كتاب : الأمالي
المؤلف : أبو علي القالي

والقوادح، واحدتا قادحة، وهى العيب فى العود والسن. وأقسس: أتبع. والروازح: التى قد سقطت من الهزال. والحدابير: التى قد تقوست من الهزال، واحدها حدبار.
وحدثنا أبو بكر رحمه الله قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: قدم وفد على أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك وفيهم رجل من قريش يقال له: إسماعيل بن أبى الجهم، وكان أكبرهم سنا، وأفضلهم رأيا وحلما؛ فقام متوكئا على عصا وقال: يا أمير المؤمنين، إن خطباء قريش قد قالت فيك فأطنبت، وأثنت عليك فأحسنت؛ ووالله ما بلغ قائلهم قدرك، ولا أحصى مثنيهم فضلك؛ أفتأذن لى فى الكلام؟ قال: تكلم، قال: أفأوجز أم أطنب؟ قال: بل أوجز، قال: تولاك الله أمير المؤمنين بالحسنى، وزينك بالتقى، وجمع لك خير الآخرة والأولى؛ إن لى حوائج أفاذكرها؟ قال: نعم، قال: كبرتسنى، وضعفت قواى، واشتدت حاجتى، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسرى، وينفى فقرى؛ قال: يا بن أبى الجهم، ما يجبر كسرك وينفى فقرك؟ قال: ألف دينار وألف دينار وألف دينار، قال هيهات يا بن أبى الجهم! بيت المال لا يحتمل هذان قال: كأنك آليت يا أمير المؤمنين أن لا تقضى لى حاجةً مقامى هذا، قال: ألف دينار لماذا؟ قال: أقضى بها دينا قد فدحنى حمله، وأرهقنى أهله؛ قال: نعم المسلك أسلكتها، ديناً قضيت، وأمانةً أديت؛ قال: وألف دينار لماذا؟ قال: أزوج بها م أدرك من والدى، فأشد بهم عضدى، ويكثر بهم عددى؛ قال: ولا بأس، أغضضت طرفا، وحصنت فرجا، وأمرت نسلا؛ وألف دينار لماذا؟ قال: أشترى بها أرضاً فأعود بفضلها على ولدى، وبفضل فضلها على ذوى قراباتى؛ قال: ولا بأس، أردت ذخرا، وروجوت أجرا، ووصلت رحما؛ قد أمرنا لك بها، فقال: الله المحمود على ذلك، وجزاك الله يا أمير المؤمنين والرحم خيرا. فقال هشام: تالله ما رأيت رجلا ألطف فى شسؤال، ولا أرفق فى مقال من هذا. هكذا فليكمن القرشى.
قال: أرهقنى: أعجلنى، ورهقنى: غشينى، يقال: رهق فلانا دين يرهقه إذا غشيه، ورهقت الكلاب الصدي إذا غشيته ولحقته،ورهقنى فلان، أى لحنقى، ويقال: فلان عطوف على المرهق، أى على المدرك، وأرهقت الرجل إذا أدرته، ويقال: هو يعدو الرهقى، وهو أن يسرع حتى يكاد أن يرهق الذى يطلبه. وفى فلان رهق إذا كان فيه غشيان للمحارم. قال ابن أحمر:
كالكوكب الأزهر انشقت دجنته ... فى الناس لارهق فيه ولا بخل
ويقال: إنه لمرهق إذا غشيه الأضياف والسؤال، قال ابن هرمة:
خير الرجال المرهقون كما ... خير تلاع البلاد أكلؤها
وفلان يرهق فى دينه إذا اثنى عليه قلة ورعٍ. وأرهق القوم الصلاة إذا أخروها حتى يدنو وقت الأخرى. قال أبو زيد: أرهقته عسرا وإثما حتى رهقه رهقا. غيره وراهق الغلام إذا قارب الاحتلام.
وحدثنا أبوبكر بن الأنبارى قال حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوى قال أنبأنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب قال أنشدنا إسماعيل نب أبى أويس والزبير بن أبى بكر وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون ومحمد بن طالوت الوادى، قال أنشدنى أبى، وقال كل هؤلاء أنشدنى لأبى صخر الهذلى يزيد بعضهم على بعض.
قال أبو على: وأنشدنا أبو بكر بن دريد هذه القصيدة لأبى صخر:
لليل بذات الجيش دار عرفتها ... وأرخى بذات البين آياتا سطر
كأنهما ملآن لم يتغيرا ... وقد مر للدارين من بعدنا عصر
وقفت برسميها فعى جوابها ... فقلت وعينى دمعها سرب همر
ألا أيها الركب المخبون هل لكم ... بساكن أجزاع الحمى بعدنا خبر
فقالوا طوينا ذاك ليلا فإن يكن ... به بعض من تهوى فما شعر السفر
خليلى هل يستخبر الرمث والغضا ... وطلح الكدا من بطن مروان والسدر
قال أبو على: أحسبه أراد كداء فقصر للضرورة، وأنشدنا أبو بكر بن دريد: كدى بضم الكاف وقال: هو جمع كدية:
أما والذى أبكى واضحك والذى ... أمات وأحيا والذى أمره الأمر
لقد كنت آتيها وفى النفس هجرها ... بتاتا لأخرى الدهر ما طلع الفجر
فما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت لا عرف لدى ولا نكر
وانسى الذى قد كنت فهي هجرتها ... كما قد تنسى لب شاربها الخمر

وما تركت لى من شداً أهتدى به ... ولا ضلع إلا وفى عظمها وقر
وقد تركتنى أغبط الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذعر
ويمنعنى من بعض إنكار ظلمها ... إذا ظلمت يوما وإن كان لى عذر
مخافة أنى قد علمت لن بدا ... لى الهجر منها ما على هجرها صبر
وأنى لا أدرى إذا النفس أشرفت ... على هجرها ما يبلغن بى الهجر
قال عبد الله بن شبيب حدثنى الزبير قال: لما أنشد أبو السائب هذا البيت قال: الموت الأحمر والله يا بن أخى ما دونه شىء:
أبى القلب إلا حبها عامريةً ... لها كنيةً عمرو وليس لها عمرو
تكاد يدى تندى إذا ما لمستها ... وينبت فى أطرافها الورق النضر
وإنى لتعرونى لذاكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر
تمنيت من حبى علية أننا ... على رمثٍ فى البحر ليس لنا وفر
على دام لا يعبر الفلك موجه ... ومن دوننا الأهوال واللجج الجضر
فنقضى هم النفس فى غير رقبة ... ويغرق من نخشى نميمته البحر
عجبت لسعى الدهر بينى وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
قال عبد الله: وأنشدنى أبن أبى أويس:
فا يحب ليلى قد بلغت بى المدى ... وزدت على ما ليس يبلغه الهجر
ويا حبها زدنى جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
فليست عشيات الحمى برواجع ... لنا أبداً ما أبرم السلم النضر
ولا عائد ذاك الزمان الذى مضى ... تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
قال أبو بكر وزادنى أبى عن أحمد بن عبيد:
هجرتك حتى قلت لا يعرف القلى ... وزرتك حتى قلت ليس له صبر
صدقت أنا الصب المصاب الذى به ... بتاريح حب خامر القلب أو سحر
فيا حبذا الأحياء ما دمت فيهم ... ويا حبذا الأموات ما ضمك القبر
وحدثنا أبو بكر قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه أو أبو حاتم - الشك من أبى على - عن الأصمعى قال: اشترى أعرابى خمرا بجزةٍ من صوف فغضبت عليه امرأته فأنشأ يقول:
غضبت على لأن شربت بصوف ... ولئن غضبت لأشربن بخروف
ولئن غضبت لاشربن بنعجة ... دهساء مالئة الإناء سحوف
ولئن غضبت لأشربن بناقةٍ ... كوماء ناوية العظام صفوف
ولئن غضبت لأشربن بسابح ... نهدٍ أشم المنكبين منيف
ولقد شهدت إذا الخصوم تواكلوا ... بخصام لا نزقٍ ولا علفوف
قال أبو على: الصفوف: التى تصف بين رجليها عند الحلب، ويقال: التى تصف بين محلبيها. والسحوف: التى لها سحفتان من الشحم، أى طبقتان. والسحف: القشر، يقال: سحفت الشىء: قشرته. والعلفوف: الجافى. وقرأت على أبى عبد الله إبراهيم بن عرفة لذى الرمة:
كأن أعجازها والريط يعصبها ... بين العبرين وأعناق العواهيج
أتقاء سارية حلت عزاليها ... من آخر الليل ريح غير حرجوج
يصف نساء، يقول: كأن أعجازهن أنقاء سارية، والأنقاء جمع نقا، والنقا: قطعة من الرمل مستطيلة محدودبة. والسارية: السحابة التى تمطر ليلا، فأضاف النقا إليها لأنها أمطرته. والريط جمع ريطة. ويعصبها: يلتاث بها، يقول: هذه الرياط دقاق ناعمة، فاذا هبت لها أدنى ريح التفت على سوقها وأعجازها. والبرين: الخلاخيل، واحدها برة. والعواهيج: الطوال الأعناق من الظباء، واحدها عوهج؛ فكأنها قال: كأن بين أسؤقها وأعناقها كثبانا جادتا سحابة ليل حلت عزاليها سحابة لينة. والعزالى: مخارج مائها مستعارة من المزادة، لأن العزلاء فم المزادة، وهذا مثل. والحرجوج: الريح الشديدة الهبوب.

قال الأصمعى: من أمثال العرب " رب عجلةٍ تهب ريثا " يراد به ربما استعجل الرجل فألقاه استعجاله فى بطء، ويقال: " جزانى جزاء سنمار " وسنمار: إنسان كان عمل أطماً لبعض الملوك، فقال له. إن نزع هذا الحجر تداعى بناؤك، فأمر به، فرمى من فوق الأطم لئلا يعلم به أحد غيره، يضرب مثلا للرجل يحسن فيجزى بإحسانه سوءاً، وأنشد الأصمعى:
جزاء سنمارٍ بما كان يعمل
ويقال: " بفلان تقرن الصعبة " يراد به أنه يذل المستعصب، ويقال: " حيث لا يضع الراقى أنفه " يراد به أن ذلك الأمر لا يقرب ولا يدنى منه، وكأنهم يرون أن أصل ذلك أن ملسوعا لسع فى آسته فلم يقدر الراقى أن يقرب أنفه مما هناك.
قال أبو زيد: يقال: هو أشخم الرأس، بالخاء المعجمة، وأشهب الرأس. ويقال: كلأ أشخم إذا علا البياض الخضرة. وقد اشخام واشهاب النبت والرأس. ويقال: " ليستغن أحدكم ولو بضوز سواكه " أى بمضغه، يقال: ضاز الشىء يضوزه ضوزا إذا مضغه. وأنشد أبو زيد:
طوال الأيادى والحوادى كأنها ... سماحيج قب طار عنها نسالها
قال: الحوادى: الأرجل الى تحدو الأيديى وتتلوها، قال: ويقال: ما أعظبه عليه! أى ما أصبره! وقد عظب يعظب عظبا وعظوبا إذا صبر عليه، وعظبته عليه تعظيبا ومرنته تمرينا، وأنشد:
ولو كنت من زوفن أو بنيها ... قبيلة قد عظبت أيديها
معودين الحفر حفاريها ... لقد حفرت نبثة ترويها
النبثة: الركية التى تخرج نبيثتها. وقال: قال بعض بنى عقيل وبنى كلاب: هو الأكرم والأفضل والأجمل والأحسن والأرذل والأنذل والأسفل والألأم. وهى الكرمى والفضلى والحسنى والجملى والرذلى واللؤمى، وهو الرذل والنذل واللؤم.
وقال الأصمعى يقال: كثر ولد فلان وقد أبق ونتق فهو ناق، وكله سواء. وامرأة ناتق إذا كثر ولدها، وأنشد للنابغة:
لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم ... طفحتعليك بناتقٍ مذكار

وحدثنا أبو بكر بن دريد قال حدثنا الأشناندانى عن التوزى عن أبى عبيدة عن أبى عمرو بن العلاء قال: كان لرجل من مقاول حمير ابنان يقال لأحدهما: عمرو وللآخر: ربيعة، وكانا قد برعا فى الأدب والعلم، فلما بلغ الشيخ أقصى عمره وأشفى على الفناء، دعاهما ليبلو عقولهما، ويعرف مبلغ علمهما؛ فلما حضرا قال لعمرو - وكان الأكبر - : أخبرنى عن أحب الرجال إلأيك، وأكرمهم عليك، قال: السيد الجواد، القليل الأنداد، الماجد الأجداد، الراسى الأوتاد، الرفيع العماد، العظيم الرماد، الكثير الحساد، الباسل الذواد، الصادر الوراد؟ قال: ماتقول يا ربيعة؟ قال: ما أحسن ما وصف! وغيره أحب إلى منه، قال: ومن يكون بعد هذا؟ قال: السيد الكريم، المانع للحريم، المفضال الحليم، القمقاعم الزعيم؛ الذى إن هم فعل، وإن سئل بذل.قال: أخبرنى ياعمرو بأبغض الرجال إليك، قال: البرم اللئيم؛ المستخذى للخصين، المبطان النهيم، العي البكيم؛ الذى إن سئل منع، وإن هدد خضع، وإن طلب جشع. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره أبغض إلى منه، قال: ومن هو؟قال: النؤوم الكذوب، الفاحش الغضوب؛ الرغيب عند الطعام، الجبان عند الصدام. قال: أخبرنى يا عمرو، أى النساء أحب إليك؟ قال: الهركولة اللفاء، الممكورة الجيداء؛ التى يشفى السقيم كلامها، ويبرى الوصب إلمامها؛ التى إن أحسنت إليها شكرت، وإن أسأت إليها صبرت، وإن استعتبتها أعتبت؛ الفاترة الطرف، الطفلة الكف، العميمة الردف. قال: ماتقول يا ربيعة؟ قال: نعت فأحسن! وغيرها أحب إلى منها، قال: ومن هى؟ قال: الفتانة العينين، الأسيلة الخدين، الكاعب الثديين، الرداح الوركين؛ الشاكرة للقليل، المساعدة للحليل؛ الرخيمة الكلام، الجماء العظام، الكريمة الأخوال والأعمام، العذبة اللثام. قال: فأى النساء إليك أبغض يا عمرو؟ قال: القتاتة الكذوب، الظاهرة العيوب، الطوافة الهبوب، العابسة القطوب، السبابة الوثوب؛ التى إن ائتمنها زوجها خانته، وإن لا لها أهانته، وإن أرضهاها أغضبته، وإن أطاعها عصته. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: بئس والله المرأة ذكر! وغيرها أبغض منها إلى منها، قال: وايتهن التى هي أبغض إليك من هذه؟ قال: السليطة اللسان، المؤذية للجيران، الناطقة بالبهتان؛ التى وجهها عابسن وزوحها من خيرها آيس؛ التى إن عابتها زوجها وترته. وإن ناطقها انتهرته. قالربيعة: وغيرا أبغض إلى منها، قال ومن هى؟ قال: التى شقى صابحها، وخزى خاطبها، وافتضح أقاربها. قال: ومن صاحبها؟ قا ل: مثلها فى خصالها كلها، لا تصلح إلا له ولا يصلح إلا لها. قال فصفه لى؟ قال: الكفور غير الكشور، اللئيم الفجور؛ العبوس الكالح، الحرون الجامح؛ الراضى بالهوان؛ المختال المنان، الضعيف الجنان، الجعدا لبنان؛ القؤول غير العقول، الملول غير الوصول؛ الذى لا يرع عن المحارم، الضعيف الجنان، الجعد البنان؛ القؤول غير العقولن الملول غير الوصول؛ الذى لا يرع عن المحارم، ولا يرتدع عن المظالم. قال: أخبرنى يا عمرو، أيى الخيل أحب إليك عند الشدائد، إذا التقى الأقران إذا التقى الأقران للتجالد؟ قال: الجواد الأنيق، الحصان العنيق، الكفيت العريق، الشديد الوثيق، الذى يفوت إذا هرب، ويلحق إذا طلب. قال نعم الفرس والله نعت! قال: فما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره أحب إلى منه، قال: وما هو؟ قال: الحصان الجواد، السلس القياد؛ الشهم الفؤاد؛ الصبور إذا سرى، السابق إذا جرى. قال: فأى الخيل أبغض إليك يا عمرو؟ قال: الجموح الطموح، النكول الأنوح؛ الصؤول الضعيف، الملول العنيف؛ الذى إن جاريته سبقته، وإن طلبته أدركته، قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره أبغض إلى منه، قال: وما هو؟ قال: البطىء الثقيل، الحرون الكليل؛ الذى إن ضربته فمص، وإن دنوت منه شمس؛ يدركه الطالب، ويفوته الهارب، ويقطع بالصاحب. قال ربيعة: وغيره أبغض إلى منه، قال: وما هو؟ قال: الجموح الخبوط، الركوض الخروط، الشموس الضروط، القطوف فى الصعود والهبوط؛ الذى لا يسلم الصاحب، ولا ينجو من الطالب. قال: أخبرنى يا عمرو، أى العيش ألذ؟ قال: عيش فى كرامة، ونعيم وسلامة، واغتباق مدامة. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال نعم العيش والله وصف! وغيره أحب إلى منه، قال: وما هو؟ قال: عيش فى أمن ونعيم، وعز وغنى عميم؛ فى ظل نجاح، وسلامة مساء وصباح؛ وغيره أحب إلى منه، قال: وما هو؟ قال:

غنى دائم، وعيش شالم، وظل ناعم. قال: فما أحب السيوف إليك يا عمرو؟ قال: الصقيل الحسام، الباتر المجذام، الماضى السطام؛ المرهف الصمصام؛ الذى إذا هززته لم يكب، وإن ضربت به لم ينب. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: نعم السيف نعت! وغيره أحب إلى، قال: وما هو؟ قال: الحسام القاطع، ذو الرونق اللامع، الظمآن الجائع؛ الذى إذا هززته هتك، وإذا ضربت بتك. قال: فما أبغض السيوف إليك يا عمرو؟ قال: الفطار الكهام، الذى إن ضرب به لم يقطع، وإن ذبح به لم يخع. قال: فما تقول يا ربيعة؟ قال: بئس السيف والله ذكر! وغيره أبغض إلى منه، قال: وما هو؟ قال: الطبع الددان، المعضد المهان.قال: فأخبرنى يا عمرو، أى الرماح أحب إليك عند المراس، إذا اعتكر الباس، واشتجر الدعاس؟ قال أحبها إلى المارن المثقف، المقوم المخطف؛ الذى إذا هززته لم ينعطف، وغذا طعنت به لم ينقصف. قال: ما تقول يا ربعية؟ قال: نعم الرمح نعت! وغيره أحب إلى منه، قال: وما هو؟ قال: الذابل العسال، المقوم النسال؛ الماضى إذا هززته، النافذ إذا همزته. قال: فأخبرنى يا عمرو من أبغض الرماح إليك، قال: الأعصل عند الطعان، المثلم السنان؛ الذى إذا هززته انعطف، انعطف، وإذا طعنت به انقصف. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: بئس الرمح ذكر! وغيره أبغض إلى منه، قال: وما هو؟ قال: الضعيف المهز، اليابس الكز؛ الذى إذا أكرهته انحطم، وإذا طعنت به انقصم. قال: انصرفا الآن طاب إلى الموت. دائم، وعيش شالم، وظل ناعم. قال: فما أحب السيوف إليك يا عمرو؟ قال: الصقيل الحسام، الباتر المجذام، الماضى السطام؛ المرهف الصمصام؛ الذى إذا هززته لم يكب، وإن ضربت به لم ينب. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: نعم السيف نعت! وغيره أحب إلى، قال: وما هو؟ قال: الحسام القاطع، ذو الرونق اللامع، الظمآن الجائع؛ الذى إذا هززته هتك، وإذا ضربت بتك. قال: فما أبغض السيوف إليك يا عمرو؟ قال: الفطار الكهام، الذى إن ضرب به لم يقطع، وإن ذبح به لم يخع. قال: فما تقول يا ربيعة؟ قال: بئس السيف والله ذكر! وغيره أبغض إلى منه، قال: وما هو؟ قال: الطبع الددان، المعضد المهان.قال: فأخبرنى يا عمرو، أى الرماح أحب إليك عند المراس، إذا اعتكر الباس، واشتجر الدعاس؟ قال أحبها إلى المارن المثقف، المقوم المخطف؛ الذى إذا هززته لم ينعطف، وغذا طعنت به لم ينقصف. قال: ما تقول يا ربعية؟ قال: نعم الرمح نعت! وغيره أحب إلى منه، قال: وما هو؟ قال: الذابل العسال، المقوم النسال؛ الماضى إذا هززته، النافذ إذا همزته. قال: فأخبرنى يا عمرو من أبغض الرماح إليك، قال: الأعصل عند الطعان، المثلم السنان؛ الذى إذا هززته انعطف، انعطف، وإذا طعنت به انقصف. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: بئس الرمح ذكر! وغيره أبغض إلى منه، قال: وما هو؟ قال: الضعيف المهز، اليابس الكز؛ الذى إذا أكرهته انحطم، وإذا طعنت به انقصم. قال: انصرفا الآن طاب إلى الموت.
قال أبو على: قوله: وإن طلب جشع، الجشع، أسوأ الحرص، وقد جشع الرجل فهو جشع. واللفاء: الملتفة الجسم. والممكورة: المطوية الخلق. والرداح: الثقيلة العجيزة الضخمة الوركين. والرخيمة: اللينة الكلام، قال ذو الرمة:
لها شر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشى لأهراء ولا نزر

والجماء العظام: الى لا يوجد لعظامها حجم، بمنزلة الجماء من البقر. فأما قوله: العذبة اللئام، فإنه أراد موضع اللثام، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامة. والقتاتة: النمامة، وقال اللحيانى: القتات والنمام والهماز واللماز والقساس والدراج والمهينم والمهتمل والمائس والمؤوس، مثال معوس والممأس، مثال ممعس، وقد مأس يمأس مأسا إذا مشى بينهم بالنميمة والفساد، ويقال: ماس بين الناس، ومسأ بينهم يمسأ مسأ مثل معساً، وكله واحد، ويقال: إنه لذو نيربٍ ومثبرة وإبرة إذا كان نماماً، كله عن اللحيانى. والهبوب: الكثيرة الانتباه، قال الأصمعى: يقال: هب من نومه يهب هبوبا، وأهببته أى انبهته. وهبت الريح تهب هبوباً وهبيبا، كذا روى أبو نصر عنه: هبيبا فى الريح، وهب التيس يهب هبابا وهبيبا إذا هاج وطلب السفاد، وهب السيف هبة، وهو صوته عند وفعه. وثوب هبايب وخبايب إذا كان متقطعا. والحصان: الذكر من الخيل. وقال الأصمعى: الكفت والكفيت: السريع. والنكول: الذى ينكل عن قرنه. والأنوح: الكثير الزحير. والآنح من الرجال على مثال فاعل: الذى إذا سئل تنحنح من لؤمه. وقد أنح يأنح. والمجذام مفعال من الجذم، وهو القطع. والسطام: حد السيف وغيره، وفى الحديث: " العرب سطام الناس " أى حدهم. والفطار: الذى لا يقطع وهو مع ذل حديث الطبع. وقوله: لم ينخع: لم يبلغ النخاع. والطبع: الصدأ. والددان: الذى لا يقطع وهو نحو الكهام. والمضعد: القصير الذى يمتهن فى قطع الشجر وغيرها. والدعاس: الطعان، يقال: دعسه إذا طعنه، والمداعسة: المطاعنة. والعسال: الشديد الاضطراب إذا هززته، ومنه العسلان، وهو عدو فيه اضطراب، والنسلان قريب منه، وأنشدنى أبو بكر بن دريد:
عسلان الذئب أمسى قارباً ... برد الليل عليه فنسل
والأعصل: الملتوى المموج. وقرأت على أبى بكر بن دريد للحسين بن مطير الأسدى:
فيا عجبا للناس يستشرفوننى ... كأن لم يروا بعدى محبا ولا قبلى
يقولون لى اصرم يرجع العقل كله ... وصرم حبيب النفس أذهب للعقل
ويا عجبا من حب من هو قاتلى ... كأنى أجازيه المودة من قتلى
ومن بينات الحب أن كان أهلها ... أحب إلى قلبى وعينى من أهلى
قال أبو على: استشرفت الشىء واستكففته كلاهما أن تضع يدك على حاجبك كالذى يستظل من الشمس وينظر هل يراه. وأنشدنا أبو بكر ولم يسم قائلاً:
إن التى زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك ما خلقت هوى لها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأرقها وأجلها
حجبت تحيتا فقلت لصاحبى ... ما كان أكثرها لنا وأقلها
وإذا وجدت لها وساوس سلوةٍ ... شفع الضمير لها إلى فسلها
وقرأت عليه لعبد الله بن الدمينة الحثعمى:
ولما لحقنا بالحمول ودونها ... خميص الحشا توهى القميص عواتقه
قليل قذى العينين يعلم أنه ... هو الموت إن لم تلق عنا بوائقه
عرضنا فسلمنا فسلم كارها ... علينا وتبريح من الغيظ خانقه
فسايرته مقدار ميلٍ وليتنى ... بكرهى له ما دام حياً أرافقه
فلما رأت أن لا وصال وأنه ... مدى الصرم مضروبا عليه سرادقه
رمتنى بطرفٍ لو كميا رمت به ... لبل نجيعاً نحره وبنائقه
ولمح بعينها كأن وميضه ... وميض حيا تهدى لنجدٍ شقائقه
وحدثنى أبو بكر بن الأنبارى قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد البصرى المقدمى قال حدثنا الرياشى قال حدثنا محمد بن عبد الوهاب الثقفى قال: دخلنا على خلف الأحمر نعوده فى مرضه الذى مات فيه فقلنا له: كيف تجدك يا أبا محرز؟ فأنشأ يقول:
يا أيها الليل الطويل ذنبه ... كأن ديناً لك عندى تطلبه
أما لهذا الليل صبح يقربه
ثم أنشد يقول:
لا يبرح المرء يستقرى مضاجعه ... حتى يبيت بأقصاهن مضطجعا
قال أبو على: كان أبو محرز أعلم الناس بالشعر واللغة، وأشعر الناس على مذاهب العرب.
حدثنى أبو بكر بن دريد: أن القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى التى أولها

أقيموا بنى أمى صدور مطيكم ... فإنى إلى قومٍ سواكم لأميل
له، وهى من المقدمات فى الحسن والفصاحة والطول، فكان أقدر الناس على قافية.
حدثنى أبو بكر بن أبى حاتم عن الأصمعى قال: قال يوما خلف لأصحابه: ما تقولون فى بيت النابغة الجعدى:
كأن مقط شراسيفه ... إلى طرف القنب فالمنقب
لو كان موضع فالمنقب فالقهبلس، كيف كان يكون قوله:
لطمن بترسٍ شديد الصف ... اق من خشب الجوز لم يثقب؟
فقالوا: لا نعلم؛ فقال: والآبنس. وقال لهم مرة أخرى: ما تقولون فى بيت النمر بن تولب:
ألم بصحبتى وهم هجود ... خيال طارق من أم حصن
لو كان موضع من أم حصن من أم حفص، كيف كان يكون قوله:
لها ما تشتهى عسل مصفى ... إذا شاءت وحوارى بسمن؟
قالوا: لا نعلم، فقال: وحوارى بلمص، وهو الفالوذ. قال أبو بكر: والقهبلس: ذكر الرجل، وقد يستعار لغيره. وقال محمد بن سلام فى كتاب طبقات العلماء: كنا إذا سمعنا الشعر من أبى محرز لا نبالى ألا نسمعه من قائله. وقرأت على أبى بكر بن دريد لأبى كبير الهذلى:
وأخو الأباءة إذ رأى خلانه ... تلى شفاعاً حوله كالإذخر
الأباءة: الأجمة، يعنى: رجلا صار فى أجمة. وخلانه: أصحابه الذين يودهم. وتلى: صرعى. وشفاعاً: اثنين اثنين: وهو جمع شفع. وقوله: كالإذخر، قال الأصمعى: لا تكاد تجد من الإدخر واحدة على حدة، إنما تجد الأرض مستحلسة منه، والمستحلسة: الكثيرة النبات: التى غطاها النبات أو كاد يغطيها، فشبه كثرة القتلى بالإذخر لذلك.
قال الأصمعى: من أمثالهم: " أهون هالكٍ عجوز فى عام سنةٍ " مثل للشىء يستخف بهلاكه. ويقال: " خله درج الضب " أى خله يذهب حيث شاء. ويقال: " لا يدرى المكروب كيف يأتمر " يراد أن المكروب يغطى عليه الشأن فلا يدرى كيف ينفذ أمره. ويقال: " لا تعجب للعروس عام هدائها " يراد أن الرجل إذا استأنف أمره تجمل لك، ويقال: طناب وقد تقطع الدوية " يراد أن المسن تبقى منه بقية ينتفع بها. وقال أبو زيد: ومثل من الأمثال: " الشر ألجأه إلى مخ العراقيب " يقال ذلك عند مسئلة اللئيم، أعطاك أو منعك.
قال الأصمعى: خلف فلان فهو يخلف خلوفا إذا فسد ولم يفلح، وهو خالف وهى خالفة. ويقال: هو خالفة أهل بيته إذا كان أحمقهم، والخالفة: عمود فى مؤخر البيت. وقال اللحيانى: عبد خالف، أى لا خير فيه. وقال ابن الأعرابى: يقال: أبيعك العبد وأبرأ إليك من خلفته. ورجل ذو خلفة، ورجل خالفة وخالف وخلفنة وخلفناة، وفيه خلفناة. وقال أبو زيد: الخالف: الفاسد الأحمق، وقد خلف يخلف خلافةً. قال: ويقال: جاء فلان خلافى وخلفى وهما واحد. قال: ويقال: اختلف فلان صاحبه فى أهله اختلافا، وذلك أن يباصره حتى إذا غاب عن أهله جاء فجلخ عليهن. وقال الأصمعى: خلف فلان عن خلق أبيه إذا تغير. وخلف فوه يخلف خلوفا إذا تغيرت رائحته، وقال اللحيانى: يقال: نوم الضحى مخلفة للفم. وقال أبو زيد: خلف الشراب واللبن يخلف خلوفا إذا حمض، ثم أطيل إنقاعه ففسد. وقال أبو زيد والأصمعى: خلفت نفسه عن الطعام تخلف خلوفا إذا أضربت عنه من مرض، وقال أبو زيد: لا يقال ذلك إلا من المرض. وقال أبو نصر عن الأصمعى: خلف خلف صدق بإسكان اللام إذا ترك عقباً. ويقال: خذ هذا خلفاً من مالك بتحريك اللام، أى بدلاً منه، وهوخلف من أبيه، أى بدل منه. وقال اللحيانى: الخلف: الولد الصالح. والخلف: الردىء. يقال: بقيت فى خلف سوء، أى فى بقية سوء، قال الله عز وجل: (فخلف من بعدهم خلف) وأنشد للبيد:
ذهب اللذين يعاش فى أكنافهم ... وبقيت فى خلفٍ كجلد الأجرب
والخلف: المربد يكون وراء البيت: وأنشد اللحيانى:
وجينا من الباب المجاف تواتراً ... وإن تقعدا بالخلف فالخلف واسع
وقال الأصمعى واللحيانى: الخلف: الردىء من الكلام المحال. وقال ابن الأعرابى: جلس أعرابى مع قوم فحبق، فتشور فأشار بإبهامه إلى استه وقال: إنها خلف نطقت خلفا.
وحدثنى أبو عمر غلام ثعلب عن أبى العباس: أنه قال فى قولهم: " سكت ألفا ونطق خلفا " : أى سكت عن ألف كلمة ونطق بواحدة رديئة. قال الأصمعى: الخلفة: الاستقاء، يقال: من أين خلفتكم؟ أى من أين تستقون، وأنشد لذى الرمة:

ومستخلفاتٍ من بلاد تنوفةٍ ... لمصفرة الأشداق حمر الحواصل
يعنى القطا يحملن الماء فى حواصلهن. ويقال: نتاج فلان خلفة، أى عام ذكر وعام أنثى. والخلفة: الشىء من الثمر يخرج بعد الشىء، وقال غيره: الخلفة: النبت فى الصيف، والخلفة: الليل والنهار لاختلافهما. والخلفة: اختلاف البهائم وغيرها. ويقال: حلب الناقة خليف لبئها، يعنى: الحلبة التى بعد ذهاب اللبا. وروى الجبل أو فى أصله، وقال اللحيانى: الخليف: الطريق وراء الجبل أو بين الجبلين. وقال اللحيانى: المخلفة: الطريق أيضاً، يقال: عليك المختلفة الوسطى. والخوالف: النساء إذا غاب عنهن أزواجهن، قال الله عز وجل: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف). وقال الأصمعى: حى خلوف، أى غيب. وخلوف: حضور. قال: والإخلاف: أن تعيد على الناقة فلا تلقح. والإخلاف: أن تعد الرجل عدةً فلا تنجزها. والإخلاف: أن تضرب يدك إلى قراب السيف لتأخذه. والإخلاف: أن تجعل الحقب وراء الثيل. والثيل، وعاء مقلمه، وهو قضيبه، يقال: أخلف عن بعيرك.
وحدثنا أبو بكر قال حدثنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن العباس بن هشام قال: سأل معاوية - رحمه الله - بعد الاستقامة، عبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان، وكان عبد الحجر وفد على النبى صلى الله عليه وسلم فسماه: عبد الله، فقال له: كيف علمك بقومك؟ قال: كعلمى بنفسى: قال: ما تقول فى مراد؟ قال: مدركو الأوتار، وحماة الذمار، ومحرز والخطار. قال: فما تقول فى النخع؟ قال: مانعو السرب، ومسعرو الحرب، وكاشفو الكرب. قال: وما تقول فى بنى الحارث ابن كعب؟ قال: فراجو اللكاك، وفرسان العراك، ولزاز الضحاك؛ تراك تراك. قال: فما تقول فى سعد العشيرة؟ قال: مانعة الضيم، وبانو الريم، وشافو الغيم. قال: ما تقول فى جعفى؟ قال: فرسان الصباح، ومعلمو الرماح، ومبادرو الرياح. قال: ما تقول فى بنى زبيد؟ قال: كماة أنجاد، سادات أمجاد، وقر عند الذياد، صبر عند الطراد. قال: ما تقول فى جنب؟ قال: كفاة يمنعون عن الحريم، ويفرجون عن الكظيم. قال: فما تقول فى صداء؟ قال: سمام الأعداء، ومسايعر الهيجاء. قال: فما تقول فى رهاء؟ قال: ينههون عادية الفوارس. ويردون الموت ورد الخوامس، قال: أنت أعلم بقومك.
قال أبو على: كل ما حميته فهو ذمار. والسرب: الإبل وما رعى من المال. واللكاك: الزحام. والضحكاك: مثل اللكاك سواءً. والريم: الدرجة، قال أبو عمرو بن العلاء: أتيت دار قوم باليمن أسأل عن رجل فقال لى رجل منهم: اسمك فى الريم، أى اعل فى الدرجة. والريم: الزيادة، يقال: لى عليك ريم على كذا وكذا، قال الشاعر:
فأقع كما أقعى أبوك على استه ... رأى أن ريما فوقه لا يعادله
والريم: القبر، قال مالك بن الريب المازنى:
إذا مت فاعتادي القبور وسلمى ... على الريم أسقيت السحاب الغواديا
والريم: عظم يفضل إذا اقتسم القوم الجزور، وهذا قول الشيبانى؛ وأنشدنا غيره
فكنت كعظيم الريم لم يدر جازر ... على أى بدأى مقسم اللحم يجعل
والغيم: العطش، وقال لى أبو بكر بن الأنبارى: إن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " نعوذ بالله من الأيمة والغيمة والكرم والقرم " وقال: الأيمة: الخلو من النساء. والعيمة: شهوة اللبن. والغيمة: العطش. وقال: الكرم فيه قولان، يقال: فلان أكرم البنان إذا كان بخيلا، ويقال: إن الكرم الأكل الشديد. والقرم: شهوة اللحم. والأمجاد: الأشراف. وينهنهون: يكفون. والكظيم: المكظوم، وهو الذى قد رد نفسه إلى جوفه. وقرأنا على أبى بكر بن دريد لحكيم بن معية:
إذا علون أربعا بأربع ... فى جعجع موصية بجعجع
أنن نأنان النفوس الوجع
يعنى الإبل علون أربعة أوظفة بأربع أذرع، وكأنه أنت على الكراع. وأ،ن، من الأنين، يعنى: أنهن إذا بركن أنن، ومثله قول كعب بن زهير:
ثنت أربعاً منها على ظهر أربع ... فهن بمثنياتهن ثمان
ومثله قول هيت: تقبل بأرعب وتدبر بثمان، يعنى: أنها تقبل بأربع عكنٍ، فإذا رأيتها من خلف رأيت لكل عكنة طرفين فصارت ثمانية.

وحدثنا أبو بكر قال حدثنا أبو حاتم عن العتبى قال: أقام معاوية - رحمه الله - الخطباء لبيعه يزيد، فقامت المعدية فشققو الكلام. ثم قام رجل من حمير فقال: لسنا إلى رغاء هذه الجمال، عليهم تشقق المقال: وعلينا صدق الصيال؛ أما والله إنا لصبر تحت البوارق، مراقيل فى ظل الخوافق؛ لا نسأم الضراس، ولا نشمئز من المراس؛ وإن واحدنا لألف، وألفنا كهف؛ فمن أبدى لنا صفحته، خططنا علاوته؛ ثم قام رجل من ذى الكلاع فاشار إلى معاوية فقال: هذا أمير المؤمنين، فإن مات فهذا - وأشار إلى يزيد - فمن أبى فهذا - وأشار إلى السيف - ثم قال:
معاوية، الخلفة لا تمارى ... فإن تهلك فسائسنا يزيد
فمن غلب الشقاء عليه جهلا ... تحكم فى مفارقه الحديد
وأنشدنا أبو بكر رحمه الله قال أنشدنا الرياشى للعرجى:
وما أنس ملأ شياء لا أنسى موقفا ... لنا ولها بالسفح دون ثبير
ولا قولها وهنا وقد بل جيبها ... سوابق دمع لا يجف غزير
أأنت الذى خبرت أنك باكر ... غداة غدٍ أو راحل بهجير
فقلت يسير بعض شهرِ أغيبه ... وما بعض يوم غبته بيسير
أحين عصيت العاذلين اليكم ... ونازعت حبلى فى هواك أميرى
وباعدنى فيك الأقارب كلهم ... وباح بما يخفى اللسان ضميرى
وقلت لها قول ارمىء شفه الهوى ... إليها ولو طال الزمان فقير
فما أنا إن شطت بك الدار أو نأت ... بى الدار عنكم فاعلمى بصبور
وقرأت على أبى بكر رحمه الله:
ما أنس ملأ شياء لا أنس قولها ... وأدمعها يذرين حشو المكاحل
تمتع بذا اليوم القصير فإنه ... رهين بأيام الشهور والأطاول
وقرأت على أبى بكر أيضاً:
شيب أيام الفراق مفارق ... وأنشرن نفسى فوق حيث تكون
وقد لان أيام اللوى ثم لم يكد ... من العيش شىء بعدهن يلين
يقولون ما أبلاك والمال غامر ... عليك وضاحى الجلد منك كنين
فقلت لهم لا تعذلونى وانظروا ... إلى النازع المقصور كيف يكون
وحدثنا أبى بكر قال حدثنا الرياشى عن بعض أصحابه قال: أخبرنى رجل قال: أتيت المجنون فجلست إليه فى ظل شجرة فقلت: ما أشعر قيساً! حيث يقول:
يبيت ويضحى كل يوم وليلة ... على منهج تبكى عليه القبائل
قتيل للبنى صدع الحب قلبه ... وفى الحب شغل للمحبين شاغل
فقال أنا أشعر منه حيث أقول:
سلبت عظامى لحمها فتركتها ... معرقةً تضحى لديك وتخصر
وأخليتها من مخها فكأنها ... قوارير فى أجوافها الريح تصفر
إذا سمعت ذكر الفراق تقطعت ... علائقها مما تخاف وتحذر
خذى بيدى ثم انهضى بى تبينى ... بى الضر إلا أننى أتستر
قال أبو على ويروى:
... ... ... ... تقعقعت ... مفاصلها من هول ما تنتظر
ثم مر فأجمز فى الصحراء، فلما كان فى اليوم الثانى أتيته فجلست فى ذلك الموضع، فلما أحسست به قلت: ما أشعر قيسا! حيث يقول:
تبا كرأم تروح غداً رواحا ... ولن يسطيع مرتهن براحا
سقيم لا يصاب له دواء ... أصاب الحب مقتله فباحا
وعذبه الهوى حتى يراه ... كبرى القير بالسفن القداحا
وكاد يذيقه جرع المنايا ... ولو سقاه ذلك لاستراحا
فقال: أنا أشعر منه حيث أقول: قال أبو على: وأنشدنا ابن الأنبارى عن أبيه ولم ينسبه إلى أحد، وفى الروايتين اختلاف وأنا أذكرهما إن شاء الله:
فما وجد مغلوبٍ بصنعاء موثقٍ ... بساقيه من ثقل الحديد كبول
وروى ابن الأنبارى:
فما وجد مسجونٍ بصنعاء عضه ... بساقيه من صنع القيود كبول
قليل الموالى مستهام مروع ... له بعد نومات العشاء عويل
وروى ابن الأنبارى:
ضعيف الموالى مسلم بجريرة ... له بعد نومات العيون عويل

يقول له الحداد أنت معذب ... غداة غدٍ أو مسلم فقتيل
بأعظم منى روعةً يوم راعنى ... فراق حبيبٍ ما إليه سبيل
وروى ابن الأنبارى: بأوجع منى لوعةً:
غداة أسير القصد ثم يردنى ... عن القصد لوعات الهوى فأميل
وروى ابن الأنبارى: غداة أريد القصد، وروى: ملات الهوى فأميل. قم قام هاربا وتركنى، فعدت بعد ذلك مراراً فلم أره، فأخبرت أنه قد مات. وأنشد الأخفش:
أقول لملقتى يوم التقينا ... وقد شرقت مآقيها بماء
خذن اليوم من نظرٍ بحظٍ ... فسوف توكلين إلى البكاء
وأنشدنا أبو بكر قال: أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى لابن أبى مرة المكى:
ساعة ولى شمت العاذل ... أذاك منه الفرج العاجل
لم أنس إذ ودعته والتقى ... ذا البدن الناعم والناحل
كأنما جسمى على جسمه ... غصنان ذا غض وذا ذابل
يا رب ما أطيب ضمى له ... إلى لولا أنه راحل
وأنشدنا أحمد بن يحيى النديم قال أنشدنا أبى قال أنشدنا الجاحظ عمرو بن بحر:
أزف البين المبين ... قطع الشك اليقين
حنت العيس فأبكا ... نى من العيس الحنين
لم أكن لا كنت أدرىأن ذا البين يكون
علمونى كيف أشتا ... ق إذا خف القطين
وحدثنا أبو بكر بن الأنبارى قال حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوى قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال: أتيت الزبير لأودعه وأخرج من المدينة، فقال لى: بلغنى أنك لما أتيت هشام بن إبراهيم لتودعه قال: لا أودعك حتى أغنيك:
وأنا بكيت من الفرا ... ق فهل بكيت كما بكيت
ولطمت خدى خاليا ... ومرسته حتى اشتفيت
وعواذلى ينهيننى ... عمن هويت فما انتهيت
قال الزبير: وأنا لا أوعدك حتى أنشدك:
أزف البين المبين ... وجلا الشك اليقين
لم أكن لا كنت أدرى ... أن ذا البين يكون
علمونى كيف أشتا ... ق إذا خف القطين
وأنشدنا الأخفش قال أنشدنا ابن المدبر للمجنون وقال لى: ما سمعت أغزل من هذين البيتين:
أمزيعة ليلى ببين ولم تمت ... كأنك عما قد أظللك غافل
ستعلم إن شطت به غربة النوى ... وزالوا بليلى أن قلبك زائل
وأنشدنا أبو بكر بن الأنبارى عن أبيه:
نحن غادون من غدٍ لافتراق ... وأرانى أموت قبل يكون
فلئن مت فاسترحت من البي ... ن لقد أحسنت إلى المنون
قال أبو بكر: وأنشدنا أبو الحسن المظفر بن عبد الله:
ما يريد الفراق لا كان مناأشمت الله بالفراق التلاقى
لو وجدنا على الفراق سبيلا ... لأذقنا الفراق طعم الفراق
وأنشدنا أبو بكر بن دريد لأعرابى، وغيره يقول: إنها لحبيب:
لو كان فى البين إذ بانوا لهم دعة ... لكان بينهم من أعظم الضرر
فكيف والبين موصول به تعب ... تكلف البيد فى الإدلاج والبكر
لو أن ما تبتلينى الحادثات به ... يكون بالماء لم يشرب من الكد
كأن أبدى مطاياهم إذا وخدت ... يقعن فى حر وجهى أو على بصرى
وقرأت على أبى بكر بن دريد للحسين بن مطبير الأسدى وفى نوادر ابن الأعرابى، وفى الروايتين زيادة ونقصان وأنا آتى بهما إن شاء الله تعالى:
لقد كنت جلداً قبل أن توقد النوى ... على كبدى نارا بطيئاً خمودها
ولو تركت نار الهوى لتضرمت ... ولكن شوقاً كل يوم يزيدها
وقد كنت أرجو أن تموت صبابتى ... إذا قدمت أيامها وعهودها
فقد جعلت فى حبة القلبة والحشا ... عهاد الهوى تولى بشوق بعيدها
لمرتجة الأطراف هيف خصورها ... عذاب ثناياها عجافٍ قيودها
بسودٍ نواصيها وحمرٍ أكفها ... وصفرٍ تراقيها وبيضٍ خدودها
وروى ابن الأنبارى:
وصفر تراقيها وحمر أكفها ... وسود نواصيها وبيض خدودها

مخصرة الأوساط زانت عقودها ... بأحسن ما زينتها عقودها
يمنيننا حتى ترف قلوبنا ... رفيف الخزامى بات طل يجودها
وفيهن مقلاق الوشاح كأنها ... مهاة بتربان طويل عقودها
يريد: موضع العقود، وهو العنق. قال: قوله:
ولو تركت نار الهوى لتضرمت
أجود، لأنها كانت تضرم وحدها، فكيف إذا زادها غيرها وأوقدها! وقرأت عليه لابن ميادة:
كأن فؤادى فى يدٍ ضبئت به ... محاذرةً أن يقضب الحبل قاضبه
وأشفق من وشك الفراق وإننى ... أظن لمحمول عليه فراكبه
فو الله ما أدرى أيغلبنى الهوى ... إذا جد جد البين أم أنا غابه
فإن أستطيع أغلب وإن يغلب الهوى ... فمثل الذى لاقيت يغلب صاحبه
وأنشدنا أبو بكر بن الأنبارى قال أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى النجوى:
قد قلت والعبرات تس ... فحها على الخد المآقى
حين انحدرت إلى الجزي ... يرة وانقطعت عن العراق
تخبطت أيدى الرفا ... ق مهامه البيد الرقاق
يا بؤس من سل الزما ... ن عليه سيفاً للفراق
وأنشدنا أيضا قال أنشدنا أبو الحسن بن البراء: قال أنشدنى ابن غالب:
ذكر الحبيب حبيبه ففؤاده ... مثل الجناح من الصبابة يخفق
عمرا زمانا يكتمان هواهما ... وكلاهما بادى الهوى متشوق
حتى إذا اجتمعا بأحسن ألفةٍ ... ما منهما فى وده متخلق
كر الزمان عليهما بفراقه ... وكذاك لم يزل الزمان يفرق
وأنشدنا أبو بكر التاريخى قال: أنشدنى البحترى لنفسه:
الله جارك فى انطلاقك ... تلقاء شامك أو عرافك
لا تعذلنى فى مسي ... رك يوم سرت ولم ألاقك
إنى خشيت مواقفاً ... للبني تسفح غرب ماقك
وعلمت ما يلقى المتي ... م عند ضمك واعتناقك
فتركت ذاك تعمدا ... وخرجت أهرب من فراقك
وقرأ أبو غانم الكاتب على أبى عبد الله نفطويه فى المسجد الجامع بالمدينة قبل الصلاة وأنا أسمع لتوبة بن الحمير:
قالت مخافة بيننا وبكت له ... فالبين مبعوث على المتخوف
لو مات شىء من مخافة فرقةٍ ... لأماتنى للبين طول تخوفى
ملأ الهوى قلبى فضقت بحمله ... حتى نطقت به بغير تكلف
وقرأ عليه:
راعك البين والمشوق يراع ... حين قالوا تشتت وانصداع
لست أنسى مقالها يوم ولت ... وقصارى المشيعين الوداع
وقرأ عليه:
بكيت دماً حتى القيامة والحشر ... ولا زلت مغلوب العزيمة والصبر
أتظعن طوع النفس عمن تحبه ... وتبكى كما يبكى المفارق عن صغر
أقم لا تسر والهم عنك بمعزل ... ودمعك باقٍ فى جفونك ما يجرى
وقرأ عليه أيضاً:
أتظعن عن حبيبك ثم تبكى ... عليه فمن دعاك إلى الفراق
كأنك لم تذق للبين طعماً ... فتعلم أنه مر المذاق
أقم وأنعم بطول القرب منه ... ولا تظعن فتكبت باشتياق
فما اعتاض المفارق من حبيب ... ولو يعطى الشآم مع العراق
وقرأ عليه أيضاً:
تطوى المراحل عن حبيبك دائبا ... وتظل تبكيه بدمع ساجم
كذبتك نفسك لست من أهل الهوى ... تشكو الفراق وأنت عين الظالم
ألا أقمت ولو على جرم الغضى ... قلبت أو حد الحسام الصارم
أنشدنى جحظة بعض هذه الأبيات وأنشدناها بتمامها الأخفش على بن سليمان لمسلم بن الوليد:
وإنى وإسماعيل يوم وداعه ... لكالغمد يوم الروع فارقه النصل
أما والحبالات الممرات بيننا ... وسائل أدتا المودة والوصل
لما خنت عهدا من إخاء ولا نأى ... بذكرك نأى عن ضميرى ولا شغل
وإنى فى مالى وأهلى كأننى ... لنأبك لا مال لدى ولا أهل
يذكرنيك الذين والفضل والحجا ... وقيل الخنا والحلم والعلم والجهل

فألقاك عن مذمومها متنزها ... وألقاك فى محمودها ولك الفضل
وأحمد من أخلاقك البخل إنه ... بعرضك لا بالمال حاشا لك البخل
أمنتجعا مرواً بأثقال همةٍ ... دع الثقل واحمل حاجةً ما لها ثقل
ثناءً كعرف الطيب يهدى لأهله ... وليس له إلا نبى خالدٍ أهل
فإن أغش قوماً بعدهم أو أزورهم ... فكالوحش يستدنيه للقنص المحل
وروى جحظة: يدنيه من الأنس المحل. وأنشدنا بعض أصحابنا قال: أنشدنى عمرو بن بحر الجاحظ:
أنا أبكى خوف الفراق لأنى ... بالذى يفعل الفراق عليم
أنا مستيقن بأن مقامى ... ومسير الحبيب لا يستقيم
قال أبو على: وقرأت على أبى بكر بن دريد لجميل:
رحل الخليط جمالهم بسواد ... وحدا على أثر البخيلة حادى
ما إن شعرت ولا سمعت بينهم ... حتى سمعت به الغراب ينادى
لما رأيت البين قلت لصاحبى ... صدعت مصدعة القلوب فؤادى
بانوا وغودر فى الديار متيم ... كلف بذكرك يا بثينة صادى
وقال أبو زيد: من أمثال العرب " تفزع من صوت الغراب وتفترس الأسد المشبم " وهو الذى قد شد فوه، وذلك أن امرأة افترست أسداً وسمعت صوت غراب ففزعت منه، يقال ذلك للذى يخاف اليسير من الأمور وهو جرىء على الجسيم. ويقال: " كالمشترى القاصعاء باليربوع " يقال ذلك للذى يدع العين ويتبع الأثر ويختار مالا ينبغى له. ويقال: " روغى جعار وانظرى ابن المفر " يضرب مثلا للذى يهرب ولا يقدر أن يفلت صاحبه. ويقال: " كلب اعتس خير من كلب ربض " يقال ذلك إذا طلب رجل الخير وقعد آخر فلم يطلب. وقال يعقوب بن السكيت: يقال: قطب يقطب قطوبا وهو قاطب إذا جمع ما بين عينيه، واسم ذلك الموضع المقطب، ومنه قيل: الناس قاطبة، أى الناس جميع، ويقال: قطب شرابه إذا مزجه فجمع بين الماء والشراب. ويقال: عبس يعبس عبوسا، وبسر يبسر بسورا. ويقال: رجل أبسل وباسل، أى كريه المنظر، ويقال: تبسل فى عينيه، أى كرهت مرآته، قال أبو ذؤيب:
فكنت ذنوب البئر لما تبسلت ... وسربلت أكفانى ووسدت ساعدى
قال أبو زيد: يقال: دهيت الرجل أدهاء دهياً، أى عبته واعتبته واغتبته ونقصته، ويقال: نجهت الرجل أنجه نجها، وجبهته أجبهه جبهاً، والاسم الجبيهة والنجه، والمعنى واحد، وهو استقبالك الرجل بما يكره، وهو ردك الرجل عن حاجة طلبها، وأنشد:
حييت عنا أيها الوجه ... ولغيرك البغضاء والنجه
ويقال: ندهت الإبل أندهها ندها، وهو السوق للإبل مجتمعة، والثلاث من الإبل تنده إلى ما بلغت، وإذا سيق البعير وحده فقد يقتاس له من النده، فيقال: بعير مندوه، ويقال: عند فلان ندهة من صامت أو ماشية، وندهة وهى العشرون من الغنم ونحوها، والمائة من الإبل أو قرابتها؛ ومن الصامت الألف أو نحوه.
وحدثنا أبو بكر قال حدثنا أبو حاتم عن أبى عبيدة قال: قال هانىء بن قبيصة الشيبانى لقومه يو ذى قار وهو يحرضهم: يا معشر بكرٍ، هالك معذور، خير من ناجٍ فرور؛ إن الحذر لا ينجى من القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر؛ المنية ولا الدنية؛ استقبال الموت خير من استدباره؛ الطعن فى ثغر النحور، أكرم منه فى الأعجاز والظهور، يا آل بكر، قاتلوا فما للمنايا من بد.
وقرأت على أبى بكر بن دريد لحميد بن ثور الهلالى:
ولقد نظرت إلى أغر مشهرٍ ... بكرٍ توسن بالخميلة عونا
متسنمٍ سنمائتها متفجس ... بالهدر يملأ أنفسا وعيونا
لقح العجاف له لسابع سبعةٍ ... وشربن بعد تحلؤ فروينا

يعنى بأغر: سحابا فيه برق أو هو أبيض. وبكرٍ: لم يمطر قبل ذلك. وتوسن: طرقها ليلا عند الوسن، أى وقت اختلاط النعاس بعيون الناس، يقال: توسنت الرجل، أى أتيته وهو وسنان. والخميلة: رملة كثيرة الشجر. وعون جمع عوان، وهى الأرض التى قد أصابها المطر مرة، وهذا مثل وأصله فى النساء؛ قال الكسائى: العوان: التى قد كان لها زوج، ومنه قيل: حرب عوان. وقوله: متسنم، شبهه بالبعير الذى بتسنم أسنمة الإبل، أى يعلوها. والسنمات: العظام السنام، يريد أن هذا السحاب كأنه تسنم التلال والآكام، أى يعلوها؛ وهو مثل. ومتفجس: متكبر. بالهدر: يعنى رعده. وقوله: يملأ أنفسنا: تعجبا منه، وقال بعضهم: لهولها. ولقحت: نبت عشبها. والعجاف: الأرضون التى لم تمطر، وهو مثل، بعد تحلؤ: بعد منع من الماء.
قال أبو على: وحدثنا أبو بكر قال أخبرنا عبد الرحمن قال سمعت عمى يحدث سران أبا العباس ابن عمه - وكان من أهل العلم - قال: سهرت ليلةً من ليالى بالبادية، وكنت نازلا عند رجل من بنى الصيداء من أهل القصيم، وكان - والله - واسع الرحل، كريم المحل؛ فأصبحت وقد عزمت على الرجوع إلى العراق، فأتيت أبا مثواى فقلت: إنى قد هلعت من الغربة واشتقت أهلى، ولهم أفد فى قمتى هذه إليكم كبير علم، وإنما كنت أغتفر وحشة الغربة وجفاء البادية للفائدة، فأظهر توجعا، ثم أبرز غداءً له فتغديت معه، فأمر بناقة له مهرية كأنها سبيكة لجين فارتحلها وكتفلها؛ ثم ركب وأردفنى وأقبلها مطلع الشمس، فما سرنا كبير مسير حتى لينا شيخ على حمار له جة قد ثمغها كالورس فكأنها قنبيطة، وهو يترنم، فسلم عليه صاحبى وسأله عن نسبه؛ فاعتزى أسدياً من بنى ثعلبة؛ فقال: أتنشد أم تقول؟ فقال: كلا؛ فقال: أين تؤم؟ فأشار إل ما قريب من الموضع الذي نحن فيه؟ فأناح الشيخ وقال لي: خذ بيد عمك فأنزله عن حماره، ففعلت؛ فألقى له كيسا قد كاك اكتفل به، ثم قال: أنشدنا - رحمك الله - وتصدق على هذا الغريب بأبيات يعيهن عنك ويذكر بهن؛ فقال: إى ها الله إذاً! ثم أنشدنى:
لقد طال يا سوداء منك المواعد ... ودون الجدا المأمول منك الفراقد
إذا أنت أعطيت الفنى ثم لم تجد ... بفضل الغنى ألفيت مالك حامد
تمنينا غداً وغيمكم غدا ... ضباب فلا صحو ولا الغيم جائد
وقل غناءً عنك مال جمعته ... إذا صار ميراثا وواراك لأحد
إذا أنت لم تعرك بجنبك بعض ما ... يريب من الأدنى رماك الأباعد
إذا العزم لم يفرج لك الشك لم تزل ... جنيباً كما اسنتلى الجنيبة قائد
تجللت عارا لا يزال يشبه ... سباب الرجال نقرهم والقصائد
وأنشدنى أيضاً:
تعز فإن الصبر بالحر أجمل ... وليس على ريب الزمان معسول
فلو كان يغنى أن يرى المرء جازعاً ... لنازلة أو كان يغنى التذلل
لكان التعزى عند كل مصيبة ... ونازلةٍ بالحر أولى واجمل
فكيف وكل ليس يعدو حمامه ... وما لمرىءٍ عما قضى الله مزحل
فإن تكن الأيام فيا تبدلت ... ببؤسٍ ونعمى والحوادث تفعل
فما لينت منا قناةً صليبةً ... ولا ذللنا للذي ليس يجمل
ولكن رحلناها نفوسا كريمة ... تحمل ما لا يستطاع فتحمل
وقينا بعزم الصبر منا نفوسنا ... فصحت لنا الأعراض والناس هزل
قال أبو بكر قال عبد الرحمن قال عمى: فقمت والله وقد أنسيت أهلي، وهان على طول الغربة وشظف العيش سروراً بما سمعت؛ ثم قال لي: يا بني، من لم تكن استفادة الأدب أحب إليه من الأهل والمال لم ينجب. وأنشدنا أبو بكر قال: أنشدنى أبو عثمان:
إذا ما فقدتم أسود العين كنتم ... كراما وأنتم ما أقام الاثم
أسود العين: جبل، والجبل لا يغيب، يقول: فأنتم لئام أبدا. وقرأت عليه لعدى بن زيد يصف فرسا:
أحال عليه بالقناة غلامنا ... فأذرع به لجلة الشاة راقعا

أذرع به، أي ما أذرعه، أي ما أسرعه؛ وقوله: لخلة الشاة راقعاً، أى يلحقها فيرقع ما بينه وبينها من الفرجة حتى لا يكون بينها فرجة؛ وحكى عن خلف الأحمر أنه اقل: يعدو الفرس بين الشاتين خلة، أى فرجة فيدخل بينهما فكأنه رقع الخلة بنفسه لما سار فيها.
وحدثنا أبكر قال حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال: سئل أعرابى عن مطر فقال: استقل سد مع انتشار الطفل، فشصا واحزال؛ ثم اكفهرت أرجاؤه، واحمومت أرحاؤه؛ وابذعرت فوارقه، وتضاحكت بوارقه، واستطار وادقه؛ وارتتقت جوبه، وارتعن هيدبه؛ وحشكت أخلافه، واستقلت أردافه، وانتشرت أكنافه؛ فالرعد مرتجس، والبرق مختلس، والماء متيجس؛ فأترع الغدر، وانتبث الوجر؛ وخلط الأوعال بالآجال، وقرن الصيران بالرئال؛ فللأودية هدير، وللشراج خرير، وللتلاع زفير؛ وحط النبع والعتم، من القلل الشم، إلى القيعان الصحم؛ فلم يبق فى القلل إلا معصم مجرنثم، أو داحص مجرجم، وذلك من فضل رب العالمين، على عباده المذنبين.
قال أبو علي: السد: السحاب الذي يسد الأفق، وهذا قول أبي بكر؛ وقال أبو نصر عن الأصمعي: جاءنا جراد سد إذا سد الأفق. والطفل: العشي إلى حد المغرب. وشصا: ارتفع، ويقال: شصا برجله إذا رفعها عند الموت، وشصا الزق إذا امتلأ وارتفعت قوائمه. ويقال: شصا بصره يشصو شصواً إذا طمح، وطمح معناه ارتفع، ولهذا قيل للدابة: طموح إذا كان يرفع رأسه حتى يفرط. واحزأل: ارتفع أيضاً. واكفهر واكرهف: تراكم، والمكفهر والمكرهف من السحاب: الذي يركب بعضها بعضا. وأرجاؤه: نواحيه، واحدها رجاً مقصور. واحمومت: اسودت؛ والحمة: سواد تعلوه حمرة. وأرحاؤه واحدها رحاً وهو أوساطه. وابذعرت: تفرقت. والفوارق واحدها الفارق، وهو السحاب الذي ينقطع من معظم السحاب، وهذا مثل وأصله في الإبل، يقال: ناقة فارق، وهي التي تند عن الإبل عند نتاجها؛ قال الكسائي: فرقت تفرق فروقا. واستطار: انتشر. والوادق: الذي يكون فيه الودق، وهو المطر العظيم القطر، ويكون الداني من الأرض، يقال: ودق يدق إذا دنان والوديقة من هذا، وهى شدة الحر، لأن حرارة الشمس تدنة من الأرض. وارتتقت: التأمت. وجوبه: فرجه. وارتعن: استرخى. والهيدب: الذي يتدلى ويدنو من الأرض، مثل هدب القطيفة. وحشكت: امتلأت، قال زهير:
كما استغاث بسىٍ فز غيظلة ... خاف العيون فلم ينظر به الحشك
قال الأصمعي: إنما هو الحشك فحركه للضرورة، كما قال رؤبة:
متشبه الأعلام لماع الخفق
وإنما هو الخفق. والخلف: ما يقبض عليه الحالب من ضرع الشاة والبقرة والناقة. واستقلت: ارتفعت. وأردافه: مآخيره. والأكناف: النواحي. ومرتجس: مصوت؛ والرجس: الصوت. ومختلس، كأنه يختلس البصر لشدة لمعانه. ومنبجس: منفجر. وأترع: ملأ. والغدر: جمع غدير، وانتبث: أخرج نبيئتها، وهو تراب البئر والقبر. يريد أن هذا المطر لشدته هدم الوجز، وهي جمع وجار، وهو سرب الثعلب والضبع، حتى أخرج ما داخلها من التراب. والأوعال: واحدها وعل، وهو التيس الجبلي. والآجال: جمع واحدها إجل، وهو القطيع من البقر. يريد أ،ه لشدته حمل الوعول وهي تسكن الجبال، والبقر وهي تسكن القيعان والرمال، فجمع بينهما. وقوله: وقرن الصيران بالرئال، فالصيران واحدها صوار وصيار أيضاً، وهو القطيع من البقر. والرئال: فراخ النعام، واحدها رأل مهموز، فالرئال تسكن الجلد، والصيران الرمال والقيعان، فقرن بينهما. وهدير: صوت كهدير الإبل. والشارج: مجارى الماء من الحرار إلى السهولة. والتلاع: مجاري ما ارتفع من الأرض إلى بطن الوادي، فإذا اتسعت التلعة حتى تصير مثل نصف الوادي أو ثلثيه، فهي ميثاء، فإذا عظمت فوق ذلك، فهي ميثاء جلواخ، والنبع: شجر يتخذ منه القسى ينبت فى الجبال. والعتم: الزيتون الجبلي، قال الشاعر:
تستن بالضرو من براقش أو ... هيلان أو ناضرٍ من العتم
تستن: تستاك. والضرو: البطم، وهو الحبة الخضراء. والقلل: أعالي الجبال. والشم: المرتفعة. والقيعان: واحدها قاع، وهي الأرض الطيبة الطين الحرة. والصحم: التي تعلوها حمرة واحدها أصحم. والمعصم: الذي قد تمسك بالجبال وامتنع فيها، ويقال للرجل الذي يمسك بعرف فرسه خوف السقوط: معصم؛ قال طفيل:
إذا ما غدا لم يسقط الروع رمحه ... ولم يشهد الهيجا بألوث معصم

وألوث: ضعيف. والمرنثم: المتقبض. والداحص: الذي يفحص برجليه عند الموت؛ قال علقمة بن عبدة:
رغا فوقهم سقب السماء فداحص ... بشكنه لم يستلب وسليب
والمجرجم: المصروع.
وحدثنا أبو بكر قال حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: سمعت أعرابياً من غنى يذكر مطراً صاب بلادهم في غب جدب فقال: تدارك ربك خلقه وقد كلبت الأمحال، وتقاصرت الآمال؛ وعكف الياس، وكظمت الأنفاس؛ واصبح الماشي مصرما، والمترب معدما؛ وجفيت الحلائل، وامتهنت العقائل؛ فأنشأ سحابا ركاما، كنهوراً سجاماً؛ بروقه متألقة، وروعوده متقعقعة؛ فسح ساجيا ركادا، ثلاثا غير ذى فواق؛ ثم أمر ربك الشمال فطحرت ركامه، وفرقت جهمه؛ فانقشع محمودا، وقد أحيا وأغنى، وجاد فأروى؛ والحمد لله الذي لا تكث نعمه، ولا تنفد قسمه؛ ولا يخيب سائله ولا ينزر نائله.
قال أبو علي: قوله: صاب: جاد، والصوب: المطر الجود. وكلبت: اشتدت، وكذلك كلب الشتاء. والأمحال جمع محل، وهو القحط. وعكف: أقام؛ قال الراجز:
محلها إن عكف الشفيف ... الزرب والعنة والكنيف
الشفيف: البرد. والنعة: الحظيرة يحبس فيها الإبل، ومنه قيل للبعير: معنى، وهو الذي قد هاج فحبس فى العنة. ويكون معنى من التعينة وهو الحبس، وهذا هو الوجه، لأنه إذا جعل معنى من العنة وجب أن يكون الأصل معننا، ثم أبدل من النون الأخيرة ياء، كما فعل بتظنيت، واصله تظننت. وكظمت: ردت إلى الأجواف، يقال: كظم غيظه إذا حبسه. والماشي: صاحب الماشية، يقال: مشى الرجل وأمشى إذا كثرت ماشيته؛ قال الشاعر:
وكل فتىً وإن أمشى وأثرى ... ستخلجه عن الدنيا سنون
والمصرم: المارب المال المقل، كذا قال أبو زيد والأصمعى؛ وأنشدنا الأصمعى للمعلوط:
يصد الكرام المصرمون سواءها ... وذو الحق عن أقرانها سيجد
والمترب: الغنى الذى له المال مثل التراب كثرة، يقال: أترب الرجل إذا استغنى، وترب إذا افتقر، كأنه لصق بالتراب. وامتهنت: استخدمت واعتملت، يقال: مهنت القوم امهنهم مهنة ومهنة ومهنا، أتى بها اللحياني ثلاثتها. والعقائل: الكرائم واحدها عقيلة. وأنشأ: أحدث. والنشىء: السحاب أول ما يخرج. والكنهور: قطع كأنها الجبال، واحدتها كنهورة، وسجام، صباب. ومتألقة: لامعة. ومتقعقعة: مصوتة، والقعقعة: صوت السلاح وما أشبهه، ويقال: إن قعيقعان - وهو جبل بمكة - سمى بذلك لتقعقع السلاح لحرب كانت فيه. وسح: صب، سححته أسحه سحاً؛ أنشدنى أبو بكر بن دريد قال أنشدنى عبد الرحمن عن عمه:
وربت غارةٍ أوضعت فيها ... كسح الهاجري جريم تمر
وساجٍ: ساكن، يقال: ليلة ساجية وساكرة وساكنة بمعنى واحد؛ قال الحادي:
يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النساج
وراكد: ثابت. والفواق: أن يصب صبةً ثم يسكن ثم يصب أخرى ثم يسكن، مأخوذ من فواق الناقة، وهو ما بين الحلبتين، كأنه يحلب حلبة ثم يسكن ثم يحلب أخرى ثم يسكن، وطحرت: أذهبت وأبعدت، ومنه قيل: سهم مطحر إذا كان بعيد الذهاب؛ قال أبو كبير الهذلي:
لما رأى أن ليس عنهم مقصر ... قصر الشمال بكل أبيض مطحر
وركامه: ما تراكم منه. والجهام: السحاب الذي قد هراق ماءه. وتكت: تحصي؛ أنشدني أبو بكر بن دريد:
إلا بجيشٍ لا يكت عديده ... سود الجلود من الحديد غضاب
وينزر: يقل، ومنه قيل: امرأة نزور إذا كانت قليلة الولد.
وحدثني غير واحد من أصحاب أبي العباس أحمد بن يحيى النحوى أنه قال: كل شىء يعز حين ينزر إلا العلم، فإن يعز حين يغزر. وقال الأصمعي: من أمثال العرب " أسمع جعجعة ولا أرى طحنا " أي أسمع جلبةً ولا أرى عملاً ينفع.
قال أبو علي: الجعجعة: صوت الرحا وما أشبه ذلك الصوت. والطحن: الدقيق. ويقال: " كلا جانبي هرشي لهن طريق " يضرب مثلا للأمرين يشتبهان ويستويان أي مأخذٍ أخذتهما. ويقال: " حرة تحت قرة " يضرب مثلا للأمر يظهر وتحته أمر خفي غيره.
قال أبو علي: الحرة: حرارة العطش، والقرة: البرد. يقال: " ضغث على إبالة " يضرب مثلا للرجل تكلفه الثقل ثم تزيده على ذلك.
قال أبو علي: الإبالة: الحزمة من الحطب، والضغث: القبضة من الحشيش.

وقال الأصمعي: يقال: " جيء به من حسك وبسك " أي من حيث كان ولم يكن، وروى أبو نصر: من حيث شئت، والمعنى واحد، والحس والحسيس: الصوت، قال الله عز وجل: (لا يسمعون حسيسها) والحس: وجع يأخذ المرأة بعد الولادة. والحس: برد يحرق الكلأ.
ويقال: أصابتنا حاسة، ويقال: البرد محسة للنبت، أي يحرقه، ويقال: ضربه فما قال: حس مكسور، وهي كلمة تقال عند الجزع؛ قال الراجز:
فما أراهم جرعاً بحس ... عطف البلايا المس بعد المس
ويقال: اشتر لي محسةً للدابة. والحساس: سمك صغار يجفف يكون بالبحرين. وقال اللحياني: الحساس: الشؤم والنكد؛ وأنشدنا أبو زيد:
رب شريب لك ذي حساس ... أقعس يمشي مشية النفاس
ليس بريان ولا مواسي
ويقال: انحست أسنانه إذا تكسرت وتحاتت؛ قال العجاج:
في معدن الملك القديم الكرس ... ليس بمقلوع ولا منجس
ويقالك حسستهم إذا قتلتهم، قال الله تعالى: " إذ تحسونهم بإنه " . ويقال: أحسست بالخبر وحسست به وأحست به وحسيت به؛ قال أبو زبيد:
خلا أن العناق من المطايا ... حسين به فهن إليه شوش
ويقال: حسست له أحس، أي رققت له: يقال: إني لأحس له، أي أرق له وأرحمه، قال القطامي:
أخوك الذي لا تملك الحس نفسه ... وترفض عند المحفظات الكتائف
والكتائف جمع كتيفة، وهي ها هنا الحقد. والكتيفة أيضاً: ضبة الحديد، وقال أبو نصر: الكتيفة: بيضة الحديد، ولا أعرف هذه الكلمة عن غيره. يقول: أخوك الذي إذل رآك في شدة لم يملك أن يرق لك، وقال الأصمعي: يقال: إن البكري ليحس للسعدي، أي يرق له. وقرأ على أبي بكر بن دريد:
إنما تجافين عن النسائج ... تجافي البيض عن المدمالج
يعني: إبلا، يوقل: بهن جراح من حزمهن، فهن يتجافين عنها كما تجافي النساء عن دمالجهن إذا بردت عليهن.
وأنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة النحوي المعروف بنفطويه وقرأته على أبي عمر المطرز في أمالي أبي العباس أحمد بن يحيى للحسين بن مطير الأسدي:
مستحضك بلوامع مستعبر ... بمدامع لم تمرها الأقذاء
كثرت لكثرة ودقه أطباؤه ... فإذا تحلب فاضت الأطباء
قله بلا حزنٍ ولا بمسرةٍ ... ضحك يراوح بينه وبكاء
وكأن عارضه حريق يلتقي ... أشب إليه وعرفج وألاء
لو كان من لجج السواحل ماؤه ... لم يبق في لجج السواحل ماء
وأنشدنا أبو بكر بن دريد رحمه الله قال أنشدنا الرياشي عن أبي عبيدة لعبيد بن الأبرص:
يا من لبرقٍ أبيت الليل أرقبه ... في عارض كمضىء الصبح لماح
دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح
كأن ريقه لما علا شطبا ... أقراب أبلق ينفى الخيل رماح
ينزع جلد الحصى أجش مبترك ... كأنه فاحص أو لاعب داحى
فمن بنجوته كمن بمجفله ... والمستكن كمن يمشي بقرواح
كأن فيه عشاراً جلةً شرفا ... شعثاً لهاميم قد همت بإرشاح
هدلاً مشافرها بحا حناجرها ... ترخى مرابعها في صحصح ضاحى
وأنشدنا بعض أصحابنا لكثير:
فالمستكن ومن يمشي بمروته ... سيان فهي ومن بالسهل والجبل
وأنشدنا للحماني:
دمن كأن رياضها ... يكسين أعلام المطارف
وكأنما غدرانها ... فيها عشور في مصاحف
وكأنما أنوارها ... تهتز بالريح العواصف
طرر الوصائف يلتقي ... ن بها إلى طرر الوصائف
باتت سواريها تمخ ... ض في رواعدها القواصف
ثم انبرت سحا كبا ... كيةٍ بأربعة ذوارف
وكأن لمع بروقها ... في الجو أسيفا المثاقف
وأنشدنا أبو بكر لعبيد:
سقى الرباب مجلجل الأ ... كناف لماع بروقه
جن تكفكفه الصبا ... وهنا وتمريه خريقه
مرى العسيف عشاره ... حتى إذا درت عروقه
ودنا يضىء ربابه ... غاباً يضرمه حريقه

حتى إذا ما ذرعه ... بالماء ضاق فما يطيقه
هبت له من خلفه ... ريح شآمية تسوقه
حلت عزاليه الجنو ... ب فثج واهيةً خروقه
وقرأت على أبي بكر لكثير:
تسمع الرعد في المخيلة منها ... مثل هزم القروم في الأشوال
وترى البرق عارضاً مستطيرا ... مرح البلق جلن في الأجلال
أو مصابيح راهبٍ في يفاعٍ ... سغم الزيت ساطعات الذبال
وقرأت عليه لكثير:
أهاجك برق آخر الليل واصب ... تضمنه فرش الجبا فالمسارب
يجر ويستأنى نشاصاً كأنه ... بغيقة حادٍ جلجل الصوت جالب
تألق واحمومى وخيم بالربا ... أحم الذرى ذو هيدب متراكب
إذا حركته الرحي أرزم جانب ... بلا هزقٍ منه وأومض جانب
كما أومضت بالعين ثم تبسمت ... خريع بدا منه جبين وحاجب
يمج الندى لا يذكر السير أهله ... ولا يرجع الماشي به وهو جادب
وأنشدنا بعض أصحابنا لعبد الله بن المعتز:
ومزنة جاد من أجفانها المطر ... فالروض منتظم والقطر منتثر
ترى مواقعه في الأرض لائحة ... مثل الدراهم تبدو ثم تستر
وأنشدني له أيضاً:
ما ترى نعمة السماء على الأر ... ض وشكر الرياض للأمطار
وكأن الربيع يجلو عروساً ... وكأنّا من قطرة في نثار
وأنشدني له أيضاً:
وموقرة بثقل الماء جاءت ... تهادى فوق أعناق الرياح
فجادت ليلها وبلا وسحا ... وهطلاً مثل أفواه الجراح
ولابن المعتز وصف السحاب:
كأن الرباب الجون والفجر ساطع ... دخان حريق لايضيء له جمر
وأنشدني بعض أصحابنا لأبي الغمر الجبلي:
نسجته الجنوب وهو صناع ... فترقى كأنه حبشي
وقرى كل قرية كان يقرة ... هاقرىً لا يجف منه القري
وأنشدنا أبو عبد الله نفطويه قال أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى في صفة سحابة:
كأنه لما وهي سقاؤه ... وانهل من كل غمام ماؤه
حم إذا حمشه قلاؤه
قال أبو علي: الحم: ما بقي من الشحم إذا أذيب. وحمشه: أحرثه. وأنشدنا محمد بن السري السراج:
بدا البرق من أرض الحجاز فشاقني ... وكلّ حجازي له البرق شائق
سرى مثل نبض العرق والليل دونه ... وأعلام أبلى كلها والأسالق
قال أبو علي: أخذه منه الطائي فقال:
إليك سرى بالمدح ركب كأنهم ... على الميس حيّات اللصاب النضانض
تشيم بروقاً من نداك كأنها ... وقد لاح أولاها عروق نوابض
وأنشدني بعض أصحابنا:
أرقت لبرق آخر الليل يلمع ... سرى دائباً منها يهبّ ويهجع
سرى كاقتذاء الطير والليل ضارب ... بأوراقه والصبح قد كاد يسطع
وأنشدني بعض أصحابنا:
أرقت لبرق سرى موهناً ... حفيى كغمزك بالحاجب
كأن تألقه في السما ... يدا حاسب أو يدا كاتب
ولابن المعتز:
رأيت فيها برقها منذ بدت ... كمثل طرف العين أو قلبٍ يحب
ثم حدت بها الصبا حتى بدا ... فيها لي البرق كأمثال الشهب
تحسبه فيها إذا ماانصدعت ... أحشاؤها عنه شجاعاً يضطرب
وتارة تحسبه كأنه ... أبلق مال جلّه إذا وثب
حتى إذا ما رفع اليوم الضحى ... حسبته سلاسلاً من الذهب
ويُنشد أصحاب المعاني:
نار تجدد للعيدان نضرتها ... والنار تلفح عيداناً فتحترق
وللطائي:
يا سهم للبرق الذي استطارا ... ثاب على رغم الدجى نهارا
آض لنا ماء وكان نارا
وأنشدني بعض أصحابنا لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
أما ترى اليوم قد رقت حواشيه ... وقد دعاك إلى اللذات داعيه
وجاد بالقطر حتى خلتُ أن له ... إلفاً نآه فما ينفك يبكيه
مطلب حديث الرواد الذين أرسلتهم مذحج ووصفهم الأرض لقومهم بعد رجوعهم.

وحدثنا أبو بكر رحمه الله قال حدّثنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي عن أبيه عن أشياخ من بني الحارث بن كعب قالوا: أجدبت بلاد مذحج فأرسلوا رواداً من كل بطن رجلاً، فبعثت بنو زبيد رائداً، وبعثت النخع رائداً، وبعثت جعفي رائداً، فلما رجع الرواد قيل لرائد بني زبيد: ما وراءك؟ قال: رأيت أرضاً موشمة البقاع، ناتحة النقاع؛ مستحلسة الغيطان، ضاحكة القريان؛ واعدةً وأحر بوفائها، راضيةً أرضها عن سمائها. وقيل لرائد جعفي: ما وراءك؟ قال: رأيت أرضاً جمعت السماء أقطارها، فأمرعت أصبارها، وديثت أوعارها؛ فبطنانها غمقة، وظهرانها غدقة، ورياضها مستوسقة، ورقاقها رائخ، وواطئها سائخ، وماشيها مسرور، ومصرمها محسور. وقيل للنخعي: ما وراءك؟ فقال: مداحي سيل، وزهاء ليل، وغيلٌ يواصي غيلاً؛ قد ارتوت أجرازها، ودمث عزازها - وقال مرة: ودمث - والتبدت أقوازها؛ فرائدها أنق، وراعيها سنق؛ فلا قضض، ولا رمض؛ عازبها لا يفزع، وواردها لا ينكع؛ فاختاروا مراد النخعي.
قال أبو علي: قال الأصمعي: أوشمت السماء إذا بدا فيها برق، وأوشمت الأرض إذا بدا فيها نبت، وأنشد:
كم من كعاب كالمهاة الموشم
وهي التي قد نبت لها وشم من النبات ترعى فيه، هذا قوله في كتاب الصفات، وقال في كتاب النبات: أوشمت الأرض إذا بدا فيها شيء من النبات. وناتحة: راشحة، كذا قال أبو بكر. وقال: المسحلسة: التي قد جللت الأرض بنباتها، وقال الأضمعي: استحلس النبت إذا غطى الأرض أو كاد يغطيها، والمعنى واحد. والقريان: مجاري الماء إلى الرياض، واحدها قرى، وقرأت على أبي بكر في كتاب الصفات للعجاج:
ماء قري مده قري
وواعده: تعد تمام نباتها وخيرها، وأنشد الأصمعي:
رعى غير مذعور بهنّ وراقه ... لعاع تهاداه الدكادك واعد
وأحر: أخلق. السماء: المطر ها هنا، يريد أن المطر جاد بها فطال النبت فصار المطر كأنه قد جمع أكنافه، وأنشد ابن قتيبة:
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
وقال أبو بكر: يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، أي مواقع الغيث، وأمرعت: أعشبت وطال نباتها، يقال: أمرع المكان ومرع، فهو ممرع ومريع؛ قال الشاعر:
يقيم أمورها ويذب عنها ... ويترك جدبها أبداً مريعاً
والأصبار: نواحي الوادي ما علا منه. وديثت: لينت. والأوعار جمع وعر، وهو الغلظ والخشونة والبطنان جمع بطن، وهو ما غمص من الأرض. وغمقة: ندية، كذا قال أبو بكر، وروى أبو عبيد الأصمعي في صفة الأرضين: فإن أصابها ندىً وثقلٌ ووخامةٌ فهي غمقةٌ، وذكر الحديث: " إن الأردن أرضٌ غمقةٌ وإن الجابية أرضٌ نزهةٌ " أي بعيدة من الوباء. والظهران جمع ظهر، وهو ما ارتفع يسيراً. وغدقة: كثيرة البلل والماء. ومستوسقة: منتظمة. والرقاق: الأرض اللينة من غير رمل. ورائخ: مفرط اللين، يقال: ريخت العجين إذا كثرت ماءه، وراخ العجين يريخ. وقوله: وواطئها سائخ، أي تسوخ رجلاه في الأرض من لينها، تسوخ وتثوخ بمعنى واحد؛ وحدثني أبو بكر قال: قال الأصمعي: لم يكن لأبي ذؤيب بصرٌ بالخيل لقوله:
قصر الصبوح لها فشرج لحمها ... بالني فهي تثوخ فيها الإصبع
قال: وهذا عيب في الفرس أن يكون رخو اللحم. والماشي: صاحب الماشية. والمصرم: المقلّ المقارب المال. ومداحي: مفاعل من دحوته إذا بسطته، قال الله تبارك وتعالى: " والأرض بعد ذلك دحاها " أي بسطها، ودحوت الكرة إذا ضربتها حتى تسير على وجه الأرض. وقوله: وزهاء ليل، فالزهاء: الشخص، وإنما جعل نباتها زهاء ليل لشدة خضرته. والغيل: الماء الجاري على وجه الأرض، وفي الحديث: " ما سقي بالغيل ففيه العشر وما سقي بالدلو فنصف العشر " . ويواصي: يواصل. والأجزار جمع جُزُر، وهي التي لم يصبها المطر، ويقال: التي قد أُكل نباتها. ودُمث: لُيّن، ودمث: لان. والعزاز: الصلب السريع السيل، وكذلك النزل والجلد. والأقواز جمع قوز، قال الأصمعي: القوز: نقي يستدير كالهلال، وجمعه أقواز وقيزان؛ وأنشد الأصمعي قول الراحز:
لما رأى الرمل وقيزان الغضى ... والبقر الملمّعات بالشوى
بكى وقال هل ترون ما أرى

أنق: معجب بالمرعى. وراعيها: الذي يرعاها. والسنق: البشم. القضض: الحصى الصغار، يريد أن النبات قد غطى الأرض فلا ترى هناك قضضاً؛ قال أبو ذؤيب:
أم ما لجنبك لا يلائم مضجعاً ... إلا أقضّ عليك ذاك المضجع
والرمض: أن يحمى الحصى والحجارة من شدة الحر، يقول: فليس هناك رمضٌ لن النبات قد غطى الأرض. والعازب: الذي يعزب بإبله، أي يبعد بها في المرعى. وينكع. يمنع، يقول: الذي يردها لا يُمنع. وقرأنا على أبي بكر بن الأنباري:
مسحوا لحاهم ثم قالوا سالموا ... يا ليتني في القوم إذ مسحوا اللحى
يقول: إنهم اجتمعوا للصلح عند الطمأنينة لمّا أخذوا الدية ورضوا بها فمسحول لحاهم؛ ثم قال بعضهم لبعض: سالموا، وذلك أن الرجل لا يمسح لحيته إلا عند الرضا، فقال: يا ليتني كنت فيهم حتى لا أرضى بما يصنعون.
وأنشدنا ابن الأنباري قال أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي عن ابن الأعرابي:
سقى الله حياً بين صارة والحمى ... حمى فيد صوب المدجنات المواطر
أمين فأدّى الله ركباً اليهم ... بخيرٍ ووقّاهم حِمام المقادر
كأني طريف العين يوم تطالعت ... بنا الرمل سلاّف القلاص الضّوامر
حِذاراً على القلب لا يضيره ... أحاذر وشك البين أم لم يحاذر
أقول لقمقام بن زيد أما ترى ... سنا البرق يبدو للعيون النواظر
فإن تبك للبرق الذي هيّج الهوى ... أعنك وإن تصبر فلست بصابر
وأنشدنا أيضاً قال أنشدنا أبو الحسن بن البراء قال أنشدنا إبراهيم بن سهيل لجميل بن معمر العذري - قال أبو علي: وليست هذه الأبيات في شعر جميل - :
خليليّ هل في نظرة بعد توبة ... أداوي بها قلبي على فجور
إلى رُجح الأكفال هيفٍ خصورها ... عِذاب الثنايا ريقهن طهور
تذكرت من أضحت قرى اللّدّ دونه ... وزهضبٌ لِتيما والهضاب وعور
فظلّت لعينيك اللّوجين عبرة ... يهيجها برخ الهوى فتمور
على أنني بالبرق من نحو أرضها ... إذا قصرت عنه العيون بصير
وغني إذا ما الريح يوماً تنسمت ... شآمية عاد العظام فتور
ألا يا غراب البين لونك شاحب ... وأنت بروعات الفراق جدير
فإن كان حقاً ما تقول فأصبحت ... همومك شتىً والجناح كسير
ودرت بأعداء حبيبك فيهم ... كما قد تراني بالحبيب أدور
وكيف بأعداء كأنّ عيونهم ... إذا حان إتياني بثينة عور
فإني وإن أصبحت بالحب عالماً ... على ما بعيني من قذىً لخبير
قال الأصمعي: من أمثال العرب: " غن البغاث بأرضنا يستنسر " يضرب مثلاً للرجل يكون ضعيفاً ثم يقوى.
قال أبو علي: سمعت هذا المثل في صباي من أبي العباس وفسره لي فقال: يعود الضعيف بأرضنا قوياً؛ ثم سألت عن أصل هذا المثل أبا بكر بن دريد رحمه الله فقال: البغاث ضعاف الطير، والنسر أقوى منها، فيقول: إن الضعيف يصير كالنسر في قوته. ويقال: " لو أجد لشفرة محزاً " أي لو أجد للكلام مساغاً. ويقال: " كأنما قد سيره الآن " يقال للشيخ إذا كان في خلقة الأحداث. ويقال: " يجري بُليقٌ ويُذمّ " يضرب مثلاً للرجل يحسن ويذمّ. ويقال: " حذ ما قطع البطحاء " أي خذ ما استطاع أن يمشي فيخوض الوادي. والبطحاء: بطن الوادي. ويقال: " ما يندى رضفةً " أي لا يخرج منه البلل ما يندى الرضفة. ويقال: " لا يبضّ حجره " أي لا يخرج منه خير، يقال: بضّ الماء إذا خرج قليلاً قليلاً. والبضوض من الآبار: التي يخرج ماؤها قليلاً قليلاً، وكذلك البروض والرشوح والمكول، والعرب تقول: قد اجتمعت في بئرك مكلةٌ فحذها؛ أي ماء قليل.
" مطلب الكلام على مادة ع ق ب " قال الأصمعي: عقب الخوق، وهي حلقة القرط، وهو أن يشدّ بالعقب إذا خشوا أن يزيغ؛ وأنشد:
كأن خوق قرطها المعقوب ... على دباةٍ أو على يعسوب

وعقبت القدح بالعقب، مثله. وقال أبو نصر عن الأصمعي: عقّب قدحه يعقّبهتعقيباً إذا شدّ عليع عقباً. وقال اللحياني: عقب قدحه يعقبه عقباً إذا انكسر فشدّه بعقب، وكذلك كل ما تكسّر فشدّ. وقال أبو نصر عن الأصمعي: عقب يعقب عقباً، وهو ماءٌ يجيء بعد ماء، أو جرىيٌ بعد جري ويقال: لهذا الفرس عقبٌ. وحدثني أبي العباس قالوا قال أبو العباس أحمد بن يحيى قال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير في قول سلامة بن جندل:
ولّى الشباب وهذا الشّيب يطلبه ... لو كان يدركه ركض اليعاقيب
قال: اليعاقيب: ذوات العقب من الخيل. وقال الليحاني: فرسٌ ذو عقب إذا كان له عدوٌ بعد عدو. وقال أبو النصر عن الأصمعي: عاقب يعاقب معاقبة إذا راوح، يقال: عاقب بين رجليه، وعاقب زميله، ويقال: متى عقبتك؛ قال ذو الرمة:
ألهاه آء وتنّوم وعقبته ... من لائح المرو والمرعى له عقب
وقوله: وعقبته، يقول: يرعى في هذا مرةً وفي هذا مرةً. وقال الليحاني: أعقبت فلاناً من الركوب إذا نزلت ركب، ويقال: عاقبته في هذا المعنى إذا ركبت عقبةً وحملته عقبة. وقال أبو عبيد - رحمه الله - عن الأصمعي: أعقبت الرجل إذا ركبت عقبة وركب عقبة، وقال: قال غير واحد: عاقبت الرجل من العقبة. قال: وقال الأصمعي: ويقال: أكل أكلةً أعقبته سقماً، والعقب: الولد يبقى بعد الإنسان، وعقب القدم: مؤخرها، وفرس ذو عقب، قال: ومن العرب من يجزم القاف في هذه الثلاث. وقال أبو زيد: جئت على عقب رمضان وفي عقبه إذا جئت وقد مضى الشهر كلّه، وجئت على عقب رمضان وفي عقبه إذا جئت وقد بقيت أيامٌ من آخره. وقال أبو نصر عن الأصمعيّ: عقّب يعقّب تعقيباً إذا ما غزا ثم ثنّى من سنته. قال طُفيل الغنويّ:
عناجيج من آل الوجيه ولاحق ... مغاوير فيها للأريب معقّب
وأعقب يعقب إعقاباً إذا ترك عقباً؛ قال طفيل:
كريمة حرّ الوجه لم تدع هالكاً ... من القوم هلكاً في غد غير معقب
قال أبو بكر: وروى أبي عن أحمد بن عبيد عن أبي نصر، وروى أبو العباس ثعلب عن أبي نصر: غير معقب، يقول: لم تقل: وافلاناه قطّ إلا وقد بقي من يقوم مكانه، قال أبو عبيد عن الأصمعيّ: عقبت الرجل في أهله إذا بغيته بشر وخلفته، وعقبت الرجل: ضربت عَقِبه وعَقْبه جميعاً، وقال أبو نصر عن الأصمعيّ: العقاب: الراية. يقال للحجر النادر في طيّ البئر: العُقاب أيضاً. والعقبة: ما بقي في القدر من المرق، وجمعها عقبٌ، قال دريد بن الصّمّة:
إذا عقب القدور عددن مالا ... يحبّ حلائل الأبرام عرسى
وقال اللحياني: يقال لما التصق في أسفل القدر من محترق التابل وغيره: عقبة. وقال أبو نصر عن الأصمعي: العقب: العاقبة، قال الله تعالى: " وخيرٌ عقباً " ويقال: احذر عقوبة الله وعقابه. وعقبه. وعقبة الجمال: أثره وهيئته. وقال اللحياني: عليه عقبة السر والكرم إذا كان عليه سيماً ذلك. قال: عقبة القمر: عودته؛ وأنشد:
لا يطعم الغسل والأدهان لمّته ... ولا الذريرة إلا عقبة القمر
وحدثني أبو عمر المطرز وعبد الله الورذاق قالا حدّثنا أبو عمرو بن الطوسي أن أباه قال: سمعنا عقبة القمر بالضم. ويقال: العقبى لك في الخير، والعقبى إلى الله، أي المرجع إلى الله، وحكى الكسائيّ: وهو خيرٌ لك في العقبى والعقبان، أي في العاقبة. ويقال: اعقب الرجل يعقب إعقاباً إذا رجع إلى خير، وعقب الشيب بعد السواد يعقب عقوباً إذا جاء بعده. ويقال فيه أيضاً: عقّب يعقّب تعقيباً إذا جاء بعده فحلفه، وكذلك كل شيء خلف شيئاً فقد عقبه وعقّبه. ويقال: عقبت الإبل إذا تحولت من مكان إلى مكان ترعى فيه. ويقال: أعقبته خيراً وشراً بما صنع، ويقال: عاقبته بذنبه عقاباً شديداً. ويقال: عقب فلان يعقب عقباً إذا طلب مالاً أو شيئاً، وأعقب هذا هذا إذا ذهب الأول فلم يبق منه شيء وصار الآخر مكانه. ويقال: عقب هذا هذا إذا جاء وقد بقي من الأول شيء ويقال: جئت على عقب ذلك بالتثقيل، وعقب ذلك بالتخفيف، وعلى عقب ذلك بالتثقيل، وعقب ذلك بالنخفيف، وعقبان ذلك. قال: والعاقبة: الولد.
أنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال أنشدني ابن الأعرابيّ:
أيا والي سجن اليمامة أشرفا ... بي القصر أنظر نظرةً هل أرى نجدا

فقال اليماميّان لما تبيّنا ... سوابق دمع ما ملكت لها ردّا
أمن أجل أعرابية ذات بردة ... تُبكّى نجد وتبلى وجدا
لعمري لأعرابية في عباءة ... تحل دماثاً من سويقة أوفراداً
أحبّ على القلب الذي لجّ في الهوؤ ... من اللابسات الريط يظهرنه كيدا
وقرأت على أبي بكر بن دريد لمعدان بن مضرّب الكندي:
إن كان ما بُلّغت عني فلامنى ... صديقي وشلّت من يدي الأنامل
وكفّنت وحدي منذراً قي ردائه ... وصادف حوطاً من أعاديّ قاتل
وأنشدني الرياشي لأعرابيّ:
وفي الجيرة الغادين من بطن وجرةٍ ... غزالٌ أحمّ المقلتين ربيب
فلا تحسبي أنّ الغريب الذي نأى ... ولكّن من تنأين عنه غريب
وقرأت عليه لأعرابيّ:
هجرتك أيّماً بذي الغمر إنّني ... على هجر أيّامٍ بذي الغمر نادم
وإنّي وذاك الهجر لو تعلمينه ... كعازبةٍ عن طفلها وهي دائم
الرائم: التي ترأم ولدها.
وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال أنشدنا عبد الله بن خلف لقيس بن ذريح:
هبيني أمراً إن تحسني فهو شاكرٌ ... لذاك وإن لم تحسني فهو صافح
وإن يك أقوامٌ أساؤوا وأهجروا ... فإنّ الذي بيني وبينك صالح
ومهما يكن فالقلب يا لبن ناشرٌ ... عليك الهوى والحبيب ما عشت ناصح
وإنّك من لبنى العشية رائحٌ ... مريض الذي تطوى عليه الجوانح
" مطلب حديث الجواري الخمس اللاتي وصفن خيل آبائهن " وحدثنا أبو بكر رحمه الله قال حدّثني عمي عن أبيه ابن الكلبيّ عن أبيه قال: اجتمع خمس جوارً من العرب فقلن: هلممن نصف خيل آبائنا. فقالت الأولى: فرس أبي وردة، وما وردة! ذات كفل مزحلق، ومتن أخلق، وجوف أخوق؛ ونفسٍ مروح، وعين طروح، ورجل ضروح، ويد سبوح، بداهتها إهذاب، وعقبها غلاب. وقالت الثانية: وفرس أبي اللّعّاب، وما اللّعّاب! غبية سحاب، واضطرام غاب؛ مترص الأوصال، أشم القذال، ملاحك المحال، فارسه مجيد، وصيده عتيد، إن أقبل قطبي معّاج، وإن أدبر فظليم هدّاج، وإن أحضر فعلجٌ هرّاج، وقالت الثالثة: فرس أبي حذمة، وما حذمة! إن أقبلت مقوّمة، وإن أدبرت فأثفية ململمة، وإن أعرضت فذئبة معجرمة، أرساغها مترصة، وفصوصها ممعّصة، جريها انثرار، وتقريبها انكدار. وقالت الرابعة، فرس أبي خيفق، وما خيفق! ذات ناهقٍ معرق، وشدقٍ أشدق، وأديم مملّق؛ لها خلقٌ أشدف، ودسيع منفنف، وتليلٌ مسيّف؛ وثّابة زلوج، خيفانة رهوج، تقريبها إهماج، وخصرها ارتعاج. وقالت الخامسة: فرس أبي هذلول، وما هذلول! طريدة محبول، وطالبه مشكول؛ رقيق الملاغم، أمين المعاقم؛ عبل المحزم، مخدّ مرجم؛ منيف الحارك، أشمّ السنابك؛ مجدول الخصائل، سبط الفلائل؛ غوج التليل، صلصال الصهيل؛ أديمه صاف، وسبيبه ضاف، وعفوه كاف.

قال أبو علي: المزحلق: المملّس الذي كأنه زحلوقة، وهي آثار لجّ الصبيان من فوق إلى أسفل. والأخلق: الأملس، ومنه قيل: صخرة خلقاء. وأخوق: وساع؛ وقال أبو عبيدة عن أبي عمرو: الخوقاء: الصحراء التي لا ماء بها، ويقال: الواسعة. ومروح: كثيرة المرح. وطروح: بعيدة موقع النظر. وضروح: دفوع، يريد أنها تضرح الحجارة برجليها إذا عدت. وسبوح: كأنها تسبح في عدوها من سرعتها. وبداعتها: فجاءتها، والبُداهة والبديهة واحد. والإهداب: السرعة، يقال: أهذب الفرس إهذاباً فهو مهذب. والعقب: جريٌ بعد جريٌ. وغلاب، مصدر غالبته مغالبة وغلابا، كأنها تغالب الجري. والغبية: الدفعة من المطر. والغاب جمع غابة، وهي الأجمة. ومترص: محكم ، أترصت الشيء: أحكمته. وأشمّ: مرتفع. والقذال: معقد العذار. وملاحك: مداخل، كأنه دوخل بعضه في بعض. والمحال جمع محالة، وهي فقار الظهر، وواحدة الفقار فقارة. وحدثني أبو بكر قال: ذكر الأصمعيّ أنه رأى فقار فرسٍ ميّت فإذا ثلاث فقر من عظم واحد، وكذا تكون العراب فيما ذكروا. ومجيد: صاحب جواد. وعتيد: حاضر. قال أبو عبيدة: معج الفرس إذا اعتمد على إحدى عضادتي العنان مرة في الشق الأيمن ومرة في الشق الأيسر، وقال الأصمعيّ: يقال: معج في سيره وعمج إذا أسرع. وهدّاج: فعّال من الهدج، وقال الأصمعيّ: الهدج: المشي الرّويد، ويكون السريع.
قال أبو علي: وقال لي أبو بكر: الهدج والهدجان: مشي الشيخ إذا أسرع عن غير إرادة، قال وحدثنا أبو حاتم قال: نهض أبو العباس سرّان ابن عم الأصمعيّ من عنده يوماً فأتبعه بصره فقال: هدج أبو العباس هدج، ثم أنشدنا:
ويأخذه الهُداج إذا هداه ... وليد الحيّ في يده الرداء
وأنشدني أبو بكر:
وهدجاناً لم يكن من مشيتي ... كهدجان الرّأل خلف الهيقت
قال أبو نصر: هرج الفرس يهرج إذا كان كثير الجري، وإنه لمهرج وهرّاج؛ قال أوس:
فأعقب خيراً كلّ من أهوج مهرج ... وكلّمفدّاة العلالة صلدم
أهوج: يعني فرساً، أي أعقب خيراً مما أقاموا عليه وصنعوه. والأهوج: الذي يركب رأسه فيمضي. ومفدّاة العلانة، والعلالة: الجري الذي بعد الجري الأول، فيقال لها إذا طلبت علالتها ويهّا فدّا لك. والصلدم: الشديدة؛ قال الراجز:
من كلّ هرّاج نبيل محزمة
والعلج: الحمار الغليظ. وحذمة فعلة من الحذم، قال أبو بكر: الحذم: السرعة، وقال غيره: الحذم: القطع، ومنه قول عمر - رحمه الله - في الأذان: فإذا أقمت فاحذم. وقولها: فقناةٌ مقوّمة، تريد أنها دقيقة المقدّم، وهو مدح في الإناث. والأثفيّة. واحدة الأثافي. وململمة: مجتمعة، تريد أنها مدورة المؤخر، لأن الأثافي تختار مدّورة. وقولها: معجرمة، قال أبو بكر: العجرمة: وثبٌ كوثب الطبي، ولا أعرف من غيره في هذا الحرف تفسيراً. وممحّصة: قليلة اللحم قليلة الشّعر، ومحص الجلد إذا سقط شعره واملاّس. وانثرار، قال أبو بكر: انصباب، كأنه يثرّه ثرّاً. وخيفق فيعل، من الخفق وهو السرعة، وقال أبو بكر: والخفق أيضاً: اضطراب السّراب في الهاجرة.

قال أبو علي: ويقال: خفق النجم إذا غاب، وخفق الرجل إذا اضرب رأسه من شدة النعاس. والناهقان: العظمان الشاخصان في خديّ الفرس. ومعرق: قليل اللحم. وقال أبو عبيدة: النواهق من الحمار: مخرج نهاقه. وأشدق: واسع الشّدق. ومملّق: مملّس، وحدّثت عن أبي العباس أحمد بن يحيى أنه قال: الملقات: الحبال الملس. والشّف: الشخص، والأشدف: العظيم الشخص. والدّسيع: مركّب العنق في الحارك. ومنفنف: وساع، وهو مفعلل من النفنف، وهو الهواء بين السماء والأرض. والّليل: العنق. ومسيّف، كأنه سيف. وزلوج: سريعة، قال الأصمعيّ: الزّليج والزّلجان: السرعة. والخيفانة: الجرادة التي فيها نقط سود تخالف سائر لونها، وإنما قيل للفرس: خيفانة لسرعتها، لأنّ الجرادة إذا ظهر فيها تلك النّقط كان أسرع لطيرانها. ورهوج: كثيرة الرّهج، والرّهج: الغبار. وإهماج: مبالغة في العدو، وقال الأصمعيّ: أهمجّ الفرس. إهماجاً إذا اجتهد في عدوه. والارتعاج: كثرة البرق وتتابعه. ومحبول: في حبالة. ومشكول: موثق في شكال. والملاغم: أرادت ها هنا الجحافل، وإنما الملاغم من الإنسان ما حول الفم، ومنه قيل: تلغّمت بالطّيب إذا جعلته هناك. والمعاقم: المفاصل. وعبل: غليظ. والمحزم: موضع الحزام. ومخدّ: يخدّ الأرض أي يجعل فيها أخاديد، والأخاديد: الشّقوق، واحدها أخدود. ومرجم: يرجم الحجر بالحجر؛ كما قال رؤبة يصف الحمار:
يرمي الجلاميد بجلمود مدقّ
وقد يكون أن ترجم الأرض بحوافرها، والتفسير الأوّل أحب إليّ. ومنيف: مرتفع. والحارك: منسج الفرس. والسّنابك: أطراف الحوافر، واحدها سنبك. ومجدول: مفتول. والسّبيب: شعر الناصية. وضافٍ: سابغٌ. والفليل: الشعر المجتمع، وحدّثني أبو بكر بن الأنباري قال حدّثني أبي عن أحمد بن عبيد قال: يقال للقطعة من الشعر: الفليلة، وللقطعة من الصوف: العميتة. والغوج: اللّين المعطف. والصّلصلة: صوت الحديد، وكلّ صوت حادّ.
وأنشدنا أبو بكر قال: أنشدنا أبو حاتم عن الأصمعيّ للصّمّة بن عبد الله القشيريّ:
حنت إلى رّا ونفسك باعدت ... مزارك من ريّا وشعباكما معاَ
فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً ... وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا
قفا ودّعا نجدّاً ومن حلّ بالحمى ... وقلّ لنجد عندنا أن يودّعا
ولما رأيت البشر دوننا ... وجالت بنات الشوق يحننّ نزّعا
بكت عيني اليسرى فلّما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معاً
تلفّت نحو الحيّ وجدتني ... وجعت من الإعاء ليتاً وأخدعا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن يتصدّعا
وليست عشيّات الحمى برواجع ... إليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
قال وأنشدني الرياشيّ:
فإن كنتم ترجون أن يذهب الهوى ... يقيناً ونروي بالشراب فننقعا
فردّوا هبوب الريح وغيّروا الجوى ... إذا حلّ ألواذ الحشا فيمنّعا
وأنشد نفطويه:
أحنّ إلى نجدٍ وإني ليائس ... طوال الليالي من رجوع إلى نجد
فإنك لا ليلٌ ولا نجد فاعترف ... بهجر إلى يوم القيامة والوعد
وأنشدني أيضاً نفطويه:
يا ليت شعري عن الحي الذين غدوا ... هل بعد فرقتهم للِشمل مجتمع
وكل ما كنت أخشى قد فجعت به ... فليس لي بعدهم من حادث جزع
قال وأنشدنا أحمد بن يحيى النحوي:
ألا أيها البيتان بالأجرع الذي ... بأسفل مفضاه غضا وكثيب
هجرتكما هجر البغض وفيكما ... من الناس إنسان إلى حبيب
وأنشدنا أبو بكر قال أنشدنا الرياشي لرجل طلق امرأتين من أهل الحمى:
ألا تسألان الله أن يسقى الحمى ... بلى فسقى الله الحمى والمطالبا
وأسأل من لاقيت هل سقى الحمى ... وهل يسألن عنّي الحمى كيف حاليا
وإني لأستسقي لثنتين بالحمى ... ولو تملكان البحر ما سقتانيا
وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد:
لا تعذلينا في الزيارة إنّنا ... وإيّاك كالظمآن والماء بارد

يراه قريباً دانياً غير أنه ... تحول المنايا دونه والرّواصد
وقال الأصمعيّ: من أمثال العرب " ذكّرني الطّعن وكنت ناسياً " يضرب مثلاً للرجل يسمع الكلمة فيتذكر بها شيئاً. قال: ويقال: " الحسن أحمر " أي من أراد الحسن صبر على أشياء يكرهها. وقال أبو زيد: يقال: " من حفّنا لأأو رفّنا فليتّرك " زعموا أن امرأة كان قومٌ يعطونها، فوجدت نعامة قد غصّت بصعرور، فعمدت إلى ثوب فغطّت به رأسها؛ ثم أتت القوم الذين كانوا يصلونها فقالت لهم هذا الكلام، أي إني قد استغنيت عما كنتم تصلونني به. والصّعرور: صمغ السّمر، ولا يسمّى صعروراً حتى يلتوي. وقال الأصمعيّ: من أمثالهم: " يداك أو كتاوفوك نفخ " يقال للرجل إذا فعل فعلة أخطأ فيها، يراد بذلك أنك من قبلك أتيت؛ وزعموا: أن أصل ذلك أن رجلاً قطع بحراً يزقّ فانفتح، فقيل له ذلك.
" مطلب شرح مادّة خ ل ل " وقال أبو النصر عن الأصمعيّ: يقال: فلان كريم الخلّة والخلّ والمخالّة، أي كريم الإخاء والمصادقة، وزاد اللحياني: والخلالة والخلال، وأنشد للنابغة:
وكيف تصادق من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب
وغيره يروي: وكيف تواصل. وقال أبو عبيد: الخلّة: الصّداقة ومنه الخليل. وقال أبو نصر عن الأصمعيّ واللحياني: فلان خلّتي وفلانه خلّتي، الذكر والأنثى فيها سواء. وقال أبو بكر بن الأنباري في كتاب أبي عن أحمد بن عبيد عن أبي نصر: وخلّي؛ وأنشد أبو نصر واللحاني لأوفى بن مطر:
ألا أبلغا خلّتي جابراً ... بأنّ خليلك لم يقتل
وأنشد اللحياني قال: أنشدنا أبو الدينار:
شبعت من نومٍ وزاحت علّتي ... وطرقتني في المنام خلّتي
وما علمت أنها ألّمت ... حتّى قضت حاجتها وولّت
قال اللحياني: زاحت: ذهبت، قال: وقال أبو الدينار: أشدّ الزّيحان، قال: وحكى الكسائيّ: أشدّ الزّيوح بضم الزاي. قال: ويقال: خاللته مخالّة وخلالاً؛ قال أبو عبيد: ومنه قول امرىء القيس:
ولست بمقليّ الخلال ولا قالي
وقال أبو نصر: المختلّ الجسم: النحيف الجسم. وقال اللحياني: يقال للمهزول القليل اللحم: إنه لخلّ الجسم وخليل الجسم ومختلّ الجسم. وقال أبو عبيد عن الأصمعيّ: الخلّ: القليل اللحم، قال: وقال الكسائيّ مثله، وزاد: خلّ لحمه خلاّ وخلولاً. وقال أبو نصر: يقال: ما أخلّك إلى هذا أي ما أحوجك إليه. والخلّة: الحاجة، ويقال للرجل إذا مات: اللهم اخلف على أهله بخيرٍ واسدد خلّته، يريد الفرجة؛ قال أوس بن حجر:
لهلك فضالة لا تستوي ال ... فقود ولا خلّة الذاهب
يريد الفرجة التي ترك والثّلمة؛ يقول: كان سيّداً فلما مات بقيت ثلمته. وقال اللحياني: الزق بالأخلّ فالأخلّ أي بالأفقر فالأفقر. والعرب تقول: الخلّة تدعو إلى السّلّة. قال أبو علي قال أبو بكر ابن دريد: والسّلّة: السّرقة. ويقال: فلان مختلّ الحال. وقال أبو نصر وأبو عبيد عن الأصمعيّ: الخليل: الفقير المحتاج؛ قال زهير:
وإن أتاه خليلٌ يوم مسئلةٍ ... يقول لا غائبٌ مالي ولا حرم
وقال أبو نصر: يقال: فلان خلّة حسنة، أي خصلة. وقال اللحياني: يقال: إن شراب بني فلان ليست بخمطة ولا خلّة، أي ليست بحامضة؛ قال: وجمع خلّة خلّ. والخمطة: التي أخذت شيئاً من الريح كريح النّبق والتّفّاح. ويقال: خللّ الشراب إذا صار خلاًّ، وكذلك كل شيء من الأشربة حمض فقد خللّ. وقال الأصمعيّ: الخلّة: ما حلا من النّبت. والعرب تقول: الخلّة: خبز الإبل، والحمض: لحمها أو فاكتها. ويقال: جاءت إبل بني فلان مختلّة أي قد أكلت الخلّة، وجاؤوا مخلّين إذا جاؤوا وقد أكلت إبلهم الخلّة؛ قال العجاج:
جاؤوا مخلّين فلاقوا حمضاً
قال أبو علي: وقال أبو بكر بن ديريد: هذا البيت يضرب مثلاً لكل من أتى متهدداً فصادف ما يقمع تهدّده. قال: والعرب تقول: أنت مختلّ فتحمّض. وقال اللحياني: يقال: قد عمّ فلان وخلّ وخللّ، والمخللّ: الذي يخصّ؛ وأنشد:
قد عمّ في دعائه وخلاّ ... وخطّ كاتباه واستملاّ
وأنشد أيضاً:
عهدت بها الحيّ الجميع فأصبحوا ... أتوا داعياً لله عمّ وخلّلا

وقال أبو نصر وأبو عبيدة واللحياني عن الأصمعيّ: خلّ كساءه وثوبه يخلّه خلاً إذا شكّه بالخلال. وقال اللحياني: يقال: طعنته فاختللت فؤاده؛ وأنشد:
نبذ الجؤار وضلّ هدية روقه ... لمّا اختللن فؤاده بالمطرد
وقال أبو نصر: أخلّ بموعده إذا لم يوف به. وقال اللحياني: الخلّة: جفن السيف، وجمعها خلل. قال: ويقال: وجدت في فمي خلّةً فتخلّلت، وهو ما يبقى بين الأسنان من الطعام، والجمع خلل، ويقال: أكل خلالته. وقال أبو نصر: الخلّة والخلالة واحد، وهو ما يبقى بين الأسنان من الطعام، والجمع خلل. وقال اللحياني: خلّل بين أصابعه بالماء وخلّل لحيته إذا توضّأ. ويقال: خلّ الفصيل يخلّه خلاً إذا جعل في أنفه عوداً لئلا يرضع. والخلّ: الطريق في الرّمل، والخلّ والخمر: الخير والشر، يقال: ما فلان بخلٍّ ولا خمر، أي ليس عنده خير ولا شر؛ قال النمر بن تولب:
هلا سألت بعادياء وبيته ... والخلّ والخمر التي تمنع
" مطلب حكم ومواعظ من كلام الحكماء " وحدّثنا أبو بكر بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: قال معاوية: الفرصة خلسة، والحياء يمنع الرزق، والهيبة مقرون بها الخيبة، والكلمة من الحكمة ضالّة المؤمن.
وحدّثنا قال أنبأنا عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت أعرابياً من بني مرّة يعظ ابناً له وقد أفسد ماله في الشراب فقال: لا الدّهر يعظك، ولا الأيام تنذرك، والساعات تعدّ عليك، والأنفاس تعدّ منك؛ أحبّ أمريك إليك، أردّهما بالمضرّة عليك. قال: وأخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت أعرابياً يقول لأخٍ له: اعلم أن الناصح لك المشفق عليك من طالع لك ما وراء العواقب برويّته ونظره، ومثّل لك الأحوال المخوفة عليك، وخلط الوعر بالسّهل من كلامه ومشورته، ليكون خوفك كفاء رجائك، وشكرك إزاء النعمة عليك؛ وأن الغاشّ لك والحاطب عليك من مدّلك في الاغترار، ووطّأ لك مهاد الظلم، تابعاً لمرضاتك، منقاداً لهواك.
وحدّثنا أبو بكر بن الأنباري رحمه الله قال حدّثنا أحمد بن يحيى النحويّ قال حدّثنا عبد الله ابن شبيب قال: قال شبيب بن شبّة لخالد بن صفوان: من أحبّ إخوانك إليك؟ قال: من سدّ خللي، وغفر زللي، وقبل عللي.
وحدّثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدّثنا أبو عيسى الختّلي قال حدّثنا أبو يعلى الساجي قال حدّثنا الأصمعيّ قال حدّثنا المعتمر بن سليمان قال: كان يقال: عليك بدينك، ففيه معادك؛ وعليك بمالك، ففيه معاشك؛ وعليك بالعلم، ففيه زينك. وقرأنا على أبي بكر بن دريد رحمه الله تعالى:
فلّما مضى شهر وعشر لعيرها ... وقالوا تجيء الآن قد حان حينها
ّأمرّت من الكتّان خيطاً وأرسلت ... جرّياً إلى أخرى قريباً تعينها
هذه امرأة تنتظر عيراً تقدم وزوجها فيها، فأرادت أن تنتف بالخيط وتتهيأ له. والجريّ: الرّسول، يقول: أرسلته إلى جارة لها تنتفها لتزيّن؛ وبعد هذا قال:
فما زال يجري السّلك في حرّوجهها ... وجبهتها حتّى ثنته قرونها
ثنته: كفّته. وقرونها: ذوائبها. وقرأت على أبي عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة لعمر بن أبي ربيعة:
يا ليتني قد أجزت الحبل نحوكم ... حبل المعرّف أو جاوزت ذا عشر
إن الثّواء بأرض لا أراك بها ... فاسيقنيه ثواء حقّ ذي كدر
وما ملكت ولكن زادحبّكم ... ولا ذكرتك إلا ظلت كالسّدر
أذرى الدموع كذي سقم يخامره ... وما يخامرني سقمٌ سوى الذّكر
كم قد ذكرتك لو أجزى بذكركم ... يا أشبه الناس كلّ الناس بالقمر
إني لأجذل أن أمسى مقابله ... حبّاً لرؤية من أشبهت في الصّور
وأنشدني أبو بكر بن دريد للبعيث الهاشميّ:
ألا طرقت ليلى الرّفاق بغمرة ... ومن دون ليلى يذبل فالقعاقع
على حين ضمّ الليل من كل جانب ... جناحيه وانصبّ النجوم الخواضع
طمعت بليلى أن تريع وإنما ... يقطّع أعناق الرجال المطامع
وبايعت ليلى في الخلاء ولم يكن ... شهود على ليلى عدول مقانع
وما كلّ ما منتّك نفسك مخلياً ... يكون ولا كلّ الهوى أنت تابع

فما أنت من شيء إذا كنت كلّما ... تذكّرت ليلى ماء عينيك دامع
وقرأت على أبي بكر بن دريد ليزيد بن الطّثريّة:
عقيليّة أمّا ملاث إزارها ... فدعص وأما خصرها فبتيل
تقيّظ أكناف الحمى ويظلّها ... بنعمان من وادي الأراك مقيل
أليس قليلاً نظرةٌ إن نظرتها ... إليك وكلاً ليس منك قليل
فيا خلّة النفس التي ليس فوقها ... لنا من أخلاّء الّفاء خليل
ويا من كتمنا حبّه لم يطع به ... عدوّ ولم يؤمن عليه دخيل
أما من مقام أشتكي غربة النّوى ... وخوف العدا فيه إليك سبيل
فديتك أعدائي كثيرٌ وشقّتي ... بعيد وأشياعي لديك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلّة ... فأفنيت علاتي فكف أقول
فما كلّ يوم لي بأرضك حاجة ... ولا كلّيوم لي إليك رسول
قال أبو علي: أخذ من هذا إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، حدّثنا حجظة قال حدّثني حماد عن أبيه إسحاق بن إبراهين قال: أنشدت الأصمعيّ:
هل إلى نظرةٍ إليك سبيل ... يرو منها الصّدى ويشف الغليل
إنّ قلّ منك يكثر عندي ... وكثيرٌ ممن تحبّ القليل
قال: ففقال لي: هذا والله الديباج الخسروانيّ؛ فقلت: إنهما لليلتهما؛ فقال: أفسدتهما.
وأنشدنا أبو عبيد الله نفطويه:
والله لا نظرت عيني إذا نظرت ... إلا تحدّر منها دمعها درارا
ولا تنفّسف إلا ذاكّراً لكم ... ولا تبسمت إلا كاظماً عبراً
وأنشدنا أبو بكر بن دريد قال أنشدنا الأشنانداني عن التوزي لطهمان بن عمرو من بني بكر بن كلاب:
ولو أنّ ليلى الحارثيّة سلّمت ... عليّ مسجّىً في الثّياب أسوق
حنوطي وأكفاني لديّ معدّةٌ ... وللنفس من قرب الوفاء شهيق
إذاً لحسبت الموت يتركني لها ... ويفرج عني فأفيق
ونبّئت ليلى بالعراق مريضة ... فماذا الذي تعني وأنت صديق
شفى الله مرضى بالعراق فإنني ... عل كلّ شاكٍ بالعراق شفيق
قال: وقرأت عليه لتوبة بن الحميّر:
ولو أنّ ليلى الأخيليّة سلّمت ... عليّ ودوني تربة وصفائح
لسلّمت تسليم البشاشة أو زقاً ... إليها صدّى من جانب القبر صائح
وأغبط من ليلى بما لا أناله ... ألا كلّ ما قرّت به العين صالح
وحدثنا أبو بكر بن دريد رحمه الله قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت رجلاً يقول: الحسد ما حق الحسنات، والزّهو جالب لمقت الله ومقت الصالحين، والعجب صارف عن الآزياد من العلم داع إلى التخمّط والجهل، والبخل أدم الأخلاق وأجلبها لسوء الأحدوثة. قال: وأخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت رجلاً يوصي آخر وأراد سفراً فقال: آثر بعملك معادك، ولا تدع لشهوتك رشادك، وليكن عقلك وزيرك الذي يدعوك إلى الهدى، ويعصمك من الرّدى؛ ألجم هواك عن الفواحش، وأطلقه في المكارم؛ فإنك تبّر بذلك سلفك، وتشيد شرفك.
وحدثنا قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت أعرابياً يوصي ابنه فقال: ابذل المودّة الصادقة تستفد إخواناً، وتتخذ أعواناً؛ فإن العداوة موجودة عتيدة، والصّداقة مستعرزة بعيدة؛ جنّب كرامتك اللئام، فإنهم إن أحسنت إليهم لم يشكروا، وإن نزلت شديدة لم يصبروا.
قال أبو علي: مستعرزة: منقبضة شديدة، يقال: رأيت فلاناً اعترز منّي أي انقبض. واستعرزت الجلدة في النار إذا تقبّضت؛ قال الشماخ:
وكلّ خليل غير هاضم نفسه ... لوصل خليل صارم أو معازر
يقول: كل من لم يظلم نفسه لأخيه ويحمل عليها فإنه قاطع أو منقبض.
وحدثنا أبو بكر قال أخبرنا أبو حاتم عن العتبي قال: قال رجل لعبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى: يا أمير المؤمنين، هززت ذوائب الرّحال إليك، فلم أجد معوّلاً إلا عليك؛ أمتطي الليل بعد النهار، وأقطع المجاهل بالآثار؛ يقودني نحوك رجاء، وتسوقني إليك بلوى؛ والنفس راغبة، والاجتهاد عاذر؛ وإذا بلغتك فقدني، قال: احطط عن راحلتك فقد بلغت.

وحدثنا أبو بكر قال حدّثنا الرياشيّ عن العتبي قال: سئل أعرابي عن امرأة فقال: هي أرقّ من الهواء، وأطيب من الماء، وأحسن من النّعماء، وأبعد من السماء.
وحدثنا قال حدّثنا الرياشيّ عن الأصمعيّ قال: العرب تقول: لا ثناء مع الكبر، ولا صديق لذي الحسد، ولا شرف لسيّىء الأدب. قال: وكان يقال: شرّ خصال الملوك الجبن عن الأعداء، والقسوة على الضعفاء، والبخل عند الإعطاء.
وحدثني أبو يعقوب ورّاق أبي بكر بن دريد قال حدّثنا أحمد بن عبيد الجوهريّ قال سمعت أحمد بن عبد العزيز يقول سمعت أبي يقول: قام رجل إلى معاوية فقال له: سألتك بالرحم التي بيني وبينك؛ فقال: أمن قريش أنت؟ قال: لا؛ قال: أفمن سائر العرب؟ قال: لا؛ قال: فأيّة رحم بيني وبينك؟ قال: رحم آدم؛ قال: رحم مجفّوة، والله لأكوننّ من وصلها؛ ثم قضى حاجته.
وحدثنا أبو بكر قال حدّثنا الرياشيّ عن الأصمعيّ قال: قيل لأعرابي قدم الحضرة: ما أقدمك؟ فقال: الحين الذي يغطّي العين.
وحدثنا أبو عبد الله نفطويه قال حدّثنا محمد بن موسى السامي قال حدّثنا الأصمعيّ قال: مات ولد لرجل من الأعراب فصلّى عليه فقال: اللهم إن كنت تعلم أنه كريم الجدّين، سها الخدّين؛ فاغفر له وإلا فلا.
وحدثنا قال حدّثنا أحمد بن يحيى النحويّ عن ابن الأعرابي قال: ضلّت ناقة أبي السّمّال فقال: والله لئن لم يردّها الله عليّ لا أصل أبداً؛ قال: فوجدها متعلقة بزمامها بشجرة؛ فقال: علم الله أنها منّى صرّى، أي عزيمة.
وحدثني أيضاً قال حدّثني أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال: قيل لابنه الخسّ: ما أحدّ شيء؟ قالت: ضرس جائع، يقذف في معىً ضائع.قيل: فما ألذّ شيء؟ قالت: قبلة فتاة فتىً، وعيشك ما ذقتها. وقرأنا على أبي بكر بن دريد قول الشاعر:
وخمار عانية شددت برأسها ... أصلاً وكان منتشّراً بشمالها
هذه امرأة فزعة، أخذت خمارها بيدها، فلما أدركها أمنت فاختمرت؛ ونحو منه بيت عنترة:
ومرقصة رددت الخيل عنها ... وقد همّت بإلقاء الزّمام
مرقصة: امرأة قد ركبت بعيراً فهي ترقصه، أي تنزّيه وتحثّه، وقد همّت أن تلقي زمامها وتستسلم.
" مطلب استعطاف إبراهيم بن المهدي للمأمون وعفوه عنه وردّ ماله وضياعه إليه " وحدثنا الأخفش قال: بلغني أن إبراهيم بن المهدي دخل على المأمون قبل رضاه عنه فقال: يا أمير المؤمنين، ولى الثأر محكّم في القصاص، ومن تناوله الاغترار بما مدّ له من أسباب الرخاء أمن عادية الدّهر، وقد جعلك الله فرق كل ذي ذنب، كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن تأخذ فبحقّك، وإن تعف فبفضلك؛ ثم قال:
ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقّك أولاً ... فاصفح بفضلك عنه
إن لم أكن في فعلي ... من الكرام فكنه
فقال: القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة، وعفو الله بينهما، وهو أكبر ما يحاول؛ يا إبراهيم، لقد حببّت إليّ العفو حتى خفت إلاّ أوجر عليه، لا تثريب عليك، يغفر الله لك. وعفا عنه وأمر بردّ ماله وضياعه؛ فقال:
رددت مالي ولم تخل عليّ به ... وقبل ردّك مالي قد حقنت دمي
فأبت منك وما كافأتها بيد ... هما الحياتان من وفر ومن عدم
وقام علمك بي فاحتجّ عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متّهم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال حتّى أسلّ النّعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عاريّة رجعت ... إليك لو لم تهبها كنت لم تلم

قال الأصمعيّ: ومن أمثال العرب : " حرّ انتصر " يضرب مثلاً للرجل يظلم فينتقم. ويقال: " أصرد من عنز جرباء " يضرب مثلاً للرجل يجد البرد. ويقال: " خرقاء عيّابة " يضرب مثلاً للرجل العاجز عن الشيء وهو يعيب العجز. ويقال: " أنجد من رأى حضناً " أي من بلغ من الأمر هذا المبلغ فقد بلغ معظمه. وحضن: جبل بنجد. ويقال: " حنّ قدح ليس منها " يضرب مثلاً للرجل يدخل نفسه في القوم ليس منهم. قال: وبلغني أن عمر رضي الله عنه لما قال ابن أبي معيط: أأقتل من بين قريش؟ قال: " حنّ قدح ليس منها " فلا أدري أقاله مبتدئاً أم قيل قبل. وقال أبو زيد: يقال: " ربضك منك وإن كان سماراً " يقول: منك فصيلتك، وهم بنو أبيه، وإن كانوا قوم سوء. ويقال: " منك عيصك وإن كان أشبا " يقول: منك أصلك وإن كان غير صحيح. ويقال: " أعييتني من شبّ إلى دبّ " أي أعييتني من لدن شببت إلى أن دببت على العصا، يقال ذلك للمرأة والرجل. ويقال: " أعييتني بأشر فكيف أرجوك بدردر " يقول: أعييتني وأنت شابة باردة الأسنان، فكيف أرجوك إذا سقطت أسنانك. والّردر: مكان الّسنّ من اللّحى.
مكلب شرح مادة ذرأ مهموزاً ومعتلاً وقال أبو نصر عن الأصمعيّ: ذرىء رأس الرجل يذرأ ذرأً، وقد علته ذرأة، أي بياض؛ وأنشد:
وقد علتني ذرأة بادي بدى
وأنشد أبو بكر بن دريد بعد هذا البيت.
ورثية تنهض في تشدّد
وقوله: بادي بدى، أي في أول الأمر، يقال: جدى أذرأ وعناق ذراء إذا كان في رأسه ورأسها بياض؛ ومنه قيل: ملح ذرآنيّ، أي شديد البياض؛ وقال غيره: وذرآنيّ أيضاً. قال اللحياني: يقال: ذرأ الله الخلق يذرؤهم، والله البارئ الذارئ، والخلق مذروؤون ومبرؤون. وقال أبو نصر: ذرا يذرو ذرواً إذا مرّ مرّاً سريعاً، وذرا ناب الجمل يذرو ذرواً إذا انكسر حدّه؛ وقال أوس بن حجر:
وإن مقرم منّا ذرا حدّ نابه ... تخمّط فينا ناب آخر مقوم
وذرت الريح التراب تذروه ذرواً؛ ومنه قيل: ذرّى الناس الحنظة؛ قال: ويقال: ذرت الريح التراب تذريه، بمعنى ذرته تذروه، وطعنه فأذراه عن فرسه، أي رمى به وقلعه عن السّرج؛ وقال الأصمعيّ: أذرته إذا قلعته من أصله قلعاً، وذرته طيّرته؛ قال ابن أحمر:
لها منخل تذري إذا عصفت به ... أهابيّ سفساف من التّرب توأم
وقال اللحياني: ذرت الريح التراب تذروه وتذريه إذا سحقته وأذهبته. قال: وقال الكسائي: ذروت وذريت وذرّيت بمعنى واحد، أي نقّيتها في الريح. قال أبو نصر: فلان يُذّري فلاناً، أي يرفع من شأنه ويمدحه؛ قال الراجز.
عمداً أذرّي حسبي إن يتستما ... بهدر هدّار يمجّ البلغما
وقال أبو زيد: ذرّيت الشاة إذا جززتها وتركت على ظهرها شيئاً منه لتعرف به، ولا يكون لك إلا في الضأن؛ وقال أبو نصر وغيره: ذروة كلّ شيء أعلاه، ويقال: فلان قي ذرى فلان، أي في دفئه وظلّه. ويقال: استذر بهذه الشجرة، أي كن في دفئها، وهو الذّرى مقصور. ويقال: " جاء ينفض مذرويه " إذا جاء باغياً يتهدّد، قال: والمذروان: الناحيتان؛ قال بعض هذيل يذكر القوس:
على كلّ هتّافة المذروي ... ن صفراء مضجعة في الشّمال
يعني: الجانبين اللذين يقع عليهما الوتر من أسفل ومن أعلى.
قال أبو علي: وهذا القول مشتمل على من سمّى ناحيتي الرأس مذروين؛ وعلى ما رواه أبو عبيد عن أبي عبيدة أن المذروين أطراف الأليتين؛ وأنشد لعنترة:
أحولى تنفض استك مذرويها ... لتقتلني فهأنذا عمارا
قال: وليس لهماواحد، لأنه لو كان لهما واحد فقيل مذري لقيل في التثنية مذريان بالياء وما كانت بالواو؛ وقال أبو نصر: يقال: بلغني عنه ذرء من خبر، أي طرف ولم يتكامل.
وأنشدنا أبو بكر بن دريد لمعقر بن حمار البارقي:
إذا استرخت عماد الحيّ شدّت ... ولا يثنى لقائمة وظيف
يقول: هم سائرون وبيوتهم على ظهور إبلهم، فإذا استرخى منها شيء من غير أن يذبحوا بعيراً ويثنوا وظيفه. وأنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي المعروف بنفطويه:
أما والله ثمّ الله حقاً ... يمين البرّ أتبعها يمينا
لقد حلّت أميمة من فؤادي ... تلاعاً ما أبحن وما رعينا
ولكنّ الخليل إذا قلانا ... وآثر بالمودّة آخرينا

صددت تكّماً عنه بنفسي ... وإن كان الفؤاد به ضنينا
وأنشدنا قال أنشدني عبيد الله بن إسحاق بن سلام:
نزلت بمكّة في قبائل نوفل ... ونزلت خلف البئر أبعد منزل
جذراً عليها من مقالة كاشح ... ذرب اللسان يقول ما لم أفعل
وأنشدني نفطويه لنفسه:
أتخالني من زلّة أتعتّب ... قلبي عليك أرقّ مما تحسب
قلبي وروحي في يديك وإنما ... أنت الحياة فأين عنك المذهب
وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري البيت الأول من هذين البينيت عن أبي العباس أحمد بن يحيى، وقرأت القصيدة بأسرها على أبي بكر بن دريد لجميل بن معمر العذريّ:
وقالوا لا يضيرك نأي شهر ... فقلت لصاحبيّ فمن يضير
يطول اليوم إن شحطت نواها ... وحول نلقتي فيه قصير
وحدّثنا أبو بكر بن أبي الأزهر مستملى أبي العباس المبردّ قال أنشدنا الزبير لبثينة:
وإن سلوّى عن جميل لساعة ... من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا متّ بأساء الحياة ولينها
وأندشنا أبو بكر بن الأنباري رحمه الله قال أنشدني أبي:
لما تبدّت من الأستار قلت لها ... سبحان سبحان ربي خالق الصور
ما كنت أحسب شمساً غير واحدة ... حتى رأيت لها أختاً من البشر
كأنها هي إلا أن يفضّلها ... حسن الدلال وطرف فاتر النظر
وقرأت على أبي بكر بن دريد لابن الدمينة:
ألا لا أرى وادي المياه يثيب ... ولا النّفس عن وادي المياه تطيب
أحبّ هبوط الواديين وإنني ... لمستهتر بالواديين غريب
أحقاً عباد الله أن لست وارداً ... ولا صادراً إلا علي رقيب
ولا زائراً وحدي ولا في جماعة ... من الناس إلا قيل أنت مريب
وهل ريبة في أن تحنّ نجيبة ... إلى إلفها أو أن يحنّ نجيب
وإن الكثيب الفرد من جانب الحمة ... إليّ وإن لم آته لحبيب
وقرأت أيضاً:
صفراء من بقر الجواء كأنما ... ترك الحياء بها رداع سقيم
من محذيات أخي الهوى جرع الأسى ... بدلال غانية ومقلة ريم
وقصيرة الأيام ودّ جليسها ... لو دام مجلسها بفقد حميم
وقرأت أيضاً:
لك الله إنّي واصل ما وصلتني ... ومثن بما أوليتني ومثيب
فلا تتركي نفسي شعاعاً فإنها ... من الوجد قد كادت عليك تذوب
وإني لأستحييك حتى كأنما ... عليّ بظهر الغيب منك رقيب
وقرأت عليه لجميل بن معمر العذريّ، وأنشدني البيتين الأولين أبو معاذ عبدان المتطبب:
فلو أرسلت يوماً بثينة تبتغي ... يميني ولو عزّت عليّ يميني
لأعطيتها ما جاء يبغي رسولها ... وقلت لها بعد اليمين سليني
سليني مالي يا بثين فإنما ... يبيّن عند المال كلّ ضنين
فمالك لمّا خبّر الناس إنني ... أسأت بظهر الغيب لم تسليني
فأبلي عذراً أو أجيء بشاهد ... من الناس عدل أنهم ظلموني
ولست وإن عزّت عليّ بقائل ... لها بعد صرم يا بثين صليني
ونبّئت قوماً فيك قد نذروا دمي ... فليت الرّجال الموعدين لقوني
إذا ما رأوني مقبلاً عن جنابة ... يقولون من هذا وقد عرفوني
وأنشدنا أبو بكر بن السراج هذين البيتين الأخيرين:
فليت رجالاً فيك قد نذروا دمي ... وهمّوا بقتلي يا بثين لقوني
إذا ما رأوني طالعاً من ثنيّة ... يقولون من هذا وقد عرفوني
" مطلب من حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية تكرماً وصيانة لنفسه "

وحدّثنا أبو بكر بن دريد قال أخبرنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد والعباس بن هشام قالا: حرّم رجالٌ الخمر في الجاهلية تكرّماً وصيانة لأنفسهم، منهم عامر بن الظّرب بن عمرو بن عباد بن يشكر ابن بكر بن عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان، وقال في ذلك:
سآّلة للفتى ما ليس في يده ... ذهّابة بعقول القوم والمال
أقسمت بالله أسقيها وأشربها ... حتّى يفرّق ترب القبر أوصالي
مورثة القوم أضغاناً بلا إجن ... مزرية بالفتى ذي النّجدة الحالي
وحرّم قيس بن عاصم الخمر وقال في ذلك:
لعمرك إنّ الخمر ما دمت شارباً ... لسالبة مالي ومذهبة عقلي
وتاركتي من الضّعاف قواهم ... ومورثتي حرب الصّديق بلا تبل
قال: وحرّم صفوان بن أميّة بن محرّث الكناني الخمر في الجاهلية وقال في ذلك:
رأيت الخمر صالحاً وفيها ... مناقب تفسد الرجل الكريما
فلا والله أشربها حياتي ... ولا أشفي بها أبداً سقيما
قال: وحرّم عفيف بن معد يكرب عمّ الأشعث بن قيس الخمر وقال:
وقائلة هلّم إلي التصابي ... فقلت عففت عما تعلمينا
وودّعت القداح وقد أراني ... بها في الّهر مشغوفاً رهينا
وحرّمت الخمور عليّ حتّى ... أكون بقعر ملحود دفينا
وقال عفيف بن معد يكرب أيضاً:
فلا والله لا ألفى وشرباً ... أنازعهم شراباً ما حييت
أبى لي ذاك آباء كرام ... وأخوال بعزّهم ربيت
قال: وحرّم سويد بن عديّ بن عمرو بن سلسلة الطائي ثم المعنيّ الخمر وأدرك الإسلام فقال:
تركت الشّعر واستبدلت منه ... إذا داعي منادي الصّبح قاما
كتاب الله ليس له شريك ... وودّعت المدامة والنّدامى
وحرّمت الخمور وقد أراني ... بها سدكاً وإن كانت حراما
مطلب شرح مادة الشعف بالمهملة والشغف بالمعجمة قال أو عليّ: الشّعف: حرقة يجدها الرجل مع لذّة في قلبه، ولذلك قال امرؤ القيس:
أيقتلني وقد شعفت فؤادها ... كما شعف المهنوءة الرّجل الطالى
لأن المهنوءة تجد لهناء لذة مع حرقة. والشّغف أن يبلغ الحب شغاف القلب، وهي جلدة دونه؛ والشّغاف أيضاً: داء يكون في أحد شقيّ البطن؛ ولذلك قال النابغة:
وقد حال همّ دون ذلك والج ... ولوج الشّغاف تبتغيه الأصابع
يعني أصابع الأطباء يلمسنه: هل وصل إلى القلب أم لا، لأنه إذا اتصل بالقلب تلف صاحبه. ويقال: سدك به وعسك وعسق ولكد ولكى وحلس وعبق ولذم وغرى إذا لصق به ولزمه، وكذلك درب به وضرى به ولهج به وأعصم به وأخلد به وعضّ به وأزم به وألظّ به، قال الحارث ابن حلّزة:
طرق الخيال ولا كليلة مدلج ... سدكاً بأرجلنا ولم يتعرّج
وقال الآخر:
وما كنت أخشى الدهر إحلاس مسلم ... من الناس ذنباً جاءه وهو مسلما
أراد: وما كنت أخشى الدهر إلزام مسلم مسلماً دنباً جاءه وهو، أي جاءاه معاً. وقال رؤبة:
والملغ يلكي بالكلام الأملغ
الملغ: الماجن. والأملغ: الأمجن. وقال كعب بن زهير يمدح الأنصار:
دربوا كما دربت أسود خفيّة ... غلب الرّقاب من الأسود ضواري
وقال العجّاج:
يقتسر الأقران بالتّقمّم ... قسر عزيز بالأكال ملدم
والأكال: ما أكل. وقال أوس بن حجر:
فما زال حتّى نالها وهو معصم ... على موطن لو زلّ عنها تفصّلا
قال أبو عليّ: حدّنا أبو بكر بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم عن العتبى قال سمعت أعرابياً يقول: أسوأ ما في الكريم أن يكفّ عنك خيره، وخير ما في اللئيم أن يكفّ عنك شرّه.
وحدّثنا أبو عثمان الأشنانداي عن الأخفش سعيد بن مسعدة قال: كتب رجل من أهل البصرة إلى أخ له: أما بعد، فإنه يسهّل عليّ طلب الحاجة أمران فيك، وأمران لي، وأمر من قبل الله، وبه تمامها، فأما اللذان فيك: فاجتهادك في النّجح ومبالغتك في الاعتذار؛ وأما اللذان لي: فإني لا أضيق عليك بعذري، ولا أصون عنك شركي؛ وأما الذي من قبل الله جلّ وعزّ: فإيماني بأنّ كلّ مقدور كائن، والسلام.

وحدّثنا أبو بكر أبو عثمان عن التوّوزي عن أبي عبيدة قال: مرّ رجل من أهل الشام بامرأة من كلب فقال: هل من لبن يباع؟ فقالت: إنك للئيم أو حديث عهد بقوم لئام، هل يبيع الرّسل كريم أو يمنعه إلا لئيم! إنا لندع الكوم لأضيافنا تكوس، إذا عكف الزمان الضّروس؛ ونغلي اللحم غريضاً، ونهينه نضيحاً. قال أبو عليّ: الرّسل: اللّبن.
وأنشدنا أبو بكر:
فتىً لا يعدّ الرّسل مذمّةً ... إذا نزل الأضياف أو ينحر الجزرا
وكذلك أيضاً الرّسل في المشي بكسر الراء: وهو الهيّن الرفيق؛ قال صخر الغيّ:
لو أنّ حولي من تميمرجلاً ... لمنعوني نجدةً أو رسلا
يقول: لمنعوني بأمر شديد أو بأمر هين، والرّسل بفتح الراء والسين: الإبل قال الأعشى:
يبغي دياراً لها قد أصبحت غرضاً ... زوراً تجانف عنها القود والرّسل
القود: الخيل. وتكوس: تمشي على ثلاث. ونغلي من الغلاء.
قال أبو عليّ: حدّثنا أبو بكر عن العكليّ عن ابن خالد قال: قال زياد: ما قرأت كتاب رجل قطّ إلا عرفت عقله فيه، وما رأيت مثل الربيع بن زياد رجلاً، ما كتب إليّ كتاباً قط إلا في جرّ منفعة أو دقع مضرّة، ولا سألته عن شيء قط غلا وجدت منه عنده علاً، ولا نظرته في شيء إلا وجدته قد سبق على الناس فيه، ولا سايرني قطّ فمسّت ركبته ركبتي.
وحدّثنا أبو عبد الله نفطويه قال حدّثنا محمد بن يونس قال حدّثنا الأصمعيّ قال: توضأ أعرابيّ فبدأ بوجهه ورجليه ثم استنجى، فقيل له: أخطأت السّنّة؛ فقال: لم أكن أبداً لأبدأ بالخبيثة قبل جوارحي.
" مطلب ما قال الشعراء في البكاء ووصف الدموع " وحدّثنا أيضاً قال حدّثنا أحمد بن يحيى النحوي قال حدّثنا عبد الله بن شبيب قال حدّثني القروي عن موسى بن جعفر بن أبي كثير قال: كان المجنون لمّا أصابه ما أصابه يخرج فيأتي الشام فيقول: أين أرض بني عامر؟ فيقال له: أين أنت عن أرض بني عامر؟ عليك بنجم كذا وكذا، فينصرف حتى يأتي أرض بني عامر فيقف عند جبل لهم يقال له: التّوباذ، وينشد:
وأجهشت للتّوباذ حين رأيته ... وكبّر للرحمن حين رآني
فأذريت دمع العين لمّا رأيته ... ونادى بأعلى صوته فدعاني
فقلت له أين الذين عهدتهم ... حواليك في أمن وخفض زمان
فقال مضوا واستودعوني بلادهم ... ومن ذا الذي يبقى على الحدثان
وإني لأبكي اليوم من حذري غداً ... فراقك والحيّان مجتمعان
سجالاً وتهتاناً ووبلا وديمة ... وسجاً وتسكاباً وتنهملان
ثم يمضي حتى يأتي العراق فيقول مثل ذلك، ثم يأتي اليمن فيقول مثل ذلك.
وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد عن أبي عمرو الشيباني للمجنون:
ذد الدّمع حتى يظعن الحيّ إنما ... دموعك إن فاضت عليك دليل
كأنّ دموع العين يوم تحمّلوا ... جمال على جييب القميص يسيل
وأنشدنا أبو عبد الله بن نفطويه قال أنشدنا أحمد بن يحيى:
ومستنجد بالحزن دمعاً كأنه ... على الخدّ ممّا ليس يرفأ حائر
إذا ديمة منه استقلّت تهللّت ... أوائل أخرى ما لهنّ أواخر
ملا مقلتيه الدمع حتى كأنه ... لما انهّل من عينيه في الماء ناظر
وأنشدنا هذه اظلبيات أبو محمد عبد الله بن جعفر بن دستوريه النحوي عن أبي العباس محمد بن يزيد الثّمالي، وقال: قال أبو العباس: هذه الأبيات أحسن ما قيل في الدموع، وزاد في آخرها بيتاً:
وينظر من بين الدموع بمقلة ... رمى الشّوق في إنسانها فهو ساهر
وقرأت على أبي بكر بن دريد رحمه الله:
نظرت كأنيّ من وراء زجاجة ... إلى الدار من ماء الصّبابة أنظر
فعيناي طوراً تغرقان من البكا ... فأعشى وحيناً تحسران فأبصر
وأنشدني أبو عبد الله نفطويه عن أحمد بن يحيى لذي الرمّة:
وما شنّتا خرقاء واهيتا الكلي ... سقى بهما ساق ولمّا تبلّلا
بأضيع من عينيك للدمع كلّما ... تذكّرت ربعاً أو توهمت منزلا

وحدّثني أبو بكر التاريخي قال: قال بشار: ما زال غلام من بني حنيفة يدخل نفسه فينا ويخرجها منّا حتى قال:
نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عيناً لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... أرأيت عيناً للبكاء تعار
وأنشدني أيضاً قال أنشدني البحتري لنفسه:
وقفنا والعيون مشعّلات ... يغالب دمعها نظر كليل
نهته رقبة الواشين حتى ... تعلّق لا يغيض ولا يسيل
وأنشدني بعض أصحابنا لدعبل الخزاعي:
يا ربع أين توجّهت سلمى ... أمضت فمهجة نفسه أمضى
لا أبتغي سقي السحاب لها ... في مقلتي عوض من السّقيا
وأنشدني جحظة لنفسه:
ومن طاعتي إيّاه أمطر ناظري ... له حين يبدي من ثناياه لي برقا
كأنّ دموعي تبصر الوصل هارباً ... فمن أجل ذا تجري لتدركه سبقا
وكان أبو بكر بن دريد يستحسن قول أبي نواس في هذا المعنى:
لا جزى الله دمع عيني خيرا ... وجزى الله كلّ خير لساني
نمّ دمعي فليس يكتم شيئاً ... ورأيت اللسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفأه طيّ ... فاستدلّوا عليه بالعنوان
وأنشدنا نفطويه لنفسه:
قلبي عليك أرقّ من خدّيكا ... وقواي أوهى من قوى جفنيكما
لم لا ترقّ لمن تعذّب نفسه ... ظلماً ويعطفه هواه عليكا
وأنشدنا أبو بكر لنفسه:
إن الذي أبقيت من جسمه ... يا مثلف الصّبّ ولم يشعر
صبابة لو أنها دمعة ... تجول في جفنك لم تقطر
قال الأصمعيّ: من أمثال العرب " لا يعدم شقيّ مهراً " أي لا يعدم شقى عناء. ويقال: " لا تعدم الحسناء ذاماً " يراد: لا يخلو الرجل من أن يكون به ما يعاب. ويقال: " ليس عليك نسجه فاسحب وجرّ " يضرب مثلاً للرجل يفسد ما لم يتعنّ فيه. ويقال: " الليل أخفى للويل " أي الستر أستر من المكاشفة. ويقال: " قبل الرّماء تملأ الكنائن " يراد به: قبل وقوع الأمر يعدّ له.
وأنشدني أبو الميّاس البيت الأول من هذين البيتين، فأنشدته أبا بكر بن دريد، فزادني البيت الثاني:
ولذّ كطعم الصّرخديّ تركته ... بأرض العدا من خشية الحدثان
ومبد لي الشّحناء بيني وبينه ... دعوت وقد طال السّرى فدعاني
لذّ يعني النوم. والصّرخديّ: العسل، كذا قال أبو المياس. والعدا: الأعداء. والحدثان: ما يحدث من الأمور. وقال أبو بكر: اللذّ: الذيذ، يعني النوم. والصّرخديّ: الخمر. وقوله: ومبدلى الشحناء يعني كلباً. وذلك أن الرجل إذا تحيّر في الليل فلم يدر أين البيت نبح، فتسمعه الكلاب فتنبح، فيقصد أصواتها؛ وهذا الذي تقول له العرب: المستنبح. ثم أنشدني:
ومستنبح بات الصّدى يستتهيه ... فتاه وجور الليل مضطرب الكسر
رفعت له ناراً ثقوباً زنادها ... تليح إلى الساري هلمّ إلى قدري
فلما أتى والبؤس رادف رحله ... تلقّيته منّي بوجه أمرئ بشر
فقلت له أهل كأهل فلم يجر ... بك الليل إلا للجميل من الأمر
وكادت تطير الشّول عرفان صوته ... ولم تمس إلا وهي خائفة العقر
" مطلب الكلام على مادة ب ش ر " قال أبو علي: بشر: مصدر بشرته أبشره بشراً، والبشر: الاسم، أراد بوجه امرئ ذي بشر، فحذف المضاف، وفي بشرت لغات، قال الكسائي: يقال: بشّرت فلاناً بخير أبشّره تبشيراً، وبشرته أبشره بشراً، وبشرته أبشره وبشوراً، وأبشرته أبشره إبشاراً في معنى واحد؛ وحكي عن بعضهم أنه قال: دخلت على الناطقي فبشرني ببشر حسن، قال: وسمعت أبا ثروان ورجلاً من غنىٍّ يقولان: بشرني فلان بخير وبشرته بخير. قال ويقال: أبشر فلان بخير، أي استبشر، وهو قول الله عزّ وجلّ: " وأبشروا بالجنّة " أي استبشروا، وكذا كلام العرب ؟ إذا أخبروا عن أنفسهم قالوا: قد أشبرنا، أي فرحنا. قال ويقال أيضاً: بشرت بهذا الأمر أبشر بشوراً، أي فرحت واستبشرت، على معنى أبشرت، وهي في قضاعة؛ وقرأ أبو عمرو: " إنّ الله يبشرك " بالتخفيف.
" مطلب الكلام على مادة خ ف ى " وقال اللحياني: خفيت الشيء أخفيته خفياً وخفيّاً إذا استخرجته وأظهرته؛ وأنشد:

خفاهنّ من أنفاقهنّ كأنّما ... خفاهنّ ودق من سحاب مركّب
قال أبو علي: وغيره يروى: من عشيّ مجلّب، أي مصوّب. ويقال: اختفيت الشيء، أي أظهرته. وأهل الحجاز يسمون النّبّاش: المختفى، لأنه يستخرج أكفان الموتى. وأخفيت الشيء أخفيه إخفاء إذا سترته؛ قال الله عزّ وجلّ: " أكاد أخفيها " وهي قراءة العامة والناس؛ وروى عن سعيد بن جبير: أنه كان يقرأ (أكاد أخفيها( أي أظهرها، وقال أبو عبيدة: أخفيت الشيء كتمته وأظهرته. ويقال: دعوت الله خُفية وخِفية، أي في خفض، قال الله عزّ وجلّ: " ادعوا ربّكم تضرعاً وخفية " وهي قراءة الناس والمجتمع عليها، وكان عاصم يقرأ " تضرّعاً وخفية " في جميع القرآن. وقال اللحياني وأبو نصر: الخافي: الجنّ. قال اللحياني يقال: أصابته ريح من الخوافي، وأصابته ويح من الخافي، وهو واحد الخوافي، وقال أبو نصر: الخوافي جمع الجمع، وسمعت أبا بكر بن دريد يقول: إنما قيل لهم خاف لخفائهم واستتارهم عن العيون. وقال اللحياني: الخوافي من السّعف: ما دون القلبة، واحدتها خافية، والخوافي من ريش الطائر: ما دون المناكب، وهي أربع ريشات. قال ويقال لأربع ريشات في مقدّم الجناح: القوادم، ثم تليها أربع ريشات مناكب، ثم تليها أربع ريشات خواف، ثم يلي الخوافي أربع أباهر. وقال غيره: في جناح الطائر عشرون ريشة مما يلي الجنب، فأربع قوادم، وأربع مناكب، وأربع كلي، وأربع خواف، وأربع أباهر. ويقال: برح الخفاء، أي ظهر الأمر، وصار كأنه في براح، وهو المكان المستوي المتّسع. وقال اللحياني قال بعضهم: برح الخفاء، أي ذهب السّر وظهر؛ والخفاء ههنا: السّر. وقال: الخفاء مصدر خفى يخفى خفاء؛ وقال بعضهم: الخفاء المتطأطئ من الأرض، وابراح: المرتفع الظاهر، فيقول: ارتفع المتطأطئ حتى صار كالمرتفع الظاهر؛ وقال أبو نصر: الخفاء: ما غاب عنك.
" مطلب الكلام على مادة خيف وخوف " وقال اللحياني يقال: الناس أخياف في هذا الأمر، أي مختلفون لا يستوون. ويقال: خيّفت المرأة أولادها إذا جاءت بهم أخيافاً، أي مختلفين؛ ويقال: تخيّفت الإبل وتبرقطت إذا اختلفت وجوهها في المرعى. والخيف: ما ارتفع عن مجرى السيل وانحدر عن غلظ الجبل، ومنه مسجد الخيف بمنىً. ويقال: أخاف الرجل فهو مخيف إذا أتى الخيف، والقوم مخيفون. والخيف: جلد ضرع الناقة، يقال: ناقة خيفاء، والجمع خيفاوات وخيف، ويقال: بعير أخيف إذا كان واسع الخيف، وهو جلد الثّيل؛ وأنشدنا أبو نصر:
صوّى لها ذا كدنة جلذيّا ... أخيف كانت أمه صفيّاً
وقال اللحياني يقال: خيفت الناقة تخيف خيفاً إذا اتسع جلد ضرعها. ويقال: فرس أخيف، والأنثى خيفاء، والجمع خيف، إذا كانت إحدى عينيه زرقاء والأخرى كحلاء. والخيفان: الجراد إذا صارت فيها ألوان مختلفة، واحدتها خيفانة، وبه سميت الفرس خيفانة لسرعتها، وقال أبو بكر: إنما قيل للفرس خيفانة لأن الجرادة إذا ظهرت فيها تلك الألوان كان أسرع لطيرانها. وقال اللحياني: تخوّفت الشيء تنقّصته، قال الله عزّ وجلّ: " أو يأخذهم على تخوّف " أي على تنقصّ. ويقال: تحوّفت الشيء بالحاء غير معجمة، إذا أخذت من حافاته. وقال أبو نصر: وجمع مخيف إذا أخاف من ينظر إليه. وحائط مخوف، وغر مخوف، وطريق مخوف، إذا كان يفرق منه. وقال اللحياني: وقد يقال: ثغر مخيف إذا كان يخيف أهله. ويقال: خفت من الشيء أخاف خوفاً وخيفةً وخيفاً، وهو جمع خيفة، قال الهذلي:
فلا تقعدنّ على زخّة ... وتضمر في القلب وجداً وخيفا
والزّخّة: الدّفعة، يقال: زخّ في صدره يزخّ زخّاً، أي دفع، ومنه قيل للمرأة مزخّة. ويقال: فلان خائف والقوم خائفون وخوّف وخيّف، قال الله تبارك وتعالى: " أن تدخلوها إلا خائفين( " وفي حرف أبيٍّ وابن مسعود " أن يدخلوها إلا خيّفاً " والخافة: خريطة من أدم ضيّقة الرأس واسعة الاسفل، تكون مع مشتار العسل إذا صعد ليشتار.
وحدّثنا أبو عبد الله نفطويه قال حدّثنا أبو العباس أحمد بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثني عميّ صبّاح بن خاقان قال قال خالد بن صفوان لبعض الولاة: قدمت فأعطيت كلاً بقسطه من وجهك وكرامتك، حتى كأنك لست من أحد، أو حتى كأنك من كل أحد.
وأنشدني أبو بكر بن الأنباري قال أنشدني أبي عن أحمد بن عبيد:

ما لرسولي أتاني منك بالياس ... وقال أظهرت بعدي جفوة القاسي
إني أحبّك حبذاً لا لفاحشة ... والحبّ ليس به في الله من باس
وقرأت على أبي بكر بن دريد:
ولمّا أبى إلا جماحاً فؤاده ... ولم يسل عن ليلى لمال ولا أهل
تسلّى بأخرى غيرها فإذا التي ... تسلّى بها تعزى بليلى ولا تسلى
وأنشدنا أبو عبد الله:
يا منية النفس إن أعطيت منيتها ... وسؤلتي إن دنونا أو نأيناك
هل بعثنا ببديل منذ لم نركم ... فما بشيء من الأشياء بعناك
إن كنت لم تذكرينا عند فرقتنا ... فيشهد الله أنّا ما نسيناك
وحدّثنا أبو بكر بن دريد رحمه الله قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: تذاكر قوم صلة الرّحم وأعرابي جالس، فقال: منسأة في العمر، مرضاة للرب، محبّة في الأهل.
وحدّثنا أبو بكر قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: وصف أعرابيّ ناقة فقال: إذا اكحالّت عينها، وأللت أذنها، وسجح خدّها، وهدل مشفرها، واستدارت جمجمتها، فهي الكريمة.
قال أبو علي: سجح: سهل وحسن. وهدل: استرخى.
وحدثنا أبو بكر قال حدّثنا عبد الرحمن قال سمعت عمي يقول سمعت أعرابية تقول لرجل: رماك الله بليلة لا أخت لها، أي لا تعيش بعدها.
وحدذثنا أبو بكر قال حدّثنا عبد الرحمن عن عمه قال قال أكثم بن صيفيّ: سوء حمل الفاقة يحرض الحسب، ويقويّ الضّرورة، ويذئر أهل الشّماتة.
قال أبو علي: يذئر: يحرّش، يقال: أذرأته بأخيه إذا حرّشته عليه وأولعته به، وقد ذئر هو ذأراً حين أذرأته؛ قال الشاعر:
ولقد أتاني عن تميم أنّهم ... ذرئوا لقتلي عامر وتغضّبوا
وحدّثنا أبو بكر قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال قال بعض العرب: أولى الناس بالفضل أعودهم بفضله، وأعون الأشياء على تذكية العقل التعلم، وأدلّ الأشياء على عقل العاقل حسن التدبير.
وحدّثنا أبو بكر قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال قال رجل من العرب: ما رأيت كفلان، إن طلب حاجة غضب قبل أن يردّ عنها، وإن سئل حاجة ردّ صاحبها قبل أن يفهمها.
وحدّثنا أبو بكر قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال قال بعض الأعراب: لا أعرف ضراً أوصل إلى نياط القلب من الحاجة إلى من لم تثق بإسعافه ولا تأمن ردّه، وأكلم المصائب فقد خليل لا عوض منه.
وحدّثنا أبو بكر قال أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: ذكر رجل حاتماً الطائي فقال: كان إذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا سئل وهب، وإذا أسر أطلق.
وحدّثنا قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: قيل لأعرابي: أيّ شيء أمتع؟ فقال: ممازحة المحبّ، ومحادثة الصديق، وأمانيّ تقطع بها أيّامك.
وحدّثنا قال حدّثنا عبد الرحمن عن عمه قال سمعت أعرابياً يقول: من لم يرض عن صديقه إلا بإيثاره على نفسه دام سخطه، ومن عاتب على كل ذنب كثر عدّوه، ومن لم يؤاخ من الإخوان إلا من لا عيب فيه قلّ صديقه. وأنشدنا أبو عبد الله:
الرّمح لا أملأ كفي به ... واللّبد لا أتبع تزاوله
يقول: لا أقاتل بالرمح وحده فأشغل كفي به دون غيره من السلاح، ولكني أقاتل به وبغيره، وإذا زال اللّبد عن متن الفرس لم أزل معه وثبتّ؛ يصف نفسه بالفروسية.
وحدّثنا أبو بكر ابن الأنباري قال حدّثنا عبد الله بن خلف عن موسى بن صالح عن معاوية بن صدقة الجحدريّ قال: كان رجل من مجاشع يقال له: سعد بن مطرّف، يهوى ابنة عمّ له يقال لها: سعاد، فكان يأتيها ويتحدث إليها ولا يعلمها بما هو عليه من حبّها، حتى سلّ جسمه ونحل بدنه، فبينا هو ذات يوم معها جالس إذ نظر إليها وأنشأ يقول:
وما عرضت لي نظرة مذ عرفتها ... فأنظر إلا مثّلت حين أنظر
أغار على طرفي لها فكأنني ... إذا رام طرفي غيرها لست أبصر
وأحذر أت تصغي إذا بحت بالهوى ... فأكتمها جهدي هواي وأستر
فلّما سمعت ذلك منه ساءها وكرهت أن ينشر خبرهما، فأقصته وأظهرت هجره؛ فكتب إليها:
متّ شوقاً وكدت أهلك وجداّ ... حين أبدى الحبيب هجراً وصدّا
بأبي من إذا دنوت إليه ... زادني القرب منه نأياً وبعدا

لا وحبّيه لا وحقّ هواه ... ما تناسيته ولا خنت عهدا
حاش لله أن أكون خلّيا ... من هواه وقد تقطّعت وجدا
كيف لا كيف عن هواه سلوّى ... وهو شمس الضحى إذا ما تبدّى
فكانت تحب مواصلته؛ وتشفق من الفضيحة فتظهر هجره وتبعده، فلم يزل عليل البدن والقلب.
وأنشدنا أبو بكر الأنباري قال أنشدني أبي:
ألمّت وهل إلمامها لك نافع ... وزادت خيالاً والعيون هواجع
بنفسي من تنأى ويدنو خيالها ... ويبذل عنها طيفها ويمانع
خليليّ أبلاني هوى متمنع ... له شيمة تأبى وأخرى تطاوع
وإن شفاء النفس لو تعلمينه ... حبيب موات أو شباب مراجع
وأنشدنا أبو بكر بن دريد للمجنون:
وإني لأستغشي وما بي نعسة ... لعلّ خيالاً منك يلقى خياليا
وأخرج من البيوت لعلني ... أحدّث عنك النفس في السر خاليا
أصبراً ولمّا تمض لي غير ليلة ... رويد الهوى حتى يغبّ لياليا
أرى الدهر والأيام تفنى وتنقضي ... وحبّك ما يزداد إلا تماديا
وأنشدنا أبو عبد الله بن نفطويه لمجنون:
وعلّقت ليلى وهي غر صغيرة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم
وأنشدنا أبو عبد الله أيضاً في هذا المعنى لخالد بن المهاجر:
أمست منازلكم بمكّة منكم ... قفراً وأصبحت المعالم خالية
لو كنت أملك رجعكم لرجعتكم ... قد كنتم زينى بها وجماليه
علّقتها غراً غلاماً ناشئاً ... غضّ الشّباب وعلّقتني جاريه
حتى استوينا لم تزل لي خلّة ... أبكي إذا ظعنت بعين باكيه
وأنشدنا أيضاً:
إذا حجبت لم يكفك البدر فقدها ... وتكفيك فقد البدر إن حجب البدر
وحسبك من خمر تفوتك ريقها ... ووالله ما من ريقها حسبك الخمر
وأنشدنا أيضاً:
قد قلت للبدر واستعبرت حين بدا ... يا بدر ما فيك لي من وجهها خلف
تبدو لنا كلّما شئنا محاسنها ... وأنت تنقص أحياناً وتنكسف
وقرأت على أبي بكر بن دريد لجميل بن معمر العذري:
تنادى آل بثينة بالرّواح ... وقد تركوا فؤادك غير صاح
فيالك منظراً ومسير ركب ... شجاني حين أمعن في الفياح
ويا لك خلّة ظفرت بعقلي ... كما ظفر المقامر بالقداح
أريد صلاحها وتريد قتلي ... فشتّى بين قتلي والصلاح
لعمر أبيك لا تجدين عهدي ... كعهدك في المودّة والسّماح
ولو أرسلت تستهدين نفسي ... أتاك بها رسولك في سراح
وقرأت عليه أيضاً:
فإن يك جثماني بأرض سواكم ... فإنّ فؤادي عندك الدّهر أجمع
إذا قلت هذا حين أسلو وأجتري ... على صرمها ظلّت لها النّفس تشفع
وإن رمت نفسي كيف آتي لصرمها ... ورمت صدوداً ظلّت العين تدمع
وكتبت من كتاب أبي بكر بن دريد رحمه الله وقرأت عليه أيضاً قال أنشدنا عبد الرحمن عن عمه:
ألا يا كأس قد أفنيت قولي ... فلست بقائل إلا رجيعا
ولست بنائم إلا بهمّ ... ولا مستيقظ إلا مروعا
أؤمّل أن ألاقي آل كأس ... كما يرجو أخو السّنة الرّبيعا
وإنك لو نظرت فدتك نفسي ... إلى كبدي وجدت بها صدوعا
وقرأت عليه أيضاً:
ولما بدا لي منك ميل مع العدى ... سواي ولم يحدث سواك بديل
صددت كما صدّ الرّميّ تطاولت ... به مدّة الأيام وهو قتيل
وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال أنشدنا إبراهيم بن عبد الله الورّاق:
نزفت دمعي وأزمعت الفراق غداً ... فكيف أبكي ودمع العين منزوف
واسأتا من عيون العاشقين غداً ... إذا رحلت ودمع العين موقوف
وأنشدنا قال أنشدنا أبو الحسن بن البراء لإبراهيم بن المهديّ:

لم ينسنيك سرور لا ولا حزن ... وكيف لا كيف ينسى وجهك الحسن
ما زلت مذ كلفت نفسي بحبكم ... كلّى بكلّك مشغول ومرتهن
نور تجسّم من شمس ومن قمر ... حتى تكامل منه الرّوح والبدن
قال أبو بكر: ويروى:
ولا خلا منك قلبي لا ولا بدني ... كلّى بكلّك مشغول ومرتهن
قال أبو بكر وأنشدني أبي للحسن بن وهب:
بأبي كرهت النار لما أوقدت ... فعرفت ما معناك في إبعادها
هي ضرّة لك بالتماع ضيائها ... وبحسن صورتها لدى إيقادها
وأرى صنيعك بالقلوب صنيعها ... بسيالها وأراكها وعرادها
شركتك في كل الأمور بحسنها ... وضيائها وصلاحها وفسادها
وقرأت علىأبي بكر بن دريد لأبي الشّيص:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخّر عنه ولا متقدّم
أجد الملامة في هواك أحبّهم ... حبّاً لذكرك فليلمني اللّوّم
أشبهت أعدائي فصرت أحبّهم ... إذ صار حظّي منك حظّي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ... ما من يهون عليك ممن أكرم
وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال أنشدني أبو الحسن بن البراء لإبراهيم بن المهدي:
إذا كلّمتني بالعيون الفواتر ... رددت عليها بالدموع البوادر
فلم يعلم الواشون ما دار بيننا ... وقد قضيت حاجاتنا بالضمائر
أقاتلتي ظلماً بأسهم لحظها ... أما حكم يعدىعلى طرف جائر
فلو كان للعشّاق قاض من الهوى ... إذاً لقضى بين الفؤاد وناظري
قال أبو بكر: وسرق هذا المعنى خالد الكاتب فقال:
أعان طرفي على جسمي وأحشائي ... بنظرة وقفت جسمي على دائي
وكنت غرّاً بما يجنى على بدني ... لا علم لي أن بعضي بعض أدوائي
وأنشدنا أبو بكر قال أنشدنا أبو الحسن بن البراء لبعض شواعر الأعراب:
ولو نظروا بين الجوانح والحشا ... رأوا من كتاب الحبّ في كبدي سطرا
ولو جرّبوا ما قد لقيت من الهوى ... إذاً عذروني أو جعلت لهم عذرا
صددت وما بي من صدود ولا قلىً ... أزورهم يوماً وأهجرهم شهرا
وأنشدني أيضاً قال أنشدني علي بن محمد المدائني قال أنشدنا أبو الفضل الربعيّ الهاشمي قال أنشدنا إسحاق بن ابراهيم الموصلي:
أخاف عليها العين من طول وصلها ... فأهجرها الشهرين خوفاً من الهجر
وما كان هجراني لها عن ملالة ... ولكنني أمّلت عاقبة الصبر
أفكّر في قلبي بأيّ عقوبة ... أعاقبه فيكم لترضوا فما أدري
سوى هجركم والهجر فيه دماره ... فعاقبته فيكم من الهجر بالهجر
فكنت كمن خاف النّدى أن يبلّه ... فعاذ من الميزاب والقطر بالبحر
وقال أبو زيد: من أمثال العرب " برّق لمن لا يعرفك " يضرب مثلاً للذي يوعد من يعرفه؛ يقول: اصنع هذا بمن لا يعرفك. وقال الأصمعيّ: ومن أمثالهم " حرّك خشاشه " إذا عمل بما يؤذيه. ويقال: " ضرب لذلك الأمر جروته " أي وطّن عليه نفسه. ويقال: " لوى عنه عذاره " أي عصاه فلم يطعه في أمره. ويقال: " شرّاب بأنقع " أي معاود للأمور يأتيها مرة بعد مرة. وسألنا أبا عبد الله عن بيت أبي العميثل بعد أن قرأناه على أبي بكر بن دريد مصححين له:
أيام ألحف مئزري عفر الملا ... وأعضّ كلّ مرجّل ريّان
فأخبرنا عن أحمد بن يحيى بهذا التفسير قال ألحف: ألبس. والعفر: التراب، يقول: أجرّه عليه من الخيلاء والنشاط. والملا: الفضاء. وأغضّ: أنقصه وأشرب ما فيه. والمرجّل: زقّ سلخ من قبل رجله. وريّان: ممتلئ؛ قال وقال سعدان، أنشدنيه أبو العميثل وهذا معناه؛ وقال ابن الأعرابيّ أغضّ: أكفّ. والمرجّل: الشّعر يرحّل ويهيّأ، وريّان من الدّهن، وهو كقول الأعشى:
ولقد أرجّل جمّتي بعشيّة ... للشرب قبل سنابك المرتاد
ولم ينكر القول الأول، وقال: قد سمعته من قائله.
" مطلب الكلام في تفسير مادة أكل "

وقال أبو نصر: إنه لذو أكلة في الناس، أي ذو نميمة ووقيعة؛ وقال أبو عبيد عن الأصمعيّ: إنه لذو أكلة في الناس وأكلة، أي ذو غيبة يغتابهم؛ وقال اللحياني: إنه لذو أكلة وإكلة للحوم الناس. وقالوا جميعاً الأكلة: اللّقمة، يقال: ما أكلت إلا أكلة، والأكلة الفعلة: الوتحدة من الأكل . الإكلة: الحال التي تأكل عليها قاعداً أو متكئاً. وقال اللحياني الأكال: ما يؤكل، يقال: ما ذقت اليوم أكلاً. والأكلة غير ممدود والإكلة والأكال: الحكّة، يقال: إنه ليجد أكلة على فعلة، وإكلة وأكالاً؛ ويقال: أكلت الناقة تأكل أكلاً إذا نبت وبر جنينها في بطنها فوجدت لذلك حكّة وأذى، وناقة أكلة على فعلة. وقال الأصمعيّ: بأسنانه اكل إذا كانت متأكّلة، وقال أبو نصر: يقال: كثرت الآكلة في أرض بني فلان، أي الراعية؛ وقال اللحياني: الأكلة على فعلة. وقال الأصمعيّ: تأكّل السيف تأكّلاً إذا توهّج من الحدّة؛ قال أوس بن حجر:
وأبيض صوليّاً كأن غراره ... تلألؤ برق في حبّي تأكّلا
وزاد اللحياني، والتأكّل: شدة بريق الكحل إذا كسر أو الفضة أو الصّبر. وقالوا جميعاً: فلان ذو أكل إذا كان ذا حظّ ورزق في الدنيا، والجميع الآكال. وقال اللحياني: يقال: أكل بستانك دائم، أي ثمره. وقال أبو نصر والأصمعي: ثوب ذو أكل إذا كان كثير الغزل صفيقاً. وإنه لذو أكل إذا كان ذا رأي وعقل، وقال اللحياني فيهما بالتقيل أكل. وقال اللحياني الأكيل: الطعام المأكول، والأكيل: الذي يأكل معك رجلاً كان أو امرأة، يقال: هذا أكيلي وهذه أكيلي، ولغة أبي الجراح: هذة أكيلتي. ورجل أكول، وقوم أكّال وأكلة، يقال: هم أكلة رأس، أي قليل بقدر ما يشبعهم رأس. وقال اللحياني والمئكلة: ضرب من البرام، وضرب من الأقداح؛ وكلّ ما أكل فيه فهو مئكلة، والجمع مآكل. ورجل وكل، أي ضعيف ليس بنافذ. ورجل أكلة، أي كثير الأكل وأنشدنا أبو عبد الله بن نفطويه:
أيا زينة الدنيا التي لا ينالها ... مناي ولا يبدو لقلبي صريمها
بعيني قذاة من هواك لو أنها ... تداوي بمن أهوى لصحّ سقيمها
وبرء قذاة العين إن لم يكن لها ... طبيب يداوي نظرة تستديمها
فما صبرت عن ذكرك النفس ساعة ... وإن كنت أحياناً كثر ألومها
عليّ نذور تبرز خالياً ... لعيني وأيام كثير أصومها
وحدّثني أبو يعقوب ورّاق أبي بكر بن دريد قال حدّثني محمد بن الحسن عن المفضل بن محمد ابن العلاف قال: لما قدم بغاء ببني نمير أسرى، كنت كثيراً ما أذهب إليهم فأسمع منهم وكنت لا أعدم أن ألقى الفصيح منهم، فأتيتهم يوماً في عقب مطر، إذا فتىً حسن الوجه قد نهكه المرض ينشد:
ألا يا سنا برق على قلل الحمى ... لهنّك من برق عليّ كريم
لمعت اقتذاء الطّير والقوم هجّع ... فهيّجت أسقاماً وأنت سليم
فهل من معير طرف عين خليّة ... فإنسان طرف العامري كليم
رمى طرفه البرق الهلالي رمية ... بذكر الحمى وهناً فبات يهيم
فقلت له: يا هذا إنك لفي شغل عن هذا؛ فقال: صدقت، ولكن أنطقتني البرق؛ ثم اضطجع فما كان ساعة حتى مات، فما يتوهّم عليه غير الحب . وكان أبو بكر بن دريد - رحمه الله - كثراً ما ينشد آخر بيت من هذه الأبيات، ثم أنشدني يوماً:
ثقي بجميل الصبر منّى على الدهر ... ولا تثقي بالصّبر على الهجر
وإني لصبّار على ما ينوبني ... وحسبك أن الله أثنى على الصبر
ولست بنظّار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر
وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال أنشدنا أبو العباس للمجنون:
أصلّي فما أدري إذا ذكرتها ... أثنتين صلّيت الضّحى أم ثمانيا
أراني إذا صلّيت يممّت نحوها ... بوجهي وإن كان المصلّى يمانيا
وما بي إشراك ولكنّ حبّها ... كعود الشّجا أعيا الطبيب المداويا
كطلب ما قالته بعض نساء العرب تصف زوجها بمكارم الأخلاق لأمّها

وحدثنا أبو بكر - رحمه الله - قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: وصفت أعرابية زوجها بمكارم الأخلاق عند أمها فقالت: يا أمّه، من نشر ثوب الثناء فقد أدّى واجب الجزاء؛ وفي كتمان الشّكر جحود لما وجب من الحق، ودخول في كفر النّعم؛ فقالت لها أمها: أي بنيّة! أطبت الثناء، وقمت بالجزاء، ولم تدعي للذم موضعاً؛ إني وجدت من عقل لم يعجل بذمٍّ ولا ثناء إلا بعد اختبار؛ فقالت: يا أمّه، ما مدحت حتى اختبرت، ولا وصفت حتى عرفت.
وحدثنا أيضاً عن العكليّ عن ابن أبي خالد عن الهيثم قال: كتب مالك بن أسماء بن خارجة إلى الهيثم بن الأسود الخعيّ، يشكر له قيامه بأمر رجل من آل حذيفة بن بدر عند الحجّاج حتى خلّصه منه: أما بعد، فإنه لما كلّت الألسن عن بلوغ ما استحققت من الشكر، كان أعظم الحيل عنديفي مكافأتي إخلاصكصدق الضمير، وكما لم نعرف الزيادة في العلا إذ جريت غاية طولك جهلنا غاية الثناء عليك، فليس لك من الناس إلا ما ألهموا من محبتك، فأنت كما وصف الواصف إذ يقول:
فما تعرف الأوهام غاية مدحه ... يقيناً كما ليست بغايته تدري
وحدثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدّثني أبي عن بعض أصحابه قال: وقّع جعفر بن يحيى بن خالد ابن برمك في كتاب صديق له: ما جاوزتني نعمة خصصت بها، ولا قصرت دوني ما كان بك محلّها. قال: ووقّع إلى عمرو بن مسعدة، إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيراً، وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عيّاً.
وحدثنا أيضاً عن أبيه عن أحمد بن عبيد قال أخبرنا العتبي عن أبيه قال: أتت رملة بنت معاوية مراغمة لزوجها عمرو بن عثمان بن عفّان فقال: مالك يا بنيّة؟ أطلّقك زوجك؟ قالت: لا، الكلب أضنّ بشحمته، ولكنه فاخرني، فكلما ذكر رجلاً من قومه ذكرت رجلاً من قومي، حتى عدّ ابني منه، فوددت أن بيني وبينه البحر الأخضر؛ فقال لها: يا بينة، آل أبي سفيان أقل حظاً في الرجال من أن تكوني رجلاً.
وحدثني أبو بكر بن دريد رحمه الله قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: مر أعرابي برجل يكنى أبا الغمر، وكان ضخماً جسيماً، وكان بوّباً لبعض الملوك، فقال: أعن الفقير الحسير، فقال: ما ألحف سائلكم، وأكثر جائعكم! أراحنا الله منكم؛ فقال له الأعرابي: لو فرّق قوت جسمك في جسوم عشرة منا لكفانا طعامك في يوم شهراً، وإنك لعظيم الّرطة، شديد الضّرمة؛ لو ذرّى بحبقتك بيدر لكفته ريح الجربياء.
وحدثنا أبو عبد الله نفطويه قال حدّثنا محمد بن موسى السامي قال حدّثنا الأصمعيّ قال: دخل رجل من الأعراب على رجل من أهل الحضر فقال له الحضريّ: هل لك إلى أن أعلّمك سورة من كتاب الله؟ فقال: إني أحسن من كتاب الله ما إن علمت به كفاني؛ قال: وما تحسن؟ قال: أحسن سوراً؛ قال: اقرأ؛ فقرأ فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، وإّنا أعطيناك الكوثر؛ فقال له الرجل: اقرأ السورتين - يريد المعوذتين - ؛ فقال: قدم عليّ ابن عمّ لي فوهبتهما له، ولست براجع في هبتي حتى ألقى الله.
وحدثنا أبو بكر - رحمه الله - قال حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: سمع يونس رجلاً ينشد:
استودع العلم قرطاساً فضيّعه ... وبئس مستودع العلم القراطيس
قال: قاتله الله! ما أشد صبابته بالعلم وصيانته للحفظ! إنّ علمك من روحك، ومالك من بدنك، فصن علمك صيانتك روحك، ومالك صيانتك بدنك. وقرأت على أبي بكر بن دريد للنمر بن تولب:
أودى الشباب وحبّ الخالة الخلبه ... وقد برئت فما بالصدر من قلبه
وقد تثلّم أنيابي وأدركني ... قرن عليّ شديد فاحش الغلبه
وقد رمى بسراه اليوم معتمداً ... في المنكبين وفي الساقين والرّقبة

أودى: ذهب وهلك. والخالة جمع خائل، مثل بائع وباعة. والخلبة جمع خالب، مثل كافر وكفرة؛ يخبر أنه شيخ قد ترك صحبة الشباب والفتيان، وهم الخالة الخلبة الذين يختالون في مشيتهم ويخلبون النساء. ثم قال: برئت، أي برئ صدري من ودّهم والعلاقة بهم، فما به قلبه من ودّهم، يقال للإنسان وغريه من الحيوان: ما به قلبه، أي ما به وجع ولا مكروه، وأصله من القلاب، قال الأصمعيّ: القلاب: أن تصيب الغدّة القلب، فإذا أصابته لم يلبث البعير أن تقتله. وقوله أدركني قرن: يعني الهرم. وقوله: " وقد رمى بسراه اليوم معتمداً " فالسّرى جمع سروة، مثل رشوة ورشى، وهو نصل السهم إذا كان مدّوراً مدملكاً ولا عرض له؛ يريد أن الهرم قد رمى بسهامه في جميع جسده فأضعفه، كما قال: " في المنكبين وفي الساقين والرقبة " وحدثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو حاتم قال: سمعت الأصمعيّ كثيراً ما يقول: من قعد به نسبه، نهض به أدبه.
وأنشدنا أبو بكر بن دريد الخارجة بن فليح المللي:
أحنّ إلى ليلى وقدشطّ وليها ... كما حنّ محبوس عن الإلف نازع
إذا خوّفتني النفس بالنأي تارة ... وبالصّرم منها أكذبتها المطامع
أكلّ هواك الطّرف عن كل بهجة ... وصمّت عن الداعي سواك المسامع
وقرأت عليه لجميل بن معمر العذري:
ألم تعلمي يا عذبة الماء أنني ... أظلّ إذا لم أسق ماءك صاديا
وما زلت بي يا بثن حتى لو أنني ... من الوجد أستبكي الحمام بكى ليا
وددت على حبّ الحياة لو أنها ... يزاد لها في عمرها من حياتيا
وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى:
ومستوحش للبين يبدي تجلدا ... كما أوحش الكفين فقد الأصابع
وكم قد رأينا من قتيل لخلّة ... بسهم التّجنيّ أو بسهم التقاطع
وكم واثق بالدهر والدهر مولع ... بتألي شتى أو بتفريق جامع
وأنشدنا أيضاً قال أنشدنا إبراهيم بن عبد الله لعليّة بنت المهدي:
تجنّب فإن الحبّ داعية الحبّ ... وكم من بعيد وهو مستوجب القرب
تفكّر فإن حدّثت أن أخا هوى ... نجا سالماً فارج النّجاة من الحب
فأحسن أيام الهوى يومك الذي ... تروّع بالتحريش منه وبالعتب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب
وقال الأصمعيّ: من أمثال العرب " إنّه لساكن الرّيح " يقال ذلك للرجل الوادع. ويقال: " إنّه لواقع الطائر " مثل للرجل الساكن الأمر. ويقال: " في رأسه نعرة " مثل للرجل الطامح الرأس، الذي لا يستقر. ويقال: " الخرق شؤم " يراد به أن الرجل إذا خرق في أمر دخل عليه شؤمه. ويقال: " الرّفق يمن " وهو خلافه.
" مطلب تفسير مادة ك ل ل " وقال أبو نصر يقال: كلّ بصره يكلّ كلولا، وكلّ لسانه يكلّ كلّة وكلولا، وكلّ السيف كلّة وكلاً إذا لم يقطع، وكلّ في الإعياء كلالا، وكلّل يكلّل تكليلا إذا حمل على القوم، يقال: كلّل تكليلة السّبع. والكلالة: ما دون الوالد والولد، وانكلّت المرأة إذا ما تبسمت، وانكلّ السحاب إذا ما تبسم بالبرق، وكلأ يكلّئ تكلئة وتكليئاً، وكلّى تكلية إذا أتى مكاناً فيه مستتر، والكلاء والمكلا: مكان ترفأ فيه السفن، وهو ساحل كل نهر.
قال أبو علي وقال أبو زيد: كلأ القوم السفينة تكليئاً إذا حبسوها. وكلأت في الطعام تكليئاً وأكلأت إكلاء إذا أسلفت فيه. وما أهطيت فيه من الدراهم نسيئة فهي الكلاة.
قال أبو عليّ وقال أبو نصر: الكالئ: الدّين المؤخر، لم يهمزه الأصمعي وهمزه غيره. وأنشدني الأصمعيّ:
وإذا تباشرك الهمو ... م فإنّها كال وناحز
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن الكالئ بالكالئ كأنه نهى عن الدين بالدين، وهو النسئة بالنسيئة؛ وأبو عبيدة يهمز الكالئ. ويقال: تكلأت كلأة إذا استنسأت. ويقال: بلغ الله بك أكلأ العمر، يعني آخره. ويقال: اكتلأت من الرجل اكتلاء إذا احترست منه، واكتلأت عيني اكتلاء إذا لم تنم وسهرت.
" مطلب ما وقع بين المأمون والجارية بحضرة هارون الرشيد "

وحدّثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدّثني أبي قال حدّثني عبد الله بن عمرو بن عبد الرحمن الورّاق قال حدّثنا المفضل بن حازم قال حدّثنا منصور البرمكي قال: كان لهارون الرشيد جارية غلاميّة، - يعني وصيفة على قدّ الغلام - وكان المأمون يميل إليها وهو إذ ذاك أمرد، فوقفت يوماً تصبّ على يد الرشيد من إبريق معها، والمأمون جالس خلف الرشيد؛ فأشار المأمون إليها كأنه يقبلّها، فأنكرت ذلك بعينيها، وأبطأت في الصبّ على مقدار نظرها إلى المأمون وإشارتها إليه؛ فقال الرشيد: ما هذا! ضعي الإبريق من يدك، ففعلت؛ فقال: والله لئن لم تصدقيني لأقتلنك، فقالت: يا سيدي، أشار إليّ عبد الله كأنه يقبلني فأنكرت ذلك؛ فالتفت إلى المأمون ونظر إليه كأنه ميّت لما دخله من الجزع والخجل، فرحمه وضمّه إليه وقال: يا عبد الله، أتحبها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: هي لك، قم فادخل في تلك القبة، ففعل؛ ثم قال: هل قلت في هذا الأمر شعراً؟ قال: نعم يا سيدي، ثم أنشد:
ظبي كتبت بطرفي ... من الضمير إليه
قبلته من بعيد ... فاعتلّ من شفتيه
ورد أخبث رد ... بالكسر من حاجبيه
فما برح مكاني ... حتى قدرت عليه
" مطلب ما قيل في عناق الحبيب " ومن أحسن ما قيل في العناق ما أنشدناه أبو بكر بن الأنباري قال أنشدنا عبد الله بن خلف قال: أنشدني أحمد بن يحيى بن أبي فنن:
خلوت فنادمتها ساعة ... على مثلها يحسد الحاسد
كأنّا وثوب الدجى مسبل ... علينا لمبصرنا واحد
قال أبو بكر: وسرق هذا المعنى ابن المعتز فقال:
ما أقصر الليل على الراقد ... وأهون السّقم على العائد
يفديك ما أبقيت من مهجتي ... لست لما أوليت بالجاحد
كأنني عاتقت ريحانة ... تنفّست في ليلها البارد
فلو ترانا في قميص الدجى ... حسبتنا من جسد واحد
وأحسن في ذها المعنى علي بن العباس الرومي وأنشدناه الناجم عنه:
أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تداني
وألثم فاهاكي تموت حرارتي ... فيشتدّ ما ألقى من الهيمان
ولم يك مقدار الذي بي من الهوى ... ليشفيه ما ترشف الشفتان
كأن فؤادي ليس يشفى غليله ... سوى أن يرى الروحان يمتزجان
ولبعضهم في هذا المعنى:
رأيت شخصك في نومي يعانقني ... كما يعانق لام الكاتب الألفا
ولبشار:
فبتنا معاً لا يخلص الماء بيننا ... إلى الصبح دوني حاجب وستور
أخذ منه علي بن الجهم فقال:
فبتنا جميعاً لو تراق زجاجة ... من الخمر فيما بيننا لم تسرّب
" ما قيل في وصف الشعر بفتح الشين " وأحسن ما قيل في الشعر قول ابن الرومي أنشدناه الناجم عنه:
وفاحم وارد يقبّل مم ... شاه إذا اختال مرسلاً غدره
أقبل كالليل من مفارقه ... منحدراً لا يذم منحدره
حتى تناهى إلى مواطئه ... يلثم من كل موطئ عفره
كأنه عاشق دنا شغفاً ... حتى قضى من حبيبه وطره
وقرأت على أبي بكر بن دريد لبكر بن النطاح:
بيضاء تسحب من قيام فرعها ... وتغيب فيه وهو وحف أسحم
فكأنها فيه نهار ساطع ... وكأنه ليل عليها مظلم
ولمسلم:
أجدك ما تدرين أن ربّ ليلة ... كأنّ دجاها من قرونك تنشر
وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري رحمه الله لعبد الله بن المعتز:
سقتني في ليل شبيه بشعرها ... شبيهة خديها بغير رقيب
فأمسيت في ليلين بالشعر والدجى ... وشمسين من خمر وخدّ حبيب
" مطلب ما قيل في فتور الطرف " ومن أحسن ما قيل في فتور الطّرف قول أبي النواس:
ضعيفة كرّ الطّرف تحسب أنها ... قريبة عهد بالإفاقة من سقم
وقرأت على أبي بكر بن دريد لنفسه:
ليس السليم سليم أفعى حرة ... لكن سليم المقلة النجلاء
نظرت ولا وسن يخالط عينها ... نظر المريض بسورة الإغفاء

ولعبد الله بن المعتز:
وتجرح أحشائي بعين مريضة ... كما لان متن السيف والحدّ قاطع
عليم بما يخفى فؤادي من الهوى ... جواد يهجراني وللوصل مانع
وأنشدنا أبو بكر التاريخي قال أنشدني البحتري لنفسه:
وفي القهوة أشكال ... من الساقي وألوان
حباب مثل ما يض ... حك عنه وهو جذلان
وسكر مثل ما أسك ... ر طرف منه وسنان
وطعم الريق إذ جاد ... به الصّب هيمان
لنا من كفّه راح ... ومن ريّاه ريحان
وقرأت على أبي بكر بن دريد لعديّ بن الرّقاع:
وكأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحور من جاذر طاسم
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم
" مطلب ما قيل في الريق " ومن أحسن ما قيل في الريق ما أنشدناه أبو بكر بن الأنباري لبشار:
يا أطيب الناس ريقاً غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك
منّيتنا زورة في النوم واحدة ... فاثنى ولا تجعليها بيضة الديك
يا رحمة الله حلي في منازلنا ... حسبي برائحة الفردوس من فيك
ولعلي بن العباس الرومي أنشدناه الناجم عنه:
تعلّك ريقاً يطرد النوم برده ... ويشفي القلوب الحائمات الصواديا
وهل ثغب حصباؤه مثل ثغرها ... يصادف إلا طيب الطعم صافيا
وله أيضاً أنشدناه الناجم عنه:
يا ربّ ريق بات بدر الدجى ... يمجه بين ثناياكا
يروي ولا ينهاك عن شربه ... والماء يرويك وينهاكا
" من أحسن ما قيل في طروق الخيال " ومن أحسن ما قيل في طروق الخيال قول البحتري - وهو أحد المحسنين فيه حتى قيل: طيف البحتري - أنشدنيه التاريخي عنه:
ألمت بنا بعد الهدوء فسامحت ... بوصل متى تطلبه في الجد تمنع
وولت كأن البين يخلج شخصها ... أوان تولت من حشاي وأضلعي
وأنشدنا بعض أصحابنا للمؤمل:
أتاني الكرى ليلاً بشخص أحبه ... أضاءت له الآفاق والليل مظلم
فكلمني في النوم غير مغاضب ... وعهدي به يقظان لا يتكلم
وذكر العباس بن الأحنف ما العلة في طروق الخيال فقال:
خيالك حين أرقد نصب عيني ... إلى وقت انتباهي لا يزول
وليس يزورني صلة ولكن ... حديث النفس عنك به الوصول
وتبعه الطائي فقال:
زار الخيال لها لابل أزاركه ... فكر إذا نام فكر الخلق لم ينم
ظبي تقنّصته لما نصبت له ... في آخر الليل أشراكاً من الحلم
وأنشدنا علي بن هارون المنجم لعلي بن يحيى المنجم:
بأبي والله من طرقا ... كابتسام البرق إذ خفقا
زارني طيف الحبيب فما ... زاد أن أغرى بي الأرقا
" من أحسن ما قيل في مشي النساء " ومن أحسن ما قيل في مشي النساء ما أنشدناه صاحبنا أبو علي بن الأعرابي:
شبهت مشيتها بمشية ظافر ... يختال بين أسنّة وسيوف
صلف تناهت نفسه في نفسه ... لمّا انثنى بسنانه المرعوف
وقرئ على أبي بكر بن الانباري في شعر ابن مقيل وأنا أسمع:
يززن للمشي أوصالاً منعمة ... هزّ الجنوب معاً عيدان يبرينا
أو كاهتزاز رديني تناوله ... أيدي التجار فزادوا متنه لينا
يمشين هيل النقا مالت جوانبه ... ينهال حيناً وينهاه الثرى حينا
ولعمر بن أبي ربيعة قرأته على أبي عبد الله بن نفطويه:
أبصرتها غدوة ونسوتها ... يمشين بين المقام والحجر
بيضاً حساناً خرائدا قطفا ... يمشين هوناً كمشية البقر
قد فزن بالحسن والجمال معاً ... وفزن رسلاً بالدل والخفر
وللعباس بن الأحنف:
شمس مقدرة في خلق جارية ... كأنّما كشحها طيّ الطوامير
كأنها حين تمشي في وصائفها ... تمشي على البيض أو زرق القوارير
" مطلب ما قيل في الحسن " ومما قيل في الحسن:

إذا عبتها شبهتها البدر طالعاً ... وحسبك من عيب لها شبه البدر
وأنشدنا الناجم لنفسه في غير هذا المعنى:
طالبت من شرد نومي وذعر ... بقبلة تحسن في القلب الأثر
فقال لي مستعجلاً وما انتظر ... ليس لغير العين حظ في القمر
أخذه من علي بن الجهم حيث يقول:
وقلن لنا نحن الأهلة غنما ... نضئ لمن يسري بليل ولا نقرى
فلا نيل إلا ما تزود ناظر ... ولا وصل إلا بالخيال الذي يسرى
" ما قيل في القيان والعود " ومن أحسن ما قيل في قينة:
من كفّ جارية كأن بنانها ... من فضة قد طرقت عنابا
وكأن يمناها إذا نطقت بها ... تلقى على يدها الشمال حسابا
وحدّثنا أبو عبد الله بن نفطويه قال حدّثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال: سمع بعض العرب صوت العود، فقيل له: ما تسمع؟ فقال: حسناً، ولكن اقطع هذا الأبحّ فإني أشؤه - يريد البمّ - . ومن أحسن ما قيل في العود:
فكأنه في حجرها ولد لها ... ضمته بين ترائب ولبان
طوراً تدغدغ بطنه فإذا هفا ... عركت له أذناً من الآذان
ومن أحسن ما شبه به العود ما أنشدناه بعض أصحابنا:
كأن تثماله ساق إلى قدم ... نيطت إلى فخذ بانت عن الكفل
آذانه منه قد جمعن أربعة ... تجيب أربعة في كف معتمل
فذا إن وهذا فيه زمزمة ... وذاك صاف وهذا فيه كالصّحل
وللحمدوني:
وناطق بلسان لا ضمير له ... كأنه فخذ نيطت إلى قدم
يبدي ضمير سواه في الحديث كما ... يبدي ضمير سواه الخط بالقلم
ومن احسن ما يقل في وصف مغنيات قول ابن الرومي، وأنشدناه الناجم عنه:
وقيان كأنها أمهات ... عاطفات على بنيها حواني
مطفلات وما حملن جنيناً ... مرضعات ولسن ذات لبان
ملقمات أطفالهنّ ثدياً ... ناهدات كأحسن الرمان
مفعمات كأنها حافلات ... وهي صفر من درة الألبان
كل طفل يدعى بأسماء شتى ... بين عود مزهر وكران
أمّه دهرها تترجم عنه ... وهو بادي الغنى عن الترجمان
" وصية بعض الحكماء لابنه " وحدّثنا أبو بكر دريد رحمه الله قال حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: قال بعض الحكماء لابنه: يا بني، اقبل وصيتي وعهدي، إن سرعة ائتلاف قلوب الأبرار، كسرعة اختلاط قطر الطر بماء الأنهار؛ وبعد قلوب الفجار من الائتلاف، كبعد البهائم من التعاطف وإن طال اعتلافها على أرى واحد؛ كن يا بني بصالح الوزراء أغنى منك بكثرة عدتهم، فإن اللؤلؤة خفيف محملها كثير ثمنها، والحجر فادح حمله قليل غناؤه.
" حكمة من حكم الأحنف بن قيس " وحدّثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو حاتم عن أبي زيد قال حدّثنا هشام بن حسان الفردوسي عن الحسن قال: قال الأحنف بن قيس: الكذوب لا حيلة له؛ والحسود لا راحة له؛ والبخيل لا مروءة له؛ والملول لا وفاء له؛ ولا يسود سيء الأخلاق؛ ومن المروءة إذا كان الرجل بخيلاً أن يكتم ويتجمل.
وحدّثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو حاتم قال: قيل للأحنف: بم بلغت ما بلغت؟ قال: لو عاب الناس الماء ما شربته.
قال: وقال: من لم يسخ نفساً عن الحظ الجسيم للعيب الصغير، لم يعد سفيقاً على نفسه، ولاصائناً لعرضه. وقال الأصمعي: من أمثال العرب: " دع بنيات الطريق " أي اقصد لمعظم الشأن. ويقال: " لا توبس الثرى بيني وبينك " أي لا تقطع الودّ الذي بيننا. ويقال: " السعيد من اتعظ بغيره " يراد من رأى غيره فاتعظ سعد. ويقال: " طويته على بللته " يراد استبقيته قبل أن يبلغ فساده، وذلك أن السقاء إذا طويته وهو مبتل تثنى، وإذا طوي وهو يابس تكسر، أي فقد طلبت مصلحته.
" مطلب ما تقول العرب في معنى لا أفعل ذلك أبداً " وقال أبو زيد: يقال: لا تري ذلك يا فلان ما سمر ابنا سمير، وهما الليل والنهار؛ وأنشدنا ابن الأعرابي:
وشبابي قد كان من لذة العي ... ش فأودى وغاله ابنا سمير

وقال أبو زيد: ولا أفعل ذلك ما أبس عبد بناقته، وهو تحريكه شفتيه حين يريد أن تقوم له؛ وقال ابن الأعرابي: وإبساسه: استدراره إياها للحلب وخدعه لها ولطفه بها؛ وأنشدني لأبي زبيد:
فلحا الله صاحب الصلح منا ... ما أطاف المبس بالدهماء
وقال أبو زيد: ولا أفعل ذلك ما غرّد الطائر تغريداً. ولا أفعل ذلك آخر الأوجس، وهو الدهر. وأنشدني أبو بكر بن دريد لمرار الفقعسي:
لا يشترون بهجعة هجعوا بها ... ودواء أعينهم خلود الأوجس
وقال اللحياني: لا أفعل ذلك سجيس الأوجس؛ وسجيس عجيس، وزاد ابن الأعرابي: وما غبا غبيس؛ وانشد:
قد ورد الماء بليل قيس ... نعم وفي أم البنين كيس
عن الطعام ما غبا غبيس
ولا أفعله السمر والقمر. ولا أفعله ما حدا الليل النهار. وما أرزمت أم حائل، والحائل: الأنثى من أولاد الإبل؛ قال أبو ذؤيب:
فتلك التي لا يبرح القلب حبها ... ولا ذكرها ما أرزمت أم حائل
ولا أفعله يد المسند وهو الدهر؛ قال الشاعر:
لقلت من القول مالايزا ... ل يؤثر عني يد المسند
ولا أفعله يد الدهر. ولا أفعله ما أنّ في السماء نجماً؛ معناه ما كان في السماء نجم. ولا أفعله ما سجع الحمام. وما حملت عيني الماء. وما بل بحرصوفة. ولا أفعل ذلك ما أطّت الإبل. وأطيطها: حنينها؛ وقال أبو عبيد: أطيط الإبل: نقيض جلودها عند الكنطة؛ قال الأعشى:
ألست منتهياً عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطت الإبل
وقال اللحياني: ولا أفعل ذلك ما لألأت الفور والعفر والظباء، أي ما حركت أذنابها. ولا أفعل ذلك ما حنت الدهماء؛ وهي ناقة. ولا أفعل ذلك ما حنت النيب.
قال أبو علي: وقال أبو زيد: لا أفعل ذلك ما اختلف الملوان والأجدان، وهما الليل والنهار؛ وزاد اللحياني: والجديدان، وهما الليل والنهار. وقال يعقوب: والفتيان، وهما الليل والنهار أيضاً، وكذلك العصران. وغيره يقول العصرا: الغداة والعشي؛ وهو الأجود عندنا. وزاد ابن الأعرابي: ولا أفعله القرتين. وأنشدنا ابن الأعرابي للصلتان العبدي في الفتيين:
ما لبث الفتيان أن عصفا بهم ... ولكل حصن يسراً مفتاحا
وأنشد أيضاً في العصرين:
ولا يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
وأنشد يعقوب في الملوين لابن مقبل:
ألا يا ديار الحيّ بالسبعان ... أملّ عليها بالبلى الملوان
وقال أبو زيد: لا أفعل ذلك ما هدهد الحمام، أي ما غرّد. وما خالفت درة جرة، وما اختلفت الدرة والجرة، واختلافهما أن الدرة تسفل إلى الرجلين والجرة تعلو إلى الرأس. ولا آتيك حتى يبيض القار. ولا آتيك سجيس الليالي؛ وأنشد ابن الأعرابي:
ذخرت أبا عمرو لقومك كلهم ... سجيس الليالي عندنا أكرم الذخر
وقال أبو زيد: ولا أفعل ذلك حتى يجن الضب في أثر الإبل الصادرة. ولا أفعل ذلك أبد الأبيد، وأبد الآبدين، وأبد الأبدية؛ وزاد اللحياني: وأبد الآباد. وقال أبو زيد: ويقال لا آتيك سن الحسل: أي حتى يسقط فوه، وهو لا يسقط أبداً، إنما أسنانه كالمنشار؛ وأنشد ابن الأعرابي وغيره:
تسألني عن السنين كم لي ... فقلت لو عمرت عمر الحسل
أو عمر نوح زمن الفطحل ... والصخر مبتل كطين الوحل
وسألت أبا بكر بن دريد رحمه الله عن زمن الفطحل فقال: تزعم العرب أنه زمان كانت فيه الحجارة رطبة.
" مطلب شرح مادة و ت ر " وقال الأصمعيّ: الحتار: الوتر الذي يكون في القوس، وحتار كل شيئ: وترته، وهو حرفه، ووتره كل شيء: حرفه. ووترة الأنف: حرفه؛ ويقال: ما زال على وتيرة واحدة، أي على طريقة واحدة؛ والوتيرة: حلقة يتعلم عليها الطعن؛ وأنشد:
تبارى قرحة مثل ال ... وتيرة لم تكن مغدا
قال أبو علي: المغد النتف. والوتيرة: شيء مستطيل من الأرض ينقاد؛ قال الهذلي:
فذاحت بالوتائر ثم بدت ... يديها عند جانبها تهيل
وقال الأصمعيّ: فذاحت أسرعت. وبدت: فرقت؛ وحدثنا أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد قال: قال أبو عمر الشيباني: ذاحت: حفرت. والوتيرة: الفترة والتواني، قاله أبو نصر؛ وأنشد لزهير:

نجاء مجد ليس فيه وتيرة ... وتذبيبها عنه بأسحم مذود
وقال أبو نصر: سمعت من غير الأصمعيّ: الوتائر: ما بين الأصابع، الواحدة وتيرة؛ وقال الأصمعيّ: الوتر: الفرد، وأهل الحجاز يفتحون الواو في الفرد ويكسرونها في الذحل، ومن تحتهم من قيس وتميم يسوونهما في الكسر؛ ويقولون في الفرد: أوترت أوتر إيتاراً، وفي الذحل: وترته فأنا أتره ترة ووتراً. ويقال: تواترت الإبل والقطا إذا جاءت بعضها خلف بعض ولم يجئن مصطفات؛ وأنشد:
قرينة سبع إن تواترن مرة ... ضربن فصفت أرؤس وجنوب
ومنه واتركتبك. والمواترة: أن يجيء السيء وبينهما هنية، فإن تتابعت فليست بمتواترة. ويقال: وتر قوسه وأوترها.
وقرأت على أبي بكر بن دريد للنمر بن تولب:
أشاقتك أطلال دوارس من دعد ... خلاء مغانيها كحاشية البرد
على أنها قالت عشية زرتها ... هبلت ألم ينبت لذا حلمه بعدي
أشتاقتك: هيجتك وشوقتك. والمغاني: المنازل التي كانوا يغنون بها، أي يقيمون بها، واحدها مغنىً. وهبلت: ثكلت؛ والعرب تقول: لأمك الهبل، أي الثكل. وقوله : ألم ينبت لذا حلمه بعدي، يعني ضرس حلمه وهو أقصى الأضراس وآخرها نباتاً.
وقال يعقوب: يقال: سانيته وفانيته وصاديته وداليته وراديته، وهي المساناة والمفاناة والمصاداة والمدلاة والمراداة، وهي المساهلة؛ وأنشد للبيد:
وسانيت من ذي بهجة ورقيته ... عليه السموط عابس متغضب
وفارقته والودّ بيني وبينه ... وحسن الثناء من وراء المغيب
إذا الله سنّى عقد أمر تيسراً
وأنشد: وأخبرنا الغالبي قال قال لنا ابن كيسان أبو الحسن: أنشدني هذا البيت المبرد:
فلا تيأسا والستغورا الله إنه ... إذا الله سنّى عقد أمر تيسرا
استغوراه: سلاه الغيرة، وهي الميرة، أي سلاه الرزق. وأنشد يعقوب لنصيب في المفاناة:
تقيمه تارةً وتقعده ... كما يفاني الشموس قائدها
وأنشد في المصاداة لمزرد:
ظللنا نصادي أمنا عن حميتها ... كأهل الشموس كلهم يتودّد
وقال العجاج في المدالاة:
يكاد ينسل من التصدير ... على مدالاتي والتوقير
وقرأت على أبي بكر في المراداة لطفيل الغنوي:
يرادى على فأس اللجام كأنّما ... يرادى به مرقاة جذع مشذب
وقال غير يعقوب: راديته وداريته واحد. وقرأنا على أبي بكر بن دريد للغنوي:
ظللنا معاً جارين نحترس الثأى ... يسائرني من نطفة وأسائره
وصف سبعاً. نحترس الثأى، أي كل واحد منا يخاف صاحبه أن يغدر به. والثأى: الفساد، وأصله في الخرز، وهو أن تنخرم الخرزتان فتصيرا واحدة فيتسع الثقب فيفسد، ثم جعل مثلاً لكل فساد. ويسائرني، من السؤر وهي البقية، أي يرد قبلي فيبقى لي، وأرد قبله فأبقي به.
" مطلب خطبة عتبة بمكة عام حج وما دار بينه وبين الأعرابي " وحدّثنا أبو بكر رحمه الله قال حدّثنا أبو عثمان عن العتبي عن أبيه عن هشام بن صالح عن سعيد قال: حج عتبة سنة إحدى وأربعين - والناس قريب عهدهم بفتنة - فصلى بمكة الجمعة، ثم قال: أيها الناس، إنا قد ولينا هذا المقام الذي يضاعف فيه للمحسن الأجر، وعلى المسيء فيه الوزر؛ ونحن على طريق ما قصدنا، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع دوناا؛ وربّ متمن حتفه في أمنيته، فاقبلوا العافية ما قبلناها فيكم وقبلناها منكم؛ وإياكم ولواً فإنها أتعبت من كان قبلكم، ولن تريح من بعدكم؛ وأنا أسأل الله أن يعين كلاً على كل. فصاح به أعرابي: أيها الخليفة؛ فقال: لست به ولم بتعد؛ فقال: يا أخاه، فقال: سمعت فقل؛ فقال: تالله أن تحسنوا وقد أسأنا، خير من أن تسيئوا وقد أحسنا، فإن كان الإحسان لكم دوننا فما أحقكم باستتمامه وإن كان منا؛ فما أولاكم بمكافاتنا؛ رجل من بني عامر بن صعصعة يلقاكم بالعمومة، ويقرب غليكم بالخؤلة؛ قد كثرة العيال، ووطئه الزمان؛ وبه فقر، وفيه أجر، وعنده شكر. فقال عتبة: أستغر الله منكم، وأستعينه عليكم؛ قد أمرنا لك بغناك، فليت إسراعنا إليك، يقوم بإبطائنا عنك.

وحدّثنا أبو بكر قال أخبرنا العكلي قال حدّثنا أحمد بن محمد المزني قال: قال أبو جهم بن حذيفة لمعاوية: نحن عندك يا أمير المؤمنين كما قال عبد المسيح لابن عبد كلال:
نميل على جوانبه كأنا ... نميل إذا نميل على أبينا
نقلبه لنخبر حالتيه ... فنخبر منهما كرماً ولينا
فأمر له بمائة ألف.
حديث أسيد بن عنقاء الفزاري وما كان من مواساة عميلة الفزاري له وما مدحه به.
وحدّثنا أبو بكر بن شقير النحوي في منزله في غلة صافي ونحن يومئذ نقرأ عليه كتب الواقدي في المغازي وكان يرويها عن أحمد بن عبيد عن الواقدي، قال حدّثنا أحمد بن عبيد بن ناصح قال: كان أسيد ابن عنقاء الفزاري من أكثر أهل زمانه وأشدهم عارضة ولساناً، فطال عمره، ونكبه دهره، واختلت حالته؛ فخرج عشية يتبقّل لأهله، فمر به عميلة الفزاري فسلم عليه وقال: يا عم، ما أصارك إلى ما أرى من حالك؟ فقال: بخل مثلك بماله، وصوني وجهي عن مسألة الناس؛ فقال: والله لئن بقيت إلى غد لأغيرن ما أرى من حالك؛ فرجع ابن عنقاء إلى أهله فأخبرها بما قال له عميلة؛ فقالت له: لقد غرك كلام غلام جنح ليل؛ فكأنما ألقمت فاه حجراً متململاً بين رجاء ويأس، فلما كان السحر سمع رغاء الإبل، وثغاء الشاء، وصهيل الخيل، ولجب الأموال فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا عميلة ساق إليك ماله؛ قال: فاستخرج ابن عنقاء ثم قسم ماله شطرين وساهمه عليه؛ فأنشأ ابن عنقاء يقولك
رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسر كما جهر
دعاني فآساني ولو ضن لم ألم ... على حين لا بدو يرجى ولا حضر
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه ... تردّى رداء سابغ الذيل وأتزر
غلام رماه الله بالخير مقبلاً ... له سيماء لا تشق على البصر
كأن الثريا علقت فوق نحره ... وفي أنفه الشعرى وفي خده القمر
إذا قيلت العوراء أغضى كأنه ... ذليل بلا ذل ولو شاء لانتصر
وأنشدنا أبو عبد الله قال أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
كريم يغض الطرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دواني
وكالسيف إن لاينته لان متنه ... وحدّاه إن خاشنته خشنان
وأنشدنا أبو بكر بن دريد:
يشبهون ملوكاً في تجلتهم ... وطول أنضية الأعناق والأمم
إذا غدا المسك يجري في مفارقهم ... راحوا كأنهم مرضى من الكرم
وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال انشدنا أحمد بن يحيى:
تخالهم للحلم صماً عن الخنا ... وخرساً عن الفحشاء عند التهاتر
ومرضى إذا لاقوا حياءً وعفةً ... وعند الحروب كالليوث الخوادر
لهم ذل إنصاف ولين تواضع ... بهم ولهم ذلت رقاب المعاشر
كأن بهم وصماً يخافون عاره ... وما وصمهم إلا اتقاء المعاير
وأنشدنا أيضاً عن أبي العباس:
أحلام عاد لا يخاف جليسهم ... إذا نطقوا العوراء غرب لسان
إذا حدثوا لم تخش سوء أسماعهم ... وإن حدثوا أدوا بحسن بيان
وأنشدني أيضاً قال أنشدني أبي:
يصمّ عن الفحشاء حتى كأنه ... إذا تركت في مجلس القوم غائب
له حاجب عن كل ما يصم الفتى ... وليس له عن طالب العرف حاجب
وأنشدنا أيضاً قال أنشدني أبي لبكر بن النطاح يمدح خربان بن عيسى قال: وكان أبو عبيدة يقول: لم أسمع لهؤلاء المدثين مثل هذا:
لم ينقطع أحد إليك بوده ... إلا اتقته نوائب الحدثان
كل السيوف يرى لسيفك هيبة ... وتخافك الأرواح في الأبدان
قالت معدّ والقبائل كلّها ... إن المنية في يدي خربان
ملك إذا أخذ القناة بكفه ... وثقت بشدة ساعد وبنان
وقرأت على أبي جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة عن أبيه للأسدي:
ولائمة لامتك يا فيض في الندى ... فقلت لها هل يقدح اللّوم في البحر
أرادت لتثنى الفيض عن عادة الندى ... ومن ذا الذي يثنى السحاب عن القطر

مواقع جود الفيض في كل بلدة ... مواقع ماء المزن في البلد القفر
وحدثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو حاتم عن أبيه عن يونس عن أبي عمرو بن العلاء قال: لما توج النعمان واطمأن به سريره، دخل عليه الناس وفيهم أعرابي فأنشأ يقول:
إذا سست قوماً فاجعل الجود بينهم ... وبينك تأمن كل ما تتخوف
فإن كشفت عند الملمات عورة ... كفاك لباس الجود ما يتكشف
فقال: مقبول منك نصحك، ممن أنت؟ قال: انا رجل من جرم؛ فأمر له بمائة ناقة؛ وهي أول جائزة أجازها.
وقرأت على أبي بكر وأنشدناه أبو عبد الله نفطويه عن أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي لقيس ابن عاصم المنقري:
إني امرؤ لا يعتري حسبي ... دنس يفنده ولا أفن
من منقر في بيت مكرمة ... والفرع ينبت حوله الغصن
خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه مصاقع لسن
لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن
وأنشدنا أبو بكر قال أنشدنا أبو حاتم عن أبي عبيدة للعرندس أحد بني بكر بن كلاب يمدح بني عمرو الغنويين قال: وكان الأصمعيّ يقول: هذا المحال، كلابيّ يمدح غنوياً!:
هينون لينون أيسار ذوو كرم ... سواس مكرمة أبناء أيسار
إن يسألوا الخير يعطوه وإن خبروا ... في الجهد أدرك منهم طيب أخبار
فيهم ومنهم يعد الخير متلّداً ... ولا يعدّ نثا خزي ولا عار
لا ينطقون عن الأهواء إن نطقوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثار
من تلق منهم لاقيت سيّدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
وقرأت عليه للنمر بن تولب:
ثم استمرت تريد الريح مصعدة ... نحو الجنوب فعزتها على الريح
قوله: تريد الريح؛ يعني الطريدة تستقبل الريح أبداً، وإنما تفعل ذلك لتبرد أجوافها باستقبال الريح. وعزّتها: غلبتها، يعني فرسه غلبت الطريدة، والدليل على ذلك قوله قبل هذا البيت:
لقد غدوت بصهبي وهي ملهبة ... إلهابها كضرام النار في الشيح
وصهبى: اسم فرسه؛ ثم قال:
جاءت لتسنحني يسراً فقلت لها ... على يمينك إنّي غير مسنوح
جاءت، يعني الطريدة. لتسنحني، أي لتمضي على يساري، ثم قال: ثم استمرت تريد الريح.
وحدّثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: قال بعض الحكماء: إن مما سخا بنفس العاقل عن الدنيا علمه بأن الأرزاق فيها لم تقسم على قدر الأخطار.
وحدّثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدّثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال حدّثنا عمر ين شبّة يا بنيّ، لا يهدينّ أحدكم إلى ربّه ما يستحي أن يهديه إلى حريمه، فإن الله أكرم الكرماء، وأحق من اختير له. قال: وكان يقول: يا بنيّ، تعلّموا العلم ، فإنكم إن تكونوا صغار قوم فعسى أن تكونوا كبراءهم، واسوءتا! ماذا أقبح من شيخ جاهل؟ وكان يقول: إذا رأيتم خلّةً رائعة من شر من رجل فاحذروه وإن كان عند الناس رجل صدق، فإن لها عنده أخوات، وإذا رأيتم خلة رائعة من خير من رجل فلا تقطعوا إناتكم منه وإن كان عند الناس رجل سوءٍ، فإن لها عنده أخوات. وقال: الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم.
وحدّثنا أبو بكر رحمه الله قال حدّثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: وجد في حكمة فارس: إني وجدت الكرماء والعقلاء يبتغون إلى كل صلة ومعروف سبباً؛ ورأيت المودّة بين الصالحين سريعاً اتصالها، بطيئاً انقطاعها، ككوب الذهب سريع الإعادة إن أصابه ثلم أو كسر؛ ورأيت المودة بين الأشرار بطيئاً اتصالها، سريعاً انقطاعها، ككوب الفخّار، إن أصابه ثلم أو كسر فلا إعادة له؛ ورأيت الكريم يحفظ الريم على اللّقاءة الواحدة ومعرفة اليوم؛ ورأيت اللئيم لا يحفظ إلا رغبةً أو رهبة.
" مطلب خطبة عتبة بمصر وكان قد غضب لأمور بلغته عن أهلها "

وحدثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو عثمان عن العتبي عن أبيه عن هشام بن صالح عن سعد قال: كنا بمصر فبلغنا أمور عن أهلها، فصعد عتبة المنبر مغضباً فقال: أيا حاملين ألأم أنوف ركّبت بين أعين، إنما قلّمت أظفاري عنكم ليلين مسّى إياكم، وسألتكم صلاحكم لكم إذ كان فسادكم راحعاً عليكم؛ فأمّا إذ رأيتم إلا الطعن في الولاة والتنقّص للسلف، فوالله لأقطّعن على ظهوركم بطون السياط، فإن حسمت داءكم وإلا فالسيف من ورائكم؛ فكم من موعظة منّا لكم محبتها قلوبكم، وزجرة صمّت عنها آذانكم؛ ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذ جدتم لنا بالمعصية، ولا أويسكم من مراجعة الحسنى إن صرتم إلى التي هي أبرّ وأتقى.
وحدثنا أبو رحمه الله قال حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: قال الأجنف بن قيس: إن الله جعل أسعد عباده عنده وأرشدهم لديه وأحظاهم يوم القيامة، أبذلهم لمعروف يداً، وأكثرهم على الإخوان فضلاً، وأحسنهم له على ذلك شكراً.
وحدّثنا أبو بكر بن الأنباري - رحمه الله - قال حدّثني أبي عن أحمد بن عبيد عن الزيادي عن المطلب بن المطلب بن أبي وداعة عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله تعالى عنه عند باب بني شيبة فمرّ رجل وهو يقول:
يا أيّها الرجل المحوّل رحله ... ألاّ نزلت بآل عبد الدار
هبلتك أمّك لو نزلت برحلهم ... منعوك من عدم ومن إفتار
قال: فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال: " أهكذا قال الشاعر " ؟ قال: لا والذي بعثك بالحق، لكنه قال:
يا أيها الرجل المحوّل رحله ... إلا نزلت بآل عبد مناف
هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ... منعوك من عدم ومن إقراف
الخالطين فقيرهم بغنيّهم ... حتى يعود فقيرهم كالكافي
ويكلّلون جفانهم بسديفهم ... حتى تغيب الشمس في الرّجّاف
منهم عليّ والنبيّ محمد ... القائلان هلّم للأضياف
قال: فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " هكذا سمعت الرّواة ينشدونه " .
وحدثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو حاتم وعبد الرحمن عن الأصمعي عن بعض موالي بني أميّة قال: خرج داود بن سلم إلى حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية، فلما قدم عليه قام غلمانه إلى متاعه فأدخلوه وحطّوا عن راحلته، فلما دخل أنشده:
ولما دفعت لأبوابهم ... ولاقيت حرباً لقيت النجاجا
وجدناه يحمده المعتفون ... ويأبى على العسر إلا سماحا
ويغشون حتى ترى كلبهم ... يهاب الهرير وينسى النّباحا
فأمر له بجوائز كثيرة، ثم استأذنه في الانصراف فأذن له وأعطاه ألف دينار، فلما خرج من عنده وغلمانه جلوس لم يقم إليه أحد منهم ولم يعنه، فظن أن حرباً ساخط عليه فرجع إليه وقال: أواجدٌ أنت عليّ؟ قال: لا، ولم ذلك؟ فأخبره خبر الغلمان، قال: ارجع إليهم فسلهم، فرجع إليهم فسألهم، فقالوا: إنا ننزل الضيف ولا نرحّله، فلما قدم المدينة، سمع الغاضريّ بحديثه فأتاه فقال: إني أحب أن أسمع هذا الحديث منك، فحدّثه، فقال: هو يهوديّ أو نصرانيّ إن لم يكن فعل الغلمان أحسن من شعرك.
وقرأت علي أبي بكر بن دريد للنمر بن تولب:
تضمّنت أدواء العشيرة بينها ... وأنت على أعواد نعشٍ تقلّب
قوله: تضمنت أدواء العشيرة بينها، أي ضمنت ما كان في العشيرة من داء أو فساد إذ كنت فيهم حيّاً، وأنت اليوم على أعواد نعش. قال الأصمعي: تضمنت: أصلحت، والمعنى عندي: أنه كان يضمن دماء العشيرة فيصلح بينها.

" مطلب امتداح أبي العتاهية لعمر بن العلاء وحسد الشعراء له على أعطاه من الجائزة وحدّثنا " أبو بكر بن الأنباري قال حدّثنا عبد الله بن خلف قال حدّثنا إسحاق بن محمد النجعيّ قال حدّثني محمد بن سهل قال حدّثني المدائني قال: امتدح أبو العتاهية عمر بن العلاء مولى عمرو ابن حريث صاحب المهديّ، فأمر به بسبعين ألف درهم، وأمر من حضره من خدمه وغلمانه أن يخلعوا عليه، فخلعوا عليه حتى لم يقدر على القيام لما عليه من الثياب؛ ثم إن جماعة من الشعراء كانوا بباب عمر، فقال بعضهم: يا عجباً للأمير، يعطى أبا العتاهية سبعين ألف درهم! فبلغ ذلك عمر فقال: عليّ بهم، فأدخلوا عليه، فقال: ما أحسد بعضكم لبعض يا معشر الشعراء! إن أحدكم يأتينا يريد مدحنا فيشبّب في قصديته يصديقته بخمسين بيتاً، فما يبلغنا حتى تذهب لذاذة مدحه ورونق شعره، وقد أتانا أبو العتاهية فشبّب بيتين ثم قال:
إني أمنت من الزمان وريبه ... لما علقت من الأمير حبالا
لو يستطيع الناس من إجلاله ... لحذوا له حرّ الوجوه نعالا
ما كان هذا الجود حتى كنت يا ... عمراً ولو يوماً تزول لزالا
إنّ المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسباً ورمالا
فإذا أتين بنا أتين مخفّةً ... وإذا رجعن بنا رجعن ثقالا
فقال له عمر حين مدحه: أقم حتى أنظر في أمرك، فأقام أياماً ولم ير شيئاً، وكان عمر ينتظر مالاً يجيء من وجه فأبطأ عليه، فكتب إليه أبو العتاهية:
يا بن العلاء ويا بن القوم مرداس ... إني امتدحتك في صحبي وجلاسي
أثني عليك ولي حال تكذّبني ... فيما أقول فأستحيي من الناس
حتى إذا قيل ما أعطاك من صفد ... طأطأت من سوء حال عندها راسي
فقال عمر لحاجبه: اكفنيه أياماً، فقال له الحاجب كلاماً دفعه به، وقال له: تنتظر، فكتب إليه أبو العتاهية:
أصابت علينا جودك العين يا عمر ... فنحن لها نبغي التمائم والنّشر
أصابتك عين في سخائك صلبةٌ ... ويا ربّ عين صلبة تفلق الحجر
سنرقيك بالأشعار حتى تملّها ... فإن لم تفق منها رقيناك بالسّور
قال: فضحك عمر، وقال لصاحب بيت ماله: كم عندك؟ قال: سبعون ألف درهم، قال: ادفعها إليه، ويقال: إنه قال له: اعذرني عنده ولا تدخله عليّ فإني أستحي منه.
قال أبو عليّ: قال الأصمعي: من أمثال العرب: " العبد من لاعبد له " أي من لم يكن له عبد ولا كافٍ امتهن نفسه. ويقال: " لو كويت على داء لم أكره " أي لو عوتبت على ذنب ما امتعضت. ويقال: " كمبتغي الصيد في عرّيسة الأسد " يضرب مثلاً للرجل يطلب الغنيمة في موضع الهلكة. ويقال : " أجود من لافظة " وأراد بلافظة البحر. ويقال: " أجبن من صافر " وأراد بصافر: ما يصفر من الطير، وإنما يوصف بالجبن لأنه ليس من سباعها. وقرأنا على أبي بكر بن دريد قول الراجز:
قد علمت إن لم أجد معينا ... لأخلطنّ بالخلوق طينا
يعني امرأته، يقول: قد علمت إن لم أجد معينا يعينني على سقيها، سأستعين بها وأستعملها حتى يختلط ما عليها من الخلوق بالطين والماء.
" مطلب ما تقول العرب في معنى أخذت الشيء كله " وقال يعقوب بن السكيت: يقال: أخذه بأجمعه وأجمعه، وأخذه بحذافيره، وقال أبو عبيدة عن الكسائي: اخذه بحذافيره وجذاميره وجزاميره وجراميزه؛ وحكى عن أبي عبيدة: بربّانه بفتح الراء في معناها؛ وعن الأصمعي: بربّانه أي بجميعه؛ قال: وقال الفرّاء: أخذه بصنايته وسنايته مثله. وقال يعقوب: وأخذه بجلمته، وقال لي أبو يكر بن الأنباري: وبجلمته أيضاً، وقال يعقوب: وأخذه بزغبره، وقال لي أبو بكر بن الأنباري: يقال: بزغبره، وأظنني سمعت اللغتين جميعاً من أبي بكر ابن دريد، وقال يعقوب: وأخذه بزوربره، وأنشد لابن أحمر:
وإن قال غاوٍ من تنوخ قصيدةً ... بها جربٌ عدّت عليّ بزوبرا

وقال أبو عبيدة: وأخذه بزأبره، وقال يعقوب: وأخذه بصبرته وبأصباره، وأخذه بزأبجه وبزأمجه، وأخذه بأصليته، وأخذه بظليفته، وأخذه مكهملا؛ قال: حكى أبو صاعد: أخذه بزوبره وبأزمله: كلّه أخذه بربغه وبحداثته وبربّانه. قال أبو الحسن بن كيسان: هذه الثلاثة معناها: بأوّله وابتدائه، وأنشد لابن أحمر:
وإنّما العيش بربّانه ... وأنت من أفنانه مقتفر
أخبرني بذلك الغالبي عن ابن كيسان، وروى أبو عبيدة في بيت ابن أحمر.
وأنت من أفنانه معتصر
وقال أبو نصر وغيره عن الأصمعي: إنه قال: بربّانه: بحداثته.
" مطلب شرح مادة جلا وجلل " وقال الأصمعي: جلوت العروس أجلوها فهي مجلوّة، وجلوت المرآة أجلوها فهي مجلوّة، ومصدرهما جميعاً جلاء، ويقال: أعط العروس جلوتها، وقد جلاّها زوجها وصيفةً أي اعطاها حين سئل الجلوة، وزوجها يجلّيها تجلية. وجلّى الطائر تجلية إذا أبصر الصيد من مكان بعيد. وجلّ القوم يجلّون جلولاً، وجلا القوم يجلون جلاءً إذا خرجوا من بلد إلى بلد، ومنه قيل: استعمل فلان على الجالّة والجالية، وهو أن يجعل على قوم خرجوا من بلد إلى بلد، فالجالّة من جللت، والجالية من جلوت. وجلّ البعر يجلّه جلاً إذا التقطه. والجلّة: البعر. والإبل الجلالة: التي تأكل الجلّة. ويقال: خرج الإماء يجتللن، أي يأخذن الجلّة، وأنشد لعمر بن لجأ يصف ناقة:
تحسب مجتلّ الإماء الحرّم ... من هدب الضّمران لم يحزّم
تحسب، أي تكفي. والمجتلّة: التي تلقط الجلّة. وقوله: من هدب الضمران، أي من بعر إبل رعت هدب الضمران فبعرت، وذكر الضمران لأنه من أجود ما يرعى. وقوله: لم يحزّم، أي هو بعر منثور لم يحزم كما يحزّم الضمران إذا احتطب. وجلّ الرجل يجلّ جلّة إذا عظم وغلظ، وكذلك الصبيّ والعود. وإبلٌ جلّة، أي مسنّة، وقد جلّت إذا أسنّت، ومشيخة جلّة أي مسانّ، والواحد جليل. والمجلّة: صحيفة كان يكتب فيها شيء من الحكم؛ وأنشد بيت النابغة الذبياني:
مجلّتهم ذات الإله ودينهم ... قويمٌ فما يرجون غير العواقب
قال أبو حاتم: يروي مجلّتهم ومحلّتهم، فمن روى مجلتهم، أراد الصحيفة، ومن روى محلتهم، أراد بلادهم الشام. والجلل: الصغير اليسير. والجليل: العظيم. وقال أبو نصر: والجلل: العظيم أيضاً. وقال أبو بكر بن الأنباري: وجدت في كتاب أبي عن أحمد بن عبيد عن أبي نصر، كان الأصمعي يقول: الجلل: الصغير اليسير، ولا يقول: الجلل: العظيم.
قال أبو علي قال الأصمعي: لا يقال: الجلال إلا في الله عزّ وجلّ، وقال أبو حاتم: وقد يقال، وأنشد:
فلا ذا جلالٍ هبنه لجلاله ... ولا ذا ضياعٍ هنّ يتركن للفقر
وجلّ كل شيء: العظيم منه. وقرأت على أبي بكر بن دريد في كتاب الأبواب للأصمعيّ: فعلت ذاك من جلل كذا وكذا، أي من عظمه في صدري. وقال أبو نصر: فعلت ذاك لجللك وجلالك أي لعظمتك في صدري، وأنشد الأصمعيّ لجميل:
رسم دارٍ وقفت في طلله ... كدت أقضي الغداة من جلله
ورويت من غير هذا الوجه تفسير من جلله: من أجله. ويقال: فعلت ذلك من أجلك وجللك وجلالك، وأنشد الأصمعيّ في جلالك:
وغيدٍ نشاوى من كرىً فوق شزّبٍ ... من الليل قد نبهّتهم من جلالكا
أي من أجلك. والجلّى: الأمر العظيم، وجمعها جلل. والجليل: الثّمام، واحدته جليلة، وأنشد الأصمعيّ:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً ... بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليل
وذكر شيوخنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع بلالاً ينشد هذا البيت فقال: " حننت يابن السوداء " . ويقال هو ابن جلا، أي المنكشف المشهور الأمر، وأنشد الأصمعيّ:
أنا ابن جلا وطلاع الثّنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
قال: وابن أجلى مثله، وأنشد للعجاج:
لاقوا به الحجاج والإصحارا ... به ابن أجلى وافق الإسفارا
قال: ولم أسمع بابن أجلى إلا في بيت العجاج. وقوله: لاقوا به، أي بذلك المكان، وقوله الإصحارا أي وجدوه مصحراً، ووجدوا به ابن أجلى، كما تقول: لقيت به الأسد، أي كأني لقيت بلقائي إياه الأسد. وقوله: وافق الإسفارا، أي واضحاً مثل الصّبح. وقال غيره: عينٌ جلّية، أي بصيرة، قال أبو داود الإيادي:

بل تأمّل وأنت أبصر منّى ... قصد دير السوى بعينٍ جليةٍ
والجلّية أيضاً: الأمر البيّن الواضح، قال النابغة:
فآب مضلّوه بعينٍ جلّية ... وغودر بالجولان حزم ونائل
وقال الأصمعي: والجلا: انحسار الشعر من مقدّم الرأس، رجلٌ أجلى وامرأة جلواء، وقد جلى يجلى جلاً مقصور.
وقرأت على أبي بكر بن دريد لبكر بن النطاح:
ولو خذلت أمواله جود كفّه ... لقاسم من يرجوه شطر حياته
ولو لم يجد في العمر قسماً لزائر ... لجاد له بالشطر من حسناته
وأنشدني بعض أصحابنا لبكر بن النطاح:
وإذا بدا لك قاسمٌ يوم الوغى ... يختال خلت أمامه قنديلا
وإذا تعرّض للعمود وليه ... خلت العمود بكفه منديلا
قالوا وينظم فارسين بطعنةٍ ... يوم اللقاء ولا يراه جليلا
لا تعجبوا فلو أنّ طول قناته ... ميلٌ إذاً نظم الفوارس ميلا
وأنشدني بعض أصحابنا له:
يا عصمة العرب التي لو لم تكن ... حيّاً إذاً كانت بغير عماد
إن العيون إذا رأتك حدادها ... رجعت من الإجلال غير حداد
وإذا رميت الثغر منك بعزمة ... فتحت منه مواضع الأسداد
فكأن رمحك منقعٌ في عصفر ... وكأن سيفك سلّ من فرصاد
لو صاد من غضبٍ أبو دلفٍ على ... بيض السيوف لذبن في الأغماد
أذكى وأوقد للعداوة والقرى ... نارين نار وغىً ونار رماد
وقرأت على أبي بكر بن دريد لليلى الأخيلية، وقال لي: كان الأصمعي يرويها لحميد بن ثور الهلالي قال أبو علي: فكذا وجدته بخط ابن زكريا ورّاق الجاحظ في شعر حميد:
يا أيها السدم الملّوى رأسه ... ليقود من أهل الحجاز بريما
أتريد عمرو بن الخليع ودونه ... كعبٌ إذاً لوجدته مرءوما
إن الخليع ورهطه في عامر ... كالقلب أُلبس جؤجؤاً وحزيما
لا تغزونّ الدهر آل مطرّف ... لا ظالماً أبداً ولا مظلوما
قومٌ رباط الخيل وسط بيوتهم ... وأسنةٌ زرقٌ تخال نجوما
ومخرّق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما
حتى إذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيما
لن تستطيع بأن تحوّل عزهم ... حتى تحول ذا الهضاب يسوما
إن سالموك فدعهم من هذه ... وارقد كفى لك بالرقاد نعيما
قال أبو علي: البريم: الخيط فيه سواد وبياض. ويقال للقطيع من الغنم إذا كان فيه معزٌ: بريم. وسألت أبا بكر بن دريد عن معنى قول المتنخّل الهذلي:
عقّوا بسهم فلم يشعر به أحد ... ثم استفاءوا وقالوا حبذا الوضح
فقال: يقال: عقّى بسهم إذا رمى به نحو السماء لا يريد به أحداً، وإذا اجتمع الفريقان للقتال ثم بدا لأحد الفريقين وأرادوا الصلح رموا بسهم نحو السماء، فعلم الفريق الثاني أنهم يريدون الصلح فتراسلوا في ذلك. واستفاءوا: رجعوا عما كانوا عليه. وقالوا حبذا الوضح أي اللبن، أي حبذا الإبل والغنم نأخذها في الدية، كما قال الآخر:
ظفرت بهجمةٍ سودٍ وحمرٍ ... تسرّ بما يساء به اللبيب
أي فرحت بالدية.
" مطلب كتاب الحسن بن سهل إلى محمد بن سماعة القاضي يطلب إليه رجلاً يستعين به في أموره "

وحدّثنا أبو بكر قال حدّثنا الحسن بن خضر عن أبيه قال: كتب الحسن بن سهل إلى محمد ابن سماعة القاضي: أما بعد، فإنني احتجت لبعض أموري إلى رجل جامع لخصال الخير ذي عفّة ونزاهة طعمةٍ، قد هذّبته الآداب، وأحكمته التجارب؛ ليس بظنين في رأيه، ولا بمطعون في حسبه؛ إن اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلّد مهماً من الأمور أجزأ فيه؛ له سنٌّ مع أدب ولسان، تقعده الرزانة ويسكنه الحلم، قرد فرّ عن عن ذكاء وفطنة، وعضّ على قارحة من الكمال؛ تكفيه اللحظة، وترشده السكتة؛ قد أبصر خدمة الملوك وأحكمها، وقام في أمورهم فحمد فيها؛ له أناة الوزراء، وصولة الأمراء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، وجواب الحكماء؛ لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يكاد يسترق قلوب الرجال بحلاوة لسانه وحسن بيانه؛ دلائل الفضل عليه لائحة، وأمارات العلم له شاهدة؛ مضطلعاً بما استنهض، مستقلاً بما حُمّل؛ وقد آثرتك بطلبه، وحبوتك بارتياده؛ ثقةً بفضل اختيارك ومعرفةً بحسن تأتيك؛ فكتب إليه: إني عازم أن أرغب إلى الله جل وعز حولاً كاملاً في ارتياد مثل هذه الصفة، وأفرّق الرسل الثقات في الآفاق لالتماسه، وأرجو أن يمن الله بالإجابة، فأفوز لديك بقضاء حاجتك والسلام.
وأخبرنا أبو عبد الله قال حدّثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال حدّثت عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: وصف رجل رجلاً فقال: كان والله سمحاً سحاً، يمر سهلاً؛ بينه وبين القلب نسب، وبين الحياة سبب؛ إنما هو عيادة مريض، وتحفة قادم، وواسطة قلادة.
قال أبو عبد الله وحدّثنا أبو العباس قال: وصف أعرابي رجلاً فقال: كان والله مطلول المحادثة، ينبذ إليك الكلام على أدراجه، كأنّ في كل ركنٍ من أركانه قلباً يقد. قال أبو علي: يعني مستحدث الحديث.
" مطلب ما تقول العرب في معنى ما بالدار أحد " وقال يعقوب بن السكيت: يقال ما بالدار أحدٌ، وما بها دويٌّ ودعويٌّ وطهويٌّ ودبيٌّ ولا عي قروٍ .
قال أبو علي: وقال لي الغالبي: قال لنا ابن كيسان: دوّى منسوب إلى الدوية. وقال اللحياني: دعويٌّ من دعوت. ودبيٌّ من دببت، وزاد نمّيٌّ من نممت. الأصكعي: يقال: ما بالدار عريب. قال أبو علي: معناه معرب، أي ما جاء بها أحد؛ قال عبيد:
فعردة فقفا حبرٍّ ... ليس بها منهم عريب
وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال: أنشدنا أبو العباس:
أميم أمنك الدار غيّرها البلى ... وهيفٌ بجولان التراب لعوب
بسابس لم يصبح ولم يمس ثاوياً ... بها بعد بين الحي منك عريب
وما بها دبّيجٌ، ودريبج فعّيل من الدبج، وهو النقش والزيين، وأصله فارسي مأخوذ من الديباج، وأنشد ابن الأعرابي:
هل تعرف المنزل من ذات الهوج ... ليس بها من الأنيس دبّيج
وما بها دوري؛ وقال اللحياني: دوريٌّ ودؤريٌّ، يهمز ولا يهمز.
قال أبو علي: دوري منسوب إلى الدور، فأما دؤري بالهمز، فهو عندنا غلط. وما بها طورىء، قال أبو علي: منسوب إلى الطورة، وفي بعض اللغات الطيرة. وما بها وابرٌ، وما بها نافخ ضرمة وما بها صافرٌ، وما بها ديار؛ وأنشدنا غيره لجرير:
وبلدةٍ لبس بها ديّار ... تنشق في مجهولها الأبصار
وقال اللحياني: وما أرم، على فعل. وقال أبو زيد: ما بها أرم ولا أريمٌ، على فعيل؛ وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري:
تلك القرون ورثنا الأرض بعدهم ... فما يحسّ عليها منهم أرم
وقال ابن الأعرابي: ما بها آرمٌ، على فاعل، وما بها أيرميٌّ وإرميٌّ. وقال اللحياني: ما بها وابنٌ ووابرٌ؛ وأنشد ابن الأعرابي:
يميناً أرى من آل زبّان وابراً ... فيفلت مني دون منقطع الحبل
وقال ابن الأعرابي: وما بها أمرٌ. وقال الأصمعي والكسائي: وما بها شفرٌ؛ وأنشدني ابن الأنباري:
فوالله لا تنفك مناً عداوةٌ ... ولا منهم ما دام من نسلنا شفر
وقال اللحياني: ما بها شفرٌ ولا شفر. وقال غيره: ما بها طؤويٌّ، على مثال قولك: طعويّ، وما بها طوئيٌّ، على مثال طوعيٍّ؛ وأنشدني أبو بكر بن دريد وأبو بكر بن الأنباري للعجاج:
وبلدةٍ ليس بها طوئيٌّ ... ولا خلا الجنّ بها إنسيّ

وزاد اللحياني: ما بها طاويٌّ غير مهموز. أبو زيد: ما بها تأمور، مهموز، أي ما بها أحد. ويقال: ما في الركيّة تأمور، يعني الماء، وهو قياس على الأول. الأصمعي: ما بها كرّابٌ ولا كتيع، أنشدني ابن الأنباري:
أجدّ الحيّ فاتملوا سراعاً ... فما بالدار إذ ظعنوا كتيع
ولا بها داريٌّ، قال الأصمعي وأبو عمرو: الداريّ: الذي لا يبرح ولا يطلب معاشاً، قال الراجز:
لبّث قليلاً يلحق الداريّون ... ذوو الجباب البدّن المكفيّون
سوف ترى إن حضروا ما يغنون
وحقيقته أنه منسوب إلى الدار للزومه لها. وحكى يعقوب عن غيرهم: ما بها عينٌ ولا عينٌ، وقال الأصمعي: العين: الجماعة؛ وأنشد:
إذا رآني واحداً أو في عين ... يعرفني أطرق إطراق الطّحن
والطّحن: دويبة تكون في الرمل نثل العظاءة. وزاد أبو عبيد عن الفر!ّاء: ما بها عائنٌ. وزاد اللحياني: وما بها عائنة. وقال غيره: ما بها طارفٌ ولا أنيس. وقال اللحياني: ما بها تامور ولا تومور. وقال ابن الأعرابي: ما بها عائرة عينين. وقال غيره: يقال إن له من المال عائرة عينين، أي مال يعير فيه البصر ها هنا وها هنا من كثرته. و قال أبو عبيدة: عليه مال عائرة عين، يقال هذا للكثير، لأنه من كثرته يملأ العينين حتى يكاد يفقؤهما من كثرته.
وسألت أبا بكر عن معنى قول المتنخل:
لكن كبير بن هندٍ يو ذلكم ... فتخ الشمائل في أيمانهم روح
فقال: فتخ الشمائل مفتوحة الشمائل، لأنهم قد أمسكوا بها الدرق، وأصل الفتخ: اللين والاسترخاء. وقوله: في أيمانهم روحٌ، أي تباعد عن الجنب، لأنهم قد رفعوها بالسيوف وأمالوها للضرب. وأنشدنا أبو بكر قال أنشدنا عبد الرحمن عن عمه:
العهد عهدان فعهد امرئٍ ... يأنف أن يغدر أو ينقصا
يرعى بظهر الغيب إخوانه ... حفظاً ويستقبلهم بالرضا
لو قابل السيف على حدّه ... في بعض ما فيه أخوه مضى
وعهد ذي لونين ملالةٍ ... يوشك إن ودّك أن يبغضا
ليس له صبر على صاحب ... إلا قللاً ريث أن يرفضا
خلته مثل الخضاب الذي ... بينا تراه قانياً إذ نضا
إن لم تزره قال قد ملّني ... وبالحرى إن زرت أن يعرضا
فإن أسأ يوماً فعاتبته ... قال عفا ربك عما مضى
ولن تراه الدهر في حالة ... إلا عبوس الوجه قد حمّضا
قال أبو علي: أنشدنا أبو بكر عن أبي حاتم:
وإن سعيد الجدّ من بات ليلة ... وأصبح لم يؤشب ببعض الكبائر
فمولاك لا يهضم لديك فإنما ... هضيمة مولى المرء جدع المناخر
وجارك لا يذممك إنّ مسبّة ... على المرء في الأذنين ذمّ المحاور
وإن قلت فاعلم ما تقول فإنه ... إلى سامع ممن يغادي وآثر
فإنك لا تستطيع ردّ مقالة ... شأتك وزلّت عن فكاهة فاغر
كما ليس رامٍ بعد إرسال سهمه ... على رده قبل الوقوع بقادر
إذا أنت عاديت الرجال فلا تزل ... على حذرٍ لا خير في غير حاذر
ومن لا ياصنع في أمورٍ كثيرةٍ ... يضرّس بأنيابٍ ويوطأ بحافر
ترى المرء مخلوقاً وللعين حظّها ... وليس بأحناء الأمور بخابر
فذاك كماء البحر لست مسيغه ... ويعجب منه ساجياً كل ناظر
وتلقى الأصيل الفاضل الرأي جسمه ... إذا ما مشى في القوم ليس بقاهر
كذلك جفنٌ عن طول مكثه ... على حد مفتوق الغرارين باتر
وعاشٍ بعينيه لما لا يناله ... كساعٍ برجليه لإدراك طائر
ومستنزل حرباً على غير ثروة ... كمقتحم في البحر ليس بماهر
وملتمس رداً لمن لا يودّه ... كمعتذر يوماً إلى غير عاذر
ومتخذ عذراً فعاد ملامة ... كوالي اليتامى ما لهم غير وافر
فسارع إذا سافرت في الحمد واعلمن ... بأنّ ثناء الركب حظّ المسافر

وطاوعهم فيما أرادوا وقل لهم ... فدىً للذي رمتم كلال الأباعر
فإن كنت حظٍّ من المال فالتمس ... به الأجر وارفع ذكر أهل المقابر
فإني رأيت المال يفنى وذكره ... كظلٍّ يقيك الظلّ حرّ الهواجر
وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري:
سميت معناً يمعنٍ ثم قلت له ... هذا سميّ فتىً في الناس محمود
أنت الجواد ومنك الجود أوله ... فإن فقدت فما جودٌ بموجود
من نور وجهك تضحى الأرض مشرقةً ... ومن بنانك يجري الماء في العود
أضحت يمينك من جود مصورةً ... لا بل يمينك منها صورة الجود
خطبة بعض الأعراب في قومه وقد ولاه جعفر بن سليمان بعض مياههم وحدّثنا أبو بكر رحمه الله قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: ولى جعفر بن سليمان أعرابياً بعض مياههم، فخطبهم يوم الجمعة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الدنيا دار بلاغ، والآخرة قرار؛ فخذوا لمقركم من ممركم، ولا تهتكوت أستاركم، عند من لا تخفى عليه أسراركم؛ وأخرجوا من الدنيا قلوبكم، قبل أن تخرج منها أبدانكم؛ ففيها حييتم، ولغيرها خلقتم؛ إن الرجل إذا هلك، قال الناس ما ترك، وقالت الملائكة ما قدم، فلله آباؤكم! قدموا بعضاً، يكن لكم قرضاً؛ ولا تخلّفوا كلا، يكن عليكم كلا؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وحدّثنا أبو بكر قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: قلت لأعرابي ما تقول في المراء؟ قال: ما عسى أن أقول في شيء يفسد الصداقة القديمة، ويحلّ العقدة الوثيقة؛ أقلّ ما فيه أن يكون دربه للمغالبة، والمغالبة من أمتن أسباب الفتنة.
وحدّثنا أبو بكر قال أخبرنا أبو الحسن بن خضر عن حماد بن إسحاق الموصل قال سمعت أبي يقول: قال رجل من العجم لملكٍ كان في دهره: أوصيك بأربع خلال ترضي بهن ربك، وتصلح بهن رعيّتك؛ ولا يغرّنّك ارتقاء السهل إذا كان المنحدر وعراً؛ ولا تعدنّ عدةً ليس في يدك وفاؤها. واعلم أن لله نقماتٍ فكن على حذر. واعلم أن للأعمال جزاءً فاتّقِ العواقب.
وقرأنا على أبي بكر بن دريد قول الشاعر:
وعازبٍ قد علا التهويل جنبتيه ... لا تنفع النعل في رقراقه الحافي
باكرته قبل أن تلغى عصافره ... مستخفياً صاحبي وغيره الخافي
عازب: بعيد لا يأتيه أحد. والتهاويل: الألوان المختلفة من الحمرة والشقرة والصفرة. والجنبة: ضرب من النبات. وقوله: لا تنفع النعل، يقول: لا تنفعه النعل من كثرة نداه. ورقراقه: ما رترقرق منه. وتلغى: تصيح.
وحدّثنا أبو بكر بن أبي الأزهر قال حدّثنا الزبير بن بكار قال: كان هارون الرشيد كثيراً ما يستنشد أبي لعبد الله بن مصعب:
وإني إن أقصرت من غير بغضةٍ ... لراعٍ لأسباب المودة حافظ
وما زال يدعوني إلى الصرم ما أرى ... فآبى وتنثنيني عليك الحفائظ
وأنتظر الإقبال بالودّ منكم ... وأصبر حتى أوجعتني المغايظ
وأنتظر العتبى وأغضي على القذى ... ألاين طوراً مرةً وأغالظ
وجربت ما يسلى المحب عن الصبا ... فأقصرت والتجريب للمرء واعظ
وأنشدني أبو يعقوب وراق أبي كبر بن دريد قال أنشدني أحمد بن عبيد الجوهري قال: أنشدت لمخلد الموصلي:
أقول لنضوٍ أنفد السير نيهاً ... فلم يبق منها غير عظم مجلّد
خذي بي ابتلاك الله بالشوق والهوى ... وشاقك تحنان الحمام المغرد
فمرّت حذاراً خوف دعوة عاشق ... تشقّ بي الظلماء في كل فدفد
فلما ونت في السير تثنيت دعوتي ... فكانت لها سوطاً إلى ضحوة الغد
مطلب قصيدة ذي الإصبع العدواني التي منها البيت الشمهور؛ يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي الخ.
وقرأت على أبي بكر بن دريد قصيدة ذي الإصبع العدواني واسمه حرثان بن محرّث، وأملاها علينا الأخفش وأولها في الروايتين:
ولي ابن عمٍّ على ما كان من خلق
وقرأنا على أبي كبر بن الأنباري فزادنا عن أبيه عن أحمد بن عبيد قبل هذا البيت الأول أبياتاً أولها:

يا من لقلبٍ طويل البث محزون ... أمسى تذكر ريا أم هارون
أمسى تذكرها من بعد ما شحطت ... والدهر ذو غلظةٍ حيناً وذو لين
فإن يكن حبها أمسى لنا شجنا ... وأصبح الوأي منها لا يواتيني
فقد غنينا وشمل الدار يجمعنا ... أطيع ريا وريا لا تعاصيني
نرمي الوشاة فلا نحظى مقاتلهم ... بصادقٍ من صفاء الود مكنون
ولي ابن عمر على ما كان من خلق ... مختلفان فأقليه ويقليني
أزرى بنا أننا شالت نعامتنا ... فخالني دونه خلته دوني
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ ... عني ولا أنت دياني فتخزوني
ولا تقول عيالي يو مسبغةٍ ... ولا بنفسك في العزاء تكفيني
فإن ترد عرض الدنيا بمنقصتي ... فإن ذلك مما ليس يشجيني
ولا يرى فيّ غير الصبر منقصةٌ ... وما سواه فإن الله يكفيني
لولا أواصر قربي لست تحفظها ... ورهبة الله في مولىً يعاديني
إذاً بريتك برياً لا انجبار له ... إني رأيتك لا تنفك تبريني
إن الذي يقبض الدنيا ويبسطها ... إن كان أغناك عني سوف يغنيني
ألله يعلمني والله يعلمكم ... والله يجزيكم عني ويجزيني
ماذا عليّ وإن كنمت ذوي رحمي ... ألا أحبكم إذ لم تحبوني
لو تشربون دمي لم يرو شاربكم ... ولا دماؤكم جمعاً ترويني
ولي ابن عم لو أن الناس في كبدٍ ... لظلّ محتجراً بالنبل يرميني
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
عني إليك فما أمي براعية ... ترعى المخاض ولا رأيي بمغبون
إني أبيٌّ أبيٌّ ذو محافظة ... وابن أبيٍّ أبيٍّ من أبيين
لا يخرج القسر مني غير مأبيةٍ ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
عفٌّ ندودٌ إذا ما خفت من بلدٍ ... هوناً فلست بوقافٍ على الهون
كل امرئ صائر يوماً لشيمته ... وإن تخلّق أخلاقاً إلى حين
والله لو كرهت كفي مصاحبتي ... لقلت إذ كرهت قربي لها بيني
إني لعمرك ما بابي بذي غلقٍ ... عن الصديق ولا خيري بممنون
وما لساني على الأذى بمنطلق ... بالنكرات ولا فتكي بمأمون
عندي خلائق أقوام ذوي حسبٍ ... وآخرين كثير كلهم دوني
وأنتم معشرٌ زيدٌ على مائة ... فأجمعوا أمركم طراً فكيدوني
فإن علمتم سبيل الرشد فانطلقوا ... وإن جهلتم سبيل الرشد فأتوني
يا ربّ ثوب حواشيه كأوسطه ... لاعيب في الثوب من حسن ومن لين
يوماً شددت على فرغاء فاهقةٍ ... طوراً من الدهر تاراتٍ تماريني
قد كنت أعطيم مالي وأمنحكم ... ودي على مثبتٍ في الصدر مكنون
يا رب شديد الشغب ذي لجب ... دعوتهم راهنٍ منهم ومرهون
رددت باطلهم في رأس قائلهم ... حتى يظلوا جميعاً ذا أفانين
يا عمرو لو لنت ألفيتني يسراً ... سمحاً كريماً أجازي من يجازيني
" مطلب وصف صعصعة بن صوحان للناس وقد سأله معاوية ذلك " وحدّثنا أبو بكر رحمه الله قال حدّثنا أبو عثمان عن التوزي عن أبي عبيدة قال: قال معاوية لصعصعة بن صوحان: صف لي الناس، فقال: خلق الناس أخيافاً: فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة؛ وطائفة خطباء؛ وطائفة للبأس والنجدة؛ ورجرجة فيما بين ذلك، يكدورن الماء، ويغلون السعر، ويضيقون الطريق.
قال أبو علي: الرجرجة: شرار الناس ورذالهم؛ وأصل الرجرجة: الماء الذي قد خالطه لعاب، وجمعه رجارج؛ قال هميان بن قحافة:
فأسأرت ف يالحوض حضجاً حاضجاً ... قد عاد من أنفاسها رجارجا

وقال اللحياني: الرجرج: اللعاب؛ قال ابن مقبل:
كاد اللعاب من الخوذان يسحطها ... ورجرجٌ بين لحييها حناطيل
" حديث قيس بن رفاعة مع الحارث بن أبي شمر الغساني " وحدّثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو عثمان عن التنوزي عن أبي عبيدة قال: كان قيس بن رفاعة يفد سنةً إلى النعمام اللخمي بالعراق وسنةً إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بالشام؛ فقال له يوماً وهو عنده: يابن رفاعة، بلغني أنك نفضل النعمان عليّ، قال: وكيف أفضله عليك أبيت اللعن! فوالله لقفاك أحسن وجهه، ولأمك أشرف من أبيه، ولأبوك أشرف من جميع قومه، ولشمالك أجود من يمينه، ولحرمانك أنفع من نداه، ولقليلك أكثر من كثيره، ولثمادك أغزر من غديره، ولكرسيك أرفع من سريره، ولجدولك أغمر من بحوره، وليومك أفضل من شهوره، ولشهرك أمد من حوله، ولحولك خير من حقبه، ولزندك أورى من زنده، ولجندك أعز من جنده، وإنك لمن غسان أرباب الملوك، وإنه لمن لخمٍ الكثيري النوك، فكيف أفضله عليك! وحدّثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدّثنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي قال حدّثني عبد الله ابن شبيب قال حدّثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري قال قال معاوية: لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين غير مرة، فما يمنعني من الانهزام إلا أبيات ابن الإطنابة:
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإعطائي على الإعدام مالي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... رويدك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحاتٍ ... وأحمي بعد عن عرضٍ صحيح
قال أبو علي: المشيح: المبادر المنكمش، ويقال: بطل مشيح، أي حامل، وقال الأصمعي: شايحت في لغة تميم وقيس: حاذرت، وفي لغة هذيل: جددت في الأمر.
وحدّثنا أبو بكر عن أبي حاتم عن أبي زيد عن المفضل الضبيّ قال: كنت مع إبراهيم ابن عبد الله بن الحسن صاحب أبي جعفر في اليوم الذي قتل فيه، فلما رأى البياض يقل والسواد يكثر قال لي: يا مفضل، أنشدني شيئاً يهوّن عليّ بعض ما أرى، فأنشدته:
ألا أيها الناهي فزاده بعدما ... أجدت لغزو إنما أنت حالم
أرى كل ذي تبلٍ يبيت بهمه ... ويمنع منه النوم إذ أنت نائم
قعوا وقعةً من يحى يخز بعدها ... وإن يخترم لم تتبعه الملاوم
قال فرأيته يتطاول على سرجه، ثم حمل كانت آخر العهد به. وأنشدنا أبو عبد الله نفطويه لأبي سعد المخزومي:
من لي بردّ الصبا واللهو والغزل ... هيهات ما فات من أيامك الأول
طوى الجديدان ما قد كنت أنشره ... وأنكرتني ذوات الأعين النّجل
وقد نهاني النهي عنها وأدبني ... فلست أبكي على رسمٍ ولا طلل
مالي وللدمنة البوغاء أندبها ... وللمنازل من خوفٍ ومن ملل
متى ينال الفتى اليقظان همته ... إذ المقام بدار اللهو والغزل
في الخيل والخافقات السود لي شغلٌ ... ليس الصبابة والصهباء من شغلي
ما كان لي أملٌ في غير نكرمة ... والنفس مقرونة بالحرص والأمل
ذنبي إلى الخيل كرى في جوانبها ... إذا مشى الليث فيها مشى مختبل
ولي من الفيلق الجاواء غمرتها ... إذا تقحّمها الأبطال بالحيل
كم جأنبٍ خشنٍ صبّحت عارضه ... بعارضٍ للمنايا مسبل هطل
وغمرةٍ خضب أعلاها وأسفلها ... بالضرب والطعن بين البيض والأسل
سل الجرادة عني يوم تحملني ... هل فاتني بطلٌ أو خمت عن بطل
وهل شآني إلى الغيات سابقها ... وهل فزعت إلى غير القنا الذبل
مالي أرى ذمتي يستمطرون دمي ... ألست أولاهم بالقول والعمل
كيف السبيل إلى وردٍ خبعثنة ... طلائع الموت وأنيابه العصل
وما يريدون لولا الحين من أسدٍ ... بالليل مشتملٍ بالجمر مكتحل
لا يشرب الماء إلا من قليب دمٍ ... ولا يبيت له جارٌ على وجل

لولا الإمام ولولا حق طاعته ... لقد شربت دماً أحلى من العسل
وقرأت على أبي بكر بن دريد للفند الزماني واسمه شهل بن شيبان:
صفحنا عن بني ذهلٍ ... وقلنا القوم إخوان
عسى الأيام أن يرجع ... ن قوماً كالذي كانوا
فلما صرّح الشرّ ... فأمسى وهو عريان
ولم يبق سوى العدوا ... ن جنّاهم كما دانوا
مشينا مشية الليث ... غدا والليث غضبان
قال أبو علي: يروى عدا وغدا بالعين والغين، ويروى شددنا شدة الليث فمن روى شددنا فالأجود عدا بالعين غير المعجمة، ومن روى مشينا. فالأجود غدا بالغين المعجمة
بضربٍ فيه توهينٌ ... وتخضيعٌ وإقران
وأنشدنا أبو بكر عن أبيه عن أبي رستم مستملي يعقوب هذا البيت:
بضرب فيه تأييمٌ ... وتفجيعٌ وإرنان
وطعنٍ كفم الزق ... غدا والزق ملآن
وفي الشر نجاةٌ حي ... ن لا ينجيك إحسان
وبعض الحلم عند الجه ... ل للذلة إذعان
وقرأت عليه لأبي الغول الطهوي وأنشدنا أبو عبد الله نفطويه إلى آخر بيت فيه:
فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارس صدّقوا فيهم ظنوني
فوارس لا يملون المنايا ... إذا دارت رحى الحرب الزبون
ولا يجزون من حسنٍ بسيءٍ ... ولا يجزون من غلظٍ بلين
ولا تبلى بسالتهم وإن هم ... صلوا بالحرب حيناً بعد حين
هم منعوا حمى الوقبى بضرب ... يؤلّف بين أشتات المنون
فنكّب عنهم درء الأعادي ... وداووا بالجنون من الجنون
ولا يرعون أكناف الهويني ... إذا حلّوا ولا روض الهدون
وحدثني أبو بكر رحمه الله قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: رأيت رجلاً بالجفر من بني العنبر بن لوثة بل هوج ظاهر أحفظ خلق الله للشعر، وكان إذا قال له قائل: أنشدنا، تمر له وشتمه، وإذا أنشد وحدّث اندفق منه ثبج بحر مع فصاحة وحسن إنشاد، فأنشدني يوماً من غير أن أستنشده:
فدت نفسي وما ملكت يميني الأبيات كلها
وحدّثنا أبو بكر عن أبي حاتم قال: لم يرث أحدٌ قتيلاً قومه إلا قيس بن زهير، فإنه رثى حذيفة بن بدر وبنو عبس تولت قتله:
ألم تر أن خير الناس أضحى ... علىجفر الهباءة ما يريم
ولولا بغيه مازلت أبكى ... عليه الدهر ما بدت النجوم
ولكنّ الفتى حمل بن بدرٍ ... بغى والبغي مرتعه وخيم
أظنّ الحلم دلّ على قومي ... وقد يستجهل الرجل الحليم
" مطلب حديث الأصمعي مع امرأة ثكلى من بني عامر نزل بها " وحدّثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: نزلت على امرأة من بني عامر بن صعصعة وقد مات ابنٌ لها، وهي من القلق على مثل الرضفة، فقامت تعالج لي طعاماً، فقلت لها: يا هذه، إنك لفي شغل عن هذا، فقالت: والله لا تجوز بيتي إلا مقرياً، ولكن أنشدني أبياتاً أسلوبهنّ، فإني أراك لوذعياً، فأنشدتها أبيات نويرة بن حصين المازني يرثي ابنه:
إني أرى للشامتين تجلدي ... وإني كالطاوي الجناح على كسر
يرى واقعاً لم يدر ما تحت ريشه ... وإن ناء لم يسطع نهوضاً إلى وكر
فلولا سرور الشامتين بكبوتي ... لما رقأت عيناي من واكفٍ يجري
على من كفاني والعشيرة كلها ... نوائب ريب الدهر في عثرة الدهر
ومن كانت الجارات تأمن ليله ... إذا خفن من باتت غوائله تسري
بصير بما فيه لهنّ حصانةٌ ... غبيٌّ عن المحجوب بالباب والستر
يكفّ أذاه بعد ما بذل عرفه ... ويحلم حلماً لا يذم ولا يزري
ويأخذ ممن رام بالهصر هيضه ... إذا ما أراد الأخذ بالهصر والقسر
ولا ينظر الأيسار إن نال يسره ... ولا ينثني عن فعل خير لدى العسر
ولا يتأرّى للعواقب إن رأى ... له فرصةً يشفى بها وحر الصدر

ولكنه ركّاب كل عظيمة ... يضيق بها صدر الحسود على الأمر
ولست وإن خبّرت أن قد سليته ... بناسٍ أبا سوداء إلا على ذكر
شمائل منه طيبات يعدنني ... وأخلاق محمودٍ لدى الزاد والقدر
فتى شعشع يروى السنان بكفه ... ويجمع للمولى العطاء مع النصر
قال: فكأني والله زبرت الأبيات في صدرها، فما زالت تنشدها وتصلح طعامي حتى قرتني ورحت من عندها. وقرأت على أبي بكر لقيس بن زهير:
شفيت النفس من حمل بن بدرٍ ... وسيفي من حذيفة قد شفاني
فإن أك قد بردت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلا بناني
وقال قرأت عليه للحارث بن وعلة الجرمي:
قومي هم قتلوا أُميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللاً ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي
لا تأمنن قوماً ظلمتهم ... وبدأتهم بالشتم والرغم
أن يأبروا نخلاً لغيرهم ... والشيء تحقره وقد ينمى
وزعمتم أن لا حلوم لنا ... " إنّ العصا قرعت لذي الحلم "
ووطئنا وطئاً على حنقٍ ... وطء المقيد نابت الهرم
وتركتنا لحماً على وضمٍ ... لو كنت تستبقي من اللحم
وقرأت عليه لأعرابي قتل أخوه ابنه، فقدم إليه ليقتاد منه فألقى السيف من يده وهو يقول:
أقول للنفس تأساءً وتعزيةً ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد
كلاهما خلفٌ من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
وأملاهما علينا نفطويه.
وأنشدنا أبو بكر عن أبي عثمان عن التوزي عن أبي عبيدة لهشام أخي ذي الرمة:
تعزيت عن أوفى بغيلان بعده ... عزاءً وجفن العين ملآن مترع
نعى الركب أوفي حين وافت ركابهم ... لعمري لقد جاءوا بشرٍّ وأوجعوا
نعوا باسق الأخلاق لا يخلفونه ... تكاد الجبال الصمّ منه تصدع
خوى المسجد المعمور بعد ابن دلهمٍ ... وأمسى بأوفى قومه قد تضعضعوا
فلم ينسي أوفى المصيبات بعده ... ولكنّ نكء القرح بالقرح أوجع
" مطلب شرح مادة غ ر ر " قال أبو علي قال أبو نصر: يقال كانذ لك في غرارتي وحداثتي، أي في غرتي. وعيشٌ غرير إذا كان لا يفزع أهله. وامرأة غريرة إذا لم تجرب الأمور، ورجل غرّ وامرأة غرٌّ إذا كانا غير مجربين للأمور. ويقال: ما غرك بفلان، أي كيف اجترأت عليه. قال الله عز وجل " ما غرك بربك الكريم " . ويقال: من غرك من فلان، أي من أوطأك عشوةً. وفي عشوة ثلاث لغات، يقال: عِشوة وعَشوة وعُشوة. ويقال: أنا غريرك من فلان أي لن يأتيك منه ما تغتر به. كأنه قال: أنا القيّم لك ذباك. ويقال: اتانا على غرارٍ وغشاش، أي على عجلة. ويقال: ما نومه إلا غرار،أي قليل، ويقال: غارت الناقة تغار غراراً إذا رفعت لينها. والغرور: مكاسر الجلد، واحدها غرٌ؛ قال دكين بن رجاء الفقيمي:
كأن غرّ إذ تجنبنه ... سير صناعٍ في خريز تكلبه
يعني أن تثنى الشعرة أو الليفة ثم تدخل السير في ثنى الشعرة المثنية ثم تجذبه فتخرج السير مع الشعرة. وزعموا أن رؤبة بن العجاج اشترى ثوباً من بزاز فلما استوجبه قال: اطوه على غره، أي على كسور طيه. ويقال: ضرب نصله على غرارٍ واحد، أي على مثال واحد؛ قال الهذلي:
سديد العير لم يدحض عليه ال ... غرار فقدحه زعلٌ دروج
ويقال: ليت هذا اليوم غرار شهرٍ في الطول، أي مثال شهر في الطول. والغراران ما عن يمين النصل وشماله. وغرار السيف: حدّه؛ قال الأصمعي يقال: بني بنو فلان بيوتهم على غرارٍ واحد، أي على سطر واحد. ويقال: غرّ الظائر فرخه غراً إذا زفه؛ وقرأت على أبي بكر للشماخ:
ولما رأيت الأمر عرش هويةٍ ... تسليت حاجات الفؤاد بشمّرا

قوله: ولما رأيت الأمر عرش هوية، مثلٌ. والعرش: الخشب الذي يطوى به أعلى البئر، قال أبو زيد: البئر المعروشة: التي طويت قدر قامة من أسفلها بالحجارة ثم طوى سائرها بالخشب وحده وذلك الخشب هو العرش. قال الأصعمي: المعروشة: المطوية بالخشب، والساقي إذا قام على العرش فهو على خطرٍ إن زلق وقع في البئر. والهوية: البئر، يقول: لما رأيت الأمر شديداً ركبت شمّر، وشمر اسم ناقته.
" حديث المهلب بن أبي صفرة مع رجل من الخوارج كان مختفياً في عسكره يريد اغتياله " وحدّثنا أبو بكر رحمه الله قال حدّثنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد المهلبي قال: قيل للمهلب: إن فلاناً عينٌ للخوارج في عسكرك، وإنه يتكفن بالسلاح إذا دعوا للحرب ليغتالك ويلحق بالخوارج؛ فبعث إليه، فأتى به فقال له: قد تقرر عندنا كيدك لنا، ولم نقدم من أمرك على ما عزمنا عليه إلا بعد ما لم يدع اليقين للشك معترضاً، فاختر أي قتلة تحب أن أقتلك؟ فقال: سيفٌ مجهز أو عطفة كريم محتقرٍ لضغن ذوي الضغائن، قال: فإنها عطفة كريم محتقر للذنوب، فخلى سبيله، فكان بعد ذلك من أوثق أصحابه عنده.
وحدّثنا أيضاً قال حدّثنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد قال: أوفد المهلب كعب بن معدان الأشقري حين هزم عبد ربه الأصغر وأحلى قطرياً حتى أخرجه من كرمان نحو أرض خرسان، فقال له الحجاج: كيف كانت محاربة المهلب للقوم؟ قال: كان إذا وجد الفرصة سار كما يسور الليث، وإذا دهمته الطحمة راغ كما يروغ الثعلب، وإذا ماده القوم صبر صبر الدهر، قال: وكيف كان فيكم؟ قال: كان لنا منه إشفاق الوالد الحدب، وله منا طاعة الولد البر، قال: فكيف أفلتكم قطريٌّ؟ قال: كادنا ببعض ما كدناه به، والأجل أحصن جنّة وأنفذ عدّة، قال: فكيف اتبعتم عبد ربه وتركتموه؟ قال: آثرنا الحد على الفل، وكانت سلامة الجند أحب إلينا من شجب العدو، فقال له الحجاج: أكنت أعددت هذا الجواب قبل لقائي؟ قال: لا يعلم الغيب إلا الله.
وحدّثنا أبو بكر رحمه الله قال حدّثنا أبو حاتم قال: أتيت أبا عبيدة ومعي شعر عروة بن الورد فقال لي: ما معك؟ فقلت: شعر عروة، فقال: فارغٌ حمل شعر فقير ليقرأه على فقير، فقلت له: ما معي غيره، فأنشدني أنت ما شئت، فأنشدني:
يا ربّ ظلّ عقابٍ قد وقيت بها ... مهري من الشمس والأبطال تجتلد
ورب يوم حمى أرعيت عقوته ... خيلي اقتصاراً وأطراف القناقصد
ويوم لهوٍ لأهل الخفض ظل به ... لهوى اصطلاء الوغى وناره تقد
مشهراً موقفي والحرب كاشفةٌ ... عنها القناع وبحر الموت يطرد
ورب هاجرةٍ تغلي مراجلها ... مخرتها بمطايا غارةٍ تخد
تجتاب أودية الأفزاع آمنةً ... كأنها أسدٌ تقتادها أسد
فإن أمت حتف أنفي لا أمت كمداً ... على الطعان وقصر العاجز الكمد
ولم أقل لم أساق الموت شاربه ... في كأسه والمنايا شرعٌ ورد
ثم قال: هذا الشعر! لا ما تعللون به أنفسكم من أشعار المخانيث! قال أبو بكر: والشعر لقطري ابن الفجاءة.
" حديث المفضل الضبي وقد دخل على المهدي فاستنشده " وحدّثنا قال حدّثنا أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل الضبي قال: دخلت على المهدي فقال لي قبل أن أجلس: أنشدني أربعة أبيات لا تزد عليهن - وعنده عبد الله بن مالك الخزاعي - فأنشدته:
وأشعث قد قدّ الشفار قميصه ... يجر شواءً بالعصا غير منضج
دعوت إلى ما نابني فأجابني ... كريمٌ من الفتيان غير مزلج
فتىً يملأ الشيزى ويروي سنانه ... ويضرب في رأس الكمي المدجج
فتى ليس بالراضي بأدنى معيشة ... ولا في بيوت الحي بالمتولج
فقال المهدي: هو هذا - وأشار إلى عبد الله بن مالك - فلما انصرفت بعث إليّ بألف دينار، وبعث إلي عبد الله بأربعة آلاف درهم.
وقرأت على أبي بكر لعبد الرحمن بن زيد:
يؤسى عن زيادة كلّ حيٍّ ... خلي ما تأوبه الهموم
فلو كنت القتيل وكان حياً ... لطالب لا ألف ولا سئوم
ولا هيّابةٌ بالليل نكسٌ ... ولا ضرعٌ إذا أمسى نؤوم

وكيف تجلد الأقوام عنه ... ولم يقتل به الثأر المنيم
وغشومٌ حين يبصر مستقادٌ ... وخير الطالبي الترة الغشوم
وأنشدنا أبو بكر بن أبي الأزهر مستملي أبي العباس محمد بن يزيد قال: أنشدنا الزبير لأبي الهيذام المري في أخيه:
سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا ... فإن بها ما يدرك الماجد الوترا
ولست كمن يبكي أخاه بعبرة ... يعصرها من جفن مقلته عصرا
وإنا أناسٌ ما تفيض دموعنا ... على هالك منا وإن قصم الظهرا
وأنشدنا ابو بكر بن الأنباري قال أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى:
ولقد رأيت مطيةً معكوسة ... تمشي بكلكلها وتزجيها الصبا
ولقد رأيت سبيئة من أرضها ... تسبي القلوب وما تنيب إلى هوى
ولقد رأيت الخيل أو أشباهها ... تثنى معطّفةً إذا ما تجتلى
ولقد رأيت جواراً بمفازة ... تجري بغير قوائم عند الجرا
ولقد رأيت غضيضةً هركولةً ... رود الشباب غريرةً عادت فتى
ولقد رأيت مكفراً ذا نعمةٍ ... جهدوه بالأعمال حتى قدوني
قال أبو العباس: المطبة المعكوسة: سفينة. والسبيئة من أرضها: خمرٌ. والخيل أو أشباهها عني بها تصاوير في وسائد. وجوارياً بمفازة، عني بهن السراب. والغضيضة الهركولة: امرأة. وعادت، من العيادة. ومكفراً ذا نعمة، عني به السيف.
وأنشدنا أبو بكر بن السراج لعلي بن أبي العباس الرومي:
خجلت خدود الورد من تفضيله ... خجلاً توردها عليه شاهد
لم يخجل الورد المورد لونه ... إلا وناحله الفضيلة عاند
للنرجس الفضل المبين وإن أبى ... آبٍ وحاد عن الطريقة حائد
فصل القضية أن هذا قائد ... زهر الرياض وأن هذا طارد
شتان بين اثنين هذا موعدٌ ... بتسلب الدنيا وهذا واعد
وإذا احتفظت به فأمتع صاحبٍ ... بحياته لو أن حياً خالد
ينهى النديم عن القبيح بلحظه ... وعلى المدامة والسماع مساعد
أطلب بعيشك في الملاح سميّه ... أبداً فإنك لا محالة واجد
والورد إن فتشت فردٌ في اسمه ... ما في الملاح له سميٌّ واحد
هذي النجوم هي التي ربتهما ... بحياً السحاب كما يربي الوالد
فتأمل الأخوين من أدناهما ... شبهاً بوالده فذاك الماجد
أين الخدود من العيون نفاسةً ... ورياسة لولا القياس الفاسد
وأنشدني أبو المياس قال أنشدني الأخيطل لنفسه بواسط:
سقياً لأرضٍ إذا ما شئت نبهني ... بعد الهدوء بها قرع النواقيس
كأن سوسنها في كل شارقة ... على الميادين أذناب الطواويس
وأنشدنا أبو بكر بن أبي الأزهر قال أنشدنا الزبير:
نجوم وأقمارٌ من الزهر طلع ... لذي اللهو في أكنافها متمنع
نشاوى تثنيها الرياح فتنثني ... ويلثم بعضٌ بعضها ثم ترجع
كأن عليها من مجاجة طلها ... لآلئ إلا أنها هي ألمع
ويحدها عنها الصبا فكانها ... دموعٌ مراها البين والبين يفجع
وحدّثنا أبو بكر رحمه الله قال حدّثنا أبو عثمان عن سعيد بن سعدة الأخفش قال: اعتذر رجل من العرب إلى بعض ملوكهم فقال: إن زلتي وإن كانت قد أحاطت بحرمتي، فإن فضلك يحيط بها، وكرمك يوفي عليها، ثم قال:
إني إليك سلمت كانت رحلتي ... أرجو الإله وصفحك المبذولا
إن كان ذنبي قد أحاط بحرمتي ... فأحط بذنبي عفوك المأمولا
وحدّثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو عثمان قال خدثنا أبو قلابة الجرمي قال: تخلفت عن حلقة العتبي أياماً، فكتب إليّ: تركتنا ترك رجلٍ أوحده جرمٌ، أو أغناه علم، فإن كان عن جرم فعن غير إرادة بقلب ولا تعمد بلسان، وإن كان عن علم غنيت به فتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين.

وحدّثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو عثمان عن العتبي قال: قال عبد الله بن علي على بعد قتله من قتل من بني أمية لإسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاصي: أساءك ما فعلت بأصحابك؟ فقال: كانوا يداً فقطعتها، وعضداً ففتتها، ومرةً فنقضتها، وركناً فهدمته، وجناحاً فهضته؛ فقال: إني لخليق أن ألحقك بهم، قال: إني إذاً لسعيد.
وحدثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو عثمان عن العتبي قال: تذاكر قوم في مجلس الأحنف الطعام والنساء، فقال الأحنف: جنبوا مجالسكم النساء والطعام، فإني أكره للرجل السري أن يكون وصّافاً لبطنه وقد عرف ما يحور إليه، ولفرجه وقد علم أين مجلسه.
" قصيدة السموءل بن عادياء " قال أبو علي: وقرأت على أبي بكر للسموءل بن عادياء اليهودي:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
إذا المرء لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل
تعيرنا أنا قليلٌ عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل
وما قلّ من كانت بقاياه مثلنا ... شبابٌ تسامى للعلا وكهول
وما ضرنا أنا قليلٌ وجارنا ... عزيزٌ وجار الأكثرين ذليل
لنا جيلٌ يحتله من نجيره ... منيعٌ يرد الطرف وهو كليل
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرعٌ لا يرام طويل
وإنا لقومٌ ما نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامرٌ وسلول
يقرب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل
قال أبو علي وهذا مثل قول عمرو بن شأس:
لسنا نموت على مضاجعنا ... بالليل بل أدواؤنا القتل
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير السيوف تسيل
صفونا فلم نكدر وأخلص سرنا ... إناث أطابت حملنا وفحول
علونا إلى خير الظهور وحطنا ... لوقت إلى خير البطون نزول
فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعد بخيل
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
اذا سيد منا خلا قام سيد ... قؤول لما قال الكرام فعول
وما أخمدت نار لنا دون طارق ... ولا ذمنا في النازلين نزيل
وأيامنا مشهورة في عدونا ... لها غرر معلومة وحجول
وأسيافنا في كل غرب ومشرق ... بها من قراع الدارعين فلول
معول ألا تسل نصولها ... فتغمد حتى يستباح قبيل
سلى إن جهلت الناس عنا وعنهم ... وليس سواء عالم وجهول
فأن بنى الديان قطب لقومهم ... تدور رحاهم وتجول
و أنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى للفرزدق:
يفلقن هامن لم تنله سيوفنا ... بأسيافنا هام الملوك القماقم
قال أبو العباس: هاتنبيه والتقدير يفلقن بأسيافنا هام الملوك القماقم، ثم قال: ها للتنبيه، ثم قال مستفهماً: من لم تنله سيوفنا؟ . قال أبو بكر: وسمعت شيخاً منذ حين يعيب هذا الجواب ويقول: يفلقن هاماً جمع هامة، وهام الملوك مردود على هاماً ، كما قال جل ثناؤه: " إلى صراط مستقيم صراط الله " فاحتججت عليه بقوله لم تنله، وقلت له: لو أراد الهام لقال: لم تنلها لأن الهام مؤنثة لم يؤثر عن العرب فيها تذكيره ، ولم يقل أحد منهم: الهام فلقته، كما قالوا: النخل قطعته، والتذكير والتأنيث لا يعمل قياساً إنما يبنى فيه على السماع واتباع الأثر.
وأنشدنا أبو عبد الله نفطويه قال: أنشدنا أحمد بن يحيى النحوي لمطيع بن إياس الكوفي يرثي يحيى بن زياد الحارثي:
وينادونه وقد صم عنهم ... ثم قالوا وللنساء نحيب
ما الذي غال أن تحير جواباً ... أيها المصقع الخطيب الأديب

فلئن كنت لا تحير جواباً ... فما قد ترى وأنت خطيب
في مقال وما وعظت بشىء ... مثل وعظ بالصمت اذ لا تجيب
وقرأت على أبي بكر في أشعار هذيل - ولم أر أحداً يقوم بأشعار هذيل غيره - لأبي حراش الهذلي:
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ... حراش وبعض الشر أهون من بعض
فوالله لا أنسى قتيلاً رزئته ... بجانب قوسي ما مشيت على الأرض
بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... خلا أنه قد سل عن ماجد محض
ولم يك مثلوج الفؤاد مهبجاُ ... أضاع الشباب في الربيلة والخفض
ولكنه قد لوحته مخامصٌ ... على أنه ذو مرة صادق النهض
كأنهم يشبثون بطائرٍ ... خفيف المشاش عظمه غير ذي نحض
يبادر قرب الليل فهو مهابذ ... يحث الجناح بالتبسط والقبض
قال أبو علي: المثلوج: البليد، ومثله فول الآخر:
ولكن قلباً بين جنبيك بارد
والمهبج: المنتفخ، ويروى: مهبلاً، وهو الثقيل الجافي. والربلية: الخفض والدعة، ويروى الربالة، وهو كثرة اللحم لا اللحم نفسه. والمهابذ: المجاهد في العدو والسير، ويقال:أهذب وأهبذ إذاً اجتهد في الإسراع.
وقرأت عليه لأبي عطاء السندي في ابن هبيرة:
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود
عشيّة قام النائحات وشقتت ... جيوبٌ بأيدي مأتمٍ وخدود
فإن تمس مهجور الفناء فربّما ... أقام به بعد الوفود وفود
فإنك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد
وأملى علينا أبو بكر بن الأنباري هذه القصيدة لجميل قال: وقرأتها على أبي بكر بن دريد في شعر جميل، وفي الروايتين آختلاف في تقديم الاْبيات وتاْخيرها وفي اْلفاظ بعض البيوت:
ألا ليت أيام الصّفاء تعود ... ودهراً تولّى يا بثين جديد
فنغنى كما كنّا نكون وأنتم ... صديق وإذا ما تبذلين زهيد
خليلي ما أخفي من الوجد ظاهرٌ ... فدمعي بما أخفي لغداة شهيد
ألا قد أرى والله أن ربّ عبرةٍ ... اذا الدار شطّت بيننا سترود
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي ... من الحب قالت ثابتٌ ويزيد
وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به ... مع الناس قالت ذاك منك بعيد
فلا أنا مردودٌ بما جئت طالباً ... ولا حبها فيما يبيد يبيد
جزتك الجوازي با بثين ملامةً ... إذا ما خليلٌ راح وهو حميد
وقلت لها بيني وبينك فاعلمي ... من الله ميثاقٌ لنا وعهود
وقد كان حُبيّكم طريفاً وتالداً ... وما الحب إلا طارفٌ وتليد
وإن عروض الوصل بني وبينها ... وإن سهلته بالمنى لكؤد
فأفنيت عيشي بانتظاري نوالها ... وأبلت بذاك الدهر وهو جديد
فليت وشاة الناس بيني وبينها ... تذوف لهم سمّاً طماطم سود
وحدّثني أبو بكر بن الأنباري قال حدّثني أبي قال: أنشدنا أحمد بن عبيد لامرأة من الأعراب
لعمرك ما الرزية فقد مال ... ولا شاةٌ تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد قرمٍ ... يموت بموته بشرٌ كثير
قال أبو علي: وانشديهما بعض أصحابنا وقال في البيت الأول: " هلك مال " وقال الثاني: " هلك ميتٍ " و " خلقٌ كثير " .
وأنشدني بعض أصحابنا لعلي بن العباس الرومي:
خير ما استعصمت به الكف غضبٌ ... ذكرٌ حده أنيث المهز
ما تأملته بعينيك إلا ... أرعشت صفحتاه من غير هز
ما أبالي أصممت شفرتاه ... في محزٍّ أم جارتا عن محزّ
مطلب خطبة المأمون الحارثي في نادي قومه

وحدّثنا أبو بكر رحمه الله قال حدّثنا أبو عثمان عن التنوزي عن أبي عبيدة قال: قعد المأمون الحارثي في نادي قومه فنظر إلى السماء والنجوم ثم أفكر طويلاً ثم قال: أرعوني أسماعكم، وأصغوا إليّ قلوبكم، يبلغ الوعظ منكم حيث أريد؛ طمح بالأهواء الأشر، وران على القلوب الكدر، وطخطخ الجهل النظر، وإن فيما نرى لمعتبراً لمن اعتبر أرضٌ موضوعة، وسماءٌ مرفوعة؛ وشمس تطلع وتغرب، ونجوم تسري فتغرب؛ وقمرٌ تطلعه النحور، وتمحقه أدبار الشهور؛ وعاجزٌ مثرٍ، وحولٌ مكدٍ، وشابٌ مختضر، ويفن قد غبر؛ وراحلون لا يؤوبون، وموقوفون لا يفرطون؛ ومطرٌ يرسل بقدر، فيحيي البشر، ويورق الشجر، ويطلع الثمر، وينبت الزهر؛ وماء يتفجر من الصخر الأير، فيصدع المدر عن أفنان الخضر؛ فيحيي الأنام، ويشبع السوام،وينمي الأنعام؛ إن في ذلك لأوضح الدلائل على المدبر المقدر، البارئ المصور. يا أيها العقول النافرة، والقلوب النائرة؛ أنّى تؤفكون، وعن أي سبيل تعمهون، وفي أي حيرة تهيمون، وإلى أي غاية توفضون؛ لو كشفت الأغطية عن القلوب، وتجلت الغشاوة عن العيون، لصرح الشك عن اليقين؛ وأفاق من نشوة الجهالة، من استولت عليه الضلالة.
قال أبو علي: قوله طمح: ارتفع وعلا. وران: غاب؛ قال عبدة بن الطبيب:
أوردته القوم قد ران النعاس بهم ... فقلت إذ نهلوا من جمهه فيلوا
ران بهم: غلب، قال الله تعالى: " كلا بل ران على قلوبهم " . وطخطخ: أظلم. والمختضر: الذي يموت حدثاً، وهو مأخوذ من الخضرة، كأنه حصد أخضر.
وحدّثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: كان شاب من العرب يلقى شيخاً منهم فيقول: استحصدت يا عماه! فيقول له الشيخ: يا بن أخي وتختضرون، فمات الشاب قبل الشيخ بمدة طويلة. ويفرطون: يقدمون. وقال أبو عبيدة قال الأموي: الحجر الأيرّ على مثال الأصم: الصلب. وتوفضون: تسرعون، يقال: أوفض إيفاضاً إذا أسرع، قال الله جل وعز: " كأنهم إلى نصبٍ يوفضون " . فأما يفيضون فيدفعون، قال الأصمعي: يقال أفاض من عرفة إلى منىً أي دفع.
" مطلب ما دار بين معاوية بن أبي سفيان وعرابة بن أوس من الحديث " وحدّثنا أبو بكر رحمه الله قال أخبرنا الرياشي عن العتبي عن رجل من الأنصار من أهل المدينة قال: قال معاوية لعرابة بن أوس بن حارثة الأنصاري: بأي شيء سدت قومك يا عرابة؟ قال:
وأصبحت في أمر العشيرة كلها ... كذي الحلم يرضى ما يقول ويعرف
وذاك لأني لا أعادي سراتهم ... ولا عن أخي ضرائهم أتتكف
وإني لأعطي سائلي ولربما ... أكلف ما لا أستطيع فأكلف
وإني لمذموم إذا قيل حاتم ... نبا نبوةً إن الكريم يعنف
ووالله إني لأعفو عن سفيههم، وأحلم عن جاهلهم، وأسعى في حوائجهم، وأعطي سائلهم؛ فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن فعل أحسن من فعلي فهو أفضل مني، ومن قصر عن فعلي فأنا خير منه؛ فقال معاوية: لقد صدق الشماخ حيث يقول فيك:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما رايةٌ رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
وأنشدنا أبو بكر رحمه الله قال أنشدنا أبو حاتم:
ألوم النائبات من الليالي ... وما تدري الليالي من ألوم
ولكن المنية لو أصيبت ... بمصرعه هي الثأر المنيم
وكان أخي زعيم بني حييٍّ ... وكل قبيلة لهم زعيم
وكنت إذا الشدائد أرهقتني ... يقوم بها وأقعد لا أقوم
وأنشدنا أبو بكر عن أبي حاتم للعجير السلولي:
تركنا أبا الأضياف في ليلة الصبا ... بمر ومردي كل خصم يجادله
تركنا فتى قد أيقن الجوع أنه ... إذا ما ثوى في أرحل القوم قاتله
فتىً قُدّ قَدّ السيف لامتضائل ... ولا رهلٌ لباته وبآدله
إذا القوم أموا بيته فهو عامد ... لأحسن ما ظنوا به فهو فاعله
جوادٌ بدنياه بخيل بعرضه ... عطوف على المولى قليلٌ غوائله
فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يوماً دماً فهو آكله
إذا جد عند الجد أرضاك جده ... وذو باطل إن شئت أرضاك باطله

يرسك مظلوماً ويرضيك ظالماً ... وكل الذي حملته فهو حامله
قال أبو علي قال الفراء: البأدلة: ما بين العنق إلى الترقوة وجمعه بآدل؛ وقال أبو عمرو: واحدها بأدلٌ بغير هاء. وقال قطرب: البآدل ويقال البهادل: أصول الثديين.
وقرأت على أبي بكر رحمه الله للحسين بن مطير الأسدي:
أما على معن وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطت للسماحة مضجعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا
بلى وقد وسعت الجود والجود ميت ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا
فتىً عيش في معروفة بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
ولما مضى معنٌ مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
وقرأت عليه لبعض الشعراء:
ماذا أحال وثيرة بن ماك ... من دمع باكيةٍ عليك وباك
ذهب الذي كانت معلقةً به ... حدق العناة وأنفس الهلاك
قال أبو علي: أحال: صبّ، يقال: إنه ليحيل الماء من البئر في الحوض أي يصب؛ وقال لبيد:
يحيلون السجال على السجال
وقرأت عليه لمسلم بن الوليد:
قبرٌ بحلوانٍ أسر ضريحه ... خطراً تقاصر دونه الأخطار
نفضت بك الأحلاس نفض إقامة ... واستعجلت نزاعها الأمصار
فاذهب كما ذهبت غوادي مزنةٍ ... أثنى عليها السهل والأوعار
سلكت بك العرب السبيل إلى العلا ... حتى إذا سبق الردى بك حاورا
وأنشدني أبو محمد عبد الله بن جعفر درستويه النحوي قال: أنشدنا عبد الله بن جوان صاحب الزيادي، ولم يسم قائلها، وأملاها علينا أبو سعيد السكري لأبي العتاهية في بعض إخوانه:
وقد كنت أغدو إلى قصره ... فقد صرت أغدو إلى قبره
أخٌ طالما سرني ذكره ... فقد صرت أشجى لدى ذكره
وكنت أراني غنياً به ... عن الناس لو مد في عمره
وكنت إذا جئت في حاجة ... فأمري يجوز على أمره
فتىً لم يمل الندى ساعة ... على عسره كان أو يسره
تظل نهارك في خيره ... وتأمن ليلك من شره
فصار عليٌّ إلى ربه ... وكان عليٌ فتى دهره
أتم وأكمل ما لم يزل ... وأعظم ما كان في قدره
أتته المنية مغتالةً ... رويداً تخلل من ستره
فلم تغن أجناده حوله ... ولا المزمعون علىنصره
وخلى القصور التي شادها ... وحل من القبر في قعره
وبدل بالفرش بسط الثرى ... وطيب ندى الأرض من عطره
وأصبح يهدى إلى منزل ... عميقٍ تؤنق في حفره
تغلق بالترب أبوابه ... إلى يوم يؤذن في حشره
أشد الجماعة وجداً به ... أشد الجماعة في طمره
فلست مشيعه غازياً ... أميراً يسير إلى ثغره
ولا متلقيه قافلاً ... بقتل عدوٍّ ولا أسره
وتطريه أيامنا الباقيات ... لدينا إذا نحن لم نطره
فلا يبعدن أخي ثاوياً ... فكل سيمضي على إثره
قال الأصمعي من أمثال العرب: " خل سبيل من وهي سقاؤه " يراد به من لم يستقم أمره فلا تعبأ به. ويقال: " يشوب ولا يروب " مثل للرجل يخلط. ويقال: " أذل من فقعٍ بقرقر " والفق: الكء الأبيض. والقرقر: القاع الأملس. ويقال: " شر الرأي الدبري " يراد به الذي يجيء بعد أن فات الأمر.
" مطلب شرح مادة جبأ وجأب " وقال أبو نصر يقال: قد جبأ عليه الأسود يجبأ جبئاً وجبوءاً إذا خرج عليه. وجبأت عن كذا وكذا إذا هبته وارتدعت عنه، ومنه قيل: رجل جبأ؛ وقال رجل من بني شيبان:
وما أنا من ريب المنون بجبإٍ ... ولا أنا من سيب الإله بآيس
ويقال للمرأة إذا كانت كريهة المنظر ولا تستحلى: إنها لتجبأ عنها العين. وقال حميد بن ثور:

ليست إذا سمنت بجائبةٍ ... عنها العيون كريهة المس
والجبأة: خشبة الحذاء. والجبء: الكمء والجمع جبأة، وقال أبو زيد: الحبأة منها الحمر. والكمء واحد الكمأة. والجأب: الحمار الغليظ. والجأب: المغرة. والجِبَا مقصور مكسور: ما جمعت في الحوض من الماء. والجَبَا مفتوح مقصور: ما حول البئر. والجبء نقرة في الجبل تمسك الماء.
وحدّثنا أبو بكر رحمه الله قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: كان عبد الله بن عامر بن كريز من فتيان قريش جوداً وحياءاً وكرماً، فدخل أعرابي البصرة فسأل عن دار ابن عامر فأُرشد إليها، فجاء حتى أناخ بفنائها فاشتغل عنه الحاجب والعبيد، فبات القفر، فلما أصبح ركب ناقته ووقف على الحاجب، وأنشأ يقول:
كأني ونضوي عند باب ابن عامر ... من الجوع ذئباً قفرةٍ هلعان
وقفت وصنبر الشتاء يلفني ... وقد مس بردٌ ساعدي وبناني
فما أوقدوا ناراً ولا عرضوا قرى ... ولا اعتذروا من عثرةٍ بلسان
فقال بعض شعراء البصريين:
كم من فتىً تحمد أخلاقه ... وتسكن العافون في ذمته
قد كثر الحاجب أعداءه ... وأحقد الناس على نعمته
فبلغ ذلك ابن عامر، فعاقب الحاجب وأمر ألا يغلق بابه ليلاً ولا نهاراً.
وحدّثنا أبو بكر رحمه الله قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: كان المغيرة بن شعبة أعور دميماً آدم، فهجاه رجل من أهل الكوفة فقال:
إذا راح في قبطيةٍ متأزراً ... فقل جعلٌ يستن في لبنٍ محض
فأقسم لو خرت من استك بيضةٌ ... لما انكسرت من قرب بعضك من بعض
قال أبو بكر فقلت لأبي حاتم: ما أظن أحداً يسبقه إلى قوله: " جعل يستن في لبن محض " فقال: بلى، كان إبراهيم بن عربي والي اليمامة، فصعد المنبر يوماً وعليه ثيابٌ بيض فبدا وجهه وكفاه، فقال الفرزدق:
ترى منبر العبد اللئيم كأنما ... ثلاثة غربانٍ عليه وقوع
قال: فهذا يشبه ذلك وإن لم يكنه. قال أبو حاتم: وخرج نصيب من عند هشام وعليه ثياببيض، فنظر إليه الفرزدق فقال:
كأنه لما بدا للناس ... أير حمارٍ لف في قرطاس
وأنشدنا أبو بكر رحمه الله
شنئتكم حتى كأنكم الغدر ... وعتكم حتى كأنكم الهجر
وما زلت أرشو الدهر صبراً على التي ... تسوء إلى أن سرني فيكم الدهر
وأنشدنا أبو عبد الله نفطويه قال: أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي:
أما إذ قد بليت بسوء رأيٍ ... فما لك عند ربك من خلاق
ستعلم أن حر الشعر أمضى ... وأبلغ فيك من حر الحلاق
سمجت فكنت أقبح من شقاقٍ ... تشاب به الدناءة أو نفاق
وأظلم منك حر الوجه حتى ... كأن سواده ليل المحاق
ولولا وقفةٌ للبين فيها ... متاعٌ من وداع واعتناق
وآمال مسوفة لقلنا ... كأنك قد خلقت من الفراق
وأنشدنا عبد الله بن جعفر النحوي قال أنشدنا أبو العباس المبرد لعبد الصمد بن المعذل يهجر ابن أخيه أحمد:
لو كان يعطي المنى الأعمام في ابن أخ ... أصبحت في جوف قرقورٍ إلى الصين
قد كان همٌّ طويلٌ لا ينام له ... لو أن رؤيتنا إياك في الحين
فكيف يا لصبر إذ أصبحت أكثر في ... مجال أعيننا من رمل يبرين
يا أبغض الناس في فقر وميسرة ... وأقدر الناس في دنيا وفي دين
تيه الملوك إذا فلسٌ ظفرت به ... وحين تفقده ذل المساكين
لو شاء ربي لأضحى واهباً لأخي ... بمض ثكلك أجراً غير ممنون
وكان أحظى له لو كان متزراً ... في السالفات على غرمول عنين
وقائلٍ لي ما يضنيك قلت له ... شخصٌ ترى عينه عيني فيضنيني
إن القلوب لتطوى منك يابن أخي ... إذا رأتك على مثل السكاكين
وقرأنا على أبي بكر بن دريد لرجل يصف جملاً:
تبين القرنين فانظر ما هما ... أحجراً أم مدراً تراهما

إنك لن تذل أو تغشاهما ... وتبرك الليل إلى ذراهما
القرنان: اللذان يبنيان على البئر يعرض عليهما الخشب، فالبعير ينفر منه أول ما يراه ثم يذل حتى يجيء فيبرك عنده من الأنس به. وذراهما: كنفهما. وأنشدني بعض أصحابنا لعلي بن العباس الرومي وأهدى قدحاً إلى يحيى بن المنجم:
وبديعٍ من البدائع يسبى ... كل عقل ويطبى كل طرف
دق في الحسن والملاحة حتى ... ما يوفيه واصفٌ حق وصف
كفم الحب في الملاحة أو أش ... فى وإن كان لا يناغى بحرف
تنفذ العين فيه حتى تراها ... أخطأته من رقة المستشف
كهواء بلا هباء مشوبٍ ... بضياء أرقق بذاك وأصف
وسط القدر لم يكبر لجرعٍ ... متوالٍ ولم يصغر لرشف
لا عجول على العقول جهول ... بل حليم عنهن في غير ضعف
ما رأى الناظرون قداً وشكلاً ... فارساً مثله على بطن كف
فيه لوزٌ معقربٌ عطفته ... حكماء الغيوب أحسن عطف
مثل عطف الأصداغ في وجناتٍ ... من غزالٍ يزهى بحسنٍ وظرف
وقرأت على أبي بكر بن دريد للمقنع الكندي:
يعاتبني في الدين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
ألم ير قومي كيف أوسر مرة ... وأعسر حتى تبلغ العسرة الجهدا
فما زادني الإقتار منهم تقرباً ... ولا زادني فضل الغنى منهم بعدا
أسد به ما قد أخلوا وضيعوا ... ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا
وفي جفنةٍ ما يغلق الباب دونها ... مكللةٍ لحماً مدفقة ثردا
وفي فرسٍ نهدٍ عتيقٍ جعلته ... حجاباً لبيتي ثم أخدمته عبدا
وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلفٌ جدا
أراهم إلى نصري بطاءً وإن هم ... دعوني إلى نصر أتيتهم شدا
فإن يأكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا
وإن زجروا طيراً بنحسٍ تمر بي ... زجرت لهم طيراً تمر بهم سعدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جلّ مالي إن تتابع لي غنىً ... وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً ... وما شيمةٌ لي غيرها تشبه العبدا
قال أبو علي كان أبو بكر بن دريد يقول: كسبت المال وكسبته غيري، ولا يجيز أكسبته. وغيره يقول كسبت المال وأكسبته غيري. وهما عندي جائزان كسبته وأكسبته.
" مطلب قصيدة جحدر التي قالها وهو في حبس الحجاج " وأنشدنا أبو بكر عن الأشنانداني لجحدر وكان لصاً مبراص فأخذه الحجاج فحبسه، فقال في الحبس:
تأوبني فبت لها كنيعاً ... همومٌ ما تفارقني حواني
هي العواد لا عواد قومي ... أطلن عيادتي في ذا المكان
إذا ما قلت قد أجلين عني ... ثنى ريعانهن عليّ تاني
وكان مقر منزلهن قلبي ... فقد أنفهنه والهم ىني
أليس الله يعلم أن قلبي ... يحبك ايها البرق اليماني
وأهوى أن أرد إليك طرفي ... على عدواء من شغلي وشاني
نظرت وناقتاي على تعاد ... مطاوعة الأزمة ترحلان
إلى ناريهما وهما بعيدٌ ... تشوقان المحب وتوقدان
ومما هاجني فازددت شوقاً ... بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بلحنٍ أعجميٍّ ... على غصنين من غربٍ وبان
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغترابٌ غير داني
أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك لنا تداني
نعم وترى الهلال كما أراه ... ويعلوها النهار كما علاني
فما بين النفرق غير سبع ... بقين من المحرم أو ثماني

فيا أخويّ من كعب بن عمرو ... أقلا اللوم إن لم تنفعاني
إذا جاوزتما سعفات حجرٍ ... وأودية اليمامة فانعياني
وقولا جحدرٌ أمسى رهيناً ... يحاذر وقع مصقول يماني
يحاذر صولة الحجاج ظلماً ... وال الحجاج ظلام لجاني
إلى قوم إذا سمعوا بقتلي ... بكى شبانهم وبكى الغواني
فإن أهلك فرب فتىً سيبكي ... عليّ مهذبٍ رخص البنان
ولم أك قد قضيت حقوق قومي ... ولا حق المهند والسنان
قال أبو علي المبر: الغالب. والكنيع: المنقبض. وأنفهنه: أعيينه، وأنشدني بعض أصحابنا أحسبه قال لأبي العتاهية:
لا تفخرن بلحية ... كثرث منابتها طويله
تهوى بها هوج الريا ... ح كأنها ذنب الحسيله
قد يدرك الشرف الفتى ... يوماً ولحيته قليله
قال أبو علي الحسيلة: العجلة.
" مطلب خطبة عبد الله بن الزبير لما سأل الوفد عن مصعب فأثنوا عليه خيراً " وحدثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو عثمان عن التوزي عن أبي عبيدة قال: قدم وفد العراق على ابن الزبير وهو في المسجد الحرام فسلموا عليه فسألهم عن مصعب، فقالوا: أحسن الناس سيرة، وأقضاه بحق، وأعدله في حكم، فلما صلى الجمعة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
قد جربوني ثم جربوني ... من غلوتين ومن المئين
حتى إذا شابوا وشيبوني ... خلوا عناني ثم سيبوني
أيها الناس، إني سالت الوفد عن مصعب فأحسنوا الثناء عليه وذكروا ما أحبه، وإن مصعباً أطبى القلوب حتى ما تعدل به، والأهواء حتى ما تحول عنه؛ واستمال الألسن بثنائها، والقلوب بنصحها، والنفوس بمحبتها؛ فهو المحبوب في خاصته، المحمود في عامته، بما أطلق الله به لسانه من الخير، وبسط يده من البذل، ثم نزل.
وحدّثنا أبو بكر رحمه الله قال حدّثنا عبد الرحمن عن عمه قال: قدم أعرابي البصرة فنزل على قوم من بني العنبر وكان فصيحاً، فكنا نسير إليه فلا نعدم منه فائدة، فجدر ثم برأ فأتيناه يوماص فأنشدنا:
ألم ياتها أني تلبست بعدها ... مفوفة صناعها غير أخرقا
وقد كنت منها عارياً قبل لبسها ... فكان لباسيها أمر وأعلقا
قال أبو علي: أعلق: أشد مرارة، وهذه الكلمة أول كلمة سمعتها من أبي بكر بن دريد، دخلت عليه وهو يملى على الناس؛ العرب تقول: هذا أعلق من هذا، أي أمر منه، وأنشدنا:
نهار شراحيل بن طودٍ يريبني ... وليل أبي ليلى أمر وأعلق
أي أشد مرارة.
وحدّثنا أبو بكر قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: قدم أعرابي من بني ضبة البصرة فخطب امرأة من قومه فشطوا عليه في المهر، فأنشأ يقول:
خطبت فقالوا هات عشرين بكرةً ... ودرعاً وجلباباً قهذا هو المهر
وثوبين مرويين في كل شتوةٍ ... فقلت الزنا خيرٌ من الجرب القشر
وأنشدنا أبو بكر بن دريد قال أنشدني أبو عثمان سعيد بن هارون:
وشعثاء غبراء الفروع منيفة ... بها توصف الحسناء أو هي أجمل
دعوت بها أبناء ليل كأنهم ... وقد أبصروها معطشون قد انهلوا
يصف ناراً وجعلها شعثاء لتفرق لهبها. وغبراء الفروع لدخانها. والفروع: الأعالي. ومنيفة: مرتفعة، يريد أنها على جبل أو في مكان عال. وقوله: بها توصف الحسناء، أي بها تشبه الجارية، وذلك أن العرب تصف الجارية فتقول: كأنها شعلة نار أو كأنها بيضة أدحيٍّ. وقوله: دعوت بها أبناء ليل، يعني النار دعا بضوئها أبناء ليل، أي قوماً سروا ليلاً فجاروا عن القصد. وقوله: كأنهم وقد أبصروها معطشون، يعني أنهم من فرحهم بهذه النار كأنهم قوم كانت عطشت إبلهم فأنهلوا، أي رويت إبلهم.
تم الجزء الأول من كتاب الأمالي ويليه الجزء الثاني وأوله وحدثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو حاتم وعبد الرحمن عن الأصمعي الخ.

بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثاني
وحدّثنا أبو بكر قال حدّثنا أبو حاتم وعبد الرحمن عن الأصمعي قال: قدم متمم بن نويرة العراق فأقبل لا يرى قبراً إلا بكى عليه، فقيل له، يموت أخوك بالملا وتبكي أنت على قبر بالعراق! فقال:

لقد لامني عند القبور على البكا ... رفيقي لتذراف الدموع السوافك
أمن أجل قبرٍ بالملا أنت نائح ... على كل قبرٍ أو على كل هالك
ويروي هذا البيت:
فقال أتبكي كل قبر رأيته ... لقبرٍ ثوى بين اللوى والد كادك
فقلت له إن الشجا يبعث الشجا ... فدعني فهذا كله قبر مالك
ألم تره فينا يقسم ما له ... وتأوي إليه مرملات الضرائك
وقرأت على أبي بكر رحمه الله لبعض طيئ يرثي الربيع وعمارة ابني زياد العبسيين، وكانت بينهم مودة:
فإن تكن الحوادث جربتني ... فلم أر هالكاً كابني زياد
هما رمحان خطيان كانا ... من السمر المثقفة الصعاد
تهال الأرض إن يطأ عليها ... بمثلهما تسالم أو تعادى
ومما قرأت عليه لفاطمة بنت الأجحم بن دندنة الخزاعية:
قد كنت لي جبلاً ألوذ بظله ... فتركتني أضحى بأجرد ضاحي
قد كنت ذات حمية ما عشت لي ... أمشي البراز وكنت أنت جناحي
فاليوم أخضع للذليل وأتقي ... منه وأدفع ظالمي بالراح
وإذا دعت قمرية شجناً لها ... يوماً على فننٍ دعوت صباح
وأغض من بصري وأعلم أنه ... قد بان حد فوارسي ورماحي
فقال لي أبو بكر رحمه الله: هذه الأبيات تمثلت بها عائشة - رضي الله عنها - بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقرأت على أبي عبد الله نفطويه هذه الأبيات في قصيدة للنابغة الجعدي وقت قراءتي عليه شعر النابغة:
ألم تعلمي أني رزئت محارباً ... فمالك منه اليوم شيءٌ ولا ليا
ومن قبله ما قد رزئت بوحوحٍ ... وكان ابن أمي والخليل المصافيا
فتىً كملت خيراته غير أنه ... جووادٌ فما يبقي من الليل من المال باقيا
فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا
وأنشدني أبو محمد بن درستويه النحوي قال أنشدنا أبو العباس محمد بن يزيد المبرد:
أيا عمرو لم أصبر ولي فيك حيلةٌ ... ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر
تصبرت مغلوباً وإني لموجعٌ ... كما صبر الظمآن في البلد القفر
وحدثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدّثني أبي قال حدّثنا أبو عبد الله بن المطيحي قال: قرئ على قبر بالمدينة:
يا مفرداً سكن الثرى وبقيت ... لو كنت أصدق إذ بليت بليت
الحي يكذب لا صديق لميتٍ ... لو صحّ ذاك ومت كنت أموت
وقرأت على أبي بكر لكعب بن زهير:
لقد ولى أليته جويٌّ ... معاشر غير مطلولٍ أخوها
فغن تهلك جويّ فإن حرباً ... كظنك كان بعدك موقودها
ولو بلغ القتيل فعال قومٍ ... لسرك من سيوفك منتضوها
كأنك كنت تعلم يوم بزت ... ثيابك ما سيلقى سالبوها
قال أبو علي وقرات عليه للأحوص:
إني على ما قد علمت محسد ... أنمي على البغضاء والشنآن
ما تعتريني من خطوب ملمة ... إلا تشرفني وتعظم شاني
فإذا تزول تزول عن متخمطٍ ... تخشى بوادره لدي الأقران
إني إذا خفي الرجال وجدتني ... كالشمس لا تخفى بكل مكان
وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري عن أبي العباس أحمد بن يحيى إلا البيت الأول من هذه الأبيات فإني قرأته على ابي بكر بن دريد:
رأيت رباطاً حين تم شبابه ... وولي شبابي ليس في بره عتب
إذا كان أولاد الرجال حزازةً ... فأنت الحلال الحلو والبارد العذب
لنا جانبٌ منه دميثٌ وجانب ... إذا رامه الأعداء ممتنع صعب
وروى ابن الأنباري:
لنا جانب منه يلين وجانب ... ثقيلٌ على الأعداء مركبه صعب
يخبرني عما سألت بهينٍ ... من القول لا جافي الكلام ولا لغب
ولا يبتغي أمناً وصاحب رحله ... بخوفٍ إذا ما ضم صاحبه الجبن

سريعٌ إلى الأضياف في ليلة الطوى ... إذا اجتمع الشفّان والبلد الجدب
وتأخذه عند المكارم هزةٌ ... كما اهتز تحت البارح الفنن الرطب
وأنشدنا أبو بكر بن دريد قال أنشدني أبو حاتم عن أبي عبيدة لأرطأة بن سهية يهجو شبيب ابم البرصاء:
من مبلغٌ فتيان مرة أنه ... هجاناً ابن برصاء العجان شبيب
فلو كنت مرياً عميت فأسهلت ... كداك ولكن المريب مريب
فسألته عن معنى هذا البيت، فقال: كان ابوه أعمى وجده أعمى وجد أبيه أعمى، يقول: فلو لم تكن مدخول النسب كنت أعمى كآبائك.
أبي كان خيراً من أبيك ولم يزل ... جنيباً لآبائي وأنت جنيب
وما زلت خيراً منك مذ عض كارهاً ... برأسك عادي النجاد ركوب
يقول: ما زلت خيراً منك مذ عض برأسك فعل أمك أي مذ ولدت. والعادي: القديم. والنجاد جمع نجد: وهو الطريق المرتفع. والركوب: المركوب الموطوء وهو فعول في معنى مفعول، وإنما هذا تشبيه جعل ما عض برأسه من فرجها مثل الطريق القديمة المركوبة في كثرة من يسلكها، يريد أنه قد ذل حتى صار كتلك، فيقال: إن شبيباً عمي بعد ما كبر فكان يقول: علم أني مريٌّ.
" مطلب حديث سالم بن قحفان العنبري وإعطائه صهره الأبعرة وما قاله لامرأته من الشعر وقد لامته على البذل " وقرأت على أبي بكر بن دريد وقال سالم بن قحفان العنبري، وكان صهره أخو امرأته أتاه فأعطاه بعيراً من إبله وقال لامرأته: هاتي حبلاً يقرن به ما أعطيناه إلى بعيره، ثم أعطاه آخر وقال: هاتي حبلاً آخر، ثم أعطاه ثالثاً وقال: هاتي حبلاً، فقالت: ما بقي عندي حبلٌ، فقال لها: عليّ الجمال وعليك الحبال، ثم قال:
لا تعذليني في العطاء ويسري ... لكا بعيرٍ جاء طالبه حبلا
وقبله:
لقد بكرت أم الوليد تلومني ... ولم أجترم جرماً فقلت لها مهلا
فإني لا تبكي عليّ إفالها ... إذا شبعت من روض أوطانها بقلا
فلم أر مثل الإبل مالاً لمقتنٍ ... ولا مثل أيام الحقوق لها سبلا
وزادني بعض أصحابنا عن أبي الحسن الأخفش:
إذا سمعت آذانها صوت سائل ... أصاخت فلم تأخذ سلاحاً ولا نبلا
قال أبو علي: السلاح ها هنا جمالها، يقول: سمنها يمنع صاحبها من أن يسخو بها، ولكنه يعطيها على كل حال لا يمنعه ذلك.
وحدثنا أبو المياس قال حدّثنا أحمد بن عبيد بن ناصح قال قال الأصمعي: قيل لذي الرمة: من أين عرفت الميم لولا صدق من نسبك إلى تعليم أولاد الأعراب في أكتاف الإبل؟ فقال: والله ما عرفت الميم إلا أني قدمت من البادية إلى الريف فرأيت الصبيان وهم يجوزون بالفجرم في الأوق، فوقفت حيالهم أنظر إليهم فقال غلام من الغلمة: قد أزقتم هذه الأوقة فجعلتموها كالميم، فقام غلام من الغلمة فوضع منجمه في الأوقة فنجنجه فأفهقها، فعلمت أن الميم شيء ضيق فشبهت عين ناقتي به وقد أسلهمت وأعيت. وقال أبو المياس: الفجرم: الجوز.
قال أبو علي: ولم أجد هذه الكلمة في كتب اللغويين ولا سمعتها من أحد من أشياخنا غيره. والأوقة: الحفرة. وقوله: قد أزقتم أي ضيقتم. ونجنجه: حركه. فأفهقها: ملأها. والمنجم: العقب، وكل ما نتأ وزاد على مايليه فهو منجم. والكعب: منجم أيضاً. وأسلهمت: تغيرت، والمسلهم: الضامر المتغير.
قال أبو علي: وقرأت على أبي بكر بن دريد لكثير:
أقول لماء العين أمعن لعله ... بما لا يرى من غائب الوجد يشهد
فلم أدر أن العين قبل فراقها ... غداة الشبا من لاعج الوجد تجمد
ولم أر مثل العين ضنت بمائها ... عليّ ولا مثلي على الدمع يحسد
وقرأت عليه أيضاً:
سيهلك في الدنيا شفيقٌ عليكم ... إذا غاله من حادث الدهر غائله
ويخفي لكم حباً شديداً ورهبة ... وللناس أضغال وحبك شاغله
وحبك ينسيني من الشيء في يدي ... ويذهلني عن كل شيء أزاوله
كريمٌ يميت السر حتى كأنه ... إذا استبحثوه عن حديثك جاهله
يود بأن يمسي سقيماً لعلها ... إذا سمعت عنه بشكوى تراسله

ويرتاح للمعروف في طلب العلا ... لتحمد يوماً عند ليلى شمائله
فلو كنت في كبلٍ وبحت بلوعتي ... إليه لأنت رحمةً لي سلاسله
حديث المرأة التي سكنت البادية قريباً من قبور أهلها قال أبو علي: وحدثنا ابو بكر بن دريد رحمه الله قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: دُفعت يوماً في تلمسي بالبادية إلى وادٍ خلاء لا أنيس به إلا بيتٌ معتنزٌ بفنائه أعنزٌ وقد ظمئت فيممته فسلمت، فإذا عجوز قد برزت كأنها نعامةٌ راخم، فقلت: هل من ماء؟ فقالت: أو لبن؟ فقلت: ما كانت بغيتي إلا الماء، فإذا يسر الله اللبن فإني إليه فقير، فقامت إلى قعب فأفرغت فيه ماء ونظفت غسله ثم جاءت إلى الأعنز فتغبّرتهن حتى احتلبت قراب ملء القعب، ثم أفرغت عليه ماء حتى رغا وطفت ثُمالته كأنها غمامة بيضاء، ثم ناولتني إياه فشربت حتى تحببت رياً، واطمأننت فقلت: إني أراك معتنزة في هذا الوادي الموحش والحلة منك قريب، فلو انضممت إلى جنابهم فأنست بهم! فقالت: يابن اخي، إني لآنس بالوحشة، وأستريح إلى الوحدة، ويطمئن قلبي إلى هذا الوادي الموحش، فأتذكر من عهدت، فكأني أخاطب أعيانهم، وأتراءى أشباحهم، وتتخيل لي أندية رجالهم، وملاعب ولدانهم، ومندى أموالهم؛ والله يابن أخي، لقد رأيت هذا الوادي بشع اللديدين، بأهل أدواح وقباب، ونعمٍ كالهضاب، وخيل كالذئاب، وفتيان كالرماح، يبارون الرياح، ويحمون الصباح؛ فأحال عليهم الجلاء قماً بغرفةٍ، فأصبحت الآثار دارسة، والمحال طامسة، وكذلك سيرة الدهر فيمن وثق به. ثم قالت: ارم بعينك في هذا الملا المتباطن؛ فنظرت، فإذا قبورٌ نحو أربعين أو خمسين، فقالت: ألا ترى تلك الأجداث؟ قلت: نعم! قالت: ما انطوت إلا على أخ أو ابن أخ، أو عم أو ابن عم، فأصبحوا قد ألمأت عليهم الأرض، وأنا أترقب ما غالهم؛ انصرف راشداً رحمك الله.
قال أبو علي: معتنز منفرد. والراخم: التي تحضن بيضها.
" مطلب أسماء القدح بفتحتين " والقعب: قدح إلى الصغر يشبه به الحافر، قال امرؤ القيس:
لها حافرٌ مثل قعب الولي ... د ركّب فيه وظيفٌ عجر
والغمر: القدح الصغير. والعُسّ: القدح الكبير. والتبن: أكبر منه. والصحن: القصير الجدار العريض. والرفد: القدح العظيم. والجنبل: القدح العظيم الجشب النحت الذي لم ينقح ولم يسور. والعلبة: قدح ضخم يعمل من جلود الإبل. وقال أبو عمرو الشيباني: الكتن: القدح، وقال غيره الوأب: القدح المقعر الكثير الأخذ من الشراب. وقال بندار: الوأب: المعتدل الذي ليس بصغير ولا كبير. قال عمرو بن كلثوم في الصحن:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا
وأنشد يعقوب في الجنبل:
إذا انبطحت جافي عن الأرض بطنها ... وخوأها رابٍ كهامة جنبل
وقال الأعشى في الرفد:
رب رفدٍ هرقته ذلك الي ... م وأسرى من معشر أقتال
وتغبرتهن: احتلبت الغبر، وهي بقية اللبن في الضرع وجمعه أغبار. قال الحارث بن حلزة:
لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من النايح
وقراب وقريب واحد، مثل كبار وكبير وجسام وجسيم. ورغا: صارت له رغوة، وفي رغوة ثلاث لغات، يقال: رُغوة ورَغوة ورِغوة. والثمالة: الرغوة. وتحببت: امتلأت، يقال: تحبب من الماء إذا امتلأ. والحلال: جماعات بيوت الناس، الواحدة حلة. والجناب بفتح الجيم: فناء الدار، يقال: أخصب جناب القوم وهو ما حولهم، والجناب بكسر الجيم: موضع. وفرسٌ طوع الجناب إذا كان سهل القياد. والأشباح: الأشخاص، يقال: شبْح وشبَح، لغتان. والأندية جمع نديٍّ، والندى والنادي: المجلس، ومنتدى القوم: موضع متحدثهم. والتندية أن يورد الرجل إبله ثم يرعاها، والمندى: المكان الذي يندى فيه المال. وبشع: وملآن. واللديدان: الجانبان. والدوحة: الشجرة العظيمة. والهضاب: الجبال الصغار. وقماً: كنساً، يقال: قممتالبيت، أي كنسته، والقمامة: الكناسة، والمقممة: المكنسة. والغرفة الواحدة من الغرف، وهي ضرب من الشجر. ومالا: الفضاء، والمتباطن: المتطامن. وألمأت عليهم: احتوت عليهم. قال أبو زيد: ألمأ عليهم يلمئ إلماءً إذا احتوى عليهم، وتلمأت عليه الأرض: استوت عليه ووارته، وأنشد:
وللأرض كم من صالح قد تلمأت ... عليه فوارته بلماعةٍ قفر
وغالهم: أهلكهم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5