كتاب : الرسائل
المؤلف : أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

وقد دللتك على ناسٍ يجمعون لك الخصال التي فيها دوام لذّتك، وتمام شهوتك؛ فإن زعمت أن الذي يثبت روح دندن في بدنه، وروح القاسم في جسمه، سرورهما بما قد احتجنا من كنوز الخلافة وأموال الرعيَّة، وليس ذلك من رسوخ أرواحهما في أبدانهما، ومن شدة الاحتجان وقوة الاكتناز، ففرَّق بينهما وبين تلك الأموال التي تمسك أرواحهما بالحيل اللطيفة، والتدبير النافذ، وبأن تمضي فيهما حكم الكتاب والسنّة؛ فإنه سيحلُّ عقدة أرواحهما عقداً عقداً، فيعظم أجرك، ويطيب ذكرك، وتطيع الخليفة وتتحبَّب به إلى الأمة؛ فتكون قد أحسنت في صرف الضَّرب إلى أهله، وأرحت منه غير أهله.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

الرسالة السادسة
رسالة في نفي التشبيه
إلى أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي داود
بسم الله الرحمن الرحيم
أطال الله بقاءك وحفظك، وأتمَّ نعمته عليك، وكرامته لك.
قد عرفت - أكرمك الله - ما كان الناس فيه من القول بالتشبيه والتعاون عليه والمعاداة فيه، وما كان في ذلك من الإثم الكبير والفرْية الفاحشة، وما كان لأهله من الجماعات الكثيرة والقوة الظاهرة، والسلطان المكين، مع تقليد العوامِّ وميل السَّفلة والطَّغام.
وليست للخاصة قوّة بالعامة، ولا للعيلة قوة على الأراذل؛ فقد قالت الأوائل فيهم، وفي الاستعاذة بالله منهم: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: نعوذ بالله من قومٍ إذا اجتمعوا لم يُملكوا، وإذا تفرقوا لم يُعرفوا.
وقال واصل بن عطاء: " ما اجتمعوا إلا ضَرُّوا، ولا تفرَّقوا إلا نفعوا " فقيل له: قد عرفنا مضرّة الاجتماع، فما منفعة الافتراق؟ قال: يرجع الطَّيَّان إلى تطيينه، والحائك إلى حياكته، والملاح إلى ملاحته، والصَّائغ إلى صياغته، وكلُّ إنسانٍ إلى صناعته. وكلُّ ذلك مرفقٌ للمسلمين، ومعونة للمحتاجين.
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذا نظر إلى الطَّغام والحَشْو قال: " قبح الله هذه الوجوه، لا تُعرف إلا عند الشرّ " .
وقال الخُرَيميّ عند ذكره إياهم، في شعره، بالتَّعاوي مع المخلوع:
من البواري تراسُها ومن ال ... خُوص إذا استلأمتْ مغافرها
لا الرِّزق تبغي ولا العطاء ولا ... يحشرها بالفناء حاشرُها
وقال شبيب بن شبيبة: قاربوا هذه السَّفلة وباعدوها، وكونوا معها وفارقوها، واعلموا أنَّ الغلبة لمن كانت معه، وأنَّ المقهور من صارت عليه.
وقد وصفهم بعض العلماء فقال: يجتمعون من حيث يفترقون، ويفترقون من حيث يجتمعون، لا يُفلُّ غربهم إذا صالوا، ولا تنجع فيهم الحيلة إذا هاجموا.
والعوامُّ - أبقاك الله - إذا كانت نشراً فأمْرُها أيسر، ومُدّة هيجها أقصر. فإذا كان لها رئيسٌ حاذق ومُطاع مدبِّر، وإمام مقلَّد، فعند ذلك ينقطع الطَّمع، ويموت الحقّ ويُقتل المُحقّ. فلولا أنَّ لهم متكلِّمين، وقُصّاصاً متفقِّهين، وقوماً قد باينوهم في المعرفة بعض المباينة، لم يلحقوا بالخاصّة، ولا بأهل المعرفة التَّامَّة. ولكنا كما نخالفهم نرجوهم، وكما نُشفق منهم نطمع فيهم.
ثم قد علمت ما كنا فيه من إسقاط شهادات الموحِّدين وإخافة علماء المتكلِّمين. ولولا الكلام لم يَقُم لله دين، ولم نبنْ من الملحدين، ولم يكن بين الباطل والحقّ فرق، ولا بين النبي والمتنبِّي فصل، ولا بانت الحُجة من الحيلة، والدليل من الشُّبهة.
ثم لصناعة الكلام مع ذلك فضيلةٌ على كلِّ صناعة، ومزيّةٌ على كل أدب. ولذلك جعلوا الكلام عياراً على كلِّ نظر، وزماماً على كلِّ قياس. وإنما جعلوا له الأمور وخصُّوه بالفضيلة لحاجة كلِّ عالم إليه، وعدم استغنائه عنه.

فلم يزل - أكرمك الله - كذلك حتَّى وضع الله من عزِّهم، ونقص من قوَّتهم. وليس لأمر الله مردٌّ، ولا لقضائه مدفع. وحتَّى تحوَّل إلينا رجالٌ من قادتهم ومن أعلامهم، والمُطاعين فيهم، وارتاب قومٌ ونافق آخرون. وحتَّى تحوَّلت المحنة عليهم، والتَّقيَّة فيهم. وذلك كلُّه على يد شيخك وشيخنا بعدك - أعزه الله - بما بذل من جُهده، وعرَّض من نفسه، وتفرَّد بمكروهه، وغرغر مراره، صابراً على جسيمه؛ يرى الكثير في ذلك قليلا، والإغراق تقصيرا، وبذل النَّفس يسيرا. على حين خار كلُّ بطل، وحاد كل مُقْدم، وعرَّد كلُّ رئيس، وأضاف كلُّ مستبصر، وطاح كلُّ نفّاج، واستخفى كل مُراءٍ. وحتى صاروا هم الذين يُشيرون عليه بالملاينة، ويحسِّنون عنده المقاربة، ويخوِّفونه العاقبة، ويزعمون أنَّ لكلِّ زمانٍ تدبيراً ومصلحة، وأنَّ إبعادهم أتقر لطبائعهم، وإن إطلاقها أنجع فيما يراد منهم. وحتَّى سَّموا المداهنة مداراة، وإعطاء الرِّضا تقيّة، والشَّدَّة عند الفرصة خُرقا، والانحياز مع صواب الإقدام رفقا، وموالاة المخالف مخالفة، والمصافاة معاشرة، والمهانة حلما، والضَّعف في الدِّين احتمالا. كما سمَّى قومٌ الفرار انحيازا، والبُخْل اقتصادا، والجائر مستقصيا، والبلاء عارضا، والخطل بلاغة. فكذلك كانوا وكان. وعلى هذا افترق أمرهم؛ وذلك مشهور عنهم.
ثم يصُول أحدهم على منْ شتمه، ويسالم من شتم ربَّه، ويغضب على من شبَّه أباه بعبده، ولا يغضب على من شبَّه الله بخلقه، ويزعم أنَّ في أحاديث المشبَّهة تأويلاً ومجازاً ومخارج، وأنَّها حقٌّ وصدق. فإذا قيس...... طلب لهذا المجاز ظلم، وقال ما يليق بلفظ الحديث، فيكون بشهادته لصحة أحاديثهم مُقرّاً، فيصير فيما يدَّعي من خلاف تأويلهم مدَّعياً. ولو كانت هذه الأحاديث كلُّها حقّاً كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: " سيفشو الكذبُ بعدي، فما جاءكم من الحديث فاعرضوه على كتاب الله " باطلاً.
وهذا المذهب لمنْ ينتحل طريقتنا، زعمه سبيلنا، جورٌ شديد، ومذاهب قبيحة، وتقرب فاحش.
وليس ينبغي لديَّان أن يوادَّ من حادَّ الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.
فمتى إذن تزول التَّقيّة، ويجب إظهار الحقّ والنُّصرة للدِّين، والمباينة للمُخالفين؟! أحين يموت الخصم ويبيد أثره ويهلك عقبه ويقلُّ ناصره، ويزول جميع الخوف ويكون على يقين من السلامة. وكيف يكون القائم حينئذ بالحقِّ مطيعاً، ولله معظماً؟! فقد سقطت المحنة وزالت البلوى والمشقَّة. وهل المعصية إلا ما مازجه الهوى والشهوة، وهل الطاعة إلا ما شابه المكروه والكلفة، وكيف يُتكلَّف مالا مؤونة فيه، وكيف يُحمد مالا مرزئة عليه. وكيف يكون شجاعاً من أقدم في الأمن، وتكمَّن في الخوف. أو ليست النار محفوفةً بالشهوات، أو ليست الجنّة محفوفةً بالمكاره. وكيف صاروا في باطلهم أيام قدرتهم أقوى منا في حقنا أيام قُدرتنا.
وقد علمت - أرشد الله أمرك - أنَّ التشبيه وإن كان أهله مقموعين ومُهانين وممتحنين، فإنَّ عدد الجماجم على حاله، وضمير أكثرهم على ما كان عليه، والذين ماتوا قليلٌ من كثير. ونحن لا ننتفع بالمنافق، ولا نستعين بالمرتاب، ولا نثق بالجانح، وإن كانت المبادأة قد نقصت فإنّ القلوب أفسدُ ما كانت.
وقد كانوا يتَّكلمون على السُلطان والقدرة، وعلى العدد والثَّروة، وعلى طاعة الرَّعاع والسِّفلة؛ فقد صاروا اليوم إلى المنازعة أمْيل، وبها أكلف؛ لأنهم حينما يئسوا من القهر بالحشوة والسِّفلة، وبالباعة، وبالولاة الفسقة، وقلوبهم ممتلئة ونفوسهم هائجة. ولا بدَّ لمن كانت هذه صفته، وهذا نعْته، من أن يستعمل الحيلة والحجّة، إذْ أعجزه البطش والصَّولة. وكلُّ من كان غيظه يفضل عن حلمه، وحاجته تفضل عن قناعته، فواجبٌ أن ينكشف قناعه، ويظهر سرُّه، ويبدو مكنونه.
وقد أطمعني فيهم مناظرتهم لنا، ومقايستهم لأصحابنا. وقد صاروا بعد السّبّ يَحُفُّون، وبعد تحريم الكلام يجالسون، وبعد التصامِّ يستمعون، وبعد التجليح يدارون؛ والعامة لا تفطن لتأويل كفِّها، ولا تعرف مقاربتها. فقد مالت إلينا على قدر ما ظهر من ميلها، وأصغت لما ترى من استماعها.

وقد كتبت - مدَّ الله في عُمرك - في الردِّ على المشبِّهة كتاباً لا يرتفع عنه الحاذق المستغني، ولا يرتفع عن الريِّض المبتدئ. وأكثر ما يعتمد عليه العامة ودهماء أهل التشبيه من هذه الأمور ويشتمل عليه الفضْل من حُشْوة الناس، ويُختدع به المحدثون من الجمهور الأعظم، تحريف آيٍ كثيرةٍ إلى غير تأويلها، ورواياتٍ كثيرة إلى غير معانيها. وقد بيَّنت ذلك بالوجوه القريبة، والدلالات المختصرة، وبالأشعار الصحيحة والأمثال السائرة، واستشهدت الكلام المعروف، والقياس على الموجود.
وهو مع ذلك كلِّه كتابٌ قَصْدٌ، ومقدار عدلٌ، لم يفضلْ عن الحاجة، ولم يقصِّر عن مقدار البُغية. على أنَّ الكلام لا ينبغي أن يكثر وإن كان حسناً كلُّه، إذا كان السامع لا ينْشَط له، وجاز قدر احتماله؛ لأنَّ غاية المتكلِّم انتفاع المستمع. وقد قال الأولون: " قليل الموعظة مع نشاط الموعوظ، خيرٌ من كثيرٍ وافق من الأسماع نبوةً، ومن القلوب ملالةً " .
وقال بكر بن عبد الله المزنّي: ليس الواعظ من جهل أقدار السامعين، وإنابة المرتدِّين، وملالة المستطرفين.
وقال علي بن أبي طالبٍ، رضوان الله عليه: " إن هذه القلوب تمُّل كما تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طُرف الحكمة " .
وقد كان يقال: إنَّ للقلوب شهوةً وإقبالا، وفترة وإدباراً؛ فأْتوها من حيث شهوتها وإقبالها.
وكان يقال: إذا أُكره القلب عمي.
وقال واصل بن عطاء: طول التحديق يكلُّ الناظر، وناظر القلب أضعف منه.
وزعم عمران بن حُدير قال: قال قسامة بن زهير: روِّحوا هذه القلوب تع الذِّكر.
وقال عبد الملك بن قُريب: قال أبو الدَّرداء: إنِّي لأستجمُّ نفسي ببعض الباطل كراهة أنْ أحمل عليها من الحقِّ فأُكلَّها.
وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاصٍ، رضي الله عنهما، وهو بالقادسيّة: أنْ جنِّبْهم حديث الجاهلية؛ فإنه يذكِّر الأحقاد. وعِظْهم بأيام الله ما نشطوا لاستماعها.
وقالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا بالموعظة.
ولذلك أمروا بالجمام وزيارة الغِبّ.
ورووا أنَّ شرَّ السَّيرْ الحقحقة.
ولأن ينقص الكتاب عن مقدار الحاجة أحبُّ إليَّ من أن يفضل عن مقدار القوّة؛ لأنَّ الملالة تبغِّض في الجميع، وتزهِّد في الكُلّ.
فأنا أسألك - أكرمك الله - أن ترى هذا الكتاب وتقرأ ما خفَّ عليك منه. فإن يصلح الكلام وكان كما وصفت وكما ضمنت، حثثت على قراءته وعلى اتِّخاذه، وعلى تخليده وعلى تدوينه، وأمرت من يحتاج إلى المادَّة، وإلى حُسن المعونة من الموافقين والإخوان الصَّالحين، أن ينظروا فيه، وأن يبثّوه ويشيعوه.
وقد كنت أنا على ذلك قادراً، وبه مستوصيا؛ ولكنَّ الرجل الرفيع إذا رفع الشيء ارتفع، كما أنَّه إذا وضع الشيء اتَّضع.
وإن كنت فيه غلقاً أو لعلَّته مستكثرا، كان لك بحُسن نيتك وصلاح مذهبك، والذي رجوت عنده من المنفعة وصلاح قلوب العامَّة، الأجر الكبير، والثواب العظيم، مع ما تقضي بذلك من ذمام المتحرِّم بك، والمتحلِّي من بيتك؛ ومع اليد البيضاء والصَّنيع المشكور.
وحرامٌ على كلِّ متكلِّمٍ عالم، وفقيه مطاوعٍ، وخطيب مفوَّه إن كان عنده من الأمر شيء، إلا أن يأتيكم به، ويذكِّركم بما عنده، قلَّ ذلك أو كثر، وصادفمنكم شُغلاً أو فراغا، لأنَّ ذلك من عندكم أنفق، والناس إليه أسرع، والقلوب إليه أسكن، وهو في العيون أعظم، لما جعل الله عندكم من حُسن الاختيار، والعلم بمنافع العباد، ومصالح البلاد؛ إذْ كنتم المفْزع والمقنع، والأئمة والمنزع. ولولا ما قُلِّدتم من أمر الجماعة، والقيام بشأن الخاصّة والعامة، وأنَّ الشّغل برعاية حقِّها والدِّفاع عنها، لم يُبقِ في قُواكم فضلاً للدُّعاء والمنازعة، ولوضْع الكتب بالجواب والمسألة لبدأ بكم الفرْض، ولكنتم أحقَّ بهذا الأمر.

على أنَّنا لم ننطق إلاَّ بألسنتكم، ولم نحتذ إلا على مثالكم، ولم نقْوَ إلا بما أعرتمونا من فضْل قوَّتكم. وعلى الرُّواة من الأدباء، وعلى أهل اللَّسن من الخطباء، معاونتكم ومكاتفتكم، والجلوس بين أيديكم والاستماع منكم، وعلى أن يطيعوا أمركم، وأن ينفذوا لطاعتكم، وأن يخلصوا في الدُّعاء، وأن يمحضوا النصيحة، وأن يضمروا غاية المحبَّة، وأن يعملوا في كفّ الغلِّ والحسد، وأن لا يرضوا من أنفسهم بالنِّفاق، وأن يعلموا أنَّ الحسد لا يقع إلا بين الأشكال، وأنَّ التنافس لا يكون إلا مع تقارب الحال.
وقد كان يقال: لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا تقاربوا هلكوا.
وكان يقال: ثلاثةٌ توجب الضِّغْن وتُكثر من الغِلّ: المجاورة في المنزل، والاستواء في النَّسب، والمشاكلة في الصِّناعة.
ولذلك قال شبيب بن شيبة لرجلٍ ادَّعى محبَّته ونصيحته: " وكيف لا يكون كما وصفت وكما ذكرت، ولست بخطيبٍ، ولا جارٍ قريبٍ، ولا ابن عمٍّ نسيب " .
وقال بعض الحكماء: لو لم تعرفوا من لؤم الحسد إلا أنَّه موكَّل بالأدنى فالأدنى. وليس يقع ذلك بين المتباينين، ولا يجوز في المتقاربين.
ولا يكون الطَّلب إلا بالطمع، ولا يكون الطمع إلا بالسَّبب. فإذا انقطع السَّبب انقطع الطَّمع، وفي عدم الطَّمع عدم الطلب. وكيف يتكلَّف الطيران من لا جناح له، وكيف يرجو صلاح أمر العامّة وترتيب الخاصَّة من عجز عن تدبير بيته، وقصَّر عن تدبير عبْده؟! وإنصاف اللِّسان قليل، وإنصاف القلب أقلُّ منه.
ونحن نرغب إلى الله في صلاحهم؛ فإنَّ في صلاحهم صلاح قلوبنا لهم.
وقد جعل الله الشكر موصولاً بالمزيد، ومن الشُّكر على نعمة الله علينا بكم أن نعظِّم ما عظَّم الله من أمركم. ومن صغّر ما عظَّم الله فقد عظَّم ما صغَّر الله. ولا يفعل ذلك إلا الصَّغير القدْر، والخامل الذّكر، والجاهل بالأمر.
وكيف لا تكونون على ما خبَّرت وكما وصفت، وقد أغنيتم من العيلة، وآنستم من الوحشة، وجمعتم الشَّمل، وأعدتم الألفة، ورددتم الظُّلامة، وأحييتم السُّنَّة، وأبرزتم التوحيد بعد اكتتامه، وأظهرتموه بعد استخفائه، واحتملتم عداوة الجميع، ووترتم المطاعنين في تقويتنا.
ونحن لا نُطالب ما كنتم قياماً، ولا نُذكر ما كنتم شهوداً. ونحن مع قلَّة علمنا لا نجد أبداً عملنا إلا مقصِّراً عن علمنا. وأنتم مع اتِّساع قلوبكم، أعمالكم وفق علومكم؛ لأنَّ كلَّ من بذل كلَّ مجهوده، وخاطر بجميع نعمته، وكانت الواحدة من نعمه كالجميع من نِعم غيره، مع خذلان الموافق ونكوص المؤازر، ثم لم تزدْه الشدائد إلاَّ شدَّة، والوحدة إلا أنسة حقيقٌ بالتَّفضيل والتعظيم، والإنابة له بالتقديم.
ولعل قائلاً أن يقول: أدخله في جملة صفات أبيه، وجلَّة مشيخته وأقربيه، حيث خصَّهم بالتقديم، وأبانهم بالتعظيم. بل كيف يقدَّم من صغرت سنُّه وقلَّت تجربته على من تقاربت سنُّه وكثرت تجربته. وكيف تمكن الطاعة الكثيرة في الأيام القصيرة والشهور اليسيرة؟ وهل يقول ذلك صاحب تحصيلٍ ومقايسة، والبعيد من الملق والمخادعة.
وما قلت ذلك - حفظك الله - ولا انتحلته، إلا وبرهاني حاضر، وشاهدي شاهد. وذلك أنَّ للشَّباب سكرة وطماحاً، وقراعاً وصولة. والهرم داخلٌ على جميع الأعضاء، وآخذ بقسطه من جميع الأجزاء. ألا ترى كيف يكلُّ ناظره وسامعه، وذائقه وشامُّه، وهاشمه وعامله؛ وكيف تُنقص على مرور الأيام قوّته، وكذلك قلبه وكلُّ ما بطن من أمره، على قدر ما نقص من قُوى جسمه وتُنُقِّص من قوى شهوته. ويخفُّ عليه مخالفة هواه، ومحاربة نوازعه. ومن حمل على نفسه في كمال شبابه وأيَّام سكرته، وفي سلطان حدَّته وكمال قوَّته، فظلفها مرّةً وكبحها أخرى، وعاين تلك التكاليف، وغلب تلك الرِّيح كان أبرز طاعةً؛ إذْ كان أحمل للمشقة.
وعلى قدر المشقّة تكون المثوبة، وتعظُم عند الله المنزلة، وتقع له في قلوب الناس المحبّة. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقّاص، حين وجَّهه إلى العراق: " يا سعد بني وهيب، إن الله إذا أحبَّ عبداً حبَّبه إلى خلقْه. فاعتبر منزلتك من النَّاس، واعلمْ أنَّ مالك عند الله مثل ما لله عندك. ونحن نعتبر حالك عند الله بالذي نجد لك في قلوب عباده. وقد ملَّك الله بعض الناس أبدان بعض، ولم يملَّك القلوب أحداً غيره " .

وأمّا قولهم: إن الغرارة مقرونة بالحداثة، والحنكة موصولةٌ بطول التجربة، فإنَّ الذِّهن الحديد والطّبع الصحيح، والإرادة الوافرة، ينال في الأيام اليسيرة، ويُدرك في الدُّهور القصيرة، ما لا تدركه العقول المخدوجة، ولا الطبائع المدخولة، والإرادة الناقصة، في الأيام الكثيرة، والدُّهور الطويلة.
وربما صادف القائل مع ذكائه وكثرة قراءته وجودة اعتباره، زماناً أكثر عجباً، وأكثر معتبراً، وإنْ كانت شهوره أقلَّ، وأيامه أقصر، فينال مع قلَّة الأيام ما لا ينال سواه مع كثرتها، ولا سيَّما إذا أُعين بحفظٍ، وأحسَّ من نفسه بفضل بيان.
وليس من نظر في العلم على الرَّغبة والشهوة له كمن نظر فيه على المكسبة به والهرب إليه؛ لأن النفس لا تُسمح بكلِّ قواها إلا مع النشاط والشَّهوة، وهي في ذلك لنفسها مستكرهة ولها مكابدة. والسآمة إلى من كانت هذه صفته أقرب، وله ألزم. ولولا ذلك لما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُعاذ بن جبلٍ اليمن، وجعل إليه قبض الصَّدقات، ومحاسبة العمّال، وقلَّده الأحكام وتعليم الناس الإسلام، وهو ابن ثماني عشرة سنة. ولا يدفع ذلك صاحب خبرٍ ولا حامل أثر.
وعلى مثل ذلك عقد لأُسامة بن زيدٍ الإمرة، وأبانه بالتَّقدمة على جِلَّة الأنصار وكبار المهاجرين، وخيار السَّلف المتقدِّمين.
وعلى مثل ذلك ولّى عتَّاب بن أسيدٍ مكة، وبها عظماء قريش وكبراء العرب وذوو الأخطار من كلِّ قبيلة، وذوو الأسنان من كلِّ جيل. ومكة فتح الفتوح، وأمُّ القرى، وخاتمة الهجرة وقبلة العرب، وموضع الحرم والموسم الأعظم والحجِّ الأكبر، والأصل والمفخر.
وقد رأيتم ما بلغ بخالد بن يزيد في السودد والمحبَّة، وقود الجيوش والهيبة، وهو ابن خمس عشرة سنة. وقد ذكر ذلك الكميت بن زيد فقال:
قاد الجيوش لخمس عشرة حجّةً ... ولداته عن ذلك في أشغال
قعدت بهم همّاتهم وسما به ... همم الملوك وسورة الأبطال
فأما ابن بيضٍ فقال:
بلغت لعشرٍ مضت من سني ... ك ما يبلغ السيِّد الأشيب
فهمُّك فيها جسام الأمور ... وهمُّ لداتك أن يلعبوا
وعلى مثل ذلك قال الفرزدق في يزيد بن المهلَّب:
ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... ودنا وكان لخمسة الأشبار
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار
وعلى خذا المجرى مدح الشاعر فقال:
ما زلت في عقل الكبي ... ر وأنت في سنِّ الصغير
وقد رأيتم ما بلغ محمد بن القاسم من الفتوح العظام والأيام الجسام، والقهر للأعداء، وبلوغ المحبَّة في الأولياء، وهو ابن خمس عشرة سنة. وقد ذكر ذلك زيادٌ الأعجم فقال:
ما إن سمعت ولا رأيت عجيبةً ... كمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لخمس عشرة حِجَّةً ... يا قرب ذلك سودداً من مولد
وقال الآخر:
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه عسير
وقال آخر:
إذا ما ترعرع فينا الغلام ... فليس يقال له من هوه
إذا لم يسد قبل شدِّ الإزار ... فذلك فينا الذي لا هوه
ولي صاحبٌ من بني الشيصبان ... فطوراً أقول وطوراً هوه
وزعموا أن عمرو بن سعيد قال له معاوية - وذلك قبل أن يبلغ ويحتلم - إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إنَّ أبي أوصى إليَّ ولم يوصِ بي. وقال: فيم أوصاك؟ قال: أوصاني ألا يفقد إخوانه منه إلا وجهه.
ولو لم يعرف ذلك إلا بعبد الله بن العباس وحْده كان ذلك كافياً، وبرهاناً شافياً، فإن الأعجوبة فيه أربتْ على كلِّ عجب، وقطعتْ كلَّ سبب. وقد رأيتم حاجة عُمر إليه، واستشارته إياه، وتقويمه لعثمان رضي الله عنهما وتغييره عليه. ولو لم يكن للفضيلة من بين أقرانه مستحقّاً، وبها مخصوصاً، ما خصَّه الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة المستجابة، ولما خصَّه بعلم الكتاب والسُّنَّة وهما أرفع العلم، وأشرف الفكر. ويدُلُّك على تقديمه للغاية، وإيثاره للتعليم والاستبانة، قوله حين قيل له في حداثته وقبل البلوغ في سنّه: ما الذي آتاك هذا العلم وهذا البيان والفهم؟ قال: " قلبٌ عقولٌ، ولسانٌ سؤول " .

وقد عرفتم تحاكم العرب في الجاهلية في النُّفورة، وفي غير ذلك من المخايرة والمشاورة، إلى أبي جهل بن هشام في أيَّام حداثته وفتائه؛ ولذلك أدخلوه دار الندوة، ودفع مع ذوي الأسنان والحنكة من بين جميع الشُّبَّان، ومن بين جميع الفتيان.
ولذلك قال قُطبة بن سيَّار حكيم فزارة حين تنافر إليه عامر بن الطُّفيل وعلقمة بن عُلاثة: عليكم بالحديد الذِّهن، الحديث السِّنّ. يعني أبا جهل.
فهذا كلُّه دليلٌ واضح، وبرهان بيِّن.
ولعل قائلاً أن يقول: إنما الفضل في خشونة الملبس؛ وليس ذلك لمن مدحت، ولا هذه صفة من وصفت.
وهذا بابٌ - أبقاك الله - قد يغلظ فيه العاقل ما لم يكن بارعاً، والفطن ما لم يكن ثاقباً، والأريب ما لم يكن كاملاً. ولو كان الفضل والرِّياسة والقدر والنَّباهة على قدر قشف الجلدة وبذاذة الهيئة، وكثرة الصَّوم، وإيثار الوحْشة والسياحة لكان عثمان بن مظعونٍ متقدِّماً لأبي بكر الصديق رضوان الله عليه، ولكان بلال بن رباحٍ غامراً لعثمان بن عفان رضي الله عنهما.
وقد قال ابن شهابٍ الزُّهري: ليس الناسك إلا من غلب الحرام صبره، والحلال شكره.
فهذا ما حضرنا من القول، وأمكننا من الاحتجاج. وما أشكُّ أنَّ من خبر أمرك أكثر من اختباري كان عنده أكثر من علمي. وعلى أنَّ منظرك - أسعدك الله - يُغني عن المخبر، والفراسة فيك تكفي مؤونة التجربة لك. وقد تقيَّلت بحمد الله أخلاق شيخك، واحتذيت على مثالهكما احتذى على مثال من كان قبله. ولو لم يتعقَّبوا أمرك، ويتصفَّحوا سيرتك في نفسك ثم في خاصَّتك وعامَّتك، لكان في صدق الفراسة وظهور المحبّة ما تقضي به النفوس، ويستدلُّ به المجرِّب.
وظنُّ العاقل كيقين غيره.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنك لن تنتفع بعقله حتَّى تنتفع بظنِّه.
وقال أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن لك الظَّ ... ن كأنْ قد رأى وقد سمعا
وقال وهو يمدح ابن كلدة بصدق الحسِّ، وصواب الحدْس، وجودة الظن:
أريبٌ أديب أخو مأزقٍ ... نقاباً يخبٍّر بالغائب
وقال آخر يمدح بمثل ذلك عبد الملك بن مروان:
رأيت أبا الوليد غداة جمعٍ ... به شيبٌ وما فقد الشَّبابا
ولكن تحت ذاك الشَّيب حزمٌ ... إذا ما ظنَّ أمرض أو أصابا
وقال الله تبارك وتعالى: " ولقد صَدَّق عليهم إبليس ظنَّه " . وقال: " إنَّ بعض الظّنَّ إثم " . وفي ذكره البعض دليلٌ على أنَّ سائر ذلك صواب وطاعة.
وكان من أسباب دفْعي إليك هذا الكتاب - أبقاك الله - دون أبي عبد الله أكرمه الله، أنكما قد تجريان في بعض الأمور مجرىً واحداً، ولأنك وإنْ كنت كثير الشُّغل فهو أقلُّ فراغاً منك على كثرة شُغلك، وفرط عنايتك بما استكفاك واسرعاك. وإنْ جعلت لي قسماً من وقت فراغك،ونصيباً من ساعة نشاطك. رجوت أن يصير إلى ما أمَّلناه عندك من الإنعام عليّ، والاسترهان لشكري؛ فإنَّ العرب لم تعظِّم شيئاً قطُّ كتعظيمها موقع الإنعام والشكر والأحدوثة الحسنة، والذكر والتمييز، والاستمداد للنعم، والكفر حائل بين العّوْد والبدْء.
قال عنترة:
نِّبيت بشراً غير شاكر نعمتي ... والكفر مخبثةٌ لنفس المنعم
وقال السِّنديُّ:
فلم أُجز بُالحسنى وعادت مشاربي ... بلاقع يقروها الحمام المُقرقرُ
تبدَّلت بالإحسان سوءاً وربما ... تنكَّر للمعروف من كان يكفر
ويدل على حبِّهم للثناء وجميل الذكر قول الأسديّ:
فإني أحبُّ الخلد لو أستطيعه ... وكالخلد عندي أن أموت ولم ألم
وقال:
فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بمسعاتنا إنَّ الثناء هو الخلد
وقال الغنويّ:
فإذابلغتم أهلكم فتحدَّثوا ... إنَّ الحديث مهالكٌ وخلود
فجعلوا الذكر بالجميل مثل الخلود في النعيم.
وعلى هذا المعنى قال في درك الثأر:
فقتلاً بتقتيل وعقراً كعقركم ... جزاء العطاس لا يموت من اثّأر
وقال حكيم الفرس حين بلغه موت الإسكندر، وهو قاتل دارا بن دارا: ما ظننت أنَّ قاتل دارا يموت! وهذا القول هو أمدح منه لقاتله. ولم أسمع للعجم كلمةً قطُّ أمدح منها. فأما العرب فقد أصبت لهم من هذا الضرب كلاماً كثيراً.

ومما يدلُّ على قدر عظم الشكر عند الشاكر والمشكور له من العرب، قول أوس بن حجرٍ في حليمة:
سنجزيك أو يجزيك عنَّا مثوِّبٌ ... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي
وقال بعض الشعراء:
فلم أجزه إلا التشكّر جاهداً ... وحسبك منِّي أن أقول فأحمد
وكانوا يرون للذنب مالا يراه غيرهم. وقال امرؤ القيس بن حجر: " وجرح اللسان كجرح اليد " .وقال جرير: " وللسيف أشوى وقعةً من لسانيا " في أشعار كثيرة.
ولست أمتُّ إليك - أكرمك الله - بعد التوحيد ونفى التشبيه، ونصرتي للدِّين، بأمرٍ أنا به أوثق من رغبتك في شكر الكرام والأحدوثة الحسنة. قال الله عز وجل: " ورفعنا لك ذكرك " وقال: " وإنَّه لذكرٌ لك ولقومك " . فلو كان حبُّ الذكر خطيئةً لما رغَّبهم فيه، ولا عدَّ في نعمه.
ولعل قائلاً أن يقول: وكيف لم تذكر أمير المؤمنين، والمعتصم برب العالمين، الذي حقق الله به الدِّين وسدّد به الثغور، وردَّ به المظالم، وحسمبه عرق البغي ونواجم الفتنة؛ الذي لم يزل الله يزيده في كلِّ طرفةٍ محبة، ومع كلِّ محبة هيبة، ومع كلِّ نعمةٍ شكراً، ومع كل شكرٍ فضلا. وهو المبتدئ بهذا الأمر والقائم به، والقطب الذي عليه تدور الرحى، وعلى مثاله احتذى من احتذى، وبلسانه نطق، وعن رأيه صدر. وبيمن نقيبته ظهر، وبفضل قوَّته نهض. وهو أول هذا الأمر ووسطه، به يتمَّ إن شاء الله تعالى.
قلنا: إنَّ عقل الرسول يدلُّ على مرسله، واعتدال القناة يدلُّ على حذق المثقف، ومديحك الوزير راجعٌ إلى وزيره والمحتذي على مثاله، بل قد علم الناس أنَّ الحظَّ الأكبر للآمر دون المطيع، وللمعلم دون القائل، ولأن المسبب في عداله وعند النظر والتحصيل، أفضل من المسبب، والمتبوع خير من التابع. ألا ترى أنَّ من مدح الأنصار فهو للنبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين أمدح، وإن لم يظهر ذكرهم في الوصف.
قال جرير: " تلكم قريش والأنصار أنصاري " وقال رؤبة: " ومن على المنبر لي والمنبر " وربما كانت الكناية أبلغ في التعظيم، وأدعى إلى التقديم، من الإفصاح والشرح. وربما أتى من السكوت بما يعجز القول عنه وقد بلغ أقصى حاجته وغاية أمنيته بالإيماء ة الإشارة، حتى يكون تكلُّف القول فضلاً، والكلام خطلا.
وما عيى أن أقول فيمن قد قوى عقله بطبيعته، وانتصف عزمه من شهوته، وكان عمله وفق علمه، وعمله غامراً لخصمه.
وقد يجري الملك على عرق صالح ومنشأ سوء، فيقدح ذلك في عرقه وإن لم يستأصله، وقد يكون له عرقٌ صالحٌ ومنشأ صدقٍ، وتكون أداته تامةً ويكون مؤثراً لهواه، فيكون في الاسم وفي ظاهر الحكم كمن فسد عرقه وخبث منشؤه.
وقد جمع الله لأمير المؤمنين مع كرم العروق وصلاح المنشأ، البعد من إيثار الهوى. وهل رأيت أفعالاً أشبه بأخلاقٍ، ولا أخلاقاً أشبه بأعراقٍ، من أفعاله بأخلاقه، وأخلاقه بأعراقه.
فنسأل الله الذي أسندنا بخلافته، أن يمنَّ علينا بطول بقائه، وأن يخصّنا بحسن نظره كما خصَّنا بمعرفة حقِّه، والاحتجاج لملكه، والذبّ عن سلطانه.
ولربما كان اللسان أنفذ من السنان، وأقطع من السيفِ اليمان.
أطال الله بقائك وحفظك، وأتمَّ نعمته عليك، وكرامته لك.

الرسالة السابعة
رسالة إلى عبد الله أحمد بن أبي دواد
يخبره فيها بكتاب الفتيا
بسم الله الرحمن الرحيم
أطال الله بقائك وأعزك، وأصلح على يديك.
كان يقال: السلطان سوق، وإنما يجلب إلى كلِّ سوق ما ينفق فيها.
وأنت أيها العالم معلم الخير وطالبه، والداعي إليه، وحامل الناس عليه من موضع السلطان بأرفع المكان؛ لأن من جعل اللَّه إليه مظالم العباد، ومصالح البلاد، وجعله متصفحاً على القضاة، وعتاداً على الولاة، ثم جعله الله منزع العلماء، ومفزع الضعفاء، ومستراح الحكماء، فقد وضعه بأرفع المنازل، وأسنى المراتب.
وقد قال أهل العلم، وأهل التجربة والفهم: " لما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن " .
وقد كان يقال: شيئان متباينان، إن صلح أحدهما صلح الآخر: السلطان والرعية.
فقد صلح السلطان، وعلى الله تمام النعمة في صلاح الرعية، حتى يحقق الأثر، وتصدق الشهادة في الخبر.
فنسأل الذي منحك حسن الرعاية أن يمنحنا حسن الطاعة.

وقد نظرت في التجارة التي اخترتها، والسوق التي أقمتها، فلم أر فيها شيئاً ينفق إلا العلم والبيان عنه، وإلا العمل الصالح والدعاء إليه، وإلا التعاون على مصلحة العباد، ونفي الفساد عن البلاد.
وأنا - مدَّ الله في عمرك - رجلٌ من أهل النظر، ومن جمال الأثر، ولا أكمل لكل ذلك ولا أفي؛ إلا أني في سبيل أهله وعلى منهاج أصحابه. والمرء مع من أحبَّ، وله ما اكتسب.
وعندي - أبقاك الله - كتابٌ جامعٌ لاختلاف الناس في أصول الفتيا، التي عليها اختلفت الفروع وتضادّت الأحكام، وقد جمعت فيه جميع الدعاوي مع جميع العلل. وليس يكون الكتاب تاماً، ولحاجة الناس إليه جامعاً، حتى تحتجّ لكلِّ قولٍ بما لا يصاب عند صاحبه، ولا يبلغه أهله؛ وحتى لا نرضى بكشف قناع الباطل دون تجريده، ولا بتوهينه دون إبطاله. وقد قال رسول ربِّ العالمين وخاتم النبيّين، محمد صلى الله عليه وسلم: " تهادوا تحابوا " .
فحث على الهدية وإن كان كراعاً وشيئاً يسيرا. وإذا دعا إلى اليسير الحقير فهو إلى الثمين الخطير أدعى، وبه أرضى.
ولا أعلم شيئاً أدعى إلى التحابِّ، وأوجب في التهادي، وأعلى منزلةً وأشرف مرتبة، من العلم الذي جعل اللَّه العمل له تبعاً، والجنة له ثواباً.
ولا عذر لمن كتب كتاباً وقد غاب عنه خصمه، وقد تكفل بالإخبار عنه، في ترك الحيطة له، والقيام بكل ما احتمله قوله. كما أنه لا عذر له في التقصير عن فساد كل قول خالف عليه، وضادَّ مذهبه، عند من قرأ كتابه وتفهَّم أدخاله، لأنَّ أقل ما يُزيل عذره ويزيح علَّته، أنَّ قول خصمه قد استهدف لخصمه، وأصحر للسانه ومكَّنه من نفسه، وسلَّطه على إظهار عورته. فإذا استراح واضع الكتاب من شغب خصمه ومداراة جليسه، فلم يبق إلا أن يقوى على كسر الباطل أو يعجز عنه.
ومن شُكر المعرفة بمغاوي الناس ومراشدهم، ومضارِّهم ومنافعهم، أنْ تحتمل ثقل مؤونتهم في تعريفهم، وأن تتوخَّى إرشادهم، وإن جهلوا فضْل ما يُسدي إليهم.
ولم يُصنِ العلم بمثل بذله، ولم يُسْتبْق بمثل نشره. على أنَّ قراءة الكتب أبلغ في إرشادهم من تلاقيهم، إذْ كان مع التلاقي يكثر التَّظالم، وتُفرط النُّصرة، وتشتدُّ الحميَّة. وعند المواجهة يُفرط حبُّ الغلبة، وشهوة المباهاة والرِّياسة، مع الاستحياء من الرجوع، والأنفة من الخضوع. وعن جميع ذلك تحدث الضَّغائن، ويَظْهر التّباين. وإذا كانت القلوب على هذه الصِّفة وهذه الحلْية، امتنعت من المعرفة، وعميت عن الدَّلالة.
وليست في الكتب عِلَّةٌ تمنع من درْك البُغية، وإصابة الحُجّة؛ لأنَّ المتوحِّد بقراءتها، والمتفرِّد بفهم معانيها، لايُباهي نفسه، ولا يغالب عقْله.
والكتاب قد يفضل صاحبه، ويرجح على واضعه بأمور: منها أنَّه يوجد مع كل زمانٍ على تفاوت الأعصار، وبُعد ما بين الأمصار. وذلك أمرٌ يستحيل في واضع الكتاب، والمنازع بالمسألة والجواب. وقد يذهب العالم وتبقى كتبه، ويَفْنى المعقِّب ويبقى أثره. ولولا ما رسمتْ لنا الأوائل في كتبها، وخلَّدت من عجيب حكمها، ودوّنتْ من أنواع سيرها؛ حتَّى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها المستغْلق علينا، فجمعْنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركُه إلاَّ بهم لقد خسَّ حظُّنا في الحكمة، وانقطع سببنا من المعرفة، وقصُرت الهمّة، وضعفت النيَّة، فاعتقم الرّأي وماتت الخواطر، ونبا العقل.
وأكثر من كتبهم نفعاً، وأحسن ما تكلّموا به موقعاً، كتب الله التي فيها الهُدى والرحمة، والإخبار عن كلّ عبرة، وتعريف كلِّ سيِّئة وحسنة.
فينبغي أن يكون سبيلُنا فيمن بعدنا كسبيل من قبلنا فينا. على أنّا قد وجدنا من العبرة أكثر ممَّا وجدوا، كما أنَّ من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا.
فما ينتظر العالم بإظهار ما عنده، والنَّاشر للحقِّ من القيام بما يلزمه. فقد أمكن القول وصلح الدهر، وخوى نجم التَّقيَّة،وهبَّت ريح العلماء، وكسد الجهل والعيّ وقلعت سوق العلم والبيان.
وهذا الكتاب - أرشك الله - وإن حسن في عيني، وحلا في صدري، فلست آمن أن يعتريني فيه من الغلط ما يعتري الأب في ابنه، والشاعر في قريضه.

والذي دعاني إلى وضعه مع إشفاقي منه، وهيبتي لتصفُّحك له، أنِّي حين علمت أنَّ الغالب على إرادتك، والمستولي على مذهبك، تقريب العالم وإقصاء الجاهل، وأنَّك متى قرأت كتاباً أو سمعت كلاما، كنت من وراء ما فيه من نقصٍ أو فضل، باتِّساع الفهم، وصحة العلم؛ وأنك متى رأيت زللاً غفرته وقوَّمت صاحبه، ولم تُقرِّعْه به، ولم تخْرمه له. ومتى رأيت صواباً أعلنته ورعيته، فدعوت إليه وأثبْت عليه. ولأنِّي حين أمنت عقاب الإساءة، ووثقت بثواب الإحسان، كان ذلك موجباً لنظْمه وموحياً للتقرُّب به. والسَّبب أحقُّ بالتَّفضيل من المسبَّب؛ لأنَّ الفعل محمول على سببه، ومضافٌ إليه، وعيالٌ عليه، ومضمَّن به.
وإحساني - مد الله في عمرك - في كتابي هذا إن كنت محسناً، صغيرٌ في جنب إحسانك، إذْ كنت المثير له من مراقبه، والباعث له من مراقده. فلذلك صار أوفر النصيبين لك، وأمتن السببين مضافاً إليك. وإنْ كنت قد قصَّرت عن الغاية، فأنا المضيَّع دونك. وإن كنت قد بلغتها ففضلك أظهر وحظُّك أوفر. لأنِّي لم أنشط له إلاَّ بك، ولا اعتمدت فيه إلاَّ عليك.
ولولا سوقك التي لا ينفق فيها إلاَّ إقامة السنّة، وإماتة البدعة، ودفع الظُّلامة، والنظر في صلاح الأمَّة لكانت هذه السِّلعة بائرة، وهذا الجلب مدفوعاً، وهذا العلْق خسيسا.
فالحمد لله الذي عمر الدُّنيا بك، وأخذ لمظلومها على يديك، وأيَّد هذا المُلْك بيمنك، وصدَّق فراسة الإمام فيك.
وأيَّة منزلةٍ أرفع وأيّة حالةٍ أحمد، ممَّن ليس على ظهرها عالمٌ إلاَّ وهو يحنُّ إليه، أو قد صار إلى كنفه وتحت جناحه. وليس على ظهرها ظالمٌ إلاَّ وهو يتَّقيه، ولا مظلوم إلاَّ وهو يستعديه.
ومن يقف على قدر ثواب من هذا قدره، وهذه حاله؟! وعندي - مدَّ الله في عمرك - كتبٌ سوى هذا الكتاب، وليس يمنعني من أن أهديها إليك معاً إلاَّ ما أعرفه من كثرة شُغْلك، وكثرة ما يلزمك من التَّدبير في ليلك ونهارك. والعلم وإن كان حياة العقل، كما أنَّ العقل حياة الروح، والرُّوح حياة البدن، فإنَّ حكمه حكم الماء وجميع الغذاء، الذي إذا فضل عن مقدار الحاجة عاد ذلك ضرراً. وإنَّما يسوغ الشَّراب ويستمرأ الطَّعام الأوّل فالأوّل. فكذلك العلم يجري مجراه، ويذهب مذهبه.
ومن شأن النُّفوس الملالة لما طال عليها، وكثر عندها. فليس لنا أن نكون من الأعوان على ذلك، ومن الجاهلين بما عليه طبائع البشر؛ فإنَّ أقواهم ضعيفٌ، وأنشطهم سؤوم؛ وإن كانت حالاتهم متفاوتةً فإنَّ الضَّعف لهم شامل، وعليهم غالب.
فإذا قُرأ عليك - أيدك الله - هذا الكتاب التمسنا أوقات الجمام وساعات الفراغ، بقدر ما يمكن من ذلك ويتهيَّأ. والله الموفِّق لذلك، والمهيِّأ له. ثمَّ أتبعْنا كلَّ كتاب بما يليه إنْ شاء الله.
وليست بحمد الله من باب الطَّفرة والمداخلة، ولا من باب الجوهر والعرض، بل كلُّها في الكتاب والسُّنَّة، وبجميع الأمة إليها أعظم الحاجة.
ثم نسأل الذي عرَّفنا فضلك، أن يصل حبلنا بحبلك، وأن يجعلنا من صالحي أعوانك، المستمعين منك، والناظرين معك؛ وأن يُحسِّن في عينك ويُزيِّن في سمعك، ما تقرَّبْنا به إليك، والتمسنا الدنوَّ منك، إنَّه قريب مجيب، فعالٌ لما يريد.
أطال الله بقاءك، وأتمَّ نعمته عليك، وكرامته لك في الدُّنيا والآخرة.

الرسالة الثامنة
رسالة إلى أبي الفرج بن نجاح الكاتب
بسم الله الرحمن الرحيم
جُعلت فداك، وأطال الله بقاك، وأعزَّك وأكرمك، وأتمَّ نعمته عليك وأيّدك.
قد نسخت لك - أعزَّك الله - في صدر هذا الكتاب قصيدةً قيلت في أبي الفرج أدام الله عزّه، ذكروا أن قائلها رجلٌ يكنى أبا عثمان، ولا أدري أهو أبو عثمان هشام بن المغيرة، أم أبو عثمان عفّان بن أبي العاص.
ولا أدري أهو أبو عثمان عنبسة بن أبي سفيان، أم أبو عثمان سعيد بن عثمان، ولا أدري أهو عثمان النَّهدي عبد الرحمن بن مُلّ، أم أبو عثمان ربيعة الرأي بن أبي عبد الرحمن.
ولا أدري أهو أبو عثمان سعيد بن خالد بن أسيد، أم أبو عثمان إسحاق بن الأشعث بن قيس.
ولا أدري أهو أبو عثمان المنذر بن الزُّبير بن العوَّام، أم أبو عثمان عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك.
ولا أدري أهو أبو عثمان عبد الله بن خالد بن أسيد، أم أبو عثمان أبو العاص بن بشر بن عبد دُهْمان، وهو اسمه.

ولا أدري أهو أبو عثمان عبد الله بن عبد الرحمن بن سَمُرة بن حبيب بن عبد شمس، أمْ أبو عثمان عبد الله بن عامر بن كُريز.
ولا أدري أهو أبو عثمان سعيد بن أسعد بن إمام المسجد الجامع الأعظم، أم أبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب.
ولا أدري أهو أبو عثمان فيروز حُصينٍ العنبريّ، أمْ أبو عثمان بن عُمر بن أبي عثمان الشَّمَّريّ.
ولا أدري أهو أبو عثمان خالد بن الحارث بن سليمان الهُجيْميّ، أم أبو عثمان أبو العاص بن عبد الوهاب الثقفيّ.
ولا أدري أهو أبو عثمان سعيد بن وهب الشاعر، أم أبو عثمان عمرٌو الأعور الخاركي.
ولا أدري أهو أبو عثمان الحكم بن صخر الثّقفي، أم أبو عثمان عمرو بن بكر المازنيّ.
ولا أدري أهو أبو عثمان الأعور النحويّ، أم أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.
والذي لا أشك فيه أنّه لم يقرضها أبو عثمان عمرو بن حزْرة، ولا أبو عثمان عمرو المخلخل، ولا أبو عثمان إبراهيم بن يزيد المتطبِّب، ولا أبو عثمان سعيد بن حيان البزاز.
وقد بلغني عن أبي عثمان هذا المجهول موضعه، المغمور نسبه، أنه قال: ما راكب الأسد الأسود، والبحر الأخضر، والمصبور على السَّيف الحسام، بأحق بجهد البلاء وشماتة الأعداء، ممّن تعرَّض للمتصفِّحين، وتحكَّك بالعيّابين، وحكَّم في عرض الحسدة المغتابين.
فإن سلم فبحُسْن النيّة، ولأنه مدح كريماً، ووصف حليماً. والكريم صفوح، والحليم متغافل. وإن ابتلى فبذنبٍ، وما عفا الله عنه أكبر.
وقال: اللهم اجعلْ هذا القول حسناً في عينه، خفيفاً على سمعه، وألْهمْه حُسن الظزِّ به، وبسط العُذْر له، إنك سميع الدعاء، رحيمٌ بالضعفاء.
والقصيدة هي قوله:
أقام بدار الخفض راضٍ بحظِّه ... وذو الحرص يسري حين لا أحدٌ يسري
يظنُّ الرِّضا بالقسْم شيئاً مهوَّناً ... ودون الرضا كأسٌ أمرُّ من الصَّبر
جزعت فلم أعتبْ فلو كنت ذا حجاً ... لقنَّعت نفسي بالقليل من الوفْر
أظنُّ غبيَّ القوم أرغد عيشةً ... وأجذل في حال اليسارة والعُسْر
تمرُّ به الأحداث تُرعد مرّةً ... وتُبرق أخرى بالخطوب وما يدري
سواءٌ على الأيام صاحب حُنْكةٍ ... وآخرُ كابٍ لا يريش ولا يبري
فلو شاء ربيِّ لم أكن ذا حفيظةٍ ... طلوباً لغايات المكارم والفخر
خضعت لبعض القوم أرجو نواله ... وقد كنت لا أعطي الدنيَّة بالقسْرِ
فلما رأيت المرء يبذل بشره ... ويجعل حُسن البشر واقية التِّبْر
ربعت على ظلْعي وراجعت منزلي ... فصرْت حليفاً للدراسة والفكر
وشاورت إخواني فقال حكيمهم عليك الفتى المُرِّيَّ ذا الخلق الغَمْر
فتىً لم يقف في الدهر موقف ظنّةٍ ... فيحتاج فيه للتَّنصُّل والعُذْرِ
أعيذك بالرحمن من قول شامتٍ ... أبو الفرج المأمول يزهد في عمرو
ولو كان فيه راغباً لرأيته ... كما كان دهراً في الرَّخاء وفي اليُسْرِ
أترضى فدتك اليوم نفسي وأسرتي بتأخير أرزاقي وأنت تلي أمري
ألا يا فتى الكتاب والعسكر الذي ... تأزّر بالحسنى وأُيِّد بالنَّصرِ
أخاف عليك العين أو نفس وامقٍ ... وذو الوُدِّ منخوب الفؤاد من الذُّعرِ
وعهدي به والله يُرشد أمره ... ويحفظه في القاطنين وفي السَّفْرِ
مُطلاًّ على التدبير ما يستفزُّه ... مكايد محتالٍ عقاربه تسري
برأيٍ يُزيل الطَّودمن مستقرِّه ... وأوضح عند الخصم من وضح الفجرِ
وعزمٍ كغرب المشرفيّ مصمَّمٍ ... وقلبٍ ربيط الجأش منثلج الصدرِ
فيا ابن نجاحٍ أنجح اللهُ سعيكم ... وأيّدكم بالنَّصر والعدد الدَّثْرِ
قعدت فلم أطلب وجُلت فلم أُصب ... خليلاً يواسيني ويرغب في شكري
وإن أخفقتْ كفِّي وقد علَقتْكمُ ... فقد قال رأيي واستنمت إلى شعري
أعيذك بالرحمن أن تُشمت العدى ... فللفقرُ خيرٌ من شماتة ذي الغمْرِ

فإن ترع وُدَّي بالقبول فأهلُه ... ولا يعرف الأقدار غير ذوي القدر
وحسبك بي إن شئت ودّاً وخُلَّةً ... وحسبك بي يوم النَّزاهة والصَّبر
ألا ربَّ شكر دائر الرسم دارسٍ ... وشكر كنقش الحميريّة في الصَّخر
قال أبو عثمان المجهول: إذا كان الممدوح ظاهر المحاسن كثير المناقب فلم يُجد الشاعر كان ألوم.
ونعوذ بالله أن يكون فيكم ما يستدعي الألفاظ الشريفة والمعاني النفيسة، ويكون التقصير منيّ.
وكيفما تصرَّفت بي الحال فإنِّي لم أخرج من جهد المجتهدين الراغبين المخلصين. فإن وقعت هذه القصيدة والتي قدّمنا قبلها بالموافقة فالحمد لله. وإن خالفت فنستغفر الله. وإن شيّعتم ضعفها بقوّة كرمكم، وقوّمتم أودها بفضل حلمكم، كان في ذلك بلاغٌ لما أمَّلنا. والله الموّفق.

الرسالة التاسعة
كتاب فصل ما بين العداوة والحسد
بسم الله الرحمن الرحيم
أصحب الله مدّتك السعادة والسلامة، وقرنها بالعافية والسرور، ووصلها بالنعمة التي لا تزول، والكرامة التي لا تحول.
هذا كتابٌ - أطال الله بقاءك - نبيلٌ بارع، فُصل فيه بين الحسد والعداوة، ولم يسبقْني إليه أحد ولا إلى كتاب فضل الوعد الذي تقدَّم هذا الكتاب، ولا إلى كتاب أخلاق الوزراء الذي تقدَّم كتاب فضْل الوعد.
وإنما نُبلتْ هذه الكتبوحسنت وبرعت، وبذَّت غيرها؛ لمشاكلتها شرف الأشراف، بما فيها من الأخبار الأنيقة الغريبة، والآثار الحسنة اللطيفة، والأحاديث الباعثة على الأخلاق المحمودة، والمكارم الباقية المأثورة، مع ما تضمَّنتْه من سير الملوك والخلفاء ووزرائهم وأتباعهم، وما جرت عليه أحوالهم.
فأنا أسألك بساطع كرمك وناصع فضلك، لما امتننت عليَّ بصرف عنايتك إلى قراءتها.
فإنْ لم يمكنك تبحُّرها والتقصِّي لجميعها، للأشغال التي تعروك، فبحسبك أن تقف على حدودها، وتتعرَّف معاني أبوابها بتصفُّح أوائلها؛ فإن معك قلباً به من اليقظة والذكاء، والتوقد والحفظ، ما يكفي معه النظر الخاطف.
إنه لم يخلُ زمنٌ من الأزمان فيما مضى من القرون الذاهبة إلا وفيه علماء محِقُّون، قد قرءوا كتب من تقدمهم، ودارسوا أهلها، ومارسوا الموافقين لهم، وعانوا المخالفين عليهم، فمخضوا الحكمة وعجموا عيدانها، ووقفوا على حدود العلوم، فحفظوا الأمهات والأصول، وعرفوا الشرائع والفروع، ففرقوا ما بين الأشباه والنظائر، وصاقبوا بين الأشكال والأجناس، ووصلوا بين المتجاور والمتوازي، واستنبطوا الغامض الباطن بالظاهر البيِّن، واستظهروا على الخفيِّ المشكل بالمكشوف المعروف، وعُرفوا بالفهم الثاقب والعلم الناصع، وقضت لهم المحنة بالذكاء والفطنة، فوضعوا الكتب في ضروب العلوم وفنون الآداب لأهل زمانهم، والأخلاف من بعدهم. يزدلفون بذلك إلى الممتنّ عليهم بفضل المعرفة التي ركَّبها الله فيهم، وأبانهم من غيرهم، وفضَّلهم عليهم، ويباهون به الأمم المخالفة لهم، ويتبارون بذلك فيما بينهم. ولهم حُسادٌ معارضون من أهل زمانهم في تلك العلوم والكتب، منتحلةٌ يدعون مثل دعاويهم، قد وسموا أنفسهم بسمات الباطل، وتسمَّوْا بأسماء العلم على المجاز من غير حقيقة، ولبسوا لباس الزُّور متزخرفين متشبِّعين بما لا محصول له. يحتذون أمثلة المحقِّين في زيِّهم وهديهم، ويقتفون آثارهم في ألفاظهم وألحاظهم، وحركاتهم وإشاراتهم، لينسبوا إليهم ويُحلُّوا محلهم، فاستمالوا بهذه الحيلة قلوب ضعفاء العامة، وجهلاء الملوك، واتخذهم المعادون للعلماء المحقِّين عُدةً يستظهرون بهم عند العامة.وحمل المدعية للعلم المزور الحسد على بهْت العلماء المحقِّين، وعضْههم والطعن عليهم، وجرّأهم على ذلك ما رأوا من صَغْو ضعفة القلوب وإذلة الناس إليهم، وميل جهلاء الملوك معهم عليهم، وأملوا أن ينالوا بذلك بشاشة العامة، وتستوي لهم الرياسة على طغام الناس ورعاعهم، ويستخولوا رعاتهم وقومهم، فهمروا وهدروا وتوردوا على أهل العلم بغباوتهم، وكشفوا أغطية الجهل عن أنفسهم، وهتكوا ستراً كان مسدلا عليهم بالصمت. فقد قيل: " الصمت زين العالم، وستر الجاهل " ؛ طمعاً في الرياسة وحباً لها. وقد قيل:
حبُّ الرياسة داءٌ لا دواء له ... وقلَّما تجد الراضين بالقسم

ولم يخل زمنٌ من الأزمنة من هذه الطبقة ولا يخلو. وهلاك من هلك من الأمم فيما سلف بحبِّ الرياسة. وكذلك من يهلك إلى انقضاء الدهر فبحبِّ الرياسة.
وقد قيل: هلاك الناس منذ كانوا إلى أن تأتي الساعة بحبِّ الأمر والنَّهي، وحبِّ السَّمع والطاعة.
فأشكل على العامة أمر العالم الحقيقيّ والمدعي المجاري المنتحل للزُّور والباطل؛ ثم ترادف عليهم من هذه العلل التي يعمى لها السبيل الواضح والطريق المنشأ،على الجاهل المستضعف؛ وذي الغباء المسترهف.
ولست آمن - جعلني الله فداك - أن تكون هذه الكتب التي أُعنى بتأليفها، وأتأنق في ترصيفها، يتولى عرضها عليك من قد لبس لباس الزور في انتحال وضع مثلها، ونسب نفسه إلى القوة على نظائرها، والمعرفة بما يقاربها، إن لم يكن أخاها فابن عمِّها، وتشبع بما لم يُطعمْه الله منها.
ولعل بعض من حوله، أو بعض من يهزل به، ويرتع في عقله ويلهو بلبه، ويضعه على طبطابة اللعب، وفي أرجوحة العبث، يوهمه. الحسد له على ما يدَّعي من ذلك، ويتقدم إلى آخرين في إيهامهم إياه ذلك، فيزيده فعلهم ضراوةً بادعاء ما ليس معه وهو منه عارٍ. فإذا رجع إلى الحقائق علم أن مثله كما قد قيل:
ومن يسكن البحرين يعظم طحاله ... ويغبطْ بما في البطن والبطن جائع
وقد قيل: " الذئب يغبط وهو جائع " . فيلتوي في قراءتها، ويقبض لسانه عن بسط ما يحتاج أن ينشره منها، ويقصِّر في تفخيم حروفها ولا يملأ فمه منها.
بل لا آمن أن يتجاوز ذلك إلى الطعن عليها بقولٍ أو إشارة، فيوهم فساد معانيها ويُومي إلى سقوط ألفاظها، من غير أن يُظهر المعاداة لها ، والحسد لمؤلفها، والحمل عليها بقولٍ يكون دليلاً على ما يضمر، وهو أبلغ ما يكون من قلب المستمع وأنجعه فيه، فيقع ذلك بخلده. وقد قيل: " من يسمع يخلْ " .
وليس يقابله أحدٌ بردٍ، ولا يوازيه بنزاع، فيزداد نشاطاً عندما يرى من خلاء الأمر. وقد قيل: " كلُّ مُجْرٍ في الخلاء يُسرُّ " وكلُّ مناظر متفردٍ بالنظر مسرور، وإنما يُعرف جري الخيل عند المسابقة، وبراعة النظر عند المخاصمة.
وقال لي بشرٌ المريسي: عُرض كتابي على المأمون في تحليل النبيذ، وبحضرته محمد بن أبي العباس الطوسي، فانبرى للطعن عليه والمعارضة للحجج التي فيه، وأسهب في ذلك وخطب، وأكثر وأطنب، فقلق المأمون واحتدم، وهاج واضطرم؛ لاستحقار الطُّوسي وخلاء المجلس له، وكان يحب أن يزعه وازعٌ يكفُّه بحجةٍ تسكنه، فلما لم ير أحداً بحضرته يذبُّ عن كتابي قال متمثلاً:
يا لك من قُبّرةٍ بمعمر ... خلا لك الجوُّ فبيضى واصفرى
ونقِّرى ما شئت أن تنقِّري
فما كان إلا ريث فراغه من التمثل بهذه الأبيات حتى استؤذن لي فدخلت عليه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما تقول في النبيذ؟ فقلت: حلٌّ طلقٌ يا أمير المؤمنين. فقال: فما تقول فيما أسكر كثيره؟ قلت: لعن الله قليله إذا لم يسكر إلا كثيره. ثم قال: إن محمداً يخالفك. فأقبلت على ابن أبي العباس فقلت له: ما تقول فيما قال أمير المؤمنين؟ قال: لا خلاف بيني وبينك. كلاماً يوهم به أهل المجلس، حبّاً للتسلُّم مني والتخلُّص من مناظرتي،لا على حقيقة التحليل له. فاستغنمت ذلك منه وقلت له: فما لي لا أرى أثر قواه في عقلك؟ فضحك المأمون، فلما رأيت ضحكه أطنبت في معاني تحليل النبيذ، وابن أبي العباس ساكتٌ لا ينطق، وكان قبل دخولي ناطقاً لا يسكت. فلما رأى المأمون سكوته عند حضوري مع كثرة كلامه في ثَلْب كتابي وعيبه كان قبل دخولي، قال متمثِّلاً:
ما لك لا تنبح يا كلب الدَّومْ ... قد كنت نباحاً فما لك اليومْ
ثم نظر إليَّ فقال: إنَّ الكتب عقول قومٍ وراءها عندهم حججٌ لها، فما ينبغي أن يُقضى على كتابٍ إلا إذا كان له دافع عنه، وخصمٌ يبين عما فيه؛ فإن أبناء النِّعم وأولاد الأسْد محسودون.
ثم قال: يا أبا عبد الرحمن، بإزاء كل حاسد راهن.
وقد قيل في مثلٍ من الأمثال: " الحسن محسود " . وفي مثل آخر: " لن تعدم الحسناء ذاماً " . وقال الأحنف بن قيس:
ولن تصادف مرعىً ممرعاً أبداً ... إلا وجدت به آثار مأكول
يقول: يُعاث في كل مرعىً حسنٍ ويؤكل منه، فيعيبه ذلك.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ما أحدث الله بعبدٍ نعمةً إلا وجدت له عليها حاسداً. ولو أن امرأً كان أقوم من القدْح لوجدت له غامزاً " .
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: الحاسد لا يملك إلا عنان حسده؛ لآنه مغلوبٌ على نفسه.
وقال الخطاب بن نُمير السعدي: الحاسد مجنون؛ لأنه يحسد الحسن والقبيح.
وقال المهلب بن أبي صفرة: الحسد شهابٌ لا يبالي من أصاب، وعلى من وقع.
والعداوة لها عقل تسوس به نفسها فينجم قرنها، وتُبدى صفحتها في أوقات الهتْر. وإلا فإنها كامنةٌ تنتهز أزمنة الفرص. والحسد مسلوب المعقول بإزاء الضَّمير في كل حينٍ وزمانٍ ووقت.
ومن لؤم الحسد أنه موكل بالأدنى فالأدنى، والأخصِّ فالأخص. والعداوة وإن كانت تقبَّح الحسن فهي دون الحسد؛ لأن العدو المباين قد يحول وليّاً منافقاً، كما يحول المولى المنافق عدوّاً مبايناً.
والحاسد لا يزول عن طريقته إلا بزوال المحسود عليه عنده. والعداوة تحدث لعلةٍ، فإذا زالت العلة زالت معها. والحسد تركيب لعله يحسد عليه فهو لا يزول إلا بزواله. ومن هذا قال معاوية رحمه الله: يمكنني أن أرضي الناس كلهم إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه منها إلا زوالها.
وأعداء النعمة إذا شوركوا فيها ونالوا منها تزحزحوا عن عداوتها، وكانوا من أهلها المحامين عنها، والدافعين عن حماها.
ومن هذا قال المغيرة بن شعبة: النعمة التي يعاش فيها نعمةٌ محروسة ليس عليها ثائر يغتالها، ولا ذو حسد يحتال في غيرها.
وقال قتيبة بن مسلم: خير الخير وأحصنه خيرٌ عيش فيه. وكلُّ خيرٍ كان يرضخ بذلاً كان من المتالف ممنوعاً، ومن الغير آمناً.
وحسَّاد النعمة إن أعطوا منها وتبحبحوا فيها، ازدادوا عليها غيظاً وبها إغراء.
والعداوة تُخلِقُ وتُمَلُّ، والحسد غضٌّ جديد، حرم أو أعطي، لا يبيد. فكلُّ حاسد عدو بحاسد. وإنما حمل اليهود على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم - وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أنه نبيٌّ صادق ورسول محق، يقرءون بعثه في توراتهم، ويتدارسونه في بيت مدْراسهم - الحسد، وحجز بين علمائهم والإيمان به، ثم نتج لهم الحسد عداوته.
ومن الدليل على أن الحسد آلم وآذى وأوجع وأوضع من العداوة، أنه مُغرىً بفعل الله عزّ وجلّ، والعداوة عارية من ذلك لا تتصل إذا اتصلت إلا بأفعال العباد. ولا يُعادى على فعل الله تباركت أسماؤه. ألا ترى أنك لم تسمع أحداً عادى أحداً لأنه حسن الصورة جميل المحاسن، فصيح اللسان حسن البيان. وقد رأيت حاسد هذه الطبقة وسمعت به، وهم كثير تعرفهم بالخبر والمشاهدة.
فهذا دليلٌ على أن الحسد لا يكون إلا عن فساد الطبع، واعوجاج التركيب، واضطراب السُّوس.
والحسد أخو الكذب، يجريان في مضمار واحد؛ فهما أليفان لا يفترقان، وضجيعان لا يتباينان. والعداوة قد تخلو من الكذب؛ ألا ترى أن أولياء الله قد عادوا أعداء الله إذ لم يستحلُّوا أن يكذبوا عليهم؟! والحسد لا يبرأ من البُهت، وكيف يبرأ منه وهو عموده الذي عليه يعتمد، وأساسه به البناء يُعقد. وأنشد:
كضرائر الحسْناء قُلن لوجهها ... كذباً وزوراً إنه لدميم
والحسد نارٌ وقوده الرُّوح، لا تبوخ أبداً أو يَفْنى الوقود. والحسد لا يبلى المحسود أو الحاسد. والعداوة جمر يُوقده الغضب، ويطفئه الرِّضا، فهو مؤمَّلالرُّجوع مرجو الإنابة. والحسد جوهرٌ والعداوة اكتساب.
وقال بعضهم: الحسد أنثى، لأنه ذليل؛ والعداوة ذكرٌ فحْل، لأنها عزيزة.
والحسد وإن كان موكلا بالأدنى فالأدنى فإنه لم يعر منه الأبعد فالأبعد. فقد رأينا وشاهدنا من كان يسكن العراق وينتحل العلم والأدب، انتهى إليه خبر مشاركٍ له في الصناعة من أهل خراسان وجنْبة بلْخ من اتساق الرياسة في بلده، وجميل حاله ونبيل محلِّه عند أهل مصره، وطاعة العامة له، وترادف الناس عليه، فطار قلبه فرقاً، وأخذتْه الأرْباء، وتنفس الصعداء وانتفض انتفاض المفلس الممطور، فقال لي رجلٌ من إخواني كان عن يميني، حين رأى ما رأى منه: بحقٍّ قال من قال: " لم يُر ظالم أشبه بمظلوم من حاسد نعمة؛ فإن نفسه متّصل، وكربه دائم، وفكرته لا تنام " .

وهو في أهل العلم أكثر، وعليهم أغلب، وبهم أشدُّ لصوقاً منه بغيرهم من الملوك والسُّوقة. وكأن من ناله التقصير في صناعة العلم عن غايته القصوى قد استشعر حسد كل ما يرد عليه من طريف أدبٍ، أو أنيق كلام، أو بديع معنىً. بل قد وقع بخلده لضعفه، وقرَّ في روعه لخساسته، أنه لا ينال أحدٌ منهم رياسةً في صناعة، ولا يتهيأ له سياسة أهلها، إلا بالطَّعن على نواصيهم، والعيب لجِلَّتهم، والتحيُّف لحقوقهم.
قال لي مسلم بن الوليد الأنصاري الشاعر، الذي يُعرف بصريع الغواني: خُيِّل إلى نوكي الشعراء أنهم لا يُقضى لهم بجودة الشعر إلا بهجائي والطعن في شعري، ولسانٍ يُهجى به عرضي، لا أنفكُّ متهما من غير جرم، إلا ما سبق إلى قلوبهم من وساوس الظنون والخواطر التي أوهمتهم أنه لا يسجل لهم بجودة الشعر إلا إذا استعملوا فيَّ ما خُيل إليهم.
وأخبرني أشياخنا من أهل خراسان أن أبا الصَّلت الهرويّ كان عند الفضل بن سهل ذي الرياستين بمرو، فقرأ عليه كتاباً ألفه النَّضضر بن شُميل، فطعن أبو الصلت فيه، وكان الفضل عارفاً بالنضر الشُّميليّ، واثقاً بعلمه، مائلاً إليه،فأقبل على أبي الصلت وقال له: إن يحيى بن خالدٍ قال يوماً: إن كتبي لتُعرض على من يغلظ فهْمه عن معرفتها، ويجسو ذهنه عنها، ولا يبلغ أقصى علمه ما فيها - يُعرِّض بإسماعيل بن صُبيح - فيطعن فيها ولا يدري ما يقرأ عليه منها. إلا أن نار الحسد تُلهبه فيهذي هذيان المريض، ويهمز همزات الغيْري، ثم لا يرضى أن يقف عند أول الطعن ويميل عنه حتى يستقصي على نفسه إظهار جهله عند أهل المعرفة، باستيعابه الطعن على ما لم يبلغ درايته، ولم يُحط به علمه، ثم يُنسيه جهله الطعن الذي تقدم منه فيها، ويحمله نوكُه على استعمال معانيها وألفاظها، في كتبه إلى إخوانه وأعوانه الذين شهدوه في أوان طعنه عليها، وحين ثلْبه لها.
وقد عرفت حقيقة ما قال يحيى بن خالدٍ بالتجربة والابتلاء. وإني ربما ألفت الكتاب المحكم المتقن في الدِّين والفقه، والرسائل والسيرة، والخطب والخراج والأحكام، وسائر فنون الحكمة، وأنسبه إلى نفسي، فيتواطأ على الطعن فيه جماعةٌ من أهل العلم، بالحسد المركب فيهم، وهم يعرفون براعته ونصاعته. وأكثر ما يكون هذا منهم إذا كان الكتاب مؤلفاً لملكٍ معه المقدرة على التقديم والتأخير، والحطِّ والرَّفع، والترغيب والترهيب، فإنهم يهتاجون عند ذلك اهتياج الإبل المغتلمة، فإن أمكنتْهم حيلةٌ في إسقاط ذلك الكتاب عند السيد الذي أُلِّف له فهو الذي قصدوه وأرادوه، وإنْ كان السيد المؤلَّف فيه الكتاب نحريراً نقاباً، ونقريساً بليغاً، وحاذقاً فطناً، وأعجزتْهم الحيلة، سرقوا معاني ذلك الكتاب وألّفوا من أعراضه وحواشيه كتاباً، وأهدوه إلىملك آخر، ومتُّوا إليه به، وهم قد ذمّوه وثلبوه لما رأوه منسوباً إليّ، وموسوماً بي.
وربما ألفت الكتاب الذي هو دونه في معانيه وألفاظه، فأترجمه باسم غيري، وأحيله على من تقدمني عصره مثل ابن المقفع والخليل، وسلْم صاحب بيت الحكمة، ويحيى بن خالد، والعتّابيّ، ومن أشبه هؤلاء من مؤلِّفي الكتب، فيأتيني أولئك القوم بأعيانهم الطاعنون على الكتاب الذي كان أحكم من هذا الكتاب، لاستنساخ هذا الكتاب وقراءته عليّ، ويكتبونه بخطوطهم، ويصيِّرونه إماماً يقتدون به، ويتدارسونه بينهم، ويتأدّبون به، ويستعملون ألفاظه ومعانيه في كتبهم وخطاباتهم، ويروونه عنيِّ لغيرهم من طلاب ذلك الجنس فتثبت لهم به رياسة، ويأتمُّ بهم قومٌ فيه؛ لأنه لم يترجم باسمي، ولم يُنسب إلى تأليفي.
ولربما خرج الكتاب من تحت يدي مُحصفاً كأنه متن حجرٍ أملس، بمعانٍ لطيفةٍ محكمةٍ، وألفاظ شريفة فصيحة، فأخاف عليه طعن الحاسدين إنْ أنا نسبته إلى نفسي، وأحسد عليه من أهمُّ بنسبته إليه لجودة نظامه وحسن كلامه، فأُظهره مُبْهماً غُفلاً في أعراض أصول الكتب التي لا يُعرف وُضّاعها، فينهالون عليه انهيال الرَّمْل، ويستبقون إلى قراءته سباق الخيل يوم الحلْبة إلى غايتها.

وحسد الجاهل أهون شوكةً وأذلُّ محنا، من حسد العارف الفطن؛ لأن الحاسد الجاهل يبتدر إلى الطعن على الكتاب في أوّل وهلة يُقرأ عليه، من قبل استتمام قراءته ورقةً واحدة؛ ثم لا يرضى بأيسر الطعن وأخفه حتى يبلغ منه إلى أشده وأغلظه، من قبل أن يقف على فصوله وحدوده. وليس ثلْبه مفسَّرَّاً مفصَّلا، ولكنه يُجمل ذلك ويقول: هذا خطأ من أوله إلى آخره، وباطل من ابتدائه إلى انقضائه، ويحسب أنه كلما ازداد إغراقاً وطعناً وإطناباً في الحمْل على واضع الكتاب، كان ذلك أقرب إلى القبول منه. وهو لا يعلم أن المستمع إليه إذا ظهر منه على هذه المنزلة استخف به، وبكتّه بالجهل، وعلم أنه قد حكم من غير استبراء، وقضى بغير روية، فسقط عنه وبطل.
والحاسد العارف الذي فيه تقيَّة ومعه مُسكة، وبه طَعْمٌ أو حياة، إذا أراد أن يغتال الكتاب ويحتال في إسقاطه، تصفح أوراقه ووقف على حدوده ومفاصله، وردد فيه بصره وراجع فكره، وأظهر عند السيد الذي هو بحضرته وجلسائه، من التثبُّت والتأني حِبالةً يقتنص بها قلوبهم، وسبباً يسترعي به ألبابهم، وسُلماً يرتقي به إلى مراده منهم، وبساطاً يفرش عليه مصارع الخُدع. فيوهم به القصد إلى الحق والاجتباء له. فربما استرعى بهذه المخاتل والخدع قلب السيد الحازم.
فمن أعظم البلايا وأكبر المصائب على مؤلِّفي الكتب إذا كان العارض لها على السيد الذي منه تُرجى أثمانها، وعنده تنفق بضائع أهلها، على هذه الصِّفة التي وصفتُها من الحسد والحذق بأسبابه، والمعرفة بالوجوه التي تثلم المحسود وتهدُّه، وتضع منه ومن كتبه. لا سيما إنْ كان مع استبطان الحسد واستعمال الدهاء والذكاء جليساً لازماً، وتابعاً لا يفارق، ومحدِّثاً لا يريم، وليست له رعةٌ تحجره عن الباطل، ولا معه حذرٌ يبعثه على الفكر في العواقب؛ فإن هذا ربما وافق فترة السيد ترداد الكلام، وكثرة تكراره عليه، من تأكيد خطائه، ونصرته قوله، وذياده عنه، واحتجاجه فيه، فيؤثر في قلبه، ويضجِّع رأيه. فليس للسيد الذي يحبُّ أن تصير إليه الأمور على حقائقها، وتُصوَّر له الأشياء على هيئاتها، حيلةٌ في ذلك إلا حسم مادة هذا من أهل الحسد، بالإعراض عنهم، والاحتجاز دونهم.
وربما بلغ من الحاسد جهد الحسد إذا لم يُعمل بشهوته، ولم تنفذ سهام لطائفه، أن يقرَّ على نفسه بالخطأ، ويعترف أن الطَّعن الذي كان منه في الكتاب عن سهوٍ وغفلة، وأنه لم يكن بلغ منه في الاستقصاء ما أراد، وكان مشغول الفكر مقسم الذهن، فلما فرغ له ذهنه وانفرد له همُّه راجع ما كان بدر منه، لتُظنَّ به الرِّعة، ويقال إنه لم يرجع عن قوله واعترف بالخطأ إلا من عقل وازع، ودينٍ خالص. وإنما ذلك حيلةٌ منه ودهاءٌ قدَّمه أمام ما يريد أن يوكِّد لنفسه ويوطِّد لها، من قبول القول في سائر ما يرد عليه من الكتب عن غير موافقةٍ على مواضع، ويجعل ما قد تقدم له من الرجوع عن قوله عند ما تبيَّن له خلاف ما قال، أوثق أسباب عدالته، وأحكم عُرى نصفته.
وكان يقال: من لطيف ما يستدعى به الصدق إظهار الشك في الخبر الذي لا يُشكُّ فيه.
وكان يقال: من غامض الرياء أن تُرى بأنك لا ترائي. ومن أبلغ الطَّعن على ما تريد الطَّعن عليه أن تطعن ثم تستغفر الله، ثم تتمهل فترةً، ثم تعود لطعنٍ هو أعظم منه وأطمُّ من الأول؛ ليوثق بك فيه، ويقال: إن هذا لو كان عن حسد ما رجع عن الطعن الأول.
وقد قيل: ذو الغيبة المشهور بها المنسوب إليها يقلُّ ضرره، ويضعف كيده، لما شاع له في الناس وانتشر منه، فكان عندهم ظنيناً متَّهماً، ومطبوعاً عليها، يستمعون منه على قضاء ذمام المجالسة والتلذذ به، من غير قبول ولا اصطفاء.
وإنما البلية في غيبة حُذاق المغتابين الذين يسمعون، فيضحكون ولا يتكلمون. وأحذق منهم الذين يستمعون ويسكتون القائل ويدعون الله بالصلاح للمقول فيه، فهم قد أسكتوا القائل المغتاب ودعوا للمقول فيه، وأوكدوا قول القائل؛ لأنه لو حل عندهم محل البراءة مما قيل لجبِّه القائل وردع عن قوله.
ومظهر التَّوقّي قليله عند العامة كثير. والمتورد المتقحِّم لا تكاد العامة تقبل منه.
وقد قال بعض العلماء: إن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كان من نبلاء المغتابين وحُذَّاقهم حيث يقول:
مُسَّا تُراب الأرض، منه خُلقتُما ... وفيها المعاد والمصير إلى الحشر

ولا تعجبا أن تؤتيا وتعظَّما ... فما حُشى الإنسان شرّاً من الكبر
فلو شئت أدلى فيكما غير واحد ... كلانيةً أو قال ذلك في سرِّ
فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما ... ضحكت له حتى يلجَّ فيستشري
ومن هذا سرق العتابيُّ المعنى حيث يقول:
إنْ كنت لا تحذر شتْمي لما ... تعرف من صفحي عن الجاهل
فاخش سكوتي سامعاً ضاحكاً ... فيك لمشنوعٍ من القائل
مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدرٍ سائل
ومن دعا الناس إلى ذمِّه ... ذمُّوه بالحق وبالباطل
وسئل القاسم بن معن عن ابن أبي ليلى، فقلَّب كفَّيه وقال:
من الناس من يخفي أبوه وجدُّه ... وجدُّ أبي ليلى لكالبدر ظاهر
فلم تثبت عليه به حجةٌ في ذمٍّ له ولا مدح. وقد بلغ ما أراد.
وسئل يوماً عن علمه فقال: أوعوه وطْباً، فإن كان محضاً أو مشوباً أظهره الوطب وما خضوه.
فإنْ قدح - جعلني الله فداك - بالحسد قادحٌ فيما أؤلفه من كتابي لك، وسبق إلى وهمك شكٌّ فيه، أعلمتني النكتة التي قدح فيها، ثم قابله بجوابي، فإني أرجو ألا تحتاج إلى حاكمٍ عند تجاثي القولين بين يديك، لعلو الحقعلى الباطل، ودموغه إياه.
والحسد أذلُّ نفساً من أن يُجاثي أحداً، والعداوة إنما قدِّمت عليه لأنها عزيزةٌ منيعة.
ويقال: الحسد لا يبدو إلا في العين وعلى اللسان المقصور عند أهله المؤتلفين على...والعداوة تبدو وتنجم قرونها وينبسط لسانها عند الموافقين له والمخالفين عليه.
وسئل خالد بن صفوان عن شبيب بن شيبة فقال: ذاك امرؤ سيط بالحسد وجُبِل عليه، فليس له أخٌ في السر ولا عدوٌّ في العلانية.
وسئل العتَّابي عن أهل بغداد فقال: حسادٌ، إخوان العلانية، وأعداء السريرة، يعطونك الكلّ ويمنعونك القُلّ.
ومما يدلُّك على أن الحسد أخسُّ وأغبن من العداوة، أنّ الملل كلها ذمَّتْه وعابته. ولا نعلم أنّ شاذّاً من الشواذِّ، وشارداً من الشُّرَّاد، فضْلاً عن جيل من الأجيال، أمر بالحسد؛ كما قيل: " عاد من عاداك، وقارعْ بالعداوة أهلها " . ثم عظم شأن العداوة عندهم، وجلَّ قدرها لديهم، حتى اختلفوا في وجوه العمل فيها؛ فمنهم من أمر بها على الحزم والعقل.
وقال الشَّعبيُّ لبشر بن مروان: لو وجَّهت إلى عمرو بن محمد بن عقيل مولى آل الزُّبير - وكان شتمه - من يأتيك به سحباً وجرّاً! فقال بشر: إنِّي مستعملٌ في عدوِّي قول القائل:
وعاد إذا عاديت بالحزم والنُّهي ... تنلْ ظفراً ممن تريد وتغلب
فكان بهذا ممن يرى المعاداة بالحزم، ويغتالها بالعقل والتأني.
وكان عروة بن المغيرة يقول: شرُّ العداوة ما سُتر بالمداراة، وأشقاها للأنفس ما قُرع بمثلها بادياً. وكان ينشد:
لا أتّقي حسك الضَّغائن بالرُّقي ... فعل الذليل ولو بقيت وحيدا
لكن أُعدُّ لها ضغائن مثلها ... حتى أداوي بالحقود حقودا
كالخمْر خير دوائها منها بها ... تشفي السَّقيم وتُبرئُ المنجودا
فانتهى قوله إلى ابن شُبرمة فقال: " لله درُّ عُروة، هذه أنفس العرب! " .
فهؤلاء رأوا كشف المعاداة ولم يروا التأنِّي.
ومنهم من رأى المعاداة بعد الفرار منها والإعذار فيها، فإن هي أبت إلا المقارنة قارنوها بمثلها.
قال شبيب بن شيبة: إذا رأيت الشرَّ قد أقبل إليك فتطامنْ له حتى يتخطَّاك، ولا تهجْه ولا تبحثْ عنه؛ فإن أبى إلا أن يبرك عليك فكن من الأرض ناراً ساطعة تتلظَّى. وأنشد:
إذا عاداك محتنكٌ لبيبٌ ... فعاد النَّوم واحترس البياتا
ولا تُثر الرَّبوض وخلِّ عنها ... وإن ثارت فكن شبحاً مواتا
تَجُزْك إلى سواك ونحِّ عنها ... فخير الشرِّ أسرعه فواتا
وإن مالت عليك وخفت منها ... فواجهها مجاهرةً صلاتا
ومنهم من أمر بقبول الإنصاف وترك المحاسبة. قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: إن الملامات والذمّات كلها قبيحة، وأقبح الملامة والمذمَّة ما كانتا في ترك نصفة أو شدّة منافسةٍ في تعداد الذُّنوب. وأنشد:
منافسة العدوِّ أو الصديق ... تجرُّ إلى المذمّة والملامة

إذا أعطاك نصفاً ذو ودادٍ ... وبعض النِّصف فانتهز السلامة
ومنهم من قال: لا ترض من عدوِّك إلا بالظُّلم، ولا إنصافه ونافسه في ذلك. قال العباس بن عبد المطلب:
أبا طالب لا تقبل النِّصف منهم ... ولو أنصفوا حتى تعقَّ وتظلما
ومنهم من أمر بمعونة الدهر على العدو إذا حمل عليه. قال: حدثني إبراهيم بن شُعبة المخزومي قال: سمعت من حكى لي عن مصعب بن الزبير قال: إذا رأيت يد الدهر قد لطمتْ عدوك فبادره برجلك، فإنْ سلم من الدهر لم يسلم منك. وأنشد:
إذا برك الزمان على عدوٍّ ... بنكبته أعنت له الزَّمانا
قال العتابي: قلت لطوق بن مالك: إن من شرط الدهر ومن صناعة الزمان السَّلب، فإذا حملت الأيام على عدوك ثقلاً وأمكنتك منه فزده ثقْلاً إلى ثقله. قال: فقال لي طوْق: من لم ينتهز من عدوه انتهز منه، وحالت الأيام التي كانت بيضاً عليه سوداً. وانشد:
لله درُّك ما ظننت بثائرٍ ... حرّان ليس على التُّراب براقدِ
أحقدته ثم اضطجعت ولم ينم ... أسفاً عليك وكيف نوم الحاقد
إن تُمكن الأيام منك، وعلَّها، ... يوماً نوفِّك بالُّصواع الزائد
ولئن سلمت لأتركنك عارضا ... بعدي لكل مُسالمٍ ومعاند
ومنهم من كان يرى جبر كسر العدو وإقالة عثرته، ونصرته عند وثوب الدهر عليه.
قال: حدثني ابن عبد الحميد قال ابن شبرمة: كانت الحرب يوم صفِّين بين العرب محضةً لا شوب فيها، فكانت محاربتهم كداماً واعتناقاً، وكانوا إذا مرُّوا برجل جريحٍ كانوا يقولون: خذله قومه فانصروه، وألقاه دهره بمضْيعةٍ فردُّوه إلى أهله.
وقال ابن شُبرمة: مازلنا نسمع أن المصيبات تنزع السجيّات.
قال: وأنشدني بعض أهل العلم في هذا المعنى:
فلوْ بي بدأتم قبل من قد دعوتهم ... لفرّجتها وحدي ولو بلغتْ جهدي
إذا المرء ذو القربى وذو الحقد أجحفت ... به سنةٌ سلَّتْ مصيبته حقدي
ومنهم من رأى الإفضال على عدوّه وترك مجازاته. وهذا كثير لا يحتاج فيه إلى استقصاء شواهده.
قال غيْلان بن خرشة الضّبيّ - وقال بعضهم: بل الأحنف بن قيس - لا تزال العرب بخيرٍ ما لبست العمائم وتقلَّدت السيوف وركبت الخيل، ولم تأخذها حميّة الأوغاد. قيل: وما حميّة الأوغاد؟ قال: أن يروا الحِلْم ذُلاًّ، والتواهب ضيما.
وقال الشَّعبيّ لرجل قال له: ألا تنتقم من فلانٍ فقد عاداك ونصب لك؟ فقال:
ليست الأحلام في حال الرِّضا ... إنما الأحلام في حال الغضبْ
وأنشدني بعض العلماء بيتين وقال: إن الزُّنبيري كان كثيراً ما يتمثل بهما:
وإني لأعدائي على المقت والقلى ... بني العم منهم كاشح وحسود
أذُبُّ وأرمي بالحصى من ورائهم ... وأبدأ بالحسنى لهم وأعود
وكان عبد الملك بن مروان إذا أُنشد:
إني وإن كان ابن عمي كاشحاً ... لمُراجمٌ من دونه وورائه
ومُعيرُه نصري وإن كان امرأً ... متزحزحاً في أرضه وسمائه
وإن اكتسى ثوباً نفيساً لم أقل ... يا ليت أنَّ عليَّ حسن ردائه
وإذا تخرَّق في غناه وفرته ... وإذا تصعلك كنت من قرنائه
قال: هذا والله من شعر الأشراف. نفى عن نفسه الحسد واللؤم والانتقام عند الإمكان، والمسألة عند الحاجة.
ومنهم من أمر بالسَّفه في العداوة واستعمال الخُرق فيها.
حدّثني نوح بن احمد عن أبيه عن ابن عبَّاس قال: جاء النابغة الجعديّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل معك من الشِّعر ما عفا الله عنه؟ قال: نعم. قال: أنشدْني منه. فأنشده:
وإنّا لقومٌ ما نعوِّد خيلنا ... إذا ما التقينا أن تحيدا وتنفرا
وتنكر يوم الرَّوع ألوان خيلنا ... من الطَّعن حتى تحسب الجون أشقرا
وليس بمعروفٍ لنا أن نردَّها ... صحاحاً ولا مستنكراً أن تعقَّرا
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنَّا لنبغي فوق ذلك مظْهرا

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى أين يا أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنّة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إلى الجنّة إن شاء الله " .
ثم رجع في قصيدته فقال:
ولا خير في جهلٍ إذا لم يكن له ... حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدرا
ولا خير في حلمٍ إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدَّرا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا فضَّ الله فاك " . قال: فأتتْ عليه عشرون ومائة سنة، كلما سقطت له سنٌّ اثَّغرت أخرى مكانها؛ لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا أحسن ما رُوي في البادرة التي يُصان بها الحلم.
وقال الشاعر الجاهلي:
صفحنا عن بني ذُهلٍ ... وقلنا: القوم إخوانُ
عسى الأيام أن يرجع ... ن حيّاً كالذي كانوا
فلما صرَّح الشَّرُّ ... وأمسى وهو عُريانُ
مشينا مشية الليث ... بدا واللَّيث غضبانُ
بضربٍ فيه توهين ... وتضجيعٌ وإذعانُ
وطعنٍ كفم الزِّق ... وهي والزِّقُّ ملآنُ
وفي الشر نجاةٌ حي ... ن لا ينجيك إحسانُ
حدثنا أبو مسهر عن أبيه عن خالد بن عمرو الكلبيّ قال: كنا مع أبي برْزة الأسلمشِّ في غزاة، فكان منا رجل يمتار لنا الميرة ويقوم بحوائجنا، فإذا أقبل قلنا: جزاك الله خيرا. فغضب لدعائنا، فشكونا ذلك إلى أبي برزة، فقال أبو برزة: كنا نسمع أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، فاقلبوا له. فكنا نقول له إذا أتانا بالحوائج: جزاك الله شرّاً وعرّاً، فيضحك لذلك.
وأنشدني رجلٌ عن بعض الأعراب:
أرى الحلم في بعض المواطن ذلّةً ... وفي بعضها عزّاً يُشرَّف فاعله
إذا أنت لم تدفع بحلمك جاهلاً ... سفيهاً ولم تقرنْ به من يُجاهله
لبست له ثوب المذلّة صاغراً ... فأصبح قد أودى بحقِّك باطله
فأبق على جُهال قومك إنه ... لكلِّ حليمٍ موطنٌ هو جاهله
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " استوصوا بالغوغاء خيراً، فإنهم يطفئون الحريق، ويسُدُّون البثوق " .
وقال أبو سلمى في الجاهلية:
لا بدَّ للسُّودد من رماح ... ومن عديد يُتَّقى بالراح
ومن كلابٍ جمّة النُّباح
وقال مسلم بن الوليد:
حلفتُ لئن لم تلقني سفهاؤها ... خُزاعة والحيَّان عوفٌ وأسلمُ
لأرتجعنَّ الودَّ بيني وبينها ... بقافيةٍ تفري العروق فتحسمُ
من اللاء لا يرجعن إلا شوارداً ... لهنَّ بأفواه الرجال تهمْهمُ
أصابوا حليماً فاستعدُّوا بجاهل ... إذا الحلم لم يمنعك فالجهل أحزمُ
ولم نستقص الأبواب كلها بالمعارضة في هذا الكتاب، ولو استقصينا لطالت بنا الأيام وتراخت الليالي إلى بلوغ الغاية في تمام الكتاب. وإنما ذكرنا من كل باب عرض فيه ما دلّ على معناه الذي إليه قُصد.
ولم نر الحسد أمر به أحدٌ من العرب والعجم في حالٍ من الأحوال، ولا ندب إليه ونبَّه عليه. وقد نُبِّه على العداوة وفُصِّل بين أحوالها بما قد بيَّنَّاه، فظهر فضلها على الحسد بذلك.
وكنت امرأً قليل الحساد حتى اعتصمتُ بعروتك، واستمسكت بحبلك واستذريت في ظلّك، فتراكم على الحساد وازدحموا، ورموني بسهامهم من كل أوبٍ وأفق، وتتايعوا عليَّ تتايع الدَّثْر على مشتار العسل. ولئن كثروا لقد كثر بهبوب ريحك إخواني، وبنضرة أيامك وزهرة دولتك خُلاَّني. وأنا كما قلت:
فأكثرت حُسَّادي وأكثرت خُلَّتي ... وكنت وحُسَّادي قليلٌ وخُلاَّني

فلما بلغت هذا الفصل من تأليف هذا الكتاب دخل عليَّ عشرة نفرٍ من الكتاب قد شملهم معروفك، ورفع مراتبهم جميلُ نظرك، فهم من طاعتك والمحبّة لك على حسب ما أوليتهم من إحسانك وجزيل فوائدك، فأفاضوا في حديثٍ من أحاديث الحسد، فشعَّب لهم ذلك الحديث شعوباً افتنُّوا فيها - والحديث ذو شجون - فما برحوا حتَّى أتتني رقعة أناسيةٍ من الحساد فيها سهام الوعيد، ومقدمات التهديد والتحذير والتخويف، للطَّعن على ما ألَّفت من الكتب إن أنا لم أضمن لهم الشركة فيما يُجرى عليّ، فدفعت رُقعتهم إلى من قرب إليَّ منهم، فقرأها ثم قال: " قاتلهم الله! أبظلمٍ يرمون النيل ويلتمسون الشركة في المعروف! لنزع الرُّوح بالكلاليب أهون من بذل معروفٍ بترهيب " . وأنشأ يقول:
أبقي الحوادث من خلي ... لك مثل جندلة المراجمْ
قد رامني الأعداء قب ... لك فامتنعت من المظالم
ودفعها إلى من قُرب منه فقرأها. وقال الثاني: " صكَّة جُلمود، لكل مُرعدٍ حسود، يمستطر العرف بالتهديد. خلِّ الوعيد، يذهب في البيد " . وأنشأ يقول:
أبرقْ وأرعدْ يا يزي ... د فما وعيدُك لي بضائرْ
ودفعها إلى الثالث فقرأها وقال: " سألوا ظلما، وخوَّفوا هضماً، لقوا حرباً ولقيت سلما " . وأنشأ يقول:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشرْ بطول سلامة يا مربعُ
ودفعها إلى الرابع فقرأها وقال: " قول الذَّليل وبوله سيَّان " . وأنشأ يقول:
ماضرَّ تغلب وائلٍ أهجوتها ... أم بُلت حيث تناطح البحران
ودفعها إلى الخامس فقرأها وقال: " نهيق الحمار، ودمُ الأعيار جُبارٌ جُبار " . وأنشأ يقول:
ما أُبالي أنبَّ بالحزن تيسٌ ... أم لحاني بظهر غيبٍ لئيم
ودفعها إلى السادس فقرأها وقال: " إذا عَلِقتك الأمجاد، فليهُنْ عليك الحساد " . وانشأ يقول:
إذا أهل الكرامة أكرموني ... فلا أخشى الهوان من اللئام
ودفعها إلى السابع فقرأها وقال: " كيف يخاف الصُّرعة، من هو في ذي المنعة " . وأنشأ يقول:
كم تنبحون وما يغني نباحكم ... ما يملك الكلب غير النَّبح من ضرر
ودفعها إلى العاشر فقرأها وقال: " نوكى هلكى، لم يعرفوا خبرك، ولا دروْا أمرك " . وأنشأ يقول:
فلو علم الكلاب بنو الكلاب ... بحالك عند سِّيدنا لذلُّوا
وعندي صديقٌ لي من السُّوقة له أدبٌ، فقال لي بعقب فراغهم مُسرّاً: إن هؤلاء الكتاب قد أظهروا الاستخفاف بقول الحُسّاد، وضربوا الأمثال في هوانهم عليك، وعرفوا أنَّك في منعة من عزِّ أبي الحسن أطال الله بقاءه، ومعقلٍ لا يُسامى ولا يُنال. وأنا أقول بالشُّفعة:
توقَّ قوماً من الحُسَّاد قد قصدوا ... لحطِّ قدرك في سرٍّ وفي علنِ
فقلت له: إنّي أقول بيتين هما جوابك وجواب الحُسَّاد:
إنَّ ابن يحيى عبيد الله أمّنني ... من الحوادث بعد الخوف من زمني
فلست أحذر حُسَّادي وإن كثروا ... ما دمت مُمسك حبلٍ من أبي الحسن
فلما رأى صديقي اقتفائي آثار الكتاب، باستهانتي للحساد عند اعتلاقي حبائلك أعزك الله، أنشأ متمثِّلاً بقول نصر بن سيار:
إنِّي نشأت وحُسَّادي ذوو عددٍ ... ياذا المعارج لا تنقض لهم أحداً
إنْ يحسدوني على ما قد بنيت لهم ... فمثل حُسن بلائي جرَّ لي الحسدا
وليس العجب أن يكثروا وأنا أنعق بمحاسنك، وأهتف بشكرك، ولكن العجب كيف لا تتفتَّت أكبادهم كمدا.
وكان بعضهم يقول: اللهم كثِّر حُسَّاد ولدي؛ فإنهم لا يكثرون إلا بكثرة النعمة.
فإنْ كان والدي سبق منه هذا الدعاء، فإنَّ الإجابة كانت مخبوءة إلى زمان عزِّك؛ فقد رأينا تباشيرها، وبدت لنا عند عنايتك غايتها.
وكان بعض الصالحين يقول: اللهم اجعلْ ولدي محسودين، ولا تجعلهم مرحومين؛ فإنّ يوم المحسود يومُ عِزَّة، ويوم الحاسد يومُ ذلَّة.
ويقال: إنه لما مات الحجاج سمعوا جاريةً خلف جنازته وهي تقول:
اليوم يرحمنا من كان يحسدُنا ... واليوم نتْبع من كانوا لنا تبعا

ويقال: إنّ زياد بن أبيه قال لحرقة ابنة النعمان: أخبريني بحالكم. قالت: إن شئت أجملت وإن شئت فسَّرت. فقال لها: أجملي. فقالت: " بتنا نُحسد، وأصبحنا نُرحم " . فخطبها زيادٌ وكانت في ديرٍ لها فكشفتْ عن رأسها، فإذا رأسٌ محلوق، فقالت: أرأس عروس كما ترى يا زياد؟ وأعطاها دنانير فأخذتْها وقالت: جزتْك يدٌ افتقرتْ بعد غنىً، ولا جزتك يدٌ استغنتْ بعد فقر! ولا نعلم الحسد جاء فيه شيء أكثر من حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله حفظ القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه في وجوه البرّ آناء الليل وآناء النهار " .
فهذا الحسد إنما هو في طاعة الله عزّ وجلّ، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض الأشراف:
احسدْ على نيل المكارم والعلى ... إذْ لم تكن في حاله المحسودٍ
حسد الفتى بالمكرمات لغيره ... كرمٌ ولكن ليس بالمعدود
فهذا ما انتهى إلينا من أخبار الحسد، وزادك الله شرفاً وفضلاً، وعلماً ومعرفة، ولا زلت بالمكان الذي يُهدى إليك فيه الكتب، وتتحف بنوادر العلوم وفرائد الآداب، إنَّه قريب مجيب.

الرسالة العاشرة
رسالة في صناعات القواد
بسم الله الرحمن الرحيم
أرشدك الله للصواب، وعرَّفك فضل أولي الألباب، ووهب لك جميل الآداب، وجعلك ممن يعرف عزّ الأدب كما تعرف زوائد الغنى.
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: دخلت على أمير المؤمنين المعتصم بالله فقلت له: يا أمير المؤمنين، في اللسان عشر خصال: أداة يظهر بها البيان، وشاهد يُخبر عن الضمير، وحاكم يفصل بين الخطاب، وناطق يُرَدُّ به الجواب، وشافع تُدرك به الحاجة، وواصف تُعرف به الأشياء، وواعظ يُعرف به القبيح، ومُعزٍّ يُردُّ به الأحزان، وخاصَّةٌ يُزهى بالصَّنيعة، ومُلْةٍ يونق الأسماع.
وقال الحسن البصري: إنّ الله تعالى رفع درجة اللسان، فليس من الأعضاء شيء ينطق بذكره غيره.
وقال بعض العلماء: أفضل شيء للرجل عقلٌ يولد معه، فإنْ فاته ذلك فمالٌ يُعظَّم به، فإنْ فاته ذلك فعلمٌ يعيش به، فإن فاته ذلك فموتٌ يجتثُّ أصله.
وقال خالد بن صفوان: ما الإنسان لولا اللِّسان إلا ضالّة، أو بهيمةٌ مرسلة، أو صورة ممثَّلة.
وذُكر الصَّمت والنطق عند الأحنف فقال رجلٌ: الصَّمت أفضل وأحمد. فقال: صاحب الصمت لا يتعداه نفعه، وصاحب المنطق ينتفع به غيره. والمنطق الصَّواب أفضل.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رحم الله امرأً أصلح من لسانه " .
قال: وسمع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه رجلاً يتكلَّم فأبلغ في حاجته، فقال عمر: هذا والله السِّحر الحلال.
وقال مسلمة بن عبد الملك: إنّ الرجل ليسألني الحاجة فتستجيب نفسي له بها، فإذا لحن انصرفت نفسي عنها.
وتقدم رجلٌ إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير، إنَّ أبينا هلك، وإن أخونا غصبنا ميراثه. فقال زياد: الذي ضيعت من لسانك أكثر مما ضيَّعت من مالك.
وقال بعض الحكماء لأولاده: يا بني أصلحوا من ألسنتكم، فإنَّ الرجل لتنوبه النائبة فيستعير الدابة والثياب، ولا يقدر أن يستعير اللِّسان.
وقال شبيب بن شيبة ورأى رجلاً يتكلم فأساء القول، فقال: يا ابن أخي، الأدب الصالح خيرٌ من المال المضاعف.
وقال الشاعر:
وكائن ترى من صامتٍ لك مُعجبٍ ... زيادته أو نقصُه في التكلُّم
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدَّم
فخذْ يا أمير المؤمنين أولادك بأن يتعلموا من كلِّ الأدب؛ فإنَّك إن أفردتهم بشيءٍ واحد ثم سئلوا عن غيره لم يحسنوه.
وذلك أنيّ لقيت حِزاماً حين قدم أمير المؤمنين من بلاد الرُّوم، فسألته عن الحرب كيف كانت هناك؟ فقال: لقيناهم في مقدار صحْن الإصطبل، فما كان بقدر ما يُحسُّ الرجل دابته حتى تركناهم في أضيق من ممْرغة. وقتلناهم فجعلناهم كأنهم أنابير سرجين، فلو طُرحتْ روثةٌ ما سقطتْ إلا على ذنب دابّة.
وعمل أبياتاً في الغزل فكانت:
إن يهدم الصدُّ من جسمي معالفه ... فإن قلبي بقتِّ الوجد معمور
إنيّ امرؤ في وثاق الحبّ يكبحه ... لجام هجرٍ على الأسقام معذور

علِّلْ بِجُلٍّ نبيلٍ من وصالك أو ... حُسْنِ الرُّقاد فإنَّ النَّوم مأسور
أصاب حبل شكال الوَصْل حين بدا ... ومبضع الصدِّ في كفيه مشهور
لبست برقع هجر بعد ذلك في ... إصطبل وُدٍّ فروث الحُبِّ منثور
قال: وسألت بَخْتِيَشُوع الطبيب عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مقدار صحْن البيمارستان، فما كان بقدر ما يختلف الرجل مقعدين حتى تركناهم في أضيق من مِحْقَنة، فقتلناهم فلو طرحت مبضعاً ما سقط إلا على أكحل رجل.
وعمل أبياتاً في الغزل فكانت:
شرب الوصل دَسْتَج الهجر فاسْتَط ... لق بطن الوصال بالإسهال
ورماني حبِّي بقُولَنجِ بينٍ ... مُذهلٍ عن ملامة العُذَّال
ففؤاد الحبيب ينحله السُّ ... لُّ وقلبي معذَّبٌ بالملال
وفؤادي مُبرسم ذو سقامٍ ... يا بن ما سُوه ضلَّ عنِّي احتيالي
لو ببقراط كان مابي وجالي ... نوس باتا منه بأكسفِ بال
قال: وسألت جعفراً الخياط عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مقدار سُوق الخُلقان، فما كان بقدر ما يخيط الرجل درْزاً حتى قتلناهم وتركناهم في أضيق من جربَّانٍ، فلو طرحتْ إبرةً ما سقطت إلا على رأس رجل.
وعمل أبياتاً في الغزل فكانت:
فتقت بالهجر دُروز الهوى ... إذْ وخزتني إبرةُ الصّدِّ
فالقلب من ضيق سراويله ... يعثر في بايكة الجهد
جشَّمتني يا طيلسان النوى ... منك على شوزكتي وجدي
أزرار عيني فيك موصولة ... بُعروة الدمع على خدِّي
يا كستبان القلب يا زيقه ... عذَّبني التَّذكار بالوعد
قد قصَّ ما يعهد من وصله ... مقراضُ بينٍ مُرهفُ الحدِّ
يا حُجزة النَّفس ويا ذيلها ... مالي من وصلك من بُدِّ
ويا جربَّان سُروري ويا ... جيب حياتي حُلْت عن عهدي
قال: وسألت إسحاق بن إبراهيم عن مثل ذلك - وكان زارّاعاً - فقال: لقيناهم في مقدار جريبين من الأرض، فما كان بقدر ما يسقى الرجل مشارةً حتى قتلناهم، فتركناهم في أضيق من باب، وكأنهم أنابير سنبل، فلو طرح فدّانٌ ما سقط إلا على ظهر رجل.
وعمل أبياتاً في الغزل فكانت:
زرعت هواه في كراب من الصفا ... وأسقيته ماء الدوام على العهد
وسرجنته بالوصل لم آل جاهداً ... ليحرزه السرجين من آفة الصدِّ
فلمَّا تعالى النبت واخضرَّ يانعاً ... جرى يرقان البين في سنبل الودِّ
وقال: وسألت فرجاً الرخَّجيَّ عن مثل ذلك - وكان خبَّازاً - فقال: لقيناهم في مقدار بيت التنور، فما كان بقدر ما يخبز الرجل خمسة أرغفة حتى تركناهم في أضيق من حجر تنّور، فلو سقطت جمرة ما وقعت إلا في جفنة خبَّاز.
وعمل أبياتاً في الغزل فكانت:
قد عجن الهجر دقيق الهوى ... في جفنةٍ من خشب الصدِّ
واختمر البين فنار الهوى ... تذكى بسرجينٍ من البعد
وأقبل الهجر بمحراكه ... يفحص عن أرغفة الوجد
جرداق الموعد مسومة ... مثرودة في قصعة الجهد
قال: وسألت عبد الله بن عبد الصمد بن أبي داود عن مثل ذلك - وكان مؤدَّبا - فقال: لقيناهم في مقدار صحن الكتَّاب، فما كان بقدر ما يقرأ الصبيُّ إمامه حتى ألجأناهم إلى أضيق من رقم فقتلناهم، فلو سقطت دواةٌ ما وقعت إلا في حجر صبيّ.
وعمل أبياتاً في الغزل فكانت:
قد أمات الهجران صبيان قلبي ... ففؤادي معذَّب في خبال
كسر البين لوح كبدي فما أط ... مع ممن هويته في وصال
رفع الرقم من حياتي وقد أط ... لق مولاي حبلهمن حبالي
مشق الحبُّ في فؤادي لوحي ... ن فأغرى جوانحي بالسلال
لاق قلبي بنانه فمداد ال ... عين من هجر مالكي في انهمال
كرسف البين سوَّد الوجه من وص ... لي فقلبي بالبين في إشعال
وقال: وسألت عليّ بن الجهم بن يزيد - وكان صاحب حمام - عن مثل ذلك فقال:

لقيناهم في مثل بيت الأنبار، فما كان إلا بقدر ما يغسل الرجل رأسه حتى تركناهم في أضيق من باب الأتّون، فلو طرحت ليفةً ما وقعت إلا على رأس رجل.
وعمل أبياتاً في الغزل فكانت:
يا نورة الهجر حلقت الصَّفا ... لما بدت لي ليفة الصَّدِّ
يا مئزر الأسقام حتَّى متى ... تُنفع في حوض من الجهْد
أوقدْ أتون الوصل لي مرّةً ... منك بزنبيلٍ من الودِّ
فالبينُ مُذْ أوقد حمامه ... قد هاج قلبي مسلخ الوجد
أفسد خِطميَّ الصفا والهوى ... نُخالة النَّاقض للعهد
قال: وسألت الحسن بن أبي قماشة عن مثل ذلك - وكان كنَّاساً - فقال: لقيناهم في مقدار سطح الإيران، فما كان إلا بقدر ما يكنس الرجل زبيلاً حتَّى تركناهم في أضيق من جُحر المخرج، ثم قتلناهم بقدر ما يشارط الرجل على كنْس كنيف، فلو رميت بابنة وردانةٍ ما سقطت إلا على فم بالوعة.
وعمل أبياتاً فكانت:
أصبح قلبي بَرْبخاً للهوى ... تسلح فيه فقحة الهجر
بنات وردان الهوى للبلى ... أصبرُ من ذا الوجد في صدري
خنافس الهجران أثكلنني ... يوم تولَّى مُعرِضاً صبري
أسقم ديدان الهوى مُهجتي ... إذْ سلح البين على عُمري
قال: وسألت أحمد الشَّرابيَّ عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مقدار صحن بيت الشَّراب، فما كان بقدر ما يصفِّي الرجل دنّاً حتى تركناهم في أضيق من رطليّة فقتلناهم، فلو رميت تفاحةً ما وقعت إلا على أنف سكران.
وعمل أبياتاً في الغزل فكانت:
شربت بكأس للهوى نبذة معاً ... ورقرقت خمر الوصل في قدح الهجْر
فمالت دنان البين يدفعها الصِّبا ... فكسَّرن قرَّابات حُزني على صدري
وكان مزاج الكأس غُلَّة لوعةٍ ... ودورق هجرانٍ وقنِّينتيْ غدرٍ
قال: وسألت عبد الله بن طاهر عن مثل ذلك - وكان طبّاخا - فقال: لقيناهم في مقدار صَحْن المطبخ، فما كان بقدر ما يشوي الرجل حملاً حتى تركناهم في أضيق من موقد نار، فقتلناهم فلو سقطت مغرفةٌ ما وقعت إلا في قدر.
وعمل أبياتاً في الغزل فكانت:
يا شبيه الفالوذ في حمرة الخ ... دِّ ولوزينج النُّفوس الظِّماء
أنت جوزينج القلوب وفي اللّي ... ن كلين الخبيصة البيضاء
عُدْت مُستهتراً بسكباج ودٍّ ... بعد جوذابةٍ بجنب شواء
يا نسيم القدور في يوم عُرسٍ ... وشبيهاً بشهدةٍ صفراء
أنت أشهى إلى القلوب من الزُّبْ ... د مع النِّرسيان بعد الغذاء
أُطعم الحاسدون ألوان غمٍ ... في قصاع الأحزان والأدواء
قد غلا القلب مذ نأتْ عنك داري ... غليان القدور عند الصِّلاءِ
هام قلبي لَّما كسرن غضارا ... ت سروري مغارفُ الشَّحناء
فتفضل على العميد بيومٍ ... جُد بوصلٍ يُكبتْ به أعدائي
وتفضَّلْ على الكئيب ببزْما ... ورد وصلٍ يشفي من الأدواء
قال: وسألت - أطال الله بقاءك - محمد بن داود الطوسيَّ عن مثل ذلك - وكان فرّاشا - فقال: لقيناهم في مقدار صحن بساط، فما كان إلا بقدر ما يفرش الرجل بيتاً حتى تركناهم في أضيق من منصة فقتلناهم، فلو سقطت مخدَّة ما وقعتْ إلا على رأس رجل.
ثم عمل أبياتاً في الغزل فكانت:
كسح الهجر ساحة الوصل لمَّا ... غبَّر البين في وجوه الصَّفاءِ
وجرى البين في مرافق ريشٍ ... هي مذخورةٌ ليوم اللقاءِ
فرش الهجر في بيوت همومٍ ... تحت رأسي وسادة البُرحاءِ
حين هيأت بيت خيشٍ من الوص ... ل لأبوابه ستور البهاءِ
فرش البحر لي بيوت مُسموحٍ ... مُتَّكاها مطارح الحصباءِ
رِقَّ للصبِّ من براغيث وجدٍ ... تعتري جلده صباح مساء
قال: فضحك المعتصم حتى استلقى، ثم دعا مؤدِّب ولده فأمره أن يأخذهم بتعليم جميع العلوم.

الجزء الثاني
الرسالة الحادية عشرة

رسالة في النابتة
إلى أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي دُواد
بسم الله الرحمن الرحيم
أطال الله بقاءك، وأتمَّ نعمته عليك، وكرامته لك.
اعلمْ، أرشد الله أمرك، أنَّ هذه الأمة قد صارت بعد إسلامها والخروج من جاهليَّتها إلى طبقاتٍ متفاوتة، ومنازل مختلفة: فالطبقة الأولى: عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعُمر رضي الله عنهما، وستُّ سنين من خلافة عثمان رضي الله عنه؛ كانوا على التوحيد الصحيح والإخلاص المخلص، مع الألفة واجتماع الكلمة على الكتاب والسنة. وليس هناك عملٌ قبيحٌ ولا بدعةٌ فاحشة، ولا نزْع يدٍ من طاعةٍ، ولا حسدٌ ولا غلٌّ ولا تأوُّل، حتى كان الذي كان من قتل عثمان رضي الله عنه وما انْتُهك منه، ومن خبْطهم إيَّاه بالسلاح، وبعْج بطنه بالحراب، وفرى أوداجه بالمشاقص، وشدْخ هامته بالعمد، مع كفِّه عن البسْط، ونهيه عن الامتناع، مع تعريفه لهم قبل ذلك من كم وحهٍ يجوز قتْل من شهد الشهادة، وصلَّى القبلة، وأكل الذَّبيحة؛ ومع ضرب نسائه بحضْرته، وإقحام الرِّجال على حرمته، مع اتِّقاء نائلة بنت الفرافصة عنه بيدها، حتى أطنُّوا إصبعين من أصابعها، وقد كشفت عن قناعها، ورفعت عن ذيلها؛ ليكون ذلك ردْعاً لهم، وكاسراً من عزمهم؛ مع وطْئهم في أضلاعه بعد موته، وإلقائهم على المزبلة جسده مجرداً بعد سحبه، وهي الجزرة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفواً لبناته وأياماه وعقائله؛ بعد السَّبِّ والتعطيش، والحصْر الشديد، والمنع من القوت؛ مع احتجاجه عليهم، وإفحامه لهم، ومع اجتماعهم على أنَّ دم الفاسق حرامٌ كدم المؤمن، إلا من ارتد بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل مؤمناً على عمدٍ، أو رجلٌ عدا على الناس بسيفه فكان في امتناعهم منه عطبُه؛ ومع إجماعهم على ألا يُقتل من هذه الأمة مُولٍّ، ولا يجهز منها على جريح.
ثم مع ذلك كلِّه دمروا عليه وعلى أزواجه وحُرمه، وهو جالسٌ في محرابه، ومصحفه يلوح في حجره، لن يرى أنَّ موحداً يقدم على قتل من كان في مثل صفته وحاله.
لا جرم لقد احتلبوا به دماً لا تطير رغوته، ولا تسكن فورته، ولا يموت ثائره، ولا يكلّ طالبه. وكيف يضيع دمٌ الله وليُّه والمنتقم له؟! وما سمعنا بدمٍ بعد دم يحيى بن زكريا عليه السلام غلا غليانه، وقتل سافحه، وأدرك بطائلته، وبلغ كلّ محْنته، كدمه الله عليه.
ولقد كان لهم في أخْذه وفي إقامته للناس والاقتصاص منه، وفي بيع ما ظهر من رباعه وحدائقه وسائر أمواله، وفي حَبْسه بما بقي عليه، وفي طمْره حتَّى لا يُحسَّ بذكره، ما يُغنيهم عن قتله إنْ كان قد ركب كُلَّ ما قّفوه به، وادَّعوه عليه.
وهذا كلُّه بحضرة جلَّة المهاجرين، والسَّلف المقدَّمين، والأنصار والتابعين.
ولكن الناس كانوا على طبقاتٍ مختلفة، ومراتب متباينة: من قاتلٍ، ومن شادٍّ على عضده، ومن خاذلٍ عن نصرته. والعاجز ناصرٌ بإرادته، ومطيعٌ بحسن نَّيته. وإنَّما الشّكُّ منَّا فيه وفي خاذله، ومن أراد عزله والاستبدال به. فأمَّا قاتله والمعين على دمه والمريد لذلك منه، فضُلاَّلٌ لا شكَّ فيهم، ومُرّاقٌ لا امتراء في حكمهم. على أنَّ هذا لم يَعُدْ منهم الفجور، إمَّا على سوء تأويل، وإما على تعمُّد للشَّقاء.
ثمَّ مازالت الفتن متَّصلة، والحروب مترادفة، كحرب الجمل، وكوقائع صفّين، وكيوم النَّهْروان، وقبل ذلك يوم الزَّابوقة وفيه أُسر ابن حُنيف وقتل حكيم بن جبلة.
إلى أن قتل أشقاها عليَّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، فأسعده الله بالشهادة، وأوجب لقاتله النار واللَّعنة.
إلى أنْ كان من اعتزال الحسن عليه السلام الحروب وتخليته الأمور، عند انتشار أصحابه، وما رأى من الخلل في عسكره، وما عرف من اختلافهم على أبيه، وكثرة تلوُّنهم عليه.
فعندها استوى معاوية على الملك، واستبدَّ على بقيّة الشُّورى، وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سَمَّوْه عام الجماعة وما كان عام جماعةٍ، بل كان عام فُرْقة وقهر وجبرية وغلبة، والعام الذي تحَّلت فيه الإمامة مُلكاً كسرويّاً، والخلافة غصْباً وقيصريّاً، ولم يَعْد ذلك أجمع الضَّلال والفسق.

ثمَّ مازالت معاصيه من جنس ما حكينا، وعلى منازل ما رتَّبنا، حتَّى ردَّ قضيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّاً مكشوفاً، وجحد حُكمه جحداً ظاهرا، في ولد الفراش وما يجب للعاهر، مع إجماع الأمّة أنَّ سُميَّة لم تكن لأبي سُفيان فراشاً، وأنَّه إنَّما كان بها عاهراً؛ فخرج بذلك من حُكم الفُجَّار إلى حكم الكفَّار.
وليس قتل حُجْر بن عديّ، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر، وبيعته يزيد الخليع، والاستئثار بالفئء، واختيار الولاة على الهوى، وتعطيل الحدود بالشَّفاعة والقرابة، من جنْس جَحْد الأحكام المنصوصة، والشرائع المشهورة، والسُّنن المنصوبة.
وسواءٌ في باب ما يستحقُّ من الإكفار جحد الكتاب وردُّ السنة؛ إذْ كانت السنَّة في شُهرة الكتاب وظهوره، إلاَّ أنَّ أحدهما أعظم، وعقاب الآخرة عليه أشدّ.
فهذه أوَّلُ كفرةٍ كانت في الأمة.
ثم لم تكن إلاَّ فيمنْ يدَّعي إمامتها، والخلافة عليها.
على أن كثيراً من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره. وقد أربتْ عليهم نابتة عصرنا، ومبتدعة دهرنا فقالت: لا تسبُّوه فإنَّ له صُحبة؛ وسبُّ معاوية بدعة، ومن يبغضْه فقد خالف السُّنَّة.
فزعمت أنَّ من السُنّة ترك البراءة ممن جحد السُنَّة.
ثم الذي كان من يزيد ابنه ومن عُمَّاله وأهل نُصرته، ثم غزو مكّة، ورمي الكعبة، واستباحة المدينة، وقتل الحسين عليه السلام في أكثر أهل بيته مصابيح الظلام، وأوتاد الإسلام؛ بعد الذي أعطى من نفسه من تفريق أتْباعه، والرجوع إلى داره وحرمه، أو الذَّهاب في الأرض حتى لا يُحسَّ به، أو المقام حيث أمر به، فأبوا إلاَّ قَتْله والنُّزول على حكمهم.
وسواء قتل نفسه بيده، أو أسلمها إلى عدوِّه وخيَّر فيها من لا يبرد غليله إلاَّ بُشرْب دمه.
فاحسبوا قتله ليس بكفر، وإباحة المدينة وهتك الحُرمة ليس بحجَّة، كيف تقولون في رمْي الكعبة، وهدم البيت الحرام، وقبْلة المسلمين؟ فإنْ قلتم: ليس ذلك أرادوا، بل إنما أرادوا المتحرِّز به والمتحصِّن بحيطانه. أفما كان من حقِّ البيت وحريمه أن يحصروه فيه إلى أن يُعطى بيده، وأيُّ شيءٍ بقي من رجلٍ قد أُخذت عليه الأرض إلاَّ موضع قدمه.
واحسُبْ ما رووا عليه من الأشعار التي قولُها شِرك، والتمثُّل بها كفر، شيئاً مصنوعاً، كيف يُصنع بنَقْر القضيب بين ثَنيَّتي الحسين عليه السلام، وحمل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم حواسر على الأقتاب العارية والإبل الصِّعاب، والكشف عن عورة عليِّ بن الحسين عند الشَّكِّ في بلوغه على أنَّهم إنْ وجدوه وقد أنبت قتلوه، وإن لم يكن أنبت حملوه، كما يصنع أمير جيش المسلمين بذراري المشركين؟ وكيف تقولون في قول عبيد الله بن زياد لإخوته وخاصَّته: دعوني أقتلْه فإنَّه بقيّة هذا النَّسل، فأحسم به هذا القرْن، وأُميت به هذا الدَّاء، وأقطع به هذه المادَّة.
خبِّرونا على ما تدلُّ هذه القسوة وهذه الغلطة، بعد أن شفوا أنفسهم بقتلهم، ونالوا ما أحبُّوا فيهم. أتدلُّ على نصبٍ وسوء رأي وحقدٍ وبغْضاء ونفاق، وعلى يقينٍ مدخول وإيمان ممزوج، أم تدلُّ على الإخلاص وعلى حبِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحفظ له، وعلى براءة السَّاحة وصحّة السَّريرة؟ فإن كان على ما وصفنا لا يعدو الفسق والضَّلال - وذلك أدنى منازله - فالفاسق معلونٌ، ومن نهى عن لَعْن الملعون فملعون.
وزعمت نابتة عصرنا، ومبتدعة دهرنا، أنَّ سبَّ ولاة السُّوء فتنة، ولعن الجورة بدعة، وإنْ كانوا يأخذون السَّميَّ بالسَّميِّ، والوليَّ بالوليِّ، والقريب بالقريب، وأخافوا الأولياء، وآمنوا الأعداء، وحكموا بالشفاعة والهوى، وإظهار القدرة، والتهاون بالأمَّة، والقمع للرعيّة، وأنهم في غير مداراة ولا تقيّة، وإنْ عدا ذلك إلى الكفر، وجاوز الضَّلال إلى الجحد، فذاك أضلُّ لمن كفَّ عن شتْمهم والبراءة منهم.
على أنَّه ليس من استحقَّ اسم الكفر بالقتل كمن استحقَّه بردِّ السنَّة وهدم الكعبة. وليس من استحقَّ الكفر بالتشبيه كمن استحقَّه بالتجوير.
والنَّابتة في هذا الوجه أكفر من يزيد وأبيه، وابن زيادٍ وأبيه.
ولو ثبت أيضاً على يزيد أنَّه تمثَّل بقوله ابن الزِّبعْري:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسلْ

لاستطاروا واستهلُّوا فرحاً ... ثم قالوا يا يزيدا لا تسلْ
قد قتلنا الغرَّ من ساداتهم ... وعدلنا ميل بدرٍ فاعتدل
كان تجوير النَّابتيِّ لربِّه، وتشبيهه بخلقه، أعظم من ذلك وأفْظع.
على أنَّهم مجمعون على أنَّه ملعونٌ من قتل مؤمناً متعمِّداً أو متأوِّلا. فإذا كان القاتل سُلطاناً جائرا، أو أمير عاصياً، لم يستحلُّوا سبَّه ولا خَلْعه، ولا نفيه ولا عيبه، وإنْ أخاف الصُّلحاء وقتل الفقهاء، وأجاع الفقير وظلم الضعيف، وعطَّل الحدود والثُّغور، وشرب الخمور وأظهر الفجور.
ثم مازال الناس يتسكعون مرّةً ويداهنونهم مرّة، ويقاربونهم مرة ويشاركونهم مرّة، إلاّ بقيّةً ممن عصى الله تعالى ذكره، حتَّى قام عبد الملك بن مروان، وابنه الوليد، وعاملهما الحجّاج بن يوسف، ومولاه يزيد بن أبي مُسْلم، فأعادوا على البيت بالهدْم، وعلى حرم المدينة بالغزْو، فهدموا الكعبة، واستباحوا الحُرْمة، وحوَّلوا قبلة واسط، وأخرّوا صلاة الجمعة إلى مُغيربان الشَّمس. فإن قال رجلٌ لأحدٍ منهم: اتّق الله فقد أخَّرت الصلاة عن وقتها، قتله على هذا القول جهاراً غير ختْل، وعلانيةً غير سرّ. ولا يُعلم القتل على ذلك إلاّ أقبح من إنكاره، فكيف يكفر العبد بشيءٍ ولا يكفر بأعظم منه؟ وقد كان بعض الصَّالحين ربَّما وعظ بعض الجبابرة، وخوَّفه العواقب، وأراه أنَّ في الناس بقيّةً ينهون عن الفساد في الأرض، حتَّى قام عبد الملك بن مرْوان والحجاج بن يوسف، فزجرا عن ذلك وعاقبا عليه، وقتلا فيه، فصاروا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه.
فاحسبْ أنَّ تحويل القبلة كان غلطاً، وهدم البيت كان تأويلا، واحسب ما رووا من كلِّ وجه أنَّهم كانوا يزعمون أنَّ خليفة المرء في أهله أرفع عنده من رسوله إليهم، باطلاً ومصنوعاً مولَّداً. واحسبْ وسْم أيدي المسلمين ونقْش أيدي المسلمات، وردّهم بعد الهجرة إلى القُرى، وقتل الفقهاء، وسبَّ أئمَّة الهدى، والنَّصْب لعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا يكون كفراً، كيف نقول في جمع ثلاث صلواتٍ فيهنَّ الجمعة ولا يصلُّون أولاهنَّ حتَّى تصير الشمس على أعالي الجدران كالملاء المعصفر. فأن نطق مسلمٌ خبط السَّيف، وأخذته العمد، وشكَّ بالرِّماح .
وإن قال قائلٌ: اتَّق الله، أخذته العزَّة بالآثم، ثمّ لم يرض إلاَّ بنثر دماغه على صدره، وبصلبه حيث تراه عياله.
ومما يدلُّ على أنَّ القوم لم يكونوا إلاَّ في طريق التمرُّد على الله عزَّ وجلَّ، والاستخفاف بالدِّين، والتَّهاون بالمسلمين، والابتذال لآهل الحقّ، أكْلُ أمرائهم الطَّعام، وشُربُهم الشَّراب، على منابرهم أيّلم جُمعهم وجموعهم. فعل ذلك حُبيش بن دُلْجة، وطارقٌ مولى عثمان، والحجَّاج بن يوسف وغيرهم. وذلك إنْ كان كفراً كلُّه فلم يبلغ كفر نابتة عصرنا، وروافض دهرنا؛ لأنَّ جنس كفر هؤلاء غير كفر أولئك.
كان اختلاف الناس في القدر على أنَّ طائفةً تقول: كلُّ شيءٍ بقضاء وقدر، وتقول الطائفة الأخرى: كل شيءٍ بقضاءٍ وقدر إلاَّ المعاصي. ولم يكن أحدٌ يقول إنَّ الله يعذِّب الأبناء ليغيظ الآباء، وإنَّ الكفر والإيمان مخلوقان في الإنسان مثل العمى والبصر. وكانت طائفةٌ منهم تقول إنَّ الله لا يرى، لا تزيد على ذلك، فإنْ خافت أنْ يُظنَّ بها التشبيه قالت يُرى بلا كيفٍ، تعرِّياً من التَّجسيم والتَّصوير، حتَّى نبتت هذه النابتة، وتكلَّمت هذه الرَّافضة، فثبَّتتْ له جسماً، وجعلت له صورة وحدّاً، وأكفرتْ من قال بالرُّؤية على غير الكيفية.
ثم زعم أكثرهم أنَّ كلام الله حسن وبيِّن، وحُجَّةٌ وبرهان، وأنَّ التَّوراة غير الزَّبور، والزَّبور غير الإنجيل، والإنجيل غير القرآن، والبقرة غير آل عمْران، وأنَّ الله تولَّى تأليفه، وجعله برهانه على صدق رسوله، وأنَّه لو شاء أن يزيد فيه زاد، ولو شاء أن ينقص منه نقص، ولو شاء أن يبدِّله بدَّله، ولو شاء أن ينسخه كلَّه بغيره نسخه، وأنَّه أنزله تنزيلا، وأنَّه فصَّله تفصيلا، وأنَّه بالله كان دون غيره، ولا يقدر عليه إلا هو، غير أنَّ الله مع ذلك كلَّه لم يخلقْه. فأعطوا جميع صفات الخلْق ومنعوا اسم الخلق.

والعجب أنَّ الخَلْلق عند العرب إنما هو التقدير نفسه؛ فإذا قالوا خلق كذا وكذا، وكذلك قال " أحسن الخالقين " وقال " تَخْلُقُون إفْكاً " وقال: " وإذْ تخلُقُ من الطِّين كهيئة الطَّيْر " فقالوا: صنعه وجعله وقدَّره وأنزله، وفصَّله وأحدثه، ومنعوا خَلَقه. وليس تأويل خلقه أكثر من قدَّره. ولو قالوا بدل قولهم قدَّره ولم يخلُقْه: خلقه ولم يقدِّره، ما كانت المسألة عليهم إلاَّ من وجهٍ واحد.
والعجب أنَّ الذي منعه بزعمه أنْ يزعم أنَّه مخلوقٌ أنَّه لم يسمع ذلك من سلفه وهو يعلم أنَّه لم يسمع أيضاً عن سلفه أنّه ليس بمخلوق. وليس ذلك بهم، ولكن لما كان الكلام من الله يقال عندهم على مثل خروج الصَّوت من الجوف، وعلى جهة تقطيع الحروف وإعمال اللِّسان والشَّفتين، وما كان على غير هذه الصُّورة والصِّفة فليس بكلام.
ولما كنّا عندهم على غير هذه الصفة، وكنا لكلامنا غير خالقين، وجب أنَّ الله عز وجلَّ لكلامه غير خالق، إذ كنَّا خالقين لكلامنا. فإنَّما قالوا ذلك لأنَّهم لم يجدوا بين كلامنا وكلامه فرقا، وإن لم يقرُّوا بذلك بألسنتهم. فذاك معناهم وقصدهم.
وقد كانت هذه الأمّة لا تجاوز معاصيها الإثم والضَّلال، إلاَّ ما حكيت لك عن بني أميّة وبني مرْوان وعمَّالها، ومن لم يدِنْ بإكفارهم، حتَّى نجمت النَّوابت، وتابعتْها هذه العوامُّ، فصار الغالب على هذا القرْن الكفر، وهو التَّشبيه والجبر، فصار كفرهم أعظم من كُفر من مضى في الأعمال التي هي الفسق، وصاروا شركاء من كفر منهم، بتولِّيهم وترك إكفارهم. قال الله عزّ من قائل: " ومن يتولَّهُمْ مِنْكُمْ فإنَّهُ منْهم " .
وأرجو أن يكون الله قد أغاث المحقِّين ورحمهم، وقوَّى ضعفهم وكثَّر قلتهم، حتّى صار ولاة أمرنا في هذا الدَّهر الصَّعب، والزَّمن الفاسد، أشدَّ استبصاراً في التشبيه من عِلْيتنا، وأعلم بما يلزم فيه منَّا، وأكشف للقناع من رؤسائنا، وصادفوا النَّاس وقد انتظموا معاني الفساد أجمع، وبلغوا غايات البدع، ثم قرنوا بذلك العصبيَّة التي هلك بها عالمٌ بعد عالم، والحميَّة التي لا تُبقي ديناً إلاَّ أفسدته، ولا دُنيا إلاَّ أهلكتها، وهو ما صارت إليه العجم من مذهب الشُّعوبيَّة، وما قد صار إليه الموالي من الفخْر على العجم والعرب.
وقد نجمت من الموالي ناجمةٌ، ونبتت منهم نابتةٌ، تزعم أنَّ المولى بولايةٍ قد صار عربيّاً؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " مولى القوم منهم " ، ولقوله: " الولاء لُحمةٌ كلُحمة النَّسب، لا يُباع ولا يُوهب " .
قال: فنحن معاشر الموالي بقديمنا في العجم أشرف من العرب، وبالحديث الذي صار لنا في العرب أشرف من العجم. وللعرب القديم دون الحديث. ولنا خصلتان جميعاً وافرتان فينا، وصاحب الخصلتين أفضل من صاحب الخصلة.
وقد جعل الله المولى بعد أن كان عجميَّاً عربيا بولائه، كما جعل حليف قريش من العرب قرشيَّاً بحلفه، وجعل إسماعيل، بعد أن كان أعجميّاً، عربيّاً. ولولا قول النبي صلى الله عليه وسلم إن إسماعيل كان عربيّاً ما كان عندنا إلاَّ أعجميّاً؛ لأنَّ الأعجم لا يصير عربيّاً، كما أنَّ العربيَّ لا يصير أعجميّاً. فإنما علمْنا أنَّ إسماعيل صيَّره الله عربيّاً بعد أن كان أعجميّاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فكذلك حكمُ قوله: " مولى القوم منهم " ، وقوله: " الولاء لُحمةٌ " .
قالوا: وقد جعل الله إبراهيم عليه السلام أباً لمن لم يلدْ كما جعله أباً لمن ولد، وجعل أزواج النبيِّ أمَّهات المؤمنين ولم يلدن منهم أحداً، وجعل الجار والد من لم يلدْ، في قولٍ غير هذا كثيرٍ قد أتينا عليه في موضعه.
وليس أدعى إلى الفساد ولا أجلب للشَّرِّ من المفاخرة، وليس على ظهرها إلا فخورٌ، إلاَّ قليل.
وأيُّ شيء أغْيَظُ من أن يكون عبدك يزعم أنَّه أشرف منك وهو مقرٌّ أنه صار شريفاً بعتْقك إيَّاه.
وقد كتبت - مدَّ الله في عمرك - كتباً في مفاخرة قحطان، وفي تفضيل عدنان، وفي ردِّ الموالي إلى مكانهم من الفَضْل والنَّقص، وإلى قدْر ما جعل الله تعالى لهم بالعرب من الشَّرف. وأرجو أن يكون عدلاً بينهم، وداعيةً إلى صلاحهم، ومنْبهةً لما عليهم ولهم.
وقد أردت أن أرسل بالجزء الأوَّل إليك، ثم رأيت ألاَّ يكون إلاَّ بعد استئذانك واستئمارك، والانتهاء في ذلك إلى رغبتك.

فرأيك فيك موفّقاً، إن شاء الله عزَّ وجل. وبه الثِّقة.

الرسالة الثانية عشرة
كتاب الحجاب
بسم الله الرحمن الرحيم
أطال الله بقاءك، وجعلني من كل سوء فداءك، وأسعدك بطاعته وتولاّك بكرامته، ووالى إليك مزيده.
إنه يقال - أكرمك الله - " إن السَّعيد من وُعظ بغيره، وأن الحكيم من أحكمتْه تجاربه " . وقد قيل: " كفاك أدباً لنفسك ما كرهت من غيرك " وقيل: " كفاك من سوءٍ سماعه " ، وقيل: " إنَّ يقظة الفهم للواعظ ممَّا يدعو النَّفس إلى الحذر من الخطاء، والعقل إلى تصفيته من القذى " .
وكانت الملوك إذا أتت ما يجلُّ عن المعاتبة عليه ضُربت لها الأمثال، وعُرِّض لها بالحديث. وقال الشاعر:
العبد يُقرع بالعصا ... والحُرُّ تكفيه الملامةْ
وقال آخر: ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها وقال عبد المسيح المتلمِّسُ:
لذي الحلم قبل اليوم ما تُقرع العصا ... وما عُلِّم الإنسان إلاَّ ليعلما
وقال بعضهم: " في خفيِّ التعريض ما أغنى عن شنيع التَّصريح " .
وقد جمعت في كتابي هذا ما جاء في الحجاب من خبرٍ وشعرٍ، ومعاتبة وعُذر، وتصريح وتعريض، وفيه ما كفى. وبالله التوفيق.
وقد قلت:
كفى أدباً لنفسك ما تراه ... لغيرك شائناً بين الأنام
ما جاء في الحجاب والنَّهي عنه
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ثلاثٌ من كُنَّ فيه من الولاء اضطلع بأمانته وأمره: إذا عدل في حكمه، ولم يحتجب دون غيره، وأقام كتاب الله في القريب والبعيد " .
وروي عنه عليه السلام أنّه وجّه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى بعض الوجوه، فقال له فيما أوصاه به: " إنِّي قد بعثتك وأنا بك ضنين فابرزْ للناس، وقدِّم الوضيع على الشَّريف، والضَّعيف على القويّ، والنّساء قبل الرجال، ولا تُدخلنَّ أحداً يغلبك على أمرك، وشاور القرآن فإنّه إمامك " .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا استعمل عاملاً شرط عليه أربعا: لا يركب برذوناً، ولا يتّخذ حاجباً، ولا يلبس كَتَّاناً، ولا يأكل درْمكاً.
ويوصي عمّاله فيقول: إيّاكم والحجاب، وأظهروا أمْركم بالبراز، وخذوا الذي لكم وأعطُوا الذي عليكم، فإنَّ امرأً ظلم حقَّه مضطرٌّ حتى يَغْدُو به مع الغادين.
وكتب عمر رضوان الله عليه إلى معاوية وهو عامله على الشام: " أما بعد فإنّي لم آلُكَ في كتابي إليك ونفسي خيْراً. إيّاك والاحتجاب دون الناس، وأْذن للضعيف وأدنه حتى ينبسط لسانه، ويجترئ قلبه، وتعهَّد الغريب فإنَّه إذا طال حبسه وضاق إذنه ترك حقَّه، وضعف قلبه، وإنما أتْوى حقَّه منْ حبسه. واحرص على الصُّلح بين الناس ما لم يستبنْ لك القضاء. وإذا حضرك الخصمان بالبيِّنة العادلة والأيمان القاطعة فأمض الحكم. والسلام " .
وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: " آسِ بين الناس في نظرك وحجابك وإذنك، حتى لا يطمع شريفٌ في حيْفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. وأعلم أن أسعد الناس عند الله تعالى يوم القيامة من سعد به الناس، وأشقاهم من شقوا به " .
وروى الهيثم بن عديٍّ عن ابن عباس قال: قال لي عبيد الله بن أبي المخارق القينيّ: استعملني الحجاج على الفلُّوجة العليا، فقلت: أما ها هنا دهقانٌ يعاش بعقله ورأيه؟ فقيل لي: بلى، ها هنا جميل بن بَصْبَهَرَّي. فقلت: عليَّ به. فأتاني فقلت: إن الحجّاج استعملني على غير قرابة ولا دالَّة ولا وسيلة، فأشرْ عليَّ. قال: لا يكون لك بوابٌ حتى إذا تذكّر الرجل من أهل عملك بابك لم يخف حجّابك، وإذا حضرك شريفٌ لم يتأخر عن لقائك ولم يحكم على شرفك حاجبك. وليطل جلوسك لأهل عملك يهبك عمَّالك، ويبقى مكانك. ولا يختلف لك حكم على شريف ولا وضيع، ليكن حكمك واحداً على الجميع، يثق الناس بعقلك. ولا تقبل من أحدٍ هديّةً فإنَّ صاحبها لا يرضى بأضعافها مع ما فيها من الشُّهرة.
من عهد إلى حاجبه
قال موسى الهادي لحاجبه: لا تحجُب الناس عنّي؛ فإنّ ذلك يزيل التزكية، ولا تُلقِ إليّ أمراً إذا كشفته وجدته باطلاً، فإنَّ ذلك يُوتغ المملكة.

وقال بعض الخلفاء لحاجبه: إذا جلستُ فإْذنْ للناس جميعاً عليّ، وأبرز لهم وجهي، وسكِّن عنهم الأحراس، واخفض لهم الجناح، وأطبْ لهم بشرك، وألن لهم في المسألة والمنطق، وارفعْ لهم الحوائج، وسوِّ بينهم في المراتب، وقدِّمهم على الكفاية والغناء، لا على الميل والهوى.
وقال آخر لحاجبه: إنَّك عيني التي أنظرُ بها، وجُنَّةٌ أستنيم إليها، وقد ولَّيتك بابي فما تُراك صانعاً برعيّتي؟ قال: أنظر إليهم بعينك، وأحملهم على قدر منازلهم عندك، وأضعهم لك في إبطائهم عن بابك ولزومهم خدمتك مواضع استحقاقهم، وأرتِّبهم حيث وضعهم ترتيبك، وأُحسن إبلاغك عنهم وإبلاغهم عنك.
قال: قد وفيت بما عليك ولك قولاً، إن وفيت به فعلاً. والله وليُّ كفايتك ومعونتك.
وعهد أميرٌ إلى حاجبه فقال: إنَّ أداء الأمانة في الأعراض أوجب منها في الأموال؛ وذلك أنَّ الأموال وقايةٌ للأعراض، وليست الأعراض بوقاية للأموال. وقد ائتمنتك على أعراض الغاشين لبابي، وإنما أعراضهم أقدارهم، فصُنْها لهم، ووفِّرها عليهم. وصُنْ بذلك عرضي، فلعمري إنَّ صيانتك أعراضهم صيانةٌ لعرضي، ووقايتك أقدارهم وقايةٌ لقدري؛ إذ كنت الحظيَّ بزين إنصافهم إن أُنصفوا، والمبتلى بشين ظلمهم إن ظُلموا في غشيانهم بابي، وحضورهم فنائي.
أوف كلّ امرئٍ قدره، ولا تُجاوزْ به حدَّه، وتوقَّ الجور في ذلك التوقّيَ كلَّه. أقبلْ على من تحجب بإبداء البشر وحلاوة العُذر، وطلاقة الوجه ولين القول، وإظهار الودّ، حتّى يكون رضاه عنك لما يرى من بشاشتك به وطلاقتك له، كرضا من تأذن له عنك لما يُمنحه من التكريم، ويحويه من التعظيم؛ فإنّ المنع عند الممنوع في لين المقالة يكاد يكون كالنَّيل عند العظماء في نفع المنالة.
أنْهِ إليَّ حالات كلِّ من يغشى بابي من وجيهٍ وخامل، وذي هيئة وأخي رثاثة، فيما يحضُرون له بابي، ويتعلّقون به من إتياني.
لا تحتقرنَّ من تقتحمه العيون لرثاثة ثوبٍ أو لدمامة وجه، احتقاراً يخفي عليّ أثره، فربَّما بذَّ مثله بمخبره من يروق العيون منظره.
إنك إن نقصت الكريم ما يستحقُّه من مال لم يغضب بعد أن تستوهبه منه، وإن نقصته من قدره أسخطته أشدَّ الإسخاط، إذ كان يريد دنياه ليصون بها قدره، ولا يريد قدره ليبقي به دنياه. فكن لتحيُّف عرضه أشدَّ توقِّياً منك لتحيُّف ماله.
إن المحجوب وإنْ كان عدْلُنا في حجابه كعدلنا على المأذون له في إذنه، يتداخله انكسارٌ إذا حُجب ورأى غيره قد أُذن له. فاختصَّه لذلك من بشاشتك به، وطلاقتك له، بما يتحلَّل به عنه انكساره. فلعمري لو عرف أنّ صوابنا في حجابه كصوابنا في الإذن لمن نأذن له، ما احتجنا إلى ما أوصيناك به من اختصاصه بالبشر دون المأذون له.
إن اجتمع الأعلون والأوسطون والأدنون، فدعوت بواحدٍ منهم دون من يعلوه في القدر، لأمرٍ لابد من الدعاء به له، فأظهر العُذر في ذلك لئلا تخبث نفس من علاه؛ فإنّ الناس يتغالب لمثل ذلك عليهم سوء الظُّنون. والواجب على من ساسهم التوقِّي على نفسه من سوء ظنونهم، وعليهم تقويم نفوسهم؛ إذْ هو كالرأس يألم لألم الأعضاء، وهم كالأعضاء يألمون لألم الرأس.
المدائني قال: قال زياد بن أبيه لحاجبه: يا عجلان: قد ولّيتك بابي، وعزلتك عن أربعة: طارق ليلٍ؛ فشرٌّ ما جاء به أو خيْر. ورسول صاحب الثَّغر؛ فإنّه إن تأخّر ساعةً بطل به عمل سنة. وهذا المنادي بالصلاة. وصاحب الطَّعام؛ فإنّ الطعام إذا تُرك برد، وإذا أعيد عليه التسخين فسد.
الهيثم بن عديٍّ قال: قال خالد بن عبد الله القسريّ لحاجبه: لا تحجبنَّ عنّي أحداً إذا أخذت مجلسي؛ فإن الوالي لا يحتجب إلا عن ثلاث: إمّا رجلٌ عييٌّ يكره أن يُطَّلع على عيّه، وإمّا رجلٌ مشتمل على سوءة، أو رجلٌ بخيل يكره أن يدخل عليه إنسانٌ يسأله شيئاً.
أنشدني محمودٌ الورّاق لنفسه في هذا المعنى:
إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه ... وردَّ ذوي الحاجات دون حجابه
ظننت به إحدى ثلاثٍ، وربّما ... نزعت بظنٍّ واقع بصوابه
فقلت: به مسٌّ من العيّ ظاهر ... ففي إذْنه للناس إظهار ما به
فإن لم يكن عيّ اللسان فغالبٌ ... من البُخل يحمي ماله عن طلابه
فإن لم يكن هذا ولاذا فريبةٌ ... يصرّ عليها عند إغلاق بابه

وأنشدني بعض المحدثين في ابن المدبِّر:
لولا مقارفة الرِّيبْ ... ما كنت ممّن يحتجبْ
أوْلا فعيٌّ منك أو ... بخلٌ على أهل الطَّلَبْ
فاكشف لنا وجه الحجا ... ب ولا تُبالي من عتبْ
من ينبغي أن يُتّخذ للحجابة
قال المصور للمهديّ: لا ينبغي أن يكون الحاجب جهولاً، ولا غبيّاً، ولاعييّاً، ولا ذهولاً ولا متشاغلاً، ولا خاملاً ولا محتقراً، ولا جهماً ولا عبوساً. فإنّه إن كان جهولاً أدخل على صاحبه الضَّرر من حيث يقدِّر المنفعة، وإن كان عييّاً لم يؤدِّ إلى صاحبه ولم يؤدِّ عنه، وإن كان غبيّاً جهل مكان الشريف فأحلَّه غير منزلته، وحطَّه عن مرتبته، وقدَّم الوضيع عليه، وجهل ما عليه وماله. وإن كان ذهولاً متشاغلاً أخلَّ بما يحتاج إليه صاحبه في وقته، وأضاع حقوق الغاشين لبابه، واستدعى الذَّمَّ من الناس له، وأذن عليه لمن لا يحتاج إلى لقائه ولا ينتفع بمكانه. وإذا كان خاملاً محتقراً أحلَّ الناس صاحبه في محلِّه وقضوْا عليه به. وإذا كان جهماً عبوساً تلَّقى كل طبقةٍ من الناس بالمكروه، فترك أهل النصائح نصائحهم، وأخلَّ بذوي الحاجات في حوائجهم، وقلَّت الغاشية لباب صاحبه، فراراً من لقائه.
الهيثم بن عديّ عن مجالد عن الشَّعبيّ، أن عبد الملك بن مروان قال لأخيه عبد العزيز بن مروان، حين ولاَّه مصر: إن الناس قد أكثروا عليك، ولعلك لا تحفظ. فاحفظْ عنّي ثلاثا.
قال: قل يا أمير المؤمنين.
قال: انظر من تجعل حاجبك، ولا تجعلْه إلا عاقلاً فهماً مُفْهماً، صدوقاً لا يورد عليك كذباً، يُحسن الأداء إليك والأداء عنك. ومُرْه ألا َّ يقف ببابك أحدٌ من الأحرار إلاّ أخبرك، حتّى تكون أنت الآذن له أو المانع؛ فإنه إن لم يفعل كان هو الأمير وأنت الحاجب. وإذا خرجت إلى أصحابك فسلِّم عليهم يأنسوا بك. وإذا هممت بعقوبةٍ فتأنَّ فيها؛ فإنّك على استدراكها قبل فوتها أقدر منك على انتزاعها بعد فوتها.
وقال سهل بن هارون للفَضْل بن سَهْل: إنّ الحاجب أحد وجهي الملك، يُعتبر عليه برأفته، ويلحقه ما كان في غلظته وفظاظته. فاتخذْ حاجبك سهل الطبيعة، معروفاً بالرأفة، مألوفاً منه البرُّ والرَّحمة. وليكن جميل الهيئة حسن البسطة، ذا قصدٍ في نيَّته لهم في تفاضُل منازلهم، وليُعط كلاًّ بقسطه من وجهه، ويستعطف قلوب الجميع إليه، حتّى لا يغشى الباب أحدٌ وهو يخاف أن يقصَّر به عن مرتبته، ولا أن يُمنع في مدخل أو مجلسٍ أو موضع إذنٍ شيئاً يستحقُّه، ولا أن يمْنع أحداً مرتبته. وليضع كلاًّ عندك على منزلته. وتعهَّدْه فإن قصَّر مقصِّر قام بحسن خلافته وتزيين أمره.
وقال كسرى أنوشروان في كتابه المسمى " شاهيني " : ينبغي أن يكون صاحب إذن الخاصّة رجلاً شريف البيت، بعيد الهمّة، بارع الكرم، متواضعاً طلقاً، معتدل الجسم بهيَّ المنظر، ليِّن الجانب، ليس ببذخ ولا بطرٍ ولا مرح، ليِّن الكلام، طالباً للذِّكر الحسن، مشتاقاً إلى محادثة العلماء ومجالسة الصُّلحاء، محبّاً لكلِّ مازيَّن عمله، معانداً للسُّعاة، مجانباً للكذَّابين، صدوقاً إذا حدَّث، وفيَّاً إذا وعد، متفهماً إذا خوطب، مجيباً بالصواب إذا روجع، منصفاً إذا عامل، آنساً وؤنساً، محبَّاً للأخيار، شديد الحنوّ على المملكة، أديباً له لطافةٌ في الخدمة، وذكاءٌ في الفهم، وبسطةٌ في المنطق، ورفقٌ في المحاورة، وعلمٌ بأقدار الرجال وأخطارها.
وقال في حاجب العامة: ينبغي أن يكون حاجب العامة رجلاً عبد الطاعة، دائم الحراسة للملك، مخوف اليد، خشن الكلام مروّعا، غير باطشٍ إلا بالحقّ، لا أنيساً ولا مأنوساً، دائم العبوس، شديداً على المريب، غير مستخفٍّ بخاصّة الملك ومن يهوى ويقرِّب، من بطانته.
محلُّ الحاجب وموضعه ممن يحجبه
قال عبد الملك لأخيه عبد العزيز حين وجَّهه إلى مصر: اعرف حاجبك، وجليسك، وكاتبك. فإنَّ الغائب يخبره عنك كاتبك، والمتوسِّم يعرفك بحاجبك، والخارج من عندك يعرفك بجليسك.
وقال يزيد بن المهلب لابنه مخلد حين ولاه جرجان: استظرف كاتبك، واستعقل حاجبك.
وقال الحجّاج: حاجب الرجل وجهه، وكاتبه كلُّه.
وقال ابن أبي زرعة: قال رجلٌ من أهل الشام، لأبي الخطاب الحسن بن محمد الطائي يعاتبه في حجابه:

هذا أبو الخطاب بدرٌ طالعٌ ... من دون مطلعه حجابٌ مظلم
ويقال وجه المرء حاجبه كما ... بلسان كاتبه الفتى يتكلم
أدنيت من قبل اللقاء، وبعده ... أقصيت، هل يرضى بذا من يفهم
وإذا رأيت من الكريم فظاظةً ... فإليه من أخلاقه أتظلم
وقال الفضل بن يحيى: إنَّ حاجب الرجل عامله على عرضه، وإنه لا عوض لحرٍ من نفسه، ولا قيمة عنده لحريته وقدره.
وأنشدني ابن أبي كامل في هذا المعنى:
واعلمن إن كنت تجهله ... أنّ عرض المرء حاجبه
فبه تبدو محاسنه ... وبه تبدو معايبه
من عوتب على حجابه أو هجيَ به
إسحاق الموصليّ عن ابن كناسة قال: خبِّرت أنّ هانئ بن قبيصة وفد على يزيد بن معاوية، فاحتجب عنه أياماً، ثم إن يزيد ركب يوماً يتصيد فتلقاه هانئ فقال: يا يزيد، إن الخليفة ليس بالمحتجب المتخلِّي، ولا المتطرِّف المتنحِّي، ولا الذي ينزل على الغدران والفلوت، ويخلو للذات والشهوات. وقد وليت أمرنا فأقم بين أظهرنا، وسهّل إذننا، واعمل بكتاب الله فينا. فإن كنت قد عجزت عمّا هنا فاردد علينا بيعتنا نبايع من يعمل بذلك فينا، ويقيمه لنا. ثم عليك بخلواتك وصيدك وكلابك.
قال: فغضب يزيد وقال: والله لولا أن أسنَّ بالشام سنّة العراق لأقمت أودك.
ثم انصرف وما هاجه بشيء، وأذن له، ولم تتغير منزلته عنده، وترك كثيراً مما كان عليه.
الموصليّ قال: كان سعيد بن سلم والياً على أرمينية، فورد عليه أبو دهمان الغلابي، فلم يصل إليه إلا بعد حين، فلما وصل قال - وقد مثل بين السماطين - : والله إني لأعرف أقواماً لو علموا أنَّ سفَّ التراب يقيم من أود أصلابهم لجعلوه مسكةً لأرماقهم، إيثاراً للتنزه عن العيش الرقيق الحواشي. والله إني لبعيد الوثبة، بطيء العطفة إنه والله ما يثنيني عليك إلا مثل ما يصرفني عنك، ولأن أكون مملقاً مقرباً أحبُّ إليّ من أن أكون مكثراً مبعدا. والله ما نسأل عملا لا نضبطه ولا مالاً إلا ونحن أكثر منه، وإنَّ الذي صار في يدك قد كان في يد غيرك، فأمسوا والله حديثا، إن خيراً فخيرا، وإن شراً فشرا. فتحبّب إلى عباد الله بحسن البشر، ولين الحجاب؛ فإن حبّ عباد الله موصولٌ بحبّ الله، وهم شهداء الله على خلقه، وأمناؤه على من اعوجَّ عن سبيله.
إسحاق بن ابراهيم الموصلي قال: استبطأني جعفر بن يحيى، وشكا ذلك إلى أبي، فدخلت عليه - وكان شديد الحجاب - فاعتذرت إليه وأعلمته أني أتيته مراراً للسلام فحجبني نافذٌ غلامه. فقال لي وهو مازحٌ: متى حجبك فنكه. فأتيته بعد ذلك للسلام فحجبني، فكتبت إليه رقعةً فيها:
جعلت فداءك من كلّ سوء ... إلى حسن رأيك أشكو أناسا
يحولون بيني وبين السلام ... فما إن أسلم إلا اختلاسا
وأنفذت رأيك في نافذٍ ... فما زاده ذاك إلا شماسا
وسألت نافذاً أن يوصلها ففعل، فلما قرأها ضحك حتى فحص برجليه وقال: لا تحجبه أيَّ وقتٍ جاء. فصرت لا أُحجب.
وحجب أحمد بن أبي طاهر بباب بعض الكتاب فكتب إليه: ليس لحرٍ من نفسه عوض، ولا من قدره خطر، ولا لبذل حريته ثمن. وكلُّ ممنوع فمستغنىً عنه بغيره، وكلُّ مانعٍ ما عنده ففي الأرض عوضٌ منه، ومندوحةٌ عنه. وقد قيل: أرخص ما يكون الشيء عنده غلائه. وقال بشار: " والدرُّ يُترك من غلائه " .
ونحن نعوذ بالله من المطامع الدنيّة، والهمّة القصيرة، ومن ابتذال الحرية، ولا استرقّها طمع، ولا طبعت على طبع. وقد رأيتك ولّيت عرضك من لا يصونه، ووكلت ببابك من يشينه، وجعلت ترجمان كرمك من يكثر من أعدائك، وينقص من أوليائك، ويسيء العبارة عن معروفك، ويوجه وفود الذمّ إليك، ويضغن قلوب إخوانك عليه؛ إذ كان لا يعرف لشريفٍ قدرا، ولا لصديقٍ منزلة، ويزيل المراتب عن جهاتها ودرجاتها، فيحُطُّ العليّ إلى مرتبة الوضيع، ويرفع الدنيَّ إلى مرتبة الرفيع، ويقبل الرُّشى، ويقدِّّم على الهوى. وذلك إليك منسوبٌ، وبرأسك معصوب، يلزمك ذنبه، ويحلُّ عليك تقصيره.
وقد أنشدني أبو عليٍّ البصير:
كم من فتىً تحمد أخلاقه ... وتسكن الأحرار في ذمته
قد كثَّر الحاجب أعداءه ... وأحقد الناس على نعمته
وأنشدت لبعضهم:

يدلّّ على سروِ الفتى واحتماله ... إذا كان سهلاً دونه إذن حاجبه
وقد قيل ما البوَّاب إلا كربِّه ... إذا كان سهلاً كان سهلاً كصاحبه
وقال الطائي:
حشم الصَّديق عيونهم بحاثةٌ ... لصديقه عن صدقه ونفاقه
فليُنظرنَّ المرء من غلمانه ... فهم خلائفه على أخلاقه
وقال آخر:
اعرف مكانك من أخي ... ك ومن صديقك بالحشمْ
وقال ابن أبي عُيينة:
إنَّ وجه الغلام يخبر عمّا ... في ضمير المولى من الكتمان
فإذا ما جهلت ودَّ صديقٍ ... فامتحنْ ما أردت بالغلمان
وقال آخر:
ومحنة الزائرين بيِّنة ... تُعرف قبل اللقاء بالحشم
وأنشدني عبد الله بن أحمد المهْزميّ في عليّ بن الجهم:
أعليَّ دونك يا عليُّ حجاب ... يُدني لبعيد وتحجب الأصحاب
هذا بإذنك أمْ برأيك أم رأى ... هذا عليك العبد والبَّوابُ
إنَّ الشريف إذا أمور عبيده ... غلبت عليه فأمره مرتابُ
وأخذه من قول الطائي:
أبا جعفرٍ وأصول الفتى ... تدلُّ عليه بأغصانه
أليس عجيباً بأنّ امرأً ... رجاك لحادث أزمانه
فتأمر أنت بإعطائه ... ويأمر فتْحٌ بحرمانه
ولست أحبُّ الشريف الظريف ... يكون غلاماً لغلمانه
وحُجب ابن أبي طاهرٍ بباب بعض الكتاب، فكتب إليه: " إنه من لم يرفعه الإذن لم يضعه الحجاب، وأنا أرفعك عن هذه المنزلة، وأربأ يعدوِّك عن هذه الخليقة، وما أحد أقام في منزله - عظُم أو صغُر قدره - إلاّ ولو حاول حجاب الخليفة عنه لأمكنه. فتأمّلْ هذه الحال وانظرْ إليه بعين النَّصفة، ترها في أقبح صورة، وأدنا منزلة. وقد قلت:
إذا كنت تأتي المرء تُعْظم حقَّه ... ويجهل منك الحقَّ فالهجر أوسع
ففي الناس أبدالٌ وفي العزِّ راحةٌ ... وفي اليأس عمّن لا يواتيك مقنع
وإنّ امرأً يرضى الهوان لنفسهحريٌّ بجدع الأنف والجدع أشنعفدع عنك أفعالاً يشينك فعلهاوسهِّل حجاباً إذنُه ليس ينفع
وحدّثني عبد الله بن أبي مروان الفارسي قال: ركبت مع ثمامة بن أشرس إلى أبي عبّادٍ الكاتب، في حوائج كتب إليَّّ فيها أهل إرمينيّة من المعتزلة والشيعة، فأتيناه فأعظم ثمامة وأقعده في صدر المجلس وجلس قُبالته، وعنده جماعةٌ من الوجوه، فتحدثْنا ساعة ثم كلَّمة ثمامة في حاجتي، وأخرجت كتب القوم فقرأها، وقد كانوا كتبوا إلى أبي عبّادٍ كتبا، وكانوا أصدقاءه أيّام كونه بإرمينية، فقال لي: بكِّر إليّ غداً حتّى أكتب جواباتها إنْ شاء الله. فقلت: جعلني الله فداك، تأمر الحاجب إذا جئت أن يأذن لي. فغضب من قولي واستشاط وقال: متى حُجبت أنا، أولى حاجبٌ، أو لأحد عليَّ حجاب!.
قال عبد الله: وقد كنت أتيته فحجبني بعض غلمانه، فحلف بالأيمان المغلَّظة أن يقلع عينا من حجبني، ثم قال: يا غلام، لا يبق في الدار غلامٌ ولا منقطعٌ إلينا إلاَّ أحضرتمونيه! قال: فأتى بغلمانه وهم نحوٌ من ثلثمائة، فقال: أشرْ إلى من شئت فيهم. فغمزني ثمامة فقلت: جُعلت فداك لا أعرفُ الغلام بعينه. فقال: ما كان لي حاجبٌ قطٌّ، ولا احتجبت، وذلك لأنَّه سبق منّي قول، لأنّي كنت وأنا بالريّ وقد مات أبي وخلَّف لي بها ضياعاً فاحتجت إلى ملاقاة الرجال والسُّلطان فيما كان لنا، فكنت أنظر إلى الناس يدخلون ويصلون وأُحجب أنا وأُقصى، فتتقاصر إليّ نفسي، ويضيق صدري، فآليت على نفسي إن صرت إلى أمرٍ من السُّلطان ألاَّ أحتجب أبداً.
وحدثني الزُّبير بن بكّار قال: استأذن نافع بن جُبير بن مُطعم على معاوية، فمنعه الحاجب فدقَّ أنفه، فغضب معاوية وكان جُبيرٌ عنده، فقال معاوية: يا نافع، أتفعل هذا بحاجبي؟ قال: وما يمنعنيمنه وقد أساء أدبه وأسأت اختياره؟! ثم أنا بالمكان الذي أنا به منك. فقال جُبير: فضَّ الله فاك، ألاَّ تقول: وأنا بالمكان الذي أنا به من عبد مناف؟! قال: فتبسَّم معاوية وأعرض عنه.
قال: وفد رجلٌ من الأكاسرة على بعض ملوكهم، فأقام ببابه حولاً لا يصل إليه، فكلَّم الحاجب فأوصل له رقعةً فيها أربعة أسطر:

السطر الأول فيه: الأمل والضرورة أقدماني إليك.
وفي الثاني: ليس على العديم صبرٌ على المطالبة.
وفي الثالث: الرجوع بلا فائدةٍ شماتة العدوِّ والقريب.
وفي الرابع: إمّا " نعمْ " مُثمرة، وإمّا " لا " مؤيسة، ولا معنى للحجاب بينهما.
فوقع تحت كل سطرٍ منها: " زِهْ " .
وأنشد الوليد بن عُبيد البحتريّ في ابن المدبِّر يهجو غلامه بشراً:
وكم جئت مشتاقاً على بُعد غايةٍ ... إلى غير مشتاقٍ وكم ردَّني بشرُ
وما باله يأبى دخولي وقد رأى ... خروجي من أبوابه ويدي صفرُ
وأنشدت لبعضهم:
لعمري لئن حجبتني العبيد ... ببابك ما يحجبوا القافية
سأرمي بها وراء الحجاب ... جزاء قروضٍ لكم وافية
تُصمُّ السَّميع وتُعمي البصير ... ويُسأل من أجلها العافية
وأنشدني أحمد بن أبي فنن، في محمد بن حمدون بن إسماعيل:
ولقد رأيت بباب دارك جفوةً ... فيها لحسن صنيعةٍ تكدير
ما بال دارك حين تُدخل جنّةً ... وبباب دارك منكر ونكيرُ
وأنشدني أبو علي الدِّرهمي اليماميُّ في أبي الحسن علي بن يحيى:
لا يُشبه الرجل الكريم نجاره ... ذا اللُّبِّ غير بشاشة الحجّاب
وبباب دارك من إذا حيَّيته ... جعل التبرُّم والعبوس ثوابي
أوصيته بالإذن لي فكأنّما ... أوصيته متعمِّداً لحجابي
وأنشدني أبو علي البصير في أبي الحسن علي بن يحيى:
في كلِّ يوم لي ببابك وقفةٌ ... أطوي إليها سائر الأبواب
فإذا حضرتُ وغبتُ عنك فإنّه ... ذنبٌ عقوبته على البوّاب
وأنشدني أبو علي اليمامي، وعاتب بعض أهل العسكر في حاجبه، فلم يأذنْ له الحاجب بعد ذلك، فكتب إليه:
صار العتاب يزيدني بُعدا ... ويزيد من عاتبته صدّا
وإذا شكوت إليه حاجبه ... أغْراه ذاك فزادني ردّا
وأنشدني العجينيّ في بعض أهل العسكر، يعاتبه في حاجبه ويهجو حاجبه:
إنما يحسن المديح إذا ما ... أنشد المادح الفتى الممدوحا
وأراني بباب دارك عمِّر ... تُ طويلاً مُقصىً مُهاناً طريحا
إنّ بالباب حاجباً لك أمسى ... مُنْكرٌ عنده ظريفاً مليحا
ما سألناه عنك قطُّ وإلاّ ... ردّ من بُغضه مردّاً قبيحا
وأنشدت لبعضهم في هجاء حاجب:
سأترك باباً أنت تملك إذنه ... ولو كنت أعمى عن جميع المسالكِ
فلو كنت بواب الجنان تركتها ... وحوّلت رحْلي مسرعاً نحو مالكِ
وكتب بعض الكتّاب إلى الحسن بن وهبٍ، في بوّابه:
قد كنت أحسب أنّ طرفك ملَّني ... ورُميت منك بجفوةٍ وعذابِ
فإذا هواك على الذي قد كان لي ... وإذا بليّتنا من البوّاب
فاعلم جعلت فداك غير معلَّمٍأنّ الأديب مؤدَّب الحجاب
وقال رزينٌ العروضيّ لجعفر بن محمد بن الأشعث:
إن كنت تحجبني للذئب مزدهياً ... فقد لعمري أبوكم كلَّم الذيبا
فكيف لو كلَّم الليث الهصُور إذاً ... تركتم الناس مأكولاً ومشروبا
هذا السُّنيديُّ ما ساوى إتاوته ... يكلِّم الفيل تصعيداً وتصويبا
اذهب إليك فما آسي عليك وما ... ألقي ببابك طلاَّباً ومطلوبا
المدائني قال: كان يزيد بن عمر الأسِّيديّ على شرطة البصرة، فأتاه الفرزدق في جماعةٍ فوقف ببابه، فأبطأ عليه إذنه، فقال - وكان ابن عُمر يلقَّب الوقاح - :
ألم يكُ من نكْس الزَّمان على استه ... وقوفي على باب الوقاح أسائله
فإن تك شُرْطيّاً فإني لغالبٍ ... إذا نزلت أركان فخٍّ منازله
وقال أبو عليٍّ البصير، وحجبه محمد بن غسّان، بعد أُنسٍ كان بينهما:
قد أتينا للوعد صدر النَّهار ... فدُفِعْنا من دون باب الدار
وسمعنا، من غير قصدٍ لأن نس ... مع، صوت الغناء والأوتار
فأحْطنا بكل ما غاب من شأ ... نك عنَّا خُبْراً بلا استخبار

فإذا أنت قد وصلت صبوحاً ... بغبوقٍ ودُلجةً بابتكار
وإذا نحن لا تخاطبنا الغل ... مان إلاّ بالجحْد والإنكار
فانصرفنا وطالما قد تلقَّو ... نا بأُنسٍ منهم وباستبشار
ذاك إذ كان مرّةً لك فينا ... وطرٌ فانقضى من الأوطار
حين كُنَّا المقدِّمين على الن ... س وكنّا الشَّعار دون الدِّثار
كم تأنيت وانتظرت فأفني ... ت تأنِّيَّ كُلَّه وانتظاري
فعليك السلام كُنّا من الأه ... ل فصرنا كسائر الزُّوّار
وله إليه أيضاً:
قد أطلْنا بالباب أمس القعودا ... وجُفينا به جفاءً شديدا
وذممنا العبيد حتى إذا نح ... ن بلونا الوْلى عذرنا العبيد
وعلى موعدٍ أتيناك معلو ... مٍ وأمرٍ مُؤكَّد تأكيدا
فأقمنا لا الإذن جاء ولا جا ... ء رسولٌ قال انصرفْ مطرودا
وصبرنا حتّى رأينا قُبيل ال ... ظُّهر برذون بعضهم مردودا
واستقرَّ المكان بالقوم والغل ... مان في ذاك يمنحونا صدودا
ويُشيرون بالمضيّ فلمّا ... أُحرجوا جرّدوا لنا تجريدا
فانصرفنا في ساعةٍ لو طرحت ال ... لَّحم فيها نيّاً كُفيت الوقودا
فلعمري لو كنت تعتدّ لي ذن ... باً عظيما وكنت فظّاً حقودا
وطلبت المزيد لي في عذابٍ ... فوق هذا لما وجدت مزيدا
كان ظنِّي بك الجميل فألفي ... تك من كلِّ ما ظننت بعيدا
فعليك السلام تسليم من لا ... يضمن الدهر بعدها أن يعودا
وله في أحمد بن داود السِّيبي وقصد إليه بكتاب إسحاق بن سعدٍ الكاتب:
يا ابن سعدٍ إن العقوبة لا تل ... زم إلاَّ من ناله الإعذارُ
وابن داود مستخفٌّ وقد وا ... فَتْه مشحوذةً عليه الشَّفارُ
فاهده للتي يكون له من ... ها مفرٌّ ما دام يُنجي الفرارُ
سامني أحمد بن داود أمراً ... ما على مثله لديَّ اصطبارُ
لي إليه في كلِّ يومٍ جديدٍ ... روحةٌ ما أُغبُّها وابتكار
ووقوفٌ ببابه أُمنع الإذ ... ن عليه ويدخل الزُّوَّارُ
خُطَّةٌ من يُقم عليها من النا ... س ففيها ذُلٌّ له وصغارُ
لو ينال الغنى لما كان في ذ ... لك حظٌّ يناله مختارُ
عزب الرأي فيّ عته وعزَّتْ ... ه أناةٌ طويلةٌ وانتظار
وحجب بباب بعض الكُتَّاب فكتب إليه:
أقمت ببابك في جفوةٍ ... يُلوِّن لي قوله الحاجب
فيطمعني تارةً في الوصول ... وربَّتما قال لي: راكب
فأعلم عند اختلاف الكلام ... وتخليطه أنّه كاذب
وأعزم عزماً فيأبى عل ... يَّ إمضاءه رأيي الثاقب
وأءنّي أراقب حتى يثو ... ب للحرِّ من رأيه ثائب
فإن تعتذر تُلفني عاذراً ... صفوحاً وذاك هو الواجب
وإلا فإني إذا ما الحبا ... ل رثَّتْ قواها، لها قاضب
وقال لعليِّ بن يعقوب الكاتب وحجب ببابه:
قد أتيناك للسَّلام فصادفْ ... نا على غير ما عهدنا الغلاما
وسألناه عنك فاعتلَّ بالنَّ ... م وما كان مُنكراً أن تناما
غير أنّ الجواب كان جواباً ... سيئاً يُعقب الصَّديق احتشاما
فانصرفنا نوجِّه العُذر إلاّ ... أنَّ في مضمر القلوب اضطراما
يا ابن يعقوب لا يلومنَّ إلا ... نفسه بعد هذه من ألاما
وقال لعلي بن المنجِّم، وحجبه غلامه:
ليس يرضى الحُرُّ الكريم ولو أق ... طعته الأرض أن يذلَّ لعبد
فعليك السلام إلا على الطر ... ق وحبِّي كما علمت وودِّي
وقال أبو هفّان لعلي بن يحيى، يعاتبه في حجابه:

أبا حسنٍ وفِّنا حقَّنا ... بحقِّ مكارمك الوافية
أأُحجب دونك شرَّ الحجاب ... ويدخل دوني بنو العافية
أعوذ بفضلك من أن أُساء ... وأسأل ربيِّ لك العافية
فإني امرؤٌ تتَّقيني الملوك ... وتدخل في حلقي الضَّافية
كتبت على نفسِ من رامني ... ببعض الأذى للرَّدى صافية
وأُنشدت لبرقوق الأخطل وحُجب بباب بعض الكتّاب:
قد حُجبنا وكان خطباً جليلاً ... وقليل الجفاءِ ليس قليلا
لم أكن قبلها ثقيلا وهل يث ... قُل من خاف أن يكون ثقيلا
غير أني أظنُّ لازال ذاك ال ... ظَّنُّ ينقاد أن يكون ملولا
وأخذه من قول الآخر:
لمَّا تحاجبت وقد خفت أن ... تدنو من ودِّك بالمقبل
أقللت إتيانكم إنَّه ... من خاف أن يُثقل لم يثقل
وأنشدني أبو عبد الرحمن العطويّ:
لأبي بكرٍ خليلي ... حُسن رأيٍ في الحجابِ
يا أبا بكر سقاك ال ... له من صوب السَّحاب
لن تراني بعدها من ... بعدها قارع باب
إن يَنُبْ خطْبٌ ففي الرُّسْ ... ل بلاغٌ والكتاب
ولخالدٍ الكاتب في جعفر بن محمود:
احتجب الكاتب في دهرنا ... وكان لا يحتجب الكاتب
القوم يخلون لحجابهم ... فيُنكح المحجوب والحاجب
ولأبي سعْدٍ المخزومي في الحسن بن سهل:
ترهَّب بعدك الحسن بن سهلٍ ... فأغلق بابه دون المديح
كذبتُ له ولم أكذبْ عليه ... كما كذب النَّصاري للمسيح
وأنشدني البلاذُريّ في بعض كتاب أهل العسكر:
أيحجُبني من ليس من دون عرسه ... حجابٌ ولا من دون وجْعائه سترُ
ومن لو أمات الله أهون خلقه ... عليه لأضحي قد تضمَّنه قبرُ
وأنشدني حبيب بن أوسٍ، في موسى بن إبراهيم، أبي المغيث:
أمُويس لا يُغني اعتذارك طالباً ... ودَّي فما بعد الهجاء عتاب
هب من له شيءٌ يريد حجابه ... ما بال لا شيء عليه حجاب
ما إن سمعت ولا أراني سامعاً ... يوماً بصخراءٍ عليها باب
من كان مفقود الحياء فوجهه ... من غير بوّابٍ له بوّاب
ولآخر:
بخل الأمير بإذنه ... فجلست في بيتي أميرا
وتركت إمرته له ... والله محمودٌ كثيراً
وأنشدني الزبير بن بكارٍ لبعض الشعراء:
سأترك هذا الباب مادام إذنه ... على ما أرى حتى يلين قليلا
إذا لم نجد للإذن عندك سلَّما ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا
الزبير بن بكارٍ قال: وقدَ ابن عمٍّ لداود بن يزيد المهلَّبيّ عليه فحجبه، وجعل يمطله بحاجته، فكتب إليه:
أبا سليمان وعداً غير مكذوب ... اليأس أروح من آمال عرقوب
أرى حمامة مطلٍ غير طائرة ... حتى تنقَّب عن بعض الأعاجيب
لا تركبنَّ بشعرى غير مركبه ... فيركب الشعر ظهراً غير مركوب
لئن حجبت فلم تأذن عليك فما ... شعري إذا سار عن أذنٍ بحجوب
إن ضاق بابك عن إذن شددت غداً ... رحلي إلى المطريِّين المناجيب
قومٌ إذا سئلوا رقت وجوههم ... لا يستقيدون إلا للمواهيب
ولأحوص بن محمد الأنصاريّ في أبي بكر بن حزم:
أعجبت أن ركب ابن حزمٍ بغلة ... فركوبه فوق المنابر أعجب
وعجبت أن جعل ابن حزمٍ حاجباً ... سبحان من جعل ابن حزمٍ بحجب
وأنشدت لابن حازمٍ يعاتب رجلاً في حجابه:
صحبتك إذ أنت لا تصحب ... وإذ أنت لا غيرك الموكب
وإذ أنت تفرح بالزائرين ... ونفسك نفسك تستحجب
وإذ أنت تكثر ذمَّ الزمان ... ومشيك أضعاف ما تركب
فقلت: كريمٌ له همّةٌ ... تنال فأدرك ما أطلب
فنلت فأقصيتني عامداً ... كأني ذو عرّة أجرب
وأصبحت عنك إذا ما أتي ... ت دون الورى كاّهم احجب

وأنشدني أبو تمَّامٍ الطائي:
ومحجّبٍ حاولته فوجدته ... نجماً عن الركب العفاة شسوعا
لما عدمت نواله أعدمته ... شكري فرحنا معدمين جميعاً
ووقف العتبيّ بباب إسماعيل بن جعفرٍ يطلب إذنه، فأعلمه الحاجب أنه في الحمّام، فقال:
وأميرٍ إذا أردنا طعاماً ... قال حجّابه أتى الحمّاما
فيكون الجواب مني للحا ... جب ما إن أردت إلا السلاما
لست آتيكم من الدهر إلا ... كلّ يومٍ نويت فبه الصيَّاما
إنني قد جعلت كلّ طعامٍ ... كان حِلاً لكم عليّ حراما
وأنشدني إسحاق بن خلفٍ البصريّ له:
أيحجبني أبو الحسن ... وهذا ليس بالحسن
وليس حجابه إلا ... عن الزيتون والجبن
وأنشدني بعضهم:
لا تتَّخذ باباً ولا حاجباً ... علسك من وجهك بوّاب
أنت ولو كنت بدوّيةٍ ... عليك أبوابٌ وحجاب
ولعلي بن جبلة في الحسن بن سهل:
اليأس عزٌّ والذلّة الطمع ... يضيق أمرٌ يوماً ويتسع
لا تستريثنَّ إذن محتجبٍ ... إن لم تكن بالدخول تنتفع
أحقُّ شيءٍ بطول مهجرةٍ ... من ليس فيه ريٌّ ولا شبع
قل لابن سهل فإنني رجلٌ ... إن لم تدعني فإنني أدع
اليأس مالي وجنّتي كرمٌ ... والصبر والٍ عليّ لا الجزع
ولأبي تمام الطائي في أبي المغيث:
لا تكلفنَّ وأرض وجهك وجهه ... في غير منفعةٍ، مؤونة حاجب
لا تمتهنِّي بالحجاب فإنني ... فطن البديهة عالم بمواربي
ولبعض الشعراء في العباس بن خالد، وخبرت إنه لابن الأعمش:
أتحجبني فليس لديك نيلٌ ... وقد ضيّعت مكرمةً ومجدا
وفي الآفاق أبدالٌ ورزقٌ ... وفي الدنيا مراحٌ لي ومغدى
وأنشدني أبو الخطاب، لدعبل، في غسان بن عباد:
لقطع الرمال ونقل الجبال ... وشرب البحار التي تصطخب
وكشف الغطاء عن الجنِّ أو ... صعود السماء لمن يرتقب
وإحصاء لؤم سعيدٍ لنا ... أو الثكل في ولدٍ منتجب
أخفُّ على المرء من حاجةٍ ... تكلِّف غشيانها مرتقب
له حاجبٌ دونه حاجب ... وحاجب حاجبه محتجب
ولمرداس بن حزام الأسدي، في بشير بن جرير بن عبد الله:
أتيت بشيراً زائراً فوجدته ... أخا كبرياءٍ عالماً بالمعاذر
فصدَّ وأبدى غلظةً وتهجماّ ... وأغلق باب العرف عن كلّ زائر
حجاباً لحرٍّ لا جواداً بماله ... ولا صابراً عند اختلاف البواتر
وحجب أبو العتاهية بباب أحمد بن يوسف الكاتب، فكتب إليه:
ألم تر أنَّ الفقر يرجى له الغنى ... وأنَّ الغنى يخشى عليه الفقر
فإن نلت تيهاً بالذي نلت من غنىً ... فإنَّ غناي بالتكرّم والصبر
وله أيضاً فيه:
إني أتيتك للسلا ... م تكلفّاً مني وحمقا
فصددت عني نخوةً ... وتجبراً ولويت شدقا
فلو أن رزقي في يدي ... ك لما طلبت الدهر رزقا
ولأحمد بن أبي طاهر:
ليس العجيب بأن أرى لك حاجباً ... ولأنت عندي من حجابك أعجب
فلئن حجبت لقد حجبت معاشراً ... ما كان مثلهم ببابك يحجب
وله في بعض الكتاب:
ردّني بالذلِّ صاحبه ... إذا رأى أطالبه
ليس كشخاناً فأشتمه ... إنما الكشخان صاحبه
وله أيضاً في علي بن يحيى يعاتبه في بعض قصائده:
أصواباً تراه أصلحك الله فما إن رأيته بصواب
صرت أدعوك من وراء حجاب ... ولقد كنت حاجب الحجّاب
أتى أبو العتاهية باب أحمد بن يوسف الكاتب في حاجةٍ فلم يؤذن له، فقال:
لئن عدت بعد اليوم إني لظالمٌ ... سأصرف وجهي حيث تبغي المكارم
متى ينجح الغادي إليك بحاجةٍ ... ونصفك محجوبٌ ونصفك نائم
ولآخر:
رأيتك تطردنا بالحجا ... ب عنك برفقك طرداً جميلا

ولكنَّ في طمع الطامعي ... ن والحرّ من ذا يفكُّ العقولا
فهل لك في الإذن لي بالرحي ... ل فقد أبت النفس إلا الرحيلا
وحدثني أبو عليٍّ البصير قال: حدثني محمد بن غسان بن عباد قال: كنت بالرقة، وكان بها موسوسٌ يقول الشعر المحال والمنكر، فغدّيته يوماً معي احتساباً للثواب، فأتاني من غدً وعندي جماعةٌ من العمال، فحجبه الغلام، فلما كان من غدٍ وقف على الباب وصاح:
عليك إذنٌ فإنّا قد تغدّينا ... لسنا نعود لأككلٍ قد تغدَّينا
يا أكلةً سلفت أبقت حرارتها ... داءً بقلبك ما صُمنا وصَّلينا
قال: وما علمتُه قال شعراً على استواءٍ غيره، ولكنِّي وُعظت به فوقع مكروهي على لساني.
وأُنشدت لحمَّاد عجردٍ يعاتب بعض الملوك:
إذا كنت مكتفياً بالكتا ... ب دون اللِّمام تركت اللِّماما
وإلاّ فأوص هداك الملي ... ك بوّابكمْ بي وأوصِ الغلاما
فإن كنت أُدخلت في الزائري ... ن، إمّا قعوداً وإما قياما
وإنْ لم أكن منك أهلاً لذاك ... فلا لوم لست أحبُّ الملاما
فإنِّي أذمُّ إليك الأنا ... م أخزاهم الله ربِّي أناما
فإنِّي وجدتهم كلَّهمْ ... يُميتون مجداً ويُحيون ذاما
ولأبي الأسد الشَّيبانيّ، يعاتب أبا دُلف في حجابه:
ليت شعري أضاقت الأرض عنيّ ... أم نفيٌّ من البلاد طريدُ
أم قدارٌ أم الحبابة أم أح ... مر لاقت به البلاء ثمودُ
أم أنا قانعٌ بأدنى معاشٍ ... همَّتي القوت والقليل الزهيدُ
مقولي قاطعٌ وسيفي حسامٌ ... ويدي حُرَّةٌ وقلبي شديدُ
رُبَّ باب أعزّ من بابك اليو ... م عليه عساكرٌ وجنودُ
قد ولجناه داخلين غدُوّاً ... ورواحاً وأنت عنه مذودُ
فاكفف اليوم من حجابك إذ لسْ ... ت أميراً، ولا خميساً تقودُ
لن يقيم العزيز في البلد الهو ... ن ولا يكسد الأديب الجليدُ
كل من فرَّ من هوانٍ فإن ال ... رُّحب يلقاه والفضاء العتيدُ
ولعليّ بن جبلة في بعض الملوك:
حجابك ضيّقٌ ونداك نزرُ ... وإذنك قد يُراد عليه أجرُ
وذلٌّ أن يقوم إليك حُرُّ ... وطُلاب الثواب لديك نقْرُ
وأنشدني اليماميّ في أبي الصَّقر إسماعيل بن بلبل، يعاتبه في حجابه:
لكلِّ مؤمّلٍ جدوى كريمٍ ... على تأميله يوماً ثوابُ
وأنت الحرُّ ما خانتك نفسٌ ... ولا أصلٌ إذا وقع انتسابُ
وشكري ظاهر ورجاي جزلٌ ... ففيم جزاي من ذلٍّ حجاب
وحقّي أن تكافئني مزيداً ... بشكري إذْ به نزل الكتاب
وأنشدت لأبي مالك الأعرج:
علَّقت عيني بباب الدار منتظراً ... منك الرسول فخلِّصْها من الباب
صانعت فيك بمثَليْ ما أُمِّله ... فيما لديك وهذا سعى خيَّاب
ولبشَّار بن برد، في عُبيد الله بن قزعة:
إذا سُئل المعروف أغلق بابه ... فلم تلقه إلاّ وأنت كمين
كأنَّ عُبيد الله لم ير ماجداً ... ولم يدرِ أنَّ المكرمات تكون
فقل لأبي يحيى متى تدركُ العلا ... وفي كلِّ معروف عليك يمينُ
وأنشد لأبي زُرعة - رجلٍ من أهل الشام - في أبي الجهم بن سيف:
ولكنْ أبو الجهم إن جئته ... لهيفاً حُجبت عن الحاجبِ
وليس بذي موعدٍ صادق ... ويبخلُ بالموعد الكاذب
وحُجب سعيد بن حُميد بباب الحسن بن مَخْلَد، فكتب إليه:
ربّ بشرٍ يصيِّر الحرَّ عبداً ... لك غالتْه جفوةٌ في الحجاب
وفتىً ذي خلائقٍ مُعجباتٍ ... أفسدتْها خلائقُ البوّابِ
وكريم قد قصَّرت بأيادي ... ه عبيدٌ تسيءُ للآداب
لا أرى للكريم أن يشتري الدن ... يا جميعاً بوقْفةٍ بالباب

إنْ تركت العبيد والحُكم فينا ... صار فضلُ الرءوس للأذناب
فأحلُّوا أشكالهم رُتب الفضْ ... ل، وحظُّ الأحرار عَفْر التّراب
وأنشدت لعبد الله بن العباس:
أنا بالباب واقفٌ منذ أصبحْ ... ت على السِّرج ممسك بعناني
وبعين البوّاب كلُّ الذي بي ... ويراني كأنَّه لا يراني
وأنشدت لأبي عيينة المُهلَّبي - واسمه عبد الله بن محمد - يعاتب رجلاًمن قومه:
أتيتُك زائراً لقضاء حقٍّ ... فحال السِّتْرُ دونك والحجاب
ولستُ بساقطٍ في قدر قومٍ ... وإن كرهوا كما يقع الذبابُ
ورائي مذهبٌ عن كلِّ ناءٍ ... بجانبه إذا عزَّ الذَّهابُ
وأنشدني ابن أبي فنن:
ما ضاقت الأرضُ على راغبِ ... يَّطلب الرزق ولا ذاهبِ
بل ضاقت الأرض على صابرٍ ... أصبح يشكو جفوة الصَّاحبِ
من شتم الحاجب في ذَنْبِهِ ... فإنّما يقصد للصَّاحبِ
فارغبْ إلى الله وإحسانه ... لا تطلب الرزق من الطالبِ
قال المدائني: أتى عُويفُ القوافي باب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فحُجب أيّاماً، ثم استأذن له حُبيش صاحب إذن عمر، فلمّا قام بين يديه قال:
أجبني أبا حفص، لقيت مُحمَّداً ... على حوْضه مستبشراً بدُعاكا
فقال عمر: أقول لبيَّك وسعديك! فقال:
وأنت امرؤٌ كلتا يديك طليقةٌ ... شمالُك خيرٌ من يمين سواكا
علام حجابي، زادك الله رفعةً ... وفضلاً، وماذا للحجاب دعاكا
فقال: ليس ذاك إلاَّ لخير! وأمر له بصلة.
المدائني قال: أقام عبد العزيز بن زُرارة الكلابيّ، بباب معاوية حيناً لا يُؤذن له، ثم دخل فقال:
دخلت على معاوية بن حربٍ ... وكنت وقد يئست من الدخول
رأيت الحظَّ يستر عيب قومٍ ... وأيهات الحظوظ من العقول
قيل لحُبَّي المدينة: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم لا يجدي عليه. قيل لها: فما الذُّل؟ قالت: وقوف الشريف بباب الدنيِّء ثم لا يؤذن له. قيل لها: فما الشَّرف؟ قالت: اعتقاد المنن في أعناق الرجال، تبقى للأعقاب في الأعقاب.
وقيل لعُروة بن عديِّ بن حاتم وهو صبيٌّ، في وليمة كانت لهم: قفْ بالباب فاحجُبْ من لا تعرف وائذنْ لمن تعرف. فقال: لا يكون - والله - أوَّل شيءٍ استُكفيته منع الناس من الطَّعام.
وأُنْشدت لأبي عُيينة المهلَّبيّ:
بُلغةٌ تحجُب الفتى عن دُناةٍ ... وعتاب يخاف أو لا يخاف
هو خيرٌ من الرُّكوب إلى با ... ب حجابٍ عنوانه الانصراف
بئس للدولة التي تُرفع السِّف ... لة فيها وتسقط الأشراف
وأُنشدت لموسى بن جابرٍ الحنفي:
لا أشتهي يا قوم إلاَّ مُكرها ... باب الأمير ولا دفاع الحاجبِ
ومن الرِّجال أسنّةٌ مذروبة ... ومزنَّدون شهودهم كالغائبِ
ومنهم أُسودٌ لا تُرام، ومنهم ... مما قمشْت وضمّ حبل الحاطبِ
وأنشدني بعض أصحابنا:
إني امرؤ لا أُرى بالباب أقرعُه ... إذا تنمَّر دوني حاجب الباب
ولا ألوم امرأً في ودِّ شرفٍ ... ولا أُطالبُ ودَّ الكاره الآبي
وأنشدني ابن أبي فنن:
الموت أهون من طول الوقوف على ... بابٍ، عليّ لبوابٍ عليه يدُ
ما لي أقيمُ على ذلِّ الحجاب كأنْ ... قد ملَّني وطنٌ أو ضاق بي بلدُ
وأنشدني الزبير بن بكّار لجعفر بن الزُّبير:
إنَّ وقُفي من وراء البابْ ... يعدلُ عندي قلع بعض أنيابْ
وأنشد لمحمود الورَّاق:
شاد الملوكُ حصونهم وتحصَّنوا ... من كل طالب حاجةٍ أو راغبِ
عالوا بأبواب الحديد لعزِّها ... وتنوَّقوا في قُبْح وجه الحاجب
فإذا تلطَّف للدخول إليهم ... راجٍ تلقَّوْه بوعدٍ كاذبِ
فاضرعْ إلى ملك الملوك ولا تكنْ ... بادي الضَّراعة طالباً من طالب
وأنشدني أبو موسى المكفوف:

لن تراني لك العيون ببابِ ... ليس مثلي يُطيق ذُلَّ الحجابِ
يا أميراً على جريبٍ من الأر ... ضِ له تسعةٌ من الحجّابِ
قاعداً في الخرب تُحجبُ عنّا ... ما سمعنا إمارةً في خرابِ
" الأبيات رواها ابن خلكان في ترجنته 229:2 مع خلاف في الرواية والترتيب. وأولها هنا هو آخرها عنده " .
وأنشدني أبو قنْبر الكوفيُّ:
ولست بمتّخذٍ صاحباً ... يُقيم على بابه حاجبا
إذا جئتُه قيل لي نائمٌ ... وإن غبت ألفيتُه عاتبا
ويلزم إخوانه حقَّه ... وليس يرى حقَّهمْ واجبا
فلست بلاقيه حتَّى الممات ... إذا أنا لم ألقه راكبا
وأنشدني أبو بكر محمد بن أحمد، من أهل رأس العَيْن لنفسه في بعض بني عمران بن محمدٍ الموصليّ:
يا أبا الفوارس أنت أنت فتى النَّدى ... شهدتْ بذاك ولم تزلْ قحطانُ
فلأيِّ شيءٍ دون بابك حاجبٌ ... من بُغضه يتخبَّطُ الشَّيطانُ
فإذا رآني مال عنِّي مُعرضاً ... فكأنَّني من خوفه سرطانُ

من عاتب على حجابه والإذن لغيره
قال الأشهب بن رُميلة:
أبلغ أبا داود أنِّي ابنُ عمِّه ... وأنَّ البعيث من بني عمِّ سالم
أتُولج باب الملك من ليس أهله ... وريشُ الذُّنابي تابعٌ للقوادم
وقال عاصمٌ الزِّمانيُّ، من بني زمَّان:
أبلغ أبا مسمعٍ عني مغلغلةً ... وفي العتاب حياةٌ بين أقوامِ
أدخلت قبلي رجالاً لم يكن لهم ... في الحقِّ أن يلجوا الأبواب قُدامى
فقد جعلت إذا ما حاجةٌ عرضَتْ ... بباب دارك أدلُوها بأقدامِ
وقال هشام بن أبيض، من بني عبد شمس:
وليس يزيدني حسبي هواناً ... عليَّ ولا تراني مستكينا
فإنْ قدّمتمُ قبلي رجالاً ... أُراني فوقهم حسباً ودينا
ألسنا عائدين إذا رجعنا ... إلى ما كان قدَّم أوّلونا
فأرجع في أرومة عَبْشَميٍّ ... ترى لي المجد والحسب السَّمينا
وقال دينار بنُ نُعيمٍ الكلبيّ:
أبلغْ أمير المؤمنين ودونه ... فراسخ تطوي الطَّرف وهو حديد
بأنّي لدى عبد العزيز مدفَّعٌ ... يقدَّم قبلي راسبٌ وسعيدُ
وإنّي لأدنى في القرابة منهما ... وأشرف إن كنت الشريف تُريدُ
المدائني قال: أتى ابن فضالة بن عبد الله الغنويُّ باب قُتيبة بن مسلمٍ، فأساء إذنه فقال:
كيف المُقام أبا حفصٍ بساحتكم ... وأنت تُكرمُ أصحابي وتجفوني
أراهم حين أغشى باب حجرتكمْ ... تُدعوهم النَّقري دوني ويقصوني
كم من أميرٍ كفاني الله سخْطته ... مذْ ذاك أوليته ما كان يوليني
إني أبي أن أرضى ممنقصةٍ ... عمٌّ كريمٌ وخالٌ غير مأفونِ
خالي كريمٌ وعمِّي غير مؤتشبٍ ... ضخم الحمالة أبَّاءٌ على الهونِ
المدائني قال: كان مَسْلمة بن عبد الملك تزوّج ابنة زُفر بن الحارث الكلابيّ، وكان ببابه عاصم بن يزيد الهلاليّ، والهُذيل وكوثرٌ ابنا زفر، فكان يأذن لهما قبل عاصم، فقال:
أمَسْلمُ قد منَّيتني ووعدتني ... مواعدَ صدقٍ إن رجعت مؤمَّرا
أيُدعى هُذيلٌ ثمّ أُدعى وراءه ... فيا لك مَدْعي ما أذلَّ وأحقرا
وكيف ولم يشفع لي اللَّيل كلَّه ... شفيعٌ وقد ألقى قناعاً ومئزرا
فلست براضٍ عنك حتّى تحبَّني ... كحبِّك صهريك الهُذيل وكوثرا
وقال الأصحم، أحدُ بني سعد بن مالك بن ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة، يذكر خالد بن عبد الله القسريَّ، وأبان بن الوليد البَجَليّ، وحجبه خالد:
ومنزلةٍ ليست بدار تئيّةٍ ... أطال بها حبسي أبانٌ وخالدُه
فإنْ أنا لم أنزلْ بلاداً هُما بها ... فلا ساغ لي من أعذب الماء باردُه
إذا ما أتيتُ الباب صادفت عنده ... بجيلة، أمثال الكلاب، تُراصده

عليهم ثياب الخزِّ تبكي كما بكت ... كراسيُّه، من لُؤمه، ووسائده
ويدعون قُدامى ويجعل دوننا ... من السَّاج مسموراً تئطُّ حدائده
المدائني قال: كان تميم بن راشدٍ مولى باهلة، حاجباً لقُتيبة بن مسلم بخراسان، فكان يأذن لسُويد بن هوبرٍ النَّهشليّ، ومُجفر بن جزيّ الكلابي، قبل الحُضين بن المنذر الرقاشي، فقال الحُضين:
إنيّ لألقى من تميم وبابه ... عناءً ويدعو مُجفرا وابن هوبرا
نزيعين من حيَّين شتَّى كأنما ... يرى بهما البوّاب كسرى وقيصرا
وقال عبيد الله بن الحُرّ الفاتك، لعبد الله بن الزُّبير، وشكا إليه مُصعباً وحجّابه:
أبلغ أمير المؤمنين نصيحتي ... فلست على رأيٍ قبيحٍ أواربه
أفي الحقِّ أن أُجفى ويجعل مصعب ... وزيريه منْ قد كنت فيه أحاربه
وما لامرئٍ إلاّ الذي الله سائقٌ ... إليه وما قد خطَّ في الزُّبر كاتبه
إذا ما أتيت الباب يُدخل مسلمٌ ... ويمنعني أن أدخل الباب حاجبه
لقد رابني من مُصعبٍ أنَّ مصعباً ... لدى كلِّ ذي غشٍّ لنا هو صاحبه
وقال ابن نوفل لخالد بن عبد الله القسريّ، وحجبه:
فلو كنتُ غوْثيّاً لأدنيت مجلسي ... إليك، أخا قسْرٍ، ولكنني فحلُ
رأيتك تُدني ناشئاً ذا عجيزةٍ ... بمحجر عينيه وحاجبه كُحل
فو الله ما أدري إذا ما خلوتُما ... وأُرْخيت الأستار أيُّكما الفحل
وقال عمرو بن الوليد، في عُقبة بن أبي مُعيط:
أفي الحق أن نُدني إذا ما فزعتم ... ونقصي إذا ما تأمنون ونحجبُ
ويجعل فوقي من يودُّ لو أنَّكم ... شهابٌ بكفِّيْ قابسٍ يتلهَّبُ
فها أنتم داويتم الكلْم ظاهراً ... فمن لكلومٍ في الصُّدور تحوَّبُ
فقلت وقد أغضبتموني بفعلكم ... وكنت امرأً ذا مرّةٍ حين أغضبُ
أما لي في أعداد قومي راحةٌ ... ولا عند قومي إنْ تعتَّبتُ معتبُ
المدائنيُّ قال: كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج أن يستعمل مسمع بن مالك على سجستان، فولاَّه إياها، فأتاه الضَّحّاك بن هشام فلم يُنله خيراً وأقصاه، فقال:
وما كنت يا بن كبشة أن أرى ... لبابك بوّاباً ولاستك منبرا
وما شجر الوادي دعوت ولا الحصى ... ولكن دعوت الحُرقتين وجحدرا
أخذْنا بآفاق السماء فلم ندعْ ... لعينك في آفاقها الخُضرِ منظرا
من مْدح برفع الحجاب
قال أيمن بن خُريم في بشْر بن مروان:
ولو شاء بشرٌ كان من دون بابه ... طماطم سودٌ أو صقالبةٌ حُمْرُ
ولكنَّ بشراً أسهل الباب للتي ... يكون له من دونها الحمدُ والشُّكرُ
بعيدُ مراد الطَّرف ما ردَّ طرفه ... حذار الغواشي بابُ دار ولا سترُ
وله أيضاً في عبد العزيز:
لعبد العزيز على قومه ... وغيرهم منَنٌ ظاهره
ففبا بك ألين أبوابهم ... ودارُك مأهولةٌ عامره
وكلبك أرأف بالمعتفين ... من الأمِّ بابنتها الزّائرة
وكفُّك حين ترى السائلي ... ن أندى من اللَّيلة الماطرة
فمنك العطاء ومنّا الثناءُ ... بكل مُحبَّرةٍ سائرة
ولآخر أيضاً:
ما لي أرى أبوابهم مهجورةً ... وكأنَّ بابك مجمع الأسواقِ
إنّي رأيتك للمكارم عاشقاً ... والمكرمات قليلة العشَّاقِ
وللتيميّ:
يزدحم الناس على بابه ... والمنهل العذب كثير الزِّحامْ
ولأشجع بن عمرٍو السُّلميّ:
على باب ابن منصورٍ ... علاماتٌ من البذْلِ
جماعاتٌ وحسْبُ الب ... ب جوداً كثرة الأهلِ
وأُنشدت لعمارة بن عقيل، في خالد بن يزيد:
تأبى خلائق خالد وفعاله ... إلاَّ تجنُّب كلِّ أمرٍ عائبِ
وإذا حضرْنا الباب عند غدائه ... أذن الغذاءُ برغم أنف الحاجبِ
وأنشدتُ لبعضهم:

أبلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغذَّى رُفعت سُتوره
ولثابت قُطنة، في يزيد بن المهلّب:
أبا خالدٍ زدت الحياة محبّةً ... إلى الناس أنْ كنت الأمير المتوَّجا
وحُقَّ لهم أن يرغبوا في حياتهم ... وبابك مفتوحٌ لمن خاف أو رجا
تزيد الذي يرجو نداك تفضُّلا ... وتُؤمن ذا الإجرام إنْ كان مُحرجا
من أُمِّل حجابُه ولم يُذمَّ عليه
المدائني قال: حضر أبو سفيان بن حربٍ باب عثمان بن عفان رضي الله عنه، فحُجب عنه، فقال له رجلٌ يُغْريه به: حجبك أمير المؤمنين يا أبا سفيان؟ فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء أن يحجبني حجبني.
وأنشدني الطائيُّ في إسحاق بن إبراهيم الموصليّ:
يا أيُّها الملك المأمول نائله ... وجوده لمُراعي جُوده كثبُ
ليس الحجاب بمقُصٍ عنك لي أملاً ... إنَّ السماء تُرجَّى حين تحتجب
وله أيضاً في مالك بن طوق:
قل لابن طوقٍ رحى سعدٍ، إذا خبطتْ ... حوادث الدهر أعلاها وأسفلها
أصبحت حاتمها جوداً، وأحنفها ... حلماً، وكيِّسها علما ودغفلها
ما لي أرى الحجرة الفيحاء مقفلةً ... عنِّي وقد طال ما استفتحت مقفلها
كأنها جنّة الفردوس معرضةً ... وليس لي عملٌ زاكٍ فأدخلها
ولأبي عبد الرحمن العطويّ في ابن المدبِّر:
إذا أنت لم ترسل وجئتُ فلم أصلْ ... ملأت بعذرٍ منك سمع لبيبِ
قصدتك مشتاقاً فلم أرَ حاجباً ... ولا ناظراً إلاَّ بعين غضوبِ
كأني غريمٌ مقتضٍ أو كأنّني ... طُلوعُ رقيبٍ أو نُهوضُ حبيبِ
فقمت وقد فكَّ الحجابُ عزيمتي ... على شكر بُسط الراحتين وهوبِ
عليَّ له الإخلاص ما ردع الهوى ... أصالةُ رأيٍ أو وقارُ مَشيبِ
وأنشدني الخثمعيّ:
كيفما شئتَ فاحتجب يا أبا اللَّيْ ... ثِ ومن شئت فاتخِذْ يوّابا
أنت لو كنت دون أعراضِ قحطا ... نَ وأسبلْتَ دونها الأحسابا
لرأيناك في مرايا أيادي ... كَ يقيناً ولو أطلت الحجابا
وأنشدني البلاذُريّ في عُبيد الله بن يحيى بن خاقان:
قالوا اصطبارُك للحجابِ وذُلِّه ... عارٌ عليك يد الزَّمان وعابُ
فأجبتُهم ولكلِّ قولٍ صادقٍ ... أو كاذبٍ عند الكريم جوابُ
إنيّ لأغتفرُ الحجاب لما جد ... ليست له مننٌ عليَّ رغابُ
قد يرفع المرء اللئيمُ حجابه ... ضعةً، ودون العرف منه حجابُ
والحرُّ مبتذل النَّوال وإن بدا ... من دونه سترٌ وأُغلق بابُ
تم كتاب الحجاب، ولله الحمد والمنّة، وبيده الحول والقوّة، والل سبحانه الموفّق للصواب برحمته.
يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب " مفاخرة الغلمان والجواري " من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أيضاً، والله المستعان وعليه التُّكلان، إنّه سميعٌ مجيب الدعاء.
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلامه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الرسالة الثالثة عشرة
كتاب مُفاخرة الجواري والغلمان
بسم الله الرحمن الرحيم
بالله نستعين، وإياه نستهدي، وعليه نتوكل.
إنّ لكل نوعٍ من العلم أهلاً يقصدونه ويُؤْثرونه، وأصناف العلم لا تُحصى، منها الجزلُ ومنها السَّخيف. وإذا كان موضع الحديث على أنّه مُضحكٌ ومُلهٍ، وداخلٌ في باب حدّ المزج، فأُبدلت السَّخافة بالجزالة انقلب عن جهته، وصار الحديث الذي وُضع على أن يَسُرَّ النفوس يكرُبُها ويغُمّها.
ومن كان صاحب علم ممرَّناً موقَّحا، إلف تفكير وتنقيب ودراسة، وحلف تبيُّن، وكان ذلك عادةً له، لم يضره النَّظرُ في كلِّ فنٍّ من الجدّ والهزل؛ ليخرج بذلك من شكل إلى شكل. فإنَّ الأسماع قد تملُّ الأصوات المطربة، والأوتار الفصيحة، والأغانيَّ الحسنة، إذا طال ذلك عليها.
وقد رُوي عن أبي الدّرداء رضي الله عنه أنه قال: " إنِّي لأستجمُّ نفسي ببعض الباطل مخافة أن أحمل عليها من الحقّ ما يُملُّها " .

وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: " العلم أكثر من أن يُحصى، فخذوا من كلِّ شيءٍ أحسنه " .
ورُوي عن الشَّعبي أنه قال: " إنّ القلوب تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة " .
وبعض من يُظهر النسك والتقشُّفإذاذُكر الحر والأير والنَّيك تقزَّز وانقبض. وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجلٌ ليس معه من المعرفة والكرم، والنُّبل والوقار، إلاَّ بقدر هذا التصنُّع.
ولو علم أنَّ عبد الله بن عباسٍ أنشد في المسجد الحرام وهو مُحرمٌ:
وهُنَّ يمشين بنا هميسا ... إنْ تصدُقِ الطَّيْرُ ننكْ لميسا
فقيل له: إنَّ هذا من الرَّفث! فقال: إنما الرَّفث ما كان عند النساء.
وقول عليٍّ رضوان الله عليه ودخل على بعض أهل البصرة، ولم يكن في حسبه بذاك، فقال: من في هذه البيوت؟ فقال: عقائل من عقائل العرب. فقال: " من يَطُلْ أيرُ أبيه ينتطْق به " .
فعلى عليٍّ في التَّنزُّه يُعَوَّل.
وقول أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه لبُديل بن ورقاء يوم الحُديبية، وقد تهدَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عضضت ببظْر اللات، أنحنُ نخذُله؟! " .
وقول حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه: " وأنت يا ابن مقطِّعة البُظور ممن يكثِّر علينا! " .
وحديثٌ مرفوع: " من عذيري من ابن أمِّ سباع مقطَّعة البُظور " .
ولو تتبَّعت هذا وشبهه وجدته كثيرا.
وإنما وُُضعت هذه الألفاظ ليستعملها أهل اللغة، ولو كان الرأي ألاّ يُلفظ بها ما كان لأوّلِ كونها معنىً، ولكان في التَّحريم والصَّون للُغة العرب أن تُرفع هذه الأسماء والألفاظ منها.
وقد أصاب كلَّ الصَّواب من قال: " لكلِّ مقامٍ مقال " .
ولو كان ممّن يتصوَّف ويتقشَّف، علم قول امرأة رفاعة القّرظيّ تَجْبَهه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير محتشمة: إنّي تزوّجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنّما معه مثل هُدبة الثَّواب، وكنت عند رفاعة فطلَّقني - ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على التبسُّم حتى قضتْ كلامها - فقال: " تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتَّى تذوقي من عُسيلته ويذوق من عُسيلتك " . ورواه ابن المبارك عن معمر عن الزُّهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها لعلم أنّه على سبيل التَّصنُّع والرِّياء.
ولو سمعوا حديث ابن حازمٍ حين زعم أنَّه يُقيم ذكره ويصعد السُّلَّم وامرأته متعلقة بذكره حتَّى يصعد.
وحديث ابن أخي أبي الزِّناد إذْ يقول لعمِّه: أنْخَرُ عند الجماع؟ قال: يا بُنيَّ إذا خلوت فاصنع ما أحببت. قال: يا عمِّ، أتنخرُ أنت؟ قال: يا بنيّ، لو رأيت عمَّك يجامع لظننت أنّه لا يؤمن بالله العظيم!.
وهذان من ألفاظ المُجان.
ورُوي عن بعض الصَّالحين من التابعين رحمه الله، أنه كان يقول في دعائه: اللهمَّ قوِّ ذكري على نكاح ما أحللت لي.
ونحن لم نقصد في ذكرنا هذه الأخبار الردَّ على من أنكر هذهذ الأمور، ولكنَّا لما ذكرنا اختصام الشِّتاء والصيف، واحتجاج أحدهما على صاحبه، واحتجاج صاحب المعز والضَّأن بمثل ذلك، أحببنا أن نذكر ما جرى بين اللاَّطة والزُّناة، وذكرنا ما نقل حُمَّال الآثار وروتْه الرُّواة، من الأشعار والأمثال، وإن كان في بعض البطالات، فأردنا أن نقدِّم الحُجَّة لمذهبنا في صدر كتابنا هذا.
ونعوذ بالله أن نقول ما يُوتغ ويُردي، وإليه نرغب في التأييد والعصمة، ونسأله السلامة في الدِّين والدُّنيا برحمته.
قال (صاحب الغلمان): إن من فضل الغلام على الجارية أن الجارية إذا وُصفت بكمال الحسن قيل: كأنَّها غلام، ووصيفةٌ غلامية.
قال الشاعر يصف جارية:
لها قدُّ الغلام وعارضاه ... وتفتير المبتَّلة اللَّعوبِ
وقال:
فطِبْ لحديثٍ من نديم موافقٍ ... وساقيةٍ بَيْنَ المُراهقِ والحُلْمِ
إذا هي قامت والسُّداسيَّ طالها ... وبين النَّحيف الجسم والحسن الجسم
وقال والبة بن الحُباب:
وميراثيَّة تمشي اختيالاً ... من التكريه قاتلة الكلام
لها زيُّ الغلام ولم أقسْها ... إليه ولم أُقصِّر بالغلامِ
وقال عُكاشة:
مطمومة الشَّعْر في قُمصٍ مزرَّرةٍ ... في زيّ ذي ذكرٍ سيماهُ سيماها

وأكثر من قول الشاعر قول الله عزّ وجلّ: " يطوف عليهمْ غلمانٌ لهمْ كأنهم لؤلؤ مكنونٌ " وقال تبارك وتعالى: " يطوف عليهم ولْدانٌٌ مُخلَّدون. بأكوابٍ وأباريق " . فوصفهم في غير موضعٍ من كتابه، وشوَّق إليهم أوْلياءه.
قال (صاحب الجواري): قد ذكر الله جلَّ اسمه الحور العين أكثر مما ذكر الولدان، فما حجَّتك في هذا إلا كحجَّتنا عليك.
ومما صان الله به النِّساء أنَّه جعل في جميع الأحكام شاهدين: منها الإشراك بالله، وقتل النَّفْس التي حرم الله تعالى؛ وجعل الشهادة على المرأة إذا رُميت بالزِّنى أربعةً مجتمعين غير مفترقين في موضعٍ، يشهدون أنَّهم رأوه مثل الميل في المُكحُلة. وهذا شيءٌ عسير؛ لما إراد الله من إغماض هذا الحد إذ جعل فيه الشَّدخ بالحجارة.
وإنما خلق الله الرِّجال بالنساء.
وريح الجارية أطيب، وثيابها أعطر، ومشيتها أحسن، ونغْمتها أرق، والقلوب إليها أمْيل. ومتى أردتها من قُدَّامٍ أو خَلْفٍ من حيث يحسن ويحلّ وجدت ذلك كما قال الشاعر:
وصيفةٌ كالغلامِ تصلح لل ... أمرين كالغُصن في تثنِّيها
أكملها اللهُ ثم قال لها ... لما استتمَّت في حُسنها: إيها
قال: ونظر بعض الحاجِّ إلى جاريةٍ كأنها دمية في محراب، قد أبْدت عن ذراعٍ كأنه جُمارة، وهي تكلَّمُ بالرَّفث، فقال: يا هذه، تكلَّمين بمثل هذا وأنت حاجَّة! قالت: لست حاجّة، وإنما يحجُّ الجمل، ألست تراني جالسةً وهو يمشي! قال: ويحك، لم أر مثلك فمن أنت؟ قالت: أنا من اللواتي وصفهنَّ الشَّاعر فقال:
ودَقّت وجَلَّت واسبكرّت وأُكملتْ ... فلو جُنَّ إنسانٌ من الحسن جُنَّتِ
قال (صاحب الغلمان): إنّ أحداً لا يدخل الجنّة إلا أمرد، كما جاء في الحديث: " إن أهل الجنّة يدخلونها جُرْداً مكحَّلين " . والنِّساء إلى المُرْدِ أمْيل، وله أشهى، كما قال الأعشى:
وأرى الغواني لا يواصلن امرأً ... فقد الشَّباب وقد يصلْن الأمردا
وقال امرؤ القيس:
فيا رُبَّ يومٍ قد أروحُ مرجَّلاً ... حبيباً إلى البيض الأوانسِ أملسا
أراهن لا يُحببن من قلَّ ماله ... ولا من رأين الشَّيب فيه وقوَّسا
وقال عَلْقمة بن عبدة:
فإنْ تسألوني بالنِّساء فإنّني ... بصيرٌ بأدواء النِّساء طبيبُ
إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودِّهنَّ نصيبُ
يُردْن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخُ الشَّباب عندهنَّ عجيبُ
قال (صاحب الجواري): فإن الحديث قد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: " حُبِّبت إليَّ النِّساء والطِّيب، وجعل قُرَّة عيني في الصلاة " . ولم يأت للغلمان مثل هذه الفضيلة. وقد فُتن بالنساء الأنبياء عليهم السلام، منهم داود، ويُوسف، عليهما السلام.
قال (صاحب الغلمان): لو لم يكن من بليّة النساء إلاّ أنّ الزِّنى لا يكون إلاّ بهنّ، وقد جاء في ذلك من التغليظ ما لم يأتِ في غيره في الكتاب نصّاً، وفي الروايات الصحيحة. قال الله تبارك وتعالى: " ولا تقْربوا الزِّنى إنَّه كان فاحشةً وساء سبيلاً " ، وقال: " ولا يزْنون ومنْ يفعلْ ذلك يًلْقَ أثاماً. يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخْلُدْ فيه مُهاناً " ، وقال: " الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهما مائة جلدةٍ ولا تأخذْكم بهما رأفةٌ " . وقد جعل بينهما إذا لم يكن شهودٌ التلاعن والفرقة في عاجل الدُّنيا، إلى ما أعدَّ للكاذب منهما من اللَّعن والغضب في الآخرة.
قال (صاحب الجواري): ما جعل الله من الحدّ على الزَّاني إلاّ ما جعل على اللَّوطيّ مثله. وقد رُوي عن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه؟، أنّه أُتي بلُطيٍّ، فأُصعد المئذنة ثم رُمي منكِّساً على رأسه، وقال: " هكذا يُرمى به في نار جهنَّم " .
وحُدِّث عن أبي بكر، رضي الله عنه، أنّه أُتي بلوطيٍّ فعرقب عليه حائطاً.
وحديث أبي بكر أيضاً رضي الله عنه، أنَّ خالد بن الوليد كتب إليه في قومٍ لاطُوا فأمر بإحراقهم.
وأحرقهم هشام بن عبد الملك، وأحرقهم خالد بن عبد الله بأمر هشام.
وفي الحديث مجاهد أنَّ الذي يعمل عمل قوم لُوطٍ لو اغتسل بكلِّ قطرةٍ من السَّماء وكلِّ قطرة في الأرض لم يزلْ نجساً.

وحديث الزُّهريّ: " اللُّوطيّ يُرجم، أُحصن أو لم يُحصنْ؛ سُنّةٌ ماضيةٌ " .
ورُوي عن الحكم بن عُتَيْبَة أن عليّاً رحمه الله رجم لوطيّاً وقال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذَّكرين يلعب أحدهما بالآخر " .
وحديث أنسٍ قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤنَّثين من الرجال، والمذكَّرات من النساء " .
وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم مخنَّثاً من المدينة يقال له " هيتٌ " وسمعه يقول لأمِّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا فتحتم الطَّائف فعليك بادية بنت غيْلان، فإنها هيفاءُ شموع، إذا قامت تثنَّت، وإذا تكلَّمت تغنَّتْ، تُقبل بأربعٍ وتُدبرُ بثمانٍ، وبين رجليها كالإناء المكفوء، فزوِّجيها عُمر ابنك " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد تغلغلت في النظر يا عدوَّ الله، وما ظننتك من ذوي الإربة! " . فنفاه عن المدينة.
قال (صاحب الغلمان): من عيوب المرأة أنّ الرجل إذا صاحبها شيَّبتْ رأسه، وسهَّكت ريحه، وسوَّدت لونه، وكثر بوله. وهنَّ مصايد إبليس وحبائل الشيطان، يُتعبن الغنيَّ، ويكلِّفن الفقير ما لا يجد. وكم من رجلٍ تاجرٍ مستورٍ قد فلَّسته امرأته حتَّى هام على وجهه، أو جلس في بيته، أو أقامته من سوقه ومعاشه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النِّساء " .
قال (صاحب الجواري): قد جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تزوَّجوا فإنِّي مُكاثرٌ بكم الأمم " .
وجاء عنه: " إذا قضيتُم غزوكم فالكيْس الكيْس " . يعني النكاح.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مسكينٌ رجلٌ لا زوجة له. مسكينةٌ مسكينةٌ امرأةٌ لا بعل لها " .
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: " تزوّجوا والتمسوا الولد؛ فإنَّهم ثمراتُ القلوب. وإيّاكم والعُجُز العُقر " .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أهل عصره نساء، وكذلك كانت الأنبياء عليهم السلام قبله.
وقد أنبأك الله عزّ وجلّ بخير داود عليه السلام في القرآن، وما روي أنه كان لسليمان عليه السلام.
وقد تزوج ابن مسعودٍ في مرضه الذي مات فيه.
وقال مُعاذ: زوِّجوني لا ألقى الله تعالى وأنا عزب.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إني لأُجْهد نفسي في النِّكاح حتّى يُخرج الله منيّ نسمةً تسبِّحه.
وروي أنه قال: عليكم بالأبكار الشَّواب؛ فإنهنَّ أطيب أفواهاً، وأنتق أرحاماً.
والحديث في هذا أكثر من أن نأتي عليه.
قال (صاحب الغلمان):إن من عيوب الجواري أنَّ الرجل إذا اشترى الوصيفة إلى أن يستبرئها محرَّمٌ عليه أن يستمتع بشيءٍ منها قبل ذلك والوصيف لا يحتاج إلى ذلك. وقد قال الشاعر:
فديتك إنمّا اخترناك عَمْداً ... لأنك لا تحيض ولا تبيض
وقد جاء في الحديث أنَّ الزِّنى فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما التي في الدنيا فيذهب بالبهاء، ويعجّل الفناء، ويقطع الرِّزق من السماء. وأمّا اللواتي في الآخرة فالحساب، والعذاب، ودخول النار.
وروي عن مجاهدٍ، قال: إنَّ لأهل النار صرخةً من ريح الزُّناة.
وقالوا: إن أهل النار ليتأذَّون بريح الزُّناة.
قال (صاحب الجواري): لم نسمع بعاشقٍ قتله حبُّ غلام. ونحن نعدُّ من الشعراء خاصةً الإسلاميِّين جماعةً، منهم جميل بن مَعمَر قتله حبُّ بُثينة، وكثيِّر قتله حبُّ عزّة، وعروة قتله حبُّ عفراء، ومجنون بني عامر هيَّمته ليلى، وقيس بن ذريح قتلتْه لُبْنى، وعبد الله بن عجلان قتلته هند، والغمر بن ضرار قتلتْه جُمْل. هؤلاء من أحصينا، ومن لم نذكر أكثر.

قال (صاحب الغلمان): لو نظر كثيِّر وجميلٌ وعروة، ومن سميِّت من نظرائهم، إلى بعض خدم أهل عصرنا ممن قد اشتُرى بالمال العظيم فراهة وشطاطاً ونقاء لون، وحُسن اعتدالٍ، وجودة قدٍّ وقوام، لنبذوا بُثينة وعزّة وعفْراء من حالقٍ، وتركوهُنَّ بمزجر الكلاب. ولكنك احتججت علينا بأعرابٍ أجلافٍ جُفاة، غُذُوا بالبؤس والشَّقاء ونشؤوا فيه، لا يعرفون من رفاعة العيش ولذَّات الدنيا شيئاً، إنّما يسكنون القفار، وينفرون من الناس كنفور الوحش، ويقتاتون القنافذ والضِّباب، وينقُفُون الحنظل، وإذا بلغ أحدهم جُهده بكى على الدِّمنة ونعت المرأة، ويشبّهها بالبقرة والظَّبية، والمرأة أحسن منهما. نعم حتَّى يشبِّهها بالحيّة، ويسِّميها شوهاء وجرباء، مخافة العين عليها بزعمه.
فأمّا الأدباء والظرفاء فقد قالوا في الغلمان فأحسنوا، ووصفوهم فأجادوا، وقدّموهم على الجواري، في الجدّ منهم والهزل.
وقال الشاعر يصف الغلام:
شبيهٌ بالقضيب وبالكثيب ... غريبُ الحسن في قدٍّ غريبِ
براه الله بدراً فوق غصنٍ ... ونيط بحقوه دعص الكثيبِ
أغنُّ تولَّدُ الشَّهوات منه ... فما تعدوه أهواء القلوبِ
وما اكتحلت به عينٌ ففاتت ... مسلَّمة الضَّمير من الذُّنوبِ
شغلت به الهوى ونزعْت عنه ... ولم أدنس به دنس المُريبِ
وقال آخر:
كلفتُ بظبيٍ له ... سوالفُ أُدمانْه
قضيبٌ على رَمْلةٍ ... على شُعبتيْ بانه
له لحظ وحشيّةٍ ... وألفاظُ إنسانه
وقال أبو نواس:
سَقْيا لغير العلياء والسَّند ... وغير أطلال ميَّ بالجردِ
ويا صبيب السَّحاب إن كنت قد ... جُدت اللِّوى مرةً فلا تعدِ
لا تسقينْ بلدةً إذا عُدَّت ال ... بلدان كانت زيادة الكبدِ
إنْ أتحرزْ من الغراب بها ... يكن مفرِّى منه إلى الصُّردِ
بحيثث لا تجلب الفجاجُ إلى ... أذنيك إلاَّ تصايح النَّقدِ
أحسن عندي من انكبابك بال ... فهْر مُلحّاً به على وتدِ
وقوفُ ريحانةٍ على أُذْنٍ ... وسير كأس إلى فمٍ بيدِ
يسقيكها من بني العباد رشاً ... منتسبٌ عيدُه إلى الأحدِ
إذا بنى الماء فوقها حبباً ... صلَّب فوق الجبين بالزَّبدِ
أشرب من كفِّه الشمول ومن ... فيه رُضاباً يجري على بردِ
فذاك خيرٌ من البكاء على ال ... رَّبع وأنمى في الرُّوح والجسدِ
قال (صاحب الجواري): فقد قال أبو نواسٍ الحكميُّ شاعركم أيضاً:
لا تبكِ ليلى ولا تطربْ إلى هندِ ... واشربْ على الورد من حمراء كالوردِ
كأساً إذا انحدرتْ في حلْقِِ شاربها ... رأيت حمرتها في العين والخدِّ
فالخمر ياقوتةٌ والكأس لؤلؤةٌ ... من كفِّ لؤلؤةٍ ممشوقة القدِّ
تسقيك من عينها سحراً ومن يدها ... خمراً فما لك من سكرين من بُدِّ
لي نشوتان وللنَّدمان واحدةٌ ... شيءٌ خصصت به من بينهم وحدي
وقال أيضاً:
دع عنك لومي فإنَّ اللوم إغراءُ ... وداوني بالتي كانتْ هي الداءُ
صفراءُ لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسَّها حجرٌ مسَّته سرَّاءُ
من كفِّ ذات حرٍ في ذي ذكر ... لها مُحبّان: لوطيٌّ وزنّاءُ
قامت بإبريقها واللَّيل معتكرٌ ... فظلَّ من وجهها في البيت لألاءُ
فأرسلتْ من فم الإبريق صافيةً ... كأنَّما أخذها بالعين إغفاءُ
في فتيةٍ زُهُرٍ ذلَّ الزمان لهم ... فما يصيبهم إلاَّ بما شاءوا
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلةٍ ... كانت تكون بها هندٌ وأسماءُ
قال صاحب الغلمان.....وقال النظام:
بان بك الشَّكل والنَّظيرُ ... وجلَّ عن وصفك الضَّميرُ
فليس يُخطيك في امتحانٍ ... صغيرُ أمرٍ ولا كبيرُ

خُلقت من مثل لا عيانٍ ... جسماً على أنّه منيرُ
فأنت عند المجسِّ نارٌ ... وأنت عند اللِّحاظ نورُ
وقال أبو هشامٍ الخرَّاز:
يا من تعدَّى العباد من شبهه ... لمَّا قصُرن الصِّفات عن كُنُههِ
ويا غزالاً يسبي بلحظته ... مكتحلاً راح أو على مرههِ
يجعل قتل النُّفوس نزهته ... يوشك يُفني النُّفوس في نُزههِ
لبَّيك داعٍ دعا فقلتُ له ... والقلب في كربه وفي ولههِ
هذا فؤادي أتاك مبتدعاً ... طوعاً ولم يأتكمْ على كُرُههِ
يشرهُ منكم إلى مواصلةٍ ... يا بُوس قلبٍ يذوبُ من شرههِ
فالآن قل للخيال يطرقُ منْ ... أعيا عليه وصالُ منتبههِ
وقال الحكميّ:
رسْمُ الكرى بين الجفون مُحيلُ ... عفَّى عليه بُكاً عليك طويلُ
يا ناظراً ما أقلعتْ نظراته ... حتّى تشحَّط بينهنَّ قتيلُ
أحللت من قلبي هواك محلَّة ... ما حلَّها المشروب والمأكولُ
وقال أيضاً:
لي حبيبٌ كلَّما زاد في ... جفوته لي كان أشْهى
هو وجهٌ كلُّه في كلِّ ما ... نظرتْ عيناك منه كان وجها
وكذا الدُّرّة لا يدري الفتى ... أيُّها من أيِّها في العين أبهى
وقال أيضاً:
أفنيت فيك معاني الشكوى ... وصفاتِ ما ألقى من البلوى
قلَّبتُ آفاق الكلام فما ... أبصرتني أغفلت عن معنى
وأعُدُّ ما لا أشتكي غبناً ... فأعود فيه مرّةً أخرى
فلو أنَّ ما أشكو إلى بشرٍ ... لأراحني ظنِّي من الشَّكوى
لكنّني أشكو إلى حجرٍ ... تنبو المعاول عنه بل أقْسى
فهذا وشبهه من الشعر كثير.
وإذا جئت إلى أصحاب الهزْل كقول بعضهم ممَّن ذمَّ النساء:
هذه الخمر فاشرب ... واسقني يا ابن مصعبِ
اسقنيها وغنِّني: ... من لقبٍ معذَّبِ
طمعتْ فيّ طَفْلةٌ ... ربَّ راج مجنَّبِ
قلت لمّا رأيتها ... أسفرتْ لي: تنقَّبي
لست والله مُدخلاً ... إصبعي جُحْرَ عقربِ
وقال آخر:
لا أبتغي بالمُرد مطمومةً ... ولا أبيع الظّبي بالأرنبِ
لا أُدخل الجُحْرَ يدي طائعاً ... أخشى من الحيَّة واالعقربِ
وقال آخر:
ليس لي في الحرِّ حاجة ... نيكه عندي سماجة
ما ينيك الرَّ إلاّ ... كلُّ ذي فقرٍ وحاجة
فإذا نكتم فنيكوا ... أمرداً في لون عاجة
وقال يوسف لقْوه:
ما يساوي نيكُ أنثى ... عند أيري بعرتينِ
إنّما نيك الجواري ... حلُّ ديْنٍ بعد دينِ
ليس للأير حياةٌ ... غير ريح الخُصيتينِ
وهو الذي يقول:
وعلى اللُّواط فلا تلُمنْ كاتباً ... إنّ اللِّواطِ سجيَّةٌ في الكاتبِ
ولقد يتُوب من المحارم كلِّها، ... وعن الخُصى ما عاش ليس بتائبِ
وقال الحكميّ:
للطمةٌ يلطمني أمردٌ ... تأخذ منّي العين والفكَّا
أطيب من تُفاحةٍ في يدي ... معضوضةٍ قد ملئتْ مسْكا
وقال آخر:
إنْ تزن محصنةٌ تُرجم علانيةً ... وإن يلُطْ عزبٌ لا يرجم العزبُ
وقال آخر:
أيسر ما فيه من مفاضلةٍ ... أمْنُكَ من طمثه ومن حبلهِ
وهذا قليلٌ من كثير ما قالوا، فقد قالت الشعراء في الغلام في الجدّ والهزل فأحسنوا، كما قالت الشعراء في الغزل والنَّسيب، ولا يضير المحسن منهم أقديماً كان أو محدثاً.
قال (صاحب الجواري): أمّا أنت فحيث اجتهدت واحتفلت جئت بالحكميّ، والرَّقاشيّ، ووالبة، ونظرائهم من الفُسَّاق والمرغوب عن مذهبهم، الذين نبغوا في آخر الزمان، سُقّاطٌ عند أهل المروءات، أوضاعٌ عند أهل الفضل؛ لأنّهم وإن أسهبوا في وصف الغلمان، فإنما يمدحون اللِّواط ويشيدون بذكره.

وقد علمت ما قال الله تبارك وتعالى في قوم لوطٍ، وما عجَّل لهم من الخزي والقذف بالحجارة، إلى ما أعدَّ لهم من العذاب الأليم. فمن أسوأُ حالاً ممن مدح ما ذمَّه الله، وحسَّن ما قبَّح! وأين قول من سمَّيت من قول الأوائل في الغزل والنَّسيب والنساء! وهل كان البكاء والتشبيب والعويل إلا فيهنَّ وعليهنّ، ومن أجلهنّ! وهل ذمَّت العرب الشَّيب مع الخصال المحمودة التي فيه إلا لكراهتهنَّ له. قال شاعر الشعراء من الأوّلين والآخرين، امرؤ القيس:
أراهُنَّ لا يُحببن من قلَّ ماله ... ولا من رأين الشَّيب فيه وقوَّسا
وقال علقمة بن عبدة الفحل، وكان نظير امرؤ القيس في عصره:
إذا شاب رأسُ المرء أو قلَّ ماله ... فليس له في ودِّهنَّ نصيبُ
يُردْن ثراء المال حيث علمْنه ... وشرخ الشَّباب عندهُنّ عجيبُ
وما قالت القدماء في النسيب أكثر من أن نأتي عليه. وأين قول من ذكرت في صفات الغلمان من قول امرؤ القيس في التشبيب حيث يقول:
وما ذرفتْ عيناك إلاّ لتضربي ... بسهميك في أعشارِ قلبٍ مقتَّلِ
أغرَّك منّي أنَّ حُبَّكِ قاتلي ... وأنَّك مهما تأمري القلب يفعلِ
وقول الأعشى:
لو أسندتْ ميتاً إلى نحرها ... عاش ولم يُنقل إلى قابرِ
حتّى يقولُ الناس مما رأوا ... يا عجبّاً للقاتل الناشرِ
وقال جرير:
إنّ الذين غدوْا بلبِّك غادروا ... وشلاً بعينك لا يزالُ معينا
غيَّضْنَ من عبراتهنَّ وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
وقال جميل:
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلاً بكى من حبِّ قاتله قبلي
وقال القُطاميّ:
يقتُلننا بحديثٍ ليس يعلمُه ... من يتَّقين ولا مكنونه بادي
فهنّ ينبذن من قولٍ يُصبْن به ... مواقع الماء من ذي الغُلَّة الصادي
فهؤلاء القدماء في الجاهلية والإسلام، فأين قول من احتججت به من قولهم!.
ولا نعلم أحداً قال في الغلام ما قال الحكميّ وهو من المحدثين. وأين يقع قوله من قول الأوائل الذين شبَّبوا بالنساء! فدعْ عنك الرَّقاشيّ ووالبة والخرَّاز ومن أشبههم؛ فليست لك علينا حجّة في الشعراء.
وأُخرى: ليس من قال الشعر بقريحته وطبعه واستغنى بنفسه، كمن احتاج إلى غيره يطردُ شعره، ويحتذي مثاله، ولا يبلُغ معشاره.
قال (صاحب الغلمان): ظلمت في المناظرة ولم تُنصف في الحجَّة؛ لأن لم ندفع فضل الأوائل من الشعراء، إنّما قلنا إنهم كانوا أعراباً أجلافاً جُفاةً، لا يعرفون رقيق العيش ولا لذَّات الدنيا؛ لأنَّ أحدهم إذا اجتهد عند نفسه شبَّه المرأة بالبقرة، والظبية، والحيّة. فإنْ وصفها بالاعتدال في الخلقة شبّهها بالقضيب، وشبَّه ساقها بالبَرْدية؛لأنّهم مع الوحوش والأحناش نشؤوا، فلا يعرفون غيرها.
وقد نعلم أنّ الجارية الفائقة الحُسن أحسنُ من البقرة، وأحسنُ من الظَّبية، وأحسن من كلِّ شيءٍ شُبِّهَتْ به.
وكذلك قولهم: كأنَّها القمر؛ وكأنّها الشمس؛ فالشَّمس وإن كانت حسنةً فإنما هي شيء واحد، وفي وجه الإنسان الجميل وفي خلقه ضروبٌ من الحُسن الغريب، والتركيب العجيب. ومن يشكُّ أنّ عين الإنسان أحسن من عين الظَّبي والبقرة، وأن الأمر بينهما متفاوت!.
وهذه أشياءُ يشترك فيها الغلمان والجواري، والحجَّة عليك مثلُ الحجّة لك في هذه الصفات.
وأمّا احتجاجُك علينا بالقرآن والآثار والفقهاء، فقد قرأنا مثل ما قرأت، وسمعْنا من الآثار مثل ما سمعت. فإن كنت إلى سرور الدُّنيا تذهب، ولذّاتها تريد، فالقول قولنا. كما قال الشاعر:
ما العيش إلاَّ في جنون الصِّبا ... فإنْ تولَّى فزمانُ المُدامْ
كأساً إذا ما الشيخُ والى بها ... خمساً تردَّى برداء الغلامْ
وإن كنت إلى التقشُّف والتزهيد في اللَّذَّات تعمد فترك جميع الشَّهوات من النساء وغيرهنّ أفضل. فإنْ أنصفت فأْتنا بمثل حجّتنا. فأمّا أن تتلو علينا القرآن وتأتينا بأحاديث ألَّفتها فهذا منك انقطاع. ومثلنا ومثلك في ذلك مثل بصريٍّ وكوفيٍّ تفاخرا بعدد أشراف أهل البصرة وأشراف أهل الكوفة، فقال البصريّ للكوفيّ:

هات في أربع قبائل الكوفة مثل أربعة رجالٍ بالبصرة في أربع قبائل: في تميم الكوفة مثل الأحنف، وفي بكر الكوفة مثل مالك بن مسمع، وفي قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم، وفي أزد الكوفة مثل المهلب.
فقال الكوفيّ: مخنف بن سُليم من أزد السَّراة، وهم أشرف من أزد عُمان.
فقال البصريّ: إنا لم نكن في شرف القبائل وفرق ما بينهما، فإنما ذكرنا المهلب بنفسه، وما علمت أن أحداً يبلغ من جهله أن يفخر بمخنف بن سليم فيفضّله على المهلب. وأخْمل رجل من ولد المهلّب أشهر في الولايات وفي الفرسان وفي الناس من مخنف. والمهلّب رجلٌ ليس له بالعراق نظيرٌ يقاومه، ومناقبه وأيّامه وفتُوحُه أكثر وأشهر من أن يجوز لنا أن نجعله إزاء مخْنف. وما زالوا يقولون: " بصرة المهلّب " . ولو لم يكن للمهلّب إلاَّ أنه ولد يزيد بن المهلّب كان كافيا. ونحن إذا قلنا: ليس في قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم، قال قائل: فزارة أشرف من باهلة. قلنا: ليس هذه معارضة؛ فإنّما المعارضة أن تذكر أسماء بن خارجة ثم تقول ونقول، فنذكر فتوح قتيبة العظام، والشَّهامة والنفس الأبية، والشَّجاعة والحزم والرأي، والوفاء، وشرف الولاية، ونذكر سُودد أسماء، وجوده ونواله. فأمّا أن نتخطّى أنفسهما إلى قبائلهما كما تخطَّيت بدن المهلَّب وبدن مخنف إلى أزْدِ عمان وأزدِ السَّراة، فهذا ليس من معارضة العلماء.
وكذلك إذا ذكرنا عُبّاد البصرة وزُهّادها ونُسَّاكها فقلنا: لنا مثل عامر بن عبد قيس، وهرم بن حيَّان، وصلة بن أشْيم. قلت: فعُبَّاد الكوفة: أُويسٌ القرنيّ، والرَّبيع بن خُثيم، والأسود بن يزيد النَّخعي. وهذا جواب.
فأمّا أن تذكر طيب الدُّنيا والتمتُّع من لذّاتها وصفات محاسنها، وتذكر ظرفاءها وأربابها، وتجيئنا بأحاديث الزهّاد والفقهاء، فقد انقطع الحجاج بيننا وبينك.
وقد قلنا في صدر كتابنا: إن الكلام إذا وُضع على المزْح والهزل، ثم أخرجته عن ذلك إلى غيره من الجدّ، تغيّر معناه وبطل.
وقد رُوي أنَّ معاوية سأل عمرو بن العاص يوماً - وعنده شبابٌ من قريش - فقال له: يا أبا عبد الله، ما اللذّة؟ فقال: مُر شباب قريشٍ فليقوموا. فلما قاموا قال: " إسقاط المروءة " .
قال الشاعر في مثل ذلك:
من راقب الناس مات غمّاً ... وفاز باللّذةِ الجسور
وقال الحكميّ:
تجاسرت فكاشفةُ ... ك لمّا غُلب الصَّبرُ
وما أحسن في مثل ... ك أن ينهْتك السِّتْرُ
قال (صاحب الجواري): فنحن نترك ما أنكرت علينا ونقول: لو لم يكن حلال ولا حرام، ولا ثواب ولا عقاب، لكان الذي يُحصِّله المعقول ويدركه الحسُّ والوجدان، دالاً على أنَّ الاستمتاع بالجارية أكثر وأطول مدّة؛ لأنه أقل ما يكون التمتُّع بها أربعون عاماً، وليس تجد في الغلام معنىً إلاَّ وجدته في الجارية وأضعافه. فإن أردت التفخيذ فأردافٌ وثيرة، وأعجاز بارزة لا تجدها عند الغلام. وإن أردت العناق فالثُّديُّ النواهد، وذلك معدومٌ في الغلام. وإن أردت طيب المأتى فناهيك، ولا تجد ذلك عند الغلام. فإن أتوه في محاشِّه حدث هناك من الطَّفاسة والقذر ما يكدِّر كلَّ عيش، وينغص كلَّ لذّة.
وفي الجارية من نعمة البشرة ولدونة المفاصل، ولطافة الكفَّين والقدمين، ولين الأعطاف، والتثنِّي وقلّة الحشن وطيب العرق ما ليس للغلام، مع خصالٍ لا تحصى، كما قال الشاعر: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
يصف جودة القدّ وحُسن الخرط، ويفرق بين المجدولة والسمينة.
وقولهم " مجدولة " يريدون جودة العصب وقلّة الاسترخاء، ولذلك قالوا: خُمصانة وسيفانة، وكأنها جانٌّ، وكأنَّها جدْل عنان، وكأنَّها قضيب خيزران. والتثني في مشية الجارية أحسن ما فيها، وذلك في الغلام عيبٌ؛ لأنه بنسب إلى التخنيث والتأنيث وقد وصفت الشعراء المجدولة في أشعارها، فقال بعضهم:
لها قسمةٌ من خوط بانٍ ومن نقاً ... ومن رشأ الأقواز جيدٌ ومَذْرِفُ
وقال آخر:
مجدولة الأعلى كثيبٌ نصفها ... إذا مشت أقعدها ما خلفها
وقال آخر:
ومجدولةٍ جدل العنان إذا مشتْ ... ينوء بخصريها ثقالُ الرَّوادف
وقال الأحوص:
من المدمجات اللحم جَدْلاً كأنّها ... عنان صناعٍ أنعمت أن تخوَّدا

وقالوا في ذلك أكثر من ان نأتي عليه.
والغلام أكثر ما تبقي بهجته ونقاء خدّيه عشرة أعوام، إلى أن تتَّصل لحيته ويخرج من حدّ المرودة، ثم هو وقاخٌ طوراً ينتف لحيته، وتارة يهْلُبُها ليستدعي شهوة الرِّجال. وقد أغنى الله الجارية عن ذلك، لما وهب لها من الجمال الفائق، والحسن الرائق.
فإن قلت: إنّ من النساء من يتحسَّن ويستر عيبه بخضاب الشعر وغيره، كما قال الشاعر:
عجوزٌ ترجَّى أن تكون فتيَّةً ... وقد لحب الجنبان واحدوْدبَ الظُّهرُ
تدسُّ إلى العطّار ميرة أهلها ... ولن يصلح العطّارُ ما أفسد الدَّهرُ
قلنا: قد يفعل ذلك بعض النساء إذا شُيِّبتْ وليس كالغلام، لعموم هَلْب اللِّحى في الغلمان.
وذكرت الخصْيان وحُسن قدودهم، ونعمة أبشارهم، والتلذُّذ بهم، وأنَّ ذلك شيءٌ لا تعرفه الأوائل، فألجأْتنا إلى نصف ما في الخصيان وإن لم يكن لذلك معنىً في كتابنا، إذ كنّا إنمّا نقول في الجواري والغلمان.
والخصيُّ - رحمك الله - في الجملة ممثَّل به، ليس برجل ولا امرأة، وأخلاقه مُقسَّمة بين أخلاق النساء وأخلاق الصِّبيان، وفيه من العيوب التي لو كانت في حوْراء كان حقيقاً أن يُزهد فيها منه؛ لأن الخصيَّ سريع التبدُّل والتنقُّل من حدّ البضاضة وملاسة الجلد، وصفاء اللَّون ورقَّته، وكثرة الماء وبريقه، إلى التكسُّر والجمود والكمود، والتقبُّض والتجمُّد والتحدُّب، وإلى الهزال وسوء الحال. لأنّك ترى الخصيَّ وكأنَّ السيوف تلمع في وجهه، وكأنه مرآةٌ صينيَّة، وكأنّه جُمارة، وكأنّه قضيب فضّةٍ قد مسَّه ذهب، وكأنّ في وجناته الورد. فإن مرض مرْضةً، أو طعن في السنِّ ذهب ذهاباً لا يعود.
وقال بعض العلماء: إنّ الخصيَّ إذا قُطع ذلك العضو منه قويتْ شهوته، وقويتْ معدته، ولانت جلدته، وانجردت شعرته، وكثرتْ دمعته، واتَّسعت فقْحته، ويصير كالبغل الذي ليس هو جماراً ولا فرساً؛ لأنّه ليس برجلٍ ولا امرأة. فهو مذبذبٌ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
ويعرض للخصيّ سُرعة الدَّمعة والغضب، وذلك من أخلاق النساء والصِّبيان. ويعرض له حبُّ النميمة وضيقُ الصَّدر بما أُودع من السِّرِّ.
ويعرض لهم البول في الفراش ولا سيَّما إذا بات أحدهم ممتلئاً من النَّبيذ.
ومما ناله من الحسرة والأسف لما فاتهم من النّكاح مع شدّة حبِّهم للنساء، أبغضوا الفحول أشدَّ من تباغض الأعداء، فأبغضوا الفحول بُغض الحاسد لذوي النِّعمة.
وزعم بعض أهل التجربة من الشُّيوخ المعَّمرين أنَّهم اعتبروا أعمار ضروب الناس فوجدوا طول أعمار الخصيان أعمَّ من جميع أجناس الرجال، وأنهم لم يجدوا لذلك عِلّةً إلاَّ عدم النّكاح. وكذلك طول أعمار البغال لقلة النَّزْو. ووجدوا أقل الأعمار أعمار العصافير؛ لكثرة سفادها.
ثم الخصيُّ مع الرِّجال امرأة، ومع النِّساء رجل. وهو من النمائم والتحريش والإفساد بين المرء وزوْجه، على ما ليس عليه أحد. وهذا من النَّفاسة والحسد للفحول على النساء. ويعتريه إذا طعن في السنِّ اعوجاج في أصابع اليد، والتواءٌ في أصابع الرِّجل.
ودخل بعض الملوك على أهله ومعه خصيٌّ فاستترت منه، فقال لها: تستترين منه وإنما هو بمنزلة المرأة! فقالت: ألموضع المُثْلة به يحلُّ له ما حرَّم الله عليه.
مع أنَّ في الخصيِّ عيوباً يطول ذكرها.
ولولا خوف الملال والسآمة على الناظر في هذا الكتاب، لقلْنا في الاحتجاج عليك بما لا يدفعه من كانت به مُسكة عقل، أوْ له معرفة. وفيما قُلنا ما أقنع وكفى. وبالله الثِّقة.
وقد ذكرنا في آخر كتابنا هذا مقطَّعاتٍ من أحاديث البطَّالين والظُّرفاء، ليزيد القارئ لهذا الكتاب نشاطا، ويذهب عنه الفتور والكلال، ولا قوَّة إلا بالله.
1 - قال: مرض رجلٌ من عُتاة اللاَّطة مرضاً شديدا، فأيسوا منه، فلما أفاق وأبلَّ من مرضه، دخل عليه جيرانه فقالوا له: احمد الله الذي أقالك، ودعْ ما كنت فيه من طلب الغلمان والانهماك فيهم، مع هذه السنِّ التي قد بلغتها. قال: جزاكم الله خيراً؛ فقد علمت أنّ فرط العناية والمدَّة دعاكم إلى عظتي. ولكنّي اعتدت هذه الصناعة وأنا صغير، وقد علمتم ما قال بعض الحكماء: ما أشدَّ فطام الكبير!.
قال الشاعر:
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يُواري في ثرى رمسهِ

فقاموا من عنده آيسين من فلاحه.
2 - قال: كان رجلٌ من اللاَّطة وله بنون لهم أقدارٌ ومروءات، فشانهمْ بمشيته مع الغلمان وطلبه لهم، فعاتبوه وقالوا: نحن نشتري لك من الوصائف على ما تشتهي، تشتغل بهنَّ، فقد فضحتنا في الناس. فقال: هبكم تشترون لي ما ذكرتم فكيف لشيخكم بحرارة الجُلجُلتين! فتركوا عتابه وعلموا أنّه لا حيلة فيه.
2 - وقال بعض اللُّوطيين: إنَّما خُلق الأير للفَقْحة، مدوّرٌ لمدوَّرة؛ ولو كان للحر كان على صيغة الطَّبرْزين.
وقال شاعرهم:
إذا وجدت صغيراً ... وجأتأصل الحمارة
وإن أصبت كبيرا ... قصدت قصد الحرارة
فما أبالي كبيراً ... قصدت أو ذا غرارة
4 - وقيل لامرأة من الأشراف كانت من المتزوِّجات: ما بالك مع جمالك وشرفك لا تمكثين مع زوجك إلاّ يسيراً حتى يطلِّقك؟ قالت: يريدون الضِّيق، ضيَّق الله عليهم.
5 - قال: طلَّق رجلٌ امرأته، فمرَّ رجلٌ في بعض الطُّرقات فسمع امرأةً تسأل أخرى عنها فقالت: البائسة طلَّقها زوجها! فقالت: أحسن بارك الله عليه. فقال لها: يا أمة الله، من شأن النِّساء التعصُّب بعضهن لبعض، وأسمعك تقولين ما قلت. قالت: يا هذا، لو رأيتها لعلمت أن الله تعالى قد أحلَّ لزوجها الزِّنى، من قُبح وجهها.
6 - وقال مخنَّثٌ لامرأة: يا معشر النِّساء، مالكنَّ همَّةٌ إلاّ طلب النَّيك، لا تُؤْثرون عليه شيئاً. فقالت: إن أمْراً انتقلت من شهوته من طبْع الرِّجال إلى النساء حتَّى عقرت لحيتك له، لحقيق ألا تُلام عليه.
7 - قال إسحاق الموصلي: نظرت إلى شابٍّ مخنَّثٍ حسن الوجه جداً قد هلب لحيته فشان وجهه، فقلت له: لم تفعل هذا بلحيتك، وقد علمت أنّ جمال الرجال في اللِّحى؟ فقال: يا أبا محمد، أيسرُّك بالله أنّها في استك؟ قلت: لا والله! فقال: ما أنصفتني، أتكره أن يكون في استك شيءٌ وتأمرني أن أدعه في وجهي!.
8 - وقال: اشترى بعض ولاة العراق قينةً بمالٍ كثير، فجلس يوماً يشرب وأمرها أن تغنِّيه، فكان أوّل صوتٍ تغنَّت به:
أروح إلى القصَّاص كلَّ عشيَّةٍ ... أرجِّي ثواب الله في عدد الخُطى
فقال للخادم: يا غلام، خذْ بيد هذه الزَّانية فادفعْها إلى أبي حزْرة القاصّ. فمضى بها إليه فلقيه بعد ذلك، فقال: كيف رأيت تلك الجارية؟ فقال: ما شئت أصلحك الله، غير أنّ فيها خصلتين من صفات الجنة! قال: ويلك ما هما؟ قال: البرد، والسِّعة.
9 - قال : علق رجلٌ من أهل المدينة امرأةً فطال عناؤه بها حتّى ظفر بها، فصار بها إلى منزل صديقٍ له مغنٍّ، ثم خرج يشتري ما يحتاج إليه، فقالت له: لو غنَّيت لي صوتاً إلى وقت مجي صديقك!.
فأخذ العود وتغنَّى:
من الخفرات لم تفضحْ أخاها ... ولم ترفعْ لوالدها شنارا
قال: فأخذت المرأة خُفَّها ولبستْ إزارها وقالت: ويلي ويلي، لا والله لا جلست! فجهد بها فأبتْ وصاحت، فخشي الفضيحة فأطلقها. وجاء الرجل فلم يجدْها، فسأله عنها فقال: جئتني بمجنونة؛ قال: ما لها ويلك؟ قال: سألتْني أن أغنِّيها صوتاً ففعلت، فضربت بيدها إلى خفِّها وثيابها فلبستْ وقامت تولول، فجهَدْتُ أن أحبسها فصاحت فخَّليتها. قال: وأيِّ شيء غنَّيتها؟ فأخبره، فقال: لعنك الله! حُقَّ لها أن تهرب!.
قال: تواصف قومٌ الجماع، وأفاضوا في ذكر النساء، وإلى جانبهم مخنَّث فقال: بالله عليكم دعوا ذكر الحر لعنه الله! فقال له بعضهم: متى عهدك به؟ قال: مُذْ خرجت منه! 10 - قال: تزوّج رجلٌ امرأةٌ، فمكثت عنده غير بعيد، ثم أتى الرجل بالذي زوّجه فقدَّمه إلى القاضي فقال: أصلحك الله، إنّ هذا زوّجني امرأةً مجنونة. قال: وأيَّ شيءٍ رأيت من جنونها؟ قال: إذا جامعتها غُشي عليها حتَّى أحسبها قد ماتت. فقال له القاضي: قم قبحك الله فما أنت لمثل هذه بأهل. وكانت ربوخاً.
11 - قال: كانت عائشة بنت طلحة من المتزوّجات، فتزوّجها عُمر بن عبيد الله بن مَعمر التَّيميّ، فبينا هي عنده تحدَّث مع امرأةٍ من زوَّارها إذْ دخل عُمر فدعا بها فواقعها، فسمعت المرأة من النَّخير والشَّهيق أمراً عجيباً، فلمَّا خرجت قالت لها: أنت في شرفك وقدْرك تفعلين مثل هذا! قالت: إنّ الددوابَّ لا تُجيد الشُّرب إلاَّ على الصَّفير!.

12 - قال: وكانت حُبَّي المدينيّة من المغتلمات، فدخل عليها نسوةٌ من المدينة فقلن لها: يا خالة، أتيناك نسألك عن القبْع عند الجماع يفعله النِّساء، أهو شيءٌ قديم أم شيءٌ أحدثه النِّساء؟ قالت: يا بناتي، خرجت للعمرة مع أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فلمَّا رجعنا فكُنَّا بالعرْج نظر إليّ زوجي ونظرت إليه، فأعجبه منيّ ما أعجبني منه فواثبني، ومرَّت بنا عيرُ عثمان فقبعت قبعةً وأدركني ما يصيب بنات آدم، فنفرت العير - وكانت خمس مائة - فما التقى منها بعيران إلى الساعة.
والقبْع: النَّخير عند الجماع. والغربلة: الرَّهز. كذاك تسمِّيه أهل المدينة.
ويقال إن حُبَّي علَّمت نساء المدينة القبْع والغربلة.
13 - قال: وكانت خُليدة امرأةً سوداء ذات خَلْق عجيب، وكان لها دارٌ بمكة تكريها أيام الحاجّ، فحجَّ فتىً من أهل العراق فاكترى منزلها، فانصرف ليلةً من المسجد وقد طاف فأعيا، فلما صعد السَّطح نظر إلى خليدة نائمة في القمر، فرأى أهيأ النّاس وأحسنه خَلْقاً، فدعتْه نفسه إليها فدنا منها، فتركته حتى رفع برجليها فتابعتْه وأرتْه أنها نائمة، فناكها، فلمَّا فرغ ندم فجعل يبكي ويلطم وجهه، فتعاربت وقالت: ما شأنك؟ لسعتك حيّة؟ لدغتْك عقرب؟ ما بالك تبْكي؟ قال: لا والله ولكنِّي نكتك وأنا محرم. قال: فتنيكني وتبكي؟ أنا والله أحقُّ بالبكاء منك. قمْ يا أرعن!.
14 - وقال ابن حُبَّي لأمِّه: يا أُمَّه، أيُّ الحالات أعجب إلى النِّساء من أخْذ الرجال إيّاهنّ؟ قالت: يا بنيّ، إذا كانت مُسنَّة مثلي فأبركْها وألصقْ خدَّها بالأرض ثم أوعبْه فيها. وإذا كانت شابّةً فاجمع فخذيْها إلى صدرها فأنت تدرك بذلك ما تريد منها وتبلغ حاجتك منها.
15 - وقال: اشترى قومٌ بعيراً وكان صعباً، فأرادوا إدخاله الدار فامتنع، فجعلوا يضربونه وهو يأبى، فأشرفتْ عليهم امرأةٌ كأنّها شقَّة قمر، فبُهتوا ينظرون إليها، فقالت: ما شأنه؟ فقال لها بعضهم: نربده على الدُّخول فليس يدخل. قالت: بُلَّ رأسه حتَّى يدخل.
16 - قال: نظر رجلٌ بالمدينة إلى جاريةٍ سريّة ترتفع عن الخدمة، فقال: يا جارية، في يدك عمل؟ قالت: لا، ولكنْ في رجلي.
17 - قال بعضهم: كنا في مجلس رجلٍ من الفقهاء فقال لي رجل: عندك حُرّةٌ أو مملوكة؟ قلت: عندي أمُّ ولدٍ، ولم سألتني عن ذلك؟ قال: إنّ الحرّة لها قدرها فأردت أن أعلّمك ضرباً من النَّيك طريفاً. قلت: قل لي. قال: إذا صرت إلى منزلك فنم على قفاك، واجعل مخدّةً بين رجليك وركبك ليكون وطاءً لك، ثم ادعُ الجارية وأقم أيرك وأقعدها عليه، وتحوَّل ظهرها إلى وجهك، وارفع رجليك ومرها أن تأخذ بإبهامك كما يفعل الخطيب على المنبر، ومرها تصعد وتنزل عليه؛ فأنَّه شيء عجيب. فلمَّا صار الرجل إلى منزله فعل ما أمره به، وجعلت الجارية تعلو وتستفل، فقالت: يا مولاي، من علَّمك هذا النَّيك؟ قال: فلانٌ المكفوف. قالت: يا مولاي، ردّ الله عليه بصره!.

18 - قال: كانت امرأة من قريش شريفةً ذات جمال رائعٍ ومال كثير، فخطبها جماعةٌ وخطبها رجلٌ شريفٌ له مالٌ كثير، فردّته وأجابت غيره، وعزموا على الغدُوِّ إلى وليّها ليخطبوها، فاغتمَّ الرجل غمّاً شديداً، فدخلت عليه عجوزٌ من الحيّ فرأتْ ما به وسألته عن حاله فأخبرها، وقالت: ما تجعل لي إنْ زوّجتُك بها؟ قال: ألف درهم. فخرجتْ من عنده ودخلت عليها، فتحدَّثتْ عندها مليّاً وجعلتْ تنظر في وجهها وتتنفَّس الصُّعداء، ففعلت ذلك غير مرَّة، فقالت الجارية: ما شأنك يا خالة، تنظرين في وجهي وتنفَّسين؟ قالت: يا بُنيّة، أرى شبابك، وما أنعم الله عليك به من هذا الجمال، وليس يتمُّ أمر المرأة إلاَّ بالزَّوْج، وأراك أيِّماً لا زوج لك. قالت: فلا يغُمَّك الله، قد خطبني غير واحدٍ وقد عزمت على تزويج بعضهم. قالت: فاذكري لي من خطبك. قالت: فلان. قالت: شريفٌ، ومن؟ قالت: فلان. قالت: شريف، فما يمنعك منه؟ قالت: وفلانٌ - لصاحبها - قالت: أُفٍّ أفّ، لا تريدينه. قالت: وماله أليس هو شريفاً كثير المال؟ قالت: بلى، ولكن فيه خصلةً أكرهها لك. قالت: وما هي؟ قالت: دعي عنك ذكرها. قالت: أخبريني على كلِّ حال. قالت: رأيته يبول يوماً فرأيت بين رجليه رجلاً ثالثة. وخرجت من عندها فأتته، فقالت: أعدْ إليها رسولك. وأتاها الرجل الذي كانت أجابته - بعد مجيء الرسول - فردّتْه وبعثت إلى صاحب المرأة: أن اغد بأصحابك. فتزوّجها فلما بنى بها إذا معه مثل الزِّرّ، فلمَّا أتتْها العجوز فقالت: بكم بعتيني يا لخناء؟ قالت: بألف درهم. قالت: لا أكلتيها إلاّفي المرض!.
19 - قال: كان هشام بن عبد الملك يقبض الثِّياب من عظم أيره، فكتب إلى عامله على المدينة: " أما بعد فاشتر لي عكاك النَّيك " . قال: وكان له كاتبٌ مدينيٌّ ظريف، فقال له: ويحك، ما عكاك النِّيك؟ قال: الوصائف. فوجَّه إلى النَّخَّاسين فسألهم عن ذلك. فقالوا: عكاك النِّيك الوصائف البيض الطوال. فاشتري منهنّ حاجته، ووجّه بهنَّ إليه.
قال: وكانت بالمدينة امرأةٌ جميلةٌ وضيّة، فخطبها جماعةٌ وكانت لا ترضى أحداً، وكانت أمُّها تقول: لا أزوجها إلاَّ من ترضاه. فخطبها شابٌّ جميلُ الوجه ذو مالٍ وشرف. فذكرتْه لابنتها وذكرت حاله وقالت: يا بنيّة إن لم تزوّجي هذا فمن تزَّوَّجين؟ قالت: يا أُمَّه: هو ما تقولين، ولكنّي بلغني عنه شيءٌ لا أقدر عليه. قالت: يا بنيّتي لا تحتشمين من أمِّك، اذكري كلَّ شيءٍ في نفسك. قالت: بلغني أنَّ معه أيراً عظيما وأخاف ألاَّ أقوى عليه. فأخبرت الأمُّ الفتى فقال: أنا أجعل الأمر إليك تُدخلين أنت منه ما تريد وتحبسين ما تريد. فأخبرت الابنة فقالت: نعمْ أرضى إن تكفَّلت لي بذلك. قالت: يا بنيّةُ والله إنّ هذا لشديدٌ عليّ، ولكنِّي أتكلَّفه لك. فتزوّجته. فلما كانت ليلة البناء قالت: يا أُمَّه، كوني قريبةً منّي لا يقتلْني بما معه. فجاءت الأمّ وأغلقت الباب وقالت له: أنت على ما أعطيتنا من نفسك؟ قال: نعم، هو بين يديك. فقبضت الأمّ عليه وأدنْته من ابنتها فدسَّت رأسه في حرها وقالت: أزيد؟ قالت: زيدي. فأخرجت إصبعاً من أصابعها فقالت: يا أُمَّه زيدي. قالت: نعم. فلم تزل كذلك حتَّى لم يبقِ في يدها شيءٌ منه، وأوعبه الرجل كلَّه فيها، قالت: يا أُمَّه زيدي. قالت: يا بنيّة لم يبقِ في يدي شيء. قالت بنتها: رحم الله أبي فإنّه كان أعرف الناس بك، كان يقول: إذا وقع الشيء في يديك ذهب البركةُ منه. قومي عنّي!.
20 - قال: تزوّج رجلٌ امرأةً وكان معه أيرٌ عظيم جداً، فلمَّا ناكها أدخله كلَّه في حرها، ولم تكن تقوى عليه امرأة، فلم تتكلَّم، فقال لها: أيُّ شيءٍ حالك خرج من خلفك بعد؟ قالت: بأبي أنت وهل أدخلته؟ - قال:نظر رجلٌ إلى امرأةٍ جميلة سريّة، ورجلٌ في دارها دميم مشوّهٌ يأمر وينهي، فظنَّ أنّه عبدها، فسألها عنه فقالت: زوجي. قال: يا سبحان الله، مثلك في نعمة الله عليك تتزوَّجين مثل هذا؟ فقالت: لو استدبرك بما يستقبلني به لعظم في عينك. ثم كشفتْ عن فخذها فإذا فيه بُقع خُضْر، فقالت: هذا خطاؤه فكيف إصابته.

22 - قال: وكانت بالمدينة امرأة ماجنة يقال لها سلاَّمة الخضراء، فأُخذت مع مخنَّثٍ وهي تنيكه بكيرنْج، فرُفعت إلى الوالي فأوجعها ضرباً وطاف بها على جمل، فنظر إليها رجلٌ يعرفها فقال: ما هذا يا سلاَّمة؟ فقالت: بالله اسكُتْ، ما في الدُّنيا أظلمُ من الرجال، أنتم تنيكونا الدَّهر كلَّه فلمَّا نكنا كم مرَّة واحدة قتلتمونا.
23 - قال: تزوّج رجلٌ امرأةً فقيل له: كيف وجدتها؟ قال: كأنَّ ركبها دارة القمر، وكأنّ شُفْريها أير حمارٍ مثْنيّ.
24 - وقال بعض العجائز المغتلمات:
وخضبت ما صبغ الزَّمان فلم يدم ... صبْغي ودامت صبغة الأيامِ
أيّام أُمْسي والشَّباب غريرةً ... وأُناك من خلفي ومن قُدَّامي
25 - وقال سياه، وكان من مردة اللاّطة، وأسمه ميمون بن زياد بن ثرْوان، وهو مولىً لخزاعة:
أخزاعُ إنْ عدَّ القبائل فخرهم ... فضعوا أكفَّكم على الأفواهِ
إلاّ إذا ذُكر اللِّواط وأهله ... والفاتقون مشارج الأستاهِ
فهناك فافتخروا فإنّ لكم به ... مجداً تليداً طارفاً بسياهِ
26 - قال: وجاء سياه إلى الكميت فقال له: يا أبا عُمارة، قد قلت على عروض قصيدتك: " أبتْ هذه النَّفسُ إلاّ ادِّكارا " فقال: هات. فقال:
أبتْ هذه النفسُ إلاّ خسارا ... وإلاّ ارتداداً وإلاّ ازورارا
وحمل الدُّيوك وقود الكلاب ... فهذا هرشاً وهذا نقارا
وشرب الخمور بماء الغمام ... تنفجر الأرض عنه انفجارا
27 - وقال: أُخذ " ديكٌ " ، وكان من كبار اللاَّطة، وهو رجلٌ من أهل الحجاز، مع غلامٍ من قُريش كأنّه قديدة، فقيل له: عدوَّ الله هبك تُعذر في الغلمان الصِّباح فما أردت إلى هذا؟ فقال: بأبي أنتم وأمِّي، قد والله علمت أنّه كما تقولون، وإنَّما نكته لشرفه.
28 - وقد يُضرب المثل في اللِّواط بالحجاز فيقال: " ألْوطُ من ديك " ، كما يقول أهل العراق: " ألْوط من سياه " ، وهو كوفيّ.
وقد اختصرت كتابي هذا لئلا يملَّه القارئ. وبالله التوفيق.
تم كتاب مفاخرة الجواري والغلمان، والله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا إله إلا هو.
يتلوه إن شاء اللَّه تعالى كتاب القيان من كلام أبي عثمان عمرو بن بحرٍ الجاحظ أيضاً، واللَّه الموفق للصواب. والحمد للَّه أولاً وآخراً، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلامه.

الرسالة الرابعة عشرة
كتاب القيان
بسم الله الرحمن الرحيم
من أبي موسى بن إسحاق بن موسى، ومحمد بن خالد خذار خذاه، وعبد الله بن أيوب أبي سُمير، ومحمد بن حماد كاتب راشد، والحسن بن إبراهيم بن رباح، وأبي الخيار، وأبي الرنال، وخاقان بن حامد، وعبد الله بن الهيثم بن خالد اليزيديَّ المعروف بمشرطة، وعلك بن الحسن، ومحمد بن هارون كبّة، وإخوانهم المستمتعين بالنعمة، والمؤثرين للذّة، المتمتعين بالقيان وبالإخوان، المعدين لوظائف الأطعمة وصنوف الأشربة، والراغبين بأنفسهم عن قبول شيء من الناس، أصحاب الستر والستارات، والسرور والمراوءات.
إلى أهل الجهالة والجفاء، وغلظ الطبع، وفساد الحسّ.
سلام من وفق لرشده، وآثر حظَّ نفسه، وعرف قدر النعمة؛ فإنّه لا يشكر النعمة من لم يعرفها ويعرف قدرها، ولا يزاد فيها من لم يشكرها، ولا بقاء لها على من أساء حملها.
وقد كان يقال: حمل الغنيِّ أشد من حمل الفقير، ومؤونة الشكر أضعف من مشقة الصبر. جعلنا الله وإياكم من الشاكرين.
أمّا بعد فإنه ليس كلُّ صامتٍ عن حجته مبطلاً في اعتقاده، ولا كلُّ ناطقٍ بها لا برهان له محقّاً في انتحاله. والحاكم العادل من لم يعجلْ بفصْل القضاء دون استقصاء حُجج الخصماء، و دون أن يحوّل القول فيمن حضر من الخصماء والاستماع منه، وأن تبلغ الحجّة مداها من البيان، ويشرك القاضي الخصمين في فهم ما اختصما فيه، حتى لا يكون بظاهر ما يقع عليه من حكمه أعلم منه بباطنه، ولا بعلانية ما يُفلْج الخصام منه أطبَّ منه بسرِّه. ولذلك ما استعمل أهل الحزم والرويّة من القضاة طول الصمت، وإنعام التفهُّم والتمهُّل، ليكون الاختيار بعد الاختيار، والحكم بعد التبيُّن.

وقد كُنّا ممسكين عن القول بحجّتنا فيما تضمَّنه كتابنا هذا اقتصاراً على أن الحقَّ مكتفٍ بظهوره، مُبينٌ عن نفسه، مستغنٍ عن أن يُستدلَّ عليه بغيره؛ إذْ كان إنمَّا يُستدلُّ بظاهرٍ على باطن، وعلى الجوهر بالعرض، ولا يُحتاج أن يستدلَّ بباطن على ظاهر.
وعلمنا أنّ خصماءنا وإنْ موّهوا وزخرفوا، غير بالغين للفلج والغلبة عند ذوي العدْل دون الاستماع منّا، وأنَّ كلَّ دعوى لا يفلُجُ صاحبها بمنزلة ما لم يكن، بل هي على المدَّعي كلٌّ وكربٌ حتَّى تؤدِّيه إلى مسّرة النُّجح أو راحة اليأس.
إلى أنْ تفاقم الأمر وعيل الصَّبر، وانتهى إلينا عيب عصابةٍ لو أمسكْنا عن الإجابة عنها والاحتجاج فيها، علماً بأنَّ من شأن الحاسد تهجين ما يحسد عليه، ومن خُلق المحروم ذمَّ ما حُرم وتصغيره والطَّعن على أهله كان لنا في الإمساك سعة. فإنّ الحسد عقوبةٌ موجبة للحاسد بما يناله منه ويشينه، من عصيان ربّه واستصغار نعمته، والسَّخط لقدره، مع الكرب اللازم والحزن الدائم، والتنفس صُعُداً، والتشاغل بما لا يُدرك ولا يُحصى. وأنَّ الذي يشكر فعلى أمرٍ محدودٍ يكون شكره، والذي يحسد فعلى ما لا حد له يكون حسده. فحسده متَّسع بقدر تغيُّر اتّساع ما جسد عليه. لأنّا خفنا أن يظنّ جاهل أنَّ إمساكنا عن الإجابة إقرار بصدق العضيهة، وأن إغضاءنا لذي الغيبة عجز عن دفعها.
فوضعنا في كتابنا هذا حُججاً على من عابنا بملك القيان، وسبَّنا بمنادمة الإخوان، ونقم علينا إظهار النِّعم والحديث بها. ورجونا النّصر إذ قد بدينا والبادي أظلم، وكاتب الحقّ فصيح - ويروي " ولسان الحقِّ فصيح " - ونفْس المحرج لا يُقام لها، وصولة الحليم المتأني لا بقاء بعدها.
فبيَّنَّا الحجّة في اطِّراح الغيرة في غير محرَّم ولا ريبة، ثم وصفْنا فضل النعمة علينا، ونقضْنا أقوال خصمائنا بقولٍ موجزٍ جامعٍ لما قصدْنا. فمهما أطنبنا فيه فللشَّرح والإفهام، ومهما أدمجنا وطوينا فليخفَّ حمله. واعتمدنا على أنَّ المطوّل يقصَّر، والملخَّص يختصر، والمطويَّ يُنشر، والأصول تتفرع، وبالله الكفاية والعون.
إنّ الفروع لا محالة راجعةٌ إلى أصولها، والأعجاز لاحقةٌ بصدورها، والموالي تبعٌ لأوليائها، وأمور العالم ممزوجة بالمشاكلة ومنفردة بالمضادَّة، وبعضها عِلَّةٌ لبعض، كالغيث علَّة السَّحاب والسَّحاب علَّة الماء والرُّطوبة، وكالحبّ عِلّته الزَّرع، والزَّرع علَّته الحبّ، والدَّجاجة علَّتها البيضة، والبيضة علَّتها الدجاجة، والإنسان علّته الإنسان.
والفلك وجميع ما تحويه أقطار الأرض، وكلُّ ما تُقلُّه أكنافها للإنسان خولٌ ومتاعٌ إلى حين. إلاّ أنّ أقرب ما سُخِّر له من روحه وألطفه عند نفسه " الأُنثى " ؟ فإنّها خُلقت له ليسكن إليها، وجُعلت بينه وبينها مودّة ورحمة.
ووجب أن تكون كذلك وأن يكون أحقَّ وأولى بها من سائر ما خُوِّل إذْ كانت مخلوقةً منه. وكانت بعضاً له وجزءاً من أجزائه، وكان بعض الشيء أشكل ببعض وأقرب به قُرباً من بعضه ببعض غيره. فالنساء حرثٌ للرجال، كما النبات رزقٌ لما جُعل رزقاً له من الحيوان.
ولولا المحنة والبلوى في تحريم ما حرَّم وتحليل ما أحلّ، وتخليص المواليد من شُبهات الاشتراك فيها، وحصول المواريث في أيدي الأعقاب، لم يكن واحدٌ أحقَّ بواحدةٍ منهن من الآخر، كما ليس بعض السَّوام أحقَّ برعْي مواقع السَّحاب من بعض، ولكان الأمر كما قالت المجوس: إن للرجل الأقرب فالأقرب إليه رحماً وسبباً منهنّ. إلا أنّ الفرض وقع بالامتحان فخصَّ المطلق، كما فعل بالزَّرع فإنّه مرعىً لولد آدم ولسائر الحيوان إلاَّ ما منع منه التحريم.
وكلُّ شيءٍ لم يُوجد محرَّماً في كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمباحٌ مُطلق. وليس على استقباح الناس واستحسانهم قياسٌ ما لم نخرج من التحريم دليلاً على حسنه، وداعياً إلى حلاله.

ولم نعلم للغيرة في غير الحرام وجهاً، ولولا وقوع التحريم لزالت الغيرة ولزمنا قياس من أحقُّ بالنساء؛ فإنَّه كان يقال: ليس أحدٌ أولى بهنَّ من أحد، وإنَّما هنَّ بمنزلة المشامّ والتُّفَّاح الذي يتهاداه الناس بينهم. ولذلك اقتصر من له العدَّة على الواحدة منهنَّ، وفرَّق الباقي منهنَّ على المقرّبين. غير أنّه لما عزم الفريضة بالفرق بين الحلال والحرام، اقتصر المؤمنون على الحدِّ المضروب لهم، ورخّصوه فيما تجاوزه. فلم يكن بين رجال العرب ونسائها حجابٌ، ولا كانوا يرضون مع سقوط الحجاب بنظرة الفَلْتة ولا لحظة الخُلْسة، دون أن يجتمعوا على الحديث والمسامرة، ويزدوجوا في المناسمة والمثافنة، ويسمَّى المولع بذلك من الرجال الزِّير، المشتَّق من الزيارة. وكلّ ذلك بأعين الأولياء وحضور الأزواج، لا ينكرون ما ليس بمنكر إذا أمنوا المنكر، حتّى لقد حسك في صدر أخي بُثينة من جميل ما حسك من استعظام المؤانسة، وخروج العذر عن المخالطة، وشكا ذلك إلى زوجها وهزَّه ما حشّمه، فكمنا لجميلٍ عند إتيانه بثينة ليقتلاه، فلما دنا لحديثه وحديثها سمعاه يقول ممتحناً لها: هل لك فيما يكون بين الرِّجال والنساء، فيما يشفي غليل العشق ويُطفئ نائرة الشوق؟ قالت: لا. قال: ولم؟ قالت: إنَّ الحبَّ إذا نكح فسد! فأخرج سيفاً قد كان أخفاه تحت ثوبه، فقال: أمّا والله لو أنْعمت لي لملأته منك! فلمَّا سمعا بذلك وثقا بغيبه وركنا إلى عفافه، وانصرفا عن قتله، وأباحاه النظر والمحادثة.
فلم يزل الرِّجال يتحدثون مع النساء، في الجاهلية والإسلام، حتَّى ضُرب الحجاب على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصَّة.
وتلك المحادثة كانت سبب الوصلة بين جميلٍ وبثينة، وعفراء وعُروة، وكثيِّر وعزَّة، وقيسٍ ولُبنى، وأسماء ومقِّش، وعبد الله بن عجلان وهند.
ثم كانت الشرائف من النساء يقعدن للرِّجال للحديث، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عاراً في الجاهلية، ولا حراماً في الإسلام.
وكانت ضباعة، من بني عامر بن قُرط بن عامر بن صعصعة، تحت عبد الله بن جُدعان زماناً لا تلد، فأرسل إليها هشام بن المغيرة المخزوميُّ: ما تصنعين بهذا الشَّيخ الكبير الذي لا يولد له، قولي له حتّى يطلِّقك. فقالت لعبد الله ذلك، فقال لها: إنِّي أخاف عليك أن تتزوَّجي هشام بن المغيرة. قالت: لا أتزوّجه. قال: فإن فعلت فعليك مائة من الإبل تنحرينها في الحزورة وتنسجين لي ثوباً يقطع ما بين الأخشبيْن، والطواف بالبيت عُريانة. قالت: لا أطيقه. وأرسلتْ إلى هشامٍ فأخبرتْه الخبر فأرسل إليها: ما أيسر ما سألك، وما يكرُثك وأنا أيسر قريشٍ في المال، ونسائي أكثر نساء رجل من قريش، وأنت أجمل النِّساء فلا تأبَّيْ عليه. فقالت لابن جُدعان: طلِّقْني فإنْ تزوجت هشاماً فعليَّ ما قلت. فطلَّقها بعد استيثاقه منها، فتزوَّجها هشامٌ فنحر عنها ماءةً من الجُزُر، وجمع نساءه فنسجن ثوباً يسع ما بين الأخشبين، ثم طافت بالبيت عُريانة، فقال المطَّلب بن أبي وداعة: لقد أبصرتها وهي عُريانةٌ تطوف بالبيت وإنِّي لغلامٌ أتْبعها إذا أدبرتْ، وأستقبلها إذا أقبلت، فما رأيت شيئاً مما خلق الله أحسن منها، واضعةً يدها على ركبها وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلُّه ... فما بدا منه فلا أُحلُّه
كم ناظرٍ فيه فما يملُّه ... أخْثم مثل القعْب بادٍ ظلُّه
قال: ثم إنَّ النساء إلى اليوم من بنات الخلفاء وأمّهاتهن، فمن دونهنَّ يطفن بالبيت مكشّفات الوجوه، ونحو ذلك لا يكمل حجٌّ إلا به.
وأعرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعاتكة ابنة زيد بن عمرو بن نُفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي بكر، فمات عنها بعد أن اشترط عليها ألا تتزوَّج بعده أبداً، على أن نحلها قطعةً من ماله سوى الإرث، فخطبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأفتاها بأن يعطيها مثل ذلك من المال فتصدَّق به عن عبد الله بن أبي بكر، فقالت في مرثيته:
فأقسمت لا تنفكُّ عيني سخينةً ... عليك ولا ينفكُّ جلدي أغبرا
فلما ابتنى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أولم، ودعا المهاجرين والأنصار، فلمَّا دخل عليُّ بن أبي طالب عليه السلام قصد لبيت حجلتها، فرفع السِّجف ونظر إليها فقال:

فأقسمت لا تنفكُّ عيني سخينةً ... عليك ولا ينفكُّ جلدي أصفرا
فخجلت فأطرقت، وساء عمر رضي الله عنه ما رأى من خجلها وتشوُّرها عند تعيير عليٍّ إياها بنقض ما فارقت عليه زوجها، فقال: يا أبا الحسن، رحمك الله، ما أردت إلى هذا؟ فقال: حاجةٌ في نفسي قضيتها.
هذا. وأنتم تروون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أغير الناس، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: " إني رأيت قصراً في الجنة فسألت: لمن هذا القصر؟ فقيل: لعمر بن الخطاب. فلم يمنعني من دخوله إلاّ لمعرفتي بغيرتك " . فقال عمر رضي الله عنه: وعليك يُغارُ يا نبيَّ الله!.
فلو كان النظر والحديث والدُّعابة يُغار منها، لكان عمر المقدَّم في إنكاره؛ لتقدُّمه في شدَّة الغيرة. ولو كان حراماً لمنع منه؛ إذ لا شكَّ في زهده وورعه وعلمه وتفقُّهه.
وكان الحسن بن علي عليهما السلام تزوَّج حفصة ابنة عبد الرحمن، وكان المنذر بن الزُّبير يهواها، فبلغ الحسن عنها شيء فطلَّقها، فخطبها المنذر فأبت أن تتزوَّجه وقالت: شهَّرني!. وخطبها عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتزوَّجها، فرقَّى المنذر عنها شيئاً فطلَّقها، وخطبها المنذر فقيل لها: تزوَّجيه ليعلم الناس أنَّه كان يعضهك. فتزوَّجتْه فعلم الناس أنَّه كذب عليها، فقال الحسن لعاصم: لنستأذنْ عليها المنذر فندخل إليها فنتحدَّث عندها، فاستأذناه؛ فشاور أخاه عبد الله بن الزُّبير فقال: دعهما يدخلان. فدخلا فكانت إلى عاصمٍ أكثر نظراً منها إلى الحسن، وكان أبسط للحديث. فقال الحسن للمنذر: خذ بيد امرأتك. فأخذ بيدها وقام الحسن وعاصمٌ فخرجا. وكان الحسن يهواها وإنمَّا طلَّقها لما رقَّى إليه المنذر.
وقال الحسن يوماً لابن أبي عتيق: هل لك في العقيق؟ فخرجا فعدل الحسن إلى منزل حفصة فدخل إليها فتحدَّثا طويلا ثم خرج، ثم قال لابن أبي عتيق: هل لك في العقيق؟ قال: نعم. فنزل بمنزلة حفصة ودخل، فقال له مرَّة أخرى: هل لك في العقيق؟ فقال: يا ابن أُمِّ، ألا تقول: هل لك في حفصة!!.
وكان الحسن في ذلك العصر أفضل أهل دهره. فلو كان محادثة النساء والنَّظر إليهنَّ حراماً وعاراً لم يفعله ولم يأذن فيه المنذر بن الزُّبير، ولم يُشرْ به عبد الله بن الزُّبير.
وهذا الحديث وما قبله يُبطلان ما روت الحُشويّة من أنَّ النظر الأوَّل حرام والثاني حرام؛ لأنَّه لا تكون محادثةٌ إلاَّ ومعها ما لا يحصى عدده من النَّظر. إلاَّ أن يكون عني بالنظرة المحرَّمة النَّظر إلى الشعر والمجاسد، وما تخفيه الجلابيب مما يحلُّ للزّوج والوليِّ ويحرم على غيرهما.
ودعا مصعب بن الزُّبير الشَّعبيَّ، وهو في قُبّةٍ له مجلَّلةٍ بوشى، معه فيها امرأته، فقال: يا شعبيُّ، من معي في هذه القبّة؟ فقال: لا أعلم أصلح الله الأمير! فرفع السِّجف، فإذا هو بعائشة ابنة طلحة.
والشعبيُّ فقيه أهل العراق وعالمهم، ولم يكن يستحلُّ أن ينظر إن كان النَّظر حراماً.
ورأى معاوية كاتباً له يكلِّم جاريةً لامرأته فاختة بنت قرظة، في بعض طُرق داره، ثم خطب ذلك الكاتب تلك الجارية فزوَّجها منه، فدخل معاوية إلى فاختة وهي متحشِّدة في تعبئة عطر لعرس جاريتها، فقال: هوِّني عليك يا ابنة قرظة، فإني أحسب الابتناء قد كان منذ حين!.
ومعاوية أحد الأئمّة، فلما لم يقع عنده ما رأى من الكلام موقع يقينٍ، وإنَّما حلَّ محلَّ ظنٍّ وحسبان، لم يقضِ به ولم يوجبْه، ولو أوجبه لحدَّ عليه.
وكان معاوية يؤتى بالجارية فيجرِّدها من ثيابها بحضرة جلسائه، ويضع القضيب على ركبها، ثم يقول: إنَّه لمتاعٌ لو وجد متاعاً! ثم يقول لصعصعة بن صوحان: خذها لبعض ولدك، فإنّها لا تحلُّ ليزيد بعد أن فعلت بها ما فعلت.
ولم يكن يُعدم من الخليفة ومن بمنزلته في القدرة والتأتِّي أن تقف على رأسه جارية تذبُّ عنه وتروِّحه، وتعاطيه أخرى في مجلسٍ عامٍّ بحضرة الرجال.
فمن ذلك حديث الوصيفة التي اطلَّعت في كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجّاج وكان يُسرُّه، فلما فشا ما فيه رجع على الحجّاج باللَّوم وتمثَّل:
ألم ترَ أنَّ وشاة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحاً
فلا تُفشِ سرَّك إلاَّ إليك ... فإنَّ لكلِّ نصيحٍ نصيحا
ثم نظر فوجد الجارية كانت تقرأ فنمَّت عليه.

ومن ذلك حديثه حين نعس فقال للفرزدق وجرير والأخطل: من وصف نُعاساً بشعرٍ وبمثلٍ يُصيب فيه ويُحسن التمثيل، فهذه الوصيفة له. فقال الفرزدق:
رماه الكرى في الرأس حتَّى كأنَّه ... أميم جلاميدٍ تركن به وقرا
فقال: شدختني ويلك يا فرزدق! فقال جرير:
رماه الكرى في الرأس حتَّى كأنَّه ... يرى في سواد الليل قُنبرة سقرا
فقال: ويلك تركتني مجنوناً! ثم قال: يا أخطل فقل. قال:
رماه الكرى في الرأس حتَّى كأنَّه ... نديمٌ تروَّى بين ندمانه خمرا
قال: أحسنت، خُذْ إليك الجارية.
ثم لم يزل للملوك والأشراف إماءٌ يختلفن في الحوائج، ويدخلن في الدواوين، ونساءٌ يجْلسْن للناس، مثل خالصة جارية الخيزران، وعتْبة جارية ريطة ابنة أبي العباس، وسُكَّر وتركيَّة جاريتي أمِّ جعفر، ودقاق جارية العبَّاسة، وظلوم وقسطنطينة جاريتي أم حبيب، وامرأة هارون بن جعبويه، وحمْدونة أمّة نصر بن السِّنديِّ بن شاهك ثم كنّ يبرزْن للناس أحسن ما كنَّ وأشبه ما يتزيَّنَّ به، فما أنكر ذلك منكرٌ ولا عابه عائب.
ولقد نظر المأمون إلى سُكَّر فقال: أحُرَّةٌ أنت أم مملوكة؟ قالت: لا أدري، إذا غضبتْ عليَّ أمُّ جعفر قالت: أنت مملوكة، وإذا رضيتْ قالت: أنت حُرَّة. قال: فاكتبي إليها السَّاعة فاسأليها عن ذلك. فكتبتْ كتاباً وصلته بجناح طائرٍ من الهُدَّى كان معها، أرسلتْه تعلم أمَّ جعفرٍ ذلك، فعلمت أمُّ جعفرٍ ما أراد فكتبتْ إليها: " أنت حُرَّة " . فتزوّجها على عشرة آلاف درهم، ثم خلا بها من ساعتها فواقعها وخلَّى سبيلها، وأمر بدفع المال إليها.
والدَّليل على أنَّ النَّظر إلى النساء كلِّهنَّ ليس بحرام، أنَّ المرأة المعنَّسة تبرز للرِّجال فلا تحتشم من ذلك. فلو كان حراماً وهي شابَّةٌ لم يحلَّ إذا عُنِّستْ، ولكنَّه أمرٌ أفرط فيه المتعدُّون حدَّ الغيرة إلى سوء الخُلق وضيق العطن، فصار عندهم كالحقّ الواجب.
وكذلك كانوا لا يرون بأساً أن تنتقل المرأة إلى عدّة أزواج لا ينقلها عن ذلك إلاّ الموت ما دام الرجال يريدونها. وهم اليوم يكرهون هذا ويستسمجونه في بعض، ويعافون المرأة الحرّة إذا كانت قد نكحت زوجاً واحداً، ويلزمون من خطبها العار ويُلحقون به اللَّوم، ويعيِّرونها بذلك، ويتحظَّون الأمة وقد تداولها من لا يُحصى عدده من الموالي. فمن حسَّن هذا في الإماء وقبَّحه في الحرائر! ولمَ لمْ يغاروا في الإماء وهنَّ أمّهات الأولاد وحظايا الملوك، وغاروا على الحرائر. ألا ترى أنَّ الغيرة إذا جاوزتْ ما حرّم الله فهي باطلٌ، وأنَّها بالنِّساء لضعفهنَّ أولع، حتى يغرْن على الظّنّ والحلْم في النَّوم. وتغار المرأة على أبيها، وتعادي امرأته وسرِّيته.
ولم تزل القيان عند الملوك من العرب والعجم على وجه الدَّهر. وكانت فارس تعُدُّ الغناء أدباً والرُّوم فلسفةً.
وكانت في الجاهليّة الجرادتان لعبد الله بن جُدعان.
وكان لعبد الله بن جعفر الطّيار جوارٍ يتغنَّيْن، وغلاكمٌ يقال له " بديع " يتغنَّى، فعابه بذلك الحكم بن مروان، فقال: وما عليَّ أن آخذ الجيِّد من أشعار العرب وأُلقيه إلى الجواري فيترنَّمن به ويشذِّرنه بحلوقهنَّ ونغمهنّ!.
وسمع يزيد بن معاوية الغناء.
واتَّخذ يزيد بن عبد الملك حبابة وسلاَّمة، وأدخل الرجال عليهنَّ للسَّماع، فقال الشاعر في حبابة:
إذا ما حنَّ مزهرها إليها ... وحنَّتْ دونه أُذن الكرامِ
وأصغوا نحوه الآذان حتَّى ... كأنّهم وما ناموا نيامِ
وقال في سلاَّمة:
ألم ترها، والله يكفيك شرَّها، ... إذا طرَّبتْ في صوتها كيف تصنعُ
تردُّ نظام القول حتَّى تردَّه ... إلى صُلصُلٍ من حلقها يترجَّعُ
وكان يسمع فإذا طرب شقَّ برُده ثم يقول: أطير! فتقول حبابة: لا تطير؛ فإنَّ بنا إليك حاجة.
ثم كان الوليد بن يزيد المتقدِّم في اللَّهو والغزل، والملوك بعد ذلك يسلكون على هذا المنهاج وعلى هذا السبيل الأوّل.
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، قبل أن تناله الخلافة يتغنَّى. فممّا يعرف من غنائه:
أمَّا صاحبيَّ نزُرْ سعادا ... لقرب مزارها ودعا البعادا
وله:
عاود القلب سعادا ... فقلا الطَّرف السُّهادا

ولا نرى بالغناء بأساً إذا كان أصله شعراً مكسوّاً نغماً: فما كان منه صدقاً فحسنٌ، وما كان منه كذباً فقبيح.
وقد قال النبي عليه السلام: " إنَّ من الشِّعر لحكمةً " .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " الشعر كلامٌ، فحسنه حسنٌ، وقبيحه قبيح " .
ولا نرى وزن الشعر أزال الكلام عن جهته، فقد يوجد ولا يضرُّه ذلك، ولا يزيل منزلته من الحكمة.
فإذا وجب أنّ الكلام غير محرَّم فإنّ وزنه وتقفيته لا يوجبان تحريماً لعلّة من العلل. وإنّ الترجيع له أيضاً لا يخرج إلى حرام. وإنّ وزن الشعر من جنس وزن الغناء، وكتاب الموسيقي، وهو من كتاب حدّ النُّفوس، تحدُّه الألسن بحدًّ مقْنع، وقد يعرف بالهاجس كما يعرف بالإحصاء والوزن. فلا وجه لتحريمه، ولا أصل لذلك في كتاب الله تعالى ولا سنّة نبيِّه عليه السلام.
فإن كان إنمّا يحرِّمه لأنه يُلهى عن ذكر الله فقد نجد كثيراً من الأحاديث والمطاعم والمشارب والنَّظر إلى الجنان والرَّياحين، واقتناص الصيد، والتشاغل بالجماع وسائر اللذات، تصدُّ وتُلهى عن ذكر الله. ونعلم أنّ قطع الدَّهر بذكر الله لمنْ أمكنه أفضل، إلاّ أنّه إذا أدَّى الرجل الفرض فهذه الأمور كلُّها له مباحة، وإذا قصَّر عنه لزمه المأثم.
ولو سلم من اللَّهو عن ذكر الله أحدٌ لسلم الأنبياء عليهم السلام. هذا سليمان بن داود عليهما السلام، ألهاه عرض الخيل عن الصَّلاة حتّى غابت الشّمس، فعرقبها وقطع رقابها.
وبعد فإنَّ الرقيق تجارةٌ من التجارات تقع عليه المساومات والمشاراة بالثَّمن، ويحتاج البائع والمبتاع إلى أن يستشفَّا العلق ويتأمّلاه تأمُّلاً بيّناً يجب فيه خيار الرؤية المشترط في جميع البياعات. وإن كان لا يُعرف مبلغه بكيلٍ ولا وزنٍ ولا عددٍ ولا مساحة؛ فقد يُعرف بالحسن والقبح. ولا يقف على ذلك أيضاً إلاّ الثاقب في نظره، الماهر في بصره، الطَّبُّ بصناعته؛ فإنّ أمر الحسن أدقُّ وأرقُّ من أن يدركه كلُّ من أبصره.
وكذلك الأمور الوهميّة، لا يُقضى عليها بشهادة إبصار الأعين، ولو قُضي عليها بها كان كلُّ من رآها يقضى، حتّى النَّعم والحمير، يحكم فيها لكلِّ بصير العين يكون فيها شاهداً وبصيراً للقلب، ومؤدياً إلى العقل، ثم يقع الحكم من العقل عليها.
وأنا مبين لك الحسن. هو التمام والاعتدال. ولست أعني بالتمام تجاوز مقدار الاعتدال كالزيادة في طول القامة، وكدقة الجسم، أو عظم الجارحة من الجوارح، أو سعة العين أو الفم، مما يتجاوز مثله من الناس المعتدلين في الخَلق؛ فإن هذه الزيادة متى كانت فهي نقصان من الحسن، وإنْ عدت زيادة في الجسم.
والحدود حاصرةٌ لأمور العالم، ومحيطة بمقاديرها الموقوتة لها، فكلُّ شيءٍ خرج عن الحدِّ في خُلُق، حتّى في الدين والحكمة الذين هما أفضل الأمور، فهو قبيحٌ مذموم.
وأما الاعتدال فهو وزن الشيء لا الكمية، والكون كون الأرض لا استواؤها.
ووزن النفوس في أشباه أقسامها. فوزن خلقة الإنسان اعتدال محاسنه وألاّ يفوت شيء منها شيئاً، كالعين الواسعة لصاحب الأنف الصغير الأفطس، والأنف العظيم لصاحب العين الضَّيِّقة، والذَّقن الناقص والرأس الضخم والوجه الفخم لصاحب البدن المدَّع النِّضو، والظَّهر الطويل لصاحب الفخذين القصيرتين، والظَّهر القصير لصاحب الفخذين الطويلتين، وكسعة الجبين بأكثر من مقدار أسفل الوجه.
ثم هذا أيضاً وزن الآنية وأصناف الفُرُش والوشْي واللباس، ووزن القنوات التي تجري فيها المياه.
وإنما نعني بالوزن الاستواء في الخرط والتركيب.
فلا بدَّ ممّا لا يمنع الناظر من النظر إلى الزَّرع والغرس والتفسُّح في خضرته والاستنشاق من روائحه. ويسمّى ذلك كلُّه له حِلاًّ ما لم يمد له يداً. فإذا مدّ يداً إلى مثقال حبّةٍ من خردل بغير حقِّها فعل ما لا يحلُّ، وأكل ما يحرم عليه.
وكذلك مكالمة القيان ومفاكهتهنَّ، ومغازلتهن ومصافحتهنَّ للسَّلام، ووضع اليد عليهنَّ للتَّقليب والنظر، حلالٌ ما لم يشبْ ذلك ما يحرم.

وقد استثنى الله تبارك وتعالى اللَّمم فقال: " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاَّ اللَّمم إنّ ربَّك واسع المغفرة " . قال عبد الله بن مسعود، وسُئل عن تأويل هذه الآية فقال: إذا دنا الرجل من المرأة فإنْ تقدَّم ففاحشة، وإنْ تأخَّر فلممٌ. وقال غيره من الصَّحابة: القبلة واللَّمْس. وقال آخرون: الإتيان فيما دون الفرج.
وكذلك قال الأعرابيّ حين سئل عمّا نال من عشيقته، فقال: ما أقرب ما أحل الله مما حرَّم الله!.
فإن قال قائل: فيما روى من الحديث: " فرِّقوا بين أنفاس الرجال والنِّساء " ، وقال: " لا يخْلُ رجلٌ بامرأة في بيتٍ وإن قيل حموها، إلا إنَّ حموها الموت " وإنّ في الجمع بين الرِّجال والقيان ما دعا إلى الفسق والارتباط والعشق، مع ما ينزل بصاحبه من الغُلمة التي تضطرُّ إلى الفجور وتحميل على الفاحشة؛ وأنَّ أكثر من يحضُر إنمّا يحضُر لذلك لا لسماع ولا ابتياع.
قلنا: إن الأحكام إنّما على ظاهر الأمور، ولم يكلِّف الله العباد الحكم على الباطن، والعمل على النيَّات، فيُقضى للرجل بالإسلام بما يظهر منه ولعلّه ملحد فيه، ويُقضى أنّه لأبيه ولعلّه لم يلدْه الأب الذي ادَّعى إليه قطّ، إلاَّ أنّه مولود على فراشه، مشهورٌ بالانتماء إليه. ولو كُلِّف من يشهد لرجلٍ بواحدٍ من هذين المعنيين على الحقيقة لم تقم عليه شهادة. ومن يحضر مجالسنا لا يظهر نسباً مما ينسبونه إليه، ولو أظهر ثمَّ أغضينا له عليه لم يلحقْنا في ذلك إثم.
والحسب والنَّسب الذي بلغ به القيان الأثمان الرغيبة إنما هو الهوى. ولو اشترى على مثل شرى الرَّقيق لم تجاوز الواحدة منهنَّ ثمن الرأس الساذج. فأكثر من بالغ في ثمن جاريةٍ فبالعشق ولعله كان ينوي في أمرها الرِّيبة، ويجد هذا أسهل سبيلاً إلى شفاء غليله ثم تعذَّر ذلك عليه فصار إلى الحلال وإن لم ينوه ويعرف فضله، فباع المتاع وحلَّ العقد وأثقل ظهره بالعُبِّيَّة حتى ابتاع الجارية.
ولا يعمل عملاً ينتج خيراً غير إغرائه بالقيان وقيادته عليهنّ؛ فإنّه لا ينجم الأمر إلاّ وغايته فيهنّ العشق، فيعوق عن ذلك ضبط الموالي ومراعاة الرقباء وشدَّة الحجاب، فيضطر العاشق إلى الشراء، ويحلّ به الفرج، ويكون الشيطان المدحور.
والعشق داءٌ لا يملك دفعه، كما لا يستطاع دفع عوارض الأدواء إلاّ بالحمية، ولا يكاد ينتفع بالحمية مع ما تولِّد الأغذية وتزيد في الطبائع بالازدياد في الطُّعم.
ولو أمكن أحداً أن يحتمي من كل ضرر ويقف عنْ كل غذاء، للزم ذلك المتطِّبب في آفات صحته، ونحل جسمه وضوي لحمه، حتَّى يؤمر بالتخليط، ويشار عليه بالعناية في الطَّيبات. ولو ملك أيضاً صرف الأغذية واحترس بالحمية، لم يملك ضرر تغيرُّ الهواء ولا اختلاف الماء.
وأنا واصفٌ لك حدَّ العشق لتعرف حدَّه: هو داءٌ يصيب الرُّوح ويشتمل على الجسم بالمجاورة، كما ينال الروح الضعف في البطش والوهن في المرء ينهكه. وداء العشق وعمومه في جميع البدن بحسب منزلة القلب من أعضاء الجسم. وصعوبة دوائه تأتي من قبل اختلاف علله، وأنّه يتركب من وجوهٍ شتَّى، كالحمى التي تعرض مركَّبةً من البرد والبلغم. فمن قصد لعلاج أحد الخلطين كان ناقصاً من دائه زائداً في داء الخلط الآخر، وعلى حسب قوة أركانه يكون ثبوته وإبطاؤه في الانحلال. فالعشق يتركب من الحبّ والهوى، والمشاكلة والإلف، وله ابتداءٌ في المصاعدة، ووقوف على غاية، وهبوطٌ في التوليد إلى غاية الانحلال ووقف الملال.

والحبّ اسمٌ واقع على المعنى الذي رسم به، لا تفسير له غيره؛ لأنه قد يقال: إن المرء يحبُّ الله، وإن الله جلّ وعزّ يحبّ المؤمن، وإن الرجل يحبُّ ولده، والولد يحبّ والده ويحبُّ صديقه وبلده وقومه، ويحبُّ على أي جهة يريد ولا يسمَّي ذلك عشقاً. فيعلم حينئذ أن اسم الحبّ لا يُكتفي به في معنى العشق حتّى تُضاف إليه العلل الأُخر إلاّ أنه ابتداء العشق، ثم يتبعه حبُّ الهوى فربّما وافق الحقّ والاختيار، وربّما عدل عنهما. وهذه سبيل الهوى في الأديان والبلدان وسائر الأمور. ولا يميل صاحبه عن حجّته واختياره فيما يهوى. ولذلك قيل: " عين الهوى لا تصدق " ، وقيل: " حبُّك الشيء يعمي ويصمّ " . يتخذون أديانهم أرباباً لأهوائهم. وذلك أنَّ العاشق كثيراً ما يعشق غير النِّهاية في الجمال، ولا الغاية في الكمال، ولا الموصوف بالبراعة والرشاقة، ثم إن سئل عن حجّته في ذلك لم تقم له حجّة.
ثم قد يجتمع الحبُّ والهوى ولا يسمَّيان عشقاً، فيكون ذلك في الولد والصديق والبلد، والصِّنف من اللِّباس والفرش والدوابّ. فلم نر أحداً منهم يسقم بدنه ولا تتلف روحه من حبّ بلده ولا ولده، وإن كان قد يصيبه عند الفراق لوعةٌ واحتراق.
وقد رأينا وبلغنا عن كثير ممن تلف وطال جُهده وضناه بداء العشق.
فعلم أنّه إذا أضيف إلى الحبّ والهوى المشاكلة، أعني مشاكلة الطبيعة، أي حبّ الرجال النساء وحبَّ النساء الرجال، المركَّب في جميع الفحول والإناث من الحيوان، صار ذلك عشقاً صحيحاً. وإن كان ذلك عشقاً من ذكر لذكرٍ فليس إلا مشتقّاً من هذه الشهوة، وإلاّ لم يسمَّ عشقاً إذا فارقت الشهوة.
ثم لم نره ليكون مستحكماً عند أوَّل لُقياه حتَّى يعقد ذلك الإلف، وتغرسه المواظبة في القلب، فينبت كما تنبت الحبّة في الأرض حتَّى تستحكم وتشتد وتثمر، وربّما صار لها كالجذع السَّحوق والعمود الصُّلب الشديد. وربما انعقف فصار فيه بوار الأصل. فإذا اشتمل على هذه العلل صار عشقاً تاماً.
ثم صارت قلّة العيان تزيد فيه وتوقد ناره، والانقطاع يسعِّره حتى يذهل وينهك البدن، ويشتغل القلب عن كلِّ نافعة، ويكون خيال المعشوق نصب عين العاشق والغالب على فكرته، والخاطر في كلِّ حالة على قلبه.
وإذا طال العهد واستمرَّت الأيام نقص على الفرقة، واضمحلَّ على المطاولة، وإن كانت كلومه وندوبه لا تكاد تعفو آثارها ولا ترس رسومها.
فكذلك الظَّفر بالمعشوق يُسرع في حلّ عشقه. والعلة في ذلك أنّ بعض الناس أسرع إلى العشق من بعض؛ لاختلاف طبائع القلوب في الرِّقَّة والقسوة، وسرعة الإلف وإبطائه، وقلّة الشَّهوة وضعفها.
وقلَّ ما يظهر المعشوق عشقاً إلاَّ عداه بدائه، ونكت في صدره وشغف فؤاده. وذلك من المشاكلة، وإجابة بعض الطبائع بعضاً، وتوقان بعض الأنفس إلى بعض، وتقارب الأرواح. كالنائم يرى آخر ينام ولا نوم به فينعس، وكالمتثائب يراه من لا تثاؤب به فيفعل مثل فعله، قسراً من الطبيعة.
وقلَّ ما يكون عشقٌ بين اثنين يتساويان فيه إلاّ عن مناسبةٍ بينهما في الشَّبه في الخَلْق والخُلُق وفي الظَّرف، أو في الهوى أو الطِّباع. ولذلك ما نرى الحسن يعشق القبيح، والقبيح يحبُّ الحسن ويختار المختار الأقبح على الأحسن، وليس يرى الاختيار في غير ذلك فيتوهّم الغلط عليه، لكنّه لتعارف الأرواح وازدواج القلوب.
ومن الآفة عشق القيان على كثرة فضائلهن، وسكون النفوس إليهنَّ، وأنَّهنَّ يجمعن للإنسان من اللّذَّات ما لا يجتمع في شيءٍ على وجه الأرض.
واللذَّات كلُّها إنمّا تكون بالحواسّ، والمأكول والمشروب حظٌّ لحاسّة الذَّوق لا يشركها فيه غيرها. فلو أكل الإنسان المسك الذي هو حظُّ الأنف وجده بشعاً واستقذره، إذْ كان دماً جامداً. ولو تنسَّم أرواح الأطعمة الطَّيبة كالفواكه وما أشبهها عند انقطاع الشهوة، أو ألحَّ بالنَّظر إلى شيءٍ من ذلك، عاد ضرراً. ولو أدنى من سمعه كل طيِّب وطيب لم يجد له لذَّة.
فإذا جاء باب القيان اشترك فيه ثلاثة من الحواسِّ، وصار القلب لها رابعاً. فللعين النَّظر إلى القينة الحسناء والمشهِّية إذْ كان الحذق والجمال لا يكادان يجتمعان لمستمتع ومرتع، وللسَّمع منها حظُّ الذي لا مؤونة عليه، ولا تطرب آلته إلا إليه.
وللَّمس فيها الشَّهوة والحنين إلى الباه. والحواسُّ كلُّها رواد للقلب، وشهودٌ عنده.

وإذا رفعت القينة عقيرة حلقها تغنِّي حدَّق إليها الطَّرْف، وأصغى نحوها السَّمع، وألقى القلب إليها الملك، فاستبق السّمع والبصر أيُّهما يؤدِّي إلى القلب ما أفاد منها قبل صاحبه، فيتوافيان عند حبَّة القلب فيُفرغان ما وعياه، فيتولَّد منه مع السُّرور حاسَّة اللمس، فيجتمع له في وقتٍ واحد ثلاث لذات لا تجتمع له في شيء قطّ، ولم تؤدِّ إليه الحواسُّ مثلها. فيكون في مجالسته للقينة أعظم الفتنة؛ لأنه روى في الأثر: " إياكم والنَّظرة فإنّها تزْرع في القلب الشَّهوة " . وكفى بها لصاحبها فتنةً، فكيف بالنَّظر والشهوة إذا صاحبهما السَّماع، وتكانفتهما المغازلة.
إنَّ القينة لا تكاد تُخالص في عشقها، ولا تُناصح في ودِّها؛ لأنها مكتسبة ومجبولةٌ على نصب الحبالة والشَّرك للمتربِّطين، ليقتحموا في أُنشوطتها، فإذا شاهدنا المشاهد رامته باللَّحظ، وداعبتْه بالتبسُّم، وغازلته في أشعار الغناء، ولهجت باقتراحاته، ونشطت للشُّرب عند شربه، وأظهرت الشَّوق إلى طول مكثه، والصَّبابة لسرعة عودته، والحزن لفراقه. فإذا أحسَّت بأنَّ سحرها قد نفذ فيه، وأنّه قد تعقّل في الشَّرك، تزيّدت فيما كانت قد شرعت فيه، وأوهمته أنَّ الذي بها أكثر مما به منها، ثم كاتبته تشكو إليه هواه، وتقسم له أنَّها مدَّت الدواة بدمْعتها، وبلَّت السِّحاءة بريقها، وأنه شجبها وشجْوها في فكرتها وضميرها، في ليلها ونهارها، وأنَّها لا تريد سواه، ولا تؤْثر أحداً على هواه، ولا تنوي انحرافاً عنه، ولا تريده لماله بل لنفسه؛ ثم جعلت الكتاب في سُدْسِ طومار، وختمتْه بزعفران، وشدَّته بقطعة زير، وأظهرت ستره عن مواليها، ليكون المغرور أوثق بها. وألحَّت في اقتضاء جوابه، فإن أجيبت عنه ادّعت أنها قد صيَّرت الجواب سلوتها، وأقامت الكتاب مقام رؤيته، وأنشدت:
وصحيفةٍ تحكي الضَّمي ... ر مليحةٍ نغماتُها
جاءت وقد قرح الفؤا ... د لطول ما استبْطاتُها
فضحكت حين رأيتُها ... وبكيت حين قراتُها
عيني رأت ما أنكرتْ ... فتبادرت عبراتُها
أظلوم، نفسي في يدي ... ك: حياتُها ووفاتُها
ثم تغنت حينئذ:
باب كتاب الحبيب ندماني ... محدِّثي تارةً وريحاني
أضحكني في الكتاب أوّلُه ... ثم تمادى به فأبكاني
ثم تجنّتْ عليه الذُّنوب، وتغايرتْ على أهله، وحمتْه النظر إلى صواحباتها، وسقتْه أنصاف أقداحها، وجمَّشته بعضوض تفاحها، وتحيَّةٍ من ريحانها، وزوّدته عند انصرافه خُصْلةً من شعرها، وقطعةً من مرطها، وشظيَّةً من مضرابها، وأهدت إليه في النَّيروز تكَّةً وسُكَّراً، وفي المهرجان خاتماً وتفّاحة، ونقشت على خاتمها اسمه، وأبدت عند العثرة اسمه، وغنَّته إذا رأته:
نظر المحبِّ إلى الحبيب نعيمُ ... وصدوده خطرٌ عليك عظيمُ
ثم أخبرته أنّها لا تنام شوقاً إليه، ولا تتهنَّأ بالطعام وجداً به، ولا تملُّ - إذا غاب - الدُّموع فيه، ولا ذكرتْه إلا تنغَّصت، ولا هتفت باسمه إلاّ ارتاعت، وأنَّها قد جمعت قنِّينةً من دموعها من البكاء عليه، وتنشد عند موافاة اسمه بيت المجنون:
أهوى من الأسماء ما وافق اسمها ... وأشبهه، أو كان منه مُدانيا
وعند الدُّعاء به قوله:
وداعٍ دعا إذْ نحن بالخيف من منىً ... فهيَّج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنّما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري
وربما قادها التمويه إلى التصحيح، وربَّما شاركت صاحبها في البلوى حتَّى تأتي إلى بيته فتمكِّنه من القبلة فما فوقها، وتُفرشه نفسها إن استحلَّ ذلك منها، وربَّما جحدت الصناعة لترحض عليه، وأظهرت العلّة والتاثت على الموالي، واستباعت من السادة، وادَّعت الحريّة احتيالاً لأن يملكها، وإشفاقاً أن يجتاحه كثرة ثمنها، ولا سيمّا إذا صادفْته حلو الشمائل، رشيق الإشارة، عذب اللَّفظ، دقيق الفهم، لطيف الحسّ، خفيف الرُّوح. فإن كان يقول الشعر ويتمثَّل به أو يترنَّم كان أحظى له عندها.

وأكثر أمرها قلّة المناصحة، واستعمال الغدر والحيلة في استنطاف ما يحويه المربوط والانتقال عنه. وربّما اجتمع عندها من مربوطيها ثلاثة أو أربعة على أنَّهم يتحامون من الاجتماع، ويتغايرون عند الالتقاء، فتبكي لواحدٍ بعين، وتضحك للآخر بالأخرى، وتغمز هذا بذاك، وتعطي وأحداً سرَّها والآخر علانيتها، وتوهمه أنَّها له دون الآخر، وأنَّ الذي تُظهر خلاف ضميرها. وتكتب إليهم عند الانصراف كتباً على نسخة واحدة، تذكر لكلِّ واحدٍ منهم تبرُّمها بالباقين وحرصها على الخلوة به دونهم.
فلو لم يكن لإبليس شرك يقتل به، ولا علم يدعو إليه، ولا فتنةٌ يستهوي بها إلاّ القيان، لكفاه.
وليس هذا بذمٍّ لهنَّ، ولكنَّه من فرط المدح. وقد جاء في الأثر: " خير نسائكم السَّواحر الخلاَّبات " .
وليس يُحسن هاروت وماروت، وعصا موسى، وسحرة فرعون، إلاَّ دون ما يُحسنه القيان.
ثم إذا منعهنَّ الزِّنى غلبه عليهنَّ مخارج بيوت الكشاخنة ترميهنَّ في حُجور الزُّناة. ثم هنَّ أمَّهات أولاد من قد بلغ بالحبِّ أنْ غفروا لهنَّ كلَّ ذنب، وأغضوا منهنَّ على كلِّ عيب.
وإذا كنَّ في منزل رجلٍ من السُّوقة عذرتهنَّ، وإذا انتقلن إلى منازل الملوك زال العُذْر. والسبب فيه واحد، والعلّة سواء.
وكيف تسلم القينة من الفتنة أو يمكنها أن تكون عفيفةً، وإنمّا تكتسب الأهواء، وتتعلَّم الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهي تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها بما يصدُّ عن ذكر الله من لهو الحديث، وصنوف اللعب والأخانيث، وبين الخلعاء والمجَّان، ومن لا يسمع منه كلمة جدٍّ ولا يُرجع منه إلى ثقةٍ ولا دين ولا صيانة مروَّة.
وتروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوتٍ فصاعداً، يكون الصَّوت فيما بين البيتين إلى أربعة أبيات، عدد ما يدخل في ذلك من الشِّعر إذا ضُرب بعضه ببعض عشرة آلاف بيتٍ، ليس فيها ذكر الله عن غفلة ولا ترهيب من عقاب، ولا ترغيبٌ في ثواب؛ وإنما بُنيت كلُّها على ذكر الزِّنى والقيادة، والعشْق والصَّبوة، والشَّوق والغلْمة.
ثم لا تنفكُّ من الدراسة لصناعتها منكبَّةً عليها، تأخذ من المطارحين الذين طرحهم كلُّه تجميشٌ وإنشادهم مراودة. وهي مضطرَّةٌ إلى ذلك في صناعتها؛ لأنَّها إن جفتْها تفلَّتت، وإنْ أهملتْها نقصتْ، وإن لم تستفد منها وقفتْ. وكلُّ واقف فإلى نقصانٍ أقرب. وإنَّما فرق بين أصحاب الصناعات وبين من لا يُحسنها التزيُّدُ فيها، والمواظبة عليها. فهي لو أرادت الهُدى لم تعرفه، ولو بغت الغفلة لم تقدر عليها، وإنْ ثبَّتت حُجّة أبي الهُذيل فيما يجب على المتفكِّر زالت عنها خاصّته؛ لأنّ فكرها وقلبها ولسانها وبدنها، مشاغيل بما هي فيه، وعلى حسب ما اجتمع عليها من ذلك في نفسها لمن يلي مجالستها عليه وعليها.
ومن فضائل الرجال منّا أنّ الناس يقصدونه في رحله بالرَّغبة كما يُقصد بها للخلفاء والعظماء، فيُزار ولا يُكلَّف الزيارة، ويُوصل ولا يُحمل على الصِّلة، ويُهدى له ولا تُقتضى منه الهديَّة، وتبيت العيون ساهرةً والعيون ساجمة، والقلوب واجفة، والأكباد متصدِّعة، والأماني واقفة، على ما يحويه ملكه وتضمُّه يده، مما ليس في جميع ما يباع ويُشترى، ويستفاد ويُقتنى، بعد العُقد النَّفيسة. فمن يبلغ شيئاً من الثمن ما بلغت حبشيّة جارية عوْن، مائةُ ألف دينار وعشرون ألف دينار.
ويرسلون إلى بيت مالكها بصنوف الهدايا من الأطعمة والأشربة، فإذا جاءوا حصلوا على النظر وانصرفوا بالحسرة، ويجتني مولاها ثمرة ما غرسوا ويتملَّى به دونهم، ويُكفي مؤونة جواريه.
فالذي يقاسيه الناس من عيلة العيال، ويفكِّرون فيه من كثرة عددهم وعظيم مؤونتهم، وصعوبة خدمتهم، هو عنه بمعزلٍ: لا يهتمُّ بغلاء الدقيق، ولا عوز السَّويق، ولا عزَّة الزيت، ولا فساد النبيذ؛ قد كُفي حسرته إذا نزر، والمصيبة فيه إذا حمض، والفجيعة به إذا انكسر.
ثم يستقرض إذا أعسر ولا يُردُّ، ويسأل الحوائج فلا يُمنع، ويُلقي أبداً بالإعظام، ويكنَّى إذا نودي، ويُفدَّى إذا دُعي، ويُحيَّا بطرائف الأخبار، ويُطلع على مكنون الأسرار، ويتغاير الرُّبطاء عليه، ويتبادرون في برِّه، ويتشاحُّون في ودّه، ويتفاخرون بإيثاره.
ولا نعلم هذه الصِّفة إلاَّ للخلفاء: يُعطَون فوق ما يأخذون، وتُحصَّل بهم الرغائب، ويدرك منهم الغنى.

والمقيِّن يأخذ الجوهر ويعطي العرض، ويفوز بالعين ويعطي الأثر، ويبيع الريّح الهابة بالذهب الجامد، وفلذ اللجين والعسجد. وبين المرابطين وبين ما يريدون منه خرط القداد؛ لأن صاحب القيان لو لم يترك إعطاء المربوط سأله عفةً ونزاهة، لتركه حذقاً واختياراً، وشحاً على صناعته، ودفعاً عن حريم ضيعته؛ لأن العاشق متى ظفر بالمعشوق مرةً واحدة نقص تسعة أعشار عشقه، ونقص من برِّه ورفده بقدر ما نقص من عشقه. فما الذي يحمل المقيِّن على أن يهبك جاريته، ويكسر وجهه ويصرف الرغبة عنه.
ولولا أنه مثلٌ في هذه الصناعة الكريمة الشريفة لم يسقط الغيرة عن جواريه ويعنى بأخبار الرقباء، ويأخذ أجرة المبيت ويتنادم قبل العشاء، ويعرض عن الغمزة، ويغفر القبلة، ويتغافل عن الإشارة، ويتعامى عن المكاتبة، ويتناسى الجارية يوم الزِّيارة، ولا يُعاتبها على المبيت، ولا يفضُّ ختام سرّها، ولا يسألها عن خبرها في ليلها، ولا يعبأ بأن تُقفل الأبواب، ويُشدَّد الحجاب، ويُعدّ لكلّ مربوطٍ عُدَّةً على حدة، ويعرف ما يصلح لكلِّ واحدٍ منهم، كما يميّز التاجر أصناف تجارته فيسعِّرها على مقاديرها. ويعرف صاحب الضياع أراضيه لمزارع الخضر والحنطة والشعير. فمن كان ذا جاهٍ من الرُّبطاء اعتمد على جاهه وسأله الحوائج. ومن كان ذا مالٍ ولا جاه له استقرض منه بلا عينة. ومن كان من السُّلطان بسببٍ كُفيت به عادية الشُّرط والأعون، وأُعلنت في زيارته الطبول والسَّرانيّ، مثل سلمة الفُقَّاعي، وحَمْدون الصِّحنائي، وعليّ الفاميّ، وحجر التَّور، وفقْحة، وابن دجاجة، وحفْصويه، وأحمد شعْرة، وابن المجوسيّ، وإبراهيم الغلام.
فأيُّ صناعة في الأرض أشرف منها!.
ولو يعلم هؤلاء المسمَّون فرق ما بين الحلال والحرام لم ينسبوا إلى الكشْخ أهلها؛ لأنّه قد يجوز أن تباع الجارية من الملئ فيصيبُ منها وهو في ذلك ثقةٌ، ثم يرتجعها بأقلَّ مما باعها به فيحصل له الرِّبح، أو تُزوَّج ممن يثق به ويكون قصده للمتعة.
فهل على مزوَّجة من حرج، وهل يفرُّ أحدٌ من سعة الحلال إلاَّ الحائن الجاهل، وهل قامت الشهادة بزناء قطُّ في الإسلام على هذه الجهة.
هذه الرسالة التي كتبناها من الرواة منسوبة إلى من سمَّيناها في صدرها. فإن كانت صحيحةً فقد أدّينا منها حقَّ الرواية، والذين كتبوها أولى بما قد تقلَّدوا من الحجّة منها. وإن كانت منحولة فمن قبل الطُّفيليِّين؛ إذْ كانوا قد أقاموا الحجّة في اطِّراح الحشمة، والمرتبطين ليسهِّلوا على المقيِّنين ما صنعه المقترفون.
فإن قال قائل: إنَّ لها في كل صنفٍ من هذه الثلاثة الأصناف حظاً وسبباً فقد صدق. وبالله سبحانه التوفيق.

الرسالة الخامسة عشرة
كتاب ذمّ أخلاق الكتَّاب
بسم الله الرحمن الرحيم
حفظك الله وأبقاك وأمتع بك.
قد قرأت كتابك ومدحتك أخلاق الكتّاب وأفعالهم، ووصْفك فضائلهم وأيّامهم، وفهمته.
ومتى وقع الوصف من القائل تقصِّياً، والنَّعت من الواصف تألُّفاً، قلَّ شهداؤه وكثر خصماؤه، وخفَّت المؤونة على مجاوبيه في دعواه، وسُهلت مناسبة الأدْنياء له في معناه. لأنَّ أغلظ المحن ما عُرض على المشهود فأزاله، وتصفَّحه المعقول فأحاله.
وأضعف العلل ما التُمس بعد المعلول، ونصبت له علماً على الموجود بعد الوجود. وإذا تقدَّم المعلول علَّته والمخبر عنه خبره، استُغنى عن الحاكم، وظهر عُوار الشَّاهد.
فقد رأيتك أطنبت بإحماد هذا الصِّنف من الناس، وحكمت بفضيلة هذه الطبقة من الخَلْق، فعلمت أنّ فرط الإعجاب من القائل متى وافق صناعة المادح رسخ في التركيب هواه، ورسبتْ في القلوب أوتاده، واشتدَّ على المناظر إفهامه، وعلى المخاصم بالحقّ توقيفه، وكان حكمه في صعوبة فسْخه وتعذُّر دفعه حكم الإجماع إذا لاقى محكم التنزيل.
ولست أدعُ مع ذلك توقيفك على موضع زللك في الاحتجاج، وتنبيهك على النكتة من غلطك في الاعتلال، بما لا يمكن السامع إنكاره ولا ينساغ له إبطاله. وأبيِّن مع ذلك رداءة مذاهب الكتّاب وأفعالهم، ولؤم طبائعهم وأخلاقهم بما تعلم أنت والناظر في كتابي هذا: أنِّي لم أقل إلاّ بعد الحجّة، ولم أحتجَّ إلاّ مع ظهور العلَّة، ثم أستشهد مع ذلك الأضداد تبياناً، وأجمع عليه الأعداء إنصافاً، إذ كان في ذلك من التبيان ما يبهرهم، ومن القول ما يسكتهم.

ثم أقول: ما ظنُّك بقوم منهم أوّل مرتدٍّ كان في الإسلام، كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخالف في كتابه إملاءه، فأنزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتباً، فهرب حتّى مات بجزيرة العرب كافراً، وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرْح.
ثم استكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده معاوية بن أبي سفيان، فكان أوّل من غدر في الإسلام بإمامه، وحاول نقض عُرى الإيمان بأثامه.
وكتب عثمان بن عفّان لأبي بكر رضوان الله عليهما - مع طهارة أخلاقه وفضائل أيّامه - فلم يمتْ حتى أدّاه عرق الكتابة إلى ذمِّ من ذمَّه من أوليائه.
ثم كتب لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه زياد بن أبيه، فانعكس شرَّ ناشئٍ في الإسلام، نُقضت بدعوته السُّنّة، وظهرت في أيّامه ولايته بالعراق الجبْرية.
ثم كتب لعثمان بن عفان رضي الله عنه مروان بن الحكم، فخافه في خاتمه، وأشعل الرَّعيّة حرباً عليه في مُلكه.
ثم أفضى الأمر إلى علي بن أبي طالب رضوان الله عنه، فتبيّن من البصيرة في الكتّاب ما لم ير التنويه بذكر كاتبٍ حتّى مات.
ولو كانت الكتابة شريفةً والخطُّ فضيلة كان أحقَّ الخلْق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أولى الناس ببلوغ الغاية فيها ساداتهم وذوو القدر والشرف فيهم. ولكنَّ الله منع نبيَّه صلى الله عليه وسلم ذلك، وجعل الخطَّ فيه دنيَّة، وصدَّ العِلْم به عن النبوَّة. ثم صيَّر الملك في ملكه، والشَّريف في قومه يتبجَّج برداءة الخط، وينبل بشنج الكتاب. وإنَّ بعضهم كان يقصد لتقبيح خطَّه وإنْ ككان حلواً، ويرتفع عن الكتاب بيده - وإن كان ماهراً، وكان ذلك عليه سهلاً - فيكلِّفه تابعه، ويحتشم من تقليده الخطير من جلسائه.
وكتب أحمد بن يوسف يوماً بين يدي المأمون خطّاً أعجبه فقال: وددت والله أنِّي كتبت مثله وأنِّي مُغرَّمٌ ألف ألف. فقال له أحمد بن يوسف: لا تأسَ عليه يا أمير المؤمنين، فإنَّه لو كان حظّاً ما حُرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك إنَّ سنخ الكتابة بُني على أنّه لا يتقلَّدها إلاّ تابع، ولا يتولاها إلاّ من هو في معنى الخادم. ولم نر عظيماً قطُّ تولَّى كفاية نفسه، أو شارك كاتبه في عمله. وكلُّ كاتب فمحكومٌ عليه بالوفاء، ومطلوبٌ منه الصَّبر على اللأواء. وتلك شروطٌ متنوّعة عليه، ومحنةٌ مستكملة لديه.
وليس للكاتب اشتراط شيء من ذلك، بل يناله الاستبطاء عند أول الزَّلَّة وإن أكدي، ويُدركه العذْل بأوَّل هفوةٍ وإن لم يرض.
يجب للعبد استزادة السِّيد بالشكوى، والاستبدال به إذا اشتهى.وليس للكاتب تقاضي فائته إذا أبطأ، ولا التحوُّل عن صاحبه إذا التوى. فأحكامه أحكام الأرقّاء، ومحلُّه من الخدمة محل الأغبياء.
ثم هو مع ذلك في الذِّروة القصوى من الصَّلف، والسَّنام الأعلى من البذخ، وفي البحر الطامي من التِّيه والسَّرف. يتوهَّم الواحد منهم إذا عرَّض جبَّته وطوّل ذيله، وعقص على خدِّه صُدغه، وتحذف الشابورتين على وجهه، أنَّه المتبوع ليس التابع، والمليك فوق المالك.
ثم الناشئ فيهم إذا وطئ مقعد الرياسة، وتورَّك مشورة الخلافة، وحُجزت السَّلَّةُ دونه، وصارت الدواة أمامه، وحفظ من الكلام فتيقه، ومن العلم مُلحه، وروى لبُزرْجمهْر أمثاله، ولأردشير عَهْده، ولعبد الحميد رسائله، ولابن المقفَّع أدبه، وصيَّر كتاب مَزْدَك معدن علمه، ودفتر كليلة ودمنة كنْز حكمته ظنَّ أنَّه الفاروق الأكبر في التدبير، وابن عبّاسٍ في العلم بالتأويل، ومُعاذ بن جبلٍ في العلم بالحلال والحرام، وعليُّ بن أبي طالب في الجرأة على القضاء والأحكام، وأبو الهذيل العلاَّف في الجُزْء والطَّفرة، وإبراهيم بن سيار النظَّام في المكامنات والمجانسات، وحسينٌ النَّجَّار في العبارات والقول بالإثبات، والأصمعيُّ وأبو عبيدة في معرفة اللغات والعلم بالأنساب. فيكون أوّل بدْوه الطعن على القرآن في تأليفه، والقضاء عليه بتناقضه. ثم يُظهر ظرفه بتكذيب الأخبار، وتهجين من نقل الآثار. فإن استرجح أحدٌ عنده أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فتل عند ذكرهم شدقه، ولوى عند محاسنه كشحه. وإن ذُكر عنده شُريّح جرَّحه، وإن نُعت له الحسن استثقله، وإن وُصف له الشعبيُّ استحمقه، وإن قيل له ابن جُبير استجهله، وإن قدَّم عنده النَّخعيُّ استصغره.

ثم يقطع ذلك من مجلسه سياسة أردشير بابكان، وتدبير أنوشروان، واستقامة البلاد لآل ساسان.
فإنْ حذر العيونْ وتفقَّده المسلمون، رجع بذكر السُّنن إلى المعقول، ومحكم القرآن إلى المنسوخ، ونفي ما لا يدرك بالعيان، وشبَّه بالشاهد الغائب. لا يرتضى من الكتب إلاَّ المنطق، ولا يحمد إلاَّ الواقف، ولا يستجيد منها إلاّ السَّائر.
هذا هو المشهور من أفعالهم، والموصوف من أخلاقهم.
ومن الدليل على ذلك، أنّه لم يُر كاتبٌ قطُّ جعل القرآن سميره، ولا علمه تفسيره، ولا التفقُّه في الدِّين شعاره، ولا الحفظ للسُّنن والآثار عماده، فإن وُجد الواحد منهم ذاكراً شيئاً من ذلك لم يكن لدوران فكَّيه به طلاقة، ولا لمجيئه منه حلاوة. وإن آثر الفرد منهم السَّعْي في طلب الحديث، والتشاغل بذكر كتب المتفقِّهين، استثقله أقرانه، واستوخمه أُلاَّفه، وقضوا عليه بالإدبار في معيشته، والحرفة في صناعته، حين حاول ما ليس من طبعه، ورام ما ليس من شكله.
قال الزُّهريّ لرجل: أيُعجبك الحديث؟ قال: نعم. قال: أما إنّه لا يعجب إلاَّ الفحول من الرِّجال، ولا يبغضه إلاَّ إناثهم!.
ولئن وافق هذا القول من الزُّهري فيهم مذهباً، إنَّ ذلك لَبَيِّنٌ في شمائلهم، مفهوم في إشاراتهم.
وسئل ثُمامة بن أشرس يوماً، وقد خرج من عند عمرو بن مسْعدة، فقيل له: يا أبا معن، ما رأيت من معرفة هذا الرّجل وبلوت من فهْمه؟ فقال: ما رأيت قوماً نفرتْ طبائعهم عن قبول العلوم، وصغرت هممهم عن احتمال لطائف التمييز - فصار العلم سبب جهلهم، والبيان علم ضلالتهم، والفحْص والنظر قائد غيِّهم، والحكمة معْدن شبههم - أكثر من الكتَّاب.
وذكر أبو بكرٍ الأصمُّ ابن المقفَّع فقال: ما رأيت شيئاً إلاَّ وقليله أخفُّ من كثيره إلاَّ العلم، فإنّه كلَّما كثر خفَّ محمله. ولقد رأيت عبد الله بن المقفَّع هذا في غزارة علمه وكثرة روايته، كما قال الله عزّ ذكره: " كمثل الحمار يحْمل أسْفاراً " . قد أوهنه علمه، وأذهله علمه، وأذهله حلمه، وأعمته حكمته، وحيَّرتْه بصيرته.
وكنا في مجلس بشر بن المعتمر يوماً وعنده المُرْدار، وثمامة، والعلاَّف، في جماعةٍ من المعتزلة وأصحاب الكلام، فتذاكروا العوامَّ واستحواذ الفتنة عليهم في التقليد، واستغلاق قلوبهم بكثيرٍ مما ليس في طبعهم، فتعظِّمهم وتقضي لكلِّ من نُبل منهم بالصَّواب في قوله وإنْ لم يعلموا. لا يدينون بالحقيقة، ولا يحمدون إلا ظاهر الحلْية.
ومن الدليل على نذالة طبعهم، والعلم بفسالة رأيهم، تقديمهم بالفضل لمن لا يفهمونه، وقضاؤهم بالعلم لمنلا يعرفونه، حتَّى إنهم يضربون بالكاتب فيما بينهم المثل، ويحكمون له بالبصيرة في الأدب، على غير مُعاشرةٍ جرتْ بينهم، ولا محبّة ظهرت له منهم. ليس إلاّ أنَّ هممهم صغرت عنهم، وامتلأت قلوبهم منهم، فصار المحفوظ من أقوالهم، والذي يدينون به من مذاهبهم: كيف لا يأمن فلانٌ الخطأ مع جلالته، وكيف ينساغ لأحدٍ تجهيله مع نبله. فإنْ وُقفوا على تمييزه هابوه، وإن دُعوا إلى تفهُّمه أكبروه، وقالوا: لم يُنصب هذا بموضعه إلاَّ لخاصَّةٍ فيه وإن جهلناها، وفضيلةٍ موسومة وإن قصر علمنا عنهم. ولعلَّه عُمر بن فرجٍ في السَّفه والمباهتة، وإبراهيم بن العبَّاس في الشَّره والرَّقاعة، ونجاح بن سلمة في الطَّيش والسخافة، وأحمد بن الخصيب في اللُّؤم والجهالة، وآل وهب في النَّهم والنَّذالة، ويحيى بن خاقان في الذُّلِّ والفاقة، وموسى بن عبد الملك في الوخم والبلادة، وابن المدبِّر في الخبِّ والمكابرة، والفضْل بن مروان في الفدامة مقصورة.
وفي عمر بن فرج يقول الشاعر:
لا تطلب الخير من بني فرج ... لا بارك الله في بني فرجِ
والعنْ إذا ما لقيته عُمراً ... لعناً يقيناً بأعظم الهرجِ
فلعنةٌ إنْ لعنْتها عُمراً ... تعدِل مقبولةً من الحججِ
ليس على المفتري على عُمرٍ ... من ضرْب حدٍّ يُخْشى ولا حرجِ
وخُبِّرْت أنَّ أبا العتاهية أتى يحيى بن خاقان يوماً ليسلِّم عليه، فلم يأذنْ له حاجبُه فانصرف، وأتاه يوماً آخر فصادفه حين نزل فسلَّم عليه، ودخل يحيى إلى منزله ولم يأذنْ له، فكتب إليه أبو العتاهية من ساعته رُقْعةً فيها:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5