كتاب : غرر الخصائص الواضحة
المؤلف : الوطواط

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل اللسان عنوان عقل الانسان وآلة تظهر سر الجنان بفصيح العبارة وصريح البيان وصلاته وسلامه على سيدنا محمد المجتي من سرة عدنان المبعوث بجوامع الكلم الشاملة لأنواع البيان الباهرة بفصاحتها عقول ذوي الفطن والأذهان والمخصوص بمحاسن الشيم المتممة لمكارم الأخلاق ومزايا الاحسان والحائز في حلبات الاصطفاء قصبات الرهان وعلى آله وصحبه فروع شجرته الباسقة الأفنان وفراقد سماء رسالته أعيان السادات وسادات الأعيان صلاة وسلاماً دائمين ما دام طرف القلم مقاداً بعنان البنان وبعد فإني لما رأيت تغير معاني الأخلاق دالاً على تباين مباني الأعراق والنفوس تتفاوت في ميلها إلى أغراضها على حسب اختلاف جواهرها وأعراضها حداني غرض اختلج في سري وأمل اعتلج في صدري على أن أجمع كلاماً في المحامد والمذام المتخلقة بها نفوس الخواص والعوام وأجعله كتاباً يغني اللبيب عن الخليل والنديم ويخبر بالحديث والقديم فشمرت عن ساق الجد وحسرت عن ساعد الكد وعمدت إلى حسان الكتب المجموعة في ضروب الأدب فتصفحت مضمونها وتلمحت فنونها واستفتحت عيونها واستبحت أبكارها وعونها وجمعت في هذا الكتاب من زواهر أسدافها وجواهر أصدافها ملح فكاهات جلت عرائس المعاني في حلل موشاة وأظهرت نفائس المحاسن في أنواع من البراعة مغشاة وأزاهر بيان يغدو المتلفظ بها غايات ويروح المتحفظ بها صاحب آيات وجعلته شاملاً لمصايد شواردها ناهلاً من الفضائل أعذب مواردها محتوياً من إحراز الألفاظ على درر منظومة تستفتح النواظر بلمحات سلكها ومن أسرار المعاني على سرر مختومة تستروح الخواطر بنفحات مسكها.
أحاديث لو صيغت لألهت بحسنها عن الدر أو شمت لأغنت عن المسك وكسوته من الأخبار بزة رفيعة وأبدعت فيما أودعت فيه من الفكاهات الرائقة البديعة من نوادر مطربات وأبيات مهذبات هي للأوراق شموس مشرقات ولألئ أنوارها بارقات ألفاظها أرق من النسيم وأروق من التسنيم مفرد
كما أزهرت روضات حسن وأثمرت ... فأضحت وعجم الطير فيها تغرّد
وجنبته خرافات الأخبار ومطوّلات الأسمار لئلا تسأمه عند المطالعة النفوس ولئلا يكون ذكرها وضحاً في غرر الطروس وجعلته ستة عشر باباً تسفر عن وجه الابداع نقاباً وجعلتها متضادة لتضاد الأخلاق والشيم وتباين الأقدار والهمم كل باب يشتمل على ثلاثة فصول في ثلاثة معان تفك بلطائفها من أدهم الهم كل قلب عان وهذه الفصول قلائد أجناس فصلت بلآلئ أنواعها ومعاهد إيناس نصبت أشراك النفوس برباعها فجاءت فصولاً تعبر عن حسان فنونها ومعانيها وتغبر في وجه عائبها وشانيها وقدمت في أبواب المحامد فصلاً في مدائحها ليتنسم المتأمل عرف اليمن من فواتحها وأتبعته فصلاً ثانياً فيما ذكر عن المتخلقين بها من أزهار خمائل الأخبار وأبكار عقائل الأفكار الفائقة باختبارها درر الأمثال السائرة الرائقة في اختيارها فهي عن غرر المفاخر سافرة وعززت بثالث في ذم ما مدح من الأخلاق لسبب يطرأ عليها إذ البدر يطرأ عليه الخسوف والمحاق والشيء بالشيء يعرف فيذكر بعد ان كان يجهل وينكر فربما تجاذبت الأحاديث أذيالها فطلبت من المنمق أشكالها ولا غرو فالحديث كما يقال شجون وأحسنه ما جذل جده برقيق الهزل مقرون على أنني لم آل جهداً في إضافة كل شيء إلى ما يشاكله ويلائمه ويضاهيه في المعنى ويساهمه مما يجري في هذا الاسلوب ولا يخرج عن المقصود والمطلوب ورتبت فصول أبواب المذام على العكس من أبواب المحامد والمآثر وأطلعت في دياجي مساويها من محاسن الملح الأنجم الزواهر ترتيباً لا يرتاب في جودته أريب وتقريباً يؤمن به من كل ما يريب فأبوابه على اختلافها بائتلافها في الحسن نظائر وبعضها لبعض ضرائر إن ازدهى الحسن باباً منها بتقسيمه ووصفه تنفس الآخر عن حسن ترصيعه وطيب عرفه مفرد
ضدّان لما استجمعا حسناً ... والضدّ يظهر حسنه الضدّ

وسددته جهدي رجاء أن يصيب صميم الآمال والأعراض وخوفاً أن تصرفه النفوس عند النقد بالصد عنه والاعراض ووسمته بغرر الخصائص الواضحة وعرر النقائص الفاضحة اسم يكون لحلة أدبه طرازاً معلماً وبمكنون أسراره معلناً ومعلماً إذ الكتاب لا يعلم ما في باطنه إلا من سمة عنوانه كما أن الانسان يعلم ما في قلبه من لفتات وجهه وفلتات لسانه وأنا راغب لمن وقف على هذا الكتاب من سراة الأعيان والكتاب القاطفي أزهار الآداب من جنان الخواطر العاطفي نفار الألباب في عنان النوادر أن لا يفوق لهدف الاختيار سهم الاختبار وأن يحدق إليه بصر الاعتقاد عند الانتقاد فأي جواد لا يكبو وأي مهند لا ينبو ومع هذا فإن لسان التقصير عن القيام بالعذر قصير والمصنف وإن استعان في تنقيح ما ألف بمالك وعقيل معرض لطاعن وحاسد إلا أن يتاح له عاذر ومقيل مفرد
وإني لأرجو أن يفخم أمره ... من الناس حرّ شأنه الصفح والستر
والله أسأل أن يكسبه دلاً معشقاً يكون به لداء القلوب محظياً ويكسيه حسناً ورونقاً حتى يكون بعيون العقول مرعياً وللافهام مرضياً وبه أستعين على سبيل الرشاد فيما نحوت فهو المعين بهدايته لتحقيق ما رجوت ولما انتهى بنا جواد قريحتنا إلى غاية البيان عن المراد وحاز قصب السبق في مضمار النطق بالسداد رأينا صواباً أن نعقبه بذكر مقدمة في حض الانسان على الدأب في طلب المعالي ليظفر بالحظ الأوفر من الشرف المتعالي تكون أسالما قصدنا فيه التحرير والتحبير من الكشف عن ماهية الأخلاق وحقيقة معانيها وكيفية صورها ومبانيها بقول شاف وتلخيص كاف وهو مما اخترناه من كلام الحكماء الاعلام أولى البصائر والأحلام قالوا الخلق عادة للنفس يفعلها الانسان بلا روية وهي نوعان جميل محمود وقبيح مذموم والأخلاق المحمودة وإن كانت في بعض الناس غريزة فإن الباقين يمكن أن يصيروا إليها بالرياضة والألفة ويرتقوا إليها بالتدرب والعادة فإنهم وإن لم يكونوا على الخير مطبوعين صاروا به متطبعين والفرق بين الطبع والتطبع أن الطبع جاذب منفعل والتطبع مجذوب مفتعل تتفق نتائجهما مع التكلف ويفترق تأثيرهما مع الاسترسال وقد يكون في الناس من لا يقبل طبعه العادة الحسنة ولا الأخلاق الجميلة ونفسه مع ذلك تتشوف إلى المنقبة وتتأفف من المثلبة لكن سلطان طبعه يأباه عليه واستعصاؤه مع تكلف ما ندب إليه يختار العطل منها على التحلي ويستبدل الحزن على فواتها بالتسلي فلا ينفعه التأنيب ولا يردعه التأديب وسبب ذلك على ما قرره المتكلمون في الأخلاق أن طبع المطبوع أملك للنفس التي هي محله لاستيطانه إياها وكثرة إعانته لها والأدب طار على المحل غريب فيه قال الشاعر في ذلك
إذا كان الطباع طباع سوء ... فليس بنافع أدب الأديب
وقال آخر
ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها
وأما الذي يجمع الفضائل والرذائل فهو والذي تكون نفسه الناطقة متوسطة الحال بين اللؤم والكرم وقد تكتسب الأخلاق من معاشرة الاخلاء فإن صلاحها من معاشرة الكرام وفسادها من مخالطة اللئام ورب طبع كريم أفسدته معاشرة الأشرار وطبع لئيم أصلحته مصاحبة الأخيار وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل وقال علي رضي الله عنه لولده الحسن الأخ رقعة في ثوبك فانظر بم ترقعه وقال بعض الحكماء في وصية لولده يا بني احذر مقارنة ذوي الطباع المرذولة لئلا يسرق طباعك من طباعهم وأنت لا تشعر ثم أنشد
واصحب الأخيار وارغب فيهم ... ربّ من صاحبته مثل الجرب
فإذا كان الخليل كريم الأخلاق حسن السيرة طاهر السريرة فبه في محاسن الشيم يقتدي وبنجم رشده في طرق المكارم يهتدي. وإذا كان سيء الأعمال خبيث الأقوال كان المعتبط به كذلك ومع ذلك فواجب على العاقل اللبيب والفطن الأريب أن يجهد نفسه حتى يحوز الكمال بتهذيب خلائقه ويكتسي حلل الجمال بدماثة شمائله وحميد طرائقه ويكد في الهواجر ويسهر الليالي إلى أن يرتقي شرفات المجد والمعالي فقد قيل من شمر عن ساق الجد وجد مفتاح الجد ومن كلام الثعالبي لا يحصل برد العيش الأبحر النصب ولله در الوزير أبي القاسم الحسين بن علي المغربي حيث قال
سأعرض كل منزلة ... يعرض دونها العطب

فإن أسلم رجعت وقد ... ظفرت وأنجح الطلب
وإن أعطب فلا عجب ... لكلّ منية سبب
وقال عمرو بن العاصي المرء حيث يجعل نفسه إن رفعها ارتفعت وإن وضعها اتضعت وقال الشاعر
وما الحرّ إلا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل
وقال بعض الحكماء النفس عروف غروف ونفور ألوف متى ردعتها ارتدعت ومتى حملتها حملت وإن أهملتها فسدت وقال الشاعر
صبرت على اللذات حتى تولت ... وألزمت نفسي هجرها فاستمرّت
وجرّعتها المكروه حتى تجرّدت ... ولو حملته جملة لاشمأزت
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت
وكانت على الآمال نفسي عزيزة ... فلما رأت عزمي على الترك ولت
وقال آخر
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع
وقالوا الفخر بالنفس والأفعال لا بالأعمام والأخوال وقالوا الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية وقال عامر بن الطفيل
وإني وإن كنت ابن فارس عامر ... وفي السر منها والصريح المهذب
فما سوّدتني عامر عن ورائه ... أبى اللّه أن أسمو بأمّ ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمقنب
وقال أبو الطيب المتنبي
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبجدّي فخرت لا بجدودي
وقالوا كن عصامياً لا عظامياً ومعناه لا تفتخر بشرف آبائك ولكن بما يؤثر من أنبائك وعصام المشار إليه كان رجلاً سوقة ثم صار حاجباً للنعمان ابن المنذر فسئل عن سبب وصوله إلى هذه المنزلة العالية والرتبة الحالية فقال نفس عصام سودت عصاماً وعلمته الكر والاقداما وصيرته ملكاً هماماً وقالوا شرف الأعراق يحتاج إلى شرف الأخلاق ولا حمد لمن شرف نسبه وسخف أدبه يحكي في هذا أن رجلاً من بني هاشم تخطى رقاب الناس في مجلس أحمد بن أبي دواد فقال له أحمد يا بني الأدب ميراث الأشراف ولست أرى عندك من سلفك ميراثاً فاستحسن كلامه من حضر مجلسه شاعر
وإذا افتخرت بأعظم مقبورة ... فالناس بين مكذب ومصدّق
فأقم لنفسك في انتسابك شاهداً ... بحديث مجد للقديم محقق
آخر
إذا ما الحيّ عاش بذكر ميت ... فذاك الميت حيّ وهو ميت
ومن يك بيته بيتاً رفيعاً ... وهدّمه فليس لذاك بيت
ابن الرومي
وما الحسب الموروث لا ذرّ ذرّه ... يفيد الفتى الابا خر مكتسب
فلا تتكل إلا على ما فعلته ... ولا تحسبنّ المجد يورث بالنسب
وليس يسود المرء إلا بنفسه ... وإن عدّ آباء كراما ذوي حسب
إذا المرء لم يثمر وإن كان شعبه ... من المثمرات اعتدّه الناس في الحطب
وقال آخر يهجو رجلاً شريفاً
من كان يعمر ما شادت أوائله ... فأنت تهدم ماشادوا وماسمكوا
ما كان في الحق أن تأتي فعالهم ... وأنت تحوي من الميراث ما تركوا
وقال آخر
يزين الفتى أخلاقه ويشينه ... وتذكر أخلاق الفتى وهو لا يدري
وقال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي
وإني رأيت الوسم في خلق الفتى ... هو الوسم لا ما كان في الشعر والجلد
وقال أبو الطيب مقتفياً أثره ومصدقاً خبره
وما الحسن في وجه الفتى شرفاً له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق

وقال بعض من له في الحكمة فصل المقال منبها على ما تدرك به رتبة الكمال الانسان التام من نزع عن نفسه ربقة المساوي والملاوم وبذ بمجده المساوي والمقاوم وهذا الحد قلما ينتهي إليه انسان وإذا انتهى الانسان إلى هذا كان بالملائكة أشبه منه بالناس لأن الانسان مضروب بأنواع الشر مستول عليه وعلى طبعه ضروب النقص والكمال وإن كان بعيداً لا ينال فإنه ممكن وذلك إن الانسان إذا صرف عزيمته وأعطى الاجتهاد حقه كان ممكناً وهو أن يكون راغباً بجميع مناقبه وخصائصه متيقظاً لصرف معايبه ونقائصه واردة طرائقه شرعة المكارم الصافية رافلة خلائقه في أبراد المحامد الضافية مستعملاً كل فضيلة متجنباً كل رذيلة مجتهداً في بلوغ القصوى وقمع النفوس عما تحب وتهوى عاشقاً لصورة الجمال مستلذاً بمحاسن الخلال يرى الكمال دون محله والتمام أقل أوصافه ونبله فقد قيل قبيح بذي العقل أن يكون بهيمة وقد أمكنه أن يكون إنساناً أو إنساناً وقد أمكنه أن يكون ملكاً قال المتنبي
ولم أر في عيوب الناس شيأ ... كنقص القادرين على التمام
وقال علي بن مقلة
وإذا رأيت فتى بأعلى قمة ... في شامخ من عزة المترفع
قالت لي النفس العروف بفضلها ... ما كان أولاني بهذا الموضع
والمنهج القويم الموصل إلى الثناء الجميل أن يستعمل الانسان فكره وتمييزه فيما ينتج عن الأخلاق المحمودة والمذمومة منه ومن غيره ومن أخذ نفسه بما استحسن منها واستملح وصرفها عما استهجن منها واستقبح فقد قيل له كفاك تهذيباً وتأديباً لنفسك ترك ما كرهه الناس من غيرك وقيل لعيسى عليه السلام من أدبك قال ما أدبني أحد رأيت جهل الجاهل فتجنبته
إذا أعجبتك خلال امرئ ... فكنه تكن مثل من يعجبك
وليس على المجد والمكرمات ... إذا جئتها حاجب يحجبك
وقالوا من نظر في عيوب الناس فأنكرها ثم رضيها لنفسه فذلك هو الأحمق بعينه
لا تلم المرء على فعله ... فأنت منسوب إلى مثله
من ذمّ شيأ وأتى مثله ... فإنما دل على جهله
ويقال الانسان يضارع الملك بقوة الفكر والتمييز ويضارع البهيمة بقوة الشهوة والغذاء فمن صرف همته إلى رتبة الفكر والتمييز حتى يرى بهما عاقبة فعله فحقيق أن يلحق بالملائكة فيسمى ملكاً لطهارة أخلاقه ومن صرف همته إلى رتبة القوة الشهوانية بإيثار اللذة البدنية يأكل كما تأكل الانعام فحقيق أن يلحق بالبهائم فيصير إما غمراً كثور أو شرهاً كخنزير أو ضرياً ككلب أو حقوداً كجمل أو متكبراً كنمر أو رواغاً كثعلب أو جامعاً لذلك كشيطان ولقد صدق من قال
وإذا الفتى ساس الأمور بعلمه ... وأعين بالتأديب والتهذيب
سمت الأمور به فيبرز سابقاً ... في كل حال مشهد ومغيب
اللهم كما خلقت الانسان بقدرتك في أحسن تقويم وأعليته باختصاصك له ذروة التكريم وهديته بإرادتك نجدى الخير والشر وصرفته بقضائك في عناني النفع والضر روض اللهم جوامح نفوسنا إلى اقتفاء أثر الأكارم واقتناء ما يبعث على حمدها من صنوف المكارم وذد اللهم سوائم طباعنا عن مراتع الملاوم ومرابع ما يتوجه به علينا لوم اللوائم فإليك الخذلان والعون وبيدك أزمة المكان والكون وهذا أوان انشقاق كمائم هذا الكتاب عما أكنته من زهرات الآداب واهتصار أفنان فنونه الدانية القطاف المتسقة بأنواع التحف والألطاف

الباب الأول في الكرم وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في وصف الأخلاق الحسان المتخلقة بها نفوس الأعيان الفصل الثاني في ذكر الصنائع والمآثر المفصحة عن أحساب الأكابر الفصل الثالث في ذم التخلق بالاحسان إذا لم يوافق القلب اللسان
الباب الثاني في اللؤم وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في ذم من ليس له خلاق وما اتصف به من قبيح الأخلاق الفصل الثاني في ذكر الفعل والصنيع الدالين على لؤم الوضيع الفصل الثالث في أن من تخلق باللؤم انتفع وعلا على الكرام وارتفع
الباب الثالث في العقل وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في مدح العقل وفضله وشرف مكتسبه ونبله الفصل الثاني في ذكر أنواع الفعل الرشيد الدال على العقل المشيد الفصل الثالث في أن هفوات العقال لا يغضى عنها ولا تقال

الباب الرابع في الحمق وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في ذم الجهالة والجنون وما اشتملا عليه من الفنون الفصل الثاني في ذكر النوادر الصادرة عن مجانين البادية والحاضرة الفصل الثالث في احتجاج الأريب المتحامق على أن الحمق أزكى الخلائق
الباب الخامس في الفصاحة وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في أن الفصاحة والبيان أزين ما تحلت به الأعيان الفصل الثاني فيما يتحلى به ألباب الأدباء من بلاغات الكتاب والخطباء الفصل الثالث في أن معرفة حرفة الأدب مانعة من ترقى أعالي الرتب
الباب السادس في العي وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول فيما ورد عن ذوي النباهة في ذم العي والفهاهة الفصل الثاني فيمن قصر باع لسانه عن ترجمة ما في جنانه الفصل الثالث في أن اللسن المكثار لا يأمن آفة الزلل والعثار
الباب السابع في الذكاء وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في مدح الفطن والأذهان المعظمة من قدر المهان الفصل الثاني في ذكر البداهة البديعة والأجوبة المفحمة السريعة الفصل الثالث فيمن سبق بذكائه وفطنته إلى ورود حياض منيته
الباب الثامن في التغفل وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في ذم البلادة والتغفل من ذوي التعالي والتنزل الفصل الثاني فيمن تأخرت منه المعرفة ونوادر أخبارهم المستظرفة الفصل الثالث في أن أنواع التغفل والبله ستور على الأولياء مسبله
الباب التاسع في السخاء وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من الباب الأول الفصل الأول في أن التبرع بالنائل من أشرف الخلال والشمائل الفصل الثاني في ذكر منح الأماجد الأجواد وملح الوافدين والقصاد الفصل الثالث في ذم السرف والتبذير إذ فعلهما من سوء التدبير
الباب العاشر في البخل وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في ذم الامساك والشح وما فيهما من الشين والقبح الفصل الثاني فيما استملح من نوادر المبخلين من الأراذل والمبجلين الفصل الثالث في مدح القصد في الانفاق خوف التعيير بالاملاق
الباب الحادي عشر في الشجاعة وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في مدح الشجاعة والبسالة وما فيهما من الرفعة والجلالة الفصل الثاني في ذكر ما وقع في الحروب من شدائد الأزمات والكروب الفصل الثالث في ذم التصدي للهلكة ممن لا يطيق بها ملكة
الباب الثاني عشر في الجبن وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في أن خلتي الجبن والفرار مما يشير بني الأحرار الفصل الثاني فيمن جبن عند اللقاء خوف الموت ورجاء البقاء الفصل الثالث فيمن ليم على الفرار والأحجام فاعتذر بما ينفي عنه الملام
الباب الثالث عشر في العفو وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في مدح من اتصف بالعفو عن الذنب المتعمد والسهو الفصل الثاني فيمن حلم عند الاقتدار وقبل من المسئ الاعتذار الفصل الثالث في ذم العفو عمن أساء وانتهك حرمات الرؤساء
الباب الرابع عشر في الانتقام وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في التشفي والانتقام ممن أحضر قسراً في المقام الفصل الثاني في ذكر من ظفر فعاقب بأشد العقوبة ومن راقب الفصل الثالث في أن الانتقام لحدود الله خير فعلات من حكمه الله وولاه
الباب الخامس عشر في الاخوة وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في مدح اتخاذ الاخوان فإنهم العدد والأعوان الفصل الثاني فيما يدين به أهل المحبة من شرائع العوائد المستحبة الفصل الثالث في ذم الثقيل والبغيض بما استحن من النثر والقريض
الباب السادس عشر في العزلة وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في ذم الاستئناس بالناس لتلون الطباع وتنافي الأجناس الفصل الثاني فيما يحض على الوحدة والاعتزال من ذميم الخلائق والخلال الفصل الثالث فيما يختم به هذا الكتاب من دعاء نرجو أن يسمع ويجاب
الباب الأول
في الكرم
وفيه ثلاثة فصول
في وصف الأخلاق الحسان
المتخلقة بها نفوس الأعيان

قال الله تعالى ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في الميزان شيء أثقل عند الله من الخلق الحسن وما حسن الله خلق رجل وخلقه فأدخله النار وقال علي كرم الله وجهه نعم الحسب الخلق الحسن وقال الحسن البصري سعة الأخلاق منحة من الله فإذا أراد الله بعبد خيراً منحه خلقاً حسناً وقال عليه الصلاة والسلام من لانت كلمته وجبت محبته وحسنت احدوثته وظمئت القلوب إلى لقائه وتنافست في مودته وقالوا أحسن الشيم ما تشام منه بارقة الكرم وأوصى حكيم ولده فقال يا بني إن مكارم أخلاقك تدل على شرفك وطيب أعراقك سمع بعض الأعراب يقول لولده
أبني إنّ البرّ شيء هين ... وجه طليق وكلام لين
وفي بعض الكتب القديمة الأخلاق الصالحة ثمرات العقول الراجحة وقالوا من حسنت أخلاقه درت أرزاقه وقيل لبعض الأدباء متى يبلغ الرجل ذروة الكمال قال إذا اتقى من خلقه وجاد بما رزقه واختار من القول أصدقه وحسن في كل الأحوال خلقه فذاك الذي أنهج إلى الكمال طرقه ويقال إن في التوراة يقول الله تعالى يا موسى ليكن وجهك بساماً وكلامك ليناً تكن أحب إلى الناس وإلي ممن يعطيهم الذهب والفضة وقال ابن الرومي
له محيا جميل يستدلّ به ... على جميل وللبطنان ظهران
وقلّ من أضمرت خيراً طويته ... إلا وفي وجهه للخير عنوان
وما أصدق قول القائل
وما اكتسب المحامد طالبوها ... بمثل البشر والوجه الطليق
وفي بعض الآثار المروية عن ابن عباس أن موسى عليه السلام قال يا رب أمهلت فرعون أربعمائة سنة يكذب رسلك ويجحد آياتك فأوحى الله إليه إنه كان حسن الخلق سهل الحجاب فأحببت أن أكافئه

وعلى ذكر الحجاب وإن لم يكن من الباب
كانت العرب تقول ما شيء أضيع للمملكة وأهلك للرعية من شدة الحجاب للولي ولا أهيب للرعية والعمال من سهولة الحجاب لأن الرعية إذا وثقت من الولاة بسهولة الحجاب أحجمت عن الظلم وإذا وثقت بشدة الحجاب تهجمت على الظلم وركب القوي الضعيف فخير خلال الولاة سهولة الحجاب
وصف أخلاق أهل الوفاق
فلان خلقه كنسيم الأسحار على صفحات الأنوار أخلاق قد جمعت الحرية أطرافها وفرشت المروأة أكنافها أخلاق تجمع الأهواء المتفرقة على محبته وتؤلف الآراء المشتتة في مودته أخلاق هي المسك لولا فأرته والورد لولا مرارته والماء لولا إسراعه إلى الكدر والروض لولا حاجته إلى المطر قد جمع شرف الأخلاق إلى طيب الأعراق
له خلق على الأيام يصفو ... كما رقت على الزمن العقار
آخر
خلق سهول المكرمات سهوله ... وتوعر الأيام من أوعاره
إن لاح فهو الصبح في أنواره ... أو فاح فهو الروض في نوّاره
المتنبي
صفت مثل ما تصفو المدام خلاله ... ورقت كما رق النسيم شمائله
آخر
موفق لسبيل الرشد متبع ... يزينه كل ما يأتي ويجتنب
تسمو إليه عيون كلما انفرجت ... للناس وجهة الأبواب والحجب
له خلائق بيض لا يغيرها ... صرف الزمان كما لا يصدأ الذهب
عيون من مكارم الأخلاق الدالة على طيب الأعراق
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وهو ما أوصاه به ربه عز وجل في قوله خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين فلما امتثل أمر ربه وناطقه بشغاف قلبه أثنى على فعله بقوله تنويهاً بفضله الجسيم وإنك لعلى خلق عظيم ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ألا أدلكم على خير أخلاق أهل الدنيا من وصل من قطعه وعفا عمن ظلمه وأعطى من حرمه وقال الحسين بن مطير يفتخر
أحب مكارم الأخلاق جهدي ... وأكره أن أعيب وإن أعابا
وأصفح عن سباب الناس حلماً ... وشرّ الناس من يهوى السبابا
ومن هاب الرجال تهيبوه ... ومن حقر الرجال فلن يهابا

وقال الأحنف بن قيس واسمه الضحاك وقيل صخر لبنيه ألا أدلكم على المحمدة الخلق السحيح والكف عن القبيح وقال أكثم بن صيفي لولده يا بني ذللوا أخلاقكم للمطالب وقودوها على المحامد وعلموها المكارم ولا تقيموا على خلق تذمونه من غيركم وصلوا من رغب إليكم وتخلقوا بالجود يلبسكم المحبة ولا تعتقدوا البخل فتتعجلوا الفقر وقيل لحممة بن رافع الدوسي من أكرم الناس قال من إذا قرب منح وإذا بعد مدح وإذا ظلم صفح وإذا ضويق سمح وقالوا من الأخلاق التي تزين ولا تشين وتحض على المكرمات وتعين نشر البشر وترك الكبر ونصر الحر وسلامة الصدر وقال جعفر بن محمد الصادق خير السادة أرحبهم ذراعاً عند الضيق وأعدلهم حلماً عند الغضب وأبسطهم وجهاً عند المسئلة وأرحمهم قلباً إذا سلط وأكثرهم صفياً إذا قدر وقال عامر العدواني يا معشر عدوان الخير ألوف عروف وإنه لن يفارق صاحبه حتى يفارقه وإني لم أكن سيدكم حتى تعبدت لكم وقال يزيد بن المهلب استكثروا من الحمد فإن الذم قلما ينجو منه أحد ومن رغب في المكارم صبر على المكاره واجتنب المحارم ويقال المكارم موصولة بالمكاره فمن أراد مكرمة احتمل مكروهاً وقال أبو الشيص
عشق المكارم فهو معتمد لها ... والمكرمات قليلة العشاق
وأقام سوقاً للثناء ولم يكن ... سوق الثناء يعدّ في الأسواق
بث الصنائع في البلاد فأصبحت ... يجبي إليه مكارم الأخلاق
وقال أبو الطيب المتنبي
تلذ له المروأة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام
ولله در القائل
الحمد شهد لا يرى مشتاره ... يجنيه إلا من نقيع الحنظل
غلّ لحامله ويحسبه امرؤ ... لم يوه عاتقه خفيف المحمل
وقال علي بن الفضل
لو قرب الدرّ على جلابه ... ما نجح الغائص في طلابه
ولو أقام لازماً أصدافه ... لم تكن التيجان في حسابه
ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه ... إلا وراء الهول من عبابه
من يعشق العلياء يلقى عندها ... ما لقى المحب من أحبابه
وقال الشاعر
دعيني أنل ما لا ينال من العلا ... فصعب العلا في الصعب والصعب في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة ... ولا بد دون الشهد من إبر النحل
وقال الأشعث بن قيس واسمه معد يكرب لقومه إنما أنا رجل منكم ليس لي فضل عليكم ولكني أبسط لكم وجهي وأبذل لكم مالي وأحفظ حريمكم وأقضي حقوقكم وأعود مريضكم وأشيع جنائزكم فمن فعل مثل هذا فهو مثلي ومن زاد عليه فهو خير مني ومن قصر عنه فأنا خير منه قيل له وما هذا قال أحضكم على مكارم الأخلاق

من روائع عادات السادات ووشائع سادات العادات

السخاء والنجدة والمروأة فالسخاء التبرع بالنائل قبل الحاف السائل والنجدة الذب عن الجار والاقدام عند الكريهة والمروأة حفظ الرجل دينه وإحراز نفسه عن الدنس إلى غير ذلك من الأخلاق الجميلة التي هي بالمدح كفيلة وسنذكر جملة منها فيما سيأتي وقبل أسباب السودد سبعة العقل والحلم والصيانة والصدق والعلم والسخاء وأداء الأمانة وأضيف إلى ذلك الصبر والتواضع والعفاف تلك عشرة كاملة هي لمحاسن الشيم شاملة وقال ابن عمر ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحابة أسود من معاوية فقيل له أهو خير من أبي بكر وعمر قال هما خير منه وهو أسود منهما لحلمه وجوده فأنا معشر قريش نعد الحلم والجود السودد ويحكي أن رجلاً رأى معاوية وهو صغير يلعب مع الصبيان فقال إني أظن هذا الغلام سيسود قومه قالت أمه هند ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه وقيل السيد من أورى ناره وحمى معاره ومنع جاره وأدرك ثاره وقال النبي صلى الله عليه وسلم اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا الأمانة إذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم وذكر أن عبد الملك بن مروان دخل على معاوية وعنده عمرو بن العاص فسلم ثم جلس فلم يلبث أن قام قال معاوية ما أكمل مروأة هذا الفتى قال عمرو إنه أخذ بأخلاق أربعة وترك أخلاقاً أربعة أخذ بأحسن البشر إذا ألقى وبأحسن الحديث إذا حدث وبأحسن الاستماع إذا حدث وبأيسر المؤنة إذا حولف وترك مزاح من لا يثق بعقله وترك مجالسة من لا يرجع إلى دينه وترك مخالطة لئام الناس وترك من الكلام كل ما يعتذر منه وقال هشام بن عبد الملك لخالد بن صفوان بم بلغ فيكم الأحنف ما بلغ قال إن شئت أخبرتك بخلة واحدة وإن شئت بخلتين وإن شئت بثلاث قال فما الخلة قال كان أقوى الناس على نفسه قال وما الخلتان قال كان موقي الشر ملقي الخير قيل فما الثلاث قال كان لا يحسد ولا يبخل ولا يبغي وقال رجل للأحنف بم سودك قومك وما أنت بأشرفهم بيتاً ولا بأصبحهم وجهاً ولا بأحسنهم خلقاً قال بخلاف ما فيك يا ابن أخي قال وما ذاك قال بتركي من أمرك ما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك وقال عبد الملك لبنيه كلكم يترشح لهذا الأمر ولن يصلح له إلا من كان له سيف مسلول ومال مبذول ولسان معسول وعدل تطمئن إليه القلوب وأمن تستقر به في مضاجعها الجنوب وقيل لقيس بن عاصم المنقري بم سدت قومك قال ببذل القرى وترك المرا ونصرة المولى وروى علي رضي الله عنه قال لما أتينا بسبايا طيء كانت في النساء جارية هيفاء سمراء كحلاء لمياء خميصة الخصر هضيمة الكشح مصقولة المتن فلما رأيتها أعجبت بها فلما تكلمت أنستني بمقالها ما رأيته من جمالها فكان من كلامها أن قالت يا محمد هلك الوالد وغاب الوافد فإن رأيت أن تمن علي وتخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني ابنة سيد قومها إن أبى كان يحمي الذمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويكسو العاري ويفشي السلام ولا يرد طالب حاجة أبداً فقال عليه الصلاة والسلام من أبوها قالوا حاتم طيء فقال عليه الصلاة والسلام لو كان أبوها مسلماً لترحمنا عليه خلواً عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق ثم قال للمسلمين ما حازت أسنتها وحوته أعنتها غير التهيئة والابضاع فلو فعلوا لفعلت فقالوا يا رسول الله أمرنا لأمرك تبع فاصنع ما بدا لك فقال أعلى أصحابي وأهلك أعدائي وأبدل الأنصار بالمضاضة غضاضة وأطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت إلى أخيها عدي وكان بدومة الجندل فقالت إئت هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله فإني رأيت هدياً ورأياً ستغلب به أهل الغلب رأيت خصالاً أعجبتني رأيته يحب الفقير ويفك الأسير ويرحم الصغير ويعرف حق الكبير وما رأيت أحداً أجود منه ولا أكرم صلى الله عليه وسلم وقال معاوية لا ينبغي للملك أن يكون كذاباً ولا حديداً ولا بخيلاً ولا جباناً ولا حسوداً فإنه إن كان كذاباً ووعد بخير لم يرج أو أوعد بشر لم يخف وإن كان حديداً مع القدرة هلكت الرعية وإن كان بخيلاً لم يناصحه أحد ولا تصلح الولاية إلا بالمناصحة وإن كان جباناً اجترأ عليه عدوه وضاعت ثغوره فذل وإن كان حسوداً لم يشرف أحداً ولا يصلح الناس إلا بأشرافهم ويقال ليس للملك أن يغضب لأن القدرة من وراء حاجته وليس له أن يكذب لأن أحداً يسترده حديثاً ولا أحد يكرهه على ما يريد

وليس له أن يكون حقوداً الآن خطره عظيم عن المجازاة وقال عبد الله بن طاهر لا ينبغي للملك أن يظلم وبه يستدفع الظلم ولا أن يعجل ومنه تلتمس الأناة ولا أن يبخل ومنه يتوقع الجود وقالوا ينبغي للملك أن يكون سخياً لا يبلغ التبذير وحافظاً لا يبلغ البخل وشجاعاً لا يبلغ التهور ومحترساً لا يبلغ الجبن وقائلاً لا يبلغ الهذر وصموتاً لا يبلغ الغي وحليماً لا يبلغ العجز وقال أسماء ابن خارجة لا أشاتم أحداً ولا أرد سائلاً فإنما هو كريم أسد خلته أو لئيم أستر عرضي منه وروى البيهقي في كتابه شعب الايمان بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق عشرة تكون في الرجل ولا تكون في ابنه وتكون في الابن ولا تكون في أبيه وتكون في العبد ولا تكون في سيده يقسمها الله لمن شاء من عباده صدق الحديث وصدق البأس وأن لا يشبع وجاره وصاحبه جائعان وإعطاء السائل والمواساة بالنائل والمكافأة بالصنائع وحفظ الأمانة وصلة الرحم والتذمم للجار وقرى الضيف ورأسهن الحياء ومن أخلاقهم صون الوجه بقناع الحياء وعقل اللسان عن اللجاج والمراء الحياء دليل الدين الصحيح وشاهد الفضل الصريح وسمة الصلاح الشامل وعنوان الفلاح الكامل من كان فيه نظم قلائد المحامد ونسق وجمع من خلال الكمال ما افترق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء خلقاً وخلق هذا الدين الحياء وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياء من الايمان والايمان في الجنة وقال الحياء لا يأتي إلا بخير وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استحيوا من الله حق الحياء قيل كيف ذلك يا رسول الله قال من حفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وذكر الموت والبلا وترك زينة الحياة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء فالحياء اسم جامع يدخل فيه الحياء من الله تعالى لأن ذمه فوق كل ذم ومدحه فوق كل مدح وقال يزيد ابن علي إني لأستحيي من الله تعالى أن أفضي إليه بشيء أخفيه من غيره والحياء من الناس يكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال من تقوى الله اتقاء الناس وقيل هو أن يستحيي منهم في سره كما يستحيي منهم في جهره وقيل من المروأة أن لا تعمل شيأ في السر يستحيا منه في العلانية وكان يقال أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عليك بالحياء والأنفة فإنك إن استحييت من الغضاضة اجتنبت الخساسة وأما استحياء الرجل من نفسه فهو أن لا يأتي في الخلاء إلا ما يأتي في الملا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيأ عرفناه في وجهه وكان عثمان بن عفان قد خص من الحياء بأجل السهام ومنح منه بأوفر الأقسام وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تستحيي منه الملائكة الكرام قال الامام مالك رضي الله عنه إنه أول من ضرب الأبنية في السفر وقالوا من لا يستحيي من نفسه فجدير أن لا يستحيي من غيره وقالوا في حده الحياء التوقي من فعل المساوي خوف الذم ويقال الحياء خوف المستحيي من تقصير يقع به من غير من هو أفضل منه وقال عمرو بن بحر الجاحظ الحياء لباس سابغ وحجاب واق وستر من العيب وأخو العفان وحليف الدين ورقيب من العصمة وعين كالئة تذود عن الفحشاء وتنهى عن ارتكاب الأرجاس وسبب إلى كل جميل وقالوا من عفت أطرافه حسنت أوصافه ويقال لا ترض قول امرئ حتى ترضي فعله ولا ترض فعله حتى ترض عقله ولا ترض عقله حتى ترضي حياءه فإن ابن آدم مجبول على أشياء من كرم ولؤم فإذا قوى الحياء قوى الكرم وإذا ضعف الحياء قوى اللؤم وقال بشار بن برديس له أن يكون حقوداً الآن خطره عظيم عن المجازاة وقال عبد الله بن طاهر لا ينبغي للملك أن يظلم وبه يستدفع الظلم ولا أن يعجل ومنه تلتمس الأناة ولا أن يبخل ومنه يتوقع الجود وقالوا ينبغي للملك أن يكون سخياً لا يبلغ التبذير وحافظاً لا يبلغ البخل وشجاعاً لا يبلغ التهور ومحترساً لا يبلغ الجبن وقائلاً لا يبلغ الهذر وصموتاً لا يبلغ الغي وحليماً لا يبلغ العجز وقال أسماء ابن خارجة لا أشاتم أحداً ولا أرد سائلاً فإنما هو كريم أسد خلته أو لئيم أستر عرضي منه وروى البيهقي في كتابه شعب الايمان بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق عشرة تكون في الرجل ولا تكون في ابنه وتكون في الابن ولا تكون في أبيه وتكون في العبد ولا تكون في سيده يقسمها الله لمن شاء من عباده صدق الحديث وصدق البأس وأن لا يشبع وجاره وصاحبه جائعان وإعطاء السائل والمواساة بالنائل والمكافأة بالصنائع وحفظ الأمانة وصلة الرحم والتذمم للجار وقرى الضيف ورأسهن الحياء ومن أخلاقهم صون الوجه بقناع الحياء وعقل اللسان عن اللجاج والمراء الحياء دليل الدين الصحيح وشاهد الفضل الصريح وسمة الصلاح الشامل وعنوان الفلاح الكامل من كان فيه نظم قلائد المحامد ونسق وجمع من خلال الكمال ما افترق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء خلقاً وخلق هذا الدين الحياء وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياء من الايمان والايمان في الجنة وقال الحياء لا يأتي إلا بخير وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استحيوا من الله حق الحياء قيل كيف ذلك يا رسول الله قال من حفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وذكر الموت والبلا وترك زينة الحياة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء فالحياء اسم جامع يدخل فيه الحياء من الله تعالى لأن ذمه فوق كل ذم ومدحه فوق كل مدح وقال يزيد ابن علي إني لأستحيي من الله تعالى أن أفضي إليه بشيء أخفيه من غيره والحياء من الناس يكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال من تقوى الله اتقاء الناس وقيل هو أن يستحيي منهم في سره كما يستحيي منهم في جهره وقيل من المروأة أن لا تعمل شيأ في السر يستحيا منه في العلانية وكان يقال أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عليك بالحياء والأنفة فإنك إن استحييت من الغضاضة اجتنبت الخساسة وأما استحياء الرجل من نفسه فهو أن لا يأتي في الخلاء إلا ما يأتي في الملا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيأ عرفناه في وجهه وكان عثمان بن عفان قد خص من الحياء بأجل السهام ومنح منه بأوفر الأقسام وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تستحيي منه الملائكة الكرام قال الامام مالك رضي الله عنه إنه أول من ضرب الأبنية في السفر وقالوا من لا يستحيي من نفسه فجدير أن لا يستحيي من غيره وقالوا في حده الحياء التوقي من فعل المساوي خوف الذم ويقال الحياء خوف المستحيي من تقصير يقع به من غير من هو أفضل منه وقال عمرو بن بحر الجاحظ الحياء لباس سابغ وحجاب واق وستر من العيب وأخو العفان وحليف الدين ورقيب من العصمة وعين كالئة تذود عن الفحشاء وتنهى عن ارتكاب الأرجاس وسبب إلى كل جميل وقالوا من عفت أطرافه حسنت أوصافه ويقال لا ترض قول امرئ حتى ترضي فعله ولا ترض فعله حتى ترض عقله ولا ترض عقله حتى ترضي حياءه فإن ابن آدم مجبول على أشياء من كرم ولؤم فإذا قوى الحياء قوى الكرم وإذا ضعف الحياء قوى اللؤم وقال بشار بن برد

وأعرض عن مطاعم قد أراها ... فاتركها وفي بطني انطواء
فلا وأبيك ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
وقال بعض الأعفاء
ورب قبيحة ما حال بيني ... وبين ركوبها إلا الحياء
فكان هو الدواء لها ولكن ... إذا ذهب الحياء فلا دواء
وقالوا لا يزال الوجه كريماً ما دام حياؤه ولم يرق باللجاج ماؤه وقالوا حياة الوجه بحياته كما أن حياة الغرس بمائه وقال ابن المعتز في كتاب الأدب من كساه الأدب ثوبه ستر عن الناس عيبه وقالوا فلان يتحدر من أسارير وجهه ماء الحياء وينير لألاء غرته حنادس الظلماء وقال الفرزدق في علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم
يغضي حياء ويغضي من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم
ليلى الأخيلية في توبة الحميري
ومخرق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما
حتى إذا رفع اللثام رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيما
ولابن المعتز
ويظل صباغ الحياء بخدّه ... تعباً يصفر تارة ويورّد
وقال آخر
كريم وغض الطرف بعض صفاته ... ويدنو وأطراف الرماح دوان

جوامع ممادح الأخلاق والشيم
المتحلية بها ذوو الأصالة والكرم
مدح أعرابي رجلاً فقال كان والله تعب في المكارم غير ضال في طرقها ولا متشاغل بغيرها عنها وقال آخر فلان لو وجد الكرم في يد غيره لعلم أنه ضالة له ومدح أعرابي رجلاً فقال كان والله صحيح النسب محكم الأدب من أي أقطاره أتيته انثنى إليك بكرم فعال وحسن مقال وذكر أعرابي رجلاً فقال كان الألسن والقلوب ريضت له فلا تنعقد إلا على وده ولا تنطق إلا بثنائه وحمده وقالوا فلان من شجر لا يختلف ثمره ومن ماء لا يأتلف كدره وسأل يحيى بن خالد رجلاً عن أبيه الفضل فقال تركته وماء الحياء يتحدر من أسارير وجهه وسيول الجود سائلة من فروج أنامله ولآلئ العلم منتثرة من مسارب منطقه نظم هذه الكلمات إبراهيم بن هلال الصابي في أبيات يمدح بها الوزير المهلبي
له يد برعت جوداً بنائلها ... ومنطق درّه في الطرس منتثر
فحاتم كامن في بطن راحته ... وفي أناملها سحبان مستتر
وقال زرعة بن سنان مادحاً
مآثره غرّو أيامه زهر ... وطلعته بدر وراحته بحر
وهذا غاية في التقسيم وقال ديك الجن يفتخر بمثل ذلك
إن العلا شيمي والبأس من نقمي ... والمجد خلط دمي والصدق حشو فمي
وقال النمر بن نوار مفتخراً
لا يعلم اللامعات اللائحات ضحى ... ما تحت كشحي ولا يعلمن أسراري
ولا أخون ابن عمي في حليلته ... ولا البعيد نأى عني ولا جاري
وقال آخر يفتخر بنفسه وكان دميم الخلق أي قصيراً
ألم تعلمي يا عمرك اللّه إنني ... كريم على حين الكرام قليل
إذا كنت في القوم الطوال فضلتهم ... بعارفة حتى يقال طويل
فإن لم يكن جسمي طويلاً فإنني ... له بالفعال الصالحات وصول
وقال ابن حبيب المهمي
إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي ... له مركب فضل فلا حملت رحلي
ولم يك من زادي له نصف مزودي ... فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا رحل
شريكين فيما نحن فيه وقد أرى ... عليّ له فضلاً بما نال من فضلي
آخر
وما أنا بالساعي بفضل زمامها ... لتشرب ماء الحوض قبل الركائب
وما أنا بالطاوي حقيبة رحلها ... لأبعثها خفاً وأترك صاحبي
إذا كنت رباً للقلوص فلا تدر ... رفيقك يمشي خلفها غير راكب
أنخها وأدرفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العقاب فعاقب
وقال ملك بن نويرة الفزاري
لا يبعد اللّه قوماً إن سألتهم ... اعطوا وإن قلت يا قوم انصروا نصروا
وإن أصابتهم نعماء سابغة ... لم يبطروها وإن فاتتهم صبروا
والكاسرون عظاماً لا جبار لها ... والجابرون عظاماً ليس تنكسر
وقال مروان بن أبي حفيصة يمدح آل معن بن زائدة من أبيات

هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلون فعالهم ... ولو أحسنوا في النائبات وأجملوا

الأسباب المانعة من السيادة سبعة
الحداثة والبخل والزنا والظلم والحمق والفقر والكذب واعتبرت هذه الأسباب فوجدتها قد تفرقت في الأعيان الأماثل والسرات الأفاضل أما الحداثة فقد ساد أبو جهل وماطر شاربه ودخل دار الندوة وما استوت لحيته وأما البخل فقد ساد أبو سفيان وكان أبخل من نار الحباحب وقيل من أبي حباحب وأما الزنا فقد ساد عامر بن الطفيل وكان أزنى من قرد وأما الظلم فقد ساد كليب بن وائل وكان أظلم من حية وأما الحمق فقد ساد عيينة بن حصن وكان أظلم من دغة وأما الفقر فقد ساد أبو طالب وعتبة ابن ربيعة وكانا أفلس من ابن المذلق ولا يعرف في العرب والعجم كذاب ساد قط إلا المهلب بن أبي صفرة فإنه كان أكذب من فاختة وكان إذا أخذ في الحديث يقول أصحابه راح يكذب
شرح ما ذكر من الأمثال الواقعة في هذا المثال
أما سيادة أبي جهل ودخوله دار الندوة فكانت دار الندوة نادي سادات قريش لا يدخلها إلا مسود وأما قولهم أبخل من أبي حباحب على أحد الروايتين فهو رجل من العرب كان لبخله يوقد ناراً ضعيفة فإذا أبصرها مستضئ أطفأها وعلى الرواية الأخرى فهي النار التي تقدحها الخيل بحوافرها وتوصف بالبخل لقلتها وعدم الانتفاع بها وأما قولهم أزنى من قرد فهو قرد بن عمرو بن معاوية الهذلي وقيل هو الحيوان المعروف وأما قولهم أظلم من حية فلأنها لا تتخذ لنفسها بيتاً بل كل حجر أمته هرب أهله منه وتركوه لها وأما قولهم أحمق من دغة فإنها مارية بنت مغنج وهو ربيعة ابن عجل ومن حمقها إنها تزوجت وهي صغيرة في بني العنبر بن تميم فحملت فلما أضر بها المخاض ظنت أنها تريد الخلاء فبرزت إلى بعض الغيطان فوضعت فاستهل الوليد فانصرفت إلى الرحل تظن أنها أحدثت فقالت لضرتها يا هنتاه أيفغر الجعرفاه قالت نعم ويدعو أباه ثم مضت الضرة وأخذت الولد إليها وربته وبنو العنبر يعيرون بذلك ويعرفون ببني الجعراء وأما قولهم أفقر من ابن المذلق فهو رجل من بني عبد شمس بن سعد بن زيد مناة لم يكن يجد بيته ليلة وأبوه وأجداده يعرفون بالافلاس وفي أبيه يقول الشاعر
فإنك إن ترجو تميماً ونفعها ... كراجي الندى والعرف عند المذلق
ويروى بالدال المهملة وأما قولهم أكذب من فاختة فلان حكاية صوتها هذا زمان الرطب تقول ذلك والطلع لم يطلع قال بعضهم
أكذب من فاختة ... تصيح عند الكرب
والنخل غير مطلع ... هذا أوان الرطب
وقالوا عشر خصال في أناس أقبح منها في غيرهم الفسق في الملوك والكذب في القضاة والخديعة في العلماء والغضب في الأبرار والغدر في الأشراف والسفه في الشيوخ والمرض في الأطباء والتهزي في الفقراء والشح في الأغنياء والفخر في الأعزاء
الفصل الثاني من الباب الأول
في ذكر الصنائع والمآثر المفصحة عن أحساب الأكابر
قال خالد بن صفوان كان الأحنف بن قيس يفر من الشرف والشرف يتبعه لما تولى عبد الله بن طاهر بن الحسين خراسان بعد موت أبيه من قبل الواثق دخل عليه عبد الله بن خليد بن سعد المعروف بأبي العميثل بقصيدة يمدحه فيها ويهنئه بالولاية فجاء منها قوله
يا من يؤمّل أن تكون خصاله ... كخصال عبد اللّه أنصت واسمع
اصدق وعفّ وبرّ وأنصف واحتمل ... واكفف وكاف ودار واحلم واشجع
والطف ولن واشتدّ وارفق واتئد ... واحزم وجدّ وحام واحمل وادفع
فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي ... وهديت للنهج الأسدّ المهيع
آخر
إن كنت ترغب في شأو الكرام فسر ... في الناس بالفضل والدين الذي شرعوا
حافظ إذا غدروا واشجع إذا جبنوا ... واحلم إذا جهلوا وابذل إذا منعوا
فمن مآثر ذوي الكرم في النجار
الذب عن النزيل وحفظ الجار

كما قيل الكريم يرعى حق اللحظ ويتعهد حرمة اللفظ وقالوا وجه الكريم جنة وكنفه جنة كان بعض الهاشميين إذا نزل به جار قال له يا هذا إنك قد اخترتني جاراً واخترت داري داراً فجناية يدك علي دونك فاحتكم علي حكم الصبي على أهله وهذا مثل تضربه العرب في التزام ما يحكم به عليها وذلك أن الصبي إذا كان عزيزاً في أهله حمله الدلال على طلب ما يستحيل وجوده ويصعب مرامه فهم أبداً يسعون في تحصيل أغراضه وآرابه ليظفروا برضاه ويقدموه على أترابه وكان حارثة بن مر يسمى مجير الجراد وذلك أنه نزل بفنائه جراد فغدا أهل الحي إليه ليدفعوه عنهم فمنعهم منه وقال لهم ما تريدون منه قالوا نريد قتله فإنه نزل بجوارك فقال أما إذ سميتموه جاري فوالله لا تصلون إليه أبداً وطردهم عنه وكان ثور بن شحمة العنبري يسمى مجير الطير فكانت الطير لا تصاد بأرضه ولا تضار وحكى أن زياداً الأعجم وفد على المهلب فأكرمه وأنزله على أبيه فجلسا يوماً يشربان في بستان فغنت حمامة على فنن فطرب لها زياد فقال له حبيب إنها فاقدة ألف كنت أراه معها فقال زياد هو اشد لشوقها ثم أنشد
تغني أنت في ذممي وعهدي ... وذمّة والدي أن لا تضاري
وعشك أصلحيه ولا تخافي ... على زغب مصغرة صغار
فإنك كلما غنيت صوتاً ... ذكرت أحبتي وذكرت داري
فأمّا يقتلوك طلبت ثأراً ... لأنك يا حمامة في جواري
فضحك حبيب ثم قال يا غلام هلم القوس فجاء بها فنزع لها بسهم فأصابها فوقعت ميتة فنهض زياد مغضباً وقال أخفرت أبا بسطام ذمتي وقتلت جاري وشكاه إلى المهلب فغضب على حبيب وقال أما علمت أن جار أبي لبابة جاري وذمته ذمتي والله لألزمنك دية الحرو أخذ له من ماله ألف دينار فقال فيه من أبيات ذكر القصة فيها جاء منها قوله
فللّه عيناً من رأى كقضية ... قضى لي بها شيخ العراق المهلب
قضى ألف دينار لجار أجرته ... من الطير إذ يبكي شجاه ويندب

ولما ولي صالح بن علي مصر من قبل ابن أخيه أبي العباس السفاح خرج عليه رجاء بن روح بفلسطين مع عمه الحكم بن ضبعان وكان على شرطة مصر فأرسل إليهم أبا عون ومحمد بن أشعث الخزاعي بعسكر فهزما الحكم وبلغ صالح ابن علي أن رجاء بن روح دخل مصر واستجار بمحمد بن معاوية فأجاره فأرسل إليه فحضر فقال ألم أكرمك ألم أشرفك قال بلى قال فكان جزائي منك أن أجرت عدوي قال وما ذاك أيها الأمير قال رجاء بن روح وابنه قال أصلح الله الأمير اختر واحدة من اثنتين لي فيهما براءة أما أن أثلج صدرك بيمين أو ترسل رجلاً من ثقاتك يفتش منازلي قال وتحلف قال نعم فأحلفه بطلاق زوجته وعتق عبيده ومشيه إلى مكة راجلاً حافياً فحلف له ثم انصرف إلى منزله وأعلم زوجته فاعتزلت عنه وقالت له لا تنقطع عني لئلا يشعر بك فلما عزل صالح عن مصر ورجع إلى بغداد أظهر محمد بن معاوية طلاق زوجته وأعتق رقيقه ومشى إلى مكة كما شرط عليه ولما كان يوم فتح مكة لجأ الحرث بن هشام إلى منزل أم هانئ أخت علي بن أبي طالب رضي الله عنه مستجيراً بها فدخل عليها علي فخبرته الخبر فأخذ السيف ليقتله فقالت أم هانئ يا ابن أم قد أجرته فلم يلتفت إلى قولها فوثبت فقبضت على يديه وقالت والله لا تقتله وقد أجرته فلم يقدر علي أن يرفع قدمه عن الأرض وجعل يتفلت منها فلا يقدر فدخل النبي صلى الله عليه وسلم إليها فقالت يا رسول الله ألا ترى إني أجرت فلاناً فأراد علي أن يقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت ولا تغضبي علياً فإن الله يغضب لغضبه أطلقي عنه فأطلقت عنه فقال عليه الصلاة والسلام يا علي غلبتك امرأة فقال والله يا رسول الله ما قدرت أرفع قدمي من الأرض فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لو أن طالباً ولد الناس كانوا شجاعاً ومن أحسن ما يحكي في هذا الباب أهدر المهدي دم رجل كان يسعى في فساد دولته وجعل لمن يقتله أو يأتيه به مائة ألف درهم فاختفى الرجل زماناً ثم ظهر مستنكراً خائفاً يترقب فبصر به رجل في بعض دروب بغداد فعرفه وأخذ بيده وقال بغية أمير المؤمنين فاجتمع الناس عليه وجهدوا على أن يطلقوه منه فلم يقدروا فمر به وهو في تلك الحالة معن بن زائدة فناداه يا أبا الوليد أجرني أجارك الله فوقف الرجل وقال للرجل الذي تعلق به ما شأنك قال بغية أمير المؤمنين الذي جعل لمن يقتله أو يأتيه به مائة ألف درهم فقال معن لبعض علمائه انزل عن دابتك واحمله عليها وانطلق به إلى منزلي فقال الرجل أتحول بيني وبين بغية أمير المؤمنين فقال معن اذهب إلى أمير المؤمنين وأخبره أنه عندي فذهب الرجل وأوصل الخبر إلى المهدي فبعث إليه من يحضره فركب معن وقال لمن خلفه من غلمانه في منزله لا يخلص إلى هذا الرجل أحد وفيكم عين تطرف فلما دخل على المهدي سلم فلم يرد عليه السلام وقال له أتجير علي قال نعم قال ونعم أيضاً فقال معن يا أمير المؤمنين لقد قتلت في طاعتكم باليمن في يوم واحد خمسة عشر ألفاً في أيام كثيرة عرف فيها بلائي وعنائي فما رأيتموني أهلاً لأن يوهب لي رجل واحد استجار بي فأطرق المهدي ملياً ثم رفع رأسه وقد سرى عنه وقال لقد أجرنا من أجرت يا أبا الوليد فقال معن فإن رأى أمير المؤمنين أن يصله فيكون قد أحياه وأغناه فقال قد أمرنا له بخمسين ألفاً فقال يا أمير المؤمنين إن صلات الخلفاء تكون على قدر جنايات الرعية وإن ذنب الرجل عظيم فأجزل له الصلة قال قد أمرنا له بمائة ألف درهم قال عجلها له فإن خير البر عاجله فعجلت فأخذها وانصرف بها إلى الرجل ولم ير المهدي وجهه والمثل المضروب في هذا الباب جار كجار أبي دواد وذلك أن أبا دواد نزل بكعب بن مامة وكان كعب إذا جاوره رجل قام له بما يصلحه وأهله وحماه ممن يقصده وإن هلك له شيء أخلفه عليه وإن مات وأراه التراب فجاوره أبو دواد الأيادي فتعلم منه فكان يفعل بجاره ما فعل كعب به فضرب به المثل ونسي كعب قال علي بن العباس بن جريج الرومي
هو المرء أمّا ماله فمحلل ... لعاف وأمّا جاره فمحرم
وقال شبيب بن البرصاء
وجاراتنا ما دمن فينا عزيزة ... كأروى ثبير لا يحل اصطيادها
يكون علينا نقضها وضمانها ... وللجاران كانت تريد ازديادها
وقال مروان بن أبي حفصة

هم المانعون الجار حتى كأنما ... لجارهم فوق السماكين منزل
ولآخر
الباذلون الندى والناس باخلة ... والمانعون وحق الجار يخترم

من صنيع من زكت في الكرم أرومه
صون المضيم بنفسه من عدو يرومه
ورد في بعض الآثار أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يا داود اسمع مني والحق أقول من لقيني بحسنة واحدة حكمته في رحمتي قال داود يا رب وما تلك الحسنة قال من فرج عن مكروب كربته وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرج عن أخيه كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب الآخرة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ويقال من كفارات عظائم الذنوب إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب وقيل أفضل المعروف إغاثة الملهوف ومن أمثالهم رب أخ لك لم تلده أمك فمن الأخبار في ذلك ما حكى إن حاتماً الطائي مر بأرض غزة فناداه أسير يا أبا سفانة أكلني القد والأسار والقمل فقال ما أنا بأرض قومي وقد أخطأت إذ نوهت باسمي ولا معي ما أفديك به ثم قال للذي هو في يده خل عنه سبيله واجعلني في القد مكانه ففعل وبعث إلى قومه فأتوه بما فدى به نفسه وذكر إن بني كلب بن وبرة أغاروا على حي من أحياء العرب فقتلوا منهم عشرة أنفس غيلة فاستنجدوا عليهم وقالوا أما الثأر وأما الديات فسألوهم المهلة في ذلك إلى أجل فأجابوا فخرج بنو كلب يسألون قبائل العرب المعونة حتى قدموا أرض تميم فقروا ماء ماء وحيا حيا فلم يجدوا أحداً يدفع عنهم ولا يعينهم وكانوا زهاء مائة نفس فمروا بعطارد بن حاجب بن زرارة بن عدي فسألوه ذلك فقال قولوا شعراً وخذوها فلم يكن فيهم من يقول شعراً فتركوه ومضوا فأتوا على بني مجاشع فمروا بواد قد امتلأ إبلاً وبه صعصعة جد الفرزدق وهو بفناء إبل له فسألوه القرى فقال لكم البذل قبل القرى ما الذي جئتم فيه فأخبروه بأمرهم فأعطاهم عشر ديات ثم أنزلهم وأضافهم فقالوا أرشدك الله من سيد أرحتنا من طول التعب ولو عرفناك لقصدناك وصعصعة هذا أول من ترك وأد البنات وفداهن بماله وكفت العرب عن وأدهن من بعد ومما يمتزج بما ذكرناه امتزاج اللبن بالماء القراح ويتعلق به تعلق الأنامل بالراح ما حكاه الجهشياري في كتاب الوزراء إنه لما تفرق الأمر عن مروان بن محمد الجعدي طلب عبد الحميد بن يحيى كاتبه وكان صديقاً لعبد الله بن المقفع ففاجأه الطلب وهما في بيت فقال الذين دخلوا عليهما أيكما عبد الحميد فقال كل واحد منهما أنا خوفاً أن ينال صاحبه مكروه وخشى عبد الحميد أن يسرعوا إلى ابن المقفع ما يكره فقال لهم تثبتوا فإن في عبد الحميد علامات يعرف بها فأرسلوا إلى مرسلكم من يستوصفها منه فأينا وجدتموها فيه فخذوه ففعلوا فوصف لهم عبد الحميد بعلامات اشتمل عليها بدنه فأخذ وحمل إلى أبي العباس السفاح فولي عقوبته عبد الجبار بن عبد الرحمن فكان يحمي له طشتاً ويضعه على رأسه فلم يزل يفعل به ذلك حتى مات وقيل غير ذلك وأنا ذاكره فيما يأتي من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وقريب من هذه الحكاية ما حكاه صاحب المستجاد قال لما أحرق جامع مصر ظن المسلمون أن النصارى أحرقوه فأحرقوا لهم خانا كانوا يبيعون فيه الزيت فقبض السلطان على جماعة من الذين أحرقوا الخان وكتب رقاعاً فيها القتل وفيها القطع وفيها الجلد ونثرها عليهم فمن وقعت في يده رقعة فعل به ما فيها فوقعت في حجر رجل رقعة فيها القتل فلما قرأها بكى وقال والله لولا أم لي ما باليت فالتفت إليه شاب كان إلى جانبه فقال له في رقعتي الجلد ولا أم لي فخذ رقعتي وادفع إلي رقعتك فأبى عليه فأقسم أن لا بد ففعلاً فقتل هذا وجلد هذا وحكى الزبير بن بكار في كتابه الذي سماه الموفقيات قال استشهد باليرموك الحرث بن هشام وعكرمة ابن أبي جهل وسهيل بن عمرو فأتوا بماء وهم صرعى وفيهم رمق فتدافعوه كلما دفع إلى رجل منهم قال إسق فلاناً حتى ماتوا ولم يشربوه مسلم بن الوليد يمدح من هذه خلقه
يجود بالنفس إن ضنّ الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وقال عمارة بن حمزة
ينسى مضرّته لنفع صديقه ... لا خير في شرف إذا لم ينفع
البحتري
يخونك ذو القربى مراراً وربما ... وفي لك عند العهد من لا تناسبه

وحسب الفتى من نصحه ووفائه ... تمنيه أن يؤذي ويسلم صاحبه
آخر
قوم إذا حالفتهم ... لم تخش نائبة الصروف
وإذا وصلت بحبلهم ... حبلاً أمنت من المخوف
وقال أبو نواس الحسن بن هانئ الحكمى يمدح الأمين بحسن العهد والتذمم
أخذت بحبل من حبال محمد ... أمنت به من طارق الحدثان
تغطيت من دهري بفضل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام عني لما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني

من أمتن أسباب الحسب والديانة وفاء العهد وأداء الأمانة
قالوا الوفاء أفضل شمائل العبد وأوضح دلائل المجد وأقوى أسباب الاخلاص في الود وأحق الأفعال بالشكر والحمد وقالوا الوفاء أتم حميد الخلال ومنتهى غاية الكمال تمس الحاجة إليه وتجب المحافظة عليه ولقد صار رسماً دارساً وحلة لا تجد لها لابساً ومنقبة قل أن تجد فيها مستأنساً ولله در من قال
وصادق الودّ صادق الخبر ... مغري برعي العهود مصطبر
هذا الذي لا أزال أسمعه ... وما له في الزمان من أثر
لو أن كفى بمثله ظفرت ... قاسمته في المتاع والعمر
وقالوا من صحب الناس بلسان صادق وعاملهم بحسن الخلائق وألزم نفسه رعى العهود والمواثق فقد أرضى المخلوق والخالق ويقال بالوفاء تملك القلوب وتستدام الألفة بين المحب والمحبوب وقالوا من تحلى بالوفاء وتخلى عن الجفاء فذلك من اخوان الصفاء ولقد أحسن من قال
إذا أنت محضت المودّة صافياً ... ولم تر عن وصل الصديق مجافيا
ووفيت بالعهد الذي خانه الورى ... ولم أر مخلوقاً على العهد باقيا
فقد حزت أسباب المكارم كلها ... وجدّدت للعليا رسوماً عوافيا
وقالوا الوفاء ضالة كثير ناشدها قليل واجدها كما قيل الوفاء من شيم الكرام والغدر من خلائق اللئام وقالوا إذا ترك الوفاء نزل البلاء ويقال من أودع الوفاء صدور الرجال ملك أعناقهم ومن أمثالهم في ذلك أوفى من السموأل وهو السموأل بن عادياء بن حياء اليهودي صاحب قصر تيماء المسمى بالأبلق الفرد ومن خبره أن امرأ القيس كان قاصداً للشأم فأودع السموأل أدراعه وكراعه فمات امرؤ القيس بأنقرة فقصد السموأل بعض ملوك غسان يطلب منه ما كان أودعه امرؤ القيس عنده فأبى أن يسلمه له فقال إن لم تسلمه ذبحت ولدك وكان قد أسره عند نزوله على القصر فقال أبلني الليلة ثم جمع أهله واستشارهم فكل أشار بأن يدفع إليه ما طلبه منه فلما أصبح قال له ليس إلى دفعها سبيل فافعل ما بدا لك فذبح الملك ولده ورحل عنه ثم إن السموأل وافى الموسم بالادراع فدفعها لورثة امرئ القيس وفيه يقول الأعشى يخاطب شريح بن السموأل بن عادياء وقيل شريح بن حصن بن السموأل وقيل شريح بن عمران بن السموأل من أبيات
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرّار
بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدّار
فسامه خطتي خسف فقال له ... قل ما بدا لك إني مانع جاري
فقال ثكل وغدر أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظ لمختار
فشك غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري
فقال تقدمة إذرام يقتله ... أشرف سموأل فانظر في الدم الجاري
أأقتل ابنك صبراً أو تجئ بها ... طوعاً فأنكر هذا أيّ إنكار
فشك أوداجه والصدر في مضض ... عليه منطوياً كاللذع بالنار
واختار ادراعه من أن يسببها ... ولم يكن عهده فيها بختار
وقال لا أشتري عاراً بمكرمة ... فاختار مكرمة الدنيا على العار
والصبر منه قديماً شيمة خلق ... وزنده في الوفاء الثاقب الواري
وفي ذلك يقول السموأل مفتخراً
وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا ما خان أقوامي وفيت
وأوصى عادياً يوماً بأن لا ... تخرّب يا سموأل ما بنيت
بنى لي عادياً حصناً حصيناً ... وماء كلما شئت اشتفيت

والملك هو الحرث بن شمر الغساني وحدث الكندي في كتابه أخبار الأمراء بمصر قال لما ولي المطلب بن عبد الله إمارة مصر من قبل المأمون خوفه أهل مصر من إبراهيم بن نافع الطائي قبل الوصول إليه أن يثب عليه فطلبه المطلب فلم يقدر عليه واتهم به جماعة من قواد مصر وكان هبيرة بن هشام صاحب شرطة مصر يعرف المكان الذي اختفى فيه وكان إبراهيم ابن نافع قد أودع ماله عند هبيرة بن هشام فسعى بهبيرة إلى المطلب فأحضره وقال له ادفع إلي ما أودعه عندك إبراهيم فقد بلغني الثقة إن ماله مودع عندك وإن لم تجئني به أخذت ما فيه عيناك فأنكر فأوجعه ضرباً وهو يزيد إنكاراً فلما طال على المطلب جحود هبيرة وخاف عليه التلف تركه ثم لما سكن عن إبراهيم الطلب أخرجه هبيرة من مصر سراً ثم أرسل إليه ماله بعد ذلك مع التجار وفيه يقول سعيد بن عنين
لعمري لقد أوفى وزاد وفاؤه ... هبيرة في الطائي وفاء السموأل
وفاه المنايا إذ أتته بنفسه ... وقد برقت في عارض متهلل
أتى الحجاج بقوم ممن خرج عليه فأمر بهم فضربت أعناقهم وأقيمت صلاة المغرب وقد بقي من القوم واحد فقال لقتيبة بن مسلم انصرف به معك حتى تغدو به علي قال قتيبة فخرجت والرجل معي فلما كنا ببعض الطريق قال لي هل لك في خير قلت وما ذاك قال إني والله ما خرجت على المسلمين ولا استحللت قتالهم ولكن ابتليت بما ترى وعندي ودائع وأموال فهل لك أن تخلي سبيلي وتأذن لي حتى آتي أهلي وأرد على كل ذي حق حقه وأوصي ولك علي أن أرجع حتى أضع يدي في يدك قال قتيبة فعجبت له وتضاحكت لقوله قال فمضينا هنيهة ثم أعاد علي القول وقال إني أعاهد الله لك على أن أعود إليك قال قتيبة فوالله ما ملكت نفسي حتى قلت له اذهب فلما توارى عني شخصه أسقط في يدي فقلت ماذا صنعت بنفسي وأتيت أهلي مهموماً مغموماً فسألوني عن شأني فأخبرتهم فقالوا لقد اجترأت على الحجاج فبتنا بأطول ليلة فلما كان عند أذان الغداة إذا الباب يطرق فخرجت فإذا أنا بالرجل فقلت أرجعت قال سبحان الله جعلت لك عهد الله علي فأخونك ولا أرجع فقلت أما والله إن استطعت لأنفعنك وانطلقت به حتى أجلسته على باب الحجاج ودخلت فلما رآني قال يا قتيبة أين أسيرك قلت أصلح الله الأمير بالباب وقد اتفق لي معه قصة عجيبة قال ما هي فحدثته الحديث فأذن له فدخل ثم قال يا قتيبة أتحب أن أهبه لك قلت نعم قال هو لك فانصرف به معك فلما خرجت به قلت له خذ أي طريق شئت فرفع طرفه إلى السماء وقال لك الحمد يا رب وما كلمني بكلمة ولا قال لي أحسنت ولا أسأت فقلت في نفسي مجنون والله فلما كان بعد ثلاثة أيام جاءني وقال لي جزاك الله خيراً أما والله ما ذهب عني ما صنعت ولكن كرهت أن أشرك مع حمد الله حمد أحد ولما تفرق الأمر عن مروان بن محمد وأيقن بزوال ملكه وغلبة بني هاشم عليه قال لكاتبه عبد الحميد بن يحيى إني قد احتجت أن تكون مع عدوي فتظهر لهم الغدر بي فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إليك تمنعهم منك وتدعوهم إلى حسن الظن بك فإن استطعت أن تنفعني في حياتي وإلا فلا تعجز عن حفظ حرمتي بعد وفاتي فقال عبد الحميد إن الذي أمرتني به أنفع الأمرين لك وأضرهما بي وما عندي إلا الوفاء حتى يفتح الله لك أو أقتل معك ثم أنشد
أسرّ وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يشمل الناس ظاهره
فأمسك عنه ساعة وأعاد عليه القول ثانية فقال والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس فلم يزل معه حتى قتل وذلك في آخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة وله تسع وخمسون سنة وقتل ببوصير قرية من صعيد مصر وهو آخر ملوك بني أمية وكانت دولتهم ثلاثاً وتسعين سنة وأحد عشر شهراً وأياماً وهرب عبد الحميد إلى قرية تعرف بالأشمونين فاختفى بها فدل عليه وحمل إلى أبي العباس السفاح بأمان فلم يحظ عنده وقال الجهشياري قتل وقد ذكر آنفاً ومن أحسن ما تطرب به الأسماع ويلطف به كثيف الطباع ما يحكى إن معاوية بن أبي سفيان تزوج ميسون بنت مجدل ونقلها من البدو إلى الشأم وكانت كثيرة الحنين إلى أناسها والتذكر لمسقط رأسها فأنصت لها يوماً فسمعها تنشد
لبيت تخفق إلا رياح فيه ... أحبّ إليّ من قصر منيف
ولبس عباءة وتقرّ عيني ... أحبّ إليّ من لبس الشفوف

وأكل كسيرة في كسر بيتي ... أحبّ إليّ من أكل الرغيف
وأصوات الرياح بكل فج ... أحبّ إليّ من نقر الدفوف
وكلب ينبح الطرّاق دوني ... أحبّ إليّ من قط الوف
وبكر يتبع الأطلال صعب ... أحبّ إليّ من بغل ردوف
وخرق من بني عمي نحيف ... أحبّ إليّ من علج عنيف
خشونة عيشتي في البدو أشهى ... إلى نفسي من العيش الظريف
فما أبغي سوى وطني بديلاً ... فحسبي ذاك من وطن شريف
فلما سمع معاوية الأبيات قال ما رضيت بي بنت مجدل حتى جعلتني علجاً عنيفاً ثم طلقها وردها إلى أهلها ويقال من الوفاء تشوق الرجل لاخوانه وحنينه إلى أوطانه وتلهفه على ما مضى من زمانه وقالوا الكريم يحن إلى جنابه كما يحن الأسد إلى غابه ويقال من علامة الكريم أن تكون نفسه إلى مولده تواقة وإلى مسقط رأسه مشتاقة شاعر
أحب بلاد اللّه ما بين منعج ... إليّ وسلمى أن يجود سحابها
بلاد بها نيطت على تمائمي ... وأوّل أرض مس جلدي ترابها
وقالت الحكماء أرض الرجل ظئره وداره مهده والغريب كالغرس الذي زايل أرضه فهوذا ولا ينمى وذابل لا ينضر وفطرة الرجل معجونة بحب الأوطان مجبولة على تذكر ماضي الزمان وقد ذكر ابن الرومي السبب الموجب لحب الأوطان بقوله
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
وقالوا ليس في الحيوان السانح أشد وفاء من الفاختة فإنها إذا مات الفها لا تزال تندبه ولا تألف غيره حتى تموت

من أحاسن فعلات الأشراف الاتصاف بالعدل والإنصاف
فالعدل قوام الدنيا والدين وسبب صلاح المخلوقين وله وضعت الموازين وهو المرغوب المألوف المؤمن من كل مخوف به تألفت القلوب والتأمت الشعوب وظهر الصلاح واتصلت أسباب النجاح وانعقلت عرى اليمن والفلاح وشمل الناس التناصف والتواصل والتعاطف وهو مأخوذ من الاعتدال الذي هو القوام والاستواء المتجانبان للميل والالتواء وهو ميزان الله في أرضه الذي يوفي به الحقوق ويرأب به الصدوع والفتوق وحقيقته وضع الأمور في مواضعها لا توضع الشدة مكان اللين وبضد ذلك ولا السيف مكان السوط وبالعكس من ذلك وإلى هذا أشار المتنبي في قوله
ووضع الندى في موضع السيف بالعدى ... مضرّ كوضع السيف في موضع الندى
والانصاف هو استيفاء الحقوق واستخراجها بالأيدي العادلة والسياسات الفاضلة وهو والعدل توأمان نتيجتهما علو الهمة وبراءة الذمة باكتساب الفضائل واجتناب الرذائل فالانصاف استثمار والعدل استكثار فيصير الملك بالانصاف مستثمراً وبالعدل مستكثراً وما نقض ملك من إنصاف ولا جاه من إسعاف وقد قيل من عدل في سلطانه استغنى عن أعوانه وقيل عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الزمان وروى الثقاة بأسانيد حسنة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة وعن عبد الرحمن بن عمرو بن العاص إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المقسطون على منابر من لؤلؤ يوم القيامة بين يدي الرحمن بما أقسطوا في الدنيا وقال حكيم لبعض الملوك أيها الملك إنما فخرك بإظهار وعدلك وإيثار فضلك لا بجمال بزتك وتمكن عزتك وفراهة مركبك وكثافة موكبك ويقال الملك يبقى على العدل والكفر ولا يبقى على الايمان والجور وإليه أشار الشاعر بقوله
عليك بالعدل إن وليت مملكة ... واحذر من الجور فيها غاية الحذر
فالملك يبقى على عدل الكفور ولا ... يبقى مع الجور في بدو ولا حضر

دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فسلم فلم يرد عليه فقال لعبد الرحمن بن عوف أخاف أن يكون قد وجد علي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم عبد الرحمن أبا بكر في ذلك فقال إنه أتاني وبين يدي خصمان قد فرغت لهما سمعي وبصري وقلبي وعلمت أن الله سائلي عنهما وعما قالا وعما قلت ويقال إذا عدل السلطان في رعيته ثم جار على واحد لم يف عدله بجوره ويقال حق على من ملكه الله على بلاده وحكمه في عباده أن يكون لنفسه مالكاً وللهوى تاركاً وللغيظ كاظماً وللظلم هاضماً وللعدل في حالتي الرضا والغضب مظهراً وللحق في السر والعلانية مؤثراً وإذا كان كذلك ألزم النفوس طاعته والقلوب محبته وأشرق بنور عدله زمانه وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه ولقد صدق من قال
لكل ولاية لا بدّ عزل ... وصرف الدهر عقد ثم حلّ
وأحسن سيرة تبقى لوال ... على الأيام إحسان وعدل
وقال عمرو بن العاص ملك عادل خير من مطر وابل وكان كسرى يقيم رجلين من موابذته عن يمينه وشماله إذا أراد النظر في أمور الناس فكان إذا زاغ حركاه بقضيب معهما وقالا له والرعية يسمعون أيها الملك أنت مخلوق لا خالق وعبد لا مولى وليس بينك وبين الله قرابة انصف الخلق وانظر لنفسك ويقال إنه كتب ثلاث رقاع في إحداها أمسك عضبك فإنك لست باله وإنك ستموت ويأكل بعضك بعضاً وفي الثانية إرحم عباد الله يرحمك الله وفي الثالثة احمل عباد الله على الحق فإنه لا يسعهم إلا ذلك وكان إذا جلس للناس عامة لينظر في أمورهم قام بعض الحجاب على رأسه وبيده الرقاع فإذا رآه غضب على أحدنا وله الرقعة الأولى فإن رآه تمادى على غضبه ناوله الثانية فإن لم ينته ناوله الثالثة وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه في الموسم فإذا اجتمعوا قال يا أيها الناس إني لم أستعمل عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أعراضكم ولا من أموالكم شيأً إنما استعملتهم ليحجزوا بينكم ويردوا عليكم فيئكم فأيكم كانت له عندي مظلمة فليقم وصف أعرابي أميراً عادلاً فقال هو عالم برعيته عادل في أقضيته عار من الكبر قابل للعذر سهل الحجاب متحير إلى الصواب رفيق بالضعيف مكرم للشريف غير مجاف للقريب ولا مخيف للغريب وكان شمس المعالي قابوس بن وشمكير عادلاً في ملكه كان لا يؤتى بمفسد إلا أقام الحق عليه ولو أنه أقرب الناس إليه وقع جعفر بن يحيى إلى بعض عماله أنصف من وليت أمره وإلا أنصفه منك من ولي أمرك ووقع أخوه الفضل بئس الزاد إلى المعاد التعدي على العباد وسأل عمر بن عبد العزيز رجاء بن حيوة عن حال رعيته مع العمال فقال رأيت الظالم مقهوراً والمظلوم منصوراً والغني موفوراً والفقير مبروراً فقال الحمد لله الذي وهب لي من العدل ما تطمئن إليه قلوب رعيتي وتعرض له متظلم في بعض الطرق فوقف له وأزال شكايته فقيل له هلا صرت حتى يستقر بك المنزل فقال الخير سريع الذهاب وخشيت أن أفوته بنفسي وإنما هي فرصة قدمت فيها العزم واستصحبت الحزم قال شاعر يمدح متولياً اتصف بهذه الخلة من الرؤساء الجلة
لا تقدح الظنة في حكمه ... شيمته عدل وإنصاف
يمضي إذا لم تلقه شبهة ... وفي اعتراض الشك وقاف

ومما اتفق على مدحه الأوائل والأواخر تواضع من حاز الفضائل والمفاخر

قالوا ينبغي لمن عظم قدره وامتثل نهيه وأمره وانتشر في الخافقين ذكره أن يكون للاعجاب مطرحاً وعن الكبر منتبذاً ومنتزحاً فإن همة الرجل العاقل الفاضل شريفة علية وباختفار ما أوتيت من رياسات الأموال والعمال ملية قال ذو النون من تطأطأ لقي رطباً ومن تعالى لقي عطباً وقال عروة بن الزبير التواضع من مصايد الشرف وكل نعمة محسود عليها إلا التواضع ويقال التواضع في الشرف أشرف من الشرف ويقال اسمان يتفق معناهما ويفترق لفظهما التواضع والشرف وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين ويقول لو دعيت إلى كراع لأجبت وكان يخصف النعل ويحلب الشاة ويركب الحمار ردفاً ويرقع الثوب ويطحن مع الخادم إذا أعيت ويأكل معها ويحمل بضاعته من السوق ويسلم مبتدئاً ويصافح الغني والفقير ويخالط أصحابه ويحادثهم ويمازحهم ويلاعب صبيانهم ويجلسهم في حجره وما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك وقال لا تفضلوني على يونس ابن متي ولا ترفعوني فوق قدري فتقولون في ما قالت النصارى في المسيح إن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني رسولاً وكان صلى الله عليه وسلم لا يأكل متكئاً ويأكل الخبيص ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد وقال البراء بن عازب رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل التراب حتى وارى التراب صدره وكان ينقل اللبن على عاتقه مع أصحابه عند بناء مسجده بالمدينة هذا ولسان فخره ينزع عن الابانة عن علو قدره فيقول أنا سيد ولد آدم آدم ومن دونه تحت لوائي أنا أول من تنشق عنه الأرض لست كأحدكم إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني شرف صرفت أماني الآمال عن بلوغ مداه وتقطعت دونه أيدي الطمع فلا تصل إلى علاه ولما ولي أبو بكر الخلافة قال إني وليتكم ولست بخيركم فلما بلغ كلامه الحسن البصري قال بلى ولكن المؤمن يهضم نفسه وسئل بعض التابعين هل رأيت أبا بكر قال نعم رأيت ملكاً في زي مسكين وقال ابن عباس كان أبو بكر كثيراً ما ينشد
إذا أردت شريف الناس كلهم ... فانظر إلى ملك في زيّ مسكين
ذاك الذي حسنت في الناس قالته ... وذاك يصلح للدنيا وللدين
آخر
إنّ السعيد الذي تمت سيادته ... فتى يفرّ من الدنيا إلى الدين
يصدّ بالطرف منه عن زخارفها ... فيغتدي ملكاً في زيّ مسكين
وقال المرار بن المنقذ العدوي
يا حبذا حين يمسي الريح باردة ... وادي الأضاء وفتيان بها هضم
مخدّمون كرام في مجالسهم ... وفي الرجال إذا صاحبتهم خدم
وما أصاحب من قوم فأذكرهم ... إلا يزيدهم حباً إلي هم
وكان رضي الله عنه إذا مدح قال اللهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم اللهم اجعلني خيراً مما يحسبون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نادى يوماً الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس لقد رأيتموني وأنا أرعى على خالات لي من بني مخزوم يقبض لي القبضة من التمر أو الزبيب فقال عبد الرحمن بن عوف ما أردت على أن قصرت على نفسك فقال ويحك يا ابن عوف خلوت بنفسي فقالت لي أنت أمير المؤمنين وليس بينك وبين الله أحد فمن ذا أفضل منك فأردت أن أعرفها قدرها واشترى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه تمراً بدرهم فحمله في ردائه فسأله بعض أصحابه حمله عنه فقال أبو العيال أحق بحمله وحكى الشعبي قال ركب زيد بن ثابت فدنا منه عبد الله بن عباس فأخذ بركابه فقال لا تفعل يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا فقال زيد أرني يدك فأخذها وقبلها وقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا ودخل بعض الشعراء على الحسن بن زيد فأنشده الله فرد وابن زيد فرد فقال بفيك الأثلب الأقلت الله فرد وابن زيد عبد ونزل عن سريره وألصق خده بالأرض وكان عبد الله بن عمر إذا سافر مع قوم يحتطب لهم ويطبخ لهم ويستقي لهم ويؤذن لهم وكان أبو هريرة خليفة مروان بن الحكم على المدينة يحتطب ويأتي بالحزمة الحطب على ظهره يشق بها السوق ويقول جاء الأمير جاء الأمير حتى يعلم الناس به فينصرفون إليه في حوائجهم البحتري مادحاً

دنوت تواضعاً وعلوت قدراً ... فشا ناك انحدار وارتفاع
كذاك الشمس تبعد أن تساما ... ويدنو الضوء منها والشعاع
ولآخر
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه ... إلى طبقات الجوّ وهو وضيع
كان ابن مسعود إذا مشى خلفه أحد قال أخر وأعني نعالكم فإنها ذلة للتابع وفتنة للمتبوع ولما ولي علي بن عيسى الوزارة وذلك في سنة ثلثمائة رأى الناس يمشون حوله كما كانوا يمشون حول الوزراء قبله فالتفت إليهم وقال إنا لا نرضى لعبيدنا أن يفعلوا هذا معنا فكيف نكلفه قوماً أحراراً لا إحسان لنا عليهم ومنعهم من المشي في ركابه فكأنما عناه أبو تمام حبيب بقوله
متبذل في القوم وهو مبجل ... متواضع في الحيّ وهو معظم
وقال الحسن أربعة لا ينبغي لشريف أن يأنف منهن قيامه عن مجلسه لأبيه وخدمته لضيفه وقيامه على فرسه وخدمته لمن يأخذ من علمه وقال عبد الله بن مسعود رأس التواضع أن تبدأ بالسلام من لقيت وأن ترضى بالدون من المجلس وقال عبد الله بن شداد أربعة من كن فيه فقد برئ من الكبر من اعتقل العنز وركب الحمار ولبس الصوف وأجاب دعوة الدون من الرجال

مما يدل على شرف الأبوة إلزام النفس بأنواع المروة
قال بهرام بن بهرام المروأة اسم جامع للمحاسن كلها وقال بعض البلغاء المروأة جامعة لأشتات المبرات جالبة لأسباب المسرات دالة على كرم الأعراق باعثة على مكارم الأخلاق ناظمة لقلائد الفوائد عاقلة لشوارد المحامد وقال بعض الحكماء المروأة سجية جبلت عليها النفوس الزكية وشيمة طبعت عليها الطباع الكريمة وقالوا أولى الناس بالمروة من له نبوة النبوة وقد جمع الله تعالى متفرقاتها في قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي وجمعها النبي عليه الصلاة والسلام على نوع آخر فقال من عامل الناس فلم يظلمهم ووعدهم فلم يخلفهم وحدثهم فلم يكذبهم فهو ممن كملت مروأته وظهرت عدالته ووجبت أخوته وحرمت غيبته وجمعها بعضهم على نوع آخر فقال باب مفتوح وخير ممنوح وستر مرفوع وطعام موضوع ونائل مبذول وكلام معسول وعفاف معروف وأذى مكفوف وجمعها آخر فقال مروأة الرجل صدق لسانه واحتمال عثرات إخوانه وبذل المعروف لأهل زمانه وكف الأذى عن جيرانه وقال أعرابي والله لولا أن المروأة ثقيل محملها شديدة مؤنتها ما ترك اللئام للكرام منها شيأً وقالوا المروأة الظاهرة الثياب الطاهرة كما قال يزيد بن المهلب لولده كن أحسن ما تكون في الظاهر حالاً أقل ما تكون في الباطن مآلاً وقال عليه الصلاة والسلام إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويكره البؤس والتباؤس وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما إن الله جميل يحب الجمال وقالوا مروأة الرجل أن لا يلبس ثوب شهرة كما قال بعض الظرفاء كل ما اشتهت نفسك والبس ما يلبسه أبناء جنسك ولقد أحسن بعض الشعراء حيث نظم هذه الكلمات يخاطب بها إنساناً لبس ثوب شهرة فقال
إنّ العيون رمتك إذ فاجأتها ... وعليك من شهر الثياب لباس
أمّا الطعام فكل لنفسك ما اشتهت ... واجعل لباسك ما اشتهاه الناس
وقالوا التعري البارح خير من الزي الفاضح وقال عبد الملك بن صالح ليس من لباس السادات ذوي المروات ذوات الألوان فإنها من لباس الغلمان والنسوان قال الشاعر
قل للذي يخرج عن شكله ... ليرتقي أسباب أوعار
كيف ترجي أن تنال العلا ... ولم تبال الدهر من عار
من فارق المعهود من زيه ... فذاك لا كاس ولا عار
ورأى إنسان على أبي طاهر الخبزارزي ثوباً حسناً فلامه في ذلك وعنفه فأنشد
عليّ ثياب فوق قيمتها فلس ... وفيهنّ نفس دون قيمتها الأنس
فويك صبح تحت أذياله دجى ... وثوبي ليل تحت أذياله شمس

فكل من افتخر بمجده من الأكارم ومدح اسماله ورأى اكتساءه حلل المكارم أنمى لقدره وأسمى له اقتدى بالعتابي في هذا المذهب وتختم بفصه المذهب وذلك أنه دخل على يحيى بن خالد في سمل وكان لا يبالي ما لبس فعابه عليه فقال يا أبا علي خزى الله من يرفعه هيناه جماله وماله حتى يرفعه أكبراه همته ونفسه وأصغراه قلبه ولسانه قال شاعر في المعنى الذي نحاه
لا تنظرنّ إلى الثياب فإنني ... خلق الثياب من المروأة كاسي
وقال أبو هفان وأجاد في النحو الذي أراد
تعجبت درّ من شيبي فقلت لها ... لا تعجبي قد يلوح الفجر في السدف
وزادها عجباً إذ رحت في سمل ... وما درت درّ أن الدرّ في الصدف
ولا خرفي المعنى
يا هذه كم يكون اللوم والفند ... لا تنكري رجلاً أثوابه قدد
أن يمس منفرداً فالسيف منفرد ... والليث منفرد والبدر منفرد
أو كنت أنكرت طمريه وقد خلقا ... فالبحر من فوقه الأقذاء والزبد
إن كان صرف الليالي درّ بزغته ... فبين طمريه منه ضيغم لبد
ومن المروأة التطيب فإنه ورد عن مكحول أنه قال من نظف ثوبه قل همه ومن طاب ريحه زاد عقله ومن جمع بينهما ظهرت مروأته وقيل من الظرف والكرم الاستقصاء في التبخر وكان صلى الله عليه وسلم يعرف خروجه من منزله برائحة المسك وكان إذا سلك طريقاً عرف السائل عنه أين يمم لطيب ريحه وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا اجتاز في طريق قال الناس لطيمة مسك أو ابن عباس لطيب ريحه قال الشاعر
ويفوح مسكاً طيب ريح ثيابه ... وكذاك ريح الماجد الوهاب

الفصل الثالث من الباب الأول
في ذم التخلق بالإحسان
إذا لم يوافق القلب اللسان
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من تخلق بما ليس من خلقه فهو منافق وقال ابن مسعود من كان كلامه لا يوافق فعله فإنما يوبخ بذلك نفسه وقيل ما الدخان بأدل على النار من ظاهر الرجل على باطنه وقال زهير بن أبي سلمى
ومهما تكن عند امرء من خليقة ... وإن خالها تخفي على الناس تعلم
وقال آخر
كل أمرئ راجع يوماً لشيمته ... وإن تخلق أخلاقاً إلى حين
وقال بعض الحكماء لتلميذ له يا من باطنه منظور الحق وظاهره منظور الخلق حسن ما شئت لما شئت وقالوا ما أقبح بالانسان أن يقول ما لا يفعل وما أحسس الفعل ابتداء قبل القول فإن من مات محموداً أحسن حالاً ممن عاش مدموماً وقال أكثم بن صيفي فضل القول على الفعل دناءة وفضل الفعل على القول مكرمة ويقال أحسن المقال ما صدق بحسن الفعال وكان رجل يكثر الثناء على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بلسان لا يوافقه القلب فقال له رضي الله عنه يوماً وقد ألح عليه في الثناء أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك فانظر إلى هذه الفراسة المفترسة لحبات القلوب المكشوف لها الغطاء عن خفيات الغيوب وقال بعض الحكماء لأن يكون لي نصف لسان ونصف وجه على ما فيهما من قبح المنظر وسوء المخبر أحب إلي من أن أكون ذا وجهين وذا لسانين وذا قولين مختلفين وقال أرسطو طاليس وجهك مرآة قلبك فإنه يظهر على الوجوه ما تضمره القلوب وقالوا العيون طلائع القلوب وقد أولع الشعراء بنظم هذا المعنى كثيراً فمن ذلك قول بعضهم
إنّ العيون لتبدي في نواظرها ... ما في القلوب من البغضاء والأحن
وقال آخر
تريك أعينهم ما في صدورهم ... إن الصدور يؤدّي سرّها النظر
آخر
عيناك قد دلتا عينيّ منك على ... أشياء لولاهما ما كنت أدريها
تظلّ في نفسك البغضاء كامنة ... والقلب يضمرها والعين تبديها
والعين تعرف من عيني محدّثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها

ويقال العادات قاهرات فمن اعتاد شيأً في السر فضحه في العلانية وقالوا حقيقة النفاق اختلاف السر والعلن واختلاف القول والعمل وقال أبو سعيد الجرجاني لا ينبغي أن يكون حسن القول تمهيداً لقبح الفعل لام الشعبي واسمه عامر بن شراحيل عبد العزيز بن مروان على تقصير في الخطبة لما كان عاملاً على مصر وتركه استعمال البلاغة مع القدرة عليها فقال إني لأستحيي من الله تعالى أن أقول بلساني على منبري خلاف ما أعلمه من قلبي وكتب رجل إلى صديق له إما بعد فعظ الناس بفعلك ولا تعظهم بقولك وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام يا عيسى عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس
ومما يعاب من خلال الانسان أن يكون بديع مقال اللسان بعيد مجال الاحسان
قال عليه الصلاة والسلام ليس الملق من أخلاق المؤمنين ابن المعتز من كثر ملقه لم يعرف بشره ذم أعرابي قوماً فقال قلوبهم أمر من الدفلي وألسنتهم من العسل أحلى وقال الشاعر
إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا ... ولكنّ حسن القول خالفه الفعل
وقال ابن حبير
الناس شبه ظروف حشوها صبر ... وفوق أفواهها شيء من العسل
تحلو لذائقها حتى إذا انكشفت ... له تبين ما تحويه من زغل
وقالوا فلان يبدي وجه المطابق الموافق ويخفي نظر المسارق المنافق قال شاعر
يا أيها المتحلى غير شيمته ... ومن شمائله التبديل والملق
ارجع إلى خلقك المعروف ديدنه ... إنّ التخلق يأتي دونه الخلق
وقالوا شر الناس من هو في الظاهر صديق موافق وفي الباطن عدو منافق قال شاعر
لعمرك ما ودّ اللسان بنافع ... إذا لم يكن أصل المودّة في القلب
وقال رجل لعلي رضي الله عنه علمني السلام على الاخوان فقال لا تبلغ بهم النفاق ولا تقصر بهم عن الاستحقاق ولقد صدق صالح بن عبد القدوس في قوله
وأكثر من تلقى يسرّك قوله ... ولكن قليل من يسرّك فعله
وقد كان حسن الظنّ بعض مذاهبي ... فأدّبني هذا الزمان وأهله
وقال آخر وبالغ في الذم
لم يبق في الناس إلا المكر والملق ... شوك إذا اختبروا زهر إذا رمقوا
فإن دعاك إلى إئتلافهم قدر ... فكن جحيماً لعلّ الشوك يحترق
آخر
خلّ النفاق لأهله ... وعليك فانتهج الطريقا
واذهب بنفسك لن ترى ... إلا عدوّاً أو صديقا
آخر
يريك النصيحة عند اللقا ... ويبريك في السرّ بري القلم
فبتّ حبالك من وصله ... ولا تكثرنّ عليه الندم
ومما يلحق بهذا أنّ عمل الرياء سالب عن صاحبه جلباب الحياء
ارياء من الكبائر وأخبث السرائر شهدت بمقته الآيات والآثار وتواردت بذمه القصص والأخبار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يقبل عملاً فيه مثقال ذرة من رياء وأما الحياء فهو من ثلاثة أوجه من الله ومن الناس وحياء المرء من نفسه فإنه من استحيا من الله ولم يستحي من الناس فقد استهان بالناس ومن استحيا من الناس ولم يستحي من الله فقد استهان بالله ومن استحيا من الناس ولم يستحي من نفسه فليس لنفسه عنده قدر وويل لمن أرضى الله بلسانه وأسخطه بقلبه وكان أبو مسلم الخولاني يقول ما عملت منذ كذا وكذا سنة عملاً أبالي أن يراه الناس إلا حاجة الرجل إلى أهله وحاجته إلى الخلاء وقال الحسن البصري لأن تطلب الدنيا بأقبح ما تطلب به أحب من أن تطلبها بأحسن ما تطلب به الآخرة وقال الفتح بن خاقان كنت يوماً ألاعب المتوكل بالنرد فاستؤذن لأحمد بن أبي دواد فأذن له فلما قرب منا هممت برفعها فمنعني المتوكل وقال كيف أجاهر الله بشيء وأستره عن عباده وكان الشبيل إذا رأى من يدعي التصوف يقول ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى وقال شاعر يذم المرائين منهم
قد لبس الصوف لترك الصفا ... مشايخ العصر لشرب العصير
الرقص والتناهد من شأنهم ... شرّ طويل تحت ذيل قصير
آخر
أظهروا للناس نسكا ... وعلى المنقوش داروا
وله صاموا وصلوا ... وله حجواً وزا روا
إن يكن فوق الثريا ... ولهم ريش لطاروا

ولآخر يحض على الاعتزال عن هؤلاء
لا تصحبنّ عصابة ... حلقوا الشوارب للطمع
يبكوا وجلّ بكائهم ... ما للفريسة لا تقع
قال ثابت البناني دخلت على داود الطائي فقال لي ما حاجتك قلت زيارتك قال ومن أنا حتى أزار ليس من العباد أنا لا والله ولا من الزهاد أنا لا والله ثم ضرب بيده على لحيته وأقبل على نفسه يوبخها وقال كنت في زمن الشباب فاسقاً ثم تبت فصرت مرائياً والله إن المرائي لشر من الفاسق ويقال كان الناس يراؤن بما يفعلون لا بما يقولون فصاروا يراؤن بما يقولون ولا يفعلون ثم صاروا يراؤن بما لا يقولون ولا يفعلون ذم البديع الهمداني قاضياً بالرياء فقال قد بيض لحيته بسواد صحيفته وأظهر ورعه ليخفي طمعه وقصر سباله ليظهر سرباله وتغشى محرابه ليغطي حرابه يبرز في ظاهر أهل السمت وهو في باطن أهل الصمت شاعر
تصنع كي يقال له أمين ... وما معنى تصنعه الاماته
ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به طريقاً للخيانه
آخر
ودع التواضع فاللباس مجونا ... فاللّه يعلم ما تكنّ وتكتم
فرثاث ثوبك لا يزيدك رفعة ... عند الإله وأنت عاص مجرم
ويقال أربعة لا يعتد بهن زهد الخصى وتوبة الجندي وشكوى المرأة وتقوى الأحداث صلى رجل صلاة خفيفة فقيل له أقصرت الصلاة قال لا بل هي صلاة ليس فيها رياء نظر أبا أمامة الباهلي رجل في المسجد وهو ساجد يبكي فقال نعم الرجل أنت لو كان هذا في بيتك
ومن ظرف الحكايات ... وتحف الفكاهات
عمن كان له من الرياء غرّة فاضحة ... ومن عدم الحياء سمة لائحة
وفد على عمر بن عبد العزيز بلال بن أبي بردة فجعل يصلي ويطيل الصلاة فقال عمر للعلاء ترى ذلك تصنعاً فقال العلاء أنا آتيك بخبره يا أمير المؤمنين فأتى إلى داره بين العشاءين فوجده يصلي فقال له خفف فإن لي إليك حاجة فخفف وسلم وقال ما الحاجة فقال له العلاء تعرف محلى من أمير المؤمنين فإن أنا أشرت بك عليه في ولاية العراق فما تجعل لي قال لك علي عمالتي سنة وكان مبلغ ذلك عشرين ألف درهم فسأله العلاء أن يكتب له بذلك شرطاً على نفسه فكتب له فأتى العلاء بالشرط إلى عمر فقال إنه غرنا بالله فكدنا نغتر وكنا نظنه ذهباً فلما سبكناه وجدناه خبثاً وأدخل على المنصور رجل أراد أن يوليه قضاء ناحية من العراق قد جعل السجود بين عينيه كركبة الجمل فقال له المنصور إن كنت أردت الله بهذا فما ينبغي لنا أن نشغلك عنه وإن كنت أردتنا فما ينبغي لنا أن ننخدع لك ولم يوله شيأً مر بعض المرائين بابن مزداد وهو جالس على باب داره وبين عيني الرجل سجادة عظيمه وكان ابن مزداد شيخاً ابن ثمانين سنة ومقعداً من ثلاثين سنة فقال امرأتي طالق إن كان في استي من القعود ما في جبهة هذا من السجود وضع بعض المرائين بين عينيه سجادة ودلكها بنواة وشد عليها ثوماً وبات بها فزاغت العصابة عن مكانها وصارت في ناحية صدغه فاتسم فقيل لولده كيف أصبح أبوك قال أصبح ممن يعبد الله على حرف وقال ظريف من الشعراء لمراء يتهكم به في معرض الوصية
شمر ثيابك واستعدّ لقابل ... واحكك جبينك للقاء بثوم
وامش الدبيب إذا مشيت لحاجة ... حتى تصيب وديعة ليتيم
وبلغ الرشيد قول أبي نواس
يا أحمد المرتجي في كل نائبة ... قم سيدي نعص جبار السموات
وقوله
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهر
وقوله
ما جاءنا أحد مذ مات يخبرنا ... في جنة جسمه قد كان أو نار
فقال هذا كلام زنديق وأمر الفضل بن الربيع بحبسه فحبسه وتناساه زماناً فأظهر التوبة وكتب إلى الفضل من الحبس بهذه الأبيات
فارعوى باطلي وأقصر جهلي ... وتبدّلت عفة وزهاده
بركوع أزينه بخشوع ... واصفرار مثل اصفرار الجراده
لو تراني شبهتني الحسن البص ... ريّ في حال نسكه أو قتاده
التسابيح في ذراعي والمص ... حف في لبتي مكان القلاده
فإذا شئت أن ترى ظرفة ... تعجب منها مليحة مستجاده

فادع بي لاعدمت تقويم مثلي ... وتأمّل بعينك السجاده
ترء أثراً من الصلاة بوجهي ... توقن النفس أنها من عباده
لو رآها بعض المرائين يوماً ... لاشتراها يعدّها للشهاده
ولقد طال ما شقيت ولكن ... أدركتني على يديك السعاده
فلما وصلت الأبيات إلى الفضل ضحك منها وكلم فيه الأمين فأطلقه ولما أطلق من حبسه كتب إلى الفضل يشكره على جميل فعله

الباب الثاني
في اللؤم
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في ذم من ليس له خلاق
وما اتصف به من الأخلاق
قال الله تعالى هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم هذه النقائص كلها يجمعها سوء الخلق وقيل إن سوء الخلق شؤم يجذب صاحبه في الدنيا إلى العار وفي الآخرة إلى النار وقال أبو هريرة رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشؤم فقال الشؤم سوء الخلق وقال عمر بن الخطاب إذا كان في الانسان عشر خصال تسعة منها صالحة وواحدة هي سوء الخلق أفسدت هذه الخصلة تلك التسعة شاعر
وكم من فتى أزرى به سوء خلقه ... فأصبح مذموماً قليل المحامد
وقالوا من ساءت أخلاقه طاب فراقه وقالوا سوء الخلق يدل على خبث الطبع ولؤم العنصر ويكاد سيء الخلق أن يعد من البهائم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إن سوء الخلق زمام من عذاب الله في أنف صاحبه والزمام في يد شيطان يجره إلى النار أخرجه البيهقي في شعب الايمان وقالوا فلان له خلق خلق وشأن شائن وشيمة مشؤمة وخيم وخيم وطبع طبيع
من مساوئ أخلاقهم الذميمة
نقل الأقدام بالسعاية والنميمة
قالوا النميمة الخصال الذميمة تدل على نفس سقيمة وطبيعة لئيمة مشغوفة بهتك الأستار وإفشاء الأسرار وقال بعض الحكماء الأشرار يتبعون مساوئ الناس ويتركون محاسنهم كما يتبع الذباب المواضع الألمة من الجسد ويترك الصحيحة وقالوا لم يمش ماش شر من واش والساعي بالنميمة يهلك نفسه ومن سعى به ومن سعى إليه كما حكى أن عمرو بن معاوية ابن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان العتبي رأى رجلاً يسعى برجل عند صديق له فقال له نزه سمعك عن استماع الخنى كما تنزه لسانك عن التكلم به فإن السامع شريك القائل وإنما نظر شر ما في وعائه فأفرغه في وعائك ولوردت كلمة ساع إلى فيه لسعد رادها كما شقى قائلها والنمام شر من الساحر فإن النمام يفسد في الساعة الواحدة ما لا يفسد الساحر في المدة الطويلة أتى رجل عبد الله بن عباس وهو والي البصرة من قبل علي رضي الله عنه بنميمة فقال له إن شئت سألنا عما جئت به فإن كنت صادقاً مقتناك وإن كنت كاذباً عاقبناك وإن شئت أقلناك فقال إن شئت أن تفعل فافعل شاعر
توخ من الطرق أوساطها ... وعدّ عن الجانب المشتبه
وسمعك صن عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن النطق به
فإنك عند سماع الحديث ... شريك لقائله فانتبه
وقال أبو الأسود الدؤلي
لا تقبلنّ نميمة بلغتها ... وتحفظنّ من الذي أنباكها
إنّ الذي ألقى إليك نميمة ... سينمّ عنك بمثلها قد حاكها

هذا منظوم قول الناس من نم لك نم عليك وسعى رجل برجل عند عمر بن عبد العزيز فقال له عمر إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذباً فأنت داخل تحت حكم هذه الآية إن جاءكم فاسق بنبا فتبينوا وإن كنت صادقاً فأنت من هذه الآية هماز مشاء بنميم وإن شئت عفونا عنك وقال بعض الملوك لولده ليكن أبغض رعيتك إليك أشدهم كشفاً لمعايب الناس فإن للناس معايب وأنت أحب بسترها وأنت إنما تحكم بما ظهر لك والله يحكم فيما غاب عنك وأكره للناس ما تكره لنفسك واستر العورة يستر الله عليك ما تحب ستره ولا تصغ إلى تصديق ساع فإن الساعي غاش وإن قال قول نصيح وقال أرسطا طاليس النميمة تهدي إلى القلوب البغضاء ومن نقل إليك نقل عنك وقالوا شر من النميمة قبولها لأن النميمة دالة والقبول إجازة وليس من دل على شيء كمن قبله وأجازه وقال المهدي ما الساعي بأعظم عورة ولا أقبح حالاً من قابل سعايته ولا يخلو أن يكون الساعي حاسد نعمة فلا يشفى غيظه أو عدواً فلا يعاقب له عدوه لئلا يشمت به ولقد أحسن بعض الشعراء لظرفاء في قوله
لا تسمعنّ من الحسود مقالة ... لو كان حقاً ما يقول لما وشى
وقال آخر يذم صديقاً له نماماً
وصاحب سوء وجهه لي أوجه ... وفي فمه طبل بسرّي يضرب
ولا بدّ لي منه فحينا يغصني ... وينساغ لي حيناً ووجهي يقطب
كماء بدرب الحاج في كل منهل ... يذمّ على ما كان منه ويشرب
وقال السريّ الرفاء يذمّ نماماً
أنمّ بما استودعته من زجاجة ... يرى الشيء فيها ظاهراً وهو باطن
وقال ابن وكيع في المعنى
ينم بستر مسترعيه لؤماً ... كما نم الظلام بسرّ نار
أنم من النصول على مشيب ... ومن صافي الزجاج على عقار
ولقد أحسن محمد بن شرف القيرواني في قوله يصف نماماً
وناصت نحو أفواه الورى أذناً ... كالقعب يلفظ منها كل ما سقطا
يظل بالقول والأخبار مجتهداً ... حتى إذا ما وعا هازق ما لقطا
والنميمة والكذب رضيعا لبان ... وفي مشوار الدناءة فرسا رهان
قال أبو حيان التوحيدي الكذب شعار خلق وأدب سيء وعادة فاحشة وقل من استرسل معه إلا ألفه وقل من ألفه إلا أذله وأوصى بعض الحكماء ولده فقال إياك والكذب فإنه يزري بقائله وإن كان شريفاً في أصله ويذله وإن كان عزيزاً في أهله وقالوا ثنتان لا يجتمعان الكذب والحياء ارسطا طاليس فضل الناطق على الأخرس بالنطق وزين النطق بالصدق وقال بزرجمهر الكاذب والميت سواء فإنه إذا لم يوثق بكلامه بطلت حياته وقال معاوية يوماً للأحنف وقد حدثه أتكذب قال والله ما كذبت منذ علمت أن الكذب شين وقال بعض الأعراب عجبت من الكذاب المشيد لكذبه وإنما هو يدل الناس على عيبه ويتعرض للعقاب من ربه فالآثام له عادة والأخبار عنه متضادة إن قال حقاً لم يصدق وإن أراد خيراً لم يوفق فهو الجاني على نفسه بفعاله الدال على فضيحته بمقاله فما صح من صدقه نسب إلى غيره وما صح من كذب غيره نسب إليه ويقال الكذب جماع النفاق وعماد مساوي الأخلاق عار لازم وذل دائم يخيف صاحبه نفسه وهو أمن ويكشف ستر الحسب عن لؤمه الكامن قال الشاعر
إن النموم أغطى دونه خبري ... وليس لي حيلة في مفتري الكذب
لا يكذب المرء إلا من مهانته ... أو عادة السوء أو من قلة الأدب
ويكفي في ذم الكذب قوله تعالى إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة والكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأن يضعني الصدق وقلما يفعل أحب إلي من أن يرفعني الكذب وقلما يفعل وقيل لا يجوز أن يكذب الرجل لصلاح نفسه فإن ما عجز الصدق عن إصلاحه كان الكذب أولى بفساده ولقد صدق من قال
عوّد لسانك قول الصدق تحظ به ... إنّ اللسان لما عوّدت معتاد
موكل بتقاضي ما سننت له ... في الخير والشر فانظر كيف ترتاد

ويكفي في معرة الكذب أن من عرف به مقت إذا نطق وكذب وإن صدق قال رجل لأبي حنيفة ما كذبت قط فقال له أبو حنيفة إما هذه فواحدة أشهد عليك بها وقال الأصمعي لرجل كذاب أصدقت قط قال نعم قيل له عجب قال خفت أن أقول لا فأصدق وقيل لبعض الحكماء أيما أشر الكذاب أو النمام فقال الكذاب لأنه يخلق عليك والنمام ينقل عنك شاعر
لي حيلة فيمن يتم ... وليس في الكذاب حيله
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
ومن ظريف أخبار الكذبة أن رجلاً من آل الحرث بن ظالم قال لقد بلغني أن الحرث غضب يوماً فانتفخ في ثوبه فبدر من ثوبه أربعة أزرار ففقأت أربعة أعين من عيون جلسائه شاعر
حلفت برب مكة والمصلى ... وأبدا الواقفين على عكاظ
لا كذب ما يكون إذا تألى ... وشدّدها بأيمان غلاظ
وافة الكذب النسيان كذا ورد في النبا المأثور والخبر المشهور قال الشاعر
إذا عرف الكذاب بالكذب لم يزل ... لدى الناس كذاباً وإنّ كان صادقا
ومن آفة الكذاب نسيان كذبه ... وتلقاه ذا ذهن إذا كان حاذقا
ومن مستقبح خلائق اللوم الصراح ... اللسان البذيّ والوجه الوقاح
قال النبي صلى الله عليه وسلم شر الناس الذين يكرمون اتقاء ألسنتهم وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ما استب رجلان الأغلب ألأ مهما وقال الأحنف بن قيس إلا أخبركم بأدوا الداء الخلق الدني واللسان البذي وقالوا اللئيم يعد الخني جنة والوقاحة جنة فوجهه صلب ولسانه خلب وقالوا الفاقة خير من الصفاقة وقال أبو حيان إن الخصم إذا كان الهوى مركبه والعناد مطلبه فلن يفلح معه ولو خرجت اليد بيضاء وانقلبت العصا حية قال بعض الشعراء يهجو معانداً
تراه معدّاً للخلاف كأنه ... برد على أهل الصواب موكل
وقالوا الوقاحة في الرجل تدل على لؤم نجره وخساسة قدره وقلة خيره وكثرة شره وقال الشاعر
صلابة الوجه لم تغلب على أحد ... إلا تكمل فيه الشر واجتمعا
وقال بعضهم في ذمه أوقاحاً
لو أنّ أكفانهم من حرّ أوجههم ... قاموا إلى الحشر فيها مثل ما رقدوا
ولأبي العبر في مثل ذلك وأحسن في قوله
يا ليت لي من جلد وجهك رقعة ... فأقدّمنها حافر اللاشهب
أنشدنا ناصر الدين حسن الكناني عرف بابن النقيب لنفسه في أوقاح فقال
تعالى اللّه خالقها وجوها ... فما أخفت من الحيوان حالا
لقد صلبت وخفت من حياء ... وغير خلقها حتى استحالا
وجوه ليت لي منها حذاء ... وليت لبغلتي منها نعالا
وقال الناجم يهجو
لك عرض مثلم من قوارير ... ووجه ململم من حديد
ليم بعضهم على الوقاحة فقال الوجه ذو الوقاحة من الوجوه الوقاحة يفئ على صاحبه الأنفال ويفتح له الأقفال ويلقطه الأرطاب ويلقمه ما استطاب ويجسره على قول المنطيق وييسر له فعل ما لا يطيق ثم أنشد
إذا رزق الفتى وجهاً وقاحاً ... تقلب في الأمور كما يشاء
وقال جعفر الصادق إن الله يبغض السباب الطعان المتفحش قال الشاعر
من لم يكن عنصره طيباً ... لم يخرج الطيب من فيه
كل امرئ يشبهه فعله ... ويرشح الكوز بما فيه
أصل الفتى يخفي ولكنه ... من فعله يظهر خافيه
جماع ما يتخلق به الأنذال ... من الشيم والخلال
قال بعض الحكماء أربعة من علامات اللؤم أفشا السر واعتقاد الغدر وغيبة الأحرار وإساءة الجوار وسأل عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف عن خلقه فتلكأ وأبى أن يخبره فأقسم عليه أن لا بد فقال حسود كنود لجوج حقود فقال عبد الملك ما في إبليس شر من هذه الخصال فبلغ ذلك خالد بن صفوان فقال لقد انتحل الشر بحذافيره ومرق من جميع خلال الخير بأسره وتأنق في ذم نفسه وتجرد في الدلالة على لؤم طبعه وأفرط في إقامة الحجة على كفره وخرج من الخلال الموجبة لرضا ربه وقال أبو تمام
مسا ولو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة من كن فيه فهو منافق من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا ائتمن خان وقالوا اللئيم كذوب الوعد خؤن العهد قليل الرفد وقالوا اللئيم إذا استغنى بطر وإذا افتقر قنط وإن قال أفحش وإن سئل بخل وإن سال ألحف وإن أسدى إليه صنيع أخفاه وإن استكتم سراً أفشاد فصديقه منه على حذر وعدوه منه على غرر
ومما اخترناه في غدر اللئام ... من درر الأهاجي والمذامّ
ذم أحمد بن يوسف الكاتب بني سعيد بن مسلم بن قتيبة فقال محاسنهم مساوئ السفل ومساويهم فضائح الأمم ألسنتهم معقودة بالعيّ وأيديهم معقولة بالبخل وأعراضهم أغراض الذم فهم كما قيل
لا يكثرون وإن طالت حياتهم ... ولا تبيد مخازيهم وإن بادوا
وذم أعرابي قوماً فقال أولئك قوم سلخت أقفاؤهم بالهجاء ودبغت جلودهم باللؤم فلباسهم في الدنيا الملامة وفي الآخرة الندامة وذم أعرابي قوماً فقال أولئك قوم هم أقل الناس ذنوباً إلى أعدائهم وأكثرهم تجرياً على أصدقائهم يصومون عن المعروف ويفطرون على الفحشاء وكان عيسى ابن فرخان شاه يتيه على أبي العيناء في حال وزارته فلما انصرف عنها لقي أبا العيناء في بعض السكك فسلم عليه سلاماً خفياً فقال أبو العيناء لغلامه من هذا قال أبو موسى فدنا منه حتى أخذ بعنان بغلته وقال لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك وبلحظك دون لفظك فالحمد لله على ما آلت إليه حالك فلئن كنت أخطأت فيك النعمة لقد أصابت فيك النقمة ولئن كانت الدنيا أبدت قبائحها بالاقبال عليك لقد أظهرت محاسنها بالادبار عنك ولله المنة إذ أغنانا عن الكذب عليك ونزهنا عن قول الزور فيك فقد والله أسأت حمل النعمة وما شكرت حق المنعم ثم أطلق يده من عنانه ورجع إلى مكانه فقيل له يا أبا عبد الله لقد بالغت في السب فما كان الذنب فقال سألته حاجة أقل من قيمته فردني عنها بأقبح من خلقته قال بعض الأعراب نزلت بذاك الوادي فإذا ثياب أحرار على أجسام عبيد اقبال حظهم ادبار حظ الكرام أخذ هذا المعنى شاعر فقال
أرى حللاً تصان على رجال ... وإعراضاً تدال ولا تصان
يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا وما فسد الزمان
وسئل بعض البلغاء عن رجل فقال هو صغير القدر قصير الشر ضيق الصدر لئيم النجر عظيم الكبر كثير الفخر وسئل آخر عن رجل فقال لو قذف على الليل لؤمه لانطمست منه نجومه وسئل آخر عن رجل فقال يكاد يعدي بلؤمه كل من تسمى باسمه وقال حجاج بن هرون والله ماله في الشرف أسباب متان ولا في الخير عادات حسان وذم أعرابي رجلاً فقال هو عبد البدن حر الثياب عظيم الرواق صغير الأخلاق الدهر يرفعه وهمته تضعه وذم آخر رجلاً فقال أما الوجه فدميم وأما الخلق فذميم وأما الخيم فوخيم وأما العرض فزنيم وأما الحسب فلئيم وقال الجاحظ فلان لا تنجع فيه الرقى ولا تنفذ فيه الحيل ولا يهزه المدح ولا يحزنه الذم ولا يخجله التقريع ولا يذله التوبيخ ولا يرحم المظلوم فإن استرحمته ازداد غلظة ولا يرق لفقير وإن تعرض له قتله جوعاً وقال آخر فلان غث في دينه قذر في دنياه رث في مروأته سمج في هيئته منقطع إلى نفسه راض عن عقله بخيل بما وسع الله عليه كتوم لما آتاه الله من فضله حلاف لجوج إن سأل ألحف وإن وعد أخلف لا ينصف الأصاغر ولا يعرف حق الأكابر وأنشد لابن قادوس
تأنست بذميم الفعل طلعته ... تأنس المقلة الرمداء بالظلم
وقالوا فلان كالشجرة التي قل ورقها وكثر شوكها وصعب مرتقاها قال الشعر يهجو قوماً لئاماً
هم الكشوت فلا أصل ولا ثمر ... ولا نسيم ولا ظل ولا ورق
جفوا من اللؤم حتى لو أصابهم ... ضوء السهى في ظلام الليل لاحترقوا
لو صافحوا المزن ما ابتلت أناملهم ... ولو يخوضون بحر الصين ما غرقوا
ومن محاسن التلفيق في الذم فلان له كيد مخنث وحسد نائحة وشره قواد وذل قابله وملق داية وبخل كلب وحرص نباش ونتن جورب ووحشة قرد قال ابن حجاج في مثل ذلك
نسيم حشّ وريح مقعدة ... ونفث أفعى ونتن مصلوب
وله يهجو
نعمة اللّه لا تعاب ولكن ... ربما استقبحت على أقوام

لا يليق الغني بوجه أبي يع ... لى ولا نور بهجة الاسلام
وسخ الثوب والعمامة والبر ... ذون والوجه والقفا والغلام
ومن التلفيق فلان يروغ من الحق روغان الثعلب ويشره إلى الادناس شره الخنزير ويستسلم إلى عدوه استسلام الضبع ويدب إلى الشر دبيب العقرب وينام عن الخير نوم الفهد ويجبن عن القرن جبن العصفور ويخبط في الجهل خبط الناقة ابن عروس يهجو
كم قال منتقدوك أحمر زائف ... ماذا أقول وقد عصيت الناقدا
ولقد عرضتك يا زنيم بدرهم ... فيمن يزيد فما وجدت مزايدا
سافر بطرفك هل ترى لك شاكراً ... أو ذاكراً أو حاسداً أو حامدا
آخر
أمّا الهجاء فدق عرضك دونه ... والمدح فيك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طليق عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل

الفصل الثاني من الباب الثاني
في ذكر الفعل والصنيع
الدالين على لؤم الوضيع
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت وقال الشاعر
إذا لم تصن عرضاً ولم تخش خالقاً ... وتستحي مخلوقاً فما شئت فاصنع
وقالوا فلان لا يستحيي من الشر ولا يحب أن يكون من أهل الخير فلو أفلتت كلمة سوء لم تنسب إلا إليه وإن رفعت لعنة لما وقعت إلا عليه وسئل معاوية عن السفلة فقال الذي ليس له فعل موصوف ولا نسب معروف كما قال بعض الاعراب وقد سئل عن رجل فقال عليه كل يوم قسامة من فعله تشهد عليه بلؤم أصله وشهادات الأفعال أصدق من شهادات الرجال وقال بعض العارفين أفعال المر مشهود لواصفيه وسئل محمد بن الحسن عن السفلة فقال من يبخل بقطعه الحجام ويفعل في الطريق فعل الطغام وقال الأصمعي السفلة من لا يبالي بما قال أو قيل له وقال يحيى بن أكثم السفلة الذي لا يعيبه ما صنع وقال أبو مسلم ألأم الأعراض عرض لم يرتع فيه مدح ولا ذم وسمع الأحنف رجلاً يقول لا أبالي مدحت أو ذممت فقال يا هذا استرحت من حيث تعب الكرام
فمن فعلات من خلع في اللؤم الرسن ... المكافأة بالقبيح عن الفعل الحسن
من أمثال العرب في ذلك أكفر من ناشرة وذلك أن همام بن مرة كان قد أخذ ناشرة من أمه لما مات أبوه وضاقت بتربيته ذرعاً فرباه وأحسن إليه فلما بلغ الحلم هجاه هجواً قبيحاً فنهاه عنه فتركه حتى تام واغتاله وحكى الأصمعي أن أعرابياً ربى جرو ذئب وجعل يغذيه بلبن شاة له حتى كبر فخرج معها يوماً للرعي كعادته فحركته الطبيعة الدنية والنفس الذئبية على افتراس الشاة فلما رأى الأعرابي الشاة فريسة أنشد
عقرت شويهتي وفجعت قومي ... بشاتهم وأنت لها ربيب
غذيت لبانها ونشأت معها ... فمن أنباك أنّ أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع سوء ... فليس بنافع أدب الأديب
وأغار خيثمة بن مالك الجعفي على بني القين فاستاق منهم إبلاً فأطلقوا خلفه الأعنة فلم يقدروا عليه ولا وصلوا إليه فنادوه وقالوا له إن أمامك مفازة ولا ماء معك وقد فعلت جميلاً فانزل ولك الذمام والخباء فنزل فلما اطمأن وسكن أخذته سنة فنام فوثبوا عليه وقتلوه
ومما يستغرب منه ويستعجب ... في هذا الباب ويستعذب

لما حارب الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بر زمن أصحاب عبد الرحمن عبد الله بن سواد الحارثي وطلب المبارزة فبرز إليه بعض أصحاب الحجاج فقتله عبد الله ثم عاد فطلب المبارزة فخرج إليه آخر فقتله ثم عاد فطلب البراز فخرج إليه آخر فقتله ثم عاد وطلب البراز فقال الحجاج للجراح بن عبد الله الحكمي اخرج إليه فخرج فقال له عبد الله وكان صديقاً له ما أخرجك قال ابتليت بك قال فهل لك في خير قال الجراح وما هو قال أنهزم لك فترجع إلى الحجاج وقد أحسنت عنده وأما أنا فأحتمل مقالة الناس في انهزامي حباً لسلامتك فإني لا أحب قتل مثلك من قومي قال افعل فحمل الجراح على عبد الله فاستطرد له عبد الله وتبعه الجراح يريد قتله فصاح بعبد الله غلام له وكان ناحية عنه وكان معه إداوة وقال له يا سيدي إن الرجل يريد قتلك فعطف على الجراح فضربه بعمود على رأسه فصرعه فقال له يا جراح بئس ما جزيتني به أردت لك العافية وتريد قتلي انطلق فقد تركتك للصداقة التي بيني وبينك فشتان ما بين الفعلين قصد أبو بكر الخوارزمي الصاحب بن عباد ومدحه بقصيدة قال فيها
وما خلقت كفاك إلا لأربع ... عوائد لم يخلق لهنّ يدان
لشكرك أفواه وتنويل نائل ... وتغليب هندي وأخذ عنان
فلما بلغ إلى هذا البيت قال له لم تذكر القلم وهو آلة الكاتب وبه تقدم ورأس فقال قصيدة مدحه بها جاء منها
يد تراها أبداً ... فوق يد وتحت فم
ما خلقت بنانها ... إلا لسيف وقلم
فخلع عليه كل ملبوسه وخلع عليه كل من كان في مجلسه من الثياب موافقة للصاحب فحصلت له مائة جبة فلم يرضه ذلك وانصرف فهجاه بقوله
لا تحمدنّ ابن عباد ولو مطرت ... كفاه بالجود حتى جازت الديما
لكنها خطرات من وساوسه ... يعطى ويمنع لا بخلاً ولا كرما
واتفق إن مات الخوارزمي عقب قوله هذه الأبيات فلما بلغ الصاحب موته قال
سألت بريداً من خراسان مقبلاً ... أمات خوارزميكم قال لي نعم
فقلت اكتبوا بالجص من فوق قبره ... ألا لعن الرحمن من يكفر النعم
ومما يدل على خبث نجار اللئيم ... الغدر بمن يركن إليه ويستنيم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جمع الله الأولين والآخرين رفع لكل غادر لواء وقيل هذه غدرة فلان وقالوا من نقض عهده ومنع رفده فلا خير عنده وقالوا العذر يصلح في كثير من المواطن ولا عذر لغادر ولا خائن شاعر
أخلق بمن رضى الخيانة شيمة ... أن لا يرى إلا صريع حوادث
ما زالت الآراء تلحق بؤسها ... أبداً بغادر ذمّة أو ناكث
وقالوا الغدر من صغر القدر ويقال من تعدى على جاره دل على لؤم نجاره وقال علي رضي الله عنه الوفاء بأهل الغدر غدر والغدر بأهل الغدر وفاء ذكر أن عيسى عليه السلام مر بانسان يطارد حية وهي تقول له واله لئن لم تذهب عني لأنفخن عليك نفخة أقطعك بها قطعاً فمضى عيسى وعاد فوجد الحية في جونة الرجل محبوسة فقال لها ويحك أين ما كنت تقولين قالت يا روح الله إنه حلف لي وغدر وأن سم غدره أقتل له من سمي أعرق الناس في الغدر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس بن معد يكرب فإن عبد الرحمن غدر بالحجاج لما ولاه بلاد خراسان وادعى الخلافة وقاتله وكانت بينهم ثمانون وقعة وكان آخرها دائرة السوء عليه وغدر محمد بن الأشعث بأهل طبرستان وكان عبيد الله ولاه إياها فصالح أهلها على أن لا يدخلها ثم عاد إليهم غادراً فأخذوا عليه الشعاب وقتلوا ابنه أبا بكر وغدر الأشعث بن قيس ببني الحرث بن كعب غزاهم فأسروه ففدى نفسه بمائتي بعير فأعطاهم مائة وبقيت عليه مائة فلم يؤدها لهم حتى جاء الاسلام فهدم ما كان في الجاهلية وكان بين قيس بن معد يكرب وبين مراد عهد إلى أجل فغزاهم في آخر يوم من الأجل وكان يوم الجمعة فقالوا له إنه لا يحل لنا أن نقاتل يوم السبت فأخرهم فلما كان صبيحة السبت قاتلهم فقتلوه وهزموا جيشه وغدر معد يكرب بمهرة وكان بينه وبينهم عهد إلى أجل فغزاهم ناقضاً لعهدهم فقتلوه وفتقوا بطنه وملؤه بالحصا
ومما ينزع لباس الحسب والصيانة ... رفول المرء في أطمار الخيانة

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا غيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له وقال صلى الله عليه وسلم لا تزال أمتي بخير ما لم تر الأمانة مغنماً والصدقة مغرماً ومن الحكايات في هذا الباب ما يحكي أن شهر بن حوشب وكان من أجلة القراء وأصحاب الحديث دخل على معاوية وبين يديه خرائط قد جمعت لتوضع في بيت المال فقعد على إحداها ومعاوية يراه فلما رفعت الخرائط فقد من عددها خريطة فأعلم الخازن بذلك معاوية فقال هي محسوبة لكم ولا تسألوا عن أخذها وفيه يقول الشاعر
لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القراء بعدك يا شهر
كان للمأمون خادم يسرق طسه الذي يتوضأ فيه فقال له يوماً هلا إذا سرقت تأتيني بما تسرقه فأشتريه منك قال فاشتر مني هذه وأشار إلى التي بين يديه قال بكم هي قال بدينارين قال على أن لا تسرقها فقال نعم فأعطاه دينارين ولم يعد الخادم يسرق شيأً لما رأى من حلمه عنه وقال المنصور لعامل بلغه عنه خيانة يا عدو الله وعدو أمير المؤمنين وعدو المسلمين أكلت مال الله وخنت خليفة الله فقال يا أمير المؤمنين نحن عيال الله وأنت خليفته والمال مال الله فمن أين نأكل إذاً فضحك منه وأطلقه وأمر أن لا يولي عملاً بعدها سرق رجل في مجلس أنوشروان جام ذهب وهو يراه فلما فقده الشرابي قال والله لا يخرج أحد حتى يفتش فقال أنوشروان لا تتعرض لأحد فقد أخذه من لا يرده ورآه من لا ينم عليه وأودع بعض التجار عند قاضي معرة النعمان وديعة وغاب عنها مدة فلما جاء طالبه بها فأنكرها فتشفع إليه برؤساء بلده في ردها فلم يزالوا به حتى أقر بها وادعى أنها سرقت من حرزه فاستحلفه فحلف فعمل فيه ابن الدويرة الشاعر المعري أبياتاً منها
لا يصدق القاضي الخؤن إذا ادّعى ... عدم الوديعة من حصين المودع
إن قال قد ضاعت فيصدق إنها ... ضاعت ولكن منك يعني لو تعي
أو قال قد وقعت فيصدق إنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع
وقال ابن حجاج
وأدعوهم إلى القاضي عساهم ... إذا وقع الجحود يحلفوني
وأضيع ما يكون الحق عندي ... إذا عزم الغريم على اليمين
آخر
إذا حلفوني بالغموس منحتهم ... يميناً كسحق إلا لحميّ الممزق
وإن أحلفوني بالعتاق فقد درى ... سحيم غلامي أنه غير معتق
وإن أحلفوني بالطلاق رددتها ... على خير ما كانت كان لم تطلق
وقف بعض المجان على قبر سارق فقال رحمك الله فلقد كنت أحمر الأزار حاد السكين إن نقبت فجرد وإن تسلقت فسنور وإن استلبت فحدأة وإن ضربت فقاض ولكنك اليوم وقعت في زاوية سوء وليس كل حبس تحبس فيه إلى التناد على أموال العباد

من الصنيع الدال على لؤم الأصول
من كان بسيف جوره على العباد يصول

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الظلم ظلمات يوم القيامة وقال عليه الصلاة والسلام أعتى الناس على الله وأبغض الناس إلى الله وأبعد الناس من الله رجل ولاه الله تعالى من أمة محمد شيأً فلم يعدل فيهم وقال سفيان الثوري لان تلقى الله تعالى بسبعين ذنباً فيما بينك وبينه أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد ويقال من طال عدوانه وإنه زال سلطانه وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم ويقال الظلم يجلب النقم ويسلب النعم وقالوا من ظلم من الملوك فقد خرج من كرم الحرية والملك إلى دناءة العبودية والملك ويقال ليس شيء أسرع إلى تغيير نعمة وتعجيل نقمة من الاقامة على الظلم وفي الخبر يقول الله تعالى اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصراً غيري وقالت الحكماء شر الملوك الأفاك السفاك وقال أبو منصور الثعالبي أخلق بالملك الظلوم أن يصير غصة للمرائين وعظة للراوين وقالوا الظلم أسرع إلى تبديل النعم وتعجيل النقم من الطيور إلى الأوكار ومن الماء في الانحدار وقالوا سبع خطوم خير من وال ظلوم كان زياد بن أبيه ممن استطال بجوره وعسفه في ولايته عراقي البصرة والكوفة فلما ذل له من فيهما كبرت عليه نفسه واستقلهما لها فكتب إلى معاوية إني قد ضبطت العراقين بيميني وبقيت شمالي فارغة فجمع له معاوية الحجاز واتصلت ولايته بالمدينة فاجتمع أهل المدينة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاذوا بقبره يسألون الله تعالى الإقالة منه ورفع عبد الله بن عمر يديه وقال اللهم اكفنا شمال زياد كما كفيتنا يمينه فطعن فيها فشاور شريحاً في قطعها فقال له رزق مقسوم وأجل معلوم وإني أكره إن كانت لك مدة أن تعيش أجذم وإن حم أجلك أن تلقى الله مقطوع اليد فإذا سألك لم قطعتها فتقول بغضاً للقائك وفراراً من قضائك فتركها فلما خرج شريح من عنده لامه الناس فقال إنه قد استشارني والمستشار مؤتمن ولولا أمانة المشورة لوددت إن الله قطع يده يوماً ورجله يوماً وسائر أعضائه يوماً يوماً وزاره شريح بعد ذلك فلما خرج من عنده قال له مسروق كيف تركت الأمير قال تركته يأمر وينهي فأول قوله فإذا هو يأمر بالوصية وينهي عن البكاء عليه ومات من تلك سنة ثلاث وخمسين في رمضان وكان مولده عام الهجرة ودفن في أرض الكوفة وسنأتي على نتف من مولده ونسبه فيما يلي هذا الفصل إن شاء الله تعالى ومن المفرطين في العسف والعنف يوسف ابن عمر الثقفي قلده هشام بن عبد الملك العراق وكان شيطاناً مريداً وجباراً عنيداً سفاكاً للدماء معروفاً بالظلم والغشم ولما قلده أمره بالقبض على خالد بن عبد الله القسري فسار إليه حتى هجم عليه وهو في قصره على حين غفلة من أمره فأخذه ثم رقى المنبر وقال يا أهل العراق إن الحجاج كان دخاناً أنا ناره ولهباً أنا شراره فعليكم بالطاعة العائدة بجزيل الثواب وإياكم والمخالفة الموجبة لوشك العقاب وقد أعذر من أنذر ثم نزل يحكي عنه أنه دخل دار الضرب فعاير درهماً فوجده ناقصاً حبة فضرب فيها الأمناء والصناع عشرة آلاف سوط وكان الفضل بن مراون وزير المعتصم ظالماً غاشماً متبحجاً بالظلم متجبراً متكبراً كان المعتصم يقول الفضل بن مروان أسخط الله وأرضاني فسلطني الله عليه دخل عليه الهيثم بن فراس الشاعر متظلماً من بعض عماله فصرف وجهه عنه ولوى عطفه فخرج من عنده وهو ينشد
تجبرت يا فضل بن مروان فانتظر ... فقبلك كان الفضل والفضل والفضل
ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم ... أبادهم التغيير والموت والقتل
فإن تك قد أصبحت في الناس ظالماً ... ستودي كما أودى الثلاثة من قبل
فلما سمع الفضل أبياته قال ما الذي عنى بقوله فقيل إنه أراد الفضل بن يحيى والفضل بن سهل والفضل بن الربيع فتغير وجهه ولم يلبث إلا أياماً يسيرة حتى قبض عليه وفيه يقول بعض الشعراء من أبيات هي قوافيها على ألفاظ الفضل المتفقة مبانيها المختلفة معانيها ولقد أبدع وأجاد فيها
نصحت فأخلصت النصيحة للفضل ... وقلت فبينت المقالة للفضل
ألا إن في الفضل بن يحيى لعبرة ... إن اعتبر الفضل بن مروان بالفضل

وفي ابن الربيع الفضل للفضل زاجر ... إن ازدجر الفضل بن مروان بالفضل
وللفضل في الفضل بن سهل مواعظ ... إن اتعظ الفضل بن مروان بالفضل
إذا ذكروا يوماً وقد صرت رابعاً ... ذكرت بقدر السعي منك إلى الفضل
فأبق جميلاً من حديث تكونه ... ولا تدع المعروف والأخذ بالفضل
فإنك قد أصبحت للناس قائماً ... وصرت مكان الفضل والفضل والفضل
من أبيات كثيرة أتيت منها على ما مست الحاجة إليه ووقع الاختيار عليه وقال شاعر في نكبته
لا تغبطنّ أخا الدنيا بمقدرة ... فيها وإن كان ذا عز وسلطان
يكفيك من غير الأيام ما صنعت ... حوادث الدهر بالفضل بن مروان
إن الليالي لم تحسن إلى أحد ... إلا أساءت إليه بعد احسان
وصف بعض البلغاء عاملاً للمأمون فقال يا أمير المؤمنين ما ترك فضة إلا فضها ولا ذهباً إلا ذهب به ولا علقاً إلا علقه ولا ضيعة إلا أضاعها ولا غلة إلا غلها ولا عرضاً إلا عرض له ولا ماشية إلا امتشها ولا جليلاً إلا أجلاه ولا دقيقاً إلا دقه ولا رقيقاً إلا رقه فضحك منه وصرفه عن أهل ناحيته ووصف بعضهم عامل ولاية فقال والله ما الذئب في الغنم بالقياس إليه الا من المصلحين ولا السوس في الخزز من الصيف الا من العادلين ولا يزدجرد الأثيم في أهل فارس بالاضافة إليه إلا من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين ولا فرعون في بني إسرائيل إذا قابلته به إلا من الملائكة المقربين ووصف آخر عامل ولاية فقال كان يجبي خراج الوحش ويأخذ جزية السمك ويطلب زكاة الملائكة ويلتمس جمع الريح ويروم القبض على الماء وحصر الحصا وكيل الأنهار وتحصيل الهباء ولئن كانت النعمة عظمت على قوم خرج عنهم لقد جلت المصيبة بقوم نزل فيهم وذم البديع الهمداني قاضياً ووصفه بالظلم فقال قاض لا شاهد عنده أعدل من السكر والجام يدلي بهما إلى الحكام ولا ولي أصدق لديه من الصفر الذي يرقص على الظفر ولا وثيقة أحب إليه من غمزات الخصوم على الكيس المختوم ولا وكيل أعز عليه من المنديل والطبق في وقتي الفلق والغسق وأقسم لو أن اليتيم وقع بين الأسود بل الحيات السود لكانت سلامته منها أيسر من سلامته من أصحابه وما ظنك برجل يعادي الله في الغلس ويبيع الدين بالثمن البخس ولص لا ينقب إلا خزائن الأوقاف وكردي لا يغير إلا على الضعاف وذئب لا يفترس عباد الله إلا بين الركوع والسجود ومحارب لا ينهب مال الله إلا بين العدول والشهود قيل لبعض الأعراب أيما أحب إليك أن تلقى الله ظالماً أو مظلوماً قال ظالماً قيل له ويحك ولم قال ما عذري إذا قال لي خلقتك سوياً قوياً لم لم تستعد وأنشد بيت زهير ابن أبي سلمى
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن معايب من رغب عن المكارم ... القاء الحشمة في ارتكاب المحارم
كما يحكي أن نصر بن سيرا مر بأبي الهندي وكان شريفاً في قومه وهو يميل سكراً فقال له أفسدت شرفك فقال أبو الهندي لو لم أفسد شرفي لم تكن أنت والي خراسان وكان يزيد بن معاوية يلقب بالسكران لكثرة انهماكه على كثرة شرب الخمر ولقب أيضاً يزيد الخمر بلغه إن المسور بن مخرمة يرميه بشرب الخمر فكتب إلى عامله بالمدينة أن يجلد المسور حد القذف ففعل فقال المسور
أتشربها صرفاً تطن دنانها ... أبا خالد والحد يضرب مسور
وكان له قرد يكنى أبا قيس يحضره مجلس شرابه ويطرح له متكأ ويسقيه فضله كأسه واتخذ له أتانا وحشية قد ربضت له وذللت وصنع لها سرج ولجام من ذهب يركبه بهما عليها ويسابق بها الخيل يوم حلبة الرهان فجاء يوماً سابقاً وتناول القصبة التي هي الغابة ودخل الحجرة قبل مجئ الخيل وعليه قباء وقلنسوة من الحرير الأحمر وفيه يقول بعض شعراء الشام
تمسك أبا قيس بفضل زمامها ... فليس عليها إن سقطت ضمان
إلا من رأى القرد الذي سبقت به ... جياد أمير المؤمنين أثان

وكان الوليد بن يزيد بن عبد الملك مما جنا زنديقاً مستهزئاً مستخفاً مستهيناً بالخاصة والعامة مدمناً للخمر متلاهياً باللهو واللعب مصراً على ارتكاب الفواحش مشتغلاً بخلاعته عن النظر في أمور المسلمين والقيام بحقوق الخلافة وأمور المملكة وأحوال الرعية وفيه يقول القائل
مضى الخلفاء بالأمر الحميد ... وأصبحت المذمّة للوليد
تشاغل عن رعيته بلهو ... وخالف قول ذي الرأي السديد
ذكر ثقات المؤرخين إن المؤذن أذنه يوماً للصلاة وهو في لهوه فأمر جارية من جواريه الفواسق أن تعتم وتتلثم وتصلي بالناس فخرجت على هذه الصفة وصلت بهم وبلغ من تهكمه بالشريعة أنه كان يفطر في رمضان والشاهد عليه ما يقال إنه من شعره
ألا من مبلغ الرحمن عني ... بأني تارك شهر الصيام
وقوله
يا أيها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر
نشربها صرفاً وممزوجة ... بالسخن والبارد والفاتر
وحكى أنه استدعى أشعب الطامع من المدينة وألبسه سراويل من جلد قرد له ذنب واقترح عليه صوتاً يرقص به فلما فعل ذلك أعطاه ألف درهم وقيل إنه لما دخل عليه أخرج له ذكره منعظاً وقال له هل رأيت مثل هذا قال لا قال فاسجد له فسجد وهو القائل يخاطب المصحف وقد جعله هدفاً حين تفاءل منه فخرج قوله تعالى واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد
أتوعد كلّ جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا ربّ مزقني الوليد
والسبب في قوله هذا أنه لما رأى حالته قد انحل نظامها ودولته مدبرة وقد نفدت أيامها فتح المصحف ينظر فيه فألا فخرج له واستفتحوا الآية
ومن قوله يخاطب المصحف ... فعل من بدّل وحرف
تخوّفني الحساب ولست أدري ... أحقاً ما تقول من الحساب
فقل للّه يمنعني طعامي ... وقل للّه يمنعني شرابي
تلاعب بالنبوّة هاشمي ... بلا وحي أتاه ولا كتاب
فمتعه الله طعامه وشرابه كما أراد في مقاله وسلط عليه من قتله وهكذا عادة الله في أمثاله فقتل يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادي الأولى سنة ست وعشرين ومائة بالنجراء وهو قصر على ستة أميال من تدمر وله من العمر اثنتان وأربعون سنة وقيل تسع وثلاثون وأشهر وكانت مدة خلافته سنة وشهرين وعشرين يوماً وحمل رأسه إلى دمشق وعلق بها وقرن به دف وطنبور ولم يزل أثر الدم على الجدران إلى أن قدمها المأمون سنة خمس عشرة ومائتين فأمر بحكه وكان والبة بن الحباب من الخلعاء المستهزئين وهو الذي ربى أبا نواس وأدبه يحكي عنه أنه كشف يوماً عن فقحته فقبلها فضرط على لحيته فقال له ويلك ما هذا فقال أما سمعت المئل جزاء مقبل الوجعاء ضرطه فزاد كلامه هجبابه يحكي أن جماعة اجتمعوا في مجلس لمطيع بن اياس يشربون الخمر فأقاموا على ذلك ثلاثة أيام فقال لهم يحيى بن زياد ليلة وهم سكارى ويحكم ما صلينا منذ ثلاثة أيام فقوموا حتى نصلي فقام مطيع فأذن وقال للقينة تقدمي وصلي بنا واقرئي في صلاتك
علق القلب الربابا ... بعد ما شابت وشابا
فتقدمت وصلت وكانت بلا سراويل وعليها غلالة رقيقة يظهر سائر جسدها منها فلما سجدت انكشف سترها وبداهنها فوثب إليه مطيع وقبله ثم قال
ولما بداهنها جاثماً ... كرأس حليق ولم يعتمد
سجدت عليه فقبلته ... كما يفعل العابد المجتهد
فقطعوا صلاتهم بالضحك وعادوا لما نهوا عنه ومن أشعارهم قول أبي نواس
إنما الدنيا غلام ... وطعام ومدام
فإذا فاتك هذا ... فعلى الدنيا السلام
فبؤساً لهم ألم يعلم عاقلهم وجاهلهم بأن الله يرى وأن بيده نواصي ما ذر أو برا ولكن غرهم الامهال حتى ظنوا أنه إهمال فبدلنا الله من سنة الغفلة يقظة الطاعة وألهمنا من العمل ما نفوز بأجره إلى قيام الساعة آمين
ومن خلائق العريق في الوضاعة ... أخذ النفس بالتكبر والرقاعة

قال الشافعي أظلم الناس لنفسه اللئيم إذا ارتفع جفا أقاربه وأنكر معارفه واستخف بالأشراف وتكبر على ذوي الفضل وقال أبو مسلم ما ضاع إلا وضيع ولا فاخر إلا لقيط ولا تعصب إلا دخيل وقال عمر ما وجد أحد في نفسه كبراً إلا لمهانة يجدها في نفسه ويقال الاعجاب يغطي سائر المحاب ويكفي في ذم الكبر قول الله تعالى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق قال ابن عيينة حرمهم فهم القرآن قال بعض البلغاء الكبر من أخبث سرائر القلوب وأعظم كبائر الذنوب لا يرى صاحبه أبداً إلا فظاً غليظاً ولا يرى لا حد سواه في الفضل حظاً حظيظاً وكفى به شيمة مشؤمة وخلة مدمومة أهلكت الأكابر حديثاً وقديماً وعاد الكريم من الرجال ذميماً مليماً وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر وكان يقال من جهل قدر نفسه فهو بقدر غيره أجهل ومن أنف من عمل نفسه اضطر إلى عمل غيره وقالوا من قل لبه كثر هجبه وقال أزدشير بن بابك ما الكبر الأفضل حمق لم يدر صاحبه أين يضعه فصرفه إلى الكبر وقال الشاعر
وقل لمعتصم بالتيه من حمق ... لو كنت تعرف ما في التيه لم تته
التيه مفسدة للدين منقصة ... للعقل منهكة للعرض فانتبه
آخر
رأيت الفتى يزداد نقصاً وذلة ... إذا كان منسوباً إلى العجب والكبر
ومن ظنّ أنّ العجب من كبر همة ... فإني رأيت العجب من صغر القدر
وأنشد الامام محيي الدين محمد عرف بحامي رأسه النحوي لنفسه
ومعتقد أنّ الرياسة في الكبر ... فأصبح ممقوتاً به وهو لا يدري
يجرّد ذيول الفخر طالب رفعة ... ألا فاعجبوا من طالب الرفع بالجرّ
وقال معاوية إن التواضع مع البخل والجهل أزين بالرجل من الكبر مع البذل والعقل فيالها حسنة غطت على سيئتين كبيرتين ويالها من سيئة غطت على حسنتين عظيمتين وقالوا من أصاب حظاً من جاه فأصاره إلى كبر وترفع أعلم الناس إنه دون تلك المنزلة ومن أقام على حاله أعلمهم أن تلك المنزلة دونه وأنها دون ما يستحق مر المهلب بن أبي صفرة على مطرف بن عبد الله وهو يتبختر في جبة خز فقال يا عبد الله هذه مشية يبغضها الله ورسوله فقال المهلب أما تعرفني فقال له ومن أنت قال أنا المهلب قال نعم أعرفك أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت فيما بين هذا وهذا تحمل العذرة نظم بعضهم هذه الكلمات فقال
عجبت من معجب بصورته ... وكان بالأمس نطفة مذره
وفي غد بعد حسن طلعته ... يصير في اللحد جيفة قذره
وهو على تيهه ونخوته ... ما بين جنبيه يحمل العذره
ولآخر
يا مظهر الكبر اعجاباً بصورته ... انظر خلاك فإنّ البين تثريب
لو فكر الناس فيما في بطونهم ... ما استشعر الكبر شبان ولا شيب
هل في ابن آدم مثل الرأس مكرمة ... بأربع هو بالأقذار مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سهك ... والعين مرمصة والثغر ملعوب
يا ابن التراب ومأكول التراب غداً ... أقصر فإنك مأكول ومشروب

ومن ظريف ما يذكر من أخبار المتكبرين ما يحكي أن علقمة بن وائل الحضرمي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فيمن وفد عليه من سادات العرب فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاويه أن ينطلق به إلى منزل رجل من الأنصار لينزله عنده وكان منزله بأقصى المدينة قال معاوية فخرجت معه وهو راكب ناقته وأنا أمشي في ساعة قيظ يشوي الوجوه وليس لي حذاء فقلت له أردفني خلفك فقال لست من أرداف الملوك قلت إني ابن أبي سفيان قال قد سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قلت فألق لي نعليك قال لا تقبلان قدميك ولكن امش في ظل ناقتي فكفاك ذاك شرفاً وإن الظل لك لكثير قال معاوية فما مر بي مثل ذلك اليوم قط والله لخلته أنه من جهنم ثم أدرك سلطاني فلم أواخذه بل أجلسته معي على سرير هذا وحكى أن عمارة بن حمزة وكان متكبراً جداً دخل على المهدي يوماً فلما استقر به مجلسه قام رجل كان المهدي قد أعده ليتهكم بعمارة فقال مظلوم يا أمير المؤمنين قال من ظلمك قال عمارة هذا غصبني ضيعتي وكانت من أحسن ضياع عمارة فقال المهدي قم فاجلس مع خصمك قال يا أمير المؤمنين ما هو لي بخصم إن كانت الضيعة له فلست أنازعه فيها وإن كانت لي فقد وهبتها له ولا أقوم من مجلس شرفني به أمير المؤمنين فلما خرج الرجل وانفض المجلس سأل عمارة عن صفة الرجل وما كان لباسه وأين كان موضع جلوسه فلم يعلم وكان من تيهه أنه إذا أخطأ يمر في خطئه تكبراً عن الرجوع ويقول نقض وابرام في ساعة واحدة الموت أهون منه وقال ابن عبدوس الجهشياري كان عمارة أعور دميماً استعمله المنصور على الخراج وكور دجلة والأهواز وكور فارس وقلده المهدي ذلك أيضاً وكان عبد الدولة بن جهير وزير المستظهر بالله متكبراً كثير الكبر يكاد يعد كلامه عداً وكان إذا كلم رجلاً كلاماً يسيراً هنئ ذلك الرجل بكلامه ومن الكبر المستبشع والتيه المستشنع ما يحكي أن ثوابة دعا أكاراً فكلمه فلما فرغ من كلامه دعا بماء وتمضمض به استقذاراً لمخاطبته وأنشدت لبعض المتكبرين مفتخراً
أتيه على جنّ البلاد وأنسها ... ولو لم أجد خلقاً لتهت على نفسي
أتيه فما أدري من التيه من أنا ... سوى ما يقول الناس فيّ وفي جنسي
فإن زعموا أني من الأنس مثلهم ... فمالي عيب غير أني من الأنس
ولابن صابر
أيها المدّعي الفخار دع الفخ ... ر لدى الكبرياء والجبروت
نسج داود لم يفد ليله الغا ... ر وكان الفخار للعنكبوت
وبقاء السمند في لهب النا ... ر مزيل فضيلة الياقوت
وصف البديع الهمداني متكبراً فقال كأن الدنيا خاتم في خنصره وحساب خراجها في بنصره وكأن الشمس تطلع من جبينه والغمام يندي من يمينه وكان كسرى حامل غاشيته وقارون وكيل نفقته وقال آخر كان العجب شقيقه والبذخ رفيقه والنفخ أليفه والصلف حليفه وقال جعيفران يهجو سعيد بن مسلم بن قتيبة
أمّ سعيد لم ولدتيه ... ملوّثاً بالكبر والتيه
ليتك إذ جئت به هكذا ... حين خريتيه أكلتيه
آخر
كبر بلا نسب تيه بلا حسب ... فخر بلا أدب هذا من العجب
والهجو الفظيع القبيح قول بعض الشعراء في أبي جعفر العباس بن الحسن
إنّ ابن عباس أبا جعفر ... يبذل للنائك أوراكه
تراه من تيه ومن نخوة ... كأنه ناك الذي ناكه
وليم بعض المتكبرين على الاعجاب فقال التواضع يكسب المذلة والافراط في المؤانسة يوجب المهانة وأنشد
ونفسك أكرمها فإنك إن تهن ... عليك فلن تلقى لها الدهر مكرما
وقال في معناه صالح بن عبد القدوس
إذا ما أهنت النفس لم تلق مكرماً ... لها بعد ما عرّضتها الهوان
آخر
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها ... وجدّك لم تكرم على أحد بعدي
واعتذر متكبر عن كبره بقوله
ومالي وجه في اللئام ولا بد ... ولكنّ وجهي في الكرام عريض
أهش إذا لاقيتهم وكأنني ... إذا أنا لاقيت اللئام مريض

الفصل الثالث من الباب الثاني
في أنّ من تخلق باللؤم انتفع
في أنّ من تخلق باللؤم انتفع ... وعلا على الكرام وارتفع

قال سعيد بن المسيب الدنيا نذلة تميل إلى الأنذال وقال لو لم يزهد في الدنيا إلا لأنها في يد الأنذال لكان ينبغي لنا ذلك لهوانها على الله وقال الشافعي في ذم الدهر وسوء معاملته لسراته وسقياه لهم أكواب حسراته
محن الزمان كثيرة لا تنقضي ... وسروره يأتيك كالأعياد
ملك الأكابر فاسترقّ رقابهم ... وتراه رقا في يد الأوغاد
ابن الرومي
رأيت الدهر يرفع كل وغد ... ويخفض كل ذي شيم شريفه
كمثل البحر يغرق كل حيّ ... ولا ينفك يطفو فيه جيفه
أو الميزان تخفض كل واف ... وترفع كل ذي زنة خفيفه
آخر
رأيت الدهر بالأشراف يكبو ... ويرفع راية القوم اللئام
كأنّ الدهر موتور خفور ... يطالب حقه عند الكرام
وقال أسامة بن منقذ
شغل الزمان بأهل النقص يرفعهم ... حتى يثمر للورّاث ما خزنوا
ألهاه رفع لئام الناس فهو على ... ذوي المكارم والأفضال مضطغن
آخر
يا دهر صافيت اللئام ولم تزل ... أبداً لأبناء الكرام معاندا
وعرفت كالميزان ترفع ناقصاً ... أبداً وتخفض لا محالة زائدا
آخر
قل لدهر من المكارم عطل ... يا قبيح الفعال جهم المحيا
كم رفيع حططته في حضيض ... ووضيع ألحقته بالثريا
آخر
عجباً للزمان يرفع حرّاً ... ما لديه ويمنح المال نذلا
فهو مثل الميزان يرفع ما خف ... ويهوى في الوزانة سفلا
ولقد أحسن الآخر في قوله
سألت زماني وهو بالخفض مولع ... وبالجهل محفوف وبالنقص مختص
فقلت له هل من طريق إلى العلا ... فقال طريقان الوقاحة والنقص

ويقال اتضاع الأعالي بارتفاع الأسافل وإذا ارتفعت الأراذل هلكت الأفاضل وقال قيس بن زهير أربعة لا يطاقون عبد ملك ونذل شبع وأمة ورثت وقبيحة تزوجت وقال أردشير ما شيء في انتقال الدول أمر من رفع وضيع إلى مرتبة شريف فإن الوضيع إذا ارتفع تكبر وإذا تمول استطال وإذا تمكن صال وقالوا سوء القتل ولا رياسة النذل ولنرجع إلى خبرائي بكر الخوارزمي الذي ورد به شرعة الانصاف وحسم فيه بين العقلاء مادة الخلاف قال لا صغير في الولاية والعمالة ولا كبير مع العطلة والبطالة وإنما الولاية أنثى تصغر وتكبر بواليها ومطية تحسن وتقبح بممتطيها والصدر بمن يليه والدست بمن يجلس فيه والأعمال بالعمال كما أن النساء بالرجال ويؤيد قوله هذا أن الرشيد بلغه أن موسى بن عيسى الهادي وكان أميراً على مصر من قبله عازم على خلعه فقال والله لا عزلنه بأخس من على بابي وقال ليحيى بن خالد اطلب لي كاتباً عفيفاً يصلح لعمل مصر واكتم خبره فلا يشعر به موسى حتى يفجأه فقال قد وجدته قال من هو قال عمر بن مهران وكتب له بخطه كتاباً إلى موسى بتسليم العمل إليه فسار وليس معه غير غلام أسود اسمه أبو درة على بغل استأجره ومعه خرج فيه قميص ومبطنة وشاش وطيلسان وخف فلما وصل إلى مصر نزل خاناً فأقام فيه ثلاثة أيام يبحث عن أخبار البلد وعمن فيه من العمال وأخبر من كان بجواره في الخان إنه قد ولي مصر واستعمل منهم كاتباً وحاجباً وصاحباً شرطياً وقلد آخر بيت المال وأمر من تبعه ووثق به أن يدخل معه على موسى فإذا سمعوا حركة في دار الامارة قبضوا على الديوان فلما أبرم أمره بكر إلى دار الامارة فأذن موسى للناس إذناً عاماً فدخل في جملتهم ومن اتفق معه وموسى جالس في دسته والقواد بين يديه وكل من قضيت حاجته ينصرف وعمر جالس والحاجب ساعة بعد ساعة يسأله عن حاجته وهو يتغافل حتى خف الناس فتقدم وأخرج كتاب الرشيد ودفعه لموسى فقبله ووضعه على رأسه ثم فتحه وقرأه فانتقع لونه وقال السمع والطاعة ثم قال أقرئ أبا حفص السلام وقل له كن بموضعك حتى نتخذ لك منزلاً ونأمر الجند يستقبلونك قال أنا عمر بن مهران وقد أمرني أمير المؤمنين أن أقيمك للناس وأنصف المظلوم منك وأنا فاعل ما أمرني به أمير المؤمنين فقال له موسى أنت عمر بن مهران قال نعم قال لعن الله فرعون حيث قال أليس لي ملك مصر واضطرب المجلس فقبض على الديوان فبلغ موسى الخبر فنزل عن فرشه وقال لا إله إلا الله هكذا تقوم الساعة ما ظننت أن أحداً بلغ من الحيلة والحزم ما بلغت تسلمت مني العمل وأنت في مجلسي ثم نهض عمر إلى الديوان ونظر فيه وأمر ونهى وعزل وولي وكان بمصر قوم يدافعون الخراج فأحضر أشدهم مدافعة فطالبه فاستمهله ثم طالبه الثانية فاستمهله فلما كان في الثالثة فاستمهله فحلف أيماناً مؤكدة لا يستأديه إلا في بيت المال ببغداد ووكل به من أشخصه إلى بغداد فخاف الناس من مثل ذلك فلم ينكسر من الخراج بعدها درهم وإنما ذكرنا هذه الحكاية لما فيها من التنبيه على أن الرتبة النفيسة إذا وليها ذو القدر الحقير والنفس الخسيسة لا يكون ذلك قادحاً في جلالتها ولا مغيراً لها عن حالتها وإنما ذلك بحسب ما ينظر إليها الزمان فربما نظر إليها بسعد أو نظر إليها بحرمان فإن سعدت وليها من هو أكبر منها وإن حرمت تولاها من يصرف السعد عنها
ذكر من نال المراتب السنية ... من ذوي الأعراق الدنية

ونقتصر منهم على ذكر ثلاثة وهم زياد والحجاج بن يوسف وأبو مسلم وإنما اقتصرنا على هؤلاء لأنهم أقاموا دول من كانوا نوابهم من الخلفاء فزياد لمعاوية والحجاج لعبد الملك بن مروان وأبو مسلم لبني العباس فأما زياد فقيل فيه زياد ابن أبيه وقيل زياد بن عبيد الثقفي وقيل زياد بن سمية وقيل زياد بن أبي سفيان وإنما قيل ابن أبيه لاختلاف الناس فيمن ينسب إليه وسمية كانت عند كسرى فوهبها لأبي الخير قيل من أقيال حمير فدخل بها الطائف فمرض فطبه الحرث بن كلدة طبيب العرب فنجع فيه طبه فوهب له سمية فولدت له نقيعاً ويكنى أبا بكرة ونافعاً ثم كانت تحت عبد لصفية بنت عبيد الله بن أسد بن علاج الثقفي وكان يسمى عبيداً فولدت له زياداً ويقال إن أبا سفيان واقعها على كره منها في حال سكره وكانت بغياً فحملت منه بزياد وقيل لعبيد إنه لفراشك فكان عبيد يكنى به وروى ابن عبد البر في الاستيعاب إن زياداً اشترى عبيداً بألف درهم وأعتقه فكان يغبط بذلك وأما السبب في إضافة أبي سفيان زياد إلى نفسه وإلحاقه به ما ذكر أن عمر بن الخطاب بعث زياداً في إصلاح فساد وقع في اليمن فلما رجع من وجهته خطب خطبة لم يسمع الناس مثلها فقال عمرو بن العاصي لو كان هذا الغلام قرشياً لساق العرب بعصاه فقال أبو سفيان والله إني لاعرف من وضعه في رحم أمه فقال له أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ومن هو يا أبا سفيان قال أنا فقال له علي رضي الله عنه مهلاً يا أبا سفيان فقام وأنشد
أما واللّه لولا خوف شخص ... يرائي يا عليّ من الأعادي
لاظهر أمره صخر بن حرب ... ولم تكن المقالة عن زياد
ولكني أحاذر خيف كف ... لها نقم ولفتى عن بلادي
فقد طالت مجاملتي ثقيفاً ... وتركي فيهم ثمر الفؤاد
وكانت من أبي سفيان فلتة فذلك الذي حمل معاوية على إلحاق زياد بأبي سفيان وذلك في سنة أربع وأربعين وشهد عنده زياد بن أسماء وملك بن ربيعة والمنذر بن الزبير على إقرار أبي سفيان بأنه ولده وكان أبو بكرة يقول ما رأت سمية أبا سفيان قط ولما ألحق معاوية زياداً بأبيه دخل مروان بن الحكم عليه فأنشده قول أخيه عبد الرحمن فيه
ألا أبلغ معاوية بن صخر ... فقد ضاقت بما يأتي اليدان
أتغضب أن يقال أبوك عفّ ... وترضى أن يقال أبوك زاني
فاشهد أنّ آلك من زياد ... كآل الفيل من ولد الاتان
وأشهد أنها حملت زياداً ... وصخر من سمية غير ماني
وهذا الشعر يؤيد قول أبي بكرة ويروى أنها ليزيد بن مقرع الحميري وأولها
ألا أبلغ معاوية بن صخر ... مغلغلة من الرجل اليماني
وقال يزيد
إنّ زياداً ونافعاً وأبا ... بكرة عندي من أعجب العجب
هم رجال ثلاثة خلقوا ... في رحم أنثى وكلهم لأب
ذا قرشي كما يقول وذا ... مولى وهذا بزعمه عربي
وهذا يشير إلى أن الثلاثة أولاداً لحرث بن كلدة وليزيد يهجو عباد بن زياد
أعباد ما للؤم عنك محوّل ... ولا لك أمّ من قريش ولا أب
وقل لعبيد اللّه مالك والد ... بحق ولا يدري امرؤ كيف ينسب
وسأل رجل الشعبي هل تجوز الصلاة خلف ولد الزنا فقال نحن منذ ثلاثين سنة نصلي خلفه ونرجو من الله القبول يعني زياداً وقال زياد لرجل يا ابن الزانية فقال أتسبني بشيء شرفت به أنت وآباؤك قال المدايني قدم زياد البصرة مع أخويه أبي بكرة ونافع وهو غلام وكان يكتب بالقلمين العربي والفارسي فاستكتبه المغيرة بن شعبة وأجرى له كل يوم درهمين درهم عن القلم العربي ودرهم عن القلم الفارسي ثم ترقت به الحال وظهرت مراتبه وانتهى أمره إلى أن ادعاه معاوية أخاً وولي فارس لعلي رضي الله عنه ثم احتمل مالاً وهرب إلى معاوية وجمع له معاوية العراقين وهو أول من جمعا له وجمعا بعده لابنه عبيد الله ولمصعب بن الزبير ولمسلمة بن عبد الملك ولعمر بن هبيرة وليزيد بن عمر بن هبيرة ولم يجمعا لأحد غير هؤلاء في أيام بني أمية
ومنهم كليب ثقيف الحجاج ... ذو المراء في سفك الدماء واللجاج

ولؤم الحجاج من قبل رضاعه ومكاسب آبائه قيل إن أم الحجاج واسمها الفارعة بنت مسعود الثقفية كانت قبل أن يتزوجها يوسف عند المغيرة بن شعبة فدخل عليها يوماً حين أقبل من صلاة الغداة وهي تتخلل فقال يا فارعة لئن كان هذا التخلل من أكل اليوم إنك لنهمه وإن كان من أكل البارحة فإنك لقذرة انصرفي فأنت طالق فقالت سخنت عينك ما هو من ذا ولا من ذاك ولكني استكت فتخللت من سواكي فاسترجع ثم خرج فلقي يوسف بن الحكم ابن عقيل فقال إني قد نزلت اليوم عن خير نساء بني ثقيف وحدثه بالقصة فتزوجها فولدت له الحجاج مشوهاً لا دبر له فثقب دبره وأبى أن يقبل الثدي من المراضع وأعياهم أمره فيقال إن ابليس تصور لهم على صورة الحرث بن كلدة وأشار عليهم أن يذبح جدي أسود ويولغوه دمه يومين وفي الثالث يذبح له تنين ويولغوه من دمه ويطلوا وجهه بما بقي منه فإنه يقبل الثدي ففعلوا ذلك فأقبل على ثدي أمه فأكسبه الرضاع الأول لؤماً والرضاع بغير الطباع فكان في كبره سفاكاً للدماء فلما بلغ أشده صار هو وأخوه معلمين بالطائف وفيه يقول مالك بن الخريت يهجو الحجاج
فلولا بنو مروان كان ابن يوسف ... كما كان عبداً من عبيد زياد
زمان هو العبد المقرّ بذله ... يراوح صبيان القرى ويغادي
وقال آخر يذكر تعليمه الصبيان
أينسى كليب زمان الهزال ... وتعليمه سورة الكوثر
رغيف له فلكة ما ترى ... وآخر كالقمر الأزهر
هكذا رواه جميع الأخباريين والصواب ما ذكره الحموي في كتاب البلدان له قال الكوثر قرية في الطائف كان الحجاج معلماً بها وأنشد شاهداً على ذلك
أينسى كليب زمان الهزال ... وتعليمه صبية الكوثر
وعلى هذا يكون اسمه كليباً وهو الأولى به وقد تقدم منه الولوغ وقال آخر
كليب تعاظم في أرضكم ... وقد كان فينا صغير الحضر
ورأيت في بعض كتب التواريخ إن الحجاج لما احتضر قال لمنجم كان عنده هل ترى ملكاً يموت قال نعم ولست به إني أرى ملكاً يموت يسمى كليباً قال أنا والله كليب بذلك كانت أمي تسميني ومما يؤيد ما ذكرنا من لؤمه ما كتب به إليه عبد الملك بن مروان لما أراد قتل أنس بن مالك رضي الله عنه أما بعد فإنك طفت لك الأمور وعلوت فيها حتى تعديت طورك وتجاوزت قدرك وركبت داهية دهماء أردت أن تزورني بها فإن سوغتكها نصبت قدماً وإن لم افعل رجعت القهقري فلعنك الله أخفش العينين منقوص الجاعرتين ممسوح الساعدين أصك الرجلين أراك قد نسيت ما كنت عليه أنت وآباؤك من الدناءة واللؤم فأذكر مكاسب آبائك بالطائف إذ كانوا ينقلون الحجارة على ظهورهم ويحفرون الآبار بأيديهم وأيم الله يا ابن المستقرية بعجم الزبيب لأغمرنك غمر الليث الثعلب ولأركضن بك ركضة تدخل بها في جعس أمك فإذا أتاك كتابي هذا فكن لأنس أطوع من عبد لسيده وإلا أصابك مني سهم مشكل ولكل نبا مستقر وسوف تعلمون وصف الحسن البصري الحجاج فقال أتانا أخيفش أعيمش يخطر في مشيته ويصعد المنبر فيقوم عليه حتى تفوته الصلاة لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل الصلاة أيها الرجل هيهات دون ذلك السيف والسوط وفيه يقول الأحمر بن سالم وأحسن
ثقيف بقايا من ثمود وما لهم ... أب ماجد من قيس عيلان ينسب
وأنت دعيّ يا ابن يوسف فيهم ... زنيم إذا ما حصلوا متذبذب

ويقال إن الحجاج طلبه فهرب إلى هيت فأخذه عامله عليها فقتله وأحرقه وذراه في الريح وجرى بينه وبين بعض الخوارج مشاجرة فقال له الخارجي لو لم يكن من لؤم أبيك إلا أنه ولد مثلك لكفاه فأمر به فقتل وقال الحجاج يوماً لعبد الملك لو كان رجل من ذهب لكنته قال وكيف ذلك قال لأني لم تلدني أمة بيني وبين حواء إلا هاجر فقال له عبد الملك لولا هاجر كنت كلباً من الكلاب وأول ولاية تولاها تبالة فلما رآها استقلها فرجع عنها فقالوا في المثل أهون من تبالة على الحجاج وأول أمره ومصيره إلى روح بن زنباع وتضمن ما اتفق من أمره معه وكيفية وصوله إلى عبد الملك في المجلدة الثالثة من التذكرة وفي كتاب أخبار القدماء وذخائر الحكماء لأبي حيان التوحيدي في سبب تولية الحجاج العراق قال العتبي لما اشتدت شوكة أهل العراق على عبد الملك بن مروان خطب الناس وقال إن نيران أهل العراق قد علا لهبها وكثر حطبها فجمرها حار وشهابها وار فهل من رجل ذي سلاح عتيد وقلب حديد أبعثه لها فقام الحجاج وقال أنا يا أمير المؤمنين قال ومن أنت قال الحجاج بن يوسف بن الحكم بن عامر فقال له اجلس ثم أعاد الكلام فلم يقم أحد غير الحجاج فقال كيف تصنع إن وليتك قال أخوض الغمرات وأقتحم الهلكات فمن نازعني حاربته ومن هرب مني طلبته ومن لحقته قتلته أخلط عجله بتأن وصفواً بكدر وشدة بلين وتبسماً بازورار وعطاء بحرمان ولا على أمير المؤمنين أن يجرب فإن كنت للأوصال قطاعاً وللأرواح نزاعاً وللأموال جماعاً وإلا فليستبدل بي فقال عبد الملك من تأدب وجد بغيته اكتبوا له كتابه
ومنهم ذو الأصل الدنئ والنفس الأبية ... أبو مسلم صاحب الدعوة العباسية
كان أبو مسلم واسمه عبد الرحمن بن مسلم عبداً لعيسى بن معقل فباعه لأخيه ادريس جد أبي دلف واسمه قاسم بن عيسى بن ادريس العجلي وكان قهرماناً فجلس ادريس في الكوفة وأبو مسلم معه يخدمه فرأى بكر بن هامان من أبي موسى حذقاً وكيساً فقال لادريس ما هذا الغلام فقال مملوك لي قال بعه لي قال هو لك قال لا بد من ثمنه قال هو لك بما شئت فأعطاه أربعمائة درهم وأخذه وبعث به إلى إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس المنعوت بالامام فدفعه إبراهيم إلى موسى السراج فسمع منه وحفظ عنه وما زال قدره ينبل حتى أرسله إبراهيم بالدعوة لبني العباس وذلك في سنة ثمان وعشرين ومائة وله من العمر إحدى وعشرون سنة وقدم إلى خراسان يدعو الناس إلى طاعتهم في أول يوم من رمضان سنة تسع وعشرين فنزل قرية من قرى مرو ووثب دعاته فقال الناس رجل من بني هاشم قد ظهر له حلم ورواء ووقار وسكينة فانطلق فتية من أهل مر ونساك وكانوا يبطلون الفتنة فأتوا أبا مسلم في عسكره فسألوه عن نسبه فقال خبري خير لكم من نسبي ثم سألوه عن أشياء من الفقه قال إن أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا ونحن إلى دعوتكم أحوج منا إلى إجابة مسئلتكم فاعفونا فقالوا والله ما نعرف لك نسباً وما نظنك إلا تبقى قليلاً وتقتل وكان كذلك ومن الدليل على لؤم أصله ما نقم عليه به أبو جعفر المنصور وهو أنه كتب إليه يخطب منه أمينة بنت علي بن عبد الله بن عباس وزعم أنه ابن سليط بن عبد الله فقال له المنصور عند تقريعه بذنوبه لما أراد قتله لقد ارتقيت لا أم لك مرتقى صعباً تقر على نفسك إنك دعى ثم ترغب في بنات العباس ونقم عليه أيضاً أنه كتب إليه أيام خلافته عافانا الله وإياك فبدأ بنفسه في الدعاء ولما أراد المنصور قتله استشار مسلم بن قتيبة في ذلك فقال لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فقال حسبك يا أبا مية قد أصبت الغرض ثم استدعاه ولم يأذن لأحد معه فلما دخل عليه وأخذ مجلسه سأله أن يريه سيفه فلما تناوله منه جعل يذكره فعلاته التي نقمها عليه وهو يعتذر عنها ثم ركضه برجله فوثب عليه المرصدون لقتله فقتلوه وأخرج إلى قواده وجنوده بالجوائز والخلع فقسمت بينهم ثم رمى برأسه إليهم فتفرقوا ورجعوا قائلين مضى مولانا بالدراهم إنا لله وإنا إليه راجعون وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائة وكان مولده على رأس المائة وفيه يقول أبو دلامة واسمه زيد بن الجون يهجوه
أبا مجرم ما غير اللّه نعمة ... على عبده حتى يغيرها العبد
أفي دولة المهديّ حاولبّ غدره ... ألا إنّ أهل الغدر آباؤك الكرد

أبا مجرم خوّفتني بك فانتحى ... عليك بما خوّفتني الأسد الورد
وقد تقدمت ترجمته وكيفية ما قتله المنصور في المجلدة الثالثة من التذكرة التوحيدية وخطب المنصور لما قتله فقال بعد حمد الله والثناء عليه أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية ولا تسروا غش الأئمة فإن أحداً لا يسر سريرة إلا ظهر ذلك عليه في فلتات لسانه وصفحة وجهه وبوادر نظره إنا لم نبخسكم حقوقكم ولن نبخس الدين حقه إنه من نازعنا عروة هذا القميص أوطأناه خبء هذا الغمد وإن أبا مسلم بايع لنا على أنه من نكث بيعتنا فقد أباح دمه لنا ثم نكث هو فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيرها ولم يمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه وإنما اقتصرت على ذكر هؤلاء الثلاثة دون غيرهم لعظيم ما ارتكبوه من الجرائم التي نهى الله عن فعلها وأكد في التحذير منها وبالغ في الوعيد عليها وهي قتل النفس بغير حق واستباحة حريم مالها التي حرمته كحرمتها وهذا لا يرضي فعله كفرة أهل الكتاب ولا من يعتقد أن إلى الله المرجع والمآب
ومما ينبغي أن يلحق بهذا الفصل ... تسلى من خفضه الزمان من أهل الفضل
بقلة الكرام وكثرة اللئام ... وتقلب الأحوال على مدى الأيام
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس كابل مائة لا يكاد يوجد فيها راحلة وقالوا الكرام في اللئام كالغرة في جبهة الفرس أو كالرقمة في يد الدابة ويقال لا يكاد يوجد كريم حتى يخاض إليه ألف لئيم قال السموأل بن عادياً اليهودي
تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إنّ الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
وقال ابن المعتز إذا خرفت الدولة وقرب زوالها هبطت بالأخيار ورفعت درج الأشرار وقال أبو طالب يحيى بن أبي الفرج المعروف بابن زيادة البغدادي الكاتب
باضطراب الزمان ترتفع الأن ... ذال فيه حتى يعمّ البلاء
وكذا الماء ساجياً وإذا حرّك ... ثارت من قعره الأقذاء
وكان علي بن الحسين بن علي الوزير المغربي لمح هذا المعنى بقوله
إذا ما الأمور اضطربن اعتلى ... سفيه يضام العلا باعتلائه
كذا الماء إن حرّكته يد ... طفا عكر راسب في إنائه
ومن أحسن ما ورد في هذا الباب ما حكى أن المعتصم لما أراد أن يشرف أشناس التركي عقب فتح بابك أمر أصحاب المراتب أن يترجلوا له فكان فيمن ترجل الحسين بن سهل فرآه حاجبه يمشي ويعثر فبكى رحمة له فقال له لا يهمنك ما تراه إن الملوك شرفتنا ثم شرفت بنا ولما عزل قتيبة بن مسلم وكيعاً عن رياسة بني تيم قال شاعرهم
فإن تك قد عزلت فلا عجيب ... ضياء الشمس يمحوه الظلام
وقال آخر يسلي معزولاً
عزلوه كالذب المصفى لا ترى ... حالاً مغيرة له عن حال
لم يعزلوا الأعمال عنه وإنما ... عزلوا العفاف به عن الأعمال
آخر
إنّ الولاية لا تتمّ لواحد ... إن كنت تنكر ذا فأين الأوّل
لا تجزعن فلكل وال معزل ... فكما عزلت فعن قليل تعزل
ومن أحسن ما قيل في تسلي معزول قول محمد بن يزيد الأموي في مالك بن طوق
ليهنك إن أصبحت مجتمع الحمد ... وراعى المحامي والمعالي عن المجد
وإنك صنت الناس فيما وليته ... وفرّقت ما بين الغواية والرشد
فلا تحسب الأعداء عزلك مغنماً ... فإنّ إلى الأحرار عاقبة الورد
وما كنت إلا السيف جرّد في الوغى ... بأحمد سلا ثم ردّ إلى الغمد
آخر
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل النعيم من ملك ... قد انقضى ملكه إلى ملك
علي بن الجهم
للدّهر إدبار وإقبال ... وكل حال بعدها حال
وصاحب الآثام في غفلة ... وليس للأيام إغفال
كم أبلت الدنيا وكم جدّدت ... مني وكم تغني وتغتال
تشهد أعدائي بأني فتى ... قطاع أسياف ووصال

لا يملك الشدّة عزمي ولا ... يبطرني جاه ولا مال
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حقاً على الله أن لا يرفع شيأً من هذه الدنيا إلا وضعه ولا يضع شيأً إلا رفعه كتب مفلس على خاتمه اصبر فالدهر دول راجز
وإنما الدنيا دولكراحل قيل نزلونازل قيل رحل
وقال علي رضي الله عنه ما قال الناس لشيء طوبى إلا وقد خبأ له الدهر يوم سوء وقال مطرف لا تنظروا إلى خفض عيش الملوك وطيبه ولكن انظروا إلى سرعة ظعنهم وسوء منقلبهم وأنشدت لابن الأعرابي
ربّ قوم رتعوا في نعمة ... زمناً والعيش ريان غدق
سكت الدهر طويلاً عنهم ... ثم أبكاهم دماً حين نطق
ويقال لا يقوم عزاً لولاية بذل العزل ويقال العزل طلاق الرجال قال ابن المعتز
وذلّ العزل يضحك كل يوم ... وينقر في قفا الوالي المدلّ
وله
كم تائه بولاية ... وبعزله ركض البريد
سكراً لولاية طيب ... وخمارها صعب شديد
ابن زياد
لا تغبطنّ وزيراً للملوك وإن ... أحله الدهر منهم فوق رتبته
واعلم بأنّ له يوماً تمور به الأرض ... اطربا كما مارت لهيبته
هرون وهو أخو موسى وناصره ... لولا الوزارة ألم يأخذ بلحيته
ولآخر
تنح عن الوزارة لا تردها ... فكل الخير فيما لا تريد
ألست ترى وزيراً كل يوم ... يباع متاعه فيمن يزيد
ومن أعجب ما يحكى في تنقل الأحوال أن ثقل الفضل بن الربيع كان يحمل على ألف بعير ثم رؤى ثقله في زنبيل وفيه أدوية لعلته تنقل من مكان إلى مكان ورؤى ثقل الحسن بن سهل في زنبيل فيه نعلان وقميصان واصطرلاب ثم رؤى ثقله على ألف بعير قال بعضهم
هي المقادير تجري في أعنتها ... فاصبر فليس لها صبر على حال
يوماً تريش خسيس الحال ترفعه ... إلى السماك وطوراً تخفض العالي
وتغير أبو جعفر المنصور على وزيره أبو أيوب المرزباني فقال
ألا ليتني لم ألق ما قد لقيته ... وكنت بأدنى عيشة الناس راضيا
رأيت علوّ المرء يدعو انحطاطه ... ويضحى وسيط الحال من كان ناجيا
ولهذا قيل الفقر مع الأمن خير من الغنى مع الخوف وقال بعضهم مسلياً عن العطلة
لعمرك ما طول التعطل ضائر ... ولا كل شغل فيه للمرء منفعه
إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى ... عليك سواء فاغتنم لذة الدعه
وإن ضقت فاصبر يفرج اللّه ما ترى ... ألا ربّ ضيق في عواقبه سعه
آخر
كن بخمول النفوس قانع ... لا تطلب الذكر في المجامع
فلن يزال الفتى بخير ... ما لم تشر نحوه الأصابع
ابن مقلة يقول عندما نكب
زمان يمرّ وعيش يمر ... ودهر يكرّ بما لا يسر
وحال يذوب وهمّ ينوب ... ودنيا تناديك أن ليس حرّ
آخر
وأحسن ما استشعر المسلمو ... ن عند النوائب حلم وصبر
وللّه في كلّ ما يأتني ... وأبلى به منه حمد وشكر
سمع أعرابي يقول هذا غنى لولا أنه فناء وعلا لولا أنه بلاء وبقاء لولا أنه شقاء وقيل لابن الجهم بعدما صودر ما تفكر في زوال نعمتك قال لا بد من الزوال فلان تزول وأبقى خير من أن أزول وتبقى وقيل لأعرابي صف لنا الدهر فقال الدهر سلوب لما وهب وهوب لما سلب كالصبي إذا لعب

الباب الثالث
في العقل
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في مدح العقل وفضله
في مدح العقل وفضله ... وشرف مكتسبه ونبله

قال الله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد سئل الحسن بن سهل ما حد العقل فقال الوقوف عند الأشياء قولاً وفعلاً وسئل آخر فقال الاصابة بالظنون والتلمح فيما كان وما يكون ومراده في القسم الثاني التجربة وقالوا هو درك الأشياء على ما هي عليه من حقيقة معانيها وصحة مبانيها وقيل لحكيم ما مقدار العقل فقال ما لم ير كاملاً في أحد فلا يعرف له مقدار وقالوا لكل شيء غاية وحد والعقل لا غاية له ولا حد ولكن الناس يتفاوتون فيه كتفاوت الأزهار في الرائحة والطيب واختلف الحكماء أيضاً في ماهيته كما اختلفوا في حده فقال بعضهم هو نور وضعه الله طبعاً وغرزه في القلب كالنور في العين وهو البصر فالعقل نور في القلب والبصر نور في العين وهو ينقص ويزيد ويذهب ويعود وكما يدرك بالبصر شواهد الأمور كذلك يدرك بنور العقل كثير من المحجوب والمستور وعمي القلب كعمي البصر قال الله تعالى فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور وقال النبي صلى الله عليه وسلم ليس الأعمى من عمي بصره ولكن الأعمى من عميت بصيرته وقال بعض الحكماء العقل غريزة لا يقدر أحد أن يصفها في نفسه ولا في غيره ولا يعرف إلا بالأقوال والأفعال الدالة عليه وعلى كل حال فلا سبيل أن يوصف بجسم ولا لون ولا عرض ولا طول وقال العتبي واسمه عبد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان العقل عقلان عقل تفرد الله بصنعه وهو الأصل وعقل يستفيده المرء بأدبه وهو الفزع فإذا اجتمعا قوى كل واحد منهما صاحبه تقوية النار في الظلمة البصر أخذه من هذه الأبيات وتنسب إلى أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ورضي عنه
رأيت العقل عقلين ... فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع ... إذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع
ويفهم من فحوى ما ذكرناه أن العقل في القلب وهذا القول هو الموجود بصحة النظر والمعلوم من جهة الأثر قال الله تعالى أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال العقل في القلب به يفرق بين الحق والباطل وقال بعضهم هو في الدماغ وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وقال عمرو بن العاصي يثغر الغلام لسبع ويحتلم لأربع عشرة وينتهي طوله لإحدى وعشرين وينتهي عقله لثمان وعشرين ويبلغ أشده لخمس وثلاثين وما بعد ذلك تجارب وقال بعضهم كل شيء مفتقر إلى العقل والعقل مفتقر إلى التجارب وقال بعضهم من طال عمره نقصت قوة بدنه وزادت قوة عقله وقال بعض الحكماء أربعة تحتاج إلى أربع الحسب إلى الأدب والسرور إلى الأمن والقرابة إلى المودة والعقل إلى التجرية ويقال هرم السن شباب العقل وقال البستي
ما استقامت قناة رأيي إلا ... بعد ما عوّج المشيب قناتي
ما اخترناه من محاسن الكلم وأسناها ... في أنّ العقل أشرف المواهب وأسماها
قال ابن عباس رضي الله عنه دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت لها يا أم المؤمنين أرأيت الرجل يقل قيامه ويكثر رقاده والآخر يكثر قيامه ويقل رقاده أيهما أحب إليك قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال لي أحسنهما عقلاً قلت يا رسول الله إنما سألتك عن عبادتهما فقال يا عائشة إنهما لا يسألان عن عبادتهما إنما يسألان عن عقولهما فمن كان أعقل كان أفضل في الدنيا والآخرة وروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال الجنة مائه درجة تسعة وتسعون منها لأهل العقل واحدة لسائر الناس وروى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل شيء وثيقة ومحجة واضحة وأوثق الناس مطية وأحسنهم دلالة ومعرفة بالحجة الواضحة أفضلهم عقلاً وقال بزرجمهر الانسان صورة فيها عقل فإن أخطأه العقل ولزمته الصورة فليس بإنسان قال المتنبي
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان

وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما إني لأعجب ممن رزق العقل كيف يسأل الله معه شيأً آخر وقالت عائشة رضي الله عنها أفلح من جعل الله له عقلاً وقال مطرف ما أوتي العبد بعد الايمان بالله تعالى أفضل من العقل ويقال ما تم دين امرئ حتى يتم عقله وما استودع الله رجلاً عقلاً إلا استنقذه به يوماً ما وقال الأصمعي لو صور العقل لأضاء معه الليل ولو صور الجهل لأظلم معه النهار وقال بزرجمهر العقل كالمسك إن خبأته عبق وإن بعته نفق وقالوا كل شيء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه إذا كثر غلا ولو بيع لما اشتراه إلا العقلاء لمعرفتهم بفضله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل داء دواء ودواء القلب العقل ولكل حرث بذر وبذر الآخرة العقل ولكل شيء فسطاط وفسطاط الأبرار العقل ويقال العقل وزير رشيد وظهير سعيد من أطاعه فجاه ومن عصاه أرداه وقال بعضهم يصف العقل
للّه درّ العقل من رائد ... وصاحب في العسر واليسر
وحاكم يقضي على غائب ... قضية الشاهد للأمر
وإن شاء في بعض أحواله ... أن يفصل الخير من الشر
فذو قوى قد خصه ربه ... بخالص التقديس والطهر
آخر
العقل حلة فخر من تسربلها ... كانت له نسباً تغنى عن النسب
والعقل أفضل أما في الناس كلهم ... بالعقل ينجو الفتى من حومة الطلب
ومن قولهم في أن
من وهب اللّه له عقلاً كسى ... من المناقب حلة لا تبلى
قال أبو هريرة رضي الله عنه لو ازددت كل يوم مثقال ذرة من عقل ما باليت ما فاتني من أنواع التطوع وقال وهب مثل العقلاء في الدنيا مثل الليل والنهار لا تقوم الدنيا إلا بهما فكذلك المرء في الدنيا لا حظ له إلا إذا كان عاقلاً وقيل لأنوشروان أي الناس أولى بالسعادة قال أنفسهم ذنوباً قيل فمن أنقصهم ذنوباً قال أتمهم عقلاً وقالوا إذا كان العقل في النفس اللئيمة كان بمنزلة الشجرة الكريمة في الأرض الذميمة ينتفع بثمرها على خبث المغرس فاجتن ثمر العقل وإن أتاك من لئام الأنفس وإلى هذا أشار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في قوله لولده الحسن رضي الله عنه خذ الحكمة أنى أتتك فإن الحكمة تكون في صد والمنافق فلا تزال تختلج في صدره حتى تخرج فتسكن إلى صاحبها وقال سعيد بن جبير لم تر عيناي أفضل من فضل عقل يتردى به الرجل إن انكسر جبره وإن صرع انعشه وإن ذل أعزه وإن اعوج أقامه وإن عثر أقاله وإن افتقر أغناه وإن عرى كساه وإن غوى أرشده وإن خاف أمنه وإن حزن أفرحه وإن تكلم صدقه وإن أقام بين ظهراني قوم اغتبطوا به وإن غاب عنهم أسفوا عليه وإن بسط يده قالوا جواد وإن قبضها قالوا مقتصد وإن أشار قالوا عالم وإن صام قالوا مجتهد وإن أفطر قالوا معذور قال الشاعر
وأفضل قسم اللّه للمرء عقله ... فليس من الخيرات شيء يقاربه
يزين الفتى في الناس صحة عقله ... وإن كان محظوراً عليه مكاسبه
وشين الفتى في الناس قلة عقله ... وإن كرمت أعراقه ومناسبه
إذا أكمل الرحمن للمرء عقله ... فقد كملت أخلاقه ومآربه
آخر
ما وهب اللّه لامرئ هبة ... أشرف من عقله ومن أدبه
هما حياة الفتى فإن عدما ... فإنّ فقد الحياة أجمل به
آخر
يعدّ رفيع القوم من كان عاقلاً ... وإن لم يكن في قومه بحسيب
وإن حل أرضاً عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب
وقال طاوس ما قلادة نظمت من در وياقوت بأزين لصاحبها من العقل ولو ناصح المرء عقله لأراه ما يزينه مما يشينه فالمغبون من أخطأ حظه من العقل
ما أثبتناه من الكلام الرائع الرائق ... فيما يمتاز به العاقل من المائق

قال بعض أهل العلم إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض أتاه جبريل عليه السلام بثلاثة أشياء بالدين والعقل وحسن الخلق وقال إن الله يخيرك واحداً من هذه الثلاثة فقال يا جبريل ما رأيت أحسن من هؤلاء في الجنة ثم مديده إلى العقل وقال لذينك اصعدا قالا لا نصعد قال أتعصياني قالا لا نعصيك ولكنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعاقل عشر خصال يعرف بها يحلم عمن ظلمه ويتواضع لمن دونه ويسابق إلى بر من هو فوقه وينتهز الفرصة إذا أمكنته لا يفارقه الخوف ولا يصحبه العنف يتدبر ثم يتكلم فإذا تكلم غنم وإذا سكت سلم وإذا اعترضت له فتنة اعتصم بالله وقال أبو عبادة مادحاً
غريب السجايا ما تزال عقولنا ... مدلهمة في خلة من خلاله
عداه الحجى في عنفوان شبابه ... وأقبل كهلاً قبل حين اكتهاله
وقالوا من علامة العاقل ثلاثة تقوى الله وصدق الحديث وترك ما لا يعني وفي حكمة داود على العاقل أن يكون عالماً بأهل زمانه مالكاً للسانه مقبلاً على شأنه وقال بعض الحكماء أربعة تدل على صحة العقل حب العلم وحسن الحلم وصحة الجواب وكثرة الصواب وقالوا إن أردت أن تعرف عقل الرجل في مجلس واحد فحدثه في خلال حديثك بما لا يكون فإن أنكر فهو عاقل وإن صدق فهو أحمق وقالوا لا تجد العاقل يحدث من يخاف تكذيبه ولا يسأل من يخاف منعه ولا يعد بما لا يستطاع انجازه وقال لقمان لابنه لا يتم عقل امرئ حتى يكون فيه عشر خصال يكون الكبر منه مأموناً والرشد فيه مأمولاً وفضل ما لديه مبذولاً لا يصيب من الدنيا إلا القوت التواضع أحب إليه من الشرف والذل أحب إليه من العز لا يسأم من طلب المعالي ولا يتبرم بطلب الحوائج إليه يستكثر قليل المعروف من غيره ويستقل كثيره من نفسه وأن يرى جميع أهل الدنيا خيراً منه وإنه شراً منهم وهذه الخصلة تشيد مجده وتكبت ضده وتعلي قدره وتطيب في العالمين ذكره وقالوا العاقل إذا والى بذل في المودة نصره وإذا عادى رفع عن الظلم قدره فيستعين مواليه بعقله ويعتصم معاديه بعدله وقال المهلب بن أبي صفرة واسمه ظالم بن سراقة يعجبني أن أرى عقل الرجل زائداً على لسانه ولا يعجبني أن أرى لسانه زائداً على عقله وقالوا زيادة العقل على اللسان فضيلة وزيادة اللسان على العقل رذيلة والله أعلم

شوارد مجموعة في احتياج ذوي العقل والحلم
إلى اكتساب فضيلتي الأدب والعلم
أما الأدب فقال بزرجمهر العقل يحتاج إلى مادة الأدب كما تحتاج الأبدان إلى قوتها من الأطعمة وقالوا عقل بلا أدب فقر وأدب بلا عقل حتف وقالوا عقل بلا أدب كشجاع بلا سلاح وقالوا لا عقل إلا بأدب ولا أدب إلا بعقل وقال أفلاطن عقل بلا أدب كالشجرة العاقر والعقل مع الأدب كالشجرة المثمرة وقال بزرجمهر الأدب صورة العقل فحسن صورة عقلك كيف شئت ابن المقفع كما أن الأدب لا يكمل إلا بالعقل فكذلك لا يكمل العقل إلا بالأدب وقالوا احرص أن لا يكون أدبك أغزر من عقلك فإن من زاد أدبه على عقله كان كالراعي الضعيف في الغنم الكثيرة ويقال أدبوا أولادكم صغاراً تقر أعينكم بهم كباراً شاعر
قد ينفع الأدب الأحداث في صغر ... وليس ينفع بعد الكبرة الأدب
إنّ الغصون إذا قوّمتها اعتدلت ... ولن تلين إذا قوّمتها الخشب
وقال عبد الملك بن مروان لاعب ولدك سبعاً وأدبه سبعاً واستصحبه سبعاً فإن أفلح
فألق حبله على غاربه ... ولا عبرة بقول من قال
قولاً لمن ينصح ابناً له ... يردّد القول لتهذيبه
ضيع الوقت بلا طائل ... فيكثر القول ويهزي به
له إلى اللّه وتدبيره ... ثم إلى الدهر وتجريبه
فإنما الأقدار لا بدّ أن ... تأتي بما خط وتجري به
فليس كما قال فإنما الهمل في الامهال ولا عذر له في الاهمال وعود الصبا أبداً آمناً إن يحتاج إلى الشفيف وطيش الشباب سريع الحراك فلا غناء له عن التوقيف ويحكى أن أبا الأسود الدؤلي كان له ولد فترك الصلاة يوماً ومضى يلعب بالكلاب مع الصبيان فكتب إلى مؤدبه رقعة وأرسلها معه مختومة يقول فيها
ترك الصلاة لا كلب يسعى بها ... نحو الفراش مع الغواة الأرجس

فليأتينك غادياً بصحيفة ... كتبت كمثل صحيفة المتلمس
فإذا أتاك معذراً بملامة ... فعظنه موعظة اللبيب الأكيس
وإذا هممت بضربه فبدرّة ... وإذا بلغت به ثلاثاً فاحبس
واعلم بأنك ما فعلت فنفسه ... مع ما تجرّعني أعز الأنفس
وأما العلم فقدره كبير وفضله كثير ويكفي في شرفه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خير سليمان بين الملك والمال والعلم فاختار العلم فأعطى الملك والمال لاختياره العلم قال بعض الحكماء إذا اجتمع العقل والعلم في رجل فقد استطاب المحيا وسما إلى الدرجة العليا وجمع الآخرة والدنيا وقالوا العلم أفضل مكتسب وأكرم منتسب وأشرف ذخيرة تقتنى وأطيب ثمرة تجتنى وبه يتوصل إلى معرفة الحقائق ويتوصل إلى رضا الخالق وهو أفضل نتائج العقل وأعلاها وأكرم فروعه وأزكاها لا يضيع أبداً صاحبه ولا فتقر كاسبه ولا يخيب طالبه ولا تنحط مراتبه وقال معاذ بن جبل تعلموا العلم فإن تعليمه لله خشية وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وهو النيس في الوحشة والصاحب في الغربة والوزير عند الخلاء والقريب بين الغرباء شاعر
أجل ما يبتغي يوماً ويكتسب ... ويجتنى من حلا الدنيا وينتخب
علم شريف عميم النفع قد رفعت ... لحامليه بآفاق العلا رتب
إن عاش عاش جميلاً سامياً أبداً ... لا يستضام ولا ينسى فيجتنب
وإن تمت فثناء شائع حسن ... وبعده رحمة ترجى وترتقب
آخر
العلم أعلى من الأموال منزلة ... لأنه حافظ والمال محفوظ
وقالوا العلم عز لا يبلى جديده وكنز لا يفنى مزيده وقال ابن المقفع تعلموا العلم فإن كنتم ملوكاً فقتم وإن كنتم أوساطاً سدتم وإن كنتم سوقة عشتم وقالوا لو لم يكن من شرف العلم إلا أن الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك لكفى بذلك شرفاً وقال بعضهم
العلم فيه جلالة ومهابة ... والعلم أنفع من كنوز الجوهر
تفنى الكنوز على الزمان وصرفه ... والعلم يبقى باقيات الأعصر
ويحتاج طالب العلم إلى ستة أشياء فراغ وجده وجد واستاذ وطول عمر ومعونة من الله تعالى وهذا ملاكها الذي لا بد منه ولا غناء لأحد عنه نظم ذلك الشاعر فقال
أصخ لي فليس العلم إلا بستة ... سأنبيك عن مجموعها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وارشاد استاذ وطول زمان
وقالوا العلم ميت يحييه الطلب فإذا حيى فهو ضعيف يقويه الدرس فإذا قوي بالدرس فهو محتجب تظهره المناظرة فإذا ظهر فهو عقيم نتاجه العمل شاعر
العلم من شرطه لمن خدمه ... أن يجعل الناس كلهم خدمه
وواجب حفظه عليه كما ... يحفظ ما عاش ماله ودمه
ومن حوى العلم ثم أودعه ... غير محب له فقد ظلمه
وكان كالمبتنى البناء إذا ... تمّ له ما أراده هدمه

الفصل الثاني من الباب الثالث
في ذكر الفعل الرشيد
في ذكر الفعل الرشيد ... الدال على العقل المشيد
قالوا العقل أصل لكل محمود من الأخلاق فإذا عدم الأصل فلا بقاء للفرع مع عدم الأصل وقيل للحسن بن علي رضي الله عنهما متى يكون العاقل عاقلاً قال إذا عقله عقله عما لا ينبغي فهو عاقل وقال علي بن عبيدة الزنجاني العقل ملك والخصال الحسنة رعيته فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها وقال بعض الحكماء الملائكة روح وعقل والبهائم نفس وهوى والإنسان يجمع الكل ابتلاء فإن غلب الروح والعقل على النفس والهوى فضل الملائكة وإن غلبت النفس والهوى على الروح والعقل فضلت البهائم فالعاقل من ذاد عن مراتع الهوى نفسه وكفها عن شهوات تقرب إليه رمسه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حبك الشيء يعمى ويصم وقالوا الهوى خادع للألباب صارف عن الصواب صاحبه أعمى مبصر أصم سميع وقالوا الهوى أشأم دليل وألأم خليل وأغشم وال وأغش موال يكذب العيان ويقلب الأعيان ويجلب الهوان وقال أبو بكر بن دريد
وآفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عقله فقد نجا

وقال بعض الصالحين الهوى مركب ذميم يسير بك في مضلات الفتن ومرتع وخيم يقعدك في مواطن المحن ويعلقك في حبائل الأحن ويقال من كان لعنان هواه أملك كان لطرق الرشاد أسلك ويقال بغلبة سلطان العقل على الهوى ينال السودد وقال شاعر
واعلم بأنك لن تسود ولن ترى ... طرق الرشاد إذا اتبعت هواكا
آخر
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى كلّ ما فيه عليك مقال
ويقال عبد الهوى أذل من عبد الرق وقالوا أعقل الناس من عصى مراده ولم يعط الهوى قياده شاعر
إنّ الردى تبع الهوى ... ومن الهوى حلو ومرّ
اقنع بعيشك ترضه ... واملك هواك وأنت حر
وقال علي بن الحسين المغربي
ما للمطيع هواه ... من الملام ملاذ
فاختر لنفسك إمّا ... عرض وإمّا التذاذ
وقال حكيم لولده اعص هواك وأطع من شئت قال بعضهم
إذا ما رأيت المرء يقتاده الهوى ... فقد ثكلته عند ذاك ثواكله
وقد أشمت الأعداء حقاً بنفسه ... وقد وجدت فيه مقالاً عواذله
آخر وأجاد
إذا ما دعتك النفس يوماً لشهوة ... وكان عليها للحرام طريق
فخالف هواها ما استطعت فإنما ... هواها عدوّ والخلاف صديق
وقالوا كم من عقل أسير عند هوى أمير شاعر
وعاص الهوى المردى فكم من محلق ... إلى النجم لما أن أطاع الهوى هوى
ولبعضهم
وما يزع النفس اللجوج عن الهوى ... من الناس الأحازم الرأي كامله
وقالوا أعدل الناس من أنصف عقله من هواه ومنع نفسه مما يكون سبباً لبلواه ولحظ الأشياء بعين فكره واضماره فعلم من ورود الأمور عاقبة إيراده وإصداره فيحسن بأفعاله حمد الأوداء ويأمن في ماله كيد الأعداء كما حكى أن نصيباً دخل على عبد الملك بن مروان فتغدى معه فلما رأى عبد الملك ظرفه وأدبه قال له هل لك فيما نتنادم عليه قال يا أمير المؤمنين لوني حائل وشعري مغلغل وخلقي مشوه ووجهي قبيح ولم أبلغ ما بلغت من اكرامك إياي لا لشرب أب ولا كرم أم وإنما بلغته بعقلي ولساني فأنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تحول ببني وبين ما بلغت به هذه المنزلة عندك فأعفاه وما أحسن قوتذ الحيرارزي مشيراً إلى قول نصيب
أرى الكأس تذهب عقل الفتى ... فيذهل عن كل مستمتع
ولولا ابتهاجي بكم لم أكن ... لأشرب أكثر من أربع
وقالوا سرور فقلت السرور ... بأن تتركوني وعقلي معي
وقال آخر
رطلان لا أزداد فوقهما ... في الشرب إن حضروا وإن وحدي
فليغتفر لي من ينادمني ... إني أحث عواقب الرشد
وأريد ما يقوى به بدني ... وأجانب الأمر الذي يردي
وعلى ذكر ما ينتج من شرب الخمر من زوال الذهن وذهاب العقل فحسن قول من قال الخمر مصباح السرور ولكنها مفتاح الشرور وقول أبي الفضل المنكالي
عيرتني ترك المدام وقالت ... هل جفاها من الرجال لبيب
هي تحت الظلام نور وفي الأك ... باد برد وفي الخدود لهيب
قلت يا هذه عدلت عن النص ... ح وما للرشاد فيك نصيب
إنها للستور هتك وفي الأل ... باب فتك وفي المعاد ذنوب
وقال رجل لابنه وهو يتعاطى الشراب احذره فإنه قئ في شدقك أو سلح على عقبك أو حد في ظهرك وقال الحصنكي ذاكراً لهذه العيوب
ونديم بت أعذله ... ويرى عذلي من العبث
قلت إنّ الخمر مخبثة ... قال حاشاها من الخبث
قلت منها القئ قال نعم ... شرفت عن مخرج الخبث
قلت للأزمات تشربها ... قال طيب العيش في الرفث

وقريب من هذا ما حكى إن الحجاج وفد على الوليد بن عبد الملك فلما كان بعد أيام وقد أخذا يتجاذبان أذيال المذاكرة فقال له الوليد هل لك في الشراب قال يا أمير المؤمنين ليس محظوراً مداخلة أمير المؤمنين ولكني أمنع أهل عملي منه وأكره أن أخالف قول العبد الصالح لقومه وما أريد أن أخالفكم إلى ما انهاكم عنه فاستحسن ذلك منه وأعفاه وقال إسحق ابن إبراهيم الموصلي دخلت على الهادي فقال غنني صوتاً أطرب منه ولك حكمك فغنيته
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر
فقال أحسنت والله وضرب بيده إلى دراعته فشق منها ذراعاً فقال زدني فغنيته
فيا حبها زدني جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأحباب موعدك الحشر
فقال أحسنت ثم ضرب بيده إلى دراعته فشق منها ذراعاً آخر فقال له زدني فغنيته
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر
فقال أحسنت وشق باقي دراعته من شدة الطرب ثم رفع طرفه إلي وقال لي تمن واحتكم فقلت أتمنى عين مروان قال إسحق فرأيته وقد دارت عيناه في رأسه حتى خلتهما جمرتين ثم قال يا ابن اللخناء أتريد أن تشهرني بهذا المجلس وتجعلني سمراً وحديثاً يقول الناس أطربه فوهبه عين مروان أما والله لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحة عقلك لألحقتك بمن غبر من أهلك ثم أطرق اطراق الافعوان فرأيت ملك الملك بيني وبينه ينتظر أمره في ثم رفع رأسه ودعا بابراهيم بن ذكوان وقال له خذ بيد هذا الجاهل وأدخله بيت المال فإن أخذ ما فيه فدعه وإياه قال إسحق فدخلت وأخذت ما يساوي عين مروان أضعافاً وما أحسن ما قال بعض البلغاء يصف إنساناً بصيراً بالعواقب فلان يعرف من مبادئ الأحوال خواتيم الأعمال ومن صدور الأمور إعجاز ما في الصدور وقال آخر فلان يرى العواقب في مرآة فكره فلا يشتبه عليه نفعه بطمره نادرة قيل لبعض المجانين هل لك في الشراب فقال إن العاقل يشرب الخمر حتى يتشبه بي فأنا إذا شربته فبمن ذا أتشبه وأحسن منها ما يحكى إن أعرابياً راود امرأة عن نفسها فأنعمت له فلما قعد بين شعبتيها قام عنها ولم يقض وطرا ولا عفى من غرضه أثراً فقالت له يا هناه ما الذي عراك وقد بلغت مناك فقال إن رجلاً يبيع جنة عرضها السموات والأرض باصبعين بين فخذيك لقليل الخبرة بالمساحة والعاقل من اهتدى بمشورة نصحائه وكشف لهم عن مستور أغراضه وانحائه قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله فهذا الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ليعلم أصحابه ما في المشورة من البركة لا لحاجة منه لرأيهم إذ هو للؤيد في حركاته وسكناته بالوحي من ربه والمستغني بما يلقي في روعه من الرأي المصيب عن آراء صحبه قال الحسن البصري إن الله عز وجل لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشورة أصحابه لحاجة به إلى رأيهم وإنما أراد أن يعرفهم ما بالمشورة من البركة وقال عليه الصلاة والسلام المشورة حصن من الندامة وأمن من الملامة وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الرجال ثلاثة رجل ينظر في الأمور قبل أن تقع فيصدرها مصادرها ورجل متوكل لا يتأمل فاذا نزلت به نازلة شاور أصحاب الرأي وقبل قولهم ورجل حائر بائر لا يأتم رشداً ولا يطيع مرشداً وقالوا مادة العقل من العقول كمادة الأنهار من السيول وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه نعم الموازرة المشاورة وبئس الاستعداد الاستبداد وقال حكيم لولده يا بني إن رأيك إن احتجت إليه وجدته نائماً ووجدت هواك يقظان فإياك أن تستبد برأيك فيغلبك حينئذ هواك وقالوا الخطأ مع الاستشارة أحمد من الاصابة مع الاستبداد ويقال إذا استخار العبد ربه واستشار صديقه واجتهد رأيه فقد قضى ما عليه ويقضي الله في أمره ما أحب وقالوا من استغنى برأيه فقد خاطر بنفسه وقالوا عليك بالمشورة فانها تأمر بالتي هي أحسن وتهدي للتي هي أقوم وقالوا لا تستبد بتدبيرك ولا تستخف بأميرك فمن استبد بتدبيره زل ومن استخف بأميره ذل وقالوا من شاور الأخلاء أمن من كيد الأعداء ومن أمثالهم زاحم بعود أودع وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر من أبيات
وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور لبيباً ولا تعصه
وإن ناصح منك يوماً دنا ... فلا تنأ عنه ولا تقصه
ولآلمعر

إنّ اللبيب إذا تفرّق أمره ... فتق الأمور مناظراً ومشاوراً
وأخو التكبر يستبدّ برأيه ... وتراه يعتسف الأمور مخاطراً
بشار بن برد
إذا بلغ الرأي المشورة فاستنر ... برأي نصيح أو نصاحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوّة للقوادم
وما خير كف أمسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يؤيد بقائم
آخر
لا تحقرن الرأي وهو موافق ... حكم الصواب إذا بدا من ناقص
فالدرّ وهو أجلّ شيء يقتنى ... ما حط رتبته هوان الغائص
آخر
شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوماً وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تلقى كفاحاً ما دنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة
آخر
تأنّ وشاور فإنّ الأمو ... ر منها مضئ ومستغمض
فرأيان أفضل من واحد ... ورأي الثلاثة لا ينقض
قال بزرجمهر أفره الدواب لا غنى له عن السوط وأعقل النساء لا غنى لها عن الزوج وأدهى الرجال لا غنى له عن المشورة
فمن يعتمد عليه في المشورة ... من تكون النفس بآرائه مسرورة
قالوا لا تدخل في مشورتك بخيلاً في عطاء فيقصر بك ولا جباناً في حرب فيخوفك ولا حريصاً في بذل فيصدك فان البخل والجبن والحرص طبيعة واحدة يجمعها سوء الظن بالله قيل استشار زياد رجلاً فقال حق المستشار أن يكون ذا عقل وافر واختبار متظاهر ولا أراني كذلك قال الشاعر
خصائص من تشاوره ثلاث ... فخذ منها جميعاً بالوثيقه
وداد خالص ووفور عقل ... ومعرفة بحالك في الحقيقه
فمن حصلت له هذي المعاني ... فتابع رأيه والزم طريقه
وقال آخر
إذا الأمر أشكل انفاذه ... ولم تر منه سبيلاً نجيحا
فشاور لأمرك في ستره ... أخاك اللبيب الشفيق النصيحا
آخر
وإذا الأمور عليك يوماً اشكلت ... فاعمد لرأي أخ نصيح مرشد
واحفظ نصيحة من بدا لك ودّه ... وبرأي أهل الخير جهدك فاهتد
آخر
فما كل ذي ودّ بموليك نصحه ... ولا كل مؤت نصحه بلبيب
ولكن إذا ما استجمعا عند واحد ... فحق له من طاعة بنصيب
وقال الأحنف بن قيس لا تشاور المعزول فإن رأيه مغلول وقالوا لا تشاور الجائع حتى يشبع ولا العطشان حتى يروى ولا الأسير حتى يطلق ولا المقل حتى يجد ولا الراغب حتى ينجح وقال أفلاطون إذا استشارك عدوك فجرد له النصيحة لأنه قد خرج بالاستشارة من عداوتك إلى موالاتك ولما نوى ابن أبي مريم قاضي مرو أن يزوج ابنه استشار جاراً له مجوسياً فقال سبحان الله يستفتونك وأنت تستفتيني قال لا بد أن تشير علي فقال إن كسرى رئيس الفرس كان يختار المال وقيصر رئيس الروم كان يختار الجمال ورئيس العرب كان يختار النسب ومحمداً نبيكم كان يختار الدين فانظر بمن تقتدي وقالوا لا تشاور بخيلاً في صلة ولا جباناً في حرب ولا شاباً في جارية وقال بعض الحكماء عليكم بمشورة من حلب ضرع دهره ومرت عليه صروف خيره وشره وبلغ من العمر أشده ومن التجربة أورى زنده ولذلك كانت العرب تقتدي برأي الشيوخ وتعتمد في النوازل على مشورة الكهول لما يوجد فيهم من أصالة الرأي واصابة الحدس وصحة النظر مع ما منحوا من حسن الاختبار وسمت الوقار، وقد عدل قوم عن هذا المرتع ونزعوا غير هذا المنزع فجعلوا للشباب أيسر الأقسام من توقد الفطنة وأوفر السهام من نشاط النفس وقوة المنة فربما قصرت عن مقاومتهم الكهول ولجأت إليهم في كثير من تنقيح الفروع والأصول لتوفر غريزة العقل فيهم وحدة الخاطر التي ترشدهم إلى الصواب وتهديهم ولهذا قال الشاعر
رأيت العقل لم يكن انتهابا ... ولا يقسم على عدد السنينا
ولو أن السنين تقسمته ... حوى الآباء أنصبة البنينا
وكان بعض الحكماء يقول عليكم بآراء الأحداث ومشورة الشبان لان لهم اذهاناً تقد القواصل وتحطم الذوابل وقالوا آراء الشبان خضرة نضرة لم يهصر غصنها هرم ولا أذوى زهرها قدم ولا خبا من ذكائها بطول المدة ضرم وقال الشاعر

عليكم بآراء الشباب فانها ... نتائج ما لم يبله قدم العهد
فروع ذكاء تستمد من النهى ... بأنور في الآراء من قمر السعد
ومن أحسن ما قيل في مدح شاب غزير العقل كثير الفضل طاهر الفعل قول الشاعر
أدركت ما فات الكهول من الحجا ... في عنفوان شبابك المستقبل
وإذا أمرت فلا يقال لك اتئد ... وإذا قضيت فلا يقال لك اعدل
وقيل بل العاقل من أخذ بالاستبداد في الأمور وأجراها مختاراً على حكم القضاء المقدور قال المهلب بن أبي صفرة لو لم يكن في الاستبداد بالرأي الا صون السر وتوفير العقل لوجب التمسك به وقال بزرجمهر أردت نصيحاً أثق به فما وجدت غير فكري واستضأت بنور الشمس والقمر فلم أستضئ بشيء أضوأ من نور قلبي وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما الفكر مرآة ترى المؤمن سيآته فيقلع عنها وحسناته فيكثر منها فلا تقع مقرعة التقريع عليه ولا تنظر عين العواقب شزراً إليه وقال عبد الملك ابن صالح ما استشرت أحداً قط إلا تكبر علي وتصاغرت له ودخلته العزة ودخلتني الذلة فعليك بالاستبداد فان صاحبه جليل في العيون مهيب في الصدور وإنك متى استشرت تضعضع شأنك ورجفت بك أركانك وما عز سلطان لم يغنه عقله عن عقول وزرائه وآراء نصحائه فإياك والمشورة وإن ضاقت عليك المذاهب واشتبهت لديك المسالك وأنشد
فما كل ذي لبّ بمؤتيك نصحه ... ولا كل مؤت نصحه بلبيب
وقال عبد الله بن طاهر ما حك ظهري مثل ظفري ولان أخطئ مع الاستبداد ألف خطا أحب إلي من أن أستشير فالحظ بعين النقص والتقصير وما أصدق قول القائل
ليس احتيال ولا عقل ولا أدب ... يجدي عليك إذا لم يسعد القدر
ولا توان ولا عجز يضرّ إذا ... جاء القضاء بما فيه لك الخير
وعلى المستبد أن يتروى في رأيه فإن أفضل الرأي ما أجادت الفكرة نقده وأحكمت التروية عقده وقالوا كل رأي لم تتمخض به الفكرة ليلة كاملة فهو مولود لغير تمام شاعر
إذا كنت ذا رأي فكن ذا اناءة ... فإنّ فساد الرأي أن تتعجلا
وما العجز إلا أن تشاور عاجزاً ... وما الحزم إلا أن تهم فتفعلا
وقال شاعر في مستبد
ذهب الصواب برأيه فكأنما ... آراؤه خلقت من التأييد
وإذا دجا خطب تبلج رأيه ... صبحا من التوفيق والتسديد
وقالوا فلان الخير معقود في نواصي آرأيه واليمن منقاد في نواحي أنحائه فلان إذا أذكى سراج الفكر أضاء ظلام الأمر وقال ابن العميد العاقل من استنتج في كل أمر خاتمته وعلم من كل بدء عاقبته وطالع بقلبه من كل غصن ما يخفى منه ومن كل زرع ما يحصد عنه ولله من قال مادحاً اصابة الرأي
وذو يقظات مستمرّ مريرها ... إذا الدهر لاقاها اضمحلت نوائبه
بصير بأعقاب الأمور كأنما ... يخاطبه من كل أمر عواقبه
وأين يفرّ الحزم منه وإنما ... مرائي الأمور المشكلات تجاربه
وقال أبو عبادة البحتري في سليمان بن عبد الله
يريك بالظنّ ما فاق اليقين به ... إذا تلبس دون الظن ايقان
كأن آراءه والحزم يتبعها ... تريه كل خفيّ وهو اعلان
ما غاب عن عينه فالقلب يكلؤه ... وإن تنم عينه فالقلب يقظان
ومنها
يرى العواقب في أثناء فكرته ... كأنّ أفكاره بالغيب كهان
لا فكرة منه إلا تحتها عمل ... كالدهر لا دورة ألا لهاشان
وله
يريك بالظنّ ما قلّ اليقين به ... والشاهدان عليه العين والأثر
كأنه وزمام الدهر في يده ... يرى عواقب ما يأتي وما يذر
آخر
بديهته وفكرته سواء ... إذا ما نابه الحطب الخطير
واحزم ما يكون الدهر يوما ... إذا عجز المشاور والمشير
والعاقل من نصب من تحيله الحبائل واقتنص بها شوارد المطالب والوسائل

قالوا بالحيلة يستنزل الطير من جو السماء ويستخرج الحوت من جوف الماء فمن المحي في ذلك ما ذكر إن رجلين وثبا على أحد مرازبة كسرى أنوشروان فقتلاه ولم يعرفا فخشى إن هو لم يقتلهما به كان ذلك عاراً عليه وعجزا ينسب إليه فقال في مجمع من الناس إن من قتل المرزبان لعظيم القدرة شديد البأس ولو ظهر لجازيناه بما يستحق ورفعناه على الناس فلما بلغهما كلامه ظهرا وأقرا فقال أنوشروان إني مجازيكما بما تستحقان فإنه لا يكون جزاء من قتل سيده وغدر به إلا القتل وأما رفعكما على الناس فإني أصلبكما على أطول جذع أجده ثم أمر ففعل بهما ذلك وأحسن منها حيلة عملت على الاسكندر فخفي عليه الصواب في التخلص منها وهي ما حكى عنه أنه كان لا يدخل مدينة عنوة إلا هدمها وقتل من فيها فقدم على مدينة كان فيها مؤدب له فخرج إليه فأعظمه وأكرمه وأكبره ثم قال له ما جاء بك قال أيها الملك إن أحق من زين لك أمرك وأعانك عليه لأنا وإن أهل هذه المدينة أبو اطاعتك وطمعوا فيك لمكاني منك وأحب أن لا تشفعني فيهم وأن تخالفني في كل ما أسألك فيه من أمرهم فلما سمع الاسكندر مقالته ظن ذلك نصحاً له وإن غرض المعلم وافق غرضه وسر بذلك فلما رأى المعلم سروره طلب منه العهد على ذلك فعاهده فلما استوثق منه ذلك قال أيها الملك إني أرى من الرأي أن تهدم هذه المدينة وتقتل أهلها فقال الاسكندر لا سبيل إلى ذلك ولا بد من مخالفتك قال فارتحل عنها إذاً فارتحل أمر عمر بن الخطاب بقتل الهرمزان فشكا العطش فأتى بإناء فيه ماء فلما تناوله أظهر رعشة في يده يوهم أنها من خوف فقال عمر لا بأس عليك حتى تشرب فرمى الإناء من يده فكسره فأمر عمر بقتله قال أوليس قد أعطيتني الأمان قال متى قال ألست قلت لا بأس عليك حتى تشرب ولم أشرب فقال عمر قاتله الله أخذ منا الأمان ولم نشعر ومن ظريف الحيل ما حكى إن سلمان الفارسي خطب بنتاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فأجابه إلى تزويجه فشق ذلك على ولده عبد الله وشكاه إلى عمرو بن العاص فقال له أنا أرده عنك فقال إن رددته بما يكره غضب أمير المؤمنين فقال لك علي أن أرده راضيا ثم أتى سلمان فضرب بين كتفيه وقال هنيأً لك أبا عبد الله هذا أمير المؤمنين يتواضع بتزويجك بنته فالتفت إليه مغضباً وقال إني متواضع والله لا أتزوجها وأسر معاوية عمرو بن أوس الأودي وكان من أصحاب علي يوم صفين فقدمه للقتل فقال لا تقتلني فانك خالي فقال من أين أنا خالك ولم يكن بيننا وبين أود صهارة فقال إن أخبرتك يكن نافعي عندك قال نعم قال أليست أختك أم حبيبة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين قال بلى قال فأنا ابنها وأنت أخوها فاستظرف قوله وخلى سبيله وحاصر سعد بن أبي وقاص حصن تيماء فطلب من فيه الأمان فأجابهم إلى ذلك فلما تسلمه قتل كل من فيه الأرجلا واحداً وعزم معن بن زائدة على قتل جماعة من الاسراء فلما مثلوا بين يديه قام أصغر القوم وقال أيها الأمير أتقتل أسراك وقد جاعوا وعطشوا فأمر لهم بطعام وشراب فلما أكلوا وشربوا قام إليه وقال أيها الأمير أتقتل أضيافك فحلم عليهم وخلى سبيلهم ولما قبض على ابن المقنع وكل به رجل يعذبه في مال طلب منه فلما طال عليه ذلك وخشى على نفسه التلف اقترض من صاحب العذاب مائة ألف درهم فكان بعد ذلك يرفق به خوفاً على ماله واقتحم رجل على الأحنف بن قيس مجلسه فلطمه فقال له ما حملك على ما فعلت فقال لطمني رجل من تميم فأقسمت أن أقتص من سيدهم فقال له الأحنف لم تبر في يمينك ولست بسيد تميم وإنما سيدهم حارثة بن قدامة فذهب الرجل إليه فوجده بين قومه فلطمه فأمر بقطع يده فقطعت فيقال ما قطع يده إلا الأحنف الذي جرأه على غيره ولم يؤدبه على فعله وإن كانت هذه الحكاية ليست جارية على المعهود من حلم الأحنف فإن النفوس الشريفة تأتي الاسترسال في الاحتمال لما يحصل في حقها من إهمال واجهال كما قال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي معتذراً عمن أحوجه الذب عن سيأدته إلى الخروج عن عادته
إذا أحوجت ذا كرم تخطى ... إليك ببعض أخلاق اللئام
وما خرق اللئيم وإن تعدّى ... بأبلغ فيك من حقد الكرام

ولى عبد الملك بن مروان أخاه بشراً العراق وضم إليه روح بن زنباغ فلما دخل العراق أغرى بالشراب وثقل عليه ابن زنباغ فقال يوماً من يحتال لي فيه فقال ثمامة الباهلي أنا ثم صار إلى دهليز روح وكتب على حائطه
يا روح من لزنابير محرّشة ... إذا يقال لأهل المغرب الباغي
إنّ الخليفة قد شالت نعامته ... فاحتل لنفسك يا روح بن زنباغ
فلما قرأه ما ظن إلا أن بعض الجن كتبهما فعدا إلى بشر فاستأذنه في الرجوع إلى الشام فامتنع بشر من الاذن له وجعل يسأله أن يقيم فأبى فأذن له فلما دخل على عبد الملك قال الحمد لله على سلامتك يا أمير المؤمنين قال وما ذاك فأخبره الخبر فقال له سخرك بشر وأهل العراق لما نقلت عليهم فاحتالوا للراحة منك وقدم قوم غريماً لهم إلى قاض وادعوا عليه بمال فصدقهم فأمره القاضي أن يدفع لكل ذي حق حقه فقال إن لي ريعاً وقد حان استغلاله فإن رأوا أن يؤجلوني أياماً حتى أستغله وأؤدي إليهم حقوقهم فلا بأس فسألهم القاضي ذلك فقالوا والله ما نعلم له سبداً ولا لبداً فقال له القاضي اذهب فقد فلسك غرماؤك وحكى أن رجلاً أراد الحج فأودع عند رجل مالاً فلما رجع طلبه منه فجحده إياه فأتى إياساً القاضي فأخبره فقال له لا تعلم أحداً أنك جئتني وعد إلي بعد يومين ثم دعا اياس ذلك الرجل المودع عنده وقال له إنه قد تحصل عندنا مال لأيتام وأريد دفعه إليك ليكون وديعة في حرزك فحصن بيتك وانتخب أقواماً ثقات يحملونه معك فرجع الرجل وأصلح منزله ثم دعا اياس صاحب المال وقال له انطلق إلى صاحبك واطلب منه مالك وقل له إن أنت لم ترده علي شكوتك للقاضي فذهب الرجل إليه وطلب منه المال فرده عليه فأخبر الرجل اياساً بذلك فقال ربما كانت الحيلة وسيلة إلى درك المطلوب ولم يعاود اياساً ذلك الرجل المودع عنده فيما وعده به
والحازم من أضاف إلى تاج رياسته ... عقوداً من جواهر سياسته
فانهم قالوا من طلب الرياسة فليصبر على مضض السياسية ويقال إذا صحت السياسة ثبتت الرياسة وصف أنوشروان سياسته فقال لم أهزل في أمر ولا نهي ولم أخلف في وعيد ولا وعد وأعاقب للأدب لا للغضب وأثيب للغنى لا للهوى فأودعت قلوب الرعية هيبة لا يشينها منهم هلع ومحبة لا يشوبها فيهم طمع وعممت بالقول وحذفت الفضول وقال أردشير لأصحابه وقد سعى عنده بانسان إنما أملك الظواهر لا النيات وأحكم بالعدل لا بالرضا وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر ومن كلامه لا سلطان إلا برجال ولا رجال إلا بمال ولا مال إلا بعمارة ولا عمارة إلا بعدل وقالت الحكماء أسوس الملوك لرعيته من قاد أبدانها بقلوبها وقلوبها بخواطرها وخواطرها بأسبابها من الرغبة والرهبة وقالوا قلوب الرعيه خزائن ملكها فما أودعها من شيء فليعلم أنه فيها وقال بزرجمهر العقل حديقة سياجها الشريعة والشريعة سلطان يجب لها الطاعة والطاعة سياسة يقوم بها الملك والملك راع يعضده الجيش والجيش أعوان يكفلهم المال والمال رزق تجمعه الرعية والرعية سواد يستعبدهم العدل والعدل أساس به قوام العالم وقالوا ينبغي للملك أن يتفقد أمر رعيته في كل شهر وأمر خاصته في كل يوم وأمر نفسه في كل ساعة وقال أبو منصور الثعالبي إذا كان الملك واضح ميسم العدل فارش مهاد الفضل باسط جناح البر منبت نور المحبة ممتد ظل الهيبة مالك عنان السياسة فقد أرخ الزمان بحسن آثاره وشق على الملوك شق غباره ومن كلام بعض البلغاء خير الملوك من كفى وكف وعفا وعف وقال الشاعر في بعض ولاة بني مروان
إذا ما قضيتم ليلكم بمنامكم ... وأفنيتم أيامكم بمدام
فمن ذا الذي يغشاكم في ملمة ... ومن ذا الذي يلقاكم بسلام
رضيتم من الدنيا بأيسر بلغة ... بلثم غلام أو بشرب مدام
ألم تعلموا أن اللسان موكل ... بمدح كرام أو بذم لئام

ويقال ينبغي للملك أن يعمل بخصال ثلاثة تأخير عقوبة المسئ وتعجيل ثواب المحسن والعمل بالأناة فيما حدث له فإن في تأخير العقوبة امكان العفو وفي تعجيل ثواب المحسن المسارعة بالطاعة وفي الأناة انفساح الرأي واتضاح الصواب وسأل المأمون رسول الروم لما قدم عليه عن سيرة ملكهم فقال بذل عرفه وسل سيفه فاجتمعت عليه القلوب رغبة ولجأت إليه رهبة سهل النوال حزن النكال فالرجاء والخوف معقودان في يده قال له فكيف حكمه قال يردع الظالم ويحنو على المظلوم فالرعية اثنان راض ومغتبط قال فكيف هيبته فيهم قال يتصور في القلوب فتخشع له الأبصار فقال له المأمون لله أبوك لقد أحسنت فيما وصفت وما أحسن قول معاوية المسلم بن زياد لما ولاه خراسان إن أباك كفاك أخاه عظيماً وقد استكفيتك صغيراً فلا تتكلن على عذر مني فقد اتكلت على كفاية منك وإياك مني قبل أن أقول إياي منك فإن الظن إذا أخلف مني فيك أخلف منك في وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه وقد أتعبك أبوك فلا ترين نفسك وقال أنوشروان الناس ثلاث طبقات نسوسهم ثلاث سياسات طبقة هم خاصة الأبرار نسوسهم بالعطف واللين والاحسان وطبقة هم خاصة الأشرار نسوسهم بالغلظة والعنف وطبقة هم العامة نسوسهم بالشدة واللين كيلا تخرجهم الشدة ولا يبطرهم اللين وقال عبد الله بن طاهر
إذا كنتم للناس أهل سياسة ... فسوسوا كرام الناس بالرفق والبذل
وسوسوا لئام الناس بالذل يصلحوا ... على الذل إن الذل أوفق للنذل
وقال معاوية بن أبي سفيان إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني ولو أن بيني وبين العامة شعرة لما انقطعت قيل له وكيف ذاك قال إن جذبوها أرخيتها وإن أرخوها مددتها وكان زياد إذا ولى رجلاً عملاً قال خذ عهدك وسر إلى بلدك واعلم بأنك مصروف رأس سنتك وأنك تصير إلى أربع خلال فاختر لنفسك إن وجدناك أميناً ضعيفاً استبدلنا بك لضعفك وسلمتك من معرتنا أمانتك وإن وجدناك قوياً خائناً استعنا بقوتك وأحسنا على خيانتك أدبك وإن جمعت علينا الجرمين جمعنا عليك المضرتين وإن وجدناك قوياً أميناً زدنا في عملك ورفعنا ذكرك وأوطأنا عقبك وقالوا إذا كان للمحسن من الحق ما لا يقنعه وللمسئ من أليم العذاب ما بقمعه يذل المحسن النصح رغبة وانقاد المسئ إلى الحق رهبة ولا ينبغي لأحد من الملوك أن يعدل عن قول أردشير بن بابك المستفاد منه والمستفاض عنه وهو قوله لبعض موابذته اعلم أن الملك والدين أخوان توأمان لأقوام لأحدهما إلا بالآخر لان لدين هو أمن الملك وعماده والملك هو قائم سيف الدين ونجاده ولا بد للملك من أس ولا بد للدين من حارس فإن من لا حارس له ضائع ومن لا أس له مهدوم واعلم أنه يجب على الملك وعلى الرعية أن لا يكون للفراغ عندهم موضع فإن التضييع في فراغ الملك وفساد الملك من فراغ الرعية وقال شيآن إن صلح أحدهما صلح الآخر السلطان والرعية وقال المأمون أسوس الملوك من ساس نفسه لرعيته فأسقط عنه مواقع حجتها وقطع مواقع حجته عنها كان الرشيد في بعض غزواته فالح عليه الثلج ليلة فقال له بعض أصحابه يا أمير المؤمنين أما ترى ما نحن فيه من الجهد والنصب ووعثاء السفر والرعية قارة وادعة نائمة فقال اسكت فللرعية المنام وعلينا القيام ولا بد للراعي من حراسة الرعية وتحمل الأذية وإليه أشار بعض مداحه
غضبت لغضبتك الصوارم والقنا ... لما نهضت لنصرة الاسلام
ناموا إلى كنف بعد لك واسع ... وسهرت تحرس غفلة النوّام

العاقل من شغله عيبه عن عيب من سواه
ولم يطع في جواب السفيه أمير هواه

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق الفضل من ماله ورحم أهل الذلة والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة وقال عليه الصلاة والسلام لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يوشك أن يفضحه ولو في رحله وقال أكثم بن صيفي استر عيب أخيك لما تعلم من نفسك وقالوا أحمق الناس من أنكر من غيره ما هو مقيم عليه قيل للربيع بن خيثم مالك لا تعيب أحداً قال لست عن نفسي راضياً فاتفرغ لعيوب الناس ومذامهم وقالوا من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون ومن تتبع مساوئ العباد فقد نحلهم عرضه قال الشاعر
لا تكشفن من مساوئ الناس ما ستروا ... فيكشف اللّه ستراً من مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحداً منهم بما فيكا
وما أحسن قول القائل
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى ... ودينك موفور وعرضك صين
فلا ينتطق منك اللسان بسوأة ... فللناس سوآت وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك مساوياً ... لقوم فقل يا عين للناس أعين
فعاشر بانصاف وكن متودّداً ... ولا تلق إلا بالتي هي أحسن
وقالوا فلان يصم أذنه عن الفحشاء ويخرس لسانه عن التكلم بها وقال الشاعر يمدح
غنيّ عن الفحشاء أمّا لسانه ... فعف وأمّا طرفه فكليل
آخر
كريم له عينان عين عن الخنا ... تنام وأخرى في المكارم تسهر
آخر
وإذا تواخاك امرؤ بقبيحه ... فأجبه بالاحسان والاجمال
حكى أن رجلاً عاب رجلاً عند المأمون فقال له المأمون قد استدللنا على كثرة عيوبك بما تذكر من عيوب الناس لأن طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما هي فيه لا بقدر ما فيه منها وقال الشاعر
أرى كل إنسان يرى عيب غيره ... ويعمى عن العيب الذي هو فيه
وما خير من تخفى عليه عيوبه ... ويبدله بالعيب عيب أخيه
وقالت رابعة العدوية الانسان إذا نصح لله في نفسه أطلعه الجبار على مساوئ عمله فيتشاغل بها عن خلقه
والعاقل من جعل اغضاءه عن المساوئ ... حصناً إليه من ذم اللئام يأوي
يقال ربما سخط العاقل فيبدي الرضا ويغضي مثل جمر الغضا وقيل لبزرجمهر من أعقل الناس قال من لم يجعل سمعه غرضاً لسماع الفحشاء وكان الغالب عليه التغافل وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه من امتطى زمام التغافل ملك زمام المروأة وقالوا أشرف الكرم تغافلك عما تعلم ويقال التغافل من الكرام يمنحهم الاجلال والاكرام أنشد الباخرزي في الدمية لأبي الفضل عبد الله بن محمد الحيري رحمه الله تعالى
يا من يعرّض بالخنا متوهماً ... جهلي به مهلاً فإنك جاهل
كم مرّة أغضيت منك على قذى ... لولا النهى لرأيت ما أنا فاعل
آخر
ويشتمني النذل اللئيم فلا أرى ... كفؤاً لعرضي عرضه فأجامله
أجرّ له ذيلي كأني غافل ... أضاحكه طوراً وطوراً أخاتله
وقيل لبعضهم من العاقل قال الفطن المتغافل قال الشاعر
أعرض عن العوراء إن أسمعتها ... وأسكت كأنك غافل لم تسمع
ولبعضهم معرباً بكرمه ومعرّفاً بشيمه
وإني لأغضى عن أمور كثيره ... ومن دونها قطع الحبيب المواصل
وأعرض حتى يحسب الناس أنني ... جهلت الذي آتى ولست بجاهل
آخر
وأغضى عن العوراء حتى يقال لي ... بأذنيه وقر عندها حين ينطق
حياء وإكراماً لعرض أصونه ... ولا خير في عرض يظلّ يمزق
آخر
دعى ملاحاة من هجاني ... يا نفس إن تغفلي تصاني
إذا حكيت البذا عليه ... فما هجاني سوى لساني
وأمّا ما قبل في التغاضي والاحتمال ... والكف عن جواب قبيح المقال
قالوا أعقل الناس من لم يتجاوز الصمت في عقوبة السفيه وقال بعض الحكماء السكوت عن السفيه جواب والاعراض عنه عقاب قال الشاعر
إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من اجابته السكوت

فإن جاوبته فرجت عنه ... وإن خليته كمداً يموت
وقال بعضهم
لا ترجعنّ إلى السفيه حكاية ... إلا جواب تحية حياكها
فمتى تحركه تحرك جيفة ... تزداد نتناً ما أردت حراكها
وآخر
أرى الكف عن شتم السفيه تكرّماً ... أضرّ به من شتمه حين يشتم
وقالوا إذا سكت عن الجاهل فقد أوسعته جواباً وأوجعته عذاباً ويقال ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة حليم من أحمق وبر من فاجر وشريف من دنئ شاعر
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليماً أو أصابك جاهل
فأصبحت أمّا نال عرضك جاهل ... سفيه وأمّا نلت ما لا تحاول
وقال بعض الأعراب يمدح قومه
تخالهمو صماً وعمياً عن الخنا ... وخرساً عن الفحشاء عند التهاجر
ومرضى إذا لوقوا حياء وعفة ... وعند الحفاظ كالليوث الجواذر
لهم دل انصاف ولين تواضع ... وعفو عن المولى وحسن تصابر
تخال بهم داء يخافون عاره ... وما وصمهم إلا اتقاء المعاذر
والعاقل من قنع من الدنيا باليسير ... وحصل فيها من التقوى زاداً للمسير
وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا فقال من صح فيها سقم ومن سقم فيها برم ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها فتن حلآلها حساب وحرامها عقاب ومتشابهها عتاب من طلبها فاتته ومن قعد عنها أتته ومن بصر بها بصرته ومن نظر إليها أعمته ووصف ابن السماك الدنيا فقال من نال منها مات فيها ومن لم ينل منها مات عليها ووصف محمد بن تومر الدنيا فقال لحظة بين عدمين فيها شركاء متشاكسون وقال حكيم الدنيا تطلب لثلاثة أشياء للغنى وللعز وللراحة فمن قنع استعنى ومن زهد فيها عز ومن قل سعيه استراح وقال عيسى عليه السلام أنا الذي كبيت الدنيا على وجهها وجلست على ظهرها فليس لي زوج تموت ولا دار تخرب وقال ابن السماك من جرعته الدنيا حلاوتها بميله إليها جرعته الآخرة مرارتها بتجافيه عنها وقال علي رضي الله عنه الدنيا والآخرة كالمشرق والمغرب أبصرت من أحدهما بعدت عن الآخر ويروى عنه أنه قال الدنيا والآخرة ضرتان متى أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى ثم قال لا بل أختان ولا يمكن الجمع بين الاختين وقال عليه الصلاة والسلام لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق جروفي يد مجذوم ويقال عين الدهر تطرف بالمساوئ والخلائق نيام بين أجفانها وقال بعض المستقيلين منها وأحسن
أف لدنيا ليست تواتيني ... إلا بنقضي لها عرى ديني
عيني لجنبي تدير مقلتها ... تريد ما ساءها لترديني
مر محمد بن واسع على قوم فسأل عنهم فقيل له هؤلاء الزهاد قال وما قدر الدنيا حتى يزهد فيها وقال علي رضي الله عنه الدنيا جيفة فمن أرادها فليصبر على مخالطة الكلاب وقال منصور بن عمار الدنيا أولها بكاء وأوسطها عناء وآخرها فناء وقال لقمان لابنه يا بني بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً وقال الفضيل بن عياض لو عرضت علي الدنيا بحذافيرها حلالاً أحاسب عليها في الآخرة لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه وقال جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا وقال يوسف بن أسباط إن الدنيا لم تخلق لينظر إليها إنما خلقت لينظر بها إلى الآخرة وقال إبراهيم بن أدهم مساكين الأغنياء طلبوا الراحة فعدموها ووجدها الزهاد فلزموها ومن المنظوم في ذلك
تباً لطالب دنيا لا بقاء لها ... كأنما هي في تصريفها حلم
صفاؤها كدر سرّاؤها ضرر ... أمانها غدر أنوارها ظلم
شبابها هرم راحاتها سقم ... لذاتها ندم وجدانها عدم
لا يستفيق من الانكاد صاحبها ... لو كان ما منحت ما ضمنت ارم
فخلّ عنها ولا تركن لزهرتها ... فإنها نعم في طيها نقم
واعمل لدار نعيم لا نفاد له ... ولا يخاف به موت ولا هرم
وقال بعض الزهاد وأحسن
ومن يحمد الدنيا لشيء يسرّه ... فسوف لعمري عن قليل يلومها

إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ... وإن أقبلت كانت كثيراً همومها
آخر
يا خاطب الدنيا إلى نفسه ... لنته عن خطبتها تسلم
إنّ التي تخطب غرّارة ... قريبة العرس من المأتم
وقال أحمد بن عبد ربه صاحب العقد
ألا إنما الدنيا غضارة أيكة ... إذا اخضرّ منها جانب جف جانب
هي الدار ما الآمال إلا فجائع ... عليها وما اللذات إلا مصائب
فكم سخنت بالأمس عين قريرة ... وقرّت عيون دمعها الآن ساكب
فلا تكتحل عيناك منها بعبرة ... على ذاهب منها فانك ذاهب
وذكرت الدنيا عند الحسن البصري فقال
ألا إنما الدنيا كأحلام نائم ... وما خير عيش لا يكون بدائم
تأمّل إذا حاولت بالأمس لذة ... فأفنيتها هل أنت إلا كحالم
آخر
إنما الدنيا كظل زائل ... طلعت شمس عليه فاضمحل
كان في دار سواها داره ... عللته بالمنى ثم ارتحل
آخر
لعمرك ما الدنيا بدار إقامة ... ولكنها دار انتقال لمن عقل
إذا رفعت حطت وإن هي أحسنت ... أساءت وإن أعطت فأيامها دول
آخر
مزمومة بالهمّ مخطومة ... سمّ زعاق سمّ أخلافها
ولم تزل تقتل ألافها ... أفّ لقتالة ألافها
ويقال ليس الزاهد في الدنيا من زهد فيها وقد أعرضت عنه وانبثت منه ولم تمكنه من متاعها وضاقت عليه مع اتساعها وهو مضطر إلى ذلك لظهور عسرته ونفود يسرته وإنما الزاد في الدنيا من أقبلت عليه وحشدت فوائدها إليه وحسنت له في ذاتها وأمكنته من لذتها فأعرض عنها وزهد فيها شاعر
إذا المرء لم يزهد وقد جمعت له ... ضروب من الدنيا فليس بزاهد
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما الزاهد في الدنيا من يكون بما في يد الله أغنى منك بما في يدك وما أكثر انصاف من قال
نراع بذكر الموت في حال ذكره ... ونعترض الدنيا فنلهو ونلعب
ونحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها ... وما كان منها فهو شيء محبب
وقال بعض البلغاء صاحب الدنيا ساكن راحل وأيامه مراحل وأنفاسه رواحل صاحب الدنيا بين فرحة وترحة وحبرة وعبرة صاحب الدنيا بين العسل والصاب والصحة والأوصاب حكى أن سليما بن عبد الملك قال لعمر بن عبد العزيز وقد أعجبه سلطانه كيف ترى ما نحن فيه فقال عمر سرور لولا أنه غرور وحرم لولا أنه عدم وملك لولا أنه هلك وحياة لولا أنه موت ونعيم لولا أنه عذاب أليم فظهر في وجه سليمان الكآبة من كلام عمر ولم ينتفع بنفسه بعد ذلك وتوفي سنة ثمان وتسعين وهو ابن خمس وأربعين سنة وكانت ولايته سنة ست وتسعين

الفصل الثالث من الباب الثالث
في هفوات العقال
في أنّ هفوات العقال ... لا يغضى عنها ولا تقال
كما قيل
لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة ... للسهو فيها للوضيع معاذر
ذو العلم يعسر أن تقال عثاره ... وتقال عثرته الجهول العاثر
ولسليمان بن عبد الملك فيما قصدناه كلام هو النور اللائح والهادي إلى الطريق الواضح وهو قوله السكوت عما يعنيك خير من الكلام فيما يضرك والسكوت عما لا يضرك خير من الكلام فيما لا يعنيك وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه زلة الرجل تجبر وزلة اللسان لا تبقى ولا تذر قال بعضهم
يموت الفتى من عثرة من لسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل
وقالوا طعن اللسان أنفذ من طعن السنان وجرح الكلام أصعب من وقع السهام وقالوا رب لسان أتى على انسان
ذكر من أرسل سهماً من فيه ... فأصاب مقتله ولم يكد يخطيه

حكى أن رجلاً من الفرس وقف إلى شيرويه لما قتل ابرويز فقال الحمد لله الذي قتل ابرويز على يدك وملكك ما كنت أحق به منه وأراحنا من عتوه وكبره وتجبره وبخله وجهله فإنه كان يأخذ بالأحنة ويقتل بالظنة ويخيف البري ويذل السري فلما سمع شيرويه كلامه قال للحاجب احمله إلي فلما مثله بين يديه قال كم كان رزقك قال ألفين قال والآن قال ما زيد شيأً قال فما دعاك إلى الوقوع فيه وإنما ابتداء نعمتك من عنده ولم ترع له ذلك وأمر بنزع لسانه من قفاه ولما ظهر محمد بن عبد الله بن الحسن بن حسين بالمدينة في أيام أبي جعفر المنصور دخل عليه سديف بن ميمون فأنشده أبياتاً يحرضه فيها على اظهار الدعوة ويطعن في دولة بني العباس يقول فيها
إنا لنأمل أن ترتدّ الفتنا ... بعد التبعد والشحناء والأحن
وتنقضي دولة أحكام قادتها ... فينا كأحكام قوم عابدي وثن
فانهض ببيعتكم ننهض ببيعتنا ... إن الخلافة فيكم يا بني حسن
فبلغت المنصور الأبيات فكتب فيه إلى عبد الصمد بن علي وكان عامله على مكة فأخذه وقطع يديه ورجليه وجدع أنفه فلم يمت فدفنه حياً وكان دعبل الخزاعي هجاء للملوك جسوراً على أعراضهم متحاملاً لا يبالي ما صنع حتى عرف بذلك واشتهر فصنع على لسانه بكر بن حماد الباهري ممن كان دعبل يؤذيه ويهاجيه أبياتاً يهجو فيها المعتصم وذكر قوم أنها له وهي
ملوك بني العباس في الكتب سبعة ... ولم يأتنا عن ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة ... كرام إذا عدوا وثامنهم كلب
وما أنت عندي في الوفاء ككلبهم ... لأنك ذو ذنب وما أذنب الكلب
فبلغت المعتصم الأبيات فأمر بطلبه فهرب إلى زويلة بلد السودان بناحية المغرب فمات بها وقيل بالأهواز وقيل لدعبل أنت القائل هذه الأبيات قال لا والله ولكن من حشا الله قبره ناراً يعثى إبراهيم بن المهدي اشاط بدمي لما هجوته بقولي فيه وهو خليفة
يا معشر الأعراب لا تقنطوا ... خذوا عطاياكم ولا تسخطوا
فسوف نعطيكم شريجية ... لا تدخل الكيس ولا تربط
والمعبديات لقوّاد كم ... وما بهذا أحد يغبط
وهكذا يرزق أصحابه ... خليفة مصحفه البربط
وكان المعتصم يلقب بالثماني لأنه اتفق له عدد الثمانية في كثير من أموره ولد في شهر شعبان وهو الثامن من شهور السنة وهي سنة ثمان وسبعين ومائة وهو ثامن بني العباس مولداً وثامنهم ولاية وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر وعمر ثماناً وأربعين وغزواته وفتوحاته ثمان وقتل ثمانية أعداء وخلف ثمان بنين وثمان بنات وترك ثمانمائة ألف دينار ومثلها دراهم إلى غير ذلك من عدد الثمانية رجع ما انقطع ذكر أبو القاسم الأيادي أن جماعة من بني أمية دخلوا على أبي العباس السفاح وفيهم الغمر بن هشام بن عبد الملك فألح إليه أبو العباس بالنظر فلما رأى الغمر ذلك منه أنشده
عبد شمس أبوك وهو أبونا ... لا نناديك من مكان سحيق
والقرابات بيننا واشجات ... محكمات العرى بعقد وثيق
فأعجبه ذلك منه وأجلسه معه على السرير وأقعد أصحابه يميناً وشمالاً وقال لهم إني أريد أن أخلطكم بنفسي واستخلصكم لها فشكروه على ذلك فبينما هم يتحدثون إذ دخل عليهم سديف فأنشد السفاح القصيدة التي أولها عمر الدين فاستبان ملياً حتى أتى على آخرها فقال السفاح يا ابن هشام كيف ترى شاعرنا فقال قولاً معجلاً لحينه وأرباب بني أمية إن شاعرنا لا شعر من شاعركم وأكثر بياناً وأفصح لساناً فقال السفاح وما قال شاعركم فقال
لو تحمل البخت والأفيال مثقلة ... أحلامهم تركت عقري الأباهير
لا يعبثون إذا سجت جحافلهم ... زين المجالس فرسان المنابير
فاحمرت عينا السفاح وهاجت به حمة كانت فيه قد سكنت ثم ضرب على فخذ الغمر وقال
طمعت أمية أن تجاوزها شما ... عنها ويذهب زيدها وحسينها
كلا وربّ محمد ومليكه ... حتى يبيد كفورها وحرونها

ثم قال قوموا إلى مقصورتكم ثم دعا بثلاثة وسبعين رجلاً من أهل خراسان فأعطاهم الخشب وقال اشدخوهم فشدخوهم عن آخرهم قال سديف والله ما خرجت من الأنبار حتى رأيتهم معلقين بعراقيبهم قد نهشت الكلاب رؤسهم ولما بنى زياد بيضاء البصرة وهي أول بناء بني بالجص والآجر بالبصرة أمر أصحابه أن يسمعوا من أفواه الناس ما يقولون فيها ويبلغوه ويأتوه بالقائل فأتى بانسان قيل إنه لما رآها تلا قوله تعالى أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون فقال زياد ما حملك على هذا قال لم يكن أيها الأمير هذا عن قصد وإنما خطرت على قلبي فتلاها لساني فقال والله لاعملن فيك بباقي الآية وإذا بطشتم بطشتم جبارين وأمر به فبنى عليه ركن من أركانها وكان أحمد بن يوسف الكاتب كثير السقطات وكان يجالس المأمون وكان المأمون إذا تبخر لا يستقصي البخور وتخرج المجمرة بما يبقى فيها فتوضع تحت الرجل والرجل من الجلساء اكراماً لهم واعتناء بهم فجاءت النوبة يوماً لأحمد بن يوسف فقال هاتوا المردود فسمعه المأمون فقال ألنا يقال هذا ونحن نجيز رجلاً واحداً من خدمنا بعشرة آلاف درهم وأكثر ويحك إنما قصدنا اكرامك أن أكون أنلو أنت اقتسمنا بخوراً واحداً ولا يأبى الكرامة إلا لئيم ثم أمر المأمون أن يطرح في المجمرة ثلاث مثاقيل من العنبر ويبخر بها أحمد ويدخل رأسه في طوقه حتى ينفذ ريحها ففعل به ذلك وهو يستغيث فلا يغاث حتى احترق دماغه وقام من المجلس إلى منزله فمات من ليلته
وممن أسقط من العقلاء في كلامه ... فكان سبباً مؤكداً للومه وإيلامه
ذو الرمة فإنه وصف لعبد الملك بن مروان ذكاؤه وجودة شعره فأحب أن يراه فأمر باحضاره فلما دخل عليه استنشده فأنشده قصيدته المذهبة وافتتحها بقوله
ما بال عينك منها الماء ينسكب ... كأنه من كلا مقريه ينسرب
واتفق إن كانت عينا عبد الملك يسيلان دائماً فظن أنه عرض به فغضب فقال له مالك يا ابن اللخناء ولهذا السؤال ثم قطع انشاده وأمر باخراجه فأقام حتى أذن للشعراء مرة ثانية فدخل معهم وقد غير ما قال أولاً وأنشده
ما بال عيني منها الماء ينسكب ... حتى انتهى إلى قوله
كحلاء في برج صفراء في نعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب
فأجازه وأكرمه وقال له لو أنها قيلت في الجاهلية لسجدت لها العرب ودخل أبو النجم الشاعر على هشام بن عبد الملك مع الشعراء فأنشده أرجوزته التي أولها الحمد لله الوهوب المجزل حتى انتهى إلى قوله يصف الشمس وهي على الأفق كعين الأحول ولم يقل الأحول وقطع انشاده وارتج عليه وعلم أنها زلة عاقل فخشى أن تكون غفلة جاهل لان هشاماً كان أحول فقال له هشام ويلك أتمم البيت وأمر بوجء عنقه واخراجه من الرصافة ولما مات عبد الملك بن مروان وذلك في النصف من شوال سنة ست وثمانين وكان عمره يومئذ ستين سنة وأياماً وقيل اثنين وستين وكانت مدة خلافته إحدى وعشرين سنة وأياماً سجاه ابنه الوليد فأنشده هشام أخوه
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما
فلطمه الوليد على فمه وقال اسكت يا ابن الأشجعية فانك أحول أكشف تنطق بلسان شيطان ودخل جرير بن عطية الخطفي على عبد الملك بن مروان بعد ما منعه من الدخول عليه كراهة فيه وفي شعره فأنشد
أتصحو أم فؤادك غير صاحي ... عشية همّ قومك بالرواح
فقال له بل فؤادك يا ابن اللخناء فحصر جرير وخرج خائباً وفي هذه القصيدة يقول مادحاً بما لم يأت أحد بمثله
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
خاصم رجلاً خالد بن أبي صفوان وكان قد كف بصره فترافعا إلى بلال ابن أبي بردة وكان أمير الكوفة وقاضيها فقضى على خالد ثم مر به مركب بلال فسأل من هذا قالوا بلال فقام خالد وهو يقول

سحابة صيف عن قليل تقشع فسمعه بلال فقال له والله لا تقشع حتى يصيبك منها شؤبوب برد ثم أمر به فضرب مائتي سوط وأمر بحبسه فقال له خالد علام تفعل بي هذا ولم أجن جنابة فقال بلال يخبرك بذلك باب مصمت واقياد ثقال وقيم يقال له حفص ثم ضرب الدهر ضرباته فنكب بلال بعد ذلك واحضره يوسف بن عمر الثقفي عامل هشام في قيوده وكان خالد جالساً عنده فقال له أيها الأمير إن بلالاً عد والله ضربني وحبسني ولم أفارق جماعة ولا خلعت يداً من طاعة ثم التفت إلى بلال وقال الحمد لله الذي أذل سلطانك وهد أركانك وأزال جمالك وغير حالك فوالله لقد كنت شديد الحجاب مستخفاً بالشريف مظهراً للمعصية فقال بلال يا خالد إنما استطلت علي بثلاث الأمير عليك مقبل وعني معرض وأنت طليق وأنا عان وأنت في وطنك وأنا غريب فأفحمه
ومن الهفوات الجارية مجرى التطير ... المؤذن لفظها بالزوال والتغير
قال علوية كنت مع المأمون لما خرج إلى الشأم فدخلنا دمشق وجعلنا نطوف فيها على قصور بني أمية فدخلنا قصراً من قصورها فوجدناه مفروشاً بالرخام الأخضر كله وفيه بركة يدخلها الماء ويخرج منها فيسقى روضة قد جمعت فيها أنواع الأشجار وفي القصر من أجناس الأطيار وما يغني صوتها عن العود والمزمار فاستحسن المأمون ما رأى وعزم على الصبوح ندعى بالطعام والشراب فأكلنا وشربنا ثم قال غنني بأطيب صوت وألذه فلم يمر بخاطري غير هذا الصوت
لو كان حولي بنو أمية لم ... ينطق رجال أراهم نطقوا
فنظر إلي مغضباً وقال عليك وعلى بني أمية لعنة الله فعلمت أني قد أخطأت فأخذت اعتذر من هفوتي وقلت يا أمير المؤمنين أتلومني أن أذكر بني أمية وزرياب عبدهم كان يركب في مائتي غلام ومملوك له وملك ثلثمائة ألف دينار إلى غير ذلك من الضياع والأثاث وأنا عبدكم أموت جوعاً فقال ما وجدت شيأً تذكرني به نفسك غير هذا ثم سكت ساعة وقال اعدل عن هذا وغنني بما اقترحت عليك فلم يحضرني غير هذا الصوت
الحين ساق إلى دمشق ولم ... أرضى دمشق لأهلها وطنا
فرماني بالقدح فأخطأني وقال قم إلى لعنة الله وحر سقره ثم قام وركب فكان آخر عهدي به حتى مات ومات المأمون لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين وكانت خلافته منذ قتل الأمين محمد عشرين سنة وأشهراً وله من العمر ثمان وأربعون سنة ومات المعتصم أيضاً في هذا العمر وكانت ولايته ثمان سنين وثمانية أشهر وكذلك عمر عبد الله بن طاهر وتوفي في ربيع الأول سنة ثلاثين ومائتين وكانت مدة امارته بخراسان تسع عشرة سنة ولما فرغ المعتصم من بناء قصره بالميدان جلس فيه مع جمع من أعيان جلسائه وندمائه سروراً به فما رأى الناس أحسن من ذلك اليوم فقام إسحق بن إبراهيم الموصلي وأنشده قصيدة يهنئه فيها أولها
يا دار غيرك البلى ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك
فتطير المعتصم وتغامز الناس وعجبوا من بادرته وهفوته مع علمه وفهمه وطول خدمته للملوك وقام المعتصم من ذلك المجلس متطيراً فذكر أنه لم يعد إليه بعد ومن قبيح ما وقع لأبي نواس الذي أساء فيه أدبه وخالف به مذهبه ما حكى أن جعفر بن يحيى البرمكي بنى داراً وتأنق فيها وانتقل إليها فدخل عليه أبو نواس مع من دخل إليه من الشعراء لهنائها فأنشده
أدار البلى إن الخشوع لبادي ... عليك وإني لم أخنك ودادي
فمعذرة مني إليك بأن ترى ... رهينة أرواح وصوت غوادي
ولا أدرأ الضراء عنك بحيله ... فما أنا منها قائل بسعادي
فإن كنت مهجور القناة فما رمت ... يد الهجر عن قوس المنون فؤادي
فإن كنت قد بدلت بؤساً بنعمة ... فقد بدلت عيني قدي برقاد
وختمها بقوله
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمك من رائحين وغاد

فتطير جعفر لها وأظهر الوجوم ثم قال نعيت إلينا أنفسنا يا أبا نواس فلم تكن إلا مدة يسيرة حتى أوقع بهم الرشيد وزعم بعض أهل التاريخ إن أبا نواس قصد التشاؤم لهم لشيء كان في صدره من الممدوح وسبب ذلك أن أبا نواس دخل عليه يوماً فلم يهش له ولم يدن مجلسه وكلح في وجهه ثم دخل مسلم بن الوليد فهش له وأدنى مجلسه وأقبل عليه فحمل أبا نواس وأغراه الحسد فعمل هذه القصيدة على طريق التطير وقال المبرد في الروضة إن أبا نواس عملها في الفضل بن يحيى وحكى الصابي في كتاب الهفوات أن شرف الملك أبا سعيد الوزير جلس يوم عيد والناس يدخلون عليه يهنؤنه ويمدحونه فأنشده أحد الشعراء من قصيدة يعاتبه
وأنت حصني الذي ألوذ به ... فماله قد تهدّمت شرفه
فتطير من ذلك لمناسبة شرفه بشرف الملك في لقبه ثم أنشد آخر قصيدة أولها
عقد الصيام بيوم الفطر محلول ... فقدّم الكاس فالقنديل معزول
فازداد تطيره وعجب الحاضرون من سوء ما اتفق فلما كان السابع من شوال قبض عليه
من استدرك هفوة لسانه من العقلاء ... ورد بالاعتذار عنه ما نزل به من البلاء
يحكى أن المنصور قال حججت سنة إحدى وأربعين ومائة وأبا خليفة ماشياً لنذر لزمني فانفردت عن الناس فإذا أنا بأعمى كنت أعرفه يتردد إلى مروان بن محمد فسلمت عليه وأخذت بيده فقال من أنت قلت رفيقك إلى الشأم وأنت تريد مروان بن محمد فرد علي السلام وأنشد
آمت نساء بني أمية منهم ... وبناتهم بمضيعة أيتام
نامت جدودهم وأسقط نجمهم ... والنجم يسقط والجدود نيام
خلت المنابر والاسرّة منهم ... فعليهم حتى الممات سلام
فقلت له والغضب مستول علي والرفق به مشير إلي كم كان مروان أعطاك قال أغناني حتى لا أسأل أحداً بعده أبداً ملكني الغلمان والجواري والمال والعقار قلت وأين ذاك قال بالبصرة قال المنصور فلولا أن حق الصحبة منعني عنه كنت هممت به وشفيت نفسي منه فقلت له أتعرفني قال ما أثبتك معرفة ولا أنكرك من سوء قلت أنا المنصور فأسقط في يده ووقعت عليه الرعدة ثم قال يا أمير المؤمنين أقلني جبلت القلوب على حب من أحسن إليها فأقلته وانصرفت ثم طلبته بعد ذلك ليسامرني فلم أجده فكان البيداء أبادته قال أبو الفرج الأصفهاني وهذا الأعمى هو أبو العباس بن السائب بن فروخ من بني الليث وقيل من بني الديل بن بكر له في بني أمية مدائح أجزلوا له بها المنائح فمنها قوله
وكل خليفة ووليّ عهد ... لكم يا آل مروان الفداء
امارتكم شفاء حيث كنتم ... وبعض امارة الأمراء داء
وكنتم تحسنون إذا ملكتم ... وغيركم إذا ملكوا أساؤا
هم أرض لأرجلكم وأنتم ... لأيديهم وأعينهم سماء
ولي عمر رضي الله عنه رجلاً من قريش عملاً فبلغه عنه أنه قال
اسقني شربة ألذ لديها ... واسق باللّه مثلها ابن هشام
فعزله فلما قدم عليه قال له أنت القائل وأنشده البيت قال نعم والقائل بعده
عسلاً بارداً بماء سحاب ... إنني لا أحب شرب المدام
فقال له عمر قاتلك الله كذا قلت ورده إلى عمله وأتى عبد الملك بمصلفة بن هبيرة الشيباني وكان ممن أخذ مع الخوارج فأمر بقتله وقال ألست القائل
ومنا سويد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
فقال يا أمير المؤمنين إنما قلت أمير وفتح الراء فاستحسن ذلك منه وأطلقه فانظر إلى حذق هذا الرجل سكن جأشاً بحركة أمد عمره من أجلها بالبركة وذلك بفتح الراء من كلمة وجعل الهمزة حرف النداء والمنادى المضاف منصوب أبداً وقبل هذا البيت
ألا أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... وذو النصح ما ترعاه منك قريب
فإنك ألا ترض بكر بن وائل ... يكن لك يوم بالعراق عصيب
فإن يك منكم كان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب

فمنا سويد البيت وقال الحجاج لعبد الرحمن بن أبي بكرة ما مالك قال لقد ختمت على ألف ألف درهم ثم إن عبد الرحمن بن أبي بكرة شعر بزلة لسانه وخاف عائلة الحجاج فتداركها مسرعاً وقال ولقد أصبحت وما أملك إلا خاتمي وأتى المأمون برجل ادعى النبوة فقال له ما اسمك قال أنا أحمد النبي فقال له لقد ادعيت زوراً ثم أمر به ليضرب فلما رأى الرجل الأعوان قد أحاطت به قال يا أمير المؤمنين أنا أحمد النبي فهل تذمه أنت فتدارك المأمون ما بقي من رمق المنة بالمنة وأورى له زند المحبة بالمحنة وهذا الفن كثير لا يحصى ولا يعز وجوده عند الاستقصا.

الباب الرابع
في الحمق
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في ذم الجهالة
في ذمّ الجهالة والجنون ... وما اشتملا عليه من الفنون
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزوجوا الحمقاء فإن صحبتها بلاء وفي ولدها ضياع وفي حديث آخر لا تسترضعوا الحمقاء فإن لبنها يغير الطباع وقال عمر رضي الله عنه لم يقم جنين في بطن حمقاء تسعة أشهر إلا خرج الولد مائقاً حد الحمق قالوا هو قلة الاصابة ووضع الشيء في غير الموضع الذي وضع له وقيل هو فقدان ما يحمد من العاقل وقيل لعمرو بن هبيرة ما حد الحمق قال لا حد له كالعقل وقال أبو يوسف الناس ثلاثة مجنون ونصف مجنون وعاقل فأما المجنون فأنت منه في راحة لتركك الاختلاط به وأما نصف المجنون فأنت معه في تعب لضرورتك إليه وأما العاقل فقد كفيت مؤنته
فمن قولهم في ذم الحمق واظهار خافيه ... وأنه داء عضال لا يمكن تلافيه
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأحمق أبغض الخلق إلى الله تعالى إذ حرمه أعز الأشياء عليه وهو العقل وقيل أوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أتدري لم رزقت الأحمق قال لا يا رب قال ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاجتهاد وقيل من لا عقل له لا دين له ومن لا دين له لا آخرة له وقال الشعبي إذا أراد الله أن يزيل عن عبد نعمته فإن أول ما يغير منه عقله وقالوا الحمق داء دواؤه الموت وقال الشاعر
لكل داء دواء يستطبّ به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها
وقال بعض الحكماء لو جاز لوم الأحمق على أن يعقل جاز لوم الأعمى على أن يبصر وروى أن عيسى عليه السلام أتى بأحمق ليداويه فقال أعياني دواء الأحمق ولم يعيني مداواة الأكمه والأبرص وقال الشاعر
وعلاج الأبدان أيسر خطباً ... حين تعتل من علاج العقول
وقال معلم موسى الهادي له في معرض التقريع له يا أحمق فهشم أنفه فسأله أبوه المهدي عن السبب فقال قال لي يا أحمق ولو قال لي يا مجنون لاحتملته وقال الشعبي خطب الحجاج يوم جمعة فأطال فقام إليه رجل أعرابي وقال إن الوقت لا ينتظرك وإن الرب لا يعذرك فأمر به فحبس فأتاه أهله وقالوا إنه مجنون فقال الحجاج إن أقر بالجنون خليت سبيله فجاء إلى الرجل أهله وسألوه أن يقر لهم بالجنون فقال لا والله ولا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني فبلغ الحجاج كلامه فعظم في نفسه وأطلقه وقال الأصمعي قلت لغلام من أبناء العرب أيسرك أن يكون لك مائة ألف درهم وأنت أحمق قال لا والله قلت ولم قال أخاف أن يجني علي حمقي جناية تذهب مالي ويبقى حمقي وقال سعيد بن عمار مكتوب في التوراة إن من صنع لأحمق معروفاً فهو خطيئة مكتوبة عليه وقيل إذا قيل لك إن فقيراً استغنى أو غنياً افتقر أو حياً مات أو ميتاً عاش فصدق وإذا بلغك أن أحمق استفاد عقلاً فلا تصدق وقالوا الأحمق تتمنى أمه لو ثكلته وتتمنى زوجته أنها عدمته ويتمنى جاره منه الوحدة ويريد جليسه منه الوحشة
ومما اخترناه من حكم أولي التجارب ... في ذم التعرف بمن هو للنهي محارب

قول عبد الله بن عباس رضي الله عنه مجامعة العاقل في الغل والوثاق خير من مجامعة الجاهل على السندس والاستبرق وقال الأحنف بن قيس إني لأجالس الأحمق ساعة فأتبين ذلك في عقلي وقال لقمان لابنه لا تعاشر الأحمق وإن كان ذا جمال فإنه كالسيف حسن مخبره قبيح أثره وقال الجاحظ لا تجالس الحمقى فإنه يعلق بك من مجالستهم يوماً من الفساد ما لا يعلق بك من مجالسة العقلاء دهراً من الصلاح فإن الفساد أشد التحاماً بالطبائع وقال بزرجمهر مقاساة الأحمق عذاب الروح وقال مسلم بن قتيبة لا تطلب حاجتك إلى أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك فسكوته خير من نطقه وبعده خير من قربه وموته خير من حياته وقالوا العاقل مرجو خيره على كل حال والأحمق مخوف شره على كل حال وقالوا صحبة العاقل في لجج البحار وأهوال القفار ألذ من صحبة الجاهل بين جنات وأنهار وألوان أطعمة وثمار وقالوا صحبة الأحمق غدر ومجاورته خطر والبعد عنه ظفر وقال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هجران الأحمق قربة إلى الله تعالى وقال ابن المعتز إن الأحمق ضال مضل إن أونس تكبر وإن أوحش تكدر وإن استنطق تجلف وإن ترك تكلف مجالسته تضر وموالاته تغر ومقارنته شقاء ومفارقته شفاء وقال علي بن بسام
لا تيأسنّ من اللبيب وإن جفا ... واقطع حبالك من حبال الأحمق
فعداوة من عاقل متجمل ... أولى وأسلم من صداقة أخرق
وقالت الحكماء العاقل يضل عقله عند مجاورة الأحمق وقالوا مثل الأحمق كالثوب الخلق إن رفأته من موضع تخرق من موضع آخر وقال مسكين الدارمي
اتق الأحمق لا تصحبه ... إنما الأحمق كالثوب الخلق
كلما رقعت منه جانباً ... حركته الريح وهنا فانخرق
أو كصدع في زجاج فاسد ... هل ترى صدع زجاج يرتتق
وإذا عاتبته كي يرعوي ... زاد جهلاً وتمادى في الحمق
وقالوا الأحمق كالرمل المنهار كلما قومت منه جانباً إنهار عليك جانب آخر
ما يستدلّ به من ذميم الخلائق ... على خافي حمق الأهوج والمائق
قالوا مما حكمت به التجربة أن من طالت قامته وصغرت هامته وانسدلت لحيته كان حقيقاً على من يراه أن يقرئه عن عقله السلام ابن الرومي يهجو اللحي
إن تطل لحية عليك وتعرض ... فالمخالي مخلوقة للحمير
علق اللّه في عذاريك مخلا ... ة ولكنها بغير شعير
لو رأى مثلها النبيّ لا جرى ... في الحي الناس سنة التقصير
وقال آخر
صاحبنا الخياط ذو لحية ... كأنها في عرضها والكمال
ملحفة للهو مضروبة ... ووجهه من فوقها كالخيال
في التوراة إن اللحية مخرجها من الدماغ فمن أفرط عليه طولها قل دماغه ومن قل دماغه قل عقله ومن قل عقله فهو أحمق وقالت أعرابية لقاض قضى عليها صغر رأسك فبعد فهمك وانسدلت لحيتك فانشمر عقلك وما رأيت ميتاً يقضي بين حيين غيرك وقال المأمون إذا طالت اللحية تكوسج العقل وقال مسلمة بن عبد الملك يوماً لجلسائه يعرف حمق الرجل في أربع طول لحيته وبشاعة كنيته وإفراط شهوته ونقش خاتمه فدخل عليهم رجل طويل اللحية فقال لهم أما هذا فقد أتاكم بواحدة فانظروا أين هو من الثلاث فقيل له ما كنيتك قال أبو الياقوت قيل فما نقش خاتمك قال وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين قيل فأي الطعام أحب إليك قال الجلنجبين وهو الورد المربى فأنشد مسلمة
ما بعد كنيته وطول لحيته ... ونقش خاتمه شك لمعتبر
وممن شهر بالعقل النافر ... وعرف بالحمق الوافر
المعلمون قال الجاحظ قسم الله الحمق مائه جزء فجعل منه تسعة وتسعين جزأ في المعلمين والجزء الآخر في سائر الناس وقال الشاعر
كفى المرء نقصاً أن يقال بأنه ... معلم صبيان وإن كان فاضلا
آخر
وإن أحمق خلق اللّه كلهم ... من كان بالفصل والتعليم مشتغلا
اللّه صاغهم حمقى وكوّنهم ... نوكي وأوجدهم بين الورى سفلا
ذاعت حماقتهم في الناس واشتهرت ... بين البرية حتى أصبحوا مثلا
وحكى الجاحظ قال مررت بمعلم شاب حسن الهيئة فجعلت أصعد نظري ففهم عني وأنشدني

ما طار تحت الخافقي ... ن أقلّ عقلاً من معلم
ولقد جلسنا في الصنا ... عة من قريب رب سلم
فكأنما ألقم فمي حجراً فانصرفت وتركته وكان الجاحظ كثيراً ما ينشد
وكيف يرجى العقل والرأي عند من ... يروح على أنثى ويغدو على طفل
ومن أمثالهم أحمق من معلم ومن راعي ضان قال المتنبي
يموت راعي الضان في جهله ... ميتة جالينوس في طبه
والنساء قالوا لا تدع أم صبيك تؤدبه فإنه أعقل منها وإن كانت أسن منه بل أدبه بزجرك وهذبه بهجرك ويقال عقل مائة صبي بعقل معلم وعقل مائة معلم بعقل خصي وعقل مائة خصي بعقل امرأة ويكفي في ذمهن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ناقصات عقل ودين وقوله لما بلغه أن الفرس ملكوا عليهم بوران لن يفلح قوم ولوا عليهم امرأة والخصيان قال الجاحظ في الخصي عشر خصال متضادة لم يخرج من ظهر مؤمن ولا يخرج من ظهره مؤمن وهو أكثر الناس غيرة وأشدهم قادة وهو أضعف الناس معدة وأشرههم على الطعام وهو أسوأ الناس أدباً ويعلمهم الأدب وهو أغزر الناس دمعة وأقساهم قلباً ما خلا مع رجل إلا حدثته نفسه أنه امرأة ولا خلا مع امرأة إلا حدثته نفسه أنه رجل بعض الشعراء يذم الخصيان
ليس حمد الخصيان في الناس إلا ... شدّة الصبر عند سدّ الفقاح
معشر اشبهوا القرود ولكن ... خالفوها في خلقة الأرواح
وقد بالغ المتنبي في هجو كافور الأخشيدي وتعداد معايبه وأوصافه فلا حاجة إلى ذكرها في هذا المختصر ولا بد من إيراد شيء منها فمن ذلك قوله
من أيّة الطرق يأتي نحوك الكرم ... أين المحاجم يا كافور والجلم
جار الأولى ملكت كفاك قدرهم ... فعرفوا بك أنّ الكلب فوقهم
لا شيء أقبح من حرّ له ذكر ... تقوده أمة ليست لها رحم
وقوله
العبد ليس لحرّ صالح بأخ ... لو أنه في ثياب الحرّ مولود
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ... إنّ العيد لأنحاس مناكيد
من علم الأسود المخصيّ مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه الصيد
أم أذنه في يد النخاس دامية ... أم قدره وهو بالفلسين مردود
أولي اللئام كفا بغير مقدرة ... فلا جميل ولا عفو ولا جود
وذاك أنّ الفحول البيض عاجزة ... عن الجميل فكيف الخصية السود
قبح الله الشعراء ما أقل حفاظهم وأكثر ما تتفاوت بالكذب في المدح والذم ألفاظهم يقول هذا بعد أن قال فيه وقد وصف خيلاً أركبها إليه
فجاءت بنا انسان عين زمانه ... وخلت بياضاً خلفها ومآقيا
قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقلّ السواقيا

لقد باع من الوفاء علقاً خطيراً واعتاض من الطمع شيأً يسيراً وحال بينه وبين العهد الوفاء وكان يضايق نفسه في اختيار المتاع ويسامحها في اختيار المبتاع ويخلع خلعة تساوي بدرة على عرض يساوي نقرة ويرف كريمة من كرائم شعره إلى من لم تقم عنه كريمة ولم يعرف له قيمة لو رأى الطمع في بحر النار لدخله ولو أتاه الدرهم من دبر كلب لأخذه وما غسله فلا جرم إن الناس كما استحسنوا قوله استقبحوا فعله وكما أعجبوا بشعره تعجبوا من غدره يشكر ثم يشكو ويمدح ثم يهجو ويشهد ثم يجرح شهادته ويعطي ثم يسترجع عطيته فكم حر سلبه لخاءه وكم عرض جرد عنه كساءه ومن صحفة أكل منها ثم شرق فيها ومن طوية زهدها ثم عكف عليها وصف بعضهم الخصيان مادحاً لهم فقال هم الأمناء على الحرم البعداء عن التهم ولهم التظرف والتلطف والوقار وقلة الضحك وهم طراز الملك وجمال الدول وعنوان النعم وكثيراً ما أدبوا أولاد الملوك وهذبوهم وعرفوهم طريق السياسات ودربوهم والحاكة يقال الحمق عشرة أجزاء تسعة منها في الحاكة وواحد في سائر الناس وقالوا لو أن للحائك قرناً لنطح به وسأل رجل الأعمش عن الصلاة خلف الحائك فقال لا بأس بها على غير وضوء قيل فما تقول في شهادته قال تقبل مع شاهدين عدلين وقال الحسن البصري من نظر في طراز حائك لم يرجع إليه عقله أربعين يوماً والسبب في زوال عقولهم ما ذكر أن مريم عليها السلام ذهبت تطلب عيسى وكان قد ضل منها فلقيت حائكاً فسألته كيف أخذ فدلها على غير الطريق التي سلك فقالت اللهم توهه فلا يوجد إلا تائهاً وفي رواية أنها قالت اللهم اجعلهم سفلة الناس وأقلهم عقلاً قيل لرجل من الحاكة هل في بلدكم حائك قال لا قيل فمن ينسج ثيابكم قال كل منا ينسج ثوبه لنفسه قيل له فإذا كلكم حاكة قالوا فلان مجنون وأجن منه لا يكون فلان إذا رأيته نسيت مجنون بني عامر
طرف مما ذمّ به أهل الجهالة ... المتمسكون بعرى الغواية والضلالة
يحكى أن أبا الأسود الدؤلي قال إذا أردت أن تقهر عالماً فأحضره جاهلاً وقالوا لا معيبة أعظم من الجهل ولا صاحب أخذل منه وقالوا لا مصيبة أعظم من الجهل وقالوا الجهل في القلب كالأكلة في الجسد وقال بزرجمهر العالم كبير وإن كان صغيراً والجاهل صغير وإن كان كبيراً وقال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما الأدب عند الجاهل كالماء في أصول الحنظل كلما ازداد رياً ازداد مرارة وقال وهب بن منبه يقال إن الجاهل إذا تكلم فضحه عيبه وإذا سكت فضحه جهله لا علم نفسه يغنيه ولا علم غيره ينفعه إن قال لم يحسن وإن قيل له لم يفقه وذم أعرابي رجلاً فقال فلان إن أعرضت عنه اغتم وإن أقبلت عليه اعتز وإن حلمت عليه جهل عليك وإن جهلت عليه حلم عنك البشامى يهجو جاهلاً
لنا جليس تارك للأدب ... جليسه من نوكه في تعب
مخالف يغضب في حال الرضا ... عمداً ويرضى عند حال الغضب
كأنه من سوء تأديباته ... أسلم في مكتب سوء الأدب
وقال بزرجمهر الجاهل عد ونفسه فكيف يكون صديق غيره وسئل أبو العيناء عن مالك بن طوق فقال لو كان في بني إسرائيل ووقعت قصة البقرة ما ذبح غيره شاعر يهجو جاهلاً
ليس يدري من الجهالة من ذا ... دوّر البعر في بطون الجمال
آخر
يظنّ بأنّ الخمل في القطف نابت ... وأنّ الذي في باطن التين خردل
وقالوا فلان لا يعرف اليمين من الشمال ولا الجنوب من الشمال ولا السماء من الأرض ولا الطول من العرض ينظر إلى العلم نظر المغشي عليه من الموت إن أصاب أحجم وإن أخطأ صمم وقالوا فلان خطؤه بعد اجتهاد وصوابه عن غير اعتماد وقال الشاعر
يصيب ولا يدري ويخطي وما درى ... وكيف يكون النوك إلا كذلكا
وقالوا الجهل رأس الفضائح ومعدن القبائح ومضمار العثار وهو الدليل على غلظ الطبع وجمود الخاطر وفساد التركيب واعتلال الذهن وكذب النفيل وخبث الطوية ويقال أشد حوادث الدنيا عالم يجري عليه حكم جاهل وكانت ملوك الفرس إذا غضبت على عالم وأرادت عقوبته حبسته مع جاهل شاعر
وإذا بليت بجاهل متهكم ... يجد المحال من الأمور صوابا
أوليته مني السكوت وربما ... كان السكوت عن الجواب جوابا

وفي منثور الحكم من عرف بالجهل فهو لكل قبيحة أهل وقالوا لا يرى الجاهل إلا مفرطاً أو مفرطا يسئ عمداً ويحسن غلطاً وقيل لبزرجمهر مالكم لا تعاقبون الجهال على أن يعقلوا فقال إنا لا نكلف العمي بأن يبصروا ولا الصم بأن يسمعوا وقال بعض الحكماء عمي الجهل أشد من عمي العين لأن الأعمى يتوقع أن يعثر فيما ارتفع من الأرض أو يسقط فيما انخفض منها والجاهل ربما عثر فيما لا يستقيل منه ووقع فيما لا مخرج له عنه ابن الرومي
كالثور عقلاً ومثل التيس معرفة ... فلا يفرّق بين الحق والفند
الجهل شخصٍ ينادي فوق هامته ... لا تسأل الربع ما في الربع من أحد
وقالوا الجاهل يجني على نفسه وليس شيء أحب إليه منها استأذن رجل من ثقيف على الوليد وعنده عبد الله بن جعفر الصادق وهما يلعبان بالشطرنج فستر عبد الله الشطرنج فلما دخل الرجل وسلم سأله الوليد عن حاله فأخبره ثم قال له أقرأت القرآن قال لا والله يا أمير المؤمنين شغلني عنه أمور وهنات قال أرويت من الحديث شيأً قال لا والله يا أمير المؤمنين قال أتعرف الفقه قال لا والله يا أمير المؤمنين فكشف عن الشطرنج وقال شاهك يا أبا جعفر فقال عبد الله لو رفعت فقال العب فما عندك أحد
ومن صفات من عدم خلال النهى ... واعتراه في عقله اختلال فوهى
إن تكلم عجل وإن حدث وهل وإن استنزل عن رأي نزل وإن حمل على باطل فعل ومن علاماته الغضب في غير شيء والكلام في غير نفع وإفشاء السر والثقة بكل أحد وأن لا يعرف صديقه من عدوه ومن علاماته العجلة والخفة والتواني والضياع والتفريط والغفلة والسهو ومن علاماته إن استغنى بطر وإن افتقر قنط وإن فرح أشروان بكى خار وإن ضحك نهق وإن أعطيته كفرك وإن أعطاك من عليك وقالوا من علامات المائق كثرة الالتفات وسرعة الجواب وتحريك الرأس إذا مشى وإذا اعتبرنا هذه الخلال الرذلة وجدناها في كثير من الناس فلا نكاد نعرف العاقل من كثرة الالتباس كما قال عليه الصلاة والسلام ليس من أحد إلا وفيه حمقة فبها يعيش وقال وهب بن منبه خلق ابن آدم أحمق ولولا ذلك لما هنأه العيش نادرة قيل لبهلول عد لنا المجانين فقال هذا يطول ولكني أعد العقلاء نظر إلى هذا المعنى بعض الشعراء فقال وأجاد
وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الرجال ذوي العقول
وقد كانوا إذا ذكروا قليلاً ... فقد صاروا أقل من القليل

الفصل الثاني من الباب الرابع
في ذكر النوادر
في ذكر النوادر الصادرة ... عن مجانين البادية والحاضرة
فمن شهر منهم بالملح وعرف ... واستحسن كلامه النادر واستظرف
جعيفران واسمه جعفر وإنما صغر للتحبيب وهو القائل في نفسه
ما جعفر لأبيه ... ولا له بشبيه
أضحى لقوم كثير ... فكلهم يدّعيه
هذا يقول بني ... وذا يخاصم فيه
وإلامّ تضحك منهم ... لعلمها بأبيه
ويقال إن هذه الأبيات وضعها في دعبل فيكون قوله ما دعبل لأبيه والرواية الأولى هي التي رواها أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني وكان جعيفران متشيعاً قيل له يوماً اشتم فاطمة وخذ درهماً قال لا بل أشم عائشة وآخذ نصف درهم واستقبلته امرأة صبيحة فبدر إليها وقبلها فأكب الناس عليه يضربونه فأنشد
علقوا اللحم للبزا ... ة على ذروتي عدن
ثم لاموا المحب في ... ه على خلعه الرسن
لو أرادوا عفافه ... نقبوا وجهها الحسن
ووقف على علي بن إسمعيل الهاشمي فقال له أعطني درهماً فأمر الغلمان بطرده فطردوه فولى وهو ينشد
قد زعم الناس ولم يكذبوا ... أنك من غير بني هاشم
فقال لغلمانه ردوه وأعطوه درهمين فأخذهما وانصرف وهو ينشد
قد كذب اللّه أحاديثهم ... يا هاشميّ الأصل من آدم

وحكى الجاحظ قال كان جعيفران يماشي رجلاً فدفعه الرجل على كلب فقال له ما هذا قال أردت إن أقرنك به قال فمع من أنا منذ الغداة وتشاجر رجلان في رجل ادعياه فقال أحدهما هو من طفاوة وقال الآخر هو من بني راسب وتحاكما إلى جعيفران فقال ألقوه في الماء فإن طفا فهو من طفاوة وإن رسب فهو من بني راسب قال الصابون راسب بن سدعان بطن من الأزد وطفاوة من ولد أعصر وهو منبه بن سعد بن قيس عيلان وهذه الحكاية نسبها الميداني في كتاب الأمثال لهبنقة الليثي المضروب به المثل في التغفل والحمق
ومن مشاهير مجانين الكوفة البهلول ... ذو العقل السقيم والذهن المفلول
ولد لإسحق بن محمد الصباح بنت فساءه ذلك وامتنع من الطعام والشراب فدخل عليه بهلول وقال أيها الأمير ما هذا الجزع والحزن جزعت لخلق سوى وهبه الملك العلي أيسرك أن يكون مكانها ابن وأنه مثلي فضحك الأمير ودعا بالطعام والشراب وأذن للناس بالدخول عليه للهناء ومر بهلول بقوم في أصل شجرة يستظلون بفيئها فقال بعضهم لبعض تعالوا حتى نسخر من بهلول فلما اجتمعوا إليه قال أحدهم يا بهلول تصعد هذه الشجرة وتأخذ من الدراهم عشرة قال نعم فأعطوه الدراهم فصرها في كمه ثم قال هاتوا سلماً فقالوا لم يكن في شرطنا سلم قال كان في شرطي دون شرطكم وسئل عن مسئلة من الفرائض وهي رجل مات وخلف ابناً وبنتاً وزوجة ولم يترك من المال شيأً فقال للابن اليتيم وللبنت الثكل وللزوجة خراب البيت وما بقي من الهم فللعصبة وحمل عليه الصبيان يوماً فألجؤه إلى دار مفتوحة فولجها فوجد فيها قوماً وبين أيديهم مائدة فيها من أنواع الأطعمة ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين فرجع وغلق الباب ودخل وهو يقرأ فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب وتبعه الصبيان يوماً آخر فالتجأ إلى دار بعض العلويين فرأى رجلاً ضخماً بضفيرتين فقال يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سداً فخرج الرجل وأغلق الباب وحماه من الصبيان وحمل عليه الصبيان يوماً فالجؤه إلى مضيق فشد عليهم بالقصبة وهو يقول
إذا تضايق أمر فانتظر فرجاً ... فأضيق الأمر أدناه من الفرج
وسمع البهلول مجنوناً يقول يوم عيد يا أيها الناس إني رسول الله إليكم فلطم وجهه وقال ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه وقال له الرشيد يوماً من أحب إليك قال من أشبع بطني قال إني أشبعك فهل تحبني قال له الحب لا يكون بالنسيئة وأحضره يوماً وأجلسه في صحن الدار وجلست أم جعفر حيث لا يراها وعيسى بن جعفر جالس مع الرشيد فقال له الرشيد عدلنا المجانين فقال أولهم أنا والثاني هذه وأشار إلى أم جعفر فقال له عيسى يا ابن اللخناء تقول هذا لأختي قال بهلول وأنت الثالث يا صاحب العربدة فقال الرشيد أخرجوه فقال بهلول وأنت الرابع وقال رجل لبهلول قد أمر الأمير لكل مجنون بدرهمين فقال له امض وخذ نصيبك لئلا يفوتك وقيل أيما أفضل أبو بكر أو علي فقال أما وأنا في كندة فعلي وإذا كنت في بني ضبة فأبو بكر وكندة في الكوفة من غلاة الشيعة وبنو ضبة أهل نصب وهم أصحاب الجمل
نبذ مما يجلب التسلي لقلب المحزون ... من الفكاهات المحكية عن عليان المجنون

ذكر أنه وصف للمأمون فأمر باحضاره فلما مثل بين يديه ازدراه وأمر به أن يجلس في مجالس العامة ثم قال له ما اسمك قال عليان فضحك منه فقال عليان إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون فهابه المأمون وعظم في عينه بها ومر به رجل وهو يأكل تمراً والصبيان يؤذونه فقال للرجل انظر إلى هذا التمر من رحمة الله وهؤلاء الصبيان من عذاب الله وتولع الصبيان به يوماً فقال له رجل هل لك في طردهم عنك قال نعم وأنت معهم ورآه رجل وهو يأكل تمراً في السوق فقال له يا عليان أتأكل في السوق قال من جاع في السوق أكل في السوق ورآه من لا يعرفه فقال له أنت مجنون فقال كل الناس مجانين ولكن حظي أوفر وقال له رجل ما الذي صيرك إلى ما أرى قال محتوم القضا وقال له من لا يعرفه أغريب أنت قال أما عن العقل فنعم وأما عن البلد فلا وأدخل بهلول على الرشيد وعنده عليان فكلمهما فأغلظا له في القول وأمر بالنطع والسيف فقال عليان كنا مجنونين فصرنا ثلاثه فضحك الرشيد وعفا عنهما ومات أبوه وخلف ستمائة درهم فأخذها القاضي وحجر عليه ليختبر عقله فجاءه بعد مدة فقال له إنك حجرت علي لما علمت أني مصاب في عقلي وأنا جائع فادفع لي مائتي درهم حتى أقعد بها في أصحاب الخلقان أبيع وأشتري فإن رأيت مني رشداً جنحت إلى الباقي وإن أتلفتها كان الذي أتلفت أقل مما بقي فأعطاه مائتي درهم فأخذها ولزم الحيرة حتى أنفدها ورأى القاضي بعد ذلك فقال يا عليان ما صنعت بالدراهم قال أنفقتها فليزن القاضي أعزه الله من ماله مائتي درهم ويردها إلى الكيس حتى يرجع المال إلى ما كان عليه
طرف من لطائف أخبارهم الأنيقة ... ونتف من لطائف نوادرهم الرشيقة
حكى أن ثمامة بن أشرس قال بعثني الرشيد إلى دار المجانين لأصلح ما فسد من حالهم فرأيت فيهم شاباً حسن الزي كأنه صحيح العقل فقال لي يا ثمامة إنك تقول إن العبد لا ينفك من نعمة يجب الشكر عليها وبلية يجب الصبر لديها وأنت تبيح المطبوخ أرأيت لو سكرت ونمت وقام إليك غلامك وأولج فيك مثل ذراع البكر فقل لي أهذه نعمة يجب الشكر عليها أو بلية يجب الصبر لديها قال ثمامة فلم أدر بماذا أجيبه فقال مسئلة قلت ما هي قال متى يجد النائم لذة النوم إن قلت في حال نومه فمحال وإن قلت إذا استيقظ فبعيد أن يجد لذة شيء انقضى ومضى فبهت لا أحير جواباً فقال مسئلة أخرى قلت وما هي قال إنك تزعم أن لكل أمة نذيراً فما نذير الكلاب قلت لا أدري فقال أما الجواب عن المسئلة الأولى فيجب أن تقول النعم ثلاثة نعمة يجب الشكر عليها وبلية يجب الصبر لديها وبلية يجب الصبر عنها فهذه من القسم الثالث وهي البلية التي يجب الصبر عنها وأما المسئلة الثانية فالجواب عنها إنها محال لأن النوم داء ولا لذة مع وجود الداء وأما المسئلة الثالثة وأخرج من كمه حجراً وقال إذا عدا عليك كلب فهذا نذيره ورماني بالحجر فأخطأني وأصاب الاسطوانة فلما رآه قد أخطأني قال فاتك النذير يا أيها الكلب الحقير فعلمت أنه مجنون وأن عقله مصاب فتركته وانصرفت وقنعت من الغنيمة بالاياب وكان في بني أسد مجنون يسمى لغدان فمر بقوم من بني تيم الله بن ثعلبة فعبثوا به فقال يا بني تيم الله ما أعلم في الدنيا خيراً منكم قالوا وكيف ذلك قال لأن بني أسد ليس فيهم مجنون غيري وقد قيدوني وسلسلوني وكلكم مجانين وليس فيكم مقيد وكتب بعض المجانين إلى قساوة كتابي إليك لثلاث ساعات من ليلة الميلاد التي صبحها يوم المهرجان ودجلة تطفح بالماء هياهيا والحجارة لا تزداد إلا كثرة والصبيان قللهم الله وبدد شملهم لا يزدادون إلا وقاحة فإن قدرت أن لا تبيت إلا وحولك حجارة فافعل واستعمل قول الله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وركب بختيشوع المتطبب مع المأمون فتعلق به مجنون وقال أيها الطبيب جس نبضي فجسه وقال له ما تشتكي قال الشبق فقال له خذ مسواك أراك وأدخله من وراك فإنه صالح لذاك فرفع المجنون فخذه وضرط وقال خذ هذا جزاك حتى نجرب ذواك فإن كان صالحاً لذاك شكرناك وزدناك ولا يكون لنا طبيب سواك فجعل بختيشوع وضحك المأمون من كلام المجنون ووقف صباح الموسوس على قوم فسألهم شيأً فردوه فولى وهو ينشد
أسأت إذ أحسنت ظني بكم ... والحزم سوء الظنّ بالناس

وقال بعضهم رأيت مجنونين يتنازعان رغيفاً يؤثر كل واحد منهما صاحبه به وهما يتقاسمان عليه فقلت لهما وأنا أظن أني أربح عليهما أنا آكله إن لم تأكلاه فقال أحدهما يا أحمق إن معه ادما لا يسوغ إلا به قلت وما هو قال ضيق الخنق ووجء العنق فوليت عنهما فقالا يا مجنون لولا غضاضة الأدم لأكلناه منذ حين وسمع أبو الصقر المجنون سقاء يصيح في يوم حر هذا يوم يسقى فيه الماء فقال وأي يوم يطعم فيه الخبز وحكى علي بن الجهم الشاعر قال مررت بمجنون والناس مجتمعون عليه يعبثون به فلما رآني قصدني دونهم وأخذ بعنان بغلتي ثم أنشد
لا تحفلنّ بمعشر ال ... همج الذين تراهم
فوحق من أبلى بهم ... نفسي ومن عافاهم
لو قيس موتاهم بهم ... كانوا همو موتاهم
ثم جال بطرفه في الحلقة فرأى فيها شاباً مليح الوجه حسن الهيئة فوثب إليه ومزق ما كان عليه ثم نظر إلي وأنشد
هذا السعيد لديهم ... قد صار بي أشقاهم
ووقف بعض المجانين على باب مسجد فبال فأرادت العامة ضربه فقال لهم أرأيتم لو بال ههنا حمار أكنتم ضاربية قالوا لا قال فهبوني حماراً فإنه لا عقل لي فرقوا له وأطلقوه وقال المبرد دخلت دار المجانين فوقفت تجاه مجنون وأخرجت لساني فحول وجهه عني فجئت إلى الناحية التي حول وجهه إليها وأخرجت لساني فحول وجهه إلى ناحية أخرى فجئت إليه وفعلت مثل ذلك فلما أضجرته رفع رأسه إلى السماء وقال انظر يا رب من حلوا ومن ربطوا
ما اختير من شعرهم الرقيق الجزل ... المنظوم في سلكه جواهر الجدّ والهزل
حدث ابن حبيب في كتابه الذي صنفه في أخبار عقلاء المجانين باسناده إلى أبي إسحق إبراهيم الايلي قال رأيت غورثا المجنون يوماً خارجاً من الحمام والصبيان قيام يضربونه ويؤذونه وهو يبكي فقلت له ما خبرك يا أبا محمد قال اذاني هؤلاء الصبيان أما يكفيني ما أنا فيه من العشق والجنون قلت ما أظنك مجنوناً قال بلى والله وعاشق قلت وهل قلت في عشقك شيأً قال نعم ثم أنشد
جنون وعشق ذا يروح وذا يغدو ... فهذا له حدّ وهذا له حدّ
وقد سكنا تحت الحشى وتحالفا ... على مهجتي أن لا يفارقها الجهد
وأيّ طبيب يستطيع بحيلة ... يعالج من داءين ما منهما بدّ
قال الايلي فوليت عنه فقال قف واسمع ما أقول فإن شرح غرامي على الخلي يطول فوقفت فأنشد
جنون ليس يضبطه الحديد ... وحبّ لا يزول ولا يبيد
فجسمي بين ذاك وذا نحيل ... وقلبي بين ذاك وذا عميد
ثم قال لي انصرف ما سمعته يكفيك وأخذ يوماً بيد المتهم بعشقه فقال له المعشوق رجاء الخلاص منه كيف أصبحت فقال
أصبحت منك على شفا جرف ... متعرّضاً لموارد التلف
وأراك نحوي غير ملتفت ... منحرفاً عن غير منحرف
يا من أطال بهجره أسفي ... أسفي عليك أشد من تلفي
وحكى أيضاً أن هرون الرشيد مر بدير في ظاهر الرقة فلما أقبلت مواكبه أشرف أهل الدير ينظرون إليه وفيهم مجنون مسلسل فلما رأى هرون رمى بنفسه بين يديه وقال يا أمير المؤمنين قد قلت فيك أربعة أبيات أفأنشدك إياها قال نعم فأنشده
لحظات طرفك في العدا ... تغنيك عن سلّ السيوف
وغريم رأيك في النهى ... يكفيك عاقبة الصروف
وسيول كفك بالندى ... بحر يفيض على الضعيف
وضياء وجهك في الدجى ... أبهى من البدر المنيف
ثم قال يا أمير المؤمنين هات أربعة آلاف درهم اشترى بها كبيساً وتمراً فقال هرون تدفع له فحملت إلى أهله وحكى أيضاً قال ادريس بن إبراهيم اللخمي سمعني مجنون أنشد في يوم غيم
أرى اليوم يوماً قد تكاثف غيمه ... واقتامه فاليوم لا شك ماطر
فقال بديهاً من غير روية
وقد حجبت فيه السحائب شمسه ... كما حجبت ورد الخدود المعاجر
ومر إبراهيم بن المدبر بالأهواز وقد صرف عنها فتعرض له مالي الموسوس واسمه محمد بن القاسم فأخذ بلجام بغلته وقال
ليت شعري أيّ قوم أجدبوا ... فأغيثوا بك من طول العجف
نظر اللّه إليهم دوننا ... وحرمناك لذنب قد سلف

أقسام الكتاب
1 2 3 4