كتاب : الجنى الداني في حروف المعاني
المؤلف : ابن أُمّ قَاسِم المرادي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بجميع محامده، على جميل عوائده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد خاتم أنبيائه، ومبلغ أنبائه، وعلى آله الكرام، وأصحابه مصابيح الظلام. وبعد: فإنه لما كانت مقاصد كلام العرب، على اختلاف صنوفه، مبنياً أكثرها على معاني حروفه، صرفت الهمم إلى تحصيلها، ومعرفة جملتها وتفصيلها. وهي مع قلتها، وتيسر الوقوف على جملتها، قد كثر دورها، وبعد غورها، فعزت على الأذهان معانيها، وأبت الإذعان إلا لمن يعانيها.
وهذا كتاب، أرجو أن يكون نافعاً، ولمعاني الحروف جامعاً. جعلته لسؤال بعض الإخوان جواباً، ولصدق رغبته ثواباً. ولما وفى لفظه بمعناه، ودنى من متناوله جناه، سميته ب الجنى الداني في حروف المعاني. ويشتمل على
مقدمة
وخمسة أبواب.
الفصل الأول
في حد الحرف
قال بعض النحويين: لا يحتاج في الحقيقة إلى حد الحرف، لأنه كلم محصورة. وليس كما قال. بل هو مما لابد منه، ولا يستغنى عنه، ليرجع عند الإشكال إليه، ويحكم عند الاختلاف بحرفية ما صدق الحد عليه.
وقد حد بحدود كثيرة. ومن أحسنها قول بعضهم: الحرف كلمة تدل على معنى، في غيرها، فقط. فقوله كلمة جنس يشمل الاسم والفعل والحرف. وعلم من تصدير الحد به أن ما ليس بكلمة فليس بحرف: كهمزتي النقل والوصل، وياء التصغير. فهذه من حروف الهجاء، لا من حروف المعاني. فإنها ليست بكلمات بل هي أبعاض كلمات. وهذا أولى من تصدير الحد ب ما، إبهامها.
واعترض بأن تصدير حد الحرف بالكلمة لا يصح، من جهة أنه يخرج عنه، من الحروف، ما هو أكثر من كلمة واحدة، نحو: إنما وكأنما. والجواب أنه ليس في الحروف ما هو أكثر من كلمة واحدة. وأما نحو: إنما وكأنما، مما هو كلمتان، فهو حرفان، لا حرف واحد، بخلاف نحو كأن مما صيره التركيب كلمة واحدة، فهو حرف واحد.
وقوله تدل على معنى في غيرها فصل، يخرج به الفعل، وأكثر الأسماء، لأن الفعل لا يدل على معنى في غيره. وكذلك أكثر الأسماء.
وقوله فقط فصل ثان، يخرج به من الأسماء، ما يدل على معنى في غيره، ومعنى في نفسه. فإن الأسماء قسمان: قسم يدل على معنى في نفسه، ولا يدل على معنى في غيره، وهو الأكثر. وقسم يدل على معنيين: معنى في نفسه، ومعنى في غيره: كأسماء الاستفهام، والشرط. فإن كل واحد منها يدل، بسبب تضمنه معنى الحرف، على معنى في غيره، مع دلالته على المعنى الذي وضع له. فإذا قلت مثلاً: من يقم أقم معه، فقد دلت من على شخص عاقل بالوضع، ودلت مع ذلك على ارتباط جملة الجزاء بجملة الشرط، لتضمنها معنى إن الشرطية. فلذلك زيد في الحد فقط، ليخرج به هذا القسم.
واعترض الفارسي قول من حد الحرف بأنه ما دل على معنى في غيره بالحروف الزائدة، نحو ما في قولهم: إنك ما وخيراً، لأنها لا تدل على معنى في غيرها. وأجيب بأن الحروف الزائدة تفيد فضل تأكيد وبيان، للكثرة، بسبب تكثير اللفظ بها. وقوة اللفظ مؤذنة بقوة المعنى، وهذا معنى لا يتحصل إلا مع كلام.
فإن قيل: ما معنى قولهم الحرف يدل على معنى في غيره فالجواب: معنى ذلك أن دلالة الحرف على معناه الإفرادي متوقفة على ذكر متعلقه، بخلاف الاسم والفعل. فإن دلالة كل منهما، على معناه الإفرادي، غير متوقفة على ذكر متعلق؛ ألا ترى أنك إذا قلت الغلام فهم منه التعريف. ولو قلت أل مفردة لم يفهم منه معنى. فإذا قرن بالاسم أفاد التعريف. وكذلك باء الجر فإنها لا تدل على الإلصاق، حتى تضاف إلى الاسم الذي بعدها، لأنه يتحصل منها مفردة. وكذلك القول في سائر الحروف.
وقال السيرافي: المراد من قولنا في الاسم والفعل إنه يدل على معنى في نفسه أن تصور معناه في الذهن غير متوقف على خارج عنه؛ ألا ترى أنك إذا قلت: ما الإنسان؟ فقيل لك: حي ناطق، وإذا قلت: ما معنى ضرب؟ فقيل لك: ضرب في زمان ماض أدركت المعنيين باللفظ المذكور في التفسير . وقولنا في الحرف يدل على معنى في غيره، نعني به أن تصور معناه متوقف على خارج عنه: ألا ترى أنك إذا قلت: ما معنى من، فقيل لك: التبعيض، وخليت وهذا، لم تفهم معنى من إلا بعد تقدم معرفتك بالجزء والكل، لأن التبعيص أخذ جزء من كل.
وقد قيل غير ذلك، ممالا حاجة هنا إلى ذكره. والله الموفق.
الفصل الثاني
في تسميته حرفا
ً
اختلف النحويون في علة تسميته حرفاً.

فقيل: سمي بذلك، لأنه طرف في الكلام، وفضلة. والحرف، في اللغة، هو الطرف. ومنه قولهم: حرف الجبل، أي: طرفه، وهو أعلاه المحدد. فإن قيل: فإن الحرف قد يقع حشواً، نحو: مررت بزيد، فليست الباء في هذا بطرف! فالجواب أن الحرف طرف في المعنى، لأنه لا يكون عمدة، وإن كان متوسطا.
وقيل: لأنه يأتي على وجه واحد. والحرف، في اللغة، هو الوجه الواحد. ومنه قوله تعالى " ومن الناس من يعبد الله على حرف " أي: على وجه واحد. وهو أن يعبده على السراء دون الضراء، أي يؤمن بالله، ما دامت حاله حسنة. فإن غيرها الله وامتحنه كفر به. وذلك لشكه وعدم طمأنينته. فإن قيل: فإن الحرف الواحد قد يرد لمعان كثيرة! فالجواب أن الأصل في الحرف أن يوضع لمعنى واحد، وقد يتوسع فيه، فيستعمل في غيره. قاله بعضهم. وأجاب غيره بأن الاسم قد يدل، في حالة واحدة، على معنيين، مثل أن يكون فاعلاً ومفعولاً، في وقت واحد. كقولك: رأيت ضارب زيد. ف ضارب زيد في هذه الحالة فاعل ومفعول. والفعل أيضاً يدل على معنيين: الحدث والزمان. والحرف إنما يدل، في حالة واحدة، على معنى واحد.
والظاهر أنه إنما سمي حرفاً، لأنه طرف في الكلام، كما تقدم. وأما قوله تعالى: " ومن الناس من يعبد الله على حرف " فهو راجع إلى هذا المعنى، لأن الشاك كأنه على طرف من الاعتقاد، وناحية منه. وإلى ذلك ترجع معاني الحروف كلها. كقولهم للناقة الضامرة الصلبة: حرف، تشبيهاً لها بحرف السيف. وقيل: هي الضخمة، تشبيهاً لها بحرف الجبل. وكان الأصمعي يقول: الحرف: الناقة المهزولة.

الفصل الثالث
في جملة معانيه وأقسامه
ذكر بعض النحويين للحرف نحواًَ من خمسين معنى. وزاد غيره معاني أخر. وسأذكر جميع ذلك، مبيناً في مواضعه، إن شاء الله تعالى. وهذه المعاني، المشار إليها، يرجع غالبها إلى خمسة أقسام: معنى في الاسم خاصة، كالتعريف. ومعنى في الفعل خاصة، كالتنفيس. ومعنى في الجملة، كالنفي والتوكيد. وربط بين مفردين، كالعطف في نحو: جاء زيد وعمرو. وربط بين جملتين، كالعطف في نحو: جاء زيد وذهب عمرو.
وإنما قلت يرجع غالبها لأن منها ما هو خارج عن هذه الأقسام، كالكف، والتهيئة، والإنكار، والتذكار، وغير ذلك، مما سيأتي ذكره.
وأما أقسام الحرف فثلاثة: مختص بالاسم، ومختص بالفعل، ومشترك بين الاسم والفعل.
فأما المختص بالاسم فلا يخلو من أن يتنزل منه منزلة الجزء، أولا. فإن تنزل منه منزلة الجزء لم يعمل، كلام التعريف. وإن لم يتنزل منزلة الجزء فحقه أن يعمل، لأن ما لازم شيئاً، ولم يكن كالجزء منه، أثر فيه غالباً. وإذا عمل فأصله أن يعمل الجر، لأنه العمل المخصوص بالاسم. ولا يعمل الرفع ولا النصب، إلا لشبهه بما يعملهما. ك إن وأخواتها، فإنها نصيب الاسم ورفعت الخبر، لشبهها بالفعل، في أوجه مذكورة في موضعها. ولولا شبه الفعل لكان حقها أن تجر، لأنه الأصل. وقد جروا ب لعل في لغة عقيل، منبهة على الأصل.
وأما المختص بالفعل فلا يخلو أيضاً من أن يتنزل منه منزلة الجزء أولا. فإن تنزل منه منزلة الجزء لم يعمل، كحرف التنفيس، وإن لم يتنزل منه منزلة الجزء فحقه أن يعمل. وإذا عمل فأصله أن يعمل الجزم، لأن الجزم في الفعل نظير الجر في الاسم. ولا يعمل النصب إلا لشبهه بما يعمله، ك أن المصدرية وأخواتها، فإنها لما شابهت نواصب الاسم نصبت. ولولا ذلك لكان حقها أن تجزم. وقد حكي عن بعض العرب الجزم ب أن ولن. وسيأتي الكلام عليه.
وأما المشترك فحقه ألا يعمل، لعدم اختصاصه بأحدهما، وقد خالف هذا الأصل أحرف، منها ما الحجازية أعملها أهل الحجاز عمل ليس، لشبهها بها، وأهملها بنو تميم على الأصل.
الفصل الرابع
في بيان عمله
قد علم، مما سبق، أن الحرف قسمان: عامل، وغير عامل. فالعامل هو ما أثر. فيما دخل عليه رفعاً، أو نصباً، أو جراً، أو جزماً. وغير العامل بخلافه، ويسمى المهمل.
ثم إن العامل قسمان: قسم يعمل عملاً واحداً، وقسم يعمل عملين.
فالأول إما ناصب فقط، كنواصب الفعل، وإلا في الاستثناء، وواو مع عند من يراهما عاملين. وإما جار فقط، وهو حروف الجر. وإما جازم فقط، وهو حروف الجزم.
وليس في الكلام حرف يعمل الرفع فقط، خلافاً للفراء في قوله: إن لولا ترفع الاسم الذي يليها، في نحو: لولا زيد لأكرمتك.

ومذهب البصريين أن الاسم، بعدها، مرفوع بالابتداء.
والثاني قسم واحد، ينصب ويرفع، وهو إن وأخواتها، وما الحجازية وأخواتها.
وزاد بعض المتأخرين قسماً آخر، يجر ويرفع. قال: وهو لعل خاصة، على لغة بني عقيل. وليس كما ذكر، فإن لعل على هذه اللغة جارة فقط. ولرفع الخبر بعدها وجه غير ذلك.
تنبيه قد اتضح، بما ذكرنا، أن الحرف يعمل أنواع الإعراب الأربعة. ولكن عمله الجر والجزم بطريق الأصالة، وعمله الرفع والنصب لشبهه بما يعملهما. والله أعلم.

الفصل الخامس
في عدة الحروف
ذكر بعض النحويين أن جملة حروف المعاني ثلاثة وسبعون حرفاً. وزاد غيره على ذلك حروفاً أخر، مختلفاً في حرفية أكثرها. وذكر بعضهم نيفاً وتسعين حرفاً. وقد وقفت على كلمات أخر مختلف في حرفيتها، ترتقي بها عدة الحروف على المائة. وهي منحصرة في خمسة أقسام: أحادي، وثنائي، وثلاثي، ورباعي، وخماسي. فلذلك جعلت لها خمسة أبواب.
الباب الأول
في الأحادي
وهو أربعة عشر حرفاً: الهمزة، والباء، والتاء، والسين، والشين، والفاء، والكاف، واللام، والميم، والنون، والهاء، والواو، والالف، والياء. ويجمعها قولك بكشف سألتمونيها. ولم يذكر بعضهم الشين، فعدها ثلاثة عشر. وأنا أذكرها، واحداً واحداً، على هذا الترتيب. إن شاء الله تعالى.
الهمزة
حرف مهمل، يكون للاستفهام، وللنداء. وما عدا هذين، من أقسام الهمزة، فليس من حروف المعاني.
فأما همزة الاستفهام فهي حرف مشترك: يدخل على الأسماء والأفعال، لطلب تصديق، نحو: أزيد قائم؟ أو تصور، نحو: أزيد عندك أم عمرو؟ وتساويها هل في طلب التصديق الموجب، لا غير.
فالهمزة أعم، وهي أصل أدوات الاستفهام. ولأصالتها استأثرت بأمور، منها تمام التصدير بتقديمها على الفاء والواو وثم، في نحو " أفلا تعقلون " ، " أو لم يسيروا " ، " أثم إذا ما وقع " . وكان الأصل في ذلك تقديم حرف العطف على الهمزة، لأنها من الجملة المعطوفة. لكن راعوا أصالة الهمزة، في استحقاق التصدير، فقدموها بخلاف هل وسائر أدوات الاستفهام. هذا مذهب الجمهور.
وذهب الزمخشري إلى تقدير جملة، بعد الهمزة، لائقة بالمحل، ليكون كل واحد من الهمزة وحرف العطف في موضعه. والتقدير: أتجهلون فلا تعقلون؟ ونحو ذلك. وضعف بعدم اطراده، إذا لا يمكن في نحو " أفمن هو قائم على كل نفس " ، وبأن فيه حذف جملة معطوف عليها، من غير دليل. قيل: وقد رجع إلى مذهب الجماعة في سورة الأعراف.
ثم إن همزة الاستفهام قد ترد لمعان أخر، بحسب المقام، والأصل في جميع ذلك معنى الاستفهام.
الأول: التسوية: نحو " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " . قال بعض النحويين: لما كان المستفهم يستوي عنده الوجود والعدم، وكذا المسوي، جرت التسوية بلفظ الاستفهام. وتقع همزة التسوية بعد سواء، وليت شعري، وما أبالي، وما أدري.
الثاني: التقرير: وهو توقيف المخاطب على ما يعلم ثبوته أو نفيه. نحو قوله تعالى " أأنت قلت للناس: اتخذوني " .
الثالث: التوبيخ: نحو " أأذهبتم طيباتكم، في حياتكم الدنيا " . وقد اجتمع التقرير والتوبيخ في قوله تعالى " ألم نر بك فينا وليداً " .
الرابع: التحقيق: نحو قول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين، بطون راح
الخامس: التذكير: نحو " ألم يجدك يتيماً فآوى " .
السادس: التهديد: نحو " ألم نهلك الأولين " .
السابع: التنبيه: نحو " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء " .
الثامن: التعجب: نحو " ألم تر إلى الذين تولوا قوماً، غضب الله عليهم " .
التاسع: الاستبطاء: نحو: " ألم يأن للذين آمنوا " .
العاشر: الإنكار: نحو " أصطفى البنات على البنين " .
الحادي عشر: التهكم: نحو " قالوا: يا شعيب أصلاتك " .
الثاني عشر: معاقبة حرف القسم: كقولك: آلله لقد كان كذا. فالهمزة في هذا عوض من حرف القسم. وينبغي أن تكون عوضاً من الباء دون غيرها، لأصالة الباء في القسم.
واختللف في الجار للاسم المقسم به، بعد الهمزة. فذهب الأخفش إلى أن الجر بالهمزة، لكونها عوضاً عن الجار. واختاره ابن عصفور. وذهب غيره إلى أن الجر بالحرف المحذوف، الذي جيء بالهمزة عوضاً عنه. واختاره ابن مالك.

وذكر بعض النحويين أن التقرير هو المعنى الملازم للهمزة، في غالب هذه المواضع المذكورة، وأن غيره من المعاني، كالتوبيخ والتحقيق، والتذكير، ينجر مع التقرير.
مسألة ذهب قوم إلى أن حذف همزة الاستفهام، لأمن اللبس، من ضرورات الشعر، ولو كانت قبل أم المتصلة. وهو ظاهر كلام سيبويه. وذهب الأخفش إلى جواز حذفها في الاختيار، وإن لم يكن بعدها أم. وجعل من ذلك قوله تعالى " وتلك نعمة تمنها علي، أن عبدت بني إسرائيل " . قال ابن مالك: وأقوى الاحتجاج، على ما ذهب إليه، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: وإن زنى، وإن سرق؟. فقال: وإن زنى وإن سرق. أراد: أو إن زنى وإن سرق؟ والمختار أن حذفها مطرد إذا كان بعدها أم المتصلة، لكثرته نظماً ونثراً. فمن النظم قول الشاعر:
لعمرك، ما أدري، وإن كنت دارياً: ... بسبع، رمين الجمر، أم بثماني؟
وأبيات أخر، لا حاجة إلى التطويل بإنشادها. ومن النثر قراءة ابن محيصن " سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم " بهمزة واحدة.
وأما همزة النداء فهي حرف مختص بالاسم، كسائر أحرف النداء، ولا ينادى بها إلا القريب مسافة وحكماً، كقول أمرىء القيس: أفاطم، مهلاً، بعض هذا التدلل وجعل بعضهم من ذلك قراءة الحرمين " أمن هو قانت " ، بتخفيف الميم. وتحتمل أن تكون همزة الاستفهام دخلت على من، ومن مبتدأ وخبره محذوف، تقديره، أمن هو قانت كغيره؟ حذف، لدلالة الكلام عليه. والله أعلم.
الباء حرف مختص بالاسم، ملازم لعمل الجر. وهي ضربان زائدة، وغير زائدة.
فأما غير الزائدة فقد ذكر النحويون لها ثلاثة عشر معنى: الأول: الإلصاق: وهو أصل معانيها. ولم يذكر لها سيببويه غيره. قال: إنما هي للإلصاق والاختلاط. ثم قال: فما اتسع من هذا، في الكلام، فهذا أصله. قيل: وهو معنى لا يفارقها.
والإلصاق ضربان: حقيقي نحو: أمسكت الحبل بيدي. قال ابن جني: أي: ألصقتها به. ومجازي، نحو: مررت بزيد. قال الزمخشري: المعنى: التصق مروري بموضع يقرب منه. قلت: وذكر ابن مالك أن الباء في نحو: مررت بزيد، بمعنى على، بدليل " وإنكم لتمرون عليهم " . وحكاه عن الأخفش.
الثاني: التعدية: وباء التعدية هي القائمة مقام الهمزة، في إيصال معنى اللازم إلى المفعول به. نحو " ذهب الله بنورهم " ، و " لذهب بسمعهم " . وقد وردت مع المتعدي في قولهم: صككت الحجر بالحجر، ودفعت بعض الناس ببعض. فلذلك قيل: الصواب قول بعضهم: هي الداخلة على الفاعل، فتصيره مفعولاً. ليشمل المتعدي واللازم. فإن قيل: هذه العبارة أيضاً لا تشمل المثالين، لأن الباء فيهما هي الداخلة على ما كان مفعولاً. إذ الأصل: صك الحجر الحجر، ودفع بعض الناس بعضاً! قلت: ليس كذلك، بل هي شاملة لهما. والباء فيهما داخلة على ما كان فاعلاً، لا مفعولاً، والأصل: صك الحجر الحجر، ودفع بعض الناس بعض. بتقديم المفعول، لأن المعنى أن المتكلم صير البعض، الذي دخلت عليه الباء، دافعاً للبعض المجرد منها.
ومذهب الجمهور أن باء التعدية بمعنى همزة التعدية، لا تقتضي مشاركة الفاعل للمفعول. وذهب المبرد والسهيلي إلى أن باء التعدية، تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول في الفعل، بخلاف الهمزة. قال السهيلي: إذا قلت: قعدت به، فلا بد من مشاركة، ولو باليد. ورد عليهما بقوله تعالى " ذهب الله بنورهم " ، لأن الله، تعالى، لا يوصف بالذهاب مع النور. وأجيب بأنه يجوز أن يكون، تعالى، وصف نفسه بالذهاب، على معنى: يليق به، كما وصف نفسه بالمجيء، في قوله " وجاء ربك " . وهذا ظاهر البعد. ويؤيد أن باء التعدية بمعنى الهمزة قراءة اليماني " أذهب الله نورهم " .
الثالث: الاستعانة: وباء الاستعانة هي الداخلة على آلة الفعل. نحو: كتبت بالقلم، وضربت بالسيف. ومنه في أشهر الوجهين " بسم الله الرحمن الرحيم " .
ولم يذكر في التسهيل باء الاستعانة، وأدرجها في باء

السبيبة، وقال في شرحه: باء السببية هي الداخلة على صالح للاستغناء به عن فاعل معداها مجازاً. نحو " فأخرج به من الثمرات " ، فلو قصد إسناد الإخراج إلى الهاء لحسن، ولكنه مجاز. قال: ومنه: كتبت بالقلم، وقطعت بالسكين. فإنه يقال: كتب القلم، وقطعت السكين. والنحويون يعبرون عن هذه الباء بالاستعانة. وآثرت على ذلك التعبير بالسببية، من أجل الأفعال المنسوبة إلى الله، تعالى. فإن استعمال السببية فيها يجوز، واستعمال الاستعانة لا يجوز.
الرابع: التعليل: قال ابن مالك: هي التي تصلح غالباً في موضعها اللام. كقوله تعالى " إنكم ظلمتم أنفسكم، باتخاذكم العجل " ، " فبظلم، من الذين هادوا، حرمنا " ، " فكلا أخذنا بذنبه " . واحتزر بقوله غالباً من قول العرب: غضبت لفلان، إذا غضبت من أجله وهو حي. وغضبت به، إذا غضبت من أجله وهو ميت.
ولم يذكر الأكثرون باء التعليل، استغناء بباء السببية، لأن التعليل والسبب عندهم واحد. ولذلك مثلوا باء السببية بهذه المثل التي مثل بها ابن مالك للتعليل.
الخامس: المصاحبة: ولها علامتان: إحداهما أن يحسن في موضعها مع. والأخرى أن يغني عنها وعن مصحوبها الحال، كقوله تعالى " قد جاءكم الرسول بالحق " أي: مع الحق، أو محقاً. و " يا نوح اهبط بسلام " أي: مع سلام، أو مسلماً عليك. ولصلاحية وقوع الحال موقعها، سماها كثير من النحويين باء الحال.
السادس: الظرفية: وعلامتها أن يحسن في موضعها في. نحو " ولقد نصركم الله ببدر " ، " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين، وبالليل " . وهي كثيرة في الكلام.
السابع: البدل: وعلامتها أن يحسن في موضعها بدل. كقول الحماسي:
فليت لي، بهم قوماً، إذا ركبوا ... شنوا الإغارة، فرساناً، وركبانإ
وفي الحديث ما يسرني بها حمر النعم أي: بدلها.
الثامن: المقابلة: قال ابن مالك: هي الباء الداخلة على الأثمان والأعواض. نحو: اشتريت الفرس بألف، وكافأت الإحسان بضعف. وقد تسمى باء العوض.
ولم يذكر أكثرهم هذين المعنيين، أعني: البدل والمقابلة. وقال بعض النحويين: زاد بعض المتأخرين في معاني الباء أنها تجيء للبدل والعوض، نحو: هذا بذاك، أي: هذا بدل من ذلك وعوض منه. قال: والصحيح أن معناها السبب؛ ألا ترى أن التقدير: هذا مستحق بذاك، أي بسببه.
التاسع: المجاوزة: وعبر بعضهم عن هذا بموافقة عن. وذلك كثير بعد السؤال. نحو " فاسأل به خبيراً " ، و " سأل سائل بعذاب واقع " . وقال علقمة:
فإن تسألوني، بالنساء، فإنني ... خبير، بأدواء النساء، طبيب
وقليل بعد غيره، نحو " ويوم تشقق السماء بالغمام " أي: وعن أيمانهم. كذا قال الأخفش. قلت: أما كونها بمعنى عن بعد السؤال فهو منقول عن الكوفيين، وتأوله الشلوبين على أن الباء في ذلك سببية، أي: فاسأل بسببه. وقال بعضهم: هو من باب التضمين، أي: فاعتن به، أو فاهتم به.
العاشر: الاستعلاء: وعبر بعضهم عنه بموافقة على. وذكروا لذلك أمثلة منها قوله تعالى " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار " أي: على قنطار، كما قال " هل آمنكم عليه " . ومنها " وإذا مروا بهم " أي: عليهم، كما قال " وإنكم لتمرون عليهم " . ومنه قول الشاعر:
أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد هان من بالت، عليه، الثعالب
الحادي عشر: التبعيض: وعبر بعضهم عن هذا بموافقة من، يعني التبعيضية، وفي هذا المعنى خلاف، وممن ذكره الأصمعي، والفارسي في التذكرة. ونقل عن الكوفيين، وقال به القتبي وابن مالك. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى " يشرب بها عباد الله " أي: منها. وقول الشاعر:
شربن بماء البحر، ثم ترفعت ... متى لجج، خضر، لهن نئيج
وبقول الآخر:
فلثمت فاها، آخذاً بقرونها ... شرب النزيف، ببرد ماء الحشرج
وجعل قوم من ذلك الباء في قوله تعالى " وامسحوا برؤوسكم. وجعلها قوم زائدة. وجعلها قوم للإلصاق على الأصل. وقال بعضهم: إنها باء الاستعانة، فإن مسح يتعدى إلى مفعول بنفسه، وهو المزال عنه، وإلى آخر بحرف الجر، وهو المزيل. فيكون تقدير الآية: فامسحوا أيديكم برؤوسكم.

ولم ترد باء التبعيض عند مثبتيها إلا مع الفعل المتعدي. وقد أنكر قوم، منهم ابن جني، ورود باء التبعيض، وتأولوا ما استدل به مثبتو ذلك، على التضمين. قال ابن مالك: والأجود تضمين شربن معنى: روين. وجعل الزمخشري الباء في الآية كالباء في: شربت الماء بالعسل. والمعنى: يشرب بها عباد الله الخمر.
واعترض بعضهم كلام ابن جني، وقال: شهادة على النفي، وهي غير مقبولة. وأجيب بأن الشهادة على النفي ثلاثة أقسام: معلومة نحو: إن العرب لم تنصب الفاعل. وظنية عن استقراء صحيح نحو: ليس في كلام العرب اسم متمكن، آخره واو لازمة، قبلها ضمة. وشائعة غير منحصرة نحو: لم يطلق زيد امرأته، من غير دليل، فهذا هو المردود. وكلام ابن جني من الثاني، لأنه شديد الاطلاع على لسان العرب.
الثاني عشر: القسم: نحو: بالله لأفعلن. وهي أصل حروف القسم، ولذلك فضلت سائر حروفه بثلاثة أمور، أحدها أنها لا يجب حذف الفعل معها، بل يجوز إظهاره. نحو: أقسم بالله. والثاني أنها تدخل على المضمر. نحو: بك لأفعلن. والثالث أنها تستعمل في الطلب وغيره، بخلاف سائر حروفه. فإن الفعل معها لا يظهر، ولا تجر المضمر، ولا تستعمل في الطلب. وزاد بعضهم رابعاً، وهو أن الباء تكون جارة في القسم وغيره، بخلاف واو القسم وتائه، فإنهما لا تجران إلا في القسم. قلت: ويشاركها في هذا بعض حروف القسم كاللام.
الثالث عشر: أن تكون بمعنى إلى نحو قوله تعالى " وقد أحسن بي " أي: إلي. وأول على تضمين أحسن معنى: لطف.
تنبيه رد كثير، من المحققين، سائر معاني الباء إلى معنى الإلصاق، كما ذكر سيبوبه. وجعلوه معنى لا يفارقها، وقد ينجر معه معان أخر. واستبعد بعضهم ذلك، وقال: الصحيح التنويع. وما تقدم من نيابة الباء عن غيرها من حروف الجر هو جار على مذهب الكوفيين، ومن وافقهم، في أن حروف الجر قد ينوب بعضها عن بعض. ومذهب البصريين إبقاء الحرف على موضوعه الأول، إما بتأويل يقبله اللفظ، أو تضمين الفعل معنى فعل آخر، يتعدى بذلك الحرف. وما لا يمكن فيه ذلك فهو من وضع أحد الحرفين موضع الآخر على سبيل الشذوذ.
وذكر صاحب رصف المباني في معاني الباء ثلاثة معان، لا تحقيق في ذكرها. وهي: السؤال نحو " سأل سائل بعذاب واقع " . والتعجب نحو: أحسن بزيد. قال: ولا يصح أن تكون هذه الباء زائدة، لئلا يفسد معناها، ويخرج الكلام عن التعجب. والتشبيه نحو: لقيت به الأسد، وواجهت به الهلال.
قلت: أما الباء التي بعد السؤال فهي بمعنى عن عند قوم، وللسببية عند آخرين، كما تقدم. والسؤال مستفاد من الفعل، لا منها.
وأما باء التعجب ففيها مذهبان: أشهرهما أنها زائدة، وهذا مذهب أكثر النحويين. ثم اختلف هؤلاء، فذهب سيبويه، وجمهور البصريين، إلى أنها زائدة مع الفاعل، مثلها في " كفى بالله شهيداً " . وذهب الفراء والزجاج، ومن قال بقولهما، إلى أنها زائدة مع المفعول، وجعلوا فاعل أحسن ضمير المخاطب. وكذلك قال ابن كيسان، لكنه جعل الفاعل ضمير الحسن، كأنه قال: أحسن يا حسن بزيد، أي: دم به. والمذهب الثاني أنها للتعدية، وليست بزائدة، والهمزة في أحسن للصيرورة، وهو أمر للسبب، أو للشخص، على ما تقدم من القولين. وأجاز الزمخشري في مفصله أن تكون للتعدية. وليس هذا موضع بسط الكلام على هذه المسألة. وقد بسطته في غيره.
وأما الباء في: لقيت به الأسد، وواجهت به الهلال، فهي عند التحقيق باء السببية، والمعنى: لقيت بسبب لقيه الأسد، وواجهت بسبب مواجهته الهلال. وهي كالباء في قولهم: لئن سألت فلاناً لتسألن به البحر. وهذا من باب التجريج. وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر، مثله فيها، مبالغة في كمالها فيه. وهو من أبواب علم البديع.
وأما الباء الزائدة فتكون في ستة مواضع: الأول: الفاعل. وزيادتها معه ثلاثة أضرب: لازمة، وجائزة في الاختيار، وواردة في الاضطرار.
فاللازمة في فاعل أفعل في التعجب، على مذهب سيبويه وجمهور البصريين. وهي لازمة أيضاً على مذهب من جعلها زائدة مع المفعول. ولا يجوز حذفها على المذهبين إلا مع أن وأن، كقول الشاعر:
وقال نبي المسلمين: تقدموا ... وأحبب إلينا أن نكون المقدما

وفي كلام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه أعزز علي، أبا اليقظان، أن أراك صريعاً مجدلاً، خلافاً لصاحب النهاية في قوله: إن حذف الباء من: أن، وأن، في التعجب لا يجوز. قال ابن مالك: ولو اضطر شاعر إلى حذف الباء المصاحبة غير أن لزمه أن يرفع، وعلى قول الفراء يلزمه النصب.
والجائزة في الاختيار في فاعل كفى بمعنى: حسب. نحو " كفى بالله شهيداً " ، قال أبو جعفر بن الزبير: فإن كان بمعنى وقى لم تزد في فاعله، نحو " وكفى الله المؤمنين القتال " . وأجاز ابن السراج في " كفى بالله " وجهاً آخر، وهو أن يكون فاعله ضمير المصدر المفهوم من كفى أي: كفى هو، أي: الأكتفاء. ورد بأن الباء على هذا ليس لها في اللفظ ما تتعلق به إلا الضمير، والمصدر لا يعمل مضمراً. قلت: وقد ذهب بعضهم إلى جوار إعماله مضمراً، وهو مذهب الكوفيين. وأجاز ابن جني والرماني أن يعمل في المجرور. وحكي عن الفارسي.
والواردة في الاضطرار في أبيات محفوظة، منها قول الشاعر:
ألم يأتيك، والأنباء تنمي، ... بما لاقت لبون، بني زياد
وقول الآخر:
ألا، هل أتاها، والحوادث جمة، ... بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا
وقول الآخر:
مهما لي: الليلة، مهما ليه ... أودى بنعلي، وسرباليه
وفي بعض هذه الأبيات احتمال.
الثاني: المفعول، وزيادتها معه غير مقيسة، مع كثرتها. نحو: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ، " وهزي إليك بجذع النخلة " ، و " فليمدد بسبب " ، " ومن يرد فيه بإلحاد " . قال ابن مالك: وكثرت زيادتها في مفعول عرف وشبهه، وقلت زيادتها في مفعول ذي مفعولين، كقول حسان:
تبلت فؤادك، في المنام، خريدة ... تسقي الضجيع، ببارد، بسام
ومن شواهد زيادتها مع المفعول قول الشاعر:
نحن، بني ضبة، أصحاب الفلج ... نضرب بالسيف، ونرجو بالفرج
أي: نرجو الفرج. وأبيات أخر، لا فائدة في التطويل بإنشادها، لشهرتها في كتب النحو. وفي بعضها احتمال.
والمختار أن ما أمكن تخريجه، على غير الزيادة، لا يحكم عليه بالزيادة، وتخريج كثير من هذه الشواهد ممكن، على التضمين، أو حذف المفعول. وقد خرج عليهما قوله تعالى " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " فقيل: لا تلقوا مضمن معنى: لا تفضوا. وقيل: حذف المفعول والباء للسببية، أي: لا تلقوا أنفسكم بسبب أيديكم، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك. قاله المبرد.
واختلف في زيادتها في مفعول كفى في قوله:
فكفى بنا، فضلاً على من غيرنا ... حب النبي، محمد، إيانا
فقيل: هي في البيت زائدة مع المفعول. ورده ابن أبي العافية، وقال: هي داخلة على فاعل كفى، وحب النبي بدل اشتمال من الضمير على الموضع. وعلى هذا حمل بعضهم قول أبي الطيب:
كفى بجسمي، نحولاً، أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
الثالث: المبتدأ، نحو بحسبك زيد. بهذا مثل الزمخشري وغيره. ومثله ابن مالك بقوله: بحسبك حديث. وقال في بحسبك زيد: الأجود أن يكون زيد مبتدأ، وبحسبك خبر مقدم. فإن حسباً من الأسماء التي لا تعرفها الإضافة. قال ابن يعيش: ولا نعلم مبتدأ دخل عليه حرف الجر في الإيجاب غير هذا الحرف. قلت: جعل بعض المتأخرين الباء في قولهم: كيف بك، وكيف بنا، زائدة مع المبتدأ، والأصل: كيف أنت، وكيف نحن.
الرابع: الخبر. وزيادتها في الخبر ضربان: مقيسة، وغير مقيسة.
فالمقيسة في خبر ليس وما أختها نحو " أليس الله بكاف عبده " ، " وما ربك بظلام للعبيد " . وفي زيادتها بعد ما التميمية خلاف. منع الفارسي والزمخشري. والصحيح الجواز، لسماعه في أشعار بني تميم. وقد وردت زيادتها في خبر لا أخت ليس، كقول سواد بن قارب:
وكن لي شفيعاً، يوم لا ذو شفاعة ... بمغن فتيلاً، عن سواد بن قارب
وفي خبر فعل ناسخ منفي، كقول الشاعر:
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم، إذ أجشع القوم أعجل
وظاهر كلام بعضهم أن هذا يجوز القياس عليه.
وغير المقيسة في مواضع كثيرة. كزيادتها بعد هل في قوله: ألا، هل أخو عيش، لذيذ، بدائم وندرت زيادتها في الخبر الموجب، كقول الشاعر:
فلا تطمع، أبيت اللعن، فيها ... ومنعكها بشيء يستطاع

وفيه احتمال. وقال الأخفش: إن الباء زائدة في قوله تعالى " جزاء سيئة بمثلها " . والأولى أن يكون الجار والمجرور خبراً، والباء متعلقة بالاستقرار.
الخامس: النفس والعين في باب التوكيد. يقال: جاء زيد بنفسه، وبعينه. والأصل: جاء زيد نفسه وعينه.
السادس: الحال المنفية، لأنها شبيهة بالخبر. ذكر هذا ابن مالك، واستدل بقول الشاعر:
فما رجعت، بخائبة، ركاب ... حكيم بن المسيب منتهاها
وقول الآخر:
كائن دعيت إلى بأساء، داهمة ... فما انبعثت بمزؤود، ولا وكل
واعترض بأنه لا حجة في البيتين، لجواز كون الباء فيهما باء الحال، والمعنى: فما رجعت خائبة، وفما انبعثت بشخص مزؤود. يعني بذلك نفسه، ويكون من باب التجريد.
فهذا تمام الكلام على باء الجر. وقد كنت نظمت معانيها في هذين البيتين:
بالباء ألصق، واستعن، أو عد، أو ... أقسم، وبعض، أو فزد، أو علل
وأتت بمعنى مع، وفي، وعلى، وعن ... وبها فعوض، إن تشا، أو أبدل

التاء
حرف يكون عاملاً، وغير عامل. وأقسامه ثلاثة: تاء القسم، وتاء التأنيث، وتاء الخطاب. وما سوى هذه الأقسام فليس من حروف المعاني، كتاء المضارعة.
فأما تاء القسم: فهي من حروف الجر، ولا تدخل إلا على اسم الله نحو " تالله تفتأ تذكر يوسف " . وحكى الأخفش دخولها على الرب؛ قالوا: ترب الكعبة. وخص بعضهم دخولها على الرب، بأن يضاف إلى الكعبة. وليس كذلك، لأنه قد جاء عنهم: تربي. وحكى بعضهم أنهم قالوا: الرحمن، وتحياتك. وذلك شاذ.
وهذه التاء فرع، أو القسم، لأن الواو تدخل على كل ظاهر، مقسم به. والواو فرع الباء، لأن الباء فضلت بأربعة أوجه، تقدم ذكرها. وقولهم: إن التاء بدل من الواو، والواو بدل من الباء، استضعفه بعضهم. قال: ولا يقوم دليل على صحته.
وأما تاء التأنيث: فهي حرف يلحق الفعل، دلالة على تأنيث فاعله، لزوماً في مواضع، وجوازاً في مواضع، على تفصيل مذكور في كتب النحو. ولا تلحق إلا الماضي، وتتصل به متصرفاً، وغير متصرف، ما لم يلزم تذكير فاعله، ك أفعل في التعجب، وخلا، وعدا، وحاشا في الاستثناء. وحكم هذه التاء السكون، ولذلك لما عرض تحريكها، في نحو: رمتا، لأجل الضمير، لم ترد الألف التي هي بدل اللام، إلا في لغة رديئة، يقول أهلها: رماتا.
قال بعض النحويين: وقد لحقت تاء التأنيث ثلاثة أحرف وهي: ربت، وثمت، ولات. قلت: ولها رابع، وهو لعلت.
وأما تاء التأنيث التي تلحق الاسم فلا تعد من حروف المعاني. ومذهب البصريين فيها أنها تاء في الأصل، والهاء في الوقف بدل التاء، ومذهب الكوفيين عكس ذلك.
وأما تاء الخطاب، فهي التاء اللاحقة للضمير المرفوع المنفصل، نحو: أنت وأنت. فالتاء في ذلك حرف خطاب وأن هو الضمير. هذا مذهب الجمهور. وعلى هذا لو سميت ب أنت حكيته، لأنه مركب من حرف واسم. وذهب الفراء إلى أن المجموع هو الضمير. وذهب ابن كيسان إلى أن التاء هي الاسم، وهي التي في فعلت، لكنها كثرت ب أن. والله أعلم.
السين
حرف مهمل. يكون للتنفيس، ويكون زائداً في الوقف، لبيان الحركة.
فأما سين التنفيس: فمختصة بالمضارع، وتخلصه للاستقبال. نحو " كلا سيعلمون " .
فإن قلت: فكيف دخلت على الفعل المقرون ب الآن، في قول الشاعر:
فإني لست خاذلكم، ولكن ... سأسعى، الآن، إذ بلغت أناها
قلت: لأنه أراد التقريب ولم يرد الآن الزمن الحاضر حقيقة.
والسين عند البصريين حرف مستقل. وذهب الكوفيون إلى أنها مقتطعة من سوف كما قالوا: سو، وسي، وسف. واختاره ابن مالك. قال: لأنه أبعد عن التكلف، ولأنهم أجمعوا على أن هذه الثلاثة فروغ سوف، فلتكن السين كذلك. واستدل بعضهم، على أصالة السين، بتفاوت مدة التسويف؛ فإن سوف أبلغ في ذلك. فلو كانت السين فرعها لتساوت مدة التسويف. قال ابن مالك: وهذه دعوى مردودة، لأن العرب عبرت عن المعنى الواحد الواقع في الوقت الواحد ب: سيفعل، وسوف يفعل. ومنه قول الشاعر:
وما حالة إلا سيصرف حالها ... إلى حالة، أخرى، وسوف تزول

وأما سين الوقف: فهي في لغة بكر، يزيدون سيناً بعد كاف المؤنثة، في الوقف، لبيان حركة الكاف. نحو: عليكس. فإذا وصلوا حذفوها. فهي، في ذلك، نظير هاء السكت. وهذه لغة قليلة، تسمى: كسكسة بكر. والله أعلم.

الشين
حرف مهمل، يزاد وقفاً بعد كاف المخاطبة، في لغة تميم، كزيادة السين في لغة بكر. فيقولون: أكرمتكش. وتسمى كشكشة تميم. والله أعلم.
الفاء
حرف مهمل، خلافاً لمن زعم أنها تجر إذا نابت عن رب، ولمن ذهب إلى أنها تنصب المضارع في الأجوبة. وسيأتي الكلام على ذلك. وأصول أقسام الفاء ثلاثة: عاطفة، وجوابية، وزائدة.
أما العاطفة فهي من الحروف التي تشرك في الإعراب والحكم، ومعناها التعقيب. فإذا قلت: قام زيد فعمرو، دلت على أن قيام عمرو بعد زيد، بلا مهلة. فتشارك ثم في إفادة الترتيب، وتفارقها في أنها الأتصال، وثم تفيد الانفصال. هذا مذهب البصريين، وما أوهم خلاف ذلك تأولوه.
وأورد السيرافي، على قولهم: إن الفاء للتعقيب، قولك: دخلت البصرة فالكوفة. لأن أحد الدخولين لم يل الآخر. وأجاب بأنه بعد دخوله البصرة لم يشتغل بشيء، غير أسباب دخول الكوفة.
وقال بعضهم: تعقيب كل شيء بحسبه، فإذا قلت: دخلت مصر فمكة، أفادت التعقيب على الوجه الذي يمكن.
وذهب قوم، منهم ابن مالك، إلى أن الفاء قد تكون للمهلة بمعنى ثم. وجعل من ذلك قوله تعالى " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء، فتصبح الأرض مخضرة " . وتؤولت هذه الآية على أن فتصبح معطوف على محذوف، تقديره: أنبتنا به، فطال النبت، فتصبح. وقيل: بل هي للتعقيب، وتعقيب كل شيء بحسبه.
وذهب الفراء إلى أن ما بعد الفاء قد يكون سابقاً، إذا كان في الكلام ما يدل على ذلك. كقوله تعالى " وكم، من قرية، أهلكناها فجاءها بأسنا " ، والبأس في الوجود واقع قبل الإهلاك. وأجيب بأن معنى الآية: وكم من قرية أردنا إهلاكها، كقوله إذا أكلت فسم الله. وقيل الفاء في الآية عاطفة للمفصل على المجمل، كقوله تعالى " إنا أنشأناهن إنشاء، فجعلناهن أبكاراً " . وهذا مما انفردت به الفاء.
وذهب بعضهم إلى أن الفاء قد تأتي، لمطلق الجمع، كالواو. وقال به الجرمي في الأماكن والمطر خاصة. كقولهم: عفا مكان كذا فمكان كذا، وإن كان عفاؤهما في وقت واحد. ونزل المطر بمكان كذا فمكان كذا، وإن كان نزوله في وقت واحد. قال امرؤ القيس: بسقط اللوى، بين الدخول فحومل وقال النابغة:
عفا ذو حسى، من فرتنى، فالفوارع ... فجنبا أريك، فالتلاع، الدوافع
وقد اتضح، بما ذكرته من هذه الأقوال، أن ما نقله بعضهم، من الإجماع، على أن الفاء للتعقيب، غير صحيح.
وقال بعضهم: الترتيب بالفاء على ضربين: ترتيب في المعنى، وترتيب في الذكر. والمراد بالترتيب في المعنى أن يكون المعطوف بها لاحقاً متصلاً، بلا مهلة. كقوله تعالى " الذي خلقك فسواك فعد لك " . وأما الترتيب في الذكر فنوعان: أحدهما عطف مفصل على مجمل، هو في المعنى، كقولك: توضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ورجليه. ومنه قوله تعالى " ونادى نوح ربه، فقال: رب " الآية. والثاني عطف، لمجرد المشاركة في الحكم، بحيث يحسن الواو. كقول امرئ القيس: بسقط اللوى، بين الدخول فحومل وسمى غيره هذا ترتيباً في اللفظ؛ قال: ومراد الشاعر وقوع الفعل بتلك المواضع، وترتيب اللفظ واحداً بعد آخر بالفاء ترتيباً لفظياً.
تنبيه لا يخلو المعطوف بالفاء من أن يكون مفرداً، أو جملة، والمفرد: صفة، وغير صفة. فالأقسام ثلاثة. فإن عطفت مفرداً غير صفة لم تدل على السببية. نحو: قام زيد فعمرو. وإن عطفت جملة، أو صفة، دلت على السببية غالباً. نحو " فوكزه موسى، فقضى عليه " . ونحو " لآكلون من شجر، من زقوم، فمالئون منها البطون، فشاربون عليه من الحميم " . قال الزمخشري، في الكشاف فإن قلت: ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلت: إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود. كقوله:
يا لهف زيابة، للحارث ال ... صابح، فالغانم، فالآيب
كأنه قال: الذي صبح، فغنم، فآب. وإما على ترتبها في التفاوت، من بعض الوجوه. كقولك: خذ الأكمل فالأفضل، واعمل الأحسن فالأجمل. وإما على ترتب موصوفاتها، في ذلك. كقولك: رحم الله المحلقين فالمقصرين.
فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات.

وللفاء العاطفة أحكام أخر، مذكورة في مواضعها، لا حاجة هنا إلى ذكرها.
وأما الفاء الجوابية: فمعناها الربط، وتلازمها السببية. قال بعضهم: والترتيب أيضاً، كما ذكر في العاطفة. ثم إن هذه الفاء تكون جواباً لأمرين: أحدهما الشرط ب إن وأخوتها. والثاني ما فيه معنى الشرط نحو أما.
فأما جواب الشرط ب إن وأخواتها فأصله أن يكون فعلاً صالحاً لجعله شرطاً. فإذا جاء على الأصل لم يحتج إلى فاء، وذلك إذا كان ماضياً متصرفاً عارياً من قد وغيرها، أو مضارعاً مجرداً، أو منفياً ب لا أو لم.
ومع كونه في ذلك غير محتاج إلى الفاء لا يمتنع اقترانه بها، على تفصيل أنا ذاكره: وهو أنه إن كان مضارعاً جاز اقترانه بها، ويجب رفعه حينئذ كقوله تعالى: " ومن عاد فينتقم الله منه " ، " ومن يؤمن بربه فلا يخاف " . والتحقيق أنه حينئذ خبر مبتدأ محذوف. فيكون الجواب جملة اسمية.
وإن كان ماضياً متصرفاً مجرداً، فهو على ثلاثة أضرب: ضرب لا يجوز اقترانه بالفاء، وهو ما كان مستقبلاً، ولم يقصد به وعد أو وعيد. نحو: إن قام زيد قام عمرو.
وضرب يجب اقترانه بالفاء، وهو ما كان ماضياً لفظاً ومعنى. نحو " إن كان قميصه قد من قبل فصدقت " ، وقد معه مقدرة.
وضرب يجوز اقترانه بالفاء ولا يجب، وهو ما كان مستقبلاً، وقصد به وعد أو وعيد. كقوله تعالى " فمن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار " .
وإذا كان الجواب لا يصلح لأن يجعل شرطاً وجب اقترانه بالفاء، ليعلم ارتباطه بأداة الشرط. وذلك إذا كان: جملة أسمية، نحو: من يفعل الخير فالله يجزيه.
أو فعلية طلبية، نحو " قل: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني " .
أو فعلاً غير متصرف، نحو " إن ترني أنا أقل منك مالاً، وولداً، فعسى ربي " .
أو مقروناً بحرف تنفيس، نحو " من يرتد، منكم، عن دينه فسوف " .
أو ب قد، نحو " قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ، له، من قبل " .
أو منفياً ب ما أو لن أو أن ، نحو: إن قام زيد فما يقوم عمرو، أو فلن يقوم، أو فإن يقوم.
أو قسماً، نحو: إن تكرمني فو الله لأكرمنك.
أو مقروناً ب رب، أو بنداء، كقول امرىء القيس:
فإن أمس مكروباً فيا رب قينة ... منعمة، أعملتها بكران
فهذه الأجوبة تلزمها الفاء، لأنها لا يصلح جعلها شرطاً.
وجاء حذف الفاء لضرورة الشعر كقوله: من يفعل الحسنات الله يشكرها أي: فالله يشكرها.
وقال بعضهم: لا يجوز حذفها إلا في ضرورة، أو ندور. ومثل الندور بما في صحيح البخاري، من قوله صلى الله عليه وسلم، لأبي بن كعب، رضي الله عنه فإن جاء صاحبها، وإلا استمتع بها.
وعن الأخفش إجازة حذف الفاء، في الاختيار. واختلف النقل عن المبرد، فنقل عنه كمذهب الأخفش، ونقل عنه منع حذفها مطلقاً. وزعم أن الرواية في البيت: من يفعل الخير فالرحمن يشكره واعلم أن إذا الفجائية قد تخلف الفاء في الجملة الاسمية، بشروط يأتي ذكرها عند ذكر إذا، إن شاء الله تعالى.
وأما الفاء الواقعة جواباً ل أما فالأليق تأخير ذكرها، لتذكر مع أما.
وأما الفاء الزائدة فهي ضربان: أحدهما الفاء الداخلة على خير المبتدأ، إذا تضمن معنى الشرط. نحو: الذي يأتي فله درهم. فهذه الفاء شبيهة بفاء جواب الشرط، لأنها دخلت لتفيد التنصيص على أن الخبر مستحق بالصلة المذكورة. ولو حذفت لاحتمل كون الخبر مستحقاً بغيرها.
فإن قلت: فكيف تجعلها زائدة، وهي تفيد هذا المعنى؟ قلت: إنما جعلتها زائدة، لأن الخبر مستغن عن رابط يربطه بالمبتدأ. ولكن المبتدأ لما شابه اسم الشرط دخلت الفاء في خبره، تشبيهاً له بالجواب. وإفادتها هذا المعنى لا تمنع تسميتها زائدة. وبالجملة فهذه الفاء شبيهة بفاء جواب الشرط.
ولتضمن المبتدأ معنى الشرط صور، مذكورة في موضعها.
والثاني التي دخولها في الكلام كخروجها. وهذا القسم لا يقول به سيبويه، وقال به الأخفش، وزعم أنهم يقولون: أخوك فوجد. واحتج بقول الشاعر:
وقائلة: خولان فانكح فتاتهم ... وأكرومة الحيين خلو: كما هيا
وبقول عدي بن زيد:
أرواح، مودع، أم بكور ... أنت فانظر: لأي ذاك تصير؟
ولا حجة فيهما، لاحتمال كون خولان خبر مبتدأ محذوف، أي: هؤلاء خولان. وكون أنت فاعل فعل مقدر، يفسره الظاهر، أي: فانظر أنت.

وقد أجاز الفراء وحماعة، منهم الأعلم، دخولها في خبر المبتدأ، إذا كان أمراً، أو نهياً.
وأجاز الزجاج في قوله تعالى " هذا فليذوقوه " أن يكون هذا مبتدأ، وفليذوقوه خبره.
وقال ابن برهان: واعلم أن الفاء تكون زائدة عند أصحابنا جميعاً. نحو قول الشاعر: وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي

مسألتان
الأولى: اختلف في الفاء الداخلة على إذا الفجائية، نحو: خرجت فإذا الأسد. فذهب المازني، ومن وافقه، إلى أنها زائدة لازمة. وإليه ذهب الفارسي. وذهب أبو بكر مبرمان إلى أنها فاء عاطفة، واختاره ابن جني. وذهب الزجاج إلى أنها فاء الجزاء، دخلت على حد دخولها في جواب الشرط.
الثانية: اختلف في الفاء الداخلة على الفعل المقدم معموله، في الأمر والنهي، نحو: زيداً فاضرب، وعمراً فلا تهن. فذهب قوم، منهم الفارسي، إلى أنها زائدة. وذهب قوم إلى أنها عاطفة، وقالوا: الأصل في نحو زيداً فاضرب: تنبه فاضرب زيداً. فالفاء عاطفة على تنبه، ثم حذف الفعل المعطوف عليه، فلزم تأخير الفاء، لئلا تقع صدراً. فلذلك قدم المعمول عليها.
وقد ذكر للفاء أقسام أخر، ترجع عند التحقيق إلى الأقسام الثلاثة المتقدمة.
أحدها الناصبة للفعل في جواب الأمر، والنهي، والدعاء، والاستفهام، والتحضيض، والعرض، والتمني، والنفي، والترجي. فهذه تسعة أجوبة.
وليس للترجي عند البصريين جواب منصوب، وتأولوا قراءة حفص " لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السماوات فأطلع " على أن لهل أشربت معنى ليت.
ومذهب بعض الكوفيين أن الفاء، في هذه الأجوبة، هي الناصبة للفعل بنفسها. وذهب بعضهم إلى أن انتصابه بالمخالفة، لأنه لما لم يصح عطفه على الأول، لمخالفته له في المعنى، نصب.
ومذهب البصريين أن هذه الفاء فاء عاطفة، والفعل منصوب ب أن مضمرة بعد الفاء. والفاء في ذلك عاطفة مصدراً مقدراً على مصدر متوهم. فإذا قلت: أكرمني فأحسن إليك، فالتقدير: ليكن منك إكرام فإحسان مني.
وثانيها الجازة، وهي فاء رب، كقول امرىء القيس:
فمثلك، حبلى، قد طرقت، ومرضع ... فألهيتها، عن ذي تمائم، مغيل
وقول الهذلي:
فحور قد لهيت بهن، عين ... نواعم، في المروط، وفي الرياط
وليست هذه الفاء جارة، كما زعم هذا القائل. وإنما الجر ب رب المقدرة بعدها، والفاء في ذلك إما عاطفة، كالبيت الأول، وإما جواب شرط كالبيت الثاني، لأن قبله:
فإما تعرضن، أميم، عني ... وينزغك الوشاة، أولو النباط
وقد حكى ابن عصفور، وابن مالك، إجماع النحويين على أن الجر في ذلك ب رب المحذوفة، لا بالفاء.
وثالثها أن تكون للاستئناف. كقوله تعالى " أنما إلهكم إله واحد. فهل أنتم مسلمون " . قال بعضهم: وإذا أردت الاستئناف بعدها، من غير تشريك للجملتين، كانت حرف ابتداء. نحو: قام زيد، فهل قمت. وقام زيد، فعمر قائم. وعليه قوله: ألم تسأل الربع القواء، فينطق أي: فهو ينطق. وجعل من ذلك قوله تعالى " فأنتم فيه سواء " وهذه الفاء ترجع، عند التحقيق، للفاء العاطفة للجمل، لقصد الربط بينها.
ورابعها أن تكون بمعنى حتى ذكره بعضهم، قال: كقوله تعالى " فهم فيه شركاء " .
وليس كما ذكر. بل هذه الفاء فاء العطف.
وخامسها أن تكون بمعنى إلى. ذكره بعض الكوفيين، ومثله بقوله: هو أحسن الناس ما بين قرن فقدم. أي: إلى قدم. وأجاز بعضهم في قولهم بين الدخول فحومل أن تكون الفاء بمعنى إلى.
وهذا ضعيف، والفاء في ذلك عاطفة.
وقد نظمت أقسام الفاء في هذه الأبيات:
معاني الفاء لا تعدو ثلاثاً ... فعاطفة، ترتب باتصال
وبعض قال: قد تأتي، كواو ... وبعض قال: تأتي، لا نفصال
وفي جمل، وأوصاف، كثيراً ... جلت سببية، ضمن المقال
ورابطة الجواب، تدل فيه ... على سببية، في كل حال
وزائدة، كما قد قال قوم ... ويظهر ذاك، في صور المثال
الكاف
حرف، يكون عاملاً، وغير عامل. فالعامل: كاف الجر. وغير العامل: كاف الخطاب.

أما كاف الجر: فحرف ملازم لعمل الجر. والدليل على حرفيته أنه على حرف واحد، صدراً، والاسم لا يكون كذلك. وأنه يكون زائداً، والأسماء لا تزاد. وأنه يقع مع مجروره صلة، من غير قبح، نحو: جاء الذي كزيد. ولو كان اسماً لقبح ذلك، لاستلزامه حذف صدر الصلة من غير طول. ومذهب سيبويه أن كاف التشبيه لا تكون اسماً، إلا في ضرورة الشعر. كقوله: يضحكن، عن كالبرد، المنهم أي: عن مثل البرد. فالكاف هنا اسم، بمعنى: مثل، لدخول حرف الجر عليه.
ومذهب الأخفش والفارسي، وكثير من النحويين، أنه يجوز أن تكون حرفاً واسماً، في الاختيار. فإذا قلت: زيد كالأسد، احتمل الآمرين. وشذ أبو جعفر بن مضاء، فقال: إن الكاف اسم أبداً، لأنها بمعنى مثل.
وذكر بعض النحويين أن لكاف التشبيه ثلاثة أحوال: فالاول: تتعين فيه الحرفية، وذلك إذا وقع زائداً، نحو قوله تعالى " ليس كمثله شيء " . قيل: وكذلك إذا وقعت أول كافين، كقول خطام المجاشعي: وصاليات، ككما يؤثفين قلت: وفي هذا نظر، من وجهين: أحدهما أن الكاف الأولى في ذلك زائدة، كالكاف في " ليس كمثله شيء " ، فلا حاجة لإفراده بالذكر. والآخر أن الكافين في البيت يحتملان ثلاثة أوجه: أولها أن تكون الأولى حرفاً والثانية اسماً، كما ذكر. وثانيها أن يكونا حرفين أكد أحدهما بالآخر، كقول الشاعر: ولا للمابهم، أبداً دواء وثالثها أن يكونا اسمين، أكد أحدهما بالآخر. وقد أشار الزمخشري إلى ذلك، قال: ولك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت، للتأكيد، يعني: في قوله تعالى " ليس كمثله شيء " ، كما كررها من قال: وصاليات، ككما يؤثفين وزاد بعضهم، فيما تتعين فيه الحرفية، أن تقع مع مجرورها صلة، كقول الشاعر:
ما يرتجى، وما يخاف، جمعا ... فهو الذي كالغيث، والليث، معا
قال: تتعين الحرفية في ذلك، لإجماعهم على استحسانه. ولو كانت الكاف في ذلك اسماً لزم أن يكون المبتدأ محذوفاً من الصلة، أي: فهو الذي هو كالغيث. وحذف المبتدأ من صلة الذي في مثل ذلك قبيح.
قلت: وفي كلام الجزولي، وابن مالك، وغيرهما، ما يدل على جواز الأمرين في ذلك، مع ترجيح الحرفية. قال الجزولي: والأحسن الأجود ألا تكون كاف التشبيه في صلة الموصول إلا حرفاً. وقال ابن مالك: وإن وقعت صلة فالحرفية راجحة.
والثاني: تتعين فيه الاسمية، وذلك في خمسة مواضع: أحدهما أن يقع مجروراً بحرف جر. كقول الشاعر:
بكا للقوة، الشغواء، جلت، فلم أكن ... لأولع، إلا بالكمي، المقنع
وثانيها أن يضاف إليه. كقول الشاعر:
تيم القلب حب كالبدر، لابل ... فاق حسناً من تيم القلب حباً
وثالثها أن يقع فاعلاً. كقول الأعشى:
أتنتهون، ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن، يذهب فيه الزيت، والفتل
ورابعها أن تقع مبتدأ. كقوله:
أبداً، كالفراء فوق ذراها ... حين يطوي، المسامع، الصرار
وخامسها أن تقع اسم كان كقوله:
لو كان في قلبي كقدر قلامة ... حباً، لغيرك، ما أتتك رسائلي
وزاد بعضهم سادساً، وهو أنت تقع مفعولاً. كقول النابغة:
لا يبرمون، إذا ما الأفق جلله ... برد الشتاء، من الإمحال، كالأدم
واعلم أن منهم من تأول هذا كله، على حذف الموصوف، وإقامة الصفة التي هي الجار والمجرور مقامه.
والثالث: تجوز فيه الحرفية والاسمية. وهو ما عدا ما ذكر.
واعلم أن الكاف، التي هي حرف جر، قسمان: زائدة، وغير زائدة. فغير الزائدة لها معنيان: الأول: التشبيه: نحو زيد كالأسد. ولم يثبت أكثرهم لها غير هذا المعنى.
الثاني: التعليل: ذكره الأخفش وغيره، وجعلوا منه قوله تعالى " كم أرسلنا فيكم رسولاً " . قال الأخفش: أي: لما فعلت هذا فاذكروني. قال ابن مالك: وورودها للتعليل كثير. كقوله تعالى " واذكروه كما هداكم " ، وقوله تعالى " و كأنه لا يفلح الكافرون " ، أي: أعجب لأنه لا يفلح الكافرون. وكذا قدره ابن برهان. وحكى سيبويه: كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه. والتقدير: لأنه لا يعلم فتجاوز الله عنه.

وزاد ابن مالك معنى ثالثاً، وهو أن تكون بمعنى على. قال: كقول بعض العرب كخير، في جواب: كيف أصبحت؟ حكاه الفراء. قلت: ذكر بعض النحويين أن هذا مذهب الكوفيين والأخفش. قال: وحكى الأخفش عن بعض العرب أنه قيل له: كيف أنت؟ فقال: كخير. يريد: على خير. وعلى هذا خرج الأخفش قولهم: كن كما أنت.
وأقول تأويل ذلك ورده إلى معنى التشبيه أولى من ادعاء معنى، لم يثبت. وقد أول قوله كخير على حذف مضاف، أي: كصاحب خير. وأما قولهم: كن كما أنت، ففيه أربعة أوجه: الأول: أن الكاف للتشبيه وما زائدة، والأصل: كن كأنت، أي: كن مماثلاً الآن لنفسك قبل. ولا ينكر تشبيه الشيء بنفسه، في حالين مختلفين. وعلى هذا ف أنت في موضع جر بالكاف. وقد ورد دخول كاف التشبيه على أنت وأخواته.
الثاني: أن تكون ما كافة للكاف عن العمل، وأنت مبتدأ، وخبره محذوف. أي: كما أنت عليه، أو كائن.
الثالث: أن تكون ما كافة أيضاً، ومهيئة لدخول الكاف على الجملة الفعلية، وأنت مرفوع بفعل مقدر، أي: كما كنت. فلما حذف الفعل انفصل الضمير.
الرابع: أن تكون ما موصولة، وأنت خبر مبتدأ محذوف، أي: كالذي هو أنت.
وذكر بعضهم للكاف معنى آخر، وهو أن تكون بمعنى الباء. قال: كقول العجاج، وقد قيل له: كيف أصبحت؟ فقال كخير. قال: يجوز في هذا المثال أن تكون الكاف بمعنى الباء، وأن تكون بمعنى على.
قلت: وليست الكاف بمعنى الباء، ولا بمعنى على، إذ لا دليل على ذلك. وقد تقدم تأويل هذا المثال.
؟مسألة كاف الجر غير الزائدة كسائر حروف الجر، في تعلقها بالفعل أو ما في معناه، لأن جميع حروف الجر لا بد لها من شيء تتعلق به، إلا الزوائد ولولا، ولعل في لغة من جربها، على خلاف في بعض ذلك. وذهب الفارسي إلى أن الكاف لا تتعلق بشيء، وتبعه ابن عصفور في بعض تصانيفه، ونقل عن الأخفش، وهو ضعيف.
وأما الكاف الزائدة فقد وردت في النثر والنظم.
فمن النثر قوله تعالى " ليس كمثله شيء " فالكاف هنا زائدة، عند أكثر العلماء، والمعنى: ليس مثله شيء. قالوا: لأن جعلها غير زائدة يفضي إلى المحال، إذ يصير معنى الكلام: ليس مثل مثله شيء. وذلك يستلزم إثبات المثل، تعالى الله عن ذلك. وزيادتها في كلام العرب غير قليلة؛ حكى الفراء أنه قيل لبعضهم: كيف تصنعون الأقط؟ فقال: كهين. يريد: هيناً. فزاد الكاف، وفي الحديث يكفي كالوجه والكفين أي: يكفي الوجه والكفان. قيل: ومن زيادتها قوله تعالى " وحور عين، كأمثال اللؤلؤ المكنون " .
فإن قلت: ما فائدة زيادتها في الآية؟ قلت: فائدتها توكيد نفي المثل، من وجهين: أحدهما لفظي، والآخر معنوي.
أما اللفظي فهو أن زيادة الحرف في الكلام تفيد ما يفيده التوكيد اللفظي، من الاعتناء به. قال ابن جني: كل حرف زيد في كلام العرب فهو قائم مقام إعادة الجملة مرة أخرى. فعلى هذا يكون المعنى: ليس مثله شيء، ليس مثله شيء.
وأما المعنوي فإنه من باب قول العرب: مثلك لا يفعل كذا. فنفوا الفعل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، لأنهم قصدوا المبالغة في ذلك. فسلكوا به طريق الكناية، لأنهم إذا نفوه عمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه. ذكر ذلك الزمخشري؛ قال: فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله: ليبس كالله شيء، و " ليس كمثله شيء " إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها. وقال ابن عطية: الكاف مؤكدة للتشبيه. فنفي التشبيه أوكد ما يكون. وذلك أنك تقول: زيد كعمرو، وزيد مثل عمرو. فإذا أردت المبالغة التامة قلت: زيد كمثل عمرو. ومثل هذا قول أوس بن حجر:
وقتلى، كمثل جذوع النخيل ... تغشاهم مسبل، منهمر
وقول الآخر:
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهمما إن كمثلهم، في الناس، من أحد فجرت الآية على عرف كلام العرب. وأنشد غيره:
ليس كمثل الفتى، زهير ... خلق، يوازيه في الفضائل
قلت: وذهب قوم إلى أن الكاف في الآية ليست بزائدة. ولهم في ذلك أقوال: الأول: أن مثلاً هي الزائدة، لتفصل بين الكاف والضمير. فإن إدخال الكاف على الضمير غير جائز، إلا في الشعر. وهذا القول فاسد، لأن الأسماء لا تزاد.
الثاني: أن مثلاً بمعنى الذات، أي: ليس كذاته شيء.
الثالث: أن مثلاً بمعنى الصفة، أي ليس كصفته شيء.

الرابع: أن تكون الكاف اسماً بمعنى مثل، وهو من التوكيد اللفظي. وقد أشار إليه الزمخشري؛ قال: ولك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت للتأكيد، كما كررها من قال: وصاليات، ككما يؤثفين ومن قال: فأصبحت مثل كعصف، مأكول الخامس: قال بعض أهل المعقول: الحق أن قوله تعالى " ليس كمثله شيء " محمول على المعنى الحقيقي. ويلزم منه نفي المثل مطلقاً، بطريق برهاني، وهو الاستدلال بنفي اللازم، على نفي الملزوم. فإن مثل المثل لازم للمثل، لأنه إذا كان للشيء مثل يكون ذلك الشيء مثل مثله. وأورد عليه أنه لو كان المراد نفي مثل المثل لزم المحال، لأنه يلزم نفيه - تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً - لأنه مثل لمثله. وأجيب بأنه إنما يلزم من ذلك نفي هذا الوصف، أعني وصف مثل المثل، عن الله تعالى، لا نفيه تعالى، ولا محذور في نفي هذا الوصف عنه، فإن نفي هذا الوصف إما أن ينفي الموصوف، أو ينفي المثل. ونفي الموصوف ممتنع لذاته، فيكون بنفي المثل.
قلت: وقد رد هذا القرافي في شرح المحصول بأن قال: القاعدة في القضايا التصديقية أن الحكم فيها إنما يكون على ما صدق عليه العنوان، ونعني بالعنوان: ما عبر عن المحكوم عليه به. فإذا حكمنا بالنفي، على جميع أمثال المثل، فقد حكمنا بالنفي على ما صدق عليه أنه مثل المثل، لا على المماثلة، فيلزم القضاء بالنفي على ذات واجب الوجود، وذلك محال، فما أفضى إليه يكون باطلاً. وذلك إنما نشأ عن كون الكاف ليست بزائدة، فتعين ما قاله العلماء، أنها زائدة، قلت: وفي هذا بحث لا يليق بهذا الموضع.
وأما كاف الخطاب: فحرف يدل على أحوال المخاطب. ويتصل بستة أشياء: الأول: اسم الإشارة، نحو: ذاك، وذلك. واتصاله به دليل على بعد المشار إليه. وقيل: ذاك للتوسط،، وذلك للبعد. ولا خلاف في حرفية كاف الخطاب المتصلة باسم الإشارة. وفيها ثلاث لغات: الأولى أن تختلف لاختلاف أحوال المخاطب، في التذكير، والتأنيث، والإفراد، والتثنية، والجمع، كالكاف التي هي ضمير المخاطب. وهذه اللغة الفصيحة. والثانية أن تفرد مفتوحة، في الأحوال كلها. فلم يقصد بها، على هذه اللغة، إلا التنبيه على مطلق الخطاب، لا على أحوال المخاطب. والثالثة أن تنفرد، مفتوحة في التذكير، ومكسورة في التأنيث. فلها على هذه اللغة حالان فقط.
الثاني: ضمير النصب المنفصل، وهو إياك وأخواته. ف إيا في ذلك هو الضمير، والكاف حرف خطاب. هذا مذهب سيبويه، واختاره ابن جني. وفيه مذاهب تأتي في باب الرباعي، إن شاء الله تعالى.
الثالث: أرأيت التي بمعنى: أخبرني. كقوله تعالى " أرأيتك هذا الذي كرمت علي " فالكاف في ذلك حرف خطاب، لا موضع له من الإعراب. هذا مذهب سيبويه، وهو الصحيح.
وذهب الفراء إلى أن الكاف في ذلك اسم في موضع رفع بالفاعلية، والتاء حرف خطاب. وهو ضعيف، لوجهين: أحدهما: أن التاء محكوم بفاعليتها، مع غير هذا الفعل بإجماع، والكاف بخلاف ذلك. والثاني: أن التاء لا يستغنى عنها، بخلاف الكاف، فإنه يجوز ألا تذكر. وما لا يستغنى عنه أولى بالفاعلية.
وحكي عن الكسائي أن الكاف في أرأيتك في موضع نصب. وهو بعيد.
الرابع: بعض أسماء الأفعال: نحو: حيهلك، والنجاءك، ورويدك.
الخامس: بعض الأفعال، وهي: أبصر، وليس، ونعم، وبئس. فتقول: أبصرك زيداً، وليسك زيد قائماً، ونعمك الرجل زيد، وبئسك الرجل عمرو. فالكاف، في هذا كله، حرف خطاب، لا موضع لها من الاعراب. ولكن اتصالها بهذه الألفاظ قليل جداً.
وأجاز الفارسي أن تكون الكاف حرف خطاب، في قول الشاعر: وحنت، وما حسبتك أن تحينا وحمله على ذلك وجود أن بعدها. فإنه إن لم يكن الأمر كما قال لزم الإخبار ب أن والفعل عن اسم عين.
وخرجه بعضهم على أن الكاف مفعول أول، وأن تحين بدل منه، سد مسد المفعول الثاني، لأن التعويل على البدل. وعلى ذلك خرج الزمخشري، وغيره، قراءة حمزة " ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم " .
السادس: بعض الحروف. وذلك بلى وكلا. يقال: بلاك، وكلاك. وهو قليل.
وقد نظمت معاني الكاف، في هذه الأبيات:
الكاف قسمان، وهو حرف ... كاف خطاب، وكاف جر
وذا فشبه به، وعلل ... وزده، إن شئت، دون حجر
ومن يقل: جاءنا كباء ... أو ك على، جاءنا بنكر

اللام

حرف كثير المعاني والأقسام. وقد أفرد لها بعضهم تصنيفاً، وذكر لها نحواً من أربعين معنى. وأقول: إن جميع أقسام اللام، التي هي حرف من حروف المعاني، ترجع عند التحقيق إلى قسمين: عاملة، وغير عاملة. فالعاملة قسمان: جارة وجازمة. وزاد الكوفيون ثالثاً، وهي الناصبة للفعل. وغير العاملة خمسة أقسام: لام ابتداء، ولام فارقة، ولام الجواب، ولام موطئة، ولام التعريف، عند من جعل حرف التعريف أحادياً. فهذه ثمانية أقسام.
القسم الأول: اللام الجارة، ولها معان كثيرة. وقد جمعت لها، من كلام النحويين، ثلاثين قسماً. فأذكرها كما ذكروها، وأشير إلى التحقيق في ذلك.
الأول: الاختصاص: نحو: الجنة للمؤمنين. ولم يذكر الزمخشري في مفصله غيره. قيل: وهو أصل معانيها.
الثاني: الاستحقاق. نحو: النار للكافرين. قال بعضهم: وهو معناها العام، لأنه لا يفارقها.
الثالث: الملك. نحو: المال لزيد. وقد جعله بعضهم أصل معانيها، والظاهر أن أصل معانيها الاختصاص، وأما الملك فهو نوع من أنواع الاختصاص، وهو أقوى أنواعه. وكذلك الاستحقاق، لأن من استحق شيئاً فقد حصل له به نوع اختصاص.
الرابع: التمليك. نحو: وهبت لزيد ديناراً.
الخامس: شبه الملك. نحو: أدوم لك ما تدوم لي.
السادس: شبه التمليك. نحو " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً " .
السابع: التعليل. نحو: زرتك لشرفك.
الثامن: النسب. نحو: لزيد عم، هو لعمرو خال. ذكر هذا المعنى ابن مالك، وغيره، وليس فيه تحقيق. وإنما اللام في هذا للاختصاص.
التاسع: التبيين. ولام التبيين هي اللام الواقعة بعد أسماء الأفعال، والمصادر التي تشبهها، مبينة لصاحب معناها. نحو " هيت لك " ، وسقياً لزيد. وتتعلق بفعل مقدر، تقديره: أعني. قال ابن مالك: وكذا المعلقة بحب، في تعجب أو تفضيل. نحو: ما أحب زيداً لعمرو، " والذين آمنوا أشد حباً لله " .
العاشر: القسم. ويلزمها فيه معنى التعجب. نحو قوله:
لله يبقى، على الأيام، ذو حيد ... بمشمخر، به الظيان، والآس
الحادي عشر: التعدية. قال ابن مالك: كقوله تعالى " فهب لي من لدنك ولياً " .
الثاني عشر: الصيرورة. نحو قوله: لدوا، للموت، وابنوا، للخراب وتسمى أيضاً: لام العاقبة، ولام المآل. وسيأتي الكلام عليها.
الثالث عشر: التعجب. كقولهم: يا للماء! ويا للعشب! إذا تعجبوا من كثرته. ومن ذلك قول الشاعر:
شباب، وشيب، وافتقار، وذلة ... فلله هذا الدهر، كيف ترددا؟!
الرابع عشر: التبليغ. ولام التبليغ هي اللام الجارة اسم سامع قول، أو ما في معناه. نحو: قلت له، وفسرت له، وأذنت له.
الخامس عشر: أن تكون بمعنى إلى لانتهاء الغاية. كقوله تعالى " سقناه لبلد، ميت " أي: إلى بلد، " بأن ربك أوحى لها " أي: إليها. وهو كثير.
السادس عشر: أن تكون بمعنى في الظرفية. قالوا: كقوله تعالى " يا ليتني قدمت لحياتي " ، أي: في حياتي، يعني: الحياة الدنيا. والظاهر أن المعنى: لأجل حياتي، يعني: الحياة الآخرة. ومن ذلك قوله تعالى " ونضع الموازين القسط، ليوم القيامة " أي: في يوم القيامة.
السابع عشر: أن تكون بمعنى عن. وهي اللام الجارة اسم من غاب حقيقة أو حكماً، عن قول قائل، متعلق به. نحو " وقال الذين كفروا للذين آمنوا: لو كان خيراً ما سبقونا إليه " أي: عن الذين آمنوا. وقول الشاعر:
كضرائر الحسناء، قلن، لوجهها ... حسداً، وبغياً: إنه لدميم
وقيل: اللام في ذلك للتعليل، أي: من أجل الذين آمنوا. وقد أطلق بعضهم في ورود اللام بمعنى عن، ولم يخصه بأن يكون بعد القول. ومثله بقول العرب: لقيته كفة لكفة، أي عن كفة. لأنهم قالوا: لقيته كفة عن كفة. والمعنى واحد.
الثامن عشر: أن تكون بمعنى على. كقوله تعالى " ويخرون للأذقان " أي: على الأذقان. قال الشاعر: فخر، صريعاً، لليدين، وللفم وجعل بعضهم منه قوله تعالى " وتلله للجبين " أي: على الجبين.
التاسع عشر: أن تكون بمعنى عند كقولهم: كتبته لخمس خلون، أي: عند خمس. وجعل ابن جني اللام، في قراءة من قرأ " بل كذبوا بالحق لما جاءهم " بالتخفيف، بمعنى عند، أي: عند مجيئه إياهم.

المتمم عشرين: أن تكون بمعنى بعد. كقوله تعالى " أقم الصلاة لدلوك الشمس " . قيل: وعليه الأثر النبوي: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته أي: بعد رؤيته. وجعل بعضهم منه: كتب لخمس خلون. وجعل ابن الشجري منه قول الشاعر:
فلما تفرقنا كأني، ومالكاً ... لطول اجتماع، لم نبت، ليلة، معا
الحادي والعشرون: أن تكون بمعنى مع. وأنشدوا عليه:
فلما تفرقنا...
وتقدم ما قاله ابن الشجري.
الثاني والعشرون: أن تكون بمعنى من كقول جرير:
لنا الفضل، في الدنيا، وأنفك راغم ... ونحن، لكم، يوم القيامة، أفضل
أي: ونحن منكم. ومثله بعضهم بقوله: سمعت له صراخاً، أي: منه.
الثالث والعشرون: التبعيض. ذكره صاحب رصف المباني، ومثله بقوله: الرأس للحمار، والكم للجبة. وقد ذكر غيره أن اللام تكون بمعنى من، كما تقدم، ولكنهم مثلوه بما هو لابتداء الغاية، لا للتبعيض.
الرابع والعشرون: لام المستغاث به. وهي مفتوحة. كقول الشاعر: فيا للناس، للواشي، المطاع ولا تكسر إلا مع ياء المتكلم. فإذا قلت: يا لي، احتمل أن يكون مستغاثاً به، ومستغاثاً من أجله. وقد أجاز ابن جني الوجهين، في قول أبي الطيب: فيا شوق، ما أبقى، ويالي من النوى وقال ابن عصفور: الصحيح عندي أن يالي، حيث وقع، مستغاث من أجله، لأنه لو جعل مستغاثاً به لكان التقدير: يا أدعو لي. وذلك غير جائز في غير ظننت وما حمل عليها.

تنبيه
اختلف في لام الاستغاثة. فقيل: هي زائدة، فلا تتعلق بشيء. وقيل: ليست بزائدة فتتعلق. وعلى هذا ففيما نتعلق به قولان: أحدهما أنه الفعل المحذوف، وهو اختيار ابن عصفور. والثاني أنه حرف النداء، وإليه ذهب ابن جني. وذهب الكوفيون إلى أن هذه اللام بقية آل، والأصل في يا لزيد: يا آل زيد. وزيد مخفوض بالإضافة.
الخامس والعشرون: لام المستغاث من أجله. وهي مكسورة إلا مع المضمر. فإذا قلت: يالك، احتمل أن يكون مستغاثاً به، ومستغاثاً من أجله. وهذه اللام هي، في الحقيق، لام التعليل، وهي متعلقة بفعل محذوف. فإذا قلت: يا لزيد لعمرو، فالتقدير: أدعوك لعمرو. قال ابن عصفور قولاً واحداً. وليس كذلك، بل قيل: إنها تتعلق بحال محذوفة، أي: مدعواً لعمرو.
السادس والعشرون: لام المدح نحو: يا لك رجلاً صالحاً.
السابع والعشرون: لام الذم. نحو: يا لك رجلاً جاهلاً.
ذكر هذين القسمين بعض من صنف في اللامات. وهما راجعان إلى لام التعجب.
الثامن والعشرون: لام كي. نحو: جئتك لتكرمني. فهذه اللام جارة، والفعل منصوب ب أن المضمرة. وأن مع الفعل في تأويل مصدر، مجرور باللام. هذا مذهب البصريين. وهذه اللام أيضاً هي لام التعليل.
التاسع والعشرون: لام الجحود. وهي الواقعة بعد كان الناقصة المنفية. نحو " ما كان الله ليذر المؤمنين " . وسيأتي الكلام على هذه اللام، محرراً، إن شاء الله تعالى.
المتمم ثلاثين: اللام الزائدة. وهي ضربان. أحدهما مطرد، والآخر غير مطرد.
فالمطرد أن تزاد مع المفعول به، بشرطين: الأول: أن يكون العامل متعدياً إلى واحد.
الثاني: أن يكون قد ضعف، بتأخيره، نحو " إن كنتم للرؤيا تعبرون " ، أو بفرعيته، نحو " فعال لما يريد " ، فزيادتها في ذلك مقيسة، لأنها مقوية للعامل.
قال ابن مالك: ولا يفعل ذلك بالمتعدي إلى اثنين، لأنها إن زيدت في مفعوليه لزم منه تعدية فعل واحد إلى مفعولين، بحرف واحد وإن زيدت في أحدهما فيلزم منها ترجيح من غير مرجح، وإيهام غير المقصود.
واعترض قوله ترجيح من غير مرجح بأنه إذا تقدم أحدهما، وتأخر الآخر، لم يلزم من زيادتها في المتقدم ترجيح من غير مرجح، لأنه يترجح بضعف طلب العامل لتقدمه. وقد أجاز ذلك الفارسي، في قراءة من قرأ " ولكل وجهة هو موليها " بالإضافة، أي: ولكل ذي وجهة. والمعنى: الله مول كل ذي وجهة وجهته.
وغير المطرد فيما عدا ما تقدم. كقول الشاعر:
وملكت ما بين العراق، ويثرب ... ملكاً، أجار لمسلم، ومعاهد
وجعل قوم من ذلك قوله تعالى " ردف لكم " أي: ردفكم، لأن ردف بمعنى: تبع. وأوله بعضهم على التضمين. وفي البخاري: ردف بمعنى قرب.
وقد زيدت اللام مقحمة، بين المضاف والمضاف إليه، في قوله:
يا بؤس للحرب، التي ... وضعت أراهط، فاستراحوا

فاللام في ذلك مقحمة لتوكيد التخصيص. ومن ذلك قولهم: لا أبا لزيد، على مذهب سيبويه. فإن قلت: بأي شيء انجر ما بعد هذه اللام، أبها أم بالإضافة؟ قلت: فيه قولان، والمختار أنه باللام، لمباشرتها، ولأن حرف الجر لا يعلق عن العمل. وهو اختيار ابن جني.
فهذا تمام الكلام على اللام الجارة، على سبيل الإيجاز. وقد نظمت أقسامها في هذه الأبيات:
أتاك، للام الجر، مما جمعته ... ثلاثون قسماً، في كلام منظم
فأولها التخصيص، وهو أعمها ... ويتلوه الاستحقاق، يا صاح، فاعلم
وملك، وتمليك، وشبههما معاً ... وعلل بها، وانسب، وبين، وأقسم
وعد، وزد صيرورة، وتعجباً ... وجاءت لتبليغ المخاطب، فافهم
ومثل إلى، في، عن، على، عند، بعد، مع ... ومن، ولتبعيض، وذا كله نمي
ولامان، قد جاءا بباب استغاثة ... ولام بها فامدح، ولام بها اذمم
وقل لام كي، لام الجحود، كلاهما ... لجر، وباللام المزيدة تممم
وعندي، في التقسيم، عيب تداخل ... وعذري، في ذلك، اتباع المقسم

تنبيه
التحقيق أن معنى اللام، في الأصل، هو الاختصاص. وهو معنى لا يفارقها، وقد يصحبه معان أخر. وإذا تؤملت سائر المعاني المذكورة وجدت راجعة إلى الاختصاص. وأنواع الاختصاص متعددة؛ ألا ترى أن من معانيها المشهورة التعليل، قال بعضهم: وهو راجع إلى معنى الاختصاص، لأنك إذا قلت: جئتك للإكرام، دلت اللام على أن مجيئك مختص بالإكرام. إذ كان الإكرام سببه، دون غيره. فتأمل ذلك. والله أعلم.
القسم الثاني: الجازمة. وهي لام الأمر، والأولى أن يقال: لام الطلب، ليشمل: الأمر نحو " لينفق ذو سعة من سعته " ، والدعاء نحو " ليقض علينا ربك " ، قيل: والالتماس، كقولك لمن يساويك: لتفعل، من غير استعلاء. وذلك لأن الطلب إذا ورد من الأعلى فهو أمر، وإذا ورد من الأدنى فهو دعاء، وإذا ورد من المساوي فهو التماس.
وهذه اللام التي للطلب كصيغة افعل، في أنها قد ترد لمعان أخر، غير الطلب، كالتهديد نحو قوله تعالى " ليكفروا بما آتيناهم " ، وليتمتعوا. فسوف يعلمون " والأصل في ذلك معنى الطلب.
واعلم أن فعل المفعول لا طريق للأمر فيه، إلا باللام، سواء أكان للمتكلم، نحو: لأعن بحاجتك، أم للمخاطب، نحو: لتعن بحاجتي، أم للغائب، نحو: ليعن زيد بالأمر.
وأما فعل الفاعل فإن كان لغائب نحو " لينفق ذو سعة " ، أو متكلم مفرد، نحو قوله في الحديث قوموا، فلأصل لكم، أو مشارك، نحو " ولنحمل خطاياكم " ، فكذلك.
وإن كان للمخاطب فللأمر به طريقان: الأولى بصيغة افعل، وهذا هو الكثير، نحو: اعلم. والثانية باللام، وهو قليل. قال بعضهم: وهي لغة رديئة. وقال الزجاجي: لغة جيدة. ومن ذلك قراءة عثمان، وأبي، وأنس " فبذلك فلتفرحوا " بتاء الخطاب. وفي الحديث لتأخذوا مصافكم.
مسألتان
الأولى: حركة هذه اللام الكسر. ونقل ابن مالك أن فتحها لغة، وحكاه الفراء عن بني سليم. ويجوز إسكانها بعد الواو والفاء، وهو أكثر من تحريكها. نحو " فليستجيبوا لي، وليؤمنوا بي " . ويجوز إسكانها بعد ثم، وليس بضعيف، ولا مخصوص بالضرورة، خلافاً لزاعم ذلك. وبه قرأ الكوفيون، وقالون، والبزي " ثم ليقطع " .
واختلف في وجه تسكين هذه اللام، بعد هذه الأحرف؛ فقال الأكثرون: إنه من باب الحمل على عين فعل، إجراء للمنفصل مجرى المتصل. وقال ابن مالك: بل هو رجوع إلى الأصل، لأن للام الطلب الأصالة في السكون، من وجهين: أحدهما مشترك، وهو كون السكون مقدماً على الحركة، إذ هي زيادة، والأصل عدمها. والثاني خاص وهو أن يكون لفظها مشاكلاً لعملها كما فعل بباء الجر، لكن منع من سكونها الابتداء بها، فكسرت. فإذا دخل حرف العطف رجع إلى السكون ليؤمن دوام تفويت الأصل. قال: وليس حملاً على عين فعل، لأن مثله لا يكاد بوجد إلا في ضرورة.
الثانية: في حذف لام الطلب وإبقاء عملها أقوال: مذهب الجمهور أنه لا يجوز إلا في ضرورة، كقوله: محمد، تفد نفسك كل نفس

ومذهب المبرد منع ذلك حتى في الشعر. وزعم أن هذا البيت لا يعرف قائله، مع احتماله أن يكون خبراً، وحذفت الياء، استغناء بالكسرة. ومذهب الكسائي أنه يجوز حذفها، بعد الأمر بالقول، كقوله تعالى " قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة " ، أي: ليقيموا.
واضطرب كلام ابن مالك، في هذه المسألة. فقال في التسهيل: ويلتزم في النثر، في غير فعل الفاعل المخاطب. وهذا مذهب الجمهور. وذكر في شرح الكافية أن حذفها وإبقاء عملها على ثلاثة أضرب: كثير مطرد، وقليل جائز في الاختيار، وقليل مخصوص بالاضطرار. قال: فالكثير المطرد بعد أمر بقول، كقوله تعالى " قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة " . والقليل الجائز في الاختيار الحذف بعد قول غير أمر، كقول الراجز:
قلت لبواب، لديه دارها: ... تئذن، فإني حمؤها، وجارها
أراد: لتئذن. وليس مضطراً لتمكنه من أن يقول: وائذن. والقليل المخصوص بالاضطرار الحذف دون تقدم قول، كقول الشاعر:
فلا تستطل، مني، بقائي ومدتي ... ولكن يكن للخير، منك، نصيب
القسم الثالث: الناصبة للفعل. فإنما قال بها الكوفيون. وأما البصريون فهي عندهم لام جر، والناصب أن مضمرة بعدها. وهو الصحيح لثبوت الجر بها في الأسماء. وقد أمكن إبقاؤها جارة، بتقدير أن، لأن المصدر المنسبك من أن المقدرة والفعل مجرور بها. وأيضاً فظهور أن بعد هذه اللام، في بعض المواضع، موضح لما ادعي، من الإضمار.
وذكر لهذه اللام، الناصبة للفعل، ستة أقسام: الأول: لام كي، وهي لام التعليل. وسميت لام كي لأنها تفيد ما تفيده كي مع التعليل. وفي هذه اللام مذاهب: مذهب أكثر الكوفيين أنها ناصبة، بنفسها.
وقال ثعلب: ناصبة، لكن لقيامها مقام أن.
وقال البصريون: جارة، والناصب مقدر بعدها، وهو أن.
وقال ابن كيسان، والسيرافي: يجوز أن يكون أن، ويجوز أن يكون كي.
ومذهب الجمهور أن كي لا تضر.
ويجوز إظهار أن المضمرة بعد هذه اللام، فتقول: جئت لتكرمني، ولأن تكرمني. إلا إذا قرن الفعل ب لا النافية، أو الزائدة، فإن إظهار أن في ذلك واجب. نحو " لئلا يعلم أهل الكتاب " .
فإن قلت: إذا ظهر بعدها أن أو كي فماذا يقول الكوفيون؟ قلت: يقولون: إن كلا منهما مؤكد للام الناصبة. هكذا نقل عنهم.
الثاني: لام الجحود. وهي اللام الواقعة بعد كان الناقصة المنفية الماضية لفظاً، أو معنى. نحو: ما كان زيد ليذهب، ولم يكن زيد ليذهب. وسميت لام الجحود، لاختصاصها بالنفي. قيل: ولا يكون قبلها من حروف النفي إلا ما ولا دون غيرهما. قلت: الظاهر مساواة إن النافية لهما في ذلك.
وقد جعل بعضهم اللام في قوله تعالى " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " لام الجحود، على لا قراءة غير الكسائي وأجاز بعض النحويين وقوع لام الجحود بعد أخوات كان قياساً عليها. وأجاز بعضهم ذلك في ظننت. وقال بعضهم: تقع في كل فعل، تقدمه فعل منفي. نحو: ما جئت لتكرمني. والصحيح أنها لا تقع إلا بعد كان الناقصة، كما تقدم.
فإن قلت: ما هذه اللام التي في قوله:
فما جمع ليغلب جمع قومي ... مقاومة، ولا فرد لفرد
قلت: هي لام الجحود، وجمع اسم كان المحذوفة. أي: فما كان جمع، كما قال أبو الدرداء في الركعتين بعد العصر: ما أنا لأدعهما. أي ما كنت لأدعهما.
واعلم أن الخلاف في لام الجحود كالخلاف في لام كي. ففيها المذاهب الثلاثة. ومذهب البصريين أنه لا يجوز إظهار أن بعدها، بل يجب إضمارها. واختلف النقل عن الكوفيين، فحكى ابن الأنباري عنهم منع ذكر أن بعدها. وحكى غيره عنهم جواز ذكرها توكيداً.

تنبيه
مذهب البصريين أن لام الجحود تتعلق بمحذوف، هو خبر كان التي قبلها. والتقدير في قولك ما كان زيد ليفعل: ما كان زيد مريداً للفعل. قلت: تقديرهم مريداً يقتضي أن تكون اللام زائدة، مقوية للعامل، كاللام في نحو " فعال لما يريد " . ومذهب الكوفيين أن الفعل الذي دخلت عليه اللام هو خبر كان. ولا حذف عندهم.
قال بعض النحويين: وهذا الخلاف مبني على الخلاف السابق. فلما كان مذهب البصريين أن اللام جارة لمصدر منسبك، من أن المقدرة والفعل، لزم عندهم أن يكون خبر كان محذوفاً. ولما كانت اللام عند الكوفيين ناصبة كان الخبر هو نفس الفعل، واللام عندهم زائدة لتأكيد النفي. ولذلك أجازوا أن يتقدم معمول منصوبها عليها.

ورد أبو البقاء مذهب الكوفيين، بأن نصب الفعل إن كان باللام فليست بزائدة. ورد غيره بأن الخبر المحذوف قد سمع مصرحاً به، في قول الشاعر: سموت، ولم تكن أهلاً، لتسمو ولكن التصريح به في غاية الندرة.
وذكر ابن مالك أن لام الجحود هي المؤكدة لنفي في خبر كان ماضية لفظاً أو معنى. فوافق الكوفيين على أن الفعل الذي بعدها هو الخبر، ولم يجعلها ناصبة بنفسها، بل جعل أن مضمرة بعدها وفاقاً للبصريين. فهو قول ثالث، مركب من المذهبين. وظاهر قوله المؤكدة يقتضي أنها زائدة، فلا تتعلق بشيء.
وصرح بذلك ولده في شرح الألفية، وقال - أعني ولده - في كلامه على هذا الموضع من تسهيل الفوائد: سميت مؤكدة لصحة الكلام بدونها، لا لأنها زائدة. إذا لو كانت زائدة لم يكن لنصب الفعل بعدها وجه صحيح. وإنما هي لام الاختصاص، دخلت على الفعل، لقصد: ما كان زيد مقدراً، أو هاماً، أو مستعداً لأن يفعل.
وقال صاحب رصف المباني ما ملخصه: إن هذه اللام هي لام العلة المذكورة قبل، وهي وما بعدها في موضع خبر كان المنفية. والمعنى في قولك ما كان عبد الله ليذهب: ما كان عبد الله للذهاب.
قلت: فهو على هذا من وقوع الجار والمجرور خبراً. قال بعضهم: من جعل لام الجحود لام كي فهو ساه.
الثالث: لام الصيرورة. وتسمى لام العاقبة، ولام المآل. ذكرها الكوفيون، والأخفش، وقوم من المتأخرين، منهم ابن مالك. كقوله تعالى " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً " . وهذا اللام، عند أكثر البصريين، صنف من أصناف لام كي. وهي عند الكوفيين ناصبة بنفسها، كما تقدم في لام كي.
الرابع: اللام الزائدة. نحو قوله تعالى " يريد الله ليبين لكم " ، وأمرنا لنسلم، وقول الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها، فكأنما ... تمثل، لي، ليلى، بكل سبيل
فاللام في ذلك، ونحوه، زائدة عند قوم من النحويين.
وذهب المحققون إلى أنها لام كي. ولهم في توجيه ذلك قولان: أحدهما أن المفعول محذوف، واللام للتعليل، والمعنى: يريد الله ذلك ليبين. وأمرنا بما أمرنا به لنسلم. وأريد السلو لأنسى ذكرها. والثاني ما حكي عن سيبويه وأصحابه، أن الفعل مقدر بالمصدر، أي: إرادة الله ليبين، وأمرنا لنسلم. فينعقد من من ذلك مبتدأ وخبر. قلت: قال سيبويه: وسألته - يعنى الخليل - عن هذا، يعنى البيت المتقدم، فقال: المعنى إرادتي لأنسى.
فإن قلت: ما حقيقة هذا القول؟ قلت: هو كالقول الذي قبله في أن اللام للتعليل، ولكن معمول الفعل، على القول الأول، حذف اختصاراً، فهو منوي لدليل. وعلى هذا القول حذف اقتصاراً، فهو غير منوي، إذ لم يتعلق به قصد المتكلم، فيصير الفعل على هذا كاللازم. ولذلك انعقد من ذلك مبتدأ وخبر. وهو تقدير معنوي لا إعرابي. وهذا معنى قول ابن عطية، بعد ذكره القولين: وقول الخليل أخصر وأحسن.
الخامس: اللام التي بمعنى أن. ذهب إلى ذلك الفراء، ونقله ابن عطية عن الكوفيين. قال الفراء: العرب تجعل لام كي في موضع أن، في: أمرت، وأردت. قال تعالى " يريدون ليطفئوا " ، وأمرنا لنسلم " . وقد سبق تأويل ذلك.
السادس: اللام التي بمعنى الفاء. ذكر ذلك قوم، وجعلوا منه قوله تعالى " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً " ، وقوله تعالى " ربنا ليضلوا عن سبيلك " أي: فكان لهم، وفضلوا. وقول الشاعر:
لنا هضبة، لا ينزل الذل وسطها ... ويأوي إليها المستجير، ليعصما
أي: فيعصما.
ولا حجة لهم في شيء من ذلك، لأن اللام في الآيتين لام الصيرورة، وقد تقدم ذكرها، وفي البيت لام كي. وأيد بعضهم قول من جعلها في البيت. بمعنى الفاء، بأنه قد روي بالفاء. قلت: الرواية بالفاء هي المشهورة، ولكن الفاء ليست أصلاً، في هذا الموضع، فتحمل عليها اللام، لأن نصب الفعل بعد الفاء في الواجب إنما يجوز لضرورة الشعر.
فهذه أقسام اللام العاملة.
القسم الرابع: لام الابتداء. وهي اللام المفتوحة، في نحو: لزيد قائم. وفائدتها توكيد مضمون الجملة. قال الزمخشري وغيره: ولا تدخل إلا على الاسم، والفعل المضارع. ومثلوا دخولها على المضارع، بقوله تعالى " وإن ربك ليحكم بينهم " وهو صحيح، لأن اللام الداخلة في خبر إن هي في الأصل لام الابتداء. وسيأتي بيان ذلك.
فإن قلت: فهل تدخل على المضارع، إذا لم يكن بعد إن؟ قلت: قد ذكر ذلك ابن مالك، ومثله بقوله: ليحب الله المحسنين.

وذكر ذلك أيضاً صاحب رصف المباني قال: هذه اللام تدخل للابتداء، في المبتدأ، نحو " لأنتم أشد " ، وما حل محله، وهو المضارع إذا صدر به، نحو: ليقوم زيد. وكذلك الفعل الذي لا يتصرف، نحو " لبئس ما كانوا يعملون " . قال: وإنما ذلك لمشابهة الاسم. أما المضارع ففي الإبهام والتخصيص، وأما الماضي المذكور فلعدم تصرفه، كعدم تصرف الاسم. هذا اختصار كلامه.
ولا تدخل هذه اللام على الماضي المتصرف. فإن وجد نحو: لقام زيد. فهو جواب قسم، واللام فيه لام الجواب، وليست لام الابتداء. وأما المقرون ب قد، نحو: لقد قام زيد، فالذي ذكره المعربون أنها لام جواب القسم. وأجاز بعضهم أن تكون لام الابتداء. قلت: وقد نصوا على دخولها على الماضي المقرون بقد، بعد إن وخالف في ذلك خطاب الماردي، فقال: إن اللام في نحو إن زيداً لقد قام جواب قسم محذوف.

تنبيه
مقتضى كلام الزمخشري أن لام الابتداء إذا دخلت على المضارع، ولم تتقدم إن، فالمبتدأ محذوف بعدها. قال في الكشاف: فإن قلت: ما هذه اللام الداخلة على سوف - يعني: في قوله تعالى " ولسوف يعطيك ربك فترضى " - قلت: هي لام المبتدأ المؤكدة لمضمون الجملة. والمبتدأ محذوف تقديره: ولأنت سوف يعطيك، كما ذكرنا في لأقسم - يعنى " لأقسم بيوم القيامة " على قراءة ابن كثير - وذلك أنه لا يخلو من أن تكون لام قسم أو ابتداء. فلام القسم لا تدخل على المضارع، إلا مع نون التوكيد. فبقي أن تكون لام الابتداء. ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر، فلا بد من تقدير مبتدأ وخبر، وأن يكون أصله: ولأنت سوف يعطيك.
قلت: أما قوله فلام القسم لا تدخل على المضارع، إلا مع نون التوكيد ليس على إطلاقه. بل هو مشروط عند القائلين به، وهم البصريون، بألا يفصل بين الفعل واللام بحرف تنفيس، أو قد، أو بمعموله. فيمتنع حينئذ دخول النون. فقد اتضح أن عدم النون في ولسوف ليس مانعاً من جعل اللام جواب القسم. وأما الكوفيون فإنهم أجازوا تعاقب اللام والنون. وأما في " لأقسم بيوم القيامة " فقد أوله بعض البصريين على إرادة الحال. وفعل الحال إذا أقسم عليه دخلت عليه اللام وحدها.
فإن قلت: أليس قوله في المفصل إن لام الابتداء تدخل على المضارع، مناقضاً لقوله: ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر؟ قلت: ليس مناقضاً له، لأنه مثل في المفصل بقوله تعالى " وإن ربك ليحكم بينهم " . وهذه اللام، في الأصل، داخلة على المبتدأ. ولكنها تأخرت عن محلها.
مسألة
لام الابتداء مستحقة لصدر الكلام. ولذلك علقت أفعال القلوب، وندر زيادتها في الخبر، كقول الراجز: أم الحليس لعجوز، شهربه وأوله بعضهم على إضمار مبتدأ محذوف، تقديره: لهي عجوز. وضعف بأن حذف المبتدأ مناف للتوكيد الذي، جيء باللام لأجله.
تنبيه
من أصناف لام الابتداء لام التوكيد ، الواقعة بعد إن المكسورة، خلافاً لمن قال: هي غيرها. والأول مذهب البصريين، قالوا: كان الأصل أن تقدم، وإنما تأخرت لئلا يجتمع حرفان لمعنى واحد، وهو التوكيد.
فإن قلت: فهل كان أصلها أن تكون قبل إن أو بعدها. ولم أخرت هي وتركت إن مقدمة؟ قلت: الجواب عن الأول أن أصلها كما ذكر ابن جني، وغيره، أن تكون قبل إن لوجهين: أحدهما أنها لو قدرت بعد إن تكون قبل إن لوجهين: أحدهما أنها لو قدرت بعد إن لزم الفصل بين إن ومعمولها، بحرف من أدوات الصدر. والثاني أنها جاءت مقدمة على إن لما أبدلوا همزتها هاء، في نحو قول الشاعر:
ألا، يا سنا برق، على قلل الحمى ... لهنك، من برق، علي كريم
وإنما سهل الجمع بين حرفي التوكيد، في ذلك، تغير لفظ أحدهما. وفي هذا البيت أقوال أخر، ليس هذا موضع ذكرها.
والجواب عن الثاني أنهم بدؤوا ب إن لقوتها، لكونها عاملة. كذا قال الأخفش.
وفائدة هذه اللام توكيد مضمون الجملة. وكذلك إن. وإنما اجتمعا، لقصد المبالغة في التوكيد. وما قيل من أن اللام لتوكيد الخبر، وإن لتوكيد الاسم، فهو منقول عن الكسائي. وفيه تجوز، لأن التوكيد إنما هو للنسبة لا للاسم والخبر، وعن ثعلب وقوم من الكوفيين أن قولك: إن زيداً منطلق، جواب: ما زيد منطلق. وإن زيداً لمنطلق، جواب: ما زيد بمنطلق.

وقال أهل علم المعاني: إذا ألقيت الجملة إلى من هو خالي الذهن استغني عن مؤكدات الحكم. فيقال: زيد ذاهب. ويسمى هذا النوع من الخبر ابتدائياً. وإذا ألقيت إلى طالب لها، متردد في الحكم، حسن تقوية الحكم بمؤكد. وذلك بإدخال إن، نحو: إن زيداً ذاهب. أو اللام، نحو: لزيد ذاهب. ويسمى هذا النوع طلبياً. وإذا ألقيت إلى منكر للحكم وجب توكيدها، بحسب الإنكار. فتقول: إني صادق، لمن ينكر صدقك، ولا يبالغ فيه. وإني لصادق لمن يبالغ في إنكاره. ويسمى هذا النوع إنكارياً. وعليه قوله تعالى " واضرب لهم مثلا أصحاب القرية، إذا جاءها المرسلون " إلى آخرها.
ويؤيد ذلك جواب أبي العباس، للكندي عن قوله: إني أجد في كلام العرب حشواً: يقولون: عبد الله قائم. ثم يقولون: إن عبد الله قائم. ثم يقولون: إن عبد الله لقائم. والمعنى واحد! فقال: بل المعاني مختلفة؛ فعبد الله قائم: إخبار عن قيامه. وإن عبد الله قائم: جواب عن سؤال سائل. وإن عبد الله لقائم: جواب عن إنكار منكر قيامه.
ولهذه اللام بعد إن أربعة مواضع: الأول: الخبر، بشرطين: أحدهما أن يكون مثبتاً. والثاني ألا يكون ماضياً، متصرفاً، عارياً من قد.
الثاني: الاسم، إذا تأخر، نحو: إن في الدار لزيداً.
الثالث: معمول الخبر، إذا توسط بينه وبين الاسم، نحو: إن زيداً لطعامك آكل. وشرطه أن يكون الخبر صالحاً للام، فلو كان ماضياً متصرفا، نحو: إن زيداً طعامك أكل، لم تدخل اللام على معموله، لأن دخولها عليه فرع دخولها على عامله.
الرابع: الفصل بين الاسم والخبر، نحو " إن هذا لهو القصص الحق " .
ويحكم على هذه اللام بالزيادة، فيما سوى هذه المواضع. ولا تدخل على خبر لكن خلافاً للكوفيين. وأما قول الشاعر: ولكنني، من حبها، لعميد فمتأول.
فإن قلت: قد تقدم أن لام الابتداء لها صدر الكلام، فلا يتقدم معمول ما بعدها عليها. وهذه اللام التي بعد إن يتقدم معمول ما بعدها عليها، كقوله تعالى " إنه على رجعه لقادر " ، فهذا دليل على أن هذه غير تلك! قلت: الجواب عن ذلك أن هذه اللام لما تأخرت عن موضعها جاز تقديم المعمول عليها. نظير ذلك الفاء الواقعة جواب أما. وسيأتي بيان ذلك، إن شاء الله تعالى.
القسم الخامس: اللام الفارقة. وهي الواقعة بعد إن المخففة، في نحو " وإن كانت لكبيرة " ، فارقة بين إن المذكورة وإن النافية، فإذا قلت: إن زيد لقائم، ف إن مخففة من الثقيلة، واللام بعدها فارقة. هذا مذهب البصريين. وذهب الكوفيون إلى أن إن نافية، واللام بمعنى إلا.
قال الزمخشري وغيره: هذه اللام لازمة في خبر إن، إذا خففت. قلت: إنما تلزم إذا ألغيت إن ولم يكن في الكلام قرينة. فإن أعملت، نحو: إن زيداً قائم، أو دل دليل على المراد، لم تلزم لعدم الحاجة إليها. ومن ذلك قول الشاعر:
أنا ابن أباة الضيم من آل مالك ... وإن مالك كانت كرام المعادن
واختلف في هذه اللام الفارقة. فذهب قوم إلى أنها قسم برأسه، غير لام الابتداء. منهم الفارسي. وذهب قوم إلى أنها هي لام الابتداء، الداخلة على خبر إن، لزمت للفرق. وهو مذهب سيبويه، واختاره ابن مالك. واستدل الشلوبين، على أنها لام أخرى، بعمل الفعل قبلها فيما بعدها. وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع.
القسم السادس: لام الجواب. وهي ثلاثة أنواع: جواب القسم، وجواب لو، وجواب لولا.
فأما اللام التي هي جواب القسم فتدخل على الجملة الاسمية والفعلية. نحو: والله لزيد قائم، " وتالله لأكيدن أصنامكم " ، و " تالله لقد آثرك الله " .
والأكثر في الماضي المتصرف، إذا وقع جواباً، اقترانه ب قد مع اللام. وقد يستغنى عن قد كقول امرىء القيس:
حلفت لها بالله، حلفة فاجر ... لناموا، فما إن حديث، ولا صالي
وذهب قوم إلى أنه لابد، في ذلك، من قد ظاهرة أو مقدرة. وقال ابن عصفور: إن كان الفعل قريباً من زمان الحال أدخلت عليه اللام وقد، لأن قد تقربه من الحال. وإن كان بعيداً منه أتيت باللام وحدها. ومنه قوله لناموا.
ولا إشكال في أن لام القسم مغايرة للام الابتداء. وقول صاحب رصف المباني وإذا تأملت هذه اللام فهي لام الابتداء، ولام التوطئة غير صحيح.
وأما اللام التي هي جواب لو وجواب لولا فيأتي ذكرها مع: لو، ولولا.

القسم السابع: اللام الموطئة. وهي الداخلة على أداة الشرط، في نحو: والله لئن أكرمتني لأكرمنك. فإن كان القسم مذكوراً لم تلزم. وإن كان محذوفاً غالباً، نحو " لئن أخرجوا لا يخرجون معهم " . وقد تحذف، والقسم محذوف، نحو " وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن " ، " وإن لم تغفر لنا، وترحمنا، لنكونن " . وقيل: هي منوية في نحو ذلك.
وإنما سميت هذه اللام موطئة، لأنها وطأت للجواب. وتسمى أيضاً: المؤذنة. وقولهم: إنها موطئة للقسم، فيه تجوز. وإنما هي موطئة لجواب القسم.
وأكثر ما تكون مع إن الشرطية، كما تقدم. وقد تدخل على غيرها، من أدوات الشرط. ومن ذلك قراءة غير حمزة " لما آتيتكم، من كتاب، وحكمة " ، وقول الشاعر:
لمتى صلحت ليقضين لك صالح ... ولتجزين، إذا جزيت، جميلا
وذكر ابن جني في سر الصناعة أن إذ قد شبهت ب إن فأدخلت عليها اللام الموطئة، في قول الشاعر:
غضبت علي، لأن شربت بجزة ... فلإذ غضبت لأشربن بخروف
وقد يجاء ب لئن بعد ما يغني عن الجواب، فيحكم بزيادة اللام. كقول عمر بن أبي ربيعة:
ألمم بزينب، إن البين قد أفدا ... قل الثواء، لئن كان الرحيل غدا
القسم الثامن: لام التعريف، عند من جعل حرف التعريف أحادياً. وهم المتأخرون، ونسبوه إلى سيبويه. وذهب الخليل إلى أن حرف التعريف ثتائي، وهمزته همزة قطع، وصلت لكثرة الاستعمال. وهو مذهب ابن كيسان. وكان الخليل يسميه أل. ولا يقول: الألف واللام. واختار هذا القول ابن مالك. ونقل ابن مالك عن سيبويه أن حرف التعريف عنده ثنائي، ولكن همزته همزة وصل، معتد بها في الوضع، كما يعتد بهمزة استمع ونحوه، فيقال: هو خماسي. قلت: وهو صريح كلام سيبويه، لأنه عد حرف التعريف في الحروف الثنائية.
وسيأتي الكلام على حرف التعريف في باب الثنائي، إن شاء الله تعالى. وإنما أخرت الكلام عليه، لأن المختار عندي مذهب سيبويه.
فهذه جملة أقسام اللام، على سبيل الاختصار. والله الموفق.

الميم
يكون حرف معنى في موضعين: الأول: قولهم في القسم: م الله، بضم الميم. فالميم في ذلك حرف جر، عند قوم من النحويين. وذهب قوم إلى أنها بدل من واو القسم. ورد بأنها لو كانت بدلاً منها لفتحت، كما تفتح الواو، وبأن إبدال الميم من الواو لم يوجد، إلا في كلمة واحدة، مختلف فيها، وهي فم. وذهب قوم إلى أن هذه الميم اسم، وهي بقية ايمن. واختاره ابن مالك. وحكى في هذه الميم الفتح والكسر أيضاً، فهي مثلثة. وذهب الزمخشري إلى أن قولهم م الله هي من التي تستعمل في القسم، حذفت نونها.
الثاني: الميم التي هي بدل من لام التعريف، في لغة طيىء. وقيل: هي لغة أهل اليمن. كقول الشاعر:
ذاك خليلي، وذو يواصلني ... يرمي ورائي، بامسهم، وامسلمه
وروى النمر بن تولب، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: ليس من امبر امصيام في امسفر. قال ابن يعيش في شرح المفصل: لم يرو النمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير هذا الحديث.
قلت: في عد هذه الميم من حروف المعاني نظر، لأنها بدل لا أصل. وأيضاً فإن هذا مبني على القول بأن حرف التعريف أحادي والهمزة غير معتد بها.
وذكر أبو البقاء أن الميم في أنتم حرف معنى.
النون
له في الكلام مواضع كثيرة. وإنما أذكر هنا أقسام النون، الذي يعد من حروف المعاني. وهي أربعة أقسام.
الأول: نون التوكيد. وهي قسمان: ثقيلة، وخفيفة. وقد جمعها قوله تعالى " ليسجنن وليكونن " . وهما أصلان، عند البصريين، لتخالف بعض أحكامهما، ولأن التوكيد بالثقيلة أشد، قاله الخليل. ومذهب الكوفيين أن الخفيفة فرع الثقيلة.
وكلاهما مختص بالفعل، وندر توكيد اسم الفاعل في قول الراجز: أقائلن: أحضروا الشهودا وقول الآخر: أشاهرن، بعدنا، السيوفا والذي سوغ ذلك ما بين اسم الفاعل والمضارع، من الشبه.
ويؤكد بها الأمر مطلقاً.

وأما المضارع فإن كان حالاً لم تدخل النون عليه، وإن كان مستقبلاً أكد بها وجوباً، إذا وقع جواب قسم، بأربعة شروط: أن يكون مثبتاً، وأن يكون غير مقرون بحرف تنفيس، وأن يكون غير مقرون ب قد، وألا يكون مقدم المعمول. فإذا استوفى هذه الشروط، وهو مستقبل، وجب عند البصريين توكيده بالنون. وأجاز الكوفيون حذف النون، اكتفاء باللام، وورد في الشعر. وجوازاً بعد إما نحو " فإما تخافن " .
ولم يرد في القرآن بعد إما إلا مؤكداً. وذهب المبرد والزجاج إلى أن توكيده بعد إما واجب، في غير الضرورة. قلت: قد كثر حذف النون بعد إما في الشعر. وأما في النثر فعزيز. وقد حكي منه قراءة بعضهم " فإما ترين " بنون الرفع. ذكرها ابن جني، وهي شاذة.
ويجوز التوكيد أيضاً، في المضارع، إذا وقع بعد ما يفهم الطلب، كلام الأمر ولا في النهي، وأدوات التحضيض والعرض، والتمني، والاستفهام.
ويقل التوكيد بالنون، في غير ذلك. واستيفاؤه في كتب النحو.
وأما الماضي فقد جاء توكيده بالنون، في قول الشاعر:
دامن سعدك، إن رحمت متيماً ... لولاك لم يك، للصبابة، جانحا
وفي الحديث: لإإما أدركن واحد منكم الدجال. والذي سوغ ذلك أن الفعل فيهما مستقبل المعنى، لأنه في البيت دعاء، وفي الحديث شرط.
وتنفرد النون الثقيلة، بوقوعها بعد ألف الاثنين، والألف الفاصلة إثر نون الإناث. ولا تقع الخفيفة بعد الألف عند البصريين. وأجاز ذلك يونس، والكوفيون.
الثاني: التنوين. وهو نون ساكنة، تلحق الآخر، تثبت لفظاً، وتسقط خطاً. ويورد على هذا الحد نون التوكيد الخفيفة في مثل " لنسفعا " . فإن قيل: لا ترد، لأنها لم تسقط حطاً، بل رسمت ألفاً! قلنا: هذه الألف ليست صورة النون، بل صورة بدلها. ولو سلم ذلك انتقض الحد بتنوين المنصوب في نحو " اهبطوا مصراً " . فلذلك قال ابن الحاجب: نون ساكنة، تتبع حركة الآخر، لا لتوكيد الفعل.
فإن قلت: لو قال آخر الاسم كما قال بعضهم لم يحتج إلى الاحتزاز عن نون التوكيد. قلت: لو قال ذلك لم يكن الحد جامعاً، لخروج تنويني الترنم والغالي. فإنهما قد يلحقان الفعل، والحرف، كما سيأتي.
وأقسام التنوين عند سيبويه خمسة: الأول: تنوين التمكين. وهو اللاحق للاسم المعرب المنصرف، إشعاراً ببقائه على أصالته.
والثاني: تنوين التنكير. وهو اللاحق بعض الأسماء المبنية، فرقاً بين معرفتها ونكرتها. ويطرد فيما آخره ويه، نحو: سيبويه. ولا يطرد في أسماء الأفعال.
والثالث: تنوين المقابلة. وهو اللاحق لما جمع بألف وتاء زائدتين، نحو: مسلمات، لأنه يقابل النون في جمع المذكر، نحو: مسلمين. وليس تنوين الصرف، خلافاً للربعي، لثبوته في نحو: عرفات، بعد التسمية.
والرابع: تنوين العوض. وهو نوعان: عوض عن مضاف إليه: إما جملة، نحو: يومئذ، وإما مفرد، نحو: كل، وبعض، وأي. وعوض من حرف، نحو: جوار، وغواش. فالتنوين في ذلك عوض من الياء المحذوفة بحركتها، عند سيبويه. وقال المبرد والزجاجي: هو عوض من حركة الياء، فقط. وقال الأخفش: هو تنوين الصرف.
والخامس: تنوين الترنم. وهو تنوين يلحق الروي المطلق، عوضاً عن مدة الإطلاق، في لغة تميم وقيس. قال ابن مالك: وقولهم تنوين الترنم هو على حذف مضاف، والتقدير: تنوين ذي الترنك. وإنما هو عوض من الترنم، لأن الترنم مد الصوت بمدة، تجانس حرف الروي. وهذا التنوين يلحق الاسم، والفعل، والحرف. فالاسم كقول العجاج: يا صاح، ما هاج الدموع، الذرفن؟ والفعل كقوله: من طلل، كالأتحمي، أنهجن والحرف كقول النابغة:
أزف الترحل، غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا، وكأن قدن
وزاد الأخفش قسماً، وهو الغالي. وهو كتنوين الترنم، في عدم الاختصاص بالاسم. والفرق بينهما أن تنوين الترنم هو اللاحق للروي المطلق، كما سبق. والغالي هو اللاحق للروي المقيد، كقول العجاج: وقائم الأعماق، خاوي المخترقن أراد المخترق. فزاد التنوين، وكسر الحرف قبله، لالتقاء الساكنين. وسمى الأخفش الحركة التي قبله الغلو، كما سماه الغالي. والمشهور عند من أثبته أنه قسم مغاير للترنم.

وذهب بعضهم إلى أنه ضرب من الترنم، واختاره ابن يعيش الحلبي. وقد أنكر الزجاج والسيرافي الغالي، وقالا: إن القافية المقيدة لا يلحقها حرف الإطلاق، فكذلك لا يلحقها التنوين، لأنه ينكسر بذلك. وقالا: إن كان سمع فإنما هو: وقاتم الأعماق، خاوي المخترق إن بزيادة إن إشعاراً بأنه بيت كامل. فضعف لفظه بهمزة إن، لانحفازه في الإنشاد، فظن السامع أنه نون، وكسر الروي. قال ابن مالك: فهذا، الذي ذهب إليه أبو سعيد، تقدير صحيح مخلص من زيادة ساكن بعد تمام الوزن. وقال أبو الحجاج يوسف ابن معزوز: ظاهر قول سيبويه، في الذي يسمونه تنوين الترنم، أنه ليس بتنوين، وإنما هو نون تتبع الآخر، عوضاً عن المدة. وذكر في التحفة أن التنوين من خواص الاسم، في جميع وجوهه، وتسمية ما يلحق الفعل للترنم تنويناً مجاز، وأنما هو نون تتبع الآخر، عوضاً عن المدة. ولذلك حكمه عكس حكم التنوين، لأنه يثبت وقفاً، ويسقط وصلاً، بخلاف التنوين.
وزاد بعضهم قسماً سابعاً، وهو تنوين الاضطرار، كقول الشاعر: سلام الله، يا مطر، عليها ف مطر مبني للنداء، ونونه الشاعر للضرورة. قال بعضهم: وهو راجع، في التحقيق، إلى تنوين التمكين. ولكن الضرورة سبب لإظهار التنوين الذي كان له قبل البناء.
وأما التنوين في هؤلاء في الإشارة فهو خارج عن أقسام التنوين. فلذلك سماه بعضهم التنوين الشاذ. وقال ابن مالك في شرح التسهيل: التحقيق أنه نون زيدت في آخر هؤلاء وليس بتنوين.
الثالث: نون الإناث في الفعل المسند إلى الظاهر، على اللغة التي يقولون فيها: لغة أكلوني البراغيث. وهي لغة طيىء، كقول الشاعر:
ولكن ديافى أبوه، وأمه ... بحوران، يعصرن السليط أقاربه
فالنون في يعصرن حرف يدل على التأنيث والجمع.
وأنكر قوم، من النحويين، هذه اللغة، وتأولوا ما ورد منها. ولا يقبل قولهم في ذلك. بل هي ثابتة بنقل الأئمة. وسيأتي لذلك مزيد بيان.
الرابع: نون الوقاية. وهي نون مكسورة تلحق قبل ياء المتكلم، إذا نصبت بفعل، نحو: أكرمني، أو باسم فعل، نحو: عليكني، بمعنى: الزمني، أو ب إن وأخواتها، نحو: ليتني. وتلزم مع الفعل واسم الفعل، إلا ما ندر من قوله: إذ ذهب القوم الكرام، ليسي وأما إن وأخواتها فثلاثة أقسام: قسم لا تحذف منه إلا نادراً، وهو ليت. وقسم لا تلحقه إلا نادراً وهو لعل. وقسم يجوز فيه الأمران، وهو: إن، وأن، ولكن، وكأن.
وتلحق نون الوقاية أيضاً، قبل ياء المتكلم، إن جرت ب من وعن. ولا تحذف إلا في ضرورة الشعر. نحو قوله:
أيها السائل عنهم، وعني ... لست من قيس، ولا قيس مني
أو بإضافة: قد، وقط، ولدن، وبجل. وكلها بمعنى حسب. وحذفها من بجل أكثر من إثباتها، بعكس الثلاثة التي قبلها.
ولا تلحق نون الوقاية غير ما ذكرته إلا ما ندر، مما لا يقاس عليه. وحكم نون الوقاية مشهور، فلا نطول هنا باستيفائه.
وإنما سميت هذه النون نون الوقاية، لأنها لحقت، لتقي الفعل من الكسر. ثم حمل على الفعل ما ذكر. وقال ابن مالك: سميت بذلك لأنها تقي اللبس في الأمر، نحو: أكرمني. فلولا النون لالتبس أمر المذكر بأمر المؤنثة. ثم حمل الماضي والمضارع على الأمر.

الهاء
حرف مهمل، وهو هاء السكت. وهي هاء، السكت. وهي هاء، تلحق وفقاً، لبيان الحركة. وإنما تلحق بعد حركة بناء لا تشبه الإعراب، نحو: هوه، وهيه، وما ليه، وله. وتلحق أيضاً بعد ألف الندبة، ونحوها. كقولك: وازيداه. ولا تثبت وصلاً، إلا في ضرورة شعر. وإنما أثبتها القراء وصلاً، في بعض المواضع، اتباعاً لرسم المصحف.
ولحاق هذه الهاء ليس بواجب، إلا في موضعين: أحدهما ما بقي من الأفعال المعتلة على أصل واحد. نحو: عه، ولم يعه. والثاني: ما الاستفهامية، إذا جرت بإضافة اسم، نحو: قراءة مه؟ ولتفصيل الكلام على هذه المواضع موضع غير هذا.
وذكر بعضهم أن للهاء، التي هي حرف معنى، قسماً آخر. وهو أن تكون بدلاً من همزة الاستفهام، نحو: هزيد منطلق؟ حكاه قطرب. ومنه قول الشاعر:
وأتى صواحبها، فقلن: هذا الذي ... منح المودة غيرنا، وجفانا؟
وقال بعضهم: إنه أراد هذا فحذف ألف ها، للضرورة.

فإن قلت: عد الهاء من حروف المعاني مشكل، لأن هاء السكت قد ذكرها النحويون مع الحروف الزوائد، أعني حروف أمان وتسهيل. فإنهم مثلوا الهاء بهاء السكت. وإنما يذكر من حروف أمان وتسهيل ما ليس بحرف معنى. وأما الهاء التي هي بدل من همزة فليست بأصل! قلت: أما كون هاء السكت حرف معنى فواضح. وقد قال ابن الحاجب، وغيره: إن ذكرها مع الحروف الزوائد ليس بجيد. وهو كما قال. والله أعلم.

الواو
حرف يكون عاملاً، وغير عامل. فالعامل قسمان: جار وناصب فالجار: واو القسم، وواو رب. والناصب: واو مع، تنصب المفعول معه، عند قوم. والواو، التي ينتصب الفعل المضارع بعدها، هي الناصبة له، عند الكوفيين. فأقسام الواو العاملة أربعة. ولا يصح منها غير الأول. وسيأتي بيان ذلك.
فأما واو القسم فحرف يجر الظاهر، دون المضمر. وهو فرع الباء، لأن الباء فضلت بأربعة أوجه، تقدم بيانها. وذهب كثير من النحويين إلى أن الواو بدل من الباء؛ قالوا: لأنها تشابهها مخرجاً ومعنى، لأنهما من الشفتين، والباء للإلصاق والواو للجمع. واستدلوا على ذلك بأن المضمر لا تدخل عليه الواو، لأن الإضمار يرد الأشياء إلى أصولها.
وأما واو رب فذهب المبرد، والكوفيون، إلى أنها حرف جر، لنيابتها عن رب، وأن الجر لا ب رب المحذوفة. واستدل المبرد على ذلك بافتتاح القصائد بها، كقوله: وقاتم الأعماق، خاوي المخترق والصحيح أن الجر ب رب المحذوفة، لا بالواو.
ولأن الواو أسوة الفاء وبل، قال ابن مالك: ولم يختلفوا في أن الجر بعدهما ب رب المحذوفة، وقد تقدم ذكر ذلك في الفاء.
والواو المذكورة عاطفة. ولا حجة له، في افتتاح القصائد بها، على أنها غير عاطفة، لإمكان إسقاط الراوي شيئاً من أولها، ولإمكان عطفها على بعض ما في نفسه.
وأما واو مع فذهب عبد القاهر إلى أنها ناصبة للمفعول معه، في نحو: استوى الماء والخشبة. وهو ضعيف، لأن الواو لو كانت عاملة لا تصل بها الضمير، في نحو: سرت وإياك. والصحيح أن المفعول معه منصوب بما قبل الواو، من فعل، أو شبهه، بواسطة الواو.
وذهب الزجاج إلى أن ناصبه مضمر بعد الواو، من فعل، أو شبهه. تقديره في ما صنعت وأباك: وتلابس أياك. وهو ضعيف، لأن فيه إحالة لباب المفعول معه، إذ المنصوب ب تلابس مفعول به.
وذهب الكوفيون إلى أن منصوب بالخلاف. وهو فاسد، لأن الخلاف معنى، والمعاني المجردة لم يثبت النصب بها.
وقال الأخفش: انتصابه انتصاب الظرف، وذلك لأن الأصل: سرت مع النيل. فلما جيء بالواو في موضع مع انتصب الاسم انتصاب مع. والواو مهيئة لانتصاب هذا الاسم انتصاب الظرف. ونظير ذلك إعراب ما بعد إلا بإعراب غير، إذا وقعت إلا صفه.
فإن قلت: فهل واو مع قسم برأسه، أو هي الواو العاطفة؟ قلت: بل هي غيرها. وقال قوم: إنها، في الأصل، هي العاطفة. ولذلك لا تدخل عليها واو العطف، ولو كانت غيرها لصح دخول واو العطف عليها، كما تدخل على واو القسم.
وأما الواو التي ينتصب المضارع بعدها فتكون في موضعين: الأول في الأجوبة الثمانية، التي تقدم ذكرها، للفاء الناصبة. كقول الشاعر:
لاتنه عن خلق، وتأتي مثله ... عار عليك، إذا فعلت، عظيم
والثاني: أن يعطف بها الفعل على المصدر، كقول القائلة:
للبس عباءة، وتقر عيني ... أحب إلي، من لبس الشفوف
وذهب بعذ الكوفيين إلى أن الواو في ذلك هي الناصبة للفعل، بنفسها، وذهب بعضهم إلى أن الفعل منصوب بالمخالفة. والصحيح أن الواو في ذلك عاطفة، والفعل منصوب ب أن مضمرة بعد الوا. إلا أنها، في الأول، عاطفة مصدراً مقدراً على مصدر متوهم، وفي الثاني عاطفة مصدراً مقدراً على مصدر صريح. وإضمار أن بعدها في الأول واجب، وفي الثاني جائز.
وأما الواو غير العاملة فقد ذكر بعضهم لها أقساماً كثيرة. وهي راجعة إلى ثمانية أقسام: الأول: العاطفة. وهذا أصل أقسامها وأكثرها. والوا أم باب حروف العطف، لكثرة مجالها فيه. وهي مشركة في الإعراب والحكم.
ومذهب جمهور النحويين أنها للجمع المطلق. فإذا قلت: قام زيد وعمرو، احتمل ثلاثة أوجه: الأول أن يكونا قاما معاً، في وقت واحد. والثاني أن يكون المتقدم قام أولاً. والثالث أن يكون المتأخر قام أولاً. قال سيبويه: وليس في هذا دليل على أنه بدأ بشيء قبل شيء، ولا بشيء بعد شيء.

وذهب قوم إلى أنها للترتيب. وهو منقول عن قطرب، وثعلب، وأبي عمر الزاهد غلام ثعلب، والربعي، وهشام، وأبي جعفر الدينوري. ولكن قال هشام والدينوري: إن الواو لها معنيان: معنى اجتماع، فلا تبالي بأيتهما بدأت، نحو: اختصم زيد وعمرو، ورأيت زيداً وعمراً، إذا اتحد زمان رؤيتهما. ومعنى اقتران، بأن يختلف الزمان، فالمتقدم في الزمان يتقدم في اللفظ، ولا يجوز أن يتقدم المتأخر. وعن الفراء أنها للترتيب حيث يستحيل الجمع. وقد علم بذلك أن ما ذكره السيرافي والفارسي والسهيلي، من إجماع النحاة، بصريتهم وكوفيهم، على أن الواو لا ترتب، غير صحيح.
قال ابن الخباز: وذهب الشافعي، رضي الله عنه، إلى أنها للترتيب. ويقال: نقله عن الفراء. وقال إمام الحرمين في البرهان: اشتهر، من مذهب أصحاب الشافعي، أنها للترتيب، وعند بعض الحنفية للمعية، وقد زل الفريقان.
وقال ابن مالك في التسهيل: تنفرد الواو بكون متبعها في الحكم محتملاً للمعية برجحان. وللتأخر بكثرة، وللتقدم بقلة. قيل: وهو مخالف، في ذلك، لكلام سيبويه وغيره.
وقال ابن كيسان: لما احتملت هذه الوجوه، ولم يكن فيها أكثر من جمع الأشياء، كان أغلب أحوالها أن يكون الكلام على الجمع، في كل حال، حتى يكون في الكلام ما يدل على التفرق.

تنبيهات
الأول: تنفرد الوا، في العطف، بأمور. منها باب المفاعلة والافتعال، نحو تخاصم زيد وعمرو، واختصم زيد وعمرو. وهذا أحد الأدلة على أنها لا ترتب.
الثاني: إذا عطف بالواو على منفي فإن قصدت المعية لم يؤت بلا بعد الواو، نحو: ما قام زيد وعمرو. وقد ترد زائدة، إن أمن اللبس، نحو: ما يستوي زيد ولا عمرو. لأن المعية هنا مفهومة من يستوي، وإن لم تقصد المعية جيء ب لا، نحو: ما قام زيد ولا عمرو، ليعلم بذلك أن الفعل منفي عنهما حال الاجتماع والافتراق. ومنه " وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم، عندنا، زلفى " .
فإن قلت: إذا قيل: ما قام زيد ولا عمرو، فهل هو من عطف المفردات أو من عطف الجمل؟ قلت: بل من عطف المفردات، خلافاً لبعضهم.
الثالث: قال السهيلي: الواو قسمان: أحدهما أن تجمع الاسمين في عامل واحد، وتنوب مناب صيغه التثنية. فيكون قام زيد وعمرو بمنزلة: قام هذان. وإذا نفي الفعل قلت: ما قام زيد وعمرو. والثاني أن تضمر بعد الواو، فترفع المعطوف بذلك المضمر، أو تنصب، فإذا نفيت، على هذا، قلت: ما قام زيد ولا عمرو. فالواو عاطفة جملة على جملة.
ويتركب على هذين الأصلين مسائل. منها: قامت هند وزيد، إذا أضمرت. وقام هند وزيد، إذا جعلها جامعة، لتغليب المذكر على المؤنث. وتقول: طلعت الشمس والقمر، على هذا. ولا تقول في جمع إلا: جمع الشمس والقمر. ومنها: زيد قام عمرو وأبوه، إن جعلتها جامعة جاز، أو أضمرت بعدها لم يجز. وكذلك في الصلة والصفة.
الرابع: قال بعض العلماء: الصواب أن يقال: الواو لمطلق الجمع، لا للجمع المطلق. لأن الجمع المطلق هو الجمع الموصوف بالإطلاق، لأنا نفرق بالضرورة بين الماهية بلا قيد، والماهية المقيدة، ولو بقيد لا. والجمع الموصوف بالإطلاق ليس له معنى هنا، بل المطلوب هو مطلق الجمع، بمعنى أي جمع كان، سواء كان مرتباً أو غير مرتب. ونظير ذلك قولهم: مطلق الماء، والماء المطلق.
الثاني من أقسام الواو: واو الاستئناف، ويقال: واو الابتداء. وهي الواو التي يكون بعدها جملة غير متعلقة بما قبلها، في المعنى، ولا مشاركة له في الإعراب. ويكون بعدها الجملتان: الاسمية والفعلية. فمن أمثلة الاسمية قوله تعالى " ثم قضى أجلاً، وأجل مسمى عنده " . ومن أمثلة الفعلية " لتبين لكم، ونقر في الأرحام ما نشاء " ، " هل تعلم له سمياً، ويقول الإنسان " . وهو كثير.
وذكر بعضهم أن هذه الواو قسم آخر، غير الواو العاطفة. والظاهر أنها الواو التي تعطف الجمل، التي لا محل لها من الإعراب، لمجرد الربط، وإنما سميت واو الاستئناف، لئلا يتوهم أن ما بعدها من المفردات، معطوف على ما قبلها.
وذكر بعض النحويين أن واو رب في نحو: وبلدة ليس بها أنيس ينبغي أن تحمل على أنها واو الابتداء. وقد تقدم ذكرها.

الثالث: واو الحال: وقدرها النحويون ب إذ، من جهة أن الحال، في المعنى، ظرف للعامل فيها. وتدخل على الجملة الاسمية، نحو: جاء زيد ويده على رأسه، وعلى الفعلية، إذا تصدرت بماض. الأكثر اقترانه ب قد، نحو: جاء زيد وقد طلعت الشمس. وتدخل على المضارع المنفي، ولا تدخل على المثبت. وأما نحو قوله: نجوت، وأرهنهم مالكا فالصحيح أنه على إضمار مبتدأ بعد الواو.
واعلم أن اقتران الجملة الحالية بهذه الواو ثلاثة أقسام: واجب، وممتنع، وجائز. وقد أوضحته في غير هذا الموضع، فإن ذكره هنا يطول به الكتاب.
الرابع: الواو الزائدة: ذهب الكوفيون والأخفش، وتبعهم ابن مالك، إلى أن الواو قد تكون زائدة. وأنشد الكوفيون، على ذلك، قول الشاعر:
حتى إذا قملت بطونكم ... ورأيتم أولادكم شبوا
وقلبتم ظهر المجن، لنا ... إن اللئيم، الفاجر، الخب
أراد: قلبتم. وزاد الواو. وأنشد أبو الحسن:
فإذا وذلك، يا كبيشة، لم يكن ... إلا كلمة بارق، بخيال
قال ابن مالك: ومثله قول أبي كبير:
فإذا وذلك ليس إلا ذكره ... وإذا مضى شيء كأن لم يفعل
قلت: وذكروا زيادة الواو في آيات، منها قوله تعالى " حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها " . وقوله " فلما أسلما وتله للجبين وناديناه " ، قيل: واو وتله زائدة، وهو الجواب. وقيل: الزائدة واو وناديناه. ومذهب جمهور البصريين أن الواو لا تزاد، وتأولوا هذه الآيات ونحوها، على حذف الجواب.
الخامس: الواو التي بمعنى أو: ذهب قوم من النحويين إلى أن الواو قد ترد بمعنى أو، كقول الشاعر:
وننصر مولانا، ونعلم أنه ... كما الناس، مجروم عليه، وجارم
وأجاز بعضهم أن تكون الواو في قولهم الكلمة اسم وفعل وحرف بمعنى أو، لأنه قد ييقال: اسم أو فعل أو حرف. قلت: العكس أقرب، لأن استعمال الواو في ذلك هو الأكثر. قال ابن مالك: استعمال الواو فيما هو تقسيم أجود من استعمال أو.
السادس: واو الثمانية: ذهب قوم إلى إثبات هذه الواو، منهم ابن خالويه، والحريري، وجماعة من ضعفة النحويين. قالوا: من خصائص كلام العرب إلحاق الواو في الثامن من العدد، فيقولون: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية، إشعاراً بأن السبعة عندهم عدد كامل. واستدلوا بقوله تعالى " التائبون، العابدون، الحامدون، السائحون، الراكعون، الساجدون، الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر " ، وبقوله تعالى " وثامنهم كلبهم " ، وبقوله تعالى " ثيبات وأبكاراً، وبقوله تعالى " حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها " . قالوا: ألحقت الواو، لأن أبواب الجنة ثمانية، ولما ذكر جهنم قال فتحت بلا واو، لأن أبوابها سبعة.
وذهب المحققون إلى أن الواو في ذلك إما عاطفة، وإما واو الحال. ولم يثبتوا واو الثمانية. وأنكر الفارسي واو الثمانية، لما ذكرها ابن خالويه في باب المناظرة.
ولنذكر ما قيل في هذه الآيات. أما قوله تعالى والناهون فالواو فيه عاطفة. وحكمة ذكرها في هذه الصفة، دون ما قبلها من الصفات، ما بين الأمر والنهي من التضاد. فجيء بالواو رابطة بينهما لتباينهما، وتنافيهما. وقال بعضهم: هي زائدة. وليس بشيء.
وأما قوله تعالى وثامنهم كلبهم فقيل: هي واو العطف، أي: يقولون سبعة، وثامنهم كلبهم. فهما جملتان. وقال الزمخشري: هي الواو، الداخلة على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الجملة الواقعة حالاً عن المعرفة. قال: وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهي التي آذنت بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم، وطمأنينه نفس، ولم يرجموا بالظن كغيرهم. وهو معترض من جهة أن دخول الواو على الصفة لم يقل به أحد، من النحويين.
وأما قوله تعالى وأبكاراً فليس من هذا الباب، لأن الواو فيه عاطفة، ولابد من ذكرها، لأنها بين وصفين لا يجتمعان في محل واحد.

وأما قوله تعالى وفتحت فقال أبو علي وغيره: هي واو الحال، والمعنى: حتى إذا جاؤوها، وقد فتحت. أي: جاؤوها، وهي مفتحة، لا يوقفون. وهذا قول المبرد أيضاً. وقيل: إن أبواب جهنم لا تفتح، إلا عند دخول أهلها، وأما أبواب الجنة فيتقدم فتحها، بدليل قوله تعالى " جنات عدن، مفتحة لهم الأبواب " . وجواب إذا، على هذا القول، محذوف، تقديره بعد خالدين، أي: نالوا المنى، ونحو ذلك. حذف للتعظيم. وقيل بعد أبوابها، أي دخلوها. وقيل: الجواب قال لهم والواو مقحمة. وتقدم قول من جعل فتحت هو الجواب، والواو مقحمة. والله أعلم.
السابع: الواو التي هي علامة الجمع في لغة أكلوني البراغيث. وهي لغة ثابتة، خلافاً لمن أنكرها، وأصحاب هذه اللغة يلحقون الفعل المسند إلى ظاهر، مثنى أو مجموع، علامة كضميره. فيقولون: قاما الزيدان، وقاموا الزيدون، وقمن الهندات. فالألف والواو والنون في ذلك حروف، لا ضمائر، لإسناد الفعل إلى الاسم الظاهر. فهذه الأحرف عندهم كتاء التأنيث في نحو: قامت هند.
ومن شواهد هذه اللغة، في الواو، قول الشاعر:
بني الأرض قد كانوا بني، فعزني ... عليهم، لإخلال المنايا، كتابها
أنشده ابن مالك. قال: وقد تكلم بهذه اللغة النبي، صلى الله عليه وسلم، قال يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار. وقال السهيلي: ألفيت، في كتب الحديث المروية الصحاح، ما يدل على كثرة هذه اللغة وجودتها. وذكر آثاراً منها: يتعاقبون فيكم ملائكة. ثم قال: لكني أقول في حديث مالك: إن الواو فيه علامة إضمار، لأنه حديث مختصر. رواه البزار مطولاً مجرداً، فقال فيه: إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم...
قلت: ونسب بعض النحويين هذه اللغة إلى طيىء، وقال بعضهم: هي لغة أزدشنوءة. ومن أنكر هذه اللغة تأول ما ورد من ذلك. فبعضهم يجعل ذلك خبراً مقدماً ومبتدأ مؤخراً، وبعضهم يجعل ما اتصل بالفعل ضمائر، والأسماء الظاهرة أبدال منها. وهذان تأويلان صحيحان، لما سمع من ذلك، من غير أصحاب هذه اللغة، وأما من يحمل جميع ما ورد من ذلك على التأويل فغير صحيح، لأن المأخوذ عنهم هذا الشأن متفقون على أن ذلك لغة قوم مخصوصين من العرب.
وحمل بعضهم على هذه اللغة قوله تعالى " ثم عموا وصموا كثير منهم " ، " وأسروا النجوى " . قلت: ولا ينبغي ذلك لأن هذه اللغة ضعيفة، فلا يحمل القرآن إلا على اللغات الفصيحة. والتأويلان المذكوران، قيل: يجريان في الآيتين. وقيل في وأسروا النجوى أقوال أخر.
الثامن: واو الإنكار. نحو قولك أعمروه لمن قال: جاء عمرو. وحرف الإنكار تابع لحركة الآخر، ألفاً بعد الفتحة، وياء بعد الكسرة، وواواً بعد الضمة. ويردف بهاء السكت.
التاسع: واو التذكار. نحو قولك يقولو تعني: يقول زيد. وحرف التذكار أيضاً تابع لحركة الآخر، وإنما يكون ذلك في الوقف على الكلمة، لتذكر ما بعدها. فإن كان آخر الموقوف عليه ساكناً كسر وألحق الياء، ولا تلحق هاء السكت حرف التذكار، لأن الوصل منوي. وقد عدوا حرف الإنكار وحرف التذكار من حروف المعاني.
العاشر: أن يكون بدلاً من همزة الاستفهام، إذا كان بعدها همزة. كقراءة قنبل " قال فرعون: وآمنتم " ، " وإليه النشور. وأمنتم " . فالواو في ذلك بدل من همزة الاستفهام. ذكر ذلك صاحب رصف المباني. ولا ينبغي ذكر مثل هذا، إذ لو فتح هذا الباب لعدت الواو من حروف الاستفهام. والإبدال في ذلك عارض، لاجتماع الهمزتين. والله أعلم.
فهذه جملة أقسام الواو، وهي أربعة عشر قسماً. وبقيت للواو أقسام أخر، ذكرها النحويون، ليست من حروف المعاني.
منها الواو التي هي ضمير الحمع، نحو: الزيدون قاموا. فهذه الواو اسم، خلافاً للمازني. فإنه قال: هي حرف، والفاعل مستكن في الفعل.
ومنها الواو التي هي علامة الرفع، نحو: جاء الزيدون.
ومنها واو الإشباع، وهي الزائدة للضرورة، ي نحو قول الشاعر:
وأنني حيث ما يثني الهوى بصري ... من حيث ما سلكوا أدنو، فأنظور
أي: فأنظر. فأشبع الضمة لإقامة الوزن.
ومنها واو الإطلاق. وهي، في الحقيقة، واو الإشباع، لكنها قياسية، كالواو في قوله: سقيت الغيث، أيتها الخيام ومنها واو الإبدال. وهي أقسام: بدل من همزة، نحو يومن. وبدل من ألف، نحو: خوصم زيد، لأن أصله خاصم. وبدل من ياء، نحو: موقن. فإنه من اليقين.

ومنها الواو الأصلية، كالواو في وعد.
وإنما ذكرت هذه الأقسام، مع أنها ليست من حروف المعاني، لأن بعض من صنف، في حروف المعاني، ذكر منها أقساماً، فأوهم كلامه أنها حروف معان.
وقد كنت نظمت للواو خمسة عشر معنى، في هذه الأبيات. وإليها يرجع جميع أقسامها:
الواو أقسامها تأتي ملخصة ... أصل، وعطف، والاستئناف، والقسم
والحال، والنصب، والإعراب، مضمرة ... علامة الجمع، والإشباع منتظم
وزائد، وبمعنى أو، ورب، ومع ... وواو الأبدال فيها العد يختتم

الألف
حرف مهمل، له عشرة أقسام: الأول: أن تكون للانكار نحو: أعمراه! لمن قال: رأيت عمراً.
الثاني: أن تكون للتذكار نحو: رأيت الرجلا، تريد الرجل، ووقفت لتتذكر ما بعده.
وقد تقدم ذكر هذين المعنيين في الواو.
الثالث: أن تكون علامة التثنية في اللغة التي تقدم ذكرها. كقول الشاعر:
تولى قتال المارقين، بنفسه ... وقد أسلماه مبعده، وحميم
الرابع: أن تكون كافة. وهي الألف في بينا. كقول الشاعر:
فبينا نحن نرقبه أتانا ... معلق شكوة، وزناد راعي
وقيل: إن الجملة بعدها في موضع جر بالإضافة، والألف إشباع. وقد أضيفت إلى المفرد، في قول الشاعر:
بينا تعانقه الكماة، وروغه ... يوماً، أتيح له جريء، سلفع
في رواية من جر. وقيل: بينا أصلها بينما، فحذفت الميم، وقيل: ألف بينا للتأنيث. وكلاهما قول ضعيف.
الخامس: أن تكون فصلاً بين نون التوكيد ونون الإناث، في نحو: اضربنان يا نسوة.
السادس: أن تكون للندبة، نحو: وازيداه.
السابع: أن تكون للاستغاثة، كقول الشاعر:
يا يزيدا، لآمل نيل عز ... وغنى، بعد فاقة، وهوان
الثامن: أن تكون للتعجب، كقول الشاعر:
يا عجبا، لهذه الفليقه ... هل تذهبن القوباء الريقه؟
التاسع: أن تكون بدلاً من نون التوكيد الخفيفة، نحو " لنسفعا " .
العاشر: أن تكون بدلاً من تنوين المنصوب، نحو: رأيت زيدا.
وما سوى هذه الأقسام فليس بحرف معنى، كألف التأنيث، وألف الإطلاق، وألف الإلحاق، وألف التثنية، وألف التكسير، والألف الفاصلة بين الهمزتين، في نحو: آ أنت، أم أم سالم؟ وألف الإشباع، في قوله: أقول، إذ خرت، على الكل لكال والألف الزائدة في الوقف، لبيان الحركة. وذلك ألف أنا على مذهب البصريين. والألف المزيدة في آخر المبهمات، إذا صغرت، عوضاً عن ضم أولها. نحو: ذيا، والذيا. والألف التي تلحق من في الإستثبات، حال النصب، نحو منا لمن قال: رأيت رجلا. فهذه الأقسام العشرة لا ينبغي أن يعد منها شيء في حروف المعاني.
وفي بعض الأقسام المتقدمة قبل هذه نظر.
تنبيه
إنما أخرت الألف إلى هذا الموضع، لأن، موضعها في ترتيب الحروف، على الأسلوب المألوف، بين الواو والياء. وذلك قولهم في: أ، ب، ت، ث... و، لا، ي. قال ابن جني: لا يقال لام ألف، وإنما يقال لا بلام مفتوحة، وألف لينة تليها. والمراد هنا الألف اللينة لأن اللام قد تقدمت. فلما قصدوا النطق بالألف، وهي ساكنة لا يمكن الابتداء بها، توصلوا إلى النطق بها، بإدخال اللام عليها.
فإن قيل: ولم خصت اللام بهذا دون غيرها؟ فالجواب أن العرب لما توصلوا بألف الوصل إلى اللام الساكنة في الرجل توصلوا إلى الألف الساكنة باللام، مقاصة.
فإن قلت: قد ذكرت الألف أول الحروف! قلت: المراد بالألف المذكورة أول الحروف الهمزة. نص على ذلك الأئمة. وذلك متعين لئلا يلزم تكرار حرف، وإهمال حرف. لأنه إذا جعلت الألف المبدوء بها عبارة عن الحرف الهاوي لزم تكرارها، لأنها مذكورة بعد اللام، كما تقدم، ولزم إهمال ذكر الهمزة.
قال أبو عبيد: الألف عند العرب ألفان: ألف مهموزة، وهي الهمزة. وإنما جعلت صورتها ألفاً، لأنها لا تقوم بنفسها. ألا تراها تنقلب في الرفع واواً، وفي الفتح ألفاً، وفي الكسر ياء. والألف الأخرى هي التي تكون مع اللام في الحروف المعجمة. وهي ساكنة. لا ألف في الكلام غير هاتين.
وقد بسطت الكلام على هذا في وريقات مفردة. وهذا موضع اختصار.
الياء
حرف مهما، له ثلاثة أقسام: الأول: أن تكون للإنكار، نحو: أزيد نيه. ألحقت الياء بعد كسر التنوين.

الثاني: أن تكون للتذكار، نحو: قدي، إذا أردت أن تقول: قد قام، فوقفت على قد لتذكر ما بعده. وقد تقدم ذلك في الواو والألف.
الثالث: أن تكون حرفاً يدل على التأنيث والخطاب. وهو الياء في تفعلين على مذهب الأخفش والمازني. والصحيح أنها اسم مضمر. والخلاف في ذلك شهير.
وما سوى ذلك، من أقسام الياء، فلا يعد من حروف المعاني، كياء التصغير، وياء النسب، وياء المضارعة، وياء الإطلاق، وياء الإشباع، وغير ذلك من الياءات.
فهذا تمام الكلام على الحروف الأحادية. ويتعلق بها مسألة، أختم بها الباب. وهي أن الأصل، في هذه الحروف الأحادية، أن تبنى على السكون، لأن الأصل في المبني أن يسكن. ولكن عارض هذا الأصل أمران: أحدهما أن ما وضع على حرف واحد فحقه أن يقوى بالحركة لضعفه. والثاني أنها عرضة، لأن يبتدأ بها، فاحتاجت إلى الحركة، إذ لا يبتدأ بساكن. فصار أصلها، بهذا الاعتبار، أن تبنى على حركة.
ثم الأصل، في حركتها، أن تكون فتحة، لأنها أخف من الضمة والكسرة. فهي أخت السكون، الذي هو الأصل، في الخفة. وكل هذه الحروف، غير ما لزم السكون، جاء على هذا الأصل، أعني مبنياً على الفتح، إلا ثلاثة أحرف، وهي: باء الجر، ولامه، ولام الأمر.
أما الباء فإنها بنيت على الكسر، لأنها عاملة للجر دائماً. فاختاروا لها الكسرة، ليجانس لفظها عملها. وحكى اللحياني الفتح فيها شاذاًَ، قالوا به، ولا يقاس عليه. وذكر ابن جني، عن بعضهم، أن حركتها الفتح مع الظاهر، نحو: مررت بزيد.
وأما اللام فإنها تفتح مع المضمر، غير ياء المتكلم، على الأصل. وتكسر مع الظاهر، فرقاً بينها وبين لام الابتداء، إلا في المستغاث به، والمتعجب منه في النداء، فإنها تفتح فيهما، مراجعة للأصل، لأنهما واقعان موقع الضمير. إذ كل منادى حال محل المضمر. وما ذكرته في لام الجر هو اللغة الفصحى. ولغة خزاعة كسر اللام مع المضمر، كما تكسر مع الظاهر. وحكى أبو عمرو، ويونس، وأبو عبيدة، وأبو الحسن، أن من العرب من يفتحها مع الظاهر على الإطلاق. ولغة عكل وبالعنبر فتحها، مع الفعل. قال أبو زيد: سمعت من العرب من يقول " وما كان الله ليعذبهم " بفتح اللام. وقرأ سعيد ابن جبير، فيما حكى عنه المبرد " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " بفتح اللام الأولى، ونصب الثانية.
وأما لام الأمر فإنها كسرت حملاً على لام الجر، لأن عملها نقيض عملها. ومن كلامهم حمل النقيض على النقيض، كما يحمل النظير على النظير. وتقدم أنها قد تسكن بعد الواو والفاء وثم، وعلة ذلك، فليراجع.
وهذا فصل، أطال فيه النحويون، وما ذكرته فهو خلاصة كلامهم. والله أعلم بالصواب.

الباب الثاني
في الثنائي
وهو ضربان: متفق عليه، ومختلف فيه. وجميع ذلك ثلاثة وثلاثون حرفاً: إذ، وأل، وأم، وإن، وأن، وأو، وآ، وأي، وإي، وبل، وذا، وعن، وفي، وقد، وكم، وكي، ولم، ولن، ولو، ولا، ومذ، ومع، ومن، ومن، وما، وهل، ومها، وهو، وهي، وهم، إذا وقعت فصلاً، ووا، ووي، ويا. وأنا أذكرها، على هذا الترتيب، إن شاء الله تعالى.
إذ
لفظ مشترك؛ يكون اسماً، وحرفاً. وجملة أقسامه ستة: الأول: أن يكون ظرفاً لما مضى، من الزمان. نحو: قمت إذ قام زيد. ولا خلاف في اسمية هذا القسم. والدليل على اسمية إذ هذه من أوجه: أحدها الإخبار بها، مع مباشرة الفعل، نحو: مجيئك إذ جاء زيد. وثانيها إبدالها من الاسم، نحو: رأيتك أمس إذ جئت. وثالثها تنوينها، في غير ترنم، نحو: يومئذ. ورابعها الإضافة إليها، بلا تأويل، نحو " بعد إذ هديتنا " .
وهي مبنية، لافتقارها إلى ما بعدها من الجمل، أو لما عوض منها، وهو التنوين في: يومئذ، وحينئذ، ونحوهما. وإنما كسرت الذال، في ذلك، لالتقاء الساكنين. وذهب الأخفش إلى أنها كسرة إعراب، قال: لأن إذ إنما بنيت، لإضافتها إلى الجملة. فلما حذفت الجملة عاد إليها الإعراب، فجرت بالإضافة.
ورد بأوجه: أحدها أن سبب بنائها ليس هو الإضافة إلى الجملة. وإنما هو افتقارها إلى الجملة. والافتقار، عند حذف الجملة، أبلغ. فالبناء حينئذ أولى. وثانيها أن بعض العرب يقتح الذال تخفيفاً، فيقول: حينئذاً. وثالثها أن الكسر يوجد، دون إضافة، كقول الشاعر:
نهيتك، عن طلابك أم عمرو ... بعافية، وأنت، إذ، صحيح

قلت: أجاب الأخفش، عن هذا، بأنه أراد: حينئذ، فحذف حيناً وأبقى الجر. وفيه بعد.
واعلم أن إذ تضاف إلى الجملتين: الاسمية، والفعلية، ولا تضاف إلى جملة شرطية، إلا في ضرورة. ويقبح أن يليها اسم، بعده فعل ماض، نحو: كان ذلك إذ زيد قام. لما فيه من الفصل بين المتناسبين. ولذلك حسن: إذ زيد يقوم.
؟

تنبيه
إذ المذكورة لازمة للظرفية، إلا أن يضاف إليها زمان، نحو: يومئذ، وحينئذ. ولا تتصرف، بغير ذلك، فلا تكون فاعلة، ولا مبتدأ. وأجاز الأخفش والزجاج، وتبعهما كثير من المعربين، أن تقع مفعولاً به. وذكروا ذلك في آيات كثيرة، كقوله تعالى " واذكروا إذ أنتم قليل " ف إذ في هذه الآية ونحوها مفعول به. ومن لم ير ذلك جعل المفعول محذوفاً، وإذ ظرف عامله ذلك المحذوف. والتقدير: واذكروا نعمة الله عليكم إذ، أو: واذكروا حالكم إذ، ونحو ذلك.
الثاني: أن يكون ظرفاً لما يستقبل من الزمان، بمعنى إذا. ذهب إلى ذلك قوم، من المتأخرين، منهم ابن مالك. واستدلوا بقول الله تعالى " فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم " وبآيات أخر.
وذهب أكثر المحققين إلى أن إذ لا تقع موقع إذا، ولا إذا موقع إذ. وهو الذي صححه المغاربة، وأجابوا عن هذه الآية ونحوها، بأن الأمور المستقبلة لما كانت في إخبار الله، تعالى، متيقنة مقطوعاً بها عبر عنها بلفظ الماضي. وبهذا أجاب الزمخشري، وابن عطية، وغيرهما.
الثالث: أن تكون للتعليل، نحو قوله تعالى " ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم " ، " وإذ لم يهتدوا به فسيقولون " . ومنه قول الفرزدق:
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريش، وإذ ما مثلهم بشر
واختلف في إذ هذه، فذهب بعض المتأخرين إلى أنها تجردت عن الظرفية، وتمحضت للتعليل. ونسب إلى سيبوبه. وصرح ابن مال، في بعض نسخ التسهيل، بحرفيتها. وذهب قوم، منهم الشلوبين، إلى أنها لا تخرج عن الظرفية. قال بعضهم: وهو الصحيح.
الرابع: أن تكون للمفاجأة. ولا تكون للمفاجأة إلا بعد بينا وبينما. قال سيبويه: بينا أنا كذا إذ جاء زيد، فهذا لما توافقه وتهجم عليه.
واختلف في إذ هذه. فقيل: هي باقية على ظرفيتها الزمانية. وقيل: هي ظرف مكان، كما قال بعضهم ذلك في إذا الفجائية. وقال ابن مالك: المختار عندي الحكم بحرفيتها. وذهب بعضهم إلى أنها زائدة.
فإن قلت: إذا جعلت ظرفاً فما العامل فيها؟ قلت: قال ابن جني: الناصب لها هو الفعل الذي بعدها، وليست مضافة إليه. والناصب ل بينا وبينما فعل يقدر مما بعد إذ. وقال الشلوبين: العامل في بيتا ما يفهم من سياق الكلام، وإذ بدل من بينا، أي: حين أنا كذلك، إذا جاء زيد، وافقت مجيء زيد.
والفصيح ألا يؤتى ب إذ بعد بينا وبينما. والإتيان بها بعدهما عربي، خلافاً لمن أنكره.
الخامس: أن تكون شرطية، فيجزم بها. ولا تكون كذلك إلا مقرونة ب ما، لأنها إذا تجردت لزمتها الإضافة إلى ما يليها. والإضافة من خصائص الأسماء. فكانت منافية للجزم. فلما قصد جعلها جازمة ركبت مع ما، لتكفها عن الإضافة، وتهيئها لما لم يكن لها من معنى وعمل. ولكونها تركبت مع ما عدها بعضهم في الحروف الرباعية.
واختلف النحويون فيها. فذهب سيبويه إلى أنها حرف شرط ك إن الشرطية. وذهب المبرد، وابن السراج، وأبو علي، ومن وافقهم، إلى أنها باقية على اسميتها، وأن مدلوها من الزمان صار مستقبلاً، بعد أن كان ماضياً. قال ابن مالك: والصحيح ما ذهب إليه سيبويه، لأنها قبل التركيب حكم باسميتها، لدلالتها على وقت ماض، دون شيء آخر يدعى أنها دالة عليه، ولمساواتها الأسماء، في قبول بعض علامات الاسمية، كالتنوين ، والإضافة إليها، والوقوع موقع مفعول فيه، ومفعولبه. وأما بعد التركيب فمدلولها، المجتمع عليه، المجازاة. وهو من معاني الحروف. ومن ادعى أن لها مدلولاً آخر، زائداً على ذلك، فلا حجة له. وهي مع ذلك غير قابلة لشيء، من العلامات، التي كانت قابلة لها قبل التركيب. فوجب انتفاء اسميتها، وثبوت حرفيتها.
؟
تنبيه
خص بعضهم الجزم ب إذما بالشعر، وجعلها ك إذا. والصحيح أن الجزم بها جائز في الاختيار.
السادس: أن تكون زائدة. ذهب إلى ذلك أبو عبيدة، وابن قتيبة، وجعلا من ذلك قوله تعالى " وإذ قال ربك للملائكة " ، ومواضع أخر في القرآن. ومذهبهما في ذلك ضعيف. وكانا يضعفان في علم النحو.

وزاد بعضهم ل إذ قسماً سابعاً. وهو أن تكون بمعنى قد. وجعل إذ في قوله تعالى " وإذا قال ربك " بمعنى قد. وليس هذا القول بشيء. والله أعلم.
؟

أل
لفظ مشترك؛ يكون حرفاُ، واسماً. فالاسم أل الموصولة، على الصحيح. وما سوى ذلك، من أقفسامها، فهو حرف. وجملة أقسامها أحد عشر قسماً: الأول: أن تكون حرف تعريف، ومذهب سيبويه أنه حرف ثنائي، وهمزته همزة وصل، معتد بها في الوضع، كالاعتداد ببمزة الوصل في استمع ونحوه، بحيث لا يعد رباعياً. وهذا هو أقرب المذاهب إلى الصواب، وقوفاً مع ظاهر اللفظ. وتقدم ذكر بقية المذاهب. واختار ابن مالك مذهب الخليل، وهو أن حرف التعريف ثنائي، وهمزته همزة قطع أصلية، ولكنها وصلت، لكثرة الاستعمال. ونصره في شرح التسهيل بأوجه، لا يسلم أكثر من الاعتراض. وقد بينت ذلك في غير هذا الكتاب.
ثم أعلم أن من جعل حرف التعريف ثنائياً، وهمزته أصلية، عبر عنه ب أل. ولا يحسن أن يقول: الألف واللام، كما لا يقال في قد: القاف والدال. وكذلك ذكر عن الخليل. قال ابن جني: كان يقول أل، ولا يقول: الألف واللام. ومن جعل حرف التعريف اللام وحدها عبر باللام، كما فعل المتأخرون. ومن جعل حرف التعريف ثنائياً، وهمزته همزة وصل زائدة، فله أن يقول أل، وأن يقول: الألف واللام. وقد وقع في كتاب سيبويه التعبير بالأمرين. ولكن الأول أقيس.
ول أل، التي هي حرف تعريف، ثلاثة أقسام: عهدية، وجنسية، ولتعريف الحقيقة.
فالعهدية: هي التي عهد مصحوبها، بتقدم ذكره. نحو: جاءني رجل فأكرهت الرجل، أو بحضوره حساً، كقولك لمن سدد سهماً: القرطاس، أو علماً، كقوله تعالى " إذ هما في الغار " .
والجنسية بخلافها. وهي قسمان: أحدهما حقيقي، وهي التي ترد لشمول أفراد الجنس. نحو " إن الإنسان لفي خسر " . والآخر مجازي، وهي التي ترد لشمول خصائص الجنس، على سبيل المبالغة. نحو: أنت الرجل علماً، أي: الكامل في هذه الصفة. ويقال لها: التي للكمال.
وأما التي لتعريف الحقيقة، ويقال لها: لتعريف الماهية، فنحو قوله تعالى " وجعلنا من الماء كل شيء حي " .
واختلف في هذا القسم. فقيل: هو راجع إلى العهدية. وقيل: راجع إلى الجنسية. وقيل: قسم برأسه.
فإن قلت: ما حقيقة الفرق بين هذا القسم والقسمين السابقين؟ قلت: حقيقة الفرق أن العهدية يراد بمصحوبها فرد معين. والجنسية يراد بمصحوبها نفس الحقيقة، لا ما تصدق عليه من الأفراد.
فإن قلت: فما الفرق بين المعرف ب أل التي هي لتعريف الحقيقة، في قولك: اشتر الماء، وبين اسم الجنس النكرة، في قولك: اشتر ماءً؟ قلت: الفرق بينهما أن المعرف ب أل المذكورة موضوع للحقيقة، بقيد حضورها في الذهن. واسم الجنس النكرة موضوع لمطلق الحقيقة، لا باعتبار قيد ولا إشكال في أن الحقيقة، باعتبار حضورها في الذهن، أخص من مطلق الحقيقة. لأن حضورها في الذهن نوع تشخص لها. وهذا هو الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس أيضاً.
الثاني: أن تكون للحضور. وهي الواقعة بعد اسم الإشارة، نحو " لا أقسم بهذا البلد " ، وبعد أي في النداء، نحو: يا أيها الرجل، وفي نحو: الساعة، والوقت، إذا أريد به الحاضر. وهذا القسم راجع إلى الذي قبله. فقال بعضهم: يرجع إلى الجنسية. قال أبو موسى: ويعرض في الجنسية الحضور. وقيل: بل هي راجعة إلى العهدية.
الثالث: أن تكون للغلبة. نحو البيت للكعبة، والمدينة لطيبة. وهذه هي، في الأصل، التي للعهد. ولكن مصحوبها لما غلب على بعض ماله معناه صار علماً بالغلبة، وصارت أل لازمة له، وسلبت التعريف. ولا تحذف منه إلا في نداء، أو إضافة، أو نادر من الكلام.
الرابع: أن تكون للمح الصفة. نحو: الحارث، والعباس. وحقيقة هذه أنها حرف زائد، للتبيه على أن أصل الحارث ونحوه، من الأعلام، الوصفية. وقول أبي موسى ويعرض في العهدية الغلبة ولمح الصفة فيه نظر، لأن أل في: الحارث، والعباس، ونحوهما، لم تكن عهدية فعرض لها اللمح.
فإن قلت: بل هي التي للعهد، دخلت على هذه الأوصاف، قبل العلمية، ثم أقرت بعد العلمية، لتفيد هذا المعنى، كما فعل في التي للغلبة! قلت: هذا فاسد، لأن التي للمح الصفة إنما زيدت، بعد العلمية، ولذلك يجوز حذفها. ولو كانت قبل العلمية، ثم أقرت بعد العلمية، للزمت، لأن ما فارنت الألف واللام نقله أو الاتجاله لزمته.

وظاهر كلام ابن مالك أن الألف واللام المذكورة للمح الأصل، لا للمح الوصف. ولذلك مثل بالفضل والنعمان، وليسا بوصفين، في الأصل.
الخامس: أن تكون زائدة لازمة. وذلك في ألفاظ محفوظة. منها: الذي، والتي، وفروعهما من الموصولات. ومنها: اللات اسم الصنم. ومنها: الآن. وإنما حكم على الألف واللام في هذه الألفاظ بالزيادة، لأن تعريفها بغير الألف واللام؛ أما الموصولات فبالعهد الذي في صلاتها، على المختار. وأما اللات فبالعلمية. وأما الآن فقيل: تعريفه بلام مقدرة ضمن معناها، ولذلك بني. وقيل تعريفه بحضور مسماه، كتعريف اسم الإشارة.
السادس: أن تكون زائدة غير لازمة. وهي ضربان: زائدة في نادر من الكلام، وزائدة للضرورة.
فالزائدة، في نادر الكلام، كزيادتها فيما حكاه الكوفيون، من قول العرب: الخمسة العشر الدرهم.
والزائدة للضرورة إما في معرفة، كقوله: باعد أم العمرو من أسيرها وإما في تكرة، كقوله:
رأيتك، لما أن عرفت وجوهنا ... صددت وطبت النفس، يا قيس عن عمرو
وذلك في الشعر كثير.
السابع: أن تكون عوضاً من الضمير. هذا القسم قال به الكوفيون، وتبعهم ابن مالك. ومن أمثلته قوله تعالى " جنات عدن مفتحة لهم الأبواب " ، وقوله تعالى " فإن الجنة هي المأوى " أي: أبوابها، وهي مأواه. ومذهب أكثر البصريين أن الضمير في ذلك محذوف والتقدير: مفتحة لهم الأبواب منها، أو لها، وهي المأوى له. وكذلك يقولون في نحو: مررت برجل حسن الوجه، أي: منه، أوله.
الثامن: أن تكون عوضاً من الهمزة. وذلك الألف واللام في اسم الله تعالى، على قول من جعل أصله إلاهاً، وقال بأن الهمزة، التي هي فاء الكلمة، حذفت اعتباطاً، لا للنقل. وهو قول الخليل، فيما رواه عنه سيبويه. قال الزمخشري: ولذلك قيل في النداء: يا ألله، بقطع الهمزة، كما يقال: يا إلاه. قلت: علل الجوهري في الصحاح قطع الهمزة، بأن الوقف نوي على حرف النداء، تفخيماً للاسم. ونظر سيبويه هذا الاسم الشريف بالناس. قال: مثله الناس أصله أناس. وظاهر هذا أن الألف واللام في الناس عوض من الهمزة، كما قال بعضهم. وقال المهدوي: ليست الألف واللام في الناس للتعويض من الهمزة، وإن كان سيبويه قد شبهه به، فإن تشبيهه إنما وقع على حذف الهمزة من أناس، في حال دخول الألف واللام، لا على أنهما بدل من المحذوف، كما كانا في اسم الله تعالى بدلاً. ويقوي ذلك ما أنشده المبرد عن أبي عثمان، من قول الشاعر:
إن المنايا يطلعن ... على الأناس، الآمنينا
فلو كان عوضاً لم تجتمع الهمزة مع المعوض منه.
التاسع: أن تكون للتعظيم والتفخيم. ذهب إلى ذلك بعض الكوفيين، فجعل الألف واللام في اسم الله تعالى جاءتا للتفخيم والتعظيم. واعترضبأنا لم نجد اسماً فخم وعظم، بدخول الألف واللام. وللمنتصر أن يقول: وجدنا لهذا الاسم خصائص، فما ينكر أن يكون هذا منها؟ قلت: نقل المهدوي، عن سيبويه، أن الألف واللام في هذا الاسم الشريف للتعظيم كما تقدم عن بعض الكوفيين. وفي الألف واللام، في هذا الاسم الشريف، أقوال ذكرتها في إعراب البسملة.
العاشر: أن تكون بقية الذي. قال بذلك بعض النحويين، في مواضع، منها قول الشاعر:
من القوم، الرسول الله منهم ... لهم، دانت رقاب بني معد
أي: الذين رسول الله منهم. فحذف الاسم، اكتفاء بالألف واللام.
وذهب بعضهم إلى أنها، في هذا البيت، زائدة. والصحيح أنها أل الموصولة. وذهب بعض النحويين إلى أن أل في قول الشاعر: ما أنت بالحكم الترضى حكومته بقية الذي.
الحادي عشر: الموصولة. وهي الداخلة على الصفات. نحو: الضارب، والمضروب. وفيها ثلاثة أقوال: الأول أنها حرف تعريف، لا موصولة. وهو مذهب الأخفش. والثاني أنها حرف موصول، لا اسم موصول. وهو مذهب المازني. والثالث أنها اسم موصول. وهو مذهب الجمهور. ولكل قول أدلة، يطول ذكرها. والصحيح مذهب الجمهور، لعود الضمير إليها، في نحو: الضاربها زيد هند.
وشذ وصلها بالمضارع، في قول الشاعر: ما أنت بالحكم الترضى حكومته وقد وردت، من ذلك، أبيات. وذهب ابن مالك إلى جواز ذلك في الاختيار، وفاقاً لبعض الكوفيين. وشذ وصلها بالجملة الاسمية، في قوله: من القوم، الرسول الله منهم وقد تقدم، وبالظرف في قول الراجز:

من لا يزال شاكراً على المعه ... فهو حر، بعيشة، ذات سعه
أي: على الذي معه.

تنبيه
وقد اتضح، بما ذكرته، أن الألف واللام في كلام العرب أربعة عشر قسماً، على التفصيل، بالمتفق عليه والمختلف فيه. وهي: العهدية، والجنسية، والتي للكمال وهي نوع من الجنسية، والتي للحقيقة، والتي للحضور، والتي للغلبة، والتي للمح الصفة، والزائدة اللازمة، والزائدة للضرورة، والتي هي عوض من الضمير، والتي هي عوض من الهمزة، والتي للتفخيم، وبقية الذي، والموصولة وكلها، عند التحقيق، راجعة إلى ثلاثة أقسام: معرفة وزائدة وموصولة. وقد نظمتها في هذه الأبيات:
أقسام أل أربع، وعشر ... للعهد، والجنس، والكمال
ثم لماهية، ولمح ... أو غالب، أو حضور حال
وزيد نثراً، وزيد نظماً ... وفخمت، في اسم ذي الجلال
وناب عن مضمر، وهمز ... ومن، بذي الوصل، ذا احتفال
وقيل: بعض الذي أتانا ... فاحفظه، وابحث عن المثال
أم
حرف مهمل، له أربعة أقسام : الأول: أم المتصلة، وهي المعادلة لهمزة التسوية، نحو " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " ، أو لهمزة الاستفهام، التي يطلب بها وبد أم ما يطلب ب أي. نحو: أقام زيد أم قعد؟ وقد تحذف الهمزة، للعلم بها. وتقدم ذكر ذلك. وأم هذه عاطفة.
وذهب ابن كيسان إلى أن أصلها أو والميم بدل من الوا وذكر النحاس في أم هذه خلافاً، وأن أبا عبيدة ذهب إلى أنها بمعنى الهمزة. فإذا قال: أقام زيد أم عمرو؟ فالمعنى: أعمرو قام؟ فيصير على مذهبه استفهامين. وقال محمد بن مسعود الغزني في البديع: إن أم ليست بحرف عطف. وكونها حرف عطف هو مذهب الجمهور.
الثاني: أم المنقطعة. وهي التي لا يكون قبلها إحدى الهمزتين. واختلف في معناها، فقال البصريون: إنها تقدر ب بل والهمزة مطلقاً. وقال قوم: إنها تقدر ب بل مطلقاً. وذكر ابن مالك أن الأكثر أن تدل على الإضراب مع الاستفهام، وقد تدل على الإضراب فقط. ولكونها قد تخلو من الاستفهام، دخلت على أدوات الاستفهام، ما عدا الهمزة. نحو " أم هل تستوي الظلمات والنور " ، " أم ماذا كنتم تعملون " . وهو فصيح كثير. ووهم من زعم أنه قليل جداً، لأنه من الجمع بين أداتي معنى واحد. وقدر بعضهم أم هذه بالهمزة وحدها، في قوله تعالى " أم اتخذوا من دونه أولياء " .
فإن قلت: ف أم المنقطعة هل هي عاطفة أو ليست بعاطفة؟ قلت: المغاربة يقولون: إنها ليست عاطفة، لا في مفرد، ولا في جملة. وذكر ابن مالك أنها قد تعطف المفرد، كقول العرب، إنها لإبل أم شاء. قال: ف أم هنا لمجرد الإضراب، عاطفة ما بعدها على ما قبلها، كما يكون بعد بل، فإنها بمعناها. ومذهب الفارسي، وابن جني، في ذلك أنها بمنزلة بل والهمزة، وأن التقدير: بل أهي شاء. وبه جزم ابن مالك، في بعض كتبه.
الثالث: أم الزائدة. ذهب أبو زيد إلى أن أم تكون زائدة، وجعل من ذلك قوله تعالى " أم يقولون افتراه " . وذكر الحريري في درة الغواص أن بعض أهل اليمن يزيد أم في الكلام، فيقولون: أم نحن نضرب الهام، أي: نحن نضرب.
الرابع: أم التي هي حرف تعريف، في لغة طيىء، وقيل لغة حمير. وجاء في الحديث ليس من امبر أم صيام في امسفر. وذكروا أن الميم في هذا بدل من اللام. وتقدم ذكر هذه اللغة، في حرف الميم. والله أعلم.
إن المكسورة الهمزة
حرف له سبعة أقسام: الأول: إن الشرطية، وهو حرف يجزم فعلين. وشذ إهمالها، في قراءة طلحة " فإما ترين من البشر أحداً " ذكرها ابن جني في المحتسب. وفي الحديث أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إلا تراه فإنه يراك. ذكره ابن مالك. وإن الشرطية هي أم أدوات الشرط.
الثاني: إن المخففة من الثقيلة. وفيها بمد التخفيف لغتان: الإهمال، والإعمال. والإهمال أشهر. وقد قرىء بالوجهين قوله تعالى " وإن كلا لما ليوفينهم " . وهذه القراءة، ونقل سيبويه، حجة على من أنكر الإعمال. فإذا أعملت فحكمها حكم الثقيلة. وإذا ألغيت جاز أن يليها الأسماء والأفعال. ولا يليها، من الأفعال، إلا النواسخ، نحو " وإن كانت لكبيرة " . وندر قول الشاعر:
شلت يمينك، إن قتلت لمسلماً ... وجبت عليك عقوبة المعتمد

وأجاز الأخفش القياس على هذا البيت، وتبعه ابن مالك. وتقدم أن اللام الفارقة تلزم بعد إن هذه، إن خيف التباسها بالنافية. وذهب الكوفيون إلى أن إن هذه نافية، لا مخففة، واللام بعدها بمعنى إلا، وأجازوا دخولها على سائر الأفعال.
الثالث: إن النافية، وهي ضربان: عاملة، وغير عاملة.
فالعاملة ترفع الاسم وتنصب الخبر. وفي هذه خلاف، منعه أكثر البصريين، وأجازه الكسائي وأكثر الكوفيين وابن السراج والفارسي، وأبو الفتح. واختلف النقل عن سيبويه والمبرد.
والصحيح جواو إعمالها، لثبوته ونثراً. فمن النثر قولهم: إن ذلك نافعك ولا ضارك، وإن أحد خيراً من أحد، إلا بالعافية. وقال أعرابي: إن قائماً. يريد: إن أنا قائماً. وعلى ذلك خرج ابن جني قراءة سعيد بن جبير " إن الذين تدعون، من دون الله، عباداً أمثالكم " . ومن النظم قول الشاعر:
إن هو مستولياً على أحد ... إلا على أضعف المجانين
أنشد الكسائي. وقول الآخر:
إن المرء ميتاً، بانقضاء حياته ... ولكن بأن يبغى عليه، فيخذلا
وقد تبين، بهذا، بطلان قول من خص ذلك بالضرورة، وقال: لم يأت منه إلا إن هو مستولياً. وحكى بعض النحويين أن إعمالها لغة أهل العالية.
وغير العاملة كثير وجودها، في الكلام، كقوله تعالى " إن الكافرون. إلا في غرور " .
الرابع: إن الزائدة، وهي ضربان: كافة، وغير كافة.
فالكافة بعد ما الحجازية نحو: ما إن زيد قائم. ف إن في ذلك زائدة كافة ل ما عن العمل. وذهب الكوفيون إلى أنها نافية. وهو فاسد.
وغير الكافة في أربعة مواضع: أولها بعد ما الموصولة الاسمية، كقول الشاعر:
يرجي المرء ما إن لا يراه ... وتعرض، دون أدناه، الخطوب
وثانيها بعد ما المصدرية، كقول الشاعر:
ورج الفتى، للخير، ما إن رأيته ... على السن، خيراً لا يزال يزيد
وثالثها بعد ألا الاستفتاحية، كقول الشاعر: ألا إن سرى ليلي، فبت كئيبا ورابعها قبل مدة الإنكار. قال سيبويه: سمعنا رجلا من أهل البادية، قيل له: أتخرج إن أخصبت البادية؟ فقال: أأنا إنيه! منكراً أن يكون رأيه على خلاف الخروج.
الخامس: إن التي هي بقية إما. ذكر ذلك سيبويه، وجعل منه قول الشاعر:
سقته الرواعد، من صيف ... وإن من خريف فلن يعدما
قال: أراد: إما من خريف. وقد خولف، في هذا البيت. فجعلها المبرد وغيره شرطية. وهو أظهر، لعدم التكرار. وأبين منه قول الآخر: فإن جزعاً، وإن إجمال صبر أراد: فإما جزعاً وإما إجمال صبر. وفيه احتمال. وقال ابن مالك: إما مركبة من إن وما، وقد يكتفى ب إن.
السادس: إن التي بمعنى إذ. ذهب إلى ذلك قوم، في قوله تعالى " وذروا ما بقي من الربا، إن كنتم مؤمنين " . قال معناه: إذ كنتم، وقوله تعالى " لتدخلن المسجد الحرام، إن شاء الله " ، وقول النبي، صلى الله عليه وسلم وإنا، إن شاء الله، بكم لاحقون، ونحو هذه الأمثلة، مما الفعل فيه محقق الوقوع.
ومذهب المحققين أن إن، في هذه المواضع كلها، شرطية. وأجابوا عن دخولها في هذه المواطن. ولم يثبت في اللغة أن إن بمعنى إذ. وأما قوله تعالى " إن كنتم مؤمنين " فقيل: إن فيه شرط محض، لأنها أنزلت في ثقيف. وكان أول دخولهم في الإسلام. وإن قدرنا الآية فيمن تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة، كما تقول: إن كنت ولدي فأطعني.
وأما قوله تعالى " إن شاء الله " ففيه أقوال: أحدها أن ذلك تعليم لعباده، ليقولوا في عداتهم مثل ذلك، متأدبين بأدب الله. وقيل: هو استثناء من الملك المخبر للنبي، صلى الله عليه وسلم، في منامه. فذكر الله مقالته، كما وقعت. حكاه ابن عطية، عن بعض المتأولين. وذكره الزمخشري. وقيل: المعنى: لتدخلن جميعاً، إن شاء الله، ولم يمت أحد. وقيل: إنما استثني من حيث أن كل واحد، من الناس، متى رد هذا الوعد إلى نفسه أمكن أن يتم فيه الوعد، وألا يتم. إذ قد يموت الإنسان، أو يمرض، أو يغيب. وقيل: الاستثناء معلق بقوله آمنين. قال ابن عطية: لا فرق بين الاستثناء من أجل الأمن، أو من أجل الدخول، لأن الله تعالى قد أخبر بهما، ووقعت الثقة بالأمرين. وقيل: هو حكاية، من الله، قول رسوله لأصحابه. ذكره السجاوندي. وقيل: لتدخلن بشيئة الله، على عادة أهل السنة لا على الشرط. وقيل غير ذلك، مما لا تحقيق فيه.

وأما الحديث فقيل: الاستثناء فيه للتبرك. وقيل: هو راجع إلى اللحوق بهم، على الإيمان. وقيل غير هذا.
السابع: إن التي بمعنى قد. حكي عن الكسائي، في قوله تعالى " فذكر، إن نفعت الذكرى " ، أنه جعل إن بمعنى قد، أي: قد نفعت الذكرى. وقال بعضهم، في قوله تعالى " إن كان وعد ربنا لمفعولاً " : إنها بمعنى قد. وليس بصحيح. وإن في الآية الأولى شرطية، وفي الثانية مخففة من الثقيلة.
وقد نظمت أقسام إن في هذين البيتين:
وأقسام إن بالكسر شرط، زيادة ... ونفي، وتخفيف، فتلزم لامها
وقد قيل:
معنى إذ وإما وقد حكى ال ... كسائي معنى قد، وهذا تمامها

أن المفتوحة الهمزة
لفظ مشترك، يكون اسماً وحرفاً. فيكون اسماً في موضعين: أحدهما في قولهم: أن فعلت، بمعنى أنا. فهي هنا ضمير للمتكلم، وهي إحدى لغات أنا. والثاني في أنت وأخواته. فإن مذهب الجمهور أن الاسم هو أن، والتاء حرف خطاب. وقد تقدم ذكر ذلك.
وأما أن الحرفية فذكر لها بعض النحويين عشرة أقسام: الأول: المصدرية. وهي من الحروف الموصولات، وتوصل بالفعل المتصرف، ماضياً، ومضارعاً، وأمراً. نحو: أعجبني أن فعلت ويعجبني أن يفعل، وأمرته بأن أفعل. ونص سيبويه، وغيره، على وصلها بالأمر. واستدلوا، على أنها مع الأمر مصدرية، بدخول حرف الجر عليها.
قيل: ويضعف وصلها بالأمر لوجهين: أحدهما أنها إذا قدرت مع الفعل بالمصدر فات معنى الأمر. والثاني أنه لا يوجد في كلامهم يعجبني أن قم، ولا أحببت أن قم. ولو كانت توصل بالأمر لجاز ذلك، كما جاز في الماضي والمضارع. وجميع ما استدلوا به على أنها توصل بالأمر يحتمل أن تكون التفسيرية. وأما ما حكى سيبويه من قولهم: كتبت إليه بأن قم، فالباء زائدة، مثلها في: لا يقرأن بالسور
تنبيه
أن المصدرية هي إحدى نواصب الفعل المضارع. بل هي أم الباب. وتعمل ظاهرة ومضمرة، على تفصيل مذكور في باب إعراب الفعل. وذهب ابن طاهر إلى أن الناصبة للمضارع قسم، غير الداخلة على الماضي والأمر. وليس بصحيح.
الثاني: المخففة من الثقيلة. وهي ثلاثية وضعاً، بخلاف التي قبلها. وأن المخففة تنصب الاسم وترفع الخبر، كأصلها. إلا أن اسمها منوي، لا يبرز إلا في ضرورة، كقول الشاعر:
فلو أنك، في يوم الرخاء، سألتني ... طلاقك لم أبخل، وأنت صديق
وأجاز بعضهم بروزه في غير الضرورة. ونقل عن البصريين. ولا يلزم كون اسمها المنوي ضمير شأن، خلافاً لقوم. وقد قدر سيبويه في قوله تعالى " أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا " ، أنك يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
وخبر أن المخففة إما جملة اسمية، نحو " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " ، وإما جملة فعلية مفصولة ب قد، نحو " ونعلم أن قد صدقتنا " ، أو حرف تنفيس، نحو " وعلم أن سيكون " ، أو حرف نفي، نحو " علم أن لن تحصوه " ، أو لو، نحو " تبينت الجن أن لو كانوا " ، ما لم يكن الفعل غير متصرف أو دعاء، فلا يحتاج إلى فاصل، نحو " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " ، ونحو " والخامسة أن غضب الله عليها " . وندر عدم الفصل، مع غيرهما، كقول الشاعر:
علموا أن يؤملون، فجادوا ... قبل أن يسألوا، بأعظم سؤل
وفي جوازه، في الاختيار، خلاف.
تنبيه
مذهب الكوفيين في أن المخففة أنها لا تعمل، لافي ظاهر ولا مضمر. وقد أجاز سيبويه أن تلغى لفظاً، وتقديراً، فلا يكون لها عمل.
واعلم أن أن المخففة من الحروف المصدرية. فإذا قيل أن: المصدرية فاللفظ صالح ل أن الناصبة للفعل، ول أن المخففة. والفرق بينهما أن العامل إن كان فعل علم فهي مخففة، وإن كان فعل ظن جاز الأمران، نحو " وحسبوا أن لا تكون فتنة " . فمن جعلها الأولى نصب. ومن جعلها الثانية رفع. وإن كان غير ذلك فهي الناصبة للفعل، نحو " والذي أطمع أن يغفر لي " ، ونحو " وأن تصوموا خير لكم " . وإذا وليها مضارع مرفوع، وليس قبلها علم أو ظن، كقول الشاعر:
أن تقرأ ان على أسماء، ويحكما ... مني السلام، وألا تشعرا أحدا
وقراءة بعضهم " لمن أراد أن يتم الرضاعة " ، فمذهب البصريين أنها أن المصدرية، أهملت حملاً على ما أختها. ومذهب الكوفيين أنها المخففة.

الثالث: أن المفسرة، وهي التي يحسن في موضعها أي، وعلامتها أن تقع بعد جملة، فيها معنى القول، دون حروفه. نحو " فأوحينا إليه أن اصنع الفلك " . ولا تقع بعد صريح القول، خلافاً لبعضهم.
وإذا ولي أن الصالحة للتفسير مضارع معه لا، نحو: أشرت إليه أن لا تفعل. جاز رفعه، وجزمه، ونصبه. فرفعه على جعل أن مفسرة، ولا نافية. وجزمه على جعل لا ناهية. ونصبه على جعل أن مصدرية، ولا نافية. وإن كان المضارع مثبتاً جاز رفعه ونصبه، بالاعتبارين.

تنبه
مذهب البصريين أن المفسرة قسم ثالث. ونقل عن الكوفيين أنها عندهم المصدرية.
الرابع: أن الزائدة. وتطرد زيادتها بعد لما، نحو " فلما أن جاء البشير " ، وبين القسم ولو، كقول الشاعر:
أما، والله، أن لو كنت حراً ... وما بالحر أنت، ولا العتيق
ووقع لابن عصفور أن أن هذه حرف، يربط جملة القسم. وشذ زيادتها بعد كاف التشبيه، في قول الشاعر: كأن ظبية، تعطو إلى وارق السلم في رواية من جر.
ولا تعمل أن الزائدة شيئاً، وفائدة زيادتها التوكيد. وذهب الأخفش إلى أنها قد تنصب الفعل، وهي زائدة. واستدل بالسماع والقياس. أما السماع فقوله تعالى " وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله " ، " وما لكم ألا تنفقوا " ، وأن في الآيتين زائدة، كقوله " وما لنا لا نؤمن بالله " . وأما القياس فهو أن الزائد قد عمل، في نحو: ما جاءني من أحد، وليس زيد بقائم. ولا حجة له في ذلك. أما السماع فيحتمل أن تكون أن فيه مصدرية، دخلت بعد ما لنا لتضمنه معنى: ما منعنا. وأما القياس فلأن حرف الجر الزائد مثل غير الزائد، في الاختصاص بما عمل فيه، بخلاف أن فإنها قد وليها الاسم، في قوله كأن ظبية على رواية الجر.
تنبيه
أن الزائدة ثنائية وضعاً، وليس أصلها مثقلة فخففت، خلافاً لبعضهم. ولذلك لو سمي بها أعربت ك يد، وصغرت أني لا أنين.
الخامس: أن تكون شرطية، تفيد المجازاة. ذهب إلى ذلك الكوفيون، في نحو: أما أنت منطلقاً انطلقت. وجعلوا منه قوله تعالى " أن تضل إحداهما فتذكر " . قالوا: ولذلك دخلت الفاء. وجعلوا منه قول الشاعر:
أتجزع أن أذنا قتيبة حزتا ... جهاراً، ولم تجزع، لقتل ابن خازم؟
ومنع ذلك البصريون، وتأولوا هذه الشواهد، على أنها المصدرية.
السادس: أن تكون نافية بمعنى لا. حكاه ابن مالك، عن بعض النحويين. وحكاه ابن السيد، عن أبي الحسن الهروي عن بعضهم، في قوله تعالى " قل: إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد " أي: لا يؤتى أحد. قلت: ونقله بعضهم، في الآية، عن الفراء. والصحيح أنها لا تفيد النفي، وأن في الآية مصدرية. وفي إعرابها أوجه، ذكرتها في غير هذا الموضع.
السابع: أن تكون بمعنى لئلا. جعل بعضهم من ذلك قوله تعالى " يبين الله لكم أن تضلوا " ، أي: لئى تضلوا. ونحوه كثير. ومذهب البصريين أن ذلك على حذف مضاف، أي: كراهة أن تضلوا. وذهب قوم إلى أنه على حذف لا. ورده المبرد.
الثامن: أن تكون بمعنى إذ مع الماضي. ذهب إلى ذلك بعض النحويين، وجعلوا منه قوله تعالى " بل عجبوا أن جاءهم " . قيل: ومع المضارع أيضاً، كقوله تعالى " أن تؤمنوا بالله ربكم " ، أي: إذ آمنتم. وجعل بعضهم أن في قوله: أتجزع أن أذنا قتيبة حزتا بمعنى إذ. وهذا ليس بشيء، وأن في الآيتين مصدرية. وأما في البيت فهي عند الخليل مصدرية، وعند المبرد مخففة.
التاسع: أن تكون بمعنى إن المخففة من الثقيلة. تقول: أن كان زيد لعالماً، بمعنى: إن كان زيد لعالما. ولو دخل عليها فعل ناسخ لم تعلقه اللام بعدها، بل تفتح. ذهب إلى ذلك أبو علي، وابن أبي العافية، في قوله، في الحديث قد علمنا أن كنت لمؤمناً. فعندهما أن أن لا تكون في ذلك إلا مفتوحة، ولا تلزم اللام. وذهب الأخفش الأصغر، وابن الأخضر، إلى أنه لا يجوز فيها إلا الكسر، وتلزم اللام. وعليه أكثر نحاة بغداد.
العاشر: أن تكون جازمة. ذهب إلى ذلك بعض الكوفيين، وأبو عبيدة، واللحياني. وحكى اللحياني أنها لغة بني صباح، من بني ضبة. وقال الرؤاسي: فصحاء العرب ينصبون ب أ، وأخواتها الفعل، ودونهم قوم يرفعون بها، ودونهم قوم يجزمون بها. وقد أنشدوا على ذلك أبياتاً، منها قول الشاعر:
إذا ما غدونا قال ولدان قومنا: ... تعالوا، إلى أن يأتنا الصيد، نحطب
وقول الآخر:

أحاذر أن تعلم بها، فتردها ... فتتركها ثقلاً، علي، كما هيا
وقد كنت نظمت لها ثمانية معان، في هذين البيتين:
وأقسام أن مفتوحة مصدرية ... وزائدة، أو مثل أي، ومخففه
ومعنى لئلا، ثم لا، ثم إذ، حكوا ... وجازمة أيضاً، فخذها بمعرفه

أو
حرف عطف. ومذهب الجمهور أنها تشرك في الإعراب، لا في المعنى، لأنك إذا قلت: قام زيد أو عمرو، فالفعل واقع من أحدهما. وقال ابن مالك: إنها تشرك في الإعراب والمعنى، لأن ما بعدها مشارك لما قبلها في المعنى الذي جيء بها لأجله؛ ألا ترى أن كل واحد منهما مشكوك في قيامه. قلت: وكلاهما صحيح، باعتبارين. و ل أو ثمانية معان.
الأول: الشك. نحو: قام زيد أو عمرو.
القثاني: الإبهام. نحو " وإنا أو إياكم لعلى هدى " .
والفرق بينهما أن الشك من جهة المتكلم، والإبهام على السامع.
الثالث: التخيير. نحو: خذ ديناراً أو ثوباً.
الرابع: الإباحة. نحو: جالس الحسن أو ابن سيرين.
والفرق بينهما جواز الجمع في الإباحة، ومنع الجمع في التخيير.
الخامس: التقسيم. نحو: الكلمة اسم أو فعل أو حرف. وأبدل ابن مالك في التسهيل التقسيم بالتفريق المجرد، يعني من المعاني السابقة. ومثله بقوله تعالى " وقالوا: كونوا هوداً أو نصارى " . قال: ولتعبير عن هذا بالتفريق أولى من التعبير عنه بالتقسيم، لأن استعمال الواو فيما هو تقسيم أجود من استعمال أو. قلت: وعبر بعضهم عن هذا المعنى بالتفصيل.
السادس: الإضراب. كقوله تعالى " وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون " . قال الفراء: أو هنا بمعنى بل. قال ابن عصفور: والإضراب ذكره سيبويه في النفي، والنهي، إذا أعدت العامل. كقولك: لست بشراً أو لست عمراً، ولا تضرب زيداً أو لا تضرب عمراً. قال: وزعم بعض النحويين أنها تكون للإضراب، على الإطلاق. واستدلوا بقوله تعالى " وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون " ، وبقوله " فهي كالحجارة أو أشد قسوة " . قال: وما ذهبوا إليه فاسد. وقال ابن مالك: أجاز الكوفيون موافقتها بل في الإضراب، ووافقهم أبو علي وابن برهان. قلت: وابن جني، قال في قراءة أبي السمال " أو كلما عاهدوا عهداً " : أو هنا بمعنى بل.
السابع: معنى الواو. كقول الشاعر: جاء الخلافة، أو كانت له قدراً أراد: وكانت. فأوقع أو مكان الواو، لأمن اللبس. وإلى أن أو تأتي بمعنى الواو، ذهب الأخفش والجرمي، واستدلا بقوله تعالى " أو يزيدون " . وهو مذهب جماعة من الكوفيين.
الثامن: معنى ولا. ذكر بعض النحويين أن أو تأتي بمعنى ولا. وأنشد:
ولا وجد ثكلى كما وجدت، ولا ... وجد عجول، أضلها ربع
أو وجد شيخ، أضل ناقته ... يوم توافى الحجيج، فاندفعوا
أراد: ولا وجد شيخ.
وذكر ابن مالك أن أو توافق ولا بعد النهي، كقوله تعالى " ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً " ، وبعد النفي، كقوله تعالى " أو بيوت آبائكم " الآية. والتحقيق أن أو في قوله تعالى أو كفوراً هي التي كانت للإباحة. فإن النهي إذا دخل في الإباحة استوعب ما كان مباحاً باتفاق. وإذا دخل في التخيير ففيه خلاف؛ ذهب السيرافي إلى أنه يستوعب الجميع، كالنهي عن المباح، وذهب ابن كيسان إلى جواز أن يكون النهي عن كل واحد، وأن يكون عن الجميع.
تنبيه
ذهب قوم إلى أن أو موضوعة لقدر مشترك بين المعاني الخمسة المتقدمة. وهو أنها موضوعة لأحد الشيئين، أو الأشياء، وأنما فهمت هذه المعاني من القرائن.
وزاد بعض الكوفيين ل أو قسماً آخر، وهو أو الناصبة للفعل المضارع، في نحو قول الشاعر:
فقلت له: لاتبك عينك، إنما ... نحاول ملكاً، أو نموت، فنعذرا
مذهب الكسائي أن أو هذه ناصبة للفعل، بنفسها. وذهب قوم من الكوفيين، منهم الفراء، إلى أنه انتصب بالخلاف. ومذهب البصريين أن أو هذه هي العاطفة، والفعل بعدها منصوب ب أن مضمرة. وهو الصحيح.
وقد نظمت معاني أو في هذين البيتين:
ب أو خير، أبح، قسم، وأبهم ... وفي شك، وإضراب، تكون
ومثل ولا، وواو، أو لنصب ... بإضمار، لحرف، لا يبين
آ

حرف من حروف النداء، حكاه الأخفش، والكوفيون. وزعم ابن عصفور أنه للقريب، كالهمزة. وذكر غيره أنه للبعيد. وهو الصحيح، لأن سيبويه ذكر رواية، عن العرب، أن الهمزة للقريب، وما سواها للبعيد. والله أعلم.

أي بفتح الهمزة
حرف له قسمان: الأول: أن يكون حرف نداء، كقولك: أي زيد. وفي الحديث أي رب. وهي لنداء البعيد. وقيل: للقريب، كالهمزة، وقيل: للمتوسط. وقد تمد، فيقال: آي. حكاها الكسائي، وقال: بعضهم يجوز مدها، إذا بعدت المسافة. فيكون المد فيها دليلاً على البعد.
الثاني: أن تكون حرف تفسير، كقول الشاعر:
وترمينني بالطرف، أي: أنت مذنب ... وتقلينني، لكن إياك لا أقلي
وهي أعم من أن المفسرة، لأن أي تدخل على الجملة والمفرد، وتقع بعد القول وغيره. وذهب قوم إلى أن أي التفسيرية اسم فعل، معناه عوا أو افهموا.
وزاد بعضهم ل أي قسماً ثالثاً، وهو أن تكون حرف عطف. وذلك إذا وقع بين مشتركين في الإعراب، نحو: هذا الغضفر، أي: الأسد. وكونها حرف عطف هو مذهب الكوفيين. وتبعهم ابن السكاكي الخوارزمي، من أهل الشرق، وأبو جعفر بن صابر، من أهل المغرب. والصحيح أنها التفسيرية، وما بعدها عطف بيان.
واعلم أن أي قد تكون محذوفة من أي الاستفهامية. كقول الشاعر:
تنظرت نصراً والسماكين، أيهما ... علي، من الغيث، استهلت مواطره
إي بكسر الهمزة
حرف بمعنى نعم. يكون لتصديق مخبر، أو إعلام مستخبر، أو وعد طال. لكنها مختصة بالقسم، ونعم تكون في القسم وغيره. كقوله تعالى " قل: إي وربي " . وإذا وليها واو القسم تعين إثبات يائها. وإذا حذف الخافض، فقيل: إي الله، جاز فيها ثلاثة أوجه: الأول حذف الياء، والثاني فتحها، والثالث: إثباتها ساكنة، وينتفر الجمع بين الساكنين.
بل
حرف إضراب. وله حالان: الأول: أن تقع بعده جملة.
والثاني: أن يقع بعده مفرد.
فإن وقع بعده جملة كان إضراباً عما قبلها، إما على جهة الإبطال، نحو " أم يقولون: به جنة. بل جاءهم بالحق " ، وإما على جهة الترك للانتقال، من غير إبطال، نحو " ولدينا كتاب ينطلق بالحق، وهم لا يظلمون. بل قلوبهم في غمرة " . فظهر بهذا أن قول ابن مالك في شرح الكافية: فإن كان الواقع بعدها جملة فهي للتنبيه على انتهاء غرض، واستئناف غيره، ولا يكون في القرآن إلا على هذا الوجه ليس على إطلاقه.
فإن قلت: هل هي قبل الجملة عاطفة أو لا، قلت: ظاهر كلام ابن مالك أنها عاطفة. وصرح به ولده في شرح الألفية، وصاحب رصف المباني. وغيرهم يقول: إنها، قبل الجملة، حرف ابتداء، وليست بعاطفة.
وإذا وقع بعد بل مفرد فهي حرف عطف، ومعناها الإضراب. ولكن حالها فيه مختلف: فإن كانت بعد نفي نحو: ما قام زيد بل عمرو، أو نهي نحو: لا تضرب زيداً بل عمراً، فهي لتقرير حكم الأول، وجعل ضده لما بعدها. ففي المثال الأول قررت نفي القيام لزيد، وأثبتته لعمرو. وفي المثال الثاني قررت النهي عن ضرب زيد، وأثبتت الأمر بضرب عمرو.
ووافق المبرد على هذا الحكم، وأجاز مع ذلك أن تكون ناقلة حكم النفي والنهي، لما بعدها. ووافقه على ذلك أبو الحسن عبد الوارث. قال ابن مالك: وما جوزه مخالف لاستعمال العرب.
وإن كانت بعد إيجاب نحو: قام زيد بل عمرو، أو أمر نحو: اضرب زيداً بل عمراً، فهي لإزالة الحكم عما قبلها، جتى كأنه مسكوت عنه، وجعله لما بعدها.
ها تلخيص الكلام على بل. وذهب الكوفيون إلى أن بل لا تكون نسقاً بعد الإيجاب، وإنما تكون نسقاً بعد النفي، وما جرى مجراه.
تنبيه
ذكر بعضهم ل بل قسماً آخر، وهو أن تكون حرف جر خافض للنكرة، بمنزلة رب. كقول الراجز: بل بلد ملء الفجاج قتمه وليس ذلك بصحيح. وإنما الجار، في البيت ونحوه، رب المحذوفة. وحكى ابن مالك، وابن عصفور، الاتفاق على ذلك، قبل. فظهر وهم من جعل بل جارة. قال بعضهم: وبل في ذلك حرف ابتداء.
ذا
لفظ له أربعة أقسام: الأول: أن يكون اسم إشارة. فتقول ذا للقريب، وذاك للمتوسط، وذلك للبعيد. ومن لم ير التوسط جعل ذاك للبعيد أيضاً. وتدخل ها التنبيه على المجرد كثيراً، وعلى المقرون بالكاف وحدها قليلاً. ولا تدخل على المقرون باللام.

واختلف النحاة في ذا الذي هو اسم إشارة. فقال قوم، منهم السيرافي: هو ثنائي الوضع، وألفه أصل، غير منقلبة عن شيء ك ما. وقال الكوفيون: ألفه زائدة. ووافقهم السهيلي. وقال البصريون: هو ثلاثي الوضع، وألفه منقلبه عن أصل. ثم اختلفوا؛ فقيل: عن ياء، والمحذوف ياء، فالعين واللام ياءان. وقيل: عن واو، والمحذوف ياء، فهو من باب: طويت. واختلفوا في المحذوف؛ فقيل: اللام، وهو الأظهر، لأنها طرف. وقيل: العين.
واختلفوا في وزنه؛ فقيل: فعل بالتحريك، وهو الأظهر. وقيل: فعل بالإسكان.
واستدل البصريون، على أنه ثلاثي الوضع، برد المحذوف منه، في التصغير، حيث قالوا ذيا والأصل ذيياً. ولبسط الكلام على اسم الإشارة موضع غير هذا.
الثاني: أن يكون موصولاً بمعنى الذي وفروعه. ولا يكون كذلك إلا بشرطين: أحدهما أن يكون بعد ما أو من الاستفهاميتين. وقيل: لا تكون موصولة بعد من. والآخر أن يكون غير ملغى. وسيأتي بيان معنى الإلغاء. ومن ورود ذا موصولة قول لبيد:
ألا تسألان المرء: ماذا يحاول ... أنحب فيقضى، أم ضلال وباطل؟
أي: ما الذي يحاول؟ ف ما مبتدأ، وذا مع صلته خبره، ونحب بدل من ما.
الثالث: أن يكون ملغى. ومعنى الإلغاء هنا أن تركب ذا مع ما، فيصير المجموع اسماً واحداً. وله حينئذ معنيان: أحدهما، وهو الأشهر، أن يكون اسم استفهام. والدليل على أنهما تركبا قولهم: عما ذا تسأل؟ بإثبات الألف، لتوسطها. ويتعين ذلك، في قول جرير:
يا خزر تغلب، ماذا بال تسوتكم ... لا يستفقن، إلى الديرين، تحنانا
وقول الآخر:
وأبلغ أبا سعد، إذا ما لقيته ... نذيراً، وماذا ينفعن نذير؟
ولا يجوز أن تكون ذا موصولة، في البيتين، لأن العرب لا تقول: ما الذي بالك. ولا يؤكد الفعل الواقع صلة، بالنون. وتترجح دعوى التركيب، في " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً " .
وثانيهما أن يكون المجموع اسماً واحداً موصولاً، أو نكرة موصوفة. وعليه بيت الكتاب:
دعي ماذا علمت، سأتقيه ... ولكن، بالمغيب، نبئيني
ومنع الفارسي كونها في البيت موصولة. قال: لأنا لم نجد في الموصولات ما هو مركب، ووجدنا في الأجناس ما هو مركب.

تنبيه
قد اتضح، بما تقدم أن ماذا تحتمل أربعة أوجه: أحدهما أن تكون ما استفهامية وذا اسم إشارة. وثانيها أن تكون ما استفهامية وذا اسم موصول. وثالثها أن يكون المجموع اسماً واحداً للاستفهام. ورابعها أن يكون المجموع اسماً واحداً خبرياً. ويعرب في كل موضع على ما يليق به.
الرابع: أن يكون ذا بمعنى: صاحب. وإنما يكون كذلك حالة النصب، نحو: رأيت ذا مال. وبعض طيىء يعرب ذو الطائية إعراب التي بمعنى صاحب. فيقول: جاء ذو قام، ورأيت ذا قام، ومررت بذي قام.
واعلم أن أقسام ذا المذكورة كلها أسماء باتفاق، إلا الملغى، فإن صاحب رصف المباني ذهب إلى أنه حرف. قال: وإنما حكمنا بأن ذا حرف، لأنها قد توجد ما الاستفهامية وحدها دونها، ومعناها الاستفهام، وتوجد معها أيضاً، وهي معها بذلك المعنى. فحكمنا أنها وصلة لها. ولأجل هذا الخلاف ذكرت ذا ههنا.
عن
لفظ مشترك؛ تكون اسماً وحرفاً، فتكون اسماً، إذا دخل عليها حرف الجر. ولا تجر بغير من. وهي حينئذ اسم بمعنى: جانب. قال الشاعر:
فقلت للركب، لما أن علا بهم ... من عن يمين الحبيا، نظرة قبل
وندرجرها ب على، في قول الشاعر: على عن يميني، مرت الطير، سنحاً وذهب الفراء، ومن وافقه من الكوفيين، إلى أن عن إذا دخل عليها من باقية على حرفيتها. وزعموا أن من تدخل على حروف الجر كلها، سوى مذ واللام والباء وفي.
فإن قلت: ما معنى من الداخلة على عن؟ قلت: هي لابتداء الغاية. قال بعضهم: إذا قلت قعد زيد عن يمين عمرو معناه: ناحية يمين عمرو، واحتمل أن يكون قعوده ملاصقاً لأول ناحية يمينه، وألا يكون. وإذا قلت من عن يمينه كان ابتداء القعود نشأ ملاصقاً لأول الناحية. وقال ابن مالك: إذا دخلت من على عن فهي زائدة.
وزاد ابن عصفور أن عن تكون اسماً، في نحو قول الشاعر:
دع عنك نعباً، صيح في حجراته ... ولكن حديثاً، ما حديث الرواحل؟

لأن جعلها حرفاً، في ذلك، يؤدي إلى تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل. وذلك لا يجوز إلا في أفعال القلوب، وما حمل عليها. قال الشيخ أبو حيان: وفيه نظر، لأن مثل هذا التركيب قد وجد في إلي، كقوله تعالى " واضمم إليك جناحك " ، " وهزي إليك بجذع النخلة " ، ولا نعلم أحداً قال باسمية إلى. قلت: قال ابن عصفور في شرح أبيات الإيضاح: ؛:آ أبو بكر الأنباري أن إلى تستعمل اسماً، يقال: انصرفت من إليك، كما يقال: غدوت من عليك.
وتكون عن حرفاً، فيما عدا ذلك. ولها قسمان: الأول: أن تكون حرف جر. وذكروا له معاني: الأول: المجاوزة. وهو أشهر معانيها، ولم يثبت لها البصريون غير هذا المعنى. فمن ذلك قوله: رميت عن القوس: لأنه يقذف عنها بالسهم ويبعده. ولكونها للمجاوزة عدي بها: صد، وأعرض، ونحوهما، ورغب، ومال، إذا قصد بهما ترك المتعلق. نحو: رغبت عن اللهو، وملت عنه.
الثاني: البدل، نحو " واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً " ، وقولهم: حج فلان عن أبيه، وقضى عنه ديناً، وقول الآخر:
كيف تراني، قالباً مجني؟ ... قد قتل الله زياداً، عني
الثالث: الاستعلاء. كقول الشاعر:
لاه ابن عمك، لا أفضلت في حسب ... عنى، ولا أنت دياني، فتخزوني
أي: علي. قال ابن مالك: ومنه بخل عنه والأصل عليه. قال: لأن الذي يسأل فيبخل يحمل السائل ثقل الخيبة، مضافاً إلى ثقل الحاجة. ففي بخل معنى ثقل، فكان جديراً بأن يشاركه في التعدية ب على.
الرابع: الاستعانة. مثله ابن مالك بقوله: رميت عن القوس. ف عن هنا بمعنى الباء، في إفادة معنى الاستعانة، لأنهم يقولون: رميت بالقوس. وحكى الفراء، عن العرب: رميت عن القوس، وبالقوس، وعلى القوس.
قلت وفي هذا رد على من قال: إنه لا يقال رميت بالقوس، إلا إذا كان هو المرمي. وقد ذكر ذلك الحريري في درة الغواص.
الخامس: التعليل: كقوله تعالى " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة " ، وقوله تعالى " وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك " .
السادس: أن تكون بمعنى بعد، كقوله تعالى " لتركبن طبقاً عن طبق " . قيل: ومنه " عما قليل ليصبحن نادمين " وقولهم: أطعمته عن جوع، أي: بعد جوع.
السابع: أن تكون بمعنى في، كقول الشاعر:
وآس سراة القوم، حيث لقيتهمولاتك، عن حمل الرباعة، وانيا أي: في حمل الرباعة. هذا قول الكوفيين. وقال بعض النحويين: تعدية ونى ب في وعن ثابتة. والفرق بينهما أنك إذا قلت: ونى عن ذكر الله، فالمعنى المجاوزة، وأنه لم يذكره. وإذا قلت: ونى في ذكر الله، فقد التبس بالذكر، ولحقه فيه فتور وأناة.
الثامن: أن تزاد عوضاً، كقول الشاعر:
أتجزع أن نفس أتاها حمامها ... فهلا التي عن بين جنبيك تدفع
قال ابن جني: أراد فهلا عن التي بين جنبيك تدفع، فحذف عن وزادها بعد التي عوضاً. ونص سيبويه على أن عن لا تزاد.
واعلم أن هذه المعاني السابقة إنما أثبتها الكوفيون، ومن وافقهم، كالقتبي، وابن مالك. قال بعض النحويين: وهذا الذي ذهب إليه الكوفيون باطل. إذ لو كانت لها معاني هذه الحروف لجاز أن تقع حيث تقع هذه الحروف. فوجب أن يتأول جميع ما ذكروه، مما خالف معنى المجاوزة.
وذكر صاحب رصف المباني في معاني عن أن تكون بمعنى الباء. قال: نحو قولك: قمت عن أصحابي، أي: بأصحابي. قال امرؤ القيس:
تصد، وتبدي عن أسيل، وتتقي ... بناظرة، من وحش وجرة، مطفل
أي: بأسيل. انتهى، والذي ذكره غيره أنها تكون بمعنى باء الاستعانة. وقد تقدم.
وأما القسم الثاني من قسمي عن الحرفية فهو أن تكون بمعنى أن. وهي لغة لبني تميم، يقولون: أعجبني عن تقوم، أي: أن تقوم. وعلى ذلك أنشدوا بيت ذي الرمة:
أعغن توسعت، من خرقاء، منزلة ... ماء الصبابة، من عينيك، مسجوم؟
قلت: وكذلك يفعلون في أن المشددة. قال الزمخشري: وتبدل قيس وتميم همزتها عيناً فتقول: أشهد عن محمداً رسول الله. وهي عنعنة تميم.

في
حرف جر، وله تسعة معان: الأول: الظرفية. وهي الأصل فيه، ولا يثبت البصريون غيره. وتكون للظرفية حقيقة، نحو " واذكروا الله في أيام معدودات " . ومجازاً، نحو " ولكم في القصاص حياة " .
الثاني: المصاحبة، نحو " ادخلوا في أمم " أي: مع أمم.

الثالث: التعليل، نحو " لمسكم فيما أخذتم " ، " قالت: فذلكن الذي لمتنني فيه " .
الرابع: المقايسة، نحو " فما الحياة الدنيا في الآخهرة إلا متاع " ، " فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " . وهي الداخلة على تال، يقصد تعظيمه وتحقير متلوه.
الخامس: أن تكون بمعنى على، نحو " ولأصلبنكم، في جذوع النخل " أي: على جذوع النخل.
السادس: أن تكون بمعنى الباء، كقول الشاعر:
ويركب، يوم الروع، منا، فوارس ... بصيرون، في طعن الأباهر، والكلي
أي بطعن. وذكر بعضهم أن في، في قوله تعالى " يذرؤكم فيه " ، بمعنى باء الاستعانة، أي: يكثركم به.
السابع: أن تكون بمعنى إلى، كقوله تعالى " فردوا أيديهم في أفواههم " ، أي: إلى أفواههم.
الثامن: أن تكون بمعنى من، كقول امرىء القيس:
وهل يعمن من كان أحدث عهده ... ثلاثين شهراً، في ثلاثة أحوال؟
أي: من ثلاثة أحوال.
التاسع: أن تكون زائدة. قال بعضهم بذلك، في قوله تعالى " اركبوا فيها " ، أي اركبوها. وأجاز ابن مالك أن تزاد عوضاً، كما تقدم في عن، فتقول: عرفت فيمن رغبت، أي: من رغبت فيه: فحذفها بعد من وزادها قبل من عوضاً.

تنبيه
مذهب سيبويه، والمحققين من أهل البصرة، أن في لا تكون إلا للظرفية حقيقة أو مجازاً. وما أوهم خلاف ذلك رد بالتأويل إليه. والله سبحانه أعلم.
قد
لفظ مشترك؛ يكون اسماً وحرفاً. فأما قد الاسمية فلها معنيان: الأول: أن تكون بمعنى حسب. تقول: قدني، بمعنى: حسبي. والياء المتصلة بها مجرورة الموضع بالإضافة. ويجوز فيها إثبات نون الوقاية، وحذفها. والياء، في الحالين، في موضع جر. هذا مذهب سيبويه، وأكثر البصريين.
الثاني: أن تكون اسم فعل بمعنى كفى. ويلزمها نون الوقاية، مع ياء المتكلم، كما تلزم مع سائر أسماء الأفعال. والياء المتصلة بها في موضع نصب. وهذا القسم نقله الكوفيون عن العرب.
وقول الشاعر: قدني من نصر الخبيبين، قدي يحتمل قوله قدني وجهين: أحدهما أن يكون بمعنى حسب، والياء في موضع جر. والثاني أن يكون اسم فعل، والياء في موضع نصب. وقوله آخر البيت قدي يحتمل ثلاثة أوجه: أحدهما أن يكون بمعنى حسبي، ولم يأت بنون الوقاية على أحد الوجهين. وثانيها أن يكون اسم فعل، وحذف النون ضرورة. وثالثها أن يكون اسم فعل، والياء للإطلاق، وليست ضميراً.
وأما قد الحرفية فحرف مختص بالفعل، وتدخل على الماضي، بشرط أن يكون متصرفاً، وعلى المضارع، بشرط تجرده من جازم وناصب وحرف تنفيس. واختلفت عبارات النحويين في معنى قد. فقيل: هي حرف توقع. وقيل: حرف تقريب.
قال الزمخشري في المفصل: ومن أصناف الحرف حرف التقريب وهو قد. وهو يقرب الماضي من الحال، إذا قلت: قد فعل. ومنه قول المؤذن: قد قامت الصلاة. ولا بد من فيه من معنى التوقع. قال سيبويه: وأما قد فجواب: هل فعل. وقال أيضاً: فجواب: لما يفعل.
وقيل: حرف تقريب مع الماضي، وتقليل مع المستقبل. قال ابن الخباز: ومن عبارات المطارحين في قد أنهم يقولون: حرف يصحب الأفعال ويقرب الماضي من الحال. قال: وزدته أنا ويؤثر التقليل في فعل الاستقبال.
وقال بعضهم: إن دخلت على المضارع، لفظاً ومعنى، فهي للتوقع، وإن دخلت على الماضي لفظاً ومعنى، أو معنى، فهي للتحقيق، نحو: قد قام زيد، و " قد يعلم ما أنتم عليه " .
قال الشيخ أبو حيان: والذي تلقناه من أفواه الشيوخ، بالأندلس، أنها حرف تحقيق، إذا دخلت على الماضي، وحرف توقع، إذا دخلت على المستقبل.
وقال بعضهم: قد حرف إخبار. تكون مع الماضي للتحقيق، ومع المضارع للتوقع تارة، وهو الكثير فيها، وقد تكون معه للتحقيق، وهو قليل. وقد تكون تقليلاً، وهو أيضاً قليل. والإخبار، في جميع ذلك، لا يخالفها. فهو الخاص بها الذي تسمى به.
قلت: وجملة ما ذكره النحويون ل قد خمسة معان: الأول: التوقع. وقد ترد للدلالة على التوقع مع الماضي، والمضارع. وذلك مع المضارع واضح، نحو: قد يخرج زيد. ف قد هنا تدل على أن الخروج متوقع، أي: منتظر. وأما مع الماضي فتدل على أنه كان متوقعاً منتظراً. ولذلك يستعمل في الأشياء المترقبة. وقال الخليل: إن قول القائل قد فعل كلام لقوم ينتظرون الخبر. ومنه قول المؤذن: قد قامت الصلاة، لأن الجماعة منتظرون.

الثاني: التقريب. ولا ترد للدلالة عليه إلا مع الماضي. ولذبك تلزم غالباً مع الماضي، إذا وقع حالاً، نحو " وقد فصل لكم " . وإن ورد دون قد فقيل: هي معه مقدرة. وهو مذهب المبرد، والفراء، وقوم من النحويين. وقيل: لا حاجة إلى تقديرها. وهو الأظهر. وكلام الزنخشري يدل على أن التقريب لا ينفك عن معنى التوقع. وكذلك قال ابن مالك في التسهيل: فتدخل على فعل ماض متوقع، لا يشبه الحرف، لتقريبه من الحال. وقال ابن الخباز: إذا دخل قد على الماضي أثر فيه معنيين: تقريبه من زمن الحال، وجعله خبراً منتظراً. فإذا قلت: قد ركب الأمير، فهو كلام لقوم ينتظرون حديثك. هذا تفسير الخليل.
الثالث: التقليل. وترد للدلالة عليه، مع المضارع. نحو: إن البخيل قد يجود. وقال ابن إياز: يفيد، مع المستقبل، التقليل في وقوعه، أو في متعلقه. فالأول كقولك: قد يفعل زيد كذا، أي: ليس ذلك منه بالكثير. والثاني كقوله تعالى " قد يعلم ما أنتم عليه " ، والمعنى، والله عز اسمه أعلم: أقل معلوماته ما أنتم عليه. قلت: والظاهر أن قد في هذه الآية للتحقيق، كما ذكره غيره.
ونازع بعضهم في إفادة قد لمعنى التقليل، فقال: قد تدل على توقع الفعل، ممن أسند إليه. وتقليل المعنى لم يستفد من قد. بل لو قيل: البخيل يجود، فهم منه التقليل، لأن الحكم، على من شأنه البخل، بالجود إن لم يحمل على صدور ذلك قليلاً كان كلام كذباً، لأن آخره يدفع أوله.
الرابع: التكثير. وهو معنى غريب. وقد ذكره جماعة، من النحويين، وأنشدوا عليه قول الشاعر:
قد أشهد الغارة، الشعواء، تحملني ... جرداء، معروقة اللحيين، سرحوب
ونحو ذلك من الأبيات الواردة في الافتخار.
قلت: وجعل الزمخشري منه قوله تعالى " قد نرى تقلب وجهك في السماء " . ورام بعضهم استنباط هذا المعنى من كلام سيبويه. فإنه قال: وأما قد فجواب لقوله لما يقعل. ثم قال: وتكون قد بمنزلة ربما. قال الهذلي:
قد أترك القرن مصفراً أنامله ... كأن أثوابه مجت، بفرصاد
كأنه قال: ربما. هذا نصه. فتشبيهه ب ربما يدل على أنها للتكثير.
وعكس ذلك بعضهم، فقال: بل تدل على التقليل، لأن ربما للتقليل. وسيأتي تحقيق معنى رب في بابها.
الخامس: التحقيق. وترد، للدلالة عليه، مع الفعلين: الماضي والمضارع. فمع الماضي نحو " قد أفلح المؤمنون " . ومع المضارع نحو " قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون " .
والحاصل أنها تفيد، مع الماضي، أحد ثلاثة معان: التوقع، والتقريب، والتحقيق. ومع المضارع أحد أربعة معان: التوقع، والتقليل، والتحقيق، والتكثير.

تنبيه
قد الدالة على التقليل تصرف المضارع إلى الماضي. ذكر ذلك ابن مالك. والظاهر أن الدالة على التكثير كذلك. وأما التي للتحقيق فإنها قد تصرفه إلى المضي، ولا يلزم فيها ذلك. هذا معنى كلام ابن مالك.
واعلم أن قد مع الفعل كجزء منه، فلا يفصل بينهما، بغير القسم، كقول الشاعر:
أخالد، قد، والله، أوطأت عشوة ... وما العاشق المظلوم، فينا، بسارق
وقد يحذف الفعل بعدها، إذا دل عليه دليل كقول النابغة:
أزف الترحل، غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا، وكأن قد
أي: وكأن قد زالت. والله أعلم.
كم
اسم لعدد مبهم الجنس، والمقدار. وليست مركبة، خلافاً للكسائي والفراء. فإنها عندهما مركبة من كاف التشبيه وما الاستفهامية محذوفة الألف، وسكنت ميمها لكثرة الاستعمال. وكم لها قسمان: استفهامية، وخبرية. أما الاستفهامية فلا خلاف في اسميتها وأما الخبرية فذهب بعض النحويين إلى أنها حرف. ولذلك ذكرتها في هذا الموضع. والصحيح أنها اسم. ودليل اسميتها واضح. ول كم أحكام كثيرة مذكورة في بابها. فلا حاجة هنا لذكرها. والله سبحانه أعلم.
كي
لها ثلاثة أقسام: الأول: أن تكون حرف جر، بمعنى لام التعليل. ولا تجر إلا أحد ثلاثة أشياء. أولها ما الاستفهامية، كقولهم، في السؤال عن علة الشيء: كيمه؟ بمعنى: لمه. والهاء للسكت. وثانيها أن المصدرية: ظاهرة، أو مقدرة. فالظاهرة كقول الشاعر:
فقالت: أكل الناس أصبحت مانحاً ... لسانك، كيثما أن تغر، وتخدعا
والمقدرة نحو: جئت كي تكرمني. على أحد الوجهين. وثالثها ما المصدرية، كقول الشاعر:

إذ أنت لم تنفع فضر، فإنما ... يرجى الفتى، كيما يضر، وينفع
وذهب الكوفيون إلى أن كي لا تكون جارة. قالوا: ولا حجة في قولهم كيمه، لأن مه ليست مخفوضة، وإنما هي منصوبة على المصدر. أي: كي تفعل ماذا؟ ورد بأنه دعوى لا دليل عليها، وبأنه يلزم منه تقديم الفعل على ما الاستفهامية، وحذف ألفها بعد غير حرف الجر، وحذف معمول الحرف الناصب للفعل. ونصوا على أن حذف معمول نواصب الفعل لا يجوز، لا اقتصاراً ولا اختصاراً. ووقع في صحيح البخاري، في قوله تعالى " وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة " : فيذهب كيما، فيعود وظهره طبقاً واحداً. أراد: كيما يسجد.
وذهب بعذ النحويين إلى أن ما في قوله كيما يضر وينفع كافة ل كي عن العمل.
الثاني: أن تكون حرفاً مصدرياً، بمعنى أن. ويلزم اقترانها باللام لفظاً أو تقديراً. فإذا قلت: جئت لكي تكرمني، ف كي هنا ناصبة للفعل بنفسها، لأن دخول اللام عليها يعين أن تكون مصدرية ناصبة بنفسها. وإذا قلت: جئت كي تكرمني، احتملت أن تكون مصدرية ناصبة بنفسها، وأن أن بعدها مقدرة، وهي ناصبة.

تنبيه
نقل بعضهم في كي ثلاثة مذاهب: أحدها أنها حرف جر دائماً. قال: وهو مذهب الأخفش.
وثانيها أنها ناصبة للفعل دائماً، وهو مذهب الكوفيين.
وثالثها أن تكون حرف جر تارة، وناصبة للفعل تارة. وهو الصحيح.
وعلى هذا فلها ثلاثة أحوال: حال يتعين فيها أن تكون جارة، وذلك إذا دخلت على ما الاستفهامية، أو المصدرية، أو أن المصدرية، كما تقدم. إلا أن دخولها على أن نادر. ويتعين أن تكون جارة أيضاً، في نحو قول الشاعر:
كادوا بنصر تميم، كي ليلحقهم ... فيه، فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
ولا يجوز أن تكون كي ناصبة، في هذا البيت، لفصل اللام بينها وبين الفعل، ولا زائدة لأن كي لم يثبت زيادتها في غير هذا الموضع. فيتعين أن تكون جارة، واللام تأكيد لها، وأن مضمرة بعد اللام. وحال يتعين فيها أن تكون ناصبة للفعل. وذلك إذا دخلت عليها اللام، كما سبق. وحال يجوز فيها الأمران، وهو ما عدا ذلك. وإذا دخلت عليها اللام، ووليها أن، كقول الشاعر:
أردت لكيما أن تطير بقربتي ... فتتركها شناً، ببيداء، بلقع
ففيها احتمال. قال ابن مالك: وتترجح مرادفه اللام على مرادفة أن.
الثالث: أن تكون بمعنى كيف. وهذه اسم، يرتفع الفعل بعدها، كما يرتفع بعد كيف، لأنها محذوفة منها. كقول الشاعر:
كي تجنحون إلى سلم، وما ثئرت ... قتلاكم، ولظى الهيجاء تضطرم؟
أراد: كيف تجنحون. فحذف الفاء. والله سبحانه أعلم.
لم
حرف نفي، له ثلاثة أقسام: الأول: أن يكون جازماً، نحو " لم يلد ولم يولد " . وهذا القسم هو المشهور.
الثاني: أن يكون ملغى، لا عمل له، فيرتفع الفعل المضارع بعده. كقول الشاعر:
لولا فوارس، من ذهل، وأسرتهم ... يوم الصليفاء، لم يوفون بالجار
وصرح ابن مالك، في أول شرح التسهيل، بأن الرفع بعد لم لغة قوم من العرب. وذكر بعض النحويين أن ذلك ضرورة.
الثالث: أن يكون ناصباً للفعل. حكى اللحياني عن بعض العرب أنه ينصب ب لم. وقال ابن مالك في شرح الكافية: زعم بعض الناس أن النصب ب لم لغة، اغتراراً بقراءة بعض السلف " ألم نشرح لك صدرك " بفتح الحاء، وبقول الراجز:
في أي يومي، من الموت أفر ... أيوم لم يقدر أم يوم قدر؟
وهو، عند العلماء، محمول على أن الفعل مؤكد بالنون الخفيفة، ففتح لها ما قبلها، ثم حذفت، ونويت.
تنبيهان
الأول: لم من خواص الفعل المضارع. وظاهر مذهب سيبويه أنها تدخل على مضارع اللفظ، فتصرف معناه إلى المضي. وهو مذهب المبرد، وأكثر المتأخرين. وذهب قوم، منهم الجزولي، إلى أنها تدخل على ماضي اللفظ، فتصرف لفظه إلى المبهم، دون معناه. ونسب إلى سيبويه. ووجهه أن المحافظة على المعنى أولى من المحافظة على اللفظ. والأول هو الصحيح، لأن له نظيراً، وهو المضارع الواقع بعد لو. والقول الثاني لا نظير له.
الثاني: تساوي لم فيما ذكر، من جزم الفعل المضارع، وصرف معناه إلى المضي، لما. ويفترقان في أمور:

أولها أن المنفي ب لم لا يلزم اتصاله بالحال، بل قد يكون منقطعاً، نحو " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً " ، وقد يكون متصلاً، نحو " ولم أكن بدعائك، رب، شقياً " ، بخلاف لما، فإنه يجب اتصال نفيها بالحال.
وثانيها أن الفعل بعد لما يجوز حذفه اختياراً. وهو أحسن ما يخرج عليه قراءة " وإن كلا لما " . ولا يجوز حذفه بعد لم إلا في الضرورة، كقول الشاعر:
احفظ وديعتك التي استودعها ... يوم الأعازب، إن وصلت، وإن لم
وثالثها أن لم تصاحب أدوات الشرط، نحو: إن لم، ولو لم. بخلاف لما.
ورابعها أن لم قد فصل بينها وبين مجزومها اضطراراً، كقول الشاعر: كأن لم، سوى أهل من الوحش، تؤهل ذكر ابن مالك في شرح الكافية أن لم انفردت بذلك. وفيه نظر، لأن غيره قد سوى بينهما، في جواز الفصل، لضرورة الشعر. وقد ذكر هو ذلك، في باب الاستغال من شرح التسهيل.
وخامسها أن لم قد تلغى، كما سبق، بخلاف لما فإنها لم يأت فيها ذلك والله أعلم.

لن
حرف نفي، ينصب الفعل المضارع، ويخلصه للاستقبال. ولا يلزم أن يكون نفيها مؤبداً، خلافاً للزمخشري. ذكر ذلك في أنموذجه. قال في غيره: لن لتأكيد ما تعطيه لا من نفي المستقبل. قال ابن عصفور: وما ذهب إليه دعوى لا دليل عليها، بل قد يكون النفي ب لا آكد من النفي ب لن، لأن المنفي ب لا قد يكون جواباً للقسم، والمنفي ب لن لا يكون جواباً له، ونفي الفعل إذا أقسم عليه آكد. قلت: وقد وقعت لن جواب القسم، في قول أبي طالب:
والله، لن يصلوا إليك؛ بجمعهم ... حتى أوسد في التراب، دفينا
وذكره ابن مالك.
واختلف النحويون في لن. فذهب سيبويه، والجمهور، إلى أنها بسيطة. وذهب الخليل، والكسائي، إلى أنها مركبة، وأصلها لا أن، حذفت همزة أن تخفيفاً، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. ورد القول بالتركيب، بأوجه: الأول: أن البساطة أصل، والتركيب فرع، فلا يدعى إلا بدليل قاطع.
والثاني: أنها لو كان أصلها لا أن لم يجز تقديم معمول معمولها عليها، وهو جائزز في نحو: زيداً لن أضرب. بهذا رد سيبويه على الخليل. وأجيب عنه بأن الشيء قد يحدث له، مع التركيب، حكم لم يكن قبل ذلك.
والثالث: أنه يلزم منه أن تكون أن وما بعدها في تقدير مفرد. فلا يكون قولك: لن يقوم زيد، كلاماً. فإن قيل: يكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف لازم الحذف، كما نقل عن المبرد! فالجواب أن هذا القول ضعيف، لوجهين: أحدهما أن هذا المحذوف لم يظهر قط، ولا دليل عليه. ذكره أبو علي. والثاني أن لا تكون، في ذلك، قد دخلت على الجملة الاسمية، ولم تكرر. قلت: هذا لا يلزم المبرد، لأن تكرارها عنده لا يلزم. ولكنه يلزم الخليل.
وذهب الفراء إلى أن لن هي لا، أبدلت ألفها نوناً. وهو ضعيف، لأنه دعوى، لا دليل عليها. ولأن لا لم توجد ناصبة في موضع.
تنبيه
ذكر بعض النحويين أن من العرب من يجزم ب لن، تشبيهاً لها ب لم. قال الشاعر: فلن يحل للعينين، بعدك، منظر قيل: وأظهر من هذا أن يكون حذف الألف، واجتزأ بالفتحة التي قبلها لأنها تدل عليها. والله سبحانه أعلم.
لو
حرف، له أربعة أقسام: الأول: لو الامتناعية. وعبارة أكثرهم: لو حرف امتناع لامتناع. أي: تدل على امتناع الثاني لامتناع الأول. وهذه عبارة ظاهرها أنها غير صحيحة، لأنها تقتضي كون جواب لو ممتنعاً غير ثابت، دائماً. وذلك غير لازم، لأن جوابها قد يكون ثابتاً، في بعض المواضع، كقولك لطائر: لو كان هذا إنساناً لكان حيواناً. فإنسانيته محكوم ربه لأعطاه. فترك السؤال محكوم بعدم حصوله، والعطاء محكوم بحصوله، على كل حال، والمعنى أن عطاءه حاصل، مع ترك السؤال. فكيف مع السؤال؟ وكذا قول عمر في صهيب، رضي الله عنهما لو لم يخف الله لم يعصه. فعدم المعصية محكوم بثبوته، لأنه إذا كان ثابتاً، على تقدير عدم الخوف، فالحكم بثبوته، على تقدير الخوف، أولى.
وكذلك قوله تعالى " ولو أن ما في لأرض، من شجرة، أقلام، والبحر يمده سبعة أبحر، ما نفدت كلمات الله " . فعدم النفاد ثابت، على تقدير كون ما في الأرض من الشجر أقلاماً مدادها البحر، وسبعة أمثاله. فثبوت عدم النفاد، على تقدير عدم ذلك، أولى.

فهذه الأمثلة، ونحوها، تدل على فساد قولهم: لو حرف امتناع لامتناع. والتحقيق، في ذلك، أن لو حرف يدل على تعليق فعل بفعل، فيما مضى. فيلزم، من تقدير حصول شرطها، حصول جوابها. ويلزم كون شرطها محكوماً بامتناعه إذ لو قدر حصوله لكان الجواب كذلك، فتصير حرف وجوب لوجوب، وتخرج عن كونها للتعليق، في الماضي. وأما جوابها فلا يلزم كونه ممتنعاً، على كل تقدير، لأنه قد يكون ثابتاً مع امتناع الشرط، كما تقدم. ولكن الأكثر أن يكون ممتنعاً.
فقد اتضح بذلك أن لو تدل على أمرين: أحدهما امتناع شرطها، والآخر كونه مستلزماً لجوابها. ولا تدل على امتناع الجواب، في نفس الأمر، ولا ثبوته. فإذا قلت: لو قام زيد لقام عمرو، فقيام زيد محكوم بانتفائه فيما مضى، وبكونه مستلزماً ثبوته لثبوت قيام عمرو. وهل لعمرو قيام آخر غير اللازم عن قيام زيد، أو ليس له، لا تعرض في الكلام لذلك. ولكن الأكثر كون الأول والثاني غير واقعين.
وقد عبر ابن مالك، رحمه الله، عن معنى لو بثلاث عبارات، حسنة، وافية بالمراد. الأولى: قوله في التسهيل: لو حرف شرط يقتضي نفي ما يلزم لثبوته ثبوت غيره. والثانية: قوله في بعض نسخ التسهيل: لو حرف شرط يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه. والثالثة: قوله في شرح الكافية: لو حرف يدل على امتناع تال، يلزم لثبوته ثبوت تاليه.
وقال ابنه، رحمهما الله، ولا شك أن ما قال - يعني أباه - في تفسير لو أحسن وأدل على معنى لو. غير أن ما قالوه، عندي، تفسير صحيح، واف بشرح معنى لو. وهو الذي قصد سيبويه، من قوله: لو لما كان سيقع لوقوع غيره. يعني أنها تقتضي فعلاً ماضياً، كان يتوقع ثبوته، لثبوت غيره، والمتوقع غير واقع. فكأنه قال: لو حرف يقتضي فعلاً، امتنع لامتناع ما كان يثبت لثبوته. وهو نحو مما قاله غيره. فلنرجع إلى بيان صحته فنقول: قولهم: لو: حرف يدل على امتناع الثاني، لامتناع الأول يستقيم على وجهين: الأول أن يكون المراد أن يكون المراد أن جواب لو ممتنع، لامتناع الشرط، غير ثابت لثبوت غيره، بناء منهم على مفهوم الشرط، في حكم اللغة، لا في حكم العقل. والثاني أن يكون المراد أن جواب لو ممتنع، لامتناع شرطه، وقد يكون ثابتاً لثبوت غيره، لأنها إذا كانت تقتضي نفي تاليها، واستلزامه لتاليه، فقد دلت على امتناع الثاني، لامتناع الأول، لأنه متى انتفى شيء انتفى مساويه في اللزوم، مع احتمال أن يكون ثابتاً، لثبوت أمر آخر. فإذا قلت: لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجوداً، فلا بد من انتفاء القدر المساوي منه للشرط. فصح إذاً أن يقال: لو حرف، يدل على امتناع الثاني لامتناع الأول. انتهى كلامه مختصراً. وهذا الوجه الثاني هو الذي قرره في شرح الألفية. وهو كلام حسن.
وقال الشلوبين: لو ليست موضوعة للدلالة على الامتناع، بل موضوعها ما نص عليه سيبويه، من أنها تقتضي لزوم جوابها لشرطها فقط. قلت: وفيها، مع ذلك، دلالة على امتناع شرطها. وذلك مفهوم من عبارة سيبويه، رحمه الله. فإنه نص على أنها للتعليق في الماضي بقوله لما كان. ومن ضرورة كونها للتعليق، في الماضي، أن يكون شرطها منفي الوقوع، لأنه لو كان ثابتاً لكان الجواب كذلك. فتكون حينئذ حرف إيجاب لإيجاب. وليس ذلك معناها.
وقال بعض النحويين: لو لها أربعة أحوال: الأول: أن تكون حرف امتناع لامتناع. وذلك إذا دخلت على موجبين، نحو: لو قام زيد لقام عمرو.
والثاني: أن تكون حرف وجوب لوجوب. وذلك إذا دخلت على منفيين، نحو: لو لم يقم زيد لم يقم عمرو.
والثالث: أن تكون حرف وجوب لامتناع. وذلك إذا دخلت على موجب، وبعده منفي، نحو: لو قام زيد لم يقم عمرو.
والرابع: أن تكون حرف امتناع لوجوب. وذلك إذا دخلت على منفي، بعده موجب، نحو: لو لم يقم زيد قام عمرو.
وهذا لا تحقيق فيه. بل هي، في ذلك كله، حرف امتناع لامتناع. ففي المثال الأول، دلت على امتناع قيام عمرو، لامتناع قيام زيد. وفي الثاني، دلت على امتناع عدم قيام عمرو، لامتناع عدم قيام زيد. ويلزم، من امتناع عدم قيامهما، وجود قيامهما. وفي الثالث، دلت على امتناع قيام عمرة، لامتناع قيام زيد. وفي الرابع، دلت على امتناع قيام عمرو، لامتناع عدم قيام زيد. فتأمل ذلك.

وقد بسطت الكلام على معنى لو في غير هذا الكتاب. وأفردت له أورقاً. وفيما ذكرته هنا كفاية. ويتعلق ب لو الامتناعية مسائل، لابد هنا من الإشارة إليها: الأولى: أنها مثل إن الشرطية، في الاختصاص بالفعل. فلا يليها إلا فعل، أو معمول فعل مضمر، يفسره ظاهر بعده، كقول همر: لو غيرك قالها، يا أبا عبيدة. وقال ابن عصفور: لا يليها فعل مضمر، إلا في الضرورة، كقول الشاعر: أخلاء، لو غير الحمام أصابكم أو نادر كلام، كقول حاتم: لو ذات سوار لطمتني. قلت: والظاهر أن ذلك لالايختص بالضرورة، والنادر. بل يكون في فصيح الكلام، كقوله تعالى " قل: لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي " . حذف الفعل، فانفصل الضمير.
وانفردت لو بمباشرة أن، كقوله تعالى " ولو أنهم صبروا " . وهو كثير. واختلف في موضع أن بعد لو. فذهب سيبويه إلى أنها في موضع رفع بالابتداء. وشبه شذوذ ذلك بانتصاب غدوة بعد لدن. وذهب الكوفيون، والمبرد، والزجاج، وكثير من النحويين، إلى أنها فاعل بفعل مقدر، تقديره: ولو ثبت أنهم. وهو أقيس، إبقاء للاختصاص. وقول ابن مالك، في شرح الكافية: وزعم الزمخشري أن بين لو وأن: ثبت مقدراً، قد يوهم انفراده بذلك.
فإن قلت: إذا جعلت مبتدأ، على مذهب سيبويه، فما الخبر؟ قلت: قال ابن هشام الخضراوي: مذهب سيبويه، والبصريين، أن الخبر محذوف. وقال غيره: مذهب سيبويه أنها لا تحتاج إلى خبر، لانتظام المخبر عنه والخبر بعد أن. وذكر ابن مالك أن لو قد يليها مبتدأ وخبر. كقول الشاعر:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان، بالماء اعتصاري.
قيل: وهو مذهب الكوفيين. ومنع ذلك غيرهم، وتأولوا ما ورد منه. فتأول ابن خروف البيت، على إضمار كان الشأنية وتأوله الفارسي على أن حلقي فاعل فعل مقدر، يفسره شرق، وشرق خبر مبتدأ محذوف، أي: هو شرق. وفيه تكلف.
الثانية: ذكر الرمخشري أن خبر أن الواقعة بعد لو يلزم كونه فعلاً. ونقل بعضهم ذلك عن السيرافي. قال الشيخ أبو حيان: وهو وهم، وخطأ فاحش؛ قال الله تعالى " ولو أن ما في الأرض، من شجرة، أقلام " . وقال الشاعر: ولو أنها عصفورة لحسبتها وقال ابن مالك: وقد حمل الزمخشري ادعاؤه إضمار ثبت بين لو وأن على التزام كون الخبر فعلاً، ومنعه أن يكون اسماً، ولو كان بمعنى فعل، نحو: لو أن زيداً حاضر. وما منعه شائع، ذائع في كلام العرب، كقوله تعالى " ولو أن ما في الأرض، من شجرة، أقلام " ، وكقول الراجز:
لو أن حياً مدرك الفلاح ... أدركه ملاعب الرماح
قلت: الذي ينبغي أن يحمل عليه الكلام الزمخشري أنه منع كون خبرها اسماً مشتقا، والتزم الفعل حينئذ، إمكان صوغه، قضاء لحق طلبها للفعل. وأما إذا كان الاسم جامداً فيجوز، لتعذر صوغ الفعل منه، كما فصل ابن الحاجب؛ ألا ترى قوله في المفصل: ولو قلت: لو أن زيداً حاضر لأكرمته، لم يجز. ولم يتعرض لغير المشتق. وإذا حمل على هذا لم يرد عليه قوله تعالى " ولو أن ما في الأرض، من شجرة، أقلام " ، ولا نحو ولو أنها عصفورة. وإنما يرد عليه: لو أن حياً مدرك الفلاح. وللمجيب عنه أن يقول: إن هذا البيت، ونحوه، من النادر، فلا يرد عليه.
الثالثة: لو الامتناعية تصرف المضارع إلى المضي، كقول الشاعر:
لو يسمعون كما سمعت، حديثها ... خروا، لعزة، ركعاً، وسجودا
فهي في ذلك عكس إن الشرطية، لأنها تصرف الماضي إلى الاستقبال. واختلف في عد لو من حروف الشرط. فقال الزمخشري، وابن مالك: لو حرف شرط. وأبي قوم تسميتها حرف شرط، لأن حقيقة الشرط إنما تكون في الاستقبال، ولو إنما هي للتعليق في المضي، فليست من أدوات الشرط.
الرابعة: لا يكون جواب لو إلا فعلاً ماضياً، مثبتاً، أو منفياً ب ما، أو مضارعاً مجزوماً ب لم. والأكثر في الماضي المثبت اقترانه باللام. وقد يحذف كقوله تعالى " لو نشاء جعلناه أجاجاً " . وقل دخولها على المنفي ب ما كقول الشاعر:
كذبت، وبيت الله، لو كنت صادقاً ... لما سبقتني، بالبكاء، الحمائم
وإن ورد ما ظاهره خلاف ذلك جعل الجواب محذوفاً، كقوله تعالى " ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة " . فالجواب محذوف، واللام جواب قسم محذوف، أغنى عن جواب لو، خلافاً للزجاج. فإنه جعل لمثوبة جواب لو، قال: كأنه قيل: لأثيبوا.

القسم الثاني: لو الشرطية التي بمعنى إن. فهذه مثل إن الشرطية، يليها المستقبل، وتصرف الماضي إلى الاستقبال. كقوله تعالى " وما أنت بمؤمن لنا، ولو كنا صادقين " ، وكقوله تعالى " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم " ، وقول الشاعر:
قوم، إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء، ولو باتت بأطهار
وقول الآخر:
لا يلفك الراجوك إلا مظهراً ... خلق الكرام، ولو تكون عديما
وكون لو بمعنى إن ذكره كثير من النحويين. وقال ابن الحاج، في نقده على ابن عصفور: هذا خطأ، والقاطع بذلك أنك لا تقول: لو يقوم زيد فعمرو منطلق، كما تقول: إلا يقم زيد فعمرو منطلق، وتأول قوله ولو باتت بأطهار. وقال بدر الدين بن مالك في شرح الألفية: وعندي أن لو لا تكون لغير الشرط في الماضي، وما تمسكوا به، من نحو قوله تعالى " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم " ، وقول الشاعر:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي، ودوني جندل، وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة، أوزقا ... إليها صدى، من جانب القبر، صائح
لا حجة فيه، لصحة حمله على المضي. انتهى.
وإذا دخلت لو على المستقبل فها تجزم أولا؟ زعم قوم أن الجزم بها لغة مطردة. وذهب قوم، منهم ابن الشجري، إلى أنه يجوز الجزم بها في الشعر. واستدلوا، بقول الشاعر:
لو يشأ طار، به، ذو ميعة ... لاحق الآطال، نهد، ذو خصل
وبقول الآخر:
تامت فؤادك، لو يحزنك ما صنعت ... إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا
وتأول ابن مالك، في شرح الكافية هذين البيتين، وقال: لا حجة فيهما.
القسم الثالث: لو المصدرية. وعلامتها أن يصلح في موضعها أن، كقوله تعالى " يود أحدهم لو يعمر " ، ولا تحتاج إلى جواب. ولم يذكر الجمهور أن لو تكون مصدرية. وذكر ذلك الفراء، وأبو علي، والتبريزي، وأبو البقاء، وتبعهم ابن مالك. ومن أنكرها تأول الآية ونحوها، على حذف مفعول يود، وجواب لو. أي: يود أحدهم طول العمر، لو يعمر ألف سنة لسر بذلك.
ولا تقع لو المصدرية غالباً، إلا بعد مفهم تمن، نحو: يود. وقل وقوعها بعد غير ذلك، كقول قتيلة بنت النضر:
ما كان ضرك لو مننت، وربما ... من الفتى، وهو المغيظ، المخنق
القسم الرابع: لو التي للتمني نحو: لو تأينا فتحدثنا، كما تقول: ليتك تأتينا فتحدثنا. ومن ذلك " فلو أن لنا كرة فنكون " . ولو هذه ك ليت، في نصب الفعل بعدها مقروناً بالفاء.
واختلف فيها على ثلاثة أقوال: الأول أنها قسم برأسه، فلا تجاب كجواب الامتنعية. نص عليه ابن الضائع، وابن هشام الخضراوي. الثاني أنها الامتناعية، أشربت معنى التمني. قال بعضهم: وهو الصحيح، لأنها قد جاء جوابها باللام، بعد جوابها بالفاء، في قول الشاعر:
فلو نبش المقابر، عن كليب ... فتخبر بالذنائب أي زير
بيوم الشعثمين لقرعيناً ... وكيف لقاء من تحت القبور؟
الثالث أنها المصدرية أغنت عن التمني، لكونها لا تقع غالباً إلا بعد مفهم تمن. وهو قول ابن مالك. ونص على أن لو، في قوله تعالى " فلو أن لنا كرة " مصدرية. واعتذر عن الجمع بينها وبين أن المصدرية، بوجهين: أحدهما أن التقدير: لو ثبت أن. والثاني: أن ذلك من باب التوكيد.
وذكر بعضهم ل لو قسماً آخر. وهو أن تكون للتقليل. كقولك: أعط المساكين ولو واحداً. وصل ولو الفريضة. قال: ومنه قوله تعالى " ولو على أنفسكم " . وهذا، عند التحقيق، ليس بخارج عما تقدم. والله أعلم.

لا
حرف، يكون عاملاً وغير عامل، وأصول أقسامه ثلاثة: لا النافية، ولا الناهية، ولا الزائدة.
فأما لا النافية فلها ثلاثة أقسام: الأول: العاملة عمل إن. وهي لا النافية للجنس. ولا تعمل إلا في نكرة. فإن كان مفرداً بني معها على الفتح، تشبيهاً ب خمسة عشر، نحو " لا ريب فيه " . وذهب الزجاج، والسيرافي، إلى أن فتحته فتحة إعراب، وأن تنوينه حذف تخفيفاً. وهو ضعيف. وإن كان مضافاً، أو شبيهاً به، نصب، ولم يبن، لئلا يلزم تركيب أكثر من شيئين. نحو: لا طالب علم محروم، ولا خيراً من زيد حاضر.

وذكر الشلوبين أنه لا خلاف في أن الخبر مرفوع ب لا، عند عدم تركيبها مع اسمها. وأما إذا بني الاسم معها فمذهب سيبويه أن الخبر مرفوع، بما كان مرفوعاً به قبل التركيب، ولا واسمها في موضع رفع بالابتداء. وذهب الأخفش، وكثير من النحويين، إلى أنها رفعت الخبر، مع التركيب، كما ترفعه مع عدم التركيب.
ويتعلق باسم لا هذه وخبرها أحكام، مذكورة في موضعها، من كتب النحو.
فإن قلت: قد تقدم أن الأصل، في الحروف، التي تدخل على الاسم تارة، وعلى الفعل تارة أخرى، أنها لا تعمل، ولا النافية من هذا القبيل، فكان حقها ألا تعمل! قلت: الجواب أن لا هذه لما قصد بها التنصيص على العموم اختصت بالاسم، لأن قصد الاستغراق، على سبيل التنصيص، يستلزم وجود من لفظاً، أو معنى. ولا يليق ذلك إلا بالأسماء النكرات. فوجب ل لا عند ذلك القصد عمل فيما يليها.
فإن قلت: فلم عملت عمل إن؟ قلت: لمشابهتها لها، في التوكيد. فإن لا لتوكيد النفي وإن لتوكيد الإثبات. وقيل: إنما لم تعمل الجر، لئلا يعتقد أنه ب من المنوبة، فإنها في حكم الموجودة، لظهورها في بعض الأحيان. كقول الشاعر:
فقام، يذود الناس عنها، بسيفه ... وقال: ألا، لا من سبيل إلى هند
الثاني: العاملة عمل ليس. ولا تعمل أيضاً إلا في النكرة، كقول الشاعر:
تعز، فلا شيء، على الأرض باقيا ... ولا وزر، مما قضى الله، واقيا
وقول الآخر:
نصرتك، إذ لا صاحب غير خاذل ... فبوئت حصناً، بالكماة، حصينا
ومنع المبرد، والأخفش، إعمال لا عمل ليس. وحكى ابن ولاد، عن الزجاج، أنها أجريت مجرى ليس، في رفع الاسم خاصى، ولا تعمل في الخبر شيئاً. والسماع المتقدم يرد عليهم.

تنبيه
أجاز ابن جني إعمال لا عمل ليس في المعرفة. ووافقه ابن مالك. وذكره ابن الشجري، في قول النابغة الجعدي:
وحلت سواد القلب، لا أنا باغياً ... سواها، ولا في حبها متراخيا
والبيت محتمل للتأويل. قال ابن مالك: وقد قاس عليه المتنبي، في قوله:
إذا الجود لم يرزق خلاصاً من الأذى ... فلا الحمد مكسوباً، ولا المال باقياً
الثالث: النافية غير العاملة. ولها ثلاثة أنواع: عاطفة، وجوابية، وغيرهما.
فالعاطفة: تشرك في الإعراب، دون المعنى، وتعطف بعد الإيجاب، نحو: يقوم زيد لا عمرو. وبعد الأمر، نحو: اضرب زيداً لا عمراً. وبعد النداء، نحو: يا زيد لا عمرو. نص عليه سيبويه. وزعم ابن سعدان أن العطف ب لا على منادى ليس من كلام العرب، ولا يعطف بها بعد نفي، ولا نهي.
والمعطوف ب لا إما مفرد، وإما جملة لها محل من الإعراب، نحو: زيد يقوم لا يقعد. قال بعض النحويين: ولا يعطف بها فعل ماض على ماض، لئلا يلتبس الخبر بالطلب؛ لا تقول: قام زيد لا قعد. وقال غيره: ما جاء من نفي لا للماضي قليل، يحفظ، ولا يقاس عليه. وأجاز بعض النحويين: قام زيد لا قعد، إذا قرنت به قرينة تدل على أنه إخبار لا دعاء. ومنع قوم العطف ب لا على معمول فعل ماض، نحو: قام زيد لا عمرو. والصحيح جوازه؛ قال امرؤ القيس:
كأن دثاراً حلقت، بلبونه ... عقاب تنوفى، لا عقاب القواعل
وإذا وقع بعد لا جملة ليس لها محل من الإعراب لم تكن عاطفة. ولذلك يجب تكرارها، في نحو: زيد قائم لا عمرو قائم ولا بشر، لأن الجملة مستأنفة. ولذلك يجوز الابتداء بها.
والجوابية: نقيضة نعم. كقولك لا في جواب: هل قام زيد؟ وهي نائبة مناب الجملة. وزعم ابن طلحة أن الكلمة الواحدة، وجوداً وتقديراً، تكون كلاماً، إذا نابت مناب الكلام. نحو نعم ولا في الجواب. وهو فاسد. وإنما الكلام هو الجملة المقدرة بعد نعم ولا.
وأما النافية، غير العاطفة والجوابية، فإنها تدخل على الأسماء، والأفعال. فإذا دخلت على الفعل فالغالب أن يكون مضارعاً. ونص الزمخشري، ومعظم المتأخرين، على أنها تخلصه للاستقبال. وهو ظاهر مذهب سيبويه. وذهب الأخفش، والمبرد، وتبعهما ابن مالك، إلى أن ذلك غير لازم، بل قد يكون المنفي بها للحال.

قال ابن مالك: وهو لازم لسيبويه، وغيره من القدماء، لإجماعهم على صحة قام القوم لا يكون زيداً بمعنى: إلا زيداً. ومعلوم أن المستثني للاستثناء، والإنشاء لابد من مقارنة معناه للفظه، والاستقبال يباينه. وأجمعوا على إيقاعها في موضع ينافي الاستقبال. نحو: أتظن ذلك كائناً أم لا تظنه؟ وما لك لا تقبل وأراك لا تبالي، وما شأنك لا توافق؟ وغر الزمخشري وغيره من المتأخرين قول سيبويه إذا قال: هو يفعل، أي: هو في حال فعل، فإن نفيه: ما يفعل. وإذا قال: هو يفعل، ولم يكن الفعل واقعاً، فإن نفيه: لا يفعل. وإنما نبه على الأولى، في رأيه، والأكثر في الاستعمال.
وقد تدخل لا النافية على الماضي قليلاً. والأكثر حينئذ أن تكون مكررة، كقوله تعالى " فلا صدق، ولا صلى " . وقد جاءت غير مكررة، في قوله تعالى " فلا اقتحم العقبة " . وفي قول الشاعر: وأي شيء، منكر، لا فعله وفي قوله: وأي عبد، لك، لا ألما قال الزمخشري: فإن قلت: قل ما تقع لا الداخلة على الماضي إلا مكررة - ونحو قوله: وأي أمر، سيىء، لا فعله لا يكاد يقع - فما بالها لم تكرر، في الكلام الأفصح. يعني قوله تعالى " فلا اقتحم العقبة " ؟ قلت: هي مكررة في المعنى، لأن معنى فلا اقتحم العقبة: فلا فك رقبة، ولا أطعم مسكيناً؛ ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك. وقال الزجاج: قوله " ثم كان من الذين آمنوا " يدل على معنى: فلا اقتحم العقبة، ولا آمن.
قلت: وذهب قوم إلى أن قوله تعالى فلا اقتحم تحضيض، بمعنى: فألا. ذكره ابن عطية. وقيل: هو دعاء، والمعنى أنه ممن يستحق أن يدعى عليه بأنه لا يفعل خيراً.
وإذا دخلت على الأسماء فيليها المبتدأ، نحو: لا زيد في الدار ولا عمرة، والخبر المقدم، نحو " لا فيها غول، ولا هم عنها ينزفون " . ويجب تكرارها في ذلك. وكذلك يجب تكرارها إذا وليها خبر، نحو: زيد لا قائم ولا قاعد، أو نعت، نحو " زيتونة لا شرقية، ولا غربية " ، أو حال، نحو: جاء زيد لا باكياً ولا ضاحكاً. وربما أفردت في الشعر، كقول الشاعر:
قهرت العدا، لا مستعيناً بعصبة ... ولكن بأنواع الخدائع، والمكر
وأما لا الناهية فحرف، يجزم الفعل المضارع، ويخلصه للاستقبال، نحو " لا تخافي، ولا تحزني " . وترد للدعاء، نحو " لا تؤاخذنا، إن نسينا، أو أخطأنا " . ولذلك قال بعضهم: لا الطلبية، ليشمل النهي وغيره، كما تقدم في لام الأمر.
وزعم بعض النحويين أن أصل لا الطلبية لام الأمر، زيد عليها ألف، فانفتحت. وزعم السهيلي أنها لا النافية، والجزم بعدها بلام الأمر مضمرة قبلها. وحذفت كراهة اجتماع لامين في اللفظ. وهما زعمان ضعيفان.
وأما لا الزائدة فلها ثلاثة أقسام: الأول: أن تكون زائدة، من جهة اللفظ، فقط. كقولهم: جئت بلا زاد، وغضبت من لا شيء. ف لا في ذلك زائدة، من جهة اللفظ، لوصول عمل ما قبلها إلى ما بعدها. وليست زائدة، من جهة المعنى، لأنها تفيد النفي. ولكنهم أطلقوا عليها الزيادة لما ذكرنا.
وروي عن بعض العرب: جئت بلا شيء، بالفتح على تركيب الاسم مع لا، وجعلها عاملة. وهو نادر، لما فيه من تعليق حرف الجر عن العمل.
وحكى بعضهم، عن الكوفيين، أن لا في قولهم: جئت بلا زاد، اسم بمعنى غير، لدخول حرف الجر عليها، كما جعلت عن وعلى اسمين، إذا دخل حرف الجر عليهما. ورد بأن عن وعلى لم تثبت لهما الزيادة، فلذلك حكم باسميتهما، بخلاف لا فإنها قد ثبتت لها الزيادة.
الثاني: أن تكون زائدة، لتوكيد النفي. نحو: ما يستوي زيد ولا عمرو. وقد تقدم ذكر ذلك في الكلام على الواو. ومنه قوله تعالى " غير المغضوب عليهم، ولا الضالين " ، ف لا زائدة، لتوكيد النفي، قالوا: وتعين دخولها في الآية، لئلا يتوهم عطف الضالين على الذين.
الثالث: أن تكون زائدة، دخولها كخروجها. وهذا مما لا يقاس عليه. ومنه قول الشاعر:
تذكرت ليلى، فاعترتني صبابة ... وكاد ضمير القلب لا يتقطع
وأنشدوا، على ذلك، أبياتاً أخر. وأكثرها محتمل للتأويل. منها قول الشاعر:
أبى جوده لا البخل، واستعجلت به ... نعم من فتى، لا يمنع الجود قاتله
وقول الآخر:
ويلحينني، في اللهو، ألا أحبه ... وللهو داع، دائب، غير غافل
وقول الراجز:
ولا ألوم البيض، ألا تسخرا ... إذا رأين الشمط، المنورا

وتأول الزجاج قوله لا البخل، فقال: لا مفعولة، والبخل بدل منها. وروى عن يونس، عن أبي عمرو، أن الرواية فيه لا البخل، بخفض اللام، لأن لا قد تتضمن جوداً، إذا قالها من أمر بمنع الحقوق والبخل عن الواجبات. وتأول قوله ألا أحبه على تقدير: إرادة ألا أحبه. قلت: وهو جار في البيت الثالث.
ومن زيادة لا قوله تعالى " لئلا يعلم أهل الكتاب " ، أي: يعلم. نص على ذلك الأئمة. وجعل كثير منهم لا زائدة، في قوله تعالى " ما منعك ألا تسجد " ، وفي قوله تعالى " وحرام على قرية، أهلكناها، أنهم لا يرجعون " . وتأول ذلك بعض المعربين، وهو أولى من دعوى الزيادة. والله أعلم.

مذ
لفظ مشترك؛ يكون حرفاً، واسماً. هذا مذهب الجمهور. وذهب بعض النحويين إلى أنه اسم، في كلموضع، وإذا انجر ما بعده فهو ظرف، منصوب بالفعل قبله. ورد بأنه لو كان ظرفاً لجاز أن يستغني الفعل، الواقع بعده، عن العمل فيه، بإعماله في ضمير يعود عليه. فكنت تقول: مذ كم سرت فيه؟ كما تقول: يوم الجمعة سرت فيه. وإن توسعت في الضمير قلت: سرته. وامتناع العرب من التكلم بذلك دليل على أنه حرف جر. وقد استدل على حرفيته، بإيصاله الفعل إلى كم ومتى. نجو: مذكم سرت؟ كما تقول: بمن مررت؟ وهذا الخلاف جار في منذ أيضاً.
ومذهب الجمهور أن مذ محذوفة النون، وأصلها منذ. واستدلوا على ذلك، بأوجه: الأول أن مذ إذا صغرت يقال فيها منيذ برد النون. والثاني أن ذال مذ يجوز فيها الضم والكسر، عند ملاقالة ساكن، نحو: مذ اليوم. والضم أعرف. وليس ذلك إلا لأن أصلها منذ الثالث أن بني غني يضمون ذال مذ، قبل متحرك باعتبار النون المحذوفة، لفظاً لانية.
وذهب ابن ملكون إلى أن مذ ليست محذوفة من منذ. قال: لأن الحذف والتصريف لا يكون في الحروف. ورده الشلوبين بتخفيف إن وأخواتها. وقال صاحب رصف المباني: الصحيح أنه إذا كان اسماً فهو مقتطع من منذ، وأما إذا كان حرفاً فهو لفظ قائم بنفسه.
وقد أخرت الكلام على معنى مذ، وسائر أحكامها، لتذكر مع منذ في باب الثلاثي. إن شاء الله تعالى.
مع
لها حالان: الأول: أن تكون ساكنة العين وهي لغة ربيعة وغنم. يبنونها على السكون قبل متحرك، ويكسرون قبل ساكن. ولم يحفظ سيبويه أن السكون فيها لغة، فجعله من ضرورات الشعر. قال: وقد جعلها الشاعر ك هل، حين اضطر، فقال:
وريشي منكم، وهواي معكم ... وإن كانت زيارتكم لماما
واختلف في مع الساكنة العين، فقيل: هي حرف جر. وزعم أبو جعفر النحاس أن الإجماع منعقد على حرفيتها، إذا كانت ساكنة. والصحيح أنها اسم، وكلام سيبويه مشعر باسميتها.
والثاني: أن تكون مفتوحة العين. وهذا اسم لمكان الاصطحاب، أو وقته، على حسب ما يليق بالمضاف إليه. وقد سمع جر ها ب من. حكى سيبويه: ذهب من معه. وقرىء " هذا ذكر من معي " ، أي من قبلي.
ومع ظرف لازم للظرفية. لا يخرج عنها، إلا إلى الجر ب من كما تقدم. وتقع خبراً وصلة وصفة وحالاً. وإذا أفردت عن الإضافة نونت نحو: قام زيد وعمرو معاً. والأكثر حينئذ أن تكون حالاً. وقد جاءت خبراً في قول الشاعر: أفيقوا، بني حرب، وأهواؤنا معاً وقال بعضهم، في نحو وأهواؤنا معاً: إنه حال والخبر محذوف، تقديره: كائنة معاً. وليس بصحيح.
واختلف في حركة مع إذا نونت. فذهب الخليل، وسيبويه، إلى أنها فتحة إعراب، والكلمة ثنائية، حالة الإفراد، كما كانت حالة الإضافة. وذهب يونس، والأخفش، إلى أن الفتحة فيها كفتحة تاء فتى، لأنها حين أفردت ردت إليها لامها المحذوفة، فصارت اسماً مقصوراً. قال ابن مالك: وهو الصحيح، لقولهم: الزيدان معاً، والزيدون معاً. فيوقعون معاً في موضع رفع، كما توقع الأسماء المقصورة، نحو: فتى، وهم عدى. ولو كان باقياً على النقص لقيل: الزيدان مع، كما يقال: هم يد واحدة على من سواهم. واتعرض بأن معاً ظرف، في موضع الخبر، فلا يلزم ما قاله.
وقال ابن مالك: إن معاً إذا أفردت تساوي جميعاً معنى. ورد عليه بأن بينهما فرقاً؛ قال ثعلب: إذا قلت: قام زيد وعمر وجميعاً، احتمل أن يكون القيام في وقتين. وأن يكون في وقت واحد. وإذا قلت: قام زيد وعمرو معاً، فلا يكون إلا في وقت واحد. والله سبحانه أعلم.
من
حرف جر، يكون زائداً، وغير زائد.
فغير الزائد له أربعة عشر معنى:

الأول: ابتداء الغاية، في المكان اتفاقاً، نحو " من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى " . وكذا فيما نزل منزلة المكان، نحو: من فلان إلى فلان. وفي الزمان عند الكوفيين، كقوله تعالى " من أول يوم " . وصححه ابن مالك، لكثرة شواهده. وتأويل البصريين ما ورد من ذلك تعسف. ونقل ابن يعيش عن المبرد، وابن درستويه، موافقة الكوفيين.
وتأول البصريون من أول يوم على تقدير: من تأسيس أول يوم. فإن قلت: فما يصنعون بنحو قوله " لله الأمر من قبل، ومن بعد " ؟ قلت: ذكر ابن أبي الربيع في شرح الإيضاح أن محل الخلاف إنما هو في الموضع الذي يصلح فيه دخول منذ. وهذا لا يصح فيه دخول منذ، فلا يقع خلاف في صحة وقوع من هنا.
الثاني: التبعيض، نحو " منهم من كلم الله " . وعلامتها جواز الاستغناء عنها ب بعض. ومجيئها للتبعيض كثير.
الثالث: بيان الجنس، نحو " فاجتنبوا الرجس، من الأوثان " ، " ويلبسون ثياباً خضراً، من سندس " . قالوا: وعلامتها ؟أن يحسن جعل الذي مكانها، لأن المعنى: فاجتنبوا الرجس، الذي هو وثن. ومجيئها لبيان الجنس مشهور، في كتب المعربين. وقال به قوم، من المتقدمين والمتأخرين، وأنكره أكثر المغاربة، وقالوا: هي في قوله تعالى من الأوثان لابتداء الغاية وانتهائها، لأن الرجس ليس هو ذاتها ف من في الآية ك من، في نحو: أخذته من التابوت. وأما قوله من سندس ففي موضع الصفة، فهي للتبعيض.
الرابع: التعليل، نحو " يجعلون أصابعهم في آذانهم، من الصواعق " ، " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل " ، " لما يهبط من خشية الله " .
الخامس: البدل، نحو " أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة " أي: بدل الآخرة، و " لجعلنا منكم ملائكة " ، أي: بدلكم. وقال الراجز:
جارية، لم تأكل المرققا ... ولم تذق، من القبول، الفستقا
أي: بدل البقول. هكذا روي البقول بالباء الموحدة. الجوهري: وأظنه النقول بالنون.
السادس: المجاوزة. فتكون بمعنى عن، كقوله تعالى " أطعمهم من جوع " ، أي: عن جوع. وقوله تعالى " فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله " ، أي: عن ذكر الله. وقول العرب: حدثته من فلان، أي: عن فلان. ومثله ابن مالك بنحو: عدت منه، وأتيت منه، وبرئت منه، وشبعت منه، ورويت منه. قال: ولهذا المعنى صاحبت أفعل التفضيل؛ فإن القائل: زيد أفضل من عمرو، كأنه قال: جاوز زيد عمراً في الفضل أو الانحطاط.
قلت: اختلف في معنى من المصاحبة ل أفعل التفضيل. فقال المبرد، وجماعة: هي لابتداء الغاية، ولا تفيد معنى التبعيض. وصححه ابن عصفور. وذهب سيبويه إلى أنها لابتداء الغاية، ولا تخلو من التبعيض. وقد بسطت الكلام على هذه المسألة، في غير هذا الكتاب.
السابع: الانتهاء. مثله ابن مالك بقوله: قربت منه. فإنه مساو لقولك: تقربت إليه. وقد أشار سيبويه إلى أن من معاني من الانتهاء. فقال: وتقول: رأيته من ذلك الموضع، تجعله غاية رؤيتك، كما جعلته غاية حين أردت الابتداء. وتقول: رأيت الهلال من داري من خلل السحاب. ف من الأولى لابتداء الغاية، والثانية لانتهاء الغاية. قال ابن السراج: وهذا يخلط معنى من بمعنى إلى، والجيد أن تكون من الثانية لابتداء الغاية في الظهور، أو بدلاً من الأولى. قال: وحقيقة هذه المسألة أنك إذا قلت: رأيت الهلال من داري من خلل السحاب، ف من للهلال، والهلال غاية لرؤيتك. فلذلك جعل سيبويه من غاية في قولك: رأيته من ذلك الموضع. انتهى.
وكون من لانتهاء الغاية هو قول الكوفيين. ورد المغاربة هذا المعنى، وتأولوا ما استدل به مثبتوه.
الثامن: أن تكون للغاية، نحو: أخذت من الصندوق. ذكره بعض المتأخرين، وحمل عليه كلام سيبويه المتقدم. قال: معناه أنه محل لابتداء الغاية وانتهائها معاً. فعلى هذا تكون من في أكثر المواضع لابتداء الغاية فقط، وفي بعضها لابتدائها وانتهائها معاً.
التاسع: الاستعلاء، نحو " ونصرناه من القوم " أي: على القوم. كذا قال الأخفش. والأحسن أن يضمن الفعل معنى فعل آخر، أي: منعناه بالنصر من القوم.
العاشر: الفصل، نحو " والله يعلم المفسد من المصلح " ، و " حتى يميز الخبيث من الطيب " . وتعرف بدخولها على ثاني المتضادين. وقد تدخل على ثاني المتباينين من غير تضاد، نحو: لا يعرف زيداً من عمرو.

الحادي عشر: موافقة الباء، نحو " ينظرون من طرف خفي " . قال الأخفش: قال يونس: أي: بطرف خفي. كما تقول العرب: ضربته من السيف، أي: بالسيف. وهذا قول كوفي. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية.
الثاني عشر: أن تكون بمعنى في. ذكر ذلك بعضهم، في قوله تعالى " ماذا خلقوا من الأرض " ، أي: في الأرض. ولا حجة في ذلك، لاحتمال الآية غير هذا. وكونها بمعنى في منقول عن الكوفيين. ومن حجتهم قول الشاعر:
عسى سائل، ذو حاجة، إن منعته ... من اليوم، سؤلاً، أن ييسر في غد
ويحتمل أن تكون من فيه للتبعيض، على حذف مضاف، أي: من مسؤولات اليوم.
الثالث عشر: أن تكون لموافقة رب. قاله السيرافي، وأنشد عليه:
وإنا لمما نضرب الكبش، ضربة ... على رأسه، تلقي اللسان من الفم
الرابع عشر: أن تكون للقسم. ولا تدخل إلا على الرب، فيقال: من ربي لأفعلن. بكسر الميم وضمها. وسيأتي بيان ذلك.
ولم يثبت أكثر النحويين ل من جميع هذه المعاني. وتأولوا كثيراً من ذلك على التضمين، أو غيره. وقد ذهب المبرد، وابن السراج، والأخفش الأصغر، وطائفة من الحذاق، والسهيلي، إلى أنها لا تكون إلا لابتداء الغاية، وأن سائر المعاني التي ذكروها راجع إلى هذا المعنى؛ ألا ترى أن التبعيض من أشهر معانيها، وهو راجع إلى ابتداء الغاية. فإنك إذا قلت: أكلت من الرغيف، إنما أوقعت الأكل على أول أجزائه، فانفصل. فمآل معنى الكلام إلى ابتداء الغاية. وإلى هذا ذهب الزمخشري؛ قال في مفصله ف من لابتداء الغاية، كقولك: سرت من البصرة. وكونها مبعضة في نحو: أخذت من الدراهم، ومبينة في نحو " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " ، ومزيدة في نحو: ما جاءني من أحد، راجع إلى هذا. انتهى.
وأما الزائدة فلها حالتان: الأولى: أن يكون دخولها في الكلام كخروجها. وتسمى الزائدة لتوكيد الاستغراق. وهي الداخلة على الأسماء، الموضوعة للعموم، وهي كل نكرة مختصة بالنفي، نحو: ما قام من أحد. فهي مزيدة هنا، لمجرد التوكيد، لأن ما قام من أحد وما قام أحد سيان في إفهام العموم، دون احتمال.
والثانية: أن تكون زائدة لتفيد التنصيص على العموم. وتسمى الزائدة، لاستغراق الجنس، وهي الداخلة على نكرة لا تختص بالنفي، نحو: ما في الدار من رجل. فهذه تفيد التنصيص على العموم، لأن ما في الدار رجل محتمل لنفي الجنس، على سبيل العموم، ولنفي واحد من هذا الجنس، دون ما فوق الواحد. ولذلك يجوز أن يقال: ما قام رجل بل رجلان. فلما زيدت من صار نصاً في العموم، ولم يبق فيه احتمال. وقيل: إنها في نحو ما جاءني من رجل، زائدة، على حد زيادتها في: ما جاءني من أحد، لأنك إذا قلت: ما جاءني من رجل، فإنما أدخلت من على النكرة، عند إرادة الاستغراق، فصار رجل لما أردت به الاستغراق مثل أحد.
واعلم أن من لا تزاد عند سيبويه، وجمهور البصريين، إلا بشرطين: الأول: أن يكون ما قبلها غير موجب. ونعني بغير الموجب النفي، نحو " ما لكم من إله غيره " ، والنهي نحو: لا يقم من أحد، والاستفهام، نحو " هل من خالق غير الله " . ولا يحفظ ذلك في جميع أدوات الاستفهام، إنما يحفظ في هل. وأجاز بعضهم زيادتها في الشرط، نحو: إن قام من رجل فأكرمه.
والثاني: أن يكون مجرورها نكرة، كما مثل.
وذهب الكوفيون إلى أنها تزاد، بشرط واحد، وهو تنكير مجرورها. قلت: نقل بعضهم هذا المذهب عن الكوفيين، وليس هو مذهب جميعهم، لأن الكسائي وهشاماً يريان زيادتها، بلا شرط. وهو مذهب أبي الحسن الأخفش. وإليه ذهب ابن مالك؛ قال لثبوت السماع بذلك، نظماً ونثراً. فمن النثر قوله تعالى " ولقد جاءك من نبأ المرسلين " ، وقوله " يحلون فيها من أساور " ، وقوله " ويكفر عنكم من سيئاتكم، وقوله " يغفر لكم من ذنوبكم " . ومن النظم قول عمر بن أبي ربيعة:
وينمي، لها، حبها عندنا ... فما قال من كاشح لم يضر
وذكر غير ذلك من الشواهد، التي ظاهرها الزيادة. وتأول المانعون هذه الآيات، ونحوها، بما هو مشهور.

وقال ابن يعيش اشترط سيبويه، لزيادتها، ثلاث شرائط: أحدها أن تكون مع النكرة. والثاني أن تكون عامة. والثالث أن تكون في غير الواجب. وفي اشتراط كون النكرة عامة نظر، لأنها قد تزاد مع النكرة، التي ليست من ألفاظ العموم، كما تقدم، والظاهر أن مراده أن تكون النكرة مراداً بها العموم. فإن من لا تزاد مع نكرة، يراد بها نفي واحد من الجنس. قال ابن أبي الربيع: ومن الناس من قال: إنها تزاد بهذه الشروط الثلاثة، في غير باب التمييز. وأما في التمييز فتزاد، بغير هذه الشروط، نحو: لله درك من رجل. وادعى القائل بهذا أنه مذهب سيبويه.
ولزيادة من مواضع: الأول: المبتدأ، نحو " ما لكم من إله غيره " . الثاني: الفاعل، نحو " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " الثالث: المفعول به، نحو " وما أرسلنا من رسول، إلا بلسان قومه " . الرابع: الحال، نحو قراءة زيد بن ثابت، وأبي الدرداء. وأبي جعفر " ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء " بضم النون، وفتح التاء. وحسن ذلك انسحاب النفي عليه، من جهة المعنى. ذكر هذا ابن مالك.
وأجاز في شرح التسهيل أن تزاد من عوضاً. فتقول: عرفت ممن عجبت، أي: عرفت من عجبت منه. فحذف ما بعد من، وزيد الحرف قبلها عوضاً. وهذا لم يرد به سماع. وإنما أجازه، قياساً على ما ورد في عن وعلى والابء. وقد تأول بعضهم، ما ورد، من ذلك، على غير الزيادة.
وقد كنت نظمت ل من اثني عشرؤ معنى، في هذين البيتين:
أتتنا من لتبيين، وبعض ... وتعليل، وبدء، وانتهاء
وإبدال، وزائدة، وفصل ... ومعنى عن، وفي، وعلى، وباء

من بضم الميم
لفظ مختلف فيه. فقيل: هو حرف جر، مختص بالقسم، ولا يدخل إلا على الرب. فيقال: من ربي لأفعلن. وشذ قولهم: من الله. وقيل: هو اسم، وهو بقية أيمن، لكثرة تصرفهم فيها. واحتج على ذلك بأن من بضم الميم لم يثبت حرفيتها، في غير هذا الموضع. ورد بدخولها على الرب، وأيمن لا تدخل عليه. وبأنها لو كانت اسماً لأعربت، لأن المعرب لا يزيله عن إعرابه حذف شيء منه.
وذكر صاحب رصف المباني أن من يجوز في نونها الإدغام، والإظهار مع راء رب. وعلل جواز الإظهار بأن نونها لما سكنت، تخفيفاً، جاز إظهارها دلالة على أصل التحريك. وصحح القول باسميتها.
وذكر ابن مالك في باب حروف الجر من التسهيل أن من هذه حرف. قال: وتختص مكسورة الميم، ومضمومتها، في القسم بالرب. وذكر في باب القسم أن من مثلث الحرفين مضافاً إلى الله، مختصر من أيمن. قيل: فيكون مذهباً ثالثاً. وهو أنها حرف إذا ضمت ميمها أو كسرت، واسم إذا كانت مثلثة الحرفين. والنحويون ذكروا الخلاف في المضمومة الميم، كما سبق. واله أعلم.
ما
لفظ مشترك؛ يكون حرفاً واسماً.
فأما ما الحرفية فلها ثلاثة أقسام: نافية، ومصدرية، وزائدة، فالنافية قسمان: عاملة، وغير عاملة.
فالعاملة: هي ما الحجازية. وهي ترفع الاسم، وتنصب الخبر، عند أهل الحجاز. قيل: وأهل تهامة. قال صاحب رصف المباني: أهل الحجاز ونجد. وإنتما عملت عندهم، مع أنها حرف لا يختص، والأصل في كل حرف لا يختص أنه لا يعمل، لأنها شابهت ليس في النفي، وفي كونها لنفي الحال غالباً، وفي دخولها على جملة اسمية. ولعملها عندهم شروط: الأول: تأخر الخبر. فلو تقدم بطل عملها. هذا مذهب الجمهور. وأجاز بعضهم نصب الخبر، المقدم على الاسم. وقال الجرمي: إنه لغة. وحكى ما مسيئاً من أعتب.
ونسبه ابن مالك إلى سيبويه. وفي نسبته إليه نظر، لأن سيبويه إنما حكاه عن غيره. قال: وإذا قلت: ما منطلق عبد الله، وما مسيء من أعتب، رفعت. ولا يجوز أن يكون مقدماً مثله مؤخراً، كما أنه لا يجوز أن تقول: إن أخوك عبد الله، على حد قولك: إن عبد الله أخوك، لأنها ليست بفعل. فهذا نص على منع النصب. ولم يكفه حتى شبهه بشيء لا خلاف فيه. ثم قال: وزعموا أن بعضهم قال، وهو الفرزدق:
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريش، وإذ ما مثلهم بشر
وهذا لا يكاد يعرف. فهذا لم يسمعه من العرب. إنما قال وزعموا، ثم قال وهذا لا يكاد يعرف. فنفي المقاربة، والمقصود نفي العرفان، كقوله تعالى " لم يكد يراها " . وقد تؤول هذا البيت، على أوجه، ذكرتها في غير هذا الكتاب.

واختلف النقل عن الفراء. فنقل عنه أنه أجاز: ما قائماً زيد، بالنصب. ونقل ابن عصفور عنه أنه لا يجيز النصب.
وذهب بعض النحويين إلى تفصيل، فقال: إن كان خبر ما ظرفاً، أو جاراً ومجروراً، جاز توسطه، مع بقاء العمل. ويحكم على محلهما بالنصب. وإن كان غير ذلك لم يجز. وصححه ابن عصفور.
الثاني: بقاء النفي. فلو انتقض النفي ب إلا بطل العمل. كقوله تعالى " وما محمد إلا رسول " .
وروي عن يونس، من غير طريق سيبويه، إعمال ما في الخبر الموجب ب إلا. واستشهد على ذلك بعض النحويين، بقول مغلس:
وما حق الذي يعثو، نهاراً ... ويسرق ليله، إلا نكالا
وبقول الآخر:
وما الدهر إلا منجنوناً بأهله ... وما صاحبل الحاجات إلا معذبا
ووافق ابن مالك يونس، على إجازة ذلك. قال: ما اخترته من حمل إلا منجنوناً وإلا نكالا على ظاهرهما، من النصب ب ما، هو مذهب الشلوبين. ذكر ذلك في تنكيته على المفصل.
وقد أول قوله إلا نكالا على التقدير: إلا ينكل نكالا.
فيكون مثل: ما زيد إلا سيراً. وقيل: أراد: إلا نكالان: نكال لعثوه، ونكال لسرقته. فحذف النون للضرورة. وأول إلا منجنوناً على أن التقدير: وما الدهر إلا يدور دوران منجنون، وهو الدولاب ثم حذف الفعل والمضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: منجنون: اسم وضع موضع المصدر، الموضوع موضع الفعل، الذي هو الخبر. تقديره: وما الدهر إلا بجن جنوناً. ثم حذف يجن وأوقع منجنوناً موقع المصدر. وقيل: منجنون: اسم في موضع الحال، والخبر مجذوف. تقديره: وما الدهر موجوداً إلا على هذه الصفة، أي: مثل المنجنون. وقال ابن بابشاذ: إن منجنوناً منصوب على إسقاط الخافض، أصله: وما الدهر إلا كمنجنون. وهو فاسد، لأن هذا المجرور في موضع رفع، فلو حذف منه حرف الجر لرفع. وأول قوله إلا معذباً على أن التقدير: إلا يعذب معذباً. ومعذب هنا مصدر بمعنى التعذيب، مثل ممزق في قوله تعالى " ومزقناهم كل ممزق " .
الثالث: فقد إن. فلو وجدت إن بعد ما بطل عملها، نحو: ما إن زيد قائم. قال فروة بن مسيك، وهو حجازي:
وما إن طبنا جبن، ولكن ... منايانا، ودولة آخرينا
وذكر ابن مالك أن ما يبطل عملها إذا زيدت بعدها إن بلا خلاف. وليس كذلك. فقد حكى غيره أن الكوفيين أجازوا النصب. وأنشد يعقوب:
بني غدانة، ما إن أنتم ذهباً ... ولا صريفاً، ولكن أنتم الخزف
بنصب ذهب وصريف.
الرابع: ألا يتقدم غير ظرف، أو جار ومجرور، من معمول خبرها. فإن تقدم غيرهما بطل العمل، نحو ما طعامك زيد آكل. وأجاز ابن كيسان نصب آكل ونحوه، مع تقديم المعمول.
وزاد بعضهم شرطين آخرين: أحدهما ألا تؤكد بمثلها. فإن أكدت، نحو: ماما زيد قائم، وجب الرفع. قال ابن أصبغ: عند عامة النحويين، وأجازه جماعة من الكوفيين. قلت: وصرح ابن مالك بعملها، في هذه الصورة. ولم يحك في ذلك خلافاً. وأنشد، على العمل، قول الراجز:
لا ينسك الأسى تأسياً، فما ... ما من حمام أحد معتصما
فكرر ما النافية توكيداً، وأبقى عملها. وثانيهما: ألا يبدل من الخبر بدل مصحوب بإلا نحو: ما زيد شيء إلا شيء لا يعبأ به. وفي الكتاب للصفار جواز نصب الخبر، ورفع ما بعد إلا على البدل من الموضع. وهو وهم.
وغير الحجازيين، ومن ذكر معهم، لا يعملون ما. وحكى سيبويه أن إهمالها لغة بني تميم.
وأما غير العاملة فهي الداخلة على الفعل. نحو: ما قام زيد، وما يقوم عمرو. فهذه لا خلاف بينهم، في أنها لا عمل لها. وإذا دخلت على الفعل الماضي بقي على مضيه، وإذا دخلت على المضارع خلصته للحال، عند الأكثر. قال ابن مالك: وليس كذلك، بل قد يكون مستقبلاً، على قلة. كقوله تعالى " قل: ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي " . واعترض بأنهم إنما جعلوها مخلصة للحال، إذا لم يوجد قرينة غيرها، تدل على غير ذلك.

مسألة
ندر تركيب ما النافية مع النكرة، تشبيهاً لها بلا. كقول الشاعر:
وما بأس، لو ردت علينا تحية ... فليل، على من يعرف الحق، عابها
وأما المصدرية فقسمان: وقتية، وغير وقتية.

فالوقتية: هي التي تقدر بمصدر، نائب عن ظرف الزمان. كقوله تعالى " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض. وتسمى ظرفية أيضاً. ولا يشاركها، في ذلك، شيء من الأحرف المصدرية، خلافاً للزمخشري، في زعمه أن أن تشاركها في هذا المعنى. وحمل على ذلك قوله تعالى " أن آتاه الله الملك " ، و " إلا أن يصدقوا " ، أي: وقت إيتائه، وحين تصدقهم. وقال، في قوله تعالى " أتقتلون رجلاً، أن يقول ربي الله " : ولك أن تقدر مضافاً محذوفاً، أي وقت أن يقول. ومعنى التعليل، في هذه الآيات، ظاهر. فلا يعدل عنه.
وغير الوقتية: هي التي تقدر مع صلتها، بمصدر، ولا يحسن تقدير الوقت قبلها، نحو: يعجبني ما صنعت، أي صنعك. ومن ذلك قوله تعالى: " وضاقت عليكم الأرض بما رحبت " ، وقول الشاعر:
يسر المرء ما ذهب الليالي ... وكان ذهابهن، له، ذهابا
وزعم السهيلي أن شرط كون ما مصدرية صلاحية وقوع ما الموصولة موقعها، وأن الفعل بعدها لا يكون خاصاً. فلا يجوز: أريد ما تخرج، أي: خروجك. وهو مردود، بالآية والبيت السابقين.
واعلم أن ما المصدرية توصل بالفعل الماضي والمضارع، ولا توصل بالأمر. وفي وصلها بالجملة الأسمية خلاف. ومذهب سيبويه والجمهور أن ما المصدرية حرف، فلا يعود عليها ضمير، من صلتها. وذهب الأخفش، وابن السراج، وجماعة من الكوفيين، إلى أنها اسم، فتفتقر إلى ضمير. فإذا قلت: يعجبني ما صنعت، فتقديره عند سيبويه: يعجبني صنعك. وعند الأخفش: الصنع الذي صنعته. ورد عليه، بقول الشاعر: بما لستما أهل الخيانة، والغدر إذ لا يسوغ تقديره هنا.
وأما الزائدة فلها أربعة أقسام: الأول: أن تكون زائدة لمجرد التوكيد. وهي التي دخلوها في الكلام كخروجها. محو " فبما رحمة " و " عما قليل " ، و " مما خطاياهم " ، " وإما تخافن " ، " وإذا ما أنزلت سورة " . وزيادتها بعد إن الشرطية وإذا كثيرة.
الثاني: أن تكون كافة. وهي تقع بعد إن وأخواتها. نحو " إنما الله إله واحد " . وبعد رب، وكاف التشبيه في الأكثر. وذكر ابن مالك أنها قد تكف الباء وتحدث فيها معنى التقليل. وقد جاءت ما الكافة أيضاً بعد قل إذا أريد به النفي. نحو: قلما يقول ذلك أحد.
الثالث: أن تكون عوضاً. وهي ضربان: عوض من فعل، وعوض من الإضافة، فالأول كقولهم: أما أنت منطلقاً انطلقت. والأصل: لأن كنت منطلقاً انطلقت. فحذفت لام التعليل، وحذفت كان فانفصل الضمير المتصل بها لحذف عامله، وجيء بما عوضاً من كان والثاني كقولهم: حيثما، وإذا ما. فما فيهما عوض من الإضافة، لأنهما قصد الجزم بهما، قطعاً عن الإضافة، وجيء بما عوضاً منها. وجعل بعضهم ما في قول امرئ القيس: ولا سيما يوماً بدارة جلجل عوضاً من الإضافة، ونصب يوماً على التمييز.
الرابع: أن تكون منبهة على وصف لائق. قال ابن السيد: وهي ثلاثة أقسام: قسم للتعظيم والتهويل، كقول الشاعر:
عزمت، على إقامة ذي صباح ... لأم ما، يسود من يسود
وقسم يراد به التحقير، كقولك لمن سمعته يفخر بما أعطاه: وهل أعطيت إلا عطية ما؟ وقسم لا يراد به تعظيم، ولا تحقير، ولكن يراد به التنويع، كقولك: ضربته ضرباً ما. أي: نوعاً من الضرب.
قلت: وذهب قوم إلى أن ما في ذلك كله اسم، وهي صفة بنفسها. قال ابن مالك: والمشهور أنها حرف زائدة، منبهة على وصف لائق بالمحل. وهو أولى، لأن زيادة ما عوضاً من محذوف، ثابت في كلامهم. وليس في كلامهم نكرة موصوف بها، جامدة كجمود ما، إلا وهي مردفة بمكمل. كقولهم: مررت برجل أي رجل.
وزيد، في اقسام الزائدة قسمين آخرين: أحدهما: أن تكون مهيئة. وهي الكافة لإن وأخواتها، ولرب إذا وليها الفعل. نحو " غنما يخشى الله من عباده العلماء " ، و " ربما يود الذين كفروا " فما في ذلك مهيئة، لأنها هيأت هذه الألفاظ، لدخولها على الفعل. ولم والتحقيق أن المهيئة نوع من أنواع الكافة. فكل مهيئة كافة، ولا ينعكس.
والآخر: أن تكون مسلطة. ذكر هذا القسم أبو محمد بن السيد. قال: وهي ضد الكافة. وهي التي تلحق حيث وإذ. فيجب لهما بها العمل.
قلت: قد تقدم أن ما في حيثما وإذ ما عوض من الإضافة. ولما كان لحاقها لحيث وإذ شرطاً في الجزم بهما سماها مسلطة. وقد كثر ابن السيد أقسام ما. فذكر لها اثنين وثلاثين قسماً، بأقسام الأسمية. وذكر، في تلك الأقسام، ما لا تحقيق في ذكره. فلذلك أضربت عنه.

وأما ما الأسمية فلها سبعة أقسام: موصولة: وهي التي يصلح في موضعها الذي، نحو " والله يسجد ما في السماوات، وما في الأرض " .
وشرطية: نحو " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها " .
واستفهامية: نحو " وما تلك بيمينك يا موسى " .
ونكرة موصوفة: نحو: كررت بما معجب لك، أي بشيء معجب.
ونكرة غير موصوفة: وهي في ثلاثة مواضع: الأول: باب التعجب، نحو: ما أحسن زيداً! فما في ذلك نكرة غير موصوفة، والجملة بعدها خبر. هذا مذهب سيبويه، وجمهور البصريين، وروي عن الأخفش. وقيل: هي موصولة، والجملة صلتها، والخبر محذوف. وهو ثاني أقوال الأخفش. وقيل: هي نكرة موصوفة بالجملة، والخبر محذوف. وهو ثالث أقواله. وقيل: استفهامية. وهو قول الكوفيين. قال بعضهم: هو قول الفراء، وابن درستويه.
الثاني: باب نعم وبئس، على خلاف فيه. وتلخيص القول في ما بعد نعم وبئس أنها إن جاء بعدها اسم نحو: نعما زيد، وبئسما تزويج ولا مهر، ففيها ثلاثة مذاهب: أولها أن ما نكرة غير موصوفة في موضع نصب على التمييز، والفاعل مضمر، والمرفوع بعد ما هو المخصوص. قيل: وهو مذهب البصريين. قلت: ليس هو مذهب جميعهم. وثانيها أن ما معرفة تامة، وهي الفاعل. وهو ظاهر قول سيبويه، ونقل عن المبرد، وابن السراج، والفارسي، وهو أحد قولي الفراء، واختاره ابن مالك. وثالثها أن ما ركبت مع الفعل، فلا موضع لها من الإعراب، والمرفوع بعدها هو الفاعل. وقال به قوم منهم الفراء.
وإذا جاء بعدها فعل فعشرة مذاهب: أولها: أن ما نكرة منصوبة على التمييز، والفعل صفة لمخصوص محذوف.
وثانيها: أن ما نكرة منصوبة على التمييز، والفعل صفتها، والمخصوص محذوف.
وثالثها: أن ما اسم تام معرفة، وهي فاعل نعم، والمخصوص محذوف، والفعل صفة له.
ورابعها: أنها موصولة، والفعل صلتها، والمخصوص محذوف.
وخامسها: أنها موصولة، وهي المخصوص، وما أخرى تمييز محذوف، والأصل: نعم ما ما صنعت.
وسادسها: أن ما تمييز، والمخصوص ما أخرى موصولة محذوف، ولفعل صلة لها.
وسابعها: أن ما مصدرية، ولا حذف في الكلام. وتأويلها: بئس صنعك، وإن كان لا يحسن في الكلام: بئس صنعك، كما تقول: أظن أن تقوم، ولا تقول: أظن قيامك.
وثامنها: أن ما فاعل، وهي موصولة، يكتفي بها وبصلتها عن المخصوص.
وتاسعها: أن ما كافة لنعم، كما كفت قل فصارت تدخل على الجملة الفعلية.
وعاشرها: أن ما نكرة موصوفة مرفوعة بنعم.
والمشهور من هذه المذاهب الثلاثة الأول وليس هذا موضع بسط الكلام على هذه المذاهب. وذد ذكرتها في غير هذا الكتاب.
الثالث قوله: إني مما أن أفعل، أي: إني من أمر فعلي.
قال الشاعر:
ألا، غنيا بالزاهرية، إنني ... على النأي، مما أن ألم بها ذكرا
أي: من أمر إلمامي. وحيث جاء مما وبعدها أن أفعل فهذا تأويلها، عند قوم فإن لم يكن بعدها أن فهي بمنزلة ربما. وقال السيرافي، في قول العرب إني مما أن افعل كذا: اسماً تاماً في موضع الأمر. وتقدير الكلام: إني من الأمر صنعي كذا وكذا فالياء اسم إن، وصنعي مبتدأ، ومن الأمر خبر صنعي، والجملة في موضع خبر إن.
والسادس: من أقسام ما الإسمية أن تكون صفة، نحو: لأمر ما، يسود م يسود عند قوم. وقد تقدم ذكرها في أقسام الزائدة.
والسابع: أن تكون معرفة تامة. وذلك في باب نعم وبئس، على ظاهر قول سيبويه. وفي قولهم: إني مما أن أفعل، على ما ذكره السيرافي.
وإنما ذكرت اقسام الأسمية، في هذا الكتاب، وإن لم يكن موضوعاً لذلك، لشدة الحاجة إلى معرفة هذه الأقسام. والله، سبحانه وتعالى، أعلم.

هل
حرف استفهام تدخل على الأسماء والأفعال، لطلب التصديق الموجب، لا غير، نحو: هل قام زيد؟ وهل زيد قائم؟ فتساوي الهمزة في ذلك.
وتنفرد الهمزة، بأنها ترد لطلب التصور، نحو: أزيد في الدار أم عمرو؟ ولذلك انفردت بمعادلة أم المتصلة، لأنها يطلب بها تعيين أحد الأمرين، وهل لا يطلب بها ذلك. وانفردت الهمزة أيضاً بأنها تدهل على المنفي، نحو " أليس الله بكاف عبده " ، " ألم نشرح لك صدرك " . ولا تدخل هل على منفي. وتفارق الهمزة هل في أمور أخر: الأول: أن الهمزة ترد بلإنكار، والتوبيخ، والتعجب، بخلاف هل.

والثاني: أن هل قد يراد بالإستفهام بها النفي، نحو قولك: هل يقدر على هذا غيري، أي: ما يقدر. ويعين ذلك دخول إلا، نحو " وهل نجازي إلا الكفور " .
والثالث: أن الهمزة تتقدم على فاء العطف وواوه وثم، بخلاف هل. وقد تقدم ذكر هذا في الباب الأول.
والرابع: أن الهمزة لا تعاد بعد أم، وهل يجوز أن تعاد وألا تعاد. وقد اجتمع الأمان في قوله تعالى " قل: هل يستوي الأعمى والبصير، أم هل يستوي الظلمات والنور، أم جعلوا " .
والخامس: أن الهمزة تدخل على إن، كقوله تعالى " قالوا: أإنك لأنت يوسف " ، بخلاف هل.
والسادس: أن الهمزة قد يليها اسم، بعده فعل، في الاختيار. نحو: أزيد قام؟ وأزيداً ضربت؟ وإن كان الأولى أن يليها الفعل بخلاف هل فإنها لا يتقدم الاسم بعدها على الفعل، إلا في الشعر.
ولذلك وجب النصب، في نحو: هي زيداً ضربته؟ في باب الاشتغال، وترجح بعد الهمزة ولم يجب.
والسابع: زعم بعضهم أن الفرق بين الهمزة وهل أن الهمزة لا يستفهم بها، إلا وقد هجس في النفس إثبات ما يستفهم بها عنه، بخلاف هل فإنه لا يترجح عنده لا النفي ولا الإثبات.

تنبيه
الأصل في هل أن تكون للإسفهام، كما ذكر. وقد ترد لمعان أخر: الأول: النفي، وقد تقدم.
الثاني: أن تكون بمعنى قد. ذكر هذا قوم من النحويين، منهم ابن مالك. وقال به الكسائي، والفراء، وبعض المفسرين، في قوله تعالى " هل أتى عل الإنسان حين من الدهر " واستدل بعضهم، على ذلك، بقول الشاعر:
سائل فوارس يربوع، بشدتنا: ... أهل رأونا، يسفح القف، ذي الأكم
فالمعنى: أقد رأونا. ويدل على ذلك دخول الهمزة عليها. وأنكر بعضهم مرادفة هل لقد، وقال يحتمل أن يكون أهل رأونا م الجمع بين أداتين لمعنى واحد، على سبيل التوكيد، كقوله: ولا للمابهم أبداً دواء بل الجمع بين الهمزة وهل أسهل لاختلاف لفظهما، ولأن أحدهما ثنائي. وقال بعضهم: إن أصل هل أن تكون بمعنى قد ولكنه لما كثر استعمالها في الاستفهام التسغنى بها عن الهمزة. وفي كلام سيبويه ما يوهم ذلك، وهو بعيد.
الثالث: أن تكون بمعنى إن. زعم بعضهم أن هل في قوله تعالى " هل في ذلك قسم، لذي حجر " بمعنى إن. ولذلك يتلقى بها القسم، كما يتلقى بإن. وهو قول ضعيف الرابع: أن تكون للتقرير والإثبات. ذكره بعضهم، في قوله تعالى " هل في ذلك قسم لذي حجر " ، وفي قوله تعالى " هل أتى على الإنسان " . وذكر بعذ النحويين أن هل لم تستعمل للتقرير، وأن ذلك مما انفردت به الهمزة.
الخامس: أن تكون للأمر، كقوله تعالى " فهل أنتم منتهون " . فهذا صورته صورة الاستفهام، ومعناه الأمر، أي: انتهوا. والله أعلم.
ها
لفظ مشترك؛ يكون اسماً وحرفاً.
فإذا كان اسماً فله قسمان: أحدهما: أن يكون اسم فعل بمعنى: خذ. وفيه لغات أخر.
والثاني: أن يكون ضميراً للغائبة، وهو واضح.
وإذا كان حرفاً فهو حرف تنبيه. ويطرد في أربعة مواضع: الأول: مع اسم الإشارة، نحو: هذا. ويكثر في المجرد من الكاف، ويقل في المقرون بالكاف، كقول طرفة:
رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذا الطراف، الممدد
ويمتنع في المقرون بالكاف واللام، فلا يقال: هذا لك، لكثرة الزوائد.
الثاني: مع أي في النداء، نحو: يا أيها الرجل. وحرف التنبيه لازم في هذا الموضع، لأنه كالصلة لأي، بسبب ما فاتها من الإضافة، ولذلك يقول المعربون فيه: ها صلة وتنبيه.
الثالث: مع ضمير الرفع المنفصل، إذا كان مبتدأ مخبراً عنه باسم الإشارة. محو: ها أنا ذا، وها أنتم أولاء. وظاهر كلام ابن مالك أن ها الداخلة على الضمير هي التي كانت مع اسم الإشارة، وفصل بينهما بالضمير. قال: وفصلها من المجرد بأنا وأخواته كثير، وبغيرها قليل، وقد تعاد بعد الفصل توكيداً. يعني في نحو: ها أنتم هؤلاء.
وكلام سيبويه يقتضي أن ها قد تدخل على الضمير، كما تدخل على اسم الإشارة، وليست مقدمة من تأخير. قال: وقد تكون ها في ها أنت ذا غير مقدمة، ولكنها تكون للتنبيه، لمنزلتها في هذا. يدل على ذلك قوله تعالى " ها أنتم هؤلاء " . فلو كانت ها المقدمة مصاحبة أولاء لم تعد. ويؤيد ما قاله سيبويه أن ها قد دخلت على الضمير، وليس خبره اسم إشارة. كقول الشاعر: أبا حكم، ها أنت عم مجالد قال بعضهم: وهو شاذ.
تنبيه

يقال: ها أنا ذا، وها أنا هذا، وأنا هذا. وأكثرها الأول، ثم الثاني، ثم الثالث. وقال الفراء: لا يكادون يقولون: أنا هذا. وقد حكى أبو الخطاب، ويونس: أنا هذا، وهذا أنا.
الرابع: مع اسم الله في القسم، نحو: ها الله. وفيه أربعة أوجه: قطع الهمزة، ووضلها، كلاهما مع إثبات ألف ها، وحذفها. وهل الجر بها، أو بحرف القسم المحذوف، خلاف، كما تقدم في الهمزة.
وقد جاء استعمال ها في غير هذه المواضع الربعة، ولكنه قليل. كقوله النابغة:
ها إن ذي عذرة غلا تكن نفعت ... فإن صاحبها مشارك النكد
وزعم بعضهم أن الأصل إن هذي، فقدم التنبيه، وفصل بإن، كما قال زهير:
تعلمن ها، لعمر الله، ذا قسماً ... فاقدر بذرعك، وانظر: أين تنسلك
فصل بين التنبيه واسم الإشارة بالقسم.
وذكر صاحب رصف المباني أن ها قد تستعمل مفردة، فيقال ها بمعنى: تنبه. والله أعلم.

هو وهي وهم
إذا وقعت فصلاً، فيها خلاف بني النحويين. وليس الخلاف خاصاً بهذه الألفاظ الثلاثون بل هو جار في الضمير المرفوع المنفصل، إذا وقع فصلاً بين المبتدأ والخبر، أو ما أصله مبتدأ وخبر. نحو " إن كان هذا هو الحقط، " وكنت أنت الرقيب " ، " وكنا نحن الوارثين " ، وما أشبه ذلك.
فهذب قوم إلى أن هذه مضمرات، باقية على اسميتها. قيل: وهو مذهب البصريين.
وذهب قوم إلى أنها حروف، لأنها جاءت لمعنى في غيرها، وهو الفصل بين ما هو خبر وما هو تابع. قيل: وهو مذهب أكثر النحويي،. وصححه ابن عصفور.
واختلف القائلون بأنها أسماء: هل لها محل من الإعراب، أو ليس لها محل. فذهب البصريون إلى أنها لا محل لها من الإعراب. وذهب الكسائي، والفراء، إلى أن لها محلا. فقال الكسائي: محلها محل ما بعدها. وقال الفراء: محلها محل ما قبلها. وثمرة الخلاف في نحو " كنت أنت الرقيب " . فعلى مذهب الكسائي يكون محل الضمير نصباً، وعلى مذهب الفراء يكون محله رفعاً. والصحيح مذهب البصريين، وبيان ذلك في غير هذا الموضع. وقد بسطت الكلام على ذلك في شرح التسهيل. والله أعلم.
وا
حرف نداء، مختص بباب الندبة، فلا ينادى به إلا المندوب. نحو: وازيداه. والدبة هي: نداء المتفجع عليه، والمتوجع منه. وذهب بعض النحويين إلى أن وا يجوز أن ينادى بها غير المندوب، فيقال: وازيد أقبل. ومذهب سيبويه، وجمهور النحويين، ما سبق.
واختلف في وا فقيل: هي أصل برأسه. وهو الصحيح. وقيل: هي فرع يا، وواوها بدلعن الياء. وهو قول ضعيف، لا دليل عليه.
ولوا قسم آخر، وهو أن تكون اسم فعل، بمعنى التعجب والاستحسان. كقول الشاعر:
وا، بأبي أنت، وفوك الأشنب ... كأنما ذر، عليه، الزرنب
والله أعلم.
وي
المعروف أنها اسم فعل، بمعنى: أعجب. قال الشاعر:
وي، كأن من يكن له نشب يح ... بب، ومن يفتقر يعش عيش ضر
فهو اسم للفعل المضارع. وتلحقها كاف الخطاب. قال عنترة:
ولقد شفى نفسي، وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس: ويك، عنتر، أقدم
وقال الكسائي: إن ويك محذوفة من ويلك. فالكاف، على قوله، ضمير مجرور. وأما قوله تعالى " وكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء " ، فقال أبو الحسن الأخفش: هو ويك بمعنى: أعجب، والكاف حرف خطاب. أي: أعجب لأن الله. وعند الخليل وسيبويه أن وي وحدها، والكاف للتشبي. واختلاف القراء في الوقف مشهور.
وذكر صاحب رصف المباني أن وي حرف تنبيه، معاناها التنبيه على الزجر، كما أن ها معناها التنبيه على الحض. وهي تقال، للرجوع عن المكروه، والمحذور. وذلك إذا وجد رجل يسب أحداً، أو يوقعه في مكروه، أو يتلفه، أو يأخذ ماله، أو يعرض له بشيء من ذلك، فيقال لذلك الرجل: وي. ومعناه: تنبيه وازدر عن فعلك. ويجوز أن توصل به كاف الخطاب. وهذا كلامه. ثم ذكر اختلاف العلماء في قوله تعالى " وكأن الله " ، وقال: الصحيح أن تكون وي حرف تنبيه. والله سبحانه أعلم.
يا
حرف تنبيه. وهي قسمان:

الأول: أن تكون لتنبيه المنادى، نحو: يا زيد، فهي، في هذا، حرف نداء. وهي أم باب النداء، فلذلك دخلت في جميع أبوابه، وانفردت بباب الاستغاثة، وشاركت وا في باب الندبة. وهي لنداء البعيد مسافة أو حكماً. وقد ينادى بها القريب، توكيداً. ومذهب سيبويه أن ما عدا الهمزة، من حروف النداء، فهو للبعيد. إلا أنه يجوز نداء القريب بما للبعيد، على سبيل التوكيد. وقيل: يا مشتركة؛ ينادى بها القريب، والبعيد، لكثرة استعمالها. ولكثرة استعمالها نقول: إنها هي المحذوفة في النداء، في نحو " يوسف أعرض عن هذا " ، و " ربنا آمنا " . ومواضع حذفها مذكورة في كتب النحو، فلا نطول بها.

فائدة
ذهب بعض النحويين إلى أن يا وأخواتها، التي ينادي بها، أسماء أفعال، تتحمل ضميراً مستكناً فيها. ونقل عن الكوفيين.
الثاني: أن تكون لمجرد التنبيه، لا للنداء. ويليها أحد خمسة أشياء: الأمر، نحو " ألا، يا ساجدوا " في قراءة الكسائي وقول الشاعر: ألا، يا اسقياني، قبل غارة سنجال والدعاء، كقول الشاعر:
يا لعنة الله، والأقوان كلهم ... والصالحين، على سمعان من جار
وليت نحو " يا ليتني كنت معهم " ورب نحو: يا رب سار بات ما توسدا وحبذا كقول الشاعر:
يا حبذا جبل الريان، من جبل ... وحبذا ساكن الريان، من كانا
فيا في هذه المواضع حرف تنبيه، لا حرف نداء. هذا مذهب قوم من النحويين. قال بعضهم: وهو الصحيح.
وذهب آخرون إلى أنها، في ذلك، حرف نداء، والمنادى محذوف. والتقدير: ألا يا هؤلاء اسجدوا، وألا يا هذان اسقياني. وكذلك تقدر في سائرها. وضعف بوجهين: أحدهما: أن يا نابت مناب الفعل المحذوف، فلو حذف المنادى لزم حذف الجملة، بأسرها. وذلك إخلال. والثاني: أن المنادى معتمد المقصد، فإذا حذف تناقض المراد.
وذهب ابن مالك في التسهيل إلى تفصيل في ذلك. وهو أن يا إن وليها أمر أو دعاء فهي حرف نداء، والمنادى محذوف. وإن وليها ليت أو رب أو حبذا فهي لمجرد التنبيه. وقد بينت ذلك في شرح التسهيل. والله أعلم.
الباب الثالث
في الثلاثي
وهو ضربان: متفق عليه، ومختلف فيه. وجملة ذلك ستة وثلاثون: أجل، وإذن، وإذا، وألا، وإلى، وأما، وإن، وأن، وأنا، وأنت، وأنت وآي، وأيا، وبجل، وبلى، وبله، وثم، وجلل، وجير، وخلا، ورب، وسوف، وعدا، وعسى، وعلى، وكما، ولات وليت، وليس، ومنذ، ومتى، ونعم، ونحن، وهما، وهن، وهيا. وأنا أذكرها على هذا التريب، إن شاء الله تعالى.
أجل
حرف جواب مثل نعم. تكون لتصديق الخبر، ولتحقيق الطلب. تقول لمن قال قام زيد: أجل. ولمن قال اضرب زيداً: أجل. قال الشاعر:
ولو كنت تعطي حين تسأل سامحت ... لك النفس، واحلولاك كل خليل
أجل، لا، ولكن أنت أشأم من مشى ... وأسأل من صماء، ذات صليل
وقال آخر:
وقلن: على الفردوس أول مشرب ... أجل جير، إن كانت أبيحت دعائره
قال صاحب رصف المباني: ولا تكون جواباً للنفي، ولا للنهي. وقال غيره: أجل لتصديق الخبر، ماضياً كان أو غيره، موجباً أو غيره، ولا تجيء جواباً للإستفهام. قال بعضهم: وتختص بالخبر. وعن الأخفش أنها تكون في الخبر والاستفهام، إلا أنها في الخبر أحسن من نعم، ونعم في الاستفهام أحسن منها. فإذا قال: أنت سوف تذهب. قلت: أجل. وكان أحسن من نعم. وإذا قال: أتذهب؟ قلت: نعم. وكان أحسن من أجل.
إذن
حرف ينصب الفعل المضارع، بثلاثة شروط: الأول: أن يكون الفعل مستقبلاً. فإن كان حالاً رفع، كقولك لمن يحدثك: إذا أظنك صادقاً.
الثاني: أن تكون مصدرة. فإن تأخرت ألغيت حتماً، نحو: أكرمك إذاً. وغن توسطت، وافتقر ما قبلها لما بعدها مثل أن تتوسط بين المبتدأ وخبره، وبين الشرط وجزائه، وبين القسم وجوابه - وجب إلغاؤها، أيضاً كالمتأخرة.
قال ابن مالك: وشذ النصب بإذن بين ذي خبر وخبره، في قول الراجز:
لا تتركني، فيهم شطيرا ... إني إذن أهلك، أو أطيرا
وأجاز ذلك بعض الكوفيين. وتأوله البصريون على حذف الخبر، والتقدير: إني لا أقدر على ذلك. ثم استأنف بإذن، فنصب. وإن تقدمها حرف عطف نفيها وجهان: الإلغاء، والإعمال. والإلغاء أجود، وبه قرأ السبعة " وإذا لا يلبثون " . وفي بعض الشواذ: " وإذن لا يلبثوا " على الإعمال.

الثالث: ألا يفصل، بينهما وبين الفعل، بغير القسم. فإن فصل بينهما بغيره ألغيت، نحو: إذاً زيد يكرمك. وإن فصل بالقسم لم يعتبر، نحو: إذن، والله، أكرمك.
وأجاز ابن عصفور الفصل بالظرف، نحو: إذن غداً أكرمك. وأجاز ابن بابشاذ الفصل بالنداء والدعاء، نحو: إذن، يا زيد، أحسن إليك، وإذن - يغفر الله لك - يدخلك الجنة. ولم يسمع من ذلك، فالصحيح منعه.
وأجاز الكسائي، وهشام، الفصل بمعمول الفعل. وفي الفعل، حينئذ، وجهان. والاختيار عند الكسائي النصب، وعند هشام الرفع.
وبعض العرب يلغني إذن مع استيفاء الشروط، وهي لغية نادرة، حكاها عيسى، وسيبويه. ولا يقبل قول من أنكرها.
ويتعلق بإذن مسائل.
الأولى: مذهب الجمهور أنها حرف، كما تقدم. وذهب بعض الكوفيين إلى أنها اسم، وأصلها إذا. والأصل أن تقول: إذا جئتني أكرمتك. فحذف ما يضاف إليه، وعوض منه التنوين.
ثم اختلف القائلون بحرفيتها. فقال الأكثرون: إنها بسيطة. وذهب الخليل، في أحد أقواله، إلى أنها مركبة من إذ وأن. واختلف القائلون بأنها بسيطة. فذهب الأكثرون إلى أنها ناصبة بنفسها. وذهب الخليل، فيما روى عنه أبو عبيدة، إلى أنها ليست ناصبة بنفسها، وأن بعدها مقدرة. وإليه ذهب الزجاج، والفارسي. والصحيح أنها ناصبة بنفسها.
الثانية: قال سيبويه في إذن: معناها الجواب والجزاء. فحمله قوم، منهم الشلوبين، على ظاهره وقال: إنها للجواب والجزاء، في كل موضع. وتكلف تخريج ما خفي فيه ذلك. وحمله الفارسي على أنها قد ترد لهما، وهو الأكثر، وقد تكون للجواب وحده، نحو أن يقول القائل أحبك: فتقول: إذاً أطنك صادقاً. فلا يتصور هنا الجزاء.
وقال بعض المتأخرين: إذن، وإن دلت على أن ما بعدها متسبب عما قبلها، على وجهين: أحدهما: أن تدل على إنشاء الارتباط والشرط، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها، في ثاني حال. فإذا قال: أزورك، فقلت: إذن أزوك، فإنما أردت أن تجهل فعله شرطاً للفعل. وإنشاء السببية، في ثاني حال، من ضرورته أنها تكون في الجواب، وبالفعلية، وفي زمان مستقبل. والوجه الثاني: أن تكون مؤكدة جواب، ارتبط بمتقدم، أو منبهة على سبب، حصل في الحال. نحو: إن أتيتني إذاً آتك، ووالله إذاً فهم الربط. وإذا كان بهذا المعنى ففي دخولها على الجملة الصريحة، نحو: إن يقم زيد إد عمرو قائم، نظر. قال: والظاهر الجواز.
الثالثة: إذا وقع بعد إذاً الماضي، مصحوباً باللام، كقوله تعالى " إذاً لأذقناك " ، فالظاهر أن اللام جواب قسم مقدر، قبل إذا وقال الفراء: لو مقدرة قبل إذاً، والتقدير: لو ركنت لأذقناك. وقدز، في كل موضه، ما يليق به.
الرابعة: اختلف النحويون في الوقف على إذن. فذهب الجمهور إلى أنها يوقف عليها بالألف، لشبهها بالمنون المنصوب. وذهب بعضهم إلى أنها يوقف عليها بالنون، لأنها بمنزلة أن ولن، ونقل عن المازني والمبرد.
الخامسة: اختلف النحويون أيضاً، في رسمها، على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنها تكتب بالألف. قيل: وهو الأكثر، وكذلك رسمت في المصحف. ونسب هذا القول إلى المازني، وفيه نظر، لأنه إذا كان يرى الوقف عليها بالنون، كما نقل عنه، فلا ينبغي أن يكتبها بالألف. والثاني: أنها تكتب بالنون. قيل: وإليه ذهب المبرد والأكثرون. وعن المبرد: أشتهى أن أكوي يد من يكتب إذن بالألف، لأنها مثل أن ولن ولا يدخل التنوين في الحروف والثالث: التفصيل، فإن ألغيت كتبت بالألف، لضعفها، وإن عملت كتبت بالنون. وقال صاحب رصف المباني: والذي عندي فيها الاختيار أن ينظر، فإن وصلت في الكلام كتبت بالنون، علمت أو لم تعمل، كما يفعل بأمثالها من الحروف. وإذا وقف عليها كتبت بالألف، لأنها إذ ذاك مشبهة بالأسماء المنقوصة، مثل: دماً، ويداً. والله أعلم.
لفظ مشترك؛ يكون اسماً وحرفاً.
فإذا كانت اسماً فلها أقسام: الأول: أن تكون ظرفاً لما يستقبل من الزمان، متضمنة معنى الشرط. ولذلك تجاب بما تجاب به أدوات الشرط، نحو: إذا جاء زيد فقم إليه. وكثر مجيء لماضي بعدها، مراداً به الاستقبال.
ومع تضمنها معنى الشرط لم يجزم بها، إلا في الشعر، كقول الشاعر:
وإذا تصبك خصاصة فارج الغنى ... وإلى الذي يعطي الرغائب، فارغب

وإنما لم يجزم بها، لمخالفتها إن الشرطية. وذلك لأن إذا لما تيقن وجوده أو رجح، بخلاف إن فإنها للمشكوك فيه، وقد تدخل على المتيقن وجوده إذا أبهم زمانه، كقوله تعالى " أفإن مت فهم الخالدون " . وقد تدخل على المستحيل، كقوله تعالى " قل: إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " . وأجاز الكوفيون الجزم بإذا مطلقاً.
ومذهب سيبويه أن إذا لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدر. فالظاهر نحو " إذا جاء نصر الله والفتح " . والمقدر نحو " إذا السماء انشقت " . ولا يجيز غير ذلك. هذا هو المشهور، في النقل عن سيبويه. ونقل السهيلي أن سيبويه يجيز الابتداء بعد إذا الشرطية، وأدوات الشرط، إذا كان الخبر فعلاً. وأجاز الأخفش وقوع المبتدأ بعد إذا. قال ابن مالك: وبقوله أقول، لأن طلب إذا للفعل ليس كطلب إن. ومن ذلك قول الشاعر:
إذا باهلي تحته حنظلية ... له ولد، منها، فذاك المذرع
وأول بعضهم البيت على أن التقدير: استقرت تحته حنظلية. فحنظلية: فاعل وباهلي: مرفوع بفعل يفسره العامل في تحته.
ومذهب الجمهور أن إذا مضافة للجملة التي بعدها، والعامل فيها الجواب. وذهب بعض النحويين إلى أنها ليست مضافة إلى الجملة، بل هي معمولة للفعل الذي بعدها، لا لفعل الجواب.
قال الشيخ أبو حيان: ومذهب الجمهور فاسد، من وجوه: أحدها: أن إذا الفجائية قد تقع جواباً إذا الشرطية، وما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها. والثاني: اقتران جوابها بالفاء، وما بعد فاء الجزاء لا يعمل فيما قبلها. والثالث: أن جوابها جاء منفياً بما، نحو " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم " ، وما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها. والرابع: اختلاف وقتي الشرط والجواب، في بعض المواضع، نحو: إذا جئتني غداً أجيئك بعد غد.
قلت: والجواب عن هذه الوجوه أن الجمهور إنما يقولون: إن العامل فيها جوابها، إذا كان صالحاً للعمل. فإن منع من عمله فيها مانع كإذا الفجائية، وإن، ونحوهما، فالعامل فيها حينئذ مقدر، يدل عليه الجواب هذا حاصل كلامهم. وصرح أبو البقاء، في إعرابه بأن الفاء الداخلة في جواب إذا لا تمنع من عمل ما بعدها في إذا. وذكر الحوفي، والزمخشري، أن العامل في " إذا جاء نصر الله " : فسبح. وقد بسطت الكلام، على ذلك، في غير هذا الكتاب.
الثاني: أن تكون ظرفاً لما يستقبل من الزمان، مجردة من معنى الشرط. نحو قوله تعالى " والليل إذا يغشى " ، " والنجم إذا هوى " . والماضي بعدها في معنى المستقبل، كما كان بعد المتضمنة معنى الشرط. وقال الفراء: لا يكون بعدها الماضي إلا إذا كان فيها معنى الشرط والإبهام. ومنه قوله تعالى " وقالوا لإخوانهم، إذا ضربوا في الأرض " ، كأنه قال: كلما ضربوا، أي: لا تكونوا كهؤلاء، إذا ضرب إخوانهم في الأرض.
الثالث: أن تكون ظرفاً لما مضى من الزمان، واقعة موقع إذ، كقوله تعالى " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت: لا أجد " ، وقوله " وإذا تجارة، أو لهواً، انفضوا إليها " . فإذا، في هذا ونحوه، بمعنى إذا. هذا مذهب بعض النحويين، وبه قال ابن مالك. قال في التسهيل: وربما وقعت موقع إذ وإذا موقعها. والذي صححه المغاربة أن إذا لا تقع موقع إذ، ولا إذ موقعها. وتأولوا ما أوهم ذلك.
الرابع: أن تخرج عن الظرفية، فتكون اسماً، مجرورة بحتى كقوله تعالى " حتى إذا جاؤوها " . وهو في القرآن كثير. فإذا، في ذلك، فيها وجهان: أحدهما أن تكون مجرورة بحتى، واختاره ابن مالك. والثاني: أن تكون حتى ابتدائية، وإذا في موضع نصب على ما استقر لها. وبه جزم أبو البقاء. وجوز الزمخشري الوجهين. قلت: وأشار الفارسي في التذكرة إلى جواز الوجهين. وتقدير الغاية على الأول: " وسبق الذين كفروا إلى جهنم " ، إلى وقت مجيئهم لها. وعلى هذا، فلا جواب لها. وعلى الثاني، تكون الغاية ما ينسبك من الجواب مرتباً على الشرط. والتقدير المعنوي: إلى تفتح أبوابها وقت مجيئهم، فينقطع السوق ويؤيد أنها بعد حتى شرطية، في موضع نصب، اتفاق النحويين على طلب جوابها، في قوله تعالى " حتى إذا جاؤوها وفتحت " ، فقيل: الواو زائدة. وقيل: الجواب محذوف.

وذهب ابن جني إلى أن إذا قد تخرج عن الظرفية، وتكون مبتدأة، كقوله تعالى " إذا وقعت الواقعة " . فإذا مبتدأ، و " إذا رجت " خبره، في قراءة من نصب " خافضة رافعة " . قال ابن مالك: وهو صحيح. زاد أنها تكون مفعولاً به، كقوله عليه السلام، لعائشة رضي الله عنها " إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبي " . والظاهر أنها لا تكون مبتدأة، ولا مفعولاً، وأنها لا تخرج عن الظرفية، وما استدل به محتمل للتأويل.
وأما إذا الحرفية فقسم واحد، وهي الفجائية. والفرق بينها وبني إذا الشرطية من خمسة أوجه: الأول: أن إذا الشرطية لا يليها إلا جملة فعلية، وإذا الفجائية لا يليها إلى جملة اسمية. والثاني: أن إذا الشطرية تحتاج إلى جواب، وإذا الفجائية لا جواب هلا. والثالث: أن إذا الشطرية للإستقبال، وإذا الفجائية للحال. قال سيبويه: وتكون للشيء توافقه في حال أنت فيها. يعني الفجائية. وقال الفراء: وقد يتراخى، كقوله تعالى " ثم إذا أنتم بشر تنتشرون " . والرابع: أن الجملة، بعد إذا الشرطية، في موضع خفض بالإضافة، والجملة بعد إذا الفجائية لا موضع لها. والخامس: أن إذا الشرطية تقع صدر الكلام، وإذا الفجائية لا تقع صدراً. وقد جمعت هذه الفروق، في هذه الأبيات:
الفرق بين إذا لشرط، والتي ... لفجاءة من أوجه، لا تجهل
طلب التي للشرط فعلاً بعدها ... وجوابها، وأتت لما يستقبل
وتضاف للجمل التي من بعدها ... وتكون في صدر المقالة، أول
واختلف النحويون في إذا الفجائية، على ثلاثة أقوال: الأول: أنها ظرف زمان. وهو مذهب الزجاج، والرياشي، واختاره ابن طاهر، وابن خروف، ونسب إلى المبرد. قيل: وهو ظاهر كلام سيبويه.
والثاني: أنها ظرف مكان. وهو مذهب المبرد، والفارسي، وابن جي، ونسب إلى سيبويه. واستدل القائلون، بأنها ظرف مكان، بوقوعها خبراً عن الجثة، في نحو: خرجت فإذا زيد. وأجاب الأولون، بأنه على حذف مضاف، أي: حضور زيد.
والثالث: أنها حرف. وهو مذهب الكوفيين، وحكي عن الأخفش. واختاره الشلوبين، في أحد قوليه. وإليه ذهب ابن مالك، واستدل على صحته بثمانية أوجه ذكرتها والإعتراض على بعضها في غير هذا الكتاب.
وتقع إذا الفجائية في مواضع.
منها نحو قولهم: خرجت فإذا الأسد. وفي هذه الفاء، الداخلة عليها، أقول تقدمت في بابها.
ومنها جواب الشرط، بأربعة شروط: أولها أن يكون الجواب جملة اسمية. وثانيها أن تكون غير طلبية، احترازاً من نحو: إن عصى زيد فويل له. فهذا تلزمه الفاء. وثالثها: ألا تدخل عليها أداة نفي. ورابعها ألا يدخل عليها إن. مثال ذلك " وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون " . فإذا ، في ذلك، نائبة مناب الفاء، في ربط الجواب بالشرط وليست الفاء مقدرة قبلها، خلافاً لزاعمه. إذا لو كانت مقدرة لم يمتنع التصريح بها.
ومنها بعد بينا وبينما كقول الحرفة:
فبينا نسوس الناس، والأمر أمرنا ... إذا نحن، فيهم، سوقة، نتنصف
وقول الآخر:
بينما المرء في فنون الأماني ... فإذا رائد المنون موافي
وقال الأصمعي: إذ وإذا في جواب بينا وبينما لم يأت عن فصيح. والصحيح أنه عربي، ولكن تركها أفصح.
وقد جاءت إذا الفجائية في مواضع أخر. فقد جاءت جواب إذا الشرطية، كقوله تعالى " فإذا أصاب به من يشاء، من عباده، إذا هم يستبشرون " . وقد جاءت بعد لما، كقوله تعالى " فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون " . وهو دليل على حرفية لما. إذ لو كانت ظرفاً لكان جوابها عاملاً فيها، وإذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
فإن قلت: ما العامل في إذا الفجائية، على القول باسميتها؟ قلت: خبر المبتدأ الواقع بعدها، نحو: خرجت فإذا زيد قائم. فقائم ناصب لإذا. والتقدير: ففي المكان الذي خرجت فيه، أو في الزمان الذي خرجت فيه، زيد قائم. وإن لم يذكر بعدها خبر، نحو: خرجت فإذا زيد، أو نصب على الحال، نحو: خرجت فإذا زيد قائماً، كانت إذا خبر المبتدأ. فإذا كان جئة، وقلنا إنها ظرف زمان، كان الكلام على حذف مضاف، أي ففي الزمان حضور زيد.
فإن قلت: ما تقرر، من أن العامل فيها خبر ما بعدها، يشكل بوقوع إن المكسورة بعدها، في قوله: إذا إنه عبد القفا، واللهازم

على رواية من كسرها. ووجه الإشكال أن إن لا يعمل ما بعدها فيما قبلها! قلت: هذا من أحسن أدلة القائلين بحرفيتها. وقد أجاب عنه بعض القائلين، باسميتها، بأن في الكلام حذف. فإذا قلت: خرجت فإذا إن زيداً منطلق فالتقدير فإذا انطلاق زيد، إنه منطلق. فتكون إذا خبر مبتدأ محذوف. والعامل فيها الكون المقدر والجملة المبدوءة بإن دليل على المحذوف.

تنبيه
ذكر الزمخشري في الكشاف أن التحقيق في إذا الفجائية أنها بمعنى الوقت، وأنها طالبة ناصباً لها، وجملة تضاف إليها، خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً، وهو فعل المفاجأة، والجملة ابتدائية لا غير. وذكر أن التقدير في قوله تعالى " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه، من سحرهم، أنها تسعى " : ففاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيتهم. وهذا تمثيل، والمعنى: على مفاجأته حبالهم وعصيتهم مخيلة إليه السعي. وقال في قوله تعالى " ثم إذا أنتم بشر تنتشرون " : ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً منتشرين. وقال في قوله تعالى " فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون " : فإن قلت: كيف جاز أن تجاب لما بإذا المفاجأة؟ قلت: لأن فعل المفاجأة معها مقدر، وهو عامل النصب في محلها. كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجؤوا وقت ضحكهم.
قال الشيخ أبو حيان: ولا نعلم نحوياً، ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل، من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر، تقديره: فاجأ. بل هي منصوبة بالخبر، أو خبر على ما تقدم تقديره، وليست مضافة إلى الجملة، كما سبق. ثم إن المفاجأة التي ادعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام، السابق. بل المعنى يدل على أن المفاجأة تكون من الكلام الذي فيه إذا. تقول: خرجت فإذا الأسد. فالمعنى: ففاجأني الأسد. وليس المعنى: ففاجأت الأسد.
قلت: وقد قدر أبو البقاء العامل في إذا الفجائية فعلاً، في مواضع. منها قوله تعالى " فإذا حبالهم " . قال: التقدير: فألقوا فإذا. وإذا في هذا ظرف مكان، والعامل فيه ألقوا. ورد بأن الفاء تمنع من عمل ما قبلها فيما بعدها.
واعلم أنه قد بقي، م أقسام إذا، قسم آخر، وهو إذا الزائدة. وهذا قال به أبو عبيدة بعد بينا وبينما. وهو ضعيف. والله أعلم.
ألا
حرف، يرد لثلاثة معان: الأول: استفتاح الكلام وتنبيه المخاطب. وهي تدخل على الجملة الأسمية، نحو " ألا إن أو لياء الله لا خوف عليهم " والفعلية نحو " ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم " . وعلامتها صحة الكلام بدونها. وقيل: معناها: حقاً. وجوز هذا القائل أن تفتح أن بعدها، كما تفتح بعد حقاً. وهذا في غاية البعد.
واختلف في ألا الاستفتاحية: هي هي مركبة أو بسيطة؟ فقيل: مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية. وإليه ذهب الزمخشري. وقيل: هي بسيطة. وإليه ذهب ابن مالك. ورد الشيخ أبو حيان دعوى التركيب، بأن الأصل عدمه، وبأنها قد وقعت قبل إن ورب وليت والنداء، ولا يصلح النفي قبل شيء من ذلك.
الثاني: العرض. وهذه مختصة بالأفعال، نحو: ألا تنزل عندنا فتحدث. وإن وليها اسم فعلى إضمار فعل، كقول الشاعر:
ألا رجلاً، جزاه الله خيراً ... يدل على محصلة، تبيت
التقدير: ألا تروني رجلاً. هذا قول الخليل وقال يونس: إنه أراد: ألا رجل، فنون مضطراً.
وقد تذكر ألا هذه مع أحرف التحضيض، لكونها للطلب. ولكن التحضيض أشد توكيداً من العرض. والفرق بينهما أنك في العرض تعرض عليه الشيء، لينظر فيه. وفي التحضيض تقول: الأولى لك أن تفعل، فلا يفوتنك. قيل: ولذلك يحسن قول العبد لسيده: ألا تعطيني. ويقبح: لولا تعطيني.
قال ابن الخباز: من الناس من جعله يغني: العرض - استفهاماً، ومنهم من جعله قسماً برأسه. وما ذكره ابن الحاجب، من دخول ألا التي للعرض على الاسم، وتركيبه معها، نحو: ألا نزول عندنا، غير ثابت. بل هي مختصة بالفعل، كما تقدم.
وألا هذه مركبة. قال ابن مالك: ألا التي للعرض مركبة من لا النافية والهمزة، بخلاف التي للإستفتاح فإنها غير مركبة. قال الشيخ أبو حيان: الذي أذهب إليه أنها بسيطة. قلت: وهو ظاهر كلام صاحب رصف المباني.
الثالث: الجواب. كقول القائل: ألم تقم. فتقول: ألا فتكون حرف جواب بمعنى: بلى. ذكره صاحب رصف المباني، وقال: إنه قليل شاذ.

واعلم أن ألا قد تكون كلمتين: إحداهما همزة الاستفهام، والأخرى لا النافية. فلا تعد حينئذ حرفاً واحداً، بل حرفين. وذلك في ثلاثة مواضع: الأول: أن يقصد بها مجرد الاستفهام عن النفي، نحو: ألا رجل في الدار. ومنه قول الشاعر: ألا اصطبار لسلمى، أم لها جلد الثاني: أن يقصد بها التوبيخ، كقول حسان.
ألا طعان، ألا فرسان عادية الثالث: أن يقصد بها التمني، كقول الشاعر:
ألا عمر، ولى، مستطاع رجوعه ... فيرأب ما أثات يد الغفلات
فألا في المواضع الثلاثة مركبة، بغير إشكال، ولا باقية على حكمها الذي لها، قبل دخول الهمزة. ولذلك بني الأسم معها. وذلك واضح. والله أعلم.
؟

إلى
حرف جر، يرد لمعان ثمانية: الأول: انتهاء الغاية في الزمان، والمكان، وغيرهما. وهو أصل معانيها. وفي دخول ما بعدها في حكم ما قبلها أقول. ثالثها: إن كان من جنس الأول دخل، وإلا فلا. وهذا الخلاف عند عدم القرينة مع القرينة ألا يدخل، فيحمل عند عدمها على الأكثر، وأيضاً فإن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء، إلا أن يتجوز فيجعل القريب الانتهاء انتهاء. ولا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة. فهو إذاً غير داخل.
الثاني: أن تكون بمعنى مع، كقوله تعالى " من أنصاري إلى الله " . قال الفراء: قال المفسرون: أي: مع الله، وهو وجه حسن. قال: وإنما تجعل إلى ك مع، إذا ضممت شيئاً إلى شيء، كقول العرب: الذود إلى الذود إبل. قال: فإن لم يكن ضم لم تكن إلى كمع. فلا يقال في مع فلان مال كثير: إلى فلان مال كثير. انتهى.
وكون إلى بمعنى مع حكاه ابن عصفور، عن الكوفيين. وحكاه ابن هشام عنهم، وعن كثير من البصريين. وتأويل بعضهم ما ورد، من ذلك، على تضمين العامل، وإبقاء إلى على أصلها والمعنى في قوله تعالى " من أنصاري إلى الله " : من يضيف نصرته إلى نصرة الله. وإلى في هذا أبلغ من مع، لأنك لو قلت: من ينصرني مع فلان، لم يدل على أن فلاناً وحده ينصرك، ولا بد، بخلاف إلى، فإن نصرة ما دخلت عليه محققة واقعة، مجزوم بها. إذ المعنى على التضمين: من يضيف نصرته إلى نصرة فلان.
الثالث: التبيين. قال ابن مالك: هي المتعلقة، في تعجب أو تفضيل، بحب أو بغض، مبينة لفاعلية مصحوبها. كقوله تعالى " رب السجن أحب إلي " .
الرابع: موافقة اللام. مثله ابن مالك بقوله " والأمر إليك " ، لأن اللام في هذا هي الأصل، وبقوله تعالى " ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " . وقال بعضهم إلى في قوله تعالى " والأمر إليك " لانتهاء الغاية، على أصلها، والمعنى: والأمر منته إليك.
الخامس: موافقة في. ذكره القتبي، وابن مالك. كقول النابغة:
فلا تتركني، بالوعيد، كأنني ... إلى الناس، مطلي به القار، أجرب
أي: في الناس. قال ابن مالك: ويمكن أن يكون من هذا قوله تعالى " ليجمعنكم إلى يوم القيامة " .
ورد ابن عصفور كون إلى بمعنى في، بأنها لو كانت بمعنى في لساغ أن يقال: زيد إلى الكوفة، أي: في الكوفة. فلما لم تقله العرب وجب أن يتأول ما أوهم ذلك. وتأول البيت على أن قوله مطلي ضمن معنى مبغض. وأوله غيره على تقدير: كأنني مضافاً إلى الناس. فإلى تتعلق بمحذوف، دل عليه الكلام.
واستدل بعضهم، على ذلك بقوله تعالى " فقل: هل لك إلى أن تزكى " . وتؤول على أن المعنى: أدعوك إلى أن تزكى.
السادس: موافقة من، كقول ابن أحمر:
تقول، وقد عاليت بالكور، فوقها ... أيسقى، فلا يروى إلى، ابن أحمرا؟
أي: مني. هذا قول الكوفيين والقتب، وتبعهم ابن مالك. وخرج على التضمين، أي: فلا يأتي إلي الرواء.
السابع: موافقة عند، كقول أبي كبير الهذلي:
أم لا سبيل إلى الشباب، وذكره ... أشهى إلى من الرحيق، السلسل
أي عندي.
واعلم أن أكثر البصريين لم يثبتوا لها غير معنى انتهاء الغاية. وجميع هذه الشواهد عندهم متأول.
الثامن: أن تكون زائدة. وهذا لا يقول به الجمهور، وإنما قال به الفراء، واستدل بقراءة من قرأ " فاجعل أفئدة، من الناس، تهوى إليهم " بفتح الواو.

وخرجت هذه القراءة على تضمين تهوى معنى: تميل. وقال ابن مالك: وأولى من الحكم بزيادتها أن يكون الأصل تهوي بكسر الواو، فجعل موضع الكسرة فتحة، كما يقال في رضي: رضى، وفي ناصية: ناصاة. وهي لغة طائية. واعترض بأن طيئاً لا يفعلون ذلك في كل موطن، بل في مواضع مخصوصة، مذكورة في التصريف. والله أعلم.

أما
حرف، له ثلاثة أقسام: الأول: أن يكون حرف استفتاح، مثل ألا. وكثر قبل القسم، نحو: أما والله لقد كان كذا وكذا. كما كثر ألا قبل النداء، نحو: ألا يا زيد. وقد تبدل همزة أما هاء، أو عيناً، فيقال: هما والله، وعما والله وقد تحذف ألفها، في الأحوال الثلاثة، فيقال: أم والله، وهم والله، وعم والله.
الثاني أن تكون بمعنى حقاً روى سيبويه في أما إنك ذاهب الكسر على أنها حرف استفتاح كألا والفتح على جعل أما بمعنى حقاً، فتفتح بعدها، كما تفتح بعد حقاً، لأنها مؤولة بمصدر مبتدأ، وحقاً مصدر واقع ظرفاً مخبراً به ومنه: أحقاً أن جيرتنا استقلوا تقديره، عند سيبويه: أفي حق. فأما كذلك. شرح بعضهم كلام سيبويه، بأنها إذا فتحت فالهمزة للإستفهام، وما بمنزلة شيء: ذلك الشيء حق. فكأنك قلت: أحقاً أنك ذاهب. وانتصابه على الظرف.
قلت: وعلى هذا فأما كلمتان: حرف وهو الهمزة، واسم وهو ما. وعلى الأول فهو كلمة واحدة. إلا أن في عدها من الحروف نظراً، لأن التقدير السابق يأباه. وفي كلام ابن خروف تصريح بحرفيتها. فإنه جعل أما أنك ذاهب بفتح الهمزة من تركيب حرف مع اسم، نحو يا زيد على مذهب أبي علي.
الثالث: أن تكون للعرض، كأحد معاني ألا المتقدمة الذكر. ذكر هذا القسم صاحب رصف المباني. ومثله بقوله: أما تقوم، وأما تقعد. والمعنى أنك تعرض عليه فعل القيام والقعود، لترى هل يفعلهما، أو لا. قال: فلا يكون بعدها إلا الفعل، كألا المذكورة، فإن أتى بعدها الأسم فعلى تقدير الفعل. فتقول: أما زيداً، أما عمراً، والمعنى: أما تبصر زيداً. أو نحو ذلك، من تقدير الفعل الذي تدل عليه قرينة الكلام. ونص على أن أما التي للعرض بسيطة، كأما التي للإستفتاح.
قلت: وكون أما حرف عرض لم أره في كلام غيره. والظاهر أن أما، في هذه المثل التي مثل بها، مركبة من الهمزة وما النافية. فهي كلمتان. وقد ذكر هو وغيره أن أنا قد تكون همزة استفهام، داخلة على حرف النفي. فيكون المعنى، على التقدير، كما في نحو ألم.
وقد ذكر ابن السيد، في إصلاح الخلل، أن ما قد تكون محذوفة من أما. وأنشد قول الشاعر:
ما ترى الدهر قد أباد معداً ... واباد السراة، من قحطان
أراد أما فحذف الهمزة. والله أعلم.
إن
حرف، له قسمان: الأول: أن يكون حرف توكيد، ينصب الأسم ويرفع الخبر. نحو: إن زيداً ذاهب. خلافاً للكوفيين، في قولهم: إنها لم تعمل في الخبر شيئاً، بل هو باق على رفعه قبل دخولها.
وأجاز بعض الكوفيين نصب الإسم والخبر معاً، بإن وأخواتها. وأجازه الفراء في ليت خاصة. ونقل ابن أصبغ عنه أنه أجاز في لعل أيضاً. قال ابن عصفور: وممن ذهب إلى جواز ذلك، في إن وأخواتها، ابن سلام في طبقات الشعراء. وزعم أنها لغة رؤية وقومه. وقال ابن السيد: نصب خبر إن وأخواتها لغة قوم من العرب. وإلى ذلك ذهب ابن الطراوة. والجمهور على أن ذلك لا يجوز. ومن شواهد نصب خبر إن قول عمر بن أبي ربيعة:
إذا اسود جنح الليل فلتأت، ولتكن ... خطاك خفافاً، إن حراسنا أسدا
وأوله المانعون على أنه حال، والخبر محذوف، أي: تلقاهم أسداً. أو خبر كان محذوفة، أي: كانوا أسداً.
ومن أحكام إن أنها قد تخفف، كما تقدم في باب الثنائي، خلافاً للكوفيين. فإن المخففة عندهم نافية، وهي حرف ثنائي الوضع، واللام بعدها بمعنى إلا. وإن المشددة لا تخفف عندهم. ويبطل قولهم أن من العرب من يعملها، بعد التخفيف، عملها وهي مشددة. فيقول: إن عمراً لمنطلق. حكاه سيبويه.
أقسام الكتاب
1 2