كتاب : غرر الخصائص الواضحة
المؤلف : الوطواط

فأخذ السفتجة وفتحها فوقع على الرقاع بجميع ما فيها ووقع على الرقعة التي فيها البيتان يطلق له ألفا درهم وعلى الاخرى التي فيها البيت الواحد يوجب له في كل شهر ألف درهم من اتصال الشهر الذي نحن فيه ورد الجميع إلى السفتجة وجعلتها في كمي وأضبحت من الغداة ولا علم عندي بما جرى فاستدعاني إلى الطعام وقت الظهر فلم ير عندي أثراً للفعلة التي فعلتها إذا وأنا من الضالين ولا سمع مني شكراً على صنيعة فقال لي وقفت على الرقاع قلت لا أيها الوزير ثم ذكرت ما كان في الأوراق فتصببت عرقاً واشتغل قلبي لما وجد فيها بخطى فنهضت إلى الرقاع فتأملتها وعدت إليه فشكرته واعتذرت مما وجد فقال لا تعتذر فإنا نستحقه إذا لم نقض واجباً ولم نراع صاحباً وحدث محمد بن هلال بن المحسن الصابي في كتاب الهفوات عن الفرج الرماني الكاتب قال قدم علينا أبو القاسم المعمر بن الحسين المدلجي مع الوزير أبي القاسم العلاء بن الحسين الأهوازي وكنت إذ ذاك كاتب الانشاء وخليفة العلاء فبعث إلي المعمر يطلب مني بغلة مسرجة ولم تكن منزلته عندي منزلة من أراعيه فرددت الرقعة مع رسوله ولم أجبه عنها ثم إنه بعث إلي الرقعة وعلى ظهرها مكتوب
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلاً أن يكون له غد
فإنك لا تدري إذا جاء سائل ... أأنت بما تعطيه أو هو أسعد
فأعدت إليه الرقعة من غير جواب كما فعلت أولاً وضرب الدهر ضرباته فصرف العلاء ووزر المدلجي وكنت إذ ذاك متولياً أعمالاً كثيرة فانفذ إلي من أشخصني إلى شيراز ووردت عليه وأنا لا أشك في قتلي أو القبض علي لما تقدم من سوء فعلي معه فقربني وأكرمني وأقمت متردداً إليه أياماً وهو يزيد في بري واكرامي وأنا من فعله متعجب وله مستظرف فلما كان بعد أيام قمت من مجلسه منصرفاً فاتبعني الحاجب وقال الوزير يريد أن يخلو بك فلم يداخلني ريب في القبض هلي فأقمت خائفاً أترقب ما يأمر به في فلما خلا مجلسه استدعاني وأسر إلى بعض خدمه شيا فمضى وعاد معه الرقعة بعينها فسلمها إلي فلما رأيتها وددت أن الأرض ساخت بي وقرأت بحيث يسمع يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً فقال لي لا ترع أوقفتك على سوء فعلك حتى لا تستصغر بعدها أحداً وتطرح مراعاة العواقب وليكن هذا الفعل لأخلاقك مهذباً ثم خلع علي ووصلني وردني إلى عملي وإلى هذا أشار بعض البلغاء الحكماء في التحريض على اصطناع الكرام الخافضة من أقدارهم الأيام في قوله أحسن إلى كل من له سابقة في الأدب وسابقة في الفضل ولا يزهدنك فيه سوء الحاجة منه وادبار الدولة عنه فإنك لا تخلو في اصطناعك له واحسانك إليه من نفس حرة تملك رقها أو مكرمة حسنة توفي حقها فإن الدهر يجبر كما يكسر والدولة تقبل ثم تدبر ومن زرع خيراً حصد أجراً ومن اصطنع حراً استفاد شكراً وأنشد
وعدّ من الرحمن فضلاً ونعمة ... عليك إذا ما جاء للخير طالب
ولا تمنعن ذا حاجة جاء راغباً ... فإنك لا تدري متى أنت راغب
والجيد في هذا المعنى قول من قال
لا تحقرنّ امرأ قد كان ذا ضعة ... فكم وضيع من الأقوام قد رأسا
فرب قوم جفوناهم فلم نرهم ... أهلاً لخدمتنا صاروا لنا رؤسا

عدنا والعود أحمد دخل أبو الصقر إسمعيل بن بلبل قبل وزارته للمعتمد على صاعد بن مخلد في وزارته وفي المجلس أبو العباس بن توابة فسأل صاعد عن رجل فقال أبو الصقر أنفي يريد نفي فقال ابن ثوابة في الخرء فتضاحك الناس وخجل أبو الصقر فلما ولي أبو الصقر الوزارة دخل عليه ابن ثوابة وقال تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين فقال أبو الصقر لا تثريب عليك اليوم يا أبا العباس يغفر الله لك وهو أرحم الراحمين وحدث أبو هريرة الشاعر المصري قال خرجت يوماً إلى بركة الحبش بمصر متنزهاً في أيام الربيع حين أخذت الأرض زخرفها وازينت ومعي آنية شراب وكتاب وكانت تلك عادتي في كل سنة فجعلت أشرب وأنادم كتابي طول يومي فلما كادت الشمس أن تغرب وتلمح في أجنحة الطير أخذت في الانصراف إلى منزلي وأنا ثمل فبينا أنا أمشي وإذا بفارس خرج من مصر ملتثماً لا يبين من وجهه غير عينيه فسلم وقال من أين أقبل الشيوخ فقلت في نفسي أجن الرحل ومن يرى معي فالتفت فإذا خلفي ذود تيوس وراع يسوقه فقلت حضرنا ملاك الوالدة أصلحك الله فضحك وانصرف ولما كان بعد أيام دخلت إلى الأمير تكين في حاجة فقضاها لي وأسرني بألف درهم وقال هذه حق حضورك ذاك الملاك فعلمت أنه الذي لقيني فأخذتها وانصرفت
ملح مكارم يغتبط بها القلب والسمع ... لدلالتها على كرم النجار والطبع
قتل للأحنف بن قيس ولد وكان قاتله أخو الأحنف فأتى به مكتوفاً ليأخذه به فلما رآه بكى وأنشد
أقول للنفس تأنيباً وتسلية ... إحدى يديّ أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف من بعد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
ولآخر في معناه وقد قتل قومه أخاه ... ولم يقصده أحد بنكاية ولا توخاه
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
فلئن عفوت لاعفون جللاً ... ولئن سطوت لاوهنن عظمي
وقيل للأحنف بن قيس ممن تعلمت الحلم قال من قيس بن عاصم المنقري بينا هو ذات يوم جالس في داره إذا أتته جارية بسفود عليه شواء فسقط من يدها على ولد له صغير فمات فدهشت الجارية واختلط عقلها فلما رأى ذلك منها قال لا روع عليك اذهبي فأنت حرة لله تعالى خير منها أو مثلها ما حكى أن بعض ملوك الفرس وكان عظيم المملكة سيئ الملكة شريف الهمة شديد النقمة قرب إليه صاحب مطبخه طعاماً فوقعت نقطة من الطعام على المائدة فزوى لها الملك وجهه وأعرض عنه إعراضاً تحقق به الطباخ قتله فعمد إلى الصحفة فكفأها على المائدة فقال له الملك ما حملك على ما فعلت وقد علمت أن سقوط النقطة أخطأت بها يدك ولم يجرها تعمدك فما عندك في الثانية قال استحييت أن يسمع عن الملك أنه استوجب قتلي واستباح دمي مع قديم خدمتي ولزوم حرمتي في نقطة واحدة أخطأت بها يدي ولم يجرها تعمدي فأردت أن يعظم ذنبي ليحسن بالملك قتلي ويعذر في قتل من فعل مثل فعلي فقال الملك إن كان حسن صنيعك ينجيك من القتل والتعذيب فليس منجيك من التأديب اجلدوه مائة واخلعوا عليه خلع الرضا وسوغوه انعاماً يؤذن بالعفو عما مضى

ولنعقب هذا الفصل من لطيف الاعتذار
ما تستعطف به القلوب بعد النفار جرى بين الحسين بن علي وبين أخيه محمد بن الحنفية رضي الله عنهما كلام وافترقا متغاضبين فلما وصل محمد إلى منزله كتب إلى الحسين بعد البسملة من محمد بن علي إلى أخيه الحسين بن علي أما بعد فإن لك شرفاً لا أبلغه وفضلاً لا أدركه فإن أمي امرأة من بني حنيفة وأمك فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان ملء الأرض نساء مثل أمي ما وفين بأمك فإذا قرأت رقعتي هذه فالبس رداءك ونعليك وسر إلي لترضيني وإياك أن أسبقك إلى هذا الفضل الذي أنت أولى به مني والسلام فلبس الحسين رداءه ونعليه وجاء إليه وترضاه وكان في قلب الأمين من إسحق الموصلي شيء فأهدى له جارية فردها فكتب إليه إسحق
هتكت الضمير بردّ اللطف ... وكشفت أمرك لي فانكشف
فإن كنت تحقد شيأً مضى ... فهب للخلافة ما قد سلف
وجد لي بالعفو عن زلتي ... فبالفضل تأخذ أهل الشرف
فلم يفعل فكتب إليه
أتيت ذنباً عظيماً ... وأنت أعظم منه

فخذ بحقك أولاً ... فامنن بصفحك عنه
فعاد إلى الجميل وقال أبو بكر الصولي أحسن رقعة كتبت في الاعتذار رقعة كتب بها الراضي إلى أخيه المتقي وكان قد جرى بينهما كلام بحضرة المؤدب وكان المتقي قد اعتدى على الراضي أنا معترف لك بالعبودية فرضا وأنت معترف لي بالاخوة فضلاً والعبد يذنب والمولى يعفو ويغفر وقد قال الشاعر
يا ذا الذي يغضب في غير شيّ ... اعتب فعتباك حبيب إليّ
أنت على أنك لي ظالم ... أعز خلق اللّه طرّاً عليّ
فلما وقف المتقي على الرقعة هبت عليه منها رياح الأريحية فعطفت منه عواطف النفس الأبية ومضى إليه راضياً وأكب عليه باكياً وانحسمت بينهما مواد الهجر بقبول صادق العذر وازيل مصون الحقد وانتظم بانتظام الشمل انتظام العقد وقع ذو الرياستين الفضل بن سهل إلى طاهر بن الحسين والله يا نصف انسان لئن أمرت لانفذن ولئن أنفذت لابرمن ولئن أبرمت لا تلفن فأجابه طاهر إنما أنا أعزك الله كالأمة السوداء إن حمل عليها دمدمت وإن رفه عنها أمسكت وإن عوقبت فبما وجب عليها وإن عفى عنها فبالاحسان إليها فعفا عنه وما الطف ما كتب به بعض الفضلاء إلى أخيه يستعطفه أنت سليل نبوة وشقيق أخوة أصلها من سوحة وفرعها من دوحة فنحن لذة أوان ونشوان زمان ورضيعا لبان وركيضا أمومة وغصنا جرثومة درجاً من وكر ومهداً في حجر فكيف توقظ عين الدهر وتبسط يد الهجر وتنبه غافي الرقاد والحسود لنا بمرصاد وكتب آخر إلى صديق يستعطفه أصفيت لك ودي وأكديت لك عقدي ومنحتك اخائي ولم أمزق لك صفائي فقرب الاخاء بالود أنقع للغله وأنفع للعله وأسكن للروعة وأشفى للوعة وأطفأ للحرقة وآنس للفرقة وقال أعرابي لأمير نقم عليه هذا مقام من لا يتكل على المعذرة بل يعتمد منك على المغفرة وقال آخر لان يحسن في العفو وقد أسأنا في الذنب أولى من أن يسئ بالعقوبة وقد أحسنا في الاعتذار واعتذر آخر فقال لذت بعفوك واستجرت بصفحك فأذقني حلاوة الرضا وأجرني من مرارة السخط فيما مضى وكتب آخر لكل ذنب عفو وعقوبة فذنوب الخاصة مستورة وسيآتهم مغفورة وذنب مثلي من العامة لا يغفر وكسره لا يجبر وإن كان ولا بد من العقوبة فعاقبني باعراض لا يؤدي إلى ابعاد ولا يفضي في الصفح إلى ميعاد ولان تحسنوا وقد أسانا خير من أن تسيؤا وقد أحسنا فإن كان الاحسان منا فما أحقكم بمكافأته وإن كان منكم فما أحقكم باستتمامه أبيات في المعنى
أقل ذا الودّ عثرته وقفه ... على سنن الطريق المستقيمه
ولا تسرع بمعتبة إليه ... فقد يهفو وبيته سليمه
آخر
أسأت ولم أحسن وجئتك هارباً ... وأين لعبد من مواليه مهرب
يؤمل غفراناً فإن خاب ظنه ... فما أحد منه على الأرض أخيب
آخر
إن كان ذنبي قد أحاط بزلتي ... فأحط بذنبي عفوك المأمولا
فلقد رجوتك في الذي لا يرتجى ... في مثله أحد فنلت السولا
وضللت عنك فلم يكن لي مذهب ... فوجدت حلمك لي عليك دليلا
آخر
يا من أسأت وبالاحسان قابلني ... وجوده لجميع الناس مبذول
قد جاء عبدك يا مولاي معتذراً ... وأنت للعفو مرجوّ ومأمول
آخر
إنّ الكرام إذا ما استعطفوا عطفوا ... والحرّ يغضي ويهفو وهو معترف
والعفو بعد اقتدار فعله كرم ... والهجر بعد اعتداء فعله شرف
عاقب بما شئت غير الهجر أرض به ... فالهجر فيه لاحزان الفتى تلف
آخر
هبني أسأت فأين الفضل والكرم ... إذ قادني نحوك الاذعان والندم
يا خير من مدّت الأيدي إليه أما ... ترثى لشيخ نعاه عندك الهرم
بالغت في السخط فاصفح صفح مقتدر ... إنّ الملوك إذا ما استرحموا رحموا
الخيزراني
نحن قوم نرى فراقك عيباً ... ونرى القرب منك حتماً وفرضا
أنت إن كنت قد غضبت جعلنا ... لك حرّ الوجوه أرضاً لترضى
آخر
ليالي صدودك ليست تضي ... وعمر تجنيك ما ينقضي
وما يألف القلب يا سيدي ... سوى ما تحب وما ترتضي
آخر

ما أحسن العفو من القادر ... لا سيما من قادر قاهر
إن كان لي ذنب ولا ذنب لي ... فماله غيرك من غافر
بحرمة الودّ الذي بيننا ... لا تفسد الأوّل بالآخر
آخر
أسأت إليك ثم أسأت عوداً ... فأين عوائد الصفح الجميل
وأين الصفو من مولى عزيز ... يجود به على عبد ذليل
آخر
إن كنت عبداً مذنباً ... فاعطف عليّ بحسن رأيك
أو كنت لست بمذنب ... فدع التمادي في جفائك
بعض العرب
فمهلاً أبيت اللعن لا تخزيننا ... بذنب امرئ أمسى من العلم معدما
فما العبد بالعبد الذي ليس مذنبا ... وما الرب بالرب الذي ليس منعما
آخر
وما قابلت سخطك باعتذار ... ولكني أقول كما تقول
سأطرق باب عفوك باعتراف ... ويحكم بيننا الخلق الجميل
آخر
هبني كما زعم الواشون لارحموا ... أني أسأت وزلت مني القدم
وهبك جار على ذا العهد في جرم ... لم أجنه ضاق منك العفو والكرم
ما أنصفتني في حكم الهوى أذن ... تصغي للومى وعن عذري بها صمم
آخر
أخلاقك الغر السجايا مالها ... حملت رديّ العنف وهي سلاف
والبشر في مرآة وجهك ماله ... يخفى وأنت الجوهر الشفاف
آخر
ليت شعري وقد تمادى بك الهج ... ر أمنك الجفاء أم كان مني
فلئن جئته فعنك عفا ... اللّه وإن كنت جئته فاعف عني
وكل الناس عيال على النابغة الذبياني في قوله للنعمان بن المنذر من أبيات جاء منها
حلفت ولم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء اللّه للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني جناية ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب
فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطليّ به القار أجرب
فلست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أيّ الرجال المهذب
أبو نواس يستعطف الأمين وكتب بها إليه من الحبس
تذكر أمين اللّه والعهد يذكر ... مقامي وانشاديك والناس حضر
ونثري عليك الدرّ يا درّ هاشم ... فمن ذا رأى درّاً على الدرّ ينثر
مضت لي شهور مذ حبست ثلاثة ... كأني قد أذنبت ما ليس يغفر
فإن كنت لم أذنب ففيم حبستني ... وإن كنت ذا ذنب فعفوك أكبر
إسحق الموصلي
لا شيء أعظم من ذنبي سوى أملي ... لعفوك اليوم عن ذنبي وعن زللي
فإن يكن ذا وذا عندي قد اجتمعا ... لأنت أعظم من ذنبي ومن أملي

الفصل الثالث من الباب الثالث عشر
في ذم العفو عمن أساء
وانتهك حرمات الرؤساء
قال الله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقال تعالى ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل أبي عزة الشاعر لما كان يعرض به من أذى النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه ويحرض عليه قبائل قريش وفي فعله لنا اسوة قال ابن إسحق لما أخذ أبو عزة الشاعر يوم بدر وأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله تصدق بي على بناتي واعف عني عفا الله عنك قال نعم علي أن لا تعين علي بقول ولا فعل فعاهده على ذلك وخلى سبيله ثم إنه خرج مع أبي سفيان يحرض قريشاً على قتال النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ يوم أحد فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ألم تعاهدني على أن لا تعين علي بقول ولا فعل فقال غلبت فتصدق بي على بناتي واعف عني عفا الله عنك فقال عليه الصلاة والسلام إن العفو لمكرمة ما مثلها مكرمة ولكن لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين ثم أمر بقتله فقتل
فمما للحكماء من تحريض الحرّ ... على مقابلة المسئ بالنكال المر

قالوا توضع للمحسن إليك وإن كان عبداً حبشياً وانتصف ممن أساء إليك وإن كان حراً قرشياً وقال علي رضي الله عنه وكرم وجهه الخير بالخير والبادي أكرم والشر بالشر والبادي أظلم وقال الشعبي يعجبني الرجل إذا سيم هواناً دعته الأنفة إلى المكافأة وجزاء سيئة سيئة مثلها فبلغ كلامه الحجاج فقال لله دره أي رجل بين جنبيه وتمثل
ولا خير في عرض امرئ لا يصونه ... ولا خير في حلم امرئ ذل جانبه
وقالوا من ترك العقوبة أغرى بالذنب ولولا السيف كثر الحيف وقالوا من مال معك إلى الحيف فلا تبخلن عليه بالسيف وقالوا السفيه يخالف ولا يؤالف ويماري ولا يداري وقال أوس بن حسان
إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هواناً وإن كانت قريباً أواخره
فإن أنت لم تقدر على أن تهينه ... فدعه إلى اليوم الذي أنت قادره
وقارب إذا ما لم تكن لك حيلة ... وصمم إذا أيقنت إنك عاقره
وقيل لأعرابي أيسرك أن تدخل الجنة ولا تسئ إلى من أساء إليك قال لا بل يسرني إن أدرك الثار وأدخل مع فرعون النار أبو عبادة البحتري
تذم الفتاة الرود شيمة بعلها ... إذا بات دون النار وهو ضجيعها
ويقال إنما هو مالك وسيفك فازرع بمالك من شكرك واحصد بسيفك من كفرك وقال الشاعر
قط العدى قط اليراعة وانتهز ... بظبا السيوف سوائم الأضغان
إنّ البيادق أن توسع خطها ... أخذت إليك مآخذ الفرزان
وقال المأمون الحلم يحسن بالملوك إلا في ثلاثة أشياء فادح في ملك ومتعرض بجرم ومذيع لسر وقال أعرابي لابن عباس أتخاف علي جناحاً إن ظلمني رجل فظلمته فقال له العفو أقرب للتقوى فقال ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل وقال الشاعر
إذا كان حلم المرء عون عدوّه ... عليه فإنّ الجهل أعفى وأروح
وفي الحلم صغر والعقوبة هيبة ... إذا كنت تخشى أيد من عنه تصفح
آخر
أرى اللين ضعفاً والتشجع هيبة ... ومن لا يهب يحمل على مركب وعر
وما كل حين ينفع الحلم أهله ... ولا كل حين يدفع الجهل بالصبر
وقال الجاحظ من قابل الاساءة بالاحسان فقد خالف الله في تدبيره وظن أن رحمة الله دون رحمته فإنه تعالى يقول من يعمل سوأ يجز به وقال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره فجازي على الخير بالثواب والشر بالعقاب وقال أكثم بن صيفي من تعمد الذنب فلا ترحمه دون العقوبة فإن الأدب رفق والرفق يمن وقال أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي
من الحلم أن يستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
آخر
من أكرم الناس أكرموه ... ووقروه وبجلوه
ومن يهنهم يهن عليهم ... في حر أميه يدخلوه
وقال الشافعي من استغضب فلم يغضب فهو حمار كما أن من استرضى فلم يرض فإنما هو جبار وقال رجل لابن سيرين إني وقعت فيك فاجعلني في حل قال ما أحب أن أحل لك ما حرم الله عليك وقال علي كرم الله وجهه رد الحجر من حيث جاء فإن الشر لا يدفع إلا بالشر وقال الشاعر
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
احتجاج من جازى السيئة بمثلها ... ممن ملك عقد الأمور وحلها
لما ولي طاهر بن عبد الله بن الحسين خراسان بعد موت أبيه استؤمر في رجلين أحدهما ضعيف والآخر عليل فوقع في أمرهما الضعيف يقوى والعليل يبرأ فإن يكونا ممن لا يؤمن شرهما فدعهما مكانهما فإن من أطلق مثلهما على الناس فهو شر منهما وشريكهما في أعمالهما واعتذر بعض بني أمية إلى السفاح فهم بالصفح عنهم فقال أبو مسلم إن الصفح مقرب إلى الله تعالى مبعد من النار إذا قصد طريقه وأصيب به أهله وأما هؤلاء الذين تضمنت قلوبهم غدراً وأورى زندهم شراً فلم تنفد ضغائنهم ولا ننيب بوائقهم فالقتل لهم أشفى والراحة منهم أولى فأمر بقتلهم فقتلوا ودخل إسمعيل الملقب بسديف على السفاح وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أدناه وأعطاه يده فقبلها فلما رأى سديف ذلك قام بين يدي السفاح وأنشده قصيدة يمدحه فيها ويحرضه على قتل من ظفر به من بني أمية جاء منها

يا ابن عم النبيّ أنت ضياء ... استبنا بك اليقين الجليا
يا وصي الشهيد أكرمك الل ... ه فقد كنت للشهيد وصيا
لا يغرنك ما ترى من خضوع ... إن تحت الضلوع داء دويا
بطن البغض في القديم فأضحى ... ثابتاً في قلوبهم مطويا
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق طهرها أمويا
فقام أبو العباس ودخل وإذا المنديل قد ألقى في عنق سليمان ثم جر فذبح ومن الأغراء وإن لم يعتمد لما أساءت البرامكة على الرشيد وأراد الايقاع بهم جعل يتردد في أعمال الحيلة عليهم فتكلم الرشيد يوماً في مجلسه كلمة نزع القوم بها فكل يحكي في نوعها حكاية أو ينشد شعراً في معناها وكان في المجلس ابن عزيز فأنشد أبياتاً في غير المعنى الذي كانوا بصدده كانت سبباً لامضاء عزيمته على قتل البرامكة يقول فيها
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما نجد
واستبدّت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد
فاستعاد منه الرشيد البيتين مراراً ثم أوقع الرشيد بالبرامكة بعد ذلك بثلاثة أيام وسنذكر في الفصل الأوسط من الباب الآتي من إيقاعه بهم ما فيه للمتأمل مقنع وللمستخبر مستمتع إن شاء الله تعالى ولم أر في التحريض أبلغ من قول القائل في قصيدة طويلة ذات معان جمة وفوائد جليلة
ما كل يوم ينال المرء ما طلبا ... ولا يسوّغه المقدور ما وهبا
وأعجب الناس من إن نال فرصته ... لم يجعل السبب الموصول مقتضبا
وأنصف الناس في كل المواطن من ... سقى الأعادي بالكاس الذي شربا
فالعفو إلا على الأعداء مكرمة ... من قال غير الذي قد قلته كذبا
قتلت عمراً وتستبقي يزيد لقد ... رأيت رأياً يجرّ الويل والحربا
لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهماً فأتبع رأسها الذنبا
هم جردوا السيف فاجعلهم به جزراً ... هم أوقدوا النار فاجعلهم لها حطبا
واذكر بمنحاهم مثوى أبي كرب ... فيهم وحبس عدي عندهم حقبا
وسيف جدك لما أن أضرّ بهم ... جاؤا به لك في أسلابهم سلبا
لا عفو عن مثلهم في مثل ما طلبوا ... وإن يكن ذاك كان الهلك والعطبا
فمنهم أهل غمان ومجدهم ... عال وإن حاولوا ملكاً فلا عجبا
إن تعف عنهم يقول الناس كلهم ... لم يعف حلماً ولكن عفوه رهبا
وإن أحسن من ذا العفو لو هزموا ... لكن هم اتبوا من سيفك الهربا
علام تقبل منهم فدية وهم ... لا فضة قبلوا منه ولا ذهبا
اسق الكلاب غد من فتية دمها ... عند البرية تستسقى به الكلبا
لو لم يسر جان أن تعض محاجزه ... واللبث لا يحسن النقبا إذا وثبا
آخر
يفيض إليّ الشر حتى إذا أتى ... لينزل رحلي قلت للشر مرحبا
وأركب ظهر الشر حتى أذله ... إذا لم أجد الأعلى الشر مركبا
واكوى بلا نار اناساً بظلمهم ... وأصفح أحياناً وإن كنت مغضبا
ولله در من قال
إذا آمن الجهال جهلك مرة ... فعرضك للجهال غنم من الغنم
وإن أنت باريت السفيه إذا أنتمي ... فأنت سفيه مثله غير ذي حلم
فلا تعترض عرض السفيه وداره ... بحلم فإن أعيا عليك فبالصرم
وغم عليه الجهل والحلم والقه ... بمنزلة بين العداوة والحلم
فيرجوك تارات ويخشاك تارة ... وتأخذ فيما بين ذلك بالحزم
فإن لم تجد بدا من الجهل فاستعن ... عليه بجهال فذاك من العزم
ودع عنك في كل الأمور عتابه ... فإنك إن عاتبته كان كالخصم
ومن عاتب الجهال لم يشف نفسه ... ولكنه يزداد سقماً على سقم
آخر

حبست لكم نفسي على الحلم والرضا ... يأمن ذو خوف ويدرك طالب
إذا أنت لم تصلح لسيفك ما جنى ... سفيهك صارت في الصدور معاتب
المتنبي
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
نبذة من أدنى النقض والابرام ... في ذم مكافأة اللئيم بالاكرام
قالوا العفو يفسد من اللئيم بقدر ما يصلح من الكريم وقال معاوية بن يزيد بن معاوية لأبيه هل ذممت عاقبة حلم قط قال ما حلمت عن لئيم وإن كان ولياً إلا أعقبنني ندماً على ما فعلت وقال الشاعر
متى تضع الكرامة في لئيم ... فإنك قد أسأت إلى الكرامه
وقد ذهبت صنيعته ضياعا ... وكان جزاء فاعلها الندامه
وقالوا جنب كرامتك اللئام فإنك إن أحسنت إليهم لم يشكوا وإن أساؤا لم يستغفروا شاعر
إن هذا اللؤم إنا أكرمته ... حسب إلا كريم حقاً يلزمك
فأهنه إنه من لؤمه ... إن تسمه بهوان يكرمك
ولآخر
إنّ اللئيم إذا رأى ... ليناً تزيد في حرانه
لا تخدعن فصلاح من ... جهل الكرامة في هوانه
ويقال اللئام إلى رهبوت أحوج منهم إلى رحموت المتنبي ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى وقالوا الكريم يصلح بالاحسان والكرامة واللئيم بالهوان والملامسة المتنبي
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
إبراهيم بن المهدي
إذا كنت بين الحلم والجهل باقلاً ... وخيرت أني شئت فالحلم أفضل
ولكن إذا أنصفت من ليس منصفاً ... ولم يرض منك الحلم فالجهل أنبل
إذا جاءني من يطلب الجهل عامداً ... فإني سأعطيه الذي جاء يسأل
ولم أعطه إياه إلا لأنه ... وإن كان مكروهاً من الذل أجمل
وفي الخير إبطاء فإن جاء عاجلاً ... كما تشتهيه النفس فالشر أعجل
وينسب لعلي رضي الله عنه
لئن كنت محتاجاً إلى الحلم إنني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
ولي فرس للخير بالخير ملجم ... ولي فرس للشر بالشر مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم ... ومن شاء تعويجي فإن معوّج
وما كنت أرضى الجهل جدّاً ولا أباً ... ولكنني أرضى به حين أحرج
فإن قال بعض الناس فيه سماجة ... لقد صدقوا والذل بالحرّ أسمج
أبو نواس
في الناس إن جربته ... من لا يعزك أو تذله
فاترك مدارة اللئي ... م فإن فيها العجز كله

الباب الرابع عشر
في الانتقام
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في التشفي والانتقا
ممن أحضر قسراً في المقام
قال الله تعالى وإذا ما غضبوا هم يغفرون ولم يقل هم يقتلون وفي هذا دليل على أن الانتقام قبيح فعله على الكرام فإنهم قالوا الكريم إذا قدر غفر وإذا عثر بمساءة ستر واللئيم إذا ظفر عقر وإذا أمن غدر
ولنقدم كلاماً شافياً في ذم الغضب ... إذ هو الزمام القائد للعطب

جاء في تفسير قول الله تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون أن الطائف من الشيطان هو الغضب ويروى أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله قل لي قولاً ينفعني الله به وأقلل لعلي أعرفه قال لا تغضب فأعاد عليه المسئلة قال لا تغضب فأعاد عليه المسئلة قال لا تغضب وقال يحيى بن زكريا لعيسى عليهما السلام أخبرني بما يقربني من رضا ربي ويبعدني من سخطه قال لا تغضب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تعدون الشديد فيكم قالوا الذي لا يصرعه الرجال قال لا ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب وذكر أن جعفر بن محمد الصادق دخل على المهدي وقد امتلأ غضباً على إنسان فقال يا أمير المؤمنين إنك لا تغضب إلا لله فلا تغضب له أكثر من غضبه لنفسه وقد قال بعض الحكماء إياكم والغضب فرب غضب استحق به الغضبان غضب الله عز وجل عليه ويقال إن في التوراة يا ابن آدم لا تغضب فاغضب عليك يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق وقالوا إياك وغرة الغضب فإنها تفضي بك إلى ذلة الاعتذار وقالوا الغضب على من لا تملك لؤم وعلى من تملك شؤم وقال بعض الأعراب الغضب عد والعقل فإنه يحول بين صاحبه وبين العقل والفهم فيستولي عليه سلطان الهوى فيصرفه عن الحسن وهو الاحتمال إلى القبيح وهو الغضب ومن عصى الحق غمره الباطل وقال ابن المعتز الغضب يصدئ القلب حتى لا يرى صاحبه شيأً حسناً فيفعله ولا قبيحاً فيجتنبه ويقال ما ترك شيأً من الأحوال الذميمة ولا تأخر عن سبب من الأسباب اللئيمة من أنفذ غضبه وأساء في الانتقام أدبه واستطاب فعله واستعذبه وقالوا ليس من عادات الكرام سرعة الغضب والانتقام وقالوا ثلاثة يعدون في المجانين وإن كانوا عقلاء الغضبان والسكران والغيران وقال عمر بن عبد العزيز ثلاثة من كن فيه فقد استكمل الايمان من إذا غضب لم يخرجه غضبه إلى الباطل وإذا رضي لم يخرجه رضاه عن الحق وإذا قام جدال لا يأخذ ما ليس له وإذا تمكن منه الغضب على أحد حبسه ثلاثة أيام حتى يسكن غضبه ثم يحضره فإن وجب عليه العقوبة عاقبه وإلا أطلقه

ما اخترناه من كلام الحكماء وأقوال الكرام الأماجد
في ذم التشفي من العدو والمعاند قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله تعالى فينتقم لله بها وقالوا أقبح المكافأة المكافأة بالاساءة وقال معاوية إن أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وقالوا الاقتدار يمنع الحر من الانتصار وقال علي رضي الله عنه أنا إلى العفو والرحمة أقرب مني إلى العقوبة والنقمة وقال جعفر الصادق لان أندم على العفو عشرين مرة أحب إلي من أن أندم على العقوبة مرة واحدة وحكي أن رجلاً من قريش كان يطلب رجلاً يدخل في الجاهلية فلما ظفر به قال لولا إن القدرة تذهب الحفيظة لانتقمت منك وتركه ولهذا يقال كل عزيز دخل تحت القدرة واتضح بالتنصل عذره فهو ذليل حقه على من قدره بالقدرة جليل أن يتعمد اساءته بالاحسان إليه ويفك اساره بالامتنان عليه وينزله من اكرامه منزلة المطيع من خدامه ويعفيه من عتبه وملامه كما أعفاه من سخطه وانتقامه وقيل أقبح أفعال ذوي التمكن والاقتدار عقوبة من التجأ إلى الاعتذار شاعر
ليست الأحلام في حال الرضا ... إنما الأحلام في حال الغضب
وقال المنصور في كلام لولده المهدي لذة العفو أطيب من لذة التشفي وذلك أن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة ولذة التشفي يلحقها ذم الندم ويحكي عن عنان بن خريم أنه دخل على المنصور وقد قدم بين يديه جماعة كانوا قد خرجوا عليه ليقتلهم فقال أحدهم يا أمير المؤمنين من انتقم فقد شفي غيظه وأخذ حقه ومن شفي غيظه وأخذ حقه لم يجب شكره ولم يحسن في العالمين ذكره وإنك إن انتقمت فقد انتصفت وإذا عفوت فقد تفضلت على أن اقالتك عثار عباد الله موجبة لاقالته عثرتك وعفوك عنهم موصول بعفوه عنك فقبل قوله وعفا عنهم وقال الشاعر
لذة العفو ان نظرت بعين ال ... عدل أشفى من لذة الانتقام
هذه تكسب المحامد والمج ... د وهذه تجئ بالآثام

والعرب تقول لا سودد مع الانتقام وقالوا سرعة العقوبة من لؤم الظفر وقيل ليس من الكرم عقوبة من لا يجد امتناعاً من السطوة وأسر على رجلاً من أصحاب عائشة رضي الله عنها يوم وقعة الجمل فقيل له ويلك وأنت ممن ألب علينا فقام الأشتر فقال دعني أضرب عنقه يا أمير المؤمنين فقال الرجل يا أمير المؤمنين لان تلقى الله وقد عفوت عني خير لك من أن تلقاه وقد شفيت غيظك وانتصرت لنفسك فقال اذهب حيث شئت وانشد للمأمون
يخشى عدوّي من بعيد سطوتي ... فإذا قدرت على العدوّ عفوت
وقال بعض الحكماء التزين بالعفو خير من التقبح بالانتقام وقال علي رضي الله عنه ليس شيء بخير من الخير إلا ثوابه وكل شيء في الدنيا سماعه أعظم من عيانه وكل شيء في الاخرة عيانه أعظم من سماعه ويقال التشفي طرف من العجز ومن رضي به لا يكون بينه وبين الظالم الأستر رقيق وحجاب ضعيف ولان يثنى عليك بسعة الصدر خير من أن تذم بضيقه وقال ابن المعتز مبالغة المقتدر في العقوبة تقربه من غضب الله وتبعده من انتساب الكرم إليه وقال كفى بالظفر شفيعاً للمذنب إلى القادر وقال بعض الحكماء لا يحملنك الحنق على اقتراف اثم يشفي غيظك ويسقم دينك ويقال لا تشن حسن الظفر بقبح الانتقام وقالوا عقوبة المقتدر تبدأ به تقبح صورته وتثلم حسبه وتعجل ندمه شاعر
إذا أنت لم تصبر على الحقد لم تفز ... بمجد ولم تسعد بتقريظ مادح
آخر
رأيت انتقام المرء يزري بعقله ... وإن لم يقع إلا يأهل الجرائم
وقال الفضيل بن عياض لا يكون العبد من المتقين حتى يأمن عدوه بوائقه وقلت إذم مسرفاً في الانتقام فلان منزوع الرحمة من قلبه مصروف الوجه عن المعترف بذنبه يرى العفو مغرماً والعقوبة مغنماً إن ضحكت في وجهه عبس وإن تخاضعت له شمس لا يرقب في المسئ إلا ولا ذمة ولو شفع فيه سواد الأمة ومن رسالة للبديع الهمداني يصف ملكاً عظيم الشان يحسبه المتأمل إنساناً وهو شيطان وفلان سماء إذا تغيم لم يرج صحوه وإذا تغير لم يشرب صفوه وإذا سخط لم ينتظر غيره ليس بين رضاه والسخط عوجة كما ليس بين غضبه والسيف فرجة وليس من سخطه مجاز كما ليس بين الموت والحياة معه حجاز يغضبه الجرم الخفي ولا يرضيه العذر الجلي وتكفيه الجناية وهي ارجاف ثم لا يشفيه العقوبة وهي حجاف حتى إنه يرى الذنب وهو أضيق من ظل الرمح ويعمي عن العذر وهو أبين من عمود الصبح وهو ذو اذنين يسمع بهذه القول وهو بهتان ويحجب بهذه العذر وهو برهان وذو يدين يبسط أحدهما إلى السفك والسفح ويقبض الاخرى عن العفو والصفح وذو عينين يفتح أحدهما إلى الجرم ويغمض الاخرى عن الحلم فمزحه بين القد والقطع وحده بين السيف والنطع ومراده بين الظهور والكمون وأمره بين الكاف والنون ثم لا يعرف من العقاب إلا ضرب الرقاب ولا من التأديب غير اراقة الدماء ولا يهتدي إلا إلى إزالة النعماء ولا يحلم عن الهفوة كوزن الهبوة ولا يغضي عن السقطة بجرم النقطة ثم إن النقم بين لفظه وقلمه والأرض تحت يده وقدمه فلا يلقاه الولي إلا يغمه ولا العدو الا يذمه فالأرواح بين حبسه واطلاقه كما أن الأجسام بين حله ووثاقه
ومما ينتظم في سلك هذا المقول ... مدح التراحم الراضي به أرباب العقول

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء وقال عليه الصلاة والسلام لا ينزع الله الرحمة إلا من قلب شقي وقالوا من كرم أصله لان قلبه وقيل من أمارات الكريم الرحمة ومن أمارات اللئيم القسوة وقالوا من شكر الظفر الصفح عن الذنوب والستر للعيوب وفي الحديث إن الله رحيم يحب من عباده الرحماء وقال الأقرع بن حابس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رآه يقبل الحسن إن لي عشرة أولاد ما قبلت أحداً منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لا يرحم لا يرحم وقال مالك بن دينار ما ضرب الله عبداً بعقوبة أعظم من قسوة القلب ولا غضب الله على قوم إلا نزع منهم الرحمة وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أشجع الناس إذا لقى الناس وأرحم الناس إذا استحكم الباس ويقال أرق الناس قلوباً أقلهم ذنوباً وقال عمر ابن العزيز استدعوا العفو عن الناس والرحمة من الله بالرحمة لهم وفي بعض الكتب المنزلة يقول الله تعالى إن كنتم تريدون رحمتي فارحموا عبادي شاعر
ابغ للناس من الخي ... ر كما تبغي لنفسك
وارحم الناس جميعاً ... إنهم أبناء جنسك

الفصل الثاني من الباب الرابع عشر
في ذكر من ظفر فعاقب
بأشدّ العقوبة ومن راقب
لما ظفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقبة بن أبي معيط أمر بصلبه إلى شجرة فقال يا رسول الله أنا من بين قريش قال نعم قال فمن للصبية قال النار فصلب رواه أبو داود في مراسيله وغيره وقيل إنه أول مصلوب صلب في الاسلام وكان النضر بن الحرث بن كلدة شديدة العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان يوم بدر أخذ أسيراً فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله فقتله علي رضي الله عنه صبراً وذكر أن أخته قيلة بنت الحرث تعرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت فاستوقفته فوقف فأنشدته
يا راكباً إنّ الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ بها ميتاً بأن تحية ... ما إن تزال بها الركائب تخفق
مني إليك وعبرة مسفوحة ... جادت لمانحها وأخرى تحنق
هل يسمعني النضر إن ناديته ... إن كان يسمع ميت من ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... للّه أرحام هناك تمزق
قسراً يقاد إلى أبيه متعباً ... رسف المقير وهو عان موثق
أمحمد ولانت نجل كريمة ... في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
لو كنت قابل فدية لفديته ... بأعز ما يغلو به من ينفق
فالنضر أقرب من قتلت قرابة ... وأحقهم إن كان عتقاً يعتق

فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم شعرها رق لها وقال لو كنت سمعت شعرها من قبل ما قتلته ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر بقتل ستة نفر وأربع نسوة فأما النفر فعكرمة بن أبي جهل وهبار بن الأسود وعبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة والحويرث بن نقيد وهلال بن عبد الله ابن خطل فأما عكرمة فإنه هرب ثم أسلم وهرب هبار بن الأسود ثم أسلم بعد ذلك وكذلك عبد الله بن أبي سرح وأما مقيس بن صبابة فقتله غيلة وأما الحويرث فهرب فلقيه علي بن أبي طالب فقتله وأما هلال بن عبد الله بن خطل فقتله عمار بن ياسر بين الركن والمقام وأما النساء فهند بنت عتبة وسارية مولاة عمرو بن هشام وقينتا هلال بن عبد الله بن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما هند فأسلمت وأما سارية فقتلها علي رضي الله عنه وأما قينتا هلال فقتلت إحداهما وأسلمت الاخرى وقدم اناس من عرينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلموا وكانوا في الصفة فقطنوا المدينة فسقمت أجسادهم فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألا تخرجون مع راعينا في ابله فتشربون من البانها وأبوالها قالوا بلى فخرجوا فشربوا الألبان والأبوال فصحوا فلما صحوا قتلوا الراعي وارتدوا عن الاسلام واستقاوا الابل فجاء الصريخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في اثرهم فما ترحل النهار حتى أتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا وكان عمرو بن هند من أشد ملوك العرب بأساً وأسوأهم قدرة وأعظمهم جراءة يذكر عنه أنه لما قتلت بنو تميم أخاه مسعد أغضب وآلى على نفسه أنه متى ظفر بهم قتل رجالهم وسبي حريهم فلما ظفر بهم أحمى لهم الصفا ومشى عليه من رجالهم من بلغ أجله فأتى بشاب ليمشي عليه كما فعل أصحابه وأقبلت أمه معه فلما رأت الصفا وشدة وهجه قطعت ثدييها ورمت بهما على الصفا وقالت يا بني ق بثديي قدمك وأقلل بوطئهما ألمك ثم أنشدت
ابني لو قبل الفداء لجدت بال ... كبد التي أضحت عليك تقطع
يا ليت حرّ النار باشر مهجتي ... أوليت خدي فوق خدك يلذع
فرق لها عمرو وأمر باطلاق ولدها واطلاق من بقي من قومها وروى ابن الكلبي عن أبيه قال أول من خرج من الحرم بعض اياد وتغلب وانتشروا في أرض نجد فبعث إليهم الملك زيد بن برعش فغزاهم فأبلى فيهم وأسرو سبي فلما قدم على الملك عرض الأسرى على السيف فقرب شاباً من أياد ليقتل فأقبلت أم وهي تقول
يا أيها الملك المغيث القاهر ... الحلم يلزم حين يعفو القادر
هذا عبيدك مسلم بجريرة ... بادي الضراعة أو منيق عاثر
إن تسط تسط محكماً أو تعفون ... فالذنب يغفره المليك الغافر
لاذوا بعفوك من عقابك بعدما ... جردت لها منظومة وخناجر
فاصرف إلى الابقاء عزمك فيهم ... طولاً فليس لهم مجير ناصر

فرق لها الملك وقال لها لك ما لاثه خمارك منهم فأقبلت تخط خمارها شققاً وتصل بعضها ببعض حتى ضم طرفاه مائة رجل أو أكثر فاستضحك الملك وأمر باطلاقهم وقتل الباقين ومن الحقد المستبشع والتشفي المستشنع ما ذكره ابن حمدون في تذكرته عن عبد الله بن الزبير حين ظفر بأخيه عمرو وكان يشايع بني أمية وهدم دور قوم بالمدينة في هواهم فلما ولي أخوه عبد الله الخلافة أخذه وأقامه للناس ليقتصوا منه فبالغ كل ذي حقد عليه في الاقتصاص وكان عبد الله لا يسأل أحداً ادعى عليه شيأً بينة ولا حجة وكان أرباب الحقوق يدخلون عليه السجن يضربونه والقيح ينضح من ظهره على الأرض والحائط فلما لم يبق أحد من ذوي الحقوق أمر أن يرسل عليه الجعلان فكانت تدب عليه فتنقب لحمه وهو معقول لا يستطيع حركة حتى مات فدخل الموكل به على عبد الله وفي يده عس لين يريد أن يسخر به وهو يبكي قال له أمات قال نعم قال أبعده ثم تناول العس فشرب ما فيه وقال لا تغسلوه ولا تكفنوه وادفنوه في مقابر المشركين فدفن بها وكان الحجاج شديد الوطأة على الجناة ذكر أهل التاريخ أنه لما مات أحصى من قتل صبرا سوى من قتل في حروبه وسراياه فوجدوا مائة ألف وعشرين ألفاً ومات في حبسه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة منهن ست آلاف مخدرات وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد ولم يكن لحبسه سقف يقيهم الحر والبرد وكان الحراس يحصبونهم إذا استظلوا من وهج الشمس وزمهرير البرد ولما أخرجوا بعد موته كان فيهم أعرابي فقيل له كم كان لك في السجن قال اثنتا عشرة سنة قيل له فما ذنبك قال بلت في ربض واسط ولما أطلق جعل يعدو وهو يقول
إذا نحن جاوزنا مدينة واسط ... خرينا وبلنا لا نخاف عقابا
وذكر أهل التاريخ أيضاً إنه ركب يوم جمعة يريد الجامع فسمع ضجة عظيمة فقال ما هذا قالوا أهل السجن يشكون ما هم فيه فالتفت إلى ناحيتهم وقال اخسؤا فيها ولا تكلمون فيقال إنه مات في تلك الجمعة بواسط سنة خمس وتسعين وهو ابن أربع وخمسين سنة وآخر كلام سمع منه اللهم اغفر لي فإن عبادك يظنون أن لا تفعل وكانت مدة امرته على الناس عشرين سنة وفي الشهر الذي مات فيه ولد أبو جعفر المنصور وولي الخلافة في ذي الحجة أيضاً سنة ست وثلاثين ومائة ومات في الشهر المذكور سنة ثمان وخمسين فكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا سبعة أيام ولما التقى مصعب بن الزبير بالمختار ابن أبي عبيد الثقفي هزمه وأسر من عسكره ستة آلاف وثمانمائة رجل فقتلهم صبراً بين يديه في يوم واحد وهو ينظر إليهم وكانوا ألفاً وثمانمائة من أشراف العرب وخمسة آلاف من الموالي وكان أبو مسلم الخراساني ممن حذاه في الفعل حذو النعل بالنعل أحصى من قتل فكان ستمائة ألف نفس وقد ذكرنا قتله فيما سبق من الكتاب وفيه يقول أبو جعفر حين قتل وقد وضعت رأسه بين يديه
زعمت أنّ الدين لا يقتضي ... دونك فاستوف أبا مجرم
فاشرب بكأس من كنت تسقي بها ... أمرّ في الحلق من العلقم
ولما أسرف في القتل وجد رقعة على المنبر فقرأها فإذا فيها اقتل ما عسى أن تقتل فلست تقدر أن تقتل قاتلك فكف وبابك الحرمى قتل في حروبه التي كانت بينه وبين الأمويين مائتي ألف ألف وخمسمائة ألف وخمساً وخمسين ألفاً وكان ظهوره سنة احدى ومائتين في خلافة المأمون واستمرت فتنته إلى أيام المعتصم فأرسل إليه العساكر فكانت الحرب بينه وبينهم ولا إلى أن كانت الدائرة عليه فهزم عسكره وأسر وفتحت مدينته التي بناها ودخلها المسلمون واستباحوها في أيام المعتصم سنة اثنتين وعشرين ومائتين وفيها فتحت عمورية وأحضر بين يدي المعتصم فأمر بقطع يديه ورجليه فلما قطعت لطخ بدمه وجهه حتى لا يرى في وجهه أثر الجزع ثم أمر به فضربت رقبته وصلب وفي قتله يقول أبو عبادة البحتري من أبيات
لم يبق فيه خوف بأسك مطمعاً ... للظنّ في اخفا ولا ابداء
أخليت منه البيد وهي قراره ... ونصبته علماً بسامرّاء
فتراه مطرداً على أعواده ... مثل اطراد كواكب الجوزاء
مستشرفاً للشمس منتصباً لها ... في أخريات الجذع كالحرباء

وكان بشر بن مروان شديد على الجناة وكان إذا ظفر بجان أقامه على كرسي وسمر كفيه في الحائط ونزع الكرسي من تحت رجليه فلا يزال يضطرب حتى يموت وقال الشعبي ما رأيت في العمال مثل عبد الله التميمي كان لا يعاقب إلا في دين الله وكان إذا أتى برجل نباش حفر له قبراً ودفنه فيه حياً وإذا أتى برجل نقب في قوم جعل منقبته في صدره حتى تخرج من صدره وإذا أتى برجل شهر سلاحاً قطع يده فربما أقام أربعين لا يؤتي إليه بجان خوفاً من سطواته ودخل شبل بن عبد الله على عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس السفاح بعدما ولي الخلافة ووليها وهو ابن أربع وعشرين سنة في ربيع الآخر سنة اثنين وثلاثين ومائة وعنده مائتا رجل من بني أمية وهم جلوس معه على المائدة فقام مولى لبني العباس فأنشده
أصبح الملك ثابتاً في أساس ... بالبهاليل من بني العباس
طلبوا وتر هاشم فشفوها ... بعد ميل من الزمان وياس
يا كريم المطهرين من الرج ... س ويا رأس كل طود وراس
لا تقبلن عبد شمس عثاراً ... واقطعن كل رقلة وغراس
دلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحز المواس
أقصهم أيها الخليفة واقطع ... عنك بالسيف شأفة الأرجاس
ولقد غاظني وغاظ سوايا ... قربهم من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزله اللّه ... بدار الهوان والاتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيلاً بجانب المهراس
والقتيل الذي بحرّان أضحى ... ثاوياً بين غربة وتناسي
وهما حمزة بن عبد المطلب وإبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس المنعوت بالامام فأحز بهم عبد الله فشدخوا بالعمد وبسطت البسط عليهم وجلس عليها ودعا بالطعام وإنه ليسمع أنينهم وعويلهم فلما فرغ من طعامه قال ما أكلت أكلة قط هي أهنأ ولا أمرأ ولا أطيب في نفسي من هذه ثم أخرج عمه عبد الصمد بن علي في طلب بني أمية في اقطار الأرض إن وجد حياً قتله وإن وجد مقبوراً نبشه وأحرق من فيه حتى أتى دمشق فدخلها وقتل في جامعها يوم جمعة في شهر رمضان خمسين ألفاً من بني أمية ومواليهم كانوا قد استجاروا بالجامع فلم يجرهم ولما وصل إلى الرصافة أخرج هشاماً من قبره فضرب مائة سوط وعشرين سوطاً حتى تناثر لحمه وقال إنه ضرب أبي ستين سوطاً ظلماً وذكر الدوحي في كتابه بلغة الظرفاء في تاريخ الخلفاء سبب ذلك إن هشاماً اتهمه بقتل سليط المنتسب إلى أبيه عبد الله ففعل به ذلك وقد رأينا صواباً أن نذكر مقتل زيد المشار إليه في الأبيات المتقدم ذكرها فالشيء بالشيء يذكر وإن كان غير داخل فيما ترجمنا عليه في هذا الفصل وكان ظهوره في سنة ثنتين وعشرين ومائة بالكوفة وأرسل هشام إلى محاربته يوسف بن عمر الثقفي فلما قامت الحرب بينهم على ساقها انهزم أصحاب زيد وبقي جماعة يسيرة فقاتل أشد قتال وهو يقول
وذل الحياة وذل الممات ... وكلاً أراه طعاماً وبيلا
فإن كان لا بدّ من واحد ... فسيروا إلى الموت سيراً جميلا
ولم يزل يقاتل حتى أصابه سهم في جبهته فمات مقتولاً منه فدفنه أصحابه ثم دل يوسف على قبره فأخرجه وقطع رأسه وأرسله إلى دمشق فعلق وصلب جثته عارية فتدلت سرته حتى سترت سوأته وذلك في السنة التي ظهر فيها ولم يزل كذلك إلى أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك فأمر بها فأحرقت وفيه يقول حكيم بن عياش الكلبي يخاطب آل بني طالب من أبيات
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ... ولم أر مهدياً على الجذع يصلب
وقستم بعثمان علياً سفاهة ... وعثمان خير من عليّ وأطيب

ومات هشام سنة خمس وعشرين ومائة في ربيع الأول وله من العمر ست وخمسون سنة وكانت مدة خلافته تسع عشرة سنة وأشهراً وأياماً والقتيل بجانب المهراس هو حمزة بن عبد المطلب وإنما نسب قتله لبني أمية لان أبا سفيان قاد الجيوش يوم أحد لقتال المسلمين والمهراس ماء بأحد قال لمبرد وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم عطش في يوم أحد فجاءه علي رضي الله عنه في درقته بماء فعافه وغسل به الدم عن وجهه ولما زالت دولة بني أمية كان آخرهم مروان بن الحكم المكنى بالحمار وهرب فتبعه صالح بن علي إلى بلاد مصر فقتله بقرية من قراها تسمى بوصير ويحكى أنه لما قتل قدم رأسه بين يدي صالح فنقب فمه فسقط لسانه فأخذه هر فقال صالح والله لو لم يرنا الدهر من عجائبه إلا لسان مروان في فم هر لكفانا معتبراً ثم أدخل عليه ابنتان لمروان فقالت كبراهما السلام عليك يا أمير المؤمنين قال لست بأمير المؤمنين فقالت السلام عليك أيها الأمير فقال وعليك اسلام فقالت لقد وسعنا عدلكم فقال إذا لا يبقى على وجه الأرض منكم أحد انكم بدأتم بلعن علي بن أبي طالب على منابركم فاستوجبتم اللعنة من الله وقتلتم الحسين بن علي وسرتم برأسه في الآفاق وقتلتم زيد بن علي ونبشتموه وأحرقتموه بالنار وصلبتم يحيى بن ريد وأمرتم من بال على وجهه وقتلتم إبراهيم بن محمد الامام وهو أسير في أيديكم ظلماً وعدواناً قالت أيها الأمير فليسعنا عفوكم قال أما هذا فنعم ثم أمر فرد عليها ما ذكرت إنه أخذلها وخلى سبيلها وأنشد المهدي قول بشار بن برد فيه لما أنفق الأموال التي جمعها المنصور في اللذات والشرب والغناء
بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة اللّه بين الناي والعود
فخرج المهدي إلى البصرة وما يريد غيره فلما صار بالبطائح من همذان مر بدار كان بشار على سطحها قائماً فلما أحس بمرور المهدي عليه خاف أن يصرفه فاندفع بشار يؤذن فقال المهدي من هذا الذي يؤذن في غير الوقت فقالوا بشار فقال علي به فلما مثل بين يديه قال له يا زنديق هذا من بذائك تؤذن في غير الوقت ثكلتك أمك فلو سكت لسانك ما عرف مكانك ثم أمر بضربه بالسياط فضرب حتى مات فصلبه وقال ابن عبدوس في كتابه الذي صنفه في أخبار الوزراء في سبب قتله إنه هجا يعقوب بن داود وزير المهدي فصنع يعقوب على لسانه هجاء للمهدي ودخل عليه فقال يا أمير المؤمنين إن هذا الأعمى الملحد قد هجاك قال وما قال قال يعفيني أمير المؤمنين من انشاد ذلك فلم يزل به حتى أنشده
خليفة يزني بعماته ... يلعب بالدف وبالصولجان
أبدك اللّه به غيره ... ودس موسى في حر الخيزران
فقال له وجه من يحمله فخاف يعقوب من أن يقدم على المهدي فيمدحه فيعفو عنه فوجه إليه من ألقاه في البطائح وقيل بل دس عليه من قتله في طريقه وقيل إنما قتل على الالحاد وكان يرى رأى الثنوية وذلك في سنة ثمان وستين ومائة وفي المحرم سنة تسع ومائتين مات المهدي وله من العمر اثنان وأربعون سنة وخمسة عشر يوماً وكانت مدة خلافته عشر سنين وشهراً واحداً
وممن شفي غيظه من العدوّ المخالف ... ولم يغض له عن ذنبه المالف

الحجاج كان أيوب بن الفرية قد خرج مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي كاتباً له لما خلع ربقة الطاعة وادعى الخلافة فحاربه الحجاج دفعات فكانت الدائرة عليه وأخذ أيوب مع من كان معه فلما قدم على الحجاج أسيراً قال له ما أعددت لهذا الموقف قال ثلاثة حروف كأنهن ركب صفوف دنيا واخرى ومعروف فقال له الحجاج بئس ما منتك به نفسك يا ابن الفرية أتراني ممن ينخدع بكلامك والله لأنت أقرب إلى الآخرة منك إلى موضع نعلي هذه قال أقلني عثرتي واسقني ريقي فإنه لا بد للجواد من كبوة وللحليم من هفوة فقال له أنت إلى السطوة أقرب منك إلى العفو عن الهفوة ألست القائل وأنت تحرض حزب الشيطان وعدو الرحمن تغدوا بالحجاج قبل أن يتعشى بكم ثم أمر بضرب عنقه فضربت وذلك في سنة أربع وثمانين ولما انهزم عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث لحق سعيد بن جبير بمكة وكان قد خرج معه فأخذه خالد بن عبد الله القسري فبعث به إلى الحجاج فلما دخل سعيد على الحجاج قال له سعيد قال نعم قال ألم أقدم العراق واتهمت إن قام الموالي فلما بلغني فقهك وحالك جعلتك امام قومك ووجدت عطاءك أربعين ديناراً فبلغت بك سبعين ديناراً قال بلى قال وسهلت اذنك قال بلى واستقصيت أبا بردة من أبي موسى وهو فقيه ابن فقيه فجعلتك وزيره وكاتبه وأمرته أن لا يقطع أمراً دونك قال بلى قال وأوفدت وفداً إلى أمير المؤمنين فجعلتك مثلهم ولا يوفد مثلك فاستعفيتني فأعفيتك وذلك كله بغير غضب من الحجاج ثم قال فما أخرجك علي قال كانت لابن الأشعث في عنقي بيعة فاستوى جالساً وقال يا عدو الله فبيعة أمير المؤمنين كانت في عنقك قبل بيعة عبد الرحمن يا حرسي اضرب عنقه فلما ضربت عنقه التبس على الحجاج عقله مكانه فجعل يقول قيوديا قيوديا فظنوا أنه يطلب القيود التي على سعيد فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود وقد أورد القصاص هذه الحكاية على غير هذا النمط والصحيح هو هذا والله أعلم ايقاع الرشيد بالبرامكة لما ولي الرشيد الخلافة قال ليحيى بن خالد يا أبت قد قلدتك أمر الرعية وأخرجته من عنقي إليك فاحكم بما ترى واستعمل من رأيت وافرض لمن رأيت وأقطع من رأيت فإني غير ناظر معك في شيء ثم ولي في سنة ست وسبعين ومائة جعفر بن يحيى المغرب كله من الأنبار إلى أقصى بلاد أفريقية وولي الفضل المشرق كله من النهروان إلى أقصى بلاد الترك وكان يحيى يميل إلى الفضل والرشيد يميل إلى جعفر فكان يقول ليحيى أنت للفضل وأنا لجعفر وكان الرشيد يسمي جعفراً بأخيه ويدخله معه في ثوبه ولما وقع من جعفر الذنب لم يحتمله الرشيد ولا قدر على الاغضاء عنه وجعل يتردد في أعمال الحيلة على البرامكة ولا يرى منهم ذنباً ظاهراً بيناً يقتلهم به حتى لا يتوجه عليه لوم من الناس في قتلهم لما كان بينه وبينهم من اتحاد الود فتكلم الرشيد يوماً بكلمة نزع فيها جلساؤه كل منزع منهم من يحكي في نوعها حكاية ومنهم من ينشد شعراً فأنشد بعضهم أبياتاً في غير المعنى الذي هم بصدده فكان سبباً لامضاء عزمه في الايقاع بهم يقول فيها
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما نجد
واستبدت مرّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد

فاستعاد الرشيد الأبيات مرات فكان ذلك محرضاً له على الايقاع بهم وكان عندما تغير عليهم صرف الفضل عما كان بيده من ولاية الشرق أولاً فأولا من سنة ثمانين إلى سنة ثلاث وثمانين ولم يزل جعفر مع الرشيد على الحالة المرضية إلى أن ركب في يوم الجمعة مستهل صفر سنة تسع وثمانين إلى الصيد وجعفر معه يسايره خالياً به وانصرف متمسياً إلى القصر الذي كان ينزله بالأنبار فلما وصل إليه ضمه واعتنقه وقال لولا إني أريد الجلوس الليلة مع النساء لما فارقتك وسار جعفر إلى منزله وواصله الرشيد بالألطاف إلى وجه السحر فبعث إليه مسروراً الخادم ومعه سالم وابن عصمة فهجموا عليه وأخذه مسرور وضرب عنقه ولقي الرشيد برأسه فانفذ الرشيد جثته إلى بغداد وقطعت نصفين وصلبا على الجسرين ولما انصرف الرشيد من الرقة سنة تسع وثمانين إلى بغداد مر بالجسر فرأى جثة جعفر فقال لئن مضى أثرك لقد بقي خبرك ولئن حط قدرك لقد علا ذكرك ثم أمر بها فأحرقت ولما قتل الرشيد جعفراً رحل إلى الرقة وحمل معه يحيى وولده الفضل فحبسهما فيها بعد أن ضرب الفضل مائتي سوط ولم يجد ليحيى إلا خمسة آلاف دينار وللفضل إلا أربعين ألف درهم ولم يجد لجعفر ولا لأخيه موسى شيأً ووجد لمحمد بن يحيى سبعمائة ألف درهم ويقال إنه وجد لجعفر في قصره سركة فيها أربعة آلاف دينار وزن كل دينار مائة دينار مكتوب على أحد جانبي الدينار
وأصفر من ضرب دار الملوك ... يلوح على وجهه جعفرا
وعلى الوجه الآخر
يزيد على مائة واحداً ... إذا ناله معسر تيسرا
ولما أوقع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفراً وحبس يحيى أباه والفضل أخاه كتب يحيى إليه من السجن من عبد أسلمته ذنوبه وأوبقته عيوبه وخذله رفيقه ورفضه صديقه فحل في الضيق بعد السعة وعالج البؤس بعد الدعة فساعته شهر وليلته دهر قد عاين الموت وقارب الفوت فتذكر يا أمير المؤمنين كبر سني وضعف قوتي وارحم شيبتي وهب لي رضاك بعفو ذنب إن كان فإن من مثلي الزلل ومن مثلك الاقالة وليس أعتذر إلا باقراري حتى ترضى عني فإن رضيت رجوت أن يظهر لك من عذري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك ما مننت به علي من رأفتك ورحمتك زاد الله في عمرك وجعل يومي قبل يومك فرد عليه الرشيد من كتاب إن أمير المؤمنين لم يأت على ولدك اللعين ومن رأيه ترك الباقين ولم يأمر بحبسك وهو يريد بقاء نفسك إنما أخرك وإياهم لتعالج البؤس بعد النعيم ثم تصير إلى العذاب الأليم فابشر أيها المخادع الزنديق والمخالف الفسيق بما أعدلك أمير المؤمنين من تبديد شملك وخمول ذكرك واطفاء أمرك فتوقعه صباحاً ومساءً ووقع الرشيد عليه وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ثم تناساه هو وابنه الفضل في سجن الرقة حتى ماتا فيه فمات يحيى في المحرم سنة تسعين ومائة فجأة من غير علة وعمره أربع وستون سنة ومات الفضل في شهر رمضان سنة اثنين وتسعين ومائة ولما بلغ الرشيد موته قال أمري قريب من أمره وكذا كان فإنه توفي بعده بخمسة أشهر في المحرم سنة ثلاث وتسعين وقد بلغ من العمر سبعاً وأربعين سنة وكانت ولايته ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين وأياماً فإنه ولي سنة سبعين ومائة وكان الفضل ترب الرشيد ورضيعه أرضعته أم الفضل وأرضعت الفضل أم الرشيد وذكر إن الرشيد أقام يتردد في قتل جعفر سنين لا تطاوعه نفسه في قتله قال حسين الخادم أشهد بالله لقد رأيت الرشيد متعلقاً بأستار الكعبة قائلاً في مناجاته اللهم إني أستخيرك في قتل جعفر بن يحيى ورثاهم بعد موتهم من عامة الشعراء وغيرهم جم غفير وقد اخترنا أبياتاً من أحاسن قصائدهم أردنا أن نبين فيها محاسن مقاصدهم فمن ذلك أبيات لاشجع الأسلمي
ولي عن الدنيا بنو برمك ... ولو تولى الخلق ما زادا
كأنما أيامهم كلها ... كانت لأهل الأرض أعيادا
آخر
كأنّ أيامهم من حسن بهجتها ... مواسم الحج والأعياد والجمع
آخر
يا بني برمك وأهالكم ... ولأيامكم المتنقلة
كانت الدنيا عروساً بكم ... فهي اليوم ثكول أرملة
وفيهم يقول الصيف بن إبراهيم من أبيات

هوت أنجم الجدوى وشلت يد الندى ... وغارت بحور الجود بعد البرامك
هوت أنجم كانت لأبناء برمك ... بها يعرف الساري وجوه المسالك
وللرقاشي
ألان استرحنا واستراحت ركابنا ... وأمسك من يجدي ومن كان يجتدي
فقل للمطايا قد أرحت من السرى ... وطي الفيافي فد فدا بعد فدفد
وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر ... ولم تظفري من بعده بمسوّد
وقل للعطايا بعد فضل تعطليوقل للرزايا كل يوم تجددي ويقال إن الذي سعى بهم هو علي بن عيسى بن ماهان وذكر بعض المؤرخين إنه وجد على باب علي بن عيسى المذكور بعد قتل جعفر هذان البيتان ولا يعلم من كتبهما ولا من قائلهما
إنّ المساكين بنو برمك ... صبت عليهم نوب الدهر
إنّ لنا في أمرهم عبرة ... فليعتبر صاحب ذا القصر
وكانت نكبته قريباً من نكبتهم كان الايقاع بهم بعد رجوع الرشيد من الحج في المحرم سنة تسع وثمانين ومائة وعمر جعفر يومئذ خمس وأربعون سنة وكانت مدة دولتهم سبع عشرة سنة وسبعة أشهر وأياماً والله در أبي كلثوم بن عمرو العتابي حيث قال يعرض بالبرامكة ويذكر عاقبة صحبة السلطان وأن ما للمتعلق بها من غدر الزمان أمان
تلوم على ترك الغنى باهلية ... طوى الدهر عنها كل طرف وتالد
رأت حولها النسوان يرفلن في الكسا ... مقلدة أجيادها بالقلائد
أسرك أني نلت ما نال جعفر ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد
وأنّ أمير المؤمنين أغصني ... معصمها بالمرهفات البوارد
ذريني تجيني ميتة مطمئنة ... ولم تج أهوال بتلك الموارد
فإن كريمات المعالي مشوبة ... بمستودعات من بطون الأساود
وإن الذي يرقى من المجد والعلا ... ملقى بأنواع الأذى والمكايد

ولله در المأمون إذ قال وكأنه يعتذر عن ايقاع أبيه بالبرامكة وإن لم يقصده لا يستطيع الناس أن ينصفوا الملوك من وزرائهم ولا يستطيعون أن ينظروا بالعدل بين ملوكهم وحماتهم وكفاتهم وذلك أنهم يرون ظاهر حرمتهم وخدمتهم ونصيحتهم ويرون ايقاع الملوك بهم ظاهراً ولا يزال الرجل يقول في ذلك ما أوقع به إلا رغبه في ماله أو رغبه فيما لا تجود النفوس به أو الحسد أو الملالة وشهوة الاستبداد لا والله ما هو هذا وإنما هي لجنايات في صلب الملك أو في تعرض الحرم فلا يستطيع الملك أن يكشف للعامة موضع العورة ويحتج لتلك العقوبة بما يستحق ذلك الذنب فلا يستطيع الملك ترك عقابه لما في ذلك من الفساد مع علمه بأن عذره غير مبسوط للعامة ولا معروف عند أكثر الخاصة ومن التشفي الشنيع ما حكي أن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب كان يطعن على عبد الله بن المقفع أشياء كثيرة منها أنه كان يهزأ به ويسأله عن الشيء بعد الشيء تعنتاً فإذا أجابه قال له أخطأت ويضحك منه فلما كثر ذلك عليه غضب وافترى عليه فقال له ابن المقفع يا ابن المغتلمة والله ما اكتفت أمك برجال العراق حتى نفذتهم إلى رجال أهل الشام فحقدها عليه فآلى على نفسه إن أمكنه الله منه ليقتلنه شر قتلة فاتفق أن عيسى بن علي أمر ابن المقفع أن ينطلق إلى سفيان وكان إذ ذاك على شرطة بغداد برسالة كان المنصور أمره بها فقال له إني لا آمن سفيان فقال له انطلق إليه ولا تخف فإنه لم يكن ليعرض ذلك وهو يعلم مكانك مني فلم يجد ابن المقفع بداً من امتثال أمر عيسى فذهب حتى أتى باب سفيان فاستأذن فأذن له وكان في مجلسه العام فعدل به إلى مقصورة ثم قام سفيان من مجلسه إلى المقصورة فلما رأى ابن المقفع قال له وقعت والله فقال له أنشدك بالله تعالى فقال أمي مغتلمة كما قلت إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد قبلك وأمر بتنور فسجر ثم أمر به فقطع عضواً عضواً ويلقى ي التنور وهو ينظر حتى لم يبق منه عضو متصل بعضو ثم قال يا ابن الزنديقة لا حرقنك بنار الدنيا قبل نار الآخرة ثم أمر به فأحرق بعد ذلك وكان رافع بن الليث خلع هرون الرشيد ولبس البياض وتغلب على بلاد ما وراء النهر وذلك في سنة تسعين ومائة وكان علي بن عيسى إذ ذاك على خراسان فحاربه فلم يقدر عليه فخرج الرشيد إليه من بغداد سنة ثلاث وتسعين فلما بلغ طوس مرض واشتد به المرض فلما كان يوم موته أخذ المرآة بيده فنظر فيها وجهه فرأى عليه غبرة الموت فقال إنا لله وإنا إليه راجعون فبينما هو في تلك الحالة إذ دخل عليه أخو رافع بن الليث أسيراً فلما مثل بين يديه قال إني لأرجو إذ لم تفتني أن لا يفوتني أخوك والله لو لم يبق من عمري إلا أن أحرك شفتي بقتلك لقلت اقتلوه ثم دعا بقصاب وقال له لا تشحذ مديتك وفصله عضواً عضواً وعجل لئلا يحضرني أجلي وعضو من أعضائه في جسده ففصله ثم جعله أشلاء ثم قال له اعدد ما فصلت منه فإذا هو أربعة عشر عضواً فرفع يديه وقال اللهم كما أمكنتني منه فمكني من أخيه ثم مات من ساعته وكتب رجل كان في حبس المأمون إليه لما طال حبسه أغفلت يا أمير المؤمنين أمري وتناسيت ذكري ولم تتأمل حجتي وعذري وقد مل من صبري الصبر ومسني من حبسك الضر فأجابه المأمون ركوبك مطية الجهل صيرك أهلاً للقتل وبغيك علي وعلى نفسك نقلك عن سعة الدنيا إلى قبر من قبور الأحيا ومن جهل الشكر على المنن قل صبره على المحن فاصبر على عواقب هفواتك وموبقات زلاتك على قدر صبرك على كثير جناياتك فإن حصل في نفسك ف عن معصيتي وعزم على طاعتي وندم على مخالفتي فلن تعدم مع ذلك جميلاً من نيتي ولما ظفر أبو جعفر المنصور بعبد الله بن حسن قيده وحبسه في داره فلما أراد المنصور خروجه إلى الجيش جلست ابنة لعبد الله تسمى فاطمة على طريقه فلما بصرت به أنشدت
ارحم كبيراً سنه متهدما ... في السجن بين سلاسل وقيود
وارحم صغار بني يزيد إنهم ... قتموا لفقدك لا لفقد يزيد
إن جدت بالرحم القريبة بيننا ... ما جدّنا من جدّكم ببعيد

فلما سمع المنصور أبياتها قال أدركتنيه ثم أمر به فحدر في المطبق فكان آخر العهد به ويزيد المذكور في شعر فاطمة هو أخو عبد الله بن حسن وأخذ عبد الله لأجل ولديه محمد وإبراهيم وكانا قد خرجا على المنصور وغلبا على المدينة ومكة والبصرة فبعث المنصور إليهما عيسى بن موسى فقتل محمد بالمدينة وكان قتل إبراهيم ومحمد بين البصرة والكوفة في رمضان سنة خمس وأربعين ومائة وقال أبو بكر الخطيب مات عبد الله بحبس الكوفة يوم الأضحى سنة خمس وأربعين ومائة وهو ابن ست وأربعين سنة وكان المنصور قل ما يظفر بأحد إلا قتله سواء كان مستوجباً للقتل أو غير مستوجب وهذا كان في أول خلافته فقال له عبد الصمد بن علي قد ضخمت في القتل والعقوبة حتى كان لم يسمع بالعفو فقال إن بني أمية لم تبل رممهم وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم ونحن قوم رأونا بالأمس سوقة واليوم خلفاء ولا تتمهد الهيبة في صدورهم إلا باطراح العفو عنهم واستعمال العقوبة فيهم ومن عجائب الطفر ما حكاه الصولي أن المتوكل قال ركبت إلى دار الواثق أزوره في مرضه في اليوم الذي مات فيه ولم أدر بذلك فدخلت الدار وجلست في الدهليز ليؤذن لي فسمعت بكاء نادبة بناحية تشعر بمونه فتجسست وإذا اتياخ ومحمد بن عبد الملك الزيات يأتمران في فقال محمد نلقيه في التنور وقال اتياخ بل ندعه في الماء البارد حتى يموت ولا يرى عليه أثر القتل فبينما هما كذلك إذ جاء أحمد بن أبي دواد وكان القاضي يومئذ فمنعه الخدام الدخول فدافعهم حتى دخل فجعل يحدثهما بما لا أعقله لما داخلني من الخوف واشغال القلب بأعمال الحيلة في الهرب والخلاص مما ائتمرا به في فبينا أنا كذلك إذ خرج الغلمان يتعادون إلي ويقولون انهض يا مولانا فما شككت أني أدخل وأبايع ولد الواثق وينفذ في ما قرر فدخلت فلقيني ابن أبي دواد فقبل يدي وأمسكها إلى أن صار بي إلى السرير وقال اصعد إلى المكان الذي أهلك الله فلما صعدت وجلست سلم علي بالخلافة وجاء محمد بن عبد الملك الزيات واتياخ فسلما علي أيضاً ثم استدعوا القواد فسلموا علي ثم الناس على طبقاتهم فلما انقضت المبايعة بقيت متعجباً مما اتفق مع ما سمعته من كلام ابن الزيات واتياخ فسألت عن الحال وكيف جرت فقيل لي بينا محمد بن عبد الملك الزيات واتياخ في تقرير ما سمعته إذ دخل عليهما ابن أبي دواد فسلم عليهما وعزاهما وقال أنا رسول المسلمين إليكما وهم يقرؤن السلام عليكما ويقولون لكما قد بلغا وفاة امامنا وعند الله نحتسبه وأنتما المنظور إليكما في هذا الأمر فمن اخترتما لامامتنا فقالا ابنه محمد فقال بخ بخ ابن أمير المؤمنين إلا أنه صغير لا يصلح للامامة فمن غيره قالا فلان وفلان وعدا جماعة إلى أن قالا وجعفر بن المعتصم فقال رضى المسلمون اصفقا على يدي فصفقا ثم أرسل إلى أمير المؤمنين فكان ما رأى قال المتوكل فبقى ما قاله اتياخ وابن الزيات في نفسي فقتلتهما بما احتز ما عليه من قتلي فقتلت ابن الزيات في التنور واتياخاً بالماء البارد وكان ابن الزيات قد اتخذ التنور لابن أسباط المصري وهو صورة خابية مدورة وجعل لباطن جوانبه مسامير أطرافها إلى داخل فإذا وقف فيه الواقف لا يستطيع الحركة إلى جهة أخرى من جهاته إلا ضربته المسامير فلا يزال قائماً فيه حتى يموت فلما ألقى فيه ابن الزيات مر به عبادة المخنث فقال يا ابن الزيات أردت تخبز في التنور فخبزت فيه قال المسعودي أقام ابن الزيات في التنور أربعين يوماً إلى أن مات وكانت مدة وزارته للمتوكل أربعين يوماً وذكر أن الجاحظ كان من خواص ابن الزيات فلما قبض عليه هرب إلى البصرة فقيل له لم هربت قال خفت أن يقال لي ثاني اثنين إذ هما في التنور قتل ابن الزيات في الرابع من صفر سنة ثلاث وثمانين ومائتين وكان قد وزر لثلاث خلفاء المعتصم والواثق والمتوكل ولما قبض عليه قال يا نفس ألم يكفك التجارة واليسار والرغد من العيش حتى طلبت الوزارة وتعرضت للسباع في غيلها ذوقي الان ما جنيت على نفسك ومات الواثق بسر من رأى سنة اثنتين وثمانين ومائتين وله من العمر ستة وثلاثون سنة وكانت مدة خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وأياماً أتى الاسكندر بسارق فأمر بصلبه فقال أيها الملك إني فعلت ما فعلت وأنا كاره قال وتصلب أيضاً وأنت كاره
من راقب في العقوبة رجاء الخلاص ... يوم الجزاء بالأعمال والقصاص

قال الله تعالى ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون قال بعض المفسرين هذا وعيد للظالم وتعزية للمظلوم كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن ارطاة إذا أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق عليك واعلم أن لك عند الله ما لرعيتك عندك وقال بعض الحكماء اذكر عند القدرة قدرة الله عليك وعند الظلم عدل الله فيك وفي المثل كما تدين تدان وقالوا لا يندمل من المظلوم جراحه حتى ينكسر من الظالم جناحه وقال أعرابي لمن جار عليه لئن هملجت إلى الباطل إنك لعطوف عن الحق وقال عبيدة بن أبي لبابة من طلب عزاً بباطل وجور أورثه الله ذلاً بانصاف وعدل وقال الشاعر
لا تعالج ذا الذنب بالانتقام ... واحترس من تباعة الآثام
فكرام الأنام سيماهم العف ... و قديماً عن الذنوب العظام
أتى سليمان بن عبد الملك برجل جنى جناية يجب عليه فيها التعزير لا غير فأمر بقتله فقال يا أمير المؤمنين اذكر يوم الآذان قال وما يوم الآذان قال اليوم الذي قال الله فيه فأذن مؤذن بينهم إن لعنة الله على الظالمين فبكى سليمان وأمر باطلاقه أتى الرشيد ببعض من خرج عليه فلما مثل بين يديه قال ما تريد ان أصنع بك قال الذي تريد أن يصنع الله بك إذا وقفت بين يديه أذل مني بين يديك فاطرق الرشيد ملياً ثم رفع رأسه وقال اذهب حيث شئت فلما خرج قال بعض من حضر يا أمير المؤمنين تفنى مالك وتقتل رجالك حتى تظفر بمثل هذا الباغي وتطلقه بكلمة واحدة انا لا نأمن أن تتسلط عليك الأشرار بالاحسان إليهم فأمر برده فلما مثل بين يديه علم إنه قد أغرى به فقال يا أمير المؤمنين لا تطعهم في فلو أطاع الله فيك خلقه ما استخلفك عليهم ساعة واحدة فأمر باطلاقه أخذ الحجاج محمد بن الحنفية بعد ما قتل عبد الله بن الزبير فقال بايع أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قال إذا اجتمع الناس عليه كنت كأحدهم قال والله لاقتلنك قال لعلك لا تدري قال مالي لا أدري قال محمد حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن لله في كل يوم ثلثمائة وستين لحظة يقضي في كل لحظة ثلثمائة وستين قضية فلعله أن يكفيك في قضية من قضاياه فانتفض الحجاج وقال لقد لحظك الله فاذهب حيث شئت وخلى سبيله وكتب الحجاج بهذا الكلام إلى عبد الملك بن مروان ووافق ذلك كتاب ملك الروم إلى عبد الملك يتوعده ويهدده فكتب إليه عبد الملك بهذا الكلام فكتب ملك الروم إليه ما أنت بأبي عذرة هذا الكلام ما هذا إلا كلام من أهل بيت نبوة وقال رجل لأمير غضب عليه أسألك بالذي أنت بين يديه غداً أذل مني بين يديك اليوم وهو على عقابك أقدر منك على عقابي إلا نظرت في أمري نظر من يرى برءي أحب إليه من سقمي وعدله في أولى به من ظلمي فعفا عنه وأطلقه ولما هجم ابن حمران على مصر في أيام المستنصر بالله واحرق دار الزيت وتخطف عسكره اجتمع الناس إلى أبي الفضل الجوهري الواعظ فشكوا حالهم إليه فكتب إلى المستنصر إن كنت خالقاً فارحم خلقك وإن كنت مخلوقاً فخف خالقك والسلام فرفع ذلك عنهم غضب محمد بن سليمان على رجل فأمر بطرحه في القصر فقال له رجل اتق الله في فقال خلوا سبيله فإني كرهت أن أكون كالذي إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم قدم إلى أحمد بن نصير مجوسي جنى جناية فأمر بضربه فقال أيها الأمير اضرب بقدر ما تقوى عليه يريد بذلك القصاص في الآخرة فتركه وترك العمل وأخذ مصعب رجلاً من أصحاب المختار بن أبي عبيدة فأمر بضرب عنقه فقال أيها الأمير ما أقبح بك ان أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة ووجهك الذي يستضاء به وأتعلق بأطرافك وأقول رب سل مصعباً فيم قتلني قال أطلقوه فقال أيها الأمير اجعل ما وهبت من حياتي في خفض عيش قال اعطوه مائة ألف درهم فقال أيها الأمير أشهد أن لابن قيس الرقيات منها خمسين الفاً قال ولم قال لقوله فيك
إنما مصعب شهاب من الل ... ه تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك رأفة ليس فيه ... جبروت كلا ولا كبرياء
يتقي اللّه في الأمور وقد أف ... لح من كان همه الاتقاء

فتبسم مصعب وقال إن فيك لموضعاً للصنيعة وأمر بملازمة جنابه فلم يزل معه حتى قتل في جمادي الأولى سنة اثنتين وتسعين وقتل أخوه عبد الله في جمادي الأولى وكانت مدة خلافته تسع سنين واثنين وعشرين يوماً وماتت أمه أسماء بعده بخمسة أيام لم تشب ولم يقع لها سن ولها من العمر مائة سنة. واسم ابن قيس الرقيات عبد الله وإنما عرف أبوه بقيس الرقيات لأنه تشبب في شعره بثلاث نسوة اسم كل واحدة منهن رقية وقيل اجتمع في جداته ثلاث رقيات وعلى القول الأول يقال الرقيات بالضم على الصفة وقيس بالتنوين وعلى الثاني يقال قيس الرقيات بالكسر على الجدات وأما الرقيات اللاتي شبب بهن فمنهن رقية بنت عبد الله بن جعفر وفيها يقول
زودتنا رقية الأحزانا ... يوم جازت حمولها سكرانا
ورقية بنت عبد الواحد بن قيس وفيها يقول
أمست رقية دونها العمر ... فالرقة السوداء فالبشر
ورقية بنت الحسن وهي ابنة عم رقية بنت عبد الواحد وفيها يقول
أتكنى عن رقية أم تبوح ... ومن تبع الهوى حيناً فضوح

الفصل الثالث من الباب الرابع عشر
في أن الانتقام بحدود اللّه خير فعلات من حكمه اللّه وولاه
قال الله تعالى تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون وروى أبو داود في مراسيله التي أخرجها في سننه عن مكحول عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقيموا الحدود في السفر والحضر على البعيد والقريب ولا تبالوا في الله لومة لائم وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حد يقام في الأرض خير لأهلها من مطر أربعين صباحاً وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى إن الله تعالى أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش وأنزل القصاص حياة لعباده فاقتصوا وحدوا ولا تخافوا في الله لومة لائم ولا يحل لأحد أن يشفع في اسقاط حد من حدود الله تعالى ولا يجوز للمشفوع إليه أن يشفع فيه لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله تعالى فمما ورد عن ذوي البصائر والأحلام في كنه مشروع الايقاع والايلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا جلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله عز وجل وقال عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود بالشبهات قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوقفوا الحدود ما وجدتم موقفاً ولأن يخطئ الامام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة فإذا وجدتم مخرجاً للمسلم فادرؤا عنه الحدود وقال بعض الحكماء رب ذنب مقدار العقوبة فيه اعلام المذنب بما جنى لا يتجاوز حد الارتفاع إلى حد الايقاع وقيل لحممة بن رافع الدوسي من أعدل الناس قال من عفا إذا قدر وأجمل إذا انتصر ولم يطفه غير الظفر ويحكى أن جعفر بن محمد الصادق قال لأبي جعفر المنصور وقد غضب على رجل فاسرف في عقوبته أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تغضب لله سبحانه بأكثر مما غضب به لنفسه إن الله تعالى يقول يوم القيامة للمنتقم فوق حقه لم عاقبت عبدي بأكثر مما حددته فيقول يا رب إنما غضبت لك فيقول الله سبحانه أكان غضبك أن يكون فوق غضبي وقال أبو الدرداء لرجل اسمع كلاماً يا هذا لا تغرقن في سبنا ودع للصلح موضعاً فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه وقال بعض الحكماء أن الحق ثقيل فمن قصر فيه عجز ومن جاوزه ظلم ومن انتهى إليه اكتفى أتى المأمون برجل وجب عليه حد فأمر بضربه فقال يا أمير المؤمنين قتلتني قال الحق قتلك قال ارحمني قال ما أنا بأحرم من الذي أوجب الحد عليك وقالوا جماع الخير كله في القيام بحدود الله تقدمت امرأة إلى ابن الزيات وكان قد حبس ابنها في دم فاستغاثت فنهرها وزوى وجهه عنها فقال بعض من حضر ارحمها أيها الوزير إنها أمه قال أفلا أرحم أم المقتول شاعر
إذا عفا لم يك في عفوه ... منّ به كدّر نعماه
وإن سطا عاقب ذا زلة ... بقدره لا يتعداه

وقال أكثم بن صيفي لا تعاقب على الذنوب فوق عقوبتها فإن الله تعالى أقدر منك على عدوك وقال سرى السفطي خصلة من أعلام الاسلام وقواعد الايمان من إذا قدر لم يتناول ما ليس له وقالوا العفو احتمال الذنب الذي لا يكون عن عمد ولا يفضي إلى حد ولا ينقض سنة ولا يولد جرأة فأما الذي يرتكب عمداً ويوجب حداً فالاحتمال له ترخص في الذنوب والتجاوز عنه أبطال للحدود وذلك ما لا تحتمله السياسة ولا تطلقه الشريعة فمن عفا عمن يستوجب الحد كان كمن عاقب من يستحق المثوبة ذكر الحدود التي أوجبها الله تعالى على من أفرط في ارتكاب الفواحش وتغالى الحدود وضعها الله سبحانه للردع عن ارتكاب ما خطر وترك ما أمر فلا تقام إلا بعد سماع بينة أو اقرار فإن لم تكن بينة أحلف الخصم وذلك في حقوق الآدميين وهي نوعان حد وتعزير والحد أنواع حد زنا وحد سكر وحد سرقة وحد قذف فحد الزنا وهو أكبر الكبائر يثبت بأحد أمرين أما باقرار أو بينة والبينة أربعة شهداء يشترط في قبول شهادتهم رأى العين للمباضعة وفي جواز تعمد النظر خلاف وحد الرؤية أن يرى من شهد تغييب البالغ العاقل حشفة ذكره في أحد الفرجين لا عصمة بينهما ولا شبهة والزاني نوعان بكر ومحصن ويجلد الفاعل في البكر إن كان حرا بالغاً عاقلاً عالماً بالتحريم مائة سوط على سائر أعضائه دون الوجه والرأس والخاصرة وسائر الأعضاء المخوفة ويغربان كلاهما وقال مالك بتغريب الرجل دون المرأة وقال أبو حنيفة لا يغرب والتغريب عام مسافة القصر وحد الكافر غير الحربي والمسلم في الجلد والتغريب سواء وحد العبد على النصف من حد الحر ويغرب نصف عام في أحد القولين وقال مالك لا يغرب لما في تغريبه من الاضرار بسيده فأما المحصن فهو الذي أصاب وطا محرماً بعد نكاح وحده الرجم بالحجارة حتى يموت ولا يلزم الراجم توقى مقاتله ولا يجلد فإن رجم بالبينة رجم في حفير يمنعه من الهرب وإن هرب أتبع بالرحم حتى يموت وإن رجم باقراره لم يحفر له وإن هرب لم يتبع وإذا تاب الزاني بعد القدرة عليه لم يسقط عنه الحد حد السرقة والسرقة أخذ مال من حرز بلغت قيمته نصاباً إذا سرقه بالغ عاقل مختار لا شبهة له في المال ولا حرزه فحده قطع يده اليمنى من مفصل الكوع والنصاب ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار وهو عشرة دراهم عند الشافعي وثلاثة دراهم عند مالك والاحراز يختلف باختلاف الأموال وإذا قطع السارق والمال باق رد على مالكه وإن سرقه ثانية قطع وقال أبو حنيفة لا يقطع في مال مرتين وإن عفا رب المال عن القطع لم يبطل ويستوي في قطع السرقة الرجل والمرأة والحر والعبد والمسلم والكافر وإذا سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى فإن سرق ثالثاً قطعت يده اليسرى فإن سرق رابعاً قطعت رجله اليمنى وإن سرق خامساً لم يقتل بل يعزر لأنها معصية ليس فيها حد ولا كفارة وإذا تلف المسروق في يد السارق ضمن بدله وقطع لأن الضمان يجب بحق الآدمي والقطع يجب لله فلا يمنع أحدهما الآخر كالدية والكفارة ولا يقطع صبي ولا مجنون ولا عبد سرق من مال سيده ولا والد سرق من مال ولده ولا ولد سرق من مال والده أوجده لأن لكل واحد منهما شبهة في مال الآخر حد الخمر كل ما أسكر كثيره من خمر أو نبيذ حد شاربه سواء أسكر أو لم يسكر إذا كان مكلفاً والسكر ما زال معه العقل حتى لا يفرق بين السماء والأرض ولا بين الطول والعرض هذا قول أبي حنيفة وقيل هو أن يجمع بين اضطراب الكلام فهما وافهاماً وبين اضطراب الحركة مشياً وقياماً ويحكي أنه لما جلس أبو بكر محمد بن أبي داود الأصفهاني الظاهري بعد أبيه يفتي استصغروه فدسوا إليه رجلاً وقالوا له سله متى يكون الشارب سكران فسأله الرجل فقال إذا عرت عنه الهموم وباح بسره المكتوم فعلم بهذا الجواب موضعه من العلم وقال آدم بن عبد العزيز في حده
شربنا الشراب الصرف حتى كأننا ... نرى الأرض تمشي والجبال تسير
إذا مرّ كلب قلت قد مرّ فارس ... وإن مرّ هرّقلت ذاك بعير
تسايرنا الحيطان من كل جانب ... نرى الشخص كالشخصين وهو صغير

والحد في حق الحر أن يجلد أربعين بالأيدي أو بأطراف الأكمام أو بالسوط ويبكت بالقول الممض والكلام الرادع وحد العبد على النصف من حد الحر كذا جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وصدرا من خلافة عمر فقال للصحابة أرى الناس قد انتهكوا في شرب الخمر فما ترون فقال علي رضي الله عنه أرى أن يجلد الحر ثمانين والعبد أربعين ففعل ذلك فلما لم يكن بد من اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الفقهاء الأربعين الأولى حداً والثانية تعزيز الأجل الافتراء لأن الشارب إذا سكر عربد وإذا عربد افترى وإذا افترى استحق التعزير فإن مات في الأربعين كانت نفسه هدراً وإن مات في الثمانين ففيه قولان أحدهما جميع الدية لتجاوزه النص في حده وهو الأربعون والثاني نصف الدية لأن نصف حده نص والآخر مزيد وحد القذف ثمانون جلدة إجماعاً وهو من حقوق الآدميين يستحق بالطلب ويسقط بالعفو ويعتبر في المقذوف خمس شروط البلوغ والحرية والعقل والاسلام والعفة وإن كان غير ذلك لا يحد قاذفه بل يعذر لأجل الأذى وشرط القاذف أن يكون بالغاً عاقلاً حراً وإن كان صغيراً أو مجنوناً فلا يحد ولا يعزر وإن كان عبداً حد أربعين لنقصه بالرق ويستوي في الحد المسلم والكافر والمرأة ولا يحد القاذف بالسرقة والكفر بل يعزر لأجل الأذى والقذف بالزنا ما كان بالتصريح لا بالتعريض وقيل بالتصريح والتعريض وهو مذهب مالك وقيل لأحد في التعريض وهو مذهب الشافعي والتعزير هو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود ولا يبلغ به أدنى الحد فلا يبلغ به في الحر إلى الأربعين ولا في العبد إلى العشرين فالذي لم تشرع فيه الحدود كمباضعة الأجنبية فيما دون الفرج وسرقة ما دون النصاب والسرقة من غير حرز والقذف بغير الزنا أو الجناية التي لا قصاص فيها ويجوز أن يكون التعزير بالعصا وبالسوط وهو على حسب ما يراه الامام ويختلف باختلاف الذنب وحال فاعله كقوله عليه الصلاة والسلام أقيلوا ذوي المروآت عثراتهم إلا في الحدود فيعزر من جل قدره بالاعراض عنه ويعزر من دونه بالتعنيف ويعزر من دونه بزواجر الكلام ويعزر من دونه بالضرب وحالهم في الحبس كذلك من يوم إلى غاية غير مقدورة ويجوز في التعزير العفو عنه إذا لم يتعلق به حق لآدمي كالشتم والضرب وإن عفا المشتوم أو المضروب كان ولي الأمر مخيراً والجنايات هي قود وعفل والجنايات على النفوس ثلاثة عمد محض وخطأ وشبه عمد أما العمد المحض فهو أن يتعمد رجل قتل انسان بما يقتل غالباً ففيه القود أو الدية والقود أن يقتل القاتل بمثل ما قتل به المقتول إذا قتل بالسيف لم يقتض منه إلا بالسيف وإن أحرقه أو أغرقه أو رماه بحجر أو رماه من شاهق أو ضربه بخشبة أو حبسه ومنعه الطعام والشراب فمات فللولي أن يقتص بذلك لقوله تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به والدية في هذا القتل مائة من الإبل في مال القاتل حالة فإن أعوزت الابل وجب قيمتها بلغت ما بلغت وقيل ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وأول من سن الدية مائة من الابل عبد المطلب وحكم القود فيه أن يفضل القاتل على المقتول بحرية أو اسلام فلا يقتل حر بعبد ولا ذكر بأنثى ولا مسلم بكافر وهو مذهب مالك والشافعي فإن قتل حر عبداً فلا قود وكذا لو قتل مسلم كافراً وقال أبو حنيفة يقتل المسلم بالكافر والحر بالعبد كما يقتل العبد بالحر والكافر بالمسلم ويقاد الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل والكبير بالصغير والعاقل بالمجنون مراعاة لقول الله تعالى إن النفس بالنفس وقال المخالف له هذه الاية واردة بحكاية ما كتب في التوراة على أهلها والذي خوطب به المسلمون كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى ولا يقاد والد بولد ويقاد الولد بالوالد والأخ بالأخ وأما الخطأ الظاهر فهو أن ينسب إليه الفعل من غير قصد لا يقاع الفعل بالمقتول كرجل رمى هدفاً فأصاب انساناً أو ركب دابة فرمحت بانسان فمات فهذا وما أشبهه إذا حدث عنه القتل قيل فيه خطأ محض تجب فيه الدية دون القود على عاقلة الجاني في ماله مؤجلة تؤخذ من حين يموت المقتول في ثلاث سنين أخماساً عشرون خلفة وهي التي مضى عليها سنة وخلفت عن أمهاتها وعشرون بنت مخاض وهي التي مضى لها من العمر سنتان وعشرون بنت لبون وهي التي مضى لها من العمر ثلاث سنين وعشرون حقة وهي التي مضى لها من العمر

أربع سنين وسميت حقة لأنها استحقت أن يحمل عليها وعشرون جذعة وهي التي مضى لها من العمر خمس سنين ولا يتحمل القاتل مع العاقلة شيأً من الدية ولا يتحملها الأب وإن علا ولا الأبن وإن سفل لأنهما ليسا من العاقلة وعلى القاتل خطأ مع الدية عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب فإنه لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار لأن اطلاقها من قيد الرق كاحيائها من قتل لأن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار ومن لم يجد رقبة ولا ما يتوصل به إليها فعليه صيام شهرين متتابعين ودية نفس الحر المسلم ألف دينار وإن كانت ورقا اثنا عشر ألف درهم وإن كانت ابلا بمائة من الابل وهي أصل الدية ودية المرأة على النصف من دية الرجل في النفس والأطراف ودية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم وقال مالك نصفها ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم ودية العبد قيمته وإن زادت على الحر أضعافاً وأما شبه العمد فهو أن يكون عامداً في الفعل غير قاصد للقتل كمعلم أدب صبياً فمات أو عزر السلطان رجلاً على ذنب فتلف فلا قود في القتل وفيه الدية على العاقلة وهو أن يزاد عليها ثلثها تؤخذ فيها ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة والعاقلة هم العصبات الذين يرثون بالنسب والولاء وإذا اشترك جماعة في قتل رجل واحد وجب القود على جميعهم وإن كثروا ولولي الدم أن يعفو عمن شاء منهم ويقتل باقيهم وإن عفى عن جميعهم فعليهم دية واحدة تقسط عليهم بالسوية وإن كان بعضهم جارحاً وبعضهم ذابحاً فالقود في النفس على الذابح الموفي والجارح مأخوذ بجراحته وإذا قتل الواحد جماعة قتل بالأول ولزمه القود في الباقين وتؤخذ دياتهم من ماله والقود في الأطراف كما قال الله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ولا تقاد يمنى بيسرى ولا صحيحة بشلاء ولا ضرس بسن ولا ثنية برباعية ولا لسان ناطق بلسان أخرس لأنه أكثر من حقه ويؤخذ الأخرس بالناطق وما انقسم إلى أعلى وأسفل لم يؤخذ الأعلى بالأسفل ويقاه الشريف بالدنئأربع سنين وسميت حقة لأنها استحقت أن يحمل عليها وعشرون جذعة وهي التي مضى لها من العمر خمس سنين ولا يتحمل القاتل مع العاقلة شيأً من الدية ولا يتحملها الأب وإن علا ولا الأبن وإن سفل لأنهما ليسا من العاقلة وعلى القاتل خطأ مع الدية عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب فإنه لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار لأن اطلاقها من قيد الرق كاحيائها من قتل لأن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار ومن لم يجد رقبة ولا ما يتوصل به إليها فعليه صيام شهرين متتابعين ودية نفس الحر المسلم ألف دينار وإن كانت ورقا اثنا عشر ألف درهم وإن كانت ابلا بمائة من الابل وهي أصل الدية ودية المرأة على النصف من دية الرجل في النفس والأطراف ودية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم وقال مالك نصفها ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم ودية العبد قيمته وإن زادت على الحر أضعافاً وأما شبه العمد فهو أن يكون عامداً في الفعل غير قاصد للقتل كمعلم أدب صبياً فمات أو عزر السلطان رجلاً على ذنب فتلف فلا قود في القتل وفيه الدية على العاقلة وهو أن يزاد عليها ثلثها تؤخذ فيها ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة والعاقلة هم العصبات الذين يرثون بالنسب والولاء وإذا اشترك جماعة في قتل رجل واحد وجب القود على جميعهم وإن كثروا ولولي الدم أن يعفو عمن شاء منهم ويقتل باقيهم وإن عفى عن جميعهم فعليهم دية واحدة تقسط عليهم بالسوية وإن كان بعضهم جارحاً وبعضهم ذابحاً فالقود في النفس على الذابح الموفي والجارح مأخوذ بجراحته وإذا قتل الواحد جماعة قتل بالأول ولزمه القود في الباقين وتؤخذ دياتهم من ماله والقود في الأطراف كما قال الله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ولا تقاد يمنى بيسرى ولا صحيحة بشلاء ولا ضرس بسن ولا ثنية برباعية ولا لسان ناطق بلسان أخرس لأنه أكثر من حقه ويؤخذ الأخرس بالناطق وما انقسم إلى أعلى وأسفل لم يؤخذ الأعلى بالأسفل ويقاه الشريف بالدنئ

ما الدية فيه كاملة من جوارح الانسان وحواسه

العقل الاذنان السمع على حيله العينان البصر على حياله الأجفان الأهداب على حيالها الأنف الشم على حياله الشفتان النطق على حياله الأسنان اللسان الذوق على حياله اللحيان اليدان الأصابع على حيالها الصلب قوة الأمناء الاليتان الذكر الانثيان ابطال شهوة الجماع على حيالها الرجلان منفعة المشي والبطش من غير قطع اليدين والرجلين سلخ جميع الوجه نزع لحم الأكتاف نزع جميع اللحم الثابت على الظهر

ما تختص به المرأة دون الرجل
الثديان وفي الرجل خلاف الشفران الافضاء ويجب في كل جفن ربع الدية وفي كل سن خمس من الابل وكذلك في الأضراس والرباعيات وفي كل اصبع من اليد أو الرجل عشر الدية لا يفضل اصبع على اصبع وفي كل انملة ثلث عشر الدية ما خلا الابهام فإن في كل انملة منه نصف العشر وإذا وجب القود في نفس أو طرف لم يكن لوليه أن ينفرد باستيفائه إلا بأذن السلطان وإن صار إلى حقه من غير اذن السلطان فلا شيء عليه وإذا تعذر وخاف فوات القاتل فالولي مخير بين أن يعفو أو يقتل أو يأخذ الدية وذلك مما خص الله به هذه الأمة وذلك إن الله كتب على أهل التوراة الفصاص وحرم عليهم العفو وأخذ الدية وأوجب على أهل الانجيل العفو وحرم عليهم القصاص وأخذ الدية المحاربون وهو اجتماع جماعة على شهر السلاح وقطع الطريق وأخذ الأموال ومنع السابلة فالحكم فيهم كما قال الله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض وحكم هذه الآية أنها مرتبة باختلاف أفعالهم لا باختلاف صفاتهم فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب ومذهب مالك وأبي حنيفة أن يصلب حياً ثم يطعن بالرماح حتى يموت ولا بأس أن يطعم ويسقى ولا يجوز العفو عن هذا القتل وإن عفا ولي الدم ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى للسرقى ورجله اليسرى للمجاهرة باخافة السبيل ومن هيب ولم يقتل ولم يأخذ المال عزر لا غير ونفى والنفي هو الحبس وهو قول مالك وأبي حنيفة وقال الشافعي هو أن يطلبوا الاقامة الحدود فيبعدوا فإن تابوا سقطت عنهم الحدود وقيل الامام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق من غير تفصيل وتوبة المحارب قبل القدرة عليه فإن لم يكن في منعة وضع عنه الحد الالهي ولا يسقط عنه حد الآدمي وقال مالك توبة المحارب قبل القدرة عليه تضع عنه جميع الحدود والحقوق إلا الدماء والله أعلم
الباب الخامس عشر
في الاخوة
فيه ثلاث فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في مدح اتخاذ الاخوان
فإنهم العدد والأعوان
قال الله تعالى حكاية عن قول الكفار في دركات النار في طلبهم الاغاثة من الصديق على إزالة ما مسهم من عذاب الحريق أو تخفيف ما نالهم من العذاب الأليم فمالنا من شافعين ولا صديق حميم قيل إنما سمي الصديق صديقاً لصدقه فيما يدعيه من المودة وسمي العدو عدواً لعدوه عليك إذا ظفر بك وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثروا من الاخوان فإن الله حي كريم يستحي أن يعذب عبده بين اخوانه وقال عليه الصلاة والسلام المرء كثير بأخيه وقال عليكم باخوان الصدق فإنهم معونة على حوادث الزمان وشركاء في السراء والضراء وما أحسن قول من قال
ما دامت النفس على شهوة ... ألذ من ودّ صديق أمين
من فاته ود أخ صالح ... فذلك المقطوع منه الوتين
وقيل لحكيم ما أحسن العيش قال اقبال الزمان وعشرة السلطان وكثرة الاخوان
ما ضاع من كان له صاحب ... يقدر أن يرفع من شأنه
وإنما الدنيا بسكانها ... وإنما المرء باخوانه
ولعلي كرم الله وجهه في معناه
عليك باخوان الصفاء فإنهم ... عماد إذا استنجدتهم وظهور
وليس كثيراً ألف خل وصاحب ... وإنّ عدوّاً واحداً لكثير
وقال المغيرة بن شعبة التارك للاخوان متروك ويقال الرجل بلا أخ كشمال بلا يمين وقال الشاعر
وما المرء إلا باخوانه ... كما يقبض الكف بالمعصم
ولا خير في الكف مقطوعة ... ولا خير في الساعد الأجذم

وقالوا من لم يرغب في الاخوان بلى بالعداوة والخذلان وقالوا اتخاذ الاخوان مسلاة للأحزان وقالوا مثل الصديق كاليد توصل باليد والعين تستعين بالعين الثعالبي الحاجة إلى الأخ المعين كالحاجة إلى الماء المعين وقال الصديق ثاني النفس وثالث العينين وقال في لقاء الاخوان روح الجنان وراحة الجبان وقال لا فاكهة أطيب من مفاكهة الاخوان ولا نسيم أروح من مناسمة الخلان وقيل لبعضهم أيما أعز عليك شقيقك أم صديقك قال شقيقي إذا كان صديقي وقالوا الأخ الصالح خير لك من نفسك لأن النفس أمارة بالسوء والأخ الصالح لا يأمرك إلا بالخير ولم يقل في احتياج الانسان إلى صديق يزينه في المشاهد ويعينه على بلوغ المقاصد مثل قول الفقيه منصور
لولا صدود الصديق عني ... ما نال واش مناه مني
ولا أدمت البكاء حتى ... قرح فيض الدموع جفني
وما جفاء الصديق إلا ... هجوم خوف عقيب امن
وقالوا اصطف من الاخوان من كان ذا عقل موفور يهتدي به إلى مراشد الأمور فإن الأحمق لا يثبت له وصال ولا يدوم لصاحبه على حال وقالوا اصطف من الاخوان ذا الدين والحسب والرأي والأدب فإنه ردء لك عند حاجتك وركن عند نائبتك وأنس عند وحشتك وزين عند عاقبتك وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه
أخلاء الرجال همو كثير ... ولكن في البلاء همو قليل
فلا يغررك خلة من تصافي ... فمالك عند نائبة خليل
وكم خل يقول أنا وفيّ ... ولكن ليس يفعل ما يقول
سوى خل له حسب ودين ... فذاك لما يقول هو الفعول
وقد صرح الشاعر في اعتبار الأخلاق واختيار الأعراق بقوله
وإذا جهلت من امرئ أعراقه ... وذكرتها فانظر إلى ما يصنع
إنّ النبات إذا استدام به الثرى ... مرج النبات به فطاب المرتع
آخر
صافي الكريم فخير من صافيته ... من كان ذا شرف وكان عفيفا
إنّ الكريم إذا تضعضع حاله ... فالخلق منه لا يزال شريفا
وقال علي رضي الله عنه الأخ رقعة في ثوبك فانظر بم ترقعه وقال العتابي لا تستكثرن من الاخوان إلا أن كانوا أخياراً فإن الاخوان غير الأخيار بمنزلة النار قليلها متاع وكثيرها بوار وقد قال الشاعر
لا تركننّ إلى أهل الزمان ولا ... تأمن إلى أحد واستشعر الحذرا
فإن شككت فجرّب من تعاشره ... حتى يقول لك التجريب كيف ترى
آخر
تخير من الاخوان كل ابن حرّة ... يسرّك عند النائبات بلاؤه
وقارن إذا قارنت حرّاً فإنما ... يزين ويزري بالفتى قرناؤه
عدي بن زيد
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب إلا ردى فتردى مع الردى
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدى
آخر
لا تك للجاهل خدناً فقد ... يعتبر الصاحب بالصاحب
علامة الانسان في خدنه ... تبين للشاهد والغائب
ولبعضهم
إذا اخترت أن يبقى لك الدهر صاحباً ... فمن قبل أن يصفو لك الودّ فاغضبه
فإن كان في حال التباغض راضياً ... وإلا فقد جربته فتجنبه
قال ابن مسعود ما شيء أدل على شيء ولا الدخان على النار من الصاحب على الصاحب وقال حكيم كل انسان يأنس إلى شكله كما أن كل طير يطير مع جنسه ومن النوادر أن حكيماً رأى غراباً مع حمامة فعجب من تألفهما مع مباينتهما في الجنس فأثارهما فإذا كل منهما مكسورا الجناح فقال إنما جمع بينهما العلة وقالت الحكماء الأضداد لا تتفق والأشكال لا تفترق وقالوا على قدر تشاكل الأجناس تتألف قلوب الناس وأقربهما مشاكلة أحسنهما مواصلة وأكثرها تنافراً أطولها تهاجراً وحكى أن عبد الله بن جعفر جاء مكة ليلاً فبات خارجها فلما أصبح دخلها فقال يا أهل مكة عرفنا أخياركم من أشراركم في ليلة واحدة نزلنا ومعنا أخيار وأشرار فنزل أخيارنا على أخياركم وأشرارنا على أشراركم وقد نظم المتنبي هذا القول في بيت واحد فقال
وشبه الشيء منجذب إليه ... واشبهنا بدنيانا الطغام
ولغيره
لكل امرئ شكل من الناس مثله ... وأكثرهم شكلاً أقلهم عقلا

وكل أناس يألفون لشكلهم ... وأكثرهم عقلاً أقلهمو شكلا
لأنّ كثير العقل ليس بواحد ... له في فريق كل حين له مثلا
آخر
وقائل كيف تهاجرتما ... فقلت قولاً فيه انصاف
لم يك من شكلي ففارقته ... والناس أشكال وألاف
وقال الجاحظ من شأن الأجناس أن تتواصل ومن عادة الأشكال أن تتقاوم والشيء يتغلغل إلى معدنه ويحن إلى عنصره فإذا صادف منبته ولاقى عنصره وشج بعروقه وسبق بفروعه وتمكن على الاقامة وثبت ثبات الطينة وقال حاتم
وإني وحيد الفقر مشترك الغنى ... وتارك شكل لا يوافقه شكلي
وشكلي شكل لا يقوم بمثله ... من الناس إلا كل ذي ثقة مثلي
ولي ملح في المجد والبذل لم يكن ... تأنقها فيما مضى أحد قبلي
وأجعل مالي دون عرضي جنة ... لنفسي وأستغني بما كان من فضلي
أبو سليمان الخطابي
وما غربة الانسان في شقة النوى ... ولكنها واللّه في عدم الشكل
وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
ويقال المودة نسبة من غير رحم وصلة من غير قرابة شاعر
ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم ... وبلوت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب نائياً ... وإذا المودّة أقرب الأنساب
آخر
ما القرب إلا لمن صحت مودته ... ولم يخنك وليس القرب بالنسب
كم من قريب بعيد الودّ مظعن ... ومن بعيد سليم الودّ مقترب
فنون شروط الأخاء وحقوقه ... الواجبة على كل أحد لصديقه
والقول الجامع لحقوق الصديق ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للمسلم على المسلم ست خصال واجبات فمن ترك واحدة منها فقد ترك حقاً واجباً لأخيه عليه أن يسلم عليه إذا لقيه ويشمته إذا عطس ويعوده إذا مرض ويجيبه إذا دعاه وينصحه إذا غاب ويشيعه إذا مات وقال عمر بن الخطاب ثلاث يصفو بها ود أخيك تسلم عليه إذا لقيته وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب أسمائه إليه نظم بعض الشعراء هذه الكلمات
ثلاث بها تصفو بودّ أخيكا ... إذا اجتمعت بعد الاخوة فيكا
تسلم عليه ضاحكاً متحبباً ... إليه إذا لاقيته ولقيكا
وتوسع له بالود في كل مجلس ... كما كنت يوماً موسعاً لأبيكا
وتدعوه من أسمائه بأحبها ... إليه تكن بالود منه وشيكا
وداوم عليها مع أخيك فإنه ... من السوء عند النائبات يقيكا
وسئل عبد الله بن عمر ما حق الصديق على صديقه قال لا تشبع ويجوع وتلبس ويعرى وإن تواسيه بالبيضاء والصفراء نظم شاعر هذه الكلمات فقال
لخليلي عليّ مني ثلاث ... واجبات أخصها اخواني
حفظه في المغيب إن غاب عني ... ولقياه بالبشر إن لاقاني
ثم بذلي بما حوته يميني ... مشفقاً في الخطوب إن ما دعاني
فمما يعتمد من شرائط الأخاء والمودة ... رعاية الأخ أخاه في الرخاء والشدّة

قال علي رضي الله عنه لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث في نكبته وغيبته ووفاته وقال طاوس اليماني لا تواخين إلا الكريم الأبوه الكامل المروه الذي إن بعدت عنه خلفك وإن قربت إليه كنفك وقال الثعالبي ينبغي أن يكون الصديق لصديقه أسمع من خادم وأطوع من حاتم وقيل لابن السماك واسمه محمد بن صبيح أي الاخوان أخلق ببقاء المودة قال الوافر دينه الوافي عقله الذي لا يملك على القرب ولا ينساك عند البعد إن دنوت منه دعاك وإن بعدت عنه رعاك لا يقبضه عنك يسر ولا يقطعه عنك عسر إن استعنته عضدك وإن احتجت له رفدك وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله يستقل كثير المعروف من نفسه ويستكثر قليل المودة من صديقه وقال جعفر الصادق رضي الله عنه للصداقة خمس شروط فمن كانت فيه فأنسبوه إليها ومن لم تكن فيه فلا تنسبوه إلى شيء منها وهي أن يكون زين صديقه زينه وسريرته له كعلانيته وأن لا يغيره عليه مال وأن يراه أهلاً لجميع مودته ولا يسلمه عند النكبات وقال أبو بكر بن عبد الله المزني إذا انقطع شسع نعل أخيك ولم تواسه في الحفاء فقد ملت إلى جانب من الجفاء ومن حق الصداقة حفظ العهد وبذل المال واخلاص المودة ورعاية الغيب وتوقير المشهد ورفض الوحدة وكظم الغيظ واستعمال الحلم ومجانبة الخلاف واحتمال الكل وطلاقة الوجه وصدق اللسان والمشاركة في الباساء
ولقد كرم نجار ... من قال في معرض الافتخار
لم يبق مني على الأيام باقية ... إلا انقضت غير حفظ العهد والذمم
هذان خلقان أيام الحياة معي ... لا يبرحان على الاكثار والعدم
أبو العتاهية
أحب من الاخوان كل مواتي ... وكل غضيض الطرف من عثراتي
يوافقني في كل أمر أريده ... ويحفظني حياً وبعد مماتي
ومن لي بهذا ليت إني وجدته ... فقاسمته مالي من الحسنات
وقالوا خير الاخوان من يستر ذنبك فلم يقرعك به ويخفي معروفه عندك فلم يمن به عليك وقال أعرابي أصحب من ينسى معروفه عندك ويذكر حقوقك عليه وقال آخر أصحب من إذا صحبته زانك وإن خدمته صانك وإن أصابتك خصاصة مانك وإن رأى منك حسنة عدها وإن عثر على سيئة سدها لا تخاف بوائقه ولا تختلف عليك طرائقه أبو نصر الميكالي
أخوك من إن كنت في ... نعمي وبؤسي عادلك
وإن بدا لك نقمة ... بالبرّ منه عادلك
آخر
خير اخوانك المشارك في ... المرّو أين الشريك في المراينا
الذي إن حضرت زانك في ... الحيّ وإن غبت كان أذناً وعينا
آخر
لعمرك ما زان الفتى في أموره ... ولا شأنه إلا طباع الخلائق
ولا صاحب الأقوام في كل حالة ... كحرّ كريم أو خليل موافق
يواسيك في البلوى ويمنحك الهوى ... ويصفيك ودّاً ماخضاً غير ماذق
يكون إذا نابتك يوماً عظيمة ... سناناً لدى الهيجاء في كل مارق
آخر
إن أخا الصدق من كان معك ... ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك ... شتت فيك شمله ليجمعك
وقيل لخالد بن صفوان أي اخوانك أوجب عليك حقاً قال الذي يسد خللي ويغفر زللي ويقبل عللي ويبسط عنده أملي وقال الثعالبي صديقك من يرضى خلتك ويسد خلتك وقال الحجاج لابن الفرية ما الكرم قال صدق الأخاء في الشدة والرخاء ويقال صديقك من ساعفك في أطوارك وقدم سعيه في قضاء أوطارك أبو تمام حبيب
من لي بانسان إذا أغضبته ... وجهلت كان الجهل ردّ جوابه
وإذا صبوت إلى المدام شربت من ... أخلاقه وسكرت من آدابه
وتراه يصغي للحديث بطرفه ... وبقلبه ولعله أدرى به
وقال الخليل بن أحمد يجب على الصديق مع صديقه استعمال أربع خصال الصفح قبل الاستقالة وتقديم حسن الظن قبل التهمة والبذل قبل المسئلة ومخرج العذر قبل العتب وقال رجل لمطيع بن اياس جئتك خاطباً لمودتك قال قد زوجتكها على شرط أن تجعل صداقها أن لا تسمع في مقالة الناس وقالوا الستر لما عاينت أحسن من إذاعة ما ظننت شاعر
إذا شئت أن تدعي كريماً مهذباً ... حليماً ظريفاً ماجداً فطناً حرا

فإن ما بدت من صاحب لك زلة ... فكن أنت محتالاً لزلته عذرا
وقيل لبعض الأدباء من الرفيق قال من أحسن شغله وأوكد فرضه ونفله فقيل له من الشفيق قال من ان دهمتك محنة قذيت عينه لك وإن شملتك منحة قرت عينه بك فقيل له فمن الوفى قال من يحكي بالقصد كما لك ويرعى بلحظه جمالك قيل له فمن الصاحب قال الذي من إذا نأى ذكرك عند الناس وإن دنا خدمك في الكناس وقال بعض البلغاء إذا جاد لك أخوك بماله فقد جاد لك بنفسه لأنه قد بذل لك مالا قوام نفسه الا به وإذا بخل عليك برفده فلا تصدقه في وده ولله در القائل
إذا صاح بي صاحبي يا أخي ... وقد عظه الدهر لبيته
أعلل بالوصل عرس الاخاء ... ليزكو ما كنت ربيته
له الصفو مما حوته يدي ... وبيتي إذا زارني بيته
آخر
أميل مع الصديق على ابن أمي ... وآخذ للصديق من الشقيق
فإن أبصرتني حراً مطاعاً ... فإنك واجدي عند الصديق
وقالوا لتكن معاونتك أخاك بمهجتك عند البلاء أكثر من معاونتك إياه عند الرخاء وقالوا اجعل حسنات أخيك له محسوبة وسيآته إلى الزمان منسوبة وقالوا من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقاً ولعدو صديقه عدواً وقالوا ليس من الحب أن تحب ما يبغض حبيبك السري الرفاء
وليس يكون المرء سلم صديقه ... إذا لم يكن حرب العدوّ المخالف
آخر
صديق عدوّي داخل في عداوتي ... وإني لمن ود الصديق ودود
آخر
تود عدوّي ثم تزعم أنني ... صديقك إنّ الرأي منك لعازب
آخر من أبيات
إذا صافي صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام
وقالوا يجب على الصديق أن يحتمل لصديقه ثلاث مظالم ظلم الغضب وظلم الدالة وظلم الهفوة وقالوا إذا صح الود سقطت شروط الأدب ويقال إذا صح الاعتقاد ذهب الانتقاد وقال المأمون أحب الاخوان إلي من يكفيني مؤنة التحفظ
ومما يجب عليه من حسن الصنيع ... رفض العتاب واجتناب التفريع
قال عيسى عليه السلام الصبر على أخ بعيب فيه خير من أخ تستأنف مودّته وقيل من عاتب في كل ذنب أخاه فحقيق أن يمله ويقلاه وقالوا قديم الحرمة وحديث التوبة يمحوان ما بينهما من الاساءة شاعر
زين أخاك بحسن وصفك فضله ... وأثبت لما يأتي من الحسنات
وتجاف من عثراته واساته ... من ذا الذي ينجو من العثرات
وقالوا العفو الذي يقوم مقام العتق ما سلم من تعداد السقطات وخلص من تذكار الفرطات وقالوا ليس من العدل سرعة العذل ويقال العتاب داعية الاجتناب وقالوا عتاب الأحباب داعية الهجر والسباب وقالوا العتاب آكد دواعي القطيعة بين الأحباب شاعر
لولا كراهية السباب وإنني ... أخشى القطيعة إن ذكرت عتابا
لذكرت من عثراتكم وذنوبكم ... ما لو يمرّ على الفطيم لشابا
آخر
تحمل من صديقك كل ذنب ... وعد خطاه من نمط الصواب
ولا تعتب على ذنب حبيباً ... فكم هجر تولد من عتاب
أحمد بن يوسف
وكم قد قلتمو قولاً لدينا ... له لولا مهابتكم جواب
تركت عتابكم وعفوت إني ... رأيت الهجر مبدؤه العتاب
آخر
إذا اعتذر الصديق إليك يوماً ... من التقصير عذر أخ مقرّ
فصنه عن عتابك واعف عنه ... فإن العفو شيمة كل حر
آخر
لا تجفونّ أخاً وإن أبصرته ... لك جافياً ولما تحب منافيا
فالغصن يذبل ثم يصبح ناضراً ... والماء يكدر ثم يرجع صافيا
آخر
أخلص الود لمن آخيته ... واغفر العثرة منه إن عثر
وإذا زلت به النعل فلا ... تلبسن من أجله جلد النمر
عد بحلم منك يطفي جهله ... إنما الجهل كنار تستعر
آخر
إذا أنت عاتبت الملوك فإنما ... تخط على جار من الماء أحرفا
وهبه ارعوى بعد العتاب ولم تكن ... مودّته طبعاً فصارت تكلفا
آخر
وكم من قائل قد قال دعه ... فلم يك ودّه لك بالسليم

فقلت إذا جزيت الغدر غدراً ... فما فضل الكريم على اللئيم
وأين الألف يعطفني عليه ... وأين رعاية الحق القديم
ويقال إذا انبسطت المكاتبة انقبضت المصاحبة وقال أبو بكر الخوارزمي لا خير في حب لا تحتمل أقذاؤه ولا يشرب على الكدر ماؤه وإنما العشرة مجاملة والمجاملة لا تسع الاستقصاء والكشف لا يحتمل الحساب والصرف محمود الوراق
إن التجني قاطع الرفد ... والغيظ يخرج كامن الحقد
فاقبل أخاك على تغيره ... وارع الذي قد كان من عهد
آخر
ومن لم يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتبع جاهداً كل عثرة ... يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
بشار بن برد
إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... خليلك لم تلق الذي لا تعاتبه
وإن أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت وأيّ الناس تصفو مشاربه
فصن واحداً أو صن أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرّة ومجانبه
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً إن تعدّ معايبه
آخر
أرض من المرء في مودّته ... بما يودي إليك ظاهره
من يكشف الناس لم يجد أحداً ... تصح منهم له سرائره
يوشك أنّ لا يتم وصل أخ ... في كل زلاته تنافره
ابن الرومي
هم الناس في الدنيا فلا بدّ من قذى ... يلمّ بعين أو يكدر مشربا
ومن قلة الانصاف أنك تبتغي ال ... مهذب في الدنيا ولست المهذبا
العباس بن الأحنف
إنّ بعض العتاب يدعو إلى الهج ... ر ويؤذي به المحب الحبيبا
وإذا ما القلوب لم تضمر الود ... فلن يعطف العتاب القلوبا
وقالوا الاستقصاء أول الزهد وآخر الود ومن أمثالهم رب خطرة صغيرة عادت همة كبيرة وقال الشاعر
هذي مخايل برق خلفها مطر ... جود وورى زناد خلفه لهب
وأزرق الصبح يبدو قبل أبيضه ... وأوّل الغيث قطر ثم ينسكب
نصر بن سيار
أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون لها ضرام
فإنّ النار بالعودين تذكو ... وإن الحرب أوّلها كلام
فإن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام
عبد الله بن طاهر
إذا ما صديقي ضرّني سوء فعله ... ولم يك عما ساءني بمفيق
صبرت على أشياء منه تريبني ... مخافة أن أبقى بغير صديق
ومنه قول الآخر
وكنت إذا الصديق أراد غيظي ... وأشرفني على حنق بريقي
غفرت ذنوبه وعفوت عنه ... مخافة أن أعيش بلا صديق
ومنهم من استحسن عتاب الأصحاب ... فربما كان حضا على اكتساب المحابّ
قالوا معاتبة الأخ الصديق خير من فقده فلعلها تكون سبباً إلى صلاحه ورشده وقالوا ترك المعاتبة من علامات الاهمال والتواطئ على منهيات الأعمال وقالوا شر الأصحاب من لم ينجع فيه العتاب وقال علي رضي الله عنه عاتب أخاك بالاحسان إليه واردد شره بالافضال عليه وقال علي بن عبيدة الزنجاني العتاب حدائق الأحباب وثمار الود ودليل الظفر وحركات الشوق وراحة الواجد ولسان المشفق وقالوا العتاب يداوي القلوب ويترجم عن خفيات العيوب وما أحسن قول من قال
تواقف عاشقان على ارتعاب ... أرادا الوصل من بعد اجتناب
فلا هذا يملّ عتاب هذا ... ولا هذا يملّ من الجواب
فلا عيش كوصل بعد هجر ... ولا شيء ألذ من العتاب
آخر
أعاتب من أهواه في كل حالة ... ليجتنب الأمر الذي معه الذنب
فإني أرى التأنيب عند حدوثه ... بمنزلة الغيث الذي قبله الجدب
ومن مستحسنات المعاتبات قول القائل
لا غرو إن كان من دوني يسركم ... وأُنثنى عنكمو بالويل والحرب
يدنو الاراك فيمسي وهو ملتثم ... ثغر الفتاة ويلقى العود في اللهب
ولبعضهم

سأنسيك نفسي إن نسيت مودّتي ... كأنك لم تخطر ببالي ولا وهمي
وأكفيك إذ لم تبغ حمد مذمتي ... فتبرأ من حمدي وتبرأ من ذمي
وأنساك نسيان القرون التي مضت ... عليها الليالي من جديس ومن طسم
فإن قيل لي أين الذي كان بينكم ... رددت عليه أنه كان في الحلم
جرير
فإن تك قد مللت الآن مني ... فسوف ترى مجانبتي وبعدي
وسوف تلوم نفسك إن بقينا ... وتبلو الناس والاخوان بعدي
فلا واللّه لا أنساك حتى ... أوسد مضجعي وأزور لحدي
ابن الرومي
تخذتكمو حصناً منيعاً لتدافعوا ... نبال العدا عني فكنتم نصالها
إذا كنتم لا تدفعون ملمة ... عن النفس كونوا لا عليها ولا لها
إبراهيم بن العباس رحمه الله تعالى
وكنت أخي يا أخيّ الزمان ... فلما نبا صرت حرباً عوانا
وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا
وكنت أذم إليك الزمان ... فها أنا أطلب فيك الزمانا
وقال بعض الأمويين يعاتب عيسى بن موسى
إن تكلمت لم يكن لكلامي ... موقع والسكوت ليس بمجدي
وأراني إذا تأملت أمري ... ناقص الحظ في دنوّي وبعدي
فابن لي أكل هذا التواني ... في جميع الاخوان أم لي وحدي
أم ترى ما اصطنعته عند غيري ... واجباً أن أعدّه لك عندي
قد لعمري أيست منك حياتي ... ومحال أني أرجيك بعدي
وينبغي للفطن اللبيب أن لا يوغل في عتاب الحبيب فإنهم قالوا في كلام بعض الحكماء بعض المعاتبة حزم وكلها عزم كالخشبة المنصوبة في الشمس تمال فيزيد ظلها وتفرط في الامالة فتنقصه وقالوا الجواد إذا ضرب في غير وقته كبا والحسام إذا استكره نبا ولهذا قال بعض الأعراب أقل الناس عقلاً من أفرط في اكتساب الاخوان وأقل عقلاً منه من ضيع من ظفر به منهم ويقال قارب الاخوان فإن المقاربة أقرب الأنساب ولا تتقص عليهم فإن التقصي أقطع الأشياء للأسباب ويقال بدقيق العتب على الأحباب تنفر وحشيات الخواطر والألباب وليعمل الصاحب في مصاحبة أخيه يقول القائل
صاف الصديق وأصفه صفو الصفا ... واخصص صديقك بالصداقة تخصص
أو بقول الآخر وهو أليق بمن حسنت أخلاقه وكرمت أعراقه
خذ من صديقك مرأى غير مستمع ... لا تعدونّ عيان المرء للخبر
إن كنت لا تصطفى ممن ترى أحداً ... فاخلق لنفسك اخواناً على قدر
وقالوا كثرة العتاب تحيي مودات الضغائن وتثير كوامن الدفائن شاعر
كثر العتاب فقلت إن عاتبتها ... كان العتاب لوصلها استهلاكا
ورجوت أن تبقى المودّة بيننا ... موقوفة فتركت ذاك لذاكا
وما أظرف من قال
وأخ كأيام الحياة اخاؤه ... تلوّن ألواناً عليّ خطوبها
إذا عبت منه خلة فكرهتها ... دعتني إليه خلة لا أعيبها
وكتب يزيد بن معاوية لسالم بن زياد قليل العتاب يؤكد أواخي الأسباب وكثيره يقطع وصائل الأنساب
لا تكثرن في كل حادثة ... عتب الصديق فإنه يهفو
هب مشرباً يصفو فتحمده ... أترى المشارب كلها تصفو
آخر
لا يؤيسنك من صديقك نبوة ... ينبو الفتى وهو الجواد الخضرم
فإذا نبا فاستبقه وتأنه ... حتى يفئ به الطباع الأكرم
آخر
وأرى الصديق إذا استشاط تغيظاً ... فالغيظ يخرج كامن الأحقاد
ولربما كان التغيظ باعثاً ... لتناول الآباء والأجداد
آخر
كاف الخليل على الجميل بمثله ... فإذا أساء فكافه بعتابه
وإذا عتبت على امرئ آخيته ... فتوق طائر عتبه وسبابه
وألن جناحك ما استلان مودّة ... وأجب دعاه إذا دعا بجوابه
ومن ذوي الأنفة من أطاع أمر عقله فكافأ المتكلف للهوى على فعله بمثله كقول الشاعر
إذا تاه الصديق عليك كبراً ... فته كبراً على ذاك الصديق

وإن سلك الغرام به طريقاً ... فخذ عرضاً سوى ذاك الطريق
فليجاب الحقوق بغير راع ... حقوقك رأس تضييع الحقوق
آخر
وإذا الصديق نأى بجانب نفعه ... وحماك صوب غمامه المتدفق
وازورّ عنك بجاهه وبماله ... وببشره وجنى ولم يتخلق
فاعدده في الموتى فلا معنى له ... وأرمي به الغرض البعيد وحلق
إن ظنني للنار منه شفاعة ... يوم القيامة ساء ظنّ الأحمق
الكميت
ولست إذا ولي الصديق بودّه ... بمكتئب أبكى عليه وأندب
ولكنه إن دام دمت وإن يكن ... له مذهب عني فلي عنه مذهب
إلا أنّ خير الودّ ودّ تطوّعت ... به النفس لا ودّ أتى وهو متعب
أبو العتاهية
ما أنا إلا كمن عناني ... أرى خليلي كما يراني
لست أرى ما ملكت طراً ... مكان من لا يرى مكاني
من ذا الذي يرتضي الأقاصي ... إن لم ينل خيره إلا داني
آخر
ومن شيمتي أني إذا المرء ملني ... وأظهر إعراضاً ومال إلى الغدر
أطلت له قيماً يحب عنانه ... وتاركته في جس مس وفي سر
فإن عاد في ودّي رجعت لودّه ... وإن لم يعد ألغيت ذاك إلى الحشر
محمد بن حازم
تمادى به الهجران واستحسن الغدرا ... وإلى يميناً لا يكلمني الدهرا
فواللّه ما استسننت بعد مودّة ... صديقاً ولا أرهقت ذا زلة عسرا
فإن عاد في ودي رجعت لودّه ... وإلا فإني لا أحمله اصرا
وإن مال عني خائباً نحو عذره ... تسليت عنه واستعرت له صبرا
اعدّ لمن أبدى العداوة مثلها ... وأجزى على الاحسان واحدة عشرا
سعيد
أشكو إلى اللّه حياء امرئ ... ما كان بالجافي ولا بالملول
كان وصولاً دائماً عهده ... خير الاخلاء الودود الوصول
ثم ثناه الدهر عن رأيه ... فحال والدهر لقوم يحول
فإن يعد أشكو له ودّه ... وإن يطل هجراً فإني حمول
آخر
في سعة الأرض وفي أهلها ... مستبدل بالخل والجار
فمن دنا منك فأهلاً به ... ومن تولى فإلى النار
ملح من مدح الأخلاء الأصفياء وصفات مودات الأصدقاء الأولياء مدح الصاحب بن عباد صديقاً له فقال تصفحت أوطار القلوب فلم أجد أحسن من قربه وتأملت أشخاص الخطوب فلم أرع بأفظع من بعده محاسنه أنوار لم تحجب بسجوف ومباسمه شموس لم تتصل بكسوف وألفاظه تذكرني بالشباب وريعانه بل بأفنان الصبا وفتيانه ومدح أعرابي صديقاً له فقال مجالسته غنيمة وصحبته سليمة ومواخاته كريمة هو كالمسك إن بعته نفق وإن تركته عبق شاعر يصف أخاً له
أخ وأب وابن وأم شفيقة ... تفرق في الأحباب ما هو جامعه
سلوت به عن كل من كان قبله ... وأذهلني عن كل ما هو تابعه
آخر
ولي صاحب أصفيه ودّي وإنه ... لينصفني في ودّه ويزيد
أمنت صروف الدهر بيني وبينه ... إذا دبّ بين الصاحبين حسود
وصف المأمون ثمامة بن أشرس فقال إنه كان يتصرف في القلوب تصرف السحاب مع الجنوب شاعر ولقد أحسن في وصفه لصديقه
خل بلغت برأيه شرف العلا ... وأخ غنيت به عن الاخوان
ومتى طلبت عليه طالب حاجة ... كفلت يداه بذمتي وضماني
آخر
موفق لسبيل الرشد متبع ... يزينه كل ما يأتي ويجتنب
له خلائق بيض لا يغيرها ... صرف الزمان كما لا يصدأ الذهب
ومن كلام الثعالبي يصف صديقاً له فلان كريم ملء لباسه موفق مدد أنفاسه ذو جد كعلو الجد وهدى كحديقة الورد عشرته ألطف من نسيم الشمال على صفحات الماء الزلال وألصق بالقلب من علائق الحب
فتى قدّ قدّ السيف ما ناء عوده ... ولا وهنت أعضاؤه ومفاصله
إذا جدّ عند الجدّ ألهاك جدّه ... وذو باطل إن شئت ألهاك باطله
آخر

أخ لي لم يلده أبي وأمي ... تراه الدهر مغموماً لغمي
يشاطرني سروري في ابتهاجي ... ويأخذ عند همي شطر همي
يبصرني عيوبي حين تبدو ... مخافة كاشح لهج بذمي
ويصفي الود منه أهل ودي ... ويمنع من معاداتي وظلمي
وينفذ حكمه في كل مالي ... كما في ماله يرضى بحكمي
فلو أحد من المحذور يفدي ... إذا لفديته بدمي ولحمي
آخر
لي صديق إذا نبا بي صديقي ... نبوة الدهر كان خير صديق
حقه واجب عليّ مقيم ... لا يؤدي وقد قضى لي حقوقي
صادق الودّ والأخاء وما كل ... صديق في ودّه بصدوق
فهو كالأم في اللطافة واللي ... ن وكالوالد الشفيق الرفيق
والشقيق الوصول والبرّ إن كا ... ن بعيداً مني وفوق الشفيق
قد جرى في مفاصل الحب منه ... حيث لا يهتدي مجاري العروق
خف ثقلي على صديقي مذ أص ... بح دون الاخوان وهو صديقي
هو جاري إن جار دهر وإن عق ... زمان فماله من عقوق

الفصل الثاني من الباب الخامس عشر
فيما يدين به أهل المحبة
من شرائع العوائد المستحبة
اعلم إن أول ما ينبغي أن نبدأ به ما يجب من الأدب على الجليس في مصاحبة الرئيس فمن واجب أدبه أن الداخل على الرئيس أحد رجلين أما خصيص به أو أجنبي عنه فإن كان أجنبياً فينبغي له إذا أذن له في الدخول إليه أن يقف حيث يراه وأن يبدأ بالسلام إذا دخل عليه وينظر بعين الاكبار إليه فإن استدناه دنا وإن أذن له في الجلوس فليجلس حيث انتهى به المجلس حتى يدنيه إن أراد اكرامه فإن في ذلك تبجيلاً لقدره وتأثيلاً لتحسين ذكره قال الأحنف بن قيس لأن أدعى من بعد أحب إلي من أن أبعد من قرب وإن كان خصيصاً به ممن يجلس إلى جانبه ويفشي إليه من سره ما يكتمه عن غيره فينبغي له وقت جلوسه أن يكون بينه وبين الرئيس فرجة لاحتمال أن يجئ من يجب عليه اكرامه ويرفع منزلته فيجلس في تلك الفرجة ومن أدب الرئيس قلة الخلاف والمعاملة بالانصاف وترك الجواب على فاحش الخطاب وستر العيب وحفظ الغيب وأن يحسن الحديث إذا حدث ويحسن الاستماع إذا حدث وليكن حرمة مجلسه إذا غاب كحرمته إذا حضر وقالوا إذا كلمك رئيسك فاصغ إليه بسمعك وأقبل عليه بوجهك ووكل بشفتيه ناظريك وأشغل بحديثه خاطرك واسمعه سماع مستبشريه مستظرف له وإن أحكمته علماً وأتقنته فهما وأن لا تفرط في الدلالة عليه فربما ساقت الانقباض إليه وفي كلام بعض الحكماء الاستماع بالعين فإذا رأيت عين من تحدثه مقبلة على غيرك فاصرف حديثك إلى غيره شاعر في بني العباس
إذا حدّثوا لم بخش سوء استماعهم ... وإن حدثوا أبدوا بحسن بيان
وما أحسن قول من قال
إذا ما سيد أدناك فاعلم ... بأن عليك عين الانتقاد
فكن عف الجوارح ذا حفاظ ... فعين الانتقاد بلا رقاد

وقال العباس لولده عبد الله إن هذا الرجل يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستخليك ويستشيرك ويقدمك على الأكابر من الصحابة وإني أوصيك بخمس خلال لا تفشين له سراً ولا تغتابن عنده أحداً ولا تجرين عليه كذباً ولا تعصين له أمراً ولا تطلعنه منك على خيانة وقالوا من دخل على السلطان فعليه بتخفيف السلام وتقليل الكلام وتعجيل القيام ومن أدبه أن يكون مع رئيسه كما كان حارثة بن بدر مع زياد حكى أن زياد اليم على استئثاره حارثة ابن بدر فقال كيف أطرح رجلاً هو يسايرني منذ دخلت العراق لم يصكك ركابه ركابي ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه ولا تأخر عني فلويت عنقي إليه ولا أخذ علي الشمس في شتاء ولا الروح في صيف ولا سألته عن شيء من العلوم إلا حسبت أنه لا يحسن غيره وقالوا لا يقدر على صحبة الملوك إلا من لا يستقل ما جملوه به ولا يغر بهم إذا رضوا عنه ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه ولا يطغي إذا سلطوه ولا يبطر إذا أكرموه ولا يلحف إذا سألهم وقالوا اصحب الملوك بالحرمة والصديق بالتواضع والعدو بالحجة والعامة بحسن الخلق وقالوا من استخف بالاخوان أفسد مروأته ومن استخف بالعلماء أفسد دينه ومن استخف بالملوك أفسد دنياه وقال عبد الملك بن صالح لعبد الرحمن بن وهب الحمصي مؤدب ولده بعد أن استخلصه وأنزله فوق منزلته يا عبد الرحمن إني قد جعلتك جليساً مقرباً بعد أن كنت تابعاً مبعداً ومن لم يعرف نقصان ما خرج منه لم يعرف رجحان ما دخل فيه لا تطريني في وجهي فأنا أعلم بنفسي منك ولا تساعدني على شيء يقبح وإن لج بي الغضب فإنّ مرآة الرضا ترغبني عنه فينقص عندي دينك بالمساعدة عليه وكن على التماس الحظ بالسكوت أحرص منك على التماسه بالكلام فقد قيل إذا أعجبك الصمت فتكلم ولا تردن علي في محفل وكلمني بقدر ما استطعمك واعلم أن الاستماع أحسن من القول وإذا حدثتك حديثاً فلا يفوتك منه شيء فإن قلة التفهم من القائل وضع له وأرني فهمك في طرفك فرب طرف أنطق من لسان ويجب على الرئيس في معاشرة الجليس الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أدبه قال أنس بن مالك ما بسط رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتيه بين يدي جليس قط ولا جلس إليه أحد فقام من عنده حتى يكون الرجل هو الذي يقوم ولا صافحه أحد قط فأخذ يده منه حتى يكون الرجل هو الذي يأخذ يده ولا رأيته قام مع أحد فانصرف عنه حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف وكان يكرم من يدخل إليه وربما بسط له ثوبه ويؤثره بالوسادة التي تحته ويعزم عليه بالجلوس عليها ويكنى أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم إليهم ولا يقطع على أحد حديثه وكان لا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف من صلاته وسأله عن حاجته وقال سعيد بن العاص رضي الله عنه لجليسي علي ثلاث إذا دنا رحبت به وإذا جلس وسعت له وإذا حدث أقبلت عليه وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثلاث تثبت لك المحبة في صدر أخيك أن تبدأه بالسلام وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب الأسماء إليه وقال يحيى ابن خالد لولده جعفر يا بني إذا حدثك جليسك فأقبل عليه واصغ إليه ولا تقل قد سمعناه وإن كنت أحفظ له منه حتى كأنك لم تسمعه إلا منه فإن ذلك مما يكسبه المحبة والميل إليك ولا تستخدمه إذا جلس إلى مؤانستك فقد حكى أن هشام بن عبد الملك كان يعتم فقام إليه سعيد بن الوليد المعروف بالأبرش ليسوي عمامته فقال له مه إنا لا نتخذ الاخوان خولاً وقام عمر بن عبد العزيز وأصلح السراج لجلسائه فقال أحدهم ألا أمرتني يا أمير المؤمنين فكنت أكفيك اصلاحه فقال ليس من المروأة أن يستخدم المرء جليسه قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر

ومما يثني عطف الصديق إلى التألف
زيارته صديقه من غير انقطاع ولا تكلف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عاد مريضاً أو زار أخاً نادى مناد أن طبت وطاب ممشاك تبوأت من الجنة منزلاً وأحسن ما يقال امش ميلاً وعد أخاً وامش ميلين وأصلح بين اثنين وامش ثلاثاً وزر أخاً في الله وقالوا المودة جسم روحها الزيارة وقالوا المحبة شجرة ثمرتها المقة وأصلها الزيارة شاعر
رأيت أخا الدنيا وإن بات آمناً ... على سفر يسعى به وهو لا يدري
تثاقلت إلا عن يد أستفيدها ... وزورة ذي ودّ أشدّ به أزري

وعلى الزائر في الزيارة الأغباب فإنه به يؤمن من تجافي الأحباب قال عليه الصلاة والسلام زر غباً تزدد حباً وقالوا ربما كان التقالي في كثرة التلاقي وما أحسن قول عبد المنعم بن غلبون المقري
عليك بأغباب الزيارة إنها ... إذا كثرت كانت إلى العيّ مسلكا
ألم تر أنّ الغيث يسألم دائماً ... ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
وقالوا قلة الزيارة أمان من الملالة وقالوا كثرة التعاهد سبب التباعد شاعر
زر قليلاً لمن يودّك غباً ... فدوام الوصال داعي الملال
اعتذار من لم يزر أظرف ما كتب في ذلك قول علي بن الجهم
أبلغ أخانا تولى اللّه صحته ... إني وإن كنت لا ألقاه ألقاه
وإن طرفي موصول برؤيته ... وإن تباعد عن مثواي مثواه
اللّه يعلم أني لست أذكره ... وكيف يذكره من ليس ينساه
مكاتبات في استدعاء الزيارة كتب بعضهم إلى صديق له طال العهد بالاجتماع حتى كدنا نتناكر عند التلاقي وقد جعلك الله للسرور نظاماً وللأنس تماماً فاطلع في فلك عيني شمساً وفي سماء قلبي بدراً فامضاء العزم بالحر أحرى وكتب سعيد بن حميد لبعض أصدقائه قد طلعت الكواكب تنتظر بدرها فرأينك في الطلوع قبل غروبها شاعر
ولما نزلنا منزلاً جله الندى ... أنيقاً وبستاناً من النور جاليا
أجدّ لنا طيب المكان وحسنه ... منى فتمنينا فكنت الأمانيا
آخر
لو تفضلت بالمجئ إلينا ... لقررنا بقرّة العين عينا
وكتب آخر يومنا أعزك الله رقيق الحواشي لين النواحي ذو سماء قد رعدت وبرقت وأنت موضع السرور ونظام العيش والحبور فأقبل إلينا تنعم ولا تتأخر عنا تندم وإنك بطاعتنا تسعد وبمخالفتنا لا ترشد كتب بعضهم إلى صديق له يستزيره بأبيات منها
والألف لا يصبر عن ألفه ... أكثر من يوم ويومين
وقد صبرنا عنكم جمعة ... ما هكذا فعل المحبين
وكتب حميد بن مهران إلى أبي أيوب الهاشمي يستدعيه
أقيك الردى يا بديع الورى ... ومن حل من هاشم في الذرى
ويفديك من وده في المغيب ... إذا امتحن الود واهي العرى
وصالك يعدل صدق الرجا ... وصفو المدام وطيب الكرى
وقد تاقت النفس من وامق ... إلى أن تراك فماذا ترى
آخر
جعلت فداك في رأسي خمار ... وليس دواؤه إلا العثار
وعندي من تحب فدتك نفسي ... وأقداح وأكواب تدار
فبادر غير مأمور سريعاً ... فإن بنا لموردك انتظار
ومن أظرف الاستدعاوات ما كتب به الرشيد هرون إلى جعفر بن يحيى
سل عن الصارم ابن يحيى تجده ... راحلاً نحونا من النهروان
ليصون المدام سهداً ويغشى ال ... هجر بين الأصوات والعيدان
فأتنا نصطبح ونلتذ جمعاً ... لثلاث بقين من شعبان
فقام إليه وقدم بين يديه رقعة مكتوباً فيها
إنّ يوماً كتبت فيه إلى عب ... دك يوم يسود كل زمان
يوم لهو كأنه طلعة الكأ ... س إذا قابلت خدود القيان
فاصطبح واغتبق فداؤك نفسي ... من جميع الآلام والحدثان
آخر
عندنا جدي رضيع ... ودنين غير فارغ
وطفيلي مليح ... واغل في الكأس والغ
وغزال من بني الدي ... لم يحكي البدر بازغ
ماله عندك عيب ... غير أن ليس ببالغ
والزلال العذب مع بع ... دك ملح غير سائغ
فتحشم واركب الهم ... لاج واحضر لا تراوغ
وكتب بعض المجان
عندنا قدر فريك ... ليس للقدر شريك
ونبيذ في رطيل ... وغلام مستنيك
فتعالوا نتغدى ... ثم نشرب وننيك
وما أحسن قول المعتمد بن عباد يستدعي ندماءه من الزهراء إلى قصره بقرطبة
حسد القصر فيكم الزهراء ... ولعمري وعمركم ما أساؤا
قد طلعتم بها شموساً صباحاً ... فاطلعوا عندنا بدوراً مساء
ولآخر

وماذا عليكم لو مننتم بزورة ... فأوجبتم فيها علينا التفضلا
فإن لم تكونوا مثلنا في اشتياقنا ... فكونوا أناساً تحسنون التجملا
اعتذار من لم يزر أبو إسحق الصابي
عراني عنك يا مولا ... ي عذر أيما عذر
عصوف الريح مع مدّ ... عظيم زاخر يجري
فلم أقدم على الماء ... ولم أجسر على الجسر
ولم أسمع إلى الآن ... على ما مدّ من عمري
بريح حجبت روحاً ... وبحر صدّ عن بحر
وهو مأخوذ من قول الحسن بن وهب وقد اعتذر عن تأخره عن زيارة محمد بن عبد الملك الزيات لمطر عاقه عن زيارته
أوجب العذر في تراخي اللقاء ... ما توالى من هذه الأنواء
لست أدري ماذا أذمّ وأشكو ... من سماء تعوقني عن سماء
غير أني أدعو على تلك بالصح ... و وأدعو لهذه بالبقاء
فسلام الإله أهديه مني ... كل يوم لسيد الوزراء
كتب بعض ظرفاء المحبين إلى محبوبه يستدعيه لزيارته فلم يجبه بما أحب
كتبت إليك من شوقي بدمعي ... وحرمة وجهك الحسن الجميل
لقد أسهرتني وأطلت ليلي ... وأضحكت العواذل من عويلي
فكان جوابه لما قرأه
لقد أثقلت في عتب طويل ... وقد أكثرت من قال وقيل
فأما ما ذكرت فقد فهمنا ... وليس إلى الزيارة من سبيل
ومن أحسن ما أوجبه الوداد وافترض عيادة الأخ أخاه في حال المرض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في حديقة الجنة حتى يرجع قيل يا رسول الله وما حديقة الجنة قال جناتها حكى أن المسور بن مخرمة اعتل فجاءه ابن عباس نصف النهار فقال له المسور يا ابن عباس إن أحب الساعات إلي ساعة أودي فيها حق الصديق دخل بعضهم على محمود الوراق يعوده فأنشده
فإنك تك حمى الغبّ شفك وردها ... فعقباك منها أن يطول لك العمر
وقيناك لو يعطي الهوى فيك والمنى ... لكانت بنا الشكوى وكان لك الأجر
وكتب أبو تمام حبيب بن أوس الطائي إلى الحسن بن وهب يتوجع له من حمى أصابته
يا حليف الندى ويا توأم الجو ... د ويا خير من حبوت القريضا
ليت حماك لي وكان لك الأج ... ر فلا تشتكي وكنت المريضا
وكتب أبو الفتح خاقان يتوجع للمتوكل من رمد اعتراه
عيناي أجمل من عينيك للرمد ... فاسلم وقيت الردى في آخر الأبد
من ضنّ عنك بعينيه ومهجته ... فلا رأى الخير في مال ولا ولد
ويجب على اللطيف الظريف في عيادة المريض الضعيف تخفيف السلام وتقليل الكلام وتعجيل القيام ويقال جلسة العيادة خلسة وقالوا التخفيف خير عادة في العيادة فإن حاله كما قال عمرو بن العلاء وقد عاده صديق في مرض ألم به فابطأ عنده فقال له ما يبطئك قال أريد أن أسامرك قال أنت معافى وأنا مبتلي والعافية لا تدعك تسهر والبلاء لا يدعني أنام والله أسأل أن يسوق لأهل العافية الشكر وإلى أهل البلاء الصبر ومن آدابه الأغباب فإنه جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أغبوا في زيارة المريض واربعوا إلا أن يكون مغلوباً وحكى سلمة قال دخلت على الفراء أعوده فأطلت وألحفت في السؤال فقال لي ادن فدنوت فأنشدني
حق العيادة يوم بعد يومين ... ولحظة مثل لحظ العين بالعين
لا تبرمنّ مريضاً في مساءلة ... يكفيك من ذاك تسأل بحرفين
آخر
أدب العيادة أن تكون مسلماً ... وتكون في أثر السلام مودّعا
فإذا نظرت إلى العليل فلا تكن ... متخشعاً في اللمح أو متوجعا
بل كن إذا أبدى الحراك مسكتاً ... منه وعند الخوف منه مشجعا
واحذر بأن تنعي إليه ميتاً ... أو أن تذكره لميت مصرعا
وإذا وجدت عليه اشفاقاً فقم ... من غير أن ترأى بذلك مسرعا
وتوق شر العائدين فشرهم ... من كان منهم موهماً ومروّعا
دخل علي بن إبراهيم العلوي المعروف بالأعرج على علي بن عيسى عائداً فأنشده

كم لوعة للندى عليك وكم ... من قلق للمجود من قلقك
ألبسك اللّه ثوب عافية ... في نومك المعتري وفي أرقك
ينزع من جسمك السقام كما ... نزعت حبل الملام من عنقك
آخر
تلقيت السلامة من مريض ... توقى كل نائبة تنوب
فإنك ما اعتللت بل المعالي ... وإنك ما مرضت بل القلوب
آخر
ولما اشتكيت اشتكى كل ما ... على الأرض واعتل شرق وغرب
لأنك قلب لهذا الزمان ... وما صح جسم إذا اعتل قلب
البسامي
إذا ما صديق لي تأوّه واشتكى ... عدمت سروي ما اشتكى ورقادي
وحرمت شرب الراح ما دام شاكياً ... ولم أخله من طارفي وتلادي
اعتذار من لم يعد
إن كنت في ترك العيادة تاركاً ... حظي فإني في الدعاء لجاهد
فلربما ترك العيادة مشفق ... وأتى على غلّ الضمير الحاسد
ولآخر
كحلت مقلتي بشوك القتاد ... لم أذق مذ حممت طعم الرقاد
يا أخي الحافظ الاخوّة والنا ... زل من مقلتي مكان السواد
منعتني عليك رقة قلبي ... من دخولي عليك في العوّاد
لو بأذني سمعت منك أنينا ... لتفتت من الأنين فؤادي
ولآخر يعتذر بكونه لم يعلم
دفع اللّه عنك نائبة السو ... ء وحاشاك أن تكون عليلا
أشهد اللّه ما علمت وما ذا ... ك من العذر جائزاً مقبولا
ولعمري أن لو علمت لقاسم ... تك نصفاً وكان ذاك قليلا
فاجعلن لي إلى التعلق بالعذ ... ر سبيلاً ألم أجد لي سبيلا
فقديماً ما جاد ذو الودّ بالودّ ... وما سامح الخليل الخليلا
الشريف أبو يعلى بن الهبارية
العذر في تركي عيادة سيدي ... إني له فيما اعتراه مقاسم
لا بل نصيبي منه فوق نصيبه ... وعليه فيما أدعيه مياسم
فلئن تألم جسمه أفديه من ... داء يخامره وقلبي يألم
وأنا أحق بأن أعاد وإنما ... يدعي لخدمته الصحيح السالم
حكى محمد بن داود الظاهري في كتاب الزهرة أن الرشيد لما بلغه أن الفضل ابن الربيع عليل كتب إليه معتذراً عن تأخره عن العيادة
أعزز عليّ بأن تكون عليلاً ... أو أن يكون بك السقام نزيلا
ولئن سئلت أجيب عنك بلوعة ... إذ قيل أوعك أو أحس غليلا
فوددت أني مالك لسلامتي ... فأعيرها لك بكرة وأصيلا
هذا أخ لك يشتكي ما تشتكي ... وكذا المحب إذا أحبّ خليلا
أنشدني الشيخ الامام الفقيه المفيد أمين الدين محمد بن علي المحلي النحوي لنفسه يعتذر من تركه لعيادة بعض الرؤساء
إن جئت نلت ببابك التشريفا ... وإن انقطعت فأوثر التخفيفا
فوحق حبي فيك قدما إنني ... عوفيت أكره أن أراك ضعيفا
ومما يورد من المحبة أعذب الموارد هدية يستطف بها القلب الشادر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تهادوا تحابوا وتذهب الشحناء وقال عليه الصلاة والسلام تهادوا فإن الهدية تذهب وغر الصدور وكان صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها وقال لو أهدى إلي كراع لقبلت ولو دعيت إلى كراع لأجبت وقالت عائشة رضي الله عنها اللطفة عطفة تزرع في القلوب المحبة والألفة وفي الأثر الهدية تجلب إلى المودة القلب والسمع والبصر شاعر
إن الهدية حلوة ... كالسحر نجتلب القلوبا
تدني البغيض من الهوى ... حتى تصيره حبيبا
وتعيد مضطغن العدا ... وة في تباعده قريبا

ومن أمثالهم إذا قدمت من سفر فأهد لأهلك ولو حجر وقال الجاحظ ما استعطف السلطان ولا استرضى الغضبان ولا أزيت السخائم ولا استدفعت المغارم بمثل الهدايا وقالوا في نشر المهاداة طي المعاداة وقال ضياء الدين بن الأثير في رسالة يذكر فيها الهدية الهدية رسول يخاطب عن مرسله بغير لسان ويدخل على القلوب من غير استئذان وبهدية المرء يستدل على عقله كما ذكر أن رجلاً أهدى إلى قتادة نعلاً رقيقة فجعل النعمان يرزنها بيده ويقول يعرف قدر الرجل في سخف هديته اللهم إلا أن يهدي شيأً مخيفاً حقيراً فيصيره بالاعتذار عنه شريفاً خطيراً كما فعل أبو العتاهية فإنه أهدى إلى الفضل بن الربيع نعلاً وكتب له معها
نعلاً بعثت بها لتلبسها ... قدم تسير بها إلى المجد
لو كان يحسن ان أشرّكها ... جلدي جعلت شراكها خدي
وأهدى الأخيطل الأهوازي إلى ابن حجر في يوم نوروز طبقاً فيه وردة وسهم ودينار ودرهم وكتب معه
قل لابن حجر ذي السماح الخضرم ... لا زلت كالورد نضير المبسم
ونافذاً مثل نفاذ الأسهم ... في عز دينار ونجح درهم
وقال بعضهم من امتنع من اهداء القليل لجلالة قدر المهدي إليه انقطعت سبل المودة بينه وبين اخوانه ولزمه الجفاء من حيث التمس الاخاء أبو العتاهية
هدايا الناس بعضهم لبعض ... تولد في قلوبهم الوصالا
وتزرع في القلوب هوى وودا ... وتكسوهم إذا حضروا جمالا
آخر
ما من صديق وإن تمت صداقته ... يوماً بأنجح في الحاجات من طبق
إذا تلثم بالمنديل منطلقاً ... لم يخش نبوة بواب ولا غلق
لا تكذبن فإنّ الناس مذ خلقوا ... لرغبة يكرمون الناس أو فرق
وبالجملة إذا كانت من الصغير إلى الكبير فلطفت ودقت كان أبهى وأحسن وإذا كانت من الكبير إلى الصغير فعظمت وجلت كان أوقع لها وأنجع أهدى يعقوب الكندي إلى بعض اخوانه سيفاً وكتب معه الحمد لله الذي خصك بمنافع ما أهدى إليك فجعلك تهتز للمكارم اهتزاز الصارم وتمضي في الأمور مضاء المأثور وتصون عرضك بالارفاد كما تصان السيوف في الأغماد ويظهر دم الحياء في صفحة خدك المشروف كما يشف الرونق في صفحات السيوف وتصقل شرفك بالعطيات كما تصقل متون المشرفيات وأهدى الصابي دواة ومرفعاً وكتب معهما قد خدمت مجلس مولانا بدواة يداوي بها مرض عفاته ويروي بها قلوب عداته على مرفع يؤذن بدوام رفعته وارتفاع النوائب عن ساحته وأهدى أيضاً إلى بعض الأصحاب فرساً وكتب معه قد قدمت إليك فرساً والله تعالى يبارك لك فيه ويجعل الخير معقوداً بنواصيه والاقبال غرة وجهه ونيل الأماني طلق شده وفتح الفتوح غاية شاوه وادراك المطالب تحجيل قوائمه وسلامة العواقب منتهى عنانه والسلام
من أهدى هدية حقيرة واعتذر عنها ... كتب بعضهم مع هدية حقيرة
قبول الهداية اكرومة ... وحاشاك من أن ترد الكرم
فإنّ الملوك على قدرها ... لتقبل نشابه أو قلم
ابن التعاويذي
هدية المرء تنبي عن مروأته ... وعن حقارة مهديها وخسته
وما يحط من المهدي إليه إذا ... كانت محقرة عن قدر رتبته
فاغفر جريمة من خست هديته ... وتلك منه على مقدار قدرته
وكتب آخر مع هداية أهداها ليلاً
بعثت عشياً إلى سيد ... بما هو من خلقه مقتبس
هدية خلّ صحيح الأخاء ... جرى منه ذكرك مجرى النفس
فجدبا القبول وأيقن بأن ... لفرط الحياء أتت في الغلس
آخر
يا أيها المولى الذي ... عمت أياديه الجميلة
أقبل هدية من يرى ... في حقك الدنيا قليلة
آخر
قد بعثنا إليك أيدك الل ... ه بشيء فكن له ذا قبول
لا تقسه إلى ندى كفك الغم ... ر ولا نيلك الكثير الجليل
فاغتفر قلة الهدية مني ... إن جهد المقلّ غير قليل

ومن ظرائف الهدايا التي هي من أحسن ما يسطر في الصحف ويذكر ما يروى أن يحيى بن خالد بن برمك عزم على ختان ولده فأهدى إليه وجوه الدولة كل منهم بحسب حاله وقدرته فصنع بعض المتجملين العاجزين خريطتين وملأ إحداهما ملحاً مطيباً وملا أخرى سعداً معطراً وكتب معهما رقعة فيها لو تمت الارادة لأسعفت العادة ولو ساعدت القدرة على بلوغ النعمة لتقدمت السابقين إلى خدمتك وأتعبت المجتهدين في كرامتك لكن قعدت بي القدرة عن مساواة أهل النعمة وقصرت بي الجدة عن مباهاة أهل المكنة وخشيت أن تطوى صحيفة البر وليس لي فيها ذكر فأنفذت المفتتح بيمنه وبركته وهو الملح والمختتم بطيبه ونظافته وهو السعد باسطاً يد المعذرة وصابراً على ألم التقصير متجرعاً غصص الاقتصار على اليسير والقائم بعذري في ذلك ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج والخادم ضارع في الامتنان عليه بقبول خدمته ومعذرته والاحسان إليه بالاعراض عن جراءته والرأس اسمي ثم دخل دار يحيى ووضع الخريطتين والرقعة بين يديه فلما قرأ الرقعة أمر أن تفرغا وتملا احداهما دنانير والاخرى دراهم ومن الحكايات المستظرفة ما يحكى أن بعض القيان افتصدت فأهدى لها محبوها هدايا فكان من جملتهم من أهدى ثلاث سلال مخيطة ففتحت سلة منها فوجدتها مملوأة ماشاً وفيها رقعة مكتوب فيها ماش خير من لاش وفتحت الاخرى فإذا هي مملوأة عصافير فطاروا وفيها رقعة مكتوب فيها هذه أعتقتها لوجه الله تعالى شكراً له على سلامتك من فصدك وفتحت الاخرى فإذا هي فارغة لا شيء فيها إلا رقعة مكتوب فيها لو كان لهديناه فضحك من كان حاضراً ولم تدع القينة شيأً مما أهدى إليها إلا أعطته منه

اعتذار من لم يهد شيأ
ً
تأنق في الهدية كل قوم ... إليك غداة شربك للدواء
فلما أن هممت بها مدلاً ... لموضع حرمتي بك والاخاء
رأيت كثير ما أهدى قليلاً ... لديكم فاقتصرت على الدواء
آخر
إن أهد نفسي فهو مالكها ... ولها أصون كرائم الذحر
أو أهد مالاً فهو واهبه ... وأنا الحقيق عليه بالشكر
أو أهد شكراً فهو مرتهن ... بجميل فعلك آخر الدهر
آخر
وافق المهرجان حاشاك مني ... رفعة الحال وهي داء الكرام
فاقتصرنا على الدعاء وفيه ... عون صدق على قضاء الزمام
آخر
هديتي تقصر عن همتي ... وهمتي تفضل عن مالي
فخالص الودّ ومحض الولا ... أحق ما يهديه أمثالي
ومن واجبات شيم الأحرار ... حفظ ما أودعوه من الأسرار
وكان السر مما يجب على الاخوان أن يأخذوا أنفسهم ويروضوا به طباعهم لما فيه من الفضل وتمام الطبيعة والعقل يحكى أن رجلاً أراد صحبة انسان فسأل بعض أصدقائه عنه فأنشده
كريم يميت السرّ حتى كأنه ... إذا استنطقته عن حديثك جاهله
ويبدي لكم حباً شديداً وهيبة ... وللناس أشغال وحبك شاغله
فقال مثل هذا ينبغي أن يناط بمحبته القلوب ويطلع على خفايا السرائر والغيوب وهذان البيتان لكثير عزة من أبيات وأسر رجل إلى صديقه حديثاً فلما فرغ منه قال حفظته قال بل نسيته وقيل لعمرو بن ربيعة كيف كتمانك للسر فقال اجعله عوضاً من قلبي وشعبة من نفسي فيكون بخروجه خروجها وقيل لأعرابي ما بلغ من حفظك للسر قال أفرقه تحت شغاف قلبي ثم لا أجمعه وأنساه كأنني لم أسمعه وقالوا قلوب العقلاء حصون الأسرار وقالوا صدور الأحرار قبور الأسرار شاعر
ولي سرائر في الضمير طويتها ... ينسى الضمير بانها في طيه
وقيل لبعضهم كيف كتمانك للسر قال أكتم المخبر وأحلف للمستخبر وما أحسن قول المرتضى وقد سأله الصابي كيف كتمانك للسر في محاورة جرت بينهما
لسرّ صديقي بين جنبيّ معقل ... مداه على المستبطنين طويل
إذا لحقت أذني به من لسانه ... فليس عليها للمخاض سبيل
وكتب إليه أيضاً
وللسرّ من بين جنبيّ ممكن ... خفيّ قصيّ عن مدارج أنفاسي
أضنّ به ضني بموضع حفظه ... فاحميه عن احساس غيري واحساسي

كأني من فرط احتفاظي أضعته ... فبعضي له واع وبعضي له ناسي
آخر
لا يكتم السرّ إلا من له حسب ... فالسرّ عند كرام الناس مكتوم
والسر عندي في بيت له غلق ... قد ضاع مفتاحه والبيت مختوم
مجنون ليلى
ومستخبر عن سرّ ليلى رددته ... بعمياء من ليلى بغير يقين
يقولون خبرنا فأنت أمينها ... وما أنا إن خبرتهم بأمين
يروى أن علياً رضي الله عنه قال لأبي الأسود الدؤلي أريد رجلاً مخداناً قال يا أمير المؤمنين ألست كذلك قال بلى ولكن أريد رجلاً أستريح منك إليه ومنه إليك وليكن كتوماً للسر فإن الرجل إذا أنس بالرجل ألقى إليه عجزه وبجره وقال الشاعر
نصل الصديق إذا أراد وصالنا ... ونعيد بعد صدودنا أحيانا
لا مظهر عند القطيعة سره ... بل حافظ من ذاك ما استرعانا
آخر
إنّ الكريم الذي تبقى مودّته ... ويحفظ السر إن صافي وإن صرما
ليس الكريم الذي إن غاب صاحبه ... بث الذي كان من أسراره علما
سالم اليشكري
إذا ما غفرت الذنب يوماً لصاحب ... فلست معيداً ما حييت له ذكرا
ولست إذا ما حال عن حفظ وده ... وعندي له سر مذيعاً له سرا
ناقضه آخر فقال
ولا أكتم الأسرار لكن أذيعها ... ولا أترك الأسرار تغلي على قلبي
فإن سخين العين من بات ليلة ... تقلبه الأسرار جنباً إلى جنب
ومما يفصم بين المنجابين عرا المحاورة ... التزام ما يجب من حقوق المجاورة
قال الله تعالى والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب فذو القربى الجار الملاصق والجار الجنب البعيد عن الملاصقة والصاحب بالجنب الرفيق في السفر وكان يقال ليس حسن الجوار كف الأذى ولكنه الصبر على الأذى وأدنى حقوق الجار أن لا تؤذيه بقتار قدرك وأن تؤمنه من حسدك وشرك وقال جابر بن عبد الله الجيران ثلاثة فجار له حق واحد وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له فله حق الجوار وأما الذي له حقان فجار مسلم لا رحم له له حق الاسلام وحق الجوار وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الاسلام وحق الرحم وحق الجوار وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذريا أبا ذر إذا طبخت اللحم فأكثر المرق وتعاهد جيرانك وكان يقال من نال من جاره حرم بركة داره وقد ورد عنه عليه الصلاة واسلام أنه قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ولا يؤذي جاره ولا يخيب من قصده وكان عبد الله بن أبي بكرة ينفق على أربعين داراً من جيرانه من سائر جهات داره الأربع في كل سنة أربعين ألف دينار وكان يبعث إليهم الأضاحي والكسوة في الأعياد والمواسم وأعطى أبو الجهم العدوى في داره بالبصرة مائة ألف درهم فقال لهم وبكم تشترون مني جوار سعيد بن العاص قالوا وهل رأيت جواراً يشتري قط قال والله لا بعت داراً تجاور رجلاً إن غبت عنه سأل عني وحفظني في أهلي وإن رآني رحب بي وقربني وإن سألته قضى حاجتي وحياني وإن لم أسأل عنه عطف علي وبداني والله لو أعطيت فيها ملأها ذهباً ما اخترته عليه ولا نظرت إليه فبلغ ذلك سعيداً فبعث إليه بمائة ألف درهم وقال جعفر بن أبي طالب لأبيه يا أبة إني لا أستحيي أن أطعم طعاماً وجيراني لا يقدرون على مثله فقال له أبوه إني لأرجو أن يكون فيك خلف من عبد المطلب وقال الحسن البصري ليس حسن الجوار كف الأذى ولكنه الصبر على الأذى وقالوا الاحسان إلى الجار يعمر الديار ويزيد في الأعمار شاعر
إني لأحسد جاركم بجواركم ... طوبى لمن أضحى لدارك جابرا
يا ليت جارك بأعنى من داره ... شبراً فأعطيه بشبر دارا
وقال بعض حكماء العجم حسن الجوار خير قرين وعلى استخلاص المودة خير معين مسكين الدارمي
ناري ونار الجار واحدة ... فإليه قبلي ينزل القدر
ما ضرّ جار إلى أجاوره ... أن لا يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جسمها الستر
آخر
أجود وأرعى حرمة الجار إنني ... كريم بمالي كل عرق مهذب

وأمنع جيراني من الضيم والأذى ... واركب من اكرامهم كل مركب
ومن النوادر المحكية في اكرام الجار ما حكى أن يهودياً عطاراً نزل ببعض أحياء العرب يبيع لهم من بضاعته العطرية فمات عندهم فأتوا شيخاً لهم لم يكن يقطع في الحي أمر دونه فاعلموه بخبر اليهودي فجاء وغسله وكفنه وتقدم وأقام الناس خلفه وقال اللهم إن هذا لنا جار وله علينا ذمام فإذا قضينا ذمامه وصار إليك فلك الخيار أن تفعل به ما هو له أهل أو تفعل به ما أنت له أهل فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة شاعر
راع حقوق الجار في كل ما ... حدده اللّه وأوصى به
وزره في الصحة مستبشراً ... وعده في السقم وأوصابه
ولا تغيرك له حالة ... تبدو كشهد القول أوصابه
وهذه ظرف تكون لما ذكرناه ختاماً ... ولنفس المتأمل وقلبه شركاً وزماما
فيما يلزم الأصدقاء من تمازج الأرواح ... امتزاج الصهباء بالماء القراح
قيل لبعضهم صف لنا الصديق قال أنت هو وهو أنت إلا إنكما جسمان بينكما روح وقبل لاسباط الشيباني صف لنا الاخوة وأوجز فقال أغصان تغرس في القلوب فتثمر على قدر العقول وقيل لافلاطون ما معنى الصديق قال هو أنت إلا أنه غيرك وقيل لبعضهم ما الأصدقاء قال نفس واحدة وأجساد متفرقة وقال ابن المقفع الأخ نسيب الجسم والصديق نسيب الروح وقيل لأرسطو طاليس وقد سئل عن الصديق ما معناه فقال قلب تضمنه جسمان نظمه بعض الشعراء فقال
بنفسي أخ لي في الأمور مساعد ... فلي وله جسمان والقلب واحد
إذا غاب عني لم أجد طعم لذة ... لأن فؤادي شطره متباعد
لآخر
بابي من هو منى في الحشا ... ليته يوماً على عيني مشى
روحه روحي وروحي روحه ... إن يشأ شئت وإن شئت يشا
ولقد تتبعت ما قاله الناس في الاتحاد فما رأيت ولا سمعت أحسن من قول أبي الحسين الحلاج في ذلك
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
نحن مذ كنا على عهد الهوى ... تضرب الأمثال في الناس بنا
فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته قلت أنا
وله
جبلت روحك من روحي كما ... يجبل العنبر بالمسك العبق
فإذا مسك شيء مسني ... فإذا أنت أنا لا نفترق
وله
مزجت روحك من روحي كما ... تمزج القهوة بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني ... فإذا أنت أنا في كل حال
وهذا غاية ما بلغه علمي وأدركه فهمي وتصرف الناس في حسن الاختيار معدود من المواهب وللناس فيما يعشقون مذاهب وقد أحسن الشريف الرضي في قوله يخاطب أبا إسحق الصابي
أنت الكرى مؤنس طرفي وبعضهم ... مثل القذى مانع طرفي من الوسن
لقد تمازج قلبانا كأنهما ... تراضعاً بدم الأحشاء لا اللبن
ويقال كاتب صديقك كما تكاتب حبيبك فإن عذل الصداقة أرق من عذل العلاقة والنفس بالصديق آنس منها بالعشيق ويقال إذا كاتبت أخاك فليكن المداد من سواد الفؤاد والقرطاس من بياض الوداد فإن من كرمت خصاله وجب وصاله

الفصل الثالث من الباب الخامس عشر
في ذم الثقيل والبغيض
بما استحسن من النثر والقريض
قال الله تعالى وإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث قالت عائشة رضي الله عنها هذه الآية نزلت في الثقلاء وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا استثقل رجلاً يقول اللهم اغفر له وأرحنا منه وكان الأعمش واسمه سليمان ابن مهران إذا رأى ثقيلاً قال ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون وروى عنه أنه قال من فاتته ركعتا الفجر فليلعن الثقلاء وقيل له لم عمشت عينك قال من نظري إلى الثقلاء فإني ما رأيت ثقيلاً قط إلا وأعمشت عيني وكان يقول إذا كان عن يسارك ثقيل في الصلاة فتسليمة واحدة تكفيك وكان بعضهم إذا رأى ثقيلاً قال استراح العميان من النظر وقيل لأرسطو طاليس لم صار الثقيل أثقل من الحمل الثيل قال لأن الحمل تشترك الجوارح في حمله والثقيل ينفرد القلب بثقله شاعر

إنّ الثقيل وإن تخفف جهده ... كان الثقيل على الفؤاد ثقيلا
وقال بعض الملوك الطبيب جس نبضي فجسه وقال مزاج معتدل إلا أني أرى فيه تكديراً فهل جالسك اليوم ثقيل قال نعم فقال هذا من ذاك وقال بختيشوع للمأمون لا تجالس الثقلاء فإن الفلاسفة قالوا مجالسة الثقلاء حمى الروح وقيل لمحمد بن زكريا الرازي أيما أمر الثقيل المبرم أو شرب الدواء الكريه الرائحة المر الطعم فقال ليس ما أكسب الداء كما أعقب الشفاءان مجالسة الثقيل تجلب الأسقام وتنحل الأجسام وتورث الأحزان وتؤلم الأبدان وتهد الأركان وشرب الدواء يجلو الأجسام ويحلل الأسقام ويشحذ الأفهام ويدفع الأحزان وينشط الكسلان ويقوي الامكان وقال أرسطاليس للاسكندر إياك ومجالسة الثقيل فإن منها ذبول الروح وذهول العقل وموت الفزع وقال الأصمعي ستة بضنين وربما قتلن انتظار المائدة ودمدمة الخادم والسراج المظلم وبكاء الأطفال وخلاف من تحب ورؤية الثقيل
ومما أثار بطلعته كوامن البغضاء ... فكشفت عن مساويه ستور الأعضاء
عاد الأعمش أبو حنيفة فقال له بعدما أبرم في جلوسه يا أبا محمد ما أشد شيء مر بك في علتك قال جلوسك عندي قال ما تشتهي قال أشتهي أن لا أراك ويحكى أنه قال له يا أبا محمد لولا ما أخاف من التثقيل عليك لأتيتك في كل وقت فقال إنك لتثقل علي وأنت في بيتك فكيف إذا جئتني وقال رجل لأبي العيناء إن الله لم يأخذ من عبد كريمتيه إلا عوضه الله خيراً منهما فما الذي عوضك قال أن لا أرى ثقيلاً مثلك واعتذر رجل إلى آخر في تقليل زيارته فقال ما رأيت احساناً يعتذر منه إلا هذا صلى امام بقوم فأطال فلما سلم لأمه بعض من صلى خلفه من الظرفاء فقال وإنها الكبيرة إلا على الخاشعين فقال أنا رسول الخاشعين إليك بأنك ثقيل فإنهم لا يطيقون الصبر على احتمال بردك وقد نظم أبو الحسن علي بن أبي الطيب الباخرزي أبياتاً يهجو بها اماماً ثقيلاً ويذكر ما وجد من جوره في تطويله مقيلاً ذكرها في هذا الموضع لائق لما جمعت من المعنى البديع واللفظ الرائق
وأثقل روحاً من عقاب عقنقل ... أخفّ دماغاً من جنوب وشمأل
يؤم بنا في القطع قطع خميسة ... وأمّ بصخر حطه السيل من عل
يطيل قياماً في المقام كأنه ... منارة قس راهب متبتل
ويفحش في القرآن لحناً كأنما ... يشدّ بامراس إلى صمّ جندل
فقلت له لما تمطى بصلبه ... واردف أعجازاً وناء بكلكل
وزاد برغمي ركعة في صلاته ... ألم يكن التسليم منك بأمثل
دخل ثقيل على الصاحب بن عباد فأطال الجلوس وأبرم في المحادثة فكتب الصاحب رقعة وأعطاه إياها فقرأها فإذا فيها
إن كنت تزعم أنّ الدار تملكها ... حتى نقوم فنبغي غيرها دارا
أوكنت تعلم أنّ الدار أملكها ... فقم لكي تذهب الأشجان والعارا
ولما قدم محمد بن المكرم من الجبل قال له أبو العيناء مالك لم تهد لنا شيأً فقال والله ما جئت إلا في خف قال كذبت لو قدمت في خف خلفت روحك يا عجباً من جسم كالخيال وروح كالجبال وقال رجل لبعض المغنين في مشاجرة جرت بينهما والله ما تعرف الثقيل الأول ولا الثقيل الثاني فقال كيف لا أعرفهما وأنا أعرفك وأعرف أباك ألم بهذا بعض الشعراء فقال
ثقيلاً براه اللّه وابن ثقيلة ... أرى الثقل طبعاً في أبيك وفيكا
أبوك امام الناس في الثقل كلهم ... وأنت وليّ العهد بعد أبيكا
آخر
يا من تبرمت الدنيا بطلعته ... كما تبرمت الأجفان بالسهد
يمشي على الأرض مختالاً فأحسبه ... من بغض طلعته يمشي على كبدي
لو إن في الناس جزأ من سماجته ... لم يقدم الموت اشفاقاً على أحد
قصد حماد الراوية دار مطيع بن اياس فحجب فكتب إليه يسأله الدخول عليه
هل لذي حاجة إليك سبيل ... لا نطيل الجلوس فيمن يطيل
فلما قرأ البيت أجابه
أنت يا صاحب الكتاب ثقيل ... وكثير من الثقيل القليل
وقال محمد بن عرفة النحوي المعروف بنفطويه يهجو ثقيلاً
يا ثقيلاً على القلوب إذا ع ... نّ فقد أيقنت بطول السهاد

يا قذى في العيون ما بين ألف ... يا غريماً أتى على ميعاد
يا ركوداً في يوم غيم وصيف ... يا وجوه التجار يوم الكساد
خلّ عنا فإنما كنت فينا ... واوعمرو كما لحديث المزاد
الناجم يذم ثقيلا
يا قوّة الناس ويا ضعف الأمل ... يا حيرة المملق أعيته الحيل
يا زحل الدهر ومريخ الدول
ومما استجدته من مذامّ الثقلاء ... الشافية محاسنها أفهام العقلاء
قال بعض البلغاء محذراً من مجالسة الثقيل إذا وافاك ثقيل فأره من خلقك التصرم ومن طبعك التبرم ولا توسعه ترحيباً ولا تحفل به تقريباً ولا تقبل إليه بوجهك ولا تبخل عليه بنهجك وأوحشه عند استئناسه وتهجم له بين جلاسه وأبعده ما استطعت واقطعه فيمن قطعت فبعده راحة لنفسك ومجلبة لأنسك فإنك إن أدنيته إليك وأدللته عليك ضنى به جسدك وكبدك وزاد به نكدك وكمدك أبو بكر الخوارزمي فلان أثقل من موت الخناق وكتاب الطلاق وفقد الحبيب وطلعة الرقيب وقدح اللبلاب في كف المريض وأشد من خراج بلا غلة ودواء بلا علة ورؤية الموت عند الكافر وقد ختم أعماله بالكبائر فلان وخز في الأكباد وسقم في الأجساد وصف العباس ابن الأحنف ثقيلاً فقال والله ما الحمام مع الاصرار وكثرة الذنوب مع الأقتار وشدة السقم في الأسفار بآلم من لقائه أبو نواس الحسن بن هانئ الحكمي يذم ثقيلاً
ثقيل يطالعنا من أمم ... إذا سرّه رغم أنفي ألمّ
لطلعته وخزة في الفؤاد ... كوخز المشارط في المحتجم
أقول له إذ أتى لا أتي ... ولا نقلته إلينا قدم
فقدت خيالك لا من عمي ... وصوت كلامك لا من صمم
وصف بعضهم ثقيلاً فقال لا أدري كيف لم تحمل الأمانة أرض حملته وكيف احتاجت إلى الجبال بعد ما أقلته كأنما قربه فقد الحبائب وسوء العواقب وكأنما وصله عدم الحياة وموت الفجاة شاعر
يطول بقربك اليوم القصير ... ويرحل إن مررت بنا السرور
لقاؤك للمبكر فأل سوء ... ووجهك أربعاء لا تدور
آخر
إذا ما تبدى طالعاً فكأنه ... حضور غريم أو طلوع رقيب
وإن جاء فحوى قاصداً فكأنه ... كتاب بعزل أو فراق حبيب
آخر
وثقيل أشدّ من غصص المو ... ت ومن كيده العذاب الأليم
لو عصت ربها الجحيم لما كا ... ن سواه عقوبة للجحيم
حسام الدين البخاري
خلق الناس من منىّ وهذا ال ... ولد النحس من رجيع أبيه
ففشا لا فشا ثقيلاً مقيتاً ... ليس يه خير لمن يرتجيه
لم يكن منهما نكاح ولكن ... فتحت فرجها فاحدث فيه
نتهيا لناظري ولقلبي ... حرجاً كلما نظرت إليه
نادرة دخل أعرابي على ثلاثة يشربون واغلا فقال أحدهم
أيها الداخل الذي جاء يطوي ... حين لذا الحديث لي ولصحبي
فقال الثاني
خف عنا فأنت أثقل والل ... ه علينا من فرسخي دبر كعب
وقال الثالث
ومن الناس من يخف وفيهم ... كرحى البزر دائر فوق قطب
فقال الأعرابي
لست بالبارح العشية والل ... ه لشتم ولا لشدّة ضرب
أو تميلوا بالكبر فوراً علينا ... ثم تعلوا من فوق ذاك بقعب
فاستظرفوه وخلطوه بهم
ومما يكون لنفس المتأمل قوتاً ... ذم من كان بغيضاً ممقوتا

سئل جعفر الصادق رضي الله عنه هل يكون المؤمن بغيضاً قال لا ولا يكون ثقيلاً وذكر أنوشروان أنه لما أراد أن يصير ولده هرمز ولي عهده استشار أولياءه في ذلك فكل ذكر عيباً لا يستحق به الملك فمن قائل لا يصلح للملك لأنه قصير وذلك مما يذهب بهاء الملك فقال أنوشروان محتجاً له إنه لا يكاد يرى إلا راكباً أو جالساً على سرير فلا يبين عليه ذلك ومن قائل إنه ابن رومية والملك إذا كان ابن أمة نقصه ذلك من أعين الناس فقال أنوشروان محتجاً له إن الأبناء ينتسبون إلى الآباء ولا ينتسبون إلى الامهات فلا يضره ما قلت فقال الموبذان إن فيه عيباً وهو أنه مبغض إلى الناس فقال أنوشروان عند ذلك هذا هو العيب الذي لا مدح معه ولا عذر عنه والداء الذي لا برء له فقد قيل إن من كان فيه خير ولم يكن ذلك الخير للناس فلا خير فيه وقالوا فلان أوحش من ربع تحول سكانه وتحمل أظعانه وغارت نجومه وعفت رسومه وقالوا فلان أقذى للعين من ساعة داعية البين بين المحبين وقالوا فلان لا تحبه الناس حتى تحب الأرض الدم وذلك إنها تعاف الدم فلا تقبله شاعر يهجو بغيضاً
يا بغيضاً زاد في البغ ... ض على كل بغيض
أنت عندي قدح اللب ... لاب في كفّ المريض
وقالوا فلان أبغض من زوال النعمى وفوت المنى وطلعة الردى وقالوا مجالسة البغضاء تزيد الهموم وتجلب الغموم وتؤلم القلب وتشد أزر الكرب وتكدح في النشاط وتطوي بساط الانبساط

الباب السادس عشر
في العزلة
فيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في ذم الاستئناس بالناس
لتلون الطباع وتنافي الأجناس
قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين وقال عليه الصلاة والسلام أحب العباد إلى الله الأتقياء الأحفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا شهدوا لم يقربوا أولئك أئمة الهدى ومصابيح الظلم وقيل لبعض العباد ما أصبرك على الوحدة قال أنا جليس الرب إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت له وقال ذو النون المصري الأنس بالله نور ساطع والأنس بالخلق غم قاطع وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم صومعة المؤمن بيته يكف فيها نفسه وبصره ولسانه وفرجه وقال الجنيد للسري السقطي أوصني فقال لا تكن مصاحباً للأشرار ولا تشتغل باللاهي عن الأخيار وفي كتاب كليلة ودمنة ينبغي لذي المروءة أن يكون إما مع الملوك مبجلاً أو مع النساك متبتلا كالفيل إما أن يكون مركباً نبيلاً أو في البرية مهيباً جليلاً وقال علي رضي الله عنه من وجد في نفسه وحشة من الناس فليعلم أن الله أحب أن يؤنسه به وقالوا ما استغنى أحد بالله إلا وافتقر الناس إليه وقال بعض الحكماء الأنس بالله من حبه لك فإن الله إذا أحب عبداً أوحشه من خلقه وقد قيل من خلق التوحيد حب الوحدة وقال الجنيد أطيب ساعاتي خلواتي وألذ طاعاتي في مناجاتي ولله در من قال
من حمد الناس ولم يبلهم ... ثم بلاهم ذمّ من يحمد
وصار بالوحدة مستأنساً ... يوحشه الأقرب والأبعد
فمما يكون عوناً للكريم على الانقطاع ذم ما الناس عليه من لؤم الطباع قال سفيان الثوري للحسن البصري دلني على من أجلس إليه قال تلك ضالة لا توجد وقيل لبعضهم ما الصديق قال اسم وضع على غير مسمى وحيوان غير موجود الناشي
سمعنا بالصديق ولا نراه ... على التحقيق يوجد في الأنام
وأحسبه محالاً نمقوه ... على وجه المجاز من الكلام
وقيل لبعضهم من أبعد الناس سفراً قال من كان في طلب صديق صدوق يكون عوناً له على مهماته وغوثاً على ملماته سمع المأمون أبا العتاهية ينشد
وإني لمحتاج إلى ظل صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه
فقال خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب وقبل هذا البيت
عذيري من الاخوان لا من جفوته ... صفا لي ولا من كنت طوع يديه
وقال بعضهم إن كان في مخالطة الناس خير فإن تركهم أسلم وقال بعض الرهبان لرجل إن استطعت أن يكون بينك وبين الناس سور من حديد فافعل وإن كان الأنس في الجماعة فإن السلامة في العزلة وقال الشاعر
ليس في الناس وفاء ... لا ولا في الناس خير

قد بلوت الناس طرّاً ... فكسير وعوير
آخر
كن لقعر البيت جلساً ... وارض بالخلوة أنسا
واغرس الناس بأرض الز ... هد مهما شئت غرسا
وليكن بأسك دون ال ... طمع الكاذب ترسا
لست بالواجد حراً ... أو ترد اليوم أمسا
كتب بعضهم إلى صديق له أما بعد فإني أحمد الله إلى الناس وأذم الناس إليه وقيل لبعضهم ما تجد في الخلوة قال الراحة من مدارة الناس والسلامة من شرهم وقال الشاعر وقالوا لقاء الناس أنس وراحة ولو كنت أرضى الناس ما عشت مفرداً وكتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى أخيه من مدينة السلام وكان أخوه بخراسان يشكو إليه قلة وفاء الرئيس وتأدبه بحضرة الجليس فكتب إليه جواباً
طب عن الأمة نفساً ... وارض بالوحدة أنسا
ما رأينا أحداً سا ... وى على الخبر فلسا
آخر
قد بلوت الناس طراً ... لم أجد في الناس حرا
صار أحلى الناس في الع ... ين إذا ما ذيق مرا
أبو حامد الغزالي
لا تجز عنّ لوحدة وتفرد ... ومن التفرد في زمانك فازدد
ذهب الأخاء فليس ثمّ أخوة ... إلا التملق باللسان وباليد
فإذا كشفت ضمير ما بصدورهم ... أبصرت ثمّ نقيع سمّ الأسود
آخر
إذا ما طلبت أخاً مخلصاً ... فهيهات منك الذي تطلب
فكن بانفرادك ذا غبطة ... فما في زمانك من تصحب
آخر
بلوت الأناس وأهل الزمان ... وكل بهجر ولؤم خليق
وأوحشني من عدوّي الزمان ... وآنسني بالعدوّ الصديق
آخر
بلوت الناس من غرب وشرق ... فلم تظفر يدي بصديق صدق
فقلت مجانباً للخلق طراً ... يبيت منادمي قدحي وزقي
وفي الآداب لي ألف وأنس ... وفضل اللّه يأتيني برزقي
آخر
ما أعجب الناس في تقلبهم ... ذا شهد طعمه وذا صبر
ترضى على الشخص حين تبصره ... ويسخط العقل حين يختبر
وقال بعض الحكماء الوحشة من الناس على قدر المعرفة بهم منه قول علي رضي الله عنه أخبر تقله وقال المأمون لولا أن كلام علي فرع من كلام النبوة لعكسته وقلت أقله تخبر وقال وهيب بن الورد صحبت الناس منذ خمسين سنة فما وجدت رجلاً غفر لي زلة ولا أزاح لي علة ولا أقالني عثرة ولا ستر لي عورة وقال علي رضي الله عنه إذا كان الغدر طباعاً فالثقة بكل أحد عجز شاعر
أما الوفاء فشيء قد سمعت به ... وما وجدت له عيناً ولا أثرا
فمن توهم في الدنيا أخاً ثقة ... فإنه بشر لا يعرف البشرا
آخر
ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب ... فالناس بين مخاتل وموارب
يفشون بينهم المودّة والصفا ... وقلوبهم محشوّة بعقارب
آخر
لك الخير فاعلم ليس في الناس منصف ... وكل وداد فهو منهم تكلف
وكل إذا عاهدته فهو ناقض ... لعهدك أو واعدته فهو مخلف
وأبناء هذا الدهر كالدهر لم يثق ... به وبهم إلا جهول مسوّف
آخر
ذهب الوفاء فلا وفا ... ء ولا حياء ولا مروّة
إلا التواصل باللسا ... ن من النفوس بلا أخوة
عبد المحسن الصوري
نزع الدهر خلتين من النا ... س وفاء الأخاء وصدق الصديق
ويقال العزلة عن الناس توفر العرض وتبقى الجلالة وتستر الفاقة وتدفع مؤنة المكافأة في الحقوق لما وقع الاختلاف في المدينة خرج عروة بن الزبير إلى العقيق واعتزل الناس فعاتبه بعض اخوانه فقال رأيت ألسنتهم لاغية وقلوبهم لاهية وأديانهم واهية فخفت أن تلحقني معهم الداهية شاعر
ألام على التفرد كل وقت ... ولي فيما ألام عليه عذر
وكل أذى فمصبور عليه ... وليس على قرين السوء صبر
آخر
وأفردني عن الاخوان علمي ... بهم فبقيت مهجور النواحي
فكم ذم لهم في جنب مدح ... وجد بين أثناء المزاح
الامام الشافعي رضي الله تعالى عنه

إذا لم أجد خلاً تقياً فوحدتي ... ألذ وأشهى من غويّ أعاشره
وأجلس وحدي للسفاهة آمناً ... أقر لعيني من جليس أحاذره
وقال جعفر الصادق العزلة أسكن للفؤاد وأبعد من الفساد وأعود للمعاد الثعالبي إذا كان الصديق المجانس متعذراً وصحيح الأخاء لا يكاد يرى فالثقة بغير الله منفصمة العرى وقالوا إذا أنس اللبيب بالوحدة دون المصاحب ونزه نفسه باكرامها عند تغير الأخ والصاحب وتزين بالدين وتحلى بحلية المؤمنين وألزم نفسه الرياضة بالآداب وأعتق رقها من أليم العذاب فقد استراح وأراح ووجد في كل قطر المطار والمراح وأنشد لعلي بن عبد العزيز الجرجاني
ما تطعمت لذة العيش حتى ... صرت في وحدتي لكتبي جليسا
ليس شيء ألذ عندي من نف ... سي فلم أبتغي سواها أنيسا
إنما الذل في مداخلة النا ... س فدعها وعش كريماً رئيسا
وما أحسن قول بعضهم في المعنى
إذا ما خلوت من المؤنسين ... جعلت المؤانس لي دفتري
فلم أخل من شاعر محسن ... ومن مضحك طيب مندر
ومن حكم بين أثنائها ... فوائد للناظر المفكر
فإن ضاق صدري بأسراره ... وأودعته السر لم يظهر
فلست أرى مؤثراً ما حييت ... عليه نديماً إلى المحشر
ولآخر
وما ظفرت يدي بصديق صدق ... أخاف عليه إلا خفت منه
ولم تدع التجارب لي صديقاً ... أميل إليه إلا ملت عنه
أنست بوحدتي حتى لو أني ... رأيت الأنس لأستوحشت منه
أبو فراس
بمن يثق الانسان فيما ينوبه ... ومن أين للحرّ الكريم صحاب
ومما اخترت من كلام الحكماء الأجلاء في التحذير من اتخاذ الأصدقاء والأخلاء قال بعض الزهاد لو أن الدنيا ملئت سباعاً ما خفتها ولو بقى واحد من الناس لخفته وقالوا استعذ من شرار الناس وكن من خيارهم على حذر وقال آخر ما بقي في الناس إلا حمار رامح أو كلب نابح أو أخ فاضح وقال أبو الدرداء كان الناس ورقاً لا شوك فيه فصاروا شوكاً لا ورق فيه وقال سلمان الناس أربعة أصناف آساد وذئاب وثعالب وضأن فالآساد الملوك والذئاب التجار والثعالب القراء المخادعون والضأن المؤمن ينهشه كل من يراه شاعر
الناس أخلاقهم شتى وإن جبلوا ... على تشابه أفراد وأزواج
وقال بعض الحكماء احذروا الناس فما ركبوا سنام بعير إلا أدبروه ولا ظهر جواد إلا عقروه ولا قلب مؤمن إلا أخربوه وقال خالد بن صفوان الناس أجياف فمنهم كالكلب لا تراه الدهر إلا هراراً على الناس ومنهم كالقرد يضحك من نفسه وقال عبد الحميد الكاتب الناس أجياف مختلفون وأطوار متباينون فمنهم من علق مظنة لا تباع ومنهم من غل مظنة لا تبتاع وقال جعفر الصادق لبعض اخوانه اقلل من معرفة الناس وأنكر من عرفت منهم وإن كان لك مائة صديق فاطرح منهم تسعة وتسعين وكن من الواحد على حذر وقال بعض البلغاء بلوت الناس طراً فلم أجد إلا من يرى الحق باطلاً والباطل حقاً واللئيم مرفوعاً والكريم ملقى والنصح غشاً والغش نصحاً والمدح هجاء والهجاء مدحاً العتابي في مثل ذلك
تساوي أهل دهرك في المساوي ... فما يستحسنون سوى القبيح
وصار الناس كلهم غثاء ... فما يرجون للأمر النجيح
وأضحى الجود عندهم جنوناً ... فما يستعقلون سوى الشحيح
وكانوا يغضبون من الأهاجي ... فصاروا يغضبون من المديح
وقال حكيم مصاحبة الناس خطر فمن صبر على صحبتهم فقد بالغ في العذر إنما هو كراكب بحر إن سلم بدنه من الغرق لم يسلم قلبه من الفرق شاعر
تجنب قرين السوء واصرم حباله ... وإن لم تجد عنه محيصاً فداره
ومن يطلب المعروف في غير أهله ... تجده وراء الحبر أو في قراره

وصف بعض البلغاء أهل زمانه فقال أحظى الناس لديهم من أحسن إليهم فإن قصر عنهم رفضوه وأبغضوه ووتروه ولم يعذروه إن حضروا داهنوا وإن غابو شاحنوا ينطوون على الأحن ولا يرتون للممتحن غنيهم شحيح وفقيرهم مجيح إن رأوا خيراً دفنوه وإن ظنوا شراً أعلنوه الواثق منهم على غرر والمتمسك بهم على خطر هم بين طاعن ثالب ومتقول كاذب وحسود موارب إن اختبرتهم تكشفوا وإن اعتبرتهم تزيفوا وأنشد
ان يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... شراً أذيع وإن لم يسمعوا كذبوا
ولقد أحسن في التحذير من قال
إياك أن تصطفي ممن ترى أحداً ... ولا تثق بامرئ في حالة أبدا
من عاش منفرداً لم يأته ندم ... على اتخاذ صديق في الأنام غدا
ومما يكون مماثلاً لهذا القول ومعادلاً التحذير من صحبة السلطان وإن كان عادلاً قال الأعمش صحبة السلطان خطر إن أطعته خاطرت بدينك وإن أغضبته خاطرت بنفسك والسلامة منه أن لا تعرفه وقال ابن مسعود إن الرجل ليدخل إلى ذي سلطان ومعه دينه ويخرج وليس معه منه شيء وقال عبد الله بن عمر ما ازداد رجل من ذي سلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً وقال الفضيل بن عياض كنا نتعلم اجتناب السلطان كما نتعلم السورة من القرآن وقال أيضاً لأن يدنو الرجل إلى حتفه ومنيته خير له من أن يدنو إلى ذي سلطان وقال أيضاً ما أقبح بالعالم أن يقال أين هو فيقال هو في بيت الأمير وكتب أبو بكر بن عياش إلى عبد الله بن المبارك إن كان الفضيل بن موسى لا يجالس السلطان فأقرئه مني السلام أبو الفتح البستي
يا من يرى خدمة السلطان عدّته ... ما أرش ذلك إلا الذلّ والندم
فجسمه تعب والنفس خائفة ... وعرضه غرض والدين منثلم
هذا إذا شرفت أيام دولته ... نعوذ باللّه إن زلت به القدم
وقال زياد بن أبي سفيان يوماً لجلسائه من أنعم الناس عيشاً قالوا أمير المؤمنين يعني معاوية قال فكيف بثغوره وأموره إن لأعواد المنبر لهيبة ولقرع لجام البريد لروعة قال فمن قالوا فأنت قال فكيف بجنودي وخراجي ومداراة الناس قالوا فمن إذا قال رجل له دار يسكنها وزوجة صالحة يأوي إليها وخادم وكفاف من العيش لا يعرفها ولا نعرفه فإنه إن عرفنا وعرفناه أفسدنا آخرته ودنياه شاعر
وصاحب السلطان في محنة ... في آجل الأمر وفي حينه
إن ساءه خاف على نفسه ... أو سره خاف على دينه
آخر
إنّ الملوك بلاء حيثما رحلوا ... فلا يكن لك في أكتافهم ظلّ
ماذا تريد بقوم إن هم غضبوا ... جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا
فإن أتيتهم تبغي نوالهم ... رجعت منقبضاً من دينك الكلّ
فاستغن باللّه عن أبوابهم كرماً ... إنّ الوقوف على أبوابهم ذل

الفصل الثاني من الباب السادس عشر
فيما يحض على الاعتزال
من ذميم الخلائق والخلال
فأهم ما نبدأ به منها ولا يمكننا الاعراض عنها ترفع من سوغته الأقدار منصباً أو مالاً على صديق ما برح في وده يتغالى قال بعضهم
تغير عني حين ولوه منصباً ... وعهدي به من قبل ذا وهو صاحب
وما هو في الدنيا بأوّل صاحب ... وأوّل رجل غيرته المناصب
آخر
إنّ الولاية معيار العقول بها ... يبين من فيه نقص أو به عور
فكم أصمت سميعاً كان ذا أذن ... قبل التولي وأعمت من له بصر
ويروى عن محمد بن ادريس الشافعي أنه قال أظلم الناس لنفسه اللئيم فإنه إذا ارتفع جفا أقاربه وأنكر معارفه واستخف بالأشراف وتكبر على ذوي الفضل شاعر
ليس الكريم الذي إن نال منزلة ... فضلاً وطولاً على اخوانه تاها
الحرّ يزداد للاخوان مكرمة ... إن نال حظاً من السلطان أو جاها
أبو بكر الخوارزمي
كفى حزناً أن لا صديق ولا أخ ... يفيد غنى إلا يدا خله كبر
فلا نال فوق القوت مثقال ذرة ... صديق ولا أوفى على عسره يسر
وما ذاك إلا رغبة في وصاله ... وإلا حذاراً أن يلم به العذر
ولبعضهم يعاتب صديقاً له ولي حين ولي

ولما صرّفتك يد الليالي ... وحكمك الزمان على بنيه
عدلت عن الوداد وكنت قدماً ... لدينا تبتغيه وترتضيه
آخر
دعوت اللّه أن تعلو محلاً ... علوّ البدر في أفق السماء
فلما أن علوت علوت عني ... فكان إذا على نفسي دعائي
آخر
إنّ الولاية غيرت أصحابنا ... فلووا وجوههم عنا وتبدّلوا
فاصبر على جور الليالي منهم ... واترك عناءهم إلى أن يعزلوا
آخر
قل لعبيد اللّه ذاك الذي ... قد غير السلطان أطباعه
ابتاع ودي وهو ذو عسرة ... حتى إذا نال الغنى باعه
آخر
وربّ ذي ثقة قد كان لي سكناً ... وكنت منه مكان العين في الراس
ولي وأعرض عني إذا أفاد غنى ... وخانه سوء بنيان وآساس
حتى إذا ما قضى من ماله وطراً ... فيما أحب من اللذات والكاس
غدا إليّ بوجه ضاحك طلق ... وعاد في ودّه من بعد افلاس
آخر
تاه علينا وزاد اطراقه ... وخاننا عهده وميثاقه
وكل من نال فوق رتبته ... تغيرت للصديق أخلاقه
وقال عبد الصمد بن بابك يشكو صديقاً مال حين اكتسب المال وحال عندما صلح منه الحال
أشكو إليك زمان ظلّ يعركني ... عرك الأديم ومن يفدي من الزمن
وصاحباً لست مغبوطاً بصحبته ... دهراً فغادرني فرداً بلا سكن
هبت له ريح اقبال فطار بها ... نحو السرور وألجاني إلى الحزن
نأى بجانبه عني وصيرني ... مع الأسى ودواعي البين في قرن
وباع صفو وداد كنت أقصره ... عليه مجتهداً في السرّ والعلن
وكان غالي به حيناً فأرخصه ... يا من رأى صفو ودّ بيع بالثمن
فليس في الأرض مغبون بصفقته ... إن لم يكن ذاك منسوباً إلى الغبن
كأنه كان مطوياً على احن ... ولم يكن من عيون الشعر أنشدني
إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وقال آخر يعاتب صديقاً له تغير عليه عندما نظر الزمان بعين المقت إليه
وكنت أخي أيام عودك يابس ... فلما اكتسى واخضر صرت مع النسر
لعمرك لو ذوّقتني ثمر الغنى ... أذقتك ما يرضيك من ثمر الشكر
فلو نلت ما يغني بك اليوم أو غدا ... أنلتك ما يبقى إلى آخر الدهر
ألم تر أنّ الفقر يرجى له الغنى ... وأنّ الغنى يخشى عليه من الكفر
آخر
ألم تر أنّ ثقات الرجال ... إذا الدهر ساعدهم ساعدوا
وإن خانه دهره أسلموه ... فلم يبق منهم له واحد
ولو علم الناس أن المريض ... يموت لما عاده عائد
آخر
كم من صديق لنا أيام دولتنا ... قد كان يمدحنا فصار يهجونا
لم ندر إذا ما انقضت عنا امارتنا ... من كان ينصح ممن كان يغوينا
ما إن يلاطفنا من كان يصحبنا ... إلا ليخدعنا عما بأيدينا
آخر
صديقك حين تستغني كثير ... ومالك عند فقرك من صديق
فلا تغضب على أحد إذا ما ... طوى عنك المودّة عند ضيق
آخر
أرى قوماً وجوههم حسان ... إذا كانت حوائجهم إلينا
وإن كانت حوائجنا إليهم ... تغير حسن وجههم علينا
ومنهم من يمنع ما لديه ... ويغضب حين نمنع ما لدينا
فإن يك فعلهم سمجاً وفعلي ... قبيحاً مثله فقد استوينا
ومما يدل على صغر الهمة والنفس التلون على الصديق المصاحب بالأمس قال بعضهم لأن أبتلي بألف جموح لجوج أحب إلي من أن أبتلي بمتلون وقال آخر إذا كان لك صديق فلا تتمن له رفعة فبقدر ارتفاعه يكون انحطاطك من عينه ولا تلتفت إلى قول حبيب بن أوس الطائي
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن

فليس كما قال فإنه بالرتبة يشمخ أنفه بعد الخسة والضعة ويفرد صديقه بالبؤس وإن كان من قبل شريكه وقسيمه في الدعة ويقابل اقباله في الزيارة بالملالة ويعد معرفته له عثرة لا يرجى لها اقالة فإن وقف ببابه حجبه وإن دخل في غمار الناس ازدراه ومن تبرم به أعجبه وخذ بما قال الفقيه منصور بن إسمعيل المقري
إذ ما رأيت امرأ في حال عشرته ... بادي الصداقة ما في ودّه دغل
فلا تمنّ له حالاً يسرّ بها ... فإنه بانتقال الحال ينتقل
وكان منصوراً ألم بقول بعض البلغاء لا تطلبن لأخيك رتبة هي أرفع من رتبته التي هو مساويك فيها فإنه ينتقل عنك في أحوال ثلاثة يكون صديقك عند حاجته إليك ومعرفتك عند استغنائه عنك وعدوك حال احتياجك إليه وقال بعض الأعراب يذكر صديقاً تلون عليه صفرت عياب الود بيني وبينه بعد امتلائها واكفهرت سوالف وجوه المسرات وكانت نضرة بمائها فأدبر ما كان بيني وبينه مقبلاً وأقبل ما كان مدبراً وصارت مودته متنقلة كتنقل الأفياء واخوته متلونة كتلون الحرباء وقال بعضهم المتلون إن ودك لشيء ملك عند انقضائه ويقال إياك ومن مودته على قدر حاجته إليك فعند ذهاب الحاجة ذهاب المودة وقال بعض الأعراب لولده يا بني لا تصحب من إذا أيس من خيرك مال إلى غيرك وقالوا إذا انقطع من صديقك رجاؤك فألحقه بعدوك وما أحسن قول بعضهم
إذا تاه الصديق عليك كبراً ... فته زهداً على ذاك الصديق
وإن سلك الغرام به طريقاً ... فخذ عرضاً سوى ذاك الطريق
فايجاب الحقوق لغير راع ... حقوقك رأس تضييع الحقوق
ولبشار بن برد
إذا كان ذواقاً أخوك من الهوى ... موجهة في كل أوب ركائبه
فحل له وجه الفراق ولا تكن ... مبطية رحال كثير مذاهبه
الكميت بن زيد ولقد أحسن في الأنفة إذا عطس بأنف شامخ وأبان عن أنف في الكرم راسخ من أبيات يفتخر
وما أنا بالنكس الدنيّ ولا الذي ... إذا صدّ عنه ذو المروأة يقرب
ولكنه إن دام دمت وإن يكن ... له مذهب عني فلي عنه مذهب
ألا إنّ خير الودّ ودّ تطوعت ... به الأنفس لا ودّ أتى وهو متعب
وقيل لبعض الولاة كم لك من صديق فقال أما في حال الولاية فكثير ثم أنشد
الناس اخوان من دامت له نعم ... والويل للحرّ إن زلت به القدم
آخر
تلونت حتى لست أدري من العمى ... أريح جنوب أنت أم ريح عاصف
قريب بعيد جاهل متبصر ... سخيّ بخيل مستقيم مخالف
صدوق كذوب لست أدري خليله ... أيجفوه من تلوينه أم يلاطف
ولست بذي غش ولست بناصح ... وإني من عجبي لشأنك واقف
كذاك لساني شاتم لك مادح ... كما أن قلبي جاهل بك عارف
كتب بعضهم إلى صديق له تلون عليه أما بعد فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الأمر فيك لأنك بدأتني بلطف من غير جراءة ثم أعقبتني جفاء من غير جريمة فأطمعني أولك في اخائك وآيسني آخرك من وفائك فسبحان من لو شاء لكشف بايضاح الرأي في أمرك عن ظلمة الشك فيك فأقمنا على ائتلاف وافترقنا على اختلاف والسلام وكتب آخر
قل للذي لست أدري من تلونه ... أناصح أم على غش يداجيني
إني لأكثر مما شتمه عجباً ... يد تشح وأخرى منك توليني
ولما نكب علي بن عيسى الوزير لم ينظر ببابه أحداً من أصحابه وآله واخوانه الذين كانوا ملازمين له في حال تصرفه واشتغاله فلما ردت إليه الوزارة اجتمعوا إليه وعطفوا عليه وجعل كل منهم يأخذ في السبق للقياه والنظر إلى محياه فحين رآهم كذلك أنشد
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها ... فكيف ما انقلبت يوماً به انقلبوا
يعمون أخا الدنيا فإن وثبت ... عليه يوماً بما لا يشتهي وثبوا
لا يحلبون لحيّ درّ لقحته ... حتى يكون لهم شطر الذي حلبوا

عادي الزمان بعض الوزراء فنظر بعين المقت إليه وقبض عنه المسار بيد القبض عليه ثم عاد فألبسه من الاقبال حللاً أجره أذيالها وصرف لخدمته بأزمة الانقياد فحمله أعباء المنن وأثقالها فقال يعاتب من انقطع عنه في حال خموله ويشعره بأن نجم سعده طلع بعد أفوله
عاداني الدهر بعض شهر ... فاعرض الناس ثم بانوا
يا أيها المعرضون عني ... عودوا فقد عاود الزمان
ومن ذميم فعلات الاخوان الخوان ... اغتياب من غاب من الاخوان
قال الله تعالى ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله حرم من المسلم دينه وعرضه وأن يظن به السوء وقالوا الأخ الصادق من أهدى إلى أخيه عيبه وحفظ له غيبه وقالوا الغيبة جهداً لعاجز وقالوا إياك وصحبة من إذا حضر أثنى ومدح وإذا غاب عاب وقدح وقالوا اللئيم إذا غاب عاب وإذا حضر اغتاب وقالوا الريبة عار والغيبة نار ويقال من عف عن الريبة كف عن الغيبة وقال العتابي شر الاخوان من إذا وجد مادحاً مدح وإن وجد قادحاً قدح وإن استودع سراً فضح الشريف الرضي
إذا أنت فتشت القلوب وجدتها ... قلوب أعاد في جسوم أصادق
ابن المعتز
بلوت أخلاء هذا الزمان ... وأقللت بالهجر منهم نصيبي
وكلهم إن تصفحتهم ... صديق العيان عدو المغيب
وقال من أكل خبزه بلحوم الناس لم يصن نفسه من الأدناس ومر عمرو ابن العاص على جيفة ملقاة فقال لأصحابه والله لأن يأكل أحدكم من هذه حتى يمريه خير له من أن يأكل لحم أخيه وكان أبو الطيب الظاهري يهجو بني ساسان فقال له نصر بن أحمد إلى متى تأكل خبزك بلحوم الناس فخجل ولم يعد وقيل أوحى الله إلى موسى عليه السلام من مات مصراً على الغيبة فهو أول من يدخل النار ومن مات تائباً منها فهو آخر من يدخل الجنة وقال علي بن الحسين لرجل إياك والغيبة فإنها ادام كلاب الناس اغتاب رجل رجلاً عند مسلم بن قتيبة فقال له مه فلقد تلظت بمضغة طالما عافتها الكرام ويحكى عنه إنه ذكر عنده رجل فتكلم فيه بعض أهل المجلس فقال له مسلم قد أوحشتنا من نفسك ومودتك ودللتنا على عورتك وما أشد نصح من قال لا يكن لسانك رطباً بعيوب أصدقائك تزيدهم في أعدائك أضاف إبراهيم ابن أدهم أناساً فلما قعدوا للطعام أخذوا في الغيبة فقال لهم إبراهيم إن من قبلنا كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم وأنتم أكلتم اللحم قبل الخبز أبو تمام
قبح اللّه صاحباً قطف الصح ... بة حرب المغيب سلم التلافي
الصاحب بن عباد
احذر الغيبة فهي ال ... فسق لا رخصة فيه
إنما المغتاب كالآ ... كل من لحم أخيه
الوزير المغربي
أيّ شيء يكون أقبح مرأى ... من صديق يكون ذا وجهين
من ورائي يكون مثل عدوّي ... وإذا يلقني يقبل عيني
ابن المعتز
أخ لي يعطيني الرضا في حضوره ... ويمنعني بعض الرضا وهو بائن
إذا ما التقينا سرّني منه ظاهر ... وإن غاب عني ساءني منه باطن
على غير ذنب غير أن مساويا ... له علمتني كيف تأتي المحاسن
ولبعضهم يهجو
صديقك لا يثني عليك بطائل ... فماذا به عنك العدوّ يقول
وحسبك من لؤم وخبث طوية ... بأنك عن عيب الصديق سؤل
آخر
يضاحكني فوه إذا ما لقيته ... ويرشقني إن غبت عنه بأسهم
وكم من صديق ودّه في لسانه ... وفي قلبه إن غبت صاب وعلقم
آخر
لي صاحب جعل المساوي دأبه ... تصوير معناها وصيغة لفظها
فكأنه ملك الشمال موكل ... أبداً بكتب السيآت وحفظها
آخر
وما صاحبي عند الرخاء بصاحب ... إذا لم يكن عند الأمور الصعائب
إذا ما رأى وجهي فأهلاً ومرحبا ... ويرمي ورائي بالسهام القواضب
آخر
إذا انتقد الناس الكرام رأيتهم ... يطنوا طنين الزيف في كف ناقد
كثير عزة
أنت في معشر إذا غبت عنهم ... بدلوا كل ما يزينك شينا

وإذا ما رأوك قالوا جميعاً ... أنت من أكرم الرجال علينا
ولله در من قال
شر السباع الضواري كونه وزراً ... والناس شرهم ما دونه وزر
كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع ... وما ترى بشراً لم يؤذه بشر
ومما يرغب الوحيد في انفراده ... حسد أهل الصفوة من وداده
الحسد داء دوى وخلق ردى يدل على فساد الدين وقلة اليقين وما زال صاحبه حليف هموم وأليف غموم وظالماً في زي مظلوم وأي خير عند من جبلت على الحقد طباعه وحنيت على الغل أضلاعه وأمر بالاستعاذة بالله من شره وحض على الاحتراس من ضره قيل لعبد الله بن عبدة كيف لزمت البدو وتركت قومك قال وهل بقى في الناس إلا من إذا رأى نعمة بهت وإذا رأى عثرة شمت ثم أنشد
عين الحسود إليك الدهر ناظرة ... تبدي المساوي بالاحسان تخفيه
يلقاك بالبشر يبديه مكاشرة ... والقلب ملتئم فيه الذي فيه
وقال معاوية بن أبي سفيان كل الناس قادر أن أرضيه إلا حاسد نعمة لا يرضيه إلا زوالها وقالوا الحسد داء يفعل في الحاسد أكثر من فعله في المحسود نظم هذه الكلمات محمود الوراق فقال
أعطيت كل الناس مني الرضا ... إلا الحسود فإنه أعياني
لا أنّ لي ذنباً إليه علمته ... إلا تظاهر نعمة الرحمن
يطوي على حسد حشاه لأن يرى ... من حال مالي أو لفضل بياني
ما إن أرى يرضيه إلا ذلتي ... وذهاب أموالي وقطع لساني
ونظمه آخر فقال
قل للذي بات محسوداً على نعم ... دع الحسود فقد قطعته قطعا
لو كنت تملك ما يريد منك لما ... صنعت معه كمعشار الذي صنعا
وقال بعض البلغاء الحسد شؤم واعتباره لؤم يقضي الأشباح ويضني الأرواح ويورث الأرق ويحدث القلق ويكدر غدران رفاهية العيش ويشعل نيران السفاهة والطيش وإن الحسود مجروح في جلده متألم مظلوم في برده ظالم معارض لله في مشيئته معترض عليه في قضيته يعيش محروماً ويبيت مغموماً مدفوع في الدنيا إلى الكرب والتلف وممنوع في العقبى من القربى والزلف لا تعمل شعلة القابس في الحطب اليابس ما يعمله الحسد بجسد صاحبه وبدن راكبه يشرب دمه ويأكل لحمه ويمشمس عظمه ويجعله معرضاً للكروب ومبغضاً إلى القلوب فجدير بالانسان أن يفر من الحسد فوق فراره من الاسد وقالوا أسد يؤاتيك خير من حسود يراقبك وقال بعض السلف إذا أراد الله أن يسلط على عبده من لا يرحمه سلط عليه حاسداً بحسده وقال أردشير كل خله رديئة فهي دون الحسد لأن الحاسد يسعى بمن أحسن إليه ويتمنى الغوائل لمن أنعم عليه أبو الطيب المتنبي
يريد بك الحساد ما اللّه دافع ... وسمر العوالي والحديد المدرب
وله
وأظلم خلق اللّه من كان حاسداً ... لمن بات في نعمائه يتقلب
وله
سوى وجع الحساد داو فإنه ... إذا حلّ في قلب فليس يحول
فلا تطمعن من حاسد في مودّة ... وإن كنت تبديها له وتهيل
وقال ابن المعتز الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له ويبخل بما لا يملكه ويطلب ما لا يجده وقال حكيم الحسد يبدي نقص الحاسد ويدل على كمال المحسود وما أحسن قول المعافي بن زكريا النهرواني
الأقل لمن كان لي حاسداً ... أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على اللّه في فعله ... لأنك لم ترض لي ما وهب
فجازاك عنه بأن زادني ... وسدّ عليك وجوه الطلب
أبو فراس
لمن جاهد الحساد أجر المجاهد ... وأعجز ما حاولت ارضاء حاسد
ولم أر مثل اليوم أكثر حاسداً ... كأنّ قلوب الناس لي قلب واحد
وقالوا لا تندمل من الحسود جراحه حتى ينقص من المحسود جناحه وقالوا حسب الحسود ما يلقى من صغر الهمة في حزنه لسرور صاحب النعمة وقالوا من عادات الأغبياء معاداة الأغنياء وقال عبد الله بن مسعود لا تعاد وانعم الله قيل له ومن يعادي نعم الله قال الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله يقول الله تعالى في بعض الكتب المنزلة الحسود عدو نعمتي ومتسخط لقضائي غير راض بنعمتي ولم أسمع بأحسد من حمزة ابن بيص في قوله وقد مر بواد مملوءاً بلا وشاء وزرعاً ورعاء

الزارعون وليس لي زرع بها ... والحالبون وليس لي ما أحلب
فلعل ذاك الزرع يؤذي أهله ... ولعلّ ذاك الشاء يوماً تجرب
ولعلّ طاعوناً يصيب علوجها ... ويصيب ساكنها الزمان فتخرب
قال المرزباني صاحب الاتفاق فلم يكن إلا أيام قلائل حتى أصابهم جميع ما تمنى لهم وأظرف من هذا ما حكى أن ثلاثة من الحساد اجتمعوا فقال أحدهم لأحد صاحبيه ما بلغ من حسدك قال ما اشتهيت أن أفعل بأحد خيراً قط لئلا أرى اثر ذلك عليه فقال له أنت رجل صالح لكني ما اشتهيت أن يفعل بأحد خير قط لئلا تشير الأصابع بالشكر إليه فقال الثالث ما في الأرض خير منكما لكني ما اشتهيت أن يفعل بي أحد خيراً قط قالا ولم قال لأني أحسد نفسي على ذلك فقالا له أنت ألأمنا جسداً وأكثرنا حسداً وقالوا الحسود عدو مهين لا يدرك وتره إلا بالتمني شاعر
إياك والحسد الذي هو آفة ... فتوقه وتوق غرّة من حسد
إنّ الحسود وإن أراك مودّة ... بالقول فهو لك العدوّ المجتهد
وقال علي رضي الله عنه لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله وقيل للعتابي في مرض أصابه ما تشتهي قال أكباد الحساد وأعين الرقباء وألسن الوشاة وقال بعضهم لولده إياك والحسد فإنه يبين عليك ولا يبين على عدوك وكان يقال الحريص محروم والبخيل مذموم والحاسد مغموم ذم أبو بكر الخوارزمي حاسداً فقال وأما فلان فمعجون من طينة الحسد والمنافسة ومضروب في قالب الضيق والمناقشة يحمي من رزق الله مباحاً ويحرم ما ليس فيه جناحاً ويتحجر من رحمته جماً واسعاً ويغار على البحر ممن يسبح فيه وعلى البدر ممن يستضئ به وعلى الشمس ممن طلعت عليه وعلى نسيم الهواء ممن وصل إليه لو ملك السماء لنهاها عن الأمطار ولو أطاعته الأرض لمنعها من تغذية النبات والأشجار ولو سخرت له الأشجار لحال بينها وبين الأثمار كان كل رغيف يعطي من قوته وقوت عياله وكان كل درهم ينفق من ماله ومال أطفاله على إنه يبخل على نفسه بالهواء ويحاسب أعضاءه على الغداء والعشاء وقال شاعر
لا مات حسادك بل خلدوا ... حتى يروا منك الذي يكمد
ولا خلاك الدهر من حاسد ... فإنّ خير الناس من يحسد
أبو تمام
إن يحسدوني فإني لا ألومهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أطولنا هما بما يجد
وله
وإذا أراد اللّه نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
والمشهور
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالناس أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغياً إنه لدميم
ابن المعتز
ومن عجب الأيام بغي معاشر ... غضاب على سبقي إذا أنا جاريت
يغيظهم فضلي عليهم ونقصهم ... كأني قاسمت الحظوظ فأحظيت
آخر
إني حسدت فزاد اللّه في حسدي ... لا عاش من كان يوماً غير محسود
لا يحسد المرء إلا من فضائله ... بالعلم والحلم أو بالفضل والجود
ومما يؤمر الكريم باجتنابه ... جار سوء ملاصق لجنابه
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول أعوذ بالله من جار سوء في دار مقامه فإن البادي يتحول وكان عمر رضي الله عنه يقول ثلاث كلهن فواقر صديق إن أسديت إليه عارفة لم يشكرها وإن سمع كلمة لم يغفرها وجار إن رأى حسنة أخفاها وإن عثر على سيئة أفشاها وامرأة إن أقمت عندها آذنك وإن غبت عنها خانتك وكان يقال من جهد البلاء جار سوء معك في در مقامة يلبس لك من البغضاء لأمة لا ينجع فيه عتب ولا يرعوي لملامة ومن دعاء الأعمش اللهم إني أعوذ بك من جار تراني عيناه وترعاني أذناه إن رأى خيراً دفنه وإن سمع شراً أعلنه وقال لقمان لابنه يا بني حملت الحجارة والحديد فلم أر شيأً أثقل من جار سوء في دار مقامة شاعر وقد عرض داره للبيع كراهة في جاره
ألا من يشتري داراً برخص ... كراهة بعض جيرتها تباع
ولآخر

يلومونني إن بعت بالرخص منزلي ... ولم يعلموا جاراً هناك ينغص
فقلت لهم كفوا الملام فإنما ... بجيرتها تغلوا الديار وترخص
وقال رجل لسعيد بن العاص والله إني لا أحبك قال ولم لا تحبني ولست لي بجار ولا ابن عم ويقال في التوراة أحسد الناس للعالم وأبغاهم عليه أقاربه وجيرانه وقالوا ألأم الناس سعيد لا تسعد به جيرانه ولا تسلم منه اخوانه استعرض أبو مسلم الخراساني فرساً أهدى له فقال لأصحابه لم يصلح هذا فكل قال شيأً فبعضهم قال يصلح لأن ينفي به العار بأخذ الوتر والثار وآخر يقول يصلح لمنازلة الأقيال ومناضلة الأبطال وآخر يقول يصان عن أن يذال بالأحداق ليوم يحرز به قصب السباق فقال أبو مسلم كلكم أخطأت استه الحفرة وزاف نقده عند الامتحان والخبرة فقالوا ولماذا يصلح أيها الأمير فقال لمن يجد في الهرب والفرار من جار سوء يعدم بمساكنته السكون والفرار وقيل لأبي الأسود الدؤلي لم بعت دارك فقال ما بعت داري وإنما بعت جواري أنشدني أفضل الأماثل وأنبل الأفاضل ذو العلم والعلم والسان والقلم انسان عين العيان وزين أرباب البيان الأمير ناصر الدين حسن عرف بابن النقيب الكناني لنفسه يذم جاراً له
لي جار شخصه ... أكسير أوصاف المعايب
حسداً لجيرة فيه ... وعداوات الأقارب
ليته لم يعنني ... لم يكن عون النوائب

الفصل الثالث من الباب السادس عشر
خاتمة الكتاب
فيما نختم به الكتاب من دعاء نرجو أن يسمع ويجاب

قال الله تعالى قل ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم وقال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان وقال تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء مخ العبادة وقال عليه الصلاة والسلام استقيلوا أمواج البلاء بالدعاء وقال عليه الصلاة والسلام إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء ولما كان الدعاء في الفضيلة بهذه المثابة استحب لمن وضع كتاباً أن يختم به كما كما بدأ بالتحميد كتابه فاستخرت الله تعالى وانتخبت من الأدعية التي صدرت عن صدور أهل الانابة وروت نفوس العباد منهل الاجابة وحذفت خوف التطويل أسانيدها ليسهل على الراغب فيها أن يبديها متى أحب ويعيدها وأشرف الأوقات التي يتكفل النجح فيها باجابة الدعوات أوقات اختارها الله لداء ما افترض من الصلوات فإذا أراد أمرؤ طلبته فليتضرع عقيب صلواته وتلو مناجاته لله بالاستكانة والخضوع ليرجع من توجهه وعرف القبول منه يضوع وليقل اللهم ارزقني موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار اللهم لا تدع لي ذنباً إلا غفرته ولا عيباً إلا سترته ولا ضراً إلا كشفته ولا سقماً إلا شفيته ولا رزقاً إلا بسطته ولا خوفاً إلا أمنته ولا سوأً إلا صرفته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضا ولي فيها صلاح إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم إني أعوذ بك من دنيا تمنع خير الآخرة ومن عاجل يمنع خير الآجل ومن حياة تمنع خير الممات ومن أمل يمنع خير العمل وأسألك الظفر والسلامة ودخول دار المقامة اللهم لا تحرمني سعة مغفرتك وسبوغ نعمتك وشمول عافيتك وجزيل عطائك ومنح مواهبك لسوء ما عندي ولا تخذلني بقبيح عملي ولا تصرف وجهك الكريم عني اللهم لا تحرمني وأنا أدعوك ولا تخيبني وأنا أرجوك اللهم إنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقياً محروماً مقتراً علي في الرزق فأمح من أم الكتاب شقائي واقتار رزقي وأثبتني عندك سعيداً مرزوقاً فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب اللهم هذا مقام اللائذ بجنابك العائذ بك من النار يا فارج الهم يا كاشف الغم يا مجيب دعوة المضطر يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ارحمني رحمة تغنني بها عمن سواك اللهم إني أدعوك بما دعاك به عبدك ذو النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن تقدر عليه فنادى في الظلمات إن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستحبت له ونجيته من ظلمات ثلاث ظلمة الخطيئة وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت فإنه دعاك وهو عبدك وسألك وهو عبدك وأنا أسألك وأنا عبدك وأدعوك وأنا عبدك أن تصلي على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وأن تستجيب لي كما استجبت له وأدعوك بما دعاك به عبدك أيوب إذ قال مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبت له وكشفت ما به من ضر وآتيته أهله ومثلهم معهم رحمة من عندك فإنه دعاك وهو عبدك وسألك وهو عبدك وأنا أسألك وأنا عبدك وأدعوك وأنا عبدك أن تصلي على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وأن تفرج عني كما فرجت عنه وأن تستجيب لي كما استجبت له إنك سميع الدعاء اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع وقلب لا يخشع وعلم لا ينفع ودعاء لا يسمع وعين لا تدمع وصلاة لا ترفع اللهم إني أسألك في صلاتي وفي دعائي براءة تطهر بها قلبي وتؤمن بها روعي وتكشف بها كربي وتغفر بها ذنبي وتصلح بها أمري وتغني بها فقري وتذهب بها ضري وتفرج بها غمي وتسلي بها همي وتشفي بها سقمي وتقضي بها ديني وتجلو بها حزني وتجمع بها شملي وتبيض بها وجهي واجعل ما عندك خيراً لي اللهم أصبح ظلمي مستجيراً بعفوك وذنبي مستجيراً بمغفرتك وخوفي مستجيراً بأمنك وفقري مستجيراً بغناك وضعفي مستجيراً بقوتك وذلي مستجيراً بعزك ووجهي الفاني البالي مستجيراً بوجهك الدائم الباقي اللهم مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم صلى الله عليه وآله وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد واجعلني في حفظك وكلأتك وودائعك التي لا تضيع واحفظني من كل سوء ومن شر كل ذي شر واحرسني من شر الشيطان الرجيم والسلطان المليم إنك أشد بأساً وأشد تنكيلاً اللهم إن كنت منزلاً بأساً من بأسك أو نقمة من نقمك على

أهل معصيتك بيتاً وهم نائمون أو ضحى وهم يلعبون فصل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد واجعلني وأهلي في كنفك ومنعك وحرزك اللهم إن هذين الليل والنهار خلقان من خلقك فاعصمني فيهما بحولك وقونك ولا ترهما مني جراءة على معصيتك ولا ركونا إلى مخالفتك واجعل عملي فيهما مقبولاً وسعي مشكوراً وسهل لي ما أخاف عسره وصعب على أمره واقض لي فيهما بالحسنى وامني مكرك ولا تهتك عني سترك ولا تنسني ذكرك اللهم صلى الله عليه وآله وسلم على سيدنا محمد وآله وافتح مسامع قلبي لذكرك حتى أعي وجيك وأتبع كتابك وأصدق رسلك وأومن بوعدك وأخاف وعيدك وأوفي بعهدك وآخذ بأمرك ولا اجترئ على نهيك اللهم إني أستودعك نفسي وديني ومالي وأهلي وكل نعمة أنعمت بها علي فاجعلني اللهم في كنفك وأمنك وكفايتك وكلاءتك وحفظك ورعايتك ووديعتك يا من لا تضيع ودائعه ولا يخيب سائله ولا ينفد ما عنده اللهم إني أدر أبك في نحور أعدائي وكيد من كادني وبغى علي اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها شتات أمري وتلم بها شعثي وتحفظ بها غائبي وتصلح بها شاهدي وتزكي بها عملي وتلهمني بها رشدي وتعصمني بها من كل سوء اللهم وما قصرت عنه مسئلتي ولم تبلغه أمنيتي من خير وعدته أحداً من خلقك فإني أرغب إليك فيه اللهم يا أبصر الناظرين ويا أسمع السامعين ويا أسرع الحاسبين أغنني بالعلم وزيني بالحلم وأكرمني بالتقوى وجملني بالعافية اللهم إني أسألك حسن الظن بك والصدق في التوكل عليك وأعوذ بك أن تبتليني ببلية تحملني ضرورتها على العبث بمعاصيك وأعوذ بك أن أقول قولاً حقاً من طاعتك ألتمس به سواك وأعوذ بك أن تجعلني عبرة لغيري وأعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما آتيتني مني وأعوذ بك أن أتكلف طلب ما لم تقسمه لي وما قسمت لي من قسم أو رزقتني من رزق فأتني به في يسر وعافية حلالاً طيباً وأعوذ بك من كل شيء يزحزحني عن بابك ويباعد بيني وبينك أو ينقص حظي عندك أو يصرف وجهك الكريم عني اللهم دعاك الداعون ودعوتك وسألك السائلون وسألتك وطلبك الطالبون وطلبتك اللهم أنت الثقة والرجاء وإليك منتهى الرغبة والدعاء والشدة والرخاء اللهم وصل وسلم على سيدنا محمد وآله واجعل اليقين في قلبي والنور في بصري والنصيحة في صدري وذكرك على لساني اللهم أنت العاصم والمائع والواقي الدافع من كل سوء أسألك الرفاهية في معيشتي بما أقوى به على طاعتك وأبلغ به رضوانك وأصير به منك إلى دار السلام غدا اللهم لا ترزقني رزقاً يطغيني ولا تبتليني بفقر يضنيني وأعطني في الآخرة حظاً وافراً وفي الدنيا معاشاً واسعاً اللهم إليك مددت يدي وفيما عندك عظمت رغبتي فأقبل توبتي وارحم ضعف قوتي واغفر خطيئتي واجعل لي في كل خير نصيباً وإلى كل بر سبيلاً اللهم اغفر لي كل ما سلف من ذنوبي واعصمني فما بقي من عمري واردد علي أسباب طاعتك واستعملني بها واصرف عني أسباب معصيتك وحل بيني وبينها اللهم أنت متعالي الشأن عظيم الجبروت شديد المحال ذو الكبرياء قادر قاهر قريب الرحمة سامع الصوت صادق الوعد وفي العهد مجيب المضطر قابل التوب محص لما خلقت تدرك ما طلبت شكور إن شكرت ذاكر إن ذكرت أسألك يا إلهي محتاجاً وأرغب إليك فقيراً وألجأ إليك خائفاً وأرجوك ناصراً اللهم ضعفت فلا قوة لي اللهم جئتك مسرفاً على نفسي مقراً بسوء عملي اللهم خلقتني وأمرتني ونهيتني ورغبتني في ثواب ما به أمرتني ورهبتني عقاب ما عنه نهيتني وجعلت لي عدواً يكيدني وسلطته علي فأسكنته صدري وأجريته مجرى الدم مني لا يغفل إن غفلت ولا ينسى إن نسيت يؤمنني عقابك ويخوفني غيرك إن هممت بفاحشة شجعني وإن أردت صلاحاً ثبطني ينصب لي حبائل الشهوات إن وعدني كذبني وإن اتبعت هواه أضلني إن لم تصرف عني كيده يستزلني وإن لم تفلتني من حبائله يصدني وإن لم تعصمني منه يضلني اللهم صلى الله عليه وآله وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد واقهر سلطانه عني بسلطانك عليه فأفوز مع المعصومين منه اللهم لا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ولا مقدم لما أخرت ولا مؤخر لما قدمت اللهم أنت العليم فلا يجهل وأنت الحليم فلا يعجل وأنت الكريم فلا يبخل وأنت العزيز فلا يذل وأنت المنيع فلا يرام وأنت المجير فلا يضام اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت

وما أعلنت وما أنت أعلم به من أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير وبالاجابة جدير لا إله إلا أنتا أعلنت وما أنت أعلم به من أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير وبالاجابة جدير لا إله إلا أنت قال المقيد لشوارد فوائد ما ذكر من الأضداد والمؤلف من غرائبها بين الأشباه والأنداد وعندما تم كتابنا واتسق قمر محاسنه بعد السرار وكاد سنا حسنه يطق بالبصائر دون الأبصار وتفجرت من خلال سطوره ينابيع الحكم وهم عبابها أن يفهق فينم بما كتم وسفرت ألفاظه عن معان كأحسن ما ينشق عنه الكمائم وقامت نفثات بدائعه لصريع الهموم مقام الرقي والتمائم تقاضاني بوعدي إياه عند ابتدائه بأن أطلعه باهر العقول أوليائه وأعدائه فاستخرت الله تعالى الكريم وأمسكت من عنان القلم في مضمار الاطناب وقصرت خطوه لعلمي أن السآمة مقرونة بالاكثار والاسهاب وجلوته في حلل فنونه وفاء بعهده وانجازاً لما سبق من وعده ما أمن صحائفه أكفا يسئل بها التغديق عن سوء التلفيق ويدرأ بها شبهات من يرى أن بيده زمام التوفيق فهو يتصرف به على حكم اختياره ومراده ويبلغ غاية أمله بجياد سعيه واجتهاده وإلى الله أبرأ من الحول والقوة وأسأله أن يزحزحني عن الوقوع في هذه الهوة وأن يجعل هذا الكتاب للنفوس يعجب ويروق ويجريه بالمحبة مجرى الدم في العروق وأن يدخلني جنات يجل وصفها وتفوق إنه من راجيه قريب ولداعيه سميع مجيب آمين.

أقسام الكتاب
1 2 3 4