لمن قاست جهالته ... الدر الثمين بمكسور من الخزف
أو من يقيس الجبال الشامخات بمن ... حط الحضيض وعرف المسك للجيف
أو من يقيس النجوم الزاهرات إذا ... سمت إلى أوجها والسعد بالحرف
ودون ذا قست نفسي قول مبتهج ... أراه فوق محلي غير ذي أنف
إني وكيف ومن أين القياس إلى ... ضوء الذي كان للرب الودود صفي
هو الذي شرفت رجلاه إذ علتا ... كيف البناء فبالله من شرف
وكان وعده خوض الحروب وقد ... ألقاه فيها بحمد الله حدّ وفيّ
وأي ما بطل لاقاه في رهج ... عنه تولى جباناً غير منتصف
أم أي ما.. قد حل في يده ... ما راح منقصفاً في صدر مقتصف
يعان طعن المولّى عنه مزدلفاً ... وليس يطعن غير المقبل الدلف
ليوم صفين نجا عمرو حين هوى ... عن الجواد بدبر منه منكشف
وكان إن زاد فقر ومسكنة ... يحنو عليه حنوّ الوالد الترف
وهو الذي إذا دعى يوماً إليها سما ... الأنام من منكر منهم ومعترف
فتب إلى الله وأسرع وابتهل لعسى ... تنال منه الرضى في عرصة النجف
ولم أوقك ما استوجبت من فزع ... ولست أجمع سوء الكيل والخشف
وما أردت بهذا العض من رجل ... بمثله خلف من غابر السلف
ما كان مجرىً له إلا ليقطع عن ... تكفير أهل التقى والدين والصلف
وإن عتبت عليه وهو يسمعني ... لقد بكيت عليه وهو في الحذف
ومن يكن بينا من أخيه يبحث عن ... التنازع في الأموال والتحف
وكان صاحبنا بالأمس في حلب ... صدقاً وكنت به بالله حدّ خفي
كم مجلس جمعتنا فيه مسألته ... ثم افترقنا بشمل غير مؤتلف
وكان يحملني طوراً وأحمله ... طوراً وأكرمه بالبرّ واللطف
فلا عدت قبره في رحمة سمحت ... تجود تربته بالوابل الذرف
ما كان إلا كمصباح أضاء وخبا ... صاف ذبالته ما عاش ثم طفى
وقد أتيت بها شنعاء منكرة ... في أخريات القوافي بغتة السلف
وكان من خلفه عن نفيه عوضاً ... لو كنت تفرّق بين الباء والألف
وإن حملتم على ما قلته غرضي ... فقد يحام من الحنيّ إلى كنفي
وإن ظننتم بي السوء فلست إذا ... أرضيت جيرة الهادي بذي أسف
وقال الجمال إبراهيم المذكور المشار إليه يرثي نجيب الدين المشار إليه بقول:

جد بالدموع فلست تلقى مثله ... خطباً فتدّخر الدموع لأجله
لا تلجأن إلى التصبر إنما ... كان التصبر ملجأ من قبله
تبغي السلوّ به وتلك شريعة ... نخت وغير حكمها من أصله
هذا نجيب الدين أصبح ثاوياً ... في لحده منفرداً من أهله
مات الهدي وتهدمت أركانه ... إذ مات واندرست معالم فضله
فالآن قد طاب البكاء ولذّ لي ... ما كنت أحرس مقلتي من مثله
فلأبكينك ما حييت بكاء من ... قرحت حشاشته بحرقة ثكله
متسربلاً جلباب حزن لم يزل ... ولهان لم يحفل بوافر عدله
من للضعيف أتاك مقتبساً هدىً ... يشكو العناية هارباً من جهله
حتى إذا ما حلّ ربعك غلّة ... في ريقه فأرحته من غله
من للدروس مبيناً أشكالها ... تبدو غوامضها بواضح فضله
ما زلت للدين الحنيف مكابداً ... حتى استبان حرامه من حلّه
فجزيت خيراً من إمام عصابة ... وضح السبيل بقوله وبفعله
جعلوك سبلهم إلى باريهم ... فأريتهم حقاً معالم سبله
ومقسماً لحظاته ما بينهم ... كل يرى ما يرضى من عدله
ومراقباً حال الضعيف معاهداً ... لا يزدريه لضعفه ولعلّه
جعلوك ظهرهم فكلّ منهم ... يرجو قواك بأن تقوم بحمله
فازت مصابيح الهداية بعد ما ... ركض الضلال بخيله ورجله
فالآن قد صار الزمان جميعه ... ليلاً يحير في يسير بطله
كذباً يموت صبابة في شؤمه ... لولاه لترجى في أفاضل نسله
حاشى علاه أن يموت وإنما ... علم الإله نعيمه في نقله
ودّت قلوب العارفين بأنها ... دون التراب مجله لمحله
صلى الإله على قرى حلب ... صلواته من فرضه ونفله
كلاّ ولا برح الغمام مداوماً ... يهمى عليه بطلّه وبوبله
وحكى لي أن الشيخ النجيب - رحمه الله - لما كان بحلب كان يكشر غشيان السيد عز الدين المرتضى رحمه الله نقيب الأشراف، وكان من سادات الأشراف، له رياسة، وجلالة، وديانة، وفضيلة، وعظم محل، فاسترسل مع الشيخ النجيب يوماً، وذكر أبا بكر الصديق، وعمر، وعثمان - رضوان الله عليهم - بما نبى عنه سمع المرتضى وأكبره، فأمر بالشيخ النجيب فجرّ من بين يديه وركب حماراً مقلوباً، وطيف به شوارع حلب وأسواقها، وهو يضرب بالدرة، فعظم محل المرتضى في صدور الناس، وتحققوا ماكان ينطوي عليه من حب الصحابة - رضي الله عنهم - ومعرفته بمحلهم، وكان ذلك من آكد أسباب انتقال الشيخ النجيب عن حلب، وعمل في هذه الوقعة أشعار كثيرة، ليس هذا موضع ذكرها، وكان هذا الشريف عز الدين له المكانة العالية، والمنزلة الرفيعة عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز - رحمه الله تعالى - ويحضر عز الدين محمد بن القيسراني - رحمه الله تعالى - المقدم ذكره في هذا الكتاب سنة ست وخمسين فيروم للترفع على المرتضى، فيتمعض المرتضى من ذلك، ويشق عليه، فلما كان في بعض الأيام حضر مجلس الملك العزيز أحفل ما كان، فسلك عز الدين ابن القيسراني ذلك، وقعد أعلى منه قال عز الدين المرتضى للسلطان: يا مولانا هذا يقعد أعلى منّي، وأنا رجل شريف من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم، وجدّي علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - وفي أحد أجدادي يقول أبو العلاء ابن سليمان المعري:
يا ابن مستعرض الصفوف ببدر ... ومبيد الجموع من غطفان
أحد الخمسة الذين هم الأغ ... راض في كل منطق والمعاني
والشخوص الذين خلقن طيباً ... قبل خلق المريخ والميزان
وقبل أن تخلق السموات أو تؤ ... مر أفلاكهن بالدوران
وفي جدّ هذا يقول ابن منير الطرابلسي:
أتراني أكلت جور عيالي ... مثل ما كان يفعل القيسراني
أو.. الفلوس من خالد ... أنى قادت عليه أمّ سنان

فخجل ابن القيسراني، وأمر السلطان أن لا يترفع على الشريف في مجلس. والأبيات الأولى من قصيدة طويلة مدح بها أبو العلاء الشريف أبا إبراهيم محمد بن أحمد بن الحسين بن إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو جدّ النقيب عز الدين، مجيباً له عن أبيات نظمها الشريف أبو إبراهيم المذكور، وسيرها إلى أبي العلاء يقول:
غير مستحسن وصال الغواني ... لابن ستين حجة وثمان
وكان الشريف أبو إبراهيم محمد بن أحمد يعرف بالحراني، وهو من سادات أهل بيته في عصره، وبينه وبين أبي العلاء مكاتبات، ومراسلات، وهو معدود من الفضلاء - رحمه الله، توفي يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وأربعمائة بالمعرة. وأما ابن القيسراني الشاعر، فذكره قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله تعالى - في وفيات الأعيان ونسبته فقال هو أبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير بن داغر بن نصر بن داعر بن محمد بن خالد بن نصر بن داغر بن عبد الرحمن بن المهاجر بن خالد بن الوليد، المخزومي، الخالدي، الحلبي، الملقب شرف الدين أبو المعالي عدة الدين المعروف بابن القيسراني، ولد سنة ثمان وسبعين وأربعمائة بعكاً وتوفي ليلة الأربعاء الحادي والعشرين من شعبان، سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بمدينة دمشق، ودفن من الغد بمقبرة باب الفراديس - رحمه الله - هكذا ذكر بعض حفدته في نسبه، وأكثر المؤرخين وعلماء النسب يقولون: إن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لم يتصل نسبه، بل انقطع من زمان، والله أعلم. والقيسراني نسبة إلى قيسارية. بليدة بالشام على ساحل البحر. وذكر أيضاً ابن منير في الوفيات وهو أبو الحسين أحمد بن منير بن أحمد بن مفلح الطرابلسي، الملقب مهذب الدين، عين الزمان، الشاعر المشهور، وكان بينه وبين ابن القيسراني مكاتبات، وأجوبة، ومهاجاة، وكانا مقيمين بحلب، ومتنافسين في صناعتهما، ومولد ابن منير سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وتوفي في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بحلب، ودفن في جبل جوشن بقرب المشهد الذي هناك، وقيل إنه توفي بدمشق، ونقل إلى حلب فدفن بها - والله أعلم - انتهى كلام قاضي القضاة رحمه الله. وعز الدين هو أبو حامد محمد بن خالد بن محمد بن نصر بن نصير بن داغر رحمه الله، وقد تقدم ذكره في هذا الكتاب، والشريف عز الدين فهو أبو الفتوح المرتضى بن أبي طالب أحمد بن محمد بن جعفر بن أبي إبراهيم محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين بن إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين السبط الشهيد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.
توفي عز الدين بحلب فجاءة ليلة السادس عشر منشهر شوال سنة ثلاث وخمسين وستمائة، ودفن بعد ثلاثة أيام بجبل جوشن، ومولده سنة تسع وسبعين وخمسمائة بحلب، سمع من ابن النقيب أبي علي محمد بن أسعد النسابة والشريف أبي هاشم بن الفضل الهاشمي والشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان والقاضي أبي المحاسن يوسف بن رافع بن تميم وغيرهم - رحمهم الله تعالى.
//بسم الله الرحمن الرحيم
السنة الثامنة والسبعون وستمائةاستهلت هذه السنة يوم الأحد، والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية والملك السعيد بدمشق ففي شهر المحرم منها ترتب بدمشق حاكم مالكي المذهب بعد خلوها منه مدة، فإن الشيخ زين الدين الزواوي رحمه الله كان يباشر الاحكام بها ثم استعفى فأعفى.
وفي العشر الأوسط من ربيع الأول وقع بين المماليك الخاصكية الملازمين بخدمة السعيد عن تلاقي ذلك، وخرج عن طاعته سيف الدين كوكندك الظاهري نائب السلطنة بالمماليك، ومقدم العساكر مغاضباً له، ومعه أربعمائة من الظاهرية، منهم جماعة كثيرة أمراء مشهورين بالشجاعة ونزلوا بمنزلة القطيفة في نظرة العساكر التي ببلاد سيس.

ففي العشر الآخر منه عادت العساكر إلى جهة دمشق من بلاد سيس، فنزلوا بمرج عذراء إلى القصير، وكان قد اتصل بهم سيف الدين كوكندك ومن معه ولم يدخل العسكر دمشق، وأرسلوا إلى الملك السعيد في معنى الخلف الذي حصل، وكان كوكندك مائلاً إلى البيسرى، ولما اجتمع بالأمير سيف الدين قلاوون الالفي، والأمير بدر الدين بيسرى، والأمراء الكبار، وأوحى إليهم ما غلت صدورهم، وخوفهم من الخاصكية، وعرفهم أن نيتهم له غير جميلة، وأن الملك السعيد موافق لهم على ذلك، وكثر من القول المختلق بما يعديهم وينفرهم، وكان من جملة ما اقترح الأمراء الكبار على الملك السعيد إبعاد الخاصكية عنه وتفرقهم، وأن لايكون لهم في الدولة والتدبير حديث، بل يكون على ذلك أخيارهم ووظائفهم مقيمين فلم يجب الملك السعيد إلى ذلك، ولا اقدر عليه، اتوه شوكتهم، واجتماع كلمتهم. فرحل العسكر من مرج عذراء إلى ذيل عقبة سحوراء بأسرهم، ولم يعبروا على المدينة، بل جعلوا طريقهم من المرج، وأقاموا بهذه المنزلة ثلاثة أيام، والرسل تتردد إليهم، وبينهم وبين الملك السعيد؛ ثم رحلوا من هناك، ونزلوا بمرج الصفر، وعند رحيلهم رجع الأمير عز الدين ايدمر الظاهري نائب السلطنة بالشام، وأكثر عسكر دمشق، ودخلوا البلد من وقتهم في طاعة الملك السعيد. وفي رحيلهم إلى مرج الصفر سير الملك السعيد والدته ابنة بركة خان في محفة، وفي خدمتها الأمير شمس الدين قرا سنقر الأشقر فإنه كان مقيماً عند الملك السعيد بدمشق، لم يتوجه إلى بلاد سيس، ولحقوا العسكر، فلما سمعوا بوصولها، خرج الأمراء الأكابر المقدمون لملتقاها، وقبلوا الأرض أمام المحفة وبسطوا العتابى وغيره تحت حوافر البغال كما جرت العادة، فلما استقرت بالمنزلة تحدثت معهم في الصلح، والانقياد، واجتماع الكلمة فذكروا ما بلغهم من تغريبة الملك السعيد فيهم، وموافقته الخاصكية على ما يرمونه من ابعادهم، وامساكهم وغير ذلك، فحلفت لهم على بطلان ما نقل إليهم من ذلك، وعدم صحته فاشترطوا شروطاً كثيرة ألزمت لهم بها، وعادت إلى ولدها، وعرفته الصورة، فمنعه من حوله من الخاصكية من الدخول تحت تلك الشروط، وقالوا له: ما القصد إلا إبعادنا عنك ليتمكنوا منك، وينزعوك من الملك فأبى قبول تلك الشروط، فرحل العسكر من مرج الصفر قاصداً إلى الديار المصرية، فخرج الملك السعيد بنفسه جريدة، وساق في طلب اللحاق بهم، ويلاقي الأمراء في معناهم إلى أن بلغ رأس الماء، فوجدهم قد عبروه وبعدوا، فعاد من يومه، ودخل قلعة دمشق في الليل، وذلك ليلة الخميس سلخ ربيع الأول.
وفي يوم الجمعة بعد الصلاة مستهل ربيع الآخر، خرج الملك السعيد بجميع من يخلف عنده من العساكر المصرية والشاميين إلى جهة الديار المصرية في طلب العساكر المتقدمة، وجهز والدته وخزانته إلى الكرك، ووصل الملك السعيد بلبيس يوم الجمعة خامس عشرة فوجد العسكر المتقدم ذكره قد سبقه إلى القاهرة، فلما رحل من بلبيس بعد العصر من النهار المذكور فارقه الأمير عز الدين ايدمر الظاهري نائب السلطنة بدمشق، وصحبته أكثر أمراء دمشق.

وفي ربيع الأول وربيع الآخر من هذه السنة جرى بين صاحب طرابلس وصاحب جبيل والداوية اختلاف، وأغار بعضهم على بلد بعض، وقتل بينهم جماعة كثيرة، وكذلك التتار اختلفوا، وقتل بينهم ما لا يحصى عدده إلا الله. وفي داخل البحر اختلفت الفرنج وقتل بينهم خلق كثير. واختلفوا في عكا، والكرج، وفي سائر الأطراف، واختلفوا في العراق واختلف العرب، والقبائل والفلاحون؛ وقتل بين هذه الطوائف خلق كثير. وأما الملك السعيد فوصل بمن معه إلى ظاهر قلعة الجبل، ونائبه بها وبالديار المصرية الأمير عز الدين ايبك الأفرم. وهو بالقلعة فوجد العساكر محدقة بها فحصل بينهم مقاتلة يسيرة، وكان الذين مع الملك السعيد جماعة قليلة بالنسبة إلى من في مقاتلته فحمل الأمير علم الدين سنجر الحلبي بدمشق، وشق الأطلاب، ودخل إلى قلعة الجبل بعد أن قتل الفريقين نفر يسير. فلما استقر بها، ورفع علمه عليها انضاف جميع من بقي ظاهر القلعة ممن كان معه اليهم، وأما الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بقي في المطر لم يدخل معه إلى القلعة، ولا انضاف إلى العسكر المباين له، وأحاطت العساكر بالقلعة، وضايقوها، وقطعوا الماء الذي يطلع إليها في المرارات عنها ورجعوا إليها وجدوا في ذلك السعيد يخلى من كان يرجو نصره عنه، وتخاذل من بقي من الخاصكية، وأنه لا طاقة له بهم، وكان المشار إليه في هذه الأمور والمخاطب إنما هو الأمير سيف الدين قلاوون فجرت المراسلات بأنهم ينصبوا في السلطنة أخاه بدر الدين سلامش، ويعطون للملك السعيد وأخيه نجم الدين خضر الحلبي، الكرك، والشوبك، واعمالها فسير الأمير علم الدين سنجر الحلبي والمولى تاج الدين أحمد بن الأثير رحمهما الله تعالى إلى الأمير سيف الدين قلاوون وأعيان الأمراء ليستوثق منهم فحلفوا له على الوفاء بما التزموه. ونزل من قلعة الجبل يوم الأحد سابع عشر الشهر المذكور إلى دار العدل التي على باب القلعة. وكانت مركز الأمير سيف الدين قلاوون حال المضايقة للقلعة فلما نزل حضر أعيان الأمراء والقضاة والمفتيين وخلعوه من السلطنة، ورتبوا مكانه أخاه لأبيه بدر الدين سلامش ونعتوه بالملك العادل، وتقدير عمره يوم ذاك سبع سنين، وجعلوا اتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الالفي الصالحي، وهو حمو الملك السعيد، وحلف الأمراء، والعسكر له، ولأتابكه بعده في اليمين وضربت السكة أحد الوجهين باسم العادل، والآخر باسم اتابكه، وذكر الاتابك في الخطبة، ودعى له على المنابر، واستقر الأمر على هذه الصورة، وتصرف الاتابك في المملكة والعساكر، والخزائن، وعامله الأمراء، وجميع الجيش بما يعاملون به السلطان وعمل بخلع الملك السعيد مكتوب شرعي متصل باستفتاء، ووضع الأمراء خطوطهم، وشهادتهم فيه، وكتب فيه المفتيون، والقضاة، وجعلوا نسخاً عدة وعوضوا الملك السعيد الكرك، وعملها، وأعطوا أخاه نجم الدين خضر الشوبك وعملها.
وفي ليلة الاثنين ثامن عشرة خرج الملك السعيد إلى بركة الحجاج ونزل بها متوجهاً إلى الكرك، ومعه جماعة من العسكر، صورة ترسيم مقدمهم سيف الدين بيدغان الركني ثم أعيد إلى القلعة نهار الاثنين لأمر أرادوه وقدروه، ثم توجه ليلة الثلاثاء إلى الكرك بمن معه فوصلوها يوم الاثنين خامس عشرين منه، ودخلوها، وتسلم أخوه الأمير نجم الدين خضر الشوبك وكان بيدغان، ومن معه قد فارقه من غزة، ورجع إلى الديار المصرية.

وأما الأمير شمس الدين سنقر الأشقر فإنه اجتمع بخشداشيته الاتابك سيف الدين قلاوون وصار في جملته. وأما الأمير عز الدين ايدمر فإنه وصل بمن معه إلى ظاهر دمشق يوم الأحد مستهل جمادى الأولى فخرج لملتقاهم من كان تخلف بدمشق من الأمراء والجند، والمقدم عليهم، والمشار إليه فيهم الأمير جمال الدين اقوش الشمسي فلما وصلوا إلى مصلى العيد بقصر حجاج، احتاط بالأمير عز الدين ايدمر الأمير جمال الدين الشمسي، والأمراء الذين معه، وأخذوه بينهم، وفصلوه عن العسكر الذي حضروا معه، ودخلوا به من باب الجابية، وحملوه إلى الدار المعروفة باستاد دار الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله بقرب ماذنة فيروز، واستمروا عليه بها إلى آخر النهار ثم نقلوه إلى قلعة دمشق تحت الحوطة، واعتقلوه بها، وكان الملك السعيد لما خرج من قلعة دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية، سلمها إلى الأمير علم الدين سنجر الدواداري، وجعله النائب عنه بالبلد وبها، فاستمر الحال على هذه الغاية، ولما اعتقلوه طلبوا التضييق عليه، فلم يوافق الأمير علم الدين على ذلك، ثم طلبوه منه فلم يسلمه إليهم، وقال: أنتم حبستموه بيد الاتابك وهو في حبسه لا أسلمه إلا بأمره ودفعهم بذلك.
وفي العشر الأوسط منه وصل إلى دمشق من الديار المصرية جمال الدين اقوش الباخلي، وشمس الدين سنقر حاالكجي، وعلى ايديهما نسخة الأيمان بالصورة التي استقر الحال عليها بمصر، وأحضروا الأمراء والجند والقضاة والعلماء وأكابر البلد للحلف، وكان مع القادمين من الديار المصرية نسخة بالمكتوب المتضمن خلع الملك السعيد وكتبه إلى الأمراء وغيرهم من الاتابك بصورة الحال فقرئ ذلك على الناس، وحلفوا واستمر التحليف أياماً.
وفي هذا الشهر عزل قضاة الديار المصرية الثلاثة دفعة واحدة، وهم تقي الدين محمد بن رزين، ونفيس الدين بن شكر المالكي، ومعز الدين الحنفي؛ وباشر الأحكام عوض تقي الدين القاضي صدر الدين عمر بن القاضي تاج الدين عبد الوهاب المعروف بابن بنت الأعز.
وفي يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة صار الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى دمشق نائب السلطنة بها وبأعمالها وما أضيف إليها من البلاد، ومعه جماعة من الأمراء والعسكر خرجوا في خدمته من القاهرة، فخرج الناس من الشام لتلقيه احتفالاً عظيماً وعاملوه قريباً من معاملة الملوك، ونزل بدار السعادة، وكانت له بسطة عظيمة في الخزائن والقلاع والعساكر والأموال خلاف من تقدمه، وتقدم عند وصوله إلى الأمير علم الدين الدواداري بالنزول من القلعة فنزل إلى داره، وأقام بها مباشراً لتنفيذ الأشغال، وتدبير الأحوال، وشد الدواوين وبدار المملكة بأسرها عليه، وقرأ تقليد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بمقصورة الخطابة عقيب الفراغ من الجمعة، وحضروا أعيان الدولة، ولم يحضر هو قراءته.
وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر رجب اجتمع الأمراء والأعيان بقلعة الجبل من الديار المصرية، وخلعوا الملك العادل بدر الدين سلامش بن الملك الظاهر من السلطنة ورتب عوضه اتابكه سيف الدين قلاوون الصالحي ونعت بالملك المنصور، وحلفوا له بأسرهم، ولم يكن لسلامش في مدة سلطنته غير الاسم وكان السبب في توليته أولاً تسكين ثورة الظاهرية، فإنهم كانوا معظم عسكر الديار المصرية، وأيضاً فكانت بعض القلاع في نواب الملك السعيد فأرادوا استنزالهم منها، فلما تم معظم المقصود خلعوه واستقل الملك المنصور بالسلطنة، ووصلت البرد إلى دمشق يوم الأحد سادس وعشرين منه، ومعهم نسخة يمين لتحليف الأمراء والجند وأرباب الدولة وأعيان الرعايا فأحضروا إلى دار السعادة بدمشق، وحلفوا، وقيل أن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر لم يحلف، ولم يرضه ما جرى.

وفي يوم الجمعة ثاني شعبان خطب الملك المنصور سيف الدين قلاوون بجامع دمشق، وجوامع الشام بأسرها، خلا مواضع يسيرة جداً توقفوا ثم خطبوا بعد ذلك، وكان الكتاب الوارد من الملك المنصور على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بخط المولى تاج الدين أحمد بن الأثير رحمه الله وفيه: " لا زالت أيامه عجابها. تهتنى وترى من النصر ما كانت تتمنى. ويتأمل آثارها. فيملأها حسناً. ويشاهد من أمائر الظفر ما يوسع العباد أمناً. ويستزيد الحمد على ما وهب من الملك الذي أولى كلاً منا مناً. المملوك يهدي من لطيف أنبائه، ووظائف دعائه. وما استقر من عوارف الله لديه. وما جناه من النعم التي ملأت يديه ما يستروح به، ويستفتح لسان الحمد بتقديمه، ويزداد به مسرة نفسه ابتهاجاً وتزدان به عقود السعود، وإنما تزين انسلاك في العقود ازدواجها، ويقوى به قوى الغرائم وبمثله الأعدء في أوكارها. فيكاد يتجرد ذيول الهزائم. وتبعث الآمال على تمسكها بالنصر، ويظهر منه المحاب التي لو قصدت الأقلام بحصرها، لعجزت عن الحصر، وهو أن العلم الكريم قد أحاط بالصورة التي استقرت من دخول الناس في طاعة المملوك، واجتماع الكلمة عليه، واستقلاله بأمر السلطنة المعظمة " .
ولما كان يوم السبت الثالث من شعبان المبارك سنة ثمان وسبعين وستمائة ركب المملوك بشعار السلطنة وأبهة المملكة، وسلك المجالس العالية والأمراء الأكابر، والمقدمون، والمفاردة والعساكر المنصورة من آداب الخدمة، واخلاص النية، وحسن الطاعة كل ما دل على انتظام الأمر واتساق عقد النصر، ولما قضينا من أمر الركوب وطراً وأنجزنا الأولياء وعداً من السعادة منتظراً، عدنا إلى قلعة الجبل المحروسة والأيدي بالأدعية الصالحة لنا مرتفعة، والقلوب على محبة أيامنا محترمة، والآمال قد توسعت بالعدل واستمراره، والأبصار قد استشرق من التأييد مطلع أنواره، وشرعنا من الآن في أسباب الجهاد، وأخذنا في كل ما يؤذن ان شاء الله تعالى بفتح ما في أيدي العدو من البلاد، ولم يبق إلا أن نثنى الأعنة ونسدد الأسنة. ونظهر ما في النفوس من مضمرات المقاصد المسكنة، والمولى أدام الله نصرته يأخذ بحظه من هذه المسرة، وهذه المواهب التي ظهرت منها خفايا الاقبال المستسرة، ويتقدم بأن يزين دمشق المحروسة، ويضرب البشائر في البلاد. وأن يسمعها كل حاضر وباد. والله يجعل أوقاته بالتهاني مفتتحة، وبشكر مساعيه التي ما زالت في كل موقف ممتدحة إن شاء الله تعالى.
وفي السادس والعشرين من شهر رمضان عزل الصاحب برهان الدين السنجاري عن الوزارة بالديار المصرية، ولزم مدرسة أخيه قاضي القضاة بدر الدين بالقرافة الصغرى، ورتب مكانه في الوزارة الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان صاحب ديوان الانشاء الشريف.
وفي يوم الخميس حادي عشر ذى القعدة توفي بالكرك الملك السعيد رحمه الله وسنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشرة حمل الأمير عز الدين ايدمر الظاهري من قلعة دمشق في محفة إلى الديار المصرية لمرض لحقه في أطرافه منعه من الركوب بمرسوم ورد من هناك، وعند وصوله إلى الديار المصرية اعتقل بقلعة الجبل بالديار المصرية، وحضره الملك المنصور سيف الدين قلاوون، وهو لابس البياض، وحضرت القضاة والعلماء وأرباب الدولة والوعاظ والمقربون على ما جرت العادة.
وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين ركب الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من دار السعادة بدمشق بعد صلاة العصر، ومعه جماعة من الأمراء والجند، وهم رجالة وهو راكب وحده، وقصد القلعة من الباب الذي يلي المدينة فهجمها بمن كان معه راكباً، وجلس بها من ساعته، فحلف الأمراء والجند ومن حضر وتسلطن، ولقب بالملك الكامل. وفي آخر النهار المذكور نادت المنادية بالمدينة بسلطنته واستقلاله. وفي بكرة السبت خامس وعشرين منه طلب القضاة والعلماء ورؤساء البلد واكابره واعيانه إلى مسجدأبى الدرداء رضى الله عنه بقلعة دمشق،وحلف بقية الأمراء والعسكر.
وفي يوم الأربعاء سبع وعشرين منه توجهت العساكر إلى غزة لحفظ البلاد ومنعها، ودفع من يتطرق إليها من الديار المصرية.
وفي هذه السنة جدد في قبة النسر بجامع دمشق خمسة أضلاع من الجهة الغربية بشمال.

وفيها تسلم نواب الملك المنصور سيف الدين قلاوون قلعة الشوبك من أربابها بالأمان، وهدموها، وذلك بعد أن حاصروها مدة، وكان انتقل منها الأمير نجم الدين خضر إلى عند أخيه الملك السعيد إلى حصن الكرك قبل منازلة على الملك المنصور لها من حين أحس بقصدهم بها ولم يحصن نفسه فيها.
وفيها توفى أحمد بن سلامة بن إبراهيم أبو العباس الحنبلي، وكان شيخاً صالحاً سمع الكثير، واسمع وروى بالاجازه من اصحاب الحداد وحدث بالكثير عن الكندي وغيره، واضر في آخر عمره، وكانت وفاته في عاشر المحرم، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
إسحاق بن إبراهيم بن يحيى صفي الدين الشقراوي الحنبلي الفقيه المحدث. مولده بشقراء من ضياع برزاء من عمل دمشق سنة خمس وست مائة، وتوفى بدمشق يوم السبت تاسع عشر ذى الحجة، ودفن بسفح قاسيون، وكان عالماً فاضلاً دمث الأخلاق عنده كرم وسعة صدر، وقوة نفس، سمع الكثير وحدث، وكان ثقة رحمه الله تعالى.
اقوش بن عبد الله جمال الدين الركني المعروف بالبطاج. أحد أمراء دمشق، كان جرد مع العساكر إلى بلاد سيس، فتوجه صحبتهم، فلما عاد تمرض وتوفي بحلب يوم السبت ثامن عشر ربيع الأول، ونقل إلى حمص، فدفن بظاهرها بالقرب من قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهو في عشر الخمسين سنة من العمر رحمة الله عليه. والركني نسبة إلى الأمير الكبير الذي لقى الفرنج بأرض غزة، وكسرهم الكسرة المشهورة، وكان من أعيان الأمراء، وله عدة مماليك يعرفون به، منهم الأمير عز الدين أبغان المعروف بسم الموت، وعلاء الدين الركني الذي أضر في آخر عمره صاحب العمائر المشهورة بالقدس والخليل والحجاز الشريف وغيره رحمه الله تعالى.
اقوش بن عبد الله جمال الدين الشهابي السلحدار. أحد أمراء دمشق الأعيان كان صحبة العسكر بسيس، فتمرض وانقطع بحماة، فتوفي بها في تاسع وعشرين ربيع الآخر، ونقل إلى دمشق، ودفن عند خشداشه علاء الدين ايدكين الشهابي نسبة إلى الطواشي شهاب الدين رشيد الخادم الكبير الصالحي النجمي.
بلبان بن عبد الله الأمير ناصر الدين النوفلي العزيزي. أحد أمراء دمشق، كان من أعيان العزيزية، وافر الديانة، كثير البر والخير، عنده حشمة ورياسة، ولين جانب، وحسن عشرة، وتواضع، ومحبة في الفقراء والعلماء، وكان صحبة العساكر بسيس، فلما عاد إلى حلب، تمرض، وتوفي إلى رحمة الله تعالى بها يوم الجمعة رابع وعشرين ربيع الأول وعمره خمس وستون سنة رحمه الله. والعزيزي نسبة إلى الملك العزيز بن الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الكبير رحمهم الله تعالى.
حبق بن صون بن إيل الأمير جمال الدين. أحد أمراء دمشق، وتوفي بها ليلة الأحد سادس جمادى الآخرة، ودفن من الغد، وعمره مقدار خمسين سنة رحمه الله. ويقال أنه من أولاد صول التركي ملك جرجان الذي أسلم على يد يزيد بن المهلب بن أبي صفرة لما حاصره بها، وأخذ بها منه، والله أعلم.
عبد السلام بن أحمد بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين أبو محمد عز الدين الأنصاري المقدسي المولد، المصري الدار والوفاة، الواعظ المشهور. كان شاباً فاضلاً عالماً، اشتغل أول عمره بالكتاب العزيز، ثم بالعلم، فحصلت له مشاركة جيدة، ثم بعد ذلك لازم كلام جده الشيخ غانم رحمه الله فانتفع به، وكان مبدأ شروعه في الواعظ أنه طلب منه مجلس تذكير في حال الخلوة ابن عمه أبو الحسن في حياة عمه الشيخ عبد الله فأطربه، وبلغ الشيخ عبد القادر ذلك فطلبه إليه، وسأله الجلوس، فجلس واشتهر وقصد لسماع كلامه لا عن قصد منه، ثم توجه إلى الديار المصرية، فطلب منه الجلوس بها فجلس وحصل له قبول، فأقام بالقاهرة، وبنى له زاوية وبالغ جماعة في الناس في الاحسان إليه، فأقام بالديار المصرية على كره لفراق والده وأهله، وعقد بها مجالس، وفتح عليه في ذلك، قيل: إنه كان يعمل خطب المواعيد ارتجالاً، ولا يثبت شيئاً يقوله، وكان يتردد إلى القدس لزيارة والده وأهله، ويتردد من القدس إلى دمشق فيجلس بها في الجامع الأموي، ويحضر مجلسه جماعة من العلماء والفضلاء والزهاد وغيرهم، ويستحسنون كلامه، وينتفعون به، وعمل بدمشق مجلساً في حدود السبعين والستمائة فارتجل فيه خطبة، أولها:

" الحمد لله الذي ملأ الوجود جوداً وإحساناً. وأسبغ على كل موجود من سوابغ نعمه سراً وإعلاناً. وجعل السجود لقربان حضرته قرباناً. وأوفر القلوب بتحقيق شهوده اتقاناً. نور بصائر أوليائه، فشاهدوه بعين اليقين عياناً. كلما جليت عليهم صفاته، هاموا إليها ولهاناً. وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً. زفت عليهم عروس محبته، فجعلوا النفوس عليها سكراناً. واستبدلوا من الملبوس أشجاناً وأحزاناً. ونثروا الدموع على الخدود فسالت غدرانها.
فلما وثقوا العقود وحفظوا العهود، أعطوا من الصدود أماناً. فلو رأيتهم وقد جن عليهم الليل، لحسبتهم في ثياب الخشوع رهباناً. وفي مصابرة الولوع فرساناً. صفوا على سرير الصفا إخواناً. لا تجد فيهم خواناً. وأصبحوا في خلوة الوفاء ندماناً. لا تعرف فيهم ندماناً. نصبوا للنصب أشباحهم، ورفعوا للرعب نواحهم. وخفضوا من الرهب جباهم، وفيهم نائح باك، وصائح شاك. يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً. قد تجلى لهم الجليل، ونادى يا جبريل! أنم فلاناً وأقم فلانا.
وقل يا طالبي وصلى هلموا ... فإنا لا نخيب من أتانا
حمانا للذي نهواه رحيب ... إذا ما جاءنا يبغي لقانا
يراق له شراب من وصال ... يمازجه رضاب من رضانا
هوانا للذي نهوى نعيماً ... فلا كان الذي يهوى سوانا
فلو كشفت الحجاب لعاشقينا ... وأيدينا الجمال لهم عيانا
لهاموا عند رؤيتنا وطابوا ... وطاشوا من تخلينا زمانا
ولكنا جعلنا الوصف سراً ... نصون بسره حسناً مصانا
يا جبريل! أكحل بالنوم أجفان من جفانا. فإنا لا نرضى لهوانا. من رضى لنفسه هوانا. ولا يدخل إلى حمانا. إلا من وقف على أبوابنا زمانا. ولا يفوز بلقانا. إلا من صرف وجهه تلقانا. فمن كان بالمحبة عنانا. أطلق في ميدان المحبة عنانا. ومن تفرد لهوانا. تجرد عمن سوانا. يا جبريل! ما ضر من فرقه الشوق ألوانا. إذا ما حشر تحت لوانا. ولا ضل من فتنة الوحد أفنانا. إذا ما انتهى إلى فنانا. يا جبريل! بعينا يعمل المتجملون سراً وإعلانا. وبسمعي ما لاقى المحبوب شيباً وشبانا. فمن بات بما قضيت له فرحانا. أهديت له روحاً وريحانا. ومن جعل قلبه لمحبتي ميدانا. ملأته عرفاً وعرفانا. ومن هجر في هواي أهلاً وأوطانا. أمنتهم عند لقائي صداً وهجرانا. ومن تحمل بالافتراق عصيانا. أنزلته بالاعتراف عفواً وغفرانا. ومن أبحته النظر إلى جمالي عيانا. فقد وجب الشكر عليه شكراً وسكرانا.
قم يا نديمي فإن الوقت قد حانا ... واسمع إذا ما دخلت الخان ألحانا
فثم ساقي الحميا في خصيرته ... يدنى إليك من الراووق نشوانا
واتلوا المثانى ووجدان عزمت ... على ذكر الحبيب فحبي ذاك قرآنا
وادخل إذا ما دخلت الخان منفرداً ... عن كل فرد وقف مسلوب عريانا
وسلم فؤادك للخمار مرتهماً ... واخلع ذلوقك للندمان شكرانا
وقل لمن كاس هات الكأس مصطحباً ... واسقني كي يراني الناس سكرانا
ان ظمآن لا الورى على عذل ... نشوان ولهان ما بقيت حيرانا
وقل لمن لا منى في حبها غلطاً ... قل ما تشاء فيها قد كان ما كانا
لو كنت تعرف ما أصبحت تنكره ... من سرها فجعلت السر إعلانا
هي المدام التي في دنها قدمت ... وعتقت فيه أحياناً وأزمانا
هي التي في دياجي ليلها جليت ... في كأسها فاهتدى موسى بن عمرانا
هي التي جعلت نار الخليل له ... نوراً وقد أخطأت نمرود كنعانا
صهباء لما دنت من قلب شاربها ... ألفت أشعتها نوراً ونيرانا
ومن شعره:
سادتي لو وصلتم ... مغرماً قد قطعتم
قلبه قد أذبتم ... حبذا لو رحمتم
في يديكم قياده ... فاحكموا قد ملكتم
أنا راض وحقكم ... بالذي فيه تحكم
كيف لا أبتغي رضى ... بالذي قد رضيتم
ما رضائي ومن أنا ... أنتم الكل أنتم

إن يكن با أحبتي ... بعذابي قضيتم
فعلى كل ما جاء في الحكم منكم
يا عذولي عليهم ... حل مني ومنهم
يا صاحبي وجيرتي ... سلموا الأمر تسلموا
وقال أيضاً أثناء كلامه في مجلس وعظ ارتجالاً:
يا عذولي سلم إلى قيادي ... ثم دعني فما عليك رشادي
وفؤادي إذا لقيت فلمه ... قل لي بالله أين فؤادي
لا تلمني إذا سكرت فحبي ... قد سقاني صرفاً بكأس ودادي
وحبيبي مواعدي بوصال ... فخماري من نشوة الميعاد
واستماعي لأمره إذ دعاني ... ما استماعي لنغمة الانشاد
حبه راحتي وروحي وراحي ... وكذا ذكره بلاغي وزادي
وإذا ما مرضت فهو طبيبي ... كلما عادني بلغت مرادي
وإذا ما طلت أو طل ركب ... عن حماه فوجهه لي هادي
يا عذولي فكن عليه عذيراً ... أو افعل لي ما حيلتي واعتمادي
إن تلمني أو لا تلمني فإني ... حبه مذهبي وأصل اعتقادي
وقدم مرة بدمشق، وبلغ قدومه قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله فكتب إليه:
لله در مبشري بقدومه ... فلقد أتى بأطائب المسموع
لو كان يقنع بالخليع وهبته ... قلباً يقطع ساعة التوديع
فأجابه رحمه الله بقوله:
حاشاك يا قاضي القضاة بأمرتي ... حكماً تخالف سنة التشريع
أهل القضية إنني عبد لكم ... والاصل لا ينفك بالتفريع
القلب يعمى كيف أملك رده ... من بعد ما ملك الغرام جميعي
وقال أيضاً رحمه الله:
زودزني بنظرة ... قبل يوم التفرق
هذه ساعة الفراق مهجتي ... في مطاياك فارفقي
قف قليلاً على الحمى ... يشتكي الصب ما لقي
أودعوا حين ودعوا ... في فؤادي تحرقي
من جفاهم وصدهم ... شاب رأسي ومفرقي
سادتي بالذي قضى ... إن حظي هو الشقي
سامحوا في الذي مضى ... وارفقوا بالذي بقي
فأنا المغرم الذي ... دمعه في تدفق
يا عذولي فخلني ... لست عندي بمشفق
إن تردد تعرف الهوى ... ومعانيه فاعشق
وأجل في الكأس جمرة من شراب المعتق
بين ندمان حضره ... كل من خانهم شقي
بات ساقي مدامهم ... من محياه يستقي
وينادي عليهم ... بأنك أماني من بقي
وحكى الشيخ شرف الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن سباع ابن ضياء الفزاري رحمه الله قال: حججت في سنة خمس وسبعين وست مائة، واجتمع في الحج من علماء الأقطار ابن العجيل من اليمن، وتقي الدين بن دقيق العيد من الديار المصرية، والشيخ تاج الدين الفزاري من الشام، وغيرهم، واجتمعوا في الحرم الشريف، وكان عز الدين عبد السلام المذكور قد حج من مصر، فجلس تجاه الكعبة المعظمة، وحضر أمير مكة وغيره، فارتجل خطبة أولها:

" الحمد لله ذى القدرة التي لا تضاهى. والحكمة التي لا تتناهى. والقسمة لا يطيق خلق أن يتعداها. الذي تعزز في أزليته. فلا يعرف الأول أولها. تسرمد في أبديته، فلا يدرك الآخر أخراها. وتقدس في أحديته فلا تتحيل العقول خلاها. كيف تعرفه العقول، وقد عقلها عن بلوغ مناها. وكيف تنكره النفوس، وقد ألهمها فجورها وتقواها. وكيف يمثله الجهول، وقد أعجزه عن معرفة نفسه كيف سواها. وكيف يعطله العطول، وقد أغطش ليلها وأخرج ضحاها. من ذا الذي سمك السماء، وعلى غير عمد بناها. من ذا الذي دور أفلاكها، وفي قضاء بيد مشيئته مشاها. ومن ذا الذي سخر أفلاكها وفي حمى حمايته حماها. من ذا الذي قال للسماوات ائتينا طوعاً وكرها، فأتت طائعة حين دعاها. من ذا الذي يعلم خفايا الغيوب وما في طواياها. من ذا الذي يبصر طوايا القلوب وما في رؤياها. من ذا الذي يسمع أنه العليل إذا هو في علته أبداها. من ذا الذي ينقع غلة الغليل إذا اشتكت ظماها. من ذا الذي يرحم ذلة الذليل إذا الخطب الجليل وافاها. من ذا الذي يستر زلة الخاطي وغطاها. من ذا الذي يغفر زلة العاصي، وفي صحائف السيئات محاها. من ذا الذي تجلى على قلوب أوليائه، ومن دون الشك جلاها. ومن ذا الذي أدار كؤوس محبته على ندمان حضرته يستقاها. من ذا الذي جعل خليقته في قبضتين، فهذه أسعدها وهذه أشقاها. من ذا الذي صورك. فأحسن صورك. وفتق سمعك، وخرق بصرك. ثم برحمته شملك. وعلى أكف رأفته حملك. وجعل عن يمينك ملك، وعن شمالك ملك، ينقلان عملك إلى من ملك. في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. انظر إلى الرياض، كيف أخباها. فاستخرج منها ماءها ومرعاها. وانظر إلى الغياض، كيف اهتزت رباها. إذ هو بلطيف حكمته رباها. انظر إلى الأرض، كيف دحاها. ونشرها من تحت هذه البقعة الشريفة بعد ما طواها. فسبحان من شرف هذه البنية واصطفاها. وجعلها حمى لمن حام حول حماها، وحرما امنا لمن وفى ما عليه حين وافاها. ووجهه لمن واجهها الجاها. وأراد عندها جاها. فهي التي هاجر منها الحبيب، ما هجرها ولا قلاها. وما انقلب قلبه سواها. حتى أنزل عليه جبريل في آيات تلاها: " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها "
فول بوجهك الحسن المفدى ... إليها حيث وجهت اتجاها
فإن ابك إبراهيم قدما ... لأجل رضاك عنا قد بناها
وإسماعيل طاف بها ولبى ... وطهرها لمشتاق أتاها
هي البلد الأمين وأنت حل ... فطأها يا أمين فأنت طه
ولولا أنت حل في ذراها ... لما شرفت ولا حميت حماها
فوجه حيث كنت لها وكبر ... ولا تعدل إلى شيء سواها
ووجه الله قبلة كل قلب ... لمن شهد الحقيقة واجتلاها
هذا البيت قبلة كل قلب ... لمن شهد الحقيقة واجتلاها
هذا البيت بيت الله بشرى ... لنفس فيه قد بلغت مناها
فهلل عند مشهد كفاحاً ... وزمزم عند زمزمه سقاها
فيا حجاج بيت الله طوفوا ... بكعبتها ولبوا في ذراها
فهذا الفخر إن حاولت فخراً ... وهذا الجاه إن حاولت جاها
وسئل عن السماع فأجاب بكلام طويل ليس هذا موضع ذكره، ثم أنشد لنفسه يقول:
ان يسكن عارفاً بشرح غرامي ... هات حدث عن سكرتي وهيامي
أو فقل لي إن كنت تعرف خمري ... أين خمار خمرتي ومدامي
يا فقيها إن كنت تفقه قولي ... هات قل لي ما سرد من كلامي
أنا اقرءيت بالمحبة حرفاً ... معرباً معجماً على الأفهام
هو معنى ليس في كل معنى ... بصلاة وقيام وصيام
هو سر وأنت عنه حجاب ... فهو نور مستر بظلام
فانخلع عنك وانتزع منك تشهد ... ثم معنى اعنى جميع الأنام
وتجرد عن الوجود وجاهد ... كي تشاهد سرائر الأحكام
قل لعراعرى بتلذيذ حالي ... ما لحالي من مشية ومقامي
قم فردد في الخان الحان ذكرى ... فسماع الألحان غير حرام

واسقني من مدامة الحب صرفاً ... تمح عني كبائر الآثام
واصطبح واغتبق بها وتهتك ... وتمرد تيها على اللوام
وإذا قيل من أباحك هذا ... قل بفتوى الفقير عبد السلام
وخطر له قبل موته فصل أنشأه وهو: " إلهي أنت قلت، وقولك الحق: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء. فأنت على لطفك دللتني. وفي جنب جودك أطعمتني. وإلى كرم حرمك أوصلتني. فقد حسن بك ظني. على ما كان مني. فحاشاك عن بوارد أوليائك تمنعني. وعن موارد نعمائك تدفعني. سيدي ان أقلعني تخليطي فعفوك ينهضني. وإن رماني تفريطي فجودك ينعشني. إلهي أنا في أسر نفسي، ولو شئت خلصتني. وفي حبس هواي، ولو شئت عتقتني. وفي رقدة غفلتي، ولو شئت أيقظتني. إلهي فهل لي منك توفيق يسعفني. وإلى طاعتك يعطفني. ومن هذه الأوزار ينقذني. إلهي أسألك رحمة تشملني. وأسبلك مغفرة تعتقني.
فخوفي منك يؤنسني ... وظني فيك يطعمني
وديني عنك يقعدني ... وسوء الفعل يقطعني
فلولا الفضل يعتقني ... لكان العذل يحرقني
وحقك أن تعذبني ... فعدلك ليس تظلمني
ولكني بتوحيدي ... أرتجي منك ترحمني
إلهي إنك أمرتنا بالوصية عند حلول المنية. وقد تهجمت عليك، وجعلت وصيتي إليك. عند قدومي لديك. فأول ما يبدأ به من أمري إذا نزلت قبري وخلوت بوزري. وأسلمني أهلي أن تؤنس وحشتي. وتوسع حفرتي. وتلهمني جواب مسألتي. ثم تكتب علي منصوب نصيبي. في لوح صحيفتي بقلم؛ يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. فإذا جمعت رفاتي وحشرتني يوم ميقاتي ونشرت صحيفة سيئاتي وحسناتي. انظر عملي فما كان من حسن فاصرفه في زمرة أوليائك وما كان من قبيح فمد به إلى ساحل عتقائك واغفره في بحر عفوك وغفرانك. ثم إذا وقف عبدك بين يديك، ولم يبق إلا افتقاره إليك، واعتماده عليك. فقس مني بين عفوك ودينه، وبين غناك وفقره. بين حلمك وجهله، وبين عزك وذله. ثم افعل فيه ما أنت أهله. فهذه وصيتي إليك. تطفلاً بفضلك عليك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وأن الموت حق، وأن الحياة باطل، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور " .
وله رحمه الله تعالى:
يا من أناجيه في سري وفي علني ... ومن أرجيه في بؤسي وفي حزني
أفردتني عن جميع الناس يا سكني ... وأنت أنى إذا استوحشت من سكني
وأنت روحي إذا جردت عن بدني
وأنت راحة قلبي في تقلبه ... وأنت غاية قصدي في تطلبه
من لي من مغيث أستغيث به ... إذا تضايق أمر في تكربه
ومن أرجو إذا أدرجت في كفني
إذا ذكرتك زال الهم من فكري ... وإن شهدتك عاد الكل عن نظري
وإن حضرتك لا ألوي على بشر ... وإن مررت على شيء من السمر
فغير ذكرك لا يصغى له أذني
ما لي وحقك عن جدواك منصرف ... ولا عناني إلى الأغيار منحرف
فامنى فإني بما قدمت معترف ... فإن عطفت فكل الناس منعطف
وإن وصلت فكل الناس يسعدني
وبحق حبك ما قلبي بمنقلب ... إلى سواك ولا حبلي بمنجذب
ولا أراك بدمع فيك منسكب ... حتى أراك بطرف غير محتجب
في حضرة القدس لا في حضرة الدمن
وقال:
إن كان أطماع قلبي فيك قد قطعت ... والعين عن حفظ ذاك العهد ما رجعت
وفي سواك فلا والله ما طمعت ... والاذن ما سمعت والعين لا هجعت
حتى أرى بارقاً للوصل يؤنسني
توفي إلى رحمة الله تعالى ورضى عنه شهيداً، لأنه وقع من موضع مرتفع، فتوجع قليلاً، ومات يوم الأربعاء ثامن عشر شوال سنة ثمان وسبعين وست مائة بالقاهرة، ودفن بمقبرة باب النصر، ولم يبلغ الخمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى ورضي عنه وعن سلفه. ومن لطائفه:
أيا حادي العيس قف لي قليلا ... أطيب النجيب وأندى العليلا
على جيرة أودعوا في الحشا ... لهيباً يشب وحزناً طويلا
فيا ليتني يوم حد الرحيل ... لزمت الركاب حقيراً ذليلا

فيا جيرة الحي نوحوا معي ... فإن الخليل يواسي الخليلا
ويندب بكل شج شجوة ... فحادي الرحيل ينادي الرحيلا
وقال أيضاً رضي الله تعالى عنه:
أأحبابنا إن جرتم أو هجرتم ... وحقكم لا حل عقد ولا كم
ولا استحسنت عيني جمالاً رأيته ... سواكم ولا سرت بغير لقاكم
قضيتم بوشك البين بيني وبينكم ... فما حيلتي إلا الرضا بقضاكم
وإن مناي أن يدوم لي الصفا ... وكان الجفا والهجر كل مناكم
ولي حرمة الجار القديم ومن له ... لحاظ ومن والاكم واصطفاكم
والله لا أنسى وقد مر لي بكم ... زمان رضي في ظلكم وحماكم
أتيه على الأكوان عجباً بحبكم ... وأغدو وقلبي آمن من جفاكم
وما كان ظني أنني بعد صفوتي ... أعد على حكم الهوى من عداكم
على شؤم بحتي كان عنوان شقوتي ... صدودكم عني ومالي سواكم
وكان رضاكم في رضائي وسخطكم ... علي فأهلا في الهوى برضاكم
وما حيلتي إلا وقوفي ببابكم ... لعلكم إن تعطفوا وعساكم
أمد إلى إحسان حسنكم يدي ... أرجي عن فقري بفضل غناكم
دعاني إليكم جودكم فأجبته ... وعادتكم أن تجيروا من أتاكم
فإن تحرموني نظرة من جمالكم ... فلا تحرموني عقبة من سراكم
وإني لآت أرضكم لا لحاجة ... لعلي أراكم أو أرى من يراكم
ومن تصانيفه: تفسير القرآن العظيم مجلد. خطب مجلد، ديوان شعر مجلدان، مختصر الشفا للقاضي عياض مجلد، الأثمار والأطيار مجلد، تفليس إبليس بما معه مجلد، شرح أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم مجلد، وعظ مجلدان، حل الكنوز مجلد، اعتذارات مجلد، مسائل في علم الطريق وأجوبة، ومجاميع مختلفة، وتفسير آيات كل آية بمجلس يتنبه عليها ولا يخرج عن حكمها في أول المجلس إلى آخر مجلد؛ وله غير ذلك مما أوقفه بزاوية مصر وكفى بالله حسيبا.
عبد الله بن عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن حمويه أبو بكر شرف الدين شيخ الشيوخ بن شيخ الشيوخ تاج الدين بن شيخ الشيوخ عماد الدين الجويني، وامه عالى النسب ابنة الامام عز الدين عبد العزيز بن عبد الواحد بن عبد الماجد القشيري. توفي الشيخ شرف الدين المذكور رحمه الله تعالى يوم الأحد ثامن شوال بجبل الصالحية. ودفن يوم الاثنين بسفح قاسيون بتربة الشيخ عبد الله البطائحي رحمة الله تعالى عليه، ومولده في المحرم سنة ثمان وست مائة. كان عنده فضيلة ورياضة، وحسن خلق ورياسة، وشرف نفس، ومعرفة بأخبار الناس والتواريخ، وعنده احتمال وصبر، وله نظم متوسط وإن لم يكن براكب، فمنه ما كتبه إلى أخيه سعد الدين مسعود:
أرى بك أفكاراً وأنت مروع ... وسرك مشغول وقلبك موجع
فاشرك أخاك اليوم فيمن تحبه ... من الأمر واعلم بأنه لك يطبع
ألم تسمع البيت الذي سار ذكره ... وقيت الردى والخوف والهم أجمع
ولابد من شكوى إلى ذى حفيظة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
فأجابه سعد الدين:
سواك الذي ودي إليه مضيع ... وغيرك في حسن الوفا يتضيع
ومثلك من يرجى لكل ملمة ... ويدرأ عن قلبي الهموم ويدفع
وحقك لو أبديت ما أنا كاتم ... لكان به صم الجبال تصدع
ولكنني رفهت سرك عالماً ... بأنك فيما مسني تتوجع
وكتب شرف الدين في صدر كتاب إلى أخيه سعد الدين:
فهبكم تباعدتم وآثرتم الجفا ... وملتم مع الواشي وما كان ذا ظني
فهلا حفظتم بعض ما كان بيننا ... من الود وفيتم صروف الردى أنى
أحبكم لا أبتغي بدلاً بكم ... فأنتم إلى قلبي ألذ من الأمن
وقال الشيخ شرف الدين في صنعة البساتين بدمشق، سنة ست وستين وست مائة:
قالت الأشجار يا قوم اسمعوا ... فكلامي كله صدق وحق
خلفنا أعد منا أحبابنا ... من غصون وثمار وورق

إنما الناس مع السلطان في ... كل ما يأمر أمراً تحت رق
فاجتهد يا صاحبي واسمع وطع ... فمتى خالفت يوماً تحترق
عبد الله بن محمد بن علي بن كرب أبو محمد زين الدين القرشي الزبيري الحنفي. كان إماماً عالماً فاضلاً محدثاً، سمع من الافتخار الهاشمي وغيره، ومولده في يوم الثلاثاء ثالث ذى الحجة سنة ثلاث وست مائة بدمشق، وتوفى يوم الأربعاء رابع شوال، ودفن بباب الفراديس رحمه الله تعالى.
عبد الله بن محمد أبو الصلاح محيي الدين قاضي قضاة مصر ويعرف بابن عين الدولة الصفراوي الاسكندراني الأصل المصري الشافعي. باشر الحكم بمدينة مصر الوجه القبلي عقيب وفاة قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب المعروف بابن بنت الأعز رحمه الله مدة سنين، ولحقه الفالج وأقعد وعجز عن الكتابة، وأقام على هذا الحال مستمراً في الأحكام نحو خمس سنين، وكاتب الحكم يعلم عنه، ثم عزل في سنة ست وسبعين، فأقام بطالاً في بيته إلى حين توفي في احدى الجمادين، ودفن بالقرافة الصغرى، ومولده في سنة سبع وتسعين وخمس مائة. وكان عنده فضيلة ورياسة، ولطف أخلاق، وديانة كبيرة، وحسن مجالسة ومكارم. ووالده قاضي القضاة شرف الدين المشهور بالديانة والصلابة في الأحكام وتحرى الحق، ومعناه الذائد والنوادر الحسنة. قال له بعض العدول وهو في بيت قليل الهواء كثير البق، وهو البرغش، ويسمونه الناموس ما أقل الهواء في هذا البيت وأكثر الناموس فقال: هكذا ينبغي أن تكون مجالس الأحكام. ودخلت إليه امرأة في محاكمة فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: ست من يراها، فوضع كمه على عينيه وكان ينشد، وقد بلغ ثمانين سنة:
إن الثمانين وبلغتها ... ما احوجت سمعي إلى ترجمان
الرواية إنما هي احوجت وإنما قال ذلك لئلا يؤخذ بقوله، والطرش قادح في ولاية الحكم عن بعض العلماء. ومن شعره أعني القاضي شرف الدين:
وليت القضاء وليت القضاء لم يل شيئا توليته
فأوقعني في القضاء القضا ... وما كنت قدما تمنيته
ومدح الشهاب محمد بن عبد المنعم الخيمي للقاضي محي الدين بقصيدة أولها:
سلام على معنى الجلالة والهدى ... وبادي الحجي والعلم والحلم والندى
أحن إليه معظم الود والولا ... ويمنعني الاخلاص أن أتوددا
وما زال عندي مضمر الشوق نحوه ... بظاهر وصف الحال منى موكدا
وقلبي محضور التسلي واجب ... مباح كبدت الحب فيه تعبدا
ويروي حديث الوجد عني بحبه ... بمتصل من مرسل الدمع مسندا
أحاول منه القرب زلفاً لعلني ... أفوز به الفوز المبين أسعدا
ومنها:
واعلم أني لست أهلاً لقربه ... ولكنني لا أستطيع التجلدا
ولولا ألتقي صبرت بابك قبلة ... وتربته استغفر الله مسجدا
وعفواً ففي كاف الخطاب تعلل ... لقلبي المعنى إن لي منك مشهدا
أدام لك السعادة والرضى ... عليك وعزا في المحلين سرمدا
ونوراً من العرفان بالله من رأى ... مخائله في حسن وجهك اهتدى
عبد الله بن محمد بن أبي الحسين أبو الفرج نجم الدين الشيخ الزاهد العارف المعروف بابن الحكيم. مولده سنة ثلاث وست مائة، وتوفى في ثالث عشر جمادى الأولى من هذه السنة بحماة رحمه الله تعالى، ويعرف بابن سطيح، ويقال أنه من ذرية سطيح الكاهن، وله فضيلة بطريق القوم، وكان له حرمة وافرة عند الملك المنصور، وصاحب حماة بحيث إذا صادفه في طريق ترجل وسلم عليه راجلاً ولا يركب حتى يبعد عنه، وله زاوية مشهورة بحماة يردها الفقراء وغيرهم رحمه الله تعالى.

علي بن عمر بن محمد أبو محمد بن مجلى أبو الحسن الأمير نور الدين الهكاري. ولى نيابة السلطنة بحلب، وأعمالها في سنة تسع وخمسين وست مائة إلى سنة ثمان وسبعين وست مائة، وكان حسن السيرة، عالي الهمة، لين الكلمة، كريم الأخلاق، كثير التواضع للعلماء والفقراء، والأصحاب محسناً إليهم. وعزل عنها قبل موته بالأمير علاء الدين ايدغدى الكبكي، وكانت وفاته بحلب بعد عزله بقليل يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الآخر، ودفن بها، وقد نيف على سبعين سنة من العمر، وكان والده الأمير عز الدين من أكابر الأمراء بحلب وأعيانهم، وشهرته تغني عن الأطناب في وصفه رحمه الله تعالى.
قالاجا بن عبد الله الركني الأمير سيف الدين أحد أمراء دمشق. كان توجه صحبة العساكر إلى مسيس، وتوفى بحلب عند عود العساكر في الرابع والعشرين من ربيع الأول، ودفن بالأنصاري، وقد نيف على أربعين سنة من العمر رحمه الله تعالى. والركني نسبة إلى الأمير ركن الدين بيبرس العلائي وقد تقدم البينة عليه.
لولو بن عبد الله حسام الدين. أحد كتاب الجيوش بالشام، وهو عتيق بدر الدين جعفر بن محمد الآمدي أو عتيق أخيه موفق الدين علي بن محمد وهو ممن استفاد صناعة الكتابة والتصرف وبرع في ذلك، وخدم الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص، وتوفه عنده حتى كانت مداراة أموره عليه وهو في رتبة وزير صغير، فلما توفى الملك الأشرف انتقل من حمص إلى دمشق، واستوطنها، واستخدم في مشارفة ديوان الجيش بها، وكان الديوان بأسره عبارة عنه والرفقة تبعاً له، وكان غزير المروءة طاهر اللسان، متفضلاً على معارفه وأصحابه، كثير البر لمن يقصده في حاجة والمسارعة إليها حسبما يمكنه، وكان شيعياً متغالياً في التشيع داعية إليه، ركناً لأهل مذهبه، يلجأون إليه في أمورهم ولم يسمع عنه ملاعنة كلمة يؤخذ عليها فيما بلغني عنه، وكنت أسمعه إذا ذكر أحداً من الصحابة رضي الله عنهم يترضى عنه، ويذكره بأجمل ذكر، وأما أهل البيت عليهم السلام فيوفيهم حقهم من الموالاة والمبالغة في ذلك. وتوفي بدمشق يوم الأحد سادس وعشرين ربيع الأول، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله، وهو في عشر الستين.
محمد بن بركة بن دولة خان الأمير بدر الدين. هو خال الملك السعيد ومن أعيان الأمراء بالديار المصرية، وحصل له عند ما أوصى الملك السعيد إلى ابن أخيه تقدم كثير في الدولة، ومكانة عالية، وقدم معه إلى دمشق، فتمرض بها، وكان نزوله في دار صاحب حماة داخل باب الفراديس المجاورة لمدرسة ابن المقدم، وبها توفي في ليلة الخميس تاسع ربيع الأول، وصلى عليه يوم الخميس الثالثة من النهار بالمصلى خارج باب الفرج، ودفن بسفح قاسيون بالتربة المجاورة لرباط الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمه الله بعد أن جعل في تابوت لينقل وقعدا معمره يومئذ خمسون سنة، وعمل له في هذا الشهر عدة اعزية وقرى بالتربة التي دفن بها عدة ختمات حضر احداها الملك السعيد رحمه الله ومد خوان فيه من عظيم فاخر الأطعمة والحلاوات فأكل من حضر وتناهبه الفقراء وغيرهم، وخلع السلطان على والدته ومماليكه وخواصه، وهو في العزاء، فلبسوا الخلع وقبلوا الأرض، ثم نقل تابوته إلى القدس الشريف في العشر الأول سنة تسع وسبعين، فدفن عند قبر والده رحمهما الله تعالى.

محمد بن بيبرس بن عبد الله أبو المعالي الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة ابن الملك الظاهر ركن الدين رحمهما الله تعالى. قد تقدم في هذا الكتاب نبذة من أخباره، وما جرى له وآل أمره إليه، ولما استقر بالكرك قصده أجناد من الناس، وكان ينعم على من يقصده ويعطيه ويستخدمه، فتكاثروا عليه بحيث نفذ كثير مما كان عنده، ولما بلغ ذلك الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله تأثر منه، فقيل أنه سم، وقيل غير ذلك، وتوفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه يوم الجمعة حادي عشر ذى القعدة بقلعة الكرك، ودفن من يومه بأرض موته عند قبر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم نقل بعد ذلك إلى دمشق في سنة ثمانين وست مائة فدفن إلى جانب والده بالتربة التي أنشأها قبالة المدرسة العادلية السيفية، وألحده قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ رحمه الله تعالى. ولما توفى ترتب مكانه في مملكة الكرك أخوه لابنه نجم الدين خضر ولقب بالملك المسعود. ومولد الملك السعيد رحمه الله بالعر من ضواحي القاهرة سنة ثمان وخمسين وست مائة، وكان ملكاً جليلاً كريماً، سخي الكف، كثير العدل، محسناً إلى الخاص والعام، لا يرد سائلاً، ولا يخيب آملاً، ولا في خلقه عسف ولا ظلم، كثير الشفقة والرحمة للرعية، لين الكلمة، محباً لفعل الخير رحمه الله تعالى وقيل أنه ولد له مولود ذكر يوم دخوله قلعة الجبل على الصورة المذكورة في شهر ربيع الآخر من هذه السنة وابن أم ولد، وكانت ابنة المنصور سيف الدين قلاوون زوجته فوجدت لفقده ولمأتم عليه وجداً شديداً، ولم تزل باكية حزينة إلى أن توفيت إلى رحمة الله تعالى بعده بمدة في مستهل شهر رجب سنة سبع وثمانين وست مائة، وكانت شقيقة الملك الأشرف صلاح الدين خليل، ودفنت في تربة معروفة بوالدها بين مصر والقاهرة. ولما مات الملك السعيد بالكرك، صلى عليه بجامع دمشق يوم الجمعة رابع وعشرين ذى الحجة سنة ثمان وسبعين رحمه الله تعالى.
يحيى بن أبي المنصور بن أبي الفتح بن رافع بن علي أبو زكرياء الحراني الحنبلي المنعوت بجمال الدين المعروف بابن الصيرفي. كان إماماً عالماً فاضلاً مفتياً عارفاً بالفقه متبحراً فيه، كثير الافادة والأشغال، وللطلبة به نفع كثير، روى عن الحافظ أبي محمد عبد الرحمن بن عمر بن أبي نصر بن علي بن عبد الدائم المعروف بابن الغزال الحنبلي وغيره، وحصل العلوم، كان كثير الديانة والتعبد، عارفاً بالحديث وعلومه، وسمع منه الكثير وحدث واشتغل وأفاد، وانتفع به الناس وأخذوا عنه، ومولده بحران سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، وتوفي بدمشق آخر نهار الجمعة رابع صفر، ودفن يوم السبت بمقابر باب الفراديس رحمه الله تعالى، وكانت له جنازة حفلة مشهودة جداً.
السنة التاسعة وسبعون وستمائةاستهلت يوم الخميس وافق ذلك ثالث أيار والخليفة الامام الحاكم بأمر الله وهو بقلعة الجبل من الديار المصرية، وصاحب الديار المصرية وبعض الشام الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، ودمشق وما والاها بيد الملك الكامل شمس الدين سنقر الأشقر، وصاحب الكرك الملك المسعود نجم الدين الخضر بن الملك الظاهر وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر، وصاحب مكة شرفها الله تعالى الشريف نجم الدين أبو نمى الحسني، وصاحب المدينة الشريفة صلوات الله وسلامه على ساكنيها الأمير عز الدين جماز بن شيحة الحسيني وصاحب حماه والمعره الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمود، والعراق والجزيرة والموصل وأربل وآذربيجان وديار بكر وخلاط وخراسان والعجم وما وراء ذلك بيد التتر، والروم بيدهم أيضاً قربة غياث الدين بن السلطان ركن الدين ولا حكم له.

وفي يوم الخميس مستهل السنة في الساعة السادسة منه ركب الملك الكامل شمس الدين سنقر الأشقر نائب السلطنة من قلعة دمشق، ودخل الميدان الأخضر وبين يديه الأمراء ومقدمي الحلقة رجاله بالخلع يحملون الغاشية، والقضاة والأعيان ركاب بالخلع، وسير في الميدان لحظة يسيرة، وعاد إلى القلعة. وقد ذكرنا في أواخر حوادث السنة الخالية تجريده بعض عسكر دمشق إلى غزة، وكان بها طائفة من عسكر الديار المصرية مقيمين بها لمطابقة الكرك، وعند وصول العسكر الشامي إليها في أوائل شهر المحرم من هذه السنة اندفع عسكر الديار المصرية من بين أيديهم، ودخلوا الرمل، فنزل الشاميون غزة واطمأنوا بها ساعة من النهار، وكان فيهم قلة فكر عليهم عسكر الديار المصرية وكبسوهم ونالوا منهم منالاً كثيراً، ورجع عسكر الشام منهزماً إلى مدينة الرملة.
وفي يوم الاثنين خامسه وصل إلى خدمته في طاعة الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا ملك العرب بالبلاد الشرقية والشمالية، ودخل عليه وهو على السماط، فقام له الملك الكامل، فقبل الأرض وجلس على يمينه فوق الحاضرين.
وفي يوم السبت عاشره وصل الأمير شهاب الدين أحمد بن حجي بن يزيد ملك العرب بالبلاد الحجازية إلى طاعة الملك الكامل، فأكرمه غاية الاكرام، وكان وصوله من جهة العراق، وذكر أنه كان انتهى في يقظته هذه إلى بلاد البصرة وأغار وانتهب.
وفي العشر الآخر منه تقدم الملك الكامل بإضافة الأعمال الحلبية إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان، وأن يعطي تدريس المدرسة الأمينية بدمشق، وكان ذلك بيد قاضي القضاة نجم الدين محمد بن سنا الدولة، وكتب له بالمدرسة الأمينية تقليد من إنشاء كمال الدين أحمد بن العطار نسخة، مضمونة: " الحمد لله الذي اطلع في فلك ساداتنا شمس الدين بازغة الأنوار. وأقام بنا بناء الحق، مشيد الأركان على المنار. وجعل روض الفضل في أيامنا زاهراً. تصبو إليه الأبصار. وقلوب ونفوس فيما يحف منه نجم إلا نشف من بعده سناء نجوم وأقمار. وشموس ولا يذوى منه عود إلا يروى بماء الرعاية منه أصول وفروع وغروس. يبر بها لأيامنا أن يبذل فيها الحسنات. أو يتعطل فيها مدارس آيات. والصلاة على سيدنا محمد ذى الحسيب الصميم. والدين القويم. والشرع الهادي إلى الصراط المستقيم. صلاة يحلى اللسان تكرارها. ويملأ سواد القلب أنوارها. وبعد فإن أحق من عمرت به ربوع العلوم الدارسة. وطلعت شموس فضله، فتجلت بها كلمات الجهل الدايسة. من كانت آية فضله شمسية، إذا طلعت حجب النجم سناها. وإذا تناهى في إشادة عليائه أعربها بمساعيه، وحسن بناها. وإذا تسابقت جياد الأفكار في حلبة جدال عطف اعنتها إلى الصواب وثناها. طالما حل الرتب العالية بجليل مقداره ودقيق أفكاره. وجلا الرتب العالية بخفي تدبيره وجلى أنواره. وماضت على معاطف مناقبه ذوائب فخاره. وهامت الأفكار في أودية محامده، وما بلغت وصف محله ومقداره. وافتخر قلم الفتيا براحته وتباعد السيف عن قربه خوفاً من مهابه. وسدد الحق سهام أحكامه. فأصابت الأغراض، وشيد الصدق نظام كلامه. فشفى صحيحه الأمراض، فإن شرع في علم الشرع شفى إنسان عن الجهل الارمداء. روى الحديث النبوية بإسناده، فيما يصل أحد إلى مسند أحمد، وإن صال في الأصول فإليه منتهى فخار الفخر الرازي. أو حكم في الحكمة، فابن سينا غير مساو له ولا موارى له، وإن نطق في المنطق، فهو أنير زمانه وسراجه المنير، أو يحدث في علم العربية، فهو أبو العباس تحقيقاً غير تقدير، أو تكلم في علم الخلاف، فهو الأوحد على الحقيقة، وكم له إلى الحق من طريق وطريقه، وإن قص أبناء السلف والخلف، وكل خطيب يثني عليه، وابن عساكر لا تتخذه عساكر معلوماته لو كان بين يديه " .

ولما كان المجلس العالي القضائي الأجلي الصدري الكبيري الأوحدي الرئيسي الأفضلي العالمي العاملي الكاملي الناسكي العارفي الأثري الحافظي الشيخي الامامي الحاكمي الشمسي، شرف الإسلام فخر الأنام زين العلماء أوحد الفضلاء وارث الأنبياء محبة العرب العرباء بقية السلف مفتي الفرق صدر الحفاظ شمس الشريعة قاضي القضاة سيد الحكام صفي الملوك والسلاطين ولي أمير المؤمنين أبو العباس أحمد بن الشيخ الامام أبي عبد الله محمد بن إبراهيم ابن أبي بكر بن خلكان البرمكي الشافعي ضاعف الله جلاله، وحقق في الدارين آماله، نظام هذا العقد المليح. ومعنى هذا اللفظ الفصيح. وثمرة هذه الدوحة النضرة. ونشر هذه الروضة الخضرة. رسم الأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الكاملي الشمسي لا زال يقر الحق في يد مستحقه، ويوضع لسالكه في سبيله. وطرفه أن يفوض إليه تدريس المدرسة الامينية. ويجري باسمه العلوم الشاهد به كتاب وقفها المبرور، وذلك لما تعين سرف مباشرها عند تبين إجلاله بشروط واقفها، فتقدم على خيرة الله تعالى، ويذكر بها دروس فضله التي لا تدرس للأنام آثارها. ويغرس في قلوب طلبتها حب فرائده، ليجتني ساعة غرسها ثمارها. ويحلو وجوه معارفه على خطابها، ليبلى بمحاسنها، ويتمتع، ويغذى أطفال الأذهان الرضع بلبان فضله إلى أن يتسنى بين يديه، ويترعرع، ويعمر معناها بالعلم الذي تنكرت فيها معالمه، وخفى سناه، حتى لا يدركه شاتمه، ليجني بها فضله الحسن السهل خالداً ويغذو كل ظام من جعفره المعروف، ومعروف جعفره وارداً، وتصبح هذه المدرسة كنيفاً ملئ علماً وقليباً حشي فهماً وفلكاً يبدى شمساً، ويخفى نجماً وكنانة يخرج من طلبتها في كل حين سهماً يراه متأمله شهماً. والله تعالى يحيى ببقاء علمه ما أماته الجهل، ويؤنس بأنفاسه ما استوحش من معاهد الخير والفضل ان شاء الله تعالى. كتب في ثالث عشرين المحرم سنة تسع وسبعين وست مائة، وذكر الدرس بها في هذا الوقت وكان القاضي نجم الدين مدرسها بحلب وقد استناب ولده بها ولم يكن تام الأهلية لمباشرة مثلها.
وفي أواخر شهر المحرم وردت الأخبار أن الملك المنصور أرسل جيشاً كثيفاً إلى دمشق، ومقدمه الأمير علم الدين سنجر الحلبي، ولما اتصل ذلك العسكر بعسكر الملك الكامل الذين بالرملة تأخروا قليلاً ولما تقدم المصري تأخر الشامي لقلته إلى أن وصل أوائلهم دمشق في أوائل صفر.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشر صفر خرج الملك الكامل بنفسه وبجميع من عنده من العساكر، وضرب دهليزه بالجسورة وخيم هناك بجميع الجيش، واستخدم وأنفق هو جمع خلقاً عظيماً، وحضر عنده عرب الأميرين شرف الدين عيسى بن مهنا، وشهاب الدين أحمد بن حجي، ونجدة حلب، ونجدة حماة، مقدمها الملك الأفضل نور الدين علي أخو صاحب حماة، ورجالة كثيرة من جبال بعلبك.

وفي يوم الأحد سادس عشره وقت طلوع الشمس، التقى الجيشان في المكان المذكور وتقاتلا أشد قتال، وثبت الملك الكامل، وقاتل قتالاً كثيراً، واستمر المصاف إلى الرابعة من النهار، ولم يقتل من الفريقين إلا نفر يسير جداً، وخامر أكثر عسكر دمشق، وانهزموا من أنضاف إلى العسكر المصري وعند ما وقعت العين في العين قبل أن يلتحم القتال انهزم الحمويون، وتخاذل عسكر الشام وتفرقوا، فمنهم من دخل بساتين دمشق واختفى بها، ومنها من دخل خواطر دمشق، ومنهم من ذهب إلى بعلبك، ومنهم من سلك طريق المرج والقطيفة وعذراء والدرب الكبير إلى القطيفة، واجتمع جميع العسكر على القصب من عمل حمص، ثم عاد أكثر الأمراء إلى دمشق، وطلبوا الأمان من الأمير علم الدين الحلبي، فأمنهم ودخلوا في أيام متفرقة، ثم حضر الأمير شهاب الدين أحمد بن حجي إلى دمشق بالأمان، ودخل في طاعة الملك المنصور، وأما الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا فإنه توجه صحبة سنقر الأشقر، ولازم خدمته ونزل به وبمن معه من الأمراء والعسكر في نوبة رحبة مالك بن طوق ونصب لهم بيوت شعر وأقام بهم، وبدوابهم مدة مقامهم عنده، وأما الجيش المصري، فإنه ساق من ساعته إلى المدينة وأحاط بها، ونزلوا في الخيم ولم يتعرضوا إلى زحف، وراسلوا من بالقلعة إلى العصر من ذلك النهار، ففتح من المدينة باب الفرج، ودخل منه بعض مقدمي الجيش، وفتحت القلعة فدخلوا إليها من الباب الذي داخل المدينة، وكان التسليم بالأمان وأفرج عن جماعة كان اعتقلهم سنقر الأشقر، منهم الأمير ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالجالق، وتقي الدين توبة التكريتي، والأمير حسام الدين لاجين المنصوري وغيرهم، وكتبت المطالعات إلى الملك المنصور بصورة ما جرى وسيرت على البريد.
وفي بكرة يوم الاثنين سابع عشرة جهز الأمير علم الدين الحلبي قطعة جيدة من الجيش المصري تقارب ثلاثة آلاف فارس في طلب شمس الدين سنقر الأشقر ومن معه من الأمراء والجند.
وفي هذا اليوم ركب قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان للسلام على الأمير علم الدين الحلبي، فقبض عليه واعتقله بعلو الخانكاة النجيبة.
وفي يوم الخميس العشرين منه صرفه عن قضاء الشام كله، وتقدم إلى القاضي نجم الدين محمد بن سنى الدولة، وكان قدم من حلب بمباشرة الحكم بدمشق فباشره.
وفي يوم الخميس سابع عشرين منه أعادت الأجوبة من الملك المنصور فجلس الأمير علم الدين الحلبي في دهليز ضرب له بالميدان الأخضر الصغير، وحضر عنده الأمراء، والأعيان من عسكر الشام ومصر، وأعيان الناس، وقرئ عليهم كتاب الملك المنصور، ومضمونه: " التهنئة للإسلام بدفع هذا الضرر والعتب على كل طائفة بما يليق بهم " . وفي آخره: " وإنا قد عفونا عن جميع الناس الخاص والعام، أرباب السيف والقلم، ولم نؤاخذ أحداً منهم، وأمناهم على أنفسهم وأهلهم وأموالهم، ورسمنا أن لا نغير على أحد منهم وظيفته إلا إن ورد في حقه تخصيص " . فارتفعت الأصوات بالدعاء وانصراف الناس مسرورين.
وفي أوائل ربيع الاول، ترتب في نيابة السلطنة بالشام الأمير حسام الدين لاجين السلحدار المنصوري، ودخل دار السعادة ودخل معه الأمير علم الدين الحلبي ورتبه بها، وفي خدمته سائر أمراء مصر والشام، وهذا الأمير حسام الدين كان الملك المنصور سيره إلى دمشق أميراً ونائباً لقلعتها في أواخر السنة الخالية، فبقي بالقلعة مدة يسيرة وجرى ما جرى من سلطنة شمس الدين ينقر الأشقر واعتقله، وبقي في الاعتقال إلى أن حضر الأمير علم الدين الحلبي، واستولى على المدينة والقلعة، فأفرج عنه وبقي في خدمته إلى أن ورد المرسوم بمباشرة نيابة السلطنة فباشرها، وهو شاب له خير كثير، الدين والكرم والشجاعة، محب للعلماء والصلحاء، مؤثر للعدل في الرعية.

وفي يوم الثلاثاء تاسع ربيع الأول أفرج عن قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان وضرب إلى منزله، ثم تقدم إليه الأمير علم الدين الحلبي بعد أيام بالانتقال من المدرسة العادلية الكبيرة، وتسليمها إلى قاضي القضاة نجم الدين، فشق عليه ذلك وتكرر عليه القول بسرعة النقلة فبينا هو في ذلك قد أحضر جمالاً لنقل قماشه إلى جبل الصالحية، وإذا بكتاب الملك المنصور قد ورد على الأمير علم الدين الحلبي، ومن مضمونه: " إن عفونا قد شمل الخاص والعام، وما يليق أن تخصص بسخطنا أحداً على انفراده، وغير خاف مما يتعين من حق المجلس السامي القضائي شمس الدين أحمد بن خلكان أعزه الله تعالى وقديم صحبته لها وحدته عليها، وأنه من بقايا الدولة الصالحية سقى الله عهدها، وقد رسمنا بإعادته إلى ما كان عليه بقضاء القضاة بالشام، وبسطنا يديه في القبض والإبرام وما هذا معناه " . فركب القاضي شمس الدين من ساعته، وطلع إلى الأمراء وسلم عليهم، ونزل وقت الظهر باشر الأحكام وأحضر له تشريفه لنسبه، وصلى به الجمعة، وكتب مطالعة إلى الملك المنصور يدعو له ويتنصل بما نسب إليه ويعتذر؛ فورد عليه الجواب بالشكر وقبول العذر.
وفي أوائل ربيع الآخر خرج من دمشق عسكر من الجيش المصري، مقدمهم الأمير عز الدين الأفرم، ولحق بالذين كانوا توجهوا قبل ذلك في طلب سنقر الأشقر، فأدركوهم على حمص، ورحلوا بأسرهم طالبين المذكور ومن معه، فلما بلغه ذلك فارق الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا وتوجه بمن معه في البرية إلى الحصون التي كانت بقيت بيد نوابه فتحصن هو ومن معه بها في أواخر الشهر المذكور وهي: صهيون، وكان بها أولاده وخزائنه ودخلها هو أيضاً، وبلاطنس وحصن برزية وحصن عكار وجبلة واللاذقية والشعر وبكاش وشيزر. وكان يوم المصاف قد انهزم الأمير عز الدين ازدمر إلى جبل الحرديين، وأقام عندهم هذه المدة كلها تحصن بهم وحموه، فلما بلغه وصول سنقر الأشقر إلى القلاع المذكورة وصل إليه بجماعة من الجبليين، وأقام شيزر يحفظها، ولما بلغ العسكر دخولهم القلاع واعتصامهم بها، نازلوا شيزر مضائقة لأبقية العسكر المنازلين لشيزر مصممين على حضرتها، وترددت الرسل بينهم وبين شمس الدين سنقر الأشقر في تسليمها، فبينا هم في ذلك، وردت الأخبار في أوائل جمادى الآخرة أن التتار خذلهم الله تعالى قد قصدوا بلاد الشام، فخرج من كان بدمشق من العسكر المصري والشامي، ومقدمهم الأمير ركن الدين أباجي، ولحق بقية العساكر التي على شيزر وكانوا قد تأخروا عنها، ونزلوا بظاهر حماة، ووصل من الديار المصرية عسكر مقدمه الأمير بدر الدين بكتاش النجمي فلحق بهم، واجتمع الجميع على حماة وأرسلوا كشافة إلى بلاد التتر في العشر الأوسط منه، ووصل إلى دمشق وبعلبك خلق عظيم من الجفال من حلب وبلادها وحماة وحمص والبلاد الشمالية جافلين من التتر، ولم يتخلف في تلك البلاد إلا من عجز عن السفر، وأخليت حلب من العساكر التي لها والتجؤا إلى حماة، وعزمكثير من أهل دمشق والبلاد الشامية أن يتوجهوا إلى الديار المصرية، واضطرب الناس لذلك اضطراباً شديداً، وكان سبب حركة التتر لما بلغهم من اختلاف الكلمة، وظنوا أن نقر الأشقر ومن معه يتفقون معهم وأن يكونوا جميعاً على العسكر المصري، فأرسل أمراء العسكر المصري إلى سنقر الأشقر يقولون: هذا العدو قد دهمنا وما سببه إلا الخلف بيننا، وما ينبغي أن نهلك الاسلام في الوسط، والمصلحة أن نجتمع على دفعه. فنزل عسكر شمس الدين سنقر الأشقر من صهيون والحاج ازدمر من شيزر، وخيمت طائفة تحت قلعتها، ولم يجتمعوا بالمصريين، واتفقوا على اجتماع الكلمة ودفع العدو عن الشام.
وفي يوم الجمعة حادي وعشرين منه وصل طائفة عظيمة من عساكر التتار، وأحرقوا الجامع والمدارس المعتبرة ودار السلطنة ودور الأمراء الكبار، وأفسدوا فساداً كثيراً، وكان أكثر من تخلف بها قد استتر في المغائر وغيرها، وأقاموا بحلب يومين على هذه الصورة.

وفي يوم الأحد ثالث وعشرين منه رحلوا منها راجعين إلى بلادهم بعد أن تقدمهم الغنائم التي كسبوها ونقلوا من الغلال شيئاً كثيراً إلى أماكنهم، وكان سبب رجوعهم إلى بلادهم لما بلغهم من اتفاق الطائفتين على دفعهم، وحكى أن سبب خروجهم من حلب أن بعض من استتر بها يئس من الحياة، فطلع منارة الجامع وكبر بأعلى صوته على التتر، وقال: جاء النصر من عند الله، وأشار بمنديل كانمعه إلى ظاهر البلد، وأوهم أن إشارته إلى عسكر المسلمين، وجعل يقول في خلال ذلك: اقبضوهم من بيت البيوت مثل النساء، فتوهم التتر من ذلك وخرجوا من البلد على وجوههم، وسلم الذي فعل ذلك، ولما رجعوا عن حلب ظهر من كان مستتراً بها، ورجع من كان يجفل عنها، وحصلت الطمأنينة للناس. وفي هذه الأيام هرب من عند شمس الدين سنقر الأشقر جماعة من الأمراء ودخلوا في طاعة الملك المنصور وتوجهوا إلى خدمته.
وفي أواخر هذا الشهر خرج الملك المنصور بجميع العساكر لنصرة الإسلام ودفع العدو عن البلاد. وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين منه قرئ على المنبر بجامع دمشق بعد صلاة الجمعة مثال سلطاني ورد على الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بدمشق، مضمونه: أن الملك المنصور جعل ولده علاء الدين علياً ولي عهده، ولقبه الملك الصالح، وخطب له على المنبر، وعقيب الفراغ من قراءة هذا المثال وردت البشائر برجوع التتر من حلب، وخلوا البلاد منهم، فاستبشر الناس بعزة ولي العهد. ولما وصل الخبر برجع التتر تفرقت العساكر في طلبهم، فمنهم من توجه إلى عين تاب وتلك النواحي، ومنهم من توجه إلى جهة الفرات والبيرة، وجاسوا خلال الديار في تلك الجهات، ثم رجعوا. وكان الملك المنصور لما رجع ولده ولي العهد، كتب له تقليد بخط محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر من انشائه، مضمونه: " الحمد لله الذي شرف سور الملك بعلية. وحاطه منه بوصية. وعضد منصوره بولاية عهد مهدية، واسمى حاتم جوده بمكارم حازها بسبق عدية. وأبهج خير الآباء من خير الأبناء عن سموا أبيه منه، ومسارعة وليه بحمده على نعمه التي جمعت إلى الزهر الثمر، وأضافت إلى نور الشمس هداية القمر، وداركت بالبحر، وباركت في النهر، وأجملت المبتدأ وأجنت الخبر، وجمعت في لذاذة الأوقات وطيها بين رونق الأصائل، ورقة البكر. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تلبس الألسنة منها كل ساعة جديداً، ويتفيأ ظلاً مديداً، ويستقرب من الآمال ما يراه سوانا بعيداً. ونصلي على سيدنا محمد الذي طهر الله به هذه الأمة من الأدناس. وجعلها بهداية زاكية الغراس. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من فهم حسن استخلافه بالأمر له بالصلاة بالناس. ومنهم من بنى الله به قواعد الدين، وجعله موطد الآساس. ومنهم من جهز جيش العسرة، وواسى بما له حين الطراء والباس. ومنهم من قاله عنه صلى الله عليه وسلم لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فحسن الالتماس بذلك الاقتباس. وزاد في شرفه بأن طهر أهل بيته، وأذهب عنهم الأرجاس. صلاة لا تزال تتردد الأنفاس. ولا تبرح في الابناء حسنة الأنباس. وبعد، فإن خير من شرفت مراتب السلطنة بحلوله. وفوقت ملابس التحكيم لقبوله. ومن تزهى مطالع الملك باشراقه. وتبادر الممالك مذعنة لاستحقاقه. ومن يزدهى ملك منصوره، نصرة الله موطدة وولي عهده مكنه الله بأبيه. ومن يتشرف ايوان عظمة أن غاب والده في مصلحة الاسلام فهو صدره. وان حضر فهو ثانية. ومن يتحمل عاب الابالة منه بحيرسل كفيل لثناء. ويتكمل غوث الأمة بخير وابل خلف..... ومن الهم الاخلاق الملوكية وأوفى حكمها صبياً. ومن خصصته أدعية الأبوة الشريفة بصالحها. ولم يكن بدعائها شقياً. ومن رفعت به هضبة الملك حتى أمسى مكانها علياً. ومن هو أحق بأن يبحث للأمل وينجح. وأولى بأن تبلى له أخلفني في قومي وأصلح. ومن هو بكل خير ملى. ومن إذا فوضت أمور المسلمين كان أشرف من لا نورهم بلى. ومن يتحقق من والده الماضي الغزار. ومن اسمه عالي المنار. ان
لا سيف إلا ذو الفقار ... ولا فتى إلا علي " .

ولما كان المقام العالي الولدي السلطاني الملكي الصالحي العلائي عضد الله به الدين، وجمع إذعان كل مؤمن على إيجاب طاعته لمباشرة أمور المسلمين حتى يصبح وهو صالح المؤمنين. هو المرجو لتدبير الأمور والمأمول لمصالح البلاد والثغور. والمدخر من النصر لشفاء ما في الصدور. والذي تشهد الفراسة لأبيه، وله بالتحكم أليس الحاكم أبو علي هو المنصور. فلذلك افضيت الرحمة والشفقة على الأمة أن ينصب لهم ولي عهد يتمسكون من الفضل بعروة كرمه. ويسعون بعد الطواف بكعبة أبيه لحرمه. ويقطفون أزهار العدل وثمار الجود من علمه وقلبه. ويستشعر الأمة منه بالملك الصالح الذي يقسم الأنوار بجبينه، وتقسم المبار بكراماته وكرمه. فذلك خرج الأمر العالي المولوي السلطاني الملكي المنصوري السيفي أخدمه الله القدر. ولا زالت الممالك تتناهى منه، ومن ولى عهده بالشمس والقمر. أن يفوض إليه ولاية العهد وكفالة السلطنة الشريفة ولاية تامة عامة شاملة. كافلة جامعة وارعة قاطعة ساطعة شريفة منيفة. عطوفة رؤوفة لطيفة عفيفة. في سائر أقاليم الممالك الشريفة. وعساكرها، وجندها، وعربها، وتركمانها، وأكرادها، ونوابها، وولاتها، وأكابرها، وأصاغرها، ورعايتها، وحكامها، وقضاتها، وسارحها، وسائحها بالديار المصرية، وثغورها، وأقاليمها، وبلادها وما احتوت عليه؛ ومملكة الحجازية، وما احتوت عليه، ومملكة النوبة، وما احتوت عليه؛ والفتوحات الصفدية، والفتوحات الاسلامية الساحلية، وما احتوت عليه؛ والممالك الشامية، وحصونها، وقلاعها، ومدنها، وأقاليمها، وبلادها، والمملكة الحمصية، والمملكة الحصنية، والأكرادية، والجبلية وفتوحاتها، والمملكة الحلبية وثغورها، وبلادها وما احتوت عليه؛ وسائر القلاع الاسلامية براً وبحراً سهلاً ووعراً. شاماً ومصراً ويمناً وحجازاً. شرقاً وغرباً بعداً وقرباً. وأن يلقى إليه مقاليد الأمور في هذه الممالك الشريفة. وأن يستخلفه سلطنة والده خلد الله دولته ليشاهد الأمر منه في وقت واحد سلطاناً وخليفة وولاية واستخلافاً، يسندها الرواة، ويترنم بها الحداة وتفهمها الاسماع. وتنطق بها الأفواه. وتفويضها يعلن لكافة الأمم. ولكل رب سيف وقلم. ولكل ذى علم وعمل بما قاله صلى الله عليه وسلم لسمية رضي الله عنه حين أولاه من الفخار ما أولاه. من كنت مولاه فعلي مولاه. فلا ملك اقليم إلا وهذا الخطاب يصله، ويوصله، ولا زعيم جيش إلا وهذا التفويض يسعه ويشمله. ولا اقليم إلا وكل به يقبله ويقبله. ويتمثل بين يديه ويمثله. ولا منبر إلا وخطيبه يتلو فرقان هذا التقدم ويرتله. وأما الوصايا فقد لقنا ولدنا. وولي عهدنا منها انطبع في صفاء ذهنه وسرت تعديته في سماء غصنه. ولابد من لوامع الوصايا للتبرك بها في هذا التقليد الشريف تنير. وجوامع يصير الخير بها حيث يصير. وودائع سك بها ولدنا أعزنا الله ببقائك، ولا ينبئك مثل خبير، فاتق الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وانصر الشرع فإنك إذا نصرته، نصرك الله على أعداء الدين وعداك. واقض العدل مخاطباً وكاتباً حتى تستبق إلى إلا يغازيه لسانك ويمناك. وأمر بالمعروف وانه عن المنكر عالماً أنه ليس يخاطب غداً بين يدي الله تعالى عن ذلك سوانا وسواك. وأنه عن نيل الهوى حتى لا يراك حيث نهاك، وحط الرعية ومر النواب تحملهم على القضايا المرعية، وأقم الحدود وجند الجنود، وابعثها براً وبحراً من الغزو إلى كل مقام محمود، واحفظ الثغور ولاحظ للأمور. وازدد باسترشاد بأرائنا نوراً على نور. وأمر للإسلام للأكابر وزعماؤه فيهم بالجهاد. والذب عن العباد، وأصفياء الله وأحباؤه فضاعف لهم الحرمة والاحسان، واعلم أن الله قد اصطفانا على العالمين وإلا فالقوم إخوان. لا سيما أولى السعي الناجح والرأي الراجح ومن إذا فخروا بنبسة صالحة قيل لهم: نعم السلف الصالح. فشاورهم في الأمر وجاورهم في مهمات البلاد كل سر وجهر، وكذلك غيرهم من أكابر الأمراء الذين هم نحايا الدول وذخائر الملوك الاول، اجرهم هذه المجرى. واشرح لهم بالاحسان صدراً. وجيوش الاسلام هم البنان البنيان فوال إليهم الامتنان، واجعل محبتك في قلوبهم بإحسانك إليهم حسنة المدى وطاعتك في عقائدهم وقد شغفها حباً ليصبحوا لك بحسن نظرك إليهم طوعاً، وليحصل كل جنس منهم من التقرب إليك بالمناصحة نوعاً والبلاد وأهلها فهي وهم عندك

الوديعة فاجعل أوامرك بها بصيرة، ومنهم سميعة. وأما غير ذلك من الوصايا فستنجو لك منها ما ينشأ معك يوماً ويلقنك من آياتها محكماً فمحكماً والله تعالى ينهى هلالك حتى توصله إلى درج الابدار ويغذى غصتك حتى تراه قد انبع بأحسن الأزهار وأطيب الثمار، ويرزقك سعادة سلطاننا الذي نعت بنعته تبركاً، ويلهمك الاعتضاد بشيعته، والاستنان بسنته حتى تصبح كتمسكنا بذلك متمسكاً، ويجعل الرعية بك في أمن وأمان، وعدل وإحسان، حتى لا يخشى سوءاً ولا تخاف دركاً إن شاء الله تعالى.يعة فاجعل أوامرك بها بصيرة، ومنهم سميعة. وأما غير ذلك من الوصايا فستنجو لك منها ما ينشأ معك يوماً ويلقنك من آياتها محكماً فمحكماً والله تعالى ينهى هلالك حتى توصله إلى درج الابدار ويغذى غصتك حتى تراه قد انبع بأحسن الأزهار وأطيب الثمار، ويرزقك سعادة سلطاننا الذي نعت بنعته تبركاً، ويلهمك الاعتضاد بشيعته، والاستنان بسنته حتى تصبح كتمسكنا بذلك متمسكاً، ويجعل الرعية بك في أمن وأمان، وعدل وإحسان، حتى لا يخشى سوءاً ولا تخاف دركاً إن شاء الله تعالى.
وفي أواخر هذا الشهر أعيد الصاحب برهان الدين السنجارى إلى الوزارة بالديار المصرية على عادته الأولى، ورجع فخر الدين إبراهيم بن لقمان إلى ديوان الانشاء على عادته.
وفي العشر الأوسط من شهر رجب وصلت العساكر المصرية والشامية من حلب، والبلاد الشمالية من تطلب التتر والسير في آثارهم، وتوجه الجيش المصري إلى خدمة الملك المنصور بغزة، وأقام عسكر الشام بدمشق. وفي حدود منتصف الشهر وصل الملك المنصور غزة، وكان بلغه رجوع العدو وهو بالرمل فأقام بها، وتوقف عن الوصول إلى دمشق لعدم الحاجة إلى ذلك وقصد تخفيف الوطأة عن بلاد الشام.
وفي يوم الخميس عاشر شعبان رحل الملك المنصور عن غزة راجعاً إلى الديار المصرية.
وفي أواخر شهر رمضان المعظم أعيد القاضي تقي الدين محمد بن رزين الشافعي إلى القضاء بالديار المصرية وصرف القاضي صدر الدين عمر بن بنت الأعز عن ذلك وكان قبل ذلك قد أعيد القاضي نفيس الدين بن شكر المالكي، ومعز الدين الحنفي، ورتب معهما حاكم حنبلي وهو عز الدين المقدسي فاستمر البلد مع القاضي تقي الدين كل منهم يباشر الحكم استقلالاً على مذهبه. وفي شهر ذى القعدة كان طائفة من عسكر الشام نازلين بمرج المرقب الحصن المعروف مضائقين لمن فيه، وداخلهم طمع فيه، فركبوا من الليل وصبحوا المرقب صباحاً للغارة إليه فأحس الفرنج المقيمون به بهم، وكان قد وصلهم نجدة في البحر المالح فخرجوا بأجمعهم، وكروا على عسكر المسلمين فانهزموا بين أيديهم في أودية وعرة لا خبرة لهم بها، فنالوا منهم منالاً عظيماً، وأسروا خلقاً كثيراً، وغنموا غنائم عظيمة، وعندما انبرم الصلح بين الملك المنصور وبين الفرنج في شهر المحرم سنة ثمانين وست مائة، استنقذ أكثر من حصل بالمرقب من أسرى المسلمين في هذه الواقعة، وأخفوا من أمكنهم إخفاءه، وسفروهم إلى الجزائر.
وفي يوم الأحد مستهل ذى الحجة خرج الملك المنصور من الديار المصرية بالعساكر كلها قاصدا الشام، وترك ولده الملك الصالح يباشر الأمور عنه بالديار المصرية.
وفي يوم الأحد ثامنه أضيف إلى قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان رحمه الله الحكم بمدينة حلب وأعمالها معها بنده، وأذن له أن يستنيب عنه في ذلك.
وفي يوم عرفة منه وقع بالديار المصرية برد من كبار الحجم فأهلك من الغلال والزراعات ما لا يحصى، وكان معظم ذلك بالوجه البحري، ووقع بظاهر القاهرة تحت الجبل الأحمر صاعقة على حجر فأحرقته فأخذ من ذلك الحجر قطعة وسبكت فاستخرج منها قطعة حديد بلغت زنتها أربع أواقي من المصري، ووقع في ذلك اليوم بعينه صاعقة بثغر الاسكندرية.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشره نزل الملك المنصور بجميع عساكره على منزلة الروحاء من عمل الساحل، قبالة عكا في معنى تجديد الهدنة، فراسله الفرنج من عكا في معنى تجديد الهدنة، فإنها كانت قد انقضت مدتها، وأقام بهذه المنزلة حتى استهلت سنة ثمانين وست مائة.
وفي هذا الشهر قدم من جهة العراق الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا ملك العرب بالبلاد الشمالية وبرية العراق، داخلاً في الطاعة ووصل إلى خدمة الملك بمنزلة الروحاء. فركب السلطان في موكبه وتلقاه على بعد، وبالغ في إكرامه وإحترامه، وعامله بالصفح والاحسان.

وفيها توفي أحمد بن عبد الواحد بن السابق أبو العباس محيي الدين الحلبي العدل. من أكابر بيوت حلب. كان رجلاً كثير التحري في شهاداته، وعنده ديانة وعقل وسداد، وكتب لحكام حلب مدة، ولحكام دمشق أيضاً مدة أخرى. ومولده بدمشق سنة ثمان وتسعين وخمس مائة، وتوفي بها يوم الأربعاء بعد العصر ثامن ذى الحجة، ودفن من الغد بجبل قاسيون، وكان صلى العصر من يوم الأربعاء، ولحقه قولنج فمات من ساعته رحمه الله.
ازبك بن عبد الله صارم الدين الحلبي كان من أعيان أمراء دمشق وهو منسوب إلى الامير عز الدين الحلبي الكبير، وقد ذكرناه في سنة ست وخمسين وخمس مائة، وكان جرد هذا صارم الدين إلى بعلبك، فتمرض بها، وحمل منها في محفة على بغال إلى دمشق، فوصلها، وأقام بها أياماً، وتوفي في تاريخ ليلة الأحد الرابع والعشرين من شوال، ودفن يوم الأحد بسفح قاسيون، وقد نيف على خمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
اقوش بن عبد الله الأمير جمال الدين الشمسي. كان من أعيان الأمراء وأماثلهم وشجعانهم، وهو الذي أمسك الأمير عز الدين ايدمر الظاهري وهو الذي باشر قتل كتبغانوين مقدم عساكر التتر بعين جالوت، وقد تقدم ذكر ذلك كله، وولى نيابة السلطنة بحلب في السنة الخالية، فأدركته وفاته يوم الاثنين خامس شهر المحرم من هذه السنة، ودفن هناك، وهو في عشر الخمسين رحمه الله تعالى. والشمسي نسبة إلى الأمير بدر الدين بيسرى وغيره من الشمسية رحمهم الله.
داوود بن حاتم بن عمر بن الحبال. كان شيخاً صالحاً، وله كرامات وأحوال وأخبار صادقة. قال أخي رحمه الله أخبرني مراراً عديدة بأشياء تأتي، فكان الأمر كما أخبر. ولما توفي عمه بكر بن الحبال، طلب إلى دمشق، فنزل واجتمع بالصاحب بهاء الدين، فأقبل عليه إقبالاً كثيراً، وأحسن به الظن، ولم يزل بعد ذلك يكاتبه، ويقضي حوائجه، ويقبل إشاراته إلى أن توفى الصاحب بهاء الدين رحمه الله وهو على ذلك. وكان الحاج داود حنبلي المذهب، وأصل أجداده من حران. وتوفي ليلة الأربعاء بين المغرب والعشاء في شهر ذى الحجة من هذه السنة، وعمره يومئذ خمس أو ست وتسعون سنة، ودفن في قبر حفره لنفسه في عقبة عمشكا شرقي بعلبك. قال أخي رحمه الله تعالى: ذكر لي أنه أمر أن يحفره هناك رحمه الله تعالى. حدثني ابن عمه الحاج أبو بكر، قال: كنت معه في بستانه باللجوج، وجرى ذكر التتر وما الناس فيه من أمرهم، فقال لي: متى نثرت هذه الفستقة إنكسروا قال: ونحن تحت شجرة فستق. قال: فطلعت إلى ذلك البستان، وتذكرت قوله، وجئت إلى تحت تلك الشجرة، فوجدت ثمرها قد قاربت أن تنثر فلم يبق بعد ذلك إلا دون أسبوع، وكسروا بعين جالوت، وصح قوله رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن محمد بن عطاء أبو محمد كمال الدين الحنفي. كان من أعيان العدول، كثير الديانة والخير والتعبد، وعنده مكارمه، وحسن عشرة، صحبته في طريق الحجاز الشريف، فوجدته نعم الرجل، وهو أخو قاضي القضاة شمس الدين الحنفي رحمه الله تعالى.
علي بن عمر أبو الحسن الأمير نور الدين الطوري. كان من أبطال المسلمين وشجعانهم المشهورين وفرسانهم المعدودين، وله صيت عظيم عند الفرنج، وله فيهم بالبلاد الساحلية نكايات كثيرة، وآثار جميلة، ومواقف محمودة، جمع الله له بين قوة البدن والقلب، كان.... من حديد، ثقيل الوزن، عظيم القدر، يعجز كثير من الشبان عن حمله، وكان يقاتل به بلا كلنه، وما برح هو وعشيرته مرابطين ببلاد الساحل في وجه العدو سنين كثيرة، وكان من كرماء الناس، ونقل في الولايات الجبلية في عدة جهات من بلاد الشام، ونيف على تسعين سنة، ولم يزل محترماً في الدول، مكرماً عند الملوك يعرفون مقداره، وحضر المصاف الذي بين سنقر الأشقر وعسكر مصر، فجرح في المصاف المذكور ووقع بين حوافر الخليل، وبقي إلى أواخر صفر أو أوائل شهر ربيع الأول، فتوفى بجبل الصالحية، ظاهر دمشق، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.

عمر بن موسى بن عمر بن محمد بن جعفر أبو حفص محي الدين قاضي غزة وما جمع إليها. مولده سنة ثمان وست مائة، توفي بغزة ليلة الثلاثاء ثالث ذى الحجة، ونقل إلى القدس، ودفن به يوم الخميس خامسه بالمقبرة المعروفة بساهرة، الشمالي القدس رحمه الله تعالى. كان والده حاكماً بغزة مدة سنين، وتولاها محي الدين، واضيف إليه عدة أماكن يستنيب فيها من جهته، وهي: لد، والرملة، وفاقون، وبيت جبرين وغيرها. سمع وحدث ودرس بالمدرسة الصلاحية بالقدس، وكان وافر الديانة، كثير الكرم، لا يكاد يمر بغزة أحد يعرفه إلا ويكارمه، ويضيفه حسبما يمكن، وهو مشهور بالشجاعة والاقدام، وقوة النفس، وله حرمة وافرة في الدولة وكلمة مسموعة، وكان نزهاً عفيفاً حسن السيرة، وعنده تورع كثير. فمن ذلك أني سافرت مع أخي رحمه الله إلى الديار المصرية وأجزنا بالقدس في شهر رمضان المعظم سنة تسع وخمسين وست مائة وهو بالقدس الشريف إذ ذاك. فنزلنا عنده؛ فلما كان وقت الفطر أحضر شيئاً كثيراً من أنواع المأكول، ولم يكن فيه لحم، واعتذر عن ذلك بما معناه أن الشهرزورية لما مر في هذه البلاد في السنة الخالية نهبوا أغنام الناس ومواشيهم، ثم باعوا لأهل البلاد فاختلطت، وتعذر تمييز الحلال من الحرام في ذلك، فتركت اللحم لهذا السبب، وهذا غاية الورع، فقلت له: المولى قد قارب بفعله ما يروى عن أمير المؤمنين، لم نعهد لي بخيلاً. فقال: ما أفعل هذا بخلاً، لكنني منذ قتل عثمان رضي الله عنه ونهبت داره وما فيها لا آكل شيئاً إلا أتحقق حله، وأعلم أصله أو ما هذا معناه. وكان القاضي محي الدين المشار إليه من أصحاب والدي رحمه الله. سمع عليه الكثير ولازمه لما نزل دمشق في أواخر سنة خمس وخمسين، وكان والدي يكرمه ويحبه ويثني عليه. وكان أهلاً لذلك، وحضر عدة مصافات مع الفرنج وحصارات لبلادهم، وله المواقف المشهورة والآثار المذكورة في ذلك رحمه الله تعالى. حكى لي أخي رحمه الله عنه ما معناه، قال: لما قصد الفرنج غزة، جهز إليهم الملك الصالح نجم الدين عسكراً، مقدمه ركن الدين بيبرس الصالحي، وهو من أكابر الأمراء وأعيانهم، ثم بلغه أنهم في كثرة لا يقاومهم العسكر المسير إليهم، فكتب بطاقة إلى ركن الدين مقدم العسكر يأمره بالتأخر، وأنه لا يلقاهم بمن معه إلى حين يصله مدد يقوى به عليهم، وحضر الفرنج، وركب الأمير ركن الدين ومن معه لملتقاهم، ووقف العين في العين، وبقي بين العسكرين مقدار شوط فرس، فحضرت البطاقة إلى ركن الدين في ذلك الوقت، وأنا إلى جانبه فقال لي: تقف على هذه البطاقة وتعرفني مضمونها، فلما وقعت عليها، قلت في نفسي: متى عرفته اندفع، وطمعوا فيه وفيمن معه، والكذب في مثل هذا الموطن فيه مصالح، فقلت له: مضمونها، أنك تجتهد وتفعل ما تصل قدرتك إليه، ولا يهولك كثرتهم. وقلة من معك. وأنتم بين الظفر والجنة، وقلت ما أمكنني في هذا المعنى، فقوى قلبه والتقاهم، وكسرهم الكسرة المشهورة، بحيث أتى على معظمهم قتلاً وأسراً، فقتلوا عن آخرهم، وكانوا الوفا كثيرة فلما انقضى المصاف، هنأته بالنصر، وقلت: لو كان في البطاقة أنك تتأخر عنهم بعد وقوع العين، قال: كنت أتأخر، فأخرجت البطاقة، وقرأتها عليه، فوجم وقال: ما كان يؤمنك والعياذ بالله إن هم كسرونا أين كنت تروح من السلطان؟ قلت: والله والعياذ بالله إن هم كسرونا ما كان يراني السلطان ولا غيره يعني أنني كنت أقتل. وهذا ركن الدين هو أستاذ الأمير عز الدين سم الموت، وعلاء الدين ايدغدى الأعمى، وبيدغان، وقلاجا، وعدة أمراء أكابر رحمهم الله تعالى.
محمد بن أيوب بن أبي رحلة أبو عبد الله شمس الدين الحمصي مولداً ومسكناً، البعلبكي وفاة. كان يحضر بالأشياء اللطيفة، والأشعار الحسنة. قال أخي رحمه الله: أنشدني المشار إليه يوم الجمعة ثالث وعشرين شهر شوال سنة تسع وسبعين وست مائة ببعلبك:
والدهر كالطيف بؤساه وأنعمه ... عن غير قصد فلا تحمد ولا تلم
لا تسأل الدهر في البأساء يكشفها ... فلو سألت دوام البؤس لم يدم
توفى بكرة السبت تاسع وعشرين ذى القعدة من هذه السنة، ودفن من يومه خارج باب القفاعة في مقبرة برتيا رحمه الله.

محمد بن داود بن الياس أبو عبد الله البعلبكي المنعوت بالشمس. سمع الكثير من الشيخ موفق الدين وطبقته، والشيخ تاج الدين الكردي وابن الزبيدي، وحنبل وغيرهم، وخدم وادي رحمه الله تعالى ولازمه واشتغل عليه، وسمع على المشايخ الكبار ما لا يحصى كثرة واسمع، وكان عنده ديانة وافرة وتحر في الشهادات والأقوال، كثير الأمانة والعدالة والعبادة وقيام الليل بالقرآن العزيز. خدم والدي رحمه الله فوق أربعين سنة، وانتفع به دنيا واخرى، وحفظ المقنع، وعرف الفرائض، ورحل في طلب الحديث، وحدث بكثير من مسموعاته. ومولده في جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وخمس مائة، وتوفى ببعلبك يوم السبت حادي عشر شهر رمضان المعظم، ودفن بالجبل قريباً من قبر سيدنا عبد الله اليونيني رحمه الله تعالى.
محمد بن سالم أبو عبد الله نجم الدين المعروف بقاضي نابلس. كان صدراً رئيساً كاملاً حسن المثاني كريم الأخلاق، مبسوط اليد، له وجاهة عند الملوك، وتقدم في الدول، ترسل عن الملوك وعن الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى دار الخلافة، وكانت منزلته كبيرة عنده، وحرمته وافرة لديه. وقد أشرنا إلى ذلك في ترجمة الشيخ نجم الدين عبد الله البادرائي رحمه الله. سمع نجم الدين هذا الحديث واسمعه، وأقعد في آخر عمره، وانقطع عن ولده جمال الدين أحمد قاضي نابلس بها إلى أن توفي في ثالث وعشرين ربيع الآخر، ودفن بنابلس؛ ومولده سنة تسعين وخمس مائة. ووالده القاضي شمس الدين، كان كبير القدر، له مكانة عند الملك الكامل، ولما سلم القدس إلى الأنبرتور سيره معه ليسلم إليه ما وقع الاتفاق عليه بينهم، وبيتهم بيت كبير مشهور بالحشمة والمكارم، ولما ترك قاضي نابلس بأيديهم من سنين متطاولة وإلى الآن، وكان هذا القاضي نجم الدين قد اشتغل، وعنده فضيلة حسنة رحمه الله تعالى.
يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد بن علي أبو الحسين جمال الدين المصري المعروف بابن الجزار. ذكر أن مولده سنة إحدى وست مائة والله أعلم، وتوفى يوم الثلاثاء ثاني عشر شوال بمصر، ودفن بإحدى القرافتين رحمه الله تعالى. سمع أبا الفضل أحمد بن محمد بن الحباب، وروى عنه، وسمع من غيره أيضاً، كان إماماً أديباً فاضلاً، جيد البديهة، حلو المجون، دمث الأخلاق، حسن المحاضرة، وله أشعار كثيرة مدح الملوك والأمراء والوزراء والأعيان وغيرهم، وكان من محاسن الديار المصرية، وله نوادر مستطرفة، ووقائع مستملحة، ومداعبات ظريفة، ومكاتبات إلى الأدباء وغيرهم. كتب إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان في عيد النحر:
مولاي شمس الدين يا من سمت ... با خمصيه الرتب العاليه
يا منعماً راجيه بالندى ... لم يبق في أمواله باقيه
قد أصبع الملوك لا تشتهي ... شيئاً سوى لقياك والعافيه
والعيد عيد النحر قد جاءه ... وهو من الأمرين في ناحيه
لم يلف جزاراً ولا شاعراً ... ولا الحرفة الأولى ولا الثانيه
قال أبو الحسن الجزار المذكور: لما قدم الصاحب كمال الدين عمر بن العديم رحمه الله تعالى إلى الديار المصرية، نخبت شيئاً من أشعار أجداده ومضيت به إليه، فصادفت الأمير ناصر الدين حسن بن شاور الكناني، فأخذني وأدخلني الدار، فوجدت عنده السراج عمر الوراق، فتذاكرنا ما كتب من ذلك فقلت:
للصاحب ان في جرادة معشر ... فضلوا الورى في السلم والهيجاء
ببراعة ويراعة ودراسة ... ودراية وخطابة وقضاء
فقال السراج الوراق:
لم يهجو بالشعر إلا حيلة ... منهم على الاحسان للشعراء
يتواضعون لكي يفدى منهم ... حتى كأنهم من الأكفاء
فقلت:
حاكت فزوعهم الكرام أصولهم ... ما أشبه الأبناء والآباء
لهم الفتوة والفتوى إذ هم ... خير الكرام وجلة الأدباء
فقال ناصر الدين حسن بن شاور الكناني:
فاصغ بسمعك حين تتلى أنهم ... ان كنت ذا فهم وذا إصغاء
واسمع لما يوحى هناك من العلى ... وثناء أفعال وطيب ثناء
فقال السراج الوراق:
يصلون بالأدب إحساناً لهم ... كالفجر متصلاً بنور ذكاء

هم دوحة مخضرة الأفنان إن ... حف النداء مخضل الأفناء
فقال ناصر الدين حسن بن شاور:
بيت تسامى قدره ومحله ... عن أن يسامى في ندى وغلاء
فيه المواطن والزواهر منهم ... وسل الحيا وكواكب الجوزاء
وللجزار أيضاً من أبيات:
أدركوني فبي من البرد هم ... ليس ينسى وفي حشائي التهاب
ألبستني الأطماع وهماً فها ... جسمي عار ولى قرى وثياب
كلما ازرق لون جسمي من البرد تخيلت أنه سنجاب
وقال أيضاً:
من منصفي من معشر ... كثروا علي وكشروا
صادقتهم وارى الخروج من الصداقة يعسر
كالخط يسهل في الطروس ومحوه يعتذر
ومتى أردت كشطته ... لكن ذاك يؤثر
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ألا أيها السائل عن قومي وعن أهلي
لقد سائلت عن قوم ... كرام الفرع والأصل
يريقون دماء الأنعام في الحزن والسهل
يرجيهم بنو كلب ... ويخشاهم بنو عجل
وقال من أبيات:
تزداد بالذم إسرافاً عراضهم ... وكل أيامهم تشريق
وكتب إلى شرف الدين صاحب ديوان البيوت:
لا تلمني يا سيدي شرف الدين إذا ما رأيتني قصابا
كيف لا أشكر الجزارة ما عشت زماناً وأهجر الآدابا
فيها كانت الكلاب ترجيني ... وبالشعر صرت أرجو الكلابا
وقال أيضاً رحمه الله:
أكلف نفسي كل يوم وليلة ... سروراً على من لا أفوز بخيره
كما سود القصار بالشمس وجهه ... ليجهد في تبييض أثواب غيره
وقال أيضاً وقد ذكر الشواء الشاعر:
إن النجوم وإن تكامل ضوءها ... ليست كشمس الأفق في الأضواء
ومحاسن الجزار في أقواله ... نسيت بذكر محاسن الشواء
وقال أيضاً:
تزوج الشيخ إلى شيخة ... ليس لها عقل ولا ذهن
كأنها في فرشها ورمة ... وشعرها من حولها قطن
وقائل قال لي كم سنها ... فقلت ما في فمها سن
لو سفرت غرتها في الدجى ... ما حسرت تبصرها الجن
وقال: وقد توجه إلى عند الأمير شهاب الدين أحمد بن يغمور رحمه الله تعالى يتقاضاه برسم له عليه، وأخذ معه هدية سمك:
لي تهيأت أمور قط ما اتفقت ... قبلي لسوقة مثلي ولا ملك
بالخير يصطاد أسماك البحار وقد ... أصبحت وحدي أصيد الخير بالسمك
وقال: وكتب بها إلى ضياء الدين القرطبي، وأهدى له ابلوجين سكر في قدر نحاس:
وأبيات تسامح حين تلقى القدر نهدين
ففي العربة والعربة ... ما يهدى كهاذين
وبات ليلة في شهر رمضان عند الصاحب بهاء الدين أحمد بن حناء رحمه الله، فصلى عنده التراويح، وقرأ الامام في تلك الليلة سورة الأنعام في ركعة واحدة؛ فقال:
ما لي على الأنعام قدرة ... لا سيما في ركعة واحده
فلا تسوموني حضورا سوى ... في ليلة الأنفال والمائده
وجلس السراج الوراق في باذهنج ينظم فقال الجزار:
إن السراج نسيم الريح يوقظه ... إلى فوائد كالابريز ينتقد
يزيده الريح ايقادا لخاطره ... وما رأينا سراجاً في الهوى يقد
وقال يمدح جمال الدين يحيى بن مطروح رحمه الله بقصيدة أولها:
هو ذا الربع ولى نفس مشوقه ... فاحبس الركب عسى أقضي حقوقه
فقبيح بي في شرع الهوى ... بعد ذاك البر أن أرضى عقوقه
لست أنسى فيه ليلات مضت ... مع من أهوى وساعات أنيقه
ولئن أضحى مجازاً بعدهم ... فغرامي فيه ما زال حقيقه
يا صديقي والكريم الحر في ... مثل هذا الوقت لا ينسى صديقه
صبح بدا منك على قلبي عسى ... أن يهدى بين جنبي خفوقه
فاض دمعي مذ رأى ربع الهوى ... ولم فاض وقد شام بروقه
يقد اللؤلؤ من أدمعه ... فغدا ينثر في الترب عقيقه
قف معي واستوقف الركب فإن ... لم يقف فاتركه يمضي طريقه

فهي أرض قلما يلحقها ... آمل والركب لم أعدم لحوقه
طالما استجريت في أرجائها ... من بيته البدر إذ يدعى شقيقه
يفضح الورد احمراراً خده ... ويود الخمر لو يسبقه ريقه
فيه الحسن خليق لم يزل ... والمعالي بابن مطروح خليقه
ولما ورد فخر القضاة ابن بصاقة رسولاً إلى مصر من الملك الناصر داود رحمه الله، دخل عليه وأنشده في قصة جرت له مع صاحب كان يألفه:
لمثلها كان رجائي انصرك ... فأدرك فتى من الخطوب في درك
لم أخش خذلاناً وأنت ناصري ... وإنما يخذل من لا استنصرك
عليك يا فخر القضاة عمدتي ... فانظر إلي لا عدمت نظرك
واسأل كما عودتني عن خبري ... بلطفك المعهود حتى أخبرك
هيهات أن أشرح ما قد حل بي ... أن لم يقل حلك لا تخش درك
مثلك من قام بنصر عاشق ... مثلي أن العشق أمر مشترك
فقل من قام بنصر عاشق ... مثلي أن العشق أمر مشترك
فقل لطرف بات مثلي هاجعاً ... يا طرف لا تنس قديماً سهرك
ونار قلبي قد تناسى وجده ... يا قلب خف ذاك الجوى أن يذكرك
ولا يغرنك امهال الهوى ... فالحب قد يأخذ بعد ما ترك
إياك أن تهزأ بالعشق فقد ... أعذرك الآن به من أنذرك
جار على الدهر في أحكامه ... فليته في العذل يقفو إثرك
تم على العبد وأنت هاهنا ... ما لا يتم لو تكون في الكرك
وقال في بعض مشايخ الأدب، وقد أدهن بالكبريت لجرب ظهر به:
أيها السيد الأديب دعاء ... من محب خال من التسكيت
أنت شيخ قد قربت من النار فكيف إذا دهنت بالكبريت
وقال أيضاً:
سر الجفون بديعة الأجفان ... هيهات ينفع مغرماً كتمان
طرف المحب فم يذاع به الجوى ... والدمع إن صمت اللسان لسان
تبكي الجفون على الكرى فأعجب لمن ... يبكي عليه إذا نأى الأوطان
أتلفت روحي في رضاك وأنني ... راض بذلك أيها الغضبان
يا مسقمي مهلاً على جسد الذي ... لم يبق فيه للسقام مكان
حاشى معاليك التي أنا عبدها ... أن لا يكون لحسنها إحسان
وقال أيضاً:
أقاموا بأرحاء الحشا عندما ساروا ... فكيف يضام القلب وهو لهم جار
بروحي من ودعتم وبمقلتي ... لتوديعهم ماء وفي كبدي نار
ولست بناسيهم وللقلب نحوهم ... حنين على بعد المزار وتذكار
أيا عاذلي إني وإن بعد المدى ... على عهدكم باق فدعهم وما اختاروا
إذا وصولوا حبلى فبالفضل منهم ... وإن أعرضوا عني فللناس أعذار
ترى ترجع الأيام تجمع بيننا ... وللنفس حاجات إليهم وأوطار
بذكر منهم كل غصن مهفهف ... وكل هلال أشرقت منه أنوار
ولولا تثنيهم وحسن وجوههم ... لما خدعت عيني غصون وأقمار
وقال أيضاً:
بهذا الفتور وهذا الصلف ... يهون على عاشقيك التلف
أطرف قلبي بهذا الجمال ... وأوقعتها في الأسى والأسف
يكلف بدر الدجى إن حكى ... محياك لو لم يشنه الكلف
وقام بعذري فيك العدى ... وأجرى دموعي لما وقف
وقالوا به صلف زائد ... فقلت رضيت بذاك الصلف
بجوهر ثغرك ماء الحياة ... فما ذا يضرك لو يرتشف
أكاتم وجدي حتى أراك ... فيعرف بالحال من لا عرف
وقال أيضاً:
عاقبتني بالصد من غير جرم ... ومهاجرها بقية رسمي
وشكوت الظمأ من ريقها العذب فجادت ظلماً بمنع الظلم
ورأتني أصبو إلى ذلك الخصر فاهدت منه السقام لجسمي
أنا حكمتها فجارت وشرع الحب يقتضي أن أحكم خصمي

ذات ثغر نحميه من طرفها الفتاك سحر يصبى الفؤاد ويصمي
حدت عنها لما انتضت صارم اللحظ حذاراً من تبوء باثمي
يا زماني أراك من بخلك المفرط وفرت من خطوبك سهم قسمي
لست ممن يرى بذم بني الدهر لمعى والدهر أولى بذمي
قصدتني أيامه ولياليه ... بشهب تعدو على ودهم
وقال منها في المدح:
يا أميراً يرجى ويخشى لبأس ... ونوال في يوم حرب وسلم
أنت موسى وقد تفر عن ذا الخطب فغرقه من نداك بسيم
وقال أيضاً:
يا مالك القلب رفقاً ان ثاركفي ... أضالع الصب لا تبقى ولا تذر
فضحت غصن النقا لينا فراح إذا ... ما ماس قدك الأغصان تستر
ما أنكر الطرف أن الشعر منك دجى ... وإنما عزه من وجهك القمر
إني لأعجب من جفن يدير به ... على ندامك خمر وهو منكسر
سمح إذا خل معناه أخا أدب ... فالمدح ينظم والأموال تنتثر
يثنى على فعله أخلاقه وكذا ... يثنى على حسن أفعال الندى الزهر
وقال أيضاً:
وأهيف يحكي الغصن لين قوامه ... ويفعل أفعال الشمول شمائله
يلين إلى أن يخرج الوهم جسمه ... ويعرف في ماء النسيم غلائله
إذا ما بدا من شعره ذوائب ... رأيت غزالاً لا ترعه حبائله
وقال منها أيضاً:
وإن علياً إن أردت مديحه ... لاأعظم قدراً أن تعد فضائله
أقول لشعري مرحباً ليبقيني ... بأن علياً بالمكارم قاتله
وقال يهجو كحالاً رجع صيرفيا:
عهدت أبا البشر الحكيم بطبه ... مدى الدهر ما بين الورى طالب الرزق
فأصبح ذا شغل جديد لأنه ... غدا صيرفياً يصرف العين بالورق
وقال أيضاً:
قفا نبك من ذكرى قميص وسروال ... ودراعة قد عفا رسمهما البالي
وما أنا من يبكي لأسماء أن نأت ... ولكنني أبكي على فقر أسمالي
لو أن امرء القيس بن حجر رأى الذي ... أكابده من فرط هم وبلبال
لما مال نحو الخدر خدر عنيزة ... ولا يأت إلا وهو عن حبها سالي
ولي من هوى سكنى القياس عن الهوى ... بتوضح فالمقراة أعظم أشغالي
ولا سيما بالبرد وافى يزيده ... وحالي على ما اعتدت من عسرة خالي
ترى هل تراني الناس في فرجية ... أجربها تيهاً على الأرض أذيالي
ويمشي عدوي غير خال عن الاسى ... إذا بات من أمثالها بيته خالي
وإني قد أسعى لتفصيل جبة ... كفاني ولو أطلب قليل من المال
ولكنني أسعى لمجد يحوجه ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وقال منها أيضاً:
وكم ليلة أستغفر الله منها ... بحد وريق بين ورد وجريال
تبطنت فيها بدر تم مسنف ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
وقال يمدح الصاحب تاج الدين محمد بن حناء رحمه الله من أبيات:
ذو همة يفتخر النجم إذا ... ما لاح من تحت حضيض تربها
وعزمه حين حكته في الوغى ... بيض الصباء تباعدت عن قربها
وقال في المداعبات:
حسبي حرافاً يحرفني حسبي ... أصبحت منها معذب القلب
موسخ الثوب والصحيفة من ... طول القسابى ذنباً على ذنب
أعمل في اللحم العشاء ولا ... أنال منه العشاء فما ذنبي
ذاب فؤادي وجسمي قد وسخ ... كأنني في حراري كلبي
وقال في محتجب عنه:
ماذا يفيدك أن تكون محجباً ... ولعبد بات للكريم يلوذ
إن أنت إلا في الحصار معي فلا ... تعب فكل ما حاصره مأخوذ
وأراد الدخول على الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ فضربه البرددار وأخرجه لعدم معرفته به فعمل أبياتاً مزحاً بها:
أمولاي ما من طباعي الخروج ... ولكن تعلمته الخمول

وجئت لبابك أبغي الغنى ... فأخرجني الضرب قبل الدخول
وقال القاضي جمال الدين محمد بن واصل: اجتمعت بالجمال بن عبيد وكنت سمعت أنه دخل دار بعض الأكابر فأخرجه البرددار فقال:
معن ويخرج بعد الدخول ... وأقبح شيء خروج المعنى
ذلك فأنشدته بيت الجزار فأعجبه وقال إلا أنا
أخرجت وما ضربت. وللجزار:
إن كنت ممن راعه هجركم ... أو ضقت ذرعاً بتجنيكم
فلا أدام الله لي سلوة ... ورد قلبي عاشقاً فيكم
وأنشدني أيضاً:
لقد رضى الرحمن عن كل منفق ... فما بالنا نلقى رضا الله بالسخط
قبيح على الانسان يعطيه ربه ... بغير حساب وهو يحسب ما يعطي
وقال يمدح الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ رحمه الله:
بذل وجهي إلا لمثلك بذله ... واغتراري إلا بجاهك ذله
يا جواد سحاب كفيه بالجود على كل قاصد مستهله
والذي لو حكاه في دسته ... الفضل بن يحيى سخا يطلب فضله
لي نصفيه تعد من العمر شيئاً غسلتها ألف غسله
لا تسألني عن مشتراها ففيها ... منذ فصلتها نشا يحمله
كل يوم يحوطها العصر والدف ... مراراً وتقر بعمله
نسف الريح صدرها والمرازب ... فباتت تشكو هزاء نزله
أين عيشي بها القديم وذاك التيه فيها وخضرتي والشمله
قال لي الناس حين أطنبت فيها ... بس أكثرت حلها فهي تقله
وأطلق بعض الرؤساء قمحاً مترباً مسوساً فقال:
أتاني برك المقبول براً ... وقصداً للثناء وللثواب
فكدر صفوه الكتال حتى ... عذرنا منه في أمر عجاب
رضيناه وقد وافى عتيقاً ... إلينا فاستحال أبا تراب
وأهدى إلى سراج الدين عمر الوراق تفاحاً وكمثرى ونرجساً، وكان أرمد وبينهما مداعبة وكتب إليه:
أكافيك عن بعض الذي قد فعلته ... لأن لمولانا على حقوقا
بعثت خدوداً مع نهود وأعينا ... ولا غرو أن يحرى الصديق صديقا
وإن حال عنك البعض عما عهدته ... فما حال يوماً عن ولاك وثوقا
بنفسج تلك العين صار شقائقا ... ولؤلؤ ذاك الدمع عاد عقيقا
وكم عاشقاً يشكو انقطاعك عندما ... قطعت على المزار منه طريقا
فلا عدمتك العاشقون فطال ما ... أقمت لأوقات المسرة سوقا
يقبل الأرض، ويسأل بسط عذره في التهجم على مولانا بما هو من وظائفه. والبحث في العلم الذي هو من معارفه. وأنه قد فاق الأصاغر والأكابر، وأنسى الأوائل والأواخر. وعجيب كون مولانا يبدي عند من يباسطه ويداعبه. ويماجنه ويلاعبه. ويصبح متعجباً من هذا السبب المقيل. وهو المتقن لعلم الجليل. وما أظنه عافاه الله بذهيل. عن أن الشباب قد قوضت خيامه. وانقضت أيامه. ومضى ذلك الزمان. ونقص ذلك الادمان. والذي يشكوه مولانا في العين، يشكوه المملوك في الأثر. وما برح المملوك يتكرم به، والله آخذ بيد الكريم إذا عثر. ومولانا يحرض أن لا يتكلف الجواب عن هذه الخدمة خال. ورودها عليه، ولا يجيب المملوك عليها سفاهاً عند مثوله بين يديه، بل إذا صلح مزاجه وتم سروره وابتهاجه. حمى على العباد فيها لعادته، وألقى على المملوك أشعة سعادته. فأجابه سراج الدين المذكور:
أعيني يا بشراكما هجعتما ... وزاد كما طيف الخيال طروقا
وجاء بأمثال الخدود تصرحت ... تذوب نفوس العاشقين خلوقا
يعار بها مثل النهود تحققت ... وكان باهداء النهود حقوقا
ونرجس روض كاللحاظ نواعسا ... وكان جديراً بالنعاس خليقا
وقد جاءنا من جامع الشمل والذي ... بداكم من وجدنا للوصال طريقا
فكم راض من صعب وذلك جامحا ... ولين قاس ورد مروقا

يقبل الأرض وينهي ورود الملجئين من فاكهة، والمتحيين من هديته وهدايته وقد سقاهما در بنابه، وأبدى فيهما عزائم إحسانه. من يده ولسانه. فلثمت تلك الخدود. وضممت تلك النهود. وهممت بالأعين لو أنهن سود. وقد كانت النفوس صدفت عن هذه اللذات. ووقعت بمعزل عن الشهوات، وأنشد:
فانتهى طبه.... عارفه ... يخلط الجد مراراً باللعب
يغلظ القول إذا لانت.... ... ويراجي عند سورات الغضب
رسالة تقود السمع بغير خطام. ويدعوك بالسحر الحلال إلى الأمر، ذلك سهمه. وأعلى في درجات المؤلهين اسمه. ومحا أهل هذه الصناعة، وأثبت رسمه، والعجب أن يتفرس في سبب الرمد. ويعتقد أني وجدت ما وجد. كلا أن الأسباب لتخلف. وإنما لكل أمر ما ألف. والناس تعرف. من أين توكل الكتف. ولا ينجو أحد مع الأوراق مثل هذه الأنحاء ولا يقول له ما أريد إلا من الالجاء أرشد. وفق الله الشيخ للصواب وسدد رأيه تسديد هذا الجواب:
أعانتنا لهذا يا فلان ... تأمل ليس كالخبر العيان
أماني بالنفوس لها خداع ... وليس من الحتوف لها أمان
ومن بعد الحراك لها سكون ... وصمت بعد ما مرج اللسان
أيا من حبذ الآمال ركضا ... بأمن قفي به الأجل العنان
تزوفد زاهر الدنيا ومنها ... جنى ثمر الردى إنس وجان
ويخدع لامس منها بلين ... أيؤمن إذ تميس الاقحوان
محاذر مكرهاً حلا تحاذر ... فما يبقى الشجاع ولا الجبان
لو وضع الزمان لو اتعظنا ... وبالغ في نصائحه الزمان
ونحن على اغترار من هوانا ... وليس مع الهوى إلا هوان
بلغت أبا الحسين مدى إليه ... لمستبق ومستبق رهان
وكنت وطالما قد كنت أيضاً ... تقول... سيقول كانوا
الأعز القوا في اليوم عمن ... بكته البكر منها والعوان
وسقت بما منعناه حبيباً ... عليه والبيان لها بنان
لها أيضاً لحزن بعد حزن ... وألفنا لدمع لا يصان
واقذاء برفع فوق نعش ... وخفض في اللحود له مكان
وناح النحو بعده والمعاني ... لها مع كل نائحة حنان
ولا بذل بحل عنك يرجى ... ولا عطف لمن غدروا وخانوا
فلا تحتج إلى تمييز حال ... لنا حفظت فقد سخن الزمان
ولو رقت بحور الشعر دمعاً ... وكان على الخليل لها الضمان
لما أدت ولا وأبيه حقاً ... ولو بسلوكها نظم الجمان
كفاها ذوقة التقطيع فيما ... يجوزه ويأباه الوزان
ولجج سالكاً في كل بحر ... تعين به الرفاق ولا تعان
فنالت منه فاصلة الرزايا ... ودائرة الحمام ولا اعتنان
ويا أسف البديع على بديع ... وكل فنونه منه افتنان
إذا التفت استطال على جرير ... وأخرس من فرزدقه اللسان
ويستعر استعارته بنار ... وغيلان اسعار به دخان
فلا تنسى به سحبان يوماً ... ولا قسا إذا ذكر البيان
ولو هرم رآه سلا زهيراً ... وكان له عليه ثم شان
وكم عادت محافلنا عكاظاً ... به وله بها ذاك الجنان
فأذنته الملوك فكان منها ... بحيث السمع ينصت والعيان
واسنت من جوائزه فلولا ... غناه غدا نداه يستعان
له بالله حالفه وفوق ... يعز به ودرهمه يهان
وفي خير الورى أبيات مدح ... جوائزه عليهن الجنان
وكل بديعة الالفاظ تعزى ... لحسان بدائعها الحسان
جمال الدين أنت جميل ظن ... بربك جل ديا يدان
وعفو الله أكثر من ذنوب ... لنا وعلى الشفيع لنا الضمان

يوسف بن نجاح بن موهوب أبو الحجاج الزبيري المعروف بالفقاعي. هو من أهل عقربا قرية من أعمال نابلس، وله بها زاوية، وكان يتردد إليها في كثير من الاوقات، وله زاوية ورباط بسفح قاسيون. بناه له الامير جمال الدين موسى بن يغمور رحمه الله. كان كثير العبادة والزهد، وحسن التربية، كريم الأخلاق، لطيف الحركات. كثير التواضع، لين الكلمة من المشايخ المشهورين بالعرفان، ولكثير من الناس فيه عقيدة صالحة. وتوفى ليلة الأربعاء بجامع الجبل، واعيد إلى زاويته، فدفن بتربته التي أنشأها جوار زاويته، وقد نيف على ثمانين سنة رحمه الله تعالى. قال الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري رحمه الله تعالى: اجتمعت به فسمعته يقول: الطالب المشيخة جاهل بحقيقة. الأمر مستور عليه، إن أهل الله تعالى يكرمون بها، فيسألون الله تعالى الاقالة. قال: وسمعته يقول: ليس أبناء المشايخ كغيرهم فإن الحاصل للطالب المريد من غيرهم أكثر وأجل فإن أولاد المشايخ عندهم اذلال بآبائهم، فلا تزال نفوسهم مرتفعة، وغيرهم يطلب بالذل والانكسار، وإنما حصل الناس على الخير بهما. قال: وسمعته يقول: لقد جرى لهؤلاء الذين عندي وقت اجتهدت على ادخال أولادي فيه بكل طريق فلم أقدر. قال: وسمعته يقول: إنما نهى الشيخ الشخص من صحبة غيره إذا كان مريداً مشتغلاً قد سلكه. وعرف مزاجه، لأنه ربما لاذ بجاهل لحاله ففسد عليه امره، ومثال هذا كالمريض الذي له طبيب قد خبر عليه، وعرف دواءها، وعالجها مدة، ولو شاركه في تعليله طبيب آخر، ربما أدى إلى هلاك المريض. وقال: وسمعته يقول: كان ابن محمد يرى الغنم مدة طويلة لم يأخذ الذئب له شيئاً قط، فلما كان بعد تلك المدة أخذ الذئب منه سخلة، فقلت له: قد أخذت شيئاً فأنكر، فكشفت عن حاله فإذا به قد أكل طعاماً من وقائع بعض الصبيان الرعيان، فقلت بهذا أخذ الذئب منك ما أخذ.
أبو بكر بن محمد بن إبراهيم عرش الدين الاربلي. كاد ديناً خيراً صالحاً، حسن العقيدة، كثير الذكر والتلاوة، عنده فضيلة تامة، ومعرفة بالنحو والعربية. وحل المترجم، مقتدر على نظم الشعر، وعمل الألغاز. ومن نظمه الألفية في الألغاز المخفية. وهي ألف لغز في ألف اسم. توفى بدمشق ليلة الجمعة ثالث عشر ذى القعدة سنة تسع وسبعين وست مائة، وصلى عليه بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة، ودفن بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى.
وله أشعار كثيرة، فمنها:
قلت لما بدا بيته كبدر ... فوق غصن على كثيب مهيل
عجباً من سقام حصر نحيل ... كيف يقوى لحمل ردف ثقيل
ومريض الأجفان بلبل عقلي ... بعذار من فوق خد أسيل
جؤذري اللحاظ حلو الثنايا ... طاب سقمي في حبه ونحولي
مقلة الروم من بني الروم رام ... بسهام تصمى قلوب الفحول
ما عليه لو جاد لي برضاب ... من لماه عساه يشفى غليلي
أو عساه يرد قلباً رهيناً ... في يديه من وقت يوم الرحيل
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ولى رشأ أحوى حوى الحسن كله ... بمشرف صدغيه بمائل قده
تبدى فخلنا البدر تحت لثامه ... وماس فخلنا الغصن في طي برده
وقفت له أشكو إليه توجهي ... وما نال قلبي من مرارة صده
وسعرت الأنفاس نار صبابتي ... فمن حرها أثر الحريق بخده
ولولا ارتشافي من برود رضابه ... لأحرقت نبت الآس من حول ورده
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ما زال يرميني بكل بلية ... ويتحفني من هجره بالعظائم
إلى أن رماه الله بالحب بغتة ... وأصغر ممشاه إلى غير راحم
وقفت له كالمشفى في طريقه ... وأنشدته بيتاً كضرب الصوارم
وقد كنت أرجو ان أراك معذباً ... بنار الهوى يشجيك نوح الحمائم
وقلبك ملآن من الهم والأسى ... وطرفك مسلوب الكرى غير نائم
بليت بما قد كنت لي مبتلى به ... ولا ظالماً إلا سيبلى بظالم
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
لا تائسي يا نفس إن عتبت بنا ... أيدي الخطوب وخانت الأيام

وتضايقت أوقاتنا فلربما انفرجت شدائدنا ونحن نيام
كم قد رأينا من مريض فصلوا ... أكفانه حر عليه همام
يشفى وقام ومات من قد فصلوا ... أثوابه للعيد وهو مهام
والدهر يرفع الفتى ويحطه ... والعمر فيه صحة وسقام
والبدر يكمل بعد نقصان به ... ويحل فيه النقص وهو تمام
والموت يأتي بعد ذاك وتخرب الدنيا ويذهب بعدها الأقوام
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
شبت وجزت السبعين وارتحل ... الصبى فصبحي من بعده غلس
لا معدتي تقطع الطعام ولا ... الوسيط فيه روح ولا نفس
فكيف يرجو طيب الحياة أخو ... شيب بيوت السقام يلتمس
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أقول إذا عزى جزع لقلبي ... لبعدكم وضاق بي الفضاء
ولم أملك لوقع البين صبراً ... أعيش به إذا غلب الهواء
تصبر أيها القلب المعنى ... وكن راض بما حكم القضاء
وقال أيضاً في السلو:
ها أنت قد سلوت ولد طرفي بالكرى ... وسمعت من قول العواذل ما جرى
وأجابني قلبي إلى سلوانكم ... وأبت جفوني بعدكم ان تسهرا
بناكم بنتم وخنا مثلما ... خنتم وها حبل الوداد انبرا
كذب الذي قال البعاد مرارة ... ما ذقت طعم البعد إلا سكرا
إني لأبغض من يمر بذكركم ... متعرضاً وأراه شيئاً منكرا
ما في فؤادي موضع لعتابكم ... كلا ولا بحديثكم أن يذكرا
أنا قد سلوتكم وكنتم أضلعي ... فيعلم العادي ويدري من درا
وقال أيضاً في هذا المعنى:
سطا جيش السلو على غرامي ... وكنتم بعد فترتها عظامي
أناس كنت اعشقهم قديماً ... وأهجر فيهم سمع الملام
تناسوا بعد وصل واتفاق ... وبانوا بعد قرب والتيام
وطنوا بعد حسن الظن فيهم ... على الصب المتيم بالسلام
ولما أن نأوا عني عنادا ... بلا جرم ولم يرعوا ذمامي
رفضت هواهم وسلوت عنهم ... بلا جزع كذا فعل الكرام
وها أنا قد هجرت النوم كيلا ... أرى منهم خيالاً في المنام
ولو أن الليالي ساعدتني ... جعلت بغير أرضهم مقامي
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ومورد الوجنات معسول اللمى ... يزهو كغصن الثاية المياس
ريان من ماء الشباب معقرب ... الصدغين قد جعل السقام لباسي
ساجي اللحاظ مريضة أجفانه ... عذب المراشف طيب الأنفاس
لما رأى ورد الملاحة تجتني ... باللحظ سبح خده بالآس
عجباً له حمل الثياب وجسمه ... كالماء كيف يضمر قلباً قاسي
ما زال يعذلني عليه عاذلي ... ويزيد في عذلي وينقب رأسي
حتى رآه فصار من عشاقه ... فأقام عذري فيه بين الناس
فإذا انثنى خلناه غصن اراكة ... وإذا دنا خلناه ظبي كناس
أنا من هواه من الصبابة في غنى ... ومن التصبر عنه في إفلاس
يبدو فتحسبه هلالاً مشرفاً ... من تحت طرة شعره الدعاس
وقال أيضاً في الشيب:
قل للذي لبس السواد والبس الشعر السوادا
ضيعت عمرك في المحال ولم تنل أبداً مرادا
لو مت في رجع الشباب ولو فرشت له الرمادا
وزمان لهوك والصبا ... ولى وارائك الكسادا
أفسدت صنعتها وما ... حب الفساد فنى فسادا
فافعل بنفسك ما تشا ... واجعل لك الاحزان زادا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
بنفسي حبيب كامل الحسن وافر ... الجمال سريع السخط عند عقوقه
إذا ماس حار الغصن من شرف به ... وإن لاح غار البدر عند شروقه
فما السحر إلا من نفاثة طرفه ... وما الخمر إلا من سلافة ريقه

لقد عمه بالحسن خال بخده ... تحامى عن الازهاء فوق شقيقه
على مثله يرض أخو الشكر هتكه ... ويجفو الصديق المرتضى لصديقه
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا كامل الحسن الذي ... حزني طويل فيه وافر
أمرضتني بجفونك المرضى الصحيحات الفواتر
وقبلتني بالحال وهو سواد عيني فيه حائر
وأسلت بالخد الأسيل الدمع من أنف النواظر
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
الحمد لله إني في مجاهدة ... مما أقاسي وحسبي ذاك يكفاني
إني لأعجب من حال ولا عجب ... من أمروي فليت الله عافاني
أموت في الليل من داء يكابده ... قلبي واحيى إذا ما الصبح وافاني
والعمر ينقص والآمال زائدة ... والحرص يأمرني والشيب ينهاني
ولست أبغي سوى عفو ومغفرة ... من الاله إذا ما الموت فاجأني
فإن بلغت الذي أرجو وآمله ... زالت همومي وأوجاعي وأحزاني
وقال وذكر أسماء جماعة من الخدام:
قد مضى عنبر وولى ... وتولى من بعده كافور
وغدا جوهر الصبا ورشيق القد مني انحنى وعيش مرير
فصديقي بكى لذاك عفيف ... لما رأى ومسرور
كدر العيش بعد ما كان صافي مذ أتاني من المشيب نذير
فانحرافي عن الملاهي صواب ... وانصرافي عن الغرور سرور
واكترافي بخالص العمل المرضي فمثقال ذرة مسطور
والهدايا تهدى لم شكر ... الله ومسعاة صالح مسرور
ويجازي في الحشر روح وريحان فذو العرش منصف وغفور
يا صبيح الوجه اتعظ بمقالي إن اقبالاً فضله مشهور
ما يفي ما أقول إلا رشيد ... فهو هاد ومرشد ونذير
وقال رحمه الله تعالى:
رنا نافراً عنا كخشف غزال ... وماس فخلنا الغصن تحت هلال
وأسبل ليلاً من غدائر شعره ... وأبدى بذاك الشعر نور كمال
رب الجمال قد حاز في الحسن خده ... ورب جمال فاق كل جمال
يزيد سواد العين في صحن خده ... فتحسبه خالاً فليس يخال
واعجب من ذا أن من رقة به ... يؤثر فيه وهو طيف خيال
أبو بكر بن هلال بن عباد عماد الدين الحنبلي الحنفي، معيد المدرسة الشبلية. كان عالماً صالحاً منقطعاً عن الناس، مشتغلاً بنفسه وأشغاله، ونفع لمن يقرأ عليه، ومولده في العشرين من شهر رجب سنة خمس وسبعين وخمس مائة، وتوفى في تاسع عشر رجب من هذه السنة أعني سنة تسع وسبعين وست مائة، وكمل له مائة سنة وأربع سنين. روى عن ابن الزبيدي وروى بالاجازة العامة عن السفلي، وحدث رحمه الله تعالى.
أبو القاسم بن محمد صفي الدين الحنفي والد قاضي القضاة صدر الدين علي قاضي دمشق، كان كبير السن خيراً صالحاً، منقطعاً ببصرى، وكانت وفاته بها ليلة نصف شعبان رحمه الله تعالى.
أبو بكر سيف الدين المعروف بابن اسباسلار. ولى مصر مدة سنين ثم ولى القاهرة في آخر عمره، وكان عنده فتوة، ومروءة، تعصب، وكرم مفرط، ومحبة للفقراء، واعتقاد في المشايخ، وبر لهذه الطائفة، وله في تكرمه غرائب تفرد بها في وقته، وكان حصل له سمن مفرط جداً، وعانى شدة، وأشار عليه الأطباء بعدم النساء متى استعرف النساء ولى عليه التلف فبقي مدة لم يقربها، وتوفى في شهر ربيع الأول بمصر، ودفن بإحدى القرافتين، وهو في عشر الستين رحمه الله تعالى.
السنة الثمانون وستمائةاستهلت يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من نيسان، والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية، والملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله نازل على منزلة البروحا من عمل الساحل بعساكره.
وفي يوم الخميس عاشر المحرم رحل منها ونزل اللجون، وعاد رسوله من عكا صحبه من صحبه من رسل الفرنج من عكا والمرقب، فاستحضرهم يوم الجمعة حادي عشره بمنزلة اللجون بحضور الأمراء، وسمع رسالتهم، وحصل الاتفاق، وحلف الملك المنصور على الصورة التي وقع الاختيار عليها، واقتضتها المصلحة، وانبرم الصلح، وانعقدت الهدنة.

وفي يوم الأحد ثالث عشره قبض الملك المنصور على سيف الدين كوندك الظاهري وعلى جماعة من الأمراء الظاهرية لمصلحة اقتضاها بمنزلة حمراة بيسان وقت الظهر بالدهليز، وعند قبضهم هرب الأمير سيف الدين بلبان الهاروني، ومعه جماعة، وقصدوا صهيون، وركبت الخيل في طلبهم فلم يدركوهم.
وفي ليلة الأربعاء سادس عشره هرب الأمير سيف الدين ايتمش السعدي، ومعه جماعة إلى صهيون من منزلة خربة اللصوص، وركبت في طلبهم جماعة من الأمراء، منهم الأمير ركن الدين بيبرس الناصري المعروف بطقصو، فأدركه، وجرح طقصو، ولم يقدر على رده فعاد عنه.
وفي يوم السبت تاسع عشره دخل الملك المنصور سيف الدين قلاوون دمشق ونزل بقلعتها، وخرج الناس كافة إلا من قل لتلقيه.
وفي عشية يوم الاثنين تاسع وعشرين منه صرف قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله عما كان يباشره من الحكم بالبلاد الشامية، وولى القضاء عز الدين محمد بن عبد القادر المعروف بابن الصائغ عوضه.
وفي العشر الأول من صفر ترتب بدمشق حاكم على مذهب الامام أحمد ابن حنبل رحمة الله عليه بعد خلوها منه مدة، والذي ولى القضاء نجم الدين أحمد بن الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر المقدسي.
وفيه خرج قطعة جيدة من العسكر، مقدمهم الأمير علاء الدين كشتغدى الشمسي، وأعقبهم مجانيق عدة جهزت على العجل لحصار شيزر.
وفي العشر المذكور من صفر أيضاً ولى بحلب وأعمالها القاضي تاج الدين يحيى بن محمد الشافعي مستقلاً من جهة الملك المنصور.
وفي هذا الشهر جاء الملك المنصور صاحب حماة إلى دمشق لخدمة السلطان الملك المنصور والسلام عليه، فخرج لتلقيه في موكبه، ونزل بداره المعروفة بابن المقدم داخل باب الفراديس، وترددت الرسائل بين الملك المنصور وشمس الدين سنقر الأشقر في تقرير قواعد الصلح، فلما كان يوم الأحد رابع ربيع الأول، وصل من جهة سنقر الأشقر الأمير علم الدين الدويداري، ومعه خزندار سنقر الأشقر في معنى إبرام الصلح والوقوف على اليمين، فحلف الملك المنصور يوم الاثنين خامسه، ونادت المنادية في دمشق بانتظام الصلح واجتماع الكلمة، فرجع الذين حضروا من جهة سنقر الأشقر، وصحبتهم الأمير فخر الدين اياز المقرى ليحضر يمين شمس الدين سنقر الأشقر، فحلفه، وعاد إلى دمشق يوم الاثنين ثاني عشره فضربت البشائر بالقلعة، وسر الناس بذلك غاية السرور، وصورة ما انتظم عليه الصلح: أن سنقر الأشقر يرفع يده عن شيزر، ويسلمها إلى نواب الملك المنصور وعوضه عنها فامية، وكفرطاب، وأنطاكية، والسويدية، ولا سفر، وبكاس، ودركوش بأعمالها كلها، وعدة ضياع معروفة، وأن يقيم على ذلك، وعلى ما كان استقر بيده عند الصلح، وهو: صهيون وبلاطنس، وحصن مرزية، وجبلة واللاذقية، وست مائة فارس، وخوطب بالمقر العالي المولوي السيدي العادلي الشمسي، ولم يصرح في مخاطباته بالملك ولا بالأمير، وكان يخاطب قبل ذلك في مكاتباته من الملك المنصور بالجناب العالي الأميري الشمسي.
وفي العشر الأوسط منه دارت الجهة المفردة بدمشق وأعمالها، وضمنت، وأقام لها ديوان، ومشد، وكانت أبطلت من الشام في الأيام الظاهرية من مدة تزيد على خمس عشرة سنة، وأعيدت هذه الحالة في الديار المصرية قبل هذا التاريخ بمدة، فلما كان يوم الأحد الخامس والعشرين منه، خرج مرسوم السلطان بإبطال الجهة المفردة من دمشق، والبلاد الشامية، وباراقة الخمور، وإقامة الحدود على مرتكب ذلك، وبتعظيم الانكار في ذلك، فركب الولاة، وطافوا على مظان ذلك بدمشق وظاهرها، وأراقوا الخمور، وأزالوا ما يناسب ذلك، وشددوا غاية التشديد في ذلك، وتضاعفت الأدعية للسلطان على ذلك.
وفي بكرة يوم الأحد تاسع وعشرين منه عادت العساكر الشامية بكمالها، ويسير من العساكر المصرية من جهة سيزر إلى دمشق للاستغناء عنهم بالصلح. وفي اليوم المذكور انبرم الصلح بين الملك المنصور سيف الدين قلاوون والملك المسعود نجم الدين خضر بن الملك الظاهر صاحب الكرك، وحلف الملك المنصور على الصلح بما استقر عليه الحال، ونادت المنادية بذلك، ففرح الناس باجتماع الكلمة، ولله الحمد.

وفي الشهر المذكور قبض بالديار المصرية على وزيرها برهان الدين السنجاري، وصرف عن الوزارة، واعتقل بقلعة الجبل، وكان قد تقدم بأيام قلائل، قبض ولده وحاشيته، وخواصه، وأتباعه، وغلمانه، وحبسوا عن آخرهم، وطولب برهان الدين بمال كثير.
وفي العشر الوسط منه عاد الملك المنصور ناصر الدين صاحب حماة إلى حماة، وخرج السلطان لوداعه إلى القابون.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الآخر وصل إلى ظاهر دمشق زوجة الملك الظاهر ابنة بركة خان الخوارزمي من الكرك، وصحبتها تابوت ولدها الملك السعيد ناصر الدين محمد رحمه الله نقل من مشهد جعفر الطيار رضي الله عنه، فلما كان ثلث الليل من ليلة الخميس العشرين منه استبقى تابوته بالحبال من الصور الذي لباب الفرج، وحمل إلى تربة أبيه الملك الظاهر، أنزلوه من ساعته على ضريح والده بالتربة المذكورة رحمهما الله تعالى، ونزلت والدته بدار صاحب حمص تجاه المدرسة العزيزية، وأكرمت غاية الاكرام، وأجرى لها الاقامات الوافرة.
وفي بكرة الجمعة حادي وعشرين منه عقد عزاءه بالتربة المذكورة وحضر الملك المنصور سيف الدين قلاوون، وأعيان الأمراء وأرباب الدولة، والوعاظ والقراء.
وفي يوم الخميس العشرين من جمادى الأولى أحضر إلى الملك المنصور سيف الدين، وهو بالميدان الأخضر أمير منكوتمر بن هولاكو أسير تحت الحوطة، وأخبر أن التتر على عزم الحركة والركوب، فخرج أمر السلطان من ساعته بعرض الجيوش والاهتمام بأمر الجهاد، وملتقاهم، وكان المذكور أسره الكشافة الذي للسلطان من كينوك.
وفي يوم السبت ثامن عشر جمادى الآخرة وصل إلى دمشق خلق عظيم من العربان صحبة الأمير شهاب الدين أحمد بن حجي ملك العرب ببرية الشام والحجاز، وعبر معهم نجدة الملك المسعود صاحب الكرك في تجمل عظيم، وكان الملك المنصور ققد تقدم إلى جميع الأطراف بالحضور إلى دمشق بسبب قرب العدو من أطراف البلاد، وحضر في هذا الشهر أيضاً من تأخر من العساكر بالديار المصرية، ولم يتأخر أحد من العربان والتركمان وسائر الطوائف وكثرت الأراجيف بقرب العدو، وخرجت العساكر في هذا الشهر كل يوم طائفة بالعدد.
وفي العشر الوسط منه تقدم العدو إلى أطراف حلب، فخلت حلب من أهلها وجندها، ونزحوا إلى جهة حماة وحمص، وتركوا الغلال، والحواصل، والأمتعة، وخرجوا جرائد على وجوههم، وترادف لذلك خروج العساكر من دمشق.
وفي العشر الآخر منه وصل منكوتمر بن هولاكو إلى عين تاب وما جاورها من المرج، ونازلت طائفة منهم قلعة الرحبة يوم الأحد سادس وعشرين منه نحو ثلاثة آلاف فارس. وكان ابغا ملك التتر معهم مستخفياً بنواحي الرحبة على شاطئ الفرات ينتظر ما يكون من الملتقى.
وفي يوم الأحد سادس وعشرين منه خرج الملك المنصور سيف الديت قلاوون بنفسه من دمشق، وخيم بالمرج، ولم يتخلف أحد من العساكر والجموع بدمشق، ووصل العدو إلى بغراس، وقنب الخطيب بجامع دمشق، وسائر الأئمة في الصلوات.
وفي يوم الخميس سابعه رحل السلطان من المرج لاحقاً بالعساكر المتقدمة إلى ظاهر حمص.
وفي هذا الشهر وهو جمادى الآخرة خرج مرسوم الملك المنصور سيف الدين قلاوون بأن يعرض على أهل الذمة من المستوفيين والدواوين الاسلام، فان أبوا صلبوا، فجمع جماعة من ديوان الجيش والمستوفيين نصارى وسامرة، وعرض عليهم الاسلام فأبوا، فأخرجوا إلى سوق الخيل ظاهر دمشق، ونصبت لهم المشانق، وجعلت الحبال في أعناقهم فأسلموا، وأحضروا إلى الحاكم بدمشق، فجددوا إسلامهم على يده.
وفي يوم الأحد ثالث شهر رجب نزل السلطان وجميع العساكر والجموع على حمص، وراسل سنقر الأشقر بالحضور إليه بمن عنده من الأمراء والعسكر، وكذلك الأمير سيف الدين ايتمش السعدي ومن معه، فوصل سنقر الأشقر أولاً واجتمع بالسلطان، واستحلفه لسيف الدين ايتمش يميناً ثانية ليزداد طمأنينة، ثم أحضره، وتكامل حضورهم يوم الجمعة ثامن رجب، وحصل الاجتماع والاتفاق على العدو المخذول، وعومل سنقر الأشقر ومن معه بالاحترام التام، والخدمة البالغة، والاقامات العظيمة والرواتب.

وفي بكرة الأربعاء ثالث عشره فزع الناس كافة إلى جامع دمشق بالضعفاء والصغار والشيوخ متضرعين إلى الله تعالى في نصرة الاسلام وهلاك عدوهم، وأخرج المصحف الكريم العثماني وغيره من المصاحف العظيمة على رؤوس الناس، وصحبتها الخطيب والقراء والمؤذنون إلى المصلى بقصر حجاج يسألون الله تعالى النصر والظفر، وكذلك فعل أهل بعلبك وصعدوا إلى ضريح الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله.
وفي هذه الأيام ما برحت التتار تتقدم قليلاً قليلاً على خلاف عادتهم، فلما وصلوا إلى حماة فسدوا في ضواحيها، وشعثوا وأحرقوا بستان الملك المنصور صاحبها، وجوسقه، وما به من الأبنية، وعسكر المسلمين بظاهر حمص على حاله، فلما كان يوم الخميس رابع عشره التقى الجمعان عند طلوع الشمس، وكان عدد التتار على ما قيل مائة ألف فارس أو يزيدون، وعسكر المسلمين على مقدار النصف من ذلك أو أقل، وتواقعوا من ضحوة النهار إلى آخره، وكانت وقعة عظيمة لم يشهد مثلها في هذه الأزمان، ولا من سنين كثيرة، وكان الملتقى ما بين مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى الرستين والعاصي، واضطربت ميمنة المسلمين، وحمل التتار على ميسرة المسلمين، فكسروها وانهزم من بها، وكذلك جناح القلب الأيسر، وثبت الملك المنصور سيف الدين قلاوون في جمع قليل بالقلب ثباتاً عظيماً، ووصل جماعة كثيرة من التتر خلف المنكسرين من المسلمين إلى بحيرة حمص، وأحدق جماعة من التتر بحمص، وهي مغلقة الأبواب، وبذلوا نفوسهم وسيوفهم في من وجدوه من العوام، والسوقة، والغلمان، والرجالة المجاهدين ظاهرها، فقتلوا منهم جماعة كثيرة، وأشرف الاسلام على خطة صعبة، ثم أن أعيان الأمراء ومشاهيرهم وشجعانهم؛ مثل شمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى، وعلم الدين الدويداري، وعلاء الدين طيبرس الوزيري، وبدر الدين أمير سلاح، وسيف الدين ايتمش السعدي، وحسام الدين لاجين المنصوري، والأمير حسام الدين طرنطاى وأمثالهم لما رأوا ثبات السلطان ردوا على التتار وحملوا فيهم عدة حملات فكسروهم كسرة عظيمة، وجرح منكوتمر مقدمهم، وجاءهم شرف الدين عيسى بن مهنا في عربة عرضا، فتمت هزيمتهم، وقتلوا مقتلة عظيمة تجاوز الوصف، واتفق أن ميسرة المسلمين انكسرت كما ذكرنا والميمنة ساقت على العدو، ولم يبق مع السلطان إلا النفر اليسير، والأمير حسام الدين طرنطاى قدامه بالسنجقية، فعادت الميمنة الذين كسروا الميسرة في خلق عظيم، ومروا به وهو في ذلك النفر اليسير تحت السناجق، والكوسات تضرب، ولقد مررت به في ذلك الوقت، وما حوله من المقاتلة ألف فارس إلا دون ذلك، فلما مروا به ثبت لهم ثباتاً عظيماً، فلما بعدوا قليلاً ساق عليهم، فانهزموا لا يلوون على شيء، وكان ذلك تمام النصر، واكن انهزامهم عن آخرهم قبل الغروب، وافترقوا فرقتين، ففرقة أخذت جهة سلمية والبرية، وفرقة جهة حلب والفرات. فلما انقضى الحرب في ذلك النهار عاد السلطان إلى منزلته.
وفي بكرة يوم الجمعة خامس عشره جهز السلطان وراءهم جماعة كثيرة من العسكر والعربان، مقدمهم الأمير بيليك الايدمري؛ ولما ماج الناس نهب المسلمون من الأقمشة، والأمتعة، والخزائن، والسلاح ما لا يحصى كثرة، وذهب ذلك كله، أخذه الحرافشة والغلمان وغيرهم.

وبعد صلاة الجمعة خامس عشره جاءت بطاقة إلى دمشق من القريتين يتضمن الظفر والنصر وانهزام العدو، فضربت البشائر على قلعة دمشق وسر الناس، وزينت القلعة والمدنية، وأوقدت الشموع. فلما كان ليلة السبت سادس عشره بعد منتصف الليل وصل إلى ظاهر دمشق جماعة كثيرة من جيش المسلمين منهم جماعة من الأمراء الأعيان، وأخبروا بما شاهدوه في أول الأمر وأن الكسرة كانت عليهم، ولم يعلموا ما تجدد بعدهم بعدهم، فحصل لأهل البلد قلق عظيم وخوف شديد، وتجهز منهم خلق للهزيمة، وفتح بعض أبواب الميدنة، ولم يبق إلا الشروع في الانتزاح، فوصل في تلك الساعة بريدي من جهة السلطان يخبر بالنصر، وكان وصوله عند آذان الصبح، فقرئ كتاب السلطان المتضمن البشارة في تلك الساعة بالجامع، فطابت قلوب الناس، ثم ورد بريدى آخر موكداً لما جاء به الأول فتكامل السرور، وتم الأمن، وعاد الناس إلى ما كانوا عليه من الزينة، ومضمون بعض الكتب الواردة: نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين، صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس، نعلمه أننا صربنا مصافاً مع العدو المخذول على ظاهر حمص في يوم الخميس رابع عشر رجب الفرد سنة ثمانين وست مائة، وكان العدو المخذول على ظاهر حمص في مائة ألف فارس أو يزيدون، والتحم القتال من ضحوة النهار إلى غروب الشمس، ففتح الله ونصر، وساعدنا بمساعفة القدر، ونصرنا، والحمد لله على أن أذل الأعداء وكسرهم، وظفر المسلمون ونصرهم، وكتابنا هذا والنصر قد ضربت بشائره، وحلق طائره وامتلأت القلوب سروراً، وأولى الله الاسلام من تفضله علينا وعليهم خيراً كثيراً، والمجلس فيأخذ حظه من هذه البشرى العظيمة، ويتقلد عقودها النظيمة، والله تعالى يخصه بنعمه العميمة إن شاء الله تعالى، وأجلت هذه الوقعة عن قتل جم غفير من التتر لا يحصون كثرة، واستشهد من عسكر المسلمين دون المائتين على ما قيل. منهم الحاج ازدمر، وسيف الدين الرومي، وشهاب الدين بويل الشهرزورى، وعز الدين بن النضر، من بيت اتابك صاحب الموصل المشهور بالسيرة المفرطة، والبأس الشديد والصرامة، وكان يسكن جبل الصالحية، وغيرهم رحمهم الله أجمعين وسنذكر أعيانهم إن شاء الله تعالى.
ثم إن السلطان انتقل من منزلته بظاهر حمص إلى البحيرة التي لها ليبعد عن الجيف ثم توجه عائداً إلى دمشق، فدخلها يوم الجمعة الثاني والعشرين منه قبل الصلاة، وخرج الناس إلى ظاهر البلد للقائه، ودخل بين يديه جماعة من أسرى التتار، وبأيديهم رماح، عليها شعف رؤوس القتلى منهم، وكان يوماً مشهوداً، ودخل في خدمته جماعة، منهم: سنقر الأشقر، والأمير سيف الدين التميش السعدي والامير علم الدين سنجر الدواداري وسيف الدبن بلبان الهاروني وغيرهم، ودخل قلعة دمشق، وكان سنقر قد ودعه من حمص، وعاد إلى صهيون. ولما استقر الملك المنصور بدمشق. جرد عسكراً عظيماً إلى الرحبة لدفع من عليها من التتر. فلما كان يوم الاثنين خامس وعشرين منه وصلت قصاد الرحبة، وأخبروا برحيلهم عنها في يوم الجمعة ثاني وعشرين منه، ووصل الأمير بدر الدين الايدمرى دمشق بمن معه من العسكر عائداً من تتبع التتار. وقد أنكى فيها نكاية عظيمة، ووصل إلى حلب وأقام بها وسير أكثر من معه فتبعوهم إلى الفرات فهلك منهم خلق عظيم، غرقوا بها عند عبورهم، وأنكوا فيهم نكاية عظيمة، وتفرقت شملهم، وما برحت الأسرى في هذه الأيام متواصلة إلى دمشق، والأخبار مترادفة بما نالهم من الضعف والمشقة، وهلاك خيولهم، وتخطف أهل البلاد لهم، وأنهم تمزقوا في البراري والجبال وهلكوا جوعاً وعطشاً.
وفي يوم الأحد ثاني شعبان خرج الملك المنصور من دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية، وخرج الناس لوداعه مبتهلين بالدعاء له، ودخل الديار المصرية يوم السبت ثاني وعشرين منه، وعقيب وصوله اعتقل الأمير ركن الدين اباجى الحاجب، وبهاء الدين يعقوب مقدم الشهروزورية بقلعة الجبل.
وفي سلخه باشر الأحكام بالقاهرة ومصر وأعمال الديار المصرية القاضي وجيه الدين البهنسي الفقيه الشافعي.
وفي هذا الشهر بعد سفر السلطان ترتب الأمير علم الدين سنجر الدوادارى مشدا على الدواوين بالشام منطلق في المهام، والمصالح، والأموال، والاستخدام والعزل، وله مشاركة في الجيش، وكان خرج مع السلطان، ووصل معه إلى قريب غزة، ثم عاد من خدمته على هذه الصورة، وعين له خبز سبعين فارساً.

وفي يوم الأحد سابع شهر رمضان المعظم فتحت المدرسة الجوهرية وذكر بها الدرس قاضي القضاة حسام الدين الحنفي وذلك في حياة منشئها وواقفها نجم الدين محمد بن عباس بن مكارم التميمي الجوهري وهو بقرب المدرسة الريحانية بدمشق.
وفي سحر يوم الأربعاء عاشره وقع بدمشق ثلج كثير بهواء عاصف، وبقى إلى ضحى يوم الخميس مستمراً بحيث بقى على الأرض منه في بعض الأماكن قريب نصف ذراع، وكان قارنه برد مفرط يلبس، وجليد، وطالت مدة بقائه على الأرض وضعفت الخضروات، وفسدت الفواكه من الجليد في المخازن، وأما بعبلك فجمد فيها كيزان الفقاع، وذلك غير منكر بها، وأما دمشق فقل أن يقع بها الثلج على هذه الصورة.
وفي شوال وصل إلى دمشق صاحب سنجار مقفراً من جهة التتر في طاعة الملك المنصور سيف الدين قلاوون، وكان وصوله بأهله وحريمه وأمواله، فخرج نائب السلطنة لتلقيه، واحترمه، ثم جهزه إلى الديار المصرية.
وفي شوال أيضاً استفتى أهل الكتاب الذين أسلموا على ما تقدم شرحه بأنهم أسلموا مكرهين، وعقد لهم مجلس، ورسم القاضي جمال الدين المالكي أن يسمع كلامهم، ويحكم فيهم بما يوافق مذهبه، فكتب لهم محضر، وشهد فيه جماعة من المسلمين بأنهم كانوا مكرهين، وأثبت المحضر، وعاد أكثرهم إلى دينه، وضربت على من عاد الجزية، وقيل إنهم غرموا جملة كثيرة حتى تم مقصودهم من ذلك.
وفي يوم الاثنين خامس ذى القعدة قبض السلطان الملك المنصور على سيف الدين ايتمش السعدي بقلعة الجبل وحبسه.
وفي يوم السبت عاشره قبض نائب السلطنة بدمشق على سيف الدين بلبان الهاروني بمرسوم ورد عليه بذلك، وكان في الصيد مع نائب السلطنة بمرج دمشق فقيده، وحمله إلى قلعة دمشق.
وفي بكرة يوم الخميس ثامن وعشرين منه خرج أهل دمشق إلى المصلى، ونائب السلطنة، والأمراء، والجند، رجاله جميعهم، وصلوا صلاة الاستسقاء، وحضروا الخطبة، وابتهلوا إلى الله تعالى بالدعاء، وطلب الغيث، وذلك بعد أن صام كثير من الناس ثلاثة أيام عملاً بالسنة، وكان هذا اليوم الثاني عشر من آذار، وسبب ذلك انقطاع الغيث، وعوزان المياه واستمرار الضحو.
وفي شهر ذى القعدة أخرج السلطان الملك المنصور لبدر الدين سلامش مملوك الظاهر، وجميع العترة الظاهرية من النساء، والأتباع لهم من الخدام وغيرهم من الديار المصرية، وجهزهم إلى عند الملك المسعود نجم الدين الخضر بالكرك.
وفي يوم السبت ثاني ذى القعدة وقع الغيث بدمشق ولله الحمد.
وفي عشية عرفة أفرج عن برهان الدين السنجاري من الانتقال، ولزم بيته بعد مكابدة مشاق كثيرة.
وفي هذه السنة تربت جزيرة كبيرة ببحر النيل تجاه قرية بولاق واللوق، وانقطع بسببها مجرى البحر ما بين قلعة المقس، وساحل باب البحر، والرملة، وبين جزيرة النيل الوقف على الشافعي رحمه الله تعالى وهو المار تحت منية الشيرج، وانسد ونشف بالكلية، واتصل ما بين المقس وجزيرة النيل، ولم يعهد هذا فيما تقدم، وحصل لأهل القاهرة مشقة يسيرة من نقل الماء الحلو لبعد البحر عنهم.
وفيها توفى إبراهيم بن سعيد الشيخ الصالح المولد الشاغوري المعروف بجيفانة، وكانت وفاته يوم الأحد سابع جمادى الأولى بدمشق، ودفن من يومه بمقبرة المولهين بسفح قاسيون، وله من العمر نحو سبعين سنة، وكانت له جنازة حفلة، ولجماعة من أهل البلد فيه عقيدة حسنة، ويذكرون عنه كرامات، ومكاشفات، مع تولهه، وعدم صلاته وصيامه رحمه الله تعالى.
إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى شرف الدين بن القاضي محي الدين بن الزكى القرشي الأموي العثماني. كان شاباً فاضلاً عالماً من بيت العلم والدين والرياسة، توفى يوم الجمعة رابع عشر شعبان المبارك رحمه الله تعالى.

ابغا بن هولاكو. كان ملكاً عظيماً، جليل المقدار، عالي الهمة، شجاعاً، مقداماً، خبيراً بالحروب، لم يكن بعد والده مثله، وهو على مذهب التتار، واعتقادهم، ومملكته متسعة جداً، وعساكره جمة، وأمواله غزيرة، وكلمته في جنده مع كثرتهم مسموعة. وله رأي وحزم وتدبير. ولما توجه أخوه منكوتمر إلى الشام بالعساكر، لم يكن ذلك عن رأيه بل أشير عليه به، فوافق ونزل في ذلك الوقت بالقرب من الرحبة في جماعة من خواصه المغل ينتظر ما يكون، فلما تحقق الكسرة رجع على عقبه إلى همذان، فمات غماً وكمداً بين العيدين، ووصل الخبر إلى دمشق بموته في أوائل سنة احدى وثمانين، وله من العمر نحو من خمسين سنة، وكان سبب موته أنه دخل الحمام، وخرج منه فسمع أصوات جملة من الغربان، وهي تنعق. فقال: هذه الغربان تقول مات ابغا، وركب من الحمام، فإذا كلاب صيد قد صادفها في طريقه، فعوت كلها في وجهه فتشاءم بذلك، وبلغه أنه خزانته وخزانة أبيه وكانتا في برج على البحر، وأنه قد خسف بالبرج، وغار في الأرض بجميع ما فيه، فلم يسلم سوى قطعة منه، فمات في نصف ذى الحجة سنة ثمانين وستمائة في قرية من قرى همذان إسمها بابل، وقيل: في بلدة إسمها كرمانشهان من بلاد همذان، ودفن في قلعة تلا عند أبيه، ومات بعده بيومين أخوه اجاى.
أحمد بن عبد الصمد بن عبد الله بن أحمد أبو العباس محيي الدين المصري الأصل الشافعي المعروف بقاضي عجلون ويعرف والده برشيد الدين قاضي قليوب. وكان فقيهاً فاضلاً. رئيساً، كثير الكرم، واسع الصدر، حسن الخلق، أقام حاكماً بعجلون وما أضيف إليها مدة طويلة، يكرم المجتازين به، ويضيفهم ويزودهم، ويتنوع في المكارم، وله شهرة بالكرم، وعلو الهمة، وكان له عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمه الله مكانة كبيرة، ولما ملك الشام أقطعه عدة قرى، وكذلك كانت حرمته عند أكابر أمراء الدولة، وأعيانها من أرباب السيوف والأقلام، وخدم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس في الدولة الناصرية كثيراً عند تردده في تلك الأرض، فلما ملك ترجى محي الدين أن يجازيه على خدمته، ومعرفته له، فلم ينل في أيامه ما أمله، وقد قيل لا تتمنوا الدول فتحرموها، ولما ملك الملك الظاهر جعل محيي الدين المذكور وكيل بيت المال بالشام في أول الدولة، وأعطاه تدريس الشامية البرانية على قاعدة الشيخ تقي الدين محمد ابن رزين وكيل بيت المال في الأيام الناصرية، ثم صرف عن ذلك سريعاً، وطلبه إلى الديار المصرية، ومنعه من العود إلى الشام، وحصل له في إقامته هناك ضرر عظيم، وربما عوق في بعض تلك المدة، ثم جلس مع الشهود بين القصرين، وميز عليهم بأن فوض إليه عقد الأنكحة ثم ولى في آخر عمره قضاء دمياط، وكانت وفاته بها في شهر ذى القعدة، ودفن بها، وقد نيف على الستين رحمه الله.

أحمد بن علي بن المظفر أبو العباس نجم الدين المعروف بابن الحلى التاجر. كان ذا نعمة ضخمة وثروة ظاهرة ومتاجرة متسعة ومعاملات كثيرة وأموال جمة، وله التقدم في الدول، والوجاهة عند الملوك، ويكثر من خدمتهم، ومعاملتهم، وكانت وفاته في أواخر شهر رمضان بالقاهرة سنة ثلاث وست مائة، وخلف تركة عظيمة، حمل منها جملة كثيرة إلى بيت المال، وكان شيخاً لطيف الشمائل، حسن العشرة، كثير المواددة، وعنده تشيع، وإليه أو إلى والده ينسب الأمير عز الدين ايدمر الحلى رحمه الله تعالى. وكان الصاحب بهاء الدين رحمه الله يتمغص منه لعدم تمكنه من الوصول إليه مع وجود الأمير عز الدين الحلى، فلما توفى الأمير عز الدين تمكن منه، فحدث الملك الظاهر في معناه، وعرفه كثرة أمواله ومتاجره وأنه لم يكن يقوم بما جرت العادة من الحقوق الديوانية والمكوس بطريق الأمير عز الدين، فأطلق يده فيه فغرمه مائة ألف دينار، فلما مرض الصاحب بهاء الدين بمرض الموت طلبه، فلما حضر قال: سيدي، وأخي، وصاحبي، واعتنقه وقبل ما بين عينيه، وقال له: يا سيدي نجم الدين، قد ترى ما أنا فيه، واشتهى أن تحاللني، فربما توهمت أن ما أخذ منك الملك الظاهر كان بإشارتي فتحاللني لطيب قلبي، فقال: أعيذك بالله يا مولانا من هذا القول، أنا رجل على تبعات كثيرة، ولي غريم ملى مولانا فإذا طولبت بما علي أحلت عليك، فلو أبريتك كنت تقول لهم أبراني، وما بقي له عندي حق فيعودون إلى مطالبتي والله! هذا لا فعلته أبداً، وخرج من عنده فعظم ذلك على الصاحب. وحصل له كمد كبير، وفكر عظيم إلى حيث فارق الدنيا والله يعفو عنا وعنهم وعن جميع المسلمين بكرمه ورحمته.
أحمد بن النعمان بن أحمد أبو العباس فخر الدين المعروف بابن المنذر الحلبي ناظر الجيوش بالشام. كان رئيساً عنده مكارم، وحسن عشرة، وهو من أعيان الحلبيين، ولى المناصب الجليلة، وله الوجاهة التامة مشكور السيرة بين الناس، لا يصدر منه في حق أحد إلا الخير، وكان عنده تشيع، ولم يسمع منه ما يؤخذ عليه، وكان ظاهر حمص وقت المصاف. واتفق وقوفه في الميسرة، فلما كسرت على ما تقدم شرحه، كان في جملة المنهزمين، ووصل إلى بعلبك وقد خامره الرعب، والتاث مزاجه من السوق، وشدة الحركة مع الخوف، فتوفى بدمشق ليلة الثلاثاء سادس عشر شهر رمضان المعظم، ودفن يوم الثلاثاء بسفح قاسيون، وقد ناهز ستين سنة من العمر رحمه الله.
أحمد بن يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن الحسين بن محمد أبو العباس علاء الدين القرشي الأموي العثماني. كان رئيساً عالماً فاضلاً في علوم شتى، يعرف الفقه معرفة حسنة، واشتغل بالأصول، وعلم الأدب، وكتب الانشاء في الدولة الظاهرية بدمشق، وفي الدولة الناصرية، ودرس بالمدرسة العزيزية والتقوية بدمشق، ومولده بدمشق سنة اثنتين وثلاثين وست مائة، وكانت وفاته بها في ليلة الجمعة الثامن وعشرين شعبان، ودفن يوم الجمعة بسفح قاسيون بالتربة المعروفة بهم رحمه الله.
أحمد بن يوسف أبو العباس موفق الدين المعروف بالكواشي. الشيخ العالم صاحب التفسير الكبير والتفسير الصغير، وقد أجاد فيهما، وأحسن ما شاء وغير ذلك. كانت له اليد الطولى في التفسير والقرآآت، ومشاركة في غير ذلك من العلوم، وعمر مقدار تسعين سنة، وكان مقيماً بالجامع العتيق بالموصل منقطعاً عن الناس، مجتهداً في العبادة، قائماً بوظائفها، لا يقبل لأحد شيئاً، ويزوره الملك فمن دونه، فلا يقوم لهم. ولا يعبأ بهم، وله مجاهدات، وكشوف، وكرامات، ولأهل تلك البلاد فيه عقيدة عظيمة، وعمى قبل وفاته بأكثر من عشر سنين، وهو يتلقى ذلك بالرضى والتسليم، وكانت وفاته في سابع شهر رجب بالموصل، ودفن بها رحمه الله ورضي عنه.
كواشة قلعة من عمل الموصل.

الحاج ازدمر بن عبد الله الجمدار الأمير عز الدين. وهو من أعيان الأمراء وأماثلهم، وعنده فضيلة ومعرفة وحسن تدبير، وفيه مكارم كثيرة، ومراعاة لمعارفه، وتفقد لأحوالهم، وبر لهم، ولم يزل محترماً في الدول، ولما تملك الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله زاد اقطاعه، فلما قدم الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى دمشق لازمه واختص به، وكان لا يصدر إلا عن رأيه، فلما تسلطن بدمشق، جعله نائب السلطنة عنه، ولما ضرب المصاف مع المصريين وحصلت الكسرة، قصد الأمير عز الدين الجبل، وأقام به مدة، ثم اتصل بسنقر الأشقر، وأقام بقلعة شيزر وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب، وبقى عند سنقر الأشقر وفي حضر مصاف التتار، وقاتل قتالاً شديداً، وأبلى بلاء حسناً، وقتل مقبلاً غير مدبر شهيداً يوم المصاف، وهو رابع عشر رجب من هذه السنة بظاهر حمص، ودفن في جوار مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه، وعمره نحو ستين سنة، وكانت نفسه تحدثه عن أمور قصر عنها أجله، وكان يزعم أنه شريف النسب والله أعلم رحمه الله.
ليبك بن عبد الله الأمير عز الدين الشجاعي الصالحي العمادي، والي الولاة بالجهات القبلية. كان ديناً خيراً أميناً صارماً عفيفاً، حسن السيرة لين الجانب، شديداً على أهل الريب، وجيهاً عند الملوك. ولى في حال شبابه استاد دارية الملك الصالح عماد الدين اسماعيل رحمه الله وتنقلت به الأحوال، وكان الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله يتعمد عليه ويتحقق أمانته وهو مسموع الكلمة عنده، وعزل وقطع خبره بسؤاله اختياراً منه في أول هذه السنة، فلزم بيته إلى أن أدركته منيته بدمشق في يوم الخميس ثاني جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن من الغد بسفح قاسيون، وقد بلغ من العمر خمساً وثمانين سنة رحمه الله.
بكتون بن عبد الله الخزنداري الأمير بدر الدين. كان نائب الأمير بدر الدين الخزندار الظاهري رحمه الله بالشام، وتقدم الطلب الذي له بدمشق، واستولى على اقطاعاته، وأملاكه، وسائر تعلقاته بالشام، وأمره على قلعة الصبيبة، وبانياس، وتلك الأعمال، وكان مشكور السيرة، حسن المعاملة، لين الكلمة، كثير البر والصدقة، كريم الأخلاق، حسن الشكل، وقاتل يوم المصاف الذي ضربه المسلمون مع التتر، وأبلى بلاءً حسناً. وقاتل، وفقد، ولم يقع له أحد والظاهر: أنه استشهد والله أعلم وهو في عشر الخمسين رحمه الله.
بلبان بن عبد الله الرومي الأمير سيف الدين الدوادار. كان من أعيان الأمراء وأجلائهم، عمده معرفة، وحزم، ورياسة، ومكارم أخلاق، وإحسان لمن خدمه ويتصل به، وكان الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله يعتمد عليه، ويثق به، ويسكن إليه، وهو المطلع على أسراره، وتدبير أمور القصاد، والجواسيس، والمكاتبات، وغير ذلك، لا يتركه في ذلك وزير ولا نائب سلطنة بل كان هو والأمير حسام الدين لاجين الايدمرى المعروف بالدرفيل، فلما توفى حسام الدين في التاريخ المقدم ذكره انفرد الأمير سيف الدين بذلك، وأضيف إليه عز الدين ايدمر الدوادار الظاهري تبعاً له، ولم يزل على ذلك إلى أن انقضت الدولة الظاهرية. ولم يؤمر فيه بطبلخاناة، فلما أفضى الملك إلى الملك السعيد رحمه الله أمره وأعطاه خمسين أو ستين فارساً بالشام، وهو ملازم خدمته، فلما انقضت الأيام السعيدية، بقى على خبزه وحرمته إلى أن حصل المصاف بين المسلمين والتتار في هذه السنة ظاهر حمص، حضر المذكور، وقاتل فيه قتالاً كبيراً، واستشهد إلى رحمة الله تعالى يوم الخميس رابع عشر شهر رجب، ودفن ظاهر حمص جوار مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقد نيف على خمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
بهادر بن بيجار بن بختيار الأمير بهاء الدين. كان من أعيان الأمراء وأكابرهم مشهوراً بالشجاعة والنجدة، وله مواقف معروفة، وهو الذي كان سبب حضور والده الأمير حسام الدين بيجار ومن معه إلى بلاد المسلمين وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم. توفى بهادر المذكور بغزة. وهو متوجه صحبة العساكر إلى الديار المصرية في يوم الجمعة رابع عشر شعبان، ودفن من يومه بها، وهو في عشر السبعين تقريباً رحمه الله تعالى. ووالده الأمير حسام الدين بيجار في قيد الحياة يومئذ، وهو مقيم بالقاهرة، وقد كف بصره.

بويل بن الأمير بهاء الدين الشهرزورى. من أمراء دمشق، كان من الأبطال الشجعان والفرسان المعدودين، استشهد يوم المصاف ظاهر حمص، وهو يوم الخميس رابع عشر شهر رجب من هذه السنة بعد أن قاتل قتالاً شديداً، وأنكى في العدو نكايات كثيرة، وقتل منهم عدة وافرة بيده رحمه الله تعالى وقد نيف على ستين سنة من العمر.
خضر بن محاسن موفق الدين الرحبي. كان من رجال الدهر شجاعة وإقداماً وحزماً وتدبيراً، ومكراً وحيلاً، ومداراة وسياسة، وتيقظاً وفطنة وذكاء، وكان في بدايته جماساً بالرحبة لشخص من أهلها فاتفقت وفاة ذلك الشخص، فتزوج زوجته، وكفل ولده منها، فحاز موجوده، فصلح حاله يسيراً، فتوصل إلى أن صار قزل غلام بالرحبة في حياة الملك الأشرف صاحبها، فلما توفى وانتقلت إلى الملك الظاهر ركن الدين، خدم نوابه فقربوه ووجدوا عنده كفاية تامة، وخبرة بالبلاد وأهلها، فزادوا معلومه، وتوفى عندهم، ويعرف بالأمير شرف الدين عيسى بن مهنا، واعتضد به، فلما ولى النيابة بتلك الناحية الأمير عز الدين ايبك الاسكندري رحمه الله تعالى زاد في معلومه، وأكرمه ورأى أنه مفتقر إلى مثله لما هو بصدده، فلما أخذ الأمير عز الدين قرقيسيا من نواب التتر، وأخربها، وكانت كثيرة الأذية والضرر لبلاد المسلمين، فسير التتر إلى الملك الظاهر رحمه الله لأخذها وعزمه أن الموفق سعى في ذلك، وطلب خبزاً فأعطى له خبزاً جيداً..... وعظم شأنه، وانبسطت يده، وكثر أتباعه، وزاد تمكنه، فلما توفى الأمير عز الدين رحمه الله وتولى عز الدين ايبك الموصلى من البحيرة الصالحية، وكان أصله قبجاقا تضاعف تمكنه، فلم تطل مدة المتولى، وتوفى فرتب الموفق مكانه مستقلاً، وأعطى خبزه فدبر الأمور، وجهز القصاد إلى بلاد العدو، وتضاعف اجتهاده، وظهرت ثمرت ثمرة ولايته، فلما تملك الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله، أقره على ذلك، وطيب قلبه، فلما كان المصاف بين سنقر الأشقر والأمير علم الدين الحلبي، وانكسر سنقر الأشقر لحق بالرحبة، ومعه جماعة كبيرة من أعيان الأمراء والأمير شرف الدين عيسى بن مهنا، فطلب منه تسليم القلعة، فجعل يخادعه، ويماطله، ويرسل في كل وقت الاقامات، وما يطلبه مما هو عنده، وهو في غضون ذلك يطالع الملك المنصور بأحواله، وأموره، ويرد عليه الأجوبة بما يعتمد، وأنه يسعى في افساد من عنده من الأمراء، واتصالهم ملاطفات ترد عليهم من الملك المنصور وأمانات، وهو يسعى في ذلك بتأني إلى أن حصل المقصود، وفارق سنقر الأشقر معظم من عنده من الأمراء، ووردت كتب الملك المنصور إلى الموفق يشكر سعيه، ويعده مواعيد جميلة، وأمره بطبلخاناة وغير ذلك، فلما حضر الملك المنصور إلى دمشق في هذه السنة سير الموفق يطلب الاذن في الحضور، فأذن له فحضر بتقدمه سنية وآماله تحدثه بنبيل نهاية مناه، فلما وصل أقبل عليه الملك المنصور، واتفق حضور تجار أخذوا في ذلك البر ووجدوا بعض قماشهم عنده، فشكوه، وعضدهم الأمير علم الدين الحلبي، فرسم عليه، وكان غاية الانعام عليه خلاصه من تبعتهم، فحصل له غم شديد، وتمرض بدمشق، ومات بها كمداً، ودفن بمقابر باب الصغير، وقد قارب سبعين سنة من العمر لم يستكملها، وكانت وفاته في أحد الربيعين من هذه السنة رحمه الله تعالى.
سلامة بن سليمان بن سلامة بهاء الدين الرقى الشيخ العالم. كان فاضلاً في علم العربية والتصريف، اشتغل عليه جماعة كثيرة، وانتفعوا به، وكانت وفاته في العشر الأوسط من صفر بالمقس ظاهر القاهرة، ودفن هناك، وقد ناهز ثمانين سنة من العمر رحمه الله تعالى.

سنقر بن عبد الله الأمير شمس الدين الألفي. كان من أعيان الأمراء الظاهرية، وممن له عنده مكانة مكينة، ومحل لطيف، وهو ممن ارتجع عن الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله، وكان في بداية أمره أول دخوله البلاد قد اشتراه الشمس العذار، ثم باعه فتنقل عنه إلى أن اتصل بالملك المظفر قطز رحمه الله وهو صغير السن، وكان الملك الظاهر يوليه الولايات الكبار، لكنه لم يكن يؤثر مفارقته، ولما افضت السلطنة إلى الملك السعيد رحمه الله، ومات الأمير بدر الدين الخزندار رحمه الله، وأمسك الأمير شمس الدين الفارقاني رحمه الله على ما تقدم شرحه، رتب المذكور في نيابة السلطنة بالديار المصرية وسائر الممالك، وبقى على ذلك مدة، وكان حسن السيرة في مباشرته لذلك محبوباً إلى الجند والرعية، ثم استعفى فأعفى، ورتب عوضه الأمير سيف الدين كوندك، فكان ذهاب الدولة على يده، وكان شمس الدين هذا ديناً، عنده فضيلة ومعرفة بالأدب والكتابة، وتوفى معتقلاً بالاسكندرية، وقيل: بقلعة الجبل في هذه السنة، وله من العمر نحو من أربعين سنة رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن عبد الملك بن يوسف بن محمد بن قدامة أبو محمد سبط الشيخ أبي عمر الزاهد. كان شيخاً جليلاً صالحاً زاهداً عابداً ورعاً، نير الوجه، ملحوظاً بالصلاح، مشهوراً بالعبادة والديانة، حضر على ابن خليل الرصافي، وسمع من ابن طبرزد، والكندى، وابن الحرستاني، والخضر ابن كامل، وداود بن ملاعب، وجماعة كثيرة، وأجاز له جماعة من العجم والعراق، منهم أبو جعفر الصيدلاني، وحدث بالكثير. مولده سنة تسع وتسعين وخمس مائة، وتوفى يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى سنة ثمانين وست مائة، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
عبد العزيز بن الحسين بن الحسن أبو محمد مجد الدين الرازي عرف بابن الخليلي من ولد تميم الدارى الصحابي رضي الله عنه. كان رجلاً مباركاً كثير الدين والتعبد، وقصد المزارات، حسن الظن بالفقراء والصالحين، فيبرهم ويحسن إليهم ويخدمهم بنفسه، وله وجاهة في الدول وثروة، وعنده مكارم وحسن محاضرة بالكتابات والحكايات والنوادر، وعلى ذهنه من التواريخ وأيام الناس قطعة صالحة، ومولده سنة تسع وتسعين وخمس مائة بمصر، وتوفى ليلة الخميس ثالث عشر ربيع الآخر بدمشق، ودفن يوم الخميس بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عثمان بن القاسم بن جعفر أبو محمد اليونيني السيخ الصالح شيخ الاسلام وأسد الشام. أما مناقب أبيه وجده رحمهما الله فأشهر من أن تذكر، وأما هو فكان رجلاً كثير التعبد، سليم الصدر، لين الكلمة، متواضعاً خير حسن الملتقى، كريم الأخلاق، واسع الصدر، عنده احتمال كثير وصبر ومروءة غزيرة وشجاعة وإقدام، وحضر مصاف حمص بين المسلمين والتتر، وقاتل قتالاً شديداً، واستشهد فيه رحمه الله تعالى، ودفن بقرب مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه. مولده ظاهر بعلبك سنة أربع وست مائة.
علي بن أحمد بن بدر أبو الحسن بن أبي القاسم ولي الدين الدين الشيخ الصالح الزاهد العابد الرباني العارف. أصله من بلد الجزيرة العمرية، اشتغل بالفقه في الموصل، ثم بحلب وبدمشق وبالديار المصرية، ثم أقبل على العبادة والتبتل لها، وبنى له معبد في جامع بيت لهيا من غوطة دمشق، وانقطع فيه سنين كثيرة وهو على قدم التوكل والتجرد من الدنيا، وللناس فيه عقيدة عظيمة، وتوفى إلى رحمة الله تعالى ورضوانه ليلة الخميس ثالث شوال بالمدرسة القيمرية الناصرية بدمشق، وقد نيف على خمسين سنة، ودفن يوم الخميس بعد الصلاة بجامع دمشق بسفح قاسيون بالقرب من مغارة الجوع، وهو كردي الأصل، قيل: أنه عباسي النسب لكنه لم يدع ذلك رحمه الله تعالى.
علي بن محمد بن غازي بن يوسف بن أيوب بن شاذى الأمير مجير الدين ولد الملك الظاهر بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله تعالى. كان شاباً جميل الصوورة والأوصاف، تام الخلقة بارع الحسن، عنده عقل وسكون، ورياسة وكرم، وأخلاق ملوكية، ووالدته يومئذ زوجة الأمير بدر الدين بيسرى الشمسي، وكانت وفاته بالقاهرة فيشهر شوال، وله جنازة مشهودة لم يتخلف عنها من يعتبر حضوره، وحزن الناس كافة لفقده، وعمره يوم مات يقارب ستاً وعشرين سنة رحمه الله تعالى.

علي بن محمود بن الحسن بن نبهان بن سيد بشير أبو الحسن علاء الدين اليشكري ثم الربعي. مولده في مستهل ذى القعدة سنة خمس وتسعين وخمس مائة، وتوفى يوم السبت سابع وعشرين شهر رمضان المعظم من هذه السنة بدمشق. وصلى عليه بجامعهما، ودفن بسفح قاسيون، وكانت له اليد الطولى في علم الفلك وتفرد بحل الأزياج، وعمل التقاويم، وغلب ذلك عليه مع فضيلته التامة في علم الأدب وجودة النظم وحسن الخط رحمه الله تعالى.
قال المولى شهاب الدين محمود أنشدني علاء الدين المذكور لنفسه في مفتصد:
لا تضع بالفصاد من دمك الطيب واستبقه فما ذاك رشد
فهو إن حال ريقه كان خمرا ... وإذا جال في الخدود فورد
قال وأنشدني لنفسه:
إني أغار من النسيم إذا سرى ... بأريج عرفك خيفة من ناشق
وأود لو سهدت جفوني في الكرى ... حذراً عليك من الخيال الطارق
وله أيضاً يمدح الأمير مظفر الدين عثمان صاحب صهيون:
ما لليلي ما له سحرا ... أتراهم فقدهم مقلتي سحروا
غدروا ولا ذقت فقدهم ... فدموعي بعدهم عذروا
همو أحبابي فديتهم ... وصلوا المشتاق أو هجروا
لا أبالي مذ كلفت بهم ... عذل العذال أم غدروا
وحفاظي والوفاء فما ... غيرته فيهم الغير
طاعتي فرض لحكمهم ... إن نهوا في الحب أو أمروا
حكموا في مهجتي فجنوا ... غير أني بت اعتذروا
هكذا حكم الهوى فما ... لك في العشاق معتبر
من عذيري من هوى قمر ... بات يحكي حسنه القمر
ماس في برد الشباب كما ... ماس خوط البانة النضر
ريقه ماء الحياة لمن ... ذاقه والشارب الخضر
حربي إذ راح مبتسماً ... من عقيق حشوه درر
وكحيل بات يفتك بي ... حين يرنو وهو منكسر
ظالمي هجرانه فمتى ... بوصال منه انتصر
أترى يحنو على دنف ... موارده السقم والسهر
فإذا ما الشوق أقلقني ... واعتراني الوجد والفكر
ليس لي غير الصبا رسل ... وهو لي من نحوه خبر
فإذا أجذبت منتجعاً ... فندى عثمان والمطر
فهو إن ضن الغمام على ... كل عاف بات ينهمر
من يد تولى ندى وردى ... فلذ بها الأرى والصبر
لأمير لا يساجله ... في الفخار البدو والحضر
إن روى عن غيره خبر ... صح منه العين والأثر
فالندى والعدل ما رويا ... عنه لا عمرو ولا عمر
ليث غاب والفتى اجم ... بدر تم جوده بدر
كسيا من نور وجنته ... النيران الشمس والقمر
حار فكري فيه هل ملك ... ما أرى في الدست أم بشر
صدق المداح فاتفق ... السائران الخبر والخبر
فتحلت من فضائله ... بالصفات الكتب والسير
جللا أعداء نعمته ... المزعجان الخوف والحذر
أنفذا طوعاً أوامره ... الماضيان السيف والقدر
وإذا ما هم أنجده ... السعدان النصر والظفر
فهم شمس الجود لا أفلت ... وبنوه الأنجم الزهر
كل فياض اليدين له ... في العلى التحجيل والغرر
تحسد الأرض السماء بهم ... فتكاد السمت تنتثر
فلديهم منك شنشنة ... ظهرت بالجود إذ ظهروا
دوحة للمجد مورقة ... طاب منها الفرع والثمر
ليس إلا بابكم وطن ... للندى وجودكم وطر
أعين الحساد دونكم ... بضياء السعد تنحسر
دمتم للدين فهو له ... بكم دون الورى وزر

ما شدت ورقاء في فنن ... أو سرى برق له شرر
وقال يمدح أيضاً:
يا برق عج بالحمى واستخبر السبانا ... هل خيم الحي بالجرعاء أم بانا
ويا نسيم الصبا عرج بحيهم ... واجرر على الربع أذيالاً وأردانا
ثم ائتني بشذى من طينهم عبق ... يكون رياه لي روحاً وريحانا
فبي تباريح وجد لو نقص على الواشي لرق لما ألقاه أولانا
قلب تقسمه أيدي الجوى فرقاً ... ومدمع الأسى ينهل ألوانا
وذات شجو عدت بالبان باكية ... مثلي واردفنا للدمع أجفانا
وذات شجو دعوى الحب ما لبست ... طوقاً ولا رجعت في الدوح ألحانا
أشكو إلى الله من بانوا بودهم ... عنى وإن أصبحوا بالسفح جيرانا
كأنما كان طيفاً حسن عهدهم ... أو هاتفاً قولهم لا كان من خانا
يا نافرين ولا والله ما ألفت ... روحي سواهم ولا أنست إنسانا
خذوا بقية ما أفناه حبكم ... أو فارددوه علينا مثل ما كانا
لا تحسبوا أن ما ظهرت من جلدي ... صبراً وأن الذي أظهرت سلوانا
سلوا عن الدمع إذ يهمى ووجدي ... إذ ينمى وحبكم بالسقم عنوانا
لا خير في العيش ما لم تسمحون به ... أو ترفقون بنا منا وإحسانا
كم أكتم الناس أشجاني ويظهرها ... دمع يغادر سر الحب إعلانا
وربما رمت أن أطفي بساجمة ... جمر الصبابة زاد القلب نيرانا
ردوا علينا ليالينا بكاظمة ... يا حبذا هي أوطاراً وأوطانا
إذ نجتني ثمرات العيش يانعة ... ندنو ونعطف غصن الوصل ريانا
فغيرتنا الليالي في تلونها ... بنا وما زال هذا الدهر خوانا
أخشى الزمان وأرجو في تقلبه ... مظفر الدين رب الجود عثمانا
من بأسه يطرد اللاواء إن نزلت ... بنا ويصرف صرف الدهر إن آنا
فذاك معتصم اللاجي ومفترح ... الراجي وحسبي بما يوليه برهانا
يمنه نحو الأماني في ذرى ملك ... ومالك تلق من نعمان رضوانا
محجب لم يحجب عنك نائله ... يوليك منا ولا يوليك منانا
أجرى الندى بعد أن ملت مطامعنا ... من الكرام فأحياها وأحيانا
المبتدى بالعطايا قبل مسألة ... ما أن يشوب بها مطلاً وليانا
غيث إذا أخلف العيث الشحوح همت ... يمناه جوداً على العارفين هنانا
ما إن يخف له حلم يزينه ... ولو وزنت به رضوى وثهلانا
مهابة تذر الأكباد راجفة ... رعباً وتذهل ألباناً وأذهانا
خلائق كالصبا هبت معطرة ... فأرجت بشذاها الرند والبانا
ورأفة تمنح الجاني وإن عظمت ... منه جنايته عفواً وغفرانا
قد رام من رتب العلياء منزلة ... غدت تريك حضيضاً أوج كيوانا
هيهات يدرك من رام اللحاق به ... شأواً وقد جعل العلياء ميدانا
راموا مداه وما نالوا لأنهم ... ناموا عن المجد لما بات يقظانا
مطعام جدب ومطعان بيوم وغى ... حبذا هو مطعاماً ومطعانا
كالسيل مدفقاً والسيف منصلتاً ... والغيث منسجماً والليث غضبانا
ورب يوم وغى كالليل عنترة ... تريك أنجمه في النقع خرصانا
أضحت كؤوس المنايا فينه دائرة ... فكم بها من كمى راح نشوانا
ترى النفوس رخاصاً في تلاحمها ... وربما قد علت في السلم إثمانا
وافى به أسد للحرب متخذ ... من الذوابل لا للخوف خفانا
أبدى البديع ولا بدع كسلوته ... فيهم ففارقت الأرواح أبدانا

راح ينثرهم بالضرب آونة ... بأساً وينظمهم بالطعن أحيانا
في فتية قد غذوا محصن الندى وسقوا ... من المكارم والعلياء البانا
وهذبته على فضل خلائقه ... حتى اغتدوا في اكتساب المجد أعوانا
قوم إذا سمعوا صوت الصريخ بهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا
مظفر الدين كم ظفرت ذا أمل ... فرداً فعاد عزيزاً بعد ما هانا
تكفي العفاة لدى ناديك إذ نزلوا ... سعداً ونزعوا قلاص الركب سعدانا
أرى مديح سوى عليك مختلفاً ... ميناً ومدحك لي أمناً وإيمانا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أحن شوقاً والنياق رزم ... لها من الوجد لسان أعجم
حنينها ترجم عن غرامها ... وعبرتي عن لوعتي تترجم
دعها تبيد البيدا عناقاً فقد ... لاح لها من الغوير علم
وقد عداها طربي فأصبحت ... بنجد إن عن البريق المتهم
ريح الصبا إذا تحياني إلى ... حمى على ما التقيت خيموا
من كل بيضاء إذا ما نظرت ... كانت لها البيض الرقاق خدم
واسمر إذا بدا قوامه ... يحار منه الأسمر المقوم
كم من بها في تلك الخيام غارم ... وكم بذياك الغزال مغرم
وبي هوى من لو بدا جماله ... قال الأنام ملك لا صنم
يميل عطفيه الدلال مثل ما ... يميل غصن البانة المقوم
لا تعجبوا إني سليم حبه ... وقد بدا في الخد منه أرقم
يا عاذلي في حبه جهالة ... في أذني عما تقول صمم
دعه على ضعفي به تعمدا ... فإنه في مهجتي محكم
إن كان قتلي في الهوى مراده ... فإنني لأمره مستسلم
أو كان دهر قد طغا فرعونه ... فإن موسى الملك المعظم
وقال أيضاً:
ولما أتاني العاذلون عدمتهم ... وما منهم إلا للحمى قارض
وقد بهتوا لما رأوني شاحباً ... وقالوا به عين فقلت وعارض
عمر بن عبد الوهاب بن خلف بن أبي القاسم أبو حفص صدر الدين عرف والده قاضي القضاة تاج الدين بابن بنت الأعز العلامي المصري الشافعي.
تولى الحكم بالديار المصرية في سنة ثمان وسبعين وست مائة، وعزل في أواخر شهر رمضان سنة تسع وسبعين، وبقى بطالاً إلى حين وفاته، وكان فاضلاً عارفاً بالمذهب، يسلك طريقة والده في الصلابة في الأحكام، وتحرى الحق وأتباعه، ودرس بالمدرسة الصالحية بين القصرين بالقاهرة للطائفة الشافعية، وأفتى وسمع الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري، وأبا الحسين محمد بن علي المقرئ، وأبا الكرم لاحق الاتارحي، وغيرهم، وحدث. ومولده في سنة خمس وعشرين وست مائة بالقاهرة، وكانت وفاته بها يوم الخميس عاشر المحرم، ودفن بالقرافة الصغرى رحمه الله تعالى.
عمر بن مظفر جمال الدين الهكارى الحاجب. كان من أعيان مفاردة الحلقة بدمشق وأكابرهم كثير الديانة، والمروءة، والشجاعة، ومكارم الأخلاق، والترصد لقضاء حوائج الناس، والمثابرة على راحتهم، والبر بالفقراء والضعفاء، وحسن الظن بالصلحاء، مشكور السيرة، محمود الطريقة، سديد الأفعال والأقوال، ختم الله أفعاله بالشهادة، فقتل في المصاف بسيوف التتار في يوم الخميس رابع عشر شهر رجب ظاهر حمص، وقد نيف على الخمسين سنة رحمه الله تعالى.
القاسم بن محمد بن عثمان بن محمد التميمي الدارمى البصراوي الحنفي أبو محمد صفي الدين. كان من أعيان فقهاء الحنفية، ودرس بالمدرسة الأمينية ببصرى سنين متطاولة إلى حين وفاته، وكان فاضلاً، فيه مكارم ورياسة، ومولده ليلة السبت منتصف شعبان سنة ثمان وست مائة ببصرى، ودفن بها.

القاسم بن أبي بكر بن القاسم الاربلي التاجر المنعوت بأمين الدين المعروف بالمقرئ. مولده سنة أربع وتسعين وخمس مائة باربل، وكان من أعيان التجار، وتردد إلى الديار المصرية وبلاد العجم مراراً، وانتهى إلى خوارزم، وسمع صحيح مسلم على المؤيد بن محمد بن علي الطوسي بنيسابور، وتوفى بالمدرسة العادلية الكبيرة بدمشق يوم الثلاثاء ثاني جمادى الأولى، ودفن بمقابر الصوفية ظاهر دمشق، وكان قد رق حاله، وقل ما بيده رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن مكتوم أبو عبد الله شمس الدين البعلبكي المعروف بابن أبي الحسين رحمه الله تعالى. كان فاضلاً مشاركاً في علوم كثيرة، مستقلاً بعلم الأدب والنظم، وحفظ القرآن العزيز، وأتقنه واشتغل بالفقه على مذهب الامام الشافعي رحمة الله عليه، وكان أولاً حنبلي المذهب ثم صار شافعياً وحفظ التنبيه، وكان معيداً بمدرسة أمين الدولة على بن العقيب رحمه الله بجامع بعلبك، وحفظ المقامات الحريرية، وأتقنها دراية، وكان يحفظ من الأشعار شيئاً كثيراً، وعلى ذهنه قطعة صالحة من التاريخ وأيام الناس، وأما حسن محاضرته، ودماثة أخلاقه، وشرف نفسه، وكثرة قنعه، فقل من يضاهيه فيه، وكان رحمه الله كثير الملازمة لي، لا يكاد يفارقني ليلاً ولا نهاراً إلا في النادر، وإذا عرض لي سفر صحبني فيه، فلما كان المصاف ظاهر حمص بين الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله وبين التتار في شهر رجب هذه السنة، توجهت لحضوره، وهو صحبتي فاستشهد إلى رحمة الله تعالى في ذلك اليوم، وهو يوم الخميس رابع عشر رجب، ولم يستكمل أربعين سنة من العمر. وله أشعار كثيرة فمن ذلك قصيدة كتبها في صدر كتاب وأنا بدمشق، أولها:
رام أن يترك الهوى فبدا له ... فرأى حسن وجهه فبدا له
كلما لمته على الجهل يزداد ضلالاً فخله والجهالة
كيف يرجى الشفاء وما لصب ... لم يخلى السقام إلا خياله
ناقص صبره كثير بكاءه ... لو رآه عدوه لرثى له
دنف ظل مستهاماً ببدر ... عمه الوجد حين عاين خاله
فاتر الطرف فاتن الوصف ألمى ... يفضح البدر حسنه والغزاله
يخجل الأسمر المثقف إن رأى ... حسن قده واعتداله
ويغير الغصن المهفهف ليناً ... كلما راح ينثني في الغلاله
يتجنى تدللاً صانه الله ... فما أحلاه وأحلى دلاله
قلت لما عاينته يا منى النفس إلى كم هذا الجفا والملاله
أي يوم أنال منك به الوصل فولى وقال لي لن تناله
أنا صب به وإن حال عني ... وعبيد له على كل حاله
فاق كل الورى جمالاً وحسناً ... ضاعف الله حسنه وجماله
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
فديتك لا تعجب لطرفك إن كبا ... وخامره ضعف وليس له ذنب
ومن فوقه طود وبحر سماحة ... ويعقل عن شامخ كيف لا يكبو

محمد بن أحمد بن يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي أبو بكر نجم الدين الثعلبي الشافعي ابن قاضي القضاة صدر الدين ابن قاضي القضاة شمس الدين بن أبي البركات المعروف بابن سنى الدولة. كان فقيهاً عارفاً بمذهب الشافعي رحمة الله عليه عالماً بأصوله وفروعه، متبحراً فيه، ناب عن والده بدمشق سنين كثيرة، وكان شديداً في أحكامه، يتحرى الحق ويقوم به، وشكرت سيرته في ذلك، ثم ولى في أول الدولة المظفرية، وهو بالديار المصرية، وقدم دمشق بعد سفر الملك المظفر قطز رحمه الله منها، وباشر الأحكام بها قريب سنة واحدة، ثم صرف، ورسم له بالتوجه إلى الديار المصرية، فتوجه إليها، وأقام بها سنين عديدة، وتولى بها تدريس الزاوية التي كان الشافعي رحمة الله عليه يذكر بها الدرس بجامع عمرو بن العاص رضي الله عنه بمصر، وحصل له نكد كثير، ومصادرات استوعبت معظم ما يملكه، ثم قدم الشام وباشر به تدريس المدرسة الأمينية بدمشق مدة، ثم ولى قضاء القضاة بحلب وأعمالها يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وست مائة، فتوجه إليها، وأقام بها مدة يسيرة، ثم عاد إلى دمشق، وقارن ذلك كسرة سنقر الأشقر. وصرف الأمير علم الدين الحلبي قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله فرسم له بمباشرة الحكم، فباشر مدة أيام دون شهر، ثم أعيد قاضي القضاة شمس الدين، ونفى القاضي نجم الدين مقتصراً على تدريس الأمينية بدمشق، وكان معه تدريس الركنية أيضاً إلى أن توفى إلى رحمة الله بجبل الصالحية في يوم الثلاثاء ثامن المحرم. ودفن يوم الأربعاء بسفح قاسيون بعد الصلاة عليه بالجامع المظفري بالجبل في التربة المعروفة بجده جوار المدرسة الصاحبية، ومولده سنة ست عشرة وست مائة رحمه الله تعالى.
محمد بن الحسين أبو عبد الله تقي الدين الحموي الشافعي. كان فقيهاً إماماً عالماً عارفاً بمذهب الشافعي رحمة الله عليه، اشتغل على الشيخ تقي الدين عثمان ابن الصلاح، وتميز في حياته، وأفتى ودرس وتولى وكالة بيت المال بالشام في الأيام الناصرية، وتدريس الشامية البرانية ظاهر دمشق وغير ذلك، ثم سافر إلى الديار المصرية في حفل التتار سنة ثمان وخمسين وست مائة، واستوطنها، وتولى بها جهات جليلة دينية من تدريس، وكا جرى مجراه، ثم ولى الحكم بالقاهرة وأعمالها، ثم أضيف إليه مع ذلك في شهور سنة ست وسبعين مصر وأعمالها، فكمل له ولاية الاقليم، وولى تدريس الشافعي رحمة الله عليه مدة، وتدريس المدرسة الصالحية للطائفة الشافعية مدة أخرى، وتولى تدريس الظاهرية التي بين القصرين أيضاً، وتوفى بالقاهرة يوم الأحد ثالث شهر رجب من هذه السنة، ودفن بالقرافة الصغرى، ومولده سادس شعبان سنة ثلاث وست مائة رحمه الله تعالى. روى عن السخاوي، وكريمة، وابن الصلاح، والصريفيني وغيرهم، وحدث رحمه الله.
محمد بن علي بن علون المنعوت بالشمس المزى مفسر الرؤيا. حفظ الكتاب العزيز وأتقنه، واشتغل بشيء من الفقه، وسمع الحديث، وتفرد بعلم تعبير الرؤيا، وبهر فيه، وفاق أهل عصره في ذلك، صحبته في طريق الحجاز الشريف، ورأيت منه في ذلك ما يحكى عن ابن سيرين واضرابه، وكان ضرير البصر، وتوفى بدمشق ليلة الأحد سابع عشر ذى الحجة، ودفن يوم الأحد بمقابر باب الصغير، وقد ناهز خمسين سنة رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن محمود أبو عبد الله جمال الدين المحمودي الصابوني الدمشقي المحدث. سمع الكثير وأسمع، وأفاد، وانتفع الناس به، وكان فاضلاً في فنه، نبيهاً عارفاً بالشيوخ، وتولى دار الحديث النورية بدمشق، وبها مات في ليلة الخميس خامس عشر ذى القعدة، ودفن يوم الخميس بسفح قاسيون، ومولده منتصف رمضان المعظم سنة أربع وست مائة رحمه الله تعالى.

المسلم بن محمد بن المسلم بن مكي بن خلف بن المسلم بن أحمد بن محمد بن علان أبو محمد شمس الدين القيسي الدمشقي. أحد أعيان دمشق، وكبرائها وأرباب البيوت المشهورة بها، كان من كرماء الناس، رئيساً، أصيلاً، وجيهاً في الدول وما أضيف إلى ذلك مدة، ونظر الجهات القبلية مدة أخرى، ونظر بعلبك وأعمالها غير مرة، وانفصل في آخر ذلك عنها، وترك الخدمة، وأقام بدمشق، ورتب بدار الأشرفية سمعاً للحديث، ولازمه الطلبة يسمعون عليه في منزله، وفي دار الحديث وغيرها؛ وكان له مسموعات كثيرة بسند عليه، وروى تاريخ بغداد عن الشيخ تاج الدين الكندي، وروى مسند الامام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وسمعه منه جماعة كثيرة. مولده بدمشق ليلة الأحد حادي عشر جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وخمس مائة، وتوفى بدمشق في يوم الاثنين خامس عشرين ذى الحجة من هذه السنة، وصلى عليه بعد العصر بجامع دمشق، ودفن من يومه بسفح قاسيون رحمه الله تعالى. حكى لي الشمس محمد بن خالد رحمه الله قال: كنت بدمشق في عيد النحر، ومعي جماعة من بعلبك فوق العشرة، فصلينا في صحن جامع دمشق، فلما قضينا الصلاة صادفنا شمس الدين المذكور، فدعانا إلى منزله، فلما حضرنا منزله، وجدنا من الأطعمة الفاخرة والحلوى ما لا مزيد عليه، فلما فرغنا من الأكل أمر بإحضار غنم على عددنا فأحضرت وقال: تضحوا على هذه، فامتنعنا فحلف أنه لابد من أخذها، فسقناها إلى المكان الذي كنا به وتصرفنا فيها. وحكى لي ناصر الدين بن قرقين رحمه الله ما معناه أنه اشترى تبن بعض القرى الكبار، وأظنها عذراء بمبلغ عشرين ألف درهم، وكان في مشتراه غبطة ظاهرة قال: ولم يكن معي من الثمن إلا مقدار يسير جداً، فصادفته في الطريق، فتسالمنا وسألني عن قصدي، فحكيت له الصورة، وأنني أسعى إلى من أستدين منه ذلك، فأخذني إلى داره، وأعطاني المبلغ بكماله، وتوقف بيعه، وهو يلقاني ولا يذكر الدراهم، فشرعت له مرة في الاعتذار من التأخير فقال: والله! ما لي عزم أن آخذها بالكلية، واتفق بيع التبن، وكسبت فيه أكثر من مقدار ثمنه، وأحضرت له الدراهم فامتنع من أخذها فحلفت بمغالظات الأيمان أنه لا بد من أخذها فأخذها، وهو كاره رحمه الله. وسافرت مع أخي رحمه الله إلى الديار المصرية في سنة تسع وخمسين وست مائة، فاجتزنا بغزة في شهر رمضان المعظم، وهو ناظر تلك الأعمال، وكنت أنا مفطر لرخصة السفر، ونزلنا عنده أياماً فكان في كل نهار يتقدم إلى طباخه أن يطبخ في النهار طعاماً لأجلي، فكان يطبخ من الألوان الفاخرة ما يكفي جماعة كثيرة، وكنت أسأله اختصار ذلك فيأبى إلا كرماً وتفضلاً رحمه الله. ونسخ في آخر عمره من كتب الأحاديث الشريفة النبوية صلوات الله وسلامه على قائلها وغير ذلك شيئاً كثيراً، وكان يكتب في يومه الكراستين والثلاثة، وكان ينظم الشعر. وليس بذاك. فمن شعره ما نقلته من خط سبطه قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن محمد بن سالم ابن صصرى الثعلبي أيده الله تعالى. قال: أنشدني جدي يشير إليه رحمه الله لنفسه:
يا شامتاً بمصاب من هو ضده ... كأس الردى من بعده هو عنده
لا تشمتن فقد مضى لسبيله ... وبقيت أنت تخافه وتعده
قال وأنشدني لنفسه، وقد سافر في شهر رمضان وكان زمن الخريف:
قالوا أتى شهر الصيام فصمه تنج من العقاب
فأجبتهم قد صمته ... فوقعت في وسط العذاب
هذا وهو في زمن الخريف فكيف لو في شهر آب
قال وأنشدني لنفسه أيضاً:
خان دهري عند احتياجي إليه ... وجفاني من كنت أحنو عليه
ناظري ثم عقلي وفؤادي ... وكذا خلى الذي اعتمادي عليه
أذكر الشيء ثم أنسى لوقتي ... ما تذكرته وما أرتجيه
قد تجاوزت تسعة ثم سبعين ولم أرعوى لما أنا فيه
فالاله الكريم يعفو عني ... من ذنوب أسلفت بين يديه
لا تضره الذنوب مني ولا ... ينقصه العفو إذا تبت إليه
قال وأنشدني أيضاً لنفسه:
يا مليح القد والوجه الحسن ... بان لما بنت عن جفني الوسن
صل محباً مستهاماً مغرماً ... حائراً يسأل سكان الدمن
هل أهيل الحي أنا ارتحلوا ... ففؤادي بهواهم مرتهن

ليت دهراً جار في فرقتهم ... عادلاً بالوصل يوماً في الزمن
يا أصحابي أعينوني على ... صرف الأيام تقضت في المحن
مازجت روحي غادة فاغتدى ... حبه يا صاح روحاً للبدن
ليس لي عنهم خروج أبداً ... لا ولا أدرجت في طي الكفن
موسى بن داود بن شيركوه بن شاذى أبو الفتح الملك الأشرف مظفر الدين بن الملك الزاهر محي الدين بن الملك المجاهد أسد الدين. كان شاباً حسناً بهياً، جميل الصورة، واسع الصدر، كريم الأخلاق، حسن العشرة، لين الجانب، شديد الحب للفقراء، كثير الاحسان إليهم بنفسه وماله، وكان عنده رياسة وحشمة، وأخلاق ملوكية، وأمه بنت الملك العظيم شرف الدين عيسى بن الملك العادل، واقتبس هذه الصفات الجميلة منها، ولما توفى حزن عليه والده حزناً مفرطاً، وكانت وفاته يوم السبت العشرين من ذى القعدة، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون رحمه الله وخلف ولداً ذكراً، وكان يعاشره المولى علاء الدين بن غانم حرسه الله تعالى فرثاه، يقول:
لو أستطيع قضيت حقك منصفاً ... وقضيت لما أن قضيت تأسفاً
ولو أن في إتلاف روحي فدية ... نفديك كنت لها بودي متلفا
بالرغم من أن أراك محجباً ... في الترب والفى جنابك قد عفا
من للعفاة وقد تقلص عنهم ... ظل النوال وطالما بك قد صفا
من للملوك ولم يزل بك مجدهم ... في العالمين مؤثلاً ومشرفا
من للعدى يوم الجلاد ولم تزل ... تروى المثقف منهم والمرهفا
كم من عدو من سطاك قد اغتدى ... في ليله ونهاره متخوفا
يخشاك في اليقظات منه وفي الكرى ... فإذا انتبه رعته وإذا غفا
ما عم رزؤ مثل رزءك قادح ... أضحى به كل الأنام على شفا
لا الدمع غار والتصبر منصف ... أسفاً عليك ولا التجلد لي وفا
يا دهر كف فقد كفى ما قد جرى ... ما أدمعي ولقد جرى ما قد كفى
لم يبق في قوس الرزايا منزعا ... من ذا تركت وقد أصبت الأشرفا
ملكاً كان على الأنام فضائلا ... وفواضلا وتورعاً وتعففا
من سادة ورثوا المكارم كابرا ... عن كابر لم يخف منها ما خفا
ما زال ربعهم مآل مؤمل ... ومآل من وفاهم مستسعفا
كل تفرد بالمعالي منهم ... كلفا يرى بالمجد لا متكلفا
فالحلم منهم يهتدي والفضل منهم يقتدي والهدى منهم يعتفى
أبني المجاهد لا رأيتم بعدها ... خطبا تجوز ولا زماناً محجفا
لا تجزعوا وتثبتوا وتصبروا ... فلكم تأس بالنبي المصطفى
رحم الإله فقيدهم واحله ... الفردوس منه تحية وتعطفا
وكان يصحبه المولى شهاب الدين أحمد بن غانم أعزه الله تعالى فرثاه بقوله:
قد بنت بيناً لا لقاء بعده ... يا نائنا لو أن دنا مزاره
يا وارداً بالرغم مني مورداً ... عز على كل الورى اصداره
فالأرض قد أوحشها وأهلها ... كأنها جميعها دياره
فكل قلب بعده من جزع ... لفقده خفوقه شعاره
وكل طرف قد غدا من دمعه ... أنهاره وليله ونهاره
يا غصن لما تثنى ما يشا ... ء أتاه عند زهوره انكساره
بكلى الحيا عليك والبرق غدت ... مشقوقة من الأسى أطماره
ومزقت ريح الصبا جيوبها ... والجو من دموعه أمطاره
وانشق قلب الأرض يوم دفنه ... وانصدعت من حزنه أعشاره
أعزز على أن أراك ثاوياً ... ببطن لحد نصبت أحجاره
لو كنت تفدى لفداك ناظري ... بكل ما يروقه ادخاره
أو كان يعني المدمع عنك لارتوى ... من كل مذروب الظبا غراره
أما وقد فارقت دار محنة ... وزمناً لم تصفه أكداره
وصرت جار الله والجار له ... رعاية أوجبها جواره

فلا عدا قبرك صوب رحمة ... وجاده من الرضى مدراره
هبة الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن جرير لأيو محمد نفيس الدين الحارثي الشافعي قاضي الزبداني. كان صدراً، رئيساً، عالماً، فاضلاً، كثير الكرم، واسع الصدر، دمث الأخلاق، له وجاهة عند الخاص والعام، وحرمة وافرة عند أرباب الدول، وكان يختار الزبداني لكونها وطنه، وله بها ملك يعود نفعه إليه. ولما توفى القاضي صدر الدين عبد الرحيم قاضي بعلبك رحمه الله عرضت عليه بعلبك ويترك الزبداني فأبى وامتنع، وبالجملة فكان من حسنات الزمان مع وفور الديانة والتقوى، وتوفى ليلة الخميس تاسع صفر بدمشق فجاءة، ودفن يوم الخميس بسفح قاسيون، وقد نيف على سبعين سنة رحمه الله تعالى. حكى عنه ما معناه أنه احتاج إلى ثمان مائة درهم في أوائل فصل الشتاء، وكان له بالزبداني بستان، عادته أن يبيع ثمره في السنة بمبلغ ألف درهم أو ما يقاربها، فطلب بعض أهل الزبداني، وقال له: قد احتجت إلى ثمان مائة درهم تعطيني إياها، وهذا البستان ثمرته في هذه السنة لك، فأعطاه المبلغ؛ واتفق أن بساتين الزبداني ضعفت في تلك السنة سوى أماكن يسيرة من جملتها ذلك البستان، فلما أدرك مغله، حرص من دفع ثمرته ثلاثة آلاف درهم، فقال القاضي: ثمرته لفلان، وأما الشخص فإنه يئس منه لعلمه بفساد البيع، وأن ما قاله القاضي له لا يلزمه الوفاء به، وقنع بعود الدراهم إليه فحضر إلى القاضي وخاطبه في ذلك، فقال: البستان ثمرته لك كما وعدتك، بل لو صقع أعدت إليه دراهيمك فحرض به كل الحرض على أن يعطيه الدراهم ويتصرف في البستان، فأبى ذلك، فأباع ذلك البستان بما ينيف عن ثلاثة آلاف درهم وأخذها. فانظر إلى هذه النفس الشريفة واحتقارها للدنيا فرحمه الله ورضى عنه. ولقد أذكر في ذلك شيئاً وقع وهو أن بعض من ولى القضاء ببعلبك طلب خبازاً في فرن المدرسة النورية بها، وقال له: قد أستحق لي جراية شهر تشتريها وتقبضها من القلعة وفاصلها عليها بمبلغ ثلاثين درهماً، وقبضها منه، وطلع الخباز إلى القلعة وتسلمها، فوجدها رديئة لا توافقها فباعها في العرضة بثلاثة وثلاثين درهماً، وبلغ القاضي فطلبه وقال له: البيع لم يصح، فإني ما رأيت القمح؛ وأخذ منه الثلاثة الدراهم، فانظر إلى ما بين الرجلين رحمهما الله تعالى وإيانا وجميع المسلمين.
يحيى بن عبد المنعم أبو زكريا جمال الدين الفقيه الشافعي المصري المعروف بقاضي الغربية. ناب في الحكم بمصر سنين عديدة، وتولى التدريس بمشهد الحسن رضي الله عنه بالقاهرة سنين كثيرة، وكان من أعيان القدماء الفقهاء المكثرين من النقل، المحققين في المذهب، ولم يزل محمود السيرة، وتوفى بمصر يوم الأحد عاشر شهر رجب، ودفن بإحدى القرافتين، وقد ناهز ثمانين سنة رحمه الله تعالى.
يحيى بن محمد بن إسماعيل أبو زكريا تاج الدين الكردي الاربلي الشافعي. كان فقيهاً فاضلاً ديناً، باشر الحكم ببلاطنس وحمص وبعلبك وغيرها من البلاد، وناب في الحكم بدمشق مدة عن القاضي عز الدين محمد بن الصائغ رحمه الله، ثم ولى القضاء بحلب وأعمالها بتقليد سلطاني في أوائل هذه السنة، وتوجه إليها وباشر أحكامها مدة شهرين فلما جفل الناس من حلب، انتزح إلى حمص، وخرج يوم الخميس بكرة النهار من البلد للاجتماع بالقاضي عز الدين محمد بن الصائغ بمشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه، والتحم القتال وهو هناك، فقتل يوم الخميس رابع عشر شهر رجب، وقد نيف على الستين من العمر، ودفن بمقابر حمص جوار مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه ورحمة الله تعالى.
يوسف بن إبراهيم بن قريش أبو المحاسن شمس الدين المصري. أحد كتاب الدرج بالديار المصرية وهو من قدمائهم، كتب للملك الصالح نجم الدين فمن بعده من الملوك، وكان وافر الرحمة كثير النعمة، وله صلة بذرية القاضي الفاضل رحمه الله، وحضر شمس الدين المذكور المصاف وفقد، ثم أخبرني من شاهده مقتولاً بتل فروحية، وهذا التل قبلي حمص بفوق فرسخين، وقتل، وقد نيف على سبعين سنة رحمه الله.

يوسف بن لؤلؤ بن عبد الله بدر الدين الذهبي الأديب الفاضل والشاعر المحسن. كان أبوه عتيق الأمير بدر الدين دلدرم الياروقي صاحب تل باشر، ومولد البدر يوسف سنة سبع وست مائة، وتوفى يوم السبت ثاني عشرين شهر شعبان من هذه السنة بدمشق، ودفن يوم السبت ثاني عشرين شهر شعبان من هذه السنة بدمشق، ودفن من يومه بمقابر باب الصغير رحمه الله. كان فاضلاً نبيهاً شاعراً مجيداً يغوص على المعاني المبتكرة فيجيد فيها. كتب إلى نجم الدين محمد بن إسرائيل، وللنجم صاحب يميل إليه يقال له الجارح بقوله:
قلبك اليوم طائر ... عنك في الجوانح
كيف يرجى خلاصه ... وهو في كف جارح
ثم بلغه أنه تركه، فكتب إليه:
خلصت طائر قلبي العاني يرى ... من جارح يغدو به ويروح
ولقد يسر خلاصه إن كنت قد ... خلصته منه وفيه روح
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وروضة دولابها ... إلى الغصون قد شكا
من حين ضاع زهرها ... دار عليه وبكى
وقال أيضاً:
وجنان ألفتها حين غنت ... حولها الورق بكرة وأصيلا
نهرها مشرعاً جرى وتمشت ... في رباها الصبا قليلاً قليلا
وقال في قصة جرت:
يا شادناً أخطى السبيل بقصده ... وعصى النصيح فيمن عصى
قد كنت بلا خصى في نعمة ... فتركته غلطاً وجئت إلى خصى
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
إن الذين ترحلوا نزلوا بعين ساهرة ... أنزلتهم في مقلتي فإذا هم بالساهرة
وقال أيضاً:
ضممته في ساعدي ضمة ... في ليلة قد غاب واشيها
وفي يدي من شعره حية ... لم أخشها مذ صرت حاويها
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا عاذلي فيه قل لي ... عن حبه كيف أسلو
يمر بي كل حين ... وكلما مر يحلو
وقال أيضاً:
ومعذر قد بايتوه جماعة ... ولووا بما وعدوه كل الميل
واكتاله كل هناك وما رأى ... منهم سوى حشف وسوء الكيل
وأنشدني المولى تقي الدين عبد الله بن تمام حرسه الله تعالى للبدر يوسف المذكور يقول:
هلم يا صاح إلى روضة ... يحلو بها العاني صدى همه
نسيمها يعثر في ذيله ... وزهرها يضحك في كمه
وهذا مأخوذ من قول ابن عمار:
يا ليلة بها في ظل أكتاف النعيم ... من فوق أكمام الرياض أذيال النسيم
وقال في الزين البغدادي وقد لبس ثوب صوف أسود:
لبس السواد فخلته متعبدا ... ومشى قليلاً في الطريق قليلا
في هيئة الرهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريم والتحليلا
وقال وقد احتيل على الحشر:
أمولاي شمس الدين طال ترددي ... بحائرة قد عيل من دونها صبري
وقد كنت قبل الحشر أرجو نجازها ... فكيف بها قد صيروها إلى الحشر
وقال يتذكر أيام شبابه:
هل ذاق برق بالغوير أنارا ... أم أضرموا بلوى المحصب نارا
وكلاهما إن لاح من هضب الحمى ... لي شائق ويهيج تذكارا
فيما التعلل والشباب منكث ... عنى وقد شط الحبيب مزارا
وقد استرد الدهر ثوب الصبا ... وكذلك يؤخذ ما يكون معارا
فارفق بدمعك في الفراق فما الذي ... يبقى لتشفى أربعاً وديارا
ودع النسيم يراوح القلب الذي ... أروى زناداً للتشوق نارا
مع أنني أصبو إلى بان الغضا ... إن شمت برقاً أو شممت عرارا
فاليوم لا وار بمنعرج اللوى ... يدنو بمحبوب لنا فيزارا
كلا ولا قلبي المشوق بصابر ... عنهم فأندب دمنة أو دارا
فسقى اللوى لا بل سقى عهد اللوى ... صوب الغمائم هامياً مدرارا
ولقد ذكرت على الصراط مرامياً ... ينسى بحسن وجوهها الأقمارا
وعلى الحمى يوماً ونحن بلهونا ... نصل النهار ونقطع الأنهارا

في فتية مثل النجوم تطلعاً ... وتخيروا صدق المقال شعارا
من كل نجم في الدياجي قد لوى ... في كفه مثل الهلال فدارا
متعطفاً من حرم داود الذي ... فاق الأنام صناعة وفخارا
فالآن قد حن المشوق إلى الحمى ... وتذكر الأوطان والأوطارا
وصبا إلى البرزات قلب كلما ... طارت به حرز اللغالغ طارا
فلأى مرمى ارتميه وليس لي ... قوس رشيق مدمج خطارا
حيل على ضعفي إذا استعطفته ... الوى على العنف والدستارا
ثلاث له من كل صنف قد حوى ... أعنى الرماة تحسناً إكثارا
وبوجهه المنقوش أول ما بدا ... وبه أقام وأقعد الشطارا
وبدا بتحريمي بلا سبب بدا ... مني وأودعه الرماة مرارا
يا حسنه من مخلف ولكنه ... في الجو عال لا يسف مطارا
ويطير خطفاً عن مقامي عاضداً ... ولشقوتي لا يدخل المقدارا
لا بندقى مهما خطرت نباله ... أنى ينال مراوغاً طيارا
وسنان من حرز اللغالغ لم يزل ... يرعى الرياض وليس يرعى الجارا
لا راحل بل قائم عني إلى ... ماء الفرات يخوض منه غمارا
وأما تراني فاقداً ومنعماً ... في الجو ليلاً خلفه ونهارا
دعني فقد برد الهواء وقد أتى ... أيلول يطفى للهجير جمارا
ووراء تشرين جاور عدة ... عجلان يحدو للسحاب وطارا
والبارق الهامي على قلل الحمى ... سرى هناك خيوطه كالتارا
والفيض طام ماؤه متدفق ... والطير فيه يلاعب التيارا
والنهر حن به فراح مسلسلاً ... صبا تحيراً لا يصيب قرارا
بهر النواظر حين أنبت شطه ... للناظرين شقائقاً وبهارا
والصبح في آفاقه يا سعد قد ... أخفى النجوم وأطلع العرارا
فانهض إلى المرنى الأنيق بنا وقد ... هب الصباح ونبه الأطيارا
وتباعث جناتها في أفقها ... مثل النعام قوادماً يتسارى
من جو زور للعراق قوادماً ... يا مرحباً بقدومها زوارا
فاصح إلى رشق القسى إذا ارتمت ... مثل الحريق أطار عنه شرارا
وأطرب على نغمات أطيار بدت ... في الجو وهى تجاوب الأوتارا
من كل طيار كأن له دما ... عند الرماة فثار يبغي الثارا
هل جاء في طلب العش لحتفه ... أم جاء يطلب عندها الآثارا
فاكتم يطرب بالجناح كأنه ... أيدي القيان تحرك الأوتارا
خاض الظلام وعب فيه فسود ... الرجلين منه وسود المنقارا
وأتى يبشرها اللقاء فضمخت ... تلك المغارز عنبراً ونضارا
والكىء كالشيخ الرئيس مزمل ... في بردنيه هيبة ووقارا
والكئ على الأسماك يوماً كلما ... أذكى له حر المجاعة نارا
والوز كم قد هاجها تنغيمه ... ليلاً وكم قد ساقنا أسحارا
فإذا تباشر بالصباح بنى له ... عطفاً وصفح بالجناح وطارا
وترى اللغالغ تستهل بأعين ... خرزية صغر الجفون صغارا
وكأن ورشا ذاب في أجفانها ... فحكى النضار وخير النضارا
فترى الأنيسات الأوانس تنثني ... بين الرياض كأنهن عذارى
يسلبن أرباب العقول عقولهم ... ويرعن منه جيلة ونفارا
وترى الحبارج كالقطا أرياشها ... أو كالرياض تفتحت أزهارا
هجرت مناهلها على برح الظما ... واستبدلت من دونها وقفارا

والبر سلطان لها لكنه ... لم يلفه لدمائها هدارا
قد شاب منه رأس من طول ما ... كرت عليه عصوره أدوارا
أرخى جناحيه عليه كجوشن ... لو كان يمنع دونه الأقدارا
وإذا العقاب سطا وضال بكفه ... عاينت منه كاسراً جبارا
يعطي ويمنع عزة وتكرماً ... ويبيح ممنوعاً ويحفظ جارا
وترى الكراكي كالرماد وربما ... فرت فأذكت في القلوب نارا
قد سطرت في الجو منها أسطرا ... وطوت سماء سجلها أسفارا
فإذا انصرعن فلا تكن ذا غفلة ... عن أن تيقظ حلهن مرارا
وبدت غرانيق لهن ذوائب ... لولا البياض لحلتهن عذارى
حمر العيون تدير من أحداقها ... فينا كؤوساً قد ملئن عقارا
والصوغ في أفق السماء محلق ... مثل الغمام إذا استقل وسارا
ذو مغرور ذرب فلو يسطو به ... نضح السنان واخجل التبارا
مرازم بيض وحمر ريشها ... كالورد بين الياسمين نثارا
خفقت بأجنحة على مجمرة ... كمراوح أضرمن منه جمارا
وعجت كيف صبت إلى صلبانها ... تلك الرماة وما هم بنصارى
وسبيطر ما أن يحل له دم ... مهما علا شجراً وحل جدارا
والأشرفية الفت لمنازل ... فاصبر له حتى يفارق دارا
وكأنما العناز لما أن بدا ... لبس السواد على البياض غبارا
وكأنه قد ضاق عنه مزورا ... فوق القميص فحلل الأزرارا
هل عب من صرف العقار بمغرز ... أم كان خاض من الدماء بحارا
يوسف بن يعقوب بن يعيش أبو المحسان جمال الدين السلمي المعري الاصل شيخ الغارة المعروفة بالعزيز بن الملك الاحمد صاحب بعلبك. كان شيخاً، صالحاً، ورعاً، محققاً، عارفاً بكلام المشايخ، مشتغلاً فيه، مسلكاً للمريدين والطلبة، خبيراً بالكتب المشكلة في هذا الفن، وكان يعرف كتاب خلع النعلين لابن قسى، ويتكلم على شرحه كلاماً مفيداً، وكان شيخنا تاج الدين عبد الرحمن الفزاري رحمه الله تعالى يعظمه، ويجتمع به، ويصفه بالتقدم الراسخ في معرفة طريق القوم. ومولده سنة اثنتي عشرة وست مائة، وكانت وفاته بالمغارة العزيزية بسفح قاسيون ليلة السبت ثالث عشر جمادى الأولى سنة ثمانين وست مائة، وحمل إلى مقابر الصوفية فدفن بها رحمه الله.
السنة الحادية والثمانون وستمائةاستهلت هذه السنة يوم السبت والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية، والملك المنصور سيف الدين قلاوون مقيم بالديار المصرية.
وفي أوائل هذه السنة ترتب في مملكة التتار مكان ابغا أخوه لأبيه أحمد بن هولاكو وهو مسلم، حسن إسلامه على ما يقال عنه، وعمره يومئذ مقدار ثلاثين سنة، ووردت الأخبار إلى الشام بأن كتبه وأوامره وصلت إلى بغداد تتضمن إظهار شعائر الاسلام، وإقامة مناره وإعلاءكلمة الدين، وبنيان الجوامع، والمساجد، والأوقاف، وتنفيذ بالأحكام الشرعية، والوقوف معها، وتشيد قواعدها، وإلزام أهل الذمة لبس الغيار، وضرب الجزية عليهم، ويقال: إن إسلامه كان في حياة والده هولاكو.
وفي عشية يوم الأحد مستهل صفر قبض الملك المنصور سيف الدين قلاوون على الأمير بدر الدين بيسرى الشمسي، وعلاء الدين كشتغدى الشمسي، واعتقلهما بقلعة الجبل.
وفي يوم الأربعاء عاشره فوض إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله التدريس بالمدرسة الأمينية بدمشق، وذكر الدرس بها يوم الأربعاء ثامن عشره، وكان قد درس بها مدة، ثم انتزعت منه، وأعيدت إليه، وكتب له بها تقليد من إنشاء المولى القاضي شرف الدين بن فضل الله ديوان الانشاء، ومضمونه:

" الحمد لله الذي أقر الحق في نصابه وأعاد الأمر إلى من هو أولى به. ورد الفضل إلى وطنه بعد معاناة اغترابه. ورفع منار العلم للمسترشدين من طلابه. نحمده حمداً نستزيد به النعم، ونستفيد ونسترد به فائت الشكر ونستعيد. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من تيقن شهادته فأداها وأجزى الله المشيئة بتزكية نفسه فأتاها هداها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم رسله. ونبيه الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام. أئمة الدين وخلفاء الاسلام. الذين سبقوا ونصروا وعلنوا بالاسلام، وصابروا في الله وصبروا. وطلقوا الدنيا وهجروا. ما توج مفرق الصبح من الشمس بتاج. وأمسى لذهب الأصيل الأفق امتزاج. وبعد! فأما الأمور الدينية أولى ما كانت عيون العناية بها متأملة، وركائب الأفكار نحوها متحملة. ليوضع الأشياء في مواضعها. ويقع الأمور في أحسن مواقعها. فلا يقع الاشتباه مع غير الانظار والاشباه. ولا يوضع غير التيجان بمكانها من المفارق والجباه. وإذا رقدت لحظة الخط أو سهت. وتخطت خطوة الخطأ فما وقفت حيث انتهت أيقظت، تلك العناية الخط من هجوعه. وصدت الخطأ عن قصده، وحكمت عليه برجوعه، فتمسى النجم له استقامة بعد الرجوع. ويصبح وللشمس من بعد الغروب طلوع. ولذلك رسم بالأمير العالي المولولى السلطاني الملكي المنصوري السيفي زاد الله شرفاً، وملأ بمحامده من الأيام صحفا. أن يفوض تدريس المدرسة الأمينية بدمشق المحروسة إلى الجناب العالي المولوي القضائي الأمامي الأوحدي الأفضلي الأرشدي الزاهدي العابدي الورعي الناسكي العلوي العلامي الشمسي ضياء الاسلام صدر الأنام بقية الكرام، علامة العلماء بمصر والعراق والشام، كهف الملة ركن الشريعة شيخ المذاهب مفتي الفرق قدوة العالمين ظهير الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين أحمد بن الشيخ الامام العالم العلامة بهاء الدين بن خلكان ضاعف الله جلاله إذا كان المعنى بهذا المعنى. والأوحد الذي لا نظير له فما يجمع، ولا يتثنى وهو الأولى بأن ينعت بواحد الزمان. والمراد به من مفهوم هذه الخطاب وغيره هو الذي أردناه بقولنا مضى هذا من هذا الباب. لتزين سماء العلوم منها بشمسه المنيرة، ويحتوي صدرها من تصدره بها على حاوي العلوم الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة. وليفوض نظرها إليه فقد حكم له بها الاستحقاق، وأصبحت نظامية الشام لما درس بها، وقد أربت على نظامية العراق، وقد درس بها الشيخ أبو اسحاق. وشهادة فضله الآن مغنية عن فضل امسه. والأخبار عن الماضي من الأمر لا يفتقر إليه والعيان شاهد لنفسه. ومتى احتاج النهار إلى دليل مع طلوع فجره. وشروق شمسه. والواصف لمناقبه ما عساه أن يورد بين يدي فضائله وسماعه لدرسه. ويوجز ويطنب فلا يخلى ولا يملى، وكيف يمل وتوفيق مفيد العقول عليه تملى. فليقصر في هذا المقام على إفادته. وتحصيل الاكتفاء بابانته. عن تكرر المقال وإعادته. وليباشر ذلك على قاعدته فيه وعادته. والاعتماد على الخط الكريم اعلاه إن شاء الله تعالى " .
كتب في ثالث عشر صفر سنة إحدى وثمانين وست مائة وهذا التقليد من نائب السلطنة بالشام الأمير حسام الدين لاجين رحمه الله.
وفي يوم الأحد سابع صفر دخل الحجاج دمشق في تامه.
وفي يوم الأحد حادي عشر ربيع الآخر ترتب بالديار المصرية نجم الدين المعروف بابن الاصفواني وزيراً عوض برهان الدين السنجاري وباشر الوزارة في التاريخ المذكور وهو من أهل صعيد مصر من بليدة يقال لها اصفون من أعمال قوص، ولم يزل متنقلاً في الخدم والأقطار الكبار، ثم ترقى إلى الوزارة في هذا التاريخ ورفعت يد الأمير علم الدين الشجاعي أحد المماليك الكبار المنصورية عن شد الدواوين بالديار المصرية واستمر على إمرته.
وفي أواخر جمادى الآخرة ترتب بالقاهرة والوجه البحري القاضي شهاب الدين محمد بن القاضي شمس الدين الخوى عوضاً عن القاضي وجيه الدين البهنسي، وانفرد وجيه الدين بقضاء مدينة مصر والوجه القبلي على عادة من تقدمه، وكان شهاب الدين قاضياً بالغربية نيابة عن الحاكم بالقاهرة مدة، ثم أعفى عنها وتوجه إلى حلب حاكماً بها مستقلاً، وأقام بها مدة، ثم أعفى عنها وتوجه إلى الديار المصرية فأعيد إلى الغربية وأقام بها إلى حين استقلاله بالقاهرة على ما ذكرنا.

وفي ليلة الاثنين حادي وعشرين شهر رجب وصل إلى دمشق رسل من جهة الملك أحمد بن هولاكو ملك التتر قاصدين السلطان، فأنزلوا بدار رضوان بقلعة دمشق. واهتم بأمرهم غاية الاهتمام، وتلقاهم سيف الدين كبك أمير حاجب بجماعة من العسكر إلى حلب فتوجهوا إلى الديار المصرية ليلة الخميس رابع عشرين منه، ومعهم سيف الدين كبك المذكور، وكانت طريقهم على القدس والخليل لقصده الزيارة، ومسيرهم في الليل دون النهار في جميع بلاد المسلمين في المجيء والعود، وهم بهاء الدين أتابك الروم، وشمس الدين بن شرف الدين التبتي وزير صاحب ماردين، وقطب الدين قاضي شيراز، لديه فضيلة تامة في الهيئة وعلوم الأوائل من المعقولات.
وفي ليلة الجمعة حادي عشره دخل الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام على زوجته ابنة الأمير ركن الدين بيبرس الناصري المعروف بطقصو حملت إليه من الديار المصرية، وكان دخولها عليه بدار السعادة، وعمل عرس عظيم حضره نائب السلطنة المذكور، وسائر الأمراء، والجند، وكثير من العوام، وأحضر فيه المطربون، وعند الفراغ منه أحضر الأمراء ومقدمو الحلقة تقادم جليلة من الخيول والثياب، الأطلس والنسيج، والعتابى وغير ذلك في البقج، والمماليك لابسين عدد الحرب على الخيول المثمنة وغير ذلك، واستمر عرض التقادم من بعد السماط إلى الظهر، ولم يقبل من ذلك إلا اليسير، وبعد الفراغ من عرضها، ركب إلى دار السعادة.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشرين شعبان طافوا بالكسوة الشريفة التي عملت برسم الكعبة عظمها الله تعالى بمصر والقاهرة على العادة.
وفي ليلة الأحد عاشر رمضان المعظم احترقت اللبادين بدمشق الشمالية بكمالها، وجسر الكتبيين بأسره، وأكثر اللبادين القبلية العلو والسفل من ذلك جميعه، والفوارة والسوق الذي يليها للقماش المعروف بسوق عسا الله، وسقاية جيرون، ووصلت النار إلى الربع الملاصق لحمام الصحن من قبلية، فاحترق بعضه إلى باب درج العجم بوسط جيرون، وإلى جدر المسجد العمري الذي على درج باب الجامع الملاصق لسجن زين العابدين رحمة الله عليه إلى داخل مشهد علي رضوان الله عليه وإلى جدار دار الخشب وخزائن السلاح وإلى الرابع المستجد بجيرون قبالة درب العجم، واحترق أكثره، واحترق من الكتب ما يزيد على ستة آلاف مجلد، ومن عجيب الاتفاق أنه وجد وريقة عتيقة من كتاب وقد احترق أكثرها وبقي فيها مكتوب:
فوض الأمر راضياً ... جف بالكائن القلم
ليس في الرزق حيلة ... إنما الرزق بالقسم
ذل رزق الضعيف ... وهو لحم على وضم
وافتقار الغنى إذ ... يرهب الأسد في الأجم
إن للخلق خالقاً ... لا مرد لما حكم
وبالجملة فكان حريقاً عظيماً لم يشهد مثله، وخيف على الجامع منه وكان بداية الحريق بين المغرب والعشاء، والناس على الفطر، واستمرت النار تعمل إلى الثلث الأخير من الليل، وهي في قوة وتزيد، ثم تناقصت وخمد لهبها قبل طلوع الشمس، وكان السبب في إخمادها الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة رحمه الله فإنه لما بلغه خبرها، بطل الفطر وحضر بنفسه وخواصه ومماليكه مسرعاً، وحضر إليه جميع الأمراء ومماليكهم وكثير من الجند، وظهر من اهتمامه في إخمادها ما تضاعفت الأدعية له بسببها، وأقام الدخان يصعد من خلال الأبنية والردوم نحو أسبوع، وتقدم من غد يومه إلى الصاحب محي الدين محمد بن النحاس بعمارة ما احترق، وإعادته إلى ما كان عليه، وندب من جهته مشدا بين يدي الصاحب محي الدين لذلك، وقطعت رواتب الناس كافة على المصالح، وحصل الاهتمام التام من الصاحب محي الدين، فبنى أحسن مما كان، وأتم بالانقاش في مدة قريبة.
وفي ليلة الخميس حادي وعشرين منه وصل إلى دمشق رسل الملك أحمد بن هولاكو من مصر عائدين إلى مخدومهم، ونزلوا بدار رضوان بالقلعة، وسافروا ليلة الأحد رابع عشرين منه إلى بلادهم، ولم يتوجه معهم رسول من جهة الملك المنصور.
وفي يوم عيد النحر وهو يوم الخميس قدم الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة إلى دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية إلى خدمة السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون، ونزل بداره داخل باب الفراديس، وسافر بعد يومين من مقدمه.

وفي يوم عرفة قبض بدمشق على زين الدين من ذرية الشيخ عيسى ابن أبي البركات، وأبو البركات هو أخو سيدنا عدى بن مسافر رحمة الله عليه، وسير إلى الديار المصرية، وصحبته أميران من أمراء دمشق مقبوض عليهما أيضاً حسبما ورد به مرسوم الملك المنصور سيف الدين قلاوون من الديار المصرية.
وفيها توفى: إبراهيم بن اسماعيل بن يحيى بن علوى أبو اسحاق الدمشقي الملقب بالبرهان المعروف بابن الدرجى المحدث. سمع الكثير وأسمع، وكان بالحجاز الشريف فمرض في عوده بالطريق، وتوفى يوم دخول الحجاج دمشق، وهو يوم الأحد سابع صفر، ودفن من يومه بمقبرة باب الفراديس، ومولده بدمشق يوم الثلاثاء رابع عشر شعبان سنة تسع وتسعين وخمس مائة رحمه الله تعالى.
أحمد بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين أبو العباس الأنصاري المقدسي. كان شيخاً كبيراً جليلاً، منقطعاً عن الناس، مشتغلاً بأوراده وأذكاره وتلاوته على قدم السلف، لا يشتغل بما لا يعنيه، ولا يضيع أوقاته في شيء من أمور الدنيا، أجهد نفسه في العبادة والتقلل من الدنيا، وملازمته الورع والزهد، وعدم التطلع إلى مشيخة أو رياسة أو منصب، ربى صغيراً على قدم الانفراد، والتجريد، والعبادة؛ واستمر على ذلك إلى حين وفاته. قال والده الشيخ غانم رحمه الله: من أراد أن ينظر إلى عابد من عباد بني إسرائيل فلينظر إلى أحمد. وتوفى بالقدس في شعبان سنة إحدى وثمانين وست مائة، وقد تجاوز تسعين سنة رحمه الله تعالى وصلى عليه بجامع دمشق بالتيه يوم الجمعة سابع عشر شعبان.
فصلوفيها توفى: أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان بن ناول بن عبد الله بن شاكل بن الحسين بن مالك بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك أبو العباس البرمكي الاربلي الشافعي شمس الدين قاضي قضاة الشام، وصدر صدور الاسلام. وله ليلة الأحد حادي عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وست مائة باربل، وبها نشأ، وذكره الصاحب كمال الدين عمر بن العديم رحمه الله في تاريخ حلب، وساق نسبه رحمه الله إلى خالد بن برمك، وقال: فقيه شاعر من بيت معروف بالفقه والأدب والمناصب الدينية، قدم حلب وتفقه بها. أنشدني قصيدة يرثي بها الملك العزيز بن الملك الظاهر، وهي هذه:
طوى من نظام الملك واسطة العقد ... ولم يك من صرف المنية من يد
فما للرماح السمر مشرعة القنا ... وما للصفاح البيض مرهفة الحد
أمن بعد فقدان العزيز محمد ... تدور رحى الحرب على صافن نهد
إذا عطلت من بعده حومة الوغى ... فما تصنع الفرسان بالقصب الملد
لقد جل هذا الذرء من وصف واصف ... كما جل عن إدراكه حد ذى حد
سقى جدثاً ضم المكارم تربه ... ولحداً حوى تلك المناقب من لحد
مواطر دمع ما يزال تمدها ... سحائب تحدوها بواسم من نجد
فلله ما أذكى ثراه كأنما ... تنفس في روض المرحم عن خد
لئن أظلمت دنيا الغفلة لفقده ... فقد أشرقت من وجهه جنة الخلد
عليك سلام الله يا خير مالك ... ويا غير مصحوب سوى الشكر والحمد

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8