كتاب : الجنى الداني في حروف المعاني
المؤلف : ابن أُمّ قَاسِم المرادي

ومن أحكامها أنها قد تتصل بها ما الزائدة، فيبطل عملها، ويليها الجملتان: الأسمية والفعلية، فتكون ما كافة لها عن العمل، ومهيئة لدخولها على الأفعال. والجمهور على أن إعمالها، عند اتصال ما، غير مسموع. ثم اختلفوا في جوازه قياساً. وذهب قوم إلى منعه، وهو مذهب سيبويه، فإنه لا يجيز أن يعمل عنده، من هذه الأحرف، أعني إن وأخواتها، إذا لحقتها ما، إلا ليت وحدها وذكر ابن مالك أن الإعمال قد سمع في إنما وهو قليل. وذكر أن الكسائي، والأحفش، روياه عن العرب.

مسألة
اشتهر في كلام المتأخرين، من أهل النحو، أن إنما للحصر. قال الشيخ أبو حيان: والذي تقرر، في علم النحو، أن ما الداخلة على إن وأخواتها كافة لها عن العمل، فإن فهم حصر فمن سياق الكلام، لا منها. ولو أفادت الحصر لأفادته أخواتها المكفوفة بما.
وقال ابن عطية: إنتما لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد، حيث وقع. ويصلح، مع ذلك، للحصر. فإذا دخل في قصة، وساعد معناها على الأنحصار، صح ذلك وترتب. كقوله تعالى " أنتما آلهكم إله واحد " ، وغير ذلك من الأمثلة. وإذا كانت القصة لا تتأنى للإنحصار بقيت إنما للمبالغة فقط، كقوله عليه السلام إنما الربا في النسيئة.
واحتج من ذهب إلى أنها تفيد الحصر بوجهين: أحدهما لفظي، وهو أن العرب أجرت عليها حكم النفي و إلا ففصلت الضمير بعدها، كقول الفرزدق:
أنا الذائد، الحامي الذمار، وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا، أو مثلي
لما كان غرضه أن يحصر المدافع لا المدافع عنه فصل الضمير. ولو قال وإنما أدافع عن أحسابهم لأفهم غير المراد. فدل ذلك على أن العرب ضمنت إنما معنى ما وإلا.
والثاني معنوي، وهو وجه يسند إلى علي بن عيسى الربعي، وهو من أكابر نحاة بغداد، أنه لما كانت كلمة إن لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه، ثم اتصلت بها ما الزائدة المؤكدة، ناسب أن تضمن معنى الحصر لأن الحصر ليس إلا تأكيد على تأكيد. فإن قولك: زيد جاء لا عمرو، لمن يردد المجيء الواقع بينهما، يفيد إثباته لزيد في الابتداء صريحاً، وفي الآخر ضمناً.
واستدل الإمام فخر الدين، على أنها للحصر، بأن إن للإثبات، وما للنفي، فإن لإثبات المذكور، وما لنفي ما عداه. ورد بأنه قول من لا وقوف له على علم النحو، وهو ظاهر الفساد، لوجوه منها: أن فيه إخراج ما النافية عما تستحقه، من وقوعها صدراً. ومنها أن فيه الجمع بين حرف نفي وحرف إثبات، بلا فاصل. ومنها أنه لو كانت نافية لجاز أن تعمل، فيقال: إنما زيد قائماً. ذكر بعضهم هذه الأوجه. ولا يحتاج، في بيان فساد هذا القول، إلى ذلك. فإنه لا يخفى فساده.
قلت: ذكر القرافي في شرح المحصول أن أبا علي الفارسي نقل في مسائله الشيرازيات أن ما في إنما للنفي والله أعلم.
القسم الثاني: أن تكون حرف جواب، بمعنى نعم. ذكر ذلك سيبويه، والأخفش. وحمل المبرد، على ذلك، قراءة من قرأ " إن هذان لساحران " . وأنكر أبو عبيدة أن تكون إن بمعنى نعم. ومن شواهدها قول الراد، حين قال القائل: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال: إن وراكبها، أي: نعم ولعن راكبها.
ويبطل كون إن في هذا الكلام هي المؤكدة، من وجهين: أحدهما عطف جملة الدعاء على جملة الخبر. والثاني أنه لم يوجد حذف اسم إن وخبرها في غير هذا الكلام.
قلت: وقد صحح بعض النحويين جواز عطف الطلب على الخبر، وقال: هو مذهب سيبويه.
وأما قول الشاعر:
ويقلن: شيب قد علا ... ك، وقد كبرت، فقلت: إنه
فيحتمل أن تكون إن فيه بمعنى نعم، كما قال الأخفش. ويحتمل أن تكون المؤكدة والهاء اسمها، والخبر محذوف، كما قال أبو عبيدة. وإذا جعلت بمعنى نعم فالهاء للسكت.
فائدة
ذكر بعض النحويين لإن في الكلام عشرة أنحاء: الأول: أن تكون حرف توكيد.
والثاني: أن تكون حرف جواب، بمعنى نعم. وقد تقدم الكلام على هذين.
والثالث: أن تكون أمراً للواحد المذكر، من الأنين. نحو: إن، بازيد.
والرابع: أن تكون فعلاً ماضياً، مبنياً لما لم يسم فاعله، من الأنين، على لغة رد، بالكسر. نحو: إن في الدار.
والخامس: أن تكون أمراً لجماعة الإناث، من الأين، وهو التعب. نحو: إن، يا نساء، أي: تعبن.
والسادس: أن تكون فعلاً ماضياً، خبراً عن جماعة الإناث، من ألأين أيضاً. نحو: النساء إن، أي: تعبن.

والسابع: أن تكون أمراً، من وأي بمعنى: وعد، للمؤنثة. كقول بعض المتأخرين:
إن هند، الجميلة، الحسناء ... وأي من أضمرت لخل، وفاء
فإن فعل أمر مؤكد بنون التوكيد الشديدة. وكان أصله قبل لحاق النون إي بياء المخاطبة، لأنه أمر للمؤنث. فلما لحقته النون حذفت الياء، لالتقاء الساكنين. وهند في البيت منادى، تقديره: يا هند. والجميلة الحسناء: نعت لهند على المحل، كقوله: يا عمر، الجوادا وأجاز بعضهم أن تكون الجميلة مفعولاً لفعل الأمر الذي هو إن. وقوله وأي مصدر منصوب بإن.
والثامن: أن تكون أمراً لجماعة الإناث، من: آن يئين، أي: قرب. فتقول: إن يا نساء، أي اقربن.
والتاسع: أن تكون ماضياً، خبراً عن الإناث، من آن أيضاً. نحو: النساء إن، أي: قربن.
والعاشر: أن تكون مركبة من إن النافية وأنا كقول العرب: إن قائم. يريدون: إن أنا قائم. فنقلوا حركة الهمزة إلى نون إن، وحذفوا الهمزة، وأدغموا. ونظيره قوله " لكنا هو الله ربي " . وسمع من بعضهم: إن قائماً، بالنصب، على إعمال إن عمل ما الحجازية. والله أعلم

أن المفتوحة الهمزة
لها قسمان: الأول: أن تكون حرف توكيد، تنصب الاسم، وترفع الخبر، مثل إن المكسورة التي تقدم ذكرها. وأن المفتوحة من الأحرف المصدريات. ونص النحويون على أنها تفيد التوكيد كإن المكسورة. واستشكله بعضهم. قال: لأنك لو صحرت بالمصدر المنسبك منها لم يفد توكيداً. وليس هذا الإشكال بشيء.
واختلف في المفتوحة الهمزة، فقيل: هي فرع المكسورة. وهو مذهب سيبويه، والمبرد في المقتضب، وابن السراج في الأصول. ولذلك قال هؤلاء في إن وأخواتها: الأحرف الخمسة. ولم يعدوا أن المفتوحة، لأنها فرع. وهو مذهب الفراء وقيل: إن المفتوحة أصل للمكسورة وقيل: هما أصلان.
والأول هو الصحيح، ويدل على صحته أوجه: الأول: أن الكلام مع المكسورة جملة غير مؤولة بمفرد، بخلاف المفتوحة. والأصل أن يكون لمنطوق به جملة من كل وجه، أو مفرداً من كل وجه.
الثاني: أن المكسورة مستغنية بمعموليها عن زيادة، بخلاف المفتوحة.
الثالث: أن المفتوحة تصير مكسورة، بحذف ما تتعلق به.
كقولك في عرفت أنك بر: إنك بر. ولا تصير المكسورة مفتوحة، إلا بزيادة. والمرجوع إليه بحذف أصل.
الرابع: أن المكسورة تفيد معنى واحداً، وهو التوكيد. والمفتوحة تفيده، وتعلق ما بعدها بما قبلها. فكانت فرعاً.
الخامس: أن المكسورة أشبه بالفعل، لأنها عاملة غير معمولة، كما هو أصل الفعل.
السادس: أن المكسورة كلمة مستقلة، والمفتوحة كبعض اسم.
إذا تقرر هذا فاعلم أن أن لها أحوال: تارة يجب كسرها، وتارة يجب فتحها، وتارة يجوز الوجهان.
فيجب كسرها في كل موضع، يمتنع فيه تأويلها مع اسمها وخبرها بمصدر. وذلك في ثمانية مواضع: الأول: ابتداء الكلام حقيقة، نحو " إنا أعطيناك الكوثر " ، أو حكماً، نحو " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " .
الثاني: صلة الموصول، نحو " وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء " . فإن وما دخلت عليه صلة ما. فإن لم تكن صلة بل جزء صلة فتحت، نحو: جاء الذي في ظني أنه فاضل. وإذا وردت مفتوحة بعد الموصول جعلت الصلة محذوفة، وأن معمولة لذلك المحذوف، كقولهم: لا أكلمه ما أن في السماء نجماً، أي: ما ثبت أن.
الثالث: جواب القسم نحو " والعصر، إن الإنسان لفي خسر " فإن كان في جملتها اللام، كالآية، فلا خاف في وجوب كسرها. وإن لم يكن ففيه خلاف، سيأتي.
الرابع: إذا حكيت بالقول، نحو " قال الله: إني معكم " . فلو وقعت بعد القول، غير محكية، فتحت، نحو: أتقول أنك فاضل. لأن القول، في هذا، عامل عمل الظن.
الخامس: أن تقع موقع الحال مصاحبة لواو الحال، نحو " وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون " ، أو غير مصاحبة، نحو " إلا إنهم ليأكلون الطعام " .
السادس: أن تكون قبل لام معلقة، نحو " والله يعلم إنك لرسوله " . فهذه لولا اللام لفتحت.
السابع: أن تكون واقعة موقع خبر اسم عين، نحو: زيد إنه قائم. ومنه قوله تعالى " إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والصائبين، والنصارى، والمجوس، والذين أشركوا، إن الله يفصل بينهم " . وكذا الواقعة موقع المفعول الثاني في باب ظن، لأنه خبر في الأصل. كقول الشاعر:
منا الأناة، وبعض القوم يحسبنا ... إنا بطاء، وفي إبطائنا سرع

فإن قلت: فهل يجوز فتح إن إذا وقعت خبر اسم عين، وتجعل من باب الإخبار بالمعنى عن العين، مبالغة، فيقال: زيد أنه قائم، كما يقال: زيد قيام؟ قلت: الحرف المصدري أضعف من صريح المصدر، فلا يلزم أن يجوز فيه ما جاز في المصدر الصريح. وقد نص ابن مالك، على أن الحرف المصدري لا يؤكد به فعل، ولا يقع نعتاً، ولا حالاً.
الثامن: أن تقع بعد حيث نحو: من حيث إنه فاضل. قال بعض النحويين: وقد أولع عوام الفقهاء بفتح أن بعدها قلت: يلزم من أجاز إضافة حيث إلى المفرد، وهو الكسائي، أن يجيز فتح أن بعدها.
ويجب فتح: أن في كل موضع، يلزم فيه تأويلها، مع اسمها وخبرها، بمصدر. وذلك في ثمانية مواضع: الأول: أن تقع في موضع فاعل، نحو " أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب " .
الثاني: أن تقع في موضع نائبة، نحو " قل: أوحي إلي أنه استمع " .
الثالث: أن تقع في موضع مبتدأ، نحو: في ظني أنك فاضل. ويجب تقديم خبرها، لأن المفتوحة لا تقع في ابتداء الكلام، خلافاً لبعضهم، ما لم تكن بعد أما فيجوز التقديم والتأخير، نحو أما أنك فاضل ففي ظني.
الرابع: أن تقع اسم كان، نحو: كان، في ظني أنك فاضل.
الخامس: أن تقع اسم إن مفصولة بالخبر، نحو: إن عندي أنك فاضل. وكذا باقي أخواتها. وقد تتصل بليت سادة مسد اسمها وخبرها، عند سيبويه. وقال الأخفش: بل مسد الأسم فقط، والخبر محذوف. كقول الشاعر:
فيا ليت أن الظاعنين تلفتوا ... فيعلم ما بي، من جوى، وغرام
وأجاز الأخفش ذلك في لعل، قياساً على ليت. وعنه أنه أجازه في لكن أيضاً.
وأجازه الفراء، وهشام، دخول إن المكسورة على أن المفتوحة، نحو: إن أنك قائم يعجبني. والصحيح المنع، وهو مذهب سيبويه.
السادس: أن تكون خبر اسم معنى، نحو: أمرك أنك ذاهب.
السابع: أن تقع في موضع منصوب، غير خبر، نحو قوله تعالى " ولا تخافون أنكم أشر كتم الله " . وإنما احترزت عن الخبر، والمراد به ثاني مفعولي ظن فإنه خبر في الأصل، لأنها يجب كسرها فيه، بعد اسم عين، كما تقدم.
الثامن: أن تقع في موضع مجرور، بحرف، نحو " ذلك بأن الله هو الحق " . وإما أن تقع في موضع مجرور بإضافة، نحو " إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " .
وهذه المواضع الثمانية ترجع إلى ثلاثة أشياء: أولها: أن تقع في موضع مصدر مرفوع. وثانيها: أن تقع في موضع مصدر منصوب. وثالثها: أن تقع في موضع مصدر مجرور.
وزاد بعضهم، في مواضع وجوب فتحها: أن تقع بعد لولا ولو وما التوقيتية. نحو " فلو لا أنه كان من المسبحين " ، " ولو أنهم صبروا " ، وحكى ابن السكيت: لا أكلمك ما أن في السماء نجماً. وهذه المواضع الثلاثة راجعة إلى ما تقدم، لأنها بعد لولا في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف، على الصحيح. وبعد لو في موضع رفع على الفاعلية، بفعل مقدر، أي: ولو ثبت أن. وهو مذهب الكوفيين، والمبرد، والزجاج، والزمخشري. أو على الابتداء، والخبر محذوف، وهو مذهب سيبويه. وقيل: لا حذف، لأنها سدت مسد الجزءين. وبعد ما التوقيتية في موضع رفع بفعل مقدر، تقديره: ما ثبت أن في السماء نجماً.
ويجوز الفتح والكسر في كل موضع، يجوز فيه تأويلها بمصدر وعدم تأويلها به. وذلك في ثمانية مواضع: الأول: في نحو: أول قولي إني أحمد الله. فالكسر على تقدير: أول قولي هذا الكلام المفتتح بإني. والفتح على تقدير: أول قولي حمد الله. وفي هذه المسألة أقوال، لا يحتمل هذا الموضع ذكرها.
الثاني: بعد إذا الفجائية، كقول الشاعر:
وكنت أرى زيداً، كما قيل، سيداً ... إذا أنه عبد القفا، واللهازم
يروى بالكسر، على عدم التأويل، والتقدير: إذا هو عبد. وبالفتح، على تقدير: فإذا عبوديته. فعبوديته مبتدأ، وإذا الفجائية خبره، عند من جعلها ظرفاً. وأما من جعلها حرفاً فالخبر عنده محذوف، تقديره: حاصلة.
الثالث: بعد فاء الجواب، كقوله تعالى " كتب ربكم على نفسه الرحمة: أنه من عمل منكم سوءاً، بجهالة، ثم تاب من بعده، وأصلح، فإنه غفور رحيم " . قرئ بالوجهين. فالكسر على جعل ما بعدها جملة تامة، أي: فهو غفور. والفتح على تقديرها بمصدر مبتدأ والخبر محذوف، أو خبر والمبتدأ محذوف، والتقدير: فغفرانه حاصل، أو: فجزاؤه الغفران.

الرابع: بعد أما، نحو: أما أنك ذاهب. رواه سيبويه بالكسر والفتح فالكسر على جعل أما حرف استفتاح. والفتح على جعلها بمعنى حقاً. وقد تقدم بيان ذلك.
الخامس: بعد القسم، إذا لم توجد اللام، بشرط تقدم فعل القسم، نحو: أحلف بالله أن زيداً قائم. فالكسر على جعلها جواباً للقسم. والفتح على تقدير على وتكون متعلقة بفعل القسم. وقد روى بالوجهين قول الشاعر:
أو تحلفي بربك، العلي ... أني أبو ذيالك الصبي
وأجاز الكوفيون فتح أن إذا وقعت جواب القسم، دون لام، نحو: والله أن زيداً قائم. والصحيح وجوب الكسر، وهو مذهب البصريين. وقال ابن خروف: لم يسمع فتحها بعد اليمين، ولا وجه له. قلت: وهو كما قال وقد أوضحت ذلك، في غير هذا الكتاب.
السادس: بعد حتى، نحو: عرفت أمورك حتى أنك فاضل. إن جعلت حتى جاره أو عاطفة فتحت أن. وإن جعلت حتى ابتدائية كسرت، كقولهم: مرض حتى إنه لا يرجى، بالكسر.
السابع: بعد لا جرم. المشهور بعدها فتح أن، كقوله تعالى " لا جرم أن لهم النار " . ومذهب سيبويه أن لا نافية، وهي رد لما قبلها، متما يدل عليه سياق الكلام وجرم فعل ماض بمعنى: حق. وأن مع صلتها في موضع رفع بالفاعلية. وقال بعضهم: جرم بمعنى كسب، وفاعلها ضمير مستتر، وأن مع صلتها في موصع نصب بالمفعولية. والتقدير: كسب لهم كفرهم أن لهم النار. قال الشاعر:
نصبنا رأسه، في رأس جذع ... بما جرمت يداه، وما اعتدينا
أي: بما كسبت.
وقال الكوفيون: لا نافية، وجرم اسم لا، وهي بمعنى: لا بد، ولا محالة، وأن على تقدير من، أي: لا جرم من أن لهم النار. فجرم عند الكوفيين اسم. قال الزمخشري: من الجرم، وهو القطع، كما يقال إن بداً من التبديد، وهو التفريق. فكما أن معنى لا بد أنك تفعل كذا بمعنى: لا بد من فعله، فكذلك لا جرم أن لهم النار أي: لا قطع لذلك. بمعنى أنهم أبداً يستحقون النار، ولا انقطاع لاستحقاقهم. وروى عن العرب: لا جرم أنه يفعل، بضم الجيم وسكون الراء، بزنة: بد. وفعل وفعل أخوان، كرشد ورشد.
وأما وجه الكسر بعد لا جرم فهو ما حكاه الفراء. قال: العرب تقول: لا جرم لآتينك، ولا جرم لقد أحسنت. فتراها بمنزلة اليمين. قال ابن مالك: ولإجرائها مجرى اليمين حكي عن العرب كسر إن بعدها. قلت: والظاهر أن إن إذا كسرت بعدها فهي جواب قسم، مقدر بعد لا جرم. وهو ظاهر قول ابن مالك التسهيل: وربما أغنت لا جرم عن لفظ القسم، مراداً. ويؤيد ذلك أن بعض العرب صرح بالقسم بعدها، فقال: لا جرم، والله لافارقتك.
الثامن: بعد أما، إذا جاء بعدها ظرف، أو مجرور، نحو، أما في الدار فإن زيداً قائم، فيجوز الكسر على تقدير: فزيد قائم، ويتعلق المجرور بما في أما من معنى الفعل. ويجوز الفتح على تقدير: فقيامه، والمجرور في موضع الخبر.
وزاد بعضهم موضعاً آخر، وهو أن تقع بعد مذ ومنذ. قلت: أما الفتح بعدهما فمتفق عليه. وأما الكسر فلم يذكره سيبويه، وصرح بعضهم بامتناعه، وصرح الأخفش بجوازه.
واعلم أن بسط الكلام على هذه المواضع يستدعي تطويلاً. فلذلك اختصرت الكلام عليها.

مسألة
إذا كفت أن المفتوحة بما بطل عملها. وأجاز بعضهم إعمالها قياساً، ولم يسمع. وذهب الزمخشري إلى أن إن المكسورة وأن المفتوحة، كليهما، إذا كفا بما يفيدان الحصر، كقوله تعالى: " قل: إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد " . ورده الشيخ أبو حيان، في تفسيره بأن ما مع إن كهي مع كأن ولعل. فكما لا تفيد الحصر، في التشبيه، والترجي، فكذا لا تفيده مع إن المكسورة. وأما جعله أنما المفتوحة للحصر فشيء انفرد به، ولا يعلم الخلاف إلا في المكسورة. ثم إن الحصر يقتضي أنه لم يوح إليه إلا التوحيد، وهو باطل. انتهى.
وانتصر بعض الناس للزمخشري بأن قال: إن المفتوحة هي فرع المكسورة، بدليل أن سيبويه عدها خمسة، واستغنى بإن المكسورة عن المفتوحة. فلا فرق بينهما في الحصر، وعدمه. وقوله: ثم إن الحصر الخ، جوابه أن الحصر، عند القائلين به، باعتبار المقام. وهو هنا خطاب للمشركين، والموحي إليه في حقهم أولا، هو التوحيد. والله أعلم.

القسم الثاني: أن تكون بمعنى لعل، كقول العرب: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً. حكاه الخليل، ومنه قراءة من فتح الهمزة، في قوله تعالى " وما يشعر كم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " ، أي: لعلها. وأن هذه إحدى لغات لعل. وسيأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى.

أنا وأنت وأنت
هذه الألفاظ الثلاثة ضمائر منفصلة.
وإنما ذكرتها لأن قوماً، من النحويين، ذهبوا إلى حرفيتها، إذا وقعت فصلاً بين المبتدأ والخبر، أو ما أصلهما مبتدأ وخبر. وكذلك الخلاف في جميع الضمائر المنفصلة، المرفوعة الموضع، إذا وقعت فصلاً وتقدم ذكر ذلك في باب الثنائي. فلا حاجة لإعادته. والله أعلم.
أي بالمد
حرف نداء، حكاه الكوفيون، ولم يذكره سيبويه. قال ابن مالك: رواها الكوفيون عن العرب الذين يثقون بعربيتهم، ورواية العدل مقبولة. وهي لنداء البعيد، كسائر حروف النداء، إلا الهمزة. وتقدم الكلام على أي بالقصر. والله أعلم.
أيا
حرف من حروف النداء المتفق عليها. وهي للبعيد. قال الشاعر:
أيا ظبية الوعساء، بين جلاجل ... وبين النقى، آأنت أم أم سالم؟
قال صاحب رصف المباني: ولا يجوز حذفها وإبقاء المنادى. وإذا وجدنا منادى، دون حرف نداء، حكمنا بالحذف ليا لأنها أم الباب. والله أعلم.
بجل
لفظ مشترك؛ يكون اسماً، وحرفاً.
فأما بجل الحرفية فحرف جواب، بمعنى نعم. وتكون في الخبر والطلب. ذكرها صاحب رصف المباني.
وأما بجل الأسمية فلها قسمان: أحدهما: أن تكون اسم فعل، بمعنى: أكتفي، فتلحفها نون الوقاية، مع ياء المتكلم، فيقال: بجلني.
والثاني: أن تكون اسماً بمعنى: حسب. فتكون الياء المتصلة بها مجرورة الموضع، ولا تلحقها نون الوقاية. وذكروا أنها قد تلحقها نون الوقاية قليلاً، والأكثر ألا تلحق كقول طرفة: ألا، بجلي من الشراب، ألا بجل
بلى
حرف ثلاثي الوضع، والألف من أصل الكملة، وليس أصلها بل التي للعطف، فدخلت الألف للإيجاب، أو للإضراب والرد، أو للتأنيث، كالتاء في ربت وثمت، خلافاً لزاعمي ذلك. وهي حرف جواب.
وهي مختصة بالنفي، فلا تقع إلا بعد نفي في اللفظ، أو في المعنى. وتكون رداً له، سواء أقترنت به أداة استفهام أو لا.
وقد وقعت جواباً للإستفهام، في نحو: هل يستطيع زيد مقاومتي؟ فيقول: بلى. إذا كان منكراً لمقاومته. ومنه قول الجحاف بن حكيم:
بلى، سوف نبكيهم، بكل مهند ... ونبكي عميراً، بالرماح، الخوطر
جواباً، لقول الأخطل له:
ألا، فسل الجحاف: هل هو ثائر ... بقتلي، أصيبت، من نمير بن عامر؟
ولا تقول لمن قال قام زيد: بلى. لأنه موصع نعم، لا موضع بلى، لأن بلى إيجاب لنفي مجرد، كقولك بلى، لمن قال ما قام زيد. أو مقرون باستفهام حقيقة، نحو: أليس زيد بقائم؟ فتقول: بلى. أو للتقرير، كقوله تعالى " ألست بربكم؟ قالوا: بلى " . أجرت العرب التقرير مجرى النفي. ولذلك قال ابن عباس: لو قالوا: نعم لكفروا. لأن نعم لتصديق المخبر في الإيجاب والنفي. فإذا قال: ليس لك عندي وديعة، فقلت نعم، كان تصديقاً له. وإن قلت بلى، كان إيجاباً لما نفى.
قال ابن مالك: وقد توافقها نعم بعد المقرون، يعني بعد النفي المفرون بالاستفهام، كقول جحدر:
أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا، فذاك بنا تداني
نعم، وترى الهلال، كما أراه ... ويعلوها النهار، كما علاني
وقول الأنصار للنبي، صلى الله عليه وسلم ألستم ترون ذلك؟ قالوا نعم. ويؤول قول الأنصار على أن ذلك لأمن اللبس، وقول جحدر على أن نعم جواب المقدر في نفسه، من اعتقاده أن الليل يجمعه وأم عمرو، أو يكون جواباً لما بعده، فقدم عليه. قال الشيخ أبو حيان: والأولى، عندي، أن يكون جواباً لقوله فذاك بنا تداني.

وقال بعضهم: يجوز أن يؤتي بنعم، بعد التقرير، تصديقاً له، لأن معناه الإيجاب. وإنما يمتنع، إذا جعلت جواباً. قال: ولا يكون الشاعر، في قوله نعم، بعد قوله أليس، مخالفاً لابن عباس، رضي الله عنهما، فيما قاله من ذلك، لأنه لم يتوارد معه على معنى واحد فإن الذي منعه إنما منعه، على أن نعم جواب، وإذا كانت جواباً إنما تكون تصديقاً لما بعد ألف الاستفهام. والذي أجزناه إنما أجزناه، على أن تكون غير جواب. وإنما نعم فيه على وجه التصديق، لمعنى الاستفهام الذي هو تقرير. واعترض هذا القائل، بأن ما ذهب إليه لا دليل عليه. والله أعلم.

بله
تكون اسم فعل بمعنى دع، فتنصب المفعول، وهي مبنية، نحو: بله زيداً.
وتكون مصدراً بمعنى ترك، النائب عن اترك، فتستعمل مضافة، نحو: بله زيد. وهو مصدر مضاف إلى المفعول، وقال أبو علي: مضاف إلى الفاعل. وروى أبو زيد فيه القلب، إذا كان مصدراً، تقول: بهل زيد. وحكى أبو الحسن الهيثم فتح الهاء واللام، فتقول: بهل زيد.
وأجاز قطرب، وأبو الحسن، أن تكون بمعنى كيف، فتقول: بله زبد؟ بالرفع. ويروى قوله:
تذر الجماجم ضاحياً هاماتها ... بله الأكف، كأنها لم تخلق
بنصب الأكف على أن بله اسم فعل، وبجره على أنها مصدر، وبرفعه على انها بمعنى كيف.
وقيل: هي اسم فعل، بمعنى: بقي وأنكر أبو علي الرفع بعدها. وذكر، عن قطرب، أنه رواه.
وعدها الكوفيون والبغداديون من أدوات الاستثناء، وأجازوا النصب بعدها، على الاستثناء، نحو: أكرمت العبيد بله الأحرار. رأوا ما بعدها خارجاً مما قبلها في الوصف، فجعلوه استثناء. إذا المعنى أن إكرامك الأحرار يزيد على إكرامك العبيد.
وذهب جمهور البصريين إلى أنها لا يستثنى بها، وأنه لا يجوز فيما بعدها إلا الخفض. وليس بصحيح، بل النصب مسموع من كلام العرب.
وذهب بعض الكوفيين إلى أن بله بمعنى غير. فمعنى بله الأكف: غير الأكف.
وذهب الأخفش إلى أن بله حرف جر. ولهذا ذكرتها. في هذا الكتاب.
وبله ليست مشتقة. وذهب العبدي إلى أنها مشتقة من البله.
ثم
حرف عطف، يشرك في الحكم، ويفيد الترتيب بمهلة. فإذا قلت: قام زيد ثم عمرو، آذنت بأن الثاني بعد الأول بمهلة. هذا مذهب الجمهور، وما أوهم خلاف ذلك تأولوه.
وذهب الفراء، فيما حكاه عنه السيرافي، والأخفش، وقطرب، فيما حكاه أبو محمد عبد المنعم بن الفرس في مسائله الخلافيات عنه، إلى أن ثم بمنزلة الواو، لا ترتب. ومنه عندهم " خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها " ، ومعلوم أن هذا الجعل كان قبل خلقنا.
وزعم بعضهم أنها تقع موقع الفاء، كقول الشاعر:
كهز الرديني، تحت العجاج ... جرى في الأنابيب، ثم اضطرب
أي: فاضطرب. وإليه ذهب ابن مالك؛ قال: وقد تقع ثم في عطف المتقدم بالزمان، اكتفاء بترتيب اللفظ. وهذا منقول عن الفراء، كقولك: بلغني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت أمس أعجب. ومن ذلك قول الشاعر:
إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده
وقال ابن عصفور: ما ذكره لفراء، من أن المقصود بثم ترتيب الإخبار، لا ترتيب الشيء في نفسه، وكأنه قال اسمع مني هذا الذي هو: بلغني ما صنعت اليوم، ثم اسمع مني هذا الخبر الآخر الذي هو: ما صنعت أمس أعجب، ليس بشيء، لأن ثم تقتضي تأخر الثاني عن الأول بمهلة، ولا مهلة بين الإخبارين. فينبغي أن يحمل على ظاهره، ويكون الجد قد أتاه السؤدد من قبل الأب، وأتى الأب من قبل الابن. وذلك مما يمدح به، وإن كان الأكثر في كلامهم المدح بتوارث السودد. ويكون البيت، إذ ذاك، مثل قول ابن الرومي:
قالوا: أبو الصقر من شيبان، قلت لهم: ... كلا، لعمري، ولكن منه شيبان
فكم أب قد علا، بابن، ذرى حسب ... كما علت، برسول الله، عدنان
قلت: ما ذكره ابن عصفور، في تأويل البيت، لا يساعد عليه قوله قبل ذلك.
وقال بعضهم: قد ترد ثم لترتيب الذكر. وهو معنى قول غيره: ترتيب الإخبار.
وقد حمل بعضهم قول تعالى " ثم جعل منها زوجها " على أن ثم، في الآية، لترتيب الإخبار. وقيل: أخرج ذرية آدم، من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء. فعلى هذا تكون ثم على أصلها، من الترتيب في الزمان.

وقال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه قوله ثم جعل منها زوجها، وما تعطيه ثم من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان، من جملة الآيات، التي عددها، دالاً على وحدانيته وقدرته، تشعيب هذا الخلق الفائت الحصر، من نفس آدم، وخلق حواء من قصيراه. إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة، والأخرى لم تجربها العادة، ولم تخلق أنثى، غير حواء، من قصيري رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع. فعطفها بثم على الآية الأولى للدلالة على مباينتها، فضلاً ومزية. وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية. فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود.

تنبيه
ذكر صاحب رصف المباني أن لثم في الكلام موضعين: الأول: أن تكون حرف عطف، يعطف مفرداً على مفرد، وجملة على جملة.
والثاني: أن تكون حرف ابتداء؛ إما أن تكون حرف ابتداء، على الاصطلاح، أي: يكون بعدها المبتدأ والخبر. وإما ابتداء كلام. فالأول نحو أن تقول: أقول لك اضرب زيداً، ثم أنت تترك الضرب. ومنه قول تعالى " قل الله ينتجيكم منها ومن كل كرب. ثم أنتم تشركون " . وابتداء الكلام كقولك: هذا زيد قد خرج، ثم إنك تجلس. قال الله عز وجل " فتبارك الله أحسن الخالقين " ، ثم قال بعد ذلك " ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون " . وقد يرجع هذا إلى عطف الجمل، إذا كان الجملتان في كلام واحد. وذلك بحسب إرادة المتكلم. والأظهر، في الجمل، الانفصال في المراد، إلا حيث يدل الدليل على أن مقصود الكلام واحد. انتهى.
ولا يصح كونها حرف ابتداء. وإنما هي حرف عطف، تعطف جملة على جملة، كما تعطف مفرداً على مفرد. والله أعلم.
فائدة:
في ثم أربع لغات: ثم وهي الأصل. وفم بإبدال الثاء فاء. وثمت بتاء التأنيث الساكنة. وثمت بتاء التأنيث المتحركة. والله أعلم.
جلل
حرف من حروف الجواب، بمعنى نعم. ذكره صاحب رصف المباني، وقال: إن جلل ليس لها في كلام العرب إلا معنى الجواب خاصة. يقول القائل: هل قام زيد؟ فتقول في الجواب: جلل. ومعناها نعم حكى ذلك الزجاج في كتاب الشجرة فعلى هذا لا تعمل شيئاً، إنما هي نائبة مناب الجملة الواقعة جواباً. وهي تعد في كلامهم قليلة الاستعمال.
جير
بكسر الراء وفتحها، والكسر أشهر فيها خلاف: منهم من قال: إنها حرف جواب بمعنى نعم. ومنهم من قال: إنها اسم بمعنى حقاً.
قال ابن مالك: جير حرف بمعنى نعم، لا اسم بمعنى حقاً، لأن كل موضع وقعت فيه جير يصلح أن تقع فيه نعم. وليس كل موضع وقعت فيه نعم يصلح أن تقع فيه حقاً فإلحاقها بنعم أولى. وأيضاً فإن لها شبهاً بنعم لفظاً، واستعمالاً. ولذلك بنيت. ولو وافقت حقاً في الأسمية لأعربت، ولجاز أن يصحبها اللام، كما أن حقاً كذلك. ولو لم تكن بمعنى نعم لم يعطف عليها في قول بعض الطائيين:
أبى كرماً، لا آلفاً جير أو نعم ... بأحسن إيفاء، وأنجز موعد
ولم تؤكد نعم بها، في قول طفيل الغنوي:
وقلن: على البردي أول مشرب ... أجل، جير، إن كانت رواء أسافله
ولا قوبل بها، في قول الراجز:
إذا تقول لا ابنة العجير ... تصدق لا، إذا تقول: جير
فهذا تقابل ظاهر. ومثله في التقرير قول الكميت:
يرجون عفوي، ولا يخشون بادرتي ... لا جير، لا جير، والغربان لم تشب
أي: لا يثبت مرجوهم، نعم تلحقهم بادرتي أي: سرعة غضبي. واحتج من أثبت اسمية جير بتنوينه، في قول الشاعر:
وقائلة: أسيت، فقلت: جير ... أسي، إنني من ذاك، إنه
ولا حجة فيه، لأنه فعل مضطر. ويحتمل أن يكون قائلة أراد توكيد جير بإن التي بمعنى نعم، فحذف همزتها، وخفف ويحتمل أن يكون شبه آخر النصف بآخر البيت، فنون تنوين الترنم. وهو لا يختص بالأسماء، بل يلحق الفعل والحرف.
قلت: أشار الشلوبين إلى هذا الاحتمال الثاني. وهو أقرب من الذي قبله. والله أعلم.
خلا

لفظ مشترك؛ يكون حرفاً من حروف الجر، وفعلاً متعدياً. وهي، في الحالين، من أدوات الاستثناء. فإذا كانت حرفاً جرت الأسم المستثنى بها، نحو: قام القوم خلا زيد. وإذا كانت فعلاً نصبت الاسم المستثنى بها، نحو: قام القوم خلا زيداً. وكلا الوجهين، أعني الجر والنصب، ثابت بالنقل الصحيح عن العرب. وإذا استثنى بها ضمير المتكلم، وقصد الجر، لم يؤت بنون الوقاية. وإذا قصد النصب أتي بها. فيقال، على الأول: خلاي. وعلى الثاني: خلاني.
وتتعين فعليتها بعد ما المصدرية، نحو: قام القوم ما خلا زيداً. فخلا هنا فعل، لأن ما المصدرية لا توصل بحرف الجر، وإنما توصل بالفعل. وذهب الجرمي والكسائي، والفارسي في كتاب الشعراء له، والربعي، إلى إجازة الجر بها، بعد ما فتكون ما زائدة، لا مصدرية، وخلا حرف جر. وكذلك اختلفوا في عدا نحو: ما عدا زيد. وقد روى الجرمي، عن بعض العرب في كتاب الفرخ، الجر بخلا وعدا، بعد ما.
وقال بعضهم: الجرمي يخفض بها، ويجعل ما زائدة، دخولها كخروجها. فإن كان ذلك قياساً منه فهو فاسد، لأن ما لا تكون زائدة أول الكلام. لأنها ضد الاعتناء الذي قدمت له. وإن كان يحكي ذلك، عن العرب، فهو من الشذوذ بحيث لا يقاس عليه.
واعلم أن خلا إذا جرت ففيها خلاف. فقيل: هي في موضع نصب، عن تمام الكلام. وقيل: تتعلق بالفعل، أو معنى الفعل، كسائر حروف الجر غير الزوائد، وما في حكم الزوائد.
وإذا نصبت فاختلف في جملتها: هل لها محل أم لا؟ أجاز السيرافي أن تكون في موضع نصب على الحال، كأنك قلت: خالين زيداً. وأجاز أيضاً ألا يكون لها موضع من الإعراب، وإن كانت مفتقرة، من حيث المعنى، إلى ما قبلها، من حيث كان معناها معنى إلا. قال ابن عصفور: وهو الصحيح.
وإذا دخلت عليها ما المصدرية فما والفعل في موضع نصب، بلا خلاف. ولكن اختلفوا في وجه انتصابه، فقيل: إنه مصدر موضوع موضع الحال، كما يجوز ذلك في المصدر الصريح. وهذا قول السيرافي. وذهب ابن خروف إلى أن انتصابه على الاستثناء، كانتصاب غير في قولك: قام القوم غير زيد. وقيل: منصوب على الظرف، وما مصدرية ظرفية. أي: وقت خلوهم. ودخله معنى الاستثناء.
والكلام على عدا في جميع ما ذكر كالكلام على خلا. وسيأتي في موضعها، إن شاء الله تعالى.

رب
حرف جر، عند البصريين. ودليل حرفيتها مساواتها الحرف، في الدلالة على معنى غير مفهوم جنسه بلفظها، بخلاف أسماء الاستفهام والشرط، فإنها تدل على معنى في مسمى مفهوم جنسه بلفظها.
وذهب الكوفيون، والأخفش في أحد قوليه، إلى أنها اسم يحكم على موضعه بالإعراب. ووافقهم ابن الطراوة. واستدلوا، على اسميتها، بالإخبار عنها في قول الشاعر:
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عاراً عليك، ورب قتل عار
ورد بأن الرواية الشهيرة وبعض قتل عار. وإن صحت هذه الرواية فعار خبر مبتدأ محذوف، أي: هو عار. أو خبر عن مجرور رب، إذ هو في موضع رفع بالابتداء، ودخل عليه حرف جر هو كلا زائد. ومما يدل على حرفيتها أنها مبنية. ولو كانت اسماً لكان حقها الإعراب.
واختلف النحويون، في معنى رب، على أقوال: الأول: أنها للتقليل. وهو مذهب أكثر النحويين. ونسبه صاحب البسيط إلى سيبويه. والثاني: أنها للتكثير. نقله صاحب الإفصاح عن صاحب لعين، وابن درستويه، وجماعة. ولم يذكر صاحب العين أنها تجيء للتقليل. الثالث: أنها تكون للتقليل والتكثير. فهي من الأضداد. وإلى هذا ذهب الفارسي في كتاب الحروف. الرابع: أنها أكثر ما تكون للتقليل. الخامس: أنها أكثر ما تكون للتكثير، والتقليل بها نادر. وهو اختيار ابن مالك. السادس: أنها حرف إثبات، لم يوضع لتقليل ولا تكثير. بل ذلك مستفاد من السياق. السابع: أنها للتكثير في موضع المباهاة والافتخار.
والراجح، من هذه الأقوال، ما ذهب إليه الجمهور: أنها حرف تقليل. والدليل على ذلك أنها قد جاءت في مواضع، لا تحتمل إلا التقليل، وفي مواضع ظاهرها التكثير، وهي محتملة لإرادة التقليل، بضرب من التأويل. فتعين أن تكون حرف تقليل، لأن ذلك هو المطرد فيها. فمما جاءت فيه للتقليل قول الشاعر:
ألا، رب مولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان
وذي شامة سوداء، في حر وجهه ... مجللة، لا تنقضي لزمان

ويكمل في تسع، وخمس، شبابه ... ويهرم في سبع، معاً، وثماني
يعني بالمولود الذي له أب: عيسى بن مريم عليه السلام، وبذي ولد لم يلده أبوان: آدم عليه السلام، وبذي الشامة: القمر. وهذه الثلاثة ليس نظير. وقول زهير:
وأبيض، فياض، يداه غمامة ... على معتفيه، ما تغب فواضله
وهذا خصوص، لا وجه فيه للتكثير، لأنه إنما أراد بالأبيض: حصن ابن حذيفة بن بدر الفزاري. ولم يرد جماعة كثيرة، هذه صفتهم؛ ألا تراه يقول بعده:
حذيفة ينميه، وبدر، كلاهما ... إلى باذخ، يعلو على من يطاوله
وقول بعض شعراء غسان، يصف وقعة كانت بينهم وبين مذحج، في موضع يعرف بالبقاء:
ويوم على البلقاء، لم يك مثله ... على الأرض، يوم، في بعيد، ولا داني
ونظير ذلك في أشعار المتقدمين والمتأخرين كثير. وليس بنادر، كما زعم ابن مالك.
ومما تأتي رب فيه للتقليل، إتياناً مطرداً، الأشعار التي في الألغاز، والأشعار التي يصف بها الشعراء أشياء مخصوصة بأعيانها، فإنهم كثيراً ما يستعملون في أوائلها رب مصرحاً بها، والواو التي تنوب مناب رب.
ومما جاءت فيه للتقليل قولهم: ربه رجلاً، إذا مدحوه. وهذا تقليل محض، لا يتوهم فيه، لأن الرجل لا يمدح بكثرة النظير، وإنما يمدح بقلة النظير، أو عدمه بالجملة. وإنما يريدون بقولهم: ربه رجلاً، أنه قليل غريب في الرجال. كأنهم قالوا: ما أقله في الرجال، أي: ما أقل نظيره! وأما ما جاءت فيه رب، وظاهره التكثير، فهو كثير جداً، وغالبه في مواضع المباهاة والافتخار. كقول امرئ القيس:
ألا، رب يوم، لك، منهن، صالح ... ولا سيما يوماً، بدارة جلجل
ولسنا نشك في أن القائلين بأن رب للتقليل قد وقعوا على هذه المواضع، التي التكثير فيها ظاهر، لأنها كثيرة جداً. فواجب على المنصف أن يتهم رأيه، ولا يسرع إلى تخطئتهم، ويعلم أن لهم في ذلك غرضاً، ينبغي أن يبحث عنه. وقد ذكروا لذلك ثلاثة أوجه: الأول: أن رب في ذلك لتقليل النظير، فالمفتخر يزعم أن الشيء الذي يكثر وجوده منه يقل من غيره. وذلك أبلغ في الافتخار.
الثاني: أن القائل قد يقول: رب عالم لقيت، وهو قد لقي كثيراً من العلماء، ولكنه يقلل من لقيه تواضعاً.
الثالث: أن الرجل يقول لصاحبه: لا تعادي فربما ندمت. وهذا موضع ينبغي أن تكثر فيه الندامة، ولكن المراد أن الندامة لو كانت قليلة لوجب أن يتجنب ما يؤدي إليها، فكيف وهي كثيرة؟ فصار لفظ التقليل هنا أبلغ من التصريح بلفظ التكثير. وعلى هذا تأول النحويون قوله تعالى: " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " . وعليه تأول قوم قول امرئ القيس:
ألا، رب يوم، لك، منهن، صالح
قال بعضهم: رب حرف يكون لتقليل الشيء، في نفسه، ويكون لتقليل النظير. فالتي لتقليل الشيء في نفسه، كقول الشاعر:
ألا رب مولود وليس له أب
والتي لتقليل النظير، وهي الكثيرة الاستعمال، كقول الشاعر:
فإن أمس مكروباً فيا رب قينة، ... منعمة، أعملتها، بكران
والمعنى أن كثيراً، من هذه القينات، كان لي، وقل مثلها لغيري. فإطلاق النحويين على رب أنها تقليل إنما يعنون النظير، الذي هو الغالب فيها.
وقال ابن مالك: الصحيح أن معنى رب التكثير. ولذا يصلح كم في كل موضع وقعت فيه، غير نادر. ونسبه هو، وابن خروف قبله، لسيبويه. واستدلا بقوله في باب كم: ومعناها معنى رب. وبقوله في الباب: واعلم أن كم في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه رب، لأن المعنى واحد. إلا أن كم اسم، ورب غير اسم قال ابن مالك: هذا نصه، ولا معارض له في كتابه.
قلت: أما استدلاله بصلاحية كم في كل موضع وقعت فيه، غير نادر، فقد أجاب الشلوبين عن ذلك بما معناه: إن لمجرور رب، في تلك المواضع، نسبتين مختلفتين: نسبة كثرة إلى المفتخر، ونسبة قلة إلى غيره. فتارة يأتي بلفظ كم على نسبة الكثرة، وتارة يأتي بلفظ رب على نسبة القلة. وأما قوله ولا معارض له في كتابه فغير مسلم، لأن سيبويه إذا تكلم في الشواذ في كتابه فمن عادته، في كثير منها، أن يقول: ورب شيء هكذا. يريد أنه قليل نادر. كقوله في باب ما، وقد أنشد بيت الفرزدق:
إذ هم قريش، وإذا ما مثلهم بشر
وهذا لا يكاد يعرف، كما أن لات حين مناص كذلك. ورب شيء هكذا.

قال الشلوبين: فكيف يتوهم أنه أراد بقوله إن معنى كم كمعنى رب أنها مثلها في الكثرة، وهو يستعملها في كلامه بضد ذلك؟ قال: وكل من شرح كتاب سيبويه لم يقل أحد منهم: إن سيبويه أراد بهذا الكلام أن رب للتكثير. وقد فسر أبو علي هذا الموضع، فقال: إنما قال إن معنى كم كمعنى رب لأنها تشارك رب في أنها تقع صدراً، وأنهما لا تدخلان إلا على نكرة، وأن الأسم المنكور الواقع بعدهما يدل على أكثر من واحد، وإن كان الاسم الواقع بعد كم يدل على كثير، والأسم الواقع بعد رب يدل على قليل. وكذا قال ابن درستويه، والرماني، وغيرهما، في شرح هذا الموضع من كلام سيبويه.
واعلم أن رب فيه لغات وله أحكام: وخصائص ينفرد بها عن سائر حروف الجر. ولا بد من ذكر ذلك، على وجه الإيجاز. وفيه مسائل.
الأولى: في لغات رب، وهي سبع عشرة لغة. وهي: رب بضم الراء، وفتحها، كلاهما مع تخفيف الباء، وتشديدها، مفتوحة، فهذه أربع.
وربت بالأوجه الأربعة مع تاء التأنيث الساكنة وربت بالأوجه الأربعة، مع تاء لتأنيث المتحركة. ورب بضم الراء، وفتحها، مع إسكان الباء. ورب بضم الراء والباء معاً، مشددة، ومخففة. وربتا.
الثانية: مجرور رب قسمان: ظاهر، ومضمر. فالظاهر لا يكون إلا نكرة، لأن التقليل والتكثير لا يكون في المعرفة. وأجاز بعض النحويين أن تجر المعرف بأل، وأنشد قول الشاعر:
ربما الجامل، المؤبل، فيهم ... والعناجيج، بينهن المهار
بجر الجامل وصفته. فإن صحت الرواية حمل على زيادة أل.
وقد يعطف على مجرورها مضاف إلى ضميره، نحو: رب رجل وأخيه. وإنما اغتفر ذلك في المعطوف لأنها لم تباشره. قيل: وشرط ذلك أن يكون العطف بالواو.
وحكى الأصمعي: رب أبيه ورب أخيه، على نية الانفصال. وهو نادر.
والمضمر يلزم أن يكون مبهماً مفسراً بنكرة، متأخرة، منصوبة على التمييز. نحو: ربه رجلاً أكرمت. وهذا الضمير يلزم الإفراد، والتذكير، استغناء بتثنية تمييزه، وجمعه، وتأنيثه. نحو: ربه رجلين، وربه رجالاً، وربه امرأة. وحكى الكوفيون تثنيته وجمعه وتأنيثه، فيطابق التمييز. نحو: ربهما رجلين، وربهم رجالاً، وربها امرأة. حكوا ذلك، نقلاً عن العرب. وقال ابن عصفور: إنهم أجازوا ذلك قياساً. وليس كما قال.
واختلف في هذا الضمير المجرور برب. فذهب كثير، منهم الفارسي، إلى أنه معرفة، ولكنه جرى مجرى النكرة، في دخول رب عليه، لما أشبهها في أنه غير معين. وذهب قوم إلى أنه نكرة. وبه قال الزمخشري، وابن عصفور.
الثالثة: ذهب المبرد، وابن السراج، والفارسي، وأكثر المتأخرين، إلى وجوب وصف مجرورها الظاهر، إما بمفرد، نحو: رب رجل صالح، وإما بجملة، نحو: رب رجل لقيته. فلقيته جملة في موضع خفض، على الصفة. قال بعضهم: لأن المراد التقليل. وكون النكرة موصوفة أبلغ في التقليل. ولأنه لما كثر حذف عاملها، ألزموها الصفة، لتكون الصفة كالعوض من حذف العامل. وذكر في البسيط أن وجو وصفها رأي البصريين.
وذهب الأخفش، والفراء، والزجاج، وابن طاهر، وابن خروف، إلى أنه لا يلزم وصف مجرورها. وهو ظاهر مذهب سيبويه، واختاره ابن عصفور، ونقله ابن هشام عن المبرد. واستدل من لم يلتزمه بالسماع، مع ضعف ما علل به الملتزمون. قال ابن مالك: وهو ثابت، بالنقل الصحيح، في الكلام الفصحيح. وأنشد أبياتاً، منها قول أم معاوية:
يا رب قائلة، غداً: ... يا لهف أم معاوية
ولقائل أن يقول: الموصوف، في هذا البيت، محذوف، تقديره: يا رب امرأة قائلة. وكذا في جميع الأبيات التي استشهد بها، لأن جميعها صفات.
الرابعة: من خصائص رب، عند أكثر النحويين، أن الفعل الذي تتعلق به يجب أن يكون ماضياً. تقول: رب رجل كريم لقيت. ولا يجوز سألقي. وإنما لزم مضي فعلها، لأنها جواب لفعل ماض. وقيل: لأنها للتقليل، فأولوها الماضي، لأنه قد تحققت قلته.
وذهب ابن السراج إلى أن يجوز أن يكون حالاً. ومنع أن يكون مستقبلاً. وذهب بعض النحويين إلى أن يجوز أن يكون ماضياً، وجالاً، ومستقبلاً، والمضي أكثر. وهو اختيار ابن مالك. فمن وقوعه مستقبلاً قول جحدر:
فإن أهلك فرب فتى سبيكي ... علي، مهذب، رخص البنان
ومن وقوعه حالاً قول الشاعر:
ألا رب من تغتشه، لك ناصح ... ومؤتمن، بالغيب، غير أمين

وتؤول بيت جحدر، على أنه من حكاية المستقبل، بالنظر إلى المضي. كأنه قال: فرب فتى بكى علي فيما مضى، وإن كنت لم أهلك، فكيف يكون بكاؤه إذا هلكت؟ كقولك: لم تركت زيداً وقد كان سيعطيك. وقيل: هو على إضمار القول، أي: أقول فيه سيبكي. هذا إذا جعل سيبكي جواب رب. وأما إن جعل صفة مجرورها، والجواب محذوف، أي: لم أقض حقه، فلا إشكال.
الخامسة: مذهب الجمهور أن رب تتعلق بالفعل، كسائر حروف الجر غير الزوائد. وذهب الرماني، وابن طاهر، إلى أنها لا تتعلق بشيء. قال بعضهم: وتجري رب، مع إفادتها التقليل، مجرى اللام المقوية للتعدية، في دخولها على المفعول به.
السادسة: من خصائص رب أنها يلزم تصديرها. فلا تتعلق إلا بمتأخر عنها، كقولك: رب رجل عالم لقيت. فموضع المجرور بها نصب، كما يكون موضع المجرور، في قولك: بزيد مررت. وإنما وجب تصديرها، لأن التقليل كالنفي، فلا يقدم عليه ما في حيزه.
السابعة: من خصائصها أيضاً أن عاملها يكثر حذفه، لأنها جواب لمن قال لك: ما لقيت رجلاً عالماً. أو قدرت أنه يقول. فتقول في جوابه: رب رجل عالم، أي: قد لقيت. قال ابن يعيش: ولا يكاد البصريون يظهرون الفعل العامل، حتى إن بعضهم قال: لا يجوز إظهاره، إلا في ضرورة شعر.
الثامنة: من خصائص رب أنها قد تحذف، ويبقى عملها. ولا يكون ذلك ذلك في غيرها، إلا نادراً. قال ابن مالك: يجر برب محذوفة بعد الفاء كثيراً، وبعد الواو أكثر، وبعد بل أقل، ومع التجرد أقل.
قلت: تقدم ذكر الجر بها بعد الواو، والفاء، وبل، والخلاف في ذلك. ومثال الجر بها، مع التجرد من هذه الأحرف، قول الراجز:
رسم دار وقفت في طلله
أراد: رب رسم دار. فحذف رب، وأبقى عملها. وقول ابن مالك إن الجر بها محذوفة، بعد الفاء، كثير فيه نظر، لنه لم يرد إلا في بيتين، كما قال بعضهم. ولعله أراد بالنسبة إلى بل.
التاسعة: قد تزاد ما بعد رب كافة، وغير كافة. فمثالها، كافة، قول الشاعر:
ربما الجامل، المؤبل، فيهم ... والعناجيج، بيتهن المهار
والبيت لأبي دؤاد الإيادي. والجامل: القطيع من الإبل مع رعاتها والمؤبل: المعد للقنية. يقال: إبل مؤبلة، إذا كانت للقنية والصناجيج: جياد الخيل. والمهار: جمع مهر. ومثالها، غير كافة، قول الشاعر:
ربما ضربة، بسيف، صقيل ... بين بصرى، وطعنة، نجلاء
وزيارتها كافة أكثر.
واعلم أن مذهب المبرد، ومن وافقه، أن رب إذا كفت بما جاز أن يليها الجملتان: الأسمية، والفعلية. فالأسمية كالبيت السابق. والفعلية كقول تعالى " ربما يود الذين كفروا " . وإلى هذا ذهب الزمخشري. وذهب سيبويه، فيما نقل بعضهم عنه، إلى أن رب إذا كفت بما لا يليها إلا الجملة الفعلية، قيل: وهو مذهب الجمهور. وتأولوا البيت المتقدم على أن ما نكرة موصوفة، والأسم المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، والجملة صفة ما. على هذا تأوله الفارسي، وابن عصفور. قال ابن مالك: والصحيح أن ما في البيت زائدة كافة، هيأت رب للدخول على الجملة الأسمية، كما هيأتها للدخول على الفعلية.
العاشرة: إذا وقع الفعل المضارع بعد ربما صرفت معناه إلى المضي، نحو: ربما يقوم زيد، أي: ربما قام زيد. وإنما صرفت معنى المضارع إلى المضي، لأنها قبل افترانها بما مستعملة في المضي، فاستصحب لها ذلك بعد الاقتران.. وما للتوكيد، وليست بناقلة من معنى إلى معنى. قال أبو علي: لما كانت رب لما مضى وجب أن تكون ربما أيضاً كذلك.
قال بعضهم: وقد أولعت العامة، بإدخالها على المستقبل، نحو: ربما يقوم زيد. وأما قوله تعالى " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " فظاهره الاستقبال، وتأولوه على تقدير ربما ود، جعل فيه المستقبل بمعنى الماضي، لصدق الموعود به، ولقصد التقريب لوقوعه. فجعل، وإن كان غير واقع، كأنه واقع مجازاً.
وقال بعضهم: قد جاء الفعل بعدها مفتتحاً بحرف التنفيس، نحو:
فإن أهلك فرب فتى سيبكي
فعلى هذا، يجيء الاستقبال بعدها قليلاً. وتحمل الآية على ذلك، لأن في التخريج المذكور تكلفاً، إذ مآله إلى أنه عبر بالمستقبل عن ماض، وذلك الماضي مجاز عن المستقبل. والله أعلم

سوف
حرف تنفيس، يختص بالفعل المضارع، ويخلصه للإستقبال، كالسين. وفيه لغات، حكاها الكوفيون، وهي: سف، وسو، وسي. وأنشدوا:

فإن أهلك فسو تجدون فقدي ... وإن أسلم يطب لكم، المعاش
وقاب بعضهم: هذا البيت شاذ، وحذف الفاء منه للضرورة. قلت: نقل الكسائي، عن أهل الحجاز سو أفعل، بحذف الفاء في غير ضرورة. فدل على أنها لغة. وقد تقدم الخلاف في أن السين، في نحو ستفعل، أصل برأسه، أو فرع مقتطع من سوف.
وهل سوف أبلغ في التنفيس من السين، أو هما سيان؟ في ذلك خلاف. ومذهب البصريين أن سوف أبلغ. واختار ابن مالك استواءهما في ذلك. وتقدمت الإشارة إلى هذا.

مسألة
ذكر بعض النحويين لسوف موضعاً، لا تدخل فيه السبن، وهو أن لام الابتداء والتوكيد تدخل على سوف، نحو " ولسوف يعطيك ربك، فترضى " ، ولا يكون ذلك في السين. قال: لئلا يجتمع حرفان، على حرف واحد، مفتوحان زائدان، على الكلمة. ولشدة اتصال بعضها ببعض، واتصالهما بالكلمة، ربما أدى ذلك، في بعض الكلمات، إلى اجتماع أربع متحركات وأكثر، نحو: لسيجد، ولسيتعلم، فثقل الكلمة. ولذلك سكن آخر الفعل، مع الفاعل، أو ما في حكمه. نحو: ضربته. وكثيراً ما يهربون من هذا الثقل. فطرحوا دخول اللام على السين، لذلك.
قلت: وقد سمع وقوع السين في موضع، لم تسمع فيه سوف، وهو خبر عسى. فإنه قد ورد فيه وقوع السين موقع أن، لأنها نظيرتها في الاستقبال، في قول الشاعر:
عسى طيئ من طيئ، بعد هذه ... ستطفئ غلات الكلى، والجوانح
وهذا شاذ، لا يقاس عليه، والله أعلم
عدا
لفظ مشترك، يكون حرفاً، وفعلاً. وهو، في الحالين، من أدوات الاستثناء. فإذا كان حرفاً جر المستثنى، وإذا كان فعلاً نصبه. فتقول: قام القوم عدا زيداً، بالنصب والجر، على ما ذكره في خلا. وتتعين فعليته بعد ما المصدرية، كما تقدم. والتزم سيبويه فعلية عدا، ولم يذكر أنها تكون حرفاً، لأن حرفيته قليلة. وقد حكى حرفيته غير سيبويه، من الأئمة، فوجب قبولها.
والكلام على ما يتعلق به إذا كان حرفاً، وعلى محل جملته إذا كان فعلاً، كما تقدم في خلا. فلا معنى لإعادته، والله أعلم.
عسى
ذهب النحويين إلى أنه حرف. ونقله بعضهم عن ابن السراج. وحكاه أبو عمر الزاهد، عن ثعلب. وذهب الجمهور إلى أنه فعل، وهو الصحيح. والدليل على فعليته اتصال ضمائر الرفع البارزة به، نحو: عسيت، وعسيتهم، ولحاق تاء التأنيث له، نحو: عست هند أن تقوم.
وهو فعل لا يتصرف، يرد للرجاء والإشفاق. وقد اجتمعا في قوله تعالى " وعسى أن تكرهو شيئاً، وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً، وهو شر لكم " . وعملها، في الأصل، عمل كان. إلا أن خبرها التزم كونه فعلاً مضارعاً، والأكثر اقترانه بأن. وقد تحذف، كقوله الشاعر:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج، قريب
وجمهور البصريين على أن حذف أن من خبر عسى ضرورة. وظاهر كلام سيبويه أنه لا يختص بالشعر.
وقد ندر وقوع خبرها مفرداً، في قول الزباء عسى الغوير أبؤساً، وقول الشاعر:
أكثرت في العذل، ملحاً، دائماً ... لا تكثرن، إني عسيت صائماً.
واعلم أن عسى لها أحوال: الأول: أن يكون خبرها فعلاً مضارعاً مجرداً من أن. وهو قليل، كما سبق. ولا إشكال في أن الفعل خبرها، وهي عاملة عمل كان.
الثاني: أن يكون خبرها فعلاً مضارعاً مقروناً بأن وهذا هو الكثير. واختلف، في إعرابه، على ثلاثة مذاهب: أحدها: أن عسى عاملة عمل كان أيضاً، وأن والفعل في موضع خبرها. قال ابن عصفور: وهو الصحيح، لأن العرب لما نطقوا به، على الأصل، نطقوا به اسم فاعل، كما تقدم في المثل، والبيت.
وثانيها: أن عسى، في ذلك، ليست عاملة عمل كان. بل المرفوع بها فاعل، وأن والفعل في موضع نصب على المفعولية، والفعل مضمن معنى: قارب. فإذا قلت: عسى زيد أن يقوم، فالتقدير: قارب زيد القيام. أو يكون أن والفعل منصوباً، على إسقاط الخافض. وهذا مذهب سيبويه، والمبرد. ووجهه أن أن والفعل مقدر بالمصدر، والمصدر لا يكون خبراً عن الجثة. وأجيب عنه بأن المصدر قد يخبر به، على سبيل المبالغة.

وثالثها: أن أن والفعل بدل اشتمال من فاعل عسى. وهو مذهب الكوفيين. قال صاحب البسيط: وأظم قولهم مبنياً على أن هذه الأفعال ليست ناقصة. فيكون المعنى عندهم: قرب قيام زيد. ثم قدمت الاسم، وأخرت المصدر، فقلت: قرب زيد قيامه. ثم جعلته بأن والفعل. ويحتج، على هذا، بقولهم: عسى أن يقوم زيد، وأن هذا هو الأصل، وهي تامة. ثم إن تقدم الأسم فهو على البدل، حملاً لها على طريقة واحدة.
ورد ما ذهب إليه الكوفيون، بوجهين: أحدهما أنه إبدال قبل تمام الكلام. والآخر أنه لازم، والبدل لا يكون لازماً.
واختار ابن مالك في شرح التسهيل أن عسى في ذلك ناقصة، والمرفوع اسمها، وأن والفعل بدل اشتمال سد مسد جزأي الإسناد. ونظره بقراءة حمزة " ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم " بالخطاب، على أن يكون أنما بدلاً من الذين، وسد مسد المفعلوين.
الثالث: أن يسند إلى أن والفعل، فلا يحتاج حينئذ إلى خبر. ومقتضى كلام بعض النحويين أنها تكون، إذ ذاك، تامة كما تكون كان تامة. وقال ابن مالك: الوجه عندي أن تجعل عسى ناقصة أبداً. فإذا أسندت إلى أن والفعل وجهت بما وجه به وقوع حسب عليهما، في نحو " أحسب الناس أن يتركوا " . فكما لم تخرج حسب بهذا عن أصلها، لا تخرج عسى عن أصلها، بمثل " وعسى أن تكرهوا " . بل يقال في الموضعين: سدت أن والفعل مسد الجزين.
الرابع: أن يتصل بعسى الضمير الموضوع للنصب، نحو: عساني، وعساك، وعساه. ومنه قول الشاعر:
ولي نفس أقول لها، إذا ما ... تنازعني: لعلي، أو عساني
وقول الآخر:
يا أبنا، علك، أو عساكا
وهذا من المواضع المشكلة، لأن حق الضمير المتصل بعسى أن يكون بصيغة المرفوع، كما ورد في القرآن، نحو " فهل عسيتهم " ، لأنها ترفع الأسم. فإذا ورد بصيغة المنصوب احتاج إلى توجيه. وفي ذلك ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب سيبويه. وهو أن عسى، في ذلك، محمولة على لعل في العمل. فالياء وأخواتها في موضع نصب اسماً لها، وأن والفعل في موضع رفع خبراً لها.
وثانيها مذهب المبرد: أن عسى باقية على أصلها، ولكن انعكس الإسناد، فجعل المخبر عنه خبراً. فالياء في موضع نصب خبراً لعسى تقدم، وأن والفعل في موضع رفع اسماً لها.
وثالثها مذهب الأخفش: أن عسى باقية على رفعها الأسم، ونصبها الخبر، ولكن ضمير النصب، الذي هو الياء وأخواتها، وضع موضع المرفوع. فهو نائب عنه، وأن والفعل في موضع نصب خبراً لها، كما كان.
ورابعها مذهب السيرافي: أن عسى في قولهم: عساك، وعساني، حرف عامل عمل لعل. وضعف بأن، فيه اشتراك فعل وحرف في لفظ واحد.
واختار ابن مالك. ورحمه الله، مذهب الأخفش، لسلامته من عدم النظير. إذ ليس فيه إلا نيابة ضمير، غير موضوع للرفع، عن موضوع له. وذلك موجود، كقول الراجز:
يا بن الزبير، طالما عصيكا ... وطالما عنيتكما إليكا
ولأن نيابة المرفوع موجودة، في نحو: ما أنا كأنت. ولأن العرب قد تقتصر على عساك ونحوه. فلو كان في موضع نصب لزم الاستغناء بفعل ومنصوبه، ولا نظير لذلك. ولأن قول سيبويه يلزم منه حمل فعل على حرف، في العمل، ولا نظير لذلك. انتهى ما ذكره ابن مالك مختصراً.
وقال غيره: مذهب سيبويه هو الصحيح. ويبطل مذهب الأخفش تصريحهم بالأسم، موضع أن والفعل، في مثل هذا التركيب مرفوعاً، كقوله:
فقلت: عساها نار كأس، وعلها ... تشكى، فأتي نحوها، فأعودها
وأما ما ذكره ابن مالك، من نيابة الكاف عن التاء في عصيكا، فليس كذلك. بل الكاف فيه بدل من التاء، كما نص عليه أبو علي وغيره. وهو شاذ. ولو كان ضمير نصب لم يسكن آخر الفعل، لأجله، كما لم يسكن في عساكا. وأما النيابة في نحو ما أنا كأنت فذلك لعلة أن الكاف لا تدخل على الضمير المجرور، فاحتيج للنيابة. وأما علة الاقتصار على المنصوب فالحمل على لعل.
قلت: ذكر الفارسي في التذكرة أن قوله:
يا أبتا، علك، أو عساكا

على
حد إني عسيت صائماً، في أن الفاعل مضمر في الفعل، والكاف هو الخبر، كما أن صائماً هو الخبر، وإن خالفه في أنه معرفة وصائماً نكرة. وهذا تخريح غريب. والكلام على هذه المسألة يستدعي بسطاً، لا يليق بهذا الكتاب. فليقتصر على هذا القدر. فإن فيه كفاية. والله سبحانه أعلم.
على

التي تجر ما بعدها فيها خلاف، فمشهور مذهب البصريين أنها حرف جر، إلا إذا دخل عليها حرف الجر كقول الشاعر:
غدت من عليه، بعد ما تم ظمؤها ... تصل، وعن قيض، بزيزاء، مجهل
فعلى في هذا اسم بمعنى: فوق.
وزاد بعضهم أنها تكون اسماً في موضع آخر، وهو قول الشاعر:
هون عليك، فإن الأمور ... بكف الإله سقاديرها
وما أشبهه، لأنها لو جعلت حرفاً في ذلك لأدى إلى تعدي فعل المخاطب إلى ضميره المتصل. وذلك لا يجوز في غير أفعال القلوب، وما حمل عليها. ونقل بعضهم أن هذا مذهب الأخفش. فإنه قال باسميتها في نحو: سويت علي ثيابي.
قال الشيخ أبو حيان: ولا يلزم في نحو هون عليك ولا في سويت علي أن تكون اسماً. فإنه قد ورد مثل هذا التركيب في إلى نحو قوله تعالى " وهزي إليك " ، " واضمم إليك جناحك " . ولا نعلم خلافاً في حرفية إلى، فيخرج هون عليك ونحوه على ما خرج عليه وهزي إليك.
قلت: تقدم مثل هذا في عن. وذكرت ثم ما يخرج عليه وهزي إليك. ولقائل أن يقول: إن عن وعلى قد ثبتت اسميتهما بدخول من، فلم يحتج فيهما إلى تأويل، يخالف الظاهر، بخلاف إلى. وتقدم ذكر مذهب الفراء، في أن عن وعلى حرفان، إذا دخلت من عليهما.
وذهب ابن طاهر، وابن خروف، وابن الطراوة، والزبيدي، وابن معزوز، والشلوبين في أحد قوليه، إلى أنها اسم، ولا تكون حرفاً. وزعموا أن ذلك مذهب سيبويه.
قلت: صرح سيبويه بهذا في باب عدة ما يكون عليه الكلام. قيل: ويحتمل التأويل على أن يريد: ولا تكون إلا ظرفاً، إذا كانت اسماً. لأنه نص، في أول الكتاب، على أن على حرف، لأنه ذكر فيما يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بحرف الجر، قول الملتمس:
آليت حب العراق، الدهر، أطعمه
أي: على حب العراق.
وقد تحصل في على الجارة، مما ذكرته، أقوال أحدها: أنها حرف، في كل موضع. وهو قول الفراء. والثاني: أنها اسم، في كل موضع. وهو قول ابن طاهر، ومن وافقه. والثالث: أنها حرف، إلا في موضع واحد. والرابع: أنها حرف إلا في موضعين. وبه جزم ابن عصفور، وهو قول الأخفش.
وقد استدل على حرفيتها بحذفها في الشعر، ونصب ما بعدها، كقول الشاعر:
تحن، فتبدي ما بها، من صبابة ... وأخفي الذي، لولا الأسى لقضاني
أي: لقضي علي، وقد أجاز الأخفش ذلك، في قوله تعالى " لأقعدن لهم صراطك المستقيم " ، أي: على صراطك. واستدل أيضاً، علي حرفيتها، بجواز حذفها مع الضمير في الصلة، كقول الشاعر:
وإن لساني شهدة، يشتفى بها ... وهو، على من صبه الله، علقم
أي: صبه الله عليه. ولو كانت اسماً لم يجز فيها ذلك.
فإن قلت: إذا قلنا باسميتها فهل هي معربة أو مبنية؟ قلت: ذكر بعضهم أنها معربة، عند من قال إنها لا تكون إلا اسماً. وأما من جوز فيها، إذا كانت حرفاً، أن تنتقل إلى الأسمية، بدخول من، أو على مذهب الأخفش، في نحو: سويت علي ثيابي، فقال بعضهم: هي إذ ذاك معربة. وقال أبو محمد القاسم بن القاسم: هي مبنية، والألف فيها كألف هذا.
واعلم أن على قد تكون فعلاً، من العلو، ترفع الفاعل. كقوله تعالى " إن فرعون علا في الأرض " ، وأمر هذا بين. وليست من الحرفية في شيء، إلا في الصورة.
وأما على الأسمية فقال ابن يعيش: مختلف فيها؛ فمذهب أبي العباس، وجماعة، أنها على الاشتراك اللفظي فقط، لأن الحرف لا يشتق ولا يشتق منه. فكل واحد من هذه الثلاثة مباين لصاحبه إلا من جهة اللفظ. وقال قوم: الأصل أن تكون حرفاً. وإنما كثر استعمالها، فشبهت في بعض الأحوال بالأسم، فأجريت مجراه، وأدخل عليها حرف الجر، كما يشبه الأسم بالحرف، ويجري مجراه، نحو من وكم انتهى.
والغرض هنا إنما هو على الحرفية، وذكر معانيها. وذكر ابن مالك لها ثمانية معان: الأول: الاستعلاء حساً، كقوله تعالى " كل من عليها فان " ، أو معنى كقوله " فضلنا بعضهم على بعض " . ولم يثبت، لها، أكثر البصريين غير هذا المعنى، وتأولوا ما أوهم خلافه.
الثاني: المصاحبة، كقوله تعالى " وآتى المال على حبه " ، " وإن ربك لذو مغفرة للناس، على ظلمهم " .
الثالث: المجاوزة، كقول الشاعر:
إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر أبيك، أعجبني رضاها
أي: عني. قال ابن مالك: وكذلك الواقعة بعد: خفي، وتعذر، واستحال، وغضب، وأشباهها.

الرابع: التعليل، كقوله تعالى " ولتكبروا الله على ما هداكم " .
الخامس: الظرفية، كقوله تعالى " واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان " . وتؤولت الآية على تضمين تتلو معنى: تتقول.
السادس: موافقة من، كقوله تعالى " إذا اكتالوا على الناس يستوفون " . قاله بعض النحويين. والبصريون يذهبون في هذا إلى التضمين، أي: إذا حكموا على الناس في الكيل.
السابع: موافقة الباء، كقوله تعالى " حقيق على ألا أقول " ، أي بألا أقول. وقرأ أبي بأن، فكانت قراءته تفسيراً لقراءة الجماعة. وقالت العرب: اركب على اسم الله، أي: باسم الله.
الثامن: أن تكون زائدة للتعويض، كقول الراجز:
إن الكريم، وأبيك، يعتمل ... إن لم يجد، يوماً، على من يتكل
قال ابن جني: أراد من يتكل عليه، فحذف عليه وزاد على قبل من عوضاً. انتهى. ويحتمل أن يكون الكلام تم عند قوله إن لم يجد يوماً، ثم قال: على من يتكل، وتكون من استفهامية.
قال ابن مالك: وقد تزاد دون تعويض. واستدل، على ذلك، بقول حميد بن ثور:
أبى الله إلا أن سرحة ملك ... على كل أفنان العضاه، تروق
زاد على لأن راق متعدية، مثل أعجب. تقول: راقني حسن الجارية. وفي الحديث: من حلف على يمين والأصل: حلف يميناً. قيل: ولا حجة في ذلك، لأنه يحتمل تضمين تروق معنى: تشرف، وتضمين حلف: جسر. وقد نص سيبويه على أن على لا تزاد.
وزاد بعضهم في معاني على موافقة اللام، كقوله تعالى " أذلة على المؤمنين " .
وأكثر هذه المعاني إنما قال به الكوفيون، ومن وافقهم، كالقتبي. والبصريون يؤولون ذلك. والله أعلم.

كما
اعلم أن كما، عند التحقيق، كلمتان. وهما: كاف التشبيه أو التعليل، وما. ثم إن ما المتصلة بالكاف قد تكون اسماً، وقد تكون حرفاً.
فإذا كانت اسماً فلها قسمان: الأول: أن تكون موصولة. والثاني: أن تكون نكرة موصوفة. كقولك: الذي عندي كما عندك، أي. كالذي عندك، أو كشي. عندك. فهذا المثال يحتمل الوجهين.
وإذا كانت حرفاً فلها ثلاثة أقسام: مصدرية، وكافة، وزائدة ملغاة.
فالمصدرية نحو: قمت كما قمت، أي: كقيامك. فالكاف في ذلك جارة للمصدر لمنسبك، من ما وصلتها.
والكافة كقول زياد الأعجم:
وأعلم أنني، وأبا حميد ... كما النشوان، والرجل الحليم
أريد هجاءه، وأخاف ربي ... وأعلم أنه عبد، لئيم
وجعل بعضهم ما كافة في قوله تعالى " كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم " وفي قوله تعالى :واذكروه كما هداكم " وممن جوز ذلك الزمخشري، وابن عطية. وضعفه بعضهم، وقال: الأولى، في الآيتين ونحوهما، أن تكون ما مصدرية، لأن فيه إقرار الكاف على ما استقر هلا، من عمل الجر.
وقد منع أبو سعيد علي بن مسعود الفرخان صاحب المستوفى أن تكون الكاف مكفوفة بما. ورد عليه بقوله كما النشوان والرجل الحليم. قيل: وهذا تفريع على أن ما المصدرية لا توصل بالجملة الأسمية. أما إذا قلنا إنها توصل بها فلا تكون ما كافة، بل مصدرية والكاف جارة للمصدر المنسبك من ما وصلتها.
والزائدة الملغاة كقول الشاعر:
وننصر مولانا، ونعلم أنه ... كما الناس، مجروم عليه، وجارم
بجر الناس، أي: كالناس. وما زائدة.
فهذه أقسام كما. وليس فيها شيء يعد حرفاً واحداً. بل هي مركبة، في هذه الأقسام كلها. وذكر صاحب رصف المباني أن كما تكون تارة مركبة من كاف التشبيه، وما الموصولة أو المصدرية. فالكلام عليها هو الكلام على الكاف المفردة في بابها. قال: وتكون كما بسيطة، وهي مقصدنا، ولها ثلاثة مواضع: الأول: أن تكون بمعنى كي، فتنصب ما بعدها كما تنصب كي. كقولك: أكرمتك كما تكرمني، أي: كي تكرمني. قال الشاعر:
وطرفك إما جئتنا فاحبسنه ... كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
أي: كي يحسبوا.
الثاني: أن تكون بمعنى كأن. تقول: شتمني كما أنا أبغضه، أي: كأني أبغضه، ومنه قول الشاعر:
تهددني بجندك، من بعيد ... كما أنا من خزاعة، أو ثقيف
الثالث: أن تكون بمعنى لعل. تقول: لا تضرب زيداً كما لا يضربك. ومنه قول الراجز:
لا تشتم الناس، كما لا تشتم
أي: لعلك لا تشتم.
وهي، في هذين الموضعين الأخيرين، غير عاملة لفظاً، وإن كانت في موضع عامل، من جهة المعنى. انتهى ما ذكره.

ولم أر أحداً ذكر أن كما تكون حرفاً بسيطاً، غير هذا الرجل. وليس الأمر كما ذكر. وكما، في هذه المواضع الثلاثة، مركبة من كاف التشبيه، أو كاف التعليل، وما. واختلف النحويون، في وجه النصب بكما، في قوله كما يحسبوا. فقال أبو علي الفارسي: الأصل كيما فحذفت الياء. ونقل عن الكوفيين. قال ابن مالك: وهذا تكلف، لا دليل عليه، ولا حاجة إليه. وذهب إلى أنها الكاف المكفوفة بما، دخلها معنى التعليل، فنصبت لشبهها بكي، لا لأن الأصل كيما والله أعلم

لات
حرف نفي، أصله لا، ثم زيدت عليها التاء كما زيدت في ثمت وربت. هذا مذهب الجمهور. وقيل: هي مركبة من لا والتاء. فلو سميت بها حكيت.
وقال ابن أبي الربيع: لات أصلها ليس. فقلبت ياؤها ألفاً، وأبدلت سنيها تاء، كراهة أن تلتبس بحرف التمني. ويقويه قول سيبويه إن اسمها مضمر فيها، ولا يضمر إلا في الأفعال.
وذهب ابن الطراوة إلى أن التاء متصلة بالحين الذي بعدها، لا بها وهو مذهب أبي عبيد. قال: ولم نجد في كلام العرب لات. وذكر أن التاء في الإمام متصلة بحين، كتبت " ولا تحين مناص " . قال الزمخشري: وأما قول أبي عبيد. إن التاء داخلة على حين فلا وجه له. واستشهاده بأن التاء ملتزقة بحين في الإمام لا متشبث به. فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط.
قلت: وقد ورد دخول التاء على الأحيان في قول ابن عمر اذهب بها تلآن إلى أصحابك. وقول الشاعر:
تولي، قبل يوم بين، جمانا ... وصلينا، كما زعمت، تلانا
وقول الآخر:
العاطفون، تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان أين المطعم؟
وزعم بعض النحويين أن التاء في تلان بدل من ألف الوصل. وهو زعم لا يصح. وأول بعضهم تحين على أنه أراد: لات حين، فحذف لا وأبقى التاء دالة عليها. وقيل: أراد العاطفونه بهاء السكت، ثم أثبتها وصلاً، وحركها مبدلة تاء، تشبيهاً بهاء التأنيث. وهذا بعيد جداً. وقول أبي عبيد: ولم نجد في كلام العرب: لات معارض بنقل الخليل، وسيبويه، وغيرهما من الأئمة.
واختلف النحويون في لات، فقيل: لا عمل لها. ونقل عن الأخفش، وما ينتصب بعدها عنده منصوب بفعل مضمر، تقديره: ولا أرى حين مناص. ونقل صاحب البسيط عن السيرافي أنه قال في " ولات حين مناص " : هو على الفعل، أي: ولات أراه حين مناص. وقيل: تعمل عمل إن. وهو مذهب الأخفش. وهي عنده لا النافية للجنس، زيدت عليها التاء، وحين مناص اسمها، والخبر محذوف، أي: لهم، ونحوه. وقال سيبويه، ومن وافقه: تعمل عمل ليس. وهي على هذا لا المشبهة بليس، زيدت عليها التاء.
ولم يسمع الجمع بين اسمها وخبرها. بل الأكثر أن يحذف اسمها، ويبقى خبرها. كقوله تعالى " ولات حين مناص " ، والتقدير: ليس الحين حين مناص. وقد يحذف خبرها، ويبقى الأسم، كقراءة بعضهم " ولات حين مناص " بالرفع. والتقدير: ولات حين مناص حيناً لهم. وعلى قول الأخفش، فالمرفوع بعدها مبتدأ وخبره محذوف.
وإذا وقعت لات قبل هنا، كقول الشاعر:
حنت نوار، ولات هنا حنت ... وبدا الذي كانت نوار أجنت
ففيها خلاف: ذهب الفارسي إلى أنها مهملة، لا اسم لها ولا خبر. وهنا في موضع نصب على الظرفية، لأنه إشارة إلى مكان. وحنت مع أن مقدرة قبله في موضع رفع بالابتداء، والتقدير: ولا هنالك حنين. وقيل: هنا اسم لات، وحنت خبرها، على تقدير مضاف، أي: ليس ذلك الوقت حين حنين. وهو اختيار ابن عصفور، وشيخه أبي على الشلوبين. ورده ابن مالك بأن هنا من الظروف التي لا تنصرف، فلا تخرج عن الظرفية، إلا بأن تجر بمن أو إلى.
فائدة
قرئ " ولات حين مناص " بفتح التاء، وضمها، وكسرها. والفتح هو المشهور. والوقف عليها بالتاء عند سيبويه، والفراء، وابن كيسان، والزجاج. وبه وقف أكثر القراء. وبالهاء عند الكسائي، والمبرد. وبه قرأ الكسائي. وقرئ حين مناص بالنصب والرفع والجر، فالنصب والرفع تقدم توجيههما. وأما الجر فوجهه ما حكاه الفراء، أن من العرب من يخفض بلات. وأنشد:
طلبوا صلحنا، ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه الكسر في أوان؟ قلت: مشبهة بإذ في قوله:
وأنت، إذ، صحيح

في أنه زمان قطع منه المضاف إليه، وعوض التنوين، لأن الأصل ولات أوان صلح. فإن قلت: فما تقول في حين مناص، والمضاف إليه قائم؟ قلت: نزل قطع المضاف إليه من مناص، لأن أصله: حين مناصهم، منزلة قطعة من حين، لاتحاد المضاف والمضاف إليه. وجعل تنويه عوضاً من الضمير المحذوف. ثم بني الحين لكونه مضافاً إلى غير متمكن. انتهى.
وما ذكره في لات أوان هو تخريج الزجاج، وغيره. وفيه بعد. وما ذكره في لات حين مناص أبعد. وخرج الشيخ أبو حيان هذه القراءة، والبيت أيضاً، على إضمار من، أي: لات من حين، ولات من أوان. وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين، أي: ولات حين أوان. فحذف حين، وابقى أوان على جره. والله سبحانه أعلم.

ليت
حرف تمن، تكون في الممكن والمستحيل. ولا تكون في الواجب. فلا يقال: ليت غداً يجيء. وذكر بعضهم أنه يقال فيها لت بالإدغام. وذكر صاحب رصف المباني أنه يقال لوت بالواو قليلاً. وهي تنصب الإسم وترفع الخبر.
وأجاز الفراء نصب الجزءين بها، دون أخواتها، وأجازه بعض أصحابه في الأحرف الستة. ونقل بعضهم عنه أنه أجاز ذلك في لعل وكأن أيضاً، نقله عنه ابن أصبغ. وتقدم ما استلدل به من أجاز ذلك في أن وبيان تأويله، وأنه لا حجة فيه. ومما ورد في ليت قول الشاعر:
يا ليت أيام الصبا رواجعا
وقول الآخر:
ليت الشباب هو الرجيع على الفتى ... والشيب كان هو البديء الأول
وتأول ذلك المانعون على الوجهين المتقدم ذكرهما في أن.
ولليت أحكام أخر، مشهورة، لا حاجة إلى التطويل والله أعلم.
ليس
فعل لا يتصرف. هذا مذهب الجمهور. ودليل فعليتها اتصال الضمائر المرفوعة البارزة بها، واتصال تاء التأنيث. ووزنها فعل بكسر العين، فخفت، ولزم التخفيف. ولا يجوز أن تكون فعل بالفتح، لأنه لا يخفف، فكان يقال: لاس. ولا فعل بالضم، إذ لو كان كذلك لزم ضم لامها، مع ضمير المتكلم والمخاطب. وكان قياسها كسر اللام في نحو: لست. وقد حكاه الفراء عن بعضهم والأكثر الفتح وسبب ذلك عدم تصرفها.
وقد سمع فيها لست يضم اللام، وهو يدل على بنائها على فعل بضم العين ك هيؤ زيد، بمعنى: حسنت هيئته، فيكون في أصلها لغتان: فعل، وفعل.
وذهب ابن السراج، والفارسي في أحد قوليه، وجماعة من أصحابه، وابن شقير، إلى أنها حرف. ولهذا ذكرتها في هذا الموضع. وقال صاحب رصف المباني: ليس ليست محضة في الفعلية، ولا محضة في الحرفية، ولذلك وقع الخلاف بين سيبويه والفارسي. فزعم سيبويه أنها فعل، وزعم أبو علي أنها حرف، ثم قال: والذي ينبغي أن يقال فيها، إذا وجدت بغير خاصية من خواص الأفعال، وذلك إذا دخلت على الجملة الفعلية، أنها حرف لا غير، كما النافية. كقول الشاعر:
تهدي كتائب خضراً، ليس يعصمها ... إلا ابتدار، إلى موت، بأسياف
انتهى.
واعلم أن ليس لها أربعة أقسام: الأول: أن تكون من أخوات كأن. فترفع الأسم، وتنصب الخبر. وأمرها واضح.
الثاني: أن تكون من أدوات الاشتثناء. ويجب نصب المستثنى بها، نحو: قام القوم ليس زيداً. وهذه في الحقيقة هي الرافعة للإسم، الناصبة للخبر. ولذلك وجب نصب المستثنى بها، لأنه خبرها. واسمها ضمير، عائد على البعض، المفهوم من الكلام السابق، عند البصريين. وقال الكوفيون: اسمها ضمير عائد على الفعل المفهوم من الكلام السابق. والتقدير: ليس هو، أي: ليس فعلهم فعل زيد. فحذف المضاف ورد بوجهين: أحدهما أن فيه دعوى حذف مضاف، لم يلفظ به قط. والاخر انه لا يصح تقديره في كل موضع، نحو: القوم أخوتك ليس زيداً.
الثالث: أن تكون مهملة، لا عمل لها. وذلك في نحو ليس الطيب إلا المسك والوجه الثالث أن يكون الطيب اسم ليس وإلا المسك، عند بني تميم. فإن إلا عندهم تبطل عمل ليس، كما تبطل عمل ما الحجازية. حكى ذلك عنهم أبو عمرو ابن العلاء. وله في ذلك، مع عيسى بن عمر، حكاية مشهورة. وقال بعضهم: ولا يكون ذلك إلا على اعتقاد حرفيتها، ولا ضمير في ليس.
وتأول أبو علي قولهم ليس الطبيب إلا المسك، وزعم أنه يحتمل وجوهاً: أحدها أن يكون في ليس ضمير الشأن، والطيب مبتدأ، والمسك خبره. ورد بأنه لو كان كذلك لدخلت إلا على الجملة. فكان يقال: ليس إلا الطيب المسك. كما قال الشاعر:

ألا ليس إلا ما قضى الله كائن ... ولا يستطيع المرء نفعاً، ولا ضراً
وقد أجاب أبو علي، عن هذا، بأن إلا دخلت في غير موضعها، ونظير ذلك قوله تعالى " إن نظن إلا ظناً " ، وقول الشاعر:
وما اغتره الشيب، إلا اغترارا
وأجيب بأن الآية والبيت محمولان على حذف الصفة، لفهم المغنى.
قال أبو علي: والوجه الثاني أن يكون الطيب اسم ليس، والخبر محذوف، وإلا المسك بدل منه. كأنه قيل: ليس الطيب في الوجود إلا المسك نعت له، والخبر محذوف. كأنه قال: ليس الطيب، الذي هو غير المسك، طيباً في الوجود.
ولأبي نزار، الملقب ملك النحاة، تخرج غريب. وهو أن الطيب اسم ليس، والمسك مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: إلا المسك أفخره والجملة في موضع خبر ليس.
والذي يبطل هذه التأويلات نقل أبي عمرو أن ذلك لغة بني تميم.
الرابع: أن تكون حرفاً عاطفاً، على مذهب الكوفيين. ومن حجتهم قول الشاعر:
أين المفر، والإله الطالب ... والأشرم المغلوب، ليس الغالب
ولم يثبت كونها عاطفة، عند البصريين. ويوجه هذا البيت، على مذهب البصريين، بأن يجعل الغالب اسم ليس، ويجعل خبرها ضميراً متصلاً عائداً على الأشرم، ثم حذف لاتصاله. كما تقول: الصديق كأنه زيد، ثم تحذف الهاء تخفيفاً. وممن نقل أنها تكون حرفاً عاطفاً، عند الكوفيين، ابن بابشاذ، والنحاس، وابن مالك. وحكاه ابن عصفور، عن البغداديين.
قيل: وفي الحقيقة ليست عندهم حرف عطف، لأنهم أضمروا الخبر في قولهم: قام زيد ليس عمرو. وفي النصب والجر جعلوا الأسم ضمير المجهول، وأضمروا الفعل بعدها. وذلك الفعل المضمر في موضع خبر ليس. هذا تحرير مذهبهم، وهو المفهوم من كلام هشام، وابن كيسان. وهما أعرف بتقرير مذهب الكوفيين.

مسألة
مذهب أكثر النحويين أن ليس وما الحجازية مخصوصان بنفي الحال. قال ابن مالك: والصحيح أنهما ينفيان الحال، والماضي، والمستقبل. وقد حكى سيبويه: ليس خلق الله مثله. ومن نفيها المستقبل قول حسان:
فما مثله فيهم، ولا كان قبله ... وليس يكون، الدهر، ما دام يذبل
وينبغي أن يحمل كلام الأكثرين على ما إذا لم تقترن به قرينة تخصه بأحد الأزمنة، فيحمل إذ ذاك على الحال، كما يحمل عليه الإيجاب. وقد أشار إلى ذلك الشلوبين. والله أعلم.
منذ
لفظ مشترك، يكون حرف جر، ويكون اسماً، كما تقدم في مذ. والمشهور أنهما حرفان، إذا انجر ما بعدهما، واسمان إذا ارتفع ما بعدهما. وقيل: هم اسمان مطلقاً. وعامة العرب على الجر بهما، إن كان ما بعدهما حالاً، نحو: منذ الساعة. وإن كان ماضياً، والكلمة مذ، فالرفع وقل الجر، أو منذ فالجر وقل الرفع.
وفي النهاية: قالوا منذ ومذ حرفان. وفي هذا نظر، إذ قالوا: أصل مذ منذ. ويلزم على قولهم أن أن المخففة من أن وأن حرفان، وأن رب باعتبار لغاتها عشرة أحرف. قلت: الذي يظهر أن مرادهم أن مذ كان أصلها منذ كأختها، فحذفت نونها، وتركت أختها على أصلها؛ ألا تراهم قالوا: إن الأغلب على مذ الأسمية، والأغلب على منذ الحرفية. فلو كانت مذ فرع منذ هذه لساوتها في الحكم. وتحقيق هذا أن منذ تكون اسماً، وتكون حرفاً. فإذا كانت اسماً كثر فيها حرف النون، وإذا كانت حرفاً لم تحذف منها النون إلا قليلاً.
واختلف في منذ، فقال البصريون: بسيطة. وقال الكوفيون: مركبة. ثم اختلفوا، فقال الفراء: أصلها من ذو: من الجارة، وذو الطائية. وقال غيره منهم: أصلها من إذ: من الجارة، وإذ الظرفية. وقال محمد بن مسعود الغزني: اصلها من ذا: من الجارة، وذا اسم إشارة. ولهم في تقرير هذه الأقوال تكلفات واهية. والصحيح مذهب البصريين. وفيهما لغتان: ضم الميم، وهي الفصحى. وكسرها، وهي لغة سليم.
واعلم أن مذ ومنذ لهما ثلاثة أحوال: الأول: أن يليهما اسم مرفوع نحو: ما رأيته مذ يوم الجمعة، أو منذ يومان. فهما إذ ذاك اسمان. وفي إعرابهما أربعة مذاهب:

الأول: أنهما مبتدآن، والزمان المرفوع بعدهما خبرهما. ويقدر أن في المعرفة بأول الوقت، وفي النكرة بالأمد فإذا قلت: ما رأيته مذ يوم الجمعة، فالتقدير: أول انقطاع الرؤية يوم الجمعة. وإذا قلت: ما رأيته مذ يومان، فالتقدير: أمد انقطاع الرؤية يومان. وهذا قول المبرد، وابن السراج والفارسي. ونقله ابن مالك عن البصريين. وليس هو قول جميعهم.
والثاني: أنهما ظرفان منصوبان على الظرفية. وهما في موضع الخبر، والمرفوع بعدهما مبتدأ. والتقدير: بيني وبين لقائه يومان. وهو مذهب الأخفش، والزجاج، وطائفة من البصريين.
والثالث: أن المرفوع بعدهما فاعل بفعل مقدر، وتقديره: مذ كان يومان. وهما ظرفان مضافان إلى جملة حذف صدرها. وهذا مذهب الكوفيين. واختاره السهيلي، وابن مالك.
والرابع: أنه خبر مبتدأ محذوف. وهو قول لبعض الكوفيين. وتقديره: ما رأيته من الزمان الذي هو يومان. ونقله ابن يعيش عن الفراء. قال: لأن منذ مركبة من من وذو التي بمعنى الذي، والذي توصل بالمبتدأ والخبر.
والحال الثاني: أن يليهما اسم مجرور، نحو: ما رأيته مذ يومين. وقول الشاعر:
قفا نبك من ذكرى حبيب، وعرفان ... ورسم، عفت آياته منذ أزمان
وفي ذلك مذهبان: أحدهما أن منذ ومذ حرفا جر. وهو الصحيح. وإليه ذهب الجمهور. ولا يجران إلا الزمان. فإن كان معرفة ماضياً فهما بمعنى من لابتداء الغاية. نحو: ما رأيته مذ يوم الجمعة. وإن كان معرفة حالاً فهما بمعنى في، نحو: ما رايته منذ الليلة. وإن كان نكرة فهما بمعنى من وإلى، فيدخلان على الزمان الذي وقع فيه ابتداء الفعل وانتهاؤه. نحو: ما رأيته مذ أربعة أيام. والمذهب الثاني أنهما ظرفان مضافان، وهما في موضع نصب بالفعل الذي قبلهما. وعلى هذا فهما اسمان في كل موضع.
الحال الثالث: أن يليهما جملة. والكثير أن تكون فعلية، كقول الفرزدق:
ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... فسما، فأدرك خمسة الأشبار
وقد تكون اسمية، كقول الشاعر:
وما زلت محمولاً على ضغينة ... ومضطلع الأضغان، مذ أنا يافع
وفي ذلك مذهبان: أحدهما أن منذ ومذ ظرفان مضافان إلى الجملة. وصرح به سيبويه. والثاني أنهما مبتدآن، ويقدر زمان مضاف إلى الجملة، يكون خبراً عنهما ولا يدخلان عنده، إلا على زمان ملفوظ به، أو مقدر.
والمختار أن مذ ومنذ إن وليهما مرفوع، أو جملة، فهما ظرفان مضافان إلى الجملة. وإن وليهما مجرور فهما حرفان وهذا اختيار ابن مالك في التسهيل. وقد بينته في شرحه. وهذا القدر كاف هنا. والله أعلم.

متى
المشهور فيها أنها اسم من الظروف، تكون شرطاً واستفهاماً. وإنما ذكرتها هنا لأنها تكون حرف جر بمعنى من، في لغة هذيل، كقول الشاعر:
شربن بماء البحر، ثم ترفعت ... متى لجج، خضر، لهن نئيج
أي: من لجج. ومن كلامهم: أخرجها متى كمه، أي: من كمه. والله سبحانه أعلم.
نعم
حرف، من حروف الجواب. وفيها ثلاث لغات: نعم، بفتح العين. ونعم، بكسرها، وهي لغة كنانة، وبها قرأ الكسائي. ونحم، بإبدال عينها حاء. حكاها النضر بن شميل، وبها قرأ ابن مسعود.
وهي لتصديق مخبر، أو إعلام مستخبر، أو وعد طالب. فالأول كقولك نعم لمن قال: قام زيد. والثاني كقولك نعم لمن قال: هل جاء زيد؟ والثالث كقولك نعم لمن قال: اضرب زيداً. أي: نعم أضربه. والنفي كالموجب. والسؤال عن النفي كالنفي. ففي الموجب والسؤال عنه تصديق الثبوت. وفي النفي والسؤال عنه تصديق النفي، وتقدم الفرق بينها وبين بلى.
وزعم بعض النحويين أن نعم تحكون حرف تذكير، لما بعدها. وذلك إذا وقعت صدر الجملة بعدها، نحو: نعم هذه أطلالهم. وهذا يحتمل التأويل.
وعبارة سيبويه فيها قوله نعم عدة وتصديق.
قال بعض النحويين: يعني أنها إن كان قبلها طلب فهي عدة، لا غير. وإن كان قبلها خبر فهي تصديق، لا غير. والله أعلم.
نحن وهما وهن
إذا وقعت فصلاً. فيها خلاف، تقدم ذكره. والله أعلم.
هيا
حرف نداء، ينادي بها البعيد مسافة أو حكماً. قال الشاعر:
هيا أم عمرو، هل لي اليوم عندكم ... بغيبة أبصار الوشاة، سبيل؟

واختلف النحويون في هائها، فقيل: هي بدل من همزة أيا. وهو قول ابن السكيت، وابن الخشاب. وقيل: هي أصل لا بدل. وتقدم مذهب من قال: إن يا وأخواتها أسماء أفعال. والله سبحانه وتعالى أعلم.

الباب الرابع
في الرباعي
وهو ضربان: متفق عليه، ومختلق فيه. وجملته تسعة عشر حرفاً: إذ ما، وألا، وإلا، وأما، وإما، وأنتم، وإيا، وأيمن، وحتى، وحاشا، وكأن، وكلا، ولعل، ولكن، ولما، ولولا، ولوما، ومهما، وهلا وأنا أذكرها على هذا التريب. إن شاء الله تعالى.
إذ ما
حرف شرط، عند سيبويه، تجزم فعلين مثل إن الشرطية. وتقدم ذكرها في أقسام إذ. وإنما ذكرتها في الرباعي، وفاقاً لمن عدها فيه، لكونها تركبت مع ما فصارا كأنهما كلمة واحدة.
ألا بفتح الهمزة والتشديد
حرف تحضيض لا عمل لها. وهي مختصة بالأفعال، كسائر أحرف التحضيض. فلا يليها إلا فعل، نحو: ألا فعلت. أو معمول فعل ظاهر، نحو: ألا زيداً ضربت. أو مضمر، نحو: ألا زيداً ضربته.
وقال بعض النحويين: يجوز مجيء الجملة الأسمية، بعد أدوات التحضيض، كقول الشاعر:
فهلا نفس ليلى شفيعها
ولا حجة في هذا البيت. ويأتي بيان ذلك في هلا.
قال بعضهم: وألا يحتمل أن يكون أصلها هلا، فأبدلت الهاء همزة. وقال بعضهم: الهاء في هلا بدل من همزة ألا، ولا يصح العكس، لأن إبدال الهاء من الهمزة أكثر من إبدال الهمزة من الهاء. فالحمل على الأكثر أولى.
واعلم أن ألا قد تكون مركبة من أن الناصبة للفعل، أو المخففة، ولا النافية، فتعد حرفين، لا حرفاً واحداً كقوله تعالى " ألا تعلوا " . وقد أجازوا في أن هذه أن تكون مصدرية ناصبة للفعل، ومخففة من الثقيلة، ومفسرة. وذلك واضح. والله أعلم.
إلا بكسر الهمزة والتشديد
حرف استثناء. هذا معناها المشهور. وقد تكون بمعنى غير، وبمعنى الواو عند الأخفش، والفراء، وعاطفة تشرك في الإعراب، لا في الحكم، عند الكوفيين، وزائدة عند الأصمعي، وابن جني. فهذه خمسة أقسام.
الأول: أن تكون حرف استثناء، نحو: قام القوم إلا زيداً. إلا هذه، التي يستثنى بها، أحكام كثيرة. ونذكر هنا ما تدعو الحاجة إلى ذكره، في سبع مسائل: الأولى: في حد الاستثناء: وهو إخراج ب إلا، أو إحدى أخواتها، تحقيقاً أو تقديراً. فالإخراج جنس، وبإلا أو إحدى أخواتها مخرج للتخصيص بالنعت، ونحوه. والمراد بالمخرج تحقيقاً: المتصل، وبالمخرج تقديراً: المنقطع، نحو " ما صم، من علم، إلا اتباع الظن " . فإن الظن، وإن لم يدخل في العلم، فهو في تقدير الداخل فيه. إذ هو مستخضر بذكره، لقيامه مقامه في كثير من المواضع. ولذلك لم يحسن استثناء الأكل والشرب بعد العلم، إذ لا يشعر بهما، بخلاف الظن. قال ابن السراج: إذا كان الاستثناء منقطعاً فلا بد أن يكون الكلام الذي قبل إلا قد دل على ما يستثنى. فتأمله، فإنه يدق.
الثانية: في المستثنى منه: وهو المخرج منه، مذكوراً كان، نحو: قام القوم إلا زيداً، أو متروكاً، نحو: ما قام إلا زيد، أي: ما قام أحد. وشرطه ألا يكون مجهولاً؛ فلا يصح استثناء معلوم من مجهول، نحو: قام رجال إلا زيداً، ولا استثناء مجهول من مجهول، نحو قام رجال إلا رجلاً. لأن فائدة الاستثناء إخراج الثاني من الأول، لكونه لو لم يستثن لكان ظاهره أنه داخل فيما دخل فيه الأول. وإذا كان المستثنى منه مجهولاً لم يكن كذلك.
الثالثة: في المستثنى، وهو المخرج: وهو ضربان متصل، ومنقطع. لأنه إن كان بعض الأول فهو متصل، وإن لم يكن بعضه فهو منقطع. قال ابن مالك: وذكر البعضية أولى من ذكر الجنسية، لأن المستثنى قد يكون بعدما هو من جنسه، وهو منقطع، كقولك قام بنوك إلا ابن زيد.

الرابعة: في مقدار المستثنى: ذهب أكثر البصريين إلى أن ما دون النصف. فلا يجوز عندهم استثناء النصف، ولا استثناء الأكثر. وذهب بعضهم إلى جواز استثناء النصف. فيجيزون: عندي عشرة إلا خمسة. وذهب الكوفيون إلى جواز استثناء الأكثر. ووافقهم ابن مالك. والخلاف إنما هو في الاستثناء المتصل. واستدل من أجاز استثناء النصف، بقوله تعالى " قم الليل إلا قليلاً، نصفه " ، لأن نصفه بدل من قليلاً، والضمير عائد على الليل. وأطلق على النصف قليل، والمعنى: قم نصف الليل أو أقل أو أكثر. قاله ابن خروف. واستدل من أجاز استثناء الأكثر بقوله تعالى " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، إلا من اتعبك، من الغاوين " . ومعلوم أن الغاوين أكثر. وتأويل المانعون هاتين الآيتين ونحوهما وأجمع النحويون على أن المستثنى لا يكون مساوياً للمستثنى منه، ولا أزيد.
الخامسة: في معنى الإخراج: قلل الكسائي: الإخراج من الأسم وحده. فإذا قلت: قلم القوم إلا زيداً، فكأنك قلت: قام القوم الذين بعض منهم زيد. ولم تتعرض للإخبار عن زيد بقيام ولا غيره. فيحتمل أن يكون قد قام، وأن يكون غير قائم. وذهب الفراء إلى أن الإخراج من الفعل فإذا قلت: قام القوم إلا زيداً لم تخرج زيداً من القوم، وإنما أخرجت إلا وصفه من القوم. وذهب سيبويه إلى أن إلا أخرجت الأسم من الأسم، والفعل من الفعل. إذ لم يقم دليل على حمل الاستثناء على أحدهما دون الآخر. فإن قلت: قام القوم إلا زيداً، كنت قد استثنيت زيداً من القوم، وقيامه من قيامهم. وهذا هو الصحيح: والخلاف في المتصل.
السادسة: في إعراب المستثنى بإلا: اعلم أن المستثنى بإلا له حالان: أحدهما أن يفرغ له العامل، والآخر أن يشغل العامل بغيره. ويسمى الأول التفريغ، والثاني التمام.
وحكمه، في التفريغ، كحكمه لو لم يوجد إلا، كقولك: ما قام إلا زيد. فزيد فاعل قام كقولك: ما قام زيد. ولا أثر إلا في ذلك. ولا يكون التفريغ إلا بعد نفي، أو شبهه. ويكون في جميع المعمولات، إلا المصدر المؤكد. وأما قوله " إن نظن إلا ظناً " فمتأول على حذف الصفة، أي: إلا ظناً ضعيفاً. وقد قيل فيه غير ذلك.
وأما في التمام فله أقسام: قسم يب نصبه، وهو المستثنى بعد الإيجاب، نحو: قام القوم إلا زيداً.
وقسم يجوز نصبه، وإبداله من المستثنى منه، والإبدال أرجح. وهو المستثنى بعد النفي وشبهه، إذا كان متصلاُ، نحو " ما فعلوه إلا قليل منهم " .
وقسم يجوز نصبه وإبداله، والنصب أرجح. وهو المنقطع، إذا وقع بعد نفي أو شبهه، بشرط أن يصح إغناؤه من المستثنى منه. نحو " ما لهم به من علم، إلا اتباع الظن " . فهذا فيه لغتان: لغة الحجازيين أن نصبه واجب، ولغة بني تميم جواز نصبه وإبداله، ويقرؤون " إلا اتباع الظن " بالرفع. قال بعضهم: والنصب عندهم أرجح. فإن لم يصح إغناؤه عن المستثنى منه تعين نصبه عند الجميع. وهو كل استثناء منقطع، لا يجوز فيه تفريغ ما قبل إلا للإسم الواقع بعدها. نحو: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر.
هذا كله حكم المستثنى، إذا كان مؤخراً. فإن تقدم على المستثنى منه وجب نصبه مطلقاً. وأما نحو: مالي إلا أخوك ناصر، فمؤول على التفريغ، وناصر بدل. وقد اختصرت هذا الفصل، لشهرة أحكامه.
السابعة: في ناصب المستثنى: اعلم أن في ناصب المستثنى أقوالاً كثيرة: أحدها أن ناصبه إلا. واختاره ابن مالك. قال: وهو مذهب سيبويه، والمبرد، والجرجاني. وقد خفي كون هذا مذهب سيبويه، على كثير من شراح كتابه.
وثانيها أن الناصب ما قبل إلا من فعل أو غيره، بتعدية إلا. قال ابن عصفور: وهو مذهب سيبويه، والفارسي، وجماعة. وقال الشلوبين: هو مذهب المحققين.
وثالثها أن الناصب ما قبل إلا مستقلاً. وهو مذهب ابن خروف. واستدل على ما ذهب إليه بما فهمه من كتاب سيبويه.
ورابعها أن الناصب أستثني مضمراً بعد إلا. حكاه السيرافي عن المبرد، والزجاج.
وخامسها أن الناصب أن مقدرة بعد إلا. والتقدير: إلا أن زيداً لم يقم. حكاه السيرافي عن الكسائي.
وسادسها أن الناصب إن المكسورة المخففة، مركباً منها ومن لا: إلا. حكاه السيرافي أيضاً عن الفراء.
وسابعها: أن الناصب له مخالفته للأول. ونقل عن الكسائي.

وهذه أقوال، أكثرها ظاهر البعد. وأظهرها الأول والثاني. وقد بسطت الكلام عليها، في غير هذا الكتاب. وذكر بعض المتأخرين قولاً ثامناً، وهو أن المستثنى ينتصب عن تمام الكلام. فالعامل فيه ما قبله من الكلام، بدليل قولهم: القوم إخوتك إلا زيداً. وليس ههنا فعل، ولا ما يعمل عمله. قال: وهو مذهب سيبويه، وهو الصحيح.
فهذا ما يتعلق بالقسم الأول من أقسام إلا على سبيل الاختصار.
القسم الثاني: التي بمعنى غير: اعلم أن أصل إلا أن تكون استثناء، وأصل غير أن تكون صفة. وقد تحمل إلا على غير، فيوصف بها، كما حملت غير على إلا فاستثنى بها. وللموصوف بإلا شرطان: أحدهما أن يكون جمعاً أو شبهه، والآخر أن يكون نكرة أو معرفاً بأل الجنسية، كقوله تعالى " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " ، فإن قلت: كيف يوصف بإلا وهي حرف؟ قلت: التحقيق أن الوصف إنما هو بها وبتاليها، لا بها وحدها. ولذلك ظهر الإعراب في تاليها. ومن قال: إن إلا يوصف بها، فقد تجوز في العبارة. وإنما صح أن يوصف بها وبتاليها لأن مجموعهما يؤدي معنى الوصف، وهو المغايرة.
واعلم أن إلا التي يوصف بها تفارق غيراً من وجهين: أحدهما أن موصوفها لا يحذف وتقام هي مقامه؛ فلا يقال: جاءني إلا زيد، بخلاف غير. والآخر أنها لا يوصف بها إلا حيث يصح الاستثناء؛ فلا يجوز: عندي درهم إلا جيد، بخلاف غير.
القسم الثالث: التي بمعنى الواو. وهذا قسم نفاه الجمهور، وأثبته الفراء، والأخفش، وأبو عبيدة معمر بن المثنى. وجعلوا من ذلك قوله " لئلاً يكون للناس عليكم حجة، إلا الذين ظلموا منهم " ، أي: ولا الذين ظلموا، وقول الشاعر:
ما بالمدينة دار، غير واحدة ... دار الخليفة، إلا دار مروانا
وقول الآخر:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك، إلا الفرقدان
أي: ودار مروان، والفرقدان. والمعنى أنهما يفترقان. ولا حجة فيما استدلوا به. وتأويله ظاهر.
القسم الرابع: التي هي عاطفة لا بمعنى الواو، بل تشرك في الإعراب لا في الحكم. هذا القسم لم يقل به إلا الكوفيون. فإنهم يجعلون إلا عاطفة، في نحو: ما قام أحد إلا زيد، مما وقع بعد النفي وشبهه. والبصريون يعربون ذلك بدلاً، كما سبق. ورد ثعلب قول البصريين، بان الأول منفي عن القيام، والثاني مثبت له، والبدل يكون على وفق المبدل منه، في المعنى.
ورد مذهب الكوفيين بأن إلا لو كانت عاطفة لم تباشر العامل، في نحو: ما قام إلا زيد. وأجيب، عما قاله ثعلب، بأن هذا من بدل البعض، وبدل البعض الثاني فيه مخالف للأول، في المعنى؛ ألا ترى أنك إذا قلت: رأيت القوم بعضهم، كان قولك أولاً رأيت القوم مجازاً، ثم بينت من رأيته منهم.
القسم الخامس: التي هي زائدة. هذا قسم غريب، قال به الأصمعي، وابن جني، في قول الشاعر:
حراجيح، ما تنفك إلا مناخة ... على الخسف، أو نرمي بها بلداً، قفرا
أي: ما تنفك مناخة، وإلا زائدة، لأن ما زال وأخواتها لا تدخل إلا على خبرها. لأن نفيها إيجاب، فلا وجه لدخول إلا وهذا قول ضعيف، فإن إلا لم تثبت زيادتها. وقد خرج البيت على وجهين: أحدهما أن تنفيك تامة، وهي مطاوع فكه إذا خلصه أو فصله. ومناخة حال. والثاني أنها ناقصة والخبر قوله على الخسف، ومناخة حال من الضمير المستكين في الجار. وهذا قول الفراء.
ومن أغرب ما قيل في إلا أنها قد تكون بمعنى بعد. وجعل هذا القائل من ذلك قوله تعالى " إلا الذين ظلموا منهم " ، وقوله " إلا ما قد سلف " ، وقوله " إلا الموتة الأولى " .
وأما إلا في نحو قوله تعالى " إلا تفعلوه تكن فتنه في الأرض، وفساد كبير " ، و " إلا تنصروه فقد نصره الله " ، فهي مركبة من إن الشرطية، ولا النافية. وهي حرفان، لا حرف واحد. وأمرها واضح. والله سبحانه وتعالى أعلم.

أمتا بفتح الهمزة
حرف بسيط، فيه معنى الشرط، مؤول بمهمها يكن من شيء، لأنه قائم مقام أداة الشرط وفعل شرط. ولذلك يجاب بالفاء. وقال ابن مالك وغيره: أما حرف تفصيل. وقال بعض النحويين: إنها قد ترد حيث لا تفصيل فيه، كقولك: أما زيد فمنطلق. ولذلك قال بعضهم: هي حرف إخبار مضمن معنى الشرط. فإذا قلت: أما زيد فمنطلق، فالأصل إن أردت معرفة حال زيد فزيد منطلق، حذفت أداة الشرط وفعل الشرط، وأنيبت أما مناب ذلك.

والجمهور يقدرون أما بمهما يكن من شيء، كما تقدم. فإذا قلت: أما زيد فمنطلق، فالتقدير: مهما يكن من شيء فزيد منطلق. فحذف فعل الشرط وأداته، وأقيمت أما مقامهما، فصار التقدير: أما فزيد منطلق. فأخرت الفاء إلى الجزء الثاني، لضرب من إصلاح اللفظ.
قال صاحب رصف المباني: ولا يلزم تكريرها، خلافاً لبعضهم. فإنه يرى أن التفصيل لا يكون إلا بتكرار الفصل بينه وبين الأول. وهذا غير لازم. اللهم، إن كان في اللفظي فنعم. وأما المعنوي فلا يلزم. انتهى.
وذهب ثعلب إلى أن أما جزءان، وهي إن الشرطية وما، حذف فعل الشرط بعدها، ففتحت همزتها مع حذف الفعل، وكسرت مع ذكره.
ولأما أحكام: فمنها أن الفاء بعدها لازمة لا تحذف، إلا مع قول أغنى عنه المحكي به، كقوله تعالى " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم " . أي: فيقال لهم أكفرتم. أو في ضرورة شعرية، كقول الشاعر:
فأما القتال لا قتال لديكم ... ولكن سيراً، في عراض المواكب
قيل: أو في ندور، كما جاء في صحيح البخاري: أما بعد ما بال رجال. أي فما بال رجال.
ومنها أنه لا يجوز أن يفصل بين أما والفاء بجملة، إلا إن كانت دعاء، بشرط أن يتقدم الجملة فاصل بينها وبين أما. نحو: أما اليوم، رحمك الله، فالأمر كذا.
ولا يلي أما فعل، لأنها قائمة مقام شرط وفعل شرط. فلو وليها فعل لتوهم أنه فعل الشرط. وإنما يليها مبتدأ، نحو: أما زيد فقائم. أو خبر، نحو: أما قائم فزبد. وفي كتاب الصفار أن الفصل بينهما بالخبر قليل. أو مفعول مقدم، نحو " فأما اليتيم فلا تقهر " . أو مفعول بفعل مقدر، يفسره المذكور، نحو: أما زيداً فأكرمته. أو ظرف، نحو: أما اليوم فأقوم. أو مجرور، نحو وأما بنعمة ربك فحدث " . أو حال، نحو: أما مسرعاً فزيد ذاهب. أو مفعول له، نحو: أما العلم فعالم. أو مصدر، نحو: أما ضرباً فاضرب. أو شرط، نحو " فأما إن كان من المقربين فروح " .
ومذهب سيبويه أن الجواب في ذلك لأما، لا للشرط، وحذف جواب الشرط، لدلالة جواب أما عليه. ولذلك لزم معنى جواب أما عليه. وذهب الفارسي، في أحد قوليه، إلى أن الجواب للشرط، وجواب أما محذوف. وقوله الآخر كمذهب سيبويه. وذهب الأخفش إلى أن الفاء وما بعدها جواب لأما وللشرط معاً. والأصل: مهما يكن م شيء فإن كان من المقربين فروح. ثم تقدمت إن والفعل الذي بعدها، فصار التقدير: فأما إن كان من المقربين ففروح. فالتقت فاءان، فأغنت إحداهما عن الأخرى، فصار فروح.
ومنها أن الفاء، الواقعة جواباً لها، يجوز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها. وهذا متفق عليه في الجملة. واختلفوا في شرط ذلك. فذهب سيبويه، والمازني، والزجاج، وابن السراج، إلى اعتبار ذلك بأن يقدر حذف أما وحذف الفاء. فما جاز أن يعمل فيه، بعد تقدير حذفهما، جاز أن يعمل فيه مع وجودهما. وما لا فلا. فلذلك منعوا: أما زيداً فإني ضارب. وذهب المبرد، وابن درستويه، إلى أن ما بعد إن يجوز أن يعمل فيما قبل الفاء. فأجازا: أما زيداً فإني ضارب. وقيل: يجوز ذلك في الظرف والمجرور، نحو: أما اليوم فإني ذاهب، وأما في الدار فإن زيداً جالس. وأجاز الفراء تقديم معمول ما بعد إن على الفاء، وفاقاً للمبرد. وزاد أنه أجاز ذلك في ليت ولعل وكل ما يدخل على المبتدأ.
ومنها أنها قد تبدل ميمها الأولى ياء، فيقال أيما. وأنشدوا:
رأت رجلاً، أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى، وأما بالعشي فيخصر
ومنها أن أما قد تعمل في الظرف، والحال، والمجرور. قيل: والتحقيق أن العمل للفعل الذي نابت عنه. فإذا قلت: أما علماً فعالم، فعلماً حال، وعاملها فعل الشرط المحذوف، وصاحبها هو المرفوع بفعل الشرط. وفي هذه المسألة طول، لا يليق بهذا الموضع.
ويشتبه بلفظ أما التفصيلية لفظان آخران: أحدهما مركب من أم المنقطعة وما الاستفهامية، كقوله تعالى " أماذا كنتم تعملون " . والآخر مركب من أن المصدرية وما التي هي عوض من كان، كقول الشاعر.
أبا خراشة، أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع
والله أعلم.

إما بكسر الهمزة

حرف من حروف العطف، عند أكثر النحويين هكذا نقل ابن مالك عنهم. ونقل عن يونس، وأبي علي، وابن كيسان، أنها ليست بعاطفة. قال: وبه أقوال، تخلصاً من دخول عاطف على عاطف، ولأن وقوعها بعد الواو، مسبوقة بمثلها، شبيه بوقوع لا بعد الواو مسبوقة بمثلها، في مثل: لا زيد ولا عمرو فيها. ولا هذه غير عاطفة، بإجماع. فلتكن إما كذلك.
ونقل ابن عصفور اتفاق النحويين على أن إما ليست بعاطفة، وإنما أوردوها في حروف العطف، لمصاحبتها لها. قلت: عد سيبويه إما من حروف العطف، فحمل بعضهم كلامه على ظاهره، وقال: الواو رابطة بين إما الأولى وإما الثانية. واستدل الرماني، على أنها عاطفة، بأن الواو للجمع، وليست هنا كذلك، لأنا نجد الكلام لأحد الشيئين، فعلم أن العطف لإما. وقال بعض المتأخرين: الواو عطفت إما الثانية على إما الأولى، وإما الثانية عطفت الأسم الذي بعدها على الأسم الذي بعد الأولى. وتأول بعضهم كلام سيبويه بأن إما لما كانت صاحبة المعنى، ومخرجة الواو عن الجمع، والتابع يليها، سماها عاطفة مجازاً.
وهذا الخلاف إنما هو في إما الثانية، في نحو: قام إما زيد وإما عمرو. ولا خلاف في أن الأولى غير عاطفة، لأنها بين الفعل ومرفوعة. وذلك واضح.
ويتعلق بإما مسائل: الأولى: في معناها، وهي خمسة: الشك نحو: قام إما زيد وإما عمرو. والإبهام نحو " وآخرون مرجون لأمر الله، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم " . والتخيير نحو " إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً " . والإباحة نحو: جالس إما الحسن وإما ابن سيرين. والتفصيل نحو " إما شاكراً وإما كفوراً " .
وتقدم الفرق بين الشك والإبهام، وبين التخيير والإباحة، في أو. وإما في ذلك مثل أو. وزاد بعضهم أو وإما معنى سادساً. وهو أن تكونا لإيجاب أحد الشيئين، في وقت دون وقت. نحو قولك للشجاع: إنما أنت إما طعن وإما ضرب.
الثانية: في الفرق بين أو وإما. والفرق بينهما من ثلاثة أوجه. الأول: أن أو قد تكون بمعنى الواو وبمعنى بل، عند بعضهم، كما تقدم. وإما لا تكون كذلك. والثاني: أن إما لا بد من تكرارها، في الغالب، بخلاف أو، فإنها لا تكرر. والثالث: أن الكلام مع إما مبني من أوله على ما جيء بها لأجله، من شك وغيره، بخلاف أو فإن الكلام معها قد يفتتح على الجزم، ثم يطرأ الشك أو غيره. ولهذا وجب تكرار إما في غير ندور.
الثالثة: قد يستغنى عن الثانية بأو. كقراءة من قرأ " وإنا أو إياكم لإما على هدى، أو في ضلال مبين " . وهو في الشعر كثير، كقول الشاعر:
وقد شفني أن لا يزال يروعني ... خيالك، إما طارقاً، أو مغاديا
وقد يستغنى عنها أيضاً بإن الشرطية، مع لا النافية، كقول الشاعر:
فإما أن تكون أخي، بصدق ... فأعرف منك غثي، من سميني
وإلا فاطر حني، واتخذني ... عدواً، أتقيك، وتتقيني
ونص النحاس على أن البصريين لا يجيزون فيها إلا التكرار. وأجاز الفراء ألا تكرر، وأن تجرى مجرى أو. وقال الفراء: يقولون: عبد الله يقوم وإما يقعد.
وقال ابن مالك: وقد يستغنى عن الأولى بالثانية، كقول الشاعر:
تهاض بدار، قد تقادم عهدها ... وإما بأموات ألم خيالها
أي إما بدار، فحذف. وربما استغني عن واو وإما كقول الشاعر:
يا ليتما أمنا شالت نعامتها ... إما إلى جنة، إما إلى نار
وهو نادر.
الرابعة: اختلف في إما هذه. فقيل: بسيطة. واختاره الشيخ أبو حيان، لأن الأصل البساطة. وقيل: هي مركبة من إن وما. وهو مذهب سيبويه. والدليل عليه اقتصارهم على إن في الضرورة، كقول الشاعر:
وقد كذبتك نفسك، فاكذبنها ... فإن جزعاً، وإن إجمال صبر
أي: فإما جزعاً، وإما إجمال صبر. فحذفت ما اكتفي بإن. وأجيب بأنه يحتمل أن تكون إن في البيت شرطية حذف جوابها. والتقدير: فإن كنت ذا جزع فاجزع، إن كنت مجمل صبر فاصبر.
وعلى القول بالتركيب قالوا: قد تحذف إما الأولى، تحذف ما من الثانية، كقول الشاعر:
سقته الرواعد، من صيف ... وإن من خريف فلن يعدما

أي: إما من صيف، وإما من خريف. على ذلك أنشده سيبويه. وذهب الأصمعي، والمبرد، إلى أن إن في البيت شرطية، والفاء فاء الجواب، والتقدير: وإن سقته من خريف فلن يعدم الري، وذهب أبو عبيدة إلى أن إن زائدة، والتقدير: من صيف ومن خريف.
الخامسة: في إما أربع لغات: كسر الهمزة، وفتحها، وإبدال ميمها الأولى ياء مع الكسر، والفتح. وفتح همزتها لغة قيس وتميم وأسد. وبالإبدال أنشدوا:
لا تفسدوا آبالكم ... إيما لنا، إيما لكم
السادسة: ذهب الكسائي إلى أن إما قد تكون جحداً. تقول: إما زيد قائم. تريد: إن زيد قائم. وما صلة.
وتشتبه بلفظ إما المتقدمة إما المركبة من إن الشرطية وما الزائدة. نحو " إما تخافن من قوم خيانة فاسد إليهم " . وهي ظاهرة. والله سبحانه أعلم.

أنتم
إذا وقع فصلاً. فيه خلاف تقدم ذكره في نظائره.
إيا في إياك وأخواته
للنحويين فيها مذاهب: الأول: أن إيا اسم مضمر، ولواحقه - أعني الياء، والكاف، والهاء - حروف تبين أحوال الضمير، من تكلم، وخطاب، وغيبة. وهو مذهب سيبويه، واختاره الفارسي، وابن جني. ونسبه صاحب البديع إلى الأخفش.
الثاني: أن إيا اسم مضمر، ولواحقه ضمائر. وهو مضاف إليها. ولا يعلم ضمير أضيف، غيره وهذا مذهب الخليل، والمازني. واختاره ابن مالك، ونسبه إليهما، وإلى الأخفش.
الثالث: أن إيا اسم ظاهر مبهم، ولواحقه ضمائر مجرورة بإضافته إليها. وهو مذهب الزجاج.
الرابع: أن إياك بكماله اسم واحد مضمر. ونسب للكوفيين.
الخامس: أن إياك بكماله اسم واحد، ظاهر مبهم. حكاه بعضهم. وهو غريب.
السادس: أن إيا دعامة، تعتمد عليها اللواحق، لتفصل عن المتصل. وهو مذهب الفراء. ولم يصرحوا بأن هذه الدعامة، عند الفراء، اسم أو حرف. ولكنهم ردوا عليه بما يدل على أنها اسم. فإنهم قالوا: إن جعل أيا دعامة فاسد، لأن الأسم لا يسوغ أن يكون دعامة. وصرح صاحب رصف المباني بأن إيا حرف. قال: لأنه لا معنى له في نفسه. وإنما معناه في غيره، كسائر الحروف. ومعناه هنا الاعتماد عليه في النطق بالمضمر المتصل.
وقد بسطت الكلام على هذه المسألة، في غير هذا الكتاب. وإنما ذكرت إيا هنا، لأجل القول بحرفيتها.
وعلى هذه الأقوال كلها فليست مشتقة. وذهب أبو عبيدة إلى أنه مشتق. وهو ضعيف. قالوا: ولم يكن أبو عبيدة يحسن النحو، وإن كان إماماً في اللغة وأيام العرب. وعلى القول بالاشتقاق فمن أي شيء اشتق؟ فيه أقوال، لا نطول بذكرها. والله أعلم.
أيمن المستعمل في القسم
ذهب الزجاج، والرماني، إلى أنه حرف جر. وشذا في ذلك. وذهب الجمهور إلى أنه اسم، ثم اختلفوا.
فقال سيبويه، والبصريون: إنه اسم مفرد، همزته همزة وصل مفتوحة، كهمزة لام التعريف. وهو مشتق من اليمن. وقد حكي كسر همزته.
وقال الكوفيون: هو جمع يمين. واعتذروا عن وصل همزته، بكثرة الاستعمال. على أن أبا الحسن قد حكى قطعها. وقولهم في ذلك ضعيف، لثلاثة أوجه الأول: أن هذا همزته همزة وصل وأيمن الذي هو جمع يمين همزته قطع، كقول زهير:
فتجمع أيمن، منا، ومنكم ... بمقسمة، تمور بها الدماء
والظاهر أنه غيره، ولا عدول عن الظاهر بلا دليل. الثاني: من العرب من يكسر همزته، في الابتداء. وهمزة الجمع لا تكسر. الثالث: أن من العرب من يفتح ميمه، فيكون على وزن افعل. ولا يوجد ذلك في الجموع. وذكر بعضهم وجهاً رابعاً. وهو أنه لو كان جمع يمين لجاز فيه من الإعراب ما جاز في مفرده، من النصب، والرفع. واعترض بأنهم قد يخصون بعض الألفاظ بأحكام. واحتج الكوفيون بأن همزته مفتوحة، وهمزة الوصل في الأسماء لا تكون مفتوحه. وبأن أفعل بناء جمع، ولا يوجد في الآخاد.
وقال الشلوبين: أيمن مغير كامرئ وابن. فلا يطالب بوزنه، كما لا يطالب بوزن امرئ. إذ ليس في الكلام مثله. قال ابن طاهر: وهو مغير عند سيبويه من يمين. وقال غيره: هو مغير من فعل اسم مشتق من اليمين، كامرئ مغير من مرء. وقال الأخفش: إن سميت بأيمن، ثم صغرته، قلت: يمين. قال ابن خروفك وهو قول صحيح.
ويتعلق بأيمن مسألتان:

الأولى في حكمه. وهو اسم، يلزمه الرفع بالابتداء. وأجاز ابن درستويه جره بواو القسم، نحو: وأيمن الله. وقد تدخل عليه لام الابتداء. ويلزم الإضافة إلى اسم الله تعالى. وقد أضيف إلى الكعبة، في قولهم: أيمن الكعبة. وإلى الكاف، في قول عروة بن الزبير: ليمنك لئن ابتليت لقد عافيت. وإلى الذي، كقول النبي صلى الله عليه وسلم ويم الذي نفس محمد بيده. وقد أضيف إلى غير ذلك في الشعر؛ أنشد الكسائي:
ليمن أبيهم لبئس العذرة اعتذروا
الثانية في لغاتها. وهي عشرون لغة: أيمن، بفتح الهمزة وضم الميم. وهي المشهورة. وأيمن، بكسر الهمزة وضم الميم. وهي المشهورة. وأيمن، بكسر الهمزة وضم الميم. وايمن، بفتح الهمزة وفتح الميم. وأيم، بفتح الهمزة وحذف النون. وأيم، بكسر الهمزة وحذف النون. والميم مضمومة فيهما. وضم الميم في هاتين اللغتين علامة رفع. وام، بكسر الهمزة وضم الميم. وحكى بعضهم أم الله بضم الميم، وفتحها، وكسرها، ثلاث لغات. وأم الله بفتح الهمزة وضم الميم، أو كسرها، أو فتحها. ثلاث لغات. وأم الله بفتح الهمزة وضم الميم، أو كسرها، أو فتحها. ثلاث لغات. ومن، بضم الميم والنون، أو فتحهما، أو كسرهما. وم الله بميم مضمومة، أو مفتوحة، أو مكسورة. وهيم الله بإبدال همزة أيم هاء. وأيم الله بهمزة مكسورة وميم مكسورة أيضاً. وكسرة الميم عند الأخفش بحرف قسم مقدر. وقيل: هو مبني. وهذه كلمة كثرت لغاتها، لكثرة استعمال العرب لها. والله أعلم.

حتى
حرف، له عند البصريين ثلاثة أقسام: يكون حرف جر، وحرف عطف، وحرف ابتداء. وزاد الكوفيون قسماً رابعاً، وهو أن يكون حرف نصب، ينصب الفعل المضارع. وزاد بعض النحويين قسماً خامساً، وهو أن يكون بمعنى الفاء. ولا بد من بيان هذه الأقسام واحداً واحداً.
الأول: حتى الجارة. ومعناها انتهاء الغاية. ومذهب البصريين أنها جارة بنفسها. وقال الفراء: تخفض، لنيابتها عن إلى. وربما أظهروا إلى بعدها. قالوا: جاء الخبر حتى إلينا. جمعوا بينهما على تقدير إلغاء أحدهما. ومجرورها إما اسم صريح، نحو " حتى حين " ، أو مصدر مؤول من أن والفعل المضارع، نحو " حتى يقول الرسول " ، لأن التقدير: حتى أن يقول.
هذا مذهب البصريين. وزاد ابن مالك، في أقسام مجرورها، أن يكون مصدراً مؤولا من أن وفعل ماض، نحو " حتى عفوا وقالوا " . قال الشيخ أبو حيان: ووهم في هذا، لأن حتى ههنا ابتدائية، وأن غير مضمرة بعدها.
ولمجرورها شرطان: الأول: أن يكون ظاهراً، فلا تجر الضمير هذا مذهب سيبويه، وجمهور البصريين. وأجازه الكوفيون، والمبرد، كقول الشاعر:
فلا، والله، لا يلفي أناس ... فتى، حتاك، يابن أبي يزيد
وهذا عند البصريين ضرورة.
والثاني: أن يكون آخر جزء، أو ملاقي آخر جزء. فمثال كونه آخر جزء: أكلت السمكة حتى رأسها. ومثال كونه ملاقي آخر جزء: سرت النهار حتى الليل. ولو قلت أكلت السمكة حتى نصفها، أو ثلثها لم يجز. قال الزمخشري: لأن الفعل المتعدي بها الغرض فيه أن ينقضي شيئاً فشيئاً، حتى يأتي عليه.
وقال ابن مالك: هذا لا يلزم. واستدل بقول الشاعر:
عينت ليلة، فما زلت حتى ... نصفها راجياً، فعدت يؤوسا
قال الشيخ أبو حيان: ولا حجة في هذا البيت، لأنه لم يتقدم حتى ما يكون ما بعدها جزءاً منه، ولا ملاقياً لآخر جزء منه. فلو صرح، في الجملة، بذكر الليل، فقال فما زلت راجياً وصلها تلك الليلة حتى نصفها كان حجة.
واختلف في المجرور بحتى هل يدخل فيما قبلها أو لا؟ فذهب المبرد، وابن السراج، وأبو علي، وأكثر المتأخرين، إلى أنه داخل. وقال ابن مالك: حتى لانتهاء العمل بمجرورها، أو عنده. يعني أنه يحتمل أن يكون داخلاً فيما قلبها، أو غير داخل، فإذا انتهى الضرب به. ويجوز أن يكون غير مضروب، انتهى الضرب عنده. وذكر أن سيبويه والفراء أشارا إلى ذلك. وحكى عن ثعلب أن حتى للغاية، والغاية تدخل وتخرج. يقال: ضربت القوم حتى زيد فيكون مرة مضروباً، ومرة غير مضروب. وحكى في الإفصاح عن الفراء، والرماني، أنهما قالا: يدخل ما لم يكن غير جزء، نحو: إنه لينام الليل حتى الصباح. قال: وصرح سيبويه بأن ما بعدها داخل فيما قبلها، ولا بد. لكنه مثل بما هو بعض.

فإن قلت: حتى وإلى كلاهما لانتهاء الغاية، فهل بينهما فرق؟ قلت: بينهما فروق: الأول: أن مجرور إلى يكون ظاهراً وضميراً، بخلاف حتى فإن مجرورها لا يكون ضميراً. الثاني: أن مجرور إلى لا يلزم كونه آخر جزء أو ملاقي آخر جزء. تقول: أكلت السمكة إلى نصفها. بخلاف حتى. الثالث: أن أكثر المحققين على أن إلى لا يدخل ما بعدها فيما قبلها بخلاف حتى.
القسم الثاني: حتى العاطفة، نحو: قدم الحجاج حتى المشاة، ورأيت الحجاج حتى المشاة، ومررت بالحجاج حتى المشاة. فهذه حرف عطف، تشرك في الإعراب والحكم. وقد روى سيبويه، وغيره من أئمة البصريين، والعطف بها. وخالف الكوفيون، فقالوا: حتى ليست بعاطفة. ويعربون ما بعدها، على إضمار عامل.
وللمعطوف بحتى شرطان: الأول: أن يكون بعض ما قبلها، أو كبعضه. فمثال كونه بعضاً: قدم الحجاج حتى المشاة. ومثال كونه كبعض: قدم الصيادون حتى كلابهم. وقد يكون مبايناً، فتقدر بعضيته بالتأويل، كقول الشاعر:
ألقى الصحيفة، كي يخفف رحله ... والزاد، حتى نعله ألقاها
لأن المعنى: ألقى ما يثقله حتى نعله. ولا يكون إلا واحداً من جمع، نحو: أكلت السمكة حتى رأسها. فلو قلت ضربت الرجلين حتى أفضلهما لم يجزم لأنه ليس جزءاً من أجزاء المعطوف، ولا واحداً من جمع.
قلت: هذا الشرط ذكره النحويون، في باب العطف، ولم أرهم ذكروه في باب الجر، إلا ابن مالك فإنه قال: ومجرورها، يعني حتى، إما بعض لما قبلها، من مفهم جمع إفهاماً صريحاً، أو غير صريح، وإما كبعض. قال: عنيت بالصريح كونه بلفظ موضوع للجمعية، فيدخل في ذلك الجمع الاصطلاحي واللغوي، كرجال وقوم. وعنيت بغير الصريح ما دل على الجمعية، بلفظ غير لها، كقوله تعالى " ليسجننه حتى حين " . فإن مجرور حتى فيه منتهى لأحيان، مفهومة، غير مصرح بذكرها. انتهى ما ذكره. وعندي فيه نظر. فإن المجرور بحتى قد يكون ملاقياً لآخر جزء. نحو: سرت النهار حتى الليل.
الثاني: أ، يكون غاية لما قبلها، في زيادة، أو نقص. والزيادة تشمل القوة والتعظيم. والنقص يشمل الضعف والتحقير. وقد اجتمعت الزيادة والنقص، في قول الشاعر:
قهرناكم، حتى الكماة، فإنكم ... لتخشوننا، حتى بنينا، الأصاغرا
فإن قلت: ما الفرق بين حتى الجارة وحتى العاطفة؟ قلت: الفرق بينهما من أوجه: الأول: أن العاطفة يدخل ما بعدها في حكم ما قبلها. وأما الجارة فقد يدخل وقد لا يدخل، كما سبق. فالذي بعد العاطفة يكون الانتهاء به. والذي بعد الجارة قد يكون الانتهاء به، وقد يكون الانتهاء عنده.
الثاني: أن العاطفة يلزم أن يكون ما بعدها غاية لما قبلها، في زيادة، أو نقص. وأما الجارة ففيها تفصيل؛ وهو أن مجرورها إن كان بعض ما قبله من مصرح به، وكان منتهى به، فهو كالمعطوف، في اعتبار الزيادة والنقص. وإن كان بعضاً لشيء لم يصرح به، نحو " ليسجننه حتى حين " ، أو كان منتهى عنده، لم يعتبر فيه ذلك.
الثالث: أنا ما بعده الجارة قد يكون ملاقياً لآخر جزء، بخلاف العاطفة، وقد تقدم.

تنبيه
قد ظهر، بما ذكرته، أن الجارة أعم، لأن كل موضع جاز فيه العطف يجوز فيه الجر، ولا عكس، لأن الجر يكون في مواضع لا يجوز فيها العطف. منها أن يقترن بالكلام ما يدل على أن ما بعدها غير شريك لما قبلها. نحو: صمت الأيام حتى يوم الفطر. فهذا يجب فيه الجر. ومنها ألا يكون قبلها ما يعطف عليه، نحو " حتى مطلع الفجر " ، و " حتى حين " . فيجب الجر أيضاً. قال ابن هشام في الإفصاح: اتفقوا على أنها لا يعطف بها، إلا حيث تجر، ولا يلزم العكس.
وتتعلق بحتى العاطفة مسائل، نذكرها مختصرة: الأولى: أن حتى بالنسبة إلى الترتيب كالواو، خلافاً لمن زعم أنها للترتيب، كالزمخشري.
الثانية: لا تكون حتى عاطفة للجمل. وإنما تعطف مفرداً على مفرد. وذلك مفهوم من اشتراط كون معطوفها بعض المعطوف عليه.
الثالثة: حيث جاز العطف والجر فالجر أحسن، إلا في نحو: ضربت القوم حتى زيداً ضربته فالنصب أحسن، وله وجهان: أحدهما أن تكون عاطفة، وضربته توكيداً. والآخر أن تكون ابتدائية، وضربته مفسراً لناصب زيد من باب الاشتغال.

الرابعة: إذا عطف بحتى على مجرور. قال ابن عصفور: الأحسن إعادة الجار، ليقع الفرق بين العاطفة والجارة. وقال ابن الخباز: لزم إعادة الجار، فرقاً بينها وبين الجارة. وقال ابن مالك في التسهيل: لزم إعادة الجار ما لم يتعين العطف. ومثل بعجبت من القوم حتى بنيهم. وفيه نظر.
القسم الثالث: حتى الابتدائية. وليس المعنى أنها يجب أن يليها المبتدأ والخبر. بل المعنى أنها صالحة لذلك. وهي حرف ابتداء، يستأنف بعدها الكلام، فيقع بعدها المبتدأ والخبر، كقول جرير:
فما زالت القتلى تمج دماءها ... بدجلة، حتى ماء دجلة أشكل
ويليها الجملة الفعلية، مصدرة بمضارع مرفوع، نحو " وزلزلوا حتى يقول الرسول " ، على قراءة الرفع، أو بماض، نحو قوله تعالى " حتى عفوا وقالوا " .
والجملة بعدها لا محل لها من الإعراب، خلافاً للزجاج. فإنه ذهب إلى أن حتى هذه جارة، والجملة في موضع جر بحتى. وهو ضعيف. قال ابن الخباز: لأنه يفضي إلى تعليق حرف الجر عن العمل، وذلك غير معروف.
وحتى هذه - أعني الابتدائية - تدخل على جملة مضمونها غاية لشيء قبلها، فتشارك الجارة والعاطفة، في معنى الغاية.
وقد اجتمعت الثلاثة، في قول الشاعر:
ألقى الصحيفة، كي يخفف رحلة ... والزاد، حتى نعله ألقاها
يروى بجر النعل على أن حتى جارة، وبنصها على وجهين: أحدهما أنها عاطفة، والآخر أنها ابتدائية، والنصب بفعل مقدر، يفسره الظاهر، من باب الاشتغال. والرفع على أنها ابتدائية، ونعله مبتدأ، وألقاها خبره. ويروى بالثلاثة أيضاً قول الآخر:
عممتهم بالندى، حتى غواتهم ... فكنت مالك ذي غي، وذي رشد
قال بعضهم: ومذهب البصريين أنه لا يجوز الرفع بالإبتداء، إلا إذا كان بعده ما يصلح أن يكون خبراً. فإن صح الرفع في غواتهم كان حجة على الجواز.
القسم الرابع: حتى الناصبة للفعل. هذا القسم أثبته الكوفيون. فإن حتى عندهم تنصب الفعل المضارع بنفسها. وأجازوا إظهار أن بعدها توكيداً. ومذهب البصريين أنها هي الجارة، والناصب أن مضمرة بعدها.
ويتعلق بها مسألتان: الأولى: في معناها. والمشهور أن لها معنيين: أحدهما الغاية، نحو " قالوا: لن نبرح عليه عاكفين، حتى يرجع إلينا موسى " . والثاني التعليل، نحو: لأسيرن حتى أدخل المدينة. وعلامة كونها للغاية أن يحسن في موضعها إلى أن وعلامة كونها للتعليل أن يحسن في موضعها كي.
وزاد ابن مالك في التسهيل معنى ثالثاً، وهو أن تكون بمعنى إلا أن، فتكون بمعنى الاستثناء المنقطع. كقول الشاعر:
ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود، وما لديك قليل
وهو معنى غريب، ذكره ابن هشام، وحكاه في البسيط عن بعضهم. وقول سيبويه في قولهم والله لا أفعل كذا إلا أن تفعل: والمعنى: حتى أن تفعل، ليس نصاً على أن حتى إذا انتصب ما بعدها تكون بمعنى إلا أن، لأن ذلك تفسير معنى. ولا حجة في البيت، لإمكان جعلها فيه بمعنى إلى.
الثانية: شرط الفعل المنصوب بحتى أن يكون مستقبلاً أو مؤولاً بالمستقبل. ومنه قراءة غير نافع " حتى يقول الرسول " . فهذا مؤول بالمستقبل. ومعنى ذلك أنه فعل قد وقع، ولكن المخبر يقدر اتصافه بالعزم عليه، حال الإخبار، فيصير مستقبلاً بالنسبة إلى تلك الحال، فينصب. وإذا كان الفعل حالاً، أو مؤولاً بالحال، رفع. فالحال نحو: سألت عنك حتى لا أحتاج إلى سؤال. والمؤول بالحال قراءة نافع " وزلزلوا حتى يقول " . والمراد بالمؤول بالحال أن يكون الفعل قد وقع، فيقدر اتصافه بالدخول فيه، فيرفع لأنه حال بالنسبة إلى تلك الحال.
وهنا تنبيهات: الأول: إذا كان الفعل حالاً، أو مؤولاً به، فحتى ابتدائية.
الثاني: علامة كونه حالاً، أو مؤولاً به، صلاحية جعل الفاء في موضع حتى. ويجب حينئذ كون ما بعدها فضلة، متسبباً عما قبلها.

الثالث: قد فهم من هذا أن الرفع يمتنع، في نحو: كان سيري حتى أدخلها، إذا جعلت ناقصة، لأنه لو رفع لكانت ابتدائية، فتبقى كان بلا خبر. وفي نحو: سرت حتى تطلع الشمس، لانتفاء السببية، خلافاً للكوفيين. وفي نحو: ما سرت، أو، أسرت حتى تدخل المدينة؟ مما يدل على حدث غير واجب، لأنه لو رفع لزم أن يكون مستأنفاً، مقطوعاً بوقوعه، وما قبلها سبب له. وذلك لا يصح، لأن ما قبلها منفي في نحو ما سرت، ومشكوك في وقوعه في نحو أسرت فيلزم وقوع المسبب مع نفي السبب، أو الشك فيه.
وأجاز الأخفش الرفع في نحو: ما سرت حتى أدخل المدينة. فقيل: هي مسألة خلاف بينه وبين سيبويه. وقيل: إنما أجازه على أن يكون أصل الكلام واجباً، ثم أدخلت أداة النفي على الكلام، بأسره. فنفيت أن يكون عنك سير كان عنه دخول. قال ابن عصفور: وهذا الذي قاله جيد، وينبغي ألا يعد خلافاً.
القسم الخامس: حتى التي بمعنى الفاء اعلم أنه قد تقدم، آنفاً، حتى إذا رفع المضارع بعدها لكونه حالاً، أو مؤولاً به، فهي كالفاء في إفادة معنى السببية. وتصلح الفاء في موضعها، ولكنها مع ذلك حرف ابتداء، لا حرف عطف، لأن حتى العاطفة لا تعطف الجمل عند الجمهور.
وذهب أبو الحسن إلى أنها إذا كانت بمعنى الفاء فهي عاطفة، وتعطف الفعل. وذلك إذا دخلت على الماضي، أو المستقبل، على جهة وتعطف الفعل على الفعل. وذلك إذا دخلت على الماضي، أو المستقبل، على جهة السبب. نحو: ضربت زيداً حتى بكى. ولأضربنه حتى يبكي. وثمرة الخلاف أن الأخفش يجيز الرفع في يبكي، على العطف، والجمهور لا يجيزون فيه إلا النصب.
ويتعلق به حتى فروع كثيرة. وفيما ذكرته كفاية.

فائدة
في حتى ثلاث لغات: المشهورة، وإبدال حائها عيناً، وهي لغة هذيلية، وبها قرأ ابن مسعود " ليسجننه حتى حين " ، وإمالة ألفها، وهي لغة يمنية. والله سبحانه وتعالى أعلم.
حاشا
لها ثلاثة أقسام: الأول: أن تكون فعلاً ماضياً، بمعنى استثنى، ومضارعها أحاشي. كقول النابغة:
ولا أحاشي، من الأقوام، من أحد
وحكى ابن سيده أن حاشيت بمعنى: استثنيت، وأحاشي بمعنى: أستثني. ولا إشكال في فعلية هذه.
الثاني: أن تكون للتنزيه. كقوله: حاشى لزيد. وحاشى هذه ليس معناها الاستثناء، بل معناها التنزيه عما لا يليق بالمذكور. وقد يراد به تنزيه اسم، فيبتدرون تنزيه اسم الله تعالى، على جهة التعجب، والإنكار على من ذكر السوء فيمن لم يروه منه. وحاشى هذه - أعني التي للتنزيه - ليست حرفاً، بلا خلاف. كذا قال ابن مالك. وفيها قولان: أحدهما أنها فعل. وهو قول المبرد، والكوفيين. وبه قال ابن جني، وغيره، في قوله تعالى " وقلن: حاشى لله " . واستدلوا على فعليتها، بدخولها على الحرف، وبالتصرف فيها بالحذف. قلت: وهذان الوجهان يدلان على انتفاء حرفيتها - أما الأول فظاهر. وأما الثاني فلأن الحذف من الحروف قليل - ولكنهما لا يدلان على الفعلية، لأن الأسم يشارك الفعل، في هذين الأمرين.
ثم اختلف القائلون بفعليتها. فقال أكثرهم: فيها ضمير الفاعل. قدره بعضهم: حاشى يوسف نفسه من الفاحشة لله. وقيل: حاشى يوسف الفعلة لأجل الله. وهو بمعناه. وقال ابن عطية: حاشى يوسف لطاعته لله، أو لمكانته عند الله، أو لترفيع الله له أن يرمى بما رمته به، أو يدعى إلى مثله. لأن تلك أفعال البشر، وهو ليس منهم، إنما هو ملك.
وقال الفراء: حاشى فعل، ولا فاعل له. فإذا قلت: حاشى لله، فاللام موصولة بمعنى الفعل، والخفض بها. وإذا قلت: حاشى الله، بحذف اللام، فاللام مرادة، والخفض بها. وهذا قول ظاهر الضعف.
وثانيهما أنها اسم. وهو ظاهر قول الزجاج. وصححه ابن مالك. قال: الصحيح أنها اسم منتصب انتصاب المصدر، الواقع بدلاً من اللفظ بالفعل. فمن قال: حاشى لله، فكأنه قال: تنزيهاً لله. ويؤيد هذا قراءة أبي السمال " حاشى لله " بالتنوين. فهذا مثل قولهم: رعياً لزيد. وقراءة ابن مسعود " حاشى الله " بالإضافة. فهذا مثل: سبحان الله، ومعاذ الله. وقال الزمخشري في المفصل: وقولهم حاشى لله بمعنى براءة لله من السوء.

قلت: وخرج ابن عطية قراءة ابن مسعود على أنها حاشا الجارة. فإن قلت: إذا قلنا باسمية حاشى فما وجه ترك التنوين، في قراءة الجماعة، وهي غير مضافة؟ قلت: قال ابن مالك: الوجه فيها أن يكون حاشى مبنياً، لشبهه بحاشا الذي هو حرف. فإنه شابهه لفظاً ومعنى، فجرى مجراه في البناء.
الثالث: أن تكون من أدوات الاستثناء. نحو: قام القوم حاشا زيد. وفيها مذاهب: أحدهما: مذهب سيبويه، وأكثر البصريين، أنها حرف خافض، دال على الاستثناء كإلا. ولا يجيز سيبويه النصب بها، لأنه لم يبلغه.
والثاني: أنها تكون حرفاً، فتجر، كما ذكر سيبويه. وتكون فعلاً، فتنصب. بمنزلة خلا وعدا. وهذا مذهب الجرمي، والمازني، والمبر، والزجاج. وهو الصحيح، لأنه قد ثبت عن العرب الوجهان. وممن حكى النصب بها، عن العرب، أبو زيد، والفراء، والأخفش، والشياني، وابن خروف، حكى الشيباني، عن بعض العرب اللهم، اغفر لي، ولمن سمع حاشى الشيطان وابا الإصبع بالنصب ويروى وابن الأصبغ، وهو بالصاد المهملة والغين المعجمة. ويروى بالوجهين قول الجميح:
حاشا أبي ثوبان، إن به ... ضناً، عن الملحاة، والشتم
هكذا أنشده المبرد، والسيرافي، وكثير من النحويين. وفيه تخليط من جهة الرواية. وذلك أنهم ركبوا صدره على عجز غيره. والصواب ما أنشده المفضل:
حاشا أب ثوبان، إن أبا ... ثوبان ليس ببكمة، فدم
عمرو بن عبد الله، إن به ... ضناً، عن الملحاة، والشتم
واستدل المبرد على فعلية أحاشى بتصرفها. فتقول: حاشيت أحاشي. قال النابغة:
ولا أحاشي، من الأقوام، من أحد
وأجيب بأن أحاشي يجوز أن يكون تصريف فعل، من لفظ حاشا الذي هو حرف يستثى به. قال بعضهم: ولا ينكر سيبويه أن ينطق بها فعلاً، في غير الاستثناء. فتكون في الاستثناء حرفاً، وفي غيره فعلاً. تقول: حاشى لك أن تفعل كذا. ومعناه: جانب لك السوء. ويتعدى بنفسه، وباللام.
والثالث: أن حاشى فعل لا فاعل له. وإذا خفض الأسم بعده فخفضه باللام المقدرة. وهو مذهب الفراء، وتقدم ذكره، في القسم الثاني. وقال بعضهم: ذهب بعض الكوفيين إلى أنها فعل، استعملت استعمال الحروف، فحذف فاعلها. قلت: والظاهر أن هذا مذهب الفراء.
ويتعلق بحاشا التي يستثنى بها مسائل: الأولى: إذا جر بحاشا فالكلام على ما يتعلق به كالكلام على ما يتعلق به خلا وعدا، وقد تقدم. وإذا نصب ففي محل الجملة الخلاف المتقدم في خلا وعدا أيضاً.
الثانية: حاشا تفارق خلا وعدا من وجهين: أحدهما أن الجر بحاشا أكثر والآخر أن حاشا لا تصحب ما. قال سيبويه لو قلت: أتوني ما حاشى زيداً، لم يكن كلاماً. وأجازه بعضهم على قلة. وقال ابن مالك: وربما قيل ما حاشى وهو مسموع من كلامهم. قال الشاعر:
رأيت الناس ما حاشى قريشاً ... وأنا نحن أفضلهم فعالا
وذكر ابن مالك أن في مسند أبي أمية الطرسوسي، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم أسامة أحب الناس إلي، ما حاشى فاطمة.
الثالثة: إذا استثني بحاشى ضمير المتكلم، وقصد الجر قيل حاشاي، كما قال الشاعر:
في فتية، جعلوا الصليب إلههم ... حاشاي، إني مسلم، معذور
وإذا قصد النصب قيل حاشاني، بنون الوقاية. قال الفراء: من نصب بحاشى قال حاشاني، كما يقال عداني. قال الشاعر:
تمل الندامى، ما عداني، فإنني ... بكل الذي، يهوى نديمي، مولع
الرابعة: إذا نصب بحاشى فهي فعل غير متصرف، لأنها واقعة موقع إلا، ومؤدية معناها. فلا تتصرف كما لا تتصرف عدا وخلا وليس ولا يكون. بل هي أحق بالمنع، لأن فيها، مع مساواتها للأربع، شبهها بحاشا الحرفية لفظاً ومعنى.
وزعم المبرد أن حاشى مضارع حاشى التي يستثنى بها. وقد تقدم أنه استدل بذلك على فعليتها. قال ابن مالك: وهذا غلط، وأما أحاشي فإنه مضارع حاشيت بمعنى: استثيت. وهو فعل متصرف، مشتق من لفظ حاشى المستثنى بها، كما اشتق سوفت من لفظ سوف، ولوليت من لفظ لولا، ولاليت من لفظ لا، وأيهت من لفظ إيهاً. وأمثال ذلك كثيرة.
الخامسة: في حاشى التي يستثنى بها لغتان: حاشى بإثبات الألفين، وحشى بحذف الألف الأولى، كقول الشاعر:
حشى رهط النبي، فإن منهم ... بحوراً، لا تكدرها الدلاء

وأما التي للتنزيه ففيها ثلاث لغات: هاتان المذكورتان، وحاش بحذف الألف الثانية. وزاد في التسهيل: حاش بإسكان الشين. وقد قرئ بالأربع " حاشا لله " : قرأ أبو عمرو حاشا لله بالألف. وقرأ باقي السبعة حاش لله بحذفها. وقرأ بعضهم حشى لله بحذف الألف الأولى. وقرأ الحسن حاش لله بالإسكان. وفيه جمع بين ساكنين، على غير حده. وظاهر كلام ابن مالك في الألفية أن اللغات الثلاث في حاشا التي يستثنى بها. وقال غيره: إن حاش لم يستثن بها. والله أعلم.

كأن
حرف، ينصب الأسم، ويرفع الخبر، من أخوات إن. ومذهب الخليل، وسيبويه، والأخفش، وجمهور البصريين، والفراء، أنها مركبة من كاف التشبيه وإن. فأصل الكلام عندهم: إن زيداً كالأسد. ثم قدما الكاف، اهتماماً بالتشبيه، ففتحت إن، لأن المكسورة لا يدخل عليها حرف الجر. قال الزمخشري: والفصل بينه وبين الأصل أنك ههنا بان كلامك على التشبيه، من أول الأمر. وثم بعد مضي صدره على الإثبات.
وهل تتعلق الكاف، على هذا، بشيء؟ قال أبو الفتح: لا تتعلق بشيء، وليست بزائدة، لأن معنى التشبيه فيها موجود. وقد بقي النظر في أن التي دخلت عليها؛ هل هي مجرورة بها أو غير مجرورة؟ فأقوى الأمرين عندي أن تكون مجرورة بالكاف. انتهى. وقال الزجاج: الكاف في موضع رفع. فإذا قلت كأني أخوك ففي الكلام عنده حذف، وتقديره: كأخوتي إياك موجود. لأن أن وما عملت فيه بتقدير مصدر. قال ابن عصفور: وما ذهب إليه أبو الفتح أظهر ، من جهة أن العرب لم تظهر ما ادعي أبو إسحاق إضماره.
قلت: الصحيح أن الكاف لا تتعلق بشيء، وأن ما بعدها ليس في موضع جر بها، لأن التركيب صير أن والكاف حرفاً واحداً. وفي هذا الموضع بحث، لا يليق بهذا المختصر.
وذهب بعضهم إلى أن كأن بسيطة غير مركبة. واختاره صاحب رصف المباني، ونسبه إلى أكثرهم، واستدل له بأوجه: منها أن الأصل البساطة، والتركيب طارئ. ومنها أنه لو كان مركباً لكانت الكاف حرف جر، فيلزمها ما تتعلق به، إذ ليست بزائدة. ومنها أن الكاف إذا كانت داخلة على أن لزم أن تكون وما عملت فيه في موضع مصدر، مخفوض بالكاف، فترجع الجملة التامة جزء جملة، فيكون التقدير في كأن زيداً قائم: كقيام زيد. فيحتاج إلى ما يتم الجملة، وكأن زيداً قائم كلام قائم بنفسه، لا محاله. ومنها أنه لا يتقدر بالتقديم والتأخير، في بعض المواضع. فتقول: كأن زيداً قام وكأن زيداً في الدار، وكأن زيداً عندك، وكأن زيداً أبوه قائم.
قلت: وفي نسبة القول بالبساطة إلى أكثرهم نظر. فإن الظاهر أن الأكثر يقولون بالتركيب. ولعدم اشتهار القول بالبساطة، قال ابن هشام: لا خلاف في أن كأن مركبة، من أن وكاف التشبيه.
وجملة معاني كأن أربعة معان: الأول: التشبيه. ولم يثبت لها أكثر البصريين غيره. وقال ابن مالك: هي للتشبيه المؤكد؛ فإن الأصل إن زيداً كالأسد، فقدمت الكاف، وفتحت أن، وصار الحرفان واحداً، مدلولاً به على التشبيه، والتوكيد.
الثاني: التحقيق. ذهب الكوفيون، والزجاجي، إلى أنها قد تكون للتحقيق، دون تشبيه. وجعلوا منه قول عمر بن أبي ربيعة:
كأنني، حين أمسي لا تكلمني ... ذو بغية، يشتهي ما ليس موجوداً
ورد بأن التشبيه فيه بين بأدنى تأمل. واستدلوا أيضاً، بقول الشاعر:
فأصبح بطن مكة مقشعراً ... كأن الأرض ليس بها هشام
وأجيب بأن بالمعنى: أن بطن مكة كان حقه ألا يقشعر، لأن هشاماً في أرضه، وهو قائم مقام الغيث، فلما اقشعر صارت أرضه كأنها ليس بها هشام، فهي للتشبيه. وقال ابن مالك: يتخرج على أن هشاماً وإن مات فهو باق ببقاء من خلفه، سائراً بسيرته. قال: وأجود من هذا أن تجعل الكاف من كأن للتعليل، في هذا الموضع، وهي المرادفة للام، كأنه قيل: لأن الأرض ليس بها هشام.
الثالث: أن تكون للشك، بمنزلة ظننت. ذهب إلى ذلك الكوفيون، والزجاجي. قالوا: إن كان خبرها اسماً جامداً كانت للتشبيه. وإن كان مشتقاً كانت للشك، بمنزلة ظننت. وإلى هذا ذهب ابن الطراوة، وابن السيد. قال ابن السيد: إذا كان خبرها فعلاً، أو جملة، أو صفة، فهي للظن والحسبان، نحو: كأن زيداً قام، وكأن زيداً أبوه قائم، وكأن زيداً قائم.

والصحيح أنها للتشبيه؛ فإذا قلت كأن زيداً قائم كنت قد شبهت زيداً، وهو غير قائم، به قائماً. والشيء يشبه، في حالة ما، به في حالة أخرى. قاله ابن ولاد. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: كأن هيئة زيد هيئة قائم. فحذف. قاله أبو علي. قال بعضهم: والتوجيه الأول أظهر.
الرابع: التقريب. هذا مذهب الكوفيين؛ ذهبوا إلى أن كأن تكون للتقريب. وذلك في نحو: كأنك بالشتاء مقبل، وكأنك بالفرج آت، وقول الحسن البصري: كأنك بالدنيا لم تكن، وكأنك بالآخرة لم تزل. والمعنى على تقريب إقبال الشتاء، وإتيان الفرج، وزوال الدنيا، ووجود الآخرة.
والصحيح أن كأن في هذا كله للتشبيه. وخرج الفارسي هذه المثل، على أن الكاف في كأنك للخطاب، والباء زائدة، والشتاء والفرج والدنيا والآخرة اسم كأن. والتقدير: كأن الشتاء مقبل. وكذا في البواقي. وخرجه بعضهم على حذف مضاف، والتقدير: كأن زمانك بالشتاء مقبل، وكأن زمانك بالفرج آت.
ويتأول قول الحسن البصري، على أن الكاف اسم كأن، ولم تكن خبرها، وبالدنيا متعلق بالخبر. والتقدير: كأنك لم تكن بالدنيا. والضمير في تكن للمخاطب، وتكن تامة. ويحتمل أن تكون ناقصة، والتشبيه في الحقيقة للحالين.
وقال ابن عصفور: الكاف للخطاب، وكأن ملغاة، والشتاء مبتدأ، والباء زائدة كما زيدت في بحسبك، ومقبل هو الخبر.
وخرج بعضهم قول الحسن، على أن الكاف اسم كأن، والمجرور هو الخبر، والجملة بعده حال، وإن لم يستغن الكلام عنها، لأن من الفضلات ما لا يتم الكلام إلا به، كقوله تعالى " فما لهم عن التذكرة معرضين " .
ومن أحكام كأن أنها قد تخفف. وإذا خففت لم يبطل عملها. وقال الزمخشري في المفصل: وتخفف، فيبطل عملها. قال الشاعر:
ونحر، مشرق اللون ... كأن ثدياه حقان
ومنهم من يعملها. وحمل ابن يعيش قوله يبطل عملها على معنى: يبطل ظاهراً، وتعمل في ضمير الشأن.
وقد أطلق بعضهم عليها أنها ملغاة. وقد فسر أبو موسى الإلغاء المذكور، فقال: ومعنى الإلغاء فيها معناه في أن المفتوحة. يعني أنها تكون عاملة في اسم مضمر، فسميت ملغاة، إذ لم يظهر عملها، لأن اسمها في الغالب منوي، كاسم أن. وقد ورد ملفوظاً به، في قول الشاعر:
كأن وريده رشاءا خلب
وقول الآخر كأن ثدييه حقان، على إحدى الروايتين، وقول الآخر:
ويوماً، توافينا بوجه مقسم ... كأن ظبية تعطو، إلى وارق السلم
على رواية من مصب ظبية. وكلام ابن مالك في التسهيل يقتضي أن يكون ظهور اسمها مخصوصاً بالشعر. فإنه قال: وقد يبرز اسمها في الشعر. وأما على رواية كأن ظبية بالرفع فظبية خبر كأن، واسمها محذوف. والتقدير: كأنها ظبية. ويروى أيضاً بجر ظبية بكاف التشبيه، وأن زائدة.
ولكأن أحكام أخر، مذكورة في مواضعها من كتب النحو، لا حاجة إلى ذكرها، في هذا الموضع. والله عز وجل أعلم.

كلا
حرف ردع وزجر. هذا مذهب الخليل، وسيبويه، وعامة البصريين. وذهب الكسائي، وتلميذه نصير بن يوسف، ومحمد بن أحمد بن واصل، إلى أنها تكون بمعنى حقاً. ومذهب النضر بن شميل أنها بمعنى نعم. وركب ابن مالك هذه المذاهب الثلاثة، فجعلها مذهباً واحداً. قال في التسهيل كلا حرف ردع وزجر، وقد تؤول بحقاً، وتساوي إي معنى واستعمالاً. وذهب أبو حاتم إلى أنها تكون رداً للكلام الأول، وتكون للإستفتاح بمعنى ألا، ووافقه الزجاج. وذهب عبد الله بن محمد الباهلي إلى أنها تكون على وجهين: أحدهما أن تكون رداً الكلام قبلها، فيجوز الوقف عليها، وما بعدها استئناف. والآخر أن تكون صلة للكلام، فتكون بمعنى إي وقيل: إن كلا بمعنى سوف.
وعدة ما جاء في القرآن من لفظ كلا ثلاثة وثلاثون موضعاً، تتضمنها خمس عشرة سورة وليس في النصف الأول منها شيء. قيل: وحكمة ذلك أن النصف الأخير نزل أثره بمكة، وأكثرها جبابرة، فتكررت هذه الكلمة، على وجه التهديد، والتعنيف لهم، والإنكار عليهم. بخلاف النصف الأول، وما نزل منه في اليهود، لم يحتج إلى إيرادها فيه، لذلهم وصغارهم.
وأما الوقف عليها فالراجح أن حالها فيه مختلف. فمنها ما يوقف عليه ولا يبتدأ به. ومنها ما يبتدأ به ولا يوقف عليه. ومنها ما يجوز فيه الأمران. ومنها ما لا يوقف عليه ولا يبتدأ به. فهذه أربعة أقسام. وقد ذكرت ذلك في كراسة أفردتها لكلا وبلى.

واختلف في كلا: هل هي بسيطة أو مركبة؟ ومذهب الجمهور أنها بسيطة. وذهب ثعلب إلى أنها مركبة من كاف التشبيه ولا التي للرد، وزيد بعد الكاف لام، فشددت، لتخرج عن معناها التشبيهي. وقال صاحب رصف المباني: هي بسيطة عند النحويين، إلا ابن العريف جعلها مركبة من كل ولا. وهذا كلام خلف، لأن كل لم يأت لها معنى في الحروف، فلا سبيل إلى ادعاء التركيب من أجل لا والله سبحانه أعلم.

لعل
حرف، له قسمان: الأول: أن يكون من أخوات إن، فينصب الأسم، ويرفع الخبر. ومذهب أكثر النحويين أنه حرف بسيط، وأن لامه الأولى أصلية. وقيل: هو حرف مركب، ولامه الأولى لام الابتداء. وقيل: بل هي زائدة، لمجرد التوكيد يدليل قولهم عل في لعل. وهذا مذهب المبرد وجماعة من البصريين.
ولعل لها ثمانية معان: الأول: الترجي. وهو الأشهر والأكثر. نحو: لعل الله يرحمنا.
الثاني: الإشفاق: نحو: لعل العدو يقدم. والفرق بينهما أن الترجي في المحبوب، والإشفاق في المكروه.
الثالث: التعليل. هذا معنى أثبته الكسائي، والأخفش، وحملا على ذلك ما في القرآن، من نحو " لعلكم تشكرون " ، " لعلكم تهتدون " ، أي: لتشكروا، ولتهتدوا. قال الأخفش في المعاني: " لعله يتذكر " نحو قول الرجل لصاحبه: افرغ لعلنا نتغدى. والمعنى: لنتغدى. ومذهب سيبويه، والمحققين، أنها في ذلك كله للترجي، وهو ترج للعباد. وقوله تعالى " فقولا له قولاً ليناً، لعله يتذكر أو يخشى " معناه: اذهبا على رجائكما ذلك، من فرعون.
الرابع: الاستفهام. وهو معنى، قال به الكوفيون. وتبعهم ابن مالك، وجعل منه " وما يدريك لعله يزكى " ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ، لعبض الأنصار، وقد خرج إليه مستعجلاً: لعلنا أعجلناك. وهذا عند البصريين خطأ. والآية عندهم ترج، والحديث إشفاق.
وذكر الشيخ أبو حيان أنه ظهر له أن لعل من المعلقات لأفعال القلوب. ومنه " وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً " ، " وما يدريك لعله يزكى " . قال: ثم وقعت، لأبي علي الفارسي، على شيء من هذا.
الخامس: نقل النحاس عن الفراء، والطوال، أن لعل شك. وهذا عند البصريين خطأ أيضاً.
وقال الزمخشري: لعل هي لتوقع مرجو، أو مخوف. قال: وقد لمح فيها معنى التمني من قرأ " فأطلع " بالنصب. وهي في حرف عاصم. وقال الجزولي: وقد أشر بها معنى ليت من قرأ فأطلع نصباً. إنما احتج إلى هذا التأويل، لأن الترجي ليس له جواب منصوب، عند البصريين. وقد تقدم، في الفاء، ذكر الخلاف في ذلك. قال ابن يعيش: والفرق بين الترجي والتمني أن الترجي توقع أمر مشكوك فيه، أو مظنون. والتمني طلب أمر موهوم الحصول، وربما كان مستحيل الحصول، نحو " يا ليتها كانت القاضية " .
وفي لعل اثنتا عشرة لغة. وهي: لعل، وعل، ولعن، وعن، ولأن، وأن، ورعل، ورعن، ولغن، ورغن، وغن، وهذه الثلاثة بالغين المعجمة، ولعلت، بتاء التأنيث. واختلف في الغين المعجمة، في تلك اللغات الثلاث. فقيل: هي بدل من المهملة. وقيل: ليست بدلاً منها. قال صاحب رصف المباني: وهو أظهر، لقلة وجود الغين بدلاً من العين. ولذلك جعل غن بالمعجمة حرفاً مفرداً بباب.
وما سوى ما ذكرته، من أحكام لعل، لا حاجة إليه هنا.
القسم الثاني: أن تكون حرف جر، في لغة عقيل. يقولون: لعل زيد قائم. والجر بلعل مراجعة أصل مرفوض، لأن أصل كل حرف اختص بالاسم، ولم يكن كالجزاء منه، أن يعمل الجر، كما تقدم في صدر الكتاب. وإنما خرجت إن وأخواتها، عن هذا الأصل، فعملت النصب والرفع، لشبهها بالفعل. ولذلك قال الجزولي: وقد جروا بلعل منبهة على الأصل. وروى الجر بها، عن العرب، أبو زيد، والفراء، والأخفش، وغيرهم من الأئمة. ومن ذلك قول الشاعر:
لعل الله يمكنني عليها ... جهاراً، من زهير، أو أسيد
وأنشد الفراء:
على صروف الدهر، أو دولاتها ... يدلننا اللمة، من لماتها
فتستريح النفس، من زفراتها
وأنشد غيره:
لعل الله فضلكم، علينا ... بشيء، أن أمكم شريم
وقول الآخر: فقلت:
ادع أخرى وارفع الصوت جهرة ... لعل أبي المغوار منك قريب
هذه الأبيات كلها بالجر، على هذه اللغة.

وأنكر بعضهم هذه اللغة، وتآول قول الشاعر لعل أبي المغوارمنك قريب: فقيل لعل في البيت مخففة، واسمها ضمير الشأن، واللام المفتوحة لام الجر، ولأبي المغوار منك قريب جملة في موضع خبرها. وهذا ضعيف، من أوجه: أحدها أن تخفيف لعل لم يسمع في هذا البيت. والثاني أنها لا تعمل في ضمير الشأن. والثالث أن فتح لام الجر مع الظاهر شاذ. ونقل بعضهم هذا التخريج عن الفارسي، على رواية من كسر لام لعل أبي المغوار فلا يلزمه الاعتراض الثالث.
وقيل: يجوز أن يكون لعاً في البيت هي التي تقال للعاثر، واللام للجر، والكلام جملة قائمة بنفسها. والموصوف محذوف، تقديره: فرج، أو شبهه. وهذا بعيد أيضاً. وقيل: أراد الحكاية.
وإذا صحت الرواية بنقل الأئمة فلا معنى لتأويل بعض شواهدها بما هو بعيد.
وفي لعل الجارة أربع لغات: لعل، وعل، بفتح اللام فيهما. ولعل، وعل، بكسر اللام فيهما. قال ابن مالك: والجر بلعل ثابتة الأول أو محذوفته، مفتوحة الآخر أو مكسورته، لغة عقيلية. والله سبحانه أعلم.

لكن
بتخفيف النون حرف، له قسمان: الأول: أن تكون مخففة من لكن الثقيلة. ولا عمل لها، إذا خففت، خلافاً ليونس، والأخفش فإنهما أجازا ذلك. ورد بأنه غير مسموع. وقد حكي عن يونس أنه حكاه عن العرب. وعلى مذهب الجمهور يكون ما بعدها مبتدأ وخبراً، نحو " ولكن الشياطين كفروا " . واختار الكسائي، والفراء، وأبو حاتم، والتشديد إذا كان قبلها الواو، لأنها حينئذ تكون عاملة عمل إن، وليست عاطفة، والتخفيف إذا لم يكن قبلها واو، لأنها حينئذ عاطفة، فلا تحتاج إلى واو ك بل. وهذا القسم - أعني لكن المخففة - ليس حرفاً أصلياً. وإنما هو فرع لكن المشددة. ويأتي الكلام عليها في باب الخماسي.
الثاني: أن تكون حرف عطف. هذا مذهب جمهور النحويين. ثم اختلفوا على ثلاثة أقوال: أحدها أنها لا تكون عاطفة، إلا إذا لم تدخل عليها الواو. وهو مذهب الفارسي. قيل: وأكثر النحويين.
والثاني أنها عاطفة، ولا تستعمل إلا بالواو، والوا مع ذلك زائدة. وصححه ابن عصفور. قال: وعليه ينبغي أن يحمل كلام سيبويه، والأخفش. لأنهما قالا: إنها عاطفة. ولما مثلا العطف بها مثلاً مع الواو.
والثالث أن العطف بها، وأنت مخير في الإتيان بالواو. وهو مذهب ابن كيسان.
وذهب يونس إلى أن لكن ليست عاطفة، بل هي حرف استدراك، والواو قبلها عاطفة لما بعدها، عطف مفرد عل مفرد. ووافقه ابن مالك، في التسهيل، على أنها غير عاطفة، لكنه ذكر في شرحه أن الواو قبلها عاطفة جملة، وتضمر لما بعدها عاملاً. فإذا قلت ما قام سعد ولكن سعيد فالتقدير: ولكن قام سعيد. وإنما جعله من عطف الجمل، لما يلزم، على مذهب يونس، من مخالفة المعطوف بالواو لما قبلها، وحقه أن يوافقه.
واستدل من قال، بأن لكن غير عاطفة، بلزوم اقترانها بالواو قبل المفرد. قال ابن مالك: وما يوجد في كتب النحويين، من نحو ما قام سعد لكن سعيد، فمن كلامهم لا من كلام العرب. ولذلك لم يمثل سيبويه، في أمثلة العطف، إلا ب ولكن. وهذا من شواهد أمانته، وكمال عدالته، لأنه يجيز العطف بها غير مسبوقة بواو، وترك التمثيل به لئلا يعتقد أنه مما استعملته العرب.
قلت: وفي قوله إن سيبويه يجيز العطف بها غير مسبوقة بواو نظر. وتقدم ما قاله ابن عصفور.
وإذا ولي لكن جملة لم يلزم اقترانها بالواو، بل تجيء بالواو ودونها. قال زهير:
أن ابن ورقاء لا تخشى بوادره ... لكن وقائعه، في الحرب، تنتظر
وقرر ابن يعيش، في شرح المفصل مذهب يونس، على خلاف ما تقدم. قال: وكان يونس، رحمه الله، يذهب إلى أنها إذا خففت لا يبطل علمها، ولا تكون حرف عطف، بل تكون عنده مثل إن وأن. فكما أنهما بالتخفيف لم يخرجا عما كانا عليه، قبل التخفيف، فكذلك لكن. فإذا قلت: ما جاءني زيد لكن عمرو، فعمرو مرتفع بلكن، والاسم مضمر محذوف، كما في قوله:
ولكن زنجي، عظيم المشافر
وإذا قلت: ما ضربت زيداً لكن عمراً، ففيها ضمير القصة، وعمراً منصوب بفعل مضمر. وإذا قال: ما مررت بزيد لكن عمرو، فعمرو مخفوض بباء محذوفة، وفي لكن ضمير القصة أيضاً، والجار والمجرور يتعلق بفعل محذوف، دل عليه الظاهر، كأنه قال: لكنه مررت بعمرو. انتهى، وفيه نظر.

واعلم أن لكن لا يعطف بها، إلا بعد نفي، نحو: ما قام زيد لكن عمرو، أو نهي، نحو: لا تضرب زيداً لكن عمراً. والمعطوف بها محكوم له بالثبوت، بعد النفي والنهي. ولا تقع في لإيجاب عند البصريين. وأجاز الكوفيون أن يعطف بها، في الإيجاب، نحو: أتاني زيد لكن عمرو.

تنبيه
إنما يشترك النفي والنهي، في الواقعة قبل المفرد. وتقدم الخلاف في كونها عاطفة. وأما إذا وليها جملة فيجوز أن تقع بعد إيجاب، أو نفي، أو نهي، أو أمر. ولا تقع بعد استفهام. فلا يجوز: هل زيد قائم لكن عمرو لم يقم.
فإن قلت: إذا وقعت قبل الجملة فهل هي عاطفة أو غير عاطفة؟ قلت: الذي ذهب إليه أكثر المغاربة أنها، حينئذ، حرف ابتداء، لا حرف عطف. وقيل: إنها تكون حرف عطف، تعطف جملة على جملة، إذا وردت بغير واو. قال ابن أبي الربيع: وهو ظاهر كلام سيبويه.
ومعنى لكن، في جميع مواضعها، الاستدراك. قال صاحب رصف المباني: ويكون معناها الإضراب، إذا كانت حرف ابتداء، كقوله تعالى " لكن الله يشهد بما انزل إليك " . وقد حذفوا نونها، في الشعر، ضرورة، كما قال:
فلست بآتيه، ولا أستطيعه ... ولاك اسقني، إن كان ماؤك ذا فضل
لما
حرف له ثلاثة أقسام: الأول: لما التي تجزم الفعل المضارع. وهي حرف نفي، تدخل على المضارع فتجزمه، وتصرف معناه إلى المضي، خلافاً لمن زعم أنها تصرف لفظ الماضي إلى المبهم. وتقدم ذكر الخلاف في لم، فلا حاجة لإعادته. فإن الكلام عليهما واحد. وتقدم ذكر الفروق التي بين لم ولما. واختلف في لما، فقيل: مركبة من لم وما. وهو مذهب الجمهور. وقيل: بسيطة.
الثاني: لما التي بمعنى إلا. ولها موضعان: أحدهما بعد القسم، نحو: نشدتك بالله لما فعلت، وعزمت عليك لما ضربت كاتبك سوطاً. قال الراجز:
قالت له: بالله، يا ذا البردين ... لما غنثت نفساً، أو اثنين
وثانيهما بعد النفي، ومنه قراءة عاصم وحمزة " وإن كلما جميع، لدينا، محضرون " ، " وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا " ، أي: ما كل إلا جميع، وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا.
ولما التي بمعنى إلا حكاها الخليل، وسيبويه، والكسائي. وهي قليلة الدور في كلام العرب. فينبغي أن يقتصر فيها، على التركيب الذي وقعت فيه. وزعم أبو القاسم الزجاجي أنه يجوز أن تقول: لم يأتني من القوم لما أخوك، ولم أر من القوم لما زيداً. يريد: إلا أخوك، وإلا زيداً. قيل: وينبغي أن يتوقف في إجازة ذلك، حتى يرد في كلام العرب ما يشهد بصحته.
الثالث: لما التعليقية. وهي حرف وجوب لوجوب. وبعضهم يقول: حرف وجود لوجود، بالدال. والمعنى قريب. وفيها مذهبان: أحدهما: أنها حرف. وهو مذهب سيبويه. والثاني: ظرف بمعنى حين. وهو مذهب أبي علي الفارسي. وجمع ابن مالك في التسهيل بين المذهبين، فقال: إذا ولي لما فعل ماض لفظاً ومعنى فهي ظرف بمعنى إذ، فيه معنى الشرط، أو حرف يقتضي، فيما مضى، وجوباً لوجوب.
والصحيح ما ذهب إليه سيبويه، لأوجه: أحدها أنها ليس فيها شيء، من علامات الأسماء. والثاني أنها تقابل لو. وتحقيق تقابلهما أنك تقول: لو قام زيد قام عمرو، ولكنه لما لم يقم لم يقم. والثالث أنها لو كانت ظرفاً لكان جوابها عاملاً فيها، كما قال أبو علي. ويلزم من ذلك أن يكون الجواب واقعاً فيها، لأن العامل في الظرف يلزم أن يكون واقعاً فيه. وأنت تقول: لما قمت أمس أحسنت إليك اليوم. وقال تعالى " وتلك القرى أهلكنا هم لما ظلموا " . والمراد أنهم أهلكوا بسبب ظلمهم، لا أنهم أهلكوا حين ظلمهم، لأن ظلمهم متقدم على إنذارهم، وإنذارهم متقدم على إهلاكهم. والرابع أنها تشعر بالتعليل، كما في الآية المذكورة، والظروف لا تشعر بالتعليل. وبهذا استدل ابن عصفور على حرفيتها. والخامس أن جوابها قد يقترن بإذا الفجائية، كقوله تعالى: " فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون " ، وما بعد إذا الفجائية لا يعمل فيما قبلها.
واعلم أن لما هذه لا يليها إلا فعل ماض مثبت، أو منفي بلم. وقد تزاد أن بعدها، كقوله تعالى " فلما أن جاء البشير " . وجوابها فعل ماض مثبت، نحو: لما قام زيد قام عمرو. أو منفي بما، نحو: لما قام زيد ما قام عمرو. أو مضارع منفي بلم نحو: لما قام زيد لم يقم عمرو. أو جملة اسمية مقرونة بإذا الفجائية، كما تقدم.

وزاد ابن مالك في التسهيل أن جوابها قد يكون جملة اسمية مقرونة بالفاء، وماضياً مقروناً بالفاء، وقد يكون مضارعاً. قال الشيخ أبو حيان: ولم يقم دليل واضح على ما ادعاه. وقد ذكرت ذلك في شرح التسهيل.
ويجوز حذف جواب لما للدلالة عليه، كقوله تعالى " فلما ذهبوا به وأجمعوا " الآية، أي: فعلوا ما أجمعوا عليه " وأوحينا إليه " . والكوفيون يجعلون أوحينا جواب لما، والواو زائدة.

تنبيه
الفرق بين أقسام لما الثلاثة، من جهة اللفظ، أن الجازمة لا يليها إلا مضارع، ماضي المعنى. والتي بمعنى إلا لا يليها إلا ماضي اللفظ، مستقبل المعنى. والتي هي حرف وجوب لوجوب لا يليها إلا ماضي اللفظ والمعنى، أو مضارع منفي بلم. والله أعلم.
لولا
حرف له قسمان: الأول: أن يكون حرف امتناع لوجوب. وبعضهم يقول: لوجود، بالدال. قيل: ويلزم، على بعارة سيبويه في لو، أن يقال: لولا حرف لما كان سيقع لانتفاء ما قبله.
وقال صاحب رصف المباني: الصحيح أن تفسيرها بحسب الجمل التي تدخل عليها. فإن كانت الجملتان بعدها موجبتين فهي حرف امتناع لوجوب، نحو قولك: لولا زيد لأحسنت إليك. فالإحسان امتنع، لوجود زيد. وإن كانتا منفيتين فهي حرف وجوب لامتناع، نحو: لولا عدم قيام زيد لم أحسن إليك. وإن كانتا موجبة ومنفية فهي حرف وجوب لوجوب، نحو: لولا زيد لم أحسن إليك. وإن كانتا منفية وموجبة فهي حرف امتناع لامتناع، نحو: لولا عدم قيام زيد لأحسنت إليك. انتهى ما ذكره.
وجواب لولا ماض مثبت، مقرون باللام، نحو " لولا أنتم لكنا مؤمنين " ، أو منفي بما، نحو " ولولا فضل الله عليكم، ورحمته، ما زكى منكم من أحد أبداً " . وقد يخلو المثبت من اللام، كقول الشاعر:
لولا الحياء، وباقي الدين، عبتكما ... ببعض ما فيكما، إذ عبتما عوري
وقال ابن عصفور: حذف اللام من جواب لولا ضرورة. وقال أيضاً: يجوز في قليل من الكلام. وسوى بعضهم بين حذف اللام وإثباتها في لو ولولا. وقد يقترن باللام لمفني بما، كقول الشاعر:
لولا رجاء لقاء الظاعنين لما ... أبقت نواهم لنا روحاً، ولا جسدا
وإذا دل دليل على جواب لولا جاز حذفه، كقوله تعالى " ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم " .
ثم اعلم أن لولا الامتناعية مختصة بالأسماء. ولها حالان: أحدهما أن تكون حرف ابتداء. وذلك إذا وليها اسم ظاهر، أو ضمير رفع منفصل، نحو: لولا زيد لأكرمتك، ولولا أنت لأكرمته. فلولا، في هذا ونحوه، حرف ابتداء، والأسم بعدها مرفوع بالابتداء عند أكثر النحويين. ثم اختلفوا في خبره.
فقال الجمهور: هو محذوف، واجب الحذف مطلقاً. ولا يكون عندهم إلا كوناً مطلقاً. فإذا أريد الكون المقيد جعل مبتدأ، نحو: لولا قيام زيد لأتيتك. ولا يجوز لولا زيد قائم. ولذلك لحنوا المعري، في قوله:
يذيب الرعب منه كل عضب ... فلولا الغمد يمسكه لسالا
قلت: وتأويله بعضهم، على أن يمسكه حال. ورد بأن الأخفش حكى عن العرب أنهم لا يأتون، بعد الأسم الواقع بعد لولا الامتناعية، بالحال، كما لا يأتون بالخبر. وتأوله بعضهم على تقدير أن، والتقدير: فلولا الغمد أن يمسكه. وأعربه بدلاً، أي: لولا إمساكه.
وذهب الرماني، وابن الشجري، والشلوبين، إلى أن الخبر، بعد لولا، ليس بواجب الحذف على الإطلاق. بل فيه تفصيل. وهو أنه إن كان كوناً مطلقاً، غير مقيد، وجب حذفه، نحو: لولا زيد لأكرمتك، لأن تقديره موجود أو نحوه. وإن كان مقيداً، ولا دليل عليه، وجب إثباته، كقوله عليه الصلاة والسلام، لعائشة رضي الله عنها لولا قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم. وإن كان مقيداً، وله دليل يدل عليه، جاز إثباته وحذفه، كقولك: لولا أنصار زيد لهلك، أي: نصروه. فهذا يجوز إثباته، لكونه مقيداً، وحذفه للدليل الدال عليه. واختار ابن مالك هذا المذهب، وجعل قول المعري فلولا الغمد يمسكه مما يجوز فيه الإثبات والحذف.
وقال ابن أبي الربيع: أجاز قوم لولا زيد قائم لأكرمتك، وهذا لم يثبت بالسماع. والمنقول: لولا قيام زيد.
وقال ابن الطراوة: جواب لولا هو خبر المبتدأ الواقع بعد لولا. وهو ضعيف.

وذهب الكوفيون إلى أن الأسم المرفوع بعد لولا ليس بمبتدأ، ثم اختلفوا. فقال الكسائي: مرفوع بفعل مقدر، تقديره: لولا وجد زيد. وقال بعضهم: هو مرفوع بلولا، لنيابتها مناب لو لم يوجد. حكاه الفراء عن بعضهم، ورده بأنك تقول لولا زيد لا عمرو لأتيتك، ولا يعطف بلا بعد النفي. وقال الفراء: هو مرفوع بلولا نفسها، لا لنيابتها مناب لو لم يوجد.
وقال صاحب رصف المباني: ويرفع، عند الكوفيين، على تقدير فعل، نابت لا منابه. فإذا قلت: لولا زيد لأكرمتك، و " لولا أنتم لكنا مؤمنين " ، فالمعنى: لو انعدم زيد، ولو انعدمتم. قال: وهذا هو الصحيح، لأنه إذا زالت لا ولي لو الفعل ظاهراً، أو مقدراً. وإذا دخلت لا كان بعدها الأسم. فهذا يدل على أن لا نائبة مناب الفعل. وقد اتفق الطائفتان على أن لولا مركبة من لو التي هي حرف امتناع لامتناع، ولا النافية. وكل واحدة منهما باقية على بابها، من المعنى الموضوعة له قبل التركيب. انتهى ما ذكره.
والثاني من حالي لولا الامتناعية أن تكون حرف جر. وذلك إذا وليها الضمير المتصل، الموضوع للنصب والجر، كالياء والكاف والهاء. قال الشاعر:
وكم موطن، لولاي طحت، كما هوى ... بأجرامه، من قلة النيق، منهوي
فلولا، في ذلك، حرف جر عند سيبويه، والضمير مجرور بها، لأن الياء وأخواتها لا يعرف وقوعها إلا في موضع نصب أو جر، والنصب في لولاي ممتنع، لأن الياء لا تنصب بغير اسم، إلا ومعها نون الوقاية وجوباً، أو جوازاً، فيتعين كونها في موضع جر.
وإذا قلنا بأن لولا حرف جر فهل تتعلق بشيء أو لا؟ فقال بعضهم: لا تتعلق بشيء، كالزوائد. وهو الظاهر. وقيل: تتعلق بفعل واجب الإضمار. فإذا قلت لولاي لكان كذا فالتقدير لولاي حضرت،. فألصقت ما بعدها بالفعل، على معناها من امتناع الشيء. ولا يجوز أن يعمل فيها الجواب، لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها. قيل: وما ذهب إليه فاسد. لأن في تقديره تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المجرور، وهو كالمنصوب.
وذهب الأخفش، والكوفيون، إلى أن لولا في ذلك حرف ابتداء، والضمير المتصل في موضع رفع بالابتداء، نيابة عن ضمير الرفع المنفصل، كما عكسوا في قولهم: ما أنا كأنت، ولا أنت كأنا.
والخلاف في ذلك شهير. واختار صاحب رصف المباني مذهب الأخفش، وقال: الأولى أن يحكم عليها بالبقاء على أنها حرف ابتداء، عند من يرى ذلك، أو على أن يحذف الوجود قبل الضمير، ويبقى على خفضه، كما بقي في قوله:
رحم الله أعظماً، دفنوها ... بسجستان، طلحة الطلحات
وأنكر المبرد استعمال لولاي وأخواته، وزعم أنه لا يوجد في كلام من يحتج بكلامه. قال الشلوبين: اتفق أئمة البصريين والكوفيين، كالخليل، وسيبويه، والكسائي، والفراء، على رواية لولاك عن العرب، فإنكار المبرد له هذيان.

فرع
إذا عطف على الضمير المتصل بلولا ظاهر لم يجز، على مذهب سيبويه، لأن لولا تجر المضمر، ولا تجر الظاهر. فلو رفع المعطوف، على توهم أنك أتيت بضمير الرفع المنفصل، ففي جواز ذلك نظر. كذا قال الشيخ أبو حيان.
القسم الثاني من قسمي لولا: أن تكون حرف تحضيض، فتختص بالأفعال، ويليها المضارع، نحو " فلولا تشكرون " . والماضي، نحو " فلولا نفر من كل فرقة، منهم، طائفة " . وقد يليها اسم معمول لفعل مقدر، نحو: لولا زيداً ضربته، أو معمول لفعل مؤخر، نحو: لولا زيداً ضربت، كما تقدم في ألا. وإذا وليها الماضي كان فيها معنى التوبيخ. وكذلك غيرها من حروف التحضيض. ومن تقدير الفعل بعدها قول الشاعر:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى، لولا الكمي المقنعا
أي: لولا تعدون الكمي، أو لولا تبارزون الكمي، ونحو ذلك.
واعلم أنه قد بقي للولا قسم آخر، تكون فيه بمعنى لو لم. وهذه غير مركبة. بل كان من الكلمتين على ما كانت عليه، قبل التركيب. كقول الشاعر:
ألا زعمت أسماء أن لا أحبها ... فقلت: بلى، لولا ينازعني شغلي
فهذه قد وليها الفعل، وليست للتخضيض، والامتناعية لا يليها الفعل. فقال أبو البركات ابن الأنباري: لولا في البيت غير مركبة، بل لا باقية على حالها، ولو باقية على حالها. إلا أنهم أولوا لا الفعل الماضي كما وليها في قوله تعالى " فلا اقتحم العقبة " ، أي: لم يقتحم.

وتأويل غيره هذا البيت ونحوه، على إضمار أن، والفعل صلة لها، وارتفع الفعل بسقوط أن. وتكون لولا هي التي تختص بالأسماء، ومحل أن وصلتها رفع بالابتداء.
وقد أشار ابن مالك إلى هذين الوجهين، فقال في التسهيل: وقد يلي الفعل لولا، غير مفهمة تحضيضاً، فتؤول بلولم، أو تجعل المختصة بالأسماء، والفعل صلة لأن مقدرة. والله أعلم.
وزعم علي بن عيسى، والنحاس، أن لولا تأتي بمعنى ما النافية. وحملا على ذلك قوله تعالى " فلولا كانت قرية آمنت " ، أي: ما كانت قرية. والله عز وجل أعلم.

لوما
حرف، له قسمان: أحدهما: أن يكون حرف امتناع لوجوب، فيختص بالأسماء، ويرتفع الأسم بعده بالأبتداء، نحو: لو ما زيد لأكرمتك.
والثاني: أن يكون حرف تحضيض، فلا يليه إلا فعل، أو معمول فعل.
وحكمه، في الحالين، حكم لولا. وقد تقدم، فلا نعيده. وقال صاحب رصف المباني: اعلم أن لوما لم تجئ في كلام العرب، إلا لمعنى التحضيض. ولم يذكر المعنى الأول، وقد ذكره غيره. والله سبحانه أعلم.
مهما
المشهور أنها اسم من أسماء الشرط، مجرد عن الظرفية، مثل من. وذكر ابن مالك أنها قد ترد ظرفاً. ذكر في التسهيل، وفي الكافية. وقال في شرحها: إن جميع النحويين يجعلون ما ومهما مثل من، في لزوم التجرد عن الظرفية، مع أن استعمالها ظرفين ثابت، في أشعار الفصحاء من العرب. وأنشد أبياتاً، منها قول حاتم:
وإنك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك، نالا منتهى الذم، أجمعا
وقال ابنه بدر الدين: لا أرى في هذه الأبيات حجة، لأنه يصح تقديرها بالمصدر. وقد ذكرت ذلك في شرح التسهيل.
وقال الزمخشري في الكشاف: وهذه الكلمة في عداد الكلمات، التي يحرفها من لا يدله في علم العربية، فيضعها في غير موضعها، ويحسب مهما بمعنى متى ما. ويقول: مهما جئتني أعطيتك. وهذا من وضعه، وليس من كلام واضع العربية في شئ ثم يذهب فيفسر " مهما تأتنا به، من آية " بمعنى الوقت، فيلحد في آيات الله، وهو لا يشعر. وهذا وأمثاله مما يوجب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه. انتهى كلامه.
وذكر ابن مالك في التسهيل أن مهما قد يستفهم بها. والمشهور أنها لا تخرج عن الشرطية. وأما قوله:
مهما لي، الليلة، مهما ليه ... أودى بنعلي، وسرباليه
فلا حجة فيه، لاحتمال أن تكون مه بمعنى: اكفف، وما هي الاستفهامية.
وزعم السهيلي أن مهما قد تخرج عن الأسمية، وتكون حرفاً إذا لم يعد عليها من الجملة ضمير، كقول زهير:
ومهما تكن عند امرئ، من خليقة ... وإن خالها تخفي على الناس، تعلم
وهو قول غريب. وقد حكى خطاب الماردي، عن بعضهم، أنها تكون حرفاً، بمعنى إن. ولذلك ذكرتها في هذا الموضع. ويتعلق بها أحكام مذكورة في موضعها.
واختلف النحويون فيها، فقيل: إنها بسيطة، ووزنها فعلى، وألفها إما للتأنيث، وإما للإلحاق وزال التنوين للبناء. فهي، على هذا من باب سلس. وقال ابن إياز: لو قيل إنها مفعل، تحامياً لذلك، لم أر به بأساً. وقال الخليل: هي مركبة من ماما، وما الأولى التي للجزاء، والثانية التي تزاد بعد الجزاء. واستقبحوا التكرير، فأبدلوا من ألف الأول هاء، وجعلوهما كالشيء الواحد. وقال الأخفش، والزجاج، والبغداديون: هي مركبة من مه بمعنى: اسكت، وما الشرطية. قالوا: وقد تستعمل مه مع من التي هي شرط، فيقال: مهمن. وقال قطرب: لم يحمل الجزم بها عن فصيح. يعني مهمن. وقد أجاز سيبويه أن تكون مه أضيف إليها ما. والله أعلم.
هلا
حرف تحضيض، لا يليه إلا فعل، أو معموله، كما تقدم في أخواته. وذهب بعض النحويين إلى جواز مجيء الجملة الابتدائية، كقول الشاعر:
ونبئت ليلى أرسلت، بشفاعة ... إلي، فهلا نفس ليلى شفيعها
وتأوله ابن طاهر، وغيره، على إضمار كان الشأنية. وتأويله بعضهم على أن نفس فاعل فعل مضمر، أي: فهلا شفعت نفس ليلى وشفيعها خبر مبتدأ محذوف، أي: هي شفيعها، والأول أقرب. وأما قول الشاعر:
هلا التقدم، والقلوب صحاح
فعلى إضمار كان التامة.
وهلا أكثر استعمالاً، في التحضيض، من ألا. وتقدم ما قاله بعض النحويين، من أن هاء هلا بدل من همزة ألا. والله أعلم.
الباب الخامس
في الخماسي

وهو ثلاثة أحرف: واحد متفق على حرفيته، وهو لكن، واثنان فيهما خلاف، وهما: أنتما، وأنتن، إذا وقعا فصلا. فأما

لكن
فهو حرف استدراك. ومعنى الاستدراك أن تنسب حكماً لاسمها، يخالف المحكوم عليه قبلها. كأنك لما أخبرت عن الأول، بخبر، خفت أن يتوهم من الثاني مثل ذلك، فتداركت بخبره، إن سلباً، وإن إيجابياً. ولذلك لا يكون إلا بعد كلام، ملفوظ به، أو مقدر. وقال وقال بعضهم: لكن للاستدراك، والتوكيد.
ولا تقع لكن إلا بين متنافيين، بوجه ما. فإن كان ما قبلها نقيضاً لما بعدها، نحو: قام زيد لكن عمراً لم يقم، أو ضداً نحو: ما هذا أحمر لكنه أصفر، جاز بلا خلاف. وإن كان خلافاً، نحو: ما أكل لكنه شرب، ففيه خلاف، والظاهر الجواز. وإن كان وفاقاً لم يجز، بإجماع.
وقال الزمخشري: لكن للاستدراك، توسطها بين كلامين متغايرين، نفياً وإيجاباً. فتستدرك بها النفي بالإيجاب، والإيجاب بالنفي. وذلك قولك: ما جاءني زيد لكن عمراً جاءني، وجاءني زيد لكن عمراً لم يجئ. والتغاير في المعنى بمنزلته في اللفظ. كقولك: فارقني زيد لكن عمراً حاضر، وجاءني زيد لكن عمراً غائب، وقوله تعالى " ولو أراكهم كثيراً لفشلتم، ولتنازعتم في الأمر. ولكن الله سلم " ، على معنى النفي، وتضمن ما أراكهم كثيراً.
ومذهب البصريين أن لكن بسيطة. وهو حرف نادر البناء، لا مثال له في الأسماء، ولا في الأفعال. قال ابن يعيش: وألفه أصل، لأنا لا نعلم أحداً ، يؤخذ بقوله، ذهب إلى أن الألفات في الحروف زائدة. فلو سميت به لصار اسماً، وكانت ألفه زائدة، ويكون وزنه فاعلاً، لأن الألف لا تكون أصلاً في ذوات الأربعة، من الأسماء والأفعال.
وقال الفراء: لكن مركبة؛ أصلها لكن أن، فطرحت الهمزة ونون لكن. ونقل صاحب اللباب، عن الكوفيين، أنها مركبة من لا وإن، والكاف زائدة، والهمزة محذوفة. ونقله عنهم ابن يعيش أيضاً، قال: وذهب الكوفيون إلى أنها مركبة، وأصلها إن زيدت عليها لا والكاف. وهو قول حسن، لندرة البناء، وعدم النظير. ويؤيده دخول اللام في خبره، كما تدخل في خبر إن، على مذهبهم. ومنه:
ولكنني، من حبها، لعميد
والمذهب الأول، لضعف تركيب ثلاثة أشياء، وجعلها حرفاً واحداً. انتهى.
وقيل: إنها مركبة من لا وكأن، والكاف للتشبيه، وأن على أصلها. ولذلك وقعت بين كلامين، من نفي لشيء، وإثبات لغيره. وهو رأي السهيلي.
ولكن لها أحكام، مذكورة في باب إن، نشير هنا إلى بعضها: فمنها أنها تنصب الأسم، وترفع الخبر، لشبهها بالفعل، كأخواتها. وتقدم مذهب من أجاز نصب الجزءين بها، وبأخواتها.
ومنها أنها تكف بما، فتدخل على الجملتين. فالأسمية كقول الشاعر:
ولكنما أهلي بود، أنيسه ... سباع تبغى الناس، مثنى، وموحد
والفعلية كقول امرئ القيس:
ولكنما أسعى، لمجد، مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل، أمثالي
وتقدم قول من أجاز الإعمال، وجعل ما زائدة ملغاة.
ومنها أن اللام لا تدخل في خبرها، خلافاً للكوفيين. وأما قول الشاعر:
ولكنني، من حبها، لعميد فلا حجة فيه، لأنه بيت مجهول، لا يعرف له تمام، ولا شاعر، ولا راو عدل يقول: سمعته ممن يوثق بعربيته. هكذا قال ابن مالك. وأيضاً فإنه متأول على تقدير: ولكن إنني. فنقلت حركة الهمزة، ثم حذفت النون، وأدغم.
ومنها أنها قد تخفف، فيبطل عملها، خلافاً ليونس، والأخفش، في إجازتها إعمالها. وقد سبق بيان مذهبهما.
وما سوى هذا، من أحكام لكن، فلا حاجة لذكره هنا. والله أعلم.
وأما
أنتما وأنتن
إذا وقعا فصلاً، ففيهما خلاف مشهور. وقد تقدم في أخواتهما.
فهذا آخر الكلام على الخماسي. وبتمامه تم الكلام على جميع حروف المعاني.
وقد ذكر بعضهم أن كان الزائدة حرف. وكذلك أصبح وأمسى في قول العرب: ما أصبح أبردها، وما أمسى أدفأها. قالا: لأن الأفعال لا تزاد.
وقال بعضهم: إن الذي تكون حرفاً، على مذهب يونس، والفراء، لأنها تكون عندهما مصدرية، لا تحتاج إلى عائد.
وقد كان حق هذا الألفاظ أن أذكرها في باب الثلاثي، والرباعي. وإنما أهملت ذكرها هناك، لشهرتها، وغرابة القول بحرفيتها. وللكلام عليها موضع، هو أليق به من هذا الكتاب.

والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب. والله، سبحانه وتعالى، المسؤول أن يجعلنا ممن دعي فأجاب، وأن يرشدنا للتسديد في السؤال والجواب، وممن فهم الحكمة وفصل الخطاب، وأن يصلي على سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى الآل والأصحاب، وتابعيهم إلى يوم المآب، آمين.

أقسام الكتاب
1 2